أقلام حرة
مازن جراي: الغربة.. ذلك الصوت الذي لا يعرف أين ينتمي
هناك لحظات، لا تطرق الباب ولا تستأذن، تشعر فيها بأن كل شيء حولك يتحرك بإيقاع لا يشبهك. الناس يتحدثون، يضحكون، يخططون لغدٍ يبدو ثابتًا في أذهانهم، بينما أنت تشعر وكأنك تقف خلف زجاج لا يكسره أحد. تراقب، وتهزّ رأسك كأنك تفهم، لكن شيئًا داخلك لا يشاركهم هذا العالم بالكامل.
الغربة ليست سفرًا، وليست مدينة جديدة، ولا حتى ابتعادًا عن بيت تعرف زواياه. إنها شيء أكثر خفاءً.. شيء يتسلل إلى الروح في اللحظة التي تدرك فيها أن العالم لا يشبهك كما كنت تتخيل. وكأنك تبحث عن ملامحك في مرايا كثيرة، لكنك لا تجد إلا أطيافًا لا تطابق وجهك.
أحيانًا تأتي الغربة كحزن هادئ، وأحيانًا تأتي كحنين لا تعرف مصدره. حنين لشيء لم تعشه أصلًا. وكأن الروح تعرف طريقًا كانت تمشيه قبل أن تولد، ثم ضلّت عنه. ولهذا يبدو كل شيء جديدًا وسطحيًا، وكل لقاء مؤقتًا، وكل تعلق هشًّا. الغربة ليست نقصًا.. بل شعور زائد عن الحاجة.
في القرآن لم يكن العالم موطنًا دائمًا للإنسان؛ كان دائمًا “متاعًا”، محطة لا إقامة. وربما لهذا نشعر بهذا الثقل الداخلي؛ لأن أرواحنا تتعامل مع الدنيا كأنها مكان مؤقت، بينما نحاول نحن أن نعيشها كأنها وطن ثابت. هناك تعارض خفي بين طبيعة الروح وطبيعة العالم، بين ما نحتاجه وما يُقدّم لنا. ولذلك تبدو الأيام أحيانًا كأنها تُعاش على الهامش، بلا انتماء كامل.
الغريب الحقيقي ليس من ابتعد عن أرضه، بل من فقد اتفاقه الداخلي مع الحياة. من يشعر أن هناك معنى ما يفلت منه، رغم كل المحاولات لإمساكه. الغريب هو الذي يجلس في مكان مزدحم ويشعر بالفراغ. الذي يضحك صدقًا، لكنه يعود إلى صمته كأنه يعود إلى بيته الأصلي.
وربما.. ربما تكون الغربة هي أوضح دليل على أن الروح أكبر من هذا المكان. أنها تتذكر شيئًا لا نتذكره نحن، وتحنّ لشيء لا يمكن أن نسمّيه. وهذا الحنين ذاته هو ما يجعلنا نسعى ونفكر ونكتب ونتأمل. لولا هذا الشرخ الخفيف داخل الروح، لما بحث الإنسان عن المعنى أصلًا.
الغربة ليست لعنة، رغم قسوتها. إنها البوصلة التي تشير إلى أن القلب لا يزال يقظًا، وأن الروح لم تستسلم بعد لبلادة العيش. وكلما أحسّ الإنسان بهذا الثقل الداخلي، فهم أكثر أنه لم يُخلق ليستقر هنا. وكأن الغربة تذكير خافت بأن الطريق الحقيقي ليس خلفنا ولا أمامنا.. بل فوقنا.
في النهاية، لا أحد ينجو تمامًا من الغربة. لكن يمكن للمرء أن يتصالح معها، أن يعاملها كظلّ ثابت لا كوحش مطارد. أن يفهم أن الشعور بعدم الانتماء ليس دائمًا علامة ضعف، بل قد يكون أرقى درجات الوعي. فمن رأى هشاشة العالم، لا بد أن يشعر أنه أكبر قليلًا من مقاس المكان.
***
بقلم الكاتب مازن جراي







