أقلام فكرية
كاظم لفتة جبر: النظرية الجمالية عن اويغن فنك
تعد فكرة وجود الجمال فكرة كونية، لا يمكن اختصارها بإرهاصات الإنسان النسبية، فالجمال كفكرة يعلو فوق الاشياء ويسمو بها، فكل شيء من دون ان نضفي عليه فكرة الجمال يكون باهت، وحتى الوجود دونه يعد غير موجود، فكل شيء في هذا الكون وخارجة يتحلى بالجمال وينمو من خلاله. وهذا ما اشار إليه الفيلسوف الألماني اويغن فنك في كتابة (اللعب بوصفه رمزا كونيا) الذي سوف يصدر قريباً عن دار الفرقد، من ترجمة الدكتور قاسم جبر عبرة أستاذ اللغة الألمانية في كلية الآداب - جامعة واسط. علما إنه ترجم لفنك كتاب (الميتافيزيقا والموت) وهو يعمل الأن على تعريف القارئ العربي بفلسفة اويغن فنك من خلال نقل مؤلفاته الكاملة إلى العربية.
فيرى فنك في كتاب اللعب بوصفه رمزا كونيا "إن نار السماء المشعة، التي تضيء يومنا وتجعل نباتات الأرض تنمو وتعطيها الكيفية والنوعية والازدهار، هي الصورة المرئية وسليل الفكرة الأسمى، أي فكرة الخير. بما أن المرئي بشكل عام مرتبط بالمجال اللامرئي للفكر، كذلك يرتبط الجمال بالواقع. جمال الجميل في حد ذاته إحالة الى ما وراء نفسه. أو بعبارة أخرى: في الجمال، يلمع المرئي الدنيوي بالفعل كما يتأثر بضوء الفكرة اللاحسي. لذلك فإن تَزَايُدٌ الجمال بالنسبة لأفلاطون، له أهمية قصوى. فالجمال بطبيعته متدرج ويشير من مستوى إلى آخر، ويميل إلى ما وراء نفسه. فالجميل هو عندما يكون الجسد حسن التكوين، والروح أجمل، والفكرة أجمل، والأجمل الوجود الحقيقي للفكرة، الذي لا يمكن الوصول اليه إلا من خلال الفكر. تتحول المقارنة بين كل ما هو جميل الى طريقٍ نحو الفلسفة. إذ يتم تفسير قوة الجمال كدليل يقود الى الحقيقة. إن الجمال يُعد قائداً للأرواح ".
يعادل فنك بين الجمال وفكرة الخير، إذ يستعير بالشمس كتشبيه بما يفعله الجمال حين توفره، فهو كأشعة الشمس التي تنير الكون وتقدم فائدتها للكائنات. ويبدو ان هذه الفكرة استخلصها من سقراط حين قال الشيء يكون جميلاً حينما يحقق غايته ويكون خير ويقدم فائدة روحية قبل المادية. فهو لم يحدد الجمال بالجميل، لأن الجميل من الضروري ان يكون حسن، اما فكرة الجمال فلا يمكن اختزالها بالحسن، فنور الشمس الذي يشعرنا بالراحة النفسية أصله نار، فهو ليس بعيداً عن القبيح الذي نبتسم في وجودة، أو الشر الذي يكون في وجوده خير، لذا قد تكون استعارة فنك للشمس لتحقيق هذا الغرض، وهو ان الجمال كفكرة أرقى من الجميل كمادة، ويتداخل الخير مع الشر وان أصل فكرة الجمال هو الله بقوله : أنَّ الجمال سليل الفكرة الأسمى، وهذا الذي اتفقت عليه جميع الحضارات القديمة وحتى الفلاسفة بأن فكرة الجمال الأسمى والمطلق والمثالي، لا يوجد الا بعالم المثال مع افلاطون، فكل شيء في هذا الكون هو جمال غير كامل ومتغير ونسبي، فجعلوا للجمال آلهة أو رمزا كونيا تتصف بسمات الجمال الكاملة، مثل أفروديت في اليونان، عشتار في بلاد الرافدين وعند العرب، وانانا عند السومريون،و فينوس عند الرومان، وايزيس عند الفراعنة.
ويرى فنك ان المرئي مرتبط باللامرئي، وان الجمال مرتبط بالواقع، وان جمال الجميل في الواقع إحالة لما وراء نفسه، وبما أنَّ النفس مرتبطة بالجسد، فهو يلوح إلى العلاقة الجمالية التي تربط بين المادي والروحي، أو النفسي والجسدي، الذاتي والموضوعي، وان جمال الشيء الجميل يشير إلى شيء أعمق من مجرد مظهره الخارجي، بل يشير إلى جمال أو معاني أعمق في الحياة أو الطبيعة أو الفن.
و يلمع المرئي الدنيوي بالفعل كما يتأثر بضوء الفكرة اللاحسي. فهو يريد ان يقول : ان نظراتنا إلى الجمال الذي يصادفنا في حياتنا اليومية تعتمد على الفكرة التي نحملها في اذهاننا عن الجميل، وهذه ترجع الى الثقافة والمعرفة و الحالة النفسية. فهذا الذي جعل كروتشه يرى ان بعض الأشياء يمكن ان تكون جميلة لكنها محزنة، أو قبيحة وتكون مضحكة.
ويروي الفيلسوف الامريكي جون دوي قصة عرفها من أحد المشتغلين بالعلاج النفسي وهي قصة رجل كان يشتكي من أن أصوات أجراس الكنيسة متنافرة النغمات، في حين أن هذا الصوت كان في الحقيقة موسيقىّ النغمات، وقد اثبت الفحص أن خطيبة هذا الرجل كانت قد خدعته في الحب وأعرضت عنه لكي تتزوج رجلاً من رجال الدين. يهدف ديوي من رواية هذه القصة إلى توضيح حدوث ما اسماه بالإسقاط الناتج عن حالته النفسية وموقفه الشخصي من رجل الدين على سماعه للأجراس، وهذه علة وهي خبرة سابقة. ما جعلت نغمات الأجراس التي يفترض أن تكون جميلة جعلتها تبدو بالنسبة للرجل مشوهة و مزعجة. وهو بذلك يقول إذ يتم تفسير قوة الجمال كدليل يقود الى الحقيقة. إن الجمال يُعد قائداً للأرواح.
***
كاظم لفتة جبر