أقلام فكرية

أقلام فكرية

مقدمة: بالاضافة الى كتابه (زن وفن صيانة الموتورسايكل)، نشر روبرت بيرسج  كتابه عام 1991 (قصة ليلا Lila: تحقيق في الاخلاق). كتابه الاول يُعد من أشهر كتب الفلسفة في الوقت الحالي، حيث بيعت منه ملايين النسخ في 23 لغة. كلا الكتابين يشكلان قصة او لغزا بوذيا صُمم ليعطي فهما للخير(او كما يقول بيرسج، للنوعية) دون وضعها في تعريف جامد. بيرسج فيلسوف وكاتب امريكي، لكنه عاش لعدة سنوات كطفل في انجلترا في بداية الثلاثينات من القرن الماضي ثم عاد لاحقا الى انجلترا في أواخر السبعينات ليعيش في قارب على ساحل كورنويل. هو ايضا كتب الكثير في كتابه الثاني في السويد، مكان ولادة جدته. كان بيرسج منغلقا، على سبيل المثال، لم يرد على أي مكالمة هاتفية. هو أوضح سلوكه هذا: "الكاهن البوذي كانت لديه قاعدة للسلوك ضد الانغماس في المحادثات الكسولة، وهذا هو ما يحفزني".

يمكن تعقّب بدايات ميتافيزيقا النوعية الى عام 1959 عندما كان بيرسج معلما للانجليزية في امريكا. كمحاضر جديد، هو لاحظ في ظل مسؤوليته القانونية تعليم "النوعية لطلابه حتى لو لم يكن واضحا لإدارة الكلية معنى المصطلح". حالا أدرك بيرسج ان المدرسين كانوا يمنحون الطلاب درجة النجاح او الفشل وفق نوعية عملهم لقرون طويلة بدون أي تعريف واضح لـ "النوعية". هذا دفع بيرسج للبدء في  التحقيق الفلسفي.

في كتابه زن وفن صيانة الموتورسايكل، استطلع بيرسج تاريخ كلمة "النوعية" او ما أطلق عليه اليونانيون القدماء darete متعقبا المصطلح الى زمان افلاطون (428-348 ق.م). هو استنتج ان الوضع الغريب للنوعية في الغرب اليوم نشأ مع تقسيم افلاطون لروح الانسان الى مظهرين للعقل والعاطفة، في حوار فودو، أعطى افلاطون أولوية كبرى للعقل على العواطف. وبعده حالا كان ارسطو وبنفس الطريقة يؤكد على التحليلات بدلا من البلاغة. بالنهاية تطور هذا التقسيم الى "ذاتي مقابل الموضوعي" كطريقة في التفكير تسيطر حاليا في الغرب. لذا يسود الان في الغرب موضوعية، عقل، منطق وديالكتيك من جهة، وذاتية، عاطفة، خيال، بديهة، وبلاغة من جهة اخرى. العبارات الاولى تقترح الاحترام العلمي، بينما الثانية يُفترض عادة ان تكون عبارات فنية لها حيز ضيق في العلم او العقلانية. هذا التصور الافلاطوني للعقلانية هو الذي سعى بيرسج لتحدّيه من خلال التوفيق بين عوالم الروحي (زن مثلا)، الفني (الفن) والعلمي (صيانة الموتورسايكل) ضمن نموذج موحد من ميتافيزيقا النوعية. توفي بيرسج عام 2017 عن عمر ناهز 88 عاما .

ميتافيزيقا النوعية

يتأمل روبرت بيرسيج بان كل شيء في الوجود يمكن افتراضه كقيمة (مع انه يقسم القيم الى صنفين كما سنرى). وبما ان نظامه يختلف عن الميتافيزيقا الغربية التقليدية بجعله القيم الاساس النهائي للواقع، فلابد من عدم الاستغراب من ان تكون لهذا نتائج راديكالية نسبيا حول وصفه للواقع.

في كتابه ( Lila،تحقيق في الاخلاق الصادر عام 1991) يضيف بيرسيج التالي:

" التجريبية، تدّعي بان كل المعرفة البشرية الشرعية تبرز من الحواس او من التفكير القائم على ما تعرضه الحواس. معظم التجريبيين ينكرون صلاحية أي معرفة مكتسبة من خلال الخيال، السلطة، التقليد، الدين، او الميتافيزيقا باعتبارها غير مثبتة بالدليل. ميتافيزيقا النوعية تختلف عن هذا من خلال القول ان قيم الفن والاخلاق وحتى الصوفية الدينية يمكن إثباتها وانها في الماضي جرى استبعادها لأسباب ميتافيزيقية وليست تجريبية. انها جرى استبعادها بسبب الافتراض الميتافيزيقي بان كل الكون مؤلف من ذاتي وموضوعي وان أي شيء لايمكن تصنيفه كذات او شيء هو غير واقعي. لا وجود لدليل تجريبي لهذا الافتراض أبدا" (ص121).

يجدر التأكيد هنا ان "الذات " و الموضوع subject&object هي مفاهيم فكرية وليست مفاهيم مشتقة من التجربة. لسوء الحظ، هذه المفاهيم زُرعت فينا من عمر مبكر، لذا نحن نقبل عموما صلاحيتها بدون سؤال. لكن هذا في الحقيقة مجرد عُرف ميتافيزيقي. سيقول بريسيج ان الواقع يمكن تقسيمه ميتافيزيقيا بعدد هائل من الطرق: انها فقط مسألة طريقة أفضل من اخرى.

لذا، بدلا من تقسيم كل شيء الى ذوات وأشياء، يقسم بيرسيج الواقع الى نوعية ديناميكية (تُكتب قصدا بحرف كبير) ونوعية ثابتة. "النوعية الديناميكية" هي المصطلح الذي يعطيه للتدفق المتغير باستمرار للواقع المجرب مباشرة، بينما "النوعية الثابتة" تشير الى أي مفهوم تم تجريده من هذا التدفق. مصطلح "داينامك" يشير الى شيء غير ثابت، والذي يعني ان النوعية الديناميكية لايمكن تعريفها، ولذلك فان الفهم الحقيقي لها يمكن ان يحصل فقط مباشرة من خلال تجربة. وكما يقول هربرت غونتر في كتابه (الفلسفة وعلم النفس في الأبيدلارما،1957)، "النهائي، في البوذية، هو شيء ممكن معرفته، مع انه لا يُعرف بواسطة النظرية او الطريقة الاستطرادية، وانما بالتجربة المباشرة (ص235). بكلمة اخرى، البوذي لايستطيع ان يقول لك ما هي النوعية الديناميكية، وانما هو يستطيع الاشارة الى الطريقة لكي تستطيع ممارستها لنفسك، ومن ثم ستفهم ذلك. او كما كتب بيرسج في رسالة الى أنتوني ماكوات Antony Mcwatt في 6 اكتوبر عام 1997:

"من المهم إبقاء جميع المفاهيم خارج النوعية الديناميكية. المفاهيم هي دائما ثابتة . حالما تدخل الى النوعية الديناميكية فهي سوف تتجاوزها وتحاول تجسيدها كنوع من المفهوم ذاته .. فمثلا الزمن هو فقط مشكلة للافلاطونيين لأن الزمن ليس فيه صفات الشيء لذا يجب ان يكون ذاتيا. واذا كان الزمن ذاتيا ذلك يعني ان قوانين نيوتن في التعجيل والعديد من قوانين الفيزياء الاخرى هي ذاتية. لا أحد في العالم العلمي يسمح بذلك. كل هذا يشير الى اختلاف ميتافيزيقي اساسي كبير جدا بين ميتافيزيقا النوعية والعلم الكلاسيكي: ميتافيزيقا النوعية هي في الحقيقة تجريبية. العلم ليس كذلك. العلم الكلاسيكي يبدأ بمفهوم عن العالم الموضوعي – الذرات والجزيئات – كواقع نهائي. هذا المفهوم هو بالتأكيد نال الدعم من الملاحظة التجريبية لكنه ليس الملاحظة التجريبية ذاتها".

في كشفه الميتافيزيقا النوعية للاصول الأسيوية الشرقية، يعلن بيرسج في رسالة اخرى الى انتوني في 17 اغسطس 1997، ان النوعية الديناميكية تشير الى ما يسميه بوذا "الواقع غير المشروط"، اما النوعية الثابتة تشير الى "الواقع المشروط" – يُعرف بشكل شائع لدى البوذيين "العالم اليومي":

"النوعية الديناميكية التي تذهب وراء الكلمات هي التي تركز عليها تعاليم زن باستمرار ..."الغير مختلف" ربما يعمل ايضا ما عدى ان "الغير مختلف" يقترح بان لاشيء هناك وكل شيء هادئ. لاشيء هناك، اي،بمعنى "لا شيء" no object، والبوذيون يستعملون اللاشيء بهذه الطريقة، لكن مصطلح داينمك هو اكثر انسجاما ضمن الاقتباس، "ضمن اللاشيء هناك عمل كبير"، في ضوء تعاليم زن و كاتيجيري روشي ... يمكن القول ان الخطأ الأساسي للوضعيين المنطقيين هو الافتراض بانه بسبب ان الفلسفة هي حول الكلمات لذلك هي حول الكلمات وحدها. هذه هي مغالطة "التهام" قائمة الطعام بدلا من الطعام". جدالهم التكتيكي الشائع هو القول ان أي شيء لا يتغذى من صندوقهم الصغير للتحليلات المنطقية هو ليس فلسفة. لكن اذا كان النقاش حول "الخير"(والذي هو أساسا وراء الكلمات) ليس فلسفة عندئذ فان سقراط ليس فيلسوفا، طالما ذلك هو موضوعه الرئيسي".

لا يشير بيرسج في "النوعية الثابتة" الى شيء يفتقر للحركة بالمعنى النيوتني لـ "الثابت" static (هو يتفق على ان كلمة "مستقر" كانت أفضل بسبب هذا الغموض)، وانما يشير الى أي ترتيب مكرر – اي، الى اي شكل يظهر لفترة طويلة بما يكفي لكي يُلاحظ ضمن تدفق التجربة المباشرة  - سواء كانت غير عضوية (على سبيل المثال،القوى الكيميائية) ، او عضوية (نبات، حيوان)، اجتماعية (مدن، أعشاش النمل)، او فكري (افكار، آراء).

التطور الكوني Cosmological Evolution

هذه الأشكال الثابتة للنوعية مشابهة الى كل من الموضوع والشيء، لكنها مشابه فقط. نماذج النوعية الثابتة تتصل مع بعضها بطرق غائبة عن ميتافيزيقا الموضوع والشيء. فمثلا، ميتافيزيقا النوعية تعترف بان الأصناف الأربعة للنماذج الثابتة التي طرحناها أعلاه هي متصلة من خلال التطور الكوني. لو أخذنا الانفجار العظيم Big Bang كنقطة بدء للكون، في تلك النقطة من الزمن كانت هناك فقط نماذج نوعية غير عضوية، أي، قوى فيزيائية. منذ ذلك الحين، وفي مراحل متعاقبة من تاريخ هذا الكون، تطورت النباتات والحيوانات من نماذج غير عضوية، والمجتمعات تطورت من نماذج بايولوجية، اما الفكر فقد تطور من المجتمعات: "الكون يتطور من ظروف نوعية واطئة الى نوعية أعلى وفي المعنى الثابت هذين النوعين هما ليسا ذات الشيء" (رسالة من روبرت بيرسج الى انتوني ماكوات في 23 مارس 1997). وكما كتب الكوني ادوارد كولب مرة، "في التحول الاكثر اسطورية للطبيعة، طوّر الكون مقدرة على تأمل وفهم ذاته". (علم الفلك، شباط، 1998،ص37).

ان التطور الكوني، الذي هو فكرة أوسع من التطور البايولوجي، يُعتبر هاما  في ميتافيزيقا النوعية، طالما يمكن انتاج شفرة الاخلاق من مستويات اساسية أربعة لنماذج النوعية.

رغم ان بيرسج يعترف بان كل مستوى من النماذج الثابتة برزت من النموذج الذي هو في الاسفل، فان كل مستوى يتبع قواعده الخاصة. قوانين الفيزياء مثل قوة الجذب الارضية (غير عضوي) تتطور نسبيا ببطء، بينما قوانين الغابة (بايولوجي)، والتعاون بين الحيوانات (مجتمع)، وافكار الحرية والحقوق (فكر) تتطور أسرع نسبيا. من المهم ملاحظة ان قوانين المستويات الاربعة الثابتة احيانا تتصادم: قارن الزنا (الخير البايولوجي) مقابل استقرار العائلة (الخير الاجتماعي). ايضا من المهم ملاحظة ان ميتافيزيقا النوعية لا تقترح ان هذه العمليات التطورية هي بأي حال من الاحوال  موجهة نحو هدف او جزء من تصميم عظيم. وكما يذكر ارنست ماير الاستاذ المساعد في دراسة الحيوان في جامعة هارفرد: " المؤيدون للنظريات التيلولوجية (الغائية) في التطور، مع كل الجهود التي بذلوها، كانوا غير قادرين على العثور على أية آلية (ماعدى آلية الخارق للطبيعة) يمكن ان يفسروا بها غائيتهم المفترضة. امكانية وجود أي من هذه الآليات جرى استبعادها حاليا  وفق استنتاجات بايولوجيا الجزيئات. (العلمية الامريكية، "طبعة التطور"،سبتمبر 1978).

مع ذلك، ميتافيزيقا النوعية تتبع فعلا شكل من "بقاء الأصلح" الدارونية، حيث "الأصلح" مساوي لـ "الأحسن". وكما يشير بيرسج في ليلا: "بقاء الأصلح" هو احد تلك العبارات المفهومة .. التي تبدو أفضل عندما لا تسأل انت ماذا يعني بالضبط. أصلح لمن؟ أصلح للبقاء؟ هذا يُختزل الى "بقاء الناجين"، والذي لا يقول أي شيء. "بقاء الأصلح" يكون ذا معنى فقط عندما يتساوى "الأصلح" مع "الأحسن"، والذي هو "النوعية" (ص179).

في هذا السياق، يشير "الأحسن" عموما الى الخيار الذي ينتج أعظم حرية بالنسبة لقدرة الوجودات على التكيف مع المواقف الجديدة. هذا ربما يُقال نوعية بيرسج المساوية "للخير" لدى افلاطون. وهي زيادة في الحرية على طول الطريق: مثلا، الذرات يمكن ان تغير مستويات طاقتها عبر اطلاق فوتون، الديدان يمكن ان تسيطر على سرعتها واتجاهها خلال الارض، الطيور قادرة على الطيران في السماء، بينما رواد الفضاء ينجحون في الوصول للقمر.

هذه هي النقطة التي تبدأ عندها ميتافيزيقا النوعية بالابتعاد عن الفكر البوذي التقليدي وتحديثة:

"تقول ميتافيزيقا النوعية، كما تفعل البوذية، ان أحسن مكان على عجلة العربة هو المركز وليس الحافة حيث يغير المرء اتجاهه بفعل دوران الحياة اليومية. لكن ميتافيزيقا النوعية ترى عجلة الكارما مثبتة في العربة التي تذهب الى مكان ما – من قوى الكوانتم عبر قوى لاعضوية ونماذج بايولوجية ونماذج اجتماعية الى نماذج فكرية تتأمل في القوى الكوانتمية. في القرن السادس قبل الميلاد في الهند كان هناك دليل على هذا النوع من التقدم التطوري، والبوذية لم تنتبه له. اليوم من غير الممكن ان تكون هكذا غير واعية. المعاناة التي يعتبرها البوذيون فقط تلك التي يُهرب منها، يُنظر اليها من جانب ميتافيزيقيي النوعية مجرد جانب سلبي للتقدم نحو النوعية ( او التوسّع في النوعية). بدون المعاناة في دفع العربة، فهي سوف لن تتحرك للامام ابدا".

(رسالة من روبرت بيرسج الى انتوني ماكوات ،23 مارس 1997).

أخلاق النوعية

تضم أخلاق النوعية أربعة مستويات من النماذج لتنتج اطارا أخلاقيا شاملا  ذو هرم تطوري كوني، تأخذ فيه العملية التي تمتلك مزيد من الحرية في الميزان التطوري – الأكثر ديناميكية – أولوية أخلاقية. لذا على سبيل المثال، الانسان يُنظر اليه ذو أسبقية أخلاقية على الكلب لأن الانسان في مستوى أعلى في التطور الكوني بسبب تفكيره. لذا، مع تحديث بعض الافكار البوذية في ضوء العلم الحديث، فان الفائدة النهائية من ميتافيزيقا النوعية هي انه عبر إزالة الأخلاق من العرف الاجتماعي ووضعها في نظرية للتطور قائمة على العلم، ستزيل الكثير من الذاتية الثقافية المتأصلة في العديد من المعتقدات الأخلاقية (خاصة الدينية). وحول هذا،يعطي بيرسج المثال التالي:

"هل من غير الأخلاقي، تناول اللحوم لدى الهندوس والبوذيين؟ أخلاقنا الحالية ترى انه غير اخلاقي فقط اذا كنت هندوسيا او بوذيا. والاّ فهو جيد طالما ان الاخلاق ليست أكثر من عرف اجتماعي. الاخلاق التطورية، من جهة اخرى، تقول انه من غير الاخلاقي علميا على كل شخص القيام بذلك لأن الحيوان في مستوى أعلى من التطور، أي، اكثر ديناميكية من البذور والفواكه والخضراوات. لكن  نضيف ان هذا المبدأ يصح فقط عندما تكون هناك وفرة في الحبوب والفواكه والخضراوات. سيكون غير أخلاقي للهندوس ان لا يأكلوا أبقارهم في وقت المجاعة، طالما هم سيقتلون الانسان مفضلين عليه كائن أدنى" (Lila، ص190/191).

كذلك، عبر استخدام رؤية كلية شاملة منذ بداية الكون، فان ميتافيزيقا النوعية تنتج حلولا جديدة للمشاكل الميتافيزيقية المستعصية السابقة، بما في ذلك العلاقة بين الذهن والمادة ومشكلة السببية ومشكلة الرغبة الحرة مقابل الحتمية. على الأقل اثنان من هذه المشاكل يمكن حلها عندما يتم تطبيق الاتجاه التطوري عليها ( يمكن مراجعة رسالة الدكتوراه للكاتب روبرت بيرسج www.robertpirsig.org/phd.html ). رغم ذلك، هناك من يقول ان الميتافيزيقا التي تنطوي على مصطلح مركزي لم يُعرّف – النوعية الديناميكية – هي ليست ميتافيزيقا حقيقية. وبنفس المقدار يمكن الجدال ان قوة ميتافيزيقا النوعية هي قدرتها على دمج "المطلق الغير محدد" في نموذج متماسك وموجّه علميا.

استنتاج

افلاطون كان واثقا بعض الشيء من مدى الفائدة العملية لنظريته في الأشكال. التساؤل الذي يُطرح هو هل فكّر ان استاذه سقراط ربما كان يلمح له ولعدد آخر من تلامذة الفلسفة في اثينا بان الخير والجمال هما في الحقيقة لا يمكن تعريفهما؟ فكرة الأشكال كانت قد اختُرعت بواسطة افلاطون وليس سقراط. لسوء الحظ، كنتيجة للتفكير الافلاطوني بان الواقع يمكن تعريفه أساسا، اصبحت الفلسفة الغربية في الحالة التي هي عليها اليوم: اكثر دعما للعلم بدلا من سيّده. افتراض ان الكلمات يمكنها فهم كل مظاهر الواقع هو خطأ قابل للفهم لو حصل في بداية التقليد الفلسفي الغربي .. لكن هذا الخطا الميتافيزيقي جرى تجنّبه من جانب فلسفة شرق اسيا.

انظر في مقارنة افلاطون لجهل الكهف والهروب منه ليرى شمس الخير، ثم قارنه مع الاقتباس التالي:

"ليس بشروقها يكون الضوء،

ليس بهبوطها يكون الظلام

لا ينقضي، مستمر

انه لا يمكن تعريفه ...

صورة اللاوجود...

قابلْه سوف لن ترى وجهه

اتبعه فسوف لن ترى ظهره".

(دايو ديجنك، لاوزي، مقتبس في ZMM ص253-54.)

لو فكرت طويلا فسوف لن ترى وجودا لـ "كهف الجهل" حتى وضع افلاطون الثقافة الغربية داخل ظلام ميتافيزيقاه لمدة 2400 سنة. لحسن الحظ، ان روبرت بيرسج في النهاية وجد مصباحا ميتافيزيقيا لجعلنا نحن الغربيين نخرج من هناك ... مع ذلك، لايزال بيرسج يكن احتراما هاما جدا لإفلاطون (على الاقل كان موضوع افلاطون الرئيسي هو الخير). هذا الاحترام اشير اليه في مساهمات بيرسج الاخيرة للفلسفة والتي كانت تقديم لكتاب دونالد مور (قهوة مع افلاطون،2007).

كذلك، وكما أشار جيف شيهان في مقالته المثيرة "سقراط و زن" في الفلسفة الان عدد 113، يجب ملاحظة ان سقراط يشبه زن في اتجاهه في كيفية تعريف الاشياء. شيهان يكتب، "سقراط يبحث عن المعرفة، وربما من الأفضل القول انه يبحث عن الحكمة، ذلك ان القيم في السؤال ليست فقط مسألة فكرية وانما هي قيم يجب ان تُعاش. من وجهة نظر سقراط، الانسان الذي يدّعي معرفة الشجاعة و لا يتصرف بشجاعة سيثبت انه لا يعرف ما هي الشجاعة". أي، فقط القيم المُعاشة هي التي تعطيك الحكمة. جون بلوفيلد John Blofeld  المترجم الانجليزي الشاب في الصين في الثلاثينات، قابل طاويا كبير السن يسمى  Tseng Lao-weng، الذي كان سريعا في إبلاغه عن هذا الفرق بين الحكمة في شرق اسيا والمعرفة الفلسفية الافلاطونية" : "الحكمة تكاد تكون مُقنعة مثل العصيدة الجيدة، بينما المعرفة لها تأثير أقل من الماء الفاتر المسكوب على أوراق شاي قديمة".(جون بلوفيلد، السر والسمو: اساطير طاوية وسحر،1973،ص208).

بدلا من محاولة تعريف الجمال والخير بكلمات، ربما يجد الافلاطونيون طريقة اكثر انتاجية لإيجاد الحكمة حول هذه "الأشكال المجردة من الشكل" من خلال الرسم، تسلّق الجبال، كتابة قصيدة، حل نظرية رياضية صعبة، خلق اغنية. فوق كل هذا، هذه العملية يجب النظر اليها كمغامرة في خلق واكتشاف أشياء جميلة. النصوص اللاافلاطونية يمكن ان تكون مرشدا مفيدا في هذا السياق. مثال جيد على ذلك يتضمن F.S.C. Northrop، Homer، Nagarjuna،القساوسة الطاويون الذين اقتبس منهم  جون بلوفيلد وكذلك روبرت بيرسيج ذاته.

***

حاتم حميد محسن

....................

Quality Metaphysics: Robert Pirsig and his Metaphysics of Quality, Philosophy Now, April/May 2024

تراتيبية تصنيف الوعي

حسب تاريخ الفلسفة نستطيع عمل تراتيبية نوعية توصيفية زائفة لا معنى حقيقي لها بين ثلاث مصطلحات تم ويتم تداولها في الفلسفة الحديثة هي الوعي بما هو نتاج عقلي منفصل تماما عن القصدية والجوهر الخالص وهو توصيف خاطيء مشوّه للوعي كفاعلية عقلية. فحين تقول (وعي) فإنك بذلك أردت أم لم ترد تقصد به الذات العارفة في حمولتها الوصول الغائي نحو تحقيق هدف مرسوم بذهنك (قبل) الشروع بممارسة وعيك الاشياء والموجودات في عالمنا الخارجي. هذا اذا ما إعتبرنا الوعي بعدي على قبلي يسبقه هو الشيء الموجود المستقل بذاته بمعنى توفر موضوع الوعي الادراكي..

النوع الثاني من الوعي هو الوعي القصدي الذي تتحدد فاعليته الفلسفية الموجودية بحمولته القصدية الملازمة له أي لموضوعه وهي النسخة الكاربونية المستنسخة لما ذهبنا له قبل اسطر بفارق الافتتان بالتسمية المصطلحية فلسفيا.. كنت ذكرت في مقالتي السابقة أن مصطلح الوعي القصدي كان برينتانو ابتدعه ليتلقفه من بعده تلميذه هوسرل صاحب الفلسفة الظاهراتية واشياعه اقطاب الوجودية الملحدة هيدجر وسارتر و وميرلوبونتي.

أما الوجودية المؤمنة فاقطابها هم ياسبرز وجبريل مارسيل رجل الدين اللاهوتي المسيحي الذي كان له تاثير فلسفي كبير جدا في مباحث فلسفية خارج نطاق مباحث الفلسفة الايمانية في الدين وخاصة في فلسفة الاغتراب. طالما قادنا هذا الاستطراد الى الوجودية فمن غير المعقول عدم التطرق الى رائد الوجودية الحديثة الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجورد الذي توفي في ريعان شبابه اقل من اربعين سنة وكان متدينا مخلصا انكر العقل ليبشر بالايمان الديني القلبي ولا تزال هذه النظرية الايمانية سارية المفعول الى يومنا هذا. كان كيركجورد متاثرا بافكار كلا من نيتشة وهوسرل ومستنكرا افكار هيجل في الديالكتيك المثالي للتطور التاريخي. وضع كيركجورد اسس الفلسفة الوجودية بنقطتين هامتين جدا:

1. اعتبر الوجود سابقا على الماهية او الجوهر. وقد اخذت الماركسية بهذا المبدأ الاستراتيجي الهام الذي انكره وبشدة متطرفة اسبينوزا قائلا الجوهر او الماهية تسبق الوجود ونحن حسب قوله ندرك الوجود بدلالة الجوهر.

2. خالف سورين كيركجورد هيجل حول التطور الجدلي المثالي للتاريخ قائلا التاريخ لا يسير بحتمية المسار الخطّي كما يتوهم هيجل معاصره الذي تحركه عوامل موضوعية خارجية. بل التاريخ تحكمه القطوعات او القفزات النوعية التي تجعل التاريخ يتطور بخطى نوعية تطورية بتاثير من سيرورة الواقع. وبخصوص ماسماه كيركجورد القفزة التطورية النوعية في التاريخ سحب مقولته على محاربة العقل والانحياز للايمان القلبي. قائلا الايمان الديني لا يحققه التفكير العقلي بل يحتاج الانسان الى قفزة نوعية في المطلق الديني الذي مصدره القلب.   

اما النوع الثالث من الوعي فهو الوعي الخالص بمعنى هو ذلك الجوهر المفكر الذي يبحث عن معرفة الماهيات. بمعنييها الفلسفيين الاثنين الاول هو الماهية كجوهر مادي في المدركات العقلية والثاني الماهية كقيم وجدانية لا يدركها العقل بمباشرة موضوعية . وهذه تقيم وزنا كبيرا للسلوك النفسي الانفعالي الحدسي الذي مبعثه اللاشعور في تغليب العاطفة على العقل وهو ماتعتمده الظاهراتية لدى هوسرل واشياعه... الوعي الخالص هو الوعي الذي يتعالى تراندستاليا إدراكيا ومعرفيا لما هو فوق محدودية الوعي الطبيعي في وعيه لمدركاته في عالم الاشياء وفي الطبيعة..

الوعي الخالص أول من إبتدعه  الفيلسوف اليساري المنشق عن هيجل برونو باور 1809 – 1882 في القرن التاسع عشر. هذا المصطلح الوعي الخالص هو ماتبنته الظاهراتية (الفينامينالوجيا) على لسان هوسرل في القرن العشرين الماضي. وحظي المصطلح باجماع فلسفي من قبل فلاسفة الوجودية باستثناء سارتر الذي اعتبره خرافة فلسفية دوغمائية لا تمتلك اسباب حضورها المعرفي الفلسفي. واقتنع بوجود وعي قصدي بالضرورة العقلية المعرفية للوعي. اما أن يكون الوعي خالصا كما ترغبه وتريده فينامينالوجيا هوسرل فإنه يخفق تحقيق مصداقيته المنهجية الفاهمة بسبيين الاول غياب الموضوع الذي يكافيء الوعي الخالص. الثاني هو في أي معيارية فلسفية وليست علمية تنكرها الفلسفة الظاهراتية يمكننا التأكد من ممارستنا الوعي الخالص.؟

اذا إفترضنا وردتنا الاجابة على تساؤلنا أن الوعي خالص بموضوعه الذي مصدره القيم بمعنى الماهيات التي هي ليست جواهر الاشياء التي يقصدها منهج الميتافيزيقا التي تستغني عن منهج العقل حيث يتعيّن الموجود بصفات خارجية تسمى العرض والى جوهر دفين خلفها تحتويه الصفات الخارجية هو الماهية ولا يكون موضوعا مباشرا لادراك العقل.. بهذا نكون وصلنا نصف الحقيقة بالرغم من ضعف هذا التعليل إذ أن الوعي مجردا من (صفة الخالص) هو وعي يمارسه كل الناس ولا يحمل صفة التعالي التراسندتالي الفلسفي المعرفي الذي تختص به النخبة. حتى فرق التصوف في جميع الاديان التوحيدية وغير التوحيدية في ممارساتها التسامي الروحاني الصوفي وفي مذهب وحدة الوجود الذي يجد فيه الصوفي روحه تقترب من النور الالهي. لا تاخذ بوجود وعي خالص يعلو وعي الانسان الطبيعة وموجوداتها. حتى مدارس الاديان الوثنية مثل صوفية الزن والبوذية وقبائل المايا الصوفية لا تعرف معنى ان يكون هناك وعي خالص.

الاجابة التي تكمل عندنا نصف الحقيقة الثانية حول تساؤلنا عن معيارية الوعي الخالص بغير موضوع ادراكه الذي هو الماهية التي هي (القيم) الوجدانية الانفعالية العاطفية والنفسية السلوكية التي تجاهر به الفلسفة الظاهراتية فتكون الاجابة هي عجز البرهنة الفلسفية عن وجود وعي خالص خارج البحث في الماهيات كقيم التي لا يدركها العقل المباشر وانما يدركها منهج الحدس الانفعالي الوجداني. علما أن من بديهيات الوعي الخالص او غير الخالص هو أنه يعي كل شيء كمواضيع تدركها الحواس ويتناولها العقل المعرفي بمقولاته التفسيرية.

الحقيقة أن الاشتقاقات المصطلحية بالفلسفة عديدة وتعتبر تلك الاشتقاقات تراكم خبرة معرفية فلسفية أ كثر منها حمولة تجديد إجتهاد معرفي فلسفي. ومن خصائص (المصطلح) الجوهرية التي ينفصل بها الوعي عن الميتافيزيقا انه متعيّن ادراكي مصدره المنتج له هو العقل المعرفي المادي بخلاف مصطلح (المفهوم) الذي هو كل ما ينبثق عن محاولة فهمنا الوجود بطرائق  ميتافيزيقية مسدودة ومقفلة النهايات. وكان المفهوم الميتافيزيقي لدى نيتشة مسخرة واصفا الوجود انه ميتافيزيقا لا معنى لها كمفهوم مضلل للعقل وكذا الحال عند كانط وهيوم وجون لوك وغيرهم. حيث انكر هيوم حتى وجود العقل قائلا لا وجود لما يسمى العقل واخذها عنه فيلسوف العقل واللغة الانكليزي جلبرت رايل توفي عام 1970. قائلا خذوها عن يقين أن لا تتوهموا وجود مايسمى عقل ابدا. الطريف بالامر ان فوكو واقطاب فلاسفة البنيوية المتاثرين بفلسفة مابعد الحداثة انكروا العقل واعتبروه الكارثة التي دفع الانسان ثمنها في حرب عالميتين ازهقت ارواح الملايين والمشوهين والمفقودين.

الانسان كائن ميتافيزيقي

انا أجد الانسان جوهرا ميتافيزيقيا كما هو جوهر عقلي تفكيري ناطق. والميتافيزيقيا جوهر فلسفي حاضر في تاريخ الفلسفة عبر عصور طويلة ولحد الان بما لا يمكننا التفكير المعرفي والفلسفي الا ونجد انفسنا سقطنا في مبحث الميتافيزيقا رغم ضراوة العداء والمقت الشديد للميتافيزيقا كمفهوم غيبي لا معنى وجودي له.. العديدون هم الذين يتقافز باذهانهم أن الميتافيزيقا المعرفية تخرج من تحت عباءة الدين واللاهوت حصرا وهو غير صحيح . الميتافيزيقا تبحث في كل مبحث بالوجود الذي يعيشه الانسان ويعجز العقل اعطاء إجابة عنه.

ماركس ومثالية المنهج

ماركس نتيجة تعلقه الشديد بالنزعة المادية وقف معارضا لكل من برونو باور في مصطلحه (الوعي الخالص) بما وجده ماركس أن المصطلح بما يمتاز به من سلبية  ونزعة ميتافيزيقية تتلبسه جدا وهو سبق يحسب لماركس حول رغبته وأد مصطلح الوعي الخالص بمهده.. بنفس وقت وقوفه اي ماركس وبشدة اكثرفي معارضته النزعة التأملية المثالية الدينية لدى فيورباخ خاصة بعد أن اصدر هذا الاخير ثلاثة كتب تدور حول مركزية اصول الدين في علاقة الطبيعة بالانسان. أهمها كتابيه الشهيرين (اصل الدين)  والثاني (جوهر المسيحية ).

ماركس كانت مهمته الفلسفية وهو شاب تعلقه الشديد بوجوب البحث عن مصير الانسان على الارض وليس البحث عن مصيره دون جدوى في السماء. معتبرا طروحات كلا من شتيرنر وباور صادرة عن فلاسفة هم بقايا الفكر الهيجلي المثالي الذي تتلمذوا عليه من قبل استاذهم هيجل..

اما بخصوص فيورباخ المادي فقد كان ماركس معجبا به انه يفكر بالفلسفة تفكيرا ماديا في تعلقه بالطبيعة وميتافيزيقا التفكير الانساني على انهما مصدر الدين. ورغم أن ماركس استمد مادية فيورباخ وأخذها عنه معترفا بما قام به في توصله بمساعدة رفيق دربه الفلسفي انجلز الى الجدل المادي الذي يحكم التاريخ بما اطلق عليه مصطلح (المادية التاريخية) التي يحكم جدلها الديالكتيكي تطور التاريخ.. ورغم كل إعجاب ماركس بفلسفة فيورباخ التأملية الصوفية الا أنه أي ماركس اصدر كتابه الشديد القسوة بالضد من فويرباخ اسماه (اطروحات عن فيورباخ ) يضم 13 اطروحة ينتقد بها ماركس حسبما يذكر الباحث اليساري ثامر الصفار( النزعة الانسانية اللاتاريخية) عند فيورباخ. وجدت مخطوطة الاطروحات بعد وفاة ماركس ونشرها انجلز.

الحقيقة أن فيورباخ كان ذا نزعة انسانية تاريخية مركزيتها التي تطيّر منها ماركس هو طابعها (الديني) التصوفي التأملي التي تحاول المزج في توليفة واحدة بين الدين والانسان والطبيعة معتبرا فويرباخ ثلاثتهم جوهرا واحد يسمى الاله الذي إخترعه الانسان في البحث عن ذاته الوجودية فوجد بالنتيجة نفسه انه هو (الاله)..

لكن ما أثار حفيظة ماركس على هذه التوليفة التي ارادها فويرباخ أنها تمزج بين الطبيعة والدين في تأمل فلسفي مثالي لاثوري غير واقعي حسب اتهام ماركس لها. ماركس وهو ما يؤكده تاريخ حياته ولد من أجل ان يكون (ثوريا) ومشاكسا سياسيا عنيدا مبدئيا في حمله هموم كيف يصبح العالم انسانيا خاليا من الفقر والتمايز الطبقي؟ ولاقى من أجل ذلك الكثير من الاضطهاد والابعاد والطرد في بلدان عديدة ليستقر آخر سني حياته في حي سوهو بلندن وكان اواخر حياته يكتب واقفا لا يستطيع الجلوس بسبب التقرحات التي ملأت جسمه ولا يملك نقود علاجها.

ومن المفارقة التي ذكرها كثيرون أن أعظم فيلسوف كتب عن إدانته اللاانسانية للفقر ومعاناة الانسان بسببه هو ماركس الذي مات معدما وفقيرا مدقعا وكان يرى اولاده يتساقطون بالمرض ويموتون امامه بسبب الفقر حتى يروى انه اثناء دفن احد اولاده اراد إلقاء نفسه بالقبر خلف ولده ومات مديونا لبائع يشتري منه البطاطا وبعض الغذاء. ولم يكن تهمّه مباحث الفلسفة التي وجد فيها أنها تحاول تفسير العالم وليس تغييره الانساني المطلوب. أذكر بختام هذه الفقرة عبارة رائعة للفيلسوف الانكليزي برنارد شو قوله الفقر هو أم كل الرذائل.

فريجة وهوسرل والرياضيات بالفلسفة

تذكر مصادر فلسفية ان هوسرل لم يمر مثل غيره من الفلاسفة اليساريين المنشقين عن هيجل بما سمي حينها المرحلة الهيجلية المثالية. بالحقيقة كان طغيان افكار هيجل بالجامعات الالمانية بوجود تلامذة نوابغ له مثل ماركس وفيورباخ ما جعل شوبنهاور المعاصر له يعتزل في فندق مع كلب له حتى وجدوه ميتا على كرسيه من غيضه وكرهه لهيجل.

المصادر تشير الى أن هوسرل بقي ذو نزعة علمية بالفلسفة قادته الى طرح نظرية وجوب جعل الفلسفة علما بالرياضيات يوازي العلوم الطبيعية. الجدير ذكره يصبح من الغرابة جدا مثل هذا النزوع الظاهراتي المتناقض السقوط في مطب ميتافيزيقا الظاهراتية التي حملت اسم هوسرل وإلا فما معنى أن ترفع الظاهراتية انها فلسفة تعنى بدراسة الماهيات كقيم بمنهج الحدس الوجداني الانفعالي؟

الجدير بالذكر انه بالفلسفة عامة وفي العلوم وفي مباحث الفلسفة لا تاتي خبرة معرفية من لا شيء سابق عليها. الخبرة تراكم معرفي وما طرحه هوسرل حول جعل الفلسفة علما من علوم الرياضيات كان بعمله مهد الطريق امام فلاسفة الوضعية المنطقية التجريبية حلقة اكسفورد الانجليزية اقطابها بيرتراند رسل ونورث وايتهيد وجورج مور وكارناب وفينجشتين المتأخر تبنيهم مقولة يجب ان تكون الفلسفة علما من علوم الرياضيات.

الحقيقة ان الفيلسوف السويسري جاتلوب فريجة هو صاحب إحياء فكرة هوسرل غير الجديدة على الفلسفة في تقهقر وتراجع الفلسفة امام التقدم العلمي المتسارع.  مخاطبا فريجة اعضاء الوضعية الانجليزية انه اصبح من المخجل ان الفلسفة لا تكون علما من علوم الرياضيات مرتكزها توليفة علوم الرياضيات مع المنطق وفلسفة اللغة. امام صعقة فريجة هذه قام كلا من بيرتراندرسل وعالم الرياضيات الشهير في القرن العشرين عضو الوضعية الانجليزية نورث وايتهيد تاليفهم كتابهما المشترك عام 1906 على الارجح اسمه ( مباديء الرياضيات) الذي استغرقا بتاليفه ثلاثة سنوات.

في اعقاب الاهتمام الهامشي فلسفيا بالكتاب بدأ النزاع ينخر الوضعية المنطقية الانجليزية حيث احتدم الخلاف بين راسل وفينجشتين , وكذلك بين جورج مور يؤيده كارناب في ضرورة ترك تطويع علم الرياضيات والمنطق للفلسفة والاهتمام بفلسفة اللغة واللسانيات كما يفعل الفلاسفة الاميركان ريتشارد رورتي وسيلارز وجون سيرل. وصل اختلاف جورج مور مع اعضاء الوضعية ان قال لهم اجعلوا لغة الفلسفة يتكلمها الناس في الشوارع وفي اسواقهم واماكن تجمعهم.

للمقال صلة ببحوث سابقة وصلة بحث لاحقة

***

علي محمد اليوسف

 

لا يزال هناك شح واسع في العلوم الاقتصادية وعلاقتها الجدلية بمسألة الاتصالات. بل إن الدراسات تلك، تنتهي في سلسلة علاقتها الأضعف بعلوم الإنسان والمجتمع، بيد أن التخصصات الأخرى (اللسانيات، وعلم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعي، وغيرها) تضل الأكثر حضورا وتطورا في بنية الراهن الإعلامي، وخصوصا في نموذج الاتصال، أو تبادل المعلومات.

ويأتي هذا الحقل الشفيف، ليوازن بين مضان التمثلات التي تقيس بها وسائل الإعلام ، وبشكل متزايد ما يحسب على التخصص الاقتصادي، وأولويته المتزايدة للاقتصاد التجاري أو المالي بخاصة، حيث يبرز قطاع المعلومات والثقافة والتبادلات بين الأفراد ذات الطبيعة المهنية أو الخاصة، بشكل لافت وبدرجة حادة، إن على مستوى استخدام الحساب الاقتصادي أو حتى التحليل الاقتصادي لدعم أو تعزيز القرارات الاستراتيجية للدول أو مجموعات الاتصال الكبيرة؛ أو المؤسسات ذات التوجه الإعلامي المحض.

أما مسألة اللجوء إلى التفكير الاقتصادي المبني على منهجية علمية، والهادفة إلى مراعاة التحولات الاجتماعية التي تعكس النمط العلمي الجديد ، فهي مربوطة بالتحليل الاقتصادي، باعتباره بحثا يحافظ على اتصالات - قريبة أحيانًا مع التفكير العلمي المناسب.

لكن، هنا لا ينبغي الخلط بين حسابات التكلفة، والتنبؤ بالعوائد على الاستثمار. وهي مجرد عملية تبدو فيها الخلفية الإعلامية مغيبة أو غائبة بفعل الاستحواذ الموضوعاتي للتفكير إياه.

فالاستثمارات أو التنبؤات بالنتائج المتوقعة لقرار ذي طبيعة مالية - وهو ما تختزله الدراسات التطبيقية في أغلب الأحيان - لا تفيد على الإطلاق في التفكير من جانبه الإعلامي أو الاتصالي، مادام هذا البعد يثير مأزق التوظيف الإعلامي للأحداث الاقتصادية والمالية والتجارية، وأبعاد وخلفيات ذلك، على المستوى القيمي والأخلاقي والنفسي والاجتماعي والسياسي؟.

فكيف يمكن تفسير استمرار هذه الالتباسات التي يحركها الاقتصاد في المنبع، فضلا عن التأخر في التفكير المنهجي بتوظيف العقل الإعلامي المجرد؟

الأسباب متعددة ويصعب تمييزها. ولكن يبدو أن تحديد المفاهيم تبقى مشتركة بين الاقتصاديين والمتخصصين في العلوم الاجتماعية الأخرى. وفي المجمل، كان الاقتصاديون، من كافة المدارس تقريباً، يكتفون بنقل منهجياتهم العامة إلى مجال المعلومات والثقافة والاتصالات، مع تسليط الضوء على بعض الجوانب المحددة، ولكن من دون إعادة التفكير في العديد من الأسباب العميقة الجذور بشأن إنتاج العائدات ذات المردودية المعكوسة.

أما علماء الاجتماع وعلماء السياسة وعلماء الأنثروبولوجيا... فإن الخوف من الاقتصادية الإعلامية يساوي بالدرجة الأولى أولوية الاقتصاد الإعلامي، وهو ما يقود عمومًا إلى بناء بيئة اجتماعية لا علاقة لها بالاقتصاد على الإطلاق.

إن تلكم المواقف التكميلية تضر بشكل عام باهتمام ونوعية البحث في مجال الاتصالات، لأن النهج الاقتصادي يظهر في المقام الأول قوة واضحة للمهتمين سالفي الذكر؛ خصوصا في مجال السوسيولوجيا (وهو مبحث سبق وخصصنا له دراسة نشرناها في العديد من المواقع العلمية)، إنه يمثل مساعدة كبيرة في جميع الأنشطة الهامة.

هنا، يمكن طرح السؤال: كيف يمكن استيعاب العمل الإعلامي المعاصر استنادا فقط إلى العلاقات القائمة بين الوسائل والقراء أو المتابعين، كما ووظيفتها في الفضاء العام، دون دراسة الاستراتيجيات التي تتبعها مجموعات الاتصال والطبيعة الاقتصادية لمثل هذا المحتوى كمعلومة وكفاعل مجتمعي؟.

بمعنى آخر، إلى أي مدى يكون المنطق ذا صلة، تحت اسم الصناعات الثقافية، الذي يمزج كل ما يتعلق بنشاط تجاري مثلا وسوق الفن والترويج الإعلاني)، أو حتى التجاري البسيط، كإنشاء خدمات عن بعد، والعمليات الأخرى المرتبطة بجزء من الإنتاج الصناعي الكبير ، كإنتاج المواد للعموم أو السلع الثقافية مثل السجلات والتوثيقات وغيرها...؟ . وإلى أي مدى يمكن تقبل وضعيات كدراسة تطور التلفزيون دون تأسيس صناعة دولية للبرامج السمعية والبصرية؟ وكيف نفسر صعود وسائل الاتصال دون استخدام المنطق الاقتصادي؛ أليس لأنه يتم إنتاجه بالتزامن مع انتشار السلعة؟.

وبمعنى أعمق، فإن اللجوء إلى العلوم الاقتصادية - أدوات التحليل والمنهجيات التي ساهمت في صياغتها - يمكن أن يتجنب وجهات النظر الاختزالية ، كاقتصار التواصل على تفاعلات الحياة اليومية، أو إخضاع الأساليب الواضحة بشكل زائف، كما يحدث مع استيعاب الحياة السياسية لتدخلات القادة في وسائل الإعلام الرئيسية، وبالتالي المساهمة في معرفة الحركات الكبيرة التي تؤثر، من خلال تطوير تقنيات الاتصال، على المجتمعات المعاصرة.

هذا سيؤدي حتما إلى طرق بنية شبكة (تقنيات) الاتصال أو العمليات التي تنتشر من خلالها الابتكارات كالحوسبة الصغيرة المحلية، لتكون جسرا لانخراط النسق الاقتصادي في الفسفة الإعلامية، وتحويلها إلى براديجم مشتبك مع باقي العلوم الإنسانية ذات الصلة، وعلى رأسها السوسيولوجيا الثقافية والإعلامية، التي أضحت تشكل مركزا اتصاليا عالي الخطورة والامتداد .

***

د. مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

العاطفة والفلسفة الظاهراتية

حسب تعبير د. زكريا ابراهيم أن شيلر ثار ضد رأي كانط قوله العاطفة ليس لها معنى ولا قيمة. وكان موقف شيلر هذا يعتمد خلفية المنهج الظاهراتي(الفينامينالوجيا) لهوسرل الذي إجتمع حوله فلاسفة الوجودية ابرزهم  سارتر، هيدجر، ميرلوبونتي وجيل ديلوز وغيرهم حول مصطلح (الوعي القصدي) الذي اول من رفعه برينتانو الذي كان يمقت عقلانية كانط التي تنخرها الميتافيزيقا المثالية الغارقة في تأمل فلسفي معقد جدا. برينتانو في اختراعه مصطلح الوعي القصدي بالفلسفة انما كان يستهدف ديكارت وليس كانط بشدة أيده بها لاحقا تلميذه هوسرل ومن قبله ومعه شيلر.

الظاهراتية التي ينسب لها مصطلح الوعي القصدي إنما هو في حقيقته ينسب لفلاسفة الوجودية الذين هاجموا كوجيتو ديكارت معتبرين الوعي المجرد عن موضوعه المتعين لا يقود الى تحقيق انطولوجيا الوجود وكما يتصورون أن ديكارت أخطأ به خطأ جسيما حينما إعتبر مجرد التفكير يحقق الوجود الحقيقي للانسان.. الحقيقة أن ديكارت لم يخطيء بمقولته انا افكر اذن انا موجود. والسبب في عدم خطئه أن العقل لا يفكر بشيء ليس له معنى او دلالة معرفية. بعبارة اوضح انه بمجرد افتراضنا تفكير العقل فهو يحمل موضوع تفكيره معه كتحصيل حاصل لا يحتاج الاشارة له ولا البرهنة عليه. الشيء الآخر أن الوعي قصدي بالضرورة كونه نتاج عقلي لفهم وتفسير ومعرفة مدركات الاشياء. لا يوجد وعي قصدي وآخر وعي غير قصدي. الوعي قصدي بضرورة مايفكر به أي حضور موضوعه.

نعود الى إنكار شيلر مقولة كانط العاطفة لا قيمة ولا معنى لها هي فعلا مقولة خاطئة. ليس لأن ما يرغبه شيلر ومنهج الظاهراتية يؤكد على منهج الوجدانات الانفعالية النفسية في معرفتها ما يعجز عن ادراكه العقل حسيا ذهنيا.

بل اسقط بيد شيلر ادانته الخاطئة لما نسبه للفيلسوف الالماني لايبنتيز ان هذا الاخير توهم ان العاطفة صورة مختلفة من صور الحياة العقلية. وهي كذلك فعلا ولم يكن لايبنتيز متوهما ولا خاطئا. الغاء دور العقل من قبل منهج الظاهراتية الذي يقوم على المنهج السلوكي في مرجعية النفس له وليس العقل هو الخطأ الجسيم الذي وقع به شيلر واشياعه من فلاسفة الوعي القصدي الوجداني الانفعالي في منهجهم الفينامينالوجيا. لايمكننا إعتبار العاطفة هي افصاح نفسي لا تربطها بالعقل الشعوري واللاشعوري رابطة.

كانط حين تصوّر العاطفة لا تربطها رابطة عقلية مباشرة مبررا على انها ليست موضوعا إدراكيا وقع بخطأ قوله أن العاطفة لاقيمة ولا معنى لها. الرابطة العقلية للعاطفة هي إحدى إفصاحات الماهية بمعنى القيم التي لا يدركها العقل بمباشرة كموضوع.

لو جاز لنا التعميم لنقول وبلا حذر أن ما يرتبط بعلم النفس السلوكي هي تجليّات لا يدركها العقل كموضوعات ومن جملتها العاطفة. من الخطأ الجسيم سحب امكانية استقلالية العاطفة عن العقل مثلما نتصور خطأ آخر أقبح منه قولنا أن موضوعات الخيال لا تخضع لرقابة وسطوة العقل بل لحضور وليس رقابة اللاشعور.موضوعات الخيال هي لغة العقل كما هي موضوعات عالمنا الواقعي الخارجي أنه لغة تمثّل تجريدي لموضوع تصنعه المخيّلة.

فرويد لم ينكر فاعلية العقل على اللاشعور في حال اليقظة بل أنكر فاعلية العقل السيطرة الانتظامية على تداعيات اللاشعور غير الانتظامية اثناء النوم فقط. ولهذا اطلق مقولته الشهيرة اللاشعور لا يحتاج الزمن والسبب ان العقل لا يعامل مدركاته في حالتي الشعور واللاشعور بنظامية لا يحضرها الزمن. كل فعالية ادراكية تكون لامعنى لها في غياب حضور الزمن والعقل.اللاشعور هو تغييب اولوية العقل على العاطفة  ولا اقصد بالعاطفة هنا هي القيم السلوكية التي مرجعيتها النفس.

ايضا الفيلسوف الشهير جاستون باشلار في نظريته عن جمالية المكان إعتبر العاطفة النفسية في الحنين للماضي المكاني هي موضوع ادراكي نفسي- عقلي مزدوج. وتعامل باشلار مع الاستذكار للماضي من جنبة حضور المكان الزماني على انه موضوع للعقل. بينما الذاكرة بكل حمولاتها ومعانيها الافصاحية الاستذكارية ليست موضوعا مستقلا للعقل. وانما الذاكرة هي احدى حلقات منظومة العقل الادراكية شأنها شأن الوعي مثلا.. كلاهما لا يمتلكان الاستقلالية المعرفية والبايولوجية انهما موضوعين مستقلين للعقل.

لكي يفحم شيلر مقولة كانط العاطفة لا قيمة ولا معنى لها لجأ الى (الوعي القصدي) وهو إقحام مفبرك إعتسافيا من قبل شيلر محاولته إيقاف مقولة كانط على قدميها. هل فات على شيلر أن الوعي القصدي سميّ قصديا لأنه يرتبط بتحقيق هدف معين موجود بموضوع يصله الوعي؟ الوعي القصدي الصادر عن العقل يكون حمولة تحقيق هدفه معه وملازمة له. اما الوعي القصدي الذي يمكن تصوره اعتسافا هو نتاج عاطفي نفسي انفعالي مجردا عن منظومة العقل الادراكية ويكون وعيا لا قصديا ولا معنى حقيقي يمثله. لا يوجد وعي قصدي بلا موضوع وهذا ماتؤكده الظاهراتية في ادانتها لديكارت. والموضوع لا ينفصل ابدا عن الذات المدركة. لا يمكننا تصور ذاتا متحققة الوجود الانطولوجي ما لم تحقق هذه الذاتية ذاتيتها الحضورية الوجودية  بالمغايرة الادراكية مع موضوعها. الذات بلا موضوع هي تخييل تعجيزي لقدرات العقل الادراكية. والوعي بلا حمولة وملازمة موضوعه يكون لا ادراك عقلي ولا معنى له ولا افتراض إمكانية وجود تحققه واقعيا. والموضوع بلا تخليق ذات تدركه وتعيه تبقى اهميته في وجوده المستقل الذي لا يهتم الادراك الحسي والعقلي به.

هنا يكون الاحراج الفلسفي فالعاطفة يحركها الوعي القصدي وهو شيء نعتبره سليما واقعا لكنها بالحقيقة هي غير ذلك. الوعي القصدي لا يكون فاعلا ما لم يستمد مرجعيته من واقعية وصرامة العقل وهو ماتنكره الظاهراتية في اعتمادها ما اسمته الوعي الخالص الانفعالي الوجداني.. السلوك الذي مبعثه النفس والعاطفة دونما افتراض وصاية العقل عليه يكون تصرفا لا قيمة ولا معنى له بالحياة. لا يوجد افصاح للعاطفة بمعزل عن مرجعية السلوك النفسي تحت وصاية العقل.

ثم مصطلح الوعي الخالص وهو احد مقولات هوسرل الفضفاضة التي يعجز البرهنة الفلسفية عليها هو مصطلح انا اجده طوباويا لا معنى حقيقي له. وأعتقد ولست متاكدا مما اقوله أن سارتر إعتبر الوعي الخالص خرافة فلسفية. لا أعرف معيارية تحقق الوعي الخالص بماذا؟ أفهم يوجد وعي فقط مصدره العقل هو وسيلة العقل المعرفية وليس الادراكية فقط التي هي خاصية الحواس في فهمه وتفسيره لموجودات عالمنا الذي نعيشه.

للموضوع صلة

***

علي محمد اليوسف 

 

يذهب هوسرل صاحب المنهج الظاهراتي (الفينامينالوجيا) وفي سبق لشيلر له إلى أن استخدام المنهج الحدسي الانفعالي الوجداني النفسي الذي يعنى بمعرفة (الماهيات) المقصود بالماهيات هنا ليس جواهر الاشياء وانما الماهيات هنا هي (القيم) الوجدانية النفسية التي يجسدها السلوك القصدي بالحياة. وتشمل ابعادا فلسفية تتجاوز مبحث الاخلاق والعاطفة.

الماهيات بمعنى القيم الانسانية التي مصدرها العاطفة والنفس وليس بمعنى جواهر الاشياء التي لا يدركها العقل المباشر كموضوعات له كذلك هي الماهيات التي هي جواهر الاشياء ايضا لا تكون موضوعات ادراكية يعيها العقل. ومن المهم جدا هنا الانتباه الى التفريق بين الماهية التي هي سلوك وجداني انفعالي نفسي من جهة وهذا ما يعنى بدراسته هوسرل وبين الماهية الجوهر في الاشياء المحتجب خلف الصفات الخارجية لذلك الشيء الذي تقود محاولات العقل فهمه وادراكه الى منهج الميتافيزيقا في تغليب تفكير العواطف والوجدانات القلبية الروحانية على تفكير العقل المنضبط بالصرامة المادية..

الامر المهم الذي يجب الاشارة له ان الماهية سواء اكانت جوهرا في الاشياء يحتجب خلف الصفات الخارجية لها او الماهية التي هي القيم السلوكية الانفعالية التي يمارسها الفرد بالحياة فكلاهما بالعرف والمنهج الفلسفي لا يشكلان موضوعين مستقلين لادراك العقل المعرفي لهما. ولكي يكون الموضوع مدركا عقليا يتوجب توفرالاستقلالية فيه وليس شرطا الاستقلالية المحددة بابعاد المادة . فالخيال يصنع موضوعات ادراكية للعقل ليست متعينة بابعاد مادية يدركها الحس. وفي كلتا الحالتين فان ادراك العقل لموضوعاته انما هي تجريد لغوي. وفي هذا المعنى تصبح مقولة الفيلسوف الامريكي سيلارز الوجود لغة صائبة تماما.

وبناءا عليه اذا كانت الماهية جوهرا في الاشياء او كانت الماهية قيمة وجدانية فكلتاهما ليستا موضوعين لادراك العقل. اذن مالفرق بينهما منهجيا؟ الفرق المنهجي بينهما هو ليس في اختلاف منهج الاستدلال المعرفي لهما وانما الاختلاف يكمن في عجز الادراك العقلي في فهمهما فهما مباشرا واقعيا أوالوعي المتخارج عقليا معهما.

محاولة معرفة ماهيات الاشياء كجواهر تحتجب خلف الصفات الخارجية لها تقود حتما المنهج الفلسفي الذي يتبعه الفيلسوف الى السقوط في براثن الميتافيزيقا التي يعتبرها كانط وفلاسفة الماركسية والوجودية مسعى عبثي لا جدوى منه. 

في اختلاف منهجي ومعرفي حين تكون الماهيات هي القيم الوجدانية الانفعالية والنفسية السلوكية في الفلسفة الظاهراتية لدى هوسرل واشياعه فان المنهج المعرفي يكون هو (الحدس). ماهية الشيء كجوهر كما مر بنا هي الخاصية المتفردة لذلك الشيء التي تحجبها الصفات الخارجية. وهناك من الفلاسفة مثل بيركلي وهيوم يرون ان الشيء بذاته كينونة موحدة لا انفصال فيها بين جوهردفين وصفات بائنة وانما ادراكها يكون في ادراك الكلية الموجودية لها كينونة مستقلة استقلالية تامة عن رغائب الانسان. ويستشهدون على ذلك باننا ندرك الصفات الخارجية للحيوان انها هي ادراكنا ماهيته الحقيقية ولا يوجد فرق بين جوهرالحيوان وصفاته الخارجية خارج ادراكنا الكينونة الموجودية للحيوان كائنا حيّا في الطبيعة.

اذن الماهية او الجوهر حتى عند الانسان ليست موضوعا لادراك عقلي من قبل غيره لا حسيا ولا وعيا بها.. اما اذا كانت الماهية حسب منهج الظاهراتية لدى هوسرل وشيلر على سبيل المثال فهي (القيم) الوجدانية الانفعالية النفسية التي نعيها حدسا عقليا. غير مباشر ولا منظور كموضوع يدركه العقل كمثل ادراكه موجودات عالمنا الخارجي المادية والخيالية في تعبير تجريد اللغة الافصاح عنها.

شيلر الذي لا تتقاطع فلسفته لا مع هوسرل ولا مع دلتاي يعترف بأن الماهية التي تختلف عن الجوهر الثابت بالاشياء في حال تاكيد وجوده التموضعي التكويني فيها فهي ايضا لا يدركها العقل المباشركموضوع. وانما ندركها حدسا انفعاليا ناتجا عن سلوك نفسي قصدي بالحياة كما تذهب له الظاهراتية.

الشيء الذي نراه مهما هو الاختلاف بين الماهيات المحتجبة خلف الصفات الخارجية للاشياء انها محكومة بالثبات اللامتغير. باستثناء تاثير عوامل خارجية موضوعية تؤثر بالصفات الخارجية التي بدورها تؤثر بالماهيات الداخلية نسبيا. تاثيرات العوامل الموضوعية الخارجية المؤثرة في الصفات الخارجية لموجودات عالمنا الخارجي انما تكون (ظرفية) بمعنى زائلة التاثير الدائم بالصفات الخارجية.

انه لمن المهم الاشارة الى ان فلسفة سارتر حول ماهية الانسان انه يعتبرها عملية تصنيع الانسان لذاته بتاثير المورثات الجينية من جهة ومؤثرات البيئة والمحيط وسلوك الانسان بالحياة من جهة ثانية. يمكننا هنا التساؤل هل ماهية الانسان التصنيعية ذاتيا تكون موضوعا ادراكيا للعقل؟ الجواب من المحال ان تكون ماهية الانسان مدركة من غيره بل منه هو صانعها فقط. بتعبير آخر وعي الانسان لذاته هو وعيه لماهيته أي لجوهره.

اود هنا الاشارة الى مقولة سارتر (جوهر الانسان انه بلا جوهر) صحيحة جدا رغم ما تحمله من التباس معرفي فلسفي في تاكيد ان جوهر الانسان هو تصنيع ذاتي يماشي عمر الانسان بتخارج جدلي بينه وبين مجتمعه ومحيطه.. لذا نجد الطفل يجيء الحياة وهو خال من الجوهر لا يعي اهمية تصنيع ذاته المفروضة عليه قسرا  مكتسبا من العائلة والمحيط وغير ذلك. ما عدا المورثات الجينية الفطرية التي هي الصفات الخارجية له مثل شكل الوجه ولون العينين وشعره وطوله وغير ذلك التي بمجموعها صفات خارجية ليس لها علاقة تخارجية مع تصنيع الانسان لماهيته الذاتية المتفردة. لذا لا تشكل مجمل الصفات الخارجية للانسان ماهيته بخلاف الحيوان الذي صفاته الخارجية هي ماهيته كونه لا يعي مثل الانسان اهمية تصنيع ماهيته كما يفعل الانسان طوال سني عمره. بل تبقى  صفات الانسان الخارجية نسبية التاثير في تصنيعه لماهيته او لجوهره فلا فرق بين اللفظتين...

الماهية والكينونة الشيئية

كينونة الاشياء التي تتكون من الصفات الخارجية والمضمون بمعنى الجوهر او الماهية في حال اثبات انفصالهما الاستقلالي ضمن الكينونة الموحدة للشيء يكون تاثير العوامل الظرفية الخارجية هامشيا في وجود الجوهر الدفين بالقياس الى مؤثرات العقل في تناوله معرفة الاشياء والوعي بها.

واطلق كانط على المؤثرات العقلية بالاشياء والموجودات مصطلح (مقولات العقل) واجملها باثنتي عشرة مقولة هي تمثّل رد فعل العقل التخليقي في مدركاته. وهذه المقولات العقلية بحسب اجتهادنا انما هي المقولات التي يصدرها العقل في معالجته وعي الاشياء معرفيا والتاثير التغييري بها في تخارج معرفي وليس في تاثير جدلي. من المهم التفريق بين التخليق العقلي بمعنى تغيير مدركات وعي العقل وبين السطحية المثالية التي تذهب بان الافكار هي التي تخلق الموجودات المادية. إن من المهم تاكيد أن العقل جوهر خالد ماهيته التفكير المعرفي المجرد بحسب تعبير ديكارت. بمعنى وظيفة العقل في علاقته وعي الاشياء هي تخليق فكري لا يمتلك الوسائل المادية في خلق موجودات عالمنا بالفكر.

فرق التخارج المعرفي مع الاشياء التي يدركها كلا من الحس والعقل انها تمثل تراكم الخبرة العقلية في التاثير المباشر بالاشياء من اجل هدف قصدي فالعقل لايعقل ما لا قيمة ولا معنى له.

اما الجدل الديالكتيكي فهو ظاهرة طبيعية يحكمها التضاد في المادة والتاريخ وليس التكامل المعرفي في عملية التخارج غير المنظورالمؤثر في تطور الاشياء. ويحصل الجدل نتيجة توافر عوامل موضوعية لا دخل لعقل الانسان ولا لرغائبه تاثير مباشر في استمرارية استحداث الظواهر والتكوينات الجديدة المخلية بالتضاد الظواهر التي استنفدت نفسها وحضورها.

ظاهرة الديالكتيك التي تحكم (احيانا) واؤكد على احيان بعض الجوانب المادية في حياتنا وفي التاريخ ايضا تصنع المستحدث الجديد بما يعجز عنه الوعي وتعبير اللغة كوسيلتي تجريد العقل خلقهما.

اما اذا اخذنا (الماهيات) على انها القيم الوجدانية الانفعالية التي يرافقها السلوك القصدي فنجدها رغم عدم امكانية ان تكون موضوعات مباشرة لادراكات العقل الا اننا يمكننا معرفتها ومعرفة تاثيرها بواسطة منهج الحدس حسب نظرية فينامينالوجيا هوسرل. الحدس العقلي هو المعرفة القبلية الاستباقية التي لا يلازمها منطق التجريب التطبيقي كما هي خاصية العقل في وعيه لمدركاته.

الظاهراتية الهوسلرية والماهية

شعار فينامينولوجيا هوسرل هو التوجه الى الاشياء في ذاتها من خلال الوعي الخالص. وبما ان هدف الظاهراتية لدى فلاسفة الفينومينولوجيا يتقدمهم هوسرل هو الوصول الى الماهيات فقد انتهج هوسرل ما سمي (الايبوخية) اي تعليق الحكم. كما وضع العالم المكاني – الزماني بين قوسين. وعدم اتخاذ الاعتقاد الطبيعي لهذا العالم والتوقف عن اتخاذ اي موقف اثبات او نفي ازاء وجود الموضوعات.(نقلا عن ويكيبيديا الموسوعة.)

الوضعية التي تسلم بوجود حقائق موضوعية مستقلة عن الوعي الفردي وتاشير الفينامينالوجيا المغلوط تجاهها يؤكد ما تريد نفيه الظاهراتية في وجود حقائق مستقلة عن الوعي الفردي  والمقصود بتلك الحقائق هو (الماهيات) غير المتاح لنا ادراكها مستقلة منفردة كموضوعات.

ولكي تتوخى الوضعية الانزلاق نحو الميتافيزيقا في معالجتها الماهيات انكرت ان تكون تلك الحقائق التي نادت بها المنطقية تقع تحت هيمنة وسطوة الوعي الفردي المعرفي. وهو ما سبق وقال به كانط ومن بعده فلاسفة الوجودية الذين كانت مواقفهم متذبذبة بين الوعي القصدي الذي يعالج مواضيعا ادراكية. وبين الظاهراتية التي تنادي معالجتها الواقع وهي بالحقيقة تجنح نحو منهج الميتافيزيقا. هيدجر وسارتر المتاثران بهوسرل وقعا بهذا الفخ.

 الظاهراتية التي اخذت عن كانط واسبينوزا ان الاشياء كينونة موجودية تتكون من عرض هو الصفات وجوهر هو الماهيات التي لا يدركها الوعي الفردي. كما تؤكد الظاهراتية على اهمية ما تسميه (خبرة الوعي) الذي يمثل خبرته بالاشياء وخبرته بذاته. الوعي ليس منهجا ادراكيا مستقلا عن العقل في محاولته كشفه الماهيات. وعجز الوعي مستمد من مرجعية عجز العقل له في محدودية هذا الاخير ادراكه الماهيات. وهو ما كان ذهب له كانط.

 وللخلاص من هذا المازق التعجيزي في مبحث المعرفة نادت الماركسية بعبث الركض وراء معرفة الماهيات التي تقود الى نفق الميتافيزيقا. وخبرة الوعي بالاشياء الذي ابتدعته الظاهراتية ليست خبرة منعزلة عن الوقوف ومعرفة بماذا يستطيع العقل التفكير به وبماذا يعجز العقل ادراكه. ولا يمتلك الوعي خاصية مستقلة عن العقل تجعله يستطيع تمثيل خبرته بالاشياء وخبرته بذاته. الوعي ليس ذاكرة تخزين الخبرات التي اكتسبها العقل ليدفنها الذهن بمخزن الذاكرة التراكمي.

***

علي محمد اليوسف

التراث هو تلك الثروة الفكريّة والماديّة الكبيرة التي اكتسبتها أمّة ما، وحققت عبر تاريخها الطويل، حالات من التمايز تختلف عن بقية الأمم. أما مضامين هذه الثروة فهي مجموع الفنون والمأثورات الشعبيّة الأدبيّة منها والفنيّة والفلكلوريّة ومن شعر وغناء وموسيقى ومعتقدات شّعبية وقصص وحكايات وأمثال تجري على ألسنة العامة من الناس، وعادات الزواج والمناسبات المختلفة وما تتضمنه من طرق موروثة في الأداء والأشكال، ومن ألوان الرقص والألعاب والمهارات. يضاف إليها ما تركته هذه الآمّة من تراث فكري وعقيدي ومن أوابد معماريّة ووسائل إنتاج وأدوات أخرى استخدمت في النشاط الحياتي لهذه الأمّة. وللتراث الفكريّ مستوياته وأقسامه المعرفيّة التي اختزلها أو نمذجها "محمد عابد الجابري" في كتابه (بنية العقل العربيّ)، في أربعة أنساق فكريّة، وهو محق في ذلك برأيي، حيث استطاع نمذجة هذا العقل نظريّا، ما بين عقل بياني، وآخر عرفاني، وآخر برهانيّ، وأخيراً عقل سياسي. وإذا كان العقل البيان قد تركز في اللغة وما تتضمنه من تشبيه واستعارة وتمثيل ونحو وغيرها، ثم دور هذه اللغة بكل مفرداتها في الاشتغال على ظاهر النص المقدس تأويلاً وتفسيراً وفقهاً وغير ذلك، فإن العقل العرفانيّ، هو العقل الذي اشتغل عليه المتصوفة والشيعة في قراءتهم وتأويلهم للنص المقدس (القرآن) ذاته، والبحث في مضامينه عن كل ما يمنحهم القدرة والثقة على التأويل والتفرد في فهم النص، انطلاقاً مواقف فكريّة وجوديّة مثاليّة من الأرض والسماء معاً، وأهم ما في  المواقف الصوفيّة الوجوديّة على سبيل المثال لا الحصر هو أكراه المتصوف لجسده واقصائه عن عالمه الماديّ، أي الحياتيّ، ليتفرغ للروح وتنقيتها من أوساخ الواقع المعيش، والارتقاء بها إلى مصاف المطلق (الله)، هذا الارتقاء الذي وصل عند كبار شيوخ المتصوفة إلى الاتحاد أو التوحد مع الله، كما فعل الحلاج والسهروردي والبسطامي وذو النون، ولكن مشكلة هؤلاء المتصوفة العرفانيين الكبار من الناحية الاجتماعيّة والسياسيّة أنهم كانوا مع الفقراء، وهذا ما جعل السلطات الحاكمة ومشايخها يلاحقونهم وينكلون بهم تحت ذريعة الانحراف العقيديّ والخروج عن الملّة والزندقة. أما العقل البرهانيّ فهو العقل الذي اشتغل على العقل النقدي ودوره ومكانته في حياة الإنسان، هذا العقل الذي تجسد دوره في التراث العربيّ الإسلاميّ أيضاً في العمل على إعادة قراءة وتأويل النص المقدس، ولكن من خارج عالم الخيال والأسطورة والكرامة الذي اشتغل عليه المتصوفة. لقد تأثر هذا العقل في سياقه العام بالفكر الفلسفيّ اليونانيّ (المنطق الأرسطيّ) بشكل خاص، أي بأساليب قياسه واستنتاجاته واستقرائه واستدلاله وأحكامه المنطقيّة، فظهر من خلال التعامل مع هذا العقل البرهانيّ، مجموعة من المفكرين والفلاسفة الإسلاميين الذين كان العقل النقديّ منهجاً لهم في التعامل مع واقعهم المعيش أولاً، ومع تفسير النص المقدس وتأويله وفقاً لمصالح الناس وليس لمصالح الحكام، الأمر الذي جعل الحكام ومشايخهم يقفون لهم بالمرصاد دائماً، حيث عملوا على حرق كتبهم واقصائهم وطردهم من الحياة الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة، ولم يتوانوا حتى في قتل بعضهم، فالذي جرى لغيلان الدمشقي ولابن المقفع وابن رشد في العصور الوسطى على سبيل المثال لا الحصر، جرى لطه حسين وعلى عبد الرازق ولفرج فوده ولحامد أبي زيد وجلال العظم في تاريخنا الحديث والمعاصر. أما العقل السياسي فقد تركز على مفهوم الخلافة وصفات وسمات الحاكم الأخلاقيّة والجسديّة، وكذلك التركيز على كيفيّة وصول الحاكم إلى السلطة وما هو موقف الرعيّة منه، وضرورة طاعته وغير ذلك، ومن الذين اشتغلوا على ذلك "الماوردي" في كتابه (الأحكام السلطانيّة)، و"بدر الدين بن جماعة" في كتابه (تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام). و"ابو يعلى الفراء" في كتابه (الأحكام السلطانيّة).

هذا وعلينا أن نشير إلى أن العقل البرهانيّ لم يقتصر اشتغاله على قضايا النص المقدس فحسب كما بينا أعلاه، وإنما اشتغل أيضاً على قضايا علميّة وانتربولوجيّة، كما اشتغل على علوم تتعلق بالكيمياء والفيزياء والبصريات والرياضيات والطب والزراعة والاقتصاد وعلم الاجتماع والفلسفة وغير ذلك، ولكن السلطات الحاكمة ومشايخها من الذين انكروا هذه العلوم التي تقوم على تسخير العقل في المعرفة، حاربوا هؤلاء الفلاسفة والعلماء كما أشرنا قبل قليل.

هذه هي بنية العقل العربيّ، التي خيم عليها العقل البيانيّ والعرفانيّ والجبريّ منذ مئات السنين حتى تاريخ، هذه البنية الفكريّة المفوّته حضاريّاً، لم تزل تخلق في عالمنا العربي المعاصر (أسرى الوهم)، هذا الوهم الذي تحول بدوره بفعل القوى السياسيّة الحاكمة المستبدة ومشايخها وبعض تيارات الإسلام السياسي صاحبة مشروع الحاكميّة إلى ايديولوجيا، راحت تُفرض فكريّاً وسلوكيّاً على المواطنين من قبل سدنة المعبد والحقيقة المطلقة ومستلبي السلطة.

إذن إن "أسرى الوهم"، أي أسرى من سخروا الأيديولوجيا الدينيّة المغلقة، مِنْ مشايخ السلطان ومِنْ مَنْ امتلكتهم شهوة السلطة من الحكام المستبدين، لمسح عقول الرعيّة وأسرها وتعبئتها بمفاهيم دينيّة وشروحاتها وطقوسها ورموزها، ووعودها بتعويضهم بالفردوس عن ما عانوه ويعانوه من حرمان في واقهم المعيش، هذا الفردوس الذي سيجدون فيه ما يشتهون من خمر ولبن وعسل وحور العين وسندس واستبرق وقصور فارهة تجري من تحتها الأنهار، الأمر الذي جعلهم يدورون في فلك الماضي، بحثاً عن معرفة طريق الوصول إلى هذا الفردوس الذي وصفته لهم الكتب الدينيّة وعقائدها وشروحاتها كما قدمها قدمها مشايخ وفقهاء العصور الوسطى. فأسرى الوهم لم يعد لديهم حاضر يعيشونه ويعملون على تطويره وتنميته وتحقيق جنة الأرض عليه، وإنما ربطوا حياتهم كلها في المستقبل، أي في جنة السماء، حيث اُعتبرت حياة الحاضر عندهم دار رذيلة وشقاء وفساد يجب أن تهمل أو تترك، والعمل فقط من أجل المستقبل المفتوح على المطلق، بدل من تغيير واقعهم الفاسد الذي أفسدوه هم أنفسهم بما كسبت أيديهم. وهم بسلوكهم وتفكيرهم الانهزامي هنا، قد ابتعدوا حقيقة عن مقاصد الدين الأساسيّة التي تركز على الأرض وإعمارها، والعيش على هذه الحياة بسعادة كما يريدها النص المقدس ذاته، وهذا ما سيوصلهم إلى المستقبل المنشود بأمان إذا أرادوا.

ملاك القول في هذا الاتجاه هو أن أسرى الوهم الدينيّ يعيشون حياتهم محاصرين بماضٍ يعتقدون أن فيه يوجد طريق الخلاص الأبديّ، ولا بد من العودة إليه دائماً وتمثله فكراً وسلوكاً، وبحاضرٍ يتطلب منهم رفضه أيضاً رغبة في تحقيق ما وعدهم به هذا الماضي نفسه في المستقبل. هذا الماضي الذي أصبح بالضرورة المنطلق الوجوديّ والمعرفيّ المقدس لهم، وكل محاولة للخروج منه أو عليه حباً بالحاضر الفاسد، هو تحدٍ لهذا المقدس وما يمثله، وهذا التحدي سيُدخل صاحبه في خانة الردّة والكفر والزندقة والالحاد وبالتالي البدعة التي ستحرمه من جنان الخلد لاحقاً، كما علمهم مَنْ جعلوا أنفسهم أوصياء الله على هذه الأرض، وهم بعض مشايخ الدين، أو ما نسميهم بسدنة الحقيقة المطلقة كما أشرنا في موقع سابق، هؤلاء الذين راحوا يمارسون قمعهم الوعظيّ على المتدينين حتى لا يخرجوا عن عالم ما رسمه لهم من فسروا الدين وأولوه من تجار الدين خدمة لهم ولأسيادهم، تارة بالترهيب، كعذاب القبر وعذاب جهنم بكل ما فيها من وسائل التنكيل، كالتعذيب بالنار والزمهرير والحديد.. الخ. أو بالترغيب، كوعدهم بجنة تجري من تحتها الأنهار، فيها كل ما تشتهيه النفس الإنسانيّة وفي مقدمتها حور العين والخمر كما بينا قبل قليل.

على العموم: إن ثقافتنا في سياقها العام لم تزل ثقافة شفويّة،   وهي في أس جذرها وأصولها وامتدادها، ثقافة الأجداد (الأسلاف) الذين لم يتركوا شيئاً للأخلاف إلا وقالوا به، وحددوا الحلال فيه والحرام، أو الصح والخطأ، ومارسوا جرحهم وتعديلهم على نمط شخصياتهم السلبيّة منها والايجابيّة فكراً وممارسة، ليس لعصرهم فحسب، بل ولكل العصور اللاحقة، أي اعتبار ما قالوا به ومارسوه هو المنطلق الوجوديّ والمعرفيّ لكل ما هو تال.

أمام هذا العقل العربيّ، وثقافته الشفويّة المفوّته حضاريّاً والرافضة بإصرار لكل ما يمت إلى الحداثة عدا حداثة الترفيه وإشباع الغرائز، يأتي السؤال المشروع هنا وهو: أي ثقافة نستهدف، وعلى أي ثقافة نتكئ.؟

نحن اليوم أمام كل حالات التخلف التي نعيشها وخاصة التخلف الفكريّ المشبع بالهجانة والنقل، والبعيد إلى حد بعيد عن معظم مناهج التفكير والبحث العقلانيّ المعاصر، الأمر الذي يفرض علينا بالضرورة أن نبحث في عالمنا العربي عن القوى الاجتماعيّة المنسجمة مع ذاتها فكراً وممارسة..عن قوى اجتماعيّة مؤمنة بأوطانها وبالمواطنة ذاتها، قادرة على رسم الحلول العقلانيّة لتجاوز مأزق واقعنا المتخلف من خلال الوقوف بحزم أمام المرجعيات التقليديّة من عشيرة وقبيلة وطائفة ومذهب لم تزل تسيطر على خطابنا السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ.. قوى اجتماعيّة مؤمنه بالفكر العقلانيّ التنويريّ الذي يحترم الإنسان وعقله وحريّة إرادته، وأنه هو سيد قدره، والمؤمنة بالدولة المدنيّة القائمة على المؤسسات والقانون والتعدديّة. ربما ما أقوله هنا يشكل وصفة سحريّة عند من سيقرأها، وهذه حقيقة نعيشها تحت مظلة التخلف والاستبداد الذي نحن فيه، ولكن لا بد من الاشارة إلى الحلول، لعل من هم في موقع السلطة اليوم يحسون بآلام شعوبهم ومعاناتهم بالبحث عن هذه القوى التنويرية، وهي موجودة في مجتمعاتنا العربيّة، بدلاً من احتضان المطبلين والمزمرين الذين أوصلوا البلاد والعباد إلى حافة الانهيار. ولقد صدق الخليفة عثمان بن عفان عندما قال: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع في القرآن). ففي حالات التخلف الذي تعيشه المجتمعات، يعوّل كثيراً على السياسة في تحقيق تجاوز هذا التخلف، وهناك تجارب عديدة مرت بها بعض الشعوب عندما توفر لها حكام شرفاء يومنون بشعوبهم ومستقبل بلادهم ورقيها.

***

د. عدنان عويّد

.....................

كاتب وباحث من سوريّة

 

ـ "ما يجعل المشكلة أسوأ هو أننا قلما ندرك أننا داخل منزل من المرايا، وهذا الانعزال يجعلنا أكثر جهلا. فنحن نفشل في تقدير وجهة نظر الطرف الآخر. وفي المناسبات الناذرة التي نسمع فيها ما لدى الخصوم، يبدون جاهلين، لأنهم يفشلون في فهم وجهة نظرنا. إنهم يصفوننا بشكل مبسط، دون أي تقدير للتفاصيل الدقيقة وعمق موقفنا". (س سلومان/ ف فيرنباخ)1.

من البدهي أن تصير النظرية الإعلامية المعاصرة، في انصرافها إلى تمثل مناهج التحديث الجديدة الداعية إلى الملاحقة والتطوير وتأويل الحدث، أن تتعبأ معرفيا ونفسيا بنظرية بايز الشهيرة، التي ترتجع احتمالاتها السابقة، في ضوء الأدلة المنظورة، مما يدفع إلى تشكل احتمالات لاحقة. وهو ما يؤشر لتوفر طريقة منهجية لتحديث هذه الاحتمالات، مما يضمن بقاءا تفكيريا متسقاً ومنطقياً.

ـ الإعلام كقيمة استدلالية

تلتقي نظرية بايز المذكورة، بالطفرة التكنولوجية الإعلامية الراهنة، التي تتماشى وانتهاج المسار الإحصائي الذي يتضمن تحديث الاحتمالات بناءً على البيانات المرصودة. ومن خلال دمج المعرفة السابقة والأدلة الجديدة، حيث يمكّننا الاستدلال البايزي (الإعلامي تحديدا) من اتخاذ قرارات وتنبؤات أكثر استنارة.

التفكير بهذه الثنائية المتشابكة، يحيلنا إلى حاجتنا الملحة، لإعلام يحتذي لبيانات أكثر تجسيدا لإرادة التغيير، بما هو علامة واعية بالتنشئة الاجتماعية التي توفر هامشا من الاستقبال الفردي والجماعي للمحتوى والسلوك المحفوف بالمخاطر؟.

لقد دعت ديفينا فراو ميغس، وهي أستاذة بجامعة باريس الثالثة في علوم الإعلام والاتصال وفي اللغات والآداب الإنجليزية والأنجلوسكسونية، إلى إعادة النظر في الإنتاج الثقافي الإعلامي في ضوء الأسس العصبية للسلوكيات الاجتماعية (2)، وهو ينطوي في نظرها، على تطوير رؤية تكاملية حيث تؤثر الآليات المعرفية والعوامل الاجتماعية على بعضها البعض بشكل متبادل. حيث إنه ينطوي على تصور للطبيعة البشرية باعتبارها اجتماعية في جوهرها لأن "رفاهيتنا" بنظرها تعتمد على تفاعلاتنا مع الآخرين.

هذا الإدراك الحاصل في بنية تلقينا للإعلام كنتاج سلوكي واجتماعي، يقدم صورا مشهدية مغايرة للوظائف التقليدية التي انبنت عليها الطفرات الإعلامية عبر ثلاثة عقود على الأقل. إذ كانت تؤسس وجودها الاعتباري، في بدايات القرن الذي ودعناه، على أنماط لا تحقق فيها المعارف اللازمة، بعد أن تم تكريس مفاهيم مضادة أو نقيضة للأخلاقيات الصحافية، وما إليها من قيم النشر والإتقان وأنساق المعنى الموازية. وسرعان ما زكت ماكينات الإعلام الجديد ، بسلطها الرمزية وتداخلات ثخومها وأحوالها، في بنى المجتمع والإنسان. ما أهلها للعب أدوار بديلة، تتربع على أعرش السبق والانتشار الواسع، مع الكثير من إهدار أدوات العسف والتنطع والانبهار الزائف.

وأسقطت البروبغندا العصرية المتنطعة، آخر قلاع القيم المؤسسة، فبدا الوعي بالنصوص والصور المتحركة وباقي أنماط وقياسات الإعلام الأخرى، كأنها تنافس على تشكيل مخزون مجافي لتمظهرات الوعي الحقيقي بهذا المنظور الهش والمتآكل؟.

ـ خوارزمية افتراضية هجينة

وفي حدود هذه النمذجة المتشاكلة والمبهورة بنرجسيات الصرعة التكنولوجية الجديدة، تظهر العديد من إواليات هذه الإحداثيات، كظهور الأجهزة والمنصات الجديدة، التي تمكن من التواصل والعمل بسلاسة أثناء عملية التلقي عن بعد أو أثناء السفر، في المنازل والمكاتب أو حتى الشارع العام، مع إمكانية الحصول على المعلومات وتشغيل الأشياء بجرة إصبع أو صوت أو حس. وهو ما يجعل صلب تأثير مجال الاتصالات، على وجه الخصوص، بشكل كبير بالوسائط الرقمية والتكنولوجيا، أمرا في غاية العجب والذهول.

وعند استشفاف وسائل وطرق تصريف هذه الخوارزمية التي غيرت بها الوسائط الرقمية الاتصالات، أحوالا وبدلت أزمنة ونهضت بأفكار ورؤى، نجد أن وسائل الإعلام الجديدة بالمقابل قد نسفت تماما متماثلاتها النصية بكل ما تعني الكلمة من معنى.

لقد خلقت التكنولوجيا الجديدة فرصًا جذابة، لرواد العالم الافتراضي، بمن فيهم المعلنين والمؤسسات الإعلامية للتواصل مع الجماهير، حيت اعتاد الناس على الاعتماد على الصحف والتلفزيون للحصول على المعلومات، وبأقل جهد أضحت  العديد من القنوات الفضائية والعوالم الافتراضية الاجتماعية من وسائل التواصل والبودكاسات وغيرها والمنافذ التي يمكن للأشخاص من خلالها استهلاك المحتوى، بما في ذلك مواقع الويب ومنصات الفيديو، تشكل بؤرا للتغيير في جوهر البنى الخلفية للتلقي، وتشاكس أكبر امتدادات التحيين والتوجيه والاسترشاد والمواكبة والمراقبة وإبداع الروابط وتفتيق أبعادها ومواعيدها، حتى أبلغت حدودها القصوى، المكامن العميقة لاستدعاء "التفكير" كتطور آني وخالص لدعم الأفعال المعقدة، اعتمادا على الفرد فقط، وبدون أي خلفيات. (3).

أما ما يعنينا في هذا الباب بالضبط، فيمكن استيعابه على درجة من التأمل والشك. إذ يبدو الوضع في مثل إعادة استهداف الإعلانات، التي تتبع مستخدمي الويب أثناء زيارتهم لمواقع مختلفة، وخلال تموقعنا الافتراضي، وفي مواجهتنا لسيول من المحتويات والصور والفيديوهات المبثوثة، كأننا نمخر في عباب كسيح ومعطل من الرسوبات الثقافية والإحالات والرموز المكسوة بعطور لا تدركها حدوس العقل وموجهاته.

وينطبق هذا الافتئات المروع لعوالمنا المشهودة، كما هو الشأن بالنسبة للإعلانات الأصلية، التي تشبه المحتوى التحريري في أحد المنشورات، حيث يدفع ثمنها أحد المعلنون المروجون لمنتجاتهم أو خدماتهم، ودون أن يكون للمبادر أو المبحر داخل هذه العملية أية علاقة تذكر.

محتوى مغاير: قوى تدميرية أخرى

منطقيا، وبأقل جهد من التفكير، سنصل لا محالة إلى فرضية اجتياح القوة التدميرية للذكاء الاصطناعي فضاء المعلومات، على نحو يعيد سؤال المعرفة بما سبق، وفي واجهة استقواء  السياسية والاقتصادية الشديدة في المعمور.

 ومن المرجح أن تكون العواقب المترتبة على موثوقية المعلومات واستدامة وسائل الإعلام الجديدة عميقة في زمن يشهد انقسامات واصطفافات حاسمة في ميسم القطبية الغربية والشرق أوسطية على الأرجح، مع استمرار الحروب وتقاطعاتها التكنولوجية والسباقية، وفي ظل هذه الخلفية - ومع توقعات تشير إلى أن الغالبية العظمى من محتوى الإنترنت سيتم إنتاجها صناعيًا ومستقبليات تكنولوجية عالية الدقة، ستحتاج العلوم الإعلامية والاتصالية، ومعها السوسيولوجيا المختصة، إلى إعادة التفكير في دورها وهدفها ببعض الإلحاح.

ولكن لن يقتصر الأمر على المحتوى الذي سيتم شحنه بشكل يثير أسئلة الاجتماع والاقتصاد والتفكير المؤسسي عامة، بل إن التوزيع إياه مهيأ أيضًا لاضطراب كبير. إذ سيكون هذا الوضع والسياق المضطرب والحتمي، الذي سيبدأ فيه طرح تجارب البحث التوليدية (SGE) عبر الإنترنت، جنبًا إلى جنب مع مجموعة من روبوتات الدردشة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي والتي ستوفر طريقة أسرع وأكثر سهولة للوصول إلى المعلومات. في أعقاب الانخفاضات الحادة في حركة الإحالة من Facebook وX (Twitter سابقًا، من المرجح أن تؤدي هذه التغييرات، بمرور الوقت، إلى تقليل تدفقات الجمهور إلى المواقع الإخبارية القائمة وتضع المزيد من الضغط على النتيجة النهائية. حيث إنه في اللحظات المتفائلة، التي يتطلع فيها الناشرون إلى عصر يمكنهم فيه كسر اعتمادهم على عدد قليل من منصات التكنولوجيا العملاقة وبناء علاقات مباشرة أوثق مع العملاء المخلصين. ولتحقيق هذه الغاية، يمكننا أن نتوقع من مالكي وسائل الإعلام بناء المزيد من الحواجز أمام المحتوى، بالإضافة إلى الاستعانة بخبراء مكلفين بحماية ملكيتهم الفكرية.

 وفي الوقت ذاته، سندرك أيضا أن هذه الاستراتيجيات تخاطر بوضع علاماتها التواصلية في حالة من العزلة والتعري، من خلال زيادة صعوبة الوصول إلى الرواد والمتحمسين لتغيير التواصل والامتداد والتفاعل، حيث يشعر الكثير منهم بالفعل بالارتياح تجاه الأخبار التي يتم إنشاؤها خوارزميًا ولديهم علاقات أضعف مع وسائل الإعلام التقليدية. لكنهم بالمقابل، سيرفضون بالتدريج عملية استعبادهم وتحفيزهم على الاستسلام وشح المبادرة والخروج عن سلطة الجماعة أو المجتمع.

***

د. مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

........................

هوامش:

ـ (1) " وهم المعرفة: لماذا لا نفكر بمفردنا أبدا؟" س سلومان و ف فيرنباخ ـ مبادرة ترجم السعودية، ط1 2022 ـ ص 192

ـ (2) Socialisation des jeunes et éducation aux médias . Divina Frau-Meigs . Divina Frau-Meigs . Éditeur : Érès. Année : 2011/ p. 128

ـ (3) "نظرية الفعل التواصلي: في نقد العقل الوظيفي" م 3 ـ يورغن هابرماس، ت فتحي المسكيني، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، ص 317

نبذة عن كتاب: جون ديوي1، الطبيعة البشرية والسلوك

بقلم: بول والتر2، في 15 أبريل

ترجمة: أ. مراد غريبي

***

يقوم الفيلسوف الأمريكي جون ديوي بتحديث مفهوم الطبيعة البشرية في كتاب لم يُنشر من قبل باللغة الفرنسية ويرسم كل العواقب على المستوى الأخلاقي والاجتماعي من أجل تبرير المفهوم التحسيني للتجربة.

انطلاقا من المحاضرات التي ألقاها في عام 1918 في جامعة ستانفورد حول موضوع "السلوك البشري والمصير"، والتي تمت إعادة صياغتها وتوسيعها بشكل كبير، يقدم هذا الكتاب من تأليف ديوي، الذي نشر في عام 1922 وترجم لأول مرة إلى الفرنسية، نظرة عامة منهجية على مفهومه عن علم النفس والسلوك البشري بالإضافة إلى آثاره الأخلاقية والسياسية. طموح علم النفس الاجتماعي المفصل في الطبيعة البشرية والسلوك ذو شقين. يتمثل التحدي الأول، من خلال فحص نقدي لمفهوم الطبيعة البشرية، في تسليط الضوء على العلاقات الديناميكية والعلائقية التي تشكل وتفسر السلوك البشري، بينما يستخلص التحدي الثاني جميع العواقب المتعلقة بضرورة وإمكانية التقدم الأخلاقي والتحسين التدريجي في الظروف المعيشية للأفراد.

إعادة النظر في الطبيعة البشرية: العادات والدوافع

بين مقاربة "تؤكد على الطبيعة البشرية الأصلية والذاتية" وأخرى "تعتمد على تأثير البيئة الاجتماعية" (ص 11) لشرح السلوك البشري، يجب على علم النفس، وفقا لديوي، فتح مسار، بعيدا عن معارضة الفرد والمجتمع في انقسام عقيم، على العكس من ذلك يسعى إلى فهم كليهما من خلال تفاعلاتهما. إن طموح الفصلين الأولين، المكرسين على التوالي لدراسة العادات والدوافع، هو تفسير هذه الديناميكية بين، من ناحية، القوة المحددة للظروف البيئية الاجتماعية على القيادة من خلال اكتساب العادات، ومن ناحية أخرى، التعبير عن الميول الفطرية والعفوية، المشار إليها باسم الدوافع. يسعى ديوي جاهدا لإظهار أن الطبيعة البشرية ليست بأي حال من الأحوال حقيقة ثابتة أو حتى وهما، بل هي حقيقة اجتماعية وتاريخية متطورة. إنه يحدد مجموعة قدرات عمل الإنسان ككائن اجتماعي وعضوي هو بالضرورة جزء من بيئة يتفاعل معها بلا توقف، ولا يمكن تجريده منها إلا على حساب تشوهات خطيرة.

إن نقد علم النفس الفردي لليبرالية هو مثال جيد على كيفية استخراج التصرفات المتعلقة بالظروف الاجتماعية والتاريخية وتحويلها إلى مجموعة من السمات الثابتة قبل السلوك. وفقا لديوي، كان الخطأ الأساسي للفلسفة الليبرالية هو تصور الفرد على أنه كائن منفصل عن المجتمع وحامل لتفضيلاته وهياكله الخاصة. ضد مثل هذا الخيال، يتحدى ديوي الاعتقاد بوجود التصرفات الأصلية من خلال تحليل الدور الأساسي الذي تلعبه العادات في السلوك الذي يتم فرضه بعد ذلك في شكل طبيعة بشرية أصلية وغير تاريخية وعالمية. على وجه الخصوص، يعارض الاختزال السلوكي للعادات إلى الهياكل الميكانيكية والمتكررة، وهو اختزال يهمل البعد الاجتماعي والتفاعلي العميق للسلوك، والذي، وفقا له، من شأنه أن يكمل حل الثنائية بين الفرد والمجتمع، وبين الفكر والعمل. بالنسبة له، العادات هي القوى الدافعة الحقيقية للقيادة وهي في صميم جميع أنشطتنا، من الأكثر روتينية واللاوعي إلى الأكثر ذكاء وطوعية ("العادة تعني الإرادة"، ص 43). بدونها، يحرم السلوك من المعنى والاستمرارية، ويتم توجيهه بشكل أعمى. تمتلك العادات قوة هيكلية لا مثيل لها على السلوك: فهي لا تشكل مجال تجاربنا وتجعل التفكير والعمل ممكنا فحسب، بل إنها مدمجة بعمق فينا لدرجة أننا في نهاية المطاف نحدد أنفسنا بها "الجسد والروح". إنها تتخلل كياننا وصولا إلى أصغر الألياف، وتشكل شخصيتنا من جميع جوانبها، لدرجة أن الإنسان بالنسبة لديوي هو مخلوق من العادة أكثر من كونه كائنا للعقل أو الغريزة.

في الفصل الثاني، يحتج ديوي على علم النفس الغريزي الذي يختزل السلوك البشري إلى مجموع الغرائز، أي الميول الأصلية والعضوية المنظمة. على هذا النحو، وعلى عكس الغرائز، يقترح ديوي أن الدوافع عمياء وغامضة وبدون توجيه أولي. على الرغم من أن العادات قد تكون مكتسبة وثانوية، إلا أنها تكتسب أولوية تفسيرية ومنهجية على الدوافع. في الواقع، يشير ديوي إلى أن "معنى الأنشطة الفطرية ليس فطريا، بل يتم اكتسابه ويعتمد على التفاعل مع وسيط اجتماعي مثبت" (ص 78). ومن المفارقات أن الدوافع ثانوية في تفسير السلوك، في حين أنها أساسية من وجهة النظر الفسيولوجية.

إذا أخذنا بالمعنى الإيجابي، فإنها تعمل كعوامل لإعادة تعديل السلوك وإعادة تنظيمه، وتوفر المادة التي تتطور منها العادات وتتطور. طبيعتها البلاستيكية توازن الصلابة التي تميل العادات إلى التوافق فيها، وتلعب دور المحاور "التي يتم إعادة تنظيم الأنشطة حولها" والتي تعطي العادات "توجهات جديدة" (ص 80). لا توجد في حالة كامنة، ولكن فقط في تعبيرها ذاته، والذي، كما يجادل ديوي، أدى إلى تدمير الإيمان بالتأثيث الأصلي للإنسان والتي بموجبها سيكون من الممكن استنتاج المنظمات المحددة والمؤسسات الاجتماعية. إن تفسير أو شرح أصل المجتمعات البشرية من خلال غريزة أو حرب خضراء وفقًا للميل الفطري والطبيعي للعنف لا يفسر فقط الأسباب بالآثار، ولكنه يخلط بين ما ينبثق من العوامل البيئية مع الاستعدادات الفطرية.

في هذا الصدد، في القسم المعنون "تغيير الطبيعة البشرية"، ينتقد ديوي بشدة "علم الحيوان السياسي" (ص 93)، الذي يطارد الفلسفة السياسية وكذلك الاقتصاد والأخلاق، والذي تبرر تمثيلاته المجردة والمعاد صياغتها للطبيعة البشرية المؤسسات السياسية والاجتماعية، في حين أن الأخيرة هي في الواقع التي تشكل تمثيلات الطبيعة البشرية بينما تدعي أنها تستمد منها الضمانات النهائية.

ونتيجة لذلك، من السذاجة، على سبيل المثال، افتراض وجود ميول عدوانية لا يمكن القضاء عليها لتفسير الحرب، عندما تكون الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي، بكلمة واحدة، مؤسسية، هي التي تولدها. يوضح ديوي أن الحرب "يمكن أن ينظر إليها بعد ذلك على أنها وظيفة للمؤسسات الاجتماعية، وليس ما هو جزء من دستور بشري أصلي وثابت" (ص 96). وإذا كان ديوي لا يعتقد للحظة أنه من الممكن أن نستنتج من الفحص الدقيق والصادق للطبيعة البشرية بنية اجتماعية معينة أو منظمة للعلاقات الاجتماعية، فهو من ناحية أخرى مقتنع بالحاجة إلى مراعاة إمكانيات العمل البشري بجدية وموضوعية قدر الإمكان من أجل تبرير مفهوم تحسين الأخلاق و الخبرات.

الأخلاق والذكاء

الفصل الثالث والأخير، المكرس لمكان الذكاء في السلوك، يمنح ديوي الفرصة لدراسة العلاقة الوثيقة والأساسية بين السلوك والأخلاق. ينطوي السلوك دائما على بعد أخلاقي بمجرد ظهور البدائل. ثم يتم اتخاذ الخيارات بالإشارة إلى ما يعتبر الأنسب لحالة معينة. من هذا المنظور، لا تقتصر الأخلاق على مجال معين من الحياة، ولكن من المحتمل أن تتعلق بأي نوع من الممارسة والموقف، مهما كان (اقتصادي، سياسي، فني، إلخ). يأسف ديوي لحقيقة أن الأخلاق كانت تستند إلى تمثيلات مجردة للطبيعة البشرية، مما أدى إلى نظريات أخلاقية خاطئة ومعيبة. "أي أخلاق منفصلة عن الجذور الحقيقية في الطبيعة البشرية"، كما يكتب، "محكوم عليها بأن تكون سلبية بشكل أساسي" (ص 15): يجد علم النفس الاجتماعي المبين في الفصلين السابقين هنا أهم نقطة تطبيق له.

 إن الالتزام الأحادي الجانب بالمبادئ الأخلاقية الثابتة أو القواعد المحددة سلفا هو ما يجعل الأخلاق غير فعالة وغير كافية. لأنه يعمي الأفراد عن واقع المشاكل اليومية ولأنه يعقد بشكل مصطنع الحل الفعال والذكي لهذه المشاكل. على وجه الخصوص، يؤدي إلى إزالة المبادئ الأخلاقية من أي تجربة، وبالتالي من أي إعادة تقييم. الغرض من الأخلاق ليس تكييف المواقف مع المبادئ الأخلاقية، وفقا لديوي. ولكن لتكييف القواعد والمعايير الأخلاقية مع المواقف نفسها. يجب اعتبار المداولات الأخلاقية بعد ذلك "تجربة لمعرفة ما هي خطوط العمل المختلفة حقا، تجربة في مجموعات مختلفة من عناصر معينة مختارة من العادات والدوافع، من أجل معرفة كيف سيبدو الإجراء الناتج إذا تم تنفيذه" (ص 149).

نظرا لأن المواقف لا تزال إلى حد كبير خارج قدرتنا على التنبؤ والتوقع، وبما أنه من المستحيل دائما النظر بدقة في المعايير التي نتصرف وفقا لها بخلاف الاعتماد على العادة، فمن الضروري اعتبار المبادئ الأخلاقية فرضيات يجب اختبارها وتجريبها، أي "طرق التحقيق والتنبؤ" (ص 184). يرتبط البعد التجريبي والمؤقت للمبادئ الأخلاقية ارتباطا وثيقا بطبيعة المواقف ذاتها التي، على هذا النحو، هي دائما فريدة ومتطورة باستمرار، ولها غاياتها وخصائصها الخاصة. يكتب ديوي أن كلمة "جيد" ليست أبدا بنفس الجودة مرتين. إنه لا ينسخ نفسه" (ص 164). وهذا هو السبب في أن البحث الأخلاقي يجب أن يكون أولا حساسا ومنتبها للطابع المكاني والمؤقت للغايات الموجودة في كل موقف، وثانيا، يجب أن يكون قادرا على إنتاج استجابات تتكيف مع كل منها. هذا هو السبب في أن النظرية الأخلاقية التي تم تطويرها ضمنيا في الطبيعة البشرية والسلوك هي في الأساس نظرية محددة وسياقية.

يدافع ديوي بقوة و فعالية عن فكرة أن السلطة الشرعية الوحيدة في مسائل الأخلاق لا يمكن إلا أن تكون الذكاء، والتي، ككلية عملية، تبدو الأكثر كفاءة لحل مشاكل التجربة بشكل فعال وواضح. بما أن الأخلاق ليست خارجية للتجربة، فمن هذا الأخير ومن دراسة السلوك يجب أن تظهر المعايير الأخلاقية للخير، وليس من مبادئ متعالية بداهة أو من العادات والمعايير الاجتماعية التي تجرد من الواقع البشري. إذا كان الفعل يعتمد بشكل أساسي على الفعل المشترك للعادات والدوافع، يؤكد ديوي على أن الوظيفة الرئيسية للذكاء يجب أن تكون النجاح في التمييز والتقييم بين الميول الاجتماعية والعضوية، تلك التي تفضل أو لا تفضل توسيع الخبرة - ومن هنا الدور البناء للذكاء منذ ذلك الحين. يجب أن يكون قادرا على إعادة تعريف الأفعال والمواقف بشكل مشترك، وزيادة القدرة على التحكم في أفعالنا عن طريق إبعادها عن روتين العادات أو التفريغ المفاجئ للدوافع. والهدف من هذا التركيز هو جعل الأفراد -ليس فقط أكثر وعيا بأفعالهم وعواقبها-، ولكن أيضا أن يصبحوا أكثر وعيا من خلالهم بنصيبهم من المسؤولية والمشاركة. وبالتالي فإن زيادة السيطرة تعني في المقابل زيادة في المسؤولية، وبالتالي تحظر إيجاد ملجأ في الأخلاق المجردة التي من شأنها أن تعفي الفرد من كل مسؤولية. يمكن أن يصبح الذكاء أداة قوية للتغيير، ليس من خلال معارضة العادات المكتسبة والدوافع الفطرية، ولكن من خلال تشغيلها بطريقة يتم تحويلها عن وظائفها الأولية لزراعتها نحو غايات واعية تزيد وتثري معنى تجاربنا. هذه الزيادة في التحكم الذكي في المواقف تقود ديوي إلى تلخيص الوظيفة الرئيسية للأخلاق في شكل "حتمية": "تصرف بطريقة تزيد من الشعور بالتجربة الحالية" (ص 217). ومع ذلك، فإن هذا الشرط محكوم عليه بالعجز طالما لم يتم التعرف على الطابع الاجتماعي للأخلاق بشكل أفضل. للتأكيد على هذا الجانب يعني أن قوة التحول الاجتماعي للأخلاق يتم التعبير عنها قبل كل شيء من خلال تكوين عادات جديدة قادرة على توجيه الرغبات والأحكام الفردية نحو غايات جماعية، بطريقة "تعزز الظروف التي من شأنها توسيع آفاق الآخرين ومنحهم السيطرة على قوتهم الخاصة، لكي يجدوا سعادتهم كما يحلو لهم" (ص 225).

خاتمة

 إذا كان مفهوم الطبيعة البشرية الموضوعية والعالمية في الوقت الحاضر يبدو مشكوكا فيه أيديولوجيا بقدر ما هو قديم من الناحية المفاهيمية، يقترح ديوي تحديثا أصليا وذا صلة له يفكك بشكل فعال الاختزالات والتمثيلات المجردة بالإضافة إلى الاستخدامات السياسية التي غالبا ما تفسح لها هذه الفكرة نفسها. الآن، هل يفلت مشروع ديوي تماما من الانتقادات التي يوجهها باستمرار إلى الفلسفات والنظريات التي تجعل الطبيعة البشرية أساسية؟ في الواقع، يمكن للمرء أن يشكك بحق في موضوعية المشروع وأهميته الحقيقية التي ترغب في تبني مفهوم موضوعي بما فيه الكفاية للطبيعة البشرية ليكون متوافقا مع العلوم الطبيعية، من أجل تبرير أمور أخرى، التقدم الأخلاقي والاجتماعي للسلوك البشري. لكن هذا بلا شك حل وسط ضروري، بمجرد قبول فكرة أن الأخلاق، مثل السلوك، في استمرارية مع علم النفس أو الاقتصاد أو التاريخ أو علم الأحياء، وبالتالي فتح وجهات نظر وتطبيقات جديدة لم يتم استكشافها بعد. إن مفهوم السلوك، المركزي للغاية، هو قبل كل شيء مفهوم مستعرض يعبر عن تعدد الأبعاد والتفاعلات. تأتي كل أصالة ديوي من حقيقة أن تحليلاته تقع على مفترق طرق هذه التخصصات وتسمح لنا بإقامة حوار بينها، و هو بلا شك أكثر من ضروري خارج الحدود المؤسسية.

ثم هناك مشكلة معرفة كيف يمكن تعبئة هذه المعرفة بشكل فعال لتكون بمثابة أساس لشكل من أشكال الهندسة السياسية والاجتماعية القادرة على المساهمة بشكل كبير في التقدم الاجتماعي. لكن بالنسبة لهذا السؤال، لا تدعي الطبيعة البشرية والسلوك أنها تقدم إجابات محددة. من ناحية أخرى، تبرز كقراءة لا غنى عنها تلقي ضوءا حاسما على كتابات ديوي السياسية والأخلاقية اللاحقة، والتي تتوافق مع الأطروحات التي طورها هناك. أخيرا، يظهر ديوي بشكل مقنع أنه من غير المجدي تجنب تحليل الفعل البشري بقدر ما تستند أي فلسفة سياسية وأخلاقية، مهما كانت، إلى مفاهيم أكثر أو أقل وضوحا لما يمكننا توقعه أو عدم توقعه من الأفراد.

في الواقع، سواء كان المحافظون الأكثر تشاؤما من ناحية أو المصلحين الاجتماعيين الأكثر تفاؤلا من ناحية أخرى، فإنهم جميعا يبنون مشاريعهم وأيديولوجيتهم إلى حد كبير على تمثيلات الطبيعة البشرية وقدراتها المتأصلة، على الرغم من أنها تعتبر خاطئة وغير متوافقة مع الحقائق التجريبية وفقا لديوي. لهذا السبب، في رغبته في إعطاء الصورة الأكثر دقة وواقعية ممكنة للطبيعة البشرية، كان ديوي يأمل في أن يعزز علم النفس الاجتماعي ثقتنا في البشر ليصبحوا أفضل.

***

.........................

* جون ديوي، الطبيعة البشرية والسلوك، الترجمة الفرنسية لبرتراند روج، باريس، غاليمار، 2023، 254 ص

1- عالم نفس وفيلسوف أمريكي كبير، ينسب للتيار البراغماتي الذي طوره في البداية تشارلز س. بيرس وويليام جيمس. كما كتب على نطاق واسع في مجال علم أصول التدريس، حيث يعد أيضا مرجعا في مجال التعليم الجديد.

2- دكتوراه في الفلسفة من جامعة بروكسل الحرة يركز بحثه على مفهوم الطبيعة في الفلسفة الأمريكية خاصة لدى الفلاسفة البراغماتيين مثل ديوي وميد.

 

هل معرفة عالمنا الخارجي تنفي واقعية ذلك العالم؟ وهل صحيح أن كل معرفة  تستنفد نفسها حينما تكون محصورة بواقعية معرفتها؟ يقول شيلر ويؤيده دلتاي بذلك أنه لا يوجد غير ثلاثة مناهج معرفية هي معرفة استقرائية علمية، ومعرفة تنصب على الماهية، وثالثا منهج المعرفة الميتافيزيقية. هذا ليس موضوع مناقشتي لهذه الاطروحة حاليا.

كما يذهب شيلرومعه دلتاي أن (العالم الخارجي وجود حقيقي، واذا كان كل موجود ينحصر في معرفته لما كانت لهذا الوجود "واقعية" لان الواقعية تصنع المقاومة في وجه مقاصدنا. وما يثبت الشيء هو الصدمة التي تحدثها لنا "المقاومة". نقلا عن دكتور زكريا ابراهيم.

هذا التجريد الفلسفي العصّي على التلقي لا يمنعنا من تثبيت مايلي:

- يقر شيلر أن العالم الخارجي وجود حقيقي بمعنى أنه قابل للادرك حسيا وكذلك معرفته بإي منهج علمي متاح، وهذه المعرفة لا تنفي حقيقته الموجودية كينونة مستقلة. لا يصح التعميم ان موجودات العالم الخارجي تنتهي واقعيتها بمجرد الانتهاء من معرفتها التي تحدثها الصدمة التي مبعثها لنا المقاومة على حد تعبير شيلر. لا يشير شيلر ولا دلتاي توضيح علاقة ثلاث مفردات اقحمت مع بعضها إعتسافا غير فلسفي واضح. هي الواقعية والصدمة والمقاومة.

- معرفة العالم الخارجي طالما هو وجود حقيقي فهو يكون بالضرورة وجودا ماديا ولا يحتاج برهان اثباته الواقعي. وطالما موجوداته واقعية فلا تنحصر معرفتها الابستمولوجية بجانب فلسفي او بمنهج احادي. كما لا يمكن للمعرفة الادراكية في منهج الاستقراء العلمي تجريد موجودات العالم الخارجي من واقعيتها بعد استنفاد منهج الاستقراء العلمي معرفتها..

- موجودات عالمنا الخارجي هي موجودات حقيقية واقعية قابلة للمعرفة المنهجية. وليس لموجود بالمواصفات التي ذكرناه تسنفد واقعيته في تمام معرفته. ولا يوجد كما ذكرنا موجود تنحصر موجوديته في جانب معرفته المنهجية التي تنفي واقعيته الموجودية امام المعرفة الادراكية للعقل.

- يذهب كانط الى أن العقل ليس كافيا للمعرفة ولا بد من توفر ما اسماه "مدخلات" نحصل عليها من العالم الخارجي لامتلاكنا المعرفة. وبدوري اجد المعرفة هي تراكم خبرة العقل في فهمه وتفسير الحياة والتعايش المتّكيف أو الاحتدامي المتصارع معها احيانا.

- لماذا كل موجود تتحدد موجوديته كمعرفة تنبعث عنه ما اطلق عليه شيلر" المقاومة" أية مقاومة يقصدها شيلر.؟ موجودات العالم الخارجي التي تمتلك خاصية انها تحمل معنى ادراكيا لغويا هي معطى للمعرفة ولا يحدث في خصيصته هذه انه يحمل المعنى لا صدمة ولا مقاومة. عالمنا الخارجي بموجوداته المدركة معرفيا منهجيا علميا او غير علمي فهو لا يمتلك وعيا ذاتيا مدّخرا في رفضه امتلاك مقاومة ذاتية طاردة لامكانية معرفته المتاحة لنا كموضوع.

- ما سبق واشار له فيلسوف اللغة لوفيدج فينجشتين أن تجريد موضوع الفلسفة لغويا من غير وضوح ملزم في المعنى يكون الصمت في هذي الحال أجدى. وإعتبر فينجشتين وأيده بشدة جورج مور عضو المنطقية الانجليزية بأن الوضوح الفلسفي اللغوي عامل اساسي في أن يكون للفلسفة وبخاصة فلسفة اللغة واللسانيات مستقبلا امام طغيان التقدم العلمي الذي يتهدد الفلسفة عامة.

اخيرا رغم المآخذ السلبية على مقولة هيجل"كل ما هو واقعي هو عقلي وكل ما هو عقلي واقعي" تصبح صحيحة في اطلاقية مسلم بها لا تحتاج نقاشا يدحضها بضوء فهم شيلر ودلتاي لمعنى ان يكون عالمنا الخارجي بموجوداته واقعيا عقليا. بمعنى واقعية الموجود لا تحدده المعرفة به. بل يحدد واقعيته الادراك العقلي وليس الصدمة التي تحدثها المقاومة المعرفية كما يذهب له شيلر.

لغة العقل

العقل هو تعبير اللغة عن معنى الوجود وليس هناك وجود يدركه العقل صوريا تمثّليا لا تحضره وسيلة اللغة. ولا يوجد ادراك تصوّري عقلي لشيء يتم بلا  تعبّير اللغة عنه .

كي نفهم حقيقة العقل علينا التسليم بخاصيته الجوهرية التي هي ماهية التفكيرالمعرفي ولا يعقل العقل ما لا معنى له كما لا تستطيع اللغة التعبير عن شيء او موضوع لا يدركه العقل في معناه لغويا تفكيريا..العقل واللغة يتلازمان الاشتراك بوعي التعبير عن كل ماله معنى يكون موضوعا لادراك.

ان ندرك الشيء تفكيرا بلغة ابجدية صوتية ام بلغة صامتة فكلا التفكيرين هو ابجدية صورية تمّثلية واحدة لغوية يحكمها الصوت ودلالة المعنى للمفردة والجملة.. كل موجود في الطبيعة والعالم الخارجي ما لم تحتوه اللغة الصورية ويتمثله العقل لا يدرك العقل معناه ولا يعيه. ادراكات الحواس هي احساسات لغوية مجردة ينقلها الذهن للعقل لذا تكون انطباعات الذهن حسيّة تعيها اللغة ماديا. قلت بدءا العقل تفكير لغوي بينما ذهب سيلارز الامريكي قوله الوجود لغة واضيف انا العقل جوهر لغوي ولا معنى لوجود لاتعبّر عنه اللغة. العقل ماهيته التفكير اللغوي المجرد سواء اكان مصدر ادراكاته تكوينه البيولوجي (المخ) او سواء مرجعيته انه جوهر ماهيته تجريد مستقل في تعبيره اللغوي عن مدركاته الشيئية (لوغوس).

في نفس الوقت الذي قال به هيجل الوجود هو الله وهي فكرة معنى لهوية الله.. واجد ان هذه التعبيرات واحدة في التعبير عن مفهوم واحد متداخل غير منفصل. أن العقل هو لغة معنى الوجود وليس هناك وجود يدركه العقل لا تحضره اللغة تصوّريا ولا يوجد ادراك عقلي لشيء له معنى لا تعبّر عنه اللغة.

الذات بين الدين والطبيعة واللغة

صحيح جدا ان الذات كخاصية انسانية يحتويها الديني ميتافيزيقيا، عندها تصبح الذات واقعا ماديا هامشيا في العمل المنتج الذي يمثل سلطة النفوذ المالي وملكية وسائل الانتاج. . لكن الاهم ان الذات تكتسب وعيها الطبيعي للاشياء سواء اكانت تحت وصاية الدين او تحت وصاية وتسلط راس المال ووسائل الانتاج.

الذات لا يمكنها الانفصال عن الحياة والوجود المجتمعي في اسوأ الظروف والمراحل. وفي هذه الخاصيّة تتجنب الذات السقوط في الاغتراب بمضمونه السلبي في فقدان الانسان جوهر وجوده الاندماجي ضمن مجتمع منتج للحياة. الاغتراب الانعزالي الايجابي هو وعي قصدي محسوب البداية ومحسوب الوصول الى نهاية وهو ميزة غالبية الفلاسفة والعلماء والمتميزين في كتابة الاجناس الادبية.

لا تحقق الذات موجوديتها في ارتباطها بالديني الذي يحتويها في علاقة دائمية وحسب. بل تحقق الذات وجودها الانطولوجي السلوكي بالمغايرة الوجودية مع غيرها من غير وحدة تشابه المجانسة النوعية بين الذات وموجودات الطبيعة. والا اصبحت الذات موجودة في كل شيء تكوينيا وليست وعيا تجريديا في فهم الحياة. ثنائية الذات مع الروح والزمن هي علاقة يجمعها ميتافيزيقا المطلق ويفصلهما فقدان الانسان لحياتة بالممات. ولا يوجد ماهو روحي خالد ولا ماهو زمني غير ازلي خالد بفناء الانسان.

كما هي الذات وجود متحقق بوعي العقل الا انها تفقد انطولوجيتها الحسية والادراكية في نهاية الانسان بالموت. مثلما لا يستطيع الانسان إثبات وجود الروح بالجسم قبل الممات فهو اعجز أكثر عندما يبحث عن مصير الروح التي غادرت الجسد بعد الممات.

الحداثة والعلمانية

في تفسيرنا العنوان يتوجب علينا توضيح العلاقة بينهما (الحداثة والعلمانية) هل هي علاقة جدلية ام علاقة معرفية تكاملية ام معرفة متوازية في توازي احدهما الاخر. العلمانية هي بداية الخروج من معطف الماقبل حداثي وبلغت اوجها في الحداثة ووصلت قمتها المتطرفة اكثر في ما بعد الحداثة..

العلمانية واقع معيش يكفل للانسان كرامته وتحفظ له كامل حقوقه بالحرية المسؤولة ديمقراطيا التي تقوم على جملة القوانين الوضعية التي ينتفع منها الانسان.

الاستقلال في التضاد الافتعالي مابين العلمانية والدين ليست علاقة نفي لاحدهما في بقاء الاخر. لكن بينهما ترابط ميتافيزيقا الدين، وتاريخية منهج العلمانية التي تسود هيمنته على كل ما يجتنب الديني الخوض في معتركه في انقياده للعقل المادي.ما يثبته العلم لا يخوض معتركه الدين.الحداثة لا تقاطع الديني كمقدس ولا تسعفه بالتكامل المعرفي معه. لذا يكون الاسلم ان يحكمهما الاثنين نوعا من التوازي الاستراتيجي الذي يحفظ الاستقلالية لكليهما. من الخطا التفكير ان منجزات العلم ستترك الجوانب الروحية النفسية يقررها الاستفراد التدين الوضعي ويقرّه مستقلا به وحده..

اسبينوزا والالحاد

ورد في ويكيبيديا الموسوعة في دفاع هيجل عن الحاد اسبينوزا ما يلي" ان هوية الله مع الطبيعة تلغي فكرة الله. والاصح ان هذه الهوية تلغي الطبيعة. وبدلا من اتهام اسبينوزا بالالحاد ان لا يسمى بالالهية بل يسمى بالكونية او اللاطبيعية بحيث لا يكون للكون وجود في ذاته. لان كل ما يوجد انما يوجد في الله." اجد في تعبير هيجل حول توضيح معنى مفهوم وحدة الوجود لدى اسبينوزا تحليلا دقيقا سليما في تفعيله العقل  معرفة دلالة هوية الخالق. ويذهب بعض الفلاسفة ان اسبينوزا له من الاعتقاد بالله ما يكفي او يزيد.

هيجل حينما استعار فكرة (هوية الله) المتجانسة مع الطبيعة على انها تلغي فكرة الطبيعة كانت فكرة صائبة تنظيرا لكنها خاطئة واقعيا. هذا لا يعني ان اسبينوزا لم يفهم الفرق بين هوية الله في الطبيعة التي هي مرتكز فلسفته بوحدة الوجود. وبين هوية الله الميتافيزيقية في مرجعية ما تقوله الكتب المقدسة والمعجزات الدينية..الطبيعة ادراك محدود غير كوني نهائي لا يجوز الاستدلال به في الغاء هوية الله الميتافيزيقية غير المحدودة لا بالصفات ولا باللامتناهي.

***

علي محمد اليوسف

.....................

- ذهب له شيلر.

 

ما الديالكتيك؟

بدأ التفكير بالديالكتيك هرقليطياً في مواجهة التفكير البرمنيدوسي الذي كان شائعاً في الفلسفة اليونانية القديمة وهي فلسفة قائمة على فضيلة السكون، وإنكار الحركة، ومع أن الحركة حكم الظواهر التي تتعقلها الحواس، ولكن السكون حكم العقل المحض، فالعقل لا يستوعب الذات في مكانين، وما كان في مكان فهو ليس في آخر، فالحركة خرافة عقلية لا يصح تصديقها ولو خدعتنا بها الحواس، وهكذا فقد ظل تاريخ الفلسفة اليونانية ينوس بين العقل المحض وبين الظاهراتية، كمنهجين متلاعنين لا يلتقيان ولا يرتفعان.

وبينما رأى برمنيدوس أن كل شيء في الوجود تام وساكن، فالعدم لا يوجد، والموجود لا ينعدم، والعالم قائم على فهم الموجودات وعدم التفكير بإلغاء أي منها، فإن هيرقليطس كتب في مواجهة بارمنيدوس حتمية السيرورة التاريخية، والتناوس القائم على الجدل التكويني وصراع النقائض، وهو ما أكده فيما بعد هوايتهد إن العالم ليس حقيقة قارة بل هو جدل متلاطم، وأنه لا ثابت في هذه الحياة، لا في الخلق ولا في الأمر ولا في الشـرائع، وأن الكون كله قائم على التغيير، والعالم ليس حقيقة قارة بل جدل متلاطم.

إننا لا نستحم بماء النهر مرتين، هكذا كتب هرقليطس، ولكن الناس توقفت عند فهم أن الماء يتغير كل مرة، ولكن الأهم الذي أراده هيروقليطس أن الإنسان سيتغير أيضاً كل مرة، أما هيغل فقد قدم جديداً ثالثاً وهو أن القانون الكوني بدوره يتغير كل مرة!

لا ثابت إلا الله، هكذا قال المؤمنون، ولكن التعبير الأدق لفلسفة هيجل وهيروقليطس: لا ثابت إلا التغيير، وإن الكون وبارئه كل يوم هو في شأن.

وهكذا فإن الفهم الأشمل للديالكتيك يحتم علينا الرسوّ في مرفأ هيجل، فهو من نظم وعي السابقين واللاحقين الذين كتبوا في التطور والصيرورة في قانون كوني حتمي، ولا مبالغة في كل ما نرويه في وصف هيجل، فهو بالفعل فيلسوف الفلاسفة، وقد ظلت الفلسفة بعده بمائة عام على الاقل قائمة على الرواية عن هيغل أو صحبه، وانقسم الفلاسفة بعده إلى صحب وتابعين ومذاهب، ومع أن المقولات الهيجلية تطورت بشكل لافت ولكنها ظلت تنسب إليه، مع أن منها ما هو طارئ عليه مبنى ومضموناً، حتى إن كلمة الديالكتيك نفسها لم ترد في أي من كتاباته على الرغم من أنه يعرف في الملأ الأعلى للفلاسفة بفيلسوف الديالكتيك.

وفي الواقع فإن ما طرحه هيغل في فلسفة التاريخ ليس اجتهاداً مبتدئأ وإنما هو استئناف لجهود فلاسفة كثير سبقوا إلى ذلك، وإن كان لهيجل من فضل فهو أنه نجح في منح فكرة الجدل مفهوماً حتمياً في الزمان والمكان والجوهر.

وقد أسس هيجل فلسفته في حركة العالم على قاعدة ثلاثية وهي: الأطروحة واالنقيضة والتركيب، أو بالمصطلحات الثلاثة: Thesis – Aantithesis – Synthesis وفيما بعد منح هيجل هذا التلاطم الحتمي للطبيعة مصطلح روح العالمGeist

ويعتبر تعريف الديالكتيك من أصعب بحوث المعرفة، ولا شك أنك ستنوس بين تعريفات رموزه التاريخيين من هيروقليطس إلى زينون إلى ابن خلدون إلى هيجل، إلى فيورباخ وماركس وإنجلز في صيغ متلاطمة لا تكاد تنتهي منها إلى يقين.

ولكن هل يتعين فهم هذه المصطلحات المعقدة للوصول إلى فهم صحيح للحياة؟ وهل لهذا الجدل الأفلاطوني علاقة ببناء السعادة؟

تبدأ الفلسفات الكبرى في التاريخ من لحظات عابرة يراها الملايين كل يوم ولكنها توحي إلى الفيلسوف وحده، وحين خرج أرخميدس عارياً من الحمام وهو ينادي يوريكا يوريكا!! أي وجدتها وجدتها، لقد وجد قاعدة الطفو والانغمار، إنها قاعدة هائلة بالنسبة لأرخميدس، وحين كتبها بالرياضيات لم يفهمها من الناس إلا العباقرة، مع أن قواعد الطفو والانغمار يعرفها بالفطرة والغريزة ملايين الصيادين، الذين لا يحسنون قراءة حرف من خطوط أرخميدس.

إنها أيضاً تفاحة نيوتن وقطار أينشتاين، حيث يتم التعبير عن أعقد قضايا الفلسفة بأبسط مظاهر المشاهدة للأشياء.

التقى الأوكسجين بالهيدروجين، فلنسم الأول الطريحة والثاني النقيضة، فنتج عنهما الماء، فلا هو أوكسجين ولا هو هيدروجين، بل هو خلق آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.

ثم التقى الماء بعشبة الشاي، فكان الماء أطروحة والشاي نقيضة، ومن تلاطمهما نشأ تركيب جديد اسمه شراب الشاي، فلا هو ما ء ولا هو عشبة، بل هو خلق جديد.

وهكذا تتكرر الحكاية التي نشاهدها في الطبيعة دون أدنى تكلف، فهي لقاء الذكر بالأنثى، الذي ينتج الكائن الجديد، وهو حكاية المطر حين تلتقي الشحنات السالبة بالشحنات الموجبة، وهو لقاء البصر بالكتاب، والسمع بالموسيقا، والذوق بالسكر، والأنف بالعطر، فما من تلاق يتم في الكون إلا ينتج شيئاً جديداً، وكل القوانين الفيزيائية في خدمة هذه الحقيقة، والكون برمته قائم على التلاطم. 

إنها مسألة تفهمها العقول ببساطة، ويوشك أن يقول المرء وهو يتابع هذه الشواهد إن شرح الواضحات من الفاضحات، ولكن رسالة الفلسفة أنها نقوم بالتعبير عما نمارسه كل يوم بلغة لوجيكية، وعند ذلك يمكن تقديم النتائج على هيئة قوانين تحتكم إليها الطبيعة.

الأطروحة والنقيضة (Thesis – Aantithesis) يتلاطمان باستمرار، وليس في الطبيعة نصـر ساحق، أو إلغاء ماحق، إنها مسألة تمازج وتضامن، ولا بد أن ينتج عن التلاطم هذا ذات جديدة يسميها هيجل التركيب (Synthesis) ولكن عبقرية هيجل كانت في قدرته على تعميم هذه الحقيقة على الأشياء والظواهر والأفكار والمجتمعات وحركة التاريخ وقراءة المستقبل.

قد يكون من السهل فهم الديالكتيك في تركيب العناصر الكيميائية، وكذلك في الخلق المستمر، ولكن الفيلسوف يرسم للديالكتيك مسارات أخرى، لقد رسم ابن خلدون حركة قيام الحضارات وسقوطها، وإنتاج الشكل الجديد منها، في وصف ديالكتيكي بامتياز، وقدمه على هيئة قانون كوني لا يتخلف، ويتكرر في البناء والهدم، والقيام والسقوط، والانبثاق والانغلاق، والمدهش أن الناس يقرؤون في ابن خلدون جدل الماضي، في حين أنه أراد في العمق أن يرسم جدل المستقبل.

وبالوعي إياه كتب ماركس رؤيته في المجتمعات البشـرية، مقدماً الصراع الطبقي بين الرأسمالية والطبقة العاملة حتمية تاريخية، تنتج المجتمع الشيوعي وتقدم قراءة مختلفة للتاريخ، وحين استغرب الهيجليون شكل اجتهاد ماركس وقالوا إنه محدثة وبدعة في الفكر الهيجلي، اختصـر ماركس المقام وقال إن هيجل نصب الديالكتيك في السماء ونحن نزلنا به على الأرض، وفي رواية إن هيجل أقام الديالكتيك على رأسه ونحن نصبناه على رجليه، أو كما قال!

 وعلى المستوى الأخلاقي فإن لغة التعبير تعكس وعي الفكر بحركة الحياة، فالعنيف سيفهم الديالكتيك على أنه قدر الصـراع والتحدي في العالم، وحتمية العنف والحرب والتطاحن، حيث تغتصب النقيضة الأطروحة، وتسلبها من خصائصها بالحتمية التاريخية، فهي إذن ركام مظالم، وبراكين حروب، فيما يفهمه أهل الرحمة بأنه طبيعة التكامل في الحياة، وأن العالم قائم على شغف العطاء حيث تعطي الأطروحة للنقيضة أجود ما تملك وتأخذ منها أنفع ما تملك ثم يتشكلان في ذات جديدة فيها رمز الخير والعطاء.

إن الديالكتيك وصف فيزيائي لحركة الحياة، ولا يمكن إلزامه بتشكل أخلاقي، ولكن الناس هم الذين يتفاوتون في الموقف الأخلاقي، فالناس وفاقيون وفروقيون، وحلماء وانفعاليون، وسيستمر الإنسان في رسم ملامحه على التصور الذي يحدد نفسه فيه، فما رآه قوم صراعاً وتطاحناً رآه آخرون تكاملاً وتضامناً، وسيتم وصف الديالكتيك هناك بأنه ركام الحرب كما يمكن وصفه هنا بأنه رحيق السلام، ولكن القدر المتفق عليه بين كل الحكماء أن الديالكتيك حقيقة فيزيائية، وأن العالم يتطور باستمرار ولا يوجد سبيل على الإطلاق لتوقف الحركة في العالم، وأن كل الدراسات الأنثروبولوجية والديمغرافية يجب أن تقوم على أساس التحول الحتمي في طبيعة الأشياء ومعالمها.

وتتأسس المسؤولية الأخلاقية لدى دعاة الإخاء الإنساني على تفسير الديالكتيك بأنه روح العالم التي تبعث شغف العطاء، والتحام الإنسان بالإنسان والإنسان بالطبيعة والمجتمعات بالحضارات والحضارات بالفيزياء، وأن رسالة الإخاء الإنساني تتجاوز الأديان والمذاهب، بل وتتجاوز الكينونة الإنسانية لتكون إخاء بين الإنسان والطبيعة، وبين الأديان وبين القانون الكوني، وبين الأرواح والأشياء، حيث الكل طريحة ونقيضة، والكل يعمل على خلق جديد.

إنه من أفق آخر لون من الصوفية الغامرة في وحدة الوجود، ووحدة الشهود، والوعي بالكون والإنسان، فحين ينظر العارف من عل لقانون الديالكتيك الصارم وهو يفرم العالم بحتميته التاريخية الديالكتيكية، فإنه يرى فيه ما رآه الصوفي العارف في الله بوصفه روح العالم وسره وكينونته Geist : فهو الأول الذي انبثقت منه الأشياء، وإنما صدر عنه العالم كصدور الكلام من المتكلم والنفس من المتنفس، والظل من الذات، وهو من خلق الطريحة الأولى والنقيضة الأولى، وأطلق هذا العالم على قدميه ومنحه الذكاء الفعال لينتج بنفسه طرائحه ونقائضه، قيتلاطمان لينشأ منهما تركيب وخلق جديد، حيث في كل شيء شيء من كل شيء، وفي كل خلق نفحة من كل خلق، وقد ترك الله الجدل نفسه يخلق ويبدي ويعيد، فالأول الله، والآخر الله، والكل بالله، والكل من الله، والكل من لكل والكل في الكل والكل في الله.

***

د. محمد حبش

 

مقدمة: «إذا كانت الدولة قوية فإنها تسحقنا؛ "إذا كانت ضعيفة، فسوف نهلك"، كتب بول فاليري ذات مرة، مما أثار مشكلة دور وشرعية الدولة تجاه المواطنين والمجتمع الذي تمارس عليه سلطتها. ولكن ماذا تعني الدولة حقًا؟ بشكل عام، تحدد الدولة إقليمًا وسكانه الخاضعين لسلطة الحكومة. (فرنسا والصين دول مثلا). ومع ذلك، وبشكل أكثر تحديدًا، تحدد الدولة شكلاً من أشكال تنظيم السلطة مرتبطًا بالمؤسسات والقوانين التي نسميها السلطة السياسية.   ينشأ مصطلح السياسة من الكلمة اليونانية POLIS التي تشير إلى المدينة (مثل أثينا أو روما او قرطاج على سبيل المثال) حيث يتم تحديد العلاقات بين الأفراد عن طريق القوانين. ومن ثم فإن السلطة السياسية، أي سلطة الدولة، هي سلطة وضع القوانين التي تنظم حياة الناس في المجتمع. وهكذا يميز بيير كلاستر بين المجتمعات التي تكون فيها سلطة الدولة هي المهيمنة وتلك التي تستمد فيها السلطة إما من القائد (المسماة السلطة الكاريزمية) أو من سلطة التقاليد والعادات (ما يسمى بالسلطة التقليدية). فما هي المناقشات التي تثيرها سلطة الدولة؟ في الواقع تقدم الدولة نفسها كسلطة شرعية، فهي تمتلك، على حد تعبير عالم الاجتماع ماكس فيبر، "احتكار العنف المشروع". لكن هذه الجملة قد أصبحت مفارقة بالفعل لأن العنف هو إساءة استخدام للقوة ولا يبدو أنه مبرر على أي حال، ولكن هذه الصيغة كاشفة أيضًا نظرًا لأن الدولة تتمتع بسلطة معاقبة الأفراد الذين ينتهكون قوانينها (بما في ذلك في بعض الحالات عن طريق عقوبة الإعدام). وإلى أي مدى تعتبر هذه السلطة مشروعة؟ فمن ناحية يمكننا تبرير وجود الدولة لأنها تلعب دورا ضروريا في إرساء النظام والأمن وضمان استقرار المجتمع. إن أصل كلمة "الدولة" يعزز هذه الفكرة: فهي تأتي من الكلمة مداولة و"استمرار" والتي تُترجم إلى "البقاء"، "الحفاظ"، فإن الدولة ستسمح للمجتمع بالحفاظ على وحدته ونزاهته. ومع ذلك، يمكن أيضًا إدانة الدولة باعتبارها جهازًا خارج المجتمع يعيش على حسابه ويمكن أن يعرضه للخطر من خلال الحروب التي يمكن أن يشعلها هذا الجهاز. كما يتم طرح مسائل الحريات الفردية والمساواة لتحدي دور الدولة أو القمع الذي يمارسه أصحاب السلطات السياسية. ومع ذلك، فإن هذه المناقشات حول فائدة الدولة ومزاياها وعيوبها ومخاطرها تستند إلى افتراض مسبق "فردي" يمكن بموجبه للفرد أن يوجد دون الدولة، ولكن هذا الافتراض نفسه يمكن التشكيك فيه. فهل الروابط بين المجتمع والدولة من جهة، والإنسان والسياسة من جهة أخرى، هي روابط تقليدية أم طبيعية فقط، كما يقول أرسطو الذي يعتقد أن البشر يتم تعريفهم بانتمائهم إلى مجتمع سياسي؟ يكتب في هذا المعنى: "الإنسان "هو حيوان سياسي" في نصه "السياسة". إذن، ما الذي تعبر عنه عضوية الدولة؟ ما هي الروابط التي تم إنشاؤها بين أفراد هذه الدولة؟ هل تم تأسيسها على أساس حساب بسيط للفائدة؟

الأول: شرعية الدولة

الدولة هي مجموعة منظمة من المؤسسات التي تهدف إلى ضمان حسن سير العمل في المجتمع. وعلينا أن نضع في اعتبارنا أن الهيمنة والقوة والعنف هي سمات تخص الدولة بشكل أساسي. في الواقع، الدولة هي قوة القيد، وهي بالضرورة متفوقة على قوة المجتمع. إن قوة الدولة لا تتناسب مع قوة المجتمع. وهكذا يعرف ماكس فيبر الدولة بأنها "احتكار للعنف المشروع". والسؤال الذي يطرح نفسه حول الدولة هو ما إذا كانت تحد من الحرية. على هذا السؤال، نريد أن نجيب بسذاجة بنعم، بما أن الدولة هي قوة قيد، وبالتالي يمكننا أن نستنتج أننا سنكون أكثر حرية دون دولة، وأن المجتمع دون دولة سيكون لديه المزيد من الحرية. هذا هو الموقف الأناركي (اللاسلطوي) الذي يريد مجتمعا عديم الجنسية .

1/ الدولة ضرورية لضمان الأمن بحسب هوبز – التنين

نظرية الميثاق الاجتماعي تتمثل في ان الناس يعيشون في حالة الطبيعة التي تتميز بحرب الكل ضد الكل مما يؤدي الى وقوع عواقب وخيمة – من هذا المنطلق يبحث البشر عن طريقة للهروب من هذا الوضع المزري من خلال ابرام ميثاق اجتماعي أي ميثاق عدم الاعتداء مع إنشاء قوة مشتركة ووضع القوانين التي تضمن الأمن. يتخلى البشر عن حرياتهم غير المحدودة (الحقوق على كل شيء) و في المقابل يحصلون على الأمن. لقد تم نقد نموذج هوبز من قبل روسو لأنه يكرس خطر الاستبداد او الفوضى. الاستبداد هو شكل الحكم الذي تمارس فيه السيادة سلطة واحدة (شخص واحد أو مجموعة صغيرة) تتمتع بالسلطة المطلقة. غالبًا ما يعني الاستبداد وجود سلطة استبدادية وتعسفية وقمعية ومهيمنة على كل من يخضع لها.

2/ الدولة ضرورية لتحقيق الحرية المتساوية بين الناس

 وفقًا لروسو الذي ينتقد الدولة التي يصنع فيها الأغنياء القوانين والتي تتوافق ببساطة  مع مجتمع عصره ولكنه يقترح أيضًا نموذجًا للدولة القائمة على العقد الاجتماعي، وهو اتحاد حقيقي للمواطنين للعيش بحرية مع احترام نظام القوانين. المبدأ هو أن الناس يجب أن يصوتوا بأنفسهم للقوانين التي سيتبعونها. ويجب أن يكون القانون تعبيراً عن الإرادة العامة. إن إطاعة القانون الذي منحه المرء لنفسه هي طريقة للاستقلال لأنه وفقًا لصيغة روسو فإن "دافع الشهية وحده (أي الرغبة) هو العبودية، والطاعة للقانون الذي وضعه المرء لنفسه هي الحرية". علاوة على ذلك، إذا تم وضع القانون من قبل الجميع ومن أجل الجميع، فإن هذا سيسمح للجميع بالحصول على نفس القدر من الحرية. ومع ذلك، يتم انتقاد هذا النموذج من العقد الاجتماعي باعتباره نموذجًا مثاليًا غير قابل للتحقيق.

ثانيا- انتقاد وجود الدولة

"ما دامت الدولة موجودة، لا توجد حرية؛ عندما تسود الحرية، لن تكون هناك دولة".

الدولة خطر على البشر اذ يمكن أن تنقلب سلطة الدولة ضد المواطنين: كتب نيتشه "الدولة هي أبرد الوحوش الباردة". ينذر هذا الاقتباس بظهور الأنظمة الشمولية التي تم وضعها في القرن العشرين (النازية والستالينية) والتي أدت إلى إبادة ملايين الأشخاص. الدولة تعزز عدم المساواة: اذ يدين ماركس الدولة التي تهيمن عليها الطبقة البرجوازية. ويستخدم هذه الدولة هياكلها لتنفيذ أيديولوجية تعزز استغلال العمالة البروليتارية. لذلك يدعو ماركس إلى الثورة وإقامة مجتمع لا طبقي لن يحتاج بعد الآن إلى الدولة. ومع ذلك، تحتفظ الدولة بدور مهم خلال المرحلة الانتقالية بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي. كما ترفض التيارات الفوضوية (برودون وباكونين) الدولة وتريد مجتمعًا يستطيع فيه الناس تنظيم أنفسهم في شكل الإدارة الذاتية. (المجتمعات الصغيرة التي لا يوجد فيها قائد).

هل يمكن أن يكون هناك مجتمع بدون دولة؟

يمكننا أن نأخذ هذا الموقف الأناركي على محمل الجد، ونبدأ بالانطلاق من ملاحظة وجود مجتمعات عديمة الجنسية وبلا دولة. وقد تمت دراستها من قبل بيير كلاستر، عالم الأنثروبولوجيا في القرن العشرين، في عمله "مجتمع ضد الدولة". ووفقا له، فإن هذه المجتمعات عديمة الجنسية هي المجتمعات الهندية في أمريكا الجنوبية. ويوضح أن هناك طريقتين لتصور مجتمع عديم الجنسية:

– الطريقة الأولى هي القول بأن هذه المجتمعات بلا دولة لأنها لم تحقق هدفها الطبيعي وهو أن تكون لها دولة. لقد بقت هذه المجتمعات على هامش التاريخ، وظلت مجتمعات بدئية قديمة.

– الطريقة الثانية هي القول بأن هذه مجتمعات ترفض أن تكون لها دولة. بالنسبة لبيير كلاستر، هذا الخيار الثاني هو الخيار الصحيح. إن فكرة أن الهدف الطبيعي لأي مجتمع هو إنشاء دولة هي في نظره نزعة عرقية. إذا كانت هذه المجتمعات عديمة الجنسية، فهي بلا سلطة قسرية. ومع ذلك، فهي ليست عاجزة.

على هذا الاساس ينتقد كلاستر الموقف الذي يصفه بالتمركز العرقي والذي يقول إنه لا يوجد سوى قوة قسرية. هذه المجتمعات لا تخلو من السلطة، لكن هذه السلطة ليست قسرية وانما تتجسد في شخصية الزعيم الهندي والذي لا يتمتع بنفس دور رئيس الدولة. يقول بيير كلاستر: "يجب عليه أن يحل النزاعات باستخدام كلماته". وهذه الوظيفة تتعارض مع وظيفة رئيس الدولة لأنها ليست سلطة إكراه. وحل الصراع لا ينهي دوره. فالرئيس لا يقرر وانما يجب عليه التأكد من أن أطراف الصراع أنفسهم ينبذون الصراع. فنحن لسنا تحت القيود وعليه أن يفعل ذلك من خلال كلماته، التي لا تأمر بل تقنع. ويتعين على الزعيم الهندي، من خلال كلماته (وخاصة استحضار الطبيعة المثالية للحكماء)، ألا يأمر بوقف الصراع، بل أن يحاول إقناع الأفراد بالتخلي عن الصراع. يفعل ذلك بفضل هيبته. الهيبة ليست من سلطة رئيس الدولة. الهيبة هي سلطة تنسب إلى المستفيد منها ممن ستمارس عليهم هذه السلطة. ولا يمكن الاستفادة من هذه الهيبة. ولذلك نرى أنه في هذه المجتمعات توجد بالفعل سلطة، غير قسرية، وغير حكومية، لكن هذه المجتمعات مع ذلك سياسية. ومع ذلك، يمكن الاعتراض على أن الحد الأقصى لهذا النموذج من المجتمع هو أن الكثافة السكانية منخفضة. وبمجرد أن ينمو عدد السكان تنشأ الحاجة إلى الدولة، إلى السلطة السياسية.

III سيادة القانون والدولة الاستبدادية

"يجب أن تكون الدولة ضامنة وليست مديرة".

من الضروري التمييز بوضوح بين الدولة التي تحترم قواعد القانون والدول "الاستبدادية" التي لا تعترف إلا بقانون الأقوى. فما هي خصائص سيادة القانون؟

إن المطلب الديمقراطي هو أحد أسس سيادة القانون. وكما يؤكد روسو، فإن مسألة السيادة أمر أساسي. إن سيادة القانون تعترف بسيادة الشعب. وعلى هذا النحو، فإن الحكومة ليست سوى منفذ لإرادة الشعب. ولذلك يجب أن يتم انتخابها من قبل الشعب وتقديم تقارير منتظمة عن ممارساتها. كما أن الفصل يجب أن يكون ضروريا بين السلطات: اذ يؤكد مونتسكيو في كتابه "روح القوانين" على أهمية الفصل بين السلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية) لتجنب إساءة استخدام السلطة واحترام حقوق الإنسان. ويجب أن يتوافق الحق الوضعي (جميع القوانين التي تضعها الدولة) أيضًا مع الحقوق الطبيعية – الحقوق الأساسية، ولكن حول هذه النقطة تستمر المناقشات لوضع "قائمة" هذه الحقوق. ومن الواضح أن عدم تعرض الفرد للاضطهاد بسبب آرائه السياسية أو الدينية هو حق أساسي ولكن لا تزال هناك حقوق أخرى قيد المناقشة (الحق في التعليم والصحة وما إلى ذلك).

فما علاقة الدولة بالحرية؟ هل تعتدي عليها أم تضمنها؟ وكيف يمكننا تبرير قوة السيطرة التي للدولة، وكيف يمكننا إضفاء الشرعية عليها إذا كانت هذه السيطرة عبارة عن عنف يمارس على المجتمع؟

تقول الحجة الجمهورية إن سلطة الدولة لا تكون مشروعة ومبررة إلا باسم الحرية. ومن أجل ضمان الحرية يجب علينا أن نؤسس سلطة الدولة. بمعنى آخر، دون سلطة الدولة هذه، دون احتكار العنف باستخدام كلمات فيبر، سيكون الأفراد في حالة حرب الجميع ضد الجميع. إن سيطرة الدولة على المجتمع هي الطريقة الوحيدة لإعاقة سيطرة الإنسان على الإنسان، لأنه كما كتب توماس هوبز "الإنسان ذئب للإنسان". من خلال تقييد حريتي، فإن الدولة تحد أيضًا من حرية الآخرين، وبالتالي توفر لكل شخص الأمان الذي هو شرط حريتي الفعلية. هذه هي الحجة الجمهورية كما هو موضح في إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1793. ومن هذه الحجة تم المطالبة بمبدأ سياسي، وهو الليبرالية. ويتكون من القول بأن دور الدولة تجاه المجتمع هو ضمان حرية الأفراد. الليبرالية لها نظيران:

- الليبرالية السياسية. وهذا يعني القول بأن الدولة يجب أن تكون محايدة فلسفيا. ويتمثل دور الدولة في توفير مساحة من الحرية لكل فرد يمكنه من خلالها تحديد ما هو الأفضل بالنسبة له. يجب على الدولة أن تحكم بين الحريات المختلفة، لكن يجب ألا تفرض تصورًا معياريًا لما يجب أن تكون حياة جيدة، أو الجمال، أو الحقيقة، وما إلى ذلك. هذه هي الحالة الدنيا من الدولة.

– الليبرالية الاقتصادية . وتتكون من القول بأن الدولة لا يجب أن تتدخل في مجال الاقتصاد، دائما باسم الحرية. والحجة التقليدية هي حجة آدم سميث: إن عدم تدخل الدولة هو الأفضل لأن السوق ينظم نفسه، وهذه هي نظرية اليد الخفية. ولذلك تعتبر الدولة ضمانة الحرية. إنها مفارقة تتمثل في القول بأن سيطرة الدولة مشروعة وضرورية باسم الحرية نفسها.

فهل يمكن أن تحل الاشتراكية والشيوعية محل الليبرالية والرأسمالية؟

تم وضع هذا الموقف الليبرالي موضع انتقاد منذ القرن التاسع عشر، وخاصة من الاشتراكيين. بالنسبة لهم، مشكلة الدولة الليبرالية تأتي من حقيقة أنها يمكن أن تؤدي إلى حالة من الفقر المدقع ويمكن أن تؤدي إلى الخضوع والاستسلام. إذا كان هدف الدولة ضمان حرية جميع المواطنين، فيجب على الدولة أن تتدخل بشكل خاص في المجال الاقتصادي لتضمن الحد الأدنى من الظروف المعيشية للجميع، حتى لا يضطر الجميع إلى بيع أنفسهم لأولئك الذين يملكون وسائل الإنتاج وحتى لا يقبل العمال ظروف عمل قريبة من العبودية. ولهذا السبب يجب على الدولة ضمان الحقوق الاجتماعية، التي تسمح لكل فرد بإطعام نفسه وتعليم نفسه والعثور على السكن. كما يجب على الدولة أن توفر لمن لا يعملون الوسائل اللازمة لتلبية احتياجاتهم، لأنها إذا لم تفعل ذلك فإنها تخرج عن دورها في ضمان حرية الجميع. ان الدولة الاشتراكية هي التي تسمح بولادة الخدمة العامة. أراد روبسبيير في عام 1793 إضافة هذه الحقوق الاجتماعية إلى إعلان حقوق الإنسان والمواطن لأنه أشار ضمنًا إلى أن حرية مجردة إذا لم نأخذ في الاعتبار الظروف المادية التي تجعل من الممكن جعلها فعالة. ولتمويل هذه الخدمة العامة، يجب على الدولة أن تأخذ الثروة ممن يملكها وتعطيها لمن لا يملكها، ولذلك يجب أن تحد من الحريات، وخاصة الملكية الخاصة، وهو ما يتعارض مع الليبرالية. كان هذا الموقف الاشتراكي موضوع انتقادات من الشيوعيين. إنهم ينتقدون الاشتراكيين لأنهم يخففون الهيمنة، ولا يسعون الى القضاء عليها. ومع نظام الخدمة العامة، أصبحت سيطرة الدولة على المجتمع أقل عنفاً. يتم تعزيز هذه الهيمنة الأقل عنفًا لأنها أقل عنفًا. والواقع أن الهيمنة المخففة أصبحت أكثر سهولة في التحمل، وبالتالي فهي أقل ملاءمة لخلق الظروف الملائمة للثورة. ينتقد الشيوعيون الاشتراكيين لتخفيفهم الهيمنة، وإذا كان هدف السياسة هو القضاء على سيطرة الإنسان على الإنسان، فمن الضروري القضاء على مبدأ هذه الهيمنة نفسه الذي هو الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. ولهذا السبب يريد الشيوعيون القضاء على هذه الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، من خلال ضمان أنها ليست مملوكة لأحد، وبالتالي هي مملوكة للجميع. وهذا من شأنها أن تسمح بظهور مجتمع لا طبقي. لذلك يفترض ماركس أن الدولة هي دائما أداة للهيمنة، في خدمة الطبقة المهيمنة اقتصاديا. لذلك، في المجتمع اللاطبقي، لن تكون هناك حاجة للدولة. ومع ذلك، وهذه هي النقطة المركزية التي تميز الشيوعيين عن الفوضويين، للوصول إلى مجتمع لا طبقي، يجب على المرء أن يمر بمرحلة دكتاتورية البروليتاريا، وهذا يعني أن السلطة الشيوعية يجب أن تستولي على مؤسسات الدولة لاحتواء الثورة الرأسمالية. التي تظل تشكل المخاطر القادمة. ولذلك يجب أن نمر بمرحلة تكون فيها الدولة ضرورية، ثم بمجرد أن تتم الثورة، ستذوب الدولة من تلقاء نفسها.

خاتمة

دور المواطن مهم في قيام الدولة وتحقيق وظيفتها اذ يؤكد توكفيل في كتابه "الديمقراطية في أمريكا" على المخاطر التي يواجهها المجتمع الديمقراطي: وهي المخاطر المتمثلة في الاستبداد الجديد المرتبط بعدم اهتمام المواطنين بالمسائل السياسية. عندا يفضل المواطنون الاهتمام براحتهم ومصالحهم الشخصية، ثم يتركون رعاية الشؤون العامة لإدارة لطيفة وحكيمة. ولذلك يقعون في نوع من العبودية الطوعية التي يصعب عليهم الهروب منها. ومع ذلك، يذكرنا التاريخ أيضًا أن السعادة الخاصة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمصير الجماعي، وبالتالي تتطلب مشاركة الجميع في حياة المؤسسات العامة وعملها. فكيف يساهم احترام منظومة المواطنة في تقوية سيادة الدولة؟ وهل يؤدي فقدان سيادة الدولة الى تفكك حقوق المواطنة؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

إن تجسير العلاقة بين العقل والدين أو بين الحكمة والشّريعة لتجاوز تلك الثُنائيات ـ على ما في هذا التقسيم مىيتوس,لوغوس أو عقل,نقل من  مغالطات ـ سيجد دعامته الصلبة في اللغة بآعتبارها الرحم التّي ستنصهر  فيها هذه الإشكاليات بحيث تصبح اللغة عامل تشبيك وتنافذبينها.و هنا تكتسي نظريّة خلق القرآن أهميتها

بآعتبارها تكرّس النصّ القرآني وحيا قد أُلقي في لغة بشريّة قابلة للتعقّل والفهم. فالخلق المتّصل بالقرآن لا يمسّ مصدره الالهي ولا قداسته ولايعني خضوعه للتغيير والتبديل.فالقرآن مدوّنة رسميّة مغلقة ومنفتح (1)un corpus officiel clos et ouvert

و إنّما الذي يصيب النص القرآني هو مايستطيع العقل البشري استنباطه من مدلولات جديدة تقتضيها الشروط الحضارية للكائن البشري .فالقراءة ـ قراءة النصّ المؤسّس ـ هي !ستنطاق واع باللحظة التاريخيّة لدلالة النصّ ومتمكّنة من مكوّناته ومستوياته الدلاليّة.

إنّ العقل الفلسفي ضمن تاريخه الطويل منذ اليونان إلى اليوم كانت له ثلاثة تجلّيات وذلك في محطّات تاريخيّة فارقة :التجلّي الأوّل كان للعقل - الجوهر وهو العقل اليوناني الذي امتدّ إلى القرون الوسطى وكان له ثأثير كبير في لاهوت الأديان التوحيديّة الثّلاثة.هو عقل لايفكّر بل يعقل ماهو كائن كما هو كائن ونوع الحقيقة الذي يقدّمه هو الحقيقة المطابقة ،مطابقة الحكم للشيء .فما كان لليونان ولمن جاء بعدهم أن يعقلوا إلاّ داخل براديغم الكينونة وأفضل ما يفهمونه من ماهية شيء أو كائن ما، هو حدّ جوهره وصفته وأحواله.التجلّي الثّاني هو العقل - الذات وهو عقل له ماهية وعي هو العقل الحديث وهو لا يعقل بل يفكّر في  ما هو متمثّل بوصفه متمثّلا ونوع الحقيقة الذي يثق به هو الحقيقة الموضوعيّة :تمثّل الكائن الخارجي بوصفه موضوعا للذهن .فما كان للمحدثين أن يتمثّلوا أيّ موضوع إلاّ داخل براديغم الذّات وأفضل ما يمكنهم تمثّله هو صورة موضوع ما في الذّهن البشري.

التجلي الثالث هو العقل- اللغة أو العقل الذي له ماهية علامة أو نصّ أو فعل كلامي وهو العقل المعاصر، وهو عقل لا يعقل ولا يفكّر بل يحلّل لغة الكائن الذي يدرسه أو يؤوّل لغة القائل الذي يخاطبه ونوع الحقيقة الذي  يتبنّاه هو الحقيقة ـ الفعل القولي. فما كان للمعاصرين أن يتحقّقوا من معنى كائن ما أو وعي ما أو قول ما إلاّ متى تمّ تحليل أو تأويل اللغة  أو الخطاب أو النصّ أو الفعل الكلامي الذي يصدر عنه أو في نطاقه(2)

إنّ هذا التجلّي الأخير  للعقل يتيح لنا إمكانية البحث عن عقل يجد موقعه في اللغة وهو ما سيمكّننا من إعادة  قراءة نصوصنا التأسيسيّة بآعتبارها نتاج حضارة مارست المنعرج اللغوي ،فقد ظللنا دوما  في نطاق ًعقل لغوي ً عميق.فكلّ تفكير العرب في كلّّ المجالات كان صادرا عن نوع مبكّر من الوعي بأهميّة اللغة  ـ وإن كان وعيا كمونيّا غير مفكّر فيه ـ إنّه ذاك الذي يرفع الكلمة إلى رتبة الكينونة(3)

تتخّذ الكلمة في النصوص المؤسّسة للأديان الكبرى مثل البهاقفادا جيتا والتوراة والأناجيل والقرآن أهميّة خاصّة لأنّها- وهي المضمّخة بالبعد الأنطولوجي والمتعالي - تكتسح الوعي البشري بما لها من هيبة مستمدّة le paradoxe من علويّة مصدرها ومن تمثّل المؤمنين لها على ذلك الأساس. والمفارقة

في هذه النصوص هو التوسّل  بآليات تحليل الخطاب البشري المدنّس للكشف عمّا في النصّ المقدس  من وجوه مباينته وانقطاعه وفرادته(4) رغم تلك الهالة القدُسيّة التي تحيط بتلك النصوص وذاك التهيب الذي يصيب المقبل على دراستها،  فإنّ اللّسانيات الحديثة بما تمتلكه  من آليات ومناهج في قراءة النصوص استطاعت أن تحفر في ذلك التراث الضخم الذي كُتب حول  النصوص المؤسسة - أي النصوص الثواني - وتخلع عليها قدسيّة مزيّفة اكتسبتها بفعل التقادم وتفكّكها  لتكتشف مثلا أنّ الزّوج عقل - نصّ يؤدّي إلى تكريس الرؤية النصيّة التي تزعم أنّ الاستمداد من النصّ هو استمداد بريء لا يتدخّل فيه العقل الإنساني إلاّ بالتلقّي والفهم ،و هو زعم لم يعد يصمد اليوم أمام الأبحاث اللسانية التي تؤكّد  أنّ كلّ عمليّة فهم هي تأويل يتزاوج فيه تفكيك النصّ  مع إعادة تركيبه للتمكّن من استيعابه .فالاستمداد من النصّ هو أيضا عمليّة عقليّة ينبغي أن تُبحث آلياتها حتّى لا تبقى متخفية تتستّر بشرعيّة النصّ .كما أنّ العكس صحيح أيضا ،فكلّ تفكير عقلي لا يمكن أن يتمّ بمعزل عن نصّ وخطاب ولغة .الأوّل يقدّم مادّة للتفكير (النصّ) والثاني يحدّد الاختيارات الإديولوجيّة (الخطاب) والثالثة ترسم الأطر والقوالب الذهنيّة(اللغة)(5).

لقد كشفت اللسانيات الحديثة أنّ فعل القراءة بما هي تفكيك للنصّ وإعادة بنائه تتحكّم به ثلاثة مقوّمات: المقوّم الأوّل النصّ موضوع القراءة وقدرته على توليد المعنى واستنبات الدلالة بغنائه وثرائه، المقوّم الثّاني القارئ - فاعل القراءة -بما يحمله من خلفيّة فكريّة وزاد معرفيّ وما يمتلكه  من جهاز مفاهيمي  و إلمام بشتّى المناهج، المقوّم الثالث الظرفيّة التاريخيّة والاجتماعيّة التي يُقرأ في سياقها النصّ وهذه الظّرفية تحدّد  توجّّهات القراءة ومجالاتها وتضبط مسارها وأولوياتها

لم يقتصر اهتمام اللسانيات بالنصوص الثواني وإنّما وجّهت مناهجها وآلياتها إلى  النصوص الكبرى المؤسّسة نفسها وعملت على قراءتها متجاوزة فلسفة اللغة القديمة والتي ترى أنّ الأسماء تحيل مباشرة على الأشياء وأنّ كلّ جملة لها معنى واحد كما تعلن ذلك الفلولوجيا في القرن التاسع عشر حيث أنّ اللغة تشكّل نظاما مطابقا للمعرفة الحقيقيّة والصحيحة فيصبح  الفكر محدودا باللغة ومقيّدا بها.

هذا التصوّر قوّضته اللسانيات الحديثة عندما أزاحت البعد التيولوجي لأصل اللغة من اِهتماماتها واِعتبرت أنّ   اللغة في منشئها تعود إلى المواضعة .ثمّ إنّ اللسانيات الحديثة اِنتقدت اللسانيات الشّكليةالتي لا ترى في اللغة سوى الجانب الحسيّ إذ هي أصوات وحروف ماديّة وتتعامل معها على هذا الأساس. وآعتبرت أنّ النصّ شبكة معجميّة  تخفي وراءها نسيجا من المعاني والدلالات تؤسّس لنمط من الوعي والتصوّر .لذلك عملت على الإمساك بالمعنى والدلالة،لاسيما إذا كان النصّ المقروء ثريّا بالمجاز والاِستعارة والرموز. وأدركت أنّ الدلالة تقع في مستوى العلاقات بين الوحدات المكوِّنة للنصّ في كلِّيته(6).

لقد كانت التفاسير فضاءا حرص فيه المفسِّرون على توجيه القراءة وِجهة معيّنة.إلاّ أنّ ذلك لم يمنع من ظهور des interprétations تأويلات للنصّ تُسقط عليه مشاغل العصر ومفاهيمه وتتصارع مع بعضها بعضا ،كلّ تأويل يسعى إلى أن تكون له المشروعيّة دون غيره .فكان دور المفسّرين العمل على إثبات اِستمراريّة القراءة  وطمس الصراعات التأويليّة بإرجاعها إلى نظام الخطإ والصّواب المستند بدوره إلى تصنيف ثنائيّ :الأرثوذكسيّة والهرطقات أو الفرقة الناجية والفرق الضّالة (7).

إنّ اِختلاف التفاسير وبالتالي تعدّدِ التأويلات ،تدعِّم ما تذهب إليه اللّسانيات الحديثة من أنّ وراء كلّ تأويل لمؤوّل ما تقف خلفيات فكريّة واِنتماءات عقائديّة وكذلك ظرفيّة تاريخيّة واِجتماعيّة أحاطت بذلك التّأويل.

فالكتب المقدّسة بحكم اِزدواجيتها فهي من ناحية قابلة للتعظيم والتقديس وهي من ناحية أخرى  أسفار تُباع وتُشترى وتُتبادل ،تظلُّ دوما خاضعة لأشدّ القراءات اِختلافا عبر الزمان والمكان وحسب وحسب مستويات الثقافة واِهتمامات القُرّاء التاريخيّة أو  الفنيّة أو الجماليّة أو المذهبيّة (8).

تظلّ تلك الكتب دوما في نهم شديد إلى قراءات لا تستوفي كوامنها  .إذ هي نصوص روحها الجوع  على حدّ عبارة أديبنا محمود المسعدي. فرغم سعي القدماء إلى وضع  مقاييس صارمة لتمييز القراءة الملائمة من غير الملائمة إلاّ أنّ ذلك لم يحُدّ من نُزوع القراءات إلى التنوّع والاِختلاف في تناول تلك النصوص ومقاربتها .وهناك يتعيّن الاِنتباه إلى التفاعل الجدلي بين العناصر الأربعة التي هي أطراف في القراءة: أي النصّ وle passé sémantique القارئ والمجتمع والموروث الدلالي

الذي يحمل أثر اللقاء بين أصالة رسالة الكتاب  وكلّ ما يكوّن الإنسان في المجتمع: تطلّعاته الدينيّة وأحواله الاِجتماعيّة ومختلف السّلط (9).

إنّ النصّ وفي  تجلّيه المادي يظلّ موجودا بالقوّة والقراءة هي الوسيلة الوحيدة التي  تنتقل به إلى الوجود بالفعل ،فالنصّ لا وجود له مالم يقرأ . مماّ يعني أنّ كلّ قارئ يعيد كتابة النصّ بواسطة شبكة الإدراك وقواعد التّأويل. هذه الشبكة وتلك القواعد مرتبطة هي نفسُها ،ليس فقط بالتقاليد الثقافيّة التي ينتمي اليها كلّ قارئ ولكن أيضا بالاكراهات الايديولوجيّة لجماعته ولزمنه وهذا يطرح مشكلة إسقاط الأفكار والمفاهيم والتمثّلات على النصّ . هكذا يمكن أن تفسّر حجم التضخّم الدلالي والرمز ي والإديولوجي الذي يُصيب النصّ القرآني أو التوراتي أو الإنجيلي عند اِلتحامه بالتاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي شديد التنوّع والتغيّر(10).

إنّ اللسانيات في مناهجها الباحثة على الإمساك بالدلالة والمعنى، قد أولت عناية فائقة للعناصر المعنيّة بفعل القراءة وذلك حتّى لا تسقط في القراءة الحرفيّة والبحث العبثيّ عن المعنى الأخير للنصّ  ولا سيما تلك "القراءات" التي تتماهى مع النصّ المقروء حدّ التلبّس به .فتدّعي باطلا أحقّيتها في تملّك معانيه ثمّ تُعلي من شأن ذاك الفهم إلى مستوى الحقيقة المطلقة والوحيدة. وذاك ما فعله الخوارج - أوّل حزب سياسي في الإسلام - حين رفعوا شعار "لا حُكم إلاّ لله" المستمدّ من القرآن وتمسّكوا بقراءة حرفيّة له تتمثّل في أنّ الله وحده يحكم في المنازعات الدمويّة التي مزّقت الأمّة وليس البشر وفي نظرهم أنّ الله قد قضى في أمر معاوية فهو يُمثّل الفئة الباغية و بالتالي لا مناص من محاربتهم ولم يكن ينبغي وقف المعارك - أي حرب صفّين - فأصبح شعار"لا حُكم إلاّ لله" يعني أنّ الحُكم للسّيف. هذه القراءة المتشدّدة ستوغل بأصحابها شيئا فشيئا في أشدّ التوجهات عُنفا وأكثرها تطرّفا. فهم سيقطعون مع عليّ ابن أبي طالب كليّا ومع أتباعه من سُكّان الكوفة والبصرة وسيعُدّون خروجهم إلى حروراء شبيها بخروج الرسول صلّى الله عليه وسلّم من مكّة بآتّجاه المدينة وما سينجرّ عن ذلك من اِعتبار أنّهم الوحيدون الملمّون بالحقيقة فكأنّهم المسلمون الصحيحون الوحيدون

ممّا سيؤول الامر بهم إلى توجيه تهمة الكفر إلى كلّ الآخرين ثمّ سيصبح رفض التحكيم - بالرّغم من أنّ اللّجوء إلى التحكيم لحلّ النزاعات يدلّ على قدرة الأمّة على اِستنفار كلّ كوامن ثقافتها الأنتربولجيّة والسياسيّة والدينيّة لكي تضُخّ لُبّا وعقلا في السياسة والحرب. (آنظر :د.هشام جعيّط، الفتنة جدليّة الدين والسياسة في الإسلام المُبكّر، دار الطليعة - بيروت،د.ت ص 222)- سيصبح عند الخوارج عقيدة تفصل المؤمنين الحقيقيين عن كلّ المسلمين الآخرين المطروحين الآن بوصفهم كُفّارا توجّبت عليهم التوبة .لقد حاول الخوارج فرض تصوّرهم ومُصادرة كلّ معنى الإسلام لصالحهم. إنّها دكتاتورية الأقليّة مغترّة بحقيقتها تعمل على فرض تفسيرها على الجميع.

ذاك نموذج من القراءات الحرفيّة التي صاحبت الإسلام في بداياته وما خلّفته من  آثار سلبيّة على مستوى الوعي والتفكير مازالت تفعل فعلها إلى اليوم .لقد كبّلت الفكر وفرضت عليه كوابح تحُدّ من اِنطلااقته ففرضت هيمنة النّسق العقدي في صياغة  المفاهيم وبناء التصوّرات. وهذا ما دفع باللسانيات إلى أن تأخُذ على عاتقها مهمّة تحرير الوعي البشري من كلّ ما يصادر حقّه في الحصول على معنًى يستجيب لمقتضيات المعقوليّة الحديثة بعيدا عن كلّ الإكراهات الإديولوجية والتيولوجيّة التي تعمل دوما على تدجين تجييره لصالحها.

***

رمضان بن رمضان

.......................

الهوامش والتعليقات:

1- Mohamed Arkoun،Lectures du Coran، ed maisonneuve et larose، Paris،1982،p43.

المدوّنة الرسميّة إشارة إلى أنّ جمع القرآن قد تمّ بإذن من الخليفة الثالث عثمان ابن عثمان رضي الله عنه وهي مغلقة أي لا يمكن أن نضيف إليها أيّة لفظة وهي منفتحة على كلّ السياقات التي تفترضها كلّ قراءة.

2- آنظر د. فتحي المسكيني ،‹الهرمنوطيقا فلسفة عوّضت أسئلة  التفكير بأسئلة الفهم › مجلة قضايا إسلاميّة معاصرة ،بغداد،السنة 18 العدد 57-58،شتاء-ربيع 2014 ص19  .

3-ن.م ص20

4- حمّادي صمّود ،من تجلّيات الخطاب البلاغي،تونس 1993،ص37

5-د.محمّد الحدّاد ،‹تعقّل العقل في التراث الإسلامي› مجلّة دراسات عربية العدد5-6، السنة 34،بيروت،آذار-نيسان،مارس-أفريل1998،ص46

6-Romdhane ben romdhane،Les apports de Mohamed Arkoun aux études islamiques d après son livre lectures du Coran،mémoire de master sous la direction de m.mohamed cherif ferjani faculté des Langues،université des Lumières lyon2 ،2001، thèse dactilgraphiée.

7- عبد المجيد الشرفي ،لبنات،دار الجنوب ،تونس 1994،ط1،ص107.

8- ن.م صص 102-103.

voir aussi، Gric،Ces écritures qui nous questionnent،Paris centurion،

 1987،pp23-33.

9-عبد المجيد الشرفي، لبنات، ص110.

10-voir M ohamed Arkoun،Lectures du Coran،ed Alif،(Paris،1991 préface  de la deuxième édition p.vi

أحيانا يرغب الفلاسفة إجراء تجربة فكرية (افتراضية) تنطوي على مواقف غير مألوفة، ويتسائل النقاد عن مدى ملائمة هذه التجارب للعالم الواقعي. لكن الغاية من هذه التجارب الفكرية هي المساعدة في صقل التفكير و دفعه الى أبعد نقطة ممكنة. مأزق العربة" Trolley dilemma"هو أحد أشهر هذه التصورات الفلسفية.

أساس مشكلة العربة

أول صيغة او سيناريو لهذا المأزق طُرحت في عام 1967 من قبل الفيلسوف البريطاني الأخلاقي فيليب فوت philipa foot الذي عُرف بكونه أحد النشطاء والداعمين لترسيخ الاخلاق الفاضلة. أساس المشكلة: هي ان هناك ترام يسير على سكة حديدية بشكل خارج عن السيطرة. لو استمر الترام في سيره دون تحكّم ودون تغيير مساره، فهو سوف يسحق خمسة أشخاص رُبطوا الى السكة. انت لديك فرصة لتحويل مسار القطار الى مسار آخر ببساطة عبر سحب ذراع التحكّم. لكن عندما تفعل هذا، فان القاطرة ستقتل شخصا واحدا صادف وجوده على هذه السكة الاخرى. فماذا تفعل؟

الإستجابة النفعية

العديد من النفعيين، يرون ان المشكلة سهلة جدا. واجبنا هو تحقيق اكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس. إنقاذ حياة خمسة أشخاص أفضل من إنقاذ شخص واحد. لذلك، فان الشيء الصحيح الذي يتوجب فعله هو ان نسحب المقبض او ذراع التحكم.

النفعية Utilitarianism هي شكل من الفلسفة الاخلاقية الذرائعية. انها تحكم على الافعال طبقا لنتائجها. لكن هناك العديد من الناس يعتقدون اننا يجب ان نأخذ بالاعتبار مظاهر اخرى للفعل. في حالة مأزق القطار، العديد من الناس يخشون من حقيقة انهم في حالة سحبهم لذراع التحكم فهم سيتورطون بوفاة شخص بريء. طبقا لفطرتنا الأخلاقية العادية، هذا يُعد شيئا خاطئا واننا يجب ان نصغي لضميرنا الأخلاقي العادي.

وهكذا فان ما سمي "نفعيو القاعدة" rule utilitarians يتفقون مع وجهة النظر هذه. هم يؤمنون باننا يجب ان لا نحكم على كل فعل تبعا لنتائجه. بدلا من ذلك، نحن يجب ان نؤسس مجموعة من القواعد الاخلاقية التي ترسخ أعظم سعادة لأعظم عدد من الناس في المدى الطويل. يجب ان نتبع تلك القواعد حتى عندما يكون اتّباعها في حالات معينة لا يؤدي الى أفضل النتائج.

لكن ما سُمي "نفعيو الفعل" Act utilitarians (1) يحكمون على كل فعل تبعا لنتائجه، ولهذا هم ببساطة يقومون بحساب رياضي ويسحبون المقبض. ايضا، هم يجادلون بان لا وجود هناك لإختلاف هام بين التسبب بالوفاة عبر سحب الرافعة  وعدم منع الموت بسبب عدم سحب الرافعة. المرء مسؤول بنفس المقدار على النتيجة في كلتا الحالتين.

اولئك الذين يعتقدون بصوابية تحويل الترام عادة يستندون الى ما يسميه الفلاسفة بـ "مذهب التأثير المزدوج". هذا المذهب يؤكد بانه من المقبول أخلاقيا عمل شيء يسبب أذى خطير في اطار تحقيق خير أكبر حين لم يكن الأذى الحاصل نتيجة مقصودة للفعل وانما أثر جانبي غير مقصود. لا يهم ما اذا كان الأذى الناتج يمكن التنبؤ به. بل المهم هو ما اذا كان الشخص ينوي ذلك.

مذهب التأثير المزدوج يلعب دورا هاما في نظرية الحرب العادلة. هو استُعمل احيانا لتبرير أفعال عسكرية معينة تسبب "أضرارا جانبية". مثال على هذه الأفعال تفريغ الذخيرة التي لا تدمر فقط الهدف العسكري وانما ايضا تسبب ضحايا كبيرة بين المدنيين. الدراسات تبيّن ان غالبية الناس اليوم، على الاقل في المجتمعات الغربية الحديثة، يقولون انهم سوف يسحبون ذراع التحكم. لكنهم يستجيبون بشكل مختلف عندما يتغير الموقف.

الرجل البدين

هنا الموقف ذاته كالسابق: القاطرة تهدد بقتل خمسة أشخاص. هناك رجل ثقيل جدا يقف على جدار فوق جسر يمتد على السكة الحديدية. يمكن ايقاف القطار عبر دفع الشخص السمين من الجسر نحو السكة امام القطار. هو سوف يموت لكن الخمسة اشخاص سيُنقذون. (انت لا يمكنك اختيار القفز امام القطار بنفسك طالما انت لست بدينا بما يكفي لوقفه).

من وجهة النظر النفعية البسيطة، المأزق هو ذاته – هل ستضحي بحياة  شخص واحد لأجل إنقاذ  خمسة؟ - والجواب هو ذاته: نعم. من اللافت، ان العديد من الناس الذين سوف يسحبون الرافعة في السيناريو الاول سوف لن يدفعوا الرجل في هذا السيناريو الثاني. وهذا يثير سؤالين:

السؤال الأخلاقي: اذا كان سحب الرافعة صائبا، لماذا يكون دفع الرجل خاطئا؟

احدى الحجج في التعامل مع هذه الحالة بشكل مختلف هي القول بان مذهب التأثير المزدوج لم يعد يُطبق لو ان شخصا دفع الرجل من الجسر. موته لا يشكل أثر جانبي مؤسف لقرار تحويل الترام، موت الرجل هو الوسيلة الوحيدة التي توقف الترام. لذا من الصعب علينا القول في هذه الحالة بان دفع الرجل من الجسر لم يكن بقصد التسبب بموته.

حجة اخرى متصلة جدا ترتكز على المبدأ الاخلاقي الشهير للفيلسوف الالماني عمانوئيل كانط (1724-1804). طبقا لكانط، نحن يجب دائما ان نعامل الناس كغاية بذاتهم وليس كوسيلة لغاياتنا الخاصة. هذا يُعرف بـ "مبدأ الغايات". من الواضح انه اذا انت تدفع الرجل من الجسر لوقف القطار، انت تستعمله كوسيلة. لكي تتعامل معه كغاية يعني احترام حقيقة انه كائن عقلاني حر، توضح له الموقف وتبيّن له ان التضحية بنفسه سينقذ حياة الاشخاص العالقين في السكة. بالطبع، لا ضمان بانه سيقتنع بالكلام، وقبل انتهاء النقاش يكون القطار قد مر سلفا تحت الجسر.

السؤال السايكولوجي: لماذا الناس يسحبون الرافعة ولا يدفعوا الرجل؟

السايكولوجيون يهتمون ليس في تأسيس ما هو صحيح او خطأ وانما في فهم لماذا يتحفظ الناس كثيرا من دفع شخص نحو موته بدلا من التسبب بوفاته عبر سحب الرافعة. السايكولوجي من جامعة يال بول بلوم Paul Bloom يرى ان السبب يكمن في حقيقة ان تسبّبنا بوفاة الرجل من خلال لمسه يثير فينا استجابة عاطفية قوية. في كل ثقافة، هناك نوع من التابو ضد القتل. عدم الرغبة في قتل شخص بريء بأيدينا متأصلة بعمق لدى معظم الناس. هذا الاستنتاج يبدو ينال الدعم من استجابة الناس لشكل آخر من المأزق الأساسي.

الرجل البدين يقف على باب في السقف

هنا الموقف كالسابق، ولكن بدلا من الوقوف على الجدار، الرجل البدين يقف على باب في السقف بُني داخل الجسر. مرة اخرى، انت تستطيع الآن ايقاف القطار وانقاذ حياة خمسة اشخاص بمجرد سحب الرافعة. لكن في هذه الحالة، سحب الرافعة سوف لن يحرف القطار. بل، سوف يفتح الباب في السقف، مسببا سقوط الرجل على السكة امام القطار. وبشكل عام، الناس غير مستعدين لسحب هذه الرافعة بنفس الطريقة التي يسحبون بها الرافعة التي تحرف القطار. مع ذلك، معظم الناس يرغبون بإيقاف القطار بهذه الطريقة بدلا من دفع الرجل من الجسر.

سيناريو الرجل البدين الشرير:

افرض الآن ان الرجل الذي على الجسر هو نفس الرجل الذي ربط الخمسة الأبرياء على السكة الحديدية.هل سترغب بدفع هذا الشخص نحو موته لإنقاذ الاشخاص الخمسة؟ الغالبية يقولون هم سوف يقومون بذلك، وهذا الفعل يبدو يسهل تبريره. بما انه يحاول عمدا التسبب بوفاة اناس أبرياء، فان موته يراه العديد من الناس امر مستحق تماما. الموقف سيكون اكثر تعقيدا لو ان الرجل مجرد شخص ما فعل افعالا اخرى سيئة. افرض في الماضي هو ارتكب جريمة او اغتصاب وانه لم يدفع أي تعويض على جرائمه. هل هذا يبرر انتهاك مبدأ الغايات لكانط واستعماله كوسيلة فقط؟

سيناريو وجود أحد الأقرباء على السكة

هنا آخر صيغة للدراسة. لنرجع الى السيناريو الأصلي – انت تستطيع سحب الرافعة لحرف القطار لكي يتم انقاذ حياة خمسة اشخاص وقتل شخص واحد – لكن في هذه المرة، الشخص الذي سيُقتل هو امك او أخوك. ماذا تفعل في هذه الحالة؟ وما هو الشيء الصحيح للفعل؟

النفعي الصارم ربما عليه قبول الموقف الصعب هنا ويرغب في التسبب بوفاة أعز اقربائه. بالنهايه، أحد المبادئ الأساسية للنفعية هي ان سعادة كل شخص تُحسب على قدم المساواة، وكما يوضح مؤسس النفعية الحديثة جرمي بنثام Jeremy Bentham: كل شخص يُحسب كشخص واحد، لا شخص أكثر من واحد. لكن هذا بالتأكيد ليس ما يفعله معظم الناس. الأكثرية قد تحزن على موت الاشخاص الخمسة الأبرياء، لكنهم لايستطيعون دفع أنفسهم للتسبب بوفاة محب من أجل انقاذ حياة الغرباء. هذا مفهوم جدا من وجهة النظر السايكولوجية. الناس مستعدون لرعاية منْ حولهم سواء في سياق التطور او من خلال تربيتهم. لكن هل يجوز أخلاقيا إبداء الأفضلية لعائلة شخص ما؟

هنا يشعر معظم الناس ان النفعية الصارمة غير واقعية وغير معقولة. نحن لسنا فقط نميل طبيعيا لتفضيل العائلة على الغرباء، وانما العديد يعتقدون انه يجب علينا ذلك. لأن الولاء هو فضيلة، والولاء للعائلة شكل أساسي من أشكال الولاء. لذا فان العديد من الناس يرون التضحية بالعائلة لأجل الغرباء يسير ضد الفطرة الطبيعية وضد غرائزنا الأخلاقية الأساسية.

***

حاتم حميد محسن

...............................

الهوامش

(1) الفرق بين نفعيو القاعدة (أنصار نفعية القاعدة) ونفعيو الفعل (أنصار نفعية الفعل) هو ان نفعيو الفعل يركزون على ما اذا كان الفعل جيدا ام سيئا. هم ينظرون الى نتائج الفعل وهل تؤثر على الناس الاخرين بطريقة جيدة ام سيئة. الافعال التي تجلب السعادة للعالم ككل وتقلل المعاناة هي أفعال جيدة، بينما الافعال التي تجلب المعاناة وتقلل السعادة هي أفعال سيئة. اما نفعيو القاعدة يهتمون بخيرية او سوء القاعدة الاخلاقية التي يتّبعها الفعل. هؤلاء يفضلون القواعد الاخلاقية الخيّرة على نتائج معينة لفعل معين، بينما نفعيو الفعل يركزون على هذه النتائج المعينة وليس على القاعدة.    

"إن احترام الحشود الوثني للتقاليد هو احترام مطلق، ورعبهم اللاواعي من كل المستجدات القادرة على تغيير ظروف وجودهم الحقيقية، عميق للغاية."

مقدمة

الحشود هي مزيج من الأفراد، الذين ينتمون جميعًا إلى مجموعات متعارضة مختلفة. ومع ذلك، إذا كان الحشد مرتبطًا في المقام الأول بمجموعة يمكن تحديدها، فإن قيم تلك المجموعة سوف تملي تصرفات الحشد. كما تشير الحشود إلى مجموعة غير منظمة تتكون من عدد كبير من الأشخاص الموجودين جسديًا في وقت واحد. يمكن أيضًا أن تلعب العواطف، مثل الخوف والغضب والنشوة، دورًا مهمًا في ديناميكيات المجموعة وتؤثر على سلوك أفراد الحشد. ويرتبط علم نفس الحشود أيضًا بفهم السلوك عبر الإنترنت، وخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي. فمتى ظهرت سيكولوجيا الحشود؟ وماهي تحولاتها النظرية؟

ولادة سيكولوجيا الحشود

نحن في نهاية القرن التاسع عشر، كان المؤلف شاهدا على حقبة فوضوية وغير مؤكدة، وهي فترة انتقالية، تميزت من ناحية بانهيار الركائز الدينية والأخلاقية التي قامت عليها الهياكل السياسية والاجتماعية الأوروبية. وعلى الجانب الآخر بظهور ظروف معيشية وأفكار جديدة تمنح الجماهير الطبقات السياسية والنقابات والجمعيات المهنية وغيرها سلطة شبه مطلقة كانت في السابق للملوك والأمراء ورجال الدين المبادرين السابقين والحركات والتغيرات فإن هذا الخط من القطيعة الوحشية بين العالم القديم المدمر والعالم الجديد في مرحلة الحضانة يكشف لنا أن تغييرا جذريا قد حدث في روح الشعب، في الأساس الوراثي للمعتقدات والأفكار. لقد حدث هذا الانقلاب التاريخي في حمامات الدم والدموع وأفظع الانتهاكات التي ارتكبتها حشود بربرية جامحة تظهر، حسب إثارة اللحظة، أعمالاً إجرامية بغيضة، ولكنها أيضاً تحمل سمات أخلاقية فاضلة. لذلك كان من الأهمية العملية، من وجهة نظر غوستاف لوبون، تحليل الآليات النفسية والفكرية التي تكمن وراء ديناميكية الحشود، من خلال العمليات العلمية الأكثر صرامة، وبالتالي وضع حجر الزاوية في نظام جديد للمعرفة قادر على تسليط الضوء على عدد كبير من الظواهر التاريخية والاقتصادية التي ظلت حتى ذلك الحين غير مفهومة تمامًا. لقد أتي كناب سيكولوجية الحشود من عملية التصنيع في القرن التاسع عشر في أوروبا الغربية، ولكن بشكل خاص في فرنسا. وأدت هذه العملية إلى انهيار الروابط الاجتماعية التقليدية. تم إنشاء مجتمع جماهيري، حيث لم تعد الطبقات العاملة، المنفصلة جغرافيا، مرئية للسلطات. كان الخوف الأكبر في ذلك العصر هو أن تبدأ هذه الجماهير في عدم الإيمان بالنظام الاجتماعي القائم، أو حتى مهاجمته. ولكن إذا كانت الجماهير تمثل خطرا محتملا، فإن الحشود والجماهير في العمل تشكل خطرا حقيقيا للغاية. وهكذا تركز خوف الجماهير في العداء للجماهير. ومن بين المنظرين الأوائل، غوستاف لوبون، الذي كتب اسمه في التاريخ أكثر من كل الآخرين. يُعد عمله الذي صدر عام 1895 بعنوان "علم نفس الحشود" الكتاب الأكثر تأثيرًا في تاريخ علم النفس الاجتماعي. ويجادل بأن الأفراد في المجموعات غالبًا ما يتصرفون بشكل مختلف عما يتصرفون في عزلة. ومع ذلك، ووفقا له، فإن نهاية النظام القديم أحدثت تغييرا جذريا في روح الناس وأدخلت المجتمعات إلى "عصر الحشود". يطور العمل فكرة أن الحشود لا تتصرف بعقلانية، بل تسترشد أكثر بالعواطف والدوافع غير العقلانية.  يشرح لوبون سلوك الجمهور بناءً على ثلاث عمليات مرتبطة:

الغمر: يكتسب الفرد وسط حشد من الناس، من خلال الأعداد الهائلة، شعورًا بالقوة التي لا تقهر، مما يسمح له بالاستسلام لغرائزه.

العدوى العقلية: في الحشود، يكون كل شعور وكل فعل معديًا، ومعديًا إلى درجة أن الفرد يضحي بسهولة بمصلحته الشخصية من أجل المصلحة الجماعية.

الاقتراح: عندما يفقد الناس شخصيتهم الفردية وسط الحشد، فإنهم يعودون إلى اللاوعي العنصري. إن المشاعر والأفكار التي يقترحها اللاوعي تتحول فورًا إلى أفعال من خلال العدوى. علاوة على ذلك، فإن اللاوعي العرقي هو رجعي. إنها بقايا قديمة نتقاسمها، أقدم من الحضارة، وحتى من العقل. وبالتالي، فإن سلوك الحشود، المسيطر عليها، هو أيضًا سلوك رجعي.

الخصائص العامة للحشود والقانون النفسي لوحدتهم العقلية

يرتكز جسم نظرية لوبون على مبدأ مفاده أن الجمهور يجب تحليله باعتباره كيانًا نفسيًا غير قابل للاختزال في العناصر التي يتكون منها. هذه الفكرة الأساسية تميز الجمهور من الناحية النفسية عن مجموع الأفراد البسيط. فالحشود تحكمها "وحدة ذهنية" و"روح جماعية" مؤقتة، والتي تدمج وتوجه جميع الأفراد في نفس الاتجاه. إن هذا التساوي العاطفي والفكري يخدر كل الإرادة الشخصية ويلغي كل القدرات الفردية التي تميز بشكل طبيعي العناصر غير المتجانسة: فالفيلسوف في الجمهور ليس أكثر ذكاءً من شخص أمي بسيط. وفقا للمؤلف، فإن روح العرق مجموعة الخصائص المشتركة التي تفرضها الوراثة على جميع أفراد العرق هي الركيزة اللاواعية التي تتراكب عليها الخصائص الخاصة التي يمكن أن يكتسبها الجمهور على وجه الخصوص. ومع ذلك، فإن تكوين "الروح الجماعية" من خلال تقاسم الصفات العادية ليس مصدرًا للذكاء، بل هو مصدر للوسطية والغباء والدناءة. كما يرى غوستاف لوبون أن الجماهير تطور هذه الشخصيات الخاصة من خلال ثلاث حالات نفسية: اللامسؤولية، والعدوى، والإيحاء.

يسيطر الشعور بعدم المسؤولية على الحشود: فالانتماء إلى جمهور يخدر الموانع ويمنح الفرد شعورًا بـ "القوة التي لا تقهر". هكذا تشير العدوى إلى ميل الأفراد في حشد من الناس إلى اتباع الأفكار السائدة، بلا منازع، وتحفزهم المشاعر المشتركة: المصلحة الجماعية تحل محل المصلحة الفردية. كما تتميز القابلية للإيحاء بالميل إلى تحويل الأفكار المقترحة إلى أفعال على الفور، حيث يكون الجمهور في حالة من "الانتباه المتوقع"، مثل شخص منوم مغناطيسيًا. هذه الحالة تنبع من روح قديمة غير واعية، وعلاوة على ذلك، من طبيعة بدائية. يتلاشى الوعي وتدمر القدرات الفكرية بشدة. كما تتمثل مشاعر الجماهير والأخلاق في الاندفاع والتنقل والتهيج لدى الحشود ومثل الكائنات البدائية التي يحكمها العقل الغريزي المندفع، فإن الجمهور النفسي هو موضوع العديد من الإزعاجات والإثارة. وهي بطبيعتها متحركة وديناميكية، قادرة على الانتقال من الفظائع الرهيبة إلى البطولة الأكثر مطلقة. يمكن أن يمر تباعًا عبر مجموعة من المشاعر المتغيرة الأكثر تناقضًا، لكنه دائمًا ما يكون تحت تأثير إثارة اللحظة. تريد الحشود الأشياء بشكل محموم، ولا تريدها لفترة طويلة. "إنهم غير قادرين على الإرادة الدائمة كما هم غير قادرين على التفكير." في حالات الجنون، يستسلم الجمهور الذي تقترحه أفكار القتل والنهب للإغراء. كما يحدث الإيحاء وسذاجة الحشود ويؤكد غوستاف لوبون أن حالة الترقب لدى الجماهير تزيد من تأثير الاقتراحات عن طريق العدوى وتسهل تحويل الأفكار إلى أفعال. ومع خلوها من أي روح انتقادية، لا يمكن للحشود إلا أن تظهر سذاجة شديدة. يتغير أيضًا إدراك الأحداث ومراقبتها: لا يوجد شيء بعيد الاحتمال بالنسبة للجمهور. يمكن لهذه الحالة الذهنية أن تفسر العدد الكبير من الهلوسة الجماعية التي تعاني منها الحشود. تم إنشاء معظم الأساطير والخرافات عن طريق تشويه الأحداث العادية. بالكاد يفصل الحشد بين الذاتي والموضوعي. إنها تقبل الصور المثارة في ذهنها على أنها حقيقية، والتي غالبًا ما تكون لها علاقة بعيدة مع الحقيقة المرصودة. كما يتذكر غوستاف لوبون أن “ما يراه الراصد بعد ذلك لم يعد الشيء نفسه، بل الصورة المثارة في ذهنه. إن الأبطال الأسطوريين، وليس الأبطال الحقيقيين على الإطلاق، هم من أثروا في نفوس الجماهير. لذلك تظهر المبالغة في المشاعر وتبسيطها والبساطة والمبالغة هما سمتان شخصيتان مشتركتان بين جميع الجماهير. ويميل هؤلاء الأخيرون إلى النظر إلى الأمور ككل فقط، حيث لا يمكن الوصول إلى الدول الانتقالية لعقولهم البدائية. ونظرًا لعدم قدرتها على اكتشاف الفروق الدقيقة، فإن الجماهير لا تعرف الشك أو عدم اليقين. مجرد الشك واضح. إن المبالغة في الشعور تؤدي حتماً إلى القوة الوحشية وإلى التجاوزات الأكثر بؤساً. في هذه الحالة الغامرة من المشاعر المتطرفة، يكون الجمهور متقبلًا عاطفيًا فقط للخطب العنيفة التي تستحضر صورًا من اللاوعي الجماعي. ولذلك فإن الجمهور محكم لأي شكل من أشكال الحجة الذكية. كما يسيطر التعصب والاستبداد والمحافظة على الحشود ويرى غوستاف لوبون أن الجماهير تمتلك عقلًا ثنائيًا يقبل المعتقدات جملة واحدة كحقائق مطلقة، أو يرفضها باعتبارها أخطاء لا تقل مطلقًا. وبسبب عدم قدرتها على تحمل التناقض والمناقشة، أصبحت الحشود سلطوية وغير متسامحة تجاه المعارضين المفترضين. هذه الحالة الذهنية الخاصة بالكائنات "المتقلصة" نفسيًا وفكريًا تدفع الحشود إلى البحث عن الأمن والاستقرار من المعتقدات الراسخة أو من سلطة قوية وحمائية. يشير هذا إلى سمة شخصية أخرى نموذجية للحشود، وهي محافظتهم فيما يتعلق بالأفكار والمعتقدات والعادات المحفورة في مخيلة المجموعة. اما أخلاق الحشود فتتمثل في ان الطبيعة الغريزية والاندفاعية للحشود لا تعني أنها ليست عرضة للأخلاق "الفاضلة". ويظهر الأخير في شكل أعمال التضحية بالنفس والتضحية بالمصلحة الشخصية والتفاني المطلق. غالبًا ما يتم تحفيز هذه الأخلاق غير الرسمية من خلال استحضار مشاعر المجد والشرف والدين والوطن. من هذا المنطلق تستطيع الحشود أن تهاجم قصرًا وتدمر كل شيء فيه، باسم فكرة هي نفسها لا تفهمها، دون أن يسرق أحد أفراده شيئًا واحدًا من القصر. من المؤكد أن هذه المظاهر اللاواعية للأخلاق الرفيعة تنبع من روح غير آمنة نفسياً؛ ومع ذلك، فمن الواضح أنه بدونها لم تكن التغيرات العظيمة في تاريخ البشرية لتحدث أبدا. في نظرية لوبون، يبدو الجمهور وكأنه يتصرف بمفرده. وهكذا، فإن علم النفس يبدأ بفعل الخروج عن السياق. إذا لم نتمكن من تفسير السلوكيات من خلال الإشارة إلى السياق، فيجب علينا ربطها بشيء مستقر وداخلي للجمهور. إن العمليات الجماعية الجارية في الصراع الطبقي في نهاية القرن قد اختزلت بعد ذلك في شيء واحد: اللاوعي الجماعي الرجعية. بالإضافة إلى أنها تبدو غير عقلانية. وليس هناك سبب يغضب فيه الرعاع، ثم يخضعون، ويهاجمون، ثم يتراجعون، إلا على فعل من خالفهم. وبالتالي، فإن الخروج عن السياق يؤدي أيضًا إلى إضفاء الطابع المرضي على الحشود. إذا كان لوبون يفصل الجمهور عن المجتمع على المستوى الوصفي، فإن هذا هو الحال أيضًا فيما يتعلق بالعمليات النفسية البشرية التي يفترضها مسبقًا. بالنسبة له، تعتمد العقلانية والسيطرة على السلوك فقط على الهوية الشخصية لكل فرد. إنها الهوية الوحيدة الموجودة، وبالتالي الأساس الوحيد للسيطرة. الوظيفة الوحيدة للسياق الاجتماعي هي تحديد ما إذا كانت هذه الهوية تعمل أم لا. وفي حالة الجمهور، فإن الأمر لا ينجح، ولهذا السبب يفتقر سلوك الجمهور إلى العقل والسيطرة. وهكذا فإن سيكولوجية لوبون تشتمل على ثلاثة عناصر أساسية:

يشير إلى أن السلوك الجماعي يكون دائمًا على مستوى فكري أقل. لذلك من غير المجدي أن نأخذ على محمل الجد مطالب الحشود، التي بحكم تعريفها تفتقر إلى العقل. فهو لا يسمح لنا أن نتساءل عما إذا كان الظلم الاجتماعي يمكن أن يكون أصل أعمال الحشود، ولا ما إذا كانت تصرفات الشرطة يمكن أن تلعب دورًا في بدء العنف وتعميمه. ان العنف هو ببساطة انعكاس للطبيعة الرجعية للحشود. وهكذا فإن سيكولوجية الجماهير تنكر مسؤولية القوى الاجتماعية. وإذا كانت الحشود عنيفة دائمًا أو لديها دائمًا إمكانية أن تكون عنيفة، فلا يمكن التعامل معها إلا بالقوة. تشكل سيكولوجية الحشود أيضًا أداة لإضفاء الشرعية على القمع. كما تكشف سيكولوجية الحشود أنهم يتأثرون بسهولة. إنهم مندفعون وسريعو الانفعال، ويمكن في الواقع أن يكونوا متحمسين بسهولة وبسرعة من خلال مجموعة من المشاعر الأكثر تناقضًا. يجادل غوستاف لوبون بأنهم "غير قادرين على الإرادة الدائمة كما هم غير قادرين على التفكير". ثم تحدث ظاهرة العدوى بشكل عفوي في الحشد: تنتشر الفكرة السائدة في العقول التي تحركها المشاعر المشتركة حتى يتم استبدال المصلحة الجماعية بالمصلحة الفردية. إن الجمهور قابل للإيحاء وساذج للغاية، ثم يدرك الأحداث بذاتية كاملة حيث لا يوجد شيء غير محتمل، إلى حد الهلوسة الجماعية، ثم يحول الاقتراح المستلم إلى عمل. "كما هو الحال مع جميع الكائنات المقترحة، فإن الفكرة التي غزت الدماغ تميل إلى التحول إلى عمل. سواء أكان الأمر يتعلق بحرق قصر أو عمل تكريسي لأدائه، فإن الجمهور يفسح المجال له بنفس السهولة. ومع ذلك، فإن فكرة بسيطة وغامضة ومطلقة مقدمة في شكل صورة مثيرة للإعجاب هي وحدها التي يمكن أن تنجح في تلويث حشد من الناس، لأن عقلها البدائي غير قادر على معالجة نظرية مفصلة، ولا حتى فارق بسيط أو نسبية، الأمر الذي من شأنه أن يشكل عقبة. لرغبته المباشرة. يتكون "استدلاله" في الواقع من ربط الأفكار والصور دون روابط منطقية. تتمتع بخيال قوي وسريع التأثر، يميل إلى إعطاء بعد غامض وأسطوري للأحداث الجماعية. سيكولوجية الحشود تجعلهم يعتمدون على القائد. بسبب التهيج والاندفاع، لا يمكنهم النجاح في الانضباط الذاتي؛ ولهذا السبب يحتاجون إلى قائد موحد يجسد تطلعاتهم ويسمح لهم بالتغلب على انعدام الأمن النفسي لديهم. يرسم غوستاف لوبون الصورة التالية: إنه انسان العمل البليغ، يتمتع بإيمان لا يتزعزع بالانتشار المثالي بين الجماهير، وهو على استعداد للتضحية بكل شيء من أجله؛ يُنظر إلى كلماته على أنها مقدسة، وأوامره لا تقبل الجدل، وقد أصبح أسطورة - فهو يستحضر في أذهان الناس صورة المرشد القادر على قيادة الحشد نحو مصيرهم الوهمي. ويضرب عالم النفس على وجه الخصوص مثال نابليون الأول، وهو قائد بارز للرجال. ينجح مثل هذا القائد في تحويل الجماهير إلى الإيمان بمشروعه من خلال تأكيد وتكرار نفس الرسالة حتى تبدأ العدوى. وتعتمد قوته في الإقناع إلى حد كبير على مكانته، مما يجعله قادرًا على السيطرة عاطفياً على الجماهير من خلال شل حكم الأفراد. كتب غوستاف لوبون: "أسئ معاملة الناس بقدر ما تريد، واذبحهم بالملايين، واجلب الغزوات تلو الغزوات، كل شيء مباح لك إذا كنت تمتلك درجة كافية من الهيبة والموهبة اللازمة للحفاظ عليها". ومع ذلك، لا يتطلب الأمر سوى علامة ضعف واحدة أو نجاح أقل لزعزعة سيادة الهيبة على النفوس. اما الأفكار والتفكير والخيال فهي مخلفة عند الحشود لنها محافظة في الأساس، وتغيير أفكارها الأساسية يحدث ببطء على مدى عدة أجيال. وقد يظهرون، في بعض الأحيان، حماسة عرضية لأفكار عابرة أو مذاهب شعبية، لكن تأثيرهم عابر. لكي يتم قبول الفكرة من قبل الجمهور، يجب أن تكون بسيطة، وسيئة التعريف للغاية، ومطلقة، وتأخذ شكل صورة واضحة وتثير إعجاب الخيال الجماعي. لذلك، يجب تقديم الأفكار والنظريات الفلسفية الأكثر تفصيلاً في شكل أقل دقة بكثير، وتجريدها من عظمتها الأصلية، للوصول إلى العقل التصميمي البدائي للجماهير، مع تأخير طويل. هكذا لم تتمكن الأفكار التي طورها فلاسفة التنوير من "النزول" إلى الجماهير إلا بعد عدة عقود، لكنها بمجرد أن ترسخت في العقول، هزت الجماهير بما يكفي لتكون في طليعة الثورة. ان تفكير الجماهير يتبع تسلسلًا بسيطًا للغاية ويتميز بربط الأفكار والصور دون روابط منطقية. إن مفاهيم الفروق الدقيقة والنسبية تفلت تمامًا من الذكاء البدائي للجمهور. إن التفكير، الذي يتطلب جهدًا للتفكير، يؤدي إلى نتائج عكسية ويشكل عقبة أمام الرغبة المباشرة للجمهور: على العكس من ذلك، هناك حاجة إلى فكرة استثنائية ذات كثافة عاطفية قوية لإغواء وإقناع الجمهور النفسي. اما خيال الحشود فمن المقبول أن الكائنات الأدنى الأقل تطورًا نفسيًا وفكريًا تطور خيالًا تمثيليًا نشطًا للغاية وقويًا للغاية وسريع التأثر. في حالة الشخص المنوم مغناطيسيًا هو الحشد، فإن الصور التي تستحضر ذكرى مؤلمة أو شخصية مبجلة أو مجد الماضي لها حيوية الأشياء الحقيقية. في حشد من الناس تحت تأثير الإيحاءات القوية، يمكن أن يظهر الوهم والهلوسة بسهولة من خلال عملية العدوى. تفضل هذه الركيزة العاطفية البدائية الجانب الغامض والأسطوري للأحداث التي تحضرها الحشود. هؤلاء يميلون بطبيعتهم إلى التأثر فقط بالصور الأكثر كثافة والأكثر لفتًا للانتباه والبعيدة الاحتمال. ان العقول الصغيرة تكره التفاصيل المملة، وتفضل بدلاً من ذلك العموميات وتكثيف الحقائق والصور والآراء. إن تقديم حادث تحطم طائرة يخلف مائة ضحية بعاطفة زائدة، يستحوذ على عقول الناس أكثر من آلاف حوادث السيارات سنويًا، مما يتسبب في عشرات الآلاف من الوفيات. في هذا الصدد، أشار المؤلف إلى نظام ضريبة القيمة المضافة باعتباره أحد أكثر الحلول الضريبية ذكاءً. إن دفع مبلغ كبير موزعًا على فترة زمنية أكثر قبولًا لدى الجمهور من دفع مبلغ أصغر دفعة واحدة. والحق ان الأشكال الدينية التي تتخذها جميع معتقدات الحشود اذ تترك المشاعر الدينية بصماتها على جميع فئات القناعات التي يتبناها الجمهور. ويشمل هذا الشعور جميع المظاهر الخاصة بالمعتقدات الدينية: اللاتسامح، والاستبداد، والتعصب تجاه المعارضين، والخضوع الأعمى، والدوغمائية، والمحافظة، والتطرف. يكفي إخضاع الجسد والروح لفكرة أو لشخص أو منظمة لتطور أعراض الشعور الديني دون وعي. يمكن للملحد المتعصب، والقومي المتطرف، والعنصري الفاشي أن يظهر سمات التدين تمامًا مثل الأصولي الديني. هذه الأوقات لم تنته بعد. فيما يتعلق بهذه النقطة، كان لوبون قاطعا: "ولا ينبغي لنا أن نعتقد أن هذه خرافات من عصر آخر، وقد رفضها العقل بشكل نهائي. في صراعه الأبدي ضد العقل، لم يُهزم الشعور أبدًا. اما آراء الجماهير ومعتقداتها والعوامل البعيدة في المعتقدات وآراء الجماهير فإن ولادة الأفكار في نفوس الجماهير تتبع عملية إعداد طويلة تعتمد على عدة عوامل بعيدة ترتبط بالعرق والتقاليد والمؤسسات والتعليم. وعلى هذه الأرض، المخصبة بالأعمال الأدبية والفلسفية والعلمية، يحدث ازدهار الأفكار الجديدة تحت التأثير الملح لعوامل مباشرة أخرى: الصور والكلمات والصيغ. لذلك العرق هو العامل القوي الذي يحدد، من خلال هذه القوانين الوراثية، جميع الاقتراحات الاجتماعية في الوقت الحالي. كل ما تبقى من التاريخ محفور في الجينات العنصرية. تحت الطبقة السطحية من الحشد يكمن دلو الأسلاف. بعد ذلك تم العثور على تركيب العرق في التقاليد. تدعم نظرية التطور حقيقة أننا لا نستطيع فصل الكائن الحي عن ماضيه الذي يشكل هويته. الزمن وحده هو المسؤول عن تغيير التقاليد عندما تفقد فائدتها. لذلك يوصي غوستاف لوبون بإيجاد وسط سعيد بين الاستقرار والتقلب لتحقيق تغيير العادات بسلاسة.  ان الزمن هو القوة العليا المسؤولة عن خلق الأفكار والمعتقدات والحضارات وتحويلها وتدميرها. في الزمن يتم إنجاز الأحداث الأسطورية، وفي قبره يتم دفن الإمبراطوريات التي لا تقهر. اما المؤسسات السياسية والاجتماعية فلا يوجد مرسوم، ولا توجد مؤسسة لديها القدرة على إحداث تغيير في الطابع المشترك للأمة. وحده التحول البطيء لقوانين العرق يسمح بذلك. لذلك يرى غوستاف لوبون أن الأنظمة والمؤسسات السياسية تحددها عوامل عنصرية وعادات خاصة بكل شعب، وليس العكس. أسماء المؤسسات هي مجرد تسميات ليس لها أي قيمة جوهرية. إن الاستخدام الذي نستفيد منه هو المهم. ومن الواضح أن هذا الاستخدام يرتبط بالعوامل الأساسية للسباق. على سبيل المثال، كان للديمقراطية في البلدان اللاتينية دلالة مختلفة تمامًا عن تلك التي أعطاها الأنجلوسكسونيون لنفس المفهوم السياسي. كما يحدث أن ينتفض شعب ضد مؤسسة ما، لكن بعد الاسترضاء، يعيد جوهر المؤسسات المسقطة إنتاج نفسه من جديد تحت مسميات أخرى. يقول لوبون أن: "إن ما أثر في نفوس الجماهير هو الأوهام والكلمات. الكلمات قبل كل شيء، هذه الكلمات الخيالية والقوية التي تستعرض إمبراطوريتها المذهلة." اما التعليم، مهما كان فعالا، ليس لديه القدرة على تغيير أو تحسين الغرائز الوراثية أو أخلاق المواطنين تلقائيا. واستنادًا إلى المبدأ القائل بأن التعليم المقدم لشباب بلد ما يشكل ببطء الروح المستقبلية للأمة بأكملها، يخصص غوستاف لوبون جزءًا كبيرًا لانتقاد النظام التعليمي الفرنسي في ذلك الوقت. ويصفها، على وجه التحديد، بأنها مصنع لإنتاج خريجين غير مؤهلين، محتجزين، خلال سنواتهم المفيدة والناشطة، في مدرسة، ورؤوسهم محشوة بكومة من الأدلة النظرية عديمة الفائدة. كما يؤدي عدم التوافق هذا بين الواقع المهني ومحتوى الدراسات إلى زيادة عدد العاطلين المتمردين جيوش البروليتاريين الفوضويين ويمهد الطريق لضيق اجتماعي يمكن أن ينفجر في أي وقت. وبالتالي فإن حل هذا التناقض يكمن، حسب المؤلف، في إنشاء تعليم مهني يعزز روح المبادرة والمبادرة بين الشباب. يعتمد هذا النظام على الانغماس المباشر للطلاب، بعد بعض المتطلبات الأساسية، في عالم العمل. على أرض الواقع فقط، يستطيع كل مرشح التقدم بالسرعة التي تناسبه وتسلق السلم وفقًا لمهاراته وأدائه. العوامل المباشرة لآراء الجماهير يعتمدها التقبل الخاص بالحشد على العوامل الأساسية المفصلة سابقًا. وعلى هذا الأساس يتم فرض عوامل مباشرة أخرى الصور، والكلمات، والأوهام، وما إلى ذلك قادرة على التلاعب بروح الجمهور ودفعه إلى العمل في اتجاه محدد جيدًا. كما ان الصور والكلمات والصيغ في حشد من الناس، ليس للكلمات أي معنى حقيقي باستثناء الصور الحية التي تثيرها وتستحضرها في الخيال الجماعي. إن قوة الكلمة مرتبطة بالتطلعات والآمال التي تثيرها في نفوس البشر. إن المصطلحات الأكثر سوءًا في التعريف الديمقراطية، الحرية، وما إلى ذلك هي التي تمارس سحرًا كبيرًا على الجماهير، من خلال أوهام السعادة والرفاهية التي تبثها. في هذا المجال، يستخدم كبار المتلاعبين بالحشود الكلمات المناسبة التي تمارس تأثير السحر على عقول الرجال ومشاعرهم. لذلك يؤكد غوستاف لوبون أنه بعد الثورات الأكثر دموية، تلبس المؤسسة الجديدة الهياكل القديمة المقلوبة بأسماء جديدة لجعل الناس ينسون صور الماضي المؤسفة، التي تثيرها الكلمات القديمة. "وهكذا حلت براءة الاختراع محل الضريبة المفروضة على الأسياد والمحلفين، وأصبح الحجم مساهمة في الأرض...". وبالمثل، فإن اشتراكية القرن التاسع عشر لا توحد الطبقة العاملة بفضل ذكاء النقد الماركسي، ولكن لأن بعض الشعارات المبسطة يمكن أن تكون بمثابة شعار لجماهير الأغنام الممجدة. إن فن قيادة الجمهور هو إدخال محتوى الرسالة في حاوية الصورة. ومن الواضح أن هتلر لم يخترع أي شيء. تم إنشاء الأنظمة الأكثر استبدادًا وتدميرًا للحرية من قبل رجال دولة يتمتعون بالذكاء والفن لاستخدام الكلمات التي تستحضر الحرية والمساواة والمجد والأخوة. اما الأوهام والآمال الوهمية فهي التي تحرك الحشود، وهي التي تصنع وتحطم الحضارات العظيمة. وهذا ليس مجرد عيب، فتاريخ البشرية سيكون كتابا فارغا بلا روح ولا لون لولا كل هذا التراث الموروث على شكل آثار وأعمال فنية ومكتبات، بما في ذلك الإلهام الأساسي، على وجه التحديد، الديني والسياسي. والأوهام الاجتماعية . على الرغم من أن العلم يحاول، عبثًا، إحباط العقول من خلال اختزال الظواهر إلى واقعها الأكثر وضوحًا، إلا أن العامل الأكبر في تطور الشعوب لم يكن أبدًا الحقيقة غير السارة، بل الخطأ المغري. وفي هذا أوضح غوستاف لوبون أن: “من يعرف كيف يخدعهم هو سيدهم بسهولة؛ ومن يحاول أن يخيب آمالهم فهو دائما ضحيتهم".  من المقبول عمومًا أن التجربة هي الترياق الفعال لأشد الأوهام ضررًا. ولسوء الحظ، فإن خيبات الأمل الكبيرة لا تتحقق إلا من خلال التجارب الأكثر مأساوية. لقد تطلب الأمر، على سبيل المثال، حربين كوكبيتين لجعل الناس يظهرون الثمن الذي يجب دفعه مقابل الفاشية والاستعمار والعدوان على سيادة الدول الأخرى. كما يعفي التكوين العقلي البدائي للحشود من أي شكل من أشكال التفكير المنطقي. ومن ناحية أخرى، فهم يتأثرون بالصور الموحية الناجمة عن الارتباطات الخام للأفكار الشكل البدائي للتفكير. وهكذا يبقى الخطاب العلمي عاجزا أمام إمبراطورية الخرافات والستار المنيع لمشاعر فئة من المتعصبين. ومع ذلك، فإن هذه العيوب في التفكير الخاص بالحشود هي، على وجه التحديد، المحركات الأساسية التي تؤدي إلى جمود التاريخ. إن الأديان والإمبراطوريات الكبرى لم تبنى بتعزيز العقل، بل بكلمات غامضة مثل حب الوطن، وكلمة الله، والشرف والمجد. أما بخصوص قادة الحشود ووسائل إقناعهم فإن التهيج والاندفاع الذي يميز ديناميكيات الحشود يجعلهم غير قادرين على الانضباط الذاتي، ويشعرون بالفوضى والفوضى دون وجود "قائد" موحد يجسد أفكار وتطلعات المجموعة. وراء قوة المجموعة وعددها يكمن التعب والخنوع والضعف وانعدام الأمن النفسي لدى الكائنات البدائية. خاليًا من أي إرادة شخصية، يلجأ أعضاء الحشد إلى "القائد" الذي يمتلك واحدة. غالبًا ما يكون رجل أفعال، ونادرا ما يكون رجل فكر، وخطيبًا ماهرًا، ولديه إيمان لا يتزعزع، وإرادة حديدية، ومستعد للتضحية بكل شيء من أجل المُثُل التي يدافع عنها. يتم تأليه قائد الشعب دائمًا من قبل الجمهور، وكلماته المقدسة هي أوامر لا جدال فيها، ويتم رفع شخصه إلى مرتبة الأساطير. وهنا أيضاً ما يهم الجماهير ليس الطبيعة الإنسانية المشتركة للزعيم، بل الصورة التي يستحضرها في أذهان الناس. ترتبط صورة الدليل هذه بدقة بالتطلعات الخيالية للجمهور. وكثيرا ما يستشهد غوستاف لوبون كمثال على هذه الظاهرة بالنجاحات التي حققها نابليون الأول، وهو قائد بارز للناس. كما يخوض في وسائل عمل القادة؛ التأكيد، التكرار، العدوى ويرى أن آلية تحويل الجماهير إلى معتقد أو جعلهم أتباعا لفكرة ما تقوم على التوكيد والتكرار والعدوى. إن الأفكار المقدمة بطريقة حازمة وإيجابية وبسيطة وخالية من أي منطق أو برهان تتغلغل في أذهان الجماهير دون صعوبة كبيرة. التكرار هو العملية التي تسمح للأفكار بأن تكون جزءا لا يتجزأ من اللاوعي بشكل دائم كحقيقة مطلقة. اليوم، تُستخدم هذه العمليات بشكل جيد في التسويق والإعلان والسياسة والحرب النفسية وخلق تيارات الرأي. لتشويه سمعة أي سياسي في نظر الرأي العام، ليس هناك شيء أفضل من الإعدام خارج نطاق القانون في وسائل الإعلام حيث يتم إعادة إنتاج نفس التصريحات الشيطانية بلا كلل. ثم تتدخل الآلية الطبيعية للحشود: العدوى والتقليد. هذه القوة الجبارة التي تتسبب في انتقال الأفكار من عقل إلى آخر عبر قوة غير مرئية مثل الموجة المغناطيسية أو التخاطرية. كما يمكن الاستشهاد بالموضة كمثال على قوة العدوى في أذهان مجموعة معينة من المستهلكين. ونلجأ في هذا المجال إلى النماذج التي يمكن للكتلة اللاواعية تقليدها بسهولة. يرتبط المنتج، مهما كان تافهًا، بصورة أحد المشاهير (ممثل، رياضي، وما إلى ذلك) الذي يروج له من خلال هيبته المهيمنة. علاوة على ذلك فان الهيبة هي الهيمنة العاطفية المشلولة التي تمارس على العقول من خلال القوة المغناطيسية لمعتقد أو شخص أو إله. الهيبة لا تقبل النقاش، وتحجب كل حكم، وتمنع الفطرة السليمة من التمييز بين الحق والخطأ. إن الهيبة التي تمارس على الجماهير هي التي بنيت عليها الأديان العظيمة وأمجاد الأباطرة واضطهاد الطغاة الأكثر رعبا. يقول غوستاف لوبون: "أسئ معاملة الناس بقدر ما تريد، اذبحهم بالملايين، اجلب الغزوات تلو الغزوات، كل شيء مباح لك إذا كنت تمتلك درجة كافية من الهيبة والموهبة اللازمة للحفاظ عليها". وفي المقابل فإن الفشل والضعف والنقاش يفقد الهيبة تأثيرها في النفوس. الهيبة لا تُكتسب بالإقناع واللطف، بل بالإعجاب. حول حدود تنوع معتقدات وآراء الحشود يميز لوبون بين المعتقدات الثابتة والمتغيرة ويرى ان هناك أسئلة فلسفية تظل بلا إجابة إلى الأبد: بأي قوة غير مرئية يمارس الرجل الميت، من أعماق قبره، استبدادًا عاطفيًا على أرواح الحشود؟ كل حضارة مبنية على هيكل جامد وثابت يتكون من المعتقدات الدائمة والخصائص الخاصة بالعرق. لا تخضع هذه الركائز للتغيير إلا بثمن باهظ يتمثل في تمزق مؤلم واضطرابات كبيرة، عندما يفقد الإيمان تأثيره على النفوس بشكل شبه كامل. ولذلك يدافع الناس بشراسة عن قناعاتهم مهما كانت سخافتها الفلسفية، لأنها تشكل أساس توازنهم النفسي. ويخلص غوستاف لوبون إلى أن زلزال التغيير يأتي من التصدع العميق للمعتقدات. ثم نشهد، في الوقت نفسه، تشنجات المعتقدات المحتضرة والظهور غير المؤكد لقناعات جديدة. الأمة التي ليس لديها معتقدات قوية هي جثة بلا روح. من الناحية النفسية، يفقد اللاوعي توازنه وثباته عندما تهتز العقائد الراسخة فيه تحت ضوء العقل أو تفقد قوتها العاطفية. اما الآراء المتنقلة للحشود وعلى هذه الأسس الصلبة تتعاقب أفكار جديدة لحظية، عابرة، تولد وتختفي وفقًا لفائدتها في وقت معين، ولكنها مطبوعة بصفات العرق ومُثُله. إن النظريات الأكثر صحة من الناحية الفلسفية لا يمكن أن تدوم طويلاً إذا كانت تتعارض مع توجهات المعتقدات العميقة جدًا. واليوم، تتجلى هذه الملاحظة بشكل واضح في تأثير وسائل الإعلام والإنترنت وتكنولوجيات المعلومات الجديدة على العقول وعلم النفس. إن الجهات المنظمة للرأي كثيرة جداً، ومصادر المعرفة والمعلومات متعددة، مما يجعل من الصعب على الحشود أن تسترشد بمركز نفوذ أو قوة واحد. ويشير المؤلف إلى أن "الكتاب، الذين كانوا في السابق مدراء رأي، فقدوا كل نفوذهم، ولم تعد الصحف، التي كانت ناطقة باسم الأنظمة الحاكمة، تفعل شيئا سوى التعبير عن رأي الجماهير. أما رجال الدولة، فبعيداً عن توجيهها، فإنهم يسعون فقط إلى اتباعها". إن هذا الغياب التام لتوجيه الرأي، وفي الوقت نفسه انحلال المعتقدات العامة، يؤدي في النهاية إلى التفتت الكامل لجميع القناعات، وزيادة لامبالاة الجماهير بما لا يؤثر بشكل واضح على مصالحهم المباشرة. يتعرض الإنسان المعاصر للغزو بشكل متزايد من قبل اللامبالاة. بعد ذلك يقوم لوبون بتصنيف ووصف مختلف فئات الحشود ويكشف عن حشود غير متجانسة ويشير هذا الاسم إلى جميع المجموعات المكونة من أفراد من مختلف الطبقات الاجتماعية والآفاق الفكرية الأكثر تنوعًا، وتشكل تحت تأثير ظروف معينة حشدًا نفسيًا تتلاشى فيه الأفراد الواعية تحت نير اللاوعي الجماعي. وإذا وجدنا أشكالاً عديدة من الديمقراطية والاشتراكية والليبرالية بقدر ما توجد الأمم، فذلك بسبب الاختلافات التي نواجهها على مستوى الخصائص العرقية للشعوب. إن الدستور العقلي الوراثي يطبع بصمته طريقة التفكير والسلوك والشعور بالجماهير، وبالتالي النظريات السياسية والتنظيمات الاجتماعية. يضع المؤلف قانونًا أساسيًا: "إن الشخصيات الأدنى للجماهير تكون أقل وضوحًا كلما أصبحت روح العرق أقوى". لقد قرأ قراء هذا المقال أيضًا: التعلم بشكل مختلف باستخدام طرق التدريس الإيجابية. أما الحشود المتجانسة تشمل: الطوائف؛ الطبقات والأقسام. الطائفة هي مجموعة من الأشخاص يرتبطون بمعتقد ديني مشترك أو رأي سياسي. وتمثل الطبقة أفرادًا من نفس المهنة وبالتالي لديهم تعليم وخلفيات متشابهة تقريبًا. كما يجمع الفصل بين أفراد مرتبطين ببعض الاهتمامات المتشابهة جدًا وعادات نمط الحياة والتعليم. زد على ذلك يكشف عما يسمى بالحشود الإجرامية. إن الجمهور المتحمس، الذي يُقترح عليه ارتكاب عمل وحشي، مؤهل قانونًا كجريمة في الظروف العادية، مقتنع بأنه يستجيب لواجب مقدس ومشروع، عمل وطني وجدير بالتقدير. يستشهد المؤلف بمثال حاكم الباستيل الذي قطع حلقه على يد طباخ غاضب من الإيحاء القوي للمهاجمين. إن الطبيعة المتهورة والغريزية والمتغيرة لمشاعر الجمهور الإجرامي أثناء العمل تؤدي إلى أفعال متناقضة للغاية يمكن أن يحل التساهل المفاجئ محل الوحشية الفظيعة ؛ فالصورة الموحية القوية قادرة على تغيير مجرى الأحداث من الأعلى إلى الأسفل. كم عدد الأبرياء مثل الأطفال والمسنين الذين تم ذبحهم لسبب بسيط هو الانتماء إلى مجموعة من الأعداء. يميل الحشد الإجرامي، بعقله التبسيطي، إلى تعميم كل ما هو خاص، ولا يسمح له بأي ظل من الفروق الدقيقة. كما يشيد بمحكمة المحلفين ويرى إن أحكام هيئة المحلفين في محكمة الجنايات، أياً كان تشكيلها، هي مثال على اتخاذ القرار من قبل حشد نفسي لا يستجيب لأي حكم قضائي محايد. إن مداولات المحلفين، مثل كل الحشود، معرضة للتلاعب بالهيبة أو الصورة أو العرض المسرحي الذي يحفز مشاعر الخير والتسامح، أو مشاعر الاشمئزاز والكراهية. مثل فئات الجمهور الأخرى، غالبًا ما تكون هيئة المحلفين تحت تأثير عدد قليل من الأعضاء المرموقين. كما يسعى المحامي الماهر قبل كل شيء، في مرافعته، إلى الاستعانة بأعضاء هيئة المحلفين ذوي النفوذ الذين لديهم القدرة على توجيه القرار العام للدفاع عنه. ويحلل حشود الانتخابات والديكور الانتخابي من منظور سيكولوجية الحشود ويصرح بأن "الحقيقة موجودة في جانب الأغلبية". إن عقيدة الاقتراع العام هي التي تمتلك اليوم القوة التي كانت تتمتع بها العقائد الدينية في الماضي. إن الآلية المعتمدة لإغراء الجمهور الانتخابي تقوم على نفس العمليات: التأكيد، والتكرار، والهيبة، والعدوى. يجب أن يمتلك المرشح للانتخابات عامل الهيبة (الثروة، المنصب، اللقب). بالإضافة إلى هذا العنصر الرأسمالي، لا يتم كسب الناخبين بشكل نهائي إلا للمرشح العبقري الذي يعرف كيف يتملق غرورهم ويهدئهم بوعود عامة خيالية. ويجب اختيار الكلمات والصيغ المستخدمة بحيث يكون لها تأثير قوي على مشاعر ومخيلة الجماهير. إن الجمهور الانتخابي، تحت تأثير التعادل العقلي، ليس مستعدا فكريا لاتباع حجة مدعومة بالأرقام والأدلة؛ في كثير من الأحيان، لا تكون اللقاءات الانتخابية أكثر من مجرد تأكيدات وشتائم وترهيب وهتافات وعواء. فهل ينبغي علينا إذن أن ننتقد هذا المبدأ "العالمي" للديمقراطية؟ ويقول غوستاف لوبون إن هذا من شأنه أن يتعارض مع مسار الطبيعة. إن الدونية العقلية التي تعاني منها جميع المجتمعات، مهما كانت تركيبتها، هي حقيقة واضحة أثبتنا صحتها. أما المجالس النيابية فهو يرى أن النظام البرلماني يمثل المثل الأعلى لجميع الشعوب المتحضرة الحديثة. إنها تترجم هذه النظرية، الخاطئة نفسيًا ولكنها مقبولة بشكل عام، بأن العديد من الرجال معًا أكثر قدرة بكثير من عدد صغير على اتخاذ قرار ذكي وحر بشأن مسألة معينة. إلا أن بساطة الآراء من أهم سمات هذه المجالس. هناك ميل ثابت لحل المشاكل الاجتماعية الأكثر تعقيدا من خلال أبسط المبادئ المجردة، ومن خلال القوانين العامة التي تنطبق على جميع الحالات. علاوة على ذلك، فإن قادة الأحزاب السياسية هم رجال ذوو ذكاء متوسط للغاية، لكنهم رجال عمل وخطباء ماهرون. إن الرجال العبقريين الحقيقيين ليسوا سوى شخصيات هزيلة في المجالس البرلمانية، ويميلون بطبيعة الحال إلى تقديم الجانب المعقد من الأمور. إن طبيعة الآلية يمكن أن تضرب التجمعات المضطربة والمنومة مغناطيسيا، في ظروف استثنائية، وتقودها إلى الموافقة على القوانين والاتفاقيات الأكثر قتلا وإصدارها. لكن الخلل الذي يعاني منه النظام البرلماني لا يقلل بأي حال من فائدته العملية، لأنه يحمي من تجاوزات الدكتاتورية، والطغيان الناتج عنها.

تحولات سيكولوجيا الحشود

يعد علم نفس الجماهير أحد كتبي المفضلة في علم النفس الاجتماعي. لقد غير هذا الكتاب العديد من الاشياء في مجال المعرفة الأكثر ذاتية وتعقيدًا. ولا تزال نظريات كتاب "سيكولوجية الجماهير" صالحة حتى يومنا هذا، وتسلط الضوء على جميع الظواهر المرتبطة بالتلاعب بالجماهير. ربما اتخذ استغلال الحشود النفسية أشكالا أخرى أكثر دقة، لكننا نكتشف خلفها نفس الآليات التي شرحها لوبون. وفقًا لغوستاف لوبون، مهما كان مجال التلاعب (السياسة، الإعلان، الحروب، إلخ)، فمن السهل دائمًا جعل الجمهور المستهدف يقبل التأكيدات العامة المقدمة بعبارات ملفتة للنظر، على الرغم من أنه لم يتم التحقق منها مطلقًا وقد لا تكون عرضة للخطر. إلى أي التحقق. كما يؤكد غوستاف لوبون أن فن قيادة الجمهور هو إدخال محتوى الرسالة في حاوية الصورة. لتوضيح قوة هذه الآلية (التأثير المحتمل للتواصل من خلال الصور)، يمكننا أن نستشهد بالضجيج الإعلاني، الذي يخلق تأثيرًا معديًا على المستهلكين، وبالتالي يفرض ليس طرقًا معينة في التفكير فحسب، بل أيضًا طرقًا معينة للشعور. ويضع سيكولوجية الحشود تحت تصرفنا أيضًا أداة تحليلية ممتازة من شأنها أن تساعدنا على تشخيص، بشكل أكثر عقلانية، الظواهر الجديدة المتعلقة بعودة الجريمة الجماعية، وعودة الإرهاب الديني والاضطرابات الاجتماعية على خلفية الأزمات (الهوية الاجتماعية والمالية والاقتصادية). علاوة على ذلك، وإدراكًا للمخاطر الحقيقية للتلاعب، يمكننا حماية أنفسنا منها من خلال تبني سلوكيات واعية، واستخدام التفكير النقدي وتطوير الذكاء العاطفي. أهمية التحليلات لما يتعلق بفهم الآليات النفسية للكائنات الاجتماعية وأخبار آليات التلاعب (الإعلان، السياسة، الدين): التأكيد، التكرار، العدوى، الصورة، التواصل. إن الأطروحات حول الشعور الديني بالأفكار وعواقبه (الإرهاب والتعصب والتطرف) هي أطروحات تنويرية. أما نقاط الضعف في كتاب سيكولوجية الحشود فتتمثل في إن الأطروحات المطروحة تدعمها الحقائق التاريخية لفترة قصيرة من التاريخ (الثورة الفرنسية). اما الدقة العلمية للتحليلات فمشكوك فيها. اذ وقع الكاتب في تعميم حالات معينة بل كانت رؤية فردية ونخبوية للمجتمع. من هذا المنطلق تم تناول أفكار لوبون بشكل مباشر في الأبحاث التجريبية حول إلغاء التفرد. في الواقع، في عام 1952، أظهر ليون فيستينجر وألبرت بيبيتون وثيودور نيوكومب أن الأشخاص الذين خضعوا للدراسة عبروا عن المزيد من العداء تجاه والديهم عندما تم جعلهم مجهولين داخل المجموعة. كما حاول العديد من المنظرين تفسير هذه الظاهرة. اقترح فيليب زيمباردو لأول مرة أن عدم الكشف عن هويته في المجموعات يؤدي إلى انخفاض في الملاحظة الذاتية والتقييم، وبالتالي إلى الحد الأدنى من الاهتمام بتقييم الآخرين. ونتيجة لذلك، تضعف الضوابط القائمة على الخجل أو الذنب أو الالتزام أو الخوف وتنخفض عتبة إنتاج السلوكيات المكبوتة. يتصرف الشخص في حالة عدم التفرد بطريقة معادية للمجتمع. ومع ذلك، هاجم إدوارد دينر أفكار زيمباردو على جبهتين:

-على المستوى التجريبي: يلاحظ أن العديد من التجارب أظهرت أن إلغاء التفرد يمكن أن يؤدي إلى زيادة في السلوك لصالح الآخرين.

- من الناحية المفاهيمية: فهو يسلط الضوء على الافتقار إلى الدقة فيما يتعلق بطبيعة التحولات النفسية التي تكمن وراء إلغاء التفرد.

هذه هي الطريقة التي يعيد بها صياغة النظرية باستخدام مفهوم الوعي الذاتي الموضوعي. في حالة ارتفاع مستوى منظمات المجتمع المدني، يتم توجيه انتباه الفرد داخل الذات ونحوها. المراقبة الذاتية نشطة ويترتب على ذلك التنظيم الذاتي للسلوكيات. في حالة انخفاض منظمات المجتمع المدني، يتم توجيه الاهتمام إلى الخارج، وتختفي المراقبة الذاتية، ويتم تنظيم السلوكيات بواسطة عوامل خارجية. هذا هو ما يتوافق مع إلغاء التفرد، وأحد سوابقه هو الانغماس في المجموعة. وبالتالي، فإن الأشخاص الذين لا يتمتعون بالفردية لم يعودوا يدركون أنفسهم كأفراد. ولا يمكنهم مراقبة سلوكهم، أو التصرف وفقًا للمعايير الشخصية أو الاجتماعية، أو ممارسة البصيرة. سلوكياتهم ليست بالضرورة معادية للمجتمع، لكن هؤلاء الأشخاص لا يستطيعون الاستجابة بشكل انتقائي لهذه الأنواع من المحفزات.

أضاف ستيفن برنتيس دان ورونالد روجرز بعدًا إضافيًا لهذا النموذج في عام 1989. ووفقاً لهم يجب التمييز بين نوعين من الوعي الذاتي:

الوعي الذاتي العام: يشير إلى اهتمام الفرد بتقييم الآخرين. في المجموعة، يمنح عدم الكشف عن هويته الأعضاء الشعور بأنهم يستطيعون تجاهل ما يعتقده الآخرون. وهذا ما يؤدي إلى السلوكيات المضادة التي قصدها زيمباردو.

الوعي الذاتي الخاص: يشبه العمليات التي اقترحها دينر. وبالتالي، فإن عوامل مثل تماسك المجموعة تجذب الانتباه بعيدًا عن الذات وتؤدي إلى حالة من عدم التفرد الداخلي، حيث يؤدي فقدان التنظيم الذاتي إلى تقليل الاعتماد على المعايير الداخلية والخضوع للإشارات البيئية.

على الرغم من الاختلافات بينها، فإن نماذج إلغاء التفرد هذه لها ثلاثة عناصر مشتركة مع بعضها البعض ومع أفكار لوبون: إذا وصف البعض السلوك اللافرداني بأنه معادي للمجتمع، والبعض الآخر وصفه بأنه نتيجة للمحفزات السياقية، فبالنسبة للجميع، تشير هذه السلوكيات إلى الافتقار إلى السيطرة والافتقار إلى التفكير العقلاني. وعلى العموم فإن هذا النقص هو نتيجة لانغلاق الذات الفردية. وتعتبر الذات الفردية هي الأساس الوحيد للتحكم المعرفي والاختيار. إن تأثير وجهة نظر لوبون بلغ حداً لا يجعل أولئك الذين تبنوه فحسب، بل وأيضاً منتقديه، يشتركون في عناصره الأساسية. بالنسبة لفلويد ألبورت عام 1924. فإن فكرة الوعي الجماعي المنفصل عن الوعي الفردي هي فكرة تجريدية ميتافيزيقية. وعلى النقيض من لوبون، فإنه يقترح أن نتيجة الوجود في مجموعة ليست غيبة الذات، بل إبرازها. وهو مشهور بقوله إن الفرد في الحشد يتفاعل كما لو كان في عزلة، بل وأكثر من ذلك. ويُعزى هذا التضخيم إلى عملية التيسير الاجتماعي، حيث يؤدي التحفيز، بسبب وجود الآخرين، إلى زيادة الاستجابات المعتادة. وفقًا لهذا المنظور، إذا كانت الحشود تتصرف بشكل مشترك، فذلك لأن الأشخاص المتشابهين يجتمعون معًا في الحشود. وإذا كانت الحشود عنيفة، فذلك يرجع أساسًا إلى انجذاب العناصر المعادية للمجتمع إلى الحشود وفقًا لنظرية الغوغاء. يمكنك القول أن ألبورت هو صورة طبق الأصل للوبون. في الواقع، عندما يقول أحدهم أن الأشخاص المصابين بالمرض يتجمعون في حشود، يقول الآخر أن الأشخاص الطبيعيين يصبحون مرضى في الحشود. عندما يؤكد أحدهما أن الفردية يتم التأكيد عليها في الحشود، يؤكد الآخر أن الفردية مفقودة في الحشود. لكن هذه التعارضات ليست ممكنة إلا لأنها تشترك على مستوى أعمق. بالنسبة لكليهما، يتم إخراج الجمهور من السياق ويتم تفسير سلوكه من خلال ديناميكيات داخلية بحتة. بالنسبة لكليهما، تتلخص هذه الديناميكيات في الذات الفردية التي تعتبر الأساس الوحيد للتحكم في السلوك. وبالتالي، فإن الفرق الوحيد بين المنظرين يكمن فيما إذا كانت الذات تعمل في حشد من الناس أم لا: فالنظرية المجازية الفردية هي نفسها. ولا يزال النموذج الاجتماعي للتحكم في سلوك الحشود غائبا.

صعوبات نظريات الحشود

بالإضافة إلى هذه المشاكل النظرية، تطرح نظريات الحشود مشاكل تجريبية خطيرة. في الواقع، يشيرون إلى أن سلوك الحشود، وخاصة عنف الحشود، يعكس إما مرضًا جماعيًا أو مرضًا فرديًا، وهو مجرد من العقل والحدود. ومع ذلك، تظهر الأبحاث التاريخية بوضوح أن الناس لا يفعلون أي شيء وسط الحشود. الأفعال الجماعية لها شكل ومعنى اجتماعي. أدى ذلك إلى قيام جون تورنر وكيليان في عام 1972 بتطوير نظريتهما حول المعايير الناشئة. يقترحون أن تسترشد الحشود بالأعراف الاجتماعية التي تتطور خلال الأحداث. في الفترة الأولى من الاحتشاد، تكون الحشود غير متجانسة. ثم يحاول بعض الأفراد تحديد ما يجب أن يفعله المجتمع من خلال إلقاء خطابات رئيسية أمام الجمهور. وأخيرًا، أولئك الذين هم الأكثر تميزًا، والأكثر لفتًا للانتباه، يتمكنون من توجيه العمل الجماعي. وفي حين يتمتع هذا النموذج بميزة التأكيد على معيارية عمل الحشود، إلا أن الصعوبات لا تزال قائمة في تفسير أصل هذه المعايير. قد يشير هذا النموذج إلى أن الاختيار بين الاحتمالات المعيارية المختلفة يعود إلى بلاغة البلاغة الفردية. وبالتالي، فإن تفسير العمل الجماعي سوف يعود إلى شخصية عدد قليل من المتحدثين. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فسيظل من الصعب تفسير الشكل الاجتماعي لهذه الأفعال الجماعية. هناك طريقة أخرى للتعامل مع علم نفس الجمهور تعتمد على نظريات الهوية الاجتماعية والتصنيف الذاتي. تقترح هذه النظريات أن الذات ليست مفردة وفردية ولكنها تشكل نظامًا معقدًا. يمكن تعريف الذات على مستويات مختلفة من التجريد: الفرد والقطيع والجميع. في المجموعات، يتصرف الأشخاص بناءً على الهويات الفئوية، والتي تسمى أيضًا الهويات الاجتماعية. لدينا جميعًا هويات اجتماعية متعددة، تتوافق مع المجموعات التي ننتمي إليها والتي تكون بارزة في سياقات مختلفة. عندما تكون أي هوية بارزة، يتصرف المرء وفقًا للمعايير والمعتقدات التي تحدد تلك الهوية. لذا، في الحشود، لا يعني ذلك أن الناس يفقدون هويتهم. في الواقع، عندما تصبح الهوية الفردية أقل بروزًا، تصبح الهوية الاجتماعية التي تتوافق مع فئة الجمهور أكثر بروزًا. وبالمثل، لا يعني ذلك أن المرء يفقد السيطرة على نفسه وسط الحشد، بل هو سيطرة على السلوك الذي يتحول من المعايير والمعتقدات الفردية إلى المعايير والمعتقدات المرتبطة بالتعريف القاطع للذات. وهذا يعني أن العمل الجماعي له حدود دائمًا، لكن هذه الحدود ستكون مختلفة اعتمادًا على محتويات تحديد المجتمعات المختلفة. باختصار، إذا كان علم النفس قد اتخذ شكلاً مناهضًا للجماعية لإنكار بدائل النظام الاجتماعي الحالي، فإن دراسة الأحداث الجماعية تظهر أن الناس يمكنهم التصرف وفقًا لرؤى مختلفة للمجتمع. فالعقلانية لا تعتمد فقط على المصلحة الذاتية والعمل الفردي. ويمكن أن تسترشد بمقدمات جماعية، حتى لو كانت تتعارض مع العقل السائد.

قوة الحشود

إن الحديث عن الجمهور يثير دائمًا نوعًا من التخوف: الجمهور ليس هو التعددية ولا التنوع، بل نحن نتخيل شيئًا نغرق فيه، حركة تحملنا، لا يمكننا أن نفعل شيئًا ضدها، أو نحن جزء من لا شكل له. كتلة يفقد فيها الأفراد تفردهم. الجمهور يخيف لكنه في نفس الوقت يبهر، كما هو الحال في أغنية إيديث بياف " يحمله الحشد " حيث يجتمع كائنان معًا، ويتعانقان ويفقدان بعضهما البعض. يثير الحشد كحركة جماهيرية أيضًا ردود أفعال متهورة للإعدام أو، على العكس من ذلك، العشق للنجوم الذين يجب أن يشقوا طريقهم بين كل أولئك الذين يريدون لمسهم ورؤيتهم عن قرب. الحشد مخيف. ويمكن أيضًا أن تكون هذه الكتلة المتنوعة التي سيغويها الخطيب الجيد بأوامره. إنه أيضًا مكان عدم الكشف عن هويته حيث يتحمل الجميع المسؤولية ويذكرنا بما يحدث على الإنترنت حيث يتم إطلاق العنان للمشاعر بتكلفة منخفضة حيث يمكن للجميع الرد "على الفور" دون الكشف عن هويتهم. يمكن اعتباره المكان الذي يمكن فيه التعبير عن الدوافع دون احتياطات أو موانع، فهو أعمى، ويمكن أن يكون طفوليًا. لكن الجمهور يمارس أيضًا قوة الانبهار بمعنى أنه يجمع الأجساد معًا، هذا الاتصال الجسدي مع الأجساد الأخرى يمكن البحث عنه لإيجاد نوع من الدفء الإنساني بالمعنى الواسع للمصطلح، وسيلة للخروج إلى مستوى أدنى. التكلفة "الوحدة الكئيبة، و"الاندماج" في حشد الملعب أو الجمهور من أجل "التواصل" مع الآخرين طوال مدة المباراة أو العرض". وفي هذا الجانب المزدوج من الانبهار بالاشمئزاز يجب علينا أن نبحث عما تتكون منه قوة الجمهور، لأن هناك أيضًا حشودًا صامتة مثيرة للإعجاب وتعبر عن الكرامة. الحشد ليس دائمًا كتلة صارخة ومنهكة مثل تلك التي وصفها زولا. يمكن فهم قوة الحشد بطرق مختلفة.

خاتمة

"سيكولوجيا الحشود" هو عمل مرجعي في "علم النفس الاجتماعي"، ويشكل كتابًا كلاسيكيًا أساسيًا لا تزال نظرياته ذات صلة حتى يومنا هذا. لقد تغيرت المسميات (ناخبين، جمهور، مستهلكين، الخ)، لكن دوافع وآليات وعوامل التأثير والتلاعب بالحشود ظلت كما هي. كما يتميز علم نفس الحشود بالوحدة العقلية. بالنسبة لجوستاف لوبون، فإن الجمهور ليس مجرد مجموعة بسيطة من الأفراد؛ بل على العكس من ذلك، يجب أن يُنظر إليه، من منظور نفسي، باعتباره كيانًا واحدًا غير قابل للتجزئة، متميزًا عن مجرد إضافة العناصر المعزولة التي يتكون منها. والوحدة العقلية هي أن الجمهور يشبه "الروح الجماعية" العابرة، التي تتكون من اندماج النفوس الفردية في نفس الاتجاه. يصف عالم النفس: «في ظروف معينة، وفقط في هذه الظروف، تمتلك مجموعة من الناس خصائص جديدة تختلف تمامًا عن خصائص الأفراد الذين يشكلون هذه المجموعة. وتختفي الشخصية الواعية، وتتجه مشاعر وأفكار جميع الوحدات في اتجاه واحد. لشرح الخلفية المشتركة التي تؤدي على أساسها ظروف معينة إلى وحدة نفسية بشكل أكثر دقة، يستحضر غوستاف لوبون "روح العرق"، أي مجموعة الخصائص المشتركة التي تفرضها الوراثة على جميع أفراد العرق. يبدو أن هذا الشكل من التنويم المغناطيسي العاطفي والفكري الجماعي يبدو سحريًا ومصدرًا للتسمم، ومع ذلك فإنه من شأنه أن يقلل من أي دافع للإرادة الفردية، وعلى وجه الخصوص أي قدرة على التفكير النقدي، لدرجة أن الفيلسوف، داخل حشد من الناس، نفس القيمة الفكرية للأميين. لكن هناك فرق بين المجموعة والحشد اذ لا يوجد شعور بالانتماء. ولذلك لا يمكننا استيعاب الحشد في المجموعة. تتضمن المجموعة عددًا معينًا من الأفراد يتفاعلون ويتوافقون مع المعايير ويشعرون بالانتماء. هذا ليس هو الحال مع الحشد. ما هي خصائص المجموعة؟ بالإضافة إلى تعريفها ككيان يرى الأفراد أنفسهم فيه كأعضاء ويقيمون علاقات، فإن المجموعة لها خصائصها الخاصة. المستدامة، والخصائص الثلاث الرئيسية هي: حجم المجموعة، وحالة ودور أعضائها. كما ان تأثير المجموعة هو ظاهرة اجتماعية تتجلى عندما يتواجد معظم الأشخاص في نفس المجموعة، بطريقة إيجابية أو سلبية، على أفكارهم ووجهات نظرهم وأفعالهم وما إلى ذلك. أشخاص آخرين من نفس المجموعة الاجتماعية. ماذا تسمى حركة الجماهير؟ قد يسمى البعض هذا الهيجان البشري بالتدافع أو حركة الحشود هي الحركة الناجمة عن حركة حشد من الناس عندما لا يمكن السيطرة عليها. لكن لماذا يحب المرء الحشود؟ في وسط الزحام، أنت لست نفسك فقط؛ أنت أيضًا انعكاس لمشاعر ورغبات من حولك. وهذه المشاعر، وهي معدية مثل الفيروس، يمكنها أن تحجب بسرعة أي شكل من أشكال العقلانية. لكن كيفية القيام بإدارة الحشود بشكل جيد؟ يجب معرفة كيفية التعرف على قادة أو زعماء المجموعة. اعتماد السلوك المناسب حسب الموقف. أن يكون المرء على دراية بسلوك الحشود التلقائي. وأن يعمل على تطوير أسلوبه في الاستماع وحافظ على وضعك المهني. فاذا اراد المرء تجنب حركة الحشود فانه مطالب بان يتجنب التواجد في وسط الحشد. إذا كان محاطًا بأشخاص سريعي الحركة، فيجب ان يحاول التحرك إلى حافة الحشد أو بعيدًا عن الطريق. تحديد علامات مخرج الطوارئ لاتخاذ أقرب مخرج. فماهي السياسة التي تعمدها الدول لتدبير الحشود؟ والى أي مدى تتفادى الأنظمة الحاكمة الحلول الترقيعية والأساليب الضارة؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.....................

المصدر

Gustave Le Bon, La Psychologie des foules, (1895)

يقف الفلاسفة وغير الفلاسفة على مسافة واحدة فيما يتعلق بالموت. لا وجود هناك لخبراء في الموت لأنه لا يوجد شيء يمكن معرفته عنه. وحتى اولئك الذين يدرسون عملية الموت ليست لديهم ميزة على بقية الناس الآخرين. نحن جميعنا متساوون في التفكير حول الموت، و جميعنا نبدأ وننهي التفكير حوله من موقع الجهل.

الموت ومفهومه فارغان تماما. لا صورة تأتي عنه الى الذهن. مفهوم الموت نستفيد منه للعيش، بينما الموت ذاته لا فائدة منه في أي شيء. كل ما نستطيع قوله هو ان الموت اما واقعي او غير واقعي. اذا كان واقعيا، عندئذ فان نهاية حياة المرء هي مجرد وصول الى الختام او النهاية. واذا كان الموت غير واقعي ستكون نهاية حياة المرء  ليست موتا حقيقيا وانما بوابة الى حياة اخرى. في ظل عدم وجود محتوى، يجب علينا ان نتحدث عن الموت مجازيا. بالنسبة لاولئك الذين يعتقدون ان الموت واقعي، يصبح الموت عبارة عن جدار لا مجال لأي تقدم وراءه. اما الذين يعتقدون انه ليس واقعي، يصبح الموت عبارة عن باب لحياة اخرى. وسواء اعتقدنا ان الموت جدار ام باب، نحن لا نستطيع تجنّب استعمال الإستعارة. وبما ان هناك العديد من التأملات حول نوع من "الحياة الاخرى"،سوف نركز هنا على رؤية ان الموت هو واقعي ويمثل المحطة الأخيرة في حياة الفرد.

لنستطلع أكثر الفكرة المجازية بان الموت هو جدار. كل واحد منا حينما يولد يواجه هذا الجدار. ومنذ تلك اللحظة فصاعدا، كل خطوة نتخذها هي سير باتجاهه، بغض النظر عن المسار الذي نسلكه. ببساطة لا اتجاه آخر يمكن اتخاذه .

الموت ليس له معنى شخصي أبدا. انه يأتي الى اناس آخرين ولكن ليس لي. بالطبع، نحن نعرف باننا سنموت. الموت يعني نهاية مستقبلنا. لكن، طالما نحن احياء، سنعيش باتجاه ذلك المستقبل المحتوم الخالي من أية امكانيات. الاستنتاج الذي لا مفر منه هو انه اذا كان الموت واقعيا، لا احد سوف يتذوق الموت شخصيا. نحن سوف لم نعد واعين قبل النهاية. لا يهم كم نحن قريبون منه، فهو يتراجع امامنا. الفرد في الحقيقة هو ميت فقط بالنسبة للآخرين. عندما يصل النهاية حقا، ينتقل جسم الميت الى يد الطبيب الشرعي، و لم يعد هناك. الموت يوصف دائما من وجهة نظر الانسان الحي. وكما يصفه لودفيج فيتجنشتاين، "الموت ليس تجربة في الحياة".

ان مفهوم الموت يختلف عن معظم المفاهيم الاخرى. عادة نحن لدينا شيء ومفهوم للشيء. فمثلا، نحن لدينا حصان ومفهوم عن الحصان. لكن مفهوم الموت هو بدون أي شيء اطلاقا. التفكير حول مستقبل وفاة المرء هو تأمل مستمر في جهلنا. لا وجود لطريقة لجعلنا نفهم الموت بشكل أفضل لأن الموت لا يمكن معرفته ابدا. احدى المشاكل في مناقشة هذا الموضوع هو الخوف المتأصل من الموت (1). نحن نميل لتجنّب الموت في تفكيرنا وأفعالنا. لكن، لو ننسى خوفنا لدقيقة واحدة، بامكاننا ان نرى بوضوح كم هو مثير المفهوم حقا من وجهة نظر منفصلة.

العيش باتجاه الموت ضمن فترة من الزمن يعطي حياة المرء اتجاها واطارا نفهم ضمنه التغيرات التي تجلبها الحياة. العالم يبدو مختلفا جدا للشباب وللكبار. الشاب ينظر للامام. الكبير ينظر للخلف. ما يهمنا يتغير كلما تقدمنا في السن. احتمال الموت يخبرنا بهذه التغيرات. الشباب لديهم فهم فكري بان الموت يأتي الينا جميعا، لكن وفاتهم لن تصبح واقعية لهم. بالنسبة للكبار يبدؤون بفهم الوفيات تدريجيا . منذ وقت طويل، دُهشنا باثنين من أشهر الأفكار الفلسفية حول الموت، واحدة من افلاطون والثانية من سبينوزا. في الاولى كان للفيلسوف اهتماما كبيرا في الموت ويتأمل فيه باستمرار. اما بالنسبة لسبينوزا فان الفرد الحكيم لايفكر في الموت الاّ قليلا. ربما الحقيقة تكمن في مكان ما في الوسط. تجاهل الموت يتركنا بإحساس زائف بدوام الحياة وربما يشجعنا لخسارة أنفسنا في تفاصيل الحياة اليومية. من جهة اخرى، إجترار الموت يمكن ان يقودنا بعيدا عن الحياة. التصالح الصريح مع الموت يستلزم التفكير في أهميته في حياة المرء، والتفكير في القيم الكبرى التي تعطي للحياة معنى. في النهاية، من المفيد التفكير في الموت فقط الى النقطة التي تحررنا لنعيش في إنغماس كامل في الحياة التي لم نعشها بعد.

***

حاتم حميد محسن

..............................

Philosophy magazine, 31 Jan, 2015 . جيف ماسون Jeff Mason استاذ الفلسفة في جامعة ميدل سيكس البريطانية. كتب هذا المقال عام 2011 قبل ستة اشهر من اصابته بسرطان الرئة، حيث توفي في اغسطس عام 2012.

الهوامش

(1) في أحد حواراته يرى سقراط ان لا سبب يدعو للخوف من الموت، ذلك لأن الموت لا وجود له اثناء حياة الفرد، وعندما يموت لم يعد موجودا، فلماذا الخوف من الموت اذاً؟.

بقلم: بيا دي جيلدر

ترجمة: د. زهير الخويلدي – كاتب فلسفي

***

"دائمًا ما يكون وضع شخص ثالث يشهد حوارًا غير مريح. ومن خلال عدم المشاركة، فإنه يضطر إلى تسجيل حركة الكلمات فقط. أحيانًا يتفق مع أحد المحاورين، وأحيانًا مع الآخر، ومن هناك يأتي الانطباع بأننا نتناقش حول موضوع مشترك. ولكن مع مرور الوقت يؤدي إلى الارتباك، فهو مجبر على إدراك أن كلمات أحدهما لا يمكن سماعها إلا في صمت الآخر. ومن خلال فرض الصمت والكلمات، فهي التي تدعم الحوار. ثم يبقى متسائلا عما إذا كان للسؤالين مقياس مشترك غير هذه اللغة التي يعبر بها كل منهما عما يفرقهما. ويصبح الاستماع إلى الطرف الثالث بمثابة انقطاع للحوار، باسم العودة إلى الرسالة. يتناسب كتاب هنري ديكليف مع هذه الحركة. لكن هذا لا يعني بالنسبة لهذا المؤلف أن العقيدة الكانطية يجب أن تسود بأي ثمن. سيبقى مصدر إلهام هيدجر الرئيسي طوال استعراضه، مع الحفاظ عليه بدقة معينة. المؤلف وحده هو الذي يسعى لإظهار كيف يمكن تقديم هذا الإلهام بشكل أكثر ومختلف من خلال نصوص كانط الأخرى، والتي يتم أخذها بعين الاعتبار في علاقاتها الداخلية. وذلك لأن ثلاثة اهتمامات أساسية تبدو مشتركة بين هيدجر وكانط: لقد شككا في فكرة الفلسفة ذاتها، وكانا مهتمان باستعادة معينة للميتافيزيقا وأرادا التفكير في التناهي. لكن المؤلف لاحظ بالفعل أن هذه المواضيع الثلاثة لا يمكن أن تجد أسماء أخرى لا تزال مشتركة بين الفيلسوفين. وذلك لأنه في تماسك أعمال كانط وهيدجر، تتلقى هذه المواضيع صياغة مختلفة تمامًا. وإذا كان هيدجر يسعى جاهدا لإخفاء هذا الاختلاف، فذلك لأنه يمتلك وجهة نظر خاصة للغاية لجميع أعمال كانط. ومع ذلك، في مناسبات مختلفة، بالفعل في بداية قراءته لكانط، يؤكد هيدجر أن تأويله يجب أن يفهم العمل بأكمله، ويجعل وحدته الداخلية واضحة. لكن أول جهد كبير له لتقديم النقد كمحاولة لتأسيس الميتافيزيقا يشير إلى الجزء الأول من نقد العقل الخالص. وفي وقت لاحق سوف يرغب في توسيع هذا التأويل من خلال إسقاط النتائج على أعمال كانط الأخرى. لكنه بالتالي يتجاهل التقسيم الأساسي للنقد الثلاثي. ونتيجة لذلك، فإن التطور الذي يمكن أن يحدث في فكر هيدجر، والذي يجب أن تستجيب له الإحياءات المختلفة لقراءته لكانط، لم يؤت بثماره حقًا. وتبقى القراءة محصورة في افتراضات النقد الأول، دون أن تكون قادرة بعد ذلك على افتراض الفرق بين النظري والعملي، الذي قدم مع ذلك مدخلا آخر إلى المثالية المتعالية كمحاولة جديدة لتأسيس الميتافيزيقا. بالنسبة لديكليف، لا يوجد بالتالي تقدم تدريجي للفكر الهيدجري حول كانط. ولكن بقدر ما ينبغي أن تعكس التكرارات المختلفة للقراءة تغييرًا في المنظور، فإن ديكليف سيعترف بأن فكر هيدجر هنا أيضًا لن يقترب إلا من أصله ويقيس مسافاته الخاصة. بالنسبة للمؤلف، لا يوجد "منعطف" في الفكر، لكن "المنعطف" يشكل دائمًا، منذ البداية، ديناميكية الفكر. «وبناءً على ذلك، ينبغي اعتبار هيدجر منذ البداية « في الطريق إلى اللغة »؛ لقد استجاب المفكر، الذي استولى عليه سر الوجود، لدعوته بالسعي دائمًا إلى افتراض ضرورة الوجود للتجاوز والاصغاء، بلغة لا تتوقف عن العمل، إلى قصور القول والتفكير. ولكن على وجه التحديد لأن كلماته في كل مكان تميل إلى التعبير عن وجهة نظر الوجود، فإن هذا المفكر يجب أن يعطي البحث التاريخي انطباعًا بأنه كثيرًا ما يغير وجهة نظره" (2). قبل متابعة حجة المؤلف بالتفصيل، ينبغي إبداء تحفظ معين. وذلك لأن المؤلف يقترب من كانط من خلال هيدجر: حيث يتم تلخيص فكرة هيدجر والتعليق عليها. ومن هناك يوسع اتجاهات معينة لهذا الفكر، ليواجهها فيما بعد بنص كانط. لن نتساءل هنا عما إذا كان فكر هيدجر يُعاد إنتاجه بأمانة دائمًا. سواء كان كانط أو هيدجر، فإن الأرثوذكسية مرجعية مستحيلة ولا يمكن أن تكون لها قيمة كحجة. لكننا نلاحظ بسرعة، بعد توضيح بعض أوجه عدم التوافق بين قراءة هيدجر لكانط ونص الأخير، أن المؤلف لديه دائمًا فكرته الخاصة حول هذه المسألة، وأنه في أعماقه يدافع عن كانط ضد هيدجر. فقط لأن الحوار بين الفيلسوفين لا يمكن أن يستمر، فإنه سوف يزدهر تدريجياً. تظهر هذه الأطروحة بوضوح في الجزء الثالث من كتاب " نقد العقل المحض". وسيسبقه جزء أول عن «كانط والزمن» وجزء ثانٍ عن «كانط والوجود». لكن يقوم المؤلف أولاً بفحص الوثائق المتعلقة بالتحقيق وأهميتها العامة. لقد أتاحت المقدمة بالفعل الفرصة لبعض التعليقات المحبطة حول العلاقة بين الفلسفة وتاريخ الوجود أو بين التفكير والتاريخ. إن العلاقة الخاصة بين التاريخ وتاريخ الوجود كما يتصورها هيدجر، والتي تمر عبر المفكر، ستسمح للمؤلف بالتساؤل عما إذا كان هيدجر، في كل الأمور، ليس أكثر هيجلية من أسئلته الشائعة، حيث يريد كانط أن يجعلها مسموعة. لأنه من المهم بالنسبة للمؤلف أن يكون صراع الملكات عند كانط مختلفا عن الميتافيزيقي المتردد في العمل التحليلي الذي يكتشفه لنا هيدجر خلال السنوات التي يمتزج فيها تاريخ الوجود بشكل جيد بالنسبة له مع أفكار التاريخ التي تهيمن على الوجود. كان التمييز بين النظري والعملي بالنسبة لكانط بمثابة دفاع أكثر ضمانًا ضد أيديولوجية السلطة. إنه موضوع سيعود في نهاية العمل والذي سيريد تأويل ديكليف أن يعطيه الوزن الكامل لما يتردد في فحص الوثائق قبل الترتيب الزمني لنشر أعمال هيدجر، ليجمعها أخيرًا في أربع فترات إيقاعية (3) ينتج تعاقبها أي تغيير أقل من نضج المنهج. ويشير المؤلف إلى أنه يمكن اعتبار هذه الفترات وفقا لمخططين متكاملين، "الأول الذي يميز فترة ما قبل المنعطف وفترة ما بعده، أي انقلاب علاقة الفكر بالوجود، - والثاني الذي يميز ثلاثة درجات لا بد من تعاقبها: تحقيق الذاتية، وفكر العدم، وفكر الوجود" (4). في الواقع، سينتهي به الأمر إلى تفضيل المخطط الثاني تمامًا، وهو تحديد موقع "المنعطف" في قلب الفكر. في الجزء الأول «كانط والزمن» يبين المؤلف كيف تسعى قراءة هيدجر إلى الكشف عن الانسحاب الكانطي ونسيان الوجود في رفض الذات العقلانية في مواجهة الزمانية. بادئ ذي بدء، يريد هيدجر في الفقرتين 43 و64 من كتابه "الوجود والزمان" أن يُظهر أنه في عبارة "أنا أفكر" الكانطية، لا يتم ادراك بأي شكل من الأشكال الأساس الأنطولوجي لعلاقة الأنا بموضوعاتها الفكرية، وبالتالي فإن دحض الأنا المثالية لا تتجاوز الافتراضات العقلانية. يجيب ديكليف هنا بأن هيدجر يمرر في صمت إحدى سمات "أنا أفكر" الأساسية بالنسبة لكانط، وهي مثاليته. وهكذا فإن هيدجر يشبه على عجل وجود "أنا أفكر" بـ "اللاوجود" (5). ومن خلال إعادة النظر في النصوص الثلاثة التي أشار إليها هيدجر، يكتشف المؤلف على العكس من ذلك أن البرهان الكانطي ينطلق من واقع التجربة الداخلية، يبين أن ارتباط التمثيل والزمن داخل هذه التجربة يظهر الحالة الأنطولوجية للفهم الأنطولوجي للإنسان كونه في هذا العالم"(6). في مقدمة كتاب «الوجود والزمان»، حيث نرى أنه «يتبنى» بالفعل وجهة النظر الأولى لكانط، يريد هيدجر أن يوضح لماذا يتطلب مشروع تدمير الميتافيزيقا التقليدية شرحًا مع كانط. المنطق المتعالي يعتبر العلم ليس كحقيقة بل كسلوك بشري. لكن، من خلال الإصرار على هذا النطاق من المنطق المتعالي، ألا يجب على هيدجر أن يدرك أنه في المنطق المتعالي، يجب أن تكون فكرة الوجود في العالم، بطريقة أو بأخرى، موجودة بالفعل؟ هذا ما تم رفضه في المادتين 43 و64 صراحة. لكن هذه المقدمة تقدم تعميقًا آخر لتفكير هيدجر. يشير تأويلها إلى أنه في التحليل، وهي خطوة أساسية على طريق نسيان الوجود، فإن عقيدة التخطيط تجعل من الممكن إلقاء الضوء على ما أسماه كانط غموض الطبيعة البشرية، باعتبارها المكان الذي يختبئ فيه المرء في السماح لنفسه بأن يلمح مسألة الوجود. إذا كان كانط غير قادر على درء هذا الغموض، فذلك لأن مفهومه للظاهرة لم يكن ملائما لها. لكن هيدجر بسط هذه الفكرة الكانطية للظاهرة إلى أقصى الحدود، في حين أن نطاقها الحقيقي لا يمكن تحديده إلا على مستوى الديالكتيك حيث يأخذ التمييز بين الظاهرة والنومان مداه الكامل. في كتاب كانط ومشكلة الميتافيزيقا، اكتشف المؤلف مفهومًا أكثر دقة للظاهرة. ومن خلال كتاب كانط سوف يتابع موضوعين أساسيين بالنسبة له: العلاقة بين الذهن والحساسية، ومن ناحية أخرى، ذاتية الذات. وفق مقصد هيدجر، يجب تدمير اتحاد الذهن والحساسية في الحكم القبلي التركيبي حتى يمكن إعادة الملكتين إلى أساسهما، الذي هو أصل وحدتهما واختلافهما. إذا كان الحكم القبلي التركيبي يمثل بالنسبة لكانط المشكلة حقًا، فإن الذهن يجب أن يدور بالكامل حول اكتشاف الخيال المتعالي. إن الحكم القبلي التركيبي هو الإمكانية المتعالية للذات بقدر ما يتم إعادته إلى الخيال المتعالي كمكان للتعالي ولإمكانية ظهور الظاهرة. هنا يتداخل مفهوم الظاهرة مع تحليلات "الوجود والزمان"، حقيقة الظاهرة التي تتكون من لعبة الظهور ذاتها حيث يُعطى الوجود ويُرفض. يسمح لنا الخيال المتعالي بالتعبير عن ديناميكيات تناهي الذات، لأنها تدعى من قبل الكائن الذي لا يستطيع أن يعطيها اسما، تكتشف نفسها بين الكائنات على أنها هذا الحضور الذي يعطي الغياب اسمه. إن معرفة الكائنات هي من أجل فهم الوجود لذاته باعتباره تناهيًا. ومن ثم ينبغي لمذهب التخطيط أن يسمح لقارئ كانط بإلقاء نظرة خاطفة على التضامن الأصلي بين الحساسية والذهن، والذي يسمى الحدس الأصلي. في الظهور الأخير، ما سيظهر، يتم تنظيمه "تخطيطيًا". في الخيال المتعالي يكون البصر المعطي والشامل لكل ما يظهر هو الزمن. وهذا الأخير يمثل الاسم العام للتناهي والتعالي، وهو أصل الخيال ونتاجه. فهل اكتسبنا بذلك فهمًا أكثر جوهرية لجهود كانط الفلسفية وإدراجها في تاريخ الوجود؟

إن تأويلات هيدجر حول "رفض" كانط، وتردده في إيجاد الزمن في قلب موضوع المنطق، معروفة جدًا. بالنسبة إلى هيدجر، الخيال المتعالي والتخطيط هما اسمان لنسيان الوجود في الفلسفة الكانطية. وبينما يأخذ المؤلف هذا النطاق من التأويل الهيدجري في الاعتبار، إلا أنه لا يصر عليه أكثر من ذلك. في الواقع، هناك تضمينًا مزدوجًا بالنسبة له في مثل هذا التركيز على الخيال المتعالي ، والذي يبدو من الصعب التوفيق بينه وبين المكانة التي تشغلها نظرية التخطيط في نقد العقل الخالص. ويرجع ذلك من ناحية إلى التفسير الصارم للتخطيط ومفهوم الزمن المدمج في فهم الظاهرة، ومن ناحية أخرى إلى ذاتية الذات المختزلة إلى التناهي. بالنسبة لديكليف، لا يمكن للزمن وحده أن يدعم التخطيط، تمامًا كما لا يمكن رؤية وظيفة التخطيط في نقد العقل الخالص بالكامل في الخيال المتعالي. لقد رفض التأويل الهيدجري مفهوم الشيء في ذاته، ليعيد معناه المحدود إلى داخل الظاهرة (الفهم الأنطولوجي للدازاين). وهكذا، فإن أي توازي ضروري للمؤلف، للمفهوم الخالص للذهن الذي يمكن تخطيطه، ومفاهيم العقل الخالصة التي من المستحيل "تحقيقها"، يضيع لصالح تخطيط يُفهم على أنه "الأصل والأصيل للتصور الصحيح" (7). ومع ذلك، عند كانط، "من خلال الاعتراف بأن زخم المفاهيم النظرية يتجاوز التخطيط الحسي، يعترف هذا المذهب أيضًا بحداثة المشكلات المطروحة، مع ظهور الحرية في التجربة، والتجربة وواجب الإيمان العقلاني" (8). "ما أراد كانط أن يجعل من المستحيل من خلال نظريته في التخطيط هو الادعاء بتأويل الحاجة الميتافيزيقية من خلال مفاهيم المنطق وحده أو من خلال عفوية الكوجيتو الخالد. لكنه لم يرد أن يستبدل القوة التعسفية لهذه المفاهيم الفارغة بمطلقية الزمانية التي من شأنها أن تعطي الفكر نفسه كعلامة على محدوديته"(9). وهكذا فإن التأويل الهيدجري، الذي يقلص الفجوة بين الظاهرة والشيء في ذاته، يعيد، في السعي وراء نفس الحركة، كل معنى مفهوم العقل كقاعدة لتركيب الظواهر، إلى وظيفة العقل قاعدة صورة تم تعيينها مسبقًا للمخطط. في مقابل هذا التصور عن ذاتية الذات التي تتكشف في نفسها ولنفسها، وهو التناهي الذي يتجاوز الجسد نفسه، يقترح المؤلف ما يشكل بالنسبة له الاهتمام الميتافيزيقي الحقيقي لكانط، لوصف المتعالي كفكرة، أو كفكرة هدف لا شيء. إن ذاتية الذات، في الفضاء النظري لنشرها، لا تهدف إلى أي شيء، وعلى هذا النحو، تفتح الأفق الذي يجب أن يقع فيه شيء ما (10). لكن قراءة هيدجر لم تكن قادرة على دمج نظرية الأفكار هذه في التحليلات المؤدية إلى الزمن، وهذا الوضوح الذي يمكن رؤيته في الكانطية. إن السؤال عن كانط والزمن يجب أن يُطرح في سؤال عن كانط والفلسفة، والذي لا يمكن الإجابة عليه في حد ذاته إلا في سؤال عن كانط والوجود. لكن في هذه الأثناء، فإن قراءة عمل كانط في تاريخ الوجود تكتشف نفسها، كقراءة، "على الطريق" نحو الوجود في التاريخ. إن المسافة التي تفصل بين كتاب "الوجود والزمان" وكتاب "كانط ومشكلة الميتافيزيقا" من جهة، ومن جهة أخرى، "رسالة في الإنسانية"، و"مقدمة الميتافيزيقا"، و"مبدأ العقل"، جعلت مؤلفها يلاحظ ذلك ويكتشف التأويل لافكره الخاص باعتباره ينتمي إلى التاريخ، وهو ما يتم توضيحه بالعلاقة بين فكر الوجود واللغة (11). إن البحث عن اللاّفكر يستجيب لضرورته الخاصة، ولم يعد له علاقة كبيرة بالمؤلف، الذي لا يهتم به إلا كذريعة. تصبح هذه الملاحظات المنهجية حاسمة بالنسبة للفكر الذي يريد تعريف نفسه بالكامل كطريقة، كطريق للتفكير، والذي يعتبر الفكر بالنسبة له طريقًا نحو دعوته الخاصة. ومن ثم، فإن إدخال الفكر الكانطي في مثل هذا التساؤل قد تناوله وشرحه هيدجر من خلال موضوع الشيء. بالنسبة إلى هيدجر، نجد التأثير الديكارتي وتأثير الفكر الرياضي في قلب ما يحدد الفعل النقدي، أي الاستيعاب بين العقل والوجود، والذي بموجبه تعني الشروط القبلية لإمكانية الذات أن الفكر يفترض الوجود للكائن ككائن للذات. وهكذا، فإن النقد الكانطي، بعيدًا عن أن يقتصر على مسألة مكانة العلم، يشكك في وجود الشيء ويعرف الحكم على أنه هذا الاستيعاب بين الذات والموضوع. لكن تساؤله لا يصل إلى حد الدعوة إلى الوقوف وراء فكرة الفكر كموقف. إذا كان الفكر الهيدجري بهذا الفهم يقترب من دعوته الخاصة، ألا يكون ذلك على حساب الابتعاد عن كانط؟ يعترف ديكليف، ضمنيًا حتى الآن، بمبدأ التأويل الذي هو استجابة لنداء الوجود كما يُسمع في تاريخ الفلسفة. بالنسبة له فقط، تم تسليط الضوء هنا على حساب خسارة كبيرة جدًا لرسالة كانط(12). في الواقع، تم اختزال العقل الخالص إلى الذهن، ويُفهم هذا الأخير على أنه ملكة الحكم، وهذه الاستيعابات هي التي تسمح لهيدجر بتركيز المشكلة على مسألة الشيء. ولكن هذا لا يقلل من أهمية التمييزات الكانطية. أليس في نقد ملكة الحكم على وجه التحديد أن كانط يريد أن يذهب إلى ما هو أبعد من حصرية الطابع الموضعي للعقل؟ وفاءً للمشروع الهيدجري نفسه، كما صيغ في بداية قراءته لكانط، المتمثل في الاهتمام بوحدة النقد الثلاثي، يدرس ديكليف فكرة الوجود على مستوى الجدلية ونقد الفكر في القدرة على الحكم ويعيد لهذا الغرض التمييز بين الذهن والعقل. إذا تم فهم كائن الذهن كموقف، وإذا كان يجب اختزال الفرق بين الإمكانية والواقع إلى التمييز بين الحساسية والذهن، فإن الفكر التفكيري للعقل يشهد على علاقة أخرى بين الذات وموضوعها. في الجدلية وفي عمل الأفكار، توجد أسئلة العقل. حتى لو كان الكائن في نقد ملكة الحكم يحمل اسم الله، فإنه لا يتم التفكير فيه بشكل نقدي أبدًا، ويكون الحكم "كما لو" مختلفًا تمامًا عن الحكم الممكن للذهن. "لأن التساؤل الخاص بالحكم التأملي يُلزمنا بالنظر في وجود الطبيعة في أفق واجب الوجود، وقياس عدم كفاية الوجود الذي يطرحه الذهن، وجود الطبيعة، عندما يتعلق الأمر بالاقتراب و ترك الوجود نفسه يقترب (13). لكن قبل أن يفحص نتائج هذه الأطروحة بالتفصيل، سيجمع المؤلف مرة أخرى عناصر أطروحة هيدجر عن كانط حول مفهوم الوسط، "الوحدة العلائقية للوجود، ووجود الكائنات ووجود الوجود الإنساني" (14). يقدم الزمن الوسط نفسه كزمن، باعتباره "يفكر" متعاليًا ويؤسس أي علاقة من الذات إلى الشيء، وكدائرة منطقية تدين بشكل قاطع، بمنطق خالص، والميتافيزيقا العقلانية. إن التفكير في كينونة الإنسان يمكن أن يتجاوز الحدود التي وضعها له إطار الأنثروبولوجيا. لكن ألم يكن من الضروري، أكثر مما فعل هيدجر، تسليط الضوء على العلاقة بين الوسط ودور الأفكار كمبادئ توجيهية للمسلمات؟ لذا فإن أساس ماهية الميتافيزيقا بالنسبة لكانط يجب أن يتم البحث عنه أكثر في الوسط المفهوم كأفكار للعقل. إن الطريقة التي يريد بها هيدجر دمج قراءته للديالكتيك مع النتائج الأولية سوف توضح مرة أخرى، وفقا للمؤلف، إلى أي مدى تعتبر قراءة هيدجر عميقة ولكنها تظل غير كافية. بالنسبة إلى هيدجر، فإن العالم باعتباره مثالًا متعاليًا عند كانط هو بينهما، وهو اختلاف أنطولوجي (15). ومع ذلك، فإن العالم لا يمكن أن يدل على العدم الماهوي للتعالي إلا إذا كان مرتبطًا بإمكانية التجربة وبالمثالية المتعالية. لكن أهمية المثالية المتعالية هي على وجه التحديد اهتمام العقل التأملي بالدازاين. على هذا النحو، يرى كانط أن هذه الفكرة لا يمكنها أبدًا أن تغطي حركة التعالي، ولكنها تشير، على أنها لا شيء، إلى عدم ملاءمتها الضرورية. وبهذا المعنى، يخلص ديكليف إلى أن اسم الوجود في الكانطية يفضل أن يكون "مصدر اهتمامات العقل". بعد ذلك تستمر قراءة هيدجر للديالكتيك في رغبته في إعادة اكتشاف مسألة التفكير وفق مصطلحات التحليلي. لكن بالنسبة لكانط، لا المبدأ الأساسي لإمكانية التجربة، ولا الطبيعة المفهومة بالمعنى الهيدجري كفكرة عن العالم، كافية للسماح لنا بإلقاء نظرة خاطفة على المتعالي. «إن العقل العملي وحده، أي الحرية في ظل رقابة فكرة العالم والفكر في ظل قانون الواجب، هو الذي يجعل التناهي حاضرًا بطريقة تجعل لا شيء من اختلافه يظهر كغياب يظهر فيه التناهي يمكن أن يعني: "ماذا سيكون لو لم يكن الله موجودًا؟"" (16). كما يعترف ديكليف أنه بهذا يعين كانط التعالي الذي يشير إلى شيء آخر غير تناهي الكائن، وبالتالي يعترف بأن "الوجود" هو في قلب التساؤل الكانطي. ولكن على عكس هيدجر الذي يتوقف أمام الديالكتيك ولا يستطيع أن يقرأ في الأخير سوى اعتماده على المقال التأسيسي في التحليلي، يؤكد ديكليف أنه في الديالكتيك نصل إلى التساؤل الكانطي الصحيح الذي يجب أن يكون طوال العمل بأكمله ويجب حمايته من تأثير الميتافيزيقا التقليدية. ولكن ماذا تعني الميتافيزيقا والفلسفة إذن بالنسبة لكانط؟ لا تستطيع الأنطولوجيا ولا الميتافيزيقا المتخصصة تقديم الإجابة هنا. لأن «ما يسميه هيدجر فهم الوجود في الإنسان هو في الأصل، عند كانط، مطلب أخلاقي» (17). هنا إذن السؤال "الميتافيزيقي" الخاص بكانط: ما هو الانسان الأخلاقي والعقلاني؟ إن الجدل المتعالي، بعيدًا عن التطابق في تمفصله مع المجالات التقليدية للميتافيزيقا المتخصصة، يتعلق بالكامل بهذا السؤال الشامل الرابع ("ما هو الإنسان") الذي رفض هيدجر أي وصول إليه (18). وهكذا يهدف النقد إلى تأسيس الأنطولوجيا على الأنثروبولوجيا "العملية". "يعتقد الثاني (كانط) أننا لم نكشف عن إمكانية وجود مسألة الوجود عندما قمنا ببساطة باختزال ماهية الوجود الإنساني إلى السماح للكائنات غير الموجودة بالإنسان في مجمله. وفقًا لكانط، يجب علينا أن نذهب إلى حد الاعتراف بالتناهي، قبل أي "ميتافيزيقا للأخلاق"، بواجب أن نكون "أخلاقيين". وهذا التناهي الماهوي وحده هو الذي يمنحنا سببًا للتفكير في وجود الحرية” (19). كيفية "الاختيار" بين اثنين من الفلاسفة، لأن الاختيار سيكون ضروريا عندما لا يمكن التوصل إلى اتفاق في نهاية حوار مراقب بعناية. إن المصلحة الشخصية، التي ظلت سرية أثناء الاستماع، سوف تنتهي في نهاية المطاف إلى فرض ضرورتها. هذه هي صدق هذا الكتاب، حيث يعترف بمصلحته الخاصة ضد اللجوء الوحيد إلى العقيدة التقليدية. وبذلك، يقبل المؤلف بعض السمات الأساسية للتفكير الهيدجري. إن التأمل تاريخي، وبالتالي لا يمكن أبدًا استدعاء تأويل فلسفي ليحل محل تأويل آخر، وفي هذا الصدد بالذات فإنه يشهد على طابعه الناقص بالضرورة (20). لكن ألا يحول المؤلف هنا هذا الإلهام إلى توبيخ صامت لهيدجر، فيما كان لا بد أن يكون أكثر ما اكتسبته فلسفة تريد الإصغاء إلى تاريخ الوجود؟ لن نتناول هنا الطريقة التي أعاد بها ديكليف إنتاج فكر هيدجر، فقط لتسليط الضوء على بعض السمات الأساسية في العلاقة بين هيدجر وكانط(21). ولتحديد موقع هذه العلاقة، قام المؤلف بفحص جميع أعمال هيدجر، ولم يثق في التسلسل الزمني للطبعات، مفضلاً تحديد مكان السؤال في كل منها. وهكذا، فإن عنوان الجزء الأول «كانط والزمن» يتبين أنه غير كاف، وينبغي تناوله في «كانط، الوجود والفلسفة»، إذ لا يستطيع الأول أن يغطي تساؤلات هيدجر، ولا في «كانط وإشكالية الميتافيزيقا». "، ولا في " السؤال عن الشيء". إن قراءة هيدجر في "كانط وإشكالية الميتافيزيقا" لا يمكن فصلها، بفكرة "المنعطف"، عما ورد في كتابه "السؤال عن الشيء". في رحلته، يكشف الفكر الهيدجري عن نفسه منذ البداية باعتباره تساؤلًا حول الفكر والوجود، حتى في تأملاته حول الزمن والتناهي والخيال المتعالي. هذه الفكرة في "رحيله" وفي لقائه مع كانط، هي في الأساس فكرة عن المنعطف (22). وبعيدًا عن التقلبات الحتمية للرحلة، يمكننا تحديد السمات الأساسية للتأويل الهيدجري. في تحديث نقد العقل الخالص باعتباره المقال التأسيسي للميتافيزيقا، يعمل الخيال المتعالي كنقطة مرجعية لتحليل الدازاين (الذي أهمله كانط). بهذه الطريقة يقلص هيدجر الفجوة بين الحساسية والذهن، ويضع الأخير جنبًا إلى جنب مع العقل وملكة الحكم، متجنبًا ثقل فكرة الشيء في حد ذاته ويعيد الحرية إلى عالم التناهي. إن التمييز بين النظري والعملي يفقد كل أهميته. ومع ذلك، في المكان الأصلي لهذا التمييز يجب علينا، وفقًا للمؤلف، أن نجد الوصول إلى الاهتمام الميتافيزيقي الحقيقي عند كانط وإلى المكانة التي يحتلها في تاريخ الوجود. بدلًا من أخذ التحليل إلى النقطة التي يمكننا فيها إدراك نسيان الوجود، فمن الأنسب للمشروع النقدي في مجمله تحديد علاقة الجدلية بنقد العقل العملي. بالمعنى الفلسفي الدقيق، فإن موقف هيدجر تجاه هتلر وموقف كانط تجاه السلطة، يسمح له باستنتاج أن لهجة خطابات الثلاثينيات بعيدة كل البعد عما نجده في "صراع الملكات". من خلال قراءة الديالكتيك التي يريد المؤلف أن يخلق فتحة على التعالي الحقيقي، ضد هيدجر الذي لا يستطيع التناهي بالنسبة له سوى أن يكتسب الذهن أساسه الخاص، ألا يوجد - بالمصطلحات الكانطية - لوم للدوغمائية ضد أي شخص يريد لتحديد تاريخية كل ذهن؟ ويبقى أن نتساءل ما إذا كان التراث الكانطي، الذي تم تناوله في تاريخ الوجود الذي يعترف به ديكليف، مع مبدأ الإلهام الهيدجري، بينما يرفض مفهوم الوجود الذي يرأسه، لا يتعرض للخطر حتما. سنتذكر في الواقع أن فكرة تاريخ الوجود، وهي افتراض أساسي لعلاقة معينة بين الوجود والموجود، والتي يتم فيها تحديد الكلام والفلسفة واتحادهما في التاريخ، تشير إلى العلاقة الداخلية مع الزمن والوجود. كون ديكليف، الذي يتم توفير الانفتاح عليه على الوجود في هدف المتناهي نحو الآخر تمامًا، والذي يسميه اللانهائي، هل يمكنه الحفاظ على فكرة تاريخ الوجود؟ وإذا كانت فكرة التاريخ التي تنتمي أساسًا إلى الوجود وإلى من ينطق به إلى حد كونه موجودًا، لا يمكن الحفاظ عليها، فلماذا لا نزال نتحدث عن الميتافيزيقا عند كانط؟

ما لم يكن للعقل مصلحة في الحفاظ على مفهوم الحرية وتشغيله "بالنسبة لكانط، تتلخص مشكلة الوجود في هذا السؤال: "ماذا سيكون الحال لو لم يكن الله موجودًا" (23) من الصعب أن نفهم كيف يمكن لعدم معرفة "الله" أن يشهد على إرساليات الوجود وانسحاباته، أو كيف يمكننا من عدم المعرفة أن نكتب التاريخ. بمجرد أن أصبح هذا السياق الهيدجري غير مقبول بسبب مفهوم التعالي الذي يجده المؤلف عند كانط، فإننا نواجه سؤالًا بسيطًا ومربكًا: لماذا كان كانط مهتمًا بالوجود، واللاوجود؟ وهل هذا هو موضوع الميتافيزيقا، حتى لو كان يجب توضيح الأخيرة باعتبارها أنثروبولوجيا عملية؟ هذا السؤال، إن قربه من هيدجر منع المؤلف من طرحه لنفسه، قبل أن يقترب منه بطرق هيدجر."

***

.........................

الاحالات والهوامش:

(1) هيدجر وكانط (فينومينولوجيا ، سلسلة.، رقم 40)، لاهاي، م. نيهوف، 1970، 380 ص.

(2) مرجع سابق

(3)، مرجع سابق، ص. 25.

(4) مرجع سابق، ص. 25.، ص. 29.

(5) يشير  ديكليف أيضًا إلى كيفية فهم هيدجر لـ "أنا أفكر" بمعنى الماهية، وبالتالي يشمل "أنا أفعل" والشخص الأخلاقي. هنا بالفعل كما في القراءات اللاحقة، يبدو أن الجهل بتقسيم النقد الثلاثي هو أحد الركائز التي يرتكز عليها تأويله.

(6) مرجع سابق، ص. 84.

7) مرجع سابق، ص. 141.

(8) مرجع السابق، ص. 143.

(9) مرجع السابق، ص. 134.

(10) ينبغي أن نسأل أنفسنا ما إذا كان هذا التعبير عن الذاتية، حتى لو كان يشير صراحة إلى النشاط النظري، يتناقض بما فيه الكفاية مع بيان هيدجر وما إذا كان الارتباط بالأشياء في ذاتها لا يصبح، في النشاط النظري، اسم الوجود.

(11) إن القراءة الهيدجرية (باعتبارها عملًا ضروريًا لتكوين الوجود) سوف تتجه من الآن فصاعدًا نحو ما لا يُفكر فيه أكثر مما لا يقال. ويشير ديكليف في هذا الصدد إلى أن كل هذا لا يمنع هيدجر من اختيار نصوصه وسوء الفهم

(12) مرجع سابق، ص. 219 .

(13) مرجع سابق، ص. 250.

(14) مرجع سابق، ص. 251.

(15) مرجع سابق، ص. 315.

(16) مرجع سابق، ص. 328.

(17) مرجع سابق، ص. 344.

(18) يشير المؤلف إلى كيف أن هذا التأويل لهيدجر يرتكز على تجاور اعتباطي لنصين منفصلين عن سياقهما. انظر المرجع السابق، ص. 349-362.

(19) مرجع سابق ، ص. 368.

(20) انظر مرجع سابق ، المقدمة و 177 و 184. هذه هي السمة الأساسية للفلسفة (الوجود التاريخي) التي تسمح لمؤلفها بمواجهة ما وراء النسق

(21) من المهم أن نلاحظ أن هذا الكتاب عن هيدجر وكانط له ميزة (إلا إذا كنت مخطئا، أول من يتقدم بهذه الطريقة) في إبراز المكانة التي تشغلها قراءة كانط في التساؤل الكوني حول الفلسفة. ومن ثم، لا يقتصر الأمر على هيدجر، ولا نقتصر على عرض كتابه كانط ومشكلة الميتافيزيقا، يليه ملحق عن كانط والمنعطف.

(22) انظر المقدمة، ولمزيد من التفاصيل، تعليق الفصل الرابع، من كتاب كانط ومشكلة الميتافيزيقا.

(23) مرجع سابق ، ص. 376.

المصدر:

Béa De Gelder, Heidegger et Kant, Revue Philosophique de Louvain  Année 1972  7  pp. 443-453

تمهيد: من المعلوم أن التقدم سنة الحياة وان العقل البشري يسعى بكل جهوده الى المساهمة في التقدم بالإنسان ومن البديهي ايضا ان يتمسك كل البشر بحقهم الوجودي في التقدم من اجل الرقي والازدهار ولكن توجد عدة عراقيل خارجة عنهم تمنعهم من ذلك وتظهر عدة موانع قاهرة تحول بينهم وهذه الفضيلة الحضارية. فإذا كان التقدم المادي للغرب مجرد همجية جديدة ووهم حضاري بالنظر الى الفشل الذريع التي منيت به الرأسمالية وتحولها إلى ظاهرة امبريالية استعمارية للإنسان والطبيعة والحياة وسقوط اقنعة العولمة وتكذيب وعودها الجوفاء فإن مبدأ التقدم الروحي الذي تمسكت به الحكمة المشرقية يظهر كبديل واقعي له. لماذا تم اعتبار التقدم الغربي مجرد اسطورة؟ وكيف يمكن المراهنة على الطابع الروحي للتقدم الانساني؟

أسطورة التقدم المادي

"إن الخطوة الجماعية للنوع البشري تسمى التقدم. قال فيكتور هوغو: "ان التقدم يشتغل".

لقد كانت أسطورة التقدم مشتركة بين الجميع قبل بضعة عقود. أتذكر، في الستينيات، كان ذلك عصر طائرة الكونكورد الأسرع من الصوت، وأول تلفزيون ملون، والترانزستور، وأول أجهزة الكمبيوتر، واكتشاف خصائص الحمض النووي على يد جاك مونو وفرانسوا جاكوب وأندريه لوف (جميعهم ثلاثة فائزين بجائزة نوبل في الطب عام 1965)، وأول عملية زرع قلب أجراها كريستيان بارنار عام 1967 في جنوب أفريقيا، وأول خطوة للإنسان على القمر عام 1969، وما إلى ذلك. كان الإيمان بالتقدم عامًا، وكان مشتركًا في الاعتقاد بأن زيادة المعرفة يجب أن تساهم بطبيعة الحال في التقدم الأخلاقي للبشرية. ومن المؤكد أنه في نفس السنوات، جاء الهيبيون أولاً، ثم حركات 68 مايو، لزعزعة هذه الأفكار الراسخة لبعض الوقت. لكن هذه السنوات نفسها شهدت تطور الزراعة المكثفة، وخصخصة البذور، والاستخدام المكثف للأسمدة مثل النترات والفوسفاط، وما إلى ذلك والمبيدات الحشرية، وما إلى ذلك، دون أي ضمير.هل علمنا أن هذا يعني بداية تدمير التنوع البيولوجي؟ تعريض الظروف المعيشية على الأرض للخطر؟ وكان الاعتقاد في التقدم. . العودة بالزمن إلى نهاية القرن الثامن عشر. تراودني فكرة خاصة حول كوندورسيه، عالم رياضيات، فيلسوف، سياسي، آخر ممثلي حركة التنوير، وهنا أيضًا دوّن ملاحظات، محمولاً بإيمانه الثابت بالإنسان، رسمًا لصورة تاريخية لتقدم الروح الإنسانية:" من بين أهم التطورات في الروح الإنسانية لتحقيق السعادة العامة، يجب أن نعد التدمير الكامل للتحيزات، التي أنشأت بين الجنسين عدم مساواة في الحقوق قاتلة للشخص نفسه الذي يفضله بأسباب واهية لتبريره الاختلافات في تنظيمهم الجسدي، والتي يود المرء أن يجدها في قوة ذكائهم، وفي حساسيتهم الأخلاقية، لم يكن لها أصل آخر سوى إساءة استخدام القوة، وقد حاولنا عبثًا منذ ذلك الحين ثم نعذره بالمغالطات". إن الرسم المكتوب في ظل الموت هو ترنيمة حقيقية للحياة التي تسافر على الطريق نحو التقدم غير المحدود. بالنسبة لكوندورسيه، التقدم لا يقتصر على المعرفة. كما أنه يعني التحسن الأخلاقي للإنسان. إن الطريق إلى التقدم لا يعرف "نهاية زمنية أخرى غير مدة الكرة الأرضية التي ألقت بنا الطبيعة إليها". لم يشك كوندورسيه في خطاب الاستقبال في الأكاديمية الفرنسية للحظة في أن "كل اكتشاف في العلم هو فائدة للإنسانية". لقد تغلغل هذا الإيمان بالتقدم غير المحدود بشكل عميق ودائم في القرنين التاسع عشر والعشرين. لكن اليوم دخلنا عصر التحول. الإنسانية تتغير. نحن ندرك أن بعض "التقدم" في العصر السابق، بعيدًا عن أن يجلب لنا السعادة الموعودة، يلقي بنا في التعاسة. ما الذي نشهده بلا حول ولا قوة؟ لقد بدأ تدمير الظروف الصالحة للسكن لجنسنا البشري والأنواع الأخرى على الأرض. إلى احتمال أن يختفي الإنسان كنوع. طابع الماضي الذي لا رجعة فيه. ما تم قد تم القيام به. هذا الإنسان يعرف ما فعله. لكن معاناته ورعبه يأتي قبل كل شيء من حقيقة أنه يعلم أيضًا أنه لا يستطيع التراجع عما فعله أو إصلاحه. ولأنه يمنحه الوعي المأساوي لما لا يمكن إصلاحه، فإن الماضي هو أكثر ما يقلق الإنسان. الخوف من الغد يحمل دائمًا، حتى لو كان صغيرًا، حتى عندما نعلم أنه يمكن أن يخيب وربما سيكون، أمل الممكن، الممكن، المفتوح، المعجزة. الذي من الماضي لا يحمل إلا ثقل همه. وحتى الندم أو التوبة ليسا كافيين لتعديل طابع الماضي الذي لا رجعة فيه؛ بل على العكس تمامًا: بل إنهم يؤكدون ذلك في أبديته. نحن لا نأسف على ما كان فحسب؛ ونحن أيضًا وقبل كل شيء نأسف لما سيكون إلى الأبد. هل مازلنا نؤمن بأسطورة التقدم؟ ما يجب علينا فعله هو: تبني موقف نقدي تجاه قوتنا وأفعالنا..."دعونا نبقى مضطرين للقلق دائمًا" هكذا انشد رينيه شار ... كيف وصلنا إلى هذه الكارثة: إمكانية اختفاء البشر كنوع؟ كان البشر هم النوع الأول والوحيد حتى الآن الذي بدأ في تعديل ظروف معيشته عن عمد. وها هي النتيجة – في شكل كارثة متوقعة – لعقود من "التقدم"...ما الأمر متروك لنا أن نفعل؟ هناك الكثير من الناس الذين، أمام هذه الملاحظة، يدافعون عن أنفسهم من أي قلق وأمل في حلول لا تهز قيمهم الأساسية. في الواقع قد نشعر بالقلق، لكننا لا نريد أن نعترف بذلك. ويدرك آخرون أنهم قد أضعفهم القلق، ويعانون منه بشدة، إلى حد الذهول: تحت تأثير صدمة الوعي، تبدو الوظائف الحيوية وكأنها معلقة: ثم نتحدث عن القلق البيئي - ولكن لا يجب أن نتوقف عند هذا الحد، من حيث الصحة. أخيرًا، على العكس من ذلك، لا يشاركني الآخرون مطلقًا هذه "الرؤية المتشائمة للغاية"، كما كتب صهري هنري في تعليق على المنشور السابق، "يظلون مقتنعين بأن البشرية، كما فعلت دائمًا في الواقع، ستعرف كيف لتصحيح أخطائها دون التخلي عن تحسين حياة سكان أرضنا”. لا يمكن إنكار أن الرفاهية المادية للبشر قد زادت بشكل عام في كثير من الحالات، إن لم يكن في معظمها، بفضل التقدم العلمي والتكنولوجي في العقود الأخيرة. لكن لا يعني ذلك أن هذا التأكيد يظل صحيحًا عندما تؤخذ في الاعتبار تداعيات هذا "التقدم" نفسه على البيئة: يبدو بعد ذلك - ونحن ندركه تمامًا اليوم على وجه التحديد بسبب هذه التداعيات المثيرة للقلق على المناخ والتنوع البيولوجي والتنوع البيولوجي. الظروف المعيشية للكائنات الحية، والتي تظهر آثارها أمام أعيننا، أن هذا "التقدم" قد تسبب في كوارث، بعضها لا رجعة فيه، تهدد ديمومة الكائنات الحية على الأرض. وأنا أتفق جزئيا مع هذا التعليق الآخر، من صديقي جان كلود: نعم، بلا شك، "مجتمعنا البشري" أيا كان محيطه يواجه عشرات "التحولات" بنفس شدة تغير المناخ، الذي تفاعلاته المنهجية "لا يمكن توقعه": الهجرة، والتلوث، والمجتمع الرقمي، وما إلى ذلك. وتبقى الحقيقة أن التحول المناخي، في رأيي، يظل كبيرا، لأن القضية هي بقاء الجنس البشري. إذا اختفى البشر والأنواع الأخرى من الكائنات الحية من سطح الكوكب، فمن المؤكد أن هذا لن يمنع الأرض من الاستمرار في الدوران - وبهذا المعنى، فإن "بقاء الكوكب" ليس هو الذي على المحك. كما نقول أحيانًا - لكن المشاكل الأخرى: الهجرة والتلوث وما إلى ذلك. سيتم حلها في نفس الوقت. وما يتعين علينا القيام به هو اتخاذ موقف نقدي تجاه فكرة التقدم اللامحدود للعقل البشري المولود في عصر التنوير. لا، إن تطور المعرفة لا يجلب السعادة للأفراد والشعوب فعلياً، حتى لو كان يفعل الكثير. السعادة نفسها لا يتم تعريفها من خلال التراكم الدائم للسلع، والتأجيل الذي لا نهاية له للحدود، وتحقيق الأحلام المجنونة مثل الخلود. السعادة الاجتماعية هي مسألة رفاهية: إنها العيش بشكل جيد على الأرض التي تؤوينا، في وئام مع الكائنات الحية الأخرى، مع احترام البيئة. ويرتبط بهذا النوع من التقدم والنوع الآخر . من المهم أن نمارس قدراتنا النقدية بشكل جماعي للحكم على ما هو جيد وما هو غير جيد، بناءً على معاييرنا الخاصة بالسعادة. وفي أعقاب هذه الانتقادات ستظهر الظواهر التي ستشكل قطيعة واعية مع النماذج الحديثة لتطور الرأسمالية الليبرالية، وستعلن عن شيء جديد. لذا فإن الأمر متروك لنا لفهم ونقد الأساس الأيديولوجي الذي سمح بتطور نماذج الحداثة، التي تتحمل مسؤولية تعريض الحياة على الأرض للخطر. بالطبع، نفكر على الفور في الوصية الكتابية الشهيرة في سفر التكوين (1، 28): "باركهم الله، وقال لهم الله: اثمروا، واكثروا، واملأوا الأرض، وأخضعوها. " وتسلطوا على سمك البحر، وعلى طير السماء، وعلى كل حيوان يدب على الأرض." لكن الحداثة لم ترجع إلى هذا التقليد الكتابي، بل وقفت ضده، حتى لو كان هذا التقليد قد قدم سياقًا مناسبًا. في الأساس، عند ديكارت، الحداثة لها أصولها الفلسفية. قبل الحداثة، كان الإنسان يحكم الطبيعة "بفضل الله"، مما جعله مسؤولاً عن كيفية إدارة امتيازاته. مع الحداثة، توقف الإنسان في نفس الوقت عن الرجوع إلى الله، تحت التأثير الموجه للرأي العام المستنير الذي صاغته الأفكار الفلسفية لديكارت، تغير جذريًا تمثيل علاقة الإنسان بالطبيعة، وأصبحت الطبيعة بالنسبة للإنسان مادة خام بسيطة ومخزون من الموارد. ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ أنه في عام 1735 اقترح عالم الطبيعة لينيوس تصنيفًا للنباتات بأسماء لاتينية ووصف علمي، بينما كانت حتى ذلك الحين تحمل أسماء ملونة للغاية، لا يمكن فصلها عن الخيال الشعبي، مستوحاة من شخصيات الكتاب المقدس، والقديسين، وآخرين من رائحتها، أو خصائصها الطبية. ثم تنفصل النباتات عن التجربة المشتركة وتظهر كأشياء منفصلة للدراسة. من خلال الدفاع عن مفهوم أنثروبولوجي مزدوج بحت، حيث لم يبق سوى "جوهرين": جوهر مفكر، وهي السمة الحصرية للإنسان، والتي يحددها الفكر؛ والجوهر الممتد الذي تنتمي إليه جميع الأجسام، والذي يُحرم من أي صفة روحية. يؤيد ديكارت مفهومًا للطبيعة يتم فهمه بطريقة ميكانيكية بحتة. فهي مادة خام بسيطة كما هي الحيوانات أيضًا بالنسبة لديكارت، وبالتالي يمكن استغلال الطبيعة لأغراض بشرية، وبالتالي يمكن تصورها على أنها تحت تصرفنا بالكامل. من المؤكد أن ديكارت لم يدعو إلى تدمير الظروف الصالحة للسكن على الأرض، لكن لا يمكن إنكار أن الفكر الديكارتي، الذي شكل الحداثة، هو من أعراض الخيال الاجتماعي للسيطرة العقلانية على العالم. إن المفهوم الأنثروبولوجي لفلسفة ديكارت، وهو مفهوم اختزالي للغاية، أصبح موضع تساؤل اليوم. فمن سيرغب في اعتبار الحيوانات آلات هذه الأيام؟

في الواقع سوف تلهم النظرية الديكارتية للآلات الحيوانية الممارسات الصناعية لقطاع الأغذية الزراعية في القرن العشرين، وهي الممارسات التي أصبحت موضع تساؤل اليوم. من منا لا يشعر اليوم بأننا مرتبطون بالأرض، وبجميع الكائنات الحية، بحلقة حيوية - كما فهمت دائما الشعوب التي نسميها البدائية؟

نحن ندرك اليوم أننا جزء من الطبيعة: لم نعد نريد اعتبار الطبيعة مادة بسيطة مختزلة إلى قيمتها النفعية، ومتاحة للاستغلال وفقًا لمصالحنا: نحن جزء من الطبيعة. سيؤثر هذا التغيير في العلاقة مع الطبيعة على نماذجنا التنموية المستقبلية. سيكون من المهم أيضًا إصلاح الضرر الذي حدث بالفعل حيثما أمكن ذلك. ولكن ليس فقط على أية حال. أجد أنه من المدهش أن أعرف أن مؤتمر الأطراف المقبل بشأن ظاهرة الاحتباس الحراري من أجل الاستعداد بشكل أفضل للتحول المناخي من خلال الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة الكنز الذي جمعه ارتفاع درجة حرارة الكوكب. إن أسطورة التقدم غير المحدود التي حملتها الرأسمالية والمجتمع الصناعي في أعقاب عصر التنوير قد ماتت لأنها خانت وعودها. والأسوأ من ذلك، أنها وضعتنا على طريق مميت من الغطرسة والإفراط، حيث اتخذ الإنسان نفسه، في كبريائه، سيدًا للكون، واستغلال موارد الأرض بلا حدود، وفرض سيطرته، لمصلحته الوحيدة، على الأنواع الأخرى من الكائنات الحية، مما يهدد ظروف الحياة على الأرض بالدمار من خلال نهمها. لقد قضت الثورة الصناعة على علاقة الوئام التي كانت موجودة بين الإنسان والطبيعة ودمرت التحالف السلمي معها وتسببت في اندلاع التدمير للبيئة وتجفيف منابع الحياة والنزاعات والحروب بين البشر. فهل يمكن الاستخفاف بالتقدم المادي واستبداله بالتقدم الروحي؟ وماهي المظاهر الروحية لهذا التقدم المنشود؟

التقدم الروحي للشرق

"من هم الذين يبحرون في منتصف ليلنا، الا يميلون نحو الظلال الأولى للشرق الحقيقي؟" (تيلار دي شاردان)

إذا أردنا أن نتعمق أكثر في هذا التفكير التقدمي، علينا أن نقرر ما إذا كنا سنفحص عالمًا ماديًا بتقدمه وأخطائه، أو عالمًا روحيًا موجودًا في داخلنا..." بالفعل، لقد تحدثنا حتى الآن عن التقدم من زاوية التملك، معتبراً إياه تقدماً مادياً. هدفنا هنا هو استكشاف جانب آخر من التقدم، البعد الروحي له، أي من خلال النظر إليه من زاوية الوجود. ماذا لو كان التقدم أيضًا أكثر من المادي والروحي؟

نحن نخترع دائمًا أدوات تكنولوجية جديدة مع المخاطرة، ليس بالتقدم بل بالتراجع في مجالات أخلاقية معينة، ولكن ماذا عن تجربة حياتنا الداخلية؟ هذا ليس منعزلاً في عالم التملك، بل يتغذى من عالم الروح والفن والشعر والأدب واللقاءات... ومن خلال هذه التجارب يتسرب ويتجاوز المادية. هذا التجاوز لا يرتبط بالتجربة الصوفية، للسيد إيكهارت على سبيل المثال ، أو يوحنا الصليب، الذي تقود كلماته ومثاله في الحياة إلى لا شيء مما يمكن تصوره، وهذا يعني نحو انفتاح يتجاوز ما هو موضوع العلم. يمكننا أيضًا أن نشير إلى تجربة الصوفي، الأقرب إلينا، أو الصوفي الكوني – وأنا أتحدث عن تيلار دو شاردان. لطالما أذهلتنا شخصية تيلار، الذي وصف نفسه بالمفكر المستقل، الذي لا يمكن تصنيفه في الواقع، والذي أخافت جرأته السلطات الكنسية والدوائر الأكاديمية. وعلى النقيض من كل التمثلات الشائعة، يرى تيلار أن المادة تحتوي على قوة روحية. المادة، بالنسبة لتيلار، هي مجموعة الأشياء والطاقات والمخلوقات التي تحيط بنا، إلى الحد الذي تظهر فيه لنا بشكل ملموس وحساس. ويوضح أن المادة ليست فقط "الثقل الذي يجر، والطين الذي يعرقل، والشجيرة الشائكة التي تسد الطريق..."، باختصار "تطلع دائم نحو الانحلال"، كما يراها تقليدًا مسيحيًا معينًا. بطبيعتها أيضًا، وفقًا لتيلار، فإن المادة «تحتوي على تواطؤ ، لدغة أو انجذاب نحو وجود أعظم". يتكون التحول الروحي من عبور طريق محدد عبر المادة، وهو بمعنى ما "طريق يوحد". ومن ثم، إذا دفعنا نحو توسيع وجهات النظر، فسوف نتقدم على هذا الطريق. ومع ذلك، يضيف تيلار: «مرة أخرى، يبدو أن ما هو قانون الأفراد هو تصغير واختصار لقانون الكل. وسنكون مخطئين جدًا إذا اعتقدنا أن العالم، في عالميته، له أيضًا صفة معينة. تحديد طريق السفر قبل بلوغ استهلاكه؟" ثم يتحدث تيلار عن انجراف عام من المادة إلى الروح. بالنسبة لتيلار، هذا "الانجراف" هو جزء من الملاحظة الشاملة التي قادته إليها أعماله المختلفة: المحيط الحيوي منظم ذاتيًا في تعقيد متزايد. كما أن رؤيته للكون هي رؤية التكوين الكوني، أي كون متطور ومتقارب حيث يكشف الله عن نفسه أولاً باعتباره المستقبل المطلق، من خلال عتبة "النشوة". إن "تصور تيلار للعالم" ، الموجه نحو المستقبل، هو في الأساس نبوي، بمعنى الإعلان عن إنسان فوق إنساني، أي تجاوز الجماعة بنفسها، منظور أوميغا. نقطة، نقطة التقاء الإنسانية. أجد هنا أفكار فيكتور هوغو الذي افتتح التدوينة الأولى: "إن الخطوة الجماعية للجنس البشري تسمى التقدم. " هذا بالفعل تقدم، نحو مزيد من الرفاهية. هذا "التحول الروحي المستمر" هو في قلب تجربة الصوفيين. يقول تيلار عن أحد هؤلاء، وهو الرجل "الذي كان سيذهب إلى حد ما في قدرته على الشعور وتحليل نفسه": "لقد اكتسبت حقًا إحساسًا جديدًا - الإحساس بجودة أو بعد جديد. والأعمق من ذلك: لقد حدث تحول بالنسبة لنا في إدراكنا للوجود. ويوضح تيلار أن هذا التعديل أو الإدراك يأتي من نوع من الحدس، ولا يمكن الحصول عليه مباشرة عن طريق أي تفكير أو أي حيلة بشرية. "مثل الحياة، التي تمثل بلا شك أعلى درجات الكمال التجريبي، فهي هدية."

خاتمة

يلعب الفنانون والشعراء والمتصوفون دور الكشافة في هذا التقدم الجماعي. ومن جانبه، يرى برجسن، الذي يتمثل مفهومه الأساسي في فلسفته في "النشاط الحيوي" كخاصية للحياة، فيهم شكلا متجسدا من الحماس الحيوي: "استولى عليهم تيار هائل من الحياة؛ ومن حيويتهم المتزايدة ظهرت طاقة غير عادية، وجرأة، وقوة في التصور والإدراك. إنهم مبدعو القيم الجديدة. إن وفرة حيويتهم "تتدفق من مصدر هو مصدر الحياة نفسها"، وتشير إلى الاتجاه. هذه الوفرة في الحياة لها، بالنسبة لبرجسن، قيمة التجربة، وهي أمر مؤكد: "إن العالم الذي تدركه عيون الجسد هو بلا شك حقيقي، ولكن هناك شيء آخر، وهو ليس ممكنا أو محتملا ببساطة، كما سيكون" استنتاج الاستدلال، ولكن مؤكد كتجربة." يمكننا أيضًا الرجوع إلى سبينوزا الذي بالنسبة له يتحدد كل كائن من خلال جهده "للمثابرة في وجوده"(الكوناتوس). من خلال الرغبة، "ماهية الإنسان"، نحن مقادون إلى القيام بما وصفه سبينوزا بـ "التجاوز" والتسامي والارتقاء. وهكذا، على خطى ابن سينا وابن رشد وسبينوزا أو برجسن أو تيلار دي شاردان، وغيرهم الكثير، فإننا نقود إلى مشاركة هذه الرؤية للإنسانية التي، بقيادة المستنيرين الذين يمكنهم إلهام كل فرد، تنطلق من الأمام وتتقدم في الروحانية، يشهد أن عالمنا ليس مغلقًا بل مفتوحًا، ويستأنف الزخم الإبداعي. فاذا كانت العولمة قد ترجمت الفشل الذريع للتنوير الصناعي فكيف يمكن تحويل التقدم المادي الى تقدم روحي؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

قد يكون من الصعب أن تجد فيلسوفاً شغل فكره تاريخ عصره ولم يزل يشغل الكثير من المساحة الفكريّة لتاريخ الفكر الحديث والمعاصر أيضاً، كهيجل. فهيجل يختلف عن كلّ الفلاسفة الذين سبقوه. فهو لم يكن مجرد جزءٍ من مرحلةٍ، أو تابعٍ لعصرٍ من العصور، إذ يمكن القول بصراحة أنه فيلسوفٌ يشكّل بذاته مرحلةً تاريخيّةً هامّةً في تاريخ الأفكار.

الفكرة المطلقة عند هيجل:

إن من يتابع معنى أو دلالات الفكرة المطلقة عند هيجل، سيجد غموضاً وصعوبةً في الوصول إلى الدلالة الحقيقيّة أو الجوهريّة لهذه الفكرة، وهذا يعود بنظري إلى عمق تفكير وصياغة هيجل لأفكاره، التي جاء الكثير منها على درجة عالية من التجريد والغموض من جهة، ثم للخلط المنهجي الذي ينوس بين الماديّ والمثاليّ في فكره من جهة ثانيّة، ففي الوقت الذي نرى البعد الماديّ في تفكيره، وخاصة في جدله القائم على الحركة والتبدل في الفكرة والواقع معاً، نرى الفهم المثاليّ واضحا في مواقف فكريّة عدذة له، كموقفه من الدين، والدولة والفن. مع تأكيدنا بأن فكر هيجل قد أثرت فيه طبيعة المرحلة التاريخيّة التي كانت تعيشها ألمانيا المجزأة والمتخلفة بشكل خاص بسبب سيطرة الكنيسة، وسلطة النبلاء والملك، إضافة لتأثير أفكار الثورة الفرنسيّة، ومفهوم الدولة، ووجود نابليون في عصره وتأثيره على تفكيره وأعماله، الأمر الذي جعل فكره يتجلى بتيارين أساسين، الأول التيار الماديّ الجدليّ وخاصة فكرة الجدل التي شكلت أهم منطلقاته الفكريّة. والجدل عند هيجل « هو الميل المستمر الذي نتجاوز بواسطته التحديد، وأحاديّة الجانب لصفات الفهم، بحيث توضع في وضعها الصحيح، أي يتضح ما فيها من سلبٍ لأنّ الشيء المتناهي يطمس معالم نفسه، ويضع نفسه جانباً). (1). وهذا ما جعله يقول: (التحديد يعني الثبات). هذا وقد مثل هذا التيار الفكري العقلاني النقدي بعض من الفلاسفة المعاصرين له أو الذين جاؤوا بعد وقاته، ما سمي  باليسار الهيجلي، كماركس وانجلز وفيورباخ وشتنر وغيرهم. أما التيار الثاني، فمثله الهيجليون التقليديون أو «اليمينيون» الذين ساروا على الأسلوب الذي اتبعه هيجل في سنواته الأخيرة، ووفَّقوا بين آرائه الدينيّة والمسيحية البروتستانتية، وقَبِلوا وجهة النظر الإيجابية عمومًا عن دولة بروسيا التي عبَّر عنها هيجل في كتابه «فلسفة الحق». علماً أنه لم يتمخَّض عن هذه المدرسة الهيجليّة المحافظة أي مفكرين كبار،..(2). فنقد هيجل للمسيحيّة لم يصل إطلاقاً إلى النقطة التي وصلت إليها فلسفة الإلحاد الماديّة، وعلى العكس تماماً فإنّ جوهر تفكيره هنا وفي الكتابات اللاحقة يبدو دينيّاً خالصاً، فدعواه تنصبّ على ردّ الدين وتحريره من العبوديّة ليجعل منه ديناً للحريّة والحياة التي تخلو من مظاهر التمزق والاغتراب.).(3). وكذلك يتجلى موقفه المثالي واليميني معاً من الدولة التي يقول عنها: (.. بأنّها الشكل الكامل الذي يتحقق فيه العقل والحريّة). (4َ).. وهو لا يتردّد في أن يضفي على هذه الدولة صفات القداسة والجمود، حيث يقول: «... إنّ مبادئ الدولة ينبغي أن يُنظر إليها على أنّها صحيحةٌ في ذاتها ولذاتها، وهو ما لا يكون ممكناً إلا إذا نظرنا إلى هذه المبادئ بوصفها تجلياتٍ متعيّنةً للطبيعة الإلهيّة»(5). ولاشك في أنّ صورة الدولة على هذا النحو الذي يريده هيجل قد جعلت بعض المتابعين لفكره، ينظر إلى مفهومه عن الدولة بوصفه الأساس الفلسفي لقيام الفاشيّة، فالجرائم التي ارتكبتها النازيّة، وممارساتها الوحشيّة مع المنشقين والمعارضين لها، ونقضها لمعاهداتها مع الدول الأخرى، كل ذلك تم تحت اسم الدولة وبدعوى المحافظة على كيانها. (6). في آخر كتابٍ أصدره في حياته (أصول فلسفة الحق)، نجد في هذا الكتاب أن هيجل يرفض حتى الأمل البسيط  لقدرة الفلسفة على تجاوز ما هو قائمٌ في الواقع، بل ويعتبر ذلك مستحيلاً، حيث يقول: «إنّ مهمّة الفلسفة تنحصر في تصوّر ما هو كائن، لأنّ ما هو كائنٌ ليس إلا العقل نفسه... وكما أنّه من الحمق أن نتصور إمكان تخطّي الفرد لزمانه فإنّه لمن الحماقة أيضاً أن نتصور إمكان تجاوز الفلسفة لزمانها الخاص...»(7).

على العموم: عادة ما نعتبر الفلسفيّة المثاليّة هي المقابل لما هو واقعي... لما هو مادي وملموس، وأن المثالي هو ما يجب أن يكون في مقابل ما هو كائن كما كان يتصور أفلاطون. بينما نجد أن هيجل يرفض هذا النوع من التفسير الفلسفيّ المجرد معتبراً إياه مفارقا للواقع المعيوش، بحكم أنه ينطوي على عدم الرضا أمام الحوادث التاريخيّة، لهذا جاءت معه غاية الفلسفة المثاليّة تتمثل في ضرورة تعقيل الواقع أي جعله معقولاً، بمعنى آخر، جعل الذات العارفة والعالم الخارجي من جنس واحد مصرحا بما يسميه: تعقيل الواقع.

والحق أننا – حسب هيجل كما يقول "عبد الرحمن بدوي" – إذا عَقّلْنَا الواقع فقد يصبح كل شيء من الذات ومن الواقع معقولاً، ومن ثم تصبح أيضا كلمة المثاليّة، من منظور هيجل، تحمل معنى "تعقيل الواقع، أي جعل كل ما هو واقعي معقولا، وكل ما هو معقول واقعي، والوصول إلى عمليّة توحيد فيما بين الواقع والمعقول بالانتهاء إلى أن كل شيء معقول. تلك هي المثاليّة بالمعنى الحقيقي. (8).

2. الفكرة المطلقة عند هيجل:

أما بالنسبة للخاصيّة الرئيسة التي تميز مثاليّة هيجل فهي: (الفكرة المطلقة)، التي تجلت عنده في حالة من الغموض والتجريد، بحيث يصعب على الدارس أن يحدد دلالتها الحقيقيّة الواضحة عنده. فتارة يراها الروح التي تقود التاريخ، أيضاً الفكرة غير المنظورة التي يحركها ويحكمها العقل بحتميّة التقدم التاريخي الى الأمام. وتارة أخرى يرى أن الفكرة المطلقة ممكن إدراكها لأنها أكثر الاشياء واقعيّة. والمطلق وحدة عضويّة يمكن إدراكها العقلي. (9).

كما أنه يراها أيضاً – الفكرة المطلقة - من خلال رؤيته للمطلق، على أنها الذات الكليّة التي تنظم كل شيء. والأشياء ليست إلا تطورا ونموا دياليكتيكيّا عن الفكرة الأصليّة. وهذه (الذات الكليّة) هي عينها الفكرة. مما يعني أن كلمة التصور تعني الشمول أو الإدراك الشامل. وعلى هذا الأساس، يبدو لنا التصور الهيجلي يتمثل في الكلي الذي يُنظم كل تعييناته ويشملها في تطور دياليكتيكي، وبهذا المعنى، فالتصور هو العيني عينيّة مطلقة". (10).

من خلال هذا المنطلق وعلى أساسه، يميز هيجل أيضاً وبدقة بين الفكرة المطلقة والتصور، من منطلق أن "الفكرة هي التحقيق الكامل للتصور، أي أن الفكرة هي الوحدة المطلقة للتصور وللموضوعيّة، وهي الحق في ذاته ولذاته، الفكرة هي الحياة، هي الخير في المعارف والأفعال. وهي المعرفة الكليّة المطلقة التي يصل إليها فكر الفيلسوف، إنها الحق حين يعرف نفسه، أما التصور فهو مجرد لحظة تابعة للفكرة المطلقة ويخرج من عباءتها، حيث يظل دائما مبدأً لها، وهو يحدد الفكرة في علم المنطق بأنها التصور الموافق، وهي الحق الموضوعيّ، أو هي الحق بوصفها الحق. فحينما يكون الشيء حقا، يكون كذلك بما فيه من فكرة. والوجود يبلغ معنى الحق حينما تكون الفكرة هي الوحيدة بين التصور والواقع، فيصبح الوجود هو الفكرة." (11).

وفي اتجاه آخر تُقَدَمُ الفكرة المطلقة عند هيجل أساساً على الحريّة التي سماها وعي الضرورة، أي التخلص من كل ما يعيق الذات الإنسانيّة من التعبير عن ذاتها. وهذه الفكرة المطلقة جسمها هيجل في ثلاثة مسائل هي: الفن، والدين ، والفلسفة.

1- الفكرة المطلقة في الفن: يرى هيجل أن الفنان يبقى محتواه لصيقاً به، بذاته، ويكون هذا حتماً روح الإنسان (الفنان) التي تعين ذاتها بذاتها، وتتأمل لا نهائيّة مشاعرها ومواقفها، وتفكر بها وتعبر عنها، ولم يعد هناك أي شيء غريب عنها، مما قد يكون حياً في صدور البشر. أي اعتبار أي شيء يمكن أن يستوطن الإنسان الفنان بداخله، هو موضوع محتل لهذا الفن الذي أصبح مطلق الحريّة.(12).

2- الفكرة المطلقة في الدين: يرى هيجل إن الدين كان محكوماً بمقاصد محددة بالإيمان، هدفها تخليص الإنسان الفرد (الخلاص الفردي). وذلك يعني تخليصه من شركه وأنانيتة وحقده وظلمه.. الخ. أي تخليصه من نوازع أخلاقيّة وقيميّة محددة، غالباً ما تحددها المذاهب الدينيّة المشتقة من الدين الكلي ذاته. ولكن مع الزمن راح الفكر النقديّ يدخل إلى الدين كما سبق أن دخل إلى الفن، وهو فكر لا يمكن إيقافه، ويجب أن يستمر حتى النهاية، لأنه القاضي المطلق الذي يجب على الحقيقة الدينيّة أن تثبت ذاتها أمامه. وكما أصبح الفن علم الفن، أصبح للدين كذلك فلسفة الدين بعد أن تجاوزت الروح المفكرة عتبة الإيمان المباشر إلى الفهم المستنير المحض. أي الفهم العقلاني النقديّ للدين.

3- إن الفلسفة، أو التفكير العقليّ، أو العقلانيّ النقديّ، تمنح الدين مفهوماً ووجوداً يمثل الشكل الأعلى أو الأنقى للروح العارفة ذاتها، إن علم المعرفة المطلقة غدا (عبادة روحيّة) حقيقيّة. وبمثل هذه الطريقة أصبح هناك توحد أو ترابط بين الفلسفة والدين والفن، فكما نجد ذاتيّة الفلسفة التي تحولت إلى عبادة روحيّة، نجد ذاتية الفن الذي فقد هنا الحسيّة الخارجيّة بالفعل، لكنه استعاض عنها بالشكل الأرقى لما هو موضوعي (أي شكل الفكرة)، وكذلك  نجد ذاتيّة الدين التي تحولت بعد تنقيتها من شوائبها صارت ذاتيّة التفكير، لأن هذه هي الذاتيّة الأكثر صميميّة وخصوصيّة. ولأن الفكرة الحقيقيّة هي الفكرة الساميّة، فهي في العموميّة نفسها، الأكثر شيئية وموضوعيّة التي تستطيع في التفكير الإحاطة بكل شيء. (13).

الفكرة المطلقة في الفلسفة:

لقد أوصل هيجل مملكة الفكرة إلى كمالها حسب تحقيقه لتاريخ الفلسفة. فهو على المستوى الفلسفي حقب التاريخ كالتالي من الناحية الفكريّة:

الحقبة الأولى: تمتد من طاليس إلى بروكلوس، وتمثل بداية ونهاية العصور القديمة، والنهاية هنا تشكل بداية التدوين التاريخيّ لميلاد المسيح، ففي عصر بروكليس حدثت المصالحة بين العالم الأرضيّ والعالم الإلهيّ.

الحقبة الثانية: تمتد من بداية التقويم المسيحيّ حتى الاصلاح الدينيّ عند "مارتن لوثر"، وهي المرحلة التي وصل فيها التصالح ذاته أيضاً بين الدنيويّ، مع ما هو إلهيّ على صعيد أرقى.

الحقية الثالثة: وتتعلق أيضاً في الفلسفة المسيحيّة العقلانيّة، التي بدأت مع ديكارت لتنتهي عند هيجل. وهنا تخرج المنظومة الفلسفيّة لهذه الحقبة الأخيرة، وكذلك المصالحة التي كانت موجودة بادئ بدء في الإيمان وحده، إلى ضمير الفكر المدرك. وهذه المنظومة ليست جميعها سوى طرائق مكتملة بهذا القدر أو ذاك للتوحيد، حيث يأتي في نهايتها التامة الكاملة نظام هيجل المطلق، نظام الروح المسيحيّة المطلقة التي تدرك ذاتها في عناصرها، أي في الواقع بوضعه جزءاً منها ليصبح العالم الواقعي عالماً (روحيّاً) بالمعنى المسيحي.

(يبدو أن "روح العالم" قد نجحت الآن في أن تطرح عنها كل جوهر غريب وموضوعيّ، وأن تدرك نفسها أخيراً كروح مطلقة، وتنتج من ذاتها ما يصبح موضوعاً بالنسبة لها، وتبقيه بهدوء وثقة تحت سيطرتها. وضمن هذه الوحدة بين الموضوعيّة والفعاليّة الذاتيّة يقع المعنى المتحقق الكامل للحقبة الجديدة، وعلى أساس هذه النيّة التاريخيّة النهائيّة فقط، يمكن ويجب فهم إغلاق هيجل لتاريخ الفلسفة في كامل صوته ووزنه. لقد وصلت روح العالم الان إلى هذه النقطة. إن الفلسفة الأخيرة هي نتاج لكل الفلسفات، إذ لم يصنع أي شيء، بل بقيت جميع المبادئ سلميّة، وهذه الفكرة المشخصة هي نتاج لجهود الروح خلال ما يقارب 2500 سنة .). (14).

***

كاتب وباحث من سوريّة

د. عدنان عويّد

....................

المراجع

1- هيغل: موسوعة العلوم الفلسفية: ترجمة وتقديم وتعليق د. إمام عبدالفتاح إمام، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 1983، ص217.

2- موقع هنداوي- هيجل - مقدمة قصيرة جداً.

3- موقع الاستغراب – دورية فكرية تهتم بدراسة الغرب، وفهمه معرفياً ونقدياً – موقع المركز الإسلامي  للدراسة الاستراتيجية.

4- هيغل: محاضرات فى فلسفة التاريخ، الجزء الأول، ترجمة د. إمام عبدالفتاح إمام، دار الثقافة، القاهرة، 1980، ص 153-154.).

5- المرجع نفسه – ص159.

6- موقع الاستغراب – المرجع نفسه.

7-  هيغل: أصول فلسفة الحق، المجلد الأول،ص188.

8- موقع (connexion  مناهج فلسفيّة حديثة – نقلا عن عبد الرحمن البدوي.

9-  شبكة النبأ المعلوماتيّة- هيجل والفكرة المطلقة.

10- موقع (connexion  المرجع نفسه، عبد الرحمن البدوي.

11- كتاب من هيجل إلى نيتشه – وزارة الثقافة دمشق- ترجمة ميشل كيلو – ص52.).

12- المرجع نفسه- ص 53.

13المرجع نفسه- ص 53.

14- المرجع نفسه. ص56.

من المفارقة ان جهل سقراط يشير الى نوع من المعرفة – اعتراف صريح بعدم المعرفة. الإعتراف تجسّد بقول سقراط الشهير" انا أعرف فقط شيء واحد وهو اني لا أعرف أي شيء". جهل سقراط اشير اليه ايضا بـ "الحكمة السقراطية"(1).

جهل سقراط في حوارات افلاطون

هذا النوع من التواضع في المعرفة نُسب الى الفيلسوف اليوناني سقراط (469-399 ق.م) حسبما ورد في حوارات افلاطون. أوضح تعبير عن ذلك جاء في حوار Apology، وهو الكلام الذي تحدث به سقراط في دفاعه عندما حوكم بتهمة المعصية وإفساد الشباب. يروي سقراط كيف ان الآلهة أخبرت صديقه شيريفون chaerephon بعدم وجود انسان أكثر حكمة من سقراط . سقراط لم يصدق ذلك طالما هو لايعتبر نفسه حكيما. لذا هو بدأ يحاول العثور على شخص أكثر حكمة منه. هو وجد الكثير من الناس لديهم المعرفة بمسائل محددة مثل صناعة الأحذية او قيادة السفينة. لكنه لاحظ ان هؤلاء الناس اعتقدوا ايضا انهم خبراء بمسائل اخرى وهم ليسوا كذلك. بالنهاية توصّل سقراط الى استنتاج بانه، على الأقل، هو اكثر حكمة من الآخرين لأنه لم يعتقد انه عرف ما لا يعرفه حقا. باختصار، هو كان واعيا بجهله.

في عدة حوارات اخرى لإفلاطون، يظهر سقراط يواجه شخصا ما يعتقد انه يفهم شيئا لكن عند المسائلة الدقيقة يتضح انه لايفهم ابدا. بالمقابل، سقراط يعترف من البداية انه لا يعرف الإجابة على أي سؤال يتم طرحه.

في حوار يوثيفرو، مثلا، طُلب من يوثيفرو تعريف التقوى. هو عمل خمس محاولات لكن سقراط أفشلها جميعها.  مع ذلك، يوثيفرو لم يعترف بانه جاهل كسقراط، هو ببساطة يندفع في نهاية الحوار كالارنب الابيض في (مغامرة ألس في أرض العجائب)، تاركا سقراط غير قادر على تعريف التقوى (رغم انه على وشك ان يُحاكم بتهمة المعصية).

في حوار مينو، يُسأل سقراط من جانب مينو ان كانت الفضيلة يمكن تعلّمها ويجيب بالقول انه لا يعرف ذلك لأنه لا يعرف ماهية الفضيلة. يندهش مينو، لكن تبيّن انه غير قادر على تعريف المفردة بشكل مقنع. وبعد ثلاث محاولات فاشلة، هو يشكو من ان سقراط خدّر عقله كما تخدّر بعض الاسماك فريستها. هو اعتاد ان يكون قادرا على التحدث ببلاغة حول الفضيلة، والان  لا يستطيع قول ما هي. ولكن في الجزء القادم من الحوار، يبيّن سقراط كيف ان تنقية عقل المرء من الافكار الزائفة، حتى عندما تترك المرء في حالة من الاعتراف الذاتي بالجهل، هي خطوة ضرورية وثمينة اذا اراد المرء تعلّم أي شيء. هو يقوم بهذا عبر بيان الكيفية التي يحل بها ولد عبد مشكلة رياضية عندما اعترف مرة بان ما كان لديه سلفا من عقائد غير مختبرة هي زائفة.

أهمية الجهل السقراطي

ما حدث في حوار مينو يُظهر الأهمية الفلسفية والتاريخية للجهل السقراطي. الفلسفة الغربية والعلوم يتقدمان فقط عندما يبدأ الناس مسائلة العقائد الدوغمائية. افضل طريقة للقيام بهذا هي البدء بموقف مشكك، بافتراض عدم يقين المرء في أي شيء. هذا الاتجاه تبنّاه ديكارت (1596-1651) في تأملاته.

في الحقيقة، من المشكوك فيه إمكانية الحفاظ على هذا الموقف للجهل السقراطي حول جميع المسائل. بالتأكيد، سقراط في الابولوجي لم يحافظ على هذا الموقف باستمرار. هو يقول، مثلا، انه متأكد تماما بعدم وقوع أذى حقيقي على الانسان الخيّر. وهو واثق بنفس المقدار بان "الحياة غير المختبرة لا تستحق العيش".

***

حاتم حميد محسن

.....................

الهوامش

(1) يرى سقراط ان كل ما نعتقد به هو ببساطة مجرد رأي يرتكز على تصورنا الشخصي للحياة. التصور ليس حقيقة، ولا أحد منا يستطيع القول بثقة اننا نستطيع تعريف ما هو الواقع حقا. كل بياناتنا وحقائقنا، هي من حيث الجوهر، سلسلة من تخمينات ونظريات جرى تلقينها جيدا والتي لا تزال لم تُدحض بعد.  وهي بهذا لا تعني انها صحيحة.

هذه طريقة حكيمة جدا لرؤية الشيء، لأنه من الشائع جدا رؤية الافراد يعتنقون عقائدا نُقلت اليهم  دون ان يسائلوا أنفسهم اولاً. من الأفضل ان يكون المرء مفتوح الذهن لكي يسمح دائما بإمكانية ان تُبطِل بعض المعلومات الجديدة ما اعتقد معرفته.

 

إن إخضرار العلوم والدراسات الإنسانية والفلسفية يقودنا إلى إخضرار وجودنا إليه على هذا الكوكب الذي نشأنا من ترابه ونعود إليه، ويعبر اخضرار العلوم عن تلون العلوم الطبيعية بالمفاهيم والأفكار المستعارة من الأيكولوجيا من جهة، واستعانة البحوث البيئية بهذه العلوم الإنسانية ليشمل تحليل الأزمة البيئية، فتنشأ العديد من الفروع المعرفية الجديدة التى تتداخل في إطارها العلوم الإنسانية والمفاهيم الإيكولوجية. ومن هنا كان علم الجمال البيئي نافذة جديدة للتقدير الجمالي للبيئة من حولنا.

نحن اليوم نعيش فى أزمة حقيقة بمعنى الكلمة ويجب أن ننتبه إليها ونضعها نصب أعيننا عليها، إذا قلنا على القرن العشرين الذى وصف بإنه القرن الازمات الكبرى الذى من أبرزها الحربان العالمیتان وما نتج عنهما من كوارث إنسانیة أودت بحیاة ما یقرب من ثمانین ملیون نسمة، فإننا الیوم بصدد أزمات جدیدة وهي أزمات ومشكلات البیئة التي تهدد لیس دولة أو مجموعة من الدول فحسب، بل تهدد الكوكب بأسره والحیاة بمفهومها الأكثر شمولا الذي یضم كل الكائنات الحیة على ظهر هذا الكوكب.

لقد كثرت امتلاك الدول المتقدمة لأدوات الحرب التكنولوجية للتدمير الشامل على البيئة، من خلال ما تمتلكه هذه الدول من مخزون الأسلحة الذرية والكيميائية والبيولوجية مثل: الغازات السامة والبكتيرية القاتلة الذى تدمر العالم بأكمله، وإلى جانب سلسلة من الأخطار البيئية المقترنة بالتلوث الناجم عن حرق الوقود الأحفوري وما ينتج عنه من انبعثات ثانى اكسيد الكربون ما يعرف باسم (الاحترار الاراضى) أو (الاحتباس الحراري)التى تمثلت فى استنفاذ طبقة الأوزون المحيطة بالأرض مما يسمح بنفاذ قدر كبير من الأشعة فوق البنفسجية الضارة علي سطح الأرض.

وأيضا لنا العظة من كم الأحداث المأساوية والكوارث البيئية الكثيرة التى عاشها العالم ومازال يعيشها الآن منها الأمراض الوبائية وآخرها فيروس كورونا (فى يناير 2020م) وأحداث تسونامى الذى نتج عنه (زلزال كبير في المملكة المغربية وفي سبتمبر2023م) وثم تابعه الحديث عن ما يسمى بالحروب الجيوفيزيائية والصناعة البشرية لزلازل عام2023التى امتلأت وسائل التواصل من مقاهى ومنازل كلها تتحدث عن مشروع (هارب الأميركي) (**) وإن كان مضمونها تمثل نوع من الاشائعات المغرضة التى تهدد أمن الناس وغيرها من الكوارث الكثيرة.

لكن ما علاقة كل هذه الموضوعات والقضايا بالأستطيقا أو علم الجمال؟

 لقد يبدو للقارئ العادى إنها بعيدة كل البعد عن مثل هذه القضايا ومشكلات البيئية؛ بل لا تمد بإي صلة منها، نظرا لاهتمامه المتزايد المبالغ فيه حول الفن ونظرياته، لكن في الثلاثين عامًا الماضية؛ نما التقدير الجمالي وهو فرع من البحث الذي يسعى إلى التنبؤ بالنتائج الجمالية للتفاعل بين الشخص والبيئة، إلى حد كبير نتيجة للمبادرات التشريعية في بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية. وفي الأخير؛ يعترف قانون السياسة البيئية الوطنية (NEPA) لعام 1969م بحق المواطنين في الحصول على محيط جميل. ومن هذه الزاوية لقد وجه وكالات السلطة التنفيذية لإدارة ممتلكاتهم الخاصة بالإضافة إلى وظائفهم التنظيمية باستخدام إجراءات منهجية يمكن أن تأخذ في الاعتبار العواقب الجمالية للتخطيط والبناء وقرارات الإدارة. وكما أدت هذه التشريعات إلى نمو الوعي العام المتزايد بالبيئة الجمالية التى نتج عنه مناهج أو نماذج متنوعة تستخدم لمعالجة الازمة البيئية بشكل أفضل. احتلت الاهتمامات البيئية مركز الصدارة حيث ندرك الحاجة الملحة لحماية النظم البيئية لكوكبنا. ونحن نسعى جاهدين لخلق مستقبل مستدام، ومن المهم ألا نركز فقط على الجوانب النظرية للحفاظ على البيئة بل يجب النظر إلى الممارسة العملية وتفعيل دور الجماليات في تشكيل علاقتنا مع العالم الطبيعي البيئي.

فالبعد الجمالي للبيئة المعاصرة له أهمية خاصة؛ وهو يشمل تقدير التنوع البيولوجي، وجمال النظم البيئية الكونية، والعلاقات البيئية المعقدة. علاوة على ذلك، فإن الجماليات البيئية يشجع على إقامة علاقة مؤاءمة ومرضية بين البشر والعالم الطبيعي. ومن خلال تعزيز وتقدير البيئة الطبيعية من خلال الجمع بين خصائصها الجمالية وكذلك فوائدها البيئية مثل توليد طاقة نظيفة وكيفية إعادة تدوير الاشياء الضارة بالبيئة وبهذا تستطيع أن تعزز الممارسات المستدامة.

فهى عرفت الجماليات البيئية بإنها: حالة من التفاعل العلمى الخاص المتميز بين مجالين من مجالات البحث وهما جماليات التجريبية وعلم النفس البيئي حيث يستخدم هذين المجالين البحث العلمي لمساعدة لتفسير العلاقة بين المثيرات الطبيعية والبيئية والاستجابات الانسانية.

فالنظر إلى المسألة البيئية من حيث الرؤية الجمالية للطبيعة بعامة والمحافظة عليها تعد مصدرا لجمال وطمأنينة ومتعة للإنسان، وإن أي تدمير في البيئة يؤدي إلى آثار سلبية على الإنسان ومن حيث تردي نوعية الهواء المرتبط بالخلل الذي يصيب البيئة الطبيعية إلى جانب الأمراض والكوارث الأخرى،الذى تهدف إلى هدم الجانب الجمالي للطبيعة الذي يولد متعة للإنسان، وهو في حاجة ماسة إليها ولا تقل أهمية عن المتع المتعددة التي يحصلها من المصادر الأخرى والضرورية للبقاء بشقيه المادي والمعنوي.

لذلك تسعى علم الجمال البيئي إلى ترسيخ فهم جمالي للبيئة المحيطة بنا من شأنه أن يؤدي إلى الحفاظ عليها واحتضانها بدلًا من العدوان عليها أو إساءة استخدامها، وكما تسعى لفهم العلاقة بين الإنسان وبيئته وانعكاس هذه العلاقة على تكامل ملكاته، ومنها ملكة الذوق والتفضيل الجمالي ورفع مستوى جودة الحياة كيفية حمايتها للأجيال القادمة، فتقول الفيلسوفة المعاصرة "مارسيا إيتون": " لقد طلب مني أحد المسؤلين على الدولة أن أصف مشاريعي الذى جاء بعنوان: "العالم الحقيقي وهو الإصلاح البيئي"، الذي يتضمن بتوجيه المخططين بالتركز علي "الاعتبار الواجب للقيمة الجمالية" وكان على المهندسين والمصممين في الولايات المتحدة الأمريكية محاولة تحديد ماهية هذه القيمة ومن ثم التعامل معها؛ ووفقًا لذلك لقد أدرك علماء البيئة على المستوى الدولي على نحو متزايد حول الاهتمام بالجانب الجمالي، فهى تمثل كمحفز قوي للمعالجة الازمة البيئية (وكيفية إنقاذها من التدمير).

قد أثرت الجماليات البيئية عددًا من التخصصات: مثل هندسة المناظر الطبيعية والتصميم البيئي وعلم النفس والجغرافيا والفنون الجميلة والتطبيقية. حيث تتم دراستها من أجل فهم العلاقة بين الصحة النفسية والفسيولوجية للإنسان والبيئة البصرية، وكذلك التنبؤ بالعواقب الجمالية المحتملة للتغيرات في البيئة المادية مثل أزمة تغير المناخ وغيرها. مع هذا العدد الكبير من التخصصات المعنية، تم تطوير عدد من الأساليب بشكل أفضل لفهم التفاعل بين الناس وبيئاتهم.

فمثلا لو تحدثناعن هندسة المناظر الطبيعية أي (إدارة وتخطيط المناظر الطبيعية) نجد يتتبعه الاسلوب المهنى العملى الغالب عليه من قبل مهندسي المناظر الطبيعية والمخططين ومديري الموارد، ويستند إلى الاستخدام المنهجي للمبادئ الرسمية للتصميم: مثل الشكل والخط واللون والملمس لتقييم جماليات المناظر الطبيعية. يستخدم الخبراء المدربون في التصميم والفنون الجميلة هذه المبادئ الفنية الرسمية لتقييم مناظر طبيعية معينة ويمكنهم مقارنة هذه النتائج بمناظر طبيعية مختلفة وتقييم التأثيرات الجمالية للتغييرات المقترحة.

    وكما تعكس دراسة الجماليات البيئية بإعتبارها مهمة أيضا في خلق وتعزيز الهوية الثقافية والوعي الإنساني للبيئة الذى ينتمى بها، حيث تكشف لناجانبا مهما من طبيعة الناس والأماكن من خلال المناطق الريفية والحضرية، وكذلك المناطق المتدهورة التي تشكل مشهد مرئي للمكان ينتمي إليه الأشخاص نتيجة لعملية الفعل والتفاعل بين الطبيعة والانسان. فالحديث عن المناظر الطبيعية وجمال البيئة يعني الحديث عن الهوية والمبادئ والتوجهات السياسية للمجتمع. فالاهتمام بجمال البيئة هو دليل على حضارة الإنسان ورقيه، ومظهر من مظاهر تقدم المجتمع وتطوره، فالمجتمع الذي لا يهتم بجمال بيئته، هو بدون شك مجتمع متخلف.

على أي حال لم اكتف بهذا القدر حول أهمية هذا المجال؛ نظرا لاتساع موضوعاته وتداخله فى مختلف التخصصات فأصبح مؤخرًا يحتل الصدارة في مجال الدراسات البيئية، بل أصبحت تشكل الآن الجانب الأعظم من كم الدراسات الفلسفية المعاصرة.

فالجماليات هي عامل مهم ورئيسى وواحدة من مجموعة العوامل التي توضع في الاعتبار لمعالجة آزمات البيئية التى تواجهها؛ وهذا إن دل علي شئ فإنه يدل على مدى العلاقة بين علم الجمال بقضايا الحياة المعيشية ومواجهة الصعوبات والتحديات التى نواجها وخاصة فى عصرنا الحالى وتحويل كل شئ سيئ أو مشكلة إلى شئ جميل وحلا لها للمشاركة فى صناعة عالم أفضل.

***

شيماء سيد على

باحثة دكتوراه- جامعة سوهاج- مصر.

مقدمة: الحرية، إذا عرفناها بشكل عام، هي القدرة على القيام أو عدم القيام به، ونسمي هذه القوة "الإرادة الحرة"، والقدرة على أن تكون المبدأ الخاص بأفعال الفرد، دون أن تكون مقيدة بأي شيء خارجها. لكننا اعتدنا الحديث عن الحرية بعدة معانٍ، أي أن نعزو صفة الحرية بناء على اعتبارات مختلفة. فمثلاً نقول عن شخص: إنه حر لأنه لا يجبره شيء أو أحد على ذلك، أي لأنه ليس عبداً؛ نقول عن آخر، السجين مثلا، إنه حر في التفكير رغم أنه محبوس في السجن رغما عنه؛ نقول أيضًا إن الشخص حر، الذي يُمنح، داخل المجتمع، الإمكانية، ولديه القوة الفعالة، للقيام بأشياء معينة؛ أو مرة أخرى، على مستوى آخر، أن الإنسان الحكيم حر، لأنه يتحكم في أهوائه، الخ. فهل للحرية إذن درجات على المستويين الفلسفي والقانوني؟

يبدو لنا هذا واضحًا على الفور، لأننا لا نستطيع أن نقول، في الواقع، إن غير العبد، والسجين، وموضوع المجتمع، والرجل الحكيم، وما إلى ذلك، أحرار على نفس المستوى: لذلك يبدو جيدًا هناك عدة مستويات من الحرية. سيكون كل من هذه الشخصيات بعد ذلك "أكثر" أو "أقل" حرية، حتى نتمكن من تتبع مقياس الحرية، والذي سينتقل من أدنى مستوى للحرية إلى أعلى مستوى. ولكن هل يمكننا حقا أن نكون أكثر أو أقل حرية؟ ألا ينبغي بالأحرى أن نقول إن الحرية ليس لها درجات، ولا تكمن إلا فيما نعتبره أعلى درجاتها؟ وبالتالي فإن المشكلة التي تطرح هي ما إذا كان لا يزال بإمكاننا، بصرف النظر عن هذا المستوى المتطرف، أن نتحدث عن الحرية، أي ما إذا كان من المنطقي الحديث عن "حرية أقل" أو "الحرية المحتملة فقط". إذا كانت هذه المستويات الدنيا من الحرية أقل من المستوى الأعلى من المقياس، أليست إذن مجرد زائفة، أفلا ينبغي إذن أن نتحدث عنها باعتبارها حرية وهمية؟ فهل الحديث عن الحرية من حيث الدرجات معقول؟ أليست الحرية بالتعريف هي ما يفلت من كل الدرجات؟ أليست مطلقة؟

أولا- حرية الارادة

للوهلة الأولى يبدو من الضروري الاتفاق على أن للحرية درجات. يبدو في الواقع أنه إذا كانت الحرية هي فقط ما يقع في أقصى مستوى أعلى من هذا المقياس الافتراضي للحرية الذي بدأنا في تتبعه في مقدمتنا، فسيكون من المستحيل بالنسبة لنا أن نقول ذلك، طالما نحن لسنا كائنات عاقلة، ولكننا فقط عقلانيون (مُزودون بالعقل)، "أحرار". في الواقع، كما يمكننا أن نرى في لايبنتز، في الفصل السادس والعشرين من الكتاب الثاني من المقالات الجديدة، والذي يتتبع هنا مثل هذا المقياس، فإن الله هو الذي يقع في أقصى مستوى، وبالتالي أعلى، من المقياس. وبالتالي، نرى بوضوح أننا إذا لم نرسم مثل هذا المقياس الذي سيتم على أساسه ترتيب درجات الحرية، فيمكن القول بأن الله وحده هو الحر؛ لهذا السبب، حتى الحكيم لن يكون حرًا، لأنه بقدر ما يجب عليه أن يأخذ في الاعتبار الأهواء الموجودة في كل إنسان، فإنه لا يتمتع بالحرية الكاملة التي يمكن أن تنتمي إلى الله وحده. كما نرى ديكارت يلجأ إلى اعتبار الحرية من حيث الدرجات، لكي يفسر إمكانية أن يقال للإنسان إنه حر. وهكذا فهو منقاد، بسبب نظريته عن خلق الله للحقائق الأبدية، والتي تم الكشف عنها في رسائله إلى ميرسين عام 1630، والتي كان لها نتيجة افتراض أن الله هو النموذج الحقيقي لماهية الكائن الحر، أي: أن الحرية الحقيقية تتمثل في خلق ما يعرفه المرء والرغبة فيه في نفس الوقت، أي في عدم "الالتزام" أو الموافقة على شيء خارجي، في القول، في التأمل الميتافيزيقي الرابع للفرد، أن "أدنى درجة من الحرية" هي الحرية الحرية التي تُفهم على أنها القدرة على فعل أو عدم فعل، دون أن "تحددها" بأي دافع، ليست حرية حقيقية، أو ليست حرية كاملة. والأمر متروك لأرسطو ليبين إلى أي مدى كان من الضروري أن تشمل الحرية درجات. في الواقع، في الكتاب الثالث من الأخلاق النيقوماخية، يضع أرسطو قائمة بدرجات الحرية المختلفة، من أجل مواجهة النظرية السقراطية التي بموجبها نقوم بالشر بشكل لا إرادي. في الواقع، وفقًا لأرسطو، فإن النظرية السقراطية حول علم الفضيلة لها عواقب ضارة جدًا على الأخلاق، لأنها تؤدي إلى القول بأن رذائلنا لا يمكن أن تُنسب إلينا. ولذلك فإن الأمر يتعلق بالرد على سقراط من خلال التأكيد على أن رذائلنا تنسب إلينا بالفعل، وللقيام بذلك، أنشأ أرسطو نوعًا من مقياس درجات الحرية. سيقال لنا هنا أن أرسطو لا يتحدث عن الحرية بالمعنى الدقيق للكلمة، وأننا نسقط مصطلحًا "حديثًا" على نظرية "قديمة". لكن من المؤكد أن نظرية أرسطو هي، بالأصح من نظرية الحرية، نظرية " الإرادي" و"اللاإرادي"، وحتى لو كان الإرادي مجرد "إرادة"، وهو ما يعارضه كانط في نظرية " الإرادة العملية، فهو لا يزال يضع أسس نظرية الإسناد. يذكر أرسطو، في الفصول من 1 إلى 3، أن الارادية سنقول الحرية هي مطابقة لغير المقيدة: فهي على سبيل المثال لا يتم أخذها إلى مكان ما ضد إرادتها أو بواسطة قوة خارجية. على هذا النحو، كل شيء في الطبيعة حر، لأن الحرية تتكون من وجود مبدأ أفعال الفرد في داخله (نعلم أنه في الفيزياء الثاني، حدد أرسطو الكائنات الطبيعية فيما يتعلق بالمصنوعات اليدوية، من خلال إسنادها القدرة على القدرة على المضي قدمًا الخاصة بها). بمجرد أن يتم وضع هذا التعريف الواسع للحرية، أو الارادي، يتساءل أرسطو عن الأشكال المختلفة للطوعي. بالنسبة له، لا يتعارض الطوعي بشكل صارم ووحشي مع اللاإرادي: في الواقع، بين هاتين الطريقتين الرئيسيتين للعمل، هناك مستويات متوسطة بينهما - يتحدث أرسطو عن الأفعال "المختلطة". ماذا يجب أن نعني بهذا؟ أنه بالإضافة إلى الأفعال غير الإرادية بالمعنى الدقيق للكلمة، والتي يمكن التعرف عليها من خلال كونها مصحوبة بالتوبة، وبالتالي لا تنسب إلينا، هناك أعمال لا تتم طوعًا. وهذه الأفعال مزيج من الإرادية وغير الإرادية، ولا تصحبها توبة: فهي إذن، عند أرسطو، منسوبة إلينا. وبذلك يستطيع أن يقول إن من استسلم للهوى، من ارتكب فعلاً منكراً بسبب السكر، مسؤول عن أفعاله، حتى لو لم يكن هذان الشخصان حرين "تماماً". في الواقع، يخبرنا مرة أخرى أن هناك فرقًا بين التصرف عن جهل والتصرف عن جهل. عندما نتصرف عن جهل، فذلك لأن الجهل هو السبب الرئيسي، أو الأول، لأفعالنا: إذن، الفاعل لا يتصرف بمعرفة كاملة للحقائق، فهو يتصرف لا إراديًا، فهو ليس حرًا. ومن ناحية أخرى، عندما نتصرف عن جهل، فإن الجهل ليس هو السبب الرئيسي، بل هو السبب المباشر للفعل. فالسكير يعمل بالتأكيد عن جهل ولكن ليس عن جهل: فسكره هو في الحقيقة سبب الجهل. وكما يقول أرسطو حسنًا، إن الشخصية التي تكتسب بتكرار نفس الأفعال، نحن مسؤولون عنها: إنه ذنبه أن السكير سكير، وقد ارتكب فعلًا مذمومًا. ومن ثم فإن السكير حر وغير حر في نفس الوقت، فهو يتصرف طوعا أو قسرا. ولذلك هناك مستويات متوسطة عديدة للحرية: حتى لو لم تكن حرية السكير "كاملة"، فهي بالفعل حرية، ولكنها "أقل"، "أدنى". إن حقيقة وجود درجات بين الطوعي وغير الطوعي تسمح لأرسطو بتجنب المأزق السقراطي: الحرية ليست فقط في الأفعال الجيدة؛ سيكون ذلك سهلاً للغاية وخطيرًا للغاية. إن التأكيد على وجود درجات من الحرية يسمح لنا بالقول إن الأطفال، والكائنات التي تطيع أفعالهم، وما إلى ذلك، أحرار، ويتصرفون بقرارهم الخاص. في بقية نصه (في الفصول 4 إلى 6) يثبت أرسطو أن أعلى مستوى من الحرية، الحرية “الكاملة”، يقع على مستوى الاختيار التأملي والعقلاني والمتعمد. ويقول في الفصل الرابع: ليس كل شيء طوعيًا هو نفس الاختيار. الحرية "القصوى" تعود للإنسان القادر على التفكير والقرار العقلاني. وبالتالي فإن الحرية الكاملة تتمثل في التصرف بمعرفة كاملة بالحقائق، و"حساب" العناصر القادرة على حملنا على تنفيذ مشروع ما. ويمكننا أن نعتبر أن ما يقوله أرسطو يتوافق مع أطروحة لايبنتز. في الواقع، إذا تم العثور على أعلى درجة من الحرية في القدرة على التدبر، والتصرف بمعرفة الحقائق، والتفكير، فذلك لأن الحرية تنتمي "أكثر" إلى العقول، إلى الكائنات العقلانية، أكثر من الكائنات التي تفتقر إليها. يبني أرسطو، مثل لايبنتز، نظريتهم عن درجات الحرية بطريقة ما على نظرية درجات الوجود. وهكذا، وفقًا لنظرية لايبنيز حول المونادات، كما تم تلخيصها جيدًا في مبادئ الطبيعة والنعمة، يبدو أن كل شيء في الطبيعة حر، ولكن على مستويات مختلفة، لأن الكائنات الموجودة (المونادات) لها أنماط مختلفة من الوجود، والتي تتراوح على مقياس من النوع الأقل كمالًا من الموناد (هذه المونادات الخاملة، وهي العناصر الشبيهة بالروح في كل الأشياء) إلى الأكثر كمالًا، وهو الله. إذا قيل أن المونادات السفلية حرة، فذلك لأنها، كما هو الحال مع أرسطو، تتصرف "بعفوية". وإذا كانت المونادات الروحية تتمتع بحرية أكثر كمالا، فهي بقدر ما تكون قادرة على التفكير، وبالتالي، كما هو الحال مع أرسطو، على التداول العقلاني، وأيضا، فهي أشخاص، وهبوا الذاكرة وحاملي الحقوق، وبالتالي قادرون على تحمل المسؤولية عن أفعالهم. وبالتالي، فإن ما يجعل الحرية تفكر من حيث الدرجات، أو بالأحرى أنها تتضمن درجات، هو أن جميع الكائنات تشكل نفس المقياس: لذلك سيكون من الخطأ الفصل بينهما بصرامة شديدة بالقول، على سبيل المثال، كما يفعل ديكارت: أن الحيوانات ليست حرة. ومن ثم، فمن الضروري جدًا أن تشتمل الحرية على درجات، وهذا، إذا جاز التعبير، "أساسه جيد في طبيعة الأشياء". لكن المشكلة التي تطرح هنا هي أنه يبدو من الصعب علينا أن نقول إن للحرية درجات. في الواقع، ألا يبدو أن المستوى الأعلى فقط هو الحرية بالمعنى الدقيق للكلمة؟

ثانيا – الحرية من حيث هي تجربة ميتافيزيقية

لذلك لا شيء يؤكد لنا في الواقع أن الحرية يمكن أن تكون موضوع تقييم من حيث الدرجات. أليست الحرية تتجاوز كل الدرجات؟ القول بأن للحرية درجات لا يعني فقدان طبيعتها ذاتها؟

وهكذا فإذا بحثنا، على المستوى الميتافيزيقي أو الأنطولوجي، عن شروط إمكانية أن تشمل الحرية درجات، يبدو أننا مضطرون حينئذ إلى التأكيد على أنه من حيث الجوهر، لا يمكن أن تكون للحرية درجات. ما الذي يجب أن يكون "الشيء" الذي له درجات؟ يخبرنا كانط، في نقد العقل الخالص، تحليل المبادئ، القياس الأول، أن أي ظاهرة، أي أي حقيقة موجودة في المكان والزمان، وتخضع لمبدأ السببية (راجع القياس الثالث للتجربة)، يجب أن تكون تشمل الكمية والكيفية، وأنها لا يمكن أن تبدأ أو تنتهي إلا بالتدريج، بدرجات. لذلك يبدو أن مستوى الخطاب الذي نجد أنفسنا فيه عندما نعبر عن أنفسنا من حيث الدرجات هو مستوى شرعي فقط فيما يتعلق بالواقع الظاهري، بشيء نسبي. ومع ذلك، يظهر كانط بوضوح، في التناقض الثالث للديالكتيك التجاوزي، أن الحرية لا يمكن تحديد موقعها على مستوى الظواهر. وبالفعل، بحكم القياس الثالث للتجربة، فإن كل شيء في الواقع الظاهري يخضع لمبدأ الحتمية السببية، الذي ينص على أن كل شيء يخضع لمبدأ السبب والنتيجة. لذلك، إذا كانت الحرية على مستوى الواقع الظاهري، فإنها بحكم التعريف لن تعد حرية، لأن أي نتيجة يجب أن تكون مرتبطة بعلة سابقة، وهي في حد ذاتها ظاهرة. ولذلك فمن الضروري، بالنسبة لكانط، أن تكون الحرية مطلقة، وأن تكون موجودة وراء الظواهر. يتعلق الأمر بإمكانية وجود بداية جذرية أولى، والتي لا يتحددها أي شيء، ولكنها مع ذلك يمكن أن تنتج تأثيرات في العالم الظاهري. فإذا كانت الحرية مطلقة، فإنها بالنسبة لكانط لا يمكن أن تحتوي على درجات. هي، أو لا تكون، فترة، هذا كل شيء. بداية، يجب توضيح أنه من غير الوارد هنا التأكيد، كما فعل لايبنتز من خلال تناول أطروحات أرسطو، على أنه نظرًا لوجود مقياس للكائنات، فإن الحرية يجب أن تشمل درجات، لأنه لا يوجد تقسيم صارم بين الأنواع المختلفة. وبموجب التناقض الثالث، في الواقع، يتبين أن الحرية لا يمكن أن تكون صفة لأي نوع من الكائنات. لا يمكن أن ينتمي إلا إلى كائن يتمتع بالعقل العملي، الذي ينتمي إلى مملكة الظواهر كما يقول لايبنتز عن الطبيعة وإلى مملكة العقل، أو إلى مملكة المعقول كما يقول لايبنتز عن النعمة، فالحيوان موجود تم إجلاؤهم بشكل واضح. بل والأكثر من ذلك، أن جميع درجات الحرية، كما يمكن العثور عليها عند أرسطو، قد تم إخلاؤها، باعتبارها في الواقع عدم اعتراف بالطبيعة الحقيقية للحرية. وفقا لكانط، هناك طريقة واحدة فقط لتكون حرا، وهذه الطريقة تقع في جانب استقلالية العقل العملي. فقط الإرادة العقلانية الكاملة هي، حسب رأيه، حرة. وهذا يدل على أن الدرجة المثالية من الحرية الموجودة عند أرسطو، أو لايبنتز، أو حتى ديكارت، ليست فقط الحرية الكاملة؛ ولكن، علاوة على ذلك، فإن تلك الحرية كفعل عقلاني هي شيء مختلف تمامًا، شيء أفضل بكثير. أن تكون حرًا، في الواقع، كما نرى بوضوح في نقد العقل العملي، يعني بالتأكيد، كما رأى هؤلاء المؤلفون بوضوح، أن تكون المؤلف العقلاني لأفعالك، ولكن الأهم من ذلك، يعني أن تقرر التصرف. بنفسه، بموجب القانون الأخلاقي الوحيد الكوني. ولذلك يمكننا القول أن الحرية، بحكم تعريفها، لا يمكن أن تشمل درجات. يمكننا أن نعتقد أنه إذا تم دفعنا إلى الاعتقاد بأن الحرية تتضمن درجات، فذلك لأننا اعتقدنا أن الحرية اختيار على مر الزمن، وكما نمارس في اختيار الوسائل. وهذا هو الفرق كله، على سبيل المثال، بين مفهوم الاختيار الحر الذي نجده في الكتاب الثالث من الأخلاق النيقوماخية، وبين ذلك الذي نجده في أسطورة عير في نهاية الكتاب العاشر من جمهورية أفلاطون، والتي في الواقع، أرسطو، الذي، كما رأينا، الحرية تشمل درجات، يعتقد أن الاختيار لا يتم اتخاذه مرة واحدة وإلى الأبد: بالنسبة له، كان الأمر يتعلق باتخاذ الاختيارات في الحياة. بالنسبة لأفلاطون، على العكس من ذلك، يتعلق الأمر باتخاذ خيار حاسم ومطلق وغير قابل للعلاج، وهو اختيار أنفسنا وكياننا وحتى حريتنا. وبهذا المعنى فمن السخافة حقاً الاعتراف بأن للحرية درجات! إذا كانت الحرية فعلًا مطلقًا، فإنها لا يمكن أن تتضمن درجات. فقط الاختيارات التي نمارسها في الحياة ستكون لها درجات، لكن الأمر لم يعد يتعلق بالحرية بالمعنى الدقيق للكلمة. هذا ما يخبرنا به سارتر، في كتابه الوجود والعدم: الحرية كونها خيار العلاقة التي لدينا مع العالم، كونها خيار حريتنا ذاته، فلا يمكن أن تكون لها درجات. ويخبرنا أن الحرية لا علاقة لها بالتداول، أو بالحسابات العقلانية والمدروسة: إنها أبعد من ذلك بكثير "عندما أتعمد، تكون الأمور على المحك: لقد اخترت نفسي بالفعل". وبما أن الحرية شيء مطلق، فلا يمكنها بالتالي، كما نرى، أن تتكون من درجات. وهذا لا يتوافق مع طبيعته.

ثالثا – الحق في التحرر

هل هذه الحرية التي وصفناها للتو بالمطلقة هي حقاً كل الحرية؟

إذا تبين، في الواقع، أنها ليست سوى جزء من أجزاء مفهوم الحرية، أفلا يتعين علينا بعد ذلك معرفة ما إذا كان بإمكاننا أن نتفق مع الفرضية التي بموجبها تشمل الحرية درجات، وهذا، بالضرورة، مع تلك التي بموجبها لا تكون هذه الدرجات مع ذلك حرية "حقيقية"؟

ومن ثم، فإن الأمر متروك لنا، في رأينا، لهيجل، في موسوعته وفي مبادئ فلسفة الحق، أن نبين أن الحرية الكانطية، باعتبارها مطلقة، لم تكن في الواقع سوى لحظة من لحظات الحياة. مفهوم أو تاريخ الإنجاز للحرية. قبل أن نتمكن من معالجة الأسباب، يجب علينا، بعد كانط، أن نبين كيف لدينا، مع هيجل، طريقة جديدة في التفكير حول ضرورة احتواء الدرجات من أجل الحرية. في الواقع، وفقًا لهيجل، من الخطأ الاعتقاد بأن الحرية تتحقق فورًا. ولكونها روحانية بشكل بارز، يجب أن تمر، لكي توجد في الممارسة العملية، بتطور، بحيث يجب أن تصبح هي نفسها متوافقة مع مفهومها. وبالتالي فإن درجات الحرية ستكون هنا المراحل التي ستمر بها لتحقيق ذاتها، ولوجودها. من الضروري أن تكون هذه الدرجات موجودة، وحتى لو كانت بالفعل درجات للحرية، بقدر ما تتحقق الحرية "أفضل" في كل مرة، فإن هذه الدرجات ليست سوى حرية جزئية وزائفة. وبالتالي، لم يعد الأمر هنا، بالمعنى الدقيق للكلمة، مسألة نطاق الحرية، بل مسألة عملية الحرية الجارية. وهذه الدرجات هي تلك التي تصل بها الحرية "المحتملة"، التي لم تتحقق/حقيقية بعد، إلى المستوى الأعلى، أي تتوافق مع مفهومها -  عندما أدركت الحرية مفهومها أخيرًا،  كما نحن سوف نرى، من مبادئ فلسفة الحق. يحدثنا هيجل في الموسوعة عن «أوديسة» الحرية التي شملت كل التيارات الفلسفية التي سبقته في هذا الموضوع. وسيقول، في المبادئ، وهي الجزء الأخير، ما هي "حقيقة" وجهات النظر الجزئية هذه، وهناك سنرى أن المفهوم الكانطي ليس سوى حرية جزئية. وفي أدنى مستويات الحرية، التي لا تكاد تكون حرية، نجد رغبة أرسطو المقصودة. وفي هذا المستوى تظهر الحرية لأن العقل أو الإرادة تبدأ في تحرير نفسها من الطبيعة. بين الطبيعة والروح، الإرادة الحرة هي مزيج من الرغبة والتفكير؛ فهو، كما يخبرنا هيجل، خاص فقط. عليه أن يتجاوز هذا المستوى. وعلى المستوى الأعلى نجد الإرادة الحرة الديكارتية، التي ترى أن الحرية حكم، وتعارض بين الفهم والإرادة. لا يزال يتعين التغلب على هذا المفهوم النفسي للحرية. وفي مبادئ فلسفة القانون نحن كما قلنا في مستوى الحرية المحققة. هذا هو المكان الذي تقع فيه الحرية الكانطية؛ إذن هنا أيضًا، هناك مستويات. ما هي الحرية الكاملة الحقيقية؟ يخبرنا هيجل أن الإرادة الموضوعية هي التي تعترف بذاتها في المؤسسات التي أحدثتها بنفسها. إن شروط تحقيق الحرية الحقيقية هي، كما يقول في الفقرة 4، تحقيق الذات في الأعمال، في عالم الثقافة (الحق، الدولة). دعونا نلخص بسرعة كيف يتم تجسيد الحرية وتحقيقها. أولاً، يخبرنا هيجل أن الإرادتين يجب أن تتعرفا على بعضهما البعض. للقيام بذلك، يجب عليك الدخول في علاقة تعاقدية؛ ومن خلال تبادل الأشياء، التي هي التعبير الخارجي عن الحرية، ستتعرف الإرادتان على أنهما متطابقتان مع بعضهما البعض. ثم تأتي الإرادات لتأخذ في الاعتبار "القاعدة" العالمية. وحينها، لن يعودوا يعارضونها، بل يتماثلون معها، من خلال الدولة. ولذلك نرى أن المستويات التي تمر بها الحرية لتحقيقها، بالنسبة لهيغل، خالية من الحرية الحقيقية، وهي الحرية السياسية. وبالتالي فإن الحرية الديكارتية هي درجة أقل من الحرية، لأنها إذا كانت بالفعل خطوة في تحقيقها، فإنها تعتقد أنه من الممكن أن تكون حرا فرديا، وأن القرار الذي تتخذه إرادة الفرد يمكن أن يكون حرا. وبالمثل، فإن المفهوم الكانطي ليس سوى مرحلة جزئية من عملية الحرية: يضعها هيجل على مستوى “الأخلاق الذاتية”. لقد وصلت بالتأكيد إلى معرفة الكوني، لكنها لا تزال مجردة للغاية، كونها فردية ومنفصلة عن هذا الكوني الذي تعترف به مع ذلك باعتباره الكوني الوحيد الصالح. لا يمكننا التصرف إلا بمعرفة كاملة للحقائق، وأن نكون أحرارًا حقًا، على المستوى السياسي. وبالنظر إلى أن الحرية "المطلقة" الكانطية ليست سوى مرحلة، لحظة، على الطريق الذي تسلكه الحرية أو تسلكه لتحقيق نفسها كتحرر تاريخي للوعي والارادة والفعل والانجاز على مستوى القانون والسياسة والاخلاق، يمكننا أن نقول، مع هيجل، إن الحرية لها درجات. كلما ارتقينا من الخاص إلى العالمي، كلما أصبحنا أحرارًا أكثر أو أفضل. إن الحرية الكانطية، كما رأينا، ليست حرية محققة، لأنها "وحدها"، وليست منقوشة في الأشياء أو في الأعمال.

خاتمة

وهكذا فإن للحرية درجات عديدة. هذه هي تلك التي يمر من خلالها المرء ليدرك نفسه تدريجياً. ولكن المرء لا يستحق هذه الدرجات من الحرية على مراحل ووفق درجات وانما كلها ودفعة واحة. فهل تمكنا من حل المشكلة التي بدا لنا أنها تنشأ في مقدمتنا من مثل هذا التأكيد؟ ألا يقودنا التأكيد على أن للحرية درجات إلى القول إن الحرية، في التحليل النهائي، يتم تحديدها على أنها المستوى الأكثر كمالا في مقياسنا؟ ألا يقول هيجل في النهاية، مثل كانط، إن الحرية يتم التعبير عنها في الواقع بطريقة واحدة فقط، حيث أن الخطاب الشرعي الوحيد الذي يمكن أن يكون لدينا حول الحرية موجود على مستوى الأخلاق الموضوعية؟ ولذلك نصل إلى حالة من الارتباك. فما العمل لكي يتمكن المرء من استكمال التحرر؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

......................

المراجع

Aristote, Ethique à Nicomaque, Livre III

Descartes, Lettres à Mersenne, 1630; Méditations Métaphysiques, quatrième Méditation

Leibniz, Nouveaux Essais, livre II, chapitre XXVI

Kant, Critique de la Raison Pure, Analytique des principes, Première analogie

Hegel, Encyclopédie; Principes de la philosophie du droit

تُعتبر فكرة الطبيعة من اكثر الافكار المتداولة في الفلسفة وبنفس المقدار هي الأسوأ تعريفا. فلاسفة أمثال ارسطو وديكارت استخدموا مفهوم الطبيعة لتوضيح المبادئ الفلسفية لوجهات نظرهم، دون ان يحاولوا أبداً تعريف المفهوم. حتى في الفلسفة المعاصرة، عادة جرى استخدام الفكرة بأشكال مختلفة. اذاً ماذا نعني بالطبيعة؟

الطبيعة وجوهر الشيء

التقليد الفلسفي الذي يعود تاريخه الى ارسطو يستخدم فكرة الطبيعة لتوضيح ما يحدد جوهر الشيء. الجوهر وهو احد اهم المفاهيم الميتافيزيقية الاساسية يشير الى تلك الصفات التي تحدد ماهية الشيء. جوهر الماء مثلا، هو التركيب الجزيئي، جوهر الكائنات الحية هو تاريخ أسلافها، جوهر الانسان هو وعيه الذاتي او روحه. لذلك، ضمن التقاليد الارسطية، لكي نتصرف طبقا للطبيعة يعني ان نأخذ بالإعتبار التعريف الواقعي لكل شيء عند التعامل معه.

العالم الطبيعي

احيانا استُعملت فكرة الطبيعة لتشير الى أي شيء يوجد في الكون كجزء من العالم المادي. بهذا المعنى، تحتضن الفكرة كل شيء يقع تحت دراسة العلوم الطبيعية بدءً من الفيزياء الى البايولوجي وحتى دراسات البيئة.

الطبيعي مقابل الاصطناعي

"الطبيعي" تُستعمل عادة لتشير ايضا الى العملية التي تحدث بشكل تلقائي مقابل ما يحدث نتيجة لتأثير الكائن. وهكذا، النبتة تنمو طبيعيا عندما لا يُخطط لنموها من جانب شخص عقلاني. والتفاح قد ينمو اصطناعيا عندما يُخطط لنموه وسيكون منتجا اصطناعيا في ظل هذا الفهم لفكرة الطبيعة، رغم ان معظم الناس يتفقون على ان التفاح منتَج للطبيعة (أي جزء من العالم الطبيعي، الذي تتم دراسته بواسطة علماء الطبيعة).

الطبيعة مقابل التنشئة

فكرة الطبيعة مقابل التنشئة تتصل بالإنقسام بين التلقائية مقابل الاصطناعية. فكرة الثقافة تصبح هنا أساسية لرسم الخط. أي الطبيعي مقابل ما هو محصلة لعملية ثقافية. التعليم مثال رئيسي عن العملية غير الطبيعية: في معظم التفسيرات يُنظر الى التعليم كعملية ضد الطبيعة. من الواضح جدا، من هذا المنظور ان هناك بعض المواد لايمكن ان تكون طبيعية خالصة: بمعنى أي تطور بشري يتشكل من خلال التفاعل او عدمه مع الكائنات البشرية الاخرى، على سبيل المثال، لا وجود هناك لشيء كتطور طبيعي للغة الانسان.

الطبيعة كبرية (مناطق غير مأهولة)

فكرة الطبيعة استُعملت احيانا للتعبير عن الارض غير المأهولة بالسكان تعيش على حافة الحضارة، بعيدة عن أي عملية ثقافية. في المعنى الصارم للمصطلح، الناس حاليا يمكن ان يواجهوا البرية في اماكن قليلة على الارض، ذلك حيثما يكون تأثير المجتمعات الانسانية ضئيلا، ولو أخذنا في الإعتبار ذلك التأثير البيئي الذي يحدثه الانسان على كامل النظام البيئي، فسوف لن يتبقى أي مكان معزول على كوكبنا. اذا تم توسيع فكرة البرية، عندئذ يكون حتى المشي في الغابة او رحلة في المحيط يمكن ان يشعر بها المرء كبرية، بمعنى طبيعية.

الطبيعة والله

أخيرا، في موضوع الطبيعة لا يمكن إغفال المفهوم الذي استُخدم على نطاق واسع في الألف سنة الماضية: الطبيعة كتعبير عن الإله. فكرة الطبيعة هي مركزية في معظم الاديان. انها اتخذت عدد هائل من الأشكال، بدءً من الوجودات او العمليات المحددة (جبل، شمس، محيط، النار) الى احتضان كل عالم الموجودات.

***

حاتم حميد محسن

 

قراءة في التحول من العصر الميثولوجي إلى العصر الإنساني

بدأت الفلسفة عندما ظهر أول تفسير عقلاني لظواهر الطبيعة في مواجهة التفسير العجائبي الخرافي الذي كانت تقدمه الميثولوجيا اليونانية قبل عصر الفلسفة.

وقدكانت الميثولوجيا اليونانية في تلك المرحلة تفسر الطبيعة بناء على رغبات الآلهة، حيث كان الكهنة يتولون تفسير الظواهر الطبيعية من خلق وعدم ومحنة وعذاب ورعد وبرق وحركة وسكون وكانت بيانات الكهنة هي التي تعتمدها الملوك وتعبرها أوامر صريحة من الآلهة لتدبير الكون.

وقد اكتسبت تخاريف الكهنة بعداً روحياً وعاطفياً حين خلدها عدد من عمالقة الأدب اليوناني في العصر القديم وبشكل خاص هوميروس في الرائعتين المنسوبتين إليه الإلياذة والأوديسة، وترانيم هوميروس وصوفوكليس في روائعة المائة وأهمها أوديب، وكذلك اسخيلوس ويوربيديس وغيرهم من شعراء العصر الميثولوجي.

وهكذا فإنه بعد عصر طويل من التفسير الكهنوتي للتاريخ والطبيعة، انطلق عصر فلاسفة الطبيعة، وهو  الاسم الذي يطلقه المؤرخون على المرحلة التي تفصل بين العصر الميثولوجي وبين فلاسفة الإنسان.

ويتم عادة تحديد مرحلة فلسفة الطبيعة بنحو 200 عاماً تم فيها تركيز الفلسفة على تفسير الطبيعة وفهم الطبييعة، باعتبارها محور العقل والنظر، وهي فترة تمتد من طاليس 600ق.م إلى سقراط ت 399ق.م الذي افتتح عصراً ثانيا للفلسفة حيث سينتقل التركيز من فهم الطبيعة إلى فهم الإنسان.

وقد رصدت في هذه الدراسة تسعة فلاسفة من هذه المرحلة، يستحقون تسمية الحكماء التسعة، وهم الفلاسفة الذين الذين مهدوا لعصر العقل عبر قيامهم بتفسير الطبيعة .

ولعل الجامع بين فلاسفة الطبيعة هو أنهم جميعاً ركزوا بحثهم في الطبيعة وليس في الإنسان، وجاهدوا لتحديد المادة الأولى، والمادة الأولى هنا هي الهيولى الخالقة القديمة، إنها صورة من البحث عن الإله، ولكن بجهد الحواس وليس بنص الكاهن.

1- طاليس - الأصل هو  الماء

كان طاليس المولود حوالي 600 ق.م هو أول الفلاسفة الذين واجهوا التفسير الميثولوجي، ودحضه عقلياً ومنهاجياً، وتقدم للقول إن الطبيعة يفسرها العقل وإن الكهنة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا موتا ًولا حياة ولا نشوراً، ويمكن اعتبار طاليس أول بواب يفتح مصراعيه ليدخل منه خطاب العقل في مواجهة ركام الخرافة.

وكانت قدرة طاليس استثنائية تماماً، فلم يكن له أن يواجه التقاليد المستقرة في تفسير الطبيعة لولا أنه وقف على قراءات حقيقية حاسمة تشرح الكون على أساس قيم رياضية نهائية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وقد توج نشاطه العلمي برحلته إلى مصر ونجاحه في قياس ارتفاع هرم خوفو على أسس رياضية بحتة، لا تقبل الجدل، وقد منحه هذه النجاح قدرة علمية استثنائية لتفسير ظواهر الطبيعة وقدم تفسيراً متمرداً على تفاسير الكهنة المستقرة، بتفسيرات شجاعة مختلفة قائمة على العلم، وقد ركز بحثه العلمي في الطبيعة وجزم أن الأصل في الأشياء هو الماء، وكانت بحوثة تتركز بشكل أساسي على اكتشاف معنى الماء في كل كائن كائن حي، إنساناً أو حيواناً أو نباتاً، ولا شك أن طبيعة اليونان الجزرية التي تجعل الماء محيطاً بكل شيء كان لها تأثير كبير على تصور فكرة تاليس عن العالم الذي قدمه طاليس أرضاً مسطحة مغمورة بالماء من كل صوب، ومن الماء ولد كل شيء حي.

واستطاع تاليس أن يحدد صور التعين الأنطولوجي في الحياة بستة أصناف: البخار والثلج والمطر ، والغاز والصلب والسائل، وما أسهل أن نقول إن كل هذه الموجودات شكل من أشكال تعين الماء الذي يجري في الموجودات كلها مجرى الدم.

وفي قراءة تشبه وعي المسلمين بآية العرش أعلن تاليس أن كل شيء ممتلئ بالإله، كامتلاء الماء في كل شيء، وهو يحيط بالوجود كما يحيط الماء بالأرض.

2- أنكسامانس -  الهواء

يمكن اعتبار أنكسامانس امتداداً لطاليس فقد وافقه على وجود أصل واحد للأشياء، ولكنه حدد هذا الأصل في الهواء، فقد رأى أن كل ما في الطبيعة يفتقر إلى الهواء، وأن الصبر على الماء يمتد أياماً ولكن الصبر على الهواء لا يمتد لأكثر من ثوان معدودة.

والحياة في جوهرها نفس وشهيق وزفير، وحين يتوقف الهواء تتوقف الحياة، والماء في حقيقته هواء مركز، والنار هواء مخفف، والهواء يتخلخل في النار، ويسكن السحاب فتفيض بالماء والحياة، والوعي بكم الهواء في الأشياء هو الذي يعلل اختلاف الأشياء ويحدد قوتها وتماسكها.

 والهواء لطيف روحاني لا يندثر، ولا يدخل عليه الفساد، ولا يقبل الدنس الخبيث فما فوق الهواء من العوالم فهو من صفوه، وذلك عالم الروحانيات، وما دون الهواء من العوالم فهو من كدره، وذلك علم الجسمانيات، المبتلى بالأوساخ والأوضار يتشبث به من سكن إليه.

وكانت فكرة أنكسامانس عن الهواء لوناً من وعيه بالإله، وعالمه السامي، وعروج الإنسان إليه عبر  عالم كثير اللطافة، دائم السرور، واعتبر الهواء آخر أفق الجسمانيات وأول أفق الروحانيات، وأنه في عالم الهواء المحض الذي لا تلتبس به المادة يمكن أن يكون السمو والصفاء والارتقاء.

وفي خطوة واعدة اقترب من امبيدوكليس حين قال إن أصل الكون هو العناصر الثلاثة المار والتراب والنار ولكن هذه الثلاثة لن تعيش بدون الهواء الذي هو أصل الأشياء.

3- أنكساماندر  - مادة غير مدركة:

أما انكساماندر فيمكن القول إنه ابتدأ من حيث انتهى أنكسامانس حيث وافقه ان العالم الجسماني ليس مؤهلاً لتفسير أصل الوجود ومنتهاه، وأنه محض محطة في مراحل الخلق، وأن الأصل الذي انبثقت منه الأشياء لا بد أن يكون عنصراً مختلفاً تماماً، ولا يمكن تحديده بماء ولا نار ولا تراب، حتى الهواء الذي اقترحه انكسامانس فقد رآه انكسماندر غير كافٍ للوعي بالشمول والإطلاق واللازمان واللامكان، وإنها لحتمية عقلية محضة أن المخلوق ينبغي أن يتميز عن خالقه، وبناء عليه فقد اختار أن الأصل هو وجود غير مدرك، ليس له صفات ولا شكل، يستعصي على التفسير ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو مادة لا يعرف لها أول ولا آخر، وأن أقصى ما يمكن أن يقال عن أصل الكون هو أنه ذات متعالية متجلية، أسماها الأبرون  Apeiron  وهي موجودة ولكنها غير مدركة، وقد امتلأ بها العالم العلوي والعالم السفلي، فلا يخلو منها مكان ولا إمكان، ولا زمان ولا مكان، ولا عرش ولا فرش، ولكن حلم إدراكها بالحواس محال.

4- بارمنيدس – السكون:

أما بارمنيدس فقد اختار قراءة الكون من زاوية أخرى، فلم يؤمن بديالكتيك صاخب وإنما آثر اللجوء إلى تفسير مسطح للكون ، فاعتبر أن الأصل في هذا الوجود هو الوجود نفسه، وان الكون كان على ما كان وسيدوم على ما هو عليه في الزمان والمكان، فلا جديد يخلق ولا مخلوق يبيد.

لقد نشأت فكرة بارمنيدس من صراع حاد بين العقل والحواس، فالعقل يجزم بأن كل شيء متعين في ذاته، وأن الحركة تخرجه عن ذاته، فيكون ذاتاً أخرى، ولا يمكن تفسير الحركة عقلياً، مع أنها من أوضح الظواهر الحسية، وهكذا فقد نجح بارمنيدس في رسم التناقض الواضح بين حكم العقل وحكم الحواس، وانحاز بشكل قاطع إلى العقل، وجزم بأن الأصل في الأشياء السكون وأن لا دليل عقلي على قدرة الاشياء على التحول والتحور، فما هو موجود موجود، وما هو معدوم فلن ينوجد، والكون ماض على ما عليه كان، ولا فناء للزمان ولا للمكان.

5- هرقليطس – النار:

وفي مواجهة سكون بارمنيدس ظهر الفيلسوف الإغريقي العظيم هرقليطس الذي تحدث عن الكون كله كجدل متلاطم، ووقف على النقيض من سلفه، وأنكر أن يكون الكون حقيقة قارة، بل هو جدل متلاطم لا مكان فيه لسكون ولا جمود.

واختار هيروقليطس النار كأصل للوجود، وهذا الاختيار يليق بالفعل بالثائر على فلسفة السكون، فيلسوف التغيير والتلاطم والجدل، والثورة المستمرة في كل شيء.

وتنسب إلى هرقليطس أشهر كلمة قالتها الحكمة القديمة وهي أنك لا يمكن أن تستحم بماء النهر مرتين، ومن البدهي أن يفهم الناس أن ماء النهر سيتغير كلما نزلت فيه مرة جديدة، ولكن هرقليطس قصد ما هو أعمق من ذلك، وهو أن الإنسان أيضاً يتغير، وانه كل يوم هو في شأن، ولكن المعنى العميق لفكر هرقليطس لم يظهر إلا على يد هيجل الذي نبه أنه ليس الماء والشخص فقط يتغيران في كل مرة، بل القانون الكوني أيضاً، وأن الحقيقة الوحيدة الثابتة في هذا العالم هي التغيير.

6- امبيدوكليس - العناصر الأربعة: الماء والنار والتراب والهواء

وفي مرحلة لاحقة طرح امبيدوكليس تفسيراً توفيقياً للأصل الأول للكون، حيث اعتبر العناصر الأربعة أصلاً للكون وهي الماء والنار والهواء والتراب، وبذلك جمع بين اختيار طاليس وانكسمانس، اللذين ارتبط اسماهما في الأصل بالمحدد بالماء والهواء، مع هرقليطس الذي ارتبط باختيار النار أصلاً أول، فيما لا نعلم من هؤلاء التسعة فيلسوفاً ربط أصل الوجود بالتراب، ولكن من الواقعي تماماً أن نفترض ذلك، على أن امبيدوكليس نجح في تقديم العناصر الأربعة كفريق واحد انبثقت منه الأشياء، ولا زال يعمل بروح الفريق فيخلق ويبدي ويعبد.

7- أغزينوفانس – التوحيد:

أما أغزينوفانس الفيلسوف الشاعر فقد كان أول أبرز حكماء عصر الطبيعة الذين انعطفوا مرة أخرى نحو الثيولوجيا، لكن على أساس من التوحيد، فرأى أن العالم ينطق بخالق واحد لا تشبهه الأشياء، تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، ورفض بشكل قاطع المعتقدات اللاهوتية عند اليونان وآلهة الاولمب ورفض تعدد الالهة وتجسيمها وتأنيسها وانتقد اشعار هوميروس وكتابات هزيود التي ساهمت بشدة في ترسيخ تلك المعتقدات ورفض ما كان ينسب للالهة من صفات الكيد والمكر والغيرة والكره والشهوة والتحايل والتآمر والتزاوج والتناسل ورأى ان هذا يتنافى مع الكمال الإلهى وما هو إلا نتاج الخيال البشرى وأن الإله الحقيقى هو إله واحد غير متعدد ولا يجوز تطبيق صفات المخلوقات عليه.

لقد بدا غاضباً للغاية من العبث الكهنوتي في وصف الإله، وقد لخص اعتقاده الكهنوتي بأن الناس هم من استحدثوا الآلهة وأضافوا إليهم عواطفهم وأصواتهم وهيئتهم وأنكر وصف هوميروس وهزيود الآلهة بما هو موضع تحقير وملامة، وصرح انه لا يوجد إلا إله واحد وهو أرفع الموجودات السماوية والأرضية ليس مركباً على هيئتنا ولا مفكرا مثل تفكيرنا، بل هو حقيقة مطلقة كله فكر وكله سمع يحكم ويحرك الكل بقوة فكره ودون عناء).

ومع أن أغزينوفانس يعتبر في الزمان من فلاسفة الطبيعة ولكنه لم يفصل بين الطبيعة والأخلاق، وكان من وجهة نظري إرهاصاً بقدوم فلسفة الإنسان، وإن كان في العموم لم يخرج في عقيدة التوحيد من إطارها النظري التأملي.

8- ديمقريطس – الذرة:

أما ديمقريطس الفيلسوف الضاحك فقد سبق بالفعل إلى الوعي بالذرة وأعلن ان أصل الأشياء الذرة، وعرفها بأنها الأصل الذي لا ينقسم، واعتبر أنها منهاج العمل الإلهي في الخلق والتطوير، ورأى أن إرادة الله في كن فيكون تتجلى في تدافع الذرات وتشكلها وتفرقها، وفي هذا المعنى يمكن تفسير كل ما يصدر عنها من خلق جديد.

ومن العجيب أن فهمه الاستشرافي للذرة صار اليوم أصلاً في العلوم والمعرفة، ولا يزال تعريفه للذرة هو أكثر التعاريف شيوعاً، أنه الجزي الذي لا ينقسم، حتى في العصر الذي أصبحت فيه معارف الذرة تمثل أكثر المعارف المتقدمة حضوراً وتأثيراً.

وقد أثرت فلسفة ديموقريطس الذرية على نظرية الجزء الذي لا يتجزأ عند فلاسفة الإسلام أمثال ابن سينا وابن رشد، وقد بسط القول فيها إخوان الصفا في رسائلهم، كما كانت جوهر نظرية الطفرة والحدوث في الفقه الأشعري في الإسلام.

9- فيثاغورس – العدد:

 فيثاغورس أشهر حكماء الطبيعة في التاريخ اليوناني، ومع أنه شارك التسعة عصرهم المثير، ولكنه لم يكن فيهم نسقاً نظرياً فحسب بل كان مشروعاً إصلاحياً وتربويا، ولو كان لنا أن نتصور من الشعب اليوناني رسلاً لم يقصصهم القرىن فإنه بالتأكيد فيثاغورس، فهذا الفيلسوف الحكيم كان يتصرف في الناس كقدوة، وكان يدرك أن كلماته وخطواته ستكون مشروع حياة للآتين، واقترن تاريخه بالعجائب، وفي عجائبه من سليمان بساط الريح

ولم يعدم فيثاغورس قصة تضحية ملهمة أيضاً، فقد حاربه بضراوة طاغية ظالم اسمه بوليكراس، وقد انصب الاضطهاد على قومه أيضاً، فأصابهم ما أصاب تلامذة يسوع، والرعيل الأول من أصحاب محمد، وتأكد توجهه الرسولي بنزعة صوفية غامضة، على الرغم من وعيه التام بالحقائق العلمية، وتمرده على الأساطير.

وفي سبيل تأكيد وجهته هذه فقد كان فيثاغورس يقود فريقاً من السالكين، وقد صمم لهم بعناية برنامجاً من الرياضة الروحية، ولا زتزال رياضات فيثاغورس تلهم حركات غنوصية كثيرة، ولعل من أشهرها اليوم الصوفية الدرزية التي وجدت في فيثاغورس معلماً وملهماً وإماماً.

واختار فيثاغورس الرياضيات منهجاً لتنظيم العقل والروح، ولم يكن يرى في الرياضيات أداة لتحديد الحقوق وتصميم الحقول، بل كان يراها أسلوب حياة، وكان يقول/ إذا أردت أن تعيش إلى الأبد فعليك بشغف الرياضيات، ويؤكد فيثاغورس أن الحقيقة الباقية هي الرياضيات، فاللون في البرتقالة متغير ومتبدل، وكذلك الطعم والحجم، ولكن الثابت هو العدد، ومهما حاولنا أن نفهم وجه القداسة التي ألقاها على العدد فإنها ستبدو في غير طائل، حتى نقف عند قوله العدد أصل الأشياء والواحد أصل العدد، والتوحيد حقيقة الاعتقاد.

ولعل من العسير أن نفهم مقولته أن العدد أصل الأشياء، وبعبارة كهذه فإننا نطرح فهم مضاف إليه بلا مضاف، وهذا يستعصي على الوعي، ولكن يمكن مقاربة موقف فيثاغورس حين نفهم أنه راى الكيف حكماً متغيراً، يتأثر بالزمان والمكان والعنصر، فيما يبقى عنصر الكم حقيقة رياضية مجردة، لا يختلف عليها اثنان، ولا زلنا منذ العصر الفيثاغوثي إذا أردنا أن نسير إلى الحقائق الاتفاقية فإننا نقول واحد زائد واحد يساوي اثنان، وبها نقطع كل جدل.

وبعد فهذه قراءة وصفية للدور الذي لعبه الحكماء التسعة في عصر فلسفة الطبيعة التي سبقت فلسفة عصر الإنسان، وهي بالضبط المرحلة التي تفصل بين طاليس 600ق.م وسقراط 400 ق.م.

وقد تم اختيار الحكماء التسعة من أولئك العلماء الذين قدموا قراءة عميقة في أصل الحياة، وأرجو أن لا يكون وعينا بفريق الحكمة هذا جوراً على الدور الذي أداه في نفس المرحلة علماء يونانيون كبار كالعمالقة هوميروس وصوفوكليس وهزيود آباء الأدب اليوناني، أو أرخميدس أبو الفيزياء أو هيرودوت أبو التاريخ، أو غيرهم من الذين نبغوا في الفترة نفسها في فروع الأدب والمعرفة.

*** 

د. محمد حنش

 

يصادف يوم 22 ابريل 2024 الذكرى الثلاثمائة لميلاد الفيلسوف عمانوئيل كانط. الكاتبة انجا ستينبنر(1) تحاول التعريف بكانط وتسعى لجعل القارئ قادرا على فهم انتقاداته الثلاثة. عندما طلب بعض الطلاب من استاذ الفلسفة القديم معرفة أفضل كتاب تمهيدي في الفلسفة، أشار الاستاذ باستياء الى "نقد العقل الخالص" لكانط. لأول وهلة هذا بدا غريبا: أعمال كانط وخاصة عمله الأخير تصعب جدا قراءته ويترك الخوف لدى منْ يحاول دراسة الفلسفة. حتى صديق كانط موسى مندلسون Moses Mendelson، أحد أكبر المفكرين في القرن الثامن عشر، أعلن ان نقد العقل الخالص كان"يستهلك الروح". لكننا نعتقد ان استاذ الفلسفة القديم كان على صواب. حالما تجد طريقة لقراءة كانط، فان كتبه يمكنها ان تعلّمك كيف تتفلسف جيدا. كُتب كانط منهجية ونقدية ومعقدة بشكل مقبول، انها تحفز القارئ على الصراع  وعدم الاتفاق معها. اذاً كيف نبدأ؟ من المفيد معرفة القليل عن خلفية كانط واهتماماته وطريقته في التفكير بالاضافة الى المفاهيم التي يستخدمها.

على عكس العديد من فلاسفة التنوير العظماء نحن لانزال نتحدث عن عمانوئيل كانط ،كان كانط الرابع من بين تسعة أطفال، لم يولد في اسرة ثرية. والده كان يعمل في صناعة لجام الخيل وهي مهنة ليست راقية اجتماعيا ولا اقتصاديا. العائلة كانت متدينة وتقية، كجزء من حركة دينية برزت في القرن السابع عشر وأرادت تجديد الحياة البروتستانتية وإجراء إصلاحات في الكنيسة. ومع ان كانط لم يكن متدينا عند بلوغه – لكن البعض يشير بأصابع الإتهام لتأثير الفيلسوف على تزايد اعداد الكنائس المهجورة في مدينة كونيغسبرغ (بروسيا الشرقية) – غير انه كان يعتز بهدوء العقل والايجابية اللذين ميّزا اسلوب حياة التقوى، مذكّرا بالحكمة الرواقية. هو طوال حياته إعترف بتأثير طريقة التفكير العقلية"الطبيعية" لوالدته بالاضافة الى مبادئها الأخلاقية القوية. وبمساعدة الأصدقاء والجيران الذين انتبهوا لموهبة كانط، جرى إلغاء رسوم الدراسة وإرساله الى مدرسة جيدة وان كانت صارمة. ورغم ان التعليم كان جافا جدا لدرجة بدا كانه مُصمم "لإخماد أي رغبة" حتى في الافكار والاسئلة المثيرة، لكن كانط بقي على نفس فضوله الفكري.  سُجّل كانط  كطالب في الجامعة، ونجح فيها ماليا من خلال عمله كمرشد خاص بالاضافة الى فوزه في ألعاب البليارد وهي المهارة التي ساعدته في تمويل نفسه في حياته المبكرة.

في سن الـ 46  حصل كانط على ما كان يتوق له من الاستاذية في المنطق والميتافيزيقا وهو ما ضمن له الاستقرار المالي. عاش كانط في كونيغسبرغ  طوال حياته وهي المدينة التي كانت آنذاك مركزا تجاريا صاخبا في بروسيا. كان لكانط  اصدقاء متنوعين. أفضل اصدقائه كان تاجرا انجليزيا مهاجرا يسمى غرين Green، طلابه كانوا من كل العالم، يأتون من بروسيا والولايات الألمانية الاخرى، وكذلك من روسيا و البلطيق وبولندا. وبقدر ما كان كانط مهتما بالعمل الأكاديمي، كان ايضا يخصص النصف الثاني من كل يوم للترفيه الاجتماعي: تناول الغداء مع الاصدقاء، ممارسة لعبة البليارد،الكارتات، حضور الصالونات والمسارح. هذه الحياة الممتعة اصبحت متاحة من خلال التحول الثقافي اثناء الاحتلال الروسي لكونيغسبرغ  1758-1762، الذي جعلها اكثر تحررا وأقل تفاوتا طبقيا وبدون تحيزات واكثر انفتاحا على الرفاهية.

وعلى صعيد أحدث التطورات في العلوم الطبيعية بالاضافة الى الميتافيزيقا، نشر كانط دون الإشارة للمؤلف كتاب (التاريخ الطبيعي العام ونظرية السماوات) في بدايات عام 1755. في هذا الكتاب اقترح كانط توضيحا ميكانيكيا خالصا لبداية الكون، والذي بقي لوقت طويل كأساس هام للنقاشات الفلكية. في تلك الاثناء، كانت كتابات كانط النقدية حول الدين على وشك ان تُنشر، لقد انتهت فترة حكم اثنين من الحكام التنويريين وهما فردريك ولهيلم الاول وفردريك العظيم أعقبهما حكم الملك الجديد فردريك ولهيلم الثاني الأكثر صرامة، وهو ما يعني ان كانط اصبح يواجه مشكلة مع الرقابة. لفترة من الزمن انتشرت شائعات بان كانط ربما سيُنفى ويفقد حق النشر مرة اخرى. ومع ان هذا لم يحدث، تلقّى كانط تحذيرا شديدا وشخصيا من الملك الذي اتهمه بإساءة استعمال موقعه كمربّي لأذهان الشباب ليدفعهم للتحول ضد تعاليم الكنيسة. وبعيدا عن الخوف، كتب كانط للملك معلنا رفضه الاتهامات لكنه وعد ان لا ينشر اي مادة حول الدين طالما بقي الملك حيا. وحالا بعد وفاة الملك، نشر كانط الكثير من التأملات النقدية حول الدين. في عام 1796 وفي عمر 73 عاما ألقى كانط محاضرته الأخيرة.

ثلاثية كانط النقدية The Three Critiques

بعد عقود من الإنغماس والكتابة في العلوم والفلسفة والعديد من الموضوعات ذات الصلة، بدأ كانط عمله في مشروعه "النقدي". وحالما بدأ البحث في أشهر أعماله وهو نقد العقل الخالص، أخذ اسلوب حياته يتغير. هو تحوّل من مثقف اجتماعي شجاع الى استاذ منسحب اتّبع اسلوب حياة صارم تحكمه الدقة والمزيد من الانضباط الذاتي. "الفلسفة النقدية" لكانط اشير اليها ايضا بـ "transcendental". وهذه المفردة ليست مرادفة لـ "transcendent". انها لا تعني "وراء" بل ان الكلمة لها معنى تقني هنا. انها تشير الى التحقيق في "الشروط الضرورية لإمكانية حدوث شيء ما". بكلمة اخرى، في نقد العقل الخالص كانط يسأل:

ماذا يجب ان يكون موجودا لكي تصبح المعرفة ممكنة؟

ماذا يمكننا ان نعرف؟

بالمقابل، كانط يسأل عن الشروط المسبقة للمعرفة الانسانية. ونفس الشيء، في نقد العقل العملي كانط يسأل عن شروط الاخلاق، وفي نقد ملكة الحكم يسأل عن شروط الجماليات والتطبيقات الاخرى للحكم.

لماذا عُرفت انتقادات كانط الثلاثة الشهيرة بهذا الاسم؟ ما الذي تنتقده ولماذا؟ انها تفكير نقدي حول حدود تطبيق العقل، وفي نفس الوقت، هي حول تقاليد كانط الفلسفية. كانط تلقّى تعليمه في العقلانية، وبشكل أدق فلسفة ليبنز Leibniz كما نُقحت من جانب كرستين ولف Christian Wolff. العقلانيون اعتقدوا ان المعرفة تنبثق من العقل. بدأت تبرز لكانط  شكوك حول دقة هذه الفكرة الاساسية لسنوات قبل فترته النقدية، ولكن عندما قرأ ديفد هيوم استيقظ تماما من "سباته العقائدي". "الدوغمائية" اصبحت طريقة كانط في الاشارة للعقلانية، بينما هو أشار الى طريقة هيوم التجريبية بـ "الشكية". التجريبيون، مقابل العقلانيون، اعتقدوا ان المعرفة جاءت من التجربة وحدها. من المفيد التمييز بوضوح بين العقل والفهم. العقل"Reason" هو قدرة الانسان على التفكير المنطقي. هو لا علاقة له في كون المرء ذكي او متعلم بينما هناك عدة طرق يمكنك بها تحسين مهاراتك العقلية، اعتقد كانط انها القابلية التي نمتلكها جميعنا، لذا لا احد يُعذر من التفكير العقلاني. ذلك يعني القدرة على الوصول الى استنتاج من الاسباب وتجنب المغالطات كالعقائد المتناقضة. لذا فان "العقل" هو ما نستعمله للتفكير الجيد، انه مستقل عن التجربة.

اما الفهم "understanding" له علاقة بالطريقة التي نفهم بها العالم، لذا هو يشمل كل شيء له علاقة بالتجربة. هذا الفرق ايضا يأخذ شكل القبلي – "قبل التجربة" و بعدي "بعد التجربة". المحللون يحذرون: من ان كانط ينوي القول ان العقل شرط غير كاف للمعرفة. هو يعتقد اننا نحتاج مدخلات من العالم للامساك بالمعرفة، لذا فان الفهم والطرق المعقدة التي يعمل بها العقل ويتفاعل مع الحواس والعالم الخارجي هي التي تعطي لنا معرفة. المعرفة هي بعدية وأي محاولة للحصول على معرفة عبر العقل وحده ستغرقنا في "ظلام وتناقضات". في حقل الاخلاق التي نالت تغطية في نقد العقل العملي،كان العقل مفيدا جدا: كانط يعتقد اننا نستخدم العقل لنتحرر في تفكيرنا حول المبادئ الاخلاقية، انها قبلية.

لماذا هناك ثلاثة انتقادات؟ لماذا ليس فقط تلك الاثنين؟ الفرق بين نقد العقل الخالص ونقد العقل العملي يسهل رؤيته. في النقد الاول، استطلع كانط ما نحتاجه لإكتساب المعرفة. لكن، عند النظر الى الطريقة التي نفكر بها حول القيم الاخلاقية، حالا اصبح واضحا ان التفكير الاخلاقي يعمل بطريقة مختلفة. هذا ما عبّر عنه كانط في النقد الثاني. اذاً، ماذا يعمل النقد الثالث، نقد ملكة الحكم؟ انه هناك ليتوسط بين عالمي النقد الاول والثاني. في قراءتهما ، يبدو ان عالم التجربة الحسية والعالم الاخلاقي، الطبيعة والحرية،  منفصلان. الحكم هو قدرة الانسان على الجمع بين الاثنين. أحسن حالة دراسية هي الجماليات. البيان او القول الجمالي يختلف عن بيان المعرفة: "الوردة حمراء" هو بيان يختلف عن القول "الوردة جميلة". لكن، الحكم على الجمال هو ايضا مختلف عن البيان الاخلاقي. الاحكام الجمالية تتطلب كل من الانتباه للطبيعة، تجربة حسية، واستعمال حرية الانسان،والخيال الذاتي.

لماذا الانتقادات الثلاثة هامة جدا ولماذا تبقى كذلك؟ لماذا يعتقد شوبنهاور ان نقد العقل الخالص "أهم كتاب كُتب في اوربا على الاطلاق"؟ لماذا شعر الشاعر كولريدج Coleridge عندما قرأ الكتاب كأن يدا عملاقة تستحوذ عليه؟هل بسبب ان كانط كان صائبا في كل شيء في انتقاداته الثلاثة؟ بالطبع كلا. لكن ذلك سيكون امرا خاطئا للبحث في أي فلسفة. على سبيل المثال، العديد لا يتفقون مع استنتاج كانط في نقد العقل العملي بأن الاخلاق بُنيت على قواعد يختارها الافراد لأنفسهم بحرية ، وانها يجب ان تُطاع بشكل ملزم "categorically". هذه سُميت الضرورات الحتمية فهي ملزمة قبليا و لا تهم طبيعة الموقف. هذه الطريقة الرسمية للغاية في النظر الى الاخلاق يصعب العيش بها. لكن هناك الكثير من التأييد لها لأن كانط يعبّر عن شيء هام حول طبيعة الاخلاق والتفكير الاخلاقي. بعمل كهذا هو طوّر النقاش الفلسفي ودفعه الى الامام . واذا كنا نقول اننا لا نستطيع اتّباع نظامه في حياتنا، فنحن في نفس الوقت لا نستطيع تجاهله في الاخلاق الفلسفية. والشيء ذاته يصح على نقد العقل الخالص، الذي غيّرت رؤاه الى الابد الطريقة التي نفكر بها حول كل من الميتافيزيقا والابستيمولوجي.

اخيرا، في نقد ملكة الحكم هو قام بعمل رائد ومتميز في طرح اسس للجماليات الفلسفية، والتي لاتزال صحيحة حتى اليوم. لذلك، بدلا من توقّع ان يعطينا أي كتاب فلسفي أجوبة نهائية، من المفيد جدا ان نقرأه كمساهمة تفتح لنا منظورات جديدة وتهيء الإمكانية للمزيد من الفلسفة.

الآن أصبحنا جاهزين تماما

الآن اصبحت لدينا بعض الافكار الاساسية عن خلفية كانط ومشاريعه، لذا نحن في موقف جيد بما يكفي للبدء بقرائته بما في ذلك ثلاثيته النقدية الصعبة. كل شيء آخر تحتاجه عليك ان تجلبه للحفل بنفسك. قراءة الفلسفة يجب دائما ان تكون عملية بطيئة، لذا فان الصبر هو احد الاشياء التي لا يمكننا الاستغناء عنها هنا. كانط مثل العديد من الفلاسفة الكبار، يدعونا للانخراط النقدي مع افكاره، لذا يجب ان نكون مستعدين للتفكير النشط على طول الخط. اخيرا، علينا ان نتخذ قرارنا حول قيمة مساهماته في زماننا الحالي. لكن يجب ان نقوم بذلك بطريقة مستنيرة وعقلانية. تلك هي الكيفية التي تفلسف بها كانط ولهذا يجب ان نكون نحن كذلك.

***

حاتم حميد محسن

.................

الهوامش

(1) الكاتبة Anja Steinbauer درست الفلسفة في جامعات هامبورغ و تايوان (NTNU) ولندن (SOAS) و كلية كنك في لندن. هي رئيسة منظمة الفلسفة للجميع.

 

ان مزايا الصدق مقابل اللاصدق، والحقيقة مقابل الزيف، تبدو واضحة جدا لدرجة لايمكن للمرء الشك فيها او تصوّر العكس في ان يكون اللاصدق أفضل من الصدق. لكن هذا ما فعله الفيلسوف الألماني فردريك نيتشة حين أثار الشكوك في ذلك واعتبر ان أفضلية الصدق ليست واضحة تماما كما نفترض نحن عادة.

طبيعة الصدق

نقاش نيتشة في طبيعة الصدق كان جزءاً من برنامج شامل قاده للتحقيق في جينولوجيا مختلف مظاهر الثقافة والمجتمع، حيث كانت الأخلاق هي الأبرز في كتابه (جينولوجيا الأخلاق،1887). هدف نيتشة كان ان يفهم بشكل أفضل تطوّر "الحقائق" (أخلاقية، ثقافية، اجتماعية،الخ) التي جرى اعتبارها بديهية في المجتمع الحديث وبذلك يُنجز فهما أفضل لتلك الحقائق في هذه العملية.

في تحقيقاته لتاريخ الصدق، هو يثير سؤالا مركزيا يعتقد ان الفلاسفة تجاهلوه دون مبرر: ما هي قيمة الصدق؟ هذه التعليقات تظهر في (ما وراء الخير والشر):

"الرغبة في الصدق التي لا تزال تغرينا يراها العديد مغامرة، حيث تحدّث عنها الفلاسفة المشهورين بالمصداقية حتى الان باحترام – أيّ اسئلة لم تطرحها الرغبة في الصدق أمامنا، أي أسئلة غريبة وشريرة، تلك قصة طويلة حتى الآن – ولاتزال تبدو كما لو انها بدأت بسرّية. هل هناك عجب في اننا يجب ان نصبح بالنهاية مشككين، نفقد الصبر، ونبتعد يائسين؟ واننا يجب بالنهاية ان نتعلم من هذا الانسان البارع لنسأل اسئلة ايضا؟ منْ هو حقا ذلك الذي يضع الأسئلة لنا هنا؟ ما الذي فينا يريد حقا "الصدق"؟.

"في الحقيقة نحن وصلنا لتوقّف طويل عند السؤال حول سبب هذه الرغبة – حتى وصلنا بالنهاية الى توقّف كامل أمام سؤال أكثر اساسية. نحن سألنا عن قيمة هذه الرغبة. افرض نحن نريد الصدق: لماذا لا نريد اللاصدق؟ واللايقين؟ وحتى الجهل؟"

ما يشير اليه نيتشه هنا هو ان رغبة الفلاسفة والعلماء بالصدق، والتأكد، والمعرفة بدلا من اللاصدق واللايقين والجهل هي فرضيات أساسية لا جدال فيها. لكن، فقط لكونها لم تتعرض للتساؤل لا يعني انها لا يمكن مسائلتها. بالنسبة لنيتشة، نقطة البدء في هذا التساؤل هو في الجينولوجي "رغبتنا بالصدق" ذاتها.

الرغبة في الصدق

أين يحدد نيتشه أصل "الرغبة بالصدق"، الرغبة بـ "الصدق مهما كان الثمن"؟. بالنسبة لنيتشة، انها تكمن في الارتباط بين الصدق والله: الفلاسفة قبلوا المثال الديني الذي جعلهم يطورون مرجعية عمياء للصدق، جاعلين الصدق إله لهم. هو يكتب في (جينولوجي الاخلاق،ص111،25):

"ذلك الذي يقيّد مثاليو المعرفة، هذه الرغبة غير المشروطة بالصدق هي الايمان بالمثال الزاهد ascetic ideal ذاته حتى لو كان ضرورة غير واعية – لا تكن منخدعا حول ذلك – انه ايمان بالقيمة الميتافيزيقية، القيمة المطلقة للصدق، اُقرّت وحُميت بهذا المثال وحده (انها تصمد او تسقط مع هذا المثال)".

وهكذا يجادل نيتشة ان الصدق، مثل إله افلاطون والمسيحية التقليدية، هو أعلى وأعظم شيء تام يمكن تصوّره: "نحن رجال المعرفة اليوم، نحن رجال بلا آلهة ومضادون للميتافيزيقيين، نحن ايضا، لانزال نشتق لهيبنا من النار المشتعلة بواسطة الايمان منذ آلاف السنين، الايمان المسيحي الذي كان ايضا افلاطونيا، بأن الله هو الصدق، وان الصدق هو إله" (العلم المرح،ص344).

الآن، هذا قد لا يكون مشكلة ما عدى ان نيتشة كان خصما قويا لأي شيء حوّل تقييم الانسان بعيدا من هذه الحياة نحو عالم دنيوي بعيد المنال. بالنسبة له، هذا النوع من الحركة بالضرورة أضعف الانسانية وحياة الانسان، وهكذا هو وجد هذا التأليه للصدق لايمكن تحمّله. هو ايضا يبدو اصبح منزعجا بالرجوع المتكرر لكامل المشروع – مع ذلك، عبر وضع الصدق في قمة كل ما هو جيد وجعله معيارا ضد كل ما يجب قياسه، هذا بالطبع أتاح ضمان قيمة الصدق ذاتها بشكل دائم بحيث لا يمكن مسائلتها ابدا.

هذا قاده الى السؤال حول ما اذا كان المرء يجادل بقوة في افضلية اللاصدق وكشف عدم أهمية آراء الفريق المقابل. هدفه لم يكن كما اعتقد البعض، إنكار أي قيمة او معنى للصدق ابدا. لأن هذا ذاته سيكون جدالا دائريا ايضا لأنه اذا نحن نعتقد ان اللاصدق مفضل على الصدق لأن هذا قول صادق، عندئذ نحن بالضرورة استعملنا الصدق كحُكم نهائي فيما نعتقد.

كلا، مسألة نيتشة كانت اكثر ذكاء واثارة للاهتمام من ذلك. غرضه لم يكن الصدق وانما الايمان، خاصة الايمان الأعمى الذي تحفّز بـ "مثال الزهد". في هذا الموقف، كان ينتقد الايمان الأعمى في الصدق، ولكن في مواقف اخرى، كان ينتقد الايمان الاعمى في الله، في التقاليد الاخلاقية المسيحية، وغيرها:

"نحن "رجال المعرفة" وصلنا تدريجيا الى عدم الثقة بالمؤمنين من كل الانواع، عدم ثقتنا جلبتنا تدريجيا لعمل استنتاجات معاكسة لتلك التي كانت في ايامنا السابقة: متى ما تم استبدال الايمان القوي، نحن نستدل على ضعف معين في ما يظهر بل وحتى لا احتمالية ما يتم الايمان به. نحن ايضا لا ننكر ان الايمان "يجعل الشخص سعيدا": ذلك بالضبط لماذا نحن ننكر ان الايمان يثبت أي شيء – ايمان قوي يجعل السعيد يثير الشكوك في ما يُعتقد به، انه لا يؤسس "صدق"، انه يؤسس احتمالية معينة من الخداع. (جينولوجيا الاخلاق،ص148).

نيتشة كان بشكل خاص ناقدا لأولئك الشكاك والملحدين الذين يفتخرون بأنفسهم كونهم أهملوا "مثال الزهد" في مواضيع اخرى ولكن ليس في هذا الموضوع:

"هؤلاء القائلين لا والغير منتمين الى أي جماعة في هذا الزمان الذين هم غير مقيّدين بمسألة واحدة – إصرارهم على النظافة الفكرية، هذه الارواح البطولية، القاسية والشديدة والمتعففة التي تشكل شرف عصرنا، كل هؤلاء الملحدون الشاحبون، المضادون للمسيحيين، العدميون و اللااخلاقيون، هؤلاء الشكاك، المؤثرون في الأحكام، وزنادقة الروح... هؤلاء آخر مثاليو المعرفة، الذين وحدهم اليوم يعيش فيهم   وينعم الضمير الفكري، - هم بالتأكيد يعتقدون انهم متحررون بالكامل من مثال الزهد ،هؤلاء "متحررون"، "أرواح متحررة جدا"، ومع ذلك هم انفسهم يجسدونها اليوم وربما هم وحدهم. هم بعيدون عن كونهم أرواح حرة: لأنهم لايزالون لديهم ايمان في الصدق. (جينولوجيا الاخلاق ص111:24).

قيمة الصدق

وهكذا، الايمان في الصدق الذي لايتحقق ابدا من قيمة الصدق يشير بالنسبة الى نيتشة، ان قيمة الصدق لايمكن اظهارها وهي ربما زائفة. اذا كان كل ما يهتم به هو الجدال بان الصدق غير موجود، فهو كان بامكانه ترك الامر عند هذا الحد لكنه لم يفعل. بدلا من ذلك، هو يجادل بان اللاصدق في اوقات يمكن ان يكون شرطا ضروريا للحياة. حقيقة ان الايمان زائف لم يكن في الماضي سببا للناس لإهماله، وانما العقائد اُهملت بناءً على ما اذا كانت خدمت أهداف الحفاظ على حياة الناس وتعزيزها .

"ان زيف الحكم ليس بالضرورة معارضة للحكم: هنا ربما تبدو لغتنا الجديدة غريبة. السؤال هو الى أي مدى العقيدة هي مطوّرة للحياة، محافظة على الحياة، محافظة على الأنواع، وحتى مربية للانواع، نزعتنا الاساسية هي الزعم بان الأحكام الأكثر زيفا (التي تنتمي اليها الأحكام القبلية السابقة للتجربة) هي التي لا غنى عنها لنا،أي بدون التسليم بصدق خيالات المنطق، وبدون قياس الواقع مقابل الاختراع الخالص لعالم غير مشروط ومشابه للذات، وبدون التزوير المستمر للعالم بوسائل الأرقام، فان البشرية لن تستطيع العيش – أي ان التخلّي عن الأحكام الزائفة سيكون تخلّي عن الحياة وإنكار لها. لكي نعترف ان اللاصدق شرط للحياة يعني مقاومة مشاعر القيمة العرفية بشكل خطير، والفلسفة التي تجرؤ على القيام بهذا تضع نفسها من خلال ذلك الفعل وحده، وراء الخير والشر" (وراء الخير والشر،333).

لذا اذا كان اتجاه نيتشه في الأسئلة الفلسفية مرتكز ليس على التمييز بين الصدق والزيف، وانما على ما يعزز الحياة وما يحطمها، ذلك لا يعني انه نسبي عندما يأتي الى الصدق؟ هو يبدو فعلا يجادل بان ما يسميه الناس في المجتمع "صدق" له علاقة بالأعراف الاجتماعية اكثر من علاقته بالواقع.

ما هو الصدق؟

اذاً ما هو الصدق؟ جيش متنقل من الاستعارات والكنايات والتجسيم : باختصار، مجموعة من العلاقات الانسانية جرى تكثيفها شعريا وخطابيا ثم نقلها وتزيينها، والتي بعد الاستعمال الطويل، بدت للناس كأنها ثابتة، أساسية وملزمة. الصدق هو أوهام ونسينا انه أوهام. هو استعارات أصبحت بالية استُنزفت قوتها الحسية،عملات فقدت نقوشها الدالّة واُعتبرت الآن فقط كمعدن ولم تعد كعملات. ذلك لا يعني ان نيتشة كان نسبيا تاما أنكر وجود أي صدق خارج الأعراف الاجتماعية. الجدال بان اللاصدق هو احيانا شرط للحياة يتضمن ان الصدق هو ايضا احيانا شرط للحياة. لا يمكن انكار ان معرفة "صدق" مكان بداية ونهاية المنحدر الصخري ستكون معززة جدا للحياة.

رضي نيتشه بوجود أشياء "صادقة" ويبدو انه تبنّى شكلا من نظرية مطابقة الحقيقة، وبهذا يضعه خارج معسكر النسبيين. ما يختلف فيه عن العديد من الفلاسفة هو انه أهمل اي نوع من الايمان الأعمى بقيمة الصدق والحاجة له في كل الاوقات وفي جميع المناسبات. هو لم ينكر وجود او قيمة الصدق، وانما هو أنكر فعلا ان الصدق يجب ان يكون دائما ثمينا او انه يسهل الحصول عليه.

احيانا من الأحسن ان تكون جاهلا بالصدق القاسي، واحيانا من السهل ان تعيش مع الزيف. ومهما كانت الحالة، نحن نأتي دائما الى حكم قيمي: مفضلين امتلاك صدق على اللاصدق وبالعكس في أي موقف معين والذي يعني بيان حول ما تقيّمه انت، وذلك دائما يجعلها قيمة شخصية جدا ليست باردة وموضوعية كما يحاول البعض وصفها.  

***

حاتم حميد محسن

سر القوة الإبداعية البشرية منذ عصور ما قبل التاريخ

صدرت، عام 2023، عن "دار بوم" ترجمة وتحرير الكتاب الموسوم "التاريخ والذات العنيدة" من اللغة الألمانية(1981)، إلى اللغة الهولندية، للألمانيين المخرج والروائي ألكسندر كلوجه (1932) وعالم الاجتماع أوسكار نيغت (1934)، في خمسمائة صفحة، تحت عنوان جديد "الذاتية المتمردة، العمل والتاريخ" على يد فرانس بركر، خيرتيان سخولين ورودي لايمانس. أما الكتاب الأصلي فيتكون من 1200 صفحة مليئة بالاستطرادات الفلسفية والتاريخية والحكايات الخيالية والصور والجداول. وفقًا لِلايرمانس، الأستاذ الفخري لعلم الاجتماع النظري في جامعة لوفين، فهذا كتاب كلاسيكي حول النظرية النقدية؛ أي النقد الاجتماعي، الذي مارسه كثير من مفكري مدرسة فرانكفورت، وهو مستوحى من تحليل ماركس للمجتمع الرأسمالي.

ويعرف نيغت وكلوجه العمل بإنه هو "قدرة الإنسان على تغيير المادة بطريقة متعمدة". لذلك فهما يتناولان مصطلح العمل على نطاق واسع جدا؛ فالعمل لا يخدم الإنتاج والصناعة فحسب، بل يخلق أيضا علاقات اجتماعية ويطور المجتمع.

بالنسبة لهما، فإن العناد أو التمرد يحيل على عدم القدرة على التحكم في القدرات البشرية. فيما يخص هذه القدرات، يمكنك التفكير في الحواس، ولكن أيضًا القدرة على التواصل أو الرغبة أو قدرة الدماغ على إجراء اتصالات. إن الذات نفسها لا تتحكم بشكل كامل في قدراتها؛ مثلا على العقل الباطن (فرويد) أو على الجهاز الهضمي. إن كل قدرة لها منطقها الخاص، وديناميكيتها الخاصة. تُستعمل هذه القدرات في العمل. وهذا يعني ضمن الإنتاج الرأسمالي: المصادرة. إن وسائل الإنتاج والتقنيات الجديدة تغير القدرات وتخلق أيضًا قدرات جديدة. وفي النهاية، فهذه السيرورة ترتبط بالتاريخ؛ مع كل طريقة إنتاج جديدة، تنشأ قدرات جديدة.3681 نجاة تميم

لكن نيغت وكلوجه لا يفكران بطريقة حتمية؛ وهنا بالتحديد يكمن تمرد القدرات. على سبيل المثال، إن تمردَ الجسم يتجسَّد في تعبه. يقول الكاتبان أن ماركس لم يكن لديه في الواقع نظرية عن العمل. فماذا يقصدان بهذا، يا ترى؟ يكتب ماركس في كتاب رأس المال عن استغلال العمل في الإنتاج الرأسمالي، لكنه يعد العمل في حد ذاته أمرا مفروغا منه. لكنهما ينظران إلى كل أشكال العمل الضرورية قبل ظهور العمل في المصنع، والتي تشكل أيضًا شروط العمل في مجتمع ما بعد الصناعة. إنهما يربطان مفهوم العمل بمجالات مثل العلاقات الشخصية والذكاء والحرب والسياسة. ومن خلال القيام بذلك، فإنهما ينتقدان التمييز الصارم للغاية؛ على سبيل المثال، في رؤية حنه أرندت ويورغن هابرماس بين الفعل الذرائعي والتواصلي، بين العمل والسياسة. بحسبهما، هناك مجال سياسي، ولكن هناك أيضًا سياسة في مجالات أخرى.

وبالإشارة إلى "الصيغة التي يعرّف بها ماركس مفهوم العمل بأنه "استقلاب الإنسان مع الطبيعة" وأنه نشاط إنساني واعي وإرادي محدد، لا يعمل من خلاله على الطبيعة لإشباع احتياجاته فحسب، بل بفضله يغير طبيعة الانسان الذاتية ويجعله يشعر بقيمته، فإن أرندت في مساهمتها تؤكد أن "العمل والاستهلاك ليسا سوى مرحلتين في الدورة الدائمة للحياة البيولوجية. يجب الحفاظ على هذه الدورة من خلال الاستهلاك، والنشاط الذي يوفر وسائل الاستهلاك هو نشاط العمل" )[1]( .ولقد ميزت وبشكل حاد بين العمل السياسي من ناحية، وبين الشغل والعمل من ناحية أخرى. كما أن الكدح والعمل، اللذين عدَّهما التقليد الفلسفي من بيكون إلى ماركس وسيلة للتحرر من قبضة الطبيعة، كانا في الواقع خضوعا للضرورات وقيود العالم المادي. ولذلك ، بحسبها، لا ينبغي للسياسة أن تدور حول القضايا الاجتماعية. وبمجرد محاولة إيجاد حلول للفقر أو عدم المساواة الاجتماعية أو العنصرية أو الثقافية، تتم التضحية بالحرية السياسية من أجل الضرورة الاجتماعية ([2]).

مؤلفا الكتاب مهتمان أيضًا بـ "العمل الذكي" أو العمل في التعليم والإعلام والصحافة، ولكن أيضًا في مجال الكمبيوتر. من المحتمل أن تكون هناك قوة مخبأة في كل هذا الأعمال، على وجه التحديد بسبب خصوصيتها وتمردها، أكثر بكثير مما يتم التعبير عنها في ظل علاقات الإنتاج السائدة.

أبعد من نظرية ماركس

لقد اختار المؤلفان مسارًا مختلفًا. فبدلاً من الشكوى من انحطاط الحداثة، اتبعا مشروعا بدأ مع ماركس نفسه. لقد تحدث ماركس عن رأس المال، ولكن ما هو بالضبط تاريخ نظيره - العمل؟ فقط اللغة والعمل يرفعاننا عن الطبيعة، كما قالها زميلهما يورغن هابرماس ذات مرة، وفقط من خلال اللغة والعمل يمكن للإنسان أن يفهم ذاته. اختار هابرماس علانية الموضوع اللغوي وودع "مفهوم العمل" الماركسي. من ناحية أخرى، ظل نيغت وكلوجه أكثر ثباتًا في ماديتهما. مثلما كتب ماركس رأس المال، أرادا تأليف كتاب عن العمل؛ فهو سر للقوة الإبداعية البشرية منذ عصور ما قبل التاريخ.

هكذا يبني نيغت وكلوجه على فكر ماركس، لكنهما ينظران أيضًا إلى أبعد من المؤسس. بالنسبة لهما، يقتصر العمل، على الأقل، على العمل المأجور في المصنع أو المكتب. بدلاً من ذلك، فإن المجتمع والتاريخ بأكمله هو مختبر يبحث فيه الإنسان باستمرار عن مواد عمل جديدة. "كنشاط كوني يحوّل المادة". ويتساءلان، "هل العمل هو أحد الألغاز التي لم يتم حلها في العالم؟".

ففي هذا الكتاب، نجد العمل الذكي، والعمل البحثي، والعمل المعرفي، وتوجيه العمل  وعمل المقاومة، وعمل المرأة، وأعمال الترجمة، والأعمال التجارية، والتاريخ، والعمل النظري، والعمل التشكيلي، وحب العمل، وأيضا العمل الحربي. إن العمل هو التعبير الملون عن حرية الإنسان، ولكنه أيضًا مصدر القمع الصارخ.

إن نظرية الفعل الإنساني التي وضعها نيغت وكلوجه على أساس مفهوم العمل تقوم على خمسة مفاهيم أساسية تُعرض في الجزء الأول "خصوصية القدرات البشرية". ويؤكدا أن لا عمل بدون عمل توجيهي؛ يبذل المرء جهدًا لتوجيه نفسه في عمله وحياته ومجتمعه. كما أن هناك، تاريخيًا، ثلاثة أشكال من التوجه: الاستبطان، المحادثة، والتجربة.

يعد مفهوم "Eigensinn"  بُعدًا مهمًا للعمل التوجيهي؛ إذ إن المرء يوجه نفسه من خلال حواسه وبسبب شيء وضعه نصب عينيه. ويستخدم نيغت وكلوجه هذا المفهوم في عدة معانٍ: الخصوصيات، المعنى الخاص للفرد، ملكية الحواس الخمس، القدرة على إدراك كل ما يحدث حولك، وكذلك العناد والتمرد، أو الاشمئزاز، أو الصمود.  فيتفحصان أمثلة من فترات تاريخية ويظهران أن الأساطير اليونانية ليست فقط هي التي تقدم رؤى مفيدة، بل أيضًا حكايات الأخوين يعقوب وفيلهلم "غريم – Grimm" الخيالية والتجربة التاريخية المخزَّنة في هذه القصص الخيالية.

يقول  لايرمانس، أحد المترجمين الثلاثة، أن هذا الكتاب الذي يعد جزءا من " شريعة الفلسفة الألمانية"، هو عبارة عن معالجة خاصة لعدد من المواضيع من الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت ومن ماركس الشاب، والتي لم تكن واضحة بذاتها في وقت نشرها. إنه، في الواقع، كتاب بدون تكملة، بدون مؤلفين يشرحونه بالتفصيل. وما يجعله في غاية الأهمية هو أنه يحتوي على حوار صريح مع مؤلفين مثل دولوز وغاتاري وفوكو، وأنه في حدته واتساع فكره يُظهر  العديد من أوجه التشابه مع هؤلاء المفكرين الفرنسيين. الكتاب هو نوع من الرابط الخفي بين النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت وما بعد البنيوية. ولا يعبر عن نظرية مكتملة. إنما نشهد ممارسة التنظير، مع كل خصوصيات هذين المفكرين المختلفين تمامًا. علاوة على ذلك، فإن هذا أيضًا يلبي حاجة العديد من قدرات القارئ.

لقد تمت كتابة الفصول المختلفة في "التاريخ والذات المتمردة" (النسخة الألمانية) كمقالات يمكن قراءتها بشكل مستقل. وهذا يتناسب مع دعوة القارئ إلى شق طريقه عبر الكتاب.  وكمبدأ توجيهي محتمل، حرص المترجمون على عرض خط  أحمر يتخلل الكتاب كما اكتشفوه أثناء القراءة والترجمة.  فكانت نتيجة قراءة مشترَكة تهدف مرة أخرى إلى تشجيع القراء على التأويل بخصوصيات مختلفة.  وللعلم، فإنهم اعتمدوا في الترجمة على الكتاب الأصلي؛ فجرى تقسيم الكتاب المُترجم إلى خمسة عشر فصلا معنونة وموزعة بالتساوي على ثلاثة أجزاء. وحرصوا على شرح  وجهة نظرهم العلمية والمهنية وهدف تحريرهم لهذا الكتاب، بالإضافة إلى مشكلات الترجمة المأخوذة بعين الاعتبار والمدرجة في نهاية الكتاب.

***

نجاة تميم

..............................................

نُشر أيضا في جريدة الشرق الأوسط، يوم الخميس 7 مارس\ آذار 2024، العدد 16536.

الهوامش:

[1] - Hanna Arendt, Condition de l’homme moderne, traduction française LCHM, 1958, p.145.

[2] - Hanna Arendt, Over Geweld (On Violence), trad. Rob Essen, Atlas contact. Amsterdam. 2019, p.12.

 

إن دراسة أية قضيّة اجتماعيّة كانت أو سياسيّة أو دينيّة أو ثقافيّة أو اقتصاديّة أو فنيّة أو أدبيّة.. الخ، تتطلب بالضرورة الاتكاء على وسائل معرفيّة عديدة ترتبط بهذه القضيّة أو تلك، كاللغة وأسلوب التعبير والمصطلحات، أو ما يسمى قاموس المصطلحات والمعاني المتعلق بالظاهرة موضوعة البحث والدراسة، ثم ضرورة معرفة طبيعة الظاهرة التي يراد الاشتغال عليها، وآليّة عملها وتكوينها وسيرورتها وصيرورتها التاريخيتين، ثم طبيعة الحامل الاجتماعي لها ومهارته وخبراته، وغير ذلك. فمناهج البحث إضافة لكونها تتضمن أساليب البحث والتقصي، فهي أيضاً تبين لنا أهداف البحث وضبط آليّة العمل عند تناول الطاهرة، أي دراستها مهما كان نسق هذه الظاهرة. وعلى هذا الأساس نقول: إن غياب المنهج في البحث وخاصة المنهج العلمي العقلاني النقدي الحيادي، سيوقعنا في فوضى البحث والمعرفة معا. حيث ستسود في عمليّة البحث الذاتيّة والحدسيّة والشكلانيّة، والمواقف الذهنيّة، والموروث الفكري والنفسي والأخلاقي، إضافة للمصالح الشخصيّة أو الطبقيّة التي يتبناها الحامل الاجتماعي، وكذلك الكثير من الرؤى التي لا مكان للعقل والتجربة والنقد فيها.

في المفهوم:

المنهج في ملاك المفهوم، هو مجموعة الخطط والأساليب والطرائق التي تُستخدم لتحقيق أهداف ومصالح محددة عامة أو خاصة. وتُعرف مناهج البحث أيضاً بأنها الأساليب والخطوات التي يتم استخدمها من أجل رصد الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة والفلسفيّة والفنيّة والأدبيّة والمعارف موضوع البحث، وذلك من أجل فحص هذه الاكتشافات والتأكد من صحتها، ومن ثم يتم إكمالها أو تأكيد صحتها أو نفيها، ولكي يقوم الباحث بهذا الأمر يجب عليه أن يتبع أحد الطرق أو المناهج الرصديّة أو التجريبيّة التي تصلح للقياس. والمناهج وفق هذا المعطى ستتعدد بناءً على طبيعة الأهداف والمصالح المراد الوصول إليها، سياسيّة كانت أو علميّة أو أدبيّة أو فنيّة أو إداريّة. ولمناهج البحث العلمي أهميّة كبيرة أيضاً تكمن في عدة أمور منها :

1-  كونها تشكل وسائل بحثً منظم لا تأتي عن طريق المصادفة، بل تأتي نتيجة نشاط العقل والإرادة الإنسانيّة. 2- هي ذات بعد  نظري، وذلك لأنها تقوم بالاعتماد على النظريات لغايات إدراك الأشياء المطروحة للبحث والدراسة، واخضاع مواضيع البحث والدراسة للاختبار والتجربة بالضرورة. فبدون التجارب والفرضيات لا يبقى للبحث العلمي المنهجي أي خاصيّة علميّة، لذلك فهو يعتمد عليها بشكل كبير. 3- كما يعد البحث العلمي القائم على المنهج، بحث حركي وتجديدي وذلك بسبب تطويره المستمر للمعرفة العلميّة، من خلال البحث المستمر من أجل إضافة معلومات لهذه المعرفة. وهناك في الحقيقة مناهج معرفيّة كثيرة تستخدم في أكثر العلوم الإنسانيّة مثل المنهج الوصفي، والتاريخي والتاريخاني، والمادي التاريخي، والمنهج التجريبي والاستقرائي، والبنيوي.. وغير ذلك.

أما عنوان موضوعنا المراد بحثه هنا فهو المناهج المتعلقة بدراسة الجوانب السياسيّة والفكريّة بشكل عام، وما يتعلق منها في قضايا نهضة الشعوب وتقدمها.

نقول في هذا الاتجاه: إذا كان معظم من اشتغل ولم يزل يشتغل على قضايا النهضة والتقدم من أحزاب ومثقفين ومفكرين وسياسيين في العالم الثالث ومنه وطننا العربي، يقر أو يعترف بتخلف واقع دول ومجتمعات العالم الثالث، وأنه يعيش – أي العالم الثالث - حالة فوات حضاري في وجوديّه المادي والفكري، وإن هناك أمماً أو شعوباً أو دولاً قد سبقت هذا العالم الثالث في مجال التطور والتنمية الماديّة والفكريّة، إلا أن الكثير ممن اشتغل على قضايا نهضته وتقدمه ظل ينظر في مسائل تجاوز تخلف ومعوقات هذه النهضة من خلال غياب المنهج العلمي من جهة، أو من خلال التعامل مع مناهج فكريّة متعددة تم الاشتغال عليها فيما تم رسمه من خطط وأساليب تفكير وعمل، اعتقد المشتغلون عليها أن فيها يكمن طريق النهضة والخلاص من مأزق التخلف الذي يعشه العالم الثالث  ونحن العرب منه، وقد تم التعامل مع هذه المناهج في أغلب الأحيان وفق سرير بروكوست(1) أو وفق عقلية اليسار الطفولي الحرن(2). حيث عملوا على ليّ عنق الواقع كي ينسجم مع الأطروحات النظريّة أي الأيديولوجية التي يتضمنها هذا المنهج أو ذاك. هذا وقد وجد المتابعون لمسألة النهضة، أن هناك من أخذ بالمناهج الماديّة مثلاً، كالمنهج المادي التاريخي الجدلي، وأن هناك من أخذ أيضاً بالمناهج المثاليّة، كالمنهج المثالي الذاتي القائم على الرؤى الذاتية المنفردة والمعزولة عن محيطها الاجتماعي أو الموضوعي بشكل عام، أو من اعتمد على المنهج المثالي الموضوعي، الذي يقول بأن هناك قوى خارج إرادة الإنسان تفرض عليه أن يسير في هذه الحياة، إن كان من منطلق ديني، أو حتمي طبيعي ميكانيكي. فكل منهج من هذه المناهج له حوامله الاجتماعيّة، مثلما له مواقفه الأيديولوجيّة التي تشكل البعد النظري والعملي والمصلحي الداعم لهذا المنهج، بل إن كلاً من المنهج والموقف الأيديولوجي يشكلان وجهين لعملة واحدة في الحقيقة. فمن يأخذ بالمنهج المادي التاريخي نراه يقسم الواقع الذي يتعامل معه إلى بنائين، تحتي ويشمل قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج وبناء فوقي ويمثل مجموعة الرؤى والأفكار والمبادئ والقوانين والرؤى التي تعبر عن درجة تطور البناء التحتي، ثم هو ينظر أيضاً إلى تلك العلاقة الجدليّة ذات التأثير المتبادل بين مكونات البناء التحتي مع بعضها من جهة، وبين التأثير المتبادل أيضاً بين مكونات البناء الفوقي مع بعضها من جهة ثانية، وكذلك بين كل مكونات البنائين مع بعضهما في سيرورتهما وصيرورتهما التاريخيتين، أي في حركة وتطور وتبدل مكونات البنائين من جهة ثالثة. أما الموقف الأيديولوجي أو النظري الداعم لهذا المنهج فهو تبني الاشتراكيّة كطريق للتنمية والتقدم، والحوامل الاجتماعيّة لهذا الطريق تتوزع ما بين الطبقات الكادحة ممثلة بالعمال والفلاحين وتحالف قوى الشعب العامل ووصولاً إلى البرجوازيّة الوطنيّة. وهذا الموقف المادي الجدلي يختلف عن موقف المنهج المثالي، وأيديولوجيته الداعمة له وهي الليبرالي، وحواملها الاجتماعيّة التي غالباً ما تكون من القوى البرجوازيّة، وهي قوى تجد في السوق الحرة الاقتصاديّة عالمها وحركتها ونشاطها، بكل ما تعبر عنه هذه السوق من فوضى الإنتاج، وما يقوم على هذه الفوضى من استغلال لجهود الآخرين وتفاوت في توزيع الثروة الوطنيّة، ومن منافسة واحتكار للسلع، واستلاب وتغريب وتشيئ للإنسان.

أما لو أخذنا بعض المناهج المثاليّة الأخرى كالمنهج المثالي الجبريّة على سبيل المثال لا الحصر وبخاصة الديني منه، لوجدنا أن هذا المنهج يقر بأن هناك قوىً خارج عالم الإنسان تؤثر في حياة الفرد والمجتمع كما بينا أعلاه، وأن هذا التأثير غالباً ما يكون بشكل حتمي ليس للإرادة الإنسانيّة فيه أي دور، وإن وجد هذا الدور الإرادي فهو ضعيف لا يتعدى خصوصيات عالم الفرد الروحيّة والسلوكيّة، لأن كل شيء قد حدد حدوثه بكتاب محفوظ، إما من قبل قوى خارج نطاق الطبيعة، أو من قبل فكرة مطلقة قد تمثل مفهوم الحتميّة الميكانيكيّة لسيرورة الظواهر وصيرورتها. أما الموقف الأيديولوجي أو الفكري الأكثر حضوراً في عالمنا فهو العقيدة الدينيّة على الغالب، والحوامل الاجتماعيّة لهذا المنهج هي حوامل خليطة من كل شراح وطبقات المجتمع، ففي الوقت الذي تجد فيه القوى الاجتماعيّة المسحوقة خلاصها من شقائها واستغلالها وتحقيق عدالتها في هذا الدين (لا حل إلا في الإسلام)، تجد فيه القوى الاستغلاليّة كذلك عوامل قوتها وتبرير سيطرتها واستغلالها للآخرين. وذلك من خلال تفسير وتأويل نصوص هذه الأيديولوجيا وفقاً لمصالح كل شريحة أو طبقة من هذه الحوامل. أما طبيعة تحليل الظواهر في هذا الاتجاه، فتقوم منهجيّاً وخاصة في مجال الفقه على اللغة، والحدث التاريخي (خصوص السبب) وعلى الاستدلال والمنطق الصوري والحدس والاستنتاجات المنطقيّة. وهذا المنهج بعمومه يلغي حرية الإنسان وإرادته، فالحلول قد رسمت بشل مسبق ومن خارج إرادة الإنسان وبكل مستوياتها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة.

بشكل عام نستطيع القول هنا: إن طبيعة الحوامل الاجتماعيّة الحاملة لهذه المناهج ومصالحها بشكل عام، تلعب دوراً كبيراً في تبني المنهج والبعد الأيديولوجي أو النظري الذي يمثله، وبالتالي يحقق لها مصالحها، او ما تدعي الاشتغال عليه من مواقف فكريّة وسلوكيّة ومنها نهضة المجتمع وتقدمه.

وبتعبير آخر نقول: إن كل حامل اجتماعي له مصالحه التي تحدد بالضرورة توجهاته الفكريّة والعملياتيّة معا. فالقوى الوطنيّة والقوميّة والتقدميّة التي تكره الاستغلال والتفاوت الطبقي الحاد والتجزئة القوميّة نراها في الغالب تميل نحو تبني المنهج العلمي والعقلاني في تطبيق أفكارها الداعية إلى العدالة والمساواة والحرية، فهي مع الملكيّة العامة ومع المواطنة والتعدديّة السياسيّة ودولة القانون وتحرير المرأة وغير ذلك، بغض النظر هنا عن شهوة السلطة ومنافعها وتأثيرها على بعض هذه الحوامل، وما تمارسه هذه الحوامل من انحرافات عن الخط المنهجي والنظري/ الأيديولوجي الذي تتبناه. أما الحوامل الاجتماعية الحاملة للمناهج المثاليّة، فهي في الغالب تميل إلى الملكيّة الخاصة والدفع باتجاه الروح الفرديّة والحفاظ على البنى الطبقيّة القائمة بكل إشكالاتها. هذا بالنسبة للحوامل الاجتماعيّة المتبنية للمناهج المثاليّة المتعلقة بالفكر الليبرالي، وأدوات هذه المناهج الليبراليّة تقوم بالغالب على الذاتيّة والارتجال والحدس والوعظ  والضمير وغير ذلك. أما الحوامل الاجتماعية المتبنية للمنهج المثالي بصيغته الدينيّة الوثوقيّة، فهي حوامل تتمسك بالنص الديني وما شرع له هذا النص من مسائل تتعلق في حرية وسعادة الإنسان، وهي لا تملك من شيء سوى العمل على تطبيق ما تطالب به هذه الشريعة، ووفقاً لصيغتي الحلال والحرام الواردة في النص المقدس أو الحديث أو ما أجمع عليه رجال الدين في مراحل تاريخيّة محددة، وبالتالي كيفيّة الوصول إلى هذا الحلال والابتعاد عن الحرام، ففي الوقت الذي نجد من الحوامل الاجتماعيّة للعقيدة مَنْ يستخدم مفهوم الدولة والسلاح كوسائل فاعلة لتطبيق العقيدة أو الأيديولوجيا الدينيّة وتشريعاتها في مسألة المعاملات، وهم أصحاب الدين السياسي الجهادي، نجد في الوقت الآخر من يعتقد بأن الطريق الصحيح لتحقيق شريعة هذا الدين هو التمسك بالفضيلة، أي ترك مفاسد الحياة والابتعاد عن كل ما يدنس الروح والجسد، وذلك عبر الانعزال والمجاهدة على الطريقة الصوفيّة للوصول إلى الحقيقة المطلقة التي تربط الفرد بربه، علماً أن هذا التوجه الأخير يساهم في زيادة التخلف وتعميقه كونه يبعد الإنسان عن واقعه وممارسة حياته الطبيعيّة، ففي التصوف يظهر عجز الإنسان عن مواجهة واقعه والهروب من الأرض إلى السماء.  هذا وقد ظهر لنا في الآونة الأخيرة بعض المنظرين السياسيين الذين يدعون إلى تطبيق نظرية التفريغ الأيديولوجي وحتى السياسي في عالمنا العربي، من منطلق أن هذه الأيديولوجيا ومنها ذات البعد القومي الاشتراكي، قد فشلت هي وحواملها الاجتماعيّة وأحزابها ونخبها الثقافيّة في تطبيقها على أرض الواقع، ولا بد لنا إذا أردنا تحقيق الوحدة أن نعود إلى العنصر الثقافي والفني من غناء وموسيقى ومسلسلات وسرديات قصصيّة وروائيّة دون ربطها بالأيديولوجيا أو السياسة، فهذه هي المشروع الوحيد المتبقي لنا لتحقيق وحدة هذه الأمة ونهضتها، فهذه المسلسلات تدخل كل بيت دون إذن مسبق أو جواز مرور. وهذه الكتب الأدبيّة يقرأها المواطن العربي دون معرفة دار نشرها... الخ. فبمثل هذه الفوضى الفكرية غير العقلانية الما بعد حداثويّة، التي لا يميز فيها دعاة هذا الفن والثقافة، أن الفن والثقافة ذات بعد أيديولوجي وسياسي بالضرورة، فكل الأعمال الأدبيّة والفنيّة لها حمولة أيديولوجية ذات بعد طبقي أو ديني أو سياسي أو عرقي أو طائفي، وبالتالي نجد أن أنظمة الحكم لا تسمح بتداول هذا المسلسل أو ذاك على شاشات تلفازها إذا لم يتفق والموقف الأيديولوجي لسياساتها مهما تكن، وكذا الحال في منع دخول هذه الرواية أو تلك وتداولها داخل الدولة. وفي مثل هذه الحال لن يسمح بنشر وتداول إلا الفن الرخيص والأدب الرخيص الاستهلاكي الذي يفقد أي مضمون قومي أو وطني  أو إنساني.. أي لن يُسمح إلا للفن والأدب الذين يتعلقان بالتسلية والترفيه وبالزواج والطلاق والحب والخيانة الزوجيّة، أو المسلسلات التاريخيّة المفرغة في الحقيقة من مصداقيتها، بل والمشوهة للحقيقة في أحيان كثيرة. وهذا في النهاية هو الموقف السياسي والأيديولوجي العبثي الذي يترك المتلقي في دوامة مفرغة لا يعرف ماذا يريد، وما هو طريق خلاصه ونجاته من عبثيّة سياسي ومنظري ما بعد الحداثة في عالمنا العربي.

أمام هذه المواقف أو المعطيات المنهجيّة، يتبين لنا بأن للمنهج العقلاني النقدي وحوامله والمواقف الأيديولوجيّة أو النظريّة التي تسيج هذا المنهج أو ذاك، قادر برأيي على تبيان سبل ووسائل المعرفة العقلانيّة النقديّة، أي معرفة الطرق والأساليب التي علينا اتباعها للوصول إلى نهضتنا أو سعادتنا وعدالتنا، مثلما تبين لنا القوى أو الحوامل الاجتماعيّة الحقيقيّة المنوط بها تحقيق هذا الفعل النهضوي.

ملاك القول: إن تجارب الماضي النهضويّة وما حققته مناهجها الفكريّة والعمليّة والسياسيّة، وبما تتضمنه من مواقف فكريّة أو أيديولوجيّة، قد أثبتت فشلها وعجزها لأسباب قد لا تتعلق بهذه المناهج المثاليّة وبآليّة عملها فحسب، وإنما تتعلق بشكل أكثر دقة ومصداقيّة بالحوامل الاجتماعيّة ومصالحها أكثر من أي شيء أخر، لذلك لا بد لنا من إعادة النظر بطبيعة المناهج التي اشتغلنا عليها سابقا، فنحن بحاجة ماسة في الحقيقة إلى المنهج العقلاني النقدي والتنويري فكراً وممارسة وإلى حامل اجتماعي مؤمن بوطنه وأمته وضرورة خروجها من مركب مأزق تخلفها البنيوي ... نحن بحاجة للمنهج والفكر الذين يعملان على استيعاب كل من يؤمن بوطنه ومواطنيته، ويؤمن بالآخر نداً شريفاً له ومن حقه أن يشارك في إدارة شؤون وطنه دون إلغاء أو تكفير أو استفراد بالسلطة... نحن بأمس الحاجة للمنهج العلمي ونظريته العلميّة التي تحتوي في مضمونها قيم العلمانيّة والديمقراطيّة، وأن الوطن للجميع بغض النظر عن دين الفرد وعرقه ومذهبه وعشيرته وقبيلته. نحن بحاجة للمناهج العلميّة التي تؤمن بالحركة والتطور والتبدل، وأن الواقع المعيوش هو من يحدد طبيعة العلاقات الاجتماعيّة والقوى الطبقيّة المتحكمة في هذه العلاقات وتجلياتها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، وبالتالي مصالح هذه القوى هي من يحدد توجه هذه العلاقات نحو العدالة والمساواة والتشاركيّة وتداول السلطة، واحترام كل مكونات المجتمع وجعل المواطنة هي الأساس. ولا بد لنا من كشف كشف التوجه الليبرالي الداعي إلى الحريّة التي تدعم اقتصاد السوق الحر وتسليع الإنسان وتشيئه واستلابه وتغريبه والمتاجرة بحريته. هذا عدا الكشف أيضا عن طبيعة الأنظمة الشموليّة في دول العالم الثالث وقهرها لشعوبها  وتفردها بالسلطة. التي تعمل على تجهيل الفرد والمجتمع، وإدخالهم في نفق من الضياع الفكري والعملي معاً، خدمة لمصالح قوى سلطويّة لا يهمها مصالح الشعب، بل هي مستعدة أن تحول شعوبها إلى حيوانات، يعيشون في أوطان تعد في واقع أمرها حدائق حيوانات، طالما ذلك يحقق لهم استمرارهم في السلطة.

***

د. عدنان عويّد

 

يُعرف أن الفكر هو المعرفة التي يكونها الإنسان عن موضوع معين أو بدونه، إذ أنَّ وجود الموضوع بوجود الفكرة، هذا هو التفكير الاعتيادي للإنسانية، أمَّا وجود الفكرة بدون الموضوع فهو التفكير الإبداعي، والإبداع نوعين إلهي  من عدم، وإنساني من شيء.

 وتُرسم ملامح الفكر الاعتيادي أو الضروري للحياة اليومية بيد الثقافة والمجتمع والدين والسلطة، وهو لذلك يكون مقيد بإطار يحتوي المعاني الثقافية لكل مجتمع، لكن الفكر الحر أو الإبداعي يرتبط بذات الإنسان وهو يعتمد على الخيال وتصورته في بناء المواضيع وخلق الأفكار.

فالفرق بين المجتمع المتقدم والمجتمع المتأخر، هو في طبيعة تناول الفكرة وعرضها، أمَّا يكون عن طريق الفكر الاعتيادي وهو خاضع لمقيد الثقافة وجحيم العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية أو سلطة العقل الديني، فتذوب الفكرة في تشابك أوتار الثقافة المقيدة، وهذا شبيه ما تجده من تناول الأفكار في المجتمع الافتراضي في منصات التواصل الاجتماعي لذلك هذه المجتمعات لا تتقدم، لأنها  تعيش الوهم.  أمَّا إذ كان عن طريق الفكر الإبداعي فيفسح المجال لحرية الفكرة لكي تتطور وتثمر. وكل ذلك التفاوت بين الشعوب سببه ليس الفرد أو  المجتمع، بل السبب  في طبيعة  أو أسلوب تناول الأفكار أو المعرفة.

  معروف عن الغرب أنهم يخضعون الأشياء للعقل، أمَّا الشرق يخضعون الأشياء للعاطفة، الأفكار مع الغرب تخضع للملاحظة والتقييم العقلي لذلك تتطور وتثمر، أمَّا الأفكار مع الشرق تخضع للشعور والعاطفة والإحساس لذلك تجدها غير مثمرة، لأن الشعور الفردي يتحكم فيها. فتجد الشرقي يعمل مع فورة الدم والشعور وبعدها ينتهي، فيكون سهل التحكم به من قبل الغير. فأغلب بلدان الشرق وخاصة العرب متحكم بها وليست حاكمة.

إذ أنَّ الفرق  واضح بين الأمم من حيث طبيعة تقدمها وتطورها من جميع النواحي، ويرجع ذلك من حيث  المنهج الذي تربة عليه الأفراد، أمَّا أنْ يكون موضوعي أو ذاتي،و كل منهج يتسم بسمات يصطبغ به الموضوع الخاضع للنقد والتمحيص والفهم.فالفهم إذا كان موضوعي فهو عقلي،أمَّا إذا كان ذاتي فهو شعوري.

فكل أمه لها منهجها الخاص في استثمار الأفكار وتعليمها، ففي الفكر الفلسفي يتسم الأمريكيون بالمنهج العملي النفعي، أمَّا الإنكليز بالمنهج التجريبي، والألمان بالمنهج الروحي، والفرنسيين بالمنهج العقلي، والروس بالخيال، أمَّا العرب يتصف بالمنهج العاطفي القومي. كما أنَّ لكل عصر منهجه الخاص الذي يميزه باقي العصور الأخرى، فالعصور الأولى روحانية وسحرية، لأن حضارات الشرق كانت متقدمة، أمَّا مع اليونان فيما بعد كانت الحضارة عقلية، وفي العصور الوسطى تميزت بارتباط الفكر بالدين، سواء كان مسيحي أو مسلم، والعصور الحديثة عصر العلم والصناعة والاكتشافات العملية والأفكار التي غيرت مجرى تاريخ الانسانية، أمَّا المعاصر فهو العصر الرقمي. فالفكر الإنساني له حركتان مثل الأرض الأولى حول الأمم وتسمى بالتاريخ تعتمد على مجموعة عوامل سياسية أو اقتصادية أو دينية أو حروب، أمَّا الثانية حول نفسه وتسمى الحركة التقدمية وابطالها أشخاص مبدعين .

لذلك ما يميز الفلسفة كفكر أنها ليست تاريخاً، بل حركة تقدمية تؤمن بالنقد وتقبل بالتعددية والاختلاف، وتخضع كل شيء لحكم العقل. لكن هل يمكن أن تتخلص الفلسفة أو الفكر التقدمي من حركة التاريخ ؟

يرى عالم النفس (كارل يونغ)من خلال نظريته النقدية التي أسماها باللاوعي الجمعي أو اللاشعور الجمعي أنَّ الإنسان يحتفظ وراثياً بمعارف ما قبل التاريخ، وكما هو معروف لكل أمة طبيعتها وثقافتها وأسلوبها، وهذا ينطبق على الفلاسفة عبر تاريخ الفكر الفلسفي، لذا لكل أمة فلسفة تتصف بثقافتها، لأن الفيلسوف أبن بيئته والمسائل التي يطرحها لغرض المعالجة صحيح انها تخص مجتمعة، إلا أن ما يميزها  أنها شمولية وتناقش القضايا  الكبرى للإنسانية في كل العصور، فالفلسفة لا تموت كونها فكر كُلي ومُتجدد ومرن في كل زمان ومكان. بل لأن الفلسفة حتى تاريخها قائم على النقد والتمحيص وإعادة الفهم وفق متغيرات كل عصر وكل مجتمع. فالفلسفة نقد داخلي لتاريخها وهو يقوم عليه التفلسف، وخارجي الذي تتأسس عليه النظرية الفلسفية للعصر. فالأول خاص لعامة المتفلسفين أمَّا الثاني خاض بالفلاسفة. وعلى ذلك يجب الانتباه لطبيعة التفكير في مجتمعنا لغرض التقدم .

***

كاظم لفتة جبر – جامعة واسط / العراق

ليس التطور البايولوجي وحده يثير التحديات أمام الرؤى التقليدية المسيحية، وانما الفهم العلمي لتطوّر الكون ايضا يثير قضايا امام الناس المؤمنين. طبقا لكتاب سفر التكوين، خلق الله الكون وجميع الأجرام السماوية من شمس وقمر ونجوم في ستة أيام. لكن طبقا لعلماء الكون المعاصرين بدأ الكون بانفجار عظيم Big Bang تكونت بعده النجوم والمجرات ببطء عبر بلايين السنين. تماما مثلما اقترح دارون ان تطور الحياة على الارض كان عملية طويلة وبطيئة ومتدرجة، كذلك يعتقد علماء الكون الآن ان كوننا يتطور بعمليات بطيئة وطويلة.

لكن اذا كان التفسير الإنجيلي والتوضيح العلمي لا ينسجمان في جميع التفاصيل، فهناك أوجه تشابه بينهما. ربما الأكثر أهمية، ان كلاهما يفترض مجيء الكون الى الوجود من لاشيء في لحظة محددة من الماضي السحيق(1). في الحقيقة، العديد من الدينيين المؤمنين المعاصرين يعتقدون ان الانفجار العظيم يعطي تأكيدا للرؤية المسيحية في الخلق من العدم (ex nihilo). ومن المثير للاهتمام، انه عندما اكتُشف دليل الانفجار العظيم لأول مرة في أواخر العشرينات من القرن الماضي (باستنتاج ادون هابل Edwin Hubble بان الكون كان يتوسع)، فان العديد من العلماء رفضوا تلك الفكرة لأنهم اعتقدوا انها تنطوي على مسحة دينية. اذا كانت للكون بداية، عندئذ يجب ان يكون له خالق. لكن هذا سيكون غير علمي. في ذلك الوقت، كانت الرؤية السائدة ان الكون وُجد منذ الأزل في نفس الحالة وهو لهذا ليس له بداية.

اكتشاف هابل بان الكون يتوسع وضع نهاية لرؤية الحالة الثابتة للكون واقترح ان الكون له لحظة بداية محددة. علاوة على ذلك، هذه الرؤية نالت الدعم من آينشتاين في نظرية النسبية العامة التي عرضت مجموعة أنيقة من المعادلات الرياضية لوصف الكيفية التي نشأ بها الكون من لاشيء. من المفارقة، ان الامور انقلبت الآن مع ظهور الجدل الحالي لبعض العلماء في ان الانفجار العظيم يُظهر ان الكون خرج الى الوجود بعمليات طبيعية خالصة لا تحتاج الى قوة اسطورية متجاوزة للطبيعة.

هذه الرؤية جرى التعبير عنها من جانب عالم الفيزياء البريطاني الشهير ستيفن هاوكنك. في كتابه الشهير "تاريخ مختصر للزمن"، اقترح هاوكنك انه اذا كانت النظريات الكونية الحالية صحيحة عندئذ فان خلق الكون سيتم توضيحه بالكامل بقوانين الفيزياء. وفي هذه الحالة، يسأل هاوكنك، أي دور سيكون للخالق؟.

لكن مرة اخرى، اذا كان هاوكنك يرى ان العلم يستبعد الله من الصورة، فان آخرين يتخذون رؤية مختلفة. الفيزيائي بول دافس Paul Davies،مثلا، كتب بان جمال ونظام قوانين الفيزياء ذاتها يشير الى انه يجب ان يكون هناك شيئا وراء تلك القوانين، شيء يقود الجمال الرياضي والنظام في الكون. ونفس الشيء بالنسبة للفيزيائيين جون بولكنجهورن John Polkinghorn  وجون بارو John Barrow اعتقدا ان التوازن الرياضي والمنظّم للكون وبشكل مثير للإعجاب يشير الى وجود قوة ذكية مسؤولة عن كل ذلك. ستيفن هاوكنك ذاته ربط الإله بقوانين الفيزياء. خاصة، هو ومعه دافيس ربطا الإله بما يسمى "نظرية كل شيء"- نظرية واحدة يأمل الفيزيائيون انها في يوم ما ستوحّد النسبية العامة مع ميكانيكا الكوانتم، وبالتالي جلب كل الكون تحت مظلة رياضية واحدة كبيرة. هذه النظرية هي الهدف الكبير للفيزيائيين النظريين المعاصرين، وهذه هي التي ربطها هاوكنك بـ "عقل الإله".

ربما اكثر من أي علم، علم الكون هو الحالة التي فيها يرى المرء او لا يرى الله منعكسا في الصورة. في النهاية، العلم لم يثبت ولم ينفي وجود الله. في أغلب الأحيان، يمكن قراءة الدليل العلمي في كلتا الحالتين.

***

حاتم حميد محسن

..........................

www.pbs.org/faithandreason/intro/cosmo-frame.htm

الهوامش

(1) حسب تقرير الـ BBC في 6 Jan 2022، ان أول جسيمات للمادة كانت بروتونات ونيترونات شكّلا مع بعضهما نواة ذرية. هذه الجسيمات جاءت الى الوجود في جزء من عشرة آلاف جزء من الثانية بعد الانفجار العظيم. قبل هذه النقطة لم توجد أي مادة بأي معنى للكلمة.

"وحده الفن يُعطينا ما نعجز عن الوصول إليه، إنه يكسر القيود التي تحيط بنا من كل جانبٍ ..."

القطيع تكوين بشري لاحم حول كيان الإنسان عقلاً وجسداً، أي أنَّه يُقيد الطبيعةَ والحياةَ الكامنتين فيه، لا يترك مساحةً لحركته ولا حتى لآفاقهِ الحُرة. القطيع هو (قدرتنا الفذة) نحن الآدميين على أنْ نكون عبيداً. أجل الحرية استثناءٌ مرواغ على قاعدة طويلةٍ هي العبودية. وأقول قدرتنا الفذة، لكونها طاقةً وافرةً على الاحتمال. فلا توجد كائناتٌ تصل إلى مرحلة التحمُل الواعي مثلما يفعل البشرُ. ربما ستنفُر الكائنات الأخرى من القيود، ربما ستتململ من التهديد، ربما ستهرع إذا شعرت باقتراب أحدٌ منها، وربما ستتقافز عصياناً على الحواجز والأسوار!!

ولكن الآدميين يرغبون في ذلك بكامل قُواهم العقلية والنفسية. وقد يستنفدون جُل حياتهم داخل قطعانٍ تؤدي إلى بعضها البعض، بل إنَّ الاحتمال قد لا يكون موضُوعاً لوعي الإنسان الغارق في هكذا حالةٍ. هناك دائماً صُورة براقة تُؤطر المشهدَ، وتضعنا تحت غطاء الجُموع الواقي. لقد باتت القيود تجذبُ إليها قُطعاناً من كلِّ حدبٍ وصوبٍ. أنت وأنا ذاهبان - في حفلات تنكرية - إلى الالتحام بقطيعٍ ما دون تراجع. انقلبت القاعدةُ في عصر الديجيتال المفتوح: لم يعد الإنسانُ يقدر على تبعات فرادته وقُواه الحرة. عاد الناسُ بالحرية إلى عصر الحجر، عصر الطين كأصل لم ننفك عنه في أعقد الظروف المتأخرة.

السؤال الحيوي: هل ثمة أمل للخلاص من القطيع؟

تطرح بعض لوحات الفنان البولندي توماس كوبيرا kopera فرصةً لخلخلة الفرد من هيمنة القطيع، تضعه ولو مرةً على شفى الانفلات. تُصور اللوحات تلك العملية الوجودية على نطاق مصيري وتأصيلي ليس أقل. إنَّها ضرب من سرد الحقائق وتاريخ من تشكيل الطين لدينا نحن أبناء آدم، وفي الوقت عينه تتداعى التفاصيل عبر قراءة الواقع وأرشيف الآدميين في الحياة. بالعودة إلى التمثيل الرمزي، تعد لوحات توماس كوبيرا رتماً فنياً يشتغل على ما بين أيدينا، أنها تجسدنا جمالياً من الداخل بفرشاة حميميةٍ، فرشاة تنغمس فما نمتلك من موروثاتٍ غائرةٍ بعمر الكون. وذلك يبدو أكثر جلاء في لوحة (الخروج من القطيع). فعلى المدى البعيد، تستنطق تشكيلاتها الفنية حياتَنا بما حدث لوجودنا، وكيف يكون الإنسان منظوراً إليه عبر هذا الطوق البشري؟!3631 الخروج من القطيع

الفن يقول فلسفياً ما تنوء الكلمات عن حمله. الفنون إحدى طاقات التعبير عن الفلسفة، اللوحات ضرب من الرسم الفلسفي بالمعاني والمضامين الفكرية. وحدُه الفن يستطيع أن يملأ عالمنا بكل ما تعد به أفكارنا العميقة في بضع لوحات أو لوحة واحدة. كل لوحة هي نص فلسفي مرسوم بيراع العقل اليقظ الذي يُؤشر دون أنْ يثرثر.

الطين

يبدو أنَّ الطين هو المادة القديمة للإنسان قدمَ الحياة، وليس يبعد عن بالنا الثقافي كون الطين يشد الإنسان إلى أسفل. والأسفل هو وزن الكتلة التي تضعه في متصل من الغرائز والرغبات والنوازع. وفوق هذا وذاك لا تترك المادة له فجوات حُرة أخرى، بل ستربطه بعملية من التماثل والتطابُق بين الأفراد. إذا رأينا طيناً، فلن يكون نثرات من القطع المتباعدة، لكنه ممتدٌ تحت البصر أو داخل تشكيلات طبيعية أو عبر مبان يشيدها الإنسانُ.

الشمع والطين – كما يظهران في لوحة كوبيرا- هما جدل الأصل والثقافة، المادة والوسيلة، الكينونة والكائن، وهو ما شكّل تاريخ العالم والحقائق الإنسانية. كلُّ فردٍ ينطوي على أصل بعيد ويقطع رحلته ثقافياً نحو المغايرة، إنَّ الفرد - أيا كان موقعه- لا يخلو من الطين والشمع. دلالة الطين ترمز إلى المادة الأولى للخلق والغرائز والكيان، بينما مادة الشمع، فهي رمز الهشاشة والإستنارة، وهي ما تأتي منها الشموع المضيئة كأيقونات للرؤية. فقط ينقص الشمع فتيلٌ قابل للإشتعال حتى يضيئ ما حوله. وتلك إمكانية مرسُومة في جوف اللوحة وتنعكس على الأجساد القريبة التي تحملت منازعة القطيع. وهي الإضاءة التي تميز وجه اللوحة، لتذيب تكلس الأشكال وتسمح للإنسان بإذابة كتل القطيع.

وسط الانشداد والإنخلاع من القطيع تقفز في منتصف اللوحة شمعةٌ من جنس الطين كسببٍ في إمكانية التحرر. لوحة كوبيرا بالغة التعبير عن تأثير مواد القطيع ارتباطاً وانخلاعاً عنه. اللوحة تريد أنْ تقول (لنا وبنا) أشياء ومعاني كثيرة في الآن ذاته. تقول لنا شيئاً مهماً يتعلق بوجودنا، لكونها تقدمُ مشهداً هو منا ونحن منه. فلا يُوجد بشر لم يمروا بحاشية القطيع، ولم يكونوا جزءاً لا يتجزأ من وجوده العام. وكذلك نحن منه، لأنَّ هناك حنيناً للإحتماء بالقطيع، انجذاباً للشكل على حساب المضون، تطلعاً للحضور معاً دون تحسب للنتائج. هذا الحنين رباط مقدس يصعب فصم عراه، ولذلك ترك الفنان بصمةً هي شكل الخلاص (الخروج) من القطيع.

إنه الخلاص العنيف لا السهل ولا الاعتيادي. كلُّ خلاصٍ من ربقة القطيع يتمُ بصعوبة بالغة إنْ لم تكن مستحيلةً. محاولة مستمرة في شكل التحرر لا الحرية المُعطاة. وكأن توماس كوبيراً حين يرسم شخصاً نازعاً لوجوده من القطيع إنما يؤكدُ على صعوبة الخروج. وهو الخروج الذي يتم بمخاضٍ وجودي عسير، مخاض كُلي يصل إلى حد الصراع المُنهك لكافة القوى.

علينا أنَّ نلاحظ كون انتزاع الذات من القطيع عملاً وجودياً على الأصالة. لن يقوى عليه سوى الذي يتحمل مسئولية الكينونة. حمل ثقيل يتحقق بحركة أنطولوجية أصيلة من الفرد في مقابل حركة بنائية من القطيع، حيث يعيد- إذا شعر بالتهديد- امتصاص وجود الأفراد. فالقطيع يظهر كتلةً واحدةً مثلما كان غير موجودٍ إلاَّ بهذه الطريقة. وعليه سيصبح الفردُ في المواجهة مباشرةً، وقد لا يجد مفراً من خوض غمار معركة المصير حتى الرمق الأخير. ليست هناك مهادنة ولا توقف.

عادة سيشدد القطيع قبضته في محاولة لإستعادة الفرد الشارد، وستكون ثمة مقاومةٌ على طول المدى. وربما لن يجد الفردُ خروجاً دون مواصلة المقاومة، حتى فيما لو نجح في انتزاع نفسه. والمقاومة تترك بصمة على كل حيوات الإنسان ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. فلن يتركه القطيع إلاَّ بالكاد أو الاستثناء النادر.

لكي ينخلغ الإنسان من انطولوجيا القطيع، عليه أنْ يمزق كلَّ الأنسخة الظاهرة والخفية التي تربطه به. وقد وثقت اللوحة ذلك التمزُق بصورة واضحةٍ. وهي لوحة تنحت العملية نحتاً، كأنّ الفنان يقصد تحويل الرسم إلى منحوتة مادية. ذلك من أجل إبلاغ المتلقي بمعنى أنَّ الفرد الذي يمزق علاقته بالقطيع قد جسّد الجانب الحجري – الصخري في المسألة. وأنه لا يوجد هكذا من غير تبعاتٍ، فالتواجد محكُوم بقوانين فيزيائية. وهي قوانين تحدد الاتجاهات وترسم جوانب الأفراد داخلياً وخارجياً.

تظهر العلاقة بين الكتلة والفرد كعلاقة شدٍ وجذبٍ، ولم تطرح اللوحة إجابةً عن سؤال الخروج من القطيع بشكلٍّ حاسمٍ. ومع صمت كهذا، لم تطرح خروجاً من التيه في جسم القطيع، ولكنها أصرت على توثيق العلاقة أثناء المقاومة. أراد كوبيرا القول: ليس القطيع كما تعتقدون مجرد صفوف متراصة ولا هو تصور مكاني مغلق، لكنه (كيان حي) يختزل سياقات الزمان والمكان. ولن يقف القطيع مكتوفَ الأيدي إزاء حركة الأفراد داخله. لأنَّه لو ترك الأمورَ هكذا لرغباتهم، سيفقد كيانه الذي دافع عن وجوده طوال الوقت.

وجوه بلا معالم

تبرز لوحةُ الخروج من القطيع وجُوه الأفراد دون معالم، هي وجوه سقطت إنسانيتها المتفردة، وباتت لحماً بارزاً فقط. وتعود الدلالة إلى صلصال الأرض الذي خُلق منه هؤلاء الأفراد. ففي طين الأرض، تتساوى جميع الوجوه وتبقى مجرد كتل من اللحم الغائم وراء ضباب الشكل العام. وجوه كأنها معماة ومعصوبة العينين تحت بصر المتلقي.3632 الخروج من القطيع

لعلَّ القطيع يمحُو آثار التميُز، إذْ يترك الافراد أجزاءً على خلفيةٍ بهماء. وإذا كان الإنسان بالأساس صاحبَ وجه، فإنه يصبحُ في مكانةٍ تتشابه مع الأشياء المادية. لقد أرجعه القطيع إلى حالةٍ من الاندماج العضوي، ليست أقل من صهر (كيان الإنسان) داخل بوتقة الجُموع التي لا ترى ولا تختلف ولا تتنوع.

جاءت الوجوهُ في اللوحة غائمةً، بل مشوهة، ذلك لأنَّ القطيع يشوه المعالم. فالأهمية لديه للتراص والشكل العام بصرف النظر عن الاختلافات. وهذا التشوة آلية أولية تفعل مفعولها الساري قي كافة التفاصيل. وضعت فرشاة اللوحة الأفراد في طابور طويل من البشر وزحام ملئ خلف الشخص الذي يريد الخروج. وليس يوجد فارق بين فرد وآخر، بين سابق ولاحق، بين مُتقدم ومتأخر. الجميع ممتثل تماماً لحركة الكل، لإيقاع الحشد، ولا يدركون أنَّه في الموضع الذي يبادلنا التشويه بتشويه أكثر عمقاً. الأمر يستدعي الأحجار في صلابتها المعهودة، حين لا تبرُز من تلقاء نفسها. الأحجار واقفة بلا حراك، لأنَّ فيزياء المواد تجسد آليات التواجد والحركة.

والوجُوه ملونة بشكل مائل إلى الزرقة الباهتة، وهي لون الأرض العتيقة والمياة الراكدة، لون حواشي لوجود فاته الزمن وفارقته الحياة. إنها مرحلة ضياع كافة القسمات والفوارق التي تولد المعاني. وبدا الأفراد واقفين وراء بعضهم البعض. وقوف دون مبرر، دون منطق، دون هدف، فالمشهد العام يضعهم هكذا. عادةً الأهداف توجد حيثما تتكتل الجموع باعتبارها رأس حربةٍ قابلة للاستعمال. وتحيل الألوان الداكنة إلى الأرض الداكنة مع مسحة من السواد. الأرض الموات إذن. واللوحة تقول: لقد تحلل الإنسان وغدا جيفةً قيد المصادفة. ولعلنا نلاحظ هذا الجو الطاغي من القِدم. إنَّ سماء وفضاء اللوحة مُعبأن بكم مهول من رائحة الوجود العتيق. غبار سحيق أشبه بغبار كوني يلف كائنات القطيع ويشكل المادة الأولى للخلق.

وفي تنويعات على لوحة الخروج من القطيع، يرسم كوبيراً بعض كائناته تمارس عماء متبادلاً، أو بالأدق تقوم بفقأ عينيها حتى لا ترى. وتبدو حركة الفقأ مقصودة ومشوبة بالاصرار على الفعل. وكأنَّها تقول لا يستحق الحياة من يترك ذاته لقطيع هو العماء نفسه. ولئن كان أحدُنا مُبصراً، فلن يطول الأمد له كثيراً. وقد يقوم أحدهم بالاطباق على الآخر من أجل الاجهاز عليه. في إشارةٍ إلى كونه أولى بالموت إذا كان يريد مواصلة المشوار حتى النهاية. في الوقت ذاته، يضرب الشخص المقابل يديه داخل أعماق مقلتيه، حتى يخرجها من جوف الأحداق.3633 الخروج من القطيع

هكذا ثمة لوحة تجسد أحدهما يقتل الآخر، بينما يفقأ الأخر عيني القاتل بشكل حاد. الاثنان مشتركان في النصف الأسفل من وجودهما، من جسدهما. الوجود والجسد هما الطين كمادة للوحة القطيع. الإيقاع نفسه والمستوى الفني نفسه الذي شكل القطيع هو ما جعل الصراع الدامي بين فردين من القطيع محتدماً. وكأنَّ كوبيراً يؤكد أن من ينغمس في القطيع ماكان له أن يحيا على نحو حر وأنه ليس خليقاً بالعيش كما يعيش الأحرار. ولنتأمل مشهد (القتل والعمى) سنجد أن وجوهي الفاعلين بلامعالم. إنَّ القتل هو مسح معالم الوجود بالنسبة للإنسان والعمي تأكيد لذلك الفعل.

ونظراً لأنَّ الاثنين مشتركان بالقطيع، فهما يعبران عن الطين، هذا الاتصال الظاهر في شخص اللوحة بالأرض. فالشخصان كأنهما فرعي شجرة مغروسة في الطين، وقد تفرعت إلى جزعين إحداهما يقتل الآخر والثاني يفقأ عينيه. أي أنهما من جنس التراب الذي يعبر عن الإنسان حين يعشق عبوديته الأصيلة. وتلك مرحلة المعاناة التي يجب أن يشعر بها شخص  من أفراد القطيع. كيف لا يعاني هذا الشخص وجوده؟ ما السر وراء احتماله هذا الوجود بالتبعية؟

النور

يظهر على وجه الإنسان المقاوم للقطيع بوادر الأضواء عن استحياء، بواكير النور الآتي من جنس ما يعاني. والنور دوماً رمز التجلي والظهور. إنه الانكشاف الذي يعطي الشخص المتمرد قدرة على التطلع. إن الفنون والمعرفة والحكمة كانت ضروباً من النور الذي أُطلق في غابر الأزمان. وكان من يُرد عيشاً في النور عليه أن يصبح فناناً أو حكيماً أو عارفاً. المعرفة هي الضوء. الحكمة نور الباطن وإشعال جذوة الروح.

ولذلك يرسم كوبيراً لون النور على وجه الشخص المقاوم للقطيع حتى يخرج، إنه يريد القول بكونه قد أدركَ، قد عرفَ، قد فطن لوجوده، لقد امتلك حكمةَ كشف مصير القطيع. وأن المعرفة لن تتسق مع الإنغماس في طين الأرض. وأن الطين سيكون شموعاً مضيئة من الآن فصاعداً. كوبيراً يكتب مضامين التنوير، العقلانية، والحرية، الذات، الحقيقة، في متن لوحاته. يحاول أن يضرب فرشاته، لكي تفضي بمتون المجتمعات العاشقة للقطعان. هناك مجتمعات لا تستطيع مواصلة العيش دون القطعان. وهناك أشخاص يريدون العيش في الظلال، كل من يعيش في الظلال مهدد بالسقوط في القطيع.

إن النور، اللهب، يمثلان أصل الكشف ودلالة التحول إلى علاقات مختلفة، هو بدايات اليقظة حتى لو كان الإنسان بين مجموعةٍ من البشر. لأن القطيع ظلام وجسد معتم، بينما النور يضيئ لنا باطن الأفراد يجعلهم متقابلين في الوجوه. مع النور، يقف الإنسان وجهاً لوجه مع نظرائه الآدميين. النور قدرة على الولوج إلى داخل الآخرين، لأنه مادة كاشفة بالمقام الأول وهو عكس الطين. فلئن كان الأخير يضم الآدميين بجانب بعضهم البعض جاعلاً إياهم كتلةً، فالنور يميز، يرسم التفاصيبل ويكشف الظلال والمناطق المعتمة. في إحدى لوحاته، يرسم كوبيراً هذا المعنى العميق، فالضوء الذي يصل إلى درجة اللهب يربط بين ثلاثة أشخاص. حيث يتخلل الضوء الملتهب مادتهم الخِلْقية معبراً عن تواجدهم وجها لوجه. في القطيع هناك وجود مطروح مسبقاً بحكم الكتلة، لا أحد يعترض ولا أحد يتساءل ولا أحد يشذ عن القاعدة، بينما في إطار النور ثمة تواجد واع. هو حضور نتيجة إنكشاف الداخل والإتصال الإنساني لا الحيواني.3635 الخروج من القطيع

الضوء حين يتحول إلى لهب يحدث تغيراً جوهرياً بين الأشخاص. قد يكون الفرد واقعاً في جسد القطيع نتيجة كونه معتماً، ولكنه سيزيل ما علق به لو تعرض للضوء، وبخاصة إذا كان هو مصدر الضوء. أي أن يعطي أولوية للضوء والداخل وإحياء الروح الذي يميز الطين عن النار. فالطين يصبح صلصالاً وينضج ويصبح تشكيلاً آخر. ولكنه داخل الإنسان سيؤدي النور إلى إنسان حقيقي. يعي الآخر منذ أنْ يشعر باتقاد ذاته، النار تصقل الأشياء وتطهر الرواسب وتحرق الظلام.

في لوحة أخرى، يجسد مخاض تلك العملية في صورة حلمٍ، ذات منطلقة بعد أنْ عانت تحرراً من القطيع. فها هي الذات تنطلق على هيئة طائر كان مربوطاً بالداخل. أخطر ما يمُر به الإنسان أنْ يحبس ذاته في قفص الوجود. كل ذات تنطلق عبر ممارسات طويلة من التحرر وتتشكل في صورة حلم يجوب الآفاق. ولكن متى ينطلق الحلم؟ متى يتأهل الذات لقطع المسافة بين الطين والنور؟ تبدو المسافة قصيرة جداً، هي عمر الإنسان من الداخل.

أن نكتب أعمارنا يعني أن ندرك متى سينطلق الذات حراً. الحرية هي العمر الحقيقي لا الزمن. كلما يكون داخلك إحساس بالتحرر ورفض للعبودية، ستكون مصدراً للضوء وسينكسر قيد الطائر الذي يسكنك، فأنت من يرغب في الطيران والتحليق بعيداً. وكذا المجتمعات يجب عليها أن تنفتح على التنوع والتعددية، فلن تموت سوى بالقطيع الذي يجمد تطورها. إن حياة المجتمع تتعدد بطبيعتها، وما لم يُفسح المجال للاختلافات والحريات ستقع المجتمعات في قيود تدمي واقعها. وستخسر أول ما تخسر فكرة الإنسان التي تحافظ على علاقات أفرادها. فكرة هي الأمل الذي يحلق فوق رؤس الأفراد طوال الوقت ويعطيهم حرية التواجد والتطلع لغد أفضل. والفن والفلسفة يتفقان على كيفية إطلاق طائر الحلم، طائر الحرية.

***

د. سامي عبد العال

إن المنهج الذي سار عليه عدد من المستشرقين في إنتاج معرفة استشراقية قائمة على مبدأ التشويه والإساءة للرسول (محمد ص) ارتكز على عوامل مهمة من ضمنها البعد الديني وتأثيره على المستشرق، أو على الصراع الحضاري الذي جعل من المستشرقين يبحثون في كل شيء ممكن أن يكون عاملاً مساعداً في هدم الحضارة الإسلامية في الشرق، أو على مبدا نشر المعلومات المضللة التي يبحث عنها العقل الغربي في كون الشرق هو بلاد العجائب والغرائب والأساطير، وهذا المبدأ استخدمه عدد من المستشرقين في نشر الكثير من المعلومات البعيدة عن الواقعية التي كان عليها الشرق الاسلامي آنذاك، لذلك فقد انتجت المعرفة الغربية الاستشراقية منهجاً سار عليه عدد لا يستهان به "من المستشرقين كان ولا يزال حتى الآن تأكيد الصورة المشوهة والمنحرفة عن الواقع التاريخي التي تبلورت معالمها منذ العصر الأوروبي الوسيط وغدت حقائق لا تقبل المناقشة، بل تقليد منهجي.(...) . لقد أخطأ المستشرقون حيث تكلموا عن سيرة الرسول ( ص) الشخصية والعقدية فشككوا في أصالته (ص) بتهم باطلة " (1) ليس لها أي حقيقة واقعية، ومما ساعد في ذلك بعض ما نسب للرسول (ص) من أقوال وأحاديث ملفقة وغير حقيقية، أصبحت فيما بعد مادة للطعن والتشويه وخير دليل على ذلك ما تناوله سليمان رشدي في (آيات شيطانية) وغيرها من نتاجات تمت بصلة إلى هذه الروايات الملفقة التي اكدها الاستشراق في معرفته وكتاباته عن الإسلام وعن الرسول (محمد )(ص)، إذ اصبح ومع الأسف كالدستور عند البعض في تناول هذه الشخصية،  بل وأُسست طرائق عليها جعلها البعض طرائق مهمة لحركته الاستشراقية، وخير مثال على أن الاستشراق ومن يقف خلفه ثبتوا هذه المنهج، حسب ما يقوله (الاسقف دي ميسفيل) وكيل إدارة البعثات التبشيرية في الشرق بروما يما يأتي: " إنَّ الهدف الذي يتعين على المبشر تحقيقه.. هو تحطيم قوة التماسك الجبارة التي يتميز بها الإسلام – أو على الاقل – إضعاف هذه القوة، وإنَّ على المبشر أن يدرس ويتفهم (قران محمد) ليعرف كيف يذكر الناس في الشرق بأنه كانت هناك مدنية مسيحية " (2) لكنه نسي أن المدنية المسيحية في الجزيرة أو بعض اطرافها كانت محدودة في قبائل معينة بينما كانت ديانات أخرى ومنها اليهودية التي لا تؤمن بالمسيحية، وكذلك ديانات وثنية منتشرة تبيح العديد من التصرفات السيئة، مثل وأد البنات والاغارة على الجار الآمن واستباحت الحرمات وغيرها، فهل كانت هذه التصرفات وغيرها من المدنية المسيحية ؟وهل أن الدين الاسلامي أضاف وشرع أمور أخرى اساءة للديانة المسيحية؟ أم أنه حفظ حقوق الديانات الأخرى بالعيش الكريم في الجزيرة العربية؟ وفي هذا المجال الذي يمكن للمتتبع الموضوعي أن يدرس هل كانت هناك مدينة مسيحية وجاء الإسلام ورسوله (ص) وحوّل الحياة إلى همجية وأساء إلى كل ما هو سليم ؟ أم أن الإسلام شرّع للقيم الإنسانية في هذه المناطق واشاع روح التعايش السلمي؟ وخير دليل على ذلك أن الإسلام ورسوله (ص) عندما انتصر في مكة لم يقتل أو ينكل بالمشركين الذين آذوا الرسول (ص) بل جعل بيوتهم وديارهم آمنة، كما في القول المعروف عن الرسول (ص) من (دخل دار أبي سفيان فهو آمن) وتوجد العديد من الاحداث والدلائل التي تبرأ الإسلام ورسوله من ادعاءات الاسقف (دي ميسفيل) التي تروج لأضعاف المسلمين، بل هي اقوال لا وجود لها من الصحة ولا دليل قوي ومنطقي عليها . وهذا المنهج (المسيفيلي) الذي اصبح من القواعد المهمة في الطعن بالرسول (ص) ودينه الإسلامي في الحملات التبشيرية والتي تبناها عدد من المستشرقين في المرحلة ذاتها .

إنَّ من الأمور الأخرى التي حاول القائمين على تشويه صورة الرسول محمد(ص) حتى يثبتوا بأن الشرق الاسلامي ليس له ديانات سماوية، وأن فكرة الرسول لديهم، ما هي الا كذبة جاء بها من أدعى الرسالة، حسب زعمهم، حتى يجعلوا من الذين يعتنقون الديانة المسيحية أكثر إيمان بأن الآخر المسلم قائم على ادعاءات باطلة في تفكيره ومعتقده وفي هذه المسالة المهمة في مسيرة التشويه ركز الفكر المعادي للشرق على استبعاد فكرة الرسالة السماوية عند المسلمين وخير دليل على ذلك ما جاء به المستشرق التبشيري (ثيوفاييس البيزينطي) (المتوفى 817م) في كتابه (حياة محمد) "و قد كتب في كتابه يقول: أن نبي الإسلام من علماء الشام المسيحين واليهود، وقد اعتبره اتباعه ايضاً (المسيح المنتظر)" (3). فإبعاد الرسول (ص) أولاً عن كونه نبياً رسولاً أولاً، وثانياً جعل مرجعياته في بناء الدين الاسلامي هم علماء الديانتين اليهودية والمسيحية، وثالثاً، ربطه بفكر كونه (المسيح المنتظر)، مما يجعل كل ما لدى المسلمين من دولة وحضارة قائمة على هذه لا المرتكزات الثلاثة التي تجعل من معتقداتهم وثقافتهم التي مركزها شخصية الرسول هو بعيد كل البعد عن الحقيقة التي يعتقدها القائمين على الديانة الغربية بشقيها اليهودي والمسيحي، وكون هذه الأفكار خاطئة جعلوا من فكرة (المسيح المنتظر) هي مركز تفكير أتباع الرسول، أي أن هذه الفكرة قد أتى بها العلماء المرتدين إلى قلب الفكر الاسلامي وتفكير أتباع محمد (ص) حسب اعتقادهم وكل هذه الادعاءات التي يعتقد بها أتباع الديانات في الغرب أصبحت أيضاً من المسلمات في النظرة للرسول (ص) ودين الإسلام والمسلمين في الشرق الاسلامي وتحديداً الشرق الاوسط مركز الدين الاسلامي. وليس بعيداً عن موضوع التشويه لصورة الرسول محمد (ص) وفي إشارة إلى أن الاسلام هو أداة انتقام بيد الرب ضد العلماء المتمردين والمنتقمين عن الكنيسة الأم، لذلك فإن الإسلام بوجوده في الشرق هو أداة معاقبة وإبعاد لهؤلاء المتمردين عن جادة الصواب، وهنا يعد هذا الراي الذي طرحه المستشرق البريطاني والمؤرخ (بريدو 1648-1724) في كتابه عن حياة الرسول محمد(ص) في صنة 1697 والذي أتصف كتابه بالتعصب اللاموضوعي، اذ يصف دين محمد(ص)بأنه "انتقاما من الرب بسبب انقسامات الكنيسة الشرقية على نفسها فالعرب (السراسين، اي سكان الصحراء) هم الأداة التي ارسلها الرب ليصب غضبه على المسيحيين" (4) الذين خرجوا على المسيحية، وكأن الاسلام والرسول (ص) هو وسيلة انتقام لكل من خرج عن المسيحية بينما الرب الذي يصفه (بريدو) بأنه منتقم من المسيحية بالإسلام هو نفسه الرب الذي يصفه رسوله في القران الكريم بأوصاف مغايرة لوصف (بريدو) ففي (اية 107) من سورة (الانبياء) يقول الله جل جلاله "وما أرسلناك الا رحمة للعالمين"، فهل هذه الرحمة هي انتقام ؟ أم إنها تحمل في طياتها الهداية والتعبير نحو الافضل في بناء انسانية صالحة . نعم أنا اتفق مع (بريدو) بإن محمد(ص) أرسل من الرب لينتقم من الذين حرفوا الدين المسيحي السليم، أي هو رحمة للذين مازالوا يعبدون الله بقلب سليم وفضح الذين زوروا الدين المسيحي وحرفوه عن مواضعه.

إن تصوير الاسلام بانه دين انتقام من المسيحية حسب وصف (بريدو) هو إبعاد صريحة للإسلام وللرسول (ص) عن رسالته النبيلة، وهذه الدعوة يراد بها تأكيد أن من خرج عن المسيحية قد ابتلاه الله بداء اسمه الإسلام كانتقام وليس رحمة، وبالتالي فإن دين الإسلام هو وسيلة لإبعاد المرتدين،  وحسب زعم (بريدو)، الذين خرجوا عن المسيحية، ولا يعلم (بريدو) أنه في تفسير آخر أن من خرجوا عن المسيحية هم عملوا ذلك لشعورهم بأن مبادئ (المسيح عليه السلام) قد حُرفت وأن التحاقهم بالإسلام والإيمان به، وجدوا بأنه الدين القويم الذي يكمل ديانتهم الحقيقية الصالحة.

***

أ. د. محمد كريم الساعدي

........................

الهوامش

1. فوزي، فاروق عمر: الاستشراق والتاريخ الاسلامي، عمان الاهلية للنشر والتوزيع، 1998، ص67.

2. الجبري، عبد المتعال محمد: الاستشراق وجه الاستعمار الفكري، القاهرة: مكتبة وهبه، 1995، ص124.

3. زماني، محمد حسن: الاستشراق والدراسات الاسلامية لدى الغربيين، ترجمة: محمد نور الدين عبد المنعم، القاهرة: المشروع القومي للترجمة، 2010، ص86.

4. فوزي، فاروق عمر: المصدر السابق ـ ص53.

5. ينظر، شايب، لخضر: المصدر السابق، ص265، ص266.

في الثقافة الغربية هناك الكثير من الهوس في الذات وهو الأمر الذي يثير احيانا السخرية. يُطلب من كل شخص "ان يكون صادقا مع ذاته" وان يقرأ الكثير من كتب "المساعدة الذاتية"، ولكن مع ذلك نادرا ما جرى التفكير بما تعنيه الذات. ان فحص طبيعة "الذات" تأتي معه بعض المشاكل. حين يُنظر الى الذات من مسافة أبعد ذلك سيجعل المنظور أكبر. نحن يمكننا ان نتصور شيء ما ونفهمه بشكل أفضل عندما نراه من مكان بعيد. لكننا لا يمكننا الحصول على مسافة بيننا وبين ذاتنا. منْ أنا؟ (أنا) هي في نفس الوقت محقّق ومُشتبه به. لا غرابة ان نجد من الصعب التفكير حول هذا الموضوع.

أين الذات؟

حتى الآن، نحن نرى كلمات ونعتقد أفكار. وعينا بهذا يتطلب ان هناك موضوع لتلك التجربة. وكما أعلن الفيلسوف الفرنسي ديكارت، انا افكر، اذاً انا موجود. ذاتنا الـ "انا" التي يتحدث عنها ديكارت هي في نفس الوقت وراء التجربة ويُعبّر عنها ايضا من خلال التجربة.

جدال ديكارت حول الذات يتجاوز العديد من طرقنا العادية في اكتساب العقائد. نحن لا نستطيع ملاحظة الذات بحواسنا الخارجية (البصر، اللمس، السمع وغيرها)، ونحن لن نصبح واعين بها من شهادة الآخرين. بدلا من ذلك، هو اعتقد اننا يمكننا كشف ذواتنا عبر النظر من الداخل، وهي العملية التي نسميها "الاستبطان". لكن لو وجّهنا تركيزنا نحو الداخل، هل نجد أي شيء يُضاف الى التجربة أكثر من خصائص التجربة ذاتها؟ هل نستطيع ايضا ملاحظة "ذات" تقوم بالتجربة؟

الفيلسوف الاسكتلندي التنويري ديفد هيوم رفض هذا، بالنسبة له، الإستبطان يفشل في تحديد أي شيء مميز كـ "ذات" في الداخل: هو يرى انه عندما يتقرّب اكثر لما يسميه ذاته، دائما يجد تصوّرا معينا او آخر عن الحرارة او البرودة، الضوء او الظل، الحب او الكراهية، الألم او المتعة. هو لا يمكنه ابدا الامساك  بذاته في أي وقت بدون تصوّر، ولا يستطيع ابدا ملاحظة أي شيء عدى التصور.

ما هي الذات؟

يدّعي هيوم اننا لا نستطيع ملاحظة الذات بدون تصوّر، لكن بعض تصوراتنا تعطينا أفكارا عن ماهية الذات. ذلك لأنني عندما امارس أي شيء، انا أحس ببعض الانفصال بين ذاتي والعالم. هناك اشياء هي جزء مني مثل يدي، وهناك اشياء اخرى تعود الى فئة انا لست منها، مثل هذا الكومبيوتر الذي أكتب فيه الآن. "الذات" تتضمن وتستبعد، تقسم العالم الى ما هو أنا وليس أنا. 

عندما أنظر للداخل، انا ايضا أحس بمزيج من الخلق والتحكم. الفيلسوف غالن ستروسن Galen Strawson لخّصه كتصور "للمسؤولية الراديكالية والمطلقة في الإختيار والفعل".  افعالي وافكاري يبدو انها تاتي مني، لذا هي يجب ان تقيم في شيء ما. هذا نسميه "ذات". انه يوضح لماذا يميل اكثرنا الى التعرّف على عقولنا اكثر من اجسادنا، طالما نعتقد بانه من هنا ينبثق ما نعمل، ونشعر، ونفكر.

أنا ايضا أتصور نفسي كشيء ثابت لا يتغير. انا أعتقد ان ذاتي تتطور بمرور الزمن، بلا شك، لكن أصرّ بأني مع ذلك نفس الشيء. ربما هذا نتاج لذاكرتي – طالما هذا يعرّفني بالنسخ الماضية لذاتي. او ربما أجد هذا الإحساس بذاتي كثابت من خلال التعريف المستمر لجسمي المادي.

البعض قد يعارض بأن هذا الوجود هو بلا فائدة طالما انه فقط يهدف لوصف خصائص الذات وليس الذات ذاتها. مع ذلك اذا نحن نأخذ أي شيء عادي مثل الصحن، نحن نصف الصفات التي يمتلكها (مثل شكله الدائري، فيه فجوة او غير ذلك). وبوصف ما يقوم به (مثل انه يحمل اشياء، يمكن استخدامه لتناول الطعام). لذا من المفترض اننا نستطيع فعل الشيء نفسه مع الذات. مشاكل أعمق تبرز اذا اخذنا بالاعتبار ان الذات التي تتمتع بالخصائص التي حددناها يمكن ان تظهر الى الوجود في المقام الاول. 

متى "أنت" بدأت؟

هل أنت موجود دائما؟ اذا لم تكن، معنى ذلك أنت بدأت في الوجود في لحظة ما. لكن متى كان ذلك حقا، وكيف حدث؟

هذه الأسئلة محيرة جدا وتستحق النقاش في مقال منفرد، لذا سنضع جانبا السؤال كيف ومتى حدث هذا ونركز فقط على الإمكانية العامة لمجيء الذات للوجود. لكن فكرة الوجود الدائم للذات غريبة جدا- لحظة نشوء الذات – تحمل معها الغموض والمفارقة .

لنبدأ بفكرة ان الذات هي الجزء الذي لا يتغير منا. من وجهة نظر بايولوجية خالصة، كل انسان يبدأ كحيوان منوي وبيضة تندمجان أثناء التخصيب. في هذه اللحظة لا وجود هناك لتجربة واعية، لا شيء يشبه ان البيضة المخصبة تكون هي ذاتها. ومع ذلك، في نقطة ما ومن خلال النمو واستهلاك مختلف المواد العضوية من الام – تبرز الذات بشكل اسطوري. هذا يثير مشكلة لنا. نحن قلنا ان الذات لا تتغير، مع ذلك ألا يحتاج خلق الذات الى نوع من التغيير من حالة الى اخرى؟

ثانيا، ربما المشكلة الأعمق تأتي من إعتبار الذات منفصلة عن العالم، تكوّن حدودا بيننا وبين كل شيء آخر. لو كانت الذات خُلقت ضمن الكون، ستحصل امامنا مفارقة: كيف يمكن لشيء ما هو جزء من الكون وهو ايضا يقسّم الكون؟

الفيلسوف البريطاني آلن واط  Alan Watts كتب مرة، "نحن لا "نأتي الى" هذا العالم، نحن خرجنا منه، كما تخرج الأوراق من الشجرة. مثلما تخرج "ألأمواج" من المحيط ، يخرج "الناس" من الكون . كل فرد هو تعبير عن عالم كامل للطبيعة، فعل متفرد للكون الكلي" . تصوّر واط  للظهور يحمل رسالة بأننا لسنا غرباء عن هذا العالم، لكن هذا ما يشعر به العديد من الناس. هذا الشعور بالإنعزال ربما هو وهم يبرز في مرحلة لاحقة من تطورنا. الاطفال الرضع يبدو يفتقرون الى هذا الإحساس الأساسي بالانفصال بين أنفسهم والعالم. بدلا من ذلك، هم يعتبرون العالم كامتداد لأنفسهم، يجدون من الصعب فهم ان الآخرين لديهم رؤى مختلفة عن رؤاهم الخاصة. هل تجربة الطفل الأساسية بالوحدة تكون أقرب الى الحقيقة من شعورنا بالإنفصال؟

أخيرا، الرؤية باننا مصدر للخلق والتحكم يقودنا الى لغز عندما نعتبر تطورنا ككائنات بايولوجية. معظمنا يعترف باننا نبدأ حياتنا كجنين في اعتمادية تامة. كل شيء نعمله في تلك الفترة يتقرر بالكامل بعمليات وقوانين طبيعية. لكن في نقطة معينة نطور احساسا لا مهرب منه بـ "التقلّب المستمر" في تجربتنا الواعية. نحن نشعر أحرارا.  نشعر بأننا الآن مسؤولين عما نعمل ونعتقد . هل نجحنا في كفاحنا لإستعادة السيطرة من الطبيعة؟ اذا كان الجواب نعم، كيف يمكننا ان ننمو الى استقلالية عندما نبدأ حياة معتمدة كليا؟

في هذه النقطة، نحن قد نعتقد ان اعتبار الذات ككائن بايولوجي وفي نفس الوقت كشيء منفصل عن العالم لا يتغير وفي سيطرة، سيقودنا الى كل أنواع المشاكل . نحن لدينا خيارات قليلة: نستطيع التأكيد بأن الذات هي في العالم ونحن بالنهاية سوف نحل هذه المشاكل، يمكننا الجدال بأن الذات لاتمتلك حقا الخصائص التي نصفها، او نزعم بان الذات فعلا تمتلك هذه الخصائص لكنها ليست بايولوجية خالصة.

اولئك الذين يجادلون بان الذات ليست مجرد شيء بايولوجي عادة يدّعون اننا نحوز على روح عابرة. هذه الروح هي جوهرنا الحر اللامتغير والغير منقسم وتوجد قبل مولدنا وتستمر بعد الموت. معظم المؤمنين الدينين، يرون ان الاعتقاد في امتلاك  كل واحد منا لروح  يجعل من السهل فهم شعورنا بالإنفصال، إحساسنا بالخلق والسيطرة، وبطبيعتنا الغير متغيرة في الظاهر.

اولا، نحن نشعر منفصلين لأننا حقا ليس في هذا العالم. بالنسبة للمدافع المسيحي C.S.Lewis ومؤلف كتاب Narnia (1) يرى انه من غير الصحيح القول اننا نمتلك أرواحا. بل، يجب ان نقول"نحن أرواح. نحن نمتلك أجساما".

ثانيا، نحن مصدر الخلق والسيطرة لأننا كنا وُهبنا رغبة حرة من جانب خالقنا لنتخذ قراراتنا. نحن غير مقيّدين بقوانين الطبيعة لأننا لسنا فقط كائنات طبيعية.

أخيرا، مشكلة الكائن غير المتغير الذي يأتي الى الوجود يتم تجنبها باقتراح خلود الروح. روحنا توجد قبل وبعد خلق وفناء أجسامنا. وبهذا، نحن نتجنب مشكلة كيف تبرز "ذاتنا" من المادة وحدها.

غير ان الإيمان في الروح يولّد مشاكله الخاصة. كيف تأتي هذه الروح للوجود أو هل هي لم تُخلق أبدا؟ كيف ترتبط الروح بالبدن؟ هل الروح منفصلة عن الذهن، او هي ذاتها الذهن؟ بالنظر الى هذه الأسئلة، نحن ربما نعتقد ان "الروح" هي مصطلح لا يمثل أفكارنا وانما غيابها. هل نسبة الذات للروح هي مجرد إعطاء اسم لجهلنا، ام انها حقا تساعد في توضيح منْ نحن؟

***

حاتم حميد محسن

.............................

A Question of Identity, The Philosophers’magazine, 11 octo 2022

الهوامش

(1) سي.إس.لويس (1898-1963) ناقد وروائي انجليزي يُعد من أبرز الكتّاب في القرن العشرين. هو كان بروفيسور في الادب الانجليزي في جامعة اكسفورد وكامبردج. أشهر أعماله سلسلة قصص خيالية للاطفال وكُتب ثيولوجية. صوته في الـ BBC اثناء الحرب العالمية الثانية نال اقبالا واسعا في بريطانيا عندما استطلع "الصح والخطأ"، أفكار عن معنى الكون. هو كتب اكثر من 30 كتابا، وكان رئيسا لنادي سقراط في جامعة اكسفورد. من أقواله "انا اؤمن بالمسيحية كما اؤمن بشروق الشمس، ليس فقط بسبب كوني أراها وانما بسبب اني أرى بها كل شيء آخر".

"الطريقة العلمية" هي مجموعة من الطرق والإجراءات. لكن التمييز بين النظرية العلمية والنظرية غير العلمية لم يعد ممكناً بعد ان أعلن توماس كن Thomas Kuhn في الستينات من القرن الماضي بان مفهوم "التكذيب" لكارل بوبر غير كاف بحد ذاته لتقرير علمية الفكرة. كن ذاته خلق تشويشا برفضه القواعد القائمة لتقرير القواعد العلمية، في مسعى لخلق تصوّر أوسع للعلوم كي تشمل الاقتصاد والتحليل النفسي. المشكلة هنا، هي كما اعترف كن، انه من الصعب جدا التمييز بين العلم والعلم الزائف pseudo-science. امثلة على ذلك هو ان الخلقيين الامريكيين (المؤيدون لنظرية الخلق من الله) يجادلون بان علم الخلق والتطور الداروني يجب اعطائهما وقتا متساويا في دروس البايولوجي المدرسية. كذلك، الفيزيائيون النظريون انتجوا مفاهيما مثل نظرية الأوتار، بُرّرت تماما بسبب أناقتها الرياضية، بدون أي دليل تجريبي. وهو ما يمكن ان يُعد ايضا علما زائفا.

وما هو أكثر من هذا، ان الافكار العلمية مثل نظرية مارشال القائلة - ان قرحة المعدة او سرطان المعدة تنتج عن بكتريا - اُهملت لعدة سنوات بسبب الجهود المزدوجة لذوي المصالح (شركات الادوية)، والعقائد الراسخة لكبار الاطباء والعلماء حول امكانية الميكروبات للعيش في أحماض قوية، رغم الدليل المتوفر لتلك النظرية. في تلك الأثناء، جرى تمويل الطب البديل homeopathy الأقل جدارة علمية مثل العلاج بالمواد الطبيعية، او العلاج بالروائح من قبل الصحة الوطنية. اذاً ماذا كان يعمل فلاسفة العلم كل هذا الوقت؟

وفق الرؤية النفعية، وجود طريقة للقياس الكمي للعلمية ستكون ذات قيمة اذا كانت تقود الى تمييز أوضح بين العلم والعلم الزائف، يتم بموجبها رفض الطب غير العلمي والغير فعال ويتوفر فهم أفضل للطريقة العلمية في أوساط الجمهور العام. ذلك سيعني الحكم على نظريات جديدة طبقا لجدارتها العلمية وليس لكونها مُبالغ فيها او مكبّلة بالاهتمامات والمصالح والتحيزات الذاتية. لا نرى وجود سبب نظري مقنع لقلة الثقة بقياس كمي للعلمية مقابل المخاطرة التي تحدث حاليا في الصحة والسلامة وسلامة الغذاء.

المشكلة الاخرى هي ما هي أحسن طريقة لقياس نوعية العلمية. هنا اخترنا طريقة وصفية بسيطة لكي يمكن للعديد من الناس تقييم التقييم. وفي تمرين اكثر اكاديمية، اخترنا اتجاها عدديا يوفر مستويات هامة عند مقارنة النظريات من حيث النوعية العلمية. لكننا، لكي نحصل على أفضل وسيلة لآداء المهمة، علينا البدء بأداة أساسية. العجلة يجب ان تُخترع قبل الاطارات الهوائية، ولذلك، فان الخمسة عشر معيارا التالية تُستعمل لتقييم علمية النظريات، والنظرية يمكن منحها درجة مقابل كل معيار. وعندما تُعرف الدرجة التراكمية، فان النظرية ستكون لها "حصيلة علمية" Scientific Quotient.

المعايير الخمسة عشر للعلمية

1- هل النظرية تستعمل توضيحات طبيعية؟

طاليس، اول فيلسوف طبيعي سجّله التاريخ، اعتقد ان الأحداث الطبيعية لها توضيحات طبيعية وليست دينية. هذا الرفض للتوضيحات الالهية والروحية قاد للحاجة الى توضيحات طبيعية والى تطوير الطريقة العلمية. التوضيحات الخارقة للطبيعة الغير مختبرة تعمل ككوابح تمنع او تؤخر أي بحث او تحقيق لاحق.

2- هل النظرية تستعمل حجة استقرائية عقلانية؟

حجج الاستقراء العقلاني ترتكز على الاستدلال المنطقي بدلا من اللجوء الى السلطة. الحجج الاستقرائية العقلانية هي غير مؤكدة لكنها توضيحات معقولة مرتكزة على الدليل المهتم بادّعاءات السبب والنتيجة. النظرية يجب ان تستعمل حجة استقرائية لكي تكون علمية (9). أقدم مثال هو ادّعاء اناكسمندر Anaximander بان الانسان كان قد وُلد من حيوانات من نوع آخر، لأن الانسان وحده يتطلب فترة طويلة من الرعاية والحضانة.

3- هل النظرية مرتكزة على اتجاه اختزالي تحليلي بدلا من اتجاه اصطناعي غير طبيعي؟

الاختزالية reductionism هي محاولة لفهم أشياء معقدة عبر تحليلها طبقا لأجزائها او الى أبسط المظاهر. استُعملت الاختزالية أول مرة من جانب طاليس، عندما ادّعى ان الماء هو أصل كل شيء . الاتجاه التركيبي هو المضاد للاختزالية، كونه يحاول بناء نظام للتوضيح من نظرية وعادة يؤدي الى طبقات اضافية من التعقيد ترتكز عادة على الحجة وحدها بدلا من دليل هام. أمثلة على ذلك أشكال افلاطون، والتحليلات النفسية لفرويد والمادية التاريخية لماركس ونظرية الأوتار ذات الأبعاد الاضافية.

4- هل النظرية منسجمة ذاتيا؟

طبقا لارسطو، فان مبدأ عدم التناقض هو المبدأ الأكثر اساسية في المنطق والفكر. الحاجة الى التماسك هي تجسيد لهذا المبدأ. معظم النظريات هي منسجمة ذاتيا، ولكن احيانا يمكن ان تكون النظرية غير منسجمة داخليا . مثل هذه النظريات تكون احيانا مفيدة كأفكار انتقالية. لنأخذ نموذج روثفورد Rutherford في النظام الشمسي للذرة الذي به يتم تصوّر الالكترونات تدور حول النواة بنفس الطريقة التي تدور بها الكواكب حول الشمس. هذا النموذج غير متماسك لأن الالكترونات التي تدور حول النواة تطلق اشعاعا كهرومغناطيسيا يؤدي الى فقدان طاقة حركية تجعل الالكترون يبطئ في حركته حول النواة فيصطدم بها بسرعة. لكن نموذج النظام الشمسي كان مفيدا كونه حفّز لتفكير آخر حول بناء الذرة.

5- هل النظرية تستلزم اتجاها ميكانيكيا؟

الاتجاه الميكانيكي يوضح كيف تعمل الفكرة المقترحة. هذا الاتجاه في تضاد مع الاتجاه الذي يعلن ببساطة ان الموقف هو هكذا. المثال الجيد على الاتجاه الميكانيكي هو النظرية الحركية للغازات. هذه تعلن بانه عندما ترتفع درجة حرارة الغاز فان الجزيئات تتحرك بشكل أسرع مما يجعل من المحتمل جدا اصطدامها وبالتالي ستصبح ردود فعلها للحدث كبيرة. هذا ايضا يوضح لماذا يزداد الضغط مع الحرارة اذا بقي حجم الغاز ثابتا، لأن الجزيئات تصطدم دائما بجدران الوعاء عندما ترتفع الحرارة. بالمقابل، هناك اتجاه غير ميكانيكي يُتخذ عادة من جانب اختزالية متطرفة، مثل ادّعاء طاليس بان كل شيء ماء. احيانا تُصاغ نظرية بدون توضيح لكيفية عملها، مثل قانون نيوتن في الجاذبية ونظرية دارون في التطور، لكن النظريات العلمية الجيدة ستصبح ميكانيكية عندما يتم الحصول على ملاحظات جديدة او تُعرض افكار جديدة.

6-هل النوعيات تُعطى لها كميات؟

كان فيثاغوروس أول من خصص كمية للنوعية عندما اكتشف ان درجة النغمة تعتمد على طول الوتر الذي ينتجها: وبالتالي تُنتج فواصل متطابقة في السلّم الموسيقي بنسب عددية بسيطة. طبقا لآرثر كوستير، هذا الاختزال الاول والناجح للنوعية الى كمية كان اول خطوة نحو رياضية التجربة الانسانية، ولذلك كانت بداية العلوم.

7- هل النظرية تعكس أبسط طريقة لتوضيح البيانات؟

اول منْ صاغ هذا المبدأ هو وليم اوكام، ولهذا اشير له بشفرة اوكام. (صياغة اوكام كانت "الوجودات يجب ان لا تتضاعف اكثر مما هو ضروري"). المبدأ كان قد جرى تمديده الى فكرة ان أحسن تفسير للظاهرة يجب ان يضع أقل ما يمكن من الافتراضات. هذا المبدأ ايضا يُشار اليه بقانون الايجاز او التقتير. استعمل اوكام القانون للجدال بان الأشكال المثالية في ذهن الله لم تكن ضرورية لوجود الكينونات في هذا العالم. الفلكي البريطاني مارتن ريز ناقش ستة ثوابت فيزيائية أساسية لهيكل الكون منها مثلا سرعة الضوء. عندما تختلف أي من هذه القيم قليلا فان الكون لن يكون قادرا على ادامة الحياة. مع ذلك، فان احتمالية ان تعمل جميع الثوابت الستة عشوائيا وفي وقت واحد لخلق كون داعم للحياة هي قليلة جدا، اذاً كيف حدث ذلك؟

التفسيرات المحتملة تندرج كالتالي:

1- الله أعطى الثوابت قيمها

2- الثوابت وُضعت من جانب مصمم ذكي آخر

3- الكون هو محاكاة كومبيوتر

4- هذا الكون هو واحد من عدة أكوان، كل واحد له قيمة مختلفة لهذه الثوابت الستة.

5- هذا هو الكون الوحيد، وان الثوابت لها قيمتها بمحض الصدفة.

6- هذا هو الكون فقط، وان قيم الثوابت الستة ليست مستقلة وانما مرتبطة مع بعضها جوهريا بطرق لا نفهمها، بسبب ان نظريات الفيزياء لم تُصغ بعد.

السؤال الحالي هو أي من هذه النظريات الست هي الأبسط مع ثبات الاشياء الاخرى؟ انها لن تكون متساوية لو بدأنا بالتقاط معلومات من كون آخر، او كان هناك دليل قوي لنظرية في الفيزياء لم تُعرف بعد توضح كيف ترتبط هذه الثوابت مع بعضها.

النظريات من 1 الى 4 جميعها تستلزم كينونات اضافية غير مطلوبة في النظريتين 5 او 6 (النظرية الابسط). يمكننا القول بان ترابط الثوابت الستة ينتج حقا نموذجا أبسط عن الكون، لذا طبقا لهذا التفسير فان النظرية 6 هي التي يجب ان تُحقّق اولا.

8- هل تتطابق النظرية مع الفهم العلمي الموجود؟

النظريات العلمية لا تقف لوحدها, وانما ترتبط بنظريات علمية اخرى، وبالتالي لا يكفي للنظرية العلمية ان تكون فقط منسجمة ذاتيا: النظرية يجب ايضا ان تكون منسجمة مع المقدار الموجود من المعرفة العلمية. مع ذلك، احيانا الدليل على عدم انسجام نظرية جديدة هو كاسح لدرجة ان النظرية القائمة يجب تعديلها او مراجعتها او حتى إسقاطها، لذا فان الموقف ليس بسيطا. عندما اقترح الفريد وغنر حركة القارات عام 1912 ليوضح سبب تلاؤم ساحل افريقيا مع ساحل جنوب امريكا، لم يقبل غالبية الجيولوجيين ان كتل بحجم القارات يمكن ان تتحرك حول سطح الارض. مع ذلك، بعد الحرب العالمية الثانية، اكتُشف الدليل الذي أثبت الصفائح التكتونية. دراسات المغناطيسية القديمة وجدت نمطا من الانقلابات المغناطيسية في قشرة الارض بيّنت ان القشرة كانت تتحرك دائريا.ايضا، معظم النشاط الزلزالي وُجد انه يحدث على طول خطوط تتصادم فيها الصفائح. الفهم المضاد للحركة يجب مراجعته امام الدليل الجديد.

القاعدة العامة المألوفة هي كلما كانت التغييرات المطلوبة في التفكير العلمي القائم كبيرة واساسية، كلما وجب ان يكون الدليل لدى النظرية المتحدية اكثر قوة كي تحصل على ارثودكسية علمية، لأن هذا سيكون ممكنا فقط بعد مراجعة الكثير من النظريات القائمة. انه من غير المحتمل ان تُراجع النظريات القائمة لو عُرضت النظرية المخالفة الجديدة بدون أي دليل هام.

9- هل النظرية ترتكز على بيانات مُلاحَظة؟

يُعتبرتجميع البيانات أول خطوة في العملية الإستقرائية التي طُورت من جانب فرنسيس باكون وتوماس هوبز. انها اصبحت الأساس في العلم النيوتني والتجريبية بشكل عام. هنا يبتعد العلم عن الفلسفة. في الفلسفة، يمكن ان ترتكز النظريات بشكل خالص على التأمل بدون عبء جمع البيانات. تقسيم افلاطون للبدن والروح ونظريته في الأشكال كانت نتاجا للتأمل بدلا من الملاحظة او تجميع لبيانات. مع ذلك، العلم يهتم بما يُلاحظ.

10ـ هل خضعت النظرية للإختبار؟

في بداية القرن الثامن عشر اقترح جورج ستاهل Georg Stahl وجود مادة اللاهوب الكيميائية phlogiston ليوضح لماذا تحترق بعض المواد بينما لا تحترق غيرها. طبقا للنظرية، المواد التي تحترق احتوت على اللاهوب الذي ينبعث من النار. المشكلة كانت ان اللاهوب لم يتم عزله ابدا. القياس الكمي للصفات(انظر6) لم يدخل الكيمياء الاّ بالكاد. لكن لافشير Lavoisier اختبر نظرية اللاهوب بإجراء قياسات دقيقة، ووجد انها تفتقر لأشياء هامة. بيّن لافشير بانه عندما يحترق المعدن فهو يزداد في الوزن، والهواء في الوعاء المغلق يعاني من خسارة مماثلة في الوزن. لذا فان المعدن لا يفقد اللاهوب عبر احتراقه وانما يحصل على شيء آخر. وبعد المزيد من التجارب، أثبت لافشير بانه فقط خُمس الهواء يمكن ان يساعد في الإحتراق، واستنتج بان "الاوكسجين" هذا هو المتحد مع المعدن اثناء الاحتراق. نظرية الغازات جاءت الى الوجود بينما ماتت نظرية اللاهوب.

كان هناك حدثا مشابه في عام 1948 عندما اقترح كل من هولي بوندي Hoyle Bondi و Gold نظرية الحالة الثابتة steady state Theory لتوضيح الملاحظات عن المجرات المتحركة بعيدا عن بعضها. هما ادّعيا ان الكون كان موجودا دائما في الحالة التي هو عليها الآن، وان المادة تكونت من لا شيء في فضاءات بين المجرات، والتي اندمجت في نجوم ومجرات جديدة، دافعة الاخرى بعيدا ومكونة الفضاء لتكوين المزيد من المادة . المشكلة كانت ان هذه النظرية لم تعمل أي تنبؤات يمكن اختبارها (انظر 14) باستثناء خلق المادة بين المجرات التي لم تُلاحظ ابدا ومن الصعب جدا ملاحظتها في اي حال. مع ذلك النظرية البديلة وهي نظرية الانفجار العظيم Big Bang طرحت تنبؤات قابلة للاختبار، الشيء الاكثر أهمية ان هناك خلفية اشعاعية من الانفجار العظيم. الخلفية الاشعاعية اكتُشفت من جانب بنزياس و ولسون Penzias and Wilson صدفة عام 1964 في نطاق الميكروويف عند 3.5 درجة مئوية فوق الصفر المطلق. ايضا في بداية الستينات، اكتشف عالم الفلك الاشعاعي مارتن رايل انه كلما نظر أبعد (وايضا رجوعا في الزمن)، كلما كانت هناك اكبر نسبة من المجرات الراديوية. هذا بيّن ان الكون تغير بمرور الزمن. وبهذا فان نظرية الحالة الثابتة عانت من نفس مصير نظرية اللاهوب.

11- هل نتائج الاختبارات تدعم النظرية بشكل مقبول؟

العلاج بالمواد الطبيعية Homeopathy اختُرع في بداية القرن التاسع عشر من جانب صاموئيل هانيمان، الذي افترض ان الناس المرضى يمكن معالجتهم بأدوية ستكون مؤذية للناس الأصحاء. وما هو اكثر إشكالية هي عقيدته بان الدواء كلما كان قليل التركيز كلما كان اكثر فعالية. في العلاج الطبيعي المعاصر، خُفف المحلول الى نصف قوته 30 مرة، مما جعل من غير المحتمل وجود حتى جزيء واحد من المحتوى "النشط" في الدواء النهائي. العلاج بالمواد الطبيعية يتغلب على مشكلة نقص الدواء في العلاج بالادّعاء ان للماء ذاكرة. هذا يصطدم مع الفهم العلمي القائم (انظر 8)، مع ان الاختبار يبيّن ان العلاج بالمواد الطبيعية فيه بعض الفوائد، لكن هذه الفوائد لها قوة مساوية لتأثير الدواء الوهمي. وبالتالي لايوجد هناك دليل كاف للادّعاء بان الماء له ذاكرة.(عندما بدأ العلاج بالمواد الطبيعية، كان الطب التقليدي أقل علمية وانطوى على عدة علاجات غير مختبرة والتي عادة عملت ضرراً اكثر من النفع، لذا اكتسب العلاج بالمواد الطبيعية الاكثر حيادية شعبية. مع ذلك، الطب التقليدي تقدّم علميا لكن العلاج بالمواد الطبيعية لم يتقدم كونه بقي محاصرا في طريق مغلق).

12- هل يمكن تكرار التجارب بواسطة مختلف التجريبيين؟

في عام 1989 ادّعى عالمان امريكيان وهما فليشمان وبونز انهما انجزا اندماجا نوويا بدرجة حرارة منخفضة نسبيا – بمستوى المختبر، بدلا من درجات حرارة عالية كتلك التي تحدث في النجوم او معجّل الجسيم. اذا كان الانصهار البارد ممكنا، فان تزويد طاقة العالم سيكون لا حدود له تقريبا. لكن بالرغم من المحاولات المتعددة من جانب علماء آخرين، لم ينجح أي منها في تكرار "النتائج".

13- هل يمكن تكذيب النظرية؟

يمكن عمل التجارب لإبطال بعض النظريات، لكن نظريات اخرى لايمكن تكذيبها. النظريات التي لا يمكن تكذيبها بواسطة التجارب تقع في صنفين: تلك التي هي محصنة جوهريا ضد التجريب، وتلك التي لا يمكن تكذيبها بالتجريب بسبب نقص التكنلوجيا.

ان مفهوم التكذيب صاغه كارل بوبر عندما حقق في الاختلاف بين التفكير الدوغمائي والتفكير النقدي. المفكرون الدوغمائيون بمن فيهم ماركس وفرويد يحاولون تفسير جميع الاحداث بقدر ما يتعلق الامر بنظريتهم او عقيدتهم المفضلة، بينما المفكر النقدي يحاول العثور على عيوب في النظريات خاصة تلك المفضلة لديهم. بوبر يعتبر اينشتاين مثالا على المفكر النقدي، عندما قال اينشتاين (اذا كان الانزياح الاحمر للخطوط الطيفية غير موجود، عندئذ ستكون نظرية النسبية العامة لا يمكن الدفاع عنها).

14-هل تمتلك النظرية عناصر تنبؤية؟

بدون عناصر تنبؤية، سيكون العلم موضوعا سرّيا او تخمينيا "كالقصص". العنصر التنبؤي هو الذي يعطي العلم قيمته التطبيقية، ويسمح لنا بالقول كيف تتصرف المواد او ماذا ينتج من أي ردود أفعال مختلفة. هذا مهّد الطريق للتكنلوجيا التي غيرت العالم اثناء الثورتين الصناعية والمعلوماتية. الفيزياء تدعم تكنلوجيا القاطرات والطائرات. عندما أصبح الطب أكثر علمية، اصبح اكثر نجاحا. الكسندر فليمنك تنبأ بان البنسلين يمكن استعماله لعلاج الامراض البكتيرية. ايضا، نظرية مارشال بأن قرحة المعدة نتجت عن بكتريا ولهذا يمكن علاجها بمضاد للبكتريا ثبت صحتها.

15- ما مدى دقة التنبؤات المرتكزة على النظرية؟

النظريات العلمية ليست هي وحدها أنظمة توضيح تنتج تنبؤات. قبل وقت طويل من العلم كان هناك وسطاء الوحي، والأبرز شهرة آلهة معبد ابولو. لكن نبؤاتهم لم تخضع للتحليلات الاحصائية التي تُستعمل لإختبار التنبؤات العلمية الحديثة. ايضا، كما رباعيات نوستراداموس، كانت تنبؤات ابولو غامضة وتأسست على السرّية والمراوغة. عندما سأل الملك كروسوس الإله اوراسل عما سيحدث لو ذهب لمحاربة الفرس، كانت نبوئة الإلهة ان امبراطورية عظيمة ستسقط. هي لم تقل من هي الامبراطورية. التنبؤات المرتكزة على قوانين الحركة في فيزياء نيوتن مختلفة جدا. هذه القوانين استُعملت لتتنبأ بدقة عن الموعد الذي سيكون فيه مذنب هالي مرئيا.

لسوء الحظ، ليس كل النظريات التي تدّعي العلمية دقيقة في تنبؤاتها كما في نيوتن. نظرية ماركس (التي يدّعي الماركسيون انها علمية) تدّعي انها تستطيع التنبؤ بالفترات التاريخية للمستقبل: في نظرية ماركس الفترة الاقطاعية تعقبها فترة رأسمالية، والتي تعقبها فترة اشتراكية، التي بدورها تعقبها فترة شيوعية. لكن طبقا للنظرية الماركسية الدول التي ستكون الاولى في مباشرة الثورة الاشتراكية ستكون دول متقدمة رأسماليا، مثل بريطانيا وآلمانيا والولايات المتحدة، وليست اقتصاديات مرتكزة على الزراعة كروسيا والصين. هذا التنبؤ فشل حتى وان كان ضمن نظرية واسعة جدا.

المؤهلات الهامة للمعايير

يمكن المقارنة بين النظريات لمعرفة مدى جدارتها وأهليتها العلمية من خلال تحديد عدد من المعايير الضرورية لتقييم النظرية (15 معيارا) ثم تخصيص قيمة لكل نظرية في ضوء تلك المعايير، وبعد سلسلة من الخطوات الرياضية يتم الوصول الى ناتج القسمة scientific Quotient لكل واحدة من تلك النظريات، وهو المعيار لعلمية او عدم علمية النظرية.(1)

عيوب هذا الاتجاه هو الذاتية في وزن المعايير وعملية منح الدرجات. لكن هذه المشكلة يمكن تعويضها عبر اختيار فريق خبراء يقيّم النظرية مقابل المعيار.(هذا لا يعني استبعاد غير المحترفين من حساب القسمة العلمية).

هناك تعقيدات اخرى. التاريخ يبيّن لنا ان علمية او عدم علمية النظرية يمكن ان يتغير في ضوء دليل جديد او تكنلوجيا جديدة. ما هو غير مختبر حاليا يمكن ان يصبح مختبرا. المعايير الستة الاولى المعطاة هي خصائص داخلية للنظريات، لا تتغير بالبيانات الجديدة او التقنيات. اما معيار البساطة، الامتثال، التكذيب وعناصر التنبؤ هي انتقالية بمقدار عدم احتمالية ان تؤدي بيانات وتقنيات جديدة الى تغيير في طبيعة النظرية بمرور الزمن. المعايير الخمسة المتبقية هي خصائص خارجية يُحتمل ان تتغير عندما تُجمع بيانات جديدة او تتوفر تقنيات جديدة.

ان مظاهر علمية النظرية ليست مستقلة. فمثلا، مجرد ارتكاز النظرية على بيانات مُلاحظة ومجّمعة لا يعني بالضرورة ان النظرية دقيقة او أبسط (انظر7). كذلك، المعايير ليست بوزن واحد. بعض المعايير ضرورية لعلمية النظرية، بينما اخرى ليس لها تأثير متبلور كبير. نحن نستطيع دمج نظام الدرجات العلمي مع نظام النجمة (علامة نجمة تُخصص للمعيار) حيث جميع المعايير الضرورية للنظرية تُعطى نجمة، وهكذا النظريات تكون غير علمية اذا لم تتخطى كل المعايير النجمية. هذه المعايير تتضمن: هل النظرية منسجمة ذاتيا؟ هل النظرية ترتكز على البيانات؟ هل جرى اختبار النظرية. مع ذلك، نظام النجمة وحده لا يميّز درجة تحقق المعيار في نظريتين متنافستين، على خلاف نظام القسمة العلمي. قبل اكتشاف الخلفية الإشعاعية من الانفجار الكبير لم يكن واضحا بشكل حاسم أي نظرية هي الأقوى. لكن بعد استعمال نظام الحاصل العلمي، فان نظرية الانفجار الكبير ستبقى محتفظة بدرجات أعلى. ايضا في ذلك الوقت كانت نظرية الانفجار العظيم اكثر انسجاما مع بقية الفيزياء قياسا بتكوّن المادة في فضاء بين النجوم (تخالف القانون الاول للديناميكا الحرارية) وبهذا حازت النظرية على تحقّق أقوى للمعيار8.

النظريات التي تقع على حدود العلم سوف لا تُعد علمية كونها فشلت في الحصول على النجمة. حاليا نظرية الأوتار ونظرية تعدد الأكوان تقع في ذلك الصنف. وفي معيار الميكانيكية، يمكن ان يقال عن نظرية دارون في التطور انها غير علمية الى ان اكتشف واتسون وكرك الـ DNA. نعتقد ان من الإنصاف القول ان هذه النظرية غير مختبرة او غير كاملة بدلا من الادّعاء انها غير علمية. اذا اعترفنا ان بعض المعايير الضرورية للعلمية هي خارجية (تعتمد على عوامل غير النظرية ذاتها)، فان الادّعاء بان النظرية علمية او غير علمية قد يتغير مع الزمن. او ربما نستطيع زيادة مفرداتنا بالقول ان هناك نظريات علمية غير ناضجة. وكما قلنا، هذه النظرية في التطور هي ذاتها في مراحلها التمهيدية.

***

حاتم حميد محسن

.........................

الهوامش

(1) مثلا تجري المقارنة بين ثلاث نظريات: نظرية المصمم الذكي وهي ان الانسان تطور منذ ملايين السنين من أشكال للحياة أقل تطورا لكن بارشاد من الله، النظرية الثانية وهي نظرية التطور لدارون وتفيد بان الانسان تطور منذ ملايين السنين من أشكال للحياة اقل تطورا ودون أي تدخّل او توجيه من الإله، والنظرية الثالثة هي نظرية الخلق التي تقول ان الله خلق الانسان بشكله الحالي في العشرة الاف سنة الاخيرة. لمعرفة مدى علمية هذه النظريات الثلاث يتم اعطاء درجة (بين 1 الى 10) لكل نظرية مقابل كل معيار من المعايير الخمسة عشر المذكورة، وبعد تجميع القيم لكل نظرية والقسمة نحصل على المقياس النهائي (SQ) او ناتج القسمة الذي يشير الى مدى علمية كل واحدة من النظريات الثلاث.

يمكننا أن نتساءل عن مكانة الفلسفة الاجتماعية من خلال طرح السؤال التالي على الفور: ما هي التيارات الفكرية التي تعبر عنها؟ وماهي التصورات التي تختلف عنها؟ وكيف يتم التعبير نظريا عن الاجتماعي؟

من تفكير يميل، على ما يبدو، إلى إعادة تأهيل سيادة القانون، والإنسانية الفلسفية السياسية، والمثل السياسية التي كان ماركس قد وصفها بأنها "أيديولوجية" (تهدف إلى إخفاء التناقضات الطبقية) كما يتضح من تأثير نظرية جون راولز حول العدالة. لكن، كما يؤكد فرانك فيشباخ، لا شيء يسمح بحجز التحليلات المعيارية في الفضاء القانوني السياسي والتهرب من هذه المعيارية نفسها عندما يتعلق الأمر بالمجال الاجتماعي. وبالتالي فإن العودة إلى الفلسفة السياسية الكلاسيكية ليست بريئة. يؤكد فرانك فيشباخ، بشكل جدلي متعمد، أن المدافعين عن حقوق الإنسان انتهى بهم الأمر إلى جعل الدولة غير ذات أهمية وجعل هدف "إنقاذ البنوك" أولوية حتمية. الميزة الوحيدة لهذا اللجوء إلى أيديولوجية الليبرالية الجديدة الضمنية هي أن الوهم الذي يبرر إقامة معسكر غوانتانامو والحروب القاتلة في العراق - باسم الحق وباسم الخير على التوالي - قد نفذ وقته وفي نهاية المطاف. ولدت "إعادة التسلح المعاصرة للنقد الاجتماعي". لم يعد من الممكن التظاهر بتشويه الماركسية أو الاعتراض على تأثير العلوم الاجتماعية على الخطاب الفلسفي. وهكذا، فإن التشكيك في الحياة المقبولة إنسانيًا يصبح حادًا، في مواجهة النزعة غير المسيّسة وغير المسيّسة للتعامل تقنيًا مع المشاكل الاجتماعية والسياسية. لقد أشار إيمانويل رينو في تجربة الظلم بالفعل إلى الانفصال القائم بين اللغة السياسية وتجارب معينة من الظلم الاجتماعي، والصعوبة التي تواجهها الفلسفة نفسها، في التفكير في تجربة الظلم أكثر من تعريف العدالة بشكل معياري. ما هو تأثير العلوم الاجتماعية على الفلسفة وكيف تقوم الأخيرة بدورها بتخصيبها؟ سؤال يؤدي تعميقه إلى تعريف محتمل لـ "الفلسفة الاجتماعية"، والذي قدمت مدرسة فرانكفورت مع ماكس هوركهايمر مقدماته. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أنه، بالمعنى الدقيق للكلمة، لا توجد فلسفة اجتماعية فرنسية، في حين أن "الفلسفة الاجتماعية" ليست مجهولة لدى الألمان. ومع ذلك، يشهد أكسل هونيث، في مجتمع الازدراء، على عدم وضوح الفلسفة الاجتماعية في المنطقة الناطقة بالألمانية، والتي من المفترض إما أن تحمي جميع التخصصات الموجهة نحو الممارسة، أو أن تكون بمثابة مكمل معياري لعلم الاجتماع الذي يتقدم بشكل تجريبي. ... المصطلح، وفقًا لفرانك فيشباخ، لا يحظى بتغطية إعلامية جيدة، بما في ذلك بين علماء الاجتماع، ويتميز بعدم دقته (سيكون بمثابة "رؤية اجتماعية" للأشياء). ومع ذلك، يمكننا تحديد الموضوع والسؤال الحاسم الذي تطرحه علينا الفلسفة الاجتماعية وتطرحه علينا: "ما هي الحياة المشوهة، المنحطة، المغتربة؟"، ولم يعد "ما هي الحياة الناجحة؟" تضاعف الغرض من خلال عمل أكسل هونيث عندما أعلن أن هذه "النظرية النقدية" الجديدة لها الأولوية في "تحديد وتحليل عمليات تطور المجتمع التي تظهر كتطورات أو اضطرابات مفقودة، أي "الأمراض الاجتماعية". وعلى هذا النحو المحدد، تميل الفلسفة الاجتماعية إلى تمييز نفسها عن الفلسفة السياسية القديمة، التي فهمها أرسطو على أنها شرط "للحياة الطيبة"، والأخلاق التي تؤدي إلى السياسة. وأن تنأى بنفسها أيضًا عن محاولات "التعافي" الكانطية الجديدة، وعن النضال الذي يقوده بعض علماء الاجتماع ضد ماركسية الأممية الثالثة. فهو يجسد أكثر من أي مجال آخر المعضلة السياسية الكبرى التي تقوض الفكر الاجتماعي وتقسمه: الإصلاحية أم الثورة، أي جانب يجب أن نعتمد؟ ألا تترجم بطريقة مميزة ما أسماه لويس ألتوسير "الصراع الطبقي من الناحية النظرية"؟

ومن ثم فإن العلاقة بين المجتمع المدني والدولة (التي أثارها هيغل بالفعل)، بين الاجتماعي و(؟) السياسي، هي التي تصبح الشخصية الحاسمة لهذه الفلسفة المتجذرة في القرن الثامن عشر، والمهتمة بولادة مجموعات سكانية جديدة، جماهير وطبقات غير مسبوقة، والتي أكد بعدها الاجتماعي أوغست كونت - بما أن الأمر يتعلق بإصدار "حكم اجتماعي" ضد "الفحص الشخصي" - وسان سيمون، وأخيرا ماركس نفسه، الفيلسوف الذي "أعاد حقن "الملموسة والطبيعية" في مجتمع يتكون الآن من أفراد طبيعيين ومتأثرين، وحتى يعانون، على حد تعبير إيمانويل رينو وأكسيل هونيث. من خلال الاشتراك في "الأنطولوجيا العلائقية" لماركس، مؤسس العلاقات الاجتماعية، من الممكن، وفقًا لفرانك فيشباخ، تحديد التفرد بالإضافة إلى عزل عملية إلغاء التفرد للإنسان الذي يعيش في المجتمع (إنتاج البشر، ماركس مع سبينوزا). حيث نلاحظ أن الفلسفة الاجتماعية لا تتجاهل مسألة الذات أو الذاتية، حتى عندما تقوم بنقدها، لحساب الشحنة النوعية للوجود الفردي والاجتماعي، الذي "قوته على الفعل"، باستخدام مصطلح سبينوزي، يأخذ المعنى فقط في العالم الاجتماعي. هناك خمسة معايير لتحديد الفلسفة الاجتماعية.

1) إنه يعترف بالاستقلالية عن المجتمع والحياة الاجتماعية، ولذلك يعتبر فكرة "القيد" و"القاعدة الاجتماعية"، مثل علم الاجتماع الذي يرتبط به دون الخلط معه.

2) إنها في حد ذاتها مدرجة في سياق اجتماعي، وبالتالي يتم تعريفها على أنها "فلسفة عملية"، من حيث أنها تهدف (على عكس الفلسفة الأخلاقية والفلسفة السياسية) إلى إحداث تحول اجتماعي، أي "تربويًا" (مع العلم أن "المجتمع هو الذي يدير" المدرسة وليس العكس")، أو في العمل، مع أفق مجتمع "أقل مرضا" وأكثر عقلانية.

3) تشخص الفلسفة الاجتماعية ما هو الخطأ فيما هو موجود، وتعيد إنتاج إيماءة كانط في جوابه العمومي عن سؤاله النقدي "ما هو التنوير؟"

4) وهي مسؤولة عن تقييم ونقد ما هو موجود، ولا سيما من خلال تحديد "التطورات المفقودة" للحياة في المجتمع (بتعبير أكسل هونيث)، دون الخضوع لافتراضات معيارية.

5) تريد الفلسفة الاجتماعية تحديد وتعيين متلقيها، أو الوكلاء الذين يحتمل أن "ينقلوا وجهة نظرها اجتماعيًا"، ومن خلال تنظير "الاهتمام بالتحرر" (يورغن هابرماس)، تكشف عن نفسها كمتحدث باسم المهيمنين (انظر أيضًا جاك رانسيير في ليلة البروليتاريين والفيلسوف وظله).

من الواضح أن ما يريد فرانك فيشباخ أن يفعله في هذا العمل هو أن يشهد على وجود فلسفة كثيرا ما تكون مخفية على أساس أنها تعبر في النظرية عن قضايا سياسية بحتة، من خلال ظهور "المسألة الاجتماعية". من خلال تسييس ما هو اجتماعي ورفض تصور السياسي في الشكل الحصري للقانون-الرسمي، لا يمكن للفلسفة الاجتماعية أن تتجاهل، دعونا نكرر، علاقتها بالعلوم الاجتماعية؛ وليس من المستحيل أن تعترف بنفسها في "بؤس العالم" لبيير بورديو، وأن تنفصل في الوقت نفسه عن سوسيولوجيا "الخبراء"، إذ أن غرضها ليس "ترجمة" الإقصاء والهشاشة الاجتماعية والإنكار. "الاعتراف باللغة الفلسفية، ولكن لإظهار الوضع الذي يعيشه الأفراد والتفكير فيه: "يبدو لي أن الميزة الكبيرة للفلسفة الاجتماعية على العلوم الاجتماعية ترجع على وجه التحديد إلى حقيقة أنه، دون وضع أدوات لغة تقنية للخبراء، إنها قادرة على التعبير مباشرة إلى اللغة العادية التي تصاغ بها دوافع أولئك الذين يناضلون ضد ظروف هيمنتهم." (بيان الفلسفة الاجتماعية). وهكذا فإن فرانك فيشباخ يبعد نفسه عن تمثيل معين لـ "الاجتماعي" - الذي انتقده نيتشه وهيدجر - وأيده بعض علماء الاجتماع (اختراع الاجتماعي، عمل جاك دونزيلوت) بقدر ما يبعد نفسه عن تعبير فلسفة سياسية غير حساسة للمفاهيم الاساسية التحليلية مثل الاغتراب والتشيؤ والنضال من أجل الاعتراف وما إلى ذلك. فما هي قيمة علم الاجتماع الذي لا يتغذى بالمفاهيم التي صاغتها الفلسفة الاجتماعية، والفلسفة الاجتماعية الغريبة عن الأبحاث التي تجريها العلوم الاجتماعية؟

في أعقاب مدرسة فرانكفورت، يعين فرانك فيشباخ وظيفة نقدية بارزة للفلسفة الاجتماعية، إلى جانب مهنة إرشادية، في اتصال مع العلوم الاجتماعية. وقرب نهاية العمل، يواجه اعتراضات كبيرة، ويحاول "حلها": ألا تحافظ الفلسفة الاجتماعية على شكل من أشكال "الجوهرية" غير المعترف بها من خلال تأسيس نفسها ضمنيًا على القيم الأخلاقية (المرتبطة بفكرة الذات؟ -الإدراك في المجتمع وما إلى ذلك)؟ يجيب المؤلف بتحديد أن محتوى هذا "المثال التنظيمي" (ذو الدلالة الكانطية القوية) لا يهم كثيرًا بقدر ما ينطلق النقد السياسي والاجتماعي من الأنثروبولوجيا التي أدت إلى تحديد "الحد الأدنى من الظروف الاجتماعية للتعبير دون قيود على مُثُل الحياة". للإنسان "(تشارلز تايلور، مصادر الذات. أساس الهوية الحديثة). لذلك نجد انتقاد الذات والذات الأولية "فيما يتعلق بالغايات التي تدافع عنها". وفي السياق نفسه، ألا يؤدي مفهوم "علم الأمراض الاجتماعي" إلى تغذية معيارية معينة رفضتها الفلسفة الاجتماعية مسبقًا ولكن تم إعادة تقديمها خلسةً؟ جاك رانسيير، في هذه الحالة، هو الذي يشكك في هذا الافتراض: هل يجب على الفيلسوف أن يقوم بـ “النقد السريري” (مثل الطبيب الفيلسوف النيتشوي) ويقترح علاجات اجتماعية؟ إذا كانت هذه هي حالة النقد الاجتماعي، ألن يعاني المهيمن عليه مرة أخرى من خطاب الآخر، خطاب السيد الذي فقد جهله الخصب؟ باختصار، كان الهدف التحرري للفلسفة (سواء كان اجتماعيًا أو غير اجتماعي...) قد اختفى في هذه الحالة. سوف يشجع التشويق الأخير على قراءة هذا البيان للفلسفة الاجتماعية، وسيشجع الناس على استشارة وقراءة الأعمال الأخرى للمؤلف الذي أثبت "تفسيره" للماركسية أنه أصلي للغاية. فماهي النظرية الفلسفية التي تترجم هذا التقاطع بين السياسي والاجتماعي؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

..........................

المصدر

Franck Fischbach , Manifeste pour une philosophie sociale, éditions La Découverte, Paris, 2009.

مقدمة: نسعى جاهدين لتفسير العلاقة الاستعمارية من منظور التحليل النفسي استنادًا إلى عملين لأوكتاف مانوني هما كتاب أعلم ولكن...وكتاب سيكولوجية الاستعمار. لقد تعرضت تحليلات أوكتاف مانوني للاستعمار وإنهاء الاستعمار لانتقادات شديدة، منذ نشرها لأول مرة في عام 1950، من قبل إيمي سيزير وفرانز فانون. وبعد عشر سنوات، أعيد تقييمها، حتى أنها تظهر اليوم كأداة لتعزيز التحليلات المناهضة للاستعمار. دون أن يقتصر على اعتبارات غامضة تتعلق بوضعه كأبيض في دولة مدغشقر، يسعى مانوني إلى وصف خصوصيات العلاقة الاستعمارية، والعلاقات الإنسانية والنفسية التي نشأت في المستعمرات. وهو في سبيل ذلك ينطلق من العلاقات الاستعمارية كما هي موجودة بالفعل وتتجلى أمام عينيه، لتؤدي إلى المزيد من الاعتبارات السياسية، مما يطرح مسألة ما بعد الاستعمار. لقد قام أوكتاف مانوني (1899-1989) بتدريس الفلسفة والأدب لعدة سنوات في المارتينيك ومدغشقر. لمدة ربع قرن، عايش العالم الاستعماري، إما كمدرس، أو كمدير لخدمة المعلومات في المستعمرة، أو كشخص هامشي تم إجلاؤه أخيرًا. وقد أثرى مساره في قلب المستعمرات ممارسته للتحليل النفسي، حتى أصبح في بداية الستينيات أحد أعظم أصوات هذه الممارسة. إن إعادة النشر المتزامن لاثنين من أعماله تمنح القارئ إمكانية قراءة أكثر تفصيلاً، حيث أن بعض المفاهيم يتردد صداها من كتاب إلى آخر. فماذا يقصد الكاتب بعلم النفس الاستعماري؟ وماهي  المقترحات التي يقدمها للتخفيف من مضاره والتخلص من شروره؟

طرق اشتغال الإعتقاد

على سبيل المثال، يحتل مفهوم "الاعتقاد" مكانة مهمة في أعمال مانوني. إنه يرفض إدانتها، كما هو الحال في التقليد الفلسفي الكلاسيكي باسم المعرفة المثالية، مثل المعرفة السابقة للمنطق أو الصوفية. علاوة على ذلك، فإن الإيمان ليس نزعة دينية بحتة: فهو حاضر في العديد من التصرفات اليومية، ولكن بشكل خاص في القناعات التي من المرجح أن تتحول إلى قوة سياسية. إن بقاء السلطة يعتمد في الواقع على مجموعة من المشاعر التي تساعد على تقويتها، مثل احترام معايير معينة، والتعلق بقيم معينة، والتمسك بحقائق معينة. "أعلم جيدًا ولكن لا يزال..." يتألف من مقال في مجلة (نُشر في مجلة الازمنة الحديثة عام 1964)، بعنوان فرعي: "الاعتقاد". مانوني مختصر ولكنه دقيق وفعال. إنه لا يذكر النتائج ببساطة، حتى من علم الأعراق أو التحليل النفسي، ولكنه ينشر أسئلة تدعو القارئ (في ذلك الوقت، ولكن أيضًا اليوم) إلى تناول مشكلة الاعتقاد القائمة على سيكولوجية الأفراد والشعوب. ومع ذلك، لا بد من التذكير بالسياق العلمي في ذلك الوقت لفهم كيفية بناء هذه الأسئلة: يتم بعد ذلك طرح مسألة الإيمان على نطاق واسع، ولكن لا يزال يشار إليها في كثير من الأحيان بـ "المتوحشين" و"البدائيين"، كما نفهمهم. نظرية ليفي برول عن "العقلية البدائية". علاوة على ذلك، فإن عمليات إعادة القراءة العديدة التي تم اقتراحها لأعمال سيغموند فرويد في الستينيات (عمل جاك لاكان، ولكن أيضًا أعمال لويس ألتوسير، وما إلى ذلك)، أعادت أيضًا تشكيل شروط السؤال. ويجب استخلاص موضوع المقال من الصيغة التي تشكل عنوانه: "أعلم جيدا، ولكن لا يزال...". فالمؤمن يلفظها دائمًا عندما يشعر أن عقيدته (دينية أو أخلاقية أو غيرها) معرضة للنقصان. كما أن مانوني على حق في التحايل على النبذ المعتاد الذي يسعى إلى ربط الإيمان بشكل عام بالمعتقدات الطفولية والخرافات. لأن هذا "الطفولة" في الاعتقاد لا يفسر شيئًا ويمنعنا من الكشف عن وظيفته الجوهرية أو بنيته. ومن أجل توضيح هذه الصيغة بشكل مختلف، يعتمد مانوني على مصادر علم الأعراق، والمسرح (ترويض النمرة لشكسبير) أو الأدب (مذكرات كازانوفا)، أو حتى علم الاجتماع. ومن خلال عرض الأنواع المختلفة من المعتقدات التي تسمح له هذه الأمثلة بمواجهتها، فإنه يوضح أنه إذا كان الاعتقاد يحمينا من المعرفة التي تدعونا إلى التشكيك، فإنه يسمح لنا أيضًا بالرضا عن إنكار الواقع. ثم يطبق المؤلف هذه البيانات على الوضع الاستعماري ومعتقدات الملغاشيين وكذلك معتقدات المستعمرين. إنه يوضح أن الإيمان بالله، في الكون بأكمله أو في عبقرية الأسرة، التي تخصهم، يعمل بنفس الطريقة مثل أي اعتقاد: إنه وسيلة لتخفيف التبعيات الأفقية العنيفة لصالح ممارسات أقل قسرية. التبعيات العمودية.

الذات المستعمِرة والموضوع المستعمَر

قراءة العمل الثاني، سيكولوجية الاستعمار، تواجه القارئ بتحدي: يتمثل في معرفته، والمسافة التي تفصله عن الخمسينيات، وعلاقته بالاستعمار. إنه يتطلب وعيًا معينًا بالتاريخ الفريد الذي تم إدراجه فيه، ولكنه يسمح أيضًا بإسقاط لا يقل خصوصية في المعنى الذي يحمله في عصرنا. الميزة الأولى للكتاب هي فهم الوضع الاستعماري برمته. منذ البداية، تحدث مانوني عن «علاقة تبعية» بين المستعمَر والمستعمِر، بحيث لا يمكننا الحديث عن أحدهما بشكل مستقل عن الآخر. بل ويؤكد أنه إلى جانب هاتين الشخصيتين تظهر شخصية ثالثة هي «الاستعمارية». وإذا كان المستعمر شخصية قوية يخترع ويفرض علاقة التبعية، فإن المستعمر هو من يجد هذه العلاقة قائمة بالفعل ويستقر فيها، فيستغلها. ولذلك فإن الاستعماري يدعو إلى تحليل أكثر تعمقا، لا سيما أنه يطمس الخطوط باستمرار: إذا لم يقدم نفسه أبدا كعدو - كما يفعل المستعمر - ولكن كأجنبي (يؤثر على أنظمة الضيافة المحلية)، فإن الاستعماري يقدم نفسه على أنه عدو. ومن ناحية أخرى، يستولي الاستعماري على سلطة راسخة ويثير ردود فعل دفاعية من جانب المستعمَر.

من خلال النظر إلى العالم الاستعماري برمته، كنوع من "المرحلة" (كما تسميها المقدمة) حيث يجد كل من الأبطال أنفسهم يلعبون دورًا يعتمد على دور الآخر، يفتح مانوني مساحة لعلم النفس بين الأعراق، من تطبيق التحليل النفسي إلى فهم الوضع الاستعماري والعلاقات الذاتية التي يستحثها. عند هذه النقطة، ينسجم العمل مع الوضع المعاصر، حيث يجعل الكثير من المعلقين العلاقات بين الثقافات علاقات أحادية للهيمنة. وهكذا يستطيع مانوني العودة إلى مسألة العنصرية: كيف نفسرها، وخاصة كيف نتعامل معها تحليليا، لأنها تفترض أن مفهوم "العرق" معطى؟ يشعر العنصري بأنه ينتمي إلى "عرق" ويرى "العرق" في الآخرين قبل الفرد. ومن وجهة نظر التحليل النفسي، يؤكد المؤلف أن العنصرية تتشكل تدريجياً. وهو ينشأ أولاً من الفضول والتعاطف وفي كثير من الأحيان من الانجذاب الجنسي التلقائي تجاه الآخرين. في الوقت نفسه، نحن نبحث عن أنفسنا في الآخر: نزيّنهم بإسقاطاتنا الخاصة، بتوقعاتنا الخاصة؛ إنه يمس في النفس الإنسانية عمقا يضطرب فيه الفكر، وترتبط فيه الإثارة بشكل غريب بالعدوان والعنف. باختصار، يُسقط العنصري على الآخر صورة العيب التي تخيفه وتبهره. لقد فقد كل الحس النقدي. وما يزيد من تفاقم العنصرية هو أن الشخص الذي يتعرض للعنصرية يتخذ موقفا شخصيا ويظهر إرادته. بالنسبة لمانوني، العنصرية هي بناء عقلاني زائف لتبرير المشاعر التي يكون سببها الجذري مخفيًا في اللاوعي.

بروسبيرو وكاليبان

ويستمر هدف تحديد نوع المستعمر والعنصري في محاولة شرح كيف يتم بناء شخصية الأوروبي، بعد أن أصبح مستعمرًا، على أساس عقد اللاوعي. وبعيدًا عن الأسباب التاريخية للاستعمار، يسعى مانوني مرة أخرى إلى شرح أهمية الأسباب النفسية التي تؤثر على عقول المستعمرين. ومن هنا جاء استخدام الشخصيات الأدبية والكلاسيكية التي يمكن للجميع إعادة صياغتها. على جانب المستعمَر، يتم استكشاف شخصية كاليبان - وهي عبارة عن الجناس الناقص تقريبًا لآكل لحوم البشر - ولكن أيضًا شخصية يوم الجمعة، على نطاق واسع. يعاني كاليبان من الاستياء الناجم عن كسر الاعتماد على بروسبيرو، لأن الأخير خان ثقته. على الجانب الاستعماري، فإن روبنسون كروزو هو الذي يتم تعبئته: فنحن نصبح استعماريين فقط مدفوعين بعقد طفولية يتم إخلاؤها بشكل سيئ خلال فترة المراهقة - وهي مجمعات موجودة مسبقًا، وبالتالي، التجربة الاستعمارية. إن القراءة المناهضة للاستعمار للعلاقة بين بروسبيرو وكاليبان تقود مانوني إلى جعل العلاقة الاستعمارية نسخة منقحة من جدلية السيد والعبد الشهيرة (التي اقترحها ألكسندر كوجيف بناءً على نص لهيجل): بروسبيرو (هذا يعني القول) (المستعمر) ينكر على كاليبان (المستعمر) أي شخصية؛ فقط شخصيته هي التي تهم، لذلك فهو لا "يلتقي" بكاليبان حقًا. ما يفتقر إليه المستعمر، مثل بروسبيرو، ما يُحرم منه، هو عالم الآخرين، العالم الذي يحترم فيه الآخرون. يلجأ مانوني دائمًا إلى منطق التحليل النفسي، ويُرجع هذا الهروب إلى الحاجة إلى الهيمنة ذات الأصل الطفولي. وبالتالي، فهو لا يمنح أي إمكانية للاستعمار لتغيير نفسه: فالأخير محكوم عليه بإعادة بناء العالم الذي تركه دائمًا، ولكن في مكان آخر.

خاتمة

من ثم تبقى مسألة بقاء الاستعمار في وضع “ما بعد الاستعمار” الذي نعيشه اليوم في أوروبا. ومن أجل توفير سبل للتفكير، يستكشف مانوني المشاكل التي أثيرت خلال الاستقلال: كيف تم التفكير فيها؟ من المؤكد أن المستعمر المرفوض قد أعاد حريته للمستعمَر، لكن بشرط أن يتصرف كما يشاء. وبعبارة أخرى، بمجرد عودته إلى الوطن، يثابر المستعمر على السمات المكتسبة؛ ولم تفارقها روح الاستعمار. تسمح لنا تحليلات مانوني النفسية بتفسير هذه الظاهرة؛ لكن المؤلف يشير مع ذلك إلى قانون لا يقبل أي استثناء: كل شعب قادر على حكم وإدارة نفسه. ويبقى أن نرى كيف سيعيد المستعمر والمستعمَر بناء أنفسهم وإعادة تشكيل أنفسهم في الوضع المتحرر. فكيف يحافظ الاستعمار على ضرورة الاستبداد للدول التابعة ووجاهة الديكتاتورية بالنسبة للشعوب التي مازالت ترزح تحت نيره التبعية والظلم والاستغلال؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

...........................

المصادر

Octave Mannoni, Je sais bien, mais quand même..., édition Seuil, Paris, 2022

Octave Mannoni, Psychologie de la colonisation, édition Seuil, Paris, 2022

تُعد فلسفة التعليم فرعا من الفلسفة تهتم في طبيعة وأهداف التعليم من المنظورين النظري والعملي. هي احدى الفروع التطبيقية للفلسفة، موجّهة لإستكشاف الأهداف التعليمية والطرق والمبادئ والأشكال والمعاني. مجالات الإختبار المشتركة في فلسفة التعليم تضم التالي:

1- المواقف والقيم وعقائد الافراد والمؤسسات، وكيف تؤثر هذه المنظومة على فلسفة تعليم الافراد او التعلّم في البيئات التعليمية – سواء من حيث المنهج الأساسي او بشكل غير مباشر.

2- تحليل مختلف الاتجاهات التربوية ضمن التعليم.

3- طبيعة المعرفة

4- العلاقات بين التلاميذ والمعلمين والمربّين الآخرين.

5- حالة التعليم في مختلف السياقات والمواقف.

6- قضايا ذات ممارسات وسياسات تعليمية تطبيقية. مثلاً، النقاشات قد تركز على مواضيع مثل التقييمات والاختبارات الموحدة، تمويل المدارس، التأثيرات السوسيواقتصادية على المخرجات التعليمية.

7- تداخل فلسفة التعليم مع مواضيع اخرى مثل التاريخ، علم النفس، علم الاجتماع، بالاضافة الى مجالات اخرى للفلسفة مثل ابيستيمولوجي والميتافيزيقا والاخلاق والفلسفة السياسية وفلسفة العلوم وفلسفة الذهن.

الفلسفات الرئيسية للتعليم؟

هناك عدة مساحات ضمن فلسفة التعليم، رغم ان كلها تقع عادة ضمن واحد من ثلاثة  معسكرات او تقاليد فلسفية:

1- فلسفات مرتكزة على الطالب

2- فلسفات تركز على المعلم

3- فلسفات تركز على المجتمع

انواع الفلسفات التعليمية:

الضرورية Essentialism

يركز التعليم الضروري على ما يعتقده مؤيدوها من المهارات الضرورية والموضوعات التي يجب ان يتعلمها كل الاطفال الشباب كمستوى مطلوب في سنوات تكوينهم، رغم ان هناك ايضا أمثلة على التعليم الضروري في المدارس المتوسطة وفي التعليم العالي. تعاريف "الضروري" تتغير اعتمادا على الثقافة، ولكن في العادة تتضمن ترسيخ القراءة والكتابة ومهارات الرياضيات. تعتمد الفلسفة الضرورية على نقل المعرفة من المعلم الى التلميذ، وتُعتبر كأتجاه تقليدي للتعليم والتعلّم.

الدائمية perennalism

التعليم الدائمي يقوم على فكرة ان التلاميذ يطورون المعرفة والمهارات التي ستكون مهمة و ملائمة بشكل دائم ضمن المجتمع، مع التركيز على مبادئ بدلا من الحقائق، وعلى التطور الشخصي بدلا من المهارات الأساسية.

التقدمية progressivism

التقدمية التعليمية وتُعرف ايضا بـ  protractivism ،هي نقيض للضرورية وتركز على الاستكشاف،  والتعلم التجريبي، حيث ان المتعلمين يتم دعمهم في تطوير حل المشكلة ومهارات التفكير النقدي بالاضافة الى المهارات الاجتماعية. التعلّم هو عادة ما يكون تعاونيا ويركز على المسؤولية الاجتماعية وخدمة الجالية والتعليم مدى الحياة.

إعادة البناء الاجتماعية social reconstructionism

وهي تركز على المشاكل الاجتماعية  - مثل تغيرات المناخ والعنصرية والفقر والعنف – وتعليم الاطفال لكي يصبحوا مؤهلين لمعالجة وحل تلك المشاكل. المجالات المفضلة لتطوير المتعلمين تتضمن مهارات حل المشكلة والوعي بالعدالة الاجتماعية والتعليم.

الوجودية Existentialism

وتؤكد على تعليم موجّه للطالب، مع تركيز المتعلمين وبشكل اكبر على المجالات الدراسية التي تعمّق شعورهم بالذات – شخصيتهم وعقائدهم – بالاضافة الى غاياتهم، الهدف وفهم الحياة ذاتها.

الوضعية

وهي فلسفة تركز على المعلم وتدّعي ان المعرفة هي الحقيقة المطلقة، والطلاب يتعلمون هذه المعرفة من خلال أساليب تدريس يقودها المعلم.

البنائية

وهذه ترفض فكرة ان المتعلمين يستوعبون المعرفة بشكل سلبي. بدلا من ذلك، هي تزعم ان الطلاب يبنون معرفة ومهارات مرتكزة على تجاربهم وعلى المعلومات التي يتلقونها ويعالجونها.

السلوكية

ايضا تُعرف بنظرية التعلم السلوكي، وهي تفحص كيف يتعلم الناس، وتزعم ان كل السلوك يتم تعلّمه من خلال التفاعلات البيئية. وفق هذا الاعتبار، تعتمد التربية السلوكية على التعزيز لتسهيل التعلم – المتعلمون يتلقّون تغذية مستمرة حول آدائهم من خلال تقييم واجبات منزلية، درجات للاختبار وغيرها.

المحافظة

وهي تهتم بالمنهج التقليدي وطرق التعليم. المتعلمون يتم تشجيعهم للاستيعاب ضمن ثقافة قائمة، ولا يُشجعون على التعبير عن الفردية. التعليم الديني ايضا من المحتمل ان يدخل في المنهج.

الانسانية

التعليم الانساني وبالتشابه مع إعادة البناء الاجتماعية والوجودية، هو فلسفة للتعليم مرتكزة على الطالب، تشجع المتعلمين للتحكم بتعليمهم. الطلاب يُطلب منهم  دراسة المواضيع التي تهمهم كثيرا وتُعطي أفضلية للنشاطات التي تشرك كل شيء بدءا من أذهانهم الى المهارات التطبيقية وصولا الى شعورهم ومهاراتهم الاجتماعية وقدراتهم الفنية.

البرجماتية

وتزعم ان التعليم يجب ان يعلّم المتعلمين المعرفة والمهارات التطبيقية للحياة. البرجماتيون ايضا يعتقدون ان التعليم يجب ان يشجع الطلاب على النمو ليصبحوا أفضل.

أبرز الأصوات في الفلسفة التعليمية

فلاسفة التعليم يمكن تعقّبهم الى اليونان القديمة، الفلاسفة الاوائل مثل افلاطون وسقراط قدّموا افكارا حول التعليم ومدى تأثيره الهام على المجتمع. ومنذ قرون، تطورت الافكار التعليمية والفلسفات بمدخلات من مختلف الفلاسفة والتربويين. بعض هؤلاء:

1- جان جاك روسو: بدلا من التركيز على الاساليب التطبيقية لتقاسم المعرفة، اعتقد روسو ان التعليم يجب ان يطور شخصيات المتعلمين ويرقى بتعليمهم الاخلاقي، كما انه مهد الطريق لمجيء الفلسفة الكانطية.

2- الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانط: اعتقد ان التعليم ضروري للغاية، قائلا، ان "الكائن البشري يصبح انسانا فقط من خلال التعليم. فهو لاشيء سوى ما يصنعه التعليم منه".

3- جون ديوي: الفيلسوف الامريكي جون ديوي طور فكرة ان التفاعلات الاجتماعية تقود التعليم الفعال، وان المدارس يجب ان تكون مؤسسات اجتماعية.

4- هارفي سيجل Siegel: في الاونة الاخيرة دعا الفيلسوف الامريكي هارفي سيجل لأجل اشاعة التفكير النقدي وتطوير المهارات كعنصر اساسي في التعليم.

أهداف الفلسفات التعليمية؟

هناك مختلف أشكال السياسات التعليمية، لكن في العادة تهدف الى المساعدة في تطوير منهج وتعليم تقنيات تساعد المتعلمين في الحصول على المعرفة والمهارات المطلوبة للنجاح في العالم الواقعي. هؤلاء الفلاسفة ايضا اعتادوا على مساعدة أطراف مساهمة فاعلة في التعليم، مثل صنّاع السياسة التعليمية والمطالبون بتعليم ذو مستوى عالي. فلسفة التعليم في المملكة المتحدة تتم من خلال جمعية فلسفة التربية في بريطانيا العظمى PESGB، التي تدير مجلة فلسفة التعليم.

الفرق بين فلسفة التعليم والفلسفة التعليمية؟

فلسفة التعليم هي فرع من الفلسفة تهتم بالتعليم. اما الفلسفات التعليمية فهي عادة طُورت ضمن مؤسسات تعليمية او منظمات لتوضيح المعتقدات التربوية الأساسية للمنظمة او المؤسسة.

***

حاتم حميد محسن

..........................

By Ruth Brooks, North wales management school, Feb20, 2023

"يجب أن نسمي الفلاسفة، وليس أصدقاء الظن، أولئك الذين يرتبطون في كل شيء بالماهية"

مقدمة: يعد أفلاطون أحد كبار فلاسفة الفكر العالمي، وفي العصور القديمة اليونانية على وجه الخصوص. يقدم عمله، بشكل أساسي في شكل حوارات، نفسه على أنه بحث صارم عن الحقيقة، دون حدود للمجال. يغطي تفكيره السياسة وكذلك الأخلاق وعلم الجمال والعلوم. إن الثقة في قدرة الإنسان على معرفة الواقع هي ما يشكل وحدة عمل أفلاطون. ضد السفسطائيين، الذين يعلمون فن الإقناع والإرضاء، يثير أفلاطون مسألة الخطاب الحقيقي. الواقع يمكن معرفته. لا يقتصر الإنسان على انطباعاته: فمن خلال ما يشعر به، يمكنه الوصول إلى واقع يتجاوز حدوده. وبالتالي فإن عمله موجه في اتجاهين متكاملين: من ناحية، البحث عن الحقيقة حول حقائق محددة (العدالة، العالم، على سبيل المثال)؛ ومن ناحية أخرى، تسعى إلى تبرير إمكانية معرفة الحقيقة. لذلك يرى أفلاطون أن الحوار بحث مشترك عن الحقيقة، مشترك لأنه لا ينتمي إلى أحد. ضد السفسطائيين وعلى النقيض من السفسطائيين، الذين رأوا في الحوار مجرد مسابقة خطابية، فقط صراع من المونولوجات التي تقتصر نهايتها على إخراس الخصم، يهدف الحوار الأفلاطوني، في الواقع، إلى السماح للمشاركين بمواءمة خطاباتهم مع الحقيقة. إن السفسطائيين، على الأقل كما وصفهم أفلاطون، برجماتيون، لا يهمهم إلا النجاح، ولا ينزعجون من الشكوك المتعلقة بالقيم: فالإنسان، كما قال بروتاجوراس، هو مقياس كل الأشياء. وعلى العكس من ذلك، تؤكد الأفلاطونية تجاوز القياس. وليس بسبب صعوبة المواضيع التي يتناولها، بل لأن مزاجهم السيئ يقودهم إلى رفض هذا التعالي الذي بدونه لا يكون لكلمة الحقيقة أي معنى، فإن السفسطائيين يجعلون الأمر ينتهي بتناقض غير قابل للحل في معظم الأحيان في الحوارات التي يشاركون فيها.

البدء من الجهل

لا يمكن للمتكلم أن يعطي الإجراء: يمكنه فقط أن يخضع له. إن الحوار الأفلاطوني هو نوع من المحادثة دون معلم، ولا مكان للباحث (السفسطائي) هناك، ولا يتم الاعتراف إلا بالجهل - مهنة تشكل اللحظة الافتتاحية للفلسفة لأنها الحب (فيليا)، وبالتالي الرغبة، وبالتالي. نقص المعرفة (صوفيا).ولكن المعرفة التي هي معرفة حقيقية، في حين أن معرفة السفسطائيين، المنفصلة عن الحقيقة، هي فقط ظاهرة. السفسطائي لا يريد أن يعرف، يريد أن يبيع ما يقدمه على أنه معرفته. إذا كان محرك الخطاب السفسطائي ماليا، فإن محرك الحوار الأفلاطوني مثير: هذه الرغبة في الحقيقة التي يظهر فيها أفلاطون، في نفس الوقت حقيقة كل الرغبة، الرغبة الحقيقية. هذا ما علمته ديوتيما لسقراط، بحسب قصة الندوة: “الحكمة من أجمل الأشياء، والحب يربط حبه بالجمال؛ ويترتب على ذلك أن الحب فيلسوف حتماً. »

اذهب إلى ما هو أبعد من المظهر

إن هذا التعارض التاريخي والمنهجي بين أفلاطون والسفسطائيين يضاعف من تعارض العالمين (المعقول والمفهوم)، الذي يشكل إطار النظام الأفلاطوني. ويرتبط السفسطائيون بالفيلودوكسيين، أي “أصدقاء الرأي” حرفيًا، الذين تعتمد خطاباتهم على المعرفة الحساسة والظاهرية للأشياء المادية. أما الفلسفة، على العكس من ذلك، فستكون في الأساس متناقضة، حيث تعارض الواقع مع المظاهر، والعلم مع الآراء. وبالتالي فإن الحوار الأفلاطوني سيكون في كل مرة محاولة للسمو فوق تعدد المظاهر، والوصول إلى الواقع الواضح.

رمزية الكهف: الابتعاد عن الآراء الخاطئة

تم وصف طريق هذا التحول المتناقض في قصة الكهف (الجمهورية، السابع).

المشهد الأول، أو المرحلة الأولى، يصور رجالًا مقيدين في كهف، وظهورهم إلى نار تبرز، على الجدار الوحيد الذي يمكنهم رؤيته، ظلال الأشياء التي يستعرضها حاملوها (يحدد أفلاطون الطبيعة: "التماثيل وغيرها من الأشكال ذات الطبيعة البشرية"). الحجر والخشب، وجميع أنواع الأشياء التي تصنعها يد الإنسان"). إن العادة، بالإضافة إلى حقيقة أنهم لم يروا أي شيء آخر أبدًا - أو لا يتذكرون أنهم رأوا - تجعلهم يخطئون بين هذه الظلال والحقيقة نفسها. المرحلة الثانية، التي تهدف إلى كسر هذا الوهم الأول، ستكون بالتالي مؤلمة: فهي تصف المعاناة التي سيعانيها هؤلاء العبيد إذا نزل أحد لتحريرهم من قيودهم وأجبرهم على تحويل أنظارهم نحو النار، لرؤية وجود أشياء أكثر صدقًا والاعتراف بأنهم لم يروا سوى ظلها.لكن الإبهار يمنع هذا الاعتراف، وسيكون من الضروري، في مرحلة ثالثة، إخراجهم من الكهف حتى يبدأوا في قبول أدلة الحقائق على درجة أعلى من الحقيقة (التماثيل والمجسمات الأخرى)، التي كانت الأشياء التي مرت أمام النار (الظلال) مجرد صورة. وأخيراً، عندما يعتادون على هذه الحقائق، فإن المرحلة الرابعة ستتيح لهم الوصول إلى التأمل المباشر للشمس، الذي يسمح لهم بالوجود من خلال حرارتها، ومن خلال نورها، أن يعرفوا. ثم يعودون إلى الكهف لتحرير أولئك الذين لم يتبعوهم، ولكن، بعد أن انبهروا هذه المرة بالظلام، فإن حماقاتهم ستجعلهم موضوعًا لكل السخرية، أو حتى - إذا أصبحوا مزعجين - للإساءة التي يمكن أن اذهب إلى الموت.

من المحسوس إلى المعقول

تصف المراحل الأربع لهذا الرمز أربع درجات من الوجود وأنماط المعرفة الأربعة التي تتوافق معها.

الأولان ينتميان إلى العالم المرئي: أولاً، هما الصور أو النسخ التي تتوافق معها المحاكاة؛ ومن ثم فإن الأشياء المرئية نفسها هي المرتبطة بنوع من الإيمان الإدراكي. أما الأخيران فيشكلان العالم المعقول الذي يبدأ بالرياضيات، أي الاستدلال الخطابي المنطلق من الفرضيات، بينما العقل الحقيقي لا يفترض شيئًا، بل يربط كل شيء بالمبدأ الأسمى الذي هو فكرة الخير. فمن ناحية، عالم ما يظهر، أو الصور أو الأصنام؛ ومن ناحية أخرى، عالم الموجود، عالم الأفكار، الذي خاصية أن تكون غير مرئية، أي قابلة للتفكير (نومينا). كما تصف أسطورة الكهف الطريق الذي يؤدي من واحد إلى آخر، "من ما هو كائن، إلى ما هو موجود" - وهو الطريق الذي يصل من خلاله "أفضل ما في النفس" إلى تأمل "ما هو أفضل في الواقع".

الفيلسوف يتعلم كيف يحيا حياة حقيقية

وبالتالي فإن الوصول إلى معرفة الأفكار لا يثير صعوبات منطقية فحسب، بل يثير في المقام الأول صعوبات أخلاقية أو ميتافيزيقية. يجب أن تتحرر النفس، ليس فقط من الخضوع، بل أيضًا من وساطة العالم المحسوس: يجب أن تُعاد إلى حالتها التي كانت عليها قبل أن تتجسد في جسد عن طريق الولادة. يقول أفلاطون في محاورة فيدون: "أن تتفلسف يعني أن تتعلم كيف تموت". هذا التحرر هو مناسبة للتذكر، حيث تعيد النفس اكتشاف الأفكار التي تتغذى عليها، عندما تتبع، إلى المكان فوق السماوي، موكب الآلهة؛ ثم خنقت الحياة الجسدية هذه الذاكرة، ولذلك فإن أصدقاء الحكمة هم أعداء الجسد الذي يُنظر إليه على أنه عائق أمام الارتقاء نحو المعقول. لذلك هناك سبب لقلب القيم المشتركة: في هذا العالم المقلوب الذي هو الأفلاطونية، تتوافق الحياة الحقيقية مع ما يعتقد الرأي العام أنه موت، أي الحالة التي تولد فيها الروح من جديد أو تبعث في كل مرة تنفصل فيها مرة أخرى. من قبره الجسدي. إن عالم الأفكار هو بالفعل موطن الروح؛ بين الأفكار والروح هناك علاقة وثيقة: غير قابلة للتدمير وغير قابلة للتجزئة، فهي تفلت من الحواس كما تفلت من الصيرورة.

"لا يسمح لأحد بالدخول هنا إلا إذا كان هندسيا"

ويرتكز هذا الزهد على عدد معين من الوسطاء الذين يضمنون العبور من عالم إلى آخر. كان الحب واحدًا منها، الذي من خلاله استحوذ سقراط على حاشيته في الفلسفة، لأنه، في البداية، الحب الجسدي للجسد، أصبح حبًا للجمال المثالي غير المرئي، ومن خلال الإنجاب، حبًا للخلود.ولكن، في الإطار الأكثر مؤسسية للأكاديمية، يفضل أفلاطون استبدالها بالرياضيات: فهي أيضًا، بدءًا من الأشكال المعقولة، تؤدي إلى حدس "الأرقام المطلقة، والأشياء التي لا يجب أن تكون رؤيتها ممكنة لأي شخص آخر إلا من خلال الوسائل". الفكر. وهذا هو معنى النقش الذي ظهر على قاعدة الأكاديمية: "لا يدخل هنا أحد إلا إذا كان عالمًا بالهندسة!" ": قبل الانخراط في الفلسفة، يجب على المرء أولاً أن يحرر روحه من خلال الرياضيات. ومع ذلك، فإن الرياضيات الضرورية للعلم لا تكفي لذلك: فمبادئهم هي فرضيات لا يستطيعون الإجابة عليها، أكثر مما يمكنهم الرد عليها إلى الاستنتاجات التي يستخلصونها بشكل استنتاجي. الجدل وحده يؤدي إلى فهم المبادئ في حد ذاتها؛ فهي وحدها القادرة على تبرير مقترحاتها بالكامل من خلال ربطها بهذا المبدأ الأسمى الذي أطلق عليه أفلاطون اسم الخير والذي مثله في الكهف بالشمس.

بعد البحث عن الحقيقة يأتي الدور على تفسير الخطأ

الحوارات الأخيرة، التي تسمى "الجدلية" (فيدروس، بارمينيدس، السفسطائي، السياسي، فيليبوس)، تسعى إلى فهم مدى إمكانية الخطأ. لم يعد الأمر يتعلق بالبدء من الأمثلة لفهم ما هو مشترك بينها، وبالتالي الوصول إلى جوهرها، بل يتعلق بفهم كيف يمكن أن نخطئ، أي أن نقول ما ليس كذلك. لم يعد التفكير يتعلق فقط بالأفكار نفسها: بل أصبح مسألة فهم كيفية ارتباطها ببعضها البعض. في محاورة بارمينيدس، يضع الفيلسوف بارمينيدس الأيلي صعوبة في مواجهة سقراط الشاب من خلال الاعتراض على تماسك الفلسفة التي تؤسس لفصل واضح بين المعقول والمفهوم. ومن بين الأنواع الخمسة للوجود والراحة والحركة والنفس والآخر، يطور السفسطائي، من جانبه، مشاركة الأفكار في بعضها البعض، ومضمونها المتبادل. لا شك أن الراحة والحركة هما حصريتان للغاية بحيث لا يمكن أن يختلطا بأي شكل من الأشكال، لكن كلاهما، بقدر وجودهما، يشتركان في الوجود، ويمكن أيضًا أن يقال أن كل واحد من الثلاثة مختلف عن الآخرين ومثله، كلهم المشاركة في كل من نفسه والآخر. ويترتب على ذلك أنه يمكننا أن نقول عن الوجود شيئًا آخر غير الوجود؛ حول كل كائن يتكاثر الآخر، اللاوجود. ويمكن بعد ذلك طرح نتيجتين:

– مثلما يتم تحديد الكائنات الواعية من خلال مشاركتها في الأفكار، كذلك تعتمد الأفكار على بعضها البعض وفقًا للعلاقات الهرمية؛ ففكرة العدالة تشارك مثلاً في فكرة الفضيلة. الفكرة الوحيدة التي لا تشارك في أي فكرة هي التي تعتمد عليها جميع الأفكار الأخرى: فكرة الخير؛

– إذا لم نحترم هذه العلاقات، بل خلطنا أي فكرة مع أي فكرة أخرى، فإننا نجازف بالوقوع في الخطأ بقول ما ليس كذلك – ما هو السفسطائي.

إن البحث عن الحقيقة يصاحبه وعي حاد بحدود المعرفة. وهكذا تلجأ فلسفة أفلاطون إلى الأسطورة. هذه التسلسلات السردية التي تتخلل العديد من الحوارات لها حالات مختلفة. ومن الممكن التمييز بين ثلاثة بشكل رئيسي. بادئ ذي بدء، يتناول أفلاطون الأساطير الشعبية: في بداية محاورة فايدروس، يقول سقراط إنه، حتى لو لم يكن يعرف نفسه، لا يستطيع أن يدعي أنه يعرف ما إذا كان ما يقال عن هيبوسينتورس، أو الجورجون، أو بيغاسوس صحيح أم خطأ. ربما لا تكون الحكمة الشعبية أكثر انحرافا من العديد من المراوغات (الفروق الدقيقة). ثانيا، الأسطورة هي وسيلة لتمثيل ما لا نستطيع أن نعرفه. في محاورة فايدروس مرة أخرى، بعد أن أثبت خلود الروح، يوضح سقراط أنه ليس من الممكن معرفة ما يحدث لها بعد الموت: الطريقة الوحيدة للحصول على فكرة هي تخيل ما لا نعرفه مما نعرفه، هذه هي أسطورة الفريق المجنح، ولا يمكن أن يكون هناك علم للصيرورة، أي فيزياء علمية. إن الأسطورة الكونية (مثل أسطورة طيماوس)، من حيث موضوعها، لا يمكن أن تكون سوى رأي لا يحق لنا أن نتوقع منه أكثر من رؤيته متفقًا بشكل متناغم مع علم الوجود. أخيرًا، يمكن للأسطورة عند افلاطون أن تكون توضيحًا مثيرًا لما تم إثباته عقلانيًا مسبقًا؛ وهكذا فإن أسطورة الكهف، في بداية الكتاب السابع من الجمهورية، تكشف التمييز بين المحسوس والمعقول المقرر في الكتاب السادس.

خاتمة

اخترع أفلاطون شكلاً غريبًا عن ممارسة الفلسفة. يختفي صوت المؤلف. الأعمال مستقلة عن بعضها البعض. إنهم لا يفترضون المعرفة المكتسبة من تلك السابقة. يذهبون في اتجاهات فلسفية مختلفة. نواجه في عالمه تنوعًا كبيرًا في الشخصيات والآراء. ينفجر عمله في العديد من الأصوات. يضاف إلى ذلك عدم تجانس الخطابات: الأسطورة، والشهادات، والمسائل الرياضية، والأطروحة القانونية، والخطابة، وعلم أصول الكلمات، وما إلى ذلك. "حوارات أفلاطون" هو العنوان الذي ندرج تحته جميع أعمال أفلاطون، باستثناء بعض الرسائل. تبرز هذه الحوارات سقراط (وتلاميذه وكذلك الفلاسفة العظماء)، الذي يقود تفكيرًا فلسفيًا مقيدًا، إلى حد أن طريقة الأسئلة والأجوبة هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تقود الفرد حقًا إلى التفكير. لذلك يتيح الاستجواب للبشر أن يولدوا روحيًا (الماهية) ومعارضة الآراء تثير الاهتمام بالحقيقة (الجدل).  لذلك هناك ثلاث فترات رئيسية في حوارات أفلاطون:

– حوارات الشباب: لاخيس (عن الشجاعة)، يوثيفرو (عن التقوى)، وشارميدس (عن الاعتدال)

– حوارات النضج: محاورة فيدو (عن الأفكار)، والندوة (عن الحب)، وحوارات فايدروس (إيروس)، والجمهورية (عن العدالة)

– حوارات الشيخوخة: الثيئتيتوس (عن المعرفة)، والسفسطائي (عن الحقيقة)، والسياسي (عن المجتمع)، والقوانين (عن التشريع)، وهي غير مكتملة.

إن قراءة الحوارات الأفلاطونية تعني اختبار التنوع غير القابل للاختزال للمعرفة الإنسانية والبحث عن علاقة محتملة بينها. يتكون النشاط الفلسفي من إيجاد وحدة التعددية. والنتيجة التي يمكن الوصول اليها هي أننا نلتقي بجميع أنواع الأفلاطونيين، ولا توجد وحدة بينهم. والهم الذي يدفعهم هو حب المعرفة والبحث عن وحدتها. فماذا ترتب على صعيد القيم السياسية والاخلاقية والجمالية عن نظرية المعرفة الافلاطونية التي ظلت متمحورة حول نظرية عالم المثل؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.................

المصدر:

Victor Goldschmidt, Les Dialogues de Platon (Structure et Méthode dialectique). Paris, Presses universitaires, 1947 ;.

إنَّ النقد الثقافي لا يَعْني تحليلَ الأنساقِ الثقافيةِ الكامنةِ في النُّصُوصِ الأدبية فَحَسْب، بَلْ يَعْني أيضًا تَفكيكَ الأفكارِ الفلسفية الراسخة في الصُّوَرِ الإبداعية الفَنِّية، وإعادتها إلى أشكالها الأوَّلِيَّة في الواقعِ اليَوْمِي، وإرجاعها إلى جُذورها الاجتماعية في الأحداث الحياتية . والثقافةُ لَيْسَتْ تَجميعًا للكَلِمَاتِ وتَنميقًا للعِبَاراتِ وتَزويقًا للدَّلالاتِ، وإنَّما هي تَجسيدٌ للوَعْي الاجتماعي بَين مَا هُوَ كائن وَمَا يَنبغي أن يَكُون.وكُلُّ حالةٍ إبداعيةٍ تُمَثِّل اندماجًا بَين رُوحِ النَّصِّ ورُوحِ المُجتمعِ، مِمَّا يُسَاهِم في كَشْفِ جَوهرِ التاريخ شخصيًّا وجَمَاعِيًّا، وإظهارِ تَحَوُّلاتِ الفِعْل الاجتماعي تاريخيًّا وحَضاريًّا، وإبرازِ امتداداتِ سُلطةِ العملِ الأدبي أُفقيًّا وعَمُوديًّا .

والنقدُ الثقافي لَيْسَ مُوضةً عابرةً، ولَمْ يَجِئْ مِن العَدَمِ، ولا يَتَحَرَّك في الفراغ، بَلْ هُوَ تَجربةٌ إنسانية مُتكاملة لها جُذور اجتماعية عميقة، ومَصْدَرٌ أساسي للمَعرفةِ المُسْتَتِرَةِ في تفاصيل المُجتمع، وإعادةُ إنتاج للعلاقات الاجتماعية كأدواتٍ لُغَوية لتفسيرِ المفاهيم المُسيطرة على الواقع اليَوْمِي، وإعادةُ تَشكيل للتَّرَاتُبِيَّةِ الهَرَمِيَّة كَآلِيَّاتٍ ثقافية لتأويلِ الخِطَاب المُهيمِن على الأحداث الحياتية .

وإذا كانَ المُجتمع يَستمد سُلطته الاعتبارية مِن مَصادرِ المعرفة، فَإنَّ النقد الثقافي يَستمد طاقته الرمزيةَ مِن جُذوره الاجتماعية . وإذا اندمجت السُّلطةُ الاعتباريةُ معَ الطاقةِ الرَّمزية، فإنَّ مَرجعية اللغةِ سَوْفَ تَتَكَرَّس في الإبداعِ الأدبي وَالوَعْيِ الاجتماعي معًا، ويُصبح جَسَدُ اللغةِ بَحْثًا دائمًا عَن المَعْنَى، وتَجسيدًا مُستمرًّا للأنساقِ الثقافية القادرةِ على الجَمْعِ بَيْن المَركزي والهامشيِّ.

وكُلُّ عَمَلِيَّةٍ نَقْدِيَّةٍ لا تُصبح مَنظومةً حياتيةً شَرْعِيَّةً إلا إذا قامتْ على مُسَاءَلَةِ الأنساقِ الثقافية في تَحَوُّلاتِ الزمانِ والمكانِ داخل العمل الأدبي، واعتمدتْ على تَكوينِ نِقَاط تَوَازُن بَيْن المَعرفةِ والسُّلطةِ داخلِ اللغةِ والمُجتمعِ معًا، باعتبار أنَّ اللغةَ والمُجتمعَ هُمَا المَجَالان الحَيَوِيَّان للثقافةِ فِكْرًا ظاهرًا ونَسَقًا مُضْمَرًا ونِظَامًا وُجوديًّا .

وإذا كانَ الفَصْلُ بَيْن المَعْنَى والمَبْنَى في جَسَدِ اللغةِ يُؤَدِّي إلى انهيارِ العملِ الأدبي، فإنَّ الفصل بَين الرُّوحِ والمَادَّةِ في النَّقْدِ الثقافي يُؤَدِّي إلى انهيارِ الوَعْي الاجتماعي . وهذا يَدُلُّ على ضَرورة التلاحم بَين المَرجعيات الفِكريةِ والاجتماعيةِ، مِن أجْلِ تَحريرِ كَينونةِ الإنسانِ مِن قَبْضَةِ النظامِ الاستهلاكي الذي يَخْنُق رُوحَ المُجتمعِ، وتَحريرِ هُوِيَّةِ التَّعبيرِ الفَنِّي مِن شظايا الانفجار اللغوي التي تُمَزِّق رُوحَ النَّصِّ، وتُحِيله إلى خِطَابٍ مَعرفي وَهْمِي عاجز عن التوفيق بين الأصالةِ والمُعَاصَرَةِ مِن جِهَة، وبَين الحَداثةِ وَمَا بَعْد الحَداثةِ مِن جِهة أُخْرَى.

إنَّ الاندماج بَين رُوحِ النَّصِّ ورُوحِ المُجتمعِ يَهْدِف إلى التنقيب عَن الأنساق الثقافية في الوَعْي الاجتماعي باستخدام اللغةِ بِوَصْفِهَا أداةَ حَفْرٍ في المَكبوتِ والمُهَمَّشِ والمَنْسِيِّ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَفعيلِ النقد الثقافي كَسِياسةٍ لُغوية، ومَنهجيةٍ وُجودية، ومَركزيةٍ حضارية، ومَرجعيةٍ مَعرفية،  وتَفعيلِ المَبادئ الإنسانية في الجُذور الاجتماعية للنقد الثقافي . وهذا التَّفعيلُ المُزْدَوَجُ يَدفَع العمليةَ النقدية باتِّجاه التَّركيز على المَحمولِ الفِكري لا الحاملِ اللغوي، أي : التركيز على المَعاني العميقةِ والأنماطِ المُضْمَرَةِ والرسائلِ الغامضةِ في العملِ الأدبي كِيَانًا وكَينونةً، بعيدًا عَن الانبهارِ بِجَمَالِيَّاتِ النَّصِّ وشِعْرِيَّةِ اللغةِ ولَمَعَانِ الألفاظِ المُنَمَّقَةِ وبَرِيقِ الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُدْهِشَةِ. والنقدُ الثقافي لا يُصبح نظامًا ومَنظومةً إلا إذا كَشَفَ عَن عملياتِ الاحتراقِ الفِكْري والانفجارِ المَعرفي داخل لُغَةِ العمل الأدبي، ولَمْ يَنخدع بلمعانِ الإطارِ وبَرِيقِ الصُّورة . وجَوْهَرُ العملِ الأدبي يَكْمُن في النَّوَاةِ الداخلية السِّرِّية، ولا يَكْمُن في مَظْهَرِه وبَلاغةِ لُغته ورَوْعَةِ أُسلوبه .

والجُذُورُ الاجتماعية للنقد الثقافي لَيْسَتْ مَرجعياتٍ فِكرية وتاريخية فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضًا هُوِيَّات فَرْدِيَّة وجَمَاعِيَّة، والهُوِيَّةُ الإنسانيةُ لا تُصبح سُلطةً مَعرفية إلا إذا تَمَّ فَحْصُها واختبارُها، وهذا يَستلزم تَحويلَ رَمزيةِ اللغةِ إلى مِحْوَر ارتكاز بَيْن النَّسَقِ المُضْمَرِ والنَّسَقِ الظاهر، وتَحديدَ طَبيعة حركتهما في الفَضَاءِ اللغوي والمَجَالِ الاجتماعي تَزَامُنِيًّا وَتَعَاقُبِيًّا .

واللغةُ هي نِشَاطٌ اجتماعي، والمُجتمعُ هُوَ خِطَابٌ لُغَوي، ولا يُمكِن صَهْرُهما في حَقْلٍ مَعرفي واحد إلا بواسطة النقد الثقافي، الذي يُعيد صِيَاغَةَ مَنطِقِ اللغة الرمزي بِتَحريكِ المَركزِ، وزَحزحةِ الهَوامشِ، مِن أجْلِ تَحويلِ العملِ الأدبي إلى مَنهج نَقْدِي مُستمر، وتَحويلِ الواقعِ إلى فاعليَّة ثقافية دائمة، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَفسيرِ المَرجعيات الفِكرية ضِمْن سِيَاقَاتِهَا التاريخية والحَضارية، وتَمييزِ الأنساق الثقافية المُسيطِرةِ عَن المُهَمَّشَةِ، وتَمييزِ الوَعْي الاجتماعي الحاضر عَن المُغَيَّب، وهذا الأمرُ ضَروري مِن أجْلِ تَحديدِ التَّطَوُّراتِ الثقافية في هُوِيَّةِ المُجتمع الإنسانية، وتَحديدِ التَّحَوُّلاتِ الاجتماعية في سُلطةِ النَّصِّ الأدبي . ولا تُوجَد ثقافة بِدُون مَعايير نَقْدِيَّة، ولا يُوجَد مُجتمع بِدُون حراك ثقافي إنساني . وهذا يَستلزم تَعرية الأنساق الثقافية الوَهْمِيَّة، وفَصْلها عَن طبيعة الواقع اليَوْمِي، الذي تَجِب تَنقيته مِن مُخَلَّفَاتِ الوَعْي الزائف، وإفرازاتِ النظامِ الاستهلاكي. وَسَيَبْقَى النقدُ الثقافي مُحَاوَلَةً لِتَطهيرِ رُوحِ النَّصِّ ورُوحِ المُجتمعِ مِن المَادِيَّة المِيكانيكية المصلحية .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يذهب ميرلوبونتي الى ان العالم الخارجي ليس حقيقة. وكذلك (الذات) ليست حقيقة.اعتقد انه من المتفق عليه انه بدلالة العالم الخارجي ندرك ذواتنا بمغايرة ادراكاتنا الموجودات. وليس بهذه الخاصية الادراكية المتفردة نستطيع معرفة حقيقة العالم الخارجي ايضا.الذات جوهرفردي لا وجود له سوى بالمغايرة الادراكية العقلية للاشياء والتفكير بما حولنا.

العالم الخارجي مفهوم وليس كينونة وجودية متعيّنة ماديا محدودة بابعاد الموضوع سواء اكان الموضوع ماديا أو غير مادي يدركه العقل ويمكنه بها معالجة العالم الخارجي كموضوع. متى يكون موضوع تفكير العقل غير مادي؟ كل مواضيع تفكير العقل المستمدة من الخيال هي غير مادية. هي تصورات ذهنية يبتدعها العقل ويعبّر عنها لغويا او يتم التعبير عنها بأنشطة ادبية وفنية.

مالمقصود بالعالم الخارجي انه ليس حقيقة؟ هل هو الطبيعة بكل شموليتها البايولوجية المتنوعة الكائنات والمكونات بما لا يمكننا حصره ومعرفته لا تمتلك حقيقتها؟ أم العالم الخارجي الذي هو الموجودات والعلاقات البينية التي يتوزعها المحيط من حولنا ولا تمتلك حقيقتها؟ نكران حقيقة العالم الخارجي يوجب علينا الايمان بحقيقة ميتافيزيقيا خرافة التسليم بفرضية فلسفية عتيقة في امكانية وجود عالم خارجي حقيقي غير عالمنا هذا لا ندركه هو غير عالمنا الخارجي الزائف الذي يدركه العقل ونتعامل معه ونعيشه. العالم الخارجي كمفهوم اصطلاحي يكون تعاملنا معه بما يحتويه من موجودات لا حصر لها هي مواضيع جاهزة لمعالجتها الادراكية عقليا.

حقيقة العالم هو في ماديته الواقعية الموجودة في استقلالية تامة عنا. وحقيقة العالم الخارجي التي ندركها هو ليس في معرفته الكينونية الكاملة كصفات وجوهر.. العالم الخارجي هو في وجوده المادي كينونة مستقلة قائمة بذاتها. عالمنا الخارجي هو الوجود الذي نتعامل مع محتوياته من مواضيع. العالم الخارجي ليس كينونة واحدة يعيها الوعي بشمولية الموضوع الواحد التعجيزي للعقل..

اما الظاهراتية الفينومينولوجيا التي تقوم على ابستمولوجيا الادراك فهي قاصرة أن تمنح العالم الخارجي حقيقته لأنه أي العالم الخارجي كمفهوم شمولي تحتويه وتتوزعه موضوعات وظواهر متقافزة بالصيرورة والتغيير المستمرين. كما هو ليس منهجا بذاته. ولا يعي العالم الخارجي ذاته ولا يتعامل مع المدركات الاخرى بعلاقة تواصلية يدركها هو. العالم الخارجي هو مفهوم وليس موضوعا لادراك العقل ولا يمثّل منهجا. اما الظاهراتية فهي منهج مجتزأ من مناهج عديدة حاولت وتحاول تفسير العالم والوجود والكوني..

 الفينومينولوجيا او الظاهراتية؟

الظاهراتية التي جاء بها ادموند هوسرل هي مدرسة فلسفية تعتمد دراسة الموضوعية او الواقع وتختبره بشكل ذاتي. والظاهراتية هي ايضا حسب انصارها الخبرة الحدسية للظواهر كنقطة بداية. "عن ويكيبيديا الموسوعة". وتأثر بهوسرل مؤسس هذه المدرسة كلا من هيدجر وسارتر وميرلوبونتي وريكور. وكان موضوعها الاثير الاشتغال على الوعي القصدي وابستمولوجيا الماهيات.

لتبيان منذ البدء المثالية الابتذالية التي اعتمدتها الظاهراتية انها تختلف مع الوضعية بقولها" الوضعية تسّلم بوجود حقائق موضوعية مستقلة عن الوعي الفردي". (ويكيبيديا الموسوعة). صحيح جدا ما قالته الوضعية فالمقصود بالحقائق الموضوعية المستقلة عن الوعي هي ماهيات الاشياء وجواهرها. اما الوجود فهو ايضا حقائق موضوعية لكنها ليست مستقلة عن ادراك العقل لها.

شعار الظاهراتية الهوسلرية هو الاتجاه الى الاشياء ذاتها من خلال الوعي البشري الخالص لمعرفة ماهياتها. وبما أن الظاهراتية هدفها الوصول الى الماهيات في المدركات الشيئية فقد انتهج هوسرل (الايبوخية) اي التوقف عن الحكم ووضع عالم المكاني الزماني بين قوسين وعدم الاعتقاد بطبيعة هذا العالم والتوقف عن اتخاذ إي موقف إثبات أو نفي أزاء وجود الموضوعات."المصدر السابق".

الوضعية التي تسلم حسب تعبير ميرلوبونتي بوجود حقائق موضوعية مستقلة عن الوعي الفردي تحمل صدقيتها اكثر من حمولة خطأها المزعومة التي نسبها ميرلوبونتي لها. وانتقاص ميرلوبونتي للوضعية ليس انتقاصا فلسفيا يبحث عن حقيقة العالم الخارجي الذي لا يدركه الوعي والموجود باستقلالية تامة عنا. من الخطأ التسليم مع بيركلي أن كل ما يدركه العقل يحمل خاصية قابلية ادراكه. الحواس والعقل فقط هي التي تخلع على الاشياء والمواضيع خاصية إدراكها.

والحقائق الموضوعية المستقلة التي لا يستطيع الوعي الفردي الوصول لها ومعالجتها إنما هي (الماهيات) وجواهر المدركات العقلية. ولكي تتوخى الوضعية الانزلاق نحو معالجة الماهيات في الاشياء والجواهر في المدركات بمنهج الميتافيزيقا. انكر كانط واخرين ان تكون تلك الحقائق مواضيع متاحة للوعي الفردي الادراكي لها.

العديد من الفلاسفة انكروا الماهيات او الجوهر بالاشياء ورأوا بذلك المنحى إنزلاق لا إرادي في معالجة مواضيع ليست متعينة بأبعاد الادراك العقلي كمثل الصفات الخارجية للاشياء. هيدجر في فلسفته كان ميتافيزيقيا استبطانيا ومراوغا في تغليبه لغة الاستعصاء الفارغة على المحتوى الفلسفي المطلوب. ان تقول الميتافيزيقا لا تحمل موضوعات فلسفية جادة لا يمكن تجاوزها وعدم البحث بها مكابرة فارغة كون الوجود والطبيعة والانسان تتلبسهم جميعا الميتافيزيقا.. لكن عيب النهج الميتافيزيقي لا يعطيك نتائج وهو حال الفلسفة في كل تاريخها.

نستطيع القول أن فلسفة مدرسة الفينامينالوجيا كانت متأرجحة بين ظاهرتين فقط هما الوعي القصدي وهذا بفضل برينتانو وليس بفضل تلميذه هوسرل مخترع الفينامينالوجيا. الوعي القصدي الذي يعالج مواضيعا ادراكية متعينة بابعاد الاحاطة بها ومتعينة بالهدف المسبق في اهمية الوعي بها لم يأت هوسرل بها بل جاء بمصطلح الوعي القصدي سارتر وفلاسفة الوجودية في الرد على ديكارت.

الظاهراتية أخذت عن اسبينوزا وكانط أن جميع مدركات العقل هي عرض أي صفات خارجية وجوهر أو ماهية تستتر خلف تلك الصفات. وكل من اسبينوزا وكانط قالا كلا بطريقته الفلسفية الخاصة وجوب عدم تضييع الجهد والوقت في البحث عن الماهيات او الجوهر بالاشياء مخافة الانزلاق في مباحث الميتافيزيقا. اسبينوزا في مذهب وحدة الوجود كان مرتكزه الفلسفي البحث في الجوهر معتبرا الجوهر يسبق الوجود وبدلالة الجوهر ندرك الوجود وهذا كان الكفر بعينه بالنسبة للماركسية والوجودية فكلاهما يرتكزان الى ان الوجود المادي يسبق الجوهر الافتراضي. بالحقيقة اسبينوزا رغم حذاقته الفلسفية إلا أنه حينما تناول مبحث الجوهر في مذهب وحدة الوجود كان كلامه من الالف الى الياء ميتافيزيقا.

كانط أقر بوجود الجوهر بالاشياء إحتماليا افتراضيا لكنه إبتعد في مؤلفاته الخوض في مستنقع البحث في الجواهر والماهيات. كنت اكثر من مرة ذكرت بمقالاتي عن مفارقة لطيفة ارغب تكرار ذكرها هنا. سارتر قال رغم شكوكي حول الجواهر في الاشياء الا اني اؤمن بجوهر الانسان الذي يصنعه طيلة حياته من دون باقي الكائنات الحية. لكن المفارقة المدهشة حقا التي اطلقها سارتر قوله (جوهر الانسان الحقيقي انه بلا جوهر).

تؤكد الظاهراتية على اهمية ما اطلقت عليه (خبرة الوعي) الذي يمثل خبرته بالاشياء وخبرته بذاته. اولا لا اؤمن بوجود خبرة يمتلكها الوعي الذي هو نتاج العقل غير المستقل عنه. ثانيا العبارة السابقة المنسوبة للظاهراتية تصبح منطقية فلسفيا صحيحة فيما اذا استبدلنا كلمة الوعي بكلمة العقل فهو يمتلك خبرة مكتسبة في وعيه المعرفي للاشياء. كما يمتلك خبرة ذاتية في مراجعة نفسه وادراكاته بمعزل عن اي مؤثر خارجي عليه.

الوعي ليس منهجا بالتفكير بل الوعي هو معطى العقل في التعبير عن مدركاته معرفيا. واقول معرفيا لان العقل لا يعي ما ليس له قيمة بحياة الانسان. ثم والأهم الوعي لا يسعى الى كشف ماهيات الاشياء بل هذا الكشف من خواص العقل المحدودة التي لا توصل الى نتائج مرضية.

بهذا علينا التسليم بمنطق الفلسفة ومنطق العلم معا أن الوعي والعقل متلازمان من غير استقلالية احدهما عن الاخر. والوعي لا يستطيع الإنابة المستقلة عن تفكير العقل بل الوعي هو وسيلة العقل بالتعبير عن الاشياء ومدركات العقل.

هذا ما يرتب ان عجز الوعي عن فهم ماهيات الاشياء التي يدركها العقل انما هي مستمدة من عجز العقل ومحدوديته فهم الجواهر او الماهيات في الاشياء. وهذا ما حذّر منه كانط بوضوع شديد في كتابه (نقد العقل الخالص) واشرنا له سابقا.

وللخلاص من هذه المعضلة التعجيزية للعقل قالت الماركسية والوجودية لا جدوى من ملاحقة جواهر الاشياء وماهياتها التي تقودنا الى ميتافيزيقا التفكير. وحول مصطلح (خبرة الوعي) الذي اطلقته الفينامينالوجيا, فالوعي كما اشرت له لا يمتلك خبرة منعزلة عن الوقوف ومعرفة بماذا يستطيع العقل التفكير به منطقيا وما يعجز التفكير به ادراكيا. الوعي ليس ذاكرة تخزين الخبرات العقلية المكتسبة. الوعي ليس مقبرة العقل في التخزين المعرفي بالذهن ولا بالذاكرة.

للمقال صلة

***

علي محمد اليوسف

اذا كان التطور هو حول بقاء الأصلح، فكيف اصبح الانسان مخلوقا أخلاقيا؟ اذا كان التطور هو ان يعظّم كل فرد لياقته الشخصية، فكيف وصل الانسان الى الشعور بانه يجب عليه مساعدة الآخرين والتعامل معهم بانصاف؟

تقليديا هناك جوابان لهذا السؤال، اولا، من المنطقي للافراد مساعدة أقربائهم الذين يشتركون معهم في الجينات، وهي العملية التي تُعرف بـالتلاؤم الشامل inclusive fitness . ثانيا، مواقف التعامل بالمثل يمكن ان تبرز كما لو ان احد يحك ظهر الآخر فيستفيد الاثنان  في المدى الطويل. لكن الاخلاق هي ليست حول ان تكون لطيفا مع الاقرباء بنفس الاسلوب الذي يتعاون به النحل والنمل في افعال التلاؤم الشامل. والتعامل المتبادل هو مقترح تبرز فيه مخاطرة لأنه في أية لحظة يمكن لفرد معين ان يستفيد ويذهب الى بيته تاركا الآخر في مأزق. كذلك، لا شيء من هذه التفسيرات التقليدية يصل الى جوهر الاخلاق الانسانية – معنى الالتزام الذي يشعر به الانسان تجاه الآخرين.

مؤخرا، برز الى الواجهة اتجاه جديد للنظر في مشكلة الاخلاق . الفكرة الاساسية هي الاعتراف بان الافراد الذين يعيشون في جماعة اجتماعية يعتمد فيها كل فرد على الاخر من أجل بقائهم انما يعملون بنوع معين من المنطق. في هذا المنطق من الترابط، اذا انا اعتمد عليك عندئذ من مصلحتي المساعدة لضمان رفاهيتك. وبعمومية اكثر، اذا نحن نعتمد على آخر، عندئذ نحن يجب جميعنا الاهتمام ببعضنا. لكن كيف حدث هذا الموقف؟ الجواب يتعلق بظروف معينة أجبرت الانسان على اتّباع طرق للحياة اكثر تعاونية، خاصة عندما يكتسب الطعام والموارد الاساسية الاخرى.

دور التعاون

أقرب أقربائنا – الشمبانزي والبونوبو- يبحثون عن الطعام في مجموعات صغيرة، لكن عندما توجد الموارد، كل فرد يتدافع للحصول على طعامه الخاص به. عندما يبرز أي صراع، يُحل عبر السيطرة: أحسن مقاتل هو الذي يفوز في المعركة. في أقرب الأشياء للبحث التعاوني عن الطعام بين القردة، نجد عدد قليل من ذكور الشمبانزي يحيطون بالقرد ويأسرونه. لكن هذا الاتجاه في الصيد يشبه كثيرا الاسود والذئاب اكثر منه للشكل تعاوني الذي يقوم به الانسان للبحث عن الطعام. كل شمبانزي يضاعف حظوظه في الموقف بمحاولة غلق أي طريق محتمل لهروب القرد. الشمبانزي الآسر سيحاول استهلاك كل الفريسة لوحده ولكن هذا لا يحدث عادة. بعد ذلك كل الافراد في المنطقة يلتقون على الفريسة ويبدؤون الاستيلاء عليها. الآسر يجب ان يسمح بحدوث هذا والاّ سيحدث صراع مع الآخرين والذي يعني ضياع الطعام في خضم النزاع، وهكذا ستحصل القليل من المشاركة في الطعام .

منذ وقت طويل عمل الانسان أشياء بطريقة مختلفة. قبل مليوني سنة،برز الانسان العاقل بدماغ كبير ومهارات جديدة لعمل الأدوات الحجرية. وبعد ذلك مباشرة، قادت فترة من الجفاف العالمي الى تزايد اقاليم القردة التي تنافست مع الانسان العاقل على الموارد. الانسان الاول احتاج الى خيارات جديدة. احدى الخيارات استلزمت نبش الفريسة التي تصطادها حيوانات اخرى. ولكن طبقا لتوضيح من عالمة الانثربولوجيا Mary C. Stiner من جامعة اريزونا، فان بعض افراد الانسان الاول – في أحسن التخمينات هو انسان هايدلبيرغ قبل 400 ألف سنة بدأ الحصول على معظم طعامه من خلال التعاون الفعال الذي شكّل به الافراد اهدافا مشتركة للعمل مع بعضهم في الصيد وجمع الثمار. في الحقيقة، اصبح التعاون الزاميا لأنه كان ضروريا لبقائهم. الافراد اصبحوا مترابطين مع بعضهم بطرق عاجلة ومباشرة للحصول على معيشتهم اليومية.

جزء اساسي من عملية التعاون الاجباري في البحث عن الطعام استلزم اختيار شريك. الافراد الذين كانوا غير نشطين في التعاون – غير قادرين على تشكيل اهداف مشتركة او الاتصال الفعال مع الاخرين – لم يتم اختيارهم كشركاء ولهذا سوف يبقون بلا طعام، الافراد الذين كانوا غير متعاونيين اجتماعيا او اخلاقيا في تفاعلاتهم مع الاخرين – على سبيل المثال، اولئك الذين حاولوا حصد كل الغنائم – ايضا جرى التخلي عنهم كشركاء وحُكم عليهم بالفشل. النتيجة من ذلك: هي ان الاختيار الاجتماعي القوي والفعال حصل للافراد المتحفزين والنشطين الذين تعاونوا جيدا مع الاخرين.

المسألة الاساسية في تطور الاخلاق هي ان افراد الانسان الأوائل الذين اختيروا اجتماعيا للبحث التعاوني عن الطعام عبر اختيارهم للشركاء طوّروا طرقا جديدة من الاتصال بالآخرين. والأكثر أهمية، انهم امتلكوا حوافز تعاونية قوية للعمل الجمعي ولتحقيق اهداف مشتركة والشعور بالتعاطف لمساعدة الشركاء الموجودين او المحتملين. بالاضافة الى ذلك، اعتمد بقاء الفرد على رؤية الآخرين له كشريك كفوء ومتحفز للتعاون. وهكذا، اصبح الافراد يهتمون بالطريقة التي يقيّمهم بها الآخرون. في التجارب التي اجريت في المختبر، حتى الاطفال الصغار يهتمون بالطريقة التي يقيّمهم بها الآخرون، بينما لا يهتم الشمبانزي بذلك. مع غياب السجل التاريخي، في عدة حالات، وحتى الدليل من بقايا الحفريات والتحف الاثرية، حقق المختبر في ليبزك بآلمانيا وغيرها في أصل التفكير الانساني والاخلاق عبر مقارنة سلوك اقربائنا القدماء مع اولئك الاطفال الذين لم يندمجوا بعد في معايير ثقافتهم.

من هذه الدراسات يُعتقد بان الانسان الاول الذي انخرط بالبحث التعاوني عن الطعام طوّر نوعا جديدا من التفكير التعاوني قاده للتعامل مع الآخرين كشركاء على قدم المساواة. اي، ليس فقط بتعاطف وانما ايضا بمعنى الإنصاف (بناءً على فهم المساواة بين الفرد والآخر). الشركاء ادركوا انهم يمكنهم من حيث المبدأ اتخاذ أي دور تعاوني وان كل واحد منهم يحتاج للعمل مع الاخرين لأجل نجاح مشترك. كذلك، عندما يتعاون فردان باستمرار مع بعضهما كباحثين عن طعام،هما يطوران فهما – ارضية مشتركة ذهنية – حددت الطريقة المثالية التي يحتاجها كل شريك لإنجاز دور لنجاح متبادل. هذه المعايير المحددة الادوار صاغت التوقعات لما يجب ان يعمله كل شريك: مثلا، في صيد الظباء، المطارد يجب ان يقوم بعمل يختلف عن عمل حامل السهم . هذه المعايير المثالية كانت موضوعية كونها حددت ما يجب ان يفعله أي شريك لإنجاز دوره بشكل صحيح وبطريقة ضمنت نجاحا مشتركا.

في الحقيقة، كانت الادوار قابلة للتبادل. كل شريك في الصيد كان يستحق الغنيمة على قدم المساواة، على عكس عابرو السبيل الذين لم يمدوا يد المساعدة.

في اختيار الشريك في عملية التعاون، أراد الانسان الاول التقاط الفرد الذي يتناسب مع الدور المتوقع له وتقسيم الغنيمة بعدالة. لتقليل المخاطرة المتأصلة في اختيار الشريك، يمكن للافراد الذين هم على وشك ان يصبحوا شركاء استعمال مهاراتهم الجديدة في التعاون لعمل التزام مشترك، يتعهدون بممارسة ادوارهم التي تتطلب تقسيم عادل للغنائم. كجزء من هذا الالتزام، الشركاء المحتملون ايضا يتعهدون ضمنا بان كل من يتراجع عن التزامه سيستحق اللوم.

كل منْ انحرف عما متوقع له وما اريد له في البقاء في موقف تعاوني جيد سوف ينخرط طوعا في فعل من إدانة الذات – يُستبطن سايكولوجيا كإحساس بالذنب. وهنا برزت أخلاق "نحن أكبر مني" . اثناء التعاون، عملت "نحن" المشتركة وراء مستوى الفرد الأناني لتنظيم أفعال شركاء التعاون "انا" و "انت".

محصلة تكيفات الانسان المبكرة في البحث الالزامي التعاوني عن الطعام، قادت الى ما يُعرف بـ  الالتزام الاخلاقي –  كميل للارتباط بالآخرين بإحساس من الاحترام والإنصاف المرتكز على تقييم حقيقي لكل من الذات والآخر كمستحقين للشركاء على قدم المساواة في المشروع التعاوني. هذا الإحساس بالإنصاف جرى تكثيفه عبر الشعور بالالتزام، والضغط الاجتماعي للتعاون واحترام الشريك . اذا كان كل الأعضاء الأكثر تطورا يشعرون بالضغط لمتابعة أهدافهم الفردية بطرق يعتقدون انها ستكون ناجحة، فان الترابط الذي حكم الحياة الاجتماعية للانسان المبكر قصد به ان الافراد شعروا بالضغط للتعامل مع الآخرين كما يستحقون ان يُعاملوا ولتوقّع الآخرين يعاملونهم بهذه الطريقة. هذا المفهوم للاخلاق لا يمتلك كل الخصائص المحددة لأخلاق الانسان الحديث، لكنه امتلك سلفا العناصر الأكثر اهمية - احترام متبادل وانصاف – في شكل حديث النشأة.

مولد المعايير الثقافية

الخطوة الحاسمة الثانية في تطور اخلاق الانسان حدثت عندما تأثر البحث التعاوني للانسان الاول بعاملين ديموغرافيين أديّا الى الانسان الحديث قبل 200 الف سنة. هذا العصر الجديد جاء بسبب المنافسة بين جماعات الانسان. الصراع كان يعني ان جماعات التعاون السكانية المرنة التركيب كان عليها ان تتحول نحو جماعات اجتماعية اكثر تماسكا لتحمي نفسها من الغزاة الخارجيين. كل واحدة من هذه الجماعات طوّرت تقسيمات داخلية للعمل قادت كلها الى هوية جمعية للجماعة.

في نفس الوقت، كان حجم السكان يتزايد. ومع تزايد الأعداد ضمن هذه الجماعات القبلية التوسعية، انقسمت الكيانات الأكبر الى وحدات فرعية أصغر ظلت تشعر بالالتزام تجاه الجماعة الكبيرة – او ما وُصفت بـ "الثقافة" المتميزة. ايجاد طرق لتمييز أعضاء جماعة ثقافية لم تكن بالضرورة الأقرب الى النسب – ومن ثم انفصالها من أعضاء جماعات قبلية اخرى – اصبح ضروريا. هذا النوع من التمييز هاما لأنه يمكن الاعتماد فقط على اعضاء الجماعة الثقافية لتقاسم المهارات والقيم وتكوين شركاء جديرين بالثقة، خاصة للدفاع عن الجماعة. اعتماد الافراد على الجماعة قاد الى معنى الولاء و الهوية الجمعية . الفشل في تجسيد الولاء و هوية الجماعة هذه  قد يؤدي الى النبذ او الموت في الصراع مع المنافسين.

الانسان المعاصر لديه عدة طرق مختلفة لخلق هوية الجماعة، لكن الطرق الأصلية كانت اساسا طرق سلوكية مرتكزة على عدد من الافتراضات: الناس الذين يتحدثون كما اتحدث، ويعدّون الطعام مثلي ويشتركون في ممارساتي الثقافية هم أعضاء محتملين جدا لجماعتي الثقافية. وبهذا برزت من هذه الافتراضات نزعة الانسان الحديث نحو الإمتثال للممارسات الثقافية للجماعة. تعليم الاطفال للقيام باشياء بالطريقة التقليدية المحددة من الجماعة اصبح إلزاميا للبقاء.

التعليم والإمتثال وضعا الاسس ايضا للتطور الثقافي التراكمي – الذي يمكن به تحسين الممارسة او الفنون الثقافية التي كانت قيد العمل لوقت طويل، وان الابتكار يمكن تمريره الى اجيال لاحقة كجزء من أعراف الجماعة ومعتقداتها ومؤسساتها. الافراد وُلدوا لهذه التركيبات الاجتماعية التعاونية ولم يكن لديهم خيار الاّ الامتثال لها. الذهنية الجماعية كانت هي الخاصية السايكولوجية الاساسية للافراد الذين تكيفوا مع الحياة الثقافية ، فيها أخذ الناس المنظور المعرفي للجماعة ككل للإعتناء برفاهيتها والإمتثال لطرقها – وهو استدلال مشتق من دراسات السلوك لمن هم بعمر ثلاث سنوات – نُشرت في اواخر الـ 2000. الافراد الذين انتموا الى جماعة ثقافية كان عليهم الامتثال للممارسات الثقافية السائدة وللمعتقدات الاجتماعية ليعلنوا انهم تماهوا مع الجماعة وطريقتها بعمل الأشياء. بعض المعايير الاجتماعية كانت تتعدى الامتثال وهوية الجماعة. معايير عكست الشعور بالتعاطف والإنصاف (وُرثت من الانسان المبكر)، والتي اصبحت معايير اخلاقية. وهكذا، كما ان بعض المعايير شرّعت الصحيح والخطأ بعمل الاشياء في مجال الصيد او صنع الادوات، كذلك صنفت المعايير الاخلاقية الطريقة الصحيحة للتعامل مع الآخرين. وبما ان أهداف الجماعة الجمعية والأرضية الثقافية المشتركة للجماعات الانسانية خلقت منظورا "موضوعيا"- ليس "انا" وانما "نحن" كناس – لذلك جرى وصف الاخلاق الانسانية كشكل موضوعي للصح والخطأ.

بالطبع، أي فرد يمكن ان يختار التصرف ضد المعيار الاخلاقي. لكن عندما يُستدعى لمهمة من جانب أعضاء جماعة اخرى، فان الخيارات تكون محدودة: الفرد قد يتجاهل نقد او  لوم افراد تلك الجماعة وبهذا يضع نفسه خارج الممارسات والقيم الثقافية المشتركة، الامر الذي قد يقود الى الاستبعاد من الجماعة. التفكير الانساني الحديث اعتبر المعايير الثقافية كوسائل شرعية يمكن بها تنظيم الناس وضبط حوافزهم وتحديد معنى هوية الجماعة. اذا انحرف الفرد عن معايير الجماعة الاجتماعية، فمن المهم تبرير عدم التعاون مع الاخرين وفق القيم المشتركة للجماعة (انا تجاهلت واجباتي لأني احتجت لإنقاذ طفل في مأزق). في هذه الطريقة، استوعب الانسان الحديث ليس فقط الأفعال الاخلاقية وانما التبريرات الاخلاقية وخلق هوية أخلاقية ضمن الجماعة مرتكزة على العقل.

***

حاتم حميد محسن

...........................

المصدر: أصل الاخلاق،كيف تعلّمنا وضع مصيرنا بيد الآخرين؟

Scientific American, September

 2018

في المثقف اليوم