أقلام فكرية

حيدر عبد السادة جودة: مأزق الفلسفة في يومها العالمي

كم من المحمود أن يستشرف الإنسان ما سيكون عليه العالم في المستقبل، فيتنبأ بما سيحدث تبعاً لما حدث، وصاحب هذه الكلمات يكتب عن (مستقبل الفلسفة)، لكنَّ ذلك ما لا يمكن أن يكون محموداً، لأنه ضربٌ في العماية، فطبيعة الاستشراف عمّا سيحدث تستتبع أن نقرأ ما حدث بصورةٍ دقيقة، والحقيقة تقول بعدم وجود منجزٍ للفلسفة في العراق، فكيف لنا أن نتحدّث عن مستقبلها؟. لقد عانت الأفكار الفلسفية، منذ ولادتها على لسان جدّنا طاليس حينما سئل عن أصل الوجود، وما تبعه من منجزات فلسفية، معاناة كثيرة وكبيرة، وغالباً ما تم محاربتها من قبل العامة، المدفوعون بوصايات إيمانية زائفة من قبل المؤسسات الدينية، لكن ذلك الصراع والاحتدام لم يزدها إلّا قوة وصلابة، ولو استمر ذلك الصراع إلى يوم نُبعث، لما أضر في الفلسفة شيء، بل قد تكون هذه الصراعات أبواباً للفتح في ديمومة موضوعات الفلسفة وتطورها. وكما يقول (جورج مارتن) في رائعته (رقصة التنانين): لا يمكن لنا أن نشهد يوماً تنكسر فيه التنانين وتُفنى في معاركها ضدَّ الخصوم، إنَّ ما يبشّر بنفيها وانهيار مملكة (آل تارغريان) هو صراع التنانين مع بعضها. وهكذا الأمر في الفلسفة، فلم يكن لأحدٍ أن ينال من عظمتها إلا الفلاسفة ذاتهم، فهم القادرون على نفي آثارها وسرقة رونقها.

وأولُ الأسلحة التي قادها الفلاسفة ضدَّ الفلسفة هو الإيمان بعدم قدرتها على طرح إجابات لما طُرح من تساؤلات عن الواقع المعاش، على أنَّ ذلك الإشكال كان سبيلاً لتطوير المباحث الفلسفية، فحينما شعر الفلاسفة بعدم قدرة المباحث الطبيعية والمنطقية والأخلاقية على الإتيان بمجموعة الإجابات للأسئلة المطروحة، تمَّ  تبديل مسار البحث إلى المرحلة اللاهوتية، وبذلك نشأت فلسفة القرون الوسطى، وحينما عجز مفهوم اللاهوت عن التصدي لمجمل الإشكالات التي فتكت في الإنسان وحولته إلى كائن شكّاك، تمَّ أيضاً تحويل مسار البحث من اللاهوت إلى النزعة العلمية والأبستمولوجيا، وهكذا نشأت الفلسفة الحديثة، ومن جهةٍ ثالثة تطورت الفلسفة حينما تم تحويل مسار البحث من المعرفة إلى القيم، نتيجة عدم امكانية المباحث المعرفية وفلسفة السرديات الكبرى للتصدي إلى ما واجه الإنسان ومستقبل البشرية، فنشأت بذلك فلسفات التشضي واللاحسم، وهي فلسفات الفكر المعاصر، وهنا بدأ عصر اضطراب الأفكار الفلسفية، فلقد قاد الفيلسوف الدنيماركي (سورن كيركيجورد) حملته الشعواء ضدّ المنظومة الهيغليه، وهكذا فعلت مطرقة الفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه)، فالأخير لم يبقي لنا إلّا أطياف (هيغل). والذي يفقه تاريخ الفلسفة المعاصرة، لا يجدُ أحداً قد تمكن من الإفلات ممّا أسسه (كيركيجورد ونيتشه).

ولكن، هل لنا أن نعود بأسباب تعثر الفلسفة إلى ما أسلفنا، حتماً لا، لأننا أمام مرحلة جديدة من تاريخ تطور الفلسفة، وهو ميلاد المرحلة النقدية، والتي لم تكتف بتطوير مباحث الفلسفة بتحويل المسار فحسب، وإنما في هدم المسار السابق أيضاً. وبذلك انتعشت الفلسفة وشهدت ميلاد العديد من التيارات كالوجودية والبراغماتية وغيرها. أما اليوم، فقد تلاشت الفلسفة الغربية نتيجة الإخفاق بتحويل مسار البحث، والانسلاخ عن الهوية الفلسفية، فلا نجد أحداً قد بادر بالقول بفلسفته، بل عمد الكثيرون على الحديث بأحاديث عامة ومتشظية وتحت هويات مختلفة. وبالتالي يمكن لنا أن نقول أن الذي أسس لخراب الفلسفة هو التملص عن هوية الفلسفة والانصهار في هويات معرفية اخرى، اجتماعية ونفسية وسياسية.

أما إذا انتقلنا إلى العالم العربي عموماً، فنجد أن القصور الرئيس في التأسيس لفلسفة لائقة وناضجة، يتمثل بطبيعة العالم العربي في الاعتناق والخضوع للأنموذج الغربي، وبما أن ذلك الانموذج قد انسلخ عن هويته الفلسفية، فإن الفكر العربي اعتنق تلك المنظومة المنسلخة عن الفلسفة، وبذلك لم يجد لنفسه طريقاً يستند عليه في إنشاء فلسفة، فليس ثمة طريق أصلاً ليحوّل الفكر العربي مساره بغية التطور أو التطوير. من جهةٍ أخرى نجد قصور العالم العربي في عملية الإبداع، وليس هناك من يتحمل ذلك أكثر من المؤسسات الأكاديمية الحاضنة للفلسفة، وأودُّ هنا أن أتحدث عن دور المؤسسات الرسمية في هدم الممارسة الفلسفية، في العراق المعاصر تحديداً.

تبدأ الفلسفة في العراق مع الإعدادية، في مرحلة الخامس الأدبي فقط، وقبل أن نستطرد بالقول في أسسها، يجدر بنا أن نقف عن مشكلة أكبر وأعقد، ولا تتمثل هذه المرة بمستقبل الفلسفة، وإنما بمستقبل الفرع الأدبي والعلوم الإنسانية. فلقد شهد الفرع الأدبي ونتاجاته الإنسانية عزوفاً كبيراً على حساب الفرع العلمي، فلقد بات الإقبال شديداً نتيجة دفع أولياء الأمور لأبنائهم الطلبة من جهة، وقصور الدولة في وضع حلول لتعيين أصحاب العلوم الإنسانية من جهةٍ أخرى، فالأب الكاسب وربة البيت يُريدان أن يكون الابن طبيباً أو مهندساً، وقطعاً لا يُريداه أن يكون مورخاً أو مدرساً أو خريجاً من أقسام الفلسفة والاجتماع وعلم النفس.

ولما تقدّم، سيشهد العراق نفوراً، لا عزوفاً فحسب، عن الفرع الأدبي في الدراسة الإعدادية، ونتيجةً لذلك، فإنَّ في السنوات القليلة القادمة ستخلو الجامعات من طلبة الدراسات الإنسانية، فالكلُّ سيرتاد الفرع العلمي، لأن الجميع يُريد أن يكون طبيباً، وحتى إن فشل في تحقيق ذلك، فهنالك ما هو قادرٌ على الترحيب به، بفشله وما آل إليه غباءه، وهي التجارة الأهلية، وأقصد بها الجامعات غير الحكومية، فهي أول من تنبّهت لمستقبل الدراسات الإنسانية، فاكتفت بفتح باب القبول للدراسات العلمية فقط. وهذا الموضوع معقد ويحتاج إلى دراسات متخصصة، والتفات حقيقي من الجهات المسؤولة، للحيلولة دون إغلاق الكليات الإنسانية. 

أما بالرجوع إلى طبيعة الدرس الفلسفي في الأكاديميات العراقية، فكما قلنا تبدأ رحلة الفلسفة مع الصف الخامس الاعدادي للفرع الأدبي، وهي مرحلة متأخرة كثيراً، تبدأ بكتاب عقيم لا يصلح لشيء، مضطرب في منهجيته التعليمية، بعيداً كلَّ البعد على كونه كتاباً يريد أن يعدَّ ذهنية متلقية لموضوعٍ جديد، أو محاولة خلق عقلي إشكالي، مع استاذ هش وغير متخصص، قد يكون بالأساس استاذاً لمادة الفنية أو الإرشاد أو التربية الرياضية، لا الطالب ولا الاستاذ ولا الإدارة يوليان أدنى أهمية لذلك الدرس، فليس مهماً إلّا بعدّه درساً شاغراً، يمرح الطلاب فيه، ويقلب الاستاذ بهاتفه، وتنتظر الإدارة دق الجرس؛ ولعدم أهميته يكون النجاح فيه مطمئناً، فعلى قدر الهدوء والجلوس الحسن يأتي النجاح فيه، بعد ذلك تذهب الفلسفة إل البيت، فتواجه سخط الأب بموجة إلحادية كبيرة، وتبدأ سيرة النصح، يا بنيَّ، لا ترهق نفسك بها ولا تتعمق فيها، فما هي إلا حلقة مفرغة من التابوات، اعتني بغيرها جيداً.

بعد ذلك تنتقل الفلسفة إلى الجامعات، لترحبَّ بالفاشلين، فهي لا تستقبل إلا الأقلون معدلاً، وهكذا تبدأ المرحلة الأولى من الدهشة، فمن أراد أن يتجاهلها نجح فحسب، ومن أراد أن يسايرها تقدّم إلى اختبارات الدراسات العليا، وهذه هي ثمرة الفلسفة الأولى، فقد أصبح لها منتمون، وهي بذلك تسترعي انتباه أنصارها، وهم مُثقلون بكتب الفلاسفة وحيرة التساؤلات الكبرى. لكن سرعان ما تذبل هذه الثمرة، تحديداً حينما يجلس الطالب المجتاز للمرحلة التحضيرية بين أساتيذه من اللجان العلمية بغية اختيار عنوان البحث الملائم لرسالته، لتبدأ مزاجات التدجين في النيل من القدرة التي بدأت تتفتح وتفتح بها آفاقاً جديدة للأفكار النقدية، خصوصاً حينما يتمُّ اقتراح العنوان من قبل اللجنة، حينها على الطالب وفلسفته السلام.

وهكذا تبدأ عملية التدوير للموضوعات الفلسفة، فلا زلنا نكتب عن الفلسفة الرواقية، ولا زال أوغسطين حاضراً بيننا، ولا زلنا نرتاد تهافت الغزالي، وإذا ما تطورنا قليلاً سنجد أنفسنا أمام تهافت الفيلسوف الاندلسي ابن رشد، وصولاً إلى ديكارت ولوك ومن تبعهم. نكتب عنهم ونحن في غفلةٍ عن مجمل التحولات التي أُحدثت من أجل تطوير الفلسفة ورفدها بجديدة المعاصرة. وهكذا تفرغ الفلسفةُ من محتواها، نتيجة الترديد في موضوعات قد رُدّدت كثيراً، ولذلك فإن تطوير شيء لا يكون بتراكم الموضوعات ذاتها وتحسينها والإضافة عليها فحسب، بل قد يكون بتحويل مسار الموضوعات والاتجاه إلى ما يخدم الواقع، بالاحتفاظ أكيداً على أصل النهج والطريق.

مما تقدم نجد أن تحويل المسار الفلسفي نحو الاهتمام بقضايا معاصرة ومشكلات آنية، هو السبيل إلى ديمومتها والبقاء على إرثها والاحتفاظ بلمعانها، فيمكن لنا أن نعدَّ كتاب (خارج أسوار الأكاديمية) لاستاذنا الدكتور (قاسم جمعة) كتاباً فلسفياً بامتياز، وكذلك كتاب استاذنا الدكتور (فوزي الهيتي) عن (الفلسفة ومشكلاتنا اليومية)، فضلاً عن كتابات استاذنا الدكتور (علي عبود المحمداوي)... فمن قماشة ما كتبه هؤلاء، يمكن لنا أن نطمئن على مستقبل الفلسفة في العراق.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

في المثقف اليوم