أقلام فكرية

سليم جواد الفهد: الفهم الفلسفي للدين.. تأملات في مفهوم "الخبرة الدينية" (1)

تمهيد: هذه الدراسة طويلة نسبيا لذلك قسمناها إلى قسمين.

القسم الأول يُعنى بالفرق بين فلسفة الدين وبين الفهم الفلسفي للدين والقسم الثاني يُعنى بتحليل مفهوم "الخبرة الدينية" لفهم علاقة الطبيعي بالإلهي خاصة في فلسفة (ولتر ستيس) من خلال كتابه: (الزمان و الأزل). وأصل الكتاب مقال في فلسفة الدين.

هذا الموضوع غاية في الأهمية لكل باحث في هذا المجال ولكل مثقف واعي يدفعه فضوله المعرفي وقلقه الوجودي لمعرفة حقيقة "النهايات". وهو موضوع غاية في الدقة فهماً وادراكاً ويقع فيه الخلط كثيراً والسبب هو أن الكل يعرف من الصعب قراءة نص لفيلسوف معين مباشرة بلا تمهيد أو مدخل لفلسفته ومن يفعل ذلك - وهو غير مختص- معتمدا على جهده الفردي فقط يخرج بنتائج مشوشة وفهم مرتبك لا يسمن ولا يغني من جوع.

هذا لأن الفلسفة حالها حال كل العلوم الإنسانية لها مفاتيحها الخاصة وهي مصطلحاتها التي تواضع الفلاسفة عليها والعلاقة المعقدة بين هذه المصطلحات عندما توضع في سياق بحثي معين. هذا أضافة إلى التفرد والذاتية فغالبا ما توصف الفلسفة بصفة النسبة الفردية فنقول: فلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو وفلسفة كانط وفلسفة هيجل وهذا معناه تعدد مناحي النظر في الأدراك لكل فيلسوف.

نعم لكل فيلسوف منهج وفهم في التعامل مع القضايا الفلسفية وغالبا ما يخرجون بنتائج متباينة.

خذ مثال مفهوم (المقولة) فهي عند كانط تعني مفهوم قَبلّي (A priori) للفهم أي هي ليست مفاهيم مستمدة من التجربة الحسية بل هي أشكال أو أطر فارغة موجودة مسبقاً في عقلنا البشري أي إننا نولد مزودين بها جينيا. ووظيفتها الأساسية هي تنظيم وتوحيد المعطيات الحسية التي تأتينا من خلال الحواس وتحويلها إلى تجربة مفهومة ومدركة. بينما هي عند هيجل ليست مجرد أطر عقلية ثابتة ينظم فيها الفهم أسس الواقع بل هي المكونات الجوهرية للواقع والعقل على السواء. بل هي عند هيجل اللبنات الأساسية للوجود والفكر معاً.

نعم هي شكل من أشكال الفكر المحض لكنها في الوقت نفسه شكل من أشكال الوجود. هذا يعني أن المقولة عند هيجل ليست مجرد مفاهيم في الذهن وليست أدوات يستخدمها العقل البشري فحسب بل هي أطر موضوعية للواقع نفسه. لأن هيجل يعتقد أن الفكر والوجود متطابقان والمقولات هي التجسيد الملموس لهذا التطابق.

فهي عند كانط مقولات إبستمولوجية معرفية بينما عند هيجل مقولات أنطولوجية وجودية.

هذا مثال يوضح الفارق الكبير في المنهج عند الفلاسفة وعلى أساس المنهج تتكثر الأفهام وتتعد الرؤى والنتائج. وقس على ذلك تعدد وتكثر الفهم الفلسفي للدين عند كل فيلسوف.

ولنبدأ بالفرق بين فلسفة الدين والفهم الفلسفي للدين:

أولا: فلسفة الدين:

نقول في تعريفها: هي دراسة الأسس والمفاهيم والمبادئ التي يقوم عليها الدين كظاهرة إنسانية من زاوية فلسفية نقدية ومحايدة.

وهي اليوم أختصاص فلسفي مستقل يصنف غالبا تحت أسم "الفلسفة النظرية". أي دراسة فكرية نقدية للمفاهيم والادعاءات الدينية باستخدام أدوات العقل والمنطق الفلسفي. وموضوعها لا يهتم بدين معين سواء كان سماوي أو غير سماوي بقدر ما يهتم بماهية وجوهر الدين مجردا من كل هوية. حيث تطرح فلسفة الدين أسئلة عامة ومجردة بمنهج تحليلي نقدي عقلاني بحت. وفيها يحاول الفيلسوف أن يبتعد قدر الإمكان عن انتمائه الشخصي وموروثه العقائدي ليدرس الدين كموضوع مجرد للبحث.

وأسئلتها المركزية هي:

1. هل الله وجود أم موجود: ما هي أدلة وجود الله الغائية والوجودية؟

باعتباره علة العلل.

وما هي حجج الإلحاد؟

2. طبيعة الله: هل لله ماهية؟ إذا كان الجواب نعم فما هي ماهية الله؟

وهل يستطيع العقل إدراكها أم يستحيل ذلك؟

هل له قدرة مطلقة؟

هل علمه مطلق؟

هل هو خير مطلق؟

3. المعرفة الدينية: كيف نعرف الحقائق الدينية بأي وسيلة؟

بالعقل أم بالحدس؟

ما هي طبيعة الإيمان؟

ما العلاقة بين الإيمان والعقل؟

4.اللغة الدينية: كيف تتحدث النصوص الدينية عن الله؟

هل هي لغة حرفية أم رمزية أم استعارية؟

5.الشر والمعاناة: كيف يمكن التوفيق بين وجود إله خير وقادر قدرة مطلقة مع وجود الشر في العالم؟

هذه تسمى  "مشكلة الشر".

6.الدين والأخلاق: ما هو مصدر الأخلاق؟

هل الأخلاق مستقلة عن الدين أم مستمدة منه؟

7.ماهية الدين:

هل هو مجرد مجموعة من المعتقدات والأساطير والطقوس أم خبرة روحية عميقة وحقيقية؟

8.طبيعة الروح: هل للروح وجود مستقل عن الجسد أم لا وما هي طبيعتها؟

9.البحث عن المعنى: هل نجد في الدين جواب عن معنى الحياة وهدف الوجود؟

أم أن الأمر أعتباطي فوضوي لا غاية له؟

نستطيع القول أخيرا أن فلسفة الدين هي المحكمة التي تحاكم فيها المفاهيم الدينية بالعقل أما مهمتها فهي أن تأخذ على عاتقها التأمل في معنى الجواب الذي يقدمه الدين والمكانة التي يمكن أن يحتلها في الوجود الإنساني الفردي والجماعي. وهكذا فإن فلسفة الدين تقدم نفسها باعتبارها تفكيراً في الدين وفي ماهيته وأسبابه ومبرراته وجوانبه اللاعقلانية أيضاً.

هذه هي باختصار فلسفة الدين وأسئلتها و موضوعاتها.

ثانياً: الفهم الفلسفي للدين:

هو استخدام أدوات ومناهج فلسفية لتحليل وتفسير نصوص دينية أو عقائد محددة. هو العدسة التي ننظر من خلالها إلى النصوص الدينية لنرى معانيها بشكل أوضح.

مهم أن ننبه أن الفهم الفلسفي للدين ليس حقلا مستقلا بل هو منهج أو أسلوب في القراءة والتأويل والتفسير. هو في الأصل تطبيق لنظريات ومناهج فلسفية معينة على نصوص وعقائد دينية محددة لفهمها بشكل أعمق وأدق.

ومن حيث الموضوع يركز على دين معين أو نص معين أو عقيدة محددة مثل: التثليث في المسيحية أو مفهوم النبوة في الإسلام أو مفهوم التناسخ في الهندوسية.

أما منهجيا فهو يستعير أدوات من مدارس فلسفية متعددة كالمنهج الهرمونطيقي أو المنهج الظاهراتي أو المنهج البنيوي أو التفكيكي أو المنهج الجدلي التاريخي لتقديم قراءة جديدة للنص الديني.

يحاول الفهم الفلسفي للدين الأجابة عن أسئلة كيفية وصولا إلى تحديد هويتها الماهوية مثل:

كيف يمكننا فهم مفهوم "النبوة" في الإسلام؟

كيف يمكن تطبيق منهج الهرمنيوطيقا (علم التأويل) على قراءة الإنجيل؟

كيف نحدد المضمون الفلسفي لفكرة "وحدة الوجود" في كتابات متصوفة الإسلام؟

كيف يمكن قراءة قصة الخلق في سفر التكوين من منظور فلسفي؟

من خلال الفهم الفلسفي للدين نتعلم أن الإنسان يتشرب فلسفة مجتمعه -عن طريق التربية والتنشئة الاجتماعية- وهي مجموعة من المعتقدات الدينية وغير الدينية. وعندما يصبح في سن النضج العقلي يبدأ بالتفكر في ما ورثه من آبائه وأجداده وبيئته ويقارن موروثه بما تعلمه في المدرسة والجامعة ثم يفهم علاقة السلطة بالمجتمع ويدرك أن السلطة لها مصلحة في الإبقاء على معتقدات الناس كما هي حتى لو كانت في غالبيتها مجرد خرافات. فالسلطة تنتج دائما المعرفة التي تناسبها لإدامة وجودها وتعزيزه. يبدو ذلك جلياً من خلال تحالف السلطة مع المؤسسة الدينية. من هنا تأتي ضرورة الفهم الفلسفي للدين أي ضرورة الاهتداء بنور العقل لفهم قضايا الدين حتى لا يصبح الدين مجرد خرافة تُستغل لأستعباد البشر.

يجب علينا ممارسة النشاط الفلسفي بما هو فحص للأسس والركائز التي يقوم عليها الدين والمعتقد والأيديولوجيا و السياسة والأخلاق عندها يتبين في غالبية الأحيان هشاشة وضعف كثير من العقائد والمعتقدات التي تنسب إلى الدين ويطلب من العامة أن يؤمنوا بها من دون تفكر ولا تفكير بوصفها فوق قدرة العقل البشري.

دائما ما يكون شعار رجال الدين: "لا تفكر من دون وصايتنا". وهذا الشعار يتنافى مع العقل النقدي الحر.

هذه الوصاية هي الكارثة التي تعاني منها المجتمعات المتدينة حيث يتقبل المؤمن ما يقال له أو يقدم إليه بوصفه الدين الأصيل حتى لو كان مجرد أساطير وخرافات. وما يقدم له في أحسن الأحوال هو مجرد قراءة للدين محكومة بثقافة القارئ ومستواه العلمي والادراكي.

نؤكد أخيراً إن الفهم الفلسفي للدين ليس نظرية فلسفية في الدين وليس فلسفة دين. هو مجرد تسليط نور الفلسفة أو مطرقة الفلسفة على ما نؤمن به من معتقدات دينية لنرى إن كانت ذات أُسس هشة ضعيفة أم ذات أسس متينة قوية متماسكة.

***

سليم جواد الفهد

 

في المثقف اليوم