أقلام حرة
مرتضى السلامي: بين مطرقة الماضي وسندان الحاضر.. أين يقف العقل المفكر؟

في هذا الزمان الذي نعيشهُ، يقفُ العقلُ حائراً، كغريبٍ ضلَّ طريقهُ، ينظرُ حولهُ فلا يرى إلا ضباباً كثيفاً يحجبُ عنه نور الحقيقة. يتوقُ هذا العقلُ إلى أن يُحلّق، أن يكتشفَ دروباً جديدة للمعرفة، لكنهُ يشعرُ بثقلِ الأغلالِ حول أجنحته. إنها رحلةُ الفكرِ الشاقة في أيامنا هذه، رحلةٌ تتطلبُ من صاحبها قلباً لا يعرفُ الخوف، وروحاً لا تستسلمُ لليأس، فطريقهُ ليس سهلاً هيناً، بل هو أشبهُ بالسيرِ فوق جمرٍ مُلتهب، كل خطوةٍ فيه قد تكونُ جرحاً جديداً.
وهذه المعاناةُ العميقة للفكر، يصفها الفيلسوفُ فتحي المسكيني بكلماتٍ تنبضُ بالصدق، في مقدمتهِ لكتاب "موسوعة الفلسفة العربية المعاصرة". هناك، يرسمُ لنا صورةً مؤلمةً للعقلِ وهو يُصارعُ من أجلِ أن يتنفس، فيقولُ متسائلاً بمرارةٍ تكادُ تعتصرُ القلب: "إلى أي حد يمكن لهذا العقل الراهن أن يفكر وهو يعلم أنه يتحرك على رمل التكفير المتحرك، وأنه عرضة سهلة لعنف الجموع التي تعودت على صناعة عدم التفكير منذ مدة طويلة، تلك التي استغلها الاستعمار حين كان يتبجح بالتقدم، ورسختها دول الاستقلال بدفع النخب إلى فتوحات تراثية، لا فرق فيها بين غربي وعربي، إلا بخدمة المرحلة خدمة ترضي الحاكم العربي أو تغضبه" (المسكيني، مقدمة موسوعة الفلسفة العربية المعاصرة، ص ١٩).
كم تحملُ هذه الكلماتُ من ألمٍ وكم تكشفُ من جراح! "رمل التكفير المتحرك"... يا لهُ من تعبيرٍ يُصوّرُ بدقةٍ تلك الحالةَ من الخوفِ الدائم، حيثُ كلُّ كلمةٍ صادقة، وكلُّ فكرةٍ حرة، قد تُصبحُ تهمةً تُلقي بصاحبها في غياهبِ النبذِ والاتهام. كأن العقلَ مُجبرٌ على أن يطأ أرضاً مزروعةً بالألغام، لا يدري متى تنفجرُ فيه.
ثم يصفُ لنا "عنف الجموع التي تعودت على صناعة عدم التفكير". جموعٌ أُغلِقت أمامها نوافذ النور، وأُطفئت في دروبها قناديل المعرفة، حتى أصبحت ترى في كلِّ صوتٍ مُختلفٍ نشازاً، وفي كلِّ تساؤلٍ بريءٍ خطراً. هذه "الصناعة" المؤلمة لتقييد العقول، التي بدأها مُستغلٌ خارجيٌّ في الماضي، أكملتها للأسف أيادٍ من الداخل، فوجهت العقولَ الشابةَ إلى الانشغالِ بماضٍ، قد يكونُ عظيماً، لكنه لا ينبغي أن يكونَ سجناً نُحبسُ فيه عن رؤيةِ المستقبل، أو أداةً تُرضي هذا الطرف أو ذاك على حسابِ الحقيقة.
أمامَ هذا الواقعِ المرير الذي صوّرهُ المسكيني، ماذا عسى العقلُ أن يفعل؟ كيف لهُ أن يُزهرَ في أرضٍ قاحلة، وأن يُغرّدَ في سماءٍ مُلبدةٍ بالغيوم؟ هل يستسلمُ لليأس، ويُطفئُ الشمعةَ الوحيدةَ التي بين يديه؟ إن كلماتِ المسكيني هي جرسُ إنذارٍ لنا جميعاً، هي دعوةٌ لأن نشعرَ بالمسؤولية تجاهَ عقولنا، وتجاهَ حقِّها في أن تُفكرَ بحريةٍ وأمان.
صحيحٌ أنَّ الدربَ شاقٌّ، وأنَّ التحدياتِ كبيرة، لكنَّ بصيصَ الأملِ لا يموتُ في القلوبِ المؤمنة. هناك دوماً أرواحٌ طاهرةٌ تُؤمنُ بأنَّ التفكيرَ نور، وأنَّ السؤالَ بدايةُ الطريقِ إلى الخلاص. أرواحٌ تسيرُ بحذرٍ فوقَ هذا الجمرِ المُتوهج، لكنها لا تتوقف، تحملُ في صدرها حلماً بمستقبلٍ أفضل، تُحاولُ أن تُضيءَ، ولو شمعةً واحدة، في هذا الظلامِ الحالِك. إنها مسيرةٌ مُضنية، لكنها ضروريةٌ جداً، بل أصبحت، كما يختمُ المسكيني حديثهُ بصرخةٍ تكادُ تشقُّ صمتَ الكون: "إن مهام الفكر في أفق العرب المعاصرين قد صارت أوكد من أي وقت مضى. فهل من مغامر؟" (المسكيني، مقدمة موسوعة الفلسفة العربية المعاصرة، ص ١٩).
"فهل من مغامر؟"... سؤالٌ يترددُ صداهُ في أعماقِ كلِّ قلبٍ يتألمُ لهذا الواقع، ويبحثُ عن نافذةِ ضوء. سؤالٌ ينتظرُ جواباً من أولئك الشجعان، أصحابِ القلوبِ الكبيرةِ والأرواحِ التوّاقة للحرية، الذين لا يخشونَ أن يحملوا مشعلَ الفكرِ عالياً، وأن يزرعوا بذورَ الأملِ في أرضٍ عَطِشَت طويلاً للحق والجمال. ففي شجاعةِ هؤلاء "المغامرين"، وفي تضحياتهم النبيلة، يكمنُ سرُّ نهوضِ هذه الأمةِ من كبوتها، وفي إصرارهم، رغمَ كلِّ الجراحِ الدامية، تشرقُ شمسُ الحقيقةِ من جديد، لتبددَ ظلاماً طالَ أمده، ولتُعلنَ عن فجرٍ تستحقهُ هذه الأرضُ الطيبة، وتستحقهُ الأجيالُ القادمة التي تحلمُ بغدٍ أكثرَ عدلاً ونوراً.
***
مرتضى السلامي