أقلام حرة

علي الطائي: وراثة العقيدة.. وتعطيلُ العقل!

هل يختار الإنسان عقيدته فعلًا؟.. أم أنّه يولد في صندوقٍ مغلق، مكتوب على غلافه ما سيكونه قبل أن يفتح عينيه؟ الطفل الذي يخرج من رحم أمّه في قرية مسلمة، هل كان يمكن أن يكون يهوديًا أو بوذيًا لو وُلد في مكان آخر؟ وإن كان الأمر كذلك، فأين موقع الإرادة والاختيار؟

إنّ العقيدة في أصلها وراثة؛ لا يملك الإنسان منها سوى التلقي في سنواته الأولى، فيشبّ على دين قومه كما يشبّ على لغتهم. لكن هنا تبدأ المفارقة: ما كان يومًا مجرّد صدفة مكان وزمان، يتحوّل مع مرور الزمن إلى يقين مطلق، إلى "حقيقة أبدية" يراها الفرد جزءًا من ذاته. والسؤال الجوهري: أهي حقيقة في ذاتها، أم عادة تحوّلت إلى قداسة؟

العقل حين يتعطّل لا يتوقف عن العمل كليًا، بل يتحوّل إلى أداة تبرير. إنّه لا يسأل: "هل هذا الموروث صحيح؟" بل يسأل: "كيف أثبت أنّه صحيح؟"؛ أي أنّه يبدأ من النتيجة التي تسلّمها بالوراثة، ثم يبحث عن مقدمات يسندها إليها. وهكذا يُستعمل العقل كخادمٍ للأهواء الجمعية، لا كحاكمٍ على الأفكار.

أليس غريبًا أن يولد كل فرد في مجتمع ما وهو يعتقد أنّه وحده يملك الحقيقة المطلقة؟ ولو جمعنا أهل الأرض جميعًا، لكان عند كلّ أمة هذا الاعتقاد نفسه! أليس في هذا التعدد نفسه برهانٌ على أنّ ما نظنه يقينًا قد يكون مجرد موروث عابر؟

إشكالية الهوية

وراثة العقيدة تختلط بالهوية اختلاطًا شديدًا، حتى يصعب على المرء أن يميّز بين ما يؤمن به عقليًا، وما يلتزمه اجتماعيًا. كثيرون لا يدافعون عن الدين من حيث هو دين، بل من حيث هو راية القبيلة، أو شعار الجماعة. لو أنّ المرء غيّر دينه، لاعتُبر خائنًا قبل أن يُعتبر باحثًا عن الحقيقة. أليس هذا دليلاً على أنّ الدفاع عن العقيدة في كثير من الأحيان ليس دفاعًا عن فكرة، بل دفاعًا عن انتماء؟

قد يُقال: وما المانع أن يرث الإنسان عقيدته ثم يبقى عليها ما دام مقتنعًا بها؟ الجواب: لا مانع في ذلك، إذا كان الاقتناع وليد بحثٍ ومساءلة. لكن الخطر أن يظلّ العقل عاطلًا، راضيًا بما وجد عليه آباءه، لا يجرؤ على طرح السؤال الأول: "لماذا أؤمن بهذا؟"

إنّ الفرق بين الإيمان الحق والإيمان الموروث هو الفرق بين من يسير في طريق لأنه اختاره، ومن يسير فيه لأنه لم يعرف غيره. الأول قادر على الدفاع عن عقيدته بالحجة، والثاني لا يملك سوى الصراخ والاتهام.

لو قُدّر لكل إنسان أن يولد في دين مختلف، لكان مقتنعًا به بالقدر نفسه الذي يقتنع الآن بعقيدته. فهل هذا يعني أنّ جميع العقائد صحيحة؟ أم أنّ الخطأ يتوزع بينها كما يتوزع الصواب؟ وهل الإيمان إذن نتاج الحقيقة أم نتاج البيئة؟ هذه أسئلة لا يريد "العقل العاطل" أن يواجهها، لأنها تهدد استقراره وراحته. لكنّ العقل الفاعل لا يخافها، بل يبدأ منها ليصل إلى يقينٍ أرسخ.

وراثة العقيدة قدر، لكنّ بقاء العقل عاطلاً اختيار. نحن لا نملك أن نختار أين وُلدنا ولا ماذا ورثنا، لكننا نملك أن نختار كيف نواجه ما ورثناه: هل نحمله كما هو كصندوق مغلق، أم نفتحه ونفحص محتوياته؟

الحقيقة لا تُهان بالبحث، إنما يُهان الإنسان حين يعطل عقله باسم الحقيقة.

***

بقلم: د. علي الطائي

في المثقف اليوم