أقلام حرة

عبد السلام فاروق: عودة الروح إلى ماسبيرو

في زمنٍ تتدافع فيه الشاشات بالضوضاء، ويغرق الإعلام في سيل التفاهة، يطل أحمد المسلماني كمن يبحث عن بصمة نور في جدارِ الظلام . هل يعيد ماسبيرو إلى الحياة؟ أم يعيد الحياة إلى ماسبيرو؟ السؤال يجر أسئلة أكبر: هل يمكن للحنينِ أن يبني مستقبلًا؟ أم هو مجرد قبلة وداع للماضي؟
ماسبيرو فكرة... فكرة عن إعلام يرفع لا ينخفض، يبني لا يهدم، يحترم عقل المشاهد قبل عينيه. حين تسقط الفكرة، لا تنفع إعادة البناء. فهل يعي الكاتب أحمد المسلماني (رئيس الهيئة الوطنية للإعلام) أن المعركة ليست في ترميم المبنى، بل في إحياء الروحِ؟ روح صنعت دراما امتزجت بالوجدانِ العربي، فصارت جزءًا من ذاكرتنا كأغنية أم أو رائحة طفولة.
الدراما التي تتحدث عنها المنصة الجديدة ليست حكايات نرويها، بل مرايا نرى فيها أنفسنا. حين تصبح المرايا مشوهة، تتحول الذكريات إلى أوهام والمسلماني يحمل مطرقة المثقف الذي يؤمن بأن الإصلاح يبدأُ بكسرِ المرايا القديمة، ليصنع من أجزائها فسيفساء العصرِ. لكن.. أي عصرٍ هذا الذي نعيش؟ عصر تذوب فيه الهويات كالثلجِ تحت شمسِ العولمة. هل تكفي منصة إلكترونية لصناعة حصنٍ ثقافي؟
الإعلام الجاد كالنحلة، يصنع العسل من رحيقِ الواقعِ المرِ. قرارات المسلماني بمنعِ المنجمين وإحياء القرآنِ في الأثيرِ وإنقاذ براءة الأطفالِ من شاشات الانزياحِ، هي محاولة لاستعادة البوصلة. لكن السفينة الثقافية لا تكفيها بوصلة واحدة، بل تحتاج أشرعة تلتقط رياح التغيير دون أن تنكسر.
التحدي الأكبر ليس في استعادة الزمنِ الجميل، بل في صناعة زمنٍ أجمل. الزمن لا يعود إلى الوراء، لكن الحكمة يمكن أن تسافر عبر الأجيال. ماسبيرو الجديدة ستنجح إذا فهمت أن الماضي لم يكن مثالياً، بل كان يناضل هو الآخر ضد رياحِ زمانه. الفرق أنهم كانوا يصنعون الفن كأنه صلاة، لا سلعة.
الثقافة والإعلام توأمانِ سياميانِ. حين يمرض أحدهما، يسمع أنين الآخرِ. هما وجهانِ لمعركة واحدة: معركة الهوية ضد العولمة، والعمق ضد السطحية، والروح ضد المادة.
الغرب يبيع أحلامه عبر شاشاته كمن يبيع الماء في البحرِ. ونحن نحاول أن نبيع تاريخنا كسوقِ النخاسة! الفرق أنهم يصنعون حاضراً يغري بالمستقبل، ونحن نحن إلى ماض لن يعود. هذا هو الدرس الذي يجب أن تتعلمه مبادرات الإحياء: لا تبيعوا الماضي، بل اصنعوا من عصارته دواء للحاضر.
الدكتور خليل صابات كان يسأل: لماذا نستورد فلسفات جاهزة بينما في تراثنا كنوز لم تفتح؟ السؤال نفسه يصلح للإعلام. لماذا نقلد برامج الغرب بينما في قصصنا ما يشفي العيون؟
الخطورة ليست في الفشل، بل في النجاحِ الوهمي. قد تنجح منصة أو برنامج، لكن المرض يظل في الجسد . الإعلام العربي يحتاج إلى ثورة تشبه غضبة المتصوفين: تدمير من أجل البناء، صمت من أجل كلام أعمق، موت من أجل حياة أرقى.
السلطة وأصوات الشوارع
الإعلام الحقيقي ليس صدى للسلطة، بل صوت الذين لا صوت لهم. حين تتحول المنصات إلى مجرد مكبرات للخطاب الرسمي، تفقد شرعيتها كجسرٍ بين الحكام والمحكومين. ماسبيرو القديمة، رغم كل ما يقال عنها، كانت أحيانًا تسرق اللحظة لتعكس همس الناس قبل صراخ السياسيين.
الصديق أحمد المسلماني يواجه معضلة وجودية: كيف يوازن بين ولائه للدولة وولائه للحقيقة؟ الإعلام الحكومي غالبًا ما يكون أسير هذه المعادلة المستحيلة. النجاح هنا لا يقاس بالجماهير، بل بالجرأة في رواية القصص التي تزعج النظام، وتريح قلوب البسطاء.
لو كانت منصة ماسبيرو مجرد ذراعٍ إعلامي للدولة، فستكون كطائر في قفص مذهب. أما إذا تحررت من عقدة التبعية، وأصبحت منبرًا للحوارِ الحقيقي، فستكون كالنهر الذي يروي الأرض دون أن يسأل عن هوية العطشان.
الفن كالماء.. يبحث عن طريقه
قد تغلق السلطة الأبواب، لكن الفن الحقيقي ينساب كالماء من بين الشقوقِ. محاولات إحياء ماسبيرو يجبُ أن تفهم أن العصر تغير. الجمهور لم يعد مشاهدًا سلبيا، بل أصبح شريكًا في صناعة المحتوى. السيطرة على الإعلام لم تعد حكرًا على القنوات التقليدية؛ فمواقع التواصل فتحت نوافذ لا تحصى.
الدراما التي تريد منصة ماسبيرو إنتاجها يجب أن تصارع من أجل البقاء في عالم يتدفق بالمحتوى المجاني. المنافسة ليست مع الماضي، بل مع ذكاء الخوارزميات التي تدفع الجمهور نحو "التيك توك" و "الريلز". كيف تقنع جيل السرعة ببطء الدراما الكلاسيكية؟
الجواب قد يكمن في "الدمجِ" لا "المواجهة". فنون الماضي يجب أن تلبس ثياب الحاضرِ. مسلسل تاريخي ينتج بتقنيات الواقعِ الافتراضي، أو دراما اجتماعية تتفاعل مع الجمهور عبر اختيارات متعددة النهايات. الإبداع هنا هو مفتاح البقاء.
العلاقة بين الإعلامِ والسياسة كالعلاقة بين النارِ والهواء. كلما اشتدت الأزمات السياسية، احتاج الإعلام إلى أن يكون كالطبيب الذي يشخص الداء دون أن يخضع لضغوط المريض. ماسبيرو في عصرها الذهبي كانت تعيش تناقضًا مشابهًا: تقدم الفن الجميل بينما الجماهير تعاني تحت وطأة الأزمات .
اليوم، يعيد التاريخ نفسه بأدوات مختلفة. المسلماني يحاول أن يقدم إعلامًا نقيا في زمنِ السمومِ. لكن ماذا لو كانت النقاوة نفسها نوعًا من التلوث؟ حين يمنع الظلام من الظهورِ، يفقد النور قيمته. الفن الجريء ليس ذلك الذي يخشى الرقابة، بل الذي يحتضن التناقضات ويظهرها بكل بشاعتها وجمالها.
الخطر كل الخطرِ أن تتحول المنصة إلى وجهة للهروب من الواقعِ بدل أن تكون مرآة له. الشعب الذي يعيش أزمات اقتصادية واجتماعية لا يحتاج إلى دراما ترفيهية تنسيه همومه، بل إلى فن يجعله يواجه نفسه قبل أن يواجه نظامه.
النهاية ليست نهاية..
كل نقاشٍ عن إعادة إحياء ماسبيرو هو في الحقيقة نقاش عن إعادة إحياء أنفسنا. الروح التي نبحث عنها في الإعلام هي ذاتها التي فقدناها في حياتنا: روح العمق، والصبر، والجمال.
المسلماني ومبادراته، كلها محاولات لإنقاذ ما تبقى من أرواحنا في زمنِ الموت الرمزي. النجاح والفشل هنا نسبيانِ؛ فالبذرة التي تزرع اليوم قد تحتاج إلى قرونٍ لتنمو. المهم أن نستمر في الزرع حتي لو جنينا في العمر ظل ورقة واحدة .
السؤال الأهم : هل نستحق نحن – كجمهور- إعلاماً جاداً ؟ أم أننا أصبحنا جزءا من آلة التدمير ؟ الجواب عن كل فرد فينا ، حين يقرر أن يطفئ هاتفه المحمول قليلا، ويقرأ كتاباً ، أو يشاهد عملاً فنيا يثقل الروح بدل أن يخدرها !
الإعلام كالمرآة ..فماذا تظهر مرآتنا عنا ؟
***
د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم