أقلام فكرية

أقلام فكرية

بقلم: دانيال كالكوت

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

جادل برنارد ويليامز* بأن أخلاقيات الفرد تتشكل من خلال الثقافة والتاريخ.لكن ليس معنى هذا أن الجميع على حق.

يمكن أن يلهم السفر والتاريخ شعورًا بالنسبية الأخلاقية، كما حدث مع المؤرخ والرحالة اليوناني هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد. ما الذي ينبغي للمرء أن يفهمه من حقيقة أن ما يعتبر زنا، على سبيل المثال، يختلف في جميع أنحاء العالم؟ في كتابها «الشهوة في الترجمة» (2007)، تؤرخ الكاتبة المعاصرة باميلا دروكيرمان كيف تختلف قواعد الخيانة الزوجية «من طوكيو إلى تينيسي». قد يكون من المغري أن نستنتج أن الإجابة الصحيحة على الأسئلة الأخلاقية يتم تسويتها في نهاية المطاف من خلال التقاليد، ربما مثل مسائل الآداب مثل كيفية تناول طعامك. بالنسبة لهيرودوت، قاده الاعتراف بالاختلاف الثقافي إلى الإعلان، مرددًا كلمات الشاعر اليوناني بيندار، أن "العادات هي ملك للجميع".

أظهر الفيلسوف البريطاني الشهير برنارد ويليامز، الذي كتب في السبعينيات، أن الطريقة الشائعة للدفاع عن النسبية الأخلاقية مشوشة ومتناقضة. ومع ذلك، استمر في الدفاع عن وجهة نظر فلسفية عالمية تضمنت بعضًا من الأفكار الأساسية للنسبية. هناك الكثير لنتعلمه، عندما نفكر في الحروب الثقافية المستمرة على القيم الأخلاقية، من المواجهات مع النسبية التي تتكرر في جميع أنحاء عمل ويليامز. ومع ذلك، فمن المفيد أولاً أن نفهم لماذا تؤدي السمة السائدة في الحروب الثقافية، وهي الجدل حول الكلمات التي يجب استخدامها، إلى جدال حول النسبية.

خذ بعين الاعتبار المشهد التالي الذي لا يُنسى في رواية سالي روني** "محادثات مع الأصدقاء" (2017). ترفض الشخصية الرئيسية، فرانسيس، التي تنام مع بوبي، إصرار صديقها فيليب على أنها "صديقتك" في المفردات الأساسية. وكانت فرانسيس محقة في مقاومة محاولة فيليب وضع تسمية مألوفة على الأشياء: فهي تحاول أن تعيش في عالم الطريقة التي لا توجد كلمات بعد. إنها تحاول أن تعيش بطريقة لا توجد كلمات لها بعد. في مكان آخر من الكتاب، لا تتساءل فرانسيس عن كلمة "زوجين" فحسب، بل حتى عن مصطلح "العلاقة" لتصوير حياتها مع بوبي. إذا لم تكن متأكدة من كيفية وصف وضعها المعقد، فذلك يرجع جزئيًا إلى أنه لا يتناسب بسهولة مع شبكات الفكر التقليدي. إنها تريد، باستخدام صورة لجيمس جويس، أن «تطير عبر» شباك اللغة.

الكلمات التي يستخدمها مجتمعك، كما تدرك فرانسيس تمامًا، تشكل الذات التي يمكنك أن تصبح عليها. اللغة محملة بالتوقعات الأخلاقية. إذا وافقت على أنك في "زوج" مع شخص ما، على سبيل المثال، فإن ذلك عادةً (وإن لم يكن دائمًا) يحمل في طياته توقعًا بأنك لن تكون في السرير مع أي شخص آخر. يمكن تحدي هذا المعيار، وقد تم تحديه من قبل أولئك الذين لديهم علاقات مفتوحة. ومع ذلك، إذا كنت تحاول العيش بطريقة جديدة، ولا تتناسب مع الفئات المعتادة، فمن المحتمل أنه سيتم إساءة فهمك وحرمانك من الاعتراف الاجتماعي. ومع ذلك، كما جادلت الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر في كتابها التراجع عن النوع (2004)، ، هناك مواقف يكون فيها من الأفضل أن تكون غير مفهوم بدلاً من أن تجبر نفسك على الدخول في قائمة الخيارات الاجتماعية الحالية.

إذا كانت اللغة اليومية يمكن أن تكون قمعية في بعض الأحيان، فربما يرجع ذلك إلى أنها وصفية وتقييمية لا محالة: فهي تخبرك ليس فقط كيف هي الأشياء، ولكن كيف ينبغي أن تكون. إذا كنت "صديقة" لشخص ما، على سبيل المثال، فإن عددًا كبيرًا من المعتقدات يتم تفعيلها حول كيفية السلوك. ولهذا السبب تشعر فرانسيس بالقلق الشديد بشأن قبول التسمية.

ولعل المثال الأوضح لكيفية أن تكون اللغة وصفية ومحملة بالقيمة في نفس الوقت هو ما أصبح الفلاسفة يطلقون عليه المفاهيم الأخلاقية السميكة. فكر في كلمات مثل "ودود" و"لئيم" و"عدواني" و"وقح" و"غير صبور" و"وحشي" وما إلى ذلك، ولاحظ كيف تقيم هذه المصطلحات السلوك بشكل إيجابي أو سلبي في نفس الوقت الذي تصفه فيه . تتم تسمية المفاهيم الأخلاقية السميكة على النقيض من المفاهيم الأخلاقية الرقيقة مثل "الحق" و"يجب" و"ينبغي". هذه المصطلحات شديدة التجريد تكاد تكون تقييمية بحتة ولا يبدو أنها تصف أي إجراءات محددة. وبدلاً من ذلك، كما عبرت عنها الفيلسوفة الأمريكية كريستين كورسجارد في كتابها مصادر المعيارية (1996)، فإنها تبدو مثل تلك النجوم الذهبية المستخدمة في المدرسة والتي يمكن لصقها على أي شيء.

إن الحروب الثقافية التي تدور رحاها حول مسائل أخلاقية مثيرة للجدل هي، في جزء منها، معارك ينبغي أن تنتصر فيها المفاهيم المحملة أخلاقيا داخل المجتمع. هل ينبغي تصور الحياة الجنسية بمصطلحات مرتبطة بالنقاء الجنسي وضبط النفس («القداسة» و«العفة» وما إلى ذلك) أو من حيث التعبير الجنسي عن الذات والتجريب («التحرر» و«الاشتباك» وما إلى ذلك)؟ وهذا يوضح حقيقة أن الكلمات والمفاهيم الأخلاقية ليست مجرد أفكار مجردة: بل هي نتاج وتعبير عن طرق مختلفة للحياة. ومن هذا المنطلق، فإن الكثافة السياسية المحيطة بما يُستهان به أحيانًا على أنه "جدال حول الكلمات" تبدو منطقية تمامًا. الحروب الثقافية هي حروب مفاهيمية حول أفضل طريقة للعيش.

نحن جميعًا نستخدم المفاهيم الأخلاقية بالمعنى الواسع الذي قدمته. الأشخاص الذين يعتقدون أنهم يستطيعون العيش بدون قيم لا يفكرون فيما يعنيه ذلك حقًا. ولكن إذا قمنا جميعًا بتقييم تجربتنا حتمًا، فإننا لا نفعل ذلك جميعًا بنفس الطريقة. في تدوينة صوتية حديثة حول الدروس المستفادة من الإمبراطورية الرومانية، أكد المؤرخ توم هولاند على التناقض الدراماتيكي بين الأعراف الجنسية في روما القديمة وتلك الموجودة في الغرب الحديث. وهذا مجرد مثال واحد، وربما مألوف بالفعل، على الحقيقة الشائعة المتمثلة في أن المعايير الأخلاقية تختلف عبر الثقافات، وكذلك داخلها. علاوة على ذلك، فحتى المفاهيم الأخلاقية المشتركة بشكل سطحي يمكن فهمها بطرق مختلفة للغاية. فكر في كيفية إظهار الاحترام في إيماءة الرأس: يمكن أن يرمز إلى الاحترام كشكل من أشكال الاعتراف المتبادل، أو يرمز إالى الاحترام بوصفه احتراما لقوة الشخص الآخر المتفوقة.

نسميها الشوكة المناهضة للإنسانية: النسبية أم الدين؟

وبالتالي فإن حقيقة التنوع الأخلاقي تثير مسألة النسبية الأخلاقية. وقد أصبح هذا أيضاً جزءاً من الحروب الثقافية، خاصة وأن هذه المناقشات دارت رحاها في الولايات المتحدة. تعتمد العديد من التقاليد الأخلاقية على فكرة وجود قيم عالمية، ربما تكون متجذرة في الطبيعة البشرية. ربما تكون أنت نفسك قد نشأت على فكرة عالمية مفادها أن هناك أخلاقًا حقيقية واحدة تنطبق على الجميع في كل مكان. ولكن إذا كان العيش بطرق أخلاقية مختلفة للحياة أمر طبيعي بالنسبة للبشر، فإن هذا يشجع فكرة أن البشر يخلقون عوالم أخلاقية متعددة، وأن الحقيقة الأخلاقية مرتبطة بالعالم المعني. الحقيقة الأخلاقية، مثل الحقيقة المتعلقة بآداب السلوك، تختلف ببساطة من مكان إلى آخر. حتى الآن، الأمر سيء للغاية بالنسبة للعالمية.

عندما تظهر المعارك حول النسبية الأخلاقية في الحروب الثقافية، فإنها تميل إلى أن يتم تأطيرها على النحو التالي. يحتفل أحد جوانب الحجة بالتنوع الثقافي والجمع بينه وبين التركيز على طبيعة القيم المبنية اجتماعيًا. إنه منظور مرتبط بما بعد الحداثة، وبسياسات الهوية، ورفض التقاليد العالمية. ومع ذلك، فإن هذه الوجهة "النسبية" على ما يبدو هي بالضبط ما يثير قلق المحافظين الأخلاقيين. ومن هنا يأتي الجانب الآخر من الحروب الثقافية: إذا لم يكن هناك معيار إنساني مشترك يمكن أن ترتكز عليه العالمية الأخلاقية، فعندئذ ستكون هناك حاجة إلى شيء يتجاوز الإنسان. وهذا جانب الحروب الثقافية المرتبطة بضرورة العودة إلى الدين، والرد الأخلاقي الرجعي على التنوع الاجتماعي.

أصبحت هذه المناقشات حول مصادر الأخلاق جزءًا من الثقافة السائدة. إن المدرسة الإنسانية العلمانية القديمة، التي تواجه صعوبة العثور على أساس عالمي لأخلاق محورها الإنسان، تواجه معضلة: إما اختيار أخلاقيات تتمحور حول الثقافة، أو العودة إلى أخلاقيات تتمحور حول الله. نسميها الشوكة المناهضة للإنسانية: النسبية أم الدين؟ صرح روان ويليامز، رئيس أساقفة كانتربري السابق في المملكة المتحدة، مؤخراً في مجلة نيو ستيتسمان أن " عالم الإنسانية المعاصر من المرجح أن يكون مدافعا أكثر حماسة عن التنوع الثقافي من أسلافه". لكن ما لم يتطرق إليه هو المفارقة التالية: أن الاعتراف الصحيح بالتنوع الأخلاقي قد أدى إلى تقويض الشمولية التي تقوم عليها الإنسانية عادة.

من المهم أن نلاحظ أن تنوع المعتقدات لا يستلزم في حد ذاته النسبية. ففي نهاية المطاف، كان لدى الثقافات المختلفة معتقدات مختلفة حول شكل الأرض. فهل يترتب على ذلك أنه لا توجد حقيقة غير نسبية للأمر، وأن كل ما يمكننا قوله هو أن الأرض مستديرة حقًا بالنسبة لحضارة ما، ومسطحة حقًا بالنسبة لحضارة أخرى؟ إذا قال صديقك أن الأرض مسطحة، فربما تظهر له الصورة المعروفة باسم "الرخام الأزرق"، والتي تم التقاطها عندما كان طاقم أبولو 17 في طريقه إلى القمر في عام 1972. إذا كنت ثريًا وبذخًا بما فيه الكفاية، فيمكنك حجز رحلة إلى الفضاء لهم. ومع ذلك من غير المرجح أن "تتحول إلى النسبية".

ومع ذلك، فإن كونك غير نسبي فيما يتعلق بشكل الأرض لا يتطلب منك أن تكون غير نسبي في كل شيء. وتظل النسبية الأخلاقية خيارا. كما رأينا بالفعل، إذا قمت بدمج فكرة أن البشر يبنون الواقع الأخلاقي مع الادعاء بأن كيفية بناء البشر للواقع الأخلاقي تختلف بين الثقافات، يصبح من الصعب تجنب النسبية الأخلاقية. في الواقع، أولئك الذين يسارعون إلى الانتقال من ملاحظة تنوع المعتقدات الأخلاقية إلى اعتناق النسبية الأخلاقية ربما يميلون بالفعل إلى الاعتقاد بأن الأخلاق هي بناء ثقافي في حين أن شكل الأرض ليس كذلك. ينجذب آخرون إلى النسبية بشأن الأخلاق لأنهم يعتقدون أنها وجهة نظر أكثر حكمة وتسامحًا. وكما قد يقول أحدهم: "إن لهم طريقهم، ولنا طريقنا، وهذا كل ما يمكن أن يقال".

جادل برنارد ويليامز (ليس له علاقة بروان) بشكل واضح ضد ما أسماه “النسبية المبتذلة” في كتابه الأول، الأخلاق (1972). وباعتباره شخصية بارزة في فلسفة اللغة الإنجليزية، قام لاحقًا بنشر مصطلح "المفاهيم السميكة" الذي قدمته سابقًا (كان أول من استخدم المصطلح في المطبوعات عام 1985). كان لدى ويليامز إحساس عميق بالتنوع الثقافي والتاريخي للحياة الأخلاقية. لكنه أدرك أيضًا أن الطريقة النموذجية التي تم بها تصور النسبية الأخلاقية لدعم التسامح، وخاصة من قبل بعض علماء الأنثروبولوجيا في ذلك الوقت، كانت غير متماسكة بشكل أساسي.

ربما تكون الحرب هي الحل، على الأقل بالنسبة لمجتمع عنيف.

يقول ويليامز إن النسبي المبتذل يعتقد أن ما إذا كان شيء ما «صحيحًا من الناحية الأخلاقية» يعني «مناسبًا لمجتمع معين». ونتيجة لهذا، فلكي نناقش ما إذا كان ممارسة الجنس مع شركاء متعددين أمراً صحيحاً من الناحية الأخلاقية، يتعين علينا أولاً أن نسأل: هذا الحق لمن؟ لا توجد إجابة عالمية: سوف يكون تعدد الزوجات مسموحاً به، بل ويحتفل به، في بعض الأوقات والأماكن، ويُدان أخلاقياً في أوقات أخرى. هذه هي البصيرة التي من المفترض أن تؤدي إلى نظرة متسامحة. والواقع أن النسبي المبتذل، كما وصفه ويليامز، يرى أنه بسبب ارتباط الأخلاق بأسلوب حياة، "فمن الخطأ أن يدين الناس في مجتمع ما قيم مجتمع آخر، أو يتدخلوا فيها، وما إلى ذلك".

إن مشكلة النسبية المبتذلة، كما يتابع ويليامز، هي في وضع مبدأ التسامح. إذا كان من الصواب أن نكون متسامحين، وكان "الحق" نسبيًا، فعلينا أن نسأل: الحق لمن؟ ففي نهاية المطاف، إذا كان المجتمع المحارب العدواني يناقش ما إذا كان ينبغي له أن يتدخل في شؤون جيرانه، فإن الإجابة وفقاً لقيمه قد تكون حاسمة: "نعم، ينبغي لنا أن نتدخل". ولعل الحرب هي الحل، على الأقل بالنسبة لمجتمع عنيف. النقطة المهمة، كما يوضح ويليامز، هي أنه لا يمكنك أن تقول بشكل متماسك أن كل الحقيقة الأخلاقية مرتبطة بثقافة ما وتتبنى قاعدة أخلاقية غير نسبية مفادها أن جميع الثقافات يجب أن تحترم بعضها البعض. يطرح النسبي المبتذل التسامح كمبدأ أخلاقي عالمي، لكن هذا يتعارض تمامًا مع النسبية الأخلاقية نفسها.

خلص ويليامز إلى أن النسبية المبتذلة «سخيفة»، لكن هذا يمكن أن يعطي انطباعًا مضللًا: فقد أخذ على محمل الجد العديد من الأفكار التي تقوم عليها النسبية الأخلاقية. في الواقع، فهو يتفق مع النسبي الأخلاقي على أن الواقع الأخلاقي هو بناء إنساني، ومثل النسبوي، يؤكد على تنوع وجهات النظر الأخلاقية. ترى بعض التقاليد الأخلاقية والدينية أن الواقع الأخلاقي موضوعي وعالمي مثل الحقائق المتعلقة بشكل الأرض. من المؤكد أن ويليامز لم يعتقد ذلك وذهب إلى حد وصف موقفه الأخلاقي بأنه "غير موضوعي".

ربما يكون احترام ويليامز لدوافع النسبية الأخلاقية أكثر وضوحًا في المقطع التالي من كتابه الذي صدر في منتصف القرن "الأخلاق وحدود الفلسفة" (1985):

إذا كنت واعيًا بعدم الموضوعية، ألا ينبغي أن يؤثر ذلك بشكل صحيح على الطريقة التي ترى بها تطبيق أو مدى نظرتك الأخلاقية؟ … إذا أصبحنا واعين بالتنوع الأخلاقي وأنواع التفسير التي قد يتلقاها، فمن غير المعقول أن يترك هذا الوعي كل شيء حيث كان ولا يؤثر على فكرنا الأخلاقي نفسه. يمكننا أن نستمر، بلا شك، في القول ببساطة إننا على حق وأن الجميع على خطأ (أي، من وجهة نظر غير موضوعية، تأكيد قيمنا ورفض قيمهم)، ولكن إذا وصلنا إلى هذه المرحلة من التفكير، فإنه يبدو استجابة غير كافية بشكل ملحوظ.

جادل ويليامز من أجل الاعتراف المناسب بالموقع الثقافي والتاريخي لأخلاق الفرد، والجمع بين هذا وبين إحساس ذكي عندما يكون الحكم الأخلاقي منطقيًا ومتى لا يكون كذلك. وهذا ما جعله يقترب من روح النسبية، بل إنه في الواقع اعتنق ما أسماه "نسبية المسافة".

الخطر في الإحساس الحاد بالتاريخ هو أنه يمكن أن ينتهي بك الأمر محاصرًا في فقاعة نسبية.

إن الاعتقاد الكامن في قلب نظرية ويليامز "نسبية المسافة " هو أنه من غير الحكمة تأكيد حقيقة النظرة الأخلاقية للمرء عبر كامل تاريخ البشرية. كان سيدعم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، على سبيل المثال، لكنه في الوقت نفسه شكك في قيمة وحكمة تطبيقه عقليا على الثقافات المحاربة منذ آلاف السنين. وحث ويليامز على عدم وجود حاجة إلى "تعهد نسبي بالصمت بشأن الماضي"، ولكن من ناحية أخرى، "التعليقات حوله ليست إلزامية أيضًا".

كتب ويليامز في مجلة نيويورك ريفيو في عام 1998، معربا بشكل لا يُنسى عن هذه الأفكار والمشاعر:

هل يجب أن أفكر في نفسي وكأنني أزور في الحكم كل مفاصل التاريخ؟ بالطبع، يمكن للمرء أن يتخيل نفسه مثل كانط في بلاط الملك آرثر، وهو يرفض مظالمه، ولكن ما هي السيطرة التي يؤثر بها هذا على الفكر الأخلاقي لدى المرء؟

اعتقد إيمانويل كانط، الفيلسوف الأخلاقي في القرن الثامن عشر، أن الجميع يعرفون نفس القانون الأخلاقي العام، لذلك كان من المفهوم دائمًا اللجوء إلى وجوده. في أغلب الأحيان، يعتقد ويليامز أن ما يشكل الحس الأخلاقي محدود ثقافيا. عندما ننظر إلى الداخل، فإن ما نجده ليس القانون الأخلاقي، بل هويتنا التي تشكلت تاريخيًا.

الخطر في الإحساس الحاد بالتاريخ هو أنه يمكن أن ينتهي بك الأمر محاصرًا في فقاعة النسبية. ولكن إذا كان ويليامز قد شارك فهم النسبويين لطبيعة الحياة الأخلاقية المتأصلة ثقافيًا، فقد أراد أيضًا أن يُدخل إلى الفلسفة الأخلاقية نوعا من الأدوات النقدية التي تعني أنه ليس عليك قبول أسوأ ما يرتبط بالنسبية الأخلاقية: إما أن "كل شيء مباح"، أو أن المجتمعات لا تستطيع تقدير وتقييم بعضها البعض، أو أنه يجب عليك قبول الوضع الراهن في مجتمعك.

احتفل عمل ويليامز العظيم المتأخر "الحقيقة والصدق" (2002) بالفضائل المرتبطة بالسعي وراء الحقيقة. لا توجد أخلاق موضوعية وعالمية، وفقًا لوليامز، لكن الفلسفة الأخلاقية لا يزال بإمكانها الاعتماد على حقيقة أن بعض الحقائق، مثل شكل الكوكب، موضوعية وعالمية. إذا كانت النظرة الأخلاقية تعتمد على الأكاذيب الصارخة، فيمكن تقويضها بكشف الحقيقة. لرفض ادعاءات إنكار تغير المناخ، على سبيل المثال، لا يتعين عليك مناقشة ما إذا كانت هناك حقيقة موضوعية حول الأخلاق. ويكفي أن نعرف أن هناك حقيقة موضوعية حول تأثيرات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، وما حدث لدرجات الحرارة العالمية السنوية منذ الثورة الصناعية، وما إلى ذلك.

لم يكن لدى ويليامز سوى القليل من الوقت للفكرة المرتبطة بما بعد الحداثة، والتي تقول إن الواقع كله عبارة عن بناء ثقافي. لقد أعاد البشر تشكيل الأرض بشكل كبير، لكنهم لم يخلقوا الكوكب الذي يعيشون عليه. يتم بناء الواقع الأخلاقي من خلال التفاعل مع "عالم مادي موجود بالفعل" وليس منتجًا ثقافيًا. لقد تشاجر في مناسبات عديدة مع الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي، الذي أصبح في العقود الأخيرة من القرن العشرين رمزًا ثقافيًا لما بعد الحداثة في الأكاديمية. في الواقع، عندما كنت طالب دكتوراه في جامعة جونز هوبكنز في بالتيمور، تحدثت إلى رورتي حول التناقض بين أفكاره وأفكار ويليامز. "نعم،" قال رورتي، وجهة نظر ويليامز تتوافق أكثر مع الفطرة السليمة ولكن، كما استنتج رورتي بشكل لا يُنسى، "أريد تغيير المنطق السليم!"

ومع ذلك، مثل رورتي، أكد ويليامز على الطبيعة الثقافية للحياة الأخلاقية. متأثرًا بمفكر القرن التاسع عشر فريدريك نيتشه، أصبح ويليامز مهتمًا بشكل خاص بعلم الأنساب المفاهيمي كطريقة في الفلسفة.ما يعنيه هذا باختصار هو أنه يمكنك تتبع أصل وتطور أي مفهوم أو فكرة -على سبيل المثال، الحرية- لمعرفة ما إذا كان السرد الناتج يشجع استخدام هذا المفهوم أو ينفيه.

يساعدك تاريخ المفهوم على فهم ما إذا كنت تريد أن تكون جزءًا من القبيلة المفاهيمية التي تستخدمه.

فكر في هذا فيما يتعلق بمناقشات الحروب الثقافية حول الحب والجنس. لن يرغب الجميع في تجنب المفاهيم التقليدية المرتبطة بالرومانسية، كما هو الحال مع شخصية فرانسيس التي يلعبها روني. لكن علم الأنساب المفاهيمي يدعوك إلى التفكير في تاريخ كلمة أو مصطلح مثل "صديقة" وتحديد ما إذا كنت تريد الاستمرار في استخدامه. يمكنك أن تستنتج، كما قال أوسكار وايلد عام 1895 عن التجديف، "إنها ليست كلمة من كلامي".

العديد من الأفكار المرتبطة بالحب، وخاصة الزواج، لم يكن لها تاريخيا علاقة تذكر بالرومانسية. وكما يوضح كتاب ستيفاني كونتز "الزواج: تاريخ" (2005)، فإن "معظم المجتمعات في جميع أنحاء العالم ترى أن الزواج مؤسسة اقتصادية وسياسية حيوية للغاية" بحيث لا يمكن أن يرتكز على الحب.هذه فكرة أحدث بكثير. إن فهم تاريخ المفهوم يساعدك على فهم ما إذا كنت تريد أن تكون جزءًا من أسلوب الحياة - الذي يطلق عليه القبيلة المفاهيمية - الذي يستخدمه. وفي بعض الأحيان، ينطوي الانضمام إلى مؤسسة ما على تعديل مفاهيمها نحو الأفضل، كما هو الحال في زواج المثليين والسحاقيات.

يمكن أن يكون الصدق حافزًا، خاصة عندما يركز على إساءة استخدام السلطة. اعتمد ويليامز على تقاليد الفلسفة المعروفة باسم النظرية النقدية، والتي تؤكد على فحص وانتقاد الهياكل الاجتماعية. يكتب:

[إذا] عرف المرء أن السبب الوحيد الذي يجعل المرء يقبل بعض الادعاءات الأخلاقية هو أن قوة شخص ما هي التي أدت إلى قبولها [ومن] من مصلحته أن يقبلها [عندئذ] لن يكون لدى المرء أي سبب للاستمرار في قبولها.

يمكن القول إن إحدى صفات ويليامز الأكثر إثارة للإعجاب والأكثر ديمومة كانت رغبته في إفساح المجال الفلسفي للحقائق غير المريحة والوضوح المثير للدهشة في قول الحقيقة للسلطة.

جادل ويليامز بأن جميع المجتمعات البشرية بحاجة إلى مفاهيم أساسية تتعلق بالدقة والإخلاص: وهي السمات التي تتحد لتشكل فضيلة الصدق. أدخل هذا عنصرًا من العالمية في نظرته للعالم. ومع ذلك، في حين أن الحاجة إلى الأصالة عالمية، فقد أوضح ويليامز مرة أخرى أن الثقافات المختلفة كانت وستقوم على أساس احتياجات مختلفة. وينهي كتاب "الحقيقة والصدق" على أمل أن تستمر "الأشكال الأكثر شجاعة وعنادًا وفعالية اجتماعيًا" من الفضائل المرتبطة بالحقيقة.

من العدل أن نقول، رغم غرابته، أن دفاع ويليامز عن الحقيقة والصدق كان مهمة غير عصرية في العلوم الإنسانية في ذلك الوقت. لقد كان صاحب بصيرة، وكتب في نهاية حياته وفي مطلع الألفية، عن الأشكال المختلفة لإنكار الحقيقة التي ستظهر (أو تعاود الظهور) في القرن الحادي والعشرين. فكر في كيف أن عصر الإنترنت، الذي رأى بدايته فقط، قد يجعل إنكار المحرقة أمرًا شائعًا مرة أخرى. في الواقع، في مقطع تمت مشاركته الآن على نطاق واسع عبر الإنترنت، كتب عن كيف أن الإنترنت "يسهل على أعداد كبيرة من المتطرفين المعزولين سابقًا العثور على بعضهم البعض والتحدث فيما بينهم فقط".

يجب أن يتخذ النقد الأخلاقي في كثير من الأحيان شكل نشر الحقيقة الواضحة على نطاق واسع. ولكن ماذا لو تحولت بعض الحجج في نهاية المطاف إلى خلافات حول القيم؟ ولعل الخلاف الدائر حول تغير المناخ، على سبيل المثال، أعمق كثيراً من أن تتمكن المعرفة العلمية ذات الصلة من علاجه. يقول ويليامز القليل عن الحجة العقلانية حول القيم نفسها، والتي ربما تكون محدودة بنظرته للعالم التي بموجبها "لا تعترف المبادئ بأي مبرر نهائي" (على حد تعبير كورسجارد). أعرب ويليامز أيضًا عن شكوكه الدنيوية حول ما يمكن توقع تحقيقه من الحجج الأخلاقية. كتب: «ماذا سيفعل تبرير البروفيسور عندما يكسرون الباب، ويحطمون نظارته، ويأخذونه بعيدًا؟»

لم يعتقد قط أن الفلسفة الأخلاقية يمكن أن تجعل الحياة الأخلاقية أسهل مما هي عليه الآن.

أظهر عمل ويليامز التوتر الذي شوهد في الحروب الثقافية الأكبر على القيم: بين الرغبة في الاعتراف بالشرور التي تبدو عالمية ولا يمكن إنكارها، والرغبة في ترك إرث العالمية وراءنا. على سبيل المثال، في فصل من كتاب بعنوان "حقوق الإنسان والنسبية"، أشار إلى أن هناك بعض الأخطاء الأخلاقية الأساسية للغاية التي يعترف بها جميع الناس تقريبًا، على الرغم من أنه رفض بشدة في مكان آخر من عمله فكرة وجود قانون أخلاقي عالمي.

ولنقارن نظرته مع وجهة نظر الفيلسوف الأخلاقي ديريك بارفيت، زميله منذ فترة طويلة في أكسفورد. كان بارفيت يعتقد حقًا أن الحقائق الأخلاقية موضوعية وعالمية مثل الحقائق المتعلقة بشكل الأرض، وبحث عن الحجج الأخلاقية التي من شأنها إقناع الجميع. في المقابل، جادل ويليامز في كتابه «العار والضرورة» (1993) بأنه من المنطقي أكثر السعي وراء «الصدق الاجتماعي والسياسي» بدلاً من «الميتافيزيقا العقلانية للأخلاق».إذا كان لدى ويليامز القليل من الوقت لدراسة ما بعد الحداثة عند رورتي بشكل عام، فهو أيضًا لم يشارك أمل بارفيت (المرتبط الآن بحركة الإيثار الفعال) في أن تتحول دراسة الأخلاق إلى علم الأخلاق، والذي سيتم تطبيقه بعد ذلك لحل مشاكل العالم.

الصدق، وعلم الأنساب المفاهيمي، والدراسة الأخلاقية المقارنة: هذه المكونات تعطي فلسفة ويليامز للقيمة قوتها الحاسمة. لا تزال هناك موارد كثيرة للنقد الأخلاقي والسياسي بعد أن تنبثق الفلسفة الأخلاقية بالكامل مما أسماه ويليامز "ظل الكونية".- أو هكذا ما حاول إظهاره. كان هدفه هو التمسك بالتمييز المهم بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، في حين جادل بأن معايير ما يجب أن يكون هي في نهاية المطاف إبداعات ثقافية. ويشبه موقفه في هذا الصدد وجهة النظر القائلة بأن البشر يخلقون معايير لما يشكل الفن الجيد والسيئ بدلاً من اكتشاف حقائق مستقلة عن العقل وخالدة حول الجمال.

لم يعتقد ويليامز قط أن الفلسفة الأخلاقية يمكن أن تجعل الحياة الأخلاقية أسهل مما هي عليه الآن. ومع ذلك، فهو يقدم وجهة نظر حول كيف يمكن للفلسفة، فيما يتعلق بالتخصصات الأخرى مثل التاريخ، تقديم النقد والدعم للتوجه الأخلاقي للفرد في العالم. وفي تعامله مع النسبية الأخلاقية، فهو لا يشير فقط إلى أرضية وسطى بين معاصريه ريتشارد رورتي وديريك بارفيت. ويعطي مثالاً لكيفية اجتياز الحروب الثقافية.

***

.........................

المؤلف: دانيال كالكوت/ Daniel Callcut كاتب مستقل وفيلسوف. وهو زميل سابق في SIAS في كلية الحقوق بجامعة ييل. قام بالتدريس ونشر مجموعة واسعة من المواضيع بما في ذلك فلسفة الحب، وطبيعة القيمة، وأخلاقيات الإعلام، وفلسفة الطب النفسي. وهو محرر كتاب: قراءة برنارد ويليامز (2008). يعيش في لينكولنشاير، المملكة المتحدة.

الهوامش:

* برنارد آرثر أوين ويليامز، فيلسوف، ولد في 21 سبتمبر 1929؛ توفي في 10 يونيو 2003.

** سالي روني (من مواليد 20 فبراير 1991) مؤلفة روائية وكاتبة سيناريو أيرلندية. صدرت لها ثلاث روايات: "محادثات مع الأصدقاء" (2017)، "أناس عاديون" (2018)، و"عالم جميل، أين أنت" (2021). حظيت أعمال روني بإشادة من النقاد ونجاحًا تجاريًا، وتُعتبر واحدة من أبرز كتاب الألفية. صنفتها مجلة تايم ضمن أكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم لعام 2022.

رابط المقال المترجم:

https://aeon.co/essays/bernard-williams-moral-relativism-and-the-culture-wars

بوصفي باحثة سوسيولوجية مهتمة بالانتقالات الثقافية من المتخيل الى الرقمي، فان أزمة اللغة في هذه الانتقالة هي جزء من مجال بحثي في سوسيولوجيا المعرفة.

 منذ الاف السنين واجه البشرية تحدياً كبيرا بسبب عدم قدرة الأفراد على التواصل بوضوح عبر الانقسامات الثقافية واللغوية. وعدم أمكانية وصول المعلومات بلغة ما إلى متحدث آخر، مما أدى إلى سوء فهم متبادل.

إن "أبراج بابل" كتاب لامع مادامت بابل تعتلي عنوانه، وهذا دفعني لقراءته. إذ يرى كاتبه أن نقص التواصل رمز للنقص البشري، وعقوبة مريرة على الغطرسة البشرية، حيث يقتفي الفرنسي جاك دريدا (1935 – 2004) في كتابه "أبراج بابل" أثر الترجمة وفلسفتها وفقه الكلمة وأبعادها الدلالية، وكيف تنفتح على عوالم بذاتها، سواء كانت على صعيد اسم علم أو على صعيد المعاني التي ترمز إليها، ويقارب طروحات عدد من المفكرين إزاء الترجمة، تلك التي تكون ضمن اللغة نفسها أو من لغة أخرى، ويكون في انفتاح الدلالة على فضاءات بعينها إضفاء للسحر والغموض على الاسم وما وراءه، أو ما يستبطنه ويرمز إليه.

يبحر دريدا في سبر أغوار الترجمة، ويقارب الأوصاف التي تنسب إليها أو تلصق بها، كالخيانة أو الحرية أو الإبداع أو التأويل، ويتحدث عن أفعال موازية لها، وأخلاقيات أو قيم مصاحبة أو منتزعة، ويتساءل كيف نترجم نصا مكتوبا بعدة لغات في الوقت نفسه؟ كيف نتمكن من نقل تأثير التعددية؟ وإذا ترجمنا بعدة لغات في الوقت نفسه، هل يمكن اعتبار ذلك ترجمة؟

لا يعنى دريدا كثيرا بتفكيك ما ورد في الكتاب المقدس عن قصة بابل، التي تقول إن الناس في مدينة بابل شرعوا في بناء برج ليصل بهم إلى السماء تحديا، وما ساعدهم على ذلك استخدامهم للغة واحدة سمحت لهم بالتواصل الجيد مع بعضهم والاستمرار في بناء البرج، ولكن المشيئة الإلهية وضعت حدا لهذا البرج، وغرور أصحابه، من خلال خلط لغتهم المشتركة. وعندئذ أدى سوء الفهم إلى اختلافهم وتوقف العمل بالبرج، وتشتت الناس وتفرقوا جماعات، وتداعى برج بابل.

دريدا شخصية مهمة في مجال النظرية الأدبية والفلسفية، وكان لعمله تأثير عميق على فهمنا للغة والتفسير والترجمة. تحدى نهج دريدا في اللغة والتفسير المعارضات الثنائية التقليدية وسعى إلى الكشف عن عدم الاستقرار المتأصل وتعقيد المعنى في سياق الترجمة، يؤكد عمل دريدا على عدة أبعاد رئيسية:

البعد الأول: تفكيك التعارضات الثنائية. يتضمن أسلوب دريدا التفكيكي التشكيك في التعارضات الثنائية وزعزعة استقرارها، مثل الأصل/الترجمة، والحضور/الغياب، والداخل/الخارج. وهذا له آثار على كيفية فهمنا للعلاقة بين النص الأصلي وترجمته.

البعد الثاني: مسرحية الاختلاف. قدم دريدا مفهوم "الاختلاف"، الذي يشير إلى أن المعنى مؤجل دائمًا ولا يكون حاضرًا بشكل كامل أبدًا. تتحدى هذه الفكرة فكرة المعنى الثابت والمستقر في الترجمة وتعترف بلعب الاختلافات بين اللغات.

البعد الثالث: تعدد التأويلات. رأى دريدا أن النصوص لها معاني وتفسيرات متعددة، وهذا التعدد يمتد إلى فعل الترجمة. المترجمون، بحسب دريدا، ينخرطون في عملية إبداعية وتفسيرية تتجاوز مجرد نقل المعنى من لغة إلى أخرى.

البعد الرابع: التتبع والتكرار يسلط مفهوم دريدا عن "الأثر" الضوء على العلامات المتبقية التي خلفتها اللغة وفكرة أن النصوص قابلة للتكرار، مما يعني أنه يمكن تكرارها وإعادة تفسيرها ويؤثر هذا المنظور على كيفية تعاملنا مع النصوص المترجمة، مع الاعتراف بآثار كل من اللغة المصدر واللغة الهدف.

البعد الخامس: أخلاقيات الترجمة كان دريدا مهتمًا بالأبعاد الأخلاقية للترجمة، وشكك في فكرة الترجمة المحايدة أو الشفافة، مسلطًا الضوء على المسؤولية الأخلاقية للمترجمين واحتمال سوء الفهم، وسوء التفسير، ولعب ديناميكيات القوة في عملية الترجمة.

وقد ألهمت أفكار دريدا العلماء في مختلف التخصصات، بما في ذلك دراسات الترجمة، لإعادة التفكير في الافتراضات التقليدية حول اللغة والمعنى و شجع عمله على فهم أكثر ديناميكية للترجمة باعتبارها عملية تفسيرية معقدة تشكلها عوامل لغوية وثقافية وسياقية.

واليوم يعد الذكاء الأصطناعي فرصة لانتقالة قوية في سياق الترجمة، مما قد يسمح لمزيد من الأشخاص بالتواصل بسهولة أكبر مع بعضهم بعضاً، خلال التسعينيات حاول الباحثون أبتكار برامج ترجمة لغوية قائمة على القواعد، الا ان هذه الجهود فشلت لأن فروق اللغة ولطائفها لايختزلان الى قواعد بسيطة، لكن هذا تغير بعض الشيء عندما بدأ المطورون في عام 2015 في تطبيق الشبكات العصبية العميقة على المشكلة، مما أدى الى قفزات في الترجمة الألية، ومثال على ذلك عندما بدأت غوغل Google Translate في استخدام شبكات عصبية عميقة ثم تدريبها بأستخدام ذخيرة موازية، تحسن أداؤها بنسبة 60%، وبعد هذا التقدم في ترجمة اللغة جزء من سياسات دولية، لكن تبقى القدرة على ترجمة النصوص وتصنيف الصور هي أمر واحد، لكن القدرة على توليد وأنشاء نصوص وصور وأصوات جديدة هو أمر أخر، فأنظمة الذكاء الأصطناعي تتفوق في تحديد الحلول وترجمة جيدة بما يكفي لأستخدامها، وفي الوقت نفسه هناك تقنية قادرة على أن تخلق النصوص والصور من خلال مايسمى شبكة المولدات وتطبيقها على التشفير والكتابة.

تبرز برامج الذكاء الاصطناعي كرموز للوعد والتحدي، وتحثنا على التفكير في التطور المستمر للغة وأنتقالها المعقد بين الخيال والرقمي، وكما كانت أبراج بابل ترمز ذات يوم إلى التطلعات الإنسانية وعواقب الغطرسة، فإن أبراج الذكاء الاصطناعي تدعونا إلى استكشاف حدود الإمكانيات اللغوية والاعتبارات الأخلاقية المتضمنة في سعينا للتواصل في هذا المشهد سريع التغير.

***

د. فاطمة الثابت

 

يبدو لي أن تساؤل الشاعر الفيلسوف إيليا أبو ماضي: "وكيف يشعر بالجمال مَن لا جمال في روحه؟!"(١) يَمْتح من مَعين أن الواقع امتداد لما تتردّد أصداؤه في دهاليز مداركنا، هذا الامتداد لا تتمايز فيه مفردات الواقع خيرِها وشرها - مع استحضار نسبية كلٍّ منهما - سِلمها وحربها، رخائها وبؤسها، نعيمها وجحيمها، فالأشياء كما يعبّر عنها الفيلسوف والإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس في تأمّلاته قبل زُهاء ألفي عام: "لا يمكنها أن تمس العقل: إنها خارجية وخاملة، والاضطرابات لا تأتي إلا من رأيك الداخلي"(٢) ويسهب في موضع آخر عن اللفتة نفسها: "لا شيء من هذه الأشياء يصدر حكما عن نفسه أو يفرض نفسه علينا، فالأشياء ذاتها خاملة، وإنما نحن الذين ننتج الأحكام ونطبعها في عقولنا، وإنّ بوسعنا ألّا نطبعها على الإطلاق، وأن نمحو في الحال أي حكم تصادَف انطباعُه"(٣).

ولعل المشكلات نظرةً وتعاطيًا مثال واضح لمدى تأثر الأحداث التي نواجهها بمفاهيمنا التي ننسجها حولها وموقفنا إزاءها، خصوصا أن المشكلات أبرز مكوّنات واقعنا، سالكين عند نشوئها - الكَرّة بعد الكرة - مناحي شتّى.

من العبث بمكان تطويق طرائق الناس في كيفية نظرتهم للمشكلات، والتي تاليا تُملي عليهم كيفية التعاطي معها؛ الأمر الذي يعني أن العلاج الناجع لأي مشكلة ينطلق من مدى وجاهة نظرتنا لها، ولكن دعونا نطرح ثلاثة اتجاهات رئيسة تمثل جمهورا واسعا، ويندرج تحت كنفها تفرّعات عدة.

الاتجاه الأول: يرى في المشكلة نهاية أفق وفاجعة محتومة لا مناص منها، وأن العجز عن تغيير الأقدار هو حتمي لا محالة، يتفاوت بين انكسار ينهش حيوية صاحبه إلى جحيم يمزّقه كل ممزّق.

هذه النظرة السوداوية فضلا عن أنها لا تخدم طريق التعاطي مع المشكلات في شيء فهي تسدُّ أي كُوّة عساها ينفذ منها ولو بصيص نور على استحياء، كما أن يديها ملطّخة بتضخيم توافه المشكلات وتمطيط قصيرها ليمكث أكثر من عمرها الافتراضي بكثير، ومع تتابع نزيف جراحات صاحبها مع تقادم الأيام، جرّاء ما طوّحت به طوائحُ الزمن، ينهار لاحقا من قشة واحدة تذروها الريح، لكنها كانت كفيلة بقصم ظهر البعير؛ بمقتضى قانون التراكم.

ومن المفارقات أننا نَصِمُ غيرنا بضيق الأفق وعدم نضوج الوعي حين يمارس هذه السوداوية، لكننا نركن بالكليّة إليها حين نخلو مع مشكلاتنا نحن، وكأنّ سوداويتنا نحن طاهرة مبرّأة، وسوداوية غيرنا خطيئة منكرة.

الاتجاه الثاني: يعمد إلى صبغ نظرته عن المشكلات بروح اغتسلت في (المدينة الفاضلة) لأفلاطون - وهي ليست كذلك، ولهذه المسألة مبحث آخر ليس محلّه هنا - حيث عالم المثالية والأحلام والسلام، وإضفاء طابعِ الوردية، لكنها لا تربطها بالواقع المعيش آصرة، فيتعامل وكأنّ شيئا لم يكن، ويمكن القول إنها محاولة لتخدير الإدراك؛ خشية استفزاز عش الدبابير واجتراح مناطق من شأنها أن تسحبنا إلى دوّامة من الصداع الذي لا يُطاق.

هذه الحالة من غيبوبة الإدراك المتعمّدة تتوسّل نبيذ التصور الوردي لمشكلاتنا لدرجة أن تكون المشكلة وأي حدث سارّ آخر في كفة واحدة من حيث الماهيّة، والتنكّر لما تثيره من مشاعر الأسى والخيبة، مع استحضار مكثّف لمفاهيم مبتورة ورُؤى مشوّهة عن الرضا والقناعة والخيريّة.

هروبٌ مُقنَّعٌ وطبطبةٌ باهتة بمُثُل عليا، ولم يكن الهروب عن مواجهة مخاوفنا يوما ما مستأصلًا جذور ما نشكوه بل رافد يغذّيه وينميه، تماما كخطورة الانسياق التام لهيمنة المشكلات.

إذن قلب الحقائق لا يبدّل سماتِها، فادّعاء أن جذع شجرة مقطوع ما هو إلا عمود من المرمر لن يحيله كذلك، ولو تسالمت عليه الناس قاطبة، فالمشكلات تبقى مشكلات، وما يصاحبها من مشاعر وخسائر هي كذلك على الحقيقة، وما التصورات التي تعيش حالةً من النكران أو تتغافل عن ذلك إلا زوايا نستروِح إليها، ونرجو - عبثًا - أن نظل في غفوة الأحلام، ولا نفتح أعيننا على وجع الواقع.

الاتجاه الثالث: يقرّ بالمشكلة من حيث حقيقة ماهيتها المؤلمة والشاقة، وما يصاحبها من اصطدام مع تطلّعاتنا، غير أن ما يميز هذا الاتجاه عن الاتجاه الأول هو عدم الرضوخ لما تمليه المشكلة علينا، وإنما محاولة جادة لاستثمارها وَلَيّ عنقها خدمةً لمآربنا، وتفتيشًا عمّا يحمل رحِمها من أجنّة فرص؛ ومن هنا تتحوّل المحنة إلى منحة، والعرَجُ العقيم إلى معراج قويم، الذي ما كان ليكون لولا ما سبقه من اختلال، فالفرَج وليدُ القَرْح، يذكرنا ذلك بمقولة جلال الدين الرومي: "إن الجراح هي النافذة التي يدخل منها النور إليك" فهذا الاتجاه إذْ يرى المشكلة جَعبةً من الفرص لا يعني بحال إلغاء أحاسيس الغضب والألم، ولجم عويل القنوط والخيبة، بل غاية ما يبغيه هو ألا تحُول تلك المشاعر بينه وبين أن يجعل المشكلة درجا يرتقي عليه لينال الهبات التي ترشح عنها.

فإذا كان ذلك كذلك، فإنه قمينٌ بنا لنا ألّا نفهم الجعلية الإلهية في قوله سبحانه: "فَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡـٔٗا وَيَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيۡرٗا كَثِيرٗا" [النساء:١٩] بصورة منبتّة عن إرادتنا البشرية، بل لا بد أن يكون فهمها متساوقا وقوله عز شأنه: "إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ" [الرعد:١١] فهذه الجعلية الإلهية يمكن تعقّلها عبر إنفاذ تصورّنا الذاتي بتوجيه ما يقع علينا مما نكرهه، وهنا يكون تصوّرنا الذاتي فاعلا في دَور استخراج الخيرية من المكاره لا مجرّد ذات منفعلة منزوع عنها هذا الدور المحوري.

وفي هذا السياق يطرح (Ryan Holiday) في كتابه: (The Obstacle is The Way) سؤالا عميقا (بترجمتي): "هل يمكن أن نرى كيف بإمكان المشكلة أن تكون فرصة لحلٍ كنّا بانتظاره زمنا طويلا؟"(٤).

ليس ثمّة أحد بمنأى عن المشكلات، لكن تصوّرنا عن كيفية مواجهتها، وتصرّفنا وفق ذلك هو ما يحدد ما تؤول إليه، ففريق يغصّ بها، وآخر ينكرها حتى يصل إلى نقطة الانهيار، وأما غيرهم فتمنحه فرصة لا تُقدّر بثمن.

فمن الوعي - والحال هكذا - أن نتحمّل مسؤوليتنا في ذلك، ونفتش في أقبائها عن الفرص المخبوءة، ونتصالح مع قابلية الخسارة، ونترك مساحة معقولة للمشاعر السلبية المصاحبة للمشكلات؛ حتى لا تتراكم فتنفجر في الزمان والمكان الخطأ، وما يفوق قدرتنا فنحن في حِلٍ من لوم أنفسنا عليه.

ونحن إذ نعرّج على ذلك لا يفوتنا أن نشير إلى فن ياباني يعكس ثقافة واعية في هذا الخصوص، وهو (Wabi-sabi Art) حيث يتم إعادة ترميم القطع المتكسرة من الإناء الخزفي بصمغ الذهب، لتذكرنا بأن تلك الندوب التي أحدثتها المشكلات إنما هي مسارات مكتظة بالنور أضاءت لنا جوانب ما كانت لترى النور لولاها.

***

محمـــد سيـــف - كاتب عُماني

....................

الهوامش:

(١) يوميات إيليا أبو ماضي، جمع د. عفيف نايف حاطوم، ص٥١، دار صادر/بيروت، ط١/ ٢٠١٢م.

(٢) ماركوس أوريليوس، التأملات، ص٧١، رؤية للنشر والتوزيع، ط١/ ٢٠١٠

(٣) م.ن، ص٢٢٧

(٤)Ryan Holiday, The Obstacle Is The Way, Profile Books LTD, 2015, P: 120

يُنقل أن الشيخ محمود مجتهد الشبستري يردد هذه العبارة:" ما دمت مع الناس فالحذر الحذر.. عليك بحفظ المعرفة بعبارات الشريعة." يفهم من هذه العبارة تأكيده على عدم الغفلة عن السياقات التي تقدم بها المعرفة، ولا سيَّما الناقدة منها فلا ينبغي تجاوزها للضرر الذي تلحقه، ولكن من جهة ثانية لا يحق للإنسان أن يشل عقله ويتعامل مع ما موجود في (تراثه الدينيّ) من موقع الإهمال وعدم المبالاة في التحليل المكثف، فيعيش الانتماءات القهريّة والتحيزات والإرضاءات غير المسوغة، مع مراعاة حجم الهوة الفاصلة بين الآمال والإمكانات(1).

إن غياب ثقافة النقد العلمي وشجاعته والتنشئة عليه يولد معسكرات من الخوف تطوق الإنسان وتمنعه من وعي الذات والآخر، فتجعله خائفًا من ذاته والاعتراف بأخطائه، فيعيش الخوف من الحرية والاصحار عن الرأي، والخوف من الخرافة والوهم، والخوف من العجز والتمايز والاختلاف، وو. حتى ليتحول أعجز الناس أكثرهم حكمة! إن التأليه (للزعامات أو العصور أو التراث) الذي عرفته مجتمعاتنا الدينية جاء بعضه نتيجة النقص في الشجاعة وضعف الإرادة في زحزحة هذا التأليه واختبار قدرته على الوفاء بوعوده وعهوده. إن نصوص التوحش والبغاء تولد حشودًا من المستبدين، ولا سيَّما عندما تقف أمام تراث مقنع يقول لك نصف الحقيقة ويترك النصف الآخر يكتشفه الشجعان الأذكياء.

"تشيع في فضاء الاستبداد شبكة مفاهيم تنفي كل ما لا يتطابق معها، ويمثل نسخة مكرّرة عنها، وتشكل هذه الشبكة نظامًا ذهنيًا، يتجلى في نمط تفكير أحادي اختزالي، كما تتكرس في ظل الاستبداد بنية نفسية معوّقة، تستسيغ الخنوع والانسحاق والتهرب من أي مسؤولية، إنها نفسية العبيد، أبرز سماتها الشعور بالدونية والتبعية وعدم الاستقلال في التفكير، والعجز عن اتخاذ أي رأي، وغياب المبادرة والموقف الشخصي، وتعيش نفسية العبيد حياة نيابية مستعارة، وكأن صاحبها يمثل دورًا لشخص آخر في حياته، لا يعبر فيه عن شخصيته، ولا يمثل ملكاته وإمكاناته، وما أودعته الطبيعة البشرية فيه، وإنما يعيش على غرار ما يريده المستبد (السياسي أو الديني)، وما جرى تدجينه عليه في الأسرة، ثم المدرسة والمجتمع(2)."

يتوهم بعضهم عندما يعتقد أن حركة الفكر والنقد وإعادة النظر في التراث الديني تشكل خطرًا على الإيمان والتوازن النفسي للمجتمعات. فالتضييق على الفكر والنقد هو من يشكل تهديدًا للإيمان كما صرخ اسبينوزا يومًا. نعم التأمل الحر يولد تهديدًا لسلامة المؤسسات الدينية والمنتفعين منها فقط، بعد أن تطوق نفسها برؤية تعتقد أنها المستقيمة والحقانية وتمنع الخروج عليها أو القراءة خارجها. عندها يمكن أن تصور لك شهية القمع والتدمير والتوحش أو الخيانة أو البربرية على انها شرف وبسالة وفتوحات إيمانية فتنجلي المفارقة التي تختبر إنسانيتك نفيًا أو إثباتًا.

فماذا يفعل الباحث عندما يقدم له تاريخه الدينيّ أحد الرموز (بوصفه خطًا أحمرًا) بعد أن قتل عشرات الآلاف من المستضعفين (نذرًا لله).. هذا ما أخبرنا به ابن كثير في معركة معروفة له قال فيها هذا القائد:" اللهم لك علي إن منحتنا أكتافهم أن لا أستبقي منهم أحدًا أقدر عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم، ثم إن الله عز وجل منح المسلمين أكتافهم، فنادى منادي الأسر الأسر لا تقتلوا إلا من امتنع من الأسر، فأقبلت الخيول بهم أفواجًا يساقون سوقًا، وقد وكل بهم رجالًا يضربون أعناقهم في النهر، ففعل ذلك بهم يوما وليلة..3"

هنا لا بد أن يدرك أنه أمام تاريخ ديني ينبغي قتله بحثًا، لإحياء الحياة في النافع منه مرة أخرى، وإثراءه ولو إثراءً أوليًا أو بدائيًا، لجعله مستساغًا وقابلًا للبقاء والديمومة التي تستوعب المفارقات التي يعيشها الإنسان.

إن الشعوب الحالمة أو المستلبة هي من تجتر تراثها وتلوكه وتقبله كما هو باسم قيم دينية سطحية لم تتم البرهنة عليها بما يكفي، وإن خالفت الضمير الإنساني اليقظ. والأخطر من ذلك أنها تعتقد أن ما تعيد إنتاجه أو تعيشه هو بحث علمي، ورهان نافع، لأنه تراث ناجز ونهائي ومتعال.

ولا يفهم من كلامي هذا أنها دعوة إلى القطيعة التامة مع التراث والماضي، بل هي دعوة إلى تغذية التدين المعرفي بالنقد الجذري والسؤال المساهم، لفتح آفاق خصبة ومستنيرة، ولا مانع من حاجتنا اليوم إلى "علم المستقبلات، ولكنه خاص بنا، علم يبشر بالأمل ويحفز على العمل. نحن بحاجة إلى أن نعيش مستقبلنا في حاضرنا ومتكئين على ماضينا- بعد تحقيبه وغربلته-، ولكن لا كمجرد حلم نهضوي مهلهل قابل للتفكك والتبخر تحت أي صدمة أو كابوس، بل كحلم فلسفي عنيد، حلم يُصرُّ على تحويل التاريخ، تاريخنا نحن إلى عقل يسود ويحكم، وتحويل العقل، عقلنا نحن إلى تاريخ يتحرك ويصير(4)."

كل ذلك هو الأصل والأساس ولكن من غير المنطقي القفز والتعالي على ظاهرة التنازلات أو الارضاءات التي يقدمها بعض العلماء تحت عنوان المداراة، نتيجة لمختلف الضغوط الاجتماعية والسياسية والنفسية وو. ولذلك لا بد لنا أن نستوعب هؤلاء ونتفهم مواقفهم وندرك قناعاتهم ونحللها بناءً على هذه المؤثرات، فكلنا يومًا ما سيقدم تنازلات مختلفة وبدوافع شتى، يبقى الاعتبار في نوع هذه الارضاءات وطبيعتها ومقدار تعارضها مع إنسانيتنا وما نؤمن به. وبخطوة أكثر جراءة أجد من حقوق الإنسان (المفكر وغيره) أن يغفر له في حال تناقضه عند بعض المواقف والقرارات، للاعتبارات التي أشرت إليها، والقرآن الكريم يلمح لهذا المعنى، قال تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا). أما شواهد المدارة فغير قليلة، فلا تكاد تجد نبيًا أو قديسًا أو مفكرًا لم يقدم بعض الارضاءات، ألم يضطر بعض آباء الكنيسة إلى تقديم بعض التنازلات، كي يتمكنوا من التوفيق بين الفكر الإغريقي والفكر اليهودي(5)، تحت ضغوط مختلفة ؟ ألم يقدم الأنبياء بعض التنازلات لاعتبارات المجتمع ونوع التلقي في الخطاب الإلهي؟ فمن الشجاعة أن يعترف الإنسان بوجود هذه الترضيات الضمنية، وهي الضمان من الوقوع في فخ التعبئة، لأنّها نابعة من وعي بطبيعة الموقف وشجاعة الاعتراف. وهذا ما دفع مفكر بحجم محمد أركون وشجاعته إلى الإقرار بأن دراساته تموضعت في داخل الفكر الإسلامي، وأذعن بأن هذا التموضع استوجب منه" بعض الترضيات الضمنية، وهذا ما قاله في معرض رده على بعض الاعتراضات التي قيلت تعقيبًا على إلقائه لبحث " العجيب الخلاب في القرآن" إذ حدّد إحدى مهام مشروعه الفكري في مكافحة الاستخدام الأيديولوجي للدين، يقول: " أبذل جهودًا عديدة لمكافحة الاستخدامات الأيديولوجية المحتدمة اليوم في البلدان الإسلامية، وأقصد بذلك الاستخدام الأيديولوجي للإسلام كدين.. وإن كل دراستي التحليلية وكل جهودي تهدف إلى شق الطريق وتأمين شروط إمكان وجود فكر إسلامي نقدي وحر. وأقصد بذلك الفكر الذي يطارد كل الاستخدامات الأيديولوجية داخل الفكر الديني الذي يريد أن يكون حرًا ومنفتحًا. والآن ربما لم أكن قد نجحت تمامًا في مهمتي هذه، لأني أعرف بسبب ممارستي لعلم الألسنيات أنه ليس هناك خطاب بريء. بالطبع يمكن استخدام بعض الترضيات الضمنية مما أقوله وأكتبه، ولكني مستعد لإخلائها من أجل التوصل إلى الهدف الأساسي الذي أبتغيه: أي تحرير الفكر الإسلامي وتحرير الإسلام بصفته دينًا من الاستخدامات الأيديولوجية التي تعرض لها في الماضي، والتي هي ملتهبة الآن كما تعرفون في البلدان الإسلامية(6)." إن هذا النص يكشف لك عن شجاعة أركون في اعترافه بالترضيات، وهي نابعة من انخراطه في رهانات مجتمعه الذي ولد فيه. ولكن هذه الترضيات لا تمنع من التأسيس النقدي لكل ما هو جديد، بوصف النقد هو الوحيد تقريبًا القادر على تقديم ضمانات أكثر وضوحًا في عملية إصلاح الفكر والمعرفة.

ولو تأملنا في هذه الثنائية (شجاعة النقد والمداراة) سنجدها متوفرة في مشاريع فلسفية كثيرة ولعل أوضوحها وأهمها موقف ديكارت وسبينوزا، وطبيعة تعامل كل واحد منهما مع الفكر الديني. فديكارت (ت1650م) مع أنه معروف في العصور الحديثة بأنه أحد أهم مؤسسي العلم الحديث، وأن فلسفته ومنهجه الصارم يقوم على التحرر من كل الأفكار المسبقة مؤقتًا حتى تتم البرهنة على صدقها وصحتها بعد ذلك، إِلَّا أن سبينوزا (ت1677م) هو الديكارتي الوحيد الذي استطاع أن يطبق المنهج الديكارتي تطبيقًا جذريًا في المجالات التي استبعدها ديكارت من منهجه، فديكارت يستثني من قاعدته الأولى في الشك الدين ونظام الحكم، ويؤكد ذلك في مقولته الشهيرة:" أموت على دين مرضعتي." مما سيدفع بإسبينوزا تلميذه إلى رفض هذه الاستثناءات وتطبيق المنهج بحزم على جميع الموضوعات وأولها الدين والسياسة، وهنا حاول بعضهم تفهم موقف كل منهما، فإسبينوزا تعرض لمحاولات اغتيال عديدة بسبب نقديته العلمية الشجاعة التي استهدفت دراسة النص الديني، كما تدرس الظاهرة الطبيعية معتمدًا على أكثر من أداة في التحليل، بينما ديكارت كان صديقًا لرجال الدين الذين وجدوا في منهجه باعتراف ديكارت، دعامة للدين (المسيحية)، ونصرة لعقائده، وأن معظم كتبه خاصة" التأملات" مصدّرَ بإهداء إلى علماء أصول الدين في السربون. لقد قيل دفاعًا عن ديكارت أن موقفه من رجال الدين ومهادنته لهم إنما هو موقف ذكي، اتخذه حتى يحتويهم من الداخل، ولا يصطدم مع السلطة بالتناطح والمواجهة، يكفيه أنه وضع قنبلة زمنية انفجرت بعده في إسبينوزا وفولتير، وتناثرت شظاياها في العصر الحديث بطوله وعرضه. وقيل- أيضًا- إن الأمر يرجع إلى محاكمة جليليو ومأساتها فما زالت حية في الأذهان(7). إن هذه المداراة مع أنها متفهمه إِلَّا أنّ الأصل في الأشياء شجاعة الموقف في ظل التحديات، والمدارة حالة عرضية، فالفكر الحر والمبتكر لم يكن في يوم من الأيام يروق للسلطات المهيمنة، فالحدوسات المعرفية لا تنجبها ثقافة التلقين والترويض والخوف.

ولو أردت أن انتقل إلى الحقل الفقهي والمدونة الفقهية،- حقل الاختصاص الدقيق- فان الفقهاء يصنفون بالعادة في اشتغالهم إلى صنفين، فثمة من تبدو في آثاره العلمية وضوح الرؤية والقاطعية والحسم في الأمور، فيما يلحظ فريق آخر يدور في أبحاثه ذهابًا وإيابًا، يميل تارة إلى وجهة النظر الأولى، وأخرى إلى وجهة النظر الثانية، ثم يعود إلى الأولى فينتصر لها، فتلمح لديه قلقًا في البحث وتراجعًا لوضوح الرؤية والحسم. ولهذه الحالة أسبابها النفسية والموضوعية والعلمية(8).

ويمكن أن نصنّف جملة من الفقهاء على تيار وضوح الرؤية في المجال الإفتائي، ولهذا قلت نسبيًا احتياطاتهم الوجوبية، والتي منبعها صور عدة ومنها(9): أولًا: إعراض المشهور والمقصود به هو أن يترك أغلب الفقهاء الاشتغال بالدليل في مقام الإفتاء، ويميلون إلى غيره مع علمهم به، مما يزرع القلق والحيرة في نفس الفقيه بين العمل بالدليل المتروك وبين متابعة ومواصلة المشهور. ثانيًا: الخلاف الفقهي بين الفقهاء بحيث لم يستقر لهم رأي في المسألة فينعكس ذلك على المجتهد الذي يمارس عملية الاستنباط، مما يفتح أمام الفقيه قرائن تزلزل الوثوق بالدليل الشرعي. ثالثًا: مراعاة الأصحاب: ويقصد به أن الأصحاب لم يختلفوا فيما بينهم وإنما جرت المخالفة من نفس الفقيه، إذ قام الدليل على مخالفتهم فأدى ذلك إلى تزعزع الثقة بدليله.

ولهذا نجد أن بعضهم قد أصدر سلسلة من الفتاوى الجريئة التي يصعب على بعضهم إصدارها، ومن الواضح أنه ينظر هنا إلى مجال قضايا الناس واقعيًا، لا إلى مجال التوازنات القائمة في المؤسسة الدينية، أو اعتبارات الماضي الذي لا يمنح صاحبها أية قداسة أو فوقانية.

***

أ.م.د. حيدر شوكان سعيد

تدريسي في كلية العلوم الإسلاميَّة/ جامعة بابل

........................

(1) يرى أوغست كونت (ت1857م) أن الله يقف بين آمال الإنسان وإمكاناته، فبحجم الهوة الفاصلة بينهما، يتجلى الله في حياة البشر.

(2) عبد الجبار الرفاعي، الدين والنزعة الإنسانية، الناشر: مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد، الطبعة الرابعة-2019م، 67- 68.

(3) البداية والنهاية، ج 6 تنظر أحداث معركة أليس.

(4) محمد عابد الجابري، إشكاليات الفكر العربي المعاصر، 120.

(5) لقد تبنى القديس أوغسطينوس فكرة خلق الله للعالم من العدم، الواردة في التوراة. في حين كانت الفلسفة الإغريقية تقول: إن العالم موجود منذ الأزل، ولكنه كان يرى أن الأفكار موجودة في ضمير الله، منقذا بذلك نظرية" الأفكار الأزلية"، ينظر: جوستاين غاردر، عالم صوفي، رواية حول تاريخ الفلسفة، ترجمة: حياة الحويك، الناشر: دار روائع-  لبنان، 174.

(6) الفكر الإسلامي- قراءة علمية، ترجمة: هاشم صالح، الناشر: المركز الثقافي العربي الإنماء القومي، بيروت، 1987م، 245.

(7) ينظر: مقدمة حسن حنفي على كتاب، رسالة في اللاهوت والسياسة، سبينوزا، الناشر: دار التنوير- بيروت، الطبعة الأولى- 2005م، 11. وحسن حنفي، تطور الفكر الديني الغربي، الناشر: دار الهادي- بيروت، الطبعة الأولى- 2004م، 83- 84.

(8) الشيخ حيدر حب الله، العلامة محمد حسين فضل الله، معالم نهضة وسياقات مشروع إصلاحي، مجلة الاجتهاد والتجديد، خريف وشتاء 1433هـ،20-21/ 7.

(9) ينظر: الشيخ كامل الدراجي، الاحتياط الوجوبي عند فقهاء الإمامية، الناشر: مركز العين للدراسات والبحوث المعاصرة، الطبعة الأولى -2018م، 115-118، 125.

تَعبر الفلسفة عن  حالة من حالات التفكير  التي ترتاب اي إنسان عند مواجهة شيء لا يعرفه، ولا يعبر عن طريقته في  الحياة،الا أن هذه الحالات  مرت بمراحل تطويرية لفهم ماهية الموضوعات وعلاقتها بالحياة والوجود عند الإنسان .

فالسؤال البدائي عند الإنسان القديم كان يعبر عن الاستغراب كونه مرتبط  بالقلق والخوف من الطبيعة، لذلك تجده اخترع الآلهة والدين، لغرض بث الاطمئنان في النفس، وهي كانت نتيجة مرحلة جديدة لفهم الإنسان للحياة وفق تصورات الدين والإلهة المتعددة . لذلك تميز التفكير الفلسفي في هذه المرحلة بحالة من الاستغراب والقلق دون فهم معنى هذا الخوف من خلال التساؤلات .

ثم ما أن دب الاطمئنان في النفوس قامت الحضارات وتأسست المدن والإمبراطوريات في الشرق والغرب، وأخذ الفن يوفر حاجات الإنسان المادية من خلال الأواني وبناء العمارة والمعابد والحدادة والنجارة، وكذلك الحاجات الروحية من خلال الطقوس الدينية، بدأت مرحلة أخرى من التفكير الفلسفي اسماها أرسطو بالدهشة الذي تعتري المرء حين انبهاره بالوجود، وما موجود فيه من نظام وتناسق وانسجام، وهذه المرحلة بدأت مع طاليس كما يرى أرسطو الذي جعل من الماء أصل لكل الموجودات، لكونها المادة التي تدخل في كل شيء . ويعد هذا بداية للتفكير الفلسفي العلمي القائم على الملاحظة والتحليل، لذلك يعد بعض المفكرين أن الفلسفة اصلها يوناني، منهم زيلر والكسندر،  لانهم يرون في التفكير الفلسفي عند اليونان الذي اعتمد الدهشة،  والاندهاش مرتبط بالمحسوس، لذلك قالوا عن سقراط انزل الفلسفة من السماء إلى الأرض . بعكس التفكير الشرقي الذي ارتبط بالدين والماورائيات والأسطورة . وهذا يثبت أن الفلسفة لم تكن ذات اصل يوناني، بل ان كل مرحلة من مراحل الإنسانية حكمت على الإنسان التعامل وفق ظروفها، فالفرق بين اليونان والشرق، هو كالفرق بين من ينظر إلى السماء، وآخر ينظر إلى الأرض .

وبعد أن ظهرت الديانات  السماوية وتم التلاقح الفكري بالفلسفة اليونانية، أنتجت وفقها اهم الفلسفات التكاملية بين الأرض والسماء، وقد وصلت اوجع تطورها في العصر العباسي اذا انعكس ذلك على تطور الشرق والبلدان الإسلامية بشكل خاص . ويمكن تسمية تلك المرحلة من التفكير بالمرحلة التوافقية بين الدهشة والتُفكر .

أما في العصر الحديث بدأت الفلسفة مرحلة جديدة مع العقل الإنساني في أوروبا وخاصة في القرن الثامن عشر مع ديكارت، وسميت بمرحلة الشك، اعتماداً على ما قدمه ديكارت من منهج عقلي يعتمد الشك في تفريغ جميع  ما في العقل الإنساني من اوتاد وافكار الكنيسة  التي تضلل وتعكر الفكر الإنساني من التقدم والنهضة . فشبه العقل الانساني بسلة البرتقال التي تحتوي على الجيد والرديء، فيجب افراغها وإعادة الجيد منها فقط . لذلك كانت مهمة الفلسفة في هذه المرحلة هي الشك في الأوليات .

ثم ما أن حدث التنوير والثورة الصناعية، في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وبدأت المكائن والآلات تؤثر على الانسان والفكر والثقافة  والفن والدين والسلطة، أخذ كانت على عاتقه البدء بمرحلة جديدة للفلسفة سميت بالمرحلة النقدية نسبة إلى فلسفته النقدية، والتي نقد فيها العقل النظري والعملي والأحكام الإنسانية سواء في الفن أو الاخلاق .

وبعد التطور الفكري والثقافي الذي حدث متزامنا مع التطور الصناعي، والتداخل بين الموضوع والذات  ولغرض فهم أيهما يؤثر على الآخر في بناء الإنسان الأخلاقي والنفسي، ولفهم سمة العلاقات التي تقوم بين الأفراد، وجد الفيلسوف فرويد أن الجنس هو الأساس الذي يحرك العلاقات البشرية وديمومتها، فبذلك كانت مهمة الفلسفة عنده مهمة علاجية .

أما في القرن العشرين فقد جيرت الفلسفة لخدمة العلم، وهذا ما جعل الفلاسفة الأمريكان ينتجون الفلسفة البراغماتية التي كانت غايتها تقديم الخدمة والمنفعة العملية، سواء كانت مادية أو معنوية  .

أما مع جيل دولوز نجد أصبحت مهمة الفلسفة إبداع المفاهيم وليس البحث في المبادئ الأولى، كونه يعد المفهوم شبكة من المكونات الفرعية التي تتداخل في كل نظام حياتنا، لذلك كانت مهمة الفلسفة عنده تحليل وخلق المفاهيم التي تلائم كل حدث .

ومع هذا الموقف  الدولوزي يبدو أن الفلسفة اخذت على عاتقها مهمة التحليل وتقديم المشورة  والمعالجة للعلوم الانسانية والطبيعة، والتكنولوجيا، لذلك أصبحت مهمة الفيلسوف تشبه إلى حد كبير مهمة الفنان في الخلق والإبداع للمفاهيم وفقاً لمقتضيات المصلحة الفكرية، فبما أن الفنان يكون إبداعه رسالة وتعبير، كذلك الفيلسوف مفهومة يعبر عن رسالة وتوجيه لمعالجة قضية ما .

فالموقف الفلسفي لم يعد كما كان، شاملاً ثابتاً ومطلق، بل أصبح يتسم بالصيرورة ويخضع للجزئيات، وقريباً من مهمة العلم كونه أصبح ينتج المفهوم الذي يخضع للممارسة .

أما في عصرنا الحالي فتجد موقفها تطبيقي يهتم بالمفاهيم التي تستلهك العصر، في السياسية والجمال والأخلاق والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، والطب، والفلك، والبيئة  وأحوال المناخ .

وهذا يعد طفره فكرية جديدة في الموقف والسؤال الفلسفي إذ انتقل من الاستغراب والشك، إلى المساهمة في البناء والمعالجة والتنمية للمشاريع الإنسانية. لذلك كل فلسفة تولد من رحم العصر . ولا يمكن للفلسفة أن تموت كما يدعي البعض، لأن موقفها ومنهجها في صيرورة دائمة لفهم متطلبات كل عصر.

***

كاظم لفته جبر

سعى العديد من الناس لفهم القوانين الطبيعية التي تحكم الكون. البعض يقول ان هناك 12 قانونا، بينما آخرون مثل هرمس تريسماجستس Hermes Trismegistus (1) يقول ان هناك سبعة. يوضح هرمس في مبادئه السبعة القوانين الأساسية للواقع. سنعرض هنا هذه القوانين مع توضيح لكيفية استعمالها كمصدر للإلهام والقوة.

هذه المبادئ السبعة هي أساس الهرمسية، التي هي فرع من فلسفة روحية  تعود الى بدايات القرن الاول الميلادي. انها طُرحت من جانب المؤلف الشهير هرمس تريسماجستس الذي يُعتقد انه كتب لوح الزمرد Emerald Tablet و"كوربوس المحكم" وهما من أهم التعاليم القديمة.

استمرعمل هرمس يؤثر على كل من الثقافتين اليونانية والمصرية القديمة وحيث كلا الثقافتين تبنّيتاه كإله للحكمة. (في اليونان هو كان يسمى هرمس، وفي مصر تحوت Thoth). هو عُرف في زمانه كسيد الكون العظيم . وبمرور الزمن، انتقلت المبادئ السبعة نزولا عبر الاتصال اللفظي من معلم الى تلميذ، وبالنهاية، وفي بداية القرن العشرين جرى تجميعها في كتاب سمي كيباليون The Kybalion،(1) كُتب تحت اسم مستعار "المبتدئون الثلاثة" The Three initiates .

واليوم، لاتزال التعاليم الهرمسية مصدرا اسطوريا للحكمة، منفصلة عن أي دين واقعي لكنها بقيت مع ذلك مؤثرة. وبينما كانت المبادئ السبعة تمثل فقط طريقة واحدة لفهم الكون، لكنها ليست ضيقة لدرجة لايمكن دراستها الى جانب الفلسفات الروحية الاخرى. سنتحدث الآن عن كل واحد من هذه المبادئ تباعا:2197 مبادئ الهرمسية السبعة

1- مبدأ العقلانية:

"كل شيء هو ذهني، الكون هو عقلي" – The Kybalion.

 الفكرة هي في كل شيء – الفكرة دائما هي الاول: عندما يطبق أي شخص حواسه، هو اولا يكوّن صورة ذهنية للهدف وبعد ذلك، الصورة الفيزيقية. الفكرة هي قبل الفعل وقبل رد الفعل وقبل السلوك. والفكرة – لا يهم ان كانت صحيحة ام زائفة – هي جوهر الفرد الذي يسميه علم النفس الهوية. الكون خُلق في ذهن الله وبما اننا قادرين على التفكير بالمثل، فان الانسان هو صورة لله. الكون هوية الله وهكذا يكون الله هو الكل. لكي يوجد أي شيء، يجب ان يسبقه الفكر. من خلال هذا المبدأ ، يُعتقد ان الله هو وعي، او فكرة، والكون هو تجسيد لعقل الإله. عند استخدام هذا القانون، نحن ايضا نستطيع التحكم بقوة أذهاننا لخلق الحياة التي نريد. وفي مجال التطبيق، عندما نميز مقدار ما يتجسد من افكارنا كل يوم، سواء كان داخليا كحالة فسيلوجية او عاطفية، او خارجيا، كالاشياء التي نقوم بها او الاماكن التي نذهب اليها، سنرى اننا عندما نسيطر على ذهننا، سنتحكم بحياتنا. نحن بهذا يمكننا ان نصبح أفضل من خلال الممارسات الروحية مثل التأمل، الذي يساعدنا في تدريب الذهن.

2- مبدأ المطابقة:

"كما في فوق، كذلك تحت، وكما في تحت، كذلك فوق" – The Kybalion .

 جميعنا سمع بهذه العبارة من قبل، لكن ربما لا أحد يعرف ان هرمس هو أول من صاغها. انها متصلة بإحكام بمبدأ العقلانية الاول ويؤكد بان ما نؤمن به في افكارنا وفي اذهاننا سوف يصبح واقعا لنا. انه يوضح عدة مستويات للوجود، بما في ذلك تلك الذبذبات الاهتزازية العالية والكيفية التي تترابط بها.

هذا المبدأ يجسد الفكرة بان هناك دائما مطابقة بين مختلف قوانين مستويات الوجود والحياة. هناك تناغم واتفاق ومطابقة بين هذه المستويات، وُصفت بـ : 1- المستوى الفيزيائي العظيم 2- المستوى الذهني العظيم 3- المستوى الروحي العظيم.

3- مبدأ الإهتزاز:

"لا شيء في سكون، كل شيء يتحرك، كل شيء يهتز" – The Kybalion

وهذا المبدأ يجسد الفكرة بان الحركة تتجسد في كل شيء في الكون، اي لا شئ ساكن، كل شيء يتحرك، يهتز، ويدور. هذا المبدأ يوضح ان الاختلافات بين مختلف تجسيدات المادة، الطاقة، الذهن، الروح، هي فقط نتيجة لمختلف "الاهتزازات". كلما كان الفرد في أعلى الميزان، كلما كانت درجة الاهتزاز أعلى. هنا، قيل ان الكل هو في مستوى لا متناهي من الاهتزاز، تقريبا الى النقطة التي يكون فيها بحالة استقرار.  هناك ملايين من مختلف درجات التغيير بين أعلى مستوى، الكل، واشياء ذات أدنى اهتزاز. التحول الذهني وُصف كتطبيق عملي لهذا المبدأ. لكي نغيّر حالة المرء الذهنية يعني ان نغيّر الاهتزاز. قد يقوم المرء بهذا عبر جهد الرغبة، او بوسائل التركيز المقصود للانتباه نحو حالة مرغوبة.

سواء اعتقدنا ام  لم نعتقد، كانت فكرة "الذبذبات" موجودة حولنا منذ وقت طويل. ان مبدأ الاهتزاز يعلن ان كل الأشياء، سواء المادية او الطاقات الروحية، تحمل اهتزازا معينا. العلوم الاساسية تخبرنا ان الذرات هي في حركة مستمرة، كما هي الحركة في الكون ذاته. حتى قلوبنا عندما تدق، تصدر عنها مختلف الإهتزازات اعتمادا على حالتنا العاطفية. وعندما نكون في حالة "اهتزاز عالية" نكون قادرين على تجنّب الذبذبات ذات المستوى المنخفض التي لا تخدمنا.

تطبيق هذا يبدو مختلفا لكل فرد، ولكن لكي نطبق هذا المبدأ الثالث، نحتاج ليس فقط لعمل الاشياء وانما للتفكير بالأفكار التي تسمح لنا لنكون في حالة من الراحة، حيث أجسامنا "تهتز" في مستوى اكثر ايجابية. تطبيق المبدأين الاولين يمكن ان يساعدنا للقيام بهذا. (يمكن ملاحظة ان جميع هذه المبادئ متشابكة بعمق). وفق هذا المبدأ، نحن نثق باننا لدينا القوة للسيطرة على اهتزازنا بدلا من سيطرة اهتزازاتنا علينا.

4- مبدأ القطبية:

"كل شيء هو ثنائي، كل شيء يمتلك قطبين، كل شيء له زوج من الأضداد، يشبه و لا يشبه هما ذات الشيء، المتضادات هي متشابهة في الطبيعة لكنها مختلفة بالدرجة، النقائض تجتمع، جميع الحقائق ليست الاّ انصاف حقائق، جميع المفارقات يمكن التوفيق بينها" – The Kybalion.

كل الاشياء المتجسدة لها جانبين، مظهرين، او قطبين. كل شيء هو و ليس هو في نفس الوقت، كل الحقائق ليست الاّ نصف الحقائق وكل حقيقة هي نصف زائفة.

ان مبدأ القطبية يوضح ان ما يبدو متضادا في الاشياء هو في الحقيقة واحد وذات الشيء في درجات متفاوتة. مثال بسيط على هذا هو الحار والبارد. البارد هو فقط غياب الحر، وهما كلاهما شيء واحد: درجة الحرارة. المادة الفيزيائية والطاقات الروحية هي ذات الشيء، طاقة روحية تهتز بمستوى أعلى بكثير، كتلك التي لا يمكن تصورها بحواسنا. الحب والكره هما طريقتان لممارسة نفس الشيء، علاقة نحو شيء ما.

تطبيق مبدأ القطبية يأخذ درجة من التحمل العقلي ويستلزم تغيير الطريقة التي ننظر بها الى الاشياء، ربما  رأسا على عقب. لو اخذنا الكراهية التي نشعر بها نحو شخص ما: هل هناك أي طريقة نستطيع تحويلها الى مشاعر حب، مثلا؟ عندما تكون العاطفة الاهتزازية متدنية وتنحدر بنا نزولا،هل انت تستطيع تمييزها، تشعر بها، تنقلها الى مشاعر اكثر ايجابية؟

5- مبدأ الإيقاع:

"كل شيء يتدفق، للداخل والخارج، كل شيء في صعود وهبوط ، ارجوحة البندول تتجسد في كل شيء، قياس التأرجح الى جهة اليمين هو قياس التأرجح الى جهة اليسار" ـــ

The Kybalion.

في كل شيء هناك حركة دقيقة متجسدة، من و الى ، تدفق وارتجاع، تأرجح للامام والخلف. هناك تناغم بين كل زوج من الاضداد او الاقطاب ومرتبط بإحكام بمبدأ القطبية

المبدأ الخامس يرتبط بإحكام بمبدأ القطبية، فهو يعلن بانه يوجد هناك إيقاع متأصل بين الاقطاب المتضادة. المد يتحرك صعودا ونزولا. نحن نمارس الشهيق والزفير. كل شيء في حركة. الطبيعة لها فصولها وكذلك نحن. فهم هذا المبدأ يسمح لنا للاعتراف بالايقاع الطبيعي لحياتنا وللكون، وبهذا نحن حقا نستطيع العمل مع الحياة والكون بدلا من جعلهما يعملون ضدنا.

وعند تطبيق هذا المبدأ نحن نعرف ان لا شيء يستمر الى الابد، وان الأشياء هي في تغير مستمر. وكلما تعمقنا في العمل مع هذا القانون، سنكون قادرين على العمل مع عواطفنا لتجنب التأرجح الدراماتيكي في المشاعر. من خلال هذا سيصبح السيد في النهاية قادرا على تجاوز الثنائية، ولكن اذا كنا في البداية، علينا ان نحاول الوعي اكثر بحالتنا العاطفية واستعمال القطبية والايقاع  لنصبح اكثر راحة مع التدفقات الطبيعية لحياتنا.

6- مبدأ السبب والنتيجة:

"كل سبب له نتيجة، كل نتيجة لها سببها، كل شيء يحدث طبقا لقانون، الحظ ليس الاّ اسم لقانون غير معروف، هناك مستويات للسببية، لكن لا مهرب من القانون" ـــ The Kybalion .

لذلك لا وجود هناك للفوضى في الكون، هناك فقط نقص المعرفة.

كل شيء مرتبط من خلال مبدأ السبب والنتيجة، سبب كل شيء هو نتيجة لشيء آخر، رجوعا الى البداية الاولى. لنسأل انفسنا هل نحن سبب؟ ام نتيجة؟ هذا المبدأ هو في الاعتراف بتأثيرات افكارنا والسلوك وكيف نغيرها لتؤدي الى نتائج أعظم.

عندما لا تسير امورنا كما مخطط  لها او لا نجد أنفسنا سعداء، لنسأل انفسنا ما هو سبب ذلك؟ دائما ما نجد أنفسنا نستجيب للعالم الذي حولنا، محاصرون في ردود افعال لظروفنا نحو الامام والى الخلف بدلا من صياغة مسارنا الخاص بنا. عندما نقوم بفعل معين للحصول على النتيجة التي نريدها، سننتقل من الشعور كضحية الى شعور بالتمكين.

7- مبدأ النوع او الجنس:

"الجندر هو في كل شيء، كل شيء له مبدأ المذكر والمؤنث، الجندر يتجلى في كل المستويات" ـــ The Kybalion.

المبدأ السابع يعلن ان كل الاشياء لها صفات التذكير والتأنيث ليس فقط في الجنس وانما في الطبيعة الكامنة في كل الاشياء. نعم، الجنسين يمكن تصورهما كتجسيد فيزيقي لهذا المبدأ، لكن على المستوى الداخلي كل منا يحمل كلا الطاقتين. (فكر في الدماغ الايسر والايمن).

طاقة التذكير والتأنيث توجد ليس فقط في المساحة الفيزيقية وانما في المساحة الذهنية والروحية ايضا. وحدة هاتين الطاقتين هي ضرورية للخلق، وعندما يكون لدى المرء توازن بين الاثنين، سيكون قادرا بشكل افضل على تطبيق جميع المبادئ مجتمعة لتحقيق أعظم منفعة.

لذلك لابد ان نقبل جميع اجزاء النفس ونفهم  ان التوازن في الجميع هو مفتاح للسيادة الذاتية. بوذا سمى هذا الطريقة الوسطى، وهي تتعلق بالتوازن بين المذكر والمؤنث، السماوي والارضي، الذهن والجسم والروح. عندما نستطيع انجاز هذا التوازن ضمن أنفسنا، سنكون مؤهلين جيدا لتسخير كل هذه المبادئ واستعمالها في حياتنا للخير.

هذه المبادئ تعمل في كل جوانب الكون والحياة، ويمكنها ان تأخذ وقتا طويلا لفهمها وتجسيدها  بالكامل.   كل مرة نعود لها نفهمها بطريقة جديدة، وبمستوى أعمق. انها يمكن ان تساعدنا في سيادة الذهن والروح.

***

حاتم حميد محسن

...........................................

الهوامش

(1) Hermes Trismegistus هو الاسم اليوناني لـ إله مصر تحوت (Thoth) حيث الدمج بين العقيدتين الميثولوجيتين اليونانية والمصرية: بين إله اليونان هرمس وإله المصريين القدماء Thoth. إله اليونان هرمس كان يُعرف كرسول بين الناس والآلهة. اما إله مصر كان يعود له الفضل في اختراع الكتابة. هو كان ايضا راعيا للفنون التي كانت تعتمد على مهارات الكتابة، مثل السحر، الطب، الفلك. كان لدى شعب اليونان نظام عقيدي توفيقي. هم لم يؤمنوا بان آلهتهم متفردة، بل اعتقدوا ان الثقافات الاخرى لديها آلهة مشابهة لهم بما يكفي لإستيعاب العقائد ودمجها في عقيدة واحدة. هذا يصح خصيصا على آلهة المصريين الذين اعتُبروا مجرد نسخة اخرى من عقيدتهم. الامر الذي سمح لهم بالتالي دمج عقيدتهم والعقائد الاخرى في نظام عقائدي واحد. وفي القرن الثالث قبل الميلاد، ربط اليونانيون عقيدتهم الهرمسية مع  إله مصر.

(2) الـ Kybalion هي كتاب عن الفلسفة الهرمسية لمصر واليونان القديمة صدر من جانب ثلاثة مؤلفين لم يُعرف اسمهم الحقيقي (المبتدئون الثلاثة) وذلك في سنة 1908. يدّعي المؤلفون ان الذهن والفكر هما القوة النهائية للكون، وان الانسان يمكنه الاستفادة من تلك القوى لأجل الصحة والثروة والنفوذ. الكتاب يوضح اساس الرمزية في الانجيل والكتب المقدسة الاخرى. التعاليم الاساسية في هذا الكتاب هي المبادئ السبعة للطبيعة. هذه المبادئ تمثل قوة الحقيقة والمعرفة، وبهذا هي سوف تستمر الى الابد، بصرف النظر عن طريقة دراستها من جانب مختلف الأديان.

"منح المزيد من الحرية يعني بذل جهد أقل للسلطة"

يتم تعريف مفاهيم الحرية والمساواة في المجموعة بدقة من حيث الجهود الفردية للنفوذ أو السلطة. تمت مناقشة الحرية في نسخة "التحرر من" التأثير وليس في نسخة "حرية فعل" ما يريده المرء. لقد تبين أن الحرية الكاملة على المستوى المفاهيمي المثالي تعني المساواة. وبالنظر إلى معقولية التعريفات، فإن هذا يوضح أن "الخطابات الشعبية" السياسية التي غالبًا ما يتم فيها وضع الحرية والمساواة في المعارضة هي مضللة وزائفة. تم تقديم مفاهيم كمية مثل "مزيد من الحرية" و"مزيد من المساواة" وثبت أنها مستقلة عن بعضها البعض. وتتم مناقشة تأثير هذه التمارين المفاهيمية على المقارنة بين الأنظمة السياسية.

خلال الخمسة آلاف سنة الماضية، كان التنافس والتزاحم بين المجتمعات البشرية أو الأنظمة السياسية الكبيرة، والتي تعتبر الدول الحديثة مثالًا واضحًا عليها، غالبًا ما يتم حسمه من خلال آلية "تطورية" بسيطة: الحرب والقوة. ومع ذلك، فإن القوة التدميرية المتزايدة للقطع الأثرية التي تم تطويرها بمساعدة المعرفة العلمية يبدو أنها تقلل من أهمية هذا الجهاز - على الأقل بين المجتمعات ذات القيادة العقلانية إلى حد ما. لأن مجرد استخدام التقنيات الحديثة يزيد من خطر التدمير الذاتي حتى بالنسبة لذلك الطرف الذي لولا ذلك لقال إنه فاز "بالمسابقة". في هذه الحالة، سيكون من المرغوب فيه أن تكون هناك معايير أخرى أقل عنفًا للتحقق مما إذا كان نظام سياسي ما أفضل من نظام آخر. إذا تمكنا من مقارنة نوعية الأنظمة السياسية بطريقة مفاهيمية بحتة، فإن المنافسة العملية بين الأنظمة يمكن اختزالها في محاولات تنوير مواطني النظام الآخر. تركز وجهات النظر الحديثة حول جودة الأنظمة السياسية على جوانب أو أبعاد مختلفة يتم التعبير عنها بمصطلحات مثل الحرية والمساواة والتضامن وحقوق الإنسان والرفاهية. المشكلة في مثل هذا المنهج متعدد الأبعاد لجودة الأنظمة السياسية هي أن الأبعاد المختلفة لم يتم تحليلها بعبارات دقيقة ولم تتم مقارنتها بشكل دقيق مع بعضها البعض. لا توجد سوى معرفة حول كيفية تأثير الجوانب المختلفة معًا على جودة النظام السياسي. في حين أن تأثير كل جانب من الجوانب مع ثبات باقي العوامل واضح تمامًا، إلا أن المشكلات تنشأ عندما يتنوع اثنان أو أكثر منها في وقت واحد. من المواضيع الشائعة في الخطاب السياسي "الشعبي" أن الحرية والمساواة، وكذلك الحرية والتضامن، تتنافس مع بعضها البعض أو حتى غير متوافقة. عندما يتم استخدام هذه التسميات باعتبارها مميزة لأنظمة سياسية معينة، نصل إلى الخطاب المعتاد للمنافسة السياسية بين الدول، حيث، على سبيل المثال، دولة "حرة" ودولة "اشتراكية" (= دولة تتميز بالمساواة و/أو التضامن). نسعى جاهدين للهيمنة. تؤدي هذه الآراء المسبقة إلى توقع أن يؤدي البحث العلمي إلى نتائج مماثلة. أعتقد أن هذا التوقع يتطلب الحذر. في الأمثلة الواقعية، عادةً ما يتم تطبيق المصطلحات الأساسية على الدول دون الكثير من المبررات، وبطريقة دعائية. ومن أجل التغلب على هذا الوضع غير المرضي، يجب دراسة المفاهيم الأساسية بمصطلحات أكثر دقة ويجب مقارنتها مع بعضها البعض فيما يتعلق بمساهمتها في جودة الأنظمة السياسية. وسوف نسير بعض الخطوات في هذا الاتجاه ونقدم بعض النتائج التي تبين أن الدراسة العلمية لهذه الجوانب أو الأبعاد واعدة. وأركز هنا على الفكرة الأهم: الحرية والمساواة. كخلفية لتفسيراتي، أستخدم نظرية المؤسسات الاجتماعية التي تجمع بين وجهة نظر مركزية السلطة للشؤون الاجتماعية بروح مكيافيلي، على سبيل المثال، ونموذج نظامي رسمي لمثل هذه الشؤون،. تهدف هذه النظرية إلى صياغة مؤسسات اجتماعية شاملة مثل الأنظمة السياسية والدول، من بين أمور أخرى. (في العلوم الاجتماعية في الوقت الحاضر يبدو أن وجهة نظر نظرية اللعبة هي السائدة عند مناقشة المؤسسات. ومع ذلك، فإن ما يسمى "المؤسسات" في المنهج النظري للعبة ليست أنظمة سياسية، ولكنها أشياء أكثر محلية وتجريدية مثل "الوعد"، و"الاتفاقية" وما شابه ذلك. حتى الآن، لم يكن التحليل النظري للعبة قادرًا على صياغة وتفسير نظام سياسي واحد من النوع الذي أناقشه هنا. وفقًا لنظريتي، تتكون المؤسسة الاجتماعية من أربعة أجزاء: نظام جزئي من الأفراد وأفعالهم وعلاقاتهم الاجتماعية، ونظام كلي للمجموعات الاجتماعية وخصائصها وعلاقاتها، و"صورتان" لهذين النظامين: مجموعة من "الصور الدقيقة"، صور النظام الجزئي التي يتم استيعابها بواسطة أعضاء المؤسسة، و"الصورة الكلية" التي يتم فيها تمثيل النظام الكلي بطريقة أكثر موضوعية، على سبيل المثال من خلال القوانين المكتوبة والأعراف والأساطير والقصائد والصور وما شابه ذلك. من خلال التركيز على الأنظمة الكلية والجزئية، إحدى السمات الأساسية لهذه النظرية هي أن الأفراد منخرطون في علاقات القوة. يحاول كل فرد ممارسة السلطة على الأفراد الآخرين (أو التأثير عليهم). إن علاقة القوة الفردية التي تمارس فيها القوة تتكون من الفردين المعنيين بالإضافة إلى فعل واحد يقوم به كل منهما. السمة الأساسية الثانية هي أنه يمكن استخدام علاقات القوة الفردية لوصف المجموعات وعلاقة المكانة بين المجموعات. تقريبًا، تتمتع المجموعة بمكانة أقل من المجموعة الأخرى  إذا كان العديد من أعضاء  يمارسون السلطة على العديد من الأعضاء ولكن ليس العكس. أما داخل إحدى المجموعات، من ناحية أخرى، فإن مجهودات القوة تكون في حالة توازن. الميزة الثالثة المهمة هي أنه في المؤسسة الاجتماعية يتم ترتيب المجموعات حسب علاقة الحالة بحيث تشكل رسمًا بيانيًا متعديًا ومتصلًا مع عنصر علوي فريد. هذا العنصر الأعلى هو "المجموعة العليا"، وهي المجموعة التي تتمتع بأعلى مكانة، وبالتالي يمارس أعضاؤها السلطة على معظم أعضاء المجموعات الأخرى. في نموذج لهذه النظرية، الحرية ويمكن تعريف المساواة على النحو التالي. على المستوى الجزئي، يحتوي النموذج على أربعة أنواع من الكائنات: الأشخاص ، والأفعال ، والنقاط الزمنية. يقوم الأشخاص بأفعال ويمارسون السلطة على بعضهم البعض. باستخدام هذه التعبيرات يمكننا تحديد مساحة عمل الشخص في الوقت بحيث تتكون من جميع الإجراءات الممكنة له في الوقت. أقول إن فعل هو هدف ممارسة القوة إذا كان هناك شخص ما وبعض الفعل السابق وبعض الفعل مثل من خلال القيام بممارسة القوة على بحيث يفعل في الفترة. باستخدام هذين التعريفين المساعدين، يمكننا تعريف أن الشخص حر في ، ولا يوجد فعل في مساحة عمل عند هو هدف ممارسة القوة. وهذا يعني أنه لا يوجد إجراء في مساحة عمل يتم حثه بواسطة قوة يمارسها شخص آخر على ويؤثر على للقيام ب. في الواقع، في السياق الحالي، لا يُحدث تقييد الإجراءات من مساحة العمل الخاصة بـ أي فرق. يمكن إثبات أنه يمكن للمرء استخدام الإجراءات التعسفية بشكل متساوٍ.

يبدو أن هذا التعريف للحرية حصريًا من حيث الجهود الفردية للسلطة يتعرض لانتقادات معروفة للمقاربات السلوكية للسلطة . يبدو أن الطرق المهمة لممارسة السلطة بطريقة "بنيوية" أقل مباشرة لم تتم تغطيتها، مثل استبعاد قضية ما من جدول الأعمال، أو إخفاء ممارسة السلطة وراء التزامات الوضع الاجتماعي الخاص بالفرد. إلا أن هذا الانطباع مضلل. أولاً، في هذه الرواية، لا يُفهم مفهوم الفعل بالطريقة الساذجة المتمثلة في القيام بشيء إيجابي. تشكل الأفعال "مساحة" من الأفعال حيث يوجد مجال للسلوك المحايد (عدم القيام بأي شيء) وأيضًا للسلوك السلبي (المعبر عنه بافتراض منفي) لاعتباره فعلًا، الفصل السادس. ثانيًا، في سياق المؤسسة الاجتماعية، ترتبط كل ممارسة للسلطة ارتباطًا مباشرًا بالمسندات العقلية للنية والمعتقدات السببية، وترتبط بشكل غير مباشر بالسمات الكلية مثل المواقف والأعراف الاجتماعية. لا أستطيع أن أصف التفاصيل هنا ولكن أشير فقط إلى أنه في التضمين المؤسسي، قد يكتسب بذل السلطة - على الرغم من وصفه ظاهريًا بالعلاقة بين الجهات الفاعلة والأفعال - الوضع الكامل للسلطة الاجتماعية أو المؤسسية المطلوبة للفهم الصحيح للسلطة. عندما يكون التعريف الحالي للحرية جزءا لا يتجزأ من مؤسسة اجتماعية، فإنه يعبر عن أكثر بكثير من مجرد الغياب السلوكي لرموز التأثير. من بين النسختين الأساسيتين للحرية: التحرر "من" التأثير وحرية "فعل" المرء ما يريد، فإن التعريف أعلاه يغطي الفكرة الأولى. ومن الصعب الربط بين هاتين الفكرتين بعبارات دقيقة لأن مجال الرغبات البشرية غامض للغاية. إذا تمكنا من التمييز، في حالة معينة، بين مجال الأفعال الممكنة ماديًا والتي يمكن أن يقوم بها إذا لم يكن أحد يمارس السلطة عليه، ومجال الأفعال الممكنة بالفعل والتي يتم الحصول عليها عن طريق إزالة من المجال الأول جميع تلك الأفعال التي أصبحت مستحيلة بواسطة الآخرين عندما يمارس الأشخاص السلطة على "ي"، يمكننا القول إن "حرية الفعل" مقيدة بطريقتين. أولاً، إنه مقيد بمجال الأفعال الممكنة ماديًا. لا يمكن للإنسان أن يقوم بأفعال مستحيلة ماديا، سواء أراد ذلك أم لا. بالإضافة إلى هذا القيد الأول، يتم تضييق نطاق "حرية القيام" بشكل أكبر من خلال تأثيرات الأشخاص الآخرين، مما يجعل الإجراءات الممكنة ماديًا مستحيلة. في ظل هذا المنظور، إذا كانت مجالات الإمكانية المادية تعتمد على مستوى الرفاهية، فإن مستوى الحرية "الممكنة ماديًا"، أي الحرية "الممكنة ماديًا". والحرية التي تسود في ظل وجود التحرر من النفوذ تكون أعلى في الدول التي تتمتع بمستوى أعلى من الرفاهية. ومع ذلك، لا يبدو أن هذا التمييز مثمر، لأن المستوى "المادي" ومستوى التأثير يعتمدان بشكل كبير على بعضهما البعض. على سبيل المثال، عادةً ما يكون ارتفاع مستوى الرفاهية مصحوبًا بزيادة المعاناة الناجمة عن مجهودات السلطة، بحيث لا تزيد حرية "فعل" الشخص الشاملة (أو حتى تنخفض) عندما ترتفع الرفاهية. علاوة على ذلك، فإن حرية "الفعل" تتيح تحقيقًا مثاليًا وفرديًا للحرية: فأنا ببساطة أخفض احتياجاتي لكي أصبح حرًا تمامًا (مثل العبد الهيجلي). وهذا يوضح أن حرية "الفعل" ليست مناسبة تمامًا للمناقشات حول المسائل الاجتماعية الأساسية مثل المقارنة بين الأنظمة السياسية، وأن التحرر من "من" هو المفهوم الصحيح الذي يجب استخدامه في مثل هذه السياقات.

يمكن تعريف المساواة من خلال التمييز بين المساواة الخارجية والداخلية. لنفترض أن شخصين متساويان خارجيًا إذا مارسا "نفس" السلطة على أشخاص ثالثين، ويتأثران بأشخاص ثالثين يمارسون السلطة عليهما "بنفس الطريقة". ومن الواضح أن عبارة "نفس الشيء" هنا يجب تفسيرها بشكل متحرر إلى حد ما. لاحظ أن هذا التعريف يصور المساواة الاجتماعية على النقيض من المساواة الفسيولوجية أو غيرها من أنواع المساواة "غير الاجتماعية". قد يكون شخصان متساويين بالمعنى المحدد ولكنهما لا يزالان مختلفين على نطاق واسع، على سبيل المثال، في القوة أو الذكاء أو الثروة. من السهل أن نرى من خلال الأمثلة المضادة أن شخصًا ما قد يكون حرًا ولكنه لا يساوي شخصًا آخر، أو قد يكون مساويًا لشخص آخر ولكنه ليس حرًا. كما يمكن أن نبين على سبيل المثال أنه حتى المساواة الكاملة لجميع الأشخاص في مجموعة ما قد تترافق مع غياب الحرية في تلك المجموعة. وفي الاتجاه المعاكس هناك نتيجة إيجابية. إذا كان جميع أعضاء المجموعة أحرارًا، فهم متساوون، أو باختصار: الحرية الكاملة تعني المساواة. تنطبق هذه النتيجة على مفهوم "التحرر من"، ويمكن التعبير عنها بعبارات أخرى مثل القول بأن المساواة شرط ضروري للحرية ("التحرر من"). في المقارنة بين الأنظمة السياسية، تُستخدم هذه المفاهيم عادةً بطريقة كمية تسمح بـ "الأكثر" و"الأقل". يمكن تعديل التعريفات الموصوفة للتو وتحويلها إلى مفاهيم مقارنة لمزيد من الحرية والمزيد من المساواة الموجودة في مجموعة واحدة مقارنة بمجموعة أخرى بنفس الحجم تقريبًا. ومن ثم تنشأ مشاكل التطبيق في حالات مختلطة مثل زيادة المساواة مع انخفاض الحرية. لا توجد طريقة مقبولة بشكل عام للجمع بين معايير مختلفة من أجل الحصول على نتيجة محددة. ويرتبط شرط «المزيد من الحرية» في هذا الصدد ارتباطًا مباشرًا بوجود أو غياب علاقات القوة. إن زيادة الحرية بموجب التعريف المذكور أعلاه تعني ضمنا بذل قدر أقل من الجهود للسلطة: "المزيد من الحرية يعني بذل جهد أقل للسلطة". ومن ناحية أخرى، قد تتباين المساواة دون أي تغيير في أعداد ممارسات السلطة، على سبيل المثال، من خلال مجرد "إعادة توزيع" هذه الجهود بين السكان. علاوة على ذلك، فإن المفاهيم الكمية للحرية والمساواة مستقلة عن بعضها البعض. ويمكن إثبات ذلك عن طريق المقارنة المنطقية، وإظهار أنه في ظل ظروف افتراضية ثابتة، يكون الاختلاف في أحد البعدين متوافقًا مع عدم وجود اختلاف في البعد الآخر. على سبيل المثال، إذا زادت الحرية فإن درجة المساواة قد تبقى دون تغيير. ويظهر هذا على وجه الخصوص أن الحرية والمساواة - حتى لو تم تعريفهما من حيث القوة - تنتج معايير مختلفة لتصنيف الأنظمة السياسية. وحقيقة أن هذين المفهومين يمكن تعريفهما من حيث القوة لا تعني أن المقارنة بين الأنظمة السياسية في هذين البعدين يمكن "اختزالها" إلى معيار أساسي أكثر صيغ فيما يتعلق بممارسة السلطة." فهل ينبغي أن يتأسس النظام السياسي العادل على الحرية أم على المساواة؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

مقدمة: يتبنى هذا المبحث موقفًا وسطًا بشأن مسألة الهوية الملحة: فهو يشير إلى الوظيفة الاجتماعية الضرورية للهويات بينما يقوم بتفكيك خطابات الهوية الحالية. إن مسألة الهوية هي واحدة من أعمق خطوط الصدع في مجتمعاتنا. بالنسبة للبعض، فهو خط دفاع حيوي في مواجهة العولمة الاقتصادية وتدفقات الهجرة، وبالنسبة للآخرين، فهو علامة سياسية للأيديولوجية اليمينية المتطرفة. اهتمام مركزي، شبه وجودي، بالأولى؛ إنها مشكلة زائفة، وهي علامة على الانغلاق المدان على الخارج وعلى الآخر، بالنسبة للأخير. يجب حماية الواقع المهدد من جهة، والقضاء على الخيال الضار من جهة أخرى. هل يمكن لمثل هذا الاستقطاب الثنائي أن يكون نزيهًا ويُنظر إليه من وجهة نظر عقلانية أم أنه محكوم عليه بالبقاء بمثابة العداء غير القابل للاختزال بين طرفين لا يمكن التوفيق بينهما؟

الهويات، أكاذيب أساسية؟

يعرض كوامي أنتوني أبياه، الذي يدرس الفلسفة الأخلاقية والسياسية في إحدى الجامعات الأمريكية، في هذا المقال وجهات نظره حول مسألة لا تخص علماء الاجتماع فحسب، بل أيضًا، بل وأكثر من ذلك، الرأي العام الذي يبكي بشأنها. وهذا ليس موضوعًا جديدًا بالنسبة لهذا المؤلف: فنحن مدينون له بالفعل، في الواقع، بأخلاقيات الهوية، وفي موضوع ذي صلة، مترجم إلى الفرنسية، من أجل عالمية جديدة. ونظرًا لأصوله العائلية، فإن لديه أيضًا وجهة نظر حول هذه الأسئلة التي يغذيها إرساء ثقافي مزدوج: مجتمع أفريقي تقليدي، الأشانتيون في غانا، حيث نشأ، ومجتمع المملكة المتحدة، حيث درس في جامعة  جامعة كامبريدج المرموقة.

التسميات التي لا يمكننا العيش بدونها

عنوان هذا المقال، المأخوذ من سلسلة من المحاضرات المصممة لهيئة الإذاعة البريطانية، يقدم على الفور دليلين لموقف المؤلف. أولًا، إن الروابط التي توحدنا معًا ليست سوى أكاذيب؛ ومن ثم، لا ينبغي استبعاد تلك الهويات، كما قد يتوقع القارئ، بل يجب إعادة التفكير فيها. يشرح المؤلف كذلك كيفية فهم هذين الاقتراحين. بادئ ذي بدء، مهما كان نوع الهوية التي نشير إليها – فهو يميز خمسة ويفحصها تباعا – فإننا مخطئون في الفكرة التي نشكلها عنها. يكمن الخطأ في تصور أن الهويات تعتمد على الخصائص التي يمتلكها الأفراد بشكل جوهري أو التي يشاركون فيها. وهم الذين سينتسبون إليهم، بشكل عفوي أو طبيعي. ومع ذلك، فإن هذه الفكرة، وفقًا لأبياه، خاطئة في الأساس، لأنه يؤكد أن الهويات، بمعنى ما، ليست سوى تسميات؛ إنهم يعتمدون قبل كل شيء على الكلمات التي تسميهم. ولهذا السبب، يمكن تصنيفها على أنها كاذبة، على الرغم من أنها تلزمنا فعليًا. ومن الغريب، في إشارة إلى الخداع، أن المؤلف لا يقترح القضاء عليه، لأنه يؤكد أن هذه الأكاذيب، على الرغم من كل شيء، ضرورية بالنسبة لنا. ذلك لأن هذه التصنيفات الجماعية، في الواقع، لا تفرقنا فحسب، ولا تضعنا في مواجهة بعضنا البعض فحسب: بل إنها وحدها تسمح للبشر أيضًا بالقيام بالأشياء معًا. وبالتالي فإن مهمة الفيلسوف هي المساهمة في فهمها بشكل أفضل وإصلاحها، خاصة وأن هوياتنا قد تشكلت من الأفكار التي سادت في القرن التاسع عشر، ومن المناسب اليوم تكييفها مع القرن الجديد. هذا التحقيق، الذي يتعلق بدوره بالدين والبلد ولون البشرة والطبقة الاجتماعية والثقافة، يعلن أبياه أنه سيجريه كفيلسوف. ومع ذلك، ربما يرجع ذلك جزئيًا إلى الجمهور الواسع الذي يخاطبه هذا المقال، فهو لا يتقدم من الناحية المفاهيمية، كما يتوقع القارئ. وهو يفضل هنا استخدام القصص القصيرة، التاريخية أحيانًا، والسيرة الذاتية أحيانًا، بهدف توضيح أفكاره. ولذلك، فإن الحجة، التي ليست صريحة دائمًا، يجب في أغلب الأحيان أن تُقرأ ضمنيًا. أولاً، يقدم أبياه لمحة عامة عن نظريته في الهويات. وبعد التذكير بأن المحلل النفسي إريك إريكسون هو أول من أدخل، بعد الحرب العالمية الثانية، مفردات الهوية في العلوم الإنسانية، وتلاه عالم الاجتماع ألفين جولدنر في مجال الهوية الاجتماعية على وجه التحديد، فإنه يسرد السمات الرئيسية لظاهرة الهوية . بداية، إذا كانت الهويات، الناتجة عن إسناد التسميات والمصطلحات، مهمة جدًا للبشر، فذلك لأن لها وظيفة تكاملية أساسية. مع الإشارة إلى المجموعات التي يناسبها كل شخص، يقومون بتعيين انتماءاتهم الاجتماعية. وهذا الانتماء إلى واحدة أو أكثر من "نحن" يزود كل فرد بقواعد السلوك والقيم والأهداف. وهو عملي ومعياري في الأساس، فهو يزود البشر بالإجابات على الأسئلة المتعلقة بتوجهاتهم في الحياة. كما أن الهويات علائقية بطبيعتها حيث يتم تعريفها بالنسبة لبعضها البعض، وأكثر: في معارضة بعضها البعض. هذا شيء معروف: أن يمنح المرء هوية هو بحكم الأمر الواقع تمييزًا لنفسه عن الآخر، وأن يقول "نحن" يعني أيضًا مخاطبة "أنت" أو معارضة "هم". ويتابع أبياه أن الهويات أيضًا موضع خلاف أساسي: فتعريفها، وبالتالي حدود المجموعات التي تستجيب لها، دائمًا ما يكون مثيرًا للجدل وموضوعًا لصراعات لا نهاية لها. ويترتب على ذلك أنه لا يتم النظر إليها عمومًا في علاقة مساواة: فهم، في أغلب الأحيان، يتم تعبئتهم لإنشاء تسلسلات هرمية أو إقامة علاقات السلطة. وبالتالي، فإن الارتباط بالهوية يعني الاستفادة من بعض علاقات التضامن، ولكنه يعني أيضًا، خارجيًا نسبيًا، المشاركة في علاقات الإقصاء، وحتى الهيمنة. أخيرًا، يخلص أبياه إلى أن المفهوم الذي يمتلكه البشر دائمًا تقريبًا عن الهويات هو مفهوم جوهري. هذا المصطلح، الذي أصبح اليوم جزءًا من الحس السليم النقدي، يدين الميتافيزيقا المتضمنة في أي تصور للذات ككيان ثابت وغير قابل للتغيير، وقد تم تقديمه في الأصل مرة واحدة وإلى الأبد. وهو يتعارض بشكل أساسي مع الواقع التاريخي الأساسي للظواهر الإنسانية، التي تعتبر متحركة ومتغيرة بشكل جوهري. يصر المؤلف على حقيقة أن الهويات "يمكن أن تجمعها القصص، دون جوهر". بمجرد ظهور الهويات إلى الوجود، فإن هذا التحول الجوهري للعقل يغذي الصور النمطية: فالتصورات التي يتخذونها لبعضهم البعض تكون دائمًا في غاية التبسيط والاختزال. وعلى العكس من ذلك، فإن الصور التي نشكلها عن هويتنا، والتي لا تكاد تكون أكثر تعقيدًا، لها وظيفة مثالية: فهي تهدف إلى تجميلها.

تفكيك مفهوم الهوية

بمجرد ترسيخ هذه النظرية في خطوطها العريضة، تتكون استراتيجية أبياه، بشكل أساسي، من الإشارة إلى الطابع الأيديولوجي للهويات دائمًا تقريبًا. وفي مواجهة منطق الأفكار هذا، الذي يبسط بشكل عفوي وعقائدي، فإنه يحشد البيانات التجريبية. ومن ثم فهو ينوي إظهار أن تعريفات وترسيم الهوية تتناقض بانتظام مع الحقائق، مما يوضح أن الأفكار الملموسة والأفعال العادية للبشر غير متطابقة بشكل عام. وفي معرض تحديه للهوية الخيالية السائدة، أشار، عدة مرات، إلى أن ما يسمى بالهويات الجماعية تغطي، في الواقع، تعددية وتنوعًا لا يمكن اختزالهما في الوحدة البسيطة والمتجانسة التي ترغب في امتلاكها. دائما، الواقع، باختلافاته وانقساماته التي لا نهاية لها، يناقض الادعاءات. يتتبع أبياه هذه الهويات الزائفة أو الوهمية في كل مكان. في الأخبار، على سبيل المثال، عندما يزعم أنه إذا كانت المملكة المتحدة قد صوتت بالفعل لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فلا يمكننا أن نستنتج من هذا هوية مناهضة للمجتمع في البلاد لأن سكان لندن مثل الاسكتلنديين تحدثوا ضدها علنًا. وبنفس الروح وعلى نطاق أوسع بكثير، يتحدى المؤلف فكرة الحضارة أو الثقافة الغربية أو المسيحية أو حتى الأوروبية. وهذه، حسب رأيه، تمثيلات أيديولوجية يود أن نتخلى عن فكرتها. وسواء كنا نعارض الغرب في مواجهة الشرق أو في مواجهة الإسلام، فإن ترسيم الحدود الذي يتم باستخدام هذه التسميات من شأنه أن يؤدي دائمًا إلى العنف ضد الواقع. ولتبرير وجهة نظره، يشير أبياه، بشكل تقليدي تمامًا، إلى الأندلس العربية، حيث شارك المسلمون والمسيحيون واليهود في نفس الحياة الفكرية والثقافية. وفي السياق نفسه، يرى أنه من غير المشروع للأوروبيين والغربيين المطالبة بالتفرد بالتراث اليوناني الروماني، الذي يفترض أنه يشكل هويتهم الخاصة، حيث لعب العرب دورًا حاسمًا في نقله في العصور الوسطى. فما الذي يمكن إذن أن يبقى من الهويات، سيتساءل القارئ هنا، بعد هذا العمل التفكيكي؟

يؤكد أبياه أنه من المستحيل بالنسبة لنا، على الرغم من كل شيء، أن نتخلص من الهوية وأنهم ضروريون لنا بشكل إيجابي. ويؤكد أنها تشكل شرطًا لكل وجود جماعي وكل عمل مشترك. لذلك، بعيدًا عن الرغبة في القضاء عليها، يقترح المؤلف الترويج لصورة أخرى لما هي عليه. إذا ما هو؟ ويحلل أن خيالنا عن هويتنا مثقل بالإشارة الأسطورية إلى أسلافنا المشتركين. إن هذه الدعوة إلى الأصل المقدس تميل إلى تجميد الهويات، لأنها في الواقع مسألة التزام بالنموذج المطلق الموروث منذ الأزل أو من الأحداث التأسيسية. في مقابل هذا التمثيل، يعارض أبياه الهوية كمشروع: فهي لن تكون أبدًا أي شيء آخر غير عملية من خلالها ستخترع وتعيد اختراع نفسها إلى ما لا نهاية. ومن هذا المنظور، تتوقف الهوية عن كونها قدرًا يُفرض بشكل سلبي على البشر؛ التطلع إلى المستقبل، فإنه يحشد نشاطهم. ومع ذلك، مهما كانت جوانبها الإيجابية، لا يمكن للهوية الموروثة أن تشكل، كما يؤكد المؤلف، دخلاً يمكن أن يتمتع به البشر بشكل سلبي: لا يزال يتعين الاستيلاء عليه وتنفيذه، وتثمينه، وتجديده. وعلى هذا النحو، يعتقد أبياه أن التراث الثقافي متاح للجميع عالميًا، فهو ينتمي إلى أولئك الذين يستغلونه بنشاط. وفي المستقبل المرغوب كما يتصوره، "سيكون كل عنصر ثقافي من حيث المبدأ منفصلاً عن أي عنصر آخر"، وبالتالي يمكن للجميع اختيار ما يناسبهم، وبهذه الطريقة، تكوين هوياتهم بحرية. وهو أيضًا أن الهوية، من وجهة نظر المؤلف، ليست أبدًا، بالنسبة لأي إنسان، فريدة من نوعها وبالتالي حصرية لجميع الآخرين. فهو يعتقد، على العكس من ذلك، أن هوياتنا متعددة. ومن ثم، فإن أبياه قاد منطقيًا إلى تبني منظور سياسي عالمي، وهو ما دافع عنه أيضًا في عمل سابق. وهو يعتقد أن العالمية أصبحت اليوم ضرورة، والتحدي يتمثل في خلق "هوية ينبغي أن تربطنا جميعا".

قصور الفلسفة الاجتماعية

بشكل عام، يعاني عرض أبياه من كونه سرديًا للغاية وقليلًا من المفاهيم. عدة اعتراضات تتبادر إلى الذهن. من الإشكالي، في المقام الأول، أن نؤكد على أن الهويات ضرورية بالنسبة لنا بعد أن حكمنا عليها جميعًا بأنها تقيدنا بالأكاذيب. وكما صاغه المؤلف، فهو موقف ظلامي: يحتاج البشر إلى الكذب على أنفسهم لكي يعيشوا معًا. وبما أنها لا تتوافق مع الروح العامة لخطابه، فيجب أن نستنتج أنها صياغة مؤسفة، أو على الأرجح، فلسفة اجتماعية غير مستقرة. في تحليلاته، لا يتوقف أبياه أبدًا عن تتبع الفجوات بين الصور التي يمتلكها الإنسان عن نفسه والواقع، وهو بذلك ينفذ نقدًا للأيديولوجيات. لماذا لا يقترح إذن وضع حد للهويات من خلال استبدال الحقيقة بالقناع الأيديولوجي؟ وذلك لأن المؤلف يبدو أنه يرى بوضوح، وفقًا للمعرفة المكتسبة في العلوم الاجتماعية، أن العقل، في شكل لغة وخيال، يلعب دورًا مهمًا في تكوين الحقائق الاجتماعية والتاريخية. خطأه هو وصف هذا البعد بالكذب، وربط الخيال بالمخيال بشكل أساسي. وهو أيضًا تسمية الهويات بـ “التسميات”، مما يجعل من المفهوم بهذه الطريقة أنها ظواهر مصطنعة وسطحية تمامًا. ولكن قد يتساءل المرء، كيف يمكن أن تتمتع العلامات البسيطة بهذه القوة التعبوية؟ وفي الواقع، فإن المعاني الخيالية التي ينشأ منها المجتمع، على حد تعبير كاستورياديس، ليست قضايا بالمعنى المنطقي للكلمة، وليست صحيحة ولا كاذبة، لأنها تحدد له شروط المعنى. "لم يتم إصدار مرسوم لك كـ "إنجليزي" لأن هناك جوهرًا تتبعه هذه التسمية؛ أنت إنجليزي لأن قواعدنا تحدد أنه يحق لك التمتع بآداب السلوك - وأنك متصل بالطريقة الصحيحة بمكان يسمى إنجلترا. "، يكتب أبياه. بالتأكيد، ولكن سيكون من المناسب أن نضيف أن "العلامة" ليست إذن دالاً بسيطًا يتم لصقه بشكل تعسفي على الظواهر. إنه المعنى التأسيسي لشكل من أشكال الحياة الجماعية؛ فهو ليس خارجًا عنه، بل على العكس من ذلك، يؤسسه بتجسد نفسه. وبهذه الطريقة، يتم إنشاء شكل فريد من أشكال الواقع، وبالتالي لا يمكن تحويله بسهولة. إن المجتمع القائم لا يوجد بطبيعة الحال في نمط الجوهر، ولكنه يتمتع بشكل من التماسك والاستقرار الذي يقاوم التغيير. وذلك لأن استمرارها لا يعتمد فقط على الإرادة الذاتية لأعضائها، على عكس ما يبدو أن المؤلف يفكر فيه عندما يتناول مفهوم ارنست رينان الشهير للأمة "استفتاء كل يوم" مقارنا إياه بمفهوم الوطن. روح الشعب في رؤية هيردر الرومانسية. لكن هذا المفهوم الذاتي والطوعي لا يرى إلا جانبًا واحدًا من الأشياء. تتمتع الأمة أيضًا، في الواقع، بطابع الموضوعية الذي يُفرض على الفاعلين: فإرادة الفاعلين متجذرة بالضرورة في تراث التقليد الذي استحوذوا عليه من خلال التنشئة الاجتماعية والتعليم والذي يجب عليهم أولاً أن يمتلكوا فيه أساسياتهم. طرق التفكير والعمل، والتي لا يمكنهم إخضاعها إلا بعد ذلك للتفكير النقدي المحتمل.

الأكاذيب التي توحد

إن الطريقة التي يتصور بها أبياه الهويات تميل نحو الفلسفة الاسمية، التي ليس للجماعات وجود حقيقي بالنسبة لها. ولذلك، فإن جميع الأسماء الجماعية هي طرق عملية للحديث عن الحقائق التي هي، في الأساس، مجرد جموع من الأفراد. ومن هذا المنظور، تتوافق الهويات فقط مع الارتباطات التقليدية؛ فهي تستجيب أولاً للفرص ثم تميل، من خلال التبلور، إلى الاستمرار لفترة أطول أو أقل. هذا، في الأساس، مفهوم فردي: الإنسان هو قبل كل شيء، بالنسبة لها، انسان فردي، والإنسان الاجتماعي ليس أبدًا أي شيء آخر غير تأثير الاتفاقات، المصطنعة والمؤقتة أساسًا، التي يتم تمريرها بين الأفراد. ولهذا السبب لا يوجد أي أثر، عند أبياه، لمفهوم الكلية الاجتماعية. ومع ذلك، فإن لغة الهوية تدعو، من حيث المبدأ، إلى لغة الوحدة: لا هوية دون كيان، كما يقول المنطقي كواين، ولا كيان دون وحدة، والتي، في حالة المجتمع، ستكون تعددية متمايزة. وهذا من شأنه، بالنسبة للمؤلف، أن يكون سقوطًا في العضوية، والاستسلام لصورة المجتمع الذي تكون فيه جميع الأجزاء المكونة، كما هو الحال في كائن حي، متحدة ومتكاملة هرميًا. ويعتقد أنه يجب علينا أن نعترف بأن الثقافة كلها "معقدة ومربكة، وليست واضحة وشفافة". ولذلك فهو لا يتوقف أبدًا عن الإصرار على حقيقة أن الهويات القائمة لا تقسم المجموعات البشرية أبدًا بشكل مُرضٍ، وأن الحدود التي ترسمها تتناقض دائمًا مع آلاف الحقائق، وبالتالي فهي موجودة جزئيًا ومؤقتًا فقط. كما أنها ستكون نسبية فقط، كل منها، لسمة معينة، لذا، في وجودنا، سنتعهد بالولاء دائمًا للهويات المتعددة وغير المتداخلة. بمعنى آخر، بالنسبة للهويات، فإن الحقائق الاجتماعية والتاريخية ستكون، قبل كل شيء، عبارة عن خليط وتمازج.

الهوية والمسؤولية

وهنا ينشأ سؤال حاسم: إذا منحنا أبياه هذا الوصف للهويات، فكيف سنتمكن من إسناد الأفكار والأفعال إلى أشخاص معنويين؟ أليست الكنيسة أو الدولة القومية أو الحزب السياسي موضوعات يمكن إسنادها، ولا ينبغي طرحها على هذا النحو؟ هل هم بلا تمثيلات، بلا تأثيرات، وبدون نواياهم؟ فهل نستنتج أن الجماعيات، في حد ذاتها، غير مسؤولة بشكل عام؟ وسيكون هذا، كما نرى على الفور، موقفاً لا يمكن الدفاع عنه. على سبيل المثال، من الضروري، لتبرير وجوب محاسبة الدولة الفرنسية الحالية على مجزرة فيل ديف أو الجرائم المرتكبة خلال حرب الجزائر، أنه يمكننا أن ننسب هذه الأفعال إلى كيان مستمر مع مرور الوقت. وهذا لا يعني الاستسلام لمفهوم جوهري لهوية فرنسا: بل يعني، بشكل أكثر رصانة، الاستثمار في صورة ذاتية تلزمنا بالاعتراف بأخطاء الماضي من خلال إعادة التأكيد على المبادئ والقيم المكونة التي نعتزم أن نبقى أوفياء لها. ولذلك فمن المناسب التمييز، كما يقترح فنسنت ديكومب، بين "الهوية المرجعية" للمجتمع من ناحية، والتي تسمح بنسب الأقوال والأفعال إليه دون خطأ، قانونيا أو تاريخيا، ومن ناحية أخرى، "هويتها التعبيرية"، التي تنص على ما تريد أن تكون عليه بشكل إيجابي، ونسبيًا يمكن للآخرين الحكم على ما تقوله وتفعله. وبدون هذا التمييز، يظل هدف خطاب أبياه النقدي فيما يتعلق بالهويات غير مؤكد. في بعض الأحيان، في الواقع، يهاجم ادعاءات الهويات التعبيرية - وبالتالي: التراث اليوناني الروماني الذي يدعي الغربيون أنه ليس له أي تأثير اليوم على وجودهم - وأحياناً يشكك في مرجعية الهوية - وبالتالي: هل يكفي أن تصوت الأغلبية؟ لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لكي ينسب ذلك إلى بريطانيا العظمى ككل؟ وكيف يتم إعادة التفكير في الهوية؟

خاتمة

يتمتع أبياه، بشكل عام، بميزة رفض محو لغة الهوية من لغتنا بكل بساطة، في مواجهة الهجمة التي نواجهها اليوم من الاحتجاجات الفردية السطحية. ومع ذلك، فإن أنطولوجيا الاجتماعي الضمنية تدفعه نحو تصور اسمي لطريقة وجود الاجتماعي التاريخي، والتي تبدأ من الأفراد ثم تنتقل فقط إلى علاقاتهم. ونتيجة لذلك، فإن الهويات، رغم كونها ضرورية، تبدو له، في أغلب الأحيان، كمسميات مضللة، مبسطة ويصعب نسبتها بشكل لا لبس فيه. ومع ذلك، يجب أن نكون قادرين، في مرحلة ما، على تحديد من قال أو فعل ماذا بشكل جماعي. في الأمور العملية، عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرار والتصرف، فإن الانقسامات والشكوك حول الهوية تتلاشى أو يتم التغلب عليها أو تعليقها، لأن الفعل يجب أن يقرر: ومن المستحيل بعد ذلك عدم اتخاذ قرار بشأن هوية الفرد الاجتماعية. لكي يكون الجميع قادرين على الالتزام، يتعين عليهم الاختيار بين هوياتهم المتعددة. ينوي أبياه بحق انتقاد الطابع الأيديولوجي لظاهرة الهوية، لكنه يترك البعد التأسيسي لها يفلت من ناحية أخرى. وأخيرًا، فهو يفضل معياريًا البعد المستقبلي للهوية ويقلل، بالتناسب، بعدها الماضي، وهو البعد المتعلق بالتبعية والديون تجاه الأجيال السابقة. ولذلك فهو يميل إلى أن يتخيل بسهولة أن الهوية السياسية العالمية، التي تربط الناس عالميًا بما يتجاوز الهويات الخاصة القائمة، هي على جدول الأعمال وفي متناول اليد. فكيف يمكن الانتقال بالهوية من الخاص الى العالمي المأمول؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.........................

المصدر

Kwame Anthony Appiah, Repenser l'identité: Les mensonges qui unissent, Grasset,2021,  416 pages

 

قديما ذكر سقراط ان الحياة الخالية من التفكير والاختبار لا تستحق ان تُعاش، فالحياة في نظره لابد ان تُختبر، ولكن ماذا يمكن ان يفعل الانسان في هذا الاختبار؟ سقراط ادرك ان الانسان هو اكثر من هذه الحياة القصيرة على الارض. فهو لديه روح أبدية، فيها يقرر مصيره الأبدي من خلال الخيارات التي يقوم بها في هذه الحياة. ولكي تصبح افكارنا افعالا فلابد لهذه الافعال ان تشكل عاداتنا، وهذه العادات تصنع شخصيتنا الثابتة التي تذهب معنا للخلود. بدون الحكم على حياة الفرد وبدون المعرفة التي نكتسبها عبر الاختيار للافعال التي نقوم بها فما الغاية من حياتنا اذاً؟ انها بذلك سوف لن تختلف عن حياة الكائن الحيواني وستنتهي الى اللاجدوى. تساؤلات سقراط يمكن اعتبارها ركيزة وحلقة اساسية في التفكير النقدي المعاصر. اذ يمكن استخدام تلك التساؤلات المحكمة disciplined questioning في متابعة الفكر في عدة اتجاهات ولعدة أغراض، بما في ذلك استكشاف افكارا معقدة للوصول الى حقيقة الاشياء، وفي افتتاح القضايا والمشاكل، وإماطة اللثام عن الافتراضات وتحليل المفاهيم لغرض التمييز بين ما نعرف وما لا نعرف، واتّباع المضامين المنطقية للتفكير.

المرحلة الاولى: مرحلة اللاتفكير

جميعنا وُلدنا دون ان نفكر، غير واعين اساسا بالدور الذي يلعبه التفكير في حياتنا. معظمنا يموت وهو على هذه الطريقة. في هذه المرحلة من اللاتفكير، لا يوجد لدينا تصور عما يعنيه التفكير، فمثلا، باعتبارنا غير مفكرين نحن لا نلاحظ اننا باستمرار نضع افتراضات، نكوّن مفاهيم، نطرح استنتاجات، ونفكر ضمن وجهات نظر. في هذه المرحلة، نحن لا نعرف كيف نحلل ونقيّم تفكيرنا، لا نعرف كيف نقرر ما اذا كانت أهدافنا قد صيغت بوضوح، وان افتراضاتنا مبررة، واستنتاجاتنا طُرحت بطريقة منطقية. نحن غير واعين بالخصائص الفكرية ولذلك لا نكافح لتجسيدها.

في هذه المرحلة، يقود التفكير السيء الى العديد من المشاكل في حياتنا، لكننا غير واعين بهذا. نحن نظن ان عقائدنا حقيقية، وقراراتنا صائبة. نفتقر للمعاير الفكرية وليست لدينا فكرة عن ماهية هذه المعايير. نحن نفتقر للسمات الفكرية ولا ندرك اننا نفتقر لها. نحن وبلا وعي نخدع أنفسنا بعدة طرق، نخلق أوهاما سارة ونحافظ عليها. عقائدنا تبدو معقولة لنا، ولذا نحن نؤمن بها بثقة تامة. نتحدث عن العالم ونحن واثقون ان الاشياء هي حقا ما يبدو لنا. نحكم على بعض الناس كـ (جيدين) وعلى آخرين بـ (السيئين).  نوافق على بعض الافعال ولا نوافق على افعال اخرى. نتخذ قرارات، نقوم برد فعل تجاه الناس، نسلك طريقتنا في الحياة، ولا نتسائل بجد عن التفكير الذي نقوم به ولا عن انعكاساته.

في هذه المرحلة، تلعب الميول لمصالحنا الذاتية الدور الرئيسي في تفكيرنا، لكننا لا نقر بهذا. نحن نفتقر الى المهارات والتحفيز الذي يمكّننا من ملاحظة كم نحن منحازين ومنقادين نحو مصالحنا الذاتية، وكم نحن نستنسخ الآخرين وكم نتجاهل الافكار دون عقلانية لأننا لا نريد تغيير سلوكنا وطريقتنا المفضلة في النظر الى الأشياء.

المرحلة الثانية: مرحلة التحدي الفكري

هل نحن مستعدون لقبول التحدي؟ نحن لا نستطيع حل المشكلة التي لا وجود لها. لا نستطيع التعامل مع الظروف التي ننكرها. بدون معرفة جهلنا، لا نستطيع البحث عن المعرفة التي نفتقدها. بدون معرفة المهارات التي نحتاج تطويرها سوف لن نطور تلك المهارات. عندما نصبح على وعي بان المفكرين "العاديين" عادة يفكرون بطريقة ناقصة وغير جيدة، سننتقل الى المرحلة الثانية من تطوير التفكير النقدي، سنبدأ بملاحظة اننا عادة نستعمل افتراضات مشكوك فيها، نستعمل معلومات زائفة وناقصة ومضللة، نعمل استدلالات لم تأت من الدليل الذي بحوزتنا، نفشل في التسليم بوجود مضامين هامة في أفكارنا، نفشل في الاعتراف بالمشاكل التي بحوزتنا، نكوّن مفاهيم خاطئة، نفكر وفق وجهة نظر منحازة، وبطريقة أنانية لاعقلانية.

اننا ننتقل الى مرحلة "التحدي" حينما نصبح على وعي بالطريقة التي يرسم بها التفكير حياتنا، بما في ذلك الاعتراف ان سوء تفكيرنا يسبب مشاكل في حياتنا. نحن نبدأ بالإقرار ان التفكير السيء قد يكون مهددا للحياة، ربما يقود الى الموت او الى عجز دائم، فنؤذي بذلك الاخرين بالاضافة الى انفسنا. فمثلا، نحن ربما نتأمل التفكير في الفرد الذي يماطل دائما ويؤجل الاشياء باستمرار، او المدير اللاعقلاني الذي لايستطيع ادراك سبب عدم تصفيق العاملين له، الفرد الغاضب عموما على العالم، المراهق الذي يعتقد ان التدخين هو حالة من اتزان الشخصية، المرأة التي تعتقد ان فحص الرحم غير هام، صاحب الدراجة النارية الذي يظن ان ارتداء الخوذة يعيق الرؤية، ولذا من الأمان نبذ الخوذة عند السياقة، او الشخص الذي يعتقد بامكانية السياقة مع تناول الخمر، او الشخص الذي يقرر الزواج من امرأة حمقاء اعتقادا منه انها ستتغير بعد الزواج.

نحن نقر ايضا بالصعوبة التي يتطلبها "تحسين" تفكيرنا. فلو كنا في هذه المرحلة من التفكير، لابد من الإقرار بان مشكلة تغيير عاداتنا في التفكير هو تحدي هام يتطلب تغييرات مكثفة وصعبة في روتين حياتنا اليومية. بعض الاشارات تنبئ ببروز الحالة التفكيرية reflectiveness هي:

اننا نجد انفسنا نعمل بتركيبات ذهنية تخلق التفكير، او تجعل هناك امكانية للتفكير مثل: المفاهيم، الافتراضات، الاستدلالات، المضامين، وجهات النظر. اننا نجد انفسنا مهتمين بدور الخداع الذاتي في التفكيررغم ان فهمنا"مجرد" واننا ربما غير قادرين على اعطاء عدة امثلة من حياتنا الخاصة. في هذه المرحلة من التطور، هناك خطر معين وهو خداع الذات، العديد من الناس يرفضون قبول الطبيعة الحقيقية للتحدي، التحدي المتمثل بان تفكيرنا الخاص يمثل مشكلة حقيقية وهامة في حياتنا. لو كان احدنا يفعل كما يفعل العديد من الناس، فان عاداته الاعتيادية في التفكير ستبقى كما هي في مرحلة اللاتفكير. على سبيل المثال، ربما يجد نفسه يتأمل وفق الطريقة التالية:

تفكيري ليس سيئا. في الحقيقة، انا كنت افكر جيدا لفترة ما. انا اتساءل عن كثير من الاشياء، انا غير منحاز او متعصب. الى جانب ذلك، انا انتقادي جدا، غير منخدع ذاتيا كما هو الحال في معظم الناس الذين اعرفهم. اذا كان احدنا يفكر بهذه الطريقة، فهو سوف لن يكون وحيدا. انه سوف يرتبط بالاغلبية. "اذا كان كل شخص يفكر كتفكيري فان العالم سيكون رائعا"هي النظرة المسيطرة. اولئك الذين يشتركون بهذه الرؤية يتراوحون من ذوي التعليم الضعيف الى ذوي التعليم العالي. لا يوجد دليل للقول ان التعليم المدرسي يرتبط بالتفكير الانساني. في الحقيقة، العديد من الخريجين هم مغرورون فكريا نتيجة لتعليمهم المدرسي. هناك اناس غير مفكرين لم يتجاوزوا التعليم الابتدائي، ولكن هناك ايضا من اكملوا دراستهم العليا. الناس اللامفكرون موجودون في الطبقة العليا والوسطى والسفلى من المجتمع. ذلك يتضمن السايكولوجيين وعلماء الاجتماع والفلاسفة والرياضيين والاطباء والقضاة والمحامين وأعضاء مجالس النواب والناس من مختلف المهن. باختصار، غياب التواضع الفكري هو شائع في كل الطبقات في جميع مناحي الحياة وفي كل الاعمال. يتبع ذلك ان المقاومة السلبية او النشطة لتحدي التفكير النقدي هي الشائعة وليست حالة نادرة. وسواء كانت بشكل استهجان او عداء صريح فان معظم الناس يرفضون تحدي التفكير النقدي، وهذا هو السب في ان يكون البحث عن الذات امرا هاما في هذه المرحلة من العملية.

المرحلة الثالثة: التفكير الابتدائي

هل نرغب في ان نبدأ؟

عندما يقرر الفرد بحماس قبول التحدي في النمو والتطور كمفكر، فانه سيدخل مرحلة نسميها "المفكر المبتدئ". هذه المرحلة من التفكير يبدأ فيها التفكير الجدي. هي مرحلة استعداد قبل ان يحصل الفرد على قيادة وسيطرة واضحة في التفكير. انها مرحلة بدء الادراك، هي تطوير قوة الارادة، انها ليست مرحلة من اللوم الذاتي وانما هي بروز الوعي. هي مشابهة للمرحلة التي يعترف فيها الفرد المدمن على الخمر ويقبل تماما حقيقة انه مدمن. لو تصورنا المدمن حين يقول "انا مدمن وانا فقط المسؤول عن ادماني"، الآن ليتصور احدنا القول "انا مفكر ضعيف ومشاكس وانا فقط المسؤول عن نفسي". حالما يعترف الناس انهم "مدمنون" على التفكير الضعيف، فهم يجب ان يبدأوا الاعتراف بعمق وبطبيعة المشكلة. نحن كمفكرين مبتدئين يجب الاعتراف بان تفكيرنا هو احيانا اناني. فمثلا، نحن نلاحظ ضآلة اهتمامنا بحاجات الاخرين وحجم تركيزنا على ما نريده شخصيا. نحن نلاحظ ضآلة اعترافنا بوجهة نظر الاخرين وحجم التأييد الذي نمنحه لصوابية افكارنا. نحن ربما نضع انفسنا في موقف نحاول فيه السيطرة على الاخرين لنحصل على ما نريد او نقوم بدور الخضوع للاخرين (لأجل الحصول على المكاسب التي يجلبها السلوك المذعن).

نحن كمفكرين مبتدئين في التفكير نبدأ بـ

- تحليل منطق المواقف والمشاكل

- التعبير عن الاسئلة بوضوح ودقة

- فحص المعلومات من حيث الدقة والملائمة

- التمييز بين المعلومات الخام وبين تفسير الاخرين لها

- الاعتراف بالافتراضات المرشدة للاستدلالات

- تحديد العقائد المتعصبة والمتحيزة، والاستنتاجات غير المبررة، والكلمات ذات الاستخدام السيء، وغياب المضامين، وملاحظة الحالات التي تؤثر فيها مصالحنا الأنانية على وجهات نظرنا.

وهكذا، نحن كمفكرين مبتدئين سنصبح مطلعين على كيفية التعامل مع تراكيب او اشكال التفكير (الاهداف، الاسئلة، المعلومات، التفسيرات ..). نحن نبدأ بتقدير قيمة التفكير في تفكيرنا من حيث وضوحه ودقته وملائمته ومنطقه واتساع عمقه. لكننا لانزال في مستوى قليل من المهارة في هذه الفعاليات. انها تبدو صعبة المراس لنا. علينا ان نجبر أنفسنا للتفكير بطرق محكمة. نحن كالمبتدئ في الباليه، نشعر بالسذاجة، لا نشعر بالأناقة، نتعثر ونرتكب أخطاء، لا احد يدفع نقودا من أجل مشاهدة ادائنا. نحن ذاتنا لا نحب ما نراه في المرآة عن عقولنا. لكي نصل الى هذه المرحلة الابتدائية في التفكير يجب ان تبدأ قيمنا بالتحول، يجب ان نبدأ باستكشاف اساس تفكيرنا ونكتشف الكيفية التي نفكر ونعتقد بها حينما نعمل. ولكي نقف الان على تفاصيل اكثر حول هذا الهدف. سنفكر في بعض المؤثرات الكبيرة التي شكلت تفكيرنا.

نحن وُلدنا في ثقافة (اوربية، امريكية، افريقية، اسيوية)

نحن ولدنا في زمن معين (في قرن، في سنة)

انت ولدت في مكان ما (في بلد، مدينة، شمال او جنوب، شرق ام غرب)

انت نشأت بين ابوين وضمن عقيدة معينة

انت كوّنت مختلف الارتباطات من الناس ذوي القيم والعقائد والمحرمات.

اذا اردنا تغيير أي من هذه المؤثرات فان نظامنا العقائدي سيكون مختلفا. لو نفترض ان العديد من هذه المؤثرات خلقت عقائد زائفة لدينا، معنى ذلك انه توجد في عقولنا حتى الان عقائد زائفة ونحن نعمل بموجبها. ولكن يجب ملاحظة ان العقل لا توجد فيه آلية لتنقية العقائد الزائفة. نحن جميعنا نحمل في عقولنا تعصبات وميول لثقافتنا، لاصدقائنا وزملائنا. ان عملية ايجاد طرق لتشخيص تلك العقائد المعيبة واستبدالها باخرى اكثر عقلانية هي جزء من برنامج التفكير النقدي.

ان عقولنا هي عوالم غير مستكشفة، عوالم داخلية تطبع كل حياتنا. هذا العالم الداخلي هو الحقيقة الاعظم اهمية بالنسبة لنا لأنه معنا حيثما نعيش. انه يقرر المتعة والاحباط، يضع حدود ما نرى ونتصور، يُبرز بوضوح ما نرى، يدفعنا للجنون، يزودنا بالعزاء والسلام والهدوء.

لو استطعنا الإقرار بهذه الحقائق الخاصة بنا، سوف نجد الحافز لتبنّي مسؤولية التفكير، ولنكون اكثر من مجرد إلعوبة في ايدي الاخرين، ونصبح القوة الحاكمة في حياتنا.

المرحلة الرابعة: ممارسة التفكير

ان التفكير الجيد يمكن ممارسته كلعبة التنس او الباليه او كرة السلة. هل نحن ملتزمون بالممارسة المنتظمة؟ عندما يعترف الناس صراحة ان التحسن في التفكير يتطلب ممارسة منتظمة، ويتبنّون نمطا من الممارسة، عندئذ يصبحون مفكرين ممارسين. لا توجد هناك طريقة في عملية تصميم نمط الممارسة. هناك عدة طرق، بعضها جيد والآخر سيء، فمثلا انت ربما تتصفح كتابا يقدم اقتراحات لتحسين التفكير، هذه الاقتراحات يمكن استخدامها كنقطة بداية. ربما يراجع البعض فعاليات (اختيار الفكرة) او يدرس عناصر التفكير او مستويات التفكير وخصائص الذهن، وقد يركز اخرون على كيفية عمل قرارات ذكية، او على التفكير الاستراتيجي. كل واحدة من تلك المواد تمثل وسيلة هامة في وضع خطة منهجية لتحسين التفكير. ان مشكلة معظم الناس في ممارسة التفكير انهم لا يستمرون في ذلك بطريقة منتظمة، هم لا يؤسسون عادات للممارسة المنتظمة، فيُحبطون بسبب الارتباك والصعوبات التي يلاقونها اثناء المحاولات الاولى للاداء الجيد.

ان النجاح يأتي عادة لمن لديهم التصميم والقدرة على الاستمرار، يجب وضع الخطط لمواجهة اي احباط او فشل. يمكن تجنب التثبيط والاحباط عبر الاعتراف منذ البداية اننا منخرطون بخطط لإختبار الافكار. يجب إعداد الذات للفشل المؤقت، انها عملية تشبه ارتداء الملابس الجديدة التي قد لا تناسب الجسم جيدا. لكن في النهاية سنعثر على القياس الملائم.

المرحلة الخامسة: التفكير المتقدم

ما الشيء الذي يمكن اعتباره تفكيرا متقدما؟ حينما نصل الى المرحلة الرابعة ونمارس المهارات سنكون قادرين على الاجابة على هذا السؤال، كل ما نحتاج هو ان نضع خطة ونقرأ المصادر الانفة الذكر.

***

حاتم حميد محسن

.......................

* من كتاب (التفكير النقدي critical thinking)، تأليف Richard Paul و Linda Elder الصادر عن مؤسسة التفكير النقدي،عام 2002، الطبعة الثانية عام 2013 في 459 صفحة.

(نحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرّر ممّا هو ميّت أو متخشّب في كياننا العقليّ وإرثنا الثقافيّ).. محمّد عابد الجابري

شهد علم الاجتماع التربويّ ولادته في مطلع القرن العشرين على أيدي مفكّرين عمالقة مبدعين في مجال العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، كأوغست كونت، وإميل دوركهايم، وكارل ماركس، وماكس فيبر، وجون ديوي. وشهد هذا الفرع العلميّ نهضته في أواسط القرن العشرين. ويسجّل هذا العلم اليوم حضوراً معرفيّاً عالميّاً مميّزاً، إذ أصبح بحقّ، كما تنبأ له دوركهايم، أحد أهمّ العلوم الاجتماعيّة الّتي تأخذ بأطراف العلاقة بين المجتمع والتربية على نحو شامل، وتعمل على تقصّي أبعاد هذه العلاقة وحدودها في ضوء المنهجيّات السوسيولوجيّة المتّقدمة ونظريّاتها المتجدّدة.

وإذا كان علم الاجتماع التربوي قد انبثق من صلب الحوادث والتطورات الاجتماعية الحضارية، فإنّ تطوره الهائل عائد لا محالة إلى تأثير هذه التغيرات الاجتماعية الحضارية، وقد تعيّن عليه - تحت تأثير هذا التفاعل الوجودي مع معطيات الحضارة الإنسانية وصدماتها - أن ينمو ويزدهر في خضمّ الأمواج المتلاطمة والمتتابعة للتطورات الحضارية في المجتمع الإنساني. ونظرا إلى تعقد الظروف الحضارية والتاريخية للمجتمعات الإنسانية في عالم اليوم، يواجه علم الاجتماع تحدّيات جديدة راهنة ومختلفة نوعيّاً عن تلك الّتي عرفها خلال القرن العشرين، ومن الواضح تماماً أنّ هذا النمط من التحدّيات يتجاوز إمكانيّات السوسيولوجيّة التربويّة الكلاسيكيّة ومناهجها، فهذه السّوسيولوجيّة كانت تتحرّك في فلك مشكلات القرن الماضي وتحدّياته. والمجتمعات الإنسانيّة المعاصرة، ونحن نقترب من العقد الرابع من الألفيّة الجديدة، في أتّون مواجهة جديدة مع أخطر تحدّيات الوجود والمصير، تحت مطارق الثورة الصناعيّة الرابعة الّتي بدأت تضرب البنية الوجوديّة لهذه المجتمعات، وتهدّد مصيرها، وتملؤها بالقلق والهواجس، وتضعها في مواجهة طفرات هائلة من التغيّر الاجتماعيّ تفوق كلّ الاحتمالات الّتي يمكن للخيال البشريّ أن يبدعها، وللعقل الإنسانيّ أن يأخذها بالحسبان.

 وقد أدى التّقدّم الكبير في مجال التكنولوجيا الصناعيّة والإنتاج الصناعيّ الرأسماليّ الضخم إلى حدوث مشكلات كبيرة تتمثّل في التلوّث الرهيب للبيئة، وفي الاحتباس الحراريّ، وفي انتشار الأمراض والأوبئة والحروب والكوارث الطبيعيّة. ويزداد الأمر هولا عندما نأخذ بعين الاعتبار الانهيارات الثقافيّة الأخلاقيّة المتمثّلة في مختلف مظاهر الفساد والجموح الأخلاقيّ، الّتي بدأت تأخذ تجلّيات مرعبة معادية للقيم الإنسانيّة، وأقلّها انتشار المثليّة الجنسيّة الّتي يُروّج لها بقوّة المؤسّسات العالميّة الكبرى لتدمير الأخلاق والقيم الإنسانيّة، وربما لا نبالغ في القول: إنّ الإنسانيّة قد تشهد غداً ظهورَ تشريعات تبيح زواج المحارم وتشجّع عليه، بعد أن تجرّأت بلدان - كفرنسا - على تقنين الزّواج بين ذوي الجنس الواحد. وفي ضوء هذا التقدّم الوحشيّ للحضارة المادّيّة يجد الإنسان نفسه في وضعيّة مأساويّة من الاغتراب الأخلاقيّ، وقد بدأ يفقد هويّته الإنسانيّة وكيانه الذاتيّ، ويهتزّ بنيانه الأخلاقيّ.

ومن ثوابت هذا العصر النمو الهائل في حجم المشكلات والتحدّيات الّتي تواجه الإنسانيّة التي بلغت حدّاً يفوق احتمالات الوصف والتقدير، ومنها: الفقر والفاقة والجوع، ودمار البيئة، وفقدان الهويّة، وانتشار وضعيّات الاغتراب والاستلاب، والحروب الأهليّة، والتعصّب، والصراع على الثروة، والفساد، وتفسّخ الأخلاق. وقد شاعت هذه الظواهر وما يماثلها على نحو يستفزّ  ويصدم ويبعث على الفزع. وهي قضايا ومشكلات مستجدّة تختلف نوعيّاً عن القضايا الّتي شكّلت محور السوسيولوجيا الكلاسيكيّة في القرن الماضي. وفي دائرة هذه المواجهة الجديدة لقضايا العصر تستمرّ السوسيولوجيا التربويّة في تطوير أدواتها ومناهجها ونظريّاتها بصورة مختلفة كلّيّاً عمّا كنّا قد عرفناه طوال المراحل التّاريخيّة السّابقة.

ومن اللافت اليوم أنّ السوسيولوجيا التربويّة العربيّة لم تستطع، حتّى اللحظة، مواكبة التحدّيات والمستجدّات في مجال النظريّة كما في مجال البحث السوسيولوجيّ، وما زالت هذه السوسيولوجيا تدور في فلك النظريّات الكبرى الّتي عرفناها مع دوركهايم وماركس وماكس فيبر. وهي أنماط سوسيولوجيّة نشأت في مطلع القرن العشرين، واختفت تماماً في نهاياته. واللافت أيضا أنّ مناهج علم الاجتماع التربويّ في العالم العربيّ مستمرّة في الدّوران محوريّاً حول كلاسيكيّات علم الاجتماع التقليديّ، وأنّ معظم الإنتاج الفكريّ الأكاديميّ يتحرّك في الفضاء التقليديّ الكلاسيكيّ للسوسيولوجيا الدوركهايميّة والفيبريّة والماركسيّة، دون أن يهتدي بالنظريّات الجديدة والمتجدّدة. وهكذا يظلّ الفكر السّوسيولوجيّ التّربويّ العربيّ وإنتاجه بعيدين وغريبين عن مشكلات العصر الّذي نعيش فيه، وعن التحدّيات الكبرى الّتي تعتمل في باطنه.

 كما يثير الانتباهَ أنّ كتب علم الاجتماع التربويّ- الّتي غالباً ما تقرّر في الجامعات ما زالت تسير على إيقاع كلاسيكيّ واحد لا يتغيّر كثيراً بين كتاب أو آخر، أو بين مؤلّف وآخر، وكأنّنا إزاء وصفة سوسيولوجيّة واحدة لا تتغيّر في مسمّياتها أو طروحاتها التقليديّة الّتي يكرّر بعضها بعضاً بطريقة اجتراريّة خارج سياقها التاريخيّ.

ومن المهمّ في هذا السياق أن نثمّن عالياً جهود السوسيولوجيّين العرب الأوائل الّذين قدّموا لنا السوسيولوجيا التربويّة كما يجب أن تقدّم، وبما يتناسب مع زمنهم وقضايا عصرهم بطريقة إبداعيّة خلّاقة. ولكن يُؤْخَذُ كثيراً على الأكاديميّين الشباب الّذين اتّخذوا منهج الاجترار والنسخ والتقليد السوسيولوجيّ، دون تغيير أو تبديل يذكر في الطرائق والمناهج والنظريّات، ودون أن يأخذوا بعين الاعتبار مستجدّات هذا العلم وتطوّراته الإبداعيّة، وهم بذلك أبعد ما يكون عن قضاياه ومناهجه ونظريّاته المتجدّدة.

ومن يتأمّل في المؤلّفات السوسيولوجيّة العربيّة اليوم، ولا سيّما في مجال سوسيولوجيا التربية، سيجد أنّ هذه المؤلّفات لا تعدو أن تكون ركاماً من التكرار والاجترار لأعمال السوسيولوجيّين الروّاد العرب الّذي اجتهدوا في التعريف بالسوسيولوجيا التربويّة كما يليق بها في النصف الأوّل من القرن العشرين. ومع أنّ السوسيولوجيا التربويّة العالميّة تطوّرت تطوّرا عظيما في العقود الخمسة الماضية، لتستوعب مختلف الظواهر الاجتماعيّة والقضايا المتجدّدة بأدوات منهجيّة وتصوّرات نظريّة جديدة، فإنّ معظم السوسيولوجيّين الشباب العرب ظلّوا واقفين على أطلال العطاء الفكريّ لأساتذتهم، يراوحون في المكان الّذي وصلوا إليه، دون أن يتقدّموا كثيراً في مجال الإبداع السوسيولوجيّ، أو حتّى في التعبير عن السوسيولوجيا التربويّة المتجدّدة بنظريّاتها ومناهجها وقضاياها المعاصرة.

ومن أهمّ ما يُذكر في باب نقد السوسيولوجيا التربويّة العربيّة المعاصرة أنّ سدنتها غالباً ما يقدّمونها مقطوعة الجذور عن أصولها السوسيولوجيّة المحضة، دون أن يردّوا فروعها إلى الأصول، علماً بأنّ السوسيولوجيا التربويّة ما تزال وثيقة الصلة بأرومتها النظريّة في علم الاجتماع، وهذا يعني أنّ أيّ فهم لقضايا السوسيولوجيا التربويّة المعاصرة لا يمكن أن يتمّ إلّا في ضوء النظريّات السوسيولوجيّة النظريّة الكبرى الّتي تولدّت فيها. ومن المهمّ في هذا الخصوص التأكيد على أنّ الصلة تظلّ وثيقة جدّاً بين علم الاجتماع التربويّ والنظريّات العامّة في علم الاجتماع، ولا يمكن فهم نظريّات علم الاجتماع التربويّ إلاّ في إطار النّظريّات السوسيولوجيّة الشاملة الّتي ما زالت تجدّد نفسها، وتنطلق دائماً نحو آفاق جديدة. ومن الجدير بالأهمّيّة أنّ علم الاجتماع التربويّ نشأ في صلب علم الاجتماع، وارتبط به على أيدي مؤسّسيه ومنظريه الأوائل، الّذين أولَوه اهتمامهم كما هو الحال عند ابن خلدون ودوركهايم وفيبر وماركس وجون ديوي وغيرهم من الروّاد المبكّرين.

وقد وجدنا أنّه يصعب جدّاً على الطلبة والقرّاء أن يدركوا الفكر السوسيولوجيّ التّربويّ بصورة صحيحة ما لم ينطلقوا من فهم عميق لحركة السوسيولوجيا العامّة، ومن توغّل بعيد في مضامينها ومستجدّاتها النظريّة الأساسيّة. ومن المهمّ في هذا الجانب أن نشير إلى أنّ السوسيولوجيا التربويّة ما زالت تقدّم أكاديميّاً في الجامعات العربيّة بصورة منفصلة عن أصولها النظريّة العامّة، وغالباً ما تهمل النظريّات الأساسيّة الّتي تشكّل الحاضن الفكريّ والسوسيولوجيّ لأيّ فهم عميق لقضايا علم الاجتماع التربويّ وإشكاليّاته المعاصرة.

ومن الأمور الّتي تستحقّ الاهتمام أيضاً أنّ السوسيولوجيا التربويّة العربيّة غالباً ما تقدّم بطريقة نظريّة تستعرض ما جاء عند الروّاد والمنظّرين، إذ قلّما تقدّم في سياق التحدّيات والقضايا والمشكلات الّتي تعالجها، وتبحث فيها، وتخوض في غمارها، وهو الجانب الّذي يجب أن يحظى بدرجة أكبر من الاهتمام والتركيز. ولا ريب فإنّ القضايا والمشكلات الّتي تتناولها السوسيولوجيا تمثّل جوهر هذا العلم، وترسم حدوده، وتؤصّله في وعي الدارسين والباحثين. وثمّة اليوم تحدّيات هامّة وخطيرة جدّاً ما زالت خارج السياق العلميّ والمنهجيّ لما يدرس، ويقدّم في الجامعات العربيّة، وفي الفضاء السوسيولوجيّ العامّ لعلم الاجتماع التربويّ.

ونحن في هذا السياق، ندرك تماما بأنّ علم الاجتماع التربويّ الغربيّ استطاع أن يقدّم خدمات جليلة لمجتمعاته ولسياسات بلدانه. كما نلاحظ أنّه يسجّل، اليوم، في الوطن العربيّ، انطلاقته الجادّة لمجابهة مشكلات العصر ذات الطابع التربويّ الاجتماعيّ، ولمحاولة الإجابة عن التساؤلات الّتي تطرحها المسألة الاجتماعيّة للتربية، الّتي تتمثّل في جملة من المظاهر، كالانفجار المدرسيّ، والبطالة المدرسيّة، وحاجة مجتمعاتنا الملحّة إلى الكفاءات والخبرات واليد العاملة المؤهّلة الّتي يقتضيها عصر لا يعرف إلّا منطق التطوّر والحركة.

وإذا كانت المجتمعات الغربيّة تعاني اليوم كثيراً من المشكلات التربويّة والتحدّيات البيداغوجيّة الناجمة عن تطوّر الحياة، فإنّ الشرق العربيّ يواجه اليوم تحدّيات تربويّة واجتماعيّة لا مثيل لها في السّابق من حيث الحجم والعدد والنوعيّة، وهي تشكّل ركاماً من تحدّيات الوجود الّتي تمتدّ على مساحة زمنيّة هائلة في الماضي والحاضر والمستقبل. ولا ريب أنّ هذه المشكلات تمتدّ في العمق والجذور. وإذا كانت رهانات المجتمعات الغربيّة تتمحور حول الحاضر والمستقبل، فإنّ المجتمعات العربيّة تعاني مشكلات الحداثة والتقليد ومشكلات التخلّف والتقدّم، وهذا كلّه يفرض على التّربية العربيّة تحدّيا مصيريّا، ويُلقي على عاتق علماء الاجتماع مسؤوليّات جسيمة لا قبل لهم بها لكنّهم مدعوّون إلى تحمّلها.

فالتربية العربيّة تعاني اليوم خللاً وجودياً قوامه الفساد الّذي انتشر في مختلف مفاصل الحياة التربويّة في كلّ المستويات. وقد أصبحت المؤسّسات المختلفة تعمل على نشر الفساد وترسيخ الإفساد في المجتمع، ويمثّل هذا الأمر ظاهرة وجوديّة خطرة جدّاً، إذ كيف للمجتمع أن يصلح نفسه بتربية أفسدها زمانها؟

ولا يُستغرب القول بناء على ما تقدّم: إنّ التربية العربيّة اليوم تعيش أسوأ لحظاتها التّاريخيّة، إذ أصبحت مجالا مغايراً للقيم الأخلاقيّة الخلّاقة الّتي عرفناها من قبل، فصار الغشّ في الامتحانات، والتلقين في الدروس، والانتحال العلميّ، والتمييز الاجتماعيّ، والوساطة والمحسوبيّة، وغياب التكافؤ، وانتشار التعصّب الاجتماعيّ بين جدران المدرسة، وهيمنة العنف والتنمّر المدرسيّين، واستفحال الأمّيّة الثقافيّة بين صفوف الأساتذة والمعلّمين والمتعلّمين، سمات جوهريّة في مدارس اليوم، وفي الأنظمة العربيّة التعليميّة السائدة. وهكذا لم تعد المدرسة - على النحو الّذي عهدناه والّذي يجب أن تكون عليه - مؤسّسة لبناء الأخلاق، وتكريس التسامح، وبناء العقول، واحتضان القدرات، وتحقيق العدالة، وترسيخ الجدّ والجهد والاجتهاد في طلب العلم. ولم يعد العلم والثقافة غاية في ذاتيهما، بل صارت المدرسة أنقاض مؤسّسة فاقدة للحسّ الإنسانيّ بتحوّلها إلى مؤسّسات لمنح الشهادات، وصارت الشهادات ذاتها وسائل نفعيّة للحصول على وظيفة أو عمل في سوق متوهّم للعمل. وحتّى الأهالي والأولياء لم يعد همّهم -كما كان في سابقات الأيّام - أن ينهل أطفالهم من المعرفة، وأن يُصقلوا بالثقافة والعلم، وأن تتأصّل فيهم مكارم الأخلاق، بل أصبح هاجسُهم الأكبر يتمثّل في أن يحظى أبناؤهم بالنجاح المدرسيّ وأن ينافسوا في الحصول على الشهادات كرخصة لسوق العمل بأيّ وسيلة أو معيار دون أيّ وازع أخلاقيّ أو رادع قيّميّ.

لقد تحوّلت مدارسنا ومؤسّساتنا التربويّة اليوم إلى منصّات تعمل على إيقاعات الأيديولوجيّات الاغترابيّة المضادّة للإنسانيّة والإنسان، وأصبحت مجرّد سجون مغلقة تمارس فيها طقوس الفساد والإفساد، فغدت في جوهرها مدارس تعمل على مقاييس الأسياد الّذين حوّلوها إلى قوّة هائلة لتدجين العقول، وتشكيل الوعي النمطيّ المستلب، والتدمير الممنهج للقدرات النقديّة والقدرات الإبداعيّة في نفوس الطلبة والناشئة والأطفال، لتبقى الأجيال خاضعة ضعيفة لا تملك أدوات التمرّد وأدوات الثورة على الواقع المأساويّ الّذي يهدّد وجودنا.

 وإنّه لممّا يدعو إلى الحسرة والأسى أنّ الأنظمة التربويّة العربيّة لم تسلم من فوضى الفساد والإفساد، وحين أصبحت مرتعاً للفساد أصبحت بذاتها منتجة للفساد وراعية له، بعد أن كانت أملا ورجاء لمجتمع توسّم فيها قدرتها على إصلاح ما أحدثه الفساد الاجتماعيّ، وأصبح حالنا حال الشاعر الّذي أنشد يقول:

بالملح نصلح ما نخشى تغيّره

فكيف بالملح إن حلّت به الغِيَرُ؟

 إنّ ظاهرة الفساد والإفساد الّتي تشكو منها التربية العربيّة اليوم جعلت المشكلات الّتي تعانيها صورة مضخّمة للمشكلات الاجتماعيّة الّتي تعتور المجتمع، وتهزّ استقراره. وهي مشكلات صميميّة كان من نتائجها أنّ المنظومة التّربويّة تنتج، وتعيد إنتاج الآفات والبلاء في المجتمع. وهذا من شأنه أن يطرح على المجتمع تحدّيات خطيرة تفوق إمكاناته وقدراته على المواجهة، إذ كيف للمجتمع أن يصلح نفسه بنظام تربويّ داخَلَهُ الفساد وتسرّب إليه الخلل؟

ولا تختلف وضعيّة الجامعات كثيراً، وقد غدت مجرّد ثكنات مدجّنة لإنتاج أجيال اغترابيّة عاجزة كلّيّاً، وغير قادرة على ممارسة الفعل التربويّ الحضاريّ إنتاجاً وإبداعاً. إنّ المؤسّسات الجامعيّة هي الآن آلة مدمّرة تعمل على تحويل طلبتها ومريديها إلى قوّة استلابيّة في عالم استلابيّ اغترابيّ مدجّن بقيم الطاعة والرضوخ والقبول بالواقع الراهن على عواهنه وسلبيّاته المخيفة. وقد تبدو هذه المؤسّسات التعليميّة مشرقة في مظاهرها السطحيّة - وذلك لمن لا يستطيع الخوض في الأعماق - إذ تأخذ صورة ممارسة تربويّة خلّاقة تعمل على بناء الأجيال المتعلّمة وتطوير قدراتها وإمكاناتها في عالم الثقافة والمعرفة، ولكنّ هذه الصورة الّتي تبدو على السطح تغاير تلك الّتي تتحرّك في الأعماق. ويمكن لمن يمتلك القدرة على النّفاذ إلى باطن الأمور - أي في خفايا البنية الوظيفيّة لهذه المؤسّسات والمدارس - أن يرى أنّها في جوهرها ليست أكثر من مؤسّسات تمارس أكثر أدوات القمع تدميراً لقدرات الأطفال والنّاشئين الإبداعيّة العقليّة والروحيّة، وذلك لإنتاج أجيال مروّضة هامدة خامدة ضعيفة مغيّبة. وعلى هذه الصورة تفعل المدرسة فعلها السّلبيّ في ترسيخ قيم الخضوع والهزيمة والانكسار؛ إذ تقتل في النفس كلّ قدرة على النقد، وكلّ نزوع إلى الثورة والتمرّد على الواقع الاستلابيّ المخيف الّذي يقضي على إنسانيّة الإنسان.

ومع ذلك، لا بدّ من القول: إنّ بوارق الأمل ما زالت تومض في العقول والقلوب، هو أمل في أنّ مجتمعاتنا ستجد سبيلها يوماً إلى إنتاج تربية حيّة خلّاقة تثور ضدّ العفن والفساد، وتبدأ رحلتها الواعدة نحو العدل والسلام والحبّ والعافية والخلاص. وما زال هذا الأمل يحيا قويّاً أصيلا في النفوس نابضا خفّاقا في القلوب مشرقا في العقول. وإذا كان يقال قديما إنّه "بالحبّ يحيا الإنسان"، فإنّنا نقول اليوم إنّ الأمل وحده يحيي في قلوب البشر الإيمان بقدرة المجتمعات الإنسانيّة على مواجهة المصير وتحقيق التقدم الإنساني المنشود.

وهذا يعني أنّ سرد التحدّيات ووصف الوضعيّات الاغترابيّة لا يعني الاستسلام لقدر الهزيمة والعجز عن مواجهة التحدّيات، والخلود إلى الأحلام والأوهام. ومن المؤكّد أيضاً أنّ هذه السرديّات الحزينة القاتمة لا تعني يأساً ولا قنوطاً ولا تشاؤماً مطلقاً، بل خلاف ذلك كلّه قد تكون – إذا أردنا- منطلقاً أساسيّاً للأمل والعمل، والإيمان بقدرة الإنسان على صوغ المصير، واقتحام المستقبل بالقدرة على المواجهة والبناء وتجسيد المصير المنتظر بتحقيق التقدّم الإنسانيّ والأخلاقيّ.

وإزاء هذا الإشكال الحضاريّ الاغترابيّ يجب على الإنسان العربيّ المعاصر أن يطرح أسئلة الكيفيّات الموضوعيّة الّتي تمكّنه من تجاوز هذا القصور الحضاريّ، والتّغلّب على الإحساس بالهزيمة في مواجهة هذه التحدّيات. وهذا الطرح الإشكاليّ يشكل منطلقاً لإيقاظ الوعي التربويّ، وذلك لأنّ السؤال ذاته يمثّل أخطر لحظة في عمليّة بناء الوعي وتشكيله وتطويره. ولا مناص اليوم من الوصول إلى هذا الوعي العميق بأبعاد هذه التحدّيات وطبيعة هذه المشكلات، وذلك لأنّ مثل هذا الوعي النقديّ هو مبتدأ التغيير والمواجهة والبناء والتطوير.

 ومن منطلق التّأمّل في هذا الواقع الاستلابيّ الاغترابيّ للأوضاع التربويّة المتردّية، تطرح السوسيولوجيا التربويّة العربيّة المعاصرة أسئلة حيويّة ومصيريّة حول مختلف قضايا الوجود والحياة، ولاسيما قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتكافؤ الفرص التعلمية، والتخلّف الحضاري، والتراجع الثقافيّ والانكفاء الحضاريّ وقضايا الحداثة والاغتراب والتقدم والثورة، وغيرها كثير. وفي مواجهة هذه التحديات والمشكلات يجب على السوسيولوجيا التربوية العمل على تحليل طبيعة هذه المشكلات الاجتماعيّة التربويّة وتقصي أسبابها ومتغيّراتها وديناميّات حركتها.

وعلى هذه الصورة، تطرح السوسيولوجيا التربويّة المعاصرة أسئلتها المصيريّة حول السبل الّتي يمكن اتّباعها لتطوير أنظمتنا التربويّة وتحرير مجتمعاتنا من كوابيس التحدّيات، وثقل المشكلات، وعنف الأزمات. وتشكّل مثل هذه الأسئلة المنطلق المنهجيّ لعلم الاجتماع التربويّ المعاصر في مواجهة الصّعوبات الماثلة أمام الأنظمة التربويّة والّتي تسبّب لها حالة من العطالة والجمود والقصور. ويقيناً، فإنّ مثل هذه الأسئلة تدفع المفكّرين والمثقّفين، ولا سيّما علماء الاجتماع، إلى ساحة المواجهة الحقيقيّة الّتي تتّصل بالوعي الإنسانيّ بالمصير، وهو الوعي الّذي يُنتظر لزوما أن ينشأ في أعماق الأنظمة التربويّة المعاصرة.

 ويبقى السؤال الأساسيّ الثوريّ الّذي يمكن لعلم الاجتماع التربويّ أن يطرحه، وهو: كيف السبيل لإخراج المجتمع من دائرة الجمود والتخلّف واليأس الحضاريّ؟ وكيف يمكن تشكيل الوعي العامّ، والوعي التربويّ خاصّة، بأهمّيّة البحث عن السبل التاريخيّة الممكنة لمواجهة أعظم التحدّيات وأخطر المشكلات الّتي تعترض مجتمعاتنا الإنسانيّة ومؤسّساتنا المدرسيّة؟ وهنا يتجلّى دور علم الاجتماع التربويّ في تشكيل الوعي التربويّ العميق بمصادر التحدّيات وطبيعتها، وفي التّعريف بالقدرات والإمكانات الإنسانيّة للتّعامل مع الإشكاليّات في زمن الثورة الصناعيّة الرابعة.

فالحقيقة الاجتماعيّة للتربية ما زالت، في إطار خصوصيّتها العربيّة، تشكو الغموض المعرفيّ؛ ويعني هذا أنّنا مطالبون اليوم، أكثر من أيّ وقت آخر، بتطوير الدراسات والأبحاث ودفعها في ميدان علم الاجتماع التربويّ لاستجلاء الحقيقة الاجتماعيّة للتربية وبناء الوعي التربويّ العربيّ المتكامل بحدودها وأبعادها. وبناء على ذلك كلّه يجب على علم الاجتماع التربويّ في الوطن العربيّ أن يسجل ملحمته الجديدة في تقديم إجابات مقنعة حول مشكلاتنا وهمومنا التربويّة الاجتماعيّة، ومن أجل بناء وعي عربيّ متطوّر بالحقيقة الاجتماعيّة للتربية.

***

ا. د. علي أسعد وطفة – جامعة الكويت

‏ "أكرهك"! ليست المرة الأولى التي أتلقى فيها أمثالَ هذه الكلمة المؤذية في رسائل على الخاص. طالما أتت الرسائلُ من حسابات شبحية، يعمل المرسلُ حضرًا بعد إرسال هذا الكلام الجارح، لئلا أتعرّف عليه. في الحياة من الشرّ أكثر من الخير، ومن الكراهية أكثر من المحبّة. علّمتني جروحُ الحياة أن الإنسانَ يحتاج الكراهيةَ كما يحتاج المحبّة، وربما يحتاج الكراهيةَ أشدّ من المحبّة أحيانًا. الطبيعة الإنسانية ملتقى الأضداد، هناك حاجةٌ دفينة للكراهية في النفس كحاجتها للمحبة.

‏مَن يريدُ أن يعرفَ شيئًا عن الحضور المخيف للكراهية والشرّ في الأرض عليه أن يراجعَ أرشيفاتِ الاسترقاق للأفراد والمجتمعات في الماضي والحاضر، ويقرأ تاريخَ الاستبداد والاستعباد الذي مارسه ومازال يمارسه الحكّامُ الطغاة، وانتهاكَهم لكرامة الإنسان وترويعَه في السجون الكئيبة والزنزانات المرعبة، وينظر في جرائم الاستعمار والاحتلال الشنيعة أمس واليوم لمختلف بلدان العالم، ويرى المجازرَ في غزة والأرض المحتلة.

شخصيةُ الإنسان مركبةٌ مكوّنة من طبقات. الإنسان كائنٌ لا يمكن اختزالُ دوافع سلوكه بعاملٍ واحد. رأيتُ شيئًا من تعقيد شخصية الإنسان في مواقفِ الصعاليك وغرابةِ سلوكهم، إذ كنتُ ألتقط الصعاليكَ في مرحلة الشباب من حياتي وأتحمل تطفلَهم وعبثَهم وفوضويتَهم، وأتولى تأمينَ احتياجاتهم المتنوعة والمتواصلة، لم يبادر أحدٌ منهم بالشكر، كانوا يشعرون بأن ما أقدّمه لهم حقُّهم عليّ وعلى غيري، لذلك لا يتطلب منهم الإعرابَ عن الامتنان والتقدير. كنتُ أندهش مما يمتلكون من تهورٍ ووقاحةٍ في التعبير عن كثيرٍ من التناقضات المكبوتة لدى الإنسان. حاولتُ الابتعادَ عنهم منذ ثلاثين عامًا، لحظة صرتُ لا أطيق مَن يعشق دورَ الضحية في الحياة، والصعلوك أبرع مَن يمثّل هذا الدور، ويتفنّن في إخراجه بأساليب ذكية ووسائل مختلفة.

السلطةُ والشغفُ بالتسلّط والتملّك من أعمق الدوافع العدوانية للإنسان، حتى الصعلوكُ ينشدُ بمواقفه وسلوكه التسلّطَ عليك وتطويعَك لخدمته مجانًا، فيستعمل بمهارةٍ فائقة وبطريقته الخاصة كلماتِه، وتعبيراتِ وجهه ولغةَ جسده، ولباسَه، وبؤسَ مأواه، وغير ذلك؛ لتنقاد إليه وتلبي رغباتِه وطلباتَه بحماس، وتصبر على مواقفه الغرائبية مهما تمادتْ في خروجها على الذوق العام والأعراف والتقاليد والقيم والأخلاق. أكثرُ الكراهيات تنشأ من الشغفِ بالتسلّط على الغير وإخضاعِه، والاستئثار بالمال والثروة والسلطة، وهو سلوكٌ يمارسه الإنسانُ بحدود الفضاء الذي يعيشُ فيه ويمارسُ حضورَه وتأثيره. الأبُ يمارسه في العائلة الأبوية، والأمُ تمارسه في العائلة عندما يضعف دورُ الأب أو يختفي بالموت وغيره، المعلّمُ يمارسه مع تلامذته، الرئيسُ في المؤسسات الإدارية ومؤسسات السلطة، حتى الشرطيُ يمارسه في حدود ما تسمح له سلطُته. كلُّ إنسان يفعلُ ذلك بحدود طاقته، وحسبما هو متاح له من وسائل تمكّنه من ذلك، وحين يعجزُ الغيرُ عن المقاومة والدفاع عن النفس. ليس بالضرورة أن يلجأ الإنسانُ المتسلّط لتوظيف وسائل عنيفة أو مثيرة أو مباشرة بغية بلوغ هدفه، المتسلّطُ يستثمرُ القيمَ السائدة في العائلة والقبيلة والمجتمع،كما يستثمرُ العلاقاتِ المختلفة ويوجّهها في سياقٍ يكرّس سلطتَه، ويعملُ على استعمال اللغة وتغذيتها باستمرار بدلالاتٍ تنتج التسلّطَ وتمهّد للاستعباد.

الإنسان غير الروبوت، ليس هناك قواعد ميكانيكية أو معادلات رياضية صارمة تتحكم بالإنسان، الإنسان الذي يكون كالروبوت في كلِّ أقواله وسلوكه ومواقفه ليس طبيعيًا. ‏التناقض في الآراء والمواقف حالةٌ بشرية لا يكاد يسلم منها كليًا إنسان. ‏التناقض البغيض هو أن يقول الإنسان الشيءَ ونفيَه في موضوعٍ واحد ووقتٍ واحد. ‏هذا التناقض ينتجه أحيانا الإشفاقُ والمداراةُ والرفقُ بالآخرين، وأحيانا ينتجه الخوفُ من إعلان المواقف الصريحة، وأحيانا تنتجه مصالحُ عاجلة، وأحيانا عقدٌ نفسية كامنة في اللاشعور منذ الطفولة، وربما يعود ‏التناقضُ إلى النفاق، أو اضطراباتِ الشخصية والمرضِ النفسي.

الإنسانُ أعقدُ من قدرتنا على فهم كلِّ شيءٍ في أعماقه. الإنسانُ أعقدُ الكائنات في الأرض، وأغربُها في تناقضاتِه1، وتقلّبِ حالاته. تناقضاتُه لا تنتهي، لأنها تتوالد باستمرار، مالم يفلح  بالتغلّب عليها بمزيدٍ من تكريسِ الإرادة، ووعي الحياة، واكتشافِ مسالكها الوعرة، والخلاصِ من ضغائنها، والعملِ على الاستثمار في منابع إلهام الحُبّ، ونحوٍ من الارتياض النفسي والروحي والأخلاقي والجمالي الذي يسمو به في مراتب الكمال.

أحلامُ الإنسان لا تكفُّ عن فرض رغباتٍ وأعباء تفوق طاقتَه، الرغباتُ والأحلام تثير الآخرين وتستفزّهم، لشعورهم بأن صاحبَها يصطاد فرصَهم في الحياة، ويستحوذ على مواقعهم، وذلك ما يصيّر الحياةَ حلبةَ صراع، تراها كأنها سلسلةُ حلولٍ لمشكلات، تبدأ منذ وقتٍ مبكر من عمر الإنسان ولا تقف إلا بالموت. الإنسانُ الحكيم يستطيعُ تفهمَ هذه الحالة وإدارتَها بذكاء. إنه يدرك أن الجمعَ بين الأضداد متعذّر، كما يدرك إمكانيةَ تفسير ذلك التضادّ ومعالجته، بوصفه حالةً ليست طارئةً أو استثنائية. يمكّنه هذا التفسيرُ من العمل بالتدريج، على خفضِ ما يرهقه ويستنزف حياتَه من صراع الأضداد في باطنه، بإيقاظِ صوتِ الله في روحه، والمحبةِ في قلبه، وتغذيتهما وتكريسهما ليصيرا مكونًا ثابتًا لكينونته الوجودية.

الإنسانُ كائنٌ غامضٌ جدًا في الوقت الذي يظهر لنا واضحًا جدًا، ما يجري من قوانين في الطبيعة تنطبق أكثرُها على جسده، لكن لا ينطبق كثيرٌ منها على نفسه وعواطفه وروحه وقلبه وعقله. تظل الطبيعةُ الإنسانية عصيةً على فهم كلّ طبقاتها بشكل واضح، حتى على الخبراء المتخصصين. لا يمكن أن ينتهي علمُ النفس إلى مواقف نهائية حاسمة في الكشف عن كلّ أسرار النفس الإنسانية، وذلك ما يؤشر إليه الاختلافُ الواسع الذي يصل حدَّ التهافت في بعض الحالات في مدارسِ علم النفس المتعدّدة، ومواقفِها المتنوعة في تفسيرِ سلوك الإنسان واكتشافِ الدوافع الخفية لمواقفه في مختلف أحواله. لم يجد علمُ النفس إجاباتٍ نهائية للأمراض والاضطرابات النفسية، إلا أنه كأيّ علمٍ ما يزال يواصل تنقيباتِه، ليكتشف المزيدَ مما هو مختبئٌ في النفس، ويعمل باستمرارٍ على نقد نظرياته وتمحيص آراء العلماء والمختصين ويغربلها ويعلن أخطاءَها ويرمّم ثغراتِها، ويواصل بجدية أبحاثَه ونتائجَه الجديدة2. المواقف المتضادّة لدى إنسانٍ واحد، في أزمنةٍ متوالية وحتى في يومٍ واحد، ليست غريبةً على طبيعة الإنسان. الإنسانُ الذي يمتلك عقلًا يقظًا مسكونًا بالتفكير العميق والأسئلة الوجودية الكبرى، يمكن أن يمتلك قلبًا متقدًا. الإنسانُ كائنٌ لا يشبه إلا ذاتَه. الإنسانُ كائنٌ شديد الغموض، ربما تراه غارقًا في الغربة الوجودية، وغارقًا في المحبة في وقتٍ واحد.

لن يختفي الشرُّ الأخلاقي ما دام الإنسانُ إنسانًا، مادام الإنسانُ يكذبُ ويراوغ وينافق ويكيد ويمكر ويسفك الدماء. ‏الثقافاتُ والقوانين والعقوبات والأديان تهدفُ إلى خفض وتيرة الشرّ إلى أدنى مستوى ممكن، ولولا ذلك لتحوّل الناسُ إلى أكلة لحوم البشر. الإنسانُ ليس كائنًا بريئًا أو محايدًا، بعضُ الأصدقاء لا ينقل لك من الأخبار العامة وما يخصّك الا ما يؤذيك، إنما يفعل ذلك بدافع التشفي الذي يلبي حاجةً عميقة تفرغ فيها نفسُه ألمَها، وتعيد تقديرَها لذاتها؛ بإشعارِ الغير بأنه غيرُ جدير بالثقة والتقدير.

لا وصفةَ نهائية تتطابق وكلَّ الاحتياجات المتنوعة للبشر في مراحل حياتهم المختلفة، حتى الفرد الواحد تختلف احتياجاتُه في مراحل عمره المتعدّدة، ربما تقوده عواطفُه للتعلّق بشخصٍ أو أيّ شيءٍ آخر في مرحلةٍ من عمره، غير أنه قد ينفر منه في مرحلةٍ أخرى. الإنسانُ كائن يمكن أن يختلف يومُه عن أمسه، الإنسانُ يتغيّر تبعا لتنوّع صلاته الوجودية بما حوله من بشرٍ وأشياء، وتتجدّد بعضُ احتياجاته ومصالحه، وتندثر احتياجاتٌ ومصالحٌ في المراحل المختلفة من عمره، وتضاف أخرى.

يختلف كلُّ شيء باختلاف زاوية النظر إليه، وهذا ما يُصطلح عليه في الفلسفة قديما بـ (الحيثية)، يقال: "لولا الحيثيات لبطلت الفلسفة"، بمعنى أن كلَّ زاوية نظر تقودنا إلى نتيجة، ومن مجموع زوايا النظر تتعدّد وتتنوع المواقفُ الفلسفية في المعرفة والوجود والقيم، وهكذا يختلف تفسيرُ الحقائق وتختلف طرقُ الوصول إليها وإدراكها. باختلاف زاوية النظر يمكن للإنسان ملاحظةُ صور كثيرة بعضُها متضادّ في إنسان واحد. أحيانا تختلط المحبّةُ بالكراهية فتتناوبان، عندما تتصارع زاويةُ النظر الواعية لإنسانٍ مع زاوية النظر اللاواعية في باطنه. تراه لحظةً يحُبّ إنسانًا، ولحظةً أخرى يكره هذا الإنسان، وهو لا يدري كيف يحدث ذلك، مثل أن ترى المرأةُ في رجلٍ واحد صورًا متضادّة، أو يرى الرجلُ في امرأةٍ واحدة مثلَ هذه الصور. في بعض حالات حبِّ الرجل للمرأة وحبِّ المرأة للرجل، يحدث تناوبٌ للحبِّ والكراهية باضطرادٍ مُضجِر. أظنه يعود إلى أن المرأةَ تكره صورةَ الرجل الأعمّ من هذا الرجل وغيره؛ إثر ما يستفيق من مواجعَ جروحٍ كامنةٍ في اللاوعي لحياةٍ زوجية عاشتها أمس مع رجلٍ عنيف، ختمتْ بعد سنواتٍ من الصراع المرير بطلاق، وإن كانت هذه المرأةُ تحب الصورةَ الشخصية لهذا الرجل النبيل الذي تزوجته بعد الطلاق. الرجلُ أحيانًا يكره صورةَ الأنثى الأعمّ من هذه المرأة وغيرها في شخصِ هذه المرأة؛ إثر ما يستفيق من مواجعَ كامنةٍ في اللاوعي من حياةٍ زوجية مشاكسة مع غيرها أمس، لكنه يحُبّ الصورةَ الشخصية لهذه المرأة المهذّبة التي هي زوجته اليوم. وأحيانًا يكون التناوبُ عكسيًا في الحالتين.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

.................

1- التضاد والتناقض ليس بالمعنى المعروف في المنطق والفلسفة، أعني بالتضاد والتناقض هنا ضرب من المفارقة.

2-  الرفاعي، عبد الجبار، الدين والكرامة الإنسانية، ص 70، ط 2، 2022، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، ودار الرافدين، بيروت.

 

في مقولة لكانط اوردها الباحث القدير حاتم حميد محسن في مقالته المنشورة على موقع صحيفة المثقف تاريخ 23/12/  2023 تحت عنوان (صفحات من تاريخ الفيلسوف فريدريك هيجل) ان كانط قال: (العالم الواقعي لا يمكن معرفته ابدا) واضاف كانط (لا يمكننا معرفة العالم الخارجي كما هو (في ذاته) ونحن لا يمكننا ابدا معرفة العالم كما يتقرر باذهاننا لاعطائنا تجربة عنه).

دقة صواب العبارة هو في تعبير كانط انه لا يمكننا ابدا معرفة العالم الخارجي كما تدركه حواسنا في اختلافه التام عما هو يتقرر باذهاننا. لسبب تلاقي ازدواجيتي خداع الحواس وخداع اللغة في عدم التعبير الصحيح عن معرفة عالمنا الخارجي وليس ادراكه فقط. فالاوليات الحسية الواصلة من الاحساسات الى الدماغ تكون حتما مشوشة غير متماسكة وغامضة ولا تسهل للدماغ عملية التعامل معها معرفيا. فيحصل هنا ما يعرف بتضليل العقل الذي عبّر عنه كانط استحالة معرفتنا الحقيقية لعالمنا الخارجي.

هذه العبارة هي صياغة ثانية بنفس المعنى حينما قسّم كانط العالم الخارجي ب(النومين) الشيء الممكن ادراكه بالحواس وليس الشيء الممكن معرفته بالعقل. (والفينومين) هو الذي لا يمكننا لا ادركه ولا حتى معرفته. واعتبر الفلاسفة ان ما لا يمكننا ادراكه ولا معرفته ماعدا صفاته الخارجية انما هو الجوهراو الماهية في الاشياء التي يصعب التعامل في معرفته لانه لا يكون موضوعا مستقلا يدركه العقل بوضوح ولا يعيه وعيا معرفيا.

المسالة الثانية قول كانط لا يمكننا معرفة العالم كما يتقرر باذهاننا لاعطائنا تجربة عنه. العبارة صحيحة ولكن لماذا وكيف يتعذر علينا معرفة ادراكاتنا الخارجية بصورة صحيحة؟. نوضح باختصار:

1. علينا التمييز ما بين الادراك الحسي والمعرفة العقلية. فادراك الشيء لا يعني معرفته. كما ان ادراك صفاته الخارجية لا يعفي انعدام المعرفة العقلية له.

2. الحواس خاصيتها الادركات التي تكون على شكل انطباعات ذهنية. ومعرفة ذات الشيء هي خاصية الدماغ عقليا.

3. الانطباعات الحسية التي هي الادراكات الاولية للشيء هو وظيفة الحواس. اما معرفة الشيء اي الوعي التام به فهو خاصية العقل المعرفي – التجريبي.

4. من المفارقات الفلسفية الطريفة ان بيركلي وهو فيلسوف مثالي متطرف في القرن الثامن عشر ذهب الى ان ادراك الشيئ بصفاته الخارجية فقط هو سبب كاف لنقول اننا عرفناه باكمله اي كينونة واحدة موحدة وليس مهّما بحثنا عن الجوهر خلف صفاته الخارجية المدركة. وليس من حاجة لا تدعو اعتبار الادراك الاولي للصفات لا يمثل ادراكنا للجوهرخلف الصفات. المفارقة الاكبر ان الماركسية اخذت بمقولة بيركلي هذه لتحذو الوجودية والظاهراتية الاقتناع بما جاء به بيركلي. (باستثناء سارتر الذي له وجهة نظر حول الجوهر تناولتها باكثر من مقال لي منشور).

هيجل والوعي

كما اضاف هيجل على عبارة كانط السابقة قوله عن (الوعي هو الذي ندرك به العالم والتاريخ هو ادراك الوعي لذاته). " لو نحن اقررنا بحقيقة عالمنا الواقعي محدود الوجود الادراكي ولانهائي المعرفة يكون الجزء الاول من عبارة كانط صحيحا اننا امام استحالة معرفتنا العالم الواقعي من حولنا حتى لو اتيحت لنا امكانية ادراكه تماما.

هنا لا بد لنا من القول انه اذا اتيح لنا تفريق مصطلح ادراك الشيء عن مصطلح معرفة ذاك الشيء نفسه. وهو انفصال حقيقي ماثل واقعي يصبح من الصعب جدا فصل الوعي عن العقل خارج علاقة المحايثة التي تربط بينهما..

الوعي ناتج تفكير العقل في استيعابه الاشياء وردود افعاله عنها التي ينقلها الوعي كوسيط. التساؤل هل من الممكن لنا القول الفلسفي المتداول العقل هو الوعي؟ وانه لا وجود للعقل بلا وعي والعكس ايضا صحيح لا وجود للوعي بلا العقل. التساؤل في محله الخادع لادراكنا لانه خطأ نوضحه لاحقا. فالعقل والوعي مطابقة بالتفكير واختلاف منفصل بيولوجيا.

عبارة كانط الثانية اننا بالوعي ندرك العالم عبارة صحيحية ناقصة تكملتها الوعي يدرك العالم بمرجعيته للعقل. لم يضف كانط جديدا على مقولة العقل هو الوعي ولو تناوبا الوظيفة المعرفية للاشياء. وهي مقولة خاطئة. فالوعي لا ينوب عن العقل لا في الادراك الشيئي الاولي ولا بالادراك المعرفي العقلي البعدي.

الوعي هو الجوهر المرادف لماهية للعقل التفكيرية فماهية العقل ليس فقط كما قال ديكارت التفكير. بل ماهيته الجوهرية ان العقل يعي الاشياء بمعنى نقله ما اطلق عليه كانط مقولات العقل الاثنتي عشر حول معرفة الشيء المدرك والوعي به. الوعي محايث لصفته الجوهرية كوسيلة معرفية للاشياء عندما يكون الوعي هو الناقل لمقولات الفهم العقلي تجاه تلك الاشياء. السؤال الجوهري المهم هو ليس كيف يدرك العقل الاشياء بل هو لماذا يدركها؟.

الوعي هو افصاح العقل عن ذاته, وليس فقط الوعي وسيلة افصاح العقل عن ادراك ومعرفة الاشياء عقليا. خاصية العقل المعرفية هي الوعي. اذن الوعي هو الجوهر المحايث لتفكير العقل, والعقل لا يدرك ذاتيته من دون الوعي بذاته. اذن بماذا يكون الاختلاف بين محايثة الفكر للغة ومحايثة الوعي للعقل؟

 الفرق اننا كما ذكرنا سابقا أن بيولوجيا العقل يمكنها الانفصال عن تجريد الوعي من ناحية تعبير وعي العقل معرفته للاشياء. وهذا الانفصال لايحدث بين الفكر واللغة لانهما تجمعهما مجانسة نوعية واحدة هي صفة التعبيرالتجريدي عن الاشياء  . المفارقة في توضيح هذه العبارة ان امكانية فصل (بيولوجيا) العقل المتكوّن فسلجيا من الدماغ وتوابعه المخ والمخيخ والنخاع وشبكة الاعصاب يمكن انفصالها عن الوعي العقلي منردة لكنها تفقد قيمتها (الوعيية) من الوعي كونها مجتمعة تمثل خاصية الوعي التجريدية وليست خاصية الوعي البيولوجية مثل خاصية الدماغ.. بمختصر بكلمتين العقل المادي الفيزيائي هو بيولوجيا والوعي المحايث المرتبط به هو تجريد معرفي مثل تعبير اللغة والفكر عن الاشياء.

رغم امكانية انفصال العقل عن الوعي وظيفيا الا ان الوعي لا يستطيع بناء نسق معرفي وظائفي لا يلازم العقل لكنه منفصل عنه محايث له ولا يقاطعه. وهو لا يمكن تطبيقه على علاقة الفكر باللغة. لانهما كلاهما تجمعهما الخاصية التجانسية الواحدة الا وهي (التجريد).

حين يعّبر ديكارت العقل جوهر خالد ماهيته التفكير انما يكون جرّد العقل من ماديته البيولوجية وقصد ماهية العقل التفكيرية المجردة.. ولهذا حين يقول ديكارت العقل والنفس جوهران خالدان فهو بالتاكيد يهيم في خطأ أن خاصية العقل تجريدية تفكيرية اكثر منها بيولوجية عضوية هي جزء من اجزاء جسم الانسان هو الدماغ داخل جمجمة الانسان. ومن الطرافة الساذجة ان نقتنع بالدماغ البيولوجي خالدا لانه احد مكونات العقل البيولوجية الفاني بموت الجسم الانساني.

وقرن ديكارت بحذاقة خلود العقل مع خلود النفس وكلاهما ماهية تفكيرية تجريدية لاتفنى ولا تموت بموت الانسان وفنائه. ومن هذا المعنى يجوز لنا مع ديكارت اعتبارالعقل ويقصد به العقل التفكيري زائدا جوهر النفس – لاحظ لم يقل الروح بدل النفس كما هو في المتداول بفلسفة اللاهوت -  ولا يوجد فيلسوف يجيز لديكارت استعماله النفس لفظة مرادفة لها نفس معنى الروح. قل الروح هي من علم ربي اي هي مركب لاهوتي - ميتافيزيقي, بينما النفس هي جوهر علوم النفس بكل تفرعاتها واشكالها. والنفس مادية بتجلياتها على خلاف الروح التي هي مفهوم بلا حدود. ومفارقة الروح للجسد بعد موته وكيف لم يتم حسمها الى اليوم.

اللغة (وعدم معرفة العالم الواقعي ابدا).. مقولة كانط

بأية وسيلة ندرك معرفة العالم الواقعي؟ اولا الادراك الحسي الانطباعي المبدئي. ثانيا الادراك العقلي الواصل عبر شبكة الاعصاب في استلام العقل او الدماغ لاحساسات العالم الخارجي عبر شبكة الاعصاب وثالثا مقولات العقل عن تلك الاشياء والمدركات التي ينقلها الوعي عن العقل. واذا ما كانت هناك ضرورة ملزمة لترجمة ما يحمله الوعي في محمولاته من مقولات العقل. فيكون عن طريق تعبير تجريد اللغة.. .

مقولة تعبير اللغة عن الاشياء هي تضليل للعقل احيانا حسب بيرتراند راسل ومجموعة فلاسفة اللغة واللسانيات تعتبر حسب رايي البداية التي ندخل منها لماذا لايمكننا معرفة العالم الخارجي بواقعيته؟

ان ندرك صدقية ادراكاتنا عن زيف تعبيرات اللغة هي مشكلة يحسمها التطبيق التجريبي للفكرة او مجموعة الافكار كما تفعل الفلسفة البراجماتية الامريكية..ما يرتب ان يكون عجز الاحساسات في ابتداعها لغتها التماثلية في المطابقة الصادقة مع المدركات تكون بالمحصلة النهائية خادعة زائفة ايضا لعدم كفاية التحقق التجريبي من هذه المطابقة.

وبمقدار ما يكون خيالنا التفكيري اللغوي اللفظي عن العالم واسعا بلا نهايات بقدر ما يتوجب علينا التسليم ان الافكار لغوية او غير لغوية بالتعبير عن عالمنا هي قطع لامجال مناقشته انه تضليل العقل. هنا اجد عدم تحقق صدقية التجريب للتاكد من المطابقة اللغوية في تعبيرها عن الواقع وعن زيف الاحساسات الخارجية في ابتداع اللغة التماثلية في المطابقة الصادقة بين عالمنا الخارجي ووسائل معرفتنا الحقيقية له. عدم تشاكل الاحساسات مع مطابقتها التمثلي الحقيقي لعالمنا الخارجي يعطي تفويضا مشروعا للعلم وجوب ترك محاولات الفلسفة التقاطع معه ولا حتى مسار التوازي المتعايش معه. كون حقيقة تقاطع الفلسفة مع العلم لا تمتلك مقومات التحقق من الامكانية. وكذا الحال في توازي مسار الفلسفة مع العلم لا يعطي العلم تبعية فلسفية له او وصاية عليه. امام هذا الطريق المسدود عمدت المنطقية الجديدة الى ضرورة ادماج كل العلوم والفلسفة والرياضيات بما اطلقوا عليه(العلم الكلي).

اخيرا بالمقارنة الشكيّة بزيف اللغة تضليلها العقل وانها عاجزة عن التعبير الحقيقي لعالمنا وانها اي اللغة منطق تركيبي تجريدي لا يمتلك تجريبية التحقق من صوابه.

يتاكد لنا ان صدق الادراك لا يلغي زيف تعبير اللغة. فحقيقة الادراك لغة تصورية تسبق لغة التعبير عن الشيء المدرك. وادراكاتنا الاشياء على حقيقتها نتيجة عجز اللغة الالمام والاحاطة بها لا يجعل من الادراكات الصادقة وسيلة مضمونة لفهم العالم ومعرفته.

***

علي محمد اليوسف

 

What Is Classical Liberalism?

by John C. Goodman

ترجمة د. عدنان عويّد: (بتصرف)

***

قبل القرن العشرين، كانت الليبراليّة " الكلاسيكيّة " هي الفلسفة السياسيّة المسيطرة في الولايات المتحدة الأمريكيّة على ما يبدو، وهي التي شكلت منطلق الفلسفة السياسيّة لـ " توماس جفرسون " (Thomas Jefferson ).. ولموقعين بيان الاستقلال. وعلى أساسها تم تطبيق بنود بيان الاستقلال الأمريكي، ممثلة بالدستور، وأوراق الفيدراليّة، والعديد من الوثائق التي أنتجت من قبل الناس الذين أوجدوا نظام الحكومة الأمريكيّة، هذا وأن العديد من المحررين أو المعتقين الذين عارضوا العبوديّة، كانوا من حيث الجوهر ليبراليين، مثلما كان المنادون بحقوق المرأة أو ممن قاتل من أجل مساواتها في الحقوق ليبراليين أيضاً.

على العموم، إن الليبراليّة " الكلاسيكيّة " في سياقها العام هي الإيمان بالحريّة، وحتى هذا اليوم، فإن أوضح البيانات (النظريّة) لهذه الفلسفة هو ما جاء في بيان الاستقلال/ لجفرسون/، وفي ذلك الوقت، كما هي الحال اليوم، فإن معظم الناس يعتقدون أن حقوقهم تأتي من الحكومة، وأن معظمهم اعتقد  بأنه  يملك  هذه الحقوق فقط عندما يتم انتخاب الحكومة التي ستمنحهم هذه الحقوق، بيد أن الفلاسفة الانكليز أمثال " جان لوك " (John Locke)، فقد بينوا أن الطريق الآخر للحقوق يدور حول الإقرار بأن الناس يحصلون على حقوقهم بمعزل عن الحكومة كون هذه الحقوق تشكل جزءاً من طبيعتهم، ثم إلى حد بعيد يستطيع الناس تشكيل هذه الحكومات وحلها أيضا، على اعتبار أن الهدف الشرعي للحكومة هو حماية هذه الحقوق.

إن الناس الذين يطلقون على أنفسهم اليوم اسم "الليبراليون الكلاسيكيون" غالبا ما يميلون لامتلاك الرؤية ذاتها للحقوق، ولدور الحكومة ذاتها التي امتلكها أوعبر عنها "جفرسون" ومعاصروه، إضافة إلى ذلك، لم تكن لديهم الرغبة أو الميل لوضع أي تمايز هام ما بين الحريات الاقتصاديّة، والحريات المدنيّة.

على يسار بقعة الضوء السياسيّة لليبراليّة، توجد أشياء كثيرة معقّدة، حيث نجد الاختلاف الكبير بين ليبرالي القرن التاسع عشر، وليبرالي القرن العشرين، فليبراليون القرن التاسع عشر اعتقدوا بالحريات الاقتصاديّة، بينما لم يؤمن أو يعتقد بها  ليبراليون القرن العشرين، الذين اعتقدوا بأنها – أي الحريات الاقتصاديّة -  لاتكون اختراقاً أو اغتصاباً لأي حق أساسي بالنسبة للحكومة في ضبطها لمسائل مثل، أين  يعمل الناس؟، ومتى يعملون؟، أو ما هي الأجور التي يعملون من أجلها؟، وما هي الأشياء التي يستطيعون شراءها، أو يستطيعون بيعها، والسعر الذي يستطيعون الشراء به؟ ... إلخ .  هذا وفي الوقت نفسه، نجد أن ليبراليين القرن العشرين قد استمر تأثرهم بمعتقدات القرن التاسع عشر، وكذلك احترامهم للحريات المدنيّة، وفي محطة المدار الأخير للقرن التاسع عشر، كان هناك دعم غير محدود من قبل الليبراليين للحريات المدنيّة، وقد قامت بعض المؤسسات الاجتماعيّة الداعمة لهذه الحريات مثل  (الاتحاد الأمريكي للحريات المدنيّة)  (ACLU)  في أمريكا على سبيل المثال لاالحصر. هذا ونحب أن نشير هنا أيضا إلى أنه منذ أن أصبحت الليبراليّة هي الآيديولوجيا المسيطرة في القرن العشرين، راحت النزعة السياسيّة العامة لهذا القرن تعكس معتقدات هذه الليبرالية، ثم مع نهاية القرن العشرين ذاته،حقق المواطنون القليل من الحقوق الاقتصاديّة قياسا لما حققوه أو حازوا عليه في بداية القرن، بينما كان حضهم أوفر كثيراً في جانب الحريات المدنيّة.

نماذج الحقوق المدنيّة:

إن قوائم حقوق الإنسان تشير بأن للأفراد "حقوقا" كثيرة، ولكن الأسئلة المشروعة التي تطرح نفسها علينا هنا هي: ماذا يعني الحصول على الحق؟، وهل تكون بعض الحقوق مختلفة بالأساس عن الأخرى؟. ومع ذلك نجد في تقاليد الليبراليّة الكلاسيكيّة، أن الحقوق حازت على الكثير من الصفات التي تتضمن التالي:

أولا: الحقوق تعتبر وسائل اتصال

تعتبر الحقوق وثيقة الصلة بالمسؤوليات الأخلاقيّة التي يتعامل بها الأفراد مع بعضهم بعضاً، وهي تشير هنا بشكل خاص إلى نطاق السلطة أو السيادة التي يتمتع بها الأفراد داخلها، وتخويلهم رغبة الاختيار دون تدخل من أحد، ففي هذه الحالة تحكم الحقوق هنا كمسألة أخلاقيّة على أعمال الناس الآخرين في عالم لا يقوم على شخص واحد فقط، أو على عالم يتواجد فيه أفراد كثر لا يتفاعلون مع بعضهم. فالعدالة أو الحقوق وفق هذه الرؤية سوف لن توجد في عقل الفرد الذي لايريد لأي شخص آخر أن يطالب بحق مقابل، كما أنها لن توجد أيضا في عقل من يريد الدخول بصراع مع أية تجربة لحقوق الفرد، إن الحقوق توجد حيث  يتفاعل الناس مع بعضهم ويقيمون علاقات وفقا لاهتماماتهم ومصالحهم.

ثانيا: الحقوق الأساسيّة تقتضي الواجبات

إن من حق أي فرد أن يقوم بأعمال خاصة تتطلبها رغباته وحاجاته، على أن لايكون  لهذه الأعمال مساس بحقوق الآخرين، وهذه الأعمال الفرديّة في المقابل  تتطلب واجبات من قبل الآخرين تجاهها، فعندما يقوم ( جان ) مثلا بوضع ( مرجوحة ) في  منزله، يعتبر هذا حق مشروع له، ومن واجب الآخرين عدم ممانعته في عمله هذا، ولكن في المقابل ليس من المفروض على الآخرين تقديم المواد الأوليّة له على سبيل المثال، وهذا ينطبق على( جوي) أيضا تجاه الآخرين.

على العموم يمكنا القول في هذا الاتجاه: إن هناك واجباً سلبياً وآخر إيجابياً في مثل هذه الحالة، فوضع (المرجوحة) في منزل "جان" على سبيل المثل فرض الواجب (السلبي) على الآخرين تجاه بناء المرجوحة، عدم ممانعتهم أو تدخلهم في وضعها، كما أنه لم  يفرض واجباً إيجابياً في المقابل وهو المساعدة في تقديم المواد الأولية لـ  "جان".  هذا وفي السياق ذاته يمكننا الإشارة هنا إلى أنه من الحقوق الأساسيّة المعروفة وهي، حق الحياة، والحريّة، وحق الملكيّة، قد تدفقت حقوق كثيرة أخرى أو اشتقت من هذه الحقوق الأساسيّة بناء على تزايد النشاط العملي والفكري للناس، ثم راحت من هذه الحقوق المشتقة  تتكون واجبات جديدة.

ثالثا: الحقوق مصانة

بين "توماس جفرسون" في بيان الاستقلال، بأن الحقوق الأساسيّة مصانة، وهذا يعني أنه من غير الممكن التفريط  بها من قبل الفرد الذي حاز عليها، كما أنه من غير الممكن تصديرها أو استيرادها .. بيعها أو شراءها، أو المتاجرة بها، ولكن من الممكن انتهاكها على أية حال .

رابعا: الحقوق الأساسية لايمكن أن تأتي من الحكومة:

وهنا أيضا نتكئ على بيان الاستقلال الذي أشار بأن الحقوق الأساسيّة لاتعطى أو تصنع أو تحوز على شرعيتها من قبل الحكومة، بل إن الحكومة ذاتها تحصل على شرعيتها من وجود هذه الحقوق ذاتها، وحسب رؤية كل من "لوك" و "جفرسون"، والعديد من الآخرين الأخلاقيين والعقلانيين، فإن الحكومات تشكل من أجل حماية هذه الحقوق، هذا وقد أكد " لوك " في هذا الاتجاه أيضا، بأن شرعية الحكومات في الحقيقة قد أسست لتسهل أكثر الأعمال تأثيراً وهي فرض هذه الحقوق الأساسيّة، وأن الحكومات الشرعيّة وجدت بالتوافق، بينما الحقوق الأساسيّة لم تؤسس أو توجد بالتوافق.

خامسا: الحقوق الجوهريّة مقابل الحقوق الإجرائيّة

إن بعض الحقوق التي دخلت  ضمن قائمة حقوق الإنسان عدّت حقوقا "جوهرية" وبعضها الآخر حقوقا "إجرائية"، والآباء المؤسسون لقضايا حقوق الإنسان، كانوا مهتمين جدا  وبكل وضوح بهذين النوعين من الحقوق، والعمل على التمييز بينهما، لذلك كثيراً ما نجدهم يشيرون إلى أن الحكومات الشرعيّة وجدت أساساً لحماية الحقوق الجوهريّة، ولكن أثناء ممارستها لهذه المهمة الحكوميّة، تكون بحاجة للإلتزام بإجراءات حقيقيّة لتحقيق مهمتها، فعلى سبيل المثال، لكي تحمي الحكومة الحقوق، وتحكم أو تفصل في الخلافات حول هذه الحقوق، يجب على الحكومة هنا أن توجد وتدرب أجهزة خدمة لهذه المهمة (قوات شرطة)، وهذه المسألة تدخل في مدار الحقوق الإجرائيّة، هذا وتحوز الحقوق الإجرائيّة على أربع سمات أساسية هي الآتية:

1-هي أقل أصالة من الحقوق الجوهريّة.

2- هي حقوق عرضيّة.

3- هي تدل ضمنا على الواجبات الايجابيّة.

4- هي نتاج توازن المصالح.

الحقوق في الدولة التشا ركيّة:

ما يميز نشاط الدول ذات الطابع التشا ركي في القرن العشرين، مثل الدولة  (الشيوعية) أو الدول ذات الطابع القومي العنصري، مثل، (النازية، والفاشية)، هو رفضها الفكرة الكلاسيكيّة للحقوق الليبراليّة، حيث نجد أن كل أنموذج من هذه الدول يؤكد وفقا لاتجاهه الأيديولوجي، طبيعة أو صيغة الحقوق التي يطالب بها، فبالنسبة للشيوعيّة كان التركيز على حقوق الطبقة العاملة، ومواجهة الحقوق الفرديّة في صيغتها الليبراليّة، وبالنسبة للنازيّة والفاشيّة، كان التركيز على حقوق العرق والأمّة والمجال الحيوي، وبالنسبة لمهندسي دولة الرفاه، كان التركيز على مطالب الحاجات الاجتماعيّة بعمومها، هذا وأن كل هذه الأنظمة تقر بشرعيّة عيش الأفراد من أجل الدولة، ومعارضة الحقوق التي طرحتها الليبراليّة الكلاسيكيّة، ثم نادراً جداً ما هاجمت فكرة الحقوق في حد ذاتها، بل هي في الحقيقة  طرحت تعريفا جديدا لمفهوم "الحق" بالشكل الذي أفرغت  منه معظم محتوى الحق في صيغته الليبراليّة.

مصادر الحقوق:

سؤالان مشروعان يطرحان نفسيهما علينا هنا وهما: من أين تأتي الحقوق؟، وكيف يمكن لهذه الحقوق أن تصان؟.

إن الآباء المؤسسين لمسألة الحقوق، اعتقدوا أن الحقوق الأساسيّة أو الجوهريّة تأتي من الطبيعة، لذلك من هنا جاءت تسمية "الحقوق الطبيعيّة"، هذا في الوقت الذي اعتمدوا فيه أيضاً على النماذج الأخرى من المفاهيم أو الرؤى العقلانيّة لحماية كلا الاتجاهين في الحقوق وهما، الجوهريّة منها والافتراضيّة وهي التي تتضمن المذهب النفعي، والقانون المشترك، ونظريّة العلاقات الاجتماعيّة.

أما أهم مصادر هذه الحقوق فهي:

الطبيعة كمصدر للحقوق:

إن الحقوق كمطالب أخلاقيّة وشرعيّة، تعمل على محاصرة أعمال الحكومة والأفراد التي تتخذ ضد الفرديّة، أو ضد ما من شأنه  أن يقوي أو ينمي تلك المطالب التي نهضت بداية مع الحقوق الطبيعيّة التقليديّة في الفلسفة، فالفلاسفة أمثال " هوجو كروتيوس "Hugo Grotius"  (1583 -1645 )، و(سامول فون فبندوروف)) (Samuel von Pufendorf ) ( 1632- 1694 )، والعديد من المشاهير أمثال (جان لوك) ( 1704- 1632 (، ناقشوا بأن الإنسانيّة قد حازت على حقوق أساسيّة (طبيعيّة) أكيدة مثل حق (الحياة، الحرية، الملكية)، وهذه الأفكار قد أثرت في الحقيقة وبكل وضوح في الآباء المؤسسين، كما انعكست في بيان الاستقلال الأمريكي والعديد من الوثائق المتعلقة بحقوق الإنسان. ففي الوقت الذي نرى فيه العديد من المفكرين المبكرين بما فيهم "لوك" يعتقدون أن "الله" هو الذي منح هذه الحقوق  ونجدهم أيضاً يشيرون إلى أن الإنسانيّة امتلكت حقوقاً أخرى حتى مع إبعاد  فكرة أنها من عند "الله"، (مثل حق التعليم والصحة والعمل .. وغير ذلك – المترجم)، وبذلك استطاعوا عبر اكتشافهم لإمكانيّة استخدام القدرات الإنسانيّة للعقل، أن يمتحنوا حتى القوانين الطبيعية ذاتها.

إن مسألة الجدال حول القوانين الطبيعيّة غالبا ما يتسع ليجذب إلى محيطه نماذج القوانين الأساسيّة، أو الجوهريّة أيضاً، مثل: حق الحياة، الحرية، والملكية، وأنه من السهل بمكان أن نرى كيف أن نظريّة الحقوق الطبيعيّة قد توافقت مع الحقوق الافتراضيّة، لتدرج في قائمة الحقوق فضاءات حق (الكلام، والدين، والاجتماع).

المنفعة مصدر من مصادر الحقوق:

تعامل الاتجاه الفلسفي الثاني من الجدال مع الحقوق الأساسيّة أيضا، حيث أكد دعاة هذا الاتجاه أن الحقوق الأساسيّة أو الطبيعيّة تكون ذات بعد حيوي، كونها تخلق الظروف التي تكمن تحتها السعادة، أو القاعدة العامة للرفاه بشكل متزايد، إضافة إلى ذلك، وبسبب، أن معظم الأفراد يعتبرون هم أنفسهم الحاكم الأفضل لحاجاتهم، التي تمثل متطلباتهم، رغباتهم، قيمهم، ومن ثم مجموع الرفاه الاجتماعي لهم، فإنه من الممكن أن تتحقق هذه الحاجات وبشكل متزايد عندما يكون الشعب حرا في قراراته، ومستقلا عن تلك القرارات التي يصنعها شخص بمفردة، أو كتلة اجتماعيّة صغيرة تحركها منافعها الشخصيّة أو الأيديولوجيّة الضيقة. لذلك، ولكي تتحقق سعادة الإنسان ورغبته في العيش، من الضروري إيجاد مجال أو فسحة واسعة للاستقلال الذاتي داخل هذا الإنسان. فكل حكم للفرد نابع من إدراك الفرد بذاته (هو أو هي) لطبيعة وأهداف عمله، يكون هذا الإدراك هو الأساس، أو المنطلق للحريّة الحقيقيّة، وأي تدخل من قبل الآخر فرد كان أم حكومة في هذا (الحكم) المتعلق بالفرد، سيكون غير قانوني.

إن المنظرين القدماء لحقوق الإنسان، أمثال (لوك)، قدروا تماماً ذاك الجدال الذي دار حول أهميّة (المنفعة) كمصدر للحقوق، ففي نقاشه حول مسألة (الملكية) وجد " لوك " أنه عند السماح للناس في نقل ملكيتهم من الملكية العامة إلى الملكية الخاصة، فإن الجهد الذي وضعوه من أجل تحسين ملكيتهم عبر هذه الطريقة يهدف – برأيه – إلى إنتاج المنفعة للمجتمع بعمومه.

القانون العام مصدر من مصادر الحقوق:

يعتبر هذا المصدر الذي عرف واشتهر من قبل المؤسسين بـ (القانون العام) قريباّ في رؤيته من رؤية (الحقوق الطبيعيّة)، هذا ويمكن للقانون أن يقسم هنا إلى قسمين هما: القانون العام، والقانون الخاص، والقانون العام في سياقه العام وجد من قبل هيئات تشريعيّة  ويتألف من قوانين شرعيّة، أسست بدورها على أبنية دستوريّة. أما على مستوى القانون الخاص، فقد ارتقى عبر السياق التاريخي له كنتيجة للقرارات الرسميّة المتعلقة بالمحكمة، أو للقرارات القضائيّة، في دوائر الملكيّة والاتفاقات القانونيّة بين الناس. (ومن هنا يأتي في القضاء الحق العام والحق الخاص لمن يرتكب جريمة ما بحق الآخرين، فإذا سقط الحق الخاص بسبب التسامح والتنازل عن الحق من قبل المتضرر، فإن الحق العام يبقى ويحاسب وفقه مرتكب الجريمة – المترجم).

إن (القانون الخاص) صفة استخدمت لوصف عمليّة قانونيّة قديمة، عملت على تصوير وكشف أن أساس هذه العمليّة القانونيّة جاء تراكميّاً – قضية قضائيّة بعد أخرى – عبر التاريخ، وبذلك فإن الحكام الذين تعاملوا مع هذا القانون الخاص، لم يروا أنفسهم كخالقين لهذا القانون بقدر ما هم مكتشفين له، وبالتالي هذا الموقف دفعهم إلى تأييد مبدأ (القانون الطبيعي) الذي بموجبه يكون هناك قوانين طبيعيّة للتصرف تأصلت في الإنسانيّة نفسها، وبسهولة كبيرة اكتشفت عبر ثورة العادات والتقاليد التجاريّة. (وهذا ما يسمى بالغرف والعادة.. المترجم).

إن وظيفة أو مهمة حاكم القانون الخاص، كانت النظر وبذل الجهد لكشف القوانين التي وجدت مسبقاً، ثم تقديم أحكام جديدة تؤسس عليها.

العقد الاجتماعي مصدر من مصادر الحقوق:

لقد أدركت سلطات  الدساتير التي انطلقت من حقوق الإنسان ذاك الأثر العظيم لنظريّة العقد الاجتماعي على الحقوق الفرديّة، وفي هذا الاتجاه ناقش الفيلسوف "توماس هوبس" بأن الحكومة الشرعيّة هي التي تؤسس على عقد اجتماعي بين المواطنين (الذين تعهدوا بإطاعة الدولة)، وبين سلطة الدولة (التي تعهدت بدورها مقابل تنفيذ المواطنين لتعهدهم أن تقوم بحمايتهم من الجريمة والاعتداء الخارجي.)، وللفيلسوف "جان لوك" وجهات نظر حققت تأثيراً واسعاً على المؤسسين، حيث شرح مفهوم العقد بين أعضاء المجتمع على أنه وعد يتم فيه تبادل التخلي عن الحريات الحقيقيّة التي استطاع الأفراد قانونيّاً ممارستها في الحالة الطبيعيّة من أجل التزود با الأمان عبر الحكومة التي أنشئت بذاك العقد الاجتماعي. ثم أن كلا من "هوبس" و "لوك" وفي إدراك محدود جداً، ناقشا بأن المواطنين الحقيقيين اعتقدوا بضرورة الحفاظ على الحقوق الأساسيّة بمستوى يواجه عمل الحكومة.

إن المعرفة الأساس لنظريّة العقد الاجتماعي، هي أن الحكومة ربحت شرعيتها من خلال موافقة المحكوم (الشعب) الذي حاز على حق تشكيل الترابط السياسي بين الطرفين (الحاكم والمحكوم)، هذا الترابط أو الدمج الذي هو نفسه أوجد الواجبات والقوة لكلا الطرفين،  بينما نرى في الواقع  أنه  لاتوجد حكومة قامت من خلال عقد اجتماعي، وراحت تتطور عبر طريق ميثاق العقد الاجتماعي  الذي فرض طاعة المواطنين للحكومة مقابل حمايتها لحقوقهم وتامين الاستقرار لهم، لذلك غالبا ما نجد تلك الاختراقات والتعديات على الحقوق غير المبررة إما من قبل المواطنين أنفسهم تجاه بعضهم بعضا، أو من قبل الحكومة نفسها التي تقوم بتجاوز سلطتها الشرعيّة باختراقها للحقوق الفرديّة.

من بين الفلاسفة الأكثر حداثة، يأتي الفيلسوف  "جان رالوز"    (John Rawls)، الذي أعطى حياة جديدة لنظريّة العقد الاجتماعي،  فبدلا من عرض الحقوق على أنها هدايا من الحكومة أو من (الله)، ثم بدلا من كون أساسها المنفعة، أو العقل، وما يحققه هذا العقل من نتائج تتعلق بأسس هذه الحقوق، فهو يرى أن العقد الاجتماعي كأساس للحقوق، لم يكن عقدا اجتماعيّاً يوقعه الناس فيما بينهم، بقدر ما هو (اتفاق افتراضي) يريده الناس (العقلاء) الذين عرفوا بأنهم ذاهبين بالضرورة للعيش تحت ظل حكومة، غير أنهم لم يعرفوا إلى أين تقودهم مواقفهم الفرديّة، ففي هذه الحياة الحقيقيّة، كل واحد منا يعرف بأنه  يحوز على ممتلكات، ومسؤوليات قانونيّة تتضمن في سياقها العام، الذكاء، القوة، الصحة، الدخل الوافر، وعلاقات أسرية .. الخ،  وبهذه المعرفة كل واحد منا أيضاً،  يفضل هنا الميل بالضرورة نحو المؤسسات التي تحقق له منافعه الخاصة  حتى ولو كانت بعيدة عن الحكومة وسلطتها.

***

كاتب وباحث من سوريّة

مصطلح Amor Fati هوعبارة لاتينية تعني حرفيا حب المصير. هذا ببساطة يعني ان كل منْ يمارس حب القدر سوف يحتضن كل ما يقع عليه . الفوز باليانصيب، فقدان وظيفة، بتر ذراع، جميعها يتم مواجهتها بنفس الروح المطمئنة من حب المصير. هذا قد يجلب انتباهنا الى الفلسفة الرواقية القديمة، لأن الفكرة لها صدى عميق في عدد من المبادئ الأساسية للرواقية. فمثلا، الفيلسوف الرواقي ايبكتيتوس يقترح اننا يجب ان نركز فقط على ما نستطيع السيطرة عليه شخصيا. كما يذكر في (فن العيش):

"السعادة والحرية تبدأ بفهم واضح لمبدأ معين: بعض الاشياء تقع ضمن سيطرتنا، بينما اخرى ليست كذلك، لذلك فان الهدوء الداخلي والفاعلية الخارجية تصبح ممكنة فقط بعد ان نتعلم التمييز بين ما نستطيع السيطرة عليه وما لانستطيع". وبدلا من الكفاح ضد أشياء لا سلطة لدينا لتغييرها، يقترح ايبكتيتوس ان نكيّف أنفسنا للقبول بالأشياء كما هي:

"لا تنتظر من الأشياء ان تأتي كما ترغب، بل إرغب ان تأتي الاشياء تماما مثلما تحدث". في تأملاته، الفيلسوف الرواقي ماركوس اورليوس يصف الفرد السعيد والفاضل بعبارات مشابهة:

"هو يحب ويرحب بكل ما يحدث له ومهما جلب له المصير".

نيتشة يناقش ببلاغة حب المصير

اذا كان تعبير حب القدر جرت مناقشته من جانب الرواقيين، فان المصطلح ذاته اكتسب جاذبية بفضل استعماله من جانب الفيلسوف الالماني فردريك نيتشة في القرن التاسع عشر.

في كتابه (العلم المرح، 1882)، يكتب نيتشة: "انا اريد ان أتعلم الكثير والكثير لأرى كشيء جميل ما هو الشيء الضروري في الاشياء، انا سأكون واحدا من اولئك الذين يجعلون الاشياء جميلة. حب القدر: ليكن ذلك حبي من الان فصاعدا، انا لا اريد شن الحروب ضد ما هو قبيح. انا لا اريد ان اُتّهم، ولا اريد ايضا ان اتّهم اولئك الذين يتّهمون. ومع أخذ كل شيء بالحسبان، وبشكل كلي: في يوم ما انا أرغب ان أكون قائل – نعم فقط".

وفي عام 1888 في (Ecco Homo)، يكتب نيتشة:

"صيغتي للعظمة في الكائن البشري هي حب القدر: أي ان المرء لا يريد أي شيء ان يكون مختلفا، لا نحو الامام، ولا نحو الخلف، وليس في كل الأبدية. ليس فقط يتحمل ما هو ضروري، وانما يحبه".

كيف يُفترض بنا ان نتقبّل الأحداث المروعة؟

احد الردود المباشرة الذي قد نبديه حول حب القدر هي التساؤل كيف يمكن تطبيق الفكرة بوجه الأحداث الفضيعة. بالتأكيد، نستطيع القول "نعم" للعالم عندما يقول العالم "نعم" لنا – لكن ماذا عن الناس الذين يعيشون مع ألم مستمر، او الذين عالقون في منطقة حرب؟ هل يُفترض انهم "يحبون" مصيرهم؟، من المهم ملاحظة انه لا الرواقيين ولا نيتشة تعاملوا باستخفاف مع نتائج حب القدر . هذه ليست فكرة انبثقت من الترف، في الحقيقة، هي فكرة صُممت جيدا للتأقلم مع الظروف الشاقة. الرواقيون الرومانيون الكبار – سينيكا وايبكتاتوس وماركوس اورليوس لم يعيشوا حياة سهلة:

1- سينيكا (4.ق.م – 65م) كان مستشارا لدى الامبراطور الروماني نيرون، وفي النهاية اُجبر على الانتحار.

2- ايبكتيكوس (50 – 135 م) كان عبدا استعاد حريته.

3- ماركوس اورليوس (121 – 180 م) كان امبراطورا لروما في وقت شهد كوارثا مستمرة من حروب وأوبئة، ومعظم اطفاله ماتوا قبل وفاته.

نيتشه، عانى معاناة هائلة طوال حياته – ألم مزمن، رفض، شعور بالوحدة وعزلة كانت السمة المميزة لوجوده اليومي. كون هؤلاء الفلاسفة عاشوا أثناء الحروب والاستعباد والآلام المزمنة وموت المحبين، ومع ذلك يدافعون عن حب القدر انما هو دليل على إيمانهم بقوة الفكرة. لكن لكي نفهم حقا لماذا ينصح الرواقيون ونيتشة بحب القدر، يجب اولاً ان ننظر في سياق أنظمتهم الفلسفية الواسعة. وحالما نقوم بذلك، سوف نرى لماذا كانت تصوراتهم للفكرة مختلفة حقا.

ما الفرق بين تصورات الرواقيين ونيتشة لحب القدر؟

بينما قد يبدو هناك شبه بين الرواقيين ونيتشة حول حب القدر، لكن اتفاقهما هو سطحي لأنهم يفسرون جزءا هاما من مسألة المصير بطرق متضادة. بالنسبة للرواقيين، الكون منظّم عقليا طبقا لرعاية الآلهة. عندما نحتضن المصير وفق هذه العبارات، نحن نحتضن شيئا ما هادف ومنظّم عقلانيا – شيء يتجاوزنا، شيء أكثر حكمة، شيء إلهي. لهذا، هناك مستوى من التفاؤل يمكن العثور عليه في احتضان الرواقيين للقدر، في النهاية، نحن في أيدي طبيعة منظمة عقلانيا، ويجب ان نتفق بأحكامنا حول ما يحدث لنا طبقا لذلك.

تصوّر نيتشة للكون، يعود في الأصل لصورة هيرقليطس عن التدفق الأبدي الفوضوي: الكون ليس عقلانيا او هادفا، انه غير منظم وبلا هدف. لا وجود هناك لغائية عظمى يمكنها ان تريحنا، هناك فقط تدفق مضطرب ولا نهائي للوجود. احتضان المصير وفق هذه العبارات هو افتراض مختلف كليا. بالنسبة لنيتشة، حب القدر يعني إعتراف باللاهدفية الفوضوية للوجود. ومع ذلك يؤمن بها بقوة ومهما كان. وبهذا يرفض نيتشة الغائية المتفائلة للرواقيين، وبعمله هذا يجعل فكرة حب القدر ذات تحدّي كبير. نحن لا نضع انفسنا في خط واحد ضمن هدف رواقي كبير"خطة الله"، او عبارات فخمة لا معنى لها مثل "كل شيء يحدث لسبب". بدلا من ذلك، يسألنا نيتشة للإعتراف بان كل شيء يحدث بلا سبب، وان الكون ليس له هدف – ولكي نحب حياتنا لا فرق في ذلك.

كيف يستجيب الرواقيون ونيتشة للمعاناة؟

ان الفرق بين تصور الرواقيين ونيتشة لحب القدر يأتي عندما ننظر في الكيفية التي نظر بها كل طرف للتوفيق بين "حب القدر" و ما يسببه لنا حدث هام من ألم كبير، مثل موت مفاجئ لحبيب. الرواقيون،مثلا، يذكّروننا بان المعاناة الذهنية التي نشعر بها هي نتيجة لحكمنا على موقف معين، وليس للموقف ذاته: انه زيفنا، ايماننا اللاعقلاني حول الحدث، وليس الحدث ذاته، هو الذي يؤلمنا. وبهذا فان إراحة أنفسنا من المعاناة تعني تصحيح إيماننا الزائف، تطهير أنفسنا من العواطف اللاعقلانية، ورؤية موقفنا بوضوح وعقلانية. في سياق الموت، هذا يعني الإعتراف بأننا دائما جزء من الطبيعة العقلانية المنظّمة للرواقيين، وان الموت لا مفر منه. الوجود، حسب ايبكتيكوس، هو هدية مؤقتة. وفي معالجته المباشرة للكون يعلن ايبيكتاتوس:

"الآن انتم تريدونني ان أتخلى عن الصدق، لذا انا أذهب، لا أشعر بشيء الاّ الإمتنان لكوني سُمح لي للمشاركة معكم في الإحتفال". الحياة هي حدث، ومثل كل الاحداث انها يجب ان تصل الى النهاية. الزمن الذي اُعطي لكل واحد منا، هو هدية من الكون الذي يجب ان نعود له نحن ومنْ نحب:

"تحت أي ظرف لا يجب القول "انا خسرت شيئا"، فقط نقول "انا أعدته". هل طفلك يموت؟ كلا، انه اعيد. زوجتك ماتت؟ كلا انها اُعيدت ... انت أحمق حين تريد ان يكون أطفالك وزوجتك وأصدقائك خالدين، ذلك يستدعي قوة تتجاوزك، وهدايا ليست لك لتمتلكها او تعطيها". بالطبع، تبنّي هكذا موقف هو أسهل في القول من العمل، ويأخذ عدة سنوات من التفكير الرواقي لتجسيد مثل هذه السيطرة العقلانية على أحكامنا. لكن بالنهاية، الاتجاه الرواقي للمعاناة يتّبع هذا الطريق: نحن يجب ان نعيد صياغة أحكامنا بطريقة رشيدة حتى تتم إذابة المعاناة "اللارشيدة". حب القدر بالنسبة للرواقيين يعني الإذعان وإخضاع أحكامنا للنظام العقلاني للطبيعة.

نيتشة: المعاناة تلعب دورا لا غنى عنه

بالمقابل، نيتشة يرفض الغائية المتفائلة للرواقيين. في سلسلة مبكرة من المحاضرات له ألقاها عندما كان شابا حول ما قبل الفلاسفة الافلاطونيين، يناقش نيتشة كيف تطورت الرؤية الرواقية عن الكون والتي اقترحها هيرقليطس، مؤكدا بعبارات مضادة:

"الرواقية أعادت تفسير هيرقليطس على مستوى ضحل، أحطّت من مكانة فهمه الجمالي للكون لتشير الى إعتبارات مبتذلة لغايات مفيدة للعالم، خاصة تلك الغايات المفيدة للعرق الانساني. فيزياء هيرقليطس اصبحت بأيديهم تشكل تفاؤلا ساذجا". في عمله عام 1886 (وراء الخير والشر)، يوسّع نيتشه نقده هذا مدّعيا اذا كان الرواقيون يدّعون ان فلسفتهم "تتبع من الطبيعة"، فهم بذلك صبغوا الطبيعة بغائية متفائلة. وفي مقطع هام يكتب نيتشة:

"لذا انتم تريدون العيش طبقا للطبيعة؟ حسنا ايها الرواقيون النبلاء ، كم هو الاحتيال في هذا الكلام، تصوّروا شيئا كالطبيعة، متحرر بلا معيار، لافرق لديه، بلا هدف، او إعتبار، بلا رحمة او عدالة او بلا خصب او جفاف، لا يقين في نفس الوقت، يؤمن ان اللااختلاف قوة – كيف تستطيع ان تعيش طبقا لعدم الاختلاف هذا؟  أليس العيش هو الرغبة خصيصا لتكون شيئا غير هذه الطبيعة؟ أليس العيش هو تقييم وتفضيل وان تكون غير منصف ومقيّد وتريد ان تكون مختلفا؟ ولو افترضنا ان اهتمامك الاساسي "في العيش طبقا للطبيعة" يرقى الى "العيش طبقا للحياة" – كيف لا تستطيع ذلك؟ لماذا تعمل مبدأ خارج مما انت فيه ويجب ان تكون عليه؟ - ولكن في الحقيقة، هناك شيء ما يجري مختلف جدا : بينما تتظاهرون بفخر في قراءة قوانينكم وفق الطبيعة، انتم تريدون المضاد، فخركم يريد فرض أخلاقكم ومُثلكم على الطبيعة، انتم تدّعون ذلك طبيعي طبقا للرواقية وانتم تريدون جعل كل الوجود موجود في صورتكم وحدها  وكتمجيد أبدي وتعميم للرواقية لأجل حبكم للحقيقة، انتم أجبرتم أنفسكم طويلا، وباصرار وقساوة لتكون لكم رؤية زائفة للطبيعة، لدرجة لم تعودوا ترون أي طريقة اخرى، وان بعض الغطرسة السيئة بالنهاية تعطيكم أملا جنونيا لأنكم تعرفون كيف تستبدون بأنفسكم – الرواقية مستبدة بذاتها، الطبيعة تدع ذاتها لتكون مستبدة ايضا". بكلمة اخرى، بينما الرواقيون يدّعون العيش وفق الطبيعة، فان كل ما يدّعونه هو انهم يرغبون ان يكون الكون بطريقة معينة وان يعيشوا كما لو انها حقا هذه الطريقة. الرواقيون لم يشتقوا فلسفتهم من الطبيعة، هم صبغوا الطبيعة بفلسفتهم. هم يفترضون ان الطبيعة منظمة عقلانيا، ويدّعون اننا يجب "ان نسير جنبا الى جنب مع الطبيعة" عبر تطهير أنفسنا من جميع اللاعقلانية.

هذه ليست فقط عقيدة غير مبررة في نظام الكون، كما يرى نيتشة ، وانما ان رؤية الرواقيين ايضا تذهب سريعا في نبذ المعاناة . في مذكراته يكتب: "الرواقية تقلل من قيمة الألم، قيمة الإثارة والعاطفة". وبينما يسعى الرواقيون لتطهيرنا من الألم "اللاعقلاني"، يعتقد نيتشة اننا حالما ننزع الغائية المتفائلة للرواقية بعيدا، فان المعاناة يمكن النظر اليها كاستجابة أصلية ومفهومة للحياة في عالم بلا نظام او هدف. الطريقة التي يريدها نيتشة لنا هي ان نوفق بين الألم و حب القدر ليس بالنظر الى المعاناة كغلطة يمكن تصحيحها، وانما عبر الإعتراف بانها تلعب دورا ضروريا لا غنى عنه في حياة تامة وممتلئة.

في الحقيقة، لا يمكن ان تكون هناك عظمة بدون معاناة. في كتابه (العلم المرح) يكتب نيتشة: "إفحصوا حياة أفضل الناس واكثرها ثمارا واسألوا انفسكم ما اذا كانت الشجرة التي يُفترض ان تنموا لعلو مرموق يمكن ان تتخلص كليا من الطقس السيء والعواصف، وما اذا كان سوء الحظ والمقاومة الخارجية ، وبعض انواع الكراهية والحسد والعناد وعدم الثقة والصعوبات والجشع والعنف لا تنتمي الى الظروف المواتية التي بدونها يصعب تحقيق أي تقدم عظيم او فضيلة ".

وهو يتأمل في الدور الذي لعبته المعاناة في حياته، يكتب نيتشة  في (نيتشة ضد فاغنر) "بقدر ما يتعلق الامر بمرضي، انا مدين له اكثر من صحتي وبشكل لا يوصف؟ انا مدين له بفلسفتي ايضا".

اذا كانت هناك اشياء في حياتنا نريد تقييمها، فان نيتشة يريدنا ان ندرك اننا لا نستطيع تقييم تلك الاشياء بدون تقييم كل شيء أدّى لها. في مذكراته، هو يكتب: "إفترض اننا قلنا نعم للحظة معينة، نحن لم نقل فقط نعم لأنفسنا وانما لكل الوجود. لأن لا شيء يقف وحيدا، لا في أنفسنا ولا في الأشياء، واذا حصل ذلك لروحنا فهي حالما تهتز مع وتر السعادة، فان كل الأبدية تكون ضرورية لتؤدي لهذا الحدوث – وفي هذه اللحظة المنفردة عندما قلنا نعم، تكون كل الأبدية جرى احتضانها واستردادها وتبريرها".

حب القدر بالنسبة لنيتشة يعني إعتراف بالترابط الكلي. السعادة لا توجد في عزلة، العظمة لا تحدث بدون معاناة. اذا كان علينا تأكيد الحياة، يجب ان نؤكد كل ما فيها بدون إخفاء للعيوب. في العلم المرح، هو يكتب " فقط الألم العظيم هو المحرر النهائي للروح .. انا أرى ان هذا الألم يجعلنا "افضل"، لكني أعرف انه يجعلنا أكثر عمقا".

مع انها ليست ممتعة، المعاناة تملأنا بنوع من الحكمة المأساوية. ربما يكون المقياس الواقعي للفرد حسب نيتشة هو مقدار الحقيقة التي يستطيع بها الصمود. وكما يذكر في (Ecce Homo): " صيغتي للعظمة في الكائن البشري هي حب القدر: أي ان لا أحد يريد شيئا مختلفا، لا الى الامام ولا الى الخلف، ولا في كل الأبدية. هي ليست فقط تحمّل ما هو ضروري، وانما حبّه".

نيتشة يطور هذه الافكار الى مدى أبعد في عقيدته بالعود الأبدي، التي يتحدّانا بها لنعيش بطريقة نرغب فيها ان نعيش نفس الحياة مرة بعد اخرى. كل حسرة، بهجة، كل يوم طويل من الضجر، في سلسلة متعاقبة مرة بعد مرة. فقط عندما نستطيع القول "نعم" الى العود الابدي نستطيع حقا نواجه التحدي المنبثق من حب نيتشة لقدره.

لمنْ الصدى الأكبر بشأن حب القدر؟

الرواقيون يدعوننا لتطبيق حب القدر لأننا بالنهاية تحت رحمة عقلانية الطبيعة المنظمة. نحن يجب ان نمارس الفضيلة في كل ما يكمن ضمن سيطرتنا، ونطهّر أنفسنا من المشاعر اللاعقلانية حول كل ما يقع خارج سيطرتنا،  في هذا نمتثل للنظام العقلاني الغائي للطبيعة. بالنسبة الى نيتشة يرفض الرواقية التيليلوجية المتفائلة. وفق رأيه نحن يجب ان نخضع أنفسنا للضرورة ليس عبر ملئها بالمعنى والهدف، وانما عبر مواجهتها كما هي بدون افتراضات مسبقة غير مبررة.

وهكذا ينصحنا نيتشة لممارسة حب القدر لأن هذه الممارسة، في مواجهة كون عبثي فوضوي بلا إله، تصبح هي الاستجابة الملائمة الوحيدة للعدمية: فقط عبر تأكيد قصة حياتنا نستطيع تحمّل الوجود. العبء يقع علينا، لا يمكننا الاستعانة بمصدر خارجي تيليلوجي – الحياة يمكن تبريرها وتستحق العيش فقط اذا كنا نعتقد بانها كذلك.

بينما الرواقيون يخلقون نظاما غائيا يجب الخضوع له ، نيتشة يبحث عن حب القدر بدون اللجوء الى هدف موجود سلفا او الانسحاب من العالم.

***

حاتم حميد محسن

المواطنة في سياقها العام برأيي مفهوم يحمل دلالاته الاجتماعيّة قبل أن يحمل دلالاته السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، ففي دلالاته الاجتماعيّة، هو دعوة إلى الانتقال بالإنسان من حالة ضياعه وغربته واستلابه في مجتمع أو دولة التخلف والتفاوت والتمايز الطبقي والعرقي والديني بكل أشكاله وتجلياته، إلى مجتمع أو دولة التقدم والحريّة والعدالة والمساوة وحق الاختلاف والمشاركة في بنية الدولة والجمتع. وعند تحقيق هذه الدعوة على أرض الواقع، فهذا يعني نقل الإنسان من حالة (الرعيّة) إلى حالة (المواطنة)، أي إلى الحالة التي ستؤدي في المحصلة إلى فسح المجال واسعاً أمام الجميع لتحقيق العدالة في الحياة الاقتصاديّة والرفاه والتعليم، وكذلك المساواة أمام القانون، وحق الانتخاب والترشيح والوصول إلى مناصب الدولة والمشاركة في القرار السياسي وبناء الحياة السياسيّة للبلد، مثلما يعني أيضا، تحقيق المساواة بين الجنسين (الذكر والأنثى)، والحد من سلطة المجتمع الذكوري، إضافة إلى تحقيق عدالة إنتاج واستهلاك الثقافة والمعرفة للجميع. هذا ونحب أن نؤكد هنا على مسألة في غاية الأهميّة من الناحية المعرفيّة والإنسانيّة معاً، وهي، أن تحقيق حالة المواطنة، أي تخليص الإنسان من حالات اغترابه وضياعه واستلابه، لا تنال من وقع عليه فعل الاغتراب والاستلاب والضياع فحسب، بل تنال أيضاً من فرض حالات الاغتراب والاستلاب والقهر على الآخرين بفعل امتلاكه سلطة القهر والاستبداد في حال اقتناعه بضرورة التنازل عن هذه السلطة. وفي حال تحقق مثل هذه الصيغة من المواطنة، نكون في الحقيقة قد وصلنا إلى مجتمع الدول المدنيّة، وهو المجتمع الذي لم يتحقق بعد رغم كل التحولات التاريخيّة التي مرت بها المجتمعات البشريّة، والنظريات التي طرحت لتحقيق هذا المجتمع.

أمام هذه المعطيات النظريّة المتعلقة بمفهوم المواطنة، هناك مجموعة من الأسئلة المشروعة تطرح نفسها علينا وهي : هل الدعوة إلى مجتمع (المواطنة) -مجتمع الدولة المدينّة - هي دعوة مشروعة أو عقلانيّة في وقتنا الراهن؟. هل شعارات المواطنة التي جئنا عليها أعلاه، أو ما نستطيع تسميته مضامين المواطنة، هي شعارات أو مضامين تتحقق بالإرادة الطبية؟، أم هي فعل مقاومة مفتوح في كل دلالاته؟. وهل مهام المقاومة وأساليب تحقيقها إرادويّة، أم هي مهام تتطلب فعل مقاومة، يضعها الإنسان المقاوم وفقاً لظروفه الموضوعيّة والذاتيّة التي تتحكم بحركته ونشاطه والمهام التي يضعها لنفسه؟. أي هل مهام المقاومة توضع وفقاً لتصورات ذاتيّة، أم هي مهام تحدد طبيعتها ودرجتها ونوعها وأساليب تحقيقها معطيات الواقع الماديّة والفكريّة؟، وذلك انطلاقا من مقولة (أن الناس يضعون لأنفسهم المهام التي يستطيعون إنجازها فقط، أو التي ساعدت الظروف على تحقيق إنجازها).

إن الإجابة عن هذه الأسئلة المشروعة باعتقادي ستحدد لنا النتيجة التي نرمي إليها من طرحنا لموضوعة المواطنة. لذلك هذا ما يدفعنا للقول: إن أي دارس لطبيعة تكوّن وتطور المجتمعات البشريّة سيجد أن التطور الذي يصيب المجتمعات تتحكم به جملة من الظروف الموضوعيّة والذاتيّة، وهذه الظروف لا تفرخ بشكل مجرد، بل هي نتاج الواقع ذاته وآليّة عمله، دون أن نغفل مسألة أساسيّة في هذا الاتجاه وهي أن الظروف الذاتية، وبخاصة الحوامل الاجتماعيّة، هي في طبيعتها حريّة وضرورة معاً، وبالتالي فإن الحامل الاجتماعي محكوم بضرورة الواقع أولاً، ثم بالضرورة الكامنة فيه هو ذاته أيضاً، من حيث مهاراته وقابلياته واستعداداته النفسية والفسيولوجية، ودرجة وعيه لذاته وللآخرين ودرجة وطبيعة ثقافته، وللمهام المناطة به  .. الخ.

إذن، ما هو مطروح للتغير في هذا الواقع محكوم بالضرورة بمعطيات الواقع، وأن كل الشعارات والمهام التي تُطرح من أجل تغيير الواقع غالباً ما تعمل على إنتاجها وتحديد مسارها وأساليب عملها الظروف التاريخيّة المعيشة. وهذا يذكرني بمقولة عقلانيّة للمفكر النهضوي "رئيف الخوري" يتكلم فيها عن أفكار مفكري الثورة البرجوازيّة في فرنسا التي أدت إلى كومونة باريس حيث يقول بما معناه: لم تكن أفكار فولتير مونتسكيو وروسو وهلفسيوس وغيرهم، هي التي حركت الثورة البرجوازيّة، بل كانت أفكار هؤلاء هي نتاج لهذه الثورة. ولكن هذا القول لا يحجب الحقيقة التي تقول إن أفكار هؤلاء استطاعت فيما بعد أن تلعب دوراً هاماً في التأثير على تفكير النخب المثقفة لشعوب العالم وما لعبته هذه النخب من تأثير على حياة شعوبها، ومنها الشعب العربي منذ الربع الأول للقرن التاسع عشر مع الطهطاوي، وخير الدين التونسي وإبراهيم اليازجي، وبطرس البستاني، وفرح أنطون، ومحمد عبده، والكواكبي، والأفغاني، وأديب اسحق وغيرهم الكثير.

على العموم نستطيع القول: إن مسألة طرح مشروع المواطنة هي مسألة نسبية في تطبيقاتها أولاً، وهي تدخل في نطاق التغيرات الكبيرة التي تصيب حياة الشعوب ثانياً، وهي تأتي ثالثاً، في مرحلة لاحقة لسيادة المجتمع المدني، وتحقق الدولة البرجوازيّة، لذلك نجد أن الإرهاصات الأوليّة لدولة المواطنة، (الدولة المدنيّة)، راحت تطرح نفسها مع بدء تشكل الطبقة الرأسماليّة، التي أخذت تطمح إلى السلطة أو المشاركة فيها، وإلى التخفيف من حدّة السلطة الاستبداديّة لدولة الملك والكنيسة والنبلاء. وهذا ما عبر عنه مفكرو الطبقة البرجوازية والمدافعون عن مصالحها آنذاك أمثال، توماس هوبس (1588- 1679) الذي راح يدعو إلى إقامة دولة المواطنة (الدولة المدنيّة) بما يتفق وطبيعة المرحلة التاريخيّة المعيشة آنذاك، ووفقاً لقوة سلطة الدولة ما قبل الرأسماليّة، مؤكداً على دور السلطة (الملكيّة) المطلقة التي يجب أن تكون بيد الدولة التي لا حدود لسلطتها، كونها المسؤولة عن  حقوق الأفراد ورعاية مصالحهم والدفاع عنها، والأفراد في مثل هذه الدولة كلهم رعايا في خدمة القانون المدني. يقول هوبس: ( إن السلطان الحاكم غير مقيد بشيء، وهو الذي يضع القوانين ويعدلها حسب مشيئته) .

أما جون لوك (1632 – 1704) الذي جاء بعد "هوبس" بمسيرة نصف قرن تقريباً من التحولات باتجاه النظام الرأسمالي، فقد كان أكثر جرأة من هوبس، بل وعلى النقيض منه في حدّة وعمق أطروحاته تجاه دولة المواطنة، فدولة المواطنة، أو (الدولة المدنيّة) عنده تقوم على الحريّة لا على الطاعة العمياء لسلطة الدولة، وهو يرى انه بموجب العقد الاجتماعي بين الأفراد والدولة يتم احترام سلطة الدولة والقانون طالما أن الدولة تقوم بإشباع حقوق الأفراد وتنفيذ العدالة واستقرار وأمان المجتمع، وفي حال فقدان الدولة القدرة على تأمين هذه الحقوق، فمن حق الأفراد الدفاع عن حقوقهم. أما السلطة عند لوك فتنبع من البرلمان وليس من الملك، هذا وقد دافع لوك عن الحرية الفرديّة والتربية والتسامح والملكيّة الخاصة التي لاتتعارض مع سلطة الدولة.

أما جان جاك روسو، (1712- 1778 )، الذي جاء أيضاً بعد "لوك" بمسيرة  نصف قرن آخر من التحولات ذاتها، نراه يقدم مشروعاً لدولة المواطنة (المدنيّة) يقوم على أساس الإرادة الشعبيّة العامة، مبيناً في ذلك، أن العقد الاجتماعي هو العقد الذي يكون بين طرفين وليس من حق  طرف واحد أن يملي شروطه كما يريد على الآخر، ومن هنا يتحد الفرد عند روسو بالمجموع وبإرادته، مكوناً مع الكل إرادة جمعيّة لتحقيق المصالح المشتركة.

هذا دون أن نغفل الكثير من النظريات الأخرى التي طرحت مع قيام النظام البرجوازي في أوربة، وكانت تدعوا إلى دولة المواطنة لتحقق المساواة والعدالة والحرية الفرديّة وحق التملك والاختلاف بين الموطنين، ويأتي في مقدمتها النظرية الليبراليّة الكلاسيكيّة التي قامت على تحطيم أسس الدولة الاستبداديّة بكل سلطاتها التقليديّة القائمة على الملك والنبلاء ورجال الدين، والدعوة لمشروع الدولة الديمقراطيّة الدستوريّة القائمة على البرلمانات المنتخبة من الشعب، ولكن دون النظر إلى البنية الطبقيّة لهذه المجتمعات والدور الذي يلعبه الصراع الطبقي في تحديد معالم المجالس النيابيّة لهذه المجتمعات وطبيعية القوانين والتشريعات التي ستسنها أو تشرع لها. وهذه المسألة بالذات - أي مسألة النظر إلى طبيعة الصراع الطبقي داخل المجتمع -  جاءت النظريّة الماركسيّة فيما بعد لتأسس عليها نظريّة الدولة المدنيّة (المواطنة) التي تقول بأن مزيداً من الاشتراكية يعني مزيداً من الديمقراطية والعكس صحيح.

مع انتشار أفكار الحريّة والعدالة والمساواة بين شعوب العالم، ومع ما تم من تحولات تاريخيّة هامة في حياة الشعوب، راح ينعكس بالضرورة على طبيعة عمل الدولة ذاتها، التي راحت وبخاصة في دول العالم الثالث، تأخذ في حساباتها طبيعة أفكار المواطنة وأهميتها بالنسبة لمستقبل الطبقة الحاكمة لهذه الدولة نفسها. وبغض النظر عن طبيعة نظام الحكم القائم برأيي، وشكل الدولة ذاتها، وطبيعة حاملها الاجتماعي، فإن قيم المواطنة أصبحت من المهام الأساسيّة التي تفرض نفسها على السياسات الداخليّة لحكومات هذه الدول، لاسيما بعد التحولات التي تمت في مضمار النظام العالمي الجديد، حيث فرضت هذه التحولات وعياً لدى المواطن بمواطنتيه أولاً، والسعي لتحقيق هذه المواطنة عبر وسائل عدة، يأتي في مقدمتها تشكل الكثير من الأحزاب السياسيّة، ومنظمات المجتمع المدني وغيرها. مثلما فرضت على الدولة ذاتها أن تقدم تنازلات تجاه فكرة المواطنة من الناحية العمليّة وبخاصة على المستوى الدستوري.

إن قيم الموطنة، أصبح من الواجب على الدولة أولا، ومن ثم على مؤسسات المجتمع المدني، والأحزاب السياسيّة ثانياً، ترسيخها عمليّاً وفكريّاً لدى الفرد والمجتمع، ويأتي في مقدمتها: الوعي بمهام الدستور، وبالحقوق السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة الطبيعيّة منها والمكتسبة للفرد والمجتمع، وبمهام الفرد، ومدى الحريات الممنوحة وأنواعها، وبكيفيّة تشكيل القرارات السياسيّة، وكيفية تنفيذها، وبنمط الحكم السائد، وبنظم الحكم العالميّة، وبشروط التمثيل النيابي، وبكيفيّة المشاركة في الانتخابات، وتشكل المجالس المحليّة والنيابيّة، وغيرها من قضايا المواطنة التي تساهم في رفع سويّة المواطنة ذاتها، وتخليص الفرد والمجتمع والدولة على السواء من عقليّة وثقافة الراعي والرعيّة، وكل ما يعيق تحقيق دولة القانون، هذه الدولة التي إذا ما حققت مشروع المواطنة لأبنائها، ستشكل هذه المواطنة الرافعة العمليّة والفكريّة لاستمرار الدولة وقوتها من جهة، والرفع من القيمة الإنسانيّة لشعبها ومكانته بين شعوب العالم من جهة ثانية.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

........................

ملاحظة: إن م يتعلق بفكر "توماس هوبس" و"وجون لوك" و"جان جاك روسو" و "ماركس والماركسية).حول قيام الدولة المدنية أو دولة المواطنة. يراجع كتاب " (تاريخ الأفكار السياسيّة) لجان توشار – جزآن – ترجمة ناجي دراوشة – منشورات وزارة الثقافة السوريّة – دمشق – 1984.

 

مقال من تأليف: كيتلين كريسي

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

إن سمعة فريدريك نيتشه المعروفة باعتباره محرضًا فلسفيًا ترجع جزئيًا إلى التزامه بتحرير قرائه من مجموعة متنوعة من المعتقدات: معتقداتهم في الهدف الأسمى في الحياة الآخرة، والمعرفة النزيهة، والقيمة المطلقة لـ "الفضائل". مثل الرحمة وغيرها. ولكنه لا يرفض هذه المعتقدات لمجرد أنه يعتقد أنها كاذبة (وهو يفعل ذلك)، أو لأنه يأمل في تعطيل نظام الاعتقاد السائد في أوروبا في القرن التاسع عشر (وهو يفعل ذلك أيضا). إنه يرفض هذه المعتقدات لأنه يعتقد أنها تشكل خطراً واضحاً وقائماً على قرائه. مثل هذه المعتقدات لا تنكر الحياة وتقلل من قيمة الوجود الإنساني فحسب، بل إنها تعرض صحتنا النفسية للخطر أيضًا. لكى نفهم سبب اعتقاده ذلك يتطلب منا أن نفهم تشخيصه لهذه المعتقدات على أنها عدمية.

تُستخدم "العدمية" اليوم للإشارة إلى مجموعة واسعة من المواقف. غالبًا ما يتم تصنيف العدميين على أنهم أولئك الذين لديهم معتقدات معينة حول غرض الحياة أو أهميتها: فهم يعتقدون أنه لا يوجد هدف أو "هدف" للحياة، أو أنه لا يوجد شيء مهم. وبدلاً من ذلك، يمكن تمييز العدميين عن غير العدميين من خلال افتقارهم المزعوم إلى أي إيمان على الإطلاق: كما يمثلهم الأخوان كوين في فيلمهما The Big Lebowski (1998)، قد “لا يؤمن العدميون بأي شيء”. وفي أحيان أخرى، توصف العدمية بأنها تنطوي على غياب الالتزام بالقيم الأخلاقية، مثل شخصية أنطون تشيجور في رواية كورماك مكارثي "لا يوجد بلد لكبار السن من الرجال" (2005) الذي يرفض كل مفاهيم الصواب والخطأ. ووفقا لهذه المفاهيم الشعبية، فإن العدمية تنطوي على التنصل من المعتقدات والقيم المختلفة. إنها ظاهرة معرفية تنطوي على مواقف مجردة وفكرية عالية.

ومع ذلك، وفقا لنيتشه، فإن هذه المواقف الفكرية لا تعتبر في حد ذاتها مظاهر للعدمية. وكما تم تقديمه حتى الآن، هناك عنصر أساسي مفقود. ومن وجهة نظر نيتشه، فإن المعتقدات القائلة بأنه لا يوجد أي معنى للحياة أو أنه لا توجد قيم أخلاقية تصبح عدمية فقط عندما يجد الفرد الذي يحمل مثل هذه المعتقدات فيها سببًا لرفض الحياة والوجود ككل، أو للتنصل من الحياة نفسها أو فك الارتباط بها. . العدمية تنطوي على رفض أساسي للحياة نفسها. إنه إنكار الحياة، إنكار الحياة.

ما معنى إنكار الحياة أو إنكارها؟ لتجسيد أحد معاني إنكار الحياة العدمية، دعونا نأخذ الاعتقاد المذكور أعلاه بأنه لا يوجد هدف شامل لهذه الحياة وهذا العالم. من وجهة نظر نيتشه، من الممكن تمامًا الاعتقاد بلا هدف للحياة ككل دون اتخاذ هذا الاعتقاد سببًا لتقييم الحياة بشكل سلبي. (في الواقع، نيتشه نفسه يحمل هذا الاعتقاد ويقيم الحياة بشكل إيجابي؛ فهو يعتقد أنه حتى بدون هدف شامل يشارك فيه جميع البشر، فإن الحياة تستحق العيش!) ولكن إذا اعتقد الفرد أن الحياة لا تستحق العناء إلا إذا كان هناك هدف أسمى لها، ثم وصل إلى الاعتقاد بأنه لا يوجد مثل هذا الهدف، فإن هذا الاعتقاد الأخير سيكون بمثابة سبب لاكتشاف أن الحياة لا تستحق العيش. في هذه الحالة، بما أن اعتقاد الفرد بعدم وجود هدف في الحياة يؤدي إلى تقييم سلبي للحياة نفسها -وبالتالي بمثابة سبب لإنكار الحياة- فإن نيتشه سيصنف هذا الاعتقاد على أنه عدمي. بهذا المعنى الأول، يتضمن إنكار الحياة العدمية أحكامًا سلبية على الحياة والوجود: أن الوجود لا يستحق العناء، أو أن الحياة لا تستحق العيش، أو أنه من الأفضل عدم الوجود.

إن فهم العدمية باعتبارها إنكارًا للحياة بالمعنى الأول يسمح لنا بالتعرف على واحدة من أبرز أفكار نيتشه: إذا كان إنكار الحياة يتضمن حكمًا سلبيًا على هذه الحياة والعالم كما هما في الواقع، ومن ثم، فحتى المعتقدات والقيم التي نفهمها عادةً على أنها تمنح معنى وقيمة للحياة يمكن أن تعد عدمية بشكل خفي . دعونا نعود إلى الفرد الذي يعتقد أن الحياة لا تستحق العيش إلا إذا كان هناك هدف أسمى لها، يشارك فيه جميع البشر. بالنسبة لمثل هذا الفرد، ليس من العدمية فقط أن تنكر إيمانها بالهدف الأسمى؛ ومن العدمية أيضًا أن تؤمن بهدف أعلى. بعد كل شيء، يجادل نيتشه، إذا كنا نعتقد أن الحياة تستحق العيش فقط إذا كان هناك هدف أسمى نشارك فيه - واتضح أنه لا يوجد هدف أسمى نشارك فيه (وهو أمر يصر نيتشه على أنه يجب علينا قبوله) - إذن إن إيمان المرء بهدف أعلى هو إنكار للحياة لأنه يقلل ضمنيًا من قيمة الحياة كما هي في الواقع (أي أنها خالية من الأهداف العليا) بمعنى آخر، نظرًا لعدم وجود هدف أسمى، فإن الإيمان بهدف أعلى مثل ذلك المطلوب لجعل الحياة تستحق العيش يقلل من قيمة الحياة سرًا: إنه يشير إلى أن الحياة، كما هي في الواقع، لا تستحق العيش.

حتى الآن، تم تقديم العدمية كظاهرة معرفية تنطوي على حالات اعتقادية مختلفة وغياب التزامات قيمة معينة. ومن أجل فهم المعنى الثاني لإنكار العدمية للحياة في فكر نيتشه ــ وبالتالي، لفهم لماذا يقدم نيتشه العدمية باعتبارها مشكلة رهيبة ــ يتعين علينا أن ننظر إلى تحليله للعدمية باعتبارها ظاهرة نفسية. أي اعتقاد أو حكم يتضمن تقييمًا سلبيًا للوجود ككل - سواء كان علنيًا أو خفيًا - سوف يصنفه نيتشه على أنه منكر للحياة، وبالتالي عدمي. لكنه يعتقد أيضًا أن مثل هذه المعتقدات والأحكام تنكر الحياة بمعنى أعمق بكثير: فهي إما تنشئء أو تثير أشكالًا مختلفة من إنكار الحياة النفسي.

أولاً، من وجهة نظر نيتشه، تميل المعتقدات والأحكام المنكرة للحياة إلى أن تنشأ في أفراد مغتربين عن الحياة والوجود أو كارهين لها. هذا هو ما ينوي التقاطه عندما يصر في "شفق الأصنام" (1889) على أن نفس الحكم على الحياة الذي وصل إليه "الحكماء الأكثر حكمة في كل العصور" - "أنها لا قيمة لها" - ينشأ من "تعب" هؤلاء الأفراد. مع الحياة" و"العداء للحياة". إن الحكم على أن الحياة، كما هي في الواقع، لا تستحق العيش هو أحد أعراض السأم الخطير من الحياة، وعدم القدرة على التعامل بفعالية مع عالم المرء، والنمو في شكل حياته، والازدهار. وهذا ينطبق بغض النظر عما إذا كان هذا الحكم خفيًا (على سبيل المثال، إذا كان الشخص يؤمن بهدف أعلى، ويتخذ ذلك سببًا لتأكيد الحياة) أو علنيًا (على سبيل المثال، إذا كان ينكر هدفًا أعلى، ويتخذ ذلك سببًا). سبب لرفض الحياة).

في الواقع، يعتقد نيتشه أن تبني معتقدات تنكر الحياة هي استراتيجية تكيف منتشرة دون وعي، يستخدمها الأفراد الذين سئموا الحياة وغير قادرين على التعامل بفعالية مع العالم. وإلى حد ما، تنجح هذه الاستراتيجية. إذا تبنى الفرد المنعزل والمرهق من العالم الاعتقاد بأن هناك هدفًا أسمى للحياة يمكن أن يوجه حوله حياته وأفعاله بشكل هادف، فمن المحتمل أن يواجه تخفيفًا من تعبه من الحياة وإعادة الارتباط بعالمه. ومع ذلك، فمن خلال تبني الإيمان بالهدف الأسمى، يرى نيتشه أن مثل هذا الشخص لا يتعدى كونه يتأقلم. وفي حين أن استثمارها في هذا الاعتقاد يضمن لها البقاء، فإنه لا يضمن أي شيء آخر. وعلى الرغم من أنه يتجنب النفي النفسي للحياة الذي يعتبره نيتشه "العدمية الانتحارية"، إلا أنه غير قادر على النمو والازدهار. (إن التمييز بين "البقاء على قيد الحياة" و"الازدهار"، والذي يتم التذرع به عادة عندما نجيب على أسئلة حول رفاهيتنا، له صلة هنا).

بالإضافة إلى أن أصولها تعود إلى أفراد يعانون من "العدمية الانتحارية"، فإن هذه المعتقدات المنكرة للحياة تميل إلى إثارة النفور من الحياة لدى الفرد الذي يتبناها. هذه هي الطريقة الثانية التي يعتقد نيتشه أن التقييمات السلبية للحياة يمكن أن تنكر الحياة على المستوى النفسي. ولنعود للمرة الأخيرة إلى الفرد الذي يعتقد أن قيمة الحياة تعتمد على وجود هدف أعلى. إذا توصل مثل هذا الفرد إلى الاعتقاد بأنه لا يوجد مثل هذا الهدف، فسيكون هذا أمرًا مزلزلًا. كما يعتقد نيتشه، فإنه سيثير أيضًا مجموعة من المشاعر - اليأس، واليأس، واللامبالاة، والتناقض العميق، ومشاعر الفراغ - واضطرابات في الحياة التحفيزية للفرد: فقد يعاني من التردد، أو فك الارتباط، أو الاستسلام. وفي نهاية المطاف، فإن هذه الاضطرابات العاطفية والتحفيزية تقوض إرادته في الحياة. .وبعبارة نيتشوية أكثر دقة، فإن هذه الاضطرابات تقوض قدرتها على الانخراط بشكل فعال في عالمها، والسعي لتحقيق أهدافها، والنمو في تلك المساعي (كما يؤكد الباحث إيان دونكل). وبما أن جميع الكائنات الحية تهدف إلى هذه الأشياء، فإن عدم القدرة على تحقيقها يعني الفشل في تحقيق الأهداف الأساسية للإنسان ككائن حي. هذا هو التأثير الذي ينكر الحياة والذي تحدثه الاضطرابات العاطفية والتحفيزية المذكورة أعلاه على الفرد الذي يعاني منها - وهذه هي الطريقة التي تقوض بها الحياة نفسها.

إن هذه الفكرة التي يريد نيتشه أن يلفت انتباه قرائه إليها - أن التغيير في بعض المعتقدات الموجهة نحو الحياة أو التزامات القيمة يمكن أن تنتج تغييرات عميقة تنكر الحياة في مشاعر الشخص وحالاته التحفيزية وتعوق في النهاية ازدهار الشخص - منطقية تمامًا. إذا تعززت ذات مرة بالاعتقاد بأنك منخرط في هدف متعال يتجاوز نفسك - ربما خطة الإله المسيحي الإلهية لحياتك - وتؤمن أن مثل هذا الهدف غير موجود على الإطلاق - فربما تصدق أنك لم تعد تؤمن بالله - تفقد قوة محفزة للحياة. خاصة إذا كانت هذه هي القوة المحركة الأساسية لحياتك - أو إذا لم يكن لديك أي قوة محفزة أخرى - فسوف تشعر بالإحباط، وتثبيط الهمم، والانفصال عن العالم الذي كنت تعتقد أنك تعرفه؛ قد تتعرض رغبتك و/أو قدرتك على الاستمرار في العيش كما كان من قبل للخطر. وكما يقول نيتشه في كتابه عن أصل الأخلاق (1887)، في مثل هذه الحالة، هناك خطر حقيقي يتمثل في انخفاض "قدرتك الفسيولوجية على الحياة". علاوة على ذلك، إذا واصلت تقدير مثل هذا الهدف على الرغم من إنكارك له، كما يشير الباحث برنارد ريجينستر في تأكيد الحياة (2006)، فإن مشاعر اليأس الوجودي - التي يمكن أن تعيق قدرة الفرد على الانخراط بشكل فعال في عالمه، والسعي لتحقيق أهدافه. ، وتنمو في مساعيها - من المؤكد أنها ستتبعها.

من الضروري استخلاص هذه المعاني المختلفة للإنكار العدمي للحياة من أجل فهم مدى خطورة مشكلة العدمية من وجهة نظر نيتشه. ما يثير الإشكال في العدمية ليس تبني معتقدات جديدة مفاجئة ومثيرة للجدل أو رفض القيم الأخلاقية التقليدية. عندما يتمكن الفرد من التمسك بما يبدو لنا أنه اعتقاد عدمي - ربما أن الحياة ليس لها معنى - ولكنه يستمر في العثور على حياة تستحق العيش والنمو في أسلوب حياته، فهذه علامة على الازدهار النفسي. في مثل هذه الحالة، لا يشكل هذا الاعتقاد العدمي ظاهريا أي مشكلة على الإطلاق. وسواء كانت المعتقدات المختلفة التي نتبناها أو وجهات النظر الفكرية التي نعتنقها تعتبر عدمية إشكالية، فهي بالأحرى مرتبطة بالديناميكيات النفسية التي تنتج وتنتج تلك المعتقدات. المشكلة الأساسية في العدمية هي الديناميكيات النفسية الضارة التي تجلبها معها. إن المواقف التي نربطها عادة بالعدمية - مثل تلك التي نجدها في "The Big Lebowski" أو "لا يوجد بلد لكبار السن من الرجال" - تكون مهمة فقط إذا كانت تشير إلى أو تنتج مشاعر ضارة وحالات تحفيزية.

من المؤكد أن نيتشه يحدد المعتقدات التي تقيم الحياة بشكل سلبي على أنها إنكار للحياة لأنها ببساطة تنطوي على مثل هذا التقييم. ولكن كما يجب أن يكون واضحًا الآن، فهو يعتقد أنها تنكر الحياة بطريقة أكثر جوهرية: فهي إما تشير إلى فشل الازدهار النفسي أو تسببه. من المؤكد أنه من الإشكالي للوهلة الأولى الاعتقاد بأن الحياة لا تستحق العيش. لكن المشكلة الأكثر إثارة للقلق في مثل هذا الاعتقاد هي أنه يشير إلى الافتقار إلى الازدهار، وهو الافتقار الذي وصفه نيتشه لدى البشر بأنه ميل نفسي نحو الانتحار. وعلى نحو مماثل، يحثنا نيتشه على رفض الاعتقاد بأن الحياة لا تستحق أن نحياها. لكنه يفعل ذلك ليس فقط لأنه يجد مثل هذا الاعتقاد بغيضًا، ولكن لأن اعتناق مثل هذا الاعتقاد يضعنا في خطر جسيم: فهو يميل إلى فصلنا عن الحياة ويجعلنا نكره هذه الحياة وهذا العالم. وهذا الاعتقاد – حرفيا-  قاتل.

(تمت)

***

..........................

الكاتبة: كيتلين كريسي/ Kaitlyn Creasy: أستاذ مشارك في الفلسفة بجامعة ولاية كاليفورنيا، سان برناردينو. وهي مؤلفة مشكلة العدمية العاطفية عند نيتشه (2020).مصدر المقال ، مجلة: Psyche / 5 أبريل 2023م

https://psyche.co/ideas/for-nietzsche-nihilism-goes-deeper-than-life-is-pointless

Article

For Nietzsche, nihilism goes deeper than ‘life is pointless’

Author

Kaitlyn Creasy

DATE PUBLISHED BY PSYCHE

5 April 2023

"بين التحويل والاسقاط "يبرز الانفعال والرغبات المكبوتة؟

يقول سيجموند فرويد مؤسس التحليل النفسي ينشأ الطرح – التحويل  تلقائيًا في العلاقات الإنسانية، وقول "حسين عبد القادر" بأن التحويل هو تشكيلة تباينات في كافة أحوال الإنسان في الصحة والمرض "موسوعة علم النفس والتحليل النفسي، ص 450"

ومن المعروف لدى عامة الناس أن التحليل النفسي بكل اتجاهاته هو معرفة حقه عن أعماق النفس وما يدور بين ثناياها، شعر بها صاحبها، أو كبتت في اللاشعور " اللاوعي"، هذا الفعل الذي تم كبته أو خزنه بلغة الجانب المعرفي، أو تم تشفيره In coding   وأعطي ترميزًا  في الدماغ إن سلمنا جدلا بفكرة تحريف التحليل النفسي لابد له أن يعود يومًا ما، بفكرة عابرة، حلم أقض مضجع صاحبه، هفوة فلتت من عقال من يدير الحديث، خاطره غير متوقعه في فعل في غير محله، أو زلة لسان، وربما زلة قلم. أنه  فعل تخطى المحدود – المسيطر عليه فعل تخطى السيطرة من النفس وتداعى بدون "بلا" سيطرة من الوعي بمساعدة اللاوعي، بقدر ما به استمتاع، به عنف موجه لمركز السيطرة برقابته الصارمة ليظهر الحديث بكل أدب، ومقبولية من الآخر المستمع، الذي يصغي، نتساءل هل هو نوع من الحصر " القلق" لم تستطع النفس أن تغمره بملفاتها المظلمة فتراجع أمام الحقيقة، أم هو الرغبة في البوح بشئ بعد الهروب من الرقيب القاسي، يقول "مصطفى صفوان الرغبة موضوع  يصعب السيطرة عليه، فهو موضوع يجعلك بلا أسلحة، وحتى في خبرتنا اليومية عادة تُخبر الرغبة بوصفها ندمًا أو حنينًا إلى الماضي، أو يمكن تعريفها على أنها " ما لا أعرفه، أو " لم أعنِ ذلك" أو " لا أعرف ما لا أريده " أو " كنت أريد شيئًا آخر" .

التحويل- الطرح  Transference  كما تدلنا أدبيات التحليل النفسي هو نقل فعل، أو نمط من السلوك من عمل إلى آخر " Woodworth " (في) الموجز في التحليل النفسي ويضيف " سامي محمود علي" هو موقف انفعال معقد يقفه المريض تلقائيًا من المحلل النفسي ويتميز أحيانًا بغلبة مشاعر الحب، أو مشاعر العدوان وإن كان يتألف غالبًا من مزيج من العنصرين " التحويل الموجب، التحويل السالب، التحويل المزدوج الميل" وهذه المشاعر لا تنطبق على الموقف الحاضر وإنما هي مواقف لاشعورية "لاواعية" طفلية يحياها المريض ثانية في الموقف العلاجي ويخلع فيها على المحلل شخصية الأفراد المسؤولين عن نشأة هذه المشاعر وعن تكوين شخصية المريض تكوينًا يتسم بالصراع النفسي والعجز عن النمو النفسي الكامل " الوالدان ومن حل محلهما" (الموجز في التحليل النفسي، فرويد، ص 90) وكما يعرف المشتغلين في التحليل النفسي أن التحويل هي الظاهرة الاساسية في عملية العلاج بالتحليل النفسي .. وربما هي مفتاح للعلاج رغم ما فيها من غموض وتفسيرات ومداخلات.

أما الاسقاط Projection يشير إلى حيلة لاشعورية "لاواعية" من حيل دفاع الأنا بمقتضاها ينسب الشخص إلى غيره ميولا وأفكارًا مستمدة من خبرته الذاتية، يرفض الاعتراف بها لما تسببه من ألم وما تثيره من مشاعر الذنب، فالإسقاط وسيلة للكبت، أي أسلوب لاستبعاد العناصر النفسية المؤلمة عن حيز الشعور، والعناصر التي يتناولها الإسقاط يدركها الشخص ثانية بوصفها موضوعات خارجية منقطعة بالخبرة الذاتية الصادرة عنها أصلا.

يقول "بيير داكو" كل عمل سيكولوجي أكان سطحيًا أم في الأعماق، علاقة إنسانية بين عالم النفس ومريضه- الشخص الذي يدير العملية العلاجية – المحلل النفسي – والشخص الذي يرغب بالعلاج بطريقة التحليل النفسي، إنه عمل تعاوني كثيف، فلا يسع عالم النفس أن يفعل شيئًا دون مريضه، والعكس صحيح، إن المحلل ومريضه رفيقا طريق، ومازال الكلام " لـ داكو" فيقول المريض يعرف ضربين شائعين من الاستجابات : الهروب إلى الأمام، أو الهروب إلى الوراء، وذلك انطلاقًا من الخوف، فمن المنطقي إذن أن يعزو المريض إلى عالم النفس ضربي الاستجابات نفسيهما: المحبة أو العدوانية. وهنا نتعرض لهذين النوعين من الاستجابات حينما يكون المريض أمام نفسه تارة، وأمام المحلل النفسي تارة اخرى، فيكون التحويل ضرب من الإسقاط، والاسقاط كما عرضناه في الاسطر السابقة وهو بأن الشخص ينسب  إلى غيره ميولا وأفكارًا مستمدة من خبرته الذاتية ويضيف  "داكو" يكون الاسقاط أقوى بمقدار ما تكون الآليات اللاشعوريية "اللاواعية" قوية، أما التحويل نوع من الإسقاط ولكنه أكثر إتساعًا بكثير، وهو يظهر دائمًا في أثناء التحليل النفسي على صورة أو على أخرى "بيير داكو، انتصارات التحليل النفسي، 1994، ص 207" 

من كل ما تقدم عن  عمليات التحليل النفسي المعمقة،  يوجد رابط أساس يجمع تلك وهو الانفعال، ولكي نفهمه لابد من وجود معنى له، وله وظيفة أيضًا ومن ثم فنحن مسوقون إلى الكلام كما يقول "سارتر" عن غائية الانفعال. ويضيف أيضًا يمكن بغير جهد مفرط إظهار الغضب أو الخوف بوصفهما وسيلتين تستعين بهما الميول اللاشعورية – اللاواعية لتشبع نفسها إشباعًا رمزيًا، وأنه يتطور وفقًا لقوانينه الخاصة دون أن تتمكن تلقائيتنا الشعورية من التأثير في مجراه تأثيرًا ملحوظًا، وهذا الفصل بين السمة المنظمة للانفعال مع طرح موضوعها المنظم في اللاشعور – اللاوعي، وبين سمته المحتومة التي لا يمكن أن تكون كذلك إلا بالنسبة لشعور الفرد. ويؤكد "سارتر" قوله ولا جدال في أن سيكولوجية التحليل النفسي هي أول من أبرز معنى الوقائع النفسية، أي أنها أول ما أكد أن كل حالة شعورية – واعية تمثل شيئًا آخر غيرها" سارتر، نظرية في الانفعال، ص 41"، نحاول أن نزج بفكرة الانفعال في آلية الطرح  أثناء الجلسة العلاجية لأنها تقترب من النواة الأولى لتكون الحدث الذي ظل مؤثرًا وأنفجر في موقف ربما أصبح مرضيًا، وخلق لصاحبه أشكالات نفسية تقض مضجعه، وتبعده عن السوية في أحيان كثيرة، هذه النواة التي ربما تضخمت وكبرت وحملت معها الكثير من المواقف المؤلمة. ورغم تأكيدات"  فرويد"  بأن العلاقة الطرحية تهدف إلى  إيصال المريض إلى معرفة ما يجري بداخله وقوله : فلئن كانت قيود العرف التي يفرضها المجتمع مسئولة عن الحرمان الذي يكره عليه المريض، ففي وسع العلاج أن يشجعه، بل وأن يغريه مباشرة يتحدى هذه القيود، وبالتماس الإشباع وطلب الصحة، وعليه  فنحن نبتعد ما وسعنا البعد عن أن نقوم بدور الناصح ولا نريد من المريض إلا شيئًا واحدًا هو أن يصل بنفسه إلى حلوله وقراراته" محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي، المحاضرة 27، بعنوان الطرح" . ويضيف "فرويد"  أن الشخص الذي يتم تحليله يكرر بدلًا من أن يتذكر، يكرر في ظل ظروف المقاومة، ويمكننا الآن أن نسأل ما الذي يكرره، أو يتصرف فيه بالفعل؟ الجواب : هو أنه يكرر كل ما ساد بالفعل في كيانه الواضح من مصادر كبته، وموانعه ومواقفه غير المجدية، وسمات شخصيته المرضية، يكرر جميع أعراضه أثناء العلاج، والآن يمكننا أن نلاحظ التأكيد على الإجبار على التكرار" فرويد، مقالة التذكر، التكرار والعمل خلال، ترجمة ف. محمد أمين"

ونستعير ممن أقام علاقة علاجية في العملية العلاجية التحليلية فإن  "فيرنزي" يرى بأسلوبه النشط الذي يقصد به فرض المحلل لموانع ومطالب على المريض، أي إلى تعبئة مقاوماته ووجداناته، ويشمل تعطيل مبدأ اللذة، ومن ثم تعريض الأنا لمواجهة ضعفه ودفاعاته اللاعقلانية (  Schwartz,E.K  ) ( في) مليكه، لويس كامل، وأزاء ذلك فإن فيرنزي لديه فكرة  تطبيق قاعدة الامتناع أسلوبًا نشطًا وهو يستخدم العلاج النشط فقط لمعالجة مقاومة أدت إلى ركود التحليل، ثم الرجوع إلى التحليل الكلاسيكي بعد التغلب على هذه المقاومة، وهو التحليل الذي يتطلب سلبية من كل من المحلل والمريض "طالب التحليل"، ولكن إذا لم يقم طرح قوي مستمر، فإن بعض المرضى ربما لا يتحمل هذا القدر من الارغام، وقد يقطع العلاج في بدايته ولذلك فإنه قد يكون ميزة في المراحل النهائية من العلاج. ويشارك "فيرنزي"  "ولهام رايك"  الرأي بأن المحلل يتعين أن يواجه أعراض الخلق – الطباع "Character Symptoms " بدلًا من الاعراض العصابية" مليكه، لويس كامل، التحليل النفسي والمنهج الانساني في العلاج النفسي، 2010، ص 82" وعندما  نطلق على العلاقة في التحليل النفسي هي علاقة إنسانية فإن الأمر ينطبق على جميع المعالجين النفسيين بطريقة التحليل النفسي ومنهم "ولهلم رايك " وتحليل الخلق، حيث يرجع الفضل له في الاهتمام في الممارسة الحديثة للتحليل النفسي بتحليل المقاومة والخلق، وليس فقط بتفسير الدفعات اللاشعورية – اللاواعية، أو المضمون، ولكن لا زال هدف أسلوب تحليل الخلق هو اختزال التفعيل إلى تذكر عن طريق مواصلة تحليل مقاومة الخلق – الطباع والتي تؤدي تلقائيًا إلى تذكر المواد الطفلية. وأن خلق الأنا إنما ينشأ من رواسب شحنات الموضوع المهجورة والتي تحوي سجلًا لماضي اختيارات الموضوع كما ذكرها "فرويد" في كتاب الأنا والهو – 1923" (في) حسين عبد القادر، موسوعة علم النفس والتحليل النفسي، ص 322"، وهناك رؤية ربما أعمق في عملية التحويل في ثناياها أثناء الجلسة العلاجية التحليلية عند جاك لاكان مجدد فكر التحليل النفسي الفرويدي.

***

* أسعد الإمارة - دكتور في علم النفس

 استاذ جامعي  باحث في التحليل النفسي  

 

عندما نكون في قبضة العواطف، كالغضب مثلا، فلا شيء يمكننا عمله للخروج من ذلك، نحن سنخضع لها، وكل ما يمكن فعله هو الانتظار لحين مرور الموجة. الفلاسفة الرواقيون في اليونان والرومان القديمة عرفوا هذا جيدا، في مقالته الرائعة عن الغضب، يصف سينيكا الغضب كجنون مؤقت: " فيه يفقد المرء التحكم بالذات، لا اعتبار الى اللياقة، نسيان العلاقات، إصرار منهمك للبدء في العمل، لا استماع لصوت العقل والنصيحة، الاندفاع بأسباب تافهة ودون مهارة في تصوّر ما هو حقيقي وعادل، كصخرة ساقطة تحطّم ذاتها الى قطع متناثرة فوق الشيء الذي ترتطم به".

وفي النظر الى المدى الذي تكون فيه العواطف مدمرة حسب الرواقيون، كان للرواقيين سمعة جيدة في محاولة كبحها. سينيكا الذي ولد سنة 4 ق.م كان فيلسوفا رواقيا رومانيا أشرف على تدريس الامبراطور نيرو. تأثير سينيكا على نيرو أخذ يضعف بمرور الزمن وفي عام 65.م اُجبر سينيكا على الانتحار بدعوى التأمر على اغتيال الامبراطور وهي تهمة زائفة لم تثبت. رواقية وموت سينيكا الهادئ كانا موضوعا لعدد هائل من اللوحات الفنية.

وعلى الرغم من ان الفلسفة تنصحنا ان نكبح مشاعرنا بطريقة – عض على أسنانك ولا تبيّن شعورك عند الغضب – لكن الرؤية الرواقية تبدو مختلفة بشكل هام. نصائح الرواقية ليست ان تكبح مشاعرك وانما ببساطة لا تجعلها الهدف الاول، هذه قد تبدو نصائح غريبة. نحن كبشر: كيف لا نمتلك مشاعرا؟

كيف عرّف الرواقيون العواطف؟

الشيء المهم هو معرفة كيف عرّف الرواقيون المشاعر. جميعنا يمارس ما يصفه سينيكا بـ "الحركات الاولى" في رد الفعل لأحداث معينة. نحن قد نشعر بالصدمة او الإثارة او الابتهاج او الخوف. كل هذه هي ردود أفعال سايكولوجية طبيعية تحدث لنا وليس لدينا السيطرة عليها. من المهم معرفة ان، هذه ليست عواطف بالنسبة للرواقية: انها ردود افعال اولية، "حركات اولى".

العواطف هي ما يحدث عندما نسمح – من خلال الحكم السيء – لهذه الحركات الاولى بالهروب منا. هناك ثلاث مراحل في انتاج العواطف:

1- الحركة الاولى

2- الحكم

3- العاطفة

نحن لا سيطرة لدينا على المرحلة الاولى. وعندما نصل الى المرحلة الثالثة، سوف لن تكون لنا سيطرة عليها ايضا. المرحلة الحاسمة هي المرحلة الثانية: مرحلة الحكم. نحن نستعمل قدرتنا على الحكم اما لوقف الحركة الاولى عن مسيرها، او لنسمح لردود افعالنا الاولية بتجميع زخمها لتصبح عواطف مدمرة خارجة عن السيطرة. فمثلا، عندما يكون رد فعلنا الاولي عند الصدمة والخوف من رؤية عنكبوت مثلا، هو اننا قد نحكم انه من الطبيعي ان نقفز خوفا، هو في الحقيقة مجرد عنكبوت صغير لا يمكن ان يسبب لنا أذى، يمكن ان نحضر كوبا لإحتجازه وإطلاقه للخارج – نأخذ نفسا عميقا لتهدئة انفسنا – بهذا نكون نجحنا في إبطاء افراز هرمون الادرينالين في أجسامنا، وأوقفنا "الحركة الاولى" في مسارها.

لو نحكم بان الخوف مبرر – انه عنكبوت وانا اخشى العنكبوت ماذا سافعل انا في خطر " – عندئذ ستستجمع "الحركة الاولى" زخمها  - حكمنا السيء يدفع استجابتنا الفسيلوجية لتتكثف – لتصبح شعورا كاملا من الخوف، ولا شيء نستطيع عمله سوى الانتظار حتى مرور العاطفة، في تلك الاثناء نتصرف بلا عقلانية وخارج عن السيطرة .

لذا، فان نصيحة الرواقيين هي ليس اننا يجب ان نتجنب "الحركة الاولى" لأن هذا مستحيل. النصيحة هي اننا نبدأ باستعمال حكمنا لتجنب السماح لمثل هذه الحركات لتصبح عواطف مدمرة. الشعور بالخوف، العصبية، الإزعاج، هذا جزء مما يعنيه ان تكون انسانا. الفكرة هي اننا نستعمل حكمنا للقبول بهذه المشاعر الطبيعية والدوافع، ومن ثم نشير بلطف لأنفسنا باننا لا يجب ان نسمح لها بتشويه رؤيتنا للعالم، او تدير افكارنا او تحكم تصرفاتنا (في الحقيقة ان منْ يحكم أفعالنا يجب ان تكون هي فقط الفضائل الرواقية الاربع: الحكمة، الشجاعة، العدالة، الإعتدال).

من الجيد ان ننزعج باشياء الآن او في المستقبل، انه شيء طبيعي تماما. انه يصبح مشكلة عندما نسمح للازعاجات بتجميع زخمها الى غضب لا يمكن السيطرة عليه. هذا ما تعنيه سيادتنا على عواطفنا بالنسبة للرواقيين: لا نكبح او نتجاهل مشاعرنا، لكن استعمال حكمنا بحكمة سيضيف رؤية ويمنعنا من فقدان السيطرة.

الشيء المهم، هو ان الاحتفاظ بالسيطرة ليس فقط لنجعل أنفسنا أفضل، بل هو لكي نستطيع التحرك الى الامام بشكل بنّاء، ولكي نعمل الشيء الصحيح. وكما يكتب سينيكا: "العواطف، لا تتمثل في التأثر بمظاهر الأشياء، وانما في الاستسلام لها واتّباع المشاعر العرضية. لو ان كل شخص يفترض ان التحول الى اللون الشاحب، او انفجار الدموع، او الإثارة الجنسية، والنظرات العميقة للعيون، هي علامة لمشاعر وحالة ذهنية، هو خاطئ ولا يفهم ان هذه هي مجرد استجابات جسمية .. الانسان يعتقد بنفسه مجروح ويريد الانتقام، وعندئذ – كونه أقنع بعدم القيام بذلك لسبب ما – هو بسرعة سيهدأ مرة اخرى. هذا لا يُسمى غضب، وانما هو دافع ذهني خاضع للعقل. الغضب هو ما يتخطى العقل ويحمله بعيدا".

تطبيق الاتجاه الرواقي في الحياة اليومية

بالطبع، كان الرواقيون يكتبون في زمن سبق البحث الجيد والفهم لحالات فسيولوجية مثل القلق المزمن، لذا فن نصائحهم – إستعمل حكمك لإعطاء رؤية لموقفك – قد لا تكون كافية في جميع الحالات، ولا تستبدل العلاجات المهنية. مع ذلك، استذكار دروس الرواقية لايزال ذو فائدة واقعية: عبر محاولة عمل أحكام اكثر وضوحا حول مواقفنا، سنستطيع حماية انفسنا من العواطف المدمرة ونخلق مساحة للتحرك قدما ضمن الفضيلة.

فمثلا، لو ان شخصا ما يسبب لنا الإهانة. في تلك اللحظة، نحن ربما نحكم بان هذا عمل مخز لذلك الشخص، ولذا فان "اول حركة" لنا هي ان نصبح بسرعة غاضبين. الخطأ هنا، كما يشير الرواقي ابكتيتوس، هو الاعتقاد باننا وبسبب تلقّي الاهانة سنكون مجروحين اوتوماتيكيا: "تذكّر، لا يكفي ان نُصاب بالضرر فقط بسبب الضرب او الإهانة، نحن يجب ان نؤمن باننا تعرضنا للضرر. لو ان احدا ما نجح في تحريضنا، ندرك ان ذهننا متواطئ في الاستفزاز".

نحن نُجرح فقط عندما نقرر اننا كنا كذلك. وكما يوضح الفيلسوف المعاصر جون سيلر في كتابه القصير والمهم (دروس في الرواقية): "لو ان شخصا ما يقول شيئا ناقدا حولك، قف لترى ما قاله صحيح ام زائف. اذا كان صحيحا، عندئذ هو اشار الى عيب فيك تستطيع انت الآن علاجه. وبهذا سينفعك. واذا كان قوله زائفا، فهو على خطأ وهو وحده منْ يتضرر. وبكل الاحوال انت لن تتأثر من ملاحظاته النقدية".

الدرس هنا هو اننا يجب ان لا نسمح لردود أفعالنا العفوية كي ترشد سلوكنا. اذا قمنا بهذا، فهو ليس فقط حكما سيئا وانما هو نقص كلي للحكم، نحن نسير مباشرة من "الحركة الاولى" الى العواطف بدون تطبيق أي استعمال مهدئ للعقل . لذلك نحن يجب ان نضمن ان نأخذ وقتا للتوقف والتفكير قبل القفز الى الفعل. يجب ان نقبل بمشاعرنا كما تبرز، نفكر جيدا، نجلب الفضيلة للذهن ومن ثم نتصرف.

سينيكا يوضح ذلك جيدا عندما يقول "أعظم علاج للغضب هو التأجيل"، و : "اذا كنت تريد ان تقرر طبيعة أي شيء، فوّضه للزمن. عندما يكون البحر عاصفا انت لا ترى أي شيء بوضوح".

لذا: توقّف وتذكّر هذا الخط من التفكير لأشهر فيلسوف رواقي وهو ماركوس اورليوس: "انت يجب ان لا تعطي الظروف القدرة على اثارة الغضب،فهي لا تهتم بذلك ابدا".

ماذا لو لم نستطع ايقاف عواطفنا؟

ماذا لو ان الانتظار لا يخفف من قوة مشاعرنا؟ ماذا عن حالات الإساءة الظالمة والغير عادلة لمحب؟ ماذا يجب ان نعمل عندما تستبد قوة مشاعرنا و مهما كانت درجة الاتزان في أحكامنا التي نحاول تطبيقها عليها فننزلق نحو عواطف خارجة عن السيطرة؟

التكتيك الرواقي هنا – اذا كنا غير قادرين على عقلنة غضب الحركة الاولى – هو استعمال حكمنا لإعادة توجيه قوة مشاعرنا الى شيء بنّاء. لذا، في حالة وجود شخص محبوب يعاني من ظلم، استجمع "حركتك الاولى" للعاطفة تحت شعار لا غضب وانما عدالة. دع شعورك يُقاد بالفضيلة وليس بالسوء الغير مسيطر عليه. وبهذه الطريقة، يصبح من غير المحتمل ان تتمكن المشاعر التدميرية السلبية من ازعاجنا، لاننا نعمل وفق غاية بنّاءة في الذهن. لنكافح لأداء الشيء الصحيح بهدوء  وباسم العدالة بدلا من خسارة أنفسنا لغضب مدمر.

باختصار: الرواقية تهدف لمساعدتنا في التعامل مع العواطف المدمرة عبر استذكار الدرس الأساسي في تقسيم السيطرة: نركز على ما يمكننا السيطرة عليه. نحن لا نستطيع السيطرة على ردود أفعالنا الاولية للمواقف، وانما نحن نستطيع السيطرة على حكمنا في مثل هذه "الحركات الاولى". عبر تدريب أنفسنا على التوقف، والتفكير والحكم البنّاء،سوف نستطيع – بالممارسة – منع الحركات الاولى من تجميع أي زخم، وهكذا نحرر أنفسنا من المشاعر السلبية الخارجة عن السيطرة التي يمكنها تخريب حياتنا.

كيف يمكن للرواقية التعامل مع العواطف الايجابية؟

ماذا عن العواطف الايجابية مثل الحب؟ هل يعتقد الرواقيون اننا يجب ان نعقلن ونخفف من تلك العواطف ايضا؟ الجواب هو ان الرواقية تهتم بالعواطف التي لها إمكانية إفساد هدوء حياتنا. الغيرة، طغيان الحب، مثلا، له امكانية تدمير الحياة ويجب التعامل معه مثل أي عاطفة سلبية اخرى، لكن الحب العاطفي المرتكز على حاجتنا الطبيعية للصحبة هو صحي تماما – نحن فقط يجب ان نكون واعين بعدم وجود توقعات غير واقعية او عقائد زائفة لدينا حول الحب يمكنها تحطيمنا في المستقبل. فمثلا، لو اعتقدنا زيفا ان الحب بيننا وبين الاب او شريك او أطفالنا سوف يستمر الى الابد، عندئذ – في ضوء حقيقة اننا جميعا فانون –سنكون امام مفاجئة سيئة. لهذا نحن يجب ان لا نكبح او نحبط "الحركات الاولى"، وانما يجب ان نكون حذرين بان لا نسمح لها تتطور الى آمال زائفة او عقائد حول ما يمكن ان يحمله المستقبل.

***

حاتم حميد محسن

حاول أستاذ الأدب الإنجليزيّ في جامعة برمنجهام توني ديفيز أن يبحث في كتابه "النّزعة الإنسانيّة" عن معنى محدّد لهذا المصطلح، وكيف تطوّر بعد عصر النّهضة، وارتباطه بالجانب العرقيّ خصوصا عند الرّجل الأبيض، وبالجانب الفلسفيّ، وقد ترجم الكتاب إلى العربيّة المترجم المصريّ عمرو الشّريف، وصدر عن المركز القوميّ للتّرجمة في مصر عام 2018م.

ويرى أنّ "كلمة النّزعة الإنسانيّة نفسها استخدمت لأول مرة ككلمة ألمانيّة ... وترجع أصولها إلى اللّغة والثّقافة اليونانيّة الّتي تستمد منه دلالتها ومصداقيّتها، ومن المرجح أن يكون فريدريش إيمانويل نيثامر (ت 1848م) أول من استخدم مصطلح الإنسانيّة في بداية القرن التّاسع عشر، لكي يشير إلى مناهج الدّراسة الثّانويّة والجامعيّة الّتي تعتمد على ما كان يطلق عليه في القرون الوسطى الدّراسات الإنسانيّة، ألا وهي دراسة اللّغة اليونانيّة القديمة واللّاتينيّة ... وسرعان ما التقط مؤرخو الثّقافة من أمثال جورج فويجد وجاكوب بيركهارت (ت 1897م) تلك الكلمة لكي يصفوا العلوم الإنسانيّة الحديثة، والنّهضة كإعادة لبعث الحضارة اليونانيّة الرّومانيّة وقيمها".

ومع هذا – حسب رؤيته – ظلّت النّزعة الإنسانيّة "كلمة ذات تاريخ شديد التّعقيد، ومعان يصعب حصرها، فضلا عن عدد السّياقات الّتي يمكن أن تظهر فيها"، "فالإنسانيّة تماما كالواقعيّة والرّومانسيّة هي إحدى تلك الكلمات الّتي يمتدّ حقلها الدّلاليّ من المعاني المتخصّصة الّتي يستخدمها المثقفون إلى المعاني الّتي يشوبها الغموض لشدّة عموميّتها"، لهذا "تحمل الإنسانيّة حتّى في أكثر السّياقات الوصفيّة حياديّة دلالات قويّة، بعضها سلبيّ وبعضها إيجابيّ لانتماءات أيدلوجيّة مختلفة، وقد أدّى الغموض والعموميّة اللّذان يحيطان بالكلمة إلى أن تصير لفظة استحسان وازدراء على حدّ سواء".

ولعلّ تشعب الحالة المعرفيّة أمام النّزعة الإنسانيّة جاء كحالة من حالات من الانعتاق من النّزعة اللّاهوتية والتّحرّر منها، لأنّ النّزعة اللّاهوتية ذاتها لم تكن باسم اللّاهوت المطلق (النّصّ المطلق)، بل صاحبها الشّراك الإنسانيّ لفئة من الكهنوت البشريّ حتّى في النّصّ نفسه، وهذا ظهر بشكل كبير في العصر الوسيط في الجانب المسيحيّ الكاثوليكيّ، لهذا حاول البروتستانت الممايزة بين ما هو لاهوتيّ مطلق، وبشريّ تأريخيّ متحرك.

هذا الانعتاق لم يكن مصاحبا للعقلانيّة الأوروبيّة في التّعامل مع شموليّة النّزعة اللّاهوتيّة، من حيث المرجعيّة ذاتها، ومن حيث الانفكاك بين المقدّس وغير المقدّس، بل شمل الانعتاق لعوامل عديدة، منها ما هو سياسيّ وحقوقيّ واجتماعيّ مثلا، ومدى حضور النّزعة الإنسانيّة في تشكل هذه الجوانب وغيرها، وهذا طبيعيّ أن يحدث اضطرابا في ضبط معنى  النّزعة الإنسانيّة، إلّا أنّ الغاية منها أقرب إلى الوضوح من المصطلح ذاته.

فينقل  ديفيز عن جون سيموندز (ت 1893م) أنّ جوهر النّزعة الإنسانيّة يتمثل "في إدراك جديد لكرامة الإنسان على أنّه كائن عاقل بعيد عن كلّ المحدّدات الثّيولوجيّة، وكذلك أيضا في إدراك أنّ الأدب الكلاسيكيّ وحده هو الّذي استطاع أن يعرض النّفس البشريّة بكامل طاقتها الفكريّة وحرّيّتها الأخلاقيّة، وكان ذلك ردّ فعل ضدّ السّلطويّة الكنسيّة من ناحية، ومحاولة لإيجاد نقطة محوريّة يتوحد حولها كلّ فكر فيه الإنسان، وقام بفعله من خلال العقل الّذي ثاب إلى رشده، وأدرك قوّته المسيطرة على العالم".

ولارتباط النّزعة الإنسانيّة بالكرامة الإنسانيّة لهذا كانت في مقابل المطلق، "فالنّزعة الإنسانيّة في عصر النّهضة والّتي تعبّر عن جوهر إنسانيّ ثابت لا يتأثر بالزّمان والمكان والظّروف المحيطة"، هذه الرّؤية لم تكن رؤية لغير اللّاهوتيين فحسب، بل هناك من اللّاهوتيين من تبنى ذلك أيضا، ويرجع  توني ديفيز تبنيهم إلى محاولة العديد من اللّاهوتيين إلى فصل الكنيسة عن السّياسة، فإذا كانت الكنيسة ذات ارتباط بمطلق النّزعة اللّاهوتيّة؛ فإنّ السّياسة ذات ارتباط بمطلق النّزعة الإنسانيّة المتمثلة في الكرامة الإنسانيّة، فيرى أنّه "كان يُشتبه في أنصار النّزعة الإنسانيّة الأوائل بأنّهم خارجون عن صحيح الدّين، بل وكان يظنّ بهم الكفر، وكان معظمهم مثل رجلي الدّين إيرازموس وبرونو مناهضين لتأثير الكنيسة وتدخلها في الشّأن السّياسيّ، على الرّغم من أنّهم نادرا ما كانوا مناهضين للدّين".

لهذا يخلص أنّه في الابتداء "تعدّ الإنسانيّة في جذورها فكرة سياسيّة مستمدة من الخطاب الثّوريّ لحقوق الإنسان أكثر منها فلسفيّة، فعندما أعلن روسو في الكتابه العقد الاجتماعيّ  ... أنّ الإنسان يولد حرّا إلّا أنّه مكبل بالأغلال في كلّ مكان"، ثمّ تطوّرت فلسفيّا بعد ذلك.

هذه الجدليّة مدارها حول مركزيّة الإنسان في الوجود، فهناك نزعتان علويّة لاهوتيّة، يقابلها نزعة إنسانيّة وجوديّة، وكما يرى تولستوي (ت 1910م) في كتابه  "في الدّين والعقل والفلسفة" أنّ كلّ دين "يؤسّس لعلاقة بين الإنسان واللّانهائي"، بيد أنّ الإنسان يتضخم في مقابل اللّانهائي، فيحدث تحريف للثّاني، فينسب هذا التّضخم إلى الدّين ذاته، وأهم أسبابه كما يراها النّفعيّة الّتي تنقل البشر من المساواة بين الجميع في مقابل اللّامتناهيّ إلى النّفعيّة الّتي تتمثل في فئة من الكهنوت باسم اللّامتناهي ذاته، "فكلّما يظهر تعليم ديني جديد يحوي في تعاليمه المساواة بين البشر، يحدث مثلما يحدث مع النّاس في الواقع، يحاول المنتفعون من عدم مساواة البشر أن يخفوا هذه [القيم] الرّئيسة للتّعليم الدّيني بتشويه أصل هذا التّعليم .... ينتج فقط بسبب أنّ المستفيدين من لا مساواة بين البشر، الموجودين في السّلطة والأغنياء ... وحتّى يبرروا موقفهم أمام أنفسهم دون أن يغيروا من أوضاعهم، يحاولون بكل ما لديهم من قوّة أن يلصقوا بالدّين تعليما يمكن أن تكون فيه عدم المساواة ممكنا، وينتج عن ذلك حتما أنّ دينا يتم تحريفه يمكن لمن يتسلّط فيه على الآخرين أن يجد لنفسه مبررا، ينتقل إلى العامة أيضا، ويوحي إليهم بأنّ خضوعهم لمن يتسلطون عليهم أمر من متطلبات الدّين الأساسيّة".

وما ذكره تولستوي يتوافق مع الرّؤية المبدأية الّتي أشار إليها توني ديفيز من ارتباط نشأة النّزعة الإنسانيّة بالبعد السّياسيّ، والّتي تمثلت في نفعيّة البابا والكهنوت باسم الدّين نفسه، لهذا تصوّر أنّ مفهوم المساواة وفق الكرامة الإنسانيّة يتعارض مع الدّين ذاته؛ لأنّه أوجد نفعيّة معينة لفئة من رجال الدّين، كما يصوّرهم المؤرخ الفرنسيّ جورج لوفيفر (ت 1959م) في كتابه  "قدوم الثّورة الفرنسيّة 1789م" أنّه "يتمتع رجال الدّين بأعظم الامتيازات ... ومزودون بمحاكم خاصّة، المحاكم الأسقفيّة، ولا يدفعون أيّ ضريبة، ويحدّدون بأنفسهم الهبة المجانيّة الّتي يمنحونها للملك ... وكانوا أسيادا في العديد من القرى، ويتلقون إتاوات سياديّة ... ويحتكرون التّعليم والمساعدة، ويشاركون في فرض الرّقابة على كلّ ما يطبع قانونيّا"، وهذه النّفعيّة من حيث الاستناد الدّينيّ مرتبطة بالنّزعة اللّاهوتيّة المطلقة، فكانت  النّزعة الإنسانيّة في مقابل تحطيم هذه النّفعيّة التّأريخيّة من خلال الفصل بين الدّين كجوهر قيميّ، وبين السّياسة المرتبطة بحراك الإنسان ومساواته.

رؤية النّزعة الإنسانيّة لم تعد بعد ذلك لمحاولة الممايزة بين جوهر الدّين وبين تطوّر الاجتماع البشريّ، بما فيه السّياسيّ، بل أصبحت معقدة بشكل كبير، وأصبحت أقرب إلى العلمويّة والوجوديّة منها من التّنويريّة المسيحيّة الأولى، فهي وإن كان جدليّة مسيحيّة في ظرف تأريخيّ معيّن، إلّا أنّها اليوم جدليّة عالميّة بما فيها عالمنا الإسلاميّ أيضا، وحاول هشام جعيط في كتابه "أزمة الثّقافة الإسلاميّة" أن يحاول الجمع بين مركزيّة الإنسان من حيث النّزعة الإنسانيّة، وبين النّزعة اللّاهوتيّة في النّصّ الدّينيّ، فيرى أنّه "يوجد في القرآن مركزيّة إنسانيّة، لكنّها خاضعة للمقاصد والمخطّطات الإلهيّة، وهذا بحدّ ذاته يمثل شكلا من أشكال النّزعة الإنسانيّة، ففي القرآن درجة إنسانيّة أرفع، إنّها مكانة الإنسان في مغامرة الوجود، في غائيّة الخالق، وفي التّاريخ"، بيد أنّ الجدليّة حتّى بحضور هذه المركزيّة في النّصّ القرآني تبقى حاضرة ومتشعبة أيضا؛ لأنّ مساحة مركزيّة الإنسان أوسع من كونه حضورا إجرائيّا، بل هو عامل مهم في صناعة نص أوسع من النّصّ الأول، له هيمنته التّصديقيّة نسخا وتخصيصا وتقييدا، ثمّ الفهومات الأولى، والّتي أصبحت لها صبغتها اللّاهوتيّة المطلقة مع مرور الزّمن، لهذا لا يمكن بحال تبسيط حضور النّزعة الإنسانيّة في واقعنا الإسلاميّ اليوم، بل أنّ واقع الإسلام السّياسيّ – إن صح التّعبير – مثلا خير مثال لمثل هذه المراجعات، وقراءتها عن عمق بشكل أكبر، وفق النّزعتين اللّاهوتيّة والإنسانيّة.

***

بدر العبري – سلطنة عُمان

 

مصطلح ما فوق اللغة* هو مصطلح إخترعه فلاسفة وعلماء فلسفة اللغة واللسانيات. ما فوق اللغة هو باختصار شديد ان تتكلم عن اللغة العادية التداولية بكمالها النحوي بلغة اخرى ليست اعلى منها بالدرجة النوعية من حيث التراكيب والقواعد والنحو وحسب بل تعتبر اغنى من اللغة الام في اسبيقتها التراتيبية الفطرية النحوية وقواعد اللغة التداولية المتعارف عليها.. كما ان اختلاف مافوق اللغة جوهريا عن اللغة العادية التداولية الأم انها فطرية غير مكتسبة. وهذه مسالة اشكالية ليست محسومة. المتعارف عليه أن كل ماهو فطري يكون موروثا جينيا بالوراثة فهل هذا المنطق العلمي ينطبق على فطرية اللغة؟ لا اعتقد ان هذه الاشكالية يمكننا اختصار حسم الاجابة عنها بنعم او لا فالقضية اصعب من ذلك.

قام الفيلسوف فردريك سكينر الامريكي 1904 - 1990 رائد (نظرية السلوك اللفظي) وعالم النفس والمخترع الميكانيكي متعدد الاهتمامات. شغل سكينر كرسي الفلسفة في جامعة هارفرد. باختراع نظريته في السلوك اللفظي في مرجعية اللغة الى علم النفس.

يعتبر الباحثون في علم اللغة واللسانيات سكينر صاحب الكتاب الفريد (السلوك اللفظي) الذي حاول فيه جعل تعلم الطفل للغة سلوكا تجريبيا يقوم على ثنائية الاثارة والاستجابة حسب هذه الترتيبية اللفظة اللغوية الدالة + الاثارة + رد فعل الطفل + الاستجابة وتتم هذه العملية تحت مراقبة وتوجيه طرف ثالث يشمل الطفل المتعلم والمفردة اللغوية والقائم على تعليمها.. كما ويعتبر الباحثون سكينر ممهّد الطريق امام نعوم جومسكي في نظريته التوليدية اللغوية. رغم الاختلاف الجوهري الذي جرى بينهما لاحقا. ما فوق اللغة هي لغة تخارجية معرفية تجمع بينها وبين اللغة الام وما فوق اللغة لا يلغي اصل اللغة من حيث ثبات نحو وقواعد اللغة الام. بل تحاول ما فوق اللغة تعديل بعض قواعد اللغة الام بالاضافة عليها او حتى اختزال حروفها الابجدية.

معيار قياس ما فوق اللغة

ما الجديد الذي يمكنني اضافته على ما سبق لي ونشرته على صفحات العديد من المواقع الالكترونية المحكمة في دراستي الموسومة (اللغة العربية ومصطلح ما فوق اللغة)؟... ينظر الهامش لطفا.

بأي معيار يمكننا الكلام عن مصطلح ما فوق اللغة؟ وهل يمكننا توطين المصطلح عربيا اسقاطيا كما فعلت انا بدراستي المشار لها حين اسقطت مصطلح ما فوق اللغة على اللغة العربية الفصحى عندنا منذ عصر ما قبل الاسلام وفي لغة القران الكريم ما قبل تنقيط الحروف في القران وفي اللغة العربية ووضع ضوابط النحو والحركات الاربعة على الحروف والشدة والتنوين في اللغة العربية من قبل عبقري اللغة العربية الخليل بن احمد الفراهيدي 100- 170 هجرية.. الذي وضع بحور الشعر العربي واجملها بستة عشر بحرا.

تبدو لي مفارقة غريبة ان اللغة العربية الفصحى في العصر الجاهلي كانت تمتلك مقوماتها النحوية وقواعدها التي يتكلم بها العربي ولو اخذنا مثالا صارخا لا يقبل التفنيد هو السليقة الشعرية الفطرية التي كانت القبائل العربية تتناقل بها القصائد الشعرية شفاها او مكتوبة بالعربية الفصحى من غير ما تعرف تلك القبائل ان الشعر العربي له ضوابط وبحور الا بعد مجيء عبقري اللغة العربية في القرن الثاني الهجري الخليل بن احمد الفراهيدي 100-170 هجرية وقام بتصنيف وحصر الشعر العربي بستة عشرا بحرا. ولما وجد الصحابة عثمان والامام علي وعمر بن الخطاب وآخرين غيرهما انتشار (اللحن) في كلام المشفهة وفي قراءة القران الذي اخذ يتنامى بعد دخول غير العرب من الاقوام الفارسية والتركية والهندية بالاسلام.

قام الصحابة رحمهم الله بتكليف ابو الاسود الدؤلي البدء بتنقيط لغة القرآن الكريم يساعده كلا من عاصم الليثي ويحيى بن يعمر ولم يستطيعوا ثلاثتهم انجاز المهمة الا زمن الدولة الاموية حين امر عبد الملك بن مروان تكليف الخليل بن احمد الفراهيدي بتنقيط القران الكريم ووضع الحركات الاربعة الضمة والفتحة والكسرة والسكون على الحروف بأمر من والي العراق الحجاج بن يوسف الثقفي حينذاك.. كما وقام هذا العبقري الفذ الفراهيدي باختراعه التنوين والشدة. (للمزيد حول الموضوع يمكن العودة الى دراستي المنشورة قبل سنتين بعنوان: (اللغة العربية ومصطلح ما فوق اللغة).

في هذا المثال لو اسقطنا مصطلح ما فوق اللغة على لغتنا العربية الفصحى منذ العصر الجاهلي وعصر صدر الاسلام. لوجدنا ان العربية كانت بالعصر الجاهلي وبعد قرنين من ظهور الاسلام لغة متوارثة بالفطرة والسليقة في مقدمة ذلك ياتي نظم الشعر الجاهلي وصدر الاسلام. هنا اعترف بان هذه الاشكالية جعلتني افكر مليّا كثيرا قبل أن احكم على نظرية وجود لغة فطرية ام هي في طبيعتها الانثروبولوجية مكتسبة؟. السؤال من الذي وضع الابجدية العربية في دلالة كل حرف على صوت معيّن في العصرين الجاهلي وصدر الاسلام قبل ان يقوم الفراهيدي بتنقيط حروف اللغة اللعربة؟

نعود الى صلب موضوعنا هل تعتبر لغة مافوق اللغة انها لغة فطرية موروثة عقليا وهي تتجاوز بالتجديد اللغوي النحوي قواعد اللغة الام المتداولة قبل لغة ما فوق اللغة علما أن الاثنتين متعايشتين. الفطرة اللغوية الغير موجودة فما فوق اللغة هي لغة مكتسبة عن اللغة الام التي تتحدث عنها. يوجد فرق كبير بين أن تقول فطرة لغوية موروثة تتبلور بالنمو التجريدي النحوي وبالاكتساب المجتمعي في دخول كلمات جديدة عليها. وبين ان تقول يولد الطفل مزودا بجينات استعداد فطري لتعلم لغة ابويه واسرته بالممارسة.

نعم هنا يكون الاستعداد الفطري لتعلم اللغة هو في وراثته الجينية له عن طريقين هما تطور حنجرة الانسان بمرافقة اللسان على امتلاك الطفل تعلم اللغة في اطلاق حنجرته النوعية الانسانية غير الحيوانية اصواتا لها معنى محددا لا تستطيعه الحيوانات التي تعيش معه؟.

ولو نحن ذهبنا الى ما يقوله علماء اللغة واطباء فسلجة وظائف اعضاء جسم الانسان فهم يقارنون بين طبيعة تكوين حنجرة الانسان عبر مرور الاف السنين انها هي سبب امكانيته نطق اصوات لغوية لا يستطيع الحيوان مجاراته بها. كما ان لسان الانسان لعب دورا لا يستهان به بتماهيه حنجرة الانسان بالنطق اللغوي صوتيا الذي له معنى. فطرية اللغة لا تكتسب بكروموسومات DAN كغيرها من الصفات الوراثية مثل لون البشرة، شكل العينين، طول القامة، لون العينين وهكذا.

 نعوم جومسكي ميّز في نظريته التوليدية اللغوية بين الفطرة اللغوية والاستعداد الفطري لتعلم اللغة حسب فهمي. ولم يتنكر جومسكي الفيلسوف اللغوي المرجع ان يتنكر للمبدأ اللغوي أن اللغة فعالية فطرية مكتسبة عن الاسرة والمحيط والمجتمع. واللغة تتجدد ابتكاريا توليديا ناميا متصاعدا بتاثير من المحيط والبيئة بالاستعمال.

أهم عقبة تقف امام أن لا تكون اللغة فطرة موروثة هو عامل أن كل لغة تمتاز عن غيرها بضوابط وقواعد نحوية وابجدية حروفية صوتية خاصة معينة بها لا تجدها بغيرها. والسبب الاهم تطور حنجرة الانسان في اطلاقه اصوات لا يستطيعها الحيوان.

بناءا على ما تم ذكره نتساءل هل اللغة منطق عقلي شفاهي أي بمعنى هل نستطيع القول عن اللهجة العاميّة مثلا انها لغة ما دون اللغة الام وليس ما فوقها؟ لا بالتاكيد كون اللغة تمتلك ثوابتها النحوية وقواعدها وابجديتها المحكمة التي لا يمكننا التفريط بها وهو ما تفتقده اللهجات التي تعتاش على اللغة الفصحى الام في خروجها التام عن ضوابط واحكام اللغة النحوية المرجع الاول والاخير.

الوعي واللغة

عندما نقول الوعي ليس هو العقل فنعني به افصاح العقل عن ذاته في مدركاته. بعبارة ثانية العقل لا يدرك ذاته الا بوعيه الاشياء والعالم من حوله. الادراك العقلي ليس هو المطابقة في وعي مطابقة الدال مع المدلول. ولا بتعبير هيجل ماهو عقلي موجود وكل موجود عقلي. بل العقل لا يدرك ذاته الا بادراكاته الغيرية من الاشياء. وما لا تعبر عنه اللغة في الاشياء والمواضيع لا يكون موضوعا لتفكير العقل. واذا ما كانت اللغة هي تضليل العقل اغلب الاحيان فمع من يكون صدق الحقيقة مع اللغة الام ام مع تعبير ما فوق اللغة؟.

اللغة والوجود:

(اللغة هي استفهام حول المعنى والوجود). بول ريكور

يتوسط الوجود بين حقيقة الشيء واللغة المعبّرة عنه، وكلاهما الحقيقة واللغة، مفاهيم تصورات نسبية، تنعكس عن الوجود المستقل للاشياء، وحقيقة اللغة كما يعبّر عنها عالم اللغات دي سوسير(نظام معرفي قائم بذاته) من جهة، ونسبية الحقيقة الوجودية من جهة اخرى. وفي تعالقهما الثنائي بالاشياء والموجودات يتعيّن بهما الوجود الحقيقي.

(كما ان الانسان لا يوجد في المطلق، بل يوجد في الزمان والتاريخ، يوجد حيث يفكّر، ويفكّر حيث هو موجود، ولا يمكن فهم الذات من دون توسّط اللغة والعلامة والرمز والنص)1، وبحسب بروتاغوراس ان الحقيقة هي مظهر الوعي، وان كل شيء نسبي، والموجود لا وجود له الا بالاضافة الى الوعي. الوعي هو إفصاح العقل عن ذاتيته.

هذه الجدلية التعالقية العلائقية بين الوجود والفكر كان تم حسمها منذ قرون، في اما ان تكون علاقة (مثالية) او ان تكون علاقة (مادية) ويتوضّح معنا هذا لاحقا.

ان اللغة ادراك عقلي مفاهيمي تداولي، شفاهي ومكتوب ومرئي، وتعبير رمزي صوري تواصلي. اما لغة الصمت فهي نوعين من التعبير اللغوي، من حيث الادراك العقلي لها، فهي لغة حيّة لا تقل اهميتها الوظائفية عن اللغة المنطوقة او المكتوبة، او المرئية، حين تكون لغة الصمت ادراكا ذاتيا واعيا بضروراته التواصلية والوظائفية، كما نجده في طقوس الديانة البوذية التأملية وبعض الاديان الوثنية الاخرى المعبّر عنها بلغة الصمت الطقسي الشعائري، واليوغا، المسرح الصامت، رقص الباليه، ولغة بعض المتصوفة المجذوبة الاغترابية عن المجموع*.

الوجود كينونة متعيّنة بالادراك العقلي لها، ويكون وجودا معطّلا من غير ادراك اللغة تواصليا معه. اما ان تكون لغة الصمت غير مدركة عقليا، بمعنى التعطيل الوظائفي لها في الحياة، عندها تكون وهما، وتعبيرا زائفا عن وجود الاشياء، بل تكون وهما خارج فاعلية الوجود، فهي لغة خارج المدرك الحسّي والعقلي للاشياء والموجودات، وهذه اللغة نجدها عند بعض الحيوانات وفي غطرفة وهذاءات المجانين العصّية على التلقي والاستقبال. فهي لغة غير منطوقة بنظام لغوي تعبيري تعريفي، ولا تهتدي بالعقل ادراكيا، وهي بلا معنى ولا هدف. فلغة الحيوان هي نوع من اللغة التواصلية (غريزيا) فقط، ليست لها امتدادات وظائفية خارج الحاجات البيولوجية الغريزية المحدودة للحيوان، بينما اللغة العقلانية لدى الانسان، لغة تواصل تداولي لمحمولات وظائفية لا حصر لها تغطّي جوانب الحياة بمجملها من ابسط الامور والى أعقدها. وبذا تكون اللغة المؤنسنة بالنوع خاصية انسانية لا يشاركه بها الحيوان، هنا الانسان يتأنسن باللغة وهي تتأنسن به، مثلها مثل علاقة الانسان بالطبيعة فهو يتأنسن بها وهي بدورها تتأنسن به .

 اللغة وجود ادراكي عقلي يتفرّد الانسان بحيازته ويختّص به دون غيره من الكائنات. واللغة هنا وسيلة العقل لأثبات وجود الاشياء، وبحسب غاديمير: (الكائن الذي يمكن ان يفهم هو الكائن اللغوي، وان اللغة هي الفهم، وهي التي تحدد علاقة الانسان بالعالم)2 .

يذكر الزواوي بغورة ان الفلسفة الوضعية المنطقية حوّلت التحليل اللغوي المنطقي الى واقع فلسفي قائم، وحصرت مهمة الفلسفة في التحليل اللغوي، واعطت اولوية اللغة على الفكر. كما سبق لفنتجشتين قوله (ان اللغة هي الفكر).

 تساؤلنا ايهما أسبق ادراكيا الوجود ام اللغة؟

في معرض اجابتنا اود تثبيت هنا تناقض كبير في عبارة عالم وفيلسوف اللغة دي سوسير يقول: (وجود الاشياء يسبق فكرتنا عنها) وهذا منطق مادي سليم ليس فلسفيا وحسب وانما علميا ايضا، لكن لنتأمل تكملة العبارة حين يقول:( الا انه يمكن القول بأن تصوراتنا هي التي تخلق الاشياء)؟ كيف؟.

طبعا هذا التناقض في عبارة واحدة، ينكر فيه دي سوسير موضوعة فلسفية معرفية ان مثالية التفكير تقود لمثل تلك الاستنتاجات الفكرية البائسة، في تقاطع ان وجود الشيء يسبق فكرتنا عنه، وهذه نظرة علمية مادية صحيحة، اما اننا ندّعي اننا نستطيع خلق اشياء من تصوراتنا عنها فهو لا يستقيم مع اي منطق عقلي اوعلمي. وجود الشيء لا يحدده التفكيربه، وانما يحدد الفكر وجود الشيء السابق عليه على الفكر.

في هذا التناقض المثالي لسوسير نجده ينسف ابجدية الفكر المادي حين يقول بامكانية المفاهيم المدركة واللغة خلق وجود الاشياء، فالجدل الماركسي يقول ان وجود الشيء يسبق ادراكنا له، وليس بأمكان تصوراتنا ان تخلق واقعا حقيقيا لوجود الاشياء، وانما وجود الشيء يخلق تصوراتنا التجريدية والمفاهيم عنه، واللغة او التصورات المنبثقة عنها لا تخلق حقائق الوجود، وانما الوجود يخلق حقائقه لغويا تجريديا بعد ادراك العقل له.

اما اذا أخذنا في نفس السياق مقولة فينجشتين(اللغة هي الفكر) فيكون معنا ادراك العقل للوجود والاشياء هي أسبق على أدراك العقل للفكر، من حيث ان الفكر هو انعكاس تجريدي وصوري لغوي في فهم الواقع والوجود. والعقل مستودع الافكار ومكمن انطلاقها، لذا فان ادراك العقل للوجود والاشياء يسبق ادراك العقل للافكار او اللغة المتعالقة بالتبعية التراتبية لوجود الاشياء. والادراك اللغوي مستمد من علائقية ادراك العقل للاشياء. وهذا الادراك يكون قاصرا وظيفيا ما لم تسعفه اللغة كنسق منظّم في تبيان خواص وتمظهرات الاشياء والموجودات المدركة عقليا(الحواس+العقل)، وكذلك وجود الانسان في الطبيعة ومحددات كينونته وجوهره.

انه من المهم جدا ان لا نغفل ان اروع الافكار هي التي تصوغها عبقرية اللغة، ولا يعطي وجود الاشياء المادية اللغة جمالية التعبير العبقري. ان عبقرية اللغة تسبق عبقرية الفكر. كما لا تقل اهمية اللغة في التعبير عن اهمية التفكير العقلاني، واللغة وسيلة العقل لا ثبات الوجود. ولغة الخيال ادراك غير فاعل لواقع الاشياء والموجودات في تعطيله التواصل المثمر.

اهمية ادراك اللغة للاشياء

ادراك العقل للوجود والاشياء ادراك ناقص ولا فاعلية له من دون مدركات اللغة التعبيرية الافصاحية عنه. الوجود يتم ادراكه عقليا كموضوع مستقل فقط قبل ادراك اللغة له، الوجود من غير ادراكه لغويا وجود مكتف بذاته يفتقد الحيوية والفاعلية والتأثير، اللغة كشف ادراكي عقلي للاشياء والموجودات، والوجود الواقعي لا ندركه ادراكا واعيا حقيقيا في تجريدنا ادراك اللغة له، ومن غير الادراك العقلي وتزامن الادراك اللغوي معه تصبح معرفتنا للوجود قاصرة غير منتجة.

وتعجز اية فكرة مدركة عقليا، أن يكون ادراكها مثمرا تواصليا منتجا من غير ادراك اللغة لها تداوليا، والفكرة التي لا تستوعبها اللغة بأرقى درجات التعبير التواصلي تبقى ناقصة ومشوّهة كفكرة ادركها العقل ولا يستطيع البوح بها ومقيّدة لا تستطيع التعبير عن نفسها.

نجد في دعوة كروتشة ان اهمية اللغة، يجب ان تكون مقتصرة على دراستها (جماليا) على صعيد الشعر تحديدا، فيها الكثير من التطرّف في تجاوز أهمية دراسة ابعاد اللغة كوسيط تداولي تعبيري، فلسفيا، اجتماعيا، وثقافيا واقتصاديا. ودراسة اللغة جماليا هو دراسة لواحدة من خصائصها الوظائفية العديدة وليس منتهاها .

ومثل ذلك ذهب هيدجر في اهمية دراسة اللغة، وايضا الشعر تحديدا لتبيان (المقاصد الوجودية من اللغة) وهي دعوة ايضا تستبطن اهمية اللغة جماليا، وفي تعطيل السمات والخصائص المتعددة للغة وظائفيا. ويضيف هيدجران اللغة وهي من تركيبات الانية، الا ان هذا التركيب لا يظهر الا في حالة الوجود الزائف، في صورة ثرثرة يومية، وهذه لا تتضمن حوارا بمعنى الكلمة او تبادلا للافكار. وقد ترتب على ذلك ان يصبح الوجود الحقيقي هو الصمت.

ان اهمية ادراك الشيء والتواصل به ومن خلاله ومعرفته لغويا، هو اكبر من اهميته كمدرك عقلاني (موضوع) مكتف بذاته خارج فاعلية واهمية اللغة له، اللغة بعد العقل هي المتعيّن الوجودي لجميع الافكار في ان تكون تداولية تواصلية ذات حيوية واثراء نافع للحياة.

***

علي محمد اليوسف

.........................

هوامش

* حول مصطلح ما فوق اللغة نشرتها دراسة قبل عامين ولاقت اعجابا كبيرا بعنوان (اللغة العربية ومصطلح ما فوق اللغة) فقد نشرت الدراسة على مواقع عديدة منها موقع كوكل، موقع الحوار المتمدن، موقع المثقف، موقع اضواء للبحوث والدراسات، موقع انفاس نت، موقع المجلة الثقافية الجزائرية. وغيرها من المواقع.

(1) و(2) نقلا عن الزواوي بغورة، شذرات عن كتاب الفلسفة واللغة، عرض وتلخيص.

* احيل الى دراستنا الخيال واللغة والتصوف، موقع صحيفة المثقف الغراء

عندما نطرق أبواب النصّ واتجاهاته الفلسفية والمنظورة في دائرة الحكم النصّي، نعتبر الاستدلال"  " إشارة نصّية، أو علامة من علامات النصّ التي تشترك في تواجده كمعنى وتأويل كلّي، فيتحرك كدالة انفصالية على المستوى الذهني، ومن هنا، نستطيع أن نقول: بأنّ الاستدلال مشترك في علوم الحداثة ومنها؛ الدلاليات واللسانيات والتداوليّات وعلم النفس، ومن خلال هذه العلوم سوف نطرق أبواب الاستدلال، وخصوصاً تلك العلائق المبنية ما بين الاستدلال والحِجاج، وبين الدلاليات والاستدلال، حيث أنّهما يشكّلان العلامات الدالة في النصّ المكتوب، وكذلك هي من ميزة المفاهيم النصّية وما تحوله من دوال حركية تؤدي إلى المعاني وتفسيراتها في المنطق والتفكيك والاختلاف (دريدا)، وفي ملامح الكينونة لدى (هايدجر)، وفي ملامح الاختلاف أيضاً. (تتصّل عبارة الاستدلال بجدول لغوي ثريّ من قبيل الدليل والدلالة واللزوم والاستنتاج والاستنباط والاقتضاء والبرهان والقياس والحجّة... إلخ ").

إذا بحثنا في هذا الخصوص إلى أنّ النصّ حالة جسدية فردية غير تقليدية، فإنّه يحوي على متعلقات تنغيمية، ومن هنا، نستطيع القول على هذا المنظور بـ (القول الجسدي التنغيمي)، وأمّا القول فهو المفتاح الأوّل لكي يوصلنا إلى البؤرة النغمية المرافقة للجسد، وإن تطرقنا بهذا الخصوص فذلك لكي نعمل جسراً بين الجسد التنغيمي والاختلاف، فإذا أخذنا اختلاف (دريدا)، فالكتابة لديه، هي ليست بين كلّ البشر، ولكن في الوقت نفسه، إنّ العوامل النفسية هي التي تدفع العامل الكتابي إلى التواصل، ومن هنا، يكون ربط الاستدلالي الكتابي بالعامل الداخلي للمؤلف، والذي يكون مستقرّاً كما تستقرّ الكتابة خارج الانفعال، أمّا في الانفعال الداخلي؛ تكون مساحة الكتابة، مساحة سريعة سرعان ما تختفي عند التوقف عن الانفعال الذاتي (وبما أنّ الكتابة ليست هي بين كلّ البشر، فإنّ الكلمات المنطوقة تكون كذلك. في حين أنّ أحوال النفس التي تكون هذه التعبيرات بمثابة علامات عليها بصورة مباشرة هي واحدة عند الجميع، كما تكون الأشياء التي تكون هذه الأحوال صوراً لها واحدة أيضاً ").

لا يمكننا إنهاء النصّ إلا من خلال المتموضعات، ومنها التموضع الفعلي الصاعد والتموضع الفعلي التنازلي والتموضع الفعلي المنتشر، ونعني من وراء ذلك سبل استقامة النصّ من خلال قصدية الباث، حيث أنّ اللغة حِجاجية قبل كلّ شيء، وقد تتجاوز الإبلاغ.

الفعل التموضعي الصاعد: وهي الأفعال الحركية الاتّجاهية والتي تتموضع في النصّ من خلال الاستدلال؛ وتعتمد على لغة مكثفة خارج التفاصيل، ويكون الحجاج اقتراحاً وليس مفروضاً على اللغة، ومن هنا تكون حركة المعاني أكثر تأويلا وتكون البراهين (ومنها البراهين اللغوية) أكثر قوّة.

في الحركة التموضعية يكون الحجاج مفهوماً لغوياً استدلالياً، فعندما نقول العاصفة قادمة، إذن هناك سماع دوي وحركة للأشجار وقد ينقلع بعضها، وتعتبر هذه النتيجة استدلالاً. فيكون الصعود؛ هو القوة التي تلازم الحركة، فمن الطبيعي أن تبدأ بحركة خفيفة، ولكنّها قابلة للتصاعد، وهكذا يكون الفعل التموضعي في النصّ، وهو يختلف بين فعل وفعلٍ آخر. (إنّ الحِجاج هو تقديم الحِجج والأدلة المؤدّية إلى نتيجة معينة وهو يتمثل في إنجاز تسلسلات استنتاجية داخل الخطاب، وبعبارة أخرى، يتمثل الحِجاج في إنجاز متواليات من الأقوال، بعضها بمثابة الحِجج اللغوية، وبعضها الآخر بمثابة النتائج التي تستنتج منها.).

الفعل التموضعي التنازلي: ويكون الفعل الحركي تموضعياً من الأعلى إلى الأسفل، فالذات الحقيقية تعلن عن نفسها عندما تفرغ شحنتها الكتابية، لذلك لا يعلى على اللغة أية ذات مستعارة، فاللغة هي العليا في جميع المجالات والكتابات النصّية، المقروءة منها والمكتوبة، والذي يكتب سيقرأ بكلّ تأكيد، لأن الرسالة الموجهة قد تكون رسالة تخييلية ولكنها تنزل من الذات لتوازي النصّ، وكذلك اللغة تنزل لكي تتوازى مع المعاني التي تحملها وتعتبر موازية لمعاني النصّ المكتوب.

تختلف تنازلات الأفعال فيما بينها، فهناك الاختلاف الزمني وكينونته، وهناك الاختلاف المكاني وصيرورته، فالأوّل نضعه ضمن زاوية الزمان والمكان (الزمكانية)؛ أما الثاني فتركيبه المكان على المكان، وفي الوقت نفسه، ربّما تتشابه الأزمنة، ولكن لا تتشابه الأمكنة إلا نادراً. وإذا تقصينا وحدة الحدث الكونية، فسوف نقترب من هذا التشابه (التشابه المكاني) كما يحدث لأحداث متتالية في عواصم عديدة في العالم.

الفعل التموضعي المنتشر: وتكون المساحة النصّية مستوعبة جميع حركات الأفعال، الحركية منها والانتقالية والتموضعية، لذلك يعتبر انتشار الفعل في النصّ المنظور، بأنّه الحاوي لجميع اتجاهات الأفعال وحركتها، العليا منها والسفلى، وكذلك الاتجاهات، الأمام والوراء...الخ

من المواضع التي تتقبل الانتشار النصّي، المطابقة وفعلها الإنتاجي، فعندما تكون الجملة تركيبية، فهي مطابقة المفردات مع بعضها، لذلك أكد ابن سينا على خصوصية تقبّل المفردات للتركيب؛ أيّ أنّ المطابقات تأخذ مساحتها في جملة على جملة أخرى وذلك لإتمام المعنى والتأويل، حيث تظهر العلاقات التأويلية بين جملة وأخرى، ويظهر الفعل المؤجل أيضاً.

سنخوض معارك تداولية ما بين الحِجاج والاستدلال من خلال بعض العناوين التي تكون البؤرة النقاشية وما نقدّمه بهذا الخصوص، حيث أنّ المفاهيم تختلف خارج الشروط؛ فأوجه التشابه يقابله أوجه الاختلاف، ووجه السنن يواجه الشيفرة المتواصلة في التداولية النصّية:

الحقيقة والسببية... الاستدلال والحِجاج... الكتابة النسقية... الكينونة والبناء الزمني...

لكلّ عمل برهانه، وطالما أنّ البراهين متعلقة بالأعمال المنتجة، إذن هناك وسائل بث لهذه الأعمال وهي المحطة الرئيسية (الباث) التي تتولى بثّ العمل المتجه لهدف ما، فالعلاقات المتواجدة بين الاستدلال والحجاج والبرهان، علاقات تواصلية – تداولية، لذلك يكون السند، ويكون التفكيك، ويكون الجدل (لدى هيغل)، وتكون الكينونة (لدى هايدجر)؛ وكلّ فعل حركي أو انتقالي أو تموضعي، يتنافى مع فعل آخر، أو يقف بالضد، وهذه العملية تعني لنا بأن النصّ الجامع، فيه من الضدّ التواصلي، وفيه من الوفاق التواصلي، وذلك بسبب العلاقات القائمة بين العناصر الدالة.

إذا كان الشخص الأوّل متطابقاً مع ذاته، فالشخص الثاني مختلفاً مع ذاته، ومن هنا، تظهر المتباينات والمسمّيات وكذلك الفوارق في العلاقات النصّية بين الشخص الأول الذي نفرضه كـ (برهان)، والشخص الثاني والذي يكون الأكثر تشعباً كـ (الاستدلال).

الحقيقة والسببية

يتعلق النصّ السببي بالذات الحقيقية، لذلك، ومن خلال العلاقات التي تظهر في النصّ، نجد بأنّ لكلّ نصّ سبباً، ولا نستطيع أن نكون مع الأسباب المباشرة، فقد تكون تلك الأسباب مدغمة من خلال المعاني، وقد تكون ظاهرة، وتحدّدها أيضاً المعاني التي تفتح أبوابها للتأويل؛ فإذا أخذنا الحقيقة كتحوّل ذاتي، فإنّ سبب التحوّل يقابله تحوّلات نصّية، حيث أنّ النصّ لا يمكنه أن يتواصل بكلام عادي أو يعتمد المباشرة والاستسهال الكتابي؛ لأنّه سيصطدم بالكتابة الساذجة.

لا نبتعد عن سياق الحقيقة، حيث أنّها على علاقة بالواقع، وقد تدغم حقيقة الواقع في الفعل الخيالي، ولكن هذه المهمّة لا تسيطر سيطرة تامة على النصّ، فلابد من إشارات حقيقية تقودنا إلى دلالات معرفية، والتي تكون المرشد الأوّل في الخطاب الكتابي. ما يكسبه النصّ في الثبات لا يمكنه التغيير، وما يرفضه النصّ من تغييرات؛ فهو الضرورة النصّية التي لا تلزمها التغييرات، وذلك لأنّ البنية اللغوية لا تستجيب لأيّ تغيير نصّي قد يطرأ عليها، وتعدّ هذه من الأسباب الضرورية في العلاقات النصّية التي تلائم النضوج النصّي، والكشف عن المفاهيم اللغوية والتباينات بين كلّ من الاستدلال والحِجاج، حيث أنّ العلاقة بينهما علاقة برهانية من خلال ترابط الأقوال التي يزرعها الباث في الخلق النصّي (فترابط الأقوال لا يستند إلى قواعد الاستدلال المنطقي وإنّما هو ترابط حِجاجيّ لأنّه مسجّل في أبنية اللغة بصفته علاقات توجّه القول وجهة دون أخرى وتفرض ربطه بقول دون آخر فموضوع الحِجاج في اللغة هو بيان ما يتضمنه القول من قوّة حِجاجية تمثل مكوناً أساسياً لا ينفصل عن معناه، يجعل المتكلّم، في اللحظة التي يتكلّم فيها، يوجّه قوله، وجهة حِجاجيّة ما. "   ").

لا يوازي النصّ الحقيقي إلا نصّاً حقيقياً، لذلك يعتبر الباث نصّاً مستقلا، لا يوازيه إلا النصّ المقروء مثله، لذلك يكون الباث الجزء المحرّك بذاته، وهو ضمن بعض البيانات التي يتكئ عليها، ومنها التوجيهية والمرجعية والتجنيسية؛ وفي الوقت نفسه إذا ما أخذنا موضوع العتبات النصّية، فبالإضافة إلى العنونة، فالباث أحد هذه العتبات، وخصوصاً أنه المقروء الأوّل قبل أن يكون واحداً من المعاني الخارجية. 

تمتلك هذه العناصر نظاماً إشارياً حركياً، وبما أنّ الباث يشكل إحدى تشكيلاتها، إذن فالنصّ الأثر الكلي، والمعنى هو الأثر الباقي من التأويل.

الاستدلال والحِجاج

إنّ النصّ المكتوب يأخذ على عاتقه التصوّر المختلف في الكتابة التي لا تراجع عنها إلا بموضوع النسف، ولكن لا يمكننا أن ننسف الزمكانية عندما يتعلق الأمر بالدال الذي يكون سبباً للدلالة التي نعنيها في المعنى، لذلك نمنح النص النتائج المرسومة من خلال أسباب وعلاقات ومتعلقات نصّية، والبناء والتشييد والإعادة النصّية اللذين يلازمون حالات الاستدلال عندما تكون اللغة دالة ومقوّمة على المعاني المتواصلة، لذلك فالتحوّلات التي يخرج بها النصّ، هي تحولات استدلالية تؤدي إلى نتائج بالتأويل.

تقودنا بعض العبارات النصّية إلى قول مؤكّد وقول غير مؤكّد، فالقول المؤكّد هو الخارج من واحة التفكّر الكلامي عندما يكون الباث قد اعتنى بهذا التأكيد، وفي الوقت نفسه، هناك القول المتأرجح الذي يحتاج إلى دلائل تأكيدية لتؤدي إلى نهاية نصّية، ومنها الضوابط المعرفية.

في حالة نسف الموجود في اللاوجود، تكون اللغة هي الفاصل القياسي بينهما، فالحالة تصبح افتراضية قبل أن تكون حالة تواجد فعلية، وذلك لأنّ النصّ وإن اعتنى بالزمنية، فالزمنية ضمن الموجود، في اللاوجود الفعلي في النصّ، ومن هنا يكون مثلا؛ قياس الماضي، ضمن وجود الحاضر، الذي هو في دور الحدث الفعلي، أما الحدث المستقبلي، فهو ضمن الوجود الذي لم يحدث بعد.

من خلال اللغة الحجاجية نجد أنّ هناك الالتزام والتبرير والشرط وكذلك الاستنتاج، وفي الحالة التواصلية نقيس الحجاج على التقنيات الاستدلالية. ومن الممكن أن تكون حجة أكثر قوّة من حجة أخرى، وهذا وارد في اللغة التي يوظفها الباث عندما يكون متكئاً على آليات استدلالية تواصلية مثلاً: لا نضطرّ أن نذكر بعد الأسماء بالتفصيل، فعندما نتكلم مثلا عن الحدادة، فبكل تأكيد هناك حداد يدير هذه المهنة، وبدلا من أن نقول مثلا؛ المدينة الفلانية هي ضمن البلد الفلاني، فنكتفي بذكر المدينة أو العاصمة فقط، وهي بالنتيجة استدلالية لا غبار عليها والمتلقي سيعرف المقصود من وراء ذلك، كأن نعتمد على التشفير الجزئي عندما نبحر في اللغة الممكنة.

الكتابة النسقية

إنّ الاستعانة بالعقل والمنطق تعد سمة من سمات الكتابة السياقية، والتي تميل أيضاً إلى المتعلقات الدلالية وذلك لكي تأخذ البراهين والاستنتاجات في الجمل التي يرسمها الباث طريقا أوّلياً، وهي بكلّ تأكيد متعلقة باللغة، فالانحياز اللغوي خير دليل على التواصل معها، وخصوصاً إذا كانت لغة نصّية ذات علاقات داخلية وخارجية؛ والغاية منها تأطير النصّ بما يلائمه من مفردات وجمل وتعابير ومركبات، فيكون الالتزام بالاستدلال بكلّ أنواعه قد أخذ مساحته الجدلية، وتوظيف المساحة الجدلية في النصّ المكتوب، بسبب البناء كهدف تواصليّ بالتسلح بالحجاج وذلك للتأثير والإقناع والحوار. والهدف من هذا كله أن نذكر أنّ الكتابة النسقية؛ كتابة منطقية، حجاجية وجدلية وحوارية، ويكون الحوار الحِجاجي ذا أنواع مختلفة، ويدخل معنا على هذه الخطوط الرأي التشكيلي الذي يهمّ المتلقي (سياق المتلقي)، والذي يكون إمّا على شكل علامات موجهة أو شيفرة لغوية ضمن السياق الكتابي (إذا كانت المقاربات البنيوية قد تعلقت بوهم النسق المغلق والتحليل المحايث فإنّ المقاربات السيميائية استطاعت أن تتجاوز هذه الحدود الضيّقة لترتقي بها إلى منزلةٍ انبثق منها خطاب واصف Métadiscours تمثلت وظيفته في البحث عن الأنساق السيميائية الدالة بمستوياتها اللسانية وغير اللسانية. وهذه الأنساق لم تفصلها السيميائية عن إطارها الاجتماعي العام والملابسات التي أحاطت بنشأتها؛ وذلك ما تنبأ به دي سوسير في محاضراته حول اللسانيات العامة).

تعتبر السيميائيات من الأنساق الدالة، دلالياً ومعرفياً، حيث أنّ التأويل صيغة رئيسية في المنظور النصّي، لذلك فالسيميائية عندما تدرس النوع ومنها النوع الأدبي فإنّها تقودنا إلى أنساق دلالية وآليات تأويلية، ومن هنا من الممكن أن نوضّح الدوال النصّية، حيث يكون التشفير النصّي سمة من سمات الرموز والتي تتخاتل في المنظور النصّي إذا ما اعتمدنا السيميائية كمنهج سببي. وإذا ما أخذنا الناحية الجسدية، فيكون نظام الإشارات الدالة هي الأقرب في توضيح الجمل التواصلية في النصّ؛ فهناك الإشارات المتعلقة في ذهنية الإنسان ومنها إشارات اليد والأصابع وحتى حركة الإنسان واتجاهاته، وهناك العلائق الدلالية غير اللفظية ومنها السمع والبصيرة.

التعلّق الدلالي: كلّ نصّ من النصوص يحوي على حركتي الدال والمدلول، ويكون للتأويل مساحة حركية من أجل أن تكون الدوال خلايا بنائية متعدّدة الاتجاهات، لذلك تظهر في النصّ بعض المتعلقات الذاتية، وهي الجزء الأكبر من التفكّر الذي ينعكس على النصّ المكتوب عندما يكون الباث قد فقد الصور المباشرة وراح يستدعي المدلول من خلال الصورة الذهنية؛ حيث هنا تكمن الطبقة الخصبة للمعرفة الدلالية والتي تلتف حول المعاني المؤولة، وكلّما كبرت المعاني تكبر الدلالات وتتعدّد المفاهيم.

في المفاهيم الدلالية ومن خلال الاستدعاء الذهني يكون الباث بين اتجاهين، الأوّل من خلال الدال، والثاني من خلال المدلول، وهكذا تكون المعاني قد التمت وخصبت في الحكم الدلالي المعرفي.

الصورة الذهنية = الدال... الصورة الذهنية = المدلول ".

كما أنّ أمر الدلالة يقودنا إلى أمر كلّي وأمر جزئي، يلتقيان في المعنى الكلّي للدلالة أو يبنيان نفسهما في الأمر الجزئي للدلالة، ومن هنا، يعتني المؤلف بأمر الدلالة وحركتها، كأن تكون من خلال الدلالة المعرفية أو الدلالة التموضعية والتي شغلت منطقة حديثنا في التعلق الدلالي.

***

كتابة: علاء حمد - عراقي مقيم في الدنمارك

آخر كتبه النقدية: المحسوس وثقافة المتخيل، الصادر عن دار جبرا في الأردن...

..................

المصادر

1  - الاستدلال بمعناه العام – فهو طلب الدليل، أو طلب الدلالة، والدلالة ما يتوصل به إلى معرفة الشيء – وقد جاء ذلك في بعض كتب المؤلفين ومنهم: التعريفات – ص 17... الإحكام لابن حزم 1/39 ... قواطع الأدلة 1/44

2- (راجع مثلا التهانوي، مواد دليل واستدلال ودلالة وقياس وحجة واللزوم مثلا، وراجع كذلك المحاولة التأليفية التي يقترحها طه عبد الرحمن، 1988، ص 85 – 89 وص 138 – 145). من كتاب: الاستدلال البلاغي – ص 14 – الدكتور شكري المبخوت.

3- في علم الكتابة – ص 72 – جاك دريدا – ترجمة وتقديم: أنور مغيث ومنى طلبة...

4- اللغة والحِجاج – ص 16 – الدكتور أبو بكر العزاوي.

5- أهمّ نظريات الحِجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم – ص 352 – شكري المبخوت ضمن مجموعة من الباحثين.

6- القراءة النسقية، سلطة البنية ووهم المحايثة – ص 113 – د. أحمد يوسف

7- من وجهة نظر عقلية صرفة، توصّل الفيلسوف الأمريكي بيرس Pierce إلى تقسيم ثلاثي للعلامات يقترب من أنواع الدلالات عند العرب. فتقسيم العلامة إلى شاهد Index وأيقونة Icon ورمز Symbol. الذي شاء من بعجه في السيمياء الحديثة، يشبه ولا شك أنواع الدلالات الثلاثة، أعني العقلية والطبيعي والوضعية. كما أنّ هناك أكثر من جانب تقارب بين نظرية الدلالة عند العرب والسيمياء عند بيرس. – علم الدلالة عند العرب، دراسة مقارنة في السيمياء – ص 13 – تأليف: عادل فاخوري.

المثقف في سياقه العام، هو كل من اشتغل على المعرفة وساهم في انتاجها، بغض النظر عن النسق المعرفي الذي اشتغل عليه هذا المثقف أو ساهم في إنتاجه، إن كان على المستوى الديني (المقدس) أم على المستوى الوضعي (الدنيوي)، مختصاً كان هذا المثقف أم شموليّاً/ موسوعيّاً.

والشيء المؤسف في الحقيقة أن معظم هذه الشريحة من الشعب تظل في عالمنا العربي مغيبة وفاقدة لدورها في بناء الدولة والمجتمع، الأمر الذي يدفع قسماً منها أحياناً إلى انتقاد طبيعة الأنظمة الحاكمة وخاصة الشموليّة منها. وهذا الموقف الانتقادي لها، غالباً ما يدفع هذه الأنظمة إلى محاربة هذا المنتقد أو إقصائه وزيادة الضغط عليها، الأمر الذي قد يحوله إلى معارض للسلطة.

يقول الحجاج عن المعارضة ومنها حتماً أصحاب الرأي، أي المثقفين ممن عارض السلطة أو الخلافة الأمويّة في سياستها آنذاك قائلاً: (من تكلم قتلناه، ومن سكت مات بدائه غماً). هذه المقولة التاريخيّة المعبرة عن استبداد السلطات الحاكمة وقهرها لمعارضيها أو منتقديها بشكل عام وللمثقفين العقلانيين التنويريين بشكل خاص لم تزل سارية المفعول حتى تاريخه.

لقد ظل تعاضد السيف والسلطة قائماً في الدولة العربيّة منذ بداية الخلافة الإسلاميّة حتى اليوم، هذا التعاضد الذي عبر عنه الخليفة عبد الملك بن مروان بعد توليه الخلافة خير تعبير، عندما مسك القرآن بيده وراح يخاطبه بعد أن قبله قائلاً: (هذا فراق بيني وبينك)، ثم ذهب ليخطب بالناس في الجامع قائلاً عبارته المشهورة: (من قال لي بعد اليوم اتقي الله لقطعت رأسه بحد السيف). فالسيف والسلطة في السياسة العربية صنوان، أو وجهان لعملة واحدة وضحيتها دائماً المعارض للسلطة أو الناقد لها وفي مقدمة هؤلاء المثقف، وإن سادت أحياناً شعرة معاوية بينهما، إلا أن هذه الشعرة تُقطع عند تضارب المصالح أو الرغبة في تحقيقها، كما جرى في حادثة تولية يزيد بن معاوية الخلافة عندما وقف والي الأردن “زياد بن المقفع” أمام حشد من الولاة جاؤوا لزيارة معاوية وهو على فراش الموت، فقال مخاطباً الولاة: (أمير المؤمنين هذا، وأشار إلى معاوية، وإن مات هذا فهذا، وأشار إلى يزيد، ومن أبى منكم فهذا، وأشار إلى السيف. – وهنا قال له معاوية تعال واجلس بقربي فإنك والله خير المتكلمين). فشعرة معاوية هي ليست أكثر من تكتيك لحاكم حليم يريد أن يكسب الناس ويُسكتهم بالحسنى، حباً أو رغبة بالسلطة والاستمرار بها، ومن يمانع أو يحتج على هذه الرغبة، فستقطع بالضرورة شعرة معاوية وتفقد مفعولها أمام حد السيف. وفي أغلب الأحيان لا توجد ضرورة أصلاً لهذه الشعرة بالأساس إذا ما توفر من مشايخ السلطان ومثقفيه من يبرر حتى استبداد الحاكم ويشرعنه. ﻛ (الطرطوشي) على سبيل المثال لا الحصر، في كتابه (سراج الملوك) في الباب السابع ص 156، قوله: (كذلك السلطان إذا كان قاهراً لرعيته، كانت المنفعة به عامة، وكانت الدماء في أهلها محقونة، والحرم في خدورهم مصونة، والأسواق عامرة بالأموال محروسة).(1) وهناك في الحقيقة الكثير غير “الطرطوشي” من مثقفي ومشايخ السلطان، في تاريخ الدولة الإسلامية الذين نَظَروا للاستبداد والملك العضوض، ومحاربة الشورى وتداول السلطة، أمثال: عبد القادر البغدادي وابن حزم والماوردي وأبو يعلي الذان دافعا عن سلطة البويهيين، وهناك الغزالي الذي دافع عن سلطة المماليك، وهناك ابن جماعة الذي دافع عن سلطة المغول حيث يقول: (عندما يطمع في الخلافة من لا يستحقها، ويقهر الناس بقوته وقواته، وذلك بغير اعتراف شرعي ولا دليل على خلافته، فينبغي الاعتراف بشرعيته ووجوب الطاعة له، وذلك للحفاظ على نظام الجماعة الإسلاميّة ووحدتها، وعندما يأتي شخص آخر ويقهر الأول بقوته وقواته، فإن الأول يُخلع ويكون الثاني هو الخليفة، وذلك خدمة للجماعة الإسلامية.(2)

إذن هذا هو حال السلطة ومنتقديها أو معارضيها بشكل عام، والمثقف العقلاني التنويري بشكل خاص في دول عالمنا العربي في مجملها. ولكن لا يمكن أن تكون هناك معارضة حقيقيّة إذا لم يكن هناك من يعمل على توعية الناس والاشارة لهم إلى مواقع ظلمهم وأسبابها ومن هي القوى الكامنة ورائها، وهنا يأتي دور المثقفين الذين يقودون المعارضة ويحرضون على الثورة، رغم معرفتهم المعاناة التي سيلاقونها أثناء ممارستهم لدورهم التحريضي داخل الدول والمجتمعات، وخاصة في المجتمعات والدول التي يسود فيها الجهل والتخلف والاستبداد. هذا ومن بين هؤلاء المثقفين (الثوار) خرج سياسيون، منهم من كان مواليّاً للسلطة ويعمل لخدمتها بعجرها وبجرها كما بينا أعلاه، ومنهم من كان معارضاً للسلطة وخاصة المستبدة أو الشموليّة منها. ومن خلال رؤى هؤلاء المثقفين ظهرت عبر التاريخ العربي الإسلامي المذاهب والفرق الدينيّة، التي عُرف الكثير منها بأسماء أصحابها، بينما في تاريخنا المعاصر تحولت هذه التكتلات الاجتماعيّة المعارضة إلى أحزاب سياسيّة تغيرت البنية الفكريّة فيها تاريخيّاً، من الفكر الديني، إلى الفكر الوضعي المشبع بشعارات الوطنيّة والقوميّة والحريّة والعدالة والمساواة والمواطنة وتحرير المرأة وغير ذلك. وإذا كان أصحاب تلك المذاهب والفرق بشكل خاص قد لقوا الكثير من ظلم وقهر السلطة في الخلافة الإسلاميّة في عصرهم، بسبب معارضتهم للسلطة أو عدم محاباتها أو تقديم الولاء لها، أو حتى نصيحتها أو رفض الاشتغال معها، كما هو حال الفقيه صاحب المذهب المالكي، عندما رفض إقرار حديث للمنصور على لسان الرسول يخدم البيت العباسي، فسجنه الخليفة “المنصور” وصلبه بعد أن عراه من كل ملابسه، حتى يهين إنسانيته، وهذا أبو حنيفة قتل مسموماً في زمن المنصور نفسه كونه كان يميل لآل البيت من جهة، ثم لرفضه استلام القضاء بعد أن كلفه المنصور به من جهة ثانية. وهذا ابن حنبل يسجن ويعذب في زمن الخليفة المعتصم كونه رفض القول بالقدر وبخلق القرآن الذي كانت تقول به السلطة الحاكمة آنذاك. وهذا “جعد بن درهم” يأمر الخليفة هشام بن عبد الملك أن يضحي به والي العراق يوم العيد الكبير كما يُضحى بالخراف في هذا اليوم، كونه وقف إلى جانب الموالي في احتجاجهم على ظلم الخلفاء لهم، ولكونه قال أيضاً بخلق القرآن، وإن الإنسان مسؤول عن أفعاله، وليس كما يقول خلفاء بني أميّة بأن أفعال الإنسان وفي مقدمتها أفعال الخليفة مقدرة له من عند الله، وليس له أي دور في أعماله ولا يحاسب عليها بعد أن أكد لهم هذا الرأي أربعون مثقفاً من مشايخ السلطان المؤمنين بالجبر، عندما اجتمع بهم يزيد بن معاوية وقال لهم: (هل يحاسب الخليفة على أعماله يوم الحساب؟. فقالوا له: إن الخليفة لا يسأل عن أعماله ولا يحاسب). لذلك، كيف يأتي مثقف آخر مغرض في قوله ونواياه ويقول بأن الخليفة يسأل!. فهذا خروج على الدين نفسه، وبالتالي هي ضلالة وكل ضلالة كفر، ومن يُكفر يجب أن يذبح. وهذا الموقف الجبري بعد أن كثر المثقفون القدريون في عصر المأمون، جاء الخليفة الواثق ليصدر فرماناً يحرم فيه استخدام العقل على كل رعايا الخلافة، وعلى رأسهم المثقفون (المشايخ)، الذين شُكلت لهم محاكم تفتيش راحت تسألهم عن قناعاتهم بالقدر والجبر، ومن يشك في أمره ونواياه (القدرية) يسجن فيعذب أو يقتل.

نقول: إن هذا الموقف المعادي للمثقف التنويري القدري في العصور الوسطى من الخلافة الإسلاميّة، ظل سائدا حتى تاريخ دولنا الحديثة والمعاصرة تجاه المثقف التنويري العقلاني في المفهوم الحديث للمثقف، ففي القرن التاسع عشر ظهر “الطهطاوي” الذي استطاع بعلمه ومعارفه العقلانيّة التنويريّة التي تأثر بها عند دراسته في فرنسا (أفكار الثورة الفرنسيّة)، تطوير التعليم في مصر حتى سبقت مصر الدولة العثمانيّة نفسها بكل ولاياتها آنذاك عدا تونس في مرحلة (خير الدين التونسي)، ومع ذلك حاربه ولي النعم الخديوي العباس ونفاه إلى السودان جزاءً له على تعليم الناس والوقوف بوجه مشايخ السلفيّة الذين كانوا يُعلمون أبناء الشعب المصري كيف يقطعون أعضاء أجساد أبنائهم أو سمل عيونهم كي يمنعوهم من الذهاب إلى المدارس التي افتتحها الطهطاوي برغبة “محمد على باشا” لأنها برأيهم كفر وبدعة.!. وهذا ما جرى مع الشيخ المتنور علي عبد الرازق في النصف الأول من القرن العشرين، عندما أصدر كتابه (الإسلام وأصول الحكم) وقال بأن الإسلام ليس دين سياسة، ولم يحدد النص القرآني ولا الحديث طبيعتها ونظامها أو آليّة عملها، ودعا إلى فصل الدين عن الدولة. فغضب عليه أصحاب القرار السياسي آنذاك وعلى رأسهم الملك فاروق، الذي كان يطمح بالخلافة الإسلاميّة بعد أن أعلن كمال أتاتورك إنهاءها وإعلان تركيا دولة علمانيّة، فنال “علي عبد الرازق” جزاءه على فعلته هذه، حيث فصل من عمله وحورب بلقمة عيشه وقدم للمحاكمة بجرك التكفير، فاضطر أن يتراجع عن رأيه.

مع بداية القرن العشرين ظهرت أحزاب سياسيّة، راحت تحارب ليس المثقفين التنويرين العقلانيين فحسب، بل محاربة حتى التعامل مع هذا الفكر العقلاني التنويري ذاته والحد من نشاطه بهذا الشكل أو ذاك، وخاصة عند من استلم السلطة من هذه الأحزاب، فهذا مشيل عفلق مؤسس حزب البعث يقف ضد المعرفة ذاتها بقوله: (إن أصدق مرآة للنفس الإنسانيّة هي الأعمال… ولا أكتمك أنني كلما فكرت بأن أكرس نفسي للكتابة أخجل في داخلي وأحتقر نفسي نوعاً ما، لأن الكتابة ليست غايتي العميقة، بل أنظر إليها كأنها شاهد على عجزي عن العمل ودليل نقصي).(3) بهذا الموقف من الفكر، بالنسبة لقائد حزب قومي استلم السلطة في دولتين عربيتين كبيريتين (سورية والعراق)، كيف ستكون حال البنية الفكريّة والتنظيميّة لهذا الحزب.؟!، كون الكتابة التي يمقتها عفلق لا يمكن أن تقوم بدون فكر، وهو ذاته الذي لم يقرأ كتاباً واحداً على حد قوله منذ عام (1956). فمع غياب الفكر، سيحل بالضرورة الكسل العقلي، وستغيب الممارسة السليمة أو العقلانيّة حتماً، لأن هذه الممارسة ستفتقد إلى المنهج الفكري الذي يحدد كيفية الوصول إلى الأهداف المراد تحقيقها. ومع غياب المنهج الفكري ستسود الذاتيّة والارتجال والثرثرة الثوريّة. وهذا ما حدث في حزب البعث، حيث ظل المثقف فيه مهمشاً ومحارباً داخل الحزب وخارجه، لذلك لا نستغرب أن نجد صدام حسين الذي حكم العراق أربعين عاماً بالحديد والنار باسم (بعض المنطلقات النظريّة) التي وضعت على الرف منذ المؤتمر القومي السادس الذي أقرها فيه عام 1966، عندما قُبض عليه وقدم للمحاكمة كان يحمل بيده القرآن وليس المنطلقات النظريّة التي حكم العراق باسمها ثلاثين عاماً، وأن نائبه “عزت الدوري” شكل بعد سقوط البعث في العراق فصائل (النقشبنديّة)، التي تحول معظمها إلى تنظيم (داعش).

وهذا الموقف من الفكر ومحاربته أو التقليل من أهميته لدى الأحزاب القومية العربية، نجده عند عبد الناصر الذي يقول في الميثاق: (نحن لا ننظر إلى الواقع في النظريات، وإنما ننظر إلى النظريات في الواقع)، لذلك هو لم يختلف في شيء عن البعث سوى أنه وضع الحريّة أول أهداف الحزب، في الوقت الذي وضعها البعث الهدف الثاني بعد الوحدة. وعندما توفي عبد الناصر انهارت هذه الأهداف ومشروعها القومي وتحول اسم مصر من (الجمهورية العربية المتحدة) إلى (جمهورية مصر العربية)، وجاءت كلمة العربيّة هنا على استحياء، بالرغم من أن السادات باع العرب والعروبة، وراح ينسق مع التيار الديني وإسرائيل معاً عند استلامه السلطة. وهذا الانهيار نجده عند بعث العراق، فمع إعدام صدام انهار البعث في العراق، وكذا الحال في ليبيا، فمع سقوط القذافي انهارت نظريته العالميّة الثالثة، التي هي بالأساس ولدت ميته.

في نهاية هذا البحث نود الإشارة هنا إلى العلاقة بين السياسي المحترف، والمثقف المحترف، حيث لا علاقة إيجابيّة بين الاثنين. فالسياسي المحترف ظل يتعامل بنديّة مع المثقف المحترف، ويسعى بشكل دؤوب لإقصائه بما يمتلكه هذا السياسي من قدرات سلطويّة داخل الحزب وخارجه. ونتيجة لحصار المثقف التنويري العقلاني، غالباً ما يضطر هذا المثقف إما إلى الجلوس في بيته كي يموت بهمه كما يقول الحجاج، أو يشد الرحال للهجرة أو الهروب من وطنه إلى وطن أخر غير وطنه ليقع بالضرورة في فخ سلطة أخرى أكثر سوءً من السلطة التي هرب منها، حيث ستقوم سلطة البلد المهاجر إليه هنا باستثماره للتطبيل والتزمير لها، أو العمل على محاربة بلده ووطنه لمصلحتها، وما أكثر هذه الحالات اليوم بسبب ما سمي بثورات الربيع العربي، فمعظم المثقفين التنويريين الذين هربوا من بلادهم إلى بلاد البترودولار، تحت ظروف اللجوء السياسي، اضطر بعضهم أن يكون أداة بيد هذه الأنظمة، وهي بطبيعتها أسوا بكثير من أنظمتهم في استبدادها وقهرها لمواطنيها.

إن هؤلاء الهاربين من المثقفين، اعتقدوا بانهم بهروبهم سيفتح لهم المجال واسعاً أيضاً كي يتحولوا إلى فلاسفة ومنظري ثورات، بيد أن ذلك لم يحدث، فكان هروبهم في حالته، كحال المستجير من الرمضاء بالنار.

نعم… إنها السلطة الاستبداديّة الشموليّة وسيفها وأيديولوجيتها، ستظل المعوق الرئيس للمعرفة العقلانيّة وحواملها الاجتماعيّة. وهذا ما اشار إليه الكاتب النهضوي “شبلي شميل” مع نهاية القرن التاسع عشر بقوله: (ومن الأسباب القاضية على نبوغ الكتاب في المشرق وقوف حكوماتهم ضدهم، فقد تعودت الحكومة أن تنظر إلى هذه الطائفة كأنها من الآفات التي ينبغي مقاومتها أكثر من تنشيطها، وذلك لعدم معرفة الكثير من الحكام مالها من الأهمية وما لكبارها من النفع في رفع شأن هذه الأمة، إذ لا يعرف قدر الشيء إلا أهله، فمهما أجاد الكتاب في حكومة هذا شأنها، ومهما أظهروا الاستعداد لأن يكونوا من النوابغ فلا يصادفون إلا إعراضاً منها يحملهم على أحد أمور ثلاث هي: إما كسر القلم، وإما تحديده ضدها، وإما إذلاله لها. وأبلغ من ذلك هو الإساءة إلى تخريب ذمم الكتاب وشرائهم بالمال ليكتبوا غير ما يفكروا به، أو يصمتوا عما يعتقدون، حتى ينحط مقام الكتابة بهم والنتيجة من ذلك في كلا الأمرين قتل الأفكار وإفساد الأخلاق وموت الكتاب الذين يفتخر بهم، وما وجدت الحكومات لمثل هذا).(4)

ملاك القول: مسكين هذا المثقف التنويري، فإن سار على طريق (إقرأ باسم ربك..) أي المعرفة، لاقى من السلطة الحاكمة المستبدة القهر والظلم والمعاناة جزاء قراءته وعلمه ومعرفته، وإن لم يقرأ تحول إلى إنسان جاهل شأنه شأن أي مواطن آخر تريده هذه السلطة من سقط المتاع.

***

بقلم : د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

.........................

المراجع:

1- عن مجلة النهج- مركز البحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي- دمشق- العدد/ 18/ 1999. ص 47

2- شتنبات– فرنسيس– الإسلام شريكاً– عالم المعرفة– الكويت– ص 170.

3- النهج- مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي- دمشق – العدد 4- 1995- ص 75.

4- النهج المصدر السابق- ص 157.

في رسالة للفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632-1677) نجد العبارات التالية: "بمزيد من التصور، انا أرى ان الصخرة اثناء استمرارها في الحركة يجب ان تكون قادرة على التفكير والمعرفة بانها تسعى قدر الإمكان لتستمر في تلك الحركة. مثل هذه الصخرة، كونها واعية بمحاولتها وليست مختلفة ابدا، سوف تعتقد انها حرة تماما، وسوف تعتقد انها تستمر في الحركة فقط بسبب رغبتها الخاصة . كذلك حرية الانسان، التي يفتخر دائما بحيازته لها، والتي تكمن فقط في حقيقة ان الناس واعون برغبتهم لكنهم جاهلون بالأسباب التي تقررت بواسطتها تلك الرغبة" (رسالة الى G.H.Schaller، اكتوبر 1674).

هذه العبارات في رسالة سبينوزا تؤكد بانه كان فيلسوفا حتميا. وبدون تحريف لرسالة سبينوزا، نحن يمكننا إعادة صياغة العبارات كالتالي: "لو ان الصخرة في حركتها كان لديها وعي بمستوى وعي الانسان، عندئذ فان الصخرة كما في الانسان، وكما بالنسبة للفلاسفة، سوف تعتقد انها تتحرك بفعل ارادتها الخاصة ورغبتها الحرة، رغم انها ليست كذلك".

لو انتقل المرء من أواخر القرن السابع عشر الى أواخر القرن العشرين، في محاضرة القيت في شهر مارس  1990 للفيزيائي وعالم الفلك البريطاني ستيفن هاوكنك ايضا عبّر فيها عن رأيه حول الرغبة الحرة (انظر الفصل 13: "هل كل شيء مقرر؟" في كتابه الصادر عام 1993 بعنوان الثقوب السوداء والأكوان الوليدة)(1). يجادل هاوكنك بان مفهوم تضاؤل المسؤولية diminished responsibility في القانون الجنائي البريطاني يجب الغاؤه. بموجب هذا المفهوم القانوني يمكن تخفيض عقوبة العديد من المتهمين بجرائم في ظروف استثنائية، وحتى في حالات نادرة جدا انهم ربما يُعتبرون "غير مذنبين" لو افترض القانون او المحاكم ان هؤلاء المتهمين ليس لديهم سيطرة كاملة او فهم كامل لأفعالهم. ان مفهوم تضاؤل المسؤولية او ضعف القدرة يمكن رؤيته ايضا في حالات نادرة حيث المجرمين المتهمين وُجد "غير مذنبين" بسبب الجنون".

الدافع وراء التفكير في مقترح هاوكنك بالغاء هذا المفهوم القانوني لتضاؤل المسؤولية هو انه طالما كل أفعال البشر تتقرر سلفا، فلماذا نعطي الأفضلية للمتهمين الجنائيين في دفاعهم عن تضاؤل المسؤولية؟. هاوكنك يبدو يقول "لا تقبلوا فقط عدد محدود من ادّعاءات المتهمين المجرمين بانهم " لايستطيعون  التوقف عن الفعل او السيطرة على أنفسهم"، لأن المجرمين الآخرين، وفي الحقيقة كل الناس لا يستطيعون السيطرة على جميع أفعالهم ايضا". مع ذلك، في بريطانيا العظمى لم يُلغ العمل بمفهوم  تضاؤل المسؤولية، ولم يُلغ ايضا في المستعمرات البريطانية السابقة، من استراليا مرورا بالهند وماليزيا وحتى زمبابوي. السؤال المطروح، لو عاد الينا سبينوزا الان، هل سيوافق مع صيغة هاوكنك في الحتمية الفلسفية؟ كذلك، بعد دراسة القانون الجنائي الحديث وعلم الجريمة، هل هو يوافق مع اقتراح هاوكنك بان العقيدة القانونية في تضاؤل المسؤولية يجب ان تُلغى؟ يمكن القول بان هناك اختلافات صغيرة بين سبينوزا وحتمية هاوكنك الفلسفية. كلاهما يؤمن بان الرغبة الحرة ليست الاّ وهما. من جهة اخرى،حتمية سبينوزا وهاوكنك الميتافيزيقية مختلفة جدا وغير منسجمة مع ميتافيزيقا اوغستين وكالفن.

حتمية كالفن مقابل اوغستين

كان جون كالفن (1509-1564) ثيولوجيا فرنسيا/سويسريا شهيرا في عقيدته البروتستانتية. احدى معتقدات كالفن الثيولوجية كانت مفهومه عن "القدر" predestination. باختصار، فقط اولئك الذين يؤمنون في المسيح يمكن إنقاذهم، لكن الإله الخالق للمسيح اختار سلفا منْ الذين ينقذهم عبر السماح لهم للايمان بالمسيح. وفق هذا، كالفن يقصد ان الفرد سواء آمن ام لم يؤمن بالله فان وضعه تقررّ سلفا من الله. وبالتالي على سبيل المثال، اذا كان الملحد ريتشارد دكنز اختار ان لايؤمن بالله، وناقدا لفكرة الله، فان دكنز وغيره ملايين من الناس الآخرين كانوا ايضا مقرّرين سلفا من جانب الله ذاته. هذا نوع خاص من التفكير في إنكار الرغبة الحرة.

محاججة اخرى (مع انها ليست بالضرورة مشابهة) يمكن رؤيتها بدرجات متباينة في دوغمائيات وايديولوجيات اخرى، بعض مبادئها ربما معارضة لأيديولوجية كالفن. طبقا لكالفن ان عدم الايمان بالله كان رغبة الله ذاته. في ادّعاء مختلف، كارل ماركس يزعم بان "الإستغلال الطبقي" الأصلي يقود الناس لمعارضة الماركسية. بعض الفرويديين ايضا يقولون ان اولئك الذين لا يتفقون مع فرويد ونظرياته يجسّدون "مقاومة" سايكولوجية. وان العديد من العبارات الراديكالية للنسويين (الداعين الى مساواة المرأة) تشير الى ان الكثير من الناس بمن فيهم عدة نساء ومعظم الليبراليين والنسويين الثقافيين وتقريبا كل الرجال والمؤسسات والأديان والايديولوجيات السياسية والفلسفات، هم مسيطرعليهم  كليا بفعل أفكار هم ذاتهم لم يشتركوا في بنائها او التفكير فيها.

لا كالفن ولا سبينوزا كانا هما فقط مستودع أسرار تلك الفلسفات التي نشأت بعد قرون قليلة من موتهما، لكن في الحقيقة، مفهوم سبينوزا في (الله ام الطبيعة) كان ذاته رحيلا راديكاليا عن المفهوم الابراهيمي للإله الشخصي – الامر الذي قاد الى طرد سبينوزا من الكنيس اليهودي وحرمانه بسبب فلسفته اللاارثودكسية.

إله سبينوزا، و "حبّه الفكري لله" لا يتصل بقدرية كالفن. مع ان كل من سبينوزا وهاوكنك كانا حتميان فلسفيان، لكن هوية "المقرِّر" لم تكن إله كالفن ولا إله الثيولوجي اوغستين (354-430) ايضا.

اوغستين سبق كالفن بحوالي 1200 سنه، وسبق  سبينوزا بحوالي 1300 سنة. في احدى مقالاته في كتاب (الليل كبير،1996)، ادّعى مارتن غاردنر Martin Gardner بانه طبقا لاوغستين "الله يقف فوق الزمن ويرى الماضي والحاضر والمستقل". في إعترافات اوغسطين سنة 397، كانت هناك مقاطع بهذا المعنى تكشف عن ان كل لحظة هي مثل حاضر أبدي لله. ولكن بالنسبة لمنْ هو بعيد عن التقاليد الثيولوجية لكالفن واوغستين، يقفز هذا السؤال للذهن: هل الله لديه القوة لتغيير المستقبل والحاضر وحتى الماضي؟ وعند وضع ثيولوجيا كالفن فوق ثيولوجيا اوغستين، يبرز سؤال آخر هو: هل يمكن لله ان يغيّر رأيه ويبطل خياره في منْ يمنحه الخلاص ومنْ يحكم عليه باللعنة؟

سبينوزا بالتأكيد كان مطّلعا على مظاهر ثيولوجيا كالفن واوغستين. عندما مات سبينوزا كان هناك 160 كتابا في مكتبته، حيث كان في تلك المكتبة، الاصول اللاتينية لإعترافات اوغستين، أعمال كالفن، والترجمات اللّاتينية والهولندية والبرتغالية لتأملات ماركوس اورليوس. سبينوزا الرقيق يجب ان يكون وضع عينه على الأجيال القادمة، ربما خشى على ضياع شهرته بعد وفاته عندما تحمّل المشقة في النسخ اليدوي لمراسلاته. هناك عدة اختلافات صغيرة بين ثيولوجية كالفن واوغستين، طالما كان الاول  كاثوليكيا والأخير بروتستانتيا. سبينوزا كحتمي فلسفي لم يقبل بالرغبة الحرة. مع ان الجواب التقليدي للمسيحيين لوجود الشر كان مرتكزا على مفهوم الرغبة الحرة. لكن حسب سبينوزا، الرغبة الحرة هي نوعا ما شاذة او مثيرة للجدل في ضوء مفاهيم كل من القدرية الكالفينية والمعرفة الالهية المسبقة لأوغستين. اذا كانت حياة الانسان مقررة بواسطة الله فكيف ستعمل الرغبة الحرة؟

القدرية الأخلاقية لمكالي جوسالا

الفيلسوف الهندي القديم ماكالي جوسالا Makkhali Gosala الذي مات سنة 425 ق.م، سبق اوغستين بـ 800 سنة، وكالفن بـ 2000سنة، وسبينوزا بـ 2100 سنة. أحد المظاهر الجديرة بالملاحظة لفلسفة جوسالا هي قدريته. طبقا للباحثين، رؤية جوسالا تُعرف من خلال الأقوال التي جاءت في نصوص ديانتين سيطرتا في زمانه وهما البوذية واليانية. يبدو ان كل من البوذيين واليانيين في زمان كوسالا اعتبروه  خارجا كليا عن تقاليدهم ان لم يكن منحرفا.

اعتقد كوسالا بان الناس محكوم عليهم بالمعاناة. هو تحدّث عن عبثية جهد الانسان وأنكر نتائج الأعمال الجيدة او السيئة. كوسالا أنكر ايضا عمليات الكارما التي تأسست افكارها منذ وقت طويل في الفلسفة الهندية والثيولوجي، والتي ترى ان الموقف الذي تحدث به الاشياء لشخص ما هو كنتيجة لأفعاله السابقة. تباينات في الفكرة توجد في الهندوسية والبوذية واليانية. عدد من النصوص البوذية تشير الى ان بوذا ذاته شجب رؤية جوسالا باعتبارها ذات أساس ضعيف بل وأضعف  من جميع المعتقدات في الهند القديمة قبل أكثر من 2500 سنة .

ان إنكار نتائج الفعل الإرادي يمكن تصنيفه كقدرية fatalism في كل من الهند القديمة والسياقات المعاصرة. انها ليست القدرية المسبقة لكالفن التي ترتكز على رغبة الخالق، ولا هي "قدرية" وفق الفهم الاوغستيني في معرفة الله المسبقة بما سيحدث. كوسالا لم يقل ان القدرية انبثقت من رغبة الخالق. القدرية هي فقط هناك.

سبينوزا أنكر الرغبة الحرة لكنه لم يكن قدريا وفق صيغة كوسالا، ولا متبنّي للقدرية مثل اوغستين او كالفن. سبينوزا لم ينسب قدريته الى الله لأن كل شيء يحدث من خلال قوانين الطبيعة. وبينما كوسالا و بسبب قدريته لا يأمر بجهود أخلاقية، لكن هذا لا ينطبق على الفلسفة الاخلاقية للحتمي سبينوزا. في الحقيقة،عدة فلاسفة ومعجبين آخرين بسبينوزا في كل العالم يرون انه كان واحدا من أعظم فلاسفة التاريخ الأخلاقيين. هذا وكما يرى البعض ربما يشكل مفارقة واضحة  في الفلسفة الحتمية لسبينوزا.

***

حاتم حميد محسن

.........................

الهوامش

(1) الفيزيائي المعاق ستيفن هاوكنك يسلط الضوء على مأزق الحتمية/ الرغبة الحرة مستخدما قصة تفاحة نيوتن. هو لاحظ ان قانون نيوتن في الحركة يعطينا السبب والنتيجة الميكانيكية الحتمية للكون. هو يرى اننا لو عرفنا موقع وسرعة كل شيء في الكون، سوف نستطيع التنبؤ بمستقبل الأحداث بالكامل، حيث لاحظ  لو ان صيغة نيوتن صحيحة وتامة، فان الرغبة الحرة ستكون بالضرورة ليست الاّ وهما.

 

محاولة لرؤية استشرافية

يمثل الدين أحد أهم المؤثرات في تاريخ الانسان، إلى جانب السياسة والاقتصاد، وعلى صعيد رصد التحولات التي مر فيها الدين بنحو عام فإن التفاعل بين الإنسان والدين يتفاوت بحسب المراحل التاريخية المفصلية التي شهدها الفكر الانساني منذ القدم، وفي الوقت الراهن ومع التغيرات المسرعة بات من الصعب تحديد المرحلة وتشخيص معطيات التطور الديني، لأن الأحداث متسارعة بالنحو الذي يجعل إمكانية الرصد متعسرة بالمقارنة مع ما شهده الفكر البشري من تحديد وتأطير لمراحل دينية سابقة.

إن الحديث عن المستقبل يتطلب حضور معطيات نوعية كما يتطلب قراءة متأنية تستند إلى منهج موضوعي دقيق، والمحاولة تؤدي دورا هاما في رسم ملامح تلك القراءة، كما يتطلب مخيلة واسعة تستوعب مساحات واسعة من (المتوقع).

إن أهم متغير فيما أظن هو أن المفاهيم على وفق المراحل السابقة لها مصاديقها وتمثلاتها المحددة والان أصبحت المفاهيم عصية على التحديد بأمثلة محددة من أجل أن تخلق وعيا ثابتا، إذ أصبح من العسير أن نكتفي بأمثلة محددة لبيان مفهوم ما، فربما تغدو المعاني متوالدة بنحو أوسع من حدود الوعي الراهن أو الوعي الذي يرتهن بمرحلة زمنية محددة، مما يؤول إلى تجاوز المعنى لأطر المناهج البحثية التي تحاول السيطرة على استقرار المفهوم بمساحة محددة من المصاديق.

إن المتغيرات القادمة مصحوبة بمتغيرات ظرفية على مستوى الزمان والمكان، والمستقبل القريب ينبئ إلى عدم شعور الانسان بالوقت، وربما تحل بالانسان أزمة الوقت حتى يميل الناس الى اختصار طقوسهم الدينية فضلا عن أنشطتهم الأخرى، امام ازمة الوقت التي تعصف بهم، لأن من المحتمل أن يكون وقت الانسان ذو قيمة بالغة، قد تغدو قابلة لاستيفاء ما يقابلها من ثمن، وهذا أحد التحولات التي سوف تؤثر بنحو فاعل في علاقات الانسان بما حوله.

ومع تطور الذكاء الصناعي سوف تتم عمليات تقارب بين نظريات العلم والدين بالنحو الذي يحدث متغيرا في الوعي العام، فعملية تخيل مستقبل الأديان يمكن أن تتضمن تطورات في التفاعل بين التكنولوجيا والعقائد، وقد تحقق المجتمعات توازنًا جديدًا بين التقاليد الدينية والتقدم التكنولوجي، وقد ينضج الحوار بين الأديان لتحقيق فهم أفضل من أجل تعايش سلمي، وحتى مستقبل القوانين قد يشهد تطورات في مجالات مثل التشريعات التكنولوجية وحقوق الإنسان،  ربما تظهر قوانين جديدة تتناسب مع تحديات الابتكار التكنولوجي، وقد يزداد التركيز على حقوق الخصوصية والأمان الرقمي، والتشدد في مجالات مثل حقوق الملكية الفكرية والأمان السيبراني قد يكون أيضًا جزءًا من هذا التطور.

كما أن مستقبل الكتابة والثقافة قد يشهد تحولات كبيرة مع تقدم التكنولوجيا،  قد يزداد التركيز على وسائل النشر الرقمية والتفاعل الاجتماعي، مع تأثير كبير على طرق نقل المعرفة، والإبداع والابتكار في الكتابة قد يبلغ مستويات نوعية، والتنوع الثقافي قد يتأثر بشكل أكبر بالتبادل العالمي للأفكار.

لكن ذلك لا يتنافى مع إمكانية تحول الخطاب الديني من كونه خطابا مؤسسا لنماذج وأنماط من الثقافة والسلوك الاجتماعي إلى خطاب مرجعي يمثل أحد مرجعيات السلوك الثقافي، فليس بوسع الانسان في المستقبل القريب أن يستحضر النماذج الفلسفية أو النظمية لتشكيل إطاره الثقافي العام بقدر ما يضطر إلى انتقاء نماذج متعددة من مرجعيات مختلفة بين دينية وفلسفية وقانونية متعددة

تمت صياغة الخطاب الديني طيلة العقود الماضية على أنه خطاب ينظم علاقة ثلاثية بين الانسان والطبيعة والخالق واليوم تعقّد شكل تلك العلاقة بحيث اصبح حضور الاله بنحو عائم وأصبح الانسان منفعل ومتأثر بالطبيعة التي تطورت هي الأخرى نتيجة الثورة الصناعية الرابعة التي نعيش عناصرها اليوم في ظل تقدم الذكاء الاصطناعي.

ويمكن عد العصور السابقة عصور تحليل للبناءات الثقافية والمعرفية التي تنتجها الأديان والفلسفات والمنظومات المعرفية، وربما تشهد المرحلة المقبلة فعلا تركيبيا للمعرفة، وذلك بفضل التقدم التكنولوجي طبعا، فالتركيب بين منظومات متباينة ليس سهلا، عندما نقصد منظومات الدين والفلسفة وحتى العلوم الميتة أو المسكوت عنها من قبيل علوم الفلك والطاقة وحتى العلوم الطبيعية، فالعقل الانساني مهما بلغ ذروته وفق الإمكانات التقليدية فلن يستطيع انتاج معرفة تركيبية تستقطب علوم ومجالات مختلفة لتنتهي إلى نتائج ونظريات موحدة، فالاسئلة الوجودية باتت تشهد تحولا من السؤال عن (من أين) إلى السؤال عن (إلى أين) والبحث في سؤال النهاية أصبح لا يقتصر على الفلسفة بل سوف يصار إلى الممازجة ما بين معطيات العلم الحديث ومعطيات الحفر المعرفي في أدبيات الأديان السماوية، لتتم فيما بعد محاولة تفسير نشأة  الكون ونهايته على حد سواء.

وعلى صعيد الاسلام يمكن أن يتحول الاسلام من (اسلام الشريعة) إلى (اسلام الرؤية الكونية) مما يفضي إلى أفول أيديوجيات عدة، ولا نعني هنا الانسلاخ التام في منظومة الدين بقدر ما نعني تغير الوجهة في التفكير وانتاج المعرفة الدينية.

وإسلام الرؤية الكونية يمثل منظومة متكاملة لتفسير وجود الانسان على اساس كونه مخلوقا في الكون الواسع، وعليه مسؤولية كبيرة تتجاوز الأطر المحدودة التي أنتجتها المعرفة الدينية في مراحلها السابقة، ويتم استجلاء معارف القرآن الكريم بتسخير وسائل التكنولجيا التي تتيح إمكانية قراءة النص الديني قراءة تختلف عن السابقة من خلال توفر أدوات جديدة لم تكن متاحة في السابق، كل ذلك من شأنه أن يغني الباحثين في شؤون الدين من حيث وفرة الأدوات وفتح الآفاق، واتساع مساحة الرؤية بفضل التطورات المتواصلة.

فتتطور الرؤية حول تسخير الطبيعة وتمكين الانسان، وما يتعلق بفلسفة العمران بمعناه الشامل، الذي يغطي عناصر الطبيعة، ويعيد النظر في كثير من سياسات النظام العالمي القائم على ما آلت إليه الحداثة والعلمنة، ولا أغالي إن ألمحت إلى أفول عصر الحداثة والعلمنة والانتقال الى مرحلة مختلفة تتضح ملامحها من خلال تطورات عدة على صعيد السياسة العالمية والفكر الديني والمعارف الثقافية العامة.

تتصاعد حدة التوتر بسبب التقاء "المحلي" مع "العالمي"، وتتضح ضرورة تحديد ما يجب الاحتفاظ به المسلم من ثقافة متوارثة، وربما سيشعر المسلمون أنهم مجبرون على إعادة اكتشاف البعد الكوني الذي يتضمنه الإسلام، وعلى تجاوز عقدة القومية والتعصب العقائدي والمذهبي، وهذه الحدة والتوتر بسبب العولمة، وفي المستقبل.

كما أن مستقبل الكتابة والثقافة قد يشهد تحولات كبيرة مع تقدم التكنولوجيا، قد يزداد التركيز على وسائل النشر الرقمية والتفاعل الاجتماعي، مع تأثير كبير على طرق نقل المعرفة، والإبداع والابتكار في الكتابة قد يبلغ مستويات نوعية، والتنوع الثقافي قد يتأثر بشكل أكبر بالتبادل العالمي للأفكار.

لكن ذلك لا يتنافى مع إمكانية تحول الخطاب الديني من كونه خطابا مؤسسا لنماذج وأنماط من الثقافة والسلوك الاجتماعي إلى خطاب مرجعي يمثل أحد مرجعيات السلوك الثقافي، فليس بوسع الانسان في المستقبل القريب أن يستحضر النماذج الفلسفية أو النظمية لتشكيل إطاره الثقافي العام بقدر ما يضطر إلى انتقاء نماذج متعددة من مرجعيات مختلفة بين دينية وفلسفية وقانونية متعددة

تمت صياغة الخطاب الديني طيلة العقود الماضية على أنه خطاب ينظم علاقة ثلاثية بين الانسان والطبيعة والخالق واليوم تعقّد شكل تلك العلاقة بحيث اصبح حضور الاله بنحو عائم وأصبح الانسان منفعل ومتأثر بالطبيعة التي تطورت هي الأخرى نتيجة الثورة الصناعية الرابعة التي نعيش عناصرها اليوم في ظل تقدم الذكاء الاصطناعي.

ويمكن عد العصور السابقة عصور تحليل للبناءات الثقافية والمعرفية التي تنتجها الأديان والفلسفات والمنظومات المعرفية، وربما تشهد المرحلة المقبلة فعلا تركيبيا للمعرفة، وذلك بفضل التقدم التكنولوجي طبعا، فالتركيب بين منظومات متباينة ليس سهلا، عندما نقصد منظومات الدين والفلسفة وحتى العلوم الميتة أو المسكوت عنها من قبيل علوم الفلك والطاقة وحتى العلوم الطبيعية، فالعقل الانساني مهما بلغ ذروته وفق الإمكانات التقليدية فلن يستطيع انتاج معرفة تركيبية تستقطب علوم ومجالات مختلفة لتنتهي إلى نتائج ونظريات موحدة، فالاسئلة الوجودية باتت تشهد تحولا من السؤال عن (من أين) إلى السؤال عن (إلى أين) والبحث في سؤال النهاية أصبح لا يقتصر على الفلسفة بل سوف يصار إلى الممازجة ما بين معطيات العلم الحديث ومعطيات الحفر المعرفي في أدبيات الأديان السماوية، لتتم فيما بعد محاولة تفسير نشأة  الكون ونهايته على حد سواء.

من الراجح ان الفكر الانساني سيغدو باتجاه الاختزال وترميز المفاهيم الكبرى، ولن يطيل الوقوف امام السرديات التي تستغرق الوقت، وهو ما يعزز اختصار الطروحات بنحو من الاقتصار على الرمز الذي يشير الى تطور في المنحى الدلالي السيميائي، وهو من شأنه أن يجعل من الفكر الديني سائغا لدى كل مثقف، ويذوب التخصص نسبيا بحيث يكاد ينصهر امام الوعي الراهن والمرحلي، فضلا عن تداخل العلوم فيما بينها لتركز على انتاج النماذج المعرفية الجاهزة.

ومن الممكن ان يشكل تاريخ الافكار نقطة مرجعية بالاستعانة بتكنولوجيا الذكاء الصناعي، وهو ما يوفر الوقت والجهد في البحث عن العلاقات بين الافكار والمجالات الثقافية.

وفي هذه المرحلة بالذات من المتوقع ان تأخذ الاصطلاحات مكانها الصحيح بعد توخي الدقة في مجالات الدلالة والاستعمال.

وفي ظل كل التطورات التي سوف تحصل سوف يكون من الضروري الوقوف على مدى معرفية بعض المفاهيم، عبر الحفر الدقيق والاستعانة بأدوات التكنولوجيا على التحقيق والتنقيب في الاساس المعرفي لأي مفهوم يتم طرحه، لتنتهي ولو نسبيا فوضى المصطلح والاستعمال.

وعلى صعيد الاسلام – وفي ضوء مبدأ الاختزال والاختصار- يمكن أن يتحول الاسلام من (اسلام الشريعة المنبسطة في سرديات مطولة) إلى (اسلام الرؤية الكونية المختصر في كليات وقاعد عامة) مما يفضي إلى أفول أيديوجيات عدة، ولا نعني هنا الانسلاخ التام في منظومة الدين بقدر ما نعني تغير الوجهة في التفكير وانتاج المعرفة الدينية.

وإسلام الرؤية الكونية يمثل منظومة متكاملة لتفسير وجود الانسان على اساس كونه مخلوقا في الكون الواسع، وعليه مسؤولية كبيرة تتجاوز الأطر المحدودة التي أنتجتها المعرفة الدينية في مراحلها السابقة، ويتم استجلاء معارف القرآن الكريم بتسخير وسائل التكنولجيا التي تتيح إمكانية قراءة النص الديني قراءة تختلف عن السابقة من خلال توفر أدوات جديدة لم تكن متاحة في السابق، كل ذلك من شأنه أن يغني الباحثين في شؤون الدين من حيث وفرة الأدوات وفتح الآفاق، واتساع مساحة الرؤية بفضل التطورات المتواصلة.

فتتطور الرؤية حول تسخير الطبيعة وتمكين الانسان، وما يتعلق بفلسفة العمران بمعناه الشامل، الذي يغطي عناصر الطبيعة، ويعيد النظر في كثير من سياسات النظام العالمي القائم على ما آلت إليه الحداثة والعلمنة، ولا أغالي إن ألمحت إلى أفول عصر الحداثة والعلمنة والانتقال الى مرحلة مختلفة تتضح ملامحها من خلال تطورات عدة على صعيد السياسة العالمية والفكر الديني والمعارف الثقافية العامة.

من الممكن أن تتم العودة إلى الجوهر الديني الاسلامي المتمثلة بروحية الإيمان، ومهما تراكمت عقد الإحباط عبر التاريخ الذي مر، فإن الإيمان يمثل العنصر الحيوي الوحيد الذي يمكن أن تتجلى فيه الهوية الدينية للإنسان، والايمان هو الوحيد الذي يعطي معنى للإنسان، سواء كان معنى حضاريا أم ثقافيا.

وفي ختام هذه المحاولة الاستشرافية يمكن أن تتجدد الرؤى حول الاجتهاد والاستنباط بنحو جديد من طرق التعامل مع الافكار، وهو ما يستدعي حلقات بحثية لاحقة تتبع ما تم عرضه.

***

د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

 

Postmodernism

By mary klages

ماري كلاغاس

ترجمة: عدنان عويّد

From Continuum Press، January 2007

***

ما بعد الحداثة، مفهوم معقد، حيث تبقى الصعوبة في الحقيقة، قائمة في تقديم تعريف دقيق ومحدد لهذا المفهوم أو المصطلح، كونه قد ظهر أو تجلى في دراسات أو مجالات دراسيّة أكاديميّة كثيرة ومتنوعة شملت، الفن، وهندسة العمارة، والموسيقى، والسينما، والأدب، والسوسيولوجيا، والاقتصاد، والأزياء، والتكنولوجيا...وغيرها، لذلك من الصعوبة بمكان تحديد موقع مفهوم ما بعد الحداثة، هل هو معاصر؟، أم قديم؟، بل أن الصعوبة نجدها أيضا في قدرتنا على تحديد بداية هذا المفهوم.

ربما يكون الطريق الأسهل في تحديد بداية التفكير أو النظر بمفهوم أو ظاهرة ما بعد الحداثة، يأتي مع التفكير بموضوع الحداثة ذاتها، وهو التيار الذي ظهرت أو خرجت من عباءته ما بعد الحداثة، علما أن الحداثة في الحقيقة امتلكت وجهين أو أنموذجين من التعاريف كلاهما متعلق بمفهوم ما بعد الحداثة.

الأول: وقد جاء من الاتجاه الجمالي الذي غالبا ما نعت أو ارتبط بالحداثة، وهذا الاتجاه اقترب بشكل حاد مع أفكار الغرب المتعلقة بالفن في القرن العشرين، علما أن آثار هذا التيار أو الاتجاه نجد إرهاصاته الأوليّة في القرن التاسع عشر.

والحداثة المعاصرة كما هو معلوم، هي على الأغلب، تيار يصب عموما في الفنون المرئيّة أو البصريّة، مثل الموسيقى، الأدب، المسرح، وهي فنون ترفض مقاييس العصر (الفيكتوري) الذي يؤكد على ضرورة تحديد ماذا يجب أن يصنع الفن؟، وكيف يستهلك؟، وما هي أهدافه؟. علما أنه  في فترة صعود الحداثة ما بين / 1910- 1930 / تقريبا، نجد أن معظم الشخصيات الكبيرة المهتمة في الحداثة الأدبيّة التي اعتبرت من مؤسسي حداثة القرن العشرين أمثال: (  Woolf، Joyce، Eliot، Pound، Stevens، Proust، Mallarme، Kafka، Rilke)، قد ساعدت بشكل متطرف مثلا على إعادة تحديد ماذا يجب على الشعر والرواية أن يكونا؟، بل وماذا يقدما أيضا؟ .

الثاني: وقد جاء من الاتجاه الأدبي، حيث نجد أن المميزات الأساسيّة للحداثة هنا تتضمن التالي:

1- التأكيد على الانطباعيّة والذاتيّة في الكتابة (والفن البصري أيضا)، ثم التأكيد على كيفيّة إمكان أن تأخذ الرؤيويّة، وقراءة الذات، أو الملاحظة نفسها في الأعمال الأدبيّة، بدلا من التركيز على ما هو ملاحظ، أو معطى بشكل مباشر للأديب أو الفنان.

2- دعوة تيار الحداثة هنا للوقوف بعيدا عن الأهداف الظاهريّة، وضرورة الإمساك قدر الإمكان بالشخصيّة الروائيّة العالمة بكل شيء، مع التأكيد على وجهة نظر الرواية، و الجوانب الأخلاقيّة فيها.

3- بروز الضبابيّة في حالات التمايز بين الأنواع الأدبيّة، حيث بدا الشعر هنا أكثر وثائقية، والنثر أكثر شعرية.

4- جاء التأكيد هنا أيضا على تشضي الظواهر أو الأشكال، وعشوائيّة (الكولاج) للمادة المختلفة،  ورفض استمراريّة السرد الروائي.

5- التأكيد على الانعكاسيّة، أو الوعي الذاتي عند إنتاج الأعمال لأدبيّة أو الفنيّة، على اعتبار أن كل قطعة منتجة تلفت الانتباه لوضعها كمنتج شأنه شأن أي شيء ينتج ويستهلك في طرق خاصة.

6- رفض الأشكال الجماليّة المتقنة الصنع، مع تفضيل الأشكال المتطرفة، و التأكيد أيضا على رفض العدد الأكبر من النظريات الجماليّة التقليديّة، والتركيز على ما يدعوا إلى استخدام العفويّة في الكشف الإبداعي.

7- رفض التمايز بين الثقافات (العاليّة) و(المتدنيّة) أو الشعبية، فكلا الثقافتين عند اختيار مواد الإنتاج الفني أو الأدبي  يستخدم هذه المواد في الإنتاج، وأساليب العرض، والتوزيع، والاستهلاك.

إن مفهوم مابعد الحداثة في الحقيقة وفي سياقه العام يشبه حداثة القرن العشرين ويتضمن الكثير من أفكارها التي جئنا عليها أعلاه .فتيار ما بعد الحداثة يرفض الحدود بين الأشكال العالية والهابطة للفن، كما يرفض حالات التزمت الداعية إلى التمييز بين الأنواع الأدبيّة، ويؤكد على الآثار الأدبيّة والفنيّة الساخرة، الكولاج، المعارضة، التهكم،عدم الجديّة، المزاح، الفعل الانعكاسي أو (الانعكاسية)، الذاتيّة عدم  الاستمراريّة (وبخاصة في التراكيب الروائية)، الغموض، المحاكاة، التشضي أو (التفكيكية)، ثم التأكيد أيضا على بناء ومركزة المواضيع اللا إنسانيّة.

نقول: في الوقت الذي راح فيه تيار ما بعد الحداثة يتقاسم أو يتشارك في قسم كبير من هذه الصفات أو الميزات مع تيار حداثة القرن العشرين المأتي عليها أعلاه، فهذا يعني في المحصلة أنه راح يبتعد أيضا عن تيار الحداثة التقليديّة في الكثير من النقاط، ففي الوقت الذي نجد فيه الحداثة التقليديّة عند ميلها لعرض المشاهد الجزئيّة (التفكيكية) والذاتية في التاريخ الإنساني، نجد في المقابل أن هذا العرض للجزئيات بالنسبة لما بعد الحداثة شيئا تراجيديّا... شيئا يدل على الفاجعة والندب والخسارة. ثم في الوقت الذي نرى فيه بعض الحداثيين التقليدين يعملون لدعم الفكرة التي تقول إن العمل الفني يستطيع دعم الوحدة والانسجام، وتحقيق الهدف الذي أصبح غائباً في معظم الحياة الحديثة أو المعاصرة، وأنه - أي الفن - سوف يعمل على إنجاز ما عجزت عنه المؤسسات الإنسانيّة الأخرى، نجد في المقابل أن ما بعد الحداثة هنا لم تفجع على الفكرة التجزيئيّة أو التفكيكيّة، وعلى الوقتيّة أو الظرفيّة، أو الفوضى  بل راحت تعمل أو تشتغل على كل ذلك. وهي تتساءل، هل العالم بدون معنى؟، ثم تجيب عن تساؤلها قائلة: لا تدعنا ندعي أن الفن يستطيع عمل معنى، بل دعنا نلعب مع الهراء.. !!.

نظرة أخرى حول العلاقة مابين الحداثة وما بعد الحداثة تساعدنا على توضيح التمايزات بين التيارين، حيث يرى بعض المهتمين بهذا الشأن من الكتاب والباحثين أن الحداثة وما بعد الحداثة هما في المحصلة تشكيلات ثقافيّة تجمع بشكل خاص معطيات أو محطات من الرأسماليّة، لقد عمل الكاتب والباحث Frederic Jameson على تحديدها  بثلاث محطات أساسية أنتج منها تجارب ثقافية خاصة تشير إلى  نوع الفن والثقافة المنتجة.

المحطة الأولى: وهي محطة السوق الرأسماليّة التي ظهرت في القرن الثامن عشر وأواخر القرن التاسع عشر في أوربا الغربيّة عموما، وفي بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكيّة على وجه الخصوص (وكل تأثيرات محيطاتها). هذه المرحلة ترافقت مع التقدم التكنولوجي بشكل خاص، أي مع زمن الآلة البخاريّة، وما رافقها فنيا من جماليات ارتبطت بالمدرسة الواقعيّة.

المحطة الثانية: ظهرت مع نهاية القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، حيث عرفت هذه الفترة بفترة الرأسماليّة الاحتكاريّة، وهذه ترافقت بدورها مع الثورة الكهربائيّة وآلة الاحتراق الداخلي، وفنيّا مع معطيات الحداثة.

المرحلة الثالثة: وهي المرحلة التي نحن فيها الآن، أي مرحلة الشركات المتعددة الجنسيات والمجتمع الاستهلاكي الرأسمالي (أي المرحلة التي يؤكد فيها على أوضاع التسويق والبيع والاستهلاك البضاعي)، هذه المرحلة ترافقت مع تكنولوجيا الذرة والاليكترونيات، و فنيّا وأدبيّا مع معطيات ما بعد الحداثة.

مع هذا التعريف أو التوصيف الذي قدمه ( Jameson ) لما بعد الحداثة عبر أساليب الإنتاج أو التطور الذي حدث على التكنولوجيا، وما رافق هذا التطور من تغيرات أصابت الفن والأدب كما تبين لنا أعلاه، يأتي هنا تعريف آخر لما بعد الحداثة أيضا مرتبطا بتاريخ السوسيولوجيّا أكثر من ارتباطه بتاريخ الأدب والفن.

إن اقتراب مفاهيم ما بعد الحداثة من المصطلح الاجتماعي كليّا ووضعه في نطاق المواقف الاجتماعيّة/ التاريخيّة، جعل تيار ما بعد الحداثة على ما يبدو أكثر وضوحاً عند مقارنته بمفهوم الحداثة، حيث يتبين لنا هنا أن مفهوم ما بعد الحداثة يصبح في الواقع أقرب للحداثة منه إلى ما بعد الحداثة .

على العموم إن الحداثة تشير إلى اتجاهات جماليّة واسعة راحت تنتشر في القرن العشرين، والحديث يشير أيضا هنا إلى انطلاق أفكار فلسفيّة وسياسيّة وأخلاقيّة دعّمت أسس وجود الجمال للحداثة، والحديث كمفهوم، هو دائما أقدم من الحداثة كمفهوم أيضا، ومصطلح الحديث تم الحديث عنه سوسيولوجيّا أول مرة في القرن التاسع عشر لتوضيح حالة التمايز بين العهد السابق الذي نعت بالعهد القديم، والعهد الحالي، ومع ذلك، فالفلاسفة والمفكرون المهتمون بهذا الشأن الثقافي يتساءلون دائما متى بالضبط بدأت فترة الحداثة؟، وكيف التمييز بين ما هو حديث وغير حديث؟

يبدو أن فترة الحداثة انطلقت مبكرة، وهذا ما أكده الكثير ممن أرخ لها، ولكن على العموم إن عهد الحداثة كما يقول بعض المؤرخين ارتبط مع التنوير الأوربي الذي بدأ بشكل فاعل في منتصف القرن الثامن عشر، وهناك من المؤرخين  الذين تتبعوا عناصر التفكير التنويري، يقولون أن بدايته تعود لفترة عصر النهضة، أو لفترة أيكرمن ذلك بكثير. بيد أن الكثير ممن اشتغل على هذه المسائل يستطيع في الواقع القول بأن التفكير التنويري بدأ مع القرن الثامن عشر، وتحديدا منذ عام / 1750 /، وأن الأفكار الأساسيّة للتنوير تعتبر بشكل دقيق هي ذاتها الأفكار الأساسيّة للحركة الإنسيّة، هذه الأفكار التي يمكننا الإشارة إلى أهمها هنا وهي:

1- التأكيد على الثبات، التماسك، معرفة الذات، أو ما يسمى بالوعي العاقل المستقل ذاتيا، والكوني، والذي لا يوجد شروط فيزيائيّة، أو فروقات أو اختلافات كبيرة جداً تؤثر على كيفيّة عمل هذه الذات .

2- إن هذه النفس أو الذات تعرف نفسها، وأن العالم  عبر العقل والعقلانيّة، قد َثَبُتَ كأعلى صيغة أو شكل للفعاليّة العقليّة، وكصيغة ذاتيّة فقط.

3- إن أسلوب المعرفة قد أنتج من قبل العقل الذاتي نفسه، وهو (العلم) الذي يستطيع دعم الحقائق الكونيّة المحيطة بالعالم دون اعتبار لأوضاع الفرد العارف.

4- إن المعرفة المنتجة من قبل الِعلم تكون (حقيقيّة) ومطلقة.

5- إن معرفة الحقيقة أُنتجت بالعلم، (بالمعرفة العقلية الذاتية نفسها) الذي سوف يقود باتجاه التقدم والكمال، وكل الهيئات والخبرات الإنسانية يمكن أن تفسر أو تحلل بالعلم (العقل الذاتي) وتسير نحو التحسن .

6- إن العقل هو الحكم النهائي في تحديد ماهي الحقيقة، وما هو الأصح والجيد  وما هو القانوني وما هو الأخلاقي. والحريّة هنا اشتملت على إطاعة القانون الذي يراعي المعرفة التي اكتشفت بالعقل.

7- في النظام العالمي ّ، إن الحكم بالعقل، يعتبر حقيقة تدل دائما على الشيء الجيد والصحيح والجميل، وهذا يحول دون أن يكون هناك صراع ما بين ما هو حقيقي وما هو صحيح.

8- إن العلم وفق هذه المعطيات سيقف بالضرورة كمثال أو أنموذج لكل الصيغ المعرفيّة ذات الطابع الاجتماعي النافع. فالعلم في حقيقة أمره محايد، وذاتي، وهؤلاء العلماء الذين أنتجوا المعرفة العلميّة عبر إمكانياتهم العقليّة المجردة وغير المتحيزة، يجب أن يكونوا أحراراً في إتباع قوانيين العقل، وأن لا تؤثر في مواقفهم الحياديّة اهتمامات المال والسلطة.

9- اللغة، أو الأسلوب الانطباعي الذي استخدم في إنتاج ونشرا لمعرفة، يجب أن يكون عقلانيّا أيضا، ولكي يكون عقلانيّا، يجب على اللغة أن تكون شفافة، وتعمل فقط لتمثيل العالم العياني الحقيقي الذي يلاحظه العقل المنطقي. وهنا يجب أن يكون الثبات والعلاقة الموضوعيّة بين المواضيع المشاهدة في الواقع أو العيانيّة، والكلمات التي تستعمل لتسميتها أو ترميزها.

هذه هي بعض المعطيات الأساسيّة للحركة الإنسيّة، أو لما سمي أيضا بالحداثة... هذه المعطيات قادرة في الحقيقة وإلى حد كبير أن تبرر وتوضح بشكل عملي كل بنانا أو تراكيبنا الاجتماعيّة ومؤسساتنا بما فيها الديمقراطيّة، القانون، العلم، الأخلاق، والجماليات.

على العموم، إن تيار الحداثة في سياقه العام إذا ما قيس بتيار ما بعد الحاثة  يعتبر قريبا من التنظيم، والعقلانيّة، والانسجام، وهو يسعى لخلق النظام من الفوضى، على افتراض أن ذلك الخلق يكون أكثر عقلانيّة، وباعثا ومعيناً على خلق مساحة أخرى أوسع للتنظيم، وذلك كون المجتمع الأكثر تنظيماّ، (عقلانيّة) هو من سيعمل أكثر. والمجتمعات الحديثة أو المعاصرة تظل دائما ملاحقة أكثر من غيرها بمستويات وأشكال عديدة من التنظيم، وهي تعمل بشكل مستمر على مقاومة أي شيء يدعي الفوضى التي ربما تعطل التنظيم أو النظام. من هنا نجد أن المجتمعات الحديثة أو المعاصرة تعتمد على تأسيس ذلك التناقض الثنائي بين (النظام)  و(الفوضى)، لذلك هي تؤكد دائما على تفوق (النظام)، ولتحقيق ذلك، يتطلب منها  أن تمتلك أشياء تمثل (الفوضى)، وهذا يعني، أن على المجتمعات الحديثة خلق حالات (الفوضى) باستمرار - وبخاصة في المجتمعات الغربيّة – هذه الفوضى التي أصبحت بالضرورة الطرف الآخر في طبيعة معادلة التضاد الثنائي المشار إليها أعلاه، أي نظام / فوضى. ومن هنا يقال إن كل شيء في المجتمعات الحديثة راح يحمل جزءاً من الفوضى بالضرورة.

إن الطرق التي ذهبت فيها المجتمعات الحديثة لخلق تلك التصنيفات التي اتسمت بالنظام أو الفوضى يجب عليها أن تعمل بجد لإنجاز الاستقرار، الأمر الذي دفع أحد منظري ما بعد الحداثة وهو: (  Francois Lyotard ) في أحد مقالاته المتعلقة بما بعد الحداثة ليساوي مسألة الاستقرار بالشموليّة أو بالنظام الشمولي، وهذا ما أكد علية أيضا ( جاك ديدرا) الذي ربط فكرة الشموليّة بالنظام التام.

إن الشموليّة، والاستقرار، والنظام، ناقشها (Lyotard ) على أنها مصانة في المجتمعات الحديثة أو المعاصرة عبر الرؤى الشموليّة التي يمثلها على المستوى الأدبي  ماسمي (grand narrative) أو (master narratives ) أي ماسمي بـ (الروايات العظيمة)، (أي السرديات الكبرى – المترجم)، وعلى المستوى السياسي بـ (الآيديولوجيا الشموليّة) لتي تحاول نقل وتفسير كل شيء في المجتمع.  فالرواية العظيمة في الثقافة الأمريكيّة ربما تكون قصة الديمقراطيّة، وهي صيغة الحكم الأكثر تنويرا و(عقلانيّة، هذه الديمقراطية التي تستطيع أن تؤدي  إلى السعادة العالمية كما تدعي هذه الرواية.

إن كل نظام يمتلك معتقداً أو أيديولوجيا، هو يمتلك (رواية عظيمة) وفقا لرؤية (Lyotard)، وهذه (الرواية العظيمة) نجدها في الماركسيّة أيضا حيث جاء فيها أن الرأسماليّة سوف تنهار من نفسها، وأن عالم مجتمع (اليوتوبيا) المساواة المطلقة سوف يتحقق. (إن القول بأن الماركسيّة تدعي بفكرة المساواة المطلقة، هو قول لا يمت إلى الماركسيّة بصلة، وهو تجني على الفكر الماركسي – المترجم) .

إذن، إن (الرواية العظيمة) هي في المحصلة نوع من النظريات الخياليّة أو الآيديولوجيا الخياليّة، وهي في تطبيقاتها العمليّة والنظرية ليست في الأمر أكثر من أيديولوجيا تقوم بتفسير أيديولوجيا أخرى .

لقد ناقش (Lyotard) معظم وجوه المجتمعات الحديثة بما فيها العلم كصيغة أوليّة للمعرفة، معتمدا على تلك الروايات العظيمة، فوجد أن (ما بعد الحداثة) هي ليست أكثر من نقد لهذه الروايات العظيمة،  وإدراك يخدم في نهاية المطاف  التناقضات وعدم الاستقرار اللذين راحا يتجذران في كل تنظيم  أو خبرة اجتماعيّة.

إن تيار ما بعد الحداثة في الوقت الذي يرفض فيه الروايات العظيمة، فهو يعمل في الحقيقة على تفضيل الروايات (الصغيرة)، التي تروي الأحداث المحليّة، أي هو يرفض المفاهيم الكبير ذات الطابع الكوني ويتبنى المفاهيم الصغيرة أو المفاهيم التي تتناول جزئيات الحياة، وذلك على اعتبار أن ما بعد الحداثة هي دائما مع المسائل الموضعيّة والمؤقتة والطارئة والمرحليّة، أي هي مع (التفكيكية)، لذلك هي لا تدعي بأنها تتعامل مع القضايا ذات الطابع العالمي والحقيقي والعقلاني والمستقر.

في الفقرة التاسعة المتعلقة بسمات التفكير التنويري التي أشرنا إليها أعلاه، والتي تشير فكرتها إلى أن اللغة يجب أن تكون شفافة، فهذه الرؤية في الواقع لاتقد م اللغة إلا كونها رموزا للأفكار أو الأشياء، ولا يمكنها أن تمتلك القدرة على الفاعليّة أكثر من ذلك. فالمجتمعات الحديثة تعتمد أساسا على الفكرة التي فيها يشير الدال على المدلول،على اعتبار أن الحقيقة هنا قد استقرت في الدلالة.

على أي حال، في مفهوم ما بعد الحداثة، نجد هناك فقط الدلائل، أما الفكرة الدالة على أي حقيقة بارزة فتختفي، ومع اختفائها يختفي أيضا جوهر الفكرة ذاتها التي تقول: إن الدال يدل على المدلول. ففي مجتمعات ما بعد الحداثة نجد هناك فقط المظاهر الخارجيّة التي تفتقد العمق أو الجوهر.

بتعبير آخر، في مجتمع ما بعد الحداثة لا يوجد هناك أصول أو جذور للظاهرة المعبر عنها فنيّا أو أدبيّا، هناك أشكال أو نماذج، أو ما يدعى  بالصور الزائفة  simulacra) ) فقط. فلو أخذنا على سبيل المثال فن الرسم أو النحت فسنجد هنا أعمالاً أصيلة، أو ربما آلاف الأعمال الأصيلة، بيد أن الأصالة هنا لا تتحدد بجذورها وبعمقها الإنساني أو بقيمتها التنويريّة، وإنما تتحدد وبشكل خاص (بالقيمة النقديّة)، وهذا ما نجده على سبيل المثال لاالحصر عند مقارنتنا لمفهوم الأصالة في الأعمال الفنيّة ما بين التسجيلات الموسيقيّة المعاصرة مثلا، واللوحات الزيتيّة في الرسم لكبار الرسامين الكلاسيكيين، ففي التسجيلات الموسيقية المعاصرة تُفتقد الأصالة، وربما تُستهلك هذه المقطوعة الموسيقيّة أو الأغنية خلال أسابيع أو أشهر أو عدة سنيين في أقصى الحالات، بينما نجد الأصالة قائمة في تلك الواحات الفنيّة التي تعلق على الجدران وتحفظ في الأماكن السريّة أو المحاطة أمنيّا.

نعم، إلى حد ما هناك فقط توجد صور أو أشكال مجسدة فنيّاً، ففي مرحلة ما بعد الحداثة راحت  تقدر فيها  قيمة اللوحة الفنية - على سبيل المثال - بملايين الدولارات، في الوقت الذي  افتقدت فيه هذه الأشكال أو الصور أو اللوحات  أصالتها وجوهر إبداعها، لا لكونها تناولت أشكال الظواهر فحسب، بل كونها فقدت شعبيتها أيضا وأصبحت خاصة لمن يمتلك ثمنها، أي لمن يمتلك الجيب المليء.

على أية حال إن المعرفة في مجتمعات الحداثة تأتي من أجل المعرفة نفسها، فالمرء على سبيل المثال يكسب المعرفة هنا عن طريق التعلم كي يصبح واسع المعرفة... كي يصبح شخصا مثقفاً أو متعلماً، هذه هي الفكرة الليبراليّة عن تعلم الفنون في المجتمعات الحديثة، أما في مجتمع ما بعد الحاثة، فالمعرفة في الواقع أصبحت عملية بحت، فأنت تتعلم أشياء ليس من أجل معرفتها، بل لتحويل هذه المعرفة إلى وسيلة أو مهارة. فتعليم السياسة للفرد مثلا، يؤكد على المهارات والتدريبات بدلاً من  تأكيده على تعلم قيم ومثل إنسانيّة وإبداعيّة لم تكن معروفة له من قبل، وهذا ما ينطبق عليه المثل القائل لحملة الشهادات العلميّة (ماذا سوف تعمل بشهادتك العلميّة؟)

إن المعرفة في مجتمعات ما بعد الحداثة لم تتميز بفائدتها (كمعرفة عمليّة)، وإنما تميزت بمسائل توزيعها وتخزينها وتنظيمها بشكل مختلف عما هي عليه في المجتمعات الحديثة، فوجود تكنولوجيا لاليكترونيات والكمبيوتر في مجتمعات ما بعد الحاثة قد أوجد ثورة في نماذج إنتاج المعرفة وتوزيعها واستهلاكها (بعظهم يقول: إن أفضل ما وصف به مجتمع ما بعد الحداثة هو ظهور تكنولوجيا الكومبيوتر التي انطلقت بشكل فاعل عام " 1960 " كقوة مسيطرة على معظم أوجه حياة المجتمع).

في مجتمعات ما بعد الحداثة، إن أي شيء، لا يكون صيغاً متميزة و قابلا ًللانتقال والتخزين في الكومبيوتر، - أي يتحول إلى شيء قابل للترقيم -، فسوف يتوقف عن أن يكون معرفة. فوفقاً لهذا المعطى، فإن عكس (المعرفة) لن يكون (الجهل) كما كان مقررا في الحركة الإنسيّة الحديثة، وإنما (الضجيج) هو من سيكون عكس المعرفة. فأي شيء في الواقع لا يعلن أهليته كنوع من المعرفة هو في حقيقة أمره (ضجيج)... هو شيء غير متميز داخل هذا النظام.

يقول (Lyotard ) إن السؤال المهم لمجتمعات ما بعد الحداثة هو، من يقرر ماذا تكون المعرفة؟، وماذا يكون الضجيج؟،  ومن الذي يعرف ماذا نحتاج لنقرر قرارات حول المعرفة لا تشتمل هنا قابليات الحركة الإنسيّة القديمة التي تفرض المعرفة كحقيقة (سجيّة تكنولوجيّة) أو إصلاح وعدالة (سجيّة أخلاقيّة)، أو حالة جمالية (سجيّة إبداعيّة)؟، إن ما ناقشه (Lyotard) أو أراد قوله على الأغلب في هذا الاتجاه هو أن المعرفة تتبع أنموذج (لعبة اللغة).

إن هناك العديد من الأسئلة التي تطرح حول موضوعة ما بعد الحداثة، بيد أن هناك سؤالا ًهاماً في الحقيقة من بين هذه الأسئلة يتضمن آراء تطرح بكل بساطة مثل: هل سيكون هذا التيار باتجاه التشضي، الانطباعيّة، الوقتيّة، الشكلانيّة، وفوضويّة أي شيء جيداً كان أم سيئاً؟. وهناك العديد من الأجوبة أيضا تجيب على هذا السؤال. ففي المجتمعات المعاصرة نجد في الحقيقة الرغبة في العودة إلى عهد ما قبل مرحلة ما بعد الحداثة، أي إلى (الحركة الإنسيّة – التفكير التنويري)، بل  هناك ميل للتواصل  مع  وشائج سياسيّة ودينيّة ورؤى أو نظريات فلسفيّة لها توجهات محافظة في الحقيقة، فواحدة من تجليات مرحلة ما بعد الحداثة هي ظهور التطرف الديني، كصيغة مقاومة تستجيب مع مفهوم (الرواية العظيمة) للحقيقة الدينيّة، والتطرف السياسي أيضا، هذا التطرف ربما نجده الآن أكثر وضوحا في سياسات المحافظين داخل الحكومة في الولايات المتحدة الأمريكية، مثلما وجدنا التطرف الديني الإسلامي في الشرق الأوسط، الذي تصدى مثلا للعديد من الكتب التي تعبر عن مرحلة ما بعد الحداثة مثل كتاب (آيات شيطانية) للروائي (سلمان رشدي).

إن هذا الترابط بين مقاومة تيار ما بعد الحداثة والميل نحو النزعة المحافظة داخل تيار ما بعد الحداثة، ربما يوضح إلى حد بعيد لماذا يقر تيار ما بعد الحداثة التفتيتيّة، والتعدديّة، وامتلاك القدرة على جذب الليبراليين والراديكاليين معا.

على المستوى الأخر، يبدو أن تيار ما بعد الحداثة  يَقدم على عرض بعض البدائل لتشارك الحضارة الكونيّة قضايا الاستهلاك، حيث نجد البضائع وصيغ المعرفة تعرض بالقوة في هذه السوق الكونيّة بعيدا عن التوجهات أو الرغبات الذاتيّة، هذه البدائل المقترحة أو المقدمة في تيار ما بعد الحداثة، ركزت على ضرورة أن يكون كل عمل أو نضال اجتماعي ذا طبيعة محليّة، ومحدوداً، وجزئيّاً، وإلى حد ما عليه أن لا يفقد نشاطه وفاعليته.

إن تيار ما بعد الحداثة وفق هذه المقترحات،  يسعى في المحصلة إلى إبعاد تفكير (الروايات العظيمة) التي تقول مثلا (الحرية لكل الطبقات العاملة) على سبيل المثال لاالحصر، والتركيز على الأهداف المحليّة.

إن الآراء السياسيّة لما بعد الحداثة تقدم نظريّة تسعى للارتباط  بالأوضاع المحليّة التي تمتاز بالنسبة لهذه الآراء بالليونة وغير معروفة سابقا أو متوقعة، إضافة لتأثرها بالميول والرغبات الكونيّة . لذلك من هنا يأتي شعار سياسات تيار ما بعد الحداثة ليقول: يجب عليك أن (تفكر عالميا)، (وتعمل محليا) ولا تغضب من أي  رواية عظيمة، أو نظريّة شموليّة.

***

كاتب وباحث من سوريّة

 

كيف استطاع اثنان من فلاسفة الصين القدماء عرض رؤية جديدة لمسألة الحياة والموت. الطاوية Daoism هي دين وفلسفة ايضا. الدين دمج الاسطورة وفلسفة الطبيعة وطقوس الشامنزم الدينية مع البحث عن الخلود، بينما الفلسفة جاءت بمجموعة من الامثال والحكايات والقصص نُسبت للفيلسوف الصيني جوانك زي Zhuangzi حوالي 320ق.م والقصيدة الرائعة داوديجنغ Daode-Jing والتي هي من المحتمل ان تكون عمل من تأليف جماعي نُسبت الى الفيلسوف لاوتزو Lao Tzu حوالي سنة 250 ق.م. كلا الكتابين هما من الروائع الأدبية ويستحقان القراءة لنوعيتهما العالية.

الكتابان مكّنا ملايين الناس من رؤية أنفسهم بشكل اكثر وضوحا بحيث أمكنهم تجاوز احساسهم بالهوية الشخصية. توضيح لهذا جاء في القصة التي نُقلت عن Bo Juyi الشاعر الرسمي الذي نُفي في عام 815 م بسبب نقده العلني للحكومة. بالنسبة له كانت العقوبة مروعة لأنها نزعت منه كل شيء يحدد صفة الرجل الصيني ضمن طبقته. هو يخبرنا ايضا انه بسبب قرائته لجوانك زي، اصبح شخصا آخر وشخصا أفضل. لكن ما وجده في الطاوية كان شيئا لا يقدم أجوبة وقواعد واضحة، وكان مخالفا للأعراف او الإمتثال للمجتمع. هذا العنصر في مسائلة طرق المجتمع هو الذي جذب ملايين الصينيين عبر مئات السنين وايضا العديد من الغربيين اليوم. جوانك زو يؤكد بان القيمة الحقيقية لأي ادّعاء تتصل بسياقه ومنظوره ولذلك يجب ان يكون له القدرة على اكتساب الصلاحية. ما هو جيد للفرد ربما لا يكون جيدا للآخر، او لايكون جيدا لفرد معين في اوقات مختلفة. ونفس الشيء حول الجمال، الحقيقة، الفائدة، وغيره. لذلك، بدلا من التأكيد الدوغمائي على معايير ثابتة، يجب على المرء ان يكون مستعدا للمرونة في تكييف مواقفه تبعاً لظروف وحاجات الموقف القائم.

احدى افكار الطاوية المركزية هي (لا تعمل شيئا) Wu-Wei، كنوع من السلوك يستلزم قبول ما هو حتمي او ما لا يمكن تجنبه، وبذلك يقلل الاحتكاك والشد الناجم عن التبنّي العنيد لسلوك مفضل او نتيجة معينة. أفضل الامثلة عن (لا تعمل شيء) يمكن العثور عليها في معرفة الحرفيين. قصيدة دادو جنك تقترح انه ضمن الطبيعة تكون جميع المتناقضات غير منفصلة ومكملة لبعضها البعض وتحل محل بعضها بشكل متبادل، بما في ذلك الحياة والموت، لذلك، يمكن للمرء ان يفهم شيئا ما (مثل الجمال) فقط عبر فهم ضده. النتيجة هي ان الفضيلة التي لا يمكن السعي اليها مباشرة، انما تبرز بشكل طبيعي.

بهذه الطريقة، تكون أكثر الطرق فعالية في التغلب على المشاكل هي عبر اللافعل او المرونة والتي هي ليست كالخضوع او الاستسلام، وانما تستلزم ممارسة التحكم من خلال استعمال قوة الخصم للسيطرة عليه، وهو ما تجسّد في بعض الفنون العسكرية الصينية.

الطاوية Daoism

المفهوم المركزي للطاوية هو الطاو Dao، ويعني "الطريق او المسار الذي تتبعه الاشياء في ما تفعل" ويُعتبر كنوع من الحقيقة النهائية الغير شخصية . هناك طريقة للطبخ، للقتال، للزراعة، الطريقة التي يجري بها الماء، طريقة ربط الحذاء، الطريقة التي تنتج بها افكار وافعال معينة تأثيرات في العالم، وهكذا. هناك ايضا طريقة للعالم.

عندما يمتلك المرء "طريقة" او (دراية) لربط الحذاء، فهو يمكنه القيام بهذا بسهولة وبفاعلية. حالما يتم ذلك، سينسى المرء عنه وسيتحرك الى مكان آخر، المرء لا يطلب ولا يتوقع شكرا او لوم، ولا يتوقف طويلا في لحظة الفعل متنعما في مجده. ومن جهة اخرى، اذا افتقر المرء للطريقة، فان جهده سيثبت عدم فاعليته، وربما يكون كارثيا. في جوانك زي تصبح المهارات المتطورة للسباحين او الحرفيين أمثلة عن اللاجهد بواسطتها يمكن اتّباع الطاوية. هذه الامثلة تشكل نماذجا بواسطتها يمكن معرفة مهارات التدريب الروحي: هي تخبرنا باننا لكي نتبع الطاوية، يجب ان نعيش ببساطة ودون قلق من رأي الناس، وبدون إحساس بصعوبة عمل شيء عبر الخطط اللغوية والمفاهيمية. وهكذا بدا كوك دنك الذي قطع الثور للورد ون هاي، يتحرك كالراقص، بمهارة وتناغم. السكين التي يستعملها لاتزال حادة بعد 19 سنة لأنها لم تضرب او تقطع عضما، وانما تنزلق بين المفاصل. هو يمكن رؤيته كشخص تكيّف بشكل مثالي، لأنه سيكون من السهل عليه في مختلف المواقف وبدون محاولة التحليل الفكري او دراسة الافكار المجردة، وسوف لن يُهمل او يوضع جانبا بفعل الجديد او الظروف غير المتوقعة. ليس من باب الصدفة ان اللورد ون هاي يجد في هذا ليس فقط درسا حول القصابة وانما درس عن الحياة.

بالنسبة لـ لاوتزو Lao Tzu، الطاوية هي البداية بلا اسم لكل الاشياء، حتى قبل السماء والارض. الطاوية هي المبدأ الديناميكي للتغيير، منه تُشتق كل الاشياء الاخرى، انها بداية لكل البدايات، ولذلك نُظر اليها كبداية لكل الأشياء. نحن نقرأ: "من الطاوية يأتي واحد، من الواحد يأتي اثنين. من اثنين يأتي ثلاثة. من ثلاثة تأتي كل الاشياء". الـ "واحد" هنا يشير الى الوجود. القول "من الطاوية يأتي واحد"، هو نفس القول من اللاوجود يأتي الوجود.

الراحة قبل الحركة، والاستقرار قبل الفعل، لذلك، الطاوية هي أساس كل شيء، بمعنى هي منطقيا قبل الظاهرة الموجودة. ان وجود الناس يتضمن منطقيا وجود الحيوانات، ووجود كل الاشياء يتضمن وجود الوجود.

من خلال الطاوية نحن ندرك ان للعالم المتصور اكثر مما نستطيع قياسه. خلافا للإله هي غير شخصية، لا تحب مخلوقاتها، ليس لديها رغبة لفرضها على أي مخلوق، ليس لديها تفكير مسبق ولا ذاكرة ولا ندم. في مقابل الكثير من الافكار الغربية، الطاوية ليس فيها انقسام بين الذهن والجسم وهي لا تنتمي الى العالم الآخر وهي ليست خارقة للطبيعة. وبينما الطاوية هي غير شخصية فهي تعرض عناصر للرعاية (مع انها ربما فقط بمعنى ان الروح تهتم بالنبتة) ولديها تفضيلات (مع ان السماء ليس فيها تفضيلات، فهي بدرجة او باخرى تقف الى جانب الرجل الجيد)، لذا بينما الطاوية تختلف عن الإله المجسم للمسيحيين، فهي يمكن مقارنتها مع رموز دينية اخرى لها قوى عليا (مثل براهاما و لوجوس).

تمتلك الطاوية قوة لا متناهية دون ان تكون مؤثرة، انها لا تفرض أي شيء كي يتبع طريقها، مع ذلك كل شيء بفضل وجوده ذاته يتبعها، تماما مثل الماء المنحدر نزولا. الماء مرن وناعم لكن يمكنه إبداء قوة كبيرة وبالنهاية يمكنه ان يذيب حتى أقوى الصخور. في مكان آخر قيل ان الطاوية فارغة مثل الاناء الذي يُستعمل لكن قابليته لا تُستنزف ابدا. انها سر جميع الأسرار، هي المبدأ الكوني اللامتغير الذي يكمن في كل شيء.

يتعرف الانسان على الطاوية ليس من خلال التعقيد وسعة الاطّلاع او الذكاء الحاذق، وانما عبر ملاحظة الطبيعة وعبر العودة الى "حالة الطفولة"، ومن خلال الفعل العفوي والفكر والسيطرة على التنفس. هنا تكون لدينا إشارة لتقنيات التأمل ولفكرة التصوف التي تعطي معنى لحياة الانسان كونها تترسخ بشيء "مختلف عن أي شيء اخر". ومن هنا فان الطاوية يمكن النظر اليها باعتبارها تتماهى مع الحقيقة النهائية للتقاليد الصوفية، وبهذا يمكن النظر اليها انها تقدّم بعض العقلانية لفكرة الموت كتحوّل كما جسّده جوانك زي.

الكلمات لا تصف الطاوية بشكل كامل، انها يمكن ان تساعدنا في فهم الطاوية، ولكن فقط عندما تُوازن كل صياغة بأضدادها. في كونها بلا اسم، تنتمي الطاوية الى زمن ما قبل اللغة، او كما يقترح D.E.Cooper انها يجب اعتبارها كمصدر تبرز من خلاله مختلف المنظورات او المشاريع اللغوية، بواسطتها نحن نتحدث حول العالم. وبهذا فان المصدر ذاته لايمكن وصفه طالما أي عبارة مستعملة يجب ان يتم اختيارها ضمن منظور لغوي معين، مع انها يمكن معرفتها بشكل غير لفظي.

لا شيء مطلق عدى الطاوية ذاتها. بدون "قصير" لا يمكن ان يكون هناك "طويل". فقط عندما يعترف الانسان بالجمال، فان القبح يصبح واقعا. فقط عندما يعترف الانسان بالخيرية، فان الشر يصبح حقيقة، لأن الوجود واللاوجود بدءا كواحد.

في الإشارة الى مفارقات الطبيعة، كان لاوتزو قادرا على جلب منظور جديد لفهمنا للأشياء. هذا هو الذي يعطي معنى للنسبية بمعنى ان رؤيتنا هي التي تقرر ما نتصور. الشيء المذهل جدا في مفارقاته هو رفع اللاشيء فوق شيء ما : "ثلاثين من القضبان تشترك بمركز واحد للعجلة، لكن دون ان تكون اي فائدة للعجلة. انت تعمل فجوات الابواب والشبابيك لتصنع غرفة، دون ان تكون هناك فائدة للغرفة". غراهام يقارن هذه الحجج بتلك التي تقدمها التفكيكية الغربية.

عبر ملاحظة الطبيعة، يتعلم الانسان قبول طريقة الطبيعة كشيء حتمي ومنتظم. أي محاولة لتغيير الطبيعة هي بلا فائدة. الطريقة الوحيدة لتجنب الأذى لنفسك هي ان تعمل مع الطبيعة. هذا يبدو يذكّر بسبينوزا وبالفكرة بان عبودية الانسان يمكن التغلب عليها فقط بقبول طبيعة قوانين الكون والحاجة لفهم أسباب الحدث.

في ضوء هذه الصورة للطاوية، يتبنّى لاوتزو اكثر المواقف هدوءاً. مثلما الطاوي يجعل الاشياء تتم كالماء بدون فرض رغبته على الاخرين كذلك يجب ان يفعل الناس. في اتّباع الطاوية لا يحتاج الحاكم لإستعمال القوة ليحكم، الى درجة ان المحكومين لا يلاحظون ان هناك حاكم يرشدهم.

الموت

في الطاوية كما في هريقليطس اليونان هناك وعي قوي في عملية التغيير. كل من الطبيعة والكائن البشري يباشران تحولا مستمرا. عمليات الطبيعة تتحرك بين الأقطاب والناس ينتقلون الى منظورات جديدة. في ظل هذا الموقف، من غير المفيد ان نتوقع تعريفات واضحة او استمرارللأشكال. اذا فهم المرء طبيعة الأشياء واتّبع الطريق الطبيعي، سيتجنب التأثر بالحزن او الفكاهة. العواطف يمكن التصدي لها بالعقل والفهم. فمثلا، الرجل الفاهم سوف لن يغضب عندما يمنعه المطر من الخروج، لكن الطفل سيغضب. وكما يقول سبينوزا: "بقدر ما يفهم العقل ان كل الأشياء ضرورية، ستكون لديه قوة أكبرعلى التأثيرات او سيعاني القليل منها".

(Ethics,pt5,prop.vi)

جوانك زي نفسه يبيّن ان لا فرق نحو الموت ويشجب الممارسة الشائعة في الحداد لأن المشيّع يفترض معرفة اللامعروف ويتظاهر بكرهه له. بالمقابل، عبر فهمه لطبيعة الاشياء، لم يعد الحكيم يتأثر بالعوامل الخارجية والتغيرات في العالم. حول هذا المقطع يقول المعلّق الكبير كيو هزنك kuo Hsiang: "عندما يكون جاهلا، هو يشعر بالأسى، وعندما يفهم، هو لم يعد يتأثر. هذا يعلّم الانسان كيفية عزل العاطفة بالعقل".

عندما ماتت زوجة جوانك زي، صديقه هيو شي وجد جوانك جالسا على الارض، يغني ويقرع الأواني سأله كيف لا يشعر بزوجته، أجاب جوانك: "عندما ماتت انا لا استطيع عمل أي شيء. حالا، انا فحصت المسألة من البداية. في البداية الاولى، هي لم تكن حية وليس لها شكل ولا مادة. لكن بطريقة او باخرى كانت لها فيما بعد مادة ومن ثم شكل وأخيرا حياة. الآن وبفعل تغيير آخر، هي ماتت. كامل العملية تشبه سلسلة الفصول الأربعة، الربيع، الصيف، الخريف، ثم الشتاء. بينما هي تقبع في المنزل الكبير للكون، بالنسبة لي البكاء والحزن سيكون اعترافاً بأني جاهل بالقوانين الطبيعية. لذلك انا توقفت".

في التفكير اللاحق بخسارتها، هو يكتشف مشاركتها المستمرة في عملية التغيير، وان حزنه يصبح احتفالا بحياتها. كل لحظة تستلزم حياة وموت وهذا تجعل كامل العملية حيوية وبناءة. ما جعل زوجته متفردة و عزيزة يعتمد على التفاعل بين التغيير والاستمرار في التجربة الانسانية. جوانك فكّر رجوعا لزمن ما قبل ولادة زوجته وحين لم يكن لها جسم – وحتى أبعد من ذلك وصولا الى الزمن قبل ان توجد لها روح. الموت أشبة بالتعاقب في الفصول الاربعة، جزء طبيعي للانحسار وتدفق التغيير يشكل حركة الطاوية. الحزن على الموت او الخوف من الموت هو تقييم إعتباطي لما هو حتمي. من اللافائدة والعشوائية ومن السخف ان نضع أنفسنا ضد ما هو طبيعي. نحن نستطيع ان نختار تبنّي مختلف المنظورات حول التجربة. لماذا لا نختار واحدة تمكّننا من رؤية الموت ليس كشيء مخيف ومحزن وانما فقط كمرحلة اخرى في حركة تغيير أكبر؟

في كل هذا، التغيير لا يشير بالضرورة الى حياة ما بعد الموت او أي شكل من الخلود الشخصي. المادة الميتة تخصّب الارض وتوفر مواد خام لكائنات حية اخرى كي تنمو وتتكاثر. الموت عموما يمكن القول يقود الى حياة جديدة، تماما كالحياة عندما تنتهي بالموت. الحياة، بشكل عام تستمر مع اننا قد لا نستمر. قصة الفراشة(1) توفر رمز للتغيير حيث الاختلافات تصبح غير واضحة. الفراشة تتبع الرياح الخفيفة المنعشة حتى تصل الى الزهرة، أفعالها عفوية وحرة، فهي لا تستنزف قوتها في الكفاح ضد قوى الطبيعة.

الحياة والموت ليسا الاّ مراحل ضمن دورة التغيير، ثم لا فرق هناك بين الحي والميت. الخلود يصبح مشكلة فقط ومصدر للحزن عندما لا يستطيع الانسان تحرير نفسه من تصنيفه للحياة والوجود. بالمعنى المادي، الانسان يجب ان يموت ولا مهرب من ذلك. لكن اذا فهم الانسان طريقة الطبيعة واحتضن الطاوية، عندئذ هو يعيش بقدر حياة الطاوية. جوانك زي يتحدى الموت بالقول انه اذا اصبحت (بعد الموت) ذراعه اليسرى ديكا، هو ببساطة سوف يستعملها لتحديد وقت الليل. الانسان قد يموت حقا لكن جوهره كجزء من جوهر الكون يعيش الى الأبد. هذه هي الرؤية الميتافيزيقية للخلود لدى جوانك زي. هنا ايضا تفسير صوفي للخلود قدمه جوانك. الانسان الذي نجح في تحرير نفسه من معرفته الفكرية عبر الابتعاد عن منغصات الحياة الحديثة والعودة الى الطبيعة الأصلية، وعبر "التأمل في الفراغ" وعبر نبذ التمايزات الاصطناعية، سيصبح قريبا للاتحاد مع الطاوية، ولذلك سينال قوة اسطورية في الطبيعة. هو سوف "يحفظ" نفسه عبر اتّباع النزعة الطبيعية للاشياء، تماما مثل القصاب المثالي دنج الذي كان قادرا على استعمال سكينه بمهارة دون جهد.

الانسان يجب ان يعيش كجزء من الطبيعة الى جانب كل الاشياء الاخرى فيها، ويتوقف عن السعي العديم الجدوى في رؤية وقراءة وتحليل الكون بتجريد. ان ذهن الانسان سيتحرر في اللحظة التي يتوقف بها عن تشويش نفسه بألغاز غير مفيدة أوجدها زملاؤه، عندئذ سيكون مستعدا لفهم الطاوية. عندما يقوم بإفراغ ذهنه من التحيزات الفكرية، سيكون قادرا على رؤية التشابه في كل الأشياء. وبالتالي، سيكون شيئا واحدا هو والاشياء العديدة، و سوف يشعر بان الكون بضمنه. ومهما عمل او لا يعمل سوف لا يسبب قلقا او خوفا. وهكذا سوف يكون حرا للتحرك في الكون. في هذه المرحلة تكون سعادته حقيقية ومتعالية لأن لا شيء حوله ليس في توافق مع الطبيعة. كونه متحرر فكريا، لم يعد الانسان يرى أي سبب للحذر او القلق او الحزن. اتّباع طريقة في الاتفاق التام مع الطبيعة يعتمد على لا شيء، يسعى الى لا شيء. سيكون متحررا بالكامل. حرية جوانك زي المثالية هي من ثلاث شعب: تحرير فكري من تحيزات الانسان والقيود التي يصنعها ، وتحرير عاطفي من خلال فهم شامل لطريقة كل أشكال الحياة، واخيرا تحرير كلي عندما يشعر الانسان بعدم القيود لأنه يقبل كل مسار طبيعي للأحداث.

جوانك زي يتحرك في نفس الاتجاه مثل دايود جنك، يؤكد على الاستمرارية والتداخل بين الحياة والموت. لكن جوانك يذهب الى ما وراء القبول المجرد للموت في الجدال بان الأسباب التي تجعلنا مرتبطين بالحياة هي نفس الاسباب التي يجب ان نثمّن بها الموت. المشكلة هي ليست الموت، وانما خوفنا من الموت، خوف غير مبرر: "كيف أعرف ان الاستمتاع بالحياة ليس امرا مشوشا؟ وكيف أعرف ان كراهية الموت ليست الشعور بان احدا ما أضاع طريقه في ايام شبابه ولن يستطيع العثور على طريقه مرة اخرى؟". ضمن هذا العالم، الموت يساوي عملية التحول ذاتها. حالما نقبل الافتراض الحدسي القوي باننا نتغير بدلا من ان نختفي، هذا يجعل الحياة متوقعة وغير مؤكدة. حول كل زاوية هناك امكانية لتجربة جديدة ومثيرة. جوانك زي يضع امكانية افتراض شكل انساني ضمن عملية من التحولات الاكبر. ان عملية الموت التي تقع بين العمليات الاخرى للطبيعة هي شائعة في الحياة اليومية. الشمس تشرق في الجزء الشرقي فقط لتغيب في المناطق الغربية البعيدة، وجميع الاشياء التي لا تعد ولا تحصى تأخذ اسلوب عملها منها. الحياة والموت صنفاف مترابطان يعتمد كل واحد منهما على الاخر . الشمس تشرق وتغيب، ولكن دائما في يوم جديد. واليوم السابق يتلاشى. هناك إعتراف بان الموت هو مظهر غير ملحوظ نسبيا في تجربة الانسان. الحياة لن تكون كما هي اذا لم تكن لأجل توقّع الموت. بدون الموت في معناه الواسع، ستكون الحياة ساكنة، شفافة، متنبأ بها وضجرة. الموت لا يعيق او يخرّب الحياة، وانما يحفزها ويقودها، جاعلا منها كثيفة ومثيرة للمشاعر.

***

حاتم حميد محسن

......................................

الهوامش

(1) قصة الفراشة: هناك رؤية في الفلسفة تُعرف بـ "الشك الابستيمولوجي" تقوم عل اساس اننا لا نستطيع معرفة اي شيء على نحو مؤكد. عدة حجج جرت مناقشتها على مر السنين من بينها "حجة الحلم" التي صاغها الفيلسوف الفرنسي ديكارت في التأملات. الفكرة هي انه اذا كنت اعتقد ان احلامي حقيقية عندئذ كيف استطيع القول بان ما اشعر به الان هو حقا واقعي وليس حلما؟ جوانك زي وفي احدى الليالي وقع في حلم بانه كان فراشة، كان يتنقل بحرية كاملة من زهرة الى اخرى، ولكن عندما استيقظ في الصباح هو لم يعرف هل هو حقا كان الرجل الذي كان يحلم انه فراشة ام انه فراشة وتحلم الآن انها جوانك؟ بين جوانك والفراشة هناك انقسام ضروري، وهذا هو المقصود بتحولات الأشياء.

أن تقيم عند الآخر راغبا في ذالك أو مكرها فلا يعني أنك تستجدي حماية أو رغيفا، فأنت في اختيار المنفنى لا بد وأن تكون مثقلا بهموم تنوء بحملها الجبال. لهذا أمكن للعديد من المثقفين العرب ولا سيما المهاجرين منهم أن يخترقوا نسيج الثقافة الغربية وأن يبدعوا من داخلها أدبا وفكرا ونقدا وأن يكشفوا أخطاءها ويصححوا انحرافاتها ويفضحوا قوى الشر المتربصة بنا .

محمد أركون (1928- 2010) وإدوارد سعيد (1935- 2003) مثقفان مثخنان بجراحات الماضي ومنهكان بعنف الحاضر وملتحفان بسواد الآتي..لكل منهما عطاؤه الأكاديمي المتميز ويحظيان بآحترام كبير في الأوساط العلمية فمن منا لا يتذكر المجهود المبذول في نقد العقل الإسلامي لمحمد أركون والذي ترجم إلى العربية تحت عنوان " تاريخية الفكر العربي الإسلامي " أو أطروحته القيمة:" الإنسانية العربية في القرن الرابع الهجري، مسكويه مؤرخا وفيلسوفا " والتي اعترض عليها المستشرقون آنذاك بدعوى أن الإنسانية l Humanisme هي مفهوم غربي محض، كما لا ننسى الآثارالعلامات التي قدمت إضافات جمة سواء في فكرنا العربي والعالمي للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، فكتباه " الاستشراق " و" المسألة الفلسطينية " وغيرهما بمثابة معالم تضيء دروب الحقيقة المعتمة في أحيان كثيرة. لكل منهما إسهاماته وبصماته ضمن مجال تخصصه والتي قد تلتقي وقد تبتعد. إنتاجهما لا شك أنه متولد عن وعي حاد بمقتضيات المرحلة التاريخية التي يمر بها الوجود العربي. كلاهما يستشرف الآتي وهو يعبر التاريخ ينشد إنصافا أو بحثا عن حق ضائع قد أنكره عليه الجاحدون. تتوحد الهموم كما قد تتوحد الأهداف والغايات ولكن تظل الوسائل مختلفة ولا ضير في ذالك. إنهما نموذجان لكل مثقف قادر على الدفاع عن قيم الحقيقة والعدل والحرية ديدنه التقيد بالمنهج العلمي والتسلح بالموضوعية..هذا النمط من المثقف أصبح هدفا لتحالف قوى الشر: المركزية الغربية واللوبي الصهيوني، لقد آل هذا التحالف على نفسه تدمير المحاولات الجادة التي يبذلها العرب للخروج من قمقم التبعية والتخلف وجند من أجل ذلك كل أسلحته القذرة: التعتيم، قلب الحقائق والتشويه، الدعاية الرخيصة..لقد أدرك خطورة المعرفة في إضاءة التاريخ وإبداع القيم وصياغة الوعي وما يعمل هذا التحالف على تكريسه على أرض الواقع من خلال الحرب التي يشنها على كل رموز المعرفة في الوطن العربي، مؤامرة تستهدف تدمير الأساس الثقافي والحضاري للوجود العربي سواء في فلسطين أو غيرها من الدول العربية.

1- محمد أركون والمركزية الأوروبية:

 إن محمد أركون وبعد أكثر من ثلاثة عقود من البحث والكتابة ينشد من خلالهما القيام بمراجعة نقدية للعقل الديني وعقل التنوير على حد سواء، فشل في المهمة التي نذر نفسه من أجلها، كوسيط بين الفكر الإسلامي والفكر الأوروبي، فأركون لم يعجز فقط عن تغيير نظرة الغرب الثابتة واللامتغيرة إلى الإسلام وهي نظرة فوقية ذات طابع احتقاري بل هو عجز عن تغيير نظرة الغربيين إليه هو نفسه كمثقف مسلم مضى إلى أبعد مدى يمكن المضي إليه بالنسبة إلى من هو في وضعه من المثقفين المسلمين في تبني المنهجية العلمية الغربية وفي تطبيقها على التراث الإسلامي لنستمع إليه وهو يتحدث بمرارة بعد الهجوم الذي شنته ضده وسائل الاعلام الغربية وحتى من الأوساط الجامعية والأكاديمية وذالك بعد المقالة التي نشرها حول قضية سلمان رشدي في جريدة لوموند الفرنسية (1) وقد حاول فيها أن يتبنى موقفا مغايرا لموقف الغرب من تلك القضية يقول:" على الرغم من أني أحد الباحثين المسلمين المتقنين للمنهج العلمي والنقد الراديكالي للظاهرة الدينية، إلا أنهم يستمرون في النظر إلي وكأني مسلم تقليدي، فالمسلم في نظرهم- أي مسلم- شخص مرفوض ومرمي في دائرة عقائده الغريبة ودينه الخاص وجهاده المقدس وقمعه للمرأة وجهله بحقوق الإنسان وقيم الديمقراطية ومعارضته الأزلية والجوهرية للعلمنة...هذا هو المسلم ولا يمكنه أن أن يكون إلا هكذا!! والمثقف الموصوف بالمسلم يشار إليه دائما بضمير الغائب: فهو الأجنبي المزعج الذي لا يمكن تمثله أو هضمه في المجتمعات الأوروبية لأنه يستعصي على كل تحديث أو حداثة "(2). لقد ولدت آراء أركون حول قضية سلمان رشدي ردود فعل هائجة سواء في الساحة الفرنسية أو الأوروبية وهو ما انعكس شعورا حقيقيا بالاضطهاد لدى أركون يقول :" وكان الإعصار من القوة، والأهواء من العنف والتهديدات من الجدية بحيث أن كلامي لم يفهم على حقيقته بل صنف في خانة التيار المتزمت وأصبح محمد أركون أصوليا متطرفا !! أنا الذي انخرطت منذ ثلاثين سنة في أكبر مشروع " لنقد العقل الإسلامي " أصبحت خارج دائرة العلمانية والحداثة "(3) لماذا هذا الضجيج والهيجان؟ لقد أكد أركون في تحليله العقلي والهادىء والرصين لقضية سلمان رشدي التي أثيرت فيها مسألة حقوق الإنسان ما يلي:"...و أما فيما يخص حقوق الإنسان فقد أصبحت منذ قضية رشدي نقطة التضاد المطلق بين عالم العنف والطغيان والقمع والإرهاب من جهة وبين دولة القانون والحريات وأرض اللجوء والمساعدة الإنسانية من جهة أخرى " يعترف أركون بأنه للأسف تضاد صحيح بشكل مأساوي ولكن لا أحد يطرح هذا السؤال: ماهي المجريات التاريخية والاستراتيجيات السياسية والآليات الإقتصادية والمالية والاستخدامات الخاصة بالعقل العلمي وحتى الفلسفي التي أدت إلى حصول مثل هذا التفاوت والتضاد"(4) إن عدم طرح مثل هذا التساؤل يكشف عن انبعاث نزعة الهيمنة والمركزية الأوروبية عند الغرب كلما احتد الصراع بين العالم العربي والغرب، يقول أركون:"...و بدلا من أن يساعد الغرب على خلق الشروط الموضوعية لانتشار حقوق الإنسان على الضفة الأخرى من المتوسط نجده مستمرا في دعم الأنظمة التي تدوس هذه الحقوق برجليها وفي ذات الوقت ينهال الصحافيون والمثقفون الغربيون باللوم والتشنيع علي"دين ظلامي" مغلق على كل أنواع التقدم والفكر بحسب ما يزعمون ."(5) ثم يبين التناقض المفتوح للغرب حين تتحول مقاصد حقوق الإنسان إلى خطابات إيديولوجية لتسفيه العدو والحط من قدره يقول :" وقد أصبحت حقوق الإنسان ويا للغرابة والتناقض أداة لنفي أول حق من حقوق الإنسان: ألا وهو حقه في أن ينتج بكل حرية النظام الرمزي الخاص بمجتمعه "(6). أي حقه في تبني القيم الأخلاقية أو الدينية التي يراها ملائمة له وبالتالي فله الحق في عدم تقليد الغرب بشكل حرفي أو تشكيل نسخة عنه ويوضح أركون الأسباب العميقة الكامنة وراء هذا الصراع غير المتكافئ بين الثقافة الغربية والثقافات الأخرى، يقول:" ...فالغرب غير نظامه الرمزي أي قيمه وثقافته بواسطة ذالك الجهد الصبور والبطيء للذات على ذاتها في كبريات المجتمعات الأوروبية كأنقلترا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وبالمقابل لم يتح لأي مجتمع إسلامي أن ينتج تاريخه الخاص بواسطة لعبة قواه الداخلية وحدها منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن "(7).

2- إدوارد سعيد ومحرقة اللوبي الصهيوني:

لقد كشف إدوارد سعيد في أبحاثه أن أسلوب الاستشراق ومنهجه في معالجة بعض المسائل التاريخية والحضارية والثقافية محكوم بتمركز الذات حول نفسها وبمنظومة قيم تكرس هيمنة ذات الباحث وهيمنة منظوره الحضاري والعرقي. إن الإستشراق خطاب لا يعكس حقائق أو وقائع بل يقدم تمثلات أو ألوانا من التمثيل حيث تتخفى القوة والمؤسسة والمصلحة. إنه خلق جديد للآخر أو إعادة إنتاج له على صعيد التصور والتمثيل مما يجعل من الإستشراق "موضوع- معرفة" بينما يظل موضوعه الذي هو " الشرق" موضوع واقع لا تربطه به صلة تطابق أو انعكاس، يقول إدوارد سعيد:" إن بنية الاستشراق ليست سوى بنية من الأكاذيب أو الأساطير التي ستذهب أدراج الرياح إذا ما انقشعت الحقيقة المتعلقة بها "(8). بآعتبارها تخفي قوة أو إرادة قوة بالمعنى النيتشوي ومن بين مراميها طمس موضوع الواقع وإعادة إنتاجه إنتاجا تثوي فيه السلطة وتتخفى المؤسسة (9). من المفاهيم التي نقدها سعيد مفهوم التقدم الأوروبي الذي نظر إليه على أنه غاية التاريخ التي يرام إدراكها حيث يتحول الاحتكاك بالغرب إلى مقياس لتاريخية الثقافات الأخرى.(10) ويلعب مفهوم " التقدم " هنا دور البداهة نفسها، تلك البداهة التي يصعب التشكيك فيها أو كشف خلفياتها الإيديولوجية، تلك الخلفيات المتمثلة في رؤية العالم من خلال الذات ومن خلال الحقل الثقافي للذات وهو ما يسمى بالتركيز على الذات أو التمحور حولها. إن إدوارد سعيد الذي تشهد الأوساط العلمية والأكاديمية العالمية بكفاءته المعرفية وبتشبعه بالمنهج العلمي والموضوعية، أصبح في نظر اللوبي الصهيوني كاذبا وبروفيسورا للإرهاب بعد أن شنت ضده حملة إعلامية في كبريات الصحف الغربية بغرض التشكيك في أصوله الفلسطينية، فقد عمد مراسل صحيفة " الديلي تلغراف" البريطانية جستس رايد فاينر إلى ادعاء أن قصة انتماء إدوارد سعيد لفلسطين وأنه ولد فعلا في القدس وهمية وأن ذالك كان أثناء إحدى رحلات أسرته المعتادة من القاهرة – حيث كانت تعيش وتقيم- إلى القدس وأنه لم يضطهد حيث كان يقيم في مصر في شقة فاخرة. هذا البحث الذي يدعي فيه صاحبه أنه أنفق في إعداده ثلاث سنوات، قد يكون نشر أيضا في مجلة " كومنتري" التي يصدرها اليهود اليمينيون في أمريكا (11). إن مؤامرة اللوبي الصهيوني التي تستهدف تدمير الأساس الثقافي والحضاري للوجود العربي في فلسطين والتشكيك في الطاقات الإبداعية للشعب الفلسطيني، وجدت في إدوارد سعيد الشخص المناسب لمحاصرته بغرض سحب الهوية الفلسطينية منه، حتى يسهل التشكيك في خطابه وذلك لما يمثله من رأسمال رمزي عند الفلسطينيين والعرب والأوساط الدولية .فخطاب إدوارد سعيد كما يصفه نصر حامد أبو زيد يمثل في بنية الخطاب الغربي وخصوصا الأمريكي منه خطاب الوعي الضدي لنسق الخطاب المهيمن، فهو الذي كشف أبعاد الهيمنة في مجال الدراسات والأبحاث الأكاديمية، فليس غريبا إذن أن يثأر الخطاب المهيمن من الخطاب الضدي الذي كشف عوراته وأبان له عن مساوئه وجرائمه. (12) لقد آن الأوان للذاكرة الفلسطينية أن تحكي سرديتها وتروي للعالم رؤيتها للأحداث، فقد عملت المدرسة التوراتية – وهو اتجاه بدأ بين المؤرخين منذ نهاية القرن التاسع عشر عند ظهور الفكرة الصهيونية وفكرة البحث عن وطن قومي لليهود- على مصادرة التاريخ الفلسطيني لمصلحة إسرائيل وعلى تجريد سكان الأرض الأصليين من كل الروابط التي تشدهم إلى وطنهم، بعد أن أطردوا من أرضهم، لم يبق أمام الفلسطينين إلا استعادة تاريخهم العريق من قبضة الدراسات التوراتية حتى يتمكنوا من إسماع صوتهم واسترجاع حقهم وتاريخهم (13). فالتحدي الذي ينتظر المثقفين العرب عامة والفلسطينيين خاصة جسيم، إنها معركة من أجل إثبات الوجود واستعادة الحقوق ولئن عمل بعض المثقفين في الأراضي الفلسطينية على إقامة حلقات دراسية عن منجز إدوارد سعيد الفكري والحضاري كما أصدروا بيانا وقع عليه المثقفون، تعبيرا عن إدانتهم لضرب مصداقية سعيد من حيث مولده ونشأته، كفاحه وكتاباته، فإنه لوحظ غياب أي دور للمؤسسات الرسمية الفلسطينية في الدفاع عن قضية سعيد ولم يتم إصدار أي بيان للتنديد بالهجمة آنفة الذكر. ويبدو أن رفض إدوارد سعيد لأتفاقيات أوسلو هو الذي جعل هذه المؤسسات تتردد في الدفاع عنه وهذا ما يؤكد سيطرة السياسي على الثقافي في التجربة النضالية الفلسطينية.

***

رمضان بن رمضان

...................

المراجع والإحالات:

1- آنظر جريدة لوموند الفرنسية Le Monde بتاريخ 15 مارس 1989 ص 2.

2- محمد أركون، الإسلام، أوروبا، الغرب: رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، بيروت، دار الساقي، 1995، ص 45.

3- المرجع السابق،ص139.

4- مقابلة أجرتها جريدة لوموند الفرنسية بتاريخ 5 ماي 1992.

5- المرجع السابق.

6- المرجع السابق.

7- المرجع السابق.

8- إدوارد سعيد، الاستشراق، ترجمة كمال أبو ديب، ط 2، بيروت، 1984، ص 41.

9- سالم يفوت، حفريات الاستشراق، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1989،ص 8.

10- إدوارد سعيد، الاستشراق، ص 77.

11- أنظر إدوارد سعيد، "الإفتراء على الطريقة الصهيونية " جريدة أخبار الأدب،عدد 320،بتاريخ 29 أوت 1999 ص ص 2\3.

12- نصر حامد أبو زيد، " متى يعود الغائبون؟ "، جريدة أخبار الأدب، عدد 325،بتاريخ 03 أكتوبر 1999 ص 39.

13- لمزيد التوسع حول هذه النقطة الرجوع إلى كتاب كيت وايتلام، اختلاق إسرائيل القديمة إسكات التاريخ الفلسطيني، سلسلة عالم المعرفة عدد 249، الكويت، سبتمبر 1999.

 

بعد فراغ بيرتراند راسل بالاشتراك مع عالم الرياضيات نورث وايتهيد عضو الوضعية المنطقية التحليلية الفلسفية الانجليزية حلقة اكسفورد من تاليفهما كتابهما المشترك (المباديء الرياضية) اللذين امضيا بكتابته ثلاث سنوات 1913 – 1916 اتجه بعدها راسل منفردا نحو معالجة قضايا علمية بعيدة عن الفلسفة التجريدية المنطقية الخالصة في محاولته جعل الفلسفة منهج تفكيري في فهم الحياة وليس تغييرها1. منهج راسل كان يعمل على خلق نوع من التكامل المعرفي غير المتكافيء بين الفلسفة والعلم بين الفلسفة ومنطق الرياضيات حصرا.

ومن كتابات راسل الفلسفية نجد سعيه المثابر والعنيد ربط الفلسفة بالعلم بعيدا عن جزعه من كل خرافة ميتافيزيقية وثقته بقدرة العقل التحليلية وايمانه الشديد بضرورة احلال النزعة العقلانية المنطقية محل سائر النزعات الروحية والصوفية والوجدانية2.

بعدها نشر كتابه عام 1921 (تحليل العقل) الكتاب الذي حاول فيه راسل هدم النظرية التقليدية القائلة بوجود جوهر عقلي قائم بذاته. أو وعي منفصل مستقل يكمن فيما وراء الادراك الحسي، والتذكر، والادراك العقلي3.

كان اسبينوزا في القرن السابع عشر صاحب مصطلح الجوهر الالهي المطلق اللانهائي الازلي الخالق التام غير المحدود في عدم ادراكنا العقلي المحدود له.. وميّز اسبينوزا بين الجوهر العقلي المحدود في توزعاته المدركة في موجودات الطبيعة حسب نظريته في مذهب وحدة الوجود. معتبرا اسبينوزا أن الجوهر في مذهب وحدة الوجود في الطبيعة هو المتناهي غير المحدود بجوهر مطلق الهي لا يدرك وانما محدودية جوهر العقل هي في استيعابه معجزات الجوهر الالهي المطلق الموّزع في الطبيعة وموجوداتها وقوانينها.

وهي نظرية صوفية يختلط فيها اللاهوت مع طبيعية مذهب وحدة الوجود في تأمل الطبيعة وتنوعاتها التكوينية من الموجودات التي تجعل وجوب الاهتمام في البحث عن إله الارض الطبيعي الذي هو دلالة ادراك المطلق الالهي ميتافيزيقيا...

اسبينوزا بخلاف تاريخ الفلسفة عبر العصور الطويلة يعتبر اننا بدلالة الجوهر ندرك الوجود. بمعنى الجوهر او الماهية سابقة على الوجود الطبيعي او المادي. وهذا ما لم يقل به احدا لا من فلاسفة الماركسية ولا من فلاسفة الوجودية بعد وفاة اسبينوزا بقرون. حيث يعتبرون اسبقية الوجود على الجوهر او الماهية وحتى عن الصفات احيانا مسالة بديهية لا تحتاج البرهان على صوابها.

الفيلسوفان اسبينوزا وديكارت عاشا معا بالقرن السابع عشر وكان ملتقاهما الدائم في هولندا بلد اللجوء لهما. اراد ديكارت ان ينحو المنحى الصوفي القريب من فلسفة هيجل في الفكرة الكلية المطلقة في مرجعية كل شيء يعود بالنهاية للعقل. واراد خلق توليفة تلفيقية تجمع اللاهوت والطبيعة والانسان والعقل والتفكير العلمي بنسق فلسفي واحد ولم ينجح.

طبعا نجد ديكارت يرى العقل جوهرا بذاته في تفسير وفهم العالم المادي من حولنا وعدم تبعيته لجوهر الهي تام الكمال. الجوهر العقلي المحدود الذي هو عجز ادراك الجوهراللامتناهي لاهوتيا ميتافيزيقيا. كان ديكارت على خلاف اسبينوزا يرغب الانحياز الى مصطلح الجوهر العقلي القائم بذاته في استقلالية عن جوهر الهي اسمى ذي المميزات التالية التي وضعها ديكارت لتحديد المصطلح وظائفيا:

1. عرّف ديكارت العقل جوهرا ماهيته التفكير قائم بذاته. (صفة علمية)

2. العقل جوهر معرفي ابستمولوجي. (صفة علمية)

3. العقل جوهر خالد يلازم خلود النفس.(صفة لاهوتية ميتافيزيقية)

لم يكن ديكارت يرغب الانتباه والتفريق بين بيولوجيا العقل في هيمنته المركزية على ادارة وسد جميع رغائب الجسم الفطرية الغريزية منها والمكتسبة. وبين العقل التجريدي المسؤول تفكيريا فلسفيا عن ادارة علاقة جسم الانسان بالطبيعة والعالم الخارجي بالتعبير التجريدي اللغوي.

بمعنى اوضح تجاوز ديكارت فرق  العقل كعضو في بيولوجيا تكوينات جسم الانسان الفيزيائية وبين العقل كخطاب تفكيري تجريدي لغوي في تعبيره عن الموجودات في الطبيعة والحياة والعالم الخارجي في تفلسفه محاولة جمع المتناقضات بنسق فلسفي واحد.

ابرز مثال على منحى ديكارت هذا اعتباره العقل جوهرا خالدا ويقصد بالعقل الخالد هو غير العقل البيولوجي الذي يفنى بموت الانسان كعضو في تركيبة الجسم. بل العقل النظري التجريدي المفكر كما انه اي ديكارت لم يقل خلود الروح بما هو دارج في اللاهوت بل قال خلود النفس هي والعقل.

اما بخصوص عبارة راسل الوعي المنفصل المستقل الذي يكمن وراء الادراك الحسي، والتذكر، والادراك العقلي. ففي البدء يجب بحكم بيولوجيا المعرفة ان يكون الوعي علاقته بمخرجات مرجعية العقل المادي اي الدماغ في وعيه المدركات الخارجية. العبارة تحاول جمع ما لا يمكن تجميعه في كليّة موحدة. وهو امر محال حتى لو كان على صعيد تجريد منطق الفلسفة.

الوعي ليس العقل

لا شك بأن أصعب مبحث بالفلسفة قديما وحديثا هو الوعي. والملاحظات التالية عنه هي حصيلة اطلاعي المحدود على بعض كتابات جون سيرل الذي حاول الاحاطة الفلسفية بالوعي. ولي مؤلف طبع ونشر سنة 2022 صدر عن دار غيداء بعنوان (مبحث الوعي في الفلسفة المعاصرة) فيه توضيح كاف لوجهة نظري الفلسفية في مبحث الوعي. وفيما يلي بعضا من ملاحظاتي:

1. الوعي هو وسيلة توصيل فهم مخرجات أو مقولات العقل حسب تعبير كانط عن مدركاته خارجيا في وعي العالم الخارجي وداخليا على صعيد تلبية رغائب أجهزة الجسم الغريزية والبيولوجية والنفسية..

2. الوعي ليس موضوعا منفصلا مستقلا يدركه العقل بل هو إفصاح العقل عن نفسه. أي وعي العقل لذاته.

3. الوعي خاصيّة عقلية وليست خاصية نفسية (تذكرية) لاحداث وقعت بالماضي كتحقيب زمني حيادي. التذكر لاحداث الماضي هو تاريخ لازمني ينجلب فيه تاريخ الماضي الى الحاضر المدغوم وجوديا حضوريا بالمستقبل اللامدرك.. بمعنى حضور الزمن في ملازمته الماضي هو دلالة حيادية مستقلة عن وقائع تاريخية حصلت وليست جزءا من الاستذكارات التاريخية الوقائعية الماضية. الزمن دلالة وجود غير مدرك ولا موجود كموضوع مستقل للعقل. والتذكر من خصائص الذاكرة في ارتباطها بالشعور النفسي الوجداني. ويكون الوعي بهذه الحالة لا زمني في مشاركته استذكار الذاكرة اللازمنية ايضا..

4. الوعي ليس موضوع العقل الادراكي وليس موضوعا مستقلا لما يدركه من اشياء ويتم التعبير عن ذلك لغويا تجريديا بوصاية العقل على الوعي في التعبير عن ذاته.

راسل وفلسفته فهم الحياة

راسل بحكم نشأته في بلد رأسمالي يؤمن بالديمقراطية حتى وإن كانت شكلية ويرفض اشتراكية النظام الحاكم ويؤمن بليبرالية وحرية المجتمع وقيمة الفرد الانسانية. بهذا الصدد يقول راسل: (اذا اردنا للفلسفة ان تكون بحثا موضوعيا نستهدي من ورائه (فهم) العالم. لا مجرد العمل على تحسين الحياة الانسانية فلن يكون للمفاهيم الاخلاقية أي دور في نطاق مثل هذا البحث النظري الخالص.)4. وسعى راسل استبعاد الاخلاق من دائرة البحث الفلسفي. واصفا الاخلاق انها مفهومات تركيبية عامة وتعبيرات عن انفعالات وحالات وجدانية غير موضوعية. راسل استبعد الاخلاق من كل مبحث فلسفي ينشد تحقيق فهم العالم وليس الاسهام بتغييره..

هنا نتساءل ما موقف راسل من حقيقة مباحثه الفلسفية التي تدور في فلك فهم العالم وليس تغييره كما واستبعد الاخلاق من مثل هذا المنحى الفلسفي. حين وصف الفلسفة البراجماتية او الذرائعية الامريكية بانها فلسفة نذلة وخسيسة.؟

ماموقع الحكم الاخلاقي على فلسفة ناجحة وضعت حدا لهراءات الفلاسفة المحلقين بالتجريد اللغوي اللفظي بلا معنى له.؟ واستقطبت الفلسفة البراجماتية العملانية التجريبية الاميريكية جميع دول اوربا حول ميزات فلسفية بحثية منها:

1. صواب وصحة اية فكرة او افكار فلسفية هي في دخولها تجربة الفلترة التجريبية بالممارسة والتطبيق العملاني. ولا قيمة للافكار خارج فلترة التطبيق العملاني بالحياة.

2. الافكار المعتملة بالذهن لا يشير الى صحتها وصوابها المنطق الاتساقي بينها على صعيد الفكر المنفصل عن التطبيق. بل قيمة الفكر واهميته هو التطبيق الناجح بالحياة. ونلاحظ راسل يتماشى مع بعض فلاسفة اللغة معتبرا اياها في بعض الاحيان مضللة للعقل. وهذه مقولة صحيحة اخذها راسل من فلسفة اللغة المعاصرة.

3. الانسان الفرد أعلى قيمة ورأسمال الحياة في الفلسفة الذرائعية الامريكية.

4. الفلسفة عموما رغم انها غارقة بالتجريد وابتعادها عن العلم تبقى مهمتها اسعاد الناس في مجتمع او في مجتمعات معينة. بمعنى البراجماتية تذهب في المنحى المناوىء لراسل ان الفلسفة في خدمة الحياة وليس في مهمة فهم وتفسير العالم.

5. لا معنى لحضور او غياب الاخلاق بالفلسفة حينما تكون الفلسفة في خدمة رفاهية الانسان.

هذه بعض ميزات البراجماتية الامريكية التي وصفها راسل بالفلسفة النذلة الخسيسة.

في استطراد لاحق حول مقولة راسل المناقضة لمقولة ماركس الذي وجد الفلاسفة يفسرون العالم بدلا من العمل على تغييره. حيث يعبّر راسل انه ليس من مهام الفلسفة تغيير الحياة او تبديلها كما ذكرنا مسقطا الاخلاق عنها ايضا بحجة ان  الافكار غير موضوعية ومحايدة بكل الامور متعللا بمقولة فلاسفة اللغة انها مضللة للعقل...

راسل المشبّع بالمفاهيم الراسمالية والحرية وحقوق الانسان مشجعا النمط الليبرالي الديمقراطي بالحياة. زار روسيا الاشتراكية الشيوعية والتقى لينين. فوجد صرامة شديدة ومركزية حديدية قاسية في التعامل اللاانساني مع حقوق الفرد الاساسية. وان الانسان في النظام الشيوعي وسيلة بناء نظام حكم استبدادي باسم الاشتراكية وعمّق هذا النهج المنحرف ستالين بما هو بشع ومدان اكثر.

طبيعي أن نقول بعد سقوط تجربة الاتحاد السوفييتي القديم 1991 أن هذه الاخطاء لم تكن واقعية تقع في صلب النظام الاشتراكي كايديولوجيا سياسية اقتصادية. وقد تخلصت الصين وكوبا وفيتنام من هذه الاخطاء وانعكس ذلك في تجاربهم الاشتراكية الناجحة بامتياز في عصرنا الحاضر.

كيف تخلصت الراسمالية من مشكلة التناقض الطبقي بالمصالح بين اصحاب رؤوس الاموال والشركات التجارية العملاقة ومالكي المصانع وغيرها في تقاطعها مع مصالح الشغيلة العاملة البروليتاريا؟

في وقت مبكر وقبل إنهيار منظومة الاتحاد السوفييتي القديم بعقود زمنية اشار هربرت ماركوزة الى أن الراسمالية تخلصت من شبح الموت الذي يطاردها ويطارد بلدان اوربا الراسمالية انهم استطاعوا رشوة الطبقة العاملة بجملة من الاصلاحات والمكتسبات منها تحديد ساعات العمل، ورفع الاجور، المشاركة بالارباح، التمتع بالضمان الصحي والتعليم والضمان الاجتماعي في حالة التقدم بالعمر والعجز في استحقاقهم الراتب التقاعدي ومنحة سنوات العمل وغير ذلك.

كل هذه التنازلات الراسمالية للطبقات العاملة انتزعت من العمال والشغيلة عامة الحس الثوري والشعور الدائم بالحرمان والفقر الذي كان ينخر النظم الراسمالية مهددا اياها بالسقوط..

***

علي محمد اليوسف

تتجلى المفاهيم في النماذج، وتتضح في التجارب، ويتم اختبارها في المآلات، وكل منظومات التفكير سواء كانت دينية أم وضعية يمكن أن تخضع للاختبار، والصراع الدائم بين الدين واللادين يعكس حجم المنافسة بين التصورات، فالإنسان في التصور الديني غير الانسان في التصور الوضعي، والحرية أيضا تختلف، وتمثلات القيم والعدل تختلف، ومن هنا تنشا الفلسفات والتصورات على اختلاف صورها وأثرها.

في العلاقات الانسانية تمثل الأسرة البنية الأساس للمجتمع، وحرصت الأديان على بناء الأسرة عبر ترسيخ القيم العليا التي أكدت عليها السماء في عدة مضامين تشريعية حسب شرائع السماء، لكن انعطاف الحضارة البشرية من تأثير الدين إلى تأثير المادة أدى إلى ضعف تلك البنية المتمثلة بالأسرة، ونحن اليوم – ونتيجة لما أفرزته الحداثة الغربية من قوالب تفكير- أمام اهتزاز وارتباك في مفهوم الأسرة ذاته، فما عادت مفردة (الأسرة) تعني بالضرورة (زوج وزوجة وأبناء) بل يمكن أن تشمل معنى آخر قد يتمثل بـ(رجل وإمرأة وأطفال من دون وجود عقد الزوجية)، أو تشمل حتى (اجتماع المثليين في منزل واحد) وهو ما يربك المشهد القيمي لدى البشر في العصر الراهن، ويشوه الفطرة والوجدان الإنساني بنحو واضح وصارخ..

لقد انتجت الحداثة قوالب وأنماطا من العيش الذي يتضمن علاقات تعاقدية نتيجة فلسفات مختلفة تنضوي تحت الاطار المادي الذي يفضي إلى تسليع الانسان، أدت إلى رسوخ حالة التعاقد في أدق تفاصيل العلاقات الاجتماعية وبالأخص العلاقة الأسرية، وهو المعنى الذي أدى بدوره إلى تجفيف منابع الانسانية والتراحم، بمعنى أن العلاقة الزوجية مثلا تم إخضاعها إلى منظومة التعاقد ضمن إطار الفكر المادي مما أفضى إلى استقلال الفرد بذاته وتمركزه حول ذاته بالنحو الذي أفقد الإنسان معناه وجوهره الإنساني، وأبعد العلاقة الأسرية عن معنى التراحم والمودة وغيرها من الصور التي تجسد القيم الإنسانية التي كانت ولا زالت موضع اهتمام الدين.

وقد حدد عبدالوهاب المسيري مفهومي: التعاقد والتراحم، كمعيار للتمييز بين المجتمعات الحداثية والمجتمعات التي تتسم بدرجة عالية من الإيمانية والإنسانية، والتراحمية تقابل التعاقدية عبر عد المجتمع نسيجا متنوعا مبني على أساس أن الإنسان كائن اجتماعي تحكمه قيم التعايش والتراحم، بمعنى أن التراحم يلحظ وجود أبعاد قيمية خلف كل علاقة، في حين يقوم التعاقد على البعد المادي والنفعي.

يمكن تشخيص مشكلة النموذج الغربي الحداثي في صياغته لنمط العلاقة الأسرية، وكيف تحول الأمر في مرحلة ما بعد الحداثة إلى اضمحلال معنى الأسرة وذوبانه في قوالب مفاهمية جديدة، وغياب أهمية دور الأديان في الحفاظ على القيم الانسانية التي تحدد نمط الروابط والأواصر التي تحكم المجتمع، وتحول دون تمييع تلك العلاقات التي فطر الله تعالى الناس عليها بنحو من التراحم والتعايش المستند إلى قيم عليا.

إن التركيز على فكرة الحقوق لدى الغرب بلور جانب المنفعة، إذ ترتبط الرؤية حول الحق الطبيعي للإنسان بالمنفعة مما يدعو إلى غياب شبه تام للجانب الانساني الذي يختزل القيم العليا والمجردة من الذاتيات، نتيجة الفهم الخاطئ للحرية الذي يبرّز دور الإرادة الفردية، فالانسان في حدود هذا التصور من حقه أن يفعل ما يريد ولو بقيد عدم الإضرار بالآخرين، لكن ذلك القيد لن يجدي نفعا ما دامت التصورات لا تخضع إلى أطر مرجعية ثابتة، والمنفعة بدورها تنتج مفاهيم سائلة، لا يمكن تحديدها بنحو دقيق ومنضبط.

يمثل الدين –أي دين- إطارا مرجعيا ثابتا، مهما تعددت تفاسيره، لأن الخطاب الديني بمعناه العام يقدم قيما عليا تمثل نقاطا مرجعية وإرشادية تمنح العقل الفردي والاجتماعي حصانة نسبية من الانحدار نحو الرغبة والارادة المرحلية والسعي نحو النوازع الفردية.

إن المشكلة التي عكسها واقع القيم في الغرب، إحلال العقل محل الدين بالمرة، وحتى يتم ضبط أحكام العقل كانت الأغلبية والأكثرية طريقا قهريا للنظم الغربية، ومن جانب آخر برزت مشكلة الأقليات، والتي أفرزت بدورها الحاجة إلى التفكير بالحريات، فنشط الفكر الليبرالي، ليحقق التوازن بين سلطة الأغلبية وحقوق الأقلية، حتى وصل الحد إلى أن تتصدر الأقلية بعض المواقف تحت ذريعة الحرية مثلما آل إليه الأمر مع النزوع المثلي والنسوي، والتركيز على حق الاعتراف بهم من قبل الأغلبية حتى لو قهرا..

وهي إحدى تمثلات التعاقد المبني على أسس مادية تدعم التمركز حول الذات، لا القيم أو الحقائق المطلقة، مما أدى إلى متغيرات غريبة لا يكاد يستوعبها المجتمع الغربي بفعل السياسات التي تهدف إلى تغليب الأنماط الفكرية المتولدة عن اللاضبط في فهم مفردات (الحرية، التعاقد،..)

ولقد سعت التجربة الغربية إلى إحلال الدولة محل الأسرة، وأصبح الكيان الفكري للفرد صنيعة الدولة ومؤسساتها واعلامها، من حيث نشعر أم لا نشعر، حتى بات من الامكان رصد التحول الخطير في منحى حقوق الانسان من الإنسان ثم المرأة، ثم الطفل، والشواذ.. ويجري اليوم ترسيخ تلك الحقوق بانزياحاتها الخطيرة وفرضها على العالم شاء من شاء وأبى من أبى..

وفي هذا الصدد لا نغفل ما أسهم فيه الفكر الغربي من جوانب مشرقة تجاه الإنسان والقيم الانسانية، ولا يمكن إغفال بعض الآثار الإيجابية لفلسفة التعاقد على مستوى الدولة والمجتمع، لكن الرؤية في هذا المقال ركزت على أبرز مشكلات الفكر الغربي وما آلت إليه بعض رؤاهم من هبوط في مستوى القيم الملحوظ ضمن سياسات بعض الدول فضلا عن ظواهر مختلفة في المجتمعات الغربية.

***

د. اسعد عبد الرزاق الأسدي

يرى كثير من مفكري الشرق والغرب أن مشروع محمد عابد الجابري يمثل حلقة مهمة من حلقات الاجتهاد الفكري والفلسفي المبنى على البحث والتساؤل والنظر وإعادة النظر، في الحاضر العربي وعلاقته بالموروث القديم وصلته بالمستقبل القادم ؛ حيث قدم الجابري في هذا المشروع  عددا وافرا من الدراسات، سارت في اتجاهات متنوعة، متكاملة في الوقت نفسه: القراءة الجديدة للتراث الفلسفي، وعلاقة التراث العربي بالحداثة، وفهم النص القرآني، وقضايا الهوية بين العروبة والإسلام والغرب، وإشكالات النهضة، والعلاقة بين الدين والسياسة والعلم.. وكلها تمثل قضايا مطروحة في حاضرنا، ولعلها سوف تظل مطروحة على مستقبلنا لفترة قادمة غير قصيرة.. ومن أشهر هذه الدراسات رباعيته التي أثارت جدالا واسعا حول "نقد العقل العربي".

بيد أن الأستاذ الدكتور عصمت نصار – أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، كان له رأي آخر في عدد من المقالات التي كتبها تحت عنوان " مشروع الجابري والمتلاعبين بالعقول"، و"الجابري والقرآن ورحلة الرجوع "، حيث تعرض في عجالة لأهم الاضطرابات التي حاقت بمشروع "الجابري" وجعلت منه مجرد خطاب ثوري على الجامدين والمقلدين ومنتحلي النظم والمذاهب. فها هو الجابري يعترف كما يقول عصمت نصار بأن ديمقراطية الغرب خطاب زائف وأن تطبيقه في الثقافة العربية بعيد المنال، وذلك لأن بنيتنا التربوية لم تأسس على هذا النهج، وأن دعاة الاستبداد قد أبعدونا عن حقيقة ديننا وسياستنا الشرعية القائمة على مبدأ الشورى، والاستقلال في الرأي، والعمل من أجل المصلحة العامة، وتقديم الأخذ بالمقصد على ظاهر النصوص، ودرء مفاسد العادات، وإنكار السلطة الدينية، والانتصار إلى العقل والعلم والتجربة في انتقاء النظم وسن القوانين؛ شريطة عدم تعارضها مع قطعي الثبوت والدلالة من صريح الوحي وصحيح السنة.

وفي نظر عصمت نصار يعيب الجابري في الوقت نفسه على فلاسفة السياسة المسلمين عدم تقنينهم لنظام واحد في تطبيق مبدأ الشورى لاختيار الحاكم وجمعهم بين أكثر من نظام لتنصيبه (البيعة العامة، الانتخاب الغير مباشر، الملك العضوض، الغلبة والقوى) وابتعادهم عن الروح العقلية والمقومات العملية والعلمية في الشروط التي يجب توافرها في شخصية الحاكم وإغفالهم تعيين مدة توليته ومهام اختصاصاته التي تحد من سلطاته حتى لا يصبح حكمه حكماً ديكتاتورياً استبدادياً؛ مستشهداً بواقعة الفتنة الكبرى في فشل الحكم السياسي الإسلامي مبيناً في الوقت نفسه حق من يمتلك القوة في الانقلاب على من يخالفه ومؤكداً عجز الفقهاء عن إصلاح هذا الخلل؛ الأمر الذي أطاح بأهم حقوق الشعب في مبدأ الشورى وفتح الباب أمام المنتفعين ومزيفي الوعي للقول بأن القدر يولي من يصلح، وأن الملك هبة من الله يمنحها لمن يستخلفه على أرضه، وساد في السياسة الإسلامية مبدأ (من اشتدت وطأته وجبت طاعته).

أما ما كتبه الماوردي وابن الأزرق - في رأي  الجابري كما يقول عصمت نصار- لا يعدو أن يكون تهذيباً للآداب السلطانية وعليه يجب العدول عن ما نطلق عليه السياسة الشرعية إلى السياسة المعاصرة والدساتير الديمقراطية. ويقول في ذلك (وفي العصر الحاضر ليس هناك غير أساليب الديمقراطية الحديثة، التي هي إرث للإنسانية كلها. إن تحديد طريقة ممارسة الشورى بالانتخاب الديمقراطي الحر، وإن تحديد مدة ولاية "رئيس الدولة" في حال النظام الجمهوري، مع إسناد مهام السلطة التنفيذية لحكومات مسؤولة أمام البرلمان في حالة النظام الملكي والجمهوري معاً، وأن تحديد اختصاصات كل من رئيس الدولة والحكومة ومجلس الأمة بصورة تجعل هذا الأخير هو وحده مصدر السلطة، تلك ثلاثة مبادئ لا يمكن ممارسة الشورى في العصر الحاضر بدون إقرارها والعمل على ضوئها. إنّ عدم حماسة بعض الحركات السياسية التي ترفع شعار الإسلام للديمقراطية الحديثة، موقف لا مبرر له)، وذلك في عدة كتب (العقل السياسي العربي) عام 1990م و(الدين والدولة وتطبيق الشريعة) عام 1996م و(الديمقراطية وحقوق الإنسان) عام 1997م.

وهنا نجد  "الجابري" كما يقول عصمت نصار يضع المتلقي في مآزق يعرقل تطبيق مشروعه (هل يساير ديمقراطية الغرب الذي يتحكم فيه رأس المال والتكتلات الاقتصادية والقوة العسكرية - التي أسهم في شرحها - أم مبدأ الشورى الإسلامي الذي لم يفلح الفقهاء والفلاسفة في تجديد أصوله وتحديث آلياته؟)؛ وعليه يصبح حديث "الجابري" مجرد خطاب نقدي ليس مشروعاً عمليّاً؛ ويبدو ذلك في قوله عن حل المعضلة السياسية التي يواجهها المسلمون (تحويل العقيدة إلى مجرد رأي: فبدلاً من التفكير المذهبي الطائفي المتعصب الذي يدعي امتلاك الحقيقة يجب فتح المجال لحرية التفكير، ولحرية المغايرة والاختلاف، وبالتالي التحرر من سلطة الجماعة المُغلقة، دينية كانت أو حزبية أو أثنية، أن تحويل العقيدة إلى مجرد رأي معناه: التحرر من سلطة العقل الطائفي والعقل الدوغمائي، دينياً كان أو علمانياً، وبالتالي التعامل بعقل اجتهادي نقدي. الفكر العربي المعاصر مطالب إذن بنقد المجتمع ونقد الاقتصاد ونقد العقل، العقل "المجرد" والعقل السياسي ... إنه بدون ممارسة هذه الأنواع من النقد بروح علمية سيبقى كل حديث عن النهضة والتقدم والوحدة في الوطن العربي حديث أمانٍ وأحلام).

أما إذا انتقالنا إلى القضية المركزية التي انطلقت منها كل مشروعات التجديد والإصلاح في الثقافة العربية الإسلامية الحديثة كما يذكر عصمت نصار، فسوف نجد "محمد عابد الجابري"، شخص آخر مستنكر ومتبرئ من جل مشروعه، ويبدو مجرد مردد أو مجدد لخطاب محمد عبده وتلاميذه في موقفه من الهُوية العربية ومشخصاتها والتجديد وآلياته وموقف الأنا من الآخر. فقد أكد مفكرنا أنه ليس من دعاة إهمال التراث أو نقضه واستبعاده، كما أنه ليس من انصار التغريب والسير في ركاب الأوروبيين أو الأخذ بمناهجهم في نقد الموروث أو طرائقهم في دراسة الكتب المقدسة أو التنازل عن مشخصاتنا طلباً للحاق بثقافة الأغيار المتقدمة، أي أنه صرح بنقيض ما صرح به في معظم كتاباته، وخلافاً لما كان يعتقد نجده يتخذ من التفكيك نهجاً في قراءة المشهد الثقافي المعاصر بصورة جامعة لواقعات الأنا العربية الإسلامية وحقيقة الآخر. فتبين له أن الأنا العربية الإسلامية ليست واحدة فقد مزقتها الأيديولوجيات والقوميات وهوى الزعامات والأفكار القبلية الشعوبية والثقافات الوافدة الموجهة لتزييف مشخصات الهوية. فانحدرت القيم الأخلاقية والرُّوحيّة وأصبح الدين والوحي وسنة النبي مسار خلاف بين المتطرفين يميناً ويساراً وظل مكان العقل القائد شاغراً حتى أعتلاه تجار الكلمة وحاشية السلطان. وأن الآخر ليس كياناً واحداً، بل هناك الآخر المعاهد والآخر العالم والآخر المعادي والآخر المنافس والآخر المتآمر...، ويضيف أنه من الوهم الاعتقاد بأن كل ما يأتي من القدماء نافع، وأن كل وافد من الأغيار سام وضار، وأن مناهجنا في الاصطلاح يجب أن تأتي من الخارج، وأن مذاهبنا في الأدب والفن يجب أن تحاكي المستحدث والشائع في أوروبا، وأن أخلاقنا وثوبتنا العقدية يجب أن تلين وتذوب في عولمة الآخر المتقدّم، ومع ذلك كله نجده ينحاز ويبرر نظرية المؤامرة التي يلكوها المحافظون ولا ينكر في الوقت نفسه نظرية القصور الذاتي والفساد الداخلي والخيانات الثقافية والسياسية ومنطق التبعيّة التي يفضحها المجددون.

وصفوة حديث "الجابري" في هذا السياق كما عصمت نصار أنه يريد توجيه نظرته التفكيكية إلى الغرب حتى يتأتى له التعرف عليه وأغراضه عن قرب ويحدّد الطرائق التي تمكننا من الاتصال به دون أن يسيطر علينا ويقول في ذلك (سؤال لا يحتمل إجابة واحدة، في الظرف الراهن على الأقل. إن الجواب سيختلف باختلاف من يُطرح عليهم هذا السؤال، وهم أطراف متعددة مختلفة المصالح والرؤى، مما يجعل من "العربي" مفهوماً مصنوعاً، صورة تختلف مضموناً وملامح حسب نوع الوعي الذي ترتسم فيه والمكان الذي يضعها فيه. إنها في الطرف الذي يضع "العربي" في موضع "الآخر" شيء، وفي الوعي الذي يتخذ منه "الأنا" وصورة مستقبله، شيء آخر تماماً، وبين هذين الطرفين المتقابلين صور متعددة لـ "العربي" بعضها امتداد لهذا وبعضها فروع من تلك وهكذا ... أما على صعيد التعرّف إلى الهويِّة في الفكر الأوروبي؛ فإن الباحث يستطيع أن يجد من الأمثلة ما يؤكد هذا الثابت في طريق التعرّف على الأنا في الرؤية الأوروبية للعالم: وهكذا فمنذ اليونان والرومان "المواطن" يتعرف إلى هويته من خلال "العبد" داخلياً و"البرابرة" خارجياً. أما المسيحية فلم تكن تتعرف إلى نفسها خلال القرون الوسطى إلا من خلال وضعها "الإسلام" كآخر، خصم وعدو. أمَّا في العصر الحديث مع انتشار الرحلات والاستكشافات الجغرافية وذيوع الفكر العلماني في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، فإنّ ثنائية "الشرق" و"الغرب" أصبحت تحكم الحديث الأوروبي عن نفسه، وهكذا أصبح الغرب لا يتعرف إلى نفسه إلا من خلال الصورة التي يبنيها لنفسه عن "الآخر" الشرق).

أما إذا انتقلنا لنقد عصمت نصار للجابري فيما يخص موقف الجابري من القرآن الكريم في كتابه "مدخل إلى القرآن الكريم"، فقد وقف نصار على بعض الملابسات على تلك الملابسات بشيء من التفصيل، ويذكر نصار نماذج منها مفاهيم مثل: "اللامعقول العقلي"، "المعنى الساذج للنبي الأمي"، "حدَث الوحي المحمدي"، "العقل القرآني"، علاوة على أن الجابري في نظر نصار كان يجمع في سياق واحد بين خطاب الإصلاح العربي الذي انتجه الاتجاه المحافظ المستنير واجتراءات وأباطيل غلاة المستشرقين في قراءته النقدية للتراث العربي الإسلامي والقرآن والسيرة النبوية من جهة، وخطته في معالجة الواقع السيء الذي تعيشه أمتنا العربية الإسلامية في القرن الحادي والعشرين من جهة أخرى.

أمّا عن موقف الجابري من كتب التفاسير فقد أصبح كما يري نصار موقفاً نقدياً أقرب إلى الموضوعية منه إلى الراديكالية والتفكيكية؛ إذ ذهب إلى أن كتب التفسير قديمها وحديثها لا يخلو بعضها من الطابع الأيديولوجي لذا لا ينبغي التعويل عليها وحدها في فهم النص القرآني؛ بل الأجدى هو الاعتماد على التفسيرات اللغوية والتأويلات العقلية الموافقة لصريح الدلالة اللفظية من جهة، والمقاصد الشرعية للنص من جهة أخرى. ويعني ذلك أن الجابري قد انتصر لمفهوم التأويل الشرعي ورغب تماماً عن المنهج التفكيكي أو التأويلات المعاصرة التي لا تفرّق بين طبائع النصوص ومكنوناتها.

لكن بعض أصدقائنا المفكرين بالمغرب العربي اعتبروا حديث نقد عصمت نصار للجابري نوعا من التحيز وعدم الموضوعية، وأنه كان متحاملا على المفكر المعاصر "محمد عابد الجابري" ومشروعه التقدمي، وذلك بسبب تجاهله الحديث عن مشروع "حسن حنفي" رغم تشابه حديثهما في كثير من المواضع".

وهنا نجد عصمت نصار يدافع عن نفسه قائلا:" والحق أنني لم أتعرّض لمشروع "الجابري" بآليات النقد إلا لكثرة المُروجين له بين شبيبة هذا العصر - الذين اعتبروه مقصد اللهفان والمُخلص من عذابات الشيطان- كما أنني أوكد أن معظم نقودي قد أنصبت على بناء وبنية كتابات "الجابري" الذي أطلق عليها مصطلح مشروع، مخالفاً بذلك ادعاء الضوابط والأسس للمشروعات الفلسفية النهضوية التي تستوجب الرؤية الإصلاحية في المقصد وانتخاب الآليات واللحظة التاريخية المناسبة والسلطة الراعية (الرأي العام القائد أو الرأي العام التابع)، والقوة العاملة المنفذة؛ ذلك فضلاً عن أصالة المنطلق النقدي واتساق ونسقية وموضوعية الأفكار التي يطرحها على مائدة التخطيط والتنفيذ. واعتقد أن أفضل من يُضرب به مثلاً في المشروعات النهضويّة هو مشروع "حسن العطار" الممتد إلى "ذكي نجيب محمود" رغم ما أصابه من إخفاقات واضطرابات فلم يحد عن كونه الممثل الأوحد للاتجاه المُحافظ المستنير الذي نجح في نقل مصر ومثقفي العالم العربي الإسلامي من طور التبعية والتشتت إلى طور التجديد والانتماء وتحديد الهويّة ذلك فضلاً عن تطويره العلوم والمباحث الإسلامية والنهوج النقديّة في الدرس الفلسفي.

ويستطرد عصمت نصار فيقول:"أجل أنني لم أقصد الإساءة أو المقابلة بين آراء هذا وذاك؛ بل كنت أسعى ومازالت أوكد على أن المشروع الذي يجب علينا تجديده وتحديثه وتطويره هو ذلك الذي يعمل على تقديم خطة إصلاحية للواقع المعيش ويعمل في الوقت نفسه على تثقيف شبيبتنا على نحو يمكنهم من استيعاب "التفكير الناقد" الذي يؤهلهم لانتخاب النافع من القديم أو الحديث ويؤهلهم للإبداع وصناعة المستقبل.. وللحديث بقية...

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي – كاتب مصري

في مقالاته الفلسفية القصيرة التي نُشرت عام 1851 بعنوان parerga و paralipomena، يتأمل الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور بنطاق كامل من الموضوعات، من بينها الطبيعة المقلقة للترابط الانساني. لكي يوضح أفكاره، يعرض شوبنهاور مثلا يدور حول مجموعة من القنافذ ذات الأشواك. هو يكتب:

"في احدى ليالي الشتاء الباردة، احتشد عدد من القنافذ وعلى مسافة قريبة جدا من بعضهم لكي يحصلوا على الدفء المتبادل ويمنعوا أنفسهم من الإنجماد. لكنهم شعروا حالا بتأثير أشواكهم الحادة على بعضهم البعض، وهو ما دفعهم مرة اخرى الى التفرّق". القنافذ تبحث عن الدفء، لكن في كونهم قريبين من بعضهم، ادّى وخز الأبر الى الانسحاب المصحوب بالازعاج والألم. اذاً ماذا يمكن ان يفعل القنافذ؟ يستمر شوبنهاور بالقول:

"الآن عندما دفعتهم الحاجة للدفء الى التقارب، برزت أمامهم مشكلة الأشواك التي تكررت مرة بعد اخرى وهو ما جعلهم بين شرّين، حتى اكتشفوا المسافة الملائمة التي يمكنهم فيها القبول والتسامح مع بعضهم". القنافذ توصلت الى تسوية: قرب يكفي للدفء مع مسافة تكفي لأقل خدش ممكن. شوبنهاور يطبق هذا المثل ضمنيا على المجتمع الانساني: "حاجة المجتمع التي تبرز من الفراغ ورتابة الحياة، تقود الناس للتجمع مع بعضهم لكن صفاتهم البغيضة وغير السارة ومشاكلهم التي لا تُطاق تدفعهم مرة اخرى للتفرق".

النقطة التي يركز عليها شوبنهاور: هي بينما نحن نسعى للارتباط الانساني، محاولين ان نكون في علاقة قوية او ضعيفة مع الآخرين لكن هذا في أغلب الاحوال يقود الى إحباط وخيبة. نحن كالقنفذ نخدش ونزعج بعضنا البعض بأفكارنا و حاجاتنا المتغيرة قبل الوصول الى تسوية، هو يكتب:

"متوسط المسافة التي يكتشفها الناس في نهاية المطاف، والتي تمكّنهم من الإستمرار مجتمعين، هي الأدب والأساليب الجيدة. وبموجب هذا، يكون من الصواب ان الحاجة للدفء المتبادل ستحقق قناعة غير تامة، ولكن من جهة اخرى، سوف لن يحصل شعور بوخزات الاشواك". الآداب والأساليب تبرز لتخفيف خشونة حاجاتنا الفردية، وان مثل هكذا مجتمع مؤدب، في نفس الوقت يغلق الطريق أمام حدوث  أي ارتباط حقيقيي . وهكذا يحصل المأزق: نحن نسعى لإرتباط حقيقي ولكن نستطيع فقط القبول بنوع من القرب المخفف.

ماذا نستطيع ان نعمل اذاً ؟ كيف نستطيع التغلب على المأزق؟

اذا اعتقدنا ان شوبنهاور سوف يزودنا باستراتيجيات هامة في كيفية التغلب على القرب غير الضروري مع الاستمرار في تشكيل علاقة وثيقة، فنحن لسوء الحظ سوف نُترك بخيبة مريرة. لأنه بدلا من ذلك، يذهب شوبنهاور المتشائم  في الاتجاه الآخر. هو لا يقبل بطرق الناس المسببة للغضب، هو يرى اننا يجب ان نقلل خسائرنا وننسحب كليا الى العزلة، ونركز على إيجاد بعض الدفء لأنفسنا. هو يكتب:

"لكن منْ يتمتع بقدر كبير من الدفء الداخلي سيفضل الابتعاد عن المجتمع لتجنب التسبّب في او تلقّي المتاعب والازعاجات".هو يرى ان العزلة هي المقياس الذي تُقاس به جودة الناس من عدمها، وان كل الشر هو بسبب عدم الإختلاء بالنفس. في الحقيقة، لا أحد يحتاج لصحبة الآخرين عندما يستطيع المرء التمتع بصحبته هو؟ أي شكل من أشكال الارتباط الذي نبحث عنه يمكن توفيره عبر نوع من العزلة المهذبة. هو يستمر في الكتابة، العزلة يمكن ان تجعلنا أكثر سعادة عندما نطور الكثير من فهمنا ونعمّق تقديرنا للفن. نحن نستطيع إنفاق وقتنا في القراءة، الاستماع للموسيقى، تثمين أفضل الانجازات الثقافية للانسانية بدون ان نتعامل او ننزعج من أي انسان آخر. وفي مقال آخر عن الكفاية الذاتية، يستمر شوبنهاور بإصرار على هذا الموقف بقوله:

" كقاعدة عامة، ربما يُقال ان اجتماعية الانسان (رغبته في الاختلاط) تتناسب عكسيا مع قيمته الفكرية: أي لو كان هناك "شخص ما" غير اجتماعي جدا، هذا يساوي القول انه انسان ذو قدرة عظيمة. العزلة هي ذات فائدة عظيمة لمثل هذا الانسان.(1)

اولاً، العزلة تسمح له ليكون مع نفسه، وثانيا، انها تمنعه من ان يكون مع الآخرين – ميزة هامة جدا، في ظل القيود والازعاجات والاخطار في كل حديث او نشاط مع العالم".

بالطبع، شوبنهاور يهاجم العلاقات الاجتماعية ويمدح التوجّه لدى اولئك الذين يحتضنون العزلة – لأنه هو نفسه عاش حياة العزلة (هو لم يتزوج ابدا، وكانت علاقاته مع امه عدائية،وكان مزاجه سيئا). لكن مهما كان شعورنا تجاه وخزات شوبنهاور، فان مقارنة القنفذ  ألهبت خيال سيجموند فرويد الذي نشرها بعنوان "مأزق القنفذ"، فرويد اعتقد ان شوبنهاور دمج رؤية هامة في علم نفس الانسان: في البحث عن القرب، نحن عادة ندفع الآخرين بعيدا، و ننتهي فقط بإزعاج بعضنا البعض.

***

حاتم حميد محسن

............................

الهوامش

(1) يقول شوبنهاور ان الاختلاط ينتمي الى اكثر الميول خطورة وتدميرا، طالما يجعلنا في اتصال مع غالبية سيئة أخلاقيا وكسولة فكريا. وُجد ان الانسان يكون اجتماعيا بنفس المقدار الذي يكون فيه ضعيف فكريا ومبتذل بشكل عام. كان شوبنهاور مقتنعا بانه كلما كان الشخص أعلى ذكاءً كلما كان اكثر عزلة وميلا الى الهدوء. لقد آمن شوبنهاور بقوة بفكرة الرعاع مقابل الانسان الأرقى. الرعاع يحبون الضوضاء والتسلية الرخيصة. السوبرمان يحب الادب والعزلة والموسيقى الجادة، ويرى الحفلات والاختلاط مؤذية بشكل عام. هو كان لديه تفسير فسيولوجي: دماغ الانسان المتخلف فكريا هو خشن، ولا يتأثر بالضوضاء، وفي الحقيقة يحتاج للصوت العالي ليكون قادرا على التمتع والاعجاب. اما دماغ الانسان الذكي، فيزيقيا يكون ألطف واكثر حساسية، وصُمم للاعجاب والرغبة في حدة الذهن. الرجل السوبر يتأثر سلبيا بالضجيج والصوت العالي والصخب. الانسان الخشن يفضل الخشونة، اما الانسان الرقيق يفضل الاشياء الرقيقة.

Civil society

From Wikipedia، the free encyclopedia

ترجمة: د. عدنان عويّد

***

في المفهوم:

يشتمل المجتمع المدني في سياقه العام على العديد من المنظمات والمؤسسات المدنيّة والاجتماعيّة، والتجاريّة، والسياسيّة، والثقافيّة، التي تشكل أسس الوظيفة الاجتماعيّة في مواجهة أو مقابلة المنظمات المدعومة من قبل الدولة، دون أي اعتبار للنظام السياسي الذي تعتمده الدولة.

وإضافة للمفهوم الذي تقدمنا به أعلاه، يمكننا القول أيضا إن هناك مئات التعاريف للمجتمع المدني في قاموس الحداثة المعاصرة، أو ما يسمى بـ  "ما بعد الحداثة "، ومن هذه التعاريف العديدة جاء مثلا في مدرسة " المركز الاقتصادي الانكليزي لنشاط "المجتمع المدني"، أن المجتمع المدني يشير إلى ميدان العمل الجماعي الطوعي، وفقا لاهتمامات وأهداف وقيم القوى الاجتماعيّة المساهمة في هذا العمل. ففي النطاق النظري، نجد هنا أن الصيغ المؤسساتية للمجتمع المدني تتميز عن تلك الخاصة بالدولة، أو الخاصة بالمرجعيات التقليديّة للمجتمع (عشيرة، قبيلة، طائفة)، بينما نجد في النطاق العملي لهذه المؤسسات، أن الحدود بين مؤسسات الدولة والعائلة والسوق والمجتمع المدني، غالبا ما تكون متداخلة ومشوشة وتفاوضية أيضا، بل إن المجتمع المدني ممثلا بمؤسساته، غالبا ما يعانق تنوع الأمكنة، والممثلين، والصيغ، وتنوعه هذا يتجلى في درجاته، ومراسيمه، وقوته، واستقلاله الذاتي.

إن المجتمعات المدنيّة، كثيراً ما تعبئ السكان في منظمات غير حكوميّة، ذات طابع اجتماعي، مثل المنظمات الخيريّة ذات الأسس الدينيّة، (الروابط الأخويّة)، وكذلك المنظمات النسائيّة أو المهنيّة، والاتحادات التجاريّة، ومجموعات المساعدات الذاتيّة، وجمعيات رجال الأعمال، والدفاع عن حقوق الإنسان، والتضامن .. الخ .

أصول المجتمع المدني:

ظل مفهوم المجتمع المدني حتى في الفترة المعاصرة مرتبطا بمفهومه الكلاسيكي، وهو من صلب أدبيات عصر التنوير في القرن الثامن عشر، بل ربما يعود في معطياته إلى تاريخ أقدم من حيث ارتباطه مع تاريخ الفكر السياسي. ومع ذلك نقول إن المجتمع المدني في الفترة الكلاسيكيّة كان يستخدم كتعبير مرادف لـ"المجتمع الجديد"، حيث بدأ قريباً من الدولة أو شبيها بدورها.

على العموم، لقد أصبح المجتمع المدني في تاريخه المعاصر يشير إلى المشاركة السياسيّة، لحل الصراعات الاجتماعيّة عبر فرض القوانين التي تضبط علاقات المواطنين خوفا من إيذاء بعضهم بعضاً، وذلك على اعتبار أن الصراعات الاجتماعيّة داخل المجتمعات يفضل أن تحل عبر النقاش والحوار العام، ذي الصفة العقلانية، من أجل كشف الحقيقة، وهذا الحوار العقلاني بدوره سيعمل على تحقيق المواطنة والحياة الجيدة للمجتمع، (ويؤسس لأنظمة دستوريّة وقانونيّة تعمل على استقرار المجتمع والحفاظ على استقراره وأمنه وعدالته – المترجم).

يرى بعض المهتمين بالفكر السياسي، أن الدولة المثاليّة هي التي تكوّن مجتمعاً عادلاً، حيث يكرس فيها المواطنون أنفسهم للتعاون مع بعضهم، مثلما يكرسون الفضائل المدنيّة العمليّة، مثل:  الحكمة، والشجاعة، والعدالة، وروح المعاصرة، كما يؤدون الدور الوظيفي المنوط بهم،  والذي من خلاله يحققون الوضع الاجتماعي المناسب لهم.

إن الفلاسفة والمفكرين في المرحلة الكلاسيكيّة لم يشيروا أو يؤكدوا أي تمايز ما بين الدولة والمجتمع، بل على الأغلب هم تمسكوا بمقولة أن الدولة مثلت الصيغة المدنيّة للمجتمع، وأن المدنيّة مثلت أيضا متطلبات المواطنة الجيدة. وأكثر من ذلك فقد تمسكوا بفكرة أن الكائنات الإنسانيّة هي بحد ذاتها عقلانيّة، وتستطيع في اجتماعها تشكيل طبيعة المجتمع الإنساني الذي تنتمي إليه، مثلما تمتلك كذلك، قابلية التجمع والمشاركة وحفظ السلام للجميع داخل المجتمع بشكل إرادي. وبذلك نستطيع القول: إن المفكرين السياسيين الكلاسيكيين، قد صادقوا على بداية نشوء، أو انطلاق مفهوم المجتمع المدني في وعيهم العام. ولكن علينا هنا أن نشير إلى مسألة ذات أهمية خاصة وهي: إن الترتيبات السياسيّة لإقطاع العصور الوسطى، تعتبر حالة استثنائية، حيث أن أعمال المفكرين الكلاسيكيين كان قد سحب من تحتها البساط خلال تلك الفترة التي كانت قد ازدادت فيها سلطة الكنيسة والإقطاع (النبلاء) قوةً.

على أيّة حال، إن حالات التقدم التي تمت في بعض مناطق أو أقسام أوربا منذ القرن الرابع عشر، كانت قد نبهت إلى حد بعيد عن حالة انتعاش وإحياء مفهوم العقلانيّة الإنسانيّة، (الحركة الأنسيّة – المترجم)، وهذا أثر في تحقيق التوسع الهائل لتشكيل الصلات السياسيّة الايجابيّة حتى نهاية عصر النهضة.

إن  حرب الثلاثين عاما، ومعاهدة " وستفاليا " عام / 1648/  بشرا في ولادة نظام الدولة الحديثة. فالدول التي صادقت على المعاهدة كوحدات إقليميّة سياسيّة، حازت على سلطاتها المطلقة، وكنتيجة لذلك كان الملوك يسمحون بممارسة السلطة الوطنيّة من خلال إضعاف سلطة اللوردات والنبلاء الإقطاعيين، وإيقاف الاعتماد عليهم في تأمين وتدريب القوى المسلحة. يضاف إلى ذلك أن الملوك استطاعوا آنذاك تشكيل الجيوش الوطنيّة الخاصة بهم، ونشر الوظائف والأعمال البيروقراطيّة المرتبطة بالدولة، ومن خلال هذه الأساليب أمّنَ الملوك السلطة المباشرة والمطلقة معاً على مواطنيهم، ولكي يؤمن الملوك المستلزمات الماليّة والإداريّة أيضاً،  اعتمدوا على السلطة الاقتصادية - أي - على الطبقة الرأسماليّة الوليدة التي وجدت في الملك حليفاً قويّاً لها لمواجهة سلطة الكنيسة والنبلاء معا، وهذا التناغم ما بين الملك والسلطة الاقتصاديّة أي البرجوازيّة، ساعد هنا على ولادة ما سمي بسلطة (المستبد العادل)، وهي سلطة مطلقة خير من عبر عنها " لويس الرابع عشر بقوله: (أنا الدولة والدولة أنا) .

مع أواخر القرن الثامن عشر كان النظام المطلق قد أصبح الطابع المميز لأوربا، هذا وقد حدث خلاف لدى المفكرين التنويريين حول الطبيعة المطلقة للدولة في عصر التنوير، كنتيجة لطبيعة النهضة ذاتها التي تطور فيها العلم، والنزعة الإنسانيّة، حيث راح المفكرون النهضويون (التنويريون) آنذاك يطرحون أسئلة أساسيّة أو جوهريّة عن مشروعيّة الموروث المعطى، وأسس الحكومات، والتساؤل عن أسباب امتلاك بعض الناس الحقوق الأصيلة، وفقدان الآخرين لها، وغير ذلك من التساؤلات الكثيرة التي تتعلق بالإنسان وحريته ومكانته الطبيعية.. الخ . وللحق نقول: إن هذه الأسئلة قادتهم لعمل الكثير من الافتراضات الحقيقيّة حول طبيعة التفكير الإنساني، واتجاه مصادر السلطة السياسيّة والأخلاقيّة، ثم الأسباب الكامنة وراء السلطة الاستبداديّة المطلقة  وكيفيّة تجاوزها. لقد اعتقد المفكرون التنويريون بالطيبة المتأصلة في العقل الإنساني، وعارضوا التحالف بين الدولة والكنيسة كتحالف معادي للتقدم والرفاه الإنساني والرغبة الشعبيّة، وذلك لما تفرضه الدولة من وسائل إلزاميّة لكبح الحريّة الفرديّة، وشرعنة  النظام الملكي من خلال التنظير أو التشريع لنظرية (الحق الإلهي)

لقد كان للأعمال الوحشية التي نتجت عن حرب الثلاثين عاما في أوربا تأثير واضح، حيث اقتنع فلاسفة تلك المرحلة بأن العلاقات الاجتماعيّة يفضل أن تكون منظمة في طرق أو أساليب ليست مختلفة عن تلك المرتبطة بالقانون الطبيعي، لذلك راح بعضهم ينظر لنظرية " العقد الاجتماعي "، وهي نظريّة مثلت في الحقيقة العلاقات الاجتماعيّة القائمة على التوافق مع الطبيعة الإنسانيّة، وهذا ما دفعهم إلى التأكيد على أن الطبيعة الإنسانيّة يمكن أن تُفهم من خلال تحليل ظروف الوقائع الموضوعيّة، والقوانين الطبيعيّة، لذلك هم صادقوا على أن طبيعة الكائنات الإنسانيّة يفضل أن تكون متضامنة أو متحالفة مع خط الدولة، ومؤسسة للقوانين الوضعيّة معا.

إن الخوف من ذاك التدمير الهائل الذي أحدثته حرب الثلاثين عاما، دفعت المفكر والفيلسوف "توماس هوبس" التأكيد على أهمية الحاجة لقوة الدولة  للحفاظ على الحياة المدنيّة في المجتمع، لاسيما وأن "هوبس" يرى أن الكائنات الإنسانيّة غالبا ما تتحرك بدوافع المصلحة الخاصة، بل أكثر من ذلك هو يرى أن هذه المصالح غالبا ما تكون متناقضة في الواقع، الأمر الذي كان يخلق حالة من حرب الكل ضد الكل، وبسبب هذا الموقف كانت الحياة برأيه: (فقيرة، بغيضة، موحشة، منعزلة، قصيرة، وتسودها الفوضى. لذلك من هنا أصبحت الكائنات الإنسانيّة مدركة تقريباً أهمية الحاجة لآليّة عمل تحمي بها نفسها). هذا وإلى حد بعيد كان  "هوبس" متفهما عقلانيّة ومصالح الناس الخاصة، وبأنهم أصبحوا على قناعة بضرورة اللقاء على اتفاق يسلموا فيه بأن الحكم يجب أن يكون في يد قوة مشتركة، دعاها " هوبس " الدولة أو القوى العظمىleviathan)).

إن نظرية (العقد الاجتماعي) لـ "توماس هوبس" طرحت أنموذجين من العلاقات: الأول: وهو (عمودي) في علاقته ما بين الشعب والقوة العظمى، أي الدولة، والشعب، ففي هذا الأنموذج يرهنون أنفسهم في النهاية لسلطة الدولة، الـ (leviathan). والثاني: وهو يقوم على علاقات (أفقية) ما بين الشعب والدولة، وفي هذا الأنموذج، يكون الشعب تحت مراقبة وإشراف قوة الدولة الرهيبة ذاتها، والشعب مجبر هنا بوضع حقوقه الطبيعيّة على الطريق الذي لا يتعارض أو يؤذي حقوق الآخرين.

إن الأنموذج الأول، يمثل في المحصلة سلطة الدولة المطلقة. أما الثاني، فيمثل هنا المجتمع المدني في المفهوم المعاصر. و"هوبس" يرى وفق هذه الرؤية أن تشكل الدولة قد قاد إلى تشكل المجتمع المدني، بل هو يرى أيضا أن الدولة ملزمة هنا بتقوية أو مد حياة المجتمع المدني.

لقد اعتبر "هوبس" أن الدولة (الطبيعيّة) وسلطتها قد قادتا إلى استنبات الواقعيّة في المرحلة الأخيرة التي حددت طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني.

وبعيدا عن "هوبس"، فقد امتلك "جان لوك" تجربة مختلفة عن الوضعيّة السياسيّة في بريطانيا، ولّدتها فترة (الثورة المجيدة) التي تميزت بالصراع ما بين المطالبين بالحقوق السماويّة للسلطة الملكيّة، والمطالبين بالحقوق السياسيّة للبرلمان، هذا وقد تجلت هذه التجربة في نظريّة (العقد الاجتماعي) التي عملت على تحديد دور كل من الدولة والقوى الاجتماعيّة. ففي وجهة نظر " لوك "، إن الكائنات الإنسانيّة قادرة على قيادة الحياة السلميّة في الدولة الطبيعيّة، وبالتالي هذا يجعلها قادرة أن تحافظ على الحد الأدنى من التفاؤل في حال غياب النظام القادر على تحقيق هذه الحياة السلميّة،  لذلك انطلاقا من هذا الموقف راح الناس يتجمعون مع بعضهم من أجل توقيع هذا العقد الاجتماعي وتأسيس سلطة شعبيّة مشتركة. ومع ذلك فقد أقر " لوك " بأن تعزيز القوة السياسيّة ربما يدفعها نحو الحكم المطلق (الأوتوقراطيّة) إذا لم يكن قد تحقق تعزيزها تحت قيود موثقة. هذا وقد فرض " لوك " معاهدتين مع الحكومة تضمنت الالتزامات المتبادلة، الأولى: يخضع الناس فيها أنفسهم إلى السلطة الشعبيّة المشتركة، حيث تمتلك هذه السلطة القوة في سن القوانين والحفاظ عليها، أما المعاهدة الثانية: فتحتوي على قيود تجاه سلطة الدولة، فالدولة هنا لا تمتلك القوة لتهدد أسس حقوق الناس المتعلقة بالحفاظ على الحياة، ويأتي على رأسها حقا الحريّة والملكيّة الخاصة. بل أكثر من ذلك، إن هذه المعاهدة تعمل داخل التزامات ومتطلبات المدنيّة والقوانين الطبيعيّة. ووفقا لـ "لوك" فإن (المدنيّة) في الحياة الاجتماعيّة كانت سابقة لولادة الدولة. والدافع وراء رؤيته هذه، هو أن الناس قادوا الحياة السلميّة في الدولة الطبيعيّة، إضافة إلى ذلك، إن " لوك " ناصر أولويّة المجتمع على الدولة، حيث اعتبر أن الدولة الطبيعيّة، والحقوق الأساسيّة الرئيسة للإنسان، وأولويّة المجتمع على الدولة، وتحديد سلطة الدولة، كلها تساعد أخيرا على تشكيل التقاليد الليبراليّة التي حققت الفكرة المميزة لدولة المجتمع المدني.

إن كلاً من " لوك" و"هوبس" قد أسسا لخلق نظام اجتماعي / سياسي  يساعد على التعايش السلمي داخله، ويساعد الإنسان على تأكيد العقد الاجتماعي. كما اعتبرا المجتمع المدني فضاءً يحافظ على الحياة المدنيّة والدولة، أو المملكة، وأن القيم والحقوق المدنيّة قد اشتقت من القوانين الطبيعيّة.

على أية حال، كلاهما قد تمسكا بأن المجتمع المدني كان (مملكة) مستقلة عن الدولة، وإلى حد ما هما أكدا أيضا على ضرورة التعايش بينهما.

لقد كانت مقاربات النظام لـ"هوبس" و "لوك"، وتحليلاتهما للعلاقات الاجتماعيّة، ومحاولاتهما توضيح مفاهيم مثل، الطبيعة الإنسانيّة، والقوانين الطبيعيّة والعقد الاجتماعي، ونظريّة الحق الإلهي  وتشكيل الحكومات، على درجة عالية من التأثير في تجربة الفترة التي عاشا فيها. وبعيدا عن نظريّة الحق الإلهي، كان كلاهما يدّعيان بأن العقل الإنساني يستطيع أن يرسم نظامه السياسي، هذا وأن هذه الفكرة قد حازت على تأثيرها الواسع عند مفكري عصر التنوير، الذين راحوا يناقشون بأن الكائنات الإنسانيّة أكثر عقلانيّة في تقرير مصيرها، لذلك لا حاجة للسلطة المطلقة من أجل توحيدهم.

أما " روسو " و " كانت " فقد ناقشا بأن الناس محبون للسلام  وأن الحروب هي التي تخلق الأنظمة المطلقة.

مفهوم المجتمع المدني في التاريخ الحديث:

مع "هيجل" الذي غير كليّاً معنى فكرة المجتمع المدني، فإن فهم الليبراليّة الحديثة للمجتمع المدني قد ظهر وكأنه صيغة من مجتمع السوق. وبعيدا عن المفكرين الآباء، فإن المفكرين القادة الرومانتيكيين، اعتبروا المجتمع المدني وكأنه فضاء أو مملكة منعزلة، - (نظام حاجات) - وقف من أجل رضا المصالح الفرديّة والملكيّة الخاصة. وأن هيجل هو واحد من هؤلاء الذين تخيل هذه الفكرة، وراح يتمسك بمقولة أن المجتمع المدني قد ظهر في عهد الرأسماليّة بشكل خاص، وهو عمل على خدمة اهتماماتها المتعلقة بالحقوق الفرديّة، والملكيّة الخاصة، بيد أنه في المقابل قد وجد أن المجتمع المدني قد أظهر تصرفا متناقضا من خلال إيجاده مملكة المصالح البرجوازيّة، وهذا برأيه ما أوجد ساحة واسعة لإمكانيّة الصراعات وعدم المساواة داخل المجتمع المدني. إضافة إلى ذلك فقد أشار إلى أن المراقبة الدائمة للدولة مجبرة لتقوية الحياة المدنيّة في المجتمع. كما اعتبر أن الدولة هي صيغة راقية للحياة الأخلاقيّة، والدولة السياسيّة تمتلك القدرة والسلطة لإصلاح العلاقات الخاطئة في المجتمع المدني.

عندما قام بعض المفكرين بالمقارنة ما بين النظام الاستبدادي في فرنسا، والنظام الديمقراطي في أمريكا، عارض بعض المفكرين "هيجل" في ميله إلى اعتبار الدولة مع الجمعيات الطوعيّة قادرة على خلق التوازن بالنسبة للحريّة الفرديّة. ومع ذلك فإن وجهة نظر "هيجل" استمرت قائمة عند بعض المفكرين الذين ميزوا، أو فرقوا بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني. وهذا الفكرة تم قبولها إلى حد بعيد أيضا من قبل "ماركس"، الذي اعتبر المجتمع المدني يشكل جزءاً أساسياً من (الوجود الاجتماعي)، أي قوى وعلاقات الإنتاج أو ما يسمى البناء التحتي، وما رافقه من مجتمع سياسي في المرحلة الرأسماليّة (إن فهم ماركس للمجتمع المدني كما عبرت عنه هذه الدراسة هنا، هو غير دقيق وفيه الكثير من الضبابيّة والتشويش . المترجم)

إن التوافق في مسألة الربط بين الرأسماليّة والمجتمع المدني، جعلت ماركس يؤكد أيضا وبحزم، بمقولة أن المعادل الأخير بين الطرفين سيكون لمصلحة البرجوازيّة، إضافة إلى ذلك، وبما أن الدولة بناء فوقي، لذلك هي تمثل بالضرورة سلطة الطبقات، وتحت سلطة الرأسماليّة ستمثل سلطة الطبقة البرجوازيّة وتحافظ عليها. لذلك من هنا رفض "ماركس" الدور الموضوعي للدولة كما وضعه لها "هيجل"، مؤكدا، بأن الدولة لا تستطيع أن تكون حلا للمشاكل الطبيعيّة، وإنما هي ستضل مدافعة وحامية لمصالح الطبقة البرجوازيّة. لقد اعتبر في نهاية المطاف أن الدولة والمجتمع المدني هما سلاح تنفيذي بيد البرجوازيّة، لذلك وصل في تحليلاته واستنتاجاته المنطقيّة القائمة على معطيات الظروف الموضوعيّة والذاتيّة للمرحلة التي عاشها، أن الدولة والمجتمع المدني كلاهما سيضمحلان أو سيتلاشيان مستقبلا.

إن هذا الموقف لـ "ماركس" تجاه المجتمع المدني، جاء بعده موقف المفكر "أنطون غرامشي"، الذي ابتعد كثيرا عن  "ماركس"  بحيث لم يجعل المجتمع المدني مع القاعدة الاقتصاديّة الاجتماعيّة أساس الدولة، وإنما جاء عنده كجزء من  البناء فوقي، وهو يلعب دورا مهما كمساهم في ثقافة وأيديولوجيّة الرأسمال، من أجل بقاء وسيطرة الرأسماليّة. هذا وقد استخدم "غرامشي" مفهوم  (السيطرة) ليدلل على أن سيطرة طبقة اجتماعيّة واحدة على بقيّة الطبقات، لا يمثل السيطرة السياسيّة والاقتصاديّة فحسب، وإنما سيطرة نهج أو رؤية الطبقة المسيطرة في رسمها لطريق التغير الذي تريد إتباعه على أنه الطريق الأمثل أو النموذج أيضا، مثلما هي السيطرة على من قبلوا بهذا النهج ألتغييري على أنه أمر طبيعي، ووفق رضاهم وتعاونهم، ووفقا لـ "غرامشي"، فإن سيطرة الرأسماليّة في الغرب قد تم الحفاظ عليها بسبب تأثير جذورها العميقة التي امتدت في كل مسامات المجتمع.

إن تحليل "غرامشي" لمعطيات الغرب الرأسمالي، ثم لمعطيات الثورة الروسية، جعلته يصادق على أهمية ثقافة وأيديولوجيا المجتمع المدني، حيث أشار إلى أن المجتمع المدني يساعد على تحدي القيم السلبّية السائدة، والعمل على غرس قيم جديدة في حساب النضال ضد الرأسماليّة.

إن مفهوم "غرامشي" عن المجتمع المدني ضم كل المؤسسات المدنيّة التي لا تنتمي إلى صلات القربى – أي المرجعيات التقليديّة - والبعيدة عن الحكم، بل تلك التي تنتمي لمجموعات غالباً ما تجتمع أو تلتقي في اتحادات تجاريّة أو مهنيّة أو سياسيّة. فالمجتمع المدني في المحصلة يأتي عند "غرامشي" كموقف لحل مشاكل قائمة في المجتمع عبر الاتفاق.

أما اليسار الجديد، فقد عوّل على المجتمع المدني الدور ألمفتاحي في حماية المجتمع أمام الدولة والسوق معا، وفي صياغة المشروع الديمقراطي القادر على التأثير في الدولة. هذا في الوقت نفسه أيضا فقد اعتبر الليبراليون الجدد أن المجتمع المدني يشكل موقفا نضاليّاً ضد الآيديولوجيات الهدامة، والأنظمة الاستبداديّة، لذلك فإن مفهوم المجتمع المدني يشكل هنا موقفاً هاماً ومناسباً في أجندة اليسار الجديد والليبرالية الجديدة على السواء.

المجتمع المدني في تاريخ ما بعد الحداثة:

يعتبر تيار مابعد الحداثة في فهمه للمجتمع المدني أول خطوة تقدميّة تمت من قبل المعارضة السياسيّة في المنظومة السوفيتيّة ودول شرق أوربا عام /1980/، فمنذ ذلك الوقت انطلقت الإرهاصات الأوليّة العمليّة للمجتمع المدني داخل الحقل السياسي كبديل عن المجتمع السياسي القائم آنذاك. فعلى أية حال، في عام /1990/، ومع ظهور المنظمات غير الحكوميّة، والحركات الاجتماعيّة الجديدة على السلم العالمي، أصبح المجتمع المدني كـ (قطاع ثالث)، المنطقة المفتاحية للعمل الاستراتيجي من أجل بناء النظام الاجتماعي العالمي البديل، وبالتالي من الآن فصاعد، فإن استعمال مفهوم أو فكرة المجتمع المدني من قبل الحوامل الاجتماعيّة لمرحلة ما بعد الحداثة، قد ساعد على سيادة مفهومين أو طريقين لحل قضايا المجتمع هما: المجتمع السياسي في صيغتيه الرأسماليّة والشيوعيّة، والمجتمع المدني كطريق ثالث.

في لقاء واشنطن عام /1990/ الذي فرض شرطاً أساسيّاً من قبل (صندوق النقد الدولي) و(البنك الدولي للأعمار والتنمية) على الدول النامية المثقلة بالديون، والراغبة في أخذ القروض، ضرورة تطبيق حالات التقشف في مصاريفها تجاه مجتمعاتها، والسماح بإعادة هيكلة اقتصادها بما يتفق واقتصاد السوق، والفسح في المجال واسعا للحريات الفردية، (وهو ماسمي بالشروط السري، أو النوايا الحسنة – المترجم)، وهذا في الحقيقة ما ساعد كثيرا على خلق المقدمات الأساسيّة للتأسيس من أجل المجتمع المدني في هذه الدول الفقيرة، والذي أريد منه أن يكون علاجاً للأمراض الاجتماعيّة والسياسيّة ولاقتصاديّة والثقافيّة السائدة في تلك الدول، في الوقت الذي عوّل على الدولة هنا فقط  تقديم الخدمات والضمان الاجتماعي.  بيد أن هناك بعض السياسيين من راح يقول بأن هذه التوجهات الجديدة في هذه الدول النامية لن تكون (عصا سحريّة) لخلق التغير المطلوب نحو تقدم شعوب هذه الدول، مثلما راح بعضهم الآخر يعلن أيضا بأن هذا التوجه الجديد سيخلق مخاطر جديدة في هذه المجتمعات الفقيرة، (وهذا ما حدث فعلا – حيث ازداد الفقر والفوضى السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة – المترجم).

يضاف إلى ذلك، أنه، مع نهاية عام /1990/ بدأت منظمات المجتمع المدني تنتشر في العديد من دول العالم، وأن بعض الدول راحت تتحول إلى الطريق الديمقراطي، وأصبح هناك قناعة بشرعيّة ومؤهلات الديمقراطيّة. (قسم من هذه الدول راح تحت ضغط التحولات النظام العالمي الجديد، يفسح في المجال واسعا أمام التطبيق الديمقراطي مراعيّاً خصوصيات الواقع الذي تعيشه هذه الدولة أو تلك، وقسم آخر راح يمارس ويطبق الديموقراطيّة تحت العصا الأمريكيّة والغربيّة. المترجم).

على العموم إن نظرية المجتمع المدني في مرحلة ما بعد الحداثة، راحت الآن تشغل مساحات واسعة من دول العالم، ولكن مع ضرورة الوقوف والتوضيح هنا على مدى أهميّة دورها وفعاليتها وسعة انتشارها أو قبولها ما بين الدول الغنيّة والدول الفقيرة على مستوى الساحة العالميّة. ولكن ما يلفت النظر هو أن المجتمع المدني إن كان في الدول الفقيرة أم الغنيّة، غالباً ما يبدو مرتبطاً بالدولة، الأمر الذي يجعله كلوحة عرض أو تكملة عدد بدلا من كونه بديلاً. ومع ذلك لازال هناك من يقول: إن الدولة هي الشرط المسبق للمجتمع المدني.

العلاقة ما بين الديموقراطيّة والمجتمع المدني:

إن الأدبيات التي ربطت ما بين المجتمع المدني والديمقراطيّة، تعود بجذورها إلى الكتابات الليبراليّة المبكرة، مثل كتابات " الكسيس دي توكفيل". ومع  القرن العشرين، كان هناك مفكرون أمثال " كابريل ألموند " و" سيدني فيربا " اللذان قدما عبر وسائل وطرق هامة نظريات حددت دور المجتمع المدني في النظام الديمقراطي كشيء حيوي، حيث ناقش هؤلاء بأن العنصر السياسي للعديد من منظمات المجتمع المدني يسهل الطريق بشكل أفضل لإدراك المواطنة، كما أنه يعمل بشكل أحسن في مسألة التصويت الانتخابي، والمشاركة في السياسات، وضبط محاسبة الحكومات في نهاية المطاف. بل أن قوانين أو تشريعات منظمات المجتمع المدني كما يقول بعضهم، غالباً ما تعتبر دساتير صغيرة كونها اعتادت المشاركة في صياغة القرارات الدليموقراطيّة.

أما المفكر "روبرت د . بوتنام"، وهو الأكثر حداثة فيقول: حتى في حال عدم وجود منظمات سياسيّة في المجتمع المدني، فإن المجتمع المدني سيكون حيويّاً من أجل الديموقراطيّة، وهذا يكون بسبب أنه يساعد على بناء المجتمع الرأسمالي. وإن الثقة، والقيم التي تحولت إلى الفضاء السياسي، ساعدت على تماسك المجتمع المدني مع بعضه بعضاً، وسهلت فهم ارتباطات المجتمع والمصالح التي بداخله.

هذا ولم يزل هناك أيضا الكثير ممن لاحظ أن مناطق المجتمع المدني قد حازت الآن على نهوضاً مميزاً من القوة السياسيّة، دون أن تتدخل أيه جهة (فرد أو حكومة) في اختيارات من حقق هذه القوة. كما لاحظ بعض المهتمين بالفكر السياسي، أن مفهوم المجتمع المدني عندما يكون أكثر قرباً في علاقته مع الديموقراطيّة وممثلا لها، سيكون بالضرورة مرتبطا على التوالي بأفكار الأمّة والقوميّة معا .

***

مقدمة: التكنولوجيا هي مفهوم واسع يتعامل مع استخدام الأنواع ومعرفتها بالأدوات والحرف اليدوية، وكيف تؤثر على قدرة الأنواع على التحكم في بيئتها والتكيف معها. وفي المجتمع البشري، هو نتيجة للعلم والهندسة، على الرغم من أن العديد من التطورات التكنولوجية سبقت هذين المفهومين. إن التعريف الدقيق لـ "التكنولوجيا" أمر بعيد المنال: يمكن أن يشير إلى الأشياء المادية ذات الاستخدام البشري، مثل الآلات أو الأجهزة أو الأدوات، ولكن يمكن أن يشمل أيضًا موضوعات أوسع، بما في ذلك الأنظمة وأساليب التنظيم والتقنيات. يمكن تطبيق المصطلح بشكل عام أو على مجالات محددة: تشمل الأمثلة "تكنولوجيا البناء" أو "التكنولوجيا الطبية" أو "أحدث التقنيات".لقد أثرت التكنولوجيا على المجتمع والمناطق المحيطة به بعدة طرق. وفي العديد من المجتمعات، ساعدت التكنولوجيا في تطوير اقتصادات أكثر تقدماً (بما في ذلك الاقتصاد العالمي اليوم) وسمحت بظهور طبقة الترفيه. تنتج العديد من العمليات التكنولوجية منتجات ثانوية غير مرغوب فيها، تُعرف بالتلوث، وتستنزف الموارد الطبيعية، على حساب الأرض وبيئتها. تؤثر التطبيقات المختلفة للتكنولوجيا على قيم المجتمع، وغالبًا ما تثير التكنولوجيا الجديدة أسئلة أخلاقية جديدة. وتشمل الأمثلة ظهور مفهوم الكفاءة من حيث الإنتاجية البشرية، وهو مصطلح ينطبق في الأصل على الآلات فقط، وتحدي المعايير التقليدية.

التعريف والاستخدام

تعود أصول التكنولوجيا إلى الكلمة اليونانية "technologia" و"τεχνοlectογία" - "techne" و"τέχνη" ("حرفة") و"logia" و"κογία" ("القول"). بشكل عام، التكنولوجيا هي العلاقة التي تربط المجتمع بأدواتها وحرفها، وإلى أي مدى يستطيع المجتمع السيطرة على بيئته. يقدم قاموس ميريام وبستر تعريفًا للمصطلح: "التطبيق العملي للمعرفة خاصة في مجال معين" و"القدرة التي يمنحها التطبيق العملي للمعرفة". قدمت أورسولا فرانكلين، في محاضرتها التي ألقتها عام 1989 بعنوان "العالم الحقيقي للتكنولوجيا"، تعريفًا آخر لهذا المفهوم؛ إنها "الممارسة، الطريقة التي نؤدي بها الأشياء هنا". غالبًا ما يستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى مجال معين من التكنولوجيا، أو للإشارة إلى التكنولوجيا المتقدمة أو الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية فقط، بدلاً من التكنولوجيا ككل. يعرّف برنار ستيجلر، في كتابه التقنيات والزمن،، التكنولوجيا بطريقتين: "السعي وراء الحياة بوسائل أخرى غير الحياة"، و"مادة غير عضوية منظمة". يمكن تعريف التكنولوجيا على نطاق أوسع بأنها الكيانات، المادية وغير المادية، التي يتم إنشاؤها عن طريق تطبيق الجهد العقلي والجسدي من أجل تحقيق بعض القيمة. في هذا الاستخدام، تشير التكنولوجيا إلى الأدوات والآلات التي يمكن استخدامها لحل مشاكل العالم الحقيقي. وهو مصطلح بعيد المدى قد يشمل أدوات بسيطة، مثل المخل أو ملعقة خشبية، أو آلات أكثر تعقيدا، مثل محطة فضائية أو معجل الجسيمات. لا يلزم أن تكون الأدوات والآلات مادية؛ وتندرج التكنولوجيا الافتراضية، مثل برامج الكمبيوتر وأساليب العمل، ضمن هذا التعريف للتكنولوجيا. يمكن أيضًا استخدام كلمة "التكنولوجيا" للإشارة إلى مجموعة من التقنيات. وفي هذا السياق، فإن الحالة الراهنة لمعرفة البشرية هي كيفية تجميع الموارد لإنتاج المنتجات المرغوبة، أو حل المشكلات، أو تلبية الاحتياجات، أو إشباع الرغبات؛ ويشمل الأساليب الفنية والمهارات والعمليات والتقنيات والأدوات والمواد الخام. عند دمجه مع مصطلح آخر، مثل "التكنولوجيا الطبية" أو "تكنولوجيا الفضاء"، فإنه يشير إلى حالة المعرفة والأدوات في المجال المعني. تشير عبارة "أحدث التقنيات" إلى التكنولوجيا المتقدمة المتاحة للبشرية في أي مجال. يمكن النظر إلى التكنولوجيا على أنها نشاط يشكل الثقافة أو يغيرها. بالإضافة إلى ذلك، التكنولوجيا هي تطبيق الرياضيات والعلوم والفنون لصالح الحياة كما هو معروف. ومن الأمثلة الحديثة على ذلك ظهور تكنولوجيا الاتصالات، التي قللت من الحواجز أمام التفاعل البشري، ونتيجة لذلك، ساعدت في إنتاج ثقافات فرعية جديدة؛ إن صعود الثقافة السيبرانية يعتمد في أساسه على تطور الإنترنت والكمبيوتر. ليست كل التكنولوجيات تعزز الثقافة بطريقة إبداعية؛ يمكن للتكنولوجيا أيضًا أن تساعد في تسهيل القمع السياسي والحرب عبر أدوات مثل الأسلحة. باعتبارها نشاطًا ثقافيًا، تسبق التكنولوجيا كلاً من العلوم والهندسة، حيث يضفي كل منهما طابعًا رسميًا على بعض جوانب المساعي التكنولوجية.

العلوم والهندسة والتكنولوجيا

إن التمييز بين العلوم والهندسة والتكنولوجيا ليس واضحًا دائمًا. العلم هو التحقيق المنطقي أو دراسة الظواهر، بهدف اكتشاف المبادئ الدائمة بين عناصر العالم الظاهري من خلال استخدام تقنيات رسمية مثل المنهج العلمي. لا تعد التقنيات عادة منتجات علمية حصرية، لأنها يجب أن تلبي متطلبات مثل المنفعة وسهولة الاستخدام والسلامة. الهندسة هي عملية موجهة نحو الهدف لتصميم وصنع أدوات وأنظمة لاستغلال الظواهر الطبيعية لوسائل إنسانية عملية، غالبًا (ولكن ليس دائمًا) باستخدام نتائج وتقنيات من العلوم. قد يعتمد تطور التكنولوجيا على العديد من مجالات المعرفة، بما في ذلك المعرفة العلمية والهندسية والرياضية واللغوية والتاريخية، لتحقيق بعض النتائج العملية. غالبًا ما تكون التكنولوجيا نتيجة للعلم والهندسة، على الرغم من أن التكنولوجيا كنشاط بشري تسبق هذين المجالين. على سبيل المثال، قد يدرس العلم تدفق الإلكترونات في الموصلات الكهربائية، باستخدام الأدوات والمعرفة الموجودة بالفعل. ويمكن للمهندسين بعد ذلك استخدام هذه المعرفة المكتشفة حديثًا لإنشاء أدوات وآلات جديدة، مثل أشباه الموصلات وأجهزة الكمبيوتر وأشكال أخرى من التكنولوجيا المتقدمة. وبهذا المعنى، يمكن اعتبار العلماء والمهندسين على حد سواء تقنيين.

دور في تاريخ البشرية

بدأ استخدام الجنس البشري للتكنولوجيا بتحويل الموارد الطبيعية إلى أدوات بسيطة. أدى اكتشاف القدرة على التحكم في الحرائق في عصور ما قبل التاريخ إلى زيادة مصادر الغذاء المتاحة، كما ساعد اختراع العجلة الإنسان في السفر والتحكم في بيئته. أدت التطورات التكنولوجية الحديثة، بما في ذلك المطبعة والهاتف والإنترنت، إلى تقليل الحواجز المادية أمام الاتصال وسمحت للبشر بالتفاعل على نطاق عالمي. ومع ذلك، لم يتم استخدام كل التكنولوجيا للأغراض السلمية؛ لقد تطور تطوير الأسلحة ذات القوة التدميرية المتزايدة باستمرار عبر التاريخ، من الهراوات إلى الأسلحة النووية.

العصر الحجري القديم (2.5 مليون – 10000 قبل الميلاد)

كان استخدام الأدوات من قبل البشر الأوائل عملية اكتشاف جزئيًا، وجزئيًا عملية تطور. لقد تطور البشر الأوائل من سلالة من البشر الذين كانوا يبحثون عن الطعام وكانوا يسيرون على قدمين، وكان دماغهم أصغر من دماغ الإنسان الحديث. ظل استخدام الأدوات دون تغيير نسبيًا في معظم تاريخ البشرية المبكر، ولكن منذ حوالي 50000 عام، ظهرت مجموعة معقدة من السلوكيات واستخدام الأدوات، يعتقد العديد من علماء الآثار أنها مرتبطة بظهور لغة حديثة تمامًا.

أدوات حجرية

استخدم أسلاف الإنسان الحجر والأدوات الأخرى منذ فترة طويلة قبل ظهور الإنسان العاقل منذ حوالي 200 ألف سنة. يعود تاريخ أقدم الطرق لصنع الأدوات الحجرية، والمعروفة باسم "صناعة أولدوان"، إلى ما لا يقل عن 2.3 مليون سنة مضت، مع العثور على أقدم دليل مباشر على استخدام الأدوات في إثيوبيا داخل وادي الصدع العظيم، والذي يعود تاريخه إلى 2.5 مليون سنة مضت. . يُطلق على عصر استخدام الأدوات الحجرية هذا اسم العصر الحجري القديم، أو "العصر الحجري القديم"، ويمتد طوال تاريخ البشرية حتى تطور الزراعة منذ حوالي 12000 عام. لصنع أداة حجرية، يتم ضرب "قلب" من الحجر الصلب ذو خصائص تقشر محددة (مثل الصوان) بمطرقة. أنتج هذا التقشر حافة حادة على الحجر الأساسي وكذلك على الرقائق، ويمكن استخدام أي منهما كأدوات، بشكل أساسي في شكل مروحيات أو كاشطات. ساعدت هذه الأدوات البشر الأوائل بشكل كبير في أسلوب حياتهم القائم على الصيد وجمع الثمار لأداء مجموعة متنوعة من المهام بما في ذلك ذبح الذبائح (وكسر العظام للوصول إلى النخاع)؛ تقطيع الخشب؛ تكسير المكسرات المفتوحة. سلخ الحيوان من أجل جلوده؛ وحتى تشكيل أدوات أخرى من مواد أكثر ليونة مثل العظام والخشب. كانت الأدوات الحجرية الأولى خامًا، ولم تكن أكثر من مجرد صخرة مكسورة. في العصر الأشويلي، الذي بدأ قبل حوالي 1.65 مليون سنة، ظهرت طرق تشكيل هذه الحجارة في أشكال محددة، مثل الفؤوس اليدوية. شهد العصر الحجري القديم الأوسط، منذ حوالي 300 ألف سنة، إدخال تقنية النواة المجهزة، حيث يمكن تشكيل شفرات متعددة بسرعة من حجر أساسي واحد. شهد العصر الحجري القديم الأعلى، الذي بدأ منذ حوالي 40 ألف سنة، إدخال التقشير بالضغط، حيث يمكن استخدام الخشب أو العظم أو قرن الوعل لتشكيل الحجر بشكل ناعم للغاية.

النار

كان اكتشاف النار واستخدامها، وهي مصدر طاقة بسيط له استخدامات عديدة وعميقة، نقطة تحول في التطور التكنولوجي للبشرية. ولا يُعرف التاريخ الدقيق لاكتشافها؛ تشير الأدلة على عظام الحيوانات المحترقة في مهد البشرية إلى أن تدجين النار قد حدث قبل مليون عام قبل الميلاد؛ ويشير الإجماع العلمي إلى أن الإنسان المنتصب كان يسيطر على النار ما بين 500 ألف قبل الميلاد. و400000 ق.م.[13] سمحت النار، التي تغذيها الحطب والفحم، للبشر الأوائل بطهي طعامهم لزيادة قابلية هضمه، وتحسين قيمته الغذائية وتوسيع عدد الأطعمة التي يمكن تناولها.

الملابس والمأوى

ومن التطورات التكنولوجية الأخرى التي حدثت خلال العصر الحجري القديم الملابس والمأوى. لا يمكن تحديد تاريخ اعتماد كلتا التقنيتين بالضبط، لكنهما كانتا مفتاحًا لتقدم البشرية. مع تقدم العصر الحجري القديم، أصبحت المساكن أكثر تطورا وأكثر تفصيلا. في وقت مبكر من 380 ألف قبل الميلاد، كان البشر يقومون ببناء أكواخ خشبية مؤقتة. الملابس، المقتبسة من فراء وجلود الحيوانات التي تم اصطيادها، ساعدت البشرية على التوسع في المناطق الباردة؛ بدأ البشر بالهجرة من أفريقيا بحلول عام 200000 قبل الميلاد. وإلى قارات أخرى، مثل أوراسيا. بدأ البشر في صناعة العظام، والقرون، والجلود، كما يتضح من المدافن والمراكن التي تم إنتاجها خلال هذه الفترة.

العصر الحجري الحديث حتى العصور القديمة الكلاسيكية (10.000 قبل الميلاد – 300 بعد الميلاد)

بدأ الصعود التكنولوجي للإنسان بشكل جدي فيما يعرف بالعصر الحجري الحديث ("العصر الحجري الجديد"). كان اختراع الفؤوس الحجرية المصقولة بمثابة تقدم كبير لأنه سمح بإزالة الغابات على نطاق واسع لإنشاء المزارع. سمح اكتشاف الزراعة بإطعام أعداد أكبر من السكان، كما أدى التحول إلى نمط الحياة المستقر إلى زيادة عدد الأطفال الذين يمكن تربيتهم في وقت واحد، حيث لم تعد هناك حاجة إلى حمل الأطفال الصغار، كما كان الحال مع نمط الحياة البدوي. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للأطفال المساهمة بالعمل في زراعة المحاصيل بسهولة أكبر مما يمكنهم المساهمة به في أسلوب حياة الصيد وجمع الثمار. مع هذه الزيادة في عدد السكان وتوافر العمالة جاءت زيادة في تخصص العمل. ما الذي أدى إلى التقدم من قرى العصر الحجري الحديث المبكرة إلى المدن الأولى، مثل أوروك، والحضارات الأولى، مثل سومر، ليس معروفًا على وجه التحديد؛ ومع ذلك، يُعتقد أن ظهور الهياكل الاجتماعية الهرمية بشكل متزايد، والتخصص في العمل والتجارة والحرب بين الثقافات المتجاورة، والحاجة إلى العمل الجماعي للتغلب على التحديات البيئية، مثل بناء السدود والخزانات، قد لعبت دورًا في ذلك.

الأدوات المعدنية

أدت التحسينات المستمرة إلى إنشاء الفرن والمنافيخ ووفرت القدرة على صهر وتشكيل المعادن الأصلية (التي تحدث بشكل طبيعي في شكل نقي نسبيًا). كان الذهب والنحاس والفضة والرصاص معادن مبكرة. وسرعان ما ظهرت مزايا الأدوات النحاسية على الأدوات الحجرية والعظمية والخشبية للبشر الأوائل، وربما تم استخدام النحاس الأصلي منذ بداية العصر الحجري الحديث (حوالي 8000 قبل الميلاد). لا يوجد النحاس الأصلي بشكل طبيعي بكميات كبيرة، ولكن خامات النحاس شائعة جدًا وبعضها ينتج المعدن بسهولة عند حرقه في نيران الخشب أو الفحم. وفي نهاية المطاف، أدت معالجة المعادن إلى اكتشاف سبائك مثل البرونز والنحاس (حوالي 4000 قبل الميلاد). يعود تاريخ أول استخدام لسبائك الحديد مثل الفولاذ إلى حوالي عام 1400 قبل الميلاد.

الطاقة والنقل

وفي الوقت نفسه، كان البشر يتعلمون كيفية تسخير أشكال أخرى من الطاقة. أول استخدام معروف لطاقة الرياح هو المراكب الشراعية. يظهر أقدم سجل لسفينة تبحر على وعاء مصري يعود تاريخه إلى عام 3200 قبل الميلاد. منذ عصور ما قبل التاريخ، ربما استخدم المصريون الفيضانات السنوية "قوة النيل" لري أراضيهم، وتعلموا تدريجيًا تنظيم جزء كبير منها من خلال قنوات الري المبنية خصيصًا وأحواض "التجميع". وبالمثل، تعلمت الشعوب المبكرة في بلاد ما بين النهرين، السومريون، استخدام نهري دجلة والفرات لنفس الأغراض تقريبًا. لكن الاستخدام الأكثر شمولاً لطاقة الرياح والمياه (وحتى البشرية) كان يتطلب اختراعًا آخر. وفقًا لعلماء الآثار، تم اختراع العجلة حوالي عام 4000 قبل الميلاد. ومن المرجح أن العجلة قد تم اختراعها بشكل مستقل في بلاد ما بين النهرين (في العراق الحالي) أيضًا. تتراوح التقديرات حول متى حدث هذا من 5500 إلى 3000 قبل الميلاد، ويضعه معظم الخبراء أقرب إلى 4000 قبل الميلاد. تعود أقدم القطع الأثرية ذات الرسومات التي تصور عربات ذات عجلات إلى حوالي 3000 قبل الميلاد؛ ومع ذلك، ربما كانت العجلة مستخدمة لآلاف السنين قبل عمل هذه الرسومات. هناك أيضًا أدلة من نفس الفترة الزمنية على استخدام العجلات لإنتاج الفخار. (لاحظ أن عجلة الخزاف الأصلية ربما لم تكن عجلة، بل كانت عبارة عن لوح غير منتظم الشكل من الخشب المسطح مع منطقة صغيرة مجوفة أو مثقوبة بالقرب من المركز ومثبتة على وتد مثبت في الأرض. وكان من الممكن تدويرها بواسطة قاطرات متكررة بواسطة الخزاف أو مساعده.) ومؤخرًا، تم العثور على أقدم عجلة خشبية معروفة في العالم في مستنقعات ليوبليانا في سلوفينيا. أحدث اختراع العجلة ثورة في أنشطة متباينة مثل النقل والحرب وإنتاج الفخار (الذي ربما تم استخدامه لأول مرة). لم يستغرق الأمر وقتًا طويلاً لاكتشاف إمكانية استخدام العربات ذات العجلات لحمل الأحمال الثقيلة، كما مكنت عجلات الخزافين السريعة (الدوارة) من إنتاج الفخار بكميات كبيرة في وقت مبكر. ولكن استخدام العجلة كمحول للطاقة (من خلال عجلات المياه، وطواحين الهواء، وحتى المطاحن) هو الذي أحدث ثورة في استخدام مصادر الطاقة غير البشرية.

التاريخ الحديث (0 م -)

وتشمل الأدوات كلاً من الآلات البسيطة (مثل الرافعة والمسمار والبكرة)، والآلات الأكثر تعقيدًا (مثل الساعة والمحرك والمولد الكهربائي والمحرك الكهربائي والكمبيوتر والراديو والمحطة الفضائية، من بين عدة آخرين). ومع زيادة تعقيد الأدوات، يزداد أيضًا نوع المعرفة اللازمة لدعمها.

تتطلب الآلات الحديثة المعقدة مكتبات من الأدلة الفنية المكتوبة للمعلومات المجمعة التي تتزايد وتتحسن باستمرار - غالبًا ما يحتاج المصممون والبناؤون والمشرفون والمستخدمون إلى إتقان عقود من التدريب العام والخاص المتطور. علاوة على ذلك، أصبحت هذه الأدوات معقدة للغاية لدرجة أن البنية التحتية الشاملة من الأدوات والعمليات والممارسات الأقل أهمية القائمة على المعرفة التقنية (أدوات معقدة في حد ذاتها) موجودة لدعمها، بما في ذلك الهندسة والطب وعلوم الكمبيوتر. هناك حاجة إلى تقنيات ومنظمات التصنيع والبناء المعقدة لبناءها وصيانتها.

لقد نشأت صناعات بأكملها لدعم وتطوير الأجيال القادمة من الأدوات المتزايدة التعقيد. تتميز علاقة التكنولوجيا بالمجتمع (الثقافة) عمومًا بأنها علاقة تآزرية، وتكافلية، ومعتمدة، ومؤثرة، وإنتاج مشترك، أي أن التكنولوجيا والمجتمع يعتمدان بشكل كبير على بعضهما البعض (التكنولوجيا على الثقافة، والثقافة على التكنولوجيا). . ويُعتقد عمومًا أيضًا أن هذه العلاقة التآزرية حدثت لأول مرة في فجر البشرية مع اختراع أدوات بسيطة، وتستمر مع التقنيات الحديثة حتى اليوم. اليوم وعلى مر التاريخ، تؤثر التكنولوجيا وتتأثر بقضايا/عوامل مجتمعية مثل الاقتصاد والقيم والأخلاق والمؤسسات والمجموعات والبيئة والحكومة وغيرها. يسمى التخصص الذي يدرس تأثيرات العلوم والتكنولوجيا والمجتمع والعكس بالعلم والتكنولوجيا في المجتمع.

التكنولوجيا والفلسفة والمجتمع

نشأت نقاشات فلسفية حول الاستخدام الحالي والمستقبلي للتكنولوجيا في المجتمع، مع وجود خلافات حول ما إذا كانت التكنولوجيا تعمل على تحسين حالة الإنسان أو تفاقمها. اللودية الجديدة، والبدائية اللاسلطوية، والحركات المماثلة تنتقد انتشار التكنولوجيا في العالم الحديث، مدعية أنها تضر بالبيئة وتنفر الناس؛ يرى أنصار أيديولوجيات مثل ما بعد الإنسانية والتقدمية التكنولوجية أن التقدم التكنولوجي المستمر مفيد للمجتمع والحالة الإنسانية.

في الواقع، حتى وقت قريب، كان يُعتقد أن تطور التكنولوجيا يقتصر على البشر فقط، لكن الدراسات العلمية الحديثة تشير إلى أن الرئيسيات الأخرى وبعض مجتمعات الدلافين قد طورت أدوات بسيطة وتعلمت نقل معارفها إلى أجيال أخرى.

التقنية

بشكل عام، التقنية هي الإفراط في الاعتماد أو الثقة المفرطة في التكنولوجيا باعتبارها فاعل خير للمجتمع. يجادل البعض، إذا أخذنا الأمر إلى أقصى الحدود، بأن التقنية هي الاعتقاد بأن البشرية ستكون قادرة في نهاية المطاف على التحكم في الوجود بأكمله باستخدام التكنولوجيا. وبعبارة أخرى، سيتمكن البشر يومًا ما من التغلب على جميع المشكلات وربما حتى التحكم في المستقبل باستخدام التكنولوجيا.

ويربط البعض، مثل مونسما، هذه الأفكار بالتنازل عن الدين باعتباره سلطة أخلاقية عليا. والأكثر شيوعًا، أن التقنية هي انتقاد للاعتقاد الشائع بأن التكنولوجيا الأحدث والمطورة حديثًا هي "الأفضل". على سبيل المثال، تعد أجهزة الكمبيوتر التي تم تطويرها مؤخرًا أسرع من أجهزة الكمبيوتر القديمة، كما تتمتع السيارات التي تم تطويرها مؤخرًا بكفاءة أكبر في استهلاك الوقود وميزات أكثر من السيارات القديمة. ولأن التكنولوجيات الحالية مقبولة عموما باعتبارها جيدة، فإن التطورات التكنولوجية المستقبلية لا ينظر إليها بحذر، مما يؤدي إلى ما يبدو وكأنه قبول أعمى للتطور التكنولوجي.

التفاؤل

يتم تقديم افتراضات متفائلة من قبل أنصار أيديولوجيات مثل ما بعد الإنسانية والتفردية، الذين ينظرون إلى التطور التكنولوجي على أنه له آثار مفيدة بشكل عام على المجتمع والحالة الإنسانية. في هذه الأيديولوجيات، يعتبر التطور التكنولوجي أمرًا جيدًا من الناحية الأخلاقية.

يرى بعض النقاد أن هذه الأيديولوجيات هي أمثلة على العلموية والطوباوية التقنية ويخشون فكرة التعزيز البشري والتفرد التكنولوجي التي يدعمونها. وقد وصف البعض كارل ماركس بأنه متفائل بالتكنولوجيا.

التشاؤم

على الجانب المتشائم إلى حد ما، هناك فلاسفة معينون مثل هربرت ماركوز وجون زرزان، الذين يعتقدون أن المجتمعات التكنولوجية معيبة بطبيعتها بداهة. ويشيرون إلى أن نتيجة مثل هذا المجتمع هي أن يصبح تكنولوجيًا على نحو متزايد على حساب الحرية والصحة النفسية (وربما الصحة البدنية بشكل عام، مع انتشار التلوث الناتج عن المنتجات التكنولوجية). كثيرون، مثل اللوديين والفيلسوف البارز مارتن هايدجر، لديهم تحفظات جدية، وإن لم تكن تحفظات معيبة مسبقة، حول التكنولوجيا. يقدم هايدجر مثل هذا الرأي في "السؤال المتعلق بالتكنولوجيا": "وبالتالي لن نختبر أبدًا علاقتنا بجوهر التكنولوجيا طالما أننا نتصور التكنولوجيا وندفعها للأمام، أو نتحملها، أو نتهرب منها. في كل مكان نبقى فيه" غير أحرار ومقيدين بالتكنولوجيا، سواء أكدنا ذلك بحماس أو أنكرناه." تم العثور على بعض من أكثر الانتقادات المؤثرة للتكنولوجيا في ما يعتبر الآن كلاسيكيات أدبية بائسة، على سبيل المثال ألدوس هكسلي عالم جديد شجاع وكتابات أخرى، أنتوني بيرجيس البرتقالة الآلية، وجورج أورويل ألف وتسعمائة وأربعة وثمانون. وفي رواية "فاوست" لجوته، غالبًا ما يتم تفسير بيع فاوست روحه للشيطان مقابل السيطرة على العالم المادي، على أنه استعارة لتبني التكنولوجيا الصناعية. إحدى الأطروحة المناهضة للتكنولوجيا بشكل علني هي المجتمع الصناعي ومستقبله، الذي كتبه ثيودور كاتشينسكي (المعروف أيضًا باسم المفجر) وتم طباعته في العديد من الصحف الكبرى (والكتب اللاحقة) كجزء من جهده لإنهاء حملة قصف البنية التحتية الصناعية التكنولوجية.

التكنولوجيا المناسبة

ومع ذلك، فقد تم تطوير فكرة التكنولوجيا المناسبة في القرن العشرين (على سبيل المثال، انظر عمل جاك إيلول) لوصف المواقف التي لا يكون من المرغوب فيها استخدام تقنيات جديدة جدًا أو تلك التي تتطلب الوصول إلى بعض البنية التحتية المركزية أو الأجزاء أو المهارات المستوردة من مكان آخر. ظهرت حركة القرية البيئية جزئيًا بسبب هذا القلق.

ملاحظة ختامية

يعد استخدام التكنولوجيا الأساسية أيضًا سمة من سمات الأنواع الأخرى غير البشر. وتشمل هذه الحيوانات الرئيسيات مثل الشمبانزي، وبعض مجتمعات الدلافين، والغربان. كانت القدرة على صنع الأدوات واستخدامها تعتبر في السابق سمة مميزة لجنس الهومو. ومع ذلك، فإن اكتشاف بناء الأدوات بين الشمبانزي والرئيسيات ذات الصلة قد تجاهل فكرة استخدام التكنولوجيا باعتبارها فريدة من نوعها للبشر. على سبيل المثال، لاحظ الباحثون أن الشمبانزي البري يستخدم أدوات للبحث عن الطعام: بعض الأدوات المستخدمة تشمل أوراق الإسفنج، ومسبار صيد النمل الأبيض، والمدقات والرافعات. تستخدم قردة الشمبانزي في غرب إفريقيا أيضًا المطارق الحجرية والسنادين لتكسير المكسرات.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.....................

المصادر والمراجع:

Crump, Thomas. A Brief History of Science. London, UK: Constable, 2001.

Ferraro, Gary. Cultural Anthropology: An Applied Perspective. Belmont, CA: Thomson Higher Education, 2006.

Franklin, Ursula M. The Real World of Technology. House of Anansi Press, 1999.

Gere, Charlie. Art, Time and Technology: Histories of the Disappearing Body. Oxford, UK; New York, NY: Berg, 2005.

Haviland, William A. Cultural Anthropology: The Human Challenge. Belmont, CA: Thomson Wadsworth, 2004.

Heideiger, Martin. The Question Concerning Technology and Other Essays. New York, NY: Harper & Row, 1977.

McGrew, W.C. Chimpanzee Material Culture. Cambridge, UK; New York, NY: Cambridge University Press, 1992.

Monsma, Stephen V. Responsible Technology: A Christian perspective. Grand Rapids, MI: W.B. Eerdmans Pub. Co., 1986.

Oakley, K.P. Man the Tool-Maker. Chicago, IL: University of Chicago Press, 1976.

Patterson, Gordon M. The Essentials of Ancient History. Piscataway, NJ: Research and Education Association, 1995.

Popper, Popper. From Technological to Virtual Art. Cambridge, MA: MIT Press, 2007.

Stiegler, Bernard. Technics and Time, 1: The Fault of Epimetheus. Stanford, CA: Stanford University Press, 1998.

Villa, Paola. Terra Amata and the Middle Pleistocene Archaeological Record of Southern France. Berkeley, CA: University of California Press, 1983.

تكون عادة نظرية التلقي لدى الطرفين، المنتج والمستقبِل، الذي يستقبل المنظور الاستقرائي؛ وتكون ذات أبعاد تفكيكية وهي مسندة مع ساند، في المفهوم القصدي، وبما أنّ المفاهيم تتحوّل من خلال العلاقات التي تظهر في النصّ المنظور، فإنّ لهذه التحوّلات منافذ جديدة؛ كأن يكون فعل القراءة هو الفعل القصدي، ولكن بمفاهيم مختلفة، ويكون الإفهام المنظور في فعل القراءة من المتغيّرات النصّية، حيث يكون للغة شيفرة خاصة وهي تحمل دلائل النصّ الشعري بداية من أوّل وحدة لغوية، ولكن الذي يجري عادة في المنظور النصّي، أنّ البداية تعتمد لغة الاختلاف، وهذا المفهوم وحده يقودنا إلى مفاهيم مشفرة يكون للمرء المتلقي البحث عنها من خلال الرمزية أو التفكيكية التي لها الأثر والفعّالية في المنظور النصّي، عند القراءة أو عند التفكيك.

يمرّ النصّ من خلال الإمكانية الذاتية بتحويل إنتاجية المعنى، كأن يتجاوز المؤلف الإمكانية البسيطة ويتجه إلى إمكانية التأويل والتشفير، وهذا ما يسمى بـ "ترخنة" النصّ، أي يعطي للنصّ إعادة إنتاج المعنى وبنائه (فالنصّ ذاته لا يقدم إلا "مظاهر خطاطية1" يمكن من خلالها أن ينتج الموضوع الجمالي للنص بينما يحدث الإنتاج "الفعلي" من خلال فعل التحقق. ومن هنا من الممكن أن نستخلص إنّ للعمل الأدبي قطبين، قد نسميهما: القطب الفنّي والقطب الجمالي، الأوّل هو نصّ المؤلف، والثاني هو التحقق الذي ينجزه القارئ."2").

ويكون للفهم والإفهام بعض النقاط المعتمدة ضمن نظرية التلقي التي تمتلك قوّة الاستقبال والتحوّل:

التلقي النصّي: وهو عملية اشتراك المتلقي في النصّ، لذلك يحتاج إلى من أنتج النصّ، وفي هذه الحالة لا نعلن عن موت المؤلف، بالقدر ما نعلن عن يقظته التجدّدية، لأنّ علاقة النصّ والمرسِل والمرسَل إليه، علاقة ديمومة نصّية، تختفي خلفها بعض المفاهيم غير الظاهرة، ومنها مثلا: مفهوم الرمزية في حالات التشفير والغموض، موضوع تأطير النصّ وهدف الرسالة والمرسَل إليه، وقد يكون هذا الهدف غائباً، حيث المتلقي حاضر لمعرفة هذا الغياب.

جمالية التلقي الحجاجية: يكون للعنصر الجمالي (الإستطيقا) السكن الأول في المنظور الحِجاجي الإقناعي، حيث للتأثيرية الحاجة الملحّة بين الجمل (الشعرية) أو النصّ المصغّر، والذي يُعدّ نشأة سوسيولوجية فنّية؛ منذ لحظة بلوغ المعرفة النصّية للمعرفة، والتي تؤدّي إلى تغييرات جمالية ذات ارتباطات نفسية ونصّية وتموضع سياقي.

تتجه الجمالية وجمالية التلقي إلى ثلاثة عناصر، المؤلف والنصّ والجمهور، فإذا أخذنا قبل كلّ شيء المؤلف، فإنّه المنتج الوحيد للنصّ الذي يوجهه للآخرين، وفي الوقت نفسه يكون النصّ؛ إقراراً تأويلياً من خلال تحوّلات المعاني إلى خاصية تأويلية، وذلك لكي يصيب النصّ المساحة الأكبر في الدائرة الدلالية، ويبعث فيه روح الرغبة من خلال العجائبية وعناصر الدهشة التي تتدخّل في التكوين النصّي الجمالي.

أمّا المتلقي "القارئ" فهو أيقونة تفاعلية تشترك في التكوين النصّي، لأنّ المحتوى الذي ينتظره يشكّل جزءاً تفاعلياً من حياته الحاضرة، وتقليده التاريخي الآني، وبذلك من الممكن أن يمتدّ جسر تواصلي بين المؤلف والنصّ والمتلقي، عبر مفاهيم مشتركة تخصّ العناصر الثلاثة. (تعيد جمالية التلقي إلى الدور الفعّال الذي يخصّ القارئ كامل قيمته في التفعيل التعاقبي لمعنى الأعمال عبر التاريخ. ومن جهة أخرى، لا ينبغي خلط جمالية التلقي بسوسيولوجية الجمهور التاريخية التي ينحصر اهتمامها في تحوّلات ذوقه ومصالحه أو أيديولوجياته. إنّ جمالية التلقي، بمعارضتها لهذين المنهجين اللذين يختزلان التاريخ الأدبي إلى علاقات سببية أحادية الجانب، تتشبث بتصوّر جدلي: فهي ترى أنّ تاريخ تأويلات عمل فنّي إلا تبادل تجارب أو، بتعبير آخر، تحاور وترابط بين مجموعة من الأسئلة والأجوبة "3").

فعل الفهم والبنية النصّية: ويتم جذب النصّ عبر هذا المنظور من جانبين؛ الجانب الفنّي، والجانب الإدراكي؛ حيث يُعدّ النصّ تحقيقاً منجزاً للفعل الجمالي. (إنّ الكلمات والأرقام والصور والأشياء تُسهم هي الأخرى في التأثير بتوسّطها بين العمل الفنّي وكيفية النظر إلى هذا العمل. مرّة أخرى وفي الوقت الذي تثرى فيه السوسيولوجيا التي تعارض التجربة الفورية التي تبدو أنّها تضعنا في علاقة مباشرة بلوحة فنّية أو بنصّ أدبي أو بقطعةٍ موسيقيةٍ فإنّها تعارضها وتنقضها "4").

ليس من مهمّة متلقي النصّ أن يملأ الفراغات الواصلة في المنظور النصّي، بقدر ما تكون الكفاءة الممكنة لديه وخصوصاً القيام على تنظيم البنية الدلالية للنصّ، أو على أقل تقدير أن يكون مندمجاً كحالة تعلقية بينهما، ومن هنا، ستكون المتعلقات الذاتية، متعلقات نصّية لدى المتلقي.

انبعاث القولة:

عندما نكون مع الوحدات اللغوية، فانبعاث الوحدة اللغوية تشكّل المطلع الأوّل في منظور القول، وليس للتفكّرية هنا مجال لذكرها، وذلك لأنّ البداية التي نعتمدها نقول فيها أنّنا تجاوزنا التفكّر النصّي، وعلى أقلّ تقدير يعرف الباث من أيّ منطقة كتابية قد انطلق.

يبدأ النصّ من أصغر وحدة لغوية، وهي الجملة المكثفة والتي أراد منها أن تكون القولة وانطلاقتها، ومن هنا تظهر بعض الامتدادات القولية، ليستقر الباث في امتداد قولي يفسّر معنى السياق، فالمفردة المعجمية قد تحمل عدة معاني في القاموس اللغوي، ولكن عندما تكون بعض العناصر قد تم إنجازها، مثلا: تعدّد الدلالات، المعنى السياقي والسياق اللغوي، وفي هذه الحالة نحصل على تنسيق الوحدة اللغوية، وهي على علاقة تامّة مع انبعاث القولة في المعنى القولي الأوّل.

إذا ما تخطينا النظام الجزئي للنصّ، ونظرنا إليه كإطار حركي متعلق مع نصوصٍ أخرى، فسوف نكون بمفاهيم المعاني التي تكوّن إطارها ضمن القولة والقولة الفلسفية، وهذا يدلّنا على موضوع شديد القول، كي يبدأ النصّ بنظام القولة والذي يكون على علاقة مع القيمة اللغوية ومفاهيم المعاني. وكلّ انبعاث قولي، يكون انبعاثاً لسانياً، وذلك للحفاظ على القيمة اللغوية من جهة، وقيمة الوحدة القولية من جهة أخرى، ولكي نكون أكثر تضامنا مع القيمة اللغوية وقيمة المعاني، نكون مع:

في العمل الدلالي:

تأخذ الجملة الشكل الافتراضي الحامل للمعاني، ولكن عندما تتعدّد أنواع الدلالات، يكون الباث قد تجاوز هذا الشكل الافتراضي، فالجملة في النصّ الشعري، تعتمد العجائبية والدهشة والغرائبية، وفي النصّ القصصي أو الروائي، تعتمد السردية، ومن الممكن جدا تغذية النصّ بالأسلوب اللغوي الشعري، وفي الوقت نفسه، لا تخرج الجمل عن المعاني والتأويلات؛ إذن شكل الدرس في هذه الحالة يختلف؛ بينما نقول: كتب سامر الدرس، فهنا نتوقف على شكل افتراضي، بينما في درس المعنى، ستكون الجملة أو القطعة، حاملة للمعاني وهي قابلة للتأويل، مثلا؛ تحضر الرمزية في الشكل الدلالي، أو في المنظور ما وراء الواقع.

في المنظور التداولي:

تحلّ القولة محلّ الجملة في الحالة التداولية وذلك لأنّ المعنى الأساسي للجملة يرجع إلى القولة، فالمستوى الدلالي هو علاقة المفردة بالأشياء، وكلّ شيء يتحوّل من خلال الفعل الدلالي، والذي يدخل ويتداخل في الجملة أو العبارة، لذلك تكون الممكنات هي التي تتحوّل، وهناك الإجراء الدلالي أيضاً على مستوى الإحالة. والقولة هي (نتاج معنى الجملة والسياق... بتعبير جون لاينز- في كتاب: اللغة والمعنى والسياق).

الانبعاث المعرفي في القول:

من أولى المعرفية النصّية في القول خلفية التأويل، أو المعرفة النصية في الانسجام القولي؛ وإذا تطرقنا إلى المعرفة الخلفية، فسوف نكون في منطقة التناص، وفي هذه الحالة نكون قد تجاوزنا الانبعاثات القولية في النصّية، ولكن في الوقت نفسه، إذا أخذنا القول على أنّه فعل، فسوف يأخذنا القول إلى (أوستين وترجماته) والذي أكّد على فكرة التمييز بين الفعل الإنجازي والفعل التقريري؛ ومن خلال الفعل الحركي، تبدأ الفروقات الإنجازية، وكلّ فعل تقريري سيكون مصير النصّ المباشرة في لغته العادية، أي سيبتعد المؤلف عن لغة الكتابة التي ينتمي النصّ إليها، ومنها الاختلاف اللغوي والانزياح الذي يزورنا باتجاهين، الانزياح الدلالي والانزياح التركيبي، وكذلك لغة النصّ ومنها؛ الشعرية والسردية والقصصية وغير ذلك.

يخضع القول إلى عدة حالات، ومنها حالة القول المعرفي الشفوي، وحالة القول المعرفي الكتابي، وإذا استنتجنا حالة القول كحالة من الديمومة فيصبح حالة من الفهم والمعنى، فنقول في هذه الحالة، القول الآني؛ وهو الحدث الآني الذي يخصّ الكتابة، والقول المتقدم، وهو ما يقدمه مستقبلا من كتابة آنية، وفي الحالتين، يكون البناء النصّي معتمداً على القول غير المقروء، وهو القول التفكّري الذي يكون في منظوره التجريبي عندما يرسم الباث أوّل قول لغوي، والذي يسمّى بالوحدة اللغوية.

النسق القولي:

هو توفير المساحة الواسعة، المساحة الكونية للنسق القولي، ومنه القول الشفاهي والقول المكتوب، وعندما نكون في هذا المنظور فسوف ندرج معه نسق الحِجاج (الحِجاج مثل السرد، هو كلّ يساهم في بنائه شكل الانتظام الحِجاجي. إنّ الحِجاج هو حاصل نصّي عن توليف بين مكوّنات مختلفة تتعلّق بمقام ذي هدف إقناعيّ. فهذا النصّ كلّه أو بعضه سيكون بالإمكان ظهوره في شكل حواريّ "حِجاج حواريّ" مكتوب أو شفوي "حِجاج أحادي الحوار" وفي هذا الإطار ستسخّر تعابير من قبيل: "أنشئ محاجة قوية" و "اعتمد حججا قوية". " 5 ").

إنّ من أهمّ الاتجاهات التي يرسمها النسق القولي، هو التأثير في المتلقي، أو الطرف الآخر الذي ينتظر استجابة القول لأفكاره، وهنا، يكون قد اندمجت أفكاره مع القول الجديد الذي خاطبه، والذي يكون إمّا على شكل نصّ شعري أو رواية أو قصة قصيرة، أو من الأقوال المأثورة والتي يتم نقلها من الأوّلين.

***

كتابة: علاء حمد – العراق

..................

1-Roman Ingarden, The Iiterary Work of Art transl. Grabowicz (Evanston, 1973) ، pp. 276 FF.

2- فعل القراءة، نظرية جمالية التجاوب – ص 12 – فولفغانغ إيزر – ترجمة: د. حميد الحمداني. د. الجلالي الكدية.

3- جمالية التلقي، من أجل تأويل جديد للنصّ الأدبي – الفصل الثالث: جمالية التلقي والتواصل الأدبي – ص 110 – هانس روبيرت ياوس – ترجمة وتقديم: د. رشيد بنحدو

4- سوسيولوجيا الفن – الكلمات والأشياء – ص 119 – ناتالي إينيك – ترجمة: حسين جواد قبيسي..

5- الحِجاج في النظرية والأسلوب – ص 16 – 17 – باتريك شارودو – ترجمة: د. أحمد الودرني

ان تآكل الثقة في المجتمع المدني هو أكبر التحديات التي تواجه عالم اليوم. المجتمعات الديمقراطية تعيش حالة من القلق. القادة والجمهور العام قلقون من التطرف والارهاب والراديكالية. المشرفون التعليميون والخبراء يشعرون بالقلق تجاه اولئك الذين يديمون اتجاهات التلقين. هذه التهديدات تجعلنا أقل ثقة بالآخرين، خصوصا باولئك الذين نراهم نوعا ما مختلفين عنا. العلاج يمكن العثور عليه في تعليم الناس ان يكونوا "مواطنين عالميين"، يهتمون وينخرطون نقديا مع الافكار والعقائد والمواقف التي تبرز عبر العالم. هؤلاء المواطنون العالميون يمكن ان يساعدوا في إعادة بناء الثقة المفقودة في المجتمع المدني في عالم معولم ومتنوع باستمرار.

الحياة الجيدة

لكي نعيش بين الآخرين باسلوب متناغم ومنسجم، يجب ان نعترف بان الآخرين يرغبون بعيش حياة جيدة تماما كما نحن. وكما يشير استاذ الفلسفة في جامعة سدني تم دين Tim Dean، بان"الحياة الجيدة" تبدو مختلفة لدى مختلف الناس في مختلف الاوقات. لا وجود هناك "لقياس يناسب الجميع" عندما نأتي للحياة الجيدة، نجد تعبير التنوع يشكل عنصرا هاما لعالم يحترم الحرية. مع ذلك فان هذه الحرية يجب ان تترافق مع احترام وعناية اذا أردنا تشجيع عمل قرارات أخلاقية على المستوى المحلي والقومي والدولي. نحن يجب ان نفكر بأنفسنا بنفس الطريقة حتى وسط التنوع . نحن كأفراد نعيش في جماعات، يجب ان نتعاون لكي ننجز أهدافنا، سواء كانت صغيرة او كبيرة. الحياة تتسم بتعاوننا او عدم تعاوننا مع الآخرين: العائلة، الاصدقاء، الزملاء، الغرباء. نحن نتوق ونبحث عن الارتباط وعن الإحساس بالانتماء. في ظل الوسائل التكنلوجية المتوفرة لنا، نحن نرتبط الآن في أي دقيقة من اليوم باناس لم نقابلهم يوما في أي مكان.

أهمية الثقة

الثقة هي واحدة من أهم المشاعر الداعمة للمجتمع . فلاسفة مثل الفيلسوفة النيوزيلندية Annette Baier و الامريكية Martha Nussbaum كتبتا عن حساسية وضرورة الثقة. اذا لم تكن لدينا ثقة بالآخرين او لم نعامل الآخر باحترام وعطف، فان تفاعلاتنا يمكن ان تكون مقلقة وستكون سببا للاضطراب وحتى الخوف. مع ذلك،اذا كنا نقترب من الآخرين كأصدقاء – بدرجة اكثر او اقل – ستتم المشاركة برغبة متبادلة وستقود  الى تفاعل سار وتجارب ايجابية متفائلة.

الثقة العمياء قد تكون خطيرة مثل الايمان الأعمى. الثقة والعطف يجب ان يرافقهما وبشكل تناسبي ذهن نقدي. لكن يجب ان لا نذهب بعيدا بالاعتقاد ان الثقة والاهتمام هما غير معقولين فقط لأن العالم هو مكان مخيف. الدراسات الميدانية التي جرت في الولايات المتحدة أظهرت ان الناس يعتقدون ان العالم اليوم هو مكان غير جدير بالثقة مقارنة بالاجيال السابقة. مع ذلك، لا نرى تزايد في الجريمة. ما زاد هو عدد الجرائم التي اُبلغ عنها في الأخبار الاذاعية وعدد من الاخبار التي نستهلكها. قراءة قصص كثيرة جديدة ومثيرة يقودنا لتصور العالم كمكان غير سعيد وغير صديق لا يمكن فيه الوثوق في الناس. لكن اذا كان هذا حقا هو الموقف،سيكون من الصعب جدا ممارسة حياتنا اليومية. تصوراتنا تُعتبر هامة هنا، والطريقة التي نرى بها الاخرين ونُرى تحدد طبيعة تجاربنا في العالم.

مواطنون عالميون

المواطن العالمي هو شخص يعترف بالآخرين باعتبارهم لا يختلفون عنه ، حتى عندما تؤخذ الاختلافات الفردية والاجتماعية والثقافية والسياسية على محمل الجد. المواطنون العالميون يأتون مع بعضهم موحدين في الإعتراف باننا يجب جميعنا ان نهتم بكوكب الارض وان جميع الناس لهم مصلحة مشتركة في الحياة الجيدة.

الاهتمام بالاخرين الذين لم نرهم ابدا والذين يبدون مختلفين جدا عنا يمكن ان يكون تحديا، خاصة في مناخ من الخوف. مع ذلك، هناك اصوات معروفة تدعو الى تبنّي مثل هكذا موقف شمولي عطوف .

الفيلسوف الاسترالي بيتر سنجر Peter Singer يدافع عن مفهوم "عالم واحد" و الفيلسوف البريطاني كوام انتوني Kwame Anthony Appiah يدعم هذه الفكرة بكتاباته حول العالمية. مارثا نوزبام Martha Nussbaum فيلسوفة امريكية تسلط الضوء على اهمية تربية "عيوننا الباطنية" وان نكون قادرين على "رؤية العالم من منظور تجربة الأقلية كطريقة للتغلب على الخوف واللاتسامح".

في كتابها الشهير (لا شعار)، تلاحظ الكاتبة الكندية Naomi Klein ناعومي كلاين انه "مع العولمة هناك حاجة لمعايير مشتركة".

الكل يجادل لدعم فكرة المواطن المعولم. وبمعنى برجماتي، سوف يدعم المواطنون العالميون السياسات التي توسع المساعدات الى ما وراء الحدود القومية وتبني علاقات متبادلة ومحترمة مع الاخرين بصرف النظر عن المسافات الجغرافية والدين والعرق او الجندر. المواطنون العالميون  متعاطفون حتى عندما يكونون منخرطين نقديا في بحث عن الحقيقة والحكمة. هم يستفيدون من التكنلوجيا (التواصل الاجتماعي، المدونات،ومواقع الويكس wikis السريعة) لتوسيع فهمهم بالاضافة الى حوافزهم. هم لديهم المهارات المطلوبة ليكونوا مبدعين ويتكيفون مع السوق العالمي المتغير باستمرار.

صحيح ان هذا قد لا يكون سهلا. لكن هناك بالتأكيد أهداف تربوية يجب أخذها بالاعتبار اذا كنا نريد تحسين وتطوير عادات المواطن العالمي االعطوف والناقد. نعتقد ان هذه الأهداف التربوية تستحق الكفاح.

***

حاتم حميد محسن

..........................

* المقال الثالث، سلسلة مقالات نُشرت في ذي كونفسيشن بتاريخ 13 مارس 2018 حول التحدي الأخلاقي الذي يواجه عالم اليوم.

يعتبر انجلز قوانين الطبيعة تعمل بشكل جدلي.

كما يعتبر هيجل طبيعة العقل البيولوجية  جدلية بالفطرة الموروثة. ما يترتب عليه ان يكون كل شيء يدركه العقل محكوما بطبيعة العقل الجدلية. وليس بطبيعة جدل الواقع.

أعتقد خطأ هاتين المقولتين تحتاجان  توضيحا:

ا. الطبيعة بقوانينها العامة الثابتة تعمل باستقلالية عن رغبات الانسان والمؤثرات الخارجية التي تحاول كسر آلية انتظام عمل هذه القوانين العلمية الثابتة. وتمت تجربة مثل هذه المحاولات في كسر القوانين الطبيعية ممثلة بخوارق  معجزات لاهوت الاديان في القرون الوسطى. ولم يعد العلم يؤمن بتلك المعجزات الخارقة لقوانين الطبيعة واعتبرها تضليلا مقصودا تقف خلفه مصالح رجال الدين..

من المسائل العلمية الثابتة ان الطبيعة في موجوداتها وقوانينها الطبيعية العامة التي تحكمها هي معطى ازلي سواء اكانت عبر الاف السنين نتاج تطور بيولوجي - فيزيائي حدث بصدفة الانفجار العظيم. ام ان قوانين الطبيعة المعجزة لادراك العقل البشري هي نتاج تخليق قدرة الهية عظمى عليا غير محدودة ولا مدركة قادرة على خلق كل شيء في لمحة بصر كما تبشر به الاديان.

القوانين العامة التي تحكم الطبيعة من ضمنها الانسان بعضها لعبت الصدف في اكتشافها وكانت شغّالة فاعلة حتى قبل وبعد وجود الانسان على الارض وتقدم العلوم. والبعض الاخر توصل لها علماء الفيزياء والفضاء والكيمياء والرياضيات في لعب دور العالم المخترع لها وغيرها. وما يجب التنبيه له ثانية ان قوانين الطبيعة كانت موجودة ولا زالت وستبقى تحكم الطبيعة قبل وبعد اكتشاف او اختراع الانسان لما له علاقة بها.

الشيء الاخر يثبت العلم كما تثبت الفلسفة ان قوانين الطبيعة الازلية المحكمة على وفق نظام متقن معجز لا يمكن العبث الانساني به. فهي مستقلة فاعلة بعيدة عن تداخل اية مؤثرات خارجية او داخلية عليها، ولا تخضع لرغائب الانسان خارج علاقة التكيّف الانساني معها والانتفاع منها. فالطبيعة كانت قديما في بداية الخليقة على الارض ولا زالت الى حد اليوم الام مرضعة الانسان والكائنات الحيّة. ومن غير الطبيعة وما تزود به الانسان والحيوان والنبات من اسباب العيش والبقاء يكون مصيره الانقراض كما حدث مع حيوانات الديناصورات وحيوان الماموث وحيوانات اخرى انقرضت بصمت الجوع ولم يذكرها أحد ربما تكتشف الاحافير والتنقيبات الاثارية بقايا لها..

ب. لم يثبت العلم ولا اركيولوجيا التنقيبات الاثارية ولا دراسات الانثروبولوجيا ان قوانين الطبيعة العامة غير ثابتة جدلية متغيرة ولا ازلية تحكمها حركة الجدل التطورية و تعمل جدليا على صعيد سيرورة التاريخ  وعلى صعيد المادة كما اشار له انجلز.

كما من غير المتاح لنا اسباغ نوع من المنهجية الفلسفية الجدلية النظرية على تلك القوانين بغية تطويعها لخدمة اهداف سياسية ايديولوجية معينة كما جرى مع الماركسية وبعض التجارب الاشتراكية وعلوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات التي افادت من قوانين الطبيعة في منهجية جدلية تعسفية غير طبيعية في وجودها الثابت وعملها الديناميكي المتواصل في خدمة الانسان من غير وعي عقلي من الطبيعة. فعقل الطبيعة هو نظامها الثابت الذي تحكمه القوانين الطبيعية العامة لها.  ولم يسلم الفضاء الكوني من مؤثرات قوانين الطبيعة المطلقة اهمها قانون الجاذيبة وقوانين الفيزياء والرياضيات الاخرى.

هيجل وانجلز

مثالنا هنا مقولة انجلز قوانين الطبيعة العامة تعمل بشكل جدلي. ومقولة هيجل طبيعة العقل الجدلية هي التي تصنع جدل الطبيعة والتاريخ والوجود عموما. لا تحتمل مقولة انجلز قوانين الطبيعة تعمل بشكل جدلي توضيحا تعسفيا يضفي عليها مصداقية تلفيقية ليست صحيحة. وفي عدم تبيان خطئها الدوغمائي الواضح والتستر عليه خدمة للايديولوجيا السياسية.

مقولة هيجل التلفيقية قوله (الجدل الديالكتيكي الحاصل في المادة والتاريخ وبعض شؤون الحياة انما هي انعكاس لطبيعة العقل الجدلية). سبق لي ان كتبت حول هذه المقولة الخاطئة في اكثر من مقال لي منشورا على مواقع التواصل الاجتماعي سأدرج بعضا مما يحضرني منها:

ا. لا توجد لا علميا ولا فسلجيا ولا انثروبولوجيا خرافة فلسفية تحت عنوان (طبيعة العقل الجدلية). والعقل لا يعمل بمنهج جدلي فطري موروث ولا بمنهج جدلي مكتسب عن الطبيعة والواقع. ولا زالت دراسات وظائف الاعضاء وفسلجتها يكتشفون في تركيبة الدماغ العضوية مناطق وخلايا لم يكن الانسان يعرف عن عملها من قبل شيئا.

ب. العقل لا قدرة له على تخليق منهج الديالكتيك الذي يحكم حركة التطور بكل شيء في الواقع. في المادة والطبيعة والحياة والتاريخ. بل الديالكتيك هو من القوانين الوضعية العامة التي ابتدعها الانسان ولم يخلقها ان تكون لها خصائص ثابتة تجاري قوانين الطبيعة. وطبيعة الجدل الخارجي في حال ثبت حصولها بالواقع هي التي تجعل العقل الانساني يكتسب منهجية التفكير الجدلي كما هو حال العقل في اكتسابه ما لا حصر له من المعارف التي يكتشفها في المادة والطبيعة والتاريخ ولا دور له في اختراعها وايجادها..

ج. من عبارة هيجل الدوغمائية الخاطئة طبيعة العقل جدلية حين اراد فرض اسبقية التفكير الجدلي بالعقل على الجدل الحاصل بالواقع والتفسير المادي للتاريخ وهو بذلك وضع العربة امام الحصان.

ونستنتج من عبارته انه لم يكن يؤمن حصول جدل ديالكتيكي يغيّر التاريخ في حركته الاصطراعية مع ضده اطلق عليه فلسفيا وايديولوجيا صراع مصالح الطبقات المتناحرة. ولا جدل يحصل بالمادة والواقع العياني قبل حدوثه بتفكير العقل الجدلي . لذا ابتدع هيجل فكرة طبيعة العقل الجدلية المثالية تسبق كل اشكال الجدل الحاصل من حولنا في المادة والطبيعة والكون. بمعنى ميكانيكية وبرمجة العقل الطبيعة هي التي ترى الواقع والحياة والتاريخ تتطور جدليا من حولنا.

خلاصة ختامية

من خلال مقولة انجلز الدوغمائية اعتباره قوانين الطبيعة العامة تعمل بشكل جدلي ديالكتيكي ذاتي وحيد لفهم حركة تطور العالم من حولنا. معناه انه لا طريق ثان اخر تتقدم به الحياة والتاريخ ونفهم به المادة كما شرحها لنا علم الفيزياء والكيمياء والرياضيات لاحقا مفحما تماما التبسيط الجدلي السطحي كيف تتطور المادة بغير منهج الجدل الذي اصبح من تركات السرديات الكبرى حسب تعبير ما بعد الحداثة التي ارادت الاستحواذ على دور العلم .

اما مقولة هيجل الابتذالية ادعاءه ان طبيعة العقل هي جدلية بالفطرة الموروثة. عليه يبقى تفكير العقل الجدلي سابق على كل جدل يحصل في المادة والواقع والطبيعة والتاريخ ومن تخليقه. فهي عبارة خاطئة تماما ولا مجال البحث عن بعض مصداقية وصواب فيها.

من خلال هاتين المقولتين لانجلز وهيجل الدوغمائيتين تاكد لي على الاقل حقيقة ان قوانين الجدل الديالكتيكي بكل تنظيراته الفكرية والفلسفية والايديولوجية لم تتوصل الى إثبات حركة التاريخ التطورية واقعيا حادثا ومن سمات التطور ولا يتوفر لدينا اثبات واقعي يدعم تكامل النظرية الجدلية الفكرية بالتطبيق في مجال تفعيل قوانين الجدل. الا بما سمي الشروط الموضوعية والعوامل المساعدة .

الملاحظ ان قوانين الجدل الديالكتيكي الكلاسيكية الثلاث هي من قوانين الطبيعة الفيزيائية التي تحكم الطبيعة والانسان وهي ليست قوانين ثابتة بالتجربة ملحقة بقوانين الطبيعة العامة الثابتة لانها لا تجانسها المنهج الفيزيائي العلمي بل هي منفصلة عنها لانها تمثل حركة الطبيعة وتحولات المراحل التاريخية وعلاقة الانسان وكل شيء بها. لها منحى خاص يدركه الانسان ويتعامل معه بعيدا عن وضعه في خانة وقالب قوانين الجدل الديالكتيكي الذي يحكم حركة التاريخ التطورية الاحادية.

قوانين الجدل الديالكتيكي الثلاث ، قانون وحدة وصراع الاضداد، قانون تحولات الكم الى كيفيات مغايرة ، وقانون نفي النفي واستحداث الظاهرة الجديدة هي قوانين تنتسب لفيزياء الطبيعة وتطورات حركة التاريخ العفوية وكذلك لسيرورة تغيرات المادة في تقادم الزمن ولا تتقولب في المسار الجدلي المزعوم فلسفيا تنظيريا في مسارغير طبيعي ولا تاريخي ذي بعد واحد. وهذه القوانين الوضعية التي تسمى جدلية لا تعمل باستقلالية ذاتية كما هو مفترض في طبيعتها وتفسيرنا لها. بل تستمد حيويتها الشغالة من الطبيعة المتطورة باستمراروملازمتها حركة التاريخ الانثروبولوجي للانسان. . ولم يتأكد حدوث هذه القوانين الجدلية الوضعية في الواقع بالقياس الى درجة اختراعها فلسفيا. فهي من اختراع الفكر وليس نتيجة حركة التاريخ الزماني الارضي الطبيعي.

وإن إغماط فاعلية الصدف الطارئة منها والمصنّعة في دخولها المتقاطع مع المسار الخطي المزعوم للتاريخ.، وكذلك العشوائيات الداخلة عليه، والسببية، والصح والخطأ والانحراف، والقطوعات والقفزات الانتقالية النوعية، والتاريخ الساكن مراحليا، كل هذه وغيرها عوامل اساسية شغالة تدخل في صناعة حركة التاريخ خارج قوانين الجدل غير الملزمة واقعيا للتاريخ ان تكون هي من طبيعته..

 ومقولة هيجل التعسفية طبيعة العقل الجدلية هي التي تملي على الواقع حركته الجدلية هي محاولة تطويع حركة التاريخ للفكر اولا. وان التاريخ بحسب نظريته طبيعة العقل الجدلية ينسف ان يكون هناك جدل لا في التاريخ ولا في المادة لا يكون نتاجا فكريا عقليا قبليا ابتداءً.

بهذا اراد هيجل دحض المادية التاريخية ان تقوم على مبدأ جدلي طبيعي غير مصنّع وضعيا. يقوم على حركة الاقتصاد وملكية وسائل الانتاج وتضاد مصالح البروليتاريا مع الطبقات الراسمالية المالكة.

بالمقابل اراد انجلز بمقولته الدوغمائية المصادرة لحركة التاريخ العفوية اثبات ان قوانين الطبيعة العامة تعمل بمنهجية جدلية مستقلة ثابتة ملزمة بالضرورة حتمية التطور المادي الماركسي الاحادي. التي تجعل من الحتميات التاريخية والضرورات الملزمة للايديولوجيا هي الحركات الحقيقية التي تقود مسار التاريخ الخطي المتقدم الى امام دائما. وهذه بدورها تعمل بانسجام توافقي مع جدل القوانين العامة الثابتة للطبيعة. غير القابلة للدحض ولا للتخطئة ولا يطالها التقادم الزمني بالتآكل والتغيير. وكل هذه التنظيرات الفلسفية لهيجل ولانجلز محض تنظيرات فكرية فلسفية ارادت الباسها التاريخ في حدود مقولات الجدل الافتراضية واقعيا ماديا مرة، وتفكيرا عقليا يخلق هو جدل التاريخ والحياة والواقع تارة اخرى. .

***

علي محمد اليوسف

كان مصطلح"ما بعد الحقيقة" post-truth هو"كلمة العام" في معجم اكسفورد لعام 2016. ونظرا للضجة التي أحاطت بهذا المصطلح منذ ذلك الحين، لابد من محاولة إعطاء تقييم  موضوعي ودقيق له. انطوى المصطلح على كل من فوائد وعيوب المبالغة التي تجسدت فيه. فمن جهة، هو يثير الانتباه للتحديات العميقة التي تواجه الميديا الجديدة والديمقراطيات الليبرالية في عالم اليوم. ومن جهة اخرى، انه يجعل الامور تبدو كما لو اننا دخلنا في عالم بائس جديد فيه لم يعد السياسيون يريدون او يحتاجون لقول الحقيقة، حيث الميديا غارقة جدا في "الاخبار الكاذبة" التي لا يثق بها المواطنون.

من السهل تصوّر ان مساعد رئيس الوزراء الاسترالي السابق بارنبي جويس Barnaby Joyce، يرى ان الميديا لم تعد تمتلك الرغبة او الوسيلة لقول الحقيقة، هو أعلن ان الوقت قد حان لتنظيم شركات التواصل  الاجتماعي، اما رئيس الوزراء سكوت موريسن فقد وصف التواصل الاجتماعي بـ "قصر الجبناء" حيث يمكن للناس الذهاب اليه، لكن دون ان يقولوا منْ هم، فيقومون بتحطيم حياة الناس". عندما سمّى المستشار السابق لترامب ستيف بانون Steve Bannon تيار الميديا السائد بـ "حزب المعارضة"، فمن الواضح انه ارادها ان تكون صادقة. مع ذلك، فان السي ان ان والواشنطن بوست ونيويورك تايمز لاتزال في التداول. بانون هو الذي خرج من السلطة. في استراليا ايضا، تستمر اسواق الميديا في التعبير عن الإساءات وكل النواقص التي تؤذي الكائن البشري. غير ان محاولة قول كامل الحقيقة والفشل في ذلك،هو شيء مختلف جدا عن نبذ الحقيقة كليا.

تواجه خدمة الاخبار التقليدية الآن منافسة غير مسبوقة في عصر الانترنيت والتواصل الاجتماعي. الحاجة هي لجذب أكبر عدد من النقرات التي تفضل الإثارة والحزبية على البحوث الجادة والتقارير الهادئة. مع ذلك لا شيء من هذا يجعل قول الحقيقة مستحيلا، وهذا ادّعاء يميل الى الاشخاص الذين يريدون التضليل ونقل أنصاف الحقائق، ويبررون أنفسهم بالقول ان الجميع يفعلون ذلك.

ترامب هو أكبر المعجبين بعبارة "أخبار كاذبة". ومثل هذه التحديات لن تزيل الدور الحيوي لقول الحقيقة في الحفاظ على المجتمعات المنفتحة. على عكس ذلك، المواطنون يحتاجون ليكونوا قادرين لجعل السياسين يتصرفون بإنصاف وانفتاح ومسؤولية عن أعمالهم اكثر من أي وقت مضى، خاصة عندما يرتدون ملابس الإنقاذ. الاستجابة الأخلاقية للمشكلة والايمان بقيمة الافكار هو التحدي الاخلاقي العظيم في زماننا.

فرنسيس باكون و الفيسبوك؟

في بداية الثقافة العلمية الحديثة، طرح الفيلسوف فرنسيس باكون (1626-1561) سلسلة ملاحظات حول الكيفية التي يعمل بها الذهن. تلك الملاحظات بقيت ملائمة لهذا العصر- ما بعد الحقيقة. فمثلا:

"ان الذهن الانساني يشبه المرايا الغير مستوية التي تضفي خصائصها على مختلف الأشياء، التي تنعكس منها أشعة تشوّه الحقيقة. عندما يوضع أي افتراض فان ذهننا يجبر كل شيء آخر لإضافة دعم وتأكيد جديد. بالمقابل، نحن نمر بوقت قاس فيه نقبل أي شيء لا نحبه كثيرا" و "رغم توفّر الكثير من الأدلة الوفيرة والمقنعة لما هو مضاد، مع ذلك نحن اما لا نلاحظ تلك الادلة او نحتقرها، .... احيانا مع تحيزات ضارة وعنيفة بدلا من التضحية باستنتاجاتنا الاولى".

باختصار: "الناس دائما يعتقدون وبسهولة كبيرة ان ما يفضلونه يكون صائبا"، بدلا من ان يكون صائبا صدفة . عندما يأتي باكون لإستخدام "وسيلته الجديدة" للتحقيق، هو يدرّب قرّاءه على أين وكيف يبحثون بنشاط عن الأشياء التي تراوغ وتتحدى وتزعج او تعيد صياغة عقائدهم القائمة. وبهذا يمكنك ان ترى كيف ينظر فرنسيس باكون للفيسبوك.

الفيسبوك تنتج معلوماتك وأفكارك بالارتكاز على اعجاباتك في الماضي. في ضوء خطة الشركة في العمل، انت من المحتمل جدا ان تبقى على المنصة عبر تغذيتك بمواد تسعدك بدلا من ان تتحداك او تعارضك. بكلمة اخرى، تقوم وسائل التواصل الاجتماعي بتعبئة "أصنام العقل البشري" كسلاح لها، والذي من شأنه حسب باكون سيمنع الناس من العثور على الحقيقة. فيسبوك باكون ستختار موادك الإخبارية بالارتكاز على ما يُحتمل انك لا تتفق معها بدلا من التصرف بما يتلائم مع أحكامك المسبقة.

الليبراليون واليساريون يتم تحويلهم الى أصدقاء مخصصين لقرّاء بريتبارت Breitbart(موقع اخبار وآراء وتعليقات اليمين المتطرف الامريكي). وهم بدورهم سيتم تغذيتهم بشبكة اخبار نيويورك تايمز وواشنطن بوست. وهذا ربما يجعل الاستقطاب غير المتحضر والمتسارع في الحياة العامة بطيئا.

وماذا عن مشاركات سبينوزا في الفيسبوك؟

بعد وقت قصير من باكون، برز فيلسوف عملاق آخر وهو سبينوزا(1632-1677). ايضا سبينوزا ميّز بين الطرق التي نُظهر بها تحيزاتنا و"إعجاباتنا" لقبيلتنا والكيفية التي اعتقد ان الناس يجب ان يبحثوا بها عن الحقيقة. لاحظ سبينوزا اننا مخلوقات اجتماعية. كتابه (الأخلاق) يحلل ببراعة الطريقة التي نشعر بها عاطفيا وفكريا باننا لسنا وحيدين. نحن غالبا ما نفعل او نؤمن بالاشياء فقط لأن الآخرين الذين حولنا يفعلون ذلك. اضافة الى ذلك، "كل شخص يحاول قدر الإمكان ان يجعل الآخرين يحبون ما يحبه هو ويكرهون ما يكرهه هو".

في الحقيقة، نحن حين نتغذى بهذا الصدى والانعكاس لمعتقداتنا العاطفية سوف نقفز بسهولة للتعميم حول كل الجماعات، بالارتكاز فقط على ما اذا كنا نحب او لا نحب بعض الاشخاص: "اذا كان الانسان قد تأثر بشكل ممتع او مؤلم من أي شخص ينتمي  لطبقة او امة تختلف عنه، واذا كانت المتعة او الألم ترافقتا مع فكرة الغريب  .. فان الانسان سيشعر بالحب او الكراهية ليس فقط للشخص الغريب وانما ايضا لكل الطبقة او الامة التي ينتمي لها".

الميديا الاجتماعية اليوم تعيش على هذه الخصائص، تشحذ القبلية واللامدنية. لكن سبينوزا يتفق مع باكون بان الطريقة الوحيدة لوقف الكراهية هي ترسيخ وعي الناس بميولهم لإختيار، وتبسيط وفحص المعلومات. نحن لسنا ما بعد الحقيقة. لكن الامر يعتمد على المواطن ليكون حذرا امام الاكاذيب والتشوهات، ويعتمد ايضا على مؤسساتنا التعليمية في المحافظة على بقاء العديد من الموارد وعناصر القوة في تقاليدنا التي يمكن ان تحول دون ان يصبح التطرف حقيقة.

***

 حاتم حميد محسن

......................

* الحلقة الثانية من سلسلة مقالات كتبها مجموعة من الفلاسفة عام 2018 تناقش أكبر تحدّي أخلاقي يواجه العالم في وقتنا الحاضر، The conversation,March12,2018 .

في عام 2018 وجّهت ادارة المجلة الاكاديمية The conversation سؤالا الى عدد من الفلاسفة حول ماهية التحديات الاخلاقية الحالية وكيفية مواجهتها، كان الجواب على شكل سلسلة من المقالات (خمس مقالات) تراوحت من محاولة تشخيص التحدي الاخلاقي، الى الحديث عن الحاجة الى مواطن عالمي وإعادة بناء الثقة في عالم معولم،الى البحث عن الحقيقة في عصر الفيسبوك، وصولاً الى ضرورة تطوير "حكمة تكنلوجية" لمنع التكنلوجيا من استهلاك الانسان. سنحاول التطرق الى هذه الموضوعات تباعا. 

 من الواضح ان هناك عجزا أخلاقيا في عالم اليوم، ذلك لأن العالم سيكون أفضل لو كان الناس يتصرفون بدوافع أخلاقية ويعطون الأخلاق أولوية في تفكيرهم. لكن عندما نأتي لتحديد أكبر تحدّي أخلاقي في زماننا الحالي فاننا لا نجد نقصا في الاخلاق وانما هناك الكثير منها.

في الحقيقة، نرى ان التحدي الأخلاقي الأكبر يكمن في تصوّرنا المعيب للأخلاق ذاتها. الطريقة التي نميل للتفكير والتحدث بها عن الاخلاق تكبح قدرتنا على الانخراط في رؤى غير الرؤى الخاصة بنا، انها تجعل ادارة التنوع والاختلاف أصعب بكثير، وتميل لحشرنا في نماذج معينة تخلق من المعاناة والإضطراب أكثر منه الى الحل .

الصحيح والخطأ، الأسود والابيض

اذا كان القتل شيئا خاطئا، فهذه ليست مسألة تفضيل شخصي، هي حقيقة موضوعية. تعني اذا كانت صحيحة لي، فهي صحيحة لكل شخص آخر ايضا. واذا كان هناك شخص ما يدّعي ان القتل جيد فهو مخطئ. هذه هي الطريقة التي يفكر بها العديد من الناس حول العديد من المسائل الأخلاقية، وليست فقط في موضوع الجريمة. نحن نشير هنا الى الحقائق الأخلاقية، و نسعى الى إثبات صحة موقفنا الاخلاقي من خلال الرجوع الى هذه الحقائق. البعض منا يبرر هذه الحقائق عبر اللجوء الى الوصايا المستمدة من مصدر ديني. آخرون يبررونها عبر اللجوء الى الحقوق الطبيعية او حقائق أساسية حول طبيعة الانسان، مثل ان المعاناة هي سيئة بذاتها لذا يجب منعها قدر الإمكان.

العديد من الناس يرون الأخلاق تشبه العلوم، حيث يمكن ان نتعلم حقائق أخلاقية جديدة حول العالم، مثل عندما اكتشفنا ان العبودية عمل خاطئ او ان المرأة يجب ان تنال نفس حقوق الرجل، ولذلك لابد من تعديل الموقف الاخلاقي تبعا لذلك.

ثلاث مشاكل

هناك ثلاث مشاكل كبرى في هذه النظرة الشائعة للأخلاق.

1- انها خاطئة: لا توجد قناعة بان هناك أي مصدر موضوعي للأخلاق. لقد أمضى البعض وقتا طويلا في البحث عن هذا المصدر لكن لم يجدوا أي شي مقنع، وحتى عندما يعتقد المرء ان هناك مصدرا دينيا يملي الصواب من الخطأ، فلايزال الامر متروكا للناس لمعرفة التفسير الصحيح لتلك الأوامر. والتاريخ كشف ان الاختلاف في التفسيرات المتضادة للخير الديني يمكن ان تسبب معاناة لا توصف، ولازالت حتى اليوم عندما يحاول الدوغمائيون فرض رؤيتهم الاخلاقية على غير الراغبين بها.

2- المشكلة الثانية تكمن في فكرة وجود اخلاق واحدة صحيحة والتي هي في الأساس في تضاد مع عدد واسع من التنوع الأخلاقي الذي نراه حول العالم. فمثلا، هناك خلاف واسع حول ما اذا كانت الدولة يجب ان تكون قادرة على إعدام المجرمين، او ما اذا كان للناس المصابين بأمراض مزمنة الحق في الموت .

اذا كنا نعتقد ان الاخلاق هي مسألة حقيقة موضوعية، عندئذ فان هذا التنوع يعني ان معظم ان لم يكن جميع الناس في العالم هم مخطئون حول معتقداتهم الاخلاقية التي يؤمنون بها بعمق. اذا كان الامر كذلك، فهذا يعني ان الناس ليست لديهم القدرة الجماعية على فهم ماهية الأخلاق.

3- المشكلة الثالثة هي ان هذه الرؤية للاخلاق تدفعنا للتفكير في لغة الابيض والاسود. انها توجّه الخطاب الاخلاقي نحو إثبات ان الآخرين مخطئون، او إجبارهم لتبنّي رؤيتنا الأخلاقية. هذا يجعل الامر أصعب ان لم يكن مستحيلا للناس التعامل الجاد مع رؤية الاخرين والانخراط معهم في مفاوضات وتسويات أخلاقية.

هذا هو أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل الميديا الاجتماعية والمحادثات التي تجري حول الطاولة هي في حالة مفزعة حتى الآن. اولئك الذين في جانب واحد يشطبون خصومهم باعتبارهم منحرفين أخلاقيا، وهو الأمر الذي من شأنه ان يغلق أي إمكانية للانخراط الايجابي او التعاون الثنائي.

إصلاح أخلاقي

لهذا، لكي نستجيب للتحدي الأخلاقي الكبير، سنحتاج لإعادة التفكير الجاد بالأخلاق ذاتها.

أحسن طريقة للتفكير حول الاخلاق هي كوسيلة ثقافية اخترعها البشر لمساعدتهم كي يعيشوا ويعملوا مع بعضهم في المواقف الاجتماعية. كل واحد  من الناس له اهتماماته ومصالحه التي يريد إنجازها. هي تتغير من فرد الى آخر لكن عموما هي تتضمن أشياءً مثل كوننا قادرين على توفيرها لأنفسنا ولمنْ نحب، وتجنّب المعاناة والصعوبات وممارسة التجارب الممتعة والمقنعة.

ان أفضل طريقة لإشباع هذه الإهتمامات هي ان نعيش اجتماعيا ونتفاعل ونتعاون مع الآخرين. ولكن مصالحنا او وسائل إشباعها عادة ما تتضارب مع الاخرين. وان هذا الصراع يمكن ان ينتهي بما هو أسوأ للجميع. لذا فان الأخلاق هي مجموعة من القواعد التي نعيش بها بهدف تقليل الأذى ومساعدتنا لنعيش مع بعضنا بفاعلية. نحن لم نكتشفها وهي لم تنزل علينا من الأعلى. كان علينا معرفة ذلك بأنفسنا و لأنفسنا.

بالطبع، الناس لا يفكرون دائما في هذه الطريقة، لذا هم يبررون أخلاقهم بمختلف الطرق، عادة عبر اللجوء الى الدين او التقاليد. لكن الناس لم يجروا تحديثا على تفكيرهم  حول الاخلاق لكي يمكن تنقيتها من القيود التي جاءت مع الدين ومن الامتثال الثقافي الصارم للماضي. نحن الان نعرف ان هناك عدة طرق لمتابعة وانجاز العيش، وان القواعد التي تعزز نسخة واحدة للاخلاق قد تتصادم مع طرق الآخرين. لذا فان القواعد الأخلاقية التي تكرس بناء روابط طائفية قوية هي ربما تتصادم مع القواعد التي تمكّن الناس من اختيار مسار حياتهم الخاص بهم. ايضا، المشاكل التي تحاول الاخلاق حلّها تتغير من مكان الى آخر. الناس الذين يعيشون في جماعات صغيرة وفي أماكن قليلة الموارد مثل مناطق التندرا في القطب الشمالي لديهم مشاكل تختلف عن الناس الذين يعيشون في عواصم حديثة مثل سدني وملبورن المحاطة بوفرة الموارد. عندما نطبق أخلاق الجماعة الاولى على البيئة الأخيرة،سوف نفاقم الصراع بدلا من حله.

كل هذا يعني ان الأخلاق يجب ان لا تركز كثيرا على "إثبات" صحة الرؤية الاخلاقية  وانما على التسامح والمفاوضات. نحتاج ان نتعلم ونفهم ان مختلف الشعوب ومختلف الجماعات والثقافات لها تصورات مختلفة عن الحياة الجيدة. و نحتاج ايضا ان نفهم ان مشاكل الحياة الاجتماعية وحلولها، لا تنطبق بالتساوي على كل جماعة. انها تعني اننا يجب ان نتعلم لنصبح أقل دوغمائية أخلاقية وأكثر تكيفا أخلاقيا. وفوق كل ذلك، نحن نحتاج للتخلي عن فكرة ان الأخلاق هي حول حقائق موضوعية تنطبق على كل الناس وفي كل الأزمان.

هذا لا يعني ان تصبح الاخلاق "قبول أي شكل" من النسبية. هناك طرق للحكم على فائدة عقيدة أخلاقية معينة، بمعنى: هل هي تساعد حقا في حل مشاكل الحياة الاجتماعية للناس الذين يستعملونها؟ الكثير منها لا يقوم بذلك، لذلك يجب ان يتم تحدّيها او إصلاحها. في عالم يزداد فيه التنوع الثقافي  المتعدد والمترابط، يصبح من المهم أكثر من أي وقت مضى ان نصلح الطريقة التي يفكر ويتحدث بها الناس عن الاخلاق ذاتها. اذا لم نقم بذلك،ومهما كان التحدي الأخلاقي الذي نواجهه،فسيكون الحل أكثر صعوبة.

***

حاتم حميد محسن

ليس هناك مفهوم ثابت - كمعطى وحيد أوحد - صالح في معطياته ودلالاته لكل زمان ومكان، فالمفاهيم هي عادة تاريخيّة بامتياز، وذلك انطلاقا من مقولة هيجل إن (كل تعريف هو بالضرورة تحديد، والتحديد يعني الثبات، والثبات هو الجمود والموت بذاته.)، وهذا في المحصلة يعني أيضا نفياً لتاريخيّة جوهر ودلالات المفهوم، أي نفي لقوانين حركة وتطور وتبدل الظاهرة في الزمان والمكان.

حقيقة إن المفهوم في جوهره ودلالاته مرتبط بتاريخ نشأته وسيرورة هذه النشأة وصيرورتها، أي هو مرتبط بمشكلات (الصراع والتفاعل الاجتماعي) التي كانت قائمة عند نشوئه، وبالرؤى والأفكار التي تعاملت معه عند هذا النشوء. أو في التعبير الآخر، إن المفهوم ابن بيئته التاريخيّة بكل ما تحمله هذه البيئة من مستويات اقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة، أي هو نسبي. وهذا ما ينطبق في الحقيقة على مفهوم المجتمع المدني.

يأتي مفهوم المجتمع المدني وفق هذه المعطيات على أنه: تحالف أو مجموعة من التحالفات الاجتماعيّة التضامنيّة مثل: نقابة، حزب، منظمة، جمعية خيريّة، أو اجتماعيّة، أو ثقافيّة ... الخ، لها أهدافها ومصادر تمويلها وطموحاتها ومصالحها المحددة بناء على طبيعة مكوناتها الاجتماعيّة و(حواملها الاجتماعيّة) من جهة، وعلى طبيعة المشكلات الماديّة والفكريّة، أي (حالات الصراع والتفاعل الاجتماعي والأيديولوجي) التي تعيشها هذه البنية الاجتماعيّة أو تلك في المرحلة التاريخيّة المحددة أيضاً من جهة ثانية. لذلك من هنا نستطيع عبر متابعتنا لنشوء المجتمع المدني وحالات تطوره، أن نحدد في نطاق السياق التاريخي ثلاثة نماذج أساسيّة مرّ بها المجتمع المدني هي:

الأنموذج الأول: وهو الأنموذج الذي تم فيه تجاوز المجتمع (الأبوي) أو ما يمكننا تسميته بالمجتمع ما بعد الأبوي، حيث بدأ المجتمع المدني يتشكل هنا عندما راح المجتمع الأبوي هذا يأخذ بالتفسخ، ليفسح في المجال أمام معطيات ملامح مجتمع جديد، بدأت تتأسس فيه سلطة ومؤسسات تقود الدولة والمجتمع، هذا ويمكننا أن ندخل في هذه الصيغة أو الأنموذج، المجتمع العبودي والإقطاعي. ففي هذه المرحلة من المجتمع المدني بدأ الإنسان يمارس السياسة والنشاط الاقتصادي والثقافي كحرفة ومهارة خلقها أو صنعها هو بنفسه.

هنا بدأت تظهر على الواقع العملي والفكري أسس النظريات السياسيّة – المدنيّة بقيادة طبقة النبلاء ورجال الدين والملك وحاشيته، ثم الطبقة البرجوازية الحديثة أو الوليدة التي راحت تطرح نفسها كمشروع حياة جديدة يقاوم سلطة الإرث العائلي الارستقراطي والملكي والتكليف الإلهي، لتفرض بدلا عنهما سلطة الشعب والجماعة، وهذا هو أصل الانتقال إلى مجتمع الحداثة أو المجتمع المدني الحديث. الذي (أخذت فيه الدولة تتطابق هنا مع المجتمع المدني) .

عبر هذه المنطلقات السياسة الحديثة (المجتمع المدني)، راحت تتضح وتنضج أكثر فأكثر ملامح جميع المفاهيم الأخرى مثل الديمقراطيّة، والعلمانيّة، والمواطنة، ودولة القانون، والتعدديّة ... الخ .

الأنموذج الثاني: ونجد في هذا الأنموذج معطيات أو تجليات جديدة للمجتمع المدني، ففي الوقت الذي أوجدت فيه الطبقة الرأسماليّة أسس المجتمع المدني في صيغته الحداثيّة عبر تجاوزها السلطة الأبويّة والدينيّة والعرف والعادة، ووصولها بالمجتمع إلى المطالبة بدولة القانون، والعلمانية والديمقراطية ، والحرية والعدالة والمساواة ... الخ، نجد الطبقة الرأسماليّة ذاتها حاملة هذا المشروع المدني، تعجز عن السير به حتى النهاية عندما راحت مفرداته أو قوانينه تصطدم مع مصالحها، فبدأت تحرف دولة القانون والمواطنة عن مسارها الحقيقي، وتفرغ كل شعارات هذا المجتمع الحديث من محتواها الحقيقي (الديمقراطية، العلمانية، الحرية، العدالة، المساوة)، وبخاصة في الجانب السياسي، الذي بُذلت من أجل تحقيقه التضحيات الجسام، حيث راحت دولة القانون تعمل لخدمة مالكي الرأسمال فقط، أما بقية الشعب فراح يعيش حالات من الاستلاب السياسي والاقتصادي والثقافي، إضافة إلى تصدع البنية الاجتماعيّة بكل مكوناتها والتوجه نحو الفردانيّة وتشييىء الإنسان وتسليعه وتغريبه.

تحت مظلة هذا النظام الرأسمالي الذي أخذ يفصل المنتج عن المالك مرة أخرى، ازدادت هوة الاغتراب بين المنتج وإنتاجه، الأمر الذي تحولت فيه الحريّة إلى قيد بدلا من أن تكون وكما وعدت بها هذه الطبقة الرأسماليّة عند نشوئها ووصولها إلى السلطة سلاحا لتحقيق كرامة الإنسان، وتحقيق إبداعاته واثبات ذاته.

نقول: أمام كل هذه المعطيات جاء من يدعو إلى بناء أنموذج جديد للمجتمع المدني ودولة القانون، وذلك عبر ربط الحريّة الاجتماعيّة بالحريّة الاقتصاديّة و السياسيّة، وهذا هو الأنموذج الاشتراكي.

إن أنموذج المجتمع المدني في الدولة الاشتراكيّة، هو المجتمع اللاطبقي الذي يهدف إلى تحقيق حالة الانسجام ما بين الدولة والمجتمع عبر الفسح في المجال واسعا للجماهير كي تشارك في معظم القرارات التي تهم حياتها ومستقبلها، وذلك من خلال منظماتها الشعبيّة ونقاباتها واتحاداتها وكل الهيئات الحزبيّة الأخرى التي تعمل لمصلحة المجتمع.

أما الوسائل والأساليب التي يمكن أن تستخدم لتحقيق هذا الأنموذج فيمكننا حصرها وفقا لرؤية المفكر (غرامشي) في اتجاهين هما:

الأول: ويأتي عبر السيطرة العسكريّة أو شبه العسكريّة على الدولة، أيأخذ الدولة دورها كقوة في فرض أنموذج الدولة والمجتمع المدنيين، أي العمل من خلالها – أي الدولة - على إعادة هيكلة مؤسساتها وقوانينها وفق طموحات ومصالح وأهداف الحوامل الاجتماعيّة القائدة لهذه الثورة الاشتراكيّة، وغالبا ما تأتي شعارات ومصالح هذه الحوامل عند بدء الثورة منسجمة مع طموحات ومصالح الجماهير الكادحة، أو المضطهدة عموما.

الثاني: ويأتي عبر السيطرة الأيديولوجيّة والثقافيّة عموما، وهذا التوجه يأتي معبرا بل مرتبطا بنشاط مايسمى – حصرا - بالمجتمع المدني ومؤسساته.

يقول غرامشي في هذا الاتجاه: يمكن لدعاة الاشتراكيّة أن يعملوا على تطبيقها تحت ظل سيطرة النظام الرأسمالي الاحتكاري انطلاقا من تأسيس مؤسسات المجتمع المدني. أي الانطلاق من المجتمع إلى الدولة وليس العكس. حيث أن هناك دوراً كبيراً للمجتمع المدني و عبر مؤسساته وحوامله (الكيانات الاجتماعيّة التضامنيّة) يمكن أن يلعبه من خلال احتواء (الطليعة المثقفة) لكسب الهيمنة الأيديولوجيّة على الجماهير المعنية في تحقيق المجتمع المدني، ومساعدة الحزب الطليعي الملقى على عاتقه قيادة هذه الجماهير في الخطوة الثانية، وهي السيطرة على الدولة. (1).

هكذا نجد أن غرامشي يدعو إلى تغيير مهام القوى الثوريّة الحاملة للمشروع المدني أو الحداثي هنا، فهي عندما تعجز عن تحقيق هذا المشروع عبر الوصول إلى سلطة الدولة عن طريق الثورة العسكريّة أو شبه العسكريّة، عليها أن تعوّل على الشريحة المثقفة في المجتمع والمؤمنة بتحقيق مشروع الحداثة أو المجتمع المدني لما لهذه الشريحة من دور فاعل في المجال التربوي والإعلامي والثقافي عموما (فالمثقفون العضويون) كما سماهم غرامشي، الملتزمون بقضايا الإنسان ومستقبله هم الأكثر قدرة على التعبئة الاجتماعيّة ونشر وتعميق الوعي للوصول إلى تحقيق هذه المهمة .

الأنموذج الثالث: وهو الأنموذج الذي طرحته الليبراليّة الجديد بعد انهيار المنظومة الاشتراكيّة وتشكل ما سمي "بالنظام العالمي الجديد" الذي راحت تقوده الطبقة الرأسماليّة الاحتكاريّة عبر شركاتها المتعددة الجنسيات. فتحت مظلة هذا النظام بدأت تبرز على الساحة العالميّة جملة من المفاهيم السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي أخذت بدورها تُؤدلج وتُطرح في نطاق ما سمي بنظرية "الطريق الثالث في التنمية"، هذه النظريّة التي بدأ يسوق لها فكريّاً منذ البداية في بريطانية بشكل فاعل على يد كل من (ماركريت تاتشر- وبلير)، ثم راحت تتجلى عمليا فيما بعد على المستويين الأوربي والأمريكي، حيث نجد أن معظم ماجاء من مفاهيم في هذه النظريّة يصب في مضمار توسيع مجالات اقتصاد السوق على النطاق القومي والعالمي، أما على المستوى الوطني، فقد بدأ التسويق لصيغة جديدة من (المجتمع المدني) من خلال منحه بعدا تنمويا، وذلك بغية تخليص الدولة من أعباء تقديم الخدمات للمواطن في مجالات العمل والصحة والتعليم .. الخ، بعد أن كانت هذه الدولة قد تحملت الأعباء الكبيرة في هذا الاتجاه أثناء الحرب الباردة، وهذا ما انعكس سلبا (من حيث الزيادة) على كتلة الضرائب المفروضة على الشركات الرأسماليّة لدعم ميزانيّة الدولة لتأمين حاجات المواطنين، فوجد كباتنة الرأسمال الاحتكاري في مفهوم المجتمع المدني الحديث (التنموي) مجالاً لتحميل المواطن أعباء معيشته والتخفيف عن كاهل الدولة تلك الأعباء من جهة، ثم التخفيف من نسبة الضرائب التي تفرض على هذه الشركات من جهة ثانية. وهذه السياسة أيضا تصب أخيرا في نطاق الخصخصة، والتكيف الهيكلي الداعم لاقتصاد السوق، باعتباره الأنجع للتنمية الاقتصاديّة كما يدعون. أما دور الدولة فقد اقتصر على تهيئة البيئة القانونيّة، والبنية التحتيّة الملائمة لنمو القطاع الخاص باعتباره أداة التنمية الأساس، مع توفير المجال الأوسع بالمشاركة والتنسيق مع منظمات المجتمع المدني في الرعاية الاجتماعيّة للفقراء، كون الدولة انسحبت كما أشرنا عن مهمة تقديم الخدمات الأساسيّة للمواطنين بحكم عمليات الخصخصة والتكيف البنيوي أو الهيكلي لاقتصاد السوق (3).

الإرهاصات الأولية للمجتمع المدني في دول العالم الثالث:

إن من يتابع المقدمات الأوليّة لأشكال المجتمع المدني في دول العالم الثالث ومنه الوطن العربي تاريخيّاً، يجد أن هذه المقدمات كانت في بدايتها ذات طابع أخلاقي وديني، حيث كانت المنظمات (الخيريّة) تعمل على مساعدة الفقراء والمحتاجين، وقد لعبت الجوامع ودور العبادة بشكل عام دورا هاما في هذا الاتجاه، ثم أخذت توجهات المجتمع المدني فيما بعد تعمل على خلق الأجواء المناسبة لهؤلاء الفقراء كي يعتمدوا على أنفسهم بعد أن تؤمن لهم سبل اكتساب المهارات العمليّة والخبرات والتدريب وفرص العمل. أما في المرحلة اللاحقة، فقد راحت منظمات المجتمع المدني تعمل على التأثير في الرأي العام والبنية الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة للمجتمع، بغية تغير الواقع وفقا لرغبة وطموح وأهداف ومكونات ومصادر التمويل لهذه المنظمة أو تلك. وفي السنوات الأخيرة أخذت في الواقع تتزايد حدة نشاط منظمات المجتمع المدني، ويتركز نشاطها في الجوانب السياسيّة أكثر من الجوانب الاجتماعيّة والثقافيّة بغية السماح للموطن بالمشاركة بشكل أوسع في المجال السياسي للبلاد، وفي إدارة شؤون مجتمعه.

بيد أن ما دفع منظمات المجتمع المدني في هذه الدول إلى تصعيد نشاطها السياسي ورفع سقف مطالبها وبخاصة بعد حوادث /11/ أيلول / 2001 / ، فهو ردود فعل الإدارة ألأمريكيّة تجاه العالم الإسلامي ومنه العالم العربي، حيث راحت هذه الإدارة تمارس ضغطها على حكومات هذه الدول من أجل تحقيق إصلاحات في بنيتها الثقافيّة والسياسيّة، وبخاصة في مسألة توسيع الهامش الديمقراطي وحريّة الرأي وإيجاد تحولات في طبيعة الأنظمة السياسيّة، ولم تتوان أمريكا مع أوربا في تقديم كل الدعم السياسي والمادي والمعنوي للقوى والمنظمات التي حملت أو تبنت شعارات التغيير والإصلاح وبخاصة الأيديولوجي والسياسي منه الموافق لمشروع الديمقراطيّة الأمريكية. الأمر الذي أدخل العديد من منظمات المجتمع المدني في مواجهة مباشرة مع الدولة أو القوى الحاكمة في هذه الدولة أو تلك، فأصبحت العلاقة بين الطرفين في نطاق هذه الموجهة علاقة تصادميّة بدلا من أن تكون مدخلا لعلاقة تضامنيّة تصالحيّه تعمل على تنظيم الدولة والمجتمع المدني معا، وخلق الأساس المتين للمواطنة وممارسة الديمقراطيّة.

إن النظر في معطيات المجتمع المدني ودوره وفق هذا التصور يشير إلى أن مشروع المجتمع المدني في معظم تجلياته في هذه المرحلة جاء وكأنه نتاج لمواقف أيديولوجيّة معزولة عن قاعها الاجتماعي، في الوقت الذي هو من نتاج ميدان الوجود الاجتماعي بكل مكوناته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة، وفي حالة تفاعل هذه المكونات. أي هو نتاج ميدان المجال الحيوي لنشاط الإنسان (الفرد والمجتمع) أثناء أنتاج الخيرات الماديّة والمعنويّة تاريخيّا، وليس نتاج مواقف إراديّة أو ذاتيّه تحركها رؤى فكريّة أو سياسويّة مفارقة للواقع.

حقيقة، إن القول، بأن المجتمع المدني هو شرط قيام الدولة الديمقراطيّة وضمان ترسيخ الحريات السياسيّة، وحقوق الإنسان المدنيّة وتجسيدها عمليّاً كما يطالب بها دعاة المجتمع المدني بعد حوادث /11/ أيلول / 2001/ ، هو أمر فيه من التبسيط الكثير، وذلك لتجاهله بأن لامضمون للمجتمع المدني خارج نطاق النشاط الحي والفاعل للإنسان داخل الوجود الاجتماعي، وأن الشعارات التي تأتي من خارج محيط هذا الوجود لن تحرك أصغر نبته في الأرض ما لم ترتبط بالممارسة من جهة، وتتوفر لها الظروف الموضوعيّة والذاتيّة المؤهلة لتجسيدها عبر الواقع من جهة ثانية.

لذلك أجد أن الذين يحصرون الدعوة إلى المجتمع المدني في النطاق السياسي فقط، إنما هم يتجاهلون الظروف الموضوعيّة والذاتيّة المؤهلة لاستيعاب هذه الدعوة من جهة، ويدعون للي عنق الواقع كي ينسجم معها من جهة أخرى، فمنظمات المجتمع المدني وفقا لتصورنا والمعطيات التي جئنا عليها أعلاه، هي تنشط في مجالات عدّة، وتحمل رؤى مختلفة ومتباينة لدورها، وتعتمد وسائل عمل وعلاقات مع الجمهور متنوعة من حيث المصالح والاحتياجات والمطامح والرؤى المجتمعية ومصادر التمويل وغير ذلك.

إذن، إن المجتمع المدني في نهاية المطاف ووفق هذا التنوع والاختلاف في التكوين والأهداف والتمويل والطموح والمكونات الاجتماعيّة، يأتي بناء على حالة التكوين المعقد والمركب والمتباين للتشكيلة الاجتماعيّة الاقتصاديّة المحددة بكل بناها ومكوناتها وطبيعة آليّة عمل هذه المكونات ودرجة تقدمها وارتباطاتها الداخليّة والخارجيّة في أي من مجتمع من المجتمعات .

على العموم، نستطيع القول بالنسبة لوطننا العربي لقد كانت هناك إرهاصات أوليّة لحياة ليبراليّة في الجانب الاقتصادي والسياسي في بعض الدول العربي، وكانت هناك بدايات أيضا لنواة مجتمع مدني في صيغته الليبراليّة في كل من سورية ومصر منذ بداية الخمسينيات، ثم في تونس والمغرب بعد هذه الفترة كما يقول (محمد عابد الجابري)،(2). بيد أن هذه البدايات قد حوربت من قبل الغرب الاستعماري ولم تلق منه الرعاية والاهتمام، لقد شكلت هذه البدايات نقطة انطلاق آنذاك لحركات وطنية شعر الغرب أن نشاطها الاقتصادي سيهدد مصالحه إذا ما نما وتطور، لذلك ضيق الخناق عليها كما أشرنا أعلاه وبخاصة تلك التي كانت تبشر بالتصنيع والإصلاح الزراعي، والتي يمكن أن تؤسس لمجتمع مدني، الأمر الذي دفع الغرب إلى تبني قوى سياسيّة إما ذات توجهات انقلابيّة عسكريّة ودفعها إلى تحريك الانقلابات العسكريّة باستمرار لزعزعة الوضع القائم في المجتمع وخلق عدم الاستقرار، كما جرى في سورية أيام (حسني الزعيم والشيشكلي والحناوي) على سبيل المثال لا الحصر، أو السعي لجلب قيادات تقليديّة ذات توجهات أو مرجعيات عشائريّة أو قبليّة أو طائفيّة كما هو سائد الآن في العديد من الأقطار العربية، وكذا الحال كان مع بعض القوى العسكريّة الوطنيّة التي استطاعت الوصول إلى السلطة عن طريق الانقلابات العسكريّة أو شبه العسكريّة بمساندة جماهيريّة، والتي كانت تطمح لتطوير مجتمعاتها ، (مصر عبر الناصر) على سبيل المثال لاالحصر أيضا، إذ راح كل من الغرب وأمريكا يعملان على إجهاض هذه الحركات وإسقاطها، تارة عن طريق محاصرتها اقتصاديّاُ وسياسيّاً، وتارة عن طريق الاحتلال المباشر، وتارة عن طريق تبني قوى سياسيّة محليّة أو مهاجرة أخذت من شعارات المجتمع المدني (الديمقراطيّة ، وحقوق الإنسان ، ودولة القانون ... الخ) حصان طروادة لتهديد هذه الأنظمة التي ترفض الخضوع لرغبات ومصالح الرأسمال الاحتكاري العالمي، في الوقت الذي نجد فيه أنظمة عربيّة تفتقد حتى إلى وجود دستور وضعي للبلاد تعتبر ديمقراطيّة، ويقدم لها كل الدعم من أجل بقائها واستمرارها في الحكم.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

.............................

الهوامش:

1- للاستزادة في معرفة موقف غرامش عن المجتمع المدني – يرجع "موقع الأخبار" - غرامشي: (المجتمع المدني، الهيمنة الثقافية، المثقف الجماعي) - جوزف عبدالله الأربعاء.

2- مساءلة مفهوم "المجتمع المدني"!- محمد عابد الجابري. راجع موقع:

(http://www.aljabriabed.net/maj22societecivile.htm

3- حول الطريق الثالث في التنمية وتجليات مفهوم المجتمع المدني، راجع مجلة النهج - إصدار مركز الدراسات الاشتراكية في العالم العربي – دمشق – العدد 17- شتاء 1999- دراسة الكاتب والمفكر (سيد ياسين) – بعنوان " العولمة والطريق الثالث" ص 56 وما بعد

مهمة الباحثين بالفلسفة مراجعة ونقد افكار الفلاسفة وليس مهمتهم الغوص في تفرعات مباحث فلسفة اللغة وتبعاتها في منهجية البناء التجريدي اللغوي المنفصل عن حركة الواقع ومجرى الحياة المتجددة.

بيركلي وقابلية ادراك الوجود

من مقولات جورج بيركلي الفيلسوف المثالي (وجود الشيء هو قابليته ان يكون موضوعا لادراك).ناقشت المقولة في غير هذا المقال سابقا. وتكررت المقولة على لسان جورج مور فوجدت فيها اهمية توضيح ربما فاتني سابقا.

في البدء المادة موضوع للادراك في وجودها المتعيّن بابعاد لا خلاف عليها ضمن عالم الاشياء والطبيعة. ولا تمتلك المادة في وجودها الانطولوجي المستقل قابلية ادراك ذاتية متموضعة فيها تجلب اليها من يدركها (الحس والعقل).

وجود الشيء كموضوع للادراك الحسي والعقلي ليست خاصية موجوديته المادية في كينونة انطولوجية مستقلة تمتلك قابلية الادراك. وليس خاصية امتلاك الموجود صفة ليست له ولا متموضعة تكوينيا فيه تسمى (قابلية الادراك) تجعل منه موضوعا يكافيء الموجود الملازم له كما يذهب له جورج مور.

قابلية الادراك ليست موضوعا بل هي علاقة ترابطية تجمع بين سيرورة قائمة بين موضوع من جهة والوعي بالموضوع من جهة اخرى. ولا يمكن ان تتحول الصفة الكيفية قابلية الادراك الى موضوع لادراك حسّي او عقلي كمثل إدراك وجود الشيء المادي في واقعيته الكينونية ضمن عالم. السيرورة ونقصد بها هنا قابلية الادراك هي علاقة متغيرة لا تصلح ان تكون موضوعا ثابتا لادراك حسي – عقلي.

نقطة اخرى خاصية قابلية الادراك هي خاصية الحس والعقل فقط وليست خاصية تلازم المادة لا في ثباتها ولا في انتقالاتها كي يتم ادراكها وتصبح موضوعا يثبت موجوديته. وهي خاصية فعالة ايجابية في عملية الادراك العقلي وليس في المادة والاشياء ., ولو افترضنا خطأ أن خاصّية قابلية الادراك موجودة في تكوينات الموجودات الشيئية المادية بالفطرة الطبيعية والتكوينية الموجودية للمادة لكانت صفة ذاتية سلبية تستمد قيمتها من الموجود الشيئي التي هي جزءا متموضعا فيه وليس أهميتها في مرجعية إدراكها كموضوع مستقل لإدراك افتراضي يكون خارج إدراك الحس والعقل للموجود الشيئي في كينونته التامة الذي لا تنتسب له قابلية الادراك التي هي من خصائص الحس والعقل.

النقطة الاخرى من الذي يحدد ان يكون الموجود المادي أو أي شيء موضوعا لادراك؟ هل يحدد موضوعيته مضمونه المادي فيه ام يحدده شكله (الصفات الخارجية) المدركة له؟. نحن علينا قبل الاجابة عن التساؤل ضرورة التفريق بين الشيء كموجود مادي تدركه الحواس والعقل كمتعيّن انطولوجي بابعاد مادية بديهية وهو ما يهمنا هنا. والتفريق بين الموضوع الذي هو من تخليق العقل (خياليا) وليس موضوعا ادراكيا ماديا. وهذا الموضوع الخيالي الذي يبتدعه الخيال لا يتحول الى موجود مادي بل يعبّر عنه العقل بتجريد لغوي تعبيري تصوري غير موجود في عالم الواقع غير الافتراضي.

وتعبير اللغة التجريدي لا يخلق المادة ولا المواضيع في واقعيتها الانطولوجية الا بالاستعانة بتقنية آلية تصنيعية تتوسط بين تنظير الخيال بوسيلة لغوية وموضوعه كي تحوله الى واقع يدركه الوعي كما هو الحال في السينما او المسرح او الفنون وضروب الاجناس الادبية. فاللغة التخيلية المكتوبة لا تتحول فيها الاحداث والوقائع الى عالم مادي ما لم تتوسطه آلية تقنية تنجز تلك المهمة.

بالعودة الى السؤال هل الصفات الخارجية للموجودات المادية تجعل منها موضوعا تدركه الحواس ويتمّثله العقل. وهذه الصفات الخارجية تجعل من المدركات العقلية مواضيع لها صفات مادية. هذا يدخلنا في تساؤل اجدى منه  كيف لنا حل معضلة علاقة الصفات الخارجية للاشياء او اشكالها المادية الموجودية مع الجوهر او الماهية التي يقول بها فلاسفة ماديون وفلاسفة مثاليون بوجهات نظر فلسفية مختلفة نعرض بعضها:

الفلاسفة الماديون وأبرزهم فلاسفة الماركسية وفلاسفة الوجودية يقولون ان ادراك الشيء في موجوديته الواقعية الكليّة كاف لأن يكون ادراك ذلك الشيء كاملا لكينونة مادية مستقلة الوجود. ولا يؤمنون بوجوب تقسيم كل موجود مدرك الى شكل هي صفاته الخارجية والى مضمون يدّخره داخله ليس من المؤكد إثبات موجوديته في المواضيع التي ندركها خارجيا بصفاتها ولا حاجة ضرورية لمعرفة هل تخفي مضامين جوهرية او ماهيات هي غير صفاتها الخارجية بداخلها ام لا..؟

الفلاسفة المثاليون من امثال ديكارت وكانط وبيركلي وديفيد هيوم وجون لوك يؤمنون بوجود ماهية او جوهر في كل شيء. لكن يجدون من العبث صرف الاهتمام عن اهمية اسبقية كيف نعرف الوجود موجود من عدم وجوده قبل الدخول بتفرعات جانبية في تجزئة الموجود إدراكيا الى شكل ومضمون او الى صفات وجوهر.

فلاسفة آخرون يتعاطف معهم الماركسيون والوجوديون قالوا لا توجد جواهر داخل الاشياء موجودة محتجبة خلف الصفات الخارجية لها التي هي الجوهر مثال ذلك الحيوانات هي بلا جواهر تميزها عن الصفات الخارجية لها. فصفاتها الخارجية هي جواهرها.

بعض الفلاسفة ذهبوا الى ان جوهر الشيء يسبق صفاته التكوينية الخارجية مثال ذلك ان النجار وقتما يصنع الكرسي يعرف ماهيته انه مقعد للجلوس عليه قبل ان يصنع مكوناته الشكلية ومن اي المواد يصنعه. وهذا يخلخل المقولة الفلسفية القارة في الماركسية والوجودية ان وجود الشيء يسبق ماهيته اولا بالمطلق.

عندما اجمعت الفلسفة الوجودية بزعامة هوسرل ابو الظاهراتية(الفينامينالوجيا) نقلا عن كانط قوله يمكننا تقسيم الوجود المدرك الى (نومين) بذاته غير مدرك والى (فينومين) لاجل ذاته ندركه كموضوع في ادراكنا صفاته الخارجية فقط ولا ندرك جوهره. وحين سئل كانط كيف تسنى لك اثبات امتلاك الموجودات جواهر او ماهيات لا ندركها لا بالحس الاولي ولا بالوعي العقلي بعديا تحتجب خلف صفات الموجودات الخارجية؟ كانت إجابته في وجوب التغاضي عن الجواهر واهمالها وعدم جدوى البحث بها واعتبارها من قضايا الميتافيزيقا العصيّة على ان تكون موضوعا ادراكيا للعقل والاكتفاء بادراك الصفات الخارجية فقط.. على خلاف فريد بتاريخ الفلسفة قال اسبينوزا بدلالة اسبقية الجوهر على الموجود ندرك الوجود.

امام هذه الاشكالية كانت الريادة مع سارتر في مقولتين اوقفتا الفلسفة على راسها بدلا من قدميها . مقولته الاولى (جوهر الانسان الحقيقي انه بلا جوهر) ومقولته الثانية (جوهر الانسان تخليق ذاتي يصنعه الانسان بنفسه لحظة يولد ونهايته بالموت ) ولا يستقبل الانسان جوهره لا معطى يلازم وجوده الكينوني ولا جوهر مكتسب  بالفطرة كموروث. (سبق لي في مقال غيرهذا مناقشتي وتوضيحي للمقولتين).

ليس من خاصية الادراك كوسيلة ان يتخلق عنها قيصريا مولودا يكون موضوعا لموجود خارج مدركه المادي. ولا ان يكون مضمونا منفصلا عن موجوديته غير مدرك حسب افتراضية جورج مور. ان يكون مضمون الشيء المدرك موضوعا مدركا منفصلا عن ذلك الشيء معناه لا يبقى لدينا كينونة موجودية يدركها العقل. الادراك لا يتجزأ في عملية إدراكه لموضوعه كما الموجود المدرك لا يتجزأ نتيجة إدراكه الى شكل ومحتوى منفصلين في استحالة تلغي حقيقة انهما  متلازمين..

وخلاصة القول ان مقولة لماذا لا يكون مضمون الشيء منفصلا عن قابلية ادراكه التي يمتلكها الموجود المادي الشيئي؟ مقولة خاطئة وفرضية تعسفية تحاول وضع العربة امام الحصان لاسباب اوضحتها سابقا واوجزها بكلمات:

اولا قابلية الادراك هي كيفية وسيرورة تجمع بين المادة وادراكها كما هي وسيلة معرفية لا تمتلكها المدركات لاتموضعا ماديا فيها ولا تجريدا تعبيريا يصدر عنها. بل يمتلكها الحس والوعي العقلي لها فقط.

ثانيا مضمون الشيء لا يكون موضوعا لادراك قائم لوحده منفصلا عن موجوديته المادية الموحدة شكلا ومحتوى. المضمون يحتاج دائما لشكل يحتويه وبغير هذه الملازمة لا يمكننا تصور مضمون بلا شكل يحتويه. كما ولا يمكننا تصور شكلا خاليا من مضمون او محتوى دلالي عليه كما في مثال الرسوم الهندسية المجردة فالخطوط التي يتشكل منها الشكل الهندسي تحدد مضمونه الهندسي الذي ندركه للوهلة الاولى فارغا ما عدا محدداته المستقيمة. في أن يكون دلالة على مثلث او مستطيل او دائرة وهكذا. اي ان ابعاد اشكال الخطوط الهندسية المجردة اعطت للحيّز المكاني الذي احتوته مضمونا متفردا هندسيا. المثلث نقصده ادراكيا بالتسمية على اساس خطوطه الثلاث ونحن لا ندرك من الوهلة الاولى الادراكية ان للمثلث ثلاثة زوايا مقدارها 180 درجة احدها زاوية قائمة الا بمعرفة مضمون المثلث واستعمالاته وليس في ادركنا شكله التخطيطي كخطوط مجردة.

ثالثا الادراك لا يجزيء موضوع ادراكه الى شكل هو الصفات الخارجية والى مضمون او محتوى هو جوهره وماهيته. فالادراك هو وعي كينونة الشيء الموحد في كليته الكينونية الموجودية البائنة للادراك. ويكون معنا اعجاز عقلي ادراكي ان نتصور مضمونا لا يحتويه شكل يدركه العقل. وبالعكس ايضا استحالة ادراكية ان تجد شكلا مجردا بلا مضمون يحتويه يمكن للعقل ادراكه كموضوع.

***

علي محمد اليوسف

 

في المثقف اليوم