أقلام فكرية
علي محمد اليوسف: التاريخ في الماركسية والبنيوية وما بعد الحداثة

تلخيص: موضوعة الجدل او الديالكتيك في التاريخ والفلسفة، قضية جوهرية معقّدة وحاضرة بقوّة على صعيدي الفلسفة والايديولوجيا، مبتدأها في الفلسفة مثاليا بسيطا، يمكننا ارجاعه الى زينون الأيلي وهيراقليطس وصولا الى كانط وهيجل وفويرباخ وأخيرا عند ماركس وأنجلز وفلاسفة ومنظّري الماركسية، بعدهم سارتر في الوجودية وفلاسفة البنيوية شتراوس والتوسير وغيرهم.
ونقر منذ البداية ان هذا المبحث اخذ حيّزا واهتماما بالغين ليس على صعيد الادبيات اللينينية والستالينية والتروتسكية الماركسية، وانما على صعيد ما استجد على الساحة الفكرية والفلسفية بالذات في تناولهم الجدل الماركسي بقسوة تنظيرية غير بريئة في مراميها نهايات القرن العشرين، بدءا بالوجودية ومن ثم البراجماتية الذرائعية العملية الامريكية عند اقطابها الثلاثة المؤسسين تشارلزبيرس، وجون ديوي ووليم جيمس. تلاهم في القرن العشرين الفلسفة البنيوية، والتفكيكية، والتاريخية، والعدمية الخ.
أن مرتكز الجدل المادي التاريخي وبؤرته في الفلسفة الحديثة وعلوم المعرفة هي عند الثلاثي (هيجل، فيورباخ، ماركس) أي في التوليفة المادية الجدلية التي اشترك بأيجادها وصياغتها هؤلاء الفلاسفة الثلاث حصرا، فقد أخذ فويرباخ (المادية)عن هيجل، وأخذ ماركس عن هيجل أيضا(الجدل او الديالكتيك)، بعدها عمد ماركس وانجلز باستقلالية تخليص مادية فويرباخ من تأمليتها الدينية التصوّفية غير الجدلية، وتخليص الجدل الهيجلي من مثاليته المقلوبة غير المادية، ليخرج ماركس بعدها بما عرف بقوانين المادية الجدلية التي تحكم المادة والتاريخ ومظاهر الحياة وايديولوجيا السياسة، وعلم الانثروبولوجيا وهي:
1. قانون وحدة وصراع الاضداد
2. تحوّل التراكمات الكمية الى كيفية(نوعية)
3. قانون نفي النفي
ومن هذا السبق الفلسفي تشظّت تيّارات فلسفية ومعرفية عديدة في تبنّيها أو في مناوئتها وفهمها المغاير للجدل الماركسي، ليس بمعنى عدم أمكانية تفنيده وحسب، وانما بمعنى الخروج عليه ونقده كما فعل سارتر واقطاب البنيوية شتراوس والتوسير وآخرون. وربما نستبق الامور في الحكم على ان تلك المحاولات في دحض الديالكتيك الماركسي باءت بالفشل.
ان اهم نقطة يتمحور حولها هذا المبحث، ليس مناقشة الديالكتيك الماركسي وتفنيده كبنية فلسفية معرفية لا علاقة لها بالتطور التاريخي الانثروبولوجي لمراحل وجود الانسان، او مع الوقع الميداني التطبيقي الذي اعتمده الجدل الماركسي على المادة وعلى الواقع السياسي وفي الاقتصاد والتاريخ كما جرى في التجربة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي القديم، كما الماثل الى الآن في تجارب مثل الصين وكوبا وفيتنام وكوريا الشمالية وهو الاهم براينا هنا، اننا نريد توضيح هل كان حقا للديلكتيك التطوري التاريخي فاعلية في التقدم الحضاري البشري المنسوب للماركسية ام لا؟
الجدل او الديالكتيك في الفلسفة الغربية المعاصرة:
كما ونجد تداخلا مفهوميا مربكا في تناول الجدل الديالكتيكي بين تلك التيّارات والمذاهب الفلسفية، فعبارة سارتر على سبيل المثال(ان المادة حقيقة بشرية تكتسب معناها وخصائصها بفعل الانسان فقط). انما تمثل مداخلة خلفيتها واضحة مستمّدة من الجدل الماركسي. وهذه عبارة لا تغني عن كتب ومؤلفات عديدة تفصح تداخل الوجودية مع الماركسية ليس على صعيد الجدل فقط وانما على مستوى جميع القضايا التي تهم الفلسفة والتاريخ والمعرفة والعلوم.
ويقول سارتر في مقدمة كتابه (نقد العقل الجدلي) ان (الماركسية هي فلسفة العصر، وان الوجودية ليست سوى ايديولوجيا تعيش على هامش الفلسفة الماركسية). هذا بمعزل عن القول ان سارتر كان ماركسيا منتميا للحزب الشيوعي الفرنسي قبل انسحابه وقطع علاقته بالماركسية متبنيا الفلسفة الوجودية، وبقيت الافكار الشيوعية حاضرة في خلفيته الفلسفية حينما حاول من دون جدوى خلق فلسفة توفيقية تأخذ عن الماركسية أشياء، ومن الوجودية اشياء اخرى، في محاولته خلق نوع من توليفة فلسفية فيها من التكامل او التجديد في الماركسية وفشلت محاولته تلك. وكان نقده للماركسية لا يخلو من تهمة توجيهه الدوغمائية الفكرية لها حين يعتبر الماركسية تنطلق من مسلمات يقينية قاطعة جاهزة تلبسها وقائع الحياة والتاريخ الانساني قسرا.
واذا كان سارتر قد اخذ على الماركسية اقرارها بوجود جدل الطبيعة واغفالها الانسان في بعده الوجودي، فان سارتر حسب حبيب الشاروني يذهب الى ان الماركسية الحقيقية هي المادية التاريخية حيث التفسير الصحيح لحركة التاريخ.
وفي الوقت الذي يقر سارتر صحة الجدل في تفسير التاريخ، فهو ياخذ على هذا الجدل ملاحظتين، الاولى ان الجدل التاريخي يجب ان لا يلغي الدور الوجودي للانسان بوجوب اذعانه للحتمية التاريخية. الثاني ياخذ سارتر على الماركسية اهتمامها بتفسير الانسان وليس فهمه انثروبولوجيا، ويقصد الجانب النفسي والقيمي.
انه لمن المهم الاشارة الى ان التزييف الذي جعل من الماركسية عقيدة دوغمائية، هو عدم الفهم الصحيح لتاريخ في مؤلفات ماركس. وفي الوقت الذي اكد ماركس ان التاريخ هو من صنع الانسان فان الماركسية المعاصرة قلبت المقولة في جعلها التاريخ يحتم على الفرد ان ينخرط به في حتميته الضرورية التطورية شاء أم أبى .
وفي المنحى ذاته نجد جيرالد كوهين، في كتابه (المادية والصراع الطبقي ص17) ينسب لسارتر تهمة الدوغمائية في ادانته الماركسية: (انه بدون الحاجة الى اعادة بناء الماركسية من الفكرة النقدية، ان الماركسية اصبحت نوعا قبليا وعقائديا من المعرفة التي تضع الاحداث داخل اطار مفاهيمي قبل دراستها، فهي قررت مقدما ماذا يجب ان يكون عليه كل شيء) وفي هذا التعبير تكون الماركسية اضحت من السرديات الكبرى التي يتوجب مراجعتها بنقد معرفي وفلسفي قوي وشفاف، وبذلك اعطى الراية بيد اقطاب البنيوية لتنفيذ ما دعا له.
وقول هيجل (ان الفكرة بدون واقع هي فكرة صورية فارغة لا معنى لها، وتصبح الفكرة حيّة ولها امتداد من خلال الواقع فقط) هي مقولة لا تخرج عن الفهم المادي الجدلي الماركسي المنبثق اساسا من التفكير الديالكتيكي المثالي الذي ادين به هيجل.
لكن هذا لا يعني ان سارتر الوجودي المنشّق عن الماركسية أو التوسير البنيوي المنشّق هو الآخر عن الماركسية لا يعاديان الماركسية بضراوة، فالوجودية والبنيوية كلتاهما فلسفتان تناهضان الجدل الماركسي وتعتبرانه من مخلفّات الايديولوجيا والسرديات الكبرى التي لم تعد صحيحة ولا صالحة في دراسة التاريخ تحديدا وان عبارة أنجلز (ان انهيار جميع الانظمة الفلسفية التأملية أمر حتمّي) هي عبارة أكثر من استفزازية لدى متبنّي الطروحات المثالية ومن بعدهم الوجودية والبنيوية في التزامهم المنهج النقدي المثالي في مواجهة الماركسية بماديتها العلمية الجدلية الرصينة ايديولوجيا.
كما يشن ارتيجا نقدا لاذعا على تبني الماركسية حتمية التطور الخطي للتاريخ قائلا: (الآنية الزائفة، - في اشارة الى الذوات الماركسية المفكّرة -، التي تحدثت عن حتمية تاريخية تخضع الاشياء والبشر لقوانينها، باعتبارهم ضمن اشياء العالم).
يلاحظ الربط الفكري والتعبيري المشترك في تلاقي سارتر مع ارتيجا في نقدهما الماركسية من نفس منطلق انها اصبحت نظرية دوغمائية تحاول الباس الواقع مفردات النظرية الجاهزة المعدة سلفا، وتطويع مراحل التاريخ لمنطلقاتها الفلسفية.
استهداف الجدل الماركسي:
هناك مقولات عديدة فلسفية صدرت عن سارترحول ادانة الجدل الماركسي كانت مثار نقاش فلسفي حاد وعنيف بين الماركسيين والوجوديين والبنيويين على السواء. فقد أصدر سارتر كتابه (نقد العقل الجدلي) وأصدر شتراوس كتابه (التفكير المتوحش) وأقتفى أثره لاكان في كتابه (كتابات) وأستقر المقام مع اكثرهم ضراوة عدائية للماركسية التوسير في كتابه (نقد راس المال) كما اصدر فوكو كتابه (الكلمات والاشياء).
ان المرتكز الاساس في هذه المؤلفات وغيرها العديد كانت جميعها تدين الفهم الجدلي الماركسي ليس من خلال التفنيد النقدي المباشر، في التحليل المادي للتاريخ محاولين (تحويل مفهوم البنية المادية للوجود والاشياء الى مفهوم ميتافيزيقي مثالي) وتسويق الجدل برؤى مثالية بعيدة عن علاقة التأثير المتبادل مع الواقع العيني للمجتمعات البشرية. أي ابعاد الجدل عن محيطه الشغّال في الحياة الاجتماعية والطبيعة والمجتمعات كما سبق لهيجل ذلك قبل تصحيح ماركس جدله المثالي. واعتبار الجدل الماركسي اصبح من كلاسيكيات الفلسفة المعاصرة.
وحين يوجّه النقد من البنيوية والوجودية الى الماركسية في صلب مرتكزها أن العامل الاقتصادي المتداخل بالحراك الاجتماعي هو مبعث التطور الذي يقود الى التغيير والتطور التاريخي، فان البنيوية تعمّدت من جانبها ايضا أعتماد (علم اللغة) الذي يقوم في مختلف توجهاته اعتماد مثالية فجّة في النقد السطحي للمادية، في فلسفتها كبنية محورية لها الدور الحاسم في احداث التطورات التاريخية.
وأهتم كلود ليفي شتراوس باللغة على انها ظاهرة ثقافية تميّز الانسان عن الحيوان – وهي مقولة مقتبسة عن ديكارت وقبله وبعده عشرات من الفلاسفة – وان علاقة ارتباط اللغة الوثيق بالانثروبولوجيا تعتبر المرتكز الاساس الذي بموجبها يمكننا فهم التطور التاريخي، وليس الجدل الديالكتيكي الذي تعتمده الماركسية الذي اصبح من مخلفات السرديات الايديولوجية التي تمت مغادرتها حسب الادانة البنيوية.
وقد كانت لافكار فنجشتين عالم وفيلسوف اللغة، ودي سوسير، وجاك دريدا، ورولان بارت وآخرين، الاثر الكبير في محاولة اعتماد مركزية اللغة في مراجعة وتصحيح تاريخ الفلسفة عموما، وكان اكبر الفلاسفة المعارضين لهذا التوجه هو فيلسوف المنهج التحليلي العلمي الانجليزي براتراند رسل وريث التجريبية العقلانية عن جورج مور وجون لوك وديفيد هيوم، في ادانتهم ان تكون مركزية الفلسفة هي اللغة كما تفهمها البنيوية والتفكيكية على السواء معتبرا ان الاشتغال على اللغة تفكيكيا بلاغيا في ادانة الفلسفة محاولة غير مجدية ويمكن ان تكون هذه الفلسفات قواميس في اللغة لا علاقة لها بقضايا الفلسفة.
كما يجد شتراوس ان التاريخ هو منهج لا ينتسب اليه موضوع بعينه، لكنه يبقى رغم ذلك ضروريا لفحص تكامل العناصر في اي بناء انساني او غير انساني، ونعت التوسير بدوره الايديولوجيا الماركسية بانها ليست افكارا وانما هي اكاذيب جميلة في محاولة عجز فلسفي وهروب من دحض الافكار الماركسية علميا وفلسفيا.
ولتكريس هذا النمط من التفكير المثالي واحيانا التجريدي غير المادي يذهب شتراوس الى أن (التاريخ كعلم ينبغي فهمه من ان طبيعته لا تختلف عن طبيعة الاسطورة). ويفهم من هذا أن التاريخ هو مجموعة أحلام جماعية أسطورية للشعوب والجماعات البدائية لا ينتظمها قوانين تحكمها تطوريّا، لكنما لا تخلو من عقلانية سحرية، وانها مراحل لا تاريخية تتقبّل الشروحات المتباينة الكثيرة عنها وفي دراستها.... بمعنى أكثر تكثيفا أن شتراوس أراد أن يخرج التاريخ من تاريخيته التحقيبية التطورية والحضارية المادية تحديدا وينقله الى مصاف الاساطير والميثولوجيا والسحر، في دراسة التاريخ الانساني في نموذجه البدائي على شكل قطوعات ساكنة لا يحكمها التغيير المتسارع، لذا تكون هذه القطوعات التاريخية بلا تاريخ، او بتعبير ادق خارج التحقيب التاريخي الذي بدأ مع اختراع الانسان الكتابة.
وتاكيدا لهذا المعنى من جانب آخر يذهب (برنانوس) الى ان الانسانية مجردة من اساطيرها ودياناتها، ومستسلمة الى لغة العلم والقوة، انما هي مهددة بالموت بردا، وقد اختفت الميثالوجيا عندما تم اخضاع هذه القوى بالواقع.
الجدل والوجود غير الموجود:
يميّز سارتر بين نوعين من الجدل التاريخي، الاول ويطلق عليه(الجدل الحقيقي) وهو الذي يعتبره خاصّية المجتمعات التي لها تاريخ انثروبولوجي مدوّن، والثاني يطلق عليه (الجدل التكراري) القصير الأجل وهوما تختّص به المجتمعات البدائية التي لا تاريخ لها كما اوضحناه في عبارات سابقة. (1) تاريخ الشعوب يؤرخ بمعرفة الانسان للتدوين.
كما أن سارتر يقارن بين الاثنولوجي، والمؤرخ في فهمهما جدل التاريخ: (اذ يرى الاثنولوجي – اي المؤمن بالتاريخ البدائي- في التاريخ حركة تعرقل الخطوط – يقصد المسارات الحركية التطورية للتاريخ – في حين يجدها المؤرخ في دوام واستمرار البناءات) (2) اللاشعورية والشعورية المستنبطة من دراسة التاريخ بمنهج تأملي واحيانا في تجميع احصائي ميداني يفيد في تعميم خلاصة نتائج الجزء على الكل والخاص على العام وبالعكس.
ويطرح سارتر من خلال الجدل التاريخي اشكالية فلسفية معقّدة، هي الذات الانسانية والوجود الفردي للانسان منطلقا من (ان حقيقة الانسان تكمن في انه الموجود الوحيد الذي يسأل عن وجوده باستمرار، أوهو الموجود المتحقق براكسيا. )(3)أي بالفعل الميداني المنتج.
بمعنى أن الانسان يتساءل عن وجوده المقلق مرّة باعتباره موجودا كمعطى طبيعي انثروبولوجي - بيولوجي، وكينونة انسانية تاريخية متفردّة نوعيا، والتي تكون تساؤلاته الدائمية قرين وجوده المادي البيولوجي المفارق، ومرّة اخرى يكون الانسان هو الموجود المتحقق براكسيا (بالفعل والعمل) كناتج وجوده في الطبيعة وفي تناقضاته الوجودية الدائمة المستمرة مع وعيه لذاته ومع الاشياء والمحيط.
أن هذا السبق الجدلي يعود لصاحبه هيراقليطس الأب الروحي للجدل والتغييرفي مقولته: انك لا تعبر النهر مرّتين، وعبارته الجدلية (ان الوجود واللاوجود شيء واحد موجود وغير موجود) وكما هو مثبّت في تاريخ الفلسفة أعتمد هيجل كثيرا على آراء ومقولات هيراقليطس التغييرية المتحركة، هريقليطس له الفضل والاسبقية الاولى في ان كل شيء بالوجود في حال حركة دائمية مستمرة، وهو المحرك الاول في اختراع هيجل الجدل او الديالكتيك المادي، ومنها هذه العبارة التي مرّت بنا سنوضحها وقد وضّحها هيجل بقوله (ان حركة الشيء تفصح عن ان الشيء موجود وغير موجود ايضا، ) اي ان هيجل يقصد طالما ان (الحركة) تحكم كل شيء موجود، فيصبح حينها وجود الشيء متحركا لا يختلف عن وجوده ثابتا، فهو ثابت ومتحرك في نفس الوقت، لذا هو موجود وغير موجود في محكومية الحركة المستمر له، والحركة تجعل من الموجود (الثابت) غير موجود في وقت واحد او بتعبير اوضح في(آنية) واحدة.
نلاحظ بالعودة الى سارتر انه يعبّر عن رؤى فلسفية ماركسية لم يستطع الخلاص منها لازمته في مرجعية تداعيات فكرية لم يستطع الخلاص من تاثيرها عليه، بأن الوجود الانساني يتحقق بالفعل الانساني(براكسيس) الذي يفارق به حياة الحيوان، كما نجد نفس هذه المداهنة مع الماركسية لدى ليفي شتراوس الاب الروحي للبنيوية قوله (ان للتاريخ والانثروبولوجيا موضوعا واحدا فقط مشتركا، هو الحياة الاجتماعية وان هدفهما الواحد فهم الانسان بشكل افضل واحسن). (4) معظم فلاسفة الوجودية والبنيوية وغيرها من تيارات فلسفية كانوا جميعهم ماركسيين وشيوعيين لذا نجد صعوبة خلاصهم من خلفياتهم الفكرية التي لازمتهم لاشعوريا .
أن المنهج الجدلي الصارم (انما يفترض احلال المقولات التاريخية، محل المقولات المنطقية وبدلا عنها) (5) بمعنى ان دراسة الانسان تاريخيا في صيرورته المتغيّرة على الدوام، اي في واقعه، العملي والاجتماعي العيني هو ما تؤكد عليه الماركسية، بدلا من دراسة الانسان تاريخيا (صوريا تجريديا وظاهراتيا) في مقولات فلسفية منطقية يجري تداولها على مستوى الفلسفة وعلوم المعرفة.
أي أن تلك المفاهيم المثالية هي التي تقوم عليها ادبيات الفلسفتين الوجودية والبنيوية والتفكيكية والعدمية، في التسليم ان الفكر التأملي التجريدي هو الذي يخلق للانسان تواريخه (مراحل التاريخ) على مدى العصور، التي تنعدم معها الصلة بالانسان كواقع عيني وجودي حيوي متغيّر ومتطّور غير ساكن. اي ان الانسان لا يصنع تاريخه بنفسه نتيجة حراكه الدائم طبقيا اجتماعيا. وهي منطلقات فكرية مغرقة في مثاليتها الى أبعد الحدود. فليس هناك تاريخ انساني لا يصنعه الانسان.
من هنا نرى أهمية عبارة دي لاكروا (ان عصرنا يشهد نهاية المنهج المنطقي في تفسير التاريخ). ليس بتأثير العلم وانجازاته العظيمة فحسب، وانما بأتجاه تأكيد أهمية تغيير الوجود الانساني نحو الافضل على صعيدي المعرفة والفلسفة على السواء. أي ( نهاية الجهد الانساني الذي يحاول الامساك بالعلاقات الثابتة بين افكار محضة تخرج عن الصيرورة التاريخية للفرد والانسانية) (6).
واذا كان المنهج المنطقي الوضعي يفترض أمكانية معرفة الانسان والعالم من الخارج، فأن منهج الديالكتيك يكتشف النفس الانسانية وهي تعي ذاتها تدريجيا او عندما تخلق ذاتها من خلال تناقضاتها وايجاد حلول ومخارج منها لتطوير ذاتها. (7)
أنه مع الاقرار بالاختلاف أن الانسان لا يمتلك طبيعة واحدة بيولوجية، فيزياوية، نفسية لا تختلف وغير متغيّرة او شبه ثابتة، أو طبيعة مشتركة ثابتة لا تتغيّر مع غيرها من نوعها على مّر العصور، نجد البنيوية وقعت في مطب يحسب عليها لا لها، عندما حاولت تأسيس انثروبولوجيا نسقية معرفية تصورية استنباطية، في محاولتها الغاء الجدل المادي التاريخي، وشطب الغائية الحتمية في تطورية التاريخ مراحليا حسب التفاوت الطبقي المتصارع على الدوام في رغبته تحقيق مصالحه الطبقية كما تذهب له الماركسية، سواء في النظر الى دراسة المجموعات البشرية المتعددة من خلال التزامن البنيوي وليس التحقيب التاريخي الذي تعتمده الماركسية، أي أن البنيوية درست مراحل تاريخية لعيّنات قبائلية واقوام بدائية كقطوعات تاريخية ساكنة، وليس من منطلقات التحقيب التاريخي الماركسي والحضاري للصيرورة التاريخية المراحلية المتغيّرة على الدوام في تظافر عوامل عدة تكون سببا في احداث تلك التطورات التصاعدية في التاريخ.
وعلى الرغم من الاختلاف في الطبيعة الانسانية بين الجماعات البدائية من جهة، وبين المجتمعات المعاصرة من جهة اخرى فانه (من الممكن – حسب البنيويون – ان يقوم هناك اتصال حقيقي، وتفاهم ايضا متبادل بين الفريقين المتمايزين. )(8) والمقصود بالتبادل والتفاهم هنا هو ايجاد استنباطات دراسية مستخلصة وفلسفة بناءات تجمع القضايا التي كانت تهم الجماعات البدائية مع المجتمعات المعاصرة من حيث ان البنيوية تذهب الى ان المشاكل والقضايا التي كانت تشغل الانسان قديما وحاضرا هي قضايا مشتركة تقريبا، ولا توجد فروقات جوهرية كبيرة بينها. ومن هذا الفهم والتبادل المقصود بين عدم وجود طبيعة انسانية واحدة ثابتة غير متطورة، وبين الاتصال الممكن الدائم بين شعوب وجماعات الجنس البشري، أعادت انثروبولوجيا البنيوية بصورة متجددة مسألة ايديولوجيا الوجود في تفسير تاريخ الجماعات والاقوام، لكن ليس بالاقتراب من الفهم الايديولوجي الماركسي الذي جرى نبذه وتحريم الأخذ به في الفلسفتين الوجودية والبنيوية.
ولما كانت نقطة الضعف في الفلسفة الوجودية، هي الانطلاق من مسلمة (امتناع التواصل بين الذوات) الانسانية المنفردة، نجد سارتر يستنجد بايديولوجيا الوجود ايضا للخروج من مازقه الوجودي ان الانسان وجود لذاته بدلا من وجوده بذاته الذي اعتمده ولم يستطع تحققه.
نماذج من التلفيق الساذج:
في ندوة للأحتفاء والترويج لأفكار التوسير المعادية للجدل الماركسي اثبّت هنا نموذجين من الابتذال الفكري احدهما لكاتب اسمه علي الرحال في جلسة من اعمال ندوة أقامتها مؤسسة مؤمنون بلا حدود تاريخ 16/5/2016 يقول فيها (يفهم التوسير الجدل على صعيد الايديولوجيا انها بنية جوهرية ومجموعة من الصور والتمثّلات التي تلقي الضوء على المعاناة الانسانية في الواقع المعيشي – ولا يلبث ان يناقض نفسه اي الكاتب مكمّلا على لسان التوسير – وان الايديولوجيا مجرد تصورات فكرية عن عوالم وهمية، رافضا وبشدة مقولة ماركس في وجوب ربط الايديولوجيا بالوعي).
قبل التعليق على ماورد على لسان المنتقد علي الرحال أنتقل الى نفس الكلام في ادانة الماركسية وفي نفس الندوة بعنوان:التوسير.. اعادة قراءة الماركسية بعيون بنيوية، للكاتبة نزهة صادق تقول (دعت البنيوية الماركسيين الى اعادة قراءة الماركسية بعيون بنيوية، وانكار مبدأ الحتمية، وعدم اعتبار العامل الاقتصادي اساس الحركة التاريخية، والاعتراف بدور الدين والثقافة والفكر بحركة التاريخ)
وفي نفس الندوة شارك آخر ثالث بما أطلق على موضوعه (كوميديا الماركسية) التي تسبب له الماركسية السخرية والكآبة !!، ولم أجد في كل ماذكره جملة واحدة او عبارة تستحق الوقوف عندها.
أصحاب هذه الافكار من حقهم التعبير بما يعتقدونه صوابا بالنسبة لهم فقط ولا يلزم ما يعتقدونه غيرهم الوقوف عنده الا من باب أن لا يمّر التشويه الفكري في تحميل الماركسية ما لم تقله وليس بها، وتعليقي ليس دفاعا عن الماركسية الغنيّة عن الدفاع عن منطلقاتها الفلسفية التي لا يدحضها تقادم الزمن بسهولة، ليس لأنها معصومة من الخطأ، ولكن لأن دعاة الطعن بها ومريديهم من المثقفين يبنون تصوراتهم المخطوءة من منطلق الدفاع عن افكار فلسفية مثالية تجريدية غير علمية وهو مايناقض الماركسية ولا يدينها.، يقّر اصحاب تلك الافكار المثالية غير الواقعية بالعجز امام الكثير من الافكار الماركسية المادية التي تؤيد سلامتها مسيرة العلم وتقدم الحياة.
ففي مقابلة مع باحثة متخصصة بافكار التوسيرلا يحضرني اسمها من امريكا اللاتينية(المكسيك) سألت الباحثة التوسير من ضمن اسئلة عديدة، هو انك متهم نتيجة نقدك الماركسية، انك انتجت مجموعة من الخيالات الوهمية والافكار التجريدية التي لا رصيد حقيقي لها تاريخيا، أمام المنهج العلمي ألذي تتمتع بها الماركسية، وكان جوابه المحرج وهو كذلك وليس عندي ما أرد به لتفنيد هذا الادعاء!! اي أنّه بدأ يعي او لايعي، هل أن ماجاء به كان صوابا مقنعا لغيره أم كانت هذاءات فلسفية لا يجمعها رابط تحليلي علمي منهجي يعتّد الأخذ به في ادانة الفكر الماركسي. وبحسب نقاد التوسير فهو اراد تقديم ماركسية بدون ماركس، ومادية تاريخية بدون تاريخ.
أجد من السذاجة الفكرية ان نقّر ان ماركس اعتبر العامل الاقتصادي والاجتماعي المرتبط به، هو العامل الاساس الوحيد الذي تقوم عليه الماركسية في التطورالجدلي المادي للتاريخ في كتاب راس المال، وقد اكّد انجلز ذلك، وأنما أعتبر التناقض والتفاوت الطبقي يتصّدر أولوية عوامل الحراك مع غيره من عوامل في تحقق جدل التغييرالتاريخي، وان الدين والثقافة والفنون(بنى فوقية) لكل واحدة منها دورا تاثيريا متبادلا، ويرتبط بعلاقات جدلية لا يمكن اغفالها مع البنية الاقتصادية والاجتماعية (البنية التحتية)، وهذه البنى الفوقية الثقافة والدين والفنون مفروزة عنها لكنها لا تعدم التاثير والتاثر بها ومعها في احداث جدل التغيرات التاريخية.
ومن نافل القول ان نقول في هذا المجال وان لم يكن هو موضوع دراستنا هذه، بأن الاديان منذ بدء الخليقة والى يومنا هذا لم تلعب دورا تقدمّيا في حياة البشرية حتى نعتبر الدين عامل مهم في دراستنا التطور التاريخي، ونحمّل الماركسية مسؤولية أغماط او مصادرة دورالدين في المقولة المنسوبة لماركس (الدين افيون الشعوب) .
من الصحيح أن الدين أكل من تاريخ البشرية آلافا من السنين لكنه لم يكن بالضرورة عامل تقدم ايجابي في التقدم التاريخي الانساني على المستويات، العلم، التاريخ، والحضارة، بل كانت الاديان والى يومنا هذا عامل حراك في استثارتها لنوازع التقدم المتقاطعة معها من عوامل تحريك التاريخ حضاريا. وأن التقدم التاريخي والحضاري الذي حصل هو من نتاج منجزات العلوم حصريا ولم يكن للاديان اي اسهام به يذكر.
الحتمية التاريخية الماركسية ومابعد الحداثة:
كذلك مسألة الحتمية التاريخية التي تعتمدها الماركسية في المادية التاريخية، وهي مسألة تحتمل النقاش المستفيض، الا انه من المؤكد لا البنيوية ولا الوجودية ولا غيرهما من فلسفات حديثة، أعطت دحضا بديلا منهجيا علميا مقنعا يمكن الأخذ به في اعتبار الحتمية التاريخية التي جاءت بها الماركسية عفا عليها الزمن وأصبحت من مخلفّات الايديولوجيا. فلا تزال ساحة الفلسفة والفكر والمعرفة خالية من نظرية تاريخية تلغي وتبطل النظرية المادية التاريخية علميا وفلسفيا. وبهذا الصدد اشارت الباحثة الامريكية (كميل باليا) بان البنيوية في حجاجها الماركسية أثبتت انها فاقدة الصلابة الفكرية الفلسفية امامها.
وأن من المهم جدا الاشارة له أن الحتمية في التقدم التاريخي لم تكن حكرا على الماركسية فقط، بل أن فلسفات الحداثة وما بعد الحداثة، التي تعارض الوجودية والبنيوية على السواء في منطلقاتها الفكرية، فهي تلتقي مع الماركسية حول الحتمية التقدمية للتاريخ، طبعا من منطلقات لا تعترف بأهمية الجدل في المادية التاريخية حسب التنظير الماركسي التقليدي لها، في تحريك التاريخ نحو الامام.
وتذهب هذه المنطلقات الفلسفية ما بعد الحداثية من واقعة أن الانسان بطبيعته مسكون بتغيير حياته ونشدان تحقيقه الأفضل على الدوام، وبحسب (جيدنجز)، وهو من فلاسفة الحداثة صاحب النظرية الخطيّة العلمية في التطور التاريخي يذهب(أن التاريخ الانساني يصعد من مرحلة الى أخرى صعودا غائيا ارتقائيا دائميا)9 وهي نظرية الحداثة في تطور التاريخ. واضح ان مابعد الحداثة تذهب الى التطور الغائي للتاريخ بفعل ما يشبه (الروح المطلق ) الذي دعا له هيجل مثاليا، ومأخذ الحداثة على التطور الماركسي للتاريخ هو من مصدر الأدانة الايديولوجية الماركسية في تفسير التطور الغائي من منطلقات ثورية طبقية في مسار التغيير التاريخي.
أن نقد تيارات الحداثة وما بعد الحداثة التي تدين التطور الغائي المتصاعد للتاريخ، كما دعت له الماركسية من منطلق الادانة الايديولوجية للتفسير الغائي، وليس الفلسفي حصرا كما تفهمه وتدعو له فلسفات ما بعد الحداثة، وأبلغ تعبير عن ذلك يأتينا من ( يورغين هابرماس) أبرز فلاسفة الحداثة المعاصرين قوله وبنبرة قاطعة (ان أنساق التفكير الكبرى – السرديات الكبرى – قد سقطت ولم يعد لها وجود )10، الحداثة وما بعد الحداثة لا تخفي رفضها وتشكيكها بالتاريخ (الرسمي) المعاصر القائم على اختلاف (الايديولوجيا) الذي كانت تتوزعه ثلاثة اقطاب ايديولوجية، أيديولوجيا الفكر الشيوعي، وايديولوجيا الفكر الرأسمالي، وفكر أوايديولوجيات العالم الثالث بمختلف تنوعاتها الهجينة التلفيقية. هذا هو مجمل الايديولوجيات المؤثرة سابقا والى اليوم في ترسيم التاريخ البشري والحضاري للانسانية.
واضح أن هابرماس يقصد الانساق الكبرى هي سرديات الايديولوجيا التي تتصدرها ايديولوجيا الماركسية. (التي لها حجج تنبؤية بالمستقبل وسقطت سقوط الانساق الفكرية المغلقة، والدعوة موجهة اليوم الى انساق فكرية مفتوحة تتلاقى فيها الافكار المتباينة المختلفة). 11وهذا تأكيد أدانة صريحة هدفها الاساس النيل اكثر من (الايديولوجيا) الماركسية. الا ان ما يحسب لهابرماس في دعوته فتح قنوات التواصل امام الجميع تحمل الكثيرالمطلوب مما يحتاجه العصر والحضارة العالمية.
لكن أدانة التطور الغائي حداثيا لم يسلم هو الآخر من نقودات لاذعة خارج مدارات التفلسف والايديولوجيا، في ( أعتبار أن حكاية التاريخ الصاعد في المجتمعات المختلفة كلام باطل، والا لماذا ظهرت الفاشية والنازية لو أن المسألة تتعلق بالارتقاء الصاعد كما يزعم انصار الحداثة، فالحقيقة ان التاريخ ليس صاعدا على الدوام بل قد يرتد ويتراجع ومن ثم يتقدم، ونظرية التقدم التاريخي المطلق قول لا اساس له من الصحة)12.
وهذه الانتقادات اللاذعة هنا تدين الارتقاء الايديولوجي للتاريخ وحصرا ايديولوجيا الماركسية، بنفس وقت ادانتها للارتقاء التاريخي (الفوضوي) الذي تنادي به الحداثة وما بعد الحداثة. علما ان البنيوية لا تؤمن أصلا بوجود تاريخ كانت لارادة الانسان دورا في تشكيله وانبثاقه. وبذا تبقى الغائية او الحتمية التاريخية تدور في دائرة مغلقة لا يعرف أمدها ولا مبتغاها يوصل الى اين.
***
علي محمد اليوسف
.............................
الهوامش
1. عبد الوهاب جعفر/ البنيوية في الانثروبولوجيا وموقف سارتر/ص204
2. المصر السابق نفسه ص 199
3. المصر السابق ص 211
4. المصدر السابق ص 216
5. المصدر السابق ص 222
6. المصدر السابق ص 225
7. المصدر السابق ص 231
8. المصر السابق ص 237
9. ا. سيد ياسين، نقلا عن ندوة فكرية، الحداثة وما بعد الحداثة، ص 19
10. نفس المصدر السابق ص 20
11. نفس المصدر ص 20
12. نفس المصدر ص21