أقلام حرة

عبد السلام فاروق: وداعًا سمير سعدي

عندما يرحل الشرفاء ويبقى السؤال؟!

في آخر يوم من شهر رمضان، رحل الشاعر والأديب سمير سعدي، تاركًا خلفه مدينة خرساء، وأصدقاء تحطمت قلوبهم على صخرة الفقد. لم يكن رحيله مجرد خسارة لشاعر مبدع، بل نهاية لعصر من الكرم الفكري، والنبل الإنساني، والوفاء لقيم ثقافية بدأت تذوي في زمن صار "اللصق" فيه فنًا، و"السرقة الأدبية" مهارة، ونسيان الجميل عادة. 

سمير، ابن قنا البار، كان ظاهرة استثنائية. لم تكن قصائده مجرد كلمات تُنسج على الورق، بل كانت هتافًا للكرامة، ورفضًا للصغائر، واحتضانًا لكل من ضاقت بهم السبل. كان بيته مأوى للجوعى إلى الثقافة، وحديثه مائدة يدور حولها المحرومون من الدفء الإنساني. لكن المفارقة التي تدمي القلب هي أن كثيرًا ممن أطعمهم من خبز فكره، وسقاهم من نبيذ قصائده، لم يردوا له التحية حتى بصمت! بل إن بعضهم بنى مجده على أشلاء أفكاره، وحولوا إبداعه إلى سلعة يقتسمون أرباحها في الخفاء. 

لكن سمير سعدي، ككل العظماء، كان سخيًا حتى في غيابه. ترك لنا درسًا عن زمن ينقلب فيه التابعون سادة، والأصدقاء غرباء، والإبداع سلعة. درسًا يقول: "لا تنتظر من جيل القص واللصق أن يرفع الهاتف ليسأل عنك". ومع ذلك، ظل يردد بابتسامة: "دعهم يشبعوا، فالجائع سيظل جائعًا". 

رحل الشاعر سمير سعدي (1963–2025) تاركًا إرثًا أدبيًا يجسد التناقضات بين حياة الصعيد البسيطة وصخب القاهرة، معبرًا عن اغتراب الإنسان في المدينة وانتمائه لجذوره الريفية. يُعد سعدي أحد أبرز شعراء العامية المصرية في جيل الثمانينيات، وتميز بإنتاج أدبي غني يجمع بين الشعر والمسرح والأغنية، فضلًا عن مشاريعه الثقافية الفريدة مثل "دروب الشمس" الذي يوثق تاريخ سكك حديد مصر. 

وُلد سعدي في محافظة قنا عام 1963، وحمل في شعره بصمة الجنوب المتمثلة في التصاقه بالبيئة الصعيدية وتفاصيلها الإنسانية. رغم انتقاله إلى القاهرة للدراسة، ظلت قنا حاضرة في أعماله كـ"حاضن روحي" يظهر في ديوان "هي دى" (1999)، حيث يصور الشوارع والحارات والمقاهي التي تشكل ذاكرة الجنوب. 

في ديوان "ترتيلة بكا" (2000)، يعكس سعدي حنينه إلى طفولته في الصعيد من خلال صور شعرية تمزج بين البساطة والعمق الفلسفي، مثل وصفه لـ"الحيطان العمالة تميل بالضل عليك" كرمز لضغوط الحياة الحضرية. هذا الارتباط العاطفي بالجنوب جعله يهدي أعماله لـ"عمال سكك حديد مصر"، الذين رأى فيهم حماة التاريخ المنسيين. 

انتقل سعدي إلى القاهرة في شبابه، حيث انغمس في الحياة الثقافية لوسط البلد، وتفاعل مع مثقفي جيله. لكن المدينة لم تخف عليه قسوتها؛ ففي ديوان "فوتوغرافيا" (2016)، يصور اغتراب الإنسان في الزحام عبر قصائد مثل "اللحظة"، التي يصف فيها مقهى مليئًا بـ"ناس بوشوش بهتانة وضحك سخيف مرسوم"، ليعكس انهيار القيم الإنسانية في الفضاء الحضري. 

لم تكن القاهرة مجرد مكان إقامة، بل تحولت إلى مختبر فني له؛ إذ تعاون مع فنانيها مثل محمد منير ويولا خليفة، وكتب أغانٍ جمعت بين لهجة الصعيد وإيقاعات المدينة الحديثة. 

في آخر أعماله "حكايات في دروب الشمس" (2024)، يقدم سعدي سيرة ذاتية شعرية تربط بين تاريخ عائلته وتاريخ مصر عبر سكك حديدها. يبرز الديوان شخصية والده "سعد الدين"، العامل بالسكك الحديدية، كرمز للبسطاء الذين بنوا الوطن دون أن يحظوا بالتكريم. يرى سعدي أن السكك الحديدية – وليس النيل – هي من ربطت أطراف مصر، مشيرًا إلى دورها في تشكيل مجتمعات عابرة للطبقات.

هذا المشروع يعكس رؤيته للتاريخ كـ"جغرافيا حية"، حيث يصوغ قصائده من حكايات العمال والمهمشين، معيدًا الاعتبار لهم كـ"صانعي الحدث الحقيقي".   

تميز سعدي بقدرته على المزج بين قصيدة التفعيلة العامية وقصيدة النثر، كما في ديوان "هي دى"، حيث يستخدم لغة بسيطة لكنها محملة بالرمزية. على سبيل المثال، في قصيدة "النظرة"، يصور الشارع كـ"شرك منصوب" ليعكس خداع المدينة. 

كما أظهر مهارة في توظيف اللهجة الصعيدية دون أن تقيده، فاستخدمها لنقل قضايا إنسانية كونية، مثل الهوية والاغتراب، مما جعله صوتًا مميزًا في مشهد الشعر العامي. 

رحيله في آخر أيام رمضان (30 مارس 2025) خلف أسئلة عن مصير الثقافة في زمن يطغى فيه "السرقات الأدبية" على الإبداع الأصيل، لكن إرثه يبقى شاهدًا على أن الشعر يمكن أن يكون ضميرًا حيًا للواقع.

عبر مسيرته، نجح سمير سعدي في خلق توازن فريد بين هوية الصعيد المتجذرة وانزياحات القاهرة الحداثية. لم يكن شاعرًا للمكان فحسب، بل لـ"ناس المكان" الذين حولهم إلى رموز خالدة في قصائده. ربما يختصر ديوانه "فوتوغرافيا" رحلته بأكملها: صور تجمد اللحظات العابرة، لكنها تظل قادرة على إحياء الذاكرة الجماعية. 

***

 د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم