أقلام فكرية
علي محمد اليوسف: قراءة في النقد الفلسفي
تمهيد: سادت بين هيجل وشوبنهاور علاقة عداوة وبغضاء كان الخاسر الاكبر فيها شوبنهاور في عدم إمكانيته مجاراة خصمه اللدود هيجل، وأخذ شوبنهور إستفزاز هيجل في الجامعة في محاولته تأليب الطلبة عليه في جعله توقيتات محاضراته هي في نفس مواقيت محاضرات هيجل، في مسعى تأكيد فرادته العبقرية الفلسفية وفشل بمسعاه، وأصدر كتابه الشهير (العالم إرادة وتمّثل) أراد التفلسف به، فلم يلق الكتاب أدنى إهتمام لا يستحقه أصلا إلا بعد مرور فترة طويلة من رد ألاعتبار له. وفي هذه المقالة أستكمل مناقشة بعض آراء فيلسوف الارادة شوبنهور، بعد أن تناولته بمقالة سابقة نشرت لي بعنوان (فلسفة شوبنهاور وبؤس الإرادة).
هيجل والمطلق
عندما يقول هيجل الفن والجميل هو الوجود الحسّي في المطلق. نجد كم كان هيجل عميقا في أفكاره الفلسفية الثاقبة رغم نزعته المثالية، فهو يعتبر العقل هو الروح المطلقة أو الفكرة المطلقة في إدراكها المتناهي محاولة الوصول لمرحلة أدراكها المطلق اللامتناهي، إذ يعتبر هيجل المطلق ليس مفهوما ميتافيزيقيا متواريا خلف محدودية إدراك العقل البشري أن يطاله. بل المطلق هو فكرة لا محدودة ولا متناهية في إدراكها موجودات الطبيعة بنفس آلية ممكنات إدراكها ما هو غير مادي ولا متعّين لا يدرك بالحدس الحسّي المباشر.
ولا فرق عند هيجل بين محدودية الإدراك الذاتي عن إدراك فكرة المطلق الذي لا يعتمده هيجل ولا يتعامل معه ميتافيزيقيا. ويبدو من فلسفة هيجل أنه لا يتنكر لوجهة النظر الفلسفية التي ترى الانسان وجودا وجوهرا ميتافيزيقيا لا يمكن نزعها ولا مصادرتها منه.
المطلق المدرك عقليا حسب الفهم الهيجلي هو الإمكانية غير المحدودة في إدراكها اللامتناهي في تفعيل الخيال بدلالة العقل في محاولة الوصول الى مابعد اللغة والتعالي على محدودية الادراك الحسي. وضرب هيجل مثلا على ذلك الفن والجمال بمقولته الفلسفية " أنّه الوجود الحسّي في المطلق" بمعنى الوجود الحسّي هو إدراك ذاتي ليس غايته إثبات وجود الذات الانطولوجي بالمغايرة المادية أو غير المادية الخيالية، بل هو إدراك مطلق الوجود ورغبة وصول إدراك (الانا) تخوم ما يعجز بلوغه العقل في محدوديته الإدراكية خارج بلوغ فكرة المطلق والوصول له بالعقل الخيالي لا بغيره الذي يعبر المتّعينات الكينونية التي تحّد من إنطلاقة الحس الإدراكي المحدود أنطولوجيا. فالمتصّور الخيالي للمطلق هو تحقق وجود العقل في إدراكه ألاشياء بالطبيعة وفي والكوني معا.
من المعلوم جيدا أن الوجود الحسّي لمدركات الوجود هو متناه محدود لا يتجاوز قدرة إستيعاب منظومة العقل الإدراكية للاشياء خارج أبعادها في محدودية الإدراك الحسّي لها.، وبهذه المحدودية للعقل حسّيا لا يمكنه بلوغ ما هو مطلق لا متناهي الوجود. من حيث الوجود الحسّي بحكم محدوديته الإدراكية فهو لا يأخذ منتهى مداه في فضاء اللانهائي المطلق. ولا يأخذ الوجود الحسّي منتهى إدراكه في تحققه الوجودي من غير التحليق خارج محدوديته التي تسلبه قدرة الوصول لفضاء إدراكي لامحدود.
أي حين يكون الوجود الحسّي مطلقا وجوديا لا يكون ذلك ولا يتحقق إلا في ممارسة التحليق والانطلاق خارج محدوديته الإدراكية موجودات أنطولوجية محسوسة. وبهذا تكون مقولة إسبينوزا الذي تعامل معها هيجل بمنهج إدراكيّ مفتوح تماما على جعل المطلق ممكنا حدسيا تلك هي مقولة (أن كل تحديد هو سلب)، المقولة التي تؤكد محدودية الشيء تكون سلبا في الإبقاء على بعض الصفات الإدراكية في كينونة حبيسة الإدراك المحدود على حساب تغييب جميع الصفات الايجابية التي يغتالها الوجود المحدود الذي هو سلب لا يتعايش مع الإيجاب من الصفات التي يلغيها التحديد بإعتباره سلبا. ولا يدخلان صفات السلب التي كرّستها المحدودية مع صفات الايجاب التي نزعتها نفس المحدودية من انطولوجيا الشيء المدرك في تضاد جدلي متجانس الخواص الطبيعية ليكون مبعث إستحداث حالة مستجدة..
الذات التي هي التعبير المادي لمعنى الوجود الحسّي لا يمكنها الخلاص من سجن وتقييد محدوية الوجود الإدراكي إلا عبر وسيلة التموضع في كل ماهو جميل وفي مختلف ضروب الفنون. الفنون والجمال هي مطلق وجودي إتخذ صفة الشكل والمحتوى المتعيّن إدراكيا بينما هو في حقيقته تجسيد لبلوغ الذات مراتب من تحقيق المطلق اللامتناهي غير المحدود الذي يتجاوز الحسّي الجمالي في محاولة الوصول لكل ماهو مطلق لم يدركه المحدود وجودا.
كل جميل وفن هو خلاص ناجز ل (أنا) من محدودية التعيّن الوجودي لها في بلوغها فضاءا مطلقا تحتويه ذات المتلقي التي تلازم كل معطى جمالي في الطبيعة أو مصنوعا في الفن...علما أن هيجل يعتبر الجمال الفني الابداعي المصنوع أرقى وأسمى يتجاوز المعطى الجمالي الإعجازي في نظام الطبيعة وتكويناتها التي غالبا ما تكون عابرة للخيال الفني والجمالي المصنوع.
الجمال بالفهم الهيجلي الإبداعي المصنوع ليس في محاكاة جمال الطبيعة حسب الافلاطونية القديمة، بل في الخروج على جميع تلك المواضعات المستمدة من الطبيعة، وفلسفة هيجل في خروج الجمال الفني على مواضعات جمال الطبيعة أنتجت بمرور الزمان مدارس فن التجريد الحديث. كما في أعمال كاندسكي وبراك وبيكاسو وسلفادور دالي وغيرهم.
ونستطيع القول أن هيجل بإعتباره الفن الابداعي المصنوع متجاوزا في أصالته وليس في جماليته المجردة، روح الطببيعة في إنفتاحها الفضائي غير المحدود.
هيجل إعتبر النظام الجمالي الإعجازي في الطبيعة، هو إعجازإيماني كما إعتمده سبينوزا في مذهب وحدة الوجود، الذي كان اسبينوزا يعتبر هذا الاعجاز هو الجوهر الذي يقوم عليه صانع أكبر وأكثر إفصاحا شموليا هو وجود الخالق كجوهر تعرف بدلالته الطبيعة والوجود. سبينوزا قلب مفهوم الجوهر الذي يعرف بدلالة الوجود الى أن الوجود يدرك بدلالة الجوهر.
هيجل أراد فهم مذهب وحدة الوجود فلسفيا لا دينيا ليس بدلالة الإعجاز في نظام الطبيعة كجوهر إيماني ديني بل كجوهر (مثالي) لا يكون جوهر الخالق دلالة الإعجاز فيه بل الجوهر الحقيقي في مطلق لا نهائي يدركه العقل.
الشيء الذي نستطيع البناء عليه هنا أن الطبيعة في إدراكها الحسّي هي معطى محدود بإمكانية إدراكه، بمعنى كل جمال الطبيعة في حقيقته هو سلب محدود الصفات يفقد قيمته بالتقادم الزمني خلاف الفن المصنوع الذي هو نزوع نحو بلوغ مطلق يتجدد بالاضافة واستمرار التراكم الكمي والنوعي عليه. جمال الطبيعة هو جمال إعجازي متآكل لعدم قابليته تقبّل الإضافة عليه ولا قابلية الطبيعة تجديد جمالها الإعجازي ذاتيا. جمال الطبيعة مكتف ذاتيا وثباته محكوم في محدودية السلب الادراكية لذا يكون الابداع الفني المصنوع يبقى تراكما فنيا مصنوعا عرضة دائمية في تقبّله الاضافة التجديدية النوعية عليه.. جمال الطبيعة الاعجازي يصبح ثباتا سلبيا في محدوديته الادراكية وفي تقادم الزمن عليه.
مثال ذلك اللوحة الجميلة هي وجود متعيّن وصل مراحل مطلق الوجود بدلالة ذات إدراكية تستوعبه وتتموضع ذاتيا حسّيا ونفسيا فيه خارج محدودية متعيّن اللوحة التي يشاهدها ويتأملها المتلقي بمشاعرإدراكية عابرة لمحدودية وجودها الحسّي بفهم غير متموضع في تشكيل اللوحة أو المنجز الإبداعي الجمالي التقني الفني المصنوع.
كل لوحة فنية أو متعيّن جمالي هي ذات تريد تجاوز محدوديتها الادراكية الفنية لتكون بالنسبة للمتلقي وجودا حسّيا مدركا في فضاء مطلق غير محدود. لذا نجد تأثير شيلنغ بنزعته الرومانسية، وهولدرين الشاعر الالماني الذي تقمّص حالة الجنون في محاولته كسر وجوده المحدود نحو تحقيق مرتبة متقدمة في التعالي الروحي على طريق بلوغ الوجود الحسّي في المطلق شعريا.
كان تأثير تجربة الشاعر هولدرين الفريدة هذه بعد أن تمكن منه الجنون تماما كبيرا على هيجل ومن قبله نيتشة وعلى هيدجر وفوكو فيما بعد. لقد ردد نيتشة عبارات عن الجنون متاثرا بجنون هولدرين وهو طريح الفراش في مرضه من أن حقيقة وجودنا أن نكون في قلب الجنون، وأن الجنون حقيقة وجودنا المتفق عليه مجتمعيا، وغيرها من عبارات تعتبر واقعنا المعيش وهما زائفا لا معنى له ربما يكون عالم الجنون أكثر معيارية إنسانية مغيّبة من عالمنا الذي نعيشه كوهم زائف إعتدنا عليه رغم حقيقته الاستلابية التي ينتزعها من الفرد والمجموع.
نيتشة في إنبهاره بتجربة هولدرين في تقمّصه حالة الجنون ليكون مجنونا إجتماعيا وعاقلا فيلسوفا في بحثه عن الخلاص شعريا في تجربة واقع يدركه المجنون ولا يستطيع إختباره العاقل...ما دعى نيتشة يؤمن أن عالم الجنون أكثرأصالة واقعية عقلية وصدقية من عالمنا الذي ندّعيه حقيقيا وفيه الزيف ينخره ويحكمه كل سيء وغير انساني ليتقوّض عالمنا الزائف باستمرار ألإنحدار.
شوبنهاور والمادة
حين أراد شوبنهاور قلب النزعة المادية، عمد الى الآلية الكلاسيكية المثالية في تغليب أسبقية الفكر على أسبقية المادة في محاولة توكيد فرضية إدراك الذات تسبق الوجود المادي. وعبّر عن ذلك قوله " الفيلسوف المادي يذهب بعيدا بالخطأ أن هذا العالم الخارجي هو العالم الحقيقي، ويتخيّل بصورة زائفة أن الذات التي تعرف والإرادة هما نتاج المادة، بدلا أن يفهم بصورة صحيحة أن العالم الخارجي ليس سوى تمّثل بالنسبة لذات تدين بأصلها للارادة أيضا"1.
تعقيب توضيحي
- الذات في وعيها الوجود إدراكيا لا تخلق المادة ولا تخلق أي موجود مادي بالعالم الخارجي يكون موضوع تحقق وجودها الحسّي، في محدودية ومطلق الإدراك الذي هو تجريد تصوري لغوي أخذ تموضعه في ادراكاته ليس فقط من أجل تحقيق وعي وجود الذات المدركة ، وإنما من أجل معرفة ماهيّة ما تدركه الذات من مواضيع وأشياء.
- الذات خاصّيتها الأساسية أنها تجريد يتموضع في كل الموجودات المدركة وتعي ذاتيتها تماما وتدرك الوجود من حولها ، لكنها تبقى عاجزة أن تخلق وجودا ماديا لشيء إستوفى وجوده الإدراكي تجريديا من وعي الذات.
إدراك شيء موجود باستقلالية في العالم الخارجي لا يكون موجودا في خلق الذات الادراكية المجردة لوجوده، بل الإدراك في مسعى الذات معرفته تكون من خلال علاقة تجريد إدراكي منفصلة عن الشيء المدرك كمادة.
- تموضع اللغة الإدراكية بموضوع إدراكها لا يجعل منها تكوينا ماديا ملحقا بموضوعها، ولا تخلق موضوعا مستقلا آخر نتيجة إدراكها. ماهيّة الفكر الإدراكي التجريدية لا يمكن أن تكون وتتحول في جدلية إدراكها ألمادة أن يتحول الفكر الإدراكي الى تموضع مادي يدخل تكوينه ويغادر خاصّيته التجريدية.
- تموضع الذات في المادة لا يجعل منها مادة مدركة حسّيا من غيرها كما تدرك الذات المادة في وجودها المادي المستقل في العالم الخارجي والطبيعة. الذات تبقى تجريدا إدراكيا في حال تموضعها الإدراكي في الاشياء أو في حال وعيها لذاتها وللعالم الخارجي.
- العالم الخارجي هو مصدر الإدراك ليس بسبب موجوداته المادية المتعينة إدراكيا، فعالم المخّيلة والذاكرة أيضا يكون مصدرا لإدراكات مواضيع لا حصر لها غير مادية ولا واقعية بل خيالية. ورغم تجريديته الخيالية يبقى موضوعا لإدراك يتناوله.
وإدراك الذات للعالم الخارجي لا يعني إمكانية الذات إستيلاد عالما ماديّا آخر إمتدادا له من الناحية المادية بل تبقى ذاتا منفصلة تحمل إستقلالية تامة عن موضوع إدراكها تتوخى معرفته على مستوى تعبير الفكرواللغة عنه فقط. فالإدراك العقلي غير محايد بل هو عامل جدلي لا يتوقف ولا ينتهي لكنه يبقى الإدراك جوهرا تجريديا مصدره المادة ولا ينوب هو عن المادة وجودا. ومثلما لا يحوّل الإدراك المادة الى فكر كذلك يتعذر أن تؤثر المادة بالفكر وتحويله الى مادة. العلاقة الجدلية بين الفكر والمادة هي علاقة تنتج حالة من الوجود الثالث المستحدث جدليا دونما فقدان خصائص كلا من الفكر كتجريد والمادة كوجود مادي مستقل غير عاقل.
- المادة لا تنتج أفكارا تجريدية مباشرة عنها، بل المادة في جميع تشّكلاتها وتنوعاتها وتجليّاتها إنما هي موجودات مستقلة باعثة إلادراك والتفكير بها ، والذات المدركة هي التي تنتج الافكار وليس المادة في وجودها المستقل في العالم الخارجي كما يعبّر شوبنهاور.
- الوجود المادي للاشياء في العالم الخارجي لا يعطي الإدراك أفكاره، بل المادة تكون مصدر أفكار الإدراك عن تلك المادة ويبقى الإدراك هو الإحساسات التصوّرية والتمّثلات التي تجعل من المادة موجودا يستحق الإهتمام. يبقى الإدراك تفكيرا حسّيا وتبقى المادة موجودا غير إدراكي ولا يستطيع التعبير عن نفسه.
- ماينتج عن الذات المدركة للاشياء بمغايرة صفاتية وماهوية ماديّة عنها، ليست تصورات زائفة لعالم غير حقيقي، الذات لا تكون إدراكا حقيقيا كما يرغب شوبنهور في انتاجها لعالم من التمّثلات والتصوّرات التي لا تشاكل عالم الإدراك الخارجي في وعي نعيشه حينما تكون إدراكات ذلك الوعي لا تمّثل العالم الخفي المحتجب خلف الصفات للعالم الخارجي الذي ندركه كما يرى شوبنهاور، عندها نكون بحاجة حفاظا على الإدراك العقلي أن لا يكون إنفصاما مرضيا أن نضع معايير ماهو الواقع الحقيقي الذي يمكننا إعتماده في علاقته بالذات المدركة التي أصلها إرادة كما يصفها شوبنهاور حين يكون إدراكها العالم الذي تعيشه زائفا غير حقيقي.
الفرق بين العالم المادي الحقيقي هو أنه موجودات يدركها العقل ولا تخلق وجودها الارادة، والعالم الذي يكون رديفا محايثا لعالم الواقع هو من صنع إدراك ذاتي لا يكون بالضرورة هو أفضل من عالمنا الذي نعيشه وتحكمه قوانين ثابتة.
شوبنهاور والزمان
يعبّر شوبنهاور عن علاقتنا الوجودية بالزمان على النحو التالي " إذا نحن تفحصّنا بصورة نقدية مكونات العالم الخارجي، أنظر مثلا الى الزمان ستجد كل ما يقع في العالم الخارجي يحدث في الزمان. أما الزمان فهو لا شيء سوى التعاقب، أنظر الى المكان ستجد لا شيء سوى أنه إمكانية التحديد المتبادل لأجزاء بعضها ببعض في مواضعها الخاصة، ويمكن تصور الزمان والمكان بغض النظر عن المادة، بينما لا يمكن تصور المادة بغض النظر عن الزمان والمكان"2 .
تعقيب توضيحي
- ما هو الجديد المترتب على تعبير شوبنهاور "ستجد كل ما يحدث بالعالم يحدث بالزمان " ؟ الزمان إدراك مادي للعالم الخارجي، وليس الزمان وعاءا يحتوي موجودات العالم الخارجي كما تحتوي القربة الماء بل يلازمها بالمزامنة معها. الزمان ليس فراغا يحتوي الطبيعة وموجودات العالم، بل الزمان هو إدراك بدلالة غيره ومن غيره لا قيمة ولا فاعلية لقالبي الادراك الزمان والمكان اللذين قال بهما كانط.
- هذا العالم ندركه ماديا بدلالة الزمان - المكان ولا ندرك الزمان تجريدا منفردا إلا بدلالة مقدار حركة الموجودات مكانيا فقط. المكان ليس مدركا ماديا لا يداخله الزمان وجودا. فالمكان في كل تحولاته وإنتقالاته الحركية هو إدراك زماني. وحين أضاف انشتاين الزمن بعدا رابعا للمادة، إنما يكون تعليل ذلك المهم من الناحية الفيزيائية العلمية إثبات حقيقة أنه لا يمكن إدراكنا المادة مكانيا مجرّدة عن زمانيتها.
كل مادة أبعادها الانطولوجية ثلاث هي الطول والعرض والارتفاع. لكنما بعد إضافة أنشتاين الزمن كبعد رابع للمادة فهو بذلك يؤكد إستحالة إدراك المادة بأبعادها الثلاث الطول والعرض والارتفاع مجردة من بعدها الرابع الزمن الذي هو غير مادي ولا يدخل في تكوين المادة بل هو (إدراك) تجريدي للعقل لا يقوم إلا في تزامن زماني للمكان.
- الزمان هو حركة قياس مقدار حركة جسم وليس تعاقبات متتالية في رصدها الوجود المكاني كما عبّر عنه شوبنهاور. عندما نقول مكان يعني أننا ندرك موجودا (زمكانيا) لا يمكن الفصل بينهما. الزمان وحدة كلية تداخل كل شيء مكانيا حين نقول شجرة ، منضدة فنحن نقصد إدركنا شيئا معيّنا يداخله المكان والزمان معا. الزمان لا يدرك من غير دلالة وجود أو حركة مكانية. والمكان يدرك ماديّا بدلالة زمان غير مادي يداخل وجوده المكاني بالحركة.
بالعودة الى تعبير شوبنهاور بدلالة ماذا يتاح لنا إدراك الزمكان لوجود الشيء؟ حسب تعبير شوبنهاور " يمكننا إدراك الزمان والمكان بغض النظر عن المادة ، بينما لا يمكن تصور المادة من دونهما " الشطر الثاني من العبارة لا يمكننا إدراك الزمان والمكان من دون المادة صحيحا.
ويبقى التساؤل (الساذج) المشروع بدلالة ماذا ندرك الزمان والمكان بغياب الإدراك المادي الحركي للاشياء،؟ حين يقول شوبنهاور" يمكننا إدراك الزمان والمكان بغض النظر عن المادة" كيف نفهم الزمكان تجريدان ندركهما بدلالة لا شيء مادي؟ الزمان والمكان إدراك مادي وليسا تجريدين لامعنى لهما ولا نستطيع إدراكهما لا منفصلين ولا متحّدين بغير دلالة تلازم وجود حركة جسم فيهما.
- لا يمكننا حدس ما هو مجرد غير مادي بإدراك لا مادي، بمعنى الإدراك لا يدرك نفسه. بل هو جدل فاعل بين مادة وفكر. الزمان والمكان قالبا إدراك مركوزان بالعقل فطريا بالولادة حسب تعبير كانط، ومن دون قالبي الزمان والمكان يتعّطل إدراك العقل نهائيا. قالبا الزمان والمكان بضوء فلسفة كانط هما قالبان تجريديان محفوظان بالعقل، ومن غير وجود موضوع مادي يدركانه لا قيمة معرفية لهما، ولا قدرة إفصاحية لهما ندركهما بها غير ملازمة وجود المادة لهما كموضوع يدركانه. فقط إرادة شوبنهاور تدرك الزمكان من غيرمقدار حركة مادة.
الادراك والارادة
فلسفة شوبنهاور في مجملها تقوم على فرضيته الانسان كينونة وجودية عاقلة تحكمها الإرادة. وليس خاصّية الانسان الفطرية النوعية أنه عقل يدرك يتساءل يفّكر. هذه الخاصّية تحكم الانسان أنه موجود يعايش الطبيعة ويتمايز عنها بخصائص عديدة لعل في مقدمتها ضرورة أن يعي وأن يعرف وأن يكون.
يعبّر شوبنهاور في دوران وجود الانسان المحكوم بالدوران المركزي حول تفعيل دور الإرادة قوله " إذا لم تكن لديك رغبات – مبعثها الارادة – فانك لا تكلف نفسك عناء إدراك أي شيء على الإطلاق"3.
ثمة العديد من مفردات فلسفية متداخلة يمكننا إشراكها برابط واحد تشكّل منظومة العقل الإدراكية، وهي حلقات تجريدية لا نفهمها منفصلة بإستقلالية، هي ألادراك ، الوعي، الفكر، اللغة ، الذاكرة ، المخيّلة، الدماغ، وأخيرا الارادة، التي هي المفردة التجريدية الوحيدة التي تكون ترجمتها التجريدية هي سلوك نفسي مهمته تنفيذ إشباع رغبات وحاجات بيولوجية نفسية. ألمهم يبقى السؤال هل الإدراك مبعثه الإرادة، أم مبعثه الإحساسات الصادرة عن موجودات العالم الخارجي التي هي مادية؟ كل تجريد إدراكي يكون مبعثه المادة في وجودها المستقل وليس رغبات الانسان النفسية التي تحركها الإرادة، وفي إنعدام أو غياب المادة كموجود مدرك لا تكون هناك عملية إدراك عقلية. وحين يعتبر شوبنهاور أسبقية الإرادة في تحقق ردود الأفعال الإدراكية، وأنه من دون الإرادة تكون هذه الحلقات الإدراكية لا معنى لها ولا تعّبر عن شيء إنما هو عين الخطأ.
الادراك الحسّي أولى خطوات المعرفة لشيء في نقله الإحساسات الصادرة عن موجودات العالم الخارجي، كتداعيات تنطبع بالذهن في طريق عبورها عبر الجملة العصبية الواصلة الى الدماغ وتحديدا المخ، الذي يتم فيه تحويل إنطباعات الذهن العشوائية الواردة الى أفكار عقلية إنعكاسية إسترجاعية تمّثل ردود أفعال الإيعازات الصادرة عن الدماغ المنقولة للذهن الذي يتوزّعه الوعي وتعبير الفكر واللغة ومخزون الذاكرة والمخّيلة. الإرادة ليست حسما عقليا في مصادرة أن تكون هي الباعث التحفيزي الاولي الأسبق لهذه الحلقات الادراكية التجريدية المرتبطة بمنظومة تفكير العقل. وبخلاف شوبنهاور نقول الإرادة ليست مصدر تحفيز حلقات الإدراك للعمل وفي غياب الإرادة تنعدم رغبة الادراك. إدراك العالم الخارجي ليست رغبة تبتدعها الإرادة، بل هي فطرة انسانية، والوجود والطبيعة وما وراءهما هي حوافز لتفعيل الإدراك وليست الإرادة بإعتبارها شعورا نفسّيا لا يحكم العقل بألإدراك.
***
علي محمد اليوسف / الموصل
...................
الهوامش:
1. وليم رايت /تاريخ الفلسفة الحديثة /ت :محمود سيد احمد / مراجعة وتقديم امام عبد الفتاح امام ص 356
2. نفسه ص 357 /3. ص 351