أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: الفلاسفة الملوك وشرعية الفلسفة

في عام 2020 صدر كتاب ريبيكا بكستن و ليزا وتنك يحتوي على 20 لوحة لنساء فيلسوفات، وكان قد نُشر تحت عنوان (الملكات الفيلسوفات). الكتاب من بين العديد من الكتب الجديدة حول مشكلة التنوع الواسع في الفلسفة، حيث يتضمن قضايا النوع (gender) والجسد واللغة والثقافة والطبقة والاثنية. هنا سنركز جزئيا على موضوع النوع. يعمل عنوان الكتاب على مفهوم "الملوك الفلاسفة" الذي استعمله افلاطون في الجمهورية (375 ق.م).

طبقا لسقراط (المتحدث نيابة عن افلاطون) ،يُعتبر الملوك الفلاسفة هم مدراء المجتمع المثالي المرتكز على فهمهم الفلسفي والذي يقود الناس بطريقة صحيحة وعادلة. في وصفه لهؤلاء الملوك، لاحظ سقراط انهم يمكن ان يكونوا نساء جيدات لأن المجتمع المثالي تتحقق فيه المساواة بين الجنسين. هو يضيف بان فكرة مساواة الجنسين تبدو أقل اشكالية لجمهوره قياسا بفكرة طبقة الحكام الفلاسفة . الإشكالية اذاً هي حول الفلاسفة وليس حول النساء. لكن منْ الذي يمكن اعتباره فيلسوفا شرعيا؟

منْ الفيلسوف؟

اولاً، ان صفة فيلسوف هي هوية مرتكزة على الفعالية. خلافا للملوك الواقعيين والملكات، انت لم تولد فيلسوفا، ولم تتقلد اللقب رسميا مثل لقب نبيل و عمدة و دكتور. انت فيلسوف لأنك تعمل فلسفة. التحدي هنا، هو ان طبيعة الفلسفة ذاتها هي سؤال فلسفي، ولذلك فهي موضوع نقاش فلسفي ثري. العديد من الفلاسفة يتفقون بان الفلسفة يصعب تعريفها، لكن ربما يقولون، "نحن نعرفها عندما نراها". وهكذا تبرز هنا عقدة متداخلة، حيث ان اولئك الذين يستطيعون سلفا الادّعاء بكونهم فلاسفة انما هم "يعرفون ذلك عندما يرونه" وبالتالي يرسمون الحدود لماهية الفلسفة. بالمقابل، ما يسمونه فلسفة يفيد في إضفاء الشرعية على هوية "فيلسوفهم".

بينما معظم الناس حاليا يتفقون مع افلاطون بان دور الفيلسوف يجب ان ينال التقدير وفقا للمقدرة وليس وفقا للجنس، هناك لا تزال هيمنة للرجال بين الفلاسفة. نستطيع رؤية هذا في المنهاج الدراسي للفلسفة وفي المؤتمرات والصحافة. هناك عدة أسباب لهذا. فمثلا، الكثير من النساء ينسحبن من الفلسفة اثناء دراستهن ومن عملهن المبكر لمختلف الأسباب المتعلقة بالجنس. في الماضي، التزامات الزواج كانت تعني ان العديد من النساء المتعلمات كان عليهن التخلي عن الحياة الاكاديمية. اليوم، لاتزال مسؤوليات الرعاية عقبة امام عمل المرأة وبدرجة أكبر من الرجال. اضافة لهذا، لوحظ مرارا وتكرارا ان التحيّز العام في التقييم جعل من الصعب للمرأة الحصول على عمل في الفلسفة. هذه العزلة المستمرة يمكن ان تسبب إسكات للذات وأداء متدني. جزء من التفسير يكمن ايضا في الكيفية التي نرى بها المرأة التي تنجح حقا في متابعة مهنة التفكير.

المثال الشهير تاريخيا عن المرأة هي اليزابيث بوهيميا (1618- 1680)، التي كانت محاورا فلسفيا بارزا لديكارت (1596-1650). في مراسلة جرت بينهما، هي تحدّت ثنائية ديكارت وجادلته ان يأخذ على محمل الجد المظاهر العاطفية للحياة الانسانية – وهو الموضوع الذي عملت به وناقشته مع العديد من المحاورين. وبالرغم من كونها شخصية هامة في فلسفة زمانها وتطويرها لفكرة مضادة وملفتة لرؤية ديكارت حول طبيعة الانسان، لكنها خلقت فوضى وعدم ارتياح بين الطلاب في جامعة كوبنهاغن عندما اضيفت نصوصها لمنهاج تاريخ الفلسفة عام 2018. الطلاب خشوا من ان دراستها ستأخذ حيزا من الفلاسفة "الحقيقيين"، وبهذا احتجوا ضد هذا المنهاج. وهكذا نحن نعود الى سؤال  ماهو الفيلسوف الواقعي.

أول الاشياء التي يدركها طلاب الفلسفة عند بدء دراستهم هو ان الشخص لن يصبح فيلسوفا عبر دراسة الفلسفة، بل سيصبح (مهني فلسفة) . هذا اللقب قُصد به حماية الاكاديميين الجادّين من لقب "الفيلسوف" الذي يمكن لأي شخص الادّعاء به. ومن جهة اخرى، انه يؤشر بان هناك فرقا بين خريجي الفلسفة والفلاسفة "الواقعيين" مثل افلاطون وكانط وهيجل. مرة اخرى، الفلسفة تتميز بالتفكير الارثودكسي (ذو القبول العام) canonical thinking القائم على الهوية والانخراط مع الفلاسفة "الواقعيين". ان بناء او تركيب هذه القواعد المبدئية canons والانخراط بمفاوضات حول الإنتماء المرافق لها هو مسألة معقدة، وحساسة تاريخيا وثقافيا. في القرن الاخير، أسماء مثل لوفيدج فيجنشتاين و حنا ارندت و توماس كن او مايكل فوكو اضيفت الى النمط الارثودكسي. مفكرون آخرون مثل دونا هاروي Dona Haraway، عُرفت بعملها "بيان سايبورغ،1985" والفيلسوف الفرنسي برونو لاتور المعروف بعمله "نظرية شبكة الفاعل" Actor network theory و جوليا كرستيف بعملها الشهير حول مفهوم "الدونية"، جميعهم وُضعوا في منزلة "متاخمة للنمط الارثودكسي". السؤال حول لماذا هذا المفكر او ذاك يوضع او يُستبعد يقودنا الى مستنقع، لأن المعيار يلفه الغموض . مع ذلك، يمكننا تحديد بعض العناصر التي تلعب دورا عندما تم قبول مفكر مثل فوكو المهتم بالنظرية الاجتماعية والذي تجنب عمدا لقب "فيلسوف" – وفق القواعد الارثودكسية بينما استُبعد مفكرون آخرون مثل هاروي وكرستيفا – اللتان عُرفتا على نطاق واسع بتحليلاتهما المفاهيمية الأصلية.483 queen

تحديد حدود الموضوعات

اللعبة المعقدة في تحديد منْ هو الفيلسوف الواقعي، والحجج المؤيدة والمعارضة لإنتمائه تُعرف بحدود عمل الموضوعات Disciplinary Boundary work وهو المصطلح الذي صاغه السوسيولوجي توماس جيرين Thomas.F.Gieryn. الدوافع لأجل المحافظة على حدود الموضوعات متعددة ومتنوعة. يمكنها ان تكون حول علاقات السلطة والصراع لأجل الوظائف الفاخرة او التمويل، لكنها يمكن ان تكون ايضا حول هوية المتحدث الشرعي كخبير في موضوع معين في النقاشات العامة او في الإعلام. او قد تكون سؤال برجماتي حول تحديد زملاء ملائمين لنظام "تقييم الزملاء" الذي هو حجر الاساس في الاكاديمية. انه يستلزم تعريفات ايجابية صريحة حول أي الموضوع هو فلسفة، وتعريفات سلبية حول أي الموضوع ليس فلسفة. وبنفس المقدار، انها تتأثر بالأمثلة السابقة للتضمين والإقصاء. فمثلا، عندما يقول شخص ما "ان عمل ريتشارد دكنز حول الإلحاد المرتكز على البايولوجي هو ليس فلسفة" او في الحقيقة العكس، عندئذ هم يضعون حدودا لعمل الفلسفة . لتبرير هذا، ربما يقارن المرء دكنز بالامثلة السابقة عن الاشخاص الذين اعتُرف بهم سلفا كفلاسفة ضمن القواعد العامة، او يشير الى ان اسئلة دكنز حول الدين هي ضمن او ليس ضمن نطاق الموضوعات الكلاسيكية للفلسفة.

الموضوعات الاكاديمية هي متميزة لعدة أسباب. ربما لأن عدد من الموضوعات تشترك بحقل معين من الدراسة (كما في الفيزياء الفلكية)، او منهجية (كما في الانثروبولوجي)، او ان الموضوع موحد بكونه يتجذر في تقليد تاريخي (كما في الفينومينولوجي). على سبيل المثال، الفيلسوف دان زاهافي Dan ahavi جادل بان الكثير ممن يسمي نفسه "فينومينولوجي" هو ليس بالضبط كذلك لأنه لايتصل بنصوص فرانز برينتانو وادموند هسرل اللذان أسسا الفينومينولوجي، وبهذا لايتبع الميراث التاريخي الذي يعرّف الحقل حسب زاهيف.

ما اذا كان احد ينتمي لحقل معين ذلك يعتمد على الكيفية التي يرتبط بها بأي مظهر يوحّد ذلك الخلاف، وبهذا فان التبرير يجب ان يعتمد على المقارنة مع الانتماءات المقبولة سلفا بدلا من المقارنة بالتعريفات الواضحة.

القواعد العامة والهرطقة

لكي نعرف حقلا، نحتاج للاطلاع على قواعده. هذا بدوره يوفر اساسا مفيدا للنقاشات المهنية طالما نحن نشير الى نصوص مألوفة عموما بدلا من توضيح كل شيء من الصفر. انت تستطيع ايضا ان تجعل مثل هذه النقاشات اكثر ايجازا عبر الإشارة الى أفكار او تفسيرات محددة جدا . في الفلسفة، على سبيل المثال، انت ربما تجعل من الواضح ما اذا كنت تستعمل مفردة "وجود" بالمعنى الهايدجري. او ربما انت تشير الى تجارب فكرية كلاسيكية معروفة على نطاق واسع وسيناريوهات جرت مناقشتها تتحدى وتنير المشاكل التي تصارع فيها الفلسفة. في الاخلاق، مثلا، هناك مشكلة العربة، وفي الابستيمولوجي هناك مشكلة جيتر Gettier problem.

 ان هذا النوع من عمل الحدود،وحيث تقوم جماعة معينة بتطوير فهما مشتركا من خلال ادوات مفاهيمية مشتركة ومصطلحات، هو احيانا يشار له بـ "تكوين رطانة" creating jargon.

هذا خصيصا ينطوي على استعمال اللغة كمؤشر لإنتماء الحقل، او كعلامة للانتماء. الرطانة يمكن ان تكون طريقة سريعة وفعالة لإيصال افكار معقدة بشكل دقيق، لكنها ايضا تجعل من الصعب الدخول في المحادثات، وفي الحقيقة، هي طريقة فعالة في استبعاد منْ ليس لديهم المعرفة، او عند النقاش مع الزملاء المبتدئين وغير الخبراء او الاكاديميين  من الحقول الاخرى.

وهناك وراء المظهر الايجابي للكفاءة، وسلبية الاستبعاد، تحدي آخر في رسم حدود الحقل من خلال رطانه مقبولة. ذلك يعني ان الاختلاف يمكن فهمه اما كونه غير ملائم او هرطقة. وهكذا، عندما نجد مفكرات مثل هاروي و كرستيفا تعتمدان على خلفيتهم المتعددة الاختصاصات (هاروي في الاصل متخصصة في البايولوجي) و(كرستيفا في اللغويات) وعلى مراجع الادب ونظريات غير معروفة للفلاسفة، او استعمال امثلة نموذجية، فان انتمائهن الحقلي سيكون عرضة للسؤال. الفلاسفة ذوي التدريب الكلاسيكي العالي ربما يندهشون بغياب "الرطانة الفلسفية "الكلاسيكية"، ويتخذونها كاشارة بان المؤلف يفتقر الى التجربة في الفلسفة. او ربما هم لا يفهمون الامثلة المعطاة من اول وهلة – او هم بحاجة الى قراءة البايولوجي – ولذلك يعتبرون النص كـشيء "غريب". وبدلا من ان تكون فرصة للفلاسفة المدرين كلاسيكيا لتعلّم شيء جديد، فان "الحداثة" في النصوص تصبح فرصة للفلاسفة المدربين كلاسيكيا  لنبذها. هذا بالطبع، لا يتصل بالجنس وانما يمتد لأي شخص يعمل على حافة القواعد الارثودكسية.

عندما تمتلك الملكة جسدا

طبقا للبعض، الفلسفة هي ميتافيزيقا، تستطلع كيف يمكن لعلم ان يعطينا معرفة. في هذا الدور، يقال ان الفلسفة هي "ملكة العلوم". هذه العبارة تأتي من مقدمة كانط لنقد العقل المحض (1781) – كان هناك وقت كانت فيه ملكة لكل العلوم" – لكنها اعيد انتاجها في عدة نصوص فلسفية. الفلسفة هي ملكة او ملك بسبب نظرتها الملكية، مثل نظرة الاله، هي فوق الحياة الدنيوية. في الحقيقة، بالنسبة لافلاطون، الملك الفيلسوف يجب ان يتحرر من الصفات المادية ويعيش لأجل المثل الفلسفية وخير المجتمع. الفلسفة، كملكة للعلوم، بنفس الطريقة لا يمكنها التورط في التعقيدات الدنيوية. وكما يدّعي ديكارت في تأملاته (1641)، ان الفلسفة يجب ان تبدأ بنقاء مطلق – أي،فكرة معينة لكي تكون أساس كل شيء آخر.

هذا النوع من الرؤية الفلسفية الذاتية تنتج فلسفة تسعى لتحرير نفسها من العالم ومن الظروف التجريبية. انها تتجسد في كوجيتو ديكارت، وهوس كانط بالافكار القبلية، وفي طريقة هسرل Husserl,s epoche في عدم الحكم (محاولة للبدء بتحليلات فلسفية عبر وضع كل التصورات المسبقة "بين قوسين"). هنا، يجب ان تقف النظريات الفلسفية فوق الزمن والثقافة. اذا سقطنا في تحديد تاريخي او ثقافي، نحن نترك الفلسفة خلفنا ونتحرك الى العلوم التجريبية مثل الانثروبولوجي، التاريخ وما شابه. حتى الفلاسفة الذين يعتمدون على امثلة تاريخية، مثل كون kuhn او فوكو، يسعون لهياكل فوق أمثلتهم (تتعلق بالنموذج النظري او المعارف paradigms).

لابد من التنبيه  ان النسخة الأقل غرورا لهذا يمكن العثور عليها في عمل الفيلسوفة البريطانية ماري ميدجلي Mary Midgley (1919-2018) التي تعتبر الفلسفة ليس كعرش ملكي وانما كرسام خرائط للافكار، لا تحكم لكنها لاتزال تعلو فوق الحقول الاخرى، محافظة على رؤية كلية. مع ذلك، ان فوق الزمن وفوق اللفظي والاهتمام المتحرر روحيا يتم افتراضها مسبقا في اية استعارة.

لكي يتم تتويج الفيلسوف يجب ان يكون فوق التاريخ وفوق الثقافة، وفوق تهوّر الجسد. ملكات الفلسفة "الواقعيات" لا يطغى عليهن الحزن، وليس لديهن آلام دورة شهرية خارجة عن السيطرة (او على الاقل لا يتحدثن عنها). غير ان مفكرات مثل هاروي وكرستيفا يكون – العلائقي، العاطفي، الجسدي، المشاكس –  هو الحاسم. هذا ليس بسبب انهن لا يستطعن التفكير بما ورائها وانما بالضبط كنقطة فلسفية: المعرفة توضع في محل. الناس هم أجساد – وليس فقط اجسام "جميلة" وانما يصرخون، ينزفون، يموتون، يتعرقون، وعلى الاقل اجسام تولد وتتوالد. ولسوء الحظ، ان محاولة كسر غفلة الفلسفة بالجسد والحياة العاطفية تُخرج الاشخاص الذين يفكرون بهذه الطريقة من الموقع الفلسفي "الملكي".

الشرعية، السلطة والتغيير

كيف يرتبط هذا بعدم توازن النوع في الفلسفة؟ في (المرأة في الفلسفة: ما الشيء الذي يجب ان يتغير؟ 2013) تكتب كاترينا هوتشيسون Katrina Hutchison بان ندرة النساء الفيلسوفات في الادب والمؤتمرات وفي الميديا هو ناتج جزئيا عن الطريقة التي نحكم بها على مصداقية الخبراء. الدراسات من علم النفس والسوسيولوجي تبيّن اننا في السياقات التي لا نمتلك بها خبرة مهنية فان رغبتنا بالسلطة تتأتثر جدا بالتحيز . جزئيا، هناك تحيز الدرجة الثانية حيث يلعب التحيز دائما دورا في تخصيص مصداقية هيكلية من خلال الوظائف الاكاديمية والمطبوعات، لكن هناك ايضا تحيز اساسي في اللعبة، لأن التقييم الذي نضعه سوف لا يعتمد فقط على المؤشرات المؤسسية وانما ايضا على ما اذا كان الفرد يقع ضمن المجموعة التي نعتبرها ذات صدقية. فمثلا، نحن نرى احيانا رجال في قمصان زرقاء كشهود موثوقين لكن عندما نأتي للاقتصاد نحن ننسب مصداقية أقل لرجل في قميص هاواوي (لماذا هو يرتدي ذلك القميص؟ هل هو لا يعرف التقاليد؟ هل هو يعرف الحقل؟). نفس الشيء ينطبق على جنس معين، لون جلد معين، لهجة معينة (هل يمكن لشخص ذو لهجة كوكنية "من سكان شرق لندن الأصليين" ان يخبرني عن الطبيعة؟). في مثل هذه المواقف نحن من المحتمل جدا ان نطلب دليلا على الخبرة: "ارني ان تحيزاتي خاطئة لكي أثق بادّعاءاتك". هذا يولّد "ثقافة التبرير"، فيها تجد الاقليات نفسها مطلوب منها تبرير سبب توصيفها  لفلاسفة او حتى اكاديميين – من خلال، على سبيل المثال القواعد، الرطانة،او "النظرة الملكية".

في الغرب، معيار الفيلسوف هو الأبيض، المتحدث الانجليزية او ربما الالمانية او الفرنسية – قد لا يكون في قميص ازرق وانما جاكيت ويُفضل بشعر اشيب او ابيض لذا نعرف لديه عدة سنين من التجربة المتراكمة. هذه من بين الصفات التي نبحث عنها كمؤشرات مباشرة لشرعية الخبير. لكن ايضا الابيض الانجليزي او الالماني او متحدث الفرنسية وبشعر رمادي صاغوا الحقل الفلسفي الغربي لقرون. هذا يفسر لماذا موضوعات ليست واضحة جدا لهم – من ضمنها الحيض، ولادة الطفل، القمع، الفلسفة الهندية، الصينية ،العربية، الاستعمار – لم تصبح بعد جزءا من النمط الارثودكسي ولا تمتلك نصوصا وتجارب فكرية او طرق تساعدنا في فهم تلك الموضوعات. غير ان الحركة خارج تلك المنظومة تجعل من الصعب الدفاع عن الشرعية. كأقلية – كفيلسوف غير نمطي – انت محشور في ارتباط مزدوج. شرعيتك عرضة للسؤال، لذا فان المدرسية تصبح سلاحك الرئيسي: "انظر، انا اعرف الرطانة، انا ابعد نفسي من الجسد، من ثقافتي من تاريخي". لكن في تلك الاثناء، تفيد المدرسية في ادامة الفلسفة غير التامة والمحافظة والصارمة والتي لا تشجع الانخراط في مواضيع جديدة. المعركة لأجل الهوية كفيلسوف تصبح معركة لأجل المصداقية وضد التحيز. انه الفيلسوف النمطي هو الذي يقرر مبادرات جديدة – ربما فقط بسبب شرعيته لا يُحتمل ان يتعرض للمسائلة. توماس كن الذي لديه العديد من صفات فيلسوف التيار الرئيسي (هو كان رجل امريكي ابيض) واجه القليل من الاسئلة حول الشرعية رغم خلفيته الفيزيائية ومنهجيته التاريخية.

الشرعية في التحدث بالموضوعات الفلسفية تصبح معتمدة بعمق على ما اذا كان الشخص الجدير بالثقة يبدو كـ "فيلسوف". هاروي و كرستيفا من غير المحتمل ان تكونا مرشحتين لفلاسفة نمطيين لأنهما تجمعان بين تحديات الرؤى المعيارية و الفشل ليكونا فيلسوفتين نمطيتين. مكانتهما كفيلسوفتين ملكتين هي شائكة لأن شرعيتهن في الموضوعات تتطلب تبريرا : يجب اثبات انهن يعملن فلسفة. لكن هذا التبرير يجب ان يتأسس على إظهار علاقة بالحقل الذي ليس له شكل معرّف جيدا. جهودهما ستكون للسعي نحو وسط محافظ.

لو أخذنا مثالا ساخرا من كتاب فيليب كيتشر Philip Kitcher لعام 2023 حول ما الفائدة من الفلسفة. هو يحكي قصة عن الموسيقيين الموهوبين الذين يتدربون في الاكاديميات ليصبحوا متخصصين في موزارت. اساسا، هناك حماس كبير لدى كل من الموسيقيين والجمهور لحضور عروضهم، لكن التحسّن في أداء موزارت أصبح تدريجيا أقل وأقل، والجمهور العام فقد الرغبة في الاختلافات الدقيقة التي يمكن ان تتم فقط بواسطة خبراء مدربين. بعض الموسيقيين ايضا شعروا بالضجر. الخبراء اصيبوا بالرعب وقاموا باستبعاد هؤلاء العابثين من الدراسة الاكاديمية. وبمرور الزمن، اصبحت قاعة حفل الاكاديمية فارغة. فقط الخبراء العنيدين ذوي الحاسة الموسيقية الخاصة للاختلافات في موزارت استمروا يقيمون حفلات لبعضهم بينما بقية الناس يعيشون حياتهم في مكان آخر.

المدرسيون يتفقون بان الناس يفتقرون للذوق، وان أي نقد يصدر عنهم هو ببساطة ناتج عن حكمهم الفقير ونقص الفهم. بهذه الطريقة، ما بدا كإهتمام حقيقي في التطور الموسيقي اصبح نظام صارم للموضوعات يستبعد أي شيء يمكنه تحدي او ابتكار او ازالة الحدود الموسيقية. تماما مثل التقديس، الرطانة والخلافة المدروسة لعرش الفلسفة ربما تكون مفيدة في رعاية التخصص وضمان النوعية، لكنها ايضا استبعادية، وعندما تُتبع بصرامة، فهي تعرّف فلسفة ميتة يؤمل ان ترضي عدد قليل من الفلاسفة.

العبرة من المثال ومن هذا المقال هو ان هناك شيء يُكتسب عندما نعامل الفلاسفة بأقل من الملوك ونعرض فضولاً بدلاً من موقف مشبوه في مسائلة الشرعية الفلسفية.

***

حاتم حميد محسن

...........................................

من مقال للكاتبة هيلين سكوت الباحثة في جامعة كامبردج بعنوان "الملوك الفلاسفة والملكات"، نُشر في Philosophy Now عدد اكتوبر/نوفمبر 2024.

في المثقف اليوم