أقلام فكرية

أقلام فكرية

ترجمة: حاتم حميد محسن

عندما نفكر في رقم ما، فما هو الشيء الذي نفكر فيه بالضبط؟ الرياضيات يلفّها الغموض. بهذا لا نعني هناك مجرد صعوبات او أسئلة رياضية لم تُحل، بل نعني ان الرياضيات ذاتها كموضوع وكفعالية هي شيء غامض. اطّلاعنا المألوف بالرياضيات الأولية احيانا يجعل ذلك الغموض غائب عن أذهاننا. هذا ربما شيء جيد في معظم الأوقات. التفكير في طبيعة الرياضيات لا يساعد في حل المشكلة الرياضية. لكن عمل رياضيات شيء وفهم طبيعة الرياضيات شيء آخر. المهمة الاولى هي رياضية، اما الثانية هي فلسفية. لماذا الرياضيات غامضة؟ لأنه من الصعب رؤية كيف تنسجم الرياضيات مع صورتنا للعالم. الرياضيات تهتم بحقائق معينة وأكاذيب: (1+1=2) صحيح و (1+1=3) كذب. ايضا من الصحيح هناك شيء فارغ (مجموعة من أشياء لا تحتوي على شيء)، ومن الكذب ان بعض المجموعات هي أرقام بذاتها. هذه هي حقائق وأكاذيب في الحساب ونظرية المجموعات، والتي هي فرع من الرياضيات الخالصة. الرياضيات الخالصة pure mathematics يقابلها الرياضيات التطبيقية كما في التطبيقي مقابل العالم المادي. هناك أسئلة حول الكيفية التي تستطيع بها الرياضيات التطبيق على العالم في جميع الطرق غير المتوقعة التي تقوم بها. الفيزيائي Eugene Wigner قال ان الرياضيات كانت فعالة بشكل غير معقول في تطبيقها على العالم. لكن اللغز الذي نثيره هنا هو أكثر جوهرية، انه يتعلق بالمظاهر الأساسية للرياضيات الخالصة ذاتها.

حقائق الرياضيات الخالصة تختلف تماما عن الحقائق العادية. فمثلا، حقائق الرياضيات الخالصة هي أبدية: هي دائما كانت صحيحة وستبقى صحيحة. كان صحيحا عند الانفجار العظيم ان 1+1=2، وسيبقى صحيحا بعد ترليون سنة. انها ايضا ضرورية – تبقى صحيحة دائما لا يهم في ذلك حالة العالم. حتى في عالم بلا انسان سيبقى صحيحا ان واحد زائد واحد يساوي اثنين. كذلك هي موضوعية – لا تعتمد على أهواء او رغبات أي شخص  . لو نحن نلتقي باناس من المريخ، ويقولون ان واحد زائد واحد يساوي ثلاثة، سوف نعرف اننا نفشل في التواصل معهم، او ان سكان المريخ كاذبون.

من المهم جدا ان الرياضيات ايضا تهتم بالأشياء الرياضية المتميزة: أرقام، نقاط، مجموعات، دالات، وغير ذلك. هذه الاشياء هي غير مادية. انها ليست جزءاً من الواقع المادي الذي تكون عليه الأجسام،مثل الطاولات، الكواكب. لا أحد عثر في أي وقت على رقم، لم يُشاهد أي رقم بالتلسكوب. الأشياء الرياضية ليست هناك بأي معنى للكلمة. مع ذلك، هي ايضا لا تبدو هنا بالطريقة التي تبدو بها الرموز، الأفكار،العواطف. لكننا بطريقة ما ندرك وبتأكيد عالي الكثير من الحقائق الرياضية، ونحن نتوقع اكتشاف المزيد منها.

من الواضح، ان معرفتنا الرياضية تأتي لنا بطرق معينة. لم تُجرى أي تجربة في الرياضيات الخالصة في صفوف الدراسة. لا بيانات مفهرسة، لا مشاهدات لا ملاحظات . ليس هناك أي من طرقنا المألوفة في العثور على أشياء في الخارج . بدلا من ذلك، المعرفة الرياضية تأتي بطرق من البراهين المنطقية الصارمة  المشتقة من مبادئ أساسية – البديهيات، مثل "واحد هو رقم" او "كل الزوايا القائمة متساوية" – والتي تؤخذ على انها صحيحة بشكل واضح.

هذه السمات تجعل الرياضيات لغزا. التحدّي أمامنا هو ان نضع الرياضيات ضمن توضيح معقول للعالم. فقط عند ذلك سوف نفهم حقا الرياضيات فلسفيا. هذا التحدي كان هاجسا لبعض كبار الفلاسفة والرياضيين لكن لم يبرز جواب واضح حتى الآن.

حسابات ميتافيزيقية خاطئة

كان هناك في وقت ما اتجاها واعدا لفهم ميتافيزيقا الرياضيات وهو التقليدية او العرفية conventionalism وهذا الاتجاه يعتمد ببساطة على الكيفية التي نستعمل بها اللغة. اليوم تواجه التقليدية تقريبا رفضا عالميا من جانب فلاسفة الرياضيات. ولكن رغم الموضة الحالية، نرى ان التقليدية يمكن إنعاشها. لكي نمهد الطريق، دعونا نرى لماذا حاليا تفشل وبشكل خطير معظم نظريات الرياضيات الفلسفية. ربما يتضح الاتجاه الفلسفي في الرياضيات من خلال إجراء مقارنة. عندما تخبرني ان القطة سمينة، انت تخبرني شيئا ما حول العالم المادي. انت تخبرني ان شيئا فيزيقيا معينا – القطة – لها خصائص معينة في كونها سمينة. كذلك الرياضيات بنفس الطريقة تسعى لوصف واقع موجود بشكل مستقل؟ ليس واقعا ماديا، بالطبع،لكنه واقع رياضي.

اذا كان هذا صحيحا، فان الادّعاءات الرياضية تكون وصفية. عندما هي تصف بالضبط واقعا رياضيا، مثل واحد زائد واحد يساوي اثنين، فهي صائبة. عندما هي لا تقوم بذلك، فهي كاذبة. وهكذا، القول ان ثلاثة هي رقم اولي (يُقسم على نفسه بدون باقي) prime number هو كالقول ان القطة سمينة. في الواقع الرياضي، الرقم ثلاثة هو شيء موجود بشكل مستقل،وكونه رقم أولي هو خاصية رياضية.

طبقا لهذه النظرية، الهدف من الرياضيات هو ان تصف الواقع الرياضي بشكل صحيح ، وان الرياضيات هي مثل "الفيزياء" لهذا الواقع. لكن الحقيقة الرياضية كما رأينا، هي أبدية، ضرورية، وموضوعية. هذه الرؤية عادة تسمى الافلاطونية الرياضية mathematical Platonism. افلاطون ربما قبل بهذه النسخة. طبقا للافلاطونية، الواقع يستلزم اكثر من جميع الحقائق حول العالم المادي، انه ايضا يتضمن حقائق أبدية مجردة موجودة بشكل مستقل. الحقائق الرياضية هي جزء من القصة. في الحقيقة، ان ما يسمى هنا "الواقع الرياضي" هو احيانا وبسخرية يسمى "السماء الافلاطونية".

فكرة الحقائق الرياضية الموجودة بشكل مستقل لا تتلائم مع فهمنا الحالي السائد حول العالم، وهو الطبيعية العلمية Scientific naturalism. وفي الحقيقة ان اضافة نوع خاص من الحقيقة لصورتنا عن الواقع سواء كانت رياضية او منطقية او أخلاقية او تيليلوجية ليس شيئا يجب عمله بسهولة. اذا كانت هذه الطريقة الوحيدة لفهم الرياضيات، فهي ربما تمثل افراطا ميتافيزيقيا. لكن الافلاطونية لا تتلائم  مع حقيقة اننا نمتلك معرفة رياضية.

لكي نرى هذا، افرض ان الافلاطونية صحيحة، وايضا ان "ثلاثة هي رقم اولي" هي صحيحة. هي صحيحة لأنها تصف بشكل صحيح واقعا رياضيا. لكن كيف نعرف انها فعلا كذلك؟ ارتباط بواقع رياضي منفصل افتراضا لا يلعب دورا أبدا في توليد هذه المعرفة. لو تلاشى "واقع رياضي مستقل"، سوف نستمر نعتقد ان ثلاثة هي رقم اولي. ونفس الشيء، لو توقفنا عن التفكير بان ثلاثة هي رقم اولي،ذلك سوف لا يكون بسبب الادراك الأفضل لهذا الواقع الرياضي المفترض. لا وجود لتسكوب عظيم يستطيع الاشارة الى سماء رياضي افلاطوني.

المعرفة تتطلب نوعا من الارتباط بين الحقائق المعروفة وطريقتنا في التحقيق. انا أعرف ان القطة سمينة بطريقة من الارتباط الحسي: انا أرى القطة السمينة. لكن الارتباط لا يحتاج ليكون مباشرا. ارتباط غير مباشر عادة يكون كافيا. نحن نعرف عن الثقوب السوداء، مع ذلك نحن لم نشاهدها ابدا بشكل مباشر. لكن اذا كانت الافلاطونية صحيحة، لا وجود هناك حتى لإرتباط غير مباشر بين الواقع الرياضي وطرقنا الرياضية. لكي نعيد الارتباط، ذلك يتطلب رحيلا آخرا من الطبيعية العلمية عبر افتراض قدرات خارقة للرؤى الرياضية او ما يشبهها. هذا ثمن باهض تدفعه نظرية الرياضيات الفلسفية. لو أردنا البقاء ضمن الطبيعية العلمية، فان الافلاطونية يجب ان تذهب. ان رفض الافلاطونية ليس مثل رفض الرياضيات. اتجاهات اخرى هي ممكنة. في الحافة الاخرى للطيف هناك رؤى تغيّر افتراضاتنا الاساسية حول الحقيقة الرياضية. بعض هذه الرؤى تنكر اطلاقا ان الرياضيات تهتم بالحقائق . اخرى تسمح بالحقيقة لكنها تنكر ان الرياضيات هي أبدية ضرورية موضوعية. هي تدّعي بدلا من ذلك انها زمنية ومشروطة وذاتية. الرياضيات مُخترعة وغير مكتشفة. طبقا لهذه الرؤى الرياضية الخالقة، نحن نخلق الاشياء والحقائق الرياضية.

لكي يجعلوا هذا الاتجاه في الخلق معقولا، يشير اصحاب نظرية الخلق الى اضطراب الوقائع التاريخية للممارسات الرياضية. أين ما ننظر، نرى بصمات الانسان وليس نقاءً بلوريا. الرياضيات خُلقت بواسطتنا ولم تهبط الينا من السماء. انها تبدو أبدية ضرورية موضوعية لكن هذه المظاهر هي اسيء فهمها، حسب قول الخلقيون. لكن بينما هذا التفكير شائع جدا في بعض الحلقات، لكنه يرتكز على التباس بسيط.

من الواضح، ان المفاهيم الرياضية والكلمات والممارسات تم اختراعها من جانب الانسان. كل ممارسات الانسان جاءت للوجود في وقت ما من التاريخ. وان المفاهيم الرياضية يمكن ان توجد فقط عندما يكون الخالقون قادرين على التفكير المفاهيمي. التاريخ وعلوم الادراك وعلم النفس ربما جميعها تلقي ضوءا على تطور وتطبيق المفاهيم الرياضية. نحن نعترف بكل هذا، كما يجب ان يعترف كل واحد. لكن الاعتراف بان مفهوم الرقم اختُرع ليس كالاعتراف بان الارقام ذاتها اختُرعت. مفهوم الكوكب اختُرع ايضا، لكن الكواكب ليست كذلك (على الأقل ليس بواسطتنا).

هذا ما يسميه الفلاسفة  "الخلط بين اللفظ والاستعمال" use-mention confusion . بوستن مدينة في شمال شرق الولايات المتحدة، لكن "بوستن" هو اسم. بوستن فيها اكثر من مليون مقيم، لكنها لم تبدأ بـ "ب" (كيف يمكن لمدينة تبدأ بحرف "ب"). اسم "بوستن" ليس فيه مقيمين، لكنه يبدأ بـ "ب". نفس الشيء، مفهوم الكوكب ليس كوكبا. هو لا يدور حول الشمس . هو في الذهن، ليس في الفضاء. اذا اعتقدت ان لا أحد التبس عليه ذلك فانت على خطأ. السيوسيولوجي البارز في العلوم Bruno Latour جادل مرة بانه من المفارقة التاريخية الاقتراح بان الفرعون رمسيس الثاني مات بسبب السل لأن السل لم يوجد حتى القرن التاسع عشر. من الواضح، ان هذه سخافة. ان مفهوم مرض السل وُجد في القرن التاسع عشر، وليس المرض ذاته. تداخل الاستخدام والذكر يقود الى التباس سخيف.

نفس الشيء هنا. الحجج التي تساوي خلق مفاهيم الرياضيات بخلق الحقائق الرياضية هي خاطئة. لغتنا وممارساتنا ومفاهيمنا خُلقت لكن الحقائق الرياضية والأشياء ليست كذلك. الفهم الصحيح للرياضيات يتطلب تجنب هذا الالتباس.

التصورات التقليدية الأساسية

وهكذا نحن يجب ان نرفض الافلاطونية ونظرية الخلق في الرياضيات. الرياضيات ليست وصفية بنفس الطريقة التي تكون عليها الخطابات العادية، ولكنها ايضا ليست ذاتية. هناك اتجاه أفضل موجود. نحن يجب ان نفهم الادّعاءات الرياضية في الاتجاه التقليدي. لنوضح هذا ببعض الأمثلة غير الرياضية قبل توضيح كيفية تطبيق الفكرة على الرياضيات.

انظر في عبارة "الأساقفة يتحركون قطريا (بشكل مستقيم ومائل) في لعبة الشطرنج". هذه صحيحة،لكن كما في الرياضيات انها لا تنسجم جيدا مع كيفية وصفنا للاشياء الفيزيقية العادية. ان المقدرة على التحرك قطريا ليست خاصية فيزيقية متأصلة في أساقفة الشطرنج. اساقفة الشطرنج ليسوا مثل الكواكب او الألكترونات. بدلا من ذلك، شيء ما يوصف كأسقف في لعبة الشطرنج اذا كان يتحرك فقط قطريا ضمن اللعبة. ان مصدر الحقيقة في "الأساقفة يتحركون قطريا في لعبة الشطرنج" هو في القواعد التقليدية للشطرنج. هذه القواعد مجتمعة تشكل لعبة الشطرنج. لو فشلت في اتباعها ستفشل في لعب الشطرنج.

وبنفس الطريقة، العديد من الحقائق المفاهيمية الاخرى هي تقليدية. خذ العبارة "العزّاب غير متزوجين". هذه صحيحة لكنها لا تحدد حقيقة حول العالم المادي الذي اكتشفناه علميا, قواعد استعمال اللغة هي مصدر الحقيقة في ان العزاب غير متزوجين: لا أحد متزوج يُحسب أعزبا. هناك العديد من الحقائق المفاهيمية المشابهة يمكن توليدها بشكل صريح ومباشر، عبر التأمل او التعريف، وايضا بشكل غير مباشر عبر اتّباع قواعد استخدام اللغة. نحن نسمّي كل هذه الحقائق "تقليدية". الحقائق التقليدية هي مألوفة وليست كلها غامضة.

التقليدية الرياضية هي الرؤية بان الرياضيات يجب ان تُفهم بهذه الطريقة. قواعدنا التقليدية لإستعمال المفردات الرياضية مثل "أرقام"، "صفر"، "جمع"، "مجموعة"، "دالة"، "وغيرها تقرر مفاهيمنا الرياضية . القواعد التقليدية هي ايضا مصدر الحقيقة الرياضية. في المفردات العادية مثل "قطة"، "طاولة"، "ثقوب سوداء"، تكون القواعد ومعها الحقائق الخارجية هي مصدر الحقيقة. في الرياضيات الخالصة، لا توجد مساهمة إضافية من العالم الخارجي. القواعد التقليدية تعمل من تلقاء نفسها. الرياضيات لا تحتاج الى عالم افلاطوني خارجي لتكون صحيحة. نؤكد الآن بان جميع خصائص الرياضيات المنتجة للغموض يمكن استيعابها بأناقة بواسطة التقليدية، بدون التطرف الميتافيزيقي للافلاطونية  وبدون الالتباس الذاتي لنظرية الخلق.

توضيح الحقيقة الرياضية

الحقيقة الرياضية لغز لأنها أبدية وضرورية وموضوعية. الافلاطونية توضح هذه الخصائص بنظرية جعلت الحقائق الرياضية لايمكن معرفتها. الخلقيون انكروا هذه الخصائص كليا. التقليدية يمكن ان تعمل أفضل بشرط ان تتجنب بعض الإلتباسات. دعنا نأخذ كل خاصية الواحدة بعد الاخرى.

الحقيقة الرياضية أبدية:

حقائق الرياضيات الخالصة كانت دائما وستبقى. نحن نستطيع توضيح هذا بالنسبة للغتنا الرياضية التي لا تأخذ بالاعتبار الاختلافات في زمن الفعل. اذا كان صحيحا واحد زائد واحد يساوي اثنين عندئذ ستبقى صحيحة الآن وغدا. سواء كانت في الماضي البعيد او المستقبل البعيد، الحقائق الرياضية هي بالضبط ذاتها لأن لغتنا الرياضية هي مستقلة عن الزمن. هذا هو المعنى الذي تكون فيه الحقيقة الرياضية "أبدية". لذا فان التقليدية توضح هذه الحقيقة العميقة حول الرياضيات بدون بناء أوهام ميتافيزيقية. القواعد لإستعمال اللغة الرياضية تكفي.

الحقيقة الرياضية ضرورية:

 حقيقة الرياضيات الخالصة لايمكن ان تكون غير ذلك. هذا يمكن توضيحه ايضا باستعمال تقاليد لغة الرياضيات. مثلما لغة الرياضيات مستقلة هي ايضا لغة احتمالية: لاتعارض في لغة الرياضيات بين الادّعاءات الدالّة (س هي الحالة) والادّعاءات الاحتمالية (س ستكون هي الحالة). هذا يعني انه اذا كان شيء ما صحيحا رياضيا، عندئذ سيكون ايضا صحيحا في أي موقف آخر. لو تحدّثنا عن أي موقف نحب، سواء كان حقيقيا او غير واقعي، فان الحقائق الرياضية هي بالضبط ذاتها. هذا هو المعنى الذي تكون به الحقيقة الرياضية "ضرورية". مرة اخرى، التقليدية توضح خاصية غامضة في الظاهر بدون أي تطرّف ميتافيزيقي.

الحقيقة الرياضية موضوعية:

كل منظور يقود الى نفس الحقائق الرياضية. التقليدية ايضا توضح هذه السمة. بالنسبة للتقليديين، القواعد الرياضية وحدها توضح ما نعني بالمفردات الرياضية مثل "صفر"، "رقم"، "مثلث"، "مجموعة". استخدام قواعد بديلة قد يغير الحقائق، لكن فقط بتغيير الموضوع الى شيء ليس هو الرياضيات التي لدينا. ما يعنيه أي شخص بـ  "رقم" يجب ان يتفق معنا بالنهاية حول الحقيقة الرياضية. هذا يوضح لماذا الرياضيات موضوعية. ايضا مرة اخرى،التقليدية تزيل الغموض عن الصفة المحيرة.

التقليديون يعترفون ان الرياضيات أبدية وضرورية وموضوعية، بينما يعترفون ايضا بدرجة من التعددية. أحد ما ربما يلعب لعبة تشبه جدا الشطرنج، ولكن بقواعد مختلفة قليلا. نفس الشيء، سكان المريخ ربما لديهم ممارسات رياضية مشابهة جدا لنا ولكن بقواعد مختلفة قليلا. هذا لا يتجاهل موضوعية الرياضيات لأن نوع التعددية التي نتحدث عنها لا يصل الى عدم اتفاق حقيقي. نحن نرى هذا ضمن ممارساتنا الخاصة. في هندسة اقليدس الفرضية الموازية - أي خط له خط موازي يمر بنقطة ليست على الخط الأصلي – هي صحيحة. في الهندسة غير الاقليدية ليس كذلك. للجدال حول ما اذا كانت "حقا صحيحة" هو امر سخيف: انها تعتمد على اللغة التي انت تعمل فيها. بالطبع، انت تستطيع القول وبشكل معقول حول أي صيغة هي صحيحة عن الفضاء الفيزيقي – لكن حينذاك انت لم تعد تجادل عن الرياضيات الخالصة.

هذا النوع من التعددية يتجسد في الرياضيات الخالصة. لكن هذا لا يجب ان يجعلنا نسقط مجددا في الافتراض بانه عندما تبدو ممارسات رياضية متميزة غير متفقة، فهي تناقش واقعا رياضيا مستقلا. بالنسبة للتقليديين، لا مصدر هناك للحقيقة الرياضية الخالصة خارج الأعراف اللغوية.

التقليدية يمكنها ايضا فهم وجود الأشياء الرياضية. الأرقام، المجموعات، الدالات ليست اشياءً مادية. انها لم تُصنع من مادة. في الحقيقة،هي لم تُصنع من أي شيء ابدا. هذا بالاساس ما نعنيه عندما نسميها اشياء مجردة مقابل الاشياء المادية. للادّعاء بصحة "الطاولة" موجودة، و "الثقب الاسود موجود" ذلك يتطلب ان يلبي العالم المادي شروطا معينة. أي ان هذه الادّعاءات تتطلب ان يكون شيئا محددا حول العالم المادي صحيحا، وهو ما يفسر لماذا هذه الأشياء مادية. اما في الاشياء المجردة ، تكون المادة مختلفة. حقيقة ان "الرقم موجود" لا تضع شرطا على العالم المادي. قواعد الرياضيات تسمح لك بالاستنتاج ان واحد هو رقم، ولذا فان الارقام موجودة. لكن مرة اخرى، قواعد الرياضيات لا تضع متطلبات على العالم المادي. قواعدنا الرياضية ذاتها توضح الحقيقة الرياضية، مثل وجود الارقام. وهكذا، بهذا المعنى، يكون الوجود في الرياضيات سهل ميتافيزيقيا.

هذا لا يعني القول ان الوجود الرياضي هو نوع خاص من الوجود. الطاولات، والثقوب السوداء والارقام جميعها توجد بنفس الطريقة. انها انواع مختلفة من الاشياء وليست اشياء بطرق مختلفة من الوجود. فهم الوجود الرياضي لا يتطلب تعددية ميتافيزيقية حول الوجود ذاته.

هل نستطيع بسهولة اشتقاق وجود الله؟ كلا. ماذا لو بدأنا الحديث بلغة حيث عبارة "الله موجود" بُنيت في قواعد استعمال كلمة "الله"، بنفس طريقة ان "واحد هو رقم" بُنيت بقواعد الحساب الأساسي؟ هذا في الحقيقة يغيّر معنى "الله". هذا البرهان المفترض لوجود الله يفشل لنفس السبب كونك لا تستطيع إثبات وجود الله بإعادة تسمية الله باسم آخر.

كيف تعمل الحقيقة الرياضية

الافلاطونية تجعل المعرفة الرياضية مستحيلة. فريق الخلق يجعلونها ممكنة، لكن فقط عبر رفض خصائص واضحة للحقيقة الرياضية. بالمقابل، التقليدية يمكنها ان توضح وبشكل تام نمو معرفتنا الرياضية بدون أي مراجعة لفهمنا الشائع لها. في الحقيقة، التقليدية تبدو الطريقة الوحيدة لفهم لماذا ممارساتنا الرياضية عقلانية.

الممارسة الرياضية الصارمة تبدأ من مسلمات واضحة. ادّعاءات رياضية اخرى تُعرف فقط عندما يتم اثباتها منطقيا من المسلمات. بكلمة اخرى، الممارسة الرياضية تبدو بالضبط كما لو كنت تتوقعها تبدو عندما تكون التقليدية صحيحة: وضع المبادئ الاولية الواضحة، ثم بناء منطقي من هذه المبادئ. هذا لا يبدو ابدا يشبه محاولة وصف عالم مستقل لحقيقة فوق مادية. ولا هي تبدو تشبه اي شيء ذاتي. نحن نعرف الحقائق الرياضية بنفس الطريقة، وبنفس درجة التأكيد التي بها نعرف ان الاسقف يتحرك قطريا، او ان العزاب غير متزوجين. التقليدية وحدها توضح يقينية المعرفة الرياضية.

ربما يتسائل احد ألم تكن هناك فجوة؟ فجوة مفترضة بين مفهوم مثل "اثنين زائد اثنين يساوي اربعة" كونه صحيحا طبقا لممارساتنا، وانه حقا صحيح. اذا كانت هناك فجوة، عندئذ المعرفة الرياضية لم تتوضح بعد. لحسن الحظ، لا توجد هناك فجوة. طبقا لقواعد الشطرنج، الأسقف يتحرك قطريا. نفس الشيء،عندما نستعمل قاعدة حسابية، اثنين زائد اثنين يساوي اربعة. لذا، لا توجد هنا فجوة لملأها. قواعدنا تقرر ما نعني، وما نعني وحده يقرر ما هو صحيح رياضيا. انت يمكن ان تكون على خطأ حول كل انواع الادّعاءات الرياضية الفردية، لكن تغيير كيفية استعمالك للّغة عادة يغيّر ما تعنيه انت بتلك الجمل. بدلا من ذلك، تقاليد لغتنا الرياضية تقرر بالكامل كل ما نعنيه بالمفردات الرياضية وكذلك ما هو صحيح رياضيا في لغتنا. لذا، فان معرفتنا بالرياضيات تأتي بطريقة البراهين باستعمال تقاليدنا الرياضية الاساسية. هذا بالضبط ما نجده في ممارسة عمل الرياضيين. انه بالضبط ما يخشاه الطلاب في القسم المتقدم في صفوف الرياضيات في الكلية. التقليدية وحدها من بين جميع النظريات الفلسفية للرياضيات تدرك السمات الحقيقية للتفكير الرياضي وتجميع المعرفة.

الوصول الى الاستنتاج التقليدي

ربما أحد يتسائل الآن لماذا لا يكون سلفا كل شخص تقليديا حول الرياضيات. الجواب على هذا السؤال يتطلب بعض التاريخ الفلسفي. الصيغ الاولى للتقليدية الرياضية كانت قد تم القبول بها من قبل الفلاسفة باعتبارها مختلفة عن بعضها البعض  كـ ليبنز (1646-1716) وديفد هيوم (1711-1776). لكن الفكرة اصبحت ناجحة جدا في بداية القرن العشرين بعد ان سمح تطور منطق الرياضيات الحديثة لصياغات اكثر دقة للفكرة. فمثلا، نسخة التقليدية جرى تفضيلها من جانب الوضعيين المنطقيين،وهم جماعة مؤثرة من الفلاسفة والعلماء والرياضيين تركزوا في الأصل في فيينا. الوضعيون جادلوا بان كل الحقائق الضرورية او أي حقيقة يمكن معرفتها من خلال العقل وحده، انما تنتج من التقاليد. هم جادلوا بقوة بان شيئا ما كان يمكن معرفته من كرسي متحرك فقط في حالة كونه صحيح بالتقاليد. الحقائق المنطقية والرياضية والمفاهيمية جميعها توضح هذا التقارب العام. الوضعيون جسدوا هذا الاتجاه في الرياضيات ضمن اتجاه فلسفي عام اعتمد على مبدئهم الشهير في الإثبات "مبدأ الاثبات": بان القول يكون ذو معنى فقط عندما يتم اثباته او دحضه علميا. لكن الادّعاءات الرياضية كونها صحيحة او زائفة بواسطة التقاليد، كانت اما صادقة اوتوماتيكيا او كاذبة اوتوماتيكيا. باستعمالهم هذا الاطار، اكتسح الوضعيون كل الميتافيزيقا التقليدية ومعظم الفلسفة. النتيجة كانت نسخة مثيرة لرؤية للفلسفة صديقة للعلم.

هناك شيء من الاثارة تم تصويره في كتاب الفيلسوف البريطاني الفريد جول آير A.J.Ayer،اللغة، الحقيقة،والمنطق، الذي نُشر عام 1936، والذي نقد فيه الميتافيزيقا بكل اشكالها.

لسوء الحظ، بعض المشاكل تتعلق بتعاملها مع الرياضيات، لكن اكثر المشاكل تتعلق بمظاهر اخرى للاطار الشامل. فمثلا، النقاد قالوا ان الوضعية المنطقية كانت مرفوضة ذاتيا لأن مبدأ الإثبات لايمكن بذاته التحقق منه بنجاح، وبالنهاية الوضعية المنطقية اصبحت نظرية ميتة. لكن التخلي عن التقليدية الرياضية لصالح الوضعية المنطقية سيكون قفزا من سفينة صالحة للابحار. نحن لانزال رياضيين تقليديين بدون ان نكون اثباتيين حول المعنى. كذلك، نحن يمكن ان نكون رياضيين تقليديين بدون الحاجة الى ان تُعطى جميع الحقائق الرياضية نفس التعامل. متى ما تم ادراك هذا، فان الصعوبات التي يشعر بها الفلاسفة والرياضيون بمجرد ذكر التقليدية يجب ان تبدأ بالاضمحلال.

بالعكس، التقليدية تعد بتوضيح الرياضيات بدون عمل ادّعاءات غريبة او غير معقولة. ربما يجب التخلي عن الطبيعية ، لكن هذا لايتم عبر التنظير في المنطق والرياضيات. على خلاف معظم النظريات الفلسفية الاخرى للرياضيات، التقليدية منسجمة مع الطبيعية العلمية وربما حتى مع الفيزيائية.

بالطبع دفاع كامل عن التقليدية الرياضية يحتاج معالجة العديد من القضايا التي لم نذكرها هنا، تتراوح من معارضات فلسفية الى تحديات تقنية. لكن الهدف المتواضع هنا كان الجدال بان التقليدية تستحق الدراسة.

الرياضيات شيء محير. ولحل هذا الغموض نحن يجب ان نضع الممارسات الرياضية بشكل منسجم ضمن صورة معقولة للعالم. محاولات الافلاطونيين والخلقيين ليست ناجحة، والتقليدية تبقى هي الخيار الأفضل.

*** 

..................

* المقال لـ Jared Warren  استاذ الفلسفة المساعد في جامعة ستانفورد، نُشر في Philosophy Now عدد آب/ايلول 2023.

وظيفةُ الفِعْلِ الاجتماعي لا تُحدِّد تقاطعَ الماضي والحاضرِ في تاريخ الأفكار فَحَسْب، بَلْ أيضًا تُحدِّد طبيعةَ تفكيرِ الفرد في المُجتمع، وهذا يدلُّ على أنَّ المَسَارَ الحَيَاتي - فَرْدِيًّا وجَمَاعِيًّا - هو خَلِيطٌ وُجودي مِن الفِعْلِ والزَّمَنِ والتفكيرِ . والعلاقةُ بين هذه العناصر تَبَادُلِيَّة لا تَرَاتُبِيَّة، أي إنَّها دائمة التَّبَدُّل والتَّغَيُّر، ويُعَاد تَشكيلُها وصِيَاغَتُهَا باستمرار، وَلَيْسَتْ مَنظومةً جامدةً يَجِد كُلُّ عُنْصَرٍ نَفْسَه مُرتبطًا بالذي يَلِيه . وكما أنَّ الماء يَأخُذ شكلَ الإناءِ الذي يُوضَع فيه، كذلك هذه العناصر تَأخُذ شكلَ البناءِ الاجتماعي الذي تُوضَع فيه، وهذا يُسَاهِم في تحليلِ أبعاد شخصية الفرد عَلى الصَّعِيدَيْن الأخلاقي والقِيَمِي، وتفسيرِ معالم هُوِيَّة المُجتمع عَلى المُسْتَوَيَيْن الإنساني واللغوي، وإدراكِ الأهمية الفِكرية للفردِ والمُجتمعِ . وإذا كانت شخصيةُ الفردِ هي رِحلةَ البحثِ عن المَعنى لإيجاد أجوبة منطقية عن أسئلة الوُجود، فَإنَّ هُوِيَّةَ المُجتمع هي مَركزيةُ المعرفة في طبيعة التاريخ التي تُفْرِز تأويلاتٍ جَديدة للواقع المُعَاش، مِمَّا يُؤَدِّي إلى إعادةِ بناء الوَعْي خارج حُدود البيئة الضَّيقة، وإعادةِ تفسير الزَّمَن خارج إطار المصالح الشخصية العابرة . وإذا نَجَحَ الفِعْلُ الاجتماعي في تَحديدِ حَجْم الثَّغَرَات الوُجودية في الوَعْي، وكَشْفِ مَسارات القطيعة المعرفية في الزَّمَن، فَإنَّ الفِعْلَ الاجتماعي سَيُصبح فَاعِلِيَّةً حَيَاتِيَّةً تَمْنَع النظامَ الاستهلاكي القاسي مِن اقتلاعِ شَخصيةِ الفرد وهُوِيَّةِ المُجتمع مِن التاريخ . وكُلُّ فِعْلٍ لا يُصبح إرادةً للحياة سَيَتَحَوَّل إلى وَهْم، وكُلُّ شَخصيةٍ لا تُصبح تَشخيصًا للمَعنى سَتَتَحَوَّل إلى قِنَاع، وكُلُّ هُوِيَّةٍ لا تُصبح أُفُقًا نَقْدِيًّا سَتَتَحَوَّل إلى فَرَاغ .

2

بُنيةُ الفِعْلِ الاجتماعي لا تَنفصِل عَن وَعْي الفرد بالزَّمَن المَعرفي الذي يَتَجَسَّد في تاريخ الأفكار حِينًا، وحِينًا آخَر يَتَجَسَّد في الأحلام المَنْسِيَّة على هوامش تاريخ الأفكار. وَعَدَمُ الانفصالِ يَعْنِي أنَّ الترابط بَين الفِعْلِ الاجتماعي وَوَعْيِ الفرد لَيْسَ إجراءً آلِيًّا تِلقائيًّا، وإنَّما هو عَلاقةٌ قَصْدِيَّة ذات طبيعة إنسانية تُعيد الفردَ إلى الواقع المُعَاش، وتَحْمِيهما مِن الاغترابِ، وتُعيد المُجتمعَ إلى النَّسَق الثقافي، وتَحْمِيهما مِن الاستلاب . والزَّمَنُ المَعرفي لَيْسَ نَوَاةً مَركزيةً تَدُور حَوْلَها تفاصيلُ البناءِ الاجتماعي بشكل مِيكانيكي، وإنَّما هُوَ جَسَدٌ سائلٌ يَتِمُّ تَكثيفُه فِكريًّا وتاريخيًّا وثقافيًّا وأخلاقيًّا، مِن أجلِ تَوظيفِه في شَخصيةِ الفرد وهُوِيَّةِ المُجتمع، وهذا يُؤَدِّي إلى تَفعيلِ إرادة المعرفة في الحياة العملية، وتأكيدِ القُدرة الإنسانية على حُرِّيةِ التَّعبير والتَّحَرُّرِ مِنَ الخَوْف، وَبِنَاءِ علاقات اجتماعية قادرة على التماسك تحت ضغط النظام الاستهلاكي القاسي. ولا يُمكِن أن يُصبح تاريخُ الأفكارِ (المركزي والهامشي) صَيرورةً حَيَاتِيَّةً، وتفسيرًا لُغَوِيًّا دائمًا، وتَجسيدًا أخلاقيًّا مُستمرًّا، إلا إذا اندمجَ الفِعْلُ الاجتماعي معَ الزَّمَن المَعرفي ضِمْن العَقْلِ الجَمْعِي الباطني والظاهري، وَمَنْطِقِ اللغة الرَّمزي والتواصلي . وهذه التراكيبُ الوُجودية تُمثِّل مَنهجًا نَقْدِيًّا، وَشَبَكَةً مَعنويةً مُتكاملةً، ونَسِيجًا ماديًّا مَفتوحًا على حَتميةِ المَعنى الإنساني، واحتمالاتِ التأويل الاجتماعي. ولا يُوجَد فِعْلٌ يَتَكَرَّس خارج الزَّمَن، ولا يُوجَد زَمَنٌ يَتَحَرَّك في العَدَم، ولا شَرْعِيَّة للمُجتمع خارج إطار المعرفة، ولا جَدْوَى مِن المَعرفة في مُجتمع عَاجِز عَن التَّغيير .

3

مَاهِيَّةُ الفِعْل الاجتماعي تَقُوم على ثلاثة أُسُس: عَقْلَنَة الواقع المُعَاش (إضفاء شكل عقلاني عليه)، وتَحويل المسار الحَيَاتي إلى نَسَق ثقافي، واكتشاف الطبيعة الإنسانية في شخصية الفرد وهُوِيَّةِ المُجتمع . وهذه الأُسُسُ تَفتح آفاقًا جديدةً لتأويلِ تاريخ الأفكار ضِمْن اللغة بأبعادها الرمزية والعقلانية والعاطفية، وتأويلِ دَلالات اللغة ضِمْن تاريخ الأفكار بأبعاده الفِعلية والزَّمَنية والفِكرية. وهذه الآفاقُ الجديدة تُؤَسِّس مناهجَ نَقْدِيَّةً قادرةً على تجذير العلاقات الاجتماعية - مَعرفيًّا وَوِجْدانيًّا وإبداعيًّا - في السِّيَاقِ الواقعي، مِمَّا يُؤَدِّي إلى ربط تَسَلْسُلِ المُجتمع الهَرَمِي معَ حُرِّيةِ الفرد في التَّفكير والتَّعبير، وهذا الأمرُ شديدُ الأهمية، لأنَّه يَدفَع الفردَ باتِّجَاه نَقْد الذات لمعرفة نِقاط قُوَّته ونِقاط ضَعْفه، وإعادةِ رسم مَسَاره بَحْثًا عَن مَوقع في البناء الاجتماعي، كما يَدفَع المُجتمعَ باتِّجَاه تَطوير مَصلحته للتَّحَرُّر مِن التَّبَعِيَّةِ والإملاءاتِ.وتَطويرُ المَصلحة مُرتبط بإرادة المعرفة في الحياة الفِكرية، ومَركزيةِ الوَعْي الحَضَاري في الحياة العملية، لأنَّ المَعرفةَ أساسُ المَصلحةِ، يُوجَدان مَعًا، وَيَغِيبان مَعًا، ولا يَستطيع المُجتمعُ أن يُطَوِّر مَصْلَحَتَه، ويُرَسِّخ مَعْرِفَتَه، إلا إذا أكَّدَ سُلْطَتَه، وهذا لا يَتَأتَّى إلا بالتوافق بين شَخصيةِ الفرد وهُوِيَّةِ المُجتمع ضِمن تَحَوُّلات الفِعْل الاجتماعي في المَسَار الحَيَاتي .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

(التراث الديني أنموذجاً)

التراث لغة: جاء في معجم القاموس المحيط:

وَرَثَ::: «ورث مال أباه أو مجده»: أي انتقل إليه ماله أو مجده بعد وفاته. ويشتق من ورث: يرث، ورثا وورثا وإرثا وإرثة ورثة وتراثا.. وغير ذلك.

والتراث مجازاً:

التراث خلاصة: ما خلفته الأجيال السابقة للأجيال اللاحقة لكي يكون عبرةً من الماضي ونهجاً يستقي أو يستلهم منه الأبناء الدروس ليَعبُروا بها من الحاضر إلى المستقبل. والتراث في الحضارة بمثابة الجذور في الشجرة، فكلما غاصت وتفرعت الجذور كانت الشجرة أقوى وأثبت وأقدر على مواجهة تقلبات الزمان.

ويتسم التراث أيضاً بالسمات، الحضاريّة، والاجتماعيّة، لواحدة من الأمم الماضية، فيعتبر موروثًا تتناقله الأجيال من جيلٍ إلى جيل سواء كان هذا الموروث ماديًا أو معنويًا. (1).

تتعدد أنواع التراث:

أولاً: التراث الحضاري: وهو ما تركه الأجداد من تراث حضاري قديم، كالآثار، والمسكوكات، والأوان، والرسوم، والنقوشات.

ثانياً: التراث القومي: ويشير إلى ما خلفته القوميات من قيم ماديّة ومعنويّة، باختلاف أنواعها، التي ظهرت في تاريخ هذه الأمة أو تلك، متخذة سمات وخصائص معينًة قامت بالمحافظة عليه.

ثالثاً: التراث الشعبي: وهو مزيجًا من التراث القومي والتراث الحضاري، حيث تتشكل للأمة صفات وخصائص تميزها عن غيرها من الحضارات.

رابعاً: التراث الاجتماعي: ويشير إلى التراث المتصل والمرتبط بجميع نواحي الحياة لمجتمع ما من المجتمعات، ويدخل فيه، العادات والتقاليد والفنون الشعبية والبنى النفسيّة والأخلاقيّة التي تتوارثها الأجيال.

خامساً: التراث الثقافي: يقترن هذا التراث بشكل خاص في الكتابة وما يتفرع عنها من فقه وعلم كلام وأدب وفنون مختلفة. (2).

موقفنا نحن العرب من التراث:

إن علاقتنا مع تراثنا، علاقة إشكاليّة في طبيعتها شكلاً ومضموناً. ففي الشكل لم نزل نتمسك بطقوس تراثية، وفي مقدمتها الطقوس الدينيّة بشكل خاص، وهي التي تتمثل في إحياء مواقف تراثيّة، ليس من باب استلهام قيمها الإنسانيّة بقدر ما يعود إحيائها وإعادة ممارستها إلى تأكيد الذات المجتمعية وتمايزها عن الاخر، عرقيّة كانت أم مذهبيّة. مثل إحياء عاشوراء، وعيد النيروز على سبيل المثال لا الحصر، وتجسيدها رمزيّا في طقوس ماديّة ملموسة عند إحيائها. اما تجسيدها مضموناً، فهو التمسك بجوهرها واعتباره موقفاً حياتيّاً مقدساً للمنتمي تضحى في سبيله حياة الفرد وحتى المجتمع. عاشوراء أنموذجا. وعلى هذا الأساس أو الموقف من التراث، يأتي ضياعنا في الحقيقة ما بين النقل من التراث أو النفاق له.. فالنقل منه، يأتي انطلاقاً من إيماننا الثابت والمطلق بأن ما أنتجه أجدادنا وخاصة في مجال الفقه وعلم الكلام وسيرة وقيم الصحابة وحوادث التاريخ ورجالاته عند التابعين وتابعي التابعين في القرون الهجريّة الثلاث الأولى،  أمراً مقدساً لا يأتيه الباطل لا من خلفه ولا من بين يديه. وبالتالي فكل جديد يطرأ على هذا التراث المقدس من خارجه هو بدعة وكل بدعة ضلالة. وهذا ما يجعلنا ننغلق على أنسفنا ونتخذ مواقف عدائيّة من المختلف عنا ديناً أو مذهباً أو موقفاً من الحياة، وهذا بدوره ما يساهم في خلق حالات من التناقض والصراع داخل مكونات المجتمع الواحد، غالباً ما تؤدي إلى حروب أهلية تأكل الأخضر واليابس.

أما نفاقنا للتراث، فيأتي من قوة حضوره في تفكيرنا وممارستنا اليوميّة وقدسيته، لذلك نحن مأسورون ومحكومون له بجهلنا وتخلفنا وغياب الحقيقة عنا في هذا التراث، أي عدم قدرتنا على فرز الغث من السمين فيه،  وهذا ما يجعلنا ننافق له ليس لإرضاء التراث بحمولته المخيمة على عقولنا المغيبة منهجياً ومعرفياً فحسب، وإنما خوفاً من حامله الاجتماعيّ المتعصب الذي لم يزل مسيطراً علينا أيضاً، ويمارس الإرهاب الفكري على كل من يخرج عن ما يفهموه هم أو يريدون الاتكاء عليه من هذا التراث، وبالتالي فكل من يستخدم العقل المعرفي التنويري، والمنهج العقلاني العلمي النقدي في قراءة وتحليل معطيات هذا التراث، والبحث عن الجوانب العقلانيّة فيه، هو ملحد وكافر وزنديق ومرتكب للكبيرة، ويجب أن يعزر، وإذا اقتضى الأمر لا مانع أن يهدر دمه. وبناءً على ذلك نقول:

1- لقد علمنا أبناءنا أو الأجيال التي أصبحنا أوصياء عليها، بأن أجدادنا فتحوا العالم لأنهم تمسكوا بقيم الدين، ولم نعلمهم بأن للفتوحات أساسها الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ والحضاريّ أيضاً. وأن موقفنا البراغماتي والمصلحي من الدين ساهم في تجسيد العبوديّة للآخر، إن كان من حيث تجسيد مسألة الإماء وما ملكت أيمانكم، أو من خلال أخذ أموال من فتحت أراضيه كغنائم حرب وتوزيعها على المقاتلين، وبالتالي تحويل الناس الذين لم يدخلوا الإسلام، أو حتى من دخله في البلاد التي دخلها ما سمي بالفاتحين، كموالي عليهم دفع الجزية.

2- قلنا لهم بأننا علميون، ولكننا لم نعلمهم ولم نتعلم نحن معنى العلميّة، التي أساسها الاقرار، بأن هناك قوانين موضوعيّة مستقلة عن إرادة الإنسان تتحكم في آليّة سير الطبيعة والمجتمع، ودورنا هنا لكي نكون علميين، هو اكتشاف هذه القوانين والتسلح بها، وتسخيرها لمصلحتنا. بل قمنا بفتح أبواب الجبر على مصراعيها كي تركن هذه الأجيال إلى الاستسلام والامتثال لأقدارنا المكتوبة على جباهنا، انطلاقاً من الفكر الدينيّ الجبريّ الوثوقيّ الاستسلاميّ. وحتى عند استخدمنا للعقل في تعاملنا مع التراث فقد استخدمناه لتثبيت النص التراثي المقدس وليس للحكم عليه كما يقول الأشاعرة.

3- وفي الوقت الذي نقول فيه للأجيال أيضاً بأننا تقدميون وعلمانيون، ونتفاخر بثورات تراثنا وقيمها الإنسانيّة ضد الظلم، كثورة القرامطة والزنج والخرميّة وغيرها، نجد هناك من يقوم بالعمل ضد هذه الحركات الإنسانيّة وفكرها، معتبرها حركات زندقة وكفر ومقاومة للإسلام الحنيف والخلفاء الصالحين في تاريخ الدولة العباسيّة.  وبفتح مئات الألاف من الجوامع والتكايا ودور تعليم وتحفيظ القرآن والحديث، والمدارس والمعاهد والجامعات الشرعيّة ومئات القنوات الدينيّة التكفيريّة التي تغذي الفكر السلفي الجمودي الامتثالي الاستسلامي التكفيري المعادي للإنسان وعقله، مؤكدين على اعتبار أصحاب المذاهب والفرق الدينيّة والطرق الصوفيّة، هم مراجعنا الفكريّة والسلوكيّة، بينما أهملنا فيه الفلاسفة والمفكرين التنويريين العقلانيين في تراثنا، كابن رشد والفارابي والكندي وابن سينا وابن خلدون وغيرهم .

4- قلنا لهم نحن اشتراكيين وطبقيين... تعلمنا الاشتراكيّة من تراثنا، إن كان من نصنا الديني المقدس: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (سورة القصص. الآية (5)، أم من قيم أجدادنا (القرامطة). ثم رحنا نلمس كيف مورست عمليّة الانسلاخ الطبقيّ عند قيادة أحزابنا الثوريّة، وكيف تمت عملية نهب ثروات الدولة والمجتمع، وتشيكل البرجوازيات البيروقراطيّة والطفيليّة.

5- قلنا لهم بأن أحزابنا ثوريّة وديمقراطيّة، ونحن ندعوا إلى صيانة الروح الوطنيّة ودولة القانون والحفاظ عليهما، في الوقت الذي حولنا فيه دولنا إلى دول طائفيّة وقبليّة وحزبيّة شموليّة، يسيطر على شعوبها الخوف، وما يولده هذا الخوف من انتشار للكذب والنميمة والتزلف والتزمير والتطبيل.

6- قلنا لهم بأننا نسعى لتحقيق الوحدة العربيّة، في الوقت الذي جعلنا فيه الوطن العربي محكوماً بالقطريّة من الناحيّة السياسيّة والجغرافيّة، ويعيش تحت مظلة بنى عرقيّة وطائفيّة وعشائريّة وقبليّة ومذهبيّة. أي ساهمنا وبقصد في جعل عالمنا العربي كتلاً بشريّة هي أقرب إلى حزمة من القش لا يربط أعوادها بعضها بعضاً إلا وهم وشعارات وطنية وقوميّة فضفاضة. فعاشت أمتنا العربية في مثل هذه الحالة في جزر جغرافيّة متفرقة اقتصاديّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً.

ملاك القول:

التراث يشكل في الحقيقة الجذر التاريخي لأي أمة من الأمم، بيد أن هذا الجذر عندما أفرع وأثمر، أخذت تحيط به نباتات ضارة، منها من يعتاش على وجوده، ومنها من يعمل على يباسه وإلغاء وجوده. ولكن قوة الثراث وصموده تظل مرتبطة بنوعيّة التربة التي لم يزل مغروساً فيها، أي الشعب أو الأمة الحاملة لهذا التراث، فكلما كانت هذه الأمّة قويّة ومتماسكة وعقلانيّة وقادرة على التعامل مع تراثها بروح عقلانية نقديّة من خلال استلهام المواقف العقلانية والإنسانية فيه، وإقصاء كل ما يساعد على تفتيت هذه الأمّة وتهميش دورها في التاريخ، كلما استطاعت هذه الأمّة أن تجعل من تراثها جذوة حيّة لا تنطفئ، هذه الجذوة  التي تعمل دائماً على تنمية الإحساس بالهويّة الوطنيّة والقوميّة والشعور باستمراريتها لدى الفرد الجماعات. هذا إلى جانب دور التراث في تعزيز التماسك الاجتماعي واحترام التنوع الثقافي والإبداع البشري، وكذلك تعزيز قدرة الجماعات على بناء مجتمعات مرنة وسلميّة ويسود تكوينا الإيمان بالآخر والاعتراف به.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

.......................

الهوامش:

1- (محمود زكي (30/8/2009)، "التراث العربي: هوية الماضي وزاد المستقبل"، موقع الألوكة، 5/2/2022. بتصرّف.).

2- موقع موضوع. بتصرف.

ركّز نصر علي التأويلية لكشف علاقة المفسر بالنص، فالتأويل -من منظور نصر- “المصطلح الأمثل للتعبير عن عمليات ذهنية على درجة عالية من التعمق في مواجهة النصوص والظواهر”.([1]) مستهدفة الوصول إلى المغزى دون القطع بأنها الحقيقة الكامنة في النص، وليس التأويل بتلك الدلالة بدخيل على التراث العربي؛ فقد عرفته الدراسات القرآنية واللغوية والنقدية، وإن كانت التأويلية عند نصر اكتسبت أبعادا جديدة من الهرمنيوطيقا في نسختها الغربية، فتأويلية نصر لا تخلو من حضور قوي للهرمنيوطيقا في بعض جوانبها عند ديلثى وهيتش وغيرهما من منظري الهرمنيوطيقا في الغرب، فهي إحدى منطلقات نصر نحو استحداث منهج جديد للعقل العربي في التعامل مع التراث، والتغلب على معضلة فهم النص، فلا يمكن لقارئ تأويلية نصر أن يفهمها دون التعرف على مفاهيم اللغة والنص وعملية الفهم والتفسير والتجربة والتاريخ وجدلية الثابت والمتغير، وعلاقة الجزء بالكل في التأويلية الغربية، فتلك العناصر اختمرت في نفس وفكر نصر منجزة تأويليته في نسختها العربية، فدشَّن نصر لتأويليته في نسختها العربية منطلقا من حوار جدلي مع النظرية في بيئتها الغربية عند أبرز كتاباها.

ولا يخلو توصيف نصر منهجَه في التعامل مع النظرية بـ (بالحوار الجدلي) من محاولةٍ لاستفزاز العقل بجمعه بين نفيضين الحوار والجدل، إلا أنّه علّل ذلك بأنّ النظرية قادمة من الغرب، فهي جزء من علاقتنا الجدلية بالغرب، فبعيدا عن الانكفاء على الذات، والتقوقع داخل أسوار تراثنا المجيد، وبعيدا عن الاستيراد والتبنّي المُطلق يأتى منهجه نقطة وسط بين الانفتاح الكامل والاكتفاء الكامل، فمنهجه كما يقول: “هو الأساس الفلسفيّ لأيّ معرفةٍ، ومن ثمّ لأيّ وعيٍ بصرف النظر عمّا نرفعه من شعارات أو نتبنّاه من مقولات ومواقف، إنّ أيّ موقف يقوم على الاختيار، والاختيار عملية مستمرّة من القبول والرفض”.([2])

وقد ارتبطت تأويلية نصر بالتراث بعلاقة متبادلة؛ فكلّ منهما أسهم في تشكيل الآخر، وتكوين رؤية مُعرِّفة به على النحو الآتي:

أولا: نظر نصر أبو زيد إلى التراث كوحدة كليّة؛ “فالتراث منظومة فكرية واحدة، تتجلى في أنماط وأنساق جزئية متغايرة في كلّ مجال معرفي خاصّ”.([3])  فتتجنّب تأويلية نصر فصل الأفكار الجزئية عن سياق منظومتها الفكرية العامة، فتعدّد التراث بين اللغة والنقد والبلاغة والعلوم الدينية؛ لا ينفى الوحدة في إطارها النّظري العام، فلم يكن سيبويه، مثلا، وهو يضع البناء النّظري، والقوانين الكليّة للغة العربية، معزولا عن إنجازات الفقهاء، والقرّاء، والمحدثين، والمتكلمين، ولم يكن عبد القاهر الجرجاني يتحدّث عن المجاز، منفصلا عن جدل المنشغلين بعلم الكلام، وأصول الفقه، حول التّأويل والتعطيل للمتشابه من آي القرآن الكريم، وكذلك، لا تنفصل معضلة تأويل النصّ عن غيرها من قضايا أكثر عُمقا تتّصل بعلاقة العالم بالله والإنسان، ومصدر المعرفة بين التوقيف من الله وحيا والاكتساب فهما وعقلا، وما سبق ذلك من اختلاف حول كون اللغة توقيفيّةً علّمها الله لآدم أم وضعيةً تعارف على وضعها الإنسان التي شهدت خصومة بين ثلاث اتجاهات المعتزلة المنطلق التأويلي لنصر وليد دراسات وتعايش طويل مع المعتزلة.

فالتراث كلّه كتلة واحدة مترابطة، وإن باتت حديثا فروعا منفصلة لا ينتبه الباحثون إلى طبيعة توحّدها، فتأويلية نصر ترى أنّ أيّ قراءة واعية للتراث، قراءة تصل الحاضر بالنصّ، وتربط النصّ بمختلف المجالات المعرفية للتراث.

“هناك فارق كبير بين الإيمان (النظري) بوجود علاقات تنتظم المجالات المعرفية للتراث، وبين التحقيق (العيني) من التأثيرات المتبادلة؛ التي تكشف عن وحدة المنظومة الفكرية للتراث. وهذا التحقّق العيني الملموس يجب أن يكون أحد هموم القراءة الواعية للتراث في أيّ مجال من مجالاته، فالقراءة التي تعكف على مجال ما عكوفا منغلقا تعجز عن اكتشاف الدلالات الحقيقية لمنجزاته المعرفية”. ([4])

ثانيا: تنطلق التأويلية، عند نصر، من موقف التساؤل الدائم، والمراجعة المستمرّة، حتى تكون القراءة للتراث منتجةً، وذلك بجعل القراءة تتحقّق في الحاضر، من خلال الانطلاق من وجود ثقافي تاريخيّ إيديولوجي، ومن أفق معرفي محدّد يبدأ من طرح أسئلة تبحث عن إجابات… “فموقف (التساؤل المستمر) و(المراجعة الدائمة) قادر – دائما- على تصحيح الأخطاء، والتقدُّم نحو مزيد من الاجتهاد. هكذا، تصبح القراءة فعلا مستمرا لا يتوقّف، يبدأ من الحاضر والرّاهن، وينطلق إلى الماضي والتّراث، ثم يرتدُّ إلى الحاضر مرةً أخرى، في حركة لا تهدأ، ولا يقرُّ لها قرار. لكنّها الحركة، التي تؤكد الحياة وتنفى سكون الموت. إنها حركة الوجود والمعرفة في نفس الوقت نفسه”([5]).

وتجد لهذا صدىً عند عبد القاهر؛ إذ يبدأ صوغ قضيته، ومناقشة فكرته، بطرح سؤال ينطلق منه.. ففي قضية إعجاز القرآن، التي تمثّل شُغله الشاغل، لا يقنع بآراء السابقين عليه في القول بالإعجاز دون ذكر الحجّة، وبيان العلّة، فيتناول القضية من خلال سؤال ينطلق منه مفاده: ما الذي يميّز كلاما من كلام؟ وما الصفة الباهرة، التي بهتت العرب في النصّ القرآني، فأحسّوا بالعجز إزاءه، على الرغم من فصاحتهم وقدرتهم البيانية: “هل سُمع قطُّ بذي عقلٍ ومُسكة استطاع أن يخرس خصمًا له قد اشتط في دعواه بكلمة يجيبه بها، فترك ذلك إلى أمور يُسفه فيها، ويُنسب معها إلى ضيق الذرع والعجز؟ أم هل عُرف في مجرى العادات، وفي دواعي النفوس ومبنى الطبائع، أن يدع الرجل ذو اللب حجته على خصمه، فلا يذكرها، ولا يفصح بها؟”([6])

ثالثا: تنفر التأويلية، عند نصر، من منطقة (اللاتعليل)، فلا يكتفى بالأقوال المرسلة، ويحرص على التفصيل في معرفة الخصائص، فالاختزال من آفات الخطاب الديني، وإحدى إشكاليات تحليل النصوص التراثية، “فاختزال الفكرة في كلمة يحول المعرفة إلى كبسولات تُغنى عن الدخول في التفاصيل استمرارا لعصر التلخيصات، التي كانت إيذانا بأفول عصر التقدُّم والازدهار في تاريخ المسلمين”([7]).

ويلتقي نصر، في بحثه عن العلل، واهتمامه بالتفاصيل، وعبد القاهر الجرجاني، الذي أنكر على القدامى عموميّة القول بلا تفصيل، وإصدار الحكم بلا تعليل، فيقول: “لا يكفي أن تقولوا: إنه خصوصيّةٌ في كيفيّة النّظم، وطريقةٌ مخصوصةً في نسَقِ الكلِمِ بعضها على بعض حتى تصفوا تلكَ الخصوصِيّةٌ وتُبيَّنوها، وتذكروا لها أمثلةً، وتقولوا: مثلَ كيت وكيت. ([8])

ولم تكن لتأويلية نصر أن تسلم من الخصومة مع المدرسة الحرفية القديمة والحديثة إذ تتبنى نمطًا فكريا تقليديا يرتكز على الثبات، والتثبيت، والدفاع عن الماضي بمضمونه مهما كان صادما، أو متناقضا مع العقل، وهذا من شأنه تزييف معرفة الحاضر بماضيه، وسدّ الطريق أمام مستقبل يتّخذ من اللحظة الحاضرة نقطة مراجعة وتقييم للماضي، الذي يؤدّي الوعي فيه إلى حُسن التخطيط للمستقبل. مما دفع إلى احتدام الصراع بين تأويلية نصر، والمدرسة التقليدية؛ لأن تأويليته تنال من أفكارهم التي توحِّدُ بين الدين والفكر، وتُلغى المسافة بين الذات والموضوع، وتحوّل النصوص الثانوية إلى نصوص أوليّة لها من القداسة ما للنصوص الأصيلة من الحسم الفكري والقطعي، وهذا يُفسّر الهجوم الذي تعرّض له في حياته وبعد رحيله.

عاش نصر قرابة أربعين عاما من البحث والدراسة مهموما بإنتاج وعي علمي بالمعنى الديني، منذ كان معيدا في تخصص الدراسات الإسلامية بكلية الآداب جامعة القاهرة؛ حتى وافته المنية وهو عميد المعهد الدولي للدراسات القرآنية بإندونيسيا- يطرح بعض الأسئلة عن طبيعة النص الديني، ويسعى لإنجاز منهج للتأويل، يفتح معنى النص للإجابة عن أسئلة معاصرة، منطلقا من الإنجازات التراثية والنهضوية متواصلا مع الفكر الإنساني، وكانت أمنيته أن يُكتب على قبره: “علامات طريق للزائرين وتعويذة تقيهم من خوف المقابر، مقابر العقول”.

***

أ.د عبد الباسط سلامة هيكل

.................................

([1]) إشكاليات القراءة وآليات التأويل. ص١٩٢.

([2]) إشكاليات القراءة وآليات التأويل. ص١٤.

([3]) السابق، ص٥.

([4]) السابق، ص٦،٥.

([5]) إشكاليات القراءة وآليات التأويل. ص٩.

([6]) الجرجاني، عبدالقاهر دلائل الإعجاز تحقيق محمود شاكر، دار المدني، جدّة، ط٣، ١٤١٣هـ -١٩٩٢م، ج١، ص ص٥٨١-٥٨٠.

([7]) أبو زيد، نصر حامد، التفكير في زمن التكفير ضد الجهل والزيف والخرافة، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط٢، تموز، يوليو١٩٩٥م، ص ص٨٥-٨٦.

([8]) دلائل الإعجاز،ج١، ص٤٨.

موسوعة الفلسفة على الانترنت (ماجد يار)

ترجمة: علي حمدان

***

الكسندر كوجيف (Alexander Kojeve)، (1902-1968)، كان مسؤولا عن التقديم الجاد لهيجل في الفلسفة الفرنسية في القرن العشرين، مؤثرا في عدد كبير من المفكرين الفرنسيين وبالذات أولئك الذين كانوا يحضرون دروسه حول ظواهرية العقل في باريس في الثلاثينات من القرن الماضي. كان تركيزه على فلسفة التاريخ لدى هيجل وقد اشتهر بنظريته حول نهاية التاريخ ومبادرته حول ما يسمى بالوجودية الماركسية. كوجيف يصل الى تفسير اصيل من خلال قراءة هيجل من خلال نظريتين  مزدوجتين المادية التاريخية لماركس وانطولوجيا هايدجر الزمنية.

نهاية التاريخ والرجل الأخير

رؤية كوجيف لتحقيق الغاية في التاريخ، مارست تأثيرا متجددا، في السنوات الأخيرة، ولاسيما في ضوء انهيار الشيوعية السوفياتية ودولها الحليفة. اذا فحصنا الرؤية التي صاغها كوجيف، يمكننا ان نرى بالضبط لماذا يستلهم انصار (او المدافعون) للنظام الرأسمالي العالمي لما بعد الحرب الباردة الهاما من أطروحة كوجيف.

بالنسبة لكوجيف، ستكون المصالحة التاريخية هي في تحقيق اعتراف متساو بجميع الافراد. سيزيل هذه الاعتراف الأسباب الرئيسية للحروب والصراعات، وبالتالي سيدخل العالم في سرادق السلام. وبهذه الطريقة، يبلغ التاريخ، من الناحية السياسية، في ذروته في النظام العالمي الذي تختفي فيه الطبقات - بمعنى هيجيلي، لم يعد هناك "سادة" و"عبيد"، فقط انسان حر يعترف ويؤكد حريته وحرية الاخرين بشكل متبادل.  تتخذ هذه اللحظة السياسية شكل القانون، الذي يمنح الاعتراف العالمي لجميع الافراد، وبالتالي يرضي رغبة الفرد الخاص في ان يتم تأكيده كمتساو بين الاخرين.

في الوقت نفسه، ستؤدي تقدم قدرات الانسان الإنتاجية، وقدرته على  استغلال الطبيعة وتحويلها لتلبية احتياجاته ورغباته الشخصية، الى الازدهار والتحرر. بالنسبة لكوجيف يجد تكامل القدرات الإنتاجية للإنسان لا تتحقق في الشيوعية، ولكن في الرأسمالية.  مثل ماركس، كان يعتقد  كوجيف ان الرأسمالية قد اطلقت القوى الإنتاجية، وانتجت ثروة لم تتخيل من قبل. علاوة على ذلك، كما يعتقد ماركس،، يعتقد ان اتساع الرأسمالية  كقوة متجانسة، تنتج معيارا ثقافيا عالميا يدمر الارتباطات المحلية والتقاليد والحدود ويحل محلها قيما برجوازية.

كوجيف يتبع منهجا مختلفا عن الماركسية ( وتياراتها مثل اللينينية) عن طريق رفضه فكرة ان الرأسمالية تحتوي على تناقضات ذات طابع حتمي ستؤدي بالضرورة الى انهيارها ويتم تجاوزها بواسطة الشيوعية. كان ماركس يعتقد ان ظروف العمال في القرن التاسع ستزداد سواء، حيث قد يؤدي ضغط المنافسة السوقية الى استخلاص مزيدا من ُفائض القيمة من العمال بوحشية، في محاولة للتوازن مع تراجع معدل الربح، وهذا سيؤدي الى افقار البروليتاريا، وعجز الرأسمالية عن تجنب مثل هذه الازمة سيستدعي  اطاحة علاقاتها من قبل طبقة العمال التي حصلت على الوعي الطبقي في ظل ظروف بؤسها. ومن ناحية أخرى، يعتقد كوجيف ان الرأسمالية في القرن العشرين وجدت سبيلا للخروج من هذه التناقضات، واستطاعت بواسطة نظام السوق من القيام بنجاح  في توزيع الثروة التي تنتجها. بعيدا عن ان تفقر بشكل متزايد فئة  العمال  أصبحت الطبقة العاملة تتمتع برخاء غير مسبوق. هذا هو السبب في ان كوجيف ، بداية من عام 1948، كان يعلن ان الولايات المتحدة هي النموذج الاقتصادي للعالم" الما بعد التاريخ"، الأكثر كفاءة ونجاحا في السيطرة على الطبيعة من اجل تلبية احتياجات الانسان المادية، وبالتالي اكد، قبل انهيار الإمبراطورية السوفياتية النهائي، ان الحرب الباردة ستنتهي بانتصار الغرب الرأسمالي، وذلك سيتم تحقيقه من خلال وسائل اقتصادية وليس عسكرية.

سوف يجلب نهاية التاريخ ايضا اشكالا متميزة أخرى، فلسفيا، ستنتهي بالمعرفة المطلقة التي تحل محل الايدلوجيا. فنيا، سيعبر الوعي المتصالح عن نفسه من خلال الفن التجريدي-بينما يلتقط الفن التصويري والتمثيلي التفاصيل الثقافية، فان هذه التفاصيل قد تلاشت، مما ترك الاشكال الجمالية التجريدية كتجسيد للوعي الشامل والمتجانس.

ومع ذلك، فان موقف كوجيف من نهاية التاريخ العالمي متناقض تماما. من جهة، يتبع ماركس عندما يرى العالم ما بعد التاريخ بصورة مثالية، حيث تكون حرية شاملة، وتحرر من الحرب والحاجة، مما يترك المجال ل"الفن والحب واللعب وما الى ذلك؛ باختصار، كل ما يجعل الانسان سعيدا". ومع ذلك ينتاب  كوجيف تشاؤم في الوقت نفسه. في انثروبولوجيته الفلسفية، يتم تحديد الانسان بنشاطه النافي(Negating)، بكفاحه للتغلب على نفسه والطبيعة من خلال النضال والتحدي. هذا هو التعريف الوجودي للإنسان. ومع ذلك، فان نهاية التاريخ تشكل نهاية هذا النضال، مما يحيد الانسان من النشاط الذي صاغ جوهره. نهاية التاريخ تجلب "موت الانسان" ؛ بشكل متناقض، ينحرم الانسان من النواة التعريفية لوجوده في لحظة انتصاره. ان الانسان ما بعد التاريخ لن يكون "انسانا" كما نفهمه، ولكن سيتم "تحييده"، بحيث تعتبر نهاية التاريخ "الإبادة النهائية للإنسان كما هو بمفهومه الصحيح".

تأثير كوجيف

كان  لفكر كوجيف تأثير عميق على فرنسا وخارجها. يمكن تتبع لعديد من الروابط في الفلسفة الفرنسية التي تدين بدرجات متفاوتة لتأثير كوجيف، حيث ان إعادة تفسيره المميزة للفيلسوف هيجل كانت حاسمة في استقبال الفكر الهيجيلي في فرنسا. ومع ذلك، هناك أيضا عدد من الفلاسفة المهمين الذين استفادوا مباشرة من الهيجيلية الكوجيفية واستخدموها بدورهم لإنشاء مواقف فلسفية متميزة.

أولا: يجب ان نلاحظ أهمية هيجيلية كوجيف في تطور فلسفة سارتر. لايزال هناك جدل مستمر بشان ماذا كان سارتر حضر شخصيا ندوات هيجل في الثلاثينات. ومع ذلك، يمكن اعتبار بشكل معقول ان القراءة الوجودية والماركسية "لعلم الظواهر" كانت بنفس التأثير الذي سببه " الوجود والزمن " لهايدجر للموقف في "الوجود والعدم " الذي قدمه سارتر. من الأمور المركزية لسارتر، التي تجد جوهر الانسان في حريته كنشاط سلبي خالص، يفصل وجوديا الانسان عن العالم الطبيعي. يتضمن تفسير سارتر لكيفية العلاقة بين "السيد والعبد"  تفسير كوجيف في إعادة صياغتها وجوديا، على الرغم من عدم وجود التفاؤل الذي يعثر على إمكانية التوفيق في هذا الصراع بين الموضوع والذات( بالنسبة لسارتر، فإن الجدلية هي بتكرار الصراع من اجل الهيمنة الذي يحاول فيه كل طرف تحقيق حريته من خلال اذلال كيان الاخر). علاوة على ذلك ، فإن محاولات سارتر اللاحقة للتوفيق بين المادية التاريخية والوجودية تدين بفضل كبير الى صياغة كوجيف للتوفيق بين "الماركسية والوجودية".

كان جاك لاكان احد الفلاسفة البارزين التي تعتبر نظرية كوجيف حاسمة بالنسبة له. تم تطوير نظرية لاكان للتطور النفسي الاجتماعي من خلال توليفة من فرويد والبنيوية، تحليلها من خلال تفسير كوجيف" السيد والعبد" التي أعاد صياغتها بصورة دياليكتكية. بالنسبة للاكان، متبعا كوجيف، يتم تعريف الذات البشرية قبل كل شيء بواسطة الرغبة، ان تجربة النقص، توأم لتجربة الرغبة، توفر الشرط الوجودي لتشكيل الذات؛ انها فقط من خلال المزج بين التجربة التوأم للنقص والرغبة الذي يصل من خلالها الكائن الى وعي يفصله عن العالم الذي كان في السابق مندمجا فيه تماما. علاوة على ذلك، كان لاكان يسرد  تطور الوعي الذاتي في الطفولة، الذي يتجسد في تحليله لمرحلة المرآة، يكرر الوساطات الذاتية للوعي  التي عرضها كوجيف لطلابه الفرنسيين (بمن فيهم لاكان) في محاضرات هيجل.

اثر كوجيف بشكل عميق أيضا على جورج باتاي وريموند كوينو، على حد سواء من خلال المحاضرات التي حضروها ومن خلال الصداقات التي ابقاها معهما لسنوات عديدة بعد ذلك. غالبا ما يرتبط كوينو مع اندريه بريتون والسرياليين (الذين انفصل عنهم في عام 1929) لكن رواياته تقدم رؤية للعالم تعتمد بشكل عميق على كوجيف. تصور العديد من كتبه الأكثر شهرة، الحياة في نهاية التاريخ؛ حيث لا يوجد حركة تاريخية أخرى او تقدم او تحول قادم، وشخصياته تعيش في نوع من "الحاضر الابدي" يهتمون بأنشطة الاستمتاع اليومية، حيث يعود التاريخ كشيء يمكن الاستمتاع به كمعلم سياحي، او كحالة تأملية للماضي، ينظر اليها من وجهة نظر نهايتها. باتاي (عالم الانثروبولوجيا، والفيلسوف، والمصور الاباحي عميد جمالية ما بعد الحداثة الحديثة، ومعاداة العقلانية)، كان ربما اكثر من صاغ توقعات كوجيف التشاؤمية في مواجهة " موت الانسان". كان انتصار العقل بالنسبة لباتاي، لعنة، ان انتصاره الحتمي في مسيرة الحداثة التي لا يمكن وقفها جلب معه التجانس والنظام وخيبة الامل. كان انتصار العقل كتاريخ يعني نهاية الانسان وموته، حيث تم استبدال القوة المفرطة والمدمرة للسلبية بتوازن متناغم ومتبادل. استجابة باتاي، وهي نضال تحرري ضد هذه القوى من خلال استحضار الرغبات المنحرفة والجنون والمعاناة، تأخذ  تشخيص كوجيف حرفيا، وتنظم مقاومة بطولية ضد تيار القوى التاريخية.

ربما كان تأثير كوجيف خارج فرنسا اكثر وضوحا في الولايات المتحدة. حيث حققت أفكاره شهرة جديدة وكشفا مع نشر فرانسيس فوكاياما نهاية التاريخ والرجل الأخير(1992)، في اعقاب الحرب الباردة. كان فوكاياما طالبا لألان بلوم، الذي كان بدوره تلميذا للسياسي المهاجر " اليميني" الفيلسوف ليو شتراوس. كان شتراوس هو الذي قدم جيلا من طلابه الى فكر كوجيف، في حالة بلوم، رتب له للدراسة مع كوجيف في باريس في ستينات القرن العشرين. لا يقدم الكتاب الذي يعد من اكثر الكتب مبيعا على مستوى العالم، اقل من تبرئة مظفرة لأطروحة كوجيف التي يفترض انها متبصرة بان التاريخ وجد نهايته في الانتصار العالمي للرأسمالية والديمقراطية الليبرالية، مع الزوال النهائي للماركسية السوفياتية، والهيمنة العالمية للرأسمالية، وصلنا أخيرا الى نهاية التاريخ. لا يوجد المزيد من المعارك التي يجب خوضها، ولا مزيد من التجارب في الهندسة الاجتماعية التي يجب تجربتها، لقد وصل العالم الى حالة متجانسة يسود فيها الجمع بين الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية وجميع الأنظمة الثقافية والايدلوجية الأخرى ستكون جزء لا رجعة فيه من الماضي. يتبع فوكاياما كوجيف في ربط  انتصار الرأسمالية بتلبية الاحتياجات البشرية المادية. علاوة على ذلك، يرى انها الالية الأساسية لتوفير الاستحقاق والقيمة. تمثل النزعة الاستهلاكية والنمط السلعي، بالنسبة لفوكاياما، الوسيلة التي يتم من خلالها التوصل الى الاستحقاق. يرغب البشر في ان يقدرهم الاخرون، ووسيلة هذا التقدير هو التشبه باقتناء الأشياء التي يقدرها الاخرون انفسهم. ومن ثم يصبح نمط الحياة والموضة اليات للتقدير المتبادل في عالم ما بعد التاريخ الذي يحكمه منطق الفردية الرأسمالية.

***

يدل مفهوم الالتباس في أبسط معانيه على "الغموض"، وارباك المتلقي حول الرسالة الملتبسة التي يحملها الخطاب الملتبس، واضطراب المواقف حولها. ونحن نقصد به، إضافة إلى معنى الغموض والارباك، عدم وضوح التوجه الفكري للمشروع الخطابي لطه في الساحة الثقافية العربية الإسلامية؛ أو لنقل لدى الكثير من متلقيه.

ونخصص هذه المقالة للعوامل التي تساهم في صناعة وضعية الالتباس، والتي تحصلت لنا، ونحن نقرأ كتبه ومؤلفاته؛ ونتناولها في صورة وضعيات "فكرية"، ترجع، في رأينا، إلى ثلاثة أمور: أولها مهنة التعليم التي أتاحت له تدريس مجموعة من المواد المعرفية، تمكن بسببه من الاطلاع على حقول معرفية، تراثية وحديثة عديدة. ثانيها تعدد كتاباته، وتوزعها على مناحي معرفية وثقافية وتراثية عدة. ثالثها انتماؤها الديني؛ وهو الانتماء الذي يشكل الوجهة التي وظف ويوظف فكره وكتاباته لخدمته. ونجمل هذه الوضعيات فيا يلي:

1-الوضعية الفلسفية. 2-الوضعية المنطقية. 3-الوضعية العقلية. 4-الوضعية الكلامية. 5-الوضعية اللغوية واللسانية. 6-وضعية رجل الدين؛ والداعية إلى التصوف الطرقي. تعكس كتب ومؤلفات طه عبد الرحمن هذه الوضعيات، والتي يمكن تصنيفها إلى ثلاث مجموعات؛ مجموعة الكتب الفكرية والمعرفية منها المنطق والنحو الصوري، واللسان والميزان أو التكوثر العقلي (....) مجموعة المؤلفات السجالية والكلامية، وهي الأكثر مثل: تجديد المنهج في تقويم التراث، فقه الفلسفة، سؤال الأخلاق، بؤس الدهرانية، شرود ما بعد الدهرانية، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري (...) مجموعة المؤلفات الدينية الصوفية، وتشمل: العمل الديني وتجديد العقل، ما العمل، دين الحياء، المفاهيم الاخلاقية بين الائتمانية والعلمانية، سؤال العنف بين الائتمانية والحوارية، من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر (...).

والعلاقة بين المجموعات الثلاثة، وهي العلاقة التي توضح طبيعة مشروعه الخطابي، هي أن الصنفين الأول والثاني من مجموعات كتبه، هما مجرد أدوات أو آليات لخدمة وتكريس ما يحمله الصنف الثالث من مضامين محتويات ودعوة. ويعني ذلك أن اشتغال الأستاذ طه بالفكر والمعرفة، ومنها الفلسفة والمنطق، ليس اشتغالا أصيلا، وإنما هو اشتغال توظيفي واستغلالي؛ فهو يوظف المعرفة المنطقية والفكر الفلسفي لخدمة التراث والدفاع عنه وإعادة انتاجه، وهو العمل الذي يسميه ب: "النهوض بالموروث الديني". ولهذا يحدد لما يوظفه من معارف صفة "الخدمة"، بحيث لا يقبل أي علم إلا بقدر خدمته "للحقيقة الإسلامية". (تجديد المنهج: 84-85)

وأعاقه هذا الاشتعال التوظيفي الأداتي للفكر، من الابداع في مجال الفلسفة خاصة؛ رغم ما يعلنه ويصرح به بأنه ينشئ “فلسفة إسلامية"، أو أنه يعلم العرب والمسلمين تقنيات التفلسف التي تكسبهم القدرة على الابداع الفلسفي. فالرجل، في رأينا، قارئ جيد للفلسفة وتاريخها، وللمعرفة المنطقية القديمة والحديثة، ومتمكن منهما بشكل يؤهله للإبداع في مجاليهما، لكن الرجل بدل ذلك انحاز باتجاه مهمة الدفاع عن التراث، والعمل على اعادته إلى الخدمة، كما كان في الماضي والدعوة إليه.

ولكي يبرر المهمة التي انتدب لها نفسه وقلمه، أطلق دعاوى كثيرة مثل: إن الموروث ومعارفه الدينية، وليس الفكرية، تحمل فلسفة خاصة؛ فلسفة صيغت، ليس على مقتضى الفلسفة اليونانية المنقولة، والتي تعتمد ما يسميه "العقل المجرد"، وإنما اعتمادا على "ملكات" ومناهج أخرى، لا تقل مكانة في بناء "المعرفة" واكتسابها من العقل نفسه، وفي طليعتها "الروح" أو العقل الصوفي، الذي يسميه في تقسيمه الثلاثي للعقل بـ "العقل المؤيد"، والعقل الفقهي الذي يسميه بـ "العقل المسدد"، والعقل الكلامي الحجاجي، الذي تجسده المناظرة. (فقه الفلسفة، الفلسفة والترجمة:257)

من العقل الديني؛ بمكوناته الثلاثة تولدت "الفلسفة الإسلامية" في رأيه. وتنضاف هذه الدعوى إلى العوامل/الوضعيات السالفة في تكريس صفة الالتباس على فكر طه؛ هل هو فكر فلسفي ومنطقي، أو هو فكر ديني صوفي طرقي، أو هو فكر أخلاقي انساني. ونشرع، بعد هذا، في الإضاءة على الوضعيات المشار إليها، وضعية وضعية، في صورة عناوين عامة ومركزة.

1-الوضعية الفلسفية: يحضر طه في الساحة الفكرية والثقافية تحت عنوان الفلسفة، وربما يعد العنوان الأبرز لهذا الحضور لدى تابعيه ومريديه، وانطلاقا منه يتم تصنيفه بوصفه فيلسوفا. وتتمثل الأسباب التي ساهمت وتساهم في رسم هذا العنوان لطه عبد الرحمن فيما يلي: امتهان تدريس الفلسفة والمنطق، أنه قارئ للفلسفة وتاريخها، السجال مع فكر فلاسفة غربيين كبار، القول بإنشاء فلسفة بديلة؛ يسميها بأسماء عديدة منها "الفلسفة الحية" و "الفلسفة الائتمانية"، القول بتعليم المسلمين تقنيات التفلسف.

2-الوضعية المنطقية: لا يستطيع أحد التشكيك، في عالمنا العربي الإسلامي على الأقل، في تمكن طه عبد الرحمن من المعرفة المنطقية؛ ونن نرى أن هذا التمكن، إلى جانب تمكنه اللغوي واللساني، هو ابرز ما يؤهله للإبداع الفكري والفلسفي، لكنه اختار مسارا آخر، وهو تحويل هذه المعرفة الأرقى والأكفأ على بناء العقل والاقتدار والكفاءة العلمية والمعرفية، بشكل لا يضاهيها غيرها من المعارف والعلوم، إلى مجرد أداة خدمة لمعارف التراث، التي تحمل في مضامينها "فلسفة" لا تحتاج إلا إلى إعادة بنائها واحيائها على مقتضى اللغة الفلسفية، ولهذا انحصر تفاعله الإيجابي مع الفلسفة القديمة والحديثة والمعاصرة، في الجانب الآلي والصوري فقط؛ أي في أدوات وتقنيات انتاج الفكر الفلسفي. (من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر: 73)

وهذه الآليات التي لا يخفي نقله لها من خارج المعرفة التراثية، كما نقل وينقل غيره في عالمنا الفكر الفلسفي، هي أقوى أدواته في النقد والاعتراض على المشاريع الفكرية والثقافية والتراثية لمن صنفهم ويصنفهم خصوما (نقده للجابري نموذجا في: تجديد المنهج: 82)؛ ونميز في هذه الوضعية بين:

ا- وضعية الاقتدار المنطقي، وتفصح عنها المعطيات التالية: تدريس مادة المنطق بالجامعة، التأليف في حقل المنطق، انجاز بحوث أكاديمية في المجال.

ب- وضعية "الاشتباه" حول الموقف من المعرفة المنطقية، وتدل عليها الأمور التالية: الانتصار والاحتفاء بنزع الطابع الصناعي على المنطق الأرسطي من طرف بعض الفقها؛ ابن حزم وابن تيمية خاصة (تجديد المنهج:329-350)، الانتصار للمنطق الطبيعي، تفضيل الجدل والمناظرة على المنطق.

3-الوضعية العقلية: يساهم موقف طه ونظرته إلى العقل بشكل أقوى في إشكالية التباس فكره، وذلك للأسباب التالية: التوسل وتوظف آخر مستجدات العقل الفلسفي ومنجزاته (التداولية مثلا)، القول بتعدد العقل وتكوثره، اتهام ما يسميه "العقل المجرد" بعدم القدرة على ارشاد الانسان، وعجزه على إدراك ما هو ضار وما هو نافع في الحياة، تفضيل العقل الديني بنوعيه الفقهي (المسدد)، والصوفي (المؤيد) على العقل الإنساني المشترك (المجرد)، وتصنيفه في المرتبة الأدنى في تقسيمه للعقل؛ فالدين أقوى من العقل ومنه يستمد المشروعية. (روح الدين: 152)

4-الوضعية الكلامية: تبرز هذه الوضعية أكثر من غيرها في كتاباته؛ فأغلب مؤلفاته تمت صياغتها بطريقة الجدل والحجاج، المؤسسة على الادعاء والاعتراض وتعبر بشكل أفضل من غيرها من الوضعيات عن المهمة "الفكرية" والثقافية للمشروع الخطابي لطه، والمؤهلة، في رأينا، لئن تحدد هويته الفكرية أو الثقافية، ويأتي في مقدمة عواملها: ممارسة الوظيفة المميزة لعلم الكلام وهي الدفاع، العمل على تجديد علم الكلام من خلال التأليف: أصول الحوار وتجديد علم الكلام (روح الدين: 391)، الانتصار للكلام الأشعري وتبني مقولاته (نفي الفاعلية عن الانسان، الكسب، العادة)، تفضيل الجدل والمناظرة (فقه الفلسفة، الفلسفة والترجمة:256)، تصنيف علم الكلام وأصول الفقه النموذج الأصيل للفلسفة الإسلامية. (روح الدين: 391) و(تجديد المنهج: 386)

5- الوضعية اللغوية واللسانية: تعكس كتابات طه عبد الرحمن تمكنه واقتداره اللغوي واللساني؛ وهي في الحقيقة، الوجه الآخر لاقتداره المنطقي؛ فهما معا يرشحانه لمهمة الابداع الفكري والفلسفي كما سبقت الإشارة إليه، وتدل على هذه الوضعية المعطيات التالية: تدريس فلسفة اللغة بالجامعة، التمكن من لغات انتاج الفلسفة القديمة والحديثة، التمكن من العربية وأدوات التوليد فيها، الاشتغال على المفاهيم الدينية والتراثية على مقتضى الصناعة الفلسفية الصورية المنطقية، واخراجها في صيغ وموازين تضفي عليها مسحة من الابداع، ويحدد لهذا التصنيع وظيفة أيديولوجية واضحة: حفظ الدين وانتزاع التصديق له (سؤال الأخلاق: 226)، تجعلها منسجمة مع الأنساق الخطابية الحديثة، توليد مصطلحات ومفاهيم كثيرة، وهو نتيجة للمعطى السابق، العمل على إعادة مفاهيم ومصطلحات الموروث الديني والتراثي إلى الخدمة.

6- وضعية رجل الدين والداعية؛ أو الوضعية الأيديولوجية: وتتمظهر فيما يلي: الدفاع عن المعارف الدينية التراثية، وتقديمها بوصفها تتضمن فلسفة ومناهج عقلية، إعادة انتاج الموروث الديني بإضفاء الصنعة الحديثة عليه، رجل التصوف والمنظر للتصوف الطرقي، العمل على تقديم السند الفكري للحركات الأصولية (مقدمة كتاب: العمل الديني وتجديد العقل)، رفض السياسة المدنية، والدعوة إلى اعتماد "التدبير" الديني للمجتمع عبر تقسيم السلطة بين الزاوية والسلطة، تتولى الأولى "التدبير الديني"، وتتولى الثانية "التدبير السياسي"، اعتبار نظام "الخلافة" التاريخي النموذج المثالي للحكم. (روح الدين: 360-361)

تلك هي الوضعيات التي استشكلنا من خلالها طبيعة حضور فكر الأستاذ طه في الثقافة؛ ولعل البعض يعترض بالقول إنها وضعيات تعكس تعدد أبعاد فكر طه وغناه؛ فنقول سيكون الأمر كذلك لو أن طه قارب قضايا تلك الحقول الفكري والتراثية من زاوية البحث العلمي، وما يفرضه من الموضوعية وخدمة الحقيقة، فضلا عن احترام الحدود المميزة لكل حقل؛ لكن ما يميز عمله واشتغاله هو التوظيف والخلط؛ فهو يوظف بعض تلك الحقول أداة لخدمة البعض الآخر، ولهذا تجده ينقلب في سياق واحد، أو داخل كتاب واحد من حقل على آخر بنفس منطق التوظيف أو التخديم.

وأحيانا يعرض مفاهيم وأفكار حقل تحت عناوين حقل آخر، ومثاله: أن يتحدث عن التصوف ومقولاته، ويعرضها تحت عنوان الأخلاق، أو مفهوم المقاصد تحت نفس العنوان، مما يجعل الثلاثة شيئا واحدا؛ ومثل عرض التصوف الطرقي في سياق "نقد" الحداثة، بوصفه بديلا لتجاوز أزماتها، ومثاله أيضا اعتماد "العقل المجرد" وآلياته ضد الخصوم ونقدهم، ثم تنزيله المنزلة الأدنى والأخس، بهذا العقل اكتسب ما اكتسب من معارف، وقدرات في القراءة والكتابة و (...)، فلو افترضنا طه بدون اطلاع على الفلسفة فهل يستطيع هو نفسه اليوم اعتمادا على العقل الصوفي، أو بعبارته "العقل المؤيد"؟ أن يكتسب ما اكتسب من معارف واقتدار على القراءة والكتابة (روح الدين: 495).

وخلاصة القول إن فكر طه ينتظمه حقلان معرفيان، يعدان أقوى حقول المعرفة تأثيرا في الحياة والانسان، هما المعرفة الفلسفية والمنطقية، والمعرفة الدينية؛ الأولى تؤثر في النخبة، بل تصنعها، والثانية تؤثر في العامة وتؤطرها. وفي هذا تتجلى قيمة أو خطورة ما يعرضه الرجل على المتلقي من تصورات ومواقف وأفكار وقرارات وأحكام (...) وللاقتراب أكثر من طبيعة مشروعه الفكري، نعرض نماذج لمواقفه وقراراته والتي، حتما، تكون قد مررت للنخبة.

يقول عن العلم والتقنية، بوصفهما النموذج الأبرز للمعرفة الحديثة، ولنمط الحياة الحديثة؛ أو للحداثة: "والقول الجامع أن النمط المعرفي الحديث غير مناسب؛ إن لم يكن غير صالح للتوسل به في بناء معرفة إسلامية حقيقية". ولا يكتفي بالتقرير؛ بل يدعو إلى التطهر منهما؛ إذ يحدد للصوفية الطرقية وظيفة: "تجديد التربية لمداركنا، حتى تطهرنا من هذه الطبقات المعرفية المترسبة". (سؤال الأخلاق:110-111)

فالطرقية تولد في المتصوف: "فاعلية تعيد إليه تكامله المادي الروحي، فينهض إلى تطهير نفسه من الطبقات العقلية والعلمية الموروثة عن النمط المعرفي المتداول". (نفسه: 112) ويقول عما يسميه "أخلاق العمق": "تدعونا إلى الشروع في بناء حضارة جديدة لا يكون السلطان فيها ل "اللغوس"، وإنما ل "الإيتوس"" (نفسه: 146)، ويقول في السياق ذاته: "لست أرى رأي من يقول بأن مآل التجديد الإسلامي رهين بإنشاء المؤسسات الصناعية، والمراكز التقنية ووضع البرامج التحديثية وتجنيد الطاقات المادية" (نفسه: 195)

وفي سياق نقد من يسميهم "محترفي التقليد" يضع من أسباب عدم التقليد: "لأن، في مجالات ثراتهم، غناء عن هذا الذي يقلدون ويتبعون فيه غيرهم". (بؤس الدهرانية: 183) وينتقد الأصولية في اقتباسها الآليات الديمقراطية في التدبير، ويبرره بأنه مخالف ل: "إرادة تدبير أمور المعاش بما يخدم المصالح الأخروية على طريقة المتقدمين". (روح الدين: 337)

وليس غريبا، بناء على ذلك، أن يصدر عن الرجل مثل هذا الموقف. يقول: "ليس في جميع الأمم، أمة أوتيت من صحة العقيدة وبلاغة اللسان وسلامة العقل مثلما أوتيت أمة العرب، تفضيلا من الله"، والقول: "إن العرب أوتوا رجاحة في العقل لم تتقدم لغيرهم"، ويقول إن الشعور بالتميز العقلي متفرع عن التفوق الديني واللغوي. لماذا؟ لأن: "من تكون له أفضل شريعة وأفضل لغة، لزم أن تكون له أفضل معرفة ما دام يستمد هذه المعرفة من أحق الحقائق التي جاءت بها أصدق شريعة". (تجديد المنهج: 252-254) فليس يحتاج المسلم إلى المعارف الحديثة، لأنه يملك "أفضل معرفة".

***

حسن العلوي -  كاتب مغربي

لو جمعت ما كتب عن الدين والاديان ووضعتها في باخرة.. لغرقت!. والمفارقة، انك لو قرأتها كلها فانك لن تصل الى مفهوم او تعريف محدد للدين!. ولا يعود هذا الى اختلاف ايديولوجيات.. توجهات من كتبوا: رجال دين، فلاسفة، علماء اجتماع.. بل ان الأختلاف موجود حتى بين الصنف الواحد منهم ما يجعلك تتفق مع عالم النفس وولف Wulff بقوله (ان تعريفا مرضيا للدين قد استعصى على العلماء حتى يومنا هذا) الموثق في كتابه علم النفس والدين 1996

وتعرّفه ويكيبيديا: (الدين هو نظام اجتماعي ثقافي من السلوكيات والاخلاق والنظرات العالمية والنصوص والاماكن المقدسة او النبوات او المنظمات التي تربط الانسانية بالعناصر الخارقة للطبيعة او المتعالية). وتعترف، مضيفة، بانه لا يوجد اجماع علمي حول التعريف الدقيق للدين.

ولقد سألت، باللغة الانجليزية، عن افضل تعريف للدين فجاءني الجواب، بعد ترجمته، بأن (الدين هو معتقد في اله او آلهة ونشاطات مرتبطة بهذا المعتقد مثل الصلاة او التعبد في بناية مثل الكنيسة).

وحين سالت عن اصل مصطلح(religion) جاءني الجواب بأنها من اصل فرنسي وانجلونورمان 1200 قبل الميلاد، وتعني احترام الشعور بالصح او الحق right، والالتزام الاخلاقي، والحرمةsanctity، والمقدس sacred.. وان اصلها يعود الى الكلمة الأغريقية rligio.

ولقد اطلعت على مؤلفات عربية رصينه خاصة بالدين (الأديان والمذاهب في العراق- رشيج الخيون، وموسوعة تاريخ الديان- فراس السواح...) فلم اجد تعريفا متفقا عليه للدين.. فخلصت الى نتيجة هي:

ان افضل تعريف نقترحه للدين هو:

ما يعتقد به الفرد بوجود قوة غير مرئية، يعتبرها مقدسة وتربط بينهما علاقة يراها متبادلة.

علماء النفس والدين

كانت العلاقة بين علم النفس والدين في النصف الاول من القرن العشرين ضعيفة ومرتبكة وفيها اشكالية خلاصتها ان عالم النفس لا ينظر للدين باهتمام وجدية، وان المتدين لا يعتبر علم النفس علما، ما يعني ان علم النفس والدين لا يمكن التوفيق بينهما، وانه من المستحيل ان يكون هناك علم بأسم علم نفس الدين. وبقي هذا الحال الى سبعينيات القرن الماضي، ففيه بدأت (المصالحة) وظهرت مقالات ومنشورات توظف علم النفس في تحليل موضوعات دينية، تطورت الى محاولات طموحة بينها ظهور كتاب في 1988 بعنوان علم نفس المعرفة الدينية لـ(واتس وويليمز Watts&Wplliams) ليشهد عقد التسعينيات الاعتراف علميا بعلم النفس الديني.

سنبدأ بايجاز مواقف فريقين متضادين من اشهر علماء النفس والاجتماع، نطرحها بموضوعية وحيادية، أي أن دورنا هو الناقل لوجهة النظر وليس الناقد لها.. ونبدأها ب(شيخ) النفسانيين، سيجموند فرويد.

1. سيجموند فرويد.

بدأت تأملات فرويد الأولى حول الدين من أوجه التشابه بين الأعراض العصابية والممارسات الدينية، وتتدرج في ايضاح رأيه بالدين عبر عدد من مؤلفاته، بدأ اهمها بالطوطم والتابو(1913)، ومستقبل وهم، وخلل في الحضارة، وانتهى بموسى والتوحيد(1937)، وصف الدين فيها بانه "عصاب قهري عام". واعلن ان التحليل النفسي كان آخر من تصدّى بالنقد للنظرة الدينية للكون، بأن ردّ اصل الدين الى عجز الطفولة وقلة حيلتها، وردّ مضمونه الى بقاء رغبات الطفولة وحاجاتها حتى سن النضج. موضحّا بأنه لا يتضمن على التحديد دحض الدين، لكنه ضروري لمعلوماتنا عنه، واننا (فرويد) لانتناقض مع الدين الا حين يدّعي انه ذو اصل الهي.

وعن اصل نشوء الدين يجيب فرويد بأنه اكتشف مبدأ " القدرة المطلقة للافكار " الذي يوجد بدوره في اساس السحر، وأنه مضى في نشوء الكون بمقارنته نقطة فنقطة بعصاب الوسواس القهري، وبيّن ان كثيرا" من مسلمات الحياة النفسية البدائية لا تزال فعّالة لذلك الاضطراب الغريب.

والواقع ان نظريات التحليل النفسي تفسر الدين بدلالة (وهم) ناجم عن تفكير مرغوب فيه يشكل بديلا لشخص الأب، وتصف الدين بأنه علاقة وهمية تتوسط بين العالم النفسي الداخلي للانسان وبين العالم الخارجي الذي يعيش فيه، ناجمة عن عمليات اسقاطية.واوضح في كتابه " مستقبل وهم " ان الدين ينبع من عجز الانسان في مواجهة قوى الطبيعة بالخارج والقوى الغريزية داخل نفسه.مع التوضيح بأن وصفه للدين بانه (وهم) لا يعني القول بأنها خاطئة بل يعني انها تخضع لمنطق الرغبة وليس منطق الحقيقة، تماما مثل وهم سكرتيرة بعمر عشرين سنة.. تحلم بانها ستتزوج مديرها ذي الستين عاما.

ولقد ذهب فرويد الى ابعد من وصفه للدين بأنه " وهم " بقوله ان الدين " خطر " لأنه يميل الى تقديس مؤسسات انسانية سيئة تحالف معها على مر التاريخ. فضلا" عن ان ما يقوم به الدين، يضيف، من تعليم الناس الاعتقاد في وهم وتحريم التفكير النقدي بأن يجعله مسؤلا" عما اصاب العقل من فقر.

ومع أن فرويد وصف الدين بأنه حالة سيكولوجية لقضية وهمية، فأنه لم يسفّه العقائد الدينية ولم يقل عنها انها كاذبة.

2. فروم:

يعرّف فروم الدين بأنه (أي مذهب للفكر والعمل تشترك به جماعة ما، ويعطي للفرد اطارا للتوجيه وموضوعا للعبادة). ويرى أن الدين على أنواع، فهنالك أديان توحيدية وأخرى متعددة الالهة، غير أنه يركز في نوعين يطلق عليهما:الأديان الانسانية humanistic والأديان التسلطيةauthoritarian. ويقصد بالنوع الأول ألاديان التي يأتي بها أشخاص مثل بوذا، الذي يعدّه معلما عظيما ويصفه " بالمستنير " الذي أدرك حقيقة الوجود الانساني وتحدث باسم العقل وليس باسم قوة فائقة على الطبيعة. أما الأديان التسلطية (يقصد السماوية) فان العنصر الجوهري فيها هو الاستسلام لقوة تعلو على الأنسان، والطاعة فيه هي الفضيلة الأساسية والعصيان هو الخطيئة الكبرى. وكما تصور هذه الأديان (التسلطية) أن الاله قوي شامل القدرة ومحيط علما بكل شيء، فانها تصور الانسان بالمقابل على أنه عاجز، تافه الشأن، ولا يشعر بالقوة الا بمقدار ما يكتسب من فضل الاله ومعونته عن طريق الاستسلام التام. فالاله في الدين التسلطي رمز للقوة والجبروت، وهو الأعلى لأن له القوة الأعلى، والانسان الى جواره لا حول له ولا قوة، على حد تعبير فروم.

وينّبه فروم الى أن الدين التسلطي العلماني (أو الدنيوي) يتبع هذا المبدأ نفسه. فهنا يصبح الفوهرر أو " ابو الشعب " المحبوب، أو الدولة، أو الوطن الاشتراكي.. موضوعا للعبادة، وتصبح حياة الفرد تافهة، وتتألف قيمة الانسان من انكاره لقيمته وقوته.غير أن فروم يفضل ما يسميه الدين الانساني على الدين التسلطي، لأن هدف الانسان في الدين الانساني هو أن يحقق أكبر قدرة من القوة، لا أكبر قدر من العجز، والفضيلة هي تحقيق الذات لا الطاعة، والايمان هو يقين الاقتناع المؤسس على تجربة المرء في مجال الفكر والشعور لا على تصديق قضايا وفقا لذمة المتقدم بها. والمزاج السائد فيها هو الفرح، فيما المزاج السائد في الدين التسلطي هو الحزن والشعور بالذنب، يضيف فروم.

3. يونج:

اذا كان فرويد (ضد أو عدو)الدين فان يونج (مع أو صديق) الدين. ولهذا السبب فقد دعمته الكنيسة، ليس فقط لأنه مع الدين بل لأنه انشق على فرويد واختلف معه في طروحاته بخصوص الجنس وعقدة أوديب واللاشعور والدين. فالقاريء لنظرية فرويد يستنتج منها أن الانسان هو الذي خلق الدين فيما يستنتج من نظرية يونج أن الدين بنظامه الأخلاقي هو الذي خلق الانسان.

ولقد بدأ اهتمام يونج بالدين بعد أن انفصل عن فرويد وتخلص من سلطته عليه، وتأسيسه مدرسة أو منهجا أسماه (علم النفس التحليلي)، فتوجه نحو دراسة الأساطير والرموز القديمة والطقوس وعادات الشعوب البدائية والاحلام وامراض العصابيين وهلوسات الذهانيين.. وخلص الى نتيبحة عدّ فيها شخصية الفرد نتاجا ووعاء يحتوي تاريخ اسلافه. ورأى أن الأساطير والتقاليد القديمة والرموز والأفكار المجردة تنتقل من جيل لآخر عبر مفهوم أطلق عليه مصطلح اللاشعور الجمعي Collective Unconscious الذي يعدّه مخزن آثار الذكريات الكامنه التي ورثها الانسان عن ماضي أسلافه، وأن الدين هو من بين الأمور التي يحتويها هذا اللاشعور الجمعي الانساني بصورة طبيعية بوصفه مسألة فطرية، ويستنتج: بما أن الدين أقرته المجتمعات عبر تاريخها الطويل، وما تزال، اذن فهو حقيقة موضوعية.

ويعرّف التجربة الدينية بانها شيء تسيطر عليه قوة خارجة عنّا، وأنها تتسم بضرب خاص من الخبرة العاطفية هي الخضوع لقوة أعل.ويرى ان انعدام الشعور الديني يسبب كثيرا من مشاعر القلق والخوف من المستقبل والشعور بعدم الامان والنزوع نحو الرغبات الغريزية.

4. فرانكل:

لموقف فرانكل الايجابي من الدين واقعة في منتهى القسوة. فهو طبيب نفسي نمساوي أمضى خلال الحرب العالمية الثانية ثلاث سنوات في أحد المعسكرات النازية.وكان والده وأخوه وزوجته قد لقوا حتفهم في معسكرات الموت. وعن هذه التجربة القاسية والمرعبة أصدر عام 1959كتابا بعنوان (من معسكر الموت الى الوجودية)أعاد طبعه عام 1963 بعنوان (الانسان يبحث عن المعنى) وصف فيه الاذلال والمهانة والرعب والتعذيب التي عاشها في السجن، وشرح كيف استطاع هو وآخرون أن يعيشوا نفسيا في ظروف معسكر الموت. واستنتج بأنه استطاع أن يحافظ على توازنه الانفعالي لكونه نجح في ايجاد معنى لمعاناته المريرة التي ربطها بحياته الروحية، وأن روحه هي التي أعطته الحرية لتجاوز ظروف.. الابادة فيها متوقعة كل ساعة.

والذي جعل فرانكل يتحول من منهجه الفرويدي الى منهج روحي وجودي هو أنه لاحظ أن السجناء الذين كانوا معه في معسكر الاعتقال كانوا على نوعين، الأول:شحبت وجوههم و هزلت أجسامهم وصاروا جلدا على عظم، والثاني: صمدوا وظلوا في صحة جسمية ونفسية أفضل.. وتبين ل، بعد دراستهم، أن الصنف الأول فقدوا الأمل في الخلاص وصاروا كالمحكوم بالاعدام الذي ينتظر لحظة التنفيذ، فيما النوع الثاني كان لديهم ايمان ديني او روحي منحهم القدرة على تحمل المعاناة والتعلق بالحياة.

ويعتقد فرانكل ان الامراض النفسية وبخاصة الكبت تنشأ حين لا يكون للفرد غرض او هدف في العيش او الحياة، وأن الانسان يكون أكثر مقاومة للمرض النفسي وأسرع تعافيا منه اذا كان في حياته معنى يشكل له هدفا وغاية، وأن الايمان من أهم المعاني التي تمنح لحياة الانسان معنى وجدوى، ويكون لوجوده أهمية ومغزى، اوصلته الى ابتكار طريقة جديدة في العلاج النفسي أسماها (العلاج بالمعنى Logo Therapy)، يوظّف فيها الأفكار والنصوص الدينية التي يعتقد بها المريض في تصحيح ما لديه من أفكار مرضية أو مغلوطة.وابتكر نوعا جديدا من العصاب أسماه (عصاب اللامعنى أو الفراغ الوجودي) حدد أهم أعراضه بالشعور بالملل والتعاسة والفراغ الداخلي وعدم الرضا والاحساس بأن الحياة لا لون ولا طعم لها بالرغم من أنه لا يوجد سبب واضح لهذه الأعراض.ويعزو فرانكل أسباب العزلة والاغتراب الى فشل صاحب المعاناة في أن يجد معنى واحساسا بالمسؤولية ازاء وجوده. وبهذه الانجازات فقد عدّته مجلة تايم الأمريكية بأنه يمثل المدرسة النمساوية الثالثة في العلاج النفسي بعد فرويد وأدلر.

ونوضّح، من جانبنا، أن في الفلسفة الوجودية فريقين من الوجوديين، الأول: وجوديون مؤمنون، ويمثلهم جابريل مارسيل وكارل يسبرز من الفلاسفة، وفرانكل من علماء الطب النفسي.والثاني: وجوديون ملحدون، ويمثلهم هايدجر وسارتر من الفلاسفة، ورولو مي من علماء النفس.

ويرى الفريق الأول (المؤمنون) أن للانسان طبيعة بشرية خلقه الله بمقتضاها، ثم بعد ذلك يختلف الناس ويتباينون، فيما ينكر الفريق الثاني (الملحدون) أن للانسان شيئا أسمه الطبيعة البشرية، لأنه لا يوجد الربّ الذي تمثل وجود هذه الطبيعة.. كما يرون.

مؤكد انك ستتساءل عن موقفنا نحن من الدين.. ولك ان تجده في كتابنا (الدين والسلطة).. وقد نوجزه في مقالة قادمة.. مع تساؤل لك: مع ايهم انت من هؤلاء الأربعة في موقفهم من الدين؟.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

العمل على إسترجاع التراث الكلي .

1 – في ماهية التراث الإسلامي: إن مشروعية السؤال المطروح في عنوان هذه الدراسة تنبع من كون عنوان الفصل فيه شذوذ عن العرف وخروج عن المألوف. فإذا كان محمد أركون ينحدر من ثقافة عربية إسلامية وإذا كانت مصادر بحوثه قد كتبت باللغة العربية، وإذا كان جميع الذين إهتموا مثله بالتراث قد إعتبروا أن الصفة الأولى لهذا التراث هي العربية والثانية هي الإسلامية، نذكر على سبيل المثال محمد عابد الجابري الذي يصف التراث بأنه تراث عربي إسلامي (1) ومنهم من ذهب إلى أبعد من ذلك فلم يعترف بالصفة الثانية (الصفة الإسلامية) مثل الطيب تزيني، والأمر واضح بالنسبة إليه من خلال عنوان كتابه " مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط " (2) . فلماذا ينكر أركون على التراث صفته العربية ويصر على نعته بالتراث الإسلامي؟

للإجابة على هذا السؤال ينبغي الرجوع إلى مشروع أركون في قراءة التراث . إن هذا المشروع الشمولي ينزع إلى تقصي بواكير الظاهرة الدينية في المجال العربي أولا وكيفية تفاعلها مع الواقع. لا ننسى هنا أن الظاهرة الدينية إخترقت مجالات أخرى، إضافة إلى المجال العربي، نذكر هنا تركيا وإيران والبربر في شمال إفريقيا،...فأركون يعود إلى الأصل، إلى اللحظة الأولى إلى ما يسميه " التجربة التأسيسية " وهنا يكمن تميزه عن غيره ممن أهتموا بالتراث، فمعظمهم انطلق من " عصر التدوين " أو حتى من بعد " عصر التدوين " .إن أركون يعتبر أن الفترة الأولى التي شهدت انبثاق الوحي ينبغي أن تضاء وتفهم في كل أبعادها حتى تكون المنطلق الأساسي لفهم التراث وإعادة قراءته. فلهذه الرؤية في تناول التراث بالبحث صلة قوية بمشروع آخر يسعى أركون إلى بلورته وهو " نقد العقل الإسلامي " (3) وهو كل عقل لامسته الظاهرة الدينية – أي الإسلام- سواء كان عربيا أو غير عربي. لأن العامل الديني يلعب دورا هاما في مجتمعات عديدة ومختلفة جدا تتجاوز الوطن العربي وتشمل الهند وباكستان وأندونيسيا وإيران وغيرها، إذن فالظاهرة الدينية ومن ورائها التراث المرتبط بها تتجاوز الدائرة اللغوية العربية لتجد صياغاتها في لغات قومية أخرى. فالتراث العربي هو إحدى التعبيرات عن الظاهرة الدينية – أي الإسلام – ولا يمكن أن يكون كل التراث الإسلامي بأي حال من الأحوال، فلو استنفدنا تحليل ما استطاع أن ينتجه العقل العربي في اللغة العربية داخل التجربة التاريخية للمجتمعات فإننا لن نستطيع أن نطلق حكما شاملا على نوعية إنتاج العقل الإسلامي وآلية إشتغاله وكيفية تحريكه لوعي الفرد والمجتمع. يقول محمد أركون متحدثا عن الظاهرة الدينية وعن شموليتها: " وإذا فنحن نهدف من خلال دراستنا النقدية التاريخية للعقل الإسلامي إلى الإمساك بالظاهرة الدينية في عموميتها الشاملة التي تتجاوز من حيث الإتساع الدائرة اللغوية والقومية الواحدة سواء أكانت عربية أم تركية أم إيرانية أم باكستانية أم غير ذلك. بل سوف نذهب إلى أبعد من ذلك ونقول إنه إذا ما أنجزنا دراسة للعقل الإسلامي على هذا النحو فسنكون أكثر قدرة على فهم العقل العربي ضمن مقياس أن نتجنب عندئذ كل الأحكام المسبقة الشائعة بخصوص العروبة والإسلام وضمن مقياس أن الفكر العربي لا يزال محكوما حتى هذه اللحظة بالمقولات الأساسية للفكر الإسلامي القروسطي "(4)

إن ما قاله أركون عن العقل الإسلامي ينطبق أيضا على التراث الإسلامي بل كلا الأمرين مترابطان فلا يمكننا أن نتحدث عن عقل ما إلا من خلال آثاره سواء منها المنطوقة أو المكتوبة ويتحدث أركون في نفس المحاضرة على إبن رشد (ت 595 ه/ 1198 م) مبينا علاقة الفكر باللغة يقول : " وإذن فآبن رشد كان يتحدث آنذاك وهو محكوم بمقولات العقل الإسلامي لا العربي، لأنه لم تكن توجد آنذاك مقولات عربية محضة للمعرفة، فالمقولات التي كان يستخدمها هي مقولات إسلامية. إنها مقولات الشريعة المحددة من قبل القرآن وإذا فنحن هنا داخل أرضية العقل الإسلامي...حتى لو كان إبن رشد يتكلم بالعربية فالعربية هنا ليست إلا أداة للتعبير ولو أنه عبر باللغة التركية أو الفارسية هو مسلم لقال الشيء نفسه، ومن يطلع على محاجات المفكرين المسلمين من أتراك وإيرانيين باللغتين التركية والفارسية يكتشف أنهم يستخدمون المقولات نفسها التي استخدمها إبن رشد بالضبط وبالتالي فهذا يبرهن على أنها مقولات إسلامية المضمون عربية الصياغة " (5). إن تشابه المضامين في تراثات الدول والأقاليم التي إعتنقت الإسلام حدا بأركون إلى الحديث عن تراث إسلامي عابر للثقافات ومقللا في الآن نفسه من دور اللغة التي تصاغ فيها الأفكار والرؤى لكأننا إزاء أولوية الفكر على اللغة وهو توجه إختاره أركون في تعاطيه مع مسائل التراث، في حين أن علاقة اللغة بالفكر إشكالية. فقد ذهب برغسون وديكارت وفاليري إلى الإقرار بوجود إنفصال بين اللغة والفكر وأن الفكر أسبق من الناحية الزمنية عن اللغة، في حين ذهب غيرهم في إنتقادهم لهذا التوجه من أمثال دي سوسير وميرلوبونتي وهاملتون وهيغل إلى أن العلاقة بين اللغة والفكر علاقة تلاحم وتلازم ولا يمكن الحديث عن أسبقية أحدهما عن الآخر، فهما ينبثقان في آن واحد. إن الإختيار المنهجي الذي تبناه أركون من شأنه أن يطمس الخصوصيات الثقافية لكل الشعوب التي لامستها الظاهرة الدينية – الإسلام تحديدا -، كما أن ما يطرحه يساعد على تغذية يوتوبيا الأمة الإسلامية الواحدة ذات القيم الروحية الجامعة، حيث يتم إهمال التاريخ واللغة في نحت المميزات الحضارية للشعوب ويقلل من الثراء الذي يمكن أن يغنمه الإسلام من تلك الثقافات.

2 – التراث والتراثات في المجال الإسلامي:

لقد قدم التراث الإسلامي نفسه في مرحلة تشكله بديلا عن التراث السابق له وإعتبر نفسه يؤسس خصوصيته بعيدا عن سلفه ودون الإرتباط به ورمى بذلك التراث العربي السابق للإسلام كليا في دائرة الجهل والفوضى والظلم والضلال والوثنية والقمع والتعسف أي بكلمة أخرى رمي به في " ظلمات الجهل " وفي هذا تجن على الحقيقة والتاريخ لأن الإسلام لا يمكنه أن ينقطع كلية عما سبقه حتى يتسنى له تأسيس إختلافه، فالنص القرآني حافل بالإشارات التاريخية والعقائدية والأخلاقية التي تفند هذا الزعم التيولوجي، وهذا التصور المثالي والمتعالي. لقد حاول التراث الجديد المرتبط بظاهرة الوحي، طيلة عشرين عاما من النضال في مكة والمدينة، أن يرسخ نفسه داخل ساحة اجتماعية وثقافية معادية ورافضة له .هذه القوى المعادية خاض ضدها حربا ضروسا على كل المستويات الرمزية والدينية والتقديسية ثم الإجتماعية والسياسية والعسكرية وحتى الإقتصادية ثم أصبح بعدئذ التراث الإسلامي. إن التراث الإسلامي في صيغة المفرد هو تراث يستند إلى الإسلام بمعناه المتعالي اللاتاريخي، لأنه يمثل التعبير المستقيم – الأرثوذكسي – الوحيد عن التراث المثالي الذي تلقته الأمة المثالية. يقول أركون متحدثا عن هذا التراث المتعالي: " إن التراث المتعالي الأكبر إذن ليس إلا تجسيدا لدين الحق في التاريخ، إنه قوة لتقديس الزمكان وتنزيههما. هذا الزمكان الذي تتجلى فيه حياة الأمة . إن تصورا كهذا يفسر لنا السبب في أن كل عضو من أعضاء الأمة يشعر بنفسه معاصرا بشكل مباشر وفي آن واحد لكل أعضائها السابقين والأحياء واللاحقين. هذا التصور يعطي الأولوية للدينامو الروحي الخاص بالتراث، هذا الدينامو هو الذي يغذي شعور الأمة بهويتها ويحرك آمال المؤمنين ويخلع غاية أخروية وأنطولوجية على تصرفاتهم التاريخية في الوقت الذي يرفض فيه أن يأخذ بعين الاعتبار تاريخية (6) كل هذه المعطيات " (7). يتولد عن هذا التصور رفض إمكانية وجود تراثات متعددة، حتى وإن وجدت عبر التاريخ تراثات متنوعة، لأن كل واحد منها محكوم بعقلية دوغمائية تقوم على النفي والإقصاء وتحتكر لنفسها التراث الصحيح، مدعية امتلاكها له دون غيرها فهي المخولة وحدها التحدث عن التراث المثالي، رغم أن الواقع الإجتماعي والثقافي لشبه الجزيرة العربية والبلدان المجاورة، ومنذ موت النبي يكشف عن تاريخية كل هذه الفرق الإسلامية – السنة، الشيعة، الخوارج،...و يسجل الصراعات الدموية العنيفة التي دارت بينها وكذلك المناقشات الخصبة أيضا .إن كل منظومة معرفية لكل فرقة من هذه الفرق ظلت منغلقة وظلت تصوراتها لا تاريخية، وهنا يطرح أركون إعادة تحديد الإسلام بصفته عملية إجتماعية وتاريخية من جملة عمليات وسيرورات أخرى.

صحيح أن هذه العملية بالذات قد أدت إلى تشكيل تراث موصوف بأنه إسلامي ولكن ينبغي أن لا ننسى أنها كانت واقعة في تنافس دائم مع عمليات أخرى وخطوط أخرى (8) فالمقاربة التاريخية هي التي تكشف أن الإسلام كان نتيجة سيرورة إجتماعية وتاريخية وهي التي تمكننا من التعرف على المشاكل التي يطمسها المفهوم المتعالي للتراث الإسلامي وأبرزها عملية الإنتقال من الثقافة الشفاهية – المتوحشة – إلى الثقافة المكتوبة – العالمة – وتمكننا أيضا من الإنتقال من مفهوم التراث الإسلامي بصيغة المفرد إلى مفهوم التراثات في المجال الإسلامي بصيغة الجمع. فالتراثات هي الأقرب إلى الحقيقة وإلى التاريخ وهي تعطي للإسلام بعده الإجتماعي والتاريخي ومن خلالها تتمظهر مستويات الوعي الديني عبر التاريخ ويؤكد أركون على البعد التاريخي للإسلام فيرى أن الإسلام لا يكتمل أبدا بل ينبغي إعادة تحديده وتعريفه داخل كل سياق إجتماعي- ثقافي وفي كل مرحلة تاريخية معينة لكن هذا لا يمنع من أن نقول إن للإسلام عناصر تكوينية ثابتة هي التالية : النص القرآني، مجموعات نصوص الحديث النبوي والتشريع العديدة والمختلفة، الفرائض الشرعية الخمس والشعائر اللازمة لتأديتها، الدينامو الروحي المشترك لدى كل المؤمنين والذي يشكل خاصية مميزة للترا ث 9 (9) والمقصود بالدينامو L ' ethos  القوة الحيوية المحركة، في الواقع إن هذه الكلمة تعني مجموعة التصورات الأخلاقية والروحية التي تشكل القوة الداخلية لوعي فئة إجتماعية معينة. إن تثبيت هذه العناصر وترسيخها قد تطلب وقتا طويلا إلى حد ما وهذا ما يدعوه أركون بالسيرورة le processus  الإجتماعية والتاريخية لتشكل التراث. هذه الصورة التي يقدمها أركون عن تشكيل التراث الإسلامي تغاير تماما الصورة اللاتاريخية الشائعة عموما لدى المسلمين فهي صورة تاريخية أركيولوجية لأنها تحفرفي الطبقات المترسبة من التراث لتتبع الأسباب والخلفيات الكامنة وراء كل مرحلة من مراحل تشكل التراث . فآنطلاقا مما رأيناه يمكننا أن نستنتج المعادلة التالية: العناصر التكوينية الثابتة للإسلام وعددها أربعة + سياق إجتماعي = تراث إسلامي. وهكذا نلاحظ أنه كلما تغير السياق الإجتماعي الثقافي تغير تبعا له التراث المتولد عنه وما على التاريخية بآعتبارها منهجا في البحث إلا الكشف على أسباب هذا التغيير وعلى أبعاده وكذلك على تأثير هذا التغيير في التراث نفسه.

3 – مفهوم التراث الإسلامي الكلي La tradition Islamique exhaustive

رأينا في العنصر السابق أن التراثات متعددة في المجال الإسلامي وهي وليدة السياقات الإجتماعية والثقافية وفي أحيان كثيرة نتاج إختلافات تيولوجية أو صراعات إيديولوجية وأركون بقدرما يقر تنوعها فإنه يرفض قراءتها كل واحدة على حدة ويرى أن قراءة التراث الإسلامي لا بد أن يسبقها عمل جبار يتمثل في استرجاع التراث الإسلامي الكلي، فما المقصود بالتراث الإسلامي الكلي؟ إنه التراث السني والتراث الشيعي والتراث الخارجي والتراث المعتزلي وكل تفرعاتها العديدة ينضاف إليها التراث العربي السابق على الإسلام وتراث الإسلام الشعبي والشفوي الذي يسود الأقليم البعيدة والطبقات الفقيرة والمتهم في أغلب الأحيان بالزندقة من قبل الإسلام الرسمي المرتكز على الكتابة والمستند إلى سلطة الدولة المركزية. إن هذا المفهوم – التراث الإسلامي الكلي – خاص بأركون وهو دعامة أساسية في تصوره للتراث وهو في الآن نفسه محاولة لتجاوز مفهوم التراث المبتور والباتر La tradition mutilée et mutilante الخاص بكل فئة منعزلة ومنكفئة على حقيقتها المطلقة التي تحذف ما عداها . وإزاء هذه الوضعية يطرح أركون ثلاث مهام، على الفكر الإسلامي الإضطلاع بها حتى يمتلك القدرة على الإجابة عن الأسئلة المحرجة وتجاوز التحديات المطروحة عليه وهي أولا إعادة قراءة القرآن، ثانيا إسترجاع التراث الإسلامي الكلي، ثالثا النضال ضد التراثات المبتورة والباترة. يقول أركون: " إن إعادة قراءة القرآن هي فعلا عودة لتحمل المسؤولية الفكرية وإذا أمكن الوجودية ليس فقط للنص الموحى ولكن لكلية الحالات والإنجازات التاريخية المرتبطة بعنوان ما هو الكلام التأسيسي ( كلام الله كما يقول المسلمون) هذه الكلية تظل بالتأكيد المثال الذي يسعى إليه المؤرخ دون أن يبلغه، ولكن بالإبقاء على ضرورة هذا المثال نساهم في توجيه البحث نحو معرفة التراث الكلي وفي الآن نفسه نسحب الثقة discréditer من التراث المبتور والباتر "10) ويعتبر أركون أن سحب الثقة هذا من شأنه أن يمكن التاريخ من الانفلات من الإستعمال الإيديولوجي الذي نجده داخل كل سياج ثقافي، لأن التراث يمارس على نفسه أثناء تطوره عملية إنتقاء وحذف اضطرارية حسب حاجيات المجموعة وإغراءات اللحظة فهو يتقبل العناصر الجديدة أو يرفضها ويضخم الإنجازات السابقة أو يقلصها وهو يؤيد السلطة القائمة أو يعارضها الخ...و هكذا تنعكس هذه العملية على التراث فيتشظى الإسلام إلى تراثات سنية وشيعية وخارجية واعتزالية ...و هذه التراثات تتفرع عنها تراثات أخرى عديدة، معادية لبعضها البعض. لذلك سيعمد أركون إلى محاولة لملمة الوعي الإسلامي لتخطي هذه الإنقسامات. (11) نرى اليوم مثلا أن التراث السني والتراث الشيعي يعيشان منفصلين وكل منهما يجهل الآخر بل يتصارعان بنفس البراهين التي تعود إلى القرون الوسطى ويأسف أركون لغياب حركة مسكونية في الإسلام كالتي وجدت في المسيحية هدفها التقريب بين المذاهب المختلفة، لا يرمي أركون من وراء هذه الحركة إنجاز مصالحة عاطفية تزيد في تقوية المناخ الإيديولوجي والرومنسي للفكر الإسلامي المعاصر.

إن بلوغ هذا الهدف يعني التأمل في التراث الإسلامي، فنخترق الممنوعات وننتهك المحرمات السائدة أمس واليوم ونضرب عرض الحائط بالرقابة الإجتماعية التي تريد أن تبقي في دائرة المستحيل التفكير فيه l'Impensable كل الأسئلة التي كانت قد طرحت في المرحلة الأولى للإسلام ثم أغلق عليها بالرتاج وذلك منذ أن انتصرت الأرثوذكسية الرسمية المستندة إلى النصوص الكلاسيكية. يبدو للبعض أن التأمل في التراث الإسلامي على هذا النحو من شأنه أن تكون له تداعيات خطيرة على التوازن النفسي للجماهير وعلى الأنظمة السياسية أيضا. فالجماهير المطمئنة إلى تصور معين للتراث قد تشعر بالخواء والرعب إذا ما خلخل هذا التصور. يرد أركون على هذا التخوف المبالغ فيه بأنه لا داعي للقلق على مصير التراث وبالتالي على تأثيراته فهو سيستمر في البقاء مهما يكن النقد الذي يتعرض له قويا وجذريا، وللدفاع عن موقفه يستشهد أركون برأي إيف كونغار Yves Congar  في التراث من كتابه " التراث والتراثات " والصادر في جزئين: الجزء الأول، محاولة تاريخية، الجزء الثاني: محاولة تيولوجية. يقول كونغار: " ينقل لنا التراث أكثر من مجرد الأفكار القابلة للتشكل المنطقي، إنه يجسد حياة كاملة تشمل الفكر والعواطف والعقائد والمطامح والممارسات والأعمال....و يمكن للطاقة الفردية والجماعية معينة أن تستنفده ولذا فإنه يتضمن التواصل الروحي للنفوس التي تحس وتفكر وترد في ظل وحدة المثال الوطني أو الديني نفسه وهو لهذا السبب أيضا شرط من شروط التقدم ضمن مقياس أنه يتيح لبعض سبائك الحقيقة التي لا يمكن أن تختزل إلى نقود مفرقة تماما، فالمرور من حالة المجهول المعيش إلى حالة المعروف الصريح، ذلك بما أن التراث هو مبدأ الوحدة والإستمرارية والخصوبة، فإنه يشكل في آن معا شيئا أوليا وإستباقيا وختاميا وبالتالي فهو يسبق كل توليفة تكوينية ويستمر في البقاء بعد كل تحليل نقدي استدلالي أو فكري عميق" الجزء الثاني، ص 122 – 123 (12).

4 – في مقاربة التراث:

إن العودة إلى النصوص التأسيسية كما ذكرنا سابقا، اقتضى من أركون الإعتماد على المقاربة السيميائية أو علم الدلالات فهو المدخل المناسب للإستعادة النقدية التي تتخذ مسافة بين النواة الأولية المقروءة والنواة الثانية التي أنتجها التراث في آن معا. هذا العلم يختلف اختلافا جذريا عن التصور التقليدي لفقه اللغة الذي يصبح التراث بمقتضاه جسما مكتملا ومتماسكا ويترسخ بدءا من اللحظة التي يتوصل فيها أعضاء جماعة معينة – مثلا أعضاء النواة الأولى أي الأشخاص المدعوون مؤمنون الذين التفوا حول النبي محمد صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة – إلى إقامة إطار مشترك من الإدراك un cadre de représentation et de perception بواسطة حكايات التأسيس الواردة في القصص القرآني. في حين نجد من الناحية السيميائية- الدلالية أن كل تراث يمارس عمله ووظائفيته على هيئة حكاية تأسيسية تغتني وتثرى بآستمرار فيما بعد عن طريق تجارب الأمة ذات الدلالة(13). إن وحدانية الحقيقة المطلقة، المتولدة عن التصور التقليدي لفقه اللغة والمولدة لأحادية المعنى ليستا هما الشيء نفسه في القرآن، فهما تغذيان الحنين إلى المطلق الواحد وترسخان النزعة التوحيدية والعدالة والخلود بصفتها يوتوبيا une Utopie  محركة وتعبوية وأما داخل الأنظمة التيولوجية فقد أصبحتا توجهان نظاما صارما من الإيمان / واللإيمان والعقائد / واللاعقائد، فقد أصبحتا ثابتتين وساكنتين في حين أنهما كانتا في فترة نزول القرآن طازجتين ومترجرجتين. ويرى أركون أن المفاهيم والتصورات التيولوجية التي اندفع إلى بلورتها علماء الكلام طيلة قرون والتي يواصل الإندفاع نحوها خلفهم المباشرون الإيديولوجيون قد انتهت إلى الكشف عن فرق رئيسي بين الحدث القرآني le fait coranique  والحدث الإسلامي le fait islamique فالحدث القرآني هو نداء موجه إلى الضمير البشري والحدث الإسلامي هو إحدى التحققات الممكنة للحدث القرآني، فمن خلال تجربة سياسية وإقتصادية وأخلاقية واجتماعية عاشتها ألجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، تم الإنتقال من الحدث القرآني إلى الحدث الإسلامي الذي هو إسقاط تاريخي ملموس قد تم داخل اللغة العربية والدعامات المحتملة للوحي les supports contingents de la révélation تدريجيا . وتحت الضغط المزدوج للحاجيات التاريخية ولمختلف تيارات الفكر . اغتصب الحدث الإسلامي معنى الحدث القرآني وقيمته بواسطة ترقية اعتباطية أو إيديولوجية من المحايث l'Immanent إلى المتعالي le Transcendant  ومن الما فوق تاريخي إلى التاريخي والوجودي l' existentiel (14) ونلاحظ مما تقدم أنه من خلال الإنتقال من القرآن إلى الأنظمة التيولوجية أو من الحدث القرآني إلى الحدث الإسلامي يتوجه التراث إلى أكبر عدد ممكن من الناس ويمارس فعله، وأثره يكون طبقا للأنموذج الثاني أي للتصورات التيولوجية وبصفة أشمل للحدث الإسلامي. فالنموذج الثاني وبآسم الأرثوذكسية يرفض تعددية المعنى والدلالات المتجلية في التفاسير والمدارس الكلامية والفقهية المختلفة ويرفض أيضا إمكانيات المعنى المحتملة التي لم تحين بواسطة قراءات جديدة للكتابات المقدسة ولقد بين أركون في كتابه " قراءات في القرآن " كيف أن الدراسة الحديثة للمجاز والأسطورة تتيح لنا تقديم رؤية جديدة مخالفة لما خلفه لنا التفسير الكلاسيكي.

أما المقاربة التاريخية السوسيولوجية التي اعتمدها أركون، فإنها كانت تطمح إلى طرح إشكاليات تشترك فيها كل التراثات المبتورة وهي تحاول تناول التراث في شموليته بالنقد التاريخي والسوسيولوجي. فتاريخيا نجد أن الأطر الإجتماعية الثقافية السائدة والخاصة بالمعرفة خلال القرنين الأول والثاني للهجرة كان يغلب عليها النقل الشفهي على النقل الكتابي وكان بعد الغريب الساحر العجيب Le merveilleux أو البعد الأسطوري والرمزي والمجازي يتغلب آنذاك على المقولات العقلانية والمنهجيات المنطقية في تشكيل المخيال الإجتماعي وفي طريقة أدائه لوظيفته وممارسته لعمله، ومن المعروف أن هذه العمليات الأخيرة أي المقولات العقلانية لن تتطور إلا بعد " اختراع الورق " وانتشار الخط العربي وتحسنه ثم دخول العقلانية المنطقية أو المركزية اليونانية إلى ساحة الثقافة العربية الإسلامية. ينبغي أن تستعاد دراسة كل التاريخ الثقافي للمجال العربي والإسلامي ضمن هذا المنظور المزدوج للتنافس ببن العاملين الشفهي والكتابي، الأسطوري والعقلاني، الغريب الساحر والمحسوس الواقعي، بين المقدس والدنيوي، فتاريخيا نجد أن التراث بصفته نسيجا نصيا أو شكلا ومضمونا يحمل علامات هذه المنافسة وآثارها وهذا ما يجعل لزاما اليوم إعادة تقييم الشكل والمعنى لأن كل المفاهيم الأساسية المصطلح عليها في المعيش الضمني للمؤمنين كالمقدس والعجيب والأسطورة والعامل الشفهي أو الكتابي، المخيال العقلاني هي الآن في طور الإنتقال من حالة المجهول المعيش إلى حالة المعلوم الصريح كما يقول إيف كونغار، بفضل الإكتشافات الجديدة لعلوم الإنسان. إن التاريخية والسوسيولوجيا المتصلة بالمعطيات الثقافية والممارسات العملية التي يندمج الكتاب المقدس بواسطتها داخل الجسد الإجتماعي ويمارس دوره كفيلتان بتخطي التراثات المبتورة والباترة وتمكين الفكر الإسلامي من بلورة مفهوم التراث الإسلامي الكلي شريطة أن يدخل في رؤيته للتاريخ، ليس فقط دار الإسلام، بل كل الفضاء الجغرافي والسياسي حيث وجد الإسلام في علاقة تأثير ومنافسة.

***

بقلم رمضان بن رمضان: باحث في الحضارة العربية الإسلامية

..............................

الهوامش والمراجع :

1 – محمد عابد الجابري، نحن والتراث، دار الطليعة، بيروت، ط 1، 1980، ص 69.

2 – الطيب تيزيني، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، دار دمشق للطباعة والنشر، دمشق 1971.

3 – Mohamed Arkoun, critique de la raison islamique, ed maison neuve et larose, Paris, 1984.

4 – محمد أركون، " الإسلام والحداثة " مجلة مواقف، بيروت، العدد 59/ 60، 1989، صص 24- 25 .

5 – نفس المرجع ص 29 .

6 – المقصود بالتاريخية هو الأصل التاريخي للتصرفات والمعطيات والحوادث التي تقدم وكأنها تتجاوز كل زمان ومكان وتستعصي على التاريخ ولا يستطيع عقل المؤمن التقليدي أن يستوعب تاريخية الأحداث التأسيسية والشخصيات الكبرى ويشعر نحوها برغبة التقديس وبالتالي لا يستطيع أن يفهم أنها مشروطة بالتاريخ أو بلحظة محددة من لحظات التاريخ وما قلناه عن التاريخية ينطبق على معنى المخيال l' imaginaire أيضا.

7 - محمد أركون ، الفكر الإسلامي قراءة علمية، مركز الإنماء القومي، بيروت، ط 1، 1987، ص 20.

8 – لتوضيح هذه الفكرة الهامة عند محمد أركون يمكن الرجوع إلى الكتاب التالي : Lucien Goldman ' Marxisme et sciences humaines, ed Gallimard, Paris, 1970, pp, 121- 130.

9 – محمد أركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية، صص 20 – 21 .

10- Mohammed Arkoun, Essais sur la pensée islamique, ed MaisonNeuve et Larose, Paris,1977,p 310.

11 – لتوضيح هذه النقطة أكثر يمكن الرجوع إلى البحث القيم لمحمد أركون: " نحو إعادة توحيد الوعي العربي الإسلامي " ضمن كتابه، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، 1986، ط1، ص 143.

12 – محمد أركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية، صص 31- 32.

13 – نفس المرجع، ص 34.

14 –312 Mohamed arkoun, Essais sur la pensée islamique, op cit , pp 311-

(أصبحت لقضية "موت الذات" أولوية طاغية عند الماركسية البنيوية، بدعوى أن شعورنا بأننا صانعو أفعالنا، هو من بعض الوجوه شعور خاطئ أو شعور إيديولوجي، فما يحدث حقاً هو أن البنى الاجتماعية الكامنة هي التي تحدد أفعالنا، وتعمل من خلالها، وأن أفعالنا تعمل على إعادة إنتاج البنى وإدامتها، أو أحياناً على تحويلها عن طريق الثورة. فالبشر – بناءً على هذا الرأي – يضحون دُمّى للبنية الاجتماعية، وهذه البنية بدورها تصبح نوعاً من الآلة ذات الحركة  الدائمة. وما نريد قوله هو إن هذه النظرية تقف عاجزة تماماً حينما تتناول الفعل الاجتماعي، وتصف الخيوط التي تحرك تلك الدمى، رغم فائدتها في تحليل البنى الاجتماعية).. (إيان كريب: النظرية الاجتماعية - من بارسونز إلى هابرماس، ص: 200) .

 وهذا ما ينطبق على نظرة لوسيان سيباج للماركسية باعتبارها تتضمن إرهاصات بنيوية، التي سوف نحاول مناقشتها في هذا المقال.

بلغت البنائية ذروتها باعتبارها اتجاه فكري وفلسفي في السنوات الأخيرة من ستينيات القرن العشرين المنصرم. وكان من الشائع في أوساط المثقفين أن يُنظر إليها على أنها " مذهب فلسفي "، ومن سمات المذهب الفلسفي أنه يسعى بقدر إمكانه إلى الشمول، ويستهدف تقديم تفسير موحد لمجموعة كبيرة من المشكلات الفكرية، ويضم مجالات معرفية متعددة في إطار نظرة واحدة إلى العالم وإلى طبيعة الأشياء، وبالفعل وصل المد البنائي - في فترة الذروة هذه - إلى ميادين شديدة التنوع، ففي مجال اللغويات كان جاكوبسون Jakobson وشومسكي Chomsly يقودان حركة نشطة اتخذ منها الكثيرون نموذجاً ومثالاً يحتذى في ميادين أخرى. وفي ميدان التحليل النفسي كان لاكان Lacan يشد انتباه معاصريه بنظرته الجديدة إلى هذا العلم الذي كان يبدو - قبل نشر بحوثه - في حالة ركود نسبي. وفي النقد الأدبي كان بارت R. Barthes يفتتح عهداً جديداً في تفسير النصوص على أساس بنائي. وفي الميدان الفلسفي كان مفكر ميال إلى المحافظة مثل فوكو Foucault يبهر جماهير المثقفين برؤيته الجديدة في كتابه المشهور الكلمات والأشياء  Les Mots et les Choses، على حين أن مفكراً ماركسياً أصيلاً هو ألتوسير Althusser كان يعيد قراءة الأصول الكبرى للفلسفة الماركسية - وخاصةً كتاب " رأس المال " ذاته- من خلال تفسير بنائي مبتكر، وقبل هؤلاء جميعاً كان  ليفي ستروس Lévi-Strauss يواصل جهوده الرائدة التي كان قد بدأها قبل هذا التاريخ بما يقرب من عشرين عاماً، والتي استطاع بفضلها أن يجعل للبنائية مكانة بارزة على خريطة المذاهب الفلسفية في النصف الثاني من القرن العشرين، على الرغم من أن ميدان تخصصه كان علماً اجتماعياً وليس فلسفياً هو الانثروبولوجيا.

 إن هذا الانتشار للبنائية جعل منها مذهباً فلسفياً شاملاً، إلا أنها في حقيقة الأمر لم تصبح البنائية مذهباً فلسفياً إلا لأن المتخصصين قد تنبهوا في ذلك الوقت بالذات إلى الإمكانات الخصبة التي تكمن في فكرة (البناء)، إما الفكرة ذاتها، وإما مبدأ التفكير من خلال (بناءات)، فكان معروفاً قبل ذلك بوقت طويل، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول: إن البنائية هي - قبل كل شيء – (منهج) في التفكير، وبهذا المعنى كانت موجودة منذ عهد بعيد. ولكنها لم تصبح مذهباً فلسفياً إلا بعد أن تنبه بعض المفكرين - بطريقة واعية - إلى أهمية هذا المنهج وحددوا معالمه بوضوح بعد أن كان يطبق بطريقة ضمنية دون وعي بكافة أبعاده. وكانت نتيجة الحماسة التي تملكتهم حينما اكتشفوا هذه الطريقة في التفكير أن جعلوا منها (مذهباً) شاملاً يقدم تفسيراً للمشكلات التي تواجه العقل في ميادين شديدة التباين، ومعنى ذلك أن البنائية - من حيث هي منهج - قديمة العهد. أما من حيث هي مذهب شامل، فهي ظاهرة حديثة في الفكر المعاصر.

ولكن على أي أساس نقول: إن البنائية كمنهج  كانت معروفة ومطبقة منذ وقت طويل؟ ذلك لأن مجرد تطبيق نموذج رياضي على موضوع علمي معين، هو في ذاته نوع من البنائية، فإذا أدركنا أن العلم الحديث منذ القرن السابع عشر لم يتمكن من تحقيق إنجازاته الضخمة إلا بفضل تطبيق النموذج الرياضي على الظواهر الطبيعية، كان في استطاعتنا أن نحكم بأن هذا العلم كان منذ بدايته (بنائياً)، لأنه استهدف الاهتداء إلى (البناء) الكامن وراء الظواهر الطبيعية، وعبر عن هذا البناء بلغة رياضية. بل إن كل علم لابد أن يكون له من البنائية نصيب، لأن دراسته تنصب على بحث أنساق من العلاقات والروابط بين الظواهر.

ويؤيد بياجيه (1896-1980) الرأي القائل: إن البنائية في تصميمها منهج قبل أن تكون مذهباً، ذلك لأنها أسلوب فني متخصص (Technical)، وتقتضي التزامات عقلية معينة، تؤمن بالتقدم المتدرج. ولقد كان للمنهج الذي تمثله البنائية تاريخ طويل يشكل جزءاً من تاريخ العلوم. غير أن سماتها لم تُكتشف إلا في وقت متأخر، وذلك لأسباب منها: صعوبة المنهج البنائي وتعقده، واتجاه العقل البشري إلى أن يتجاهل في البداية مفاهيم الاعتماد المتبادل بين الظواهر، والكل النسقي الذي تشكله، مكتفياً بتفسيرات مبسطة موحدة الاتجاه. هذا فضلاً عن أن البناءات الكاملة وراء الظواهر لا تظهر للملاحظة المباشرة، بل توجد على مستويات لا يتم التوصل إليها إلا بتجريد مضاعف، أو على حد تعبيره: بتجريد (صور الصور Forms of Forms).

على أنه إذا كان للبنائية - بوصفها منهجاً - مثل هذا التاريخ الطويل، فإن ظهورها الذي يبدو على شكل انبثاق مفاجئ، والذي اتخذ صورة مذهب فكري متكامل، قد ارتبط بظروف تاريخية معينة، كان لها تأثيرها في الفلسفة الفرنسية بالذات، إذ إن أول البنائيين وأهمهم كانوا من الفرنسيين. فبعد الحرب العالمية الثانية كان إنتاج سارتر الغزير في ميادين الفلسفة والرواية والمسرحية والمقال السياسي هو المسيطر على الجو الثقافي الفرنسي. بل إنه تعدى نطاق هذا الجو الثقافي حتى أصبح (أسلوباً خاصاً للحياة) يتميز به عدد كبير من الشبان الفرنسيين في مظهرهم وملبسهم ومناقشتهم، هم (الوجوديون) الذين كانوا من المعالم الفرنسية المميزة في ذلك الحين، ولم تظهر قوة فكرية أخرى تتحدد آراء سارتر في الحرية (المحكوم بها) على الإنسان إلا في الماركسية، التي ركزت أبحاثها على قوانين التحول التاريخي، وأكدت حتمية الصراع الطبقي، ولم يمض وقت طويل حتى سعى سارتر نفسه إلى إزالة التعارض الحاد بينه وبين الماركسية، حتى وصل به الأمر إلى حد إعلان أن الماركسية لا يمكن تجاوزها، وأن فلسفته بالتالي تتخذ لنفسها موقعاً (داخل) الماركسية. هذا على الرغم من أن حركة التقارب لم تكن متبادلة من الطرفين، لأن الماركسية ظلت تهاجم النزعة الذاتية والمثالية في الوجودية، وتصفها بأنها نموذج واضح للإيديولوجية البورجوازية.

خلاصة بالقول: إن البنائية في أساسها نظرية في العلم (ابستمولوجيا)، تؤكد أهمية النموذج أو البناء في كل معرفة علمية، وتجعل للعلاقات الداخلية والنسق الباطن قيمة كبرى في اكتساب أي علم. ولكن الحماسة الفياضة التي أثارتها هذه النظرية في فترة تاريخية معينة هي فترة الستينيات المتأخرة من القرن العشرين. وربما أوائل السبعينيات، أدت بالبعض إلى أن يعاملوها كما لو كانت انقلاباً فلسفياً شاملاً، وثورة فكرية جديدة تجعل من الذات مجرد حامل للبناءات. ومن التاريخ مجرد تعاقب لصور تظل في أساسها ثابتة، وإن اختلفت مظاهرها التاريخية، على أن هذا التوسع في فهم البنائية قد أدى في تلك الفترة بالذات، إلى بعض التشويه في صورتها، وإلى إقحام عناصر داخلية عليها، عندما أصبحت هي (الموضة) الشائعة، وعُوملت على أنها إيديولوجية جديدة كاملة، طُبقت على ميادين قد لا يكون المنهج البنائي صالحاً لها أصلاً. وهذا تطرف نجده في كل مذهب يبهر الناس بجدته وخروجه عن المألوف. ولكنه لا يصح أن يتخذ أساساً للحكم على هذه الحركة الفكرية المثمرة. فإذا كانت البنائية تؤكد على الدوام أن البناء " موجود هناك "، بغض النظر عن الاختلافات في ظروف الحياة الإنسانية التي يطبق فيها هذا البناء، فإن قدرة الإنسان على القيام برد فعل على هذا البناء هي الأمر الجدير بالاهتمام حقاً.

ومن هنا كان الميل الذي نلمسه لدى كثير من البنائيين إلى تصوير الأنساق أو البناءات كما لو كانت تؤثر وتمارس فعلها وحدها دون أن يكون للإنسان دور فيها - أعني الميل إلى جعل الإنسان (مفعولاً) لا (فاعلاً) - يعبر عن نزوع إلى السلبية وقبول الأمر الواقع. ولقد ضرب (دوفرين) للتضاد بين سلبية الإنسان وفاعليته إزاء النسق مثلاً طريفاً، فقال: إن المشكلة التي ينبغي أن تفكر فيها الفلسفة المعاصرة بإمعان هي كيف استطاعت جبهة التحرير الفيتنامية أن تقاوم الأميركيين بكل هذا النجاح (وهي لم تكن قد انتصرت بعدُ عندما قال هذا الكلام)، فتلك واقعة تثبت انتصار الفاعلية الإنسانية على العقول الإلكترونية التي طالما استعان بها الأميركيون في التخطيط وفي ممارسة الحرب ذاتها، وما العقول الإلكترونية إلا تجسيد (للنسق)، وهكذا فإن الأنساق لا تستطيع أن تسير في طرقها بلا مقاومة، ولا تستطيع أن تكبت فاعلية الإنسان وتجعله مجرد مفعول.

وهكذا تظهر الصورة أخيراً  في تطور التاريخ مؤيدة لفكرة القدرة الفعالة للإنسان، حتى على أشد الأنساق والبناءات ثباتاً، فأحداث الحركة الطلابية عام 1968م تفجر الإطار السكوني للبنائية، وتنبه العالم إلى أهمية رد الفعل الإنساني على كل نسق يبدو ثابتاً، وانتصار فيتنام يبدو كما لو كان هزيمة لمبدأ أساسي تقوم عليه البنائية، هو استقلال الأنساق عن الإنسان. ولكن، إذا كان التاريخ قد بادر إلى الإدلاء بشهادته بعد بلوغ البنائية قمتها مباشرةً، فلنذكر أننا لسنا في حاجة إلى شهادة التاريخ لكي ندافع عن فاعلية الإنسان إزاء بناءاته، فالمنطق الداخلي للبنائية هو خير شاهد على ما نقول، إذ إن كل البنائيين الكبار من ستروس إلى ألتوسير، ومن فوكو إلى لاكان، قد بذلوا جهداً عقلياً لا نظير له، ومارسوا فاعليتهم الذهنية إلى أقصى حد لكي يكتشفوا بناءات يقولون: إنها تجعل ذهن الإنسان (مفعولاً). بناءً على ما سبق سنحاول تتبع الإرهاصات البنيوية عند كارل ماركس من وجهة نظر لوسيان سيباج.

- رؤية لوسيان سيباج  لإرهاصات البنائية في الماركسية: يعتبر لوسيان سيباج Lucien Sebag 1933) - 1965) من أوائل الماركسيين الذين تنبهوا إلى إمكان وجود عناصر بنائية في فكر ماركس. ويبدو أن تحمسه لإثبات هذه الفكرة قد أدى به إلى الانحياز إلى جانب البنائية وإنكار عناصر أساسية في الماركسية، مما أبعده بالتدريج عن التيار الرئيسي للفكر الماركسي الفرنسي، وأدى إلى فصله من الحزب الشيوعي الفرنسي. وعلى أية حال فقد أتيح لسيباج أن يعرض وجهة نظره كاملة، قبل موته المبكر، في كتاب يعد من الكتب الكلاسيكية في هذا الموضوع، هو " الماركسية والبنائية " 1964.

لقد أثار هذا الكتاب مجموعة من المسائل التي قد لا يلقَى بعضها معارضة شديدة من الماركسية التقليدية، على حين أن البعض الآخر لا يمكن الاعتراف به في الإطار التقليدي للفكر الماركسي، لأنه يتضمن تشكيكاً في مبادئ كانت أساسية عند ماركس نفسه، لا مجرد تفسير جديد لأفكار كانت موجودة عنده بالفعل. ومن أمثلة النوع الأول، أعني ذلك الذي يمكن أن يكون مقبولاً في إطار الماركسية التقليدية، القول بوجود عناصر بنائية في صميم فلسفة ماركس. أما النوع الثاني فيتمثل في رفض الصورة المألوفة للعلاقة بين البناء التحتي infrastructure  وخاصة الاقتصاد، وبين البناء الأعلى Superstructure وهو رفض يصل إلى حد تغيير ركن أساسي من أركان الماركسية. وسوف نعرض لكل من هذين النوعين على حدة.

في حقيقة الأمر، تربط الماركسية بين الأسس التي يرتكز عليها سلوك أفراد أو جماعات معينة، وبين عناصر معينة في إيديولوجية هؤلاء الأفراد أو الجماعات، على نحو ينطوي على القول بوجود تشابه بين الطرفين. فمثلاً تُفسر الماركسية النمط الخاص للعلاقة بين الله والإنسان في العصور الوسطى (وهو نمط ينتمي إلى مجال الإيديولوجيا) بأنه انعكاس للعلاقة بين الإقطاعي ورقيق الأرض في هذه العصور (وهي علاقة تنتمي إلى البناء التحتي). وتُفسر سيادة الفكر النظري المحض على البحث في العلوم التطبيقية، في المجتمع اليوناني (وهو موضوع ينتمي إلى إيديولوجية ذلك المجتمع) بأنها ترجمة لعلاقة السيد بالعبد في مجتمع يسوده الرق (وهو تفسير ينتمي إلى البناء التحتي). وتُفسر عقيدة الجبر المطلق Predestination  كما قال بها كالفان Calvin في عصر النهضة الأوروبية، بأنها تعبير عن إحساس الإنسان في بداية العصر الرأسمالي بوجود قوى مجهولة تتحكم في مصيره، هي قوى السوق وقوانينه، وتفرض نفسها عليه دون أن يستطيع السيطرة عليها. في كل هذه الحالات تُفسر الماركسية عنصراً معيناً من عناصر الإيديولوجية في مجتمع معين، بعلاقات إنتاجية ذات طابع اقتصادي واجتماعي. ولكي يكون هذا التفسير ممكناً ومقبولاً، فلابد من وجود (بناء) مشترك يجمع بين المجالين المتباينين، المجال الإيديولوجي (وهو في هذه الحالة فلسفي أو ديني) والمجال الاجتماعي الاقتصادي. وعلى سبيل المثال، فكما أن العلاقة بين الإقطاعي وتابعه في العصور الوسطى هي علاقة رأسية بين طرفين يعلو أحدهما على الآخر علواً هائلاً، فإن هذا النمط أو (البناء) ينعكس هو ذاته على تصور هذه العصور للعلاقة بين الله والإنسان. وقل مثل هذا عن سائر التفسيرات الماركسية لمختلف عناصر الإيديولوجية، كالفكر الفلسفي، والفن، والأدب.

ولنذكر في هذا الصدد ما سبق لنا أن أشرنا إليه، من أن البنائية من حيث هي منهج ليست بالشيء الجديد، وإنما الجديد هو التعبير الواعي عنها في مذهب فكري متماسك. فهنا نجد هذا النوع من التفسير البنائي لا يلقى معارضة من الماركسيين المتمسكين، لأنه لا يخرج عن إطار الماركسية التقليدية، وكل ما يفعله هو أنه يستخدم في تقديمها مصطلحات بنائية.

على أن هذا الطرح، حسب سيباج، لم يكن هو المظهر الوحيد الذي اتخذته البنائية في الفلسفة الماركسية. فمن الممكن أن تتحدد العلاقة بين البناء الأدنى، أي الأساس، وبين البناء الأعلى، أي الإيديولوجية، على مستوى آخر، هو أن ننظر في مجال كامل من مجالات الواقع الاجتماعي، مثل علاقات الإنتاج، ونربطه بمجالات أخرى ذات طبيعة فكرية أو إيديولوجية. فعلى هذا المستوى لا نربط بين تفكير فردٍ معين، أو جماعة معينة، وبين عنصر معين في علاقات الإنتاج، وإنما نربط على نحو أعم، وأكثر تجريداً، بين (أنماط) معينة من التفكير، وأنماط معينة من علاقات الإنتاج، أو من الواقع الاجتماعي. ومثل هذا الربط يحتاج إلى عملية توحيد ومقارنة أشد تعمقاً مما يحتاج إليه الربط على المستوى الأول. وعلى الرغم من أن ماركس بحث الموضوع على المستويين معاً، فقد كان البحث على المستوى الثاني هو الغالب لديه. فهو لا يلجأ إلا نادراً إلى الكلام عن تأثير عامل معين يسهل تحديده في توجيه الفكر وجهة معينة، بل يتحدث عن التأثير الشامل لآليات نمط اقتصادي كامل، كالاقتصاد الرأسمالي، في تحديد أسلوب التفكير والوعي الاجتماعي داخل هذا النمط، أي إنه يستهدف دائمًا بحث " كليات شاملة totalities " وتؤثر كل منها في الأخرى، وتكشف عن (بناء) مشترك. ومثل هذا البحث هو الجدير بأن يسمى (علماً) بالمعنى الصحيح، لأن موضوعه بناءات كلية.

يستخلص سيباج من تطبيق المنهج البنائي على تفسير الماركسية نتيجةً تتعارض مع عنصر أساسي من عناصر التفكير الماركسي التقليدي، هي رفض الحتمية الاقتصادية. فعندما يكون أساس تفسيرنا هو البناء الكلي لا يعود من الممكن أن نعطي أولوية مطلقة لواحد بعينه من عناصر هذا البناء، ونجعل منه (سبباً) للعناصر الأخرى، فالعامل الاقتصادي، وفقاً للنظرة البنائية، هو مجرد عنصر من العناصر التي ينطوي عليها البناء، وليس هو أساس البناء بأكمله، ولذلك رفض سيباج تفسير التاريخ على أساس القول بأولوية العامل الاقتصادي، بل نظر إلى العلاقات الاقتصادية، جنباً إلى جنب مع اللغة والأساطير ونظم القرابة، على أنها كلها عناصر يمكن اقتطاع أي منها من الكل بعملية ذهنية متعمدة تسعى إلى استخلاص السمات المميزة لهذا العنصر بالذات، عن طريق فصله عن علاقاته بمجالات الواقع الأخرى، وعندئذ يمكننا الوصول إلى مقارنات متوازيات بين كل عنصر والآخر ولكننا لا نستطيع أن نصل إلى حالة يكون فيها لأحد هذه العناصر - كالعنصر الاقتصادي مثلًا - أولوية سببية بالقياس إلى العناصر الأخرى، أو يكون هو الذي تتولد عنه هذه العناصر الأخرى.

وإذا كانت وحدة العناصر وتفاعلها المتبادل في البناء تمنَع من معاملة أحدِ هذه العناصر (كالعنصر الاقتصادي) معاملة مميزة، بوصفه أصلًا للباقين، فإن هناك أسباباً أخرى تؤدي في نظر سيباج إلى هذه النتيجة نفسها. ومن أهم هذه الأسباب، أن العامل الاقتصادي لا يمكن أن يكون عاملاً مادياً بحتاً، في مقابل نتيجة فكرية أو عقلية هي الإيديولوجية بصورها المختلفة. وينتقد سيباج التصوير التقليدي عند بعض الماركسيين، الذي يعالجون العامل الاقتصادي كما لو كان مادة خاماً، تختلف في طبيعتها عن العوامل الأخرى التي هي " معلولات " لها. والواقع أن العقل الإنساني، الذي يتدخل في كل هذه العوامل، يُزيل الفوارق النوعية بينها عن طريق تدخله هذا. فالأساس الاقتصادي لا يكتسب كيانه ووجوده إلا من تلك الدلالة التي يُضفيها عليه العقل الإنساني، بحيث إن التضاد بين الواقع الاقتصادي والناتج الإيديولوجي المرتكز عليه ليس تضاداً بين حقيقتين بينهما اختلاف أساسي في الطبيعة، وإنما هو تضاد يقع (داخل) الإطار العقلي والعلمي ذاته. ومن هذا الإطار العقلي يكتسب الطرفان معاً دلالتهما. وهكذا تكون الوسيلة الوحيدة لدراسة العلاقة بين الاقتصاد والإيديولوجية، في نظر سيباج، هي البحث في العلاقة المتبادلة بين الطرفين. أما فكرة وجود بداية مطلقة، أو سببية نهائية، يكون فيها أحد الطرفين منتجًا للآخر وأصلاً له، فإنه يرفضها بوصفها فكرة مستحيلة.

وهناك سبب أخير يؤدي إلى إنكار فكرة السببية المطلقة بين الواقع الاقتصادي والإيديولوجيا، هو أن الناتج الإيديولوجي، من فكر أو فن أو دين، لا يكفي لتفسيره أن نُرجعه إلى أصله، لأن هذا الناتج يخرج عن الأصل ويتجاوزه، ويكتسب خلال تطوره دلالة خاصة مستقلة عن الأصل الذي نشأ منه.

 ويعبّر سيباج عن هذه الفكرة بقوله: " إن القول بأن نظامًا فكرياً معيناً يتولد عن ممارسة اجتماعية معينة لا يكفي لتفسير طبيعة هذا النظام، إذ إن ما نعبر عنه على المستوى الرمزي يتجاوز دائماً ذلك الواقع الذي اتخذ منه نقطة بدايته " وهو يستشهد في هذا الصدد برأي لبياجيه Piaget يقول فيه: " إن تولد البناءات من أصل اجتماعي لا يفسر وظائفها اللاحقة، لأن هذه البناءات حين تندمج في تركيبات كلية جديدة، يمكن أن تتغير دلالتها. وبعبارة أخرى: فإذا كان بناء تصور معين يتوقف على تاريخه السابق، فإن قيمته تتوقف على موقعه الوظيفي في الكل الذي يكون هذا التصور جزءًا منه في لحظة معينة ".

وهكذا يدافع سيباج عن تلك القدرة الخلاقة التي يتسم بها العقل الإنساني، والتي تجعل لنواتج هذا العقل استقلالاً ذاتياً بالقياس إلى الواقع الاجتماعي الذي أنتجها. ويترتب على ذلك أن النسق البنائي الواحد الذي يكونه هذا العقل يستطيع أن يعبر عن أكثر من واقع أساسي واحد، كما أن الواقع الواحد يمكن أن يولد أنساقاً متباينة. ولهذا الرأي نتيجتان هامتان، تؤلفان تعديلاً أساسياً على النظرية الماركسية التقليدية: الأولى: هي إنكار وجود علاقة مباشرة بين الأساس الاقتصادي والاجتماعي الواحد، والنسق الفكري الذي يُقال إنه يرتكز عليه، فالسببية هنا ليست خطية تجمع بين طرفين، بل هي متشعبة يمكن أن تسير في شتى الاتجاهات.أما النتيجة الثانية: فتذهب إلى مدًى أبعد، إذ تنكر تلك القسمة الثنائية التقليدية بين بناء أدنى وبناء أعلى، أو بين أسس الواقع الاقتصادي الاجتماعي والبناءات التي تُشيد عليه في ميادين الفكر والدين والفن … إلخ. فليس ثمة أولوية للأسس الاقتصادية الاجتماعية، وإنما يكشف لنا التاريخ عن سلسلة دائمة من التفاعلات المتبادلة، التي تتحول فيها الأسباب إلى نتائج، والنتائج إلى أسباب. ولو رجعنا إلى ما يحدث بالفعل في عالم الواقع؛ لوجدنا أن الناس حين يسلكون، يجمعون في مركب واحد بين مستويات كثيرة لا يمكن الفصل بينها إلا بعملية فيها قدر من العمق، ولذلك فإن هذه العملية المزعومة للعنصر الاقتصادي تعزل شطراً واحداً من كل لا ينطوي إلا على علاقات متبادلة.

وهكذا يذهب سيباج، في تحليله البنائي للماركسية، إلى مدى بعيد في الخروج عن المبادئ الأساسية للنظرية الماركسية التقليدية. وليس أدل على ذلك من أنه يرفض النقد الذي وجهه ماركس إلى هيجل، على أساس أنه قلب الأوضاع رأساً على عقب، وجعل من الواقع الاقتصادي الاجتماعي مجرد ناتج مترتب على (الفكرة) الدينية أو الميتافيزيقية أو المنطقية. على حين يريد ماركس أن يعيد الأمور إلى نصابها ويوقف الديالكتيك (على قدميه)، بعد أن كان واقفاً (على رأسه). هذا النقد يرفضه سيباج، لأن قلب الأوضاع هذا يمكن أن يحدث بالفعل، ولأنه سمة أساسية من سمات العملية الرمزية التي ينفرد بها الإنسان، والتي تجعل للنواتج الرمزية، من فكر ولغة وعقيدة، استقلالاً ذاتياً عن الأصل الذي نشأت منه، وقدرةً على التأثير في الواقع ذاته، وتغيير الأسس الاقتصادية الاجتماعية. فنحن ها هنا في مجال لا يمكن التمييز فيه بين ما هو (أصل) وما هو (نتيجة). وتلك كلها آراء تعدها الماركسية التقليدية تحريفات غير مشروعة، لأنها لا تتعلق بالاجتهادات في تفسير النظرية، بل بالأسس التي ترتكز عليها.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

........................

- المراجع المعتمدة:

1. Lucien Sebag: Marxisme Et Structuralisme, Payot, Paris, January 1, 1964.

2. فؤاد زكريا: الجذور الفلسفية للبنائية، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2022.

3. فؤاد زكريا: آفاق الفلسفة، المركز الثقافي العربي ودار التنوير، بيروت، ط1، 1988.

4. إحسان محمد الحسن: النظريات الاجتماعية المتقدمة – دراسة في النظريات الاجتماعية المعاصرة، دار وائل، عمان، ط3، 2015.

5. إيان كريب: النظرية الاجتماعية – من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة: محمد حسين غلوم، مراجعة: محمد عصفور، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد: 244، أبريل 1999.

لماذا نستمر في حياتنا كما نحن؟هل الذات تقيم في الروح، او في الجسم، او في الاثنين معا؟ سؤال لطالما ناقشه الفلاسفة. الفيلسوف جون لوك (1632-1704) جادل بان الذات تقيم في الذاكرة. سنحاول إعطاء صورة للحجة التي قادت لوك لهذا الاستنتاج، وننظر في الاعتراضات التي أثارها النقاد ضد رؤية لوك حول الذات وخاصة اختزاله الذات الى ذاكرة. سنصل الى قناعة ان لوك لم يختزل فقط الذات الى ذاكرة وانما اختزلها الى ذاكرة داخلية. وبعمله هذا هو يضع نفسه في منزلق يقوده نحو المثالية رغم موقفه التجريبي المنطقي بشكل عام.

مبادئ الهوية

قبل الخوض في موقف لوك من الهوية الشخصية سيكون من المفيد النظر في مبادئه بشأن الهوية او تطابق الأشياء بشكل عام. في عمله (مقالة تتعلق بالفهم الانساني، 1690)،يعرض لوك مبدأين اثنين رئيسيين في تقرير هوية او وحدة الأشياء. المبدأ الاول هو مبدأ الزمان والمكان (ص297): في أي وقت، يوجد هناك شيء واحد في مكان واحد فقط. لايمكن ان يوجد نفس الشيء في مكانين بوقت واحد. افرض انت ترى كرسي في هذه اللحظة في الباحة الأمامية للبيت. في نفس الوقت، انت ايضا ترى كرسي مشابه على بعد خمسة أمتار. رغم انهما يبدوان متشابهين، لكن هذين الشيئين كونهما في موقعين مختلفين في وقت واحد يجعلك تستنتج انهما شيئان منفصلان. لكن، اذا صادف انك ترى فقط كرسي واحد في الباحة الأمامية عند الصباح، وبعد ساعتين  ترى كرسيا مشابه في الساحة الخلفية، انت بسهولة ستفترض انه نفس الكرسي الذي رأيته في الساحة الأمامية في الصباح، لكن ربما نقله أحد ما . يستنتج لوك:

"من المستحيل لشيئين اثنين من نفس النوع يوجدان في نفس الوقت وفي نفس المكان، او واحد من نفس الشيء يوجد في أماكن مختلفة. لذلك،كون احدهما امتلك بداية واحدة، سيكون هو ذات الشيء، اما ذلك الذي امتلك بداية مختلفة في الزمان والمكان،فهو ليس ذاته وانما مختلف"(ص297).

المبدأ الثاني والمهم ايضا في تقرير هوية الأشياء طبقا للوك هو المكونات التي يُصنع منها الشيء والمختلفة عن الأشياء الاخرى. فمثلا، الأشياء غير الحية هي "تماسك من جزيئات متحدة"(ص299) وهنا حيث تكمن ايضا هويتها. بالنسبة للمخلوقات الحية، لايكفي لجزيئاتها ان تكون متحدة فقط بطريقة واحدة: انها يجب ان تتحد بطريقة تعزز وتحفظ المخلوقات طوال وجودها. وهكذا، هوية المخلوقات الحية تقيم "في المشاركة بنفس الحياة المستمرة، بالحركة المستمرة لجزيئات المادة في تعاقب متحد بنفس الجسم المنظّم"(ص298-300). نتيجة لهذا، من المكن جدا للكائنات الحية ان تستمر بالوجود حتى لو حصل تغيير او فقدان في مادتها الفيزيقية. نحن نرى البلوط النامي من شتلة صغيرة الى شجرة كبيرة لايزال نفس البلوط، ومهر الفرس ينمو الى حصان هو في نفس الوقت نفس الحصان بالنسبة لنا،رغم انه في كلا الحالتين حدثت عدة تغييرات في المادة الفيزيقية. الناس، ككائنات حية ليسوا استثناءً من هذه القاعدة. كما يؤكد لوك.

هوية الانسان مقابل الهوية الشخصية

الهوية الشخصية ليست هي نفس هوية الانسان لأنه بالنسبة للوك،الانسان والشخص هما شيئان مختلفان رغم استعمالنا المتكرر والمتبادل لكلا المفردتين. هما مختلفان لأن مكوناتهما مختلفة. الانسان، طبقا للوك، صُنع من نوعين من المادة: المادة الفيزيقية (الجسم) والمادة غير الفيزيقية (الروح). من جهة اخرى، الشخص بالإضافة لإمتلاكه مادة فيزيقية وروح، هو يمتلك ايضا وعيا والذي بطريقة ما يوحّد الروح والمادة مجتمعين ضمن ادراك الكائن. وبشكل خاص، الفرد هو كائن مفكرلديه عقل وتفكير ويستطيع النظر الى نفسه كذات ، هو نفس الشيء المفكر، في مختلف الأوقات والأزمان. هذا يستطيع عمله فقط من خلال الوعي. لذلك، يقول لوك، الهوية الشخصية او "الشبه " المستمر للكائن العقلاني يقيم في هذا الوعي وحده (ص301-304).

المادة لا يمكن ان تكون جوهرا لهويتنا الشخصية. الدليل على هذا يكمن في أجسامنا. من الصواب اننا نشعر بأجسامنا كجزء من أنفسنا، لأننا نشعرعندما نُلمس، ونتأثر بما يحدث لنا من اشياء جيدة او مؤذية.  لكننا نقوم بهذا فقط عندما تكون جميع جزيئات أجسامنا متحدة بذاتنا الواعية المفكرة. هذا الشعور بأجزاء من جسمنا يختفي في اللحظة التي تنفصل بها تلك الاجزاء من ذلك الجسم. المثال الرئيسي الذي يذكره لوك هو بتر الذراع (ص310-311). لكن الروح ليست المكان الذي تقيم فيه الهوية الشخصية . لكي يثبت هذا، يدعو لوك قرائه للتفكير بأنفسهم كأنهم يمتلكون روحا غير فيزيقية، وان تلك الروح كانت في السابق تعود لشخص ما من التاريخ، مثل سقراط . بعد ذلك هو يطلب منهم التفكير ما اذا كانوا امتلكوا أي وعي بالروح اعتقدوا انهم يحملونها. اذا كانوا لا يتذكرون أي شيء من تجاربهم في حياتهم الماضية، عندئذ سيكون من الخطأ ان يتصور هؤلاء الاشخاص انفسهم نفس الشخص التاريخي الذي يُفترض انهم يمتلكون روحه (ص305-307).

طبقا للوك، الهوية الماضوية للشخص تصل الى ابعد ما يمكن ان يمتد اليه وعيه بفعل او فكر سابق.  أي شيء قبل ذلك لايمكن تعريفه نفس الشخص طالما هو لا يحمل وعيا بتلك الفترات. وبطريقة اخرى، انا اعتقد بنفسي أكتب مسودة هذه المقالة يوم أمس باعتباري كنت نفس الشخص في اللحظة الحاضرة، لأني امتلك ذاكرة الكتابة يوم أمس. لو كنت لا امتلك أي ذاكرة، عندئذ انا سوف لن امتلك أي تبرير او زعم بهويتي. يستنتج لوك ان عدم امتلاك وعي يصل الى الماضي، حتى مع الاستمرارية بنفس الروح هو دليل بان الروح ليست المكان الذي تقيم فيه الهوية الشخصية. الهوية الشخصية او الذات تقيم في الوعي وبه وحده. في الحقيقة، طالما ان الهوية الشخصية تتقرر بالوعي، هي في الحقيقة لا تترك أي فرق فيما اذا كان الوعي مرتبط بشيء غير مادي (روح) ام لا. حتى من الناحية التقنية ممكن لإنسان واحد امتلاك شخصين يقيمان فيه: نستطيع تصوّر وعيين منفصلين يعملان في نفس الجسم واحد في النهار والآخر في الليل. ومن جهة اخرى، لو تُتاح هجرة الوعي، سيكون ممكنا ايضا وبنفس المقدار لنفس الوعي ليتصرف بفواصل زمنية في جسمين مختلفين. إقامة الشخص في جسمين مختلفين حسب رأي لوك، لايختلف عن كون الفرد في طقمين مختلفين من الملابس (ص310-312).

معارضة نظرية لوك في الذات

تعاملْ لوك مع طبيعة الذات رُحب به في زمانه، وآرائه لازالت تحظى باهتمام الفلاسفة اليوم. هو ايضا أخذ حصته من النقد وبالخصوص في إختزاله الذات الى ذاكرة. العديد من المشاكل العملية والأخلاقية برزت ضد هذه الرؤية سواء من جانب معاصريه او من اللاحقين له. احدى المشاكل شخّصها تومس ريد Thomas Reid(1710-1796) الفيلسوف الاسكتلندي والاستاذ في جامعة كلاسكو، الذي جادل بان نظرية لوك في الذاكرة هي نوع من المفارقة. طرح ريد فكرته الشهيرة "مفارقة الضابط الشجاع"، التي يسألنا فيها ان نتصور ضابطا في الجيش عمره 44 سنة يسرق طعام العدو. في تلك اللحظة يتذكر الضابط عندما عوقب بسبب سرقته التفاح من بستان جاره عندما كان شابا بعمر عشر سنوات. بعد ذلك يتصور ريد هذا الضابط كعسكري متقاعد في عمر الثمانين وهو لايزال يتذكر نفسه يسرق طعام العدو حين كان بعمر الـ 44 عاما، ولكن لم تعد لديه أي ذاكرة لما حلّ به من عقوبة بسبب سرقته التفاح كولد. عند تطبيق تفسير لوك للذات على هذا السيناريو، فان الضابط المتوسط العمر يبدو مشابها لكل من الولد بعمر 10 سنين لأنه يتذكر فعله كولد،وللعسكري المتقاعد بعمر الثمانين عاما، نظرا لأن الضابط يتذكر سرقة طعام العدو. ايضا طبقا لتفسير لوك، الضابط المتقاعد لايمكن ان يكون مشابها للولد بعمر العشر سنين لأنه ليس لديه ذاكرة للفعل الذي ارتكبه عندما كان شابا بعمر 10 سنين، وهكذا، تفسير لوك للذات يثبت انه متناقض، حسب ريد، طالما ان الضابط هو مشابه للولد وغير مشابه له.

مشكلة اخرى في تفسير لوك للذات تتضمن حقيقة ان وعينا وذاكرتنا يتقطعان باستمرار بسبب النوم والشراب او بالتذكّر الإنتقائي الذي يثير اسئلة حول استمرارية الذات، وايضا حول المسؤولية الاخلاقية عن الأفعال المرتكبة اثناء هذه الانقطاعات.

استجابة لهذه الاعتراضات، يقدم لوك جوابا برجماتيا نوعا ما: "قوانين الانسان تعاقب في كل تلك الحالات بعدالة تتناسب مع طريقة المخالفين في المعرفة، لأنهم في تلك الحالات لا يستطيعون التمييز بوضوح بين ما هو واقعي، وما هو مزيف، ولهذا فان الجهل في الشرب او النوم لا يُعترف به كعذر. لأنه، مع ان العقوبة متصلة بالشخصية، والشخصية متصلة بالوعي، والناس المخمورين غير واعين بما فعلوا، لكن مع ذلك، القضاة يعاقبون على ذلك بإنصاف، لأن الحقيقة جرى إثباتها ضد المخالف، بينما إرادة الوعي لا يمكن إثباتها. غير انه في يوم الحساب وحيث تنفتح جميع أسرار القلوب، يصبح من المسؤولية الاعتقاد  بان ، لا أحد يجب ان يجيب على ما لا يعرف، ولكن يجب ان ينال مصيره، ضمير المخالف يتّهمه أو يعذره" (ص310).

بالاضافة لهذه المعارضات، هناك مشكلة أكثر جوهرية في توضيح لوك للذات. لوك يختزل الذات ليس فقط الى ذاكرة وانما الى ذاكرة داخلية. لتوضيح هذا سوف نضيف شخصية اخرى لمفارقة الضابط الشجاع. هذه الشخصية الجديدة هو الاخ الشاب للضابط جون والذي كان مع أخيه دائما. جون كان هناك عندما عوقب اخوه لسرقته التفاح وهو شاب بعمر 10 سنين. جون كان ايضا يكافح جنبا الى جنب مع اخيه اثناء الحرب وشهد سرقة الضابط لطعام العدو وهو بعمر الـ 40 سنة. ورغم ان العسكري المتقاعد بعمر الثمانين عاما لا يتذكر كونه عوقب لسرقته التفاح، لكن اخاه لايزال لديه ذاكرة يقظة بكلا الحدثين. مع ذلك، بما ان لوك يقول ان الذات تصل الى حد وعي المرء بأي حدث في الماضي، هو يبدو يقول انه في هذه الحالة لا تُحسب شهادة الاخ في تشخيص الولد بعمر الـ 10 سنين بالعسكري بعمر الثمانين اذا كان العسكري ذاته لايتذكر نفسه كشاب بعمر الـ 10 سنين. نحن نستطيع ان نستنتج انه بالنسبة للوك، الذات لا تقيم فقط في أي ذاكرة: انها تقيم في الذاكرة الداخلية للشخص ذو العلاقة. الذاكرة الخارجية (شهادة الشاهد) لا تُحسب في تحديد الذات المستمرة.

لكن بهذا، يبدو ان لوك يقترح ان الذات هي مفهوم مثالي خالص – اذا كانت الذات مشابهة فقط في وقت وعي المرء بها، وتختفي مع انقطاع الوعي او الذاكرة بصرف النظر عن وجود الشهادة (أي،الذاكرة الخارجية)، عندئذ فان الأفعال المنسية والكلمات التي كانت تعملها الذات تثبت ايضا انها غير موجودة، او على الأقل غير ملائمة للذاكرة الداخلية. نحن نستطيع القول انه بالنسبة للوك كل شيء تمارسه الذات وتتصوره يثبت انه مثالي، أي، فقط في الذهن. من هنا نستطيع الاستنتاج انه بنظريته هذه عن الذات، يبدو ان لوك مثاليا خالصا رغم حججه الاخرى في اننا نكتسب المعرفة فقط من التجربة الحسية للعالم المادي.

استنتاج

بعد فحص آراء لوك في الهوية الشخصية، يصبح واضحا ان الطريقة الوحيدة لمعرفة أين تقيم الهوية الشخصية هي ان نعرف ماهو الشخص. لوك يرى ان الشخص هو كائن ذكي يمتلك عقلا وتفكيرا ويستطيع إعتبار الذات كذات، هو نفس الشيء المفكر، في مختلف الأماكن والأزمان. يستطيع المرء القيام بهذا من خلال الوعي. طبقا للوك، بدون وعي لا وجود لشخص مهما كانت المادة هناك. هوية الشخص تصل الى أي فعل او فكرة في الماضي بقدر ما يمكن تمديد الوعي نحو ذلك الماضي . عند نهاية هذه الذاكرة،ستنتهي الذات حسب لوك. هذا التفكير الاختزالي للذات كان الحافز الرئيسي لمختلف الاعتراضات ضد لوك على كل المستويات الأخلاقية والعملية. كذلك، نرى ان لوك اختزل الذات ليس فقط للذاكرة وانما للذاكرة الداخلية، وبعمله هذا هو يرتكب مخاطرة وضع اتجاهه الفلسفي التجريبي بالكامل على ارض رخوة.

***

حاتم حميد محسن

ترجمة: علي حمدان

الكسندر كوجيف (Alexander Kojeve) (1902-1968)، كان مسؤولا عن التقديم الجاد لهيجل في الفلسفة الفرنسية في القرن العشرين، مؤثرا في عدد كبير من المفكرين الفرنسيين وبالذات أولئك الذين كانوا يحضرون دروسه حول ظواهرية العقل في باريس في الثلاثينات من القرن الماضي. كان تركيزه على فلسفة التاريخ لدى هيجل وقد اشتهر بنظريته حول نهاية التاريخ ومبادرته حول ما يسمى بالوجودية الماركسية. كوجيف يصل الى تفسير اصيل من خلال قراءة هيجل من خلال نظريتين  مزدوجتين المادية التاريخية لماركس وانطولوجيا هايدجر الزمنية.

تأثير ماركس

فلسفة هيجل للتاريخ العالمي توفر الاطار الأساسي لموقف كوجيف الفلسفي. التاريخ هو حركة عملية تتعرض فيها التناقضات للمصالحة، حتى تتوج في "نهاية التاريخ". وإكتمالها في مجتمع عالمي يتم فيه الاستحقاق المتبادل.

ومع ذلك، يقوم كوجيف بإعادة صياغة هيجل بعدد من الطرق الحاسمة (بين دارسي هيجل، هذه الطرق مثيرة للجدل)*.  يمكن تحديد اول هذ الطرق باعتبارها من  تأثير ماركس. وخاصة كتابات ما يسمى ب" مخطوطات 1848 ". كوجيف يتبع " "الهيجيلية المقلوبة " لماركس عن طريق فهم عمل التطور التاريخي بمصطلحات مادية على نطاق واسع. صنع التاريخ لم يعد مجرد حالة عمل العقل في العالم، بل يعود الى نشاط الانسان ككائن ينتج كيانه بشكل جماعي. يحدث ذلك من خلال العمل علي الاستيلاء على عالمه المادي وتحويله من اجل تلبية احتياجاته الخاصة. في حين تعطي العقلانية المثالية لهيجل الأولوية لإشكال الوعي التي تنتج العالم كما هو مجرب، يتبع كوجيف ماركس في ربط الوعي بالعمل في الإنتاج المادي وإشباع رغبات الانسان. بينما يستعيد هيجل  الوعي البشري الى كلية لاهوتية  (جايست او "الروح المطلقة"). يقوم كوجيف بعلمنة التاريخ البشري. يراه فقط نتاج تصنيع الانسان لذاته. في نهاية المطاف مصالحة الانسان مع الله (الكلي او المطلق)، يرى كوجيف ان الانسان يمكنه تجاوز اغترابه بعوامل إنسانية. يرى هيجل نهاية التاريخ كلحظة المصالحة النهائية مع الله او الروح، فان كوجيف (مثل فيورباخ وماركس) على انها سمو الوهم، حيث يستعيد الانسان الله  (جوهر الانسان المغترب) بواسطة الانسان. بينما توفر الكلية الهيجيلية مجموعة سابقة من العلاقات الانطولوجية بين الانسان والعالم في اطار استيعابها من خلال وعي متنامي. يرى كوجيف ان العمل الإنساني هو العملية التحويلية التي تنتج العلاقات الانطولوجية. بينما يمكن القول ان هيجل يقدم علاقة "شمولية" بين الانسان والطبيعة، موحدا الاثنين في المطلق، يرى كوجيف تنافرا أساسيا بين المجالين، مما يوفر الشروط لإنتاج الانسان لذاته من خلال نشاطاته النافية والتحويلية.

ربما يكون المفتاح المفاهيمي لمفهوم كوجيف للتاريخ العالمي هو الرغبة. تعمل الرغبة كمحرك للتاريخ- انها سعي الانسان في تحقيق رغباته التي تدفع الصراعات بين الناس. الرغبة هي سمة دائمة وعالمية لوجود الانسان، وعند تحويلها الى عمل فأنها تشكل أساسا لكل "وكالة" تاريخية. الرغبة في "الاعتراف"، وتأكيد قيمة الانسان وتلبية الاحتياجات، تدفع نحو النضال والصراع الذي يحقق التقدم التاريخي. يتحرك التاريخ من خلال سلسلة من التكوينات المحددة، تتوج بنهاية التاريخ، وهي حالة تتحقق فيها الإنسانية المشتركة والعالمية وبشكل نهائي. ويتضمن ذلك تشكيل مجتمع .. يتعرف فيه على القيمة الفردية الخاصة والشخصية لكل فرد، وبالتالي، ستتقاطع القيم والاحتياجات الفردية في تسوية مشتركة (تشمل الرغبات والميول التي تحددها الانسانية بذاتها).

كيف ولماذا يتحقق هذا الادراك للتبادلية والمساواة؟ يتبع كوجيف عرض هيجل الشهير لجدلية "السيد والعبد" من اجل استنتاج التغلب الضروري على عدم المساواة والانقسام والتبعية. العلاقة بين "السيد" و"العبد" هي علاقة يتم فيها تلبية احتياجات المجموعة او الطبقة المهيمنة "الاسياد" من خلال اخضاع الاخرين "العبيد" او" المستعبدين". "العبد" موجود فقط لتأكيد تفوق وإنسانية "السيد"، ولتوفير احتياجات "السيد" من خلال تسليم عمله. ومع ذلك فان هذه العلاقة محكوم عليها بالفشل، لسببين أساسيين:  أولا، يرغب "السيد" في الاعتراف بإنسانيته وقيمته الكاملة وتأكيدها، ويستخدم "العبد" التابع لهذه الغاية. هذا يعني ان "السيد" على العكس من ذلك يعتمد على " العبد"، وبالتالي يقلب علاقة الهيمنة. علاوة على ذلك، تظل علاقة الاعتراف القسرية هذه غير مكتملة تماما، لأن "العبد" ليس في وضع يسمح له بمنح التأكيد بحرية، ولكنه مجبر على القيام بذلك بسبب تبعيته. التأكيد او الاعتراف الذي لا يعطى بحرية لا يهم شيئا. او كما يقول كوجيف:

العلاقة بين السيد والعبد ليس اعترافا بشكل صحيح...السيد. ليس الوحيد الذي يعتبر نفسه سيدا،....العبد، أيضا يعتبر نفسه على هذا النحو. ومن ثم، فهو معترف به في واقعه الإنساني وكرامته. ولكن هذا الاعتراف احادي الجانب، لأنه لا يعترف بدوره بالواقع الإنساني للعبد وكرامته. ومن ثم يتم الاعتراف به من قبل شخص هو لا يعترف به. وهذا ما هو غير كاف- ما هو مأساوي في وضعه ... لأنه  "السيد" لا يمكن ان يرضى الا بالاعتراف من شخص هو يعترف به.

هذا يؤسس الحاجة الأساسية للتعرف المتبادل والمساواة الرسمية. اذا التعرف على القيمة يجب ان يتأسس. انه فقط عندما يكون تبادل واعتراف بالجميع، يصبح الاعتراف باي شخص ممكنا بشكل كامل.

ثانيا: بالنسية لكوجيف (كما هو الحال، بالنسبة لماركس) فإن "العبد" الكادح هو مفتاح التقدم التاريخي. ان "العبد" هو الذي يعمل، وبالتالي  فهو وليس "السيد" الذي يمارس "سلبيته" في تحويل العالم بما يتماشى مع رغبات الانسان ورغباته. لذلك على المستوى المادي، يمتلك العبد مفتاح تحريره، أي اتقانه النشط للطبيعة. علاوة على ذلك، ليس لدى "السيد" رغبة في تغيير العالم، في حيين ان " العبد"، غير راض عن حالته، يتخيل ويحاول تحقيق عالم من الحرية يتم فيه الاعتراف بقيمته في النهاية، وتلبية رغباته الخاصة. الصراع الأيديولوجي للعبد هو التغلب على خوفه من الموت والنضال ضد "السيد"، مطالبا بالاعتراف بقيمته وحريته. كانت مصادفة الظروف المادية والأيديولوجية للتحرر واضحة بالفعل، بالنسبة لكوجيف من خلال ثورات القرن 18و 19و20. هذه النضالات وضعت الشروط لاستكمال التاريخ في شكل مجتمع عالمي.

تأثير هايدجر

اذا كان ماركس يوفر مصدرا مركزيا لإعادة قراءة كوجيف لهيجل، فان هايدجر يوفر المصدر الاخر. من هايدجر، يأخذ كوجيف الادراك بان الانسان يتميز عن الطبيعة من خلال علاقته الانطولوجية المميزة. حيث ان كيان الانسان مشروط  بطابعه الزمني الجذري، وفهمه لكيانه في الزمان، وباعتبار الموت افقه النهائي. تصدر انطولوجية كوجيف حسب   تحليل هايدجر ل"داساين  Dassein" في "الوجود والزمان "، والتي هي ذات طابع تجريبي ووجودي قبل كل شيء. من خلال جمع هيجل مع هايدجر، يحاول كوجيف تأريخ الوجودية بشكل جذري، مع منح تاريخية هيجل جانبا وجوديا جذريا، حيث تحدد الحرية الوجودية للإنسان كيانه، يتم فهم الحرية على انها العلاقة الانطولوجية للسلبية، عدم كمال الانسان، ان عدم اكتمال الكائن البشري " النقص التكويني " هو على وجه التحديد بسبب هذا النقص في الوجود الكامل الذي يختبره الانسان، (آو بالأحرى ليس شيئا سوى) الرغبة، سلبية الوجود، التي تتجلى كرغبة تجعل من الممكن صنع الانسان لذاته، يمكن اعتبار هذا الموقف مستلهما من نقد هايدجر للمغامرات الميتافيزيقية للفكر الغربي، التي يدعي انها وضعت رموزا ميتافيزيقية مؤكدة اسبقية الوجود على الصيرورة. (حيث يتم الكشف عن "كينونة الكائنات" بشكل مختلف في افق الزمان).

ان التنصل من مثل هذا التكوين الراسخ ميتافيزيقيا والازلي، في نهاية المطاف يحرر الانسان من "الحتمية"، "ويلقي به" في حريته الوجودية. في تفكير كوجيف، يكمن صراع الانسان في ممارسة هذه الحرية من اجل انتاج عالم يشبع رغباته، وفي هذه العملية يقبل حريته الخاصة ويتخلص من أوهام الدين والخرافات، ويطالب بشجاعة بوجوديته المحدودة او موته.

يمكننا رؤية كيف يحاول كوجيف توليف هيجل ماركس وهايدجر، من هيجل، يستلهم مفهوم عملية تاريخية عالمية تنكشف  فيها المصالحة التاريخية من خلال جدلية ذاتية، تؤدي الى الوحدة. من ماركس، يستلهم انثروبولوجية فلسفية علمانية غير لاهوتية، والتي تضع النشاط التحويلي المتمثل في الرغبة في مركز الصدارة في العملية التاريخية. ومن هايدجر، يستلهم تفسيرا وجوديا للإنسان ككيان حر وسلبي وزمني بشكل جذري. ومن خلال دمج هذه العناصر الثلاثة ، يقدم رؤية لتاريخ الانسان، حيث يدرك الانسان حريته في انتاج نفسه وعالمه في سعيه وراء رغباته، وبذلك يدفع نحو نهايته( المفهومة على حد سواء على انه تتويج او استنفاد، هدف او اكتمال).

***

....................

* راجع كتاب خفايا ما بعد الحداثة، د. شادية دروري ترجمة: د. موسى الحالول، دار الحوار، اللاذقية، سوريا.

موسوعة الفلسفة على الانترنت (ماجد يار).

(البراطيل تنصر الأباطيل).. الزمخشري

كل فرد مجتمعي مطالب بتحصيل معارف جديدة، تنهض على المشاركة والتأثير، على أن تكون أدوات هذا التحصيل ناظمة لمجموعة المؤشرات والعناصر المبدعة، بدلا من مجرد التلهية والتهويم.

كانت أول مبدئية، تقوم عليها منظومة مجتمع المعرفة، هي أولوية تحفيز وإدماج الفرد في مجتمع العقل، واستثمار قواه وإمكاناته للمشاركة القصدية، ومحاولة تقديمه كمركز بديل وبؤرة ضوء متاخمة للحاجة والضرورة.

من هنا، تبرز المعرفة الجمعية، كبوصلة ترتهن عليها أجزاء المعرفة المتعددة والمختلفة، بصفتها سيرورة متوافق عليها. ومنها تنبع الرغبة في تغيير الملاذات، أو الأهداف المرتجاة، كما هو الشأن بالنسبة، لاعتبار فرضية "عدم الاتفاق بشكل كلي وحصري على تلك المعرفة الجماعية"، ما يفرض منهجيا "التفكير في المتفقات وترك الاختلافات الجانبية"، هروبا من انهيار تقسيم العمل المعرفي الذي تعوزه الوضعية.

استعمل س سلومان وف فيرنباخ، في كتابهما العميق "وهم المعرفة: لماذا لا نفكر بمفردنا أبدا؟"، مفهوم "استراتيجية توجيه النظر"، كحقل ألغام يناط به تحديد سمات انتقاء جودة المعلومات الفورية، وما تتطلبه من جهود فكرية وعقلانية لتوجيهها وتصنيفها وإدراك أبعادها وتحولاتها. وفي سياق قياس منافذ هذه الاستراتيجية وأبنيتها الدلالية والمعرفية، يقاربان سؤال الزمن وسرعته، والتقائية ذلك مع فكرة التحول، حيث يعتمد نظرهما على تأسيس حدود هذا النظر بالقول "لمعرفة اتجاه نظرك، كل ما عليك فعله، معرفة أين هي الأرض، وإلى اين أنت تنظر؟"، علاوة على أنه "لمعرفة السرعة التي يتغير بها اتجاه نظرك، كل ما تحتاج معرفته هو مدى سرعة تحرك رأسك؟".

هناك أبعاد فلسفية كبرى، تجعل من تأطير هذه المسألة المثيرة، أمرا متصلا بما يصفانه ب"حوسبة القطع"، مستدركين، أن من بين أهم سبل تواجدنا، هو استعمالنا العالم من أجل إجراء الحوسبة، للتنقل عبر المساحات الضيقة.

ولا يستدعي المثال الأخير لنظرية "وهم المعرفة"، أي جهد للوصول إلى معنى ارتباط "حقل المعرفة" بالطريقة التي ننظر بها إلى مكنوناته الظاهرة، فهي الأقرب إلى واقع "علاقة الضوء الملتقط بالأعين المجردة بسطح الأشياء"، كمثل "انعكاس ذلك على المحيط أثناء الحركة". وهو ما يؤشر على استنتاج فواعل جديدة في "مجتمع المعرفة" وعقلها، مما يشي بتدفق المعلومات الجنونية المتلاطمة، عبر وسائل الإعلام ووسائطها الاجتماعية، بشكل لا يخضع لقواعد محددة، ويرتهن على مغازلتها لأنساق جماهيرية متغلغلة، تبحث عن تقاليد وأنماط غير مسبوقة تتجذر بشكل أبطأ، وتحفر بقسوة، في بناء نموذج قيمي خارج الأخلاق.

هل معنى ذلك، أن المعرفة الآن مشروطة بإعادة معرفة فهم التكنولوجيا والتحكم فيها؟

ربما، لكن قطعا، لا يمكن التعويل على تحقيق الامتلاء المعرفي، وإغراءاته في الوصول إلى كمية المعلومات وتشعباتها، دون تطوير المواقف بإزاء حضورها في المجتمع وانتشارها بين الناس، بل وتأثيرها في المسار العام للحياة والعيش المشترك. فالخطر القادم، يظل قائما، ما دام "الذكاء المعلوماتي الفائق والشرير"، يراكم استحقاقاته الخاصة و"اللاأخلاقية" على حساب البشرية، إذ إن "الآلات التي لا تمتلك القدرة البشرية الأساسية، على مشاركة الانتباه والأهداف، لن تكون قادرة أبدا على قراءة أذهاننا، وعلى أن تفوقنا ذكاء، لأنها لن تكون قادرة حتى على فهمنا؟"*.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

............................

* ستيفن سلومان وفيليب فيرنباخ (وهم المعرفة: لماذا لا نفكر بمفردنا أبدا؟" ترجمة، أحمد م احمد ، مبادرة ترجم السعودية 2022 / ص 163

لو تخيلنا الفلسفةَ إنساناً في مجتمعاتنا الراهنةِ، فلن تكون غير (رجل كهلٍّ) أعيّاه الزمانُ وأثقل. رجلٌّ جاءَ من كهوف غابرةٍ مارّاً بدهشتنا التي لا تنقطع. والأبواب أمامه موصدة كمتشردٍ (فاقد الأهلية) لأنْ يُصبح عضواً ضمن واقعٍ حيٍّ. الناسُ ليسوا فقط أعداءَ ما يجْهلُّون، ولكننا سنعرف: أنَّهم أعداء كل مَا يتطلب التفكير. وسر الفلسفة أنَّها تقتضي تفكيراً مختلفاً، اختلاف الغذاء العقلي للإنسان بدلاً من حشُو جماجم الضحايا والمسحوقين. ولن تحضر الفلسفة إلاَّ بتغيير (سوفت ويرsoftware) العقل العام، ليتمكّن من رؤية العالم والبشر بطرقٍ أخرى.

بيتَ الداء هو: منْ ذا الذي سيسْمحُ بتغيير طريقة التفكير؟! والإستفهام بـ" منْ " يرتبط بالإشارة إلى المفرد والجمع، لأنَّ تراجيديا الفلسفة نتاج لمذابح الثقافة التي تنصُبها حياتنا العربية لكل فكرٍ حر. فجأةً ستجد الفلسفة نفسها في مواجهة قوى المجتمع الشرسة. مثل: مروجو الآراء وأصحاب العقائد والأيديولوجيا وحاملو بخور الصولجان والسلطة والكهانة. وبضربةٍ واحدةٍ، سيتم غلق النوافذ، وسيظل الناسُ مدعوين لممارسة العمل نفسه إزاء أي تفلسف!!

كلُّ فلسفةٍ لا ترضى بديلاً عن التحرُر مهما كانت النتائجُ. وبخاصة أنَّ الفلسفة تتجاوز أيَّ محيط ضيق يتعثر الناس فيه، الفلسفة تُحلق عميقاً وبعيداً، تجوب أجواء الفكر معبرةً عما ترى، وعما تنتقد، وعما تستبق إليه. الفلسفة ليست "بطاقةَ مرورٍ" إلى عصر بعينه، لكنها مسئولية تفكيرنا الحُر إزاء الحياة بكل اختلافاتها وتنوعها. الفلسفة تحددُ مروراً كهذا، وترى إلى أية درجةٍ سيكون نافذاً.

تُرصد أحوال الفلسفة غالباً كنصٍ له بداية ووسط ونتائج. ولكن الآن: لماذا لا أكتبها بشكلٍ مختلف؟َ أي الكتابة في صورة نقاط حادةٍ مدببة كشظايا من زجاجٍ دامٍ. لكمْ كانت العبارات إزاء الفلسفة داميةً تاريخياً، فهل نصور حياتها بنفس الطريقة ؟! مع أنَّ الفلسفة لن تمارس فعلاً معكوساً، ولكنه علينا إبراز المعاني بصورة مُوجعةٍ لعل وعسى. فالوعي لن يكثف قواه، ولن يكون نافذاً ما لم يكُّن قويّاً وحاداً.

- في غير مكانٍ، تجد الفلسفةُ نفسها أمام قُطّاع طُرق المعرفة والفكر والحرية.

- إزاء حركة الفلسفة، تنبحُ عقولٌّ كلبيةٌ لا تملك إلاَّ أدوات النباح والعوّاء.

- تقع الفلسفة تحت وصاية من يتنطّع على قارعة النواصي الثقافية.

- الفلسفة وليمةً كاملة الدسم لأكاديميين حلُّوا إهتبالاً على مائدةِ العقول الحُرّة.

- يمتهن دراويش الفلسفة أدوار الشُطار والعيارين وضاربي الودع وفك السحر.

- تُصاب الفلسفة بعدوى النكوص وسط بيئاتٍ لاتجيد ضيافتها إلى الشوط الأخير.

- تتقاذف أفكارَ الفلسفة (ككرات الثلجِ) مراهقةٌ فكريةٌ لعجائز الكتابة الفلسفية.

- كثيراً ما يُنصّب أعلامُ الفلسفة في طقوسٍ هي الكهانة المتأخرة بعد فوات الآوان.

- لا تهدأ مطاردة الفلسفة في أزقة الحياة كما لو كان الناس يطاردون حيواناً مخيفاً.

- مأزومة هي الفلسفة بالقهقهةِ على حال أهلها، يومياً تضحك ملء شدقيها تجاه أوضاعهم الساخرة.

- كثيراً ما يجري فقأ عيني الفلسفة هائمةً بلا مأوى. هي أوديب الجديد بين أحراش التقاليد والمحرمات الثقافية.

- الفلسفة مطالبةٌ طوال الوقت بحمل بطاقة (الهوية ID) كلما ظهرت بين الناس.

- الفلسفة مُستباحة الحدود، يقفز فوق أسوارها الواطئة كلُّ من هبَّ ودبَّ.

- تقع الفلسفة ضحيةً في فخاخ الأوهام بوصفها دون قيمةٍ عبر مجتمعاتٍ لا تعرف قيمةَ الأشياء والمعرفة!!

- إساءةُ فهم أية فلسفة لا يترك مساحةً لتحركها، لكنه يستبق وجودها أينما ذهبت.

- ثمة عداءٌ معقودٌ مسبقاً للتفلسف تحت رحمة الثقافة وسرطان التقديس والخوف.

- يبارك الناسُ سقوطَ الفلسفة في بئر التصنيف إلى جانب العلوم غير النافعة.

- تجري تراتيل الوداع الأخير لأية فلسفة حتى ولو كانت وليدةَ عصرها الجديد.

- تُعلّق صور الفلاسفة على الحائط كأيقونات بينما الغرف مظلمة وسيئة التهوية.

- الواقع مراوغ حد اللعنة والعقول تركض وراء بعضها البعض دون جدوى.

- ترتدي بعض الفلسفات عباءات دينية لعلها تجد مناطق آهلة بالفكر، لكنها تكتشف السجون التي تنتظرها.

- تدخل الفلسفةُ صراعات طاحنة على مناطق النفوذ التي تقول فيها كلمتها.

- لا تسْلم الفلسفة من عمليات الإغارة المستمرة من الآراء الشائعة والأفكار العامة.

- كلما مرَّ الفيلسوف لدينا بمنعطف تاريخي، سرعان ما تتلقفه منعطفاتٌ أخرى.

- هناك إصرار غريب لأساتذة الفلسفة على ترويضها داخل سيرك هو مرحلة الروضة والمدرسية الساذجة.

- تُغْرس شتلات الفلسفة فكرياً داخل حقول المجهول والأراضي الشائكة.

- تتحسس السياسىة محيط الفلسفة كمن يتحسس شيئاً خطراً لا نهاية له.

- غدت الفلسفة في باحات الفضاء الديجيتال مادة للهجاء الإفتراضي... ولكن لماذا؟ يجيب الجميعُ في صوتٍ واحد: لا أحدَ يفعل ذلك!!

- ينظر المجتمعُ إلى الفلاسفة كأنَّهم ساقطون من كوكبٍ آخر، ولا يدري المجتمع أنهم سبب الوعي باستمراره.

- الفلسفة أول ضحايا التخلف عن قصدٍ نتيجة فوضى الرؤى والمعايير.

- قبل أنْ تبدأ حياتها الحرة، ستوثق عنق الفلسفة بحبال لقيادتها أينما نريد.

- تسير الفلسفة في بلادنا على رأسها بينما أقدامها بالأعلى ربطاً بالفكر السائد.

- تتمسح الفلسفة بأنشطةٍ أخرى على مائدة المعارف مخافة طردها خارج الضيافة.

- مازالت الموائد منصوبة للأفواه المفتوحة، بينما تنفض دون العقول الجائعة للفكر.

- تختفي الحقائق رغم وضوحها، لأنّ الفلسفة واضحة بالرغم من اختفائها.

- تصدأ العقول من ركود الثقافة مثلها مثل المعادن التي يُهال عليها التراب.

- كلما تقترب الفلسفة خطوةً من وجودنا المشترك، تُضرب لها المتاريس والحفر.

- عندما تُطفأ أنوار الوعي والروح، تحل الأشباح المخيفة للمجهول والمعلوم.

- لا تريد سياسات القطيع أنْ يكون هناك تميُز عقلي حُر هو الأمل الأخير.

- ينتعش الفكر الفلسفي عند ذرى الحياة وتربتها الخصبة حيث الهواء الطلق.

- تتعامل العقول الضحلة مع الفلسفة كبضائع مستوردة، مع أنها امكانية لصحة العقل.

- كثيرا ما يتمرد أبناء الفلسفة من المعارف والعلوم مع نكران دورها الذي مازال سارياً.

- لن تكف الفلسفة عن أخراج أبناء جدد للحياة مثلما احتضنت غيرهم.

- أخطر الأمراض التي تصيب الفلسفة: أنْ تقلد غيرها من الأنشطة والمعارف.

- خطورة الفلسفة آتية من استقلالها الحر حيث تؤسس لأي فعل آخر.

- قد تتوارى الفلسفة قليلاً أو كثيراً، لكنها دائما تُظهِر غيرها وأحياناً تختلط بسواها.

- مهما طال الوقت، ستحفر الفلسفةُ أنفاقاً لحرية الفكر ولو من أقاصي الحياة.

- لا يتوقف مكر الفلاسفة على الترقب بفاعليةٍ، ولكن على التوجيه غير المباشر للآخرين.

- قدرات التفلسف لا تنضب، لأنَّ صحة العقول تعصفُ بكل العوائق والعراقيل.

- في المناطق النائية من الثقافة، عليكم بالبحث عن كلِّ فكر مختلفٍ.

- لو أصبحت الفلسفة تجارةً في أسواق الحياة والمعرفة، فلن تكون إلاَّ سلعةً بائرة.

- العكس هو الصحيح: الجسم لا يكون سليماً إلاَّ بالعقل السليم.

- أمراض العقول قاتلة لكل شيء، بينما العلة الجسمية يجديها التداوي.

- الفلسفة تصفُ لنا العلاج وتدربنا عليه، ولكنها لا تضمن الشفاء.

- الفلسفة تحصّن العقول ضد أمراض الثقافة وسط الأدعياء والأطباء المزيفين.

- الخبرة الفلسفية ضد النسيان، وهي جزء لا يتجزأ من ممارسة الحياة.

- الهروب من الفلسفة لن يقود الهارب إلاَّ إلى باحة التفلسف مرة أخرى.

- أخذت وتأخذ الفلسفة كل الأسماء المستعارة إلاَّ أن تكون فلسفةً.

- الفلسفة على موعد مفتوح مع المستقبل، لأنه يحل ضيفاً دائماً عليها.

- من قاع الخجل الثقافي نرتدي أزاء خادعة، لكوننا نفتقد قدرات التفكير الحر.

- مؤتمرات الفلسفة حفلات تنكرية على شرفها من غير إحساس بالمسئولية.

- منطق التشفي هو الغالب على منطق الشفاء إزاء ما نعرف وما نجهل.

- في أوقات حاسمةٍ، تقلب الفلسفة طاولة الحياة والثقافة على منْ يخذلها.

- بالرغم من مطاردتها، تجرب الفلسفة عودتها مع ألصق الأشياء حميميةً.

- علّف العقل هو السبب البعيد وراء فضائح الفكر.

- مفارقة الفلسفة هي مفارقة الدنيا في لاوعينا العربي: تطلب هاربها وتهرب من طالبها.

- الصورة المأمولة للفلسفة أنْ تجدد علاقتها بكافة جوانب الفكر والثقافة.

- حُب الحكمة شرط ومقدمة ضرورية لحكمة الحب أيا كان.

- ليس مُهماً أنْ تتفلسف، ولكنك لن تستطيع إعمال عقلك بدونه.

- قد يكرر التاريخ نفسه، ولكن تجدد الفلسفة إقامتها باستمرار.

- المعنى وراء هجران الفلسفة هو فقدان بوصلة الإبحار من الأساس.

- لا تُذرف دموع الفلاسفة بسهولةٍ إلاَّ مع رجم الشياطين.

- وقائع الحياة أكبر نصير موضوعي للتفلسف.

- يستحيل أنْ يكون الفلاسفة من بين تجار الرقيق، فالحر يأبى لغيره الإذلال.

- إذا أراد التاريح محاكمة ثقافة ما وضعها أمام ما تكره وتخاف.

- تظل الثقافة عالقةً بأخطائها الفلسفية حتى وإنْ لم تعلنها صراحةً.

- تستيقظ الأفكار الصغيرة باكراً، أما الرؤى الكبيرة، فحاضرة طوال الوقت.

- لكي تعرف الفلسفةَ جيداً: لا تطالبها بما لا تستطيع، ولكن إعطّها حرية القدرة.

- تعرفنا الفلسفةُ خلق الكائنات الفكرية، لأننا عاجزون عن خلق الكائنات المادية.

- وجود جوانب العقل لا يعني استخدامها، فالأداة العاطلة خارج الخدمة.

- هناك درسان مهمان في الحياة: أنْ تفكر... وأنْ لا تفكر.

- في الثقافات الموبوئة بالقيود والأوهام يتحول العقل إلى أنف.

- صورة الحياة نسخة طبق الأصل مما نفكر فيه.

- جرعات فلسفية من ضحك العقل أكثر تأثيراً من كل تعليمٍ لا يجدي.

- ترسم الفلسفة صورتنا العقلية والحياتية بأشعةٍ مقطعية لا يملكها إلاَّ هي.

- إذا كان العلمُ يصحح أخطاءً شائعةً، فالفلسفة تحررنا من الأوهام القاتلة.

- بديل الفلسفة هو الفلسفة، ولكن في تلك الحالة: لن يقول البديل أنَّه كذلك.

- عقول الوعاظ والمثرثرين لا تستوعب الفكر، لأن الفكر يكره زحمة الكلمات.

- يجب أنْ تثق في الفلسفة، لأنَّ الثقة تعوزها عُيون كلية لا أقدام زاحفة.

- تبرم الفلسفة عقوداً مع أية مشروعية فكرية تجاه الإنسان والحقائق والزمن.

- العقل الذي تهرب دونه لن تستطيع الإفلات منه ..ابحث عن حارس آخر.

- الفريسة التي ستحاول اصطيادها، ستصطادك طالما لا تعرف الغابة.

- حين تعتقد محو الفلسفة، ستجدها في المكان الخطأ والصواب جنباً إلى جنب.

- لن يجدي ذيل الفلسفة عن رأسها، فالرأس تُحرك الذيل وتضرب به أيضاً. تعيش الأسماك في البحار ولا تترك ذيولها على الشاطئ.

- تعيش الأسماك في  مياة البحار، ولا تترك ذيولها لك على رمال الشاطئ.

- في الفلسفة، يستحضر الجزء الكل ويسري الكل في التفاصيل، فإياك والتسكع على النواصي، لأنَّ العين حاضرة.

- سيكون الثمن فادحاً، حين نظن أننا سنبيع عقولنا لمن يشترى ... إنه السُوق.

- أحد دروس الفلسفة: لا تُقايض، لأنَّ الأصالة والجدّة والحرية.. أشياءٌ لا تعوّض.

***

د. سامي عبد العال

يشكل البحث في القضايا المضمونة بشكل مباشر مهمة العقل المنهجي، ولكن يكون البحث القضايا المجهولة والغمضة مهمة المعرفة الخلاقة، وصراحة يشكل الدور الذي تقدمه المعرفة أحد أهم المرتكزات والعتبات التي تؤهل العلم إلى الاستمرار في التواصل، وصراحة نحن قد أوجبنا على أنفسنا من البحث في تلك القضايا الفكرية الغامضة، والبلوغ إلى حد معقول في كشف ما تلك الرموز البدائية أو تدخل في إطار الحضارة، ففي الحضارة أيضا هناك رموز حتى في الإطار العلمي، وليس فقط في البدائية، والعالم المستقيم المسار لا بد من منعرج يغير له المسار، ولا يؤمن أبدا بأن تلك السيرورة لا تحتمل أي منعطف أو منعرج، وتلك سمة العقل الجدير، لا يقف على مسار أحادي أبدا، لا يمكن استمرار الحياة على معنى واحد، فلابد من تنوع أنماط الوجود البشري، وكما أن العقل لابد من الاهتمام به إنسانيا، ونمنح العقل تلك النزهة في الدخول في عالم الأسرار والرموز، وذلك ليس بوضع العقل في متاهة، فالعقل الجدير يرتاح في أن يكتشف ما لا يعلم وما لم يدركه، ففي العقل حضور للمعرفة الخلاقة الجديرة بالكشف وكسب الأفكار الغائبة عن العقل وعن الذاكرة، وعلي وجه الخصوص ما قبل الحضارة، أو ما يسمى بالعقل البدائي، وذلك العقل المجهول لابد له من مميزات، ومن المهم ترك السياقات العامة المعهودة، والدخول في عالم المجهول البعيد.

من الصعب أن نقف على تفسير ما قبل العقل عبر أدوات منهجية، فهي صراحة قاصرة وغير متمكنة من بلوغ حد خارج ما تقف عليه، والعقل البدائي أو ما قبل العقل منطقة قصية جدا، وهي خارج وعينا التاريخي، ولم نعثر على عقل منصف اهتم بدراسة تلك المنطقة بإخلاص ونقاء وحرص موضوعي، وأغلب المصادر اعتمد على وقائع ما بعد ذلك التاريخ، وسعت إلى بث خطاب لغوي يرفع من مستوى بلاغة العقل، ولكن هناك تفسيرات ليس بالسهل تقبلها، فتفسير البشرية كانت في تلك المرحلة حيوانات مدجنة، وما يؤهلها وسيلة التفاهم، وفكرة التطور التي يطرحها الكتاب المثير للجدل، فكتاب – أصل الأنواع- لتشارلز داروين يعتمد على التحول وليس التطور، وهو يرى بأن البشر في الصيرورة كانوا قردة، وتلك فكرة مردودة علميا، فالتركيب الباثولوجي للقرد يختلف إلى حد كبير عن البشر، والبشر كائن مفكر فيما الحيوان كائن غريزي، والتطور الجيني في المجال العلمي يعكس لنا حالة اختلاف تؤشر فوارق تلزمنا الوقوف عندها، وإعادة تفسير الفكرة من جديد من جميع الجوانب، على الرغم من  البعد الأنطولوجي الذي امتدت الفكرة إلى مساحة تاريخية، ونحن سنلجأ أولا إلى المعرفة اللسانية للفصل ما بين مفردة التطور داخل ذات المجال العضوي، وما بين مفردة التحول من جنس إلى آخر، وهنا نقف في معارضة فكرة داروين، ونحن مع العقل الحيوي، لكن مع الإنسان أيضا، والمعرفة في هذا العصر تهتم باللسانيات والنتائج التي تصل إليها في الفصل ما بين فكرة لغوية وفكرة اخرى.

لا بد من أن  نقر بأن العقل البدائي عقل يسعى إلى المعرفة الأولية، ويهدف إلى امتلاك مقومات عقلية أولى، والتي تتمكن من جذب مقومات أخرى، وركن الذاكرة البشرية ركن مهم في القيام بواجبه الطبيعي، والعقل البشري من الطبيعي يتطور كلما تطورت الحياة وتتسع خاناته كلما اتسعت الحياة، والعلاقة طردية ما بين العقل والحياة، ولكن قد تسحب النفس البشرية العقل نجوها في الحال الذي تمر به في انهيار، أو تعيش حالة صراع جدلي، أو تعيش على معيار مزدوج مرة يجذبها إلى جهة وأخرى يجذبها إلى عكس تلك الجهة، والنفس البشرية أحيانا تستثمر العقل في حال تكون الفطرة سليمة، ولكن في حال أن تكون الفطرة تلوثت بأثر تصاعد وتيرة النفس في الرغبات، والعقل يختلف عما كان في العصر الحجري القديم عن ذلك العقل الذي أنتج حصان طروادة، والفارق الواسع هو ذات الإغراق ما بين عصر حصانة طروادة وما بين عصر المقاتلات الفائقة لسرعة الصوت، والفارق الكبير في عدة جوانب وليس في جانب واحد، واهم الجوانب هو ما بلغناها من تطور في مفهوم الزمن، فنحن نعيش في العالم الإلكتروني حالات لا ندرك ما مداها، فيشكل اختصار الزمن أحد العوامل المهمة في علم الإلكترونيات.

تفسير عوامل تطور العقل البدائي وتحسن فهمه للحياة، والعقل صراحة في جانب النشاط لا بد من دعم خارجي على وجه الخصوص، والعقل الخالي من طاقة التنظيم الاستدلالي يمتلك خيالا لا يسيطر عليه، وعلي عكسه وجود الاستدلال المنظم يجعل الأفكار العملية مضمونة، وهناك رصانة متينة لا تنفرط في المستوى العملي للأفكار العملية، والتي هي على العكس من تلك البدائية العقل والتي التطور والسيرورة المتواصلة تمنحها التماسك والرسوخ في الذاكرة البشرية، والعالم البدائي وما يمثل من عقل من الطبيعي بحاجة التنسيق والتنظيم، وإذا (كان للعلم هدف شامل فالدفع بالإدراك السديمي الذي بدأ في المراتب الدنيا واللاوعي على الأرجح مع بدايات الحياة نفسها، إلى أعلى مراتب الضبط والوعي)1، والفصل ما بين عقل الحضارة واللغة والمجتمع وما بين العقل الذي سبق ذلك ضروريا، كي تكون المقومات المفقودة تدعم وتسهم في وجود مقومات نتصورها عند العقل البدائي، أو ما نسميه ما قبل العقل إذا حددنا العقل بوجود اللغة والمجتمع والتاريخ والحضارة، وتلك المقومات المفقودة في عقل الجماعات واللثغة والتشكل الأولي للحياة، وتلك المقومات التي تتصف بأنها بدائية حسب التوصيف العلمي والمنهج المختص بدارسة تاريخ علم الأجناس، والعالم ما قبل الدين وعالم ما بعد الدين يختلف أيضا، فعالم ما قبل الدين هو التام البدائية عالم الأفراد، وعالم الدين وما بعد عالم المجتمعات والشكل الاجتماعي واللغة الموحدة.

التشكل البدائي للعقل يمثل النموذج البشري فيه هو ذات النموذج البشري المعاصر، ولا يختلف إلا في المقومات العامة وبأدنى نسب في الطبائع والنفسية، أما في الجانب التكوين الجسدي فلا يختلف البشر البدائي عن الفرد المعاصر، والنموذج البدائي يختلف عن المعاصر في السلوك والوعي والفهم للحياة وممارسة الطقوس، فالفرد البدائي كان بلا رب ثابت في إطار اليقين بوعي وعقل ذلك الفرد، وما يفسر وجود الرب يتمثل في الفطرة السليمة، فذلك أحد مباني إنسانية الدين وليس الدين نفسه، والعالم الضيق الأفق عند العقل البدائي، يختلف تماما عن العقل المعاصر، والذي يكون فيه العالم بلا حدود ولا أفق زمني عضوي، والفرد البدائي يرى بأن العالم هو ما يحيط به من مكان، ويتحدد العالم بتلك البقعة المكانية، والمكان ليس كما في الظرف المعاصر هو من يهيمن علينا، ولا نملك الخيارات المتعددة إزاءه، فالفرد والعقل ما قبل التاريخ والحضارة والدين، تكون تلك المقومات ليس إلا مشاعر مكبوتة، تبقى بلا تطور ولا تدوم نحو المستقبل، وهناك مشترك ما بين الفرد البدائي والفرد المعاصر، فالفرد المعاصر في وضع نفسي استثنائي، في جانب فقدان الأمل بالمستقبل من جهة الإحساس بالمستقبل، ومن جهة ثانية يعيش الفرد المعاصر ذات الاغتراب الذي يعيشه الفرد البدائي في تركيبة عقله المتواضعة، وكذلك أيضا نجد العقل المعاصر قريبا جدا من تواضع وضعف عند ذلك العقل البدائي.

***

محمد يونس محمد

.........................

1- الفكر البري، كلود ليفي شتراوس، ترجمة نظير جاهل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ص 30.

ترجمة: علي حمدان

الكسندر كوجيف (Alexander Kojeve)، (1902-1968)، كان مسؤولا عن التقديم الجاد لهيجل في الفلسفة الفرنسية في القرن العشرين، مؤثرا في عدد كبير من المفكرين الفرنسيين وبالذات أولئك الذين كانوا يحضرون دروسه حول ظواهرية العقل في باريس في الثلاثينات من القرن الماضي. كان تركيزه على فلسفة التاريخ لدى هيجل وقد اشتهر بنظريته حول نهاية التاريخ ومبادرته حول ما يسمى بالوجودية الماركسية. كوجيف يصل الى تفسير اصيل من خلال قراءة هيجل من خلال نظريتين  مزدوجتين المادية التاريخية لماركس وانطولوجيا هايدجر الزمنية.

لهيجل، التاريخ الإنساني هو تاريخ الأفكار وذلك في سعيها لفهم ذاتها وفي فهم علاقتها بالعالم.  يفترض ان تاريخ البشرية بدا بالوحدة، ولكن يظهر الانسان، باحثا عن ذاته مقدما الثنائية والاختلافات. يحاول الانسان التغلب على تسلسل الاغتراب جدليا وذلك بالدفع بالتاريخ نحو الامام، ولكن في سعيه نحو ذلك تحدث إفتراقات جديدة والتي يجب التغلب عليها. يرى هيجل إمكانية المصالحة التاريخية تكمن في الادراك العقلاني للوحدة الأساسية، وهو مظهر من مظاهر الروح المطلقة مؤدية بالبشرية ان تعيش حياة إنسانية مكتملة : نهاية التاريخ.

يأخذ كوجيف هذه الأفكار الخاصة بالتطور التاريخي والمصالحة نحو الوحدة ويجمعها مع نظريات كل من ماركس وهايدجر. انه يأخذ فلسفة ماركس الإنتاجية التي تضع النشاط التحويلي للرغبة في مركز الصدارة في العملية التاريخية، وتضعه في ظروف السعي المادي والصراع الأيديولوجي. الاعتماد على هايدجر، يعرف الكائن البشري بانه حر وسلبي ووقتي جذريا. وبالتالي يدرك ويستعيد اخلاقه، ومخلصه من الحتمية والوهم الميتافيزيقي، ويسمح له بإنتاج واقعه من خلال التجربة وحدها.

هذه المقالة تتناول السياق الهيجيلي لعمل كوجيف، وتحلل مساهمة ماركس وهايدجر في نظريته، كما انه تحدد رؤية كوجيف لتتويج التاريخ، وكيف يتناسب هذا مع سياسات القرن العشرين، وتأثيره العميق علي المفكرين الفرنسيين بما في ذلك سارتر، ولاكان، وبريتون، وعلى المثقفين الامريكان بما في ذلك ليو شتراوس والان بلوم، وفرانسيس فوكوياما.

التسلسل الزمني للحياة والاعمال

فيلسوف فرنسي (1902-1968) ولد الكسندر فلاديمفيتش كوزفينكوف في روسيا. درس في هايدلبيرج، المانيا تحت اشراف كارل جاسبير، اكمل رسالته في عام 1931  متناولا فلسفة الفيلسوف الروسي المتدين فلاديمير سلويوف (Vladimir Soloyyov) الذي كان متأثرا بعمق بفلسفة هيجل. بعدها استقر في باريس حيث حاضر في Ecole Partique des Hautes Etudes حالا محل الكسندر كوير، لقد قدم ندوات عن هيجل من 1933 حتى 1939 جنب الى جنب مع جين هيبوليت، كان مسؤولا عن تقديم هيجل جديا للفكر الفرنسي. كان لمحاضراته تأثيرا كبيرا مباشرا وغير مباشر على فلاسفة ومفكرين فرنسيين مهمين من ضمنهم سارتر، وميرلو بونتي، ولاكان، وبتالي، والتوسير، وغينيو، وارون، وبريتون. ومن خلال صديقه ليو شتراوس كان لفكر كوجيف تأثيرا كبيرا في أمريكا، وخاصة على الان بلوم ولاحقا على فرانسيس فوكوياما. محاضراته عن هيجل تم إصدارها في كتاب في عام 1949 تحت عنوان" مقدمة في قراءة هيجل" وتم ترجمته الى الإنكليزية في عام 1969. بعد الحرب العالمية الثانية عمل كوجيف في وزارة الشؤون الاقتصادية الفرنسية حتى وفاته في عام 1968. هناك مارس تأثيرا عميقا على السياسة الفرنسية، ولعب دورا مهما كأحد المهندسين البارزين للمجموعة الأوروبية والجات. واصل كتابة الفلسفة على مر هذه السنوات، بما في ذلك اعمال حول الفلاسفة ما قبل سقراط، وكانط، ومفهوم الحق والابعاد الزمنية للحكمة الفلسفية والعلاقة بين المسيحية والعلوم الغربية، والشيوعية، وتطور الرأسمالية. تم نشر العديد من اعماله بعد وفاته فقط.

السياق الهيجلي

فلسفة هيجل للتاريخ وتحديدا الفلسفة التاريخية للوعي التي طورها في كتاب "فينومينولوجيا الروح"، تشكل نواة عمل كوجيف ومع ذلك فان محاضرات هيجل التي قدمها كوجيف ليست تفسيرا لفكر هيجل بقدر ما هي إعادة تفسير عميقة واصيلة. من خلال قراءة فلسفة الوعي لهيجل ومزج التصورات الثنائية للمادية في فكر ماركس وانطولوجيا الانسان المعاصر في الفكر الهايدجري حول ال" داسين Dasein". يمكن القول بحق ان كوجيف قد استهل  " ماركسية وجودية"، وفيما يلي سألخص بإيجاز ابعاد فلسفة هيجل للتاريخ الأكثر بروزا، قبل المضي قدما في عرض تفسير كوجيف الخاص بها. ربما يكون جوهر فلسفة هيجل في فكرة ان تاريخ الانسان هو تاريخ للفكر ومحاولته لفهم ذاته وعلاقته بعالمه، يعتبر التاريخ تاريخ العقل، حيث يكافح لفهم طبيعته الذاتية وعلاقته بما يواجهه (كائنات أخرى، الطبيعة، الابدي). يتحرك هذا العقل التاريخي من خلال سلسلة من الاغتراب  (Entfremdungen ) او الانقسامات، ومن ثم يحاول التوفيق بين هذه التناقضات من خلال استعادة الوحدة وهكذا، على سبيل المثال، يرى هيجل ان عالم اليونانيين الأثينيين هو عالم يعيش فيه الناس في علاقة متناغمة مع مجتمعهم والعالم من حولهم، حيث يوفر هذا التناغم التزاما غير مفكر فيه مسبقا بالعادات والتقاليد المشتركة وعادات التفكير والعمل. ومع بداية فلسفة سقراط، يتم ادخال الانقسام والفصل في الفكر – حيث يتم وضع الإجابات التقليدية على الأسئلة المتعلقة بالحقيقة والأخلاق والواقع تحت التساؤل. وتظهر الانا "الاستفهامية" سؤال يختبر نفسه متميزا ومنفصلا عن الكائنات الأخرى، وعن القواعد العرفية وعن العالم الطبيعي الذي يصبح كائنا له. وبالتالي، يتم ادخال مجموعة من "الثنائيات" في الخبرة – بين الذات والكائن، والانسان والطبيعة، والرغبة والواجب، والانسان والاله، والفرد والجماعة. بالنسبة لهيجل، فان الحركة التاريخية للفكر هي عملية "جدلية" يتم فيها تعريض هذه الانقسامات لعمليات التوفيق، مما ينتج بدوره انقسامات جديدة يحاول الفكر ان يوفق بينها. تم تجسيد مهمة التوفيق تاريخيا في اشكال عديدة. في الفن والدين والفلسفة، فلسفة التنوير، فلسفة هيجل، هي احدث واكثر محاولة متطورة لتوفيق هذه التناقضات من خلال العقل وحده، لإيجاد مكان للأنسان بحرية بين الاخرين والكون بأكمله. بالنسبة لهيجل، هذا يمكن تحقيقه فقط من خلال التغلب على التناقضات الزائفة. من خلال فهم ان هناك وحدة تحت الانشطارات الظاهرة (كمثال بين الموضوع والذات). وبالتالي، يرى هيجل ان مفتاح التوفيق التاريخي يكمن في ادراك رشد الوحدة الأساسية، وهي وحدة تتجلى فيها جميع العناصر كتجليات لروح مطلقة (جايست). وبالتالي، يقرر هيجل ان المصالحة التاريخية الحاسمة تكمن في التحقيق العقلي للوحدة الأساسية، وهي وحدة يمكن للأفراد في النهاية ان يصلوا بها للاتصال ببعضهم البعض ومع العالم الذي يعيشون فيه. التاريخ العالمي هو نتاج العقل، يقود(بشكل محتمل) الى بشرية متصالحة، تكون في وئام مع ذاتها، تعيش وفقا لأخلاق مشتركة هي نتيجة للتفكير العقلاني.

***

...................

* موسوعة الفلسفة على الانترنت (ماجد يار)

تَتَجَلَّى أهميةُ الترابطِ بَين الفِكْرِ التاريخي والرَّمزيةِ اللغوية في قُدرته على تَحويلِ العلاقات الاجتماعية إلى حُقول معرفية، وتَحويلِ الظواهر الثقافية إلى مَناهج نَقْدِيَّة، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَكريسِ العَقْل الجَمْعِي كَسُلطة وُجودية ذات أبعاد فِكرية، وتَجذيرِ بُنية المُجتمع كَهُوِيَّة إنسانية ذات دَلالات أخلاقية. واتِّحادُ العقلِ الجَمْعِي مَعَ بُنية المُجتمع يُعَزِّز الروابطَ بَين أثَرِ الفِعْلِ الاجتماعي في الواقع المُعَاش، وبَين تأثيرِ الحياة الواعية في الشُّعُورِ والإدراك. واندماجُ السُّلطةِ الوُجودية معَ الهُوِيَّة الإنسانية يُسَاهِم في تَحريرِ التجارب الشَّخصية الحياتية مِن الأحلام المَكبوتة، وتَخليصِ مُكَوِّنات التُّرَاث الجَمَاعي مِن الطُّمُوحات المَقموعة. وإذا كانَ الفِكْرُ التاريخي يُجَسِّد شُروطَ الوَعْيِ بزمن تَوليد المعرفة مَعْنًى وَمَبْنًى، فَإنَّ الرمزية اللغوية تُجَسِّد إفرازاتِ البناء الاجتماعي في مَسَارات تَوظيف المعرفة كَمًّا وكَيْفًا، الأمر الذي يَدفَع الظواهرَ الثقافية والمناهجَ النَّقْدِيَّة باتِّجاه تفسيرِ الآلِيَّات الفِكرية المُسيطرة على مَضامين المُجتمع المَالِك لِمَسَارِه ومَصيرِه، وتحليلِ الظروف النَّفْسِيَّة التي شَكَّلَتْ تاريخَ الفردِ وصُورَتَه الطبيعية غَيْرَ المَصنوعةِ في قوالب الوَعْي الزائف، وغَيْرَ المَحكومةِ بسياسة الأمر الواقع. وإذا كانت حياةُ الفردِ قائمةً على المَعرفة كإرادةٍ وسُلطةٍ، فإنَّ حُرِّيته قائمة على تَجَاوُز الهُوِيَّات الوهميَّة الناتجة عن الأحكامِ المُسْبَقَة، والمُسَلَّمَاتِ الافتراضية، والأيديولوجياتِ المُغْرِضَة، والمَصالحِ الشخصية. وكُلُّ هُوِيَّةٍ وَهمية هِيَ بالضَّرورة هُوِيَّةٌ قاتلة للوَعْيِ والشُّعورِ والإدراكِ. والتلازمُ بَين الحَيَاةِ والحُرِّيةِ لَيْسَ مَفهومًا فلسفيًّا هُلامِيًّا، وإنَّما هو رابطة مصيرية بين الكِيَانِ والكَينونة، فالحَيَاةُ شرعيةُ كِيَانِ الفرد، والحُرِّيةُ أساسُ كَينونةِ الفرد.

2

الرَّمزيةُ اللغوية تَكشِف طبيعةَ الفِكْر التاريخي المُهيمِن على الفِعْل الاجتماعي، فاللغةُ هي التأسيسُ الوُجودي للفِكْر، والفِكْرُ هو القُوَّة الدافعة للفِعْل. وهذا المَسَارُ (اللغة، الفِكْر، الفِعْل) يُوَسِّع زوايا الرُّؤية لمفهوم المُجتمع ومَراحلِ تَكَوُّنِه المَعنوي وأطوارِ تَشَكُّلِه المادي، وَيَنتشِل الفَرْدَ مِن الرُّؤية الأُحَادية للأحداث اليومية، ويُنقِذ العلاقاتِ الاجتماعية مِن المصالح الشَّخصية المُتعارِضة. وإذا كانَ الفردُ لا يَستطيع العَيْشَ خارجَ المُجتمع، فَإنَّ التاريخ لا يَقْدِر على التَّشَكُّل خارجَ الحضارة. وهذا يَعْنَي أنَّ الفردَ والتاريخَ مَحصوران في هُوِيَّة إنسانية مُشْتَرَكَة، ويُعيدان اكتشافَ إرادة المعرفة كَمَنظومة مُتجانِسة في العلاقات الاجتماعية، ويُشَكِّلان نَسَقًا زمنيًّا عابرًا للحُدُود المُصْطَنَعَة بين الظواهر الثقافية التي تَمتاز بالسُّيُولةِ وعدم الثَّبات، حَيث يُعَاد تَكوينُها باستمرار على الصَّعِيدَيْن الواقعي والنظري، وهكذا، تَتَأسَّس بُنيةٌ ثقافية دِيناميكية داخل صَيرورة التاريخ، وتُصبح رمزيةُ اللغةِ قادرةً على التَّنقيب عن آثار القطيعة المعرفية داخل العَالَم الداخلي للفردِ والمُجتمعِ على حَدٍّ سَوَاء.وهذا مِن شأنه تحديدُ مواضع الانفصال في جَوهر الوُجود الإنساني (الجُزئي والكُلِّي) فِكْرًا ومُمَارَسَةً، تمهيدًا لِرَدْمِ الثَّغَرَات في الوَعْي الزَّمَني الرابط بَين سَطوةِ الماضي وسُلطةِ الحاضر، وهذه الغايةُ هي الضَّمَانةُ الأكيدة لِتَحويلِ الفِكْر التاريخي إلى فِكْر نَقْدِي قابل للتطبيق في العلاقاتِ الاجتماعية، والواقعِ المُعَاش، والتجاربِ الشَّخصية، والتُّرَاثِ الجَمَاعي.

3

الوُجودُ الإنساني لَيْسَ كُتلةً صَمَّاء، وإنَّما هو نظامٌ مَعرفي حاضن لمظاهرِ الفِكْر التاريخي، وأشكالِ الرمزية اللغوية. ولا مَعنى للوُجود بلا فِكْر، ولا فائدة مِن الإنسانية بلا لُغَة، وهذا يَعْني أنَّ الفرد لا يَستطيع اكتشافَ ذَاتِه العميقة وأحلامِه المَكبوتة خارجَ الفِكْرِ واللغةِ، ولا يَقْدِر على تأكيدِ كَيْنُونَتِه وسُلْطَتِه خارجَ المُجتمعِ والتاريخِ، وهَاتَان الحقيقتان تَدفَعان الفردَ إلى تَطوير العلاقات الاجتماعية، لَيْسَ بِوَصْفِهَا أنماطًا واقعية جامدة، بَلْ بِوَصْفِهَا أنساقًا حياتية إبداعية تُعيد تَشكيلَ الوَعْيِ الزَّمَني، بِحَيث يُصبح الماضي ذَاكِرَةً جَمْعِيَّةً تَمنَع الصِّدَامَ بَين الفِكْرِ التاريخي والفِكْرِ النَّقْدِي، ويُصبح الحاضرُ هُوِيَّةً إنسانيةً تَمنَع التعارضَ بين التجاربِ الشَّخصية الحياتية ومُكَوِّناتِ التُّرَاث الجَمَاعي. وانصهارُ الهُوِيَّةِ الإنسانية في الذاكرة الجَمْعِيَّة يُوَلِّد زَمَنًا مَعرفيًّا مُتَوَاصِلًا لا فواصل فيه ولا ثَغَرَات، يُعيد تشكيلَ صَيرورةِ التاريخ بِحَيث تُصبح مَنظومةً لُغَويةً تأويليةً تُوَازِن بَين تأثيراتِ العَقْل الجَمْعِي وإفرازاتِ البناء الاجتماعي، وتُحَقِّق التكاملَ بَين حياة الفرد وحُرِّيته، وتَحْمِي المُجتمعَ مِن الاغترابِ والاستلابِ. وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى، إنَّ اللغة تأويلٌ مُستمر للتاريخ، تُوَازِن بَين العَقْل الجَمْعِي كَأداةٍ وآلِيَّةٍ وبَين البناء الاجتماعي كَفِعْلٍ وتَفَاعُلًا، وتَربط حَيَاةَ الفردِ بِحُرِّيته بشكل نهائي وحاسم، وَتَمنَع الهُوِيَّةَ مِن التَّحَوُّل إلى هاوية.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

منذ النهضة العربية نهاية القرن التاسع عشر، لا نكاد نقرأ مقالا او نحضر محاضرة او نتابع لقاءا تلفزيونيا او نقاشا عبر منصة رقمية حول الفكر الفلسفي العربي، فإن الخلاصة تكون هناك أزمة او صراع  في مسارات وأنساق ومدارات هذا الفكر!!

هذا الصراع وهذه الأزمة ترجع لزمن  ابن رشد في العصر الوسيط، صراع بين النزعتين الدينية والعلمية، والتي حاول في كتابه "فصل المقال" تحديد مجال الشريعة ومجال العلم، والفصل بين  مناهج كل منهما. هذا الصراع هو من خلق الازمة بسبب استقدامه بلا ادنى محاولة نقد او تشذيب حتى لا نقول تجاوز، فالأزمة تكمن في اننا لانزال مع ابن رشد  في العصر الوسيط، لم نستطع الخروج من حيرة قرون من الصراع الذاتي تارة وأخرى مازق المؤامرة الفكرية عبر تاريخ الحروب العقائدية والنهايات المغلقة.

 المشكلة اننا ندمن البقاء في صراعات التاريخ وتمثل المقولات والفتاوى والشخصيات والوقائع،  الفلسفة العربية الإسلامية ظهرت وعبّرت عن إشكالات خاصّة بالأمّة الإسلامية في تلك الازمنة وتطوّرت حضارتها وانفتحت  على ثقافات وحضارات، مجسدة الآية القرآنية بكل أريحية "يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم"(الحجرات:١٣). فكانت النتيجة أن استوعبت هذه الفلسفة الكثير من عناصر التراث الفلسفي اليوناني ووظّفته لأغراضها المعرفية والأيديولوجية وحصل انبثاق أنساق تساير الأوضاع الثقافية والاجتماعية وقتئذ، خصوصا عندما وصل الاعتزال الى مجالس القيادات والوجهاء إبان الخلافة العباسية. ولعل المفكر محمّد عابد الجابري كان محقا وهو الرشدي حتى النخاع عندما بيّن في كتابه "نحن والتراث" كيف نقرأ التراث الفلسفي العربي  ونتعامل معه معرفيًّا وأيديولوجيًّا. فمن واجبنا أن نهتمّ به كتراث فكري تاريخي تشكّل في إطار السّجال الذي دار آنذاك حول "علاقة العقل بالنقل" اي أنه حان الوقت لتجاوز كلّ أنماط  السلفيات المعرفية الدوغمائية والأيديولوجية والتوجه إلى التوازن والاعتدال والنزاهة العلمية، ودخول عصر القرن الواحد والعشرين، حيث موجة الذكاء الاصطناعي وعلم الجينوم والتواصل الثقافي  والقيم الكونية تكتسح الآفاق، بدل الاستغراق اكثر في اتون صراعات القرن الوسبط وما قبله، ونزيد من الشعر بيتا حتى مخطوطات ابن رشد والفارابي وابن سينا وغيرها من تراث الفلسفة الاسلامية التي اختفت لقرون من السّاحة الفكرية العربية واكتشفناها في القرن التاسع عشر بعد عملية تحقيق المستشرقين لها، خاصة الألمان منهم، بينما اليوم التفكير الفلسفي في العالم العربي ما زالت يتراوح بين: "سلفي يدرس الفلسفة ليحارب الفلسفة" ويرى  فلسفة ابن رشد ماركة يونانية مقلدة وفق منطق تراثي مناور أو "حداثي يتماهى مع المذاهب الفلسفية الغربية كموضة فكرية لا أكثر ليجعل من ابن رشد تنويريا مع ترجمات تجارية لأنساق ومقولات فلاسفة الغرب، بينما ثلة من الأولين والآخرين التي شكلت فارقا ابداعيا، عبر ابتكار مفاهيم بديلة تبدع المشاريع والأفكار التنويرية، والعمل على تفكيكها وتمحيصها ونقدها، كمدخل نحو تأسيس النسق الفلسفي الذي يبحث إشكالات الواقع العربي ويسعى جاهدا في صياغة أجوبة شافية لمشاكل وأمراض المجتمعات العربية وتطلعاتها الحضارية، وليس اضافة المتاهات والمطبات والمنغصات، بتعبير رائد مدرسة فرانكفورت النقدية الفيلسوف هوركهايمر :"إن الوظيفة الاجتماعية للفلسفة تكمن في نقدها لما هو سائد"، طبعا دون اقحام الفلسفة في علاقة مع الايديولوجيا او خدمتها كما انتقد ذلك محمد أركون  وكما ورد في كتاب (مساءلة الهزيمة) للدكتور محمد جابر الأنصاري، أن الفكر العربي المعاصر ما لم يتخلص من طغيان الأيديولوجيا لصالح الإبستمولوجيا أو البحث المعرفي العلمي والنقدي، فإنه لن يتمكن من الخروج بوعي الأمة من نفق الهزيمة.

لهذا ينبغي أن تلفت أزمة الفلسفة عندنا، النظر إلى سؤال:

 متى يبدأ الفكر الفلسفي العربي عصره النقدي؟ مستلهما من تجاربه التاريخية المضيئة وكذا تجارب  الفكر الفلسفي  الحديث والمعاصر مع النظر والنقد لذلك كله لا مناص  من ان يخوض  الفكر الفلسفي العربي الراهن تجربته النقدية، لأن طبيعة الخلل في مجالنا الاجتماعي العام ثقافية،  والبحث عن حلول جذرية وعميقة واستراتيجية ذات ترابط منهجي وموضوعي بجعل الفلسفة  مدخلاً للنظر والتحليل والاستشراف في تجديد البناء الثقافي للمجتمع.

***

ا. مراد غريبي

تميز أحمد فرديد1 بموهبةٍ وذكاء نادر، وتكوينٍ وخبرةٍ ممتازة في اللسانيات والفيلولوجيا، وبراعةٍ في ابتكارِ ونحتِ المصطلحات، والتقاطِ ألفاظ من مجالٍ تداولي وزجّها في مجال مغاير. هذا ما منح خطابَه وأحاديثَه حساسيةً لغوية فائقة، وجاذبيةً فريدة وقع في شراكها كثيرٌ ممن أصغوا إليها. تحررتْ مصطلحاتُه من الألفاظ والكلمات المستنزَفة بالاستعمال المكرّر المبتذل حدّ الإنهاك. غواية لغته بهرت أبرزَ مثقفي عصره، وأغوتهم بالإنصاتِ لصوته المميز والتلقي منه، والإدمانِ على حضور ندوته الأسبوعية "الحلقة الفرديدية".

غوايةُ اللغة الناتجة عن توترها وإبهامها وضبابيتها، عمّقت سطوتَه في الحياة الفكرية الإيرانية، وأثارت الكثيرَ من النقاشات والجدل حول أفكاره؛ فضلا عن موقفِه الجذري الرافض للغرب، وهجائِه للفلاسفة والمفكرين، في زمنٍ كانت النخبةُ المفتونة بالثقافة الغربية متهمة، واتهاماتُه العنيفة للمثقفين الإيرانيين. لا يرى فرديد الغرب، منذ العصر اليوناني حتى اليوم، مفهومًا جغرافيًّا أو اقتصاديًّا أو سياسيًّا أو ثقافيًّا، بل مفهومُه للغرب أنطولوجي ميتافيزيقي، تبعًا لهايدغر.

يختبئ بعضُ المفكرين وراء الألفاظ، فيشتقون مصطلحاتٍ بالعودة إلى جذورها اللغوية، أو يزاوجون ويركبون مصطلحاتٍ أخرى باستعارتها من معجمٍ تراثي، ويسقطونها على مفهومٍ مستعار من الفلسفة والعلوم الإنسانية الغربية الحديثة بطريقة متنكرة. ذلك ما فعله فرديد، حين أسقط المعجمَ الاصطلاحي لمحيي الدين بن عربي على فلسفة هايدغر، فأنتج مخلوقاتٍ لغويةً هجينة تثير الدهشة، لا تعبّر عن هايدغر، مثلما لا تتجلى فيها رؤيا ابن عربي واستبصاراتُه المضيئة الرحبة.

غواية اللغة الفرديدية وإبهامها قريبان من غواية لغة المفكر المغربي طه عبد الرحمن وإبهامها، الذي يعمد إلى نحتِ مصطلحات بديلة لما هو شائع ومتعارَف عليه بالعربية. تلك المصطلحات صاغها في ضوء خبرته وتكوينه المتميز بفلسفة اللغة والمنطق الحديث، يحاول في سياق هذه المصطلحات إعادةَ إنتاج التراث، وتلوينَه بآرائه ومواقفه التراثية. كما اصطادت غوايةُ لغة فرديد أبرزَ المثقفين الإيرانيين، اصطادت غوايةُ لغة طه أكثرَ شباب الحركة الإسلامية العرب وفي وطنه قبل ذلك، من ذوي التكوين الأكاديمي الحديث، الذين سئموا من تبسيطِ أدبيات هذه الحركة، وسطحيتِها المضجرة وشعاراتِها المملة. شبابٌ قادهم الحنين إلى الهوية والبحث عن الجذور، للانبهار بكتابات طه. معظم هؤلاء لم يكتشفوا أبعادَ التراث المتنوعة، ويجهلون منزلقاتِه ومسالَكه ودروبَه، التي لا يفضي بعضُها إلا إلى المزيد من المتاهات، لمن لا يعرف مسالكَه جيدًا.

التكوين الأكاديمي والبيئة الثقافية والمناهل الموروثة لطه عبد الرحمن لا تتطابق بتمامها مع سياقاتِ تكوين أحمد فرديد وبيئتِه وثقافتِه. فرديد تمحور تفكيرُه حول هايدغر ومدرسةِ ابن عربي وتلامذتِه وشراحِه، والتصوفِ الفلسفي والعرفان النظري، وطه عبد الرحمن استند في اشتقاقاته إلى القاموسِ اللغوي، والمقولاتِ الاعتقادية للأشعري، والتصوفِ الطرقي، ومعجمِ التراث الأخلاقي. لكنهما يعمدان معًا إلى تلوينِ التراث وإلباسِه رداء اصطلاحيًّا جديدًا، يشبه ارتداءَ عجوزٍ طاعنة في السنّ لثيابِ عروس، وطلاءِ وجهها بمساحيق تجميلية صاخبة.

لا يصدق على كتابات طه أنها فلسفة، وهكذا لا يصدق على أقوال فرديد مفهومُ الفلسفة. الفلسفة ضربٌ من التفكير العقلي المستقل، لغةُ ومصطلحاتُ الفلسفة تكشف عن خارطة العقل، وهي مرآةٌ حدوده. لا تلتهم لغةُ الفلسفة ومفاهيمُها لغةَ ومفاهيمَ اللاهوت والمتخيَّل والمثيولوجيا واللامعقول. العقلُ مرجعيتُه العقل لا مرجعيةَ له خارجه، العقلُ مرجعيةٌ ومعيارٌ وسلطةٌ على كلِّ ضربٍ من أفعالِ الذهن وإبداعِه مهما كان. العقل يرسم حدودَه وما هو داخلٌ في فضائه، ويتدخل ببيان حقيقةِ وحدودِ ما هو خارجه مما ينتجه المتخيَّلُ وغيرُه. لا يصدق التفكيرُ فلسفيًّا إلا لحظةَ يكتفي العقلُ في تصديقاتِه وحججِه وأحكامِه بذاته، يكون هو مرجعيةُ تمحيصِ تفكيره، ومرجعيةُ تمحيصِ ما سواه مما ينتجه الذهن، والحكم عليه إثباتًا أو نفيًا. عندما يصمت العقل تدخل الروح والقلب والعاطفة في متاهات أبدية. العقل يريد ألا نستمع منه إلا إلى صوته الخاص، من دون أن تشوّش عليه وتربكه وتنهكه أصواتٌ خارج حدوده. الفيلسوف يحاول أن يفسّر حقيقةَ الظواهر والأشياء وماهيتَها، يفسّر حقيقةَ العلم وماهيتَه، الفيزياء والكيمياء ومختلفُ العلوم تنشغل باكتشافِ قوانين الطبيعة ومعادلاتِها، ولا تعرف حقيقةَ ذاتها وماهيتها.

أحيانًا نرى إنسانًا عبقريًّا في منطقةٍ يقظة من عقله، وعلى الضدِّ من ذلك في منطقةٍ نائمة من عقله. تدهشك قدرتُه على توظيف المغالطاتِ المنطقية لعقله اليقظ للاستدلال على أوهام عقله النائم. المراوغاتُ الذهنية والثغراتُ المنطقية في تفكير العباقرة تفسيرُها يتطلب الانتباهَ لوجود هذه الحالة الذهنية. ذلك ما يجعل بعضَ ‏الفلاسفة يبدأون بمقدماتٍ عقلية وينتهون بنتائجَ غير معقولة. الفيلسوف ينشغل بفعلِ التفلسف، يفكّر تفكيرًا عميقًا بالأسئلة والأجوبة الوجودية، يبدأ بمقدماتٍ فلسفية ومنطقية وينتهي بنتائج فلسفية ومنطقية. تفلسفُ الفيلسوف يعني أنه يقدّم تفسيرًا يتجاوز سطحَ الأشياء والظواهر ويبحث عن حقيقتها. لا يُنكَر أن طه عبد الرحمن مثقفٌ موسوعي خبيرٌ بالتراث والحداثة، يمتلك موهبةً فذّة وذكاءً فريدًا، وتكوينًا بالفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة جادًّا، وخبرةً واسعة بالتراث، غير أن كتاباتِه الفلسفية والمنطقية تبدأ بمقدماتٍ فلسفية ومنطقية وتنتهي بنتائجَ لاهوتية.

برع طه في إعادةِ انتاج شيءٍ من مقولات الغزالي والفخر الرازي وابن تيمية الاعتقادية بأسلوبٍ مراوغ لغويًّا. طه تراثي برداءِ منحوتاتٍ لغوية جديدة، التراثيةُ بنيةٌ ذهنية ونفسية وعاطفية، كأنها وعاءٌ يمكن أن تملأه بأيِّ معتقد، سواء كان قوميًّا او ماركسيًّا أو دينيًّا. طه عبد الرحمن مقلِّدٌ للأشعريةِ في علم الكلام، وللمالكيةِ في الفقه، وللطريقةِ القادرية البودشيشية2 في التصوف. يتعاطى مع مقولاتِ الأشعري وأتباعه وإجاباتِهم للأسئلة الميتافيزيقية الكبرى على أنها مسلماتٌ نهائية لا تقبل النقاش. طه متكلم يختبئ بجلباب "فيلسوف"، وفي ضوء ذلك يمكن تصنيفُه، كما يُصنّف فرديد، بـ "فيلسوف ضد الفلسفة". يتحدث طه بلغةِ الحداثة الفلسفية والمنطقية واللغوية، إلا أنه ضدّ الحداثة، يبرع بتوليد مصطلحاتٍ غائمة لتقويضِ كلِّ شيء ينتمي للحداثة. ذلك ما يدعوني أن أصنف كتاباتِه الفلسفية بوصفها محاولةً متنكرة لـ "أسلمة الفلسفة".

لا يمكن إنكارُ ذكاء طه عبد الرحمن، ولا علم طه وموهبته الفذة. المفكر الديني يحتاج القلبَ بموازاة العقل، يحتاج النظرَ للإنسان المختلِف في معتقده بنور الله، وأن تحضر رحمةُ الله بكتابات هذا المفكر وكلماته، ويرى الإنسانَ بوصفه إنسانًا بمرآة الرحمة، بغضِّ النظر عن دينِ الإنسان وهويتِه الاعتقادية والقومية والثقافية والجغرافية. الرحمة صوت الله، وعنوانُ رحمانية كلِّ دين وإنسانيتِه وأخلاقيته. الدين لا يحتاج عباقرةً فقط، الدين يحتاج رحماءَ قبل أن يكونوا عباقرة.

الفيلسوفُ عندما يكتبُ مرجعيتُه العقل لا غير، الروائي عندما يكتبُ يتوغل في أعماق الطبيعة الإنسانية وتناقضاتها، ويُعلِن عن نزعات الشرّ الكامنة داخل الإنسان، ويفضحُ الصراعاتِ المختلفة في الواقع على السلطة والثروة. مَن يكتبُ في الدين عليه الكشفُ عن الأبعاد الروحية والأخلاقية والجمالية العميقة في جوهر الدين، وذلك لا يتحقّق إلا بأن يحضرَ في كتابته القلبُ بموازاة العقل. الذكاءُ والعبقريةُ والموهبةُ الاستثنائية لا تكفي وحدها لمن يفكّر ويكتب ويتحدث في الدين. يحتاجُ المفكّرُ الديني لضميرٍ أخلاقي يقظ، والتسلحِ بنزعةٍ إنسانية في كتاباته، ترى الإنسانَ كما يراهُ الله. مَن كان ضميرُه الأخلاقي يقظًا ويكتبُ في الدين، ليس بوسعه أن يقفَ متفرّجًا وهو يرى التلاعبَ بفهم الدين، وطغيانَ القراءة المغلقة المتشدّدة للنصوص الدينية، وهي تفترسُ واقعَنا.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

....................

1- في عام 1910 أو 1912 ولد السيد أحمد مهيني يزدي في يزد، وتوفي في طهران عام 1994.

2- الطريقة القادرية البودشيشية طريقة صوفية مغربية، يوجد مقرها في قرية مداغ بإقليم بركان شرق المغرب في منطقة قبائل بني يزناسن. تنتسب إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي ظهر في القرن الخامس الهجري. أما لقب البودشيشية، فقد اكتسبه بواسطة الشيخ علي بن محمد الذي حمل لقب «سيدي علي بودشيش» لكونه كان يطعم الناس أيام المجاعة طعام الدشيشة  بزاويته. "ويكيبديا".

الحقيقة لغة: جاء في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي: حَقيقيّ: (اسم) - اسم منسوب إلى حقيقة - واقعيّ وموجود بالفعل. أي أمْرٌ حَقِيقِيٌّ ثَابِتٌ، صَحِيحٌ وصادق، خلاف خياليّ. ويقال هذا قول حقيقيّ: مطابق للحقّ –حقيقيّ: خالصٌ.

والحقيقة مجازاَ: (حقيقة الشيء خالصه وكنهه ومحضه. وحقيقة الأمر يقين شأنه، أي «ما يصير إليه حق الأمر ووجوبه». وهي أخيراً الحرمة أو ما يلزم حفظه ومنعه.). (1) وفي المجاز نقول أيضاً في توصيفنا لرجل جيد بأنه: ذهب صاف. وعن شيء حقيقي بأنه واضح كالشمس... الخ. وللحقيقة أنواع في الشكل والمضمون:

ففي الشكل: نقول حقيقة اجتماعيّة وسياسيّة وأخلاقيّة وفنيّة وأدبيّة وعلميّة ودينيّة... وغير ذلك.

وفي المضمون نقول: الحقية الفلسفيّة، والحقيقة الصوريّة والحقيقة الماديّة، والحقيقة الواقعيّة، والحقيقة الأبديّة أو السرمديّة والحقيقة المطلقة الكمال، والحقيقة النسبيّة، والحقيقة الموضوعيّة.

والحقيقة الماديّة تعني: اتفاق العقل مع الشيء الواقعي ماديّاً كان أو نفسيّاً، كالحقيقة الفيزيائيّة والحقيقة النفسيّة، وهي ما تتناوله العلوم التجريبيّة.

والحقيقة الواقعيّة أو الموضوعيّة: كأن يقال: إن للعالم الخارجي حقيقة واقعيّة، أي وجوداً مستقلاً عن وجود المدرك. أو بتعبير آخر: هي المعرفة الإنسانيّة التي لا يتوقف محتواها على إرادة الذات ورغبتها، بل تتحدد الحقيقة بمحتوى الشيء المنعكس ليحدد موضوعيتها.

والحقيقة الدينيّة: وهي مرادفة للحقيقة المطلقة في (الدين). وتعني المبادئ أو القوانين المطلقة الكمال والثبات، المحيطة بجميع الموجودات، والتي تفيض عن العقل الإلهي، وتنعكس على العقل الإنساني، فتقربه من الله، وهي حقائق لا تقبل التفنيد. أي هي حقيقيّة، وتعني المعرفة الكاملة والشاملة بالواقع التي لا يمكن دحضها مستقبلاً. أي هي غير قابلة للتعديل أو النفي او المراجعة. (2).

أما الحقيقة الفلسفيّة وهي الأهم هنا برأيي، وهي الحقيقة الأكثر أهميّة بالنسبة للباحث أو الدارس، كونها تشكل جانباً معرفيّا ومنهجيّاً معا، وقد تم تناولها تاريخيّاً من وجهتي نظر ماديّة ومثاليّة. وإذا كانت وجهة النظر الماديّة تقر بأسبقيّة الواقع على الفكر، وبالتالي فالحقيقة هنا ماديّة وواقعيّة ونسبيّة معاً. فماديتها تتجسد في كون الأشياء الماديّة هي أساس المعرفة البشريّة، أو هي من يشكل الفكر البشري، عبر سيرورة الظواهر وصيرورتها، حيث تنعكس الأشياء دائماً في وعي الإنسان عبر حواسه، ويتم التأكد منها عبر الاستقراء والاستنتاج والبرهان القائم على التجربة. فواقعيتها بتعبير آخر تؤكدها الأشياء ذاتها أو الظواهر الموجودة في الواقع والمستقلة عن عقل وإرادة الإنسان. أما نسبيتها، فتعني الحقيقة العلميّة، التي لا تعطي معرفة كاملة بالموضوعات التي تدرسها، لأن معرفتها مشروطة في كل مرحلة من مراحل تطورها بالمستوى الذي أنجزه العلم والتكنولوجيا، فتتغير بتغير فروضها ومفاهيمها وبراهينها في سبيل بلوغ أكبر قدر من الدقة والكمال. أي إن الحقيقة الماديّة تقوم دائماً على معرفة ناقصة.

أما الحقيقة الفلسفيّة في بعدها أو نسقها المثالي، فتاتي هنا صوريّة: وهي اتفاق العقل مع نفسه بلا تناقض، وهذا موضوع المنطق الصوري. ويتفق الجميع على أن مؤسس المنطق كعلم استنتاجي هو أرسطو. أما التعريف الكلاسيكي للمنطق الصوري فهو العلم الذي يبحث في صحيح الفكر وفاسده، وسبل التمييز بينهما، ومن ناحية أخرى يعرف على أنه مجموعة من القوانين التي تعصم الذهن البشري من الزلل، (وعرف أرسطو المنطق على أنه آلة العلم، وموضوعه الحقيقي. وبذلك يعني أرسطو أن المنطق صورة العلم والمعرفة وسبيل العقل في تحصيل المعارف، وبذلك، كان المنطق الأرسطي مدخلًا لدراسة كافة العلوم، ويلاحظ أن أصل اشتقاق كلمة منطق في اليونانية يرجع إلى كلمة "Logos"، واللوغوس تدل على العقل، وممارسة التفكير العقلاني)(3). وبناء على اعتبار العقل القائم على المعرفة الحسيّة هو من يحكم على الحقيقة، لذلك يمكننا القول: بأن كل الفلسفة المثاليّة الميتافيزيقيّة تعتبر امتداداً لهذا المنطق الصوري بهذا الشكل أو ذاك أثناء اشتغالها على اكتساب المعرفة أو للوصول إلى الحقيقة...للتذكر هنا بأن المنطق الصوري يقوم كثيراً على البدهيات والمسلمات التي يكتشفها الإنسان في حياته اليومية، وليس على التحليل والتركيب والتجربة والموقف الجدلي بين أجزاء الظاهرة وشكلها ومضمونها وداخلها وخارجها وما يصيبها من تحولات كميّة ونوعيّة، وآلية التناقضات القائمة فيها التي تؤدي إلى حركتها وتبدلها.. وغير ذلك من وسائل وأساليب معرفيّة ومنهجيّة تؤدي بالضرورة إلى البرهان.

على العموم نستطيع القول انطلاقا من المنهج العلمي العقلاني النقدي الجدلي، بأن الحقيقة بكل أشكالها ومضامينها، تتجسد دائما عن طريق وساطة الإنسان في تفكير وعمل لا ينفصمان عن الذكاء والإرادة والفعل، وبالتالي التجاوز، وبناءً على هذا الموقف، فإنها تتطلب أدوات عدّة هي:

1- المستوى اللغوي السيميائي / الدلالي من أجل الإحاطة بالمعنى.

2- المستوى التاريخي: من أجل تحديد المنشأ التاريخي للظاهرة موضوع البحث أو الدراسة.

3- المستوى السوسيولوجي: لمعرفة الحقيقة كانعكاس للحاجات والتناقضات والصراعات والآمال الراهنة للجماعة والفرد في مرحلة تاريخيّة محددة، وبالتالي عبر مراحل التاريخ، وهذا ما يدفعا إلى:

4- المستوى الأنثربولوجي: بهدف التعرف على سلوكيات الإنسان وتراثه على مختلف العصور والأزمان، وذلك من خلال التعرف على تفاعلات الإنسان اليوميّة داخل المجتمع مع اختلاف الزمان، وذلك قد يفرض على الباحث ضرورة المعايشة في داخل الجماعات البشرية ومحاولة التأقلم معها.

5- المستوى الفلسفي: للفلسفة ثلاث وظائف أساسيّة هي: تفسير الواقع ، وتغييره، واستشراف المستقبل.

1- فتفسير الواقع مهمَّةٌ تتضمَّن إيجاد تفسيرات للأسئلة الأساسيّة المطروحة حول الواقع، ومن ذلك كيف ينظَّم، وكيف نشأ، وما غايته.

2- وتغيير المجتمع ويتم من خلال تحديد المشكلات المجتمعيّة الماديّة منها والفكريّة والعمل على حلِّها.

3- واستشراف المستقبل أي معرفة الأسس التي تقوم عليها حركة التاريخ، والمستقبل محطة من سيرورة التاريخ وصيرورته. وبالتالي من خلال معرفة هذه الأسس يمكن أن نعمل من أجل الوصول إلى مستقبل أفضل.

وعلينا أن نؤكد هنا مسألة أساسيّة وهي، أن الفلسفة تظل مرتبطة في توجهاتها الثلاث المبينة أعلاه، من خلال حواملها الاجتماعيّة ودرجة مصالحهم وفاعليتهم في الواقع الذي ينشطون أو يتواجدون فيه.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة.

...............................

المراجع:

1- (موقع معرفة – حقيقة.).

2- (موقع معرفة – حقيقة.). المرجع نفسه.

3- (موقع موضوع – تعريف المنطق الصوري).

مفتتح: فكرة الكرامة بمنزلة الضرورة والحق الواجب في جميع المجتمعات على  طول التاريخ الإنساني مع اختلاف وتنوع أنماطها ومظاهرها بين الحضارات، لكونها تتصل وتتفاعل مع الأبعاد كافة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية والسياسية وغيرها. لكن هذه الفكرة تتصاعد وتتركز بقوة بل تفرض وجودها في المجتمعات كلها ذات التنوع والتعدد الديني أو العرقي أو المذهبي أو الإثني أو اللغوي.

كون فكرة الكرامة في جميع الأديان السماوية او الوضعية وفي المواثيق الدولية الحديثة والمعاصرة، هي مبدأ اساسي للحفاظ على الحريات ضمن التعددية  الثقافية بل أكثر من ذلك صيانة كل القيم، أو كما يعبر المفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي في مقدمة كتابه الدين والكرامة الإنسانية: " قيمة الكرامة قيمة أصيلةٌ، إنها أحد مقوّمات تحقق إنسانية الإنسان، حضورها يعني حضور إنسانية الإنسان، وغيابها يعني غيابَ إنسانية الإنسان. لا تعني الكرامة عدم الإهانة فقط، عدم الإهانة أحد الآثار المترتبة على حضور الكرامة، وثمرة من ثمرات تحققها في الحياة البشرية.    لا قيمة سامية تعلو على قيمة الكرامة، هتك الكرامة والاحتقار يثيران الفزع في كيان أي إنسان مهما كان بليدًا وأبْلَها في نظر البعض، إلا إذا كان ذلك الإنسان مدجّنّاً على التنازل عن كرامته ليقبل الاستعباد طوعًا. نصاب الكرامة في القيم يتفوق على كل ما سواه، كل القيم تجد معناها في حمايتها للكرامة وصيانتها من كل ما ينتهكها، الكرامة لا غير هي ما يُرسخ الشعور بأهمية الحياة، وتجعلها تستحق أن تعاش، وهي شرط لتذوق معناها."[1]

فكرة الكرامة اساسية كونها قطب الرحى القيمية تجعل من المبادئ والقيم والأخلاق والحقوق والقوانين  فعّالة وناجحة، وتفسح المجال أمام الحرية  وثقافة التعارف من التحقق في الواقع، فعالية تقبل الآخر ضمن معادلة التجاذب لا التنافر والاختلاف لا الخلاف بتعبير" محمد عابد الجابري". لهذا  ارتبطت فكرة  الكرامة بإنسانية الإنسان باختلاف خصوصياته ملله ونحله ولغاته واديانه ومذاهبه وثقافاته.

ماهية الكرامة:

أولا: لغةً

يرى ابن فارسٍ َّ أن "الكاف والراء والميم"  أصلٌ صحيحٌ له بابان:

أحدهما:  شرفٌ في الشيءِ في نفسه، أو في خلق من الأخلاق. يقال: رجلٌ كريمٌ، وفرسٌ كريمٌ، ونباتٌ كريمٌ؛ وأكرَمَ الرجل إذا أتى بأولادٍ كراٍم...[2]

الكَرَمُ:  ُّ ضد ُّ اللؤم... وأكرمه َّ وكرمه:  َّ عظمه َّ ونزهه. والكريم:  َّ الصفوح... وله َّ علي كرامةٌ، أي عزازٌةٌ... وكريمتُك: أنفُك،  ُّ وكل جارحةٍ شريفة كالأذن واليد؛ والكريمتان: العينان.[3]

مصدر كرم، یقال: كرُمَ فلانٌ كرماً وكرامة: إذا أعطى بسھولة وجاد، فھو كریم، وكرمَ الرجلُ كرامَةً: عزَّ، وكرم الشيء: عز ونفس، وكرم السحاب: جاد بمطره، وكرم المطر: كثر ماؤه، وكرم فلانا أكرمه: فضله وشرفه، ورزق كریم: أي كثیر، و(كرَّمه): شرفه وأحسن معاملته. ویقال: كرَّم فلانا علي غیره: فضله في التكریم والتشریف فصار مكرمًا وھي مكرمَة، و(أكرمه): سلك منه مسلك الكرم والجود، فأحسن معاملته، وأنعم علیه بما یرضیه، وأكرمَ الرجلَ وكرَّمه: أَعظمه ونزَّهه، و(استكرم) الشيءَ: طلَبه كرِیماً أو وجده كذلك. و(تكرَّمَ) عن الشيء و(تكارم): تَنزَّه، و(تكَرَّمَ) فلان عما یَشِینه: إذا تَنزَّه وأكرَمَ نفسه عن الشائنات. (والكرامةُ) اسم یوضع للإكرام كما وضعت الطَّاعةُ موضع الإطاعة، والغارةُ موضع الإغارة. و(المكرَّمُ): الرجل الكرِیم على كل أحد، ویقال: كرُم الشيءُ الكریمُ كرماً وكرمَ فلان علینا كرامةً، و(التَّكرُّمُ): تكلف الكرَم، والمكرمُ: الرجلُ الكریم على كلِّ  أحد. والكرَمُ: أرضٌ مُثارة مُنقّاة من الحجارةِ، والعرب تقول: للبقعَة الطَّیّبة التُّربةِ العذاةِ المنبتِ: ھذه بقعةٌ مكرمةٌ، ویقولون للرَّجل الكرِیم: مكرمانٌ إذا وصف بالسخاءِ وسعةِ الصدرِ، وكرّم السحاب تكریماً: جاد بمطره، وأرض مكرمةٌ للنبات: إذا جاد نباتھا، و(كرمت الأرضُ): زكا نباتھا، واستكرم المناكح إذا نكح العقائل. و(كرائم الأمْوال): أي نَفائسھا التي تتعَّلق بھا نفسُ مالكھا ویختصُّھا لھا حیث ھي جامعةٌ للكمال الممكِن في حَقِّها، وواحدتھا: كریمة. و(التَّكرمة): الموضع الخاصُّ  لجلوس الرجل من فراش أو سریر ممَّا یعدّ لإكرامه وھي تَفعلة من الكرامة، ویقال: كرم علینا فلان كرامةً وله علینا كرامةٌ، ویقال: أكرمَه الله وكرَّمَه. ويقال: نعم وكرامةً، أي: وأكرمك إكراماً وأفعل ذلك، یقال: (كرَمُ) الفرس أن یرقَّ  جلده ویلِین شعره وتطِیب رائحته، وقد كرمَ الرجل وغیره –بالضم- كرماً وكرامة فھو كَرِیم، وكرِیمةٌ،وكرمةٌ،ومكرَم، ومكرمة، وكرامٌ،وكرَّام،ٌ وكرَّامةٌ، وجمع الكریم: كرماء وكرام، وجمع الكرَّام: كرَّامون. و(الكریم): من صفات ﷲ وأسمائه، وھو الكثیر الخیر، الجَوادُ المعطِي الذي لا یَنْفدُ عطاؤه، وھو الكریم المطلق، و(الكریم): الجامع لأَنواع الخیر والشرف والفضائل. و(الكریم): اسم جامع لكل ما یحمد، و(الكریم): الذي كَرَّم نفسه عن التَّدَنُّس بشيءٍ من مخالفة ربه، (والكریم) صفة لكل ما یرضي ویحمد في بابه ومنه: وجه كریم، وكتاب كریم، (الكریمة) مؤنث الكریم، والرجل الحسیب ویقال: (إذا أتاكم كریمة قوم فأكرموه)، وكریمة الرجل: ابنته والجمع: كرائم[4]

وبالتالي الكرامة في اللغة مصدر الفعل الثلاثي الصحیح: (كرم) وھو یدور في كافة صوره حول المعاني الشریفة من الزیادة، والفضل، والكثرة، والسھولة واللین، والعزة، والشرف، والحفاوة،

وقد ذكر ابن قتیبة أن جمیع ألفاظ الكرامة ومشتقاتھا في القرآن الكریم ترجع إلى معنى واحد وھو الشرف[5]، وقال الراغب: " وكلّ شيء شرف في بابه فإنه یوصف بالكرم، قال تعالى:)فَأَنْبتْنا فیھا منْ كلِّ زوجٍ كریم ([لقمان/ ١٠]،) وزُروعٍ ومَقامٍ كریمٍ ([الدخان/ ٢٦]،)إ ِنَّه لَقُرآنٌ كرِیمٌ([الواقعة/ ٧٧]،)وقلْ لھما قَولًا كرِیماً) [الإسراء/ ٢٣]، والإكْرامُ والتَّكرِیمُ: أن یوصل إلى الإنسان إكرام، أي: نفع لا یلحقه فیه غضاضة، أو أن یجعل ما یوصل إلیه شیئا كرِیماً،أي: شریفا،

قال تعالى:) ھلْ أتاكَ حدِیثُ ضَیفِ إِبراھِیمَ المكرمِینَ ([الذاریات/ ٢٤]. وقال: (بلْ عبادٌ مكرمُونَ ([الأنبیاء/ ٢٦] أي: جعلھم كراما، قال:)كراماً كاتِبینَ([الانفطار/ ١١]، وقال: (بِأَیْدِي سَفرَةٍ كرامٍ بررةٍ) [عبس/ ١٥ -١٦]، وقال:)وجعلَنِي مِنَ المكرمِینَ ([یس/ ٢٧]، وقوله تبارك وتعالى:) ذُو الجلالِ والْإكرامِ ([الرحمن/ ٢٧][6].

وفي اللغات اللاتينية برزت عبارة: "الكرامة الإنسانية" نحو العام 1155م، ونجد َّ أن مقابل لفظة: "الكرامة" لوحدها هو اللفظة اللاتينية "Dignitas" التي لها معنيان أساسيان، نجدهما في القانون جميعاً:

مسؤولية تبوئ صاحبها مكانةً بارزًةً؛ و/أو: الاحترام والتقدير الذي يستحقهما شخص أو شيءٌ ما.[7].

ثانيا: اصطلاحاً

لم يعن اصحاب الفنون والعلوم‎ ‎مثلما عني به اصحاب الفلسفات وعلوم الاجتماع، بوضع حد أو ماهية لمصطلح الكرامة  ولذا نجد تعريف الكرامة الانسانية عندهم هو: " مبدأ اخلاقي يقرر ان الانسان ينبغي ان يعامل على انه غاية في ذاته لا وسيلة وكرامته من حيث هو انسان فوق كل اعتبار.[8]

ويرى البعض أن فكرة الكرامة الإنسانية تتضمن مفهوما معقدا للفرد. فأنها تشمل الاعتراف بهوية‎ ‎شخصية متميزة تعكس الاستقلالية الفردية والمسؤولية. كذلك انها تشمل اعترافا بان الفرد بذاته جزء من‎ ‎مجموعة كبيرة وانه يجب ان ينظر في معنى الكرامة المتأصلة في الشخص.[9]

وهنالك من يرى أن مفهوم الكرامة الإنسانية عادة ما يرتبط بفكرة أن لكل إنسان قيمة جوهرية بحكم كونه‎ ‎إنسانا وأن هذه القيمة تحوله الاحترام من جميع البشر الآخرين[10].‎ ‎وهنالك من يفترض أن كرامة الإنسان هي قيمة متأصلة يملكها جميع البشر. على هذا النحو يعتقد أنها‎ ‎قيمة ترمي إلى اشتراط احترام البشر الآخرين.[11]

وهنالك ثلاثة مفاهيم مختلفة للكرامة:

كرامة الفرد المرتبطة بالحكم الذاتي والحرية السلبية

والكرامة‎ ‎الايجابية للمحافظة على نوع معين من الحياة

وكرامة الاعتراف بالفوارق الفردية والجماعية.

ان كل‎ ‎اشكال هذه الكرامة تعبر عن قيم مختلفة حول الفرد وعلاقته بالمجتمع، القيم التي لها نتائج مهمة‎ ‎عند استخدام الكرامة كمبرر للسياسة الاجتماعية والحقوق الدستورية[12]. وهذه المفاهيم‎ ‎هي:

١- بمعناها الأكثر شمولية ومنفتحة تركز الكرامة على قيمة متأصلة لكل فرد وهذه الكرامة موجودة‎ ‎فقط بإنسانية الشخص ولا تعتمد على الذكاء أو الأخلاق أو المركز الاجتماعي.

٢-‎ ‎يمكن للكرامة أن تعبر وأن تكون بمثابة أساس لتطبيق القيم الموضوعية المختلفة. هذه الكرامة تجسد وجهة‎ ‎نظر معينة لما يشكل الحياة الجيدة للإنسان ما يجعل حياة الإنسان تزدهر للفرد وكذلك‎ ‎المجتمع.

٣-‎ ‎غالباً ما تربط المحاكم الدستورية الكرامة بالاعتراف والاحترام، هذه الكرامة متجذرة في مفهوم الذات الذي‎ ‎يشكله المجتمع الأوسع - هوية الشخص وقيمته تعتمد على علاقته بالمجتمع- ‎ويرى البعض أن الكرامة على نوعين:

النوع الأول: الكرامة المتأصلة: وهي التي تنبع من انسانية الشخص لمجرد كونه انسانا فهي لا تحوله‎ ‎مركزا او مكانة اجتماعية، ولكنها تقتصر على مجرد تعريف الشخص باعتباره متمتعا بالكرامة الانسانية‎ ‎وهي متساوية لجميع البشر.

‎ ‎النوع الثاني: الكرامة الموروثة: وهي التي تركز على قدرات وامكانيات الانسان، أي التمتع بخصائص‎ ‎وسمات إنسانية متميزة مثل العقلانية والفردية والاستقلال والاحترام الذاتي.[13]

الا ان القانون، وعلى وجه التحديد القانون العام يفتقر إلى تعريف مبدئي للكرامة الإنسانية.‎ ‎هنالك من يرى ان كرامة الإنسان تشير إلى القيمة المتأصلة التي يمتلكها بنفس القدر جميع‎ ‎البشر، والتي‎ ‎تتطلب الاحترام من الآخرين[14]. ويرى البعض أن مفهوم كرامة الإنسان كما هو مستخدم في‎ ‎القانون الدولي لحقوق الإنسان والدساتير المحلية يتضمن عناصر وصفية ومعيارية، أي إنه‎ ‎بيان وصفي (على سبيل المثال أن كل إنسان لديه كرامة إنسانية متأصلة بحكم إنسانيته، بغض‎ ‎النظر عن الخصائص الخارجية التي تستلزم نتيجة طبيعية. (على سبيل المثال أيضا، أن كل‎ ‎إنسان بسبب كرامته الإنسانية‎ ‎المتأصلة، يجب أن يمنح حقوق الإنسان على أساس المساواة في المعاملة والاحترام).[15]

في جميع الدساتير التي أقرت به، على ما يبدو، فإن مبدأ كرامة الإنسان له معنى واسع للغاية‎ ‎وشكل أقوى من أن يحقق موقفا منهجيا في‎ ‎الجدال القانوني[16]. شأن الكرامة، نتيجة للمستوى العالي من التعميم الذي يلجأ اليه‎ ‎لصياغة هذا المفهوم، وخلف الاتفاق بشأن المفاهيم المجردة لقدسية الكرامة وقيمة الشخص‎ ‎الانساني، يظهر عدم توافق بخصوص مجال ومعنى الكرامة، واسسها الفلسفية، وقدرتها على‎ ‎ان تكون مرشدا لتفسير حقوق الانسان[17]. مما يؤثر سلباً في قيمته. وعلى الرغم‎ ‎من ذلك، فإن القول بأن مفهوم الكرامة البشرية ما هو إلا صيغة فارغة بالإمكان ملتها بصورة‎ ‎كيفية، فيه الكثير من المبالغة. ولقد تشكلت قناعات في المجتمعات الحديثة، تم‎ ‎تكريسها في تشريعاتها الوطنية، مفادها أنه هناك ممارسات، مثل التعذيب والمعاملة المهينة والرق، تخالف‎ ‎بشكل مباشر الكرامة البشرية وذلك لأن مفهوم الكرامة يعني، وفقا ً لفلسفة ايمانويل‎ ‎كانت Kant Emmanuel، أنه يجب معاملة أي شخص على أنه غاية بذاته وليس وسيلة، من‎ ‎ثم فإن الشخص يملك قيمة غير مشروطة، ومن هنا جاء التمييز بين مفهوم الشخص وبين‎ ‎مفهوم الشيء. ويعرف هذا الفيلسوف الكرامة بأنها القيمة التي تورث الشخص الإنساني‎ ‎الحق في التمتع بمعاملة تجعل منه غاية بذاته، لا مجرد وسيلة لغيره[18].

فلسفة الكرامة الإنسانية:

فكرة الكرامة المراد ھنا في ھذه المقالة مقاربتها فيما تعنيه أن يستشعر الفرد قیمته الإنسانية في جميع أبعاد كينونته ويتخلص من الوسواس القهري الغالب على رؤيته للحياة وتصوره للخلاص بعقلية الماضي، وأن یحترم ذاته والآخر، وأن يتعامل بطریقة أخلاقیة، وأن تحفظ كرامته فلا ینال منھا حيا ومیتا بأي شكل من أشكال الإھانة أو الامتھان، فالكرامة قیمة علیا جامعة، خص اﷲ بھا الإنسان: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]

الكرامة الإنسانية هي مفهوم ايتيقي يأخذ العديد من الأشكال الفلسفية في مضامينه لكونه لا يأخذ طابع واحد، يعني لا يمكننا أن‎ ‎نحصر هذا المفهوم في تعريف واحد لما له من خصوصية وولوجه داخل العديد من المحاور الفلسفية وخاصة اننا تحاول أن نقارب هذا المفهوم في ظل واقعنا  المتلاعب به عبر صراع الايديولوجيات وصدام المعتقدات ومأزق الهويات المسدودة والمتراجعة دوما نحو التراث، حتى أصبحت كل احاديثنا عن الكرامة الانسانية هي ضمن قالب المدونة الفقهية المنتقاة بعناية من أجل التغطية على اسلام الوحي والمعرفة العلمية والانجازات الحضارية، هنا تكمن ازمة الكرامة الانسانية في مجتمعاتنا،  والسؤال المنهجي الذي  يتأسس على خلفية هذه الأزمة أن المشكلة ليست في المفهوم كإيتيقا, وإنما في طريقة تعاملنا مع قيمة إنسانية أصيلة ثقافيا ومعرفيا واجتماعيا ودينيا، هذا المنظور المعرفي لايمكننا تطويره في صياغة وعي بالكرامة الانسانية ما دمنا نلفق منهجيات العلوم الاجتماعية والإنسانية بدل الاستفادة منها ودراستها بجد ونزاهة وتفكير اسنراتيجي, حتى ننال قسطا من  خبرات هذه العلوم وتطبيقاتها, واستثمار مكتسباتها المعرفية, والتوسل بطرائقها التحليلية والتوصيفية والنقدية في تجاوز اشكالياتنا ومشكلاتنا النهضوية العميقة التي تشل رأسمالنا الإنساني وتبقي حياتنا افرادا ومجتمعات غارقة في حدود الماضي وتزوير الذاكرة وتمجيد ذهنيات التلفيق المريرة التي سجنت العقل في سجالات الوهم وأمجاد الآباء وخطاب جاهليات الفلسفة والعلوم الغربية. بحيث يمكن الجزم أن عدم الاستفادة من هذه المنهجيات تجعل أية محاولة في النظر والتعامل مع فكرة الكرامة الإنسانية  منقوصة ومحدودة الجدوى والفاعلية بل أمر من ذلك ستكون وهما جديدا وتأويلا تعسفيا مستمر لنص ديني لا يمكننا فهمه خارج مجال تغطية المدونة الفقهية التاريخية هذا من جهة.

من جهة اخرى إن التفكير في الكرامة الانسانية اليوم ضمن خطابات اغلبها مثقلة بالتراث الديني البعيد زمنا وثقافة عن واقعنا، هذا لن يكون له اي مفعول انجازي مادام المخزون المعياري الموضوعي لتصور الكرامة في واقع الفرد والمجتمع معطل، من الصعب رفع التحدي النقدي لوعي الكرامة في مجالنا العربي والاسلامي، اي ترسيم حدود الديني والدنيوي في خرائط العقل لدينا وبروز عصر مابعد التراث الكلامي والفقهي..

والمجال الحقيقي لفكرة الكرامة الإنسانية، إنما يتصل بالهوية، سواء كانت هوية النمط الواحد على أنواعه الديني أو المذهبي أو العرقي أو اللغوي أو الإثني، أم هوية النمط الجزئي أو الكلي.

وعلى هذا الأساس فإن الكرامة الإنسانية هي حالة من الوعي الثقافي السليم لماهية الهويات وعقلنتها وتهذيبها، كرامة ترتبط بهذا الوعي ولا تغادره، كما أنها لاتحصل بشكل عشوائي، وإنما هي بحاجة إلى معرفة وحركة وإيمان، تبدأ من حالة الاستفاقة التي نعني بها حالة التفكير النقدي، التي تخلق مستويات من الوعي الثقافي ترسم خطوط الفصل بين الديني والدنيوي وكذلك تحرير الخطاب والرؤية من رواسب تراث المدونات الفقهية، ثم يأتي ترسيخ ثقافة الكرامة الانسانية عبر السبل كافة، وفي مقدمتها برامج التعليم بمراحله كافة.

مستويات الوعي التي تتصل بفكرة الكرامة الانسانية، لها علاقة بأمرين هما: العقلانية والمعنوية، حركية العقل  واحترام الدين كحاجة إنسانية وجودية، وشرط العقلانية تجنب التحيز،، وشرط احترام الدين تجنب التقليد الأبوي. وما يؤكد صلة فكرة الكرامة الانسانية بحالة الوعي الثقافي، أن الالتفات لهذه الفكرة في العديد من المجتمعات حصل في توقيت مصيري وحضور عقلاني وتحرر معنوي حالت دون الانهيار الشامل.

في الختام تعمدت الاطناب في التعريف اللغوي والماهية الاصطلاحية وكذلك تجنب تعريفات المدونات الفقهية والكلامية العتيقة، حتى نتفكر قليلا كم نحتاج من اشتغال فكري وسند فلسفي كي نقف على مأزق نزعات التزوير والتلفيق وتنكيص الهويات ونكتشف كم عطلنا عقولنا لقرون وفقدنا معنى اسلام الوحي في نفوسنا ؟؟ أليست الكرامة الإنسانية سوى عقل يقظ وقلب شغوف بالمحبة والحرية والسلام..؟!

***

أ. مرادغريبي – كاتب وباحث

....................

[1] الدين والكرامة الإنسانية، عبد الحبار الرفاعي، دار التنوير، ط١، ٢٠٢١م، ص ٦. قريبا تكون لنا قراءة مفصلة لمضامين هذا الكتاب الاستراتيجي في حقل الدراسات النقدية الخلاقة للوعي الديني السليم لدى المسلمبن.

[2] المقاييس في اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس،ت. شهاب الدّين أبو عمرو، (بيروت، دار الفكر)، ص 923.

[3] ت. خليل مأمون شيحا؛ ط2، (بيروت: دار المعرفة، 2007م)، ص 1127.

[4] ینظر:  لسان العرب، ١٢/٥١٠، مادة (كرم)، دار صادر - بیروت، الطبعة الثالثة ١٤١٤ ھـ، المصباح المنیر في غریب الشرح الكبیر، الفیومي، ٢/٥٣٢ مادة (كرم)، الناشر: المكتبة العلمیة – بیروت.  المعجم الوسیط ٢/ ٧٨٥ مادة (كرم)، مجمع اللغة العربیة بالقاھرة، إعداد: إبراھیم مصطفى وأحمد الزیات وحامد عبد القادر ومحمد النجار، الناشر: دار الدعوة، د. ت.

5 تأویل مشكل القرآن، أبو محمد عبد١١١لنضضلض مسلم بن قتیبة الدینوري (المتوفى: ٢٧٦ھـ)، ص ٢٦٩، المحقق: إبراھیم شمس الدین، الناشر: دار الكتب العلمیة، بیروت – لبنان

[6] المفردات في غریب القرآن، أبو القاسم الحسین بن محمد المعروف بالراغب الأصفھانى (المتوفى: ٥٠٢ھـ)، ص٧٠٧، المحقق: صفوان عدنان الداودي، الناشر: دار القلم، الدار الشامیة - دمشق بیروت – الطبعة الأولى - ١٤١٢ ھـ

[7] La Dignité Humaine: La réinsertion socio juridique des démunis, p.17

[8] Hamid Hanoun Khaled, Human Rights, Al-Sanhouri Library, Baghdad, 2013.

[9]  Andrew M.Song, La dignité humaine: une valeur directrice fondamentale pour une approche des droits de l'homme en matière de pêche, (2015)16 Marin Policy 168.

[10]  Ethel Ngozi Okeke,, Justice et Dignité Humaine en Afrique (IRCHS,2014).

[11]  Kant sur la dignité humaine (1", De Gruyter. 2011) Oliver Sensen.

[12] Isaiah Berlin, Two Concepts of Liberty, dans Four Essays On Liberty (1969 Oxford, Angleterre: Oxford University Press)134.

[13] طه احمد سعيد الفقي، النظام القانوني للحق في الكرامة الانسانية، دار النهضة العربية، القاهرة،٢٠١٨،ص ٦٤

[14] Audrey R Chapman, Dignité humaine, bioéthique et droits de l'homme (2011) Vol.3.No 1.Formulaire de la loi d'Amsterdam3.

[15] Conor O'Mahony. Il n’existe pas de droit à la dignité (2012) Volume 10. Numéro 2 563

[16] Michael Welker, La dignité humaine et le concept de personne en droit», dans Michael Welker (éd.). La profondeur de la personne humaine: une approche multidisciplinaire (Ferdmans 2014) 274 à 274.

[17] وليد محمد الشناوي، مفهوم الكرامة الانسانية في القضاء الدستوري، دار الفكر والقانون المنصورة‎ ‎مصر، ٢٠١٤، ص ۲۸

[18] فواز صالح مبدأ احترام الكرامة الإنسانية في مجال الأخلاقيات الحيوية (دراسة قانونية مقارنة)‎ ‎بحث منشور في مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، المجلد ٢٧، العدد‎ ‎الأول, ٢٠١١.‎ ‎ص ۲۹

إنَّ مقولات (ارسطو) عن الوجود والموجود وعن الحركة والغاية وغيرها قد تكررت عند الفلاسفة المسيحيين، وترددت في الوقت نفسه المقولات الافلاطونية في عالم المثل عند فلاسفة آخرين من الديانة المسيحية أيضاً، فأبرز من مثل الفكر الافلاطوني والفكر الأرسطوطالي (أوغسطين، وتوما الأكويني) تمثلت في تبني أحد المرجعيتين المختلفتين في تفسير الأشياء ونسبتها إلى المثالية، أو المادية أي إلى الأفلاطونية، أو الأرسطوطالية، لذلك فقد تمثلت هذه الجدلية في الفكر المسيحي بوضوح في هذين الاتجاهين، وخصوصاً في رؤيتهما للإنسان وأفكاره على وفق التصورات المنبثقة من الديانة المسيحية ذاتها، أي على وفق الرؤية الإيمانية التي جعل كل منهما الكتاب المقدس وتفسيراته محور لهذه الرؤية، وهنا يتجسد الرأي الأرسطوطالي عند (الأكويني) وتقويمه لطبيعة الإنسان إذ " امتد إلى جسم الإنسان وهو تقويم أثر في توجيهه المعرفي (الابستمولوجي) المميز فعلى النقيض من موقف أفلاطون المعادي للمادية، الذي أنعكس على نهجه جزء كبير من اللاهوت الأوغسطيني التقليدي. نجح الأكويني في استحضار مفاهيم أرسطوطالية؛ تأكيداً لمقاربة جديدة، لا شك أن الروح والطبيعة في الإنسان قابلتين للتمايز إلا أنهما ليستا إلا وجهين لكل متجانس: إن النفس هي شكل الإنسان والجسد مادته " (1) ومن هذا التجانس يجعل الاتجاه نحو ما هو معاش حتى يستمر هذا التكامل أكثر من الأبتعاد إلى عالم مثالي، قد  لا يتطابق وحاجياته المادية وصياغة طبيعة حياته ومتطلباته في داخل المجتمع. صحيح أن الدين يرجع في أغلب الاحيان إلى تربية الروح والتأكيد على نقاء السريرة والتفكير الصالح، لكنه يؤكد دائماً على أن الجسد هو حقل اختبار لهذه الروح، ومدى تأثيرها بالآخرين من خلال السلوكيات والتصرفات التي يقدمها الجسد في صور مختلفة، والفعل المادي يؤديه الجسد والتعذيب التي تمارسه الروح في صعودها نحو الفضيلة والنقاء، يتم من خلال الجسد وليس خارجه، أو في عالم آخر قد لا تستطيع الروح الوصول إليه خارج أطار الجسد المادي.

إنَّ انطلاق (توما الأكويني) في مغايرة الفكر (الأوغسطيني)، الذي سبقه في الساحة المعرفية المسيحية جاءت في مجموعة من المؤلفات التي حاول فيها أن يخرج من الفكر المثالي الأفلاطوني الذي هيمن على اللاهوت المسيحي بتأثير كبير من (اوغسطين)، وهنا قدم (الأكويني) رؤيته واتجاهه نحو المعالم الأخرى المغايرة في اتجاه المقابل والخروج من دائرة المثل والأفكار إلى دائرة الطبيعة والحياة الانسانية، ومن مؤلفاته في هذا المجال التي بنى عليها فلسفته اللاهوتية هي  (وحدة العقل)، و(عن خلود العالم)، و(مجمل علم اللاهوت) والأخير تبنى فيه الإنطلاقة التعليمية في المؤسسات الدينية المسيحية في(ايطاليا) من خلال البحث في علم الأخلاق المسيحية في صورها الجديدة وكيفية البحث في الواقع المعاش حتى يكون الإنسان قادر على التعايش مع الطبيعة الاجتماعية ومتغيراتها، إذ عمل (الأكويني) على إحداث صدمة كبيرة في الفكر اللاهوتي المسيحي حتى يغيره نحو النظرة الواقعية، التي فيها الكثير من التوجهات الأرسطوطالية بعدما كانت الأفكار (الأوغسطينية) سارية المفعول ومؤثرة من خلال الأفكار الأفلاطونية، فكان تركيز (توما) حول الغائية التي يصل إليها الإنسان بوجوده في هذه الحياة بدلاً من الابتعاد عنها إلى عالم مثالي قد لا يتحقق فيه المطلوب من وجود الإنسان في هذه الحياة، لذلك أنطلق (الأكويني) على وفق المرجعيات الأرسطوطالية " من ملاحظة المسارات الحتمية الطبيعية ويستقي من ذلك المفاهيم التي يشرح بها النشوء والفناء في هذا العالم، فالعالم يعد عنده ايضاً غائياً: أي أنه وضع نظامه لغرض وغاية، إنه عالم تنشأ فيه المادة غير المشكلة، التي هي مجال الممكن دائماً وأبداً اشكالا جديدة هي التي كانت كامنة في المادة على أنها (غرض) أو غاية، وتنبثق من هذه المادة بصورة حتمية فيها المادة يصير شكل، أي من الممكن تنبثق حقيقة: الأشكال تصنع الجوهر أي (الجوهر) لشيء ما يقابل الجوهر (العوارض): أي الصفات والخصائص المتغيرة لشيء ما "(2). إنَّ هذه الفلسفة (الأكوينية) أراد من خلالها أن يجعل هذا المنظور المادي للأشياء بعداً (كونياً) يتجاوز الجزئيات البسيطة إلى العموميات والكليات، أي أن النظرة إلى الطبيعة في حقيقتها تنطلق به نحو معرفة (الله الخالق)، وهذه النظرة التي تجعل من الأشياء المادية آثار لخلقه وتكويناً لما يريده الخالق من غايات من وراء خلق هذا الكون بكلياته وجزئياته، هو ما جعل (الأكويني) يغاير ما ذهب إليه المذهب الافلاطوني عند (أوغسطين)، وذلك بأن جعل الطريق من عالم المثل إلى الخالق وهذا الطريق الذي لا يمكن أن يتحقق بنظره كما هو رأي (أرسطو) في تعليقاته على المثل لدى (أفلاطون)، أتجه (الأكويني) إلى البحث في خلق الأشياء للوصول إلى (الله) فهذه النظرة هي مغايرة للفكر الإشراقي وحتى الصوفي البحت، الذي يركز على الإلهام والماورائيات في البحث عن خالق الوجود وعلى هذا الأساس " يصدر توما في موقفه على فكرة أساسية تتعلق بإثبات وجود الله متوسلاً في ذلك (البرهان الآتي): ويرى توما أن العلم بالموجودات الطبيعية سوف يفضي إلى العلم بالعلة، التي هي مصدر هذه الموجودات فالمعرفة بالموجودات الطبيعية من حيث أرتقاء عللها تؤول بالإنسان إلى التأكد من وجود الله، وعلى العموم يتوقف الإيمان على المعرفة الطبيعية، إذ قبل أن نؤمن بالله يتعين أن نعلم وجود الله، وأن عقلنا كفء لهذا العلم وللعلم بأسباب الإيمان "(3)وهنا معرفة الخالق إذا أردنا على وفق نظرة (الاكويني) أن نبحث عنها فأنها تبدأ أولاً: من البحث في الآثار التي تدلنا عليه، وبذلك تكون عملية الإيجاد للموجود سواء أكان الموجود الأثر أم لواجده، فأنها تتم من خلال البحث في طبيعة الموجودات وآثارها التي تدل على الواجد، بينما الأفكار والمثل التي لا تضع للحقيقة الموجودة ولا للعالم المعاش اعتبار، فأنها تبقى مجرد أفكار ونظم مثالية لا يمكن أن تطبق على المستوى الفعلي؛ بل تكون ابتعاد عن واقعية الأشياء الطبيعة البشرية التي يقع جزءاً كبير اًمنها في الاشتغال المادي والتفاعل مع الموجودات الخارجة عن الجسد الإنساني والذي يبقى بحاجة إليها لتأكيد ذاته في هذا العالم.

إنَّ هذه العلاقة التكوينية بين الوجود والماهية، أو بين الوجود وجوهر الأشياء المتشكلة في هذا الوجود، نتكلم عن الوجود الخارجي وجوهر الأشياء وليس على الماهيات المتشكلة في الوجود الداخلي أو الذهني وهذه الوجودات الداخلية هي أيضاً ارتداد لما هو في الوجودات الخارجية، فإن هذه القضية الخارجية لا يمكن فهما إلا عن طريق الكينونة والصيرورة فلا وجود من دون جوهر ولا عكس ذلك، فكلاهما مرتبطان في هذا التشكيل الذي هو وحدة واحدة (4). إنَّ هذه النظرة توضح بأنهما من المتآلفتين في بناء واحد لا يمكن الفصل بينهما لكنهما في الوقت نفسه يكونا من مختلفتين في المسميات والألفاظ.

أذن، فإن الوجود بوصفه حالة راهنية مصاحبة للموجود في حالتي القوة والفعل، تأخذ ذاتيتها في الإيجاد من الانتقال بين الحالتين، وبذلك هي من تصّير ظاهراتية الموجود كمثل الضوء الذي ينبعث باتجاه جسم متحرك، فإن انتشار الضوء حول الجسم المتحرك يعطيه وجودية على عكس من حالة انقطاع نور الضوء على هذا الجسم، فهذه النورية التي تتفاعل في زمانية ومكانية محددة هي من تعطي لهذا الجوهر المتحرك في الظاهراتية التي حولته من معدوم إلى موجود، وهذا مثال تقريبي لرسم حالة الراهنية، أو كينونة الكائن كذلك هذا المثال نضربه على عالم الإمكان وليس الوجوب، فالوجود الواجب وحسب ما تطرقنا إليه في الهامش فله مبدأ آخر، وهذا المقال يتحدد في نظرتنا إلى الكيفية التي نستطيع أن ننظر بها إلى ماهية الوجود والموجود، التي أصبحت خارج السياقات المبنية على الماهويات المبنية على الأفكار المتعالية، سواء أكانت في الوعي القصدي للأشياء، أم الموضوعات أو حتى الإنسان، فوجودية الإنسان بدأت تتشكل بحسب النظرات والنظريات التي همها الوحيد هو تطبيق الأفكار، على الرغم من أن هذه الأفكار لا تأخذ بنظر الاهتمام الموجود الواقعي وراهنيته الواقعية؛ بل أصبحت الأفكار الخارجة عن هذه الراهنية والواقعية في الإيجاد هي من تطبق في عالم اليوم والذي ابتعدنا فيه عن الحقائق التي يجب أن ترتسم فيها الأشياء بطريقة صحيحة وسليمة.

***

أ.د محمد كريم الساعدي

......................

الهوامش

1. تارناس، ريتشارد: آلام العقل العربي، ترجمة: فاضل....، ابو ظبي: كلمة، هيئة ابو ظبي للثقافة والتراث، 2010.، ص 219.

2. تسيمر، روبرت: في صحبة الفلاسفة، ترجمة: أ.د. عبد الله محمد ابو هشة، لندن: دار الحكمة، 2012، ص 65.

3. أسبر، علي ممد: ماهية الوعي الفلسفي، دمشق: دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، ط1، 2010.، ص 93.

1. ينظر، رونتال، م. ي. يودين، الموسوعة الفلسفية: وضع لجنة من العلماء والأكاديميين السوفياتيين، ترجمة: سمير كرم، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، ط 2، 1980، ص 577.

من بين أبرز التوضيحات الهامة للزمن في الغرب هو عمل عمانوئيل كانط (1724-1804). سنحاول هنا استكشاف مفهوم كانط للزمن، خاصة الطريقة التي ارتبط بها باللغة. هذا لا يعني اننا نختزل مشكلة الزمن فقط بمسألة لغة، وانما نريد إظهار ان اللغة تلعب دورا حاسما بشأن الزمن. وللقيام بهذا سوف ننظر بعمل كانط الشهير (نقد العقل المحض) وبالذات في القسم الذي ورد تحت عنوان "الإحساس المتجاوز" The Transcendental Aesthetic. ورغم ان كانط لم يتحدث بشكل مباشر عن الزمن، مختزلا الجدال الى هامش في نهاية الفصل، لكن الجدال قريب جدا لجداله المتعلق بالمكان. وحتى لو يجادل احد ان الزمان والمكان غير متطابقين فيما يتعلق بالحواس – الزمن جزء من "الحس الداخلي"، والمكان مظهر "للحس الخارجي" – لكن الزمن وحده لا يكفي ليجعل تجربتنا منظّمة ومفهومة.

سنرى بان مفاهيم الماضي، الحاضر، المستقبل هي غير ضرورية لطبيعة الزمن كما يراها كانط. الفكرة هي ان الفرق بين المستقبل والماضي – جزء لا يتجزأ من إحساسنا بتدفق الزمن – هو مفاهيمي بشكل لا ينفصم، وبهذا لا ينتمي للعناصر الحسية لتجربتنا وانما هو مرتبط بشكل وثيق باللغة.

لغة التجربة

في كتابه (انثروبولوجيا من وجهة نظر برجماتية، 1798)، يقول كانط "ان المقدرة على تمييز الحاضر كوسيلة لربط أفكار عن أحداث متوقعة مع تلك المتعلقة بأحداث الماضي هي قوة استعمال العلامات" (ص64). وعليه، قد يتحدث احد جيدا حول الزمن فقط عندما تكون اللغة جزءاً من المزيج – والذي يعني، فقط عندما نعرّض الزمن لمفاهيم. السؤال هو ما اذا كان احد يستطيع ان يتصور مفاهيميا احدهما او كلاهما -الماضي والحاضر- كغير موجودين. بالنسبة للقس اوغسطين (354-430)، من السهل ان يتصور عدم وجود الماضي والمستقبل. هو اعتقد ان الاحداث جاءت الى الوجود وخرجت من الوجود، وان الحاضر فقط هو الواقعي. كانط انتمى الى نفس الفكر، لكنه كان قادرا على صياغة المشكلة باسلوب مختلف.

وكما ذكرنا، اول تعامل لكانط مع الزمن في نقد العقل المحض في قسم بعنوان "الأشكال الاولى للتصور". لنحاول الان توضيح العنوان قبل الذهاب الى تفاصيل ما يقوله كانط عن طبيعة الزمن.

المعرفة القبلية هي معرفة موجودة في ذهن الانسان قبليا وبشكل مستقل عن التجربة بالعالم الخارجي. في تحقيقات كانط في التجربة الانسانية، مفاهيمنا عن المكان والزمان تظهر قبل التجربة بالعالم الخارجي ومستقلة عنه وهي الشرط الضروري لنا دائما لإمتلاك هكذا تجربة .

القبلي A priori يمكن ان يكون مضادا للبعدي a posterior الذي يشير للمعرفة المشتقة من التجربة، والى المتجاوز الذي يشير الى شيء يتجاوز التجربة او قبلها، لكنه غير متضمن فيها. مفردة "متجاوز" كان لها سلفا تاريخا طويلا في التفكير الفلسفي خاصة ضمن المدرسية. بالنسبة لكانط، المفردة تحدد شيئا ما لايُشتق من التجربة وانما هو "الطريقة التي يتأثر بها الذهن بفعاليته الخاصة" (نقد، ص 189). بكلمة اخرى مفردة "المتجاوز" تشير الى الطريقة التي يكيّف بها العقل نفسه. من جهة اخرى، مفردة احساس aesthetic تُشتق من الكلمة اليونانية القديمة aisthesis وتعني "احساس". بهذا التحليل، نحن نستطيع سلفا استنتاج ما سيعالجه كانط في هذا الفصل. هذا القسم في الحقيقة يعالج الاحساس القبلي الذي يشير في النقد (نقد العقل المحض) عادة الى الحدس القبلي.

الزمن كشكل من الحدس القبلي

في علاج كانط الأول للزمن، لا تظهر العلاقة بين الزمن واللغة بشكل واضح. لكننا سوف نستطلعها لسببين رئيسيين. الاول ان كانط يستطلع كل من الطبيعة المتجاوزة والطبيعة التجريبية للزمن، ونحن يجب ان نستعمل اللغة لوصف تلك الاشياء. السبب الثاني هو انه على الرغم من ان كانط لايناقش بشكل صريح الزمن واللغة باعتبارهما مرتبطين جوهريا، لكن في هذا القسم هو يتقدم ببعض الافتراضات المسبقة الجوهرية المتصلة بارتباطهما.

يصف كانط الزمن كشكل من الحدس المحض، في تضاد مع مادة العالم التي هو يجادل انها فقط "مظهر يتطابق مع الإحساس"(ص172). هو يبدأ خطابه حول المكان والزمان بجدال يُظهر ان حدس التجربة لا يستلزم بالضرورة ادراكا حسيا. لعمل هذا هو يستخدم تمييزا بين الحدس التجريبي والحدس الخالص قائلا ان الحدس التجريبي (التجربة في العالم) يتضمن بالضرورة ان الاشياء "اُعطيت لنا بوسائل الاحساس" (ص172) – أي، عبر إحساسنا بها. من جهة اخرى، الحدس الخالص لايستلزم بالضرورة احساسا، لأنه لا يُشتق مباشرة من الحواس البايولوجية. الجدال يمكن تلخيصه بالقول، انني استطيع تصوّر المكان ولا أزال ليس لدي احساس به. طالما المكان ليس شيئا اُعطي لي بواسطة حواسي. نفس الشيء، الزمن المطلق ليس شيئا في التجربة طالما نحن ليس لدينا احساس بالزمن ايضا. بدلا من ذلك، تمثيلاتنا للمكان والزمان هي محضة لأنه وبقدر ما يتعلق الامر بهما، "لاشيء يمكن مواجهته ينتمي للإحساس" (ص173).

طريقة اخرى لنفس الفكرة يمكن العثور عليها في حجة كانط الثانية حول الزمن. هو يقول "فيما يتعلق بالمظهر بشكل عام لايستطيع احد ازالة الزمن، مع انه يمكنه جيدا اخذ المظهر من الزمن" (ص162) أي يمكن القول، نحن لا نستطيع ان نتصور أي حدث كغير موجود في الزمن. في النهاية، نحن غير قادرين على تصور غياب الزمن ذاته. هناك مقارنة مبسطة لكنها مفيدة يستخدمها كورنر S.Corner في كتابه كانط (1955)، بان المكان والزمان يمكن تصورهما كـ "نظارات لايمكن نزعها"، طالما "الاشياء والاحداث يمكن رؤيتها فقط من خلال المكان والزمان. لذلك، فان الاشياء والاحداث لايمكن رؤيتها ابدا كما هي في ذاتها" (كانط، ص37). وطالما الزمان والمكان شكلان ضروريان للتجربة، نحن لايمكننا ابدا ان نشعر بأي شيء مستقل عنهما، ولا بأي شيء فيه الزمان والمكان مستقلان عن تجربتنا.

رغم اننا نعتقد ان هذا هو الجدال الأكثر إقناعا حول الزمن، لكن يجب الاعتراف ان ذلك ليس حاسما تماما. لو تصورنا اننا منذ الولادة فصاعدا دائما نرى العالم من خلال زوج من النظارات الملونة باللون الاخضر. بالطبع، العالم يبدو اخضرا. الآن تصوّر اننا بطريقة ما نجد طريقة لإزالة النظارات. نحن ربما في الحقيقة نكتشف ان العالم هو اخضر حقا، او لكي نترجم الاستعارة، ان العالم هو في زمان ومكان . لذلك، فان الزمن المطلق سيكون مستقلا عن تجربتنا بالزمن. مع ذلك، هذا الاستنتاج يذهب الى ما وراء الحدود التي يضعها كانط لقدرتنا على الفهم، لأننا لا نستطيع تجربة ما هو وراء التجربة. هو بدلا من ذلك يقول انه فقط اننا نستطيع التحدث حول الزمن فقط من منظور الانسان، ومن هذا المنظور، فان تجربة الزمن تسبق تجربة العالم الخارجي.

للحفاظ على هذه الفرضية، يجادل كانط بان فكرة الزمن لا يمكن ان تبرز من تجربة التزامن او التعاقب لأننا نحتاج لنفترض الزمن مسبقا لكي نستفيد من هذا النوع الخاص من النظام الذي من خلاله نشعر بالعالم: "فقط في ظل الافتراض المسبق للزمن يستطيع المرء تمثيل تلك الاشياء العديدة الموجودة في نفس الوقت (تزامنا) او في اوقات مختلفة (بالتعاقب)"(ص162). خوف كانط هو ان الزمن غير مشتق من شيء لا زمني، بما يعني ان الزمن لا يمكن اشتقاقه من مصدر لازمني. بكلمة اخرى، الزمن لايمكن توضيحه تماما عبر الاشارة لشيء هو ذاته غير زمني، ولذا يجب افتراضه مسبقا كمظهر للتجربة.

رغم ان هذا الادّعاء قد يبدو بسيطا، لكنه احد اطروحات كانط المركزية. ربما يمكن تلخيصه بشكل افضل من خلال بيان ارسطي. الفيلسوف القديم ارسطو يقول، "من الواضح ان الزمن لا هو تغيير ولا هو جزء من التغيير"(الميتافيزيقا، ص218 b35). التغيير في الحقيقة يحدث في شيء من خلال التعديل او الحركة. مع ذلك، عندما يصل التغيير الى نهايته، نحن لانزال نقول ان الزمن يمر او يتدفق – تصوّر للحظة كونك في غرفة مظلمة وبدون أي نوع من التجربة الحسية. حتى هنا نحن نريد الزعم بان الزمن لم يتوقف، ولانزال نشعر بتدفق الزمن. هذا يجعلنا اقرب لفكرة كانط. هذا المظهر الخاص لتجربتنا يمكن توضيحه عبر ايجاد فرق بين الزمن كما يُعاش في الإحساس (التجربة الحسية للأحداث)، والزمن كما يُعاش في سياق من الفهم المحض.

تجربة الزمن

كوننا اعتبرنا تعامل كانط مع الزمن ضمن الـ "الاحساس المتجاوز" كشكل خالص من الحدس، الآن من الضروري الإنتقال الى فهم مختلف قليلا للزمن ظهر في القسم "التحليلي". في هذا القسم من النقد يبدو ان كانط يستدعي دليلا في الكيفية التي تتولد بها التجربة بالزمن. يوضح كانط بانه ما اذا كان مصدر التمثيل خارجيا او داخليا – ما اذا كنا نتحدث حول المظاهر القبلية او التجريبية – هي مع ذلك تكون دائما تكييف للذهن، وبهذا، هي تنتمي لشعورنا الداخلي. يوضح كانط، انها طالما تنتمي دائما للحس الداخلي، فان "جميع إدراكاتنا هي في النهاية عرضة الى الوضع الاساسي للحس الداخلي، أعني الزمن، الذي يجب ان تُنظّم فيه وترتبط وتدخل في علاقات" (ص228). لذا، الزمن يلعب دورا محوريا في عمليات خلق كل تجربتنا، لأنه يشكل الارضية او الاساس لتلك التجربة. وبما ان التمثلات لا تمثل فقط شيئا ما، وانما تمثله لشخص ما، سنكون الان في موقف من الفهم لهذا "الشخص". سيصبح واضحا كيف بإمكاننا معايشة الزمن، وفي الحقيقة نفهم لماذا نحن نعيش الزمن كاستمرارية بدلا من مجموعة لحظات منفصلة، وبالنهاية، نفهم اي نوع من العلاقة توجد بين الزمن واللغة.

يقول كانط ان تركيبة الحدس هي توحيد مجموعة متنوعة من التجربة. ماذا يعني هذا؟ لكي نستعمل كلمات كانط الخاصة، "تركيبة synthesis بالمعنى العام .. أفهمها كفعل وضع مختلف التمثلات مع بعضها وفهم تعدديتها في ادراك واحد" (نقد، ص210). هنا المتنوع manifold هو تعدد الحدس او البداهات، او مختلف مظاهر التجربة. فمثلا، عندما انظر الى بناية من هذه الزاوية وتلك وفي مختلف الازمان، انا لدي تعدد بالحدس التجريبي او بالمدخلات البصرية التي تتوحد في الذهن لكي تشكل تجربة متماسكة وموحدة للبناية. وعموما، تركيبة تعدد الحدس تسمح لتجربتنا لتكون موحدة بدلا مما يسميه وليم جيمس بـ "تشويش الطنين الكبير".(1)

بدون تركيبة، ستبقى تجربتنا مجموعة غير مرتبة من المعلومات. ولكن سوف لن تكون هناك تجربة بالزمن ايضا. افرض نحن كنا نتحدث عن الزمن الذي مر بين حدث وآخر. اذا كانت اجزاء من تجربتي ليست في علاقة زمنية متماسكة مع بعضها البعض، سوف لن اكون قادرا على القول باني امتلكت هكذا تجربة، ولا ان الزمن مر مع هذه التجربة. في هذه الحالة غير المتماسكة، يقول كانط، انه "حتى أول وأنقى تمثلات للمكان والزمان لا تستطيع ابدا ان تبرز فينا" (ص85)، بالضبط بسبب اننا نحتاج "للمرور من خلال المتعدد والتمسك به مجتمعا" (ص82). ليس بالصدفة ان هذا الفعل من الذهن يسمى تركيبة (مرة اخرى، الكلمة مشتقة من اليونان القديمة "مجتمعا مع" و"يضع"). مقدرتنا في التركيب هي قدرتنا الذهنية المتجاوزة لخلق وحدة من التجارب المتعددة او الحدس. بدون هذه الوحدة، سوف لن نكون قادرين على امتلاك تجربة بالحدس الخالص بالمكان والزمان حسب كانط. وهكذا، من هذا الاساس يقول كانط تتولد التجربة بالزمن. الان، يكفي بنا القول مع كانط ان الزمن"هو الشرط الاساسي لتعدد الحس الداخلي، وبالتالي فان ترابط جميع التمثلات احتوت على متنوع قبلي في الحدس المحض" (ص272).

هل التجربة تكفي لتوضيح الزمن؟

الآن لدينا صورة عن طبيعة وتجربة الزمن . حتى الان، نستطيع القول ان الزمن هو شكل نقي للحدس، وتجربته تعتمد على ما نخلق من نوع محدد (زمني) للوحدة من تعدد التجارب. من هذا المنظور نستطيع الحديث عن الزمن كاستمرارية بدلا من نقاط زمنية منفصلة نشير لها بالماضي والحاضر والمستقبل. هناك قناعة بانه اذا كان كانط صائبا، فان صياغته تنتج فقط وحدة لتجربة الزمن بدلا من تدفق غير قابل للوصف منطويا على اوقات مختلفة. وهكذا، يبدو ان هناك عدم انسجام بين ما نقوله عادة حول الزمن وما يقوله كانط . نعتقد ان هذا ناتج عن الدور الذي تلعبه اللغة في صياغة افكارنا عن الزمن.

دعنا نتقدم تدريجيا. سوف ننظر اولا في فهم اوغسطين للزمن لنرى كيف نستطيع تمييز الزمن مفاهيميا الى مختلف الوجودات، بعد ذلك سوف ننظر في رفض اوغستين للماضي والمستقبل. اخيرا، سوف ننظر في مذكرات كانط المكتوبة باليد طالما تكمن في هذه المذكرات صياغة يمكنها ان توفر الطريق الى الامام لتصور كانط للزمن المنسجم والمتوافق. وكما ذكرنا آنفا، طبقا لاوغستين، لا وجود للماضي ولا للمستقبل، فقط الحاضر موجود. بالنسبة لاوغستين هناك يبدو تزامنا في الزمن ويصبح كما لو انه وجهان لعملة واحدة. لكننا لا نريد التركيز على هذه المشكلة كوننا، نحن الى جانب كانط توقعنا سلفا بان الزمن لايمكن اشتقاقه من شيء غير زمني. الخوف هنا هو ان ذلك بسبب فهمه المفاهيمي للزمن لدرجة ان اوغستين يستطيع القول هو فقط الحاضر. لكن اذا كان الحاضر هو الموجود دائما، فهو يكون مشابه للإبدية. اوغسطين في الحقيقة يقول، "هذان الزمنان الماضي وما يأتي، كيف يكونان، حيث نرى الماضي الآن ليس موجودا، والمستقبل لم يأت بعد؟ لكن الحاضر يجب ان يكون دائما حاضرا ولا يمكن ابدا ان يمر الى زمن الماضي، في الحقيقة انه لا يجب ان يكون زمنا وانما أبدية" (الاعترافات، فصل، 14) .

ضمن هذا التصور يصبح الربط بين الزمن واللغة واضحا. كانط في مذكراته Reflexionen يُظهر عدم جدوى جلب الزمن تحت مفهوم، لأن لا شيء هناك نستطيع ان نقارن الزمن معه بشكل كافي. كذلك، مختلف اجزاء الزمن – الماضي، الحاضر والمستقبل – هي زمن بذاتها طالما هي تشترك بكل صفات الزمن. في الحقيقة، هنا يقول كانط ان الزمن هو استمرارية فيها اجزاؤه – الماضي والحاضر والمستقبل – تُعتبر اجزاءً فقط بمقدار ما نشير الى الفرق بينها لغويا. وهذا يفسر لماذا الفرق المفاهيمي بين الماضي والحاضر والمستقبل لم يوضع على مستوى الواقع، بالطريقة التي يكون بها الزمن ذاته (اي الواقع التجاوزي للزمن). بدلا من ذلك، هذه التمايزات المفاهيمية الاصطناعية هي مظهر لتفكيرنا المفاهيمي واللغة (كما يطرحها كانط في مذكراته).

استنتاج

ان طبيعة وتجربة الزمن معقدة ومتعددة الوجوه، كما ظهر في مختلف الرؤى والمنظورات الفلسفية مثل اوغسطين وكانط. بينما اوغستين يفهم الزمن باعتباره ينشأ من الحاضر، كانط يطور نظاما معقدا لكنه أنيقاً حول تجربتنا بالزمن. هذا التمييز بين طبيعة الزمن وتجربته اللغوية - الانقسام الذي يوجد بين الزمن ذاته وتصوره المفاهيمي – هو من حيث الجوهر اجزاء لنظام اكبر فيه كل شيء مترابط وبشكل متبادل. بالنهاية، الفرق بين ما نستطيع قوله حول الزمن وما هو الزمن حقا انما يؤشر صعوبة الفهم الكامل لهذا المظهر الجوهري لتجربة الانسان. نستنتج الان ان لا شيء يمكن اعتباره إجابة نهائية للسؤال عن الزمن. نحن لا نستطيع عمل أي شيء سوى التأمل في جمال سرّه.

***

حاتم حميد محسن

............................

* Kant on Time, philosophy Now, Aug/Sep 2023

الهوامش

(1) في كتابه مبادئ علم النفس ذكر وليم جيمس عبارته الشهيرة وهي ان العالم عبارة عن "طنين مشوش كبير" لطفل رضيع يتعرّض جهازه الحسي الى هجوم بواسطة العيون والآذان والجلد والأحشاء الداخلية دفعة واحدة. وكبالغين، نحن لانزال نتعرض لكل الهجمات أعلاه، لكن بطريقة ما نحن نستطيع التعامل مع تعقيدية العالم. تجربة الرضيع بالعالم هنا هي كإحساس نقي يأتي قبل أي عقلانية.

ترجمة: ط. احمد مغير

العنوان الاصلي للمقالة هو (قيمة الفلسفة) وهي فصل في كتاب (مشاكل الفلسفة) لبرتراند راسل الفيلسوف البريطاني المعروف ولأهمية الموضوع للمهتمين بالفلسفة فقد ترجمته بعد أن بحثت عن اي ترجمة سابقة للمقالة باللغة العربية ولم اجدها على النت وهنا يوضح برتراند راسل رأيه بقيمة الفلسفة مع اتساع مجال العلوم الاخرى والتقدم في كافة المجالات والجدل بين الفلاسفة والعلماء في علوم اخرى بشأن دور الفلسفة في القرن العشرين وحيث أن جميع العلوم تفرعت من الفلسفة . فقد كان فلاسفة اليونان ضليعين في اغلب علوم ذلك الزمان وارجو للقراء قراءة ممتعة.

بعد أن وصلنا الآن إلى نهاية استعراضنا الموجز وغير المكتمل للغاية لمشاكل الفلسفة، سيكون من الجيد التفكير، في الختام، في ما هي قيمة الفلسفة؟ ولماذا يجب دراستها؟. من الضروري النظر في هذا السؤال، بالنظر إلى حقيقة أن العديد من الرجال، تحت تأثير العلم أو الشؤون العملية، يميلون إلى الشك فيما إذا كانت الفلسفة أفضل من التباهي البريء ولكن عديم الفائدة، والتمييز المجزأ، والخلافات حول الأمور التي تستحيل المعرفة بشأنها.

يبدو أن هذه النظرة للفلسفة ناتجة، جزئيا عن تصور خاطئ لغايات الحياة، جزئيا عن تصور خاطئ لنوع الخيرات التي تسعى الفلسفة إلى تحقيقها. العلوم الفيزيائية، من خلال الاختراعات، مفيدة لعدد لا يحصى من الناس الذين يجهلونها تماما. وبالتالي يجب التوصية بدراسة العلوم الفيزيائية، ليس فقط، أو في المقام الأول، بسبب التأثير على الطالب، ولكن بسبب التأثير على البشرية بشكل عام. هذه الأداة لا تنتمي إلى الفلسفة. إذا كان لدراسة الفلسفة أي قيمة على الإطلاق بالنسبة لغيرهم من طلاب الفلسفة، فيجب أن تكون بشكل غير مباشر فقط، من خلال آثارها على حياة أولئك الذين يدرسونها. في هذه الآثار، لذلك، إن وجدت، يجب البحث عن قيمة الفلسفة في المقام الأول.

 ولكن علاوة على ذلك، إذا أردنا ألا نفشل في سعينا لتحديد قيمة الفلسفة، يجب علينا أولا تحرير عقولنا من تحيزات ما يسمى خطأ بالرجال "العمليين". الإنسان "العملي"، كما تستخدم هذه الكلمة غالبا، هو الشخص الذي يعترف بالاحتياجات المادية فقط، والذي يدرك أن الرجال يجب أن يكون لديهم طعام للجسم، لكنه غافل عن ضرورة توفير الغذاء للعقل. وإذا كان جميع الرجال ميسورين، ولو انخفض الفقر والمرض إلى أدنى نقطة ممكنة، لكان لا يزال هناك الكثير مما ينبغي عمله لإنتاج مجتمع ذي قيمة؛ ومن ثم، فإن الفقر والمرض قد انخفضا إلى أدنى مستوى ممكن. وحتى في العالم الحالي، فإن خيرات العقل لا تقل أهمية عن خيرات الجسم. من بين خيرات العقل حصرا أن قيمة الفلسفة يمكن العثور عليها. ولا يمكن إقناع سوى أولئك الذين لا يهتمون بهذه السلع بأن دراسة الفلسفة ليست مضيعة للوقت.

الفلسفة، مثل جميع الدراسات الأخرى، تهدف في المقام الأول إلى المعرفة. المعرفة التي تهدف إليها هي نوع المعرفة التي تعطي الوحدة والنظام لجسم العلوم، والنوع الذي ينتج عن الفحص النقدي لأسس قناعاتنا وتحيزاتنا ومعتقداتنا. لكن لا يمكن القول  أن الفلسفة حققت أي قدر كبير جدا من النجاح في محاولاتها لتقديم إجابات محددة لأسئلتها. إذا سألت عالم رياضيات أو عالم معادن أو مؤرخا أو أي رجل آخر متعلم، ما هي مجموعة الحقائق المحددة التي تم التحقق منها من خلال علمه، فستستمر إجابته طالما أنك على استعداد للاستماع. ولكن إذا طرحت نفس السؤال على فيلسوف، فسيتعين عليه، إذا كان صريحا، أن يعترف بأن دراسته لم تحقق نتائج إيجابية مثل التي حققتها العلوم الأخرى. صحيح أن هذا يعزى جزئيا إلى حقيقة أنه بمجرد أن تصبح المعرفة المحددة المتعلقة بأي موضوع ممكنة، يتوقف هذا الموضوع عن تسميته بالفلسفة، ويصبح علما منفصلا. تم تضمين دراسة السماوات بأكملها، والتي تنتمي الآن إلى علم الفلك، مرة واحدة في الفلسفة. أطلق على عمل نيوتن العظيم اسم "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية". وبالمثل، فإن دراسة العقل البشري، التي كانت جزءا من الفلسفة، قد انفصلت الآن عن الفلسفة وأصبحت علم النفس. وهكذا، فإن عدم اليقين في الفلسفة واضح إلى حد كبير أكثر من كونه حقيقيا: تلك الأسئلة القادرة بالفعل على الحصول على إجابات محددة توضع في العلوم، في حين أن الأسئلة التي لا يمكن إعطاء إجابة محددة لها في الوقت الحاضر، تبقى لتشكل البقايا التي تسمى الفلسفة.

ومع ذلك، هذا ليس سوى جزء من الحقيقة المتعلقة بعدم اليقين في الفلسفة. هناك العديد من الأسئلة - ومن بينها تلك التي لها أهمية عميقة لحياتنا الروحية - والتي، بقدر ما يمكننا أن نرى، يجب أن تظل غير قابلة للذوبان في العقل البشري ما لم تصبح قواه ذات ترتيب مختلف تماما عما هي عليه الآن. هل للكون أي وحدة في الخطة أو الهدف، أم أنه ملتقى عرضي للذرات؟ هل الوعي جزء دائم من الكون، يعطي الأمل في نمو الحكمة إلى أجل غير مسمى، أم أنه حادث عابر على كوكب صغير يجب أن تصبح الحياة عليه مستحيلة في النهاية؟ هل الخير والشر مهمان للكون أم للإنسان فقط؟ يتم طرح مثل هذه الأسئلة من قبل الفلسفة، ويجيب عليها مختلف الفلاسفة. ولكن يبدو أنه سواء كانت الإجابات قابلة للاكتشاف أم لا، فإن الإجابات التي تقترحها الفلسفة ليست صحيحة بشكل واضح. ومع ذلك، مهما كان الأمل في اكتشاف إجابة ضئيلا، فإن جزءا من عمل الفلسفة هو مواصلة النظر في مثل هذه الأسئلة، وجعلنا ندرك أهميتها، وفحص جميع المناهج لها، والحفاظ على هذا الاهتمام التأملي في الكون الذي هو عرضة للقتل من خلال حصر أنفسنا في معرفة يمكن التأكد منها بالتأكيد.

صحيح أن العديد من الفلاسفة اعتقدوا أن الفلسفة يمكن أن تثبت حقيقة بعض الإجابات على مثل هذه الأسئلة الأساسية. لقد افترضوا أن ما هو أكثر أهمية في المعتقدات الدينية يمكن إثباته من خلال البرهان الصارم على أنه صحيح. من أجل الحكم على مثل هذه المحاولات، من الضروري إجراء مسح للمعرفة البشرية، وتكوين رأي حول أساليبها وحدودها. في مثل هذا الموضوع، سيكون من غير الحكمة النطق بشكل عقائدي. ولكن إذا لم تضللنا تحقيقات فصولنا السابقة، فسنضطر نحن إلى التخلي عن الأمل في العثور على أدلة فلسفية على المعتقدات الدينية. لذلك لا يمكننا أن ندرج كجزء من قيمة الفلسفة أي مجموعة محددة من الإجابات على مثل هذه الأسئلة. ومن ثم، مرة أخرى، يجب ألا تعتمد قيمة الفلسفة على أي مجموعة مفترضة من المعرفة التي يمكن التحقق منها بالتأكيد والتي سيكتسبها أولئك الذين يدرسونها.

في الواقع، يجب البحث عن قيمة الفلسفة إلى حد كبير في حالة عدم اليقين ذاتها. إن الإنسان الذي ليس لديه صبغة فلسفية يمر بحياة مسجونة في الأحكام المسبقة المستمدة من الفطرة السليمة، ومن المعتقدات المعتادة لعصره أو أمته، ومن القناعات التي نمت في عقله دون تعاون أو موافقة عقله المتعمد. بالنسبة لمثل هذا الرجل، يميل العالم إلى أن يصبح محددا ومحدودا وواضحا. الأشياء الشائعة لا تثير أي أسئلة، ويتم رفض الاحتمالات غير المألوفة بازدراء. بمجرد أن نبدأ في التفلسف، على العكس من ذلك، نجد، كما رأينا في فصولنا الافتتاحية، أنه حتى أكثر الأشياء اليومية تؤدي إلى مشاكل لا يمكن تقديم سوى إجابات غير مكتملة للغاية. الفلسفة، على الرغم من أنها غير قادرة على إخبارنا على وجه اليقين ما هو الجواب الحقيقي للشكوك التي تثيرها، إلا أنها قادرة على اقتراح العديد من الاحتمالات التي توسع أفكارنا وتحررها من طغيان العرف. وهكذا، بينما تقلل من شعورنا باليقين فيما يتعلق بماهية الأشياء، فإنها تزيد بشكل كبير من معرفتنا بما قد تكون عليه. إنها تزيل الدوغمائية المتغطرسة إلى حد ما لأولئك الذين لم يسافروا أبدا إلى منطقة تحرير الشك، وتبقي إحساسنا بالدهشة حيا من خلال إظهار الأشياء المألوفة في جانب غير مألوف.

بصرف النظر عن فائدتها في إظهار الاحتمالات غير المتوقعة، فإن للفلسفة قيمة - ربما قيمتها الرئيسية - من خلال عظمة الأشياء التي تفكر فيها، والتحرر من الأهداف الضيقة والشخصية الناتجة عن هذا التأمل. حياة الإنسان الغريزي مغلقة داخل دائرة اهتماماته الخاصة: قد يتم تضمين العائلة والأصدقاء، لكن العالم الخارجي لا ينظر إليه إلا لأنه قد يساعد أو يعيق ما يدخل في دائرة الرغبات الغريزية. في مثل هذه الحياة، هناك شيء محموم ومحصور، بالمقارنة مع الحياة الفلسفية الهادئة والحرة. إن العالم الخاص للمصالح الغريزية هو عالم صغير، يقع في وسط عالم عظيم وقوي يجب، عاجلا أم آجلا، أن يضع عالمنا الخاص في حالة خراب. ما لم نتمكن من توسيع مصالحنا بحيث تشمل العالم الخارجي بأسره، فإننا نبقى مثل حامية في قلعة محاصرة، مع العلم أن العدو يمنع الهروب وأن الاستسلام النهائي أمر لا مفر منه. في مثل هذه الحياة لا يوجد سلام، بل صراع مستمر بين إصرار الرغبة وعجز الإرادة. بطريقة أو بأخرى، إذا أردنا أن تكون حياتنا عظيمة وحرة، يجب أن نهرب من هذا السجن وهذا الصراع.

إحدى طرق الهروب هي التأمل الفلسفي. لا يقسم التأمل الفلسفي، في أوسع مسح له، الكون إلى معسكرين معاديين - الأصدقاء والأعداء، المفيدين والضارين، الخير والشر - إنه ينظر إلى  المشهد بأكمله بنزاهة. التأمل الفلسفي، عندما يكون غير مضطرب ، لا يهدف إلى إثبات أن بقية الكون يشبه الإنسان. كل اكتساب للمعرفة هو توسيع للذات، ولكن هذا التوسع يتحقق بشكل أفضل عندما لا يتم السعي إليه مباشرة. يتم الحصول عليها عندما تكون الرغبة في المعرفة هي وحدها المنطوقة، من خلال دراسة لا ترغب مسبقا في أن يكون لموضوعاتها هذا الطابع أو ذاك، ولكنها تكيف الذات مع الشخصيات التي تجدها في أغراضها. لا يتم الحصول على هذا التوسع في الذات عندما نحاول، مع أخذ الذات كما هي، إظهار أن العالم مشابه جدا لهذه الذات بحيث تكون معرفتها ممكنة دون أي اعتراف بما يبدو غريبا. إن الرغبة في إثبات ذلك هي شكل من أشكال تأكيد الذات، ومثل كل تأكيد الذات، فهي عقبة أمام نمو الذات التي ترغب فيها، والتي تعرف الذات أنها قادرة عليها. إن تأكيد الذات، في التكهنات الفلسفية كما في أي مكان آخر، ينظر إلى العالم كوسيلة لتحقيق غاياته الخاصة. وهكذا يجعل العالم أقل حسابا من الذات، وتضع الذات حدودا لعظمة خيراتها. في التأمل، على العكس من ذلك، نبدأ من غير الذات، ومن خلال عظمتها يتم توسيع حدود الذات. من خلال اللانهاية للكون، يحقق العقل الذي يفكر فيه بعض المشاركة في اللانهاية.

لهذا السبب لا يتم تعزيز عظمة الروح من خلال تلك الفلسفات التي تستوعب الكون للإنسان. المعرفة هي شكل من أشكال اتحاد الذات وغير الذات. مثل كل الاتحاد، تضعفه السيادة، وبالتالي أي محاولة لإجبار الكون على التوافق مع ما نجده في أنفسنا. هناك ميل فلسفي واسع النطاق نحو وجهة النظر التي تخبرنا أن الإنسان هو مقياس كل الأشياء، وأن الحقيقة من صنع الإنسان، وأن المكان والزمان وعالم الكون هي خصائص العقل، وأنه إذا كان هناك أي شيء لم يخلقه العقل، فهو غير معروف ولا يمثل حسابا لنا. وهذا الرأي، إذا كانت مناقشاتنا السابقة صحيحة، فهو غير صحيح. ولكن بالإضافة إلى كونه غير صحيح، فإن له تأثير في سرقة التأمل الفلسفي من كل ما يعطيه قيمة، لأنه يقيد التأمل في الذات. ما تسميه المعرفة ليس اتحادا مع غير الذات، ولكنه مجموعة من التحيزات والعادات والرغبات، مما يضع حجابا لا يمكن اختراقه بيننا وبين العالم الخارجي. الرجل الذي يجد متعة في نظرية المعرفة هذه يشبه الرجل الذي لا يغادر الدائرة المنزلية أبدا خوفا من أن كلمته قد لا تكون قانونا.

 على العكس من ذلك، يجد التأمل الفلسفي الحقيقي رضاه في كل توسع لغير الذات، في كل ما يضخم الأشياء المتوخاة، وبالتالي الموضوع الذي يتأمل. كل شيء، في التأمل، شخصي أو خاص، كل شيء يعتمد على العادة أو المصلحة الذاتية أو الرغبة  يشوه الشيء، وبالتالي يضعف الاتحاد الذي يسعى إليه العقل. من خلال إنشاء حاجز بين الموضوع والموضوع، تصبح هذه الأشياء الشخصية والخاصة سجنا للعقل. سيرى العقل الحر كما قد يرى الله، بدون هنا والآن، بدون آمال ومخاوف، بدون صخب المعتقدات العرفية والتحيزات التقليدية، بهدوء، بلا عاطفة، في الرغبة الوحيدة والحصرية للمعرفة - المعرفة غير شخصية، تأملية بحتة، كما يمكن للإنسان تحقيقها. ومن ثم فإن العقل الحر أيضا سيقدر المعرفة المجردة والعالمية التي لا تدخل فيها حوادث التاريخ الخاص، أكثر من المعرفة التي تجلبها الحواس، وتعتمد، كما يجب أن تكون هذه المعرفة، على وجهة نظر حصرية وشخصية وجسم تشوه أعضاءه الحسية بقدر ما تكشف.

العقل الذي اعتاد على حرية وحياد التأمل الفلسفي سيحافظ على شيء من نفس الحرية والحياد في عالم العمل والعاطفة. سوف تنظر إلى أغراضها ورغباتها على أنها أجزاء من الكل، مع غياب الإصرار الناتج عن رؤيتها كأجزاء متناهية الصغر في عالم لا يتأثر فيه كل الباقين بأفعال أي إنسان. إن الحياد الذي هو، في التأمل، الرغبة المطلقة في الحقيقة، هو نفس نوعية العقل التي، في العمل، هي العدالة، وفي العاطفة هي تلك المحبة العالمية التي يمكن أن تعطى للجميع، وليس فقط لأولئك الذين يعتبرون مفيدين أو رائعين. وهكذا فإن التأمل لا يوسع فقط أشياء أفكارنا، ولكن أيضا أهداف أفعالنا وعواطفنا: إنه يجعلنا مواطنين في الكون، وليس فقط مدينة واحدة مسورة في حالة حرب مع البقية. في هذه المواطنة الكونية تتكون حرية الإنسان الحقيقية، وتحرره من ثرثرة الآمال والمخاوف الضيقة.

وهكذا، لتلخيص مناقشتنا لقيمة الفلسفة. يجب دراسة الفلسفة، ليس من أجل أي إجابات محددة على أسئلتها لأنه لا يمكن، كقاعدة عامة، معرفة أن الإجابات المحددة صحيحة، ولكن من أجل الأسئلة نفسها. لأن هذه الأسئلة توسع مفهومنا لما هو ممكن، وتثري خيالنا الفكري وتقلل من التأكيد العقائدي الذي يغلق العقل ضد التكهنات ؛ ولكن قبل كل شيء لأنه من خلال عظمة الكون التي تتأملها الفلسفة، يصبح العقل أيضا عظيما، ويصبح قادرا على ذلك الاتحاد مع الكون الذي يشكل خيره الأسمى.

***

ترجمة د.احمد المغير

.........................

[الفصل 15 من مشكلات الفلسفة]

Chapter15-Philosophy Problems

عاش نصر مهموما بإنتاج خطاب ثالث؛ ليس ذاك الخطاب المتشدد الذي يدعو إلى صراع مفتوح مع العالم، ويُقال عنه هذا هو الإسلام، وليس ذاك الخطاب الدفاعي الذي يعزل الإسلام عن سياقاته؛ ليبدو حداثيا عصريا، فهذا الفكر التبريري الذي يُقدّم الإسلام كفعل إنساني مثالي، لا يختلف عن المتشدد الذي يُقدمه لنا في صورة مثالية أخلاقية وروحية متجاهلا سياقاته التاريخية الاجتماعية العامة.

حاول نصر تقديم إجابات علمية تُساهم في بناء وعي جيد بالمعنى الديني تحميه من التوظيف النفعي الذي بجعله وقودا في الصراعات السياسية، ويُفقده الطابع الروحي المتسامح، قدّم نصر فكرا إسلاميا يقبل التعدد الثقافي والديني، ويراه مظهرا من مظاهر الرحمة الإلهية، في مواجهة خطابات متشددة تسعى إلى تثبيت صورة الله الغاضب على حساب صورة الله الرحمن الغفور المحب، خطابات ترسّخ النظرة الأحادية الرافضة لكل أنواع التعدد الثقافي والديني، فتعيش صراعات مستمرة مع الخطابات المغايرة من داخل الإسلام وخارجه.

وفي معركة بناء وعي أكبر بحقيقة المعنى الديني كان لابد من الاشتباك المعرفي مع الكثير من المفاهيم الخاطئة الشائعة حول “الإسلام”، وكسر حلقة السجال التي تدور فيها خطابات غربية وشرقية تخلط بين الإسلام والعالم الإسلامي، فتتحوّل الممارسات الحياتية إلى قضايا لاهوتية، وتجعلُ المسلمين أفرادا ومجتمعات حاملين لنسخة واحدة من الفكر الديني، متجاهلين تنوع السياقات الاجتماعية والتاريخية والاختلافات الثقافية بين المسلمين.

كيف نُواجه تلك المغالطات دون أن نقعَ في مصيدة الخطاب المتشدد الذي حوّل نفسه لمركز ينبغي أن ندور حوله في كل مسألة تتصل بالإسلام، فيُحدد لنا أسلوب النقاش أو الجدال، فإما أن نتبنى خطابه العنيف أو أن نتخذ موقفا دفاعيا نعزل من خلاله الإسلام عن سياقاته، وهذا يقودنا إلى المقاربة المعرفية/ المنهجية التي تبناها نصر في جميع دراساته، والتي تقوم على ثلاث مرتكزات:

الأول: أنّ القرآن الكريم، كما قدّم نفسه وطبقا للمعتقد الإسلامي، هو رسالة الله إلى البشر، حملها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان القرآن واضحا في تقديمه صلى الله عليه وسلم بوصفه بشرا رسولا، فنحن أمام رسالة من مرسل مطلق/إلهي إلى متلقي/بشري، والوسيط الاتصالي شفرة أو نظام لغوي، فاللغة العربية، شفرة الاتصال بين المقدس والبشر؛ فالله اختار لغة الإنسان للتواصل؛ لأن شفرة لغة الله/ المقدّس لا يُمكن أن يستوعبها الإنسان، فلن يتحقق التواصل مع المجتمع، ولأن المستهدف بالرسالة المجتمع؛ كانت الرسالة بشفرة/لغة تُفهم بواسطة المجتمع الذي تُخاطبه، “وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم” [إبراهيم:٤]، فما كان لرسالة الإسلام أن تُحدث تأثيرا لو أنّ مستقبليها الأوائل عجزوا عن فهمها، لابد أنهم قد فهموها من خلال سياقهم السوسيو – ثقافي، ومن خلال فهمهم وتطبيقهم لها تغيّر مجتمعهم.

وحيث أنّ المرسل/المنشأ للقرآن، وهو الله عز وجلّ، لا يُمكن أن يكون موضوعا للدراسة، فإنّه لا يُمكننا أن نُقدّم مقاربة للنص أو الخطاب المقدس إلا من خلال دراسة لغة النص المقدس مستفيدين من تطور الدراسات اللغوية، من جانب، ومن خلال دراسة المجتمع الذي خُوطب بتلك اللغة من جانب آخر.

من هنا يبدأ الباحث في الدراسات القرآنية دراسته بالوقوف أمام سياق الواقع الذي عاصرته الرسالة (ثقافة القرن السابع الميلادي)، والثقافة هنا عالم المفاهيم الذي تحتويه اللغة في تلك الفترة، وهي المفاهيم نفسها التي حملها القرآن الكريم، فإذا كانت السماء في وعي المجتمع آنذاك سقف تُزينه النجوم، فستكون كذلك في القرآن الكريم.

في ضوء ذلك يُمكننا أن نفهم قول نصر: “القرآن منتَج ثقافي وهو في الوقت نفسه منتِج ثقافي”، فكل نص أو خطاب لغوي يحمل ثقافة/وعي/ مفاهيم المجتمع الذي خرج فيه، “كنص من داخل واقع سوسيو -ثقافي محدد- متضمن في نظام لغوي محدد وهو اللغة العربية”، فمثلا القسم بالعاديات ضبحا في القرآن الكريم تعبير يفهمه مجتمع القرن السابع الميلادي، فهم يعرفون حالة الخوف التي تُحدثها إغارة خيل العدو وأصوات أقدام الخيل التي تضرب الصخر تحتها فتقدح شرارا.

والقرآن الكريم، في الوقت نفسه، مُنتِجا لثقافة جديدة، فبالتدريج “انبثقت ثقافة جديدة من خلال القرآن”، فالقرآن الكريم حين يقول “حرّمت عليكم” يعدّل في ثقافتهم حدود المحرمات، ويقول: “كُتب عليكم” فيعدّل في وعيهم طبيعة الواجبات الدينية..

فالقرآن الكريم بوصفه رسالة عبر لغة، قد حمل كل سمات اللغة بشكل عام، من كونها: اتّصالية، فاللغة هي أداة الاتصال الأكثر فاعلية في المجتمعات الإنسانية، رمزية: فتعتمد على مجموعة من الإشارات والرموز، متغيرة مفتوحة، فأي لغة ليست نظاما مغلقا فهي قابلة لإماتة كلمات وجلب أخرى، وهي كذلك دوما في حالة تغيير وتجديد مكتسب من المجتمع، فنجد في القرآن استبرق وسندس وغيرها من الكلمات التي دخلت إلى العربية من بيئات أخرى، نظامية فهي نظام دقيق من القواعد الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية حتى تُحقق غرض التواصل والإفهام، وأخيرا اللغة سِيَاقية: فالسِّياقات تتدخل في بناء المعني وتحديد المغزى.

وهذا يقودنا للمرتكز الثاني الذي قامت عليه منهجية نصر، وهو “القراءة السياقية” للنصوص الدينية، التي أكّد أنّه استلهمها من رواد النهضة، من أمثال: الإمام محمد عبده والشيخ أمين الخولي، في سعيهم لإعادة فهم القرآن الكريم، ويُمكن أنْ نُعرّف القراءة السياقية: بأنّها تناول القضية/المسألة الدينية في نسق كلي مُركب من مجموعة سياقات:

1- السياق التاريخي الاجتماعي للقرن السابع الميلادي (زمن نزول الوحي) كإحدى السياقات المتعددة للقراءة، وهذا المستوى من القراءة السياقية يُعرف بـ “السوسيو تاريخي”، وهو التحليل الاجتماعي الكلي الذي يبحث في “الصورة الكبيرة” التي تتضمن التغيير التاريخي على مدى عشرات أو مئات السنين..

وهذه “القراءة السياقية” لها جذور لدى المدرسة الأصولية في تراثيتها القديمة، ومقاصديتها المعاصرة، فعلماء الأصول يبحثون، كضرورة لفهم المعنى، في أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وغيرها من مباحث علوم القرآن وعلوم اللغة؛ كي يصلوا إلى بناء مقاصد قرآنية كلية، ولم يقلْ أحد بأنّ الأصوليين عندما بحثوا في الناسخ والمنسوخ كانوا يقولون بـ”وقتية الأحكام”، وأنّهم ينالون من القرآن الكريم، ولم يقل أحد أنّ بحثهم عن أسباب النزول سعي إلى قصرها على السبب.

فلا تختلف القراءة السياقية عن القراءة المقاصدية الأصولية في حاكمية السياق على المعنى، فالسياق في أصول الفقه أو القراءة السياقية هو ما يُمكن أن يُحدد ما هو وحي عابر للزمن، وما هو عادات وأعراف دينية واجتماعية سابقة على الإسلام، وعلى مستوى العادات والأعراف السياق هو ما يُمكنه مرة أخرى أن يميز لنا بين ما تقبله الإسلام تقبلا كاملا مع تطويره كالحج مثلا، وبين ما تقبّله تقبلا جزئيا مع الإيحاء بأهمية أن يُطوّره المسلمون مثل مسألة “العبودية” وقضايا “حقوق المرأة” و”الحروب”.

وكما رأينا ثنائيات عند علماء الأصول من قبيل الناسخ والمنسوخ سنجد ثنائية المعنى والمغزى حاضرة في القراءة السياقية “التي تضع تمييزا بين المعاني والدلالات التاريخية المستنبطة من السياق من جهة، وبين “المغزى” الذي يدل عليه المعنى في السياق التاريخي الاجتماعي للتفسير من جهة أخرى. وهذا التمييز هام جدا بشرط أن يكون المغزي نابعا من المعني ومرتبطا به ارتباطا وثيقا مثل ارتباط النتيجة بالسبب أو المعلول بالعلة، وألا يكون تعبيرا عن هوي المفسر ووثبا علي “المعني” أو إسقاطا عليه”.

٢- سياق ترتيب النزول، أو السياق التتبعي للوحي، “وهو سياق مغاير لترتيب السور والآيات في المصحف، لقد درج المفسرون عموما علي تناول تفسير القرآن وفق هذا الترتيب الأخير، وهو نهج يغفل حقيقة أن ألفاظ القرآن قد أصاب معانيها تطورٌ في سياق السنوات العشرين التي استغرقها نزول الوحي، فاللفظ القرآني ليس من الضروري أن يدل علي المعني نفسه في المواقع المختلفة، وليس معني ذلك التقليل من شأن ترتيب التلاوة (ترتيب المصحف)، بل لابد من الاهتمام به من زاوية الكشف عن التأثير الجمالي النفسي للقرآن؛ لأنه هو الترتيب الذي استقر به النص في أفق التلقي العام. فإذا كانت القراءة بحسب ترتيب النزول أساسية للكشف عن المعاني والدلالات، فإن القراءة بحسب ترتيب التلاوة (ترتيب المصحف) تكشف عن “المغزي” والتأثير، ومنهج القراءة السياقية يهتم بتحليل السياقين في نسق كلي تركيبي لا يغفل الفروق بينهما؛ لأن القراءة التاريخية قادرة علي اكتشاف تطور الدلالة داخل بنية النص (من المكي إلي المدني مثلا) لكنها عاجزة عن اكتشاف التأثير الدلالي الكلي للبنية الراهنة للقرآن، في حين أنّ القراءة التتباعية لعلماء التفسير ربما تنجح في الكشف عن التاثير الدلالي الكلي، وإن كانت تغفل في أحيان كثيرة عن مسألة التطور الدلالي، ومهمة منهج التجديد.. الحرص علي الجمع بين البعدين التاريخي والتتابعي في عملية التفسير”.

٣- يتبع المستوي السابق مستوي آخر هو سياق “السرد “، والمقصود به التمييز بين ما ورد علي سبيل “التشريع” وبين ما ورد على سبيل “المساجلة” أو “الوصف” أو “التهديد والوعيد” أو “العبرة والموعظة”.. إلى غير ذلك من مستويات السرد.

٤- مستوى التركيب اللغوي، وهو مستوى أعقد من مستوى التركيب النحوي الذي اهتم به المفسرون؛ لأنه يتناول بالتحليل علاقات مثل “الفصل” أو “الوصل” بين الجمل النحوية وعلاقات “التقديم والتأخير” و”الإضمار والإظهار” – الذكر والحذف – و “التكرار” .. إلخ. وكلها عناصر دلالة أساسية في الكشف عن مستويات المعنى. وتلك هي العناصر الدلالية التي تناولها “عبدالقاهر الجرجاني” في كتابه الهام “دلائل الإعجاز” تحت مفهوم “النظم”، وقد تناولها نصر بالتحليل في ضوء علم” الأسلوب” أو “الأسلوبية” في دراسة مستقلة.

٥- مستوى التحليل النحوي والبلاغي الذي لا يقف عند حدود علم البلاغة التقليدي بل يوظف أدوات علم “تحليل الخطاب” وعلم “تحليل النصوص” في إنجازاتها المعاصرة. ومن شأن هذا التوظيف أن يكشف عن مستويات أكثر عمقا.

أما فيما يتعلق بالنص التأسيسي الثاني، وهو” السنة النبوية الشريفة” فلا بد من الجمع بين نقد “المتن” ونقد “السند”، أي بين منهج الإمامين أبي حنيفة والشافعي مع الإفادة كذلك من كل إمكانيات منهج فقد النصوص وتوثيقها في اللغويات والأسلوبية المعاصرة، أهم من ذلك ضرورة فتح باب الاجتهاد للفصل بين ما يندرج من كلام الرسول (ص) في مفهوم “السنة” بالمعنى الاصطلاحي، أي الواجبة الاتباع بوصفه رسولا ونبيا، وبين أقواله العادية التي يؤخذ منه ويترك بوصفه بشرا”.

المرتكز الثالث: لمنهجية نصر حتمية أن تتعدد التأويلات التي لا بد أن تختلف عن بعضها البعض بتغير الزمن والثقافة. شريطة أن تكون وفق قواعد منهجية؛ حتى لا يكون النص عرضة للتلاعبات السياسية والنفعية والأيدلوجية كما نرى في واقعنا، ومن أهم تلك القواعد: ضرورة الوعي بأن يكون المغزى مرتبطا بشكل قوي ومتصلا، بعقلانية، بالمعنى لكي نحصل على تأويل أكثر قبولا ومعقولية.

ففهم الجيل الأول من المسلمين والأجيال التي تلته مباشرة ليس فهما واحدا كما يُظن، كما أنه لا يُوجد فهما نهائيا أو مطلقا، فديناميكيات الشفرة اللغوية الخاصة بالقرآن ستسمح دائما بتولد محاولات لا نهائية لا حصر لها لهذه الشفرة.

وبما أن الاعتقاد في رسالة الإسلام ينبني على صلاحيتها لكل البشر، وفي كل زمان ومكان، فإن تعددية التأويل تصبح أمرا حتميا. ولكن يلزم الوعي بالفارق بين السياق الأصلي “المعنى” والذي يعتبر ثابتا، لا يتغير، بسبب تاريخيته، وبين “المغزى” القابل للتغيير.

غير أن تلك المنهجية تُواجهها عقبتين:

الأولى: أن المنهجية المقترحة تستلزم تحليل سوسيو – تاريخي للواقع والثقافة، وتوظيف المنهجيات اللغوية الحديثة، وحتى الآن، ما زال هذا مرفوضا ليس فقط في مجال الدراسات القرآنية، ولكن أيضا في مجال الدراسات الإسلامية بشكل عام، وما زالت المقاربة الفيلولوجية هي المقبولة من المؤسسات الدينية.

الثانية: ما شهده القرن التاسع الميلادي من صراع فكري سياسي حول طبيعة القرآن الكريم، هل هو مخلوق كما تقول المعتزلة أما قديم/ أزلي كما يقول الحنابلة، وقد حسم هذا الصراع لصالح الحنابلة بعد أن تبنته السلطة السياسية، ولم يعد الحديث عن مذهبين يُمكن وصف أحدهما بالصواب والأخر بالخطأ، وإنما أصبح الأمر حقا وباطلا، وأصبح القول بخلافه تهديدا ينال من الإسلام.

وهذا يتعارض مع القراءة السياقية والتأويلية التي تجد نفسها أقرب إلى التصورات الاعتزالية ليس من منطلق الانتصار لمذهب تراثي وإنما من منظور التصور العلمي الأكثر اتساقا مع طبيعة القرآن الكريم كنص أو خطاب اختار اللغة أداة للتواصل.

***

أ.د عبد الباسط سلامة هيكل – جامعة الأزهر

إن الخوف من الموت والمجهول دفع الناس نحو البحث عن حياة ما بعد الموت، فحنطوا أجساد موتاهم، ووضعوا معهم أموالَهم وأغراضَهم الشخصيةَ لاستخدامها بعد قيامتهم، بمساعدة قوىً فوق بشرية ترعاهم. وكان الكهنةُ وسطاءَ هذه القوى غيرِ المرئية ورسلها المطوَّبين، حيث تمكنوا بذكائهم وبراعة حكاياتهم وقوة خطابهم اللغوي من إقناع البشر الفانين للتوسط لهم عندها، حيث كان الكهنة يتقبلون نذورَهم وأضحياتِهم وتبرعاتِهم، ويتغذون على خوف الناس الذين يجدون أمانهم في قصص الرسل ووعود الآلهة لعبادها المطيعين بالجنان؛ فكانت الكهانةُ أولَ وظيفة يعتاش منها أصحابُها دون عملٍ شاقٍّ في الأرض أو الصيد أو الحرب، فكانوا يستغلون التجار والفلاحين والمحاربين باسم الدين، ويطوعونهم للأب الملك والقائد مقابل حظوته وعطائه...

ثم... وبسبب تنافس الكهنة على الناس ومنافعهم، اخترعوا الكثير من الآلهة، وبنوا لها بيوتاً لا تسكنها. وقد كثرت الآلهة وتنوعت اختصاصاتها بين الزراعة والحرب والحب والحكمة والشمس والقمر والرعد والمطر، واختلفت الآلهة مع بعضها باختلاف مصالح كهنتها وتنوع أحقادهم؛ فغالباً ما تسببت الآلهة بالفوضى وتقسيم المجتمع الغافل، حتى بات الكهنة يشكلون قوة روحية موازية للقوة السياسية، فقام الفرعون أخناتون بتوحيد الآلهة وصهرها في جوهر آتون إله الشمس الواحد الذي لا شريك له، وقال إنه ابنه، ثم ضرب على يد الكهنة المعارضين للتوحيد بيدٍ من حديد باعتبارهم مشركين. ولعل اليهود تعرفوا إلى تعاليم أخناتون عندما كانوا في مصر، فلم يعذبوا النبي موسى بتصديق رسالته التوحيدية، حيث ظهرت معهم أولُ نسخة إبراهيمية من التوحيد، ثم تأثرت بها باقي الأديان التي جاءت بعدها وانتشرت بين الوثنيين الخائفين من الموت، حيث وعدتهم بحياة خالدة فيها كلُّ ما يشتهون.

ترى ما هي الطريقة المثلي ليقنعك أحد بتناول كوب من السم ؟ وهل يمكن أن تفلح المغريات في اقناعك : مال ، سلطة ، شهرة؟ ، هل يمكن أن يغريك شيء لتفعل هذا من الأصل؟

ربما لا ، ولكن ماذا لو أقنعك هذا الشخص بأن كوب من السم هو كوب من اللبن أو الماء .. هنا قد يتبدل الأمر .. شيء من التجميل والخداع ، كفيل بإنهاء حياتك إن لم تنتبه له .. وعلى النسق نفسه ، فيمكن لهذا التجميل وذاك الخداع أن يغيروا أفكار المرء عن أمور خطيرة أيضا إن لم ينتبه لها .

وفي خضم هذا يأتينا خطاب فكري فيه من الخطر على قدر ما فيه من الجمالية والجذب ، إنه خطاب العلمانية المتخفي في ثياب غير ثيابه ، فتارة بالعقلانية ، وتارة بالديمقراطية ، وتارة أخرى بالإنسانوية واحترام الحريات ، ونحن بين هذا وذاك نتشرب العلمانية بمفاهيمها دون أن ندري ونملئ عقولنا بالسم الذي نحسبه الماء ، فكيف تتجمل العلمانية ؟ وما هي حقيقة هذا التجميل ؟ وهل هي محض أفكار دنيوية لا ضرر من اعتناقها أم أن أمرها أشد تركيبا وأكبر خطرا من مجرد أفكارا وآراء؟

في الأول من أكتوبر عام 2018 نشر مركز بيو The Pew بالولايات المتحدة الأمريكية دراسة عجيبة تحت عنوان " معتقدات حركة العصر الجديد" New Age beliefs أصبحت شائعة بين الأمريكيين المتدينين وغير المتدينين لكتشف النتائج أن 62 % من الأمريكيين المسيحيين أصبحوا يؤمنون بواحد على الأقل من معتقدات هذه الحركة .

لأجل هذا رأت الموسوعة البريطانية أن تلك الحركة أصبحت إحدى الظواهر الدينية في الغرب بالقرن العشرين ، فما طبيعة هذه الحركة  ؟ ، وما جذورها ؟ ، وما معتقداتها؟  ، وكيف وصلت إلى عمق المجتمع الغربي وتسللت إلى قلب مجتمعنا العربي –الإسلامي دون أن ندري عن اسمها شيئا .

في سبعينات القرن الماضي كان الإنسان الغربي على موعد متجدد مع القلق الوجودي ، فبعد انهيار منظومة الدين الصلبة مع عصر الحداثة ، ثم فقدان الثقة في العلمانية فيما بعد الحداثة ، وجد هذا الإنسان الحائر نفسه وحيدا أمام الحياة بلا دين يثق به ، ولا علمانية تحميه من الشتات ، وتقدم له الاكتفاء الروحي الذي يتوق إليه .

ونتيجة ارتباط المسيحية بحقبة ما قبل الحداثة ، وذكرياتها المريرة المظلمة ،وكون العلمانية رداءا لا يستر الروح بعدما نزعت عن العالم جانبه الإلهي ، فإن الوقت قد حان لاكتشاف نهج جديد .

وهنا دارت البوصلة نحو الشرق ، فيعد قرابة قرن من دخول الهندوسية إلى الولايات المتحدة الأمريكية على يد جمعية فيداتنا Vedanta عرفت الديانات الشرقية الوثنية طريقها إلى بلاد العم سام من جديد على يد حركات أخرى ناشئة كالجمعية الثيوصوفية والحركة الروحانية وحركة الفلسفة المتعالية وحركة الفكر الجديد وغيرها من الحركات والتوجهات الباطنية التي شكلت نظاما فكريا للعالم الغربي المسيحية ، وأصبحت النواة لبزوغ حركة العصر الجديد والتي لا تقدم مذهبا مبتكرا كما قد يُظن من اسمها ، وإنما هي حصيلة مجموعة من المذاهب والمعتقدات المتنوعة والملفقة في قالب روحاني وعملي جديد ، فهي لا تعتمد عقيدة مركزية موحدة ، وإنما تقدم خليطا من المبادئ الروحية والباطنية كوحدة الوجود وتناسخ الأرواح وإنعدام الفرق بين الأديان .. إلى آخر تلك الخزعبلات التي تسد فراغ إنسان العلمانية الضال .

مما سبق يتبين أن حركة العصر الجديد ما هي إلا إعادة صياغة للعديدة من الآراء الدينية  ووجهات النظر المختلفة ، ولأنها لا ترى أى فارق يذكر بين الأديان ، فإنها لا تهتم على الإطلاق على ما يعتقده أتباعه، وإنما تهتم فقط بما تضيفه إلى حياتهم اليومية ممن ممارسات يمكنها إعادة تشكيل فكرهم مع الزمن ؛ ولأجل هذا صيغت برامج الحركة وأدبياتها بطريقة  تخفي حقيقة أصولها الفلسفية وتقدمها لعامة الناس أساليب حياة معاصرة تساعد من يمارسها في التمتع بالصحة والسعادة الدائمين .

بهذا السياق تركز الباحثة " فوز كردي" Fawz Kurdi أن " أهم ما يميز الحركة زعمها أن عصر التلقي من مصدر خارجي كالإله أو الدين قد انتهى وأن العصر الجديد يستطيع فيه الإنسان تشكيل حياته ومستقبله كيفما شاء باستخدام الطبيعة والعقل والقدرات غير المحدودة ".

وهو ما عبر عنه "ديباك شبرا "  Chopra  Deepak بوصفه أحد رموز الحركة فقال :" أنا كنت ملحدا حتى أدركت أني إله" ، لكن وبقيل من التأمل سنجد ان تلك المفاهيم الكفرية لم تكن تنتشر تحت غلاف حركة روحانية ، إلا بسبب الظمأ الروحي الشديد بالغرب ، الذي ملأته معتقدات الشرق الوثنية من جهة ، ثم حافظت من جهة أخرى على لذته الدنيوية التي يقننها له الدين ، فهي تقدم له الماء الذي يروي ظمائه العلماني – أحادي البعد ، ثم تضع في هذا الماء خمرا يسكره ويرضي شهوته هذا العلماني من جديد مقدمة له الجانب الثاني الذي يبحث عنه ، لكنه جانب زائف يمنحه الحرية المطلقة وكأنه إله نفسه .

ولهذا ساهمت تلك الحرية المطلقة في قبول الحركة مجتمعيا ورواجها ، خاصة بعد ان حاول أتباعها إضفائها الصبغة العلمية على ممارستها من الكهانة والتنجيم والسحر ، فخرجت إلينا في ثياب منمقة تزعم أنها منهج علمي أساسه البرمجة اللغوية العصبية والتأمل الإرتقائي والتحكم بطاقة الكون ، واستغلال قانون الجذب إلى آخر تلك التسميات الرائجة .

إلا أن هذه المحاولة قوبلت بالرفض الشديد من الأوساط العلمية ، لعدم موافقة دراسات الحركة وأبحاثها لمنهج علمي صحيح ، وما هي حتى ينكشف زيف هذا البعد الروحاني واهترائه العملي أمام أتباعه ، حتى يرتد عن سبيله ، ولعل أشهر من رجعوا عن هذه الحركة ، واعلنوا ندمهم "دورين حنان Doreen Hannan المعروفة باسم " Doreen Virtue و"ستيفن بانكرز Stephen Bancarz واللذان كانا من أشهر أعلام حركة الجديد ومنظريها قبل أن يعلنا تخليهما عن أفكارها والعودة للدعوة إلى المسيحية من جديد .

كغيرها من الحركات والمعتقدات الفاسدة ، وجدت حركة العصر الجديد طريقها إلى العالم الإسلامي من خلال الكتب المترجمة والرامج الإعلامية والمسلسلات والأفلام السينمائية ، وبرز عدد كبير ممن يروجون لأفكارها عبر خطاب ديني تحفيزي مثير للمشاعر ، وأخذت تلك الأفكار تنتشر تحت مسميات براقة كعلوم الطاقة واليوجا والبرمجة اللغوية والعصبية وقوانين العقل الباطن وجذب شريك الحياة ومحاضرات الأبراج والفلك والطاقة الحيوية والشفاء الذاتي وذلك على يد مجموعة من المشاهير الذين ارتبطت أسمائهم بهذه العلوم الزائفة .

في هذا الصدد يرى بعض الباحثين  بأن مدرب تنمية البشرية من العرب قد حاولوا كثيرا التوفيق بين جوهر الدين وجوهر التنمية البشرية وذلك لمعرفتهم أن الدين أهم مكونات المعرفة الذهنية العربية على الإطلاق ، ولهذا فإن أي تنمية بشرية لا تستند إلى الدين بشكل قشري أو جوهري لا يمكنها أن تنفع المجتمع العربي على الإطلاق ، إلا أنهم لم ينجحوا في محاولتهم تلك لتعارض المنطلق الديني مع منطلقات التنمية البشرية الوضعية.

فالمكون العلماني في التنمية البشرية المعاصرة أمر لا يمكن تجاوزه ، فهي لا ترى أن تحقيق الأهداف الفردية والاجتماعية قد يتوقف على الدين في شيء بل لو كان الإنسان ملحدا متسقا مع نفسه ومحيطه الاجتماعي فهو إنسانا  ناجح وفق مفاهيم الطاقة تلك .

هذا كله بخلاف التعارضات الصريحة بين المفاهيم المستمدة من الطاقة وبين الإسلام فمفاهيم مثل الطاقة الكونية واستمدادها من الأحجار والأشجار والأشخاص لا يراها المتأسلمين إلا وثنية مقنعة ، بينما هي محور الخطاب التنموي المذكور والذي يؤكد رواده أن برامجهم هجينة من مختلف الحضارات ، والتي تخدم الإنسان بصفته إنسانا دون فلسفة أو دين أو معتقدات ثابتة ، وإنما هي روحانيات عامة تنمي الشخصية وتطور نوعية الأداء وتحسن صحة البدن والعقل والروح وتنشر الحب والسلام في الأرض وتدعو إلى التناغم مع الكون ويكسون هذه الخرافات والخيالات صبغة علمية لتنال القبول عند الناس ، فإن ذلك من الإسلام حتى ينطلى لك على بعضنا ، وقد صدق الله سبحانه فقال :"كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءً وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ".

وتبيِّن المُعطيات الحديثة كما يرى محمود حيدر أنّ المَراجِع التأسيسيّة لمُصطلح «ما بعد العلمانيّة» تنحصر في أعمالٍ بحثيّة صدرت بعد العام 2010. وهذه الأعمال هي حصيلة مؤتمراتٍ خُصِّصت لتظهير هذه القضيّة. في مقدِّم الأفكار والنظريّات التي استندت إليها تلك الأعمال، هي ما اشتغلَ عليه عددٌ وازِنٌ من المفكّرين وعُلماء الاجتماع في مقدّمتهم: الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، والكندي تشارلز تايلور، وعالِم الاجتماع الأمريكي بيتر بيرغر، وعالِم الأنثروبولوجيا من أصل إسباني خوسيه كازانوفا.. إلى هؤلاء جمعٌ آخر من الباحثين في الفلسفة وعِلم الاجتماع السياسي ممَّن أَسهموا بصورةٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ في تسييل الكلام على فكرة «ما بعد العَلمانيّة». كان للألماني هابرماس ورفيقه الكندي تايلور على وجه الخصوص مجهودٌ مميّزٌ في التأسيس لنقاشٍ جدّيّ بصددها. ومن الأفكار التي شكَّلت أحد أبرز خطوط الجاذبيّة في هذا النقاش، حديثهما عن عالَم ما بعد عَلماني أَخذت مَعالِمه تظهر في المجتمعات الحديثة. وهو الأمر الذي ولَّد احتداماً فكريّاً غير مألوفٍ مؤدَّاه: أنّ العصر العَلماني قد بلغ منتهاه، وأنّ العالَم الأوروبي المُعاصِر دخلَ في واقعٍ جديدٍ لم يعُد فيه الكلام على العَلمانيّة بمعناها الكلاسيكي أمراً جائزاً.

أمّا السؤال الأكثر مُدعاة للنقاش المُقبل، فهو التالي: ماذا بعد مفهومٍ غامض ومُلتبس الدلالة كمفهوم «ما بعد العلمانيّة»؟.. وهل ثمّة سياقٌ تاريخي حضاري آخر تستثيره مثل هذه الأطروحة، ويستوي فيه شأنُ العالَم مع الإيمان الديني على نصاب التكافؤ الخلاّق؟

هو سؤال يستأهل الخَوض في رحابه على الرّغم من طابعه الاستباقي. ذلك أنّه يَستدرج إلى مُنفسحٍ تنظيري لا يقتصر على الغرب الأوروبي فحسب، وإنّما أيضاً على بقيّة العالَم. ولا مناصّ من الإشارة هنا بوجهٍ خاصّ إلى ما يتوقَّع من تنظيرات في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة. فعلى الرّغم من أنّ الدخول إلى فكرة ما بعد العَلمانيّة والسفر في عوالِمها، لا يزال ينطوي على حذرٍ لافتٍ بين مفكّري الغرب وفلاسفته، فلا ينفكّ التعامل مع هذه الفكرة في البلاد العربيّة والإسلاميّة بمَنهج نظر يشوبه التبسيط والاختزال، مثلما يَحكمه الاندهاش والاستغراب كما يرى محمود حيدر.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة – جامعة أسيوط

........................

المراجع:

1- حركة العصر الجديد.. وثنية مقنعة وعلوم زائفة.. مركز رواسخ.. يوتيوب.

2- تجميل العلمانية.. القناع الزائف والوجه القبيح.. مركز رواسخ.. يوتيوب.

3- التحليل الأيديولوجي للإلحاد | الدكتور نذير خان | ترجمات

4- زهير الخويلدي: الحاجة إلى الإيمان في عصر ما بعد الدين.

5- محمود حيدر: «ما بعد العلمانيّة» كمفهوم مُثير للالتباس.

بعيداً عن الخوض في تعريفات العلمانية، وعن دلالة الكلمة، والمصدر الذي اشتُقت منه. ما إذا كانت مشتقة من العِلم (بكسر العين)، أو من العالم (بفتح العين). حيث ما زال، الخلاف قائماً بين المثقفين، والباحثين، وكذلك بين الناشطين السياسيين؛ حول ما إذا كانت العلمانية، هي الحل، لمعالجة ما ينتاب مجتمعاتنا، من تخلف، ثقافي، وفكري، يطال القاعدة العريضة المهمشة، التي ما زالت تعيش في الماضي، في ظل غياب أي آفاق تنبئ بمستقبلٍ قريب أفضل.

في كتابه، اللاهوت العربي، يُلمِح الدكتور يوسف زيدان، إلى بدايات تداول هذا المفهوم، بقوله: يحلو لكثيرٍ من مفكرينا المعاصرين، ترديد ما فحواه أن الدين ينبغي أن يظل بعيداً عن السياسة، وتظل السياسة بمنأى عن الدين. هذا ما يزعمون ويبشِّرون به وكأنه الاستنارة الباهرة، أو هو حسبما صاروا يسمونه مؤخراً (العلمانية) تلك اللفظة ملتبسة الدلالة التي كانت تعني في اليهودية معنىً خاصّاً، إذ هي هناك صفةٌ لليهودي غير المتديِّن، الذي يظل مع عدم تدينه يهوديّاً، لأن أمه كانت يهودية. ثم صارت العلمانية تعني في المسيحية، الاتجاهَ المعنيَّ بالعمل في العَالم، لا بالخدمة الكنسية (الاكليريكية) من دون أيِّ إدانات صريحة لمن هو علمانيٌّ من المسيحيين.. لكن الكلمة صارت اليوم تعني، عند المسلمين: الإلحاد والكفر والزندقة والخروج عن الدين (الرِّدَّة).

مما سبق نرى أن المسيحية، كان لها، ومنذ البداية، موقفاً، متسامحاً من العلمانية، وهو موقفاً أقل ما يمكن أن يقال عنه، أنه كان موقفاً محايداً. بعكس، الموقف الإسلامي المُتَشَدّد، الذي أوضح موقفه منها، ومنذ البداية، أيضاً، بما لم يدع مجالاً للَبْس.

والسؤال الذي يدور دائما في أذهان المثقفين، والسياسيين؛ كيف السبيل للوصول إلى نظام (علماني) يخرجنا، من حالة التأخُر المزمن، الذي تعاني منه مجتمعاتنا، العربية-الإسلامية، وهُمْ يظنون، أن العلمانية، وصفةٌ جاهزة، ومجرد قرار يُتخَذ من فوق، ويُدرج ضمن قوانيننا الأساسية (دساتيرنا) وكفى المؤمنون شر القتال. غير مدركين لسياق التطور التاريخي لمجتمعاتنا، منذ أربعة عشر قرناً؛ التي لم تعش في ظل دولة فيها بعض ملامح الدولة الحديثة.

لم تعرف بلادنا، منذ ظهور الإسلام، سلطتين مستقلتين، إحداهما (زمنية) على رأسها، ملك أو أمير.. والثانية، سلطة (دينية) يرأسها، رجل دين، إمام أكبر أو فقيه. كما كان عليه الحال في أوروبا، منذ انتشار المسيحية فيها، والتي كان لها، سلطتين زمنية أو سياسية ويرأسها الملك أو (الإمبراطور) وسلطة دينية ممثلة بكبير الأساقفة ما بات يعرف بـ (البابا) على رأس (الكرسي الرسولي).

أما في دولة الخلافة الإسلامية الوليدة، لم يكن هناك فصل بين الدين والدولة. فقد تطور الأمر بعد الخلافة الراشدية إلى المُلك مع بداية الخلافة الأموية. فالخليفة، هو من يستحوذ على السلطتين، الزمنية والدينية. هو الملك، الذي يقبض على دفة الحكم من جهة. وهو أمير المؤمنين "وخليفة الله ورسوله" على الأرض من جهة أخرى. وهو الحاكم، والقاضي، وبيده أصول التشريع، ويلتف حوله الفقهاء ورجال الإفتاء؛ يبررون أحكامه؛ وما ترتب على ذلك من قمع دموي، لكل الجماعات أو المذاهب الكلامية، التي كان لها اجتهادات فكرية، حاولوا من خلالها، نقد بعض المبادئ التي روج لها الحكام، مثل مذهب (الجبرية) أو القدرية، أيام الدولة الأموية، لتعزيز سلطتهم، في القرن الأول الهجري، مثلما حدث لمؤسسي علم الكلام (آباء الكلام) الأربعة الذين وُصِفوا بأهل البِدَع أو (الهرطقة): كـ ـمعبد الجهني، غيلان الدمشقي، الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، الذين ذُبحَ كل واحد منهم بطريقة تفوق التصور!

وإذا أردنا، تَتَبُع ظهور العلمانية، ونشأتها، نرى أنها ارتبطت بالسياق المسيحي الأوروبي (الغربي)، وليس بالمسيحي الشرقي؛ فكانت وليدة مسار، وصيرورة تاريخية أوروبية.

إذن، المسيحية، انتشرت في بيئة أوروبية، لها تاريخها، وتراثها الفكري، والديني وتجربتها السياسية، السابقة على ظهور المسيحية كإحدى الديانات (الابراهيمية) قبل الميلاد بقرون من الزمن، بدءً بأثينا (المدينة- الدولة)، ومن بعدها روما، التي طورت ما بدأته أثينا. وأثرَّت المسيحية، وتأثَّرت، في الحياة الاجتماعية، والسياسية، والثقافية السائدة، في مكان انتشارها الجديد، في أوروبا.

ففي عام 313 م، أعلن الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأول (272 -337) م، مرسوم (ميلانو) الشهير؛ الذي منح بموجبه المسيحيين وغيرهم الحرية لاتباع الدين والنهج المناسب والأفضل لكل فرد منهم فكانت خطوة أخلاقية صائبة، مما منح التسامح لجميع الأديان، بما فيها المسيحية. وبهذا المرسوم أصبحت الإمبراطورية رسميًا محايدة فيما يتعلق بالعبادة الدينية؛ فليست الديانات التقليدية (الوثنية) باطلة غير مشروعة، ولا المسيحية دين الدولة.

وبعد أن أصبحت المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية، سنة 391 م، وحيث كانت الكنيسة عاملة في كنف دولة عظمى متينة البنيان في بيزنطة، غدت في روما السلطة الوحيدة المتماسكة في عهد الغزوات البربرية لأُمم القوط وغيرها.. ولكن هذه السلطة - سياسية كانت أم دينية - كانت مرتبطة بعلاقة أكيدة مع الدولة، علاقة رعاية من قبل الدولة، وإرشاد من قبل الكنيسة لكون أهلها (أي أهل الكنيسة) مثقفي السلطة ومحتكري المعرفة.

وبحسب الدكتور عزيز العظمة، في كتابه العلمانية من منظور مختلف، يقول: وسنرى أن الكلام على الصراع بين الدولة والكنيسة أمر مبالغ فيه إلى حد كبير، فلم يكن للكنيسة استقلال فعلي إلاّ في مجتمع إقطاعي كانت فيه الكنيسة اقتصادياً سلطة إقطاعية، ملكية أو شبه ملكية، كغيرها من السلطات.

إن ثورة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر، وهجومه على الكنيسة ممثلة بـ (بابا الفاتيكان) لبيعها صكوك الغفران عام 1516م، وتعليقه البيان الشهير المتضمن الموضوعات الإصلاحية على باب كاتدرائية فورمز في ألمانيا عام 1517م. وكانت حركة الإصلاح (البروتستانتية) تلك، فاتحة لعهد الحروب الدينية، في أوروبا، التي ترافقت بالعنف الذي أخذ أشكالاً مهولة.. ولم تنته تلك الحروب الدينية، إلا مع معاهدة وستفاليا للعام 1648 م، التي أفضت بأوروبا إلى نظام دولي جديد؛ اقترن باتفاق ملوك فرنسا والكنيسة الكاثوليكية، بتبعية الكنيسة للدولة؛ وأعطي بموجبه الملوك حق تعيين أصحاب المناصب الكبرى في الكنيسة.

إن ما قامت به الشعوب الأوروبية، عبر هذا التاريخ الذي استعرضنا بعض محطاته، والذي جرى في إطار شبكة من العلاقات والصدامات السياسية والاجتماعية والفكرية البالغة التعقيد.. وصولاً إلى التأسيس الحاسم للتربية اللادينية، في فرنسا، من قبل وزير التربية جول فيريه (...) في الفترة 1882 - 1886، وأخيراً الفصل الرسمي التام للكنيسة عن الدولة واعتبارها هيئة خاصة عام 1905. أما فيما تَبقى من أوروبا؛ ففي ألمانيا الاتحادية اليوم، على سبيل المثال، ما الكنيسة إلا هيئة خاصة كالجمعيات الأخرى، ينتمي إليها الأفراد ويعبّرون عن هذا الانتماء بأداء الضرائب لها - وكأنها بدلات اشتراك - ويعبرون عن انفصالهم عنها بالامتناع عن أداء هذه الضرائب.

أخيراً يمكن القول: إن أهم مبادئ العلمانية، هو أن تكون الدولة محايدة؛ أي لادين رسمي لها، وتكفل حرية العقيدة، وحرية الضمير، وحرية اعتناق أي دين أو فلسفة حياتية، وتُكفَل الممارسة الآمنة للشعائر الدينية.

أما عندنا ما زالت العلمانية؛ تُهمة تُقرن بالكفر.. على أنها مُستورد غربي معادي للدين! لذلك فالعلمانية، لا أمل لوجودها وتحققها في مجتمعاتنا الإسلامية، قبل أن ينتصر التنوير العربي على الأصولية الدينية. وبهذا نتفق مع ما يردده البعض من مفكرينا، وفي مقدمهم الدكتور يوسف زيدان، الذي يقول: أنه لا خيار أمامنا، سوى السير في مشروع التوعية التنويرية العامة، وهو ما يعمل عليه من خلال كل ما يكتبه وينشره.. وتأكيده على أهمية إصلاح النظام التعليمي.

***

سمير البكفاني - كاتب سوري

التَّنَوُّعُ الثقافي في العلاقات الاجتماعية يُعْتَبَر انعكاسًا طبيعيًّا للنَّزعة الإنسانية، وتَجسيدًا للمنهج النَّقْدِي في بُنيةِ الواقعِ المُعَاشِ وبِنَاءِ السُّلوك المَعرفي، وتَحريرًا لتاريخ الأفكار مِن الوَعْيِ الزائف ومَنطِقِ القُوَّة. والتَّنَوُّعُ الثقافي لَيْسَ روابطَ حياتية مُتعارضة، أوْ أنظمةً مادية مُتضاربة، أوْ مصالحَ شخصية مُتناقضة، وإنَّما هو كِيَان وُجودي مُنفتح على سِيَاقَاتِ حُرِّية التَّفكير، ومُتفاعِل معَ القِيَم الأخلاقية التي تُخَلِّص الإنسانَ مِن قُيُودِ المصالح الشخصية الضَّيقة.وكُلُّ تَنَوُّعٍ في مَرجعية الثقافة هو بالضَّرورة تَحريرٌ لمركزية الإنسان في الواقعِ المُعَاش والوُجودِ الحياتي.واندماجُ مَرجعية الثقافة معَ مركزية الإنسان يُوَلِّد أنساقَ الفِعْل الاجتماعي،ويُوظِّفها في الأحداث اليومية، ويَربطها معَ إفرازات العقل الجَمْعِي، مِمَّا يُؤَدِّي إلى التَّوفيقِ بَين هُوِيَّةِ الإنسان وسُلطةِ الثقافة، وانسجامِ الفِعْل الواقعي معَ التَّصَوُّرِ الذهني، وَمَنْعِ الصِّدَام بين إرادةِ المَعرفة والوَعْيِ الفَعَّال. وإذا كانت هُوِيَّةُ الإنسانِ مُتَجَذِّرَةً في الفِكْر التاريخي حِسًّا وإدراكًا، فإنَّ سُلطةَ الثقافة مُتَرَسِّخَةٌ في كَينونة اللغة نَصًّا وَرُوحًا، وهذا النَّسيجُ العَقْلاني المُتشابِك مِن شأنه تحقيقُ التوازن بين المُجتمع كَجَسَدٍ وُجودي، والمَعرفةِ كوظيفة حياتية. ولا يُمكِن للواقع المُعَاش أن يَنتقل مِن الوَهْمِ الاستهلاكي إلى الحُلْمِ الإبداعي، إلا إذا انتقلَ المُجتمعُ مِن الجَسَدِ الوُجودي إلى تَجسيدِ العلاقات الاجتماعية في الوَعْي الفَعَّال وقُوَّةِ المَنطِق، وانتقلت المعرفةُ مِن الوظيفة الحياتية إلى تَوظيف النَّزعة الإنسانية في مَرجعية الثقافة وحُرِّيةِ التَّفكير. وكُلُّ جَسَدٍ وُجودي لا يَتَحَوَّل إلى تَجسيدٍ للحقيقة سَيَنهار، وكُلُّ وَظيفة حياتية لا تَتَحَوَّل إلى تَوظيفٍ للمَعنى سَتَسقط.

2

التَّنَوُّعُ الثقافي يَستمد شَرْعِيَّتَه مِن امتلاكه لآلِيَّات التأويل اللغوي، ويُكرِّس سُلْطَتَه اعتمادًا على مصادر المعرفة الظاهرةِ في الواقع المُعَاش، والباطنةِ في الشُّعُور، ويُؤَسِّس مَرْجِعِيَّتَه استنادًا إلى تأثير تاريخ الأفكار في الفِعْل الاجتماعي. وكُلُّ هذه العوامل مُجْتَمِعَةً تَمنح التَّنَوُّعَ الثقافي القُدرةَ على تَحليل بُنية هُوِيَّة الإنسان، بِوَصْفِهَا تحديدًا لشخصيةِ الإنسان وأبعادِها المعنوية والمادية، وتعبيرًا عن مركزيته في العلاقات الاجتماعية. وهُوِيَّةُ الإنسانِ هي المِعيارُ الوُجودي الذي يَكشِف مواطنَ الاتِّصالِ والانفصالِ في مَسَارَاتِ التاريخ وسِيَاقَاتِ الحضارة، ويُوَازِن بَين آلِيَّاتِ سُلطة المعرفة وآلِيَّات التأويل اللغوي. وهذا التَّلازُمُ المصيري بين المعرفة واللغة يَعْنِي أنَّ المعرفةَ بلا لُغَةٍ كُتلةٌ هُلامِيَّة سابحة في الفَرَاغ، وأنَّ اللغةَ بلا مَعرفةٍ منظومةٌ عبثية غارقة في العَدَم. وكُلَّمَا كانت الرابطةُ بين المعرفةِ واللغةِ أقْوَى، كان تحليلُ مَاهِيَّة السُّلطة في العلاقات الاجتماعية أكثرَ دِقَّةً وانضباطًا، وهذا يُسَاهِم في تَشخيصِ الإشكاليات الحياتية التي تَضغط على المنهج النَّقْدِي، وتحديدِ الأنماط الاستهلاكية التي تُهَمِّش مَرجعيةَ الثقافة، وكشفِ المُسَلَّمَات الافتراضية التي تُهَدِّد مَركزيةَ الإنسان، وتَفكيكِ المصالح الشخصية التي تُشَوِّه الفِكْرَ التاريخي. وكُلُّ مُحاولة للفصل بين المعرفةِ واللغةِ تُمَثِّل تَحطيمًا لآلِيَّات التأويل اللغوي، وهذا يَجعل المُجتمعَ عاجزًا عن استيعاب تاريخ الأفكار.وكُلُّ مُحاولة للفصل بين مَاهِيَّةِ السُّلطة والعلاقاتِ الاجتماعية تُمَثِّل تَفتيتًا للواقع المُعَاش، وهذا يَجعل الإنسانَ عاجزًا عن التَّحَرُّر مِن الخَوف.

3

التَّنَوُّعُ الثقافي يُؤَسِّس المنهجَ النَّقْدِي في مَركزية العقلِ الجَمْعِي. ومُهِمَّةُ المَنهج النَّقْدِي هي البَحْث عَن المَعنى. وهذا المَعنى لَيْسَ هُوِيَّةً عابرة، أوْ سُلطةً مُؤقَّتة. إنَّ المَعنى هو كَينونةُ الوُجودِ القائمة بذاتها، والمُكتفية بِنَفْسِهَا. والمَعنى هو تَحريرُ الهُوِيَّةِ مِن الوَعْيِ الزائف، ورُوحُ المُجتمعِ التي تُوَظِّف النَّزعةَ الإنسانية في التأويل اللغوي. وكُلَّمَا اقتربَ الإنسانُ مِن اللغةِ اقتربَ مِن مَعنى حياته الكامن في تاريخ الأفكار، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَكريس اللغة كعملية تَحرير للمَعنى، ولَيْسَ حَشْر المَعنى في قوالب لُغَوية جامدة أوْ كُتَل فِكرية مُتَحَجِّرَة. وتَحريرُ المَعنى هو إعادةُ رسم لِدَور الثقافة في طبيعة الإنسان، وإعادةُ صِياغة للتأويل اللغوي في الفِعْل الاجتماعي، مِمَّا يُكَوِّن مَنظورًا فلسفيًّا جديدًا حَول طبيعة التَّنَوُّع الثقافي، يَقُود إلى دمج تاريخ الأفكار معَ الوَعْي الفَعَّال لإنتاج الحُلْمِ الإبداعي _ فَرْدِيًّا وَجَمَاعِيًّا_ بشكل عابر للحُدود بَين الزمانِ والمكانِ مِن جِهة، وبَين الإنسانِ واللغةِ مِن جِهة أُخْرَى.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

نختلف، نحن السيكولوجيين، عن المحللين السياسيين في مفهوم (الصراع) فهم يحددونه بنوع واحد يتمثل بموقف تنافسي يكون طرفاه او اطرافه على دراية بعدم التوافق في المواقف السياسية المحتملة التي تضطر كل طرف الى اتخاذ موقف لا يتوافق مع المصالح المحتملة للطرف الثاني، فيما نرى نحن ان للصراع انواعا اخرى . فهو في بعده الاجتماعي يمثل كفاحا حول قيم او مطالب او اعتبار اجتماعي يكون هدفه كسب قوة اجتماعية مرغوبة تعلي من مكانة جماعة معينة فوق مكانة جماعة او جماعات اخرى. وهو في بعده الاقتصادي تنافس بين جماعتين او اكثر على حيازة نصيب اكبر من ثروات كبيرة او الاستحواذ على موارد محدودة.وهو في بعده الثقافي تنافس بين جماعتين او اكثر بهدف اعلاء وتغليب معتقدات جماعة معينة والحط من معتقدات جماعة اخرى.. فضلا عن أن الصراع يمكن ان يكون حالة ايجابية تؤدي الى التطور اذا اعتمد الحوار الذي يحترم الرأي والرأي الآخر.

وكثيرون لا يدركون دور اللاوعي الجمعي سواء على صعيد الفرد او المجتمع.ولتوضيح ذلك نشير الى أن اللاوعي او اللاشعور الجمعي هو (ثقافة).. لأنه يتضمن أفكارا ومعتقدات وقيما ورموزا واساطير، وأن تشابه الناس في سلوكهم واختلاف الأفراد في تصرفاتهم يعود الى (الثقافة).فاختلاف رجل الدين عن الارهابي مثلا يعود الى اختلافهما في المنظومة الثقافية لدى كليهما.هذا يعني أن الثقافة أشبه بـ(جهاز تحكّم).. يحدد نوعية تصرفات الفرد والأهداف التي يسعى الى تحقيقها.وبما ان اللاوعي الجمعي عنصر رئيس من عناصر الثقافة هذه.. فان دوره يكون فاعلا في حياة الفرد والجماعات.ولقد اكتشف هذا الدور في عشرينيات القرن الماضي، وجرى ابراز اهميته في الفن والأدب اولا(في السوريالية ومسرح القسوة ومسرح اللامعقول وعدد من الروايات العالمية.. ) ثم انتقل الى علم النفس السياسي وعلم الاجتماع السياسي، واستخدم في تحليل ما يجري من تحولات بعد قيام الثورات.

ومع ان المجتمع العراقي شهد تحولا جذريا بانتقاله من اقسى نظام دكتاتوري الى نظام ديمقراطي، فان دور اللاوعي الجمعي العراقي لم يدرس مع انه كان سببا رئيسا فيما حدث من احتراب عامي 2006 و2007 وفيما حصل ويحصل من أزمات يبدو انها لا تنتهي مادام العقل السياسي العراقي متورم بماضوية اللاوعي الجمعي، وانه يوظف هذه الماضوية في خلق أزمة تضمن بقاءه في السلطة.

تحديد مفهوم

يعني اللاوعي الجمعي او اللاشعور الجمعي COLLCTIVE UNCONSCIOUS هو ذلك الجزء من العقل الذي يتضمن الرموز وخبرات الانسان التي اكتسبها عبر الاجيال وأساليب التعبير عنها، التي يشترك بها كل البشر وتشكل مصدرا للأديان والأساطير والفنون تتشابه عبر الحضارات المختلفة. ويعود اكتشافه الى الطبيب النفساني السويسري كارل يونغ(1875-1961).غير انه جاء بعد اكتشاف الطبيب النفسي النمساوي فرويد(1856-1939) اللاشعور.. اذ نظر فرويد الى الشعور او العقل الواعي بأنه يتضمن عمليات عقلية بسيطة مقارنة بعمل اللاشعور او العقل اللاواعي UNCONSCIOUS MIND ، الذي يعني به ذلك النشاط العقلي الذي لا نكون على دراية به.. اي اننا نقوم بافعال او تصرفات تبدو لنا واعية غير ان دوافعها الحقيقية تكون خفية في اللاشعور.

ومع ان يونغ اتفق مع فرويد ان الجانب الاكثر اهمية في سيكولوجيا الانسان هو ليس العمليات العقلية او السلوك الذي نكون على دراية به، بل هو العمليات العقلية التي لا نكون على دراية بها، فان يونغ ابتكر مفهوم اللاوعي الجمعي وعدّه أكثر اهمية في حياة الفرد والمجتمع من اللاوعي الخاص بالفرد الذي اكتشفه فرويد.بهذا المعنى يمكنك ان تصف اللاشعور الخاص بالفرد بأنه الذاكرة الثقافية الفردية واللاوعي الجمعي بأنه الذاكرة الثقافية الجمعية، بما فيها المخزون المعرفي الأسطوري والسلوكيات الممارسة من قبل اسلافنا.

من هنا جاءت اهمية اللاوعي الجمعي بكونه يحمل خبرات او معتقدات مشتركة لدى شعوب او جماعات داخل شعب معين.. تحدد سلوكها او تصرفاتها او ما تقوم به من افعال.ومن هذا المفهوم ظهر مفهوم حديث نسبيا هو السلوك الجمعي COLLCTIVE BEHAVIOR ويقصد به (السلوك غير المنظّم الذي ينشأ تلقائا، ولا تكون له خطة تحكم مساره فيصعب التنبؤ بتطوراته ، ويعتمد على التأثير المتبادل بين الأفراد المشاركين فيه).ومن انواعه:الدعاية التي تسعى الى اقناع الناس لتقبل أفكار جاهزة دون تمحيص، والرأي العام الذي يمثل اجماع جماعة معينة على وجهة نظر معينة، والتظاهر والاحتجاجات التي تهدف الى احداث تغيير اجتماعي ، والثورة التي تهدف الى تغيير كامل في نظام اجتماعي ما يتسم بالعنف، وسلوك أو غريزة القطيع الذي يشيع في المجتمعات المتخلفة، وسلوك الغوغاء التي تستهدف جموعها القيام باعمال عدوانية مثل تخريب الممتلكات او نهبها او اشعال النار فيها، كالذي حصل في نيسان 2003 حيث نهب العراقيون وطنهم.. وحتى ذاكرتهم التاريخية!.

آليات اللاوعي الجمعي

قد يبدو اللاوعي الجمعي لكثيرين أشبه بشخص (فاقد الوعي)، لكنه يدهشك بأنه يعمل بآليات علمية! اليك اهمها:

1. يتعامل اللاوعي الجمعي مع بعد زمني واحد هو الماضي، ويحيط نفسه بجدار كونكريتي يصد كل مؤثرات الحاضر. وتلك مشكلة كل احزاب الأسلام السياسي في العالم، انها وظفت الحاضر من اجل الماضي.

2. يغلّب العقل الانفعالي على العقل المنطقي في سلوك الفرد والجماعة، ويعطّل العقل المنطقي في اوقات الأزمات.. ولك ان تتذكر ما حدث بين 2006 و 2008 حيث قتل العراقي اخاه العراقي لسبب في منتهى السخافة ما اذا كان اسمه حيدر او عمر او رزكار!

3. يستقطب الناس في مجموعتين متضادتين، جماعة الـ(نحن)التي ينتمي لها وجماعة الـ(هم )الاخرى.

4. يتصف بأنه (أحول عقل).. يرى في الـ(نحن)الايجابيات ولا يرى السلبيات، ويرى في الـ(هم)السلبيات ولا يرى الايجابيات.. ويخرج بتعميمات خاطئة أن جماعته هي الأفضل في كل شيء.

5. يفهم الصراع على انه (أكون أو لا أكون)، وأنه اما غالب أو مغلوب، ولا يرى الجانب الايجابي في الصراع.

6. يؤمن بفكرة (المخلّص).. وبأنه سيظهر في يوم ما شخص بمواصفات استثنائية يقيم العدل بين الناس.

آليات السلوك الجمعي

ما يدهشك.. أن اللاوعي الجمعي يعمل وكأنه (مفكر اصيل) وفق اساليب او آليات نوجز اهمها بالآتي:

1.العدوى: في كتابه: (الجموع.. دراسة في العقل الشعبي) توصل لوبون الى أن الانسان الفرد قد يكون مثقفا ومتحضرا ولكنه وسط الجموع يصبح بربريا.بمعنى ان تصرّف الافراد في الجموع يكون مختلفا عن تصرفهم حين يكونون لوحدهم. ولقد عايشت ذلك في تظاهرات شباط 2011 وانتفاضة تشرين 2019.

ودهشك ايضا ان هنالك عمليات نفسية تتحكم بسلوك الفرد حين يكون بين الجموع، اهمها:

أ‌. تقبّل الأيحاء

في هذه الحالة تسارع الجموع الى التصرف على وفق ما يوحى اليها به، وتتراجع الشخصية الواعية ليتولى "اللاوعي الجمعي" توجيه سلوكها.ومع ان معظم علماء النفس المعاصرين لا يتفقون مع هذا الرأي ، الا أن فرويد يرى أن وجودنا في جمع من الناس يسمح لأنماط السلوك المكبوتة الأنطلاق من عقالها.ويضيف بأننا نخضع للقوى المسيطرة سواء تجسدت في السلطات او في الجماعات نتيجة لعلاقات السيطرة التي عشناها مع آبائنا والتي طورت لدينا الحاجة الى الخضوع.ولقد ثبت ذلك في العراق عمليا بعد 2003، يوم خلق اشاعات خبيثة تثير القلق والتوتر لدى جماهير مشحونة انفعاليا بنزعات وافكار مستقرة في لاوعيهم الجمعي.

ب.العدوى الاجتماعية Social Contagion

تعني العدوى الاجتماعية عملية نفسية يؤثر فيها الأفراد على بعضهم البعض اثناء وجودهم في الجماعة فتتصاعد حدة الانفعالات كما تتصاعد سرعة الاستجابات .فعندما تستثار الجموع فأنها تحتاج لأن تفرّغ انفعالاتها الجياشة فتندفع نحو السلوك الذي يوحى اليها به حين يكون ذلك الاتجاه متسقا مع دوافعها.. والشواهد تأتيك من تصرفات مختلف مكونات المجتمع العراقي.. شيعة وسنة وكوردا.

2. نظرية التقارب:

تقول هذه النظرية ان سلوك الجموع ينشأ عن تجمع عدد من الناس يتشابهون في حاجاتهم ونزعاتهم وأهدافهم، ومن مظاهرها (العدوى الانفعالية المنظبطة).. تكون ذات فائدة اجتماعية عندما تتوجه وجهات بناءة كما يحدث في مباريات كرة القدم حيث تؤدي العدوى الانفعالية الى تفريغ التوتر فيشارك الجميع في الهتاف والتصفيق.. لكنها كارثة حين تتوزع الجماهير على هويات فرعية وتتقاتل فيما بينها كما حصل في لبنان والعراق.

3. معايير الموقف:

ترى هذه النظرية انه بالرغم من اختلاف جموع الشغب في اهدافها الا انها تخرج الى حيز الوجود نتيجة لأحساس جماعة ما بالظلم واتفاقها على ادراك الواقع على هذا النحو، فينبثق عن هذه العدوى الاجتماعية معايير من الموقف الذي تكون فيه تبرر القيام بعمل مشترك تضع حدودا لسلوك الجموع المشاركة.. بمعنى أن معاناة جماعة او طائفة معينة وادراكها للظلم الواقع عليها، والحماس الذي يتأجج بفعل عمليات العدوى الاجتماعية تقود الى نشوء معايير تبرر سلوك الجمع وتحدد مساره.. كما حصل للمكون السّني بعد 2003

ختاما

ان الهدف من هذه المقالة هو أن سياسيين ومفكرين ومثقفين واعلاميين كانوا غافلين عن لاعب خفي في الصراع الذي راح ضحيته مئات الآف العراقيين، ويخطأ من يظن ان اللاوعي الجمعي العراقي قد ضعف دوره في (الصراع العراقي)، فحاله الآن أشبه بجمر تحت الرماد.. يظهر لحظة تنفخه رياح أزمة، في وطن ادرك حكّامه أن بقاءهم في السلطة والأستفراد بالثروة مرهون بخلق الأزمات.. التي تشيطنوا في خلقها!

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

أدرك نصر، من اللحظة الأولى لشغْله وظيفة معيد بقسم الدراسات الإسلامية، أنّه ما بين خيارين: إمّا أن يكون واعظا، وإمّا أن يكون باحثا، اختار الثانية، وهو يُدرك عواقب البحث في الفكر الديني في مجتمع لا يتعامل مع الفكر الديني بوصفه منتجا إنسانيا يخضع للبحث والنقد والتطوير، وإنما بوصفه دينا، فالمغالطة الأخطر في ثقافتنا “الخلط بين الدين المقدس والفكر الديني غير المقدس”، تردد نصر بداية في اختيار مجال “الدراسات الإسلامية” تخصصا لدراساته الأكاديمية بعد تخرّجه في قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب – جامعة القاهرة سنة ١٩٧٢، وكان السبب وراء التردد، على حد قوله: “هو عجز الجامعة عن تقديم الحماية الاكاديمية للباحث محمد أحمد خلف الله الذي تقدم عام ١٩٤٧، برسالة لنيل درجة الدكتوراه بإشراف الشيخ أمين الخولي بعنوان “الفن القصصي في القرآن الكريم” تحت ضغط الهجوم الشرس الذي تعرضت له الرسالة والباحث والمشرف – وذلك قبل أن تناقش في الجامعة – في الصحف والمجلات قررت الجامعة عدم صلاحية الرسالة، كما قررت تحويل الباحث إلى وظيفة إدارية (خارج النطاق التعليمي) وحرمان الأستاذ المشرف من تدريس علوم القرآن والحديث أو الإشراف على رسائل جامعية في إطار تخصص “الدراسات الإسلامية”.

“هكذا ظل كرسي “الدراسات الإسلامية” شاغرا، حتى تنبه قسم اللغة العربية سنة ١٩٧٢، إلى ضرورة توجيه أحد شباب الدارسين لاختيار تخصص الدراسات الإسلامية؛ لشغل المنصب الذي ظلّ شاغرا لربع قرن، كان ترددي مفهوما ومنطقيا، إلى جانب أنّه يكشف عن وعيي المبكر بإشكالية البحث العلمي في مجال الدراسات الإسلامية، وأعلم “الخطورة” الكامنة في تجاوز الخطابين الوعظي والإصلاحي معا من هنا كان ترددي الذي حاول أساتذة القسم أن يُهوّنوا من شأنه”.

وكعادة الباحث الجيد يقوده السؤال إلى سؤال، وتُفضي به الدراسة إلى دراسة أخرى في رحلة لا تتوقف، انتقل نصر من سؤال الذات القارئة/المؤولة في رسالتيه لنيل درجة الماجستير والدكتوراه إلى سؤال النّص، فقد تكوّنت بداخله العديد من الأسئلة البحثية حول أهمية إعادة النظر في المراد بمفهوم “النّص”، إذ “لا يُمكننا فهم واقعنا الثقافي المعاصر منفصلا عن الثقافة العربية الإسلامية في جانبها التراثي التاريخي، ولما كانت الثقافة تُمثّلُ الذاكرة الجمعية للجماعة، فليست الذاكرة إلاّ مجموعة من النصوص المحدِّدة للقيم والأعراف وأنماط السلوك ومعايير الخطأ والصواب، وفي ثقافة احتلّ النص الديني فيها – ولايزال – مركز الذاكرة/ الثقافة لا بديل عن البحث في مفهوم النص الصانع للثقافة العربية الإسلامية، فكل كشف وإجلاء للنّص هو إجلاء لآليات إنتاج المعرفة، ولنمط الثقافة التي ينتمي إليها”.(1)

كما أنّ تحليل مفهوم النّص سيكشف الغطاء عن القراءة الإيديولوجية النفعية للتراث التي تجلّت بوضوح في سبعينات القرن الماضي، فتحوّل النصّ الديني المقدس إلى ساحة عراك في المجالات الاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة، يحاول كل طرف من أطراف الصراع تأويلَه بما يُعطي “أيديولوجيته” مشروعية عليا، فكما قُدّمت قراءة اشتراكية للإسلام لتُضفي على المشروع الاشتراكي مشروعية عليا في فترة الحكم الناصري، كان لابد من تقديم قراءة أخرى مغايرة للإسلام في فترة الحكم الساداتي تبرّر تحوّل علاقتنا مع إسرائيل من الصراع إلى المصالحة، وما صاحب ذلك من أفكار عن رأس المال الحر، فتحوّلَ “النص” الديني المقدس بالقراءة الإيديولوجية الجديدة من نصّ يدعو إلى الفكر الاشتراكي القومي التقدمي إلى نصّ يدعو إلى الرأسمالية والانفتاح الإقليمي، فرأى نصر أنّ البحث عن مفهوم النص في مجال علوم القرآن مرة، وأخرى في مجال الدراسات اللغوية كفيل بربط التراث بالمناهج العلمية المعاصرة، وتحقيق “وعي علمي” نتجاوز به موقف “التوجيه الأيديولوجي” السائد في ثقافتنا وفكرنا.

وكانت تلك الدراسات سببا لدخول الخطابات المؤدلِجة للنص في مواجهةٍ مع خطاب نصر الذي لم يقف عند حدود دراسة “مفهوم النص” بل تعداها إلى دراسة “إشكاليات القراءة وآليات التأويل”، فخطاب نصر على مستوى الموضوع يتحرّك حركته البندولية بين دراسة القديم والحديث، بين التراثي والحداثي، فكانت دراسته “الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص”(2) ودراسته “الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطيّة” محاولة لاكتشاف جذور “الآني” في بنية الخطاب في “الماضي”. ثم كان “نقد الخطاب الديني” حفرا في بنية الخطاب الديني الحديث تعريةً لجذوره التي يُحاول أن يخفيها مُدّعيا أنه نتاج مباشر للنص الديني،(3) فكان لتنوع منطلقات نصر أثره في عمق وثراء نتاجه العلمي.

استمرت دراسات نصر حول بنية النص في الثقافة العربية، ولم يتوقف منهجه في تحليل النصّ – كما يُظنّ – بانتقاله إلى قراءة التراث في ضوء علم تحليل الخطاب، فبعد أن كشف عن مفهوم النص في نظرية الفقه الإسلامي الذي استخدم كلمة “النص” للإشارة إلى إحدى مستويات الدلالة، وهي “الواضحة وضوحا بيّنا يفهمه كل من يعرف العربية” متسقا بذلك مع المعنى المعجمي للفظ “النص”، عاد نصر وكشف عن مفهوم ثانٍ للنص في الثقافة العربية انتقل إليها من دلالة “النصّ” في اللغات الأوربية التي تُطلق كلمة “النص” على كل بنية لغوية كاملة تتجاوز حدّ الجملة المفيدة، فتُطلق كلمة “نص” على مسرحية أو رواية أو كتاب بوصفه بنية كاملة، وليس بمعنى الواضح البيّن الذي لا غموض فيه، وبالمفهوم الثاني أصبح يُطلق على القرآن الكريم كلمة “نص” بوصفه بنية لغوية كاملة بتقسيمها إلى سور وترتيبها وتقسيمها إلى آيات.

ولم يقف النص في الثقافة العربية عند حدود النصوص اللغوية، بل حمل مفهوما ثالثا أوسع بكثير، فلم يكتف باللفظ لغة للتعبير النصّي، بل امتدّ للإشارات التي يستقبلها الإنسان في منامه، فالنصّ في العقل العربي تجاوز العبارة لغة العقل المحدود بقيوده إلى نص من نتاج لغة أخرى هي لغة الإشارة التي تنفذ إلى ما وراء العقل المجرَّد.. بهذا تكون الرؤى والأحلام في الثقافة العربية نصوصا دالةً بالمعنى السميوطيقي للنصوص لكنها نصوص تحتاج للترجمة إلى اللغة الطبيعية؛ لتصبح أحاديث يُمكن مشاركة الآخرين في فهم “الرسالة” التي تضمنها هذا النمط من النصوص (الرؤى)، فتُصبح موضوعا للتأويل أو التفسير؛ لتستحيل إلى معانٍ جديدة بالترجمة والتعبير والتأويل. فالنصوص من منظور سميوطيقي “سلسلة من العلامات غير اللغوية المنظمة تنظيما خاصا يجعلها منتجة لدلالة كلية، ليست إلا حاصل تفاعل دلالات العلامات داخل كل منظومة، فالحلم والرؤيا مثل اللوحة أو التمثال أو قطعة الموسيقى جميعها نصوص من اللغات غير الطبيعية.(4)

وفي دراسته “القرآن: العالم بوصفه علامة”(5) كشف عن مفهوم رابع للنص في الثقافة العربية مستفيدا من تجربته السابقة في “علم العلامات في التراث”(6)، تلك الدراسة الاستكشافية التي بحث فيها داخل التراث العربي بمعناه الشامل عن جذور وآفاق معرفية لبعض قضايا “علم العلامات” أحد معطيات الدراسات اللغوية الحديثة، فقد عاد بعدها نصر إلى المقاربة السميولوجية لعلم العلامات في بحثه “القرآن: العالم بوصفه علامة”؛ ليبرهن على فرضية مفادها أنّ بنية النص القرآنى جميعها تقريبا تُحيل العالم كله بسمائه وأرضه وكواكبه وبنباته وحيوانه وجماده إلى آيات وعلامات بوصفها نصوصا كونية مقروءة، وليس العالم فحسب هو الذي يتحوّل إلى علامة بل التاريخ الإنساني كله.. قصص الأمم الغابرة وصراع الأنبياء والرسل مع أقوامهم، يُصبح علامة تُجسد الصراع الأزليّ بين الحقّ والباطل وبين الإيمان والكفر. وتتعانق أنماط العلامتين – الكون والتاريخ – من خلال الفصل بين نمطين من البشر: القادرين على قراءة العلامات الكونية، فيستدلون منها على وجود “الخالق”، ويدخلون “الإيمان” ويتمتعون بالخلاص الأخروي، والنمط الثاني هم العاجزون عن تلك العلامات فيسقطون في وهدة “التكذيب” ومحاربة الأنبياء والرسل، مشيرا إلى أن العلامة دال الإشارة لم يرد في القرآن إلا مرة واحدة، وجاء دال العلم بمعنى المعرفة ودال العالم لم يأت أبدا في القرآن فاعلا ولا في موقع الابتداء كما أنه لم يأت مفردا.(7)

فيُمكننا القول إن الثقافة العربية طوّرت مع الإسلام مفهوما جديدا للنص بالمعنى السميوطيقي الذي يُعرّف النّص بأنه “سلسلة من العلامات المنتظمة في نسق من العلاقات تُنتج معنى كليا يحمل رسالة، وسواء كانت تلك العلامات علامات باللغة الطبيعية – الألفاظ – أم كانت علامات بلغات أخرى، فإنّ انتظام العلامات في نسق يحمل رسالة يجعل منها نصا، وليس من قبيل الصدفة أن المفردات “عِلْم” و”عَالم” و”علامة” مفردات من جذر لغوي واحد في اللغة العربية. وليس من قبيل الصدفة أيضًا أن كتاب العربية الأكبر، ونصها المهيمن، يُسمى نفسه “رسالة”، ويُطلق على وحداته الأساسية المكونة للسور – الوحدات الأكبر – اسم “الآية”، والآية فيما يقرر الطبري تحتمل وجهين في كلام العرب: أحدهما أن تكون سُميّت آية، لأنها علامة يُعرف بها تمام ما قبلها وابتداؤها… وإذا كانت “الآية” علامة، والنص: رسالة، فإنّ الكون كله – في الخطاب القرآني – سلسلة من العلامات الدالة -الآيات – على وجود الله، وعلى وحدانيته. ومعنى ذلك أن ثمّة نصين: نصّ لُغوي مرسل من الله للإنسان، ونصّ غير لغوي – العالم – يُمثّل رسالة يتجاوب مضمونها مع مضمون الرسالة اللغوية.. وفي كثير من آيات القرآن توجيه للإنسان لكي يقرأ آيات الله في الكون وفي الناس وفي نفسه، وفي هذا التوجيه ما يدلّ على وجود تصورٍ لتساند النصوص -لغوية وكونيه وإنسانية- في إنتاج الدلالة المنتجة للرسالة. إن النّظر في الملكوت وفي الخلق هو بمثابة قراءة لتأويل الآيات/العلامات – وصولا إلى دلالتها، وبالمثل يُعدّ تأويل القرآن -النص اللغوي- موصلا للرسالة الموجودة -سلفا- في الكون”. (8)

فـ”اللغة الدينية نسق من النظام اللغوي، لكنه النسق الذي يُحاول أن يفرض هيمنته وسيطرته على النظام اللغوي، وتتم هذه الهيمنة والسيطرة من خلال عملية إعادة بناء دلالة العلامات اللغوية في نظام اللغة الأساسي(9) حيث يتمّ تحويل تلك العلامات في نسق العلامات السميولوجية أو (السميوطيقية)، وبعبارة أخرى تُقوم اللغة الدينية من خلال عملية التحويل تلك – ويُطلق عليها مصطلح السمطقة Semiosis – بالاستيلاء على اللغة العربية الأساسية والاستحواذ عليها. والاستيلاء على اللغة يعنى الاستيلاء على “العالم” الذي تُنظّمه اللغة من خلال نظامها العلاماتي، وهذا يُفضي بدوره إلى الاستيلاء على “الإنسان” عن طريق امتلاك وعيه بآليات التحويل المشار إليها، وهذا يكشف عن وظيفة اللغة الدينية في الاستحواذ على الإنسان وامتلاكه لكي يندمج داخل دائرة نظام “الإيمان” و”الجماعة” الذي تسعى اللغة الدينية إلى تأسيسهما”.(10)

بهذا شرح نصر كيف تشكّلت أربعة مفاهيم للنص في الثقافة الإسلامية، في محاولة منه الإجابة عن سؤال ما مفهوم النص؟ سؤال من أسئلة واضحة وصريحة طرحها نصر انطلاقا من هموم واقعه الثقافي، ولم يكن يتوقّع أن طرح جانب من الأسئلة المكبوتة سيكون سببا في إرغامه على ترك الوطن إلى “المنفى”.

يُتبع

***

أ.د عبد الباسط سلامة هيكل

....................

(1) مفهوم النص، ص١٢،١١.

(2) نُشرت في كتابه إشكاليات القراءة وآليات التأويل، ط. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/المغرب، بيروت/لبنان، الطبعة السابعة، ٢٠٠٥، ص ١٣: ٥١ .

(3) ينظر: النص السلطة الحقيقة الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة ، ص١١،١٠.

(4) ينظر: النص السلطة الحقيقة، ص١٦٧،١٦٦.

(5) ينظر: السابق، ص ٢٥٩:٢١٣ .

(6) نُشرت في كتاب “أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة، مدخل إلى السميوطيقا” (دار إلياس العصرية، القاهرة، ١٩٨٦) بإشراف: سيزا قاسم ونصر أبوزيد، وأعيد نشرها في كتاب إشكاليات القراءة وآليات التأويل، ص١١٧:٥١.

(7) ينظر: النص السلطة الحقيقة، ص٢٣١،٢٣٠.

(8) السابق، ص١٧٠.

(9) الفكرة التي سبق واقترب منها نصر في كتابه نقد الخطاب الديني ص٦٧:٦٥، في قوله: “اللغة العربية لغة دينية بامتياز أحكم النص السيطرة عليها، واستوعبها استيعابا شبه تام في نسقه الدلالي الخاص”.

(10) ينظر: النص السلطة الحقيقة، ص٧.

يؤكد مبدأ عدم التأكد لللفيزيائي الالماني فيرنر هايزنبيرغ ان موقع وزخم حركة الجزيء، مثل الالكترون لا يمكن ابداً ان يُعرفان بدقة كاملة في نفس اللحظة، بسبب ان أي محاولة للتحقق من احدهما بالضرورة تغيّر الاخرى. باختصار، الملاحظة ذاتها تغيّر ما يُلاحظ.

شيء من هذا القبيل يحدث ايضا في مجال السياسة الاجتماعية. أي ان محاولة حل بعض المشاكل الاجتماعية تجعل المشكلة ذاتها غير قابلة للحل لأن الحل ذاته يصبح من بين الظروف التي تؤدي الى المشكلة في المقام الاول. بهذا تكون السياسات العامة public policies بطبيعتها معيبة.(1) وهذا بلاشك ليس حقيقة ثابتة. بعض السياسات العامة قد تعمل بشكل أفضل او أسوأ مما قُصد بها. مع ذلك، يبقى مبدأ (اللّايقين) يعمل بانتظام كاف لدرجة انه يشكل تهديدا  دائما لأي محاولة في تغيير الهندسة الاجتماعية. بالطبع، ما هو شائع عموما من التجربة ان تنفيذ السياسة الاجتماعية التي قد تبدو اتجاها واضحا في بدايتها، سوف ينتهي بها الامر الى التعثر واحيانا الى فشل تام – لكن توضيح هذا لم يُفهم بشكل دقيق. ان توضيح هذه المشكلة يتم من خلال مبدأ اللّايقين principle of uncertainty.

يمكن توضيح هذا باستخدام عدة أمثلة نبدأ بأبسطها:

1- طريق سريع ذو مسارين يصبح بمرور الزمن اكثر ازدحاما ولدرجة غير آمن.

الحل يبدو بتوسيع الطريق الى أربع مسارات. لكن السائقين عندما يكتشفون الراحة في هذا الطريق المحسّن سيندفعون نحوه وبالنهاية يصبح مزدحما كما كان في السابق.

2- احدى الجامعات تقرر البحث عن بعض الوسائل لتقييم المهارات التعليمية في الجامعة.

جرى اعتماد طريقة تقييم زملاء العمل، وتستلزم قيام الكلية بزيارة كل صف من الصفوف  وتسليم تقارير حول ذلك. هنا يدخل مبدأ اللّايقين في اللعبة: الأساتذة يشعرون بالإستياء من هكذا تدخّلات ويصبح لديهم وعي ذاتي بحساسية ما يقدّمونه من تعليم ، وان القائمين بالتقييم كونهم يدركون بانهم ذاتهم سوف يُختبرون سيميلون لتقديم تقارير لامعة عن بعضهم البعض. لذا جرى اتخاذ قرار بجعل التلاميذ أنفسهم يقومون بعملية التقييم. هؤلاء جميعهم يتّبعون نفس اللعبة ولم يُعلن عن هوياتهم، في نهاية الفصل يتم إرسال  التقارير الى رئيس الكلية،حيث انها ستؤثر على المعاشات والترقيات وطلب الإجازات وما شابه. النتيجة: هي تصاعد نسب النجاح لدرجة ان معظم الطلاب حصل على الدرجة A،وان أسوأ الطلاب حصل على تقدير B ،والطلاب الذين لم ينجزوا أي شيء حصلوا على درجة النجاح C. لم يفشل أحد بل ولم يحصل أي طالب على الدرجة المتدنية  D .

3- سياسة التقاعد الحكومية:

لنفترض ان عاملا وهو من بين المساهمين في صندوق التقاعد يموت قبل استحقاقه للتقاعد تاركا وراءه أرملة. العدالة تتطلب انه طالما ان الأرملة كانت تعتمد عليه في المساعدة وتستمر في ذلك لو كان حيا، عندئذ هي يجب ان تستلم المستحقات التقاعدية المحجوزة له سلفا. لكن ماذا لو انها تزوجت من رجل آخر، وبهذا تحصل على أساس جديد للمساعدة؟ هل هي لاتزال تستحق ذلك التقاعد؟ مثل هذه المستحقات ستبدو مبالغ او مكاسب غير متوقعة لزوجها الجديد تعفيه من مسؤوليته في المساعدة. وهكذا جُعلت الحقوق التقاعدية مشروطة بعدم الزواج من شخص آخر او على الأقل ليس قبل سن الـ 55 او 60 عاما. ما يحدث هو ان النساء الأرامل تلتف على القيود عبر الدخول بعلاقة زواج جديدة دون استحصال وثائق قانونية للزواج. وهكذا فان هذا الحل يحوّل المشكلة الى شكل آخر ويصبح الوضع اكثر سوءاً.

4- قرار التعامل مع الأمهات الوحيدات:

وُجد ان النساء المنفردات في ضواحي المدن الفقيرة والمزدحمة  بحاجة لمساعدة خاصة خوفا من ان يكبر أطفالهن وهم في فقر وينزلون الى الشوارع ويرتكبون الجرائم. أحسن حل للمرأة  هنا هو ان تتزوج وتبقى متزوجة اذا كانت تنوي تربية أطفال، وبالتالي هذا يوفر لمدى معين استقرارا ماليا. الحكومة لا تستطيع خلق حالات الزواج. لذلك قررت توفير مساعدة اقتصادية خاصة للامهات الفرادى لكي لا يتوجب عليهن الإختيار بين العمل وتربية أطفالهن.(2)

وهكذا توفرت الحوافز للامهات ليبقين فرادى لكي يطالبن بهذه الحقوق حتى لو كن في علاقة زواج مع رجل يعمل ويستطيع توفير المساعدة الاقتصادية التي كانت هي الهدف من هذا البرنامج. المشكلة الان تم مواجهتها بتعيين وكلاء يقومون بزيارات غير معلنة للامهات اللواتي يستلمن الحقوق ليروا ما اذا كان هناك أي رجل يشغل دور الزوج. مجرد اكتشاف هذا الرجل يكفي لإنهاء تلك المساعدات. ماذا كانت النتيجة؟ لم يتحقق الهدف النهائي بتعزيز الزواج واستقرار العائلة، والمشكلة تفاقمت بدلا من ان تُحل.

5- قطاع الصحة العامة يشهد العديد من المشاكل، الحل لكل واحدة منها يخلق مشكلة جديدة، حتى يصبح كامل القطاع مستنقعا لا يمكن ادارته. وهكذا، في المجتمع الديمقراطي، يجب ان يتمتع جميع الافراد  بالرعاية الصحية. المشكلة يتم مواجهتها ببناء مستشفى رعاية صحية ممول تمويلا عاما، وبالتالي سيجنب كل شخص التكاليف العالية والضرورية احيانا. هذا بالطبع،يزيل قيدا هاما على ما يفرضه المستشفى من تكاليف، وبهذا ترتفع التكاليف باستمرار.

هذا التأمين جرى تمديده لاحقا لكل أشكال الرعاية الصحية بعد ان يدفع المريض سلفا مبلغا متواضعا  قبل المطالبة بالتأمين(3). الان لا يحتاج المرضى للتشاور حول ما اذا كان يتوجب عليهم اخذ اختبارات واجراءات. بعد دفع مبلغ التأمين كل شيء بعد ذلك مجانا. بعد ذلك اضيفت تكلفة طب الاسنان . هناك القليل من القيود على المرضى او الاطباء والبيروقراط المتعاقدين لإدارة تلك البرامج والذين لايهتمون بالأرقام التي يدخلونها في كومبيوتراتهم.

الخطوة القادمة هي تضمين كلفة الأدوية التي اعتُبرت ضرورية. هذه الكلفة ترتفع حالا وبشكل خارج عن السيطرة لأن كل من المرضى وشركات الأدوية يمارسون ضغطا على ممارسي الطب العام للترخيص باستعمالها وتبرير الكلفة الهائلة لها بفعل كلفة البحوث الداخلة في التطوير. لم يبق الان سوى خطوة قصيرة لتضمين الأمراض العقلية تحت هذا الغطاء. وبالتالي، فان عدد العلاجات القابلة للتعويض لهؤلاء تتضاعف لتتضمن العلاج الطبيعي مثل الاضطراب والخجل وعدم الراحة عند مواجهة الاخرين، واحمرار الوجه في الحياة اليومية. علاجات طُورت لجميع هؤلاء متوفرة فقط بترخيص الاستعمال ويتم الاعلان عنها بكثافة من قبل المصنّعين. الآن هل تم حل مشاكل الصحة العامة بهذه السياسات؟ بالطبع، الى حد ما، لكن كل حل خلق مشاكل جديدة وبالنتيجة اصبحت الرعاية الصحية بمرور الزمن مكلفة جدا ، الاختلاف الرئيسي هو ان كلفتها تقع بشكل كبير على الجمهور وتصبح أقل أو لم تُلاحظ من جانب المستفيدين منها. ما يراه المريض هو ان العلاج الطبي هو رخيص نسبيا او حتى مجانا، ولم يلاحظ الزيادة الهائلة في أقساط التأمين والضرائب.

6- المثال الأخير يتعلق بمسؤولية التأمين المتوفر لممارسي مهنة الطب العام والجراحين. هنا يعمل مبدأ اللايقين بشكل واضح جدا وبعيد المدى. الأطباء يشعرون مجبرين لإمتلاك غطاء تأمين لأن الطب هو علم غير دقيق، ووقوع أخطاء يمكن ان يهدد الرفاهية وحتى حياة المرضى. لكن مجرد وجود هذه الحماية سيخلق مشكلة بدلا من الحل بسبب العديد من العوامل. التكاليف الهائلة لا يتحملها الأطباء وانما يتحملها مرضاهم، اما من خلال اقساط التأمين  او من خلال الضرائب. ومن غير الواضح ان كانت  المشاكل تُحل في النهاية، لكن ما هو واضح جدا هو انها تفاقمت بشكل كبير. قد يرى احد ان التعقيدات الناجمة عن مبدأ اللايقين يمكن توقّعها والتعامل معها سلفا، ولكن كما يوضح المثال الأخير هذه الحلول المقصودة سوف ببساطة تخلق لايقينيات جديدة والمشاكل تبدأ مرة اخرى.

***

حاتم حميد محسن

.................

المصادر:

1- Uncertainty and public policy: why public policies always go wrong? Philosophy now 2002

2- الاقتصاد في المبادئ دراسة تحليلية في الاقتصادين الجزئي والكلي، حاتم حميد محسن، دار كيوان للطبع والنشر والتوزيع، دمشق 2008.

الهوامش

(1) ويعمل مبدأ عدم التأكد ايضا في مجال السياسة الاقتصادية والمالية للدولة من خلال ما يسمى الفاصل الزمني time lag. القرارات المهمة المتعلقة بالضرائب او الانفاق يجب اقرارها عبر مجلس الوزراء وموافقة البرلمان. وحتى لو كان الاقتصاديون متفقين على سياسة الحكومة بشأن الضرائب او اي موضوع آخر الاّ ان ذلك يتطلب المزيد من النقاش بين السياسيين. فترة التأجيل بين التأكيد الاولي على حالة الاقتصاد والعمل القانوني المطلوب لإحداث التغيير يسمى فاصل القرار Decision lag. وحينما يتم إقرار سياسة التغيير فلايزال هناك فاصل للتنفيذ executive lag فيضيف وقتا آخرا بين سن القانون وتنفيذه، وحتى عندما يتم وضع السياسات موضع التطبيق فانها عادة تأخذ وقتا أطول قبل ان تصبح نتائجها ملموسة. وبالنظر لهذه الفواصل الزمنية فانه من الممكن (وخلال الفترة التي يُتوقع ان يحدث فيها التغيير في الاقتصاد) ان تتغير الظروف بطريقة لم تعد تنفع معها السياسة قيد التنفيذ.

 (2) البحوث تشير الى ان الامهات الوحيدات يُحتمل ان يتزوجن من رجال لايساعدون في اخراجهن من الفقر، لأن هؤلاء الرجال عادة يكون لديهم اطفال من شريكة اخرى، ووُجد ان ثلثي النساء الوحيدات اللواتي تزوجن ثانية ينتهي بهن الامر الى الطلاق حالما يصلن سن الـ 44 عاما وبهذا يصبحن اسوأ اقتصاديا من الامهات المنفردات اللواتي لم يتزوجن ابدا.

(3) التأمين يدفع الناس الى مواجهة مخاطر كان يمكن تجنّبها بدون التأمين، وهذه الحالة تسمى في الاقتصاد "بالمأزق الاخلاقي" حيث تكون الكلفة الاجتماعية عالية. فمثلا لو كان لديك منزل فيه آثاث ثمينة ولم تشتري بوليصة تأمين ضد السرقة، فانك ستكون حريصا جدا على المنزل حيث ستتأكد من غلق الباب بإحكام في كل مرة تغادر فيها المنزل وتتخذ اجراءات لمنع حالات التخريب والكسر في الأبواب، فاذا قمت بشراء تأمين للمنزل فسوف تكون أقل اهتماما، واذا خرجت من البيت وتذكرت بعد عشر دقائق انك لم تغلق الباب فسوف تستمر بالذهاب لأنك تشعر لديك تأمين ضد السرقة ولا تريد ان تخسر الوقت، وكذلك في حالة التأمين ضد الحريق حيث ستتحطم المزيد من البيوت لمن لديهم حماية التأمين ضد الحريق، وهي مخاطرة كان يمكن تجنّبها لو ان الناس يدفعون تكاليف الحماية بأنفسهم. 

تُمثِّل رَمزيةُ اللغةِ تَصَوُّرًا وُجوديًّا عَن كِيَانِ الفردِ وكَينونةِ المُجتمع، وتُشكِّل مَنهجًا مَعرفيًّا لِتَحليلِ العلاقات الاجتماعية في صَيرورة التاريخ المُتوالِد باستمرار، وتَفسيرِ مَصادر الوَعْي الثقافي في أشكالِ التفكير الإبداعي، مِمَّا يُؤَدِّي إلى جَعْلِ الواقعِ المُعَاشِ كائنًا حَيًّا مُتَفَرِّدًا بذاته، وَفِعْلًا اجتماعيًّا مَنظورًا إلَيه مِن خِلال إرادةِ المَعرفة المُتَحَرِّرَة لا سُلطةِ المصالح الشخصية الضَّيقة . والوَعْيُ الثقافي لا يَتَكَرَّس كَنَسَقٍ إنساني لِخَلاصِ الفَرد مِن الأحلام المَكبوتة، وتَخليصِ المُجتمع مِن الضغط الاستهلاكي، إلا إذا تَمَّ النظرُ إلى رمزية اللغة مِن الداخل لا الخارج، وهذا يَستلزم تحويلَ البناء الاجتماعي الحاضن لتفاصيل الحياة اليومية إلى بُنية لُغَوية حاضنة لإفرازاتِ العقل الجَمْعِي وتأثيراتِ الهُوِيَّة الجامعة، الأمر الذي يَجعل العلاقاتِ الاجتماعية تَيَّارَاتٍ فِكريةً مُتَحَرِّرَةً مِن الوَهْمِ والأدلجةِ المُغْرِضَة، ومُندمِجةً معَ اللغةِ والثقافةِ، باعتبارهما نظامًا واحدًا في الزمانِ والمكانِ، ومُوَحِّدًا للآلِيَّاتِ السُّلوكية التي تُنتِج المَعرفةَ وتُوَظِّفها خارجَ القوالب الجامدة، ومُوَلِّدًا لمفاهيم جديدة تُعيد صِياغةَ المَعنى الوُجودي - ذِهنيًّا وحياتيًّا - مِن مَنظور إبداعي لا وَظيفي.وكِيَانُ الفردِ لا يَكتسِب الشرعيةَ الثقافية إلا إذا تَأسَّسَ - إدراكًا كَوْنِيًّا وسُلوكًا إيجابيًّا وواقعًا مَلموسًا-على قَواعدِ البناء الاجتماعي. وكَينونةُ المُجتمع لا تَكتسِب المشروعيةَ التاريخية إلا إذا تَأسَّسَتْ- سِيَاقًا تَحريريًّا وفِكْرًا فاعلًا ونَقْدًا مَنهجيًّا - على أُسُسِ البُنية اللغوية . وتَظَلُّ مَرجعيةُ المَعنى الوُجودي هي الذاكرةَ الجَمْعِيَّة التي تَحْمِي كِيَانَ الفردِ مِن الأحكامِ الثقافية المُسْبَقَة، وتَحْمِي كَينونةَ المُجتمع مِن المُسَلَّمَات التاريخية التي فَرَضَتْهَا سُلطةُ الأمرِ الواقع .

2

رَمزيةُ اللغةِ تُحلِّل أبعادَ هُوِيَّة الفرد في فَضاءات الفِعْل الاجتماعي، وتَكشِف أركانَ سُلطة المُجتمع في تأثيرات التَّفكير النَّقْدِي . وهذه المَنظومة المُترابطة (التَّحليل - الهُوِيَّة / الكَشْف - السُّلطة) تُعيد تَكوينَ زوايا الرُّؤية الفلسفية للأحداثِ اليومية والوقائعِ التاريخية، بحيث يُصبح الماضي والحاضرُ نَسَقًا فِعْلِيًّا مُتَجَانِسًا، وَمُمَارَسَةً حياتية مُتفاعلة مَعَ الوَعْي الثقافي، وتَجَاوُزًا مُستمِرًّا لإيقاع الحياة الرتيبة . وهذا التَّجَاوُزُ المُستمِر لا يَعْنِي تجريدَ اللغةِ مِن رمزيتها، أوْ إقامةَ قطيعة مَعرفية بين الماضي والحاضر، وإنَّما يَعْنِي صَهْرَ المراحلِ الزمنية دُون القَفْز في المَجهول، أو الغرق في الفَرَاغ، أو السُّقوط في العَدَم، بِحَيث يُصبح المَعنى الوُجودي نِظَامًا دِيناميكيًّا قادرًا على تَحويلِ إفرازات العقل الجَمْعِي إلى مصادر معرفية، وظواهر اجتماعية، وشروط تاريخية تُؤَدِّي إلى تَوليدِ الأنساق الحضارية - كَمًّا وكَيْفًا - في الوَعْي الثقافي، وتَكريسِ الوَعْي الثقافي في الواقع المُعاش، بِوَصْفِه انقلابًا على الأحكامِ المُسْبَقَة والمُسَلَّمَاتِ الافتراضية، ونَفْيًا لها مِن حَيِّز الزمانِ والمكانِ، ولَيْسَ إثباتًا لها في الشُّعورِ والإدراكِ والمُجتمعِ، وتُصبح العلاقاتُ الاجتماعية مُنْتَجَاتٍ ثقافية مَرِنَة لا كِيَانات مُتَحَجِّرَة أوْ أيقونات مُقَدَّسَة . وشخصيةُ الفردِ الإنسانيةُ لَيْسَتْ أُسْطُورَةً تُفَسِّر نَفْسَها بِنَفْسِها، وإنَّما هِيَ طَرِيقٌ إلى اكتشاف الأحلام المَكبوتة، وطَرِيقَةٌ لتوظيف أشكال التفكير الإبداعي في البناء الاجتماعي . وسُلطةُ المُجتمع الاعتبارية لَيْسَتْ أيقونةً تَستمد شَرْعِيَّتَهَا مِن ذاتها، وإنَّما هِيَ تَجذيرٌ لِصَيرورة التاريخ بَين الأنماطِ الاستهلاكية والأنساقِ الحضارية، وإعادةُ اكتشافٍ لِرُوحِ الزمان في جسد المكان .

3

المُجتمعُ لا يتعامل معَ اللغةِ كَبُنية رَمزية فَحَسْب، بَلْ أيضًا يَتعامل معها كنظامٍ مَعرفي، وكُتلةٍ اجتماعية، وتَجسيدٍ للوَعْي الثقافي في كِيَانِ الفرد وكَينونةِ المُجتمع . وكما أنَّ اللغة لا يُمكِن حَصْرُها في رَمزيتها، كذلك الفرد والمُجتمع لا يُمكِن حَصْرُها في الوَعْي الثقافي، مِمَّا يدلُّ على أنَّ العلاقات الاجتماعية - فَرديًّا وجَمَاعيًّا- عِبَارة عن دوائر مَفتوحة على كافَّة الاحتمالات، ولَيْسَتْ أنساقًا مُنغلِقةً على نَفْسِها، ومُتَقَوْقِعَةً على ذاتها، ومُكْتَفِيَةً بِوُجودها. وهذه الأنساقُ غَير المُكتمِلة تَجعل أشكالَ التفكير الإبداعي ذات طبيعة انسيابية، ومُتماهِية معَ مناهج النَّقْد الاجتماعي التي يُعَاد تأويلُها في إفرازات العقل الجَمْعِي، ويُعَاد توظيفُها في انعكاساتِ هُوِيَّة الفرد على سُلطة المجتمع، بحيث يُصبح مِن المُستحيلِ فَصْلُ الهُوِيَّة الفَردية عن السُّلطة الجَمَاعِيَّة، وهذا التلازمُ الحَتْمِي يَدفَع باتِّجاه رُؤيةِ اللغة مِن مَنظور خَلاصِي، ورُؤيةِ الفرد مِن مَنظور إنساني، ورُؤيةِ المُجتمع مِن مَنظور مَعرفي، ورُؤيةِ الوَعْي الثقافي مِن مَنظور تاريخي .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

علاقة الفلسفة بالدين قضية إشكاليّة وخلافيّة أيضاً عاشها المشتغلون على الاتجاهين معاً في تاريخ الدولة العربية الإسلاميّة. ربما تجلى هذا الخلاف أو الصراع الفكري في كتابي أبي حامد الغزالي وابن رشد وهما (التهافت، وتهافت التهافت)، مثلما تجلت عملياً في محاربة من اشتغل على الفكر الفلسفي في تاريخ الخلافة الاسلامية كالفارابي وابن سينا والكندي وابن رشد وغيرهم الكثير.

وعلى الرغم من أن الفلاسفة العرب كانوا أكثر جرأة منا اليوم في النظر بقضايا القديم والمحدث والتحسين والتقبيح، وخلق القرآن وقدمه، والبحث في صفات الله والجنة والنار وغيرها من القضايا التي تتعلق في الخالق نفسه وعقيدته، إلا أنهم ظلوا محكومين بـ (بالخوف)، من السلطة ورجال الدين السلفين الموالين لها والقادرين على تحريض السلطة والناس عليهم، وهذا ما كان يجري تاريخيّاً. أو بسبب غياب الشروط العلميّة للمعرفة ونقصها وخاصة التطور العلمي والتكنولوجي الذي عايشه مفكرو أوربا مع قيام الثورة العلميّة والصناعيّة التي ساعدتهم على طرح قضايا تجاوزت نطاق الايمان المطلق كما جرى لكبررنيك وهارفي وغيرهما.

لنأخذ الفارابي أنموذجاُ فلسفيّا من هذه النماذج الفلسفيّة العربيّة العقلانيّة حيث عرف الفلسفة بقوله:

(هي العلم بالموجودات بما هي موجودة، لاختصاصها بالنظر في ماهيات الموجودات، من خلال تتبع مساراتها وصولاً إلى الامساك بجذورها، أو ما اعتبرها ارسطو عقلها ومبادئها الأولى).

فالفلسفة عنده تقوم في تعريفه هذا لها، على الاقرار بدور العقل النقدي القادر على كشف الظواهر في الطبيعة والمجتمع، من خلال تتبع سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين، بهدف معرفة سر وجودها والقوانين الموضوعيّة المتحكمة بها. فالفارابي هنا إذاً تجاوز حدود الاستسلام المطلق لمعرفة وجود الظواهر وفقاً للرؤى الدينية التي تقول بأن كل شيء مخلوق لله، ويأتي في مقدمة هذا الرفض هو أنها لا تسير وفق إرادة عليا تطلب من الناس أو المؤمنين الخضوع لها أو الاستسلام لها. بل لها قوانين سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين كما بين في تعريفه لها، وعلينا اكتشاف آليّة هذه السيرورة والصيرورة معاً.

إن الفلسفة في سياقها المعرفي العام، هي نسق من الثقافة الروحيّة للبشريّة، وشكل من أشكال الوعي البشري (الاجتماعي)، تكمن وظيفتها المتميزة في وضع نظريّة قادرة على خلق فهم معلل نظريّاً ومنهجيّاً لأكثر القوانين عموميّة في الطبيعة والمجتمع والتفكير الإنساني. وهي تقدم أصول الفلسفة في الممارسة الاجتماعيّة الواقعيّة، و تعكس على نحو متميز قضايا وتناقضات الممارسة الاجتماعيّة وقضايا عمليّة معرفة الواقع وتحويله، وتؤثر بالإضافة إلى ذلك على تطور المجتمع والتاريخ وعلى تطور الإنسان ومعرفته، وذلك انطلاقاً من أن الوجود بشقيه الاجتماعي والطبيعي مشروط بقوانين موضوعيّة يسري مفعولها في التاريخ الطبيعي والبشري بغض النظر عن إرادة الناس ورغباتهم.

إن المهمة الأساس في الفلسفة إذاً، تكمن في العمل على جعل الوعي الثورة العقلاني (النقدي)، على علاقة موضوعيّة بالواقع الاجتماعي عن طريق توجيه الفكر العقلاني النقدي لدراسة التناقضات والسنن والميول الموضوعيّة للتطور التاريخي.

أما الدين فهو مجموعة العقائد والمبادئ والأفكار والرؤى والرموز والطقوس المتعالية على الواقع، التي يؤمن بها الناس ويعملون على تطبيقها فكراً وممارسة، على اعتبارها تتضمن المقدس والثابت والمطلق حيث تكمن فيها حلول مشاكل الناس وسعادتهم.

أما الأسس التي يقوم عليها الدين فهي: الحس والخيال والايمان والامتثال والاستسلام، لما يقره أو جاء به هذا الدين أو ذلك، وما دور العقل هنا إلا أداة أوسيلة من وسائل السعي لتأكيد ما تقره هذه الأديان أو تثبيته. وبالتالي، فالإيمان بما تقره الأديان يظل في الحقيقة خارج نطاق العقل النقدي القائم على الشك والتجربة.

إن الدين يقوم في سياقه العام على الوحي، والايمان بما ينزله هذا الوحي على الأنبياء والرسل الذين لم يكن دورهم أكثر من تبليغ حقائق للناس، وضرورة التزام بها رغبة في ثواب يتمثل برضا صاحب الدين الذي هيأ جنة لمن يطيعه ويطيع رسوله، أو عقاب يتمثل في نار حامية تكوى بها جباههم ووجوههم خالدين فيها.

هكذا نرى أن الدين يقوم على التبشير والوعد والوعيد، وعلى اعتبار ما هو قائم في هذا الوجود من ظواهر، ليس أكثر من أدلة على الإنسان تدفعه ليفكر من خلالها بعظمة خالقها من خارج عالم الإنسان ذاته ودون مقدمات موضوعيّة، وأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكن.. فالزمن هنا ليس له سيرورته وصيرورته التاريخيتين، بل هو آنات متفرقة تحدث في الزمان والمكان المتقطعين دون مسببات أو ظروف موضوعيّة.

ملاك القول: إن العقل النقدي يظل حجة، له منزلته العالية، وقوته التي تمارس نفوذها على سائر القوى الأخرى. هذا العقل الذي يظهر عند الفرد مثلما يظهر عند الكتل الاجتماعيّة. وهو عقل يقوم على الحس والاستقراء والاستنتاج والتحليل والتركيب والتجربة وبالتالي البرهان.

وعلى هذا الأساس تكون الحقيقة دينيّة أو غير دينيّة أكثر قوة وحضوراً عندما يشتغل عليها العقل النقدي.

إن العقل النقدي عقل شكاك، يؤمن بالحركة والتطور والتبدل، وبالضرورة ممثلة بالقوانين التي تتحكم بسير حركة الوجود برمته، يرفض الإطلاق ويؤمن بالنسبية، والزمان والمكان عنده تاريخيان لهما وجودهما وتسلسلهما التاريخي، والحقيقة الممثلة بالظواهر تقوم على حقيقة ناقصة. أما الإنسان فهو سيد مصيره حيث يستطيع بما يملك من قدرات عقليّة وجوارح ناشطة في هذا الكون من أعادة بناء نفسه وما يحيط به وفقاً لإرادته.. فهو في المحصلة خليفة الله على هذه الأرض، على اعتبار أن العقل النقدي لا ينكر وجود عوالم في هذا الكون لم يكتشف كينونتها بعد، فالمعرفة تسير دائماً نحو الأمام وفي كل يوم يكتشف الجديد الذي يقبله العقل، في الوقت الذي يتخلى فيه كل يوم هذا العقل عن الكثير من القضايا القائمة معرفتها على الذاتية والحدسية والتخيل والضن والايمان والاستسلام.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية

(حين وصلتُ إلى سن الاختيار اخترت الانحياز للفقراء؛ لأنني منهم، وللأنبياء لأنهم كانوا فقراء منحازين للفقراء، ومن ينحاز للفقراء ينحاز بالضرورة للعدل ولا يتحقق العدل إلا بالحرية، والحرية بما تضمنه من الاختيار بين البدائل لا وجود لها في غياب العقل (التفكير الحر)..).. بهذه الكلمات قدّم نصر نفسه قبل رحيله بفترة قصيرة.

الحفر في المشروع الفكري لنصر حامد أبو زيد هو إضاءة وتعميق لفهمنا لمشروع النهضة العربي بإنجازاته وانكساراته، فعلى نقيض الدراسات التقليدية التي تحرس التّراث مدّعية أننا أمام تراث واحدٍ بالألف واللام، ينظر مشروع النهضة العربية إلى التراث بوصفه تراثيات متنوعة متفاعلة، ومن بين تلك التراثيات العربية المتعددة، انحاز نصر إلى التراث العقلاني من المعتزلة وابن رشد إلى محمد عبده وطه حسين وقاسم أمين وأمين الخولي.

ففي الوقت الذي يُسيطر على واقعنا الفكري قراءة مردّدة لما جاء في التراث بدافع من التقليد للقديم، قراءة زيّفت بالترديد المستمر حقيقة القراءة القائمة على الفكر، فـ”الفكر هو التجديد، فما ليس بجديد في مجال الفكر فهو ترديد وتكرار لما سبق قوله، وليس هذا من الفكر في شيء”. (1) فالقراءة التي تكتفي بالتبرير إنّما تنتمي إلى الفكر على سبيل المجاز لا الحقيقة.

في مقابل تلك القراءة صكّ نصر مصطلح “القراءة المثمرة الواعية” للتراث أو ما يُمكن أن نُطلق عليه قراءة حيّة لما تتسم به من حيوية، فالباحث معها في حركة ذهاب وإيّاب لا تهدأ بين الماضي التراثي والحاضر الحداثي، ليس لإعادة تأويل التراث فحسب بل لمعرفة الذات، والبحث في جذور الإخفاق الحضاري الذي نعيشه، واكتشاف أسباب فشل الحداثة العربية، وانحصارها في كونها قشرة بلا جوهر حقيقي يقوى على الصمود والنمو، تلك القراءة الواعية ضرورة معرفية للتغيير والتجديد والتطوير؛ لأنها سبيلنا إلى تحقيق عملية “التواصل الخلاق” بين الماضي بتراثه المعرفي والحاضر بمنهجيته الحداثية.

والمقصود بعملية “التواصل الخلاق” تقديم قراءة واعية للتراث تتجاوز ضيق أفق قراءة تيار الخطاب السلفي المعاصر الساعي إلى إعادة إنتاج الماضي باسم الأصالة، وتثبيت المعنى الديني لإعادة صياغة الواقع الاجتماعي؛ ليتلاءم مع المعنى الظاهري الأحادي الذي اختاره من التراث، كما أنها كسر لأسوار “التبعية” السياسية والفكرية التامة للغرب باسم “المعاصرة”، فالقراءة الواعية تختلف عن القراءة الرافضة للتراث الداعية للقطيعة المعرفية معه، وفي الوقت نفسه تختلف عن محاولات التلفيق الإصلاحي الذي يأخذ طرفا من التراث وطرفا من الحداثة دون تحليل تاريخي نقدي لكليهما، ساعيا بالتأويل العقلاني للنصوص الدينية والتراثية لفتح المعنى الديني؛ ليستوعبَ كثيرا من منجزات العصر في مختلف المجالات، وهو المنهج الذي سيطر بدرجات متفاوتة على المشروع الفكري النهضوي؛ فأفضى إلى تكريس ثنائية “الغرب” المادي العلمي المتقدم والمفلس روحيا، مقابل “الشرق” المتخلف ماديا وعلميا والغنى روحيا!

 فالقراءة الواعية للتراث بآليات الدرس اللغوي الحديث – تستهدف تحرير خطاب النهضة من تلفيقيّته التي انكشف واضحا أنّها لا تختلف عن الخطاب السلفي في عجزها عن التجديد، وإن كان ثمّة فارق بينها.. ففرق كبير بين خطاب منفتح نحو الآخر، ويقبل التعايش معه والإفادة من منجزاته، ويسعى لتغيير الوعي بالمنطق والبرهان والحجة وأساليب الإقناع المعرفي، وخطاب منغلق يحصر الهوية في الماضي الذي يسعى لاستعادته بشتى الطرق والأساليب، ويسعى لتغيير الواقع بالقوة.

ويُمكننا أن نقول إن نصر اعتمد دوما في قراءة/ دراسة التّراث على منهج نقدي منفتح على الفكر الإنساني في مجال العلوم الاجتماعية خاصة الألسنة والتأويلية والسميولوجيا، وأن هذا المنهج كان في سيرورة دائمة لا تعرف الثبات، على حد قوله: “أستطيع أن أقول إن النزعة النقدية في التعامل مع التراث، أي تراث وكل تراث خطاب والعكس صحيح كذلك – تمثل عصب المنهج الذي لا أستطيع الزعم بأنه اكتمل، لأنه كالهوية في حالة إنجاز لا يتوقف، حتى في حالة الوفاة يموت باحث ويتوقف خطاب، ويظل المنهج يواصل سيرورته متسربا في خطابات جديدة متجددا دائما، فلا شيء يفنى لأنه لا شيء يوجد من عدم”.انشغل نصر بمهمتين:

الأولى: العمل على دعوة الشيخ أمين الخولي مؤسس مدرسة الأمناء إلى “قتل القديم بحثا”، تلك الدعوة التي لم تنجز بعد، و”ليس المقصود بالقديم، ما مرت عليه دهور، بل كل ما أنتج من فكر، وما صيغ من خطابات. تفكيك بنية الخطابات وتعريتها من أثواب القداسة التي ألبست لها بفعل ملابسات وعوامل غير معرفية”. فكثيرا ما كرّر نصر عند حديثه عن التجديد عبارة الشيخ “أوّل التجديد قتل القديم فهما وبحثا ودراسةً”(1) فمنهج التجديد من منظور الشيخ لا يستقيم، ولا يصحّ إلا بعد فحص القديم فحصا نقديا من شأنه أن يكشف عن جذور هذه الأفكار، ويُفصح عن دلالتها في سياق تكوّنها التاريخي والاجتماعي، وبذلك يردها إلى أًصولها بوصفها فكرة، وليست عقيدة، ويُزيل عنها القدسية المضافة إليها، والتي تراكمت حولها من جراء الترديد والتكرار، ومن جراء تشويه الأفكار الأخرى التي تُخالفها وتدحضها. وفي عملية إزالة القداسة تلك نوع من التفكيك المعنوي الذي لا يغتال الأفكار، ولكنه يكتفي بردها إلى سياقها الذي يسمح للأفكار الجديدة بالقدرة على مناقشتها ومساجلتها على أرض الفكر وليس على أرض العقيدة. وإذا تصارعت الأفكار صراعا صحيا، فإنه لابد للجديد أن يُزحزح القديم ويُغيّره أو يتجاوزه، أمّا تجاور القديم – الذي أحاطته القداسة بالترديد والتكرار- إلى جانب الجديد – الذي لا يزعم لنفسه أية قداسة- فسيُفضي دائما إلى تمكين القديم من إزاحة الجديد، بل وقتله نهائيا، ناهيك باغتيال المفكر المُجدّد. ومما يسهل عملية قتل الجديد واغتيال المُجدّد أن أنصار التقليد ومحاكاة القديم ينقلون الصراع دائما من أرضه الحقيقية وميدانه الفعلي – أرض الفكر وميدان الصراع الفكري – إلى أرض العقيدة وميدان الدين.(2)

المهمة الثانية: “فتْح الباب للأسئلة التي كبْتت سياسيا أو اجتماعيا أو دينيا. ومن ذلك على سبيل المثال: ما هي طبيعة الخطاب الإلهي، وعلاقته بالتاريخ، والثقافة، واللغة؟ وما هي علاقته بالنصوص أو الخطابات الإلهية السابقة كلها؟ الترتيب الحالي للقرآن – وهو غير ترتيب النزول – ثم على أي أساس: نصي؟ لغوي؟ ديني؟ اجتماعي سياسي؟ وما هي الدلالات الناجمة عن هذا الترتيب. هل الخطاب النبوي والخطاب الإلهي نصّان أم نص واحد؟ وما موقع “الأحاديث القدسية” من هذا النص الواحد أو النصين؟ إذا كانت قضية قراءة التراث في تجلياته وخطاباته العديدة: (الفقه وأصوله، علم الكلام أو أصول الدين، الفلسفة، التصوف على سبيل المثال وليس الحصر) لم تنجز بعد رغم كثرة الكتابات فيها، فإن أسئلة الخطاب الإلهي ما زالت مكبوتة، وقد آن أوان فتحها… فالتفكير بذاته ليس جريمة، ونشر الاجتهاد الذي هو ثمرة التفكير واجب يُمليه ضمير الباحث ومسئوليته إزاء دينه ومجتمعه”.(3)

بدأت قراءات نصر بالتركيز على فعالية المؤوِّل في التراث الإسلامي، أو بعبارة أخرى ركّز على فعالية “الذات” القارئة، فانشغل بالمؤوِّل وعلاقته بالنص، وجدله معه دون أن يبالغ في دوره، فجاءت بَاكورة نتاج نصر العلمي دراستان حول قطبي الفكر والتأويل في التراث الإسلامي المعتزلة والمتصوفة، فتناولَ تأويل النص القرآني على أسس عقلية في رسالته لنيل درجة التخصّص (الماجستير) “الاتجاه العقلي في التفسير دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة” معتمدا على تراث القاضي المعتزلي “عبدالجبار الأسد آبادي”، ونُشرت طبعتها الأولى سنة ١٩٨٢، ثم تناول تأويل النص القرآني على أسس ذوقية حدسية عند المتصوفة في رسالته العالمية (الدكتوراه) “فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي” ونُشرت طبعتها الأولى عن دار التنوير ١٩٨٣.

وأظنّ أنّ محرّك نصر لدراسة تأويلية المعتزلة والمتصوفة لم يكن محاولته إيجاد وحدة عضوية بين المتصوفة والمعتزلة، تلك المحاولة التي باءت بالفشل والعجز على حد تعبير الدكتور حسن حنفي.(4) بل بدافع من حركة فكرية لا تهدأ، فاختياراته العلمية يُحرّكها سؤال المنهج، وهو سؤال متواصل دائم، وحين يتوقف السؤال، ويتصور الباحث أنه حقّق نضجه المنهجي، فإن الذي يكون متحققا بالفعل هو “الجمود” المنهجي.

فمنهج نصر حركة دائبة بين قراءة مفاهيم الدراسات الحديثة من الهرمنيوطيقا والسيميولوجيا وتحليل السرد والأسلوبية والإفادة منها، وبين القراءة النقدية للإنجازات التراثية في مجال علوم اللغة والبلاغة والنقد بمعناه العام.. والناتج عن تلك القراءات في مجموعها ليس منهجا، بل سؤال دائم متواصل متى توقف ظنّا النضج، فقد تجمّد المنهج الذي هو في حقيقته ناتج حركة التفاعل العميقة جدا والخصبة بين سؤال الباحث وموضوع البحث. (5)

انتهى نصر من الماجستير والدكتوراه دون معوقات، منحازا إلى المنهج العلمي النقدي متجاوزا الخطاب التقليدي الوعظي والإصلاحي، منتقدا في رسالته لنيل درجة “التخصص/الماجستير فكر المعتزلة ونهجهم في التأويل، فاختياره لعقلانية المعتزلة ميدانا لدراسته لا تعنى الاستسلام لخطابهم، فظلّ المنهج النقدي الأداة البحثية الملازمة له، فكشف نصر كيف أن المعتزلة اتخذت من آية (٧) في سورة آل عمران(6) مدخلا لإرساء نهجهم في التأويل، فتلك الآية الكريمة التي تُقسّم آيات القرآن الكريم بين محكم ومتشابه، دون تحديد لأيّ منهما، أسند أمر تأويل المتشابه إلى الراسخين في العلم، حدث خلاف حول الآيات المحكمة والمتشابهة بين المعتزلة وخصومهم، وراح كلّ منهم يُعطى نفسه حقّ التأويل، ويعتبر نفسه المقصود بالراسخين في العلم الذين صحّ تأويلهم، “وانتهى القرآن بين المتنازعين إلى أن صار مجالا للجدل واللجاج والخصومة، حتى صدق على القرآن ما قاله في الإنجيل عالم اللاهوت التابع للكنيسة الحديثة بيتر فيرفيرنفلس: “كل امرئ يطلب عقائده في هذا الكتاب، فلم تنجح المعتزلة دوما في رفع التناقض بين نصوص القرآن من جهة وبينها وبين أدلة العقل من جهة أخرى مستخدمة “المجاز” سلاحها في التأويل لرفع التناقض، وذلك لمحاولتهم –في أغلب الاحيان – ليّ عنق النص القرآني وإخراجه عن سياقه وذلك ليتحول إلي دلالة نظرية”.(7)

وعندما انتقل نصر في رسالة الدكتوراه إلى اكتشاف منطقة جديدة من مناطق الفكر الديني استكمالا لدراسة العلاقة بين الفكر الإنساني/المؤول والنّص الديني، واستكشاف طبيعة العلاقة ومناقشة المعضلات التي يثيرها الخطاب الصوفي لابن عربي، قدّم دراسة نقدية كانت على وعي بالأبعاد السياقية والاجتماعية المنتجة لخطاب ابن عربي “فجهود بن عربي في تأويل القرآن لم تكن جهودا معزولة عن منظومة مشكلات الواقع التي تظن أن الصوفي لا ينشغل بها، وقد كانت محاولة لتجاوز تناقضات الواقع الأندلسي أولا والإسلامي ثانيا، وكانت فلسفته بكلّ جوانبها –خاصة جانبها التأويلي – محاولة لإزالة كل هذه التناقضات وحلّ كل هذه الصرعات علي مستوي الفكر والعقيدة. وانتهي ابن عربي إلي عقيدة للحب الشاملة والدين العلمي المفتوح والرحمة الإلهية الشاملة، التي فُتح بها الوجود وإليها يؤول. ومع ذلك كلّه فقد ظلت حلول ابن عربي حلولا فكرية أخذت طابع الحلم الكبير، الحلم الذي تفيق منه على مفاجأة قبح العالم وشراسة الصراع الذي يخوضه البشر علي جميع المستويات. لقد أراد ابن عربي أن يقود العالم ويهديه ويرشده. ولكنه أدار ظهره له وبني لنفسه عالما منسجما متناغما يحكمه الإنسان الكامل – ظِلّ الله وصورته – بكل قوانين العدل والرحمة والحب، أو لتقل يحكمه ابن عربي نفسه – خاتم الولاية المحمدية الخاصة – انتظارا لخلاص العالم بنزول خاتم الولاية العامة، عيسى عليه السلام، المهدي المنتظر الذي يُعيد للعالم توازنه وللأمور نصابها”.(8)

***

ا. د. عبد الباسط سلامة هيكل – جامعة الأزهر

..........................

(1) الشيخ أمين الخولي، مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، دار المعرفة، القاهرة، الطبعة الأولى سبتمبر ١٩٦١، ص١٧.

(2) يُنظر: الخطاب والتأويل، ص٢٠،١٩. مقال تجديد الخطاب الديني، جريدة الأهرام ٢٤ فبراير ٢٠٠٢م.

(3) د/نصر حامد أبو زيد (٢٠٠٠)، حياتي، أبواب، القاهرة، ٢٣٤.

(4) ينظر: د/حسن حنفي (١٩٩٨)، حوار الأجيال، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى ، ص ٥١١.

(5) ينظر: د/نصر حامد أبو زيد (١٩٩٥)، النص السلطة الحقيقة الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، ط. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/المغرب، بيروت/لبنان، الطبعة الأولى، ص١٢،١١.

(6) “هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِۦ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ”.

(7) د/نصر حامد أبو زيد (٢٠٠٠)، حياتي، أبواب، القاهرة، ٢٣٣.

(8) السابق، ٢٣٦.

(عندما تكون لدينا مقولةٌ نودّ قولَها كعلماء اجتماع، فإن هذا قد يأخذ منّا ثلاثين عاماً)... ألان تورين

الواقع مثقل بالرموز والقصص والأحداث، التي تعززها مواقع التواصل الأجتماعي وتغول من حجمها، مما أنتج خطاباً أجتماعياً هشاً يزخر بمفاهيم تم توظيفها بزحام المعضلات الاجتماعية التي تحاصر الفرد العراقي من كل الجهات، وتكمن خطورة هذه التوظيفات بأنها تشكل تمثلات الأجيال القادمة التي تغذي مخيلتها من العالم الرقمي، ودورها في تأجيج العقل الجمعي وتشتيت أنتباهه عن أزماته الحقيقية لذلك لابد أن نتساءل كيف تبنى هذه المفاهيم؟ وكيف توظف اللغة في بناء مزالق الأيديولوجيات؟ ومن يملك مفاتيح اللغة؟ وكيف شكلت تأويلات الجندر مع تطور الموجات النسوية وتعددها أزمة مفاهيمية؟

عنف اللغة وأغتيال المعنى:

يرى تيري أيجلتون إن اللغة التي تُعد من بين أكثر التداولات اليومية براءة وتلقائية، هي في الواقع أرض مجرحة، مصدعة ومقسّمة بوساطة زلازل التاريخ السياسي، مكسوة بجثث الصراعات الإمبريالية والقومية والإقليمية والطبقية. ويتأسس ما هـو لغوي دائما علـى أساس لغوي - سياسي، والمجال الأخير هو الذي تحسم فيه الصراعات بين الغازي الاستعاري والدول الخاضعة له، الدولة القومية ودولة قومية أخرى، الإقليم والدولة القومية، الطبقة والطبقة الأخرى.

فعندما يقوم شخص ما باستعمال اللغة، من يكون المتكلم؟ هل هو الشخص بذاته أم أن اللغة هي التي تتكلم؟ بكلام آخر: هل يكون الشخص المتكلم مسيطراً سيطرة تامة على "الأداة" التي يستعملها، وهي اللغة، بحيث إنه يفعل بها ما يريد وفق شروطه الخاصة ويشكلها وفق تصوراته المسبقة، أم أن اللغة تلعب دوراً أساسياً في عملية التعبير، بحيث تفرض شروطها هي وتتحول "متكلماً" أو لاعباً أساسياً في العملية؟"

هذا ما أقر به لوسركل في كتابه "عنف اللغة "بالتالي فأن عنف اللغة الأجتماعي جزء من عنف رمزي يتماهى بكل تفاصيل الحياة الأجتماعية، موجه نحو الجماعات، وهذا العنف تبدد الى الخطاب السياسي والخطاب الأجتماعي برمته، ومثال على ذلك مفهوم الجندر كغيره من الموضوعات الخاصة بقضايا النساء وحقوقهن وأخضاعه الدائم الى العنف اللغوي؟ الذي أنتج أزمة مفاهيمية مفرغة من المعنى مما أجاز التأويل باتجاهات مختلفة وأبعده عن معناه الحقيقي الذي أنطلق مع سيمون بوفوار، فالجندر مفهوم قلق منذ ظهوره حيث أجاز تأويله على مر الموجات النسوية وسياقاتها التاريخية، وتطرح جوديث بتلر في كتابها" قلق الجندر، النسوية وتخريب الهوية" عدة تساؤلات كيف لبعض الممارسات الجنسية أن تجبرنا على التساؤل: ما هي المرأة، ما هو الرجل؟ وإذا ما كان الجندر لم يعد مفهوما باعتباره شيئا مرسّخا وموطّدا بواسطة الجنسانية المعيارية، عندئذ هل ثمّة أزمة في الجندر خاصة بالكويير؟.

ماهي المركزية عن خطاب الجندر: كيف تبني اللغة مقولات الجنس؟ وهل أن "الأنثى" The Female تقاوم التمثيل داخل اللغة؟ وتساؤل الإطار المفاهيمي لعدد من منظري الجنسانية، تعيد طرح أسئلة فيما تختلف مع مقاربة مونيك فيتيغ، كيف تنتج اللغة ذاتها هذا البناء التخييلي للجنس الذي يسند هذه الأنظمة المختلفة من السلطة؟ وفي نطاق لغة قائمة على الجنسانية الغيرية الإجبارية، أيّ أنواع من الاستمرارية يُفترَض أن توجد بين الجنس والجندر والرغبة؟ وهل هذه المصطلحات منفصلة؟ وأيّ أنماط من الممارسات الثقافية من شأنها أن تنتج الانقطاع والنشاز التخريبيين ما بين الجنس والجندر والرغبة، وتضع العلاقات المزعومة في ما بينها موضع سؤال؟

ويضيف عالم الاجتماع بورديو عن اللغة والسلطة الرمزية، يتضح لنا أن السلطة الرمزية هي القدرة على التأثير في الأشخاص والأشياء وذلك من خلال تكوين معنى عن طريق العبارات اللفظية، أي عن طريق استعمال اللغة كنظام رمزي، وبالتالي فاللغة قادرة على خلق واقع خاص بها.

مفهوم الجندر وأعادة التأويل بين سيمون دي بوفوار وجوديث بتلر

في قراءة جوديث باتلر لكتاب سيمون دي بوفوار ترى أن الجندر صيرورة مزدوجة المعنى تمثل جدلاً مستمراً بين الذات والبنية الثقافية الخارجية، حيث ترى " إن سيمون دي بوفوار لا تقترح إمكانية وجود أنواع أخرى إلى جانب الرجل والمرأة، لكن إصرارها على كونهما بنيتين تاريخيتين يجب على الأفراد في كل مرة أن يقوموا بتملّكهما يقترح أن النظام ثنائي الجندر لا يتمتع بضرورة أنطولوجية. قد يرد أحدهم بأن هناك وببساطة عدة طرق ليكون المرء رجًلا أو امرأة، لكن هذا الرأي يولي الجندر أنطولوجيا جوهرانية تنافي مقصد بوفوار: إن الرجل والمرأة هي طرق وجود سابقة بالفعل، هي أنماط وجود جسدي، كما أنها لا تظهر بصفتها كيانات جوهرية إلا لمنظور متحيز. قد يتساءل المرء أيًضا فيما إذا كان ثمة أمر في البنية ازدواجية الشكل للتشريح البشري يستوجب ترتيبات جندرية ثنائية عبر الثقافات؟ إن الاكتشافات الأنثروبولوجية للنوع الثالث وأنظمة الجندر المتعدد تقترح أن ازدواجية الشكل البيولوجي ذاتها تكتسب دلالتها بحسب ما تتطلبه المصالح الثقافية، وأن الجندر عادة ما يعتمد على متطلبات القرابة أكثر من اعتماده على الضرورات التشريحية... .، إطار سيمون دي بوفوار الوجودي قد يبدو من ناحية أنثروبولوجية ساذًجا، ملائًما فقط لقلة قليلة من المفكرين مابعد الحداثيين الذين يحاولون التعدي علي حدود الجنس المقبول. لكن قوة رؤيتها تكمن في التحدي الجذري الذي تفرضه على الوضع الثقافي الراهن أكثر مما تكمن في مخاطبتها للحس السائد. لهذا السبب، فإن إمكانات التغيير الجندري ليست متاحة فقط للضليعين بالمناطق الأكثر غموًضا للوجودية الهيغلية، بل هي كامنة في الطقوس اليومية للحياة الجسدية. إن مفهمتها للجسد باعتباره رابطة من التأويلات، وبصفته "منظوًرا" و"وضًعا" في آن مًعا، يكشف الجندر كمشهد من المعاني المترسبة ثقافًيا وكنمط من الابتكارية. أن تصبح جندًرا يعني في آن مًعا أن تخضع لوضع ثقافي وأن تخلق واحًدا، وهذه النظرة للجندر باعتباره جدلية من الاستعادة والابتكار تضمن إمكانية الاستقلال داخل الحياة الجسدية التي قلما وجد لها مثيل في نظرية الجندر"1.

المقاربة الوجودية لمفهوم الجندر مقابل ما بعد البنيوية:

وأستنادا ً الى ذلك نرى سيمون دي بوفوار وجوديث بتلر هما مفكرتان نسويتان بارزتان ساهمتا بشكل كبير في فهم مفهوم الجندر، في حين أن كلاهما يتحدى المفاهيم التقليدية للنوع الاجتماعي وآثاره المجتمعية، إلا أنهما يتعاملان مع الموضوع من وجهات نظر مختلفة ويؤكدان على جوانب مختلفة للجندر تشكل الصراع المفاهيمي السائد اليوم؟

- سيمون دي بوفوار: في كتابها "الجنس الأخر"، ركزت على البناء الاجتماعي لأدوار الجنسين والطرق التي يتم بها تعريف المرأة فيما يتعلق بالرجل، واستكشفت كيف شكلت المعايير والتوقعات المجتمعية هويات النساء وجعلتهن "الآخر" بالنسبة للرجال.

- جوديث بتلر: الذي تم تقديمه في "مشكلة الجندر"، حيث تركز على مفهوم الأداء الجنساني، تجادل بأن الجنس ليس شيئًا متأصلًا ولكنه يتم إنشاؤه من خلال الإجراءات والعروض المتكررة. إنها تتحدى فكرة الهوية الجنسية الثابتة والمستقرة، وبدلاً من ذلك تؤكد على الطبيعة المرنة والطارئة للجنس كعمل أدائي.

- أدركت بوفوار دور اللغة في تعزيز معايير النوع الاجتماعي وتشكيل الهويات. استكشفت كيف ساهمت التعبيرات اللغوية والروايات الثقافية في تبعية النساء وإنشاء ثنائيات بين الجنسين.

- بتلر: وسعت بتلر فهم دور اللغة من خلال تقديم مفهوم "الأداء اللغوي"، تجادل بأن اللغة لا تعكس فقط الهويات الموجودة مسبقًا؛ يبني ويكرر الهويات من خلال الخطاب، يؤكد هذا التركيز على اللغة باعتبارها أداءً على المرونة والطبيعة الاجتماعية القائمة على النوع الاجتماعي.

- بوفوار: بينما انتقدت بوفوار النظام الثنائي بين الجنسين وتهميش النساء، عمل تحليلها إلى حد كبير في إطار ثنائي الذكور والإناث. استكشفت كيف تم إقصاء المرأة إلى مرتبة "الآخر" بالنسبة إلى الرجل.

- بتلر: كان لعمل بتلر دور فعال في توسيع الخطاب خارج الإطار الثنائي. من خلال تقديم فكرة الهويات الجنسية غير الثنائية والسلسة، تتحدى قيود الثنائي بين الذكور والإناث وتفتح إمكانيات لفهم أكثر تنوعًا وشمولية للجندر.

سيمون بوفوار بصفتها فيلسوفة وجودية يقع تحليلها للجندر ضمن إطار وجودي أوسع يأخذ في الاعتبار حرية الإنسان، والاختيار، والنضال من أجل الأصالة، تتناول مسائل الوكالة الشخصية والقيود المجتمعية.

أما بتلر يتماشى عملها بشكل وثيق مع الفكر ما بعد البنيوي وما بعد الحداثة، حيث يتماشى تركيزها على الطبيعة الأدائية للجندر مع النهج التفكيكي الذي يتحدى المعاني والهويات الثابتة.

بالتالي فأن الجندر كمفهوم أكتسب كل اللحتمالات المطروحة ويعيد تشكيل نفسه من خلال اللغة المستخدمة، لذلك نرى أنه أضحى فضفاضاً أكسبته مابعد الحداثة بعداً قلقاً يعكس الأطار اللغوي والسياق الثقافي الذي يحتويه.

***

د. فاطمة الثابت – العراق

استاذة علم الأجتماع

......................

1 - جوديث بتلر: الجنس والجندر في الجنس الأخر لسيمون دي بوفوار، ت: لجين اليماني.

السؤال أعلاه هو من أكبر الأسئلة في تاريخ الفلسفة،والعديد من الفلاسفة والعلماء والباحثين علّقوا على هذا السؤال وحاولوا الإجابة عليه (1). في الحقيقة، فيلسوف القرن العشرين مارتن هايدجر أطلق على هذا السؤال بـ "السؤال الأساسي في الميتافيزيقا". السؤال يبدو أثار شعورا بالرهبة والدهشة لدى العديد ممن طرحوا السؤال لأنه في النهاية، يبدو من المنطقي جدا ان لا يجب ان يكون هناك شيء ابدا، ولكن مع ذلك نرى بوضوح هناك شيء.

عندما نسأل سؤالا لماذا هناك شيء بدلا من لا شيء، نحن نشير الى كلية الوجود وليس فقط الى شيء محدد مثل الكون او لماذا حدث الانفجار العظيم. الآن وقبل ان نحاول الإجابة على السؤال نحتاج لفحصه بشكل دقيق، خاصة الكيفية التي نسأل بها السؤال. فلاسفة مثل لودفيج فيتجنشتاين كتب عن الكيفية التي تكون بها اللغة مصدرا للكثير من الإلتباس الفلسفي. فلاسفة أمضوا عقودا وقرونا حائرين بالأسئلة الفلسفية التي احيانا تُصاغ بشكل غير منطقي عند البدء بها، وهكذا تصبح لايمكن الإجابة عليها في كل الأوقات.

طريقتان لطرح السؤال

عندما نبدأ بالتحقيق في السؤال، نجد ان هناك طريقتين لصياغته.

الصيغة (س) : لماذا يوجد أي شيء بدلا من لا شيء؟

الصيغة (ص): لماذا يوجد هناك أي شيء؟

ربما يبدو انهما بالأساس نفس السؤال لكن أحد السؤالين يفترض سلفا شيئا لا يجعل الآخر مختلفا. كلاهما يفترضان مسبقا ان شيئا ما موجود بالطبع، لكن السؤال (س) يفترض مسبقا بالإمكان ان يكون مفهوم "لا شيء أبدا" موجود ايضا. فمثلا، نحن يمكننا الاعتقاد بهذا المفهوم كـ

 1- ربما لم يكن هناك أي شيء

2- من الممكن وجود حالة اللاشيء

3- بالإمكان وجود عالم لا يوجد فيه أي شيء

بكلمة اخرى، الجزء "بدلا من" في السؤال (س) يفترض سلفا ان عبارة "لاشيء موجود" هي حالة ضرورية بينما السؤال (ص) لا يفترض ذلك.

ما هو الاختلاف؟

لماذا يُعتبر هذا الاختلاف هاما؟ انه هام لأنه طالما نحن سلفا نفترض ان لاشيء هو حالة ضرورية، عندئذ لا توضيح يمكن طرحه بالنسبة للوجود المشروط (2). ذلك يعني ان الجواب على السؤال (س) هو محدود اما بسلسلة لا متناهية من الأسباب او بنوع من الوجود مثل الله، الذي هو غير مشروط ويوضح ذاته.

بنية السؤال (س) تستبعد الإجابات التي لا يستبعدها السؤال (ص). ومن جهة اخرى، السؤال (ص) هو أكثر حيادية ولا يفترض مسبقا وجود فقط ما هو مشروط. هنا، نحن لا نفترض مسبقا ان "لاشيء"هو حالة ضرورية وشيء مشروط او غير مشروط. لذلك، نحن بحاجة لنبذ السؤال "لماذا هناك شيء بدلا من لا شيء" والذهاب قدما نحو ،لماذا أي شيء على الاطلاق موجود؟

قبل ان نبدأ بمعالجة السؤال لنتحدث عن الردود responses مقابل الاجابات answers على السؤال الاساسي.

الردود مقابل الاجابات

الفلاسفة والعلماء والباحثون لديهم مختلف الردود على السؤال الأساسي وبعض الردود قد تتضمن أجوبة لحلّه. ومن جهة اخرى، قد يرد بعض الفلاسفة  بان السؤال لايمكن الإجابة عليه او حتى لا معنى له. تقريبا جميع الردود التي نسمعها تقع ضمن هذين الصنفين.

اولا، السؤال يمكن ان يُجاب عليه او لا يمكن الإجابة عليه. اذا كان الرد هو "لايمكن الاجابة عليه" عندئذ فان الرد يقع في صنفين مختلفين، اما بلا معنى او ذات معنى.

الرد الذي بلا معنى يعني ان السؤال ذاته غير منطقي او زائف. انه ليس له معنى ونحن لا نستطيع الاجابة عليه. ومن جهة اخرى،السؤال قد يكون ذو معنى لكن لايزال لايمكن الاجابة عليه في هذا الوقت.

اذا كان هناك جواب سيكون من المحتمل جدا أحد الانواع التالية:

 جبري necessitarian (فيه كل حدث هو ضرورة نتيجة لسلسلة من الأحداث)، او ديني، او مرتبط بضرورة غير منطقية nomological، او حقيقة عمياء brute-fact(3).

الأجوبة الجبرية تدّعي ان هناك توضيحات منطقية للسؤال. لماذا هناك أي شيء على الاطلاق؟ لأنه حقيقة ضرورية بان شيء ما يجب ان يوجد. الأجوبة الإيمانية تؤكد بان هناك إله او كائن ديني هو سبب بحد ذاته يوضح لماذا يوجد أي شيء.

الأجوبة المرتبطة بضرورة غير منطقية كتلك التي يؤمن بها جون ليسلي John Leslie ونيكولاي ريشرNicholas Rescher وآخرون، تدّعي بالاساس ان هناك عالما من المفاهيم المجردة والاحتمالات او "قوانين اولى"  proto-laws كما يسميها ريشر، منفصلة عن عالم الاشياء الملموسة وهو مسؤول عن سبب وجود الشيء.

أجوبة الحقيقة العمياء، لا حاجة فيها لتوضيح سبب وجود الشيء. هناك حقيقة عمياء في مكان ما في الكون يجب ان نقبل بها في توضيح الوجود.

***

حاتم حميد محسن

.................

Think deeply-medium, Dec 28, 2020

الهوامش

(1) مقال بنفس العنوان أعلاه سبق وان نُشر في صحيفة المثقف بتاريخ 1 مايو 2021 ولكن بسياق ومقاربة مختلفين.

(2) هناك نوعان من الوجودات: واحدة توجد لكنها ربما تفشل في الوجود وهذه تسمى وجودات مشروطة contingent beings والاخرى لا يمكن ان تفشل في الوجود وتسمى وجودات ضرورية necessary beings.

(3) الحقيقة العمياء هي الحقيقة التي لا يمكن توضيحها كحقيقة أكثر عمقا وجوهرية. هناك طريقتان رئيسيتان لتوضيح شيئا ما وهما عن طريق معرفة "ما الذي سبّب حدوثه" او عن طريق وصفه على مستوى أكثر دقة. على سبيل المثال، لو عُرضت قطة على شاشة كومبيوتر، هذه يمكن توضيحها عبر الفولتية المعينة في عنصر معدني في الشاشة، والتي بدورها يمكن توضيحها على مستوى جسيمات معينة دون الذرة تتحرك باسلوب معين. لو يستمر المرء في توضيح العالم بهذه الطريقة ويصل الى نقطة لا يمكن فيها إعطاء توضيح أعمق، عندئذ يكون قد وجد بعض الحقائق غير القابلة للتفسير لا يستطيع فيها إعطاء تفسير انطولوجي. هناك يوجد شيء ما فقط. رفض الحقيقة العمياء يعني الاعتقاد بان كل شيء يمكن توضيحه. عبارة كل شيء يمكن توضيحه تسمى احيانا "مبدأ السبب الكافي".

طبقا لبعض المنظّرين، يمكن تقسيم القرن العشرين الى فترتين متميزتين، واحدة تميزت بحركة الحداثة والاخرى بما بعد الحداثة. البعض يعتقد ان ما بعد الحداثة كانت كرد فعل للحداثة وبالتالي يعتبرون كلاهما مظهران لنفس الحركة. هناك بعض الاختلافات الرئيسية بين الحداثة وما بعد الحداثة. الاختلاف الاساسي كان في طرق التفكير وهو الذي قاد الى هاتين الحركتين. ان الاختلاف بين الحداثة وما بعد الحداثة يتجسد في اختلاف الاتجاه نحو الحياة. الحداثة تصف مجموعة من حركات ثقافية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. انها تتألف من سلسلة من الحركات الاصلاحية في الفن والبناء المعماري والادب والموسيقى والفنون التطبيقية. الحداثة اتسمت بتغيير دراماتيكي في الفكر بواسطة العقل الانساني لأجل تحسين تلك البيئة. كانت هناك نزعة لتحسين كل مظهر من مظاهر الحياة عبر اشراك العلوم والتكنلوجيا. الحداثة ادّت الى اصلاحات في كل مجالات الحياة بما في ذلك الفلسفة والتجارة والفن والادب بفضل استخدام التكنلوجيا والطرق التجريبية . انها قادت الى تقدّم في كل الجوانب عبر تغيير اتجاه البشرية في النظر الى الاشياء.

ما بعد الحداثة كانت رد فعل للحداثة وتأثرت بالإستياء الناجم عن الحرب العالمية الثانية. مصطلح ما بعد الحداثة يشير الى دولة تفتقر الى تنظيم هرمي مركزي وهي معقدة وغامضة ومتنوعة. ان التطور في المجتمع، الاقتصاد وثقافة الستينات من القرن العشرين تأثر بما بعد الحداثة.

الحداثة مقابل ما بعد الحداثة

بدأت الحداثة في العقد لأخير من القرن التاسع عشر (1890) واستمرت حتى عام 1945. اما ما بعد الحداثة بدأت بعد الحرب العالمية الثانية خاصة بعد عام 1968. الحداثة ارتكزت على استعمال الوسائل العقلانية للحصول على المعرفة بينما ما بعد الحداثة أنكرت تطبيق التفكير المنطقي. بدلا من ذلك، ارتكز التفكير اثناء عصر ما بعد الحداثة على عمليات فكرية غير علمية وغير عقلانية. اتسمت الحداثة بطبيعة منظمة وهرمية محددة للمعرفة. لكن ما بعد الحداثة ارتكزت على حالة فوضوية، غير كلية وغير محددة للمعرفة. الاتجاه الحداثي كان موضوعيا، نظريا وتحليليا بينما الاتجاه الما بعد حداثي كان مرتكزا على الذاتية. انه افتقر للطبيعة التحليلية والتفكير وكان بلاغيا ومرتكز كليا على الايمان. الاختلاف الاساسي بين الحداثة وما بعد الحداثة هو ان التفكير الحداثي كان حول البحث عن الحقيقة المجردة للحياة بينما مفكرو ما بعد الحداثة يعتقدون ان لا وجود هناك لحقيقة عالمية مطلقة او ما شابه.

الحداثة تحاول بناء رؤية عالمية متماسكة بينما ما بعد الحداثة تحاول إزالة الاختلاف بين الأعلى والأدنى. التفكير الحداثي يزعم ان البشرية تتقدم عبر استعمال العلم والعقل بينما التفكير الما بعد حداثي يعتقد ان التقدم هو فقط طريقة لتبرير الهيمنة الاوربية على الثقافة. التفكير الحداثي يعتقد بالتعلّم من تجارب الماضي ويثق بالنصوص التي تحكي الماضي. اما، تفكير ما بعد الحداثة يتحدى أي حقيقة في النصوص المتعلقة بالماضي ويعتبرها بلا فائدة في الوقت الحاضر. مؤرخو الحداثة لديهم ايمان بالعمق. هم يؤمنون بالذهاب عميقا في الموضوع لتحليله بالكامل، وهذا ما يرفضه مفكرو ما بعد الحداثة. هؤلاء يعتقدون بالذهاب الى المظاهر السطحية واللعب على السطح ولم يهتموا بعمق المواضيع. الحداثة ترى الأعمال الأصلية أصيلة بينما مفكرو ما بعد الحداثة يركزون رؤاهم على الواقع المفرط   hyper-reality (عدم قدرة الوعي على التمييز بين الواقع ومحاكاة الواقع خاصة في المجتمعات المتقدمة تكنلوجيا)، هم يتأثرون جدا بأشياء انتشرت من خلال الميديا. اثناء العصر الحداثي، جرى الاعتقاد بان الفن والاعمال الادبية هي نتاجات فريدة للفنانين. الناس كانوا جادين حول الهدف من انتاج الفن والاعمال الادبية. هذه الاعمال اعتُبرت تحمل معنى عميقا، الكتب والروايات سيطرت على المجتمع. اثناء عصر ما بعد الحداثة ومع بداية الكومبيوتر اصبحت الميديا والتقدم التكنلوجي والتلفزيون والكومبيوتر هم المهيمنون على المجتمع. الفن والاعمال الادبية بدأت تُستنسخ وجرى حفظها بوسائل الميديا الرقمية. لم يعد الناس يعتقدون بان الفن والادب يحمل معنى متفردا واحد، هم اعتقدوا بامكانية اشتقاق معانيها الخاصة بها من أجزاء الفن والادب. الميديا التفاعلية والانترنيت قادا لتوزيع المعرفة. موسيقى مثل موزارت وبيتهوفن التي جرى تقديرها عاليا اثناء الحداثة اصبحت اقل شعبية في عصر ما بعد الحداثة. الموسيقى العالمية ، وعازفوا الموسيقى وموسيقى الريمكس عكست طابع ما بعد الحداثة. الأشكال المعمارية التي كانت رائجة اثناء الحداثة جرى استبدالها بمزيج من مختلف الاساليب المعمارية في ما بعد الحداثة. إيقاع الحياة البطيء نسبيا الذي كان يستلهم من مبادئ أساسية، اصبح سريعا والحياة فقدت هدوئها. 

***

حاتم حميد محسن

(في التحليل النهائي، يجب أن تتماسك الوسائل والغايات. لأن الغاية موجودة مسبقًا في الوسائل، وفي النهاية، لا يمكن للوسائل الهدامة أن تحقق غايات بناءة).. مارتن لوثر كينج الابن

انقلبت مفاهيم الاتصال والتواصل اليوم، وأضحت تشكل مأزقا سوسيولوجيا بالغ التعقيد، خصوصا فيما يتعلق بأنساق ضبط العلاقات الملتبسة، التي تتأطر بإزائها أدوات عولمية جديدة، أوثقت حبال تأثيراتها على أنماط الحياة وسلوكيات البشر.

وإذا كانت هذه المفاهيم الواعية بثقافة الاتصال والتواصل تمثل نوعا من التمكين لاحتلال أحواز العوالم الحديثة المحيطة بعولميات الشركات والاقتصادات والثقافات والتكنولوجيا، وجزء من صناعة كيانات استهلاكية بديلة، فإن استعارة العصر الرقمي وفق وضعيات الاتصال تلك، تشكل نوعا من الصراع الإنساني (conflit humain)، الذي تذوب فيه ومن خلاله قيم المجتمعات، دون أن تفقد عصب تفاعلها وتشاركيتها، وإن بطرق محدودة وغير مندمجة.

لقد اشتبكت المرائي العولمية بما يعكس نوعا من البحث عن هويات كونية متلاطمة، في أتون تحطيم الأعباء التي ما فتئت تكرسها أثلام الحضارات وأيديولوجياتها، حيث صارت القرية المربوطة بأسلاك لا مرئية، هي جوهر تلك المرائي، ونبضها الذي تقوم عليه الكينونة والمصير. ثم استبدلت الاتصالات الكلاسيكية العتيقة بوسائل تقنية أكثر حضورا وتأثيرا وانكشافا وسرعة وتوسعا وراهنية. ما أسهم بالانفتاح تواصلا مع الناس في جميع أنحاء العالم، بأقل التكاليف، حتى دون أن نحافظ أحيانا على إحساسنا بالخصوصية.

هذا ما يمكن استيعابه عند الحديث عن أسرار العولمة وآثارها على وسائل التواصل الاجتماعي. وهذا يعني، من ضمن ما يعنيه، أن الأصدقاء المحتملون الجائلون عبر الفضاء الأزرق، يمكنهم التعايش معك عبر الإنترنت بنسبة 28٪، كما أنه يمكن أن تزداد فرصك في العيش بالقرب منهم، عن طريق مشاركتك نفس الاهتمامات إلى أكثر من 50٪، وفق دراسات ميدانية موثقة. وهو ما تترجمه بالفعل، الرؤية التي تقوم عليها اتصالاتنا على خريطة بناءً على المواقع الجغرافية، التي تمكننا بالفعل من الاستفادة من قوة الشبكات على الصعيدين الظاهري والمادي، وذلك من خلال التطبيقات المتطورة الجديدة التي تستعمل في هذا الإطار.

وعلى الرغم من أن العولمة، في عمق حضورها الثقافي والنفسي، لا تمثل البديل الواقعي والمعرفي للخصوصية المجتمعية والقيمية، فإنه وللأسف الشديد أعادت توسيع الفجوة بين الأنماط الثقافية والاجتماعية لمختلف الشعوب والحضارات، وهو ما يطرح مشكلة تغول وسائل التواصل الاجتماعي وفشلها الذريع في سد الفجوات بين البلدان.

وبغض النظر عن اقتدارية العولمة في الحصول على معلومات حول الثقافات المختلفة من خلال التواصل مع أشخاص من جميع أنحاء العالم، عبر جسر منصات وسائل التواصل الاجتماعي، ما عزز دورها في الانفتاح على الثقافات والشعوب، وتقليل سلبيات الصور النمطية للثقافات الأخرى ، فإن تمة ما يتسلل من خلال الشقوق، ويرهن القيم والأخلاق، علاوة على كميات المعلومات المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي ، المتحيزة أو المضللة ، وهو ما يؤثر سلبا على مستوى الوعي والتحصين ضد الرداءة وفساد الذوق، والأخطار الناجمة عن أفعال وسلوكيات منبوذة، كالتنمر والكراهية والجريمة والعنف. بالإضافة إلى التكيفات الشاذة بنطاق المشاركة المستمرة حد الإدمان، المؤدية إلى الاكتئاب وتدني احترام الذات.

وهناك دراسات في الميدان، تذهب إلى أن المشكلة تلك تزداد سوءًا عندما ترى مقدار الوقت الذي يقضيه المراهقون على وسائل التواصل الاجتماعي؛ ما يقرب من نصفهم يتصفحون Facebook مرة واحدة على الأقل كل ساعة خلال ساعات الدراسة. يقضون حوالي 30 دقيقة من كل فصل في تصفح مواقع مثل Tumblr ومشاهدة مقاطع الفيديو على YouTube. وهو ما أكدته أرقام تقول إن 77٪ من هؤلاء المدمنين على الأنترنيت يقضون ست ساعات أو أكثر يوميًا في استخدامه في كل شيء من الألعاب إلى البحث، دون الاهتمام بالمحتوى الذي يستهلكونه أثناء التمرير، دون دراية بالعواقب التي تترتب على وضع الكثير من المعلومات الشخصية على الإنترنت، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالأطفال والمراهقين، ومن دون أي مراقبة أو تحفيز إيجابي أو مواكبة نفسية وثقافية. حتى إنه أصبح من الصعب على الآباء مراقبة سلوك أطفالهم بسبب الوصول غير المحدود الذي يأتي مع الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية.

هناك اتجاه فكري أوربي حديث، ينظر إلى العولمة كبنية أفقية متقاطعة، ترهن الوجود البشري بالسيطرة والقوة، والتركيز المباشر على الثروة. على اعتبار التفاوتات الدولية بهذا الخصوص، إذ لا يمكن أن تنسجم والمواقع السيادية للعالم جنبًا إلى جنب. وهو ما يفرض بالضرورة تكثيف التبادلات الاقتصادية الدولية التي أصبحت ممكنة بفضل تقنيات الاتصال الجديدة وعملية التحلل، ثم إعادة تشكيل العلاقات بين المتفاعلين، وهو ما يصفونه تحديدا  ب"العولمة المقنعة"، حتى إنه لم يعد البحث عن المبادئ العامة لتوجيه العمل الفردي وفكرة التنظيم الأخلاقي للمؤسسات بديهيًا. وهذا يمنحنا فرصة لإعادة قراءة "التناقضات الرأسمالية" كما هي ضمن نتاجات العولمة وثقافاتها المبثوثة، بعيدا عن بروبجندا "العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان" كما يروج لها لدى الغرب. وهو ما يعبر عنه الفيلسوف الكندي دومينيك ديسروش بالقول إن "عبادة الأداء، والهوس بجعل وقت العمل مربحًا، والإدمان الإلكتروني، على سبيل المثال، يشهد على تقييم الإجراءات على حساب المحظورات، مما يزعج علاقاتنا الاجتماعية".

إذا كان من الممكن أن يؤدي الاقتصاد الافتراضي الجديد إلى الاعتقاد بأننا سننتشر بحرية أكبر في القرن الحادي والعشرين، فإن حجم خساراتنا الأخلاقية والثقافية ستكون ثقيلة وأليمة، لأن عتبة انفلاتنا من بوتقة الخصوصية المجتمعية والثقافية، وتخلينا عن التقاليد والأعراف المنذورة للهوية والتاريخ، سيضعنا أمام مآزق استرداد الطريق الضائع، وهي قضايا مرتبطة بأبعادها العولمية بالعدالة الاجتماعية والفضيلة والأخلاق غير المنمطة والعقلانية المتنورة.

إن زمنا تتيه فيه كل هذه الوشائج الدامغة والمناقب السابغة، لن يكون بمقدورها الصمود في وجه الأرياح العصرية العاتية، حيث تعسر الحلول وتشقى به المحاذير والخطوب، وتشرد السياسات والتخرصات الواجمة المحصورة. على أنه ليس من مخرج سوى التشبث بحبل الله والتحوط بحواكم الحق دون مخالف العدل. فالعولميات المتنطعات ترمين القشور لمزابل التاريخ، ولا يصح في نهاية المطاف إلا الصحيح.

***

د مصطَفَى غَلْمَان:

لا تُعطي الرحمة أهميةً للتوجُه نحو الآخر فقط، ولكنها ترسم آفاق الاعتقاد كذلك. ثمة طريقان متزامنان لكل رحمةٍ: طريق إلى الخارج، أي إلى الوسْع، حيث الإنسان والأكوان بامتداد المعنى، وطريق إلى الداخل لتحرير المفاهيم والمعتقدات. كل رحمة تشُق الطريقين إلى نقطةِ تقاطع في وقتٍ واحد. والأكثر دلالة: أنها تعيد تصحيح وتعيد صياغة المفاهيم الكبرى في الإسلام.

المفارقة أنَّ المسلمين لم يدركوا دلالةَ الرحمة على معانٍ مختلفةٍ للإله الخالق، وأنها لا تعطي الإنسان أسبقيةً ولا ترسخ لوناً من المركزية إزاء غيره. وكأنَّها تتنصل من تصورات البشر حول الإله والحياة والموت والزمن. فهي ضرب من التحرر، ضرب من التطهر، ضرب من اللا تملُّك وعدم الاستحواذ. يُرجّح القول إن الرحمة تجري في جوهرها بخلاف الطبيعة البشرية، إذ تأتي من الجانب غير المُتوقّع، وكأنها نوع من الإستحالة التي تحقق كلَّ شيءٍ ممكن. فلئن كانت المفاهيم الدينية (مفاهيم تجميع وربط بين الأشياء)، فمفهوم الرحمة مفهوم تفريق وتشتيت وفك إرتباط. أي تنزع كل ما تجمّع وإلتصق بالمعاني الدينية من أفكارٍ.

وبالتالي، تخفف الرحمة ثقل الاعتقاد دافعةً الإنسان إلى إكتشاف ذاته أنطولوجياً. لأننا كبشر عندما نعطي من أنفسنا، سيُعاد إلينا العطاء في صور منتظرةٍ، غير أنَّ الرحمة لا تعيد شيئاً بخلاف فكرتي الثواب والعقاب. فهما (الثواب والعقاب) من الأمور التي تخصُ الإله وحده، وقد لا يجد الإنسان لهما سبيلاً مؤكداً على غرار الأمور الاعتيادية. وهما مرهونان باليوم الأخر في الأديان، ولذلك ليس لأحدٍ أنْ يطلع عليهما من قريبٍ أو بعيدٍ.

والسؤال الأكثر عمقاً: هل الرحمة تُحرر معنى الإله نفسه؟ هل حين يرحم الإله (دون حدود) يحرر وجوده (بلا قيود) من تصورات البشر؟ وبخاصة أنه عندما يمارس البشر أفعال الرحمة، يلتقون بحرية الاعتقاد عوضاً عن فرض المعتقدات. يبدو أن نفسْ الرحمة موجودٌ، ولذلك لا نستغرب أنها واقعة على تلك المساحة الشاسعة من الفعل الإلهي.

تحرُر الإله

تعكس المفاهيم في الأديان (دلالة الإله)، وكيف تحرك آثاره بين البشر. لأنَّ معاني الإله بمثابة المرجع الذي يغذي الأفكار الدينية في حيوات الناس. وإذا كانت أفكارٌ كهذه تطرح مضمُوناً عنيفاً من زاويةٍ، فلابد أنْ تُلحق جوانبَ العنف بالدلالة المركزية للألوهية من زاوية أخرى. وسيتصور الناسُ الإله على غرار ما يعتقدون ويفكرون. وهذا لون من القيد الذي يفرضه البشر على ما يؤمنون.

بالفعل ترسم الرحمة ماهية الإله في ذهنية البشر الآدميين. إذ كيفما يؤمن الناسُ وكيفما تتكون صورُ الإيمان، يكون إلههم وتكون معتقداتهم سمحةً وحرة أم لا. وبقدر ما يتمثلون معانيه المختلفة، تأتي المعاني مرتهنة بجوانبها المقصودة. إنَّ الإله وتصورات الناس حوله أشياء لا تنفصل عن تراث الرحمة والقسوة في المجتمعات. لأنَّ اصحاب العنف الديني ولاهوته السياسي لديهم تصورات إقصاء وتكفير عن الإله، هي " الميتافيزيقا الدموية blood metaphysics " التي تُرسّخ فكرة الإله الآمر بالعذاب وانزال العقاب والبأس على الإنسان.

والفكرة توضحُها جيداً الوثنيات الغابرة، من حيث تصوير الإله في هيئة غاضبة على الدوام، وذلك لإيقاع الرعب والخوف داخل قلوب الأعداء، ولإشعارهم أن اتباع الاله سيمارسون الأثر نفسه تجاه من يناصبهم الصراع والعداء. وكانت تلك الملامح القاسية مرسومةً على الأقنعة التي يرتدونها مع الطقوس والشعائر بعد المعارك وأثناء الإحتفالات الحربية. ولا يخفى على القارئ أن ذلك يرجع إلى الرغبة المحمومة لدى البشر للهيمنة على الآلهة لا العكس، بجانب محاولة الهيمنة على مخاوفهم تجاه المجهول!!

وبعض المسلمين عندما يمارس القسوة في شكل جماعات ارهابية، فهم يحيون تراثاً وثنياً قديماً يلقي بظلاله على الإله، وبعضهم الآخر حين يحرص على فرز المخالفين دينياً بوصفهم رجساً من عمل الشيطان إنما يقعون في ممارسات وثنية، قائمة على احياء الوهم بأن الإله يقف معهم بخلاف سواهم. والموقفان يعتبران طرحاً لقضية الألوهية كما يتصورها البشر كذلك، مما يجعل الوجود الإلهي مرهوناً بما يطرحونه ويمارسونه.

تحرُر الخالق والمخلوق:

يعتقد البعضُ أنَّ الرحمة في الاسلام أمرٌ عرضيٌّ يحل بعد القسوةٍ. وهذا ليس صحيحاً، لأنَّ فعل الرحمة في الاسلام يرتبط بكون الإله خالقاً لعباده وأكوانه ومحباً لموجوداته دون شروطٍ. وأنه يرحمهم لهذا السبب الأنطولوجي بالتحديد. إن تذكير القرآن بالرحمة يتضمن علاقة حب كونية حُرة بين الخالق ومخلوقاته من البشر: " قُلْ يا عِبادِيَ الَّذين أسْرفُوا على أنفُسهم لا تقنطُوا من رحمةِ اللهِ" (الزمر/ 53).

والقنوط قيدٌ يظن الناس كونهم خاضعين له، ومن حيث أنه يأس قاهر، فلا مبرر له. لأنَّ النداء نداء خلق لا قول خطاب. في هذه اللحظة يتم تحرير الخالق والمخلوق من قبضة المفاهيم. تحرير للخالق من تصورات البشر القانطة، فكان القرآن قاصداً للمعنى. وهو بالمثل تحرير للمخلوق من ذاته، فالأخير يظن أنه فرض جزاء القنوط على الخالق دون غفران.

تشير كلمة "عبادي" إلى الحنو والرأفة والرعاية الأنطولوجية التي تمتد من لحظة الخلق إلى أية (واقعة قنوط) بإفراد الناس أو جمعهم. وهؤلاء الذين وجدوا في فضاء الرحمة لا تبتعد معاني الخالق عنهم، والقول القرآني ضرب من التذكير بأن الذي خلق هو نفسه صاحب الرحمة. والخلق عمليةٌ تحررها الرحمة رجوعاً إلى الإله ذاته لا سواه. وأنه بمطلق الإرادة لا يغضب ولا يستاء ولا ينصرف عن الموجودات، ولكنه يهبهم الرحمةَ والرأفة, فالاستياء resentment على خلفية الرحمة من صفات البشر[1] والله لا يكف عن الأخذ بأيدي الناس إلى إحسانه، أي أنَّ الرحمة الالهية فعل واهب دون استياء. ولا ينتظر استرضاء ولا استعطافاً كنوع من التذلل للإرادة الإلهية.

والفكرة هاهنا عكس جميع تراث العبودية وكل تراث المقدس في الأرض، لأنَّ الكهنة ورجال الدين أقنعوا البشر أنهم بمقدار خضوعهم للغيب الناطقين بلسانه ستكون هناك مكانة لهم. بينما الرحمة تكسر عنهم الأغلال وتدعوهم (قُل يا عبادي) مباشرةً إلى فك القيود الذاتية أو الوسيطة نحو الإنطلاق. والنداء ينفي ذلك تماماً، ليجعل اللقاءَ مع الله على نحو مباشرٍ. مع التأكيد أنه حتى العلاقة هي رابطة من نوع مخالف لما عرفه البشر.

إنَّ كل مراحل وجود (خلق) الإنسان كانت ومازالت مشمولةً بالرحمةِ، فلقد أطلقَ القرآن لفظ الأرحام على موضع الحمل عند تكوين الجنين. "هو الذي يُصوركم في الأرحام كيف يَشاء" (آل عمران/6) وكأنَّ الإنسان قد خُلق تحديداً بالرحمة، أي أنه قد تكوّن كائناً حياً عن طريقها، فالرحمة والرحم شيء واحد[2]، وأنَّ الإنسان سيظل مُحاطاً بها من مرحلةٍ إلى غيرها في جميع أطوار حياته، حتى يعود إلى رحمة الله في الآخرة. والإنطلاق والعودة درجتان على امتداد الوجود بلا قيد، ولا يجب على الإنسان أن يشعر بكونه مدفوعاً في اتجاه أو آخر. إنه يعيش بكامل الإمتلاء الوجودي، وفوق ذلك سيظل هو نتاج الرحمة.

ولذلك تعني الرحمة نوعاً من الخَلْق بدلالة التكوين في إطلاقه غيباً وشهادةً، والرحيم عندئذ هو المتحرر من القيود والذي يخلق ويعاود الخلق من جديد لا من يقول بالرحمة فقط. هو من يفتح كلَّ أبواب رحمته لمخلوقاته لا من يوصدها بعد طردهم إلى الأرض وانزالهم من الجنة، هو من يذكرهم مع كامل الحرية لعبادته كطريق للعودة إليه لا من يرميهم في شتات الأرض فارضاً عليهم تيه الترحال من صحراء إلى صحراء.

والخالق من ثمَّ في الإسلام هو" الرحمن/ الرحيم" على الأصالة لا غير. صفتان ملاصقتان لعين وجوده المطلق، لأنَّ عملية الخلق ذاتها لون من تجليات الرحمة. وليس الله هو الكائن الأسطوري المخيف الذي يؤلم ويعذب مخلوقاته في نيران جهنم. إن الكائن المقدس المُرعب ليس له مكان في مرجعية الاسلام، ولذلك يُعوّل الارهابُ على التشوّه الميتافيزيقي للعقول نتيجة الشحن الأيديولوجي للأتباع والأعضاء الحركيين. أي أنهم يرسخون لديهم أولاً فكرة دموية عن الإله قبل تنفيذها في الواقع. وهي فكرة تنال من حريتهم وتشترط على الله أن يفعل وفقاً لما يعتقدون. وهنا يبدو التماهي مع الخالق لا بما يجب أن يكون، بل بحسب إملاء تصورات البشر، كأن الإله هو المشروط بوجودهم ومعتقداتهم لا العكس. وتلك أقسى فكرة يطرحها أصحاب الإيديولوجيات عندما يعتبرون الإله جزءاً منها ويتصرف في أكوانه بالمنطق نفسه.

تحرُر الواحد:

التوحيد هو المرادف للرحمة إنْ لم يكونا شيئاً واحدًا. والمرادفة تقف على أساس الحرية والإطلاق لا على أساس التحديد والقسر. " وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ" (البقرة/ 163). لم يقُل القرآن بعد ذكر التوحيد أنّ الله هو المنتقم الجبار على ما يظن بعض الناس، لكنه ربك الإله الواحد (أي الفكرة والمبدأ) بالرحمن، لأنه بالأساس كثير الرحمة وقادر على تكرارها دون نهاية ولا توقف، فكان رحيماً. وجوهر الإله الواحد هو تلك الرحمة التي لا تتوقف ولا تتعين بمحرمات ولا بأسوار. إنها كذلك لون من تحرير المعاني من أيدي البشر. ولا ننسى أنَّ لفظ التحرير يدل على الحرية بمضمونها العام وعلى الكتابة والخط وإطلاق العنان للفظ.

ونحن نعرف في حياتنا البشرية أنَّ (الحرية والكتابة) لا ينفصلان عن بعضهما البعض. ومشكلة من يمارس الكتابة أنَّه قد لا يجد مساحة كبيرةً من الحرية لما يدبج ويقول، في حين أن هذا يكون عند الإله بمنطق الكل والشمول، لكون الكتابة الإلهية لوناً من الخلق الذي هو مصدره في الأصل. وهذا ما يجعل الكتابة الإلهية كتابة تحرير وجود، وتحرير زمن، وتحرير كائنات بالوقت عينه. وعلى غرارها يمكن للإنسان أن يُصرّف ما يؤمن به ويتجه نحوه.

وهذا التعريف للوحدانية المطلقة تعريف لطيف، فهناك اعتقاد مؤدّاه أنَّ الوحدانية نوع من العنف. والسبب هو القول بأن الاعتقاد في إله واحد يتبعه بالضرورة عنف المشاعر والتصورات وأن المجتمعات لم تشهد في عصر الوثنيات ألوان العنف المنتشره في أديان التوحيد. ولكن هذه الآية تؤكد عكس ذلك تماماً، لأن من يستطع العفو والمغفرة، لا ينازعه إله سواه. إذ تقتضي الوحدانية إطلاق الفعل إلى نهايته القصوى مهما تكن. يؤكد القرآن:" يغفرُ لم يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم" (آل عمران/129). فليس الأمر متوقفاً على إرادة البشر المقيدين لسواهم، إنما الأمر مرفُوعاً إلى الوسْع.

فكل مستويات الفعل مرهونة بالمشيئة الصادرة عن الواحد، ورغم ذكر (الغفران والعذاب)، لكن الآية جعلت (الغفور الرحيم) تساوي وتزيد عن الفعلين السابقين (الغفران والعذاب)، لأن الغفران مرتبط بالرحمة القابلة للتكرار والزيادة باستمرار. يؤكد أبو حامد الغزالي.. أنَّ الغفور بمعنى الغفّار، ولكنه شئ ينبئ عن نوع مبالغة لا ينبئ عنه الغفار، فإن الغفار مبالغة في المغفرة بالإضافة إلى مغفرة متكررة، مرةً بعد أخرى، فالفعال يُنبئ عن كثرة الفعل، والفعول ينبئ عن جودته وكماله وشموله، فهو غفور بمعنى أنه تام المغفرة والغفران كاملها حتى يبلغ أقصى درجات المغفرة[3].

والوحدانية مرتبطة بالتفرد التام إزاء الناس جميعاً، حتى لا يظن ظانٌ أن الله في حاجة إلى أحدٍ. وفي هذا وثقها القرآن بمعاني الحرية التي تدل على الغنى والكفاية والوحدانية عن البشر والكائنات وعن الأشياء الأخرى. " وربك الغني ذو الرحمة" (الأنعام/ 133 (أي لا تظن أنه حين يرحم كافة المخلوقات، فإنه في حاجة إليهم، ولذلك سيكون معنى الرحمة الكوني مرتبطاً بكمال التنزيه في الإسلام.

تحرُر المُطلق:

آفاق الرحمة الواسعة دالة على إله مطلق، فالمطلق بهذه المعاني المفتوحة يعود إلى قدرة إليهة من جنسها. وأن الذين يقْصرون رحمة الله أو يمارسونها على نحو خاص هم يجعلون إرادةَ الله نسبيةً. وهذا ما تراه المسيحية في فكرة التجسد بشخصية الرب- الإله، ولذلك قد تتجسد الرحمة في اشخاص على الغرار نفسه في البابوات أو رجال الدين القائمين بالرعاية الروحية[4]. ولذلك تشترك الأرثوذكسية والبروتستانتية والكاثوليكية في أهمية القيام باعمال الرحمة في الإطار الخيري العام وهي فكرة مأخوذة من الثقافة الرومانية المسيحية[5].

ولكن يؤكد الاسلامُ أنَّ رحمة الله مؤشر كلي على إطلاق معنى الخالق الرحيم في حياة الناس بصورة عمومية، وأنَّ الرحمة هي مناط الفهم الصحيح لتصوراتنا حول الاله دون أن يكون محدوداً ولا مشخصَّاً. ولأول وهلة ستكون صفة الرحمة وجوداً وماهية وفعلاً بالوقت نفسه. فالإله لا تنفصل عنه الرحمة لأنَّه مصدرها وهو الوهاب لها. ومن حيث أن الرحمة بلا محددات، فإنها ترسم لنا كيف أن الله لا يتصوره عقل بشري بالمعاني التي يصورها المؤدلجون، لأنَّ الإنسان (وأضرابه) لا يستطيع أن يمارس رحمة خالصة، بينما الإله فقط هو من يفعل ذلك.

"نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الحجر/49)، والقول يشير إلى وجود إلهي كامل دون هيمنة، لأن الكراهيات تترك مردوداً سلبياً في ذاتها وتجاه الإله، وقد تكون هي عوامل النقص بإمتياز. والتأكيد في الآية على اثبات الرحمة في ذاته، أي صفة روح مطلق. وفي المسيحية كانت ثمة فكرة جديرة أنَّ الرحمة تتعمق في الأرواح، في أعماق الحياة الروحية، قبل الأجساد المادية وقبل الأشكال الظاهرية التي قد تخدع[6].

الرحمة تعبر كذلك عن شفافية وخلوص الوجود الإلهي لذاته، ومنها صدرت الموجودات، " وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ" (القصص/ 73). فبسبب رحمته الحرة، وُجد هناك الليل والنهار من باب الرعاية والرأفة بالبشر. وكما أنَّ المطلق يسع كل شيء، فكذلك الرحمة مشتقة من هذا الاطلاق وكأننا نعود من نقطة البداية إلى النهاية بشكل دائري في المطلق الإلهي، نحن موجودين فيه مع معاني الرحمة: " قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ" (الأنعام/12).

فالإحتواء الواسع الرحيم في مطلق المعنى لا يدل على الاستحواذ، لكنه نوع من الرحمة الواسعة المعبرة عن مضونها الإلهي لكل شيء، وليس أبرز برهنةً على ذلك من قول القرآن " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ" (الأعراف/ 156)، لأنَّ الله:" هُو أَرحَم الرَّاحمين" (يوسف/64) بصيغة الاستثناء الشامل، وبصيغة الانفتاح الداعي للفعل ذاته عبر حيوات البشر المختلفة.

اختصاراً، فإن دلالة تكرار الرحمة في الإسلام هي دلالة عميقة من جنس التحرر مما يدعي البشر. والمعنى مزدوج، أي فليقل البشر ما يقولون وليمارسوا الحياة كيفما شاءوا، ولكن تثبت الرحمة تبرؤ الإله مما يفعلون. ومن ذلك أن انحراف أفعال البشر دلليل على مصداقية الرحمة، وتشكل (مرجعية تحرر) لأقطاب العلاقة في الاسلام: الله والعالم والإنسان.

***

د. سامي عبد العال

........................

المراجع

- ابن سيدة، على بن اسماعيل المرسي، المحكم والمحيط الأعظم، تحقيق عبد الحميد هنداوي، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2000).

- ابن فارس، أحمد بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، (بيروت: دار الفكر، الطبعة الأولى 1979)

- أبو الفرج الدمشقي الحنبلي، تفسير الفاتحة، تحقيق سامي بن جاد الله، (الرياض: دار المحدث للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1427).

- أبو حامد الغزالي، المقصد الأسـنى في شرح أسـماء االله الحسنى، (القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، د. ت).

- أبو عبد الله العثماني الشافعي، رحمة الأمة في إختلاف الأئمة (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1987).

- الراغب الأصفهاني، مقدمة جامع التفاسير، تحقيق: أحمد حسن فرحات، (الكويت: دار الدعوة، الطبعة الأولى 1984) .

- الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق وضبط محمد سيد كيلاني، (بيروت: دار المعرفة للطبعة والنشر والتوزيع د. ت).

- علي بن محمد الماوردي الأحكام السلطانية، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2004).

- محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق محمد الطاهر الميساوي، (عمان: دار النفائس، الطبعة الثانية 2001).

- محمد بن جرير الطبري، تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الجزء الحادي عشر، تحقيق وتخريج الأحاديث محمود محمد شاكر، راجع الأحاديث أحمد محمود شاكر (القاهرة: مكتبة ابن تيميه، الطبعة الثانية د. ت).

- محي الدين بن عربي، فصوص الحكم، شرح عبد الرازق الكاشاني، (القاهرة: دار آفاق للنشر والتوزيع، 2016).

Alessandro Rovati, Mercy Is a Person: Pope Francis and the Christological Turn in Moral Theology, In: Journal of Moral Theology, (Volume. 6, 2 ,2017).

Haya Eid, Muhammad: the Prophet of Mercy, New Vision for Translation and Culture , (Cairo, Egypt, 2012).

Jeffrie Murphy, Forgiveness and resentment, In: Jeffrie Murphy and Jean Hampton, Forgiveness and mercy, (New York: Cambridge University Press 1988).

John R. Searle, Expression and Meaning, Studies in the Theory of Speech Acts, (New York ; Cambridge University Press 1979).

Linda Ross Meyer, The Merciful State, In: Austin Sarat and Nasser Hussain (Editors), Forgiveness, Mercy, and Clemency (Stanford, California: Stanford University Press 2007).

Marcel Mauss, The Gift: The Form and Reason for Exchange in Archaic Societies, Translated by W.D.Halls, With a foreword by Mary Douglas, (London and New York: Routledge, Firest Edition, 1990).

Marina I. Nadeeva, The Phenomenon of Mercy in Orthodoxy: The Relationship of Theory and Practice, "Advances in Social Science, Education and Humanities Research", Proceedings of the International Scientific Conference on Philosophy of Education, Law and Science in the Era of Globalization (PELSEG 2020), volume 447, (Atlantis Press SARL, 2020).

Maria F. Kowalska, Diary of Saint Maria Faustina Kowalska: Divine Mercy in My Soul, (Marian Press ,2005).

Stephen P. Garvey, As the Gentle Rain from Heaven: Mercy in Capital Sentencing, In: Cornell Law Review- 989, Volume 81, Issue 5 , Jule 1996, P 995. See also: Bryan Stevenson, Just Mercy: A Story of Justice and Redemption, (New York: Random House, LLC, 2014).

Tariq Jaffer, Rāzī: Master of Qurʾānic Interpretation and Theological Reasoning, (New York and Oxford: Oxford University Press 2015).

Vladimir Jankélévitch, Forgiveness, Translated by Andrew Kelley, (Chicago and London: University of Chicago Press, 2005).

................

الهوامش

[1]- Jeffrie Murphy, Forgiveness and Resentment, In: Jeffrie Murphy and Jean Hampton, Forgiveness and mercy, (New York: Cambridge University Press 1988), PP14- 34.

[2]- الراغب الأصفهاني، مقدمة جامع التفاسير، تحقيق: أحمد حسن فرحات، (الكويت: دار الدعوة، الطبعة الأولى 1984)، ص 114 .

[3]- أبو حامد الغزالي، المقصد الأسـنى في شرح أسـماء االله الحسنى، (القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، د. ت)، ص 66.

[4]-Alessandro Rovati, Mercy Is a Person: Pope Francis and the Christological Turn in Moral Theology, In: Journal of Moral Theology, (Volume. 6, Number. 2 ,2017), PP 48-69.

[5]- Marina I. Nadeeva, The Phenomenon of Mercy in Orthodoxy: The Relationship of Theory and Practice, "Advances in Social Science, Education and Humanities Research", Proceedings of the International Scientific Conference on Philosophy of Education, Law and Science in the Era of Globalization (PELSEG 2020), volume 447, Atlantis Press SARL, 2020, P 241.

[6]- Maria F. Kowalska, Diary of Saint Maria Faustina Kowalska: Divine Mercy in My Soul, (Marian Press ,2005), P38.

تَنْبُع أهميةُ فَلسفةِ الظواهر الاجتماعية مِن قُدرتها على تحليلِ طبيعة الأحداث اليومية، وتفسيرِ ماهيَّة التقاطعات التاريخية معَ الواقع المُعَاش، وهذه الفلسفةُ غَير مَحصورة في بُنيةِ المُجتمع التَّحتية وبِنَائِه الفَوْقِي، بَلْ تَتَعَدَّى إلى دَلالات اللغة كإطارٍ مَعرفي ومَرجعيةٍ رمزية، وهذا يدلُّ على الترابط بين المُجتمعِ واللغةِ، بِوَصْفِهِمَا كِيَانَيْن مُنْدَمِجَيْن شُعوريًّا وإنسانيًّا، ويُشكِّلان مَنظورًا وُجوديًّا لتأويلِ تاريخ الأفكار منهجيًّا ومنطقيًّا، وتوضيحِ كَيفية تفاعله معَ رُؤيةِ الفرد لِذَاتِه ومُحِيطِه، مِمَّا يُؤَدِّي إلى استخراجِ الأحلام المَقموعة مِن مَسَارَات الزمن المُتشابكة، واسترجاعِ الوَعْي الإبداعي مِن مَتَاهَات المَكَان العميقة. وهَاتَان العَمَلِيَّتَان تُسَاهِمَان في نَقْل الهُوِيَّة المعرفية مِن كَينونة الفرد الفاعلة إلى الفِعْل الاجتماعي، وهذا يَضْمَن الانتقالَ السَّلِسَ لتاريخ الأفكار مِن الذِّهْنِ التَّجريدي إلى التطبيقِ العملي، ومِن الدَّلالةِ اللغوية إلى السُّلوكِ الأخلاقي، ومِن الجُمُودِ الحَضَاري إلى الحَرَاكِ الحَيَاتي. وإذا تَجَذَّرَ تاريخُ الأفكارِ في فلسفة الظواهر الاجتماعية رُوحًا ونَصًّا، فَإنَّ الأنساق الثقافية سَيُعَاد تشكيلُها لإنقاذِ الفرد مِن المَأزق الوُجودي، وإنهاءِ الصِّرَاع بَين مَصادرِ المَعرفة والتجاربِ الواقعية، الأمر الذي يَدفَع باتِّجَاه تَحويل البناء الاجتماعي إلى جَوهَر إنساني على تماس مُباشر معَ العَقْلِ الجَمْعي، والوَعْيِ الإبداعي. وإذا كانَ وُجودُ الإنسانية سابقًا على وُجود المُجتمع، فَإنَّ الهُوِيَّة المَعرفية سابقة على سُلطة الظواهر الاجتماعية. واندماجُ الإنسانيةِ معَ المَعرفةِ يُؤَسِّس للتفاعلات الرمزية بين المُجتمعِ واللغةِ في صَيرورةِ التاريخ، وتفاصيلِ الحياة اليومية، وتَحَوُّلاتِ الشُّعورِ والإدراكِ.

2

البِنَاءُ الاجتماعي والبِنَاءُ اللغوي مُرتبطان بانعكاساتِ الوَعْي الإبداعي على مَاهِيَّةِ الذات الإنسانية، وطبيعةِ الواقع الرمزية، وهذا الارتباطُ يُشير إلى التجانس بين مُكَوِّنَاتِ المُجتمع وعناصرِ اللغة، حَيث إنَّ المُجتمع يُكَرِّس رمزيةَ اللغةِ في تاريخ الأفكار بما يُفْرِزه مِن ظواهر اجتماعية وأنساق ثقافية ومعايير أخلاقية، واللغة تُجَذِّر مركزيةَ المُجتمع في مصادر المعرفة بما تُفْرِزه مِن هُوِيَّاتٍ عقلانية، وآلِيَّاتٍ تأويلية، وسِيَاقَاتٍ حياتية. والمُجتمعُ واللغةُ كِلاهُمَا يُكَوِّنان القاعدةَ الحاملةَ للعقلِ الجَمْعِي، الذي يَحْمِي الفردَ مِن تَزويرِ إرادته وتَزييفِ وَعْيِه، ويُشَكِّلان الإطارَ الجامعَ للتُّرَاثِ الحضاري الذي يَتَّخِذ أشكالًا مُختلفة في المناهج النَّقْدِيَّة، ويَتَّخِذ صُوَرًا مُتَنَوِّعَة في الأحداث اليومية. وإذا أرَدْنَا فَهْمَ الماضي الذي يُعَاد تَوليدُه في الحاضر، فلا بُدَّ مِن تحليل تاريخ الأفكار مِن خِلالِ تأثيرات المَأزِق الوجودي للفردِ والجماعةِ في الواقع المُعاش، لأنَّ كُلَّ مَأزِق يَكشِف كيفيةَ العلاجِ، وكُل مُشكلة تُحَدِّد طبيعةَ الحَل، وهذا يَعْنِي استحالةَ فَصْلِ الذات الإنسانية كَكَينونةٍ حَيَّةٍ وحُرَّةٍ وواعيةٍ عَن ضغوطات النظام الاستهلاكي القاسي، الذي يَقتلع الفردَ مِن هُوِيَّته الوجودية داخل اللغة، ويَنتزعه مِن سُلطته الاعتبارية داخل المُجتمع، ويَجتثه مِن مكانته الجَذرية داخل التاريخ، مِمَّا يُجبِر الفردَ على الهُرُوبِ مِن وجهه الحقيقي بحثًا عن وَعْيٍ مُخَادِع في الأقنعة المُزيَّفة، ويُجبِر الفردَ _ أيضًا _ على الفِرَارِ مِن ذاته العميقة بحثًا عن سعادة وهمية في الشِّعَارات السَّطحية.

3

المُجتمعُ لُغَةٌ مَعرفية قائمة على التواصلِ المُتبادَل وتحقيقِ المَصلحة المُشترَكة، واللغةُ مُجتمعٌ رمزي قائم على الظواهرِ الاجتماعية وتاريخِ الأفكار، وهذا التشابكُ يَجعل العلاقةَ بَين الفِعْلِ الاجتماعي والعقلِ الجَمْعي مُرتبطةً بالدَّلالةِ اللغوية والسُّلوكِ الأخلاقي، وقابلةً للتَّحَوُّلِ إلى نَقْدٍ اجتماعي بَنَّاء يُنقِذ الفردَ مِن الوَعْي المُخَادِع الناتج عن القطيعة المعرفية في النسيج الاجتماعي، ويُنقِذ المُجتمعَ مِن النَّزعة الاستهلاكية الناتجة عن الانفصال الفِكري في الأحداث اليومية. وهذا الإنقاذُ المُزْدَوَجُ لا يَعْني إخراجَ الفردِ مِن المُجتمع، ولا يَعْني إخراجَ المُجتمعِ مِن التاريخ، وإنَّما يَعْني تَكوينَ شخصيةِ الفرد الإنسانية اعتمادًا على الوَعْي الإبداعي بِمَعْزِلٍ عَن الصِّرَاعِ بَين سُلطةِ المعرفة ومعرفةِ السُّلطة، وتَكوينَ هُوِيَّةِ المُجتمعِ المُتَنَوِّعَة اعتمادًا على الأنساق الثقافية بِمَعْزِلٍ عَن الصِّرَاعِ بَين قُوَّةِ المَنطِق ومَنطِقِ القُوَّة. وفلسفةُ الظواهرِ الاجتماعية تَقُوم على رُكْنَيْن: شَخصية الفرد وهُوِيَّة المُجتمع، والاندماجُ بَينهما حَتْمِي ومَصيري، لأنَّ الجُزْءَ لَيْسَ له مَعْنَى ولا جَدْوَى بِدُون الكُلِّ، وهذا الاندماجُ يَتِمُّ داخل تاريخ الأفكار، لَيْسَ بِوَصْفِه زَمَنًا ذهنيًّا عابرًا، بَلْ بِوَصْفِه وَاقِعًا قائمًا بذاته، وحَيَاةً مُكتمِلةً بِنَفْسِهَا.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

ظهرت فكرة الحداثة كمفهوم واسع الدلالات وكمشروع ضخم ارتبط بانطلاق الثورة الصناعيّة في أوربا، وظهور الطبقة البرجوازيّة كطبقة تقدميّة تعي ذاتها من خلال التعبير عن مصالحها ومصالح الطبقة العماليّة المرتبطة بها، هذه الطبقة التي ظهر معها الكثير من المفكرين الذين راحوا يعبرون عن مصالحها وطموحاتها بفكر عقلاني تنويري مشبع بتفاؤلها ونزعتها المركزيّة العقلانيّة. ولكن شيئاً فشيئاً راح يغلب على هذه العقلانيّة روح (العقلانيّة الأداتيّة)، أي ذلك النمط من التفكير الذي إذا ما تعرف على مشكلة ما، سعى لحلها مباشرة دون التساؤل عن أهداف هذه الحلول وغاياتها إن كانت إنسانيّة أو معادية للإنسان. هذا وقد فرضت هذه العقلانيّة الأداتيّة آنذاك أسلوب آليات التبادل المجردة في المجتمع الرأسمالي حتى في القيم، بعد وصول الطبقة البرجوازيّة إلى السلطة. فتبَادل السلع في عالم هذه الطبقة بعد أن تحولت إلى طبقة إمبرياليّة احتكاريّة، يعني تساوي الأشياء المُتبادَلة كسلع، فما يهِم في السلعة إن كانت جهد العامل المنتج، أم المادة المنتجة للتسويق ليس قيمتها الإبداعيّة وما تتضمنه من قيم إنسانيّة معدّة لتامين حاجات الناس الاستعماليّة المتعينة، وإنما ثمنها المجرد وما تحققه من ربح لمالكها. وإذا كانت أفكار التنوير قد جاءت مع ظهور الطبقة البرجوازيّة كطبقة تقدميّة لتعمل على محاربة الظلم والاستعباد، وقيم النبالة والعقليّة الكنسيّة الغيبيّة وما تمارسه من تخدير وتغييب لوعي الشعب عن مآسيه، الأمر الذي جعل  أفكار التنوير تشكل أنموذجاً حياً لطموحات هذه الطبقة، وتعبيراً هادئاً عن مشروع الحداثة بكل ما يحمله هذا المشروع من مفردات تعبر عن الحريّة والعدالة والمساواة، وعن المواطنة والحقوق الطبيعيّة والقانونيّة ودولة المؤسسات وحرية الرأي واحترام الآخر فكراً وعقيدة، إلا أن أفكار التنوير بعد وصول الطبقة البرجوازيّة إلى السلطة وتحولها إلى طبقة برجوازيّة إمبرياليّة استعماريّة، راحت تقمع شعوبها وشعوب العالم، ومع هذا القمع أخذت أفكار التنوير ذاتها تتحول من أفكار تحريضيّة للثورة ضد الظلم والاستغلال، إلى أفكار يغلب عليها الطابع (التبشيري) بسبب إفراغ الطبقة البرجوازيّة لهذه الأفكار من محتواها وتحويلها برمتها إلى شعارات براقة يتغنى بها الإعلام الغربي ومؤسساته الدستوريّة ودساتيره، بينما الواقع يقول غير ذلك. فالمواطن الذي غنت له شعارات الحداثة مع فكر فلاسفة عصر التنوير، وبيانات حقوق الإنسان ومضامين دساتير هذه الدول عن الحرية والعدالة والمساوة ودولة القانون والمواطنة وغير ذلك، راح هذا المواطن الذي بدأ يُستلب ويُشيئ ويُغرب بفعل آلية عمل السوق القائمة على الربح، يعيش اضطهادا وتهميشا تحجبه غشاوة السعادة التي خرجت من معطف الحريّة الفرديّة والاجتماعيّة وصناعة التسلية والترفيه وثقافة الاستهلاك والإعلام المنمذج والتركيز على غرائز الإنسان أكثر من عقله. الأمر الذي جعل اغتراب الإنسان واستلابه وتشيئه في النظام الرأسمالي، يحوّل الكثير مما هو إنساني، ويعبر عن القيم النبيلة للإنسان، إلى قيم وسلوكيات حيوانيّة في العالم الرأسمالي.

إن انتصار العقل الأداتي وسلطته السياسيّة والاقتصاديّة للطبقة البرجوازيّة على أفكار التنوير العقلانيّة النقديّة، أسفر عن جملة من المغالطات والتعسفات كانت أساسا لولوج الحداثة مرحلة الأزمة. وبالتالي بدء ظهور فكر وعالم ما بعد الحداثة الذي يعبر خير تعبير عن عالم الطبقة الرأسماليّة الاحتكاريّة وعالم القطب الواحد، أو النظام العالمي الجديد.

مع تحول الطبقة البرجوازيّة إلى طبقة إمبرياليّة احتكاريّة تمارس الظلم على شعوبها وشعوب العالم، تبدأ مسيرة الحداثة بالتراجع، وتبدأ معها قيمها النبيلة بالتراجع أيضاً لتحل بدلاً عنها قيم التذرير والتفكيك والنهايات. أي موت القيم في الفن والأدب والفلسفة والأيديولوجيا وكل ما يمت لحياة الإنسان من قيم نبيلة.

إذن مثلما للحداثة قيمها، فلما بعد الحداثة قيمها أيضاً، ثم أن عبارة  (ما بعد الحداثة) تفيد التجاوز والبعدية وتشير إلى تتابع زمني يأتي فيه واقع جديد ووضع جديد خلفا لآخر أصبح مستنفدا ومتجاوزا ومدمراً كما يقر فلاسفة ومفكرو عالم ما بعد الحداثة.

إن النقد الحاد الذي مورس على قيم الحداثة من قبل مفكري وفلاسفة ما بعد الحداثة، المعبرين عن طموحات الطبقة الرأسماليّة الاحتكاريّة، يقدم نقطة انطلاق هامة للحظة ما بعد الحداثة للمضي أشواطا بعيدة في تجذير هذا النقد وتعميقه، إذ لا يجري نقد الحداثة فقط بل نفيها وتدميرها. وهذا ما يدفع البعض للقول:  إن لحظة ما بعد الحداثة تمثل نوعا من الانفجار الذي سوف يؤدي بالحداثة وبعقلانيتها وموضوعاتها إلى التشتت والتفكيك والتذرير، ولهذا يظهر مفهوم ما بعد الحداثة كنبش في الأسس وكسر للقوالب وخروج على النماذج، وتفجيرا للأشكال وخروجا عن خط الصيرورة التاريخية للحداثة، وتدميرا لأنساقها القيميّة النبيلة على نحو خارق ومدهش.

من هنا ينضبط عالم ما بعد الحداثة داخل (خرائط مفاهيميّة) تقوم أساسا على النفي والتدمير والتجاوز والافتتان "بأخلاقيات الموت" والتحرر ودراميّة النهاية. فعلى نفس هذه الخرائط تماما يشتغل فلاسفة ومفكرو عالم ما بعد الحداثة، حيث يقومون بحصر ظاهرة ما بعد الحداثة على المستوى الفكري في عدد محدد من المبادئ والأسس وهي: موت الفن، وموت النزعة الإنسانيّة والعدميّة، ونهاية التاريخ. وعلى هذا الأساس جاء طرح "ميشل فوكو" و"جاك دريدا"، عدّة مصطلحات تتجلى فيها أوجه التوصيف لعالم ما بعد الحداثي بوضوح مثل: التفكيك، والاختلاف، والتشتيت، واللااستمراريّة، والنهايات، وبالتالي الموت.

واخير نقول : لقد ساير مصطلح ما بعد الحداثة” عند ظهوره وانتشاره ـ العديد من المفاهيم والمعايير الرؤيويّة الغربيّة ومنها مفاهيم (الما بعديّة)،  مثل ما بعد الصناعة، ما بعد العلم، ما بعد الفلسفة.. الخ.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية

في المثقف اليوم