أقلام حرة

نهاد الحديثي: التنمية والقانون

تكمن أهمية سيادة القانون في تحقيق العدل والاستقرار، حيث تضمن تطبيق القانون على الجميع دون تمييز، مما يحد من الحكم التعسفي ويعزز حماية حقوق وحريات الأفراد. كما أنها تدعم النمو الاقتصادي من خلال توفير بيئة آمنة للاستثمار والأعمال، وتعزز السلام الاجتماعي والاستقرار السياسي، وتوفر إطاراً للمجتمعات للتقدم والازدهار/ تكمن أهمية سيادة القانون في التنمية العراقية في كونها الركيزة الأساسية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، حيث توفر بيئة آمنة لجذب الاستثمارات وتحفيز النمو الاقتصادي، وتضمن تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان حقوق المواطنين وحرياتهم. إن سيادة القانون تعني خضوع الجميع، حكاماً ومحكومين، للقانون، مما يحمي الأفراد من التعسف ويوفر إطاراً عادلاً ومستقراً للعمل في المجتمع، الحديث عن التنمية الاقتصادية المستدامة يرتبط بشكل وثيق بسيادة القانون، فلا يمكن للتنمية الاقتصادية ان تحدث في بيئة تنعدم فيها سيادة القانون، وبذات القانون ليس نقيضاً للتنمية، بل هو شرط موضوعي لنجاحها وصيانتها، وبغياب القواعد المنظمة لها تتبدد العدالة وتتراجع الثقة فيها، وهما الركيزتان اللتان لا تقوم تنمية بدونهما؛ ولذلك فإن الدولة الحديثة، حين تضع خططها التنموية، تنظر إلى القانون بوصفه شريكاً في التصميم لا مجرد أداة للضبط؛ فكما أن التنمية تسعى إلى تحريك عجلة الاقتصاد، وتوسيع نطاق الخدمات، وتحسين جودة الحياة، فإن القانون هو الأداة التي تضمن أن تكون تلك الحركة منضبطة، ومتزنة، وعدالة توزيعها مؤسسية؛ فكل مشروع تنموي، مهما بلغ طموحه، يحتاج إلى مظلة قانونية تضمن له الانضباط والاتساق مع المصلحة العامة، كما يحتاج كل تطور تشريعي إلى أرض تنموية خصبة تكشف فعاليته وتختبر أثره على أرض الواقع؛ ومن هذا المنطلق تبرز التحولات الكبرى التي يشهدها وطننا الغالي، حيث لم يعد بالإمكان الحديث عن التنمية بمعزل عن منظومتها التشريعية، فالعلاقة بينهما لم تعد علاقة تقاطع عابر، بل أصبحت تقاطعا عضويا يحدد اتجاه الحركة التنموية ويحفظ مقوماتها ويصون استدامتها في آن واحد

hلتنمية والقانون علاقة تبادلية ضرورية؛ حيث يعمل القانون على تنظيم وتوجيه مسار التنمية لضمان تحقيقها بشكل مستدام وعادل، بينما تحتاج التنمية إلى قانون مرن ومواكِب ليساهم في دفع عجلة التقدم وتجنب الجمود. يتجسد هذا التقاطع في ضمان حقوق الإنسان، وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وضمان الاستدامة البيئية للأجيال القادمة، كما تشمل العلاقة تهيئة بيئة قانونية داعمة للاستثمار وتشجيع القطاع الخاص، وضمان انسجام القوانين المحلية مع الاتفاقيات الدولية

تُعد سيادة القانون أمرا ضروريا لتهيئة بيئة ملائمة لتوفير سُبل العيش المستدامة والقضاء على الفقر. وغالبا ما ينبع الفقر من عدم التمكين والإقصاء والتمييز. وتعزز سيادة القانون التنمية من خلال تعزيز أصوات الأفراد والمجتمعات، عن طريق إتاحة سُبل الاحتكام إلى القضاء، وضمان اتباع الإجراءات القانونية الواجبة وترسيخ سُبل الانتصاف فيما يتعلق بانتهاك الحقوق. ومن شأن تأمين سُبل المعيشة والمأوى والحيازة والعقود أن يمكِّن الفقراء ويجعل في استطاعتهم الدفاع عن أنفسهم في حال وقوع أي انتهاكات لحقوقهم. ولا يقتصر التمكين القانوني على توفير سُبل الانتصاف القانونية بل يدعم تحسين الفرص الاقتصادية

يُعد ضمان سيادة القانون في استغلال الموارد الطبيعية عاملا أساسيا في ضمان النمو الاقتصادي الشامل والمستدام والتنمية وفي احترام وحماية وإعمال حقوق الإنسان للأفراد. ويمكن أن تكون الموارد الطبيعية التي تُدار بشكل مستدام وشفاف محركا للرفاه الاقتصادي وأساسا للاستقرار والسلام في المجتمعات. وتستلزم الموارد، مثل الموارد المائية العابرة للحدود، درجة عالية من التعاون بين البلدان المشاطئة وأطرا قانونية مناسبة لدعم الإدارة المستدامة. والإدارة السليمة للموارد الطبيعية، وفقا لسيادة القانون، هي أيضا عامل رئيسي في تحقيق السلام والأمن، يبرز الترابط بين الركائز الثلاث لمنظومة الأمم المتحدة. ويزداد خطر نشوب نزاع عنيف عندما يسبب استغلال الموارد الطبيعية أضرارا بيئية وفقدانا لسُبل المعيشة، أو عندما توزّع الفوائد على نحو غير متكافئ. وتحقيقا لهذه الغاية، يُمكن أن يتسم ضمان مساءلة القطاع الخاص عن أنشطته، فضلا عن دعم القطاع الخاص لتوطيد سيادة القانون، بأهمية بالغة.

ومن هنا جاء تميز التجربة الفريدة في العقد الأخير، إذ اندمج التشريع بالتخطيط الاقتصادي في نسيج واحد، فحين أطلقت الدولة -رعاها الله- برامج التحول الوطني ومبادرات ومشاريع رؤية الوطن الطموحة، لم يكن البناء الاقتصادي والتنموي مجرد اندفاع نحو الاستثمار والخصخصة، بل كان مترافقاً مع بناء تشريعي متين يعيد تعريف العلاقة بين الفرد والدولة، وبين السوق والمجتمع، وبين المستثمر والمستضيف، وفق قوانين حديثة وتجارب دولية معتبرة؛ فأضحت القوانين تسن لتواكب الرؤية التنموية لا لتلحق بها، هذا الاندماج يتجلى من خلال إقرار العديد من التشريعات الجديدة وتحديث القائم منها في قطاعات حيوية وذات بعد اقتصادي، ويتبدى ذلك مثلاً في قوانين الاستثمار، والتخصيص، والتعدين، والعقار، والعمل، والشركات، والمنافسة، وما إلى ذلك؛ تلك التحولات التشريعية الفرعية لم تكن عملاً إدارياً بحتاً، بل ترجمة لوعي تنموي ورؤية متفردة ترى أن استدامة النمو تقتضي بيئة قانونية متكاملة وعادلة وشفافة، وتتميز بالمحفزات الاستثمارية، وتمنع الاحتكار وتحمي المستهلك والمستثمر في آن واحد؛ وهكذا أصبح القانون أداة لرفع كفاءة التنمية نفسها، لا إطاراً يقيدها؛ وفي المقابل، فرضت التنمية المتسارعة على المنظومة التشريعية أن تتسم بالمرونة والقدرة على التحديث المستمر، فالقوانين الجامدة تعيق التجدد، والأنظمة غير المواكبة للتحول تخلق فجوات في التنفيذ والمساءلة واستقرار المراكز القانونية؛ لذلك تبنت المملكة نهج المراجعة التشريعية الدورية، إدراكاً منها بأن تطور الأنظمة لا يقل أهمية عن التطور الاقتصادي، وأن الرؤية الشاملة لا تكتمل إلا بتكامل مرونة البنية القانونية مع حركة التنمية العمودية والأفقية.

إن تقاطع التنمية مع القانون هو في جوهره تقاطع بين الإرادة والطموح، وبين النمو والتنظيم، وبين الفعل والانضباط، بحيث لا تكون القوانين عائقاً أمام التقدم، ولا يكون التقدم مبرراً لتجاوز القانون؛ فالتنمية تحتاج إلى القانون كي لا تتحول إلى فوضى، والقانون يحتاج إلى التنمية كي لا يتحول إلى جمود؛ والتنمية التي لا يضبطها القانون قد تنفلت، والقانون الذي لا يستوعب ضرورات التنمية قد يتكلس، وبين هذين الحدين، تتجلى رؤية قيادتنا الحكيمة -أعزها الله- في العمل على رسم هذا التوازن الدقيق كي تولد نهضة مستدامة تقوم على منطق المصلحة العامة ومبدأ العدالة الشاملة؛ ولهذا نقول إن تقاطع التنمية مع القانون هو التقاء الوعي القانوني بروح التنمية النوعية في سبيل بناء دولة عصرية في تشريعاتها، متزنة في مؤسساتها، طموحة في رؤيتها، راسخة في قيمها.

***

نهاد الحديثي

 

في المثقف اليوم