أقلام فكرية
غالب المسعودي: المقاربة الفلسفية للهيمنة

المركزية الغربية: اللوغوس وميتافيزيقا الحضور
يرى الفكر التفكيكي، ممثلاً بجاك دريدا، أن التراث الفلسفي الغربي ونظرياته المختلفة ليست إلا "صيغاً مختلفة لنظام واحد هو 'التمركز حول العقل' و'ميتافيزيقا الحضور'". هذا التمركز حول العقل (اللوغوس) أنتج "نظاماً مغلقاً للتفكير"؛ حيث ارتبط العقل بالمعنى المطلق للحقيقة، وأقصاء كل ممارسة فكرية لا تمتثل لشروطه.
إن الديمقراطية الغربية، بمفهومها الليبرالي، تُقدم كناتج طبيعي ونهائي لهذا التطور العقلاني. ولذلك، فإن محاولة تصدير نموذج الحكم تأتي دوماً مغلفة بأولوية المركز و"عقلانيته" المزعومة. هذا الإطار الإبستيمولوجي يوفر أداة تبرير للهيمنة، حيث تُجبر الدول التابعة على استيراد "الديكور الديمقراطي" كشرط لتبني الحداثة المزعومة. يخدم الإصرار على الشكل هدفين رئيسيين: أولهما شرعنة النخب الحاكمة محلياً ودولياً، وثانيهما تفريغ هذه المؤسسات من محتواها الاجتماعي والتحويلي، مع الإبقاء على الهياكل التي تمنع ظهور بديل متحرر من "ميتافيزيقا الحضور" الغربية.
الديمقراطية الشكلية في ميزان الفلسفة السياسية
تُعرّف الديمقراطية الإجرائية بأنها "تصور متواضع وإجرائي للديمقراطية بوصفها محض آلية للحد من سلطة الدولة وهيمنتها". لكن في الدول التي تمر بتجارب الانتقال أو في دول ما بعد الاستعمار، يتحول هذا التركيز على الشكل إلى حيلة بحد ذاتها؛ إذ يتم استخدام الممثلين المنتخبين عبر هذه الإجراءات "للإبقاء على أنفسهم في السلطة ضد رغبة الشعب العامة."
يضعف هذا النموذج مفهوم التعاقد السياسي، حيث إن النظم الغربية نفسها استندت إلى فلاسفة العقد الاجتماعي (هوبز، لوك، راولز) الذين ناقشوا القبول السياسي الصريح أو الضمني. لكن الديمقراطية الشكلية ما بعد الكولونيالية تفترض تعاقداً شكلياً أو "مفترضاً" لا يبلغ مستوى "التعاقد الحقيقي" القائم على شرعية الحكم ومحاسبة السلطة. وفي هذا السياق، يوفر توظيف الشكل غطاءً ممتازاً لتجديد الاستبداد.
الاستشراق وأدلجة الحداثة السياسية
يعمل الاستشراق بوصفه "معرفة وإنشاء وسلطة"، وقد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بمؤسسة الاستعمار باعتباره "علماً وظيفياً" لخدمة الهيمنة على الشرق. هذا الخطاب أنتج صورة نمطية قارّة للشرق، تصفه بأنه "غير عقلاني" و"غير قابل للتنبؤ". هذا التصوير يبرر الحاجة إلى التدخل والإشراف الخارجي، الذي يتخذ شكل التبشير بالحداثة وتصدير النموذج الديمقراطي.
تكمن دقة الاستراتيجية الاستعمارية (القديمة والجديدة) في أنها لا تسعى بالضرورة لتغيير ثقافة المحلي بالكامل، بل تسعى لاستغلالها. فقد كان الاستعمار البريطاني على سبيل المثال، يوظف "ثقافة المحلي نفسها" ويخلق تناقضات داخلية تقتضي القبول بالاحتلال. الديمقراطية الشكلية هي التجسيد المعاصر لهذه السيطرة الذكية، حيث يقبل النظام التابع بالهيكل الغربي الإجرائي كخطوة لتجنب الفوضى أو الإقصاء الدولي، وبالتالي يُعاد إنتاج الهيمنة.
الاقتصاد الريعي كحاضنة للديمقراطية الشكلية
لا يمكن فهم الديمقراطية الشكلية كظاهرة سياسية منعزلة؛ بل هي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالبنية الاقتصادية الموروثة والمُستدامة في دول ما بعد الاستعمار، وهي الدولة الريعية.
القوى الاستعمارية (أو القوى الدولية المهيمنة) لم تهتم بالاستغلال المادي فحسب، بل ركزت على هندسة نظام سياسي خاضع ومستمر. الدولة الريعية توفر البنية الاقتصادية المثالية لتحييد المواطن، بينما الديمقراطية الشكلية هي "الحل السياسي" اللازم لتغليف هذا النظام غير الديمقراطي. هذه التجارب "المحاكاة" للديمقراطية هي شرط لعلاقات النظام الهجين بـ "الغرب الإمبريالي"، حيث يوفر "ديكور ديمقراطي" يوحي بنجاح "رسالة التمدين".
يضاف إلى ذلك، تمتع هذه النظم بحماية والتزام من القوى الدولية. قد تلجأ القوى الدولية إلى تضليل النظام الهجين وإيهامه بتهديدات خارجية، الأمر الذي يستدعي مزيداً من التنسيق والتعاون (كصفقات الأسلحة الضخمة). هذا النظام ليس مجرد مرحلة انتقالية فاشلة، بل هو صيغة مستقرة لإدارة التناقضات. فهو يرضي الغرب بمظاهر الليبرالية ويرضي النخب الكمبرادورية المحلية بالسيطرة على الثروات الريعية. هذه القابلية للبقاء ناتجة عن "استمرارية الصراع"، حيث يُبقي النظام على حالة من التوتر تبرر بقاء النخبة الحاكمة وسلطتها الأمنوقراطية.
الاستبداد الناعم كشكل متجدد للهيمنة
إن الاستبداد الناعم في الدول العربية هو استمرار للاستبداد القديم بـ "شكل جديد، ومضمون قديم". وقد تجلى هذا التجديد في "الأمنوقراطية" وهي عقلية سياسية أمنية تعطل قدرات الجماهير وتوظفها لاستمرار الوضع القائم. إن الاستبداد هنا يتخفى وراء واجهة مؤسساتية شكلية خداعة
لضمان استدامة هذا الاستبداد، تعتمد النخب الحاكمة على آليات متعددة للشرعنة الداخلية والخارجية. داخلياً، يتم توظيف الخطاب الديني عبر "فقهاء البلاط والسلطان" لمحاولة إضفاء طابع القدسية والشرعية الدينية على سياسة الحاكم، وتبرير إمارة المتغلب وتشجيع العامة على الإعراض عن الخوض في السياسة.
أما بنيوياً، فترتبط استدامة التسلط بتركيز السلطات في أيدي السلطة التنفيذية، وضعف الشفافية، وتقييد حرية الوصول إلى المعلومات. بهذه الطريقة، يصبح الفساد آلية هيكلية لاستدامة الاستبداد. يبرز هنا مفارقة خطيرة: التيارات الدينية التي تكفّر المطالبين بالديمقراطية الجوهرية، لا تمتد صرخات تكفيرها إلى الحاكم الذي هو "رأس النظام السياسي وراعي الديمقراطية".
تآكل الثقة المجتمعية في الديمقراطية الليبرالية
لقد أدى فشل الديمقراطية الشكلية في تقديم حلول حقيقية إلى تزايد قلق المواطنين في المنطقة إزاء المشكلات المرتبطة بالنظام الديمقراطي، خاصة فيما يتعلق بملفات الأداء الاقتصادي، والاستقرار، والحسم في القرارات. كان يُنظر إلى الديمقراطية على أنها قادرة على مواجهة تحديات الكساد الاقتصادي والبطالة، لكنها فشلت في مواجهة التحديات الهيكلية المتمثلة في الريعية والفساد.
هذا الفشل في تقديم قيمة جوهرية عزز جاذبية النظم غير الديمقراطية التي حققت نمواً اقتصادياً سريعاً، مثل النموذج الصيني، مما جعل الكثيرين غير واثقين من قدرة الديمقراطية على تقديم الحلول.
كما أن هناك قناعة لا تزال سائدة لدى قسم كبير من الرأي العام بأن نظام التعددية والديمقراطية قد يساهم في تزايد النفوذ الأجنبي وتنمية الصراعات الداخلية (مثل الطائفية والعشائرية). يتفق هذا التفكير مع رؤية النخب الحاكمة التي ترى أن الحفاظ على الأمن والوحدة الوطنية يستوجب تقييد الحريات السياسية، وهو ما يفسر القبول الضمني بـ "الأمنوقراطية" كبديل للحسم والاستقرار. الديمقراطية الشكلية هنا تحولت إلى مجرد "منتج استهلاكي" فشل في تلبية احتياجات المجتمع الهش الذي أنتجته الحداثة الرأسمالية.
ما بعد الكولونيالية وما وراء الديمقراطية الشكلية
يمثل استخدام الديمقراطية الشكلية وتسويقها كـ 'حداثة' استراتيجية معرفية وسياسية مدروسة لـ "تنمية التخلف" وزرع جذور التبعية. النظم الهجينة ليست فشلاً عارضاً في الانتقال الديمقراطي، بل هي الهيكل الأمثل لإدامة الهيمنة، حيث تُخضع الثقافات المحلية لمشيئة الكولونيالية الثقافية. لتجاوز هذه التناقضات، يجب اتخاذ خطوات واضحة:
تفكيك البنية الريعية: لا يمكن تجاوز التناقضات بين الديمقراطية والاستبداد إلا بالخروج على مقومات الدولة الريعية التي تلد الاستبداد والتسلط. يجب استبدال الاعتماد على العائدات الخارجية بنظم إنتاجية تُعيد ربط الدولة بالمواطن عبر مبدأ المحاسبة.
التحرر المعرفي: يجب التحرر من عقدة النقص تجاه النموذج الغربي ورفض التماهي الكامل مع النموذج الثقافي والسياسي الغربي. التحرر يتطلب إعادة تعريف الحداثة ليس كقوة مهيمنة، بل كـ "عملية تحرر جماعي" تتبنى الديمقراطية المباشرة والعدالة الاجتماعية.
بناء الوعي النقدي: من الضروري بناء وعي نقدي يتجاوز السائد لتنقية الوعي والنصوص التعليمية من آثار الرأسمالية والكولونيالية. هذا يعني إعطاء الأولوية لاستراتيجية "إعادة الذات إلى محور الوجود والهيمنة" عبر نقد الخطاب المركزي والابتعاد عن التبعية الثقافية. إن الهدف ليس إلغاء الديمقراطية، بل استبدال صيغتها الشكلية المبتورة بصيغة جوهرية متجذرة في الذات الثقافية والاجتماعية.
***
غالب المسعودي
.......................
المراجع
فلسفة ما بعد الاستعمار بين التفكيك وإعادة إنتاج السيطرة
الديمقراطية والدولة الريعية - صحيفة النداء
بعد الاستعمار... ما بعد الديمقراطية - جريدة القدس العربي
ديمقراطية إجرائية - ويكيبيديا