ترجمات أدبية

ترجمات أدبية

بقلم: رضا علي حسن

ترجمة: عادل صالح الزبيدي

***

عن الامبريالية

الوكلاء - موثوقون، مشهورون، مقربون -

يفرضون الحرب، يديمونها.

*

الامبريالية غائبة دائما وتبدو في مكان آخر -

مراوغة، متغلغلة، مقنعة.

*

الأمور بهذا التعقيد.

***

....................

رضا علي حسن: شاعر باكستاني اميركي ولد في بنغلادش  ونشأ اسلام آباد ثم هاجر الى الولايات المتحدة في عام 1991 ليدرس علوم الحاسبات في جامعة تكساس ثم نال شهادة الماجستير في الأدب والشعر من جامعة سيراكوز. نشر اول مجموعة شعرية له بعنوان "الشيعة الحزانى" في عام 2006، ثم مجموعة ثانية بعنوان "67 منمنمة مغولية" في 2008 واصدر في عام 2017 مجموعة بعنوان "احزان طبقة المحاربين."

قصة بقلم: فاليريا كوريا فيز

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

في فترة الخمسينيات، كنت أنا ووالدي نعيش في مستوطنة ساحلية صغيرة بالقرب من الدائرة القطبية الشمالية. كنت في الخامسة من عمري، ولم أكن أفعل شيئاً سوى مراقبة تدرجات اللون  الأزرق في الجليد أثناء النهار، وعد النجوم في الليل. كان والدي يعمل على اليابسة فى قسم الصناعات السمكية في شركة "رويال سيفودز إنك"، وكان كثيراً ما يعدني بأن حياتنا ستتغير قريباً.

- سنغادر من هنا قريباً، يا صغيرتي.

كان يتحدث كثيراً عن إجازاتنا المقبلة، وكيف ستكون أيامنا رائعة عندما يوفر ما يكفي من المال لنتمكن من تناول كميات كبيرة من الكركند في بارات شواطئ ميامي، والنوم في أرجوحة تحت شمس فلوريدا اللطيفة في ديسمبر. وفي الليل، سنرى أضواء أشجار عيد الميلاد في المراكز التجارية تتنافس مع بريق النجوم. وسيحقق لنا سانتا كلوز جميع رغباتنا وأسرارنا.

-  هذه هي الحياة الحقيقية

كان يقول ذلك لي بينما يخلع قفازيه الملطخين بدم سمك القد أو سمك الهلبوت ليمسح على خدي ثم يضيف :

- سترىن بنفسك، يا صغيرتي.

قبل النوم، كان والدي دائمًا يعانقني. كانت رائحته قوية من أثر البيرة وزيت السمك، فكنت أهرب تحت الأغطية لأتفادى حضنه. ومع ذلك لم يكن والدي شخصًا سيئًا في ذلك الوقت.

ولم تكن الحياة على الساحل سهلة.

لم يكن للرجال أي وسيلة للتسلية سوى ضجيج الرياح والكحول. لم تكن هناك نساء، باستثناء مالكة الحانة وابنتها. كانت كلتاهما تسمى "ماشَّا". أعتقد أنهما كانتا روسيتين أو لديهما أقارب من أصل روسي منذ أن كانت ألاسكا غير تابعة للولايات المتحدة. شيء من هذا القبيل. كان شعرهما قصيرًا وناعما، مثل ريش صدر طائر. كانتا تقدمان أباريق البيرة بخشونة وعنف لدرجة أن الرغوة كانت تتدفق على سطح المنضدة. كنت في الخامسة من عمري حينها، وكنت أعيش في ألاسكا منذ ما يقارب الأربع سنوات، وهي المدة التي مرت على وفاة والدتي. لم أكن أعلم كيف يجب أن تكون المرأة لتُعد جميلة، لكنني كنت متأكدة أن المرأة الجميلة ستكون عكس ماشّا تمامًا.

في ذاكرتي، تتكدس الأيام باردة مع نصيبها المتنوع من الملل والأمل، حتى حدث تسرب النفط في البحر خلال الانقلاب الشتوي.

كانت تلك الضربة الأخيرة التي كنا نفتقدها.

قامت الحكومة بتعليق تصاريح الصيد إلى أجل غير مسمى، وأصبح العمل على اليابسة نادرًا. قامت شركة "رويال سيفودز إنك" بتقليص عدد موظفيها إلى النصف، وغادر جميع هؤلاء الناس إلى مكان غير معلوم. أما باقي الموظفين، فقد خفضت الشركة أجورهم إلى النصف. لن أزيد على ذلك. بدأ والدي يشرب كثيرًا، وتوقف تقريبًا عن وعوده المعتادة. بدأ حلم إجازاتي في عيد الميلاد يتلاشى ببطء، مثلما كانت شمس الشتاء تذوب خلف النوافذ. في ذلك الوقت، بدأت إحدى الماشاتين، الشابة منهما، في القيام بأعمال أخرى.

رأيتها فجرًا، عندما كانت تخرج من غرفة والدي. كانت تسحب تنورتها لأسفل بغير اكتراث،  مما أعطاها مظهر طائر القطرس وهو يهوى بجناحيه. كانت ساقاها نحيلتين وشاحبتين. تسري عليهما عروق بنفسجية، تشبه ميزاناً طويلاً رأيته  بجانب المجمدات في مكاتب "رويال سيفودز إنك"  .كانت حافية القدمين وشعرها مشوشا مما أضفى على مظهرها لمسة من الغموض والكآبة.

- ارجعي هنا

صرخ والدي من داخل الغرفة، وألقى عليها وسادة اصطدمت بالباب.

- قلت لك أن ترجعي.

كان التواجد قرب والدي عندما يشرب مثل الغوص في أحد مستنقعات غابات ألاسكا الممطرة: كان غضبه يبتلع كل شيء، وكانت العفونة تبدو بلا نهاية.

- ارجعي، أيتها العاهرة، لم ننته بعد.

في تلك الليلة أو ربما ليلة أخرى، لم أعد أذكر، عاد والدي ليتحدث إليّ:

- انظري جيدًا إلى هذه السماء الليلية، يا صغيرتي. بعد شهرين تقريباً، سنغادر هذا المكان إلى عطلة دائمة في فلوريدا.

لكن والدي كان مجرد سكير، يتخبط في الديون. كانت عائلتنا مفككة، وقد أصبحت فكرة الرحيل وطنًا لي. لم يكن علينا الانتظار شهرين لذلك، فقد حدث الأمر قبل ذلك، بكثير.

حملنني موظفو خدمات الرعاية الاجتماعية على متن سفينة.

أخرجوني من هناك، من بيت والدي إلى الأبد، ملفوفة في بطانية داكنة كأعماق ليالي ألاسكا القاسية، حيث تخلو السماء من النجوم، ويصير الكون قبةً خانقةً من الصقيع.

حتى اليوم، ما زلت أذكر الصوت الغليظ للمياه بينما كنا نبتعد بالسفينة.

كان صخب الرغوة يُعيد إليّ دائمًا ذكريات امرأتين روسيتين تحملان أباريق البيرة. ولا يمكنني نسيان الكتل الجليدية الضخمة وهي تطفو في البحر كأنها شواهد قبور بلا أسماء، ولا طعم الملح على شفتي الجافتين، ولا صراخ الطيور عندما أصبح الهواء أكثر دفئًا واختفت سواحل ألاسكا في الأفق، يغمرها الضباب البحري الذي يمكن أن يتخذ أحيانًا قوام رمال الصحراء.

***

.........................

المؤلفة: فاليريا كوريا فيز/ Valeria Correa Fiz  (روزاريو، الأرجنتين، 1971) شاعرة وراوية ومحامية. مؤلفة كتاب القصص "حالة الحيوان" (Páginas de Espuma، 2016)، الذي اختير لجائزة القصة القصيرة الأمريكية اللاتينية الرابعة " جابريل جارسيا ماركيز" والمتأهلة للتصفيات النهائية لجائزة Setenil لعام 2017، كما نشرت مجموعات قصائد "The Dark Album". (2016) و"الشتاء ديشورا" (هيبيريون، 2017) اللذان فازا بجائزة الشعر "مانويل دي كابرال" وجائزة الشعر الدولية الحادي عشر "كلاوديو رودريغيز"، على التوالي. وقد نشرت مؤخراً ديوانه الشعري "متحف الخسائر" (Ediciones La Palma، 2020). تقيم في مدريد، وهي معلمة للكتابة الإبداعية وتنسق نادي القراءة في معهد ثربانتس في ميلانو.

بقلم: أولغا توكارشوك

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

في الكراس الذي يدور موضوعه حول عمله والذي بدأ بقراءته وهو يشرب قهوة الصباح، وجد خطأ صغيرا. ومفاده أن روايته “عيون الحياة المفتوحة” نشرت عام 82 وليس 84. ولسبب ما لم تعتمد   المرأة التي كتبت الكراس على أول طبعة كاملة وهي التي لم يتعرض لها الرقيب والمنشورة في الخارج. أضاف تصحيحا بقلم الرصاص. وأشعل سيجارة. بقي لديه أربع فقط. وعليه أن يقلل من استهلاكه.  ولكنه يعلم أنه لا يوجد كتابة بلا تدخين. وهناك علاقة مباشرة بين امتصاص دخان سيجارة والكتابة. حينما يزدحم الدخان في رئته، تبدأ الذاكرة بعملها على ما يبدو، ربما لأن الذاكرة والدخان متماثلان في الطبيعة - كلاهما يتكون من خط مستمر يتحول إلى حلقات صغيرة. والطبقات الشفافة والمتوسعة تأخذ شكلها لوقت قصير قبل أن تختفي للأبد. وربما بقليل من التركيز، وشكرا للمعجزات المؤكدة، يمكن تحويل هذه الأشياء قصيرة الأجل إلى كلمات وجمل. قلب عدة صفحات، وفجأة استأثرت هذه الكلمات بانتباهه: “بطل هذه القصة المدهشة، أنا آخر المؤلف، له نفس اسمه، حتى أنه يعيش في نفس العنوان في وارسو، وهو متفرع من زقاق يروزوليمسكي”. أعاد القراءة عدة مرات، وهو يمتص سيجارته. عاد بأفكاره إلى تلك الفترة، قبل عشرين سنة، حينما كتب “عيون الحياة المفتوحة”. كان وقتا عصيبا، ميؤوسا منه. وتشعر كأن نهاية العالم حانت، ولكن في النهاية تبين أن كل شيء على ما يرام. فكر: ولكن ما هو الشيء المقبول وغير المقبول. رمى نظرة افتراسية على أربع سجائر احتفظ بها حتى نهاية هذا اليوم. كانت الكتابة تبلي بلاء حسنا في تلك الأيام. ذلك الشعور الضعيف باليأس، وذلك الإحساس باللامبالاة والعبث أعطته الاستعداد. وهي تحول الكلمات، مثل أمهات محبات، إلى كائنات، وتغذي الفقرات وتقدمها جاهزة لتصبح صورا على طبق. تحول كل شيء في هذه الأيام إلى ورق، مهما بدت الأشياء صلبة من الخارج،  وإذا أردت وصف الحياة في هذه الأيام بطريقة ممكنة، عليك أن تشق طريقك عبر طبقة نفايات وراء طبقة أخرى. العادي غير جدير بالاهتمام، ومليء بالتفاصيل القصيرة والتافهة، التي تنصب من الصحف كل صباح مثل الرمل، وسرعان ما تجمع الغبار.  نهض سامبورسكي على قدميه. أخذ نظرة من السجائر وقرر أن يغادر. كان يوما رائعا. ارتدى سترة فقط، وسار بطريقه، وعبر من باحات وممرات تتخلل الأبنية، ووصل الشارع الرئيسي، وهناك التف باتجاه ساحة الكنيسة، ودخل إلى مقهاه المفضل. حياه عدد من الناس وهو بطريقه، ومن ضمنهم شابان يحملان جعبتين. وقفا احتراما لمرآه، وتابعا الوقوف فمنحهما ابتسامة، ردا على التحية، وتخطاهما. لقاءات من هذا النوع تسره، ولكنها أيضا لا تسره. ذكره الاثنان أنه لا يزال كما هو مهما اختلف الوقت، ولا يمكنه أن يكون إنسانا آخر، بينما يتوفر للآخرين، مثل الشابين حاملي الجعبتين، على سبيل المثال، محيط من الفرص لا تزال أمامهما، بالإضافة إلى الكثير من التوقعات. ويمكنهما أن يصبحا أي شخص يريدانه. وهذا لا يتوفر له. فقد انتهى وبلغ حدوده. وفكر بكلمة “انتهى”، طفا حوله شيء غير مبهج، مع موجة من الهواء العاتي والبارد. وأحيانا كان يشعر كأن لوحة نحاسية مثبتة على جبينه، ومكتوب عليها “ستانيسلاف سامبورسكي، كاتب”. والآن وهو يدخل المقهى، التفتت نحوه بحذر كل العيون، ولكن هؤلاء اعتادوا عليه، ولذلك لم يؤثر زحام المقهى المألوف فيه. ذهب إلى البوفيه، وتبادل ابتسامات الترحيب مع النادلات وجلس على طاولة صغيرة. طلب “إفطارا أسود”: قهوة وعلبة سجائر - وبهذه الطريقة سيكتفي حتى المساء بالسجائر الأربعة الموجودة على طاولته. وبمبادرة منها، أحضرت له نادلة معروفة شطيرتين بالبيض والمايونيز كما يفضل شخصيا. قالت: ”عليك أن تتناول شيئا في بداية الصباح يا سيدي”. لم يعترض. ومد يده إلى الصحيفة وقرأها بهدوء، وهو يعلم أنه كان في مركز الكون. أولا صادف الرجل الذي كان على السلالم، واقفا أمام باب بيته. وكان منحنيا على ثقب الباب، ويحاول مع القفل. ولدقيقة كاملة وطويلة ومشحونة لم يحرك ساكنا بسبب الدهشة. بدا الرجل مألوفا من أول نظرة، وأكثر من مألوف - كان هناك شيء يؤكد على التشابه. كان منفرا، بقصة شعر رقيقة ورمادية، وبشرة باهتة، وجسم ناعم ، ويرتدي سترة أنيقة، وحذاء جيدا لكنه مهترئ. أراد سامبورسكي أن يقول شيئا، ولكن تراجع القفل بصوت مرتفع، وانفتح الباب، ودخل الرجل إلى شقته، وتبعه سامبورسكي المرتبك. تجاهله الرجل كليا. جلس على الطاولة حيث الكراس، وقلم رصاص بيده، وبدأ بالقراءة. سجل ملاحظات حذرة في الهامش، ووضع خطا تحت جمل كاملة. أبعد صحن السجائر من أمامه بقرف، وألقى السجائر المتبقية الأربعة في سلة المهملات. وعندما رن الهاتف، لم يجد سامبورسكي فرصة ليصل إليه، براحة، قبل الرجل، الذي التقط السماعة وقال “ننعععمم” ممطوطة.  وهو يستمع للرجل على الطرف الآخر، توترت ملامحه، وتعمق الأخدود في جبينه، ومنح ذلك وجهه هيئة تراجيدية. بعد صمت قصير قال: ”الأدب تحد. وحده قادر على تعريف حدود الوجود البشري، وكذلك منحه بعدا متعاليا. الحياة وحدها ليست كافية، من فضلك أرسل لي النص للموافقة عليه”. ثم أفلت السماعة. لاحقا أراح جبينه على راحة يده، وجلس لفترة إضافية بصمت، حتى نهض ليذرع في النهاية الغرفة ويداه خلف ظهره. وفي تلك اللحظة مقته سامبورسكي. واستغرب أن ذلك الرجل لم يأكل شيئا. شرب القهوة فقط. ولاحقا تبين أنه يحب شرب الفودكا. في أحد الأيام، شاهده سامبورسكي في مقهاه، يجلس على طاولته، والشباب يحيطون به، وكلهم يحدقون به كأنهم يعبدونه.  وقف سامبورسكي في الخارج، وراقب المنظر من النافذة. كان الرجل يروي لهم حكاية، ويصف بيديه أشكالا غامضة تسبح في الهواء. جعد جبينه، وسقط بالصمت للحظة، كأنه غرق بالتفكير، وبحركة توقع سامبورسكي أنه رآها من قبل في مكان ما، حك ذقنه. ثم رفع أصبعه ثانية، مثل أستاذ روضة أطفال، وتابع إلقاءه. في أول وهلة أراد سامبورسكي أن يسرع بالدخول ويلفت النظر - تلك هي طاولته، وهم أصدقاؤه الطلاب، وتلك هي - نعم، يمكنه أن يتعرف عليها - حركته المعهودة بحك الذقن. وبفورة تدل على القهر، تحرك نحو الباب، لاحظ أن ذلك الرجل رفع كأس فودكا حجمها 100 ملل بحركة مسرحية، وقربها من شفتيه، وأفرغها بجرعة واحدة. استدارت عيون الطلاب من الدهشة وهو يتابع، دون أن يبتلع الجرعة. كان سامبورسكي لا يشرب الفودكا إلا نادرا، ليس لأنه لا يرغب بها – بالعكس هو مغرم بها - ولكن لأنه لا يستطيع. في بلد يشرب فيه الجميع  كالسمكة كان بالولادة غير كحولي. 100 ملل بجرعة واحدة تسبب له التقيؤ. دمدم لنفسه “سكير”. ولكن بتلك الكلمة الواحدة كان في الحقيقة يبتلع الطعم المر للإعجاب. اكتأب بعمق، وتجاوز المقهى، وتابع في الشارع نحو بار صغير، كان في  الأيام السالفة الطيبة، مقهى للخدمة الذاتية، وتحول اليوم إلى ما يشبه حانة. وهناك تكوم في الزاوية، وطلب كأس بيرة صغيرة، وأشعل سيجارته. راقب بعض الأولاد. كانوا بحلاقة شعر قصيرة، وتتدلى منهم السلاسل، ويتمايلون على بعضهم البعض، ويتكلمون حول موضوع ما بهدوء. كانت هناك نادلة لوحتها الشمس بلون خفيف، ولها مظهر إنسانة مصابة بالضجر، تقرأ مجلة ملونة. انبعثت موسيقا بسيطة من المذياع، وهي تردد عبارة قصيرة ورقيقة: “يا أختي بالعصب، يا زوجة أخي، لا تلعبي معي ألعاب العمر”. تحسنت مشاعر سامبورسكي. اندمج في كرسي زاويته الصغيرة، وأشعل سيجارة، وبعد أن تشكلت حلقات الدخان، بدأ بإنتاج الجمل المفيدة. ودونها بهدوء على فوطة. عاد الرجل في المساء مخمورا قليلا، مع قرنفلة في عروة سترته، وفكر سامبورسكي أنها قمة الخيلاء.  يا له من تكبر، يا له من مزيف. لم يتمكن من النظر إليه. وشعر بالغثيان الفعلي، كما لو أن الرجل خنزير من لحم بارد ومترهل ولكنه يمشي على هيئة بشر. كان هناك شيء يقرنه بالخنازير، دناءة حيوانية. لمسته فقط تسبب النفور. لم ينظر الرجل إلى سامبورسكي، ولكنه قبض على الهاتف، واتصل بشخص ما ليشتكي من نقص تمويل الجامعات. وفي المكالمة التالية عبر عن دعمه لشيء ما، ولكن لم يسعف سامبورسكي السمع ليعلم ما هو ولمن، فقد كان مشغولا بغسيل جواربه في الحمام، ولم يكن يفكر به. ولاحقا حينما اتجه إلى غرفة النوم، شاهد الرجل منكبا على نص انتهى من طباعته للتو. شطب بعض الجمل وأضاف شيئا وكان على وجهه علامات تدل على الاهتمام. فجأة سأل: ”ما معنى هذا: للحظة طائرة وطويلة وممتلئة كان عاجزا عن الرد؟”. أمسك صفحة الورق عاليا أمام وجه سامبورسكي. انتزعها سامبورسكي من قبضته وجمع البقية من الطاولة وبسرعة. وقال بحزم: ”إياك أن تجرؤ على العبث بهذا. هناك أمور يمكنك أن تفعلها، ولكن ليس هذا”. ابتسم الرجل بتهكم، وقال:”أنت يا سامبو غير مهذب. ربما تكتب جيدا، ولكنك لست مهذبا على الإطلاق”.

 شيء آخر: لم ينم ذلك الرجل أبدا. اكتفى بالجلوس عند الطاولة لعدة ليال متتالية، وعلى وجهه علامات الاهتمام ومصباح الكتابة مضاء. ولو نظر أي إنسان من النافذة، سيعتقد أنه كاتب يعمل. كاتب يفكر بموضوع له وزنه، ومشغول بنسج خيط آخر عن معنى هذا العالم  كما يتجلى له في رأسه. وكلما تجلى لعقله مشهد وراء آخر، تخرج أفكاره من العلبة التي أغلقها الإهمال وضيق الأفق. وكان يفكر بحدود المعرفة البشرية، وعبث هذه المرحلة التاريخية. وعزلة الإنسان، والشر والخير، والأمل ومشكلة النسبية. وطبعا الجمال - فهو أول وأهم شيء، قضية الجمال.

في هذا التوقيت كانت تلك الإضاءة اللعينة في المكتب تربك سامبورسكي. كانت خيوط رفيعة من الإنارة تتسلل من شقوق الباب وترسم أشكالا على الأرض. وبدأ يقلق على ضريح والديه، فبسبب جليد الشتاء الماضي تكون صدع مزعج. هل عليه أن يتكلم مع متعهد المقبرة؟. ثم لسبب غير مفهوم فكر بمعلمة المدرسة الثانوية وثوبها. كانوا حينها في الشرق. كيف تكونت أشكال حقيقية أمام عينيه: زهور بيض ملونة وفي مركزها بقعة بلون وردي مع خلفية سوداء. كما لو أنه يمكن مد يده في الظلام ولمس المادة الناعمة. هل كانت من الكريتون؟. أم حرير الجورجيت؟ وسط هذه التخيلات غلبه النوم، واستيقظ متوعكا. رأى ذلك الرجل واقفا أمامه وقد عقد ذراعيه. وكان قد استحم للتو، وسرح شعره وحلق وجهه. قال: ”لماذا لا تكتب شيئا عن دور الكاتب في العالم الحديث؟. أخبرنا عن واجب الأدب، يا سامبو. نحن علينا أن نتوقع منه تقديم شهادة عن العالم الحقيقي. وأن نصف التبدلات التي عاصرناها”.

قال له سامبورسكي:”انقلع”. وصدمته كلماته. منذ أيام طفولته كانت الشتائم لا تخرج من حلقه.

قال الرجل وهو يمسك بطرف الخيط: ”ألا تنقلع أنت. هيا انهض وابدأ عملك. أيها المسخ الكسول”. 

لحسن الحظ. غادر الرجل، وحينما كان سامبورسكي يحلق سمع صوته بالمذياع، كان في افتتاحية عن دور الأدب. ولم تسره هذه المفاجأة. وأصابه الجمود بينما الشفرة على ذقنه. في تلك الأمسية شاهده على شاشة التلفزيون. حك ذقنه وهو يفكر. كان يعبر عن موقفه من البورنوغرافيا والإيثوناسيا – قتل الأبرياء.

شعر سامبورسكي بالدم يعلو لقمة رأسه. أسرع إلى الباب، أدار كل الأقفال، ولمزيد من التأكد، جر درجا ثقيلا من خزانة، وسد به قبضة الباب من الداخل. وفي وقت متأخر من تلك الأمسية أرضاه أن يسمع صوت الرجل وهو يحاول فتح الباب. 

لعدة أيام اعتصم في شقته الفارغة. ولم يرد على الهاتف أو يشعل التلفزيون. وأكل كل مؤونته المتوفرة في الثلاجة واستعمل كل الصابون الموجود. وأساء استعمال السجائر. وفي البداية توقع أنه سيتدبر أمره بدونها، ولكن في ثالث أو رابع أمسية ثبت له أن قواه انهارت. ارتدى معطفه ووضع قبعة غطى بها أذنيه. نظر حوله بعصبية. وأسرع إلى الخارج نحو كشك في الزاوية. كان الرجل قد اختفى. اشترى السجائر المشتهاة، وفورا أشعل واحدة في الشارع. ولسوء الحظ، لدى عودته إلى البيت، وجد الرجل هناك. كان جالسا على طاولته، ويفحص باهتمام ملاحظات يعود تاريخها لعدة أيام سابقة. لو كان مع سامبورسكي مسدس في تلك اللحظة، لأطلق عليه النار دون أي تفكير. ولو معه سكين لهاجمه وغرسها في ظهره. ولكنه كان أعزل - لذلك وقف هناك، ومعه علبة سجائره، وكان يرتعش من الغضب.

قال له: ”ماذا تريد مني؟. اترك مكانك”. نظر الرجل من فوق كتفه، ومنح سامبورسكي نظرة إما أنها متجبرة، أو تدل على اللامبالاة، قال:”لا تزعجني. أنا مشغول”.

فكر سامبورسكي وغضبه يزداد: آه. هذا هو الأمر إذا.  هو مشغول بطاولتي وبأوراقي. يا له من خنزير بلا حياء. وأعماه الغضب. فألقى نفسه على الرجل، وحاول بيد واحدة أن ينتزع منه الأوراق. وبالثانية أن يجره من ياقته. ولكن كان الرجل أسرع منه. قبض على معصم سامبورسكي، واعتصرها بعنف، ودفعه نحو الجدار. سقطت تحفة ثمينة وتكسر الزجاج. ضغطه الرجل نحو الجدار كما نفعل مع أي أنثى صغيرة، وكان أضخم منه، كما لو أنه تلقى في صغره  تغذية أفضل، وكانت أنفاسه مخنوقة برائحة القهوة.  وغرس نظرته الباردة والمجمدة في سامبورسكي المرعوب، وشخر بوجهه وصاح: ”أنا من اخترعك، هل تفهمني، أيها الخنزير المأفون. أنا من أوجدك وأستطيع أن ألغيك متى أشاء - أنت مجرد قاص عادي، شيء من كلمات، تعبير سيء الحظ، أو أي شيء من هذا النوع. لذلك اجلس ولا تقفز هنا وهناك”.  وأطلق سراح سامبورسكي بقرف وعاد إلى طاولته. تلمس الكاتب معصمه المتألم، ثم ليتجنب إزعاج الرجل، بدأ يلم بهدوء أجزاء الزجاج من على الأرض. تبخر غضبه، وحينما نظر إلى التحفة المحطمة، شعر براحة غير متوقعة. كل شيء بدا أبسط مما كان عليه أول الأمر. هناك أمام عينيه، في شارع جانبي رأى البار ولون النادلة التي وعتني بالشواء.  لم يفكر سامبورسكي مرتين. غطى جبينه بقبعته وذهب إلى المدينة.

***

....................... 

* ترجمها عن البولونية / أنتونيا لويد - جونز

* أولغا توكارشوك  Olga Tokarczuk كاتبة بولونية تجريبية، من الجيل الذي أعقب الواقعية الاشتراكية. حازت على جائزة نوبل. من أهم أعمالها “طيران”، “جر محراثك فوق عظام الأموات” وغيرها.

 

شاعر وقصيدة من إسواتيني

شعر: خايليهل بونجيسوا جامدزي

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

الأرض العذراء

أرض عذراء،

تنتشر فيها الأشواك

والعظاءات،

والأحناش

ولكن يوما ما

سوف أنشأ حديقة أزهار في منتصفها.

أرض عذراء،

تنتشر فيها الأخاديد

والتربات المنجرفة

والرمال المنهكة

ولكن في يوم من الأيام

سوف أغرس زرجونة عند مدخلها.

إنها ارض عذراء

لا أحد يرغب بها

إنها مليئة بالصخور،

وقاحلة

ولكن يوما ما،

سأنشأ فيها منتزها،

أو جنينة أزهار

أو بستان كروم،

أو بستان تفاح.

***

....................

* خايليهل بونجيسوا جامدزي: شاعر شاب من (إسواتيني) (مملكة سوازيلاند سابقا). وهي دولة افريقية مجاورة لموزمبيق وجمهورية جنوب افريقيا وموزمبيق. يكتب الشعر باللغة الإنكليزية.

A Virgin Land Poem by Khayelihle Bongiswa Gamedze. https: // internetpoem. com

 

بقلم: أدولفو بيوي كاساريس

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

النجاة

هذه قصة عن الأزمنة والممالك القديمة. كان النحات يتجول مع الطاغية في حدائق القصر. بعيدا عن المتاهة المخصصة للأجانب المرموقين، في نهاية ممشى الفلاسفة المقطوعة رؤوسهم، قدم النحات عمله الأخير: حورية ماء كانت بمثابة نافورة. بينما كان يتحدث بتفاصيل تقنية ويستمتع بنشوة النجاح، لاحظ الفنان على الوجه الجميل لراعيه ظلًا مهددًا. فهم السبب. "كيف لمخلوق تافه" -دون شك كان الطاغية يفكر- "أن يكون قادرًا على ما لا أستطيع فعله، أنا راعي الشعوب؟". ثم طار طائر كان يشرب من النافورة مبتهجًا في الهواء، فجاءت إلى ذهن النحات الفكرة التي ستنقذه. قال مشيرًا إلى الطائر: "بغض النظر عن مدى تواضعه، يجب أن نعترف بأنه يطير أفضل منا".

بورتريه

أعرف فتاة كريمة وشجاعة، دائمًا مستعدة للتضحية، لتفقد كل شيء، حتى حياتها، ثم تتراجع، وتستعيد جزءًا مما أعطته بسخاء، لتُعلي مثالها، لتُعاقب ضعف الآخرين، ولتستعيد حتى آخر سنت.

بعد العملية

بعد ثلاثة ايام من إجراء العملية أعلن المريض: مهما كانت النتائج، تبدو لي العلاجات الحالية أدنى بكثير من تلك التي استخدمها السحرة، الذين كانوا يعالجونني بالتعاويذ والرقصات".

النمور

يأسف النمر المتخم لأنه لا يستطيع العثور على حلاق ليقص شاربه.

***

........................

المؤلف: أدولفو بيوي كاساريس/ Adolfo Bioy Casares (بوينس آيرس، 1914 - 1999) كاتب أرجنتيني بارز في مجال القص، وصحفي، ومؤرخ، ومترجم. عُرف بصداقة وثيقة وتعاون مستمر مع مواطنه خورخي لويس بورخيس.اشتهر بروايته القصيرة اختراع موريال التي تمثل بداية نضجه الأدبي. كتب بورخيس مقدمة الرواية، حيث أشار إلى غياب الرواد في الخيال العلمي في الأدب الإسباني، مقدمًا بيواي كاساريس كمؤسس لنوع جديد.

 

بقلم: ساندرا آيرلاند

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

توقفت حينما بلغت الزاوية. أردت أن أعيد التفكير، وأن أسأل نفسي هل فعلا أود أن أمر بهذه التجربة. انحنيت بخط غير مستقيم ومررت أصبعا على مؤخرة حذائي. وأبعدته عن البثرة التي كانت تتكون. كان أسفل قدمي يلتهب. هذا ما كسبته من التسكع بخفافة . قلت لنفسي. نسي جسمي كيف يستجيب بلباقة. وكيف يسوق نفسه بالمخمل والكعب العالي. بحثت في حقيبتي عن سجائر أعلم أنها موجودة. لم أدخن منذ آخر مرة حملت بها هذه الحقيبة. وهي حقيبة مواعيدي الغرامية. وتحتوي على كل الضروريات التي تلزم لأول لقاء تعارف. هاتف نقال، عطر، أحمر الشفاه، منظف الحلق بنكهة النعناع، ومناديل للدموع، وبخاخ حار إذا تطورت الأمور باتجاه سيء. وبالعادة أواجه هذه المواقف. في إحدى اللحظات أصبحت حياتي مجرد دائرة مغلقة حول أول لقاء، وتخليت بعدها عن أوهامي. وبسبب التوتر كان علي أن أجمد لفترة طويلة وأبتعد عن المشهد كله. كنت أفكر بحياة هادئة وطعام جاهز لشخص واحد. حتى سمعت بديبورا. وضعت بين شفتي سيجارة، أشعلتها وأخذت نفسا عميقا وشعرت بالرضا. أول مرة تعرفت بها على اسم ديبورا كان من بطاقة عمل، ورأيتها تنزلق أمامي سرا على طاولة فورميكا. وشجعتني صديقتي كارول أن أقبلها. همست لي من وراء كوب كابوتشينو تعلوه الرغوة:” إنها لا تعلن عن نفسها. ولا تنافس أحدا. وهي انتقائية جدا”.

سألتها: “ماذا يجعلك تعتقدين أنها ستختارني؟”.

تناولت البطاقة وتأملتها. التمع اسم ديبورا مثل خيط من الفضة في ضوء الفلوريسنت الساطع في المقهى. كانت البطاقة عاجية وغالية الثمن ومدعاة للطمأنينة.

قلت :”ليس لديك شيء تخسرينه؟”.

هزت كارول كتفيها وسألت:”. هل تذكرين جون هاريسون؟”.

قلت: “ذو الثمانين فتيلة وضحكته الشبيهة بنهيق حمار”.

“نعم. حسنا. هل لديك مستشارة قلوب مهمة”.

“لا. كيف تعرفت عليه؟”.

 قطبت كارول وجهها بتهكم وشربت قهوتها وقالت: “من ديبورا. لديها مكتب. اتصلي بها. لن تندمي”.   

خابرتها حالما عدت إلى البيت. كان صوت ديبورا في الأسلاك خشنا، ينتمي لبيئتها المحلية، نفس الصوت الذي تسمعينه في الإعلانات عن قهوة ممتازة أو مشروب غالي الثمن. كانت متعالية بمظهرها حينما قابلتها بعد ثلاثة أيام. كان بيتها فوق متجر خزف صيني، تلجين إليه من سلالم خارجية ذات قفص حديدي. وكان مطليا منذ مدة قريبة، مع أصص لورود جيرانيوم تغطي المكان، قابلتني ديبورا على الباب. رأيت أنها أكبر مما أعتقد. ولكنها غير مترهلة وبشعر أسود مربوط للخلف، مع لفاحة وردية. فكرت لا بد أنها تحب الزهور. وكانت ترتدي ثوبا يحمل نقوش ورود الشاي. وفاحت روائح النرجس في المكان. قادتني إلى غرفة جلوس تحيط بها جدران خضر بلون الغابات. شعرت بالراحة في كنبة جلدية أثناء غيابها حتى عادت مع صينية مليئة. وكانت النار مشتعلة. أشارت الساعة للوقت بالدقائق على خزانة من خشب الصنوبر. قدمت لي كوب شاي يعلوه البخار مع بسكويت دايجستيف بالشوكولا. كل شيء متحضر، وشديد التهذيب. وكنت جاهزة لشراء أي شيء تبيعه.  والبيع كلمة مغلوطة تماما. شائعة جدا. كانت ديبورا تقبل أسعارا عادلة لقاء خدماتها، وبالمقابل تقطع الوعود لتوفير القرين المناسب. أخرجت دفترا له غلاف جلدي مع قلم فضي، وبدأت بتوجيه الأسئلة. وتخللتهاالنصائح. كان من الواضح أن ديبورا خبيرة في لعبة المواعيد الغرامية ولا سيما مع النساء الكبيرات بالسن.  قالت وهي تشير بيدها:”الخطأ الذي ترتكبينه، أنك لا تنقضي بسرعة مناسبة”. 

“أنقض؟”. دفعتني الكلمة للتفكير بغربان سود شريرة مصطفة على سلك الهاتف وتنتظر.

قالت: “هل يوجد رجال يتسكعون هنا بانتظار أيام أفضل؟. كلا أنت لا تقابلي مثل هؤلاء. الرجال يتحركون بسرعة ويتوجب عليك أن تكوني كذلك”.

وضاقت عيناها وهي تحملق بي. شعرت بطبيعتها الفولاذية المدفونة وراء رأس يشبه البنات.

تابعت:“حققت نجاحات مذهلة باستعمال نظامي ولا يوجد سبب للظن أنه لن يكون فعالا معك. البعض قد يظن أنه … غير متزمت… قليلا، لكنه..”.

ونفضت رأسها وتابعت:”هذا يعتمد على مقدار اليأس الذي تتعايشين معه”.

نظرت لي نظرة مجمدة وعلمت أنها تسأل. أومأت بأسف. صفق باب بائع الصحف وأعادني إلى الحاضر. مر بجانبي مراهقان. وأمكنني سماع طرقات مكتومة من جهازي آي بود معهما. وكذلك قرقعة الزجاجات في سلة المشتريات. ألقيت سيجارتي على الرصيف. ودهستها بحذائي ومنحت نفسي رعشة ذهنية.  شرحت لي ديبورا نظامها بالتفصيل. في البداية صدمتني، وجادلتها، ولكن كلمة يأس طفت بيننا وفي الختام وافقت على كل شيء. كان علي مقابلة سيد يدعى جون. لن يكون موعدا غراميا، تماما، ولكنه أقرب لتقديم متحفظ. مسرحية يرتبها مساعد ديبورا، أليستير. وإذا سارت الأمور على ما يرام ستكون الكرة في ملعبي. بدأت أمشي. عبرت الشارع من ممر المشاة وتابعت على طول الطريق الرئيسي. المعبر المنظم كان أمامي، ورأيت السيارات والناس المتسكعين. وقابلني أليستير عند الباب. رتبت سترتي بعصبية. كانت سوداء كما اقترحت ديبورا مع لفاحة حريرية منقوشة بورود زهرية اللون، لإضافة لون ما. كان من السهل ملاحظة أليستير في الزحام. كان طويلا جدا، بشعر أبيض ولون بشرة رقيق، ويرتدي سترة قديمة. اقتربت منه مباشرة وهمست باسمي. ابتسم ابتسامة عريضة، وتجعدت عيناه عند الزاويتين. تساءلت إن كان متزوجا. قدم لي ذراعه فقبلتها. قال:” دعينا نجد لك كرسيا. وٍسأوفر لك نقطة استراتيجية لتتمكني من رؤية جون ثم إن لم يعجبك مرآه، يمكنك أن تنصرفي. دون ضرر”. كان صوته خافتا وكافحت لأستمع له. همست للرد:”ألا يبدو هذا فظا؟. أعني هذا ليس المكان المناسب للمغادرة والانسحاب…”.

قال بسرعة ولاحظت أنه مدرب جيدا: “نوبة السعال تفيد دائما”.

 فتح باب السنديان الثقيل وقادني إلى الداخل. شممت رائحة النرجس وفكرت فورا بديبورا. قادني إلى مقعد ومرر قطعة ورق. قال:” هذه معلوماتك. أقترح أن تقرأيها قبل المقابلة. ثم. أي أسئلة؟ يجب أن أنصرف الآن”.

“إم. واحد فقط.. ما هو اسمها؟”.

همس:”آني. كل شيء مسجل على الورقة. وسأقدمك إلى جون لاحقا”.

كان صاحب كلمة. وهذا عمله، فهو دفان موتى. يبرمج كل المسألة. ولذلك يسهل عليه تقديمي بتحفظ إلى جون حينما نصل إلى الفندق لتناول شطائر الخنزير البارد.

كان منظر جون سارا، من النوع المقبول عندي. ومن الواضح نظرا للظروف أنه لم يكن بأفضل حالاته، ولكن يمكنني التساهل قليلا. أرسلت كلمة شكر صامتة إلى ديبورا وأنا أصافح  جون.

قلت له:”أنا سوزان. كنت مع آني في المدرسة. ومتأسفة لخسارتك..”.

***

......................

ساندرا  آيرلاند - Sandra Ireland:  شاعرة وروائية بريطانية. تعيش في شرق إسكوتلاندا. بدأت حياتها مراسلة لشبكة أخبار محلية. من أهم أعمالها: تحت الجلد 2016، أعماق عظمية 2018، إلغاء إلي روك 2019، مشهد غير مرئي 2020.

 

قصة قصيرة للشاعر الاوروغوياني

 ماريو بينيديتي

ترجمة: يوسف امساهل

***

كان فتى عاديا: تتآكل سروايله من جهة الرُّكب، يقرأ الحكايات المصورة و يصدر الضوضاء عندما يأكل ويضع أصابعه في أنفه ويشخر أتناء القيلولة. اسمه أرماندو كوريينتي، كان عاديا في كل شيء ما عدا في شيء واحد: كانت لديه أناً أخرى.

كانت الأنا الأخرى تُظهر في نظراته شيئاً من الشاعرية، فقد كان يقع في حب الممثلات و يكذب بحذر وتتحرك مشاعره عند مغيب الشمس.

كانت الأنا الأخرى تشغل بال الفتى وتشعره بعدم الارتياح أمام أصدقائه. من ناحية أخرى، كانت الأنا الأخرى كئيبة ولهذا  فقد عجز أرماندو عن التصرف بفظاظة كما كان يتمنى.

ذات مساء عاد أرماندو متعباً من العمل، خلع نعليه و حرك أصابع رجليه ببطء وشغل المذياع.  كان موتسارت على الراديو لكن الفتى استسلم للنوم.عندما استيقظ، كانت الأنا الأخرى تبكي بحرقة. في أول وهلة، لم يكن الصبي يعرف ماذا يفعل ، لكنه استجمع قواه بعد ذلك وأمطر الأنا الأخرى بوابل من الشتائم. لم تنبس الأنا الأخرى ببنت شفة لكنها انتحرت صباح اليوم الموالي.

في البداية، كانت وفاة الأنا الأخرى بمثابة صدمة قوية لأرماندو المسكين، لكنه سرعان ما فكر أنه ربما صار بإمكانه أن يصبح فظاً بشكل كلي. هذا الاعتقاد أحيى آماله وقوى عزيمته.

لم يدم على حداده سوى خمسة أيام، حينما نزل للشارع ليتباهى بفظاظته الجديدة والمتكاملة. من بعيد أبصر أصدقائه وهم يقتربون، فغمره ذلك بالسعادة، لينفجر على الفور ضاحكاً.

وبالرغم من ذلك، فهم لم ينتبهوا لوجوده حينما مروا بجانبه. والأدهى من ذلك، أنه سمعهم يقولون: "مسكين يا أرماندو. يظن أنه يبدو قويا ومعافى".

لم يجد الفتى بُدّاً من التوقف عن الضحك، وفي نفس الوقت شعر باختناق بمحاذاة عظمة القصّ شبيه بالشوق والحنين إلى الماضي. لكنه لم يستطع أن يشعر بالكآبة الحقيقية لأن الأنا الأخرى سبق وأن سلبت منه الكآبة كلها.

***

...................

El otro yo

Mario Benedetti

***

Se trataba de un muchacho corriente: en los pantalones se le formaban rodilleras,

leía historietas, hacía ruido cuando comía, se metía los dedos a la nariz, roncaba en

la siesta, se llamaba Armando Corriente en todo menos en una cosa: tenía Otro Yo.

El Otro Yo usaba cierta poesía en la mirada, se enamoraba de las actrices, mentía

cautelosamente, se emocionaba en los atardeceres. Al muchacho le preocupaba

mucho su Otro Yo y le hacía sentirse incómodo frente a sus amigos. Por otra parte

el Otro Yo era melancólico, y debido a ello, Armando no podía ser tan vulgar como

era su deseo.

Una tarde Armando llegó cansado del trabajo, se quitó los zapatos, movió

lentamente los dedos de los pies y encendió la radio. En la radio estaba Mozart,

pero el muchacho se durmió. Cuando despertó el Otro Yo lloraba con desconsuelo.

En el primer momento, el muchacho no supo que hacer, pero después se rehizo e

insultó concienzudamente al Otro Yo. Este no dijo nada, pero a la mañana siguiente

se había suicidado.

Al principio la muerte del Otro Yo fue un rudo golpe para el pobre Armando, pero

enseguida pensó que ahora sí podría ser enteramente vulgar. Ese pensamiento lo

reconfortó.

Sólo llevaba cinco días de luto, cuando salió la calle con el propósito de lucir su

nueva y completa vulgaridad. Desde lejos vio que se acercaban sus amigos. Eso le

lleno de felicidad e inmediatamente estalló en risotadas. Sin embargo, cuando

pasaron junto a él, ellos no notaron su presencia. Para peor de males, el muchacho

alcanzó a escuchar que comentaban: «Pobre Armando. Y pensar que parecía tan

fuerte y saludable».

El muchacho no tuvo más remedio que dejar de reír y, al mismo tiempo, sintió a la

altura del esternón un ahogo que se parecía bastante a la nostalgia. Pero no pudo

sentir auténtica melancolía, porque toda la melancolía se la había llevado el Otro

Yo.

شعر: سابا كيدان / إريتريا

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

الأم

اغرورقت عيناها بالدموع

بفعل الدخان،

لقد استنفدت أزرها

كاملا

بعد يوم من العمل

الشاق.

أما هو

فقد عاد الى بيته،

وقد استشاظ غضبا،

ليفعلها كعادته:

فكسر عصاه

على ظهرها.

لقد بكت من شدة الضرب

على كامل ظهرها..

لكم تمنيت

لو كانت قد أبقت طفلها

محمولا على ظهرها،

وإن كان ذلك

صعبا عليها !!!

***

........................

- سابا كيدان: شاعرة وصحفية وفنانة وناشطة سياسية إريتيرية. ولدت في عام  1978، وعاشت  وتفاعلت مع أجواء الحرب في بلادها (1961 – 1991). انتمت إلى الجبهة الشعبية لتحرير اريتريا، وهي في سن ال (13)، وسرحت من الجيش في التسعينات من القرن الماضي. تكتب معظم قصائدها باللغة التيغرينية، وتدور حول الحياة اليومية في بلادها والفقر والعوز والمرأة أثناء الحرب والأمومة والطفولة وغيرها. عملت في برامج معنية بالشباب في الإذاعة  والتلفزيون في بلادها. لم تمنح تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة الامريكية في عام 2001. ترجم لها (تشارلز كاتالوبو) و(جيرمان نيجاش) العديد من القصائد الى اللغة الإنكليزية. ومنها هذه القصيدة.

Schamrock.org/Fastival_2020/Kidan_F20_old.html

بقلم:  شارل بيرو

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كان هناك في السابق ملك وملكة، وكانا يشعران بالحزن الشديد لأنهما لم ينجبا أطفالًا؛ حزنًا لا يمكن التعبير عنه. ذهبا إلى جميع المياه في العالم؛ نذور، حج، تم تجربة كل الطرق، وكل ذلك دون جدوى.

وأخيرًا، أنجبت الملكة ابنة. كانت هناك مراسيم تعميد رائعة؛ وكان للأميرة جميع الجنيات اللواتي استطاعوا العثور عليهن في المملكة كأمهات رُوح (وجدوا سبعًا)، لكي تهب كل واحدة منهن لها هدية، كما كان هو التقليد في تلك الأيام. بهذه الطريقة، حصلت الأميرة على جميع الكماليات الممكنة.

بعد انتهاء مراسم التعميد، عادت جميع المدعوات إلى قصر الملك، حيث أُعدت مأدبة كبيرة للجنيات. ووضعت أمام كل واحدة منهن غطاء رائع مع علبة مصنوعة من الذهب الخالص، تحتوي على ملعقة وسكين وشوكة، جميعها من الذهب الخالص ومزينة بالألماس والياقوت. لكن بينما كنّ جميعًا يجلسن على الطاولة، دخلت القاعة جنية عجوز جدًا، لم يكن قد دُعيت، لأنه مضى أكثر من خمسين عامًا منذ أن خرجت من برج معين، وكان يُعتقد أنها إما ميتة أو مسحورة.

أمر الملك بتحضير غطاء لها، لكن لم يستطع أن يجهز لها علبة من الذهب كما للآخرين، لأنهم صنعوا سبع علب فقط للجنيات السبع. اعتقدت الجنية العجوز أنها قد تم التقليل من شأنها، وتمتمت ببعض التهديدات بين أسنانها. سمعت إحدى الجنيات الشابات التي كانت تجلس بجوارها كيف كانت تئن؛ وقررت، عندما نهضوا من الطاولة، أن تختبئ خلف الستائر لتتحدث آخرًا، ولتصلح، بقدر ما تستطيع، الشر الذي قد تقصده الجنية العجوز.

في هذه الأثناء، بدأت جميع الجنيات في تقديم هداياهن للأميرة. أعطت أصغرهن لها هدية بأنها ستكون أجمل شخص في العالم؛ وأعطت التالية لها هدية بأن تكون لها حكمة مثل الملائكة؛ والثالثة، أن تتمتع برشاقة رائعة في كل ما تفعله؛ والرابعة، أن ترقص بشكل مثالي؛ والخامسة، أن تغني مثل العندليب؛ والسادسة، أن تعزف جميع أنواع الموسيقى بأقصى درجات الإتقان.

وعندما جاء دور الجنية العجوز، وهزت رأسها بغضب أكثر مما فعلت بسبب السن، قالت إن الأميرة ستُثقب يدها بإبرة وتموت من الجرح. جعلت هذه الهدية الرهيبة جميع المدعوين يرتعدون، وبدأ الجميع في البكاء.

في هذه اللحظة، خرجت الجنية الشابة من خلف الستائر، وقالت هذه الكلمات بصوت عالٍ:

" اطِمئنوا، أيها الملك والملكة، أن ابنتكم لن تموت بسبب هذه الكارثة. صحيح أنني لا أملك القدرة على إلغاء ما فعلته الجنية العجوز تمامًا. ستُثقب الأميرة يدها بإبرة، ولكن بدلاً من أن تموت، ستقع في نوم عميق يدوم مئة عام، وعند انتهاء هذه الفترة، سيأتي ابن ملك ليوقظها."

لكي يتجنب الملك مصيبة تنبأت بها الجنية العجوز، أصدر على الفور مرسومًا يمنع بموجبه الجميع، تحت طائلة الموت، من الغزل باستخدام المغزل أو أن يكون لديهم مغزل في منازلهم. وبعد حوالي خمسة عشر أو ستة عشر عامًا، بينما كان الملك والملكة قد ذهبا إلى أحد قصورهم للراحة، حدث أن الأميرة الشابة كانت تلعب ذات يوم بالجري صعودًا ونزولًا في القصر؛ وعندما صعدت من غرفة إلى أخرى، دخلت غرفة صغيرة في أعلى البرج، حيث كانت امرأة طيبة مسنّة، وحدها، تغزل بالمغزل. لم تكن هذه المرأة الطيبة قد سمعت قط بمرسوم الملك ضد المغازل.

قالت الأميرة:

- ماذا تفعلين هناك، يا جدتي؟

قالت العجوز، التي لم تكن تعرف من هي:

-  أغزل، يا طفلتي الجميلة،

قالت الأميرة:

-  آه! .. هذا جميل جدًا؛ كيف تفعلين ذلك؟ أعطيني إياه، لأرى إن كنت أستطيع فعله.

ما إن أخذته بيدها حتى، سواء لأنها كانت متسرعة في ذلك، أو بعض الشيء غير ماهرة، أو لأن مرسوم الجنية قد قدر ذلك، فقد انزلق إلى يدها، وسقطت مغشيًا عليها.

صرخت العجوز الطيبة، التي لم تكن تعرف تمامًا ما الذي تفعله في هذا الأمر، طلبًا للمساعدة. جاء الناس من كل الجهات بأعداد كبيرة؛ رشقوا الماء على وجه الأميرة، وفتحوا أزرار ملابسها، وضربوها على راحتي يديها، وفركوا صدغيها بماء الهنجارية؛ ولكن لم ينجح أي شيء في إعادتها إلى وعيها.

وفي هذه الأثناء، جاء الملك، الذي سمع الضجة، إلى ما يجري، وتذكر تنبؤات الجنيات، واعتقد جيدًا أن هذا كان لابد أن يحدث، حيث أن الجنيات قد قالته، فطلب أن تُحمل الأميرة إلى أجمل غرفة في قصره، وأن تُوضع على سرير مطرز بالذهب والفضة.

كان يمكن للمرء أن يظنها ملاكًا صغيرًا، فهي جميلة جدًا؛ لأن إغمائها لم يُنقص من جمالها شيئًا؛ كانت خديها بلون القرنفل، وشفتيها من المرجان؛ وبالفعل، كانت عينيها مغلقتين، لكنها كانت تُسمع أنفاسها الهادئة، مما طمأن من حولها بأنها ليست ميتة. أمر الملك بعدم إزعاجها، ولكن ليتركها تنام بهدوء حتى يأتي وقت استيقاظها.

كانت الجنية الطيبة التي أنقذت حياتها من خلال الحكم عليها بالنوم لمدة مئة عام في مملكة ماتاكين، التي تبعد اثني عشر ألف فرسخ، حينما حدث هذا الحادث مع الأميرة؛ ولكنها أُبلغت على الفور بذلك بواسطة قزم صغير كان يرتدي حذاءً يمكنه من السير سبع فراسخ بخطوة واحدة. جاءت الجنية على الفور، ووصلت، بعد حوالي ساعة، في عربة نارية تجرها التنينات.

نزلت الجنية من العربة، ووافقت على كل ما فعله الملك، ولكن نظرًا لبصيرتها الكبيرة، فكرت أنه عندما تستيقظ الأميرة، قد لا تعرف ماذا تفعل بنفسها وهي وحدها في هذا القصر القديم؛ ففعلت ما يلي: لمست بعصاها كل شيء في القصر (باستثناء الملك والملكة) — المربيات، وصيفات الشرف، والسيدات في غرفة النوم، والسادة، والضباط، والمشرفين، والطهاة، والطهاة المساعدين، والمساعدين، والحراس، مع حراسهم، والصفحات، والخدم؛ كما لمست جميع الخيول الموجودة في الإسطبلات، بما في ذلك السروج وغيرها، والكلاب الكبيرة في الفناء الخارجي، وكذلك الكلبة الصغيرة مابسِي، كلبة الأميرة الصغيرة، التي كانت ملقاة بجانبها على السرير.

فور أن لمستهم، غرقوا جميعًا في نوم عميق، حتى لا يوقظهم شيء قبل سيدتهم، وليكونوا جاهزين لخدمتها عند الحاجة. حتى الشوايات، المملوءة بأقصى ما يمكن من السلوى والطيور، سقطت في نومها أيضًا. تم كل هذا في لحظة، فالجنيات لا تأخذ وقتًا طويلًا في إنجاز أعمالهن.

ثم، بعد أن قبّل الملك والملكة طفلتهما العزيزة دون أن يوقظاها، خرجا من القصر وأصدرا إعلانًا يمنع أي شخص من الاقتراب منه. ومع ذلك، لم يكن هذا الأمر ضروريًا، إذ خلال ربع ساعة فقط، نمت حول الحديقة أعداد هائلة من الأشجار، الكبيرة والصغيرة، والأدغال والأشواك، تتشابك مع بعضها البعض، حتى لم يعد بإمكان إنسان أو حيوان المرور؛ فلا يُرى سوى قمم أبراج القصر، وحتى ذلك لم يكن يُرى إلا من بعيد. لم يشك أحد في أن الجنية قدمت هنا مثالًا استثنائيًا لفنها، حتى لا تشعر الأميرة، أثناء نومها، بأي قلق من فضول الآخرين.

عندما مرت مئة عام، كان ابن الملك الذي يحكم في ذلك الحين، والذي كان من عائلة مختلفة عن عائلة الأميرة النائمة، قد ذهب في رحلة صيد إلى تلك المنطقة، فسأل: ما تلك الأبراج التي رأها في وسط غابة كثيفة؟

أجاب الجميع وفقًا لما سمعوه. فقال بعضهم: إن ذلك كان قلعة قديمة مهجورة، تسكنها الأرواح. بينما قال آخرون: إن جميع السحرة والساحرات في البلاد يجتمعون هناك في سبتهم أو اجتماعهم الليلي.

كان الرأي السائد أن هناك غولًا يعيش في تلك القلعة، وأنه يختطف جميع الأطفال الذين يستطيع الإمساك بهم ليأكلهم على مهل، دون أن يتمكن أي شخص من متابعته، إذ إنه الوحيد الذي يمتلك القدرة على عبور الغابة.

توقف الأمير مترددا، لا يدري بماذا يصدق، حين تحدث إليه فلاح طيب بكلمات قال فيها: "إنه لمن دواعي سروري، يا صاحب السمو الملكي، أن أخبركم بأنه قد مرَّ حوالي خمسين عامًا منذ أن سمعت من والدي، الذي سمع من جدي، أن هناك في هذه القلعة أميرة، كانت الأجمل التي رأتها العيون على مر الزمان؛ وأنه يتعين عليها أن تنام هناك مئة عام، وأنها ستستيقظ على يد ابن ملك، الذي كان مُقدَّرًا لها."

اشتعل قلب الأمير الشاب بهذه الكلمات، وبدون تفكير، آمن أنه بإمكانه إنهاء هذه المغامرة النادرة. مدفوعًا بالحب والشرف، عزم على استكشاف الأمر في تلك اللحظة.

ما إن خطا نحو الغابة حتى انفتح له الطريق، حيث تراجعت الأشجار الضخمة والشجيرات والأشواك لتسمح له بالعبور. تقدم نحو القلعة التي رآها في نهاية الممر الواسع الذي دخل إليه؛ وما أدهشه قليلًا هو أنه لم يرَ أيًا من رجاله يمكنهم متابعته، لأن الأشجار أغلقت مرة أخرى بمجرد أن مرَّ بها. ومع ذلك، لم يتوقف عن مواصلة طريقه؛ فالأمير الشاب والمحب دائمًا شجاع.

وصل إلى ساحة واسعة، حيث كان كل ما رآه يمكن أن يُرعب أشجع الرجال. عمَّ صمتٌ مروع في كل مكان، وكانت صورة الموت واضحة، ولم يكن هناك ما يُرى سوى جثث من الرجال والحيوانات، بدا جميعها وكأنها ميتة. لكنه كان يعرف جيدًا، من وجوه الحراس الوردية وأنوفهم المليئة بالبثور، أنهم كانوا نائمين فقط؛ حيث كانت كؤوسهم تحتوي على بضع قطرات من النبيذ، مما يدل بوضوح على أنهم غفوا في أكوابهم.

ثم عبر ساحة مرصوفة بالرخام، صعد الدرج ودخل غرفة الحراسة، حيث كان الحراس واقفين في صفوفهم، وبنادقهم على أكتافهم، وكانوا يشخرون بصوت عالٍ. بعد ذلك، مرَّ عبر عدة غرف مليئة بالرجال والنساء، جميعهم نائمون، بعضهم واقف وبعضهم جالس. وفي النهاية، دخل غرفة مزخرفة بالذهب، حيث رأى على سرير، ترفع ستائره، أجمل منظر قد يُرى على الإطلاق—أميرة، بدت في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمرها، وكان جمالها المتألق، بريقه الإلهي. اقترب منها وهو يرتجف من الإعجاب، وسجد أمامها على ركبتيه.

والآن، مع انتهاء السحر، استيقظت الأميرة، ونظرت إليه بعينيها الأكثر حنانًا مما قد يبدو للوهلة الأولى ، قالت له:

- أهو أنت، يا أميري؟ ..  لقد انتظرت طويلًا."

اندهش الأمير من هذه الكلمات، وأعجب أكثر بطريقة نطقها، فلم يعرف كيف يظهر فرحته وامتنانه؛ فأكد لها أنه يحبها أكثر من نفسه. لم يكن حديثهما متماسكًا، بل بكيا أكثر مما تحدثا—قليل من البلاغة، والكثير من الحب. كان مرتبكًا أكثر منها، وليس من العجب في ذلك؛ فقد كان لديها الوقت لتفكر فيما ستقوله له؛ لأنه من المحتمل جدًا (رغم أن التاريخ لا يذكر شيئًا عن ذلك) أن الجنية الطيبة قد منحتها أحلامًا جميلة خلال تلك النوم الطويل. باختصار، تحدثا لمدة أربع ساعات معًا، ومع ذلك لم يقولا نصف ما كان لديهما ليقولاه.

في تلك الأثناء، استيقظ جميع أفراد القصر؛ كل واحد منهم فكر في أعماله الخاصة، وكما أن الكثير منهم لم يكن في حالة حب، كانوا مستعدين للموت من الجوع. أصبحت رئيسة السيدات في الحضور، التي كانت جائعة كغيرها، متلهفة وأخبرت الأميرة بصوت عالٍ أن العشاء قد تم تقديمه. ساعد الأمير الأميرة على النهوض؛ فقد كانت ترتدي ملابس فاخرة ومذهلة، لكنه حرص على عدم إخبارها بأنها كانت ترتدي زي جدته الكبرى، وأنه كان هناك طوق عالٍ يبرز من فوق ياقة عالية؛ لكنها لم تبدُ أقل سحرًا وجمالًا بفضل ذلك.

ذهبا إلى القاعة الكبيرة المرصعة بالمرايا حيث تناولا العشاء، وتم تقديم الخدمة لهما من قبل خدم الأميرة، وكانت تعزف الكمانات والهورنات ألحانًا قديمة، لكنها كانت رائعة جدًا، رغم أنه قد مر أكثر من مئة عام على آخر مرة تم عزفها؛ وبعد العشاء، وبدون إضاعة أي وقت، قام اللورد المؤتمن بزواجهما في كنيسة القلعة، وسحبت رئيسة السيدات الستائر. لم ينالا إلا قسطًا قليلًا من النوم—فالأميرة لم تكن بحاجة إليه؛ وغادر الأمير في صباح اليوم التالي ليعود إلى المدينة، حيث كان لابد أن يكون والده في حالة قلق عليه. أخبر الأمير والده أنه ضاع في الغابة أثناء الصيد، وأنه نام في كوخ لحّام الفحم الذي قدّم له الجبن والخبز الأسمر.

صدق الملك، والد الأمير، وهو رجل طيب، روايته؛ لكن والدته لم تستطع أن تُقنع بذلك؛ ورأت أنه يذهب إلى الصيد تقريبًا كل يوم، وأنه دائمًا ما كان لديه عذر جاهز لذلك، رغم أنه كان ينام خارجًا لثلاث أو أربع ليالٍ متتالية، بدأت تشك في أنه متزوج، فقد عاش مع الأميرة أكثر من عامين، ورُزق منها بطفلين، كان أكبرهما، وهي ابنة، تُدعى "صباح"، بينما الابن الأصغر، سُمّي "يوم"، لأنه كان أجمل بكثير من أخته.

تحدثت الملكة عدة مرات مع ابنها لتستفسر عن كيفية قضاء وقته، وأنه يجب عليه أن يُرضيها في هذا الأمر؛ لكنه لم يجرؤ أبدًا على أن يثق بها بسرّه؛ فقد كان يخاف منها، على الرغم من حبه لها، لأنها من سلالة الأوغاد، ولم يكن الملك ليتزوجها لولا ثروتها الكبيرة؛ حتى أنه كان يُشاع في البلاط أنها تحمل ميولًا عدوانية، وأنها، كلما رأت الأطفال الصغار يمرّون، كانت تجد صعوبة بالغة في تجنب الانقضاض عليهم. وهكذا، لم يخبرها الأمير بكلمة واحدة.

ولكن عندما توفي الملك، الذي حدث بعد حوالي عامين، ورأى نفسه سيدًا ومتحكمًا، أعلن زواجه علنًا؛ وذهب في احتفال كبير ليقود ملكته إلى القصر. وكانت دخولها إلى العاصمة رائعا، حيث كانت تركب بين طفليها.

بعد فترة وجيزة، ذهب الملك لشن الحرب ضد الإمبراطور كونتاليبوت، جاره. ترك إدارة المملكة لوالدته الملكة، وأوصى بشدة برعاية زوجته وأطفاله. كان عليه أن يستمر في حملته طوال الصيف، وعندما رحل، أرسلت الملكة الأم زوجة ابنها إلى منزل ريفي بين الغابات، لتتمكن من تلبية رغبتها الفظيعة بسهولة أكبر.

وبعد بضعة أيام، ذهبت هناك بنفسها، وقالت لمدير المطبخ:

- أرغب في تناول الطفلة صباح على الغداء غدًا.

صرخ مدير المطبخ.

- آه! سيدتي!

أجابت الملكة :

-  سأفعل ذلك وسأقوم بتناولها مع صلصة روبرت.

عرف المسكين جيدًا أنه لا ينبغي له أن يلعب مع الأوجريس، فأخذ سكينه الكبيرة وصعد إلى غرفة الطفلة مورنغ. كانت في الرابعة من عمرها، واندفعت نحوه تقفز وتضحك، معانقة إياه وتسأله عن حلوى السكر. عندئذٍ، انهمرت دموعه وسقطت السكين من يده. خرج إلى الفناء الخلفي، حيث قتل خروفًا صغيرًا، وأعده بصلصة رائعة، مما جعل سيدته تؤكد له أنها لم تتناول شيئًا بهذا الطعم اللذيذ في حياتها. وفي الوقت نفسه، أخذ الطفلة مورنغ وحملها إلى زوجته ليخفيها في المسكن الذي كان لديه في أسفل الفناء.

بعد حوالي ثمانية أيام، قالت الملكة الشريرة لمدير المطبخ:

- سأتناول العشاء على الطفل يوم .

لم يرد بكلمة واحدة، فهو مصمم على خداعها كما فعل سابقًا. انطلق للبحث عن الطفل داي، فرأى الصغير وهو يحمل سيفًا صغيرًا ويتبارز مع قرد كبير، وكان عمره حينها ثلاث سنوات فقط. حمله بين ذراعيه وأخذه إلى زوجته لتخفيه في غرفتها مع شقيقته، وفي غرفة الطفل داي أعد جديًا صغيرًا، طريًا جدًا، وجدته الأوجريس لذيذًا بشكل مذهل.

حتى تلك اللحظة، كانت الأمور تسير بشكل جيد؛ لكن في إحدى الأمسيات، قالت الملكة الشريرة لمدير المطبخ:

- سآكل الملكة بنفس الصلصة التي تناولتها مع طفليها .

كان ذلك حين يئس مدير المطبخ المسكين من قدرته على خداعها. كانت الملكة الشابة قد بلغت العشرين من عمرها، ولم تكن تحسب المائة عام التي قضتها نائمة؛ وكان ما حيره هو كيف يجد في الفناء حيوانًا قويًا إلى هذا الحد. فقرر حينئذٍ أن يقطع حلق الملكة لإنقاذ حياته؛ فصعد إلى حجرتها، عازمًا على فعل ذلك على الفور، ودخل إلى حجرة الملكة الشابة بخنجره في يده. ولكنه لم يشأ أن يفاجئها، بل أخبرها باحترام كبير بالأوامر التي تلقاها من الملكة الأم.

قالت وهي تمد عنقها:

- افعلها، افعلها.نفذ أوامرك، وبعد ذلك سأذهب لأرى طفلي، طفلاي المسكينان، اللذان أحببتهما كثيرًا وبكل رقة وحنان.

لأنها ظنت أنهما ماتا منذ أن تم أخذهما بعيدًا دون علمها.

- لا، لا، سيدتي" (صاح المسكين مدير المطبخ، وقد أغرورقت عيناه بالدموع)؛  "لن تموتي، وستلتقين بطفليك مرة أخرى؛ لكن يجب عليك أن تذهبي معي إلى مسكني، حيث أخفيتهما، وسأخدع الملكة مرة أخرى، بإعطائها بدلًا منك غزالة صغيرة.

على الفور، قادها إلى غرفته، حيث تركها لتحتضن طفليها وتبكي معهما، ثم ذهب ليعد غزالة صغيرة، التي تناولتها الملكة في عشاءها، واستمتعت بها بنفس الشغف كما لو كانت الملكة الشابة. كانت تشعر بسعادة غامرة بسبب قسوتها، وقد ابتكرت قصة لترويها للملك عند عودته، كيف أن الذئاب المجنونة قد أكلت الملكة زوجته وطفليها.

في إحدى الأمسيات، بينما كانت كعادتها تتجول في فناءات وقاعات القصر بحثًا عن رائحة لحم طازج، سمعت في أحد الطوابق السفلى الطفل داي يبكي، لأن والدته كانت ستعاقبه لأنه كان سيئ السلوك؛ وسمعت في نفس الوقت صباح الصغيرة تتوسل بالصفح عن شقيقها.

عندما سمعت الملكة الحماة صوت الملكة وأطفالها، أدركت على الفور أنها قد تعرضت للخداع، فامتلأت غضبًا وأمرت في صباح اليوم التالي، عند بزوغ الفجر، بصوت مرعب جعل الجميع يرتعدون، أن يحضروا إلى وسط الفناء الكبير حوضًا كبيرًا، فملأته بالضفادع والثعابين والعقارب وجميع أنواع الزواحف، لتلقي فيه الملكة وأطفالها، بالإضافة إلى مدير المطبخ وزوجته وخادمته؛ وقد أمرت بأن يُحضروا جميعًا إلى هناك وأيديهم مقيدة خلف ظهورهم.

وما إن أحضروا جميعا كما أُمر، وكان الجلادون على وشك إلقائهم في الحوض، دخل الملك (الذي لم يكن متوقعًا  يعود بهذه السرعة) إلى الفناء على ظهر حصانه (لأنه جاء سريعًا) وسأل، بدهشة بالغة، عن معنى هذا المشهد الرهيب.

لم يجرؤ أحد على إبلاغه، وعندما رأت الملكة (أمه) ما حدث، قفزت غاضبة إلى الحوض، فابتلعتها على الفور الكائنات القبيحة التي كانت قد أمرت بإلقائها فيه للآخرين. شعر الملك بالحزن الشديد ، إذ كانت تلك والدته؛ ولكنه سرعان ما وجد العزاء في زوجته الجميلة وطفليه الرائعين .

(تمت)

***

........................

الكاتب: شارل بيرو/  Charles Perrault (12 يناير 1628 - 16 مايو 1703) كاتب فرنسي ووقد كان عضوًا في الأكاديمية الفرنسية. أسس نوعًا أدبيًا جديدًا، وهو الحكاية الخرافية، من خلال أعماله المستمدة من الحكايات الشعبية القديمة، التي نُشرت في كتابه عام 1697 "قصص أو حكايات من الأزمنة الماضية". من بين أشهر حكاياته  (ذات الرداء الأحمر)، (سندريلا)، و(القط ذو الحذاء)، و (الجميلة النائمة)،التى نترجمها هنا عن الانجليزية ، وغيرها من الحكايات التى اعتمد فى معظمها على الأخوين جريم. وُلِد شارل بيرو في باريس في 12 يناير 1628 لعائلة بورجوازية ثرية، وكان الطفل السابع لبيير بيرو وباكيه لو كلير. التحق بمدارس ممتازة ودرس القانون قبل أن يبدأ مسيرته في الخدمة الحكومية، سائرًا على خطى والده وأخيه الأكبر جان. توفي شارل بيرو في باريس في 16 مايو 1703 عن عمر يناهز 75 عامًا.

 

بقلم: براين بيلستن

ترجمة: د. عادل صالح الزبيدي

***

حيوات قطتي الثمانية السابقة

في 1969، حين حزم آرمسترونغ وآرلين امتعتهما وانطلقا في رحلتهما الى القمر،

غفت قطتي.

*

في 1851، حين كانت توضع الخطط لتظيم "المعرض الكبير،"

اخذت قطتي قيلولة.

*

في 1789، بينما كان الملك لويس السادس عشر يثني على الجماهير مدركا ان ايامه معدودة،

نامت قطتي.

*

في 1533، بعد ان رفض توماس مور اداء القسم ثم دفع الثمن على نحو محزن،

غفت قطتي اغفاءة خفيفة (وحلمت بالفئران).

*

في 1351، حين تفشى الطاعون الأسود،

هجعت قطتي.

*

في 150، بينما كان بطليموس يمارس بعض اعمال الهندسة ليضع خريطة للعالم،

رقدت قطتي.

*

في 64، حين كانت روما تحترق ونيرون يعزف والمواطنون غاضبون،

تكورت قطتي جنب النار.

*

في 1323 قبل الميلاد، بعد ان قضت عاما وكلتا عينيها مغمضتان بشدة،

دفنت قطتي مع الملك توت عنخ آمون.

***

....................

براين بيلستن: شاعر وكاتب بريطاني من مواليد برمنغهام لعام 1970 واسمه الحقيقي بول ميليتشيب. تلقى تعليمه في جامعة ويلز وبدأ نشر قصائده على مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك وغيرهما وعرف بوصفه صوتا شعريا متميزا حتى أطلق عليه لقب (أمير شعراء تويتر). ظهرت له المجموعات الشعرية الآتية (استقللتَ الحافلة الأخيرة الى الديار) 2016؛  (يا أليكسا، ماذا هنالك لنتعلمه حول الحب؟) 2021؛ (50 طريقة لتسجيل هدف) 2021؛ (أيام كهذه: دليل بديل عن العام في 366 قصيدة) 2022؛ و(واذاُ فهذا هو عيد الميلاد) 2023، كما نشر رواية بعنوان (يوميات احدهم) في عام 2019. يواظب بيلستن على نشر قصائده على مواقع التواصل على نحو شبه يومي.

ملكات الجمال الراحلات في الجنوب

شعر: كاثرين نوبل

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

تظاهر أن ملكة الجمال لم ترفضه حين جاء إليها بعد فوزها بالجائزة الكبرى.

دعتْه إلى الداخل،

وراح يعبث بمشبكها اللؤلؤي.

هل نتمشى في بستان الجوز؟ ليلي

باليد اليسرى زهرة، باليمنى سكين.

سأل أولاً، لكنها لم تستطع أن ترد.

*

أحب الفتاة التي تتوسل حتى تحصل على ما تريد،

أحب الفتاة التي لا تستطيع الذهاب إلى أي مكان بدون ذلك .

أحب الفتاة التي تنحني وتطلب.

2

في الحادية والعشرين، وقعت في الحب

في مهرجان موسيقي — و أصبحت الحياة

مجرد رمز واضح.

*

نحن وحدنا على عجلة الفيريس، تخيّل. الموسيقى تنبض من محورها النيون،

سيدات كامب تاون يغنين هذه الأغنية

دو-دا، دو-دا.

أحب الفتاة التي تدفع الحساب.

أحب الفتاة التي تقسم في كل مرة.

أحب الفتاة التي لا تستطيع المقاومة.

*

الدلاء المعدنية تتدحرج نحو الجنة.

تنسى قد غمرهتا النجوم. سقط خاتم أنفي الرخيص.

رائحة ريح يونيو، والدهون المقليّة، والماريجوانا.

*

ما الذى لم أرغب فيه؟ كيف لم يكن مثالياً؟  لا أريد حقا

أن أتحدث عن ذلك. سألني أي بيرة أحب.

*

أكره الفتاة التي تدخن. أحب الفتاة التي لا تطلب بيرة خفيفة.

*

لقد تدربت قليلاً فقط. ناشئة، أليس كذلك؟

هذه الكلمة التي أبحث عنها،

كنت أعلم ماذا أفعل، رغم ذلك. كنت قد تعرضت بالفعل للاغتصاب،

غلطتي. (يا إلهي،

لا عودة،

لقد مضى الأمر،

قال لي صديقي). لكن هذا مختلف.

*

ومع ذلك، فكرت في ملكة الجمال

المدفونة في جورجيا، تحت أشجار الجوز. في فقرة المواهب،

كانت ترتدي فستان زفاف

(يا إلهي، كم كانت تغني النشيد ببراعة).

رائحة القواقع المتعفنة على قبرها (إذا كان يفيد، ، تخيل زهور الماغنوليا،

وبتلات الحليب، والبذرة النابتة الوحيدة).

أحب الفتاة التي تغني بصوت متقن.

أحب الفتاة التي تعرف ما تريد.

أحب الفتاة التي تتحدث بعد ذلك.

3

تعترف أمي بأنها عاشت طفولة بائسة.

تفاح بري، ورود الحديقة ذات الشفاه الثقيلة.

شبكة عسكرية رجولية، وأيام ضائعة.

*

أما طفولتي فكانت ظهيرة طويلة من قفزات الغوص فى الماء،

قصور مشيدة من الجوز، شفقة على اذات، والصودا الكريمية. ومع ذلك بكيت وبكيت.

*

أحب الفتاة التي تبدأ في الانطلاق.

أحب الفتاة التي تستطيع لو أرادت لكن.

أحب الفتاة التي تأتي إلى المنضدة وتتكلم.

*

رجاءً لا تقلقي!

لاحقًا، في صالة الرقص الشعبي، وقعت في الحب بجدية،

وليس بخفة. بعد خمسة كؤوس في تلك الرقصة البسيطة التي ترقصها

*

مع رجال أكبر سنًا، بأيدٍ خشنة، ةأحذية مدببة.

غنيت معهم، دو-دا، دو-دا (لا—

يقول الرجال الراقصون— (الفتيات يتبعن، والرجال يقودون).

عل عجلة الفيريس قبل عامين. أخرج جيتاره،

تذكري ما قلته عن النجوم!

4

في المدرسة الابتدائية درسنا كيف تتعفن الفاكهة.

كل يوم نراقب اللحم. الرائحة ما زالت هناك.

*

خوخ متعفن، موز أسود، أطفال يحملون دفاتر

فارغة يسرعون تحت حصار الذباب.

*

طُلب من الفتيات، بالطبع، تنظيف الأكوام.

بينما الأولاد كانوا يتابعون النتائج.

تقيأت على حذائي المصنوع من الجلد المدبوغ.

*

جاءت دورة باتريشيا الشهرية مبكرًا. أما أنا فجاءتني

بعد عامين في عيد القيامة. هل ترفعين عينيك؟ فستان أخضر

صناعي، حذاء أبيض. كتاب التراتيل أسود،

ثابت على حجري. دو-دا، دو-دا. لم أستطع النهوض من المقعد.

*

أحب الفتاة التي تتظاهَر بالغباء لتحافظ على ما لديها.

أحب الفتاة التي تفهم حدودها.

أحب الفتاة التي تبدو لطيفة كزرار ولكن.

*

إذن، تمر الفصول الآن دون رمز.

لا يعني ذلك شيئًا، لا بيضة مبهجة

تُكتشف في الفناء،

ولا قبر وهمي، ولا رحم نقي.

5

مرة أخرى، الآن،

إنه عيد الفصح. عشب الموز الأخضر،

زهرات الماغنوليا تتحول إلى لون بني، الأوراق مصقولة بالشمع.

*

أزور والدتي. تعطيني فرشاة،

وتعتذر لتسمح لي بإصلاح نفسي أمام المرآة.

تقلم أظافري بحب. تقطع الأهلة المعلقة،

*

محبة. لا أعتقد أنني أؤمن

بالجنة، تقول لي بينما ننتزع الأعشاب،

التهاب المفاصل يتسلل إلى العمود الفقري

*

(لكن ربما يجب أن نناقش ذلك في وقت آخر).

*

الغريب يضع رأس الأرنب

للأطفال الجدد. الفتيات يعثرن على كل البيض

(الفتيات الصغيرات ماكرات).

*

يعملون بأزواج بالألوان الباستيل. حديقة الليل مُزيتة بالكومكوات التي تفرك بين الأصابع.

*

أحب الفتاة التي تصر.

أحب الفتاة التي تقود سيارة عادية.

أحب الفتاة التي تنتعل الكعب العالي وتتحول.

6

هنا، انتبه جيداً،

هنا: ها هو يخلع حذاءه، ذلك الوسيم.

*

نفسه سيء قليلاً، عينا الكلب.

وأنا، أسير، أسير. صدري،

كما تعلمين، في ضوء الكرنفال. موسيقى معدنية.

دلاء تتدحرج إلى الجنة.

*

أوه سوزانا لا تبكي علي.

أتيت من ألاباما، وعلى ركبتي بنجو.

بنطاله الجينز الأزرق يضغط عليّ .سأعطيه كل شيء.

*

(عندما ينتهي الأمر، لن أكون سعيدة تمامًا، لكنني سأكون في غرفةٍ أخرى بقية حياتي). دو-داه، دو-داه.

مرت ست سنوات. أصبح الوجه رقيقًا، وتعافى الجسد.

كان الكلب حيًا آنذاك، والآن مات.

*

إنه الربيع. قُتلت ملكة الجمال في جورجيا،

وذكرت المدينة أن منزلها كان نقيًا،

نظيفًا كدمية. العقد اللؤلؤي المفكوك هو كل

ما يشير إلى المقاومة.

*

أحب الفتاة التي تعض.

أحب الفتاة التي تصر أنها ليست لطيفة.

أحب الفتاة ذات الشهية الكبيرة.

أحب الفتاة التي لا تنظر.

أحب الفتاة التي لا تبدو وكأنها تحب ذلك.

***

...............................

الشاعرة: كاثرين نوبل/ Katherine Noble كاتبة ومعلمة تعيش في أوستن، تكساس. حصلت كاثرين نوبل على درجة الماجستير في الفنون الجميلة من مركز ميتشنر للكتاب، كما حصلت  على جائزة كين في الأدب. وهي واحدة من أكبر الجوائز الأدبية للطلاب في العالم. تظهر قصائدها في مجلة بيلويت للشعر، ومجلة ذا أبندكس، وأماكن أخرى.

رابط النص الأصلي:

https://electricliterature.com/the-dead-beauty-queens-of-the-south/

 

بقلم: يوكو أوغاوا

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

لدى والدتي كنزان. أحدهما خاتم من الأوبال، وهو الهدية الوحيدة التي تلقتها من والدي المرحوم. احتفظت به في علبة صغيرة، ولم تعرضه للعيان إلا مرة أو اثنتين لعدة ساعات في العام، خلال مناسبات خاصة. والعلبة مغطاة بمخمل لونه أزرق داكن، وإذا فتحته يصدر عنه صوت خفيف، كأنه قطة تتثاءب. حينما أكون وحدي في البيت، غالبا ما أفتح العلبة لأنظر إلى الأوبال. وهذا ليس ممنوعا. ولكن في طفولتي كنت أشعر أنه من الأفضل أن أفعل ذلك بالسر. كان الخاتم أثريا، وهي حقيقة تبدو للعيان من حالة العلبة. بدأ الخشب يبرز للعين حيثما اهترأ الغطاء المخملي، ويشير العنوان المكتوب على الغطاء من الداخل إلى شارع، ولكن تبدل اسمه حينما تم إعادة تنظيم البلدة. وكان الخاتم ملفوفا بلفافة من القطن ولكنها أصبحت قاسية ودون لون، وخشيت أن تضر اللفافة البالية الجوهرة. غير أنه لم يخطر لأمي فكرة استبدالها. حينما نظرت إلى الأوبال تذكرت فورا المرطبات - وبالأخص النوع المسمى ليلة مشرقة بالنجوم، وكانت تباع في متجر السكاكر أمام المحطة. مرطبات بنكهة الفانيلا ويتخللها البرتقال. وردية مصفرة مع رقاقات من المرطبات ولونها أزرق خفيف. أما التغليف فقد كان جذابا، وهو من الألومنيوم ويبلغ حجمه حجم رأس طفل صغير، ومغطى أيضا بنجوم فضية من الورق. وكانت علب الألومنيوم مصفوفة في مجمدة قرب واجهة المتجر. ولا حاجة للقول أنني لم أتذوق الليل المشرق بالنجوم، أو نظرت إلى محتوياتها.  فقط لمحت العينة البلاستيكية المعروضة فوق المجمدة. في الحقيقة لم أحصل على الكثير من الكوكيز من ذلك اامتجر، فهي مرتفعة الثمن جدا بالنسبة لنا. كنت أضع الخاتم على غلاف قلمي، أو أضعه أمام الضوء أو أجربه بأصبعي لدقيقة من الوقت. غير أنه واسع جدا بالنسبة لكل أصابعي. وحين يتدلى من يدي، أرى أنه أقل جاذبية من ليلة مشرقة بالنجوم. ودائما أعيده قبل عودة أمي. أعيد القطن لمكانه، وأغلق غطاء العلبة، وأحرص أن لا أترك بصمات أصابع على المخمل.

الكنز الآخر  قصاصة من الصحف احتفظت بها في كيس من البلاستيك. كان الورق مبقعا وحافته مكرمشة. ولكن التاريخ مقروء - وهو 30 تشرين الثاني 1962. ومعها صورتي حين كسبت مسابقة للجمال.

بعكس الخاتم، كنت أخرج هذا الكنز لأعرضه على الآخرين. كلما جاء الأقارب والأصدقاء - أو أي شخص آخر - ليزور بيتنا. وإذا أصبحت موضوع الحوار، تأتي الوالدة بالقصاصة وتتكلم عنها بنبرة تدل أنها لم تفكر بالموضوع منذ فترة طويلة. معظم الناس كانوا دمثين ويبدون الإعجاب - "كم هذا حلو" - ولكن من الواضح لا يبدو أنهم مقتنعون أو لديهم كلام إضافي. ولذلك كانوا يبدون الاهتمام ويتظاهرون أنهم يقرأون المقالة بينما الوالدة تشرح معايير الحكام، وعدد المتسابقات، والجوائز (مجموعة قوالب خشبية من أوروبا وعلبة من الكارتون  بمحتويات طفولية)، ومشهد المسرح، وأسئلة الصحفيين. وكنت في الصورة بعمر ثماني شهور أرتدي طاقية مطرزة ومعقودة تحت ذقني. وكنت لا أزال بالفوطة، وتنورتي المزركشة الصغيرة منفوخة حولي. الرأس مائل بخجل  وأنظر إلى مصاصة وضعها أحدهم في يدي. كنت ثمينة بالنسبة للوالدة مثل القصاصة، ولكنها من الواضح لم تهتم بقراءة المقال المكتوب على الطرف الآخر منها، ولكنني أحفظه عن ظهر قلب: ... في أمسية 28-------- (72عاما) حضرت لعائلتها السوكياكي من الفطر الذي جمعته من الجبال القريبة من بيتها، وفي صباح ال 29، زوجها --------- (76 عاما) وزوجة ابنها -------  (39 عاما)، وحفيدتها ------ (6سنوات) ظهرت لدبهم أعراض التسمم. نقلوا إلى المشفى المحلي بالإسعاف، و -------- و  --------- ولا زالوا مسجلين في لائحة الحالات الحرجة. أرسلت الشرطة بقية الفطر للتحليل والتصنيف.

كان بقية المقال مقصوصا، ولكن كلما أخرجت أمي القصاصة، أتذكر البنت الصغيرة التي تناولت الفطر المسموم، فأشعر بوعكة في معدتي.

لم أعتقد أن وجهي حلو القسمات. كانت عيناي غير متساويتين، وذقني مدببة، وشعري أجعد ولا يمكن تسريحه. ولكن يعجبني جبيني. وهذا لأنه يشبه جبين والدي المرحوم، وليس لأنه جميل. ولكن كانت والدتي مصممة على إقناع العالم بجمالي. كانت تخيط كل ثيابي بنفسها، وتقلد تصاميم رأتها في متاجر أطفال راقية. وحتى إذا زارت طبيب الأسنان، تحرص على عقد شعري بشريط وارتدائي حذاء لماعا. وهي مستعدة لأن تجوع أحيانا، ولكنها لا تقصر حين تشتري المؤونة. وكل عام في يوم مولدي، تلتقط صورة لي في أستوديو للتصوير، وتوافق أن يعرض الأستوديو هذه الصور في الواجهة وأن يطبعها في دليله التجاري مقابل نسخ مجانية. حينما مات والدي بحادث مرور، بعد ولادتي فورا، عملت والدتي في وحدة للغسيل الجاف، ووجدت طريقة لإسعادي - تشغيل ماكينة الخياطة أو إعادة تمشيط شعري أو عرض قصاصة الجريدة.

وحينها أصبح فوزي في مسابقة ملكات جمال الأطفال مجرد شعاع تبقى من الشمس ولا يضيء غير آخر لحظات حياة والدي. ورد في المقال كلام  يعزى للوالدة "إنها طفلة بسيطة ورائعة. وزوجي غنى لها ألحانا إيرلندية، ودائما تضحك منها وتغني معه. وهذا لا علاقة له بالأغاني اليابانية، لا بد أن تكون إيرلندية". وهي مجنونة بحب أبيها وتعلمت كيف تعرف صوت خطواته، مهما كانت تفعل، حين تسمعه قادما إلى البيت تزحف إلى الباب بأسرع ما يمكنها.  وتلهو بدمى بشكل حيوانات تشبه الدجاج طيلة اليوم. وإذا أفاقت وهي تبكي أضعها في سريرها الصغير فتعود بسرعة للنوم مجددا". وحينما بلغت عشر سنوات، وجدت الوالدة استمارة للمشاركة بمسابقة جمال أخرى في مكان ما، وسألتني إن كنت مهتمة بدخولها. أخبرتها أنني لا أريد. ولكن طبعا لم تستمع لي.

قالت:"المسابقة تمولها مجلة. وهي غير مسابقة الأطفال التي كانت جزءا من المهرجان المحلي. يا ريكو لا بد أنك رأيت مجلة 'بنت المدرسة'. نحن لا نشتريها. ولكنها موجودة على الرف في المكتبات. إذا ربحت ستنشر صورتك على الغلاف مثل عارضة محترفة. وهذا شيء رائع أليس كذلك؟".

"رائع" كانت كلمتها المفضلة، وأعظم آمالها أنها ستثبت أنها "رائعة" بطريقة ما.

قلت لها:"ولكن لا توجد أمامي فرصة للفوز".

أجابت:"كيف تعلمين دون أن تجربي؟. ولا يهم إن ربحت - فكري بالمتعة الناجمة من ارتياد مكان جديد، وكسب صداقات جديدة".

"تعلمين أنني أصاب بالدوار في الحافلة".

"يمكنك تناول دواء ما لذلك. وسأرافقك، وإن بذلت جهدك، سأشتري لك هدية، أي شيء تريدينه. ماذا تفضلين؟".

"مثلجات ليلة مشرقة بالنجوم".

ومباشرة بدأت بخياطة ثوب جديد لي. القماش من الحرير والصوف وبلون بني محمر، وأضافت له ياقة وأساور بيضاء وشريطا من التيرولين ليظهر الخصر المرتفع. وهو زي كان في واجهة متجر نسخت عنه أزياءه، ولو ابتاعته من هناك دون شك سيكلفها ربع دخلها الشهري. وأبدت جدتي رأيها، أن لون القماش باهت قليلا، ولكنها نفت ذلك بحركة من يدها. كانت أمي تشعر أن الألوان البراقة تخفي جمال الطفل الداخلي. وأن الاعتدال يناسب  سحر البنت الذكية مثلي. وهو ما يؤكد على نقائي ونباهتي.  ولتجنب البرد، كنت أرتدي في المدرسة ثيابا داخلية صوفية. أعلى حمى تسببت لي بتقبيلة السخونة وانتشرت البثور على شفتي،  ولذلك توجب تجنب المرض بكل الوسائل. بعد الشامبو دلكت جمجمتي بزيت الكاميليا ثم سرحت شعري خمسين مرة بالفرشاة. كانت رائحة زيت الكاميليا تشبه الخنافس الجافة الموجودة في مجموعة الحشرات التي قدمتها إلى المدرسة في أحد فصول الصيف. وكانت واجبا مفروضا علينا.

كان الطقس في يوم المسابقة  دافئا، والسماء صافية. أكلت كرتين من الأرز حضرتهما لي جدتي، وتناولت دواء دوار الحركة، وارتديت ثوبي الجديد. وبذلت أمي أيضا جهدا كبيرا. تزينت بخاتم الأوبال وأفضل ثوب لديها، ولكن كانت ألوانه ممحية قليلا.

قالت:"رائع". وجعلتني ألتف حول نفسي أمام المرآة. أضافت:"رائع تماما". وكما قلت هذه هي كلمتها المفضلة.

"أهم شيء الإجابة على الأسئلة دون تفكير. هل تفهمينني؟. لا يجب أن تترددي أو يظهر عليك الخوف. قفي باستقامة، وتكلمي ببطء وصوت مرتفع. ولا تتظاهري. ثوبك يناسبك تماما، وكنت محقة بشأن الشريط. متر منه يكلف نصف سعر ما تبقى. ولكن لمسة الرفاهية تلك تزيد من أناقة الثوب كله، هل انت معي؟".

عقدت المسابقة في صالة داخل مركز البلدة. بأزواج: أم - ابنة، مثلنا، وتجمعنا في الردهة. بعض البنات معهن آباؤهن، وحضرت أيضا عائلات كاملة، والقليل من الأخوة والأخوات الصغار في عربات الأطفال.

وقفت شابة وراء طاولة الاستقبال وحملت شارة تعلن عن رقم ثوبي وهو 34. كانت الشارة كبيرة وغطت تقريبا الطرف الأيسر من الصدر كله. وأخفت معظم شريط الترولين الذي تعتز به والدتي. كانت غرفة تبديل الثياب مزدحمة ومليئة. وجدنا كرسيين فارغين في زاوية فجلسنا عليهما. كان أمامنا تقريبا ساعتان قبل بداية المنافسة. دمدمت الوالدة:"لماذا جعلوا الشارة كبيرة مع أنها مسابقة أطفال؟. سوف تبدين مثل رقم عملاق يمشي على المنصة". وحاولت زحزحة الشيء المزعج لتظهر على الأقل قطعة من الشريط. ولكن لم تنجح. كان بقية الآباء مشغولين ومحتارين ببناتهم. إحدى البنات الصغيرات، والتي زينت ثوبها بزركشة على الرقبة، والكمين، والخصر، لوثت جوربيها في حفنة ماء وهي ذاهبة إلى المنافسة فعنفتها أمها. وحاولت الأم مسح الجوربين بمنديل رطب، فأرجحت البنت قدمها الحافية إلى الأمام والخلف وتثاءبت مرتين متتاليتين. سمحت بنت أخرى لفت شعرها بشكل كرة فوق رأسها، أن تدلك أمها وجهها بالمطريات. كانت الآن مثقلة بالمجوهرات التي ترن كلما تحركت. بعد أن اننهت من طلاء المطري أضافت أحمر الشفاه لشفتي البنت. وكان يبدو أن عيني الفتاة مسحوبتان إلى أعلى مع كعكة الشعر المثالية، ومنحها ذلك سحنة غاضبة قليلا. همست أمي:"إضافة المساحيق للأطفال إفراط". كنت صغيرة جدا حينذاك و لا أعلم معنى كلمة "إفراط". ولكن  من نبرتها خمنت أنها ليست إطراء. أضافت:"لا يوجد شيء كئيب أكثر من إظهار بنت صغيرة كأنها امرأة ناضجة". ويبدو أن أمي يئست أخيرا من ضبط مكان الشارة، ولكن ليس قبل عدة محاولات بدبوس الأمان الذي صنع عدة ثقوب في ثوبي.

في تلك اللحظة، انتبهت للبنت الجالسة بجانبي. كانت وحدها، وبلا شخص كبير يحوم فوقها.  وظهرت هادئة تماما، بتعابير مرتاحة، وهي تحملق بنقطة ما بعيدة عنها.  وسبب انتباهي لها، أنها ليست جميلة ولو بمقدار بسيط. ولكنني لست مهتمة بمظهري على وجه العموم: ولا أهتم بمظهر الآخرين. ولو أنني هنا في مسابقة للجمال. ولم أنفق أي وقت بمقارنة مظهري مع بقية البنات في الغرفة. وكان هناك شيء ما في تلك الفتاة وقد امتلك اهتمامي بإلحاح. والآن لست متأكدة أن نقص جمالها هو الصفة التي استحوذت علي. وكنت متيقنة أنها مختلفة عن الأخريات. كانت ملامحها الشخصية عادية جدا: وجه بيضاوي، بشرة سمراء، عينان صغيرتان ومستديرتان مع جفون مزدوجة. وكان أنفها وشفتاها وحاجباها بلا جاذبية. أما شعرها فمقصوص بعناية ومتساو  وكأنه تم قياسة بالمسطرة. ثيابها بسيطة. بلوزة بيضاء، وكنزة رمادية. وشيء فيها يوحي أنها تلقت لكمة. فقد كانت عيناها تتصارعان. ومظهرها العام مقلق دون تفسير. ولم أتمكن من منع نفسي من النظر اليها.

همست أمي في أذني بعد أن اختلست نظرة من البنت التي بعدي:"بعض البنات لسن جميلات على الإطلاق. ومع ذلك نجحن بفحص الاستمارة". شعرت بالسخط عليها. مع أنها قالت بصوت مسموع ما كنت أفكر به.  كان كلامها خافتا، وحتى البنت نفسها لم يمكنها أن تسمع، ولكن هذا لم يحسن من إحساسي.

قال مدير الحفل:"نطلب من أعضاء العائلات الجلوس مع الجمهور الآن، لنتمكن من مقابلة البنات". ارتفع الضجيج في غرفة تبديل الثياب. لم تكن أي أم جاهزة للانصراف قبل نصيحة أخيرة لابنتها.

منحتني أمي نظرة أخيرة وقالت:"ارفعي صوتك بالكلام. ولا تترددي. الذقن إلى الأعلى، والظهر مستقيم - وهذا كل المطلوب". لوحت لي بيدها، وانصرفت من الغرفة. جلست هناك. الشفتان محكمتا الإغلاق. وبعد اندحار تحسسي، انتابني الشعور بالحزن. ولم أكن متأكدة أن السبب هو اقتراب بداية المنافسة، فقد كنت لا أزال مهتمة بالبنت المجاورة لي. حدد مدير الحفل ترتيب الإجراءات، واستعمل إشارات كبيرة ومسرحية. وأمسك بيساره ما يبدو أنه نص ملفوف وكان ينقر به  الطاولة من حين لحين للتأكيد على نقطة ما.

رفع يده فوق رأسه وأشار بثلاث أصابع:"هناك ثلاثة أمور يجب الاهتمام بها. هل هذا واضح؟. أولا الثرثرة الجانبية ممنوعة. كالمدرسة. ثانيا الركض ممنوع. لا على المنصة ولا في الكواليس. توجد أشياء كثيرة هناك في الخلف. ألواح، خشب، أسلاك كهربائية. والركض تصرف محفوف بالخطورة. مفهوم؟".  تكلمت عدة بنات للإشارة إلى الاستيعاب. لم تنطق البنت التي بجانبي. ولم تتبدل ملامحها إلا قليلا منذ أن رأيتها لأول مرة. ومن الصعب أن تعلم إذا كانت تستمع بانتباه أو أنها ضجرت واحتقنت عيناها بالدموع.

"أحسنت كل بنت أجابت. التهذيب معيار مهم لدى القضاة في الحفل. ثالث شيء يجب تذكره أن تتحركن بأزواج أثناء المنافسة. حين تدخلن الصالة، وتقتربن من مكبر الصوت، وحين تغادرنها، أمسكن بأيدي بعضكن البعض، ولتمشي كل واحدة مع رفيقتها. مفهوم؟".

في هذه المرة أجبن جميعا بصوت متهدج، وطبعا باستثناء، البنت المجاورة لي - وأنا فقد كنت مشغولة بمراقبتها.

قال:"حسنا إذا. قفن بالصف حسب الأرقام. بسرعة".

ارتفع الطنين حالما بدأت الحركة. وكانت الرقم 34 في مكان ما في وسط الصف، الذي يطول ويطول وهو يتلوى في الغرفة. بنات الأرقام الأحادية تماسكن بالأيدي مع بنات الأرقام الزوجية. وجلست البنت رقم 33 بجواري. جمعت أطراف شجاعتي وسألتها:"هل أنت وحدك؟".

التفتت نحوي. طرفت مرة وببطء. قالت:"نعم".

قلت لها:"لا بد أنها تجربة صعبة".

"ليس كثيرا. ولكن لم أجد من يأتي معي".

"لماذا؟".

"كلبنا مات اليوم صباحا. واكتسح بيتنا الجنون. ونسي الجميع المنافسة".

كانت يدها باردة ونحيلة.

من مقربة، كما تبين، كان شكلها مدهشا. ملامحها ومسافاتها ولون بشرتها وطريقة اهتزاز شعرها، ورنة صوتها - كل شيء فيها، جعلني أشعر شعورا لم أمر به من قبل، شيء محدد ولا يمكن إهماله، شعور هش وغريب تماما.  ولكن هناك أمر واحد مؤكد - لم يكن فيها شيء لا يقنع. سألتها:"هل كان مريضا؟".

"لا. اختنق".

كررت رغما عني:"اختنق".

أومأت برأسها. وشدت رباطات كنزتها على كتفيها.

"حفر حفرة تحت بيته، ووجدنا رأسه عالقا في الحفرة. البيت مثبت بأوتاد، ولا بد أن أطرافها ثقبت قفا رقبته".

"ولكن لماذا فعل ذلك؟".

مالت برأسها، كأنها تسأل نفسها هذا السؤال. قالت: "حينما وجدته هذا الصباح، لم أعتقد أنه ميت. توقعت أنه فعل شيئا طائشا فعلا. وأنه يخاف من مواجهتي. كان رأسه تحت الأرض، ولكن طوى ساقيه الخلفيتين تحته. وكان يجلس بشكل طبيعي. ولكن حينما حاولت أن أداعبه، رأيت أنه بارد. أخرجته بأسرع ما يمكن. لم أشاهد على وجهه علامة تنم عن المعاناة. وكان يبدو منتبها كأنه يحاول الاستماع لصوت بعيد. والعلامة الوحيدة التي تدل على خطأ هي العلامة التي تخلفت على قفا رقبته. وشعره كان منفوخا. وهناك كدمات على جلده وبعض بقع الدم.

اختناق، كدمات، ودم - كانت الكلمات تأتيها ببساطة، وكأنها تتذكر قصة خيالية، سمعتها في سنين مبكرة من عمرها. لم تكن تثرثر أي من البنات في الطابور. ومن الظاهر أن التوتر المتزايد والإثارة أسكتهن. أو أنهن تتذكرن فقط التعليمات الأولى التي ألقاها مدير الحفل. ولكن البنت التالية كانت تبدو غير واعية لأي شيء يجري من حولنا.

سألت فجأة:"ما رأيك بطريقة موته؟".

ارتبكت، ولم أجد رأيا أرد به. لم يكن لدي كلب، ولم أفكر بالاحتمالات التي تودي إلى الموت، سواء موت كلب أو موتي.

تابعت:"إدخال رأسك في مكان ضيق جدا ومظلم للغاية، يمر بسهولة، ويتغلغل تماما، ولكن حين تحاولين جره يعلق. في البداية تشعرين بغرابة الموقف، وتجربين كل أشكال المناورة. تلوين رقبتك بهذا الاتجاه وذاك. ولكن بالتدريج تفهمين أنه ميؤوس من هذه الحالة. ولا يوجد شيء يمكنك فعله. وكل الوقت تشعرين بصعوبة التنفس. ثم تنكسر رقبتك. وتبدأ عظامك بالتصدع. وأخيرا يستولي عليك اليأس... ما رأيك بهذا الموت؟".

كان صوتها هادئا وخشنا قليلا. ويدها التي لا زلت ممسكة بها باردة.

سألتها دون أن أجيب على سؤالها:"هل تحبين كلبك؟".

"كان موجودا يوم مولدي. كان كلبا بائسا ببقع سوداء في داخل أذنيه. ويحب اللهو بلفافات ورق دورة المياه".

"ولكن لماذا حفر حفرة في مكان كهذا؟".

"ربما حاول اصطياد دودة أرض".

"ولكنك لم تسمعي عواء غريبا أو شيئا آخر؟".

هزت رأسها، وتأرجح شعرها إلى الأمام والخلف تبعا لحركته.

قالت:"أتساءل كيف يفكر الكلاب أثناء احتضارهم. هل يتذكرون الأيام السعيدة. مثل الناس الذين يستعيدون أيام طفولتهم؟. أو ربما يفكرون بشيء يحبونه".

راقبتها بزاوية عيني، ولم أجد القدرة على التفكير بشيء أقوله. واستغربت أنها لا تبدو حزينة. كانت تطرف ببطء من وقت إلى آخر - كما لو أن ذلك يعينها على رؤية ما كان يفكر به الكلب.

قال مدير الحفل:"حسنا. أوشكنا أن نبدأ. هل أنتن مستعدات؟".

سمعنا صوتا يأتي من مكان ما. كانت أضواء المنصة ساطعة جدا، ويصعب أن أحتفظ بعيني مفتوحتين. وكان خداي محمرين ودافئين. مررنا أمام الحضور. اثنتان اثنتان. ثم اصطففنا بطابور على طول المنصة على المسرح. كانت الصالة معتمة، ويصعب أن ترى ما وراء الأضواء المنخفضة. ولكن يبدو أنها نصف فارغة في المؤخرة. مقدمة الحفل، امرأة بثوب مزركش ولكنها ليست شابة. وتعثرت مرتين وهي تتهجى أسماء لجنة القضاة. كان علينا أن نتقدم إلى أمام المنصة، بأزواج، وأن نرد على أسئلة القضاة. ما هو موضوعك المفضل في المدرسة؟ كيف تصفين شخصيتك؟ ما هو الكتاب الذي أثر بك أكثر من غيره؟ ماذا تفضلين أن تفعلي في مستقبلك؟ من تكنين له الإعجاب في هذا العالم؟  بعض البنات لم يرضيهن الإجابات البسيطة على الأسئلة وبادرن إلى الغناء والرقص.  يبدو أن وقتا طويلا مر. وشعرت أن قطرة عرق ترسبت على أرنبة أنفي. وأردت أن أمسحها عن وجهي. ولم يكن لدي منديل. فأمي لم تضف الجيوب إلى ثوبي. من وقت لآخر كنت أنظر إلى الرقم 33. هل كانت تفكر بالكلب؟. أفترض ذلك. الجميع هنا، اليافعات والصغيرات على حد سواء، تفكرن أي بنت أظرف. باستثناء نحن الاثنتين. كنا نفكر بالكلب الذي اختنق. وحان دورنا. هبطنا عن المنصة واقتربنا من مكبر الصوت. شعرت أن شعرها ينسدل إلى الخلف والأمام بجانب أذني. ولمع ضوء ناصع أمام وجوهنا مباشرة. وفجأة أدركت أنها ترتدي زوجا من أحذية الرشاقة المطاطية البسيطة. وساقاها رفيعتان وأنيقتان وتدعوان للدهشة. أما حذائي الجلدي الذي لمعته جدتي في ذلك الصباح فقط، فقد برق تحت الضوء.

قالت مضيفة الاحتفال:"لنبدأ بالرقم 33". وطلب من البنت المجاورة تقديم اسمها، وذكر عمرها، وصفها الدراسي، وأجابت بنبرة مباشرة تنم عن شخص بالغ. كان اسمها عاديا ولا يثير الانتباه، وليس الذي توقعته بسبب الانطباع الغريب الذي تركته عندي.

سأل رجل ممتلئ وذو شارب:"ما هو البرنامج التلفزيوني المفضل لديك؟".

قالت بعد صمت قصير:"إعادة مسابقات الملاكمة".

قالت مضيفة الحفل بكثير من الدهشة:"ياه! هذا كثير بالنسبة لفتاة".

تابع الرجل:"وماذا يعجبك بالملاكمة؟".

"أحب الصوت الناجم عن توجيه لكمة إلى جسم بشري".

فهمت أنها ليست مهتمة بالملاكمة، وأن هذه الكلمات تخرج من فمها دون معنى.

تحركت نحو الجانب قليلا، ولذلك أمكنني الاقتراب من مكبر الصوت. فقد حان دوري. الاسم، العمر، سنة الدراسة. لا شيء صعب بذلك. ويمكن لأي طفل في الروضة أن يخبرك بذلك. حاولت أن أفتح فمي، وحاولت أن أستدعي صوتي من مؤخرة حلقي، ولكن لم تثمر جهودي. وتسرب مني نفس ضعيف، لا أكثر. جاءت مضيفة الحفل ووضعت يدها على كتفي. سألتني:"هل أنت على ما يرام؟ مضطربة قليلا كما أرى. فقط استرخي وأخبرينا باسمك".

امكنني شم العطر. وجاءت دمدمة من الحضور، وهمسات منخفضة، وقهقهة هنا وهناك، وسعال - وقد جرفني ذلك تماما. تكلمي، الظهر مستقيم، ولا تترددي. تردد صدى صوت الوالدة في أذني. وحاولت أن أفتح فمي مجددا، وحاولت أن أتذكر أي عضلة تستعمل بالكلام، وكيف تتحرك أنفاسي. ولكن كان صوتي لا يزال متجمدا. ضغطت على يد الرقم 33 بقوة، وفجأة شعرت كأنني أربت على الكلب الميت. لون شعره، وقوس ظهره، وساقاه المطويتان تحت جسمه، وأيضا خيال بيت الكلب - كل تلك الأمور التي لم أشاهدها أبدا، طفت أمام عيني. الأذنان المنسدلتان والأنف المنحني والمغبر، ولمحة من لسانه الوردي.

دمدمت تقول لتمنحني بعض الوقت:"حسنا. لنتجاوز اسمك. خذي نفسا عميقا  أي إنسان يضطرب بين حين وآخر. ومن ضمنهم أنا. لا شيء يستحق القلق".

قال رجل الشارب:"ربما يمكنك أن تخبرينا عن شيءثمين  تحتفظين به؟".

كررت:"ثمين... ثمين..".

ضغطت البنت المجاورة على يدي بصمت ونظرت إلى الأمام مباشرة.

دمدمت:" .. كلب...".

قالت مضيفة الحفل:"ماذا؟".

كررت:"كلب. كلب ضعيف ببقع سوداء داخل أذنيه. ويحب اللعب بورق دورات المياه".

وفاضت الكلمات مني أخيرا.

وبدا أنها ارتاحت لأنني أخيرا تدبرت شيئا قريبا من جواب مناسب:"فهمت. حسنا. لا بد أنه كلب محبوب. شكرا. لننتقل إلى الزوج التالي. رقم 35 ورقم  36".

غادرنا المسرح ونحن ما زلنا نتماسك بالأيدي.

في النهاية، فاز الرقم 46 و47. بنت بذراعين وساقين طويلتين كانت تحرك عينيها باستمرار. لم تتكلم الوالدة أبدا ونحن عائدتين بالحافلة إلى البيت. ولكنها عبرت عن رأيها حين جلست على بعد عدة مقاعد مني. وهي تمسك جزدانها أمام صدرها وتتأمل من النافذة. علمت أنني أدين لها بتوضيح. ولكن لم أجد طريقة لأبرر ما حصل، ولذلك لزمت الصمت بدوري. حينما وصلت الحافلة إلى نهاية الخط، وبلغت المنعطف أمام المحطة. وقفت الوالدة وهبطت دون أن تنظر إلى الوراء. وتبعتها بسرعة. وتقدمت من متجر السكاكر، واشترت علبة من ليلة مشرقة بالنجوم. في النهاية لم تكن ليلة مشرقة بالنجوم لذيذة كما تخيلت. وضعت العلبة على الطاولة وغمست الملعقة. فتات المثلجات ترك في فمي طعما كئيبا وغير سار. ومهما أكلت، لم تكن كمية محتويات العلبة أقل. والنجوم الملونة ظهرت على التوالي. دمدمت:" لا تزال أفضل من الفطر السام". لم يرد أحد. فوضعت في فمي ملعقة أخرى مليئة.

***

.........................

* ترجمها من اليابانية ستيفن شنايدر.

منشورة في النيويوركير. عدد 27 تشرين الثاني  2023.

* يوكو أوغاوا Yoko Ogawa كاتبة يابانية  حازت على جائزة المؤسسة اليابانية لعام 2023. لها أكثر من عشرين كتابا في السرد الخيالي والسيرة. أهم أعمالها: شرطة الذاكرة، انتقام: إحدى عشرة حكاية مخيفة.

 

قصيد للشاعر التّونسي محمّد حمدي

ترجمة: زهرة الحواشي

***

قال لي الجلّاد يوما:

و لماذا لا تعيش مثل باقي الخلق في كلِّ زمنْ..

تكتفي بالخبز و الماء و بالوجه الحسنْ..

و لماذا تحمل نارا بيُمناكَ..

و بالأخرى كفنْ..؟

و لماذا تُرهقُ الرّوحَ و هذا الجسدَ البالي بأنواعِ المحنْ..؟

و إذا شئتَ بأن تحيا سعيدا..

فاجتنبْ عشقَ الحبيبِ..

و اجتنبْ عشقَ الوطنْ..

و دَعِ العشقَ لأصحابِ الفِتنْ..!

صحتُ في الجلّادِ :

ما ذنبي وُلدتُ عاشقا..

وحدهُ القلبُ يُحبُّ و يُجنْ..

قد تلُفُّ الحبلَ يوما حول عُنْقي..

تبتغي إعدامَ عشْقي..

و إذا ما الرُّوحُ فاضتْ..

فتيقّنْ لن ترى في عيْنِيَ اليُسْرى سوى وجهِ حبيبي..

أمّا في اليُمْنى فلا شيءَ سوى وجهِ الوطنْ..!

***

......................

Entre moi et le bourreau

Mon bourreau m'a dit un jour :

Pourquoi ne mènes -tu pas une vie calme

Bien-être et belles femmes

Ni feu à ta main droite

Ni cercueil à la gauche

Épargnant les peines à ton corps

Et soulageant ton âme

Si tu veux vivre à l'aise

Et mener une vie heureuse

Oublie un peu l'amour de ta chérie

Et laisse tomber cette passion pour ta patrie

Erreur ! proteste-je

Je suis de naissance passionné

Et seul mon coeur trace ma destinée

Tu enrouleras peut-être un jour

Ta corde autour de mon cou

Pour exécuter mon amour

Mais en rendant l'âme

Luira dans mon oeil gauche

Le visage de ma chérie

Et dans mon oeil droit

celui de ma chère patrie !

***

Traduction de Zohra Hawachi

شاعر وقصيدة من جيبوتي

شعر: عبد الرحمن وابيري

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

شجرة السنط

إنك أميرة المشهد الطبيعي

ولا خلاف في هذا،

تتسلق أغصانك المواعز

الهزيلة،

معتلية قبتك..

ثمة سحابة كثيفة

من النمل،

تعانق جذورك،

محتمية بظلك

من حرارة الشمس..

بينما المعاز

منهمكة

بقضم أجمل

أوراقك

بتأن..

ورويدا

رويدا.

***

...........................

- (عبد الرحمن وابيري): شاعر وروائي وناقد أدبي وكاتب قصة قصيرة وأكاديمي من جيبوتي. ولد في عام 1965. سافر إلى فرنسا لدراسة اللغة الإنكليزية وآدابها في عام 1985، وحصل هناك على شهادة الدكتوراه عن اطروحته حول الروائي والكاتب الصومالي (نورالدين فرح). ترجمت أعماله إلى الألمانية والإنكليزية والبرتغالية والإيطالية والصربية والاسبانية وغيرها. منح جائزة الاكاديمية الملكية للعلوم والادب والفنون الجميلة الفرنسية عن مجموعته القصصية (أرض بلا ظلال) والجائزة الكبرى للأدب الافريقي الأسود. من أعماله (تسمية الغجر – شعر) و(حصاد الجماجم – رواية) و(الاغنية الإلهية) و(ممر الدموع) و(عبور – رواية) و(البدو، اخوتي، اخرجوا لتشربوا من الدب الأكبر). يدرس الادب الفرنسي والادب الفرنكوفوني والكتابات الإبداعية في جامعة جورج واشنطن. ترجمت له (نانسي نعومي كارلسون) إلى الإنكليزية العديد من القصائد، ومنها هذه القصيدة بعنوان (شجرة السنط أي الاكاسيا او القرظ او الطلح)، وهي شجيرة أو شجرة ذات زهور صفراء لامعة في الغالب، يوجد منها 450 نوعا تقريبا.

Beltway Poetry Quarterly: Four Poems. beltwaypoetry.com/poetry/poets/names/waberi-abdourahman/

https: // www. beltwaypoetry. com

بقلم:  ماريانا إنريكيز

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

لم نكن نوليها الكثير من الانتباه. كانت واحدة من تلك الفتيات اللواتي يتحدثن قليلاً، ولا يبدو عليهن الذكاء المفرط ولا الغباء، ولديهن وجوه قابلة للنسيان، تلك الوجوه التي، رغم أنك تراها كل يوم في نفس المكان، قد لا تتعرف عليها في مكان مختلف، ولا حتى يمكنك أن تتذكر اسمها. الشيء الوحيد الذي كان يميزها هو أنها كانت ترتدي ملابس سيئة، غير جميلة، وشيء آخر: كانت الملابس التي ترتديها تبدو وكأنها اختيرت لإخفاء جسدها. كانت ترتدي مقاسات أكبر بمقدار اثنين أو ثلاثة، وبلوزات مغلقة حتى الزر الأخير، وسراويل لم تكن تكشف عن أشكالها. كانت الملابس فقط هي ما يجعلنا نلاحظها، قليلاً لنتحدث عن ذوقها السيئ أو لنحكم بأنها ترتدي كالعجائز. كان اسمها مارسيلا. كان بإمكانها أن تُسمى مونيكا أو لورا أو ماريا خوسيه أو باتريسيا، أي من تلك الأسماء القابلة للتبادل، التي تحملها الفتيات اللواتي لا يلاحظهن أحد. كانت طالبة ضعيفة، لكن نادراً ما كانت تتلقى انتقادات من المعلمين. كانت تغيب كثيراً، لكن لم يكن أحد يتحدث عن غيابها. لم نكن نعرف إذا كانت تملك المال، ماذا يعمل والداها، أو في أي حي تعيش.

لم يكن يهمنا الأمر.

حتى جاء اليوم في حصة التاريخ، عندما أطلق أحدهم صرخة صغيرة مفعمة بالاشمئزاز. هل كانت غوادا؟ بدا صوتها مثل صوت غوادا، التي كانت تجلس أيضاً بالقرب منها. بينما كانت المعلمة تشرح معركة كاسيروس، بدأت مارسيلا بانتزاع أظافر يدها اليسرى. بأسنانها. كما لو كانت أظافر صناعية. كانت أصابعها تنزف، لكنها لم تُظهر أي علامة على الألم. بعض الفتيات تقيأن. اتصلت معلمة التاريخ بالمسؤولة، التي أخذت مارسيلا؛ غابت لمدة أسبوع ولم يُشرح لنا شيء. عندما عادت، انتقلت من فتاة مُهملة إلى فتاة مشهورة. بعض الفتيات كنّ يخشينها، بينما أرادت أخريات أن يصبحن صديقات لها. ما فعلته كان أغرب شيء رأيناه على الإطلاق. بعض الآباء أرادوا دعوة اجتماع لمناقشة الحالة، لأنهم لم يكونوا متأكدين من أنه من الملائم أن نستمر في التواصل مع فتاة "غير متوازنة". لكنهم نظموا الأمر بطريقة أخرى. لم يتبق سوى القليل لإنهاء السنة الدراسية، ولإنهاء الثانوية. أكد والدا مارسيلا أنها ستتحسن، وأنها تتناول الأدوية، وتقوم بالعلاج، وأنها تحت الرعاية. صدق الآباء الآخرون ذلك. والداي بالكاد انتبها: كان كل ما يهمهما هو درجاتي، وما زلت أفضل طالبة، كما في كل عام.

كانت مارسيلا بخير لفترة. عادت مع أصابعها مُربوطة، في البداية بضمادات بيضاء، ثم بلاصقات جروح. لم تبدُ وكأنها تتذكر حادثة نزع الأظافر. لم تُصادق الفتيات اللواتي اقتربن منها. في الحمام، كانت الفتيات اللواتي رغبن أن يكن أصدقاء لمارسيلا يخبرنّا أنه لا يمكن ذلك، لأنها لم تكن تتحدث، كانت تستمع لهن لكن لم تُجب أبداً، وكانت تحدق فيهن بنظرة ثابتة لدرجة أنهن أصبن بالخوف في النهاية.

كانت في الحمام حيث بدأ كل شيء بالفعل. كانت مارسيلا تنظر إلى نفسها في المرآة، في الجزء الوحيد الذي كانت تستطيع فعلاً القيام بذلك لأنه كان سليمًا، بينما باقي الأجزاء كانت متقشرة، متسخة، أو كانت تحتوي على تصريحات حب أو شتائم من مشاجرة بين فتاتين غاضبتين مكتوبة بقلم فايبر أو أحمر شفاه. كنت مع صديقتي أجوستينا: كنا نحاول حل نقاش كنا قد خضناها في وقت سابق. بدا كأنه نقاش مهم. حتى أخرجت مارسيلا من مكان ما (على الأرجح من جيبها) شفره حلاقة. بسرعة دقيقة، قطعت جرحًا في خدها. استغرقت الدماء بعض الوقت للخروج، ولكن عندما خرجت، تدفقت تقريبًا بغزارة، وأغرقت عنقها وقميصها المغلق، الذي كان يشبه زي الراهبات أو ملابس رجل أنيق.

لم تفعل أي من الفتاتين شيئًا. كانت مارسيلا تواصل النظر إلى المرآة، تدرس الجرح، دون أي تعبير عن الألم. ما أدهشني أكثر هو أنها لم تشعر بالألم، كان واضحًا، لم تعبس وجهها أو تغلق عينيها. تفاعلت فقط عندما فتحت فتاة كانت تتبول الباب وصرخت "ماذا حدث لها!" وحاولت إيقاف النزيف بمنديل. كانت صديقتي تبدو على وشك البكاء. أما أنا، فقد كانت ركبتي ترتجفان. كانت ابتسامة مارسيلا، التي استمرت في النظر إلى نفسها بينما تضغط على وجهها بالمنديل، جميلة. كان وجهها جميلًا. عرضت عليها أن أرافقها إلى منزلها أو إلى عيادة صغيرة لتخييط الجرح أو لتعقيمه. بدت وكأنها تفاعلت حينها، وهزت رأسها قائلة لا، وأشارت إلى أنها ستأخذ تاكسي. سألناها إذا كان لديها مال. قالت نعم وعادت تبتسم. كانت ابتسامة يمكن أن تفتن أي شخص. تغيبّت مرة أخرى لمدة أسبوع. كانت المدرسة بأسرها تعرف عن الحادث: لم يكن هناك حديث عن شيء آخر. عندما عادت، كان الجميع يحاول ألا ينظر إلى الضمادة التي تغطي نصف وجهها، لكن لم يستطع أحد أن يتجنب النظر.

الآن كنت أحاول الجلوس بالقرب منها في الحصص. كل ما كنت أريده هو أن تتحدث إلي، أن تشرح لي. كنت أريد زيارتها في منزلها. أردت أن أعرف كل شيء. قال لي أحدهم إنه يجري الحديث عن إدخالها إلى المستشفى. كنت أتصور المستشفى ببركة من الرخام الرمادي في الفناء، ونباتات بنفسجية وبنية، بغانيا، وزهرة العنقود، وياسمين - لم أكن أتصور مؤسسة للمصابين العقليين مثيرة للاشمئزاز وقذرة وحزينة، بل كنت أتصور عيادة جميلة مليئة بالنساء ذوات النظرات الضائعة. بينما كنت جالسة بجوارها، رأيت، كما رأى الجميع، ولكن عن قرب، ما كان يحدث لها. كنا جميعًا نراها، مرعوبات ومندهشات. بدأت تهتز، ولكن لم تكن هزات، بل بالأحرى نوبات من الصدمة. كانت تهز يديها في الهواء كما لو كانت تطرد شيئًا غير مرئي، كما لو كانت تحاول أن تمنع شيئًا من ضربها. ثم بدأت تغطي عينيها بينما كانت تهز رأسها قائلة "لا". كان المعلمون يرون ذلك، لكنهم حاولوا تجاهله. نحن أيضًا. كان الأمر مذهلاً. كانت تنهار في العلن دون خجل، وكنا نشعر بالخجل.

بدأت في نزع شعرها بعد فترة قصيرة، من مقدمة رأسها. كانت تتشكل خصلات كاملة على مقعدها، أكوام من الشعر الأملس والشاحب. وبعد أسبوع، بدأت تظهر فروة رأسها، وردية ولامعة.

كنت جالسة بجوارها في اليوم الذي خرجت فيه مسرعة من الفصل. نظر الجميع إليها وهي تبتعد، وتبعتها. بعد قليل، لاحظت أن صديقتي أوجستينا والفتاة التي ساعدتها في الحمام تلك المرة، تيريه، من الصف الآخر، تتابعاني. كنا نشعر بالمسؤولية. أو كنا نريد أن نرى ما الذي ستفعله، وكيف ستنتهي كل هذه الأمور.

وجدناها في الحمام مرة أخرى. كان الحمام فارغًا. كانت تصرخ وتبكي كما لو كانت في نوبة غضب طفولية. كانت الضمادة قد سقطت، وتمكنا من رؤية غرز الجرح. كانت تشير إلى أحد المراحيض وتصرخ "اخرج، اتركني، اخرج، يكفي". كان هناك شيء في الجو، ضوء ساطع جدًا، وكانت رائحة الدم والبول والمعقم أكثر حدة من المعتاد. تحدثت إليها:

- ما الذي يحدث، مارسيلا؟

- ألا ترينه؟

-   من؟

- إنه هو. ¡إنه هناك في المرحاض! ألا ترينه؟

كانت تنظر إليّ بقلق وخوف، لكنها لم تكن مرتبكة: كانت ترى شيئًا. لكن لم يكن هناك شيء على المرحاض، سوى الغطاء المتهالك والسلسلة، التي كانت ثابتة جدًا، بشكل غير طبيعي.

قلت لها:

- لا، لا أرى أي شيء، لا يوجد شيء .

مرتبكة للحظة، أمسكت بي من ذراعي. لم تلمسني من قبل. نظرت إلى يدها: لم تكن أظافرها قد نمت بعد، أو ربما كانت قد اقتلعت القليل مما نما. كانت تظهر فقط جلود الأظافر، ملطخة بالدم.

- ألا ترين؟ ألا ترين؟

ثم نظرت إلى المرحاض مرة أخرى.

- إنه موجود. إنه هناك. كلميه، قولي له شيئًا.

كنت أخشى أن تبدأ السلسلة في التأرجح، لكنها ظلت ثابتة . كانت مارسيلا تبدو وكأنها تستمع، تراقب المرحاض بعناية. لاحظت أنها لم يتبقَّ لديها تقريبًا رموش أيضًا. كانت قد بدأت بانتزاعها. تخيلت أنها ستبدأ قريبًا بانتزاع حاجبيها أيضًا.

- ألا تسمعينه؟

-  لا.

- لكنّه قال شيئاً!!

—ماذا قال؟ قولي لي.

في هذه اللحظة، تدخلت أوجستينا في الحديث قائلة لي أن أترك مارسيلا وشأنها، متسائلة إذا كنت مجنونة، "ألا ترين أنه لا يوجد شيء؟ لا تتبعي لعبتها، أنا خائفة، دعينا نستدعي أحداً." قاطعتها مارسيلا وهي تصرخ "اسكتي، عاهرة تافهة!" همست تيريه، التي كانت من نوع الفتيات الأنيقات، أن هذا كان كثيراً جداً وذهبت لتبحث عن شخص ما. حاولت أن أسيطر على الموقف.

- لا تهتمي بهؤلاء الغبيات يا مارسيلا، ماذا يقول؟

- يقول إنه  لن يذهب. إنه  حقيقية. سيستمر في إجباري على فعل الأشياء ولا أستطيع أن أقول له لا.

- كيف يبدو؟

- إنه رجل، لكنه يرتدي فستان زفاف. ذراعاه للخلف. دائماً يضحك. يبدو كأنه صيني لكنه قصير. شعره مُصفف. ويجبرني.

- يجبرك على ماذا؟

عندما وصلت تيري مع معلمة كانت قد أقنعتها بالدخول إلى الحمام (ثم أخبرتني أنه أمام الباب تجمع حوالي عشر فتيات، يستمعن إلى كل شيء ويهمسن لبعضهن البعض "ششش")، كانت مارسيلا على وشك أن تُظهر لنا ما الذي كان يُجبرها على فعل ذلك. لكن ظهور المعلمة أربكها. جلست على الأرض، بعينيها التي بلا رموش والتي لم ترفا، وهي تقول "لا".

لم تعد مارسيلا إلى المدرسة أبدًا.

قررت زيارتها. لم يكن من الصعب الحصول على عنوانها. على الرغم من أن منزلها كان في حي لم أذهب إليه من قبل، إلا أنني وصلت بسهولة. دققت الجرس وأنا أرتجف: في الحافلة، كنت قد حضرت الشرح الذي سأقدمه لوالديها حول سبب زيارتي، لكن الآن بدا لي الأمر سخيفًا، مريبًا، ومصطنعًا.

تجمدت في مكاني عندما فتحت مارسيلا الباب، ليس فقط لدهشتي لأنها هي من أجابت على الجرس —كنت قد تخيلتها مستلقية في السرير، مخدرة— ولكن أيضاً لأنها بدت مختلفة جداً، ترتدي قبعة صوفية تغطي رأسها الذي بدا أنه يكاد يكون أصلع، مع جينز وبلوزة بحجم عادي.، باستثناء رموشها التي لم تنمو، بدت وكأنها فتاة عادية تتمتع بصحة جيدة.

لم تدعني أدخل. خرجت، وأغلقت الباب، وبقيت كلانا في الشارع. كان الجو بارداً؛ كانت تتعانق بذراعيها، بينما كانت أذناي تحترقان من البرد.

قالت:

- ما كان يجب أن تاتي.

- أريد أن أعرف.

- ماذا تريدين أن تعرفي؟ لن أعود إلى المدرسة، انتهى الأمر، انسِي كل شيء.

- أريد أن أعرف ماذا يجبرك على فعله ذلك.

نظرت مارسيلا إليّ واستنشقت الهواء من حولها. ثم أدارت عينيها نحو النافذة. كانت الستائر قد تحركت قليلاً فقط. عادت إلى داخل منزلها، وقبل أن تغلق الباب بقوة، قالت:

-  ستكتشفين الأمر. هو بنفسه سيخبرك يوماً ما. أعتقد أنه سيطلب منك ذلك. قريباً.

في الطريق إلى المنزل، وأنا جالسة في الحافلة، شعرت بكيفية نبض الجرح الذي أصبته في فخذي باستخدام شفرة، تحت الأغطية، الليلة الماضية. لم يكن يؤلمني. قمت بتدليك ساقي برفق، لكن بقوة كافية لجعل الدم، عند تدفقه، يرسم خطًا رقيقًا رطبًا على جينزي الأزرق.

(تمت)

***

....................

الكاتبة: ماريانا إنريكيز/  (مواليد 1973) هي صحفية وروائية وكاتبة قصص قصيرة أرجنتينية. هي جزء من مجموعة من الكتاب المعروفين باسم "السرد الأرجنتيني الجديد". تندرج قصصها القصيرة ضمن فئات الرعب والغموض، وقد نُشرت في مجلات دولية مثل جرانتا والأدب الكهربائي وأسيمابتوت وماكسوينيز ومراجعة فرجينيا الفصلية ونيويوركر. وُلدت إنريكيز عام 1973 في بوينس آيرس، ونشأت في فالنتين ألسينا، إحدى الضواحي في منطقة بوينس آيرس الكبرى. جزء من عائلتها ينحدر من شمال شرق الأرجنتين (كوريينتس وميسيونس) وباراغواي. انتقلت إنريكيز لاحقًا مع عائلتها إلى لا بلاتا، حيث أصبحت جزءًا من المشهد الأدبي والموسيقي البانك المحلي. وقد ألهمها ذلك لدراسة الصحافة مع التركيز على موسيقى الروك. تحمل ماريانا إنريكيز درجة في الصحافة والتواصل الاجتماعي من الجامعة الوطنية في لا بلاتا. تعمل كصحفية وهي نائبة رئيس تحرير قسم الفنون والثقافة في صحيفة  "الصفحة " 12 ، وتدير ورش عمل أدبية. نشرت إنريكيز أربع روايات، ومجموعتين من القصص القصيرة. ظهرت قصصها في مختارات في إسبانيا والمكسيك وتشيلي وبوليفيا وألمانيا.

 

بقلك" ميسير جيثاي موغو

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

أريد منك أن تعرف:

كيف رويت لك في أناة

الفسائل النضرة

التي غرستها أنت

في جنينتي المتواضعة،

ذات يوم.

فأصبحت أرضها  الان

مزدانة بالزهر،

وقد أجنى فيها الثمر.

تعال إلي:

واجلب معك سلة مجدولة

بإحكام،

واحضر معك أيضا:

أجود أنواع النبيذ

المستخرج من النخيل،

أفخر نبيذ يمكن تحضيره على يد

صانع بارع .

*                                                                                                                                                                                                                                                علينا أن نحتسي النبيذ معا،

احتفالا

طيلة الساعات القليلة

من الأيام القصيرة المتبقية لدينا

مع بعضنا بعضا..

الفرح والحب معا:

يجب أن يكونا

كنه أغاني قطافنا

اليومية .

***

.....................................

ميسير جيثاي موغو: شاعرة وناقدة ادبية وكاتبة مسرحية واكاديمية وناشطة سياسية كينية. ولدت في عام 1942. حصلت على شهادة الدكتوراه من جامعة (تورنتو) الكندية  في عام 1978. هاجرت إلى زيمبابوي في عام 1982، وجردت من جنسيتها  الكينية لمواقفها السياسية، ولمناهضتها انتهاكات حقوق الانسان في بلادها التي تعرضت فيها للاعتقال والمضايقات من قبل السلطة الحاكمة. وبعدها إلى الولايات المتحدة الامريكية، لتعمل أستاذة في قسم الدراسات الامريكية الافريقية في جامعة (سيراكيوز) البحثية في ولاية نيويورك. وقبلها كانت قد مارست العمل الاكاديمي في كينيا وموزمبيق، وكانت أول عميدة كلية في كينيا، ولها مساهمات بارزة في المناهج الدراسية الاكاديمية  . الفت وحررت أكثر من (15) كتابا، ومنها: (الكتابة والتحدث من قلب بلدي، ابنة شعبي تغني 1976، رؤى افريقيا 1978، قصيدة أمي وأغاني أخرى 1994، الثقافة والامبريالية، المرض الطويل للرئيس السابق كيتي وأعمال أخرى 1976 – دراما).

Kinnareads. com / 2015 / 10 / 28 / i – want – you- to – know – by – micere – githae – mugo /

https: // kinnareads. com

للشّاعر المناضل الرّاحل الطّاهر الهمّامي

ترجمة: زهرة الحواشي

***

أرى النخل يمشي في الشوارع

مرفوع الجبهة فارع

يتحدّى ويصارع

هل رأيتم ذات يوم

سعف النخيل

على السّبيل

هل رأيتم نخل واحة

فوق ساحة

وجريحا ينزع الحبّة من صدره

ويلمّ جراحه

نكّس الخروع أعناقه

وطوى العنصل أوراقه

أرى النخل يمشي

وسط الزحمة يمشي

وسط العتمة يمشي

وسط الهجمة يمشي

مشدود الهدب إلى الشمس

موعود الصّابة

أيّها الناسي صوابه

أيّها المبدّل بالوهم ثيابه

النّخل لا يبكي

النّخل يغنّي

مع العصافير والأطفال

مع مياه البحر

مع قمح الجبال

مع البرق

مع الخريف الهادر

مع الشّتاء

أرى النخل يمشي في الشوارع

بحديد المعامل

وحصيد المزارع

ورغم الليالي

ورغم المواجع

أرى النخل عالي

ولا يتراجع !

***

الشّاعر لتونسي الطّاهر الهمّامي.

.....................

Je vois les palmiers marcher

Je vois marcher les palmiers

Ils se battent et défient

Les têtes hautes bien levées

Avez -vous jamais vu

Des palmes par terre jetées

*

Avez-vous jamais vu

Un palmier sur une terrasse

Et un blessé  soignant sa blessure

Sortant par lui même la balle

Le ricin s'incline

Et les feuilles de scille sèchent

*

Je vois les palmiers

Dans la foule marcher

Et pendant l'attaque

Leurs cils au soleil s'attachent

Leur gloire est très  proche

*

Ô toi qui te débarrasses

De ta raison

Et par les mirages la remplaces

*

Jamais les palmiers ne pleurent

Ils chantent avec les oiseaux

Les enfants

Et la mer

*

Avec le blé et les éclairs

Avec l'automne grondant

Avec l'hiver

*

Je les vois marcher

Avec les machines des ouvriers

Et avec les champs moissonnés

Malgré les douleurs et l'obscurité

*

Je les vois hautains les palmiers

Ils marchent

Et ne reculent jamais !

***

Traduction de Zohra Hawachi.

 

للشاعر الأرجنتيني ليوبولدو لوغونيس

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

رحلة

صادفت على الطريق

امرأة ورجل،

وشجرة منحنية

قبيل هبوب الريح؛

أبعد من ذلك،

جحش يرعى؛

و أبعد من ذلك،

كوم من الحجارة.

وفي ثلاثة آلاف فرسخ

من روحي

لم يوجد هناك

غير هؤلاء

شجرة،

حجارة،

جحش.

امرأة،

ورجل.

***

............................

- مترجمة عن الإنكليزية.

Journey by Leopoldo Lugones – Poems. https : // poets. Org

*(ليوبولدو أنطونيو لوغونيس) (1874 – 1938): الشاعر الأرجنتيني المجدد والصحفي والقاص والناقد الادبي والسفير الثقافي الذي يعتبر من الأوائل الذين استفادوا من الشعر الحر الاسباني، ومن رواد شعر الهايكو، والادب الخيالي والخيال العلمي في الأرجنتين. وهذا ما ذهب اليه الباحث (ديفيد باردو) من جامعة (كانساس) من خلال بحثه القيم بعنوان (لوغونيس والهايكو) المنشور في (العدد 2، المجلد 23 – 1994) من مجلة (تشاسكي – مجلة أدب أمريكا اللاتينية). ومن مؤلفات (ليوبولدو) (الجبال الذهبية 1897، أوقات السحر في الحديقة، التقويم العاطفي 1909، أغنيات عصرية 1910، تاريخ سارمينتو 1911، والبيت الريفي   1928).  

بقلم: آخيل شارما

ترجمة: صالح الرزوق

***

السيدة نارايان صغيرة القامة وسوداء وبوجه بيضوي.  وذات صوت رخيم. تقبل على الآخرين في معبد هولي أو ديوالي للتهنئة من قلبها، حتى تعتقد أن هذا أول يوم نحتفل فيه بهذه المناسبة. كلنا نحبها. وهي مهاجرة، أيضا، ولكن لا يبدو أنها مرهقة الأعصاب مثلنا. تطبخ لعدد منا وترفض باستمرار أجرها. وتقول: “هذا مني". فنرد عليها قائلين:" ولكن لا يمكن للحصان أن يؤاخي العشب".

مع ذلك لم نحب السيد نارايان. فهو قصير وممتلئ. ويتكلم بجلافة مع زوجته. ولديه متجر لصيانة التلفزيونات ويقول عن نفسه إنه مهندس، مع أنه لم يتم دراسته في المدارس. وكان أولادنا يذهبون إلى بيته لملاقاة أبنائه، فيلعب معهم البينغ بونغ. وإذا ربح يغرد. ويدخل بجدال عقيم مع الأولاد، حول أمور جازمة مثل عدد سكان العالم.  وإذا قدم له أحدهم إحصائيات تثبت خطأه، يدمدم حول جهل الكتاب الأمريكيين. وكنا نراه يدخن في سيارته الواقفة في ممشى المدرسة الثانوية، بانتظار أبنائه، وعلى رأسه قبعة المطر لأنه صبغ شعره. لدى عائلة نارايان طفلان. مادهو الابنة، وهي بالرابعة عشرة، وأصغر بسنتين من أخيها. ولم يكن السيد نارايان يسمح لها بالجلوس على الشرفة الأمامية، حيث يمكن أن تكون مكشوفة. ولم يسمح لها بارتداء السروال القصير. وكانت ترتدي الجينز في دروس اللياقة البدنية.

أخبرت نيهالي، والتي كانت بعمر مماثل، أمها بذلك. قالت الدكتورة شوكلا:"بنت مسكينة. لماذا  ينتابك الحبور حين تتكلمين عن ذلك؟".

قالت نيهالي:"ولكنني لا أشعر بالحبور. ثم لماذا لا يجب أن أتكلم عن هذا الموضوع؟". كانت تقف بجانب أمها الدكتورة شوكلا والتي تلف عجينة لتحضير الخبز الرقيق.

قالت: "المتدينون محافظون".

ردت: "لكن السيد نارايان ليس متدينا".

كانت الدكتورة شوكلا إنسانة محبوبة من الجميع. ومع أنها تدير عيادة في شارع شجرة السنديان، كانت تلبي طلبات العلاج في المنزل. وتخاطب النساء بلقب "أختي الكبيرة"، حتى لو أنهن غير مثقفات. لها وجه لطيف ومربع وغزيرة الشعر وتبدو كأنها تعرضت لحرق. في أحد الأيام، جاءت نيهالي إلى عيادة أمها بعد المدرسة. كانت مرحة بعينين براقتين، وقالت لها وهي تتأرجح تقريبا من الحماسة: "مادهو حامل. وفيكاس هو الأب". وكان فيكاس شقيق مادهو. اضطربت الدكتورة شوكلا. وقالت بالهندية: “كيف عرفت؟". وهي تستعمل اللغة الهندية حينما توبخ.

قالت: “الممرضة أخبرت مادهو، ومادهو أخبرت المديرة".

سألت: “وهل أفشت المديرة السر لك؟ هل أنت محبوبة المديرة؟".

نظرت نيهالي إلى أمها. شعرت بخطأ. وأن هناك شيئا قاطع حماسها. ربما لم تفهم أمها أهمية كل ذلك. 

سألت: “هل أمسكت المديرة يدك وسألتك كيف حالك؟".

لم ترد نيهالي.

قالت: “ألم تسمعيني؟ تسمعين أشياء لم يقلها أحد، ولا تسمعين كلامي؟".

تم تأكيد حمل مادهو مباشرة. في كل البلدة بدأنا نسأل أبناءنا. هل انفردت مع فيكاس؟ هل لمسها؟ لم نكن متأكدين أن فيكاس هو سبب حمل مادهو. بعضنا اشتبه بالسيد نارايان. شخص لم يسمح لابنته بالجلوس على الشرفة الأمامية وأجبرها على ارتداء الجينز في دروس اللياقة البدنية، يحمل أفكارا عجيبة عن الجنس. 

بدأت السيدة نارايان بزيارة المعبد في كل الأوقات. وكنا نراها كلما كنا هناك. كانت تستلقي ووجها على الأرض المفروشة بالسجاد من الجدار حتى الجدار الآخر، وذراعاها ممدودان نحو التماثيل المقدسة للرب رام أو كريشنا جي، وراحتاها مضمومتان معا. رأينا أشخاصا مصابين بالسرطان مع عائلاتهم ويفعلون ذلك. وقد أرعبنا هؤلاء الرجال والنساء المعلولون. هنا ترى ثمرة الحياة - أنك مريض، أو تراقب أحبتك المرضى. وحين نرى السيدة نارايان نشعر بالعار. كان يوجد قليل من الهنود في إديسون ونيو جيرسي، في تلك الأيام. وكنا نشعر أن كلا منا يفكر على نحو طيب أو سيء حول الآخر. وآل نارايان اختلسوا شيئا من احترام أنفسنا لذواتنا.

وعلمنا سريعا أن فيكاس تعرض للضرب في المدرسة. في أحد الصباحات، وهو يهبط على السلالم، واجه مجموعة من البنات البيضاوات، وتسببوا له بالسقوط، ثم التدحرج وهن يلكمنه ويمزقن قميصه وشعره بأظافرهن. وشعرنا جميعا أن هذا ليس مستغربا. فهو مذكر، وابن أهله. ولكن شعرنا بالقلق. إذا جرى مثل هذا الاعتداء في ظروف عادلة، لا بد أنه سيكون حدثا غير عادل، أيضا. هل شعرت تلك البنات أنه مسموح لهن بضربه لأنه هندي؟. هل سيفعلن نفس الشيء مع أولادنا؟.

أجري إجهاض لمادهو، وبعد شهرين غادرت المدرسة وأعيدت إلى الهند. وفهمنا أن ذلك دليل على تورط السيد نارايان بحملها. لو أنه فيكاس لاكتفى أبواه بحجزه في غرفته ليلا.

حينما كانت الدكتورة شوكلا بنتا صغيرة، في الهند، منع والداها، مثل العديد من أبناء الطبقة المتوسطة، الخدم من الجلوس على الأثاث. وحين ترى والديها جالسين على كنبة، وخادمة لا تزيد عليها بالعمر كثيرا، متربعة على الأرض في الزاوية، ينتابها وخزة في أحشائها. وأحست بالعار في إحدى المرات حينما قدمت لخادمة لصاقات يمكن قصها وشمها. كان التمزيق والشم عادتها المحببة، ورأت أنه من الضروري أن تقدم للبنت أفضل ما لديها.

هذا الوعي المذنب بحظها الجيد جعلها رقيقة دائما حيال النساء القادمات من بيئة فقيرة. والآن معظمنا يشعر أن عائلة نارايان كلها بائسة ويجب عزلها وتناسيها. لكن الدكتورة شوكلا فعليا تخيلت الكابوس الذي تمثله عائلة نارايان:  مادهو الخائفة، وفيكاس الذي يعيش تحت ظل لوم غير معلن عنه وغالبا غير مبرر، وبيت المزرعة الرمادي الواقف في ضوء ما بعد الظهيرة الخفيف. ومع أنها تؤمن أن السيد نارايان شرير، وهو أحد الرجال المتوحشين الكثيرين في الهند، أدانت أيضا السيدة نارايان، لأنها تعلم ذلك واختارت أن تتجاهل الموضوع وتنكره.

اختفت السيدة نارايان لبعض الوقت بعد إرسال مادهو إلى الهند. لم نشاهدها في المعبد: ولا في مخزن البقالية الهندية، حيث تستأجر أشرطة الفيديو. وسمعنا عن فيكاس. كان يتناول غداءه في المدرسة وحده. وذلك لحمايته.

جاءت في إحدى الأمسيات الدكتورة شوكلا بالسيارة إلى البيت عائدة من عيادتها، ونيهالي بجانبها على المقعد. توقفت في ممشاها، وشاهدن عربة السيدة نارايان بلونها الفضي، وكانت السيدة نارايان واقفة بجانبها. وعلى محياها علامات عصبية، ووجهها مشدود ومجهد. تململت نيهالي تحت حزام مقعدها، وهي تفكر بالقصة التي سترويها لزميلاتها في المدرسة.

التفتت إليها الدكتورة شوكلا. وقالت: “إن تكلمت عن ذلك سأضربك كما يضربون المسمار".

غادرتا السيارة.

انتظرت السيدة نارايان دخول نيهالي.

قالت:”يا أختي شوكلا أنا لا أستطيع التنفس".

"عمليا؟".

"إذا تحركت خطوتين ينقطع نفسي".

"تعالي".

قدرت الدكتورة شوكلا في المطبخ ضغط دم السيدة نارايان. وطلبت منها أن تأخذ أنفاسا عميقة وهي تضع السماعة على ظهرها. لاحظت حين لمست كتفها أنها غير مرتاحة، كما لو أن لمستها دليل على الموافقة.

"مادهو لم تخبرني بأي شيء".

انتفضت الدكتورة شوكلا.

"كيف حال نومك؟".

"أخاف من النوم".

بدأت السيدة نارايان بزيارة بيت الدكتورة شوكلا كل عدة أسابيع. كانت تأتي في المساء لتقدر لها ضغط دمها، وتكلمها. وكانت تبقى حتى حينما تطبخ الدكتورة شوكلا عشاءها. وتتلكأ حتى لو جاء السيد شوكلا إلى البيت. ولا ترحل إلا حينما تجلس العائلة لتناول العشاء. وفي إحدى المرات أخبرت الدكتورة شوكلا السيدة نارايان أنه عليها أن تأتي إلى العيادة. احتجت السيدة نارايان وقالت: “حينما ينظر لي الناس أشعر أنهم يوبخونني".

أحد الأسباب التي دفعت الناس لتوظيف السيدة نارايان في مجال الطبخ أنها براهمانية، ولذلك لا نتعب أنفسنا بالتفكير بالأصابع التي لامست الطعام الذي نضعه في في أفواهنا. وإذا حاولنا ابتلاع طعامها الآن، فإن الكرات التي نمضغها تبدو كأنها تدخل في حلوقنا وكأنها تتدلى من شعر طويل.

حصلت السيدة نارايان على عمل في كمارت. ذهبت السيدة بيلواكيش، وهي وسيطة عقارية، إلى المتجر وتكلمت مع المدير.  وطلبت إقالة السيدة نارايان. فشعرنا أنه إجحاف. أن تستغني عن مؤهلات إنسانة ناجحة، وتحرمها من كسب قوتها، يبدو عملا شريرا.

مر الوقت، شهور ثم سنوات. وحل أكبر تبدل مع افتتاح هيل توب إيستايت. قبل هيل توب، الهنود القادرون على الحياة في أديسون هم فقط القادرون على شراء أو استئجار بيت. والآن ترى الهنود الذين يعجزون عن شراء سيارة يمشون على أرصفة الطرقات. وظهرت بقع صدئة بنية على أطراف الطريق قرب محطات الوقود. في مدرسة جي بي ستيفنز الثانوية، ومدرسة جون أدامز الإعدادية، تجد أولادا وبنات لا يمكنهم التكلم بالإنكليزية،  ويرتدون معاطف متهدلة، وقد انتقلت إليهم من أقارب كبار السن. وسابقا إذا كنت بحاجة لأكاليل زهور للصلاة تشتري الورود وتستعمل الإبرة والخيط لتصنع ما تريد. الآن تذهب إلى شقة في هيل توب، حيث تجلس ثلاث عجائز على الأرض وتحيط بهن أكوام من الورد الأصفر. وهناك أيضا شقة مليئة بالمجمدات، حيث يمكنك شراء السمك البنغالي المهرب. إذا اكتشف حمل مادهو بعد افتتاح هيل توب، لن يهتم الناس كثيرا. بعد هيل توب تواجد كثير من الهنود واختلف شعور كل عائلة بشؤون غيرها. وربما خف شعور السيدة نارايان بالعزلة. وأمكنها عقد صداقات مع العائلات القادمات إلى هيل توب، وكل منها لديها قصة مؤلمة خاصة بها. أنهى فيكاس المدرسة الثانوية. وذهب إلى جورجيا للتكنولوجيا لدراسة الهندسة. وبعد فصل دراسي، جفت حسابات السيد نارايان في المصرف، وباع متجره، واقترض قرضا سكنيا ثانيا بضمانة البيت، وعاد إلى بلدته في الهند. علمنا ذلك من السيدة بلواكش ومن صهر السيد نارايان، الذي يعيش في فيلادلفيا ولديه صديق في إديسون.

أراد السيد نارايان أن يكون غنيا. وأن يكون مهما، وأن يستمع للناس واقفا ونصفه منصرفا عنهم، كأن المتكلم لا يستحق كل اهتمامه.

في بلدة السيد نارايان الهندية ثمانية آلاف شخص. وفيها شارع أساسي تجاري واحد، ثم أزقة سكنية متفرعة تواجه حقول قصب السكر. في فترة ما بعد الظهيرة، تسمع أصوات الجنادب، حتى لو أن النوافذ مغلقة.

بدأ السيد نارايان بإقراض النقود. كان الناس يزورون بيته، فيجلس على الشرفة، ويكلمهم.  بعض القروض كانت لمدة أربع وعشرين ساعة. معظم من يقرضهم لديهم ضمان، محاريث أو مضخات ماء، أو دراجات كهربائية، أو مولدات. كان يجمع هذه الأشياء  في المساء، وتبقى للمقترضين فرصة طيلة الليل للتفكير ببيعها. في الصباح يظهر المزارعون عند بوابة البيت، ويعيدون نقوده ويستردون المحراث أو المولد.

لم يغامر السيد نارايان. وإذا لم يدفع أحد الأشخاص، يأخذ الضمان إلى أحمد آباد ويبيعه في نفس اليوم. وكان يستعين بوسيط في الأمسيات. ويقوم بكل الواجبات الصحيحة، ومن ضمنها دفع الرشوة للشرطة.

ولدى السيد نارايان عدة خادمات. وحينما ينام في وقت القيلولة بعد الظهيرة، يطلب منهن تدليكه، وغالبا ما يجر إحداهن إلى الفراش. ولأن السيد نارايان عاد إلى البلدة لوقت قصير، لم يكن ذوو البنات يعلمون إن كان للشرطة علاقة قوية به، أو إذا كانوا قادرين على الاستعانة بالشرطة  للحصول على بعض النقود من السيد نارايان جراء أفعاله. وكما يعلم الجميع، لنجاح تجارة إقراض النقود، لا بد من الاستعانة بالعديد من أفراد العائلة. بتلك الطريقة إذا تم اعتقال شخص، يمكن للآخربن متابعة تجارتهم. وتوقف التجارة - اللحظة التي يفكر بها الناس أنه بمقدوره تجنب الدفع - هو ما يحطم مقرض المال. وحينما يطلب الآباء معونة الشرطة، ترد الشرطة، بما أن السيد نارايان بلا أخوة لمتابعة تجارته، سيجبر على الدفع سريعا - وهي نقود يمكنهم استعادة حصتهم منها قبل أن يذهب ما تبقى إلى ذوي ضحيته.

اعتقل السيد نارايان وتعرض للضرب، وأجبر على الجلوس القرفصاء، في زاوية الحجز وهو يمسك أذنيه. ولم يرفض دفع الرشوة. وعاد إلى بيته. كانت مكيفات الهواء قد اختفت من فوق نوافذه. وظهرت النوافذ مثل عيون فارغة. وكل أبواب الغرف مفتوحة. وتبرزت الخادمات على سريره، وعلى الكنبات  وعلى طاولة الطعام.

بعد عدة أيام، اعتقل مجددا. ولم يدفع الرشوة في هذه المرة، وسجن لمدة خمسة أيام. وعندما غادر السجن، لم يعطه أحد أي ضمان ولم يدفع أحد المبلغ الذي اقترضه منه.

توقف السيد نارايان عن إقراض النقود. وبعد عدة شهور مما جرى، جاء مفتش شرطة إلى بيت السيد نارايان، واقترح أن يعاود الإقراض. وأخبره أن الشرطة في هذا التوقيت لن يعترضوه. والرشاوي المعتادة ستكون كافية. حينما مات السيد نارايان سمعنا أنه أجرى عملية جراحية، وطلب منه الطبيب أن لا يأكل الفجل بعدها، ولكنه فعل ذلك. وعلى الأغلب أن الشرطة ضربته، ثم أطلقوا سراحه ليموت من جراحه في البيت.

وأول فكرة جاءت في الذهن هي: الشكر لله أننا لا نعيش في الهند، حيث تجري مثل هذه الأمور. ولم يدهشنا ذلك، من يستهين بابنته يمكنه أن يستهين ببقية البنات. وإذا شرع شخص ما بنشاط إجرامي، عليه أن يتعامل مع مجرمين.

أرادت أخت السيد نارايان أن تنظم صلوات على فراقه. ولكن لم يشارك لا السيدة نارايان ولا فيكاس. وتأخرت الصلوات مرارا وتكرارا، ثم تخلت أخته عن فكرتها. وحينما علمنا أنه لن تقام الطقوس، انتابتنا رجفة الخوف - نحن أيضا قد نموت ولا نكرم بالطقوس. مر الوقت. وتوافدت قوافل جديدة من الهند. معظمهم من الشباب، وهكذا انتبهنا أننا لسنا شبابا بعد الآن. وأحضر هؤلاء المهاجرون الجدد معهم المزيد من الهند الحديثة، هند لديها تلفزيون، وقناة للأزياء، وكانت أساسا نافذة لمشاهدة النساء الجذابات وهن يتهادين على المسرح كل الوقت.

في مركز التسوق رأينا هنودا يرتدون سراويل قصيرة. في الحفلات شربت النساء البيرة. وحتى في بيوت البراهمانيين  تجد طاولة يقدم عليها الطعام النباتي وغير النباتي. من مضى عليه فترة طويلة في أمريكا شعر أن هؤلاء الشباب هم أمريكيون أكثر منه. طبعا هؤلاء محظوظون، وجاؤوا بصفة طلاب دراسات عليا، أو مهنيين، في ريعان شبابهم، وليس الذين استقروا في هيل توب أو البيوت المتواضعة في إيسلين. بلغت مادهو الواحدة والثلاثين حينما عادت إلى إديسون. وكانت طويلة وعريضة المنكبين ولها وجه والدها المستدير. عاشت في الهند أكثر مما عاشت في أمريكا، ولها رائحة معدنية تميز فقراء الهنود،  ومن يعيش دون مياه كافية ليغسل ثيابه كما يجب. وكانت متزوجة ولكنها بلا أولاد، كما علمنا، غير أنها فقدت بفقر الدم أحد أولادها عندما كان في السادسة من عمره.

قبل وصول مادهو ذهبت السيدة نارايان إلى العائلات التي تقيم معها صلات صداقة وسالت أن بمقدور أحد دعوة مادهو إلى الغداء أو العشاء وتقديم الهدايا لها - "شيئا مميزا".

حينها كانت الدكتورة شوكلا لا تقرف من السيدة نارايان. في النهاية كيف يمكنها أن تتصرف إذا لم تكن مثقفة وتعرضت للضرب على مدار سنوات؟.

جاءت السيدة نارايان ومادهو للغداء. كان يوما مشرقا وحارا. دخلتا من الباب الخلفي، إلى غرفة الغسيل. رفعت مادهو قدمها، وتخلصت من أشرطة فيلكرو من صندل  له نعل مطاطي سميك. كانت نيهالي واقفة مع أمها عند باب المطبخ. كانت نيهالي طبيبة الآن. وشعرت أنها تحمي مادهو. ولم تعرف ماذا تقول دون أن تستفز الماضي. سألتها:"هل تتذكرينني؟".

أومأت مادهو.

قالت الدكتورة شوكلا: “أنت متزوجة".

قالت مادهو: "هذه أخبار غير سارة".

"آه".

"في البداية كان أبواه يحبسانني في غرفة كلما غادرا البيت".

ابتسمت السيدة نارايان وأومأت. وتابعت ذلك.

في المطبخ توجد أوان على الموقد وكمية من معجنات البوري ملفوفة بورق ألومنيوم، ومكومة في الصحون.

سألت مادهو:"هل يمكنني غسل يدي؟".

قادتها نيهالي إلى الحمام. عند المغسلة توجد درجات بلاستيكية لتتسلق ابنة  نيهالي عليها وتغسل يديها. ولا يمكن ابن مادهو بلوغ المغسلة، ولذلك يقعي بجانب المصرف تحت المغسلة وتسكب مادهو كوبا من الماء على يديه فيفرك الواحدة بالأخرى.

غسلت مادهو يديها وذهبت إلى طاولة الطعام في المطبخ.

صاحت الدكتورة شوكلا: "نيهالي أعدت معظم الطعام".

قالت السيدة نارايان:"رائع".

سألت نيهالي:"كيف الحال بعد العودة؟".

جلس الجميع. نظرت مادهو إلى نيهالي والدكتورة شوكلا، ثم إلى طبقها. سالت الدموع على خديها.

قالت الدكتورة شوكلا: “لا يتوجب عليك أن تتكلمي يا ابنتي".

قالت السيدة نارايان: "كلي فقط. كلي فقط".

لزم الجميع الصمت قليلا. وفاحت من البيت رائحة الحرارة.

سألت نيهالي: "هل عليك أن تسافري إلى نيويورك؟".

مسحت مادهو أنفها بظاهر يدها.

قالت السيدة نارايان:"يا لها من بنت رائعة".

قالت الدكتورة شوكلا: “ماذا يفعل زوجها؟".

"صيانة الدواليب".

تواصلت وجبة الظهيرة بهذا الأسلوب، ولزمت مادهو الصمت، وحرصت الدكتورة شوكلا ونيهالي على الترحيب بها.

بعد نهاية الوجبة، وكانت الأطباق والصحون على الطاولة، ذهبت الدكتورة شوكلا إلى غرفة أخرى، وأتت بالهدايا. وكان على علبة مضلعة صورة راديو بيضاوي الشكل وجهاز سي دي. العلبة الثانية صغيرة ورمادية. قالت السيدة نارايان: "انظروا كم تبدو نيهالي والدكتورة شوكلا رائعتين".

فتح مادهو العلبة الرمادية ووجدت سلسلة ذهبية رفيعة.

قالت الدكتورة شوكلا: “العقد من نيهالي".

لم تتكلم مادهو.

قالت السيدة نارايان بنبرة ضاحكة: “ألا يمكن أن تقولي شكرا؟".

تابعت مادهو النظر إلى الأسفل. وضعت يديها في حضنها. وأصابعها متشابكة.

قالت نيهالي: "يمكنني أخذك إلى نيويورك أن أردت".

نظرت مادهو عبر الطاولة وأشارت بأصبعها إلى  طبق  سيراميك أبيض مليء باللبن. 

"يمكننا أن نذهب يوم الأحد أو في إحدى الأمسيات".

التقطت مادهو الطبق وأفرغته على رأس السيدة نارايان. ارتفع كتفا السيدة نارايان. وبعد دقيقة، بدأت تربت على رأسها بورق التنشيف الذي استعملته لمسح يديها. لم يتكلم أحد. حملت مادهو طبقا آخر. قالت الدكتورة شوكلا وهي تقبض على معصم مادهو:"هيي، هيي".

بقيت مادهو في أمريكا. وشاهدناها في فودتاون وباتيل بروذيرز وأحيانا وهي تمشي حول بحيرة في حديقة روزفيلت. وغالبا كنا نراها تتشاحن مع أمها، وتصيح بأعلى صوتها بينما السيدة نارايان واقفة هناك وتبدو مضطربة. وفي إحدى المناسبات اتصل جيرانهما بالشرطة للشكوى.

بعد عدة شهور من عودة مادهو إلى أمريكا، زارتنا واحدا واحدا، وسألت إن كان بإمكانها تشذيب عشبنا. قالت إنها تقدمت بطلب عمل لتكون موظفة صندوق في المصرف. ولكن حتى لو حصلت على الوظيفة لن تكسب ما يكفي، لأنها لم تتم دراستها الثانوية. وأربكنا طلبها، وقلنا لها نعم.

والآن في أمسيات عطلة الأسبوع، رأينا مادهو في أرجاء البلدة  تشذب المروج. كانت محنية نحو الأمام، وتدفع جزازة العشب الصاخبة،  وخلفها يتشكل خط من الأعشاب القصيرة. وفوقها في الأعلى السماء الزرقاء، وعلى بعد عدة مئات من الأقدام كان توقيت ما بعد الظهيرة يخيم مسالما. وكل ما حولها صخب يصم الآذان.

***

* منشورة في النيويوركير. عدد 26  آب 2024.

* آخيل شارما Akhil Sharma  كاتب أمريكي من أصل هندي. يعمل بتدريس الكتابة الإبداعية. من أهم أعماله: حياة العائلة، حياة مخاطر ومسرة، الأب المطيع وغيرها.

 

بقلم:  نورا لانج

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

احتفظت روز بدفتر ملاحظات بالقرب منها وسجلت مكالمتها الهاتفية مع والدتها، لمجرد الرغبة في ذلك. كان جزء منها، الجزء الذي كان يعول نفسه ويدفع ثمن واقياتها الذكرية والسجائر والإيجار، يفترض أن تسجيل محادثتها مع والدتها قد يكون مفيدًا ذات يوم. لم تكن والدتها تخشى الابتزاز النفسي. كانت تذكر روز باستمرار بالأشياء التي يجب أن تكون ممتنة لها. كانت روز ممتنة. ضغطت على زر التسجيل.

كان صوت والدة روز مكتومًا بسبب أصوات الرياح؛ فقد كانت تقود سيارتها على طريق سريع مزدحم في جنوب كاليفورنيا مع نوافذ السيارة مفتوحة. هذا بالضبط ما قد تفعله والدتها لتعقيد المحادثة، التي كانت في هذه الحالة تدور حول إعلان وضعته روز في إحدى الصحف. كتبت روز الإعلان كتجربة. ومع ذلك، وبما أنه لم يرد أي شخص حتى الآن، ظلّت النتيجة غير مؤكدة. طلب الإعلان الذي وضعته روز شيئًا "غير متزن". في البداية، كان الإعلان يطلب "شخص مختل عقليًا"، لكن روز أدركت سريعًا أن هذا ليس صحيحًا تمامًا.

سألتها والدتها: "ماذا يعني أن نقول "شيء مختل"؟

شرحت روز لوالدتها، التي كانت على وشك التسبب في حادث سير (كما هي عادتها)، أنها كتبت الإعلان بتلك الكلمات لأنها أرادت أن تحصل على ردّ أكثر مباشرة.

سألت والدة روز: "كيف حال مشرف أطروحتك؟"

كان السؤال الكبير هو ما إذا كانت والدة روز قد تجنبت الوقوع في الفخ أم أنها لم تستمع إلى ما قالته ابنتها. راهنت روز على الاحتمال الأول، لأن والدتها لم تكن امرأة غبية على الرغم من كونها سائقة سيئة تصر على القيادة.

أجابت روز على والدتها:  "إنه محدود في تفكيره وكثير النقاش"

أرادت والدة روز أن تعرف ما إذا كانت ابنتها تعيش على القهوة المصنوعة باستخدام قمع بلاستيكي: "ما الخطب في آلات صنع القهوة الكهربائية؟ لماذا كل هذا الاهتمام بالطعم والتفاصيل الدقيقة؟ سأكون مخطئة إذا لم أشير إلى هذا"، قالت والدتها وهي تمضغ علكة النيكوتين بتحدٍ وبصوت مسموع.

ثم طلبت والدتها من روز أن تنتبه وتتوقف عن العبث بالتجارب وأن تبدأ في التفاعل مع الناس بشكل أقل تجريدية. لماذا لا تذهب إلى أحد مراكز التسوق؟ أو تشاهد فيلما؟

عرفت روز متى تتجاهل والدتها. كانت معجبة بها، أو تخطط لاغتيالها، أو تتجاهلها. وفي سنها كانت تلك هي الخيارات المتبقية.

اشتكت والدتها، قبل أن تسأل بسرعة إن كانت روز تقضي كل يومها في المكتبة:   "الصوت!  مكتوم تمامًا!"

ذكرتها والدتها: تذكري، روز، أنك بحاجة إلى هواء نقي،  منذ كنت صغيرة كنت بحاجة إلى الهواء. ربما يجب أن تفكري في الحصول على حيوان أليف صغير. الحيوانات الأليفة مهدئة.

رأت والدتها العديد من الشباب، في عمر روز، يمشون برضا مع كلاب صغيرة في وسط اليوم كما لو لم يكن لديهم مكان آخر يذهبون إليه. لم تكن والدتها لتخمن حتى كيف كانوا يطعمون هذه المخلوقات، بالنظر إلى سوق العمل. لم تكن لتقلق روز بشأن المستقبل.

قالت والدتها وهي تعيد ترتيب نفسها: "امنحيني دقيقة واحدة". أوضحت أن مقعد سيارتها كان لزجًا. كان الطقس مشمسًا ورطبًا في جنوب كاليفورنيا، وقد سكبت شايها المثلج على حضنها. كان هذا أقل ما يمكن أن يعرفه كل منهما عن الآخر.

بالتأكيد يا أمي.

حاولت روز الاتصال بوالدتها خلال استراحاتها التي تدوم عشر دقائق. كانت تدخن خلال استراحتها وتترقب بفارغ الصبر انتهاء سيجارتها. لأنه بعد سيجارتها، ستنتهي المكالمة وستلعق شفتيها بنكهة المنثول بشكل مهووس، لأعلى ولأسفل، لأسفل ولأعلى مثل مصعد سريع. لم تكن تحمل أبدًا نعناعًا أو أقراص برتقالية النكهة أو حتى أعواد أسنان بزيت شجرة الشاي لتغطية الرائحة. خلال استراحات التدخين، فكرت روز في جمع أغراضها في بروكلين والانتقال إلى الغرب البعيد إلى واشنطن أو ألاسكا، على الرغم من أنها كانت تعرف أن ذلك لن يحقق لها أي شيء. فذات يوم ستغمر ألاسكا بالماء. ولكن الناس ما زالوا يفعلون ذلك. ينتقلون إلى الغرب لاكتشاف شيء جديد.

هل سمعتِ عن ابنة عمك لينا؟ سألت والدتها، للمرة المئة خلال الأسبوع الماضي. إنها جميلة جدًا ووحيدة جدًا، قالت والدتها عن ابنة عم روز لينا. تخيلي كيف كانت لينا مشهورة في السابق.

لفترة من الوقت، فكرت روز في إيقاف التسجيل. شعرت وكأنها بطريق يواصل تحريك جناحيه دون أن يتمكن من الإقلاع عن الأرض.

أشعر بالقلق بشكل أكبر تجاه الأشخاص المشهورين، تابعت والدتها. إذا كنت أتذكر بشكل صحيح، قالت والدتها، كانت ابنة عمك جيدة جدًا في تكوين الجمل. يمكنها مساعدتك في إعلانك. لينا كانت تعرف كيف تجذب الانتباه، حتى وإن كانت تعاني الآن في شقتها الصغيرة المليئة بالقطط الضالة.

كانت تتمنى فقط أن تأكل ابنتها شيئًا مغذيًا. كانت تتمنى فقط أن تنسى ابنتها الإعلان السخيف.

لماذا الطباعة على أية حال؟ سألتها والدتها. كنت أعتقد أن الشباب يقضون وقتًا أطول على الإنترنت، أليس كل الرجال المتاحين على الإنترنت؟

لكن هذا لا علاقة له بالأمر. يا إلهي، ما علاقة الرجال بالأمر؟

في الحقيقة، كانت روز قد اتصلت بابنة عمها لينا بشأن الإعلان، وقد اقترحت لينا على روز أن تسعى لتحقيق ما تريده بالتظاهر. نصحت لينا روز أن تتخيل لغةً لأباريق الماء. قالت لينا إن الرجال يحبون السلاسة. اقترحت لينا على روز أن تحاول أن تكون أكثر استرخاءً بشكل عام. قالت لها: روز، كوني هادئة. فكري في اللون: الفيروز. فكري في تاوس، نيو مكسيكو. منظر طبيعي لا نهائي، منظر طبيعي قاحل لا نهائي وأنتِ أبريق الماء. قالت لينا إن أباريق الماء والفيروز هما تجسيد للاسترخاء، وأنه ينبغي على روز أن تسعى لأن تكون على تلك الحالة.

أفهم، قالت والدتها بفهم. حسنًا، طالما أنك تدركين أن محاكاة الغرق ليست في الحقيقة غرقًا.

كانت لدى والدة روز قدرة غير عادية على تغيير الموضوع عندما يناسبها. مثل تلك المرة التي كادت فيها روز أن تقطع إصبعها السبابة، وعادت والدتها إلى المنزل ببلوزة برتقالية صناعية من متاجر سيرز أو عندما أخبرت والدتها بأنها مثلية، فردت والدتها بإعطائها أربعة أقراص نوركو واثنين من أصابع الجن وأرسلتها لتأخذ قيلولة.

لا تفرطي في المزاح يا روز. يا إلهي، أين حس الفكاهة لديك؟ لقد كنت مضحكة في الماضي! أراهن أن ابنة عمك لينا ستقول شيئًا عن أهمية الفكاهة. أعلم أنها ستوافقني الرأي إذا قلت إن المرح والفكاهة مفيدان لإطالة عمر العلاقة.

أمي، هل يزعجك أن أريد أن يُنادى عليّ بلقب "عاهرة" في السرير؟

قالت والدتها: أحتاج إلى سيجارة حقيقية. تكاد تجاربك تقتلني، روز.

امضي للأمام، أيها الأحمق العاجز، إنها إشارة خضراء! صرخت والدتها في السماعة.

أمي، هلا حاولتِ إطلاق بوق السيارة؟

سألت والدة روز ما إذا كانت قد حجزت موعدًا مع الطبيب لاستبدال اللولب الرحمي. وذكرتها والدتها أنه من المهم متابعة هذه الأمور.

سألت روز، عندما شعرت بانفراجة: أمي، هل يمكنني أن أخبرك بشيء يثقل كاهلي؟

أجابت والدتها: "أحاول الاستماع، روز، أنا أحاول الاستماع حقًا".

في وقت سابق من ذلك اليوم، بينما كانت روز في طريقها إلى العمل، رأت طفلاً معصوب العينين، ولم تستطع التوقف عن التفكير فيه. كان الجو ماطرًا في غرينبوينت، والطفل كان مبللًا حتى العظم، متجمداً ووحيداً في ساحة مسيّجة. كان يضرب حماراً من الورق المقوى على شكل بيناتا باستخدام مضرب بيسبول، ضربة بعد الأخرى، وكأن لا الطفل ولا الحمار ولا المضرب موجودون فعلياً، وكأنهم مجرد تقليد لما ينبغي أن تكون عليه الحياة.

تساءلت والدتها: هل كان مريضًا؟ هل كان عيد ميلاده؟

توقفت روز وسألت الطفل المعصوب العينين إذا كان بحاجة إلى مساعدة، وعندما نظرت داخل الحمار الورقي الممزق، وجدته فارغاً. لم يكن هناك أي قطعة حلوى أو لعبة بلاستيكية بداخله. لم يكن الصبي يبحث عن حلوى أو جوائز أو مكافآت. لم يكن يبدو عليه التأثر بفراغ الحمار.

قالت والدتها: "ربما لا يزعجه أي شيء"

ردت روز:  "هذا هو الأمر، ربما يزعجه كل شيء."

قالت والدة روز، محذرةً من تراجع الإشارة، "أنا أقترب الآن من الممر". ثم صرخت في الهاتف: "ذلك الجرذ المشوه ما زال على السور الشائك!"

أرادت روز أن تكون مفيدة. كانت تكره نفسها لذلك؛ بسبب ميلها إلى تقديم المساعدة عندما كان ينبغي لها وضع حدود لحماية نفسها. قررت روز أنها ستحاول مرة أخرى غدًا أثناء استراحتها.

" أمي، تعلمين أنه يمكنك استخدام المشط لقذف الجرذ في الوادي كي تأتي الصقور لتأخذه."

"ماذا قلتِ؟ اسمعي، روز، تأكدي من التواصل مع ابنة عمك لينا. كوني ممتنة لأنها تحبك مثل الأخت. لا أستطيع أن أتحمل التفكير بها في كل هذا الطقس، وحدها في ذلك الشقة الصغيرة المغلقة، والقطط تزحف على أثاثها، تزحف على وجهها الجميل في هذا الوقت من السنة. أما أنت، فأنا أعلم أنكِ ستتجاوزين الأمر. دائمًا تفعلين ذلك يا روز."

" أعتقد أنني أفتقدكِ يا أمي."

لقد حانت تلك اللحظة، تلك اللحظة المزعجة في المكالمة عندما لا تعرف ما إذا كانت المكالمة قد توقفت، أو ما إذا كانت كلماتك لم تعد تصل. تحركت روز بإصبعها لإيقاف التسجيل، لكنها تركته معلقًا هناك.

***

................................

الكاتبة: نورا لانج /  Nora Lange كاتبة قصة أمريكية، حصلت لانج على درجة الماجستير في الفنون الجميلة من برنامج الفنون الأدبية بجامعة براون حيث كانت زميلة في برنامج كابلان. ظهرت كتابات نورا لانج في مجلات بومب، هازليت، جويلاند، أمريكان شورت فيكشن، دنفر كوارترلي، إتش تي إم إل جيانت، إل آي تي، ذا فيري تيل ريفيو، وأماكن أخرى. وقد نشرت    روايتها الأولى/ Us Fools ، هذا الشهر سبتمبر 2024.

 

بقلم:  جي دو موباسان

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

في أحد فصول الخريف، ذهبت لقضاء موسم الصيد مع بعض الأصدقاء في قصر في بيكاردي.

كان أصدقائي مولعين بالمقالب. وأنا لا أحب معرفة الأشخاص الذين لا يشاركون هذا الاهتمام.

عندما وصلت، استقبلوني استقبالاً ملكياً، مما أثار الشك في ذهني على الفور. أطلقوا البنادق، وعانقوني، وأغدقوا عليّ الاهتمام، وكأنهم يتوقعون الحصول على متعة كبيرة على حسابي.

قلت لنفسي: "انتبه أيها النمس العجوز! هناك شيء في انتظارك."

خلال العشاء، كان المرح مفرطاً، ومبالغاً فيه بالفعل. فكرت: "هؤلاء الناس يتمتعون بقدر من التسلية أكبر مما ينبغي، وبلا سبب واضح. لابد أنهم خططوا لمقلب جيد. وبالتأكيد سأكون أنا الضحية. يجب أن أكون حذراً!"

طوال المساء، ضحك الجميع بشكل مبالغ فيه. شعرت برائحة مقلب في الأجواء، كما يشعر الكلب برائحة الصيد. لكن ما هو؟ كنت متيقظاً، مضطرباً. لم أسمح لأي كلمة، أو معنى، أو حركة أن تفلت مني. بدا لي الجميع كمصدر للشك، بل حتى أنني نظرت بشك إلى وجوه الخدم.

حان وقت النوم؛ وجاءت جميع أفراد الأسرة لمرافقتي إلى غرفتي. لماذا؟

قالوا لي: "تصبح على خير." دخلت إلى الغرفة، أغلقت الباب، ووقفت في مكاني دون أن أخطو خطوة واحدة، ممسكاً بالشمعة في يدي.

سمعت ضحكات وهمسات في الردهة. لا شك أنهم كانوا يتجسسون عليّ. ألقيت نظرة سريعة على الجدران والأثاث والسقف والستائر والأرضية. لم أر شيئًا يبرر الشك. سمعت أشخاصًا يتحركون خارج باب غرفتي. لم يكن لدي أدنى شك في أنهم كانوا ينظرون من خلال ثقب المفتاح.

خطر لي فكرة: "قد تنطفئ شمعةي فجأة وتتركني في الظلام."

ثم توجهت إلى المدفأة وأشعلت جميع الشموع الموجودة عليها. بعد ذلك، ألقيت نظرة أخرى حولي دون أن أكتشف شيئاً. تقدمت بخطوات قصيرة، أفتش بعناية في الغرفة. لا شيء. فحصت كل قطعة، واحدة تلو الأخرى. لا يزال لا شيء. ذهبت إلى النافذة. كانت المصاريع الخشبية الكبيرة مفتوحة. أغلقتها بعناية شديدة، ثم أسدلت الستائر، وهي ستائر مخملية ضخمة، وضعت مقعداً أمامها، حتى لا يكون لدي ما أخافه من الخارج.

ثم جلست بحذر. كانت الكرسي مريحاً وثابتاً. لم أجرؤ على الصعود إلى السرير. ومع ذلك، كان الليل يتقدم؛ وانتهى بي الأمر إلى استنتاج أنني كنت أحمق. إذا كانوا يتجسسون علي، كما افترضت، فلا بد أنهم كانوا، في انتظار نجاح النكتة التي كانوا يعدونها لي، يضحكون بلا اعتدال على خوفي. لذلك قررت الذهاب إلى السرير. لكن السرير كان مثيرًا للريبة بشكل خاص. قمت بسحب الستائر. بدت أنها آمنة.

ومع ذلك، كان هناك خطر. ربما كنت سأتعرض لرشاش ماء بارد من فوق، أو ربما، في اللحظة التي أتمدد فيها، سأجد نفسي أهبط إلى الأرض مع المرتبة. بحثت في ذاكرتي عن جميع المزحات العملية التي تعرضت لها من قبل. ولم أرد أن أُفاجأ. آه! بالتأكيد لا! بالتأكيد لا! ثم خطرت لي فجأة تدبير احترازي اعتبرته ضمانًا للأمان. أمسكت بجانب المرتبة بحذر، وسحبتها ببطء نحو نفسي. انفصلت، تبعها الملاءة وبقية الأغطية. جررت كل هذه الأشياء إلى وسط الغرفة تمامًا، مقابل باب المدخل. رتبت سريري مرة أخرى بأفضل ما يمكن على مسافة من السرير المشبوه والزاوية التي كانت قد أثارت قلقي. ثم أطفأت جميع الشموع، وبينما كنت أتلمس طريقي، تسللت تحت الأغطية.

بقيت مستيقظًا لمدة ساعة أخرى على الأقل، أترقب أدنى صوت. بدا كل شيء هادئًا في القصر. ثم غفوت.

لابد أنني كنت في نوم عميق لفترة طويلة، لكن فجأة استيقظت مذعوراً بسبب سقوط جسم ثقيل فوق جسدي مباشرة، وفي نفس الوقت شعرت بسائل حارق على وجهي، وعنقي، وصَدري، جعلني أصرخ من الألم. وسمعت ضجيجاً مروعاً، وكأن خزانة مليئة بالأطباق والأواني قد انهارت، وكاد هذا الصوت يصم أذنيّ.

كنت أختنق تحت وطأة الثقل الذي كان يسحقني ويمنعني من الحركة. مددت يدي لأكتشف طبيعة هذا الشيء. شعرت بوجه وأنف وشارب. ثم وجهت ضربة قوية إلى هذا الوجه بكل قوتي. لكنني تلقيت على الفور وابلًا من الصفعات جعلني أقفز من الأغطية المبللة وأركض بقميص النوم إلى الردهة التي وجدت بابها مفتوحًا.

يا إلهي! كان النهار مشرقًا. وأدى الضجيج إلى هرع أصدقائي إلى شقتي، ووجدنا الخادم المذعور مستلقيًا فوق سريري المؤقت، وكان قد تعثر بهذا الحاجز في منتصف الأرضية أثناء إحضاره لي لفنجان الشاي الصباحي، وسقط على بطنه، فانسكب إفطاري على وجهي رغمًا عنه.

إن الاحتياطات التي اتخذتها بإغلاق الستائر والنوم في منتصف الغرفة لم تؤد إلا إلى إثارة المزحة التي كنت أحاول تجنبها.

لكم ضحك الجميع في ذلك اليوم!

(انتهت)

***

......................

الكاتب: هنري رينيه ألبرت جي دو موباسان/ Guy de Moupassant (5 أغسطس 1850 - 6 يوليو 1893) كاتبً فرنسي  من القرن التاسع عشر، احتُفل به كأحد أساتذة القصة القصيرة، وكذلك كممثل للمدرسة الطبيعية، حيث يصور حياة البشر ومصائرهم والقوى الاجتماعية بعبارات مشبعة بالخيبة وغالبًا ما تكون متشائمة. كان موباسان تلميذًا لجستاف فلوبر، وتتميز قصصه بالاقتصاد في الأسلوب والنهايات الحاسمة، التي تبدو دون جهد. العديد من قصصه تدور أحداثها خلال حرب فرانكو-بروسيا في سبعينيات القرن التاسع عشر، وتصف عبثية الحرب والمدنيين الأبرياء الذين، وهم عالقون في أحداث تتجاوز سيطرتهم، يتغيرون بشكل دائم بسبب تجاربهم. كتب 300 قصة قصيرة، وستة روايات، وثلاثة كتب سفر، وكتابًا واحدًا من الشعر. تُعتبر قصته الأولى المنشورة، "بول دي سويف" (1880)، أشهر أعماله.

 

بقلم: ليودميلا أولتسكايا

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

في الوقت الذي بلغت فيه الحياة الكمال، بدأت مرحلة الكهولة. وآخر لمسة غالية التكلفة كانت حوضا صغيرا للاستحمام، وتم تركيبه بعد الكثير من التفكير والبحث. البعض رشح لها إضافة دوش، ولكنها رفضت تماما حماما عموديا له باب: ما الفائدة من ماء ينسكب على رأسك؟. الافضل أن تستلقي في ماء دافئ مع وسادة مطاطية تحت رأسك، وقدماك الناعمتان تركلان باسترخاء كرتين بلاستيكيتين صلبتين...

تنتمي أليسا لسلالة نادرة من البشر. وتعرف عن يقين ماذا تريد وما لا تريد في جميع الظروف.

في عمر مبكر، ورثت دمها المختلط - نصف بلطيقي، والنصف الآخر بولوني - من أمها. ولذلك كانت كل عواطف أليسا باردة، أما الخوف من السقوط تحت سلطة إنسان آخر كان أقوى من بقية المخاوف التي تمر بها المرأة: كالعزلة، والطفولة، والجوع. وقد توجب على أمها، مارثا، التي تزوجت من جنرال في الجيش قبل الحرب، وهو الزواج الذي أثمر عن أليسا، أن تدفنه، وهي في زهرة شبابها. وفي ما تبقى لها من عمر، كانت دائما مشبوبة العاطفة، ولذلك عانت كثيرا، لدرجة المرض النفسي. وكانت جاهزة دوما لأن تضع تحت قدمي حبيبها، كل شيء تمتلكه، بما في ذلك الشقة التي تركها لها الجنرال. بعد انفصال مارثا عن آخر عشيق، انتحرت بطريقة عشوائية تماما: ذهبت إلى مصففة شعرها ومشذبة أظافرها،  ثم ألقت نفسها تحت عجلات القطار. بالنسبة لأليسا، شل سلوك أمها الجنوني أي إمكانية للتضحية العقيمة وغير المثمرة بالذات.  حضر جنازة مارثا عدة عشاق سابقون، ومن ضمنهم الأخير، الذي هجرها، وبالتالي تسبب لها بالضربة القاصمة. ألقوا على تابوتها المغلق جبلا من الزهور، أما أليسا البالغة عشرين عاما، بمحياها غير الناضج تماما، ووجهها الشاحب، فقد استنكرت وشعرت بالخزي، من حساسية أمها المفرطة، وأقسمت لنفسها أنها لن تكون ألعوبة  بيد هذا المجتمع المتوحش. وبرت بوعدها. ولم تكن حياتها زهدا مضنيا،  ولكن تخللتها علاقات نادرة وغير هامة، جعلت منها ندا للآخرين في الحياة العملية. عملت مهندسة ديكور، وكانت سعيدة بأدائها، ومتأكدة أن أحدا في مكتبها لا يمكنه رسم خط واحد أفضل منها. وحوالي نهاية القرن العشرين، ظهرت الكومبيوترات، فوضع كل المصممين، وحتى أفضلهم، أقلامهم جانبا، واجتهدوا بإتقان البرنامج الذي يقدم التعليمات الدقيقة:"ارفع القلم، اخفض القلم، عين النقطة...". ولكن عند هذا الحد اختارت أليسا التقاعد. واستمرت أجمل أوقاتها أكثر من عشر سنوات: كان تقاعدها صغيرا، ولكنها وجدت طريقة ممتازة لتدعمه بإضافات جانبية - فقد كانت لثلاث مرات أسبوعيا، من العاشرة حتى وجبة منتصف اليوم، ترافق الأطفال في نزهات في الحديقة. بعد ذلك تحررت وشعرت بالسرور. أحيانا تزور المسرح، وغالبا تذهب إلى الحفلات الموسيقية، واكتسبت المزيد من الأصدقاء، وخصصت حياتها للمرح والرخاء، حتى جاء يوم غير متوقع، وغابت عن وعيها، وسقطت جوار الكنبة في الشقة. استلقت هناك لبعض الوقت، ثم استفاقت وأدهشتها الزاوية الغريبة التي فتحت عليها بصرها: كوب مكسور وسط ماء مسفوح، قوائم الكرسي المقلوب، والبساط الأحمر والأزرق الممدود أمام وجهها. نهضت بسرعة. شعرت بالألم في كوعها. فكرت قليلا واستدعت الطبيب. قدر الطبيب ضغطها ووصف لها بعض الحبوب. كل شيء في الظاهر كما كان في السابق. باستثناء أمر واحد: بدأت أليسا منذ ذلك اليوم تفكر بالموت. لم يكن لديها أقارب تأنس لهم. فالأوكرانيون والبولونيون اختفوا منذ عهد بعيد وغابوا عن الصورة، فقد كرهوا السلطة السوفييتية التي يمثلها الجنرال المرحوم. أما أقارب الجنرال فقد كرهوا مارثا وابنتها أليسا، ولأسباب لا يتذكرها أحد...

بلغت أليسا الرابعة والستين. ولكنها بصحة قوية، باستثناء تدهور لياقتها وهو ما ذكرها فجأة بلا محدودية الحياة: ولكن السؤال هو: ماذا لو أصابها المرض؟ أو أصبحت طريحة الفراش؟. ومن يمكنها أن تعتمد عليه؟. لم تقدر أليسا على النوم. وأنفقت عدة ليال حافلة بالقلق، ثم خطر لها حل ذكي. وهو بسيط جدا: إذا غلبها مرض لا يطاق، يمكنها أن تسمم نفسها. ويمكنها تحضير سم فعال مسبقا، والأفضل حبوب النوم، ثم تناولها، بعد ذلك لا تستيقظ أبدا، وبلا أي استعراضات بليدة، كما كانت تفعل أمها في وقتها. وبطريقة آنا كارنينا فعلا!.  تناولي الحبوب ببساطة - ولا تستيقظي. وبهذه الطريقة، كما توقعت، تجنبي مرارة الموت...

حينما تبادرت لذهن أليسا هذه الفكرة، قفزت من السرير، وفتحت الدرج الذي تعلم أنه يحوي علبة بورسلين بيضاء، للاحتفاظ بالمساحيق وأدوات التجميل، وهو من بقايا أمها. وبوسعها أن تضع الحبوب في العلبة، وتحتفظ بها قرب السرير، وحينما يحين الأوان - تتناولها.

ليس الآن، ولا في الغد. ولكن حان وقت التفكير. أولا عليها أن تجد طبيبا موثوقا، ليكتب لها وصفة الحبوب بالكمية اللازمة. وهذه ليست مهمة سهلة، ولكنها واردة.. بعد نوبة الإغماء، تابعت أليسا حياتها المعتادة، واستمرت بمرافقة أرسيوشا وغلوشكا للتنزه. وهما طفلان لطيفان يعيشان في المبنى الذي تقطنه، وأمهما، امرأة حسنة النشأة والتربية، وليست مستهترة وفظة، تقوم بتدريس الموسيقا، وفي المساء تهتم بالولدين. أنفقت أليسا أمسياتها في الحفلات والمسرح، كالسابق، ولكنها لم تنس فكرة الطبيب الماهر. وفي إحدى الأمسيات دخلت بحوار مع واحدة من رواد المسرح. تكلمتا حول مختلف المسائل، وتبين أن شقيق المرأة طبيب. وبالصدفة يهودي. وهكذا. ربما صحت الأقاويل المتداولة حولهم - شريرون، مجرمون ييتعملون السم للقتل... وباختصار طلبت أليسا من صديقتها الجديدة أن تعرفها بشقيقها من أجل استشارة طبية.

بعد أسبوع جاء الأخ أليكساندر يفيموفتش. وهو رجل هزيل القوام وحزين، وعلى وجهه تعبير ينم عن التساؤل. واعتقد أنه مدعو لزيارة طبية خاصة، ولكن أجلسته أليسا على الطاولة، وقدمت له الشاي. غلبه القليل من التحير، كانت المريضة حسنة التربية، وذات مظهر جذاب جدا. ولم يسبق لامرأة من هذا النوع أن دخلت مجال حياته. والحق يقال مر وقت طويل منذ آخر مرة قابل بها امرأة. وهو يهتم بالنساء المريضات من زاوية طبية صارمة. وقد مرت عليه سنوات وهو أرمل، ويعاني من العزلة، ورفض الاستماع لتلميحات أقاربه عن الضرر المتوقع من حياة الوحدة. تم ترتيب الطاولة بأناقة، أكواب الخزف الصيني فوق غطاء طاولة كتاني رمادي اللون، السكاكر مستوردة، وصغيرة، وليست مثل الدب الروسي الثقيل الذي يتخبط في غابة الصنوبر.  كانت أليسا فيدوروفنا نفسها، مثل أكوابها وسكاكرها، بهية الطلعة، ذات شفتين رقيقتين ولا تعرفان الابتسامة. وشعرها الأشقر الخفيف مربوط إلى الخلف بنعومة. سكبت له الشاي وأخبرته بمشكلتها مباشرة:"أريد حبات تنويم قوية، بكمية تكفي لأنام إذا تناولتها ولا أستيقظ".

فكر ألكسندر يفيموفيتش قليلا، وتناول رشفة من الشاي، وسأل:"هل تعانين من ورم؟".

قاات: "كلا. أنا بصحة جيدة. أريد أن أكون سليمة ومعافاة حينما أموت. وفي اللحظة التي أقرر فيها ذلك. ليس لي أقارب يمكنهم رعايتي، ولا توجد لدي أدنى رغبة للتسكع بين المستشفيات، وأنا أعاني وأتبول في سريري. أحتاج لحبوب النوم لأتمكن من تناولها حالما أتخذ قراري. ببساطة أنا أشتري لنفسي ميتة سهلة. هل هذا أمر سيء؟".

"كم عمرك؟". سألها الطبيب بعد تفكير طويل، سؤالا طبيا.

"أربعة وستون".

قال:"تبدين معافاة جدا. لا أحد يخمن أنك أكثر من خمسين".

"أعلم. ولكنني لا أريد منك أن تجاملني. أخبرني بشكل قاطع إذا كان بمقدورك أن تصف لي الدواء اللازم بجرعة كافية...".

انتزع الطبيب نظارته، ووضعها أمامه، وفرك عينيه.

"أحتاج لأن أفكر. كما ترين المهدئات لا توصف أصلا إلا بحالات خاصة... والموضوع مسألة قانونية".

قالت أليسا فيدوروفنا بجفاء:"ولكن سوف أدفع لك مبلغا جيدا".

"أنا طبيب. والموضوع بالنسبة لي مسألة أخلاقية أولا. وأعترف هذه أول مرة في حياتي أواجه بها طلبا من هذا النوع".

انتهيا من الشاي. وافترقا، ووعدها الطبيب أن يفكر وأن يخابرها لينقل لها قراره.

وحان دور ألكسندر يفيموفتش بالأرق. ولم تغادر رأسه، هذه المرأة الرفيعة والضعيفة والتي لا تشبه من قابلهن في حياته. كانت بعكس زوجته رايا المرحة ذات خصلات الشعر المنفوش والمجعد باستمرار، وذات القميص الذي يكشف عن صدرها الضخم، والصخابة، وعالية الصوت... كان فراق رايا مؤلما،  بعد أن نهشها سرطان العظام، وبعد نوبات من الألم المتوحش الذي لم يخففه المورفين. 

وطيلة أسبوع لم يتوصل إلى قرار وهو يفكر يوميا بمخابرة أليسا المدهشة. كما أنه لم يجد حلا للمشكلة الأخلاقية التي عرضتها لها. امرأة محترمة وصادقة ومباشرة.  من الأسهل لها أن تشتكي من الأرق، وأن تسأل عن حبوب للنوم، فيصفها لها، ثم توفر  عشر أو عشرين جرعة - من سيهتم؟ ثم تتناولها دفعة واحدة  وتسقط بالنوم الأبدي.

وتم لقاء غير مخطط له في محفل بليتنيف الموسيقي، في استراحة بعد عزف "الجميلة النائمة" لشايكوفسكي وقبل سوناتا لشوبان. لم تتعرف أليسا عليه أولا، ولكنه عرفها - فورا. كانت في البار وبيدها كأس ماء، وتبحث حولها عن كرسي شاغر.  انحنى لها أليكساندر يفيموتش من مسافة بعيدة. نهض ودعاها إليه، فجلست في كرسيه الشاغر...

بعد الحفلة رافقها إلى بيتها. وبينما كانا يستمعان للموسيقا، كان المطر ينهمر. انتشرت البرك في عرض الشارع، وجلس شايكوفسكي البرونزي في كرسيه البرونزي في بركة صغيرة من ماء المطر. تناول الطبيب ذراع أليسا فيدوروفنا. كان ذراعها خفيفا وصلبا - كما كانت رايا حينما رافقها أول مرة بعد حفل التخرج في الجامعة. تقدم وهو مفتون بهذا الإحساس المنسي المؤنس. فكرت أليسا: هذا رجل لا يريد شيئا مني، وأنا من أتوقع خدمة منه.

تكلما حول بليتنيف، وذكر لها يودينا، وأشار أنه منذ وفاتها، أصبح بليتينوف أفضل من يمثل نمط الموسيقي الذي يمنح نفسه الحق، بتوفير رؤية جديدة للكلاسيكيات. وأدركت أليسا فيدوروفنا أنها كانت تتكلم مع رجل يفهم الموسيقا جيدا، مثل المحترفين، وليس مستمعا سطحيا مثلها. قادها إلى بيته، ووجد في أعماق الباحة المعتمة وبلا صعوبة الملحق المكون من طابقين، والذي زاره قبل أسبوع. كان لديه إحساس ممتاز بالمكان، سواء في الغابة أو المدينة: ووجد بسهولة مكانا سبق له أن مر به. فتوقفا أمام المدخل. وكانا على وشك الوداع  ولكنها لم تستطع تكرار الطلب الذي دعته من أجله قبل أسبوع.

تبع ذلك صمت غريب، وأنهاه بسؤال غريب عنه.

قال:"أنا جاهز يا أليسا فيدوروفنا لتسهيل طلبك، ولكن أريد أن نعالج هذه المشكلة لاحقا حينما" - وعانى بوضوح ليجد الكلمات المناسبة ثم تابع: -"حينما تنضج الظروف. وحتى ذلك الوقت سأعتبر صحتك من مسؤولياتي".

وافقت. لم يسبق لأحد أن قام برعايتها، وهي لا تسمح بذلك!. ولكن طاب لها أن تسمع ذلك. قدمت له يدها الخفيفة والصلبة وأمسكت بقبضة الباب. كان الدهليز معتما.

"اسمحي لي...". وتبعها في العتمة الرطبة. في الظلام تحسست أول سلمة وكادت أن تتعثر. ولكنه أنقذها من الخلف.

وهكذا بدأت علاقة غرامهما - عادا إلى أيام الشباب بعد لمسة بالصدفة، تبعتها أول قبلة في المدخل، واشتعلت نار غير متوقعة، وحلت الثقة التامة بالرجل الذي وصل إلى روح أليسا.

ومنحته أليسا ثقتها أكثر مما تفعل الصبايا - ولكن لم تأتمنه على حياتها إنما على موتها. وهكذا بدأت أسعد سنوات حياة أليسا. لم يقلق أليكساندر يفيموفتش شرنقة العزلة الهادئة التي نسجتها أليسا والتي تشعر فيها بالأمان. وبطريقة مدهشة ضاعف من هذه الحماية. وكأنه وفر لها غطاء من الأعلى. وأثار أليكساندر يفيموفتش اهتمام أليسا خصوصا بقدرته على التنبؤ برغباتها المفاجئة. ودون أن يسأل أي سؤال عما تفضل، أتى لها بالتفاح الأخضر والجلاتين الوردي، والكراميل المخطط المحبب لها، والليلك القرمزي وليس الأبيض، وجبنة كوسترومسكي الخاصة. كل شيء تفضله.

كانت أليسا دوما حساسة للروائح، وكل الرجال الذين أقامت معهم علاقة فيما مضى، كانت تفوح منهم رائحة المعادن، أو التبوغ، أو رائحة حيوان، إلا هذا العاشق الكبير بالسن كانت له رائحة خفيفة من صابون الأطفال والذي يغسل به يديه قبل وبعد فحص أي مريض. وهو الصابون المحبذ عند أليسا بالمقارنة مع كل الروائح العطرية الصناعية الأخرى...

عاش أليكساندر يفيموفتش كل حياته بجوار امرأة قوية وحالمة، ذات احتياجات هائلة، لم يجهده الرغبات المشتركة والنوعية والمختلفة، التي اكتشف لأول مرة، أنها ممكنة، وهو بقرب امرأة، وسوف يتحرر من سلطة النساء، التي ليس لها نهاية. وأليسا المحافظة، والمتماسكة حتى في أكثر اللحظات حميمية، كانت تشع بامتنان صامت. وشعر وهو في نهاية عقده السابع، أنه ليس موظف خدمة استهلكت حياته، ولكنه واهب كريم للمتعة. وكانا في لحظات العاطفة الرقيقة يتناديان فيما بينهما بألقاب المراهقة، أليك. 

عمل أليكساندر يفيموفيتش لعدد من السنوات كطبيب أعصاب في عيادة تابعة لنادي المسرح الروسي، وحسب كلام مرضاه، كانت لديه ارتباطات كثيرة. صحب أليسا في أيام العمل إلى أفضل عروض هذا الفصل في الصالة، ولكن في أيام السبت كان يأتي إلى بيتها لتناول وجبة مساء يحيط بها جو عاطفي. ولأول مرة في حياتها لم تطبخ لنفسها فقط...

تبدلت الحياة، وانحدر العمر، وبقي شيء مزعج واحد: من مكان بعيد حامت فكرة ملحة مفادها أن هذه السعادة غير المخطط لها لن تستمر.  وعلمت أليسا أنه عاش بعد وفاة زوجته مع ابنته مارينا الشابة والعزباء، والتي كانت معتلة الصحة وغير سعيدة تماما. أما آنيا الأكبر بالعمر، وهي معافاة وسعيدة، فقد كانت مع زوجها وابنيها اللذين بلغا السن القانونية للمدرسة، وذلك منذ فترة طويلة. وطيلة الشتاء كان الاثنان يلتقيان مثل مراهقين مغرمين، وفي الصيف ذهبا بعطلة للاستجمام معا، وخرق ذلك خطة الابنة الصغيرة، التي اعتادت أن تمضي الصيف مع أبويها. لكن ألكسندر يفيموفيتش لم يخبر أليسا بهذه المشكلة المقلقة مع ابنته. اشترى تذكرتين إلى كوماروفو، وفي وسط الصيف، حينما خبت أضواء الليالي البيض، ولم تعد حرارة بطرسبورغ الباردة مرهقة، وصلا إلى "بيت الإبداع".

أقاما في غرفتين منفصلتين كل منهما قبالة الأخرى من الممر، وارتاحا لتبادل الزيارات المسائية. قال أليكساندر يمفوفيتش ضاحكا بعد أن فتحت له أليسا الباب حينما دق عليه دقات منغمة:"أنت وأنا يا أليك مثل أولاد مدرسة يختبئون من عيون والديهما". ابتسمت أليسا بالمقابل بغموض: أول علاقة حب بطيء نشأت بعد وفاة أمها بخمس سنوات، وبعد زواج زميلاتها وصويحباتها بأزواج، وإنجاب أطفال ومعاشرة عشاق، وحصل بعضهن على الطلاق، وتزوجن مجددا. ولم تكن لديه فكرة محددة كيف يمكن للمراهقين إخفاء غرامهم عن آبائهم. أما مارثا أمها فلم تفكر أبدا في التستر على علاقاتها أمام أليسا. وكانت علانية، وعانت أليسا من العواطف المتقلبة. وكل ما كان ينقص أليسا في صباها انهال عليها في عمر متأخر، فارتبكت قليلا من وضعها كخليلة، ولا سيما في أوقات الصباح، حينما يهبطان إلى مطعم الفندق، الممتلئ تقريبا بأزواج مسنين مضى وقت مديد على زواجهم. بعد الإفطار يقومان بنزهات طويلة، وأحيانا يفوتهما الغداء ويعودان قرابة المساء. وكانت هذه أول مرة لهما في الأراضي الفنلندية سابقا. وكانت خبرتهما بتاريخها وجغرافيتها محدودة، ولذلك تجولا عشوائيا، وعبرا بالكثبان الرملية وبلغا شاطئا رمليا تتخلله الصخور والجلاميد، المنسية على الشاطئ، منذ العصر الجليدي، ثم تابعا إلى بحيرة بايك، حيث كان الاستحمام،  مبهجا جدا بالمقارنة مع خليج فلندا، الذي جلله هلام بني. 

وعند البحيرة قابلا واحدا من أصحاب أليكساندر يفيموفتش، وهو ممثل ومريض سابق، عاش في لينينغراد وكان من قدماء تلك الأنحاء. وكان يجلس مع سنارة الصيد المرتخية وبأمل عقيم غير واعد بأي صيد، إما سمكة شبوط، أو على الأقل فرخ سمك، وكان مسرورا برؤية الطبيب. وحالما سمع أن الطبيب وأليسا هنا لأول مرة، تطوع ليقودهما في أرجاء كيلوماكي Kellomäki   السابقة. تجول معهم في أرجاء القرية لمشاهدة البيوت الفنلندية القديمة، تلك التي لم تفكك وتنقل إلى فلندا حينما أصبحت الأرض لروسيا، وقادهما إلى بيت شوستاكوفيتش، وإلى كوخ أخماتوفا  والذي تم ترميمه وطلاؤه بلون أخضر منعش، وإلى بيت الأكاديمي كوماروف غير المعروف، وبيت الأكاديمي المشهور لافلوف... وبعد ثلاثة أيام من التجوال برفقة هذا الدليل المجاني، انفصلا عنه، وتجولا في غابة واسعة، وجمعا التوت البري والعنب البري الحامض...

توالت الأيام الأربع والعشرون، وفي خلال تلك الأيام الطويلة والليالي القصيرة، أصبحا متقاربين كأنه مضت عليهما  أعداد كبيرة من الحياة المشتركة. وبعد العودة إلى موسكو، تقدم أليكساندر يفيموفتش لخطبتها. لزمت أليسا الصمت لفترة طويلة، ثم ذكرته بطلبها، الذي لم يحققه أبدا. وكان قد نسي الموضوع. حبوب النوم...

"أليسا، أليسينكا، لماذا؟ لماذا بحق السماء الآن؟".

قالت أليسا مبتسمة:" الآن وحالا".

"أنا لا أفهم".

"لأن هذه الحال أوشكت على نهايتها.. وأريد أن أحضر نفسي".

كان يعلم أن النقاش مع أليسا غير مجد.

قال:"هذا جنون. لكنني سأنفذ".

أخرجت أليسا علبة بورسلان من الدرج وقدمته إلى ألكساندر يفيموفتش. وقالت له:"ضعها هنا".

تحرك ضميره، ولكن ما باليد حيلة.

"حسنا. حسنا. ولكن لنتزوج أولا. ثم سأضعها هنا- هدية الزواج".

ضحك، ولم يحصل ولا على ابتسامة بالمقابل.

"هذا الزواج - ما هو إلا مسخرة؟ ماذا ستقول ابنتاك عنا؟".

قال:"هذا لا يهم ولو قلامة ظفر" وغرق بأفكاره. بالنسبة للصغيرة، غير المستقرة، بنفسيتها المضطربة، ستكون صدمة حقيقية...

في الخريف، بعد أول ذكرى لتعارفهما، بلغ ألكسندر يفيموفتش السبعين.  نظم حفلة شاي متواضعة في مكان العمل، وتلقى من زملائه حقيبة جلد طبيعي، وكانت تختلف عن سابقتها بالرقم المدون على الشارة الفضية - "70" بدلا من  "60". أقام للأصدقاء والعائلة حفل عشاء في مطعم المرساة. لم ترغب أليسا بالمجيء. ولكنه ألح - فهذه أفضل مناسبة لمقابلة ابنتيه. وتابع أليكساندر التقدم بترتيباته، وتابعت أليسا التراجع. قدمها لأصدقائه المقربين، وزميلي المدرسة كوستيا وأليونا، وتلميذاه المحلل النفسي طوبولسكي، وطبيب التوليد بريتسكير. وكانت عائلته آخر الجماعة. 

بعد القليل من التردد، دعا ابن عمه، الذي قدمهما بدوره،  ثم موسيا تورمان، أقرب صديقات زوجته المرحومة. كانت خطوة غير مريحة، ولكنها استراتيجيا بريئة. كان يجهز نفسه على جبهة واسعة. تلكأت أليسا في الخلف  وكانت متهيبة حتى آخر لحظة، وفي النهاية وافقت أن تحضر هذا الاستقبال، ثم أعلنت رفضها. وسبق لها أن اعتادت أن تكون ملكة: ولم يكن يهمهما أن تكون محترمة ممن حولها أولا- والملكات لا تشعرن بهذا الاتكال على آراء الآخرين. ولكن ها هي قلقة وتشعر بالانزعاج من نفسها.

وأخيرا تدبر أليكساندر يفيموفتش إقناعها، قبل ساعة من مغادرته البيت:"أنت تعنين الكثير لي، ولا يمكنني إخفاؤك. ثم يجب أن أجهز الجميع...".

وهكذا استسلمت له.

وجاؤوا بتوقيت واحد. وفي حوالي السابعة وعشر دقائق جلسوا جميعا حول الطاولة.  أعلن ألكساندر يفيموفيتش باعتزاز:"أقدم لكم أليسا فيديروفنا". وقدم الضيوف لها كلا بدوره، آنيا وزوجها وحفيديهما مارينا وموسيا تورمان. كانت أليسا مثالية، وهي تعلم ذلك. وثيابها الحريرية بلون التبغ كانت مشدودة على الخصر النحيل  بحزام جلدي، وكان خصرها هو الوحيد بين بقية السيدات الشبيهات بالبراميل. عقدت الدهشة ألسنة الضيوف قليلا، حتى البنتين، مع العلم أنهما تلقتا تحذيرا بدعوة والدهما لصديقته.  جلست موسيا تورمان هناك صامتة - نظرت الى هذه الانسانة بعيني رايا المرحومة، وشعرت بالاستفزاز. 

همست إلى آنيا:"لا يوجد شيء يهمك". ولكن انيا لم تقلل منها.

"لماذا يا خالة موسيا. هذه امرأة لافتة. وقوامها...".

شخرت موسيا: “القوام. القوام. إنها غشاشة. وتعرض نفسها، فقط ضعي كلامي في ذهنك وتذكريني".

بدأ النادل بسكب الشمبانيا، ورفع كوستيا صديق أليكساندر كأسه. بدأ كوستيا الأشيب المنتفخ الوجنتين والممتلئ، بالكلام.

كانت بينه وشاشكا معرفة تعود إلى سبع وستين عاما، من سبعين عاما، ووصل التعارف لدرجة عدم تمييز الحدود بين أفكارهما أحيانا، وهو لا يعلم من يبدأ بالكلام، ومن يبدأ بالتفكير، وكانا أكثر من صديقين وأكثر من أخوين، وطيلة عمره، كان كوستيا يتبعه ولم يصل إليه...

وهناك المزيد من الكلمات، وكلها للمديح وكانت مرحة إلى حد ما. وفي النهاية قال يسعده أن يشاهد بجانب شيشكا أليسا الساحرة، التي أتت إلينا من أرض العجائب. تكرمت أليسا بابتسامة باردة...

بعد شهر سجلا زواجهما بهدوء وأريحية. ووفى أليكساندر يفيموفتش بوعده: ملأ علبة البورسلان بحبوب بيض صغيرة، ووضعه على الطاولة بجانب حزمة من أوراق الكتابة، والمغلفات، وتذاكر قطار الأنفاق المنتهية. وبخفة مدهشة جاء إلى شقة أليسا، ولم يبدل أي شيء، بالعكس، حرص على صيانة كل شيء، كان معلقا بحبل أو مربوطا بشريط لاصق. وثبت جزءا مختلا من ثريا، واستبدل المحراق الذي لا يعمل منذ عهد بعيد، ولم تشعر أليسا أن معارفه الطبية تشمل كل شيء يلمسه. ودون أي عناية إضافية بدأ النبات الموجود على إفريز النافذة بالإزهار - وهذا شيء لم يحصل في السابق. 

لم يكن الشريكان يشكوان من علة صحية حتى قبل الزواج، وأصبحا بشكل واضح كأنهما أصغر بالعمر.  قال الزوج ضاحكا: "عاودت دورة الهرمونات فعلها".

وفي مستهل الربيع، وقع حادث غير ملحوظ وغير مناسب: أصبحت الابنة الأصغر لألكسندر يفيموفتش مارينا، والتي بلغت حوالي الأربعين من عمرها، حاملا. كان لديها عيب بالولادة - شق في الشفة واللثة (شفة الأرنب)، ثم تخلفت ندوب على وجهها بعد عمل جراحي ناجح. وهو ما شوه روحها أكثر من مظهرها. ومنذ أيام الطفولة، تجنبت كسب الصديقات، واختارت مهنة قارئة مخطوطات، وسمح لها ذلك بكسب صداقات مع النصوص فقط.

أدهش والدها هذا الحمل. ولكن سره أيضا، وأدرك أنه لن يترك ابنته وحدها، ولكن مع طفل بمقدوره أن يملأ عالمها كله، والذي كانت تعتبره عدوا لها. وافقت أليسا بحركة غامضة حينما أخبرها: أنها تفكر بالحمل بطريقة خاصة، ولكنها لا تشعر بالرغبة في الإعلان عنها لزوجها.  على الأقل كانت أفكارها منذ عهد بعيد قد فقدت الاهتمام بكل الموضوعات. وحينما أخبر أليكساندر يفيموفتش أليسا بالنبأ، كان الحمل قد وصل لشهره السادس وتم استيعابه في بطنها البدينة، ولكنه لم يكن واضحا لاي عين متفحصة. كانت مارينا بدينة ومترهلة مثلها منذ أيام صباها. وحينما اقترب وقت الولادة، رتب الوالد أمور ابنته، وكانت كبيرة بالنسبة لأول ولادة، فنقلها إلى مستشفى نساء جيد في شارع شابولوفكا، حيث كان طالبه السابق بريتسكير رئيس القسم. وبالنظر لعمر مارينا ووزنها، تقرر إجراء عملية قيصرية. وتحدد موعد العملية في صباح الثلاثاء. انتظر ألكسندر يفيموفتش مكالمة من الجراح، الذي أخبره أن كل شيء على ما يرام - المولودة بنت بلا أي عيب، وعلى الأقل بلا شفة الأرنب. ولا يزال ألكسندر يفيموفتش يتذكر الرعب الذي مر به حينما خرجت زوجته من المستشفى مع ابنة صغيرة، لها حفرة مثلث مفتوح من الفم حتى الأنف. تنهد باطمئنان. وقال لأليسا:"علي أن أذهب إلى المستشفى".

جهزا علبة طعام للأم الجديدة:"عيران، حليب، حلويات، وقطعة من الجبنة. ثم غادر البيت وواتاه الحظ: شاهد ورود هيانسيث جديدة وجميلة - تفضلها أليسا - قد وصلت للتو إلى بائع زهور بالجوار، فاشترى باقة كبيرة لابنته وللممرضات. لفت البائعة الباقة بورق الهدايا. وخرج إلى الشارع المهجور الذي يغمره هدوء ما بعد الغداء، ومعه الزهور وكيس الزهور البلاستيكي. كان هناك حشود قليلة تنتظر الحافلة. وقف على مبعدة ليحمي الهيانسيث الجميلة من الناس المتدافعين حينما وصلت الحافلة.

ثم ارتطمت سيارة سوداء كبيرة تسير بسرعة عالية في منتصف الشارع، مع سيارة أخرى سوداء وكبيرة مثلها، فانحرفت نحو الرصيف. ضربت عمود إنارة، وأوقعت ثلاثة أشخاص كانوا في طريقها، ومن بينهم شخص يحمل باقة زهور مات فورا...

اتصلت أليسا في المساء ببريتسكير. فقال إن كل شيء على ما يرام فيما يخص مارينا وطفلتها، ولكن ألكسندر لم يحضر. أجرت أليسا عدة اتصالات. وبعد خمس عشرة دقيقة، تم إخبارها أن زوجها في المشرحة. وأنهم أنفقوا كل اليوم في محاولة للعثور على عائلته، ولكن لم يرد أحد من البيت. وهكذا انتهى الموضوع. "نعم، نعم، كنت أتوقع شيئا من هذا النوع". وعلبة البورسلان موجودة في الدرج... بدأت أليسا في الصباح التالي من المستشفى - أخذت الحليب، والعيران، والجبنة إلى مارينا. ثم توجهت إلى المشرحة. تأجلت الجنازة بسبب الفحص الجنائي. وأخبرت مارينا بموت والدها بعد ثلاثة أيام فقط. تعرضت لانهيار عصبي، فحملها البروفيسور طوبولسكي، صديق ألكسندر يفيموفتش، إلى مصحة كاشجينكو. وبقيت المولودة في المستشفى في الوقت الحالي.

ولم تتمكن آنيا، أخت مارينا الكبرى، من حضانة المولودة - لأن زوجها لا يحب مارينا، ورفض الموضوع. بعد أسبوعين، أخذت الجدة أليسا فيدوروفنا الطفلة من المستشفى. وكان لدى أليسا إحساس أن سعادتها مع ألكساندر  يفيموفتش لن تستمر، ولكن إحساسها لم ينبئها بأي شيء حول المولودة الجديدة.

عاشت البنت في عربة قرب سرير أليسا. ولم ترغب أليسا بالانتقال إلى شقة زوجها، مع أنها أوسع. وهناك كل شيء غير نظيف، وكان حوض الاستحمام، مع زخارفه المشققة، فظيعا، ولكن هنا الحوض جديد، وأبيض ولماع. أعفيت مارينا من المصحة النفسية بعد ست شهور. ولكن كيف يمكن الثقة بأهلية هذه المرأة المترهلة والمهملة والمضطربة نفسيا على ألكساندرا الصغيرة؟.

كانت العلبة بالمواد المهدئة في الدرج، ولكن لم يكن بمقدور أليسا، الاستفادة من هدية زوجها ليوم الزفاف بعد الآن. أحيانا يكون هذا نظريا أمرا ممكنا... ولكن إذا نضجت الظروف.

***

....................

* الترجمة من الروسية: ريشارد بيفير ولاريسا فولوخونسكي.

* منشورة في النيويوركير  عدد 3 نيسان 2023.

* ليودميلا أولتسكايا Lyudmila Ulitskaya  كاتبة روسية معاصرة. حصلت عام 2014 على جائزة الدولة التقديرية من النمسا للأدب الأوروبي الحديث.  من أهم أعمالها: الخيمة الخضراء الواسعة، لغز كيوكوتسكي، ميديا وأبناؤها، وغير ذلك...

للشاعرة الأمريكية

إدنا سانت فنسنت ميلاي

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

سأعود مرة أخرى

إلى الشاطئ الأجرد

كي أعيد بناء

كوخي الصغير

على أحقافه،

فتعاود الطحالب البحرية

المرور عند بابه

ياردة

أو ياردتين..

و لكن دون أن يدفعني ذلك

إلى الإمساك بيدك

حيث سأكون قد يممت وجهي

شطر من أفهمه،

و سوف أكون سعيدة

أكثر من ذي قبل..

أما هوانا

ألذي همد في عينيك..

أما الكلمات

ألتي ما عاد ينبس بها

لسانك،

فهي أشياء

تموت الآن.

لكم هو قليل

الذي قيل،

لكم هو قليل

الذي غني،

و لكن دون أن يطرأ أي تغير

على الصخور

والسماوات الحزينة

عما كانت عليه

حين كنت يافعة...

***

..................

* إدنا سانت فنسنت ميلاي (1892 – 1950). شاعرة وكاتبة مسرحية أمريكية. كانت عضوة في (الاكاديمية الامريكية للفنون والآداب). حائزة على جائزة (البوليتزر) عن فئة الشعر. عن (في مرفأ الشعر) للمترجم، أربيل – العراق 2001.

 

بقلم: آبي دارِي

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كنت أقول للناس أن أمي أنجبت ألف كتاب وفتاة واحدة.

كانوا يضحكون، معتقدين أنني أحاول أن أكون فكاهية. ليتني كنت كذلك. الآن، ومع اقتراب موتها، أجد نفسي متشبثة بذكرى معينة من طفولتي: كنت في السادسة من عمري، وكان رأسي ينبض من ألمٍ بسبب ضفائر شديدة الإحكام. كنت أجلس على بلاط الأرضية الباردة خارج مكتبة والدتي المنزلية، وبحثاً عن بعض الراحة، أطرق الباب، متوسلة أن تفتح لي، لكنها كانت غارقة في حديث أحادي حيوي مع مؤلف الكتاب الذي تقرؤه، فلم تسمعني. لقد تخيلت هذا المؤلف، كما تفعل غالباً، وللوقت الحالي، كان هو طفلها المحبوب، شقيقي الخيالي. أغفو وأنا في الانتظار، وأحلم بأنها تضمّني إلى حضنها العميق، وتضغط رأسي إلى صدرها، حيث تفوح رائحة الريحان الطازج، ونتمايل معاً على إيقاع ضحكتها، حتى أفزع وأستيقظ لأدرك أن ساعات قد مرت. أطرق الباب مرة أخرى، وهذه المرة، هناك توقف من الداخل، لحظة تأملٍ قصيرة لإصراري، قبل أن تعود لمواصلة انشغالها. في النهاية، تكتشفني خادمتنا، أدا، متكومة على الأرض وترسلني إلى غرفتي.

لقد مرت ثلاثون عامًا تقريبًا، ولا تزال هذه الذكرى تطاردني.

في الأسبوع الماضي، أُدخلت والدتي مرة أخرى إلى جناح خاص في مستشفى بورت هاركورت وهي نائمة منذ وصولي. يجب أن أعترف أن الجلوس بالقرب مني يبدو أمرًا غير طبيعي، وصعبًا. أستطيع أن أشم أنفاسها، وكل زفير من فمها المرتخي جزئيًا يدفئ الهواء بيننا برائحة المضادات الحيوية والكبريت. كنت أجد ملاذي في الكرسي الأخضر المبطّن بجانب باب غرفتها في المستشفى، حيث أملأ الفجوة بيننا بابتسامات مدروسة وردود محسوبة بدقة. كان ذلك خيارًا براغماتيًا، أسهل من أن أجلس قريبًا بما يكفي لترى ألم الرفض الذي تعرضت له في طفولتها ما زال محفورًا على وجهي.

لكن اليوم الأمر مختلف.

اليوم أود أن أجعلها تشهد الندوب التي تؤلم وجهي، وأن أجعلها (وهذا يبدو غير عادل في مواجهة محنتها) تعاني من بعض الصدمات التي عانيت منها مؤخرًا. أخشى أن تكون هذه هي الطريقة الوحيدة لكي تفهم لماذا يجب أن أنتزع من قبضتها بقايا ماضٍ مدفون.

همست:  "أمي؟" "هل أنت مستيقظة؟" يذكرني فروة رأسها الصلعاء برأس سلحفاة عجوز صغيرة قابلة للسحب. تضغط بقبضتيها على ملاءة السرير على الجانبين، لكنها لا تقول شيئًا. أظن أنها تعلم أنني هنا؛ وأنها، كالمعتاد، تأخذ وقتها.

تفتح عينيها فجأة وتقول: "وجهك"، وكان وجهها الشاحب المتعب شديد الصرامة في تحليل صامت للذكريات وهي تفكر في الخطوط المحفورة تحت ذقني مثل توقيع، والندبة القاسية على شكل حرف Y تزحف على طول فكي. تقول: "قال أبي إنك تعرضت لحادث... ماذا حدث؟"

أقول: لقد كذبت، لم يكن الأمر مجرد حادث.

توقفت للحظة. كانت الجروح تختفي ببطء، لكن ذكرى تعرضي للجلد في طقوس الخصوبة التي نظمتها حماتي لا تزال تعذبني. لم أستطع النظر في المرآة لأيام بعد ذلك.  وأحيانًا ما زلت غير قادرة على ذلك. وأحياناً، في سكون الليل، حين يكون زوجي كين غارقاً في النوم، أسمع صوت السوط، فرقعة قاسية في الهواء، فأرتجف وأستفيق.

أقبض يديّ بقوة لأتحكم في الارتجاف الذي أصابني. أقول متلعثمة:

- لقد كنت أفكر... في--

- هذا كومة من الكتب الجيدة فعلاً.

تشير إلى مجموعة الروايات الموضوعة على الطاولة الخشبية بجانبي.

- ناوليني ذلك الكتاب ذا الغلاف الأزرق، من فضلك. الذي به علامة الكتاب؟

تتوقع مني أن أتجنب الحديث، أن أنحني تحت وطأة نظرتها، لكنني أُقرب كرسيي إليها وأجعل ظهري مستقيمًا. "أدرك أن طلبي قد يكون مزعجًا، خاصةً عندما أسأل عن وثيقة تعود لستة عشر عامًا، لكنني بحاجة إليها." أضم يديّ معًا في محاولة قسرية للتوسل. "ما كنت لأُسافر لو كنتِ قد أجبتِ على رسائلي الإلكترونية أو النصية."

تضغط بإصبعها على اللوحة التحكم المثبتة على مقبض سريرها، فيتحرك السرير للأعلى بصوت طنين، وعندما يصبح وجهها بمستوى وجهي، تلعق شفتيها بطرف لسانها، الذي يبدو مصفرًا وخشناً مثل الجبن المعتق.

تقول، بصوت ناعم: "تيا، والدك موجود. لا أستطيع التحدث عن هذا الآن. امنحيني بعض الوقت. لقد تعافيت للتو من عدوى أخرى. روايتي؟"

"أحتاج إلى لحظة"، أقول ذلك، وأنا أنهض وأسرع للخروج من غرفتها، متجاوزة امرأة تتقيأ في الجناح المجاور، وممرات محطات الممرضات. حتى يفتح المصعد ويصدر صوت الصفير، لا أدرك أنني نسيت حقيبتي. أعود مسرعة وأتوقف عند الباب المفتوح قليلاً. أمي تتحدث مع خالتي عبر الهاتف، في مكالمة فيديو، كما تفعلان عادةً، وبصوت جاد وعميق لدرجة أنني اضطررت إلى التنصت.

"هل تطلبين مني ألا أخبرها؟" تقول والدتي. "أن أحمل هذا السر إلى قبري؟ لا، بياتريس. دعيني أموت بسلام. دعيني أشرح لماذا لا يمكنها الحصول على الوثائق التي هي—" تقاطعها خالتي، وصوتها حاد ومشوش مثل شريط كاسيت يتم تسريعه. أستمع، وعينيّ على ظلي المشوه المنعكس في نافذة الجناح المقابل، وشعور حار يملأ كل زاوية من جسدي. أجد صعوبة في متابعة محادثتهما المجزأة، في محاولة لجمع قطع الكلام لتكوين صورة كاملة عن ماضيّ، لكنهما يواصلان الحديث ذهاباً وإياباً، يطعناني من جديد بحافة كل اكتشاف حتى يصبح صوت خالتي همساً لا يرتفع، ولا أستطيع تحمل هذا الانتظار المؤلم للغراء الذي يربط شتات الكلمات—"لقد فات الأوان" و"لن تسامحك أبداً"—معاً.

لذا أفتح الباب وأدخل.

تنهي والدتي المكالمة على الفور بضربة ضعيفة من إصبعها، ويتحول وجهها إلى تعبير غريب ومضطرب. نحدق في بعضنا البعض: كلانا محاصر في هذه الجزيرة المسورة بعقود من المرارة والحقد، مع أشواك هذا الكشف الجديد النابتة حول حوافها الشائكة.

"كذبتِ عليّ." تتشكل الكلمات على شفتيّ، لكنني لست متأكدة إذا كنت قد نطقتها فعلاً أو إذا كنت أفكر فقط في نطقها. " لقد قلتِ لي—"

تقول: - ليس هنا، تيا ، أعطني وقتًا لأكون جاهزة."

- كيف تجرؤين على هذا؟

أصرخ، وأنا أشعر بأنني ممتلئة بأشياء محطمة.

"كيف تجرأت؟ تيا، من فضلك."

تتظاهر بالهدوء، وتبتعد بنظراتها. ثم تقول :

- كل شيء كان لحمايتك ، مستقبلك كان ...

"توقفي!"

تتزايد الأشياء المحطمة بداخلي، مملوءة بصوت صاخب. يرتفع الصوت من حلقي إلى فمي، وأجبر على إدخال قبضة يدي لأختنق بها. في الصمت، يتناغم تنفسي.

تلتفت أمي لتنظر إليّ قائلة :

"في بعض الأحيان، تيا"،  "نلجأ إلى قارب النجاة من الأكاذيب لإنقاذ أنفسنا من الغرق. كنتِ تغرقين. وما زلتِ تكافحين للحفاظ على رأسك فوق الماء بعد كل هذه السنوات. هل يعرف زوجك عن علاقتك ببوما؟"

يصمت كل شيء حولنا. أختبئ تحت التوقف المتقطع لجهازٍ وقلبٍ يخفق بقوة.

" لا تظني أنني لم ألاحظ أنك توقفت لزيارته قبل مجيئك إلى هنا."

أقول عندما أستعيد قدرتي على الكلام.

"زواجي ليس من شأنك"،

تغلق عينيها، متجاهلة إياي.

"سيكون والدك في اجتماع عمل يوم الأربعاء القادم. يمكننا التحدث حينها."

يظهر والدي فجأة من الباب، وكأنه قد استُدعي، وهو يحمل حقيبة ورقية مليئة بالأدوية. يتوقف عند طرف سرير أمي، يلتقط أنفاسه. "هل كل شيء على ما يرام مع بناتي؟" ينظر إلى الكتاب الذي كانت أمي تقرأه وكأننا نقشنا حالة عقولنا الجماعية على غلافه الأزرق الفخم. "كيف حالكما؟"

أقول، وأنا أشعر أن دقات قلبى تقرع أذني بشدة:

- أحتاج للعودة إلى لاجوس.

يسأل والدي:

- الآن؟

- ستعود يوم الأربعاء.

تقول أمي ذلك ، وابتسامتها البائسة منحنية بشكل غير مستقر وتغوص في الفراغ الهزيل في خدها. لقد رتبت وجهها في حالة من التمرد المتحكم فيه لأنها تعلم أنني لا أملك خيارًا. إنها محقة تجعلني أرغب في الصراخ. يتصاعد شيء لاذع في داخلي، وبينما أبتعد، قررت العودة مرة أخيرة لسماع ما لديها لتقوله، وبعد ذلك، سأقيم لها جنازة بائسة في مقبرة قلبي.

سيكون يوم الأربعاء هو نهايتنا.

(الخاتمة)

***

............................

* المقتطف اعلاه من رواية "وهكذا أزأر" للكاتبة آبي دارِي. دارِي هي مؤلفة كتاب "الفتاة ذات الصوت المرتفع"، الذي كان من الكتب الأكثر مبيعًا في قائمة نيويورك تايمز، واختير كواحد من كتب نادي القراءة #ReadWithJenna في برنامج "توداي شو"، وأحد اختيارات "إندي نكست". نشأت الكاتبة آبي دارِي في لاجوس، نيجيريا، ودرست القانون في جامعة ولفرهامبتون، كما حصلت على ماجستير العلوم في إدارة المشاريع الدولية من جامعة جلاسكو كالدونيان، وماجستير في الكتابة الإبداعية من بيركبيك، جامعة لندن. تعيش حاليًا في إسيكس، المملكة المتحدة.

المؤلفة: أبي داري هي مؤلفة كتاب الفتاة ذات الصوت العالي، الذي كان من أكثر الكتب مبيعًا في صحيفة نيويورك تايمز. نشأت في لاجوس، نيجيريا، ثم تابعت دراستها للقانون في جامعة ولفرهامبتون وحصلت على ماجستير في إدارة المشاريع الدولية من جامعة جلاسكو كالدونيان بالإضافة إلى ماجستير في الكتابة الإبداعية في بيركبيك، جامعة لندن. تعيش أبي في إسيكس، المملكة المتحدة مع زوجها وابنتيها، الذين ألهموها لكتابة روايتها الأولى.

 

بقلم: فرهاد شاكلي

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

(1) صوت

أتسمعين صوت فؤادي؟

إنه أشبه بالآذان

وهو يمور في مئذنة

أحد المساجد القديمة..

إنه (بلال) عشق هذا الدهر..

بعيدا،

تسمع خشخشة السلاسل

وهي تصطك،

وصليل وقع الاسياف

في بدحة روحي،

وقد ترادفت عليها

الاسقام.

***

(2) أصابعك الزجاجية

ارسلي بنانك الزجاجية هذه

فوق قلبي

ليشتعل هذا السراج

الصغير،

فينبعث نوره،

جاعلا من سوق

الزجاج

في هذه المدينة

طودا للشعاع.

***

(3) ربما مرة

أعوام.. مرت

أنشد فيها السعادة

أترقب الحب

ربما يقبل

ليفتح نافذة ما

في هذه القلعة..

لينصب شبكة

في هذه الاجمة

ليوقع بسمكة

روحي

البيضاء !!

***

(4) في هذا الجحيم

أنتظر أحدهم

ليأتي،

حاملا نبأ موتي..

ربما وجدت موضع قبر

خلف السور

القشيب

لهذه الأرض

السبخة،

لأرمس فيه

هذا الملك

المحنط

منذ أيام ما قبل التاريخ..

ربما تنزاح عني هذه الحيطان

والاسوار..

أعوام مضت

وأنا أتعفن في هذا الجحيم !!

***

(5) شمس العشق

لو همست باسمك

في اذن الدجنة

لأتقد الأفق

جاعلا من أطراف

الكون الاربعة

مواقع شروق..

عندما يمر اسمك

من خلال فؤادي

تنبلج شمس العشق

في سماء وجودي

وعدمي!!

***

(6) أودع قلبي أربعينية الشتاء

إن بنانك

لهي أنهر حلم

صيفي...

قولي:

متى تقبلين؟

ليستفتح هذا الموسم

الذي يكتنفه الضباب

أودع قلبي أربعينية

الشتاء

لتظل المواسم الأربعة

تحلم بمجيئك

وغيابك !!

***

(7) صمت الحجر

أين أبحث عن حرية

روحي؟

كيف أجد الغابة

التي أسرت فيها نفسي؟

أقرأ صمت الحجر

في كتاب الاسرار

وعندما ينبلج الصبح

أصيخ السمع

لنواح

الليل... !!

***

................

- (فرهاد شاكلي): شاعر وباحث وكاتب كردي عراقي مغترب (السويد). ولد في قرية (شا كه ل – كفري – كركوك) في عام 1951. صدر له: مشروع انقلاب سري – شعر، بغداد وأربيل 2000، نهر شعاع من شمس حمراء – شعر، بيروت 1977، طلعة – شعر، اوبسالا، السويد 1981، الوتر – شعر، ستوكهولم 1985 وأربيل 2000، احفر صورتك على جدران زنزانتي – شعر، ستوكهولم 1994 وأربيل 2002، ورائحة العتمة – قصص، ستوكهولم 1997 وأربيل 2000. وله أيضا: القومية الكردية في مم وزين لأحمدي خاني – دراسة منشورة باللغات: الإنكليزية 1983 و1992 والسويدية 1985 والعربية 1995 والتركية 1996. والنثر الفني الكردي (دراسة) – ترجمها الى التركية (روهان الاكوم) إسطنبول 1988. عن (في مرفأ الشعر) و(من مشكاة الشعر) للمترجم، أربيل – العراق 2001 و2002.

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

(1) الروائح والرنات

حكاية شعبية يابانية

يحب أهل ييدو الثعابين المشوية كثيراً. ذات يوم، كان هناك تاجر ثري يُدعى كيسابورو، معروف ببخله الشديد، انتقل إلى منزل بجوار محل لرجل يُدعى كيتشيبى، الذي كان يصطاد ويطبخ ثعابين الأنقليس لكسب رزقه. كان السيد كيتشيبى يصطاد بضاعته ليلاً، ويقدمها في النهار لزبائنه وهي ساخنة ومُدخنة. تُقطع ثعابين الأنقليس إلى قطع بطول ثلاث أو أربع بوصات، وتوضع لتُشوى على شبك حديدي فوق فحم أحمر حار، حيث  كان يُبقيه متوهجاً عن طريق التهوية المستمرة.

كان كيسابورو راغبًا في توفير المال، وكان يتمتع بخيال قوي، فكان يجلس كل يوم وقت تناول الطعام بالقرب من باب جاره. كان يأكل أرزه المسلوق، ويستنشق روائح الثعابين المشوية، وهي تنبعث من المنزل، وكان يستمتع بأنفه بكل ما لم يكن ليدفع ثمنه ليضعه في فمه. وبهذه الطريقة، وبينما كان يمدح نفسه، كان يوفر الكثير من المال، وكان صندوقه القوي يزداد ثقلًا يومًا بعد يوم.

وعندما اكتشف كيشيبي، صائد الثعابين، هذا الأمر، فكر في أن يفرض على جاره البخيل ثمن رائحة ثعابينه. لذا، قام بإخراج فاتورته وقدمها إلى كيسابورو، الذي بدا مسرورًا للغاية. ونادى على زوجته لإحضار صندوق نقوده المحكم الغلق، وهو ما تم بالفعل. وبعد أن أفرغ الكتلة اللامعة من الكوبان (قطع ذهبية بيضاوية، تساوي خمسة أو ستة دولارات)، والإيتشي-بو والني-بو (قطع فضية مربعة، تساوي ربع دولار ونصف على التوالي)، وجعل القطع تصدر رنينًا عاليًا، ثم لمس فاتورة بائع الأنقليس بمروحة، وانحنى بعمق وقال بابتسامة:

" حسنًا، أيها الجار كيتشيبى، لقد أصبحنا متساويين الآن."

بائع الأنقليس: "ماذا! ألن تدفع لي؟"

فأجابه: "بلى، لقد دفعت لك. لقد فرضت عليّ رسومًا على رائحة ثعابين الأنقليس الخاصة بك، وأنا دفعت لك برنات نقودي."

(تمت)

***

(2) لا يقطع الماس سوى الماس

حكاية شعبية تايلاندية

ذات يوم كان هناك رجل فقير أراد زيارة قريب مريض في مدينة أخرى. كانت المدينة الأخرى على بعد يوم واحد سيرًا على الأقدام، لذا أعطته زوجته قطعة أرز ليأكلها في الطريق. ولأن أسرته فقيرة، لم يكن بمقدوره أن يأخذ الكاري أو الحساء ليأكله مع الأرز.

كان الرجل الفقير يمر بالصدفة أمام منزل أحد أصحاب الملايين، وكان طباخه يعد الكاري للغداء. كانت رائحة الكاري لطيفة للغاية لدرجة أنها جعلت الرجل الفقير يشعر بالجوع. جلس على الفور تحت شجرة وأخرج أرزه وبدأ في الأكل. تخيل أنه يأكل أرزه مع الكاري. كانت رائحة الكاري طيبة للغاية لدرجة أنه أكل كل الأرز. عادة، كان من الصعب جدًا عليه أن يبلع الأرز بدون كاري أو حساء.

وبعد أن انتهى من وجبته ذهب إلى مطبخ المليونير ليطلب من الطاهية شربة ماء وقبل أن يودعها أثنى على الطاهية وقال لها إنها طاهية ماهرة بكل تأكيد لأن الكاري الذي تعده له له رائحة طيبة وقال لها إنه يستطيع أن يأكل كل أرزه بدون كاري أو حساء بفضل الرائحة ففرحت الطاهية كثيرا لسماع ذلك وشكرها ثم تابع طريقه.

ابتسمت الطاهية وأخذت الكاري لتقدمه لسيدها. ولدهشتها، تذوق المليونير الكاري وشكا من أنها أعدت الكاري بشكل سيئ. كانت الطاهية خائفة من العقاب، لذلك أخبرته أن الكاري أصبح بلا طعم لأن رائحته قد سرقها الرجل الفقير الذي كان يمر بجوارها بالصدفة.

غضب المليونير البخيل غضباً شديداً عندما سمع ذلك، فأمر خدمه بإحضار الرجل الفقير إليه وطلب منه أن يحكي له قصته،اعترف الرجل البريء بأنه أخذ بعضًا من رائحة الكاري اللذيذة دون إذن. فطالب المليونير بتعويض من الرجل الفقير. كان الرجل الفقير مترددًا في الدفع، إذ لم يكن يمتلك سوى عملة صغيرة واحدة وكان لا يزال مضطرًا للسفر مسافة طويلة لزيارة قريبه المريض، وربما يحتاج لاستخدامها.

قام المليونير باعتقال الرجل الفقير وأخذه ليحاكم أمام زعيم القرية. بعد أن سمع القصة كاملة، أمر زعيم القرية خادمه بإحضار وعاء من الماء. ثم سأل الرجل الفقير كم من المال لديه. فأخبره الرجل الفقير بأنه فقير للغاية ولا يملك سوى عملة واحدة ليستخدمها إذا لزم الأمر أثناء السفر.

ثم أخبر زعيم القرية الرجل الفقير بأن يضع تلك العملة في وعاء الماء. كان المليونير البخيل سعيدًا جدًا، لأنه اعتقد أنه سيحصل على العملة مقابل رائحة الكاري.

قال المليونير بابتسامة عريضة: "شكرًا جزيلاً لك يا رئيس القرية. لقد أصدرت حكمًا عادلاً. لهذا السبب يحترمك جميع الناس كثيرًا".

مد المليونير يده بسرعة ليأخذ العملة المعدنية من وعاء الماء، لكن رئيس القرية استعاد وعاء الماء فجأة وأمر الرجل الفقير باستعادة عملته المعدنية.

قال زعيم القرية: "حسنًا! هذا الرجل أخذ رائحة الكاري اللذيذة الخاصة بك، والآن يمكنك أن تأخذ ماء عملته كتعويض عن خسارتك.

ثم أكد  زعيم القرية ذلك للمليونير، الذي شحب وجهه فجأة: ولكن يُسمح لك بأخذ الماء فقط، ولا تأخذ الوعاء لأنه ملكي."

(تمت)

***

 

قصة: خوان رولفو

(ترجمها عن الإسبانية: دوجلاس ويذرفورد)

ترجمها (عن الانجليزية)

د.محمد عبدالحليم غنيم

***

الأمور هنا تتدهور من سيئ إلى أسوأ. في الأسبوع الماضي، توفيت عمتي جاسينتا، ثم يوم السبت، بعد أن دفنّاها وبدأ الحزن يهدأ قليلا، بدأت الأمطار تهطل كما لم تهطل من قبل. أغضب ذلك أبي بشدة لأن محصول الشعير بأكمله كان مفروشًا في الشمس ليجف. جاءت العاصفة بسرعة، وأسقطت أمواجًا هائلة من الماء، ولم تترك لنا أي وقت لجمع حتى قبضة صغيرة. كل ما تمكنا من فعله، نحن جميعًا في المنزل، هو أن نتجمع معًا تحت السقيفة ومشاهدة الماء المتجمد يتساقط من السماء، ليحرق ذلك الشعير الأصفر المقطوع حديثًا.

ثم البارحة، بعدما بلغت أختي تاتشا الثانية عشرة من عمرها، علمنا أن النهر قد جرف البقرة التي أهداها لها والدي بمناسبة عيد قديسها.

بدأ النهر في الارتفاع قبل ثلاث ليالٍ، في وقت مبكر من الصباح. كنت نائمًا بعمق، لكن الضجيج الذي أحدثه النهر وهو يجرف كل شيء في طريقه أيقظني فجأة، وجعلني أقفز من السرير وما زلت ممسكًا ببطانيتي، كأنني تخيلت أن سقف البيت قد انهار. لكنني عدت إلى النوم عندما تعرفت على صوت النهر، وقد بدأ ذلك الصوت يصبح أكثر هدوءًا حتى غمرني في نوم هادئ مرة أخرى.

عندما استيقظت، كان الصباح مليئًا بالغيوم الثقيلة، وكان يبدو أن المطر لم يتوقف على الإطلاق. كان يمكن أن تلاحظ أن صوت النهر كان أقوى وأقرب، وكان رائحته كريهة، مثل رائحة شيء يحترق، مثل الماء الحامض الذي تم تقليبه.

عندما ذهبت لألقي نظرة، كان النهر قد فاض عن ضفتيه. شيئًا فشيئًا، كانت المياه تتقدم على الطريق الرئيسي، وسرعان ما بدأت تتدفق إلى منزل تلك المرأة التي يطلقون عليها لا تامبورا. كان بالإمكان سماع صوت المياه وهي تتناثر بينما تدخل عبر الساحة الخلفية وتخرج في فيضانات ضخمة من الباب الأمامي. كانت لا تامبورا تسير ذهابًا وإيابًا عبر ما أصبح الآن جزءًا من النهر، ترمي دجاجاتها إلى الشارع حتى تتمكن من العثور على مكان للاختباء حيث لا يصل إليها التيار.

على الجانب الآخر، عند المنعطف، لا بد أن النهر قد جرف شجرة التمر الهندي من ساحة عمتي خاسينتا، لا أحد يعلم متى، إذ لم تعد هناك شجرة تمر هندي تُرى فى المشهد. كانت الشجرة الوحيدة في البلدة، ولهذا يعتقد الناس أن الفيضانات التي نشهدها الآن هي الأكبر التي اجتاحت النهر منذ سنوات.

خرجت أنا وأختي مرة أخرى بعد الظهر لنراقب كتلة المياه التي تزداد كثافةً وظلمةً، والتي تمر الآن فوق المكان الذي ينبغي أن يكون فيه الجسر. جلسنا هناك نراقبها لساعات طويلة دون أن نشعر بالتعب. بعد ذلك، تسلقنا الجرف على أمل أن نسمع ما يقوله الناس، لأن هناك في الأسفل، بجوار النهر، الضجيج شديد لدرجة أنك ترى أفواهًا تتحرك وكأنها تحاول قول شيء، لكنك لا تسمع شيئًا. لهذا صعدنا إلى قمة هذا الوادي، حيث يجتمع آخرون لمشاهدة النهر والتحدث عن كل الأضرار التي أحدثها. وهناك عرفنا أن النهر قد جرف "لا سيربنتينا"، بقرة أختي تاتشا، تلك التي أهداها لها والدي في عيد ميلادها، وكانت لها أذن بيضاء والأخرى حمراء وعينان جميلتان.

لا أستطيع أن أفهم لماذا قررت "لا سيربنتينا" أن تعبر النهر، وهي تعرف أنه ليس نفس النهر الذي تعودت عليه في معظم الأيام. لم تكن "لا سيربنتينا" غبية إلى هذا الحد. لا بد أنها كانت نائمة حين سمحت لنفسها أن تُقتل هكذا دون أي سبب. في مرات عديدة كان عليّ أن أوقظها بعد فتح الزريبة، وإلا كانت ستقضي اليوم كله هناك وعيناها مغلقتان، مسترخيةً تتنهد، تمامًا كما تسمع البقر يتنهد وهو نائم.

لا بد أن هذا ما حدث، أنها نامت. ربما فكرت أن تستيقظ عندما شعرت بالمياه الثقيلة تضرب أضلاعها. ربما خافت وحاولت العودة إلى المنزل، ولكن عندما التفتت وجدت نفسها ضائعة ومغمورة في تلك المياه السوداء التي كانت كثيفة مثل الرمال المتحركة. ربما صرخت طالبة المساعدة.

ربما صرخت بصوت لا يعلمه إلا الله.

سألت رجلاً كان يشاهد النهر وهو يجرفها بعيدًا إن كان قد رأى أيضًا العجل الصغير الذي كان معها، لكنه قال إنه لم يكن متأكدًا مما إذا كان قد رآه. كل ما استطاع قوله هو أن بقرة مرقطة طفت بالقرب منه، وأرجلها في الهواء، وانقلبت هناك، ثم لم يرَ بعدها قرونًا أو حوافر أو أي علامة أخرى على وجود أي بقرة. كانت جذوع الأشجار تتدحرج في النهر بأعداد كبيرة، بجذورها وكل شيء، وكان الرجل مشغولاً بجمع الحطب لدرجة أنه لم يكن ينتبه إلى ما إذا كانت جذوع الأشجار أو الحيوانات هي التي كانت تُجر معها.

لهذا لا نعرف إذا كان العجل لا يزال حيًا، أو إذا كان قد تبع أمه إلى أسفل النهر. إذا كان هذا ما حدث، فليعينهما الله.

ما يثير قلق الجميع في المنزل هو ما سيحدث غدًا بعد أن أصبحت أختي تاتشا بلا شيء. لأن والدي عمل بجد ليحصل على "لا سيربنتينا" عندما كانت لا تزال عجلاً صغيرًا ويهديها لأختي، حتى يكون لديها رأس مال صغير خاص بها ؛ فلا تصبح عاهرة مثل أختيّ الأخريين، الأكبر سنًا.

بحسب والدي، فقد فسدتا لأننا كنا فقراء جدًا في منزلنا، ولأنهما كانتا غير منضبطتين. حتى عندما كانتا صغيرتين، لقد كانتا عنيدتين. وبمجرد أن كبرتا، بدأتا في الاختلاط بأسوأ أنواع الرجال، الذين علموهما أشياء سيئة. تعلمتا بسرعة كبيرة وسرعان ما تعودتا على سماع الصفير الذي كان يستدعيهما في وقت متأخر من الليل. لاحقًا، كانتا تخرجان حتى في وضح النهار. كانتا دائمًا تتوجهان إلى النهر لجلب الماء، وأحيانًا، في لحظة غير متوقعة، كانتا تتدحرجان على الأرض في الزريبة، عاريتين تمامًا، كل واحدة مع رجل مستلقٍ فوقها.

في تلك اللحظة، طردهما والدي. في البداية، حاول أن يتحملهما، لكنه مع مرور الوقت لم يعد يحتمل، فألقاهما في الشارع. غادرتا إلى أيوتلا، أو إلى مكان آخر، لا أعرف، لكنهما تمارسان البغاء.

لهذا السبب، والدي قلق للغاية الآن على تاتشا، ولا يريد أن يحدث لها ما حدث لأختيها الأخريين إذا أدركت مدى فقرها بعد فقدان بقرتها، وكيف أنه لن يكون هناك شيء يشغلها بينما تكبر وتتمكن من الزواج برجل محترم يحبها للأبد. كل ذلك سيكون صعبًا الآن. مع البقرة، كان كل شيء مختلفًا، إذ كان هناك من يرغب في الزواج منها، ولو فقط للحصول على تلك البقرة الجميلة أيضًا.

الأمل الوحيد الذي تبقى لدينا هو إذا كان العجل لا يزال حيًا. نصلي لله ألا يكون قد خطر بباله أن يتبع أمه إلى النهر. لأنه إذا فعل ذلك، فإن أختي تاتشا على وشك أن تصبح عاهرة. وهذا ليس ما تريده أمي.

أمي لا تعرف لماذا عاقبها الله كثيرًا بأن منحها بنات كهؤلاء، في حين أنه في عائلتها، من جدتها وما بعدها، لم يكن هناك شخص سيء أبدًا. لقد نشأن كلهن على مخافة الله وكانوا مطيعين تمامًا، ولم يكن لأي منهن أن تتصرف بعدم احترام. كل واحدة منهن كانت كذلك. من يعرف من أين تعلمت هاتان الابنتان مثل هذا السلوك السيئ؟ لا تستطيع أن تتذكر. تدور في ذكرياتها ولا تستطيع أن تعرف أين أخطأت أو أي ذنب ارتكبته لتلد واحدة تلو الأخرى بنفس العادة السيئة. لا تستطيع أن تتذكر. وكلما فكرت فيهن، تبكي وتقول: "ليساعدهن الله كلاهما".

لكن والدي يعتقد أنه لا يوجد علاج لأي من هذا. من هي في خطر هي تلك التي لا تزال في المنزل، تاتشا، التي تستمر في النمو مثل غصن صنوبر "أوكوتي"، والتي بدأ ثدياها بالظهور، وهما يعدان بأن يكونا مثل ثديي أختيها: مدببين ومتينين، ولكن مع القليل من الاهتزاز الذي يلفت الانتباه إليها.

يقول:

- نعم ، ستلفت الأنظار أينما ذهبت. والأمور ستسوء؛ كما أرى، هذا سيؤدي إلى نتائج سيئة.

وهذا ما يجعل والدي قلقًا للغاية.

وتبكي تاتشا عندما تدرك أن بقرتها لن تعود إلى المنزل لأن النهر قد قتلها. إنها هنا، بجواري، ترتدي فستانها الوردي، وتنظر إلى النهر من أعلى الجرف، غير قادرة على التوقف عن البكاء. تتدفق تيارات من المياه القذرة على وجهها كما لو أن النهر شق طريقه إلى داخلها.

أحتضنها بقوة على أمل مواساتها لكنها لا تفهم. تبكي بصوت أعلى. يخرج من فمها صوت يشبه صوت النهر وهو يصطدم بضفتيه،مما يجعلها ترتجف وتنتفض بالكامل، بينما يستمر الماء في الارتفاع. وطعم التحلل القادم من النهر يتطاير على وجه تاتشا المبلل، وتتحرك ثدياها الصغيران لأعلى ولأسفل بلا توقف، كما لو أنهما قد بدآ للتو في الامتلاء، ويقودانها نحو الهلاك.

(تمت)

***

......................

أعلاه مجموعة قصص خوان رولفو بعنوان "السهل المحترق". كان رولفو (1917-1986) أحد أبرز مؤلفي المكسيك في القرن العشرين ورائدًا مهمًا في "الواقعية السحرية" في الكتابة في أمريكا اللاتينية. حصل رولفو على جائزة المكسيك الوطنية للأدب (Premio Nacional de Literatura) في عام 1970، وانتُخب لعضوية الأكاديمية المكسيكية للغات (Academia Mexicana de la Lengua) في عام 1980، وحصل على جائزة ثيربانتس (Premio Cervantes)، وهي أعلى جائزة أدبية باللغة الإسبانية، في عام 1985.

* سبق أن ترجمت هذه القصة عن الإسبانية مباشرة عام 2002 ، بعنوان: (فقراء لحد الضياع) حيث قام بالترجمة الدكتور على عبدالرؤوف البمبى ، أما ترجمتى اليوم عن الانجليزية فآمل أن تستحق ما بذل فيها من جهد وتدقيق .

** من كتاب السهل المحترق لخوان رولفو، ترجمة دوجلاس ويذرفورد. تم استخدامها بإذن من الناشر، مطبعة جامعة تكساس. حقوق الطبع والنشر للترجمة © 2024 لدوجلاس ويذرفورد.

الكاتب: خوان رولفو (بالإسبانية: Juan Rulfo)‏ يعد الكاتب المكسيكي الأشهر والأب الروحي للواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية. ولد في سايولا (المكسيك) في 16 مايو 1917. وتوفي في مدينة مكسيكو في 8 يناير 1986.وهذه القصة (لأننا فقراء جدًا ) من مجموعته القصصية المعروفة: السهل المحترق .

المترجم: دوجلاس ج. ويذرفورد، أستاذ الأدب والسينما الإسبانية في جامعة بريجهام يونج، قد نشر بشكل واسع عن خوان رولفو، مع التركيز الخاص على علاقة الكاتب بالسينما. في عام 2017، أصدر ويذرفورد أول ترجمة إنجليزية لرواية رولفو الثانية، El gallo de oro (الديك الذهبي وأعمال أخرى، دار ديب فيلوم).

 

بقلم: إيشغول سافاش

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

أقمت في إسطنبول لعدة أيام لزيارة جدي. وأقام فيها ليكون مع والدي في بداية الجائحة، فقد خاف أن يتركه وحيدا، في مدينة البحر الأسود، مكان تقاعده. وألححنا عليه أن يأتي إلى المدينة، فقط لوقت محدود. وكان قرارا حكيما، فقد تدهورت صحته بسرعة في تلك الشهور، وأصبح مكوثه معنا غير مضمون. ولم يعد بمقدوره الخروج بنزهة طويلة كعادته، أو أن يبقى واقفا لفترات مطولة. كان جدي ينفق دائما نهاراته في الخارج. وإذا جاء الى اسطنبول، يستقل حافلات أو عبارات المدينة، وأحيانا يصل إلى أبواب المدينة. ويتنقل في أرجاء البلاد وينام في خيمة. ويمكث في قرى جبلية ويدعو نفسه لطعام الإفطار في بيوت السكان المحليين. كان يحب هذه التصرفات - مقابلة الغرباء، والتعرف على مختلف أنواع الحياة. وغالبا ما يحثنا، نحن أحفاده، لننضم إليه. وعرض علينا صور الناس الذين التقاهم في هذه الرحلات، والذين احتفظ بالتواصل معهم. في إحدى المرات، حينما كنت أتناول فطوري معه في مقهى بحري في إسطنبول، اتصل به، بواسطة الفيديو، صبي يبلغ العاشرة أو الحادية عشرة وتمنى له عطلة طيبة. 

قال له الولد:"تفضل ثانية وبأسرع وقت لزيارتنا يا جدي". عشت أنا وأبناء أعمامي في الخارج، ووجدنا صعوبة لتوفير وقت الرحلات والسفر، وكانت زياراتنا لموطننا مختصرة لرؤية ما أمكن من المعارف بأقصر وقت. ولكننا كنا نفتخر بجدنا - بروحه الشابة وبإقباله على المخاطر.  وربما كان هذا يعنينا، وكأنه هوية عائلية تميزنا جميعا. منذ وصولي زرت الأقارب والصديقات، وذهبت أيضا إلى البوسفور، ومودا، وجيهانجير - وهي زيارات تفضي إلى زيارات مماثلة، ولكن لم أستمتع بها كالسابق. كانت الأحياء تتبدل بسرعة خلال رحلاتي، وازدحمت جدا. وامتلأت المدينة لدرجة لا تصدق، واحتلها السياح - ترى تيارا غزيرا من الناس يتنقلون ببطء، ويحاصرون كل شيء. وكنت أشعر بالنفور، واشتقت للمدينة التي نشأت فيها. اتصلت بجدي هاتفيا في الليلة السابقة لأخبره بموعد زيارتي في مساء اليوم التالي. سألني لماذا لم أتصل من قبل لنجتمع مباشرة ونحضر وجباتنا معا طيلة فترة الزيارة. حين سافرت عقد والدي عزمه على المغادرة. فقد كانت لديه واجبات، كما أخبرني، بالإضافة إلى ذلك، فضل أن ينفرد بعض الوقت معي، عوضا عن أن يراني برفقة جدي. لم يعجبني ذلك، ولكن شعرت أن تدابير الحياة بدأت تفعل فعلها. ولم يعد من المقبول أن يعود جدي إلى بلدته الصغيرة. طبعا لم يذكر والدي شيئا من ذلك، ولكن توقعته من حواراتنا بالهاتف وأنه يميل للخروج أكثر. لاحقا في تلك الأمسية قابلته لشرب القهوة، قبل أن أذهب إلى بيت أمي لتناول العشاء مع خالاتي.  كانت حياة البيت مرهقة، فأنت تشعرين بالتمزق بين الواجبات التي يفرضها ظرف عائلتنا المبعثرة. استقليت سيارة الأجرة حينما اتصل جدي ليستفسر أين أنا.

قلت له:"أنا بطريقي. ولكن أحتاج لوقت لأصل". تخيلت نفاد صبره. لا بد أنه ارتدى ثيابه واستعد منذ ساعات. وهو ينظر الآن من النافذة، يستطلع ساعة وصولي. اتصل ثانية حينما كانت سيارة الأجرة تعبر الجسر. ونسي أن يخبرني أن الجرس في الأسفل لا يعمل دائما، ولذلك يجب أن أضغط بقوة. ثم خابرني مرة ثالثة ليقول إنه علي أن أتصل حينما أقترب.

قلت بقليل من العصبية:"جدي. سنلتقي حالا".

عند الباب، استقبلتني امرأة وظفها والدي لتكون مدبرة منزل بعد إقامة جدي.  قابلتها مرة من قبل، ويحضر في ذهني الآن أنها جورجية، ولكن لم أتذكر اسمها مباشرة. قالت:"الجد قليل الصبر جدا اليوم". وكانت تتكلم بالتركية مع لكنة ثقيلة، وتؤكد على الكلمات بأسلوب غير مألوف،  ولكن رأيت أن تمكنها من اللغة أمر مذهل.

تخليت عن حذائي ومعطفي، ثم ذهبت إلى غرفة الجلوس، حيث جلس جدي في كرسي بذراعين. حاول أن ينهض، ولكنني أوعزت له أن لا يتعب نفسه، وقبلت خديه. كان متعبا جدا، وكسرات صغيرة من الخبز ملتصقة بجبينه. وكان لا يزال ببذة من ثلاث قطع وربطة عنق، وبلا شك ارتداها على شرفي. قلت:"انظر لنفسك. انظروا لهذا السيد الأنيق".  جلست قبالته، وأنا أعد أيامي الأولى في إسطنبول، والأشخاص الذين قابلتهم حتى الآن. أخبرته أن أمي حضرت له طبقا من لحم الحملان حال وصولي.

قال جدي:"لم تكلف نفسها بزيارتي أبدا. ولم تدعوني أيضا منذ إقامتي هنا".

أسعدني أن والدتي ليست موجودة لتسمع هذا الكلام. شعرت بالغضب في الحال، وأحزنتني رغبة جدي أن يكون ضيفا على كنته السابقة.

قلت له:"إنها تعمل. ولا تملك دقيقة فراغ لنفسها". ولم أكن جاهزة لأشرح له أن أمي لا ترغب برؤية عائلة أبي، ناهيك عن خدمتهم.

كانت قطيفان - الآن تذكرت اسمها - واقفة بالباب، وسألتنا متى نود أن نتناول طعامنا. أخبرتها أنني لست جائعة جدا. فقط أود أن أسكب لنفسي كأسا من الشاي.  وإذا رغب جدي بشيء، يمكنني أن أحضر له صينية. ولكن حالما نطقت بهذا الكلام، لاحظت أن طاولة الطعام أصبحت جاهزة كأنها حفلة أول السنة الجديدة، وكان يغطيها خوان أبيض وفوط حمراء، مع إناء يحتوي على زهور القرنفل. قال جدي:"طبعا أنت مزمعة على تناول الطعام معنا. سوف نأكل معا".

شخص آخر ظهر وراء قطيفان، بنت مراهقة، ربما بالخامسة عشر من عمرها. قال جدي:"الأميرة الصغيرة هنا".

مع أن الطاولة مجهزة لأربعة، كررت قطيفان إنها هي وناتيلا - ابنتها - ستتناولان الطعام في المطبخ. قلت لها:"من فضلك جالسينا". وفي نفس الوقت، أزعجني أن جدي وضع هذه الخطة ودفع المرأة للطهي وطلب منها أن نجتمع معا على الطعام. قلت لنفسي بالتأكيد تفضل الأم والابنة الاهتمام بنفسيهما.

قال جدي:"طلبت منها أن تعد طبقها المفضل من أجلك".

أشار لي لأعينه على النهوض، مشينا خطوة خطوة نحو الطاولة، وأحكم وضع يده على ذراعي.  وثانية باغتني ضعفه، ولم أكن جاهزة لتقبل ذلك، كما لو أن ذاته الكهلة كانت مختبئة بانتظار هذه الزيارة لتعلن عن نفسها. وسيطر علي شعور غير عاقل أن ما أرى هو مجرد طور انتقالي فقط، وسرعان ما يستعيد نشاطه.  لم أكن مرتاحة للجلوس على الطاولة بينما قطيفان وناتيلا تأتيان بالأطباق، ولذلك ذهبت للمساعدة. في المطبخ وجدت صينية من الخبز الذهبي، وسلطة من الجزر المفروم مع شرائح الفاكهة. قلت لقطيفان:"هذا كثير. ما كان عليك ذلك".

هزت رأسها، وابتسمت لي، ثم مدت يدها بصحن طعام لأحمله.

سألت ناتيلا ونحن نتناول غداءنا عدة أسئلة، وترجمت أمها الأجوبة. وصلت إلى إسطنبول قبل ثلاثة شهور، وحاليا تعمل في مكتب في الجهة المقابلة من الشارع. ويمكنها فعليا أن تفهم الكثير من كلامنا، ولكنها حتى الآن تخجل أن ترد باللسان التركي.

سألت:"ما طبيعة عملك في المكتب؟". أخبرتني أمها أنه غالبا التنظيف والطهي. لم تكن ناتالي شابة كما توقعت - وإنما انتهت من المدرسة الثانوية في عامها السابق. 

سألتها:"هل تحبين إسطنبول؟".

نفضت ناتيلا كتفيها، وقالت شيئا لأمها، ثم قالت بالإنكليزية "أحب ساحة تقسيم. ولكن ماما لا تهواها".

قلت لها:"لغتك الإنكليزية جيدة جدا". وكررت نفس الكلام بالتركية لقطيفان. فانحنت لي باعتزاز. وقالت إن تقسيم مكان رديء. ولا أحد يعلم أصل الناس الذين يتسكعون هناك.

كانت ناتيلا ترتدي ثوبا أسود ضيقا. وله أساور عند  معصميها. وتحت كوعها الأيسر وشم صغير بشكل عصفور. قلت لنفسي إنها صغيرة، ولكنها تتعجل سن النضج. وأستطيع أن أفهم إقبالها على رغباتها، وميولها للتحرر. في الصيف الذي أنهيت فيه مدرستي، خرجت للتجول في ساحة تقسيم مع صديقاتي المعتادات، وعدنا في وقت متأخر من الليل إلى البيت.  وحصلت على قبول من جامعة أجنبية ذات سمعة محترمة، وسمحت لنفسي بكل النزوات التي لم يكبتها والداي. أسفت لناتيلا، لأنه يتوجب عليها أن تلتزم بنا. لا بد أن هذا يضجرها جدا.

قلت:"لماذا لا تذهب بالحال؟ اليوم بأوله وهي بعطلة".

قالت قطيفان:"إذا أردت الانصراف يمكنك أن تذهبي".

لامست ناتيلا ذراع أمها بوجهها وقالت:"لقد جهزنا الكيك".

انتبهت لاحقا أنها لا تزال طفلة. سألت قطيفان:"هل شبع ابننا؟". وقدمت إلى جدي لفافة إضافية، ثم سكبت له المزيد من السلطة الملونة.

قالت:"حينما يكون والدك موجودا تصبح حمية جدك شديدة. لا حلويات، لا خبز. ولحم يكفي العصافير. ولكن ابننا شره للطعام. دعيه يمتع نفسه".

قلت:"أفترض ذلك".

أضافت:"ماذا لديه ليهتم به الآن؟". انتبهت لصراحتها وبدلت الموضوع بسرعة. ولكن لم يعترض جدي على كلامها. كلما كلمته بالهاتف كنت أكرر بإلحاح إنه سريعا ما يستعيد عافيته ويخرج للنزهة، وعليه أن يستعد ليراقصني في عرس الأقارب في آيفاليك في الصيف.

باشر جدي بالتهام طبقه الثاني، ونظر ليتأكد أنني آكل. قال:"قيسبان طباخة ماهرة".

صححت له:"قطيفان".

قال:"أنا أسميها قيسبان. وهي قيسبان. واسم الأميرة الصغيرة نيهال".

قلت له:"لا يمكن اختراع أسماء جزافا يا جدي".

قالت قطيفان:"لا مانع لدينا".

أخبرتها أنني زرت جورجيا مرة واحدة، منذ سنوات، مع صديقي.

ردت:"آه".

قلت وأنا أعلم أن كلامي كليشيه:"بلدكم رائع". سمعت هذا الكلام عدة مرات من زوار تركيا، وتوجب علي الاستماع لكلامهم عن محطات معروفة مروا بها. ورغم ذلك عددت لها أسماء الأماكن التي سافرت إليها - تبليسي، باتومي، ورحلة يوم واحد إلى متسكيتا.

قالت قطيفان:"رائع. رحلة جميلة".

سألتها: "متى سافرت إلى بلدك آخر مرة؟".

قالت إنها عادت هي وناتيلا قبل شهور قليلة، حالما رفعت موانع السفر، ولكن واجهتا إجراءات قاسية. وعلاوة على ذلك لم يسمح لها والدي إلا بعطلة لمدة عشر أيام، وهذا يعني حينها أن مدة السفر والحجر الصحي الذي استمر لأسبوع، استهلكا وقت الزيارة. ولم يشاهدا الأقارب إلا بصعوبة، وفي اليوم الذي تحررتا به، حصلتا على باقة زهور لزيارة قبر أم قطيفان. وانتبهت أنني أعلم بهذه الرحلة. فوالدي لم يجد بديلة عن قطيفان خلال غيابها. وتوجب عليه أن يعسكر في البيت، ليساعد جدي. وتذمر على الهاتف بقوله:"ذهبت هكذا وتركتني في هذا الحال. جدك إنسان مستحيل. وهو حرفيا يبحث عن وسيلة ليلحق الضرر بنفسه".

كان صبر والدي محدودا أمام أبيه. وكان يتفجع حينما يهمل جدي أبسط المعايير - ويأكل الحلوى، أو لا يستعمل كلتا يديه ليوازن نفسه حينما ينهض عن كرسيه.

سألت قطيفان:"أين أقمت في زيارتك؟".

قالت:"في بيتنا. مع زوجي وابني". وذكرت لي اسم بلدة، وأومأت برأسي مع أنني لم أسمع بها أبدا. وذكرت أنها بنت بيتها مع زوجها، وهو أمام بيت أهل زوجها، وبينهم شراكة على بستان. أما أخوتها فكانوا يقطنون بالجوار. ولكن تلك الأيام مضت. بسبب عدم وجود عمل لهم. سافر أخوها إلى اسبانيا، وأختها إلى أذربيجان. وحاول ابنها أيضا أن يغادر، لينضم لها ولناتيلا في إسطنبول.  أما أهل زوجها فقد توفوا مؤخرا. وعلى الأقل بقي زوجها للعناية بالبستان. ولديهم العديد من أشجار الفواكه، وهم يزرعون كروم العنب. ولمست ناتيلا وقالت لها شيئا. أحضرت ناتيلا من المطبخ زجاجة بلاستيكية ملفوفة بالسيلوفان. قالت قطيفان:"نبيذ زوجي". أخذت الزجاجة من ابنتها وبدأت تفك الغلاف.

قلت:"آه، لا. عليك شرب ذلك بنفسك. فهو خاص جدا" 

تابعت قطيفان إزالة الغلاف. قال جدي:"أريد أن أتذوقه".

قلت:"جدي. الكحول يضرك. من فضلك لا تشرب".

وقلت لقطيفان:"رجاء لا تفتحيها".

قالت قطيفان:"اليوم يوم خاص".

ألححت:"هذا لطف منك. ولكن لا ضرورة له".

تابعت قطيفان:"إنه يوم خاص. فهو يوم تسجيل ولادة ناتيلا".

كانت حماقة مني أن أفترض أن النبيذ هدية لجدي ولي. وشعرت بالارتباك لأنهما ستمضيان يومهما معنا، وقد حضرا له مطولا.

قلت:" لماذا لم تخبرينا؟". وكررت: بإمكان ناتيلا أن تنصرف، وتنضم لصديقاتها في أي مكان.

وقلت:"هل يوم التسجيل مثل عيد الميلاد؟ وهل تحتفلون به؟".

قالت ناتيلا:"احتفلنا به صباحا. وحضرت ماما الخبز للإفطار. وأشعلنا الشمعة وصلينا. وخابرنا البيت حينما كان الجد نائما".

مجددا شعرت أنني سخيفة لأنني اعتقدت أن كل هذا الطعام تكريما لي. وبدا أن جدي لا يعرف شيئا عن يوم التسجيل، مثلي، وأن قطيفان وناتيلا حرصتا أن يكون مناسبة خاصة.

أحضرت قطيفان أكوابنا الكريستالية من خزانة وراء طاولة الطعام.  وتذكرت أن والدي أحضرا هذه الأكواب أثناء رحلة في سلوفينيا. وكانت من بين عدة أشياء تحولت إلى ذكرى عن انفصالهما المرير. وربما لهذا السبب لم أشاهد والدي يستعملها أبدا. وكذلك أمي تجنبت في معظم الحالات المقتنيات التي كانت تشير إليها باعتزاز.  ملأت قطيفان أكوابنا، حتى منتصفها، لجدي  وأتت ناتيلا بالكيك.

قال جدي:"ممتاز. مطبخهم متنوع جدا".

سألت:"وكيف تقضي التقاليد؟. هل علينا أن نغني أغنية؟".

قالت قطيفان:"نشرب نخبا".

رفعت كأسي وقلت:"نخب يوم تسجيل ناتيلا. أتمنى أن تتحقق كل أحلامها".

كان النبيذ قويا وحلو المذاق.

ثم رفعت قطيفان كأسها. وتكلمت بالجورجية، واستمعت لها ناتيلا باهتمام، ورأسها محني. ثم مجددا ضغطت وجهها على ذراع أمها.

قالت قطيفان:"شربت نخب مستقبلها".

وقالت بالتركية:"مثلك شربت نخب أحلامها. ولذلك يمكننا أن نكون عائلة واحدة، ولا يتوجب علينا أن نحلم بأمور بعيدة". وطبعا كان نخبي عاما، ومفتوحا على كل الاحتمالات. وفوق ذلك ربما تخيلت ناتيلا تحلم بمستقبل في أمريكا أو أوروبا، مستقبل يمكنها به أن ترحل في العالم. وحين كنت بعمرها، رغبت فقط أن أسافر وأن أكون حرة، وأن أبدأ حياتي في مكان آخر.

تابعت قطيفان:"أشرب نخب نهاية تلك الجولات، وأن تنجح بلداننا بحكم نفسها. أشرب نخب شعبنا وأن لا يضطر لمغادرة بلده". 

أنهى جدي كعكته، وبدأ يميل على الطاولة.

قلت له:"جدي. أنت تغط بالنوم". ولمست يده.

قالت قطيفان:"الولد الكبير أكل كثيرا". وضعت كأسها من يدها، وكان لا يزال مليئا. ساعدنا جدي على النهوض، وساعدته على  الانتقال إلى كرسيه ذي المسندين. وهكذا انتهى شرب الأنخاب. بدأت ناتيلا بتجميع الأطباق. وأغلقت غطاء الزجاجة، وحملت الكيك إلى المطبخ.  وما أن جلس جدي حتى أشار إلى الريموت كونترول، ودمدم أن هناك برنامجا على وشك أن يبدأ. كتب والدي رسالة يسأل متى سنلتقي.

قلت لجدي:"سأسمح لك برؤية البرنامج". ولكنه أصر أن أجلس معه. وأهاب بقطيفان، التي تنظف الطاولة، أن تعد الشاي. قالت وربما بقليل من التذمر:"إنها تغلي".

كان البرنامج، مثل كثير غيره، عن شؤون العوائل الكبيرة والغنية. وفي كل مرة تظهر به شخصية على الشاشة، يقدم جدي معلومات عن خلفيات وتاريخ أبنائها غير الشرعيين، والابتزاز واللهو النسائي. وكان من الصعب أن تربط سلسلة العلاقات المعقدة التي كان يعرفها، وكان الموضوع كله يبدو لي بعيدا لدرجة استفزازية.  ومع ذلك كنت مهتمة. بعد تنظيف الطاولة وتقديم الشاي، جاءت ناتيلا أيضا لتشاهد البرنامج.

سألتها:"هل تحبين هذا البرنامج؟".

انتفضت وقالت:"لا أفهم كل شيء فيه".

ابتسمت وقلت:"وأنا لا أفهم كل شيء".

كل خمس عشرة دقيقة يقاطع البرنامج الإعلانات.

قلت لجدي:"حلقة واحدة تستغرق اليوم كله".

قال:"هذا أفضل لي. على الأقل يشغل وقتي".

شعرت بالحزن بعد كلامه العلني. كان علي ترتيب طريقة لإخراجه، وربما ليجلس بمحاذاة البوسفور أو أن يأكل في مطعم. وكان علي أن أغادر قريبا لألتقي مع والدي قبل العشاء. وكنت آمل أن يغط جدي بالنوم لأتمكن من التسلل، ولكنه الآن متيقظ، ويشاهد الإعلانات باهتمام.

قلت وأنا أضع يدي على يده:"جدي  يجب أن أذهب".

قال:"لم العجلة؟".

قلت له لأرى والدي.

قال:"ولماذا لا يأتي إلى البيت؟".

دمدمت:"أعتقد لديه اجتماع".

قال جدي:"حسنا".

قلت:"سأحاول أن آتي ثانية قبل أن أرحل. إن لم أستطع تذكر أن تخطط لرقصتك في يوم العرس".

قال جدي مجددا:"حسنا. انقلي تحياتي لأمك".

فاجأني وداعه الرسمي، كما لو أن استسلامه علامة على  حالته الفيزيائية، ودليل على على قلقه. 

كررت:"سأحاول القيام بزيارة ثانية، وسأخبرك".

انحنيت وقبلت خديه. قبلتهما مرة ثانية، وربت على خصلات شعره الممشط على جمجمته. وخلال فترة الإعلان، انضمت ناتيلا إلى  أمها في المطبخ، وجلست على مقعد، وهي تثرثر بمرح، وقطيفان تغسل كومة الأواني والصواني. قفزت على قدميها حالما شاهدتني بالباب.

قلت:"علي أن أنصرف. شكرا على الغداء المدهش".

تركت قطيفان أطباقا ثقيلة وجففت يديها بمريولها.  قالت:"الوقت مبكر. والجد مهتم جدا برؤيتك".

حنقت عليها، وشعرت بالخزي. قلت لها:"من الصعب أن تري الجميع بشكل لائق في زيارة قصيرة".

أحضرت ناتيلا معطفي، ورفعته من أجلي لأرتديه.

قلت:"يوم تسجيل قيود سعيد يا ناتيلا. واشكري والدك على نبيذه الرا ئع".

سألتني قطيفان، وأنا أرتدي حذائي، إن كان بإمكانها التكلم مع والدي: فهي تود العودة لديارها في الربيع. وسبق لها أن سألت والدي مرتين، وكان حازما معها. أخبرها أنها تعلم، منذ البداية، واجبات عملها، وإما أن تلتزم بها أو أن تستقيل.

قالت قطيفان إنها لم تكن تريد إغضابه، ولكن من المهم لها أن ترى عائلتها.

قالت:"لم أطلب منه علاوة منذ سنوات. مع أن ناتيلا تعاونني في رعاية الجد دائما بعد أوقات العمل. ويسعده رؤيتها حوله. فهي تجلب له السعادة".

وطيلة الوقت وهي تتكلم كنت أهز رأسي. مع أنني مدركة أنه لا رأي لي في هذه الأمور. ولكن أخبرتها أنني سأذكر ذلك لوالدي. كان الطقس مشمسا، وصاخبا بالمرور والمشاة والباعة المتجولين:  هذا منتصف اليوم. اتجهت إلى جادة بارباروس، حيث يمكنني إيقاف سيارة أجرة. وتقريبا قررت أن لا أذكر طلب قطيفان لوالدي. فهذا بلا شك سيغضبه مجددا، ولم أكن أود إفساد اجتماعنا القصير. عموما لم أكن بموقف يسمح لي بالدفاع عن المرأة، ولا تفسير رغبتها برؤية زوجها وابنها. فأنا سأغادر بغضون أيام قليلة، وسأتحرر من واجباتي. ولم أكن الشخص الذي يتابع احتياجات جدي يوميا. ثم لم أكن أرغب بترك جدي مع غريب خلال غياب قطيفان وناتيلا. فقد كان مرتاحا لصحبة الأم وابنتها. وبالتأكيد يمكنهما السفر في الصيف، حينما يسافر جدي معنا لحضور الزفاف.

فكرت في تلك الأمسية بالكتابة لأبناء عمي المتواجدين في مجموعة واتس أب، من أجل التخطيط لرحلة بعد حفل الزفاف في آيفاليك. كنا في السابق نتكلم غالبا على أشياء مضحكة مرت بنا في الإنترنت، وكذلك على صور الطفولة التي اكتشفناها خلال زياراتنا.  وأزمعت أن أقترح اصطحاب جدنا للإقامة في فندق أو للاشتراك بعطلة. كان الجد يعشق البحر ويحب السباحة. ومنذ سنتين، سبح في منتصف الخريف، وأخبرنا باعتزاز كيف كان الماء البارد جيدا لجسمه وعقله. ويمكننا أن نجد مكانا على الشاطئ، بيتا بلا سلالم. ليجلس ويراقب البحر. ولدي رغبة باجتماعنا كلنا حوله على الشرفة، والاستماع لقصصه التي لا نعرفها من قبل أو التي لم نهتم بها في حينه. وفكرت يجب أن نسأله عن كل الرحلات التي قام بها حول تركيا، والخيمة التي نام فيها، والغرباء الذين قابلهم.

وقفت في جادة بارباروس ورفعت يدي، بانتظار سيارة أجرة.  وحاولت أن أتناسى الشعور الملح أن جدي لن يعيش حتى يوم العرس. كتب لي والدي بالموبايل: أين أنت؟. أخبريني إذا كانت خطتك لنلتقي قائمة. تجاهلت نبرة الانزعاج، وكتبت له أنا بالطريق، ولكن لا يمكنني المكوث لفترة طويلة.

***

...........................

إيشغول سافاش Ayşegül Savaş: كاتبة تركية مقيمة في باريس. من أهم أعمالها: المسافة البعيدة، المسير على السقف، أبيض على أبيض، الأنثروبولوجيون.

الترجمة عن النيويوركير عدد 12 تموز 2024

بقلم: كارول آن دَفي

ترجمة: د. عادل صالح الزبيدي

***

السيدة فاوست

اولا وقبل كل شيء-

اقترنت بفاوست.

تقابلنا طلابا،

سكنا معا، انفصلنا،

تصالحنا، تزوجنا،

اقترضنا مالا لنقتني منزلا،

نجحنا اكاديميا،

بكالوريوس، ماجستير، دكتوراه، لا اطفال.

حوضا استحمام مع مناشف منقوش عليها: لها. له

*

اجتهدنا في العمل. ادخرنا.

انتقلنا الى منزل ثان.

سيارات سريعة. زورق شراعي.

منزل ثان في ويلز.

احدث المنتجات – حواسيب،

هواتف جوالة. اثرينا.

انتقلنا مرة اخرى. كانت تلوح على وجه فاوست

سيماء الدهاء والجشع وبعض الجنون.

لم اكن أفضل منه.

*

اصبحت اعشق ترف الحياة،

ليس الحياة.

اصبح هو يعشق المجد والشهرة،

ليس الزوجة.

ارتاد بائعات الهوى. انا شعرت، لا بالغيرة،

ولكن بنوبات غضب متكررة.

لجأت الى ممارسة اليوغا والفنون القتالية

والتصميم المنزلي والعلاج النفسي وتنظيف القولون.

*

وكان فاوست يتباهى

خلال حفلات العشاء

بكلفة عقد صفقاته في الشرق.

ثم يأخذ شهواته

بسيارة اجرة الى سوهو،

باختصار،

ليرتاح،

يغرب عن وجهي، ينغمس بملذاته

برفقة الضواري امثاله.

*

اراد المزيد.

عدت الى البيت في وقت متأخر من احدى الأماسي الشتائية،

لم اكن قد تناولت شيئا.

كان فاوست في مكتبه بالطابق العلوي

يعقد اجتماعا.

شممت دخان سيجار،

فضيع، مثير على نحو غريب، وممنوع في منزلنا.

سمعت فاوست والآخر

يضحكان بصوت عال.

*

بعد ذلك، فرجت الدنيا

ساقيها، بعبارة فاوست.

ابتدأها بالسياسة –

مقعد مؤمًن. عضو برلمان، رتبة فارس.

ثم حسابات مصارف –

خاصة بالصفوة في الداخل والخارج –

رجل اعمال تنفيذي –

نائب رئيس. رئيس. صاحب املاك. سيد.

*

هل يكفي هذا؟ لا، المزيد، المزيد!

اصبح فاوست الكاردينال، البابا،

اصبح يعرف اكثر من الرب؛

يطير اسرع من سرعة الصوت

حول الكرة الأرضية،

يتناول غداءه؛

يسير على سطح القمر،

يلعب الغولف، يضع الكرة في الحفرة بضربة واحدة؛ يشعل سيجار هافانا سميكا بالشمس.

*

ثم قدحت قريحته –

فاستثمر في تكنولوجيا القنابل الموجهة،

في صناعة العنف،

تاجر فاوست بالسلاح.

صب الكثير من امواله في هذا المجال ثم انسحب.

اشترى مزارع،

استنسخ الأغنام.

بحث فاوست في الانترنيت

عن بو بيبات يفكرن مثل تفكيره.

*

اما انا

فقد فعلت ما يخصني،

ذهبت في رحلة سريعة الى روما،

استغليت كل شيء لمصلحتي

عملت عملية تجميل لوجهي،

كبرت ثديي،

شددت مؤخرتي؛

ذهبت الى الصين وتايلند وافريقيا،

وعدت محملة بالحكمة الروحية.

*

بلغت الأربعين، عزفت عن الجنس،

وعن المشروبات الكحولية وعن اللحوم،

مارست البوذية، بلغت الواحد والأربعين.

صبغت شعري باللون الأشقر،

ثم الأحمر، ثم البني،

تصرفت كالسكان المحليين لكل مكان ازوره،

كالقرود، كالوحوش، ثم جننت؛

هربت من البيت، عشت لوحدي؛

ثم عدت.

*

كان فاوست في المنزل. طلب مكالمتي

وقال لقد امضيت الليل مستمتعا

مع محاكاة صورية لهيلين ملكة طروادة.

الوجه الذي اطلقت من اجله الف سفينة حربية.

قبلت شفتيها.

كل هذا لأنني –

عقدت صفقة

مع مفيستوفيليس،

صبي الشيطان.

*

انه آت

ليأخذ

ما ادين له به

ليحصد ما زرعت.

مقابل كل هذه السنين

من الانغماس في الملذات،

وجمع الثروات،

واشباع الرغبات،

لقد بعت روحي.

*

حينئذ سمعت

فحيح افعى

تحسست طعم الشر، عرفت رائحته،

اذ بيدي الشيطان المحرشفتين

تثقبان بلاط الأرضية من السيراميك التوسكاني

عند قدمي فاوست الحافيتين

وتجرانه في الحال مباشرة نحو جهنم

وهو يبتسم ابتسامة غريبة.

*

وهكذا كان الحال.

اوصى فاوست

بترك كل شيء –

اليخت،

منازلنا،

طائرتنا الخاصة،

مهبط المروحية،

المغانم، الخ، الخ،

كل شيء –

لحضرتي.

*

هكذا هي الحياة.

مرضت وعانيت كثيرا.

زرعت كلية

اشتريتها بواسطة بطاقة ائتماني،

وتحسنت صحتي.

ولم ابح بسر فاوست حتى الآن –

السافل الماكر المخادع الجلف الفظ

لم يكن لديه روح ليبيعها.

***

......................

كارول آن دَفي: شاعرة وكاتبة مسرح اسكتلندية من مواليد غلاسكو للعام 1955 نشرت أول مجموعة شعرية بعنوان (الوقوف أنثى عارية) عام 1985 تلتها عدة مجموعات منها (اصوات مرمية) 1985؛ (البلد الآخر)1990؛ و(زوجة العالم) عام 1999 . نالت العديد من الجوائز الأدبية أبرزها جائزة ت. س. اليوت للشعر كما منحت وسام الإمبراطورية مرتين. شغلت منصب شاعر البلاط البريطاني للأعوام 2009-2019 . ("بو بيبات" الواردة في القصيدة مفردها "بو بيب" شخصية راعية الأغنام القصيرة التي ترد في احدى تهويدات الأطفال الانكليزية).

 

بقلم: كلير وومنهولم

ترجمة: د. عادل صالح الزبيدي

 ***

قصيدة ليس فيها اطفال

بدلا من ذلك، القصيدة مليئة بالأشجار المنتجة،

قوية وبطيئة النمو. تعيش الأشجار فوق مرج

فسيح ونظيف ومليء بالبالغين.

طوال الليل يكبر البالغون في السن دون ان يتشقلبوا او يدوروا.

انهم يكبرون في السن وهم يفكرون بأنفسهم.

انهم ينامون جيدا ويسهرون خارج المنزل الى وقت متأخر من الليل،

اعصابهم تلتف بانتظام داخل اجسادهم الناضجة.

لا يفكرون بأطفالهم لأن اطفالهم لم يوجدوا منذ البدء.

الأطفال لم يقتلوا او يسرقوا.

انه غياب وليس فقدان.

ثمة عالم من الاختلاف: المسافة بين عالمين مأهولين.

انه الفضاء الذي لا يحتمل.

القصيدة في حل من الالتزام بالعيش فيه.

بدلا من ذلك، قلبها يتك بلا نكد على نحو تام بين الأشجار.

الأطفال الذين ليسوا في القصيدة

لا يلقون ظلالا او رقى كي يظهروا انفسهم. 

حين لا يسيرون عبر القصيدة، فالزمن لا يقترب منهم

انهم ليسوا ثقوبا سوداء.

ثمة العديد من اللاءات قبل الآن في هذه القصيدة،

انها ممتلئة شحنا سالبا تماما قبل الآن.

المجال الذي حول القصيدة يقوم باستدعاء الأطفال والظلال والخصوصيات

من ارض منشغلة مليئة بالتنفس والكتلة.

نقيضو أطفالي يدفعون الأطفال بعيدا عن عوالمهم الدافئة.

سيصلون قبل ان اتمكن من ايقافهم.

حين تلتقي المادة بالمادة المضادة، فانها تنتفي لتتحول الى شيء جديد.

الضوء. الصوت. الأمواج وامواج شيء يشبه الماء.

ذراعا القصيدة خفيفان الى حد

انهما يسقطان الى الأعلى من الجسد. لماذا تبكين؟

***

.....................

كلير وومنهولم: شاعرة اميركية ظهرت قصائدة في العديد من الصحف والدوريات الأميركية وصدرت لها اربع مجموعات شعرية حازت على جوائز عديدة. تقول الشاعرة عن قصيدتها ما يأتي: "بدأت هذه القصيدة كتجربة فكرية. أ يمكنني وانا اكتب قصيدة ان اسكن في كون مواز حيث لا يكون لدي اطفال مطلقا؟ تحاول القصيدة ما في وسعها لوهلة، لكنها تنتهي بخيانة المشروع في الختام. كانت تعمل ضدي حتى وانا آتي بها الى الوجود. من الواضح ان المخاطب هو انا."

بقلم: دوجلاس جورتي

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

أيقظتني الموسيقى. لقد كانت دعوتي للحياة. لقد كشفت أسرارًا مثل الحب والشوق، ونقلتني إلى مناظر طبيعية غريبة. لقد لعبت خلال مسيرتي المهنية دورًا في العروض الرائعة لبعض من أعظم السيمفونيات التي تم تأليفها على الإطلاق. كنت أول رئيس لأوركسترا فيلادلفيا السيمفوني. من المؤكد أنني لم أكن أملك المهارة أو البراعة اللازمة للعزف على آلة موسيقية، كما أنني لم أنعم بصنع آلة بنفسي. ومع ذلك، كنت الكرسي وهذا كل ما سأكون عليه على الإطلاق.

كنت فخورًا بالدور الذي كنت ألعبه كل يوم وليلة خلال العروض. كان مقعدي دائمًا في وسط المسرح الأقرب إلى القائد وأمام الجمهور. كان لدي شركاء قليلون في تلك الأيام وواحد منهم فقط يستحق الذكر.

كان اسمها آدا. كانت هناك عاصفة من الهمسات تسبق وصولها. كان هذا أكثر ما سمعته الموسيقيون يتحدثون فيه في يوم التدريب. مشيت على المسرح وصمتت الهمسات القلقة بينما وقف الأوركسترا بالكامل يراقب اقترابها مني. كان يمكنني فقط أن أتخيل كيف شعرت في تلك اللحظة وكنت أرغب بشدة في أن أترك انطباعًا أوليًا قويًا. حيت القائد قبل أن تأخذ مكانها بجانبي برشاقة. تبعها بقية الأوركسترا يأخذون مواقعهم بينما بدأت آدا في تهيئتهم.

أصدرت كمانها النغمة الأولى وعرفت أنه لم يكن هناك جسد أكثر أناقة أو تصقلًا ليستقر علي. جعلت القاعة وكل روح داخلها أخف قبل أن تكمل حتى قياسًا واحدًا. كانت قدراتها التقنية تفوقها فقط ذكاءً عاطفيًا يبرز في عروضها. استجابت الجماهير فورًا.

في إحدى الليالي، بينما كانت آدا تؤدي كونشرتو فيفالدي "لا بريمفيرا" للكمان في مي كبير، فقد قائد الأوركسترا تركيزه وأسقط الإيقاع مع بقية الأوركسترا. حالت عيناه وأذناه الشيخوختين دون أن ينضم مرة أخرى إلى الأوتار. لم يكن هناك شيء يمكن لأي شخص فعله سوى التركيز على آدا وعليّ. استمرت في العزف كما لو أن شيئًا لم يحدث. تدفقت النغمات بسهولة من كمانها.

كمانها.

كم كنت أحسد كمانها. كم تمنيت أن أُمسك برفق في يدها وأضغط تحت خدها الناعم المصنوع من البورسلين. كم تمنيت أن أكون الآلة التي تُصدر بها الموسيقى الجميلة.

كانت عيناها مغلقتين معظم الوقت. كانت رأسها وكتفاها تتمايلان بلطف مستسلمة تمامًا لممارسة متعتها من الحرفة. رفعت تلك القاعة الموسيقية المقدسة ورفعتنا جميعًا إلى حالة من الرضا الدافئ التي شعرت أنها ستستمر إلى الأبد ولكن انتهت بسرعة كبيرة. جعلتني مثاليًا إذا كان فقط بين الضربة التحضيرية والتصفيق.

الكمال ليس مقدرًا له أن يدوم. وفي ليلة واحدة بينما كانت آدا تؤدي أداءً منفردًا لبارتيتا الكمان رقم 2 في دي مينور لبach، كنت أعاني للحفاظ على توازني. كنت أشعر بألم في مفاصل ساقي منذ فترة وتمكنت من إخفائه جيدًا عندما كنت أتعامل مع آدا. لكن الألم ازداد سوءًا في تلك الليلة واستغرق مني كل شيء لأحافظ على نفسي معًا. تحولت آدا إلى الأمام ثم إلى الخلف وأصدرت صوت أنين تردد صداه على الجدار الخلفي للمسرح. تلا ذلك حالة من الذعر الشديد بعد إطلاق عنائي. أطلقت عيون المايسترو خناجرًا محفورة في ساقي المؤلمة. لم تفوت آدا نغمة واحدة ولكن ذلك لم يكن مهمًا. الجميع على المسرح علم أن خطأي غير مقبول وهكذا انتهى وقتي ككرسي أول.

تم نقلي إلى خزانة خلف المسرح قبل انتهاء الليل. بينما كان القيم يكدسني فوق كومة من الكراسي المماثلة لي في درجات مختلفة من التدهور، مرت آدا في طريقها للخروج. كانت ترتدي معطفًا أزرقًا للأطفال من الصوف وشعرها القصير من الكستناء محشور تحت قبعة رمادية فاتحة. كمانها، الآلة الموثوقة التي لم تخذلها والتي بقيت مخلصة لها، كانت محفوظة في غلافها وتحملها بأيديها المبطنة بقفازات من الجلد البني المبطن بالحرير. انسابت عبر جناح المسرح إلى الباب الذي يفتح على الشارع. ألقت نظرة في اتجاهي لكنها لم تنظر إليّ أبدًا ولم تتوقف قبل أن تخرج من حياتي إلى الليل البارد.

بقيت على قمة تلك الكومة من الكراسي في الخزانة لفترة من الزمن، انتظر، آمل أنني سأتلقى الغفران وأن يتم التعرف على إمكانياتي مرة أخرى. لكن ذلك لم يحدث أبدًا. بدلاً من ذلك، جاء يوم تم نقلي فيه إلى الجزء الخلفي من شاحنة كبيرة حملتني إلى باب قبو مبنى قديم. حملوني إلى الداخل مع الأشياء الأخرى المتنوعة التي قامت برحلة صعبة. روائح الطباشير، الورق المتعفن والبخور الرخيص تملأ الممرات تحت الأرض. تم وضعي في غرفة كبيرة ذات سقف منخفض ومسرح قصير وضحل في نهايته.

سقط الصمت بمجرد مغادرة الناقلين. تسللت أصواتهم المتمتمة إلى الزوال وتركت وحيدًا. كان اليأس يتسلق حبب الخشب في ظهري. اشتقت إلى قاعة الموسيقى والأوركسترا. اشتقت إلى عطور الجمهور المكتظ والهدوء البارد للفراغ الذي يتبع.

ثم جاء صوت مريح من مكان ما فوقي. كانت أنابيب الأرغن الكنسية الجريئة. احتضنني الصوت وأخبرني أنني لست وحيدًا بعد كل شيء. إذا كانت الموسيقى موجودة هناك، فلن تكون الأمور سيئة إلى هذا الحد. وبالفعل كانت الموسيقى موجودة في ذلك المكان الغريب بطرق أكثر مما كنت أتخيل...

في الأيام والأسابيع والأشهر التي تلت وصولي، تم التعامل معي مع العديد من الأشخاص المختلفين. كان معظمهم أطفالًا يرتدون ملابس موحدة. كل يوم، كانوا يجلسون عليّ لتناول وجباتهم على الطاولات الدائرية. بعد ظهر كل يوم خميس، كنت أتعامل مع الأطفال الذين يجلسون أمام امرأة مسنة كانوا يسمونها الأخت باتريس التي كانت تدير دروس الموسيقى. كانت الأدوات الموسيقية المستخدمة تشمل الجيتارات الصوتية، والمسجلات، والكلارينيت، وأحيانًا الكمان. كان ذلك تحديًا لمعظم الطلاب وكانت أخطاؤهم المستمرة تعذيبية. كانت صبر الأخت باتريس دروسًا بحد ذاتها. كنت أكره وضعي في ذلك الوقت. كنت أفكر فقط في كيف أو أين يمكن استخدام قدراتي بشكل أفضل. أردت أن أكون في أي مكان سوى حيث كنت.

نما الاستياء داخلي وأكل روحي مثل فطر التحلل. تحول استيائي إلى غضب، مما أذاب لمعي وجعل سطحي خشنًا للمس. لم يكن أحد يستمتع بالجلوس عليّ في تلك الأيام. جعلني الكره أجوفًا وثقيلًا، لدرجة أن من ينقلني كان يحتاج إلى سحبي ويعاني من صراخ ساقيّ المهينة وهي تحتك بأرضية البلاط المصفحة.

في النهاية، كانت الغرفة تُستخدم ليالي الاثنين في وقت متأخر. كنت أُوضع في دائرة بين كراسي من أنواع وأعمار مختلفة. كان بعضها جديدًا وفي حالة جيدة، لكن معظمها كان قديمًا وأكثر على طريق التخلص منها. كنت أشبه بالأخيرة أكثر مما كنت أحب أن أصدق. في وقت لاحق من المساء، بعد اختفاء الأصوات الصاخبة للأطفال تمامًا، كان حوالي عشرة أو نحو ذلك من البالغين يتسللون إلى الغرفة. مثل دائرة الكراسي، كانوا من أعمار وصحة بدنية متنوعة. كانوا يسكبون القهوة منزوعة الكافيين في أكواب ديكسي قبل أن يتوجهوا ببطء لأخذ مقعد في الدائرة في منتصف الغرفة.

كانوا يتناوبون على سرد قصص إدمانهم على الكحول. البعض أعطى الكثير من التفاصيل والبعض الآخر أعطى القليل جدًا. كان الألم في تجاربهم واضحًا في أصواتهم. كان بعضهم يأخذ فترات توقف طويلة في وسط جملهم تشعر وكأنها أبدية. أحيانًا لم تأت بقية الجملة أبدًا. كان المجموعة ينتظرون ويستمعون بصبر حتى ينتهي العضو المتحدث. في ليلة ما، كنت أتعامل مع عضو جديد يُدعى روب. أخبر المجموعة أنه فقد وظيفته بسبب شربه. غادرت زوجته قبل خمسة أشهر، آخذة معها طفليهما. قريبًا سيحجز البنك على منزله وسيُترك بدون منزل أو أي شخص يلجأ إليه. انهار بالبكاء، وهو يبكي. وتواصل الأعضاء من حوله لتعزيته. وبينما كان ينحني منحنيًا، ويطلق صرخات اليأس المكتومة بيديه، شعرت بإحساس عميق بالشفقة عليه. لقد فقدنا أنا وروب مهنتنا وأحبائنا وهدفنا. لقد جلس هناك، يتحمل المسؤولية عن خسائره، لكنني فشلت في تحمل أي مسؤولية عن مزاجي المرير. ربما كان ذلك هو ما أشفقت عليه حقًا. لكن تلك الشفقة تحولت إلى تعاطف، وسرعان ما تبادلت الآلام والحزن الذي شعرت به في الغرفة. ولم أعد مراقبًا صامتًا، بل مشاركًا نشطًا.

كان روب يعود بشكل غير منتظم، حوالي مرة واحدة في الشهر أو نحو ذلك، جالبًا معه رائحة الكحول التي تناولتها الليلة السابقة. ولم يتم اتخاذ أي قرار بالنيابة عن الأعضاء العاديين في المجموعة، لا من جهتي ولا من جانب أولئك الذين لم يشربوا الكحول منذ سنوات.

لم يكن الأمر كله كآبة ومعاناة. كان في كثير من الأحيان مفعما بالأمل. كان البعض في المجموعة يعيشون حياة سعيدة ومرضية، كل ذلك مع وضع التعافي من الإدمان في الاعتبار. وكانت نصائحهم وتوجيهاتهم لا تقدر بثمن بالنسبة للأعضاء الآخرين. وفي نهاية كل جلسة، كان المنظم يؤم الجميع في الصلاة. شارك الجميع بطريقة ما بغض النظر عن إيمانهم أو عدم إيمانهم. وأثناء حدوث ذلك، كان انتباهي يتحول إلى الصليب الخشبي المعلق عالياً على الجدار الغربي بجوار الساعة التي تدق. لقد تم منح الكثير من الحب والاحترام غير المشروط لتلك الآثار الزخرفية. لقد خلقنا من نفس الشيء، وربما أتينا من نفس الغابة، ولكن كان مقدرًا لنا أن نخدم أغراضًا مختلفة. لقد تخليت عن الإيمان بالقدر عندما انقلبت ثروتي ضد رغباتي. اعتقدت أنه كان مقدرًا لي أن أكون بين الموسيقيين والملحنين العظماء. ومع ذلك، فإن المصير لا يتحدد بما يخدم طموحاتنا ورغباتنا، بل بنتيجة الحياة التي نعيشها بهدف. لقد توصلت إلى فهم واكتشاف هدف حياتي الجديد بشكل أفضل من ليالي الاثنين التي أمضيتها في ذلك الطابق السفلي.

وكان لذلك تأثير إيجابي على توقعاتي لبقية الأسبوع. لقد استمعت باهتمام للأطفال وهم يثرثرون على طاولات الغداء. أصبحت ضحكاتهم نوعا جديدا من الموسيقى التي أضاءت أيامي.

بدأت أيضًا أتطلع إلى دروس الموسيقى بعد ظهر يوم الخميس مع الأخت باتريس. بدأت أدرك أهمية التعليم، وكنت ممتنًا للمساعدة في تلك الدروس التكوينية التي ستبقى مع الطلاب طوال حياتهم، سواء تابعوا مهنة موسيقية أو توقفوا عن العزف تمامًا. لقد وجدت نفسي مرة أخرى في وضع "الكرسي الأول". لقد انتقلت من كوني أول كرسي لبيت أوركسترا مرموق إلى أول كرسي جلس عليه الأطفال أثناء اكتشافهم لعالم الموسيقى الرائع.

مرت سنوات. ثم جاء اليوم الذي تم فيه استخدام الغرفة للاحتفال بعيد ميلاد طفلين مختلفين صادف أن لهما نفس عيد الميلاد. قضيت معظم الحفل جالسًا خاملاً على أحد الجانبين بالقرب من الحائط. كانت الغرفة مليئة بالأطفال والكبار السعداء. كانوا يرقصون على الأغاني الناجحة لفرقة The Monkees، ويلعبون ألعابًا مرحة. بعد أن تم تقطيع الكعكة وتوزيعها على الجميع، تم سحبي من جانب الغرفة ووضعوني في صف مع 12 كرسيًا آخرين، كل واحد منا مواجه لاتجاه مختلف. كنت في مكان ما بالقرب من الوسط. قام أحد البالغين بتشغيل الراديو وبدأ الأطفال بالدوران حولنا. سرعان ما توقفت الموسيقى واندفع الأطفال جميعًا للجلوس، ولكن كان هناك طفل أكثر من الكراسي. كان صبيًا، يبلغ حوالي 7 سنوات، يقف على بعد بضع خطوات إلى يسار موقعي، ينظر إلى الفتيات الجالسات في الكراسي القريبة، بنظرة من اليأس على وجهه. أطلق الحشد الصغير من المتفرجين تنهيدة تعاطف، تخللتها بضع ضحكات من التسلية قبل أن تصطحبه امرأة، يفترض أنها والدته، بلطف بعيدًا بينما تهمس بكلمات المواساة. ثم تم إزالة كرسي واحد من نهاية الصف.

استمر اللعب على هذا النحو لعدة جولات: موسيقى، موكب، صمت، فوضى، إذلال، وإقصاء. حتى بقي في النهاية طفلان في اللعبة، صبي وفتاة. وكما حدث، كانا هما أطفال عيد الميلاد، وكنت أنا الكرسي الوحيد المتبقي في اللعبة. لعبت الموسيقى وبدأ الطفلان يسيران حولي. كل واحد منهما يسرع وتيرته أثناء مروره خلفي، ثم يبطئ تقريبًا حتى التوقف أثناء مروره أمامي. كان الحشد من المشاهدين يراقب بترقب مليء بالحماس.

عندما توقفت الموسيقى فجأة، كان الصبي خلفي والفتاة أمامي. استدارت الفتاة بسرعة لتجلس وتنتصر، لكن الصبي سحبني إلى الخلف فسقطت على الأرض. ضحك الصبي بشكل شيطاني، وقفز عليّ. الفتاة، وهي تتلوى من الغضب، هاجمته ودفعته، مما دفعنا إلى التراجع. أتذكر أنني سمعت صوت اصطدام عالٍ أعقبه وابل من الصراخ واللهاث. شعرت بظهري يتكسر إلى قطع وشظايا وشظايا. كانت هناك أجزاء صغيرة مني تطايرت إلى حافة الجدار ولن أتمكن من استعادتها أبدًا. أخيرًا، انفصلت إحدى ساقي الخلفيتين عند المفصل. لا أتذكر جيدًا ما حدث بعد الحادث. ولكن بعد مرور بعض الوقت على تركي هناك، وانتشاري على الأرض، تم جمع ما تبقى من نفسي السليمة، بالإضافة إلى عدد قليل من القطع الأكبر حجمًا، ووضعها على حافة الرصيف بجوار الشارع.

من المضحك أنني فكرت في تلك الليلة كم كنت قصير النظر لأنني لم أتخيل أبدًا مثل هذه النهاية الوحيدة لنفسي، على الرغم من أنني كنت أتجه نحو ذلك طوال الوقت. عندما ترمي نفسك في شيء واحد، في حالتي، الموسيقى، فهذا كل ما ستحصل عليه على الإطلاق. وها أنا ذا، في ظلام الليل وبرودته، عديم الفائدة وغير مرغوب فيه، دون أية موسيقى، باستثناء صوت الصراصير من بعيد، وبعض السيارات المارة على الطريق الرئيسي.

توجهت أفكاري إلى آدا، وكم تمنيت بشدة ألا تشعر أبدًا بهذا النوع من الوحدة. لقد فاجأت نفسي كيف أنني، حتى بعد كل تلك السنوات، مازلت أريد الأفضل لها. تومض أبرز الأحداث التي قضيناها معًا في ذاكرتي مثل جهاز عرض دائري. عندما كانت ترتكز عليّ قبل عرض كبير، أو تنهض ببطء بعد ذلك لتنحني. الطريقة التي كنت أتوقع بها حركاتها الدقيقة، والطريقة التي أبحر بها قوسها بشكل لا تشوبه شائبة عبر الأوتار، والطريقة التي تحررني بها من حدودي الخشبية بلا شيء سوى صوت.

لكن بغض النظر عن كل الأفكار والذكريات السعيدة التي أتذكرها، لا يسعني إلا أن أتذكر تلك الليلة عندما تم وضعي في حجرة التخزين وشاهدتها تخرج من باب الكواليس.

على الرغم من خيبة أملي وإحباطي في تلك الليلة، إلا أنها لم تكن نهاية قصتي. جاء الفجر ببطء، وتلاشى ضوء الصباح بسبب الضباب الكثيف. توقفت شاحنة صغيرة صدئة وصاخبة على الرصيف أمامي. كان هناك صوت رهيب يخرج من محركها.

خرج رجل ملتحٍ بدين من مقعد السائق ليتفحصني وما تبقى من الأشلاء المتراكمة بالقرب من ساقي الثلاث السليمة. وبعد بضع همهمات من الفضول، حملني وثبتني بعناية في الجزء الخلفي من شاحنته بكل أجزائي.

وصلنا إلى ورشة عمل مؤقتة في الجزء الخلفي من متجر التحف. علمت أن الرجل البدين الذي أحضرني هناك كان يدعى لويد، وكان متحمسًا لإصلاح القطع القديمة والمُهملة مثلي. أعطاني ساقًا جديدة من قطعة خشب الجوز الخام واستبدل ظهري بمادة كانت في السابق مكتبًا مزخرفًا. أثناء عمله، كان يستمع إلى الموسيقى على جهاز تسجيل. لقد كانت موسيقى الريف بشكل صارم، وكان جلين كامبل هو المفضل بشكل خاص. كان ينقر بقدميه ويغني أغنية " لطيف في ذاكرتي " بينما كان ينحت الخشب أو يفكر في أفضل أداة لاستخدامها في المهمة التي يقوم بها.

عندما أُعيد تجميعي وأصبحت كاملا مرة أخرى، قام بتغطيتي بطبقة نهائية من الزيت الفاخر. بعد عدة أيام ورش عدة طبقات جديدة، قرر لويد أن يجملني بوسادة. ثم قام بتجهيز جسمي الذي يواجه لأعلى بجلد أحمر برغندي ونقلني إلى مقدمة المتجر مع بطاقة ورقية معلقة مثل الزينة من ظهري.

كان حولي العديد من الأشياء المجددة والمستعملة سابقاً، مثل الساعات والمصابيح واللوحات الفنية والفخار والكتب والألعاب. كانت هذه مجموعة من الكنوز المتنوعة والغير متناسقة. بشكل ما، أعادتني هذه الأجواء إلى اجتماعات جمعية الأقران في ليلة الاثنين. كنا جميعًا من أماكن مختلفة، وخدمنا أغراضًا مختلفة، ولكن تم إحضارنا إلى هناك للإصلاح والبدء من جديد. وكانت هذه البداية جديدة بالنسبة لي، كما كانت أفضل حالة شعرت بها منذ فترة وجودي في قاعة الأوركسترا.

في أحد الأيام، دخل زوج شاب وزوجته بوجهين لطيفين إلى داخل باب المحل، وبعد جولة سريعة، أشارا إليّ وتحدثا إلى لويد. ثم سلماه بعض النقود وسارعا بأخذي إلى سيارتهما العائلية.

لقد وضعاني في غرفة المعيشة الخاصة بهما بعد تفكير ومداولات متأنية. كانت إحدى الجدران مغطاة بألواح خشبية داكنة، والجدران الأخرى مزينة بورق حائط بنقوش بايزلي بألوان الغروب الأحمر والتيل البحري.  وبجانبي كانت هناك خزانة كتب مُجهزة بالكامل، وفي زاوية بالقرب من مدخل الغرفة كانت توجد ساعة قديمة رمادية. في مقابلنا جميعًا كان يجلس بيانو بابلدوين الصغير البسيط، عند النافذة الكبيرة. والذي كان من الواضح أنه أغلى الأشياء في المنزل، ليس فقط بسبب قيمته المادية، ولكن أيضًا بسبب موقعه الاستراتيجي. كان من السهل رؤية البيانو من الشارع المجاور عبر النافذة، وسيجذب بلا شك انتباه أي زائر يدخل من الباب الأمامي. قبل كل شيء، كانت الغرفة تشع بالدفء من الضحكات العديدة وذكريات المحبة التي كانت موجودة هناك.

كان للزوجين ابنة صغيرة اسمها ماري، كانت تعزف وتمارس العزف على البيانو. أظهرت موهبة وإمكانات طبيعية. كنت سعيدًا بوجودي مع شابة اكتشفت الموسيقى مرة أخرى.

دعت العائلة الأصدقاء والأقارب البعيدين لسماع ماري وهي تعزف على البيانو. وكان جد ماري معي. لقد شاهدنا جميعًا بصمت ماري وهي تعزف مقطوعة بيتهوفن من أجل إليز. لقد أدت ببراعة. تدفقت دموع الفخر على وجه جدها.

ملأت الموسيقى الغرفة وقلوبنا لدرجة أنه لا يمكن استعادتها أبدًا. في تلك اللحظة وجدت مستوى من الرضا اعتقدت أنني لن أجده مرة أخرى، وكان هناك اكتمال في طبيعتي لأنني كنت دائمًا على الكرسي.

(الخاتمة)

***

.......................

الكاتب: دوجلاس جورتي/ Douglas Gorti: مخرج أفلام سابق وكاتب، وذو خيال مفرط، وفضولي دائمًا.. يكتب  حاليًا على روايتي الأولى.رابط النص الأصلي :

https://medium.com/@douggorti/musical-chair-001dc01613bb

قصة: ليو تولستوي

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

ذات مرة خطرت في ذهن الملك فكرة أنه إذا عرف دائمًا الوقت المناسب للبدء في كل شيء، وتمكن من التمييز بين الأشخاص الذين ينبغى أن يستمع إليهم والذين لاينبغي ان يستمع إليهم، وكذلك معرفة الأمور الأكثر أهمية للقيام بها، فلن يفشل أبدًا في أي شيء يقرر القيام به.

ولما استقر على هذه الفكرة، أعلن في جميع أنحاء مملكته أنه سيعطي مكافأة عظيمة لأي شخص يعلمه الوقت المناسب لكل عمل، ومن هم الأشخاص الأكثر ضرورة،وكيف يمكنه معرفة ذلك. ما هو أهم شيء يجب القيام به.

وجاء رجال متعلمون إلى الملك، ولكنهم جميعًا أجابوا على أسئلته بشكل مختلف.

رداً على السؤال الأول، قال البعض إنه لكي تعرف الوقت المناسب لكل عمل، عليك أن تضع مسبقاً جدولاً للأيام والشهور والسنين، ويجب أن تلتزم به بدقة. وقالوا إنه بهذه الطريقة فقط يمكن القيام بكل شيء في وقته المناسب. وأعلن آخرون أنه من المستحيل تحديد الوقت المناسب لكل إجراء مسبقًا؛ ولكن، دون أن يسمح المرء لنفسه بالانغماس في أوقات الفراغ الخاملة، ينبغي له دائمًا أن ينتبه إلى كل ما يجري، ثم يفعل ما هو في أمس الحاجة إليه. وقال آخرون مرة أخرى إنه مهما كان الملك منتبهًا لما يجري، فإنه من المستحيل على رجل واحد أن يقرر بشكل صحيح الوقت المناسب لكل إجراء، بل يجب أن يكون له مجلس من الحكماء، الذين يساعدونه في تحديد الوقت المناسب لكل شيء.

ولكن مرة أخرى قال آخرون إن هناك بعض الأمور التي لا يمكن الانتظار حتى يتم عرضها على المجلس، ولكن ينبغي على المرء أن يقرر بشأنها على الفور ما إذا كان يجب القيام بها أم لا. ولكن لكي نقرر ذلك، يجب على المرء أن يعرف مسبقاً ما الذي سيحدث. ولا يعلم ذلك إلا السحرة؛ ولذلك، لمعرفة الوقت المناسب لكل عمل، لا بد من استشارة السحرة.

وكانت الإجابات على السؤال الثاني مختلفة بنفس القدر. قال البعض إن الأشخاص الذين يحتاجهم الملك هم مستشاروه. وآخرون قالوا  الكهنة. وآخرون قالوا الأطباء. بينما قال البعض إن المحاربين هم الأكثر ضرورة.

وبالنسبة للسؤال الثالث، ما هي أهم مهنة: أجاب البعض أن العلم هو أهم شيء في العالم. وقال آخرون إنها مهارة الحرب. وقال آخرون مرة أخرى إنها تعليم الدين.

مع اختلاف جميع الإجابات، لم يتفق الملك مع أي منها، ولم يمنح المكافأة لأحد. ولكن لا يزال يرغب في العثور على الإجابات الصحيحة لأسئلته، قرر استشارة ناسك معروف على نطاق واسع بحكمته.

عاش الناسك في غابة لم يغادرها أبدًا، ولم يستقبل سوى عامة الناس. لذلك ارتدى الملك ملابس بسيطة، وقبل أن يصل إلى زنزانة الناسك، نزل عن جواده، وترك حارسه خلفه، ومضى وحده.

وعندما اقترب الملك، كان الناسك يحفر الأرض أمام كوخه. فلما رأى الملك سلم عليه ومضى في الحفر. كان الناسك واهنًا وضعيفًا، وفي كل مرة كان يغرس فيه مجرفته في الأرض ويقلب قليلًا من التراب، كان يتنفس بصعوبة.

ذهب إليه الملك وقال: جئت إليك أيها الناسك الحكيم لأطلب منك الإجابة على ثلاثة أسئلة: كيف يمكنني أن أتعلم القيام بالشيء الصحيح في الوقت المناسب؟ من هم الأشخاص الذين أحتاجهم بشدة، ومن ينبغي لي أن أوليهم اهتمامًا أكبر من الآخرين؟ وما هي الأمور الأكثر أهمية والتي تحتاج إلى اهتمامي الأول؟

واستمع الناسك إلى الملك، لكنه لم يجبه بشيء. لقد بصق على يده واستأنف الحفر.

قال الملك: "أنت متعب، دعني آخذ المجرفة وأعمل لبعض الوقت من أجلك".

قال الناسك:

- شكرًا!

وأعطى المجرفة للملك، وجلس على الأرض.

وعندما حفر  قدرسريرين توقف الملك وكرر أسئلته. لم يُجب الناسك مرةً أخرى، بل قام ومدّ يده للمجرفة وقال:

- الآن استريح لبعض الوقت - واسمح لي أن أعمل قليلاً.

ولكن الملك لم يعطِه المجرفة، واستمر في الحفر. مرت ساعة، ثم أخرى. بدأت الشمس تغيب خلف الأشجار، وأخيرًا غرس الملك المجرفة في الأرض، وقال:

- لقد أتيت إليك، أيها الحكيم، للحصول على إجابة على أسئلتي. إذا لم تستطع إعطائي إجابة، فأخبرني بذلك، وسأعود إلى المنزل.

قال الناسك:

- ها هو شخص قادم ركضًا، دعنا نرى من هو.

استدار الملك، ورأى رجلاً ملتحياً يخرج من الغابة ركضًا. كان الرجل يضغط بيديه على بطنه، والدم يسيل من تحتهما. عندما وصل إلى الملك، سقط مغشيًا عليه على الأرض يئن بصوت ضعيف. فك الملك والناسك ملابس الرجل. كان هناك جرح كبير في بطنه. غسل الملك الجرح بأفضل ما يمكن، وضمّده بمنديله وبمنشفة كانت لدى الناسك. لكن الدم لم يتوقف عن السيلان، وأعاد الملك مرة بعد مرة إزالة الضمادة التي تشبعت بالدم الدافئ، وغسل وضمّد الجرح مجددًا. عندما توقف الدم أخيرًا عن السيلان، أفاق الرجل وطلب شيئًا يشربه. جلب الملك الماء العذب وأعطاه له. في هذه الأثناء كانت الشمس قد غابت، وأصبح الجو باردًا. لذلك، حمل الملك بمساعدة الناسك الرجل الجريح إلى الكوخ ووضعه على السرير. استلقى الرجل على السرير وأغمض عينيه وهدأ؛ لكن الملك كان متعبًا جدًا من مشيه ومن العمل الذي قام به، حتى أنه انحنى عند العتبة، ونام أيضًا - نومًا عميقًا استمر طوال الليل الصيفي القصير. عندما استيقظ في الصباح، استغرق وقتًا طويلاً حتى يتذكر أين هو، أو من هو الرجل الملتحي الغريب الذي يرقد على السرير وينظر إليه بعينيه اللامعتين.

قال الرجل الملتحي بصوت ضعيف عندما رأى أن الملك قد استيقظ وينظر إليه:

- سامحني!

قال الملك:

- لا أعرفك، وليس لدي ما أسامحك عليه.

قال الرجل:

- أنت لا تعرفني، لكني أعرفك. أنا ذلك العدو لك الذي أقسم على الانتقام منك، لأنك أعدمت أخي واستولت على ممتلكاته. علمت أنك ذهبت وحدك لمقابلة الناسك، وقررت قتلك في طريق عودتك. لكن اليوم مر ولم تعد. لذا خرجت من مكمني لأجدك، والتقيت بحراسك، وتعرفوا علي، وجرحوني. هربت منهم، لكنني كنت سأموت نزفًا لو لم تعالج جرحي. أردت قتلك، وأنت أنقذت حياتي. الآن، إذا عشت، وإذا رغبت في ذلك، سأخدمك كأكثر عبيدك ولاءً، وسأوصي أبنائي بالقيام بالمثل. سامحني!

كان الملك سعيدًا جدًا لأنه تصالح مع عدوه بسهولة، وكسبه كصديق، ولم يسامحه فحسب، بل قال إنه سيرسل خدمه وطبيبه الخاص للعناية به، ووعد بإعادة ممتلكاته له.

بعد أن ودع الرجل الجريح، خرج الملك إلى الشرفة وبحث عن الناسك. قبل أن يغادر أراد مرة أخرى أن يطلب إجابة على الأسئلة التي طرحها. كان الناسك في الخارج، على ركبتيه، يزرع بذورًا في الأسرة التي حُفرت في اليوم السابق.

اقترب الملك منه، وقال:

- للمرة الأخيرة، أرجوك أن تجيب على أسئلتي، أيها الحكيم.

قال الناسك وهو مازال جاثيا على ساقيه الرفيعتين، وينظر إلى الملك الذي وقف أمامه فى هذه اللحظة:

- لقد تمت الإجابة بالفعل!

تساءل المالك :

-  كيف تمت الإجابة؟ ماذا تعني؟

رد الناسك:

- ألا ترى، لو لم تشفق على ضعفي بالأمس، ولم تحفر تلك الأسرة لي، لكنت ذهبت في طريقك، وكان ذلك الرجل سيهاجمك، وكنت ستندم على عدم بقائك معي. لذا كان الوقت الأكثر أهمية هو عندما كنت تحفر الأسرة؛ وكنت أنا الرجل الأكثر أهمية؛ والقيام بعملي كان أهم أعمالك. بعد ذلك، عندما ركض إلينا ذلك الرجل، كان الوقت الأكثر أهمية هو عندما كنت تعتني به، لأنه لو لم تربط جروحه كان سيموت دون أن يصالحك. لذا كان هو الرجل الأكثر أهمية، وما فعلته من أجله كان أهم أعمالك. تذكر إذن: هناك وقت واحد فقط هو الأهم - الآن! إنه الوقت الأهم لأنه الوقت الوحيد الذي لدينا أي سلطة عليه. الرجل الأكثر ضرورة هو الذي أنت معه، لأن لا أحد يعلم ما إذا كان سيتعامل مع أي شخص آخر: والأمر الأهم هو أن تفعل له الخير، لأن لهذا الغرض فقط أُرسل الإنسان إلى هذه الحياة .

(تمت)

***

تعليق: هذه الحكاية من ليو تولستوي تدور حول كيفية النجاح في الحياة. يعتقد ملك أنه لن يفشل أبدًا في أي مهمة إذا عرف دائمًا ثلاثة أشياء: ما هو أفضل وقت للبدء؟ من هم الأشخاص الأكثر أهمية ليكونوا حوله؟ وما هو أهم شيء يجب أن يقضي وقته في فعله؟ يقدم مكافأة للحصول على الإجابات، لكن لا مستشاريه الحكماء ولا الآخرين الذين يأتون للمطالبة بها يمكنهم مساعدته تجربة مع ناسك الغابة وقاتل مصاب تعلمه ما يحتاج إلى معرفته. المواضيع: الحكمة، التواضع، اللطف، العفو، الأخلاق.

 

أبيات من لامية العجم للطغرائي مترجمة إلى الإنجليزية والألمانية

ترجمة: د. بهجت عباس

***

English

Excerpt from Lamiyat al Ajam

Poet – Al-Tugraei (1061-1121)

Translator – Dr. Bahjat Abbas

***

Prudence fends me from foolishness

And merit’s jewel adorns me at bareness

*

Why residing in Baghdad, when neither my house

nor my belongings are there!

*

Your good thinking about the days is inability.

So think badness and be afraid of them.

*

Dignity spoke to me, and it is honest in what it says,

that the glory is in the movement.

*

I fill myself with hopes and watch over them

how narrow life would be without space of hope.

*

I wouldn’t have preferred that my life would extend

to see the state of scoundrels and lowlifes.

***

Deutsch

Auswahl aus Lamiyat al Ajam

Dichter – Al -Tugraei (1061-1121)

Übersetzer: Dr. Bahjat Abbas

*

Klugheit bewahrt mich vor der Torheit

Und Juwel des Verdienstes schmückt mich bei der Blöße.

*

Warum ist der Wohnsitz in Bagdad,

Wenn weder mein Haus noch meine Habseligkeiten dort wären?

*

Dein gutes Nachdenken über die Tage ist Unfähigkeit.

Denk also Böse und habe Angst vor ihnen.

*

Die Würde sprach zu mir und sie ist ehrlich in dem,

Was sie sagt, dass der Ruhm in der Bewegung liegt.

*

Ich erfülle mich mit Hoffnungen und wache über sie

Wie eng wäre das Leben ohne Raum der Hoffnung!

Ich hätte es nicht vorgezogen, mein Leben zu verlängern,

Bis ich den Staat der Schufte und Schurken sehe.

***

.....................

أبيات من لامية العجم - للطغرائي

أصالةُ الرأي صانتني عن الخَطَلِ

وحِليةُ الفضل زانتني لدى العطّلِ

*

فيمَ الإقامُة بالزوراءِ لا سَكَني

فبها ولا ناقتي فيها ولا جملي

*

إن العُلَا حدَّثتِني وهي صادقةٌ

في ما تُحدِّثُ أنَّ العزَّ في النُقَلِ

*

وحسنُ ظَنِّــكَ بالأيــام مَعْجـَزَةٌ

فظُنَّ شَرّاً وكنْ منها على وَجَلِ

*

أعلِّـلُ النفس بالآمــالِ أرقُـبُـــهــا

ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ

*

مــا كنتُ أُوثِــرُ أنْ يمتدَّ بـي زمنـي

حـتى أرى دولــةَ الأوغــادِ والسّفــلِ

***

...........................

مؤيد الدين أبو إسماعيل الحسين بن علي (455- 513 هـ) أو 1061  – 1121 م شاعر وأديب ووزير وكيميائي من أسرة عربية وكُنّي  بالطغرائي نسبة إلى من يكتب  الطغراء (الطرّة التي تُكتب بالقلم فوق البسملة تتضمّن نعوت الحاكم وألقابه) وهو من أحقاد أبي الأسود الدؤلي. وعندما وقعت بين السلطان مسعود السلجوقي وأخيه محمود نفرة وخلاف على الحكم وكانت الغلبة للسلطان محمود وقع الطغرائي في أسره، فرُميَ بالإلحاد من قبل بعض خصومه فحُكم عليه بالقتل وقُطع رأسه وكان في الستين من عمره.

قصة من الأدب الهولندي المعاصر.

بقلم: يائيل فان دير فودين

ترجمة: صالح الرزوق

***

في إحدى المرات نقلت حكاية عن أمي في حفل غداء فقال أحدهم: لا يمكن أن تبدأي حكاية بكلام عن الطقس. أجبت: حسنا. أمي سيئة الحظ لأن كل ما تفعله هو سرد القصص والكلام عن الطقس. وهذا أصدق تعبير يمكن أن يذكره أي إنسان عن أمي. حينما كنا صغارا تحرص على إشعال التلفزيون بموعد أخبار الساعة 8 ولكن تلجم صوته، وتخرج لتدخن سيجارتين. وتعود في 8:15  بالضبط، لتشاهد نشرة الطقس. تطقطق بلسانها لو أنه حار، وهو دائما حار جدا. وتطقطق أيضا على كلام المذيع، وتقول: "لا أحب هذا الإنسان".

كان الصيف في ذروته حينما روت القصة. اكتسح الهواء الإسمنت وأعالي السيارات وأبواب حظائر المركبات وأسقف الأكواخ المسطحة الجاثمة في الزوايا. وقالت إن صوت صرصار الليل ارتفع وغطى على حركة المرور. وأخذت السماء شكل صفيحة مشدودة ولم يغادر أحد بيته إلا بالخطأ. كانت بعمر تسع سنوات في القصة ومجرد طفلة. وحصل ذلك قبل فترة طويلة من وصولها إلى هذا البلد. وكان والداها يعيشان في شقة ضيقة كانت تسميها باعتزاز مقرفة. وتقول إنه حتى الجدران فيها تعرق. والنوافذ كذلك. وفي شهور الصيف لا يمكنك أن تحمل كوبا دون أن يفلت من قبضتك. ولا تستطيع الجلوس على كرسي أمام البيانو دون خطر الانزلاق عنه. كانت أمي تمقتها، تكره الرطوبة الشديدة، والطبقة الرقيقة التي تكونها بشكل ندوة عسلية. ولذلك أنفقت أيامها واقفة في وسط الردهة الأبرد: الساقان متباعدتان، والذراعان بمنأى عن جذعها.  وذلك بمحاولة جاهدة كي لا تلمس نفسها، أو تسمح لأي شيء آخر بلمسها. أقلق هذا والديها. كان كلاهما يعمل في البيت في ذلك الفصل - جدتي ترفو الثياب، وجدي يعد الأرقام - وهما موزعان بين المطبخ وغرفة الطعام. وكلما نظر أحدهما يشاهد والدتي في الردهة لا تتحرك. فيقول: "أليس لديك يا مانوش عمل أفضل تنشغلي به؟".

تقول:"لا". دون أن تتلامس شفتاها.

ثم تتوالى الأحداث. أحضرت الجدة قطة. وجدتها في الشارع  وهي عائدة من المتجر. قطة صغيرة، متسخة وذيلها متصلب، ومنتفش خلفها. قدمتها للبنت لتنشغل بها، وهذا رأي الجدة وهي تقدمها، وتحملها في البيت مثل جزدان. وجعلت الوالدة تعدها أن تعتني بها، وأقسمت على ذلك، وبصقت ثلاث مرات بين أصبعيها المرفوعين بشكل  V  . تفو، تفو، تفو.

أحبت والدتي القطة. حضنتها، وغنت لها، وغسلتها، ونامت معها أيضا رغم الحرارة. حاولت القطة أن تهرب، وغرست مخالبها في ظهر أمي أثناء نومها، ولكنها عانقتها بقوة، وأحكمت عناقها. سمتها جيجي. وكانت تتجول معها في البيت وتقبل أنفها الصغير وتغني لها الأغنيات. وكانت تقول لها :"أنت أختي يا جيجي. انظري. نحن متشابهتان". وأرخت شعرها فوق رأس القطة. ونتوالى الأحداث: كان كلاهما بلون بني خفيف. استمرت القطة مع العائلة أسبوعين قبل أن يجري ما حصل. استيقظت والدتي ورأت بجانبها بنتا بدل القطة. كان يوما رماديا حارا. هكذا أخبرتنا. يوم كتيم شمسه في السماء بشكل حفرة لها لون أحجار البناء. كانت البنت مستيقظة، وتدندن لنفسها، وهي مرتدية أحد أثواب الوالدة.

همست: “استعرت هذا. هل لديك مانع؟".

كانت الوالدة تقول دائما إنه كان لأنفاسها رائحة السمك والحليب. وأسنانها معكوفة في زاوية فمها. وكانت تبدو مثل ابنة خال، أو فرد من العائلة. قفزت أمي من السرير وبدأت بالصراخ  ورمي الأشياء حولها. كانت تمر بهذه النوبات، إنها أمي وأعرفها. حينما كنا أطفالا اعتدنا أن نسمي ذلك "الأفلام"، نقول مثلا - من كسر هذا، هل مرت ماما بفيلم؟ ولكن حينما كانت هي طفلة، لم يكن أحد يتكلم عن هذا الموضوع، وكان الجميع ينتظرون نهاية النوبة فقط. وكانت بالعادة تمر وينقضي كل شيء.

في ذلك اليوم خرجت أمي من غرفتها بمنامتها وقالت إن جيجي علقت في أعلى الخزانة، وإنها تحولت إلى بنت. أفلتت جدتي عدة الحياكة، ولكن ليس سيجارتها، وتبعت أمي إلى غرفة نومها. كانت جيجي خائفة من نوبة الوالدة، وقفزت إلى أعلى الخزانة، والتصقت بالجدار.

قالت جدتي للبنت وهي تعينها على الهبوط برقة: “تعالي يا حلوتي". وضعتها على الأرض، وتراجعت خطوة. دخنت. وقالت: “ثوبك يناسبها يا مانوش". ثم لمست القماش من الخلف وأضافت: “ربما يحتاج لتعديل هنا. لكنه مناسب. مناسب".

قالت أمي: “كلا. علينا أن نعيدها".

ضحكت جدتي وأرادت أن تعرف "نعيدها إلى أين؟"، وكان جواب أمي: "حسنا. لا يسعنا الاحتفاظ بها. فهي ليست قطة الآن". قالت جدتي وهي تفكر: “فعلا. ولكن أنت لست قطة كذلك".

بدأت أمي تتبخر من الغيظ، وصمتت. منحت جدتي البنتين قبلة تفوح منها رائحة التبغ وعادت إلى حياكتها.

وحسب كلام أمي إنه توجب عليها أن تأخذ جيجي معها إلى المدرسة بعد نهاية الصيف. وأصبحت جيجي تلميذة متفوقة.

قالت الوالدة: “لا أحد سألني لماذا لدي الآن أخت. ودعا الجميع جيجي إلى حفلات أعياد الميلاد وكانت تسأل، هل يمكن أن تأتي معي يا مانوش؟".

وكانت تصمت بالعادة. وتنفض رأسها. وتقول: “هل تتخيلين ذلك؟ هل يمكنك تخيل ذلك؟".

كنت أنا وأختي نلتزم الصمت. كلنا ولدنا، كنا أطفالا، وكبرنا. ولم يتحول أحدنا من مخلوق سابق في يوم صيفي حار. ولكن أسنان إحدانا كانت معقوفة. الثانية أصبح لها شعر شوكي ومنفوش في حالة الخوف. وأنا، إذا عانقني محب بإحكام، أنشب أظافري بظهر محبي وهو نائم.

سألنا الوالدة عن ذلك، مرة أو اثنتين. لم ترد. وتظاهرت كأننا لم نسأل أي شيء. وقالت عوضا عن ذلك: “من الأفضل أن لا يكون الجو حارا هذا الأسبوع. فالطقس حار دائما".

سألنا خالتي جيجي في إحدى المرات أيضا، حينما زارتنا مع سحابة من العطور والهدايا. قالت: “آه، يا لأمكم وقصصها". ثم بصقت ثلاث مرات بين أصبعين مفتوحين بشكل V  تفو، تفو، تفو.

***

.................................

* يائيل فان دير فودين  Yael van der Wouden

كاتبة ومحررة هولندية من أصول مختلطة. من أهم اعمالها "المأمن" 2024.

          

قصة: سامانتا شويبيلين

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

أعدّ تيجو بعض البيض المخفوق، لكن عندما جلس أخيرًا إلى الطاولة ونظر إلى طبق الطعام، اكتشف أنه غير قادر على تناوله.

سألتُه:

- ماذا هناك؟

تأخر في رفع نظره عن البيض.

قال:

- أنا قلق، أعتقد أنني أفتقد السرعة.

حرك ذراعه من جانب إلى آخر، ببطء وبشكل مثير للأعصاب، على ما يبدو عمدًا، وظل يحدق بي، كما لو كان ينتظر حكمي.قلت:

-  ليس لدي أدنى فكرة عما تتحدث عنه، أنت ما زلتُ نائمًا جدًا.

-  ألا ترى كم استغرق من الوقت للإجابة على الهاتف؟ أو فتح الباب، أو تناول كوب من الماء، أو تنظيف أسناني... إنه عذاب.

كان هناك وقت كان فيه تيجو يطير بسرعة أربعين كيلومترًا في الساعة. كان السيرك هو السماء؛ كنتُ أجرّ المدفع إلى وسط الساحة. كانت الأضواء تخفي الجمهور، لكننا كنا نسمع الصخب. كانت الستائر المخملية تنفتح ويظهر تيجو بقناعه الفضّي. كان يرفع ذراعيه لتلقي التصفيق. كانت بدلته الحمراء تتلألأ فوق الرمل. كنتُ أعتني بالبارود بينما كان هو يتسلق ويدخل بجسمه النحيف في المدفع. كانت الطبول تطلب الصمت وكل شيء كان يعتمد عليّ. لم يكن يُسمع سوى صوت أكياس الفوشار وسعال عصبي هنا وهناك. كنتُ أخرج علب الكبريت من جيبي. كنتُ أحتفظ بها في علبة فضية، أحتفظ بها حتى الآن. علبة صغيرة لكنها متألقة لدرجة أنها كانت مرئية من آخر درج في المدرجات. كنتُ أفتحها، أخرج عود ثقاب وأضعه على ورق الصنفرة في قاعدة العلبة. في تلك اللحظة كانت جميع الأنظار متجهة نحوي. بنقرة سريعة كان اللهب ينطلق. كنتُ أشعل الحبل. كان صوت الشرر يتوسع في كل الاتجاهات. كنتُ آخذ خطوات مسرحية إلى الوراء، موحيّة أن شيئًا رهيبًا سيحدث — الجمهور يراقب الفتيل وهو يشتعل  وفجأة: بوم. بينما تجو، كالسهم الأحمر اللامع، ينطلق بسرعة كبيرة.

ترك تيجو البيض جانبًا ورفع نفسه بصعوبة عن الكرسي. كان سمينًا، وكان كبيرًا في السن. كان يتنفس بصوت خشن، لأن عموده الفقري كان يضغط على ما لا أعلم من رئتيه، وكان يتنقل في المطبخ مستعينًا بالكراسي والمائدة، متوقفًا بين الحين والآخر للتفكير أو للراحة. أحيانًا كان يتنهد ببساطة ويواصل السير. مشى بصمت حتى عتبة المطبخ ثم توقف.قال:

- أعتقد أنني أفتقد السرعة.

نظر إلى البيض.

- أعتقد أنني سأموت.

دفعت الطبق إلى جانبي من الطاولة،  فقط لأثير غضبه.قال:

- هذا يحدث عندما يتوقف المرء عن أداء ما يجيد فعله بشكل جيد، هذا ما كنت أفكر فيه، أن المرء يموت.

تذوّقت البيض لكنه كان باردًا بالفعل. كانت تلك آخر محادثة بيننا، بعد ذلك مشي ثلاث خطوات غير متقنة نحو غرفة المعيشة، وسقط ميتًا على الأرض.

بعد بضعة أيام، جاءت صحفيّة من جريدة محلية لإجراء مقابلة معي. أعطيتها صورة موقعة للمقال، حيث كنا أنا وتيجو بجانب المدفع، هو يرتدي القناع وبدلته الحمراء، وأنا باللون الأزرق، أضع علبة الكبريت في يدي. بدت الفتاة مسرورة. أرادت معرفة المزيد عن تيجو، وسألتني إذا كان هناك شيء خاص أريد قوله عن وفاته، لكن لم يكن لدي الرغبة في مواصلة الحديث عن ذلك، ولم يخطر ببالي شيء. ولما لم تذهب، عرضت عليها شيئًا لتشرب. سألتُها:

-  قهوة؟

قالت:

بالطبع!

بدت وكأنها مستعدة للاستماع لي إلى الأبد. لكنني خدشت عود ثقاب على علبتي الفضية، لإشعال النار، فعلت ذلك عدة مرات، ولم يحدث شيء.

(تمت)

***

.......................

المؤلفة: سامانتا شويبلين / Samanta Schweblinكاتبة أرجنتينية من مواليد بوينوس آيرس عام 1978 حيث درست السينما والتليفزيون. حصلت مجموعاتها القصصية "نواة الاضطراب "و"عصافير في الفم" و"سبعة بيوت خاوية" على عدة جوائز محلية ودولية من ضمنها جائزة "خوان رولفو" وجائزة "بيت الأمريكتين" .

 

قصة: ليا جوفريسا

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

منذ بضع سنوات، سجلت نفسي في حمام سباحة. بما أن استخدامه في الصباح الباكر أو في فترة ما بعد الظهر كان أغلى بكثير، كنت أستيقظ في الساعة 10:45 وأكون على بُعد ثلاث شوارع من المنزل بحلول الساعة 11، وأغطي رأسي بالغطاء البلاستيكي وعيني بالنظارات الواقية. وتركت، بعد القفزة الأولى، كميات كبيرة من الكلور تنتهي من إيقاظي، وتناثر الماء.

من المفهوم أنه في منتصف الصباح، يكون معظم الناس، أو قسمهم المنتج، مشغولين. وهكذا، بينما كانت القوانين تُناقش والنزاعات تتصاعد، كنت أغطس في الماء؛ في الوقت الذي كان فيه موظفو المكاتب يفكرون في الغداء، كنت أركل الماء؛ كان الأطفال يستوعبون جرعاتهم من المعلومات بينما كنت أتنفس كل ضربة أو اثنتين أو ثلاث ضربات. بينما كانت تروس العالم تزيت تقدم من يعرف ما هي الطموحات، سبحت في دوائر: رش، رشفة، نفخة ولم أكن وحدي. سبح معي الكثير من السيدات العجائز.

لم تكن صحبة كبار السن ممتعة فحسب، بل كانت أيضًا، وقبل كل شيء، تقوي غروري.. كانت أسلوب سباحتي الضعيف يتيح لي مضاعفة، أحياناً حتى ثلاثية، سرعة زميلاتي، وبدت أطرافي الضعيفة قوية مقارنة بأطرافهن.

كانت إحدى النساء المسنات تخلع طرفها الصناعي قبل دخول الماء. كانت تتركه دائماً في نفس الزاوية، موازياً لحافة المسبح. كانت ساقاً بلون الأصفر المحمر، من البلاستيك الصلب، والتي كانت تحتوي على بعض البقع الداكنة في الركبة والكاحل، وملونة بشكل واضح. شيء ما في موقعه، أو في الطقوس القصيرة التي تسبق أخذ مكانها، كان يمنحها لمسة دينية. حتى وقت متأخر من منتصف النهار، كنا نحن المسنون، والمعاقون، والعاطلون، نقدم عبادة السباحة والبراعة، بينما كانت تلك الأطراف النحيلة، على قاعدة من بلاط الفسيفساء الفينيسي، تلمع بهالة خاصة، ساكنة. كانت الساق هي مذبحنا.

كان هناك أيضًا امرأة سمينة جداً تأتي إلى المسبح، وإن لم يكن ذلك بدافع رغبتها. عندما كانت ابنتها تذهب إلى غرفة الانتظار مع مجلة، كانت تجلس على الدرج لتتأرجح بأقدامها، وتبلل لحمها وتدردش، أو بشكل أكثر تحديداً، تقدم نصائح غير مناسبة لمن يستمع إليها؛ فكل معبد له واعظيه. "القوة يجب أن تأتي من هنا"، كانت تشرح للآخرين الذين لم يكن بإمكانهم تحديد النقطة المطلوبة بين طياتهم. ولكن المرأة السمينة كانت تعرف عما تتحدث لأنه، كما كانت تكرر علينا، قبل الثلاثين كانت سباحة محترفة .

من بين النساء المسنات، كان لدي المفضلة. كانت أكثرهن شيباً وكانت الوحيدة التي كانت تسبح فعلاً. كانت جميلة جداً، تمتلك أكثر العيون شحوباً التي رأيتها على الإطلاق. لم تكن عيوناً فاتحة، بل مغلفة: كأن أحدهم ربط قطعة قماش بيضاء دقيقة حول بؤبؤ العين. كنا نسبح معاً ونتوقف معاً. خلال الفواصل، كنا نزيل نظاراتنا وعندما كانت تتحدث إليّ، ربما عن أحفادها، كنت أسمح لنفسي بجولة ثابتة، شبه وقحة، عبر عينيها الضبابيتين. لم يبدو أنها تهتم. كنا نتحادث بفرح حيث كانت تتحدث، وأوافق، وكانت مياه عينيها تعكس عوالم الزمن المتوقف، التي تحتفل بالفواصل. كانت هذه المرأة في رأيي نبوءتنا.

كان هناك رجلان في المسبح. الأول كان أجنبياً. دائماً ما كان من الصعب تقدير عمر الآسيويين، لكنه كان كبيراً في السن نسبياً. ومع ذلك، كان يمتلك جسماً صغيراً ومضغوطاً وقليل من ملامح المحارب المستسلم. كان يسبح وحده. في الواقع، كان من الواضح من هيئته وملامحه أنه كان أيضاً، خارج الماء، من النوع الوحيد. أو ربما لا، ربما في المنزل كان ينتظره امرأة تقدم له عصيراً طازجاً يشكره بانحناء. من يدري، لأننا لم نتحدث معه أبداً. كان يجب أن يتحدث الإسبانية، لأنه يومياً، عندما كان يغادر وهو يرتدي ملابسه، كان يظهر له صحيفة محلية من تحت إبطه. كانت المرأة السمينة تسميه "الصيني" ولكن السكرتيرة، دائماً على الحراسة في الاستقبال، كانت تسميه "السيد". الحقيقة هي أن سباحته كانت تتجاوز أي غطسة لنا مهما كانت متقنة. كنت أحب التمسك بالحافة لأراقبه لأن سلاسته البطيئة كانت تأخذني دون قصد إلى أيام بعيدة جداً، عندما ارتكب والدي الخطأ الأولي في محاولة تهدئتي فترة المراهقة بدروس تاي تشي. كنا جميعاً نغار سراً من "السيد الصيني" على جديته، ولو كانت مجتمعنا الصغير قد بدأ نوعاً من الحملات، أو منافسة مع نادي مجاور، لكان هذا الرجل هو مختارنا، ممثلنا. لكننا لم نكن نتسابق هنا. كانت ساعات الصباح لدينا كقطط تحت الشمس.

خارج المسبح، على الجانب الآخر من الساق، كان المدرب. كان نحيفاً وقوي البنية ويعزف على البوق. عندما كنت أصل إلى المسبح، كانت أسوأ ساعات يومه قد مضت. كان واضحاً ذلك لأن اللوح الأبيض كان مليئاً بالملاحظات التي كان يكتبها بأقلام ملونة، للطلاب الذين تبدأ دروسهم مبكراً، والذين كانت روتيناتهم تتجاوز تعقيداً دوراتي العشر على الظهر، وسبع عشرة دورة على الصدر. سبحت تماماً نفس الشيء طوال تلك الأشهر، ولهذا أستطيع أن أقول كم تحسن أسلوبي وليلقتي البدنية.

استغل المدرب فترة الهدوء التي نعيشها، لممارسة تدريباته على البوق، وفي ذاكرتي كان صوت الأبواق مرتبطا برائحة الكلور. لقد تساءلت مرات عديدة من أين حصل على البوق. ليست الآلة بالطبع، بل الهواية. كما أعتقد أنه كان يركض أيضًا، أعتقد، لأن قمصانه كانت غالباً ما تحتفل بذكرى ماراثون ما. لكن أكثر خصائصه تميزاً كانت أنه كان يتجاهل المرأة السمينة بشكل تام. لم يكن يعطيها مهاماً ولا يصححها. بل، لم يكن يتحدث إليها، ولم ينظر إليها ولم يطلب منها أبدًا أن تتحرك على الرغم من أنها كانت تشغل السلم واضطر بقيتنا إلى الدخول والخروج من خلال لوحة الرش. تشير الراحة التي تجاهلا بها بعضهم البعض إلى تاريخ مشترك طويل. أصرت المرأة السمينة على تقديم نصيحتها الخاصة، والتي غالبًا ما كانت تتعارض مع نصيحته؛ ولكن بالنسبة له لم تكن هناك ببساطة، وبالتالي لم تصدر أي ضجيج. وعلى العكس من ذلك استقبل المدرب ابنة المرأة السمينة وودعها بلطف شديد، مع عناق وقبلة، كل صباح. كانت هذه المؤامرة واحدة من أعظم المتع التي منحتني إياها المسبح، ومثل الآخرين، كان محكومًا عليها بالانتهاء.

في إحدى الصباحات، دخلت إلى المسبح امرأة جديدة، تحمل حذاءها في يدها. حافية القدمين ومصممة، مشيت نحو المدرب. من الاستقبال، كانت السكرتيرة تومئ إليها بعبوس ذراعيها. عندما ذهبت لطلب المعلومات، أجبرتني السكرتيرة على النظر إلى المسبح من الخارج لأن "لا أحذية شوارع من هذه النقطة فصاعداً"، كما أوضح لافتة على الباب الزجاجي المتحرك. تمسكت بحافة لأراقب المرأة. كانت شابة ونحيلة وشعرت على الفور بالقلق. كان واضحاً أنه إذا سجلت، ستأخذ مني دوري كالشابة. ومع ذلك، عندما سمعتها تتحدث مع المدرب، الذي استمر بالضغط على مفاتيح البوق من خلف ظهره، لم أكن أعلم إذا كان بسبب التوتر أو لأنه لم يكن مستعداً لخسارة دقيقة من تدريبه، سمعتها تقول إنها لا تعرف السباحة. ارتحت. إذا لم تكن تعرف السباحة، فلن نواجه أي مشكلة. بل: سيكون من الجيد أن نحصل على بعض الدماء الجديدة. ربما تكون هذه المرأة في سني شخصاً يمكنني، على سبيل المثال، الدردشة معه في غرف الملابس أو تناول القهوة بعد التمرين. يمكنني أن أشاركها خبرتي المتزايدة في السباحة على الظهر والسباحة الحرة دون أن تنسى ذلك في غضون خمس دقائق، كما كان يحدث مع زميلاتي الأخريات. كان على زميلاتي الأخريات، بناءً على طلب المدرب، أن يحتفظن بحافة المسبح، بجانب زجاجة المياه الخاصة بهن، بآباق. لكن يومياً، كان أحدهن ينسى إحضاره، أو نقل الخرزات في نهاية كل لفة.

أتذكر أنني في تلك الليلة أخذت احتياطات إضافية وحلقت، لكي تترك انطباعًا جيدًا عني في اليوم التالي. لكن المرأة الشابة لم تعد. لا في الصباح التالي ولا بعده. انتظرتها أسبوعًا معتقدة أنها ستعود مع بداية الشهر الجديد، لأن السكرتيرة كانت ترفض تقسيم النصف الشهري. ولكن جاء الشهر ولم تَعُد المرأة. مع غيابها، بدأ بريق المسبح يخفّ تدريجيًا في عيني. إذا كان المسبح ليس جيدًا بما فيه الكفاية لها، فلماذا يجب أن يكون جيدًا بالنسبة لي؟ في نفس الوقت، كنت أعلم أن هذه الوسواس بالمقارنة مع غريبة لا أساس له، وأثر سلبًا على تركيزي، لذا قررت الاستمرار في السباحة حتى يمر. لكن الأمر لم يمر، وكل شيء بدأ في التدهور.

بعد أسبوعين، وجدت السكرتيرة وقد نثرت جميع الملفات على المكتب، وكانت أمام عينيها كمبيوتر جديد. شعرت بالمرارة عندما أخبرتني أنها تقوم بإدخال البيانات. كانت الملفات عبارة عن مستطيلات من الورق المقوى الأبيض، مزينة بخطوط زرقاء خفيفة، مكتوبة بواسطة آلة كاتبة، مع ثقب لكل نصف شهر ندفعه، لا شيء أكثر من ذلك. لكن في بطاقتي، كان اسمي مكتوبًا بشكل غير صحيح، ولم أكن قد صححته من قبل لأنني كنت أحب أن يكون لدي اسم مختلف في المسبح، مثل الاسم الذي يحصل عليه المتابعون في معبد هندوسي والذي عادة ما يعني شيئًا عظيمًا. كما توقعت، مع إدخال البيانات، جاءت السكرتيرة بنزعة نحو التصحيح الإملائي وأزالت هويتي السرية، وبدونها أصبح الذهاب إلى المسبح عملاً مؤلمًا. فجأة، أراد جسدي أن ينام أكثر وعلى الرغم من عدم تخلفي، بدأت في الوصول متأخرة كل يوم. أظهر المدرب استياءه؛ ورأت المرأة السمينة أنني كنت بحاجة إلى الراحة.

في محاولة لاستعادة حماسي، قررت أن أشتري لنفسي زي سباحة جديد. في اليوم الذي ارتديته فيه - كان لونه أخضر لامع،يتناقض بشكل حاد مع زي السباحة الأسود القديم - نظرت إليّ مسنّتي المفضلة وهي تشاهدني أقفز ثم أقترب منها، كما كنت أفعل كل صباح. ولكن عندما كنت بجانبها، قالت: "مرحبًا! هل أنت جديدة؟" لم يكن من الممكن أن أكذب عليها وربما كانت ستتعرف على صوتي، لذا اعترفت على الفور باسمي وبدأت في السباحة. لكن لا السباحة على الظهر ولا السباحة الحرة قد زالت عني خيبة الأمل من أنني لم أكن سوى بقعة من اللون بالنسبة للمسنة مجرد بقعة لونية، قابلة للتبديل بسهولة..

وصلت الأمور إلى ذروتها في يوم من الأيام عندما حضرت مديرة المسبح، التي لم أكن قد رأيتها من قبل، لتقوم بتفتيشها السنوي وقررت أن تلك الساق لا يمكن أن تبقى هناك. أخبرت صاحبة الساق أنها ستبتل وأنها لا تريد تحمل المسؤولية، ولكن عندما غادرت في ذلك اليوم، سمعتها تخبر السكرتيرة أن الأطراف الاصطناعية قد أعطت "انطباعًا غريبا" وأنها كانت تعطي "مظهرًا سيئًا" للمكان. لعنة على تلك الخرافات.

منذ ذلك الحين، عندما كانت صاحبة الساق تستلقي في الماء، كان المدرب يضع الأطراف الاصطناعية على رف، بين ألواح الطفو. من هناك، صلبة وأفقية، كانت الساق تُثير نفس الاحترام الذي تثيره الأشجار العملاقة الساقطة. لكنني لم أستطع التعود على النظام الجديد وفقدت حبي للطقوس. فجأة، أصبحت النساء المسنات ثقيلات، والصيني متعجرفًا، والمدرب غير مسؤول. في يوم من الأيام، استغليت ألمًا في كتفي لأغيب أسبوعًا ثم آخر، وفي النهاية لم أعد أذهب مرة أخرى. بالإضافة إلى ذلك، امتد فقدان إيماني إلى الحي بأسره حتى أصبح كل شيء هناك يسبب لي إزعاجًا لا يُطاق، وانتهى بي الأمر بالانتقال إلى مكان آخر. ثم حصلت على وظيفة واندفعت إلى الجزء المنتج من العالم.

بفضل راتبي الحالي، كان بإمكاني دفع تكاليف دروس السباحة المبكرة، لكن في ذلك الوقت لم يكن الناس يؤمنون بأي شيء.

(تمت)

***

.......................

المؤلفة: ليا جوفريسا /laia jufresa: (ولدت عام 1983) هي كاتبة مكسيكية. ولدت في مدينة مكسيكو وترعرعت في فيراكروز وباريس. درست في السوربون وتخرجت بدرجة بكالوريوس في الفنون. كما عاشت في مدن أخرى مثل مكسيكو سيتي، بوينس آيرس، ماديسون، ويسكونسن، وكولونيا، ألمانيا. وهي معروفة بشكل خاص بروايتها الأولى "أومامي"، التي تُرجمت إلى عدة لغات. في عام 2017، تم اختيارها ضمن قائمة بوغوتا39، وهي قائمة تضم أبرز الكتاب الشباب الواعدين في أمريكا اللاتينية.

(عندما تنظر إليّ، ترى نفسك. وعندما أنظر إليك، أرى الآخرين )

بقلم: ريجينا بورتر

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كان هناك فتات خبز على طريقة "هانسل وجريتل" تروي حكاية العلاقات التي فقدها ثيو على الطريق. نساء ورجال دافئوا جزءًا منه يفضل أن ينساه. دوناتيلا، تاجرة التحف المكسيكية الجميلة التي سافرت مع ثيو من باتون روج إلى نيو أورلينز في رحلة لعرض التحف، لقد تم التخلي عنها أثناء قيلولتها بعد الظهر في فندق كولومز. خلال ساعة السعادة في الليلة السابقة، كانت قد أخذت رشفة من مشروب "بيليني" الخاص بثيو وقالت:

- انظر، نحن تقريباً نفس اللون .

أجاب ثيو:

- لا، لسنا كذلك.

- نعم، نحن كذلك.

لمست دوناتيلا وجهه بخفة بأصابعها البرونزية المثقلة بثلاث خواتم. كانت شمس لويزيانا حارقة، ولكن حتى في ولاية أيوا، خلال أيام نهاية العام الدراسي في مايو، كان ثيو دائمًا يحمل لونًا داكنًا يتنافس مع عدد قليل من الطلاب السود. وقد عانى كثيرًا بسبب ذلك.

قال:

- ربما تحرقك الحرارة هنا ، في نيويورك، يعاني الجميع من نقص فيتامين د.

كانت دوناتيلا ذات قوام ممتلئ، وتتناول طعامها بحذر حتى لا تتحول منحنياتها إلى بدانة مقلقة. كانت تفضل الفساتين ذات الألوان الزاهية والملمس المميز الذي كان يفعل شيئًا رائعًا لبشرتها، بريق طبيعي يومي، ليس كالتعرق. لاحقًا، سيدفع الناس مقابل زجاجات رش من التونك لتحقيق نوع البريق الذي تمتلكه دوناتيلا (وثيو). كيف كانا يتناولان بسرور كالحيوانات غير المهذبة جراد البحر الغارق في التوابل الكاجونية الحارة، ثم يصلان إلى مناديل مبللة بالليمون لإزالة رائحة جراد البحر من أيديهما. كانت الرائحة تبقى وتمنحهما العذر الذي لم يكونا بحاجة إليه ليمصا أصابع بعضهما البعض، الإبهام، والسبابة، وراحة اليد الداخلية محاولين لعق الرائحة بعيدًا لكنهما يفركانها على جسديهما في الليل.

عندما سألته دوناتيلا فجاة، "هل تؤمن بالحياة الماضية؟" لقد أعطت ثيو العذر الذي يحتاجه للنظر إلى السقف في السرير ذي الأعمدة الأربعة والتوجه إلى الداخل. ربما كانت الحياة التي كانا يعيشانها في تلك اللحظة حياة سابقة بالنسبة لثيو.

قال:

- من الصعب بما فيه الكفاية العيش في الوقت الحاضر. لا يعرف معظم الناس كيفية القيام بذلك. في بعض الأحيان أعتقد أن اللحظة الحالية هي الأفضل.

وافقته دوناتيلا، ووضعت رأسها على صدره.

- هذا يبدو صحيحًا جدًا.

استمعت إلى دقات قلبه.

يا إلهي، بالتأكيد فعلت. بالتأكيد حدث ذلك. لكن ثيو بالكاد كان يعرفها. كان إحساس الراحة البسيط والمشاعر الدافئة يخيفه بشدة. راقب ثيو دوناتيلا وهي نائمة لأكثر من ساعة، ثم ترك رسالة قصيرة على المنضدة الزنك. كتب فى الرسالة: "دوناتيلا، الأمر ليس متعلقًا بكِ. إنه أنا."

دفع ثيو الفاتورة في مكتب الاستقبال وهو يغادر الفندق. لم يكن هناك أي أمل في نجاح علاقة عبر ساحلين. كانت دوناتيلا تعيش في لوس أنجلوس، مع الحرائق ونقص المياه. والطرق السريعة ذات الستة ممرات والحياة البرية التي يمكن أن تحولها من ناقمة على العصر الجديد إلى مهووسة به ، وعلى الرغم من تطورها، فقد تماهت بقوة مع كونها مكسيكية، حيث كانت تستعمل الإنجليزية والإسبانية أثناء المحادثة بسرعة قياسية، متوقعة منه أن يواكبها ويتأقلم مع لغتها. كان يفضل العبارات الإنجليزية البسيطة والجمل التقريرية.

مرة أو مرتين أثناء ممارسة الجنس مع صديقته التي أصبحت الآن زوجته، دارلا، نطق باسم دوناتيلا. كان ممتنًا لأن كلا الاسمين يبدأان بحرفي الدال والألف، ولحسن الحظ أن الطبيعة الغريزية للجنس جعلت دارلا لا تلاحظ.

***

كان ويد، طيارا يعيش في أوستن ويعمل لدى شركة ساوثويست. التقى به ثيو خلال توقف في مطار أوهير بشيكاغو. لاحظا بعضهما في طابور للحصول على فشار جاريت ميكس، واشترى كل منهما دلوًا بسعة عشر أونصات. ثم جلسا جنبًا إلى جنب لتلقي جلسة تدليك للظهر لمدة عشر دقائق في إحدى محطات التدليك بالمطار، حيث تبادلا الأحاديث الصغيرة بينما كانت امرأتان لم ينظرا إليهما مطلقًا تدلكان ظهريهما. لم يكن ثيو يعتقد أن الأشخاص ذوي الشعر الأحمر جذابون إلى هذه الدرجة، وكان ويد هو الرجل الوحيد ذي الشعر الأحمر الذي جعله يعيد التفكير فيما كان يعتبره حقيقة. عندما افترقا، تبادلا أرقام الهواتف، وفي الأسابيع التي تلت ذلك، ظهرت خطة لثيو لاصطحاب وايد في بوسطن والقيادة معًا إلى منتزه أكاديا الوطني في ولاية مين. أقاما في نزل على جزيرة ماونت ديزرت، حيث سأله موظف الاستقبال، "هل أنتما شقيقان؟" وقال وايد، الذي خرج قبل عامين، "أكثر".

كان ويد من هواة مراقبة الطيور وعلم ثيو أصواتها المختلفة: "تويتشتي-ويتشتي-ويتش" للعصفور الأصفر الشائع؛ "ززززز" لعصفور الحنجرة السوداء الخضراء؛ و"تشر، تشر، تشر" لطائر الفرن. أصوات الطيور التي غناها ثيو فيما بعد لزوجته الشابة، والتي أعادت إنتاجها بدقة على آلة الباسون. في صباح أحد الأيام، بعد مراقبة النسور الصلعاء وهي تهبط من السماء لتصيد فريستها بمخالبها، ، وجد ثيو وويد بحيرة للاستمتاع بالسباحة والجنس. ودون علمهما، كانت البحيرة مليئة بالعلقات.

قال وايد، وهو يلتقط العلق من ظهر ثيو:

- أحب طقس الساحل الشرقي ، ليس لدينا مواسم حقيقية في أوستن .

- هذا يعني أنه سيتعين عليك العودة لزيارة أطول.

عانق وايد ثيو بقوة:

- ربما لن أغادر أبدًا .

- ألا تحب أوستن؟

قال وايد :

- أوستن رائعة، لقد حافظت على الكثير من الصداقات بعد طلاقي. في بعض الأحيان أفضل ما يمكنك فعله هو الحفاظ عليها. وتقليص خسائرك .

غطس ثيو في البحيرة للسباحة الأخيرة.

قال وايد، وهو ينظر إلى ساعته مع مرور الوقت:

- هي ، ألا تشعر بالبرد هناك؟

خرج ثيو من البحيرة وهو يرتعش، وعندما مد ويد يده للتحقق من وجود العلق، دفع ثيو يده بعيدًا.

- أستطيع التعامل مع مصاصي الدماء بنفسي.

لم يكن ويد أحمق. كانت الرحلة من منتزه أكاديا الوطني إلى مطار بوسطن كالمشي حافي القدمين عبر سيبيريا. كانت هناك قشعريرة وصقيع ومشروب فرابوك سينو موكا منسكب على مقعد الراكب بينما كان وايد يودع ثيو. شعر ثيو بالارتياح لعدم وجود موقف سيارات على جانب الطريق للمغادرين.

قال ثيو:

- هل أفسدت هذه السيارة المستأجرة عمدًا؟

فأخرج وايد ورقة نقدية بقيمة مائة دولار وقال

- حقًا .

- لم أفعل .

في ولاية كونيتيكت، وجد ثيو مغسلة سيارات. وبينما كان يشاهد فقاعات الصابون السائل تملأ السيارة المستأجرة، سمع نفسه يقول: "كفى رحلات برية مع الغرباء".

***

كانت فيكتوريا، مدرسّة إنجليزية كلغة ثانية من ترينيداد تحمل شهادة في العلوم السياسية من السوربون. كانت تحافظ على شعرها مصففا على طريقة كونداليزا رايس وتذهب مباشرة إلى الحمام لتصفيفه بعد ممارسة الجنس. أحب ثيو الحركات التي كانت تقوم بها فيكتوريا عندما كان يمد يده لملامسة شعرها، وهو ما كان يعرف أنه محظور تمامًا. كان الجزء المحظور يملأه بالفضول. في أحد أيام الأحد أثناء ركوب حافلة صغيرة إلى ساغ هاربور لحضور تجمع مع الأصدقاء، أصبحت فيكتوريا حالمة بأيامها الخوالي في السوربون. نظر ثيو من مجلة "Architectural Digest" التي كان يقرأها. كانت فيكتوريا قد تخرجت في أعلى مراتب صفها. كان ثيو طالبًا بمعدل B في أفضل حالاته. أغلق مجلته ومرر أصابعه عبر شعر فيكتوريا كما لو كان يحرث حقلاً من الملفوف.

- توقف! ماذا تفعل بحق الجحيم؟

صرخت فيكتوريا، وهي تربت على شعرها بينما كان ثيو يسرع في تمرير أصابعه عبر شعرها من زاوية مختلفة.

- أبحث عن المعرفة والطمأنينة .

حضرت فيكتوريا التجمع وحدها. بينما كان ثيو يتجول في متحف صيد الحيتان في شارع مايِن في ساغ هاربور، كان ينتظر حافلة صغيرة للعودة إلى مانهاتن.

***

كان كريس بيم أكبر بخمس عشرة سنة، ولديه شارب جعله يبدو وكأنه بلا شفة عليا. دخل إلى متجر "ABC Carpet & Home" في إحدى الأمسيات واختار أربع كراسي مطبخ حديثة. كان يحتاجها لحفلة في حديقة في تشيلسي في نفس المساء. قال كريس بيم، وهو يقدم لثيو إكرامية كبيرة: "إنها تجمع للرجال،" وطلب منه التأكد من توصيل الكراسي في نفس اليوم وفي الوقت المحدد دون أي خدش أو عيب. كان منزله يقع عبر الشارع من حديقة، في مبنى مكون من ثلاثة طوابق في شارع ستة عشر. لم يبقَ ثيو طويلاً، بل انتقل من غرفة إلى أخرى وهو يمرر يديه على الأثاث، غير مبالٍ بالنُدُل الذين كانوا يرتدون سراويل وقمصان سوداء وجوارب سوداء، وغير مهتم بالمقبلات والكوكتيلات. غير مهتم بالمقبلات والكوكتيلات. كان بيم يراقب ثيو وهو يتلذذ بمنزله.

- يعتقد أصدقائي أنك لص.

قال ثيو :

- لا، لكنني الآن أشعر بحسد شديد تجاه المنزل.

- سأذهب إلى معرض سيارات في نهاية هذا الأسبوع في بنسلفانيا. مع توقف في فيلادلفيا. مسقط رأسي. هل تود الانضمام؟

هز ثيو رأسه:

- لا أجيد الرحلات. مع الأولاد أو البنات.

كان ثيو لا يزال يشارك شقة مع زملاء سكنه الذين كانوا يذهبون إلى حفلات بأسلوب الأولاد الجامعيين بعد خمس سنوات من تخرجهم من جامعة نيويورك. كان مصمماً على استئجار مكان رخيص حتى يتمكن من شراء منزله الخاص. بخلاف تناول الإفطار في مطعم "فيسيلكا"، لم يكن لديه الكثير من القواسم المشتركة مع زملائه في السكن. لكن مع عدم وجود شيء آخر يفعله في عطلة نهاية الأسبوع تلك، قبل دعوة كريس بيم.

ما تلا ذلك كان رحلات نهاية أسبوع منتظمة—كان كريس بيم يبيع سيارات قديمة في جميع أنحاء نيو إنجلاند ومنطقة الثلاث ولايات. خلال عرض للسيارات القديمة في هيرشي، بنسلفانيا، لاحظ كريس بيم ثيو وهو معجب بسيارة إلدورادو ذات اللون الأزرق المائي. اشترى السيارة على الفور وسلم ثيو المفاتيح.

قال ثيو:

- لا يمكنك أن تعطي الناس أشياءً هكذا فقط ألا تعرف أنهم سيكرهونك بسبب ذلك؟

- ثيو، لا يمكنك أن تكرهني أبداً.

وكانت هذه الحقيقة، فقد كانت هذه أطول وأشد علاقة عاشها ثيو. كان ثيو قد اعتاد على أن يكون دائماً القائد، لكن كريس بيم كان هو من يقوده. بدأ ثيو في اختيار قطع الأثاث لأصدقاء كريس بيم، الذين كانوا يثنون على الإضافات التي قام بها ثيو في منزل تشيلسي وشقة جيرسي شور. ومع ذلك، كان ثيو لا يزال يقيم علاقات مع النساء من حين لآخر عندما كان كريس بيم يعمل أو يخرج مع الأصدقاء أو يرى عائلته أو لا يهتم .

ومع ذلك، كان كريس بيم في حيرة حقيقية بعد مرور عام على علاقتهما عندما دعا ثيو للانتقال للعيش معه وترك الأولاد الجامعيين لتدنى مستواهم.

قال ثيو، وقد بدأ في تعبئة القليل من الأشياء التي كانت تخصه في المنزل.

- لا .

- ما المشكلة؟

- ليس أنت، كريس. إنه أنا.

لم يكن كريس بيم ليتخلى عن الأمر بسهولة.

- هل ذلك لأنني أكبر سناً؟

ابتسم ثيو وقال :

- ذات يوم سأكون عجوزًا أيضًا.

سكب كريس بيم مشروبًا :

- ثيو، لقد ظهرت لي كالكثير من الأشياء. لكن السطحية ليست واحدة منها.

- ماذا تعني بذلك بالضبط؟

- بالنسبة لبعضنا، فإن المتعة أمر لا يطاق.

قال ثيو، وهو يتجاهل كريس بيم على هاتفه بينما كان يقف ويتحدث معه:

- أنا بشر. يمكن للإنسان أن يعتاد على أي شيء.

- خرج من منزلي أيها القذر الجاحد.

ظن ثيو أن كريس بيم سيستخدم علاقاته لطرده من عمله في ABC. انتظر أن يتم استعادة سيارة الإلدورادو، التي لم يتم نقل ملكيتها إليه بعد،وكان يعتقد أن قائمة العملاء، من المثليين والمستقيمين، التي بدأ ثيو في تكوينها بفضل كريس بيم، سوف تقل وتتلاشى ، لكنهم استمروا في الاتصال بثيو حتى بعد أن أقام في بروكلين.

في الأسبوع الذي كان من المقرر أن ينتقل فيه ثيو، جاء كريس بيم إلى شقته في إيست فيليدج في شارع الحادي عشر وشارع أ. جاء ثيو للقائه على الرصيف، مستعداً لإعادة مفاتيح السيارة.

سأل مرة أخرى:

- هل هو لأنني أكبر سناً؟

قدم ثيو مفاتيح الإلدورادو إليه:

- من الأفضل عدم اكلام …

قال كريس بيم بحدة:

- احتفظ بالسيارة اللعينة. كنت أظن أن لدينا شيئاً هنا.

قال ثيو، وهو يضع المفاتيح في جيبه:

- كريس, عندما تنظر إليّ، ترى نفسك. وعندما أنظر إليك، أرى الآخرين .

(انتهى المقتطف)

***

..........................

* مقتطف من رواية " لقد رحل الأغنياء " للكاتبة ريجينا بورتر، والتي ستنشر عن دار هوغارث، إحدى دور النشر التابعة لدار نشر بينجوين راندوم هاوس.هذا العام 2024.

المؤلفة: ريجينا بورتر/ Regina Porter روائية أمريكية وكاتبة مسرحية حائزة على جوائز ومعلمة كتابة إبداعية. تقيم حاليًا في بروكلين، نيويورك لكنها ولدت في سافانا، جورجيا. وهي خريجة برنامج الماجستير في الفنون الجميلة الشهير في ورشة عمل كتاب أيوا، ومن بين خريجيها البارزين جين سمايلي وفيليب روث. صدرت روايتها الأولى " المسافرون / The Travelers عام 2019 وقد نالت إشادة النقاد بوصفها رواية سياسية ، ويصدر لها هذا العام رواية : لقد رحل الأغنياء / The Rich People Have Gone Away التى نترجم منها هذا المقتطف القصير .

 

بقلم: لينيا رودريغز إغلسياس

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

فكرة الكتاب الأولية كما وضعتها الكاتبة - وهي ليست أنا، أنا فقط حيوانتها المدللة وأداة إلهامها - هو كتابة خمس عشرة قصة، كلها بضمير المتكلم، ليشعر القارئ بقربه من النص. وكلها تنبع مني وتدور حولي.  وحتى الآن تتطور الأحداث بشكل مناسب، وهذا آخر نص، وهو الخامس عشر، ولكن لا يوجد أي أثر مني في أي جزء منه. أعني أنه لا يوجد أي أثر من وجودي الحقيقي والمحسوس والواضح، وهو وحده الذي يبرر عنوان الكتاب. باستثناء حضور محسوس في عبارات رقيقة تجد مكانا لها بين القصص. ولأكون صادقة معكم لا أراها قصصا مسلية. أما الجمل اللماحة التي تأتي بها وتكتبها طيلة الوقت فهي موجودة في صفحتها على الفيس بوك ويبدي الناس إعجابهم بها. ربما يتوجب عليها المزيد من التركيز. رأيتها تكتب كل الوقت ولا تنام، ربما نامت ثلاث ساعات متواصلة، وكنت أسأل نفسي ماذا تكتب. وكانت منغمسة بثلاث كتب في نفس الوقت، كانت تبدأ مشروعا في أحد الأيام، ثم تنتقل إلى غيره وتبدأ به، ولا تتوقف حتى ينتهي كلاهما. وهذا مجهد، ويحتاج لشخص موهوب وذكي. ولا أعلم إن كانت هذه الصفات تنطبق عليها.

مثلا في ذلك اليوم نهضت من كرسيها وبدأت بإعداد القهوة. نظرت لي بطرف عينها وقالت:"هل يحب أن نصل إلى هذه المرحلة، وأوبخك، وأصرخ عليك، وأضربك في عينيك بالصندل؟". وكل هذا لأنني أسرعت إلى السرير، وقفزت عليه، وقبضت على أقرب شيء من حافته - وكان زوجا من الجوارب وحمالة صدر "فور إيفر 21" - وبدأت أمضغها وأهزها وألهو بها حتى تحول كل شيء إلى مزق سود. ولم أكن أعلم هل ستقبل مني ذلك أم لا.

وما قلته عن الصندل والضرب في العينين كلام مجازي. كانت تدربني وتجبرني على طاعتها بطرق الصندل على الأرض، وهذا شيء يفزعني جدا، وإذا شئت الحقيقة يدعوني للتمسك بالحكمة. وكانت تعنفني وتوبخني، وأحيانا إذا انتبهت وهي بمنتصف تعنيفها وتوبيخها أنني جميلة تحضن رأسي وتضغط عليه بعاطفة جياشة. وأخبرت الجميع أنني ضفجاج. والكلمة هي محصل دمج كلمة ضفدع ودجاجة. وتقول إنني بدينة مثل ضفدع ولي عينان كعيون الدجاج، كل عين على طرف من الوجه، وكأنني لا أستطيع النظر إلى الأمام، ولكن للجوانب. وقالت أيضا إنني سمكة. وقدمتني للزوار بصوت مرتفع:"انظروا. سمكة" فانهال أصدقاؤها على الضفجاج   وعلى السمكة التي هي أنا بالقبلات. وتوقفت عن تناول الطعام لأنها تفتقد لشخص والدي. وكلمة والد من اختراعها. وأنا سعيدة لأنها كلما قللت طعامها تكتب أكثر. ولكن حين تبدأ بالأكل لا تكتب. وإذا باشرت بالقراءة لا تكتب. وعليها أن تكون مسترخية تماما ودون مشاغل وهستيرية لتقدم في النهاية نصا مدهشا فعلا.  هكذا تكتب أفضل ما لديها. حين تكون بحالة يأس مطبق. فأنا الوحيدة التي تأنس لها، وأنا متفهمة ومرتاحة لذلك. وكانت تتخلص من ثيابها وتستحم وتستلقي على طرف السرير فألعق ذراعها حتى توبخني. وهي شهية حين يكون جلدها مبلولا. يكون طعمها كالصابون والمواد المطرية. فهي تستعمل المطري الذي له طعم الفواكه المجففة. وأحب ذلك. أحبه. أحبه.

نهضت وباشرت بالكتابة عارية وفجأة ضغطت على زر الصوت، وغادرت الكرسي وحملتني وبدأنا نرقص معا رقصة "لا بيليروبينا" أو أي أغنية غيرها لخوان لويس غويرا أو ريتا إنديانا أو سواهما. وهي معزوفات خاصة بحفلات نقيمها كلانا فقط. وها هي الحفلة تبدأ الآن وهنا. وحينما يكون هذا الشخص الذي هو والدي موجودا في البيت أيا كانت هويته تراقصه هو فقط. ونكون ثلاثتنا عراة وأنا عارية دائما. فأجري بجنون في غرفة المعيشة وأعتقد أن هذا هو الرقص. الجري والرقص شيء واحد بنظري. وحينما ترقص مع والدي يتعانقان بقوة وتقريبا لا يمكنها أداء الرقصة. وهي تحن لوالدي وأنا كذلك، ولكن حاليا أنا ما تبقى لها. وهذا بحد ذاته أمر طيب. فأنا مصدر إلهامها ولذلك سأكون البطلة الوحيدة في كتبها. وسيسمع بي كل العالم ويتعرف علي.

طبخت حساء الجزر والفجل والفاصولياء وتناولناه معا، وبما أنها مهووسة بالتكرار قطعت خمسا وعشرين شريحة جزر وخمسا وعشرين فجلة وخمسة وعشرين قرن فاصولياء. حساء، لا شيئ يشبهه في العالم ويتكون من خمس وسبعين قطعة خضار.  وقدمت لي كمية منه مع وجبة الأرز والبطاطا الحلوة اليومية.

مرة واحدة فقط أصابتني لحمة ديك الحبش المفرومة بالتسمم، وتوقفت عن هدر نقودها عليه بعدئذ، حتى أنها لم تعد تأكل منه. جحظت عيناي وأصابني التحسس. صاحت:"النجدة. تحولت إلى سمكة". وانخرطت بالبكاء، واتصلت بصديقة على الهاتف ودست حبة في فمي لأنني لم أقبل بابتلاعها.  بعد فترة شعرت بالتحسن وعادت عيناي لطبيعتهما، عينا ضفدع، كبيرتان وخضراوان ورقيقتان.

وإذا فكرت بأولاد فهذا من أجلي فقط، لتسكب كل أمومتها على الطفل الجديد. وستجعل الطفل بطل كتبها وشعرها، وستصحبه إلى الأمسيات الأدبية والأفلام والمسرح، بنفس الطريقة التي تتبعها معي الآن - فهي تصحبني إلى كل مكان وينظر إليها الآخرون كما لو أنها حمقاء تعاني من عقدة الأمومة المرضية. وأسفت لها صديقاتها لأنها تعيش في شقة مستأجرة كلفتها باهظة وعلى ساق وذراع. وربما ما هو أغلى - ثروة تساوي قيمة عينها. أنا أيضا كلفتها ثروة تقدر بثمن عين، وإذا نظرتم إلى الموضوع بهذه الطريقة ستكون مؤلفة هذا الكتاب أوديبة مؤنثة. وأنا أذكر أوديب لأنني أعلم أن الكلام عن المسرح يعزيها ويسعدها. أي شيء له علاقة بالمسرح يعزيها ويسعدها. والشخص المفروض أنه أبي يعمل بالمسرح وكل ما له علاقة بأجوائه. بلغت قيمتي ما يعادل خمس شهور إيجار. وكانت عائدة للتو من مهرجان الشعر في ميامي بقليل من المردود المالي، ومرت فترة طيبة قبل أن نعود للوضع السيء. ولكنها بعد ذلك شعرت بالحالة وكأنها نوبة طارئة، وقررت أن الشيء الوحيد الذي يفرحها هو كلب غراي هاوند إيطالي حديث الولادة أو كلبة بول دوغ فرنسية حديثة الولادة.

وهذا هو سبب وجودي في هذه القصة التي تدور حولي وحولها. ولا علم لأحد بذلك، لا عائلتها، ولا صديقاتها، ولا أعدائها. وأعتقد أنه بعد نشر الكتاب سيكتشف الجميع ما جرى ويفغرون أفواههم علامة على الدهشة.

وأعلم أنه على هذا النص، وهو الأخير، أن يكون شاملا ومؤثرا، وينتهي بمحنة مع رأي نقدي، وهذا ما يحصل تقريبا في كل الكتب وكل الأفلام والمسرحيات،  الدقائق الأخيرة   تفيض على القارئ. ولكن ليس هذا هو الحال هنا، فهذا نص غايته التوضيح. وأود أن أعلق به على أحاسيسي عن الحياة البشرية. مع أنه لا يليق أن أراقب سيدتي وهي تتعامل مع صديقاتها. ولكن يمكنني أن أحدد الصديقة الطيبة القادمة بزيارة، ويمكنني أن أحدد من هي صديقة فقط، أو إذا كانت الزائرة لا تعنيها ولو بالحد الأدنى، أو أنها شخص لا تحتمله أبدا. ويمكن أن أحدد من تنتمي إلى العائلة ومن ليس منها. وأفضل صديقاتها هن عائلتها.

وتحتاج لوقت طويل لقراءة كتاب مضجر، وأحيانا تستمع لصوتها الداخلي وتترك تلك الكتب وهي بمنتصفها  ولا تنهيها.  وتقرأ الكتاب الذي يعجبها بسرعة فائقة. بغضون ساعات. ولكنها لا تنسى أن تطعمني، وتقدم لي الماء، وتشطف بولي.

في البداية كانت تجفف بولي بممسحة قماشية تغسلها وتعصرها. ثم علمها الشخص الذي هو والدي سحر الصحف، وبعد ذلك لم تكلف نفسها متاعب الغسل والعصر. ووفرت على نفسها العمل والتنظيف والوقت.

وبعد أن غادر الشخص الذي هو أبي شعرت بزيادة ارتباطها معي. رأيتها تبكي فاقتربت منها ولعقت بشرتها بنعومة فنظرت لي وشكرتني. وقالت:"حبيبتي، سمكتي، سمكتي الصغيرة". وزاد ذلك من حاجتها للبكاء فبدأت أعوي وألعقها. رددت:"حبيبتي. سمكتي. يا سمكتي الصغيرة". واستمر المشهد على هذا المنوال حتى جففت دموعها وقالت:"يكفي". أحيانا كانت تقسو علي وعلى نفسها. وتكون صارمة أثناء الكتابة، وتنتقم بالكتابة من المنغصات التي تواجهها. ليس مثل سواها من الكتاب والفنانين، الذين ينتقمون لأنفسهم بطرق متباينة. وإذا توفر لها شيء طيب لتأكله، تترك لي نصفه.

وإذا نسخت فيلما جديدا وجيدا تتيح لي رؤية الشاشة، مع أنها تعلم أن الكلاب لا تفهم الأفلام ولو أنها ذكية مثلي.  وإذا دعيت إلى حفلة، تصحبني معها. وإذا توقعت أن الشمس أو المسافة ستصيبني بالإرهاق تتركني في البيت وتمتنع عن تلبية الدعوة أيضا. ونقيم حفلتنا في البيت. وهي تحتفل بعيد ميلادي شهريا. أنا مولودة في السابع من شباط، وفي السابع من كل شهر، أكبر سنة، وفي ذلك اليوم أتناول طعامي كالعادة، على أن يكون مطهيا على نار هادئة ومغمورا بالماء، وبلا ملح أو زيت، وأتلقى شحنة من الحب كالعادة، وأشعر أن لهذا اليوم خصوصيته. وينبئني بذلك شيء ما في صوتها وعينيها.

وأن تكتب كتابا موضوعه رابطة أو عاطفة أو جو غروتسكي وبطله حيوان منزلي، وفي هذه الحالة كلبة، ليس أمرا غير مسبوق. التاريخ الأدبي حافل بأمثلة مشابهة. حتى أنطون تشيخوف، وهو مسرحي، كتب عن الكلب، وأذكركم بقصة جادة كتبها للأطفال وهي "الجبين الأبيض". أنا لي جبين أبيض أيضا، مثل جرو قصة تشيخوف.

تدور حكاية تشيخوف حول ذئبة تربي جراء حيوان من نوع آخر. ويتكرر نفس الشيء في هذا الكتاب، فالكاتبة تربيني، وأنا لست من نوعها، وبعيدة عنها تماما. المسألة فعليا ليست بهذا السياق، وهي حول موضوع مختلف، ولكن توهمت ذلك بعد أن عرضت علي الصور. كنت أعرف كيف أقفز على الأثاث وأفضل النوم عليها وليس على الأرض، حتى لو أنها حارة. ولكن إذا غادرت السرير حيث تقرأ دائما، أو إذا تقلبت في السرير، أو أبعدت عنها الأغطية، أو إذا ذهبت لتتبول في الحمام، أو إلى المطبخ لتشرب كاس ماء، أو أي شيء آخر، لا يسعني إلا أن أفتح عيني، وأنصب أذني، ثم أنظر إليها، وأتبعها. كم أحبها. فهي أمي. كنت أعد الأيام وهذا ثالث يوم لها في السرير قبل مغادرته. راقبتها وهي تستلقي قبل أمس في السرير بعد أن أطعمتني وقدمت لي الماء. تناولت مجموعة من الحبوب من حقيبتها وابتلعتها بعصبية. حتى أنها سمحت لي بالقفز على السرير وتمزيق سروال كانت تفضله. ولم أمزقه بنية شريرة ولكن لأنني أحب رائحتها كثيرا. وقبل أن تذهب للنوم لاحظت أنها  تقرأ كتابا من تأليف كويتزي، وهو كاتب تفضله وتنهل من كتبه كأنها ماء. راقبتها وهي تقرأ، وكنت على الكنبة فوق الوسادة، ولكن غلبني النعاس. وحينما استيقظت كان الكتاب بيدها، مفتوحا على الصفحة مائة وثلاثة، ولكنها لم تنته منه بعد. في الليل لم تستيقظ، ولا أمس. وكنت جائعة والعطش يحرقني. قفزت على سريرها عدة مرات، وداعبت شعرها ولكنها لم تستيقظ. ربما هي بحاجة لوقت. لو أن كل حبة تناولتها تدعوها  للنوم عدة ساعات، هذا يعني أنه عليها أن تنام لسنة كاملة.

كل شيء وضعه جيل دولوز في "كتاب الحروف" المشهور، والذي يبدأ بالترتيب من حرف أ، تحول بين يدي إلى تراب وغبار. لا يمكن لجيل دولوز أن يقف بوجه الحيوانات. وهو فيلسوف كبير ولكنه لا يستطيع تحمل الكلاب والهررة المعروفين بالوفاء، ولذلك بالنسبة لي ولها أصبح دولوز مجرد غبار. كم أحبها. فهي أمي. وهي أفضل كاتبة في هذا العالم.

***

................................

ترجمتها عن الإسبانية ميغان مكدويل

لينيا رودريغز إغلسياس Legna Rodriguez Iglesias

كاتبة قصة وروائية وشاعرة كوبية من مواليد عام 1984. تعيش في ميامي. تعمل في متجر لببع البيتزا.

 

قصائد مترجمة للشاعر الروسي المعاصر

دميتري دارين

ترجمة: د. إسماعيل مكارم

***

И один в поле войн, если он русский

الجندي الروسي وحيدا في الميدان – يُقاتل.

نحنُ في الواحد بعد الأربعين تقهقرنا،

وخلفَ الدخان خَسرنا شبرا بعد شبر.

قائدُ الكتيبة الشايب، قائدُ الكتيبة الشايب

كان ينتظرُ من المتطوعين التضحية بالنفس.

**

لتغطيةِ الإنسحاب..يجبُ قطع الطريق وبالمدفع،

من قادرٌ منكم القيام بذلك ولو لساعةٍ،

فليتقدمْ خطوة واحدة إلى الأمام !

هنا تقدمَ واحدٌ مننا.

**

خيّم الصمت كما السّكين,

حتى البلبل هو ايضا قد سَكتَ،

توجه فوجنا نحو السّوج، إلى ما وراء النهر (1)

وتركَ فوجُ المشاةِ ذلك الموقعَ.

**

هاهي سنابلُ الجودار تغمر السَّبطانة (2)

لقد جمعَ في راحته تلك الحَبّات الدافئة،

مرَّت لحظاتٌ وقد غادرَهُ الخوفُ

وصرخ قائلا لذاته: نارْ .

**

شابٌّ سوفييتيّ بسيط –

كم هو فتيٌّ، وكم هو أشقر اللون،

وأشعة الشّمس هنا حارقة ٌ.. حارقة ْ،

والمدفعُ يطلق قذائفَهُ من هذا المُرتفع.

**

صَوبَ تلكَ " النمور" التي تكشِّر عن أنيابها, (3)

نعم نحو تجمعاتِ الأعداء،

لعلها تصيب، أجل لعلها تصيب –

وها هي قذيفة أخرى جاهزةٌ للإطلاق !

**

ها هي الساعة الثالثة على بداية القتال الشديد،

السّمواتُ تهتزُّ لكثرة الإنفجارات،

لقد حَجبَ بجسمِهِ الشرَّ عن روسيا،

أجل لقد ردَّ الشرَّ عن روسيا هذا المُساعدُ النحيف.

**

لكلّ شيء بهذا الكونِ نهايةْ

ما جعل الألمانَ يخافون، ويستغربون

أنَّ مقاتلا واحدا فقط، فقط مقاتلٌ واحدْ

قد افترشَ هذا الحقلَ هنا شهيدا.

**

إذا كانت في الموتِ حقيقة،

فعليكَ أن تحتفظَ بها،

مرَّ جنودُ الأعداء بقربِ الشهيدِ

وأدّوا التحية لهذا الجُندي الرّوسيّ.

**

وفي الميدان مُقاتِلٌ وحيدٌ.،

حقا إنه أسمى من المَجد والأوسمَة،−

إنه بحق الماردُ الرّوسيُّ ..

إبنُ روسيا البار، الصادِقْ.

2017

***

«Грусть польёт с небесной сини…»

الحزنُ ينزلُ ...

ها هو الحُزنُ يكادُ ينزلُ من زرقةِ السّماءْ،

وطيورُ الغرُنوق تئِنّ ُ،

وهي تغيبُ في تلكَ الأبعاد،

كأنّها تبكي بلادي – روسيا.

**

كم تمنيت ُ... كم تمنيتُ أن أكونَ مع تلك الطيور في السّماءْ

عندَ الغروبْ،

ولكن يبدو أن لا مكانَ لي

في ذلكَ السّربْ.

**

سَأ صَلي صامِتاً

في ابراج أجراسِ الكنائسِ ِ البيضاءْ

بينما تحمِلني روسيا

على أكفّ أشجار البَتولا .

**

أما هذه البحيرات .. فهي

دُموعُ بلادي,

يحزُ في النفسِ ِ ... يحز في النفسِ ِ

نداءُ طيور الغرُنوق.

**

ما هذا الفراق إلا دُخانُ الأمس ِ

إنّي نشوانُ من جراء هذه المُلاطفة ِ الجَديده،

ولكن في بُستانِ حياتي ... وحدها

تنبُتُ الأعشابُ الضارّه.

**

وحدها صَفصافاتُ الماء تشفِقُ عليّ

فها هي قد أرسلتْ جَدائلَها،

يا هل ترى ... يا هل ترى

طيورُ الغرُنوقِ تبكيني؟

2008

***

3

Я стою

أقِفُ...

أقِفُ،

وفوق رأسي،

طيورُ الغرنوق

تسبحُ أسراباً

نحو دِيارنا

كأنها السّفنُ

**

مُنذ ُ أعوام ٍ

وأنا أنغرزُ هنا،

في هذه النواحي الغريبة،

وكم مَرّت على رأسي مَصائِبُ

تكاد ُ لا تحصى،

وكم تأسّفتُ .

**

هناكَ، حيثُ دياري

كثيرة ُ الأمطار،

ينتظرني حُبّ أحلامي,

إنها تنتظرُ مُحتفظة ً

بتلك الكلمات ِ البسيطة

وبرَمادِ تلك المواقِدْ .

**

رغمَ صُعوبة ِ الأيام ِ

عائدٌ أنا

إلى بيتنا الغالي

وسأشرَبُ

قطراتِ ندى الحقولِ

وإياكِ .

**

أما الغمامُ

فسيفرشُ ظلّه ُ

على مائدة ِ حَياتي،

ولكنْ حتى الآنَ

مازالَ النهارُ حاراً

مثل سَبطانة رشاشِ صَديق ٍ .

**

ليذهبْ هذا الخوف ُ

إلى الشيطانْ

علينا ألا نشتكي

فالقتال ُ لم يَتوقفْ بعدْ،

وفي السّماء يَطيرُ

أصدقاءُ لي.(4)

**

حقا إنها مَوْتة ٌ واحدة ٌ لا اثنتان،

أجلْ، ها هي قد لوّحت بجناحيها مرّةً،

يا ترى هل سَتحزنُ ويأخذها الأسى،

تلكَ التي تسكنُ دائِماً في فؤادي؟

**

تتحرّك وحدتنا كما الإسفين جسما واحِدًا

وتختفي في الزرقة ِ الغالية ...

هل يعني أني سأعودَ إلى البيت،

لم أطلب ذلك من اللهِ بعد.

2006

***

4

Волгоград − Сталинград

فولغوغراد – ستالينغراد

فولغوغراد – ستالينغراد

أرواح من استشهدوا

لا تزال هنا، لا تغادرُ، لا مكان لها غيره

لا توجدُ أوسمة شرف،

لا توجد في هذا العالم نياشين

تساوي تاريخاً لا يزال يحتفظ به القلب.

**

لا يمكن للمرء أن يتصور ما حدث هناك –

كانَ سيلا من الدّماء كسيل المياه،

إنه ليس نهر الفولغا، إنما تيارٌ مندفع

من المُهاجمين –

إنها قطعان معتدية تتقدم

مختبئة خلف صفائح " النمور".

**

إنها قطعان بوجوهها المكشرة،

وهذا واحد يقف بطول قامته

متعمدا بالنيران, والرصاص كزخ المطر.

من قدّم روحَه لأجلنا،

قد سامحنا قبل رحيلِه،

وكان رحيلهُ نحو الخلود قبل أن يودّعنا.

**

سقط وهو يَعدو

على الثلج المُلوّن بالدّم والوَحل،

وسوف يُدفنُ في كورغان. (5)

وعلى الضفة الثانية

كان قلبُ الأمّ يَنوح

ويُسمَعُ نواحُه رغم العاصفة.

**

إنها الرصاصة – قطعة معدن غبية،

وهذا جنديٌّ آخرُ ينهَضُ،

بأمر قوة في السَّماء.

كلُّ من حاربَ هنا مُدافِعا..

من أشعل نوراً في العصور ،

وأشعل ناراً. إنها بحق نارُ المقاتلين – فهي أبدية.

**

فولغوغراد − ستالينغراد

جنودٌ وقائدُ كتيبة

إنهم يرقدون هنا ، بغض النظر عن رتبهم.

إني أرى الناسَ يقفون هنا بخشوع,

وطيورُ الغرنوق تحلق في السّماء

وتسمَعُ أصواتها وكأنها قداسٌ مُهيبٌ.

2003

***

5

Рядовой

أيّها الجُنديُّ

دوما ومنذ الزمان القديم

كنت مُنقذا لبلادك – روسيا

بمصيرها الصّعب، القاسي

حقا منقذا كنت، أيها الجنديُّ.

**

على ضفاف الفولغا وفي برلين ،

وفي معارك كورسك الشهيرة (6)

حقا قد أنقذتَ مقدساتِنا هناك.

أيها الجنديّ البسيطُ ُ.

**

عمدونا بالرصاص

كما المياه الميّتة

غير أننا لم نتراجعْ

في ذلك القتال الصّعب.

**

يَجْهَلُ الناسُ إسمَكَ،

إلا أنك دوما كنتَ بَطلا

في تلك الحربِ اللعينة،

كنتَ بطلا منسيَّاً، أيها الجنديُّ.

**

في معارك غروزني، والأفغان (7)

أنتم أولُ من نزلوا إلى ميدان القتال،

البعضُ قد استشهدَ، والبعضُ جريحٌ،

وبقي هذا الفريقُ حيّا يُرزق.

**

تناولْ تلكَ.. الزمزمية –

ولنرفع نخبَ الوسام الحربيّ..

بصحة لينا، وبصحة نتاشا،

كن سعيداً أيها الجنديّ!

**

منذ قديم الزمان لا توجد رتبة أعظمُ

ولا يوجد واجبٌ أكثر قدسية ً

من أن يخدمَ المقاتلُ وطنهُ الأم – روسيا

يخدمُ برتبةٍ عاليةٍ – رتبة جُنديّ.

2003

***

6

Я сдамся последним

سأكون آخر المُستسلمين

كم من الناس حولي قالوا:

كفاكَ عذابا، كنْ كما الجميع،

لقد وجَدتَ لِنفسِكَ مَكانا تحتَ الشمس،

لماذا لا تستقبل فجرَكَ الجَميلَ.

**

ذكّرتهم بالحربِ، ولكنْ دونَ جدوى،

قالوا: لقد بيعَ كلّ شيء دون مشاركتِنا،

الحربُ.. نعترفُ بها وحدها،

نعترفُ بذاك النصر العظيم، وحده يُؤخذ بالحسبان.

**

قلت: لقد بقيت لدينا المُقدساتُ،

بقيت تلك الكنائِسُ، والأسماءُ الشهيرة ُ.

قالوا: لقد استسلمَ الجَميعُ ،

أنتَ وحدك فقط غريب الأطوار.

**

أيها الإخوة.. عَبثا تحاولون.. نحن لسنا قوما

نبيعُ أرواحَنا لأجل العيش الرّغيد،

حقا أنهم ضُعَفاءُ، يشيرون إلى الزمن،

حيث ضاعَ كلّ شيء، حسبَ ظنهم ، وغابت الحقيقة.

**

نظرتُ حولي فوجدت أنّ الأجنحة قد اضمَحَلت..

قام البعضُ فيها برفع الأيدي، وآخرون باطلاق النار على الأرجل.

ناديتهُم: " لا تستسلموا، العَدوّ لن يَرحَمَكم،

إنهم يقومون بشرائِكم لأجل كروشكم" .

**

أجابوا من ذلك الخندق: " توقفْ عن كلامِكَ الخشبي،

لقد وُعِدنا بالترفيع في هذا الأسر...".

إثنان لامنتميان فقط – شاعِرٌ، وكاتبٌ

جَندا القمَرَ في فصيل وطنيّ.

**

ألا ترون أنّ قيمة روسيا أكثرُ من قداسٍ يُقامُ (8)

هذا العدو قد تجاوز المحرمات، وأراه يتقدّم بسهولة،

في أراضي وطني، نعم سأستسلِمُ,

نعم سأكون آخِر المُستسلمين – وبيدي قنبلة يَدويةٌ .

2006

***

7

Медсестра

المُمَرّضَة

نحنُ نخوض الآن معركة تحرير سيفاستوبول

طائرات (ميسِّر) الألمانية لا تغادرُ السَّماء فوقنا

هناك في الأرض الحرام تقوم ممرضة صَبيّة

بمحاولة جرّ مقاتل جريح إلى الخندق.

**

أراها تغرز ركبتيها النحيفتين في التربة

بكل ما تبقى لها من عزم وقوة

وتزحف في زحمة الدخان المُخيِّم والسّخام

لتنتشلَ هذا الجنديَّ من الحفر، كأنها تشدّه من القبر.

**

إنها تلميذة الأمس بشعرها الذي جمعته جديلةً

بالأمس كانتْ تلعبُ مع العرائس

أراها على الأرض المحايدة تحاول إنقاذ حياة

أحد الجنود من لهب الحرب نكاية بهذي الحرب.

**

كان يحق لها بهاتين العينين الجميلتين

أن تنعَمَ بالخدمة في أحد مكاتب القيادة

غير أنّها اختارت الخدمة − حيث القذائف،

وبهذا الحذاء العسكري الثقيل.

**

الموتُ على الجبهة ليسَ بالأمر الجميل

ويذكرونه هنا بكلمة قاسية

ولكن أي قوة سماوية هذي،

التي تجعل هذا الوجه الروسيّ يتألق.

**

لذا يمكننا القول:

إنها لهذا الجنديِّ − إلهة من الآلهة –

إذا لم تنقله إلى الجنة، ستنقله إلى كتيبة الإسعاف

وستنقذه من هذي الصحارى الجهنمية.

**

بين البنات الجميلات، المعاصرات، الذكيات –

لم يقع نظري، رغم أنَّ بصري جيّد –

إلا على نساء تافهاتٍ، فارغاتْ،

وقليلا ما أرى صبايا مُمرّضاتْ.

2009

***

.......................

* الشعر في مفهومه الفكري− نوع من أنواع الثقافة، وللثقافة دور كبير في حوار الأمم والشعوب، لا شك أن القارئ الكريم يعرف أهمية وعظمة الثقافة ودورها الكبير في تقريب الشعوب، وتمتين عرى التعاون والصداقة فيما بينها. نجد من المناسب اليوم ليس تعريف القارئ بما كتبه الشعراء الروس في القرون الماضية فقط، بل علينا أن نقدم له نصوصا كتبت ونشرت في زماننا هذا.

 نقدم للقارئ اليوم مجموعة قصائد من نتاج الشاعر الروسي دميتري دارين.

الشاعر دميتري دارين

من مواليد 1964 / لينينغراد، عضو إتحاد كتاب روسيا، عضو إتحاد صحفيي روسيا، نشرت له قصائد في عدد من المجلات الأدبية في العاصمة موسكو وفي مدن أخرى، له ثماني مجموعات شعرية. دميتري دارين يذكرنا بالشاعر العربي الكبير نزار قباني، إذ أن له أكثر من 200 أغنية قام بأدائها عدد من المغنيين الروس، ولحنها كبار الملحنين الروس. من مؤلفاته الشهيرة: "الكتيبة مجهولة الإسم"- شعر – 2018، و "في الأماكن الحبيبة"- شعر - 2019. دميتري دارين، هذا الشاعر الموهوب، الحاصل على عدة جوائز روسية تكريما له وتقديرا لنشاطه الأدبي، يحلم بزيارة سورية كي يقف ويرفع القبعة أمام من قاتلوا قوى الإرهاب في الوطن السوري، يريد الوقوف أمام الجنود والضباط البواسل في الجيشين: الجيش العربي السوري، و الجيش الروسي، كي يقول لهم: أشكركم على ما قدمتم من بطولات، يحلم بزيارة دمشق .

دميتري دارين في قصائده يحكي عن بطولات الماضي ، ولا ينسى الكتابة عن مرارة السنين العجاف أي التسعينيات، له موقف عنيد تجاه من أرادوا تجزئة روسيا مثلما نجحوا في عملية تجزئة الإتحاد السوفييتي.

 الجندي الروسي وحيدا في الميدان – يقاتل.

 قصيدة الشاعر دميتري دارين هذه هي تخليد لذكرى المقاتل السوفييتي في سلاح المدفعية نيكولاي سيروتينين, الذي بصموده ورجولته إستطاع وحيدا، متمترسا خلف مدفعه أن يوقف تقدم الدبابات الألمانية المهاجمة لمدة ساعتين ونصف الساعة على الجبهة قرب إحدى القرى في بيلاروسيا عام 1941.

الهوامش والمصادر

1) هذا نهر، إسمه نهر السّوج

2) الجودار – نوع من الحبوب يزرع في شمال روسيا.

 3) المقصود من كلمة (نمور) هي الدبابات الألمانية، إذ كانت تسمى الدبابة النمر.

4) إن تقاليد الأدب الروسي تشير إلى أنّ طيور الغرنوق تمثل أرواح الرفاق ممن سقطوا في معارك القتال.

 5) "كورغان" هو ذلك التل، الذي أصبح مقبرة لشهداء معركة ستالينغراد.

 6) قرب مدينة كورسك الروسية أثناء الحرب العالمية الثانية خاض الجيش السوفييتي معارك حاسمة ضد المعتدين الألمان، سميت معارك قوس كورسك.

7) الأفغان – إشارة إلى معارك الجيش السوفييتي في أفغانستان، بينما (غروزني) هي عاصمة مقاطعة الشيشان، حيث جرت معارك حرب الشيشان الأولى والثانية ضد الانفصاليين من الشيشانيين ومن وقف إلى جانبهم من العرب، وأكثرهم من حملة الفكر الوهابي التكفيري.

8) إشارة إلى أن أحد ملوك فرنسا قد قال: إن باريس تساوي القداس.

المصدر

 1. Дмитрий Дарин. Безымянный Батальон. Москва. 2018 г.

 2. Дмитрий Дарин. В родных местах. Москва.2019 г.

 

شعر: هاريت أنينا / أوغندا

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

***

ضمني إليك

برفق وفي أناة،

هناك على العشب الأخضر

كأنني قربان..

إنزع عني ثيابي

قطعة تلو قطعة

مثلما تتصفح

الكتاب المقدس...

اقرأ آيات جسدي

حتى تتقن كل فصوله.

إنهل من نهر

حياتي..

ولأكن أنا نبيذ مذبحك،

والعشاء الأخير..

فأهلا وسهلا بك في محفلي،

ولنردد الهوشعنا معا (1)

حتى نبلغ العلا !!!

***

........................

- هاريت انينا: شاعرة وقاصة وصحفية وفنانة اوغندية. كتبت ونشرت أول قصيدة لها لما كانت في ال (17) من العمر، وكانت بعنوان (محنة الطفل الاشولي) ( 2). نشأت وترعرعت خلال فترة الحرب التي شنها (جيش الرب للمقاومة) الذي ظهر في ثمانينيات القرن الماضي. حاصلة على شهادة الماجستير (آداب – حقوق الانسان) من جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك 2009. عملت في صحيفة (ديلي مونيتور) (2009 – 2014) ، وهي صحيفة يومية مستقلة في أوغندا. كما نشرت مقالاتها في صحيفة (ذا أوبزرفر) البريطانية، وفي جريدة (نيو فيجن) الأوغندية الصادرة باللغة الإنكليزية. حاصلة على جائزة (وول سونيكا للأدب في افريقيا ) في عام 2018 عن كتابها (أمة في العمل 2015) وهي جائزة تمنح من قبل مؤسسة (لومينا)، وتم تأسيسها في عام 2005، تكريما للكاتب المسرحي النيجيري (وول سونيكا)، أول أفريقي حاصل على جائزة نوبل للآداب (1986).

( 1) الهوشعنا – أوصنا (صيحة تهليل وتمجيد لله - قاموس المعاني)

( 2) أشولي: مجموعة عرقية، تقطن في شمال اوغندا، وأيضا في جنوب السودان، وغيرهما من الدول الافريقية

afrowomenpoetry. net / en / / cat egory / harriet – anena – en /   https: // afrowomenpoetry. net

 

في نصوص اليوم