أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: سؤال الهوية.. تأملات في مفهوم الذات
في الثقافة الغربية هناك الكثير من الهوس في الذات وهو الأمر الذي يثير احيانا السخرية. يُطلب من كل شخص "ان يكون صادقا مع ذاته" وان يقرأ الكثير من كتب "المساعدة الذاتية"، ولكن مع ذلك نادرا ما جرى التفكير بما تعنيه الذات. ان فحص طبيعة "الذات" تأتي معه بعض المشاكل. حين يُنظر الى الذات من مسافة أبعد ذلك سيجعل المنظور أكبر. نحن يمكننا ان نتصور شيء ما ونفهمه بشكل أفضل عندما نراه من مكان بعيد. لكننا لا يمكننا الحصول على مسافة بيننا وبين ذاتنا. منْ أنا؟ (أنا) هي في نفس الوقت محقّق ومُشتبه به. لا غرابة ان نجد من الصعب التفكير حول هذا الموضوع.
أين الذات؟
حتى الآن، نحن نرى كلمات ونعتقد أفكار. وعينا بهذا يتطلب ان هناك موضوع لتلك التجربة. وكما أعلن الفيلسوف الفرنسي ديكارت، انا افكر، اذاً انا موجود. ذاتنا الـ "انا" التي يتحدث عنها ديكارت هي في نفس الوقت وراء التجربة ويُعبّر عنها ايضا من خلال التجربة.
جدال ديكارت حول الذات يتجاوز العديد من طرقنا العادية في اكتساب العقائد. نحن لا نستطيع ملاحظة الذات بحواسنا الخارجية (البصر، اللمس، السمع وغيرها)، ونحن لن نصبح واعين بها من شهادة الآخرين. بدلا من ذلك، هو اعتقد اننا يمكننا كشف ذواتنا عبر النظر من الداخل، وهي العملية التي نسميها "الاستبطان". لكن لو وجّهنا تركيزنا نحو الداخل، هل نجد أي شيء يُضاف الى التجربة أكثر من خصائص التجربة ذاتها؟ هل نستطيع ايضا ملاحظة "ذات" تقوم بالتجربة؟
الفيلسوف الاسكتلندي التنويري ديفد هيوم رفض هذا، بالنسبة له، الإستبطان يفشل في تحديد أي شيء مميز كـ "ذات" في الداخل: هو يرى انه عندما يتقرّب اكثر لما يسميه ذاته، دائما يجد تصوّرا معينا او آخر عن الحرارة او البرودة، الضوء او الظل، الحب او الكراهية، الألم او المتعة. هو لا يمكنه ابدا الامساك بذاته في أي وقت بدون تصوّر، ولا يستطيع ابدا ملاحظة أي شيء عدى التصور.
ما هي الذات؟
يدّعي هيوم اننا لا نستطيع ملاحظة الذات بدون تصوّر، لكن بعض تصوراتنا تعطينا أفكارا عن ماهية الذات. ذلك لأنني عندما امارس أي شيء، انا أحس ببعض الانفصال بين ذاتي والعالم. هناك اشياء هي جزء مني مثل يدي، وهناك اشياء اخرى تعود الى فئة انا لست منها، مثل هذا الكومبيوتر الذي أكتب فيه الآن. "الذات" تتضمن وتستبعد، تقسم العالم الى ما هو أنا وليس أنا.
عندما أنظر للداخل، انا ايضا أحس بمزيج من الخلق والتحكم. الفيلسوف غالن ستروسن Galen Strawson لخّصه كتصور "للمسؤولية الراديكالية والمطلقة في الإختيار والفعل". افعالي وافكاري يبدو انها تاتي مني، لذا هي يجب ان تقيم في شيء ما. هذا نسميه "ذات". انه يوضح لماذا يميل اكثرنا الى التعرّف على عقولنا اكثر من اجسادنا، طالما نعتقد بانه من هنا ينبثق ما نعمل، ونشعر، ونفكر.
أنا ايضا أتصور نفسي كشيء ثابت لا يتغير. انا أعتقد ان ذاتي تتطور بمرور الزمن، بلا شك، لكن أصرّ بأني مع ذلك نفس الشيء. ربما هذا نتاج لذاكرتي – طالما هذا يعرّفني بالنسخ الماضية لذاتي. او ربما أجد هذا الإحساس بذاتي كثابت من خلال التعريف المستمر لجسمي المادي.
البعض قد يعارض بأن هذا الوجود هو بلا فائدة طالما انه فقط يهدف لوصف خصائص الذات وليس الذات ذاتها. مع ذلك اذا نحن نأخذ أي شيء عادي مثل الصحن، نحن نصف الصفات التي يمتلكها (مثل شكله الدائري، فيه فجوة او غير ذلك). وبوصف ما يقوم به (مثل انه يحمل اشياء، يمكن استخدامه لتناول الطعام). لذا من المفترض اننا نستطيع فعل الشيء نفسه مع الذات. مشاكل أعمق تبرز اذا اخذنا بالاعتبار ان الذات التي تتمتع بالخصائص التي حددناها يمكن ان تظهر الى الوجود في المقام الاول.
متى "أنت" بدأت؟
هل أنت موجود دائما؟ اذا لم تكن، معنى ذلك أنت بدأت في الوجود في لحظة ما. لكن متى كان ذلك حقا، وكيف حدث؟
هذه الأسئلة محيرة جدا وتستحق النقاش في مقال منفرد، لذا سنضع جانبا السؤال كيف ومتى حدث هذا ونركز فقط على الإمكانية العامة لمجيء الذات للوجود. لكن فكرة الوجود الدائم للذات غريبة جدا- لحظة نشوء الذات – تحمل معها الغموض والمفارقة .
لنبدأ بفكرة ان الذات هي الجزء الذي لا يتغير منا. من وجهة نظر بايولوجية خالصة، كل انسان يبدأ كحيوان منوي وبيضة تندمجان أثناء التخصيب. في هذه اللحظة لا وجود هناك لتجربة واعية، لا شيء يشبه ان البيضة المخصبة تكون هي ذاتها. ومع ذلك، في نقطة ما ومن خلال النمو واستهلاك مختلف المواد العضوية من الام – تبرز الذات بشكل اسطوري. هذا يثير مشكلة لنا. نحن قلنا ان الذات لا تتغير، مع ذلك ألا يحتاج خلق الذات الى نوع من التغيير من حالة الى اخرى؟
ثانيا، ربما المشكلة الأعمق تأتي من إعتبار الذات منفصلة عن العالم، تكوّن حدودا بيننا وبين كل شيء آخر. لو كانت الذات خُلقت ضمن الكون، ستحصل امامنا مفارقة: كيف يمكن لشيء ما هو جزء من الكون وهو ايضا يقسّم الكون؟
الفيلسوف البريطاني آلن واط Alan Watts كتب مرة، "نحن لا "نأتي الى" هذا العالم، نحن خرجنا منه، كما تخرج الأوراق من الشجرة. مثلما تخرج "ألأمواج" من المحيط ، يخرج "الناس" من الكون . كل فرد هو تعبير عن عالم كامل للطبيعة، فعل متفرد للكون الكلي" . تصوّر واط للظهور يحمل رسالة بأننا لسنا غرباء عن هذا العالم، لكن هذا ما يشعر به العديد من الناس. هذا الشعور بالإنعزال ربما هو وهم يبرز في مرحلة لاحقة من تطورنا. الاطفال الرضع يبدو يفتقرون الى هذا الإحساس الأساسي بالانفصال بين أنفسهم والعالم. بدلا من ذلك، هم يعتبرون العالم كامتداد لأنفسهم، يجدون من الصعب فهم ان الآخرين لديهم رؤى مختلفة عن رؤاهم الخاصة. هل تجربة الطفل الأساسية بالوحدة تكون أقرب الى الحقيقة من شعورنا بالإنفصال؟
أخيرا، الرؤية باننا مصدر للخلق والتحكم يقودنا الى لغز عندما نعتبر تطورنا ككائنات بايولوجية. معظمنا يعترف باننا نبدأ حياتنا كجنين في اعتمادية تامة. كل شيء نعمله في تلك الفترة يتقرر بالكامل بعمليات وقوانين طبيعية. لكن في نقطة معينة نطور احساسا لا مهرب منه بـ "التقلّب المستمر" في تجربتنا الواعية. نحن نشعر أحرارا. نشعر بأننا الآن مسؤولين عما نعمل ونعتقد . هل نجحنا في كفاحنا لإستعادة السيطرة من الطبيعة؟ اذا كان الجواب نعم، كيف يمكننا ان ننمو الى استقلالية عندما نبدأ حياة معتمدة كليا؟
في هذه النقطة، نحن قد نعتقد ان اعتبار الذات ككائن بايولوجي وفي نفس الوقت كشيء منفصل عن العالم لا يتغير وفي سيطرة، سيقودنا الى كل أنواع المشاكل . نحن لدينا خيارات قليلة: نستطيع التأكيد بأن الذات هي في العالم ونحن بالنهاية سوف نحل هذه المشاكل، يمكننا الجدال بأن الذات لاتمتلك حقا الخصائص التي نصفها، او نزعم بان الذات فعلا تمتلك هذه الخصائص لكنها ليست بايولوجية خالصة.
اولئك الذين يجادلون بان الذات ليست مجرد شيء بايولوجي عادة يدّعون اننا نحوز على روح عابرة. هذه الروح هي جوهرنا الحر اللامتغير والغير منقسم وتوجد قبل مولدنا وتستمر بعد الموت. معظم المؤمنين الدينين، يرون ان الاعتقاد في امتلاك كل واحد منا لروح يجعل من السهل فهم شعورنا بالإنفصال، إحساسنا بالخلق والسيطرة، وبطبيعتنا الغير متغيرة في الظاهر.
اولا، نحن نشعر منفصلين لأننا حقا ليس في هذا العالم. بالنسبة للمدافع المسيحي C.S.Lewis ومؤلف كتاب Narnia (1) يرى انه من غير الصحيح القول اننا نمتلك أرواحا. بل، يجب ان نقول"نحن أرواح. نحن نمتلك أجساما".
ثانيا، نحن مصدر الخلق والسيطرة لأننا كنا وُهبنا رغبة حرة من جانب خالقنا لنتخذ قراراتنا. نحن غير مقيّدين بقوانين الطبيعة لأننا لسنا فقط كائنات طبيعية.
أخيرا، مشكلة الكائن غير المتغير الذي يأتي الى الوجود يتم تجنبها باقتراح خلود الروح. روحنا توجد قبل وبعد خلق وفناء أجسامنا. وبهذا، نحن نتجنب مشكلة كيف تبرز "ذاتنا" من المادة وحدها.
غير ان الإيمان في الروح يولّد مشاكله الخاصة. كيف تأتي هذه الروح للوجود أو هل هي لم تُخلق أبدا؟ كيف ترتبط الروح بالبدن؟ هل الروح منفصلة عن الذهن، او هي ذاتها الذهن؟ بالنظر الى هذه الأسئلة، نحن ربما نعتقد ان "الروح" هي مصطلح لا يمثل أفكارنا وانما غيابها. هل نسبة الذات للروح هي مجرد إعطاء اسم لجهلنا، ام انها حقا تساعد في توضيح منْ نحن؟
***
حاتم حميد محسن
.............................
A Question of Identity, The Philosophers’magazine, 11 octo 2022
الهوامش
(1) سي.إس.لويس (1898-1963) ناقد وروائي انجليزي يُعد من أبرز الكتّاب في القرن العشرين. هو كان بروفيسور في الادب الانجليزي في جامعة اكسفورد وكامبردج. أشهر أعماله سلسلة قصص خيالية للاطفال وكُتب ثيولوجية. صوته في الـ BBC اثناء الحرب العالمية الثانية نال اقبالا واسعا في بريطانيا عندما استطلع "الصح والخطأ"، أفكار عن معنى الكون. هو كتب اكثر من 30 كتابا، وكان رئيسا لنادي سقراط في جامعة اكسفورد. من أقواله "انا اؤمن بالمسيحية كما اؤمن بشروق الشمس، ليس فقط بسبب كوني أراها وانما بسبب اني أرى بها كل شيء آخر".