ترجمة: حاتم حميد محسن
عندما نفكر في رقم ما، فما هو الشيء الذي نفكر فيه بالضبط؟ الرياضيات يلفّها الغموض. بهذا لا نعني هناك مجرد صعوبات او أسئلة رياضية لم تُحل، بل نعني ان الرياضيات ذاتها كموضوع وكفعالية هي شيء غامض. اطّلاعنا المألوف بالرياضيات الأولية احيانا يجعل ذلك الغموض غائب عن أذهاننا. هذا ربما شيء جيد في معظم الأوقات. التفكير في طبيعة الرياضيات لا يساعد في حل المشكلة الرياضية. لكن عمل رياضيات شيء وفهم طبيعة الرياضيات شيء آخر. المهمة الاولى هي رياضية، اما الثانية هي فلسفية. لماذا الرياضيات غامضة؟ لأنه من الصعب رؤية كيف تنسجم الرياضيات مع صورتنا للعالم. الرياضيات تهتم بحقائق معينة وأكاذيب: (1+1=2) صحيح و (1+1=3) كذب. ايضا من الصحيح هناك شيء فارغ (مجموعة من أشياء لا تحتوي على شيء)، ومن الكذب ان بعض المجموعات هي أرقام بذاتها. هذه هي حقائق وأكاذيب في الحساب ونظرية المجموعات، والتي هي فرع من الرياضيات الخالصة. الرياضيات الخالصة pure mathematics يقابلها الرياضيات التطبيقية كما في التطبيقي مقابل العالم المادي. هناك أسئلة حول الكيفية التي تستطيع بها الرياضيات التطبيق على العالم في جميع الطرق غير المتوقعة التي تقوم بها. الفيزيائي Eugene Wigner قال ان الرياضيات كانت فعالة بشكل غير معقول في تطبيقها على العالم. لكن اللغز الذي نثيره هنا هو أكثر جوهرية، انه يتعلق بالمظاهر الأساسية للرياضيات الخالصة ذاتها.
حقائق الرياضيات الخالصة تختلف تماما عن الحقائق العادية. فمثلا، حقائق الرياضيات الخالصة هي أبدية: هي دائما كانت صحيحة وستبقى صحيحة. كان صحيحا عند الانفجار العظيم ان 1+1=2، وسيبقى صحيحا بعد ترليون سنة. انها ايضا ضرورية – تبقى صحيحة دائما لا يهم في ذلك حالة العالم. حتى في عالم بلا انسان سيبقى صحيحا ان واحد زائد واحد يساوي اثنين. كذلك هي موضوعية – لا تعتمد على أهواء او رغبات أي شخص . لو نحن نلتقي باناس من المريخ، ويقولون ان واحد زائد واحد يساوي ثلاثة، سوف نعرف اننا نفشل في التواصل معهم، او ان سكان المريخ كاذبون.
من المهم جدا ان الرياضيات ايضا تهتم بالأشياء الرياضية المتميزة: أرقام، نقاط، مجموعات، دالات، وغير ذلك. هذه الاشياء هي غير مادية. انها ليست جزءاً من الواقع المادي الذي تكون عليه الأجسام،مثل الطاولات، الكواكب. لا أحد عثر في أي وقت على رقم، لم يُشاهد أي رقم بالتلسكوب. الأشياء الرياضية ليست هناك بأي معنى للكلمة. مع ذلك، هي ايضا لا تبدو هنا بالطريقة التي تبدو بها الرموز، الأفكار،العواطف. لكننا بطريقة ما ندرك وبتأكيد عالي الكثير من الحقائق الرياضية، ونحن نتوقع اكتشاف المزيد منها.
من الواضح، ان معرفتنا الرياضية تأتي لنا بطرق معينة. لم تُجرى أي تجربة في الرياضيات الخالصة في صفوف الدراسة. لا بيانات مفهرسة، لا مشاهدات لا ملاحظات . ليس هناك أي من طرقنا المألوفة في العثور على أشياء في الخارج . بدلا من ذلك، المعرفة الرياضية تأتي بطرق من البراهين المنطقية الصارمة المشتقة من مبادئ أساسية – البديهيات، مثل "واحد هو رقم" او "كل الزوايا القائمة متساوية" – والتي تؤخذ على انها صحيحة بشكل واضح.
هذه السمات تجعل الرياضيات لغزا. التحدّي أمامنا هو ان نضع الرياضيات ضمن توضيح معقول للعالم. فقط عند ذلك سوف نفهم حقا الرياضيات فلسفيا. هذا التحدي كان هاجسا لبعض كبار الفلاسفة والرياضيين لكن لم يبرز جواب واضح حتى الآن.
حسابات ميتافيزيقية خاطئة
كان هناك في وقت ما اتجاها واعدا لفهم ميتافيزيقا الرياضيات وهو التقليدية او العرفية conventionalism وهذا الاتجاه يعتمد ببساطة على الكيفية التي نستعمل بها اللغة. اليوم تواجه التقليدية تقريبا رفضا عالميا من جانب فلاسفة الرياضيات. ولكن رغم الموضة الحالية، نرى ان التقليدية يمكن إنعاشها. لكي نمهد الطريق، دعونا نرى لماذا حاليا تفشل وبشكل خطير معظم نظريات الرياضيات الفلسفية. ربما يتضح الاتجاه الفلسفي في الرياضيات من خلال إجراء مقارنة. عندما تخبرني ان القطة سمينة، انت تخبرني شيئا ما حول العالم المادي. انت تخبرني ان شيئا فيزيقيا معينا – القطة – لها خصائص معينة في كونها سمينة. كذلك الرياضيات بنفس الطريقة تسعى لوصف واقع موجود بشكل مستقل؟ ليس واقعا ماديا، بالطبع،لكنه واقع رياضي.
اذا كان هذا صحيحا، فان الادّعاءات الرياضية تكون وصفية. عندما هي تصف بالضبط واقعا رياضيا، مثل واحد زائد واحد يساوي اثنين، فهي صائبة. عندما هي لا تقوم بذلك، فهي كاذبة. وهكذا، القول ان ثلاثة هي رقم اولي (يُقسم على نفسه بدون باقي) prime number هو كالقول ان القطة سمينة. في الواقع الرياضي، الرقم ثلاثة هو شيء موجود بشكل مستقل،وكونه رقم أولي هو خاصية رياضية.
طبقا لهذه النظرية، الهدف من الرياضيات هو ان تصف الواقع الرياضي بشكل صحيح ، وان الرياضيات هي مثل "الفيزياء" لهذا الواقع. لكن الحقيقة الرياضية كما رأينا، هي أبدية، ضرورية، وموضوعية. هذه الرؤية عادة تسمى الافلاطونية الرياضية mathematical Platonism. افلاطون ربما قبل بهذه النسخة. طبقا للافلاطونية، الواقع يستلزم اكثر من جميع الحقائق حول العالم المادي، انه ايضا يتضمن حقائق أبدية مجردة موجودة بشكل مستقل. الحقائق الرياضية هي جزء من القصة. في الحقيقة، ان ما يسمى هنا "الواقع الرياضي" هو احيانا وبسخرية يسمى "السماء الافلاطونية".
فكرة الحقائق الرياضية الموجودة بشكل مستقل لا تتلائم مع فهمنا الحالي السائد حول العالم، وهو الطبيعية العلمية Scientific naturalism. وفي الحقيقة ان اضافة نوع خاص من الحقيقة لصورتنا عن الواقع سواء كانت رياضية او منطقية او أخلاقية او تيليلوجية ليس شيئا يجب عمله بسهولة. اذا كانت هذه الطريقة الوحيدة لفهم الرياضيات، فهي ربما تمثل افراطا ميتافيزيقيا. لكن الافلاطونية لا تتلائم مع حقيقة اننا نمتلك معرفة رياضية.
لكي نرى هذا، افرض ان الافلاطونية صحيحة، وايضا ان "ثلاثة هي رقم اولي" هي صحيحة. هي صحيحة لأنها تصف بشكل صحيح واقعا رياضيا. لكن كيف نعرف انها فعلا كذلك؟ ارتباط بواقع رياضي منفصل افتراضا لا يلعب دورا أبدا في توليد هذه المعرفة. لو تلاشى "واقع رياضي مستقل"، سوف نستمر نعتقد ان ثلاثة هي رقم اولي. ونفس الشيء، لو توقفنا عن التفكير بان ثلاثة هي رقم اولي،ذلك سوف لا يكون بسبب الادراك الأفضل لهذا الواقع الرياضي المفترض. لا وجود لتسكوب عظيم يستطيع الاشارة الى سماء رياضي افلاطوني.
المعرفة تتطلب نوعا من الارتباط بين الحقائق المعروفة وطريقتنا في التحقيق. انا أعرف ان القطة سمينة بطريقة من الارتباط الحسي: انا أرى القطة السمينة. لكن الارتباط لا يحتاج ليكون مباشرا. ارتباط غير مباشر عادة يكون كافيا. نحن نعرف عن الثقوب السوداء، مع ذلك نحن لم نشاهدها ابدا بشكل مباشر. لكن اذا كانت الافلاطونية صحيحة، لا وجود هناك حتى لإرتباط غير مباشر بين الواقع الرياضي وطرقنا الرياضية. لكي نعيد الارتباط، ذلك يتطلب رحيلا آخرا من الطبيعية العلمية عبر افتراض قدرات خارقة للرؤى الرياضية او ما يشبهها. هذا ثمن باهض تدفعه نظرية الرياضيات الفلسفية. لو أردنا البقاء ضمن الطبيعية العلمية، فان الافلاطونية يجب ان تذهب. ان رفض الافلاطونية ليس مثل رفض الرياضيات. اتجاهات اخرى هي ممكنة. في الحافة الاخرى للطيف هناك رؤى تغيّر افتراضاتنا الاساسية حول الحقيقة الرياضية. بعض هذه الرؤى تنكر اطلاقا ان الرياضيات تهتم بالحقائق . اخرى تسمح بالحقيقة لكنها تنكر ان الرياضيات هي أبدية ضرورية موضوعية. هي تدّعي بدلا من ذلك انها زمنية ومشروطة وذاتية. الرياضيات مُخترعة وغير مكتشفة. طبقا لهذه الرؤى الرياضية الخالقة، نحن نخلق الاشياء والحقائق الرياضية.
لكي يجعلوا هذا الاتجاه في الخلق معقولا، يشير اصحاب نظرية الخلق الى اضطراب الوقائع التاريخية للممارسات الرياضية. أين ما ننظر، نرى بصمات الانسان وليس نقاءً بلوريا. الرياضيات خُلقت بواسطتنا ولم تهبط الينا من السماء. انها تبدو أبدية ضرورية موضوعية لكن هذه المظاهر هي اسيء فهمها، حسب قول الخلقيون. لكن بينما هذا التفكير شائع جدا في بعض الحلقات، لكنه يرتكز على التباس بسيط.
من الواضح، ان المفاهيم الرياضية والكلمات والممارسات تم اختراعها من جانب الانسان. كل ممارسات الانسان جاءت للوجود في وقت ما من التاريخ. وان المفاهيم الرياضية يمكن ان توجد فقط عندما يكون الخالقون قادرين على التفكير المفاهيمي. التاريخ وعلوم الادراك وعلم النفس ربما جميعها تلقي ضوءا على تطور وتطبيق المفاهيم الرياضية. نحن نعترف بكل هذا، كما يجب ان يعترف كل واحد. لكن الاعتراف بان مفهوم الرقم اختُرع ليس كالاعتراف بان الارقام ذاتها اختُرعت. مفهوم الكوكب اختُرع ايضا، لكن الكواكب ليست كذلك (على الأقل ليس بواسطتنا).
هذا ما يسميه الفلاسفة "الخلط بين اللفظ والاستعمال" use-mention confusion . بوستن مدينة في شمال شرق الولايات المتحدة، لكن "بوستن" هو اسم. بوستن فيها اكثر من مليون مقيم، لكنها لم تبدأ بـ "ب" (كيف يمكن لمدينة تبدأ بحرف "ب"). اسم "بوستن" ليس فيه مقيمين، لكنه يبدأ بـ "ب". نفس الشيء، مفهوم الكوكب ليس كوكبا. هو لا يدور حول الشمس . هو في الذهن، ليس في الفضاء. اذا اعتقدت ان لا أحد التبس عليه ذلك فانت على خطأ. السيوسيولوجي البارز في العلوم Bruno Latour جادل مرة بانه من المفارقة التاريخية الاقتراح بان الفرعون رمسيس الثاني مات بسبب السل لأن السل لم يوجد حتى القرن التاسع عشر. من الواضح، ان هذه سخافة. ان مفهوم مرض السل وُجد في القرن التاسع عشر، وليس المرض ذاته. تداخل الاستخدام والذكر يقود الى التباس سخيف.
نفس الشيء هنا. الحجج التي تساوي خلق مفاهيم الرياضيات بخلق الحقائق الرياضية هي خاطئة. لغتنا وممارساتنا ومفاهيمنا خُلقت لكن الحقائق الرياضية والأشياء ليست كذلك. الفهم الصحيح للرياضيات يتطلب تجنب هذا الالتباس.
التصورات التقليدية الأساسية
وهكذا نحن يجب ان نرفض الافلاطونية ونظرية الخلق في الرياضيات. الرياضيات ليست وصفية بنفس الطريقة التي تكون عليها الخطابات العادية، ولكنها ايضا ليست ذاتية. هناك اتجاه أفضل موجود. نحن يجب ان نفهم الادّعاءات الرياضية في الاتجاه التقليدي. لنوضح هذا ببعض الأمثلة غير الرياضية قبل توضيح كيفية تطبيق الفكرة على الرياضيات.
انظر في عبارة "الأساقفة يتحركون قطريا (بشكل مستقيم ومائل) في لعبة الشطرنج". هذه صحيحة،لكن كما في الرياضيات انها لا تنسجم جيدا مع كيفية وصفنا للاشياء الفيزيقية العادية. ان المقدرة على التحرك قطريا ليست خاصية فيزيقية متأصلة في أساقفة الشطرنج. اساقفة الشطرنج ليسوا مثل الكواكب او الألكترونات. بدلا من ذلك، شيء ما يوصف كأسقف في لعبة الشطرنج اذا كان يتحرك فقط قطريا ضمن اللعبة. ان مصدر الحقيقة في "الأساقفة يتحركون قطريا في لعبة الشطرنج" هو في القواعد التقليدية للشطرنج. هذه القواعد مجتمعة تشكل لعبة الشطرنج. لو فشلت في اتباعها ستفشل في لعب الشطرنج.
وبنفس الطريقة، العديد من الحقائق المفاهيمية الاخرى هي تقليدية. خذ العبارة "العزّاب غير متزوجين". هذه صحيحة لكنها لا تحدد حقيقة حول العالم المادي الذي اكتشفناه علميا, قواعد استعمال اللغة هي مصدر الحقيقة في ان العزاب غير متزوجين: لا أحد متزوج يُحسب أعزبا. هناك العديد من الحقائق المفاهيمية المشابهة يمكن توليدها بشكل صريح ومباشر، عبر التأمل او التعريف، وايضا بشكل غير مباشر عبر اتّباع قواعد استخدام اللغة. نحن نسمّي كل هذه الحقائق "تقليدية". الحقائق التقليدية هي مألوفة وليست كلها غامضة.
التقليدية الرياضية هي الرؤية بان الرياضيات يجب ان تُفهم بهذه الطريقة. قواعدنا التقليدية لإستعمال المفردات الرياضية مثل "أرقام"، "صفر"، "جمع"، "مجموعة"، "دالة"، "وغيرها تقرر مفاهيمنا الرياضية . القواعد التقليدية هي ايضا مصدر الحقيقة الرياضية. في المفردات العادية مثل "قطة"، "طاولة"، "ثقوب سوداء"، تكون القواعد ومعها الحقائق الخارجية هي مصدر الحقيقة. في الرياضيات الخالصة، لا توجد مساهمة إضافية من العالم الخارجي. القواعد التقليدية تعمل من تلقاء نفسها. الرياضيات لا تحتاج الى عالم افلاطوني خارجي لتكون صحيحة. نؤكد الآن بان جميع خصائص الرياضيات المنتجة للغموض يمكن استيعابها بأناقة بواسطة التقليدية، بدون التطرف الميتافيزيقي للافلاطونية وبدون الالتباس الذاتي لنظرية الخلق.
توضيح الحقيقة الرياضية
الحقيقة الرياضية لغز لأنها أبدية وضرورية وموضوعية. الافلاطونية توضح هذه الخصائص بنظرية جعلت الحقائق الرياضية لايمكن معرفتها. الخلقيون انكروا هذه الخصائص كليا. التقليدية يمكن ان تعمل أفضل بشرط ان تتجنب بعض الإلتباسات. دعنا نأخذ كل خاصية الواحدة بعد الاخرى.
الحقيقة الرياضية أبدية:
حقائق الرياضيات الخالصة كانت دائما وستبقى. نحن نستطيع توضيح هذا بالنسبة للغتنا الرياضية التي لا تأخذ بالاعتبار الاختلافات في زمن الفعل. اذا كان صحيحا واحد زائد واحد يساوي اثنين عندئذ ستبقى صحيحة الآن وغدا. سواء كانت في الماضي البعيد او المستقبل البعيد، الحقائق الرياضية هي بالضبط ذاتها لأن لغتنا الرياضية هي مستقلة عن الزمن. هذا هو المعنى الذي تكون فيه الحقيقة الرياضية "أبدية". لذا فان التقليدية توضح هذه الحقيقة العميقة حول الرياضيات بدون بناء أوهام ميتافيزيقية. القواعد لإستعمال اللغة الرياضية تكفي.
الحقيقة الرياضية ضرورية:
حقيقة الرياضيات الخالصة لايمكن ان تكون غير ذلك. هذا يمكن توضيحه ايضا باستعمال تقاليد لغة الرياضيات. مثلما لغة الرياضيات مستقلة هي ايضا لغة احتمالية: لاتعارض في لغة الرياضيات بين الادّعاءات الدالّة (س هي الحالة) والادّعاءات الاحتمالية (س ستكون هي الحالة). هذا يعني انه اذا كان شيء ما صحيحا رياضيا، عندئذ سيكون ايضا صحيحا في أي موقف آخر. لو تحدّثنا عن أي موقف نحب، سواء كان حقيقيا او غير واقعي، فان الحقائق الرياضية هي بالضبط ذاتها. هذا هو المعنى الذي تكون به الحقيقة الرياضية "ضرورية". مرة اخرى، التقليدية توضح خاصية غامضة في الظاهر بدون أي تطرّف ميتافيزيقي.
الحقيقة الرياضية موضوعية:
كل منظور يقود الى نفس الحقائق الرياضية. التقليدية ايضا توضح هذه السمة. بالنسبة للتقليديين، القواعد الرياضية وحدها توضح ما نعني بالمفردات الرياضية مثل "صفر"، "رقم"، "مثلث"، "مجموعة". استخدام قواعد بديلة قد يغير الحقائق، لكن فقط بتغيير الموضوع الى شيء ليس هو الرياضيات التي لدينا. ما يعنيه أي شخص بـ "رقم" يجب ان يتفق معنا بالنهاية حول الحقيقة الرياضية. هذا يوضح لماذا الرياضيات موضوعية. ايضا مرة اخرى،التقليدية تزيل الغموض عن الصفة المحيرة.
التقليديون يعترفون ان الرياضيات أبدية وضرورية وموضوعية، بينما يعترفون ايضا بدرجة من التعددية. أحد ما ربما يلعب لعبة تشبه جدا الشطرنج، ولكن بقواعد مختلفة قليلا. نفس الشيء، سكان المريخ ربما لديهم ممارسات رياضية مشابهة جدا لنا ولكن بقواعد مختلفة قليلا. هذا لا يتجاهل موضوعية الرياضيات لأن نوع التعددية التي نتحدث عنها لا يصل الى عدم اتفاق حقيقي. نحن نرى هذا ضمن ممارساتنا الخاصة. في هندسة اقليدس الفرضية الموازية - أي خط له خط موازي يمر بنقطة ليست على الخط الأصلي – هي صحيحة. في الهندسة غير الاقليدية ليس كذلك. للجدال حول ما اذا كانت "حقا صحيحة" هو امر سخيف: انها تعتمد على اللغة التي انت تعمل فيها. بالطبع، انت تستطيع القول وبشكل معقول حول أي صيغة هي صحيحة عن الفضاء الفيزيقي – لكن حينذاك انت لم تعد تجادل عن الرياضيات الخالصة.
هذا النوع من التعددية يتجسد في الرياضيات الخالصة. لكن هذا لا يجب ان يجعلنا نسقط مجددا في الافتراض بانه عندما تبدو ممارسات رياضية متميزة غير متفقة، فهي تناقش واقعا رياضيا مستقلا. بالنسبة للتقليديين، لا مصدر هناك للحقيقة الرياضية الخالصة خارج الأعراف اللغوية.
التقليدية يمكنها ايضا فهم وجود الأشياء الرياضية. الأرقام، المجموعات، الدالات ليست اشياءً مادية. انها لم تُصنع من مادة. في الحقيقة،هي لم تُصنع من أي شيء ابدا. هذا بالاساس ما نعنيه عندما نسميها اشياء مجردة مقابل الاشياء المادية. للادّعاء بصحة "الطاولة" موجودة، و "الثقب الاسود موجود" ذلك يتطلب ان يلبي العالم المادي شروطا معينة. أي ان هذه الادّعاءات تتطلب ان يكون شيئا محددا حول العالم المادي صحيحا، وهو ما يفسر لماذا هذه الأشياء مادية. اما في الاشياء المجردة ، تكون المادة مختلفة. حقيقة ان "الرقم موجود" لا تضع شرطا على العالم المادي. قواعد الرياضيات تسمح لك بالاستنتاج ان واحد هو رقم، ولذا فان الارقام موجودة. لكن مرة اخرى، قواعد الرياضيات لا تضع متطلبات على العالم المادي. قواعدنا الرياضية ذاتها توضح الحقيقة الرياضية، مثل وجود الارقام. وهكذا، بهذا المعنى، يكون الوجود في الرياضيات سهل ميتافيزيقيا.
هذا لا يعني القول ان الوجود الرياضي هو نوع خاص من الوجود. الطاولات، والثقوب السوداء والارقام جميعها توجد بنفس الطريقة. انها انواع مختلفة من الاشياء وليست اشياء بطرق مختلفة من الوجود. فهم الوجود الرياضي لا يتطلب تعددية ميتافيزيقية حول الوجود ذاته.
هل نستطيع بسهولة اشتقاق وجود الله؟ كلا. ماذا لو بدأنا الحديث بلغة حيث عبارة "الله موجود" بُنيت في قواعد استعمال كلمة "الله"، بنفس طريقة ان "واحد هو رقم" بُنيت بقواعد الحساب الأساسي؟ هذا في الحقيقة يغيّر معنى "الله". هذا البرهان المفترض لوجود الله يفشل لنفس السبب كونك لا تستطيع إثبات وجود الله بإعادة تسمية الله باسم آخر.
كيف تعمل الحقيقة الرياضية
الافلاطونية تجعل المعرفة الرياضية مستحيلة. فريق الخلق يجعلونها ممكنة، لكن فقط عبر رفض خصائص واضحة للحقيقة الرياضية. بالمقابل، التقليدية يمكنها ان توضح وبشكل تام نمو معرفتنا الرياضية بدون أي مراجعة لفهمنا الشائع لها. في الحقيقة، التقليدية تبدو الطريقة الوحيدة لفهم لماذا ممارساتنا الرياضية عقلانية.
الممارسة الرياضية الصارمة تبدأ من مسلمات واضحة. ادّعاءات رياضية اخرى تُعرف فقط عندما يتم اثباتها منطقيا من المسلمات. بكلمة اخرى، الممارسة الرياضية تبدو بالضبط كما لو كنت تتوقعها تبدو عندما تكون التقليدية صحيحة: وضع المبادئ الاولية الواضحة، ثم بناء منطقي من هذه المبادئ. هذا لا يبدو ابدا يشبه محاولة وصف عالم مستقل لحقيقة فوق مادية. ولا هي تبدو تشبه اي شيء ذاتي. نحن نعرف الحقائق الرياضية بنفس الطريقة، وبنفس درجة التأكيد التي بها نعرف ان الاسقف يتحرك قطريا، او ان العزاب غير متزوجين. التقليدية وحدها توضح يقينية المعرفة الرياضية.
ربما يتسائل احد ألم تكن هناك فجوة؟ فجوة مفترضة بين مفهوم مثل "اثنين زائد اثنين يساوي اربعة" كونه صحيحا طبقا لممارساتنا، وانه حقا صحيح. اذا كانت هناك فجوة، عندئذ المعرفة الرياضية لم تتوضح بعد. لحسن الحظ، لا توجد هناك فجوة. طبقا لقواعد الشطرنج، الأسقف يتحرك قطريا. نفس الشيء،عندما نستعمل قاعدة حسابية، اثنين زائد اثنين يساوي اربعة. لذا، لا توجد هنا فجوة لملأها. قواعدنا تقرر ما نعني، وما نعني وحده يقرر ما هو صحيح رياضيا. انت يمكن ان تكون على خطأ حول كل انواع الادّعاءات الرياضية الفردية، لكن تغيير كيفية استعمالك للّغة عادة يغيّر ما تعنيه انت بتلك الجمل. بدلا من ذلك، تقاليد لغتنا الرياضية تقرر بالكامل كل ما نعنيه بالمفردات الرياضية وكذلك ما هو صحيح رياضيا في لغتنا. لذا، فان معرفتنا بالرياضيات تأتي بطريقة البراهين باستعمال تقاليدنا الرياضية الاساسية. هذا بالضبط ما نجده في ممارسة عمل الرياضيين. انه بالضبط ما يخشاه الطلاب في القسم المتقدم في صفوف الرياضيات في الكلية. التقليدية وحدها من بين جميع النظريات الفلسفية للرياضيات تدرك السمات الحقيقية للتفكير الرياضي وتجميع المعرفة.
الوصول الى الاستنتاج التقليدي
ربما أحد يتسائل الآن لماذا لا يكون سلفا كل شخص تقليديا حول الرياضيات. الجواب على هذا السؤال يتطلب بعض التاريخ الفلسفي. الصيغ الاولى للتقليدية الرياضية كانت قد تم القبول بها من قبل الفلاسفة باعتبارها مختلفة عن بعضها البعض كـ ليبنز (1646-1716) وديفد هيوم (1711-1776). لكن الفكرة اصبحت ناجحة جدا في بداية القرن العشرين بعد ان سمح تطور منطق الرياضيات الحديثة لصياغات اكثر دقة للفكرة. فمثلا، نسخة التقليدية جرى تفضيلها من جانب الوضعيين المنطقيين،وهم جماعة مؤثرة من الفلاسفة والعلماء والرياضيين تركزوا في الأصل في فيينا. الوضعيون جادلوا بان كل الحقائق الضرورية او أي حقيقة يمكن معرفتها من خلال العقل وحده، انما تنتج من التقاليد. هم جادلوا بقوة بان شيئا ما كان يمكن معرفته من كرسي متحرك فقط في حالة كونه صحيح بالتقاليد. الحقائق المنطقية والرياضية والمفاهيمية جميعها توضح هذا التقارب العام. الوضعيون جسدوا هذا الاتجاه في الرياضيات ضمن اتجاه فلسفي عام اعتمد على مبدئهم الشهير في الإثبات "مبدأ الاثبات": بان القول يكون ذو معنى فقط عندما يتم اثباته او دحضه علميا. لكن الادّعاءات الرياضية كونها صحيحة او زائفة بواسطة التقاليد، كانت اما صادقة اوتوماتيكيا او كاذبة اوتوماتيكيا. باستعمالهم هذا الاطار، اكتسح الوضعيون كل الميتافيزيقا التقليدية ومعظم الفلسفة. النتيجة كانت نسخة مثيرة لرؤية للفلسفة صديقة للعلم.
هناك شيء من الاثارة تم تصويره في كتاب الفيلسوف البريطاني الفريد جول آير A.J.Ayer،اللغة، الحقيقة،والمنطق، الذي نُشر عام 1936، والذي نقد فيه الميتافيزيقا بكل اشكالها.
لسوء الحظ، بعض المشاكل تتعلق بتعاملها مع الرياضيات، لكن اكثر المشاكل تتعلق بمظاهر اخرى للاطار الشامل. فمثلا، النقاد قالوا ان الوضعية المنطقية كانت مرفوضة ذاتيا لأن مبدأ الإثبات لايمكن بذاته التحقق منه بنجاح، وبالنهاية الوضعية المنطقية اصبحت نظرية ميتة. لكن التخلي عن التقليدية الرياضية لصالح الوضعية المنطقية سيكون قفزا من سفينة صالحة للابحار. نحن لانزال رياضيين تقليديين بدون ان نكون اثباتيين حول المعنى. كذلك، نحن يمكن ان نكون رياضيين تقليديين بدون الحاجة الى ان تُعطى جميع الحقائق الرياضية نفس التعامل. متى ما تم ادراك هذا، فان الصعوبات التي يشعر بها الفلاسفة والرياضيون بمجرد ذكر التقليدية يجب ان تبدأ بالاضمحلال.
بالعكس، التقليدية تعد بتوضيح الرياضيات بدون عمل ادّعاءات غريبة او غير معقولة. ربما يجب التخلي عن الطبيعية ، لكن هذا لايتم عبر التنظير في المنطق والرياضيات. على خلاف معظم النظريات الفلسفية الاخرى للرياضيات، التقليدية منسجمة مع الطبيعية العلمية وربما حتى مع الفيزيائية.
بالطبع دفاع كامل عن التقليدية الرياضية يحتاج معالجة العديد من القضايا التي لم نذكرها هنا، تتراوح من معارضات فلسفية الى تحديات تقنية. لكن الهدف المتواضع هنا كان الجدال بان التقليدية تستحق الدراسة.
الرياضيات شيء محير. ولحل هذا الغموض نحن يجب ان نضع الممارسات الرياضية بشكل منسجم ضمن صورة معقولة للعالم. محاولات الافلاطونيين والخلقيين ليست ناجحة، والتقليدية تبقى هي الخيار الأفضل.
***
..................
* المقال لـ Jared Warren استاذ الفلسفة المساعد في جامعة ستانفورد، نُشر في Philosophy Now عدد آب/ايلول 2023.