أقلام فكرية
غالب المسعودي: الماهية والوجود.. إعادة تعريف منهجي عبر الحاضرية الوجودية الشاملة
تأطير الإشكالية الأنطولوجية الكبرى
تُعد إشكالية العلاقة بين الماهية والوجود المحور الأكثر تعقيداً وأساسيةً في تاريخ الفلسفة الغربية، إذ مثّلت سؤالاً جوهرياً للتفكير الميتافيزيقي منذ العصور الكلاسيكية وحتى الفلسفة المعاصرة. إن هذا الجدل الأنطولوجي لا يقتصر على تحديد مفهوميهما فحسب، بل يتمحور حول إشكالية الأولوية: هل الجوهر يسبق التحقق، أم أن التحقق يخلق الجوهر؟
يتطلب فهم هذا الصراع توضيح الحدود المنهجية لكل من المفهومين، ثم تتبع الانقلابات الفلسفية التي أدت إلى تقويض الماهوية التقليدية، وصولاً إلى صياغة نموذج تركيبي جديد هو "الحاضرية الوجودية الشاملة". ويهدف هذا البحث إلى تقديم تعريف منهجي ومفصّل للماهية والوجود، ثم تقديم تعريف مُحدّث لهما من خلال هذا المفهوم الحاضري الذي يسعى لتجاوز ثنائية الأولوية التاريخية.
الإطار المنهجي للجدل الأنطولوجي
التمييز المنهجي للماهية والوجود كبنية للسؤال الفلسفي
يُشكّل كل من الماهية والوجود قُطبي الوجود، إذ يقدم كل منهما إجابة على سؤال وجودي مغاير.
من الناحية الأنطولوجية، تشير الماهية إلى الجوهر الأساسي أو الطبيعة الكامنة لشيء ما، أي ما يجعله ما هو عليه. وهي تمثل الإجابة عن سؤال "ماذا". يمكن استخدام مصطلح الماهية للإشارة إلى الأشياء التي لها وجود حقيقي ملموس أو تلك التي هي مجرد تصورات ذهنية خالصة، فهي تحدد الصفة الأساسية والجوهر الحقيقي للشيء.
الوجود أما الوجود، فهو مفهوم يشير إلى تحقق الأشياء والكائنات في الواقع، وهو الإجابة عن سؤال "أنَّ". ويشمل كل ما هو متجسد، من أشخاص وجمادات، وصولاً إلى الأفكار والمشاعر التي تتحقق في الواقع الذهني أو الخارجي، مشيراً إلى فعل التحقق بحد ذاته.
دلالة الصراع الأنطولوجي: نزاع حول مصدر المعنى
إن النقطة المركزية في الصراع الفلسفي ليست مجرد التعريف النظري، بل تكمن في إشكالية الأولوية الأنطولوجية: هل تحدد الماهية الوجود وتسبقه (الماهوية)، أم أن الوجود هو الأولي ويشترط خلق الماهية (الوجودية).
يتجاوز هذا الصراع مجرد ترتيب زمني ليصبح نزاعاً حول مصدر المعنى والقيمة. فمن جهة، تفترض الماهوية وجود معنى جوهري وموضوعي يجب اكتشافه، الأمر الذي يؤدي إلى تبني فكرة الثبات والتحديد المسبق. ومن جهة أخرى، تصر الوجودية على أن المعنى يُخلق ذاتياً، وهو ما يتبنى فكرة الحركة والحرية المطلقة.
إن الهيمنة الطويلة للتصور الماهوي، التي استمرت لقرون، لم تكن مجرد اختيار فلسفي، بل وظيفة سيكولوجية واجتماعية. لقد وفرت الماهوية "اطمئناناً للعقل بفكرة النظام والثبات"، إذ أزالت عبء خلق المعنى من الفرد وحولته إلى مصدر خارجي أو مبدأ ثابت (سواء كان إلهاً أو طبيعة).
الماهوية الكلاسيكية: سلطة الجوهر والنظام الثابت
لقد ساد التصور الماهوي، الذي يرى أن الماهية تسبق الوجود وتحدده، لقرون طويلة، بدءًا من أفلاطون والفلسفة الكلاسيكية مروراً بالفكر المدرسي الوسيط.
أفلاطون: "الماهية كنموذج مفارق والأصل الأزلي" أرسى أفلاطون الأساس لمفهوم أسبقية الماهية من خلال "نظرية المثل". لقد افترض أن لكل موجود في عالمنا الحسي مثالاً ثابتاً وخالداً يقع في "عالم المثل" المفارق. هذه تمثل الماهيات الحقيقية والكاملة، وهي سابقة على الوجود الحسي المتغير وغير المستقر. في هذا التصور، تُعتبر الموجودات التي ندركها بحواسنا مجرد نسخ أو ظلال ناقصة للمثال الأصلي. وبالتالي، تكون الماهية هي الأصل (النموذج الأزلي)، بينما الوجود الحسي هو التابع.
أرسطو: "الماهية كجوهر كامن وثنائية الكمون والتحقق" شكّل أرسطو تحولاً نحو الواقعية، إذ أعاد الماهية من عالم المثل المفارق إلى الموجودات الحسية ذاتها، ليجعلها جوهراً كامناً فيها. بالنسبة لأرسطو، لا ينفصل الجوهر عن الكيان؛ فالماهية (الصورة أو الجوهر) تشير إلى طبيعة الكيان وخصائصه الجوهرية، بينما الوجود يتعلق بالكيان نفسه كحقيقة متحققة.
ربط أرسطو الوجود بتحقيق الماهية من خلال ثنائية "القوة والفعل" (الكمون والتحقق). الماهية هي "القوة" أو الإمكان الكامن في المادة، بينما الوجود هو "الفعل" الذي يحقق هذا الإمكان. إن الوجود هو كمال القوة ومن أجله وُجدت. وعلى الرغم من اختلاف نزعة أرسطو الفلسفية عن مثالية أفلاطون، فقد أكد موقفه أن الوجود هو عملية تحقيق لجوهر سابق يحدد مسبقاً الغاية والحدود، مما رسخ استمرارية الماهوية كنموذج مهيمن في الفلسفة الغربية.
لقد أثبتت هيمنة هذا النموذج الماهوي لقرون قدرتها على تلبية الحاجة الفطرية للاستقرار المعرفي. لكن هذا الاستقرار الفلسفي هو السبب الجذري الذي أدى لاحقاً إلى ظهور الفراغ العدمي عندما بدأت أسس هذا النظام الثابت بالانهيار، بفعل التحولات الفلسفية الحديثة (مثل كانط وديكارت) والتحولات الاجتماعية المرافقة للعلمانية والثورة الصناعية.
الثورة الوجودية: الوجود يسبق الماهية وسلطة الحرية
شهدت الفلسفة الحديثة تحولاً حاسماً بدءاً من ديكارت وكانط، حيث انتقل مركز الاهتمام من الوجود الخارجي الثابت إلى الذات العارفة. مهد هذا التحول النظري لتقويض الأسبقية الماهوية، خاصة مع كانط الذي اعتبر الوجود "مجرد رابطة لا تضيف صفة حقيقية" إلى المفهوم.
بلغ هذا التحول ذروته في القرن العشرين مع الفلسفة الوجودية التي قادها جان بول سارتر، بإعلانه الانقلاب الفلسفي الكامل على التقليد الذي استمر لأكثر من ألفي عام. صاغ سارتر مقولته المركزية: "الوجود يسبق الماهية".
يُفهم هذا الانقلاب بالقول إن الإنسان كائن أولاً (يُقذف به إلى الوجود)، ثم يتحول فيصير هذا الإنسان أو ذاك؛ وعليه أن يخلق ماهيته الخاصة من خلال أفعاله وخياراته. في هذا السياق، تؤكد الوجودية أن الماهية بالنسبة للإنسان هي "غائبة وتُبتَكر"، أي أن الجوهر غير موجود سلفاً، بل يُخلق ذاتياً. إن العملية الفلسفية هنا هي انتقال في اتجاه مضاد، يفضي من الوجود إلى الماهية، حيث لا يمكن الظفر بالماهية إلا بفعل حر.
الدلالات الأخلاقية الجذرية
إن قلب المعادلة الأنطولوجية عند سارتر يترتب عليه نتائج أخلاقية جذرية. فإذا كان الإنسان غير محدد بـ "طبيعة إنسانية" مسبقة، فهو يمتلك حرية مطلقة، بل يُجبر على أن يكون حرّاً. هذه الحرية هي الأداة التي تمكنه من تشكيل ماهيته الفردية.
إن محاولة الهروب من هذه المسؤولية، سواء بوضع الفرد لنفسه تحت قوانين صارمة أو الاقتناع بأن ماهيته تصنع وجوده، يمثل ما أسماه سارتر سوء النية ومحاولة لإنكار الحرية الأصيلة. سارتر بذلك يحول الوجودية إلى مذهب إنساني يركز على الوعي والاختيار والمسؤولية كخصائص أصيلة للوجود البشري.
فبينما حلّت الوجودية مشكلة التحديد المسبق (بالقضاء على الماهوية)، أدت إلى مشكلة جديدة: يأس العدمية الناتج عن الحرية غير المؤطرة. يتطلب هذا اللا استقرار المتأصل في الوجود الإنساني (في مرحلة ما بعد اللاهوت) آلية زمنية لتثبيت المعنى الذاتي الذي حرره سارتر، وهذا يمهد لظهور الحاضرية الوجودية الشاملة.
الحاضرية الوجودية الشاملة: الأسس ونقد العدمية
في أعقاب الثورة الوجودية، ومع غياب معيار أخلاقي مطلق موجه، وجد الفرد الحديث نفسه في حالة من العدمية.
نشأة الحاضرية الوجودية في مواجهة العدمية
نشأت أفكار العدمية في سياق انهيار الإطار الديني التقليدي وصعود العلمانية، مما أدى إلى ظروف العدمية. وتنطوي حالة العدمية على الاعتراف المروع بأنه لا يوجد سبب عام أو ترتيب أو هدف لوجودنا، وأن كل شيء في الأساس لا معنى له ولا جدوى.
تُعد الحاضرية الوجودية الشاملة، التي ظهرت كتيار فلسفي مستقل، محاولة لمعالجة هذا القلق الناجم عن غياب المعنى الثابت، وذلك من خلال تغيير الإطار الزمني للالتزام.
تحديد الأسس الفلسفية للحاضرية
ترفض الحاضرية الوجودية الشاملة النظرة التقليدية للفلسفة التي كانت تركز على الأبدية والقواعد العامة. وبدلاً من ذلك، تشدد على:
مركزية الحاضر والتجربة الفردية: تركز على الواقعية والتجربة الفردية ودور الحاضر في تشكيل التفكير والتحليل الفلسفي. هذا التضييق للتركيز الزمني يهدف إلى إيجاد معنى عملي للحياة الوجودية.
مفهوم التورط مقابل الانفصال: ترفض الحاضرية محاولة النظر إلى الحالة الإنسانية من منظور مستقل ومحايد (الانفصال). وبدلاً من ذلك، تؤكد على أننا مشاركون بالفعل في "حدث أو نشاط الوجود"، وهو نشاط متجسد دائمًا ومشعور ومتواجد في سياق تاريخي، وهذا هو مفهوم التورط.
إن التركيز الحاضري على التورط يمثل دحراً حاسماً لحالة الانفصال والضياع التي نتجت عن الحرية السارترية غير المؤطرة. فالعلة وراء الاغتراب الحديث والعدمية هي الانفصال وإحالة المسؤولية بيروقراطياً إلى ماضٍ قاهر أو مستقبل مبهم. لذا، فإن الأثر الناتج عن التركيز الحاضري هو فرض إلزامي في اللحظة الراهنة، مما يؤدي إلى تأصيل المعنى الذاتي في الواقع الملموس، بدلاً من البحث عن أساس ثابت. بهذا، تنجح الحاضرية في ترسيخ المعنى الوجودي في الآنية، وهو ما فشلت الوجودية النقية في استقراره بسبب طبيعتها المؤجلة (الوجود كمشروع مستمر).
إعادة تعريف الماهية والوجود من منظور الحاضرية
إن الإشكالية الأنطولوجية الكلاسيكية كانت محكومة بالانحصار في الثنائية المألوفة: إما أن يكون الشيء وجوداً أو ماهية. سعت الحاضرية الوجودية الشاملة إلى تجاوز هذه المفارقة التاريخية، من خلال تأسيس مفهوم التزامن الأنطولوجي، حيث لا يسبق أحدهما الآخر زمنياً أو منطقياً، بل يتشكلان معاً ويتلازمان في فعل "الآنية" المطلق.
تجاوز مفارقة الثنائية الأنطولوجية
تاريخياً، سعت تيارات فلسفية متأخرة، خاصة في الفكر الإسلامي (حاول صدر المتألهين الشيرازي -الملا صدرا، ت 1050هـ/1640م)، إلى تأصيل الوجود (أصالة الوجود) وتجاوز المفارقة التي تفرق بين طبيعة العالم العلوي (حقيقته الوجود) والسفلي (حقيقته الماهية). هذا التوجه يمهد لقبول التركيب الذي لا يفاضل بين الطرفين، بل يدمجهما في نظام كلي.
في الإطار الحاضري الشامل، لا يُنظر إلى الوجود كشيء يتحقق من أجل ماهية سابقة، ولا يُنظر إلى الماهية كشيء يُخلق في المستقبل على أساس وجود حالي (سارتر). بل إن الوجود والماهية يتشكلان بصورة متزامنة داخل إطار اللحظة الملتزمة.
الوجود كصَيرورة ملتزمة: الوجود في الحاضرية الوجودية الشاملة هو الصيرورة والتحقق المستمر المتجسد في الآنية الوجودية الملتزمة. إن الدلالة الأنطولوجية لهذا التعريف هي رفض حالة الانفصال والانتظار، حيث يصبح الوجود ليس مجرد حقيقة ثابتة أو تحقق انتهى، بل هو فعل "التورط" المباشر والملموس في اللحظة الراهنة. يتم هنا تضييق الأفق الزمني للوجود: فبدلاً من الوجود كـ "مشروع" ممتد على المستقبل (سارتر) أو كـ "قدر محتوم" مصدره الماضي (أرسطو)، يصبح الوجود هو اللحظة المركزة من الفعل الحر المنجز حالياً.
الماهية كانبثاق هيكلي: الماهية في الحاضرية هي النموذج المُصاغ والقيمة المُتكوِّنة نتيجة مجموع الاختيارات الحاضرية الملتزمة (التكثيف الهيكلي). من منظور الحاضرية، ليست الماهية غائبة تماماً كما ذهب سارتر، ولا هي مسبقة كما ذهب أفلاطون. بل هي انبثاق هيكلي فوري يتشكل في اللحظة الراهنة نتيجة المسؤولية والفعل المنجز. إنها الإجابة عن سؤال "ماذا أصبح هذا الكائن في هذه اللحظة؟" نتيجة انخراطه الملتزم. تُشكل الماهية لحظياً وتتجدد وتُنقض في كل "آن" من الوجود. هي بمثابة التكثيف الهيكلي لأفعال الذات في الحاضر.
التداعيات الأخلاقية والاجتماعية للنموذج الحاضري
إن التداعيات الأخلاقية للنموذج الحاضري هي تضييق نطاق المسؤولية وتكثيفها. إذا كان سارتر قد ألقى على الإنسان مسؤولية كونية مطلقة في كل خيار، فإن الحاضرية تؤطر هذه المسؤولية في اللحظة الآنية، مما يجعلها أكثر قابلية للتعامل.
الالتزام والسعادة: يركز النموذج الحاضري على الوجود والحياة في الحاضر، مقدماً إطاراً أخلاقياً يركز على الالتزام الآني كطريق لتعزيز المعنى والسعادة، مما يوفر أملاً عملياً في مواجهة يأس العدمية.
إعادة تعريف سوء النية: في الإطار الحاضري، يتحول سوء النية إلى محاولة للانفصال عن اللحظة الراهنة (الآنية) أو إحالة المسؤولية إلى قوى الماضي أو توقعات المستقبل، بدلاً من التورط الآني والقبول بمسؤولية الفعل الحالي.
مسارات البحث المستقبلية
لتعميق فهم الحاضرية الوجودية الشاملة، يمكن للأبحاث المستقبلية أن تتجه في عدة مسارات:
الموت والزمن في الحاضرية: تحليل كيف يتعامل هذا الإطار مع تناهي الوجود البشري دون تقديم إجابات نهائية بشأن ما يحدث بعد الموت، بل بالتأكيد على أن المصير النهائي لا يقلل من أهمية الالتزام في الحاضر
التفاعل مع تيارات النقد المعاصر: دراسة تفاعل الحاضرية مع تيارات الفلسفة النقدية الحديثة، مثل اللاهوت السياسي وما بعد الحداثة، التي تشترك معها في نقد المفاهيم التقليدية للحقيقة، والهوية، والقوة، والمعرفة.
الهوية والماهية المُنبثقة: بحث التداعيات الهوياتية للماهية الحاضرية في ضوء التشكيل المستمر للهوية الفردية والجماعية، وكيف يمكن لهذه الماهية المتجددة لحظياً أن توفر أساساً للهوية المتماسكة في وجه الاغتراب.
***
غالب المسعودي
..........................
مصادر
أفلاطون (Plato):
الجمهورية (The Republic): لفهم نظرية المُثل وأسبقية الماهية.
أرسطو (Aristotle):
الميتافيزيقا (Metaphysics): لفهم العلاقة بين الصورة والمادة، وثنائية القوة والفعل (الكمون والتحقق).
جان بول سارتر (Jean-Paul Sartre):
الوجود والعدم (Being and Nothingness): المصدر الأساسي لفهم مقولة "الوجود يسبق الماهية" ومفهوم سوء النية (Bad Faith).
الوجودية مذهب إنساني (Existentialism is a Humanism): لبيان النتائج الأخلاقية الجذرية لمذهبه.
فريدريك نيتشه (Friedrich Nietzsche):
إرادة القوة (The Will to Power) / العلم المرح (The Gay Science): لفهم أصول مفهوم العدمية (Nihilism) وتحليله لانهيار الأساس الثابت.






