أقلام حرة
نهاد الحديثي: صراع الأجيال
صراع الأجيال هو خلافات وتوترات تنشأ بين الأجيال المختلفة، مثل الآباء والأبناء، نتيجة اختلاف وجهات النظر والقيم والتجارب بسبب التغيرات الاجتماعية والثقافية والتكنولوجية المتسارعة. يظهر هذا الصراع في مختلف جوانب الحياة، مثل العلاقات الأسرية والبيئة المهنية، ويمكن تخفيفه من خلال الحوار المفتوح، وفهم الآخر، والبحث عن أرضية مشتركة بين الماضي والحاضر
كثيرة ومثيرة هي الدروس والعبر التي تنسجها المواقف والحكايات في هذه الحياة المليئة بالدهشة والأسرار، وكل ما علينا أن نفعله هو أن نتلفت بلهفة وشغف من حولنا، لنُشاهد السماء وهي تُلهم أسراب الطيور المهاجرة باتجاه محاضن البهجة والجمال، ونراقب الأشجار وهي تحمي أزهارها بكتيبة من الأشواك، ونُمعن النظر في عالم الحشرات المكتنز بالقصص الملهمة
يبدو أن العلاقة بين الأجيال والعصور، عادة ما تكون مثيرة وملتبسة، فلكل جيل أفكاره وقناعاته ولكل عصر أدواته وظروفه التي تختلف بالضرورة عن الأجيال والعصور الأخرى، ولكن المشكلة تبدأ حينما تُفرض الأفكار والآراء بشكل مباشر وباتجاه واحد، يصنع ما يُشبه الاغتراب والتنافر بين الأجيال والتجارب المختلفة والمتعاقبة. فقد تجد في العائلة الواحدة، ثلاثة أجيال مختلفة في الأعمار والأفكار والرؤى، وهو أمر طبيعي ولا يدعو للخوف أو القلق، ولكن الصراعات والصدامات والاختلافات التي تنشأ بين الأجيال الثلاثة هي التي تستحق التفكّر والتأمل والحذر
صراع الأجيال ظاهرة اجتماعية ثقافية تعيشها المجتمعات الإنسانية؛ وهو عبارة عن صراع أيديولوجي بين جيلين اثنين: جيل قديم راديكالي ومحافظ، وجيل جديد يدعو إلى الحداثة والمعاصرة، فالأجيال تتوالد والسلف يورث الخلف عاداته وتقاليده ومعتقداته وقيمه، فإيقاع الحياة هو المختلف، فالخلاف هو خلاف طبيعي ضمن سياق التطور الاجتماعي، وهي قضية مجتمعية مهمة لأنها قد تضعف العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة نتيجة للتباينات والاختلافات في الآراء والمواقف ووجهات النظر وتضعف من كيان الأسرة.
حسب علم الاجتماع التغير في حجم وشكل المجتمع مصحوب دائماً بتغير في المفاهيم وأساليب الحياة الجديدة من أجل أن يستطيع المجتمع التكيّف مع هذه التغيرات والحفاظ على التوازن وتحقيق الاستقرار، لذلك من الطبيعي أن تتغير شخصية الإنسان طبقاً لما يدور حوله من تحولات وتطورات في شتى مجالات الحياة، وبالتالي فإن هذه العلاقة الجدلية والضرورية بين الشباب وكبار السن ممن دخلوا في مرحلة الشيخوخة حالة صحية وطبيعية ومرتبطة بطبيعة الفرد والمجتمع ومسيرة الإنسان، وهي حالة عامة لا تقتصر على شعب واحد أو مجتمع واحد، ففي كل مرحلة من مراحل الحياة البشرية تكون هناك فجوة بين الأجيال المختلفة في الأعمار والأفكار والطموحات وهذه الفجوة تتراوح بين خيارات الصراع والانعزال والتكامل بين هذه الأجيال.
التواصل بين الأجيال لا يعني تطابق الآراء، بل يعني القدرة على الإصغاء والفهم قبل الحكم. فحين يفهم الكبار أن التكنولوجيا ليست عدوًا، بل وسيلة، ويفهم الصغار أن القيم ليست قيودًا، بل جذور، يبدأ الجسر بالتشكل، المؤسسات التربوية والأسرة تلعبان دورًا محوريًا في تقليص فجوة الأجيال...
لطالما وُصف صراع الأجيال بأنه معركة أزلية لا يخلو منها زمان أو مكان. جملة واحدة تُقال كثيرًا على لسان الكبار: "جيل اليوم لا يشبهنا"، تقابلها نظرات تمرد في عيون الشباب، وكأن بينهما جدارًا من الاختلاف لا يمكن هدمه. فهل هذا الصراع أمر طبيعي ناتج عن اختلاف الزمن وتطوره؟ أم أنه نتيجة خلل في جسور التواصل التي لم تُبْنَ كما ينبغي؟ السؤال معقد، والإجابة تتطلب تأملًا عميقًا في طبيعة الإنسان والمجتمع.
إن صراع الأجيال ظاهرة اجتماعية متكررة؛ فهو ليس وليد العصر الحديث، بل عرفه التاريخ عبر العصور. فأفلاطون نفسه اشتكى من جيل الشباب، وقال إنهم "لا يحترمون الأكبر منهم سنًا ويفضلون الثرثرة على العلم". وهذا يُثبت أن الاختلاف بين الأجيال ليس جديدًا، لكنه يتخذ أشكالًا مختلفة تبعًا للتغيرات الثقافية والتكنولوجية.
في العصر الحديث، تسارعت وتيرة التغيير إلى حد جعل الهوة بين الأجيال أوسع من أي وقت مضى. التكنولوجيا، على سبيل المثال، غيّرت طرق التفكير والتفاعل وحتى القيم. جيل الآباء الذين نشؤء في عالم دون إنترنت، قد لا يفهم تمامًا احتياجات جيل نشأ على وسائل التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي. ومن هنا تبدأ التصادمات: الأب يرى ابنه "مدمنًا على الهاتف"، بينما الابن يرى والده "منفصلًا عن الواقع".
لكن السؤال الجوهري يبقى: هل هذا الصراع حتمي وطبيعي، أم يمكن تلافيه بالتواصل الفعال؟
الحقيقة أن جزءًا كبيرًا من هذا الصراع ينشأ من سوء الفهم، وليس من جوهر الاختلاف. فكل جيل يعيش زمنًا مختلفًا، يحمل تحدياته الخاصة، ويحتاج إلى أدوات فكرية وسلوكية تتلاءم مع عصره. ما يحدث في الغالب هو أن الأجيال الأكبر تحاول فرض معاييرها على الأصغر، بينما الأخيرة تحاول التحرر وبناء هوية مستقلة. وهنا يحدث "الخلل في التواصل"؛ كل طرف يرفض الإصغاء للآخر، ويظن أنه يمتلك الحقيقة كاملة.
التواصل بين الأجيال لا يعني تطابق الآراء، بل يعني القدرة على الإصغاء والفهم قبل الحكم. فحين يفهم الكبار أن التكنولوجيا ليست عدوًا، بل وسيلة، ويفهم الصغار أن القيم ليست قيودًا، بل جذور، يبدأ الجسر بالتشكل.
المؤسسات التربوية والأسرة تلعبان دورًا محوريًا في تقليص فجوة الأجيال. فعندما تُعلّم المدارس الطلاب كيف يحاورون باحترام، وتُدرب الأهالي على فهم نفسية المراهق لا السيطرة عليه، يصبح الحوار أكثر توازنًا. وسائل الإعلام كذلك يمكن أن تسهم في تقديم نماذج إيجابية للحوار بين الأجيال بدلًا من تضخيم الفجوات.
في نهاية المطاف، صراع الأجيال ليس قدرًا محتومًا، بل فرصة ذهبية للنمو المشترك. نعم، هناك اختلافات، لكنها لا تعني العداء بل التنوع. الطبيعة علمتنا أن التنوع يولد التوازن، كذلك هو حال المجتمع. حين نتعلم كيف نُصغي بدلًا من أن نحكم، كيف نُرشد بدلًا من أن نفرض، حينها فقط تتحول الفجوة إلى جسر، والصراع إلى تعاون.
الجيل الجديد لا يريد أن يهدم الماضي، بل يريد أن يفهمه ليبني عليه. والجيل القديم لا يريد أن يوقف الزمن، بل أن يُطمئن قلبه بأن القيم ستبقى. وبين هذا وذاك، تكمن قوة الكلمة والحوار. فلنعد بناء الجسور، لأن جيلًا يفهم الآخر هو جيل لا يُهزم.
أطفالنا وشبابنا وأجيالنا الجديدة، بحاجة ماسة لأن يصنعوا حياتهم كما يُريدون وكما هي طريقة حياتهم وطبيعة ظروفهم، لا أن نُرغمهم تحت ذرائع النصح والإرشاد على أنماط وأساليب لا تُشبههم. نعم، قد نُمارس دور المراقب والمعلم بشكل أنيق ومدروس لكي نعطيهم ونزودهم بكل ما نملك من خبرات وتجارب قد تُعينهم وتُساعدهم على تجاوز الكثير من المصاعب والتحديات ولكن دون أن يُفقدهم القدرة على التحليق في أحلامهم
***
نهاد الحديثي







