أقلام حرة
أميرة رخيس: التحوّل من الصداقة كقيمة إلى الصداقة كوسيلة
لم تعد الصداقة في عالمنا المعاصر علاقة بسيطة تقوم على القرب الانساني وحده، بل أضحت محاطة بأسئلة عميقة تتعلّق بالصدق والمصلحة وحدود الثقة بين الأفراد. فلم يعد الفلم يعد الإنسان يهتمّ بالبعد الروحي والتطوّر الفكري فحسب، بل أصبح يبحث عن صداقات تدرّ عليه ربحا اجتماعيا وماديا. وهنا يتولّد السؤال الجوهري: بين النضج والاستقرار الروحي، والبحث عن صداقات ذات نفع اجتماعي، ايّهما يمثّل العمق الحقيقي للصداقة في عالم معاصر متغيّر؟
لقد فرضت التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية منطقا جديدا على العلاقات الإنسانية، حيث لم تعد الصداقة تُقاس بعمق المشاعر وصدق النوايا فقط، بل بمدى قدرتها على تحقيق منفعة ملموسة في الواقع اليومي. وهنا يمكن فتح قوس للتأمل بالعودة إلى التصوّرات الفلسفية الكلاسيكية حول معنى الصداقة. فقد تساءل سقراط عن ماهية الصديق الحقيقي: أهو مجرّد رفيق طريق أم علاقة أعمق من ذلك؟ ليجيب أفلاطون بأن الصديق هو "روح واحدة تسكن جسدين"، أي امتداد للذات في الآخر. أما نيتشه، فرأى أن الصديق لا ينبغي أن يكون ظلّا لنا، بل "سيفنا أمام الأعداء ومرآتنا أمام أنفسنا" في إشارة إلى الصداقة بوصفها علاقة صدق ومواجهة. ويضيف كونفوشيوس، من زاوية أخلاقية، أن الصديق الصالح هو من يرشدك إلى الفضيلة ويقوّم اعوجاجك
غير أنّ هذه المعاني السّامية للصداقة، بكلّ ما تحمله من عمق إنساني وأخلاقي، تبدو اليوم مهدّدة بالذوبان في ما سمّاه زيغمونت باومان "العصر السائل" حيث باتت العلاقات هشّة، مقيدة بمنطق السرعة والحاجة الاقتصادية، فاقدة لثباتها ومعناها.
وفي هذا السياق، لا يمكن الجزم بأن الصداقة فقدت معناها كليًّا، بقدر ما يمكن القول إن الإنسان المعاصر أصبح ممزقاً بين حاجته إلى العمق، وضغط الواقع الّذي يدفعه إلى علاقات نفعية وسريعة. فلا يمكننا الادّعاء بأن الصداقة الصادقة، أصبحت نادرة أو منعدمة، بل الأجدر أن نسلط الضوء على تغيّر الإنسان نفسه، إذ هو من أعاد تشكيل مفهوم الصداقة، وحوّل جوهرها من علاقة تقوم على القيمة والمعنى، إلى وسيلة نفعية تخدم المصالح الفرديّة أكثر ممّا تخدم الروابط الإنسانيّة.
وعليه، تبقى الصداقة مرآةً صادقة لزمنها، تعكس طبيعة الإنسان أكثر ممّا تعكس طبيعة العلاقة في ذاتها. ومن هنا يُطرح الإشكال الآتي: هل يمكن أن نُعيد للصداقة قيمتها الأخلاقية الهادفة، وأن نجعل منها علاقة ترفع وعي الإنسان في زمنٍ تهيمن عليه المصالح واللامبالاة؟
***
الأستاذة: أميرة رخيس






