أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: قيمة الصدق واللاّصدق لدى نيتشة
ان مزايا الصدق مقابل اللاصدق، والحقيقة مقابل الزيف، تبدو واضحة جدا لدرجة لايمكن للمرء الشك فيها او تصوّر العكس في ان يكون اللاصدق أفضل من الصدق. لكن هذا ما فعله الفيلسوف الألماني فردريك نيتشة حين أثار الشكوك في ذلك واعتبر ان أفضلية الصدق ليست واضحة تماما كما نفترض نحن عادة.
طبيعة الصدق
نقاش نيتشة في طبيعة الصدق كان جزءاً من برنامج شامل قاده للتحقيق في جينولوجيا مختلف مظاهر الثقافة والمجتمع، حيث كانت الأخلاق هي الأبرز في كتابه (جينولوجيا الأخلاق،1887). هدف نيتشة كان ان يفهم بشكل أفضل تطوّر "الحقائق" (أخلاقية، ثقافية، اجتماعية،الخ) التي جرى اعتبارها بديهية في المجتمع الحديث وبذلك يُنجز فهما أفضل لتلك الحقائق في هذه العملية.
في تحقيقاته لتاريخ الصدق، هو يثير سؤالا مركزيا يعتقد ان الفلاسفة تجاهلوه دون مبرر: ما هي قيمة الصدق؟ هذه التعليقات تظهر في (ما وراء الخير والشر):
"الرغبة في الصدق التي لا تزال تغرينا يراها العديد مغامرة، حيث تحدّث عنها الفلاسفة المشهورين بالمصداقية حتى الان باحترام – أيّ اسئلة لم تطرحها الرغبة في الصدق أمامنا، أي أسئلة غريبة وشريرة، تلك قصة طويلة حتى الآن – ولاتزال تبدو كما لو انها بدأت بسرّية. هل هناك عجب في اننا يجب ان نصبح بالنهاية مشككين، نفقد الصبر، ونبتعد يائسين؟ واننا يجب بالنهاية ان نتعلم من هذا الانسان البارع لنسأل اسئلة ايضا؟ منْ هو حقا ذلك الذي يضع الأسئلة لنا هنا؟ ما الذي فينا يريد حقا "الصدق"؟.
"في الحقيقة نحن وصلنا لتوقّف طويل عند السؤال حول سبب هذه الرغبة – حتى وصلنا بالنهاية الى توقّف كامل أمام سؤال أكثر اساسية. نحن سألنا عن قيمة هذه الرغبة. افرض نحن نريد الصدق: لماذا لا نريد اللاصدق؟ واللايقين؟ وحتى الجهل؟"
ما يشير اليه نيتشه هنا هو ان رغبة الفلاسفة والعلماء بالصدق، والتأكد، والمعرفة بدلا من اللاصدق واللايقين والجهل هي فرضيات أساسية لا جدال فيها. لكن، فقط لكونها لم تتعرض للتساؤل لا يعني انها لا يمكن مسائلتها. بالنسبة لنيتشة، نقطة البدء في هذا التساؤل هو في الجينولوجي "رغبتنا بالصدق" ذاتها.
الرغبة في الصدق
أين يحدد نيتشه أصل "الرغبة بالصدق"، الرغبة بـ "الصدق مهما كان الثمن"؟. بالنسبة لنيتشة، انها تكمن في الارتباط بين الصدق والله: الفلاسفة قبلوا المثال الديني الذي جعلهم يطورون مرجعية عمياء للصدق، جاعلين الصدق إله لهم. هو يكتب في (جينولوجي الاخلاق،ص111،25):
"ذلك الذي يقيّد مثاليو المعرفة، هذه الرغبة غير المشروطة بالصدق هي الايمان بالمثال الزاهد ascetic ideal ذاته حتى لو كان ضرورة غير واعية – لا تكن منخدعا حول ذلك – انه ايمان بالقيمة الميتافيزيقية، القيمة المطلقة للصدق، اُقرّت وحُميت بهذا المثال وحده (انها تصمد او تسقط مع هذا المثال)".
وهكذا يجادل نيتشة ان الصدق، مثل إله افلاطون والمسيحية التقليدية، هو أعلى وأعظم شيء تام يمكن تصوّره: "نحن رجال المعرفة اليوم، نحن رجال بلا آلهة ومضادون للميتافيزيقيين، نحن ايضا، لانزال نشتق لهيبنا من النار المشتعلة بواسطة الايمان منذ آلاف السنين، الايمان المسيحي الذي كان ايضا افلاطونيا، بأن الله هو الصدق، وان الصدق هو إله" (العلم المرح،ص344).
الآن، هذا قد لا يكون مشكلة ما عدى ان نيتشة كان خصما قويا لأي شيء حوّل تقييم الانسان بعيدا من هذه الحياة نحو عالم دنيوي بعيد المنال. بالنسبة له، هذا النوع من الحركة بالضرورة أضعف الانسانية وحياة الانسان، وهكذا هو وجد هذا التأليه للصدق لايمكن تحمّله. هو ايضا يبدو اصبح منزعجا بالرجوع المتكرر لكامل المشروع – مع ذلك، عبر وضع الصدق في قمة كل ما هو جيد وجعله معيارا ضد كل ما يجب قياسه، هذا بالطبع أتاح ضمان قيمة الصدق ذاتها بشكل دائم بحيث لا يمكن مسائلتها ابدا.
هذا قاده الى السؤال حول ما اذا كان المرء يجادل بقوة في افضلية اللاصدق وكشف عدم أهمية آراء الفريق المقابل. هدفه لم يكن كما اعتقد البعض، إنكار أي قيمة او معنى للصدق ابدا. لأن هذا ذاته سيكون جدالا دائريا ايضا لأنه اذا نحن نعتقد ان اللاصدق مفضل على الصدق لأن هذا قول صادق، عندئذ نحن بالضرورة استعملنا الصدق كحُكم نهائي فيما نعتقد.
كلا، مسألة نيتشة كانت اكثر ذكاء واثارة للاهتمام من ذلك. غرضه لم يكن الصدق وانما الايمان، خاصة الايمان الأعمى الذي تحفّز بـ "مثال الزهد". في هذا الموقف، كان ينتقد الايمان الأعمى في الصدق، ولكن في مواقف اخرى، كان ينتقد الايمان الاعمى في الله، في التقاليد الاخلاقية المسيحية، وغيرها:
"نحن "رجال المعرفة" وصلنا تدريجيا الى عدم الثقة بالمؤمنين من كل الانواع، عدم ثقتنا جلبتنا تدريجيا لعمل استنتاجات معاكسة لتلك التي كانت في ايامنا السابقة: متى ما تم استبدال الايمان القوي، نحن نستدل على ضعف معين في ما يظهر بل وحتى لا احتمالية ما يتم الايمان به. نحن ايضا لا ننكر ان الايمان "يجعل الشخص سعيدا": ذلك بالضبط لماذا نحن ننكر ان الايمان يثبت أي شيء – ايمان قوي يجعل السعيد يثير الشكوك في ما يُعتقد به، انه لا يؤسس "صدق"، انه يؤسس احتمالية معينة من الخداع. (جينولوجيا الاخلاق،ص148).
نيتشة كان بشكل خاص ناقدا لأولئك الشكاك والملحدين الذين يفتخرون بأنفسهم كونهم أهملوا "مثال الزهد" في مواضيع اخرى ولكن ليس في هذا الموضوع:
"هؤلاء القائلين لا والغير منتمين الى أي جماعة في هذا الزمان الذين هم غير مقيّدين بمسألة واحدة – إصرارهم على النظافة الفكرية، هذه الارواح البطولية، القاسية والشديدة والمتعففة التي تشكل شرف عصرنا، كل هؤلاء الملحدون الشاحبون، المضادون للمسيحيين، العدميون و اللااخلاقيون، هؤلاء الشكاك، المؤثرون في الأحكام، وزنادقة الروح... هؤلاء آخر مثاليو المعرفة، الذين وحدهم اليوم يعيش فيهم وينعم الضمير الفكري، - هم بالتأكيد يعتقدون انهم متحررون بالكامل من مثال الزهد ،هؤلاء "متحررون"، "أرواح متحررة جدا"، ومع ذلك هم انفسهم يجسدونها اليوم وربما هم وحدهم. هم بعيدون عن كونهم أرواح حرة: لأنهم لايزالون لديهم ايمان في الصدق. (جينولوجيا الاخلاق ص111:24).
قيمة الصدق
وهكذا، الايمان في الصدق الذي لايتحقق ابدا من قيمة الصدق يشير بالنسبة الى نيتشة، ان قيمة الصدق لايمكن اظهارها وهي ربما زائفة. اذا كان كل ما يهتم به هو الجدال بان الصدق غير موجود، فهو كان بامكانه ترك الامر عند هذا الحد لكنه لم يفعل. بدلا من ذلك، هو يجادل بان اللاصدق في اوقات يمكن ان يكون شرطا ضروريا للحياة. حقيقة ان الايمان زائف لم يكن في الماضي سببا للناس لإهماله، وانما العقائد اُهملت بناءً على ما اذا كانت خدمت أهداف الحفاظ على حياة الناس وتعزيزها .
"ان زيف الحكم ليس بالضرورة معارضة للحكم: هنا ربما تبدو لغتنا الجديدة غريبة. السؤال هو الى أي مدى العقيدة هي مطوّرة للحياة، محافظة على الحياة، محافظة على الأنواع، وحتى مربية للانواع، نزعتنا الاساسية هي الزعم بان الأحكام الأكثر زيفا (التي تنتمي اليها الأحكام القبلية السابقة للتجربة) هي التي لا غنى عنها لنا،أي بدون التسليم بصدق خيالات المنطق، وبدون قياس الواقع مقابل الاختراع الخالص لعالم غير مشروط ومشابه للذات، وبدون التزوير المستمر للعالم بوسائل الأرقام، فان البشرية لن تستطيع العيش – أي ان التخلّي عن الأحكام الزائفة سيكون تخلّي عن الحياة وإنكار لها. لكي نعترف ان اللاصدق شرط للحياة يعني مقاومة مشاعر القيمة العرفية بشكل خطير، والفلسفة التي تجرؤ على القيام بهذا تضع نفسها من خلال ذلك الفعل وحده، وراء الخير والشر" (وراء الخير والشر،333).
لذا اذا كان اتجاه نيتشه في الأسئلة الفلسفية مرتكز ليس على التمييز بين الصدق والزيف، وانما على ما يعزز الحياة وما يحطمها، ذلك لا يعني انه نسبي عندما يأتي الى الصدق؟ هو يبدو فعلا يجادل بان ما يسميه الناس في المجتمع "صدق" له علاقة بالأعراف الاجتماعية اكثر من علاقته بالواقع.
ما هو الصدق؟
اذاً ما هو الصدق؟ جيش متنقل من الاستعارات والكنايات والتجسيم : باختصار، مجموعة من العلاقات الانسانية جرى تكثيفها شعريا وخطابيا ثم نقلها وتزيينها، والتي بعد الاستعمال الطويل، بدت للناس كأنها ثابتة، أساسية وملزمة. الصدق هو أوهام ونسينا انه أوهام. هو استعارات أصبحت بالية استُنزفت قوتها الحسية،عملات فقدت نقوشها الدالّة واُعتبرت الآن فقط كمعدن ولم تعد كعملات. ذلك لا يعني ان نيتشة كان نسبيا تاما أنكر وجود أي صدق خارج الأعراف الاجتماعية. الجدال بان اللاصدق هو احيانا شرط للحياة يتضمن ان الصدق هو ايضا احيانا شرط للحياة. لا يمكن انكار ان معرفة "صدق" مكان بداية ونهاية المنحدر الصخري ستكون معززة جدا للحياة.
رضي نيتشه بوجود أشياء "صادقة" ويبدو انه تبنّى شكلا من نظرية مطابقة الحقيقة، وبهذا يضعه خارج معسكر النسبيين. ما يختلف فيه عن العديد من الفلاسفة هو انه أهمل اي نوع من الايمان الأعمى بقيمة الصدق والحاجة له في كل الاوقات وفي جميع المناسبات. هو لم ينكر وجود او قيمة الصدق، وانما هو أنكر فعلا ان الصدق يجب ان يكون دائما ثمينا او انه يسهل الحصول عليه.
احيانا من الأحسن ان تكون جاهلا بالصدق القاسي، واحيانا من السهل ان تعيش مع الزيف. ومهما كانت الحالة، نحن نأتي دائما الى حكم قيمي: مفضلين امتلاك صدق على اللاصدق وبالعكس في أي موقف معين والذي يعني بيان حول ما تقيّمه انت، وذلك دائما يجعلها قيمة شخصية جدا ليست باردة وموضوعية كما يحاول البعض وصفها.
***
حاتم حميد محسن