قراءات نقدية
حسن لمين: السرد العربي وتحديات العولمة
سأتناول في هده الورقة البحثية واحدة من أكثر القضايا إلحاحاً في زمننا الراهن؛ قضية تتقاطع فيها التحولات الثقافية مع الأسئلة الكبرى حول الهوية والخصوصية والمعرفة، وهي علاقة السرد بالعولمة، وكيف واجه الأدب هذا المدّ المتسارع الذي أذابت موجاته الحدود الجغرافية والرمزية، وجعلت العالم فضاءً واحداً تتداخل فيه الأصوات والثقافات.
ورغم أن العولمة استطاعت أن تُعيد تشكيل الاقتصاد والسياسة وأنماط العيش، فإن السرد الأدبي، في مختلف تجلياته، ظل بإصرار لافت وفياً للزمان والمكان، وهما العنصران اللذان حاولت العولمة طمسهما عبر تسطيح الفوارق وتوحيد النماذج. وكلما ازداد تأثير العولمة اتساعاً، ازداد الأدب تعلقاً بجذوره الأولى. وكأن السرد يقول للعالم المُعولَم: إذا ألغيتِ المسافات، سأعيد أنا بناءها، وإذا صهرتِ الخصوصيات، سأستعيدها في لغة الحكاية، وفي ذاكرة الشخصيات، وفي تفاصيل المكان.
من هنا ينبثق سؤال جوهري: هل نجحت العولمة في احتواء السرد الأدبي كما احتوت غيره من القطاعات؟ أم أن السرد استطاع أن يروض العولمة، فيستفيد من أدواتها دون أن يذوب في نمطها الموحد؟ هذا السؤال لا يتعلق بالأدب العالمي فحسب، بل يطرق أبواب السرد العربي بإلحاح، لأن هذا الأخير يعيش اليوم لحظة انتقالية دقيقة بين المحلية والكونية، بين مرجعياته التراثية وفضاءات القراءة الجديدة، بين لغته العميقة وأدوات العصر.
عندما نتأمل المشهد السردي العالمي خلال القرن العشرين وما بعده، نلاحظ أن أهم الأعمال الروائية خرجت من أصقاع مختلفة: من أوروبا والصين، ومن أمريكا اللاتينية وأفريقيا، ومن الشرق الأوسط وآسيا. ولم تتخلَّ هذه الروايات عن جغرافياتها، بل جعلت من المكان بطلاً، ومن الزمن ذاكرة حية. فمو يان، في «الذرة الرفيعة الحمراء»، أعاد تقديم الصين من خلال المهمشين وبسطاء الريف. وماركيز شيد ماكوندو ليقدّم أمريكا اللاتينية بطاقة أسطورية متفردة. ونجيب محفوظ قدّم أحياء القاهرة ككائنات نابضة، تتنفس وتتحرك وتتكلم، حتى صار المكان جزءاً لا يتجزأ من الحكاية.
هكذا بدا المشهد: العولمة تُذيب، بينما السرد يُعيد البناء. العولمة توحّد، بينما السرد ينوّع. العولمة تسعى إلى النموذج الواحد، بينما الأدب يحتفي بالاختلاف، ويرى في التنوع طريقاً إلى الفهم العميق للذات والعالم. ومع ذلك، لم يعلن السرد عداءه الصريح للعولمة؛ بل اقترب منها بحذر، واستثمر أدواتها: الترجمة العابرة للقارات، وسائل الإعلام، الانتشار الرقمي، الجوائز العالمية. لقد فهم السرد أن الأدب الذي يبقى حبيس لغته وحدوده لن يصل، فاستعمل آليات العصر ليؤكد حضوره، وليصل إلى القارئ حيثما كان.
إن السرد، في جوهره، ذاكرة مقاومة. إنه إحدى أكثر الوسائل الإنسانية قدرة على الحفاظ على التاريخ العميق للإنسان، وعلى ما يختزن من مشاعر وتجارب وصراعات. وفي عصر سريع الاستهلاك، يصبح الأدب بطيئ الحركة ولكنه عميق الأثر؛ إنه يعيد كتابة الأزمنة التي تُطمر، ويستخرج من الأمكنة ما تخفيه التحولات الكبرى، ويمنح لكل مكان حقه في الظهور، ولكل زمان حقه في أن يُروى.
وانطلاقاً من هذا الفهم، يمكن أن نطرح السؤال نفسه على السرد العربي: كيف يتعامل مع العولمة؟ هل يتراجع أمام النموذج الثقافي الطاغي؟ أم يجد طريقه إلى العالمية دون أن يتخلى عن جذوره؟ في السنوات الأخيرة، شهد الأدب العربي تحولات مهمة؛ فقد بدأ يخطو نحو ما يمكن تسميته «عولمة عربية للسرد»، أي القدرة على تقديم خصوصيتنا الحضارية بلغة قادرة على السفر عبر العالم.
وقد ظهرت أعمال عربية كثيرة تشتغل بعمق على التاريخ والمكان والإنسان، وتجعل من الهوية العربية مادة قابلة للقراءة الكونية. رواية «عزازيل» ليوسف زيدان أعادت تقديم التاريخ الديني والفلسفي في صيغة روائية انتشرت عالمياً. و«واحة الغروب» لبهاء طاهر مزجت بين التاريخ كأرشيف والإنسان ككائن وجودي، وجعلت من الصحراء فضاءً كاشفاً لتوتر الهوية. و«الخبز الحافي» لمحمد شكري مثّلت نموذجاً آخر لعولمة السرد، فالهامش المغربي تحوّل إلى نص يقرأه العالم بلغات متعددة. أما «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، فقد فتحت جسوراً عميقة بين الجنوب والشمال، وخلقت سرداً يتجاوز الحدود الجغرافية والفكرية معاً.
إن السرد العربي اليوم لا يبحث عن العالمية بوصفها موضة، بل بوصفها ضرورة تاريخية، شريطة أن يحتفظ بجذوره. فالعالمية ليست نقيض المحلية، بل امتداد لها. والكونية ليست ذوباناً في الآخر، بل تعبيراً عن الذات بطريقة تجعل الآخر يفهمها ويتفاعل معها.
وإذا كانت العولمة قد وفرت أدوات جديدة للنشر والتوزيع والترجمة والتواصل، فإن السرد العربي مطالب بأن يستثمر هذه الأدوات دون أن يسمح لها بتفريغه من مضمونه. فوسائل التواصل الاجتماعي، رغم أنها في ظاهرها تهديد للنصوص الطويلة والعميقة، فقد تحولت إلى فضاء يتيح للكتاب العرب الحضور والتفاعل، وإعادة تشكيل جمهور جديد من القراء عبر العالم. لقد أصبحت الوسائط الحديثة قوة دفع لا تقل أهمية عن النشر التقليدي، لأنها تمنح النص فرصة العبور إلى قارئ لم يكن متاحاً في الماضي.
التحدي الحقيقي الذي يواجه السرد العربي اليوم هو: كيف نكون عالميين دون أن نفقد جذورنا؟ كيف نستطيع تقديم حكايات المكان العربي، وتاريخنا المعقد، وهموم الإنسان العربي، بلغة لا تقصي القارئ العالمي ولا تعزله؟ فالأسئلة الكبرى التي يطرحها الأدب العربي: الهوية، الحرية، الاغتراب، الهجرة، العنف، السلطة، الجسد، الروح… كلها أسئلة إنسانية لا تخصّ ثقافة بعينها، لكنها تتخذ في الأدب العربي ملامح محلية تجعلها أكثر عمقاً وصدقية.
وفي نهاية هذه المداخلة، يمكن القول إن السرد العربي يقف اليوم على عتبة مرحلة جديدة يمكن وصفها بـ«مرحلة عولمة السرد من الداخل»؛ أي بناء نصوص تستثمر الموروث العربي العميق، لكنها تُكتب بوعي حديث، وتُقدَّم بلغة سردية تسمح لها بالسفر والامتداد. الطريق ليست سهلة، ولكنها ليست مستحيلة. فلدينا من الروافد الحضارية ما يجعل الأدب العربي قادراً على الحضور الفاعل في المشهد العالمي.
إن السرد، في النهاية، هو مقاومة للذوبان، وحماية للذاكرة، وبناء لجسور جديدة بين الذات والآخر. وإذا استطاع السرد العربي أن يوازن بين جذوره وامتداده، بين خصوصيته وطموحه، فإنه سيكون قادراً على مواجهة تحديات العولمة، ليس بصفته تابعاً لها، بل شريكاً في إعادة رسم ملامح الثقافة الإنسانية.
***
حسن لمين - كاتب مغربي






