أقلام فكرية

أقلام فكرية

المصطلح أبستمولوجيّاً (معرفيّاً):
قبل الدخول في تعريف "المصطلح" ودلالاته اللغويّة والمجازيّة، ومجالات نشاطه النظريّة والعمليّة، لا بد لنا هنا من الوقوف عند دلالاته المعرفيّة. "فالمصطلح" ليس "مفردة" لغويّة عابرة نلقيها جزافاً في متن النص الذي نشتغل عليه، أدبيّاً كان أو فنيّاً أو فلسفيّاً أو دينيّا... أو غير ذلك من العلوم التي نتداولها، على اعتبار أن لكل علم من العلوم التي نتداولها له قاموسه "المصطلحي" بالضرورة. فـ "المصطلح" في الحقيقة له دلالاته المعرفيّة والوظيفيّة داخل بنية النص، أي نص من النصوص التي جئنا عليها أعلاه. (قال ابن حزم الأندلسي:" لا بد لأهل كل علم و أهل كل صناعة من ألفاظ يختصون بها للتعبير عن مراداتهم و ليختصروا بها معاني كثيرة.).(1). ففي المصطلح تتحدد توجهات النص الذي نتداول الحديث عنه، أو البحث فيه وأهدافه، مثلما تتحدد مساراته السرديّة والمعرفيّة، فعلى سلطة "المصطلح الواحد وبنيته المعرفيّة قد يتحدد السياق العام للنص المتداول أو الحديث حوله أو عنه بالكامل. فعندما نطرح مثلاً مصطلح "الأركيلوجيا" وهو دراسة علميّة لمخلّفات الحضارة الإنسانيّة الماضية. فهذا المصطلح قابل ان يدخل عالم الأدب أو الفن أو الفلسفة أو الدين أو أيّة قضية من قضايا الحضارة الإنسانيّة لأي شعب من الشعوب. فعندما نريد أن ندرس تاريخ فن القصة القصيرة في سورية مثلاً، فسنعتمد "مصطلح الأركيلوجيا كمصطلح رئيس أو مصطلحاً أساس في دراستنا هذه، وكذا الحال عند دراستنا لتاريخ الفن أو الفلسفة أو الدين وغيرها عند أي مجتمع من المجتمعات أو حضارة من الحضارات، "فمصطلح الأركيلوجيا" سيحدد لنا بالضرورة مسار تتبعنا للقضية التي نشتغل عليها، وبالتالي سيشكل هذا المصطلح بالضرورة موقفاً منهجيّا على اعتباره يحدد لنا مسار عملنا، وبالتالي إبعادنا عن الخلط والتداخل المجانيّ بين العلم الذي نشتغل عليه وبقية العلوم. وهذا الموقف المنهجي نجده بكل وضوح مثلاً في مصطلح " الفقه" أو "علم الكلام" أو الفن التشكيلي" .. الخ. فكل مصطلح من هذه المصطلحات يشتغل على علم محدد نستنتج من خلاله طبيعة العلم المراد من هذا "المصطلح الأساس" دون أن نغفل بأن كل مصطلح من هذه المصطلحات الرئيسة أو الأساسيّة يرافقها مصطلحات ثانويّة كثيرة تكمل هذا المصطلح وتغنيه. فعندما نتداول مصطلح "الفلسفة المثاليّة" مثلاً، فسيرافق هذا المصطلح مصطلحات متعددة من هذه الفلسفة، كالفلسفة الوجوديّة والحدسيّة والمثاليّة الذاتيّة وكذلك الموضوعيّة وغيرها. وختاماً نقول في هذا الاتجاه كثيراً ما يضطر الباحث أن ينحت مصطلحاً محدداً للموضوع الذي يشتغل عليه، وهذا أمر ليس حديثاً بل قديما قدم الاشتغال على المعرفة. (قال قدامة بن جعفر: " و مع ما قدمته فإني لما كنت آخذا في استنباط معنى لم يسبق إليه من يضع لمعانيه و فنونه المستنبطة أسماء تدل عليها، احتجت أن أضع لما يظهر من ذلك أسماء اخترعها.). (2).
المفهوم اللغوي للمصطلح:
لفظ "مصطلح" مصدر ميمي من الفعل المزيد "اصطلح" الذي مجرده "صلح". وقد استُعمل الفعل الثلاثي "صلَح" في المعاجم اللغوية بمعان واشتقاقات تكاد تكون متقاربة.
ففي الصيغة الاشتقاقيّة ذاتها أورد "ابن منظور" أن:» الصالح: ضد الفساد ... والصلح: السلم، وقد اصطلحوا وصالحوا واصلحوا وتصالحوا وأصّالحوا مشدّدة الصاد، قلبوا التاء صادًا وأدغموها في الصاد بمعنى واحد « صلح صالحاً.
وجاء في المعجم الوسيط: اصطلح القوم أي زال ما بينهم من خلاف وعلى الأمر تعارفوا عليه واتفقوا... والاصطلاح: مصدر أصطلح ... أي اتفاق طائفة على شيء. (3).
المصطلح مجازاً:
المصطلح هو لفظ يطلق على مفهوم معين للدلالة عليه عن طريق الاصطلاح (الاتفاق) بين الجماعة اللغويّة على تلك الدلالة المرادة، والتي تربط بين اللفظ (الدال) والمفهوم (المدلول) لمناسبة بينهما. وأطلق المتخصصون في علم المصطلح تعريفا دقيقا له وهو: (الرمز اللغوي والمفهوم).
بينما أطلق عليه «فيلبر» إنه عبارة عن بناء عقليّ فكريّ مشتق من شيء معين، فهو- بإيجاز - الصورة الذهنيّة لشيء معين موجود في العالم الداخليّ أو الخارجي، وأضاف: «لكي نبلغ هذا البناء العقلي - المفهوم - في اتصالاتنا يتم تعيين رمز له ليدل عليه». (4) .
تعريف المصطلح النقدي:
يمكننا القول إذاً بالنسبة للمصطلح موضوع بحثنا، بأنه أداة من أدوات التفكير العلميّ، ووسيلة من وسائل التقدم العلميّ و الأدبيّ، و هو قبل ذلك لغة مشتركة، بها يتم التفاهم و التواصل بين الناس عامة، أو على الأقل بين طبقة أو فئة خاصة، في مجال محدد من مجالات المعرفة و نشاطات الحياة. وإذا لم يتوفر للعلم مصطلحه العلميّ الذي يعد مفتاحه، فقد هذا العلم مسوغه، و تعطلت وظيفته.
المصطلح في الثقافة العربية:
لم يكن " المصطلح في كل دلالاته وأهدافه بعيداً في الحقيقة عن الثقافة العربيّة، لقد "عرف العرب مع عصر التدوين المصطلح، وخبروا خفاياه وجوانبه المختلفة، كما لمسوا أهميته وفوائده في بناء النهضة العلميّة التي سعوا إليها، ووقفوا على طرائق وضعه بما أفادوه من الترجمات عن اللغات الأخرى، أو ما نحته الأدباء والفلاسفة والفقهاء العرب من مصطلحات خاصة بهم. هذا وقد بلغت اللغة العربيّة قمة التطور والمرونة في التعبير عن كل المستجدات من النظريات العلميّة والآراء الفلسفيّة في العصور الوسطى وخاصة مع عصر الترجمة والانفتاح على الحضارات الأخرى، حتى أصبحت الواسطة الكافية للتعبير عن كل مناحي الفكر العلميّ والتقنيّ في ذلك العصر، بل والجسر الذي عبرت عليه الثقافة العربيّة الإسلاميّة بكل مكوناتها ومصادرها إلى الغرب. يقول الجاحظ في البيان والتبيين : (و قد أفاد النقد الأدبيّ من هذا التلاقح الفكريّ مع الشعوب: كالفرس و اليونان والهند والرومان، حتى تسربت بعض هذه المصطلحات الفكريّة و الفلسفيّة إلى النقد العربي والأدب عامة، ويدل على ذلك تلك المصطلحات التي عُرفت في العلوم العقليّة، و النقليّة، و الدخيلة، جميعا. ويؤكد الجاحظ هذا بقوله: "هم تخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني. وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، و هم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا بذلك سلفا لكل خلف و قدوة لكل تابع.). (5).
وهكذا أشرع العلماء و النقاد و المفكرون العرب في وضع اصطلاحات نقديّة و بلاغيّة في الأدب وغيره من الفنون والعلوم في ذلك العصر. و لاحظوا اختلاف هذه المصطلحات بين عالم و آخر، فقال "ابن المعتز" مثالاً في مقدمة كتابه " البديع" : ( و لعل بعض من قصر عن السبق إلى تأليف هذا الكتاب ستحدثه نفسه وتمنيه مشاركتنا في فضيلته فيسمى فناً من فنون البديع بغير ما سميناه). و عندما يأتي "قدامة بن جعفر" يعيد طرح المشكل من جديد، فيعزو لنفسه فضل الريادة في وضع بعض المصطلحات النقديّة والأدبيّة قائلاً: ( و لما كنت آخذاً في استنباط معنى لم يسبق إليه من يضع لمعانيه و فنونه المستنبطة أسماء تدل عليه احتجت أن أضع لما يظهر من ذلك أسماء اخترعتها). (6).
نعم ... مع انتشار الإسلام وبدء التدوين والاشتغال على المعرفة، بدأت الحاجة إلى ثقافة المفاهيم اللغويّة تظهر، و بدا من المهم العمل على إيجاد تحديدات دقيقة لما تعنيه ألفاظ المشتغلين بتلك العلوم، وهو ما دفع بعلماء المسلمين إلى وضع مصطلح "علوم الحديث" مثلاً الذي يختص بدرجات الحديث وأنواعه وطرق إسناده. وكذلك علوم اللغة وبديعها ونحوها.. وغير ذلك من علوم، وهكذا انتقلت عبر اللغة ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخرى، بزيادات زيدت. و شرائط شرطت، و لقد صار لكل جماعة تشتغل بعلم واحد ألفاظهم و مصطلحاتهم الخاصة بهم. و قد شرع أصحاب تلك العلوم والصناعات يحددون معاني ألفاظهم وحدودها ورسومها، و نشأت إثر ذلك حركة تأليف مصطلحيّ تمثلت في كتب خاصة باصطلاحات العلوم المختلفة، ومنها:
- الحدود "لجابر بن حيان" ت 200 هـ.
- مفاتيح العلوم لـ "محمد بن أحمد بن يوسف الكاتب الخوارزمي" ت 387 هـ.
- رسالة الحدود، "لأبي حامد الغزالي" ت 505 هـ.
- السامي في الأسامي. "محمد أبي الفضل الميداني النيسابوري" 531 هـ.
- التعريفات، "للشريف علي بن محمد الجرجاني". ت 816هـ.
- كشف اصطلاحات الفنون "للتهانوي". ت 1108هـ. (7).
تأثر الكتاب والأدباء والمفكرون العرب بالمصطلح الغربي:
لا شك أن المسألة الثقافيّة والفكريّة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة قد أصابها الكثير من الجمود والتكلس في عصر الانحطاط، حيث توقف الاجتهاد على مستوى العلوم الدينيّة وساد النقل على حساب العقل، كما أخذت تتعطل شيئاً فشيئاً بقية العلوم الأخرى ويتوقف العمل بالكثير منها، أو تتجه باتجاهات أخرى كعلوم الأدب وخاصة الشعر منه. ولكن مع حلول عصر النهضة الحديثة، التي أعقبت الحملة الفرنسيّة على مصر، بداية القرن التاسع عشر، بدأ الأدب العربي يخرج من دائرة جموده والضعف الذي عاشه خلال الحقب الماضية، فهذا الجمود والضعف اللذان يرجعان بمجملهما إلى المحسنات البديعيّة، وغيرها من وسائل التلاعب بالألفاظ والأحاجي والألغاز، ولذلك فقدت الألفاظ الشعريّة على سبيل المثال دلالاتها، فلم يعد شعراء هذا العصر يهتمون بدور الكلمة الشعريّة المعبرة والموحية والمؤثرة في الإحساس والوجدان، بل كان اهتمامهم منصب على أنواع البديع والتفنن فيه، فزينوا ألفاظهم وزخرفوا أشعارهم بالسجع والجناس ونحوهما، من فنون البديع، حتى كثرت المؤلفات فيه. فأطلق عليها البديعيات كبديعة "عز الدين الموصلي"، المتوفى 122هـ، و"صفى الدين الحلي"، المتوفى723هـ، و("صالح الدين الصفدي"، المتوفى 711هـ، وغيرهم كثيرون، (8). فمع عصر النهضة في تاريخنا الحديث اتجه الأدب والنقد الحديثين اتجاهات شعريّة متنوعة، حددت مذاهب الشعر الحديث، ورصدت اتجاهاته، بأن أطلق عليها النقاد المحدثين (المدارس الأدبيّة الحديثة). وكان لهذه الاتجاهات الأثر الكبير في بلورة تلك المدارس، التي أسهمت في رد الشعر إلى طبيعته، وعملت على تحديد، مناهجه ومقاييسه النقديّة الحديثة، مطبقة بعض نظرياته بما يوافق طبيعة الأدب العربي، وقيمه وتقاليده. هذا وتعد مدرسة "الأحياء والبعث"، أولى المدارس ظهوراً، والتي يعزى إليها هذا التجديد والتطور. (9). وبالتالي فالقارئ للأدب العربي الحديث، يلحظ تحولات أدبيّة هائلة في جميع جوانب الحياة الأدبيّة والفكريّة والثقافيّة، نتيجة الوعي الحضاريّ والثقافيّ لدى كثير من أدباء ونقاد هذا العصر، حين أنكبوا على دراسة التراث بشكل واع وجرئ، فأظهروا ما فيه من سلبيات وايجابيات، وحاولوا تخليصه من شوائبه التي أدت إلى ضعفه، ودعوا إلى التخلي عن الوجه المسيء للأدب، وإحلال الوجه المشرق والمضيء له، وجعله جسر عبور بينه وبين الحضارة الإنسانيّة. ومن أوائل من نادى بهذا، (محمود سامي البارودي، وعباس محمود العقاد، وعبد الرحمن شكري، والمازني، وطه حسين، وأحمد شوقي)، وغيرهم ممن سار على نهجهم وخطا خطاهم، مكونين مدارس أدبيّة جديدة في الأدب والنقد، تأخذ بمقاييس ومصطلحات ومناهج عالميّة.) .(10). ومع ظهور هذه المدارس، بدأ النقد العربي، في عصر النهضة يستمد قواعده وأصوله من المذاهب النقديّة، ومن جميع المدارس التي نشأت نشأة حديثة عربيّة كانت أم أجنبية وبأكثر انفتاحاً، وكان المذهب "الغربي" ومصطلحاته ذا أثر بالغ في التأثير، وفي تطور النقد العربي، وخير دليل على هذا هو تكوين المدارس الأدبيّة ونشؤ المذاهب النقديّة. كما أن الفلسفة الحديثة في الغرب كانت أشد تأثيراً في حركة النقد العربي الحديث، من حيث ظهور الاتجاهات الجديدة الواضحة في النقد، علاوة على تأثر بعض النقاد العرب المحدثين، بآراء النقاد والفلاسفة الغربيين.
ومن المدارس الأدبية المتعددة التي تركت بصمات في نهضة الأدب العربي والنقد في تاريخنا الحديث والمعاصر، والتي لا شك بأن شعراؤها ونقادها كانوا متأثرين باتجاهات المدارس الغربيّة، كالمدرسة "الرومانسيّة" التي برزت ابتداء من نهاية القرن الثامن عشر، ونادت بتفوق العاطفة على العقل، و نادت بالحريّة والتعبير، وتقديم الخيال على العقل وتفضيله في التحليل النقدي، والميل إلى الغموض والأساطير وغيرها، وكان من أبرز مؤسسي هذا التيار في الوطن العربي، الناقد والأديب "خليل مطران" المتأثر بالثقافة الفرنسيّة، ومعه مجموعة من النقاد والأدباء، أمثال: (عباس محمود العقاد، إبراهيم عبد القادر المازني، عبد الرحمن شكري)، وهؤلاء الثلاثة كانوا مطلعين على الثقافة الغربيّة ومتأثرين بها. ( 11 ).
وكان في هذه المرحلة تيار جماعة (أبولو)، بزعامة "أحمد زكي أبو شادي" الذي ظهر بمصر عام 1933م. و أبولو نسبة إلى (أبولون)، إله الفكر والجمال وهو رب الشعر والموسيقى عند الإغريق، لقد أخذ هذا التيار أساطيرهم التي كانوا يؤمنون بها. ومنه أطلق هذا الاسم على هذا التيار، وقد أصدرت هذه المدرسة مجلة أدبيّة، خُصصت للشعر وبنشر الإنتاج الأدبيّ لهذه الجماعة ونشر أفكارهم وآرائهم، وهي أول حركة أدبيّة لتجديد الشعر العربي، والدعوة لنقده في تاريخ الأدب العربي الحديث. وفيها قالت خالدة سعيد: (" لما نشأت مدرسة أبولو، كانت الفكرة الموحدة الجامعة هي الشعر الحق الرفيع، وهو ما عبر عن الشعور تعبيراً فنيّا أصيلاً، ولم يكن ابتذالاً ولاً احترازاً لما سبقه من الشعر ". ). (12).
كما يخرج تيار ثالث يحمل مبادئ ومصطلحات جديدة للأدب العالمي، هو تيار (الواقعيّة)، الذي يعني، نقد الحياة والكشف عما فيها من شرور وآثام، وهذا الكشف هو الذي يظهر الواقع للحياة وحقيقتها الجوهريّة الأصيلة الدفينة.). وقد نادى أصحابه إلى البحث عن الذاتيّة والمثاليّة، وأول ما نشأ هذا التيار وظهر في أوروبا، وهو رد على الرومانسيّة، حاملاً آراء ومصطلحات وأفكار نقديّة للأدب، هدفه ترسيم واقع الحياة كما هو عليه دون التدخل الذاتي، ومشاركة الأدب والشعر للمجتمع مشاركة صحيحة وفعالة، وأن لا يجنح إلى عالم الخيال والأوهام، متخذين من القصة المحور الأساس لهذا التيار، وقد انخرط تحت لواء هذا التيار (نازك الملائكة، وبدر الدين شاكر السياب، ومحمود حسن حامد)، ولفيف آخر من الشعراء، متخذين من الشعر الحر هدفاً وطريقاً لرسم معالم هذا الاتجاه في الوطن العربي، جاعلين أدبهم ملازماً للمجتمع وحياته في مشاكلهما و أحداثهما، كما جاء في قصيدة (الكوليرا) "لنازك الملائكة" و(وهل كان حباً) "لبدر الدين شاكر السياب"، وشعر "محمود حسن في ديوانيه" (لابد و إصرار). (13).
هذا وقد ظهر تأثير معظم المدارس الغربيّة في النقد والمصطلح لدى النقاد العرب والحركة النقديّة العربيّة في تاريخنا الحديث والمعاصر، كالرمزيّة، والبرناسيّة، والسرياليّة والوجوديّة.
ملاك القول هنا:
إن النقد الأدبيّ العربيّ الحديث والمعاصر بدأ، يصدر أحكاماً نقديّة نظريّة، على النص الأدبي، مبدياً رأيه وفق مقاييس أوليّة توافق الطبيعة الإنسانيّة والفطرة والحس والتذوق الجماليّ الذاتيّ والحدسيّ، وتدور في معظمها حول ما تراه العين، وتسمعه الأذن، ويتذوقه اللسان، أو يشمه الأنف، أي بما يمكن إدراكه عموماً بالحس. (14). وفي كتب النقد أمثلة مليئة بمثل هذه الأحكام، نقف عند واحد منها كتحاكم "الزبرقان بن بدر"، و"عمر بن الأهتم" و"عبده بن الطبيب"، و"المخبل ربيعة بن عوف"، إلى "ربيعة بن حذار الأسدي". ففي الشعر أيهم أشعر، قال للزبرقان ( أما أنت فشعرك كلحم أسخن لهو أنضج فأكل، ولا ترك نيئاً فينتفع به، وأما أنت يا "عمرو" فإن شعرك كبر ودجر، فيتلألآ فيها البصر، وإما أنت يا "مخبل"، فان شعرك قصر عن شعرهم، وإما أنت يا "عبده" فان شعرك كمزادة أحكم خوزها، فليس تقصر ولا تمطر) .(15).
وهكذا كانت معظم الأحكام النقديّة تصدر من هذا القبيل، أي لا تخرج عن الذوق الفطريّ والملاحظة البسيطة والنظريّة الجزئيّة، وهي مطبوعة بطابع الارتجال. بيد أن هذا النقد لم يدم على حالته هذه عندما نظر النقاد فيما بعد بالنظرة الشاملة والمتكاملة إلى النصوص والأساليب، ودراستها دراسة تحليليّة قائمة على المناهج والمقاييس والمصطلحات النقديّة، عمادها الذوق والمنهج والتركيب الثقافيّ والفكريّ واللغويّ، وبعد أن اتسع النقد وتشعبت مباحثه، وتنوعت اتجاهات النقاد لتشمل النقد اللغوي، ونقد الألفاظ الشعريّة ومعانيها، ونقد الأخطاء النحويّة والصرفيّة والنقد البلاغيّ، والنقد الدينيّ والفنيّ والفلسفيّ والفكري الذي تناول البعد الطبقيّ والاجتماعيّ بشكل عام وغير ذلك.
***
د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة
.......................
الهوامش:
1- المصطلح النقدي. univ-tlemcen.dz
https://elearn.univ-tlemcen.dz › resource › view
PDF .
2- المرجع نفسه.
3- في مفهوم المصطلح وعالقته بعلم المصطلح (المصطلحية).
The concept of the term and its relation to Terminology
الدكتور: عبد الحميد بوفاس، جامعة عبد الحفيظ بو الصوف، ميلة، الجزائر - فوزية سعيود، طالبة دكتوراه، جامعة الإخوة منتوري قسنطينة1مجلة القارئ للدراسات الأدبية والنقدية واللغوية. 18/8/ 2020
4- الويكيبيديا.
5- البيان و التبيين ج1 ص139. تحقيق حسن السندوبي. مكتبة هنداوي.
6- المصطلح النقدي - مرجع سابق.
7- المرجع نفسه.
8- تطور النقد الأدبي العربي بين النظرية والتطبيق - د/ الهادي امحمد محمد السلوقي / جامعة الزاوية ليبيا- https://drive.uqu.edu.sa/_/mabagazi/files.
9- المرجع نفسه.
10- رامز الحوراني-1992م، نشؤ النقد والأدب وتطوره ج1 ص211.).
11- ). جبور عبد النور، 1981م، المعجم الأدبي، ص232.).
12- خالدة سعيد، 2979م، حركة الإبداع، ص13،
13- طور النقد الأدبي العربي بين النظرية والتطبيق - د/ الهادي امحمد محمد السلوقي / جامعة الزاوية ليبيا- المرجع نفسه.
14- محمد زغلول سالم، تاريخ النقد العربي ج1 ص33.
15- بدوي طبانة، 1972م، دراسات في نقد الأدب العربي، ص 13.

"جميع الظواهر النفسية تحتوي على حركة تبدأ من الشعور بالنقص وتمتد إلى الأعلى. تنص نظرية علم النفس الفردي للتعويض النفسي على أنه كلما كان الشعور بالنقص أقوى، كلما كان الهدف من قوة الشخصية أعلى." ألفريد أدلر
في السابع من فيفري سنة 1870 ولد الطبيب النفسي وطبيب العيون النمساوي ألفريد أدلر ، وهو معروف بكونه مؤسس مدرسة علم النفس الفردي ، حيث اعتبر ألفريد أدلر الإنسان كيانًا فرديًا متكاملًا، ولذلك أطلق على علم النفس الذي ابتكره اسم " علم النفس الفردي "، كما كان أدلر أول من أكد على أهمية العنصر الاجتماعي في عملية إعادة تكيف الفرد.
السنوات الأولى
وُلِد ألفريد أدلر في رودولفسهايم ، في ضواحي فيينا ، ليكون الثالث من بين سبعة أطفال لتاجر حبوب يهودي من أصل مجري. وفي سن الرابعة، أصيب ألفريد بالالتهاب الرئوي وسمع طبيبًا يقول لوالده: " لقد ضاع ابنك ". في تلك المرحلة ، قرر أن يصبح طبيبًا. كان مهتمًا جدًا بموضوعات علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة. بعد الدراسة في جامعة فيينا ، حصل على شهادة طبيب عام 1895. تخصص أولاً كطبيب عيون ، ثم في علم الأعصاب والطب النفسي. أسس عيادته مقابل براتر ، مدينة الملاهي الشهيرة والسيرك في الجزء الأدنى من فيينا. كان معظم عملائه من لاعبي السيرك. درس نقاط القوة والضعف غير العادية لديهم، وهذا أعطاه رؤى حول نظريته حول نقص الأعضاء.
جمعية الاربعاء
في عام 1902 تلقى أدلر دعوة من سيجموند فرويد للانضمام إلى مجموعة " جمعية الأربعاء " (Mittwochsgesellschaft)، والتي كانت تجتمع بانتظام في أمسيات الأربعاء في منزل فرويد وكانت بداية الحركة التحليلية النفسية. في عام 1910، أصبح أدلر، وهو عضو مخضرم في المجموعة، رئيسًا لجمعية فيينا للتحليل النفسي. وظل عضوًا في الجمعية حتى عام 1911 ، عندما انفصل هو ومجموعة من مؤيديه رسميًا عن دائرة فرويد ، أول المنشقين الكبار عن التحليل النفسي الأرثوذكسي ، قبل انقسام كارل يونج في عام 1914. وبذلك بدأت القطيعة بين فرويد وأدلر ، حيث أصبحا يكرهان بعضهما البعض.
فرويد – ألفريد أدلر علاقة متوترة
ووصف فرويد تلميذه أدلر بأنه "كومة من النفايات مليئة بالسم والشر"، وأنه "صَنع مِن قزم عملاقًا".فردَّ أدلر " حتى القزم، إذا ما احتل مكانه على كتفَيْ عملاق ضخم، فإنه يستطيع أن يرى أبعد ممن يحمله". و يُشار إلى أدلر غالبًا باسم "تلميذ فرويد"، إلا أن هذا لم يكن صحيحًا أبدًا؛ فقد كانا زميلين. أسس أدلر جمعية علم النفس الفردي في عام 1912 بعد انفصاله عن الحركة التحليلية النفسية. وبصرف النظر عن عداوتهما ، احتفظ أدلر بإعجاب مدى الحياة بأفكار فرويد حول الأحلام ونسب إليه الفضل في إنشاء نهج علمي لاستخدامها السريري. ومع ذلك، حتى فيما يتعلق بتفسير الأحلام ، كان لأدلر نهجه النظري والسريري الخاص به. تركزت الاختلافات الأساسية بين أدلر وفرويد على ادعاء أدلر بأن المجال الاجتماعي (الخارجي) مهم لعلم النفس مثل المجال الداخلي (الداخلي). تمتد ديناميكيات القوة والتعويض إلى ما هو أبعد من الجنسانية ، ويمكن أن يكون الجنس والسياسة بنفس أهمية الرغبة الجنسية. كما لم يشارك فرويد معتقدات أدلر الاشتراكية.
علم النفس الفردي لأدلر
في عام 1926 كتب ألفريد أدلر: "إن علم النفس الفردي يرى مهمته في حقيقة مفادها أن تعاليمه (...) تتجاوز حدود العلاج والتعليم الفردي، بحيث تصبح وقاية ورؤية للعالم. وتحت تأثير سحر الكون، المسجون على قشرة الأرض غير المكتظة، والمرتبطة بضعف كائنها الحي، بل وأكثر من ذلك بانتمائها إلى المجتمع في اللغة والعقل والأخلاق والجماليات والإثارة الجنسية، تجبر الحياة الإنسان على الإجابة عن أسئلة تتطور حتمًا. (...) إن شجاعته وتفاؤله وكفاءته المدربة هي إجابات ضرورية لحاجة حقيقية، والتي تحافظ أيضًا على شعور دائم بالنقص باعتباره المحتوى الأساسي لحياة روحه".
مدرسة مستقلة للعلاج النفسي
تمتع أدلر بنجاح كبير وشهرة في بناء مدرسة مستقلة للعلاج النفسي ونظرية شخصية فريدة من نوعها. سافر وألقى محاضرات لمدة 25 عامًا للترويج لنهجه الموجه اجتماعيًا. كان هدفه بناء حركة من شأنها أن تنافس، بل وتحل محل، الآخرين في علم النفس من خلال الدفاع عن النزاهة الشاملة للرفاهية النفسية مع المساواة الاجتماعية. توقفت جهود أدلر بسبب الحرب العالمية الأولى، والتي خدم خلالها كطبيب في الجيش النمساوي. من عام 1921 فصاعدًا، كان أدلر محاضرًا كثير الاسفار في أوروبا والولايات المتحدة ، وأصبح أستاذًا زائرًا في جامعة كولومبيا في عام 1927.
يتشكل النمط الاجتماعي الخاطئ في السنوات الأربع أو الخمس الأولى غالبًا ما نجد أسبابًا لذلك: أعضاء غير كاملة أو أن الطفل قد تم تدليله أو أننا نجد أطفالًا مكروهين - بين الأيتام وأحيانًا الأطفال غير الشرعيين والأطفال القبيحين والأطفال غير المرغوب فيهم وما إلى ذلك.
وكتب ادلر وهو يتحدث عن عقدة النقص عند الطفل ان هذا النمط ثابت ولا يمكن تغييره إلا إذا تمكنا من إقناع هذا الطفل بالأخطاء في وقت لاحق من الحياة. لذلك يمكننا القضاء على الأخطاء في هذا النمط إما بالوقاية وذلك بتثقيف الأسرة حول كيفية تربية الأطفال بشكل صحيح أو يمكننا جعل المدرسة أداة للتقدم الاجتماعي للتعرف على الأخطاء في بدايتها وتحقيق المزيد من الاهتمام الاجتماعي بين التلاميذ.
في وقت لاحق من الحياة يكون الأمر أكثر صعوبة ويجب أن يكون العلاج فرديًا ؛وذلك بالتفكير في كيفية إقناع مثل هذا الشخص وكيفية تغييره. وبهذه الطريقة نتأكد من أن مفتاح علم النفس الفردي هو المفتاح الأكثر أهمية وجدارة بالاهتمام، ويمكننا أن نخمن بشكل أفضل بكثير من الطرق الأخرى ما هو الخطأ الذي ارتكب في مرحلة الطفولة وكيفية تصحيحه. وهكذا، سيداتي وسادتي، توصلت إلى النتيجة التالية: لقد اكتشفت منذ عشرين عامًا عقدة النقص التي أثبتت أنها مفتاح مفيد للغاية لفهم الطبيعة البشرية والشخصيات. وكما أوضحت، فإن الفرد هو وحدة منذ بداية الحياة ولا يمكن تغيير أسلوب حياته دون فهم الأخطاء التي ارتكبت في الجذور، وهذه الجذور تكمن في الحياة الأسرية التي يتشكل فيها كل فرد ويصاغ. وبالتالي يمكننا أن نجد أن هذا السعي العظيم للتغلب على صعوبات الحياة ينطلق من شعور بالنقص ويؤدي إلى هدف التفوق، وهو دائمًا ما يقترن بدرجة معينة من الاهتمام الاجتماعي الفردي. نجد في كل تعبير، وفي كل حركة يقوم بها كل فرد كيف استخدم تدريبه من أجل المصلحة الاجتماعية، وبالتالي عندما يواجه في وقت لاحق من حياته المشاكل التي لا يمكن حلها بشكل صحيح إلا إذا تم حلها حقًا في شعور اجتماعي عظيم، فسوف يتقرر ما إذا كان قد تكيف بشكل صحيح أم لا. لذلك نجد في النهاية أن جميع الإخفاقات في الحياة: الأطفال المشاغبون، والأشخاص العصابيون والذهانيون، والمنحرفون، والمنتحرون، والسُكارى، وما إلى ذلك، يفتقرون دائمًا إلى المصلحة الاجتماعية. وليس هذا الاهتمام فحسب، بل إنهم يفتقرون أيضًا إلى الشجاعة والفهم والتدريب الصحيح لحل المشاكل الاجتماعية.
الكراسي مقابل الأريكة
كان أدلر مهتمًا بالتغلب على ديناميكية التفوق / النقص وكان أحد أوائل المعالجين النفسيين الذين تخلصوا من الأريكة التحليلية لصالح كرسيين. يسمح هذا للطبيب والمريض بالجلوس معًا على قدم المساواة إلى حد ما. جادل أدلر لصالح الكلية ، ورؤية الفرد بشكل كلي بدلاً من الاختزال، حيث يكون الأخير هو العدسة السائدة لعرض علم النفس البشري. كان أدلر أيضًا من بين أوائل علماء النفس الذين جادلوا لصالح النسوية والمحللة الأنثوية ، حيث جادلوا بأن ديناميكيات القوة بين الرجال والنساء ضرورية لفهم علم النفس البشري.
الهجرة والموت
في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين ، وبعد إغلاق معظم عيادات أدلر النمساوية بسبب تراثه اليهودي ، غادر أدلر النمسا للعمل كأستاذ في كلية طب لونغ آيلاند في الولايات المتحدة الأمريكية. وكان قد شغل منصب أستاذ زائر في جامعة كولومبيا منذ عام 1926 وفي كلية لونغ آيلاند منذ عام 1932. وفي عام 1937 ، ذهب أدلر في جولة محاضرات وعانى من نوبة قلبية قاتلة في أبردين، اسكتلندا في سن 67 عامًا. وجه الموت المفاجئ لألفريد أدلر ضربة شديدة لعلم النفس الفردي، وخاصة في ألمانيا والنمسا في ثلاثينيات القرن العشرين. تعرض طلاب أدلر للاضطهاد من قبل الحكام الجدد. كان على علم النفس العميق المزدهر أن يترك مركزه في أوروبا الناطقة بالألمانية ويواصل عمله في التنوير النفسي في أجزاء أخرى من العالم. كما كان للديكتاتوريات والحرب العالمية الثانية تأثير دائم على تطور علم النفس ككل.
الصحة العقلية والاجتماعية
باعتباره طبيبًا ممارسًا ومشاركًا نشطًا في مجموعات المناقشة التحليلية النفسية الجديدة لسيجموند فرويد، اكتشف أدلر أنه في كل تعبير عن الحياة البشرية، تكون العمليات الجسدية والعقلية دائمًا فعالة بشكل مشترك وتشكل وحدة غير قابلة للتجزئة (فرد). يشكل هذا الاكتشاف أساس علم النفس الجسدي اليوم. في ملاحظة نقص الأعضاء، وجد أدلر أن الجسم والنفسية لديهما ميل للتعويض عن ذلك بطريقة ما. وجد أدلر هذا الوضع من النقص أو الدونية في المجال النفسي وخاصة في مهام الحياة الثلاث: العمل - الحب - المجتمع (الطفل، صف الأخوة، المدرسة، العمل، الزواج، مواقف الامتحانات وما إلى ذلك). إنه يثير في البشر حالة عاطفية أطلق عليها أدلر الدونية. وعلى غرار تعويض نقص الأعضاء، تسعى النفس البشرية إلى التغلب على حالة الدونية هذه من خلال ما أسماه أدلر السعي للحصول على الاعتراف. وفقًا لأدلر، فإن مدى قدرة الإنسان على التغلب على مثل هذه التحديات في الحياة يعتمد في المقام الأول على كيفية تمكنه من التغلب على موقف النقص الأول، وعجزه عندما كان طفلاً. وأشار أدلر إلى أن هذا الدافع الإيجابي في عملية النمو والتطور يشكل الأساس لقابلية الإنسان للتعليم، لأنه في هذه الحالة يعتمد بشكل مطلق على مساعدة الأشخاص الذين تربطه بهم علاقة.
إرث
توجد في جميع أنحاء العالم منظمات مختلفة تعمل على تعزيز توجهات أدلر نحو الرفاهية العقلية والاجتماعية. وتشمل هذه المنظمات اللجنة الدولية للمدارس والمعاهد الصيفية الأدلرية (ICASSI)، وجمعية أمريكا الشمالية لعلم النفس الأدلري (NASAP) والرابطة الدولية لعلم النفس الفردي. توجد معاهد وبرامج تعليمية في النمسا وكندا وإنجلترا وألمانيا واليونان وإسرائيل وإيطاليا واليابان ولاتفيا وسويسرا والولايات المتحدة وجامايكا وبيرو وويلز. ترك أدلر وراءه العديد من النظريات والممارسات التي أثرت بشكل كبير على عالم الطب النفسي. تُعرف هذه المفاهيم اليوم باسم علم النفس الأدلري.
***
علي عمرون – اختصاص فلسفة

 

ملخص أطروحة ميشيل فوكو [1]
ترجمة: محمد فرَّاح
***

عند محاولة الوصول إلى الخاتمة، يجب أن يكون من الممكن تلخيص ما تم استخلاصه من خلال التحليلات النصية المتعددة في شكل تركيب وثوقي. هذا الجهد لتقييم البحث الذي أجريناه لن يكون مجرد ملخص، لأن الدائرة التي وقعنا فيها في البداية قد التزمت بعدم إمكانية تبرير أصل تفكيرنا إلا من خلال نجاح وصوله؛ لذا يجب أن يكون هذا التقييم بمثابة تبرير، "دفاع"، وبالتالي فإن تماسكه يضع كل ما قلناه سابقاً موضع تساؤل.
1. "فينومينولوجيا الروح" ليست مقدمة ولا جزءًا من نظام هيجل؛ إنها البحث عما يجعل إجمال نظام فكري يريد أن يقدم نفسه كعلم ممكنًا. إنها النهج الذي يسمح للفكر بأن يكون منهجيًا دون تناقض.
2. هذا الأساس للمعرفة المنهجية، تكتشفه "فينومينولوجيا الروح" في "علم مطلق"، ليس هذا العلم امتلاءً للمحتوى، بل هو "وسط أُفْهُومِيٌّ" غير محدد، مناسب لوعي (الأنا) الذي تتجلى كل أنشطته في "أنا أعرف". هذا الوعي، كوسط أساسي، أطلقنا عليه اسم الذات الترنسندنتالية.
3. هذا الوعي الذي هو معرفة، هو معرفة بذاته في تطوره التجريبي، وبنفس الطريقة تشكيل هذا التطور في معناه الحقيقي. معرفة الذات وتشكيل الذات هذان هما الصفتان للعلم المطلق، ولا يعترف عمومًا إلا بالجانب الأول.
4. العلم المطلق يشكل نفسه: بدءًا من الأساسي وصولاً إلى الإجمالي (الجزء الأول من "فينومينولوجيا الروح")، ومن الإجمال المباشر إلى الإجمال المتحقق بالكامل (الجزء الثاني)؛ هذه الحركة الثانية هي حركة التاريخ، بينما الدافع الأول هو ما قبل التاريخي.
5. إذن، التاريخ هو لحظة من لحظات الذات المتعالية في نشاطها التأسيسي: فهو ليس أول هذه اللحظات ولا آخرها، لكنه ربما يكون الدعامة الأساسية لها لأنه يشمل هذه الكلية من التجربة التي سيعرفها العلم المطلق ككلية.
6. التاريخ هو حركة وساطة تحمل الوعي التجريبي إلى معرفته الترنسندنتالية، فهو الذي يثير الوعي الذي يعرف ذاته في كلية كيانه التجريبي، هذا "النحن" الفيلسوف الذي يناسب الذات الترنسندنتالية.
كلما زادت الأطروحات التي حاولت التعبير عن حقيقة نظام هيجل، زادت الأفكار التي انغمست في التناقض الغريب المتمثل في الرغبة في التفكير في فينومينولوجيا الروح لهيجل، مع احتقار ما كان يفكر به هو نفسه. إذا كان من الصحيح أن معنى الهيجلية يكمن في عالم غير هيجيلي، وإذا كان التفلسف لا يستطيع أن يدرك حقيقته داخل النظام نفسه، فإن هيجل كان، من بين الجميع، الأكثر جهلاً بفكره الخاص: وسعادته بالعثور على المصالحة مع العالم في هدوء العلم المطلق، تحولت بالنسبة إليه إلى أسوأ المصائب، لأنه لم يعرف معناها الحقيقي. كان مصيره أن ينفصل عن فكره الخاص، وأن يعرفها كغريب، في اللحظة نفسها التي كان يهدف فيها إلى تأسيس المساواة بين يقينه وحقيقة العالم. اليقين المباشر يسقط خارج الحقيقة، فهو يصطدم بغربة مؤلمة ولا يجد نفسه فيها. بعد كل الخدع المظلمة للعقل التي قام هيجل بتبديدها واحدة تلو الأخرى، يجب علينا، التفكير ضد هيجل، أن نشجب كخدعة عليا هذا الجهل بالعلم المطلق الذي كان يعرف حقيقة كل الأشياء، باستثناء حقيقة نفسه. سيكون هيجل آخر الوعي البائس، ذلك الوعي الذي تلخص فيه كل الأوعية الأخرى وتحتويه.
ومع ذلك، فإن التحليلات السابقة لا تسعى إلى توسيع الهيجلية في مثل هذا التناقض. نحن لا نهدف إلى وضع النظام في موقف محرج؛ بل إننا على مستوى أكثر شمولية، حيث يحاول النظام العثور على أساسه، وخارج نفسه، يبرر كل محتواه.
ما هي إذن، في ضوء بحثنا التاريخي، هذه الطريقة الجديدة للتفكير وهذا المجال غير المستكشف الذي يجب على كل تفكير منهجي أن يبرر فيه نقطة انطلاقه؟
تمنحنا الخلفية التاريخية لعام 1806م فهمًا مباشرًا لمحاولة "فينومينولوجيا الروح": فقد ورث هيجل عن كانط وفخته، وخاصة الأخير، القلق حيال إيجاد أساس قانوني لكل نظام فلسفي محتمل، لكنه كان حريصًا على ألا يستهلك هذا القلق المسبق كل القوى الكامنة للنظام في البحث المجرد عن وضع قانوني؛ فلم يكن يريد أن يستنفد محتوى الوجود في هذا البحث التمهيدي عن الحق في الوجود. ومع ذلك، في عمق تفكيره، وفي عالم عمله الخاص، رأى هيجل ضرورة اتباع نهج مشابه: فقد قفزت فلسفة يِنَّا فجأة إلى هذا المطلق حيث يمكن لأي نظام أن يتوسع، وعبرت عن حماس فكر لم يفكر بعد في حقه في أن يكون حماسيًا. وبحجب أي سلطة قانونية عنها، فإن مجانية نقطة انطلاقها لم تؤد إلا إلى طارئ وجودها.
إن عمل عام 1806م هو إعادة صياغة، ومساءلة للأسس نفسها لهذا البناء. جوهره قانوني؛ وهدفه هو التأسيس؛ وقد أنشأت "فينومينولوجيا الروح" في هذه "أزمة الأسس" التي ربما يكون كانت وفخته قد استنفدا فيها إمكانيات نظاميهما، فهي بمثابة وضع "الفلسفة الحقيقية" [1]؛ إنها ندم عليها وهي تحاول أن "تجعل ما تم فعله لم يتم". لا شك أن هذه هي دلالة المقدمة التي أضيفت إلى "فينومينولوجيا الروح" عندما أصبح معنى العمل واضحًا للمؤلف؛ فهنا لا يهاجم هيجل فخته وشيلينغ وفلسفات التجريد والحماس فحسب، بل إنه يصارع نفسه أيضًا، الفيلسوف الذي كان سيكون عليه، والذي كان بالفعل في محاضراته العقائدية في ينا [2] لولا أنه أخذ على عاتقه كتابة "فينومينولوجيا الروح". إنه النظام الأول بأكمله الذي يتشتت فيها ويسقط في غبار هدوء صدى الاضطرابات المعاصرة في تاريخ ألمانيا.
بصعوده إلى منابع الفكر النسقي، كان هيجل يعد لنفسه أكثر المصائر تناقضًا؛ فقد وضعت "فينومينولوجيا الروح" الكون الهيجلي بين قوسين للحظة، لكن هذا الكون سرعان ما استعادها. في النظام اللاحق، لم يكتمل معنى العمل، ولم تعد تظهر كـ هذا البحث عن الأساس الذي يمثل لحظة حاسمة في تطور أي نظام موسوعي [3]. قد يبدو الأمر متناقضًا، فكيف يمكن لنظام أن يبحث خارج نفسه عن ما يبرره ويمنحه الشرعية؟ لكن الحقيقة هي أن هذا البحث ضروري لوجود أي فكر شامل، فمعناه لا يمكن أن يكون غريبًا عليه. المستوى الذي نصل إليه هنا هو مستوى تجاوز الفكر لحدوده، ليتمكن في لحظاته المتعاقبة من الكشف عن العالم ككل. المشكلة إذن تتغير، فبدلًا من البحث عن تبرير للفكر في عالم خارجي، أصبح الأمر يتعلق بتجاوز هذا الفكر نفسه. لقد أصبح هذا التجاوز فعلًا فكريًا متأصلًا فيه، ولكنه لا يبحث عنه في نهاية النظام كدليل على صحته، بل في أصوله كإثبات لحقه في الوجود.
وبالتالي، فإن هذا البحث عن الأساس، هذه العملية الترنسندنتالية المتأصلة في الفكر، هي جوهر الفعل الفلسفي. وما يأسس هذا الفعل هو مجموعة من المبادئ الأساسية التي تشكل أساس كل تفكير فلسفي.
إذا كان صحيحًا أن النشاط التأملي للفيلسوف يكمن في وضع هذه الترنسندنتالية التي تعيد القبض على التجربة من جذورها، وتسيطر على الأشياء من خلفها [4]، أي عند نقطة أصلها البحتة، فإن الميتافيزيقيا يمكن تسميتها، بعبارة تعارض بشدة برونشوفيتش، بحركة نزول في المكان نفسه. ولكن ما هي طبيعة هذه الحركة، وما هو الكون الذي تكشفه عندما تصل رحلتها الطويلة أخيرًا إلى نهايتها؟
إن ما تسعى إليه مجموعة المبادئ الأساسية للفكر [أو أكسيوماتيك الفكر] هو هذه المجال الشامل الذي تكتسب فيه كل التجربة معنى شرعيًا ككل، حيث تتجمع شتات التعددية والتشرذم والبؤس في وحدة مبدأ واحد، حيث تكتشف العوالم الصغيرة المتعددة لتجربة متشعبة، وراء وجودها، سبب وجودها في خصوصية كون واحد. من خلال أماكن الألم حيث يتصالح الوعي الضائع مع ذاته، فإن مسيرتها الطويلة لا تتوقف إلا عند الانتشار أمامها لهذا الحقل الشامل من التجارب الذي يمثل الأرض الموعودة للفيلسوف. هذا الواحد الأصلي، هذا الواحد الذي سبق الخلق [5]، ليس ذلك الواحد العاري المجرد كذرة بلا داخل، ولا هو الواحد المطلق المستبد كمبدأ بلا خارج. الواحد الذي يمثل المبدأ الأول للفكر الفلسفي يحمل في طياته التناقض بين كونه عنصرًا ومبدأً في آن واحد، مبدأ التكوين وقانون هذا التكوين؛ إنه الواحد والأول معًا، في تحول مستمر بين الكلي والجزئي؛ فهو يجمع في هذه الازدواجية الغامضة بين التقاطع في القياس والاستمرارية في القيم. وفي هذا التناقض يكمن، مختفيًا، الثنائية، ومعها النظرية اللانهائية للتجارب.
لكن الأهم من ذلك أن هذا الواحد ليس هو وحدة الموجودات؛ فهو لا يمر تحت الكائنات، يربطها سرًا برابطة وحدة مفهومية؛ ولا ينيرها أيضًا، مانحًا إياها، مع الحياة، نور الحياة. الواحد الذي تتجاوزه الفكرة هو متأصل في هذه الفكرة نفسها؛ فهو وحدة معرفتها، وكليتها من تجاربها، والتي أصبحت تجربة كونها كلية، وحقها أيضًا في أن تكون هذه الكلية. الواحد هو معرفة؛ بعبارة هيجلية، هو المعرفة المطلقة. إذن، فإن الفعل الفلسفي للتجاوز ليس جهدًا من الداخل نحو الخارج يبرره ويغفر له كونه خارجًا؛ ولا هو تعبير عن ضمير فلسفي مأكول الضمير يبحث خارج نفسه عن حقه في الوجود؛ بل هو تأكيد على النشوة الفلسفية لفكرة تعرف قدرتها على تبرير نفسها. هذا التجاوز في الداخل هو وسيلة الانتقال من معرفة إلى معرفة أخرى، ومن معرفة في التجربة إلى معرفة للتجربة.
هذه المعرفة من التجربة، هي المعرفة المطلقة، ليست محتوى منتشرًا في لحظات متفرقة، وليست خريطة جغرافية لكون مستكشف بالكامل؛ بل هي مجرد إمكانية مفتوحة لمحتويات في القدرة [6] . وإذا كانت مطلقة، فإن ذلك يعود إلى أنها تشمل في حدودها المتلاشية كل العلاقات، بعيدًا عن كونها، في أقصى حدود التحديد، جهلًا بكل نسبية. ومعها تتشكل وتتحقق طريقة تفكير هي تفكير شامل، تفكير قادر على التفكير في كل شيء. إنها منطقة كل المناطق، وأفق كل الآفاق، والمنظور الشامل الذي تتشكل فيه كل مناظر المعرفة: هكذا يظهر لنا كون غير مكتشف بعد، كون بلا توضيحات موضوعية، حيث تعمل، في الظلام، نظرية شاملة للتجربة. وعلى هذا المستوى، يشكل كل توضيح لحظة من هذه النظامية الشاملة. والموضوع لهذه المعرفة – وهو نفس الموضوع الذي قرر، في لحظة قابلة للاستبدال من تاريخه التجريبي، أن يقوم بالفعل الفلسفي للتجاوز، هذا الموضوع الذي يعرف تجربته ككل، أصبح موضوع هذه المعرفة المطلقة؛ وقد كشف لنفسه أنه موضوع فلسفي، أو بالأحرى موضوع الفلسفة؛ وبواسطته انتقلت التجربة إلى المعرفة في كليتها؛ وهذه الكلية هي التي تكشف عنه كموضوع متعالٍ. وكلاهما قد ولدا من عالم التجربة، ومن تفاعلهما ولدت هذه المنطقة الجديدة من التجربة وهي الفضاء الفلسفي.
يكفي أن نشير إلى الاتجاه الذي يجب أن يتطور فيه محتوى هذه الفضاء: ففيها، يعتبر الفيلسوف فكره كذات متعالية، وبهذا يدرك نفسه كذات لكل تجربة ممكنة؛ ويتجلى ذلك في نشاطه التأسيسي الذي يثير في الوعي كل مناطق التجربة. أي أن الفيلسوف الذي يدرك أنه أصل كل هذه المناطق، يمكنه أن يفهم المبدأ الذي يجعلها موجودة، وكيف تتولد تباعًا في موضوعيتها. يعرف الفيلسوف ترتيبها، وبالتالي يفهم ظاهرة هذا الترتيب، أي الزمن؛ وهو يعرف، مع نشأتها التي هو مؤلفها، الطريقة التي تظهر بها هذه النشأة على الوعي الساذج؛ ولهذا السبب، ستكون كل فلسفة علمًا بالتاريخ وبعكس التاريخ. ستكون علمًا بالتاريخ الذي يشكله نشاط الذات في نشأة مناطق التجربة. أما الفينومينولوجي، الذي لا يزال غارقًا في تشتت التجارب وفي التسلسل الهرمي لمستوياتها، فيكشف عما يؤسس كل تجربة من هذه التجارب. ولكن يجب أن تنطلق من ذاتها قريبًا حالة الانغماس في البحث، وأن تتضاعف، وتتخلى بشجاعة عن حتمية التجارب، لتخطو الخطوة الفلسفية نحو كليتها. عندئذ ستكشف، ككل لكل المناطق، المنطقة الشاملة، حيث نرى التشكلات والتكوينات تتطور؛ عندئذ تفتح الفلسفة أبوابها كعلم بكليّة التجربة، في نشأة مناطقها المختلفة تباعًا.
إذن، فإن الدرس الذي استخلصناه من "فينومينولوجيا الروح" هو أن الفلسفة يجب أن تحتفظ باستقلاليتها، رغم كل الظواهر الفلسفية المحتملة؛ وأن الانتقال من ظاهرة إلى أخرى يفرض نفسه، بل ويُعتبر ضرورة في منظور يسعى إلى الشمولية؛ وأن هذا الانتقال، على الرغم من أنه يبدو حاسمًا، فهو ضروري لا مفر منه. وفي ضرورة هذا الانتقال يكمن الفارق الجوهري بين هوسرل وهيجل، حيث تسعى "الأفكار" [7] لدى هوسرل إلى تبديد المجال الفلسفي كمنطقة مستقلة، بينما يؤكد هيجل في "العلم المطلق" شرعية هذا المستوى الفكري. ويمكن تفسير "فينومينولوجيا الروح" بأكملها على أنها ظواهر للوعي الفلسفي [8]، أي وصف لهذه المسيرة نحو المعرفة الشاملة، إذا ما قبلنا على الأقل التفسير الذي قدمناه للعلم المطلق.
لا يجوز لهذا التأويل أن يلف نسق هيجل من الخارج كقضاء محتوم؛ فالتاريخ بالنسبة له ليس قصة عاطفية يغرق فيها هو نفسه دون أمل في المصالحة مع العالم، ودون أن يفدى موت الله يوميًا بآلام البشر. بل تكمن حقيقة النسق في تتبع ما كان فيه أقل تاريخية، أي في نوع التفكير الذي مكنه من تأسيس الفلسفة كـنسق للتاريخ، متجاوزًا حدود التاريخ.
-إنتهى-
***
............................
المرجع المعتمد:
[1]- Michel Foucault / La constitution d'un transcendantal historique dans la Phénoménologie de l'Esprit de Hegel / Vrin, 2024, p-p: 203-197
[1] – تجذر الإشارة هنا إلى أن هذا العنوان، هو نفسه عنوان أطروحة دكتوراه ميشيل فوكو لنيل دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة سنة 1947م، أعد التحرير والتقديم: كريستوف بوتون، المتخصص في فلسفة ميشيل فوكو، نشرت في باريس، مكتبة فلسفية تابعة لـ ج. فَرَن، تقع في الرقم 6 من ساحة السوربون في الدائرة الخامسة، سنة النشر: 2024، في هذا النص الذي تقدمه هذه الطبعة للجمهور لأول مرة، نكتشف فوكو الشاب وهو قارئ متعمق للفلسفة الألمانية الكلاسيكية، يستخدم هيجل ضد كانط من أجل إعادة التفكير في السؤال "ما الذي أستطيع أن أعرفه؟". يتم تفسير "فينومينولوجيا الروح" على أنها تاريخية الترنسندنتالي والتي تبلغ ذروتها في شخصية "العلم المطلق" الغامضة. وبالتالي، يتم رسم برنامج فلسفي "كل فلسفة ستكون علم التاريخ وعكس التاريخ". والذي أعده تحت إشراف جان هيپوليت.
هوامش الترجمة:
[1] - الفلسفة الحقيقية التي تجمع بين فلسفة الطبيعة وفلسفة الروح والتي بدأ هيجل في صياغتها في شكل محاضرات عندما كان أستاذاً في جامعة ينا (1801-1807).
[2] – أي تلك المحاضرات التي ألقاها هيجل حول نظامه الناشئ قبل صدور "ظاهرة الروح". وقد نشرت هذه "مشاريع النظام" لأول مرة بواسطة لاسون (المجلدات الثامن عشر والتاسع عشر والعشرون) ثم في النسخة النقدية (انظر Jenaer Systementwürfe, GIK 6, 7 و 8)
[3] - تستعيد فلسفة الروح في الموسوعة، في القسم الثاني المعنون "الروح الذاتية"، نسخة مختصرة وموجزة من "ظاهرة الروح"، مقسمة إلى ثلاثة أقسام: الوعي، ووعي الذات، والعقل (باستثناء الجزء التاريخي من الفصول السادس والسابع والثامن).
[4] - إشارة إلى "لأجلنا" عند الفيلسوف: "لكن هذه الضرورة ذاتها، أو ولادة موضوع جديد، يظهر للوعي دون أن يدري كيف جاءه، هي ما يحدث، بعبارة أخرى، خلف ظهورنا" (P.E.I, ص 76، PhE، ص 171، GIF9، ص 61).
[5] – ربما استُلهمت هذه الصفة للمعرفة المطلقة من مقدمة "علم المنطق" حيث يكتب هيجل أن محتواها هو "عرض لله كما هو في ذاته الأزلي قبل خلق الطبيعة والروح المحدودة" (SLI، ص 57، GH'21، ص 21).
[6] – إن المعرفة المطلقة ليست "امتلاءً بالمحتوى"، بل هي "وسط أفهومي" يجعل وحده "نظام العلم" ممكنًا، وهو نظام لا يزال، في نهاية "المشروع الإنكليزي"، "كونًا غير مستكشف"، يتعين على "الموسوعة" أن ترسم خريطته.
[7] - الأفكار الموجهة نحو فينومينولوجيا وفلسفة فينومينولوجية خالصتين (الأفكار الأولى)، والتي سيصدر ترجمتها الفرنسية بول ريكور في عام 1950.
[8] - هذا هو ما يراه فوكو مفقودًا في الفينومينولوجيا الهوسرلية.

 

مدارات فلسفية

يُعدُّ هيراقليطس " 540 – 475 ق. م " فيلسوف النار من كبار فلاسفة اليونان  في المدرسة الطبيعية الأولى " الطبيعيون الأوائل" التي ضمته إلى جانب الثلاثة الكبار طاليس وأنكسيمندريس وأنكسيمانس إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق.

ووفق عبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود ويوسف كرم، فإنه اشتهر بنظريته في التغير والصيرورة التي امتد تأثيرها إلى العصور اللاحقة الوسطى والحديثة، وإن المتأمل لنظرية كارل ماركس في الصراع، يجد أن جذورها تعود إلى فلسفة هيراقليطس الذي كان يحب الانفراد بنفسه واعتزال الناس كما يؤكد علي سامي النشار في كتابه عن الفيلسوف الصادر في الإسكندرية عام 1969 وهو أمرُ طبيعي لفيلسوف مفكر، يتناول شؤون الكون والإنسان، ويقال أيضاً أنه ورث وظيفة دينية، لكنه تنازل عنها لأخيه الأكبر، لكي يتفرغ لشؤون الفلسفة . ويذهب عدد من مؤرخي الفلسفة إلى القول بأنه كان حزيناً متغطرساً، لا يحب العامّة، ويستشهدون على ذلك بمقولته " إن رجلاً واحداً من الطبقة الأولى يساوي عندي عشرة آلاف رجل من العامّة " وتفسيرها لا يعني بالضرورة أنه يريد الحط من شأنهم إذا ما نظرنا لها نظرة إيجابية موضوعية، فهو  سليل عائلة أرستقراطية، وقد يكون تأثر بهذا الأصل، لكن يمكن أن نفسر مقولته هذه على أن رجلاً عالماً، أو أديباً كبيراً، أو فناناً مبدعاً، أو فيلسوفاً عميقاً، لاشك أنه يساوي عشرة آلاف رجل أو أكثر، فالقضية تتعلق بالإمكانية العقلية التي تميز الرجل الحكيم عن العامّة، وليست قضية طبقية، أو أنه أراد الحط من قدر الناس العاديين. فهو يؤمن بأن لكل فرد عقله الخاص به، ولكنه مع ذلك يقول أن كلمة " اللوغوس " عامة للجميع، وهذه الكلمة كما يفسرها جعفر آل ياسين في كتابه " فلاسفة يونانيون " قد تعني العالم، أو الوجود الكلي، أو المبدأ الكوني، ولكنه مع ذلك يؤكد أن لكل إنسان عالمه الخاص الذي يتحرك وفق معطياته. كما يشير هيراقليطس إلى وجود تناسق خفي بين ما هو فردي وما هو كلي، فكل إنسان هو عالم متغير، إلى جانب الطبيعة الجوهرية للحقيقة الكبيرة، فكل شيء إذن متجانس مع كل شيء، ولا شيء يبقى ثابتاً، لأن كل شيء في حركة وتغير دائمين، وكل شيء في لحظة معينة يُرى في مواقف متعددة، فالعالَم متغير وغير ساكن، والطبيعة متقلبة على الدوام وفق تفسير علي سامي النشار. ولعل عبارة " إنك لا تستطيع النزول مرتين إلى النهر، لأن مياهاً جديدة تنساب فيه باستمرار " هي أشهر مقولة تعبر عن رأي هيراقليطس في التغير خير تعبير، وهو يريد أن يشير بها إلى أن الذرة أو القطرة التي مسَّت جسدك حين نزلتَ إلى النهر، لن تمسها ثانية أبداً، لأن القطرة قد سارت في طريقها مبتعدة عنك، وإن مياهاً جديدة تجري من حولك أبداً. وفي كتابه " تاريخ الفكر الفلسفي " يوضح محمد علي أبو ريان أن الفيلسوف أتخذ من الحركة الدائمة، والتغير المستمر، والصيرورة المتطورة، والسيلان العام، مدخلاً للصراع، فالصراع قانون يحكم الجميع، ولا راحة، ولا هوادة لأي شيء، بل أن كل شيء في حالة صراع، والصراع ما هو إلَّا حالة جبريّة بين البشر كما يرى هيراقليطس، بل أن كل فرد هو في حالة صراع مع نفسه في كل لحظة من لحظات حياته، وهو في الوقت نفسه في صراع مستمر مع الآخرين، ولولا هذا الصراع لما كانت الحياة، لأن السكون عدم وموت. والمهم في نظريته عن الحركة والتغير والصراع، أنها جاءت معاكسة لرأي بارمنيدس في الثَّبات، فالأخير يرى أن كل شيء ثابت ولا وجود للحركة، كما أن أفلاطون سيستعمل لاحقاً النظريتين في فلسفته، حين يتوصل إلى أن كل ما هو حسي فهو متغير، وأن الثَّبات لعالم المُثُل وحده "عالَم الصور العقلية المُجرَدة". ويمكن القول بهذا الشأن أن نظرية هيراقليطس تمثل نصف الحقيقة، فإذا كنا نرى الأمواج في ظاهر البحر وهي في حركة دائمة، فالبحر في هيكله الكبير ثابت الأركان، وإذا كان الناس يموتون فرادى فإن الجنس البشري باقٍ مع توالي العصور، وإذا كانت أوراق الشجرة تتساقط في شهور الخريف، فإن الشجرة نفسها شاخصة ثابتة، فنظريته إذن نسبية ولا تمثل الحقيقة كلها، وهو حين يقول أن كل شيء ينساب ثم يذوي، فإنه لا يقصد أن ذلك يتم بالسرعة نفسها والدرجة ذاتها، فالبشر مثلاً يشعرون في حياتهم أن شيئاً ينمو ويتلاشى سريعاً في دقائق معدودة، ولكن هناك أشياء لا يحدث التغير فيها إلَّا بعد آلاف وربما ملايين السنين، وهو حين يقول أن كل شيء يخضع لدرجة من التغير في كل لحظة، فإن ذلك يمكن أن يكون صادقاً وفق مفهومه الفلسفي، أما نحن فلو تأملنا المنضدة التي نكتب فوقها، فإننا نراها صلبة ثابتة، والفيزيائي وحده هو الذي يستطيع أن يقرر بحساب ذهني رياضي، كم تتألف المنضدة من جزيئات، وكيفية حركتها وسرعتها. ولا شك أن هيراقليطس يشير إلى الظواهر الخاضعة للتجربة أكثر من معرفته الدقيقة بالمبدأ العلمي لحركة الجزيء الدقيقة، لأنه كان يعتمد الحس بالدرجة الأولى وملاحظة الأشياء المتحركة، ومن ثم الحدس بالتأمل العقلي والتواصل لبناء نظريته هذه، أكثر مما كان يعتمد النظرة العلمية لتفسير حركة الطبيعة.

عدا عن نظريته في التغير والصيرورة، فإن هيراقليطس وانسجاماً مع نظريته هذه، يعتقد بأن النار هي أصل الكون والعالم، وبذلك فهو يختلف مع طاليس الذي قال بأن الأصل هو الماء، ومع انكسيمندريس الذي قال بالهواء أصلاً للكون والعالم، وكانت حجة طاليس أن الماء يكون الجزء الأكبر من الكون، كما أن الماء يمثل الجزء الأكبر من الإنسان ذاته وأي كائن حي، والإنسان وكل الكائنات الحيّة من حيوان ونبات لا تستطيع أن تستمر على قيد الحياة من دون ماء، فالماء هو سبب الحياة، وقد خالف انكسيمندريس طاليس، وذهب إلى أن الهواء هو أصل الوجود، فالكائن الحي لا يستطيع الاستغناء لدقائق معدودة عن الهواء، فضلاً عن أن الهواء أخف وزناً من الماء. غير أن هيراقليطس يرى أن النار هي المحرك الحقيقي للكون، وإن كل كائن حي لا يستطيع الحياة من دون حرارة، والنار أخف من الهواء، وانطلاقاً من ذلك توصل إلى نظريته في الجدل الصاعد والجدل النازل، ومفادها أن التراب أثقل العناصر الأربعة، فإذا تفككت ذرات التراب خفَّت وتحولت إلى ماء، وإذا خفَّت ذرات الماء تحولت إلى بخار – هواء -، وإن الهواء إذا رقَّ تحول إلى نار، وهذا ما يُعرف بالجدل الصاعد، أما الجدل النازل، فإن النار إذا تكثَّفت تحولت إلى هواء، والهواء إذا تكثَّف تحول إلى ماء، والماء إذا تكثَّف تحول إلى تراب. وقد استفاد أفلاطون أيضاً من هذه النظرية، واستعملها في محاورة " الجمهورية " فقد أراد للإنسان أن يرتقي صاعداً، وضرب مثلاً باسطورة الكهف التي تُظهر الناس مكبلين في كهف عميق، وتأتيهم ظلال معتمة من كوة صغيرة من الضوء الحقيقي الخارجي، والمفكر منهم والفيلسوف هو الذي يستطيع أن يصعد إلى خارج الكهف ويتمكن من مشاهدة الضوء الحقيقي ليعود نازلاً ليخبر الآخرين ويبشرهم بما شاهده من نور الحقيقة، وتلك هي نظرية المُثُل التي صاغها أفلاطون للفيلسوف الذي يستطيع أن يترك عالم الحواس، مروراً بعالم العقل، حتى يدرك عالم المُثُل . وبالعودة إلى نار هيراقليطس فإن العالم عنده نارٌ أبدية، تُشعل نفسها بمقاييس مُنتظمة، وتخبو بمقاييس مُنتظمة، وأن هناك تبادلاً بين كل الأشياء والنار، وبين النار وكل الأشياء، أشبه بالتبادل بين السُلَع والذهب، وبين الذهب والسُلَع، فالأهمية الأولى هي للنار جوهر الوجود، ومحرك الكون، وأصل الحياة. والنار تحيا بموت الأرض، لأنها أخف العناصر، والأرض هي أثقل العناصر، والهواء يحيا بموت النار، لأن النار أرّق العناصر، وحين تتكاثف تتحول إلى بخار، كما أن الماء يحيى بموت الهواء، لأن ذلك البخار الرقيق يتكثف على هيئة قطرات ماء، أما الأرض فإنها تحيا بموت الماء، لأن الماء حين يتبخر يثقل فتبقى منه الذرات الجامدة التي هي الأرض، فعالم هيراقليطس هو عالمٌ متغير على الدوام، تغير مستمر لا توقف فيه ولا ثبات ولا سكون، ولما كان هذا الفيلسوف الكبير مولعاً بالرمز والأسلوب الغامض، فإنه يعبر عن نظريته هذه بالنهر الجاري الذي لا ينزل الإنسان إليه مرتين، وهو يشَّبه العالَم بالطفل الذي يلعب النرد، لكن تبقى النار الرمز الأكبر الذي أقام عليه مجمل فلسفته، وهو أكثر الرموز عنده دلالة على فكرة الصيرورة والتغير، كما أن النار تمثل رمزاً مهماً في نظريته عن الكون لأنها تمتلك عناصر فريدة في إحداث التغير، مثل سرعتها الذاتية الفريدة، وتوهجها وضوئها ، وحرارتها المستمرة التي هي سبب مهم في الحركة، والنار في الوقت نفسه هي الضوء الداخلي للعقل والمعرفة الروحية.

***

د. طه جزاع

.........................

* نشرت في مراصد أيضاً

تمهيد: مالبرانش فيلسوف فرنسي قسيس 1638- 1715 اراد الجمع بين فكر القديس اوغسطين مثله الفلسفي الاعلى وافكار ديكارت الفلسفية العقلية الايمانية. له فلسفة خاصة حول الرؤية في الله، وينكر السببية، تاثر بكتاب ديكارت حين وجد ديكارت الديني يجمع بين الله وخلود النفس الروحانية. (عن ويكيبيديا بتصرف).

قبل مغادرة هذا التمهيد ديكارت لم يقل النفس روحانية خالدة هي والعقل(اللوغوس) وليس العقل البايولوجي والخلط بين الروح والنفس خطأ لا يحتاج الى شرح تفصيلي بل باختصار النفس هي من خصائص بيولوجيا الانسان وعلم النفس بكل تفرعاته. والروح مصطلح ميتافيزيقي ديني غيبي تتناوشه الشكوك على صعيدي الوجود والماهيّة من كل حدب وصوب حتى العجز عن اعطاء جواب علمي.

مالبرانش في مذهب وحدة الوجود

يذهب مالبرانش ان الوجود لا يتحقق في تجارب القوانين الفيزيائية المشكوك بها بل الوجود يتحقق بالايمان بالله.مالبرانش عن علم مسبق اقتباسي او توارد خواطر فلسفية فهو يكرر ما كان ذهب له سورين كيركجورد انه في تعطيل الاستدلال العقلي والغاء السببية والعليّة التي قال بها ديفيد هيوم نصل الى حقيقة التسليم ان تحقيق الوجود الايماني انما يتم بقفزة ايمانية في المطلق الالهي الغيبي يقررها القلب وليس العقل.

التساؤل اذا اعتبرنا القوانين الفيزيائية العامة التي تحكم الطبيعة هي قوانين موجودة في الله جزءا فيه!! كما يذهب له مالبرانش فهل نستطيع بدلالة القوانين العامة للطبيعة الموجودة بالله تاكيد وحدة الوجود مابين قوانين الطبيعة الفيزيائية العامة وبين الذات الالهية كما تفعل المذاهب الصوفية؟ اجابتي عن تساؤلي من المحال لسببين :

- الله وجود مفهومي ميتافيزيقي غيبي غير مدرك ولا محدود بصفات ولا جوهر. والحلول الصوفي بالذات الالهية امر مشكوك به من الالف الى الياء.

- القوانين الفيزيائية الطبيعية يمكن التحكم بها ماديا ولكن لا يمكنها المجانسة النوعية باي شكل او تدخل في علاقة مع الخالق الذي كما ذكرنا مفهوم ميتافيزيقي مصدره الايمان  القلبي وليس العقل.

من الصعب جدا التسليم غير المشكوك به ان القوانين الطبيعية العامة والله جوهر واحد في ماهية نوعية واحدة المجانسة. من حيث اننا نستطيع ادراك القوانين الطبيعية العامة بعلاقتها التحكم بالطبيعة بالعقل وليس بعلاقة الاستدلال الايماني القلبي الميتافيزيقي بالله. هذا اذا جاز لنا فصل القوانين الطبيعية الفيزيائية عن الوجود والانسان فصلا كاملا. والا دخلنا في نمط من الاعتباط التشييئي الخاطيء جدا حين نذهب ان ماهية الانسان او جوهره موجود بالله كما هي حال القوانين الطبيعة الفيزيائية انها جزء موجود في الخالق قبل ارادة الله خلق وجودها الظائفي في التحكم الثابت بالطبيعة وتمنحها تماسك موجادتها الذي يجعلها اي الطبيعة غير مفككة بانقسامات موجوداتها الموحدة استقلاليا احتوائيا داخل الطبيعة غير المتناثرة اعتباطيا. موجودات الطبيعة المستقلة داخل علاقاتها مع الطبيعة التي تحتويها وداخل العلاقات البينية فيما بينها ايضا محكومة الوجود داخل احتواء الطبيعة لها.. طبعا هنا علينا التفريق ان الطبيعة وجود مستقل كوكب متماسك بقوانين فيزيائية عامة ثابتة تحكمها. رغم العلاقات البينية بين موجوداتها التي تحتويها الطبيعة باستقلالية عنها داخل احتوائها لها فقط. الا ان تلك الموجودات المستقلة داخل الطبيعة الاحتوائية لها متناثرة الموجودية كما ولا يجمعها التجانس النوعي مع بعضها البعض فالجمادات غيرها النباتات وكلاهما غير الحيوان. رغم التعايش المتبادل بينهما وبين الانسان معا.

استقلالية الموجودات المحتواة داخل الطبيعة لا يمنحها الخروج والانفلات عن كوكب الارض المحكوم بقانون الجاذبية والا لما كنا وجدنا كوكبا نعيش فيه مستقلا بنفسه يسمى الارض.. وموجودات الطبيعة المستقلة في الطبيعة هي موضوعات الادراك الحسي والعقلي عند الانسان. فالانسان موجود جزئي من الطبيعة متمايز ومنفصل عنها وهو يعي علاقة وجوده الارتباطية النسبية بالطبيعة. بخلاف الطبيعة غير العاقلة. الانسان يؤنسن بوجود جزءا من الطبيعة لكن لا تقدر الطبيعة طبعنة الانسان في علاقتهما المتبادلة سواء بالمنفعة التي تؤديها الطبيعة للانسان او بعلاقة التكيّف الالزامي المفروض على الانسان.

فالانسان يقود الطبيعة في نفس وقت الاعتياش عليها متمايزا بالعقل عنها منفصلا بالتبعية والانقياد لها ليس كما هي علاقة الحيوان الانقيادية للطبيعة. الانسان لا ينقاد للطبيعة بل يتكّيف انتفاعيا منها. تكيّف الحيوان مع الطبيعة لا يحكمه تفكير العقل كما هو تكيّف الانسان العقلاني معها. بخلاف الطبيعة التي لا تمتلك وعيا ادراكيا بعلاقتها مع الانسان وباقي موجوداتها من كائنات حيوان ونبات وجماد والعلاقات البينية بينهم.

هل من المتاح لنا ان نعتبر القوانين الطبيعية الثابتة التي تحكمنا ككائنات حيّة وكائنات اخرى غير حيّة هي جزء من الطبيعة منفصلين وجودا عنها متكاملين معرفيا متعايشين معها.؟ القوانين الفيزيائية الطبيعية العامة هي معجزات لا دينية بمقدار ما هي معجزات علمية فيزيائية. بمعنى ليس في خرقها من قبل الانببياء والرسل نتوصل الى الايمان الديني لاهوتيا. فخرق القوانين الطبيعية العامة هو خرق لقوانين فيزيائية تحكم الطبيعة ولا تحكم الدين.

لو نحن اخذنا المنهج الصوفي في تحليل هذه العلاقة بين معجزات القوانين الطبيعية فيزيائيا وليس لاهوتيا في الوصول الى الايمان الديني التوحيدي لوجدنا انفسنا نسقط في امكانية (استثماراتنا ) العلمية لتلك القوانين التي تقودنا  الوصول الى تشييء الوجود الالهي ماديا غير الغيبي الايماني وهو محال. تشييء الخالق او احدى صفاته هو تعجيز عقلي بمعنى تعطيل العقل عن التفكير بابعد مما يدركه ماديا.

سبينوزا والايمان

سبينوزا في بحثنا العلاقة رباعية الابعاد ذات الاضلاع الاربعة الانسان/ الطبيعة/ والذات الالهية/ وقوانين فيزياء الطبيعة/ في تعالقاتها البينية عبّر عنها سبينوزا اننا بدلالة الجوهر ندرك الوجود على خلاف الماركسية والوجودية اللتان تغلبّان الوجود على الفكر والجوهر.. رغم ما يحيط هذا التعبير من مقاطعة تتشبث بالمثالية بالضد من المادية.

الجوهر ماهيّة لوجود مادي سابق عليه وبدلالة الوجود المادي نحاول ادراك الجواهر بالاشياء والموجودات التي ليست جميعها تمتلك جوهرا. فتوجد كائنات حيوانية ونباتية لا جوهر ولا ماهيّة لها بل صفاتها الخارجية هي جوهرها. بإستثناء الانسان الذي يمتلك الصفات الخارجية المتفردة نوعيا عن غيرها في صفات الافراد الاخرين. ويمتلك قدرة تصنيع ماهيته او جوهره الخاص به. اي يصنع هويته الانفرادية الماهوية المميزة عن الهويات الماهوية في النوع من جنسه.

وذهب سبينوزا اكثر من قوله بدلالة الجوهر ندرك الوجود في استجلابه المرجعية الايمانية الغيبية خارج المعجزات المنسوبة للايمان التي هي معجزات القوانين الفيزيائية العامة التي يكتشف الانسان اعجاز الطبيعة فيها وليس اعجاز الايمان الديني فيها.. لذا نجد سبينوزا ابطلها لانها منافية للعقل وليست منافية للايمان الديني. ونجد سبينوزا ذهب اننا بدلالة الجوهر الالهي الكلي المطلق الازلي الله ندرك الوجود وندرك الطبيعة في مجمل كائناتها كما وندرك الجواهر الموزعة في موجودات الطبيعة..

اول الامور التي يتوجب نشير لها ان سبينوزا اعتبر الخالق الالهي جوهرا موزعا في الطبيعة على شكل جواهرلانهائية موزعة متناثرة بكل شيء يدركه العقل وليس على اشكال من الموجودات تتوزعها الطبيعة والكون كما هو الحال الذي يماشي تفكير العقل.

كما وليس الخالق موجودا متعيّنا يمكن ادراكه ماديا بصفات خارجية وجوهر. وهذه مسالة التباسية يقف العقل الانساني المحدود الاجابة الحاسمة عنها من حيث تلغي الوجود الالهي على اي شكل كان متصورا ماديا او لامتصورخياليا.

سبينوزا اعتمد الطبيعة مرتكزا اساسيا في جعلها الام التي انجبت تفكير الانسان بصنع الهه وهو ماذهب له نصا فيورباخ في وحدة وجود صوفية لا دينية مادية تاملية مصدرها علاقة الانسان بالطبيعة كانت هي اصل الدين.

سبينوزا حين جعل الخالق جوهرا كليّا لا يمكن ادراكه موزعا على جميع الاشياء والمدركات في مذهب وحدة الوجود الصوفية يكون بذلك اعفى مهمة العقل التفتيش عن اثبات وجود الخالق حتى على مستوى المعجزات التي ينسب لها صفة الايمان الديني وهي في حقيقتها معجزات ذات طبيعية فيزيائية قابلة للادراك العقلي وليست معجزات غيبية جيّرها اللاهوت لحسابه دينيا وانكرها سبينوزا على انها قوانين فيزيائية تخص الطبيعة فقط وليس اللاهوت فأتهم بالزندقة واباح الكنيست اليهودي اهدار دمه..

صوفية الزن والرستفارية

صوفية الزن في الديانة البوذية  تنكر وجود الخالق خارج علاقة موجودات الطبيعة بالانسان وبهذا تقترب من فلسفة فيورباخ التي سبق لنا الاشارة لها التي تتلخص بان اصل الدين هو علاقة الانسان بالطبيعة حصرا وليس علاقة الانسان فيما وراء الطبيعة خارجيا ميتافيزيقيا. الايمان الديني اختراع ارضي وليس معطى سماوي حسب فيورباخ الذي اتهم بالالحاد.

كما نجد في الديانة البوذية مذهب (الشنتوية) انها ترى في الامبراطور تجسيدا للاله على الارض وهي نسخة مشابهة للديانة (الرستفارية ) الجامايكية – الاثيوبية الاصل والمنشأ المشتقة من اسم الامبراطور الاله الاثيوبي  هيلا سلاسي. الذي حكم اثيوبيا حيث كان اسمه قبل تنصيبه (تفاري ماكوان ). ويبلغ تعداد هذه الطائفة الرستفارية اليوم نحو مليون نسمة يؤمنون بأن الامبراطور هيلاسلاسي (الها) لم يمت ولا زال حيا وربما رفع جسده الى السماء. نفس هذا المنحى نجده في الديانة الهندوسية في تأليه (براهما) وفي الديانة البوذية في تأليه (بوذا).صوفية الزن ايضا اتخذت من بوذا الها تعبده وانكرت وجود اله توحيدي يدير العالم من السماء كما وتذهب صوفية الزن الى ان وحدة الوجود التي نجدها بالاشياء والموجودات الطبيعية كافية للايمان الروحاني وتغني عن البحث عن وجود اله في السماء وليس على الارض يمنحنا وجوده الغيبي الايماني. تعاليم بوذا الروحانية هي التي تجعل منه الها ارضيا يعبد. منكرين البعث وحياة يوم القيامة والحساب كما هو متعارف ومستنسخ في الاديان التوحيدية الثلاث.

انت حسب الايمان الصوفي الزن البوذي في وحدة الوجود لكي تدرك العلاقة الروحانية التي تربطك بالزهرة مثلا عليك ان تدرك ذاتك هي الزهرة تارة وتارة اخرى تدرك ذاتك التي تملكها انت كجسم روحاني يجد ان ذاته الروحانية لها علاقة ترابطية  نفسية قوية حميمية مع الزهرة تصل الى حد ان يجد ذاته الروحية فيها..

مالبرانش والاعتباطية بالخلق

يذهب مالبرانش والعهدة على جان فال الى ان العالم المادي بوصفه من خلق ارادة الله الاعتباطية – وهذا التعبير من اكثر الجوانب دهشة في تعبير مالبرانش -  فإن العالم المادي لم يكن ليوجد الا لان الله طاب له ان يخلقه. ونحن لا نعرف هذا العالم الا عن طريق الوحي. ولا يمكنننا البرهان الحقيقي للعالم المادي الا في الكتاب المقدس، ولا شيء سوى الايمان يكشف لنا عن وجود الاجسام بحق. 1 ص37

يعقب جان فال على ما سبق لمالبرانش قائلا : " اننا نستنتج من كلام مالبرانش وجود نوعين من العلوم، علوم تبحث في العلاقات القائمة بين الافكار المجردة، وعلوم اخرى تبحث في العلاقات القائمة بين الاشياء (بتوسط افكارها). 2 ص37

لو نحن اخذنا العلوم القائمة بين الاشياء بتوسط افكارها لوجدنا انفسنا امام حقيقة عدم وجود علم يقوم على افكار نظرية مجردة عن التجربة والتطبيق. فالعلوم الطبيعية قاطبة تقوم على فكرة نظرية وتجربة برهان. العلوم تختلف بالاختصاصات لكنها لا تختلف بثوابت المنهج العلمي. الافكار المجردة التي تبحث نظريا في منحى علمي لا تخلق علما بلا تجربة وتطبيق اختباري.

سمة الفكر التجريد وسمة العلم التجربة والتطبيق. افضل مثل يمكننا الاستشهاد به فلسفيا وليس علميا هو نموذج الفلسفة البراجماتية الامريكية او الذرائعية التي تذهب الى ان صواب وصحة قبول اية افكار نظرية يتوقف على مدى نجاحها عبور الفلترة التجريبية العملانية في تحقيقها المنفعة. والافكار النسقية المنضبطة منطقيا عقليا غير كافية لان تكون علما او نظرية صائبة. هذا على صعيد الفلسفة فما بالك لو طبقنا هذا المعيار على العلوم؟

مالبرانش والدوغمائية الايمانية

يذهب التطرف الايماني اللاهوتي لدى مالبرانش ابعد الحدود قوله مثلا : العلوم الطبيعية هذه المرة وليست القوانين الفيزيائية العامة تعتمد حسب مالبرانش في كثير من الاحيان على تجارب وظواهر مشكوك بها الى حد ما. ويصفها مالبرانش انها اعظم قيمة بالنسبة لنا من العلوم الرياضية، هذه العلوم خاضعة للنظام الموجود في الله. 3ص37

على ماذا اعتمد مالبرانش في استدلاله ان نظام الرياضيات وباقي العلوم الطبيعية خاضعة ومستمدة من النظام الموجود في الله.؟ نظام الرياضيات مخلوق بشريا وهو نظام ازلي ثابت لا يمكن تغييره ولا التلاعب بثوابته (المعادلات والرموز) فانت حين تتعامل ايوم مع معادلة حسابية بسيطة مثل 2+3=5 فهذه الحقيقة الرياضية لا تحتاج البرهنة المتكررة عليها بعد ان اصبحت حقيقة بديهية ثابتة اليوم وبعد الاف من السنين. بخلاف ثوابت العلوم الطبيعية فهي نسبية قابلة للدحض والتغيير والاضافة والتبديا احيانا.

النظام الذي نجده ليس في قوانين الطبيعة والعلوم وفي بيولوجيا وظائف جسم الانسان ولا في غيرها من ظواهر فيزيائية وكيماوية وفي مختلف مناحي الحياة التي تعتمد منطق ثوابت علم ارياضيات والهندسة والجبر لا يمكن القطع بان نظامها الدقيق مستمد من النظام الموجود في الله.

نحن حين نقول سواء بمنطق علمي او بمعنى ايمان غيبي بان العالم مخلوق تعجز عقولنا الالمام التام به ما يعني ان نظامه الاعجازي مستمد من الله. باستثناء القوانين الطبيعية العامة الثابتة فان الاعجاز الموجود في العلوم الطبيعية انما هي اختراع بشري لا علاقة له بالايمان الديني .

***

علي محمد اليوسف

...........................

الهوامش:

1. جان فال/ الفلسفة الفرنسية من ديكارت الى سارتر/ ترجمة فؤاد كامل ص37

2. نفسه اعلاه نفس الصفحة

3. نفسه اعلاه نفس الصفحة

تنصب أبحاث مدرسة فينا على دراسة الفلسفة في مجموعها أو مختلف فروعها، فأقطاب الوضعية المنطقية يقومون بتحليل التصورات والقضايا والآراء والنظريات الفلسفية بعيدا عن التطورات التاريخية وبمنأى عن الأفكار المجردة والتصورات المثالية، وعهود التفلسف التأملي الذي يحجب كل معرفة عن أعين الذين لم يتدربوا على أساليب التحليل المنطقي؛ فالمتأمل لتاريخ الفكر الفلسفي عبر تعاقب الحضارات الإنسانية يجد الاختلاف الشديد بين الفلاسفة والحكماء إلى درجة الجدل حول حقيقة الفلسفة من حيث المفهوم والوظيفية والقيمة وأغراضها في الحياة البشرية، بين المهاجم المنكر للفلسفات التقليدية ولغز ذلك الحكيم العاشق للوغوس، المتفرد بالحكمة والمؤيد المدافع عنها لما قدمته من نظريات ساهمت في رقي الفكر وتبديد الغشاوة ومخاوف الريب والظنون.وفي رحلة البحث عن لغز الفيلسوف ومُنقِذ العالِم من مزالق الخطأ وجب علينا طرح السؤال:

ما هو موقف هانز من النظريات الفلسفية ولغزها التي ظلَّت مُستغلِقة عن الأفهام؟

هل يرفض الفلسفات التقليدية أم يحاول تقديم تصورا جديدا لها؟

يعالج الفيلسوف الألماني هانز ريشنبارخ، المتخصص في فلسفة العلوم ( 1891- 1953 ) مشكلة الفلسفة التقليدية المغرقة في التجريد، البعيدة عن التجريب، المعتمدة على النزعة التاريخية، معتمدا فلسفة متميزة حقا بالموضوعية والواقعية، والوضوح المنطقي في طرح المشكلة ثم حلها، والدفاع عن رأيه اتجاه الخصوم، دعاة التفلسف، حيث وضح هانز أن الفلسفات المجردة من مثالية وعقلانية عبارة عن آراء لا طائل منها، لا تنصب على الواقع. :« فالفيلسوف يتحدث لغةً غير علمية؛ لأنه يحاول الإجابة على الأسئلة في الوقت الذي تُعوِزه فيه الإجابة العلمية. ومع ذلك فإن صحة التفسير التاريخي محدودة النطاق؛ فهناك فلاسفة يظلُّون يتحدثون بلغة مجازية في الوقت الذي تتوافر فيه بالفعل وسائل الوصول إلى حل علمي. وعلى حين أن التفسير التاريخي ينطبق على أفلاطون.»[1]، كما يرى الفيلسوف هانز عدم تمجيد الفلسفات الماضية لأنه تمجيد لتاريخها الذي يعتبر جمعا عرضيا لأفكار وآراء مختلفة، فإنه يكون عديم النفع، لا قيمة له إلا في جمع المعلومات وتكديسها، ماذا نصنع بهذه الأكداس من الفلسفة القديمة؟

إن الاهتمام بآراء الآخرين لا يمكن أن يعود على فكرنا بفائدة، مادامت الفلسفة التقليدية متعددة المذاهب والآراء جعلها نسبية ليست يقينية، عاجزة لا تقدم الحلول الفعلية، أدى إلى إضعاف المقدرة ورح التفلسف لدى فلاسفة عصره، ونظر الطلاب للحكمة الفلسفية على أساس أنها نسبية خالية من كل نفع حقيقي، تضع لنا مذاهب وآراء في هذا وذاك. « وعرض مختلف المذاهب كما لو كانت صيغا مختلفة للحكمة، لكل منها الحق في أن يوصف بهذه الصفة، فإنه أدى إلى إضعاف المقدرة الفلسفية لدى الجيل الحالي وهو قد شجع الطالب على أن يأخذ بالنسبية الفلسفية.»[2]

ولكي يقنع القارئ بذنب الفيلسوف ولغزه في تقديم الإجابات المتخمة باستجابةً إغراء الكلام المجازي، استدل بأدلة واقعية تبين حقيقة رفض الفلسفة التقليدية المتعددة المذاهب والآراء، فضرب لنا مثلا بإضعاف المقدرة على التفلسف بالنسبة لفلاسفة عصره، كما تشجع الطلاب بالأخذ بالنسبية في الفلسفة.

اعتمد الفيلسوف هانز حجة البرهان المنطقي، إذ انتقل من مقدمات حول الفلسفة التقليدية وعرض قضايا هذه الأخيرة وما تعتمده من نزعة تاريخية، ومدى تنوع مذاهبها، ليصل إلى نتيجة مفادها التأسيس للفلسفة العلمية «فالعالم يعرف الصعوبات التي كان عليه أن يذلِّلها قبل أن يُثبِت نظرياته، وهو يعلَم أن الحظ قد حالفه في كشف النظريات التي تُلائم ما لديه من ملاحظات، وفي جعل الملاحظات التالية تُلائم نظرياته، وهو يدرك أنه قد تظهر في أية لحظة ملاحظات متعارضة أو صعوبات جديدة، ولا يزعم أبدًا أنه قد اهتدى إلى الحقيقة النهائية. »[3]

كذلك فإن هذا الأصل يعلل موقفه من تصور فلسفة علمية، على شاكلة العلم رافضة للفلسفة التقليدية ونزعتها التاريخية، معناه تأسيس الأرضية الصلبة على متن الأبحاث العلمية، وتطهير الفلسفة من التفسيرات الميتافيزيقية التي أفسدت الفلسفة الماضية، ثم بعده الفكري وأهميته القيمية لما فتحه من أفاق فكرية واسعة حول الفلسفة العلمية مثل التفكير المنتج للمفكر المصري الوضعي المنطقي زكي نجيب محمود الذي حاول وضع فلسفة علمية تتبع مناهج العلماء.

***

رحموني عبد الكريم باحث من الجزائر.

................................

قائمة المراجع:

[1]  هانز ريشنبارخ: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة: فؤاد زكريا، ص:38.

[2]  المرجع السابق، ص: 282.

[3]  هانز ريشنبارخ: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة فؤاد زكريا،ص:51.

 

في عام 2020 صدر كتاب ريبيكا بكستن و ليزا وتنك يحتوي على 20 لوحة لنساء فيلسوفات، وكان قد نُشر تحت عنوان (الملكات الفيلسوفات). الكتاب من بين العديد من الكتب الجديدة حول مشكلة التنوع الواسع في الفلسفة، حيث يتضمن قضايا النوع (gender) والجسد واللغة والثقافة والطبقة والاثنية. هنا سنركز جزئيا على موضوع النوع. يعمل عنوان الكتاب على مفهوم "الملوك الفلاسفة" الذي استعمله افلاطون في الجمهورية (375 ق.م).

طبقا لسقراط (المتحدث نيابة عن افلاطون) ،يُعتبر الملوك الفلاسفة هم مدراء المجتمع المثالي المرتكز على فهمهم الفلسفي والذي يقود الناس بطريقة صحيحة وعادلة. في وصفه لهؤلاء الملوك، لاحظ سقراط انهم يمكن ان يكونوا نساء جيدات لأن المجتمع المثالي تتحقق فيه المساواة بين الجنسين. هو يضيف بان فكرة مساواة الجنسين تبدو أقل اشكالية لجمهوره قياسا بفكرة طبقة الحكام الفلاسفة . الإشكالية اذاً هي حول الفلاسفة وليس حول النساء. لكن منْ الذي يمكن اعتباره فيلسوفا شرعيا؟

منْ الفيلسوف؟

اولاً، ان صفة فيلسوف هي هوية مرتكزة على الفعالية. خلافا للملوك الواقعيين والملكات، انت لم تولد فيلسوفا، ولم تتقلد اللقب رسميا مثل لقب نبيل و عمدة و دكتور. انت فيلسوف لأنك تعمل فلسفة. التحدي هنا، هو ان طبيعة الفلسفة ذاتها هي سؤال فلسفي، ولذلك فهي موضوع نقاش فلسفي ثري. العديد من الفلاسفة يتفقون بان الفلسفة يصعب تعريفها، لكن ربما يقولون، "نحن نعرفها عندما نراها". وهكذا تبرز هنا عقدة متداخلة، حيث ان اولئك الذين يستطيعون سلفا الادّعاء بكونهم فلاسفة انما هم "يعرفون ذلك عندما يرونه" وبالتالي يرسمون الحدود لماهية الفلسفة. بالمقابل، ما يسمونه فلسفة يفيد في إضفاء الشرعية على هوية "فيلسوفهم".

بينما معظم الناس حاليا يتفقون مع افلاطون بان دور الفيلسوف يجب ان ينال التقدير وفقا للمقدرة وليس وفقا للجنس، هناك لا تزال هيمنة للرجال بين الفلاسفة. نستطيع رؤية هذا في المنهاج الدراسي للفلسفة وفي المؤتمرات والصحافة. هناك عدة أسباب لهذا. فمثلا، الكثير من النساء ينسحبن من الفلسفة اثناء دراستهن ومن عملهن المبكر لمختلف الأسباب المتعلقة بالجنس. في الماضي، التزامات الزواج كانت تعني ان العديد من النساء المتعلمات كان عليهن التخلي عن الحياة الاكاديمية. اليوم، لاتزال مسؤوليات الرعاية عقبة امام عمل المرأة وبدرجة أكبر من الرجال. اضافة لهذا، لوحظ مرارا وتكرارا ان التحيّز العام في التقييم جعل من الصعب للمرأة الحصول على عمل في الفلسفة. هذه العزلة المستمرة يمكن ان تسبب إسكات للذات وأداء متدني. جزء من التفسير يكمن ايضا في الكيفية التي نرى بها المرأة التي تنجح حقا في متابعة مهنة التفكير.

المثال الشهير تاريخيا عن المرأة هي اليزابيث بوهيميا (1618- 1680)، التي كانت محاورا فلسفيا بارزا لديكارت (1596-1650). في مراسلة جرت بينهما، هي تحدّت ثنائية ديكارت وجادلته ان يأخذ على محمل الجد المظاهر العاطفية للحياة الانسانية – وهو الموضوع الذي عملت به وناقشته مع العديد من المحاورين. وبالرغم من كونها شخصية هامة في فلسفة زمانها وتطويرها لفكرة مضادة وملفتة لرؤية ديكارت حول طبيعة الانسان، لكنها خلقت فوضى وعدم ارتياح بين الطلاب في جامعة كوبنهاغن عندما اضيفت نصوصها لمنهاج تاريخ الفلسفة عام 2018. الطلاب خشوا من ان دراستها ستأخذ حيزا من الفلاسفة "الحقيقيين"، وبهذا احتجوا ضد هذا المنهاج. وهكذا نحن نعود الى سؤال  ماهو الفيلسوف الواقعي.

أول الاشياء التي يدركها طلاب الفلسفة عند بدء دراستهم هو ان الشخص لن يصبح فيلسوفا عبر دراسة الفلسفة، بل سيصبح (مهني فلسفة) . هذا اللقب قُصد به حماية الاكاديميين الجادّين من لقب "الفيلسوف" الذي يمكن لأي شخص الادّعاء به. ومن جهة اخرى، انه يؤشر بان هناك فرقا بين خريجي الفلسفة والفلاسفة "الواقعيين" مثل افلاطون وكانط وهيجل. مرة اخرى، الفلسفة تتميز بالتفكير الارثودكسي (ذو القبول العام) canonical thinking القائم على الهوية والانخراط مع الفلاسفة "الواقعيين". ان بناء او تركيب هذه القواعد المبدئية canons والانخراط بمفاوضات حول الإنتماء المرافق لها هو مسألة معقدة، وحساسة تاريخيا وثقافيا. في القرن الاخير، أسماء مثل لوفيدج فيجنشتاين و حنا ارندت و توماس كن او مايكل فوكو اضيفت الى النمط الارثودكسي. مفكرون آخرون مثل دونا هاروي Dona Haraway، عُرفت بعملها "بيان سايبورغ،1985" والفيلسوف الفرنسي برونو لاتور المعروف بعمله "نظرية شبكة الفاعل" Actor network theory و جوليا كرستيف بعملها الشهير حول مفهوم "الدونية"، جميعهم وُضعوا في منزلة "متاخمة للنمط الارثودكسي". السؤال حول لماذا هذا المفكر او ذاك يوضع او يُستبعد يقودنا الى مستنقع، لأن المعيار يلفه الغموض . مع ذلك، يمكننا تحديد بعض العناصر التي تلعب دورا عندما تم قبول مفكر مثل فوكو المهتم بالنظرية الاجتماعية والذي تجنب عمدا لقب "فيلسوف" – وفق القواعد الارثودكسية بينما استُبعد مفكرون آخرون مثل هاروي وكرستيفا – اللتان عُرفتا على نطاق واسع بتحليلاتهما المفاهيمية الأصلية.483 queen

تحديد حدود الموضوعات

اللعبة المعقدة في تحديد منْ هو الفيلسوف الواقعي، والحجج المؤيدة والمعارضة لإنتمائه تُعرف بحدود عمل الموضوعات Disciplinary Boundary work وهو المصطلح الذي صاغه السوسيولوجي توماس جيرين Thomas.F.Gieryn. الدوافع لأجل المحافظة على حدود الموضوعات متعددة ومتنوعة. يمكنها ان تكون حول علاقات السلطة والصراع لأجل الوظائف الفاخرة او التمويل، لكنها يمكن ان تكون ايضا حول هوية المتحدث الشرعي كخبير في موضوع معين في النقاشات العامة او في الإعلام. او قد تكون سؤال برجماتي حول تحديد زملاء ملائمين لنظام "تقييم الزملاء" الذي هو حجر الاساس في الاكاديمية. انه يستلزم تعريفات ايجابية صريحة حول أي الموضوع هو فلسفة، وتعريفات سلبية حول أي الموضوع ليس فلسفة. وبنفس المقدار، انها تتأثر بالأمثلة السابقة للتضمين والإقصاء. فمثلا، عندما يقول شخص ما "ان عمل ريتشارد دكنز حول الإلحاد المرتكز على البايولوجي هو ليس فلسفة" او في الحقيقة العكس، عندئذ هم يضعون حدودا لعمل الفلسفة . لتبرير هذا، ربما يقارن المرء دكنز بالامثلة السابقة عن الاشخاص الذين اعتُرف بهم سلفا كفلاسفة ضمن القواعد العامة، او يشير الى ان اسئلة دكنز حول الدين هي ضمن او ليس ضمن نطاق الموضوعات الكلاسيكية للفلسفة.

الموضوعات الاكاديمية هي متميزة لعدة أسباب. ربما لأن عدد من الموضوعات تشترك بحقل معين من الدراسة (كما في الفيزياء الفلكية)، او منهجية (كما في الانثروبولوجي)، او ان الموضوع موحد بكونه يتجذر في تقليد تاريخي (كما في الفينومينولوجي). على سبيل المثال، الفيلسوف دان زاهافي Dan ahavi جادل بان الكثير ممن يسمي نفسه "فينومينولوجي" هو ليس بالضبط كذلك لأنه لايتصل بنصوص فرانز برينتانو وادموند هسرل اللذان أسسا الفينومينولوجي، وبهذا لايتبع الميراث التاريخي الذي يعرّف الحقل حسب زاهيف.

ما اذا كان احد ينتمي لحقل معين ذلك يعتمد على الكيفية التي يرتبط بها بأي مظهر يوحّد ذلك الخلاف، وبهذا فان التبرير يجب ان يعتمد على المقارنة مع الانتماءات المقبولة سلفا بدلا من المقارنة بالتعريفات الواضحة.

القواعد العامة والهرطقة

لكي نعرف حقلا، نحتاج للاطلاع على قواعده. هذا بدوره يوفر اساسا مفيدا للنقاشات المهنية طالما نحن نشير الى نصوص مألوفة عموما بدلا من توضيح كل شيء من الصفر. انت تستطيع ايضا ان تجعل مثل هذه النقاشات اكثر ايجازا عبر الإشارة الى أفكار او تفسيرات محددة جدا . في الفلسفة، على سبيل المثال، انت ربما تجعل من الواضح ما اذا كنت تستعمل مفردة "وجود" بالمعنى الهايدجري. او ربما انت تشير الى تجارب فكرية كلاسيكية معروفة على نطاق واسع وسيناريوهات جرت مناقشتها تتحدى وتنير المشاكل التي تصارع فيها الفلسفة. في الاخلاق، مثلا، هناك مشكلة العربة، وفي الابستيمولوجي هناك مشكلة جيتر Gettier problem.

 ان هذا النوع من عمل الحدود،وحيث تقوم جماعة معينة بتطوير فهما مشتركا من خلال ادوات مفاهيمية مشتركة ومصطلحات، هو احيانا يشار له بـ "تكوين رطانة" creating jargon.

هذا خصيصا ينطوي على استعمال اللغة كمؤشر لإنتماء الحقل، او كعلامة للانتماء. الرطانة يمكن ان تكون طريقة سريعة وفعالة لإيصال افكار معقدة بشكل دقيق، لكنها ايضا تجعل من الصعب الدخول في المحادثات، وفي الحقيقة، هي طريقة فعالة في استبعاد منْ ليس لديهم المعرفة، او عند النقاش مع الزملاء المبتدئين وغير الخبراء او الاكاديميين  من الحقول الاخرى.

وهناك وراء المظهر الايجابي للكفاءة، وسلبية الاستبعاد، تحدي آخر في رسم حدود الحقل من خلال رطانه مقبولة. ذلك يعني ان الاختلاف يمكن فهمه اما كونه غير ملائم او هرطقة. وهكذا، عندما نجد مفكرات مثل هاروي و كرستيفا تعتمدان على خلفيتهم المتعددة الاختصاصات (هاروي في الاصل متخصصة في البايولوجي) و(كرستيفا في اللغويات) وعلى مراجع الادب ونظريات غير معروفة للفلاسفة، او استعمال امثلة نموذجية، فان انتمائهن الحقلي سيكون عرضة للسؤال. الفلاسفة ذوي التدريب الكلاسيكي العالي ربما يندهشون بغياب "الرطانة الفلسفية "الكلاسيكية"، ويتخذونها كاشارة بان المؤلف يفتقر الى التجربة في الفلسفة. او ربما هم لا يفهمون الامثلة المعطاة من اول وهلة – او هم بحاجة الى قراءة البايولوجي – ولذلك يعتبرون النص كـشيء "غريب". وبدلا من ان تكون فرصة للفلاسفة المدرين كلاسيكيا لتعلّم شيء جديد، فان "الحداثة" في النصوص تصبح فرصة للفلاسفة المدربين كلاسيكيا  لنبذها. هذا بالطبع، لا يتصل بالجنس وانما يمتد لأي شخص يعمل على حافة القواعد الارثودكسية.

عندما تمتلك الملكة جسدا

طبقا للبعض، الفلسفة هي ميتافيزيقا، تستطلع كيف يمكن لعلم ان يعطينا معرفة. في هذا الدور، يقال ان الفلسفة هي "ملكة العلوم". هذه العبارة تأتي من مقدمة كانط لنقد العقل المحض (1781) – كان هناك وقت كانت فيه ملكة لكل العلوم" – لكنها اعيد انتاجها في عدة نصوص فلسفية. الفلسفة هي ملكة او ملك بسبب نظرتها الملكية، مثل نظرة الاله، هي فوق الحياة الدنيوية. في الحقيقة، بالنسبة لافلاطون، الملك الفيلسوف يجب ان يتحرر من الصفات المادية ويعيش لأجل المثل الفلسفية وخير المجتمع. الفلسفة، كملكة للعلوم، بنفس الطريقة لا يمكنها التورط في التعقيدات الدنيوية. وكما يدّعي ديكارت في تأملاته (1641)، ان الفلسفة يجب ان تبدأ بنقاء مطلق – أي،فكرة معينة لكي تكون أساس كل شيء آخر.

هذا النوع من الرؤية الفلسفية الذاتية تنتج فلسفة تسعى لتحرير نفسها من العالم ومن الظروف التجريبية. انها تتجسد في كوجيتو ديكارت، وهوس كانط بالافكار القبلية، وفي طريقة هسرل Husserl,s epoche في عدم الحكم (محاولة للبدء بتحليلات فلسفية عبر وضع كل التصورات المسبقة "بين قوسين"). هنا، يجب ان تقف النظريات الفلسفية فوق الزمن والثقافة. اذا سقطنا في تحديد تاريخي او ثقافي، نحن نترك الفلسفة خلفنا ونتحرك الى العلوم التجريبية مثل الانثروبولوجي، التاريخ وما شابه. حتى الفلاسفة الذين يعتمدون على امثلة تاريخية، مثل كون kuhn او فوكو، يسعون لهياكل فوق أمثلتهم (تتعلق بالنموذج النظري او المعارف paradigms).

لابد من التنبيه  ان النسخة الأقل غرورا لهذا يمكن العثور عليها في عمل الفيلسوفة البريطانية ماري ميدجلي Mary Midgley (1919-2018) التي تعتبر الفلسفة ليس كعرش ملكي وانما كرسام خرائط للافكار، لا تحكم لكنها لاتزال تعلو فوق الحقول الاخرى، محافظة على رؤية كلية. مع ذلك، ان فوق الزمن وفوق اللفظي والاهتمام المتحرر روحيا يتم افتراضها مسبقا في اية استعارة.

لكي يتم تتويج الفيلسوف يجب ان يكون فوق التاريخ وفوق الثقافة، وفوق تهوّر الجسد. ملكات الفلسفة "الواقعيات" لا يطغى عليهن الحزن، وليس لديهن آلام دورة شهرية خارجة عن السيطرة (او على الاقل لا يتحدثن عنها). غير ان مفكرات مثل هاروي وكرستيفا يكون – العلائقي، العاطفي، الجسدي، المشاكس –  هو الحاسم. هذا ليس بسبب انهن لا يستطعن التفكير بما ورائها وانما بالضبط كنقطة فلسفية: المعرفة توضع في محل. الناس هم أجساد – وليس فقط اجسام "جميلة" وانما يصرخون، ينزفون، يموتون، يتعرقون، وعلى الاقل اجسام تولد وتتوالد. ولسوء الحظ، ان محاولة كسر غفلة الفلسفة بالجسد والحياة العاطفية تُخرج الاشخاص الذين يفكرون بهذه الطريقة من الموقع الفلسفي "الملكي".

الشرعية، السلطة والتغيير

كيف يرتبط هذا بعدم توازن النوع في الفلسفة؟ في (المرأة في الفلسفة: ما الشيء الذي يجب ان يتغير؟ 2013) تكتب كاترينا هوتشيسون Katrina Hutchison بان ندرة النساء الفيلسوفات في الادب والمؤتمرات وفي الميديا هو ناتج جزئيا عن الطريقة التي نحكم بها على مصداقية الخبراء. الدراسات من علم النفس والسوسيولوجي تبيّن اننا في السياقات التي لا نمتلك بها خبرة مهنية فان رغبتنا بالسلطة تتأتثر جدا بالتحيز . جزئيا، هناك تحيز الدرجة الثانية حيث يلعب التحيز دائما دورا في تخصيص مصداقية هيكلية من خلال الوظائف الاكاديمية والمطبوعات، لكن هناك ايضا تحيز اساسي في اللعبة، لأن التقييم الذي نضعه سوف لا يعتمد فقط على المؤشرات المؤسسية وانما ايضا على ما اذا كان الفرد يقع ضمن المجموعة التي نعتبرها ذات صدقية. فمثلا، نحن نرى احيانا رجال في قمصان زرقاء كشهود موثوقين لكن عندما نأتي للاقتصاد نحن ننسب مصداقية أقل لرجل في قميص هاواوي (لماذا هو يرتدي ذلك القميص؟ هل هو لا يعرف التقاليد؟ هل هو يعرف الحقل؟). نفس الشيء ينطبق على جنس معين، لون جلد معين، لهجة معينة (هل يمكن لشخص ذو لهجة كوكنية "من سكان شرق لندن الأصليين" ان يخبرني عن الطبيعة؟). في مثل هذه المواقف نحن من المحتمل جدا ان نطلب دليلا على الخبرة: "ارني ان تحيزاتي خاطئة لكي أثق بادّعاءاتك". هذا يولّد "ثقافة التبرير"، فيها تجد الاقليات نفسها مطلوب منها تبرير سبب توصيفها  لفلاسفة او حتى اكاديميين – من خلال، على سبيل المثال القواعد، الرطانة،او "النظرة الملكية".

في الغرب، معيار الفيلسوف هو الأبيض، المتحدث الانجليزية او ربما الالمانية او الفرنسية – قد لا يكون في قميص ازرق وانما جاكيت ويُفضل بشعر اشيب او ابيض لذا نعرف لديه عدة سنين من التجربة المتراكمة. هذه من بين الصفات التي نبحث عنها كمؤشرات مباشرة لشرعية الخبير. لكن ايضا الابيض الانجليزي او الالماني او متحدث الفرنسية وبشعر رمادي صاغوا الحقل الفلسفي الغربي لقرون. هذا يفسر لماذا موضوعات ليست واضحة جدا لهم – من ضمنها الحيض، ولادة الطفل، القمع، الفلسفة الهندية، الصينية ،العربية، الاستعمار – لم تصبح بعد جزءا من النمط الارثودكسي ولا تمتلك نصوصا وتجارب فكرية او طرق تساعدنا في فهم تلك الموضوعات. غير ان الحركة خارج تلك المنظومة تجعل من الصعب الدفاع عن الشرعية. كأقلية – كفيلسوف غير نمطي – انت محشور في ارتباط مزدوج. شرعيتك عرضة للسؤال، لذا فان المدرسية تصبح سلاحك الرئيسي: "انظر، انا اعرف الرطانة، انا ابعد نفسي من الجسد، من ثقافتي من تاريخي". لكن في تلك الاثناء، تفيد المدرسية في ادامة الفلسفة غير التامة والمحافظة والصارمة والتي لا تشجع الانخراط في مواضيع جديدة. المعركة لأجل الهوية كفيلسوف تصبح معركة لأجل المصداقية وضد التحيز. انه الفيلسوف النمطي هو الذي يقرر مبادرات جديدة – ربما فقط بسبب شرعيته لا يُحتمل ان يتعرض للمسائلة. توماس كن الذي لديه العديد من صفات فيلسوف التيار الرئيسي (هو كان رجل امريكي ابيض) واجه القليل من الاسئلة حول الشرعية رغم خلفيته الفيزيائية ومنهجيته التاريخية.

الشرعية في التحدث بالموضوعات الفلسفية تصبح معتمدة بعمق على ما اذا كان الشخص الجدير بالثقة يبدو كـ "فيلسوف". هاروي و كرستيفا من غير المحتمل ان تكونا مرشحتين لفلاسفة نمطيين لأنهما تجمعان بين تحديات الرؤى المعيارية و الفشل ليكونا فيلسوفتين نمطيتين. مكانتهما كفيلسوفتين ملكتين هي شائكة لأن شرعيتهن في الموضوعات تتطلب تبريرا : يجب اثبات انهن يعملن فلسفة. لكن هذا التبرير يجب ان يتأسس على إظهار علاقة بالحقل الذي ليس له شكل معرّف جيدا. جهودهما ستكون للسعي نحو وسط محافظ.

لو أخذنا مثالا ساخرا من كتاب فيليب كيتشر Philip Kitcher لعام 2023 حول ما الفائدة من الفلسفة. هو يحكي قصة عن الموسيقيين الموهوبين الذين يتدربون في الاكاديميات ليصبحوا متخصصين في موزارت. اساسا، هناك حماس كبير لدى كل من الموسيقيين والجمهور لحضور عروضهم، لكن التحسّن في أداء موزارت أصبح تدريجيا أقل وأقل، والجمهور العام فقد الرغبة في الاختلافات الدقيقة التي يمكن ان تتم فقط بواسطة خبراء مدربين. بعض الموسيقيين ايضا شعروا بالضجر. الخبراء اصيبوا بالرعب وقاموا باستبعاد هؤلاء العابثين من الدراسة الاكاديمية. وبمرور الزمن، اصبحت قاعة حفل الاكاديمية فارغة. فقط الخبراء العنيدين ذوي الحاسة الموسيقية الخاصة للاختلافات في موزارت استمروا يقيمون حفلات لبعضهم بينما بقية الناس يعيشون حياتهم في مكان آخر.

المدرسيون يتفقون بان الناس يفتقرون للذوق، وان أي نقد يصدر عنهم هو ببساطة ناتج عن حكمهم الفقير ونقص الفهم. بهذه الطريقة، ما بدا كإهتمام حقيقي في التطور الموسيقي اصبح نظام صارم للموضوعات يستبعد أي شيء يمكنه تحدي او ابتكار او ازالة الحدود الموسيقية. تماما مثل التقديس، الرطانة والخلافة المدروسة لعرش الفلسفة ربما تكون مفيدة في رعاية التخصص وضمان النوعية، لكنها ايضا استبعادية، وعندما تُتبع بصرامة، فهي تعرّف فلسفة ميتة يؤمل ان ترضي عدد قليل من الفلاسفة.

العبرة من المثال ومن هذا المقال هو ان هناك شيء يُكتسب عندما نعامل الفلاسفة بأقل من الملوك ونعرض فضولاً بدلاً من موقف مشبوه في مسائلة الشرعية الفلسفية.

***

حاتم حميد محسن

...........................................

من مقال للكاتبة هيلين سكوت الباحثة في جامعة كامبردج بعنوان "الملوك الفلاسفة والملكات"، نُشر في Philosophy Now عدد اكتوبر/نوفمبر 2024.

بقلم: لويس ألتوسير

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

"هل من الصدفة حقّا أن تكون الفلسفة فعلا، مرتبطة إلى هذا الحدّ بتدريسها، وبأولئك الذين يدرّسونها؟ وهل من الصدفة أن لا تصلح الفلسفة سوى لتعليمها الخاص فحسب، ولا لشيء آخر؟ وإذا كانت لا تصلح فقط إلا لتعليمها الخاص، فما يعني ذلك يا ترى؟"( ل. ألتوسير)

"في أي معنى يستقيم القول بأنّ: كل إنسان فيلسوف"؟

" ماذا يصنع إذن أستاذ الفلسفة؟ إنه يعلّم تلاميذه التفلسف، بتأويل النصوص الكبرى أمامهم أو المؤلفين الكبار للفلسفة، بان يلهمهم الرغبة في التفلسف . وإذا ما التمس في نفسه قوّة، أمكنه أن يتقدّم درجة ويمرّ إلى التأمّل الشخصي، أي إلى مخطّط فلسفة أصيلة."(ل. ألتوسير)

***

ما ذا يقول "غير الفلاسفة"؟

يتوجه هذا الكتاب إلى كلّ القرّاء الذين يعتبرون أنفسهم، أصابوا أم أخطئوا، من " غير الفلاسفة"، والذين يريدون مع ذلك أن يكوّنوا فكرة عن الفلسفة. ماذا يقول " غير الفلاسفة"؟ العامل والفلاح والأجير: " لا نعرف شيئا من الفلسفة، لم تخلق لأجلنا. إنما هي لمثقفين مختصين. إنها جدّ صعبة . ولا أحد حدّثنا عنها قط: لقد غادرنا المدرسة قبل أن نتعلمها." بينما يقول الإطار والموظّف والطبيب، الخ:" نعم تابعنا درس الفلسفة. لكنه مفرط في التجريد. والأستاذ عارف بصنعته، لكنه كان غامضا. فلم نحتفظ بشيء منها. وبالمناسبة، فيم تصلح الفلسفة ؟ " ويقول آخر:" عفوا! لقد اهتممت بالفلسفة كثيرا. يجب أن نقول بأنه كان لنا أستاذ أخّاذ. وكنا نفهم الفلسفة بصحبته. لكن، انصرفت منذ ذلك الحين إلى تحصيل لقمة العيش ماذا نفعل إذن، ليس لليوم سوى 24 ساعة: لقد فقدت صلتي بها. مع الأسف. " وإذا ما سألتهم جميعا:" لكن عندئذ، بما أنكم لا تعتبرون أنفسكم فلاسفة، فمن من الناس في نظركم من يستحقّ اسم فيلسوف؟"، فسيجيبون، بصوت واحد:" إنما هم أساتذة الفلسفة!". وهذا عين الصواب: فبخلاف الناس الذين، لأسباب شخصية، أي من أجل متعتهم أو لنفع ما، يستمرّون في القراءة لكتّاب فلسفة، في" ممارسة الفلسفة"، فإنّ من يستحقّ اسم فيلسوف هم فعلا أساتذة الفلسفة. يطرح هذا الأمر بالطبع سؤالا أول، أو بالأحرى أثنين.

1. هل حقّا من الصدفة أن تكون الفلسفة فعلا، مرتبطة إلى هذا الحدّ بتدريسها، وبأولئك الذين يدرّسونها؟ يجب أن نعتقد أن الأمر ليس كذلك، إذ في النهاية،لا يعود هذا الزواج فلسفة - تعليم إلى أقسام الفلسفة عندنا، لا يعود إلى الأمس: فمنذ بدايات الفلسفة، كان أفلاطون يدرّس الفلسفة، وأرسطو يدرس الفلسفة ... وإذا كانت هذه الزيجة فلسفة - تعليم ( تدريس) ليست نتاج الصدفة، فهي تعبّر عن.ضرورة خفيّة. وسنحاول اكتشافها.

2. لنذهب إلى أبعد من ذلك. بما أن الفلسفة في الظاهر لا تصلح لشيء مهمّ في الحياة العملية، وبما أنها لا تنتج لا معارف ولا تطبيقات، فيمكننا التساؤل؛ لكن لم تصلح الفلسفة؟ ويمكننا حتى أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال: هل من الصدفة أن لا تصلح الفلسفة سوى لتعليمها الخاص فحسب، ولا لشيء آخر؟ وإذا كانت لا تصلح فقط إلا لتعليمها الخاص، فما يعني ذلك يا ترى؟ سنحاول الإجابة عن هذا السؤال الصعب. ترون كيف تسير الأمور مع الفلسفة . فيكفي أن نفكّر في أقلّ وجوهها( وهنا كون الفلاسفة هم جميعهم تقريبا أساتذة فلسفة)، حتى تنبجس، دون أن تترك لنا الفرصة لاستعادة أنفاسنا، أسئلة غير منتظرة ومدهشة. وقد قدّت هذه الأسئلة على نحوٍ يُلزمنا بطرحها دون أن نمتلك وسائل الإجابة عنها: فحتى نجيب عنها علينا القيام بمنعطف طويل. وهذا المنعطف ليس شيئا آخر سوى الفلسفة ذاتها. على القارئ إذن أن يتحلّى بالصبر . فالصبر فضيلة فلسفية. لنلق نظرة خاطفة، حتى نتقدّم، على هؤلاء البشر: أساتذة الفلسفة. لهم أزواج وزوجات مثلي ومثلك، وأطفال إذا ما رغبوا في ذلك. يأكلون وينامون يتنفسون ويموتون مثل الجميع. يمكن أن يحبوّا الموسيقى والرياضة وممارسة الفلسفة أو لا. اتفقنا: فليس هذا ما يجعلهم فلاسفة. إنّ ما يجعلهم كذلك، هو أنهم يعيشون في عالم لوحده، في عالم مغلق: مكوّن من أعمال كبرى في تاريخ الفلسفة. ويبدو أن ليس لهذا العالم من خارج. فهم يحيون مع أفلاطون وديكارت وكانط وهيجل وهوسرل ومع هيدجر، الخ. ماذا يصنعون؟ أتحدّث عن أفضلهم بالطبع: يقرؤون ويعيدون قراءة مؤلفات كبار الكتاب، ويعيدون قراءتها باستمرار، بمقارنتها فيما بينها، وبتمييزها عن بعضها البعض عبر التاريخ، لفهمها جيّدا. إنه لأمرٌ مدهش مع ذلك، هذه الإعادة الدائمة للقراءة . فما من أستاذ رياضيات أو فيزياء الخ قطّ، سيعيد باستمرار قراءة كتاب في الرياضيات أو الفيزياء، فلن " يجترّوها" على هذا النحو. إنهم يقدمون المعارف، ويفسرون أو يبرهنون، نقطة وانتهى الأمر، ولن نعود إلى ذلك. ومع ذلك فإنّ ممارسة الفلسفة هي العود اللانهائي إلى النصوص. يعرف الفيلسوف ذلك جيدا، و فوق هذا يفسّر لك لماذا! هو أن الأثر فلسفي لا يفصح عن معناه، عن رسالته، في قراءة واحدة؛ وهو مفعم بالمعنى، وبالطبيعة نبع لا ينفد ولانهائي، وله دوما قول جديد بالنسبة إلى من يعرف كيف يؤوّله. ليست ممارسة الفلسفة مجرد قراءة، وليست برهنة. إنما هي تأويل، تساؤل وتأمل: إنها تريد أن تقوّل الأعمال الكبرى ما تريد قوله، أو تقدر على قوله، وفي الحقيقة الإشكالية التي تحملها أو بالأحرى التي تشير، بصمت، صوبها. وبالنتيجة: هذا العالم بلا خارج هو عالم بلا تاريخ. مكوّن من مجموع الأعمال الكبرى التي كرّسها التاريخ، رغم كونه عالم بلا تاريخ. وذلك بدليل أن: الفيلسوف يستدعي، لتأويل فقرة من كانط، أفلاطون كما هوسرل، كما لو لم يكن هناك 23 قرنا بين الأوّلَين وقرنا ونصف بين الأول والأخير، كما لو من غير المهمّ وجود السابق واللاحق. فجميع الفلاسفة، بالنسبة إلى الفيلسوف هم معاصرين. يلبّون نداء بعضهم بعضا من خلال الصدى، لأنهم لا يجيبون في الأصل إلاّ عن نفس الأسئلة، التي تصنع الفلسفة. من هنا كانت الأطروحة المشهورة " الفلسفة أبدية". ومثلما نرى، فحتى يكون من الممكن إعادة القراءة الدائمة، وفعل التأمل غير المنقطع، يجب على الفلسفة أن تكون في نفس الوقت لامتناهية ( أي ما "تقوله" لا ينضب) وأبدية ( كل الفلسفة كامنة في كلّ فلسفة). تلك هي قاعدة ممارسة الفلاسفة، أريد آن أقول أساتذة الفلسفة. وإذا ما قلتم لهم، في هذه الظروف، إنهم يعلمون الفلسفة، فخذوا حذركم! إذ سيلفتون النظر إلى أنهم لا يعلمونها مثل الأساتذة الآخرين، الذين يحملون لتلاميذهم معارف للحفظ، أي نتائج علمية ( مؤقتا) نهائية. فالفلسفة لا تُتعلّم بالنسبة إلى أستاذ الفلسفة الذي فهم جيّدا كانط . ولكن ماذا يصنع إذن أستاذ الفلسفة؟ إنه يعلّم تلاميذه التفلسف، بتأويل النصوص الكبرى أمامهم أو المؤلفين الكبار للفلسفة، بان يلهمهم الرغبة في التفلسف (يمكننا أن نترجم تقريبا هكذا الكلمة الإغريقية فيلو- صوفيا philo-sophia). وإذا ما التمس في نفسه قوّة أكثر، أمكنه أن يتقدّم درجة ويمرّ إلى التأمّل الشخصي، أي إلى مخطّط فلسفة أصيلة. وهذا دليل حيّ على أن الفلسفة تنتج ماذا؟ الفلسفة، ولا شيء آخر، وأنّ كل هذا يجري في عالم مغلق. لا شيء يثير الدهشة إذا كان عالم الفلاسفة مغلقا: طالما كانوا لا يفعلون شيئا للخروج منه، وطالما كانوا، على العكس، ينفذون شيئا فشيئا إلى باطن المؤلفات، ويحفرون هوّة واسعة بين عالمهم وعالم البشر، الذين ينظرون إليهم من بعيد مثلما ينظرون إلى حيوانات غريبة.. ليكن، ولكن سيقول القارئ بأننّا وصفنا وضعية قصوى، وميلا أقصى يوجد بالتأكيد، ولكن الأمور لا تسير دوما على هذا النحو. وبالفعل، فالقارئ معه الحقّ: فما وقع وصفه، هو شكل خالص نسبيا، هو النزعة المثالية، والممارسة المثالية للفلسفة. لكن يمكن أن نتفلسف على نحو آخر تماما. والدليل قائم في التاريخ، فبعض الفلاسفة، لنقل المادّيين، تفلسفوا على نحو آخر تماما، وأن أساتذة الفلسفة يحاولون أيضا الاقتداء بهم. فهم لا يريدون أن يكونوا جزءا من عالم مغلق على ذاته. هم يخرجون منه لسكنى العالم الخارجي: فيريدون أن يقوم بين عالم الفلسفة (الذي يوجد) وبين العالم الواقعي، تبادل مثمر. يتنزّل هذا بالنسبة إليهم في مبدآ الفلسفة ذاتها: بينما يعتبر المثاليون أنّ الفلسفة هي قبل كلّ شيء نظرية، يرى الماديون بأن الفلسفة هي قبل كل شيء تطبيقيّة، تتأتّى من العالم الواقعي وتُنتج، دون معرفة بذلك، آثارا ملموسة في العالم الواقعي. لاحظوا أن الفلاسفة الماديون يمكن لهم وبالرغم من معارضتهم العميقة للمثاليين، أن يكونوا لنقل " على اتفاق" مع خصومهم في عدّة نقاط . مثلا في أطروحة:" الفلسفة لا نتعلّمها". لكن لا يعطون لذلك نفس المعنى. إنّ التقليد المثالي يدافع عن هذه الأطروحة بإعلاء الفلسفة على المعارف، وبدعوة كلّ واحد إلى أن يوقظ في نفسه الإلهام الفلسفي. أما التقليد المادّي فلا يسمو بالفلسفة على المعارف، إنما يدعو البشر إلى البحث في خارج ذواتهم، في الممارسات، عن المعارف والصراعات الطبقية،- ولكن دون الإعراض عن الأعمال الفلسفية- لتعلّم التفلسف. لنضرب مثالا آخر، يتمسّك به المثاليون تمسكّهم بأبصارهم: وهو السمة الذي تميز الأعمال الفلسفية، كونها معين لا ينضب، والذي يميّز بالطبع فلسفة العلوم...يوافق الماديون على الإقرار بأنه لا يمكن ردّ أثر فلسفي إلى حرفيّته المباشرة، ولنقل لسطحه، إذ هو مفعم بالمعنى. بل يذهب المادّي أبعد من ذلك: فيعترف، وهو في ذلك كالمِثالي بأنّ هذا الامتلاء بالمعنى يعود إلى " طبيعة الفلسفة"! ولكن لما كانت المادية تحمل فكرة مغايرة للفلسفة عن المثالية، فإن هذا الامتلاء بالمعنى لأثر فلسفي لا يعبّر لديها عن الطابع اللانهائي للتأويل، بل عن التعقيد الأقصى للوظيفة الفلسفية. وإذا كان أثرا فلسفيا ما هو بالنسبة إليها ممتلئا معنى، فذاك لأنه يجب عليها، حتى توجد كفلسفة، توحيد عدد كبير من المعاني. هناك فارق: لكن نتائجه ثقيلة. لنضرب مثلا أخيرا: الأطروحة المثالية الشهيرة بأنّ كل الفلسفات هي كما لو كانت معاصرة لبعضها بعضا، وأنّ الفلسفة " أبدية"، أو أنه ليس للفلسفة تاريخ. يمكن للمادية، بالرغم من مفارقية هذا الإقرار الشديدة، أن " توافق " بتحفّظ. وبتحفّظ، إذ أنها تعتقد أنّه ثمّة تاريخ يحدث في الفلسفة وانه تقع حوادث ونزاعات وثورات واقعية تغيّر " مشهد" الفلسفة. غير أنّ الماديّة تقول بطريقتها، ردّا تقريبا على هذا التحفّظ، بأنّه " ليس للفلسفة تاريخ "، من حيث أن تاريخ الفلسفة هو معاودة لنفس النزاع الجوهري، ذلك الذي يقابل النزعة المادية بالنزعة المثالية في كلّ فلسفة. يوجد فارق: لكن تبعاته جسيمة. نحتفظ من هذه الأمثلة السريعة بأنّه إذا كانت الفلسفة واحدة، فإنه يوجد، على أقصى حد، نوعين مختلفين متقابلين من التفلسف، وممارستين متناقضتين من الفلسفة: الممارسة المثالية، والممارسة الماديّة. لكننا نحتفظ بالرغم من الوجه المفارقي لهذا الواقع، بأنّ المواقف المثالية تطفو على المواقف المادية والعكس بالعكس. كيف يمكن للفلسفة أن تكون واحدة، وتسلّم نفسها لتوجّهين متناقضين، التوجّه المثالي والتوجّه المادّي؟ كيف يمكن لخصوم فلسفية أن يكون لهم شيء ما مشترك، بما أننا نرى أن بعضهم يتعدّى على بعض؟ ومرّة أخرى، نحن نطرح أسئلة دون القدرة على أن نقدم لها أجوبة مباشرة. يجب أن نمرّ بالمنعطف الكبير. فالصَّبْرَ إذن، صَبْرٌ ولكن سرعان ما تحصل المفاجأة. إذ ماذا لو وُجدت "طريقة أخرى في التفلسف" غير التي للأساتذة المثاليين، أي ممارسة للفلسفة، هي أبعد عن أن تسحب الفيلسوف من العالم، تضعه في العالم، وتجعله أخا للجميع البشر- وماذا لو وجدت ممارسة، هي أبعد من أن تجلب الحقيقة للبشر من أعلى، في لغة غير قابلة للفهم بالنسبة إلى العمّال، ممارسة تعرف كيف تصمت وتتعلم من البشر، ومن ممارساتهم ومن آلامهم وصراعاتهم، أفلا يمكن أن تقلب الفرضية التي تبنّيناها رأسا على عقب؟ لا. فقد سألنا بالفعل أناسا مختلفين في العمل والموقع الاجتماعي. فحدّثونا جميعهم عن أساتذة الفلسفة. هذا طبيعي: الفلسفة تدرّس في الثانوي والتعليم العالي. إنهم أي هؤلاء المُسْتَجوبين، يطابقون في تواضعهم واختلافهم الفلسفة مع تعليمها. ماذا يفعلون، غير إعادة القول على طريقتهم بما تصرّح به المؤسسات الموجودة في مجتمعنا، من أنّ الفلسفة هي ملكية أساتذة الفلسفة؟ إنهم لم يتجرؤوا، وهم متخوفون من هذا الأمر الواقع للنظام الاجتماعي، ومبهورون بصعوبة فلسفة الفلاسفة، على المساس بهذا الحكم المسبق الفلسفي. إنّ تقسيم العمل اليدوي والعمل الفكري ونتائجه العملية، وهيمنة الفلسفة المثالية ولغتها بالنسبة إلى العارفين، قد أبهرتهم أو أحبطتهم. فلم يتجرّؤوا على قول: لا، ليست الفلسفة خصّيصة أساتذة الفلسفة. لم يتجرّؤوا على القول، مع الماديّين (مثل ديدرو ولينين وقرامشي): "كلّ إنسان فيلسوف". يتحدّث الفلاسفة المثاليون للجميع وباسم الجميع. يعتقدون أنهم يمسكون بحقيقة كل الأشياء . أما الفلاسفة الماديون فهم على خلاف ذلك صامتون: يعرفون كيف يسكتون، للاستماع إلى البشر. هم لا يعتقدون في ملكية حقيقة كل الأشياء. ويعرفون أنهم لا يمكن أن يصيروا فلاسفة إلا تدريجيا، بتواضع، وأنّ فلسفتهم تأتيهم من خارج: فيصمتون حينئذ ويستمعون. وأنه ما من حاجة للذهاب بعيدا لمعرفة ما يسمعون، حتى نلاحظ أنه يوجد لدى الشعب، والعمال الذين لم يتلقّوا تعليما فلسفيا، ولم يكن لهم قطّ " معلمّا " يتبّعونه في فنّ التفلسف، يوجد ضرب من الفكرة عن الفلسفة، دقيقة جدّا حتى نقدر على إثارتها والحديث عنها. وهو ما يعني، مثلما يؤكّد ذلك المادّيون بأنّ " كل إنسان فيلسوف"، حتى لو كانت الفلسفة التي يتمثّلها غير دقيقة، نشكّ في ذلك! فلسفة كبار الفلاسفة والأساتذة. ما عساها تكون هذه الفلسفة " الطبيعية" (العفوية) لدى كلّ إنسان؟ لو طرحتم السؤال على من تعرفون، على الناس "العاديين"، فقد يستغربون، بتواضع، لكن سينتهون إلى الاعتراف:" نعم، لديّ فلسفة خاصّة بي". ماذا؟ أي طريقة في " النظر إلى الأشياء". ولو دفعتم بالسؤال قدما، فسيقولون:" يوجد في الحياة أشياء أعرفها جيّدا، عن تجربة مباشرة: مثلا، عملي والناس الذين أعاشرهم والبلدان التي زرتها أو التي حصّلت عنها معلومات في المدرسة أو في الكتب. لنسمّي ذلك كله معارف. لكن توجد في العالم أشياء كثيرة لم أرها ولا أعرفها. وهذا لا يمنعني من أن أكوّن عنها فكرة. وفي هذه الحالة، فأنا أملك أفكارا تتجاوز معارفي: مثلا عن أصل العالم، وعن الموت والألم والسياسة وعن الفنّ وعن الدين . بل أكثر من ذلك: لم تأت هذه الأفكار من فوضى مبعثرة يمينا وشمالا ومنفصلة عن بعضها البعض وغير متماسكة . لكن لا أعرف لماذا، تتوحّد هذه الأفكار شيئا فشيئا، بل يحدث شيء غريب: هو أننّي جمعت كل معارفي، أو هكذا تقريبا، تحت غطاء هذه الأفكار العامّة، وتحت وحدتها. فأكون عندئذ قد صنعت ضربا من الفلسفة، رؤية لمُجْمل الأشياء، لتلك التي أعرفها، كما للتي لا أعرفها. إنّ فلسفتي هي معارفي موحّدة تحت غطاء أفكاري ". وإذا ما تساءلتَ: فيم تصلح هذه الفلسفة؟ أجابك: " الأمر بسيط، لتوجيهي في الحياة. إنما بمثابة بوصلة: تشير إليّ بجهة الشمال . لكن أنت تعرف، أن كل منّا يصنع فلسفته الخاصّة." هذا ما سيقوله إنسان عاديّ. لكن سيضيف مُلاحظ ما النقاط التالية. سيقول بأنّ كلّ فرد يصنع فعلا" فلسفته الخاصّة"، لكن يجتمع،على صعيد التجربة، أغلب هؤلاء الفلاسفة، فلا تكون بينهم سوى فوارق شخصية حول أساس فلسفي مشترك، انطلاقا منه ينقسم الناس في" أفكارهم". سيقول بأنه يمكننا أن نصنع ضريا من الفكرة عن الأساس المشترك لهذه الفلسفة " الطبيعية/ العفوية" لكل إنسان، حينما نقول مثلا عن أحدهم، بحسب الطريقة التي يتحمّل بها المعاناة أو المحن التي تؤلمه كثيرا، وأنه يأخذ كلّ مناحي الوجود " بفلسفة" بمنحى فلسفي؛ أو إذا ما استقامت حياته، أن يعرف كيف يستفيد من خيراتها دون إسراف. وفي هذه الحالة، فهو يُقيم مع الأشياء، سواء كانت سيئة أم حسنة، علاقات مقدَّرَة متبصّرة ومتحكّم فيها وحكيمة: فنقول عنه حينئذ بأنّه " فيلسوف". ماذا نجد في عمق هذه " الفلسفة"؟ لقد فسّر قرامشي ذلك جيدا حينما تحدّث عن: فكرة معينة عن ضرورة الأشياء (علينا الاضطلاع بها)، وبالتالي معرفة معينة، من جهة، وطريقة معينة في استخدام هذه المعرفة في المحن أو أفراح الحياة، وبالتالي، حكمة معينة من جهة أخرى. إنه إذن اجتماع سلوك نظري معين وسلوك عملي معا: أي حكمة معينة. نجد إذن في هذه الفلسفة "العفوية" للبشر العاديين، مبحثين كبيرين يخترقان كامل تاريخ فلسفة الفلاسفة: تصوّر معيّن لضرورة الأشياء، لنظام العالم وتصوّر معيّن للحكمة الإنسانية تجاه سيرورة العالم. من سيقول بأنّ هذه الأفكار ليست بعدُ فلسفية؟ غير أنّ ما هو ملفت للانتباه فعلا هو أن في هذه التصوّر طابعه المتناقض والمفارقي. إذ، هو في الأصل، جدّ فعّال"active: يفترض بأنّ الإنسان يستطيع شيئا ما قبالة هذه الضرورة للطبيعة والمجتمع، ويفترض تفكيرا عميقا وتركيزا على الذات، وتحكّما كبيرا في الذات في الحالات القصوى للألم أو في الحالات اليسيرة للسعادة. لكن، في الواقع، حينما لا يكون هذا السلوك " مهذّبا" ومتحوّلا، بواسطة الصراع السياسي مثلا، فإنّه يعبّر غالبا عن اللجوء إلى الانفعال passivité . إنه جيّد، لو أردنا، نشاطا للإنسان، لكن قد يكون انفعاليا بعمق ومحافظا. إذ لا يتعلّق الأمر، في هذا التصوّر الفلسفي " العفوي" بالتصرّف موضوعيا في العالم، مثلما يريد ذلك بعض الفلاسفة المثاليين، أو " تغييره" كما يريد ماركس، بل بقبوله، بتجنّب كلّ إفراط فيه. إنه أحد معاني كلمة التقطت من فم " إنسان عادي": " لكلّ فلسفته الخاصّة"، في عزلته (" كلّ في ذاته"). من أجل ماذا؟ كي يتحمّل عالما يدمّره أو يمكن أن يدمّره. وإذا ما تعلّق الأمر فعلا بالتحكّم في مسار الأشياء، فليس بالخضوع له أو بقبوله " بفلسفة"، بل للخروج منه في حال أفضل من الحرص على تغييره . وباختصار، إذا ما تعلّق الأمر بالتلاؤم مع ضرورة تتجاوز قوى الإنسان، و أنه يجب عليه العثور على وسيلة للقبول بها، بما انه لا يستطيع فعل شيء لتغييرها. هو نشاط إذن، لكنه انفعالي؛ نشاط إذن لكنه خاضع . لا أفعل شيئا هنا سوى تلخيص فكر فيلسوف ماركسي إيطالي هو غرامشي عن هذه المسألة. ويمكنكم النظر، على أساس هذا المثال، إلى كيفية تفكير فيلسوف ماديّ. فهو لا "يروي لنفسه حكايات"، ويتمسّك بخطاب حماسيّ، ولا يقول " كلّ البشر ثوريون"، بل يترك الناس يتكلّمون، ويقولون الأشياء كما تكون. نعم، يوجد أساس للخضوع للاستسلام لدى الحشود الكبيرة التي لم يحصل لها وعي بالصراع أو حتى لدى من كانوا مقهورين، لكنهم عرفوا الفشل. يتأتى هذا الاستسلام من أقاصي التاريخ الذي كان دوما تاريخ المجتمعات الطبقية، وبالتالي من الاستغلال والقمع. لأفراد الشعب، وهم صنيعة هذا التاريخ، أن يثورا؛ ولما كانت الثورات منهزمة دوما، فليس لهم سوى الاستسلام والقبول " فلسفيا" بضرب من " الفلسفة"، بالضرورة التي يتقبّلونها. وهنا سيظهر الدين."

***

...........................

* لويس التوسير "الطريق إلى الفلسفة لغير الفلاسفة"، نص أعده جورج م.غوشكاريان، وتمهيد لغيوم سيبارتان - بلان. سلسلة " بيف".puf 2014 سلسلة " آفاق نقدية".

تطرقنا في مقال سابق لعرض شامل وخاص بفلسفة هوسرل، تحديدا بوصفها علم نفس، ولكن في هذا المقال سنسلط الضوء على أحد المعرفين بفلسفة الظاهراتية لهوسرل ومنتقديها وهو إيمانويل ليفيناس ([1](Emmanuel Levinas، صاحب «إيتيقا الغيريّة» ساهم في التّعريف بفينومينولوجيا هوسّرل في فرنسا. درّس الفلسفة بجامعة بواتياي سنة 1964 ثمّ انتقل بعد ذلك إلى جامعة نانتار "1967 " وأخيرا إلى السّوربون عام 1973. إيمانويل ليفيناس كان له اهتمام خاص بفلسفة هوسرل الظاهراتية، وقد استخدمها كأساس لتطوير أفكاره الخاصة حول الأخلاق والوجود، وهو واحد من أبرز الفلاسفة الذين انتقدوا فلسفة هوسرل، لكنه ليس الوحيد. هناك عدد من الفلاسفة الذين قدموا نقدًا مهمًا لأفكار هوسرل في الزمن المعاصر، ويعتبر هايدغر، الذي كان في البداية تلميذًا لهوسرل، من أهم النقاد. لقد أظهر كيف أن التركيز على الوعي في فلسفة هوسرل يتجاهل الكينونة والوجود في العالم. ثم جون بول سارتر، الذي تأثر بفلسفة هوسرل، ثم انتقد بعض جوانب الظاهراتية وركز على حرية الإرادة ووجود الفرد. وكذلك جورج باتاي(George bataille) يعتبر باتاي أيضًا من النقاد الذين استلهموا من أفكار هوسرل ولكنهم أخذوا فلسفتهم في اتجاهات مختلفة، مع التركيز على قضايا مثل الرغبة والجسد. وهناك أعمال لأكاديميين فرنسيين تناولت التأثير الهوسرلي في مجالات متعددة مثل علم النفس وعلم الاجتماع. بينما يعد ليفيناس واحدًا من الأهم في نقده وفي طليعة الفرنسيين المهتمين بفلسفة هوسرل، كما هناك تيارات فلسفية مختلفة تتناول وتعيد التفكير في أفكار هوسرل، مما أثرى الحوار الفلسفي حول الظاهراتية.

ومن أهم وأبرز النقاط التي تناولها ليفيناس حول فلسفة هوسرل:

- أن الظاهراتية توفر إطارًا لفهم تجربة الوعي. حيث كان هوسرل مهتمًا بكيفية ظهور الأشياء في الوعي، وهو ما أثر على ليفيناس في تحديد كيفية ظهور الآخر.

- انتقاده لتركيز هوسرل على الذات واعتبر أن فهم الآخر هو مركز الوجود. بالنسبة له، العلاقة مع الآخر ليست مجرد تجربة بل هي أساس الأخلاق.

- رؤيته أن الأخلاق تبدأ من مواجهة الآخر، وهذا يتعارض مع التركيز الهوسرلي على المعرفة الذاتية. في أعماله، مثل " الكلية واللامتناهي"، يتحدث عن كيفية أن الآخر يحمل مسؤولية أخلاقية.

أضاف لوفيناس بُعدًا زمنيًا لفهمه للوجود، حيث اعتبر أن الزمن يتشكل من خلال العلاقات مع الآخرين، عوضًا عن كونه مجرد تسلسل منطقي كما في تفكير هوسرل.

كما أن لوفيناس تناول تقريبا كل نتاجه الفلسفي الظاهراتية وأفكار هوسرل خصوصا في مؤلفاته:

إيمانويل ليفيناس قدم نقدًا لفلسفة هوسرل في عدة أعمال رئيسية. على الوجه التحديد:

الكلية واللامتناهي.

"Totality and Infinity"

بخلاف الوجود أو ما وراء الجوهر .

Otherwise than Being or beyond the essence

الأخلاق واللامتناهي.

"Ethics and Infinity»

الزمن والآخر.

"The Time of the Other"

من خلال هذه الأعمال، يمكن فهم كيف قام ليفيناس بإعادة التفكير في القضايا الفلسفية المطروحة من قبل هوسرل، وأهمية العلاقة مع الآخر في تشكيل الفهم الأخلاقي والوجودي.

كما لا نغفل على أن إيمانويل ليفيناس تأثر بفلسفة هايدغر الوجودية، وقد اعتمد على نقد هايدغر لفلسفة هوسرل في تطوير أفكاره الخاصة. من بين الأفكار التي توضح العلاقة بين الثلاثة:

انتقاد الوعي: هايدغر انتقد التركيز الهوسرلي على الوعي كمرجع وحيد للفهم، واعتبر أن الوجود يكتسب معناه من الكينونة في العالم. ليفيناس أخذ هذا النقد كمحفز لتوسيع رؤيته، مؤكدًا على أهمية الآخر والعلاقات الأخلاقية.

الوجود والآخر: بينما ركز هايدغر على الكينونة كموضوع أساسي، قام ليفيناس بتوجيه انتباهه نحو الآخر، معتبرًا أن مواجهة الآخر هي التي تشكل جوهر الأخلاق والوجود، وهو ما يتجاوز التركيز على الذات.

الزمان والوجود: ليفيناس انتقد المفهوم التقليدي للزمان كما صوره هوسرل، وبدلاً من ذلك، قدم رؤية للزمان تتشكل من خلال العلاقات مع الآخرين، مستفيدًا من النقد الوجودي الذي طرحه هايدغر.

بذلك، يمكن القول إن ليفيناس كان يستند إلى نقد هايدغر لفلسفة هوسرل في تشكيل أفكاره، مما أضاف بعدًا جديدًا للأخلاق والوجود.

التقاطع الفلسفي بين ليفيناس وهوسرل:

إيمانويل ليفيناس وإدموند هوسرل لديهما بعض النقاط المشتركة، رغم اختلافهما في العديد من الجوانب. هناك بعض الأفكار التي يتفقان فيها:

التركيز على الخبرة: كلاهما يؤكدان أهمية الخبرة كوسيلة لفهم العالم. هوسرل يركز على كيف تظهر الأشياء في الوعي، بينما ليفيناس يعترف بأهمية التجربة الذاتية في فهم العلاقات مع الآخرين.

الظاهراتية: ليفيناس يستند إلى أسس الظاهراتية الهوسرلية، حيث يعتبرها إطارًا لفهم الوجود. هو يستفيد من الطريقة التي يحقق بها هوسرل فهم الوعي وتجلياته.

التحليل التفصيلي: يتبنى كلاهما منهجية تحليلية تستند إلى دراسة الظواهر كما تظهر في الوعي، مما يتيح لهما تقصي تجارب الإنسان بشكل دقيق.

نقد العقلانية التقليدية: كلاهما ينتقدان العقلانية التقليدية التي تتجاهل التجربة الفردية والعلاقات الإنسانية، مما يفتح المجال لفهم أعمق للأخلاق والوجود.

الاهتمام بالزمان: رغم أن ليفيناس يطور فكرة الزمن بطريقة مختلفة، إلا أنه يتفق مع هوسرل في أن الزمن يلعب دورًا محوريًا في فهم الوجود والتجربة.

بذلك، يمكن القول إن ليفيناس، رغم انتقاداته، يستند إلى الكثير من المفاهيم الأساسية التي وضعها هوسرل، مما يعكس تأثير الظاهراتية في فكره.

أهم محطات نقد ليفيناس لهوسرل:

إيمانويل ليفيناس في أهم جميع أعماله ناقش إشكاليات التاريخ وعلم النفس والمستقبل في سياق فلسفة هوسرل، مع إبداء آرائه النقدية الخاصة. مع خصوصية كيفية تناوله لهذه المواضيع:

التاريخ: ليفيناس انتقد الفهم الهوسرلي للتاريخ كعملية عقلانية أو تجريبية، حيث اعتبر أن التاريخ يجب أن يُفهم من منظور العلاقات مع الآخرين. بالنسبة له، التاريخ ليس مجرد سلسلة من الأحداث، بل هو يتشكل من خلال الالتزامات الأخلاقية والتفاعلات الإنسانية[2].

علم النفس: ليفيناس أبدى اهتمامًا بكيفية تأثير الوعي على فهم النفس، لكنه انتقد التركيز الهوسرلي على الوعي الفردي كمرجع وحيد. اعتبر أن علم النفس يجب أن يأخذ في اعتباره العلاقات مع الآخر، وليس فقط تجربة الذات.

المستقبل: في نقده لمفهوم الزمن لدى هوسرل، أشار ليفيناس إلى أن المستقبل يتجاوز مجرد كونه تسلسلًا زمنيًا. بل إنه يتضمن الأمل والتوقعات التي تنبثق من علاقاتنا مع الآخرين، مما يضيف بُعدًا أخلاقيًا لهذا المفهوم[3].

بشكل عام، ليفيناس يستخدم الإشكاليات التاريخية والنفسية والمستقبلية ليقدم رؤية أكثر تعقيدًا وإنسانية تتجاوز الفهم الهوسرلي التقليدي.

نقد مفهوم الأفق عند هوسرل:

نعم، انتقد إيمانويل ليفيناس مفهوم الأفق الذي وضعه هوسرل، حيث حدد هذا الأخير أربعة أنواع من الآفاق: الأفق الداخلي، الأفق الخارجي، الأفق الزماني، والأفق البينذاتي. إليك كيفية تناول ليفيناس لهذه النقطة:

الأفق الداخلي: يتعلق بالخبرة الذاتية للفرد. ليفيناس اعتبر أن هذا التركيز على الذات يغفل أهمية الآخر، حيث أن وجود الآخر هو الذي يفتح الأفق ويشكل تجربتنا.

الأفق الخارجي: يتحدث عن العلاقات مع العالم الخارجي. ليفيناس انتقد هذا المفهوم لأنه يظل محصورًا في تجربة الذات، متجاهلًا كيف أن الآخر يساهم في تشكيل فهمنا للعالم.

الأفق الزماني: في هذا الأفق، يدرس هوسرل كيف يتشكل الزمن في الوعي. ليفيناس رأى أن هذا الفهم للزمان ينبغي أن يتضمن العلاقة مع الآخر، حيث أن المستقبل والأمل يتشكلان من خلال التفاعل مع الآخرين، وليس فقط من خلال الوعي الفردي.

الأفق البينذاتي: يتعلق بالتفاعل بين الأفراد. ليفيناس انتقد فكرة أن هذا الأفق يمكن أن يُفهم فقط من خلال وجهة نظر عقلانية، حيث يرى أن العلاقات الإنسانية تحمل بُعدًا أخلاقيًا يتجاوز الفهم البينذاتي.

عموما ليفيناس اعتبر أن هوسرل لم يعطِ الأهمية الكافية للآخر، مما يحرم الفلسفة من البُعد الأخلاقي الضروري لفهم التجربة الإنسانية. ومن خلال انتقاده، يسعى ليفيناس إلى إعادة تشكيل المفاهيم بحيث تكون العلاقات مع الآخرين مركزية، وليس فقط تجربة الفرد. بهذا الشكل، يُظهر ليفيناس كيف أن فهم الأفق يجب أن يتجاوز الفهم الفردي ليشمل البُعد الأخلاقي والوجودي للعلاقات الإنسانية.[4]

نقد وعي الإدراك عند هوسرل:

تناول ليفيناس وعي الإدراك عند هوسرل من منظور نقدي، مع التركيز على أهمية العلاقات الإنسانية والأخلاق. حيث ركز على المحاور الأربعة التي حددها هوسرل:

القصدية: هوسرل يرى أن الوعي دائمًا موجه نحو شيء ما، أي أن كل فعل إدراكي يكون له هدف أو غرض. ليفيناس انتقد هذا الفهم، معتبرًا أن القصدية تركز كثيرًا على الذات ووعيها، مما يتجاهل كيفية أن الآخر يلعب دورًا أساسيًا في تشكيل إدراكنا. بالنسبة له، فإن القصدية ليست فقط في الفهم الفردي بل تتضمن التفاعل مع الآخرين.

العيان المقولي: يشير هوسرل إلى الطريقة التي يظهر بها المعنى من خلال اللغة والتعبير. ليفيناس أضاف بعدًا أخلاقيًا إلى هذا المفهوم، حيث رأى أن العيان المقولي يتطلب وجود الآخر كمصدر للمعنى. الكلمات لا تعبر فقط عن الأفكار، بل تتطلب استجابة الآخر لتشكيل المعنى بشكل كامل.

القبلية: تتعلق القبلية بكيفية وجود الخبرات السابقة في تشكيل الإدراك الحالي. ليفيناس أشار إلى أن هذه الفكرة تعزز من الفردية، ويفترض أن هذه الخبرات لا تكفي لفهم العلاقة مع الآخر. بدلاً من ذلك، يجب أن تتضمن الخبرة أيضًا التفاعل المستمر مع الآخرين.

وعليه يكون ليفيناس قد ساهم  في إعادة تشكيل الفهم الإدراكي، مضيفًا بعدًا إنسانيًا وأخلاقيًا يتجاوز المفاهيم التقليدية التي وضعها هوسرل، عبر بعدين:

نقد التركيز على الذات: انتقد ليفيناس تركيز هوسرل على الوعي الفردي، مؤكداً أن الإدراك لا يمكن أن يُفهم بشكل كامل دون إدراك وجود الآخر وتأثيره.

الأبعاد الأخلاقية: ليفيناس قدم فكرة أن الإدراك يحمل بعدًا أخلاقيًا، حيث أن فهمنا للعالم وللآخرين يرتبط بالالتزامات والمسؤوليات تجاههم.

أزمة العلوم عند هوسرل كأزمة حياة في نقد ليفيناس للظاهراتية

إيمانويل ليفيناس ناقش "أزمة العلوم" كما طرحها هوسرل في سياق نقده للظاهراتية، حيث اعتبر أن هذا المفهوم يتجاوز حدود الفهم التقليدي للعلم ليشير إلى أزمة أعمق في حياة الإنسان ومعانيه.

أزمة العلوم عند هوسرل:

هوسرل اعتبر أن العلوم الحديثة، بما فيها العلوم الطبيعية والاجتماعية، تفصل بين المعرفة الحقيقية ومعنى الحياة. وبهذا، فإنها تعاني من أزمة لأنهما لا يلتقيان في فهم شامل للتجربة الإنسانية.

نقد ليفيناس:

فصل الذات عن الآخر: انتقد ليفيناس تركيز هوسرل على الذات كمرجع وحيد للمعرفة. بالنسبة له، فإن هذا يساهم في تفكيك العلاقات الإنسانية، ويؤدي إلى غياب البُعد الأخلاقي الذي يمثل جوهر الحياة.

الأبعاد الأخلاقية والوجودية: ليفيناس رأى أن أزمة العلوم ليست فقط مسألة معرفية، بل تتعلق بالمعاني الأخلاقية والوجودية. إذ يجب أن تشمل المعرفة العلاقات مع الآخرين والالتزامات تجاههم.

الوجود كعلاقة: بدلاً من اعتبار العلم كعملية معرفية منفصلة، دعا ليفيناس إلى فهم الوجود كعلاقة حية ومتفاعلة. وهذا يعكس كيف أن العلوم، لتكون ذات معنى، يجب أن تستند إلى التجارب الإنسانية والأخلاقية.

التجاوز نحو الظاهراتية:

إعادة التفكير في الظاهراتية: ليفيناس استخدم نقده لأزمة العلوم لإعادة التفكير في الظاهراتية. بدلاً من التركيز على الوعي الفردي فقط، دعا إلى أهمية الآخر وعلاقته بالذات في تشكيل المعرفة. بإختصار، يعتبر نقد ليفيناس لأزمة العلوم عند هوسرل بمثابة دعوة لإعادة التركيز على الأبعاد الأخلاقية والوجودية في الفلسفة، مؤكدًا أن المعرفة الحقيقية يجب أن تشمل العلاقات الإنسانية والتجارب المشتركة.

وهنا يمكن التساؤل أن: إعادة التفكير في الظاهراتية نفسه تناوله هوسرل تحت عنوان الظاهراتية التقومية، أين الجديد في فلسفة ليفيناس؟

كل من هوسرل وليفيناس تناولوا مفهوم الظاهراتية من زوايا مختلفة، وكل منهما قدم رؤى جديدة تتعلق بها. هوسرل في إطار الظاهراتية التقومية ( أو "الظاهراتية التاريخية") يعبر عن كيفية فهم التجربة الإنسانية من خلال السياقات الاجتماعية والثقافية والتاريخية. ويؤكد على أن كل تجربة لها أفق معين يتشكل من خلال تاريخ الفرد وعلاقاته بالآخرين.[5]

في حين ليفيناس تناول الظاهراتية من منظور أخلاقي ووجودي، حيث قدم مفهوم "الظاهراتية المتعالية". عبر محددات الأساسية حول هذا المفهوم:

التجاوز إلى الآخر: بالنسبة لليفيناس، فإن الوعي لا يقتصر على الذات فقط، بل يتجاوز ذلك ليشمل الآخر. وهو يرى أن فهم الوجود لا يمكن أن يكتمل بدون اعتبار العلاقات مع الآخرين.

الأخلاق كأولوية: يعتبر ليفيناس أن الظاهراتية المتعالية تنطوي على بعد أخلاقي يتجاوز المعرفة الذاتية، حيث إن التفاعل مع الآخر يستدعي مسؤوليات أخلاقية.

الإفصاح عن المعنى: في الظاهراتية المتعالية، يُفهم المعنى من خلال العلاقة مع الآخر، وليس فقط من خلال الوعي الفردي. لذا، يشكل الآخر الأفق الذي يفتح معنى الحياة والتجربة.[6]

بينما ركز هوسرل على كيفية تشكيل التجربة الإنسانية من خلال الأفق الثقافي والاجتماعي، استخدم ليفيناس الظاهراتية كأداة لإبراز البعد الأخلاقي وضرورة وجود الآخر في فهم الوجود. هذا التحول يعكس كيف يمكن أن تكون الفلسفة أداة لفهم العلاقات الإنسانية في سياق أعمق من المعرفة التقليدية.

كيف ينظر  ليفيناس إلى الظاهراتية التقومية والظااهراتية المتعالية ؟

إيمانويل ليفيناس يرى أن الظاهراتية المتعالية هي الأقدر على التصدي للتحديات المعاصرة، بينما يعتبر الظاهراتية التقومية أقل قدرة على معالجة قضايا مثل الأخلاق والعلاقات الإنسانية.

فالظاهراتية المتعالية الأفضل لسببين:

الأخلاق والآخر: ليفيناس يؤكد أن الظاهراتية المتعالية تركز على العلاقات مع الآخرين، وتعتبر الأخلاق هي مركز الفهم. هذه الرؤية تتيح استكشاف القضايا المعاصرة المتعلقة بالعدالة، الهوية، والوجود، مما يجعلها أكثر صمودًا في مواجهة التحديات الحديثة.

التجاوز للذات: من خلال التركيز على الآخر، تقدم الظاهراتية المتعالية بُعدًا وجوديًا وأخلاقيًا يتجاوز التجربة الفردية، مما يجعلها قادرة على معالجة أزمات مثل الاغتراب وفقدان المعنى[7].

لكن الظاهراتية التقومية لا تصمد أمام التحديات المعاصرة لكونها تستند على:

التركيز على السياق التاريخي: بينما تعالج الظاهراتية التقومية قضايا مرتبطة بالتاريخ والثقافة، إلا أن ليفيناس يعتبر أن هذه المقاربة قد تظل محصورة في الأبعاد الاجتماعية والسياسية، مما يجعلها غير كافية لمواجهة الإشكاليات الأخلاقية.

نقص البعد الأخلاقي: برأيه، الظاهراتية التقومية لا تعطي الأهمية الكافية للبعد الأخلاقي والإنساني، وهذا يجعلها غير قادرة على استيعاب تعقيدات العلاقات المعاصرة.

باختصار، ليفيناس يرى أن الظاهراتية المتعالية، بما تقدمه من أبعاد أخلاقية وإنسانية، هي الأكثر قدرة على مواجهة تحديات العصر الحالي، بينما الظاهراتية التقومية قد تكون محدودة في تناول القضايا العميقة المرتبطة بالوجود والعلاقات الإنسانية.

التذاوت عند ليفيناس:

إيمانويل ليفيناس تناول مفهوم التذاوت (الآخرية أو الآخر) في عدة كتب، حيث يعتبر هذا المفهوم محورًا أساسيًا في فلسفته. نذكر أهمها:

"Totality and Infinity"

التذاوت كشرط للوجود: في هذا الكتاب، يبرز ليفيناس كيف أن وجود الآخر هو ما يتيح للذات أن تتجاوز نفسها. لا يمكن فهم الذات بشكل كامل إلا من خلال العلاقة مع الآخر. ويناقش كيف أن التذاوت هو ما يفتح الأفق للمعنى والتجربة.[8]

"Otherwise than Being"

التذاوت كفكرة أخلاقية: هنا، يقدم ليفيناس مفهوم التذاوت بوصفه شرطًا أخلاقيًا، حيث إن الآخر ليس مجرد موضوع للإدراك بل هو من يفرض على الذات مسؤوليات أخلاقية. ويبين كيفية تشكيل التذاوت في فهم ليفيناس للعلاقات الإنسانية والأخلاق[9].

"Ethics and Infinity"

التركيز على الأخلاق والعلاقة مع الآخر: في محاضراته، يركز ليفيناس على أهمية الآخر وكيف يشكل وجوده أساسًا للأخلاق. ويعتبر أن التذاوت هو الذي يخلق التحدي الأخلاقي أمام الذات، ويناقش كيف يشكل الآخر الأفق الأخلاقي للتجربة الإنسانية[10].

"The Time of the Other"

فهم الزمن من خلال الآخر: يتناول ليفيناس كيف أن تجربة الزمن تتشكل من خلال العلاقات مع الآخرين، مما يجعل التذاوت ضروريًا لفهم الوجود. وكيفية تأثير الآخر على فهمنا للزمن.[11]

في فلسفة ليفيناس، يعتبر التذاوت محورًا مركزيًا لفهم العلاقات الإنسانية والأخلاق. من خلال التركيز على الآخر، يفتح ليفيناس أفقًا جديدًا لفهم الوجود، مما يتجاوز التجربة الفردية الضيقة.

التذاوت عند هوسرل في فكر ليفيناس

إيمانويل ليفيناس ناقش مفهوم التذاوت في سياق أفكار إدموند هوسرل، حيث اعتبر أن هوسرل لم يعطِ الأهمية الكافية للآخر في فلسفته.

"Totality and Infinity" نقد هوسرل: في هذا الكتاب، يشير ليفيناس إلى أن هوسرل، رغم تركيزه على القصدية والتجربة، قد أهمل العلاقة مع الآخر كعنصر أساسي لفهم الذات. يعتبر التذاوت عند ليفيناس تجسيدًا لتجربة أخلاقية ضرورية لفهم الهوية. حيث ناقش الفجوة بين الوعي الذاتي والعلاقة مع الآخر[12].

"Otherwise than Being"

التجاوز للذات: يتناول ليفيناس مفهوم التذاوت كوسيلة لتجاوز الذات، مؤكدًا أن الوجود يتشكل من خلال التفاعل مع الآخرين. ينتقد ليفيناس عدم قدرة هوسرل على رؤية هذا البعد بشكل كامل وأيضا كيف يشكل التذاوت الهوية والمعنى[13].

"Ethics and Infinity"

التذاوت بوصفه شرطًا أخلاقيًا:  يوضح ليفيناس كيف أن الوجود مع الآخر يفرض مسؤوليات أخلاقية. ويعتبر أن هوسرل قد غفل عن هذا البعد في تركيزه على الوعي.[14]

"The Time of the Other"

الزمن والتذاوت: يناقش ليفيناس كيف يتشكل مفهوم الزمن من خلال العلاقات مع الآخرين، مما يعكس أهمية التذاوت في فهم الوجود. كما يطرح رؤى حول العلاقة بين الزمن والتذاوت.[15]

بشكل عام، يعتبر ليفيناس أن مفهوم التذاوت لدى هوسرل يحتاج إلى إعادة تقييم، حيث أن العلاقة مع الآخر تشكل أساسًا لفهم الهوية والأخلاق، مما يتجاوز الفهم الفردي.

ظاهرية التمثيل والتذاوت

إيمانويل ليفيناس تناول ظاهراتية هوسرل من زاوية نقدية، معتبرًا أنها تتعلق بشكل كبير بموضوع التمثيل، وهذا ينعكس على مفهوم التذاوت.

ظاهراتية التمثيل:

هوسرل يركز على كيف يمثل الوعي الأشياء ويعبر عنها. وهو يستخدم الظاهراتية كوسيلة لفهم كيف تظهر الأشياء في الوعي. ويعتبر ليفيناس أن هذا التركيز على التمثيل يغفل الجانب الأخلاقي والوجودي، حيث يتجاهل تأثير العلاقات الإنسانية. لذلك نجد لا فيناس في فلسفته يدعو  إلى[16]:

التجاوز للتمثيل: ليفيناس يؤكد أن الوجود مع الآخر يتجاوز مجرد التمثيل الذاتي. فالتذاوت لا يُفهم فقط كموضوع يُمثل في الوعي، بل هو علاقة تتطلب مسؤولية والتزام تجاه الآخر.

الجانب الأخلاقي: يؤكد ليفيناس أن التذاوت هو أساس الأخلاق، حيث أن كل تجربة تُشكل من خلال العلاقة مع الآخر.

بالتالي، يرى ليفيناس أن ظاهراتية هوسرل، بالرغم من أهميتها، تظل محصورة في نطاق التمثيل، مما يغفل جوانب التذاوت والأخلاق التي تعتبر مركزية لفهم التجربة الإنسانية.

مقارنة بين العلاقة الأنطولوجية بين الذات والآخر عند كل من هوسرل وليفيناس:

العلاقة الأنطولوجية بين الذات والآخر كما تناولها كل من هوسرل وليفيناس كالآتي:

إدموند هوسرل:

الأنطولوجيا القصدية: يرى هوسرل أن الوعي دائمًا موجه نحو موضوعات، وبالتالي، فإن العلاقة بين الذات والآخر تتشكل من خلال هذه القصدية. الآخر يُفهم كموضوع يُمكن تمثيله في الوعي.

التمثيل والتجربة: الآخر يتواجد كموضوع تجريبي، مما يعني أن الوعي يمكن أن يدرك الآخر، ولكن دون الاعتراف بوجوده ككيان مستقل بالكامل. هذه العلاقة تُعبر عن وجود "الآخر" في إطار القصدية فقط.

الأفق المشترك:  رغم أن هوسرل يعترف بوجود الآخر، إلا أن فهمه يظل محصورًا ضمن إطار القصدية وتجربة الذات، مما يعكس علاقة تتسم بالتحليل الموضوعي.

إيمانويل ليفيناس:

الأخلاقية الأنطولوجية:

يذهب ليفيناس إلى أبعد من ذلك، حيث يعتبر أن الآخر ليس مجرد موضوع للتمثيل، بل هو شرط أساسي لفهم الذات. العلاقة مع الآخر هي ما يخلق هوية الذات.

التذاوت كعلاقة:

الآخر يُعتبر مصدرًا للأخلاق، وليس فقط موضوعًا للمعرفة. يرى ليفيناس أن التذاوت هو مسؤولية تجاه الآخر، حيث تُشكل العلاقة مع الآخر أساس الوجود الأخلاقي.

الحدود الفلسفية:

ينقد ليفيناس الفهم الهوسرلي للذات لأنه يتجاهل الأبعاد الأخلاقية. العلاقة مع الآخر تكون دائمًا ذات طبيعة إنسانية ووجودية، تتجاوز الوعي الفردي.

و عليه نجد أنه عند هوسرل الآخر كموضوع يُمثل في الوعي، حيث يعتمد على القصدية، بينما عند ليفيناس الآخر كشرط وجودي، يتحكم في الهوية ويُشكل العلاقة الأخلاقية. وفلسفيا، الأنطولوجيا  عند هوسرل تميل إلى التحليل الموضوعي، التركيز على المعرفة والتجربة.و  ليفيناس تأخذ طابعًا أخلاقيًا، حيث العلاقة مع الآخر هي مركز الفهم.

وعليه بينما يعالج هوسرل العلاقة بين الذات والآخر من منظور علمي وتجريبي، يذهب ليفيناس إلى أبعد من ذلك ليعالجها من منظور أخلاقي وجودي، مما يعكس فارقًا جوهريًا في الفهم الفلسفي لكل منهما.

ملاحظة مهمة:

في جميع كتبه يركز ليفيناس في نقده لظاهراتية التذاوت الأنطولوجية عند هوسرل وأنها تفتقر للتواصل التذاوتي كما عبر عنها هايدغر، بينما هوسرل يتعامل مع أشكال متنوعة من العلاقات وليس العلاقة بين الأنا والآخر فقط في مستوى التمثيل، هنا نلاحظ تحيزا غير موضوعي لهايدغر من قبل ليفيناس على حساب ظاهراتية هوسرل، لقد قدم إيمانويل ليفيناس نقدًا دقيقًا لظاهراتية التذاوت الأنطولوجية عند هوسرل، مشيرًا إلى افتقارها للتواصل التذاوتي، خاصة بالمقارنة مع فلسفة هايدغر. حيث نجده يعتبر أن هوسرل يركز على الذات كمرجع وحيد للمعرفة، مما يجعل العلاقة مع الآخر تقتصر على التمثيل والتجربة الفردية. هذا يعني أن الفهم الأنطولوجي لدى هوسرل لا يعكس التفاعل الإنساني الحقيقة.

وفقًا لليفيناس، فإن هذا التركيز يُغفل الأبعاد الأخلاقية التي تتطلب وجود الآخر كشرط أساسي لفهم الهوية. الملاحظ أن  ليفيناس يظهر ميلًا إلى فكر هايدغر الذي يركز على العلاقة بين الأنا والآخر، مشيرًا إلى ضرورة التواصل التذاوتي. حيث يعتبر ليفيناس أن هايدغر قد أدرك أهمية الآخر في تشكيل تجربة الوجود، بينما فشل هوسرل في ذلك. كما ينظر ليفيناس إلى هايدغر كمنحى أكثر عمقًا في فهم العلاقات الإنسانية، حيث تكون العلاقة مع الآخر هي التي تمنح المعنى للوجود.

يمكن القول إن ليفيناس يعبر عن تحيز تجاه فلسفة هايدغر بسبب تركيزه على التواصل والتذاوت، مما يجعله يعتبر أن هوسرل لا يقدم فهمًا كافيًا للعلاقات الإنسانية. هذا النقد يبرز الفرق في كيفية تناول كل من الفلاسفة لمفهوم الوجود والعلاقة مع الآخر.

الفلسفة علما دقيقا

ليفيناس كان لديه رأي نقدي بخصوص دعوة هوسرل لجعل الفلسفة علمًا دقيقًا توزع عبر ثلاث نقاط:

نقد الشمولية العلمية:

ليفيناس يرى أن هوسرل يسعى إلى تأسيس فلسفة تعتمد على الدقة العلمية والموضوعية، وهذا يتجاهل البعد الإنساني والأخلاقي الذي يعتبره جوهريًا. بالنسبة له، فإن الفلسفة يجب أن تتجاوز الطرق العلمية التقليدية لتشمل التجربة الإنسانية والتواصل مع الآخر.

الإفراط في التجريد:

يعتبر ليفيناس أن دعوة هوسرل لتكون الفلسفة علمًا دقيقًا تؤدي إلى الإفراط في التجريد، مما يفقد الفلسفة قدرتها على فهم التفاعلات الإنسانية والعواطف والتجارب الخاصة.

الأبعاد الأخلاقية والوجودية:

في نظر ليفيناس، الفلسفة يجب أن تركز على العلاقات الإنسانية والأبعاد الأخلاقية، وهو ما يفتقر إليه نهج هوسرل الذي يركز بشكل أكبر على القصدية والتمثيل.

بشكل عام، يرى ليفيناس أن دعوة هوسرل لجعل الفلسفة علمًا دقيقًا تفتقر إلى الأبعاد الأخلاقية والوجودية، مما يجعل الفلسفة قاصرة عن فهم التجربة الإنسانية بشكل كامل[17].

الظاهراتية عند هوسرل:علم الذات أو الفلسفة الذاتية:

أولا: ماذا عن الظاهراتية في فلسفة ليفيناس:

هناك قبول مبدئي أو ما يعبر عنه الاعتراف بالنطاق، فليفيناس يعترف بأن هناك عناصر من الظاهراتية في عمله، خاصة تلك المتعلقة بفهم التجربة والوجود. ومع ذلك، يعتبر أن فلسفته تتجاوز الظاهراتية التقليدية التي طورها هوسرل، كما يؤكد على الاختلاف الجوهري بنقده للقصدية، ليفيناس ينتقد التركيز الهوسرلي على القصدية والتمثيل، حيث يرى أن هذه الرؤية لا تأخذ في الاعتبار البعد الأخلاقي الذي يتضمن الآخر. بالنسبة له، العلاقة مع الآخر ليست مجرد تجربة موضوعية بل هي أساس الوجود. وعن  الظاهراتية المتعالية، ليفيناس يقدم مفهوم "الظاهراتية المتعالية"، حيث يركز على الآخر كشرط للوجود والعلاقات الإنسانية. هذا المفهوم يختلف عن الظاهراتية التقليدية في أنه يؤكد على الأبعاد الأخلاقية وضرورة التواصل مع الآخر أي هناك تطوير للفكرة. يعني إن ليفيناس يقبل ببعض عناصر الظاهراتية، إلا أنه يرفض الانحصار في التعريف التقليدي لها. يعتبر أن فلسفته تتطلب انفتاحًا على الأبعاد الأخلاقية والوجودية، مما يجعله يبتعد عن التصورات التقليدية للظاهراتية.

ثانيا: ليفيناس وملاحظات نقدية حول استخدام مصطلحات مثل "علم الذات" أو "الفلسفة الذاتية":

نقد الفلسفة الذاتية:

التركيز على الذات: يرى ليفيناس أن هوسرل يركز بشكل مفرط على الذات كمرجع للمعرفة والتجربة، مما يجعله يعتبر فلسفة هوسرل نوعًا من "علم الذات". هذه الرؤية تؤدي إلى إغفال البعد الأخلاقي والعلاقات مع الآخرين.

الافتقار للبعد الأخلاقي:

رفض الاختزالية: يعتبر ليفيناس أن الظاهراتية الهوسرلية لا تأخذ في اعتبارها الآخر ككائن مستقل، مما يعني أنها لا تستطيع أن تعكس التجربة الإنسانية بشكل كامل. ولذلك، فهو لا يقبل تسمية الظاهراتية عند هوسرل كفلسفة شاملة.

ليفيناس وتأملات ديكارتية لهوسرل:

رغم كل المفارقات إلا أنه هناك نقاط التقاء بين إيمانويل ليفيناس وإدموند هوسرل من خلال تأملات ديكارتية  والتي يمكن أن تبرز هذا الالتقاء:

التركيز على الذات والتأملات الديكارتية:

الذاتية: هوسرل، في تأملاته، يستمد الكثير من أفكاره من ديكارت، حيث يركز على الذات كمرجع للمعرفة. هذا التركيز يفتح المجال لتأملات في الوعي والتجربة.[18]

ليفيناس: رغم انتقاده لفلسفة هوسرل، إلا أنه يقر بأهمية التفكيك الديكارتي للذات كموضوع للمعرفة. ولكن ليفيناس يعتبر أن هذه الذاتية تفتقر إلى الأبعاد الأخلاقية والوجودية التي تعكس العلاقات مع الآخر

الوعي كشرط للمعرفة:

هوسرل: يرى أن الوعي هو القاعدة الأساسية التي تُبنى عليها كل المعرفة، ويُعتبر هذا جزءًا من التأملات الديكارتية حول الوجود والمعرفة.

ليفيناس: يوافق على أن الوعي يلعب دورًا في المعرفة، ولكنه ينتقد تركيز هوسرل على الوعي الفردي ويؤكد أن وجود الآخر هو ما يحدد هذا الوعي بشكل حقيقي.[19]

بينما يلتقي ليفيناس وهوسرل في بعض جوانب التأملات الديكارتية، يظل ليفيناس ناقدًا لمدى تركيز هوسرل على الذاتية دون الاعتراف بالأبعاد الأخلاقية والوجودية للعلاقات مع الآخر.

خاتمة:

كان يمكن للمرء أن يحسب على أصابع يد واحدة أولئك الذين- في نهاية عشرينيات القرن الماضي، في فرنسا- قد سمعوا بالفعل عن مؤسس الظاهراتية، إدموند هوسرل. من بينهم، يجب أن نذكر: ألكسندر كويري (Alexandre Koyré)، آبي بودان (abbé Baudin)، غابرييل بيفر ( Gabrielle Peiffer)، جان هيرينج (Jean Héring) ،، وإيمانويل ليفيناس (Emmanuel Lévinas) .

في عام 1911، كتب فيكتور ديلبوس (Victor Delbos) مراجعة ل Prolegomena to Pure Logic في مجلة الميتافزيقا والأخلاق، ولكن دون استيعاب كامل لحداثة ما كان يظهر في سماء الفلسفة. سارتر (jean paul sartre)، من جانبه، لم يسمع عن هوسرل لأول مرة حتى عام 1933، في حانة باريسية تسمى Le bec à gaz، من ريمون آرون  (Raymond Aron)، الذي كان آنذاك مقيما في المعهد الفرنسي في برلين حيث كان يعد أطروحته. وبدأ ميرلو بونتي (Merleau-Ponty) أيضا في قراءة هوسرل، على ما يبدو، فقط خلال ثلاثينيات القرن العشرين، ولا سيما في ترجمة تأملات هوسرل الديكارتية من قبل ليفيناس وبيفر.

أخيرا، أشاد بول ريكور(Paul Ricœur) بليفيناس، في مقال جيد نشر في عام 1980، باعتباره "مؤسس دراسات هوسرل في فرنسا"، معلنا أنه مدين بأول لقاء متعمق له مع هوسرل لقراءة أطروحة الدكتوراه التي دافع عنها ليفيناس في عام 1930 حول نظرية الحدس في فينومينولوجيا هوسرل. وهكذا لعب ليفيناس دورا رائدا في استقبال ظاهراتية هوسرل في فرنسا. منذ بداية ثلاثينيات القرن العشرين، في سن الخامسة والعشرين، كان يعمل بالفعل على تحليل الظاهراتية، وتفضيل مفهوم القصدية، في منظور متحمس يرحب بولادة نهج فلسفي جديد، " لفلسفة حية في منتصفها يجب على المرء أن يرمي نفسه ويتفلسف ". كما عبر ذات يوم ليفيناس في إظهار أنه لم ينقطع أبدا عن مواكبة الظاهراتية، وأنها تشكل أدق خيط مشترك يتم تداوله في عمله الفلسفي المعقد والمشتت.

وعلى عكس الاتجاهات التفسيرية العامة للتيارات الفلسفية وما أكثرها في عالمنا العربي والترويج لها  إلى حد ما في العشريات الأخيرة، إلا أن ظاهراتية هوسرل لا تتوقف حيث تبدأ أخلاقيات ليفيناس، ولكن مواجهتهما تؤدي إلى امتداد أخلاقي غير متوقع للمسار الظاهراتي الكلاسيكي.

ما لم يستطع ليفيناس تقبله من ظاهراتية هوسرل في وقت مبكر جدا هو تحيزها الفكري، أي الخيار الذي تم اتخاذه بحزم لصالح فهم الذات من الناحية الفكرية البحتة لفهم العالم. في لفتة يمكن من خلالها بالتأكيد قراءة تأثير هايدغر، حيث يجادل ليفيناس بأن أول اتصال للإنسان بعناصر العالم ليس نظريا بل عمليا، وحتى عاديا، فإن علاقتنا الأولى بكيان الوجود ليست علاقة المعرفة بل علاقة التلاعب والاستخدام. وبعيدا عن رؤية التطرف الهايدغري للظاهراتية على أنها إلهاء، رأى ليفيناس الشاب فيها منذ البداية، وسيرى فيها طوال حياته، إنجازه المتماسك. بالنظر إلى ذكرياته الأولى عن فرايبورغ، حيث ذهب للقاء هوسرل في نهاية عشرينيات القرن العشرين، قال ليفيناس  بأحد تصريحاته في عام 1992: "الشيء العظيم الذي وجدته هو الطريقة التي تم بها تمديد مسار هوسرل وتحويله من قبل هايدغر. للتحدث بلغة سائح، كان لدي انطباع بأنني ذهبت إلى هوسرل وأنني وجدت هايدجر "[20].

تكمن أهمية دراسة هذه العلاقة بين فلسفتين متعاقبتين، في إظهار كيف أن ما يبدو لنا اليوم، بعد فوات الأوان، كوهم بصري فلسفي، قد تم تبريره بالنسبة لليفيناس في سياق القراءة الأصلية لهوسرل، ولا سيما عقيدة المعنى الضمني، حيث يجد ليفيناس فكرة أن الحضور مع الأشياء يعني وجودا آخر معها، ممن هو غير مدرك للآفاق المترابطة الأخرى لهذه التأملات الضمنية التي لا يمكن اختزالها في التشييئ.

إن ما هو غير متوقع، والذي يضعنا أمامه أي تمثيل لكائن ما، يوضح أن الحياة تخفي في داخلها بعدا يفلت من التمثيل، بعدا خارجيا غير موضوعي. فإن الدور الذي ينسبه كل من الفيلسوفين [أي هوسرل وليفيناس] إلى فكرة الأفق يجعل من الممكن إلقاء الضوء على تفردهما الفلسفي فيما يتعلق بعلاقة الموضوع بالعالم. ينبع هذا الاختلاف من اختيار كل فيلسوف للتأكيد على الجوانب المعاكسة: عدم القدرة على التنبؤ بنظرية الأفق في حالة ليفيناس والتتبع المسبق في القصدية في حالة هوسرل.

على نطاق ضيق، هذا رفض لسيادة الوعي الحالي في الظاهراتية، ولكن على نطاق واسع يشهد هذا الاختلاف على اختلاف محتمل سينشأ لاحقا بين منظور ليفيناس الأخلاقي والموقف الظاهراتي. لذلك يجب فهم الاختلاف، ليس بقدر ما هو فاصل بين الفلسفتين، ولكن كامتداد لإحداهما بالأخرى، بقدر ما يعمل هذا المجال الكامن الجديد كاقتران بين المجال ما قبل الانعكاسي (الذي ينشأ بشكل غير متوقع في الحدث الأخلاقي) والمجال الانعكاسي للوعي المتعمد.

بمجرد الحصول على هذه المراجعة لنظرية المعنى الظاهراتية، والتي تميل إلى جعلنا منطقيين قبل وقت طويل من ساعة الحقيقة، تبدأ مغامرة فلسفية جديدة تسعى إلى تجاهل نظرية هوسرل المفرطة. من خلال الاقتراب من ثلاثة مستويات من ما قبل الانعكاسية:

(1) الفعالية مع التمتع الحساس بتواصل مع الآخر وهذا العالم  ككل وبالتالي  تُسبق الذاتية التأسيسية،

(2) الأخلاقية مع الآخر التي تشل الأنا كوجيتو،

وأخيرا (3) التسامي أو الألوهية اللانهائية التي تسبق عصرنا وكياننا.

هنا يسعى ليفيناس بالتالي إلى التدقيق في المعنى الأصلي للحياة وأولوية الآخر الذي لا يمكن اختزاله في الفكر.

كان ليفيناس قادرا على التفكير "من هوسرل ولكن أيضا ما بعده"، وفقا -مرة أخرى - للقول المأثور الهايدغري الشهير الذي بموجبه "فهم الظاهراتية يكمن فقط في فهمها كإحتمال".

ومن المفارقات أن هوسرل كان سيوفر مفتاح المشكلة الأنانية من خلال فضح البنية الواسعة لللانهاية الدلالية والزمنية التي تمر عبر الوعي المتعمد، ولكن دون اغتنام الفرصة لفتح الباب أمام الذات الخارجية الحقيقية. كانت هذه الفرصة التي لم يتركها ليفيناس، من خلال استغلال جميع الإمكانات غير المحققة لظاهراتية هوسرل، والتي لم يتوقف عن جمع تراثها على طول مسيرته الفكرية والفلسفية.

***

ا. مراد غريبي

.............................

المراجع:

Méditations cartésiennes: Introduction à la phénoménologie, 2000, bibliothéque textes philosophiques, Emanuel Levinas.

"Totality and Infinity" Springer Editions (4éme Edition, 2012)

« Otherwise than Being» Springer Editions (Edition 1981)

"Ethics and Infinity" XanEdu Publishing (First Edition,1995)

"The Time of the Other" Duquesne ,1987

"Ideas Pertaining to a Pure Phénomenology and to a Phénomenological Philosophy» 1st ed. 1982

The Crisis of European Sciences and Transcendental Phenomenology, Northwestern University Press ,1970.

-F. Lavigne, «Lévinas avant Lévinas. L’introducteur et le traducteur de Husserl», dans E. Lévinas, Positivité et transcendance, Paris, PUF, 2000

[1] ولد في  12  يناير 1906  وتوفي 25 ديسمبر، 1995، هو  فيلسوف فرنسي من أصل يهودي لتواني.

[2]  "Totality and Infinity"  في الفصل الأول، يتحدث ليفيناس عن الآخر وكيف أن العلاقات تحدد فهمنا للتاريخ. حيث صفحات 19-30 مثيرة للاهتمام. أيضا كتابه "Ethics and Infinity" الصفحات 40-55

[3]  "The Time of the Other"، يتناول في هذا الكتاب كيف يشكل الآخر تجربتنا للزمان، مع توضيح كيف يؤثر ذلك على فهمنا للمستقبل. الصفحات 10-30 تعتبر جدا مفيدة.

[4]  يمكن العودة إلى كتب ليفيناس التالية: "Totality and Infinity": ص  78-90، "Otherwise than Being" ص 47-60، "Ethics and Infinity" ص 34-45، "The Time of the Other" ص 12-25.

[5] "The Crisis of European Sciences and Transcendental Phenomenology"  في هذا الكتاب، يتناول هوسرل أزمة العلوم من منظور الظاهراتية التقومية. يمكنك الاطلاع على الصفحات 54-68 حيث يناقش العلاقة بين العلم والتاريخ.

[6]  "Totality and Infinity" في هذا الكتاب، يطرح ليفيناس رؤيته للظاهراتية المتعالية، حيث يركز على الآخر كشرط أساسي لفهم الوجود. يمكنك مراجعة الصفحات 83-100 للحصول على تفاصيل حول هذه الأفكار. و"Otherwise than Being"  هنا يستكمل ليفيناس تطوير أفكاره حول الظاهراتية المتعالية، خاصة في الفصل الثالث. يمكنك الرجوع إلى الصفحات 47-65. "Ethics and Infinity"  يتناول ليفيناس البعد الأخلاقي في الظاهراتية المتعالية، خاصة في المحاضرات التي تتعلق بالآخر. الصفحات 45-60 تحتوي على نقاشات مفيدة.

[7]:"Totality and Infinity" اقش ليفيناس فكرة الظاهراتية المتعالية ودورها في الأخلاق والعلاقات الإنسانية. يمكنك مراجعة الصفحات 83-100 للحصول على تفاصيل حول رؤيته. وفي كتاب   "Otherwise than Being" يتناول فيه تطور الأفكار حول الظاهراتية المتعالية وأبعادها الأخلاقية. الصفحات 47-65 تحتوي على نقاشات مهمة حول هذا الموضوع. كذلك كتابه "Ethics and Infinity" يتناول فيه ليفيناس أخلاقيات الظاهراتية المتعالية وتطبيقاتها. الصفحات 45-60

[8]  ص 83-100

[9]  ص 47-65

[10]  ص 34-45

[11]  ص 12-25

[12]  ص85-90

[13]  ص 49-50

[14]  ص 44-50

[15]  ص 15-22

[16]  "Totality and Infinity" يتناول ليفيناس نقده لفكرة التمثيل وكيف أنها تساهم في إغفال التذاوت كعنصر أساسي ص 90-100، وفي كتاب  "Otherwise than Being"  يناقش فيه ليفيناس كيف أن التذاوت يتجاوز فكرة التمثيل الذاتي، مركزًا على العلاقات الإنسانية ص56-65، وأيضا بكتابه  "Ethics and Infinity"، يتحدث عن الأخلاق والتذاوت ويشرح كيف تشكل العلاقة مع الآخر أساسًا لفهم الوجود، مما يتجاوز التمثيل ص42-50.  في حين في كتابه"The Time of the Other" يتناول كيف أن فهم الزمن والعلاقة مع الآخر يتجاوز مفهوم التمثيل. ص 15-25 .

[17]  Totality and Infinity يناقش ليفيناس في هذا الكتاب نقده لفلسفة هوسرل ودعواته للعلمية في الفلسفة. ص25-40، حيث يتناول الفرق بين الفلسفة كعلم وتجربة الحياة الإنسانية، وفي كتاب "Otherwise than Being"  يتناول فيه الأبعاد الأخلاقية والفلسفية ودعوة هوسرل للموضوعية العلمية. ص 40-55، وفي كتابه  "Ethics and Infinity"  يتحدث عن أهمية الأخلاق في الفلسفة وكيف تتجاوز الفلسفة العلمية التقليدية. ص 25-35.

[18] "Ideas Pertaining to a Pure Phenomenology and to a Phenomenological Philosophy"  1st ed. 1982 يناقش فيه هوسرل كيفية فهم الذات والوعي، ص 18-30.

[19]  "Totality and Infinity"  ليفيناس يتحدث عن تأثير الفلسفة الديكارتية على فهم الذات والوعي، ص 50-70 .

[20]  كما لاحظ ج.ف. لافيني، “ليفيناس قبل ليفيناس. مقدم ومترجم هوسرل”، في إ. ليفيناس، الإيجابية والتعالي، باريس، PUF، 2000، ص. 53

حين لا يوجد ركاب في التاكسي الذاتية الحركة، يمكنها ان تتوقف كثيرا لتقليل الزحام وتلوث الهواء. ولكن بعد ان تتحرك لإلتقاط ركاب قد تقوم بسحق احد المارة في احدى ممرات المشاة فتسبب له جروح خطيرة. السؤال هنا منْ يستحق الإشادة والثناء على أفعال السيارة في تقليل الزحام والتلوث؟ وعلى منْ يقع اللوم في الإضرار بالمارة؟

أحد الاحتمالات هو مصمم سيارة التاكسي الذاتية الحركة. لكن في عدة حالات، لم يكن مصممو السيارة قادرين على التنبؤ الدقيق بسلوك التاكسي. في الحقيقة، الناس عادة يريدون من الذكاء الصناعي ان يكتشف افكارا او خططا جديدة وغير متوقعة. اذا كنا نعرف بالضبط ما يجب ان يقوم به النظام، عندئذ نحن لا نحتاج للقلق من الذكاء الصناعي. اما الخيار الآخر هو ابداء الإعجاب بالتاكسي ذاتها او لومها. لكن هذه الانواع من انظمة الذكاء الصناعي هي بالأساس مقررة سلفا: سلوكها يتقرر بشفرتها الخاصة وببيانات الاستشعار الآتية حتى لو كان المراقبون يصارعون للتنبؤ بذلك السلوك. من غير المألوف الحكم أخلاقيا على ماكنة ليس لديها خيار.

طبقا للعديد من الفلاسفة المعاصرين، الافراد العقلانيون يمكن ان يكونوا مسؤولين أخلاقيا عن أفعالهم حتى لو كانت تلك الافعال مصممة سلفا بالكامل – سواء بعلوم الاعصاب او بالشفرة. لكن الكثيرين يتفقون بان الفرد الاخلاقي يجب ان تكون لديه قدرات معينة لا تتوفر لدى سائق التاكسي الذاتية الحركة. هذه القدرات تصوغ وتحدد مبادئه الخاصة. أنظمة الذكاء الصناعي تقع في منطقة وسطى غير مريحة بين الافراد الأخلاقيين والوسائل غير الأخلاقية.

كمجتمع، نحن نواجه لغزا: يبدو ان لا أحد ، او لا شيء مسؤول عن أفعال الذكاء الصناعي – وهي ما يسميها الفلاسفة فجوة المسؤولية. النظريات الحالية في المسؤولية الأخلاقية لا تبدو ملائمة لفهم المواقف التي تستلزم الاستقلالية او شبه الاستقلالية في أنظمة الذكاء الصناعي.

اذا كانت النظريات الحالية لا تعمل، فربما يجب النظر في افكار القرون الماضية التي نجد لها صدى لافتا اليوم.

الله والانسان

سؤال مشابه حيّر رجال اللاهوت المسيحيين في القرن الرابع عشر بدءا من توما الاكويني حتى دونز سكوتس ووليم اوكهام. كيف يمكن ان يكون الناس مسؤولين عن أفعالهم وعن النتائج اذا كان الإله القدير هو الذي صممها – ومن المفترض انه عرف ما سينتج عنها؟ فلاسفة القرون الوسطى آمنوا بان قرارات المرء تنتج عن ارادته التي  تعمل وفق نتاجات عقله. بعبارة اخرى، هم فهموا عقل الانسان كـمجموعة من القدرات الذهنية التي تسمح بالتفكير العقلاني والتعلم. العقل هو الجزء العقلاني، والمنطقي من اذهان الناس او ارواحهم. عندما يواجه شخصان موقفان متشابهان ويتوصلان الى نفس "الاستنتاج العقلاني" حول كيفية التعامل مع الاشياء، فهما يستعملان العقل. العقل هنا يشبه كود الكومبيوتر.

لكن العقل لايعطي دائما جوابا فريدا. احيانا، العقل يعطي فقط امكانات، والرغبة ستختار من بينها سواء بوعي او بدون وعي. الرغبة هي فعل الاختيار الحر من بين الإمكانات.

كمثال بسيط، في يوم ممطر، العقل يأمر باني يجب ان استخرج مظلة من خزانتي للحماية من المطر، لكنه لم يحدد أي واحدة. الرغبة تختار المظلة الحمراء بدلا من الزرقاء. مفكرو القرون الوسطى، يرون ان المسؤولية الاخلاقية تعتمد على ما يساهم به كل من الرغبة والعقل. اذا كان العقل يقرر ان هناك فقط فعل واحد ممكن،  فانا لن استطيع عمل اي شيء آخر. وبذلك انا لا أكون مسؤول أخلاقيا. قد يستنتج احد ان الله مسؤول اخلاقيا طالما عقلي يأتي من الله – مع ان اللاهوتيين في القرون الوسطى يتحفظون على نسبة المسؤولية لله. من جهة اخرى، اذا كان العقل لا يضع مطلقا اية قيود على أفعالي، عندئذ انا مسؤول اخلاقيا بالكامل. وطالما الرغبة تقوم بكل العمل، فان معظم الافعال تستلزم مساهمات من كل من العقل والرغبة .

بعض الناس عادة يقيّدون عملنا: من الوالدين والمعلمين الى القضاة والامراء، خاصة في ايام فلاسفة القرون الوسطى، بما يجعل من الصعب تحديد المسؤولية الأخلاقية.

الانسان والذكاء الصناعي

من الواضح، ان العلاقة بين مطوري الذكاء الصناعي ونتاجهم ليس بالضبط نفس الشيء كما هو بين الله والانسان. لكن اساتذة الفلسفة والكومبيوتر يرون شيئا موازيا مثيرا للاهتمام. وهو ان تلك الافكار القديمة قد تساعدنا اليوم في التفكير بالكيفية التي يساهم بها نظام الذكاء الصناعي ومطوروه في المسؤولية الاخلاقية. مطورو الذكاء الصناعي ليسو ذوي قدرة كالالهة وانما هم يوفرون "العقل" لنظام الذكاء الصناعي عبر اختيار وتنفيذ طرقه في التعليم وقدرات الاستجابة. من وجهة نظر المصمم، هذا "العقل" يقيّد سلوك الذكاء الصناعي ولكن لا يقرر ابدا سلوكه بالكامل.

معظم أنظمة الذكاء الصناعي الحديثة تُصمم لتتعلم من البيانات ويمكنها الاستجابة ديناميكيا لبيئتها. الذكاء الصناعي لديه "ارادة" تختار كيفية الاستجابة ضمن قيود "عقله". المستخدمون، المدراء، المنظمون، الاطراف الاخرى يمكنهم ايضا تقييد انظمة الذكاء الصناعي – مثلما الطريقة التي تقيّد بها سلطات الملوك الناس ايام فلاسفة القرون الوسطى.

منْ المسؤول؟

من الملفت ان هذه الافكار القديمة تتعامل جيدا مع المشاكل الاخلاقية المتعلقة بانظمة الذكاء الصناعي. فلو عدنا للسؤال الانف الذكر: منْ المسؤول عن فوائد وأخطار التاكسي الذاتية الحركة؟ هنا التفاصيل تكتسب اهمية. فمثلا، اذا كان مطور التاكسي يكتب بشكل صريح الكيفية التي يجب تتصرف بها التاكسي عند نقاط عبور المشاة، عندئذ سلوكها سيكون ناتج كليا عن "عقلها" وبهذا سيكون المطورون مسؤولين.

لكن لنفترض ان التاكسي واجهت مواقف لم تُبرمج بوضوح – مثل لو ان نقاط المشاة صُبغت بطريقة غير عادية او ان التاكسي تلقّت ارشادات مختلفة عن البيانات في بيئتها قياسا بما وضعه المطور في ذهنه. في حالات كهذه، ستكون افعال التاكسي ناتجة كليا عن "رغبتها" لأن التاكسي اختارت خيارا غير متوقع – وبهذا فان التاكسي مسؤولة.

اذا كانت التاكسي مسؤولة اخلاقيا، فكيف نصف الموقف؟ هل شركة التاكسي مسؤولة؟ هل كان من الواجب ان يتم تحديث كود التكسي؟ لم يتفق اثنان على جواب كامل. لكننا نعتقد ان الفهم الجيد للمسؤولية الاخلاقية هو الخطوة الاولى الهامة. افكار القرون الوسطى ليست فقط حول اشياء ذلك العصر. اولئك الثيولوجيون يمكنهم مساعدة الاخلاقيين اليوم في فهم التحديات الحالية لأنظمة الذكاء الصناعي حتى وان لم يكن التوغل فيها الآن عميقا.   

***

حاتم حميد محسن

The conversation,Sep 2024

 

تمهيد: يتعرض العالم هذه السنوات الى هزات كبيرة على الصعيد السياسي والمناخي ويشهد مخاضا كبيرا في اتجاه التخلص من النمط الامبراطوري الأحادي في الهيمنة الغربية الى النمط التعددي في تقاسم النفوذ. وفي المقابل تعيش الفلسفة المعاصرة نوعا من السجال الأكاديمي القوي محالة الخرج عن باراديغم اللغة والتوجه نحو باراديغم الفعل وتفكيك النزعات التحليلية البراغماتية والتوجه الجدي نحو النزعات الايتيقية والمقامات الحقوقية مصغية للنداءات المتكررة من الشعوب المضطهدة واستغاثات المقموعين في الكوكب ولقد ساهم التوجه الثوري الموروث منذ الأزمنة الحديثة وعصر الأنوار في ذلك. بيد ان العزم على انهاء الاستعمار المتفشي بألوان جديدة في الدول الضعيفة واتخاذ قرار فك الارتباط مع سياسة التبعية من طرف الحركات التحررية دفع الفاعلون في المشهد الفلسفي الى تبني خيارات جذرية واستخدام لغة المقاومة والتحرير والانكباب على اعداد الاستراتيجية الثورية الضرورية للانعتاق والتنمية والتدبير والتعمير.

جدلية العبودية والسيادة على الصعيد الدولي

في مقالة نشرت عام 1986 بعنوان "أدب العالم الثالث في عصر الرأسمالية المتعددة الجنسيات"، يختتم فريدريك جيمسون دراسته بمقارنة "الوعي الظرفي" للعالمين الأول والثالث من حيث جدلية السيد/العبد عند هيجل. ووفقاً لنظرية هيجل، فإن العبد "هو ما يمثله الواقع ومقاومة المادة حقاً" بينما السيد "محكوم عليه بالمثالية". وفي شرحه لهذا التحليل، يكتب جيمسون: "لقد لفت انتباهي أننا نحن الأميركيين، نحن سادة العالم، في نفس الموقف تماماً. إن النظرة من الأعلى مشلولة معرفياً، وتختزل موضوعاتها في أوهام مجموعة من الذاتيات المجزأة... إن هذه الفردية التي لا مكان لها، هذه المثالية البنيوية التي تمنحنا ترف الوميض السارتري، تقدم لنا مخرجاً مرحباً به من "كابوس التاريخ"، ولكنها في الوقت نفسه تحكم على ثقافتنا بالنزعة النفسية و"إسقاطات" الذاتية الخاصة. "إن كل هذا محروم منه ثقافة العالم الثالث، التي لابد وأن تكون ظرفية ومادية". إن هذا المقطع يبدو لي بمثابة مدخل مفيد لمناقشة العلاقة بين الفلسفة الغربية الحديثة وفلسفة التحرير الجديدة التي نشأت في المقام الأول من أميركا اللاتينية مع دوسيل. إن إحدى رؤى فلسفة التحرير هي أن الفلسفة الغربية هي فلسفة المركز، وفلسفة المدن الكبرى، وفلسفة الذكور الأوروبيين البيض. إن مفاهيمها ومشاكلها وإشكالياتها مرتبطة بالفلسفة نفسها، بينما تُحكَم وجهات النظر الأخرى والمواقف الأخرى على الهامش. ومن هذا المنظور، فإن الفلسفة الغربية هي فلسفة سادة العالم، والبلدان والثقافات والطبقات المهيمنة. فهل فلسفة التحرير إذن ـ وفقاً لاستعارة السيد والعبد التي ابتكرها هيجل ـ هي فلسفة العبيد، والمهيمن عليهم، والمضطهدين، وإذا كان الأمر كذلك، فما هي الرؤى الخاصة التي يكشف عنها هذا المنظور والتي فقدت في الفلسفة الغربية؟

إن المنظورية ذاتها تظهر كنظرة ثاقبة خاصة مفتوحة للمضطهدين، ولفلسفة التحرير. فالمضطهدون لديهم على الأقل إمكانية الوصول إلى معرفة أن آراء السادة تعمل على تبرير مصالحهم في الهيمنة وتخدمها، وأن المواقف الفلسفية المهيمنة هي مواقف طبقة معينة لها مصالحها، ومنظوراتها المحددة، وحدودها. باختصار، يعرف المضطهدون أن الأفكار المهيمنة، وأفكار الطبقة الحاكمة، والأفكار المهيمنة لثقافة ما، والفلسفة الغربية، هي أيديولوجية. وعلى هذا النحو، يكتسب المضطهدون وفلسفة التحرير وجهات نظر نقدية حول فكر المركز، وخطابات السادة في الغرب، والتي قد لا تكون في متناول أولئك الذين ينتمون إلى المركز ـ أو التي لا يمكن الوصول إليها إلا بصعوبة بالغة (أي أن ماركس جاء لصياغة مفهوم الأيديولوجية وطور نيتشه فلسفة منظورية). ثانياً، تزعم فلسفة التحرير أن الفلسفة الغربية مثالية وذاتية، وهي عبارة عن تجسيد لمنطقة وطبقة تريد أن تجعل من نظامها للهيمنة نظاماً مثالياً، وتريد أن تحط من قدر الاحتياجات المادية والمعاناة والقمع وإخفاءها، وبالتالي فهي ليست مادية بالقدر الكافي أو الصحيح. تقترح فلسفة التحرير أن الفلسفة الغربية هي فلسفة ذاتية مهيمنة، ذاتية تريد أن تهيمن على الطبيعة، والناس الآخرين، وفي نسخها الأكثر تطرفاً على مجموع الوجود نفسه. مرة أخرى، تسمح وجهات النظر الظرفية لفلسفة التحرير لها باكتساب رؤى قوية في المثالية والذاتية لفلسفة التحرير. عندما يختبر المرء القمع والحرمان المادي، فإنه يدرك بسهولة أكبر أهمية الاحتياجات المادية، والبعد المادي، ويمكنه بسهولة أكبر اكتشاف الوظائف المنطقية والمثالية والأيديولوجية للخطاب المثالي. عندما يتم اختزال المرء في موضوع ، فإنه يستطيع بسهولة أكبر فهم جدلية الخضوع وإدراك ديناميكيات الهيمنة الذاتية التي قد تساعد في إنتاج معارضة نقدية للذاتية نفسها باعتبارها محاولة إمبريالية من قبل الذات للسيطرة على العالم.

النظرية النقدية والفلسفة الشعبية

والآن، في هذه المرحلة، أود أن أقترح أن هناك أوجه تشابه واختلاف مثيرة للاهتمام بين تيار محدد من الفلسفة الغربية المعاصرة وفلسفة التحرير. وعلى وجه الخصوص، أريد أن أسلط الضوء على بعض أوجه التشابه والاختلاف بين النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت وفلسفة التحرير التي طورها إنريكي دوسل وآخرون في أميركا اللاتينية. وأنا أزعم أن التقليدين يركزان على جدلية الهيمنة والتحرير. وكلاهما ينتقد الفلسفة السائدة والنظرية الاجتماعية وكلاهما يقدم بدائل تقدمية لأنماط التفكير والخطاب الراسخة. ومع ذلك، تميل النظرية النقدية إلى أن تكون مركزية على العرق إلى حد ما وتعكس وجهات نظر الذكور الأوروبيين البيض. وعلى النقيض من ذلك، تركز فلسفة التحرير بشكل صريح على وجهات نظر المضطهدين وتعطي صوتًا للمجموعات والأفراد المستبعدين عادة من الفلسفة الغربية. ومع ذلك، فهم يضحون بالبعد العالمي الذي تضمنه النظرية النقدية والذي يمكن القول إنه ضروري لمشروع التحرير. أختتم ببعض التأملات فيما يتعلق بالتركيب المحتمل بين النظرية النقدية وفلسفة التحرير.

جدلية الهيمنة والتحرير

تعمل كل من النظرية النقدية وفلسفة التحرير وفقًا لجدل الهيمنة والتحرير. وكلاهما يحدد قوى الهيمنة واستراتيجيات التحرير. وأود أن أزعم أن الاختلافات في وجهات نظرهما الخاصة هي في المقام الأول نتاج للاختلافات في وضعهما التاريخي وقوى الهيمنة المختلفة التي واجهتها، في حين أن أوجه التشابه تنجم عن تهديدات مماثلة لرفاهة الإنسان تواجهها كلتا النزعتين. تناضل النظرية النقدية بغية التحرر من رأسمالية الدولة والاحتكار؛ من الفاشية؛ من رأسمالية المستهلك. اما فلسفة التحرير فهي تسعى الى التحرر من الإمبريالية؛ من هيمنة المركز؛ في كثير من الأحيان من الفاشية والرأسمالية ولكن الرأسمالية الإمبريالية أكثر، رأس المال كقوة استعمارية من الرأسمالية الاستهلاكية - على الرغم من أن هذه أيضًا يمكن القول إنها قوة هيمنة أيضًا تركيز مختلف من حيث نقد الهيمنة: الإمبريالية / الرأسمالية الاستهلاكية. أوجه التشابه: كلاهما يهاجم هيمنة الطبيعة؛ كلاهما يهاجم العقلانية الآلية وأنماط التفكير الآلية كأدوات للهيمنة؛ كلاهما يهاجم للذاتية؛ كلاهما يضع تأكيدًا رئيسيًا على الاحتياجات والمعاناة؛ كلاهما باختصار، كلاهما نظريات مادية ونقدية وتحررية تهاجم الفلسفة الغربية كجزء من جهاز الهيمنة. هذا يقودني إلى تقديم بعض الملاحظات النقدية على نقد الفلسفة الغربية التي طورتها فلسفة التحرير. مقتطف من مراجعتي لكتاب دوسل "فلسفة التحرير" إن إحدى السمات الأكثر استفزازاً وإشكالية في مراجعة كتاب "فلسفة التحرير" هي إعطائها الأولوية لتجارب وتصورات ونضالات الأطراف والمضطهدين داخل المركز. على سبيل المثال، يكتب دوسل: "في الأطراف فقط ـ في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية ـ يمكن أن يبدأ تجديد العلاقة بين الإنسان والطبيعة ـ إذا لم يكن الأوان قد فات بالفعل". أو يزعم طوال الوقت أن الأخلاق والجماليات والثقافة الشعبية للمضطهدين يجب أن تُعتَبر الأساس ونقطة الانطلاق لفلسفة التحرير. وهذا يثير مسألة نطاق وعالمية فلسفة التحرير. إن فلسفة التحرير إذا كانت مجرد تعبير عن منطقة معينة من العالم وفئة معينة من الناس، فإنها بكل تأكيد فلسفة جزئية ومحدودة ومقيدة، وبالتالي تتخلى عن محاولة الفلسفة تقديم وجهات نظر عالمية حول البشر واحتياجاتهم وموقفهم، والتحرير المحتمل. لا شك أن عالمية الفلسفة الغربية هي في معظمها عالمية زائفة تأخذ الخبرة الثقافية والفئات والنظريات الخاصة بجزء واحد من العالم والتي يتم تعميمها وإسقاطها على حقيقة عالمية، وجمال، وخير، وألوهية، وما إلى ذلك. ولكن أليس مشروع التحرير مرتبطًا بشكل أساسي بالعالمية؟ أليست السمات الأساسية لليوتوبيا المتمثلة في العدالة والمساواة والحرية والرفاهة وما إلى ذلك، والتي تنطبق على جميع البشر بغض النظر عن العرق أو الجنس أو الجنسية وما إلى ذلك؟ من المؤكد أن الحقوق الليبرالية كانت في كثير من الأحيان بمثابة أيديولوجيات لمجتمعات قمعية (في الواقع: أين لم تكن هذه هي الحال؟)، أو أقنعة لعدم المساواة والظلم القائم، ولكن ألا تشير على الأقل إلى المثل العليا العالمية للمجتمع الصالح والتحرر الإنساني؟

إن دوسيل يستخدم مصطلحات مثل العدالة والحرية في هذا الخطاب الأكثر عالمية، وقد يزعم أن فلسفة التحرير تتمتع بعالمية محتملة. والواقع أن فلسفة دوسل عالمية وتستمد قوتها من الفلسفة الأوروبية. ويثبت عمله الخاص أن التوليفات الإبداعية بين فكر المركز والمحيط ممكنة. ولكن ليس من الواضح ما إذا كانت فلسفة التحرير تسعى إلى اكتساب مكانة الفلسفة العالمية أم أنها تكتفي بالبقاء تعبيراً عن ثقافة وطبقة محددة من المضطهدين. وربما يزعم دوسيل الآن أن من السابق لأوانه أن ندعو إلى العالمية أو الفلسفة العالمية، وأن الوجود القمعي للمجتمعات والخطابات المهيمنة حالياً والحاجة إلى الإطاحة بها لا يسمحان بعد بمثل هذا المشروع. ولكن يبدو لي أن إحدى مهام فلسفة التحرير تتلخص على وجه التحديد في التوسط بين المطالب المشروعة بأن تكون الخطابات محددة تاريخياً وذات أهمية سياسية فورية والمطالب الأكثر تقليدية بالعالمية. يبدو لي أن دوسيل، على الأقل في الكتاب قيد المراجعة، لم يول هذه المعضلة اهتمامًا كافيًا. وفي هذا الصدد، أود أن أقترح أن الادعاءات بأن الفلسفة يجب أن تكون خطابًا عالميًا للحقيقة في مقابل الادعاءات بأنها لا يمكن أن تكون إلا تعبيرًا عن شعب معين، أو طبقة، داخل ثقافة معينة يمكن ويجب تفكيكها. أي أنه في بعض السياقات ولبعض المهام يجب على الفلسفة أن تسعى إلى العالمية، بينما في سياقات أخرى من المناسب تمامًا أن تكون الفلسفة مستنيرة بخصوصية (جزئية سياسياً وتقدمية مثاليًا). ولعل من الأهمية بمكان في السياق التاريخي العالمي الحالي أن تعمل مناطق مثل أمريكا اللاتينية على تطوير فلسفات تعبر عن تجاربها واحتياجاتها وإدراكاتها ونضالاتها من أجل التحرير ضد الهيمنة الإمبريالية والإمبريالية الجديدة التي كانت مصيرها لقرون. في هذا السياق، يتردد المرء في انتقاد فلسفة التحرير من منظور المركز، لأن الفلسفة في أجزاء أخرى من العالم قد تكون لها مهام ووظائف اجتماعية وأهداف مختلفة تمامًا عن تلك الموجودة في الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية. في الواقع، تبدو لي بعض الاعتراضات التي أثارها الفلاسفة في الولايات المتحدة على نظرية دوسل، وعلى مشروع فلسفة التحرير، أيديولوجية بحتة. على سبيل المثال، يشير تقرير عن ندوة الجمعية الفلسفية الأمريكية حول فلسفة دوسل للتحرير نُشر في نشرة صادرة عن جمعية الفلسفة والتحرير إلى أن الفلاسفة في الولايات المتحدة زعموا أن طريقة دوسل في استنباط الفئات كانت دائرية، واشتكوا من أنه جمع بين الميتافيزيقا والأخلاق بطريقة مرفوضة. ولقد أثارت هذه الانتقادات تساؤلات أخرى، مثل ما إذا كان صوت المضطهدين ينبغي أن يتمتع بسلطة خاصة في الميتافيزيقا، واستشهد أحد المشاركين بـ "التحيز ضد "الوجوه الشقراء"" وتساءل لماذا أهمل مناقشة القمع في أماكن مثل أيرلندا الشمالية أو الشرق الأوسط. إن مثل هذه الانتقادات تبدو لي مشكوك فيها على أسس فلسفية وسياسية. فالبنية المفاهيمية لفكر دوسيل منهجية وهجيلية إلى حد ما، وبالتالي فمن الطبيعي أن تترابط مفاهيمه وتتداخل مع بعضها البعض (وهذا الفكر "دائري" فقط بالنسبة لمن لا يعرف شيئاً عن الديالكتيك). ومن الأهمية بمكان في فلسفة التحرير أن يتم تحطيم الحدود بين الميتافيزيقا والأخلاق والسياسة. فهل رغبة الفلاسفة الغربيين في الاحتفاظ بهذه الحدود التقليدية مرتبطة برغبات الشركات المتعددة الجنسيات والسياسيين الإمبرياليين في الحفاظ على حدود أسواقهم ومجالات نفوذهم السياسية سليمة؟ وهل منطق الهيمنة الذي يميز الكثير من الفكر الغربي مرتبط بهياكل واحتياجات أنظمة الهيمنة في الغرب؟ هذه هي نوعية الأسئلة التي تحاول فلسفة التحرير أن تطرحها، والتي من المستحسن أن نفكر فيها بأنفسنا. إن الانتقادات التي توجه إلى دوسيل بأنه متحيز ضد "الوجوه الشقراء" تفشل في إدراك رغبته في إعادة تقييم فئات الأخلاق والجماليات والسياسة التي ينتمي إليها المضطهدون. ولكن في الدفاع عن دوسل هنا ضد منتقديه، لا أقصد تأكيد أطروحات دوسيل أو أفكاره دون نقد. فكل فلسفة هي تعبير عن تجربة وتاريخ شخص معين، وهي محدودة بتجارب وتاريخ ذلك الشخص. إن هذه الآراء تبدو لي وكأنها تعبير عن تجارب في ثقافة معينة وليست حقائق عالمية ـ ولو أن هجمات دوسل على النظام الأبوي، والثقافة الذكورية، والالتزام بتحرير المرأة تشكل بلا شك موقفاً مستنيراً للغاية في الثقافات الذكورية في أميركا اللاتينية. وقد يجد آخرون داخل الوسط أن ادعائه بأولوية السياسة داخل الفلسفة أمر غير مقبول أو قد يعترضون على استخدامه لفئات ماركسية مثل الكلية، والجدلية، والأيديولوجية، والطبقة، وأولوية الاقتصاد. ولكنني شخصياً أجد أن الترابط والوساطة بين النظرية والممارسة هي الجزء الأكثر إحباطاً في فلسفة التحرير. وهنا يحمل كتاب دوسل سمات فلسفة المنفى، المنفصلة عن حركة سياسية فعلية يشارك فيها بنشاط. إن حقيقة أن الفيلسوف يعيش في المنفى، منقطعاً عن الحركات السياسية في بلاده، غالباً ما تجبره على الكتابة على مستوى أكثر تجريداً ونظرية، وتجنب متعة ربط أفكاره بالصراعات السياسية المباشرة التي يشارك فيها. وعلى هذا فإن كتاب دوسل "فلسفة التحرير" يتسم بالشمولية والتدريسية، والمنهجية الشديدة ـ وإن كان أيضاً مستنيراً بالعاطفة ومليئاً بالرؤى الحادة والأفكار الصعبة. ولكنه ليس في الحقيقة كتاباً سياسياً أو كتاباً تمهيدياً عن التحرير. ولعلنا لا ينبغي لنا أن نتوقع من الفيلسوف أن يكتب مثل هذه الكتب. ولعل ممارسة التحرير لابد وأن تكون نتاجاً لنضال المضطهدين من أجل حريتهم وكرامتهم. ولعل كل ما يستطيع فيلسوف التحرير أن يفعله، بل وينبغي له أن يفعله، هو النضال مع أولئك الذين يكافحون، ودعمهم، والدفاع عنهم، فضلاً عن مهاجمة أعدائهم ونظام العبودية والهيمنة الذي لابد من استئصاله إذا كان للإنسانية أن تعيش حياة من الحرية والكرامة. ولكن الفلسفة الثورية كثيراً ما فعلت أكثر من ذلك. إن دوسيل يهاجم إرنست بلوخ وهربرت ماركوزه، على نحو غير صحيح في نظري، باعتبارهما فيلسوفين سلبيين يعتمدان في المقام الأول على جدلية نقدية. والواقع أن هذين الفيلسوفين لم يكتفا بتطوير فئات الأمل والتحرر والثورة، بل إنهما قدما تصورات ومخططات لما أسماه بلوخ "اليوتوبيا الملموسة" ووصفه ماركوزه بأنه "بدائل". ألا ينبغي لفلسفة التحرير أن تهتم أكثر بالبديل، المجتمع الجديد، أي المجتمع الآخر للمجتمع القائم على الهيمنة؟ أم أن هذه هي مهمة الناس في النضال، والممارسة الثورية، وليس الفيلسوف الذي ربما ينبغي له أن يكتفي بالمهمة الأكثر تواضعاً المتمثلة في التعبير عن أهداف الناس في النضال والدفاع عن هذه النضالات ضد النقد والهجوم. فما هو الدور الذي تلعبه الفلسفة في ممارسة التحرير؟ وأعتقد أن أولئك منا الذين يعيشون في المدن الرأسمالية المتقدمة يجب أن يعترفوا بأننا لا نملك إجابات جيدة على هذه الأسئلة، وأن المحاولات التي تبذل في المركز والأطراف لمعالجة هذه الأسئلة تشير إلى أهمية وضرورة نوع فلسفة التحرير التي يحاول دوسيل وآخرون تطويرها.

فلسفة التحرير والنظرية النقدية: هل هي تركيبة جديدة؟

في هذه المرحلة، وفي الختام، أعتقد أن إمكانيات التركيب المثمر بين النظرية النقدية وفلسفة التحرير قد بدأت تظهر. إن النظرية النقدية وفلسفة التحرير تتقاسمان وجهات نظر نقدية حول أنظمة الهيمنة القائمة، كما تتقاسمان شغف التحرير، ورسم البدائل التحررية للمجتمعات القائمة. وكما ذكرت في وقت سابق، فإن انتقاداتهما للهيمنة تكمل بعضها البعض، وتجلب تركيزات تكميلية: تقدم فلسفة التحرير نقدًا أكثر شمولية للإمبريالية، وأنظمة الهيمنة على العالم ــ وهو غائب بشكل لا يمكن تفسيره عن معظم النظرية النقدية باستثناء التعليقات العرضية لماركوز في الستينيات ــ في حين تقدم النظرية النقدية تركيزًا أكثر شمولية على الطرق التي تنتج بها الصناعات الثقافية، والتنشئة الاجتماعية الأبوية، وهيمنة رأس المال، السلع، والتشييد، ونهاية الفرد. ولكنهم يقدمون أيضاً وجهات نظر تكميلية حول التحرير. إن فلسفة التحرير تعبر عن بُعد من أبعاد التحرير أهملته النظرية النقدية إلى حد كبير: التحرير من القمع العنصري، من القمع والهيمنة من نظام الهيمنة الغربي ـ الرأسمالي، الأبوي، العنصري، والإمبريالي. ورغم أن النظرية النقدية تعارض مثل هذه الظواهر أيضاً، فإنها تميل إلى أن تكون إلى حد ما متمركزة حول الذات وتركز على التحرير داخل المجتمعات الرأسمالية الغربية، والتحرر من أشكال الهيمنة المحددة داخل هذه المجتمعات الرأسمالية، ورغم أن المنظرين النقديين الأكثر تطرفاً، مثل أدورنو وماركوز، دعوا إلى إلغاء النظام الرأسمالي وأرادوا إعادة الهيكلة الاجتماعية الشاملة، إلا أنهم نادراً ما ركزوا عليها وأتموا تقويضها.

خاتمة

إن إحدى الطرق الواضحة للتعبير عن الاختلافات في المنظور بين النظرية النقدية وفلسفة التحرير هي الإشارة إلى أن النظرية النقدية، تفترض منظور "العالم الأول" بينما تفترض فلسفة التحرير منظور "العالم الثالث". ولكن هذا التمييز ليس مرغوباً فيه تماماً، لأن مثل هذه التعميمات تحجب حقيقة مفادها أن هناك العديد من الاختلافات المتضاربة في وجهات النظر في كل من الفلسفة الغربية والعالم الثالث، وأن هناك اختلافات داخل الفلسفة الغربية والعالم الثالث قد تكون جوهرية بقدر الاختلافات بين المجالين بشكل عام. وعلاوة على ذلك، بمعنى آخر، نحن نعيش جميعاً في عالم واحد، وبينما نريد بالتأكيد التعبير عن الاختلافات، فإننا نريد أيضاً استكشاف القواسم المشتركة، وهذا يبدو لي بمثابة مساهمة مفيدة محتملة لمشروع الفلسفة الغربية العالمي. وهذا يقودني إلى استنتاجي. أود أن أزعم أن كلاً من فلسفة التحرير والنظرية النقدية لديها وجهات نظر تحررية قوية وخطاب تحرير يمكن تلخيصه بسهولة. أود بالتأكيد أن أناقش المزيد من الاختلافات في وجهات النظر حول التحرير وأن أستمع إلى انتقادات زملائي للنظرية النقدية، ولكنني أميل إلى الاعتقاد بأن وجهات نظر النظرية النقدية وفلسفة التحرير متوافقة وقد تؤدي إلى تركيبة جديدة يمكن أن تعزز قضية التحرير في كل من المركز والمحيط، في العالم الأول والثاني والثالث وقد تساعد في إنتاج عالم واحد حيث يمكننا أن نعيش معًا في سلام واحترام متبادل وتفاهم. فكيف تساعد النظرية النقدية وفلسفة التحرير على الاسناد الفكري العملي لمشروع المقاومة والصمود عند الشعوب التي تتعرض للابادة والتطهير والتهجير القسري والاستعمار الاستيطاني من طرف العدو الصهيوامبريالي؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

تمهيد: في الفلسفة، تقوم الواقعية على الاقتناع بأن الواقع موجود خارج الفكر ومستقل عنه. ولذلك فإن المصطلح يتعارض مع المذهب المعاكس: المثالية. ومع ذلك، فإن التمييز بين هذين الاتجاهين دقيق. يؤكد أفلاطون أن الأفكار المعقولة التي نسخها العالم المحسوس هي أفكار حقيقية، في حين أن أرسطو، الواقعي، يجعل فئات الفكر خصائص للوجود. أثناء النزاع حول الكليات في العصور الوسطى، أكد الواقعيون (غيوم دي شامبو، وإلى حد ما توماس الأكويني وجون دونز سكوت) على أن المفاهيم تأتي بعد الأشياء (ما بعد الكياناتالعينية) وليس قبلها (ما قبل العينية)، كما يؤكد الاسمانيون (وليام أوكهام) أو في نفس الوقت (في العينية) كما يعتقد المفاهيميون (بيير أبيلارد). يجعل نقد كانط من الممكن الجمع بين كل من الواقعية التجريبية والمثالية المتعالية، حيث يتم تأسيس الظواهر علميًا بينما يظل الشيء في حد ذاته بعيد المنال عن المعرفة. لكن بعد تحررها من الميتافيزيقا، تؤكد الواقعية العلمية للقرن العشرين، التي تطالب بها دائرة فيينا، حقيقة العالم وإمكانية تمثيله بأمانة من خلال اللغة. وفي السياسة، تهدف الواقعية، وخاصة سياسة الواقعية الألمانية التي افتتحها بسمارك، إلى أن تكون مناهضة للطوباوية والمثالية. في علم الجمال، تشير الواقعية إلى حركة تصويرية (يهيمن عليها كوربيه) وخاصة الأدبية، التي ظهرت في فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر كرد فعل ضد الرومانسية. وحرصًا على تمجيد الواقع، يعتمد الكتاب المصنفون في هذه الحركة (بلزاك، وفلوبير، وزولا) بشكل خاص على حاسة الملاحظة القوية والتوثيق القوي لإنتاج أعمالهم. وفي القرن العشرين، عارضت السريالية هذه الجمالية الواقعية من خلال جعل عالم الأحلام ينتصر على الواقع. لكن الواقعية هي موقف، وليست فقط عقيدة فلسفية. هل تستمر الأشياء من حولنا في الوجود عندما ندير ظهورنا لها؟ وهذا ما نفكر فيه بشكل عفوي. لكن ما هو أصل هذا الاعتقاد الذي يبني إنسانيتنا، بحسب إتيان بيمبنيت؟

دلالة الواقعية

الواقعية هي، من بين أمور أخرى، الإيمان بوجود العالم. واقعيًا، أعتقد أن العالم موجود بشكل مستقل عني. إذا لم أعد أنظر إلى التفاحة، فلا أعتقد أن التفاحة لم تعد موجودة. وعندما أنظر إلى التفاحة، أحكم أن كل ما أراه هو بالفعل هكذا لأن التفاحة لها هذه الخصائص، وهذه الطرق في الوجود أو الظهور بشكل مستقل عما قد أؤمن به أو أفكر فيه. كما أنني أعتبر أن البشر الآخرين لديهم أفكار مماثلة لي، ويشكلون أفكارًا عني. إنهم قادرون على أن ينسبوا لي المعتقدات والرغبات والنوايا، وأنا أتصرف معهم بالمثل. يعتبر بيمبنيت من المسلمات الأطروحتين اللتين طورهما في كتابه "الحيوان الذي لم أعده". أولا وقبل كل شيء، كان البشر حيوانات، ولم يعودوا حيوانات. وهذا يعني أن الدخول إلى الإنسانية يتكون من إعفاء الإنسان من القوانين التطورية والسلوكية التي تحكم المملكة الحيوانية. وهذا لا يعني أن البشر لا يخضعون لقوانين داروين، مثل جميع الكائنات الحية، ولكن يجب فحص هذه الشرعية فيما يتعلق ببعد أكثر جوهرية للإنسان، وهو الدنيوية، التي تسمح بها وساطة اللغة. فالبشر في الواقع، لأنهم يعيشون في اللغة، يتشاركون في عالم واحد، وهذا هو البعد الأساسي للوجود الإنساني. وبهذا المعنى، يمكن للبشر أن يتأملوا ماضيهم الحيواني من العالم الفريد بالنسبة لهم. لذلك أستطيع، كإنسان، أن أتحدث عن نفسي على أنني "الحيوان الذي لم أعد أنا عليه". ثم ينسب بيمبنيت الظاهرة إلى الحيوانات. وهذا نتيجة للأطروحة الأولى. محرومة من العالم، أو "فقيرة العالم" حسب تعبير مارتن هيدجر، يتم توجيه الحيوانات بأحاسيس محددة في بيئات محددة. إنهم مثاليون، بمعنى أنه إذا كان لديهم عالم، فإنه سيتم اختزاله إلى بيئة تحددها لعبة الدوافع والاحتياجات. إنهم يفتقرون إلى وساطة اللغة ليتمكنوا من تعيين العالم على أنه آخر، وموجود، بشكل مستقل عن دائرة الاحتياجات والدوافع. ثم يطرح السؤال كيف أصبحنا واقعيين. لأننا كنا حيوانات قبل اختراع العالم. ولكن كيف يمكننا أن نخترع العالم من حرمانه؟

لقد طرح بيمبنيت هذه المشكلة في كتابه "الحيوان الذي لم أعد أنا عليه" بهذه الشروط: الواقعية هي مشكلة وتظهر كضربة قوة ميتافيزيقية حقيقية – ضربة قوية للشيء في حد ذاته في تاريخ الحياة. كيف يمكن للحيوانية أن تنفتح على ما ليس هو ذاته؟ كيف تكون الواقعية ممكنة من المثالية الحيوانية الظاهرية؟

الواقعية كتجاوز للعالم الاجتماعي

إن المشكلة تكمن في تحديد أصل الاعتقاد الذي يميزنا عن الحيوانات، وهو الإيمان بوجود العالم. لذلك يركز البحث على الموقف الذي يجب، وفقًا لمنهج هوسرل الفينومينولوجي، "وضعه بين قوسين" من أجل وصف التجارب الواعية بشكل صحيح. ووفقا لهذه الطريقة، على سبيل المثال، إذا كنت أرغب في وصف الظواهر الإدراكية بشكل صحيح، فيجب أولا أن أهتم بالطريقة التي تظهر بها بالنسبة لي. ومن ثم فمن الملائم أن ننحي جانبًا فكرة أنها تفاحة أراها، لوصف الظواهر، أي الطرق التي تظهر بها التفاحة لي. إنها طريقة لتوجيه الانتباه، والتي تتكون من إلغاء تحديد مربع "وجود العالم" في وحدة المعتقدات، إذا جاز التعبير. ان الأطروحة التي تم الدفاع عنها في هذا العمل هي كما يلي: إن الإيمان بوجود العالم ينبع من التمسك بقيم مجموعة من البشر. يتم تمكين هذا الالتصاق باللغة. تعلم الإيمان بالعالم هو تعلم كيفية التعامل مع الوظيفة المرجعية للكلمات. ولكن للتعامل مع الكلمات بطريقة تعطيها مرجعًا، يجب أن يتأكد المرء من امتلاكه السلطة الكافية لذلك. ومع ذلك، فإن المجموعة فقط هي التي تسمح لأحد أعضائها بالحصول على هذه السلطة. لأنه في عالم مشترك واجتماعي تأخذ الكلمات معنى (يمكن أن يكون لها مرجع). تتجلى سلطة المجموعة على الفرد في مؤسسة اللغة. أنا لا أقرر معنى الكلمات، ولا حتى مرجعيتها. ولذلك يتم تجاوز الفرد بطريقتين. لقد تجاوزه العالم الذي يجب أن يتعرف على مثاليته. لقد تجاوزته المجموعة.

الواقع يأتي من السلطة فينا

تكمن سلطة اللغة في حقيقة أن الكلمات لها قوة. وهذا ما يسمى بالبعد الإدلائي للغة. على سبيل المثال، يمكننا أن نعد، وأن نأمر. ويتم بناء العالم الاجتماعي، إذا اتبعنا سيرل وكريبك، من خلال الالتزام بعدد معين من القواعد التي ليست سوى إدامة فعالية الأفعال الإجرائية. ويأتي المرجع في وقت لاحق. ولأن الفرد مدعوم بالعالم الاجتماعي وسلطته، فهو يملك السلطة لتسمية أشياء العالم، والاعتقاد بأنه على علاقة بعالم قائم كما هو. الواقعية هي “لعبة لغوية” أو “خيال متعالي”. إن آلية الاهتمام المشترك، التي تناولها المؤلف في الفصل التاسع، توضح بشكل كافٍ هذا البعد الذي من خلاله نتعلم المرجعية في الوجود مع الآخرين. إن الواقعية والجوهرانية (الاعتقاد بأن الكلمات تشير إلى جواهر تتجاوز الأشياء التي تواجهها فعليًا) هي “مواقف طبيعية”، بمعنى أنه يكفي الانتماء إلى مجموعة بشرية لتطويرها. نحن لا نتعلم أن نكون واقعيين أو جوهرانيين، بهذا المعنى، بالطريقة التي نتعلم بها أن نكون هوسرليين. هذا لا يتطلب أي التنشئة الاجتماعية الخاصة. لكن تظل الحقيقة أنه سيكون من الخطأ، بحسب المؤلف، الاعتقاد بأن المواقف الطبيعية بديهية. إن الموقف الطبيعي “ليس شيئًا طبيعيًا بمعنى أنه ليس شيئًا معطى: فهو يتلقى كل قوة تم فرضها من المؤسسات البشرية ومعياريتها الخاصة”.

العالم الاجتماعي والعالم المادي

يعتمد المؤلف على تعليق الببليوغرافيا، والتي على الرغم من عدم تضمينها بشكل منهجي في نهاية العمل، إلا أنها وفيرة. تمامًا كما يمكننا أن نرى في كتاب «الحيوان الذي لم أعد أنا»، إذا كانت موطن أفكاره هو بالتأكيد الفينولوجيا (ميرلو بونتي) والفلسفة الاجتماعية (دوركهايم)، يعرف بيمبنيت بشكل خاص كيفية الاستفادة من التعليقات المتعمقة والدقيقة للمؤلفين في التقليد التحليلي. سوف نقدر الاستخدام الجيد جدًا لكتاب العقل والعالم من تأليف جون ماكدويل، بالإضافة إلى أهمية الإشارة إلى تايلر بيرج، وهو مؤلف نادرًا ما يستشهد به الفلاسفة الفرنسيون ذوو الإقناع غير التحليلي. وقد خصص جزء كبير من الكتاب لاتخاذ موقف فيما يتعلق بالفلسفات الأخرى، مثل المذهب الطبيعي، أو البراغماتية المتعالية، أو فلسفة هيدجر. ومن هذا المنطلق، فهي قراءة غنية وموحية للغاية. على سبيل المثال، فإن إحياء النقاش حول القواعد في الفصل العاشر من خلال قراءة كريبك لفيتجنشتاين، والذي قدمه جاك بوفيريس في فرنسا في كتابه قوة القاعدة عام 1987، هو أمر محفز للغاية. يبدو بيمبنيت حريصًا على أن يكون جزءًا من تقاليد الفلسفة الفرنسية من خلال تمييز نفسه عن الخيارات الفلسفية التي لها أهمية تتجاوز الإطار الفرنسي. التعليق هو بلا شك الطريقة المركزية للمؤلف. لكن طموح العمل هو اعتبار الواقعية “كموقف أو شكل من أشكال الحياة، وليس كمذهب أو نظرية فلسفية”. صحيح أن المؤلف يعتمد أيضًا على العمل في علم السلوك وعلم النفس التنموي لتعريف الواقعية باعتبارها موقفًا طبيعيًا، من خلال إظهار أنها غير موجودة عند الحيوانات، وأنها نشأت عند الأطفال. وبالتالي فإن الإيمان بالعالم الاجتماعي سوف يسبق، وفقًا لبيمبنيت، الإيمان بالعالم المادي. بمعنى آخر، لا يمكن الإيمان بعالم الأشياء، بخصائصها الفيزيائية البسيطة، إلا إذا آمنا بالعالم الاجتماعي (هكذا، من حيث المعتقدات، أعيد ترجمة أفكار السلطة والتمسك بالقوة الاجتماعية). بمعنى آخر، يعتمد الإيمان بعالم الأشياء وجوديًا، وليس فقط تجريبيًا أو نفسيًا، على الإيمان بالعالم الاجتماعي. لكن مثل هذه الأطروحة لها عواقب تجريبية. على وجه الخصوص، يترتب على ذلك أنه من المستحيل فهم أشياء العالم المادي دون الالتزام بالعالم الاجتماعي، وعلى وجه الخصوص، دون القدرة على تعلم التحدث، في إطار التنشئة الاجتماعية ووفقًا للطرائق الذاتية المتبادلة. كما تدرس العلوم المعرفية، من بين أمور أخرى، قدراتنا على تفسير سلوك الآخرين (علم النفس العادي) وفهم الأحداث في العالم المادي، وخاصة من خلال تحديد الروابط السببية (الفيزياء البسيطة). في مقال نشر عام 1997 بعنوان "هل الأطفال المصابون بالتوحد متفوقون في الفيزياء الشعبية؟"، يشير بارون كوهين إلى أنه إذا تطور علم النفس العادي تقريبًا في نهاية السنة الأولى من نمو الطفل، فإن الفيزياء الساذجة، أي القدرة على إسقاط العلاقات السببية على الأشياء وتوقع الحركات و تظهر ردود أفعال الأشياء في العالم في وقت أبكر بكثير في تكوين الطفل الصغير. علاوة على ذلك، فإن الأطفال الذين يعانون من اضطرابات النمو الشاملة يكون أداؤهم أفضل في الفيزياء الساذجة من الأطفال الآخرين، على الرغم من أنهم يعانون من نقص حاد في علم النفس الساذج، مما يؤدي إلى إعاقات لغوية غير محددة (عسر القراءة، وعسر الكلام، وما إلى ذلك). ماذا يجب أن نستنتج من هذا، إذا أردنا مع ذلك أن يظل كل هذا متوافقًا مع إحدى الأطروحات المركزية لكتاب بيمبنيت ، الذي بموجبه تجاوز العالم بشكل عام، وبالتالي تجاوز العالم المادي، يفترض تجاوز العالم الاجتماعي، أو استعادته بأسلوب الكتاب، الذي بموجبه يبرز عالم الأشياء والأشياء ضده خلفية تجاوز العالم الاجتماعي؟

علينا أن نستنتج الأمور التالية: أولاً، إن معتقدات الأطفال الذين يعانون من اضطرابات النمو الشاملة حول العالم المادي هي معتقدات أولية، تختلف عن معتقدات الأطفال الذين لا يعانون من هذه الاضطرابات. هناك نوعان من المعتقدات حول الأشياء في العالم المادي. من ناحية، المعتقدات الواقعية، التي يضمنها بنية دماغية سليمة ونمو عصبي مناسب (ما نسميه البنية العصبية النموذجية)، ومن ناحية أخرى، معتقدات غير واقعية، خاصة بالأطفال المصابين باضطرابات النمو العصبي المنتشرة في اضطرابات النمو. ومن ثم، فإن الأطفال الذين يعانون من اضطرابات النمو الشاملة سيكونون قادرين على توقع الأحداث في العالم المادي بشكل مثالي، ولكن دون أن يكون موقفهم ترجمة لموقف واقعي. إن قدرتهم على تحديد الروابط السببية في العالم ستكون مختلفة عن قدرة الأطفال ذوي الطبيعة العصبية. وأخيرا، فإن الفيزياء الساذجة التي تتطور، سواء كنا نعاني من اضطرابات النمو الشاملة أم لا، ليس لها أي علاقة بإيماننا بوجود العالم المادي، لأنه من خلال التفاعل الاجتماعي وتعلم اللغة نتعلم أن نؤمن ب العالم المادي.

الحضور الكامل في العالم

المشكلة في كل هذه العواقب هي أنها تقودنا إلى طريق مسدود. إن المؤلف، من خلال اختزال كل المعتقدات في العالم المادي إلى الاعتقاد في العالم الاجتماعي، لا يترك لنا أي خيار آخر سوى اختزال الفيزياء الساذجة للأطفال الذين يعانون من اضطرابات النمو في مجموعة من الميول للتفاعل مع الأحداث، كما يمكن العثور عليه في غير ذلك. - الكائنات البشرية، بما في ذلك الكائنات البدئية للغاية. ولكن، في هذه الحالة، كيف يمكننا أن نفسر أننا في التجارب، مثل تلك التي ذكرها بارون كوهين في المقال المذكور، نحدد المهارات الفيزيائية الساذجة لدى الأطفال الذين يعانون من اضطرابات النمو الشاملة من خلال الاعتماد على قدرتهم على التعبير اللفظي المتوقع لتسلسل الأحداث، على أساس حسابات حركة الأشياء على سبيل المثال؟

علاوة على ذلك، ترتبط الفيزياء الساذجة بشكل صحيح باللغة لدى الأطفال الذين يجدون صعوبة كبيرة في استخدام هذه اللغة نفسها للاستجابة بشكل صحيح لاختبارات قياس المهارات في علم النفس العادي. يصعب تفسير هذا الاختلاف إذا افترضنا، كما يفترض المؤلف، أن إتقان اللغة، بما في ذلك عندما يتعلق الأمر بالحديث عن الأشياء المادية، يفترض اندماجًا طبيعيًا في العالم الاجتماعي. وبالتالي فإن الأطفال ذوي النمط العصبي والأطفال غير الطبيعيين يتشاركون في نفس الفيزياء الساذجة، لكن الأطفال الذين يعانون من اضطرابات النمو المنتشرة ينشرون هذه المهارة في وقت مبكر وأفضل. وليس هناك سبب للافتراض، خاصة إلى الحد الذي لا يشكل فيه التعبير اللفظي عن الأحداث المادية مشكلة، أن مواقفهم لا يمكن أن تتمسك بالواقعية، على الرغم من أن إيمانهم بالعالم الاجتماعي لا يؤمن بأنفسهم على الإطلاق.

ولكن بالنسبة للأطفال الذين يعانون من اضطرابات النمو الشاملة، فإن الأمر يتعلق بالفعل بحضور كامل في العالم، حتى لو لم يسمح لهم ذلك بتبني مواقف خاصة بالحياة في المجتمع بشكل عفوي. هؤلاء الأطفال قادرون على الانخراط بشكل كامل في العالم المادي، وأن يصبحوا مفتونين بالآلات، والهياكل المادية، على سبيل المثال. ومع ذلك، فإن هذا الوجود في عالم الطفل الذي يعاني من اضطرابات نمو شاملة يظل في النقطة العمياء للفلسفة التي يقترحها بيمبنيت. وهذا احتمال نظري لا يؤخذ في الاعتبار أبدا.

خاتمة

من خلال "الواقعية" يمكننا أن نفهم رؤية عملية للإنسان والعالم. تيار يركز على إظهار حدودهم وغرورهم وبؤسهم أكثر من إمكانات الجليل التي يحملونه. يتعلق الأمر بشيء مختلف تمامًا. "الواقعية" هي ببساطة فعل ثقة في الطريقة التي نفهم بها ما هو حولنا. إنه يمنح العقل خطاباته النبيلة، إلى جانب الخطب الرسمية المفرطة والمتجولة، وسحر الصورة.  لكن مما يتكون هذا النظام الواقعي بالضبط؟

تمتع الواقعية الفلسفية بالثقة في الخبرة ومن المثير للدهشة أن هناك بالفعل بعض الواقعية عند أفلاطون. الأفكار بالنسبة له هي في الواقع ملء الوجود، الشيء الوحيد الموجود. لذلك فإن "واقعية الأفكار" هي، على نحو متناقض، مثالية راديكالية. ان الفيلسوف القديم لا يخلي المادة والمعقولية الحسية. ومع ذلك، سيكون من الخطورة الاستسلام لها تمامًا، كما يخبرنا. عليك أن تثق به كما تثق بظلك. النقطة المركزية في التعاليم الأفلاطونية هي قبل كل شيء الإغلاق المحكم الذي يقيمه بين العالم المحسوس – عالم النباتات والأشخاص والأحجار التي يمكننا لمسها – والعالم المعقول – عالم الأفكار. أرسطو، التلميذ الأمين منذ البداية، لم يستغرق وقتا طويلا لينفصل عنه. هذا المفكر الأخير يرفض الاعتراف بالوجود المنفصل للأفكار. جاء ورثة أفلاطون ليقولوا إن الجسد سجن للروح، وأن الحواس لا تقدم إلا معلومات مضللة. مثل هذه العصا التي تبدو مكسورة عندما تُغمس في الماء، وهو ما لن يفشل ديكارت في الإشارة إليه. أما بالنسبة لأرسطو، على العكس من ذلك، فإن تجربة البصر واللمس والذاكرة والخيال تحتل مكانة مركزية. ومن خلال "الحواس" نصل إلى معرفة الحقيقة. كما تحرص الواقعية الفلسفية على تجريد الأفكار ولذلك فإننا نعتبر شخصًا "واقعيًا" يؤسس للاستمرارية بين المعرفة الحسية والمعرفة الفكرية. إنه التجريد الذي يسمح بهذا الارتباط. عندما تداعب ظهر كلبك، عندما يكون لديك فكرة عامة عن "الكلب" في ذهنك، فإنك في الواقع تفكر في نفس الواقع. الفكرة المجردة، في حد ذاتها، غير موجودة. فهي لا تنتج إلا من مجموع تجارب الماضي. وبالتالي فإن مبادئ الكون وأسس الوجود متاحة للجميع. يبدأ أرسطو من ملاحظة الطبيعة ليفترض أن كل الأشياء تحكمها فكرة النهاية. لا شيء عبثا. الزهرة عازمة على ثمارها، الإنسان يرغب في السعادة، الحيوان يعمل فقط من أجل بقاء النوع، الذكاء مخلوق من أجل الحقيقة...لكن الواقعية تقوض النسبية. إن ذكائي يكون صحيحًا عندما يتفق مع واقع العالم. فهو لا يسعى أولاً إلى معرفة المفهوم، الفكرة، بل الواقع الذي له معنى في ذاته. قال مايكل أنجلو، أثناء النحت، إنه يطلق من الحجر التمثال الموجود هناك بالفعل. تقدم "الواقعية" طريقًا مماثلًا: السماح لأنفسنا بأن نتفاجأ بحقيقة داخلية فيما يحيط بنا، ليتم اكتشافها وليس بناؤها. لكن كيف تحدد أن الشيء جميل؟ أو يجب أن نتفق على ما نعتبره جميلاً، ويختلف باختلاف العصور والحضارات. أو ما هو جميل هو ما يسبب لي متعة معينة.

"الواقعية" تختار طريقًا ثالثًا: الخصائص الجمالية هي الخصائص الحقيقية للأشياء. يأخذ توماس الأكويني من أرسطو الثقة التي يمكن أن نمتلكها في "حواسنا": ذاكرتنا، وخيالنا، ولمساتنا... وقبل كل شيء، الثقة بما يحيط بنا. بعيدًا عن الاستقلالية الوجودية التي سيطرحها سارتر، وعن عدم الثقة في قدرات العقل عند كانط، وعن وضع وجود العالم بين قوسين عند هوسرل، فإن "الواقعية" تؤمن بالواقع وبوضوحه. في نهاية المطاف، فإن رفض أخذ خصوصية البنية المعرفية للعقل وارتباطها بالهياكل العصبية، لأسباب لم يتم ذكرها أبدًا، يقود بيمبنيت لاستبعاد قسم كامل من البشرية من هذا العالم البشري. هذا الجزء الذي لا يعتبر تجاوز العالم الاجتماعي أمرًا بديهيًا، ولكنه موجود بالفعل في العالم. فمتى نرى الواقعية تغزو فكرنا المعاصر؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.......................

المصدر

Étienne Bimbenet, L’invention du réalisme, Paris, Éditions du Cerf, 2015, 317 p

لا تخلو الجوانب الاجتماعية للمدن المثالية أو الفاضلة التي تخيلها الفلاسفة، من مساوئ وعثرات ومثالب لا تتسق والفطرة البشرية، ولا تنسجم مع المفاهيم الحديثة للديمقراطية وحقوق الإنسان، والطفل وحرية المرأة، بل أنها تتنافى معها تماماً لأنها وليدة عصرها الذي كتبت فيه قبل أكثر من 2400 عام وتحت ظروف اجتماعية وسياسية تركت أثرها فيها، ونقصد بذلك تحديداً محاورة الجمهورية " السياسة"، أو ما تُعرف على نطاق شعبي واسع بإسم "جمهورية أفلاطون" الفاضلة.

والحق يقال فإن للجوانب الاجتماعية والتربية والتعليم والتخصص في العمل مكانة بارزة في هذه الجمهورية، غير أن بعض المفاهيم حول العبودية وشيوعية المجتمع والأولاد والنساء تثير الاشمئزاز في النفس البشريَّة السويَّة، فكيف وهي تصدر من فيلسوف عُرف بأفكاره المثالية السامية، وتوجهه نحو عالم المُثُل الأعلى حيث مفاهيم الحق والخير والجمال ؟ .

الحقيقة أنه ليس بوسع المرء المعاصر ان يلوم أفلاطون كثيراً على موقفه من قضية العبودية ، إذا ما راعى أن الرقَ كان من الأمور المشاعة التي لا غنى للمجتمعات القديمة عنها، فضلاً عن وجودها وإقرارها من الكثير من الفلاسفة والمفكرين حتى عصور متأخرة . ومع ذلك فان أفلاطون ليس بريئاً تماماً من تهمة التطرف في نظرته إلى العبيد، وقد كانت واحدة من الأسباب التي دعته الى مهاجمة الديمقراطية الأثينية مساواتها في الحرية بين العبيد الذين يُشتَروْن بالمال ومُلَّاكهم الذين اشتروهم، علماً أن ديمقراطية أثينا نفسها قد حرمت العبيد من أي حقوق سياسية، وقد جعلها ذلك هدفاً للانتقاد والإدانة التي وجهت الى عموم الفكر السياسي اليوناني الذي نظر الى هذه المسألة وكأنها إحدى أعطيات الطبيعة، وبذلك فان الديمقراطية الإغريقية كانت مشوبة كما يرى برتراند رسل مثلاً ببعض النقائص مثل عدم السماح للنساء والعبيد بالاشتراك في الحياة العامة، مع انها عملت على حماية العبيد من المعاملة شديدة القسوة، ووضعت تشريعات إنسانية متقدمة في ذلك العصر من أهمها منع الأسياد من قتل عبيدهم، فقد كان ذلك حقاً من حقوقهم !. كان أفلاطون الذي لم يرق له ما قامت به ديمقراطية أثينا تجاه العبيد ينطلق في موقفه هذا من إيمانه بالتفاوت الطبيعي بين الناس، وكان يؤكد هذا التفاوت كلما حانت له الفرصة المناسبة، بل هو يحاول ان يضع تشريعات لحفظ ذلك التفاوت ويقترح عقوبات قاسية للعبيد، ومنعهم من المشاركة في الحياة السياسية. وفي محاورة " السياسي" على سبيل المثال يتحدث  "الغريب" عن الأقسام التي لا تُنسب الى العلم السياسي،  ومع انه يستثني العبيد من الحيوانات الداجنة فانه يتوصل الى ان هؤلاء لا شأن لهم بالعلم السياسي، كما ان العمـال والإجراء الذين يعملـون مقابل أجرة يوميـة والذين يظهرون استعدادهم الدائم لخدمـة أي مستأجر، لا يدَّعون ان لهم نصيبـاً من العلم السيــاسي. وفي محاورة   "القوانيـن" فإن العبيـد كما يـرى "الأثيني" ينبغي أن يخضعوا لأسيادهم ذوي الحق في ان يحكموهم، واذا قَتل عبدٌ مالكه وهو غاضب فان أقارب المقتول سيعاملون العبد كما يشاؤون من دون أن يُدانوا، وعليهم فقط ألاَّ يُبقوا على حياته، وإذا قُتل رجلٌ حرٌ على يد عبد غاضب ليس من عبيده، فإنه سيُسلم بوساطة صاحبه لأقارب الميت أولئك الذين سيكونون مُلزمين بقتله، على أن يكون لهم الخيار في طريقة إعدامه !. إن كثيراً من النقد يوجه الى أفلاطون بسبب موقفه هذا من العبيد الذي يتنافى مع أفكاره الإنسانية والأخلاقية، وكان يمكنه أن يهاجم بجرأته المعهودة هذا النظام المتوارث مثلما فعل في قضايا أخرى مهمة في المجتمع الأثيني، لكنه بقي مخلصاً لتلك القصة الفينيقية التي رواها بلغة ميثولوجية في نهاية الكتاب الثالث من " الجمهورية " ، قصة معادن الناس والإله الذي وضع في طينة بعض الناس ذهباً ليكونوا حكاماً، وهم الأكثر احتراماً، وفي الآخرين وضع فضة أو نحاساً أو حديداً، إنه يكرس التفاوت الطبيعي بين الناس، ويدعو كل فرد لأن يعمل على وفق قدراته الطبيعية، وبذلك يصبح نظام الرق أمراً طبيعياً في ضوء هذا المنظور الأفلاطوني الميثولوجي. كما ينادي أفلاطون في بدء الكتاب الخامس من " الجمهورية " بشيوعية النساء والأولاد، ثم يشرح سقراط تفاصيل ذلك بعد أن يوافق على قول أديمنتس بإمكانية تطبيق قاعـدة " كل شيء مشاع بين الأصحاب" على النسـاء والأولاد. ويرى صاحب الجمهورية في هذا الشأن أيضاً، أن المرأة مساوية للرجل لذلك يجب تهذيب النساء وتدريبهن كالرجال تماماً، والمساواة هنا مساواة في العقل والقوى البدنية، وفي الحقوق والواجبات والعمل. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أفلاطون لم يكن أول من نادى بمساواة المرأة بالرجل، إذ كانت المرأة في القرن الخامس قبل الميلاد في اسبرطة تتمتع بحريتها، وكذلك كانت المرأة في أثينا تطالب بمساواتها مع الرجل، وكان أرسطوفان يسخر في رواياته الهزلية من هذه المطالب، مما يدل على أن المرأة في أثينا، وفي عهد أفلاطون كانت قد قطعت شوطاً ممتازاً في سبيل حريتها ومساواتها بالرجل، وقد حدث تطور في نظرة المجتمع الأثيني الى المرأة، كما تشير إلى ذلك نازلي إسماعيل حسين في كتابها الشعب والتاريخ - هيجل. وبموجب هذه المساواة التي يؤكد عليها أفلاطون فانه يرى أن الفرق بين الجنسين هو فرق بالدرجة وليس بالنوع " فلا فرق بين طبائع الرجال وطبائع النساء باعتبار حكم الدولة إنما هو تفاوت بينهمـا في الدرجة قوة وضعفـاً "، وبذلك فان النساء اللائي يبدين ميلاً الى الفلسفة والى الحرب ينبغي أن يصبحن الحُكام، أو مساعديهم، ويصرن ازواجاً لهم، ويجب أن تكون علاقات الجنسين المتبادلة تحت مراقبة القضاة كما قرر في جمهوريته، " ويُفصل الأولاد عن والديهم ويربون في معاهد خاصة تنشئها الحكومة، وتكون أولئك النساء بلا استثناء أزواجا مشاعاً لأولئك الحكام فلا يخص أحدهم نفسه بإحداهن، وكذلك أولادهم يكونون مشاعاً فلا يَعرف والدٌ ولده ولا ولدٌ والده، وبهذه الوسيلة وحدها يمكن للحكام ومساعديهم أن يتحرروا من كل ميل للملكية"!!. ويمضي أفلاطون في بيان فوائد شيوعية النساء والأولاد على الرغم من توقعه وجود مقاومة عظيمـة تمنع تطبيقهـا بالفعل على أرض الواقـع، وأولى " الفوائد " - حسب رأيه - إستيلاد الأفضل وتحسين النوع الإنساني على غرار تحسين نسل الحيوانات الأصيلة. ثم يمضي قدماً لشرح طريقة تزويج أفضل الرجال بأفضل النساء، وإقامة الولائم التي يتخللها زفاف العرسان مع تقديم الذبائح وإنشاد الأناشيد. ولا ينسى أن يذكر بوجوب مراعاة أن يخص الشبان المُبَّرزون في الحرب وغيرها بحرية الاختلاط بالنساء الحسان لكي تكثر مواليد والدين كهؤلاء، وحال ولادة الأطفال يتسلمهم موظفون مختصون ليحملوا الأطفال الممتازين الى المراضع الحكومية تحت عناية مرضعات يَسكُنَّ أحياء خاصة بمعزل عن الناس، أما أطفال الوالدين المُنحَّطين، وكل الأطفال المشوهين فيخفوهم قاطبة في مواضع مستترة مجهولة تلائمهم. إن من أكثر الأفكار الأفلاطونية التي وجدت معارضة ونبذاً هي فكرة الشيوعية في المجتمع  وقد كان أفلاطون نفسه يعي ذلك، ويدرك صعوبة تطبيق فكرته هذه التي دفعه اليها حرصه الشديد على وحدة الدولة وتماسكها وارتقاء نوعيتها. ولكي يخفف من وطأة منافاة الشيوعية للجوانب الإنسانية، فإنه يتيح للرجال، متى بلغوا السن القانونية، أن يتخذوا من يشاؤوا من النساء إلَّا بناتهم وامهاتهم وجداتهم وحفيداتهم، كذلك يُباح للمرأة كل رجل إلاَّ الأب والأولاد والخلف والسلف. لكن، كيف يمكن معرفة صلة القرابة في هذا الخليط الشيوعي؟ يَحّل أفلاطون هذه المعضلة على وفق النحو الآتي: 

غلوكون: ولكن أنى تعرف بناتهم آباءهن والأقارب الآخرين الذين ذكرتهم؟

سقراط : " لا يعرفونهم بتاتاً. لكنهم يدعون جميع الأطفال الذين يولدون بين الشهر السابع والعاشر من قرانهم، أبناءهم وبناتهم، وهؤلاء أيضاً يدعون الذكور آباءهم والإناث أمهاتهم، وأولاد المواليد أحفاداً، ووالدي الوالدين أجداداً وجدات، والمواليد الذين ولدوا في دور التوليد المضروب لوالديهم يدعون بعضهم بعضاً إخوة وأخوات. ويُحظر على الإخوة والأخوات مس بعضهم بعضاً. ولكن الشريعة تبيحه اذا إصابتهم القرعة ووافقت كاهنة دلفى على ذلك!، ومن البديهي القول أن هذا الحل المُعقَّد لا يمكنه أن يقدم سبباً مقنعاً لضرورة المجتمع الشيوعي كما تصوره أفلاطون، وهو تصور يتنافى مع القيم الاخلاقية والسماوية والاعراف الاجتماعية والفطرة السليمة، بخلاف شيوعية التملك عنده فإنها تبدو أكثر قبولاً من شيوعية النساء والأولاد، لأن هدفها جعل الحياة اشتراكية لطبقة الحكام لكي لا تحدثهم النفس بتوفير الثروة وتوسيع المُلك، " فلا ينبغي أن يمتلك أحدهم عقاراً خاصاً أو مخزناً، ويجب أن يتقاضوا من المواطنين دفعات قانونية أجرة خدمتهم حتى لا يحتاجوا في آخر العام ولا يستفضلون. ولتكن لهم موائد مشتركة كما في ثكنات الجنود. وأن يُخبروا أن الآلهة ذخرت في نفوسهم ذهباً وفضة سماويين فلا حاجة بهم الى الركاز الترابي، وأن نقود العامة فيها دخل كثير وهي مجلبة لكثير من الشرور ولكن ذهب الحاكم السماوي عديم الفساد، فهم وحدهم من بين كل رجال المدينة مستثنون من مس الذهب والفضة، فلا يدخلونها تحت سقفهم ولا يحملونهما ولا يشربون بكؤوس صيغت منهما، وبذلك يصونون أنفسهم ودولتهم. ولكنهم اذا امتلكوا أراضٍ وبيوتاً ومالاً ومُلكاً خاصاً صاروا مالكين وزراعاً فضلاً عن  كونهم حكاماً، فيصبحون سادة مكروهين لا حلفاء محبوبين".

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

...................

* نشرت الدراسة في موقع مراصد أيضا.

 

عندما يشعر الناس ان حياتهم غير أصيلة، فهم سيدركون ان هذه الحياة لا تستحق العيش. هذا الموقف يتجسد في قصة هاروكي موراكامي القصيرة بعنوان "عضو مستقل". يخبرنا القاص ان بعض الناس يعيشون حياة اصطناعية، مبتعدين كليا عن الواقع، "ولكن صدفة، يشرق ضوء خاص نحوهم" ويكتشفون الآن عدم واقعية آلية عمل حياتهم الداخلية" (رجال بدون نساء، 2017).

بطل الرواية يعيش حياة تبدو قوية ومتوازنة وممتلئة بالرضا. غير ان الحب من جانب واحد يعكر توازنه، ومع انبثاق فكرة جديدة هو يكتشف ان الحياة التي بناها لنفسه بعناية هي فارغة وغير أصيلة. بعد ذلك هو يعاني من الجوع حتى الموت، كعقوبة ذاتية لكونه غير أصيل.

في (أخلاق الأصالة، 1992)، شخّص الفيلسوف الكندي تشارلس تايلور إنغماسنا المفرط في اللااصالة كجواب لثلاث مشكلات حديثة غير مريحة.

1- هناك قلق من ان فردانية الديمقراطية الليبرالية الغربية ربما ذهبت بعيدا.

2- رأسمالية الليبرالية الجديدة أنتجت عقيدة على نطاق واسع بان سيكون هناك حلا تكنلوجيا لكل مشكلة.

3- مجتمعنا التكنلوجي الصناعي يقيّد خياراتنا الفردية، بحيث جعل من الصعب الحفاظ على اسلوب حياة الفرد الحقيقية، مثل ( حياة بعيدة عن وسائل الراحة الحديثة). ان رد الفعل على هذه المخاوف أنتج المبدأ المعاصر في ان تكون "صادق لذاتك" كي تحقق حالة الإنجاز الذاتي الأصيل.

أشار والتر بنيامين الى ان احدى خصائص الحداثة هي ان "الغموض يستبدل الأصالة" (شارع باتجاه واحد، 1928). الغموض يأتي لأننا غير متأكدين من كيفية التمييز بين الزائف والحقيقي. هذا يصبح انطباعا عاما بان الصورة تشوه الواقع وان التمثيل حل محل الواقعي. نحن نبحث مكرهين عن الأصالة لأننا نشك بان تجربتنا ليست واقعية تماما، وانما هي في الحقيقة زائفة. هذا الشك، في حدّه الأقصى يقود الى الإنغماس بالأخبار المزيفة ونظريات المؤامرة، وكذلك الايمان باننا نعيش بنوع من المحاكاة، وبهذا لا شيء واقعي. المأزق هو ان المجتمع الذي يبحث مجبرا عن الأصالة هو مجتمع منفصل عن الواقع.

أصل الأصالة

لكي نجد الأصل الفلسفي للأصالة علينا الذهاب الى الفيلسوف جان جاك روسو (1712-1778). خلافا لمعظم أقرانه، جادل روسو بان التأكيد الأحادي على العقل يعزلنا عن الواقع ويجعلنا غرباء عن ذواتنا الأساسية، ويقود الى الخداع والنفاق. الرجل الطبيعي لدى روسو يتمثل عبر الوحشية النبيلة وامتلاك الخيرية الأصيلة. نحن المخلوقات المتحضرة يمكنا فقط الأمل باستعادة الأصالة عبر الابتعاد عن النخب المتعلمة والإنغماس في الطبيعة، على سبيل المثال، الذهاب في سفرة طويلة بين الغابات والجبال.

العديد من رومانسيي القرن التاسع عشر، مثل غوتو و بيرون و شيليس، اقتفوا أثر روسو، في الذهاب الى سويسرا حيث الغابات والإرتعاش في رهبة الجبال. هذه الحاسية الجديدة قادت الى كل انواع الموضات الإبتكارية بين النخب الثرية: إرضاع الطفل بدلا من استخدام مرضعة اخرى، وارتداء ملابس تقليدية، رسم مشاهد عاطفية لحياة القرية، وتأليف موسيقى مرتكزة على أنغام الفلكلور. هذه الأصالة وجدت أفضل تعبير لها في عمل الشعراء الرومانسيين مثل الشاعر وردسورث. هذا السعي للأصالة يسعى خصيصا الى ربط التطور الفردي مع الخيرية الطبيعية، لكنه يبقى عملا صعبا.

رأسمالية الأصالة

في بداية الستينات، جادل الفيلسوف الألماني ثيودور ادرنو بان رطانة "الأصالة" تساهم بـ "نرجسية جماعية" "موحدة في تبجيل الايجابية" (رطانة الأصالة، 1964). وفي مقال في نيويورك تايمز لكل من سيمون كرشلي و جامسن ويبستر بعنوان "الانجيل طبقا لي، 2013" جادلا بان "انجيل الاصالة"هو ايديولوجية "صناعة ازدهار الذات"التي تغذيها الروحانية الجديدة المربحة. اليوغا الحارة، دورات في الذهنية والتأمل، العلاج الطبيعي، المساج والمنتجعات الصحية، التخلص من السموم، حلقات التدريب، ومتطوعو السياحة، هذه كلها تجسيدات لطبقة وسطى تسعى لحياة أصيلة. انظر لشاب مهني يسافر الى تايلند لكي يتخلص من الإجهاد ويعمل على تركيز الذات، يدفع الالاف اسبوعيا في مكان ديني لممارسة الصمت وتناول الرز الابيض وصحنين من الشوربة الخفيفة يوميا. من وجهة نظره، هذا يبدو أصيلا. لكن النظر اليه من الخارج قد يبدو للمرء سخيفا.

كرشلي و ويبستر critchley&webster يحذران بان رأسمالية الشركات اختطفت البحث الحقيقي عن الأصالة والى حد ان "الفرق بين العمل و اللاعمل يصعب تحديده". في مكاتب بحث غوغل في زيورخ تجد العمل والمتعة ممتزجين بفعاليات مثل اليوغا والتأمل المتوفرين مجانا (بالاضافة الى طعام عضوي من النبات والبسكويت). العاملون يُشجعون للتوقيع على فعاليات التسلية. غير ان هذا يخلق ضبابية في التمييز بين العمل واللاعمل والذي بالنهاية يقود الى ارتفاع كبير في القلق. الفيلسوف باينج هان Byung chul Han أطلق على هذا بـ "عنف الإيجابية". هنا "المشاريع والمبادرات والمحفزات تستنزف موضوع الإنجاز الموجّه، بما يقود الى استنزاف ذهني وبدني كامل (مجتمع الاستنزاف، 2015).

في عام 1849، جادل ابو الوجودية (سورن كيركيجارد) بان الذات "هي في عملية صيرورة، لأن الذات في الحقيقة هي ليست حاضرة، انها فقط ما يأتي الى الوجود". أتباعه من الوجوديين في القرن العشرين، مثل سيمون ديبوفير وجين بول سارتر رأوا ان الذات هي مشروع يتم العمل به. لكن المشروع اختُطف الآن من ثقافة الشركات. يرى هان ان الاقتصاد الليبرالي الجديد يجبرنا على قبول الأداء المرتكز على الثقافة. وكما تنبأ ادورنو، هذا يساهم في النرجسية وبالنهاية الى الاستنزاف المعنوي Burnout.

الفنانة البلجيكية ناتاشا ماليو، في معرضها لعام 2022 (مسرح اثينا) أظهرت كيف ان متابعة التفرد تحت ستار الأصالة يقود الى السخافة. مع نصب الكاميرات بعناية في مواقع مشهورة في الانستجرام، وباستعمال فاصل زمني لمدة 60 دقيقة، هي أنتجت فنا تصويريا كشف عن ان العشرات من الناس يقومون بالضبط بنفس الأشياء: يتخذون مواقف مشابهة لتسجيل تجاربهم الأصيلة لمتابيعهم على الانستجرام. والدراسات كشفت بفضل الإلتقاء بين الانستجرام وعمليات التجميل، ان الوجه الغربي اصبح قريبا لمنظر واحد. وفي السعي نحو الاصالة، ومع مزيد من الوقت سوف نبدو جميعا كثيرا مثل النجمة الاعلامية كم كارديشين.

الأصالة والتعليم

لوحظ ذات مرة ان متحدثا امام مجموعة من الطلبة الخريجين يقول لهم "انتم جميعا مدراء تنفيذيين لمستقبلكم الخاص بكم". لم يعترض احد على الافتراضات الايديولوجية الكامنة في هذا الإعلان. المدير التنفيذي كإله، يجلب المستقبل للحاضر، الحرية المطلقة للافراد في التحكم وتحديد مصيرهم، امكانية تحقيق الأصالة ضمن فضاء الشركات. يجادل هان بان "الاستغلال التلقائي" لـ "مبادرة الذات" يقود الى ان يصبح "انجاز الفرد" مجرم وضحية و "سيد وعبد" في وقت واحد. (عذاب الحب، 2017).(1)

السعي الكاذب للأصالة يبدأ في مدارسنا، حيث الهدف هو ان تعد الشاب لعبودية الشركات. وكما يصف ذلك الفيلسوف سلافج زيزيك Slavoj Zizek "الشاب يباشر عملية تعليمية لكي يندمج ضمن النظام الاجتماعي المهيمن، وهو ما يفسر لماذا تعليم الشباب يلعب دورا محوريا في إعادة انتاج الايديولوجية الحاكمة" (أشبه بلص في وضح النهار، 2018). الدراسات في الانسانيات، مثل الفلسفة والفنون هي دائما ما يجري تجاهلها، حيث يتم تشجيع مواضيع العلوم والتكنلوجيا والهندسة والرياضيات STEM لأن المدراء التربويين يعتقدون ان هذا هو ما يطلبه أرباب العمل. المدرسون يدّعون تنفيذ "تعليم أصيل" عبر بناء سيناريوهات يحل فيها الطلاب ما يسمى قضايا "العالم الواقعي" (بافتراض اننا نعرف كيفية التمييز بين العالم الواقعي وغير الواقعي).

هذا يستلزم حل المشكلة باسلوب يجري اعتماده في مدارس الأعمال. الطلاب يوضعون في مجموعات تعاونية، منخرطون في محاكاة لـ "العالم الواقعي" ويقدمون حلولا. لكن البعض يشعر ان تشجيع المراهقين للتصرف مثل قادة الشركات لعرض حلول لقضايا مثل، ارتفاع اسعار الطاقة او كوارث المناخ، هو أقرب الى الخيال السخيف، ويشبه الفيلم الامريكي بيت غوتشي. هذه هي "الصيغة التكنوقراطية المنتجة" للتعليم، التي هدفها الوحيد جعل الناس جاهزين لسوق العمل. اثنان من بين العديد من التأثيرات لهذا هما اولا، ان الطلاب سيرون العالم كخزان او كمصدر للنهب لكي يطوروا عملهم المهني و ثانيا، ان الحياة الأصيلة هي مشروع لا نهاية له يعتمد على النجاح في عالم الاعمال. هذا السعي الإجباري اللامحدود يساهم بما يسميه زكزك "عهد الانتهازية الساخرة االمصحوبة بقلق دائم".

سارتر جادل بان "الوجود يسبق الماهية"، بما يعني ان حياتنا مشاريع لا تنتهي نستطيع صياغتها من خلال أفعال الرغبة. لكن السعي الحديث لحياة أصيلة يبدو اصبح مشروع أعمال لمدى الحياة يوضع في السيرة الذاتية.

نحن ربما نقول ان الأصالة المعاصرة هي اسطورة مبنية على وعد بان التكنلوجيا تستطيع حل جميع المشاكل. ثقافتنا التكنلوجية تقودنا لإعتبار الطبيعة مجرد مستودع تخزين، او موارد تنتظر الاستغلال. الغابة تصبح مصدرا للخشب، قطعة الارض تصبح مصدرا ممكنا للغاز او البترول او لتربية الماشية او لبناء منازل. الطلاب نظروا للتدهور البيئي او الفقر الواسع كمصدر- فرصة لأداء بعض الاعمال الطوعية لتعبئة السيرة الذاتية. هذا الاستغلال للطبيعة يدعونا لإعتبار الانسانية كمصدر ايضا، وان هيمنة الليبرالية الجديدة يعني ان الشركات لم تعد بحاجة لإخفاء حقيقة ان الانسان عُلّم كمصدر(ولهذا نجد في كل مكان قسم الموارد الانسانية). من المفارقة، ان هذا النظام الذي يسحق الفردية اختار السعي نحو الاصالة، يخلق وهما بان المرء يمكنه العثور على الاصالة عبر الخضوع لها – عبر التحول البهيج لمورد انساني، أداء حياة تعكس السيرة الذاتية. هذه الايديولوجية غير مرئية لكنها في كل مكان تؤثر وتحدد رغباتنا. وكما يرى تايلور، هناك دائما اناس يرغبون بالتضحية بأقرب علاقاتهم لكي يطوروا امكاناتهم المهنية، لكن "حاليا يشعر العديد من الناس انهم ينبغي عليهم القيام بهذا، يشعرون ان حياتهم ستكون تافهة او غير منجزة ان لم يقوموا بهذا". (أخلاق الاصالة).

الوجود نحو الموت Being-Towards-Death

احدى افكار مارتن هايدجر هي ان كونك انسان يعني كونك في العالم. الثقافة توفر وسائل للراحة في العالم وادراك بان شيء ما اكثر قيمة من الاخر. هنا يبرز مأزق، لأن بناء حياة فرد أصيلة يبرز ضمن افق الأهمية التي وضعها المجتمع. وجود هايدجر في العالم يتميز بـ "سقوط" معين دون اختيار. مصيرنا هو اننا اُلقي بنا نحو زمن محدد وضمن جغرافيا مجتمعية وفي جنس وأثنية وطبقة وما شاكل. لا شيء من هذه من اختيارنا. في محاضرته عام 1947 "رسالة حول الانسانية" جادل هايدجر باننا كثيرا ما نقع في حالة يسميها "السقوط" او "الوقوع في شرك": نحن نسقط في ثرثرة الحياة اليومية بقلقها المستمر وهمومها، لكن هذا يقودنا الى الإبتعاد عن جوهر ما يعنيه حقا ان تكون انسانا أصيلا. بدلا من ذلك، في حالة السقوط هذه، الذات هي "ذاتهم"، تعيش ضمن وباتجاه أفكار الآخرين. الشخص الساقط ربما هو متحدث ممتاز، او يحتفظ بمجموعة كبيرة من الاتصالات، او ربما هو شبكي جيد. في هذه الايام، الشخص الساقط هو الذي يؤسس حضورا مصمما بعناية في الاون لاين. هو ما اُعتبر من جانب الكثرة "كنجاح". لكن سقوط الفرد استسلم لما اسماه هايدجر بـ "التشرد الذي يرتعش فيه بلا هدف ليس فقط الانسان وانما جوهره " (رسالة حول الانسانية).

يتفق هايدجر مع ماركس بان المجتمع الصناعي ينتج الإغتراب، لكن اغترابه له جذوره في التشرد الذي "سيصبح مصير العالم". يرى هايدجر ان هناك قلق واحد نحاول ان نتجنبه بأي كلفة – نحن وحدنا بين الحيوانات نمتلك المعرفة باننا سنموت. الموت ربما بعيد لكنه لايزال افقا حاضرا الى الابد يستثمر العيش بأهمية حتى عندما ننكره.موتي هو الإمكانية التي مقابلها أعيش – حتمية سوف تنهي كل الاحتمالات. وبهذا المقدار، معرفة فنائي يعني ان موتي هو سلفا هناك. الموت حاضر حتى وهو غائب. انا لايمكن ابدا ممارسة موت شخص آخر. الموت غير علائقي – موتك خاص بك وموتي هو لي وحدي. كذلك، موتي هو يقين. لذا بالنسبة لهايدجر، توقّع موت المرء يعني ان تكون أصيلا: لتكون مطّلع تماما بان الموت هو حتمي، يمكن ان يحدث في أي وقت، ولذلك هو دائما أمامي – هذا الوعي المكثف يكشف ذاتي الأصيلة. وفي غير ذلك انا أعيش في انكار، لذا انا غيرأصيل. وبكلام عام، نحن نفر من القلق الناتج عن فكرة موتنا، وهذا يقودنا الى فقدان الأصالة.

الصحة والصناعة المضادة للشيخوخة، الانغماس بالصحة البدنية والنضارة، كله ينكر الموت ويهرب من الاصالة حتى عندما يكيّف لغة الاصالة. اليوم، نحن نشعر بالموت عبر إغراق انفسنا في عالم الثرثرة بدلا من راحة الدين. مع ذلك، بالنسبة لهايدجر، فقط عبر جعل موت المرء حاضرا في حياته من خلال احتضان الوجود – نحو الموت – يمكن للمرء ان يعيش حياة اصيلة. اذاً، عبر الاستماع لقلق النهائي الناتج عن المعرفة باني سوف اكون في لحظة ما غير موجود، انا اعيش حياة اصيلة. افلاطون يتفق في ذلك. في حوار فودو، سقراط يشير الى ان هدف الفلسفة هو "ممارسة الموت". اما الفيلسوف مونتاغن Montaigne فقد صاغ عبارة "لكي تتفلسف يعني ان تتعلم كيف تموت".

فن الأصالة

العديد من الفلاسفة مثل هايدجر، يرون ان أعمال الفن وسيلة للاقتراب من تجربة الأصالة. الكثير من ثقافة البوب الحديثة تمجّد الشباب وتنكر الموت. كلمات ديفد باو David Bowie "النسيان سيمتلك والموت وحده سيحبك" تُعد استثناءً. في اوبرا ريتشارد واغنر (1876) يحذرنا من انه حتى اولئك الذين يبدون كأنهم لا يُقهرون هم جميعهم عرضة للفناء. بدءاً من (الموت والشر، 1513) مرورا بالفن الهولندي في قرن السابع عشر، وحتى فن نشطاء الايدز في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، كان الفن دائما يواجهنا بحقيقة الموت غير المريحة. هناك جناح في متحف زيورخ يدعونا لاحتضان وجودنا نحو الموت.

التأمل في الفن العظيم يجعلنا نرتعش بسعادة غامرة حتى عندما يواجهنا بحضور موتنا القادم. يجعلنا نشعر بحياة اصيلة، او ربما هناك من يعارض ويقول انه سيجعلنا نبدو سخفاء. تاثير هايدجر في الفلسفة القارية كان هائلا. مع ذلك، هناك شيء غير مقبول في فكرته عن الوجود نحو الموت كأصالة، وذلك لسببين:

1- هناك نقد ادرنو بان هذه العقيدة تقود الى "العودة لعبادة الموت"(رطانة الأصالة).

2- بينما صحيح ان المرء لايمكنه ابدا اختبار موت شخص آخر، لكن هل يمكن للمرء اختبار موته هو؟ عندما يقترب الموت لايزال الشخص حيا، لم يمت بعد. حالما يموت لم يعد موجودا، وسوف لن يكون قادرا على أي تجربة. لذا، هل بامكان انا التي توجد بالأصالة تتأمل انا الغير موجودة؟ في التأمل البوذي، الهدف هو تحقيق الانفصال عن وهم الوجود المستمر. لكن الممارس لا يتأمل في اللاوجود. مع ذلك يبدو ان هايدجر مقتنعا باننا نستطيع الوعي بعدم وجودنا المستقبلي وهو ما لا يبدو صحيحا.

استنتاج

في "رسالة حول الانسانية" يرى هايدجر ان الأحاديث الكسولة تقود الى "تحطيم اللغة" (البعض بلاشك سوف يتهم هايدجر المحب للتعابير الغامضة، في انه ساهم بهذا التحطيم). ذكر الفيلسوف الروماني E.M.cioran ان الكلمات تصبح "تافهة عبر الاستعمال"، وعندما تتكرر كثيرا، "ستضعف وتموت". من خلال الاستعمال المفرط، يتحرر الدال (الكلمة المكتوبة او الملفوظة) من المعنى او الفكرة المتعلقة به، وسيحصل اللامعنى. هذه هي المشكلة في الكثير من الضوضاء المحيطة بنا. نحن سقطنا في الاحاديث التافهة، وسقطنا عميقا لدرجة اننا لا نعي مأزقنا.

مفردة "أصالة" تبرز في كل مكان. انها تعني عدة أشياء. فيها تُباع البيرة وعمليات التجميل. هي تبرر التعليم الابتكاري. تقترح ان نكون مشككين بكيفية ان نعيش. انها تتحدانا لنغيّر ما نحن فيه. لكن "عبادة الأصالة" كما سماها ادرنو، تجعل من غير المرئي كيفية تشكيل وإعادة تشكيل الفرد بواسطة الظروف التاريخية والمؤسسات. اذا كنت تشعر بالقلق او إرهاق العمل، ذلك عيبك لأنك لاتقود حياة أصيلة. الحل هو ان تعمل جاداً في النمو الشخصي والمهني وفي نفس الوقت تعالج نفسك بممارسة اليوغا او العلاج المعرفي، بدلا من نبذ المؤسسات التي تستغلك. وهكذا، فان مفردة "أصالة" التي غُلّفت في اللغة الليبرالية الجديدة كإيجابية وتحرر، اصبحت ذاتها بلا معنى ومدمرة وسخيفة.

***

حاتم حميد محسن

......................

الهوامش

(1) في كتاب عذاب الحب (The Agony of Eros) ينظر المؤلف هان في مخاطر الحب والرغبة في مجتمع اليوم. هو يرى ان الحب يتطلب الشجاعة لقبول انكار الذات لأجل اكتشاف الآخر. تتمحور الافكار الرئيسية في الكتاب حول التالي:

تآكل الآخر: حيث ان المجتمع الحديث أضعف الآخر وهو ما يقود الى خسارة الحب.

إنقاذ الجمال: يرى هان ان الجمال اصبح قيمة استهلاكية يجري استغلاله وتشويهه في العالم الحديث. إنقاذ الجمال يمكن ان يتم بالعودة الى سمو الجمال وسلبيته، والالتزام بالجمالية التوليدية والصادقة.

الإخلاص: يحتضن الكاتب فلسفة ألان باديو الذي يؤمن بان مهمة الفلسفة هي ان تكون مخلصة لما يشدنا الى بعضنا. هان يرى اننا يجب ان نحاول مسايرة كل أجزاء الحياة وليس فقط عندما تكون ممتعة.

 

تمهيد إشكالي: تشكل المُحاجَّة أو المُحَاجَجَةُ قدرةً من القدرات الأساسية الكبرى في للدرس الفلسفي، لأنها تأتي في الترتيب -حسب ميشيل طوزي ومن معه- بعد كل من المفهمة والأشكلة، سنحاول التعرف في هذا المقال على هذه القدرة الحجاجية ومدى قيمتها في الدرس الفلسفي خصوصاً والفلسفة عموماً، لأنه لا أحد ينكر أن البناء الحجاجي يشكل خصيصة التفكير الفلسفي عبر تاريخه، أقصد هنا المُحاجَّة، خاصة وأنه يمكن تعريف الفلسفة بكونها ذلك المجال النشيط والخصب بالحجاج، فلا وجود لفيلسوف قدم رؤيته للعالم بدون إستخدام إستدلالات منطقية تحكم متنه الفلسفي ولا يمكن أن يوجد، وهذا ما نلحظه عندما نغمر أنفسنا في قراءة الأفكار الفلسفية، لدرجة أن هذه المحاجة أخذت إستقلالها في تاريخ الفكر، وبدأنا نتحدث عن نظرية الحجاج، ونظرية المنطق وآليات الإستدلال، ثم المنطق الرمزي المعاصر، وأيضاً فلسفة الحجاج المتمثلة في نظريات وأنماط الخطاب ونظريات البلاغة، وفلسفة اللغة، ثم الفلسفة وأنماط التعبير وإمتدادات ذلك إلى النظرية التداولية وأنماط التواصل، والإتجاهات الأسلوبية في اللسانيات المعاصرة، كما أصبحنا نتحدث أيضاً عن الإتجاهات السيميائية في تحليل الخطاب، وهناك من يدعي من رواد العلوم المعرفية وعلوم الأعصاب البعد السيكولوجي للحجاج، ودليلهم على ذلك أن الوظائف الدماغية والعصبية للحجاج لم تخضع بعد للتحليل العلمي الدقيق، ويصرون على تأكيد البعد الحجاجي للوظائف الدماغية موضوعاً لعلوم الأعصاب والعلوم المعرفية عموماً، ما يعني حسبهم أنه يجب تقويض الخطابات الأدبية والفلسفية عن موضوع الحجاج، كل ذلك في حقيقته ناتج عن النظرية الحجاجية وإنفتاحها على كل الميادين البحثية الأخرى، لذلك سنحاول الإنطلاق من مجموعة من الأسئلة الموجهة للتحليل والمناقشة بغرض التعرف على قدرة المحاجة في الدرس الفلسفي، وهي كالآتي:

ماذا نقصد بالمحاجة؟ والدلالات المتداخلة معها؟

ما هي منزلة قدرة المحاجة في الدرس الفلسفي؟

ما الذي جعل من المحاجة قدرة أساسية في الفلسفة من خلال تاريخ

الفلسفة؟

ننطلق في مقدمة عرضنا، للإجابة على السؤال الأول المتعلق بالمعنى المراد من المُحاجة، يخبرنا أندري لالاند في المعجم النقدي والتقني للفلسفة بأن «الحجة argument  هي عبارة عن إستدلال يرمي إلى برهان قضية معينة أو دحضها» [1]، إذن هذا التعريف الأولي يخبرنا بأن الحجة هي عبارة عن ذلك الإستدلال الذي غرضه البرهان على قضية معينة أو حتى دحضها وتفنيدها، ما يجعل من الإستدلال خصيصة من الحجة، وبالفعل فالنظرية الحجاجية تستند كثيراً إلى نظريات الإستدلال وآليات البرهان، خاصة وأن الحجاج argumentation  هو عبارة عن «جملة من الحجج التي يؤتى بها للبرهنة على رأي أو إبطاله، أو هو طريق تقديم الحجج أو الإستفادة منها» [2]، إذن يعبر الحجاج عن مجموعة منظمة بدقة ومتنوعة من الحجج والبراهين والإستدلالات التي الغرض منها المحاجة على أي تصور أو محاولة دحضه وتكذيبه وتفنيده وذلك من خلال عرض الحجاج أو إستعمالها أثناء عملية عرض الأفكار، وبالتالي تصبح عملية المحاجة جزءاً لا يتجزأ من عمل الفيلسوف، أما البرهان فيختلف إختلافا قاطعا عن الحجة، يقول عنه لالاند أنه «إستنتاج يهدف إلى إثبات لزومه أو نتيجته إستنادا إلى مقدمات معترف بها أو مسلم بها على أنها صحيحة» [3]، إذن ما يميز البرهان هو أنه إستنتاج في الحقيقة، ينطلق من تلك المقدمات التي تكون مثبتة أو من مسلمات على أنها صائبة، لذلك سيعتبره جميل صليبا على أنه «حجة قاطعة» [4]، إذن من هنا يجب علينا التمييز جيداً بين البرهان والإستدلال والحجة والمحاجة، وذلك من خلال فهم الحجاج ورصد العمليات الحجاجية عن طريق إستكشاف الإستدلالات منتبهين إلى الروابط المنطقية، كما يجب التفريق بين ما هو دعوى وما هو دليل، خاصة من خلال التمفصلات المنطقية Les articulations logiques inhérentes à tout discours philosophique الموجودة دائماً في أي خطاب حجاجي، وبالتالي الكامنة داخل كل خطابي يدعي أنه فلسفي، وترتيب الإستدلالات المتجلية في الأفكار سواء كانت كلية أو جزئية "L'enchaînement des arguments dans un discours philosophique"، كما لا يجب علينا الفصل بين ما هو منطقي إستدلالي صوري وبين روح الأفكار التي تتجلى وظيفتها في الخطاب على شكل مفاهيم أو عبارات مربوطة ربطا منطقيا منظما دائما ومستدلا عنه، هذا ما يميز نظرية الحجاج.

لننتقل مباشرة إلى منزلة الحجاج في الدرس الفلسفي، بعد تعرفنا على المحاجة والدلالات المترتبة عنها من برهان وإستدلال، حيث تتجلى مرتبة الحجج في الدرس الفلسفي من خلال حث التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي على إعتباره «كفايات منهجية تمثل في إكتساب آليات التفكير الفلسفي الأساسية: المفهمة، الأشكلة، والحجاج، وأدوات التفكير الأخرى كالملاحظة، المقارنة، الإستدلال، التحليل، التركيب، النقد،... إلخ ؛  تحقيق التماسك المنطقي في التعبير والكتابة عن طريق التحكم في أدوات الربط المنطقي (إذن، فإن، سيلزم، لكن... إلخ).» [5]، كما أكد أيضاً على إعتبار أن الحجاج «يفترض دائماً نوعاً من الإستدلال والعرض المنطقي، بغرض الدفاع عن أطروحة معينة وكسب الإجماع عليها، كما يرتبط الحجاج بكل العمليات التي يوظفها خطاب ما لأجل التأثير على المتلقي وإقناعه وإثارة إنتباهه، وكسب موافقته على الأطروحات والمواقف التي يتضمنها ذلك الخطاب، ورغم إختلاف الحجاج، المعتمد في الفلسفة عن البرهان العلمي، فإن الخطاب الفلسفي يتميز بتنوع وكثرة العمليات الحجاجية، التي تساهم في جعله خطابا معقولا ومنظما، يستعمل تقنيات إقناعية منطقية أو شبه منطقية أو بلاغية » [6]، تجذر الإشارة هنا إلى أن الحجاج ليس خصيصة التفكير الفلسفي لوحده وفقط، بل يمكن إعتبار جميع أنواع التفكير الأخرى سواء العلمي [في شقه البرهاني] والديني والسياسي والقانوني،... إلى آخره، لها ما يميزها من الجانب الحجاجي إلا أن الفلسفة تتميز بغزارتها وتنوع وكثرة العمليات والطرق الحجاجية، التي تساهم في جعلها خطابا عقليا منظما متماسكا ومتراصا وقلعة حصينة بالحجاج تستعمل العديد من التقنيات الإستدلالية التي هدفها هو الإقناع والدفاع عن أطروحة صاحبها أو التفنيد في بعض الأحيان.

ننتقل الآن مباشرة للإجابة عن السؤال الأخير، ذلك المتعلق بالمحاجة ونظرية الحجاج عبر تاريخ الفلسفة، لتبيان أن المحاجة خصيصة التفكير الفلسفي بإمتياز، ذلك أن جميع الفلاسفة على مر العصور إستعملوا أثناء التعبير عن أفكارهم حججا وإستدلالات متراصة، بدءا من لحظة الميلاد مع الحركة السوفسطائية التي يحسب لها التأسيس لطريقة معقلنة للكلام مع كوراكاس Corax  إلى نظرية الحجاج مع أفلاطون التي تشكل لحظة الهدم والتقويض والنقد والدحض، خاصة النقد اللاذغ الذي وجهه للخطابة ولحجاج السوفسطائيين، إلى لحظة التأسيس الفعلي لنظرية الحجاج مع الأب الروحي أرسطوطاليس من خلال كتابه الشهير "الريطوريقا"، هذه اللحظة التأسيسية الأخيرة التي ستمتد كثيراً في تاريخ الفلسفة من القرن الرابع قبل الميلاد، -رغم ظهور نظريات حجاج جديدة مع شيشرون وكانتيليان إلا أنها نهلت الكثير من محاجة أرسطو مع حضور جوانب إبداعية- إلى حدود القرن العشرين الميلادي والذي سيعرف عصر نهضة الحجاج البلاغي مع بيرلمان وتيتيكا وإعادة إحياء الخطابة مع إستعمالات الحجة لتولمين، إذن كان غرضنا هنا، ليس التفصيل في كل نظريات الحجاج عبر التاريخ الفلسفي لها، بل إنما الإشارة إلى أن تاريخ الفلسفة لهو تاريخ نظرية الحجاج بإمتياز، كما أن نظرية الحجاج جزء لا يتجزأ من هذا التاريخ المديد.

على سبيل الختم، كان الغرض الأول من هذا المقال هو أولا التعرف على المحاجة بإعتبارها قدرة بنائية من القدرات الأساسية في مادة الفلسفة، وذلك من خلال تقديم تعريف محدد لها، بل وللدلالات المترتبة عنها، أقصد هنا البرهان والإستدلال والحجة، كما حاولنا الإشارة إلى أهمية ومرتبة ومنزلة هذه القدرة في درس الفلسفة، إضافة إلى إحالتنا وفقط على أشهر النظريات الحجاجية عبر تاريخ الفلسفة، التي أكدنا فيها على أن هذا التاريخ لهو تاريخ حجاج بإمتياز، بل ما يميز المتن الفلسفي هو كونه متنا حجاجيا، فكل فيلسوف إستعمل عُدَّةً متراصَّة من الحجاج أثناء عرضه لأفكاره، مما جعل المحاجة تنفتح على عدة مجالات أخرى وتمتد إلى المنطق وآليات الإستدلال، والفلسفة وأنماط التعبير، ونظريات الخطاب، والخطابة والبلاغة والجدل، وفلسفة الحجاج، ولها رهانات مع فلسفة اللغة، واللسانيات المعاصرة، بل حتى التداوليات، والأسلوبية، لتصل إلى السيميائيات.

لذلك نحث بضرورة الإنفتاح على الدراسات الحجاجية والبلاغية الجديدة، من أجل التعمق في معرفة النظريات الحجاجية ومذاهب الفكر اللغوي والحجاجي، وذلك للتمكن من آليات تحليل الخطاب كيفما كان نوعه، إن التمكن من المحاجة الفلسفية سيمكن من تجاوز الخطابات التافهة بل كشف وتشخيص المتناقضات والمغالطات المضمرة فيه، من خداعات لفظية نكتشفها كامنة في كل خطاب.

"Les pièges du langage inhérents à toute communication nous obligent à être vigilants dans notre choix des mots"

وكان غرضنا من هذا المقال المقتضب -في الحقيقة- هو التنويه بهذا التاريخ المخفي من الحجاج، وذلك بالإنطلاق من مشهورات الحجاج القديم إلى الحديث والمعاصر، من حيث أن هذا التاريخ نجده مليئا بالقطائع، خاصة مع البلاغة الجديدة مع كل من بيرلمان وتيتيكا، وعليه يكون هذا المقال بمثابة أرضية خصبة للإنتقال إلى الأساس الصلب لهذه النظريات، ويمكن عده مدخلاً للتعرف على الفلسفة كبناء حجاجي بغرض التوسع أكثر في دراسة نظرية الحجاج والخطابة والبلاغة.

***

محمد فراح – تخصص فلسفة

....................

المراجع والمصادر المعتمد عليها:

[1] – أندري لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، المجلد الأول A-G، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت -باريس، الطبعة الثانية، 2001، ص 93-94.

[2] – جميل صليبا، المعجم الفلسفي، المجلد الأول، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1982، ص 446.

[3] – أندري لالاند، المرجع نفسه، ص 260.

[4] – جميل صليبا، المرجع نفسه، ص 206.

[5] – وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، كتابة الدولة المكلفة بالتعليم المدرسي، التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، مديرية المناهج، نونبر 2007، ص 7

[6] – نفس المرجع، ص 10.

 

كان الدكتور عرفان عبد الحميد " 1937 – 2007 " - خريج جامعة كمبردج على يد المستشرق الشهير أرثر جون آربري-، متأثراً بأستاذه الانكليزي من ناحية اهتمامه بالتصوف الإسلامي وتاريخه ورجاله وآثاره، ومع أن اطروحته للدكتوراه كانت عن أثر الفكر الإعتزالي في فكر الشيخ المفيد إلَّا أنه قدم الكثير من البحوث الصوفية ومنها كتابه " نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها ".

ومن محاضراته المهمة التي كان يؤكد على طلبته لتدوينها بدقة، تلك المحاضرة التي تحدث فيها عن الخصائص العامة المشتركة للتجربة الصوفية، فهذه التجربة هي تجربة إنسانية عالمية في خصائصها، وتسقط فيها من الاعتبار عوامل الزمن والمكان والجنس والعنصر. وقد وردت تلك الخصائص متفرقة في مدونات صوفية عالمية لعدد من كبار الفلاسفة الغربيين، أمثال وليم جيمس في كتابه "إرادة الاعتقاد"، وهنري برغسون في مؤلَّفَيْهِ المعروفين "منبعا الدين والأخلاق" و" التطور الخَلّاق"، وبرتراند رسل في كتابه "المنطق والتصوف"، كما ذكر بعضها المستشرق الإنجليزي نيكلسون في كتابه الشهير عن التصوف الإسلامي وتاريخه. ومن تلك الخصائص قيام التجربة الصوفية على اعتقاد أولي مفاده أن ثمة منهجًا للمعرفة قوامه الكشف والإلهام والحدس والبصيرة النافذة، وهذه المعرفة حكمة خالصة تتميز بالإطلاق والمباشرة، وأنها قائمة على صدقٍ يقينيٍّ يتجاوز كل معاني الشك والريبة، وهي بهذا تتجاوز فتتسامى عن المعرفة العلمية التي طريقها العقل والحواس. ولكون هذه المعرفة هي وليدة الاستدلال والانطباعات الحسية، فهي معرفة غير يقينية، وبطيئة ومتدرجة وقابلة للتحول والتغيُّر فلا ثقة بها. والتجربة الصوفية ترفض كل تناقض أو تعارض أو تعدد أو كثرة في الوجود الطبيعي المادي، وترى أن الكثرة والتعدد والاختلاف والتناقض، إنما هي مظاهر خادعة، ووهم لا صحة فيه، ومن ثم فإن هذه التجربة تنظر إلى الوجود كونه وجوداً واحداً، أزلياً أبدياً، لا قسمة فيه ولا تعارُض، وإن هذا الوجود الواحد هو الوجود الحقيقي الكلي، أما التعدد والكثرة والتناقض والتعارض فليست سوى تجليات ومظاهر لهذا الواحد الكلي والحقيقي. ومن هنا ترفض المعرفة الصوفية عالم الظاهر والمظاهر، وتعدَّهُ مجرد أوهام وخيالات لا تنبئ عن حقيقة ثابتة. ويترتب على هذا الرفض للقسمة والتعارض رفض الاعتراف بالزمن، فيغدو الزمان أيضاً غير قابل للقسمة، فتتساوى أطراف الماضي والحاضر والمستقبل، بلا تفاوت بينها. ولأن التجربة الصوفية تجربة ذاتية تعبر عن فردانية خالصة، ولأنها أسقطت من الاعتبار العقل والحس كأدوات ووسائط إلى المعرفة، ولأنها تنتهي في دعوى أهلها إلى معرفة كشفية ذوقية مفاجئة ومباشرة، فقد أصبح من المتعذر على صاحب هذه التجربة أن يُعبر عما كُشف له وذاقهُ ذوقاً مباشراً، تعبيراً باللغة العادية، ولهذا قيل عن التجربة الصوفية، أنها غير قابلة للنقل إلى الآخرين. ومن هنا يجهد الصوفي نفسه من أجل تعريف الآخرين قدر الممكن والمستطاع بمضمون التجربة الروحية هذه، التي لا يمكن التعبير عنها مباشرة، ومن ثم اللجوء إلى التعبير الغارق في الرمزية، محاولة من الصوفي للتعبير عما يستعصي على التعبير. مثلما وصف أئمة التصوف الإسلامي تجربتهم على أنها تؤدي بصاحبها إلى الخَرَس. ثم إن التجربة الصوفية أو الروحية أو الجوّانية، تَسوق عادة إلى عدمية، تتفاوت في درجاتها من دائرة إلى أخرى، وتتشخص هذه النزعة العدمية عادة في صور شتى، منها إسقاط التكاليف الدينية وتجاوز المحرَّمات، ونزعات الاستباحة، والخروج عن قواعد الدين والنواميس والعادات المألوفة المُتَبعة، باعتبار أن هذه التكاليف، وتلك النواميس ، قيودٌ لا تربط العارفين – كما يقولون – فأسقطوا بذلك تناقضات العالَم المادي كلها باعتبارها أوهاماً لا تنبئ عن حقيقة. ومن صورها أيضاً، التسوية بين العقاب والثواب، والجنة والنار، والخير والشر، والصدور عموماً عن نزعة جبرية صارمة، جبرية إلهية كانت أم طبيعية – بحسب وحدة الوجود، هل هي وحدة وجود مؤلَهة أو طبيعية – كما جاء عن ابن عربي وغيره، الذين قالوا بالتفرقة والتمييز بين الأمر التكويني الذي قُدر بموجبه الإنسان منذ الأزل ما هو، وبين الأمر التكليفي، بمعنى الانصياع لأوامر الأمر والنهي في التكاليف. وبهذا الاعتبار تصحيح إيمان إبليس وفرعون، من حيث امتثالهما للأمر الإلهي التكويني - هكذا خلقهما الله - مع أنهما عصيا الأمر التكليفي أسجد، إذ يقول إبليس، لا أسجد:  " وَإذ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلَّا إبْلِيسَ" . وتَظهر في دائرة التجربة الصوفية عادةً نزعة ثابتة – وإن اختلفت وتفاوتت في درجاتها – تدعو إلى إسقاط الفوارق بين الأديان، باعتبارها طرقاً مختلفة تؤدي إلى غاية معينة، لا اختلاف فيها، هي محبة الله، وإسقاط الفواصل والحواجز والموانع بين الإنسان وربه. ومن هنا دعوى الصوفية إلى عدم التقيُّد بمراسم الأديان باعتبارها قيوداً لا تربط العارفين بالله، وإن على الصوفي أن ينظر إلى الأديان على أنها تمثل حقائق نسبية، هي أدنى من الحقيقة الكلية التي يجهد الصوفي من أجل الوصول إليها والتحقق بها . ونجد صدى هذه النزعة عند الكثير من أكابر المتصوفة المسلمين، أمثال ابن عربي، وجلال الدين الرومي، بل وعند جميع فلاسفة الصوفية المُبَشِّرين بنظرية وحدة الوجود، أو الوحدة المُطلقة، من حيث إنهم ينظرون إلى الأديان المختلفة على كونها مظاهر وتجليات للذات الإلهية الواحدة التي تسمو – بحكم طبيعتها – على التعدد والاختلاف. وأخيراً، فإن التحليل الجواني للتجربة الصوفية، يشير إلى أن سالكي طريق التطهر الروحي، والسمو الأخلاقي، لابد وأن يمرُّوا بحالات من القلق، وعدم الراحة، وذهاب الطمأنينة، وفقدان الثقة بمعارفهم العقلية والحسية، وهي الحالة التي أسماها الباحثون " الليالي المظلمة "، والتي عندما تبلغ ذروتها وشدتها وتوترها النفسي الحاد، تغدو تمهيداً واستباقاً لحالة " الصحوة " التي تليها. وتشير الدلائل إلى أن هذا التحول والانتقال من القلق إلى الطمأنينة – وهو ما أسماه برغسون التحول السكوني إلى الحركي – يكون عادة فجائياً وسريعاً، بحيث يتحول الصوفي من القلق إلى الراحة، ومن الشك إلى اليقين، وهذه الحالة هي ما يسميه الباحثون أيضاً بـ " التصوف الكامل"، بمعنى: إن النفس الإنسانية، وقد خاضت تجربة التوحد مع المطلق، وما تسبق هذه التجربة من حالات التوتر والقلق، يعود الصوفي بعدها إلى صحوة، بعد أن اختصه الله بنوع صلةٍ مميزة مخصوصة، يحاول من خلالها ضرب المثل للبشرية، وتقديم خلاصة تجربته لها، تطويراً داخلياً جوانياً للذات الإنسانية. " يُستزاد في هذا الموضوع من: نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها، الدكتور عرفان عبد الحميد فتاح، المكتَبُ الإسلامي، بيروت 1974، والمعرفة الصوفية – دراسة فلسفية في مشكلات المعرفة ، ناجي حسين جودة، دار عمار، عمّان، دار الجيل، بيروت 1992 .

 إن إسقاط الفوارق بين الأديان، وغيرها من الخصائص المشتركة للتجربة الصوفية، يمكن أن تنطبق على أية تجربة صوفية داخل أي دين من الأديان، سماوية كانت، أم وضعية، ولا تقتصر على الدين الإسلامي مطلقاً. مثلما نجدها في التاويَّة الصينية على سبيل المثال، ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن البحث في الفلسفة الشرقية عموماً، والأديان والنِحَل والفِرق والجماعات الروحية الآسيوية الشرقية، ليس بالأمر الجديد، ذلك أن الكثير من الباحثين الغربيين المحدثين، انتبهوا في وقت مبكر إلى هذا الأمر. ومن أوائل الباحثين العرب الذين بحثوا فيها الدكتور محمد غلاب، أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر المصرية، وخصَّص لها كتابه الشهير " الفلسفة الشرقية "، الذي صدرت طبعته الأولى في القاهرة سنة 1938، وفيه مبحث عن الفلسفة الصينية يشير فيه إلى فضل العالِم زانكير وأمثاله الذين " كشفوا للعقل الحديث عن ناحية مهمة من نواحي الفكر البشري كانت مجهولة لدى العامة، ومعروفة معرفة مشوهة عند الخاصة. ولهذا الجهل أو التشويه ثلاثة أسباب، الأول صعوبة اللغة الصينية إلى حد يتعذر معه إتقانها واكتشاف أسرارها، والثاني فقدان الثقة نهائياً من جميع الترجمات التي نَقلت النصوص الصينية إلى اللغات الأوروبية، والثالث هو ذلك الغرور الأوروبي المتعجرف الذي ظل إلى ما قبل هذه السنوات الأخيرة يجزم في طفولة بأن أول فلاسفة الدنيا هو طاليس، وأن العقلية الشرقية – ولاسيما الجنس الأصفر – غير قادرة البتَّة على أن تنتج آراء فلسفية ذات قيمة عالية، إلى غير ذلك من الدعاوى السطحية التي أنزلتها البحوث الأخيرة عن الفلسفة الصينية منزلة الخجل والسخرية". كما يشير الدكتور غلاب في مبحثه هذا إلى الفيلسوف الصيني لاو تسه، واضع فلسفة وكتاب " تاو تي تشنغ " الذي يعد بمثابة إنجيل للتاويِّين، ويذكر رأي بعض الباحثين في أن كلمة " التاو" غير مفهومة، ولذلك فإن مذهب التاويَّة النظري غير مفهوم، مستذكراً في الوقت نفسه الشروحات التي توصل إليها " زانكير" لهذه الكلمة، والتي من معانيها : الروح الأزلي الأبدي المشتمل على جميع القوى الحيوية، والكائن النقي، والجوهر الأساس لكل موجود، والمدبر العام للكون كله، والحياة الحَقَّة لكل كائن. غير أن خلاصة ما يقوله " زانكير هو أن التاو تحمل من المعاني ما لا يمكن أن تؤديه أية لفظة أوروبية. ولهذا يكون خاطئاً كل من حاول ترجمتها بكلمة واحدة من لغاتنا الحديثة، بل الواجب ترجمتها بجملة طويلة، أو بعدَّة كلمات، وهذا الرأي، فيه شيء من التزمُّت، فإن كلمة " اللوغوس" الإغريقية على غموضها، أقرب ما تكون إلى كلمة وفكرة " التاو"، وبمعنى العقل الكلي، أو القانون الكلي وأساس العالَم، وهذا ما يؤيده على سبيل المثال لا الحصر روزنتال في موسوعته، إذ يشير إلى أن المفاهيم المماثلة للوغوس هي التاو في الفلسفة الصينية. أما عن علاقة التاو بالتصوف فقد ورد في بحث مهم ومُبتكَر للباحث عبد الحسين شعبان أن التاوية انقسمت لاحقاً إلى تاويَّة فلسفية أو ثقافية وتاويَّة دينية، والتاويَّة تعني الصِّراط، مثلما استخدمت في الفلسفة أو الثقافة أو المبدأ والمآل الذي تأتي منه وتعود إليه كل الأشياء، والتاو هو القانون الطبيعي أو الكيان الذاتي للأشياء، لكن الأساس في التاو هو الإطلاق. ويتضمن هذ البحث إشارات إلى بداية اهتمامه بالفلسفة التاوية والفلسفة منذ الثمانينيات. ثم ينظر بإيجاز في ثلاث عقائد أساسية لابد أن يتناولها من يبحث في الفلسفة الصينيَّة، وهي الفلسفة الكونفوشيوسيَّة، والفلسفة البوذيَّة، والفلسفة التاويَّة. والأخيرة تمثل في رأيه روحَ الصينيين، فيما تمثل الكونفوشيوسيَّة مظهرَهم الخارجي، منبهاً إلى استفادة التاوية من فلسفة الزن البوذية، فضلاً عن الطقوس الكونفوشيوسيَّة بهدف تحضير العقل الباطن الذي يساعد على الفهم والإدراك. وفي بحثه عن وحدة الوجود في الفلسفة التاوية، يشير شعبان إلى: إنها تدمج الإنسان بالعالم المطلق، فالتاو يقوم على القوة المادية في الموجودات، وهو ما ذهب إليه صدر الدين الشيرازي الذي جعل الله حضوراً فعلياً في الموجودات، انطلاقاً من مذهبه "الحلوليَّة". ثم يشير إلى عدة نقاط مهمة يمكن اختصارها بالآتي: التاويَّة تؤمن بوحدة الوجود، أي أن الخالق والمخلوق متحدان في شيء واحد، ولا يمكن فصلهما، وإلّا سيحدث الفناء، مستنتجاً في ثنايا البحث، تطابُقَ مبدأ وحدة الوجود لدى ابن عربي مع الفلسفة التاويَّة تقريباً. وفي هذه النقطة يذكر مواصفات الصوفي التي تقوم على - التخلّي والتحلّي والتجلّي - والتجلّي يأتي نتيجة للتخلّي والتحلّي، ليكون الإنسان هو المثال للعالم الأكبر. كذلك تؤمن التاويَّة بمبدأ دورية الزمن، فليس هناك نقطة بداية ولا نقطة نهاية للأشياء والتاريخ والوجود. وهذه كلها خصائص مشتركة للتجربة الصوفية كان يؤكد عليها الدكتور عرفان عبد الحميد في كتبه ومجمل محاضراته عن التصوف التي كان يلقيها على طلبة قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة بغداد في حقبة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.

***

د. طه جزاع

.....................

* البحث منشور في موقع مراصد ايضا.

 

يخبرنا كل من جيل دولوز وفليكس غواتاري أن «الفلسفة هي قبل كل شيء إبداع للمفاهيم» [1]، لذلك سنحاول الإنطلاق من هذه الخصيصة التي تميز التفكير الفلسفي بوصفه تفكيرا مفاهيمياً أي يتميز بهذا الإبداع المفاهيمي، من خلال إقحام هذا الأخير وجعله قدرة من القدرات الأساسية الأولى لدرس الفلسفة، نعني هنا إلى أن الدرس الفلسفي بالنسبة لميشيل طوزي هو درس يتضمن ثلاث قدرات أساسية الأولى هي القدرة على الأشكلة، ثم القدرة على المفهمة، وأخيراً القدرة على المُحاجَّة، هذا ما يظهر جليا في تاريخ الفلسفة بشكل عام، حيث نجد أن كل فيلسوف قام بصياغة وإبداع مفهوم خاص به، يتميز به عن سواه، وسنقدم أمثلة لذلك أثناء مرحلة العرض، أما الآن فسنعمل على صياغة مجموعة من الأسئلة الإشكالية الموجهة للتحليل والمناقشة وهي كالآتي:

أولاً: ماذا نقصد بالمفهمة ؟ والدلالات المترتبة عنها ؟

ثانياً: ما هي مرتبة هذه القدرة ومنزلتها في درس الفلسفة؟

ثالثاً: هل توجد أمثلة لقدرة المفهمة في تاريخ الفلسفة عموماً، الذي جعلها خصيصة هذا الفكر ؟

رابعاً: هل تتحدد مهمة الفلسفة في خلق وإبداع المفاهيم كما دعى إلى ذلك كل من دولوز وغواتاري؟

سننتقل الآن، للإجابة عن الأسئلة أعلاه، التي قلنا أن الغرض منها هو أنها تؤطرنا من أجل التوجيه والإرشاد الحسن لقيادة التحليل والمناقشة، وأن الغرض في النهاية، هو الوصول إلى بيان هذه القدرة، أقصد قدرة المفهمة وأهميتها في درس الفلسفة .

أولاً: تحديد عملية المفهمة والدلالات المترتبة عنها:

في حقيقة الأمر، ليس من السهل الإنطلاق من بيان مفهوم «المفهمة»، دون الإنطلاق من تلك الدلالات المترتبة عنها، قد يقول قائل، لماذا ننطلق من المترتب عنها ولا نعود إليها هي في ذاتها ؟ نجيب أنه من الصعب تحديد جوهر هذا المفهوم دون الإنطلاق من تلك الدلالات التي نتجت عنه، أو التي يتم الإدعاء بأنها تمثله، غير أنها عكس ذلك، تجعل منه يتعرض للكثير من اللبس والغموض وعدم فهم كنهه، إن لم نقل أنها تزيد من ضبابيته، لعل من بين هذه التعريفات، أن المفهمة تشير إلى عملية الفهم أو هي عبارة عن تصور أولي، هذا الأخير الذي يجعل منه مشابها للتمثلات بإعتبارها تصورات أولية، أو عندما نقول عنها أنها تصور عقلي أو عبارة عن فكرة، خاصة أنه إذا قلنا عن المفهوم أنه تصور أولي يحيل في اللغة الفرنسية إلى  Notion والذي قد يدل بشكل عام على المصوغة أو الموضوعة، هذه الأخيرة تحتاج بدورها إلى تحديد، لأنه هناك فرق بين الموضوعة والمفهوم، لذلك يخبرنا أندري لالاند في موسوعته بأن المفهوم «يعبر عن آراء خاصة قد تكون أحيانا شديدة التداول ومستعملة بأشكال شتى.» [2]، عكس المفهوم الدقيقConcept  الذي يشير حسب لالاند دائماً إلى «المؤسس علميا أو فلسفيا مما يجعله فكرة مجردة وعامة أو على الأقل قابلة للتعميم» [3]، إذن ما يميز المفهوم أولاً هو ذلك التجريد، أو الفكرة المجردة الشمولية والكونية والعامة والمتعالية، بمعنى أنه ينطلق من دلالات متداولة وسائدة، ويعمل على تجاوزها من أجل أن يصير أكثر تجريدا وعمومية ويصل لتلك الدقة والتقنية، إن لم نقل الموضوعية والصرامة، والضبط الإبستيمي، لذلك يؤكد مشيل طوزي أن المفهمة La conceptualisation  هي «عملية ترتبط بتحويل مدلول ما من مستوى التصور الأولي La notion  إلى المستوى الدقيق le concept » [4]، هكذا نكون قد وصلنا إلى تعريف دقيق جداً لعملية المفهمة مع ميشيل طوزي، المهم فيه هو ذلك الإنتقال من التصور الأولي الذي هناك من يعتبره مفهوما، وهو في الحقيقة مجرد مفهوم أولي، بمعنى بدئي، لم يصل بعد إلى مرتبة الدقة والتقنية أو مرحلة الضبط الإبستيمي، وبالتالي من الضروري جداً الإنطلاق من ذلك التداول العمومي للمفهوم إلى مرحلة ضبطه جيداً وجعله يأخذ صبغة دقيقة منظمة، كما يجب توضيح أن المفهمة ليست لها علاقة بتلك الفكرة الأولية أو حتى بالأفكار، أو التصورات الذهنية، أو حتى العقل، أو التصور العقلي، عملية المفهمة هي عملية إنتقالية بالأساس، تنتقل بنا من تصور أولي إلى تصور أكثر دقة، ومن حقل إلى حقول وميادين معرفية أخرى، فما يميز المفهوم الفلسفي هو أنه كائن مترحل أو رَحَّالٌ.

ثانياً: قدرة المفهمة ومنزلتها في درس الفلسفة:

إذن يمكن إعتبار أن الدرس الفلسفي -كما قلنا سابقاً- درس في الحقيقة يقوم على عملية المفهمة، ويتجلى ذلك من خلال حث وتأكيد التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي بالمغرب، «على إعتماد المفاهيم Les notions  كمرتكزات أساسية في الدرس الفلسفي [...]، وذلك بحكم إرتباطها الوطيد بالإنتاج الفلسفي، [...]، وهي تبعا لذلك ليست عناوين لدروس بالمعنى التقليدي، وإنما هي موضوعات ومواد للتفكير الفلسفي على نحو إشكالي (لما يمكن أن تحمله من إلتباسات ومفارقات)، ومسالك لإنشاء فضاء فلسفي تتقاطع فيه الأنساق والخطابات الفلسفية على نحو وظيفي (غير كرونولوجي أو تعاقبي) .» [5]، هنا ندرك مدى أهمية ومرتبة قدرة المفهمة ومنزلتها في درس الفلسفة، حيث أن هذا الأخير يظل دائماً ما يضفي عليه الطابع الفلسفي هو المفاهيم، وهذا ما نلحظه في الكتاب المدرسي الخاص بالتلميذ والتلميذة، منذ السنة الأولى باكالوريا الذي يشهد تنوعا وتعددا في المفاهيم بدءا بمفهوم الوعي واللاوعي والرغبة واللغة والتقنية والعلم والشغل والتبادل والفن ...إلخ، إذن هذه كلها مفاهيم فلسفية متداخلة مع باقي المواد الأخرى، حتى السنة الثانية بكالوريا التي تعرف أيضاً تعددا وتنوعا مفاهيميا من الشخص والغير والتاريخ والنظرية والتجربة والحقيقة والدولة والعنف والحق والعدالة والواجب والسعادة والحرية ...إلخ، التي تفصل بينهما مجزوءات، ومن هنا يتضح لنا جَلِياً مدى منزلة وقيمة هذه القدرة وكيف تشكل الخيط الناظم للدرس الفلسفي أو إن لم نقل للتفكير الفلسفي عموماً.

ثالثاً: أمثلة من تاريخ الفلسفة على قدرة المفهمة:

سبق وأن أشرنا في مقدمتنا أن تاريخ الفلسفة لهو تاريخ مفاهيمي بإمتياز، والآن سنعمل على تقديم أمثلة على ذلك، خاصة وأن التاريخ الضخم جداً والممتد للفلسفة، والذي يتحول إلى تراث "مقدس" في بعض الأحيان للمتخصص في الفلسفة أو بمثابة الكتاب المقدس بالنسبة للفيلسوف الذي يعمل على فحصه وتمحيصه ونقده دائماً أو إنتقاء الأفضل والملائم منه، يجعل من الفلسفة كيانا يحمل في طياته موروثا أصيلا في الحقيقة، إن لم نقل إرثا حقيقيا من المفاهيم، فعند عودتنا إلى الحكماء الطبيعيون الأوائل، نجد أنهم أول من بحثوا في إشكالية الأصل أو الآرخي، وقدموا مفاهيم أو عناصر أثناء الإجابة عنها، رغم أن هذه المفاهيم ذي صبغة طبيعية مستمدة من الطبيعة، لكن إستعمالهم لها كان فلسفيا، وحتى عند إنتقالنا إلى أفلاطون الذي يذكرنا بنظرية/مفهوم المثل، وسقراط الذي يذكرنا بنظرية الحد الماهوي والذي أثار العديد من الإشكالات بخصوص العديد من المفاهيم المبثوثة في المحاورات الأفلاطونية على سبيل المثال لا الحصر مفهوم العدالة نموذجاً خاصة في الكتب الأربعة الأولى من محاورة الجمهورية التي كانت متداولة بطريقة خاطئة لدى عوام الناس، وكذلك أرسطو ونظريته في العلل الأربعة، أضف إلى ذلك أفلوطين ونظرية الفيض، ديكارت ومفهوم كوجيطو، المونادات لدى لايبنتز، إسبينوزا وإبداعه لمفهوم الله في كتابه "الإتيقا"، إضافة إلى مفهوم العقد الإجتماعي مع جون جاك روسو وطوماس هوبز وجون لوك، كانط ومفهوم المقولات القبلية، غاستون باشلار والقطيعة الإبستيمولوجية، كارل بوبر والقابلية للتكذيب، ...إلى آخره، إذا قمنا بجرد وإحصاء كل المفاهيم عبر تاريخ الفلسفة وإستعمالها من قبل الفلاسفة، فلن تكفينا هذه المقالة، ولا حتى كتاب، بل يجب تخصيص مجلد لها وهذا ما سبق وأن قام به أندري لالاند في موسوعته الفلسفية المعنونة ب "المعجم التقني والنقدي للفلسفة"، لكن ما أردت إثارته هنا هو أن الفلسفة عبر تاريخها عبارة عن سرداب من المفاهيم، وبالتالي يجب دائماً قراءة هذا التاريخ وإعادة قراءته عبر المفاهيم المثارة فيه، بل حتى الإشكالات، وإعتماد المفهوم مدخلا لقراءة الفيلسوف، ذلك أن كل فيلسوف أبدع مفهوما خاصا به هو، لنعد مثلاً إلى كتاب علم الإتيقا لسبينوزا لا يمكن قراءته بدون معرفة المفاهيم التي إستعملها إسبينوزا، المتخصصين في إسبينوزا عملوا على إبداع "معجم إسبينوزا" لصاحبه  "راموند شارلي" Charles Ramond خاصة مفهوم الجوهر والعرض، ...إلى أخره من المفاهيم،  لذلك عمد إسبينوزا على تحديد المفاهيم أولاً، بل تبيان ما يقصده بها ليشرع فيما بعد في إستعمالها، لذلك يعمل الفيلسوف على  تحديد معجم مفاهيمي خاص به، إذن الفلسفة فكر مفهومي، لكنها لا تحتكر المفهوم الذي نجده في حقول معرفية أخرى مثل العلوم بكل أصنافها، كما أنه يجب الإنتباه إلى خصوصية المفهوم الفلسفي ومصدره .

هذا التصور الذي يركز كثيراً على أن مهمة الفلسفة الأولى تتمثل في إبداع وخلق المفاهيم هو ما نجده عند كل من جيل دولوز وفيلكس غواتاري [6]، اللذان كان ينتقدان كثيراً النظر إلى الفلسفة على أنها تاريخ صياغة وتحديد الكليات العامة أو الأنساق الشمولية، أي أن الفلسفة ليست عبارة عن ركام من المعارف أو ذلك التأمل الخالص، بل هي خلق وإعادة خلق وإبداع للمعرفة بواسطة المفاهيم، فكل فلسفة هي رؤية جديدة إلى العالم من خلال الإبداعية المفاهيمية، حيث أن عملية نحت المفاهيم و صناعتها هي ما تساعد الفيلسوف على إبداع الإشكالات، فيصبح الفيلسوف مثل الفنان المبدع الذي يبتكر مفهوما خاصا به، إذن يمكن تحديد مهمة الفلسفة الجوهرية في خلق وإبداع المفاهيم، وهذا ما يجسده الدرس الفلسفي.

على سبيل الختم، إذن نخلص إلى أن عملية المفهمة ما يميزها بشكل خاص هو ذلك النقلة النوعية أو الطفرة من التصور الأولي أو التمثل البدائي إلى التمثل الذهني المجرد للموضوع، يجعل منها أكثر ضبطا وصرامة، كما عملنا على تمييز المفهمة عن المفاهيم القريبة والمترابطة بها من تصور أولي، وفكرة و تمثل، كما حاولنا بيان مدى قيمة وأهمية ومرتبة قدرة المفهمة في الدرس الفلسفي، بل أكثر من ذلك رأينا أن هذه المفهمة خصيصة التفكير الفلسفي، أي هي ما يميز تاريخ الفلسفة، فهو تاريخ مفاهيمي بإمتياز، وهذا ما يجعل من الفيلسوف يتمكن من خلق الإشكالات أيضاً، وذلك من خلال، مقاربته ونحته للمفهوم جيداً يعثر على العديد من الإشكالات يقوم بطرحها، كأن الفيلسوف يحفر سردابا فإذا به يكتشف الكثير من الإشكالات ويعمل على إخراجها للوجود، لذلك يجب التركيز أثناء تأريخنا للفلسفة على المفاهيم والإشكالات المثارة وليس على الأنساق الفلسفية والنظم الفكرية الكبرى، ولهذا موضوع خاص في الحقيقة، وذلك من أجل مجاوزة تلك الرؤية التي تركز على الأنساق والنظم الفكرية والتصورات والأطاريح التي إشتغل عليها الفلاسفة، دون النظر في المفاهيم التي أبدعها والإشكالات التي أثاراها، لهذا يشكل المفهوم إنشاءاً أو تركيباً ذهنياً وتمثلاً يحاول الفيلسوف من خلاله تمثل العالم أمامه وعنصراً ضرورياً في سيرورة التفلسف، لهذا يجب تمييزه، أي المفهوم، عن كل تصور أولي عام ومجرد، أو عن كل فكرة خالية من المعنى والفائدة، وتمييزه أيضاً عن المقولات أو الاقتباسات المسكوكة التي تلصق بالفيلسوف، فالمفهوم بناء ضمن نسق ومتن الفيلسوف من خلال تعديل حمولته وسقلها جيداً لتلائم الشكل الجديد والغير المسبوق للمتن الفلسفي، فالفلسفة في نهاية المطاف نمط من التفكير المفهومي، لكنها لا تدعي أنها الوحيدة التي تختص بإبداع المفاهيم، فقد يظهر مفهوم في حقل فلسفي معين، لينتقل إلى حقل الفلسفة فيتخذ شكلاً جديداً، عن طريق خلقه وإحيائه من جديد وذلك عبر بث روح التفلسف داخله، والتفكير من خلال المفهوم بأطر وخلفيات فلسفية.

يتخذ المفهوم في الحقيقة صبغة التركيب والشمولية والكونية والامتداد والسيولة والإنجراف لفائدة حقول معرفية أخرى، لدرجة يصعب حده في بعض الأحيان، إنه يشكل رؤية نقدية فاحصة وتمحيصية جديدة للعالم، من خلاله يرى الفيلسوف العالم، ويرغم اللغة على نطق ما لا تنطقه، وكأن الفيلسوف نحات ينحت أعمال فلسفية ثلاثية الأبعاد باستخدام مجموعة متنوعة من الأدوات والأساليب، واستخدام المواد مثله في ذلك مثل أي نحات يستعمل الحجر والخشب والجص والمعادن. المهام الرئيسية للفيلسوف إذن هي: نحت التماثيل/المفاهيم من اللغة والكلمات والخطابات والمصطلحات ومن المواد الأخرى المتاحة له، باستخدام أدوات مثل الأزاميل ومعدات التظفير الخاصة بالنحت الفلسفي كما قلنا بغرض تمثيل ظواهر العالم الواقعي، عبر خلق تمفصل حيوي مع الواقع الفعلي من خلال تكييف المفهوم مع الرؤية الجديدة للعالم.

***

محمد فراح – تخصص فلسفة

........................

مسرد المراجع والمصادر:

[1] – Gilles Deleuze et Félix Guattari: Qu'est-ce que la philosophie? Les éditions de minuit 1991 , p 8 .

[2] – أندري لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، المجلد الأول A-G، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت -باريس، الطبعة الثانية، 2001 .ص 883.

[3] – المرجع نفسه، ص 194 .

[4] – Michel tozzi: Apprendre à philosopher au cours de morale , dossiers pédagogique entre – vues 1999 , p 39 .

[5] – وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، مديرية المناهج، نونبر 2007، ص 5 .

[6] – Gilles Deleuze et Félix Guattari, Ibid , pp 12-13-22.

تمهيد: يوضح ليفي - برول أن المجتمعات البدائية كانت يقظة للعلامات التي تعلن عن الكوارث، على الرغم من عدم القدرة على التنبؤ بها. وهذا ينبغي أن يلهمنا، نحن الذين يجب أن نكون في حالة تأهب اليوم. فماهي العلامات الدالة على قدوم الكوارث؟ وكيف يمكن التوقي منها والاستعداد لتجنب المخاطر والأضرار؟ والى أي مدى يجوز لنا أن نتفق مع أطروحة فريديريك كيك حول الاستعداد لما لا يمكن التنبؤ به؟ وهل يجوز لنا أن نتحدث عن علوم اليقظة عند حدوث الظواهر غير الاعتيادية والاحتراس من المخاطر؟

زمن الكوارث فرصة لإعادة اكتشاف البدائي فينا

يمكننا أن نتوقع وقوع كارثة ـ فمن الصعب التنبؤ بها: فنحن نتوقع كارثة مناخية أو أوبئة، ولكننا لا نستطيع التنبؤ بالتاريخ، أو الحجم، أو المدة، ولا كل العواقب. ومن ثم، يجب على الغرب أن يبتعد عن المفهوم الغربي المحدد للطبيعة باعتبارها مجموعة من الظواهر التي يمكن التنبؤ بها والتحكم فيها ومعرفة البشر بدقة. من خلال التخلي عن اليقينيات التي لديه حول الطبيعة، يتخلى الغرب بالضرورة عن تلك التي لديه حول العقل. ثم يجد بعد ذلك تصورًا للطبيعة و"عقلية" ليستا - أو لم تعدا - خاصته، ولكنها تنتمي إلى المجتمعات التي وصفها علماء الأنثروبولوجيا في القرن الماضي بأنها "بدائية". في الواقع، أكد ليفي بروهل (1857-1939) أن “العقلية البدائية” تتجاهل الروابط السببية، فكل الأحداث لها أصل باطني. بالنسبة لهذه العقلية، ليس هناك مجال لمحاولة التنبؤ بالأحداث: على الأكثر يمكننا أن نتوقعها، وأن نكون يقظين للعلامات التي تعلن عنها - يقظة تختلف عن "الحصافة" القديمة التي لا تعد فيها فضيلة فكرية. العقلية البدائية تفسر ولا تحسب (ص130). ويجد الغرب هذه العقلية في نفسه عندما يتحدى مسار الأحداث قدرات التنبؤ العقلانية. إن القرن العشرين مليء بهذه الأحداث، أو الكوارث، التي لا يمكن التنبؤ بحجمها وفظاعتها؛ أقصى ما يمكننا فعله هو أن نكون يقظين للعلامات التي تعلن عنها. ومع ذلك، فإن المدرسة الفرنسية للأنثروبولوجيا - من دوركهايم إلى ليفي برول، مرورا بموس وهيرتز - معاصرة لهذه الكوارث (الحربين العالميتين، وتفشي معاداة السامية، وما إلى ذلك). من خلال دراسة حياة ليفي-برول وعمله، يحاول ف. كيك إثبات أن هذه المعاصرة ليست محض صدفة: فوفقًا له، تصور ليفي-برول الأنثروبولوجيا على أنها "علم اليقظة" (ص 9) - وهذا يعني كعلم يدرس الطريقة التي تفهم بها المجتمعات البدائية ما لا يمكن التنبؤ به - وباعتباره "علمًا يقظًا" (ص 9)، والذي يوضح بالقدوة كيفية الاستعداد لما لا يمكن التنبؤ به. كان عمل ليفي برول السياسي متسقًا مع تفكيره: فقد شارك عام 1934 في تأسيس لجنة اليقظة للمثقفين المناهضين للفاشية، وسعى إلى التحضير لوصول المثقفين اليهود الذين أُجبروا على الذهاب إلى المنفى في الولايات المتحدة (ص)..203). في هذا الكتاب، الذي يعتمد على أرشيفات العائلة وعلى مناقشات مع أحفاد ليفي-بريل - مما يجعله مجموعة قيمة للغاية من المعلومات المفيدة لفهم أفضل لعمله - يساهم ف. كيك في "سلسلة نسب الاستعداد للكوارث". (ص221).

(إعادة) ولادة عقليتنا البدائية: قضية دريفوس والحرب العظمى

أعاد كيك قراءة جميع أعمال ليفي-بريل، وسعى بشكل منهجي إلى إقامة صلة بين الأحداث التاريخية التي شهدها والمفاهيم التي طورها. يتمتع نهجه بميزة إظهار أن مفاهيم أنثروبولوجيا ليفي-بريل لا تخدم فقط لوصف عقلية غير متجانسة مع عقليتنا: بل "نحن" على المحك، وتستفيد أنثروبولوجيا ليفي-برول من قراءتها باعتبارها عقلية الأنثروبولوجيا الانعكاسية. بالنسبة لليفي برول، العقلية البدائية لا تمثل الأشياء كما نفعل: إنها تتخيل علاقات المشاركة بين الأشياء، التي تشكل كيانها. إذا تمكن البورورو من التأكيد على أنهم أراراس ، فذلك لأنهم لا يملكون تمثيلًا مفاهيميًا للأول متميزًا عن تمثيل الأخير، ولكن لديهم تجربة صوفية للمشاركة بينهم وبين الأراراس. يُظهر إف كيك الآن أن معاصري ليفي-بريل لم يكونوا غرباء على هذه العقلية، والتي كان من الممكن أن تكون مصدر إلهام ليفي-بريل: هل الرسوم الكاريكاتورية لطيور جوريس أو دريفوس لا تعتمد على آلية نفسية مشابهة لتلك الخاصة بآل بورورو الذين يتماثلون مع الأراراس (ص 96 وما يليها)؟ وبالمثل، ألا تعني أسئلة الاشتراكيين حول مشاركتهم في الحكومة، مثل العقلية البدائية، ما هي المشاركة التي تحدد وجود الأشياء (ص 94 وما يليها)؟

يولي فريديريك كيك اهتمامًا خاصًا لقضية دريفوس والحرب العظمى. يتساءل في البداية إلى أي مدى "إن التعارض الذي سيقيمه ليفي-بريل بين "العقلية البدائية" و"العقلية المتحضرة" يستمد مصدره من قضية دريفوس" (ص 59)، والتي تنفصل خلالها عقليتان بشكل جذري المتعارضة: أتباع درايفوسارد، مدفوعين بالبحث العقلاني عن الحقيقة، وأتباع مناهضي درايفوسارد، غير المبالين بالدليل الموضوعي. وتشترك العقلية المضادة لدريفوس مع العقلية البدائية في أنها لا تبالي بمبدأ عدم التناقض ومبدأ السببية. برتيلون، على سبيل المثال، الذي ينوي بعناد إثبات ذنب دريفوس، "يفكر كالهمجي" (ص 76)، لأن ذنب دريفوس بالنسبة له هو حقيقة لا يهمها كثيرًا سواء كانت جسدية أو منطقية مستحيلة. أما دريفوس، فهو يختبر التناقض بين الشعور والعقل، أي بين العقليتين اللتين سينظرهما ليفي-برول (ص 64 وما بعدها).يشرع كيك بعد ذلك في إثبات أن الانخراط في الحرب العظمى قاد ليفي-بريل إلى تطوير مفهوم جديد للعقلية البدائية: لم يعد الأمر محل تساؤل، كما كان الحال في وقت قضية دريفوس والعقليات الوظيفية في المجتمعات الدنيا ( 1910)، لوصف عقلية لا تبالي بالتناقض، ولكنها عقلية يسكنها الشعور بعدم القدرة على التنبؤ، ومستعدة لمواجهته (ص 114). يؤكد إف كيك أن الحرب والحوادث، بحكم تعريفها التي لا يمكن التنبؤ بها، والتي سببتها المجهود الحربي، هي التي دفعت ليفي برول إلى تعديل مفهومه الأول عن العقلية البدائية. تؤدي أطروحته إلى وجهات نظر أصلية للغاية: بالنسبة له، "العقلية البدائية" (1922) "هي انعكاس للحرب، التي ضاعفت الحوادث وأنتجت تمثيلات جماعية جديدة توحد الجسد الاجتماعي" (ص 117). هكذا فإن قضية دريفوس والحرب العظمى قد مكنت معاصري ليفي بروهل من إعادة اكتشاف سمات معينة للعقلية البدائية. ومن خلال مراقبتهم كان هذا الأخير قد صاغ مفاهيمه.

بعض التحفظات حول الارتباط المفترض بين المفاهيم والأحداث التاريخية

إن تفسير ظهور مفاهيم ليفي برول من خلال أحداث عصره يثير بعض الصعوبات. بادئ ذي بدء، فإن التعارض بين عقليات دريفوسارد ومناهضة دريفوسارد من ناحية، وبين الشعور والعقل من ناحية أخرى، أعطى بلا شك ليفي برول الفرصة لملاحظة الاختلافات غير القابلة للاختزال بين طرق التفكير، أو بين "العقلية". وظائف "؛ ومع ذلك، هل سنذهب إلى حد الإشارة إلى أن وصفه الأنثروبولوجي للتعارض بين هذه الأنواع العقلية "يأخذ مصدره" هناك (ص 59)؟ لقد شغل تفسير هذا التعارض، أو هذا "الانقسام الكبير"، علماء الأنثروبولوجيا لفترة طويلة، بل وشكل الموضوع الرئيسي لاعتباراتهم - أي قبل وقت طويل من اندلاع قضية دريفوس. يمكننا، بالمثل، التعبير عن بعض التحفظات، عندما يؤكد كيك أن قضية دريفوس هي التي “تقود (…) موس إلى تصور الانتقال من السحر إلى العلم  باعتباره توترًا بنيويًا” (ص 76-77)، وبشكل أعم، أن المقالات التي خصصها هيوبرت وموس للتضحية والسحر يجب أن تُقرأ “كردود فعل على قضية دريفوس” (ص 238، الحاشية 120). فمن ناحية، في الواقع، يعد البعد السياسي للتضحية وفائدتها الاجتماعية موضوعات هامشية نسبيًا في «مقالة عن طبيعة التضحية ووظيفتها» (1899): تمت مناقشتها فقط في الخاتمة؛ ومن ناحية أخرى، فإن "مخطط نظرية السحر" (1902) لا يشبه كثيرًا نصًا عرضيًا. يمكن للأنثروبولوجيا أن تفسر الأحداث الجارية، لكن الأحداث الجارية لا يمكنها أن تفسر بشكل كامل ظهور مفاهيم الأنثروبولوجيا. فيما يتعلق بتأثير الحرب العالمية الأولى على إعادة توجيه مفهوم ليفي-بروهليان للعقلية البدائية، يبدو أن ف. كيك يؤكد أن مفهوم العقلية البدائية التي يسكنها الشعور بعدم القدرة على التنبؤ يحل محل عقلية غير مبالية بالتناقض. ومع ذلك، استمر ليفي برول، حتى في دفاتر ملاحظاته، في اعتبار أن العقلية البدائية تستوعب التناقضات. علاوة على ذلك، إذا لم يكن هذان المفهومان للعقلية البدائية متنافيين، وحتى إذا كان الشعور بعدم القدرة على التنبؤ يمكن اعتباره نتيجة لعدم الاكتراث بالتناقض، فإن علاقة السبب والنتيجة المفترضة بين المشاركة في الحرب العظمى والحرب العالمية الثانية هي علاقة السبب والنتيجة المفترضة. إن مراجعة مفهوم العقلية البدائية يصبح موضع شك.

راهنية ليفي بريل والحراس والمبلغين وسياسة اليقظة

تكمن إحدى أصالة عمل ف. كيك في استخدام مفاهيم معاصرة للغاية لفهم أنثروبولوجيا وفلسفة القرن الماضي: بالنسبة له، تتنبأ نظرية دوركايم في الاجتماعي بمناقشاتنا حول موضوع المبدأ الاحترازي؛ يحتوي كتاب بيرجسون على وصف للمبلغين عن المخالفات؛ ووصف ليفي برول للحراس. يمكن اختبار أهمية ليفي برول بشكل أكبر من خلال قراءة الصفحات المخصصة للعدوى (ص 144 وما يليها)، والتي يمكن أن تكون ذات أهمية كبيرة للتفكير في الوباء الذي بالكاد خرجنا منه. وهكذا يهدف عمل ف. كيك إلى "إظهار أهمية الفكر السياسي للوسيان ليفي بروهل" (ص 8). ولكن ما الذي يمكن أن يكون حاضرًا وذو صلة في خطاب عالم الأنثروبولوجيا، إن لم يكن مؤيدًا للاستعمار، أو على الأقل “أبويًا” جدًا (ص 169)؟

يوضح فريديريك كيك أن الرحلة التي قام بها ليفي برول إلى الفلبين عام 1920 عطلت مخططه للانتقال من العقلية ما قبل المنطقية إلى العقلية المنطقية (ص 158). والثاني ليس أكثر تطوراً ولا أفضل من الأول: فهما مختلفان جذرياً. وهذا الآخر يطالب به الرعايا الاستعماريون داخل حركات الاستقلال، وهو ما يشجعه ليفي-بريل – لدرجة أنه يمكن فهم عمله، على سبيل المثال من قبل ب. نيزان، على أنه “نقد قاس للاستعمار” (مقتبس ص 182). إذا لم يحتفظ تاريخ الأنثروبولوجيا بهذه النسخة، فذلك بلا شك لأنه، حتى عندما ينظر إلى مجتمعات مثل الفلبين، لا ينحرف ليفي-برول عن وجهة النظر العرقية والأبوية: فهو يدافع، على سبيل المثال، خلال المؤتمرات المنعقدة في بكين، عن: "الحاجة إلى جلب مبادئ التنوير الأوروبي والعقلانية الفرنسية" إلى العالم الشرقي (ص 164). إن خطاب ليفي-بريل حول المستعمرات يتناغم مع خطاب جوريس (ص152). إن قرب ليفي-برول من الاشتراكية، ومن جوريس على وجه الخصوص، هو موضوع أساسي في كتاب ف. كيك: "جينيالوجيا الاستعداد للكوارث" مصنوعة "من الاشتراكية الفرنسية وتعبيرها في العلوم الاجتماعية" (ص 221). وهذه، بالنسبة للمؤلف، طريقة لاقتراح تفسير آخر لجينالوجيا الإعداد أكثر من التفسير الفردي الأساسي لليبرالية الجديدة. إنها، بالتالي، طريقة لتحديث الاشتراكية (اشتراكية جوريس وليفي برول)، التي وقفت إلى جانب دريفوس، ومن أجل التحرر، دون أخطاء أو تحيزات.

خاتمة

سنتذكر في النهاية من كتاب إف كيك أنه يقدم إجابات قوية على أسئلة عصرنا، وأنه، مثل أطروحة ليفي-برول حول فكرة المسؤولية (1884)، يستفيد من قراءته على أنه "مساهمة في "النقاش العام" (ص 33)، وليس فقط على تاريخ الأفكار. كيف نستعد للكوارث؟ بفضل سياسة اليقظة الحقيقية؛ وهذا هو تعريف "الاشتراكية" الذي يقود إليه هذا الكتاب. ثم يصف كيك جوريس، بسبب تصرفاته خلال قضية دريفوس، بأنه "المبلغ عن المخالفات" (ص 69)، ودريفوس، مثل كل أولئك الذين يناضلون من أجل العدالة والتحرر والحقيقة، من "الحارس". الحراس يدركون إشارات التحذير قبل الآخرين؛ إنهم يقفون على الحدود بين العالم الآخر، والعالم الحالي، الذي يعانون من ظلمه. إن المثال الاجتماعي لا يمكن إدراكه وتوقعه إلا من قِبَل أولئك الذين لم تنقرض تماما هذه العقلية التي ينظّرها العلم الاجتماعي ــ وبالتالي علم اليقظة ــ. فما قيمة علوم اليقظة أمام أهوال الحروب المفاجئة والكوارث الطبيعية والأعاصير المدمرة؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

..........................

المصدر

Frédéric Keck, Préparer l’imprévisible. Lévy-Bruhl et les sciences de la vigilance, Paris, Puf, 2023, 286 p.

يبني أفلاطون نظريته في المعرفة على أساس منهج محدد، يتمثل في الجدل الذي يعني فن المناقشة الهادفة للوصول الى الحقيقة، لأن المناقشة التي لا تهدف الى ذلك لا تعني الجدل مطلقاً، فالوصول الى الحقيقة هو الجدل الذي أراد أفلاطون تثبيته، وعلى الرغم من أن هنالك تراثاً فلسفياً سبق أفلاطون، احتوى على مناقشات جادة بشأن الجدل، تمثلت بهيراقليطس فيلسوف الصيرورة، والمدرسة الإيلية لاسيما عند زينون الإيلي الذي استخدم الجدل في الدفاع عن أفكار استاذه بارمنيدس في نفي الحركة، حتى عدَّهُ أرسطو مؤسساً لعلم الجدل، فضلاً عن استخدامه الجدل ايضاً لغرض تمويه الحقيقة عند السفسطائيين، الى أن جاء سقراط بطريقتيه، التوليد والتهكم.

 نقول على الرغم من كل هذه المحاولات استطاع أفلاطون أن يضع للجدل منهجاً ويقسمه الى شقين هما الطريق الصاعد والطريق النازل، وعد ذلك الطريق العلمي السليم الذي يتبعه طالب المعرفة للوصول الى الحقيقة التي تكمن في التدرج صعوداً من أولى مراحل المعرفة وصولاً الى معرفة مثال الخير في المعرفة العقلية. وبعد أن حدد منهجاً لطالب المعرفة، قسَّم المعرفة الى مراتب أربع هي المعرفة الحسية. المعرفة الظنية. المعرفة الاستدلالية. المعرفة العقلية. وقد ناقش أفلاطون موضوع المعرفة الحسية المتمثل في الظواهر المحسوسة، من لون وطعم ورائحة، وجميع عوارض الأجسام المتغيرة في محاوراته "مينون" و" فيدون" و" الجمهورية " و" ثياتيتوس" و" فايدروس"، متخذاً من التمييز بين الجسد والنفس، أساساً لنقد المعرفة الحسية، فكل ما يطرأ عليه تغيير في حالة وجوده، يضعه الى صف الجسم لأن نهاية الجسم التفسخ والانحلال، أما ما يبقى ثابتاً فهو ينتمي الى النفس، لأنها ثابتة، وقدم أدلة عديدة على خلودها. عليه فاِن الموجودات الطبيعية التي تمتلك صفات مشابهة لصفات الجسم فانها تنتمي إليه، والتي ليس لها مثل هذه الصفات فأنها تنتمي الى النفس . والمعرفة الحسية ترتبط بالموجودات الطبيعية ولا ترتبط مطلقاً بالنفس، والحس يرتبط بأدواته التي هي الحواس الخمس، المختلفة الوظيفة والنتيجة، وكل ما ندركه بحاسة لا نستطيع إدراكه بالحاسة الأخرى، وحتى الحاسة الواحدة هي الأخرى تتعرض للتغير، فالمريض يتذوق طعم النبيذ على نحو مغاير لتذوقه له في حالة كونه معافى كما جاء في محاورة ثياتيتوس. ثم ان عملية حدوث الإحساس تتم على وفق التفاعل الذي يجري بين حواس الإنسان وموجودات العالم الخارجي، أي أن هناك عنصرين يؤلفان العملية الحسية هما الفاعل والمنفعل، المُدرِك والمُدرَك، ولما كان الإحساس يقوم على هذا التفاعل، إذاً فإن أفلاطون لا يثق بتلك المعرفة التي نحصل عليها عن طريق الحس لإختلاف وظائف الحواس بعضها عن البعض الآخر ولقصور الحاسة الواحدة أحياناً، ولكون موجودات العالم الخارجي هي الأخرى متغيرة، لكنه وعلى الرغم من ذلك لا ينكر مطلقاً وجود هذه المعرفة، بل يعدُّها ضرورية، ولا بد أن يمر بها طالب المعرفة، ولا يمكن إلغاؤها، لأنها موجودة أصلاً  بل أن ما يريد قوله، هو عدم الاعتماد عليها وسيلة للمعرفة. وتأتي المعرفة الظَّنية بالمرتبة الثانية من مراتب المعرفة، وموضوعها الصور، وعالم الطبيعة والفن، وترتبط المعرفة الظَّنية بالوجـود المحسوس، ويوضح أفلاطون طبيعـة هذه المعرفـة في محـاورة " الجمهورية "، بل ينقدها أيضاً واصفاً الرجل الذي يقتصر عليهـا فقط انه يعيش " في حلم وهو بعيد أن يكون مستيقظاً، ذلك أن الحُكم كما يُعَّرفه هو أخذ ما يشبه الشيء، ليس على أنه مجرد شبيـه، بل على انه الشيء نفسه " مثلما يقول عزت قرني في كتابه " الحكمة الأفلاطونية ". والمعرفة الظَّنية هي تنظيم للمدركات الحسية في نظام يحدد القَبلُ والبَعدُ، ولما كانت هي تنظيم للمدركات الحسية، فانها ترتبط بالإدراك الحسي ولا ترتبط بالعقل، والإدراك الحسي معناه عملية ملء الإحساس بكلمات، وهذه الكلمات تصبح جزءاً من الذاكرة، والحس حادثة وصفت بكلمات، وهذا الوصف احتفظت به، والاحتفاظ يسهل عملية الحُكم، والحُكم ما هو إلَّا حُكمٌ من الإدراك الحسي، وهو أما صادق أو كاذب، ولتوضيح ذلك فان سقراط يؤكد في فايدروس: " يجب أن يفهم الإنسان بطريقة الإدراك الكامل بالكلمات نتائج أفعال الحواس والتي تمثل كلاً متكاملاً، وذلك عن طريق انعكاس الحواس وتذكر الأشياء، والتي تكون للروح البشرية وحدها القدرة أو القابلية على ذلك". أما في محاورة " ثياتيتوس " فيوضحه أفلاطون بمثال الشَمع، حيث يفرض انه يوجد في نفوسنا طبقة من الشمع متفاوتة النسب، فهي عند أحدنا مثلاً أغزر أو أخف منها عند الآخر، أو أكثف أو أنقى أو أصلب أو أكثر ليونة، ووظيفة هذه الطبقة الشمعية الاحتفاظ بما قد رأيناه أو سمعناه أو تصورناه عن طريق الإحساسات، وهذا الاحتفاظ يحفر بالشمع ببروز علامات ينقشها عليها "وما ينطبع فيه يكون لنا عنه ذاكرة وعلم طالما ظلت صورته موجودة، وما ينمحي ولم ينجح في الانطباع ننساه ولا نعرفه على الإطلاق". ويناقش حالات الحُكم الصادق والكاذب، والهدف من ذلك عدم الاعتماد على هذه المعرفة لأنها تعتمد على المحسوسات والمحسوسات متغيرة متبدلة، لذا فالأحكام المرتبطة بها هي الأخرى متغيرة ومتبدلة، والمعرفة الظَّنية ليست علماً لأن العلم صادق، بينما الظَّنُ يحتمل الصدق والكذب، والظَّنُ لا يُنقل الى الغير، لأن موضوعه متغير، وعلى الرغم من ذلك تبقى المعرفة الظَّنية هي الدرجة الثانية في سلم المعرفة، وعلى طالب المعرفة المرور عبرها الى ما هو أرقى منها. وتأتي بعدها المعرفة الاستدلالية التي يوضحها أفلاطون في محاورة الجمهورية عند نهاية الكتاب السادس معتمداً في توضيحها على مثال الخيط، الذي عدَّ فيه الجزء الأول من القسم الثاني يشمل حقائق الرياضيات، في الوقت الذي عدَّ فيه القسم الأول بجزأيه يشمل المعرفة الحسية والظَّنية، وهذا القسم لا بد من أن تعتمد عليه النفس كي تستطيع الرقي الى المعرفة الاستدلالية، لذا نجد أن عالم الهندسة والحساب يتكون من الأعداد الفردية والزوجية، ومن الإشكال والزوايا لأنهم يعدونها أموراً بينة في ذاتها، فهي معروفة لهم وللآخرين، ويحاولون من خلالها الوصول الى المربع المطلق والقطر المطلق والعدد المطلق، لكنهم لا يصلون اليه بحسب اعتقاد افلاطون لأن طريقة برهانهم او منهجهم مختلفة عن منهج الفيلسوف الذي يصل الى هذا اليقين عن طريق استخدامه طريقتي الجمع والقسمة لغرض التحديد والتصنيف، وبهذه الطريقة وبمعونـة الادراك للصور يصل الى معرفة المُثُل ونظامهـا الكلي وكما جاء في محـاورة " طيماوس". فضلاً عن ذلك فان أفلاطون أناط للرياضيات أهمية خاصة ودليل ذلك ما كتبه على باب الأكاديمية، وعدَّ العلوم الرياضية مواداً أساسية في تعليم تلامذته ومناقشته لتلك العلوم وتصنيفها على وفق اهميتها، اذ يبدأ بالحساب المقسوم على نوعين الحساب العملي والحساب الفلسفي، والهندسة بشقيها الهندسة الثنائية الأبعاد، المُسطحة أو البسيطة، والهندسة الثلاثية الأبعاد " المُجسمة " وعلم الفلك، وأخيراً الموسيقى. ويمكن القول أن أفلاطون عدَّ المعرفة الاستدلالية مرحلة وسطى بين الظَّن والعلم الحقيقي،  ولكنها أرقى من الظَّن لأنها كلية، مفيدة في الصناعات والفنون والعلوم، وموضوعاتها ليست المحسوسات ولا المُثُل، وإنما لها طبيعة متوسطة بينهما فهي أعلى من المحسوسات وأدنى من المُثُل، ثم أنه عدَّ كل ما كانت طبيعته غير حسية أكثر صدقاً مما هو حسيَّ، والطبيعة غير الحسية للأشياء هي وجودها الحقيقي، وهذه الطبيعة غير الحسية هي التي توصل الفيلسوف للانتقال الى المعرفة النهائية التي هي المعرفة العقلية. أما المرتبة النهائية التي يهدف إليها طالب المعرفة فهي المعرفة العقلية لأن موضوعها الوجود الخالد الأبدي غير المتغير، والعقل هو الأداة التي يستخدمها الفيلسوف في سبيل الوصول اليها  معتمداً على الجدل الصاعد الذي يمثل القسم الاول من اقسام الديالكتيك، وهذه المعرفة هي ركيزة العلم والفلسفة،  لذا كانت كل تحليلات أفلاطون وتشبيهاته في مثال الكهف والخيط وتدرج الجمال وتقسيمات المعرفة السابقة ونقده لها، تهدف للوصول الى هذه المعرفة، ويمكن بيان رأيه في طبيعة هذه المعرفة من خلال النصوص الآتية التي يوردها عزت قرني في " الحكمة الأفلاطونية: " فهي – أي المعرفة العقلية – أن يستطيع الفيلسوف الارتفاع الى الأشياء في ذاتها، وأن يراها في جوهرهـا " ،" وهي معرفة الوجود المطلق الثابت الخالد الواحد" ، و" حالة النفس فيها تكون تأملاً لتلك الموضوعات العقلية الثابتة الإلهية بحيث يصير الفكر هو نفسه إلهياً مُنَظماً على نسق الموضوعات التي يتأملها "، " فالنفس حينما تتجه الى ما يتغير ويخضع للكون والفساد ويتصف بالغموض، فإنها تضطرب وتنتقل بلا توقف من شيء الى آخر بين المتعددات ويبدو وكأنها غير قادرة على التفكير، أما حينما تُثَبت انظارها على ما ينيره ضوء الحقيقة والوجود فإنها عند ذلك تفهم وتعرف". وعلى هذا الأساس فان المعرفة العقلية هي معرفة الماهيات الثابتة غير المتصلة أبداً بالعالم الحسي، ونظراً لكونها غير متصلة بالعالم الحسي فهي صادقة صدقاً يقينياً لا يقبل اي نقاش  وصدقها قائم على موضوعها، وموضوعها هو الوجود الحقيقي الكائن من طبعه على حال واحدة في ذاته، والذي لا يتغير بل يبقى دائماً كما هو وتستمد منه الموجودات كافة التي تقع في رتبة أدنى منه وجودها .

- علاقة السياسة بمراتب المعرفة

تكمن العلاقة بين السياسة والمعرفة، في بيان غاية أفلاطون وهدفه من تقسيمات المعرفة الى هذه المرتبات الاربع بهدف تثبيت كون المعرفة الحقة الصادقة اليقينية هي المعرفة العقلية، وعندما يصل الى هذه الغاية، ينتقل الى السياسة لأنه يجعل من الفيلسوف الشخص الوحيد القادر على ادراك الكمال، أي الذي يدرك حقيقة الاشياء، أي المُثُل، فالفلاسفة هم وحدهم القادرون على ادراك الأبدي غير المتغير، ولما كان العاجزون عن إدراكه تائهين في بيداء التغير وتعدد الصور، فهم ليسوا فلاسفة، والتائهون هم الناس الذين تغريهم طبيعة المعرفة الحسية أو الظنية أو الاستدلالية، ويعتقدون بأنها المعرفة الحقة، وهم واهمـون ومختلفـون عن الفيلسوف الذي " يسوق كل عرق نابض في جسمه لإدراك الوجود الحقيقي " . وهدف الفيلسوف هو ادراك طبائع الاشياء، وعندما يدركها تتفجر في نفسه ينابيع الحكمة، ويحصل على الغذاء الحق، ويعرف معنى الحياة، عليه فهو افضل الناس جميعاً في الحكم، ولا يحكم غيره، لأن الفلاسفة يمثلون في رأى أفلاطون الصفوة المختارة من بين الناس. ونقتبس هنا بعض النصوص التي تؤكد ذلك، اذ يقول: " لا دولة، ولا نظام، ولا فرد، يمكن أن يبلغ، أو تبلغ الكمال، مالم تلق مقاليد الاحكام فيها الى ايدي الفلاسفة القلائل". " لا نهاية لتعاسة الدول، وشقاء سكانها ما لم تُقلد طبقة الفلاسفة مقاليد الادارة العليا في الدولة ويتعذر تحقيق النظام الخيالي الذي وصفناه". " أما الآن فأخاطر بهذا البيان قائلاً أنه يجب تنصيب اكمل الفلاسفـة حكـاماً ". وفي الكتاب الثاني عشر من القوانين، يبين أفلاطون ضرورة تدريب الحكام بالرياضيات، لأن هؤلاء الحكام الذين يتمتعون بتعليم رياضي فائق واطلعوا على العلوم الرياضية، هم القادرون فقط على تفسير الظواهر الطبيعية على انها جزء من الطبيعة، وليست من قوة خارج الطبيعة، عكس ما يراه الجاهل الذي لم يتعلم الرياضيات ويخاف هذه الظواهر، ويفسرها على أنها من قوى خارج الطبيعة، فضلاً عن إفهامهم الطبقات الاجتماعية الأخرى  بضرورة إطاعة الطبقة العليا وعدم التدخل في شؤون أي طبقة. واذا كان موقع الفلاسفة هو هذا، فهم اذاً وحدهم فقط الذين يستطيعون رعاية قوانين الدولة لأنهم " هائمون بكل انواع المعارف لتتجلى لهم حقيقة هذا الوجود الخالد الذي لا يغيره الزمن، ولا تسطوا عليه عوادي المحن". لاشك أن لفلسفة أفلاطون جذوراً وأصولاً تمتد الى بواكير الفكر الإغريقي ومدارسه اللاحقة، والأخلاق بوصفها جزءاً من أجزاء فلسفته هي الأخرى لها جذور فلسفية سابقة تمثلت في أقوال الحكماء السبعة الذين كانوا يهدفون الى إصلاح أخلاق مجتمعهم، وكذلك فكرة التناسخ عند المدرسة الأورفية التي تأثرت بها قبل أفلاطون المدرسة الفيثاغورية والتي أسهمت هي الأخرى في بلورة الجانب الأخلاقي في فلسفة صاحب الجمهورية. فضلاً عن ذلك فقد تأثر أفلاطون بالمدرسة السوفسطائية، وكان أعظم الأثر يتمثل بأفكار أستاذه سقراط مؤسس الفلسفة الأخلاقية في مسيرة تطور الفكر اليوناني، وكان أفلاطون في بدء حياته سقراطي النزعة في النظرة الأخلاقية، على الرغم من أفادته من صيرورة هيراقليطس وثبات بارمنيدس، وعناصر أمباذوقليس والعقل عند انكساغوراس. وقد افرد محاورات مستقلة للحديث عن الأخلاق، منها  "خارميدس" و" لاخيس" ، و" ليسيس"، وعليه يمكن القول أن أغلب محاوراته تتحدث عن الجانب الأخلاقي على الرغم من انه يجمع في كل محاورة موضوعات شتى، غير ان هناك طابعـاً عاماً او موضوعاً عاماً يمثل جوهر المحاورة. ذلك أن الدافعين السياسي والأخلاقي هما المنبعان الرئيسان للأفلاطونية من منشئها حتى نهايتها وكان أفلاطون منكباً على كتابة " القوانين" منهاجه الأخير لإصلاح المجتمع حين وافته المنية. لقد أصبحت أسس سقراط الأخلاقية جزءاً من ديانة لا يدرك حقائقها الجوهرية إلَّا فيلسوف على جانب كبير من الخبرة. لذلك فان أفلاطون في تعامله مع الإرث الأخلاقي السقراطي لم يكتشف السياسة فقط بل اكتشف الفكر الإنساني، ذلك الاكتشاف الذي مكَّن الحضارة الغربية عندما اندفعت في تطوراتها اللاحقة أن تخلق ما يسمى الآن المنطق العلمي كما يؤكد حامد ربيع في كتابه " أبحاث في النظرية السياسية ". 

***

د. طه جزاع

.....................

* الدراسة منشورة في موقع مراصد أيضا

 

تمهيد إشكالي: يخبرنا كارل ياسبرز في كتابه «مدخل إلى الفلسفة» قائلاً: «إن جوهر الفلسفة هو في البحث عن الحقيقة لا في إمتلاكها... إن الإشتغال بالفلسفة معناه المضي في الطريق، والأسئلة في الفلسفة أكثر أهمية من الأجوبة، فكل جواب يصبح بدوره سؤالا جديداً.» [1]، ويضيف أرسطو أيضاً أن الدهشة هي التي دفعت الناس إلى التفلسف، وبالتالي يصبح لا أصل للفلسفة غير الدهشة، لذلك تلعب هذه الأخيرة دوراً مهماً في ميلاد الفلسفة، إن لم نقل تفلسف أول فيلسوف (بتحفظ) هو طاليس الملطي، بهكذا تصبح الأسئلة في الفلسفة أكثر أهمية من الأجوبة، لذلك فإندهاش الفكر يتجلى عن طريق التعبير عن نفسه بالسؤال كما عبر عنها هايدغر، هذا السؤال الفلسفي الإشكالي دائماً هو الحافز الذي يسير بالفلسفة للبحث عن الحقيقة، أو حقيقة الحقيقة، لدرجة يمكن ملاحظة أن تاريخ الفلسفة هو تاريخ إشكالات، أو كما قال برانشفيك الفلسفة هي علم المشكلات غير المفتوحة، وبهذا فإن الفلسفة لا يمكن أن تكون سوى إبداعاً للإشكال، لعل هذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الدرس الفلسفي بطبعه درس إشكالي من الدرجة الأولى، أي أن الأشكلة هي ما تحده وتثبت هويته، لذلك يمكن الإنطلاق من مجموعة من الأسئلة المترابطة فيما بينها، والمتولدة عن بعضها البعض من أجل بناء وإعادة بناء هذا الإشكال ودوره في الدرس الفلسفي، وهي كالآتي:

ماذا نقصد بالأشكلة؟ ودلالاتها التي تختلط معها من إشكالية وإشكال ومشكلة؟

وما الذي تثيره الأشكلة من مفارقات وتقابلات وإحراجات؟

ثم ما مرتبة الأشكلة في الدرس الفلسفي؟

ننطلق في البداية من ماذا نقصد بالأشكلة؟ يمكن الإجابة عن هذا السؤال بأنه لا جواب نهائياً له، فهو حمَّال لعدة أجوبة، عندما تنظر إليها تعتقد أنها كلها تعبر عن حقيقته وماهيته أو هويته، لكنها لم تصل بعد إلى الجواب القطعي له، فيمكن إعتبارها جميع الأجوبة معناً واحدا من معانيه وليس إجابة أخيرة عنه، حيث كما قلنا سابقاً أثناء طرحنا للسؤال يحمل بالضرورة الأشكلة في ذاته ويختلط بدلالات أخرى كثيرة، مثل الإشكالية والإشكال والمشكلة والدهشة والشك والتساؤل الفلسفي أو السؤال الفلسفي والمساءلة والنقد والدحض، كما تختص أي الإشكالية بالمفارقات والتقابلات والإحراجات وتثير بدورها المشكل، أو يتحول تعريفها في كثير من الأحيان إلى مشكلة ليس لها حل !

أولاً: عندما نعود إلى الجذر الإشتقاقي لكلمة أشكلة، نجدها متمثلة في شَكَلَ، الذي يفيد بالدرجة الأولى «الإلتباس» [2]، بمعنى أن الأشكلة هي ما تحمل في جوهرها لبوسا وغموضا يستدعي طرح المشكلة، هذه المشكلة هي تلك المسألة التي «تحتاج إلى معالجة» [3]، بمعنى أن كل مشكلة إذا أردنا حلها ستحتاج في جوهرها إلى معالجة هذه المشكلة، وهو ما نجده في درس الرياضيات حيث تُثَارُ المسألة المقصود بها المشكلة من أجل إيجاد حل لها، بعد العديد من العمليات والطرق والتقنيات البسيطة، لكن هل نفس الأمر ينطبق على درس الفلسفة الذي هو درس إشكالي بإمتياز؟، هذا الإشكالي هو ما يجعل من الدرس الفلسفي في حد ذاته ليس له حل كما في مسألة مادة الرياضيات، أي أن الإشكالية دائماً ما توجب الإلتباس في الفهم، مما يجعل المعالجة أو المَحْلَلة صعبة نوعاً ما، فلا يمكن لأستاذ مادة الفلسفة أن يطرق وضعية مشكلة أو مسألة فلسفية ويعمل على حلها ومعالجتها،ذلك أنه سيناقض نفسه ويناقض الدرس الفلسفي الذي هو درس إشكالي بإمتياز، ذلك أن الإشكالية هي «مجموع المسائل التي تتناسب عن المشكلة الأساسية داخل حقل معرفي معين» [4]، ما يعني أن الإشكالية في حقيقة الأمر أكثر تعقيدا من سابقاتها، أي أشكلة ومشكلة، فالإشكالية تمتد بدورها إلى مجموعة من المسائل، وبالتالي لم تعد مسألة واحدة ووحيدة، بل هذه المسائل تصدر عن مشكلة أساسية متأصلة في حقل معرفي بأكمله، وبهذا عندما نجيب عنها نكون قد حللنا ذلك المشكل في ذلك الحقل المعرفي.

ما يجعلنا نلاحظ هنا مدى عمق الإشكالية التي تمتد لحقول معرفية بعينها، وتجدر الإشارة إلى أن هذه المصطلحات (مشكلة Le Problème ) و (الإشكالية La Problématique) و الإشكال أيضاً الذي يأخذ نفس ترجمة (La Problématique ) هي في الحقيقة عبارة عن مشكلات وقع فيها المترجمون أثناء عملية الترجمة، عندما نقلوها ووجدوا مشكلة في دلالتها ومعانيها ومرادفاتها، فهناك إختلاف شديد في معانيها باللغة الفرنسية ومعانيها إن لم نقل مرادفاتها باللغة العربية، حتى عندما نعود إلى المعاجم الفلسفية المشهورة كمعجم لالاند، نجد أنهم يجعلون من «المشكلة معضلة ومسألة يستحيل الخروج فيها بجواب نهائي، وإنما فقط حلول مرجحة» [4]، وبالتالي إذا كانت الرياضيات تحل المسألة وتصل إلى جواب وحيد ممكن، فإن الفلسفة يستحيل عليها ذلك، بل تصل إلى العديد من الإجابات الممكنة المحتملة فقط، أي مرجحة، يمكن أن تكون حلا، أو عند إعادة مساءلتها نجدها أصبحت هي بدورها مشكلة جديدة، فكل جواب في الفلسفة يصبح بدوره سؤالا جديداً -حسب كارل ياسبرز-، إذن الإشكال كما قلنا هو الذي يفيد اللبس والغموض وعدم الفهم والإدراك أو ما يصعب حده بماهيته.

إذن يمكن القول أن الإشكال هو مجموعة من المشكلات التي تندرج ضمن قضايا فلسفية أو حقول معرفية أخرى، تطرح اللبس والغموض هذا ما يتصف به الإشكال، «والذي تنبثق عنه مجموعة من الأسئلة المنطقية، المنظمة والمترابطة، فتقيم حقلا إستفهاميا يدعى الإشكالية» [5]، وذلك من خلال «أن العنصر الأول منها هو الأسئلة المنظمة، والعنصر الثاني هو المشكلة نفسها بما هي سؤال السؤال، المعبر عن إحراج فلسفي يشكك في كل البديهيات» [6]، هذا ما نجده في العديد من الإشكالات التي أثيرت حول تاريخ الفلسفة، من بينها الفلسفة ذاتها بإعتبار أن سؤال ما هي الفلسفة؟ سؤال تحول إلى إشكال تقليدي في تاريخ الفلسفة، إشتهر بإشكالية تعريف الفلسفة، وباقي الإشكاليات الأخرى التي بدأت مع المحاورات الأفلاطونية مثل إشكالية العدالة في محاورة الجمهورية وإشكالية أصل اللغة في محاورة كراتيليوس، وإشكالية العلم أو في الفضيلة في محاورة مينون، أو إشكالية الجميل في محاورة هيبياس الكبرى،... إلى آخره من الإشكاليات المطروحة في تاريخ الفلسفة من أفلاطون إلى اللحظة الراهنة، بل يمكن إعتبار أن الفلسفة كصناعة إشكالية عنوان /موضوع مقالنا تحولت بدورها إلى إشكالية في الفلسفة وتدريسها !

ننتقل الآن مباشرة للإجابة عن السؤال الثاني المتعلق بما تثيره الأشكلة من مفارقات وتقابلات وإحراجات في درس الفلسفة، فالمفارقة الفلسفية مهمة جداً في قدرة الأشكلة والتي تعني «الآراء المخالفة للمعتقدات المعهودة» [7]، وذلك من خلال إحالتها على «الرأي المخالف لطريقة التفكير الإعتيادية» [8]، هذا ما تعبر عنه في حقيقة الأمر باللغة الفرنسية (La paradox )، خاصة أن لها أصول إغريقية Pradoxos، التي تفيد ضد الرأي أو الرأي الضد بمعنى أنها التفكير ضد الرأي الذي يكون سائدا، لذلك نجد أن الفلاسفة يفكرون بشكل مخالف جداً للرأي السائد في المجتمع، كنوع من خلق المفارقة أو يمكن القول أن التفكير الفلسفي تفكير مُفَارِقِيٌ، أما التقابلات Oppositions

فهي ما تشكل حسب أندري لالاند «المفاهيم التي توجد في أزواج تمثل الضدين، فلا نكاد نجد واقعا عينيا لا ننظر إليه نظرتين متعارضتين، ولا يحيط به الفكر في مفهومين متعارضين» [9]، إذن هذه التقابلات أو التقابل هو الموجه للفكر الفلسفي والمميز له، ولذلك من الضروري جداً أن يتميز الدرس الفلسفي كذلك بنوع من التقابل بين المفاهيم المتعارضة، مثل الشخص والغير، الخير والشر و الطبيعة والثقافة والحرية والضرورة... إلى آخره، هذا ما سيدفع شايم بيرلمان إلى أن يطلق على التقابلات إسم «الأزواج الفلسفية» [10]، لذلك نجد أن المتن الفلسفي يبنى على هذه التقابلات.

أما فيما يتعلق بالإحراج الذي يشير في اللغة الإغريقية «الشك والحيرة المصاحبة للبحث أو بالأخص للنقاش» فهو دائماً ما يثير الحيرة والشك والتساؤل والدهشة الفلسفية، لذلك أورده لالاند في موسوعته النقدية على أنه «إستدلال تشتمل مقدمته على خيار بين طرفين، وتبين مقدماته الأخرى أن حالتي البديل تتضمن اللزوم ذاته» [11]، لذلك فالإحراج في الدرس الفلسفي عادة ما نجده يتمثل في ذلك الرأيين الفلسفيين المتناقضين ما يجعلنا نشعر بالإحراج أثناء تغليب رأي على آخر، بل يمتد لنجده كذلك في تاريخ الفلسفة الذي هو تاريخ إحراج، يحرج فيه فيلسوف فيلسوفا آخر وذلك من خلال بيان حدود تصوره.

الإحراج في بعض الأحيان قد يقودنا إلى الدهشة، لكن لا يمكن إعتباره دهشة، فالدهشة الفلسفية بالخصوص هي عكس ذلك افترض أولاً أن تكون على درجة عالية جداً من التعقل والفهم فهي تحيل باللغة الفرنسية Étonnement أي «مشاعر شخص [...] متفاجئ من شيء خارق للعادة» [12]، لذلك سيقول شوبنهاور عنها «إنها أشبه بدهشة طفل أو رجل بدائي» [13]، لذلك دائماً ما تكون الدهشة الفلسفية ناتجة عن عدم إقتناع المرء بكل الأجوبة المألوفة والسائدة والمتداولة بين عوام الناس، إنها كنوع من الإنبهار والتيقظ من كل شيء، ويجب تمييزها دائماً عن تلك الدهشة العادية الساذجة الغبية من أمور بسيطة جداً وتافهة.

إذن بعد التعرف على الأشكلة وتمييزها عن كل ما سواها من إشكال وإشكالية ومشكلة ومقابلة وإحراج ومفارقة ودهشة وتساؤل، ننتقل الآن إلى منزلتها في الدرس الفلسفي وذلك من خلال منهاج مادة الفلسفة أو التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة في سلك الثانوي التأهيلي الصادر عن مديرية المناهج في نونبر 2007 حيث نصت على «نقل المتعلمين من مستوى التفكير العلمي إلى مستوى التفكير الفلسفي عبر إكسابهم مجموعة من القدرات من بينها الأشكلة» [14]، تجدر الإشارة إلى أن قدرة الأشكلة ليست هي الوحيدة التي تختص بها الفلسفة بل هناك قدرات أخرى من مفهمة ومحاجة وسنفرد لها مقالات أخرى توضحها كما فعلنا مع الأشكلة، كما أن المهم في قدرة الأشكلة هي الأشكلة ذاتها بما هي جوهر وروح التفلسف أو العمل الفلسفي بشكل عام، الفيلسوف من أعماله الرئيسية التي يقوم بها تستند على أشكلة كل الموضوعات القابلة للتفكير، وذلك من خلال تحويل السؤال أو القضية أو الموضوع المطروح أو حتى بعض الألفاظ والمصطلحات السائدة والمتداولة بين غوغاء الناس ودهمائهم إلى إشكالات، أي الكشف عن ذلك التوتر والتناقض أو المفارقة أو الغموض واللبس الذي ينطوي عليه كلام العامة ومن أهم الإستراتيجيات المساعدة على أشكلة أي قضية كيفما كانت نوعها هي الإنتباه إلى:

الغموض واللبس الذي ينطوي في معنى المفهوم.

الثنائيات والأزواج المفاهيمية التي تكتمن في القضايا.

التعارض والتناقض المتأصل في الخطابات كيفما كان نوعها.

يجب على المتعلم أن يصوغ الإشكال الفلسفي على شكل سؤال أو أسئلة يضمر أو يصرح بالغموض أو التناقض أو التعارض الذي يحيل إليه.

أما الإشكالية أو التساؤل فهي سلسلة من الأسئلة المنتظمة والمتراصة فيما بينها البَيْن التي تتفرع عن إشكال فلسفي تسهم في بناء وإعادة بناء الخطاب وتعمل على تماسكه وتناظمه وتناسقه، أو تعمل في بعض الأحيان على هدمه.

على سبيل الختم، نلحظ أن مفهوم الأشكلة في جوهره مفهوم بدوره يثير إشكال، خاصة أنه يتداخل مع الكثير من المفاهيم القريبة جداً منه والتي صدرت عنه بالعرض لا بالذات، من إشكالية وإشكال ومشكلة وسؤال وتساؤل ومساءلة، مع أننا نجد إمتدادات لها في الدهشة الفلسفية خاصة، والشك في بعض الأحيان، ثم النقد والدحض والتفنيذ والسؤال الفلسفي، ثم المفارقة والتقابل والإحراج، كل هذه المرادفات يمكن إعتبارها جزيئات تدل على هذا المفهوم الكلي الشامل، أي الأشكلة، فكل تلك المفاهيم تشكل شبكة لهذا الأخير،(هنا تحضر فكرة التشابك المفاهيمي)، "لا يمكن بتاتا فهم الأشكلة بدون ردها إلى هاته الدلالات المترتبة عنها" [15]، والتي تجعل منها عملية مركبة تبدأ أولاً بذلك التحديد للمشكلة التي تفرض نفسها والتي لا ينتبه إليها أحد، هذه المشكلة تطرح اللبس والغموض الذي يدفع إلى الإندهاش، فتحديد المشكل ينبع عن الدهشة، ويجوز أخذ موقف عقلي منها من خلال الشك وعدم الإطمئنان لها أي المشكلة، وذلك ما يطرح الصعوبة الكبيرة في إيجاد حل لها، كما أن الإشكال يعبر عن نفسه من خلال المفارقات والمقابلات والإحراجات، بل عن طريق مجموعة من الأسئلة المنتظمة والمتراصة كما قلنا سابقاً، إضافة إلى أن الدرس الفلسفي أصبح درسا مؤشكلا بالفطرة، بمعنى يركز كثيراً على هاته القدرة على صياغة وإبداع الإشكالية التي هي خصيصة له، ونعلن في النهاية أن الدرس الفلسفي درس يتوخى التربية على الأشكلة.

***

محمد فراح – تخصص فلسفة

.........................

مسرد المراجع والمصادر المعتمد عليها:

[1] – Karl Jaspers , Introduction à la philosophie, traduit de l'allemande par jeanne hersch , Paris librairie plon 10/18 sans date , pp.5 et s.

[2] – أحمد مختار عمر، بمساعدة فريق عمل: معجم اللغة العربية المعاصر، المجلد الأول، عالم الكتب، الطبعة الأولى 2008، ص 1227.

[3] – المصدر السابق، نفسه، ص 1229.

[4] – عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة، الجزء الثاني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1984، ص 446.

[5] – Jacqueline Russ: Les méthodes en philosophie, Armand colin éditeur, Paris, 1992 , pp 27-28.

[6] – Ibid , p 24.

[7] –جميل صليبا: المعجم الفلسفي، المجلد الثاني، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، 1982، ص 402.

[8] – Jean Dubois et des autres, la rousse Dictionnaire du français d'aujourd'hui, édition 2000 , p 933.

[9] – الطاهر وعزيز، طرائق التفلسف، تقديم محمد مصطفى قباج، مراجعة محمد وهبي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، جامعة محمد الخامس، سلسلة الكتاب الجامعي رقم 10، ص 57.

[10] – المصدر نفسه، نفس الصفحة.

[11] – أندري لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، المجلد الأول A-G، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت -باريس، الطبعة الثانية، 2001، ص 284.

[12] – Jean Dubois, Ibid , p 518.

[13] – آرثور شوبنهاور: العالم إرادة وتمثل، المجلد الأول، ترجمة وتقديم وشرح، سعيد توفيق، مراجعة على النص الأصلي الألماني فاطمة مسعود، المشروع القومي للترجمة، العدد 1075، الطبعة الأولى 2006، ص 424.

[14] – وزارة التربية الوطنية، التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي بالمغرب، مديرية المناهج، نونبر 2007، ص 6-9.

[15] – محمد الحنتيتي، منهج التربية على التفلسف، تقديم: د. نور الدين لشكر، مطبعة دار القلم، الطبعة الأولى: 2023، ص ص 13 – 25.

 

توطئة: نجد في تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة على السواء أفكارا فجّة إبتذالية تم تسويقها للعالم قاطبة قبل تسويقها في منشئها الاول دول الغرب (اوربا) تحديدا على أنها أفكار لعظماء الفلاسفة وعباقرتها في التاريخ الانساني، ولو لم تكن مباحث الفلسفة الغربية نشأتها القديمة العظيمة في اليونان وغيرها من بلدان العالم القديم في العراق ومصر وبلاد المغرب العربي وبلاد الشام والاندلس وبلاد فارس والهند والصين، لكانت الفلسفة الاوربية الحديثة مهزلة من مهازل العبث بالتفكيرالفلسفي والعلمي الهادف الذي دفع الانسانية نحو مراحل علمية نهضوية تقدمية لم تكن إسهامات الفلسفة مقارنة بمنجزات العلم شيئا يستحق حتى الاشارة له.

والمتابع لمقالاتي الفلسفية ومؤلفاتي يجدها نقدا متداخلا في مراجعة قطوعات من تاريخ الفلسفة الغربية هي أمثلة لما ذكرناه. ولا أتوخّى من وراء هذه الممارسة الفكرية النقدية المنهجية المسؤولة مجرد الإنتقاص والتشهير بفلسفة غربية نحن اليوم وقبل اليوم ننتلمذ على أفكارها تلاميذا نجباء لم يتعوّد أحدنا أن يقول عن بعض الافكار الفلسفية الغربية أنها تافهة لامعنى لها، وإنما كان هدفي ولايزال الإسهام على قدر المستطاع إشاعة روحية النقد البنّاء لدينا إذا ما أردنا الخروج من شرنقة الدوران وراء عروض فلسفية أغلبها مترجمة لما أعتاده المشهد الثقافي والادبي والفلسفي الركض بلا روّية وتأن وراء أفكار فلسفية أصابها البلى الغربي في وجوب مغادرة تقديسها والإنبهار المبالغ بها .

الارادة والادراك

كان ميراث الفلسفة المثالية الغزير الذي ورثه شوبنهاورعن العديد من الفلاسفة الذين سبقوه كافيا أن يجعل منه فيلسوفا مثاليا في تطرف لا يجاريه فيه سوى بيركلي في مثاليته. حيث وصلت مثالية شوبنهور المتطرفة نكرانه وجود العالم الخارجي بدون وجود ذات تدركه، معتبرا لا وجود لعالم خارجي لا تدركه الذات.

ليس بمعنى الإتاحة المشتركة لوجودهما البيني معا، بل في التفاوت الزمني في وجودهما الانطولوجي. بمعنى حين يكون العالم الخارجي وجودا أزليا محدودا ومحكوما بالبقاء في وجوده الطبيعي بقوانين طبيعية مادية ثابتة لا تستطيع الغاء وجود ما هو مادي (العالم الخارجي) المتجانس معها، فلا يبقى هناك معنى أن لا يكون هذا العالم الخارجي غير موجود بغياب ذات انسانية تدركه.

والاكثر إستهجانا لا معنى لوجود عالم في غير مزامنته لذات تدركه. لا أعتقد من السهولة إستحضار الذات كوجود يستبق أولوية حضور العالم الخارجي كوجود طبيعي مادي تحكمه قوانين في إشتراط ساذج أنه لا وجود لعالم خارجي من دون محايثة وجود ذات تزامنه الحضورإدراكيا.

وإستمّد شوبنهور من كانط مقولته المثالية "إن تنظيم الإحساسات في موضوعات الإدراك ترجع الى الصور القبلية التي يفرضها الذهن على تلك الإحساسات"1.

هذا الإقتباس القصير يحيلنا الى تعقيب ونقد الخطوط العريضة في المنهج المثالي الفلسفي عموما:

- هناك مسلمّة يعتمدها المنهج المادي أن وجود العالم الخارجي يسبق الإدراك الحسّي والعقلي له بكل حلقاته بدءا بالحواس وإنتهاءا بالدماغ في تركيبته العضوية. وجود العالم الخارجي لا ينفي وجوده عدم إدراكه ولا ينفيه عدم التعبير الفكري اللغوي عنه كما لا تنفيه الذات في عدم إدراكها له في تحقيق وجودها المغاير في حضور ذلك الوجود كما في غيابه الحسّي.

صحيح جدا الوعي الذاتي لا يتحقق بدون موضوع يلازمه الإدراك لكن تحقق الوجود المادي في العالم الخارجي لا يشترط توفر إدراك الذات له كي يحقق وجوده الموجود سلفا في الطبيعة بقوانينها الثابتة. الوجود لا يحتاج من يدركه بل الانسان في وجوده المغاير النوعي لموجودات الطبيعة له يحتاج إدراك الوجود وتفسيره ومعرفته ذلك الوجود.

- الصور القبلية المفترضة كخزين معرفي بالذهن لا صحة لها لسببين الاول لا يوجد خزين معرفي بالذهن لم تسبقه موجودات عالم مادي واقعي كانت مصدرا لتلك التصورات المعرفية الخزين بالذاكرة وليس بالذهن، والثاني أن الذهن لا ينوب عن الذاكرة في تخزين المعارف المكتسبة، كما ولا ينوب الذهن عن العقل بالتفكير.

- الصور القبلية لإدراك الاشياء لا تعمل في فراغ، بمعنى مصدر كل إدراك صوري تجريدي قبلي هو خبرة مكتسبة عن موجودات وأشياء خارجية. صحيح لا يتم الإدراك العقلي - الذهني عن شيء لا يسبقه معرفة قبلية عنه، وهذه المعرفة القبلية هي خزين فكري لغوي لم يتح له الإفصاح عن مدركاته. لكن معرفة الشيء بتصورات قبلية عنه لا يجعل من ذلك الشيء موضوعا معرفيا جديدا تخلعه لغة الادراك العقلية والتعبيرية الجديدة عليه.

- ألفكر والإدراك التجريدي لا يخلق الوجود المادي لتلك الاشياء. كل مدرك مادي مستمد من الواقع الخارجي أو موضوعا مستمدا من الذاكرة - المخيلة يستحث منظومة العقل الادراكية التفكير به بما هو يحمله من خواص وليس بما تعرفه عنه الذات المدركة من تصورات قبلية ومعرفة مخزّنة بالذاكرة عنه. وجود الشيء في حاضر إدراكه لا يطابق وجوده في ماضي إدراكه. .

- وسيلة الذهن إفصاحه عن مدركاته لا تجعله يتقدّم العالم الخارجي بألأسبقية لا بالوجود ولا بالإدراك بل الذهن يتلقى الإنطباعات عن الإحساسات العابرة له من خلاله دونما أسبقية العقل التعامل مع تلك الإنطباعات،.

من المسائل التي يجري الخلط بها هو إعتبار الذهن مستودع تخزين (الافكار) التي هي في حقيقتها حلقة عبور إنطباعات إدراكية لإحساسات مصدرها الواقع المادي، وهي عابرة للذهن وليست أفكارا يختزنها الذهن بالتفكير بها، والخطأ الثاني إعتبار الذهن مستودع التفكيرلمدركات العالم الخارجي وله خاصّية إعطاء مقولاته الإرتدادية في أن ينوب عن العقل في تمّثلات التعبير عن تلك الاشياء ألمدركة بردود الافعال الصادرة عنه.

ولتوضيح هذا الإرباك يمكننا ألعودة الى آراء جورج بيركلي المثالية الذي يرى إحساسات مدركات العالم الخارجي التي تنطبع بالذهن تخرج من الذهن بنفس بساطة دخولها ومغادرتها له بلا تغيير. لذا يعتبر خزين الأفكار بعد فقدانها لقيمتها الزمانية يتم تخزينها بالمخيّلة وفي الذاكرة وليس تخزينها في الذهن بإعتباره حلقة مرور الإنطباعات الحسّية.

الذهن يمكننا معرفة بعض الإنطباعات على لوحته التي تكون مادة خام فيه، لكن عندما نريد معرفة افكار إدراكية نهائية عن شيء نجدها بتعبيرات العقل كمقولات إدراكية فكرية حاسمة وليست إنطباعات ذهنية ومن العبث التفتيش عن الافكار بالذهن قبل صدورها عن العقل.

- وسائل حلقات المنظومة الادراكية للعقل مثل الذهن، الوعي، المخيلة، الذاكرة، في التعبير عن المدركات العقلية يكون بوسيلة تلازم الفكرواللغة الصادرة عن مقولات العقل. أي التصورات والتمّثلات التجريدية اللغوية، كون حقيقة الإدراك هو لغة، كما هي حقيقة الوعي هو لغة، وحقيقة الذاكرة لغة والعقل بكليّته الموجودية هو جوهر ماهيته التفكير اللغوي المجرد حسب تعريف ديكارت.. لا يمكن إدراك شيء موجود بدون لغة تحتويه وتتمّثله حتى الإدراك العقلي للوجود كما ذكرنا هو تعبير لغوي تمّثلي صوري تجريدي لعالم الموجودات.

الارادة والوجود بذاته

من الأمور الاخرى التي أراد شوبنهاور عبور كانط بها هي موضوعة (الوجود بذاته) النومين الذي إدّعى يمكنه عبور مقولة كانط التي أراد بها ما معناه أن الوجود بذاته لا يمكننا القول أو التعبير عن حقيقته بأفكار هي لم تدركه أصلا، لكننا نجد شوبنهاور يقول " الوعي بذاته هو الإرادة، فالحقيقة الثابتة الواقعية هي الأرادة "2، بخلاف هذا التعبير المنكفيء ذاتيا جوّانيا في تحقيق الإرادة على مستوى الفهم الخارجي للوجود، نجد بول ريكور يذهب أبعد من ذلك في تصويره المثالي قوله الإرادة ليست حدودها عالمنا الإدراكي وإنما هي رغبة فهم ميتافيزيقا الوجود في تعبيره "الارادة ذات سعة ومجال بلا نهاية".

ولا نعرف مدى تطابق الإرادتين الفلسفيتين الاولى لشوبنهاور والثانية لبول ريكور في مثالية فلسفية لا تقدم ولا تؤخر..كون الإرادة لا هي منهج عملي محدود الأمد في التطبيق كما في تواضع عنونة شوبنهاور أو كانت الارادة ذات سعة بلا نهاية كما يعبّر عنها ريكور.

ملاحظات حول عدم صحة تعبير شوبنهاور الوعي بذاته حقيقته الثابتة هو الإرادة:

- الشيء بذاته وجود غير مدرك لا بالماهية ولا بالصفات هذا ماذهب له كانط وهوسرل في الفينامينالوجيا وفلاسفة الوجودية بلا إستثناء، لذا يكون بالحتمية الواقعية المنطقية الشيء بذاته لا ينتج عنه ما هو حقيقي يدركه العقل يسمى "الارادة " التي هي سلوك قصدي غير متحقق لا بالفعل ولا بالتعبير عنه بوسيلة الفكر واللغة.

الإرادة مصطلح غائم يمكننا تفسيره بمرجعية علم النفس، أما أن تكون الإرادة وسيلة معرفتنا وإدراكنا العالم من حولنا بموجوداته وظواهره تحت عنوان العالم إرادة وتمّثّل فهو أمر مشكوك به.

إلارادة ليست ما ترغبه أن يكون عليه العالم بل الإرادة الحقيقية هي إمكانية ما تستطيع تحقيقه إرادة التنفيذ في تغيير ذلك العالم وليس في تسطيح تفسيره..ألإرادة الفاعلة هي تلك الإرادة التي تهتدي بمنهج فكري تقوم بتنفيذه، وهذا ما نجده واضحا في أدبيات الماركسية وفي أدبيات البراجماتية الامريكية على حد سواء رغم البون الاختلافي الشاسع بينهما.

- الشيء بذاته هو وجود قاصر ذاتيا في الإفصاح عن نفسه تحكمه طبيعته الموجودية الانطولوجية، أي هو وجود بذاته مشكوك به لعدم توافر إمكانية إدراكه عقليا، وكونه موجود إفتراضي مغلق في عدم معرفة ماهيته.

لذا تكون الإرادة هي خاصيّة سلوكية نفسية غير متحققة في الواقع، وليست لها قدرة وإمكانية تمكنها إدراك الوجود بها كحقيقة عابرة لكل موانع العقل والإدراك السوي الحقيقي، فالإرادة ألمثالية لا تحتمل أكثر من تفسير علم النفس السلوكي لها، أنها رغبة مكبوتة مجردة من قابليتها الادراكية بالفعل (براكسيس) في إثبات وجودها قبل أن تكون وسيلة معرفية لفهمنا العالم من حولنا وإثبات وجودها بالتصور الذي جاء به شوبنهاورعنها.

- الإرادة خاصيّة انسانية مقعدة عن إمكانية التنفيذ لما ترغب التعبير عنه وتحققه، الإرادة هي رغبة تحقيق ذاتها بتموضعها الإدراكي بموجودات وظواهر العالم الخارجي. وهي إرادة القيام بفعل شعوري نفسي لا يتحقق بدلالة غيره.. والارادة فعل قصدي فاقد إمكانية تحوله الى سلوك معرفي حقيقي، حتى في حال تكون قصدية الإرادة تحتكم لأحكام العقل بتوجيهها. والإرادة تصّور قصدي لا يتّخذ صفة الإفصاح عن موضوعه قبل تحقق فعل الإرادة في الواقع المادي للاشياء.

- وحينما نقول العالم محكوم بإرادة الادراك والتغيير الذاتيتين فهذا ليس كافيا، إختزال كل المعارف العلمية والفكرية وتراجعها أمام مقولة شوبنهاور أن وسيلة فهم وإدراك العالم هو إرادة وتمّثل موجودات ذلك العالم الذي يكون تمّثله اللغوي التجريدي من بديهيات مباحث الفلسفة التي لا تقوم على الإرادة فقط التي هي نزعة مثالية طوباوية لا أكثر. الإرادة ليست وسيلة إدراك العالم من حولنا، بل هي رغبة نفسية لإدراك ذلك العالم تفتقد وسائل التنفيذ.

الارادة وتموضع الطبيعة

في كتابه (العالم ارادة وتمّثل) بعد إعادة الاعتبار له بعد إهماله بشكل مزري لفترة زمنية طويلة أراد شوبنهور تطوير مذهب الإرادة من حيث أن الإرادة تعني تموضع الذات الانسانية في الطبيعة، وعن طريق التمّثلات يعي الانسان جسمه، من حيث أنه موضوع طبيعي في عالم متموضع فيه جزء منه. يقول شوبنهور" الإرادة متموضعة في الطبيعة، وعن طريق التمّثلات يعي الانسان جسمه من حيث أنه موضوع طبيعي في عالم تلك الموضوعات"3.

لنا التعقيب التالي:

- الإرادة بالفهم الفلسفي وعلم النفس ليست (ادراكا) عقلانيا تسبق موضوعها المادي في تمّثلاتها أشياءا متموضعة بالطبيعة منها الانسان على حد تعبير شوبنهاور. ويكون تموضع الإدراك من خلال التعبير عن مدركاته هو تعبير لغوي وتمّثل تصوّري تجريدي صرف لا علاقة له بالتموضع العضوي في الطبيعة من حيث الادراك هو إلزام وعي الاشياء في وجودها المادي بالطبيعة، وهذا الإلزام هو خصيصة ألانسان في وجوده كائنا عقليا. حقيقة التموضع في الطبيعة هو وجود أنطولوجي وليس وسيلة إدراك تجريدي.

- كل تموضع في الطبيعة لأشياء وموجودات يدركها العقل بوسيلة تجريد اللغة في التعبير عنها. والانسان بإعتباره أحد مواضيع الطبيعة كما وصفه شوبنهاور. وأن إدراكه المتموضع كموضوع في الطبيعة لا يتم بغير تمّثلات الإرادة كسلوك معرفي عقلي يجد فيه الانسان حقيقته الوجودية.

الانسان الوجود المادي، أو الكائن المتموضع بالطبيعة كما يرغب شوبنهاور لا يلزم بالضرورة أن يكون إدراكه بوسيلة الإرادة التي هي وعي نفسي يعي ذاته والمحيط. إرادة الانسان في وعيه ذاته لا تحتاج إرادة إختيار ولا إرادة نفسية قصدية ولا إرادة غريزية متموضعة بالطبيعة، وعي الانسان لذاته وعي إدراكي قبلي ومعرفي وخاصّية فطرية يدركها الانسان بمجرد أن يمتلك قابلية التفكير وتعبير اللغة عن قلقه الوجودي بالحياة. وهذا الإدراك للانسان لا معنى ولا علاقة تربطه في تموضعه بالطبيعة.

- لم أجد معنى فلسفي أفهمه يتوقف عنده المتلقي مثل تعبيرات شوبنهاور الفلسفية المتهالكة التالية:

" عن طريق الحدس المباشر يعي الانسان إرادته، وجسمه ناتج الإرادة وأداتها، وقدماه تموضع لرغبة الحركة، وأعضاؤه الهضمية تموضع لرغبة الجوع، ومخّه تموضع للرغبة في المعرفة، وإذا لم يكن كل هذا من أجل الإرادة لن يكون له جسم على الاطلاق"4.

لا تعليق تهضمه هذه التعبيرات الفارغة التي لا معنى لها، ولا تمّت بأدنى صلة لفهم التموضع الانساني بالطبيعة، ولا لتشريح جسم الانسان بايولوجيا حسب الوظيفة العضوية، لتأكيد أن كل شيء خاضع للارادة كما يرغب شوبنهاور تسويقه. الإرادة ليست منهجا في معرفة حقيقة العالم بتمّثلات الذهن... الإرادة الانسانية بلا منهج نظري يتقدمها ويقودها تبقى وعيا قاصرا في محاولة فهم موجودات الطبيعة والعالم والحياة.

الإرادة وفلسفة من هنا وهناك

كي لا نغادر إنشائية شوبنهاور الفلسفية كمثال لما ذكرناه نأخذ نموذجين من الهراء الفلسفي له الاول الإرادة والطبيعة والانسان إذ يقول " هل يستطيع شخص ما أن ينظر الى كل الموضوعات الموجودة مثل الاشخاص الآخرين والحيوانات والنباتات والاشياء العضوية من حيث أنها تمّثلات لا توجد إلا بالنسبة له، أي بوصفها أدوات لإرادته الفردية بدون أساس آخر للوجود سوى وعيه بها"5.

من الواضح الخاطيء معا هو إعتبار وإختزال شوبنهاور الأنا الفردية حتى في حال إفتراضنا أنها تمّثل وعيا جمعيا تنوب الذاتية الفردية عنه، أن تكون الأنا هي مجمل معرفتنا حقيقة الوجود في وعينا له بالإرادة الخّلاقة التي يقترحها فيلسوفنا. ومن دونها لا يتبقى وسيلة أخرى ندرك بها العالم على حقيقته.

وعي الذات في إدراك العالم ليس مقتصرا على تحقيق حلم الإرادة كما يرغب شوبنهاور، جميع كائنات العالم الخارجي والطبيعة إنما هي وسائل ليست لمعرفته ومعرفة مصير الانسان فيه، وإنما هي لجعل كل مدركات الوعي الفردي أدوات تنفيذ رغبة الإرادة إشباع الحاجات الانسانية الاساسية للفرد. إرادة الانسان ليست وسيلة إثبات وجود العالم الطبيعي ولا وسيلة إثبات وعي الذات المتموضع بالطبيعة كموضوع من موضوعاتها.

والعالم لا يستمّد وجوده إلا بإرادة الوعي به كما يرى شوبنهاور، وبإنتفاء الوعي الذي تحكمه الارادة لا يبقى هناك معنى لوجود. كي لا نطيل بكلمات لا معنى لها بتفسيركلمات لامعنى لها نقول الطبيعة لم يكن وجودها متوقف على إدراك الانسان لها وتموضعه بها كإرادة يتحسس جسمه بدلالتها، ولا على تلبية حاجاته لها، ولا لأهمية الارادة في تموضعه بها.

الانسان لم يخلق جزءا ملحقا بالطبيعة غير العاقلة بأي شكل من الاشكال، بل لا تزال مسيرة البشرية الانثروبولوجية تشير الى أهمية وعي الانسان مهادنة الطبيعة والتكيّف معها في محاولة معرفة قوانينها الثابتة ومدى تأثيرها على الوجود الانساني. الانسان كموجود محايث لوجود الطبيعة هو في حقيقته الانطولوجية وجود طاريء على الطبيعة جزء منفصل عنها بقدرات لا تمتلكها الطبيعة، وعي الانسان لا يقتصر على كيفية أن يكون كل شيء بالوجود هو من أجل خدمة الانسان وما لم تتحقق مثل هذه الفاعلية فلامعنى لوجود عالم مستقل عنّا تحكمه قوانين لا إمكانية للانسان العبث بها من غير التكيّف العلمي معها في محاولة إكتشاف نظامها لوضعها في خدمته.

في مثال إبتذالي سطحي ثان يعّبر شوبنهاور" العلم لم ولا يخبرنا بشيء على الإطلاق عن الطبيعة الداخلية للظواهر التي تصّنفها، ولا عن نظام الظواهر المنتظم الذي تصفه، العلم لا يكشف شيئا عن الطبيعة الحقيقية لأي شيء، فلا نستطيع معرفة كيف يكشف العلم القوة التي بناءا عليها يسقط حجر الى الارض. ولا كيف يدفع جسما لجسم آخر، أو ما الذي يسبب نمو النباتات أو حركات الحيوان، لا يستطيع العلم إكتشاف هذه وغيرها."6.

هل من المعقول عند أبسط انسان يعيش منجزات العلم الهائلة تصديق أن يتراجع العلم الى الوراء فقط كي نعتبر كلام شوبنهاور السطحي في إدانته وتشكيكه بتقصير العلم مقارنة بما تعرفه الفلسفة من علوم يعرفها بعض الفلاسفة دون غيرهم؟ هل إكتشافات علوم الفيزياء والفلك منذ كوبرنيكوس 1543 والى قوانين نيوتن في الجاذبية والرياضيات التي سبقه بها كلا من برونو وغاليليو وكبلر وصولا الى نسبيتي انشتاين الخاصة والعامة جميعها كانت العاب أطفال تتقاذفها ارادة شوبنهاور الفلسفية ؟ هل حقا لم يعرف العلم كيف يصنع النبات غذائه ذاتيا في إدامة حياته، هل علوم الحيوان لم تتوصل معرفة دوافع حركات الحيوان وسلوكه في الطبيعة؟ هل العلم الذي وصل فك شفرات كروموسومات الحمض النووي، والإستنساخ من خلية حيّة كائنا نوعيا آخر منها؟ كل منجزات العلم بالذرة والتكنولوجيا وغيرها من مجالات كان العلم يهتدي الوصول لها بإرادة شوبنهاور الفلسفية التي تبعث أسئلة ساذجة عن العلم ؟؟ شيء من العبث مناقشته.

بقي الفلاسفة المحترمون في نطاق تخصصاتهم الفلسفية لا يقربون التدخل في مجال اشتغالات العلم الطبيعي التخصصية لأنهم بذلك يعمدون عن جهل تخريب وتعويق مسيرة العلوم الى أمام. ولم تكن الفلسفة متقدمة على العلم في أيّ مجال من مجالات الحياة على إمتداد عصور طويلة من تاريخ العلم والفلسفة عدا الاسهامات البسيطة التي حاولت الفلسفة إفادة العلم بها.

الفلسفة علما طبيعيا قائما بذاته يلازم الانسان في البحث عن اجابات لتساؤلاته، ولم تكن ولن تكون الفلسفة إرادة تجريدية تحاول خلق العلوم الطبيعية. العلم منجزات محدودة بالزمان والمكان في إجتراحاته التجريبية، بينما تكون الفلسفة نهجا غير نهائي ولا محدود بفضاء تفكيري مجرد لأنها ليست محدداتها التجربة وميدان التطبيق كما هي خاصية العلوم الطبيعية.( هذا لا ينطبق على كل من الفلسفتين الماركسية، والذرائعية "البراجماتية" الامريكية كونهما منهجين فلسفيين يصنعان الحياة ويغيّرانها بالتطبيق العملاني كما العلم الطبيعي تماما).

الادراك والارادة

يمكننا القول بخلاف شوبنهاور أن الإرادة لا تقود الإدراك كغريزة فطرية تحكم الانسان كموجود متعالق بالطبيعة بالتمايز النوعي عنها. الإرادة سلوك نفسي مبعثه معرفة الاشياء في وجودها الطبيعي، بينما يكون الإدراك فعل حيوي عقلي يتوفر على الوعي القصدي في تساؤله لماذا يجب معرفة العالم وليس معرفة كيفية إدراكه فقط؟. الانسان لا يتمّثل موجودات العالم من حوله لمجرد إمتلاكه التمايز النوعي عليها في إدراكه لها وعدم إدراكها هي له.

موجودات العالم حول الانسان لا تلزمه وجوب إدراكها، كونها لا تعقل وجودها ولا وجود الانسان المحايث لها. الوعي القصدي هو الذي يتمّثل ارادة الانسان لأهمية إدراكه العالم المادي الطبيعي من حوله.

نعود أيضا لإقتباس من كتاب شوبنهاور "العالم ارادة وتمثل" قوله " العالم هو تمّثلي وهي حقيقة لا يعيها تماما سوى الانسان الذي يستطيع أن يقررها بصورة مجردة على الرغم من أنها تصدق بالنسبة لكل شيء يعيش ويعرف، أن العالم الموجود أمام الانسان لا يوجد إلا من حيث تمّثل بالنسبة لذهنه"7.

تحليل وتعقيب نقدي

- تمّثل موجودات العالم والطبيعة تجريديا لغويا إدراكيا هي خاصّية انسانية عقلية نوعية لا يمتلكها سوى الانسان، ولا تصدق على كل شيء يعيش ويعرف كما ورد في عبارة شوبنهور. فالحيوان يعيش ويعرف أنه يعيش لكنه لا يستطيع تمّثل وجوده ولا العالم من حوله، كما يفعل الانسان في إمتلاكه خاصّية العقل الذكي بوسيلة التعبير الفكر واللغة.

- موجودات العالم لا يتوقف وجودها على تمّثل الانسان لها كنوع لا يجاريه فيه كائنا غيره. العالم وجود متحقق قبل ارادة الانسان تمّثله للعالم، وإختلاف موجودات العالم أنها لا تكافيء مساواة الانسان بوجوده ووعيه المتفرد للطبيعة. وخاصيّة الانسان المتاحة له فقط في إدراكه العالم من حوله هي فطرة بيولوجية قبل أن تكون إرادة تحكم كل شيء كما يزعم فيلسوفنا شوبنهاور.

- إدعاء شوبنهور إرادة الانسان معرفة العالم، ليست سببا كافيا لإثبات وجود العالم الموجود بفعل إرادة الانسان، كما وليست إثبات تحصيل حاصل أن الانسان موجود يتوّجب عليه إدراك وجوده الذاتي والموضوعي وسط عالم متنوّع تصعب على إرادة الانسان تطويع كل شيء لتمّثلاته كما في إعتباره عنونة كتابه "العالم ارادة وتمثل". بمعنى من غير الارادة والتمّثل لشوبنهور لا وجود لمنهج علمي ولا فلسفي يفهم به الانسان العالم من حوله ووجوده بالحياة.

- ليس من الصحيح لإرادة شوبنهاور أن تمثلات الانسان للعالم والوعي الادراكي له متاحة لغيره و يمكن تكرارها أو استنساخها لإعتبارات خاصّية إنفراد الانسان بإدراك العالم بذكائه العقلي قبل إرادته النفسية العزلاء التي تقوم على تمّثلات العالم تجريديا بالارادة، وخاصّية العالم من حوله المحكوم بقوانين تحكمه من غير وعيه بها ومن غير وعيه صنعها غير تكبيله بمحددات ثابتة. لذا يكون إدراك الانسان للعالم هو ضرورة حياتية قبل أن تكون ضرورة معرفية. بمعنى وجود الانسان وسط العالم والطبيعة ليس لإثبات وجوده فيها بمغايرته الجوهرية عنها في تنوّع موجوداتها وكائناتها الحيّة وغير الحيّة، بل لإثبات كيف ولماذا يدركها؟ وأين يكون وجوده بين هذه العوالم والمدركات التي لا تحد لكثرة تنوّعها وتعالقاتها وتشعبّاتها في ظواهرها وغيرها ..

***

علي محمد اليوسف - الموصل

................................

هوامش

1. وليم رايت /تاريخ الفلسفة الحديثة /ت: محمود سيد احمد/مراجعة وتقديم امام عبد الفتاح امام/ ص 351

2. نفسه ص 357

3. نفسه ص 357

4. نفسه ص 358

5. نفسه نفس الصفحة

6. نفسه نفس الصفحة

7. نفسه ص 356

مقدمة تمهيدية: يعتبر أوليڤيي روبول فيلسوفا تربويا معاصرا بإمتياز، إضافة إلى أنه تخصص في فلسفة آلان، ويعد كتابه «فلسفة التربية»، الذي نشر في السلسلة الشهيرة «ماذا أعرف؟» التي تصدر عن المطابع الجامعية لفرنسا، سنة 1974، وأعيد نشر هذا الكتاب من جديد، عن نفس السلسلة، ونفس المطبعة، سنة 1989، لكن الجديد في هذه المرة، هو أن الكتاب ثم تنقيحه وتعديله والإزادة فيه، خاصة وأن حقل التربية في فرنسا شهد مستجدات فريدة من نوعها، بل نلحظ معه في هذا الكتاب، إمتدادات جديدة للتربية مع حقول أخرى مغايرة لها مثل السلطة والقيم أيضاً، هذه الأخيرة التي سيعيد إفراد كتاب خاص بها عنونه ب «قيم التربية»، نشره سنة 1992، على أي، ما يهمنا هنا، هو أننا سنعمل على وضع ملخص عبارة عن وجيز مركب وشمولي جداً أو مدخل إلى فلسفة التربية لدى أوليڤيي روبول، إعتمادا على مؤلفه العمدة «فلسفة التربية»، وسنثير إشكالات فلسفية من داخل الكتاب، عبارة عن أسئلة موجهة للتحليل والمناقشة تعرض الموقف من التربية عند روبول، نصوغها كالشكل الآتي:

ما ذا نقصد بفلسفة التربية لدى أوليڤيي روبول؟

التربية في الأصل، ما هي؟

وما هي أهم المؤسسات التربوية؟

ما هي البيداغوجيا؟ هل يمكن معرفتها من خلال تناقضاتها؟

التربية والسلطة، أية علاقة؟

هل منهج التربية يتمثل في صرامتها؟ ثم الغاية والتربية أية علاقة؟

سنحاول إذن الإجابة بشكل مباشر على السؤال الأول، ذلك المتعلق ب فلسفة التربية لدى أوليڤيي روبول الذي أفرد له عنوانا خاصا به في الفصل الأول من الكتاب «مدخل إلى فلسفة التربية»، حين يقول أن الفلسفة تبدأ «هناك حيث لا تسير الأمور من تلقاء ذاتها، هناك حيث ما كان واضحا بالنسبة للجميع يكف عن كونه كذلك. إنها تبدأ من السخرية السقراطية» [1]، أي إن الفلسفة تبدأ بالحوار، وهي تلتقي في هذا الجانب مع التربية ؛ أي أن ما يميز الفلسفة هو السؤال، ثم الراديكالية، وأنها تفكير في غايات التربية، أي لها طابع معياري، خلافا لباقي العلوم التي تتميز بالموضوعية والمنهج التجريبي وصياغة نظريات علمية دقيقة جداً وصارمة، لذلك يعود بنا روبول إلى تاريخ الفلسفة، من أجل ممارسة الفلسفة، بل والتعرف على فلاسفة التربية الأصيلين الذين فكروا في التربية كمشكلة، نجد منهم أفلاطون و أرسطو و الرواقيون والقديس أوغسطين و توماس الأكويني و إيراسموس وهوبز وجون لوك وداڤيد هيوم وهيلفيتيوس وروسو وكانط وفيشته وهيغل ونيتشه... «حيث شكلت التربية الموضوع المركزي في فكرهم» [2]، لذلك سيقدم روبول تصورا عن العلوم التي تهتم بالتربية مثل علوم التربية من خلال الإثنولوجيا والسوسيولوجيا والسيكولوجيا والسوسيو-لسانيات والإقتصاد ثم تاريخ التربية، هذه العلوم التي تتميز بالصرامة والموضوعية، أما فيما يتعلق بالتحليل المنطقي فهذا هو المنهج المفضل كثيراً عند الأنجلو-سكسونية في تحليل الخطاب ومن عيوبه وحدوده أنه خال من التركيب هذا ما سيتميز به المنهج الدياليكتيكي لدى أفلاطون.

ننتقل الآن للإجابة على السؤال الثاني المتعلق بماهية التربية، لكن أولا حاول تمييزها عن الكثير من الإصطلاحات التي تتداخل معها مثل التعليم والتكوين والنضوج الطبيعي والترويض السلوكي، وذلك من خلال الإختلاف الذي يوجد بين المصطلح وإستعمالاته في اللغتين الفرنسية والإنجليزية، ففي الأولى يحيل إلى «آداب السلوك ما يعني الإنضباط والتكيف مع قواعد الطبقة العليا ورموزها وقيمها وألفاظها المتداولة ولكنها تعني الضبط الحقيقي للذات» [3]، أما في الثانية «تعني التعليم كمؤسسة أي كنظام مدرسي وجامعي » [4]، وما يميز التربية المدرسية هي البرنامج والمنهج الدراسي. لذلك يجب علينا التمييز في التربية بين الطبيعة والثقافة، ذلك أن العلوم الإنسانية تعتبر أن الإنسان يصبح إنسانا بواسطة الثقافة، عكس النظرية الطبيعية التي تعتبر أن الإنسان يولد إنسانا بالفطرة أي بالطبيعة، هنا ما سيجعله ينتقل إلى غاية التربية، هل هي في صالح المجتمع أم في صالح الطفل؟ وهناك من النظريات الإمبريقية والثقافوية من تعتبر أن غاية التربية هو تكوين إنسان مندمج داخل المجتمع، عكس النظرية الطبيعية دائماً التي تدافع عن الطفل لأجل ذاته ولذاته وفقط، وبالتالي غاية التربية هي الطفل ولا شيء غيره، لكن روبول يركز على الجانب الإنساني في التربية التي يجب ترسيخها للطفل، أما فيما يتعلق بالتعريف الذي قدمه للتربية بإعتبارها «مجموع العمليات والطرق التي تسمح للطفل الإنساني بأن يقترب بشكل تدريجي إلى الثقافة تلك الثقافة هي ما يميز الإنسان عن الحيوان» [5].

أما فيما يتعلق بالمؤسسات التربوية، يعرف المؤسسة بكونها حقيقة إنسانية وبالخصوص إجتماعية ثابتة ومنظمة ملزمة تبعا لقواعد ولها وظائف إجتماعية، لذلك سيؤكد أن لا يمكن التركيز فقط على الطابع الوظيفي للمؤسسة، هذا ما نجده مع دوركهايم الذي أراد تعويض مفهوم الوظيفة بمفهوم الغائية، إذن الغائية هي ما تجعل من أي مؤسسة، مؤسسة فعلاً، سيتطرق لثلاث نماذج من المؤسسات التربوية.

أولها مؤسسة الأسرة، الذي تتجلى وظيفتها في تلك التربية الأولية والتحضيرية والإستعدادية للطفل، أي تهيئه للإندماج داخل المجتمع، لذلك يجب عليها التركيز على «قيم الخير والجمال على قيم الشر قبل أن يصير قادرا على التعقل والفهم» [6].كما سيعمل في نقد هذه المؤسسة التي أصبحت تعمل على تقييد الطفل، وتسييج حريته والجانب الإبداعي فيه.

ثانياً مؤسسة المدرسة، والتي اعتبرها منشأة هدفها التعليم للعموم، فهي تعمل على تقديم التعليم الأساسي للأطفال بدون غايات مهنية، أما فيما يتعلق بسؤال لماذا المدرسة؟ ينتقل فيه من النقود الموجهة للمدرسة، خاصة نقد إيڤان إليتش لها، من خلال إلزامية المدرسة وإحتكارياتها، لدرجة أنه يرفض رفضا كليا المدرسة من خلال كتابه «مجتمع بلا مدارس»، يرد عليه روبول المعرفة المدرسية لها ما يميزها وذلك كالآتي:

أولاً: معرفة طويلة الأمد.

ثانياً: معرفة منظمة.

ثالثاً: معرفة مضبوطة من الناحية الديداكتيكية.

رابعا: معرفة برهانية قابلة للفحص والنقد والمراجعة.

خامسا: معرفة نزيهة محايدة بغير غاية مهنية.

لينتقل في الأخير إلى التأكيد أن المدرسة تقدم تكوينا خاصا ولها وظيفة أخلاقية متجدسة في التربية على القيم.

ثالثاً مؤسسة الجامعة، حيث إعتبرها مؤسسة للتعليم العالي والبحث العلمي لها بدورها ثلاث وظائف.

أولاً: الوظيفة التعليمية.

ثانياً: الوظيفة التثقيفية.

ثالثاً: الوظيفة المهنية.

التعليم العالي إذن هو تعليم غرضه المساهمة في بناء وإعادة بناء المعارف الأساسية ويركز على هذه الأخيرة جيداً، كما أنه يهتم بجانب البحث العلمي المعمق الأساسي بصفة عامة، غرضه الإختراع والإبتكار والمساهمة في إنتاج وإعادة إنتاج معارف جديدة أساسية ومبتكرة، كما أن له بعد قيمي أيضاً، وبعد معرفي وبعد فلسفي.

لذلك فالمؤسسة الجامعية تحاول إنتاج المعارف والعلوم والبحوث العلمية المبتكرة من أجل الإستفادة من هذه الخبرات والمهارات لنفسها بغرض الإنفتاح على المجتمع.

ننتقل الآن للإجابة على السؤال المتعلق بالبيداغوجيا حيث أن أوليڤيي روبول يحملها في معنيين ؛ فهي فن بما أنها تدل «أولا على كون الشخص بيداغوجيا، على إكتساب فن التعليم والتربية، وهي مهارة تتعلم بالممارسة» [7]، «وهي نظرية كما يقول دوركهايم، بما أنها تهتم بتطبيق العلوم الإنسانية على فن التربية» [8]، وهو يعرفها، بدمج المعنيين معا، بقوله «البيداغوجيا هي هذا الفن المعقلن الذي يعطي لأولئك الذين نربيهم الوسائل والرغبة في تعلم ما لا يعرفونه» [9].

كما إعتبر روبول أن أول من مارس مهمة البيداغوجي هم السوفسطائيون الإغريق الذي عرفوا بتوجيه الشباب، وجعلوا التعليم فنا منهجيا لهم، كما أن النظريات البيداغوجية مرت من ثلاث مراحل أساسية:

الأولى: التيار الكلاسيكي الذي إعتمد على المضمون والمحتوى التربوي.

الثانية: التيار الوظيفي والتقني الذي ركز على تحديد الأهداف الإجرائية/ الوظيفية.

الثالثة: التيار الإبداعي الذي يركز على الإبداع الذاتي والحر للمتعلم.

يرى روبول أن البيداغوجيا تتيح لنا مجموعة الوسائل تساعدنا في التعلم، ومن الوسائل المميزة للبيداغوجيا نجد الرغبة والحافزية والدافعية والهاجسية ومركز على مشاركة المتعلم لبناء معارفه الأساسية.

لينتقل فيما بعد للحديث عن التلقين والتلقائية، وذلك من خلال تأكيده على أن التلقين عملية سلبية جداً تذكرنا بالبيداغوجيا الكلاسيكية، والتي تجعل من الطفل متلقيا سلبيا، عكس التلقائية التي هي مرادف لكلمة الحرية والتعبير عن الذات، إنها مشاركة المتعلم في بناء وإكتشاف المعارف لذاته وبذاته، لذلك يخبرنا بأنه يجب «التركيز على بيداغوجيا الكفايات» [10]، كما أن ما يميز البيداغوجيا هو الأساليب التقنية التي توفرها للمدرس، ومع تنامي الإبتكارات التقنية من تعليم مبرمج، وتعليم بواسطة الحاسوب أو الذكاء الإصطناعي، أصبح دور المدرس جوهريا متمثلا في التوجيه والإرشاد وتوعية وتثقيف المتعلمين وتشجيعهم على إستعمال هاته التقنيات، لينتقل فيما بعد، إلى البيداغوجيا بين القطيعة والإتصالية، وهنا نجده يؤكد على تصورين:

الأول: الداعي للقطيعة متمثلا في التيار الكلاسيكي أي أن الطفل يقطع مراحل مختلفة أثناء نمائه من طفل إلى مراهق أو راشد تم باقي المراحل، والتربية تحدث قفزات نوعية مع الطفل.

الثاني: الذي يدعو إلى الإتصالية المتمثل في التيار المجدد /الوظيفي والذي يؤكد على ضرورة الإستفادة من ما سبق والإنفتاح عليه دون القطع معه، والتعامل مع المراحل النمائية للمتعلم في كليتها دون تجزيئ.

لذلك سيركز روبول على التصورين معا، لتكوين تصور واحد ووحيد مركب وشمولي من خلال الفصل والوصل، وذلك لأن القطع قد يؤدي إلى الفشل الدراسي أما الوصل «لا يركز على القيمة الإيجابية للتربية» [11]، سنلاحظ هنا أن روبول ميز في هذا المحور أو أثناء إجابته على سؤال البيداغوجيا إنطلاقا من مفردات متناقضة، أي التركيز على تناقضاتها، الإكراه والرغبة، والتلقين والتلقائية، والشك والتقنية ثم أخيراً القطيعة والإتصالية، لينقل فيما بعد للسلطة والتربية أية علاقة؟

يجيب روبول على هذا الإشكال من خلال أن التربية تشكل علاقة عمودية مع المتعلم/ الطفل، هذه العلاقة هي ما تحدثنا على مفهوم السلطة خاصة أن التيار الليبرالي يرفض كل ما له علاقة بالسلطة.

«هل سلطة النظام التربوي شرعية؟ إذا أجبنا بنعم، كيف نفرض هذه السلطة؟ وإذا أجبنا بلا، بماذا نعوض...التربية؟»  [12].

لذلك سينتقل روبول للحديث عن أشكال السلط بعد تعريف السلطة لكونها تلك القدرة التي يمتلكها شخص ما ويدفع بواسطتها الآخرين إلى عمل ما يريد هو بدون اللجوء إلى العنف، هذه القدرة تعود لوضعيته الإجتماعية وكفائته وبالتالي فكل سلطة تتأسس -حسبه- على الشرعية، هناك العديد من أنواع السلط، مثل سلطة العقد القائمة على أساس تعاقدي توافقي وهي عقلانية، ثم سلطة الخبير تعود لخبرته، ثم سلطة الحكم وهي أقل عقلانية نجدها في الميدان الرياضي، وسلطة النموذج من خلال ذلك الشخص النموذج الذي يفرض علينا سلطة أيضاً، وسلطة الزعيم الذي هو القائد، ثم سلطة الملك – الأب وهي سلطة مطلقة تمارس على الطفل، تحت غطاء حمايته والدفاع عنه.

ما يهمنا في الحقيقة هو سلطة المدرس أو السلطة التي تمارس في التربية، لذلك أفردنا لها فقرة مميزة بها، حيث أن هناك نقاش حامي الوطيس أو سجال حول سلطة التربية، بين التربية الكلاسيكية والمدافعين على التربية الجديدة.

تركز التربية الكلاسيكية على ممارسة السلطة المعرفية على الطفل أثناء عملية التربية، عكس ذلك تدعوا التربية الجديدة، التي تتيح المتعلم الحرية وتحاول تخليصه من كل إكراه سواء كان داخلي أو خارجي، يجب على المتعلم أن يشعر بحريته وترك المجال للإبداع الشخصي الحر والذاتي بغرض إنجاز مشروع خاص به. بل تهدف كذلك إلى توسيع مجال الحرية فهي ضد البرامج الدراسية، ومع ترك الإمكانية للطفل في إختيار المقرر المناسب له، وإتاحة إمكانية الإستقلالية في العمل والتعاون فيما بينهم البين (العمل الجماعي)، لذلك تحث على تجنب ذلك الإكراه، وترك مجال للتعلم الذاتي الذي هو تعلم إبداعي.

لذلك سيعتبر روبول أن هذا التصور الذي يدافع عنه رواد التربية الجديدة تصور مشروع، لكن يشير إلى أن التربية تحتاج كثيراً إلى السلطة، لكن بغاية التخلي عنها، إن غاية التربية هو «أن تسمح لكل واحد بأن يتعلم بنفسه مع الإستغناء عن المعلم وأن ينتقل من الإكراه إلى التعلم الذاتي» [13].

لينتقل فيما بعد للحديث عن التربية والديمقراطية أية علاقة؟ بطبيعة الحال يؤكد روبول أنه توجد علاقة بين النظام التعليمي والنظام السياسي السائد في المجتمع، هو يحيل هنا إلى المجتمعات الديمقراطية التي تقوم على هذا النظام، وبالتالي تعيد تصريفه وإنتاجه عن طريق التربية والتعليم، لذلك سيتحدث عن كيف ينتقل هذا المصطلح للتعليم، بل كيف ستصبح دمقرطة التعليم ضرورة إجتماعية ملحة، «عن طريق توسيع نطاق الحرية والإستقلالية والمسؤولية على التلاميذ أنفسهم» [14].

لذلك يجب على المدرسة أن تعمل على تلقين التلاميذ تعاليم الديمقراطية، والتخلص بقدر ما أمكن من البيداغوجيا التسلطية، إضافة إلى توسيع مجال التعليم الإلزامي الأساسي، كما يلح على ترك المجال للمتعلم من أجل تثقيف وتوعية نفسه بنفسه، ويجب على التعليم الديمقراطي أن يتميز بالحيادية والموضوعية، هذا ما كان يميز المجتمع الفرنسي، الذي يشيد به روبول لأنه يعمل على ترسيخ قيم الديمقراطية، ودرء كل أشكال التسلط الذي قد يتحول إلى مذهبية، ويركز كثيراً على هذه المسألة، ويدعو إلى محاربتها خاصة أن المذهبية لها أثر خطير جداً على التربية بل والمجتمع بشكل عام، لذلك سيفرد كتابا خاصا بها عنوانه ب «المذهبية» أو يمكن ترجمتها ب"التلقين" نشره أي الكتاب سنة 1977.

بعدها يذهب روبول للحديث عن الصرامة في التربية التي لا تنفصل عن التربية بتاتا، لذلك فالصرامة هي عبارة عن منهج يوجد في التربية لذاتها وبذاته، فالنظام التربوي خاصة منهجه صارم جداً، لأنه يعلمنا كيف نكبر ونصبح راشدين، ويعلمنا مبدأ الإلزام والإلتزامية، والطريقة الصحيحة للتعلم، كما ميز بين الصرامة والفاشية، وأن الصرامة ضد الفاشية التي تستدعي القساوة التي يمكن إعتبارها عنفا ووحشية، إن الصرامة عكس ذلك هي التي تجعلنا نصبح أكثر معقولية، لذلك على المربي من خلال عبقريته أن يعلم الطفل كيف يصبح صارما، لذلك يصبح مفهوم الصرامة ملازما لكل نوع من البيداغوجيا.

ننتقل هنا إلى آخر سؤال كنا قد طرحناه في المقدمة، وهو المتعلق بالقيم والتربية، أية علاقة؟ لكن في الفصل الأخير السابع من كتابه هذا والذي عنونه ب «القيم والتربية» [15]، من هنا ينطلق من أنه لا وجود لتربية بدون قيم، حيث أن القيم هي ما تشكل غاية كل نظام يدعي أنه تربوي، بل من وظائف المدرسة هي التربية على القيم، ليجعل من القيم خصيصة النظام التربوي، كما ميز بين أحكام القيمة التي نطلقها على النتائج المدرسية، والقيمة كغاية في ذاتها، ليميز بين العلوم التي ليس غرضها التفكير في القيم، بل تستند على الموضوعية والحيادية والتجريبية، كما جعل من غاية المدرسة هو تقديم التعليم الأساسي، بشكل مطابق لجميع الأطفال بدون أي غاية مهنية، فالتربية الأسرية والمدرسية ليس هدفهما الطفل وإنما الإنسان الذي سيكون بعد عشرين سنة ! إذن القيم التي يتم تربيتها للطفل هي قيم إنسانية، تجعل منه إنسانا على التربية إستهدافها، هناك من يعتبر أن ما يستحق أن يدرس هو ما يتطلبه الإنتاج الإقتصادي والمناقشة الدولية، ربما يكون ذلك مهما، لكن ليس أساسيا، لأنه سيجعل الإنسان عبدا للآلة الإقتصادية، عوضا من جعل الإنسان إنسانا حرا، ومسؤولا «يمكننا ملاحظة مفارقة تتجلى في أن الدول الإشتراكية تضع هذا المعيار (أي العمل الإنتاجي) في المرتبة الأولى، إلا أن النجاح الإقتصادي ليس هو دليل قوتها بينما فيما يخص الثقافة الإنسانية (إبتداءا من قراءة الروايات إلى الموسيقى) فيمكنها التفوق علينا» [16].

إذن كان هذا هو الغرض من كتابه «فلسفة التربية»، وذلك أننا نلحظ في هذا الفصل الأخير منه تركيزه على مسألة القيم من خلال التوجهات الأساسية التي كل منها تنظر إلى موضوعة القيم منظورا خاصا بها، سواء عندما يتعلق الأمر بالوضعية أو حتى النسبوية، لكن ما يهمنا هنا هو الإشكال الذي تثيره مسألة القيم في التربية، حيث تشكل القيم الموضوع المركزي في فلسفة التربية، وكل الفلاسفة التربويين وضعوا تصورا فلسفيا حول القيم، خاصة في الفترة الحديثة مع روسو وإسبينوزا وكانط وفيشته، بل حتى مع كونت ودوركهايم وآلان، فنجد أن هناك نمطين كبيران من القيم، القيم التي غرضها الإندماج الإجتماعي، وتنطلق من المجتمع لتحديد القيم، وبالتالي تصبح القيم هي نفسها السائدة في المجتمع، والقيم الليبرالية التي تدعوا إلى التحرر الذاتي والإستقلالية والمسؤولية والإبداع الحر والذاتي، وبالتالي تجعل من الإنسان المبدأ الأول الكامن في ذاته، تحترم كثيراً توجهاته وإختياراته وتحرره من كل الإكراهات الخارجية، المجتمعية خاصة أنها تحرره من هيمنة الجماعة وتنظر له كإنسان، هذه النزعة الإنسانية هي التي يدافع عنها روبول ويشعر بالفخر بإنتمائه لها لأنها تحرر الفرد من قيوده وتدعوا للإستقلال، هذا بالضبط ما يدعوا له في نهاية هذا الفصل، يدعوا للنظر إلى الإنسانية في الإنسان، والتعامل مع المتعلم كإنسان وليس كشيء، يجب إحترامه وتقديسه، والإخلاص له وتحرير عقله من كل دوغمائية ووثوقية.

على سبيل الختم، إن كتاب «فلسفة التربية» لصاحبه أوليفيي روبول لهو كتاب ممتاز جداً، وشيق أيضاً، بل يمكن إعتباره الكتاب المؤسس لفلسفة التربية في اللحظة المعاصرة، علما أنه سبقه العديد من الفلاسفة للتفكير في التربية كمشكلة، بدءا من أفلاطون وأرسطو إلى جون لوك وداڤيد هيوم وهيلفيتيوس وروسو وإسبينوزا وكانط وفيشته وهيغل ونيتشه وآلان، لكنهم كما قلنا طرحوا التربية كإشكال وقدموا تأملات ميتافيزيقية (نحتفظ  كثيراً على هذا المصطلح) حولها، وذلك لأن غرضهم لم يكن التأسيس لفلسفة التربية، فمثلا السوفسطائيون الإغريق أول من مارسوا البيداغوجيا كمنهج التدريس، لكن لم يؤسسوا البيداغوجيا كعلم مستقل بذاته ولذاته، وكذلك أفلاطون يمكن إعتباره كأول مربي وضع منهجا لتربية المحاربين في جمهوريته، لكنه لم يؤسس لفلسفة التربية وكذلك كانط تأملات حول التربية وليس تأسيس لفلسفة التربية، روسو إيميل أو في التربية وليس التأسيس،...إلى آخره من الفلاسفة، لذلك ننسب لروبول التأسيس الفعلي، كما أن كتابه هذا كان عبارة عن ملخصات مكثفة ومركزة لفلاسفة التربية عبر تاريخ الفلسفة، نجد هنا وهناك إقتباسات وإشارات لفلاسفة التربية الكلاسكيين، لكن في حقيقة الأمر أوليڤيي روبول عندما كان أستاذا بجامعة ستراسبورغ بفرنسا، لم يكن يعتبر نفسه فيلسوف تربية، بل هذا الإسم سيأتي فيما بعد عندما حوَّل إهتماماته وركزها حول التربية، في عدة أعمال مثل «التربية حسب آلان» و «المذهبية» و «ما معنى التعلم؟» و «لغة التربية» و «فلسفة التربية» وأخيراً «قيم التربية»، كما أننا نجد تحولات مثيرة شهده فكره التربوي، خاصة عندما ختم أعماله الفلسفية في التربية بتركيزه على مسألة القيم، ولهذا أصبح فيلسوف تربية معاصر بإمتياز مهتم بالقيم في التربية والتعليم، نلحظ هذا في الفصل السابع والأخير من كتابه هذا الذي عنوانه ب «القيم والتربية» تشعر أثناء قراءته أنه ليس كاملاً بل هو تمهيد لكتاب آخر، وفعلا جعله تمهيدا لكتابه الذي ختم به فكره التربوي «قيم التربية».

كملاحظة أخيرة، أقول أنه من الضروري جداً لمن أراد التعرف أكثر على فيلسوفنا أن يعود إلى محراب الكتاب، الذي يحتوي فقط على 125 صفحة، ولغته سهلة جداً وبسيطة، في متناول الجميع، فالكتاب في الحقيقة يلخص نفسه بنفسه، لا يدعو إلى أي تلخيص آخر، وكل تلخيص أو موجز هو خيانة للكتاب، كانت هذه محاولة متواضعة جداً، للتنويه فقط إلى هذا الفيلسوف يمكن اعتبارها مدخلا تمهيديا وموجزاً لقراءة الفيلسوف ولا تعبر حقيقة عن متن الكتاب، بل هي قراءة تأويلية مختزلة ومركزة لفلسفة التربية عموماً ولموقفه منها خصوصاً الذي نجده في مؤلفاته الأخرى وليس في هذا الكتاب.

***

محمد فراح – تخصص فلسفة

............................

المصدر المعتمد:

[1] – LA PHILOSOPHIE DE L'ÉDUCATION , Olivier Reboul, puf Dépôt légal 1 re édition: 1989, 11 e édition: 2016 , juin Éditions CHAARAOUI, 2017 , P3

[2] - Ibid , p 6

[3] – Ibid , p 17

[4] – Ibid , p17

[5] – Ibid , p27

[6] – Ibid , p34

[7] – Ibid , p 51

[8] – Ibid ,  La même page

[9] – Ibid , p 53

[10] – Ibid , p 57

[11] – Ibid , p 65

[12] – Ibid , p 69

[13] – Ibid , p 77

[14] – Ibid , La même page

[15] – Ibid , p 96

[16] – Ibid , p 106

تصدير مقتضب: قرأت عبارة جدا مختصرة تنم عن عبقرية فيلسوف اللغة الامريكي وليفريد سيلارز 1912- 1989 قوله (الوجود لغة) وارجو ان لا يفهم منها انها تفكير مثالي يعني ما ليس له وجود ادراكي بالذهن لا وجود له بعالمنا الخارجي.. فالعقل في تجريدنا له من تعبيراته اللغوية الصورية عن موضوعاته يصبح عجينة بايولوجية وظائفية تزن كيلو غراما وربع تحتويها جمجمة الانسان تسمى الدماغ. الذي في حال نزعنا عنه خاصية التفكير وتعبير اللغة يصبح عندها اننا بذلك نحصر فاعلية العقل انه جوهر بايالوجي فسلجي مهمته اشباع حاجات الجسد الفطرية الغريزية منها والبيولوجية التي تديم حياة الانسان في صمت تفكيري لغوي غير صوتي. طبعا لا يفهم من هذا أن الصمت ليس لغة أبجدية صورية.

الوجود في الكوجيتو

ورد في كتاب جان فال (الفلسفة الفرنسية من ديكارت الى سارتر) ترجمة فؤاد كامل مسالة تحقق الوجود في عبارة ديكارت "انا افكر اذن انا موجود" التي اشبعت تفسيرا وتقويلا ومترادفات وتحويرات على امتداد اربعة قرون من تاريخ الفلسفة.

كما اشرنا والعهدة على جان فال ان تحقيق الوجود ويقصد به وجود الانسان انطولوجيا كينونة قائمة مستقلة بذاتها من خلال تفسيره للكوجيتو الديكارتي انه جعل من التفكير (وسيلة وموضوع) معا وبذلك تنتفي المطالبة السفسطائية بماذا كان يفكر ديكارت. فقال لنقل – الكلام لجان فال – ان ديكارت كان يفكر بالتفكيركموضوع. يعني التفكير بالتفكير. وبهذا التخريج السفسطائي قضى جان فال على مصطلح الوعي القصدي لبرينتانو الذي اعتمدته فينامينالوجيا هوسرل وكذلك الفلسفة الوجودية.

حسب جان فال فقد جعل من الذات وعيا تفكيريا تجريديا ففي الوقت الذي تحقق الانا ذاتيتها تفكيريا تجريديا فانها تحقق بذلك الوجود الانطولوجي للجسد كاملا حينما تجعل التفكير موضوعا منفصلا عن ماهية الذات او الانا.

من التلاعب العبثي ان تكون الانا منقسمة على نفسها في خاصية التفكير الى انا ذاتا منفصلة عن موضوعها مفكّرة به بغية تحقيق وجودها الانطولوجي، والى موضوع منفصل عن الانا المدركة هو خاصية التفكير ايضا. بدليل توفر إعتراض وجيه هو بديهة فلسفية تقول الانا هو موضوعها والموضوع هو الانا التي تدركه.

طبعا هذا يختلف عن درجات الانا حسب تصنيف فرويد الانا ذاتا واعيا والانا العليا والانا الهو.

حسب ماكنت ذكرته في احدى مقالاتي أن ديكارت لم يكن مخطئا في الكوجيتو من حيث طبيعة العقل البيولوجية وخاصيته التفكير، العقل لا يفكر بغياب موضوعه من جهة. كما ولا يفكر بما لامعنى له من جهة اخرى فهو محال تعجيزي للعقل يدركه تفكيرا تجريديا. مثل باقي تفكيرات العقل بمدركاته من اشياء وموجودات وموضوعات مادية او خيالية على السواء. اعتقد اني بهذه التخريجة كنت اكثر واقعية منطقية فلسفية من تخريجة مقولة جان فال التفكير بالتفكير يتحقق الوجود الفردي التي تدخلنا بمتاهات من طرق مسدودة للبرهان على ما لا حاجة تستوجب صرف جهودا سفسطائية لا نهاية لها من اجله.

رب تساؤل يوجه لي اذن على ماذا انت تعترض اذا كان كوجيتو ديكارت صحيحا من حيث الصياغة اللغوية الفلسفية وحمولته التفسيرية منطق المعنى؟ الاعتراض المشروع هو على التفسير والتاويل والحمولة التي لم يعد يستطيعها حمار ديكارت السير بها في عبارته الثقيلة التي اصبحت منذ القرن السابع عشر زاد من لازاد له في رحلته الفلسفية الشاقة عبئا لا تخلص منه الفلسفة.

حسب رأيي المثبت في احدى مقالاتي ديكارت لم يكن جاهلا بمضمون عبارته في الكوجيتو لكنه كان متغافلا عما يتوقع ما سوف تثيره من تاويلات متناقضة موزعة بين القدح والمدح وهو ماحصل. في اسقاطنا تهمة بماذا كان يفكر ديكارت لاثبات وجوده الانطولوجي نكون الغينا أهم ثيمة فلسفية تداوالها تاريخ الفلسفة منذ بداية القرن العشرين هي " الوعي القصدي" الذي كان اخترعه برينتانو الفيلسوف السويسري في تضاده مع كانط.

الوعي القصدي استعاره هوسرل وفلاسفة الظاهراتية (الفينامينالوجيا) مثل سارتر وهيدجر وميرلوبونتي وجيل ديلوز وغيرهم في ادانتهم المزدوجة لكل من كانط وديكارت. معتبرين تفكير العقل بلا موضوع محدد هو إخلال بوظيفة العقل الادراكية وهو منطق فلسفي سليم. ومقولة ديكارت كانت ناقصة لا معنى لها في انعدام موضوع تفكير ديكارت بماذا كان يفكر لتحقيق كينونته الانطولوجية.

سورين كيركجورد الفيلسوف الدنماركي الذي توفي في الثلاثينيات من عمره تداخل مع عبارة ديكارت قائلا " انا افكر فاذن انا غير موجود" هنا تناقض صياغة عبارة كيركجورد الذي تنسب له بذرة الوجودية الحديثة لا يمكن انزلاقه بهذا التعبير العبثي في تغليبه التفكير على نفي الوجود الذي هو خطأ من زاوية الوجود سابق على التفكير او عدم التفكير بشيء ولو ان عدم تفكير العقل بشيء يكن تعجيزله وتعطيل فاعلية العقل البشري الذي يكون شغّالا حتى اثناء النوم.

 التساؤل المنطقي المشروع كيف يمكننا التوفيق بين التفكير ناتجه اثبات الوجود الانطولوجي لدى ديكارت. وبين التفكير الذي يلغي تحقق الوجود كما ذهب له سورين كيركجورد.؟

 لا فرق بينهما في اثباتهما الوجود فهما في كلا التعبيرين كان يرومان تاكيد الوجود (النوع) – لا يصح القول تاكيد الوجود الانطولوجي كما هي في عبارة ديكارت ولاغبار عليها لكن غياب الوجود الانطولوجي لدى كيركجورد لم يكن يهمّه التفكير يلغي الوجود الانطولوجي وهو مخترع الوجودية بالفلسفة في ثيمته الوجود يسبق الفكر وهو اول فيلسوف  تمرّد على ديالكتيك هيجل - .

اعود لتوضيح اكثر فكلاهما ديكارت وكيركجورد انطلقا من التسليم التفكير هدف قصدي ووسيلة معرفية معا. التاكيد الوجودي الانطولوجي عند ديكارت جاء نتيجة لتفكير تجريدي في حضور موضوع تفكيره المعلن او الخفي. بمعنى علائقي ارتباطي مع مقولة ديكارت يعطي لعبارة جان فال ارجحية صادقة حتى لو افترضنا ديكارت كان يفكر بموضوعه غير المعلن هو التفكير نفسه كما ذكر جان فال. ديكارت واضح ان تحقيق وجوده انطولوجيا يأتي نتيجة تعالق التفكير مع العقل وليس تعالق التفكير مع انطولوجيا الوجود كما يرغبه كيركجورد.

توضيح الحال مع سورين كيركجورد فنفي الوجود (الانطولوجي) لوجوده هو من اعتباره موضوع التفكير يلغي الوجود المادي كينونة مستقلة ويحققه تفكيرا صوفيا مؤكدا روحانية الوجود الارضي اذا جاز التعبير اثناء القيام بالتجربة الصوفية التي تصب كامل موجوديتها من عقل وجسد ومشاعر روحية نفسية في التفكير بالذات الالهية والانجذاب النوراني لها. التفكير الصوفي هو الغاء الوجود الانطولوجي.

هذا التحليل الذي ذهبنا له يتأتى من الخلفية الدينية الصوفية لسورين كيركجورد فهو اول من اطلق تجنّب عدم الايمان بالعقل وسيلة ادراك الخالق وان الايمان القلبي الغيبي يقي المؤمن الديني الانزلاق في براثن تيه الميتافيزيقا. واختصر كيركجورد ذلك بقوله الانسان يحتاج الى قفزة ايمانية نوعية في المطلق الروحي. وقد جيّرت الماركسية هذه المقولة في تطور حركة التاريخ في المسار الخطّي له الذي تتخلله قطوعات تحتاج معالجتها الى نوع من القفزات النوعية التي ترجع مسار التاريخ لوضعه الطبيعي.

سورين كيركجورد ونفي انطولوجيا الوجود الفردي

عود على بدء فان سورين كيركجورد قصد ان مجرد التفكير تجريدا يلغي انطولوجيا الوجود وإن لم يفصح عنها هي صحيحة. حسب تفسيري هنا كيركجورد ينطلق من مسلمة بديهية في منطق الفلسفة ان التفكير الذي لا يلازمه موضوعه غير موجود وتعّطل خاصية العقل التفكيرية. كما هو يذهب اعتباره موضوع التفكير يلغي الوجود المادي للفرد الذي يعي موضوعه. بمعنى الوجود تحققه فاعلية التفكير حتى لو جاء التفكير بموضوع التفكير نفسه حسب ما ذهب له جان فال. لكني ارجح ان تغييب الوجود الانطولوجي لدى سورين كيركجورد هو نتيجة التفكير إيمانا دينيا (صوفيا) ترانسدتاليا متعاليا على موضوعة التفكير ذاتها.

كما اشرت له سابقا كيركجورد تحكمه الخلفية الايمانية الدينية بأن تحقق اليقين من الوجود الالهي يكون الاستدلال له بالقفزة النوعية في المطلق الايماني. القفزة التي يمليها القلب وليس العقل. بناءا عليه كيركجورد يميز بين الوجود المادي للانسان كينونة انطولوجية باختلاف عن تاكيد وجود ثاني لا مادي الذي هو الوجود الصوفي المفكر روحيا الذي هو يفّكر ابعد من موضوع التفكير القائم على الانا المفكرة في موضوع كما يمارس عامة الناس.

وهذا هو غير الوجود الانطولوجي المادي للانسان المبني على تجريد اللغة التصوريّة لموضوعها. أجد من غير التوفيق المنطقي الفلسفي قولي أن الوجود المفكر هو وجود إعتباري معنوي روحاني غير واقعي كما يحتمله تعبير كيركجورد انا افكر فاذن انا غير موجود..

الوعي القصدي دوره في تحقق الوجود

يذهب هوسرل مع تلامذته فلاسفة الظواهر ان الوعي القصدي يحمل هدفه المسبق بالذهن قبل وصوله لمدركاته. ويؤكدون ليس هناك وعي قصدي لا يحمل الهدف من وعيه لموضوعه الذي يختزنه مسبقا بالذهن قبل وصول الوعي معرفة مدركاته وليس ادراكها فقط الذي هو خاصية الحواس وليس خاصية الوعي (المعرفة).

الادراك خاصية الحواس والوعي تجريد عقلي معرفي. الفرق بين الادراك والوعي هو الادراك خاصية حسية وخيالية معا. ما تنقله الحواس من مؤثرات موجودات العالم الخارجي هو ما يسميه ديفيد هيوم الانطباعات الاولية الزائلة اي التي لا يختزنها الذهن بل ينقلها عبر منظومة الاعصاب الى الدماغ للنظر والبت بها. بينما الوعي هو وسيلة العقل في معالجة المدركات المنقولة له.

الوعي القصدي لا يحدد هدفه المعرفي مسبقا بالذهن كما يذهب له اصحاب الفينامينالوجيا. صحيح جدا ان الوعي القصدي يحمل مقولات العقل تجاه مواضيعه ومدركاته ليس لادراكها بل لمعرفتها واخذ المعاني الدفينة منها. وليس شرطا أن الوعي الذي خاصيته معرفة الشيء وليس ادراكه فقط كما تفعل الحواس يستطيع بلوغ ماهية الشيء او جوهره.

ولو نسّلم خطأ أن وظيفة الوعي هو إضفاء حمولته على مدركاته أي على مواضيعه وقتها لا يبقى معنا معنى حقيقي ولا حاجة للوعي أن يكون وسيلة العقل معرفة الاشياء بعلاقة معرفية تخارجية. الوعي لا يدخل بعلاقة جدلية مع موضوعه تحتاج التضاد والنفي واستحداث الظاهرة الجديدة. بل الوعي يدخل بعلاقة تخارجية تكاملية معرفية مع موضوعه.(أخذ وعطاء).

 الوعي لاتجمعه علاقة تضاد جدلي ديالكتيكي مع موضوعاته بل يحتاج الوعي علاقة تخارجية معرفية مع الاشياء بما يرغبه العقل معرفته في مقولاته عن موضوع إدراكه. اشرت بسرعة سابقا ان وعي العقل هو التفكير بالاشياء المادية، وايضا التفكير في التفكير المجرد بالموضوعات الخيالية التي تبدعها المخيلة. كما والوعي هو الناقل للاستشعارات التي ترسلها موجودات العالم الداخلي الذي هو حاجة الجسم لاشباع حاجاته الضرورية لبقائه حيا سواء اكانت غريزية مثل الاكل والعطش والالم والحزن والفرح والجماع الجنسي بمعنى اشباع حاجات الجسد البيولوجية مثل سلامة عمل اجهزة الجسم الباطنية داخله.

 التفكير بالتفكير

حين إعتبر جان فال الانا هي موجود تفكيري قائم بذاته. واعتبر التفكير بالتفكير هي فاعلية الانا في اثباتها لوجودها الانطولوجي. ويضيف " لكن ماهو الوجود الذي يعنيه بعبارة (انا موجود) انه كائن مفكر، وحتى هذه اللحظة لا نعرف وجودا سواه. ولهذا كان ديكارت ابا المثالية الحديثة يبدا من الفكر وينتهي الى الفكر كما يقول هاملان" 1ص10 المصدر المشار له بداية المقال.

لنا الملاحظات التالية:

- مثالية ديكارت لا خلاف عليها ومحاولة توظيف الفكر لاثبات الوجود الجسدي هو ايغال خاطيء بالتجريد الفلسفي المثالي. الفكر لا يخلق الموجودات ولا المواضيع في وجودها المادي او الخيالي.

- التفكير يخلق التفكير في مجانسة نوعية تجريدية هو الانفصال التام عن التداخل مع الواقع. المتواليات التفكيرية التي يكون موضوعها التفكير لا تخرج ولا يترتب عليها نتيجة اثبات لوجود مادي.

- التفكير يصنع المادة بالفكر صوريا لكنه يعجز عن خلقها في العالم الخارجي باستقلالية موجودية. التفكير يصنع موضوعات الخيال لكنه لا يلزم منه أي من التفكير بجعلها موضوعات يمكنها التعايش في عالم الموجودات.

- الاجناس الادبية من شعر وقصة ورواية وفنون تشكيلية تقوم على ملكة التفكير الخيالي لكنها تعجز ان تجعل تلك الموضوعات التي ابتدعتها المخيّلة ان تكون جزءا من موجودات الحياة.

- التفكير هو سمة عقلية لغوية تجريدية. والتفكير هو وسيلة العقل الادراكية وليس هدفا ولا موضوعا مستقلا بذاته. التفكير مطلق مفهومي وليس مصطلحا نسبيا محصورا في فهم موضوعا بعينه فقط. لذا يكون مطلق التفكير لا ينبجس ولا يتخلق عنه تحديد وجود مادي جسدي كاملا يدعى الانسان كينونة موجودية. كما ان التفكيير الذي يكون موضوعه التفكير من نوعه عاجز عن تاكيد حضور الانا سوى على الصعيد الفردي.

- التفكير وسيلة اثبات وجود انطولوجي فردي لا تربطه علاقة تواصل مع منهج الشك عند ديكارت. الشك المنهجي هو نسف اليقينيات القبلية من التحكم والهيمنة على التفكير العقلي الخاطيء المضلل في تعبير اللغة ومتراكم الخبرة خارج منهجية الشك الديكارتي.

للمقال صلة

***

علي محمد اليوسف

التفكير الفلسفي المعطيات والعلامات

للتفكير الفلسفي علامات يقفوها الفطن ويهتدي إليها الذكي، يحوكها العالم وينسج على منوالها، يعشقها الفيلسوف، ويتشبث بها كل محب للحكمة الفلسفية والباحث عن الحقيقة المعرفية.

هذه العلامات صفاء في الفكر، واستقامة في التأمل، وإثارة للسؤال المنقب في حيثيات الموضوع بغية إشباع الفضول، وخلخلة للمفاهيم الجاهزة بغية إصلاح الذات المفكرة.

تلك وظيفة الفلسفة التي أتى عليها حين من الدهر لم تكن مذكورة، أو كما أرادها الدهماء ألا تذكر أبدا، لأنها قطعت ردحا من الزمن تبهرهم بإشكالاتها وتقلقهم بتساؤلاتها، وتجعلهم في مرية وحيرة.

ألم يتجرع سقراط كأس المنون في سبيل إثارته السؤال؟

ألم ينقلب الخليفة العباسي المتوكل بالله سنة (232 م) على المعتزلة وهم كالطود الشامخ في سبيل طرح سؤالهم الفلسفي الجريء: هل كلام الله قديم أم مخلوق؟

ألم يبعد الوليد بن رشد وتؤلب العامة عليه ويكفر بسبب تساؤله الفلسفي؟

وفي عصرنا وأد الفكر واغتيال الرأي وتحريم التفلسف، قتل فرج فودة سنة 1992 بسب كتابه " الحقيقة الغائبة " الذي طرح فيه سؤال فلسفي لماذا المسلم يقتل المسلم؟

متتبعا كرنولوجيا محنة القتل بين المسلمين منذ سقيفة بني ساعدة إلى غاية عصره، يقول فرج فودة: « ما حدث لعثمان عند مقتله، فقد قتل على يد المسلمين الثائرين المحاصرين لمنزله وبإجماع منهم، وقد تتصور أن قتلتة عثمان قد أشفوا غليلهم بمصرعه على أيديهم، وانتهت عداوتهم له بموته....»1

يضف فرج فودة قائلا وهذا الكلام سبب اغتياله:« تقبل منهم دعوتهم للدولة الدينية وهم لا يتمسكون من الدين إلا بالقشور، ولا يعرفون من العقيدة إلا مظهرها الذي لا أصل له في كتاب الله، ولا سند له إلا التأسى بالرسول في مسايرته لعصر غير عصرنا، ولمجتمع يختلف جملة وتفصيلا عن المجتمع الذي نعيش فيه، وليتهم تأسوا به وهو يدعو للرحمة، ويستنكر قتل المسلم للمسلم، ويدعو لطلب العلم ولو في الصين، ويستنكر اعتزال العمل للعبادة...هؤلاء قوم كرهوا المجتمع فحق للمجتمع أن يبادلهم كرها بكره، ولفظوه فحق له أن يلفظهم، وأدانوه بالجاهلية فحق له أن يدينهم بالتعصب وانغلاق الذهن...»2

كذلك لم يخلو عصرنا من محنة التكفير فتخطف شبح الإرهاب الشهيد سعيد حسين مروة سنة 1989 نتيجة سؤاله حول التراث الإسلامي في مشروعه الضخم " النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"، وتراثنا كيف نعرفه؟

كما اعتبر ناصر حامد أبو زيد زنديقا مرتدا ومحمد أركون كافرا، نتيجة تساؤلهما حول الخطاب الديني وطرح سؤال النقد الابستيمي لهذا الخطاب.

الدور اليوم على يوسف الصديق صاحب مؤلف " هل قرأنا القرآن؟ أم على قلوب أقفالها " وفي القراءة الواعية من طرف المفكر يوسف الصديق التدبر؛ وفي التدبر إثارة السؤال وفي السؤال خلخلة الخطاب الديني المحاط بترسانة دغمائية فقهية، بعيدة عن سبر الأغوار.

من هنا وجب العقل المؤول في الفكر الإسلامي، لا عقل مفسر محكوم بمرجعية سطحية تقدم تفسيرات لا تتماشى والعصر، وعليه ما هو هذا العقل الذي يضفي على تفسيراتنا وتأويلاتنا طابع اليقين؟

رشيد أيلال السؤال الفلسفي، الشك بغية اليقين:

رشيد أيلال صاحب كتاب " صحيح البخاري نهاية أسطورة " يطرح سؤالا فلسفيا نقديا في علم الحديث، فبقدر ما كان التساؤل الفلسفي قويا، كان البحث أيضا قويا في الحديث الصحيح من الحديث المعتل؛ سؤال البحث عن المقدس من المدنس فلا غرابة أن يكفر اليوم رشيد ويهدر دمه.

كثيرا ما يكون لصوق الكفر بالذي طرح السؤال حول الخطاب الديني في سياق المساءلة النقدية، مساءلة القراءة الواعية في فك معاني الخطاب، وفهم فحواه وتفسير دلائله، وحول الأساس المعرفي لتلك القراءة المتعدية إلى خلخلة الخطاب الفقهي، وجعل منه خطابا يبتعد عن النمطية المتكلسة في التفسير، ويتعدى ذلك إلى تأويل المعاني البعيدة التي تختفي وراء دلالات الخطاب، فكان طرح الكاتب رشيد نموذجا للبرهان العقلي الفلسفي اليقيني يقول الوليد بن رشد :« إنما يحمل على الإيمان الذي يكون من قبل البرهان، وهذا لا يكون إلا مع العلم بالتأويل.»3

والتأويل من سيمة الحكمة الفلسفية؛ والحكمة الفلسفية من سيمة الفيلسوف، فلا غرابة أن يكون التكفير لصوق بالفلسفة التي تقلق الفقيه القابع على سطحية التفكير دون سبر الأغوار، تاركا النظر في الأمور الجليلة الدقيقة، لا يغوص في بحر الفكر يستخرج درره المغمورة ونفائسه الدفينة يلمعها، يصقلها لتسر الناظرين يقول إسحاق بن وهب:« فإذا تفكر الإنسان وتدبر ونطر واعتبر وقاس ما يدله عليه فكره بما جربه هو ومن قبله، تبين له ما يريد أن يتبينه وظهر له معناه وحقيقته.»4

وعليه ليست الفلسفة مجرد أفكار ونظريات جاهزة، بل هي قبل كل شئ نشاط وفعالية يقوم بها عقل له أسسه وقواعده ومعاييره في التفكير؛ يمارسها العقل المفكر بناء على مناهج واستدلالات، تستنطق الفلسفة وتمدها بالتربة الصالحة لإنتاج مدلولات جديدة هي أصل التفكير، إذن الفلسفة فريضة للتفكير لا محنة التكفير.

***

رحموني عبد الكريم - باحث من الجزائر

.................

فرج فودة: الحقيقة الغائبة، ص 27.

فرج فودة: الحقيقة الغائبة، ص 34-35 .

ابن رشد: فصل المقال، ص 13 .

إسحاق بن وهب: نقد النثر، ص 9.

قائمة المصادر والمراجع:

1- إسحاق بن وهب: نقد النثر، مطبعة المكتبة العلمية، طبعة أولى سنة 1980، بيروت، لبنان.

2- الوليد بن رشد: فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال، مطبعة دار الآفاق الجديدة، طبعة أولى سنة 1978، بيروت، لبنان.

3- فرج فودة: الحقيقة الغائبة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة سنة 1988،  القاهرة، مصر.

تستطيع عين الانسان تمييز ثلاثة أنواع من الضوء: الأحمر والأخضر والأزرق، لكن طائر الحمام والعديد من الحيوانات الاخرى يمكنها ايضا رؤية لون رابع فوق بنفسجي. الفضاء اللوني الرباعي الأبعاد الذي يراه طائر الحمام  قد يحتوي على ملايين الألوان اكثر من الألوان التي نراها نحن. الحمام يرى العديد من الزهور التي هي غير مرئية لنا.

وعلى الرغم من التاريخ الطويل للارتباط الوثيق بين الكائنات الحية، لكننا نستطيع القول ان الانسان وطير الحمام يعيشان في عالمين مختلفين جدا. اذا كانت مختلف الحيوانات تعيش في عوالم مختلفة، فهل هذا يعني ان البايولوجي هو الذي يشكل الواقع؟ السؤال حول ما اذا كان الواقع موجود خارج رؤوسنا ام في داخلها أرهق الفلاسفة لمئات او آلاف السنين. وفي ورقة حديثة، اقترح كل من كاثرين ليج استاذة الفلسفة في جامعة ديكين الاسترالية واندريه سانت طريقة برجماتية لحل هذه المعظلة بالإرتكاز على التحقيق والفعل (1).

كم عدد العوالم الموجودة ؟

هناك تفكير قديم في الفلسفة يسمى "الواقعية". وفق الرؤية الواقعية، هناك فقط عالم واحد بسمات محددة سلفا مستقلة عن ذهن المراقب – وان اكتشاف هذه السمات هو واجب العلم. لكن اذا كان هناك شيء  مستقل تماما عن أذهاننا، كيف نستطيع معرفته بالذهن؟ أليس هذا تناقضا؟

وبنفس المقدار هناك تاريخ طويل من الجدال الفلسفي يؤكد بان سمات الواقع تعتمد بشكل ما على التجربة. هؤلاء المفكرون يدّعون ان الواقع لم يُنحت مسبقا كما وصفه افلاطون  قي حوار فيدون (2). 

توجد هناك عدة عوالم مثلما هناك أعداد من التجارب، وكل مجموعة من التجارب تخلق منظورا فريدا او ما يسميه ادموند هسرل "عالم – حياة".

هذا الخلاف العميق حول طبيعة الواقع والعوالم برز لدى كل جيل من الفلاسفة.

كيف تحدد أجسامنا تجاربنا في العالم؟

هناك بديل هام جدا للواقعية التقليدية يسمى "النشاط" enactivism (3) الذي يستلهم من علوم الادراك. اول ما ظهر مصطلح النشاط عام 1990 في كتاب من تأليف كل من فرنسيس جي فاريلا واليانور روس وايفان ثومبسن سمي (العقل المتجسد). المؤلفون الثلاثة جمعوا بين البايولوجيا العلمية وعوالم الحياة لهسرل والفلسفة البوذية وتوصلوا الى انه عندما ينمو الكائن الحي ويصلح جسمه فهو "ينشط" بيئته الخاصة لتكون ذات سمات هامة بالنسبة له مثل الطعام او الخطر.

وكما كتب ثوبسن لاحقا:

"عالم الحيوان الإدراكي – مهما كان ذلك الكائن في قدرته على التعامل والمعرفة والمعالجة العملية  –  هو مشروط بشكل ذلك الكائن وهيكله".

حدود عالم الحياة

أمام نظرية النشاط تبقى هناك عدة اسئلة بحاجة الى جواب.

1- كيف تتمكن الكائنات الحية من التفاعل مع بعضها عندما تضعها قدراتها التصورية في عوالم حياة مختلفة جدا؟ فمثلا، اثناء الحرب العالمية الاولى، حمل طائر حمام اسمه cher Ami  رسالة أنقذت حياة 200 جندي بريطاني رغم اطلاق النار عليه من جانب العدو، وهو العمل الذي كوفئ لأجله بمدالية ذهبية.

2- العلماء يجب ان يكونوا قادرين على التحقيق في الكيفية التي تخلق بها مختلف أجسام الحيوانات  انواع مختلفة من التجارب الادراكية، لكن اذا كانت جميع المخلوقات بما فيها نحن "مغلقة" في عوالم حياتها الخاصة، فان هذا التحقيق سيكون مستحيلا.

هل التجارب المشتركة والأفعال تخلق الواقع؟

هنا نفترض حلا جديدا لمعضلة فهم الواقع باعتباره اما معطى سلفا او يقع ضمن تجارب فردية ذاتية، معتمدين على أفكار الفيلسوف البرجماتي تشارلس بيرس Charles peirce. الجدال هنا لأجل واقعية مرتكزة على التحقيق، يعتمد فيها الواقع على أذهاننا لكنه لايزال عاما وموضوعيا. وكما يتضح، الواقع يُفهم من خلال اتفاق برجماتي. هذا يعني ان الافراد يتفقون في توقعاتهم حول ما سيفعله الآخرون في مواقف حياتية مشابهة.

وهكذا، على سبيل المثال، رغم ان الجنود في الحرب العالمية الاولى وطير الحمام لهم تراكيب عيون مختلفة تفهم نيران العدو بطريقة مختلفة، لكنهم يتفقون برجماتيا بان الامر  يصبح خطيرا عندما يبتعد كلاهما. وكما لاحظنا في طائر الـ  شير امي، الناس والحمام يمكنهم ايضا الاتفاق على الأهمية العظمى للوصول الى "المكان المقصود " مع التسليم.

هذا يسلط الضوء على خاصية هامة للفلسفة البرجماتية. انها لا تعرّف الادراك كنوع من الوعي، وهي الفكرة التي قادت الى مشاكل فلسفية عويصة غير قابلة للحل. بدلا من ذلك، ينظر البرجماتيون لمعرفة الواقع كشيء متضمن في ما نستطيع فعله، وخاصة ما نستطيع فعله مع الآخرين.

الاتفاق البرجماتي مع الكائنات الحية الاخرى

بالطبع، ستكون هناك عدة مسائل الان لا يحصل فيها اتفاق برجماتي بين مختلف الكائنات الحية. على سبيل المثال، بينما كل من الانسان والحمامة يفهمان مدى خطورة اطلاق النار من بندقية العدو، لكنه ادراك غير متوفر للخنفساء التي  تتغذى بسعادة على فضلات الحيوان في نفس خنادق الحرب العالمية الاولى. نحن يجب ان لا نستعجل الاستنتاج  بان الواقع يجب ان يكون دائما جمعيا. وصفْ بيرس للواقع المبني على التحقيق يعبّر عن أمل متفائل بانه بمرور الزمن سنستطيع ايجاد طرق لجلب الكائنات الحية الى اتفاق برجماتي أكبر. ما مطلوب هو اننا نضع أنفسنا في نفس البيئة، نقوم بأشياء مشابهة ونطور أهدافا مشتركة. وهكذا، يعرّف بيرس الحقيقة "رأي سيتفق عليه حتما جميع المحققين في النهاية".

هذا التفسير يمكن ان يوفر رؤية دقيقة وأصلية لواقع النشاط. انه يسمح بدور للقوة الادراكية الفريدة للكائنات في صياغة واقعها الخاص بها، لكنه يسمح ايضا بان الواقع هو موضوعي بطريقة مختلفة عن الواقعية التقليدية. نحن نفترض فقط بداية لفهم كيفية فهمنا للواقع الذي تعيش فيه كائنات غير انسانية. فلسفة بيرس تبيّن لنا كيف يمكن انجاز هذا الفهم بمرور الزمن. واذا استطعنا زيادة اتفاقاتنا البرجماتية مع كائنات اخرى،سنتمكن من توسيع الواقع الذي نعيش به نحن بالذات.

***

حاتم حميد محسن

..................................

الهوامش

(1) The conversation, July24,2024

(2) فكرة "نقش الطبيعة على مفاصلها"استخدمها افلاطون لوصف عالم الأشكال. هو جادل بان الانواع الحية يمكن تمييزها من خلال نحت الطبيعة على ارتباطاتها، بمعنى مجموعة من السمات المجتمعة الى بعضها تخلق حدودا للصنف، اي، ان الاصناف الطبيعية يمكن اكتشافها عبر العثور على نماذج من السمات المشتركة، والتي تشير الى اكثر الاختلافات البارزة بين الاشياء. النقاشات المعاصرة حول نجاح العلم تستوحي مقارنة افلاطون، وتؤكد ان النظريات الناجحة يجب ان تنحت الطبيعة في مفاصلها. ولكن هل الطبيعة مترابطة حقا؟ هل هناك انواع طبيعية للاشياء تدور حولها النظريات؟ البعض ينكر وجود هذه المفاصل ويؤكد اننا قد ننحت الاشياء كما نشاء.

(3) النشاط هو نظرية في علم الادراك تصف كيف تتفاعل المخلوقات مع بيئتها لبناء ادراكها وتجاربها. انها ترتكز على فكرة ان الادراك عملية نابضة بالحياة تبرز من العلاقات الديناميكية بين الكائن وبيئته. ظهرت فكرة النشاط في التسعينات من القرن الماضي، وكانت رد فعل للنظريات السابقة التي ركزت على التجسيدات الذهنية والعمليات الحسابية والثنائية الديكارتية. مفردة فعل enact تعني ان الفعل يجلب المعنى. كان للنظرية  تأثيراً هاما على العلم والطبيعة، ونتائجها كانت مؤثرة جدا على الكيفية التي نفكر بها حول العلم والطبيعة.

 

في المفهوم: النهضة، أو كما تُعرف باسم اليقظة، أو حركة التنوير. هي جملة التحولات الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، التي فرضتها أو تفرضها القوانين الموضوعيّة للتطور في مجتمع من المجتمعات أو دولة من الدول أو أمّة من الأمم. والمقصود بالقوانين الموضوعيّة هنا هي حالات الحركة المستمرة بالضرورة في بنية المجتمع من خلال تفاعل مكونات هذا المجتمع مع بعضهم من جهة، أو مع غيرهم من المجتمعات أو الأمم من جهة أخرى. فأثناء عمليّة الانتاج تتولد عمليات وعلاقات إنتاجيّة وفكريّة بين أفراد المجتمع الواحد، وبين هذا المجتمع والمجتمعات الأخرى باستمرار.

إن تطور قوى الانتاج (الآلة، أي وسائل الإنتاج عموماً، والإنسان ذاته وعمليات الإنتاج من حيث زياد الإنتاج وتبادله واستهلاكه). فسيرافق هذا التطور بعموم مفرداته، أو يسمى "البناء التحتي"، تطور آخر مرافق له في الوعي والفكر بشكل عام، أي ما يسمى "البناء الفوقي" بالضرورة وذلك عبر العلاقة الجدليّة التأثيريّة بين البنائين. ومن أبرز مظاهر النهضة في البناء الفوقي، هي تطور مفهوم الدولة ومؤسساتها، وانتشار مفاهيم دولة القانون، والحريّة، والعدالة، والمساواة، والمواطنة، والتعدديّة السياسيّة، وانتشار الطباعة، وظهور الصحافة ودُور النشر، والتوسع في إنشاء المدارس والجامعات، وإحياء التراث وتحقيقُهُ، والنهوض باللغة، وتفاعلُ الأدب مع الآداب العالميّة بفعل الاحتكاك القسري أو الإرادي  تفاعلاً عميقاً سيؤدى إلى ظهور فنون أدبية جديدة لم يكن لها وجودٌ من قبل، كالأقصوصة والرواية والمسرحيّة وغير ذلك من قضايا تهم حياة الإنسان وتطور وجوديّه المادي والفكري..

وقبل أن نبين قضيّة مشروع النهضة في عالمنا العربي المفوّت حضاريّاً، من الضرورة بمكان أن نشير ولو بشيء من العجالة إلى مشروع النهضة في أوربا لنتبين ذلك الفرق الواضح بين المشروع النهضوي الغربي، والمشروع النهضوي العربي.

مشروع النهضة في أوربا:

إن مشروع النهضة الذي مرّت به أوربا تاريخيّاً منذ سقوط القسطنطينيّة عام 1453 واكتشاف رأس الرجاء الصالح 1488. وانتقال طرق التجارة من يد تجار الشرق إلى يد تجار الغرب، وبخاصة في إيطاليا، قد ساهم بتشكيل ما عرف بالمرحلة الأنسيّة في إيطاليا منذ النصف الثاني للقرن الخامس عشر على يد الطبقة الجديدة من التجار ورجال الفن والأدب الذين آمنوا بالإنسان كسيد لقدره ومصيره. إن الارهاصات الأوليّة للمرحلة الأنسيّة راحت تمتد إلى معظم مناطق أوربا شيئاً فشيئاً، ومع ظهور عصر النهضة في إيطاليا ذاتها كامتداد للمرحلة الأنسيّة في أفكارها حتى القرن السابع عشر، قد جذرت في الحقيقة الصورةً الإيجابيّةً للإنسان وعقله وحريّة إرادته، باعتباره أرقى الكائنات الحيّة. ومن أهم توجهات الحركة الأنسيّة وعصر النهضة هي:

1- الاهتمام بمختلف العلوم والآداب والفنون.

2- الأخذ بالأساليب الحديثة في التربية والتعليم.

3- إحياء التراث القديم وخاصة التراث اليوناني والروماني والعقلاني منه بشكل خاص.(1).

4- وفي الوقت نفسه الذي قطع فيه العلماء والمخترعون في تلك الفترة خطوات كبيرة في فهم العالم الطبيعي، مع شخصيات مثل "نيكولاس كوبرنيكوس: وغيره من الذين قدموا مخترعاتهم التكنولوجيّة وعلومهم الطبيعيّة في الفلك وغيره التي أخذت تعيد النظر في المعتقدات الدينيّة السائدة آنذاك حول الكون وتشكله، ومهدت الطريق لاكتشاف القوانين الموضوعيّة المستقلة في الطبيعة والمجتمع، والتسلح بها وتوظيفها لمصلحة الإنسان. وبالتالي هذا ما يؤكد بأن ما قدمته الحركة الأنسيّة وعصر النهضة في أوربا، قد أسس  ليس لنهضة ثقافيّة فحسب، بل كان أيضًا حافزًا للابتكار والاكتشاف الذي أرسى الأساس لعصر التنوير والعالم الحديث ومكانة العقل.

ثم تلا عصر النهضة الثورة الصناعيّة التي قامت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، والتي فتحت أبواب المعرفة على مصراعيها، وظهر عصر الفيزياء والكيمياء والرياضات والاختراعات التكنولوجية المختلفة في أهميتها ووظيفتها الإنتاجية، مثلما رافقها ظهور فلاسفة عصر التنوير في القرن ذاته الذين راحوا يبشرون بعالم جديد على كافة المستويات الاقتصاديّة منها والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة.

فعلى المستوى الاقتصادي: راح التوجه للعمل على الفسح في المجال واسعاً لاقتصاد السوق ووحدته في المجال الوطني والمجال الأوربي عبر طرح الشعار "المريكانتيلي" (دعه يعمل دعه يمر)، وبالتالي  القضاء على النمط الاقتصادي في صيغته الاقطاعيّة التفتيتيّة القائمة على مشاريع "دول المدن"، وتثبيت دعائم النظام الرأسمالي.

وعلى المستوى السياسي: فقد توجهت الطبقة الرأسماليّة بعد انتصارها على الملك والنبلاء والكنيسة، إلى تطبيق المشروع الليبرالي، والقضاء على السلطة الاستبداديّة الممثلة بسلطة الاقطاع والملك والكنيسة آنذاك، وإعادة تشكيل برلمانات جديدة لا تقوم على التقسيم والتراتب الطبقي السابق، وإنما برلمانات خصصت فيها مقاعد تشارك فيها القوى العماليّة. كما راحت تجسّد على الواقع ما سمي بدولة القانون والمؤسسات واعتبار الشعوب هي الحاضنة للدولة ومؤسساتها وتحديد نظام الحكم فيها، واعتبار العلمانيّة والديمقراطيّة ودولة القانون أهم وسائل ضبط حركة الدولة والمجتمع.

وعلى المستوى الاجتماعي: فقد تم تجاوز للعلاقات الاجتماعيّة التقليديّة التي يتحكم بها الاقطاع والكنيسة والملك وصراعاتها الدينيّة المذهبيّة وحروبها الطاحنة، وتسسييد علاقات اجتماعيّة تتوافق وطبيعة العلاقات الانتاجيّة الجديدة، وهي العلاقات الرأسماليّة القائمة على اقتصاد السوق الحر، وعلى مفاهيم الحريّة الفرديّة والعدالة والمساوة والأهم المواطنة. واعتبار العقل والتجربة هما المرجعان الأساسيان في تقويم الواقع بكل مستوياته.

وعلى المستوى الثقافي أو الفكري: كانت الدعوة إلى تسييد العقل واعتباره سيد الأحكام في تحديد صحة المعارف أو عدم صحتها من جهة، مثلما تم التوجه نحو تحطيم سلطة الثقافة الغيبيّة الاستسلاميّة الامتثاليّة، والسماح لحرية الإرادة الإنسانيّة والعقل الإنساني أن يجوبا عوالم هذا الكون بحثاً عن الحقيقة. فتحطمت هنا أسس المدرسة "السكولائيّة / المدرسية" التي كانت تقدم المعارف جاهزةً للإنسان كما قدمتها الكتب الدينيّة المقدسة وشروحاتها من قبل رجال الدين من جهة ثانية. وعلى هذه التوجهات تحطمت أسس الفلسفة الميتافيزيقيّة واللاهوتيّة، والمثاليّة الذاتيّة، لتبدأ الفلسفة العقلانيّة تفرض نفسها شيئاً فشيئاً    على مستوى الحياة الثقافيّة بشكل عام والفكريّة الفلسفيّة بشكل خاص.. فكانت صرخة ديكارت (أنا أفكر إذاً أنا موجود). بداية تأليه العقل والإنسان معا. ومع ثورة العقل وحريّة الإرادة، تم تجاوز وتحطيم العديد من المدارس والنظريات السابقة على المستوى السياسي والأدبي والفني، وخلق مدارس جديدة تتناسب مع روح العصر العقلاني الجديد.

أمام هذه التحولات البنيويّة التي حققها عصر النهضة في أوربا ممثلاً بحوامله السياسيّة والفكريّة الفلسفيّة والأدبيّة والفنيّة، وحتى الدينيّة ممثلة بالإصلاح الديني  لـ" مارتن لوثر 1483 - 1546" في ألمانيّة، وفي سويسرا بزعامة (أولريخ زونجلي 1484م ـ 1531م )  وفي فرنسا وجنيف بزعامة (جون كالفن 1509م ـ 1564م). يظل السؤال المشروع يطرح نفسه علينا حتى اليوم وهو: أين نحن العرب من مشروعنا النهضوي؟.

المشروع النهضوي المفوّت في عالمنا العربي:

لقد عوّلت الشعوب العربيّة بعد التحرر من الاستعمار منذ  منتصف القرن العشرين، على القوى السياسيّة الهجينة طبقيّاً في بنيتها من جهة، و(النخبويّة) من شرائح الانتلجنيسيا (المعسكر) أكثرها في طبيعتها من جهة ثانية، هذه القوى هي التي قادت حركة التحرر العربيّة ممثلة في أحزابها ومشاريعها الوطنيّة والقوميّة، بيد أن هذه القوى ظل معظمها مرتبطاً بالاستعمار بشكل أو بآخر، فإذا كان التحرر السياسي قد تحقق للبلاد بخروج القوت الأجنبيّة، فإن الاستعمار الاقتصادي والتخلف الثقافي ظلا قائمين ويمارسان نشاطاهما بحيويّة فاعلة في محيط الدولة والمجتمع اللذين راحت تسيطر عليهما بعد الاستقلال برجوازيّة "كومبرادوريّة" مرتبطة بالمستعمر، هشة غير واعية لذاتها، وبالتالي لم تستطع أن تعمل لا لمصلحتها ولا لمصلحة شعوبها، تساندها قوى شبه اقطاعيّة من شيوخ العشائر والقبائل، وهذا ما ساهم في فشل هذه القوى التي قادت البلاد بعد خروج المستعمر من تحقيق مهام النهضة التي عوّل عليهم قيامها. الأمر الذي أدى إلى ظهور قوى اجتماعيّة جديدة من داخل صفوف الشعب ولكن معظمها ينتمي للجيش رغم انتماء العديد منها لأحزاب سياسيّة لها طابع مدني، نعتت نفسها بالتقدميّة، وطرحت على نفسها وعلى شعوبها ضرورة تصفية بقايا الاستعمار ومن يتعاون معه من القوى السياسيّة التقليديّة الحاكمة، ووضعت في أجنداتها إقامة مشروع الدولة المدنيّة التي تهدف إلى إقامة دولة القانون والتعدديّة السياسيّة ودولة المؤسسات والديمقراطيّة والعلمانيّة والمواطنة وغير ذلك من مفردات الدولة المدنيّة. غير أن شهوة السلطة التي تحكمت بهذه القيادات التي ادعت التقدميّة، وأحزابها التي أكثر حواملها لاجتماعيّة من ضباط الجيش والطلاب والانتلجنسيا من دكاترة ومعلمين ومحامين وغيرهم من هذه الشرائح المتعلمة التي لا يظهر تلاحمها الطبقي واضحاً في تنظيمتها التي أطلقت على منتسبي هذه الأحزاب بـ (تحالف قوى الشعب العاملة)، كما هو الحال في مصر قيادة ثورة 23/ تموز/ 1952. وفي اليمن وليبيا وسورية والعراق. فمع وصول هذه القوى العسكريّة إلى السلطة، أغرتها شهوة السلطة فراحت تتحول إلى قوى مضادة لثوراتها وأهدافها المعلنة التي طرحتها قبل استلامها السلطة، حيث تحول معظمها إلى قوى برجوازيّة طفيليّة وبيروقراطيّة جعلت من مراكز تواجدها في السلطة مصادر ثروة غير مشروعة، كما أخذت تمارس نشاطات سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة وحتى اجتماعيّة بعيدة كل البعد عن مفهوم التقدميّة والمواطنة، إذ رحنا نجد معظمها عاد إلى مرجعياته التقليديّة من عشيرة وقبيلة وطائفة للبقاء في السلطة وتحويل الدولة إلى دولة (غنيمة) لهم ولأسرهم وأبناء عشائرهم وطوائفهم، بل أستطيع القول إنها قضت حتى على البذور الليبراليّة التي راحت تنتشي مع القوى الحاكمة السابقة لها من البرجوازيّة الكومبرادوريّة وأشباه الاقطاع.

إن من يتابع سياسات هذه القوى في الدول التي حكمتها، يجدها قد مارست تكريس الجهل السياسي والفكري، ومحاربة الفكر العقلاني التنويري النقدي الذي بشرت به الجماهير عند تشكل أحزابها ووصولها إلى السلطة، وذلك بغية إبعاد هذه الجماهير عن السلطة وعدم السماح لها بمشاركتها في قيادة الدولة والمجتمع، الأمر الذي أدى بسبب هذه السياسة الاقصائيّة إلى عرقلة تكوين فكر نهضوي وممارسة نهضويّة يساعدان على تجاوز الواقع المتخلف. بل رحنا نلمس أن الكثير من أبناء الجماهير الخاضعة لسلطتها التي وجدت نفسها مغيبة ومفقرة ومجهلة وعاطلة عن العمل وتُمارس عليها الوصيّة بالقوة، تندفع أكثر نحو الفكر الظلامي والسلفي التكفيري، وبخاصة الفكر السياسي الجهادي منه، كما وجدنا الانتماء الواسع للفكر الصوفي الطرقي المشبع بالوهم والكرامات والطبل والمزمار واللامعقول، وبالتالي فإن المنتمين لهذه التيارات الدينيّة ومنها الأصوليّة التكفيريّة والاقصائيّة، وجدوا أن خلاصهم من الفقر والجوع والبطالة، وتحقيق العدالة والمساواة تكمن في الدين وحاكميّة الله. ومن الطرافة بمكان، نجد أن القوى الحاكمة (التقدميّة) وغيرها من الحكام العرب بكل توجهاتهم وأشكال حكمهم راحوا يلعبون على وتر الدين وتوجيه الناس للسير في عالمه، مُسَخِرَةً مؤسساتها الدينيّة وتياراتها المدخليّة ممثلة بمشايخ السلطان لنشر قيم الفضيلة بين المواطنين الذين يعيشون في عالم نخر الفساد معظم أركانه،  بيد أن الطريف أيضاً في هذا الأمر، أن هذا التوجيه السلطوي للشعوب نحو الدين، خلق قوى اجتماعيّة متدينة لم تعد الفضيلة التي أرادت السلطات الحاكمة دفع الناس لتبنيها، كافية لهم، وإنما راحت الدعوة إلى الحاكميّة هدفاً أساسيّاً لتوجهاتهم من أجل إسقاط الأنظمة الحاكمة التي نعتوها بالكافرة وراحوا يؤكدون فسادها هنا وهناك على مستوى مفاصل عمل الدولة وطبيعة العلاقات الاجتماعيّة والاقتصادية والسياسيّة السائدة. وهذا ما كان وراء ثورات الربيع العربي، التي كانت ثورات ذات توجهات دينيّة، راح يبشر بها ويعمل معها الكثير من القوى المعارضة لهذه الأنظمة ممن تدعي التقدميّة أيضاً.

ملاك القول: مع  تغييب الثقافة التنويريّة في الفن والأدب والمسرح والاعلام والمؤسسات الثقافية والمنظمات التابعة لهذه الأحزاب الحاكمة، راح يسود بالضرورة الفكر الظلامي المشبع بالجبر والاستسلام وتغيب العقول، والتمسك بكل ما يمت بصلة للدين، فالدين لم يعد صلاة وصوماً ورموزاً وقيماً أخلاقيّةً وعقيدةً سمحاء، بل أصبح عقيدةً وشريعةً ولغةً وأدباً وطموحاً ووسيلة تجاريّة بيد السلطة والمعارضة معاً. فالسلطات الحاكمة المستبدة الشموليّة راحت تتاجر به عبر مؤسساتها الدينيّة لتخدير شعوبها وإبعادهم عن السلطة بغية الحفاظ على مصالح الحوامل الاجتماعيّة لهذه السلطة، كما راحت المعارضة ذاتها تستغل  الدين تحت ذريعة الحاكميّة لله من أجل تكفير السلطة وإدانتها وبالتالي إسقاطها عن طريق العنف.. نعم لقد أصبح الدين ثقافة ساهمت هذه الأنظمة ذاتها التي تدعي العلمانيّة في موضعتها داخل عقول ونفوس وعواطف ومشاعر وذاكرة وتطلعات شعوبها. وعلى أساس ذلك كانت داعش والنصرة ونهوض الإخوان من جديد وكل القوى السياسيّة الجهاديّة التي ثارت اليوم ضد هذه الأنظمة تحت ما سمي بالصحوة الإسلاميّة، وثورات الربيع العربي.

***

د. عدنان عويد - كاتب وباحث من سورية

.........................

1- الويكيبيديا – بتصرف.

 

1. تناولت سابقا باكثر من مقال متناقضات هيدجر المستترة خلف تعابير غامضة غير مفهومة لا قيمة فلسفية لها بخلاف الذين يرون الغراب صقرا.

عثرت مؤخرا على عبارة لهيدجر فاتني التعقيب عليها بمقالاتي الثمانية السابقة المنشورة لي عنه في مناقشة بعض مما ورد بكتابه الشهير(الكينونة والزمان) حيث يقول متفلسفا (الموجود هناك الديزاين الانسان هو ركض الموت الى العدم) .

الموت في الفلسفة او بالعلم هو مرادف لفظي للعدم ولا فرق ان تقول موت او ان تقول عدما فانك بكلا المفردتين انما تقصد فناء الكائنات الحيّة بيولوجيا بما لا تدركه عقولنا من سبب ولا من كيفية. في مقدمة هذه الكائنات التي يطالها الفناء الارضي هو الانسان.

والموت والعدم هما دلالة متطابقة بالجوهر والصفات غير المدركة عقليا. فالشخص يعرف دلالة الموت انها دلالة العدم لكنه يعجز عن تفسير ماهية كل من المفردتين ماهو الموت وما هو العدم؟. اذن كيف يركض الموت نحو العدم وكلاهما دلالة فناء الكائنات الحية واحدة.؟ الموت والعدم تعبرّان عن مدلول واحد هو الفناء.

 لو نحن اعتبرنا الموت او العدم لافرق في التسمية ولا في الدلالة انه (ذات) وهو ليس بذات لسببين الاول الذات تدرك ذاتيتها وتعيها لانها تمتلك الحياة ، وتعرف خاصية ذاتيتها بالتامل العقلي لوجودها بحسب تعليل ديكارت الذات او العقل خاصية تفكيره هو اثبات لوجوده. وهذا لا ينطبق على الموت او العدم فالموت لا يدرك ذاتيته كما ولا تدرك عقولنا ان الموت يمتلك ذاتا يدركها تهرول نحو الفناء العدمي.

والسبب الثاني ان الموت لا يمتلك ذاتا هو ان الذات تدرك ذاتيتها ليس بالتفكير المجرد وانما بالمغايرة الموجودية مع غيرها من موجودات الوجود الطبيعة والعالم من حولنا..

 لذا الموت او العدم هو اللاشيء الذي لا يدركه العقل بغير دلالة ناتج افنائه الكائنات الحية. اللاشيئية العدمية للعدم او الموت هو اللفظ الدلالي الذي يعجز العقل معرفته الماهوية بغير نتائجه الافنائية للاحياء. العدم او الموت لا يطال ما ليس له روح تعيش الحياة اي الموت لا يميت حجرا مثلا.

اذكر مقولة هيدجر الثانية الخاطئة قوله العدم لا يعدم نفسه اذ من البديهي اننا نعجز ان نقول الموت لا يميت نفسه كي لا نصبح اضحوكة كما فعل هيدجر. فاللاشيء(الموت – العدم) الذي لا يدركه العقل غير موجود إدراكا  ليموت ونحن ندرك نتائجه في اعراض مفارقة الروح للجسم او بقائها فيه ميتا نعرفه بدلالة اعراض الموت الاخرى المعروفة في توقف جميع اجهزة بقاء الحياة بالجسم تعمل من توقف القلب فقدان الاحاسيس كافة توقف التنفس عدم الحركة فقدان الوعي الدماغي والحسي الجسمي الخ. وذلك لان العلم لم يتوصل لحد الان كيف يموت الكائن الحي وكيف تفارق الروح المزعومة الجسد اكثر من معرفة نتائجه التي يدركها العقل على انها لم تعد طبيعية تعيش الحياة كما نعيشها نحن؟

2. اذا قلنا الحاضر وهم  افتراضي لا زمني فهو لحظة لا زمنية لانه غير محدد بدلالة غيره من مدركات. والزمن هو الاخر وهم دلالة لا وجود ادراك عقلي لتحديد وجوده غير الدلالي في ملازمته لكل شيء لا نهائي ازلي سرمدي لا يقبل القسمة على نفسه ولا يتجزا ولا يوجد بالكون وعلى الارض زمانان اثنان مختلفان بالماهية والصفات احدهما نسبي على الارض والاخر مطلق كوني في الفضاء بعد اختراع انشتاين النسبية العامة فانعدم المطلق الزمني الذي قال به ارسطو واحتذاه اسحق نيوتن   واصبح نسبيا. افكارنا التي نطلقها شفاهيا في لحظة من الحاضر لا تلبث ان تصبح بعد ثوان  ماض بالدلالة الزمنية وليس التاريخية. الزمن الحاضر يختلف عن تاريخية وجود الاشياء في الافكار المعبّرة عنها.

صناعة البنية الفكرية والاجتماعية للحاضر الوهمي غير المتحقق ادراكيا يتوزعها ماض استذكاري تكون فيه الوقائع التاريخية في الماضي قد اكتسبت ثباتها. بتوثيق زمني لا يكتسب دلالته الحقيقية الا بملازمته التعريف بوقائع التاريخ الماضي.

الحاضر الزمني في حقيقته هو الماضي الزمني وليس التاريخي في لحظة سيرورته الانتقالية من انحلال الحاضر كلحظة زمنية وهمية الى ماض زمني.

 كما ان الحاضر لا يصنع المستقبل لانه وجود زمني افتراضي غير موجود. لذا يكون المستقبل سيرورة تتشكل من ماض يعبر لحظة الحاضر الوهمية وتكون الوقائع التاريخية بالماضي سابقة على وجود الزمن.

ارسطو ومن قبله افلاطون اكدا ان لحظة الحاضر وهم لا زمني حقيقي اي انه لا يدرك بدلالة شيئية ثابتة زمنيا مثل زمانية الماضي الثابتة تاريخيا وليس الثابتة زمانيا.

3. مذهب وحدة الوجود يكون مطلقا ميتافيزيقيا صوفيا يجمع بين الدين والطبيعة والفلسفة. مذهب وحدة الوجود يفقد حقيقة معناه في الصوفية التي يعتبرونها المتصوفة هي وسيلة تلاقي الذات بالحلول الالهي النوراني وهو ما لا يتحقق بسبب عدم توفر مجانسة نوعية واحدة تجمع خصيصة الذات الصوفية الروحانية مع خصيصة الذات الالهية غير المدركة لا بالعقل ولا في ما وراء العقل اي في التجربة الروحية . بهذا المعنى تكون التجربة الصوفية روحانية تدور في فلك ذاتيتها الانسانوية التي تفترض حلولها التواصلي مع الذات الالهية وهي لم تغادر مادية وجودها الارضي.. فالذات الالهية لا تمتلك الروحانية البشرية المدركة صوفيا في مجانستها الروحانية الصوفية التي هي في كل حالات التجربة الصوفية لا تغادر مواقع اقدامها.

الذات الالهية لا تجانس الذات الروحية البشرية لا  بالماهية ولا بالصفات لذا تبقى الذات الصوفية روحانية مرتبط بالارض على خلاف الذات الالهية المرتبطة بنفسها بما لا يستطيع العقل ادراكها.

4. الموضعة اللغوية في تعبيرها التجريدي عن الاشياء هي ادخار معرفي بها وليس اضافة تكوينية لها. الموضعة هي تلك القراءات التاويلية التداولية للادرك المتطور  تعيد وتضيف وتعدل التي هي في حقيقتها تجريد تعبيري لغوي عن تلك الاشياء المدركة.تساؤلنا هل الموضعة اللغوية المتعالقة بالفهم تكون معطيات مكتسبة قبلية عن ذالك الشيء ام هي معطيات فطرية عنها؟

لا يوجد افكار فطرية معرفية قبلية غير مكتسبة بالخبرة عن الاشياء. اما بالنسبة للزمكان فهو وعي العقل لفراغ احتوائي للاشياء يوجد باستقلالية. فهو اي الزمكان لا يدخل مع الاشياء التي يحتويها بعلاقة موضعة تعريفية بها. ولا يدخل بعلاقة جدلية ديالكتيكية او تكاملية معرفية معها بل يبقى احتواء الزمكان للاشياء حياديا كما هي علاقة الزمن في ملازمته وجود الاشياء. وتكون افصاحات العقل عن مدركاته الاشياء التي يحتويها الزمكان هو الافصاح عن  علاقات تلك الاشياء المادية البينية مع بعضها. وبهذا تكون الموضعة اللغوية تحت وصاية العقل مادية في علاقة تكامل معرفي. الشيء الاهم هو الاقرار بحقيقة ان المادة لا تتموضع مع غيرها من الاشياء بغير علاقة تجريدية لا تعي ذاتها ولا تدرك موضوعها.

5. نسب احدهم لافلاطون قوله: تكلم كي اراك. ونسب لدوستوفسكي قوله: تكلم كي اعرفك. وتساءل أيّا من التعبيرين صحيحا وترك الامر غير مكترث بالعثور على جواب فلسفي صحيح من متصفحي موقع التواصل الاجتماعي.

طبعا الاصح قول افلاطون اذا اعتبرنا الرؤية بمعنى المعرفة وليس بمعنى الابصار الحسي بالعينين وهو ما كان يقصده افلاطون. فالابصارهو ادراك الموجود وليس معرفته. اراد دوستوفسكي بعبارته معرفة المتكلم بكلامه قوله (تكلم كي اعرفك) كون كلام المتحدث اليه لا ينقل له صورته الشخصية وانما ينقل له افكاره التي تعرّف به. رؤية الشيء بابصاره النظري هو ادراكه الحسي فقط اي استلام الانطباعات الحسية المنقولة عن الحواس وليس معرفته كماهية وجوهر وصفات وعلاقات بغيره. والادراك انطباع اولي مؤقت محكوم بالزوال في طريقة داخل المنظومة العقلية وصولا للدماغ. ادراك الشيء بالحواس مرحلة اولى في سلسلة تراتيبية منظومة العقل الادراكية، رؤية الشيء معناه ان تدركه بصفاته الخارجية الحسية ولا تشمل هذه الرؤية الادراكية الاولية معرفة الشيء بالماهية او الجوهر. المعرفة اشمل من الادراك الحسي.

6. في البدء الادراك هو ليس الوعي بالشيء. ان تدرك الشيء بالحواس هو معرفة موجوديته كموضوع وتسمى هذه العملية بالانطباعات الاولية. اما وعي الشيء او الموضوع فهو معرفة حقيقته عقليا وليس حسيّا فقط. دأب فلاسفة عديدون الى تقسيم الموجود المدرك كموضوع الى مظهر هو الصفات الخارجية له والى محتوى دفين يدعى الجوهر. وهي تشبيه مرادف لقولنا شكل الشيء ومحتواه.

وخلاصة القول ان مقولة لماذا لا يكون مضمون الشيء منفصلا عن قابلية ادراكه التي يمتلكها الموجود المادي الشيئي كينونة مستقلة؟ مقولة خاطئة وفرضية تعسفية تحاول وضع العربة امام الحصان لاسباب اوضحتها سابقا واوجزها بكلمات:

اولا قابلية الادراك هي كيفية وسيرورة تجمع بين المادة وادراكها كما هي وسيلة معرفية لا تمتلكها المدركات لاتموضعا ماديا فيها ولا تجريدا تعبيريا يصدر عنها. بل يمتلكها الحس والوعي العقلي لها فقط.

ثانيا مضمون الشيء لا يكون موضوعا لادراك قائم لوحده منفصلا عن موجوديته المادية الموحدة شكلا ومحتوى. المضمون يحتاج دائما لشكل يحتويه وبغير هذه الملازمة لا يمكننا تصور مضمون بلا شكل يحتويه. كما ولا يمكننا تصور شكلا خاليا من مضمون او محتوى دلالي عليه كما في مثال الرسوم الهندسية المجردة فالخطوط التي يتشكل منها الشكل الهندسي تحدد مضمونه الهندسي الذي ندركه للوهلة الاولى فارغا ما عدا محدداته المستقيمة. في أن يكون دلالة على مثلث او مستطيل او دائرة وهكذا. اي ان ابعاد اشكال الخطوط الهندسية المجردة اعطت للحيّز المكاني الذي احتوته مضمونا متفردا هندسيا. المثلث نقصده ادراكيا بالتسمية على اساس خطوطه الثلاث ونحن لا ندرك من الوهلة الاولى الادراكية ان للمثلث ثلاثة زوايا مقدارها 180 درجة احدها زاوية قائمة الا بمعرفة مضمون المثلث واستعمالاته وليس في ادركنا شكله التخطيطي كخطوط مجردة.

ثالثا الادراك لا يجزيء موضوع ادراكه الى شكل هو الصفات الخارجية والى مضمون او محتوى هو جوهره وماهيته. فالادراك هو وعي كينونة الشيء الموحد في كليته الكينونية الموجودية البائنة للادراك. ويكون معنا اعجاز عقلي ادراكي ان نتصور مضمونا لا يحتويه شكل يدركه العقل. وبالعكس ايضا استحالة ادراكية ان تجد شكلا مجردا بلا مضمون يحتويه يمكن للعقل ادراكه كموضوع.

رابعا الصفات الخارجية هي كينونة موجودية موحدة وليس من خاصية الادراك الحسي احتوائها على جوهر او مضمون يستقر خلفها. وعندما نقول امكانية ان يكون المضمون (موضوعا) لادراك فهي فرضية خاطئة فالمضمون لا يكون موضوعا لادراك لا يحتويه (شكل) الذي هو الصفات الخارجية للشيء.

7. من مقولات بيركلي المثالية (وجود الشيء هو قابليته ان يكون موضوعا لادراك) وهي مقولة خاطئة كما نوضحه لاحقا..

وجود الشيء لا تحدده صفة ان يكون موضوعا لادراك. بل وجود الشيء موضوعا ندركه تاتي من خاصية موجوديته الانطولوجية التي يدركها الحس والعقل. وليس كما ذهب له بيركلي وجود الشيء هو قابليته ان يكون موضوعا لادراك.

كما ان خاصية ان يمتلك وجود الشيء قابلية ادراكه ليست صحيحة .فقابلية الادراك يحددها الحس والوعي ولا تمتلكه الاشياء المدركة. ولا يفرض الشيء قابلية ادراكه الزائفة على الحواس والعقل لتكون صفة به كموجود.

النقطة الاخيرة من يحدد ان يكون الموجود موضوعا لادراك؟ هل يحدد ذلك مضمونه (جوهره)؟ ام يحدده الشكل الخارجي الصفات المدركة له؟. الحقيقة ان الشكل الخارجي او الصفات الخارجية للموجودات تجعل منها موضوعا ماديا تدركه الحواس والعقل. اما جوهر او ماهية اي شيء لا يكون موضوعا كونه لا يدرك بينما صفاته الخارجية تكون موضوعا.

الادراك الحسي لا يدرك مواضيعه لمعرفة مضامينها الجوهرية. فادراك الحواس ينحصر بالصفات الخارجية للشيء فقط. وادراك الشيء حسب بيركلي هو ادراك كينونة موجودية موحدة شكلا اي صفات وماهية اي جوهر. وهما كينونة غير قابلة للانفصال لانها بالانفصال تفقد وجودها الانطولوجي. خلاصة ماذكرناه بالضد من بيركلي يمكننا تلخيصه بنقطتين:

الاولى وجود الشيء تحدد قابلية ادراكه ليس هو كموجود بل تحدده الحواس والعقل التي تدركه.

الثانية وجود الشيء الحقيقي هو عندما يكون موضوعا يحتوي شكلا ومضمونا. فالحواس والعقل لا يدركان موضوعا لا وجود حقيقي له لا على صعيد المادة ولا على صعيد الخيال.

8. يذهب فلاسفة الوضعية المنطقية التحليلية حلقة فينا بزعامة انشليك التي انحلت لتبعث نفسها في حلقة اكسفورد بلندن بزعامة بيرترانرسل. هؤلاء الفلاسفة يرون وظيفة الفلسفة الحقيقية هي (تحليل العلم) وعماد هذا التحليل انما يكون في توضيح منطق اللغة في التعبير عن التراكيب العلمية التي تحوي الالفاظ والتعريفات لكي يتمكن الفيلسوف من تحليل الكلام ويفرغه ويجرده.) نقلا عن زكريا ابراهيم.

سنجد لدى كارناب تعارضا مع ما مر ذكره بالعبارة وهو احدهم نجده يقول: لا علاقة بين لغة الفلسفة والعلم ولا يقع على عاتق اللغة توضيح وتحليل قضايا العلم. فالعلم له اختصاصاته التي يقوم عليها العلماء وليس الفلاسفة.

بهذا المعنى التحليلي الذي يجد حقيقة الفلسفة في تحليل وتوضيح قضايا العلم تكون الفلسفة ملحقا منطقيا تحليليا لقضايا العلم. نعتقد ان لغة العلم لا تحتاج دوما اللغة المعرفية الفلسفية او الفكرية عموما. لتوضيح قضاياه. وحقيقة الفلسفة اللغوية انها نسق نمطي يفسر كل ما يصادفه من قضايا تهم حياتنا وعالمنا الخارجي والداخلي.

النسق اللغوي المنطقي للفلسفة يوازي قضايا العلم ولا يقاطعها. بل تعمد الفلسفة ملازمة قضايا العلم بمنهج معرفي هو التخارج المعرفي لكليهما.

اول ملاحظة يجب ابعادها عن تفكيرنا ان منطق الفلسفة لا يدخل بعلاقة ديالكتيك جدلي مع قضايا العلم حتى في نقد الفلسفة لتلك القضايا العلمية. واذا ما حاولنا افتراض تطابق لغتي الفلسفة والعلم من حيث تجمعهما تركيبة نحوية وقواعد وصرف وغير ذلك من ثوابت اللغة ونظامها الخاص بها في حين تكون غالبية لغة العلم هي معادلات رمزية تشمل الرياضيات والفيزياء والكيمياء وباقي العلوم الاخرى. ولا تتعامل مع السردية اللغوية الناقدة او الموضّحة.. علاقة لغة الفلسفة مع قضايا العلم هي لغة متابعة نقدية وتخارج معرفي متبادل للافكار بينهما.

النسق اللغوي الخاص بلغة معينة لا يتداخل ولا يتخارج معرفيا بحيادية متوازية لا تغني العلم ولا تغتني هي نفسها منه. مهمة توضيح اللغة لقضايا العلم التي اشار لها فلاسفة التحليلية المنطقية جعل من لغة الفلسفة تابعا يحمل حقيقة انه يقوم بتوضيح قضايا العلم وتحليلها وتبسيطها ولا اكثر من ذلك.

على رحابة وشساعة رقعة تاريخ المنجزات العلمية الجبارة الهائلة فهي الى جانبها نشا تاريخ الفلسفة البشرية الموغل بالقدم وتنوع قضاياه ومواضيعه ربما قبل البدايات العلمية. فالفلسفة ظهرت في الميتافيزيقا والانثروبولوجيا مثلا قبل التخصصات العلمية في بداياتها.. وحين تكون حقيقة الفلسفة التي اشار لها التحليلين المنطقيين تتلخص مهمتها في توضيح قضايا العلم فهذا التقزيم التبعي للغة الفلسفة امام قضايا العلم غير كاف. الحقيقة التي يجب ان لا تقاس بالحجوم مابين العلم واللغة تكون اللغة عامة ولغة الفلسفة خاصة اشمل من الاهتمام بقضايا العلم كي تؤكد حقيقتها الملتبسة امام العلم.

تحليل اللغة بعيدا عن التطرق الى مضامينها وحواملها يجعل من اللغة نسقا شكليا مستقلا عن الحياة وهذا ما اكده جورج مور وفينجشتين المتاخر. كلاهما اكدا اهمية مضمون ما تهدف له اللغة تعبيرا قبل شكل الصياغة اللغوية.

ماوراء اللغة الذي اشار له (آير) حسب ماتقوله الفلسفة ولا اعرف مصطلح (مافوق اللغة) الذي نحته سكينر صاحب نظرية السلوك اللفظي هما نفس المصطلح ام مختلفان؟ (كتبت مقالتين منشورتين عن مصطلح مافوق اللغة واجريت اسقاطا للمصطلح على لغتنا العربية فلقي اقبالا على كوكل ونافذة نبأ والعديد من المواقع المرموقة منها المثقف والحوار المتمدن). ماوراء اللغة التي اشار لها آير هي النسق اللغوي الذي يلاحق حمولات ومضامين قضايا معبرا عنها لغويا بعيدا عن التجنيس الادبي او الفلسفي في صياغاتها اللغوية.

الفلسفة ليست توضيحا لمنطق استقصاءات بعض قضايا العلم وتحليلها توضيحيا.الفلسفة ليست شارحة سردية توضيحية بل هي فعالية فكرية ناقدة تحكمها منظومة منطقية مهمتها اثارة سلسلة من التساؤلات المعقدة امام العلم وامام غالبية الوسائل المعرفية الاخرى..ليس مهما ان وظيفة الفلسفة تفسير الاستقصاءات العلمية بلغة الفلسفة. بل وظيفتها الحقيقيةاثارة ما يجهله العلم او يحاول اهماله والعبور من فوقه.

الشيء الذي نراه مهما ان العلم يتطور بقضاياه حتى في عدم ملازمة لغوية ناقدة لما يقوله وفي معزل عنها. فالعلم يشتغل بلغة المعادلات وليس بلغة الفلسفة. كذلك الفلسفة وان كانت مركزيتها التعبيرية اللغة. لذا تستطيع المطاولة الزمنية  ان تطرح قضايا فلسفية بعيدا عن اهتمامات العلم الاثيرة عنده.

اذا كانت اللغة مركزية في جميع اجناس التعبير عن الحياة والطبيعة وقضايا العلم والانسان. لكن مع هذا تحتفظ هذه المركزيات الاجناسية المعرفية ليس في اهمية استحالة محو ملازمة اللغة لما تريده. لكن من حيث ان اللغة ليست مهمتها مقتصرة في واحدية (نقد وتوضيح وتحليل قضايا العلم) والا كانت الفلسفة انمجت في هيكلية قضايا العلم منذ امد بعيد.

9.  الحقيقة الانثروبولوجية خارج او داخل حقيقة الفلسفة او الابستمولوجيا والعلم مصطلح طوباوي وليس نسبيا فقط. كلما بحثت عنه وجدته سرابا خادعا لعقولنا. لذا حقيقة وجودنا الانثروبولوجي الذي نعيشه على كوكب الارض انما هي صيرورة دائبة الحركة لحقيقة وهمية لا نهائية غير مدركة كما لا يمكن الوصول لها.

كل حقائقنا العلمية والفلسفية وفي مختلف شؤون الانسانيات هي جميعها وهم الصيرورة الخادعة ولا تتوفر لدينا حقائق منطقية ماثلة ندركها في تزامنها الابدي معنا.

اذا تمكنت نظرية الكوانتم الفيزيائية اثبات اننا نعيش موزعين روحيا على اكوان عديدة احدها هذا الكون المتخلق عن الانفجار العظيم حينها يصبح موت الانسان على كوكب الارض ليس فناءا. ويصبح موت الانسان العوبة اذا مات الانسان هنا فانه سيذهب الى العيش في كون اخر بمعنى الموت على الارض حياة ثانية تنبعث حيّة في كون اخر لا يضم الارض ولا المجرات ولا الحلزونيات الدودية المظلمة التي لا يعرف الانسان ماهي ومن اين امتلكت قابلية الجاذبية التي لا تتصورها عقولنا. هذا الراي لا يعارض مفهوم خلود الانسان في الجنة والنار من الناحية الدينية. جاذبية الثقوب السوداء الفضائية لا يتصورها العقل البشري من حيث لا يمكن لاي شيء الافلات منها ولا حتى الجسيمات او الموجات الكرومغناطيسية المشعة. قضية مستقبلية اخرى يواجهها الانسان بيولوجيا هو لماذا يموت الانسان وماهو سبب الموت سواء اكان مرضيا ام نتيجة حادث.؟

10. السؤال طالما كانت الفلسفة تجريديا يماثل الالتقاء مع تجريدية اللغة والتي أيّد هذا التكامل كلا من هيدجر ومن بعده فوكو فماذا اضاف هذا التلاقي على صعيد البنية المضمونية بالنسبة لثيمة الالتزام بالفلسفة؟ ولماذا فشل هذا المسعى الذي عبّر عنه هيدجر وفوكو ان عوالم الشعر التجريدية وضعت بصمتها الجوهرية في تداعيات لغة اللاشعور في كل من لغة الشعر وتكاملها الوجودي الفلسفي مع لغة الجنون واعتبرا هذا التعبير الخارج على نظامية تحقيق المعنى اللغوي في التواصل هو اصدق تعبير عن عالمنا الزائف بكل شيء منها تعبير لغة الفلسفة في تضليلها العقل. واعتبرا حقيقة الوجود هو ما يمثله الجنون والشعر في تعبيرهما عن لغة تداعيات اللاشعور في تبشيرهما بعالم حقيقي جديد هو غير عالمنا الذي نعيشه..

وهذه الثنائية بين لغة الشعر السائبة بلا معنى تحت راية تقليد الحداثة الغربية، وهذاءات وغطرفة لغة المجانين في اصوات ايضا لامعنى لها في التزام نيتشة وهيدجر وفوكو الشاعر الالماني هولدرين. ان هذه النماذج من القول الفارغ بلا معنى في تفسيره المعلن والخفي هو الذي يمثل الوجود الحقيقي بما نطمح تحقيقه في ازاحة وجودنا الزائف الذي نعيشه بنفاق كاذب. ....

تعقيب حول اعجاب نيتشة وهيدجر وفوكو بتجربته الشعرية هو ان هولدرين الشاعر الالماني تحت وطأة هذا الانحراف الهستيري جاءت تجربته الشعرية في تقمص هولدرين حالة الجنون كي يصل اعماق الحفريات الدفينة في عالم الجنون وخرج بنتيجة انه تلبسه الجنون تماما. ما اثار تمجيدات نيتشة وهيدجر لتجربة هولدرين في اثباته من خلال تجربته تقمص الجنون لا حقيقة العالم الذي نعيشه وعالم الجنون الذي لا نستطيع فهمه ربما يكون اصدق من عالمنا الذي نعيشه.

11. مفارقة لم اجد حلا لها حين تجد بعض المثقفين من الادباء والكتاب والمفكرين ملائكة في طروحاتهم على الورق وفي وسائل التواصل الاجتماعي. وهم في حقيقتهم الاجتماعية والثقافية منافقون لا يردعهم رادع اخلاقي ولا ضمير في تضليل المجتمع بكل الطرق والوسائل تؤرقهم الانانية والغيرة من المبدع المثقف الحقيقي.

12. لا تعظ الناس بما لا تتعظ انت به.

13. ليس جميلا ان تجد نفسك راهبا في مجالس العرس .

14.حقوق الشعوب العربية في الحرية والامان والاستقرار والعيش بكرامة لا تقع المطالبة بها والتضحية في سبيلها على عاتق شريحة مجتمعية من المضحين حتى بدمائهم ومستقبلهم السياسي. وبالضد منهم شرائح من المتفرجين على مآسي شعوبهم.

15. صناعة الطغاة في كل مجالات الحياة انما يكون ليس في قمع الحاكم وانما في تدجين الناس في افشاء الجهل والتضليل في تخريب وعي المجتمع بوسائل برمجة ايديولوجيا التخلف.

16. نقطة الصفر بحياة الانسان هي منعطف تجربة حينما يتساوى الفشل والنجاح في تفكيره وليس في سلوكه. ونقطة الصفر بداية معرفة.

17. ان يكون محاربة الفلسفة جهلا بها فهذا عيب الجاهل وليس عيب الفلسفة.

18. المثقف الذي يدور في طاحونة ايديولوجيا العداء لمن يخالفه الراي هو شخص يسبح عكس التيار ليس سعيا الحصول على ما يفيده بل لتوكيد حماقته بالتفكير.

19. من خلال تجربتي الثقافية وجدت العداء الاعمى لي يسبق معرفتي من انا.

20 من العبث ان يحزن الانسان على مجموع اخفاقاته بالحياة ولا ينهض بعد ان وجد جوانب القصور في أخطائه هو بحق نفسه وليس مناكدة الحياة له.

21. مذهب الحلول الصوفي بالذات الالهية باطل في وحدة الوجود اذ تنعدم المجانسة النوعية بين الخالق والمخلوق.

22. كتبت بالسياسة الوطنية الصادقة فانكرتني وانكرتها وكتبت عشر سنوات بالفلسفة فاحتضنتني واكرمتني حين وجدت نفسي بها.

23. لم اجد من خلال تجربتي والاطلاع على حياة بعض المبدعين العرب الذين يسبقون ازمنتهم فلم اجد مفكرا منهم ليس له من كثرة الاعداء ما لا يقاس بمناصريه داخل بلده.

24. ثمة عبارتين للقديس المفكر دي لاسوكا الاولى " الوعي هو نوع من التحرر من الواقع" والثانية " الزمن هو بعد سببي للزمكان " تعقيبي ان الوعي هو نوع من انواع التحرر من الواقع فقط. اما ان يكون الزمن سببا في الزمكان فهو تعبير فلسفي خاطيء بدليل ملازمة الزمن للمكان علاقة محايدة وليست علاقة سببية. اما الزمن يسبق الطبيعة والمكان فهي اطروحة تحتاج البرهنة عليها. وحسب افلاطون اننا بدلالة المكان نستطيع تنظيم عشوائية الزمن.

25. ارى الوعي ليس نتاج الواقع بل هو تخليق عقلي بعدي على اسبقية وجود الواقع. والواقع الذي لا يدركه العقل لايدركه الوعي . وفي غياب موضوع تفكير العقل المادي او الخيالي لا يبقى معنى للوعي في تعطيل فاعلية العقل التفكيرية. الواقع لا يسجن الوعي كي يعمل على التحرر والخلاص منه. والوعي هو الوسيلة الادراكية العقلية لفهم الواقع ومعرفته.

26. لا علاقة تكاملية بين الوعي والواقع وليس هناك موضعة احدهما بالاخر. الوعي نتاج عقلي يختلف في علاقته بالواقع عن علاقة الحواس بالواقع فعلاقة الحواس بالواقع علاقة انطباعية وعلاقة الوعي بالواقع علاقة معرفية نتاج تفكير عقلي. كما برايي لا توجد علاقة جدلية بين الواقع والوعي بمعنى وحدة وصراع الاضداد بالمادة. الوعي توسيط نقل مقولات العقل الادراكية تجاه موضوعاته وموجودات عالمنا الخارجي.

27. الفلسفة تفكير لغوي منطقي تجريدي يحاول معرفة حقيقة الانسان والوجود.

28. كل معرفة خارج الموّرثات الجينية ال   DAN هي مكتسبة وليست فطرية. وهناك استعداد فطري عند الطفل لتعلم اللغة وليس ملكة فطرية لغوية.

29. الشعر هو اللاشعور اللغوي الذي ينظم منطق العقل وليس منطق ادراكات الحواس. والشعر الذي يمثّل الواقع بادراكات عقلية منطقية يخرج الشعر من خاصيته الشعرية في اعدامه فاعلية مخيّلة اللاشعور.

30. ماقيمة صمتك حين تكون محتاجا الصراخ. آلام الحياة لا تحتاج حكمة الصمت الذي لا معنى له. وليس كل انسان صالحا ترويضه في سيرك الاكاذيب. واحيانا يكون الصمت ابلغ في تمثيله الحقيقة الوحيدة في مواجهة زيف الحياة.

31. لعل هنري برجسون الفيلسوف الفرنسي الحاصل على جائزة نوبل بالادب هو من اشار الى اننا ندرك المكان بوظيفة الادراك العقلية البيولوجية مجردة عن الزمان. بهذا المعنى يكون برجسون الغى زمكانية ادراكنا الوجود في منحيين الزمكان ليس مادة يدركها العقل. كما ولا هو فراغا احتوائيا خارج ادراك العقل.

32. الزمن هو وعي الدلالة الادراكية والمعرفية للاشياء والموجودات والموضوعات.

***

علي محمد اليوسف

كثيرة هي اللحظات التي يشعر فيها المرء أنه قادرٌ على الفعلِ، أو قادرٌ على القيام بفعل معين، لكنه غالباً ما يواجه الكثير من العوائق والحواجز والعقبات التي تحرمه من القيام بذلك الفعل، فتكون هذه العوائق بمثابة إكراهات تمارس على المرء وتحد من أفعاله وتصرفاته واختياراته في أن يفعل ما يريده هو، لا ما تريده الإكراهات منه، فيبدو الفعل والسلوك من هذه الناحية فعلاً لا حول له ولا قوة أمام هذه الشروط التي تشرطه وتتحكم فيه، بل تحد من آفاقه الواعدة ورغباته التي يريد تحقيقها.

يوجد الإنسان وككل كائن عاقل يريد أن يخرج من الصندوق أو القفص الذي يشكل سجنا كبيراً يحد من ملكته في الفعل، حتى أنه يخال نفسه بأداء أفعال وتصرفات وسلوكات وممارسات معينة على حساب قدرته على الفعل التي هو المسؤول عن اختيارها.

غير أن كل شعور أو إحساس يدفعنا للقيام بفعل معين، هو إحساس حين يصطدم بتلك الحواجز والعوائق والعقبات الخارجية التي يكون المجتمع أولها يصبح فعلاً مدركاً وواعياً بصعوبة التحقق بسبب وجود قواعد وقوانين خارجة عن المرء تحول دون تحقيق أي فعل، ومن هنا نفهم تضاؤل مشاركة المرء في أنشطة الممارسات السياسية، لأن هذه الأخيرة في النهاية تُسَيِّسُ الفعل والسلوك الإنساني (سياسة الفعل) وتجعله في خدمة أجندتها السياسية.

لكن البحث في العوائق والحواجز والعقبات الخارجية التي تحد من القدرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة لصالح الجماعة، لا يعني أن القدرة على الفعل لا علاقة لها بالضرورات الداخلية من غرائز وشهوات ونزوات ورغبات ...إلخ، بل هناك في الحقيقة صراع ما بين الضرورات الداخلية بجميع تفصيلاتها والضرورات الخارجية سواء تلك المتعلقة بقوانين وقواعد الطبيعة أو حتى المجتمع كلاهما يتنافسان فيما بينهما من أجل الظفر بقدرة على الفعل ذي مرجعية وخلفية داخلية أو خارجية.

ورغم كل هذا، نعترف أن القدرة على الفعل تعني التخلص من كل الإكراهات الداخلية المتمثلة في الرغبات والنزوات والميولات والدوافع والشهوات والنزعات والغرائز والعيش وفق نظام أو قانون الطبيعة والمجتمع من خلال الانسجام والتلاحم مع مبدأ الطبيعة والعقل، لهذا يمكن القول أن قدرة الفرد على الفعل تعني قدرة الفرد على التحرر الذهني من كل العوائق والحواجز والعقبات سواء الداخلية أو حتى الخارجية.

كما على قدرة الفرد على الفعل أن تحاكي وتقلد وتماثل قدرة الإله على الفعل بإعتبارها قدرة كاملة وتامة، رغم كون قدرة المرء على أفعاله وتصرفاته واختياراته هي قدرة مجبورة أو مجبولة على الفعل لكنها تمتلك إرادة يمكن من خلالها التمييز بين كل فعل بغض النظر عن مصدره أو مرجعه، لأن كل فرد في نهاية المطاف محكوم بالضرورات الطبيعية كما لمحنا سابقاً، لدرجة القول أن القدرة على أي فعل كيفما كان نوعه مجبولة بالقدرات الجسدية والفكرية والعقلية والذهنية لكل فرد.

لكن هذا لا يعني الانسياق مع فكرة الحتميات الطبيعية والسيكولوجية والاجتماعية والثقافية والدينية والفكرية والإيديولوجية والقانونية والسياسية والتربوية التي تُحَتِّمُ على الفرد القيام بفعل معين دون الآخر، فالفعل في سياق الوجود أو الشرط الإنساني هو فعل بالمَعِيَّةِ أي فعل مع الآخرين، محكوم بعامل وشرط الآخر-الغير، لكن رغم كل هذا وذاك، يستطيع الفرد في بعض الأحيان القيام بفعل معين يتيح له تغيير مصير-اتجاه حياته المشتركة مع الآخرين نحو مصير ذي معنى وينعكس عليه بالفائدة والإيجاب كل هذا يأتي بواسطة الإرادة التي يمكن التعبير عنها ب: "إما أن تريد أو ألا تريد"، وبهذا المعنى تصبح كل تلك الشروط التي تشرط الأفراد شروط عَرَضِيَّةً، أي قابلة للتجاوز والزوال والصيرورة والتحول والتغير...

إن فكرة حتمية الإشراطات السَّيْكُولُوجِيَّةِ والاجتماعية والقانونية والدينية والفكرية والإيديولوجية والقانونية والسياسية والتربوية والتاريخية فكرة لا يمكن نفيها، وما قصدنا أعلاه هو محاولة الإنزلاق والتهرب منها مع كثير من التأفف والتحفظ من قولنا هذا، ودليلنا على ذلك فرضية وجود إرادة حرة ومسؤولة تختار الفعل وتصدر أحكاماً نقدية فاحصة وتمحيصية على الفعل.

يشكل مجال الفعل والسلوك الإنساني مجال ممارسة الفعل والإرادة الحرة للفعل من خلال تأصيل أفعالنا وسلوكاتنا والعودة بها إلى  العقل بوصفه ملكة الحكم والاختيار الذي يوجد، أي العقل، خارج صندوق الانفعالات والنزوات والميولات والدوافع والرغبات والنزعات والغرائز والشهوات.

لكن ألا يعني هذا إقصاءً وتهميشاً لملكة أخرى تنافس العقل هي ملكة الإنفعالات، فالإنسان عقل لكنه أيضاً وفقاً لسبينوزا كائن رغبات وإنفعالات ونزوات وغرائز وشهوات ولذات ودوافع ونزعات وخيالات وأحاسيس ومشاعر ...إلخ، فلا يمكن إقصاء البعد المادي الحسي-الغريزي في الإنسان، فنحن لسنا بروبوتات يتم تعديلها على مستوى العقل وفقط، بل لابد من الشهوات والرغبات والنزعات والغرائز التي تظل لصيقة بتفصيلات الحياة لإشباع وتحقيق اللذات والسعادة، ولابد للقدرة على الفعل أن تكون لصيقة بالحياة وإلاَّ سيتحول كل الأفراد إلى آلات وروبوتات معدلة قبلياً.

لا يمكن الشعور بالقدرة على الفعل، إلا في سياق التعرف من الناحية القانونية والتشريعية على ما أستطيع أن أقوم به، هناك قانون يتحكم في جميع القدرات المتاحة لي على الفعل، كما أن هناك قوانين وقواعد اجتماعية وأخلاقية وقيمية ودينية تشرط أيضاً قدرتي على الفعل، ولا ننسى أن هناك قرارات سياسية تطبق على الأفراد من أجل تنظيم مجالهم الإجتماعي والسياسي، وهناك تربية وتعليم هما عبارة عن سلطة قاهرة مورست علي منذ نعومة أظافري هي من تحدد كل القدرات المتاحة لي على الفعل، وهذه النُّظُم والبُنَى والاشراطات السيكولوجية والاجتماعية والقانونية والدينية والفكرية والإيديولوجية والثقافية والبيولوجية والسياسية والتربوية والتاريخية ...إلخ، هي وحدها التي يمكن أن تضمن قدرات الأفراد على الفعل.

لكن هل يتيح لنا كل هذا القول بأن القدرة على الفعل أصبحت شيئاً مستحيلاً وغير ممكن التحقيق؟ لا. رغم قولنا بأن هناك اشراطات تحد بواسطة نظمها التنظيمية القدرة على الفعل والسلوك، وذلك على اعتبار أن القوانين لا تروم إلا غاية واحدة هي تقييد واستعباد الأفراد داخل منظومة معينة، مما يتيح تقويض وتقييد التجربة الذاتية للأفراد علماً أن تجارب الأفراد متنوعة ومتعددة فهناك تجربة داخلية يعيشها مع ذاته، وهناك تجارب غيرية خارجية يعيشها مع الآخرين، ولهذا يجب علينا أن نحافظ أو نوافق بين القدرة على الفعل والسلوك والمحافظة على النظام.

إن الانطلاق من مسلمة أن القدرة على الفعل والسلوك حق لكل الأفراد داخل نظام الدولة والمجتمع بكل تفصيلاته القانونية والتشريعية والسياسية والإدارية ينظمان مجال القدرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة، وبالتالي يحددان -أي القوانين- مجال تعايش القدرات فيما بينها البَين.

هذا الحديث عن مجال لتعايش القدرات هو الذي يثير إشكالية تعالق وترابط الذوات فيما بينها البَين، وأن أي محاولة للعزل هي محاولة غير قابلة للتحقيق.

إن الأفراد لا يمكن فهم وإدراك قدراتهم على الفعل إلا في سياق الفعل كفعل تطبيقي بمعناه المُمَارَسُ، ومعنى أن تكون قادراً على الفعل هو أن تكون ممارساً لفعلك بكل حرية واختيار بشكل ملموس ومحسوس بمعناه المادي، ولا يمكن أن نستثني هنا حتى إقامة العلاقات مع الآخرين، ذلك أن تلك العلاقات هي تعبير قوي عن القدرة على الفعل والممارسات الملموسة بين الأفراد، في المجالات العامة أو حتى الخاصة، والانتقال السلس للفعل بين الأفراد من الحرية إلى تحقيق الحب والصداقة والسلم والأمن والأمان والاستقرار والطمأنينة والحماية، فيجب في إطار العلاقات بين الأفراد أن تكون علاقات تشعر فيها كفرد بالأمان هذا هو الشرط الأول والأساسي لتحقيق القدرة على الفعل.

يطرح التفكير في إشكالية القدرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة رهانات فكرية ودينية وسياسية وإديولوجية وابستيمولوجية وتكنولوجية-تقنية واجتماعية وثقافية واقتصادية وأخلاقية عديدة ومختلفة، خاصة وأنه كما لمحنا تشكل هذه الرهانات شروطاً في بعض الأحيان، في حين تتخذ شكل أعراض زائلة ومتغيرة ومتحولة وسائرة ومتدفقة وسيالة في أحيان أخرى، فَيُثَارُ الإشكال من وجهة نظر قيمية، بمعنى هل تشكل القدرة على الفعل قيمة وغاية يسعى ويطمح إليها كل فرد وكل جماعة، أم أن غياب القدرة على الفعل تعني غياب وجود الأفراد الفاعلين نظراً لإنتفاء وغياب الحرية، بل نصرح أن قدرة المرء على الفعل دليل على قيمة وأهمية هويته الأساسية والجوهرية التي هي دليل على نواة وجوده الفعلي.

ولهذا حاولنا مجاوزة القدرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة، بالإنتقال والدعوة إلى مفهوم آخر أكثر دقة وفعالية وإجرائية منه هو الفاعلية البشرية وواجهنا في الحقيقة  صعوبة نقله إلى اللغة العربية، ذلك أنها تحيل إلى الفعل الإنساني ولهذا لا فرق بين القدرة على الفعل والفعل الإنساني، لكن نحن نعني بالفاعلية الإنسانية القدرة على الفعل والسلوك العملي معاً، كما تحيل أيضاً إلى الإبداعية الفردية الذي يحيل إلى قدرة الفرد على التصرف بفاعلية وفعالية والتأثير الإيجابي الفاعل في العالم والآخرين، لكن كان قصدنا بالفاعلية الإنسانية كل ما له علاقة بالإبداع البشري

La créativité humaine, L'inventivité humaine, La production créative, La création active, L'acte de création,

L'Innovation créative, La créativité innovante,

L'industrie créative,

La création ex nihilo

La volonté active,

L'acte créateur,

L'action créative, L'énergie créatrice et l'activité créative,  La force créatrice et le dynamisme créatif.

كل هذه المصطلحات باللغة الفرنسية أعلاه تفيد معنى واحداً ووحيداً وتعبر تعبيراً قوياً عن غرضنا من إستعمال مصطلح الفاعلية البشرية وهي تفيد:

الإبداع البشري، الإنتاج المبدع، الخلق الفاعل، الإبتكار الخلاق، الصناعة المبدعة ،الخلق من عدم ،الإرادة الفاعلة ،الفعل الفاعل ،الطاقة الخلاقة والنشاط المبدع ...إلخ.

ورغم كل هذه المرادفات التي لها نفس معاني مفهوم الفاعلية البشرية، إلا أننا نعترف بلبس وغموض هذا المصطلح الذي يحيل إلى القدرة على الفاعلية والإبداع والممارسة أكثر، فيقوم هو أيضاً على قدرة الإرادة على فعل وخلق ما تريد أو ما يجب عليها القيام به في حدود الإمكانات والوسائل المتاحة إليها، ذلك أن كل إختياراتنا وسلوكاتنا في الحياة هي اختيارات تتأسس على ما هو متاح وممكن لنا في سياق وضعية معينة، ومن خلال الفاعلية والإبداع يمكن تغيير اتجاه ومسار بل ومصير الحياة، من اتجاهها القدري أو المشروط عليَّ إلى اتجاه ثان أنا المسؤول عن اختياره، أي أنا الذي قمت به بواسطة قدرتي على الفعل والسلوك التي تتيح لي أيضاً تحديد المسارات التي سأسلكها في حياتي لكن من اتجاهات مختلفة.

تجذر الإشارة هنا إلى أن الفاعلية والإبداع البشريين يتيحان فرصة تعرف الفرد أو طرح سؤال المعنى والدلالة ودوره في هذه الحياة، وتعود بنا فكرة الفاعلية والإبداع إلى الدلالة الوجودية للإنسان وطبيعتها الخلاقة في العالم من خلال القدرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف بتوجيه من العقل وفقط، هذه الملكة الأخيرة تتيح شرط اختيار ما هو حسن بناء على مقتضيات القانون الذي يشكل في الحقيقة الزاماً يشمل كل الأفراد داخل المجتمع، ورغم كل هذا فالفاعلية والإبداع والممارسة البشرية تتيح إمكانية تجاوز الفهم والإدراك الخاطئ للامشروط الذي يوجد خارج كل تجربة حسية.

وهذا ما يفسر دفاعنا المستميت ودعوتنا إلى إرادة الإبداع في الحياة الخلاقة، لأن الإشراطات السالفة الذكر، تحاول فقط إنكار قدرة الفرد على الفعل، وفي بعض الأحيان إنكار أفعاله وتصرفاته واختياراته في الحياة وانتقاد قدرة العقل على بلوغ اليقين والحقيقة، ويمكن رد كل هذا إلى الشرط الأخلاقي والقيمي والديني أيضاً الذي يغلق الباب أمام كل شكل من أشكال الفاعلية والإبداع الخلاقين.

لا يمكن للقدرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة أن تتحقق إلا داخل مجال الفاعلية البشرية من خلال فعل ما يجب أن نفعله أو ما نريده، ونتحمل مسؤولية ذلك، فمبدأ تحمل المسؤولية يعني ألا نُجْبرَ على فعل ما لا يجب فعله أو ما لا نريد فعله، ويجب أن نظل نعتقد أن مجال الفاعلية البشرية مجال مشروط، لكنه أيضاً مجال، كما سبق وأن أشرنا، يتجاوز شروطه، من خلال القدرة في القيام بكل ما تسمح به تلك الإشراطات، وتنتفي أو تنتهي الفاعلية البشرية في حالة انتفاء هذه الإشراطات مادام حَدَثَ وأن ثم رفع هذه الإشراطات خاصة الشرط القانوني الذي يشرط المجال العام.

وعلاوة على كل هذا، وتأكيداً منا على إلزامية الشرط القانوني، نضيف أيضاً أن الإشراطات الأخرى هي ما تتيح التحقق الفعلي للفاعلية البشرية داخل هذا العالم، الذي يتيح لنا رغم كل هذا إمكانية الفعل وفق ما هو متاح وممكن لنا دائماً.

وكل قدرة على الفعل هي قدرة على المبادرة والاختيار والإستقلال الذاتي والحر والمبدع والمستقل للفرد، لهذا نؤكد على أهمية وقيمة الفاعلية والإبداع والممارسة الإنسانية كونها ممارسة تخرجنا من الصندوق ومن أسطورة الإطار أو حتى من ذلك القالب الذي يفرغ فيه جميع الأفراد اللذين يتم تحويلهم إلى نمط واحد، فالفاعلية ضد الجمود والجاهزية والقوالب المسكوكة والفارغة والجاهزة التي تقتل الإرادة الفاعلة للفرد وتطلعاته الخاصة.

لابد في الختام، أن نحدد، ضد الحس المشترك، أن العبارة "القدرة على الفعل" لا تعني البتة "أن يكون الفرد حراً حرية مطلقة ويفعل ما يريد وما يرغب بدون قيود"، بل تعني في الحقيقة، "أن يضع الفرد خطة أو إستراتيجية أو حتى سياسة للفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة من خلال اختيار عقلاني مسؤول"، وبعبارة أخرى، لا أريد من قارئ المقال، أن يفهم أنني أقصد بالقدرة على الفعل أو بالفاعلية الإنسانية أن يفعل الفرد ما يشاء، وإن كان فهمه هكذا، فينصح بإعادة قراءة المقال، مرات ومرات، لأنني كتبت ما أعنيه ما بين السطور، كما لا أريد تحديد الفرد من خلال الإشراطات الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية والقانونية والدينية والفكرية والإيديولوجية والثقافية والبيولوجية والأخلاقية والعلمية والقيمية ...إلخ، وإلا سيصبح الفرد سجين منظومة من الإشراطات، بينما أدعو في الحقيقة إلى "قدرة الفرد على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الخلاقة لتحصيل الغايات الذاتية المختارة بتوجيه من العقل وفقط"، هذا ما كنت أريده منذ بداية المقال، وهو تحديد الاستقلال الذاتي والحر للفعل من حيث هو فعل يتحول بإستمرار إلى فاعلية إنتاجية خلاقة وواعية ومبدعة تتيح له إمكانية التحقق بغض النظر عن كل الإشراطات.

***

بقلم: محمد فرَّاح

 

الذي يتمّعن بادبيات وتنظيرات فلسفة الظواهر (الفينامينولوجيا) يعثر على العديد من المتناقضات الفلسفية التي تدور في حلقة دائرية مفرغة من المعنى المنطقي الفلسفي الذي نعرض بعضها بهذه المقالة.

اعترف احد فلاسفة الظواهر التي جاء بها هوسرل قائلا " ان الوعي الذي تحلله لنا فلسفة الظواهر ليس بأي حال من الاحوال وعيا منخرطا في الواقع او وعيا متضمنا في التاريخ" نقلا عن دكتور زكريا ابراهيم.

وطبيعي جدا ان يتهم الماركسيون بان الوعي الظاهراتي خرافة لا معنى ولا وجود حقيقي له في الفلسفة الظاهراتية. وفلسفة الظواهر ليس لها قيمة حسب الماركسيون لانها خارج الزمن والواقع والتاريخ.

رغم ان هوسرل اراد الاقتراب فلسفيا جدا من العلم كما فعل من قبله ديكارت واسبينوزا وبيرتراند راسل وجماعة حلقة اكسفورد المنطقية الوضعية التحليلية التجريبية. الا انه سرعان ما يسقط في براثن المثالية الفجّة حين يجد في الوعي الذهني هو الذي تحمل قصديته المعنى التي يسقطها على الواقع والتاريخ والطبيعة.

اي ان الواقع بموجوداته وعالمنا الخارجي بمحتوياته ومواضيعه لا معنى لها مالم يتناولها الوعي القصدي الظاهراتي بمعرفتها هو وليس باستقلالية موجودية تلك الموضوعات ان يكون لها معنى خارج تناول الوعي القصدي لها. ومن بديهيات التفكير العلمي ان المدركات المادية هي التي تمنح الفكر معنى مايقوله ويعرفه. ولا يوجد فكر بلا موضوع له معنى.

يذهب هوسرل في فلسفة الظواهر ان مواضيعها هي التي يحددها الوعي القصدي وليس هناك من موجودات لا في الطبيعة ولا في الانسان ولا في عالمنا الخارجي فهي غائبة وجودا بغياب الوعي القصدي لها.. وهذا خطأ انك لاتعترف بوجود الاشياء قبل التفكير القصدي المراد تحقيقها بموضوعات الادراك.

هذا معنى تعبير احد فلاسفة الظواهر قوله الوعي القصدي غير منخرط لا في الواقع ولا في الطبيعة ولا في التاريخ. سبق للثلاثي ديفيد هيوم وجون لوك وبيركلي اقطاب المثالية المنطقية التجريبية انكارهم وجود عالم خارجي خارج التفكير الذهني. الغريب ان هؤلاء الفلاسفة تجريبيين اي يؤمنون بالعلم ومخرجاته.

تعترف فلسفة الظواهر ان مواضيعها هي التي يحدد موجوديتها ومعرفتها الوعي القصدي. ولا قدرة لتلك الموضوعات الموجودة مستقلة عن التفكير الذهني الافصاح عن ذاتيتها الموجودية. ويوجد فرق كبير ان تقول مع سيلارز الوجود لغة. وبين ان تقول لا وجود خارج منطق اللغة.

وتنكر فلسفة الظواهر المواضيع الصدف وما يصفها هوسرل بالمواضيع الغفل التي تقاطع الادراك بها من دون وعي قصدي سابق عليها يمنحها معنى وجودها. كما تعتبر الوعي القصدي هو الذي يحدد المعنى في الموضوعات وفي الموجودات.

وتعقيبنا على هذا الخطأ اذا ما كانت  الموضوعات بلا معنى وجودي بذاتها فما الداعي للوعي القصدي الذي مصدره العقل الاهتمام بها ومحاولة إضفاء المعنى عليها. خاصية العقل انه يدرك الاشياء والموضوعات التي لها معنى وأهمية في وجوب معرفتها. فالوعي القصدي لا يدرك ولا يهتم بموضوعات لا معنى لها. وحين نقول موضوعات لا معنى لها فهذا يعني ابطال فاعلية العقل من جهة وانعدام وجود موضوعات يدركها العقل او الوعي القصدي من جهة اخرى.

كما لا تفرّق فلسفة الظواهر بين الحقيقة والمعرفة وقد تناولت ذلك بتفصيل في مقالة سبقت. يوجد فرق كبير بين الحقيقة كمفهوم مطلق وبين المعرفة كمصطلح متفق عليه. تحدده ابعاده العلمية والادراكية العقلية والتجربة المختبرية او التطبيقية. اما المفهوم المطلق الذي تنطبق عليه الحقيقة فهي موضوعات نسبية من السيرورة المتغيّرة باستمرار ومنهج محاولة التحقق منها هو الميتافيزيقا. نستطع القول ان المصطلح يقبل تراكم الخبرة الكميّة. والحقيقة تقبل التراكمات النوعية التي ينفي لاحقها سابقها.

هوسرل اعتبر الانا محورا مركزيا خالقا للتراكم المعرفي عبر التاريخ. حين جعل من كل ما وصلنا كموروث من الماضي هو خبرة مصنوعة قبل علمية . وكانت للانا الفردية بصمة في تركيبتها ودفعها في مسار التقدم بالمتراكم. واشار هوسرل الى اهمية توحيد العقل والجهد الجماعي في تطور العلاقات البشرية فالتاريخ البشري وتطور الموروث الانساني حينما يصلنا ونتاوله بعيون الحاضر الذي نعيشه. ولم يذكر هوسرل هل يعني بهذا الموروث الحضارة ام المعرفة الانثروبولوجية مجردة. بل اكتفى الاهابة بعالم ماقبل العلم وهو ما اهتم به الفيلسوف البنيوي ليفي شتراوس في دراسته اثنولوجيا الاقوام البدائية التي ليس لها تاريخ. اي دراسته حياة الاقوام البدائية قبل اختراع الانسان التدوين الرمزي واللغوي.

وقد كان أحيا هذه الفكرة التي ترجع اصولها للفسفة اليونانية كلا من ليفي شتراوس وفوكو وفلاسفة البنيوية تحديدا في مقولتهم الانسان هو الانسان منذ الاف السنين والى يومنا هذا من حيث الحاجات الاساسية التي شغلت تفكيره التي لم تتبدل وتتغير. وكان سبق  ان قال هذه الحقيقة انضج مما جاءت به البنيوية برتوروغوراس 540 ق.م " الانسان مقياس كل شيء".

طبعا نسبية صحة مصداقية مقولة الانسان هو الانسان من حيث الطبيعة البايولوجية فقط. سواء اكان ذلك في الاشباعات الغريزية او الاشباعات التي التي يمليها ويفرضها التطور الانثروبولوجي وقضاياه ومشاكله بالنسبة للانسان بما هو كائن مؤنسن بالطبيعة والتجمعات الاقوامية البشرية على ضفاف الانهر واكتشافه الزراعة.

طبعا من المعروف جيدا ان الفلسفة البنيوية وليدة فلسفة مابعد الحداثة وادبياتها التي اول فلسفة فرنسية تمسكت بادبياتها وطروحاتها التي على راس وقمة الهرم شنها الهجوم القاسي ومحاربتها لما اصطلح عليه السرديات الكبرى بخاصة السردية الماركسية ممثلة بعمودها الفقري كتاب راس المال الذي شن عليه هجوما بنيويا كلا من شتراوس والتوسير مع آخرين. والسردية الاخرى التي اصابتها البنيوية باكثر من مقتل واحد هو السردية الدينية التي كانت الارهاصات الاولى لهذا المنحى بدأه سبينوزا وكانط في القرن الثامن عشر ثم تلاهما اقطاب الوجودية بزعامة سارتر الى ان وصلت البنيوية في التركيز على مهمتين الاولى تمثلت في انكار المعجزات الدينية والمهمة الثانية الهجوم على رجال الدين وإبعاد هيمنة الكنيسة على الحياة. المفارقة ان البنيوية حاربت العقل واللغة والانسان وكل معطيات ما جاءت به الحداثة. وانشغلت فترة نصف قرن بفلسفة اللغة ونظرية التحول اللغوي وفائض المعنى. قبل انتقالها بهوس محموم مهاجمة كل شيء قامت عليه الحداثة والانوار.

وتعتبر فلسفة الظواهر العالم الذي نعيشه عالم هجين شاركت بصنعه اجيال متعاقبة وان حركة التاريخ هي نتاج عمل جماعي. لكن التناقض الذي يمر به دكتور زكريا ابراهيم قوله :( الفلسفة الفينومينولوجية تجريد ينأى بنفسه عن الابعاد الخصبة للوجود البشري. ويجعل منها نظرا عقليا خالصا بعيدا كل البعد عن الواقع الانساني).

لكي نكون منصفين لا يوجد فلسفة التزمت قضايا الانسان خارج تجريد الفلسفة اللغوي ساسثناءات  ثلاث فقط هي:

1. الفلسفة الماركسية حين انتقلت من التجريد الى تطبيقات الاقتصاد السياسي. كي تخلص من تجريد الفلسفة غير القابل للتطبيق حيث اطلق ماركس عبارته الشهيرة وجدت الفلاسفة يفسرون التاريخ في وقت كان مطلوبا منهم تغييره.

2. الفلسفة البراجماتية الاميريكية حين انتقلت الى تبني المنهج الديمقراطي الليبرالي الراسمالي الذي تتوّج بالامبريالية واخيرا بالعولمة في مقولة نهاية التاريخ.

3. الفلسفة الوجودية حين انتقلت بريادة سارتر الى تطويع التنظيرات الفلسفية في الاجناس الادبية بدءا بالشعر ثم بالقصة والرواية واخيرا بالنصوص المسرحية ونال سارتر عليها جائزة نوبل بالادب وليس بالفلسفة. رغم عدم استجابته لاستلامها كما فعل برجسون تحويله بعض التصورات الفلسفية الى اعمال ادبية ونال جائزة نوبل بالادب واستلمها.

لا يمكننا ادانة فلسفة الفينامينالوجيا فلسفة تجريد بعيدة عن الاهتمام بقضايا الانسان المصيرية. فمثل ما فعله هوسرل فعلت غالبية التيارات الفلسفية التي تفرعت عن التحول اللغوي وفلسفة اللغة مثل الفلسفة البنيوية وفلسفة الهورمنوطيقا لدى بول ريكور وكذلك إستراتيجية التقويض والهدم لدى جاك دريدا. ونجملها بالفلسفة الوضعية المنطقية التحليلية حلقة اكسفورد بزعامة بيرتراندرسل قوله لا يوجد التزام بالفلسفة واعتبر ثيمة المنفعة التطبيقية بالحياة في فلسفة الاميركان الذرائعية بانها فلسفة نذلة وخسيسة.

وفي فهم هوسرل ان (الانسان ذات وموضوع في وقت واحد) التي أخذها عن شوبنهاور , هو فهم صحيح بالنسبة للانسان وحده كوجود مستقل عن الاخروعالم الاشياء الخارجية المحيطة به تماما,  في ادراك الانسان ذاته ووعيه بها عندما يتأمل وجوده كموضوع , الموضوع المتداخل مع ذاته في كينونة مستقلة واحدة تجمعهما, اما في حال ادراك الانسان للمواضيع والاشياء الخارجية عنه, فهنا تكون الذات والموضوع كلا منهما وجودا مستقلا عن الاخر, وفي استقلالية وجودية احدهما عن الاخر, ولا تبقى الذات والموضوع واحدا في وحدة اندماجية لا يتم التفريق بينهما.او يتعذر ذلك الفصل المطلوب بينهما.

ان في تأكيد هوسرل ان الذات المفكّرة لا تنفصل عن موضوعها,وان كل مالا ندركه ليس له وجودا, خطأ جوهري كبيروسنوضحه لاحقا. عدم انفصال الذات عن الموضوع كما يريده هوسرل يعني استحالة الوعي العقلي والاحساس بالاشياء, وبالتالي استحالة تفكيرية ايضا في محاولة ادراك الشيء حسيا او تخييليا. الموضوع او الشيء المراد ادراكه والتفكير به يحتاج الى مسافة رصد ومعاينة من قبل الذات لتحقيق الوعي به ومن ثم التفكير به. وفي حال اندماج الذات بالموضوع وتلاحمهما من غير مسافة رصد بينهما يكون فقط في استحالة معرفة الشيء ووجوده والتفكير به.

فكيف للذات ان تفكر في وعي ذاتها والتفكير في وعي الاشياء من حولها وهما كليهما في حالة اندماج وتناوب وظيفي في احلال احدهما محل الآخر او في اندماجهما معا في التفكيرالواحد او المتباين باختلاف الموضوع . ان الذات تكون مرة ذاتا تعي وتدرك ذاتها,واخرى تعي وتدرك موضوعاتها في وقت واحد ليس تراتيبيا, بمعنى وعي الذات تتداخل في وعي موضوعاتها معا في وقت ولحظة واحدة, وتختلف الذات عن موضوعها في كيفية الادراك المتبادل بينهما, وهذا يوجب علينا تفريق الذات عن الموضوع وليس كما يرغب هوسرل.  (انه لا معنى في تفريق الذات وفصلها عن الموضوع.) هذا الافتراض يعدم حقيقة ان العقل والتفكيروالحس والخيال والذهن واللغة كينونة ادراكية واحدة في انسان واحد.

عزلة الفيلسوف هوسرل

في كتابي (فلسفة الاغتراب) طبع ثلاث طبعات كنت ذكرت فيه ان عزلة الفيلسوف المجتمعية بمعنى الاغتراب Alienation هي ظاهرة ايجابية. تختلف عن الاغتراب المجتمعي السلبي الناقم الكظيم عند بعض الافراد العصابيين او لدى شريحة اجتماعية معينة كما تناولها ماركس في فلسفته  اغتراب العمل واغتراب راس المال والطبقة العاملة وهكذا.

ونقل لي احد طلاب الدراسات العليا في جامعة الموصل انهم لاقوا تعنتا وتزمتا في مصادرة الاساتذة المشرفين والمناقشين لاطاريحهم ان يكون الاغتراب ظاهرة ايجابية تخص فقط الفلاسفة والمفكرين وبعض الادباء والفنانين على اختلاف تخصصاتهم في الفنون التشكيلية. (احيل القاريء الى الفصلين الخامس بعنوان الاغتراب والصوفية والفصل السادس الاغتراب في الوجودية الحديثة من كتابي المشار له فلسفة الاغتراب يجد فيه تفصيلا مجزيا مستوفيا لمصطلحي الذي نحته بعنوان الاغتراب الايجابي). المهم الطلبة الذين اخذوا ما اسميته الاغتراب الايجابي في تمسكهم الحرفي عما كتب عن الاغتراب بالفلسفة الغربية المعاصرة وقرأوه مترجما.

وكان احد المتابعين لفلسفة هوسرل الفينومينولوجية قال له يبدو انه لم يكن لقضايا العالم الخارجي نصيبا مؤثرا في فلسفته المغرقة في التجريد وهو يحاول ايجاد توليفة فلسفية تضم الفلسفة والعلم.

ليس دفاعا عن هوسرل في تماديه بالتجريد الفلسفي وانما انسجاما مع ماذهبنا له حول حقيقة الفلسفة تجريد منطقي غير ملتزم قضايا الانسان. عليه لا يمكننا ادانة هوسرل على القطيعة الاغترابية عن المجتمع وتاريخ الفلسفة باكمله هو تاريخ تجريد منطق اللغة الاغترابي عن الحياة اذا جاز لنا التعبير.

العزلة المجتمعية هي عند الفيلسوف اغتراب ايجابي مارسه الفارابي وابن سينا والمتصوف السهروردي وابن طفيل والمعرّي وعديدين غيرهم وما لا حصر لهم من فلاسفة ومتصوفين ومفكرين وفنانين عالميين.

هذا العزلة المجتمعية الاغترابية هي مبدعة ومنتجة بنفس الوقت. العزلة الاغترابية تشبه الى حد بعيد مقولة شبنجلر (التحدي والاستجابة) في نظريته حول نشوء الحضارات ومروها بمرحلة الشيخوخة والاضمحلال تاركة المجال امام الجديد المستحدث حضاريا من اخذ دوره التاريخي.

فالظروف القاسية التي تمر بمجتمع ما حتما تنعكس صورتها بابعاد اكثر مما تستوعبه الشرائح الاجتماعية المستلبة الحرية والحقوق التي ينوب بتمثيلها الفيلسوف او المفكر او السياسي او الفنان كلا باسلوبه الخاص به في التعبير عن هذه العزلة والاغترابية التي يعيشها ليس من اجل تحقيق ذاتيته بل من اجل الدفاع عن قضايا مجتمعه.

وحتى اغتراب بعض الناس العاديين من غير المنفصمين نفسيا بشزروفينيا مرضية هم ايضا يمارسون الاغترابية الايجابية في ادانتهم للحاكم او صاحب وسائل الانتاج الراسمالي الذي يسلبهم حقوقهم المشروعة كبشر يسعون لحياة كريمة هم وعوائلهم.

الماركسية وهوسرل ثانية

في مقالة لي سبقت تناولت الادانات العديدة لفلسفة الظواهر لهوسرل من قبل الماركسية التي اعتبرت الفينامينالوجيا تقليعة فلسفية طارئة مصيرها الزوال والاندثار. منها اتهام هوسرل انه عمد الى فصل الذات عن الوقع الاجتماعي وعن الفاعلية التكنيكية والصراع الطبقي والوضع التاريخي والوجود المادي الشامل في الطبيعة. وهنا اقتبس عبارات دكتور زكريا ابراهيم قوله : يبدو ان تلامذة هوسرل انفسهم قد فطنوا الى هذا الضعف. فقد كتب اوجين فنك يقول "هل باستطاعة الانسان المتفلسف ان يتهرب من السبيل التاريخي الذي انتهجته الفلسفة عامة. حينما لجأ هوسرل الى نهج الابتعاد عن الابعاد الخصبة للوجود البشري . ويجعل من الفينامينالوجيا سذاجة لا تاريخية ولازمنية تمثل الركيزة النهائية لفلسفة هوسرل ".

الحقيقة اننا يمكننا التعميم ليس بتبعية عمياء لفلسفة هوسرل كما اشرت له سابقا ان الفلسفة في مجمل تاريخها عدا الماركسية والذرائيعة الامريكية وتطويع سارتر الادب لفلسفته ماعدا هذه التحولات الانعطافية الفلسفية الثلاث التي اشرت لها في سطور سابقة من هذا المقال. فلا نعثر على تجرد فلسفي ينتصر لالتزام حياة الانسان بما يعيشها. اللاتاريخية واللازمنية التي دمغت بها فلسفة هوسرل الفينومينولوجية لا نعثر على فلسفة هي ليست لاتاريخية ولا زمنية طوال العصور . والسؤال لماذا؟

والاجابة كون خاصية الفلسفة انها فضاء لغوي تجريدي مفتوح يقبل الاضافات التراكمية (النوعية) ولا يلغي حاضرها ماضيها. اننا لو نظرنا بدقة لتاريخ الفلسفة لوجدناه جزرا متناثرة وليست مترابطة.

لقد حاول ميرلوبونتي وهو تلميذ هوسرل تلافي النقص اللاتاريخي واللازمني في فلسفة الظواهر وفشل بهذا المسعى فشلا ذريعا. ولم يكن العيب في القدرات الفلسفية لميرلي بونتي بل يعود الفشل الى طبيعة الفلسفة وليس قصور تفلسف الفلاسفة. الشيء الاهم ان جميع المشتغلين والمهتمين بالفلسفة انما يكتبون عن تفسيرات تاريخ الفلسفة برؤى جديدة ربما تكون نقدية كما افعل انا بكتاباتي وازوغ عن المنهج الاكاديمي الجامد وعن المنهج الاستعراضي المنذهل بعصمة الفلسفة الغربية المعاصرة ولا يذهله تساؤل لماذا لا امارس النقد والتحليل والاضافة الفلسفية؟

***

علي محمد اليوسف

مُنذ القدم تعلم الإنسان على استخدام الوسيلة لتحقيق هدفه، أو تصنيع حاجته، كما أن كل صنعه أو علم يتصف بوجود وسيلة أو أداة للتحقق، فأداة الصياد آلة مصنوعة لهذا الغرض، وأداة الفلاح آلة مصنوعة لغرض الحرث أو الزرع وهكذا هي المهن أخرى. فأداة العالم هو التحقق من خلال التجربة. أما الفيلسوف فهل هو العقل؟

الاغلب يظن أن العقل هو الأداة الأولى للفيلسوف، لكن مع ديكارت صاحب مذهب العقلانية يرى أن العقل هو افضل قسمة بين الناس ويجب أن نعود للعقل لفهم حقيقة حياتنا والعالم. ويؤكد ديكارت أن المشكلة في اختلاف المعرفة ليست في العقل، بل في كيفية استخدام العقل، إذن الفيلسوف يتميز عن الناس بأسلوب التفكير وليس بالعقل .

كما أن اسلوب التفكير عند الفيلسوف يحتاج إلى منهج، والمنهج يحتاج أسس، والأسس مستمدة من المعارف، والمعارف كثيرة منها فيزيقية (طبيعية) وبعضها ميتافيزيقية (ما بعد الطبيعة)، فالأسس شاملة وعمومية، أما المنهج فهو خاص بكل فيلسوف، فالمثالية منهج أفلاطون والواقعية منهج أرسطو، والتوفيقية بين الدين ومنهاج الفلسفة قديمًا كان منهجا لفلاسفة العصور الوسطى، والعقلي منهج ديكارت، والحدسية منهج برجسون، والتجربية منهج هيوم، والنقدي منهج كانت، والمادية التاريخية منهج ماركس، والتحليل النفسي منهج فرويد... إلخ.

لذلك لا يمكن عد العقل أداة الفيلسوف، بل آلية استخدامه هي التي تحدد الفيلسوف عن عامة الناس والخوض في العلوم الأخرى، بل يمكن عد العقل أداة التفكير بشكل عام، فهناك من يستخدم عقله من أجل أيديولوجية معينة وهم أصحاب الفلسفات الزائفة، وهناك من يستخدم عقله في علم معين سواء كان علم طبيعي أو ديني وفق محددت ونظريات، وهناك من لا يستخدم عقله إلا لغرض معين مثلاً في التجارة أو الصناعة، لأنها يرها مبتغاه من هذا العالم. أما مبتغى الفلسفة والفيلسوف فهو مختلف عن كل مما ينطوي تحت مبتغى معين. فهو الباحث عن ما ينبغي أن يكون عليه العالم.

وتختلف رؤى الفلاسفة باختلاف العصر، واختلاف المواقف العالمية، وتطور الوعي والعلوم وانعكاساتها على المجتمع كفرد ودولة، والتغيرات التي تطرأ كضرورة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو وثقافية أو دينية، أو أزمات عالمية من أمراض وبائية أو حروب سياسية.

فالفيلسوف لا يكتفي بالوعي في ميدان تفكيره وعمله، بل يدخل في اللاوعي وآليات استحواذه على الإنسان، ولا يتحدد بالطبيعي ليربطه بما بعد الطبيعي وان الثاني يؤثر في الأول، وتطور معرفتنا بالثاني يحدد فهمنا لهذا العالم والكون. ولا يرتبط بعلم معين، بل يدخل في جميع العلوم من أجل الوصول لحقيقة. ولا نقصد بالحقيقة في الفلسفة الحقيقة المطلقة فقط، بل لكل بحث في الفلسفة حقيقة يبحث عنها الفيلسوف، لذلك الحقائق نسبية في الفلسفة والكل خاضع للشك والتغير.

فأداة الفيلسوف ليس العقل، بل منهجه الذي يختطه لنفسه، لكن هناك بديهيات فلسفية يشترك بها كل فيلسوف منها الشك، والنقد، والجدل، والفحص، والتفكيك، والبناء والعمومية، وعلى ذلك اعتمدت فلسفات ما بعد الحداثة لضرورة زمانية عندما امتزجت الفلسفة بالعلوم.وتفردت عنها علوم أخرى.

فأصبحت أداة الفيلسوف معقدة وممتدة وواسعة، فبعد ما كانت تبحث في العموميات البسيطة، أصبحت تبحث في الجزئيات المعقدة بلغة ادغار موران، فنحن أمام عصر الفلسفات الممتدة المرنة أو السائلة بلغة باومان، وقد يظن البعض أن هذا موت الفلسفة وتشتتها، لكن هذه هي طبيعة التفكير الفلسفي مع المنهج وضده، متغيرة غير ثابتة، محركة ومتحركة. ولا نعلم طبيعتها غداً. فالفلسفة إبداع، قائم على تجديد العقل بأدوات العصر.

وخير مثال يوضح فكرتنا هي الفلسفة البرجماتية ذات النزعة الاداتية التي تبنها الفيلسوف الأمريكي جون ديوي وملخصها المعرفة أداة للعمل ووسيلة للتجربة، كما إن المفاهيم والنظريات مجرد أدوات مفيدة، وقيمتها لا تقاس بكون المفاهيم والنظريات صحيحة أو خاطئة. أو ما إذا كانت تصور الواقع بشكل صحيح، ولكن من خلال مدى فعاليتها في شرح الظواهر والتنبؤ بها. والحقيقة ليست ثابتة ولكنها تتغير مع تغير المشكلات، ونجاح الفكرة يتم من خلال قدرتها على إيجاد حلول للمشكلات التي تواجه البشر، وقيمتها بالتالي تتحدد بوظيفتها في التجربة الإنسانية.

***

كاظم لفتة جبر 

 

(فرانسيس بيكون (1561 - 1626) فيلسوف ورجل دولة وكاتب إنجليزي معروف بقيادته للثورة العلميّة عن طريق فلسفته الجديدة القائمة على «الملاحظة والتجريب». وهو من الرواد الذين انتبهوا إلى عدم جدوى المنطق الأرسطي الذي يعتمد على القياس. (1).

لُقِّب "بيكون" بأب التجريبية. جادل بإمكانيّة المعرفة العلميّة المبنيّة على الاستقراء والاستنتاج والمراقبة الدقيقة للأحداث في الطبيعة. كما جادل أيضًا بأن العلم يمكن تحقيقه من خلال استخدام أسلوب متشكك ومنهجي يهدف من خلاله العلماء إلى تجنب تضليل أنفسهم ومتلقي علمهم. فالفكرة العامة لأهميّة وإمكانيّة بيكون هي وجود منهجيّة متشككة تجعله أب المنهج العلمي.

يعتبر "بيكون" هو حلقة الاتصال بين الماضي والحاضر الذي وجد فيه، وذلك لأنه يرى بأن الفلسفة قد ركدت ريحها، واعتراها الخمود، في حين أن الفنون الآليّة (التكنولوجيا) كانت تنمو وتتكامل وتزداد قوة ونشاطا على مر الزمن. وعلى هذا الأساس المعرفي أدرك "بيكون" أن انحطاط الفلسفة يرجع إلى عدّة عوامل منها:

1- إن النهضة الأوروبية قد خلفت روحاً أدبيّةً جعلت الناس يهتمون بالأساليب والكلمات ويهملون المعاني.

2- اختلاط الدين بالفلسفة، أو بثقافة المجتمع بشكل عام، واعتماد الناس في أحكامهم على الأدلة النقليّة، وأخذهم بأقوال السلف  دون النظر القائم على الاستقراء والاستنتاج والتحليل وبالتالي البرهان والنظر في صحتها من عدمه.

3- إن لرجال الفلسفة برأيه أثر في انحطاط الفلسفة عندما اعتمدوا فيها على الثرثرة الكاذبة المشبعة بالرؤى الميتافيزيقيّة والمثاليّة الذاتيّة والحدسيّة. أي أخرجوها عن موضوعها الأساس بكونها مشروعاً فكرياً قادر على تفسير حركة الكون بشكل عام والمجتمع بشكل خاص، ومن ثم القدرة على إعادة بناء هذا المجتمع بما يخدم حياة الإنسان وتطلعاته،.

4- تعصب الناس وتمسكهم بالعادات القديمة والعقائد الموروثة. وعدم الايمان بالتغير وما يحققه هذا التغير في بنية الفرد والمجتمع من نتائج ومفردات جديدة للحياة توصل الإنسان إلى الأمن والاستقرار والسعادة والعدالة. لذلك حمّلَ الفلسفة التقليديّة وزر الجمود العلمي، والقحط العقلي، والإسهام الفاعل في رفاهية الإنسان وتقدمه وسعادته. وقد اعتقد "بيكون" أنه قد وجد الطريقة الصحيحة في الصيغة الجديدة التي وضعها للاستقراء، ويقصد به منهج استخراج القاعدة العامة (النظريّة العلميّة) أو القانون العلمي من مفردات الوقائع استنادا إلى الملاحظة والتجربة.(2).

أهمية العلم عند بيكون"

عندما وضع فرانسيس بيكون أسئلته المعرفيّة، للوصول إلى الحقيقة، وهي لماذا؟. وكيف؟. وأين؟. ومتى؟. كان في الحقيقة قد حطم كل التصورات المثاليّة/ الميتافيزيقيّة، واللاهوتيّة الجبريّة والحدسيّة والمثاليّة الذاتية واللاأدريّة والتخيل والأحاسيس والتكهن في تحقيق أو تحصيل المعرفة، وذلك على اعتبار أن تحصيل المعرفة عنده أصبح يقوم على (الملاحظة والتجريب). وهذا ما جعل المعرفة عنده ثورة جبارة، وهي لن تكون  ثورة فعليّة، إلا إذا كانت يقينيّة ملموسة، تستند إلى معرفة الأسباب الحقيقيّة الكامنة وراء الظواهر. والمعرفة اليقينيّة هي في المحصلة (علم)، وبالعلم سيطر الإنسان على الكثير من معطيات الطبيعة، وجعل الحياة الإنسانيّة أكثر رونقاً وجمالاً. وهذا يعني أيضاً عنده أن المعرفة العلميّة، لا تقتصر على تحقيق وجني المنفعة العمليّة المباشرة للإنسان فحسب، بل هي معرفة مضيئة، أي معرفة تهدف إلى اكتشاف القوانين التي تتحكم بآليّة عمل كل من الطبيعة والمجتمع وبالتالي امتلاك القدرة على التسلح بها وتسخيرها خدمة للإنسان.(3).

أما أول أسس المعرفة المضيئة والمثمرة عند "بيكون"، فهي نقد الأيديولوجيا السكونيّة / المدرسيّة/ السكولائيّة/، والشك في كل ما هو مطلق، أو يُعتقد أنه مطلق وعلى حق. والشك هنا ليس ريبياً ذا طابع عدمي سلبي، بل هو شك إيجابي يأتي لاستكشاف آفاق الطريق المؤدية إلى الحقيقة والوصول إليها.

إن من أخطر نتائج المعرفة عند "بيكون"، هي المعرفة القائمة أو المستمدة من الاستنتاجات المنطقيّة الصوريّة في تقديم البراهين. هذه الاستنتاجات التي اشتغل عليه سقراط والقائمة على القياس المنطقي الصوري مثل قوله: (كل إنسان فان، سقراط إنسان، سقراط فان.) فهذه من البداهات المعرفيّة . فهذا الاستنتاج المنطقي الصوري لا يصح تطبيقه عند "بيكون" على كل الظواهر. فللظواهر عالمها الجوهري والشكلاني، وبالتالي فإن التقويم المتسرع للمعرفة التي تقوم على أحكام ومفاهيم القياس الأرسطي الصوري، لا يمكن الاطمئنان إليها، لذلك فإن الشرط الأول لاكتساب المعرفة الحقيقيّة العقلانيّة النقديّة كما بينا قبل قليل، هو استخدام التجريب والتحليل والتركيب والاستقراء والاستنتاج وأخيراً البرهان. ومن هذا المنطلق تأتي الدعوة مشروعةً من أجل تنظيف المعرفة/ العلم، من الأوهام التي عرفها "بيكون بأوهام العقل، إضافة لأوهام الحدس والأحاسيس والتخيل وحددها بالتالي: (4).

1- أوهام القبيلة:

وهي أوهام تنبع من الإنسان ذاته، لذلك كانت مشتركة بين جميع الناس. أي هي معزولة في تكونها عن الواقع المعيش، كونها تقوم على علل غائيّة (منفعيّة) بسبب عدم اكتمال مكونات المعرفة الحقيقيّة عند الإنسان، ووقوعه تحت سيطرة النزعات والأهواء والمصالح الذاتيّة. فنحن في طبيعتنا ميالون إلى تعميم بعض الحالات دون الالتفات إلى الحالات المعارضة لها، وتحويل المماثلة إلى تشابه، وأن نفرض على الطبيعة من النظام والاضطراد أكثر مما هو محقق فيها، وأن نتصور أفعال الطبيعة على غرار الفعل الإنساني، فنتوهم بأن لها غايات وعلل غائية.(5).

2- أوهام الكهف:

وهي أوهام ليست عامة، بل تقتصر على بعض الناس الذين يشتغلون على اكتساب المعرفة ونشرها، وهي أوهام معرفيّة تقوم على أهواء وأمزجة ذاتيّة في الغالب، وليس على أسس المعرفة الحقيقية التي تربط الفكر بالواقع، والبحث في آليّة عمل المجتمع وتناقضاته وصراعاته عن هذه المعرفة. بتعبير آخر هي أوهام فرديّة كأوهام الكهف الأفلاطوني،  حيث ننظر إلى المشاهد التي أمامنا كما ينظر إليها سجين مقيد بالسلاسل، وضع في كهف، وخلفه نار ملتهبة تضيء الأشياء وتطرح ظلالها على جدار أقيم أمامه، فهو لا يرى الأشياء الحقيقيّة بل يرى ظلالها المتحركة، ويظن بها حقائق، وهي بالتالي عند بيكون أوهام ناتجة عن ميول وأمزجة تكوينيّة وتربويّة مسبقة كونتها علاقات الاجتماعيّة سطحية مباشرة ومطالعة. وهي أخطر الأوهام وأشدها تأثيراً على البشر. (6).

3- أوهام القطيع:

أي أوهام النظرة غير الواقعيّة النقديّة للظواهر. وقد سماها بيكون بالأوهام (العنكبوتيّة). أي الأفكار التي ينسجها الباحث من ذاته وليس من واقعه المعيش. (7).

إن العلم الحقيقي أمام كل هذه الوهم، هو العلم الذي يسعى إلى جمع أكبر عدد ممكن من الوقائع والأدلة، وقد شبه عمليّة الجمع هذه بالنملة التي تحمل في طريقها كل ما تستطيع حمله عند مصادفته في طريقها. ثم تختار منه ما يناسبها.

إذن إن المعرفة العلميّة هي المعرفة التي تقوم على المنهج الصحيح الذي يعالج المادة نظريّاً بعد أن قدمتها التجربة. وهنا شبه عمليّة الحصول على المعرفة كعمل النحلة التي تمتص رحيق كل انواع الورود ثم تشكل منه عسلاً.

أهمية التكنولوجيا في اكتساب المعرفة:

تأتي أهمية التكنولوجيا في اكتساب المعرفة، من كونها الوسائل التي تزيد من قدرتنا على الإدراك، واكتمال الفكر الإنساني ذاته.

أما التجربة فهي الدراسة الفعالة لظواهر الطبيعة والمجتمع، وهي التي تدفع بالعلم إلى الأمام والاجابة عن الأسئلة المطروحة أمام الإنسان. (8).

ماديّة المعرفة:

إن أول أسس هذه المعرفة، هو وجود الحركة، كونها أول سمات وخصائص المادة على الإطلاق. وهي لا تقتصر على الحركة الميكانيكيّة أو الرياضيّة أو الفيزيائيّة، بل هي طموح المادة ونورها وتوترها وسر خلقها وتجليها وروحها الحياتيّة. فللحركة أشكال وبالتالي هي تقوم في جوهر الظاهرة ذاتها، وما الصورة الباديّة للظاهرة إلا ضرب من حركة الجسيمات الأوليّة التي منها تتركب الظاهرة. فالظاهرة هنا تحتوي جميع الكيفيات الحسيّة بغناها وتنوعها اللامحدودين.

إن المهمة المباشرة للمعرفة تقوم بالبحث عن علل الظواهر، وتجدها علل فاعلة وعلل غائيّة.

أما العلل الفاعلة عند بيكون: فهي المحركة للظواهر والباحثة عن جواهرها، وآليّة عملها وتشكلها وتمظهرها. كعلوم الفيزياء أو الكيمياء أو البيولوجيا.

أما العلل الغائيّة: فتتعلق بالأهداف المرجوة من معرفة الظواهر وإمكانيّة تسخيرها لمصلحة الإنسان.(9).

ملاك القول:

هكذا نرى كيف بدأت آثار الثورة الصناعيّة في بدايتها تؤثر على الحركة الفكريّة بشكل عام ومنها الفلسفيّة بشكل خاص، فالتطور التكنولوجي الذي حقق الكثير من الاكتشافات العلميّة في الطبيعة والمجتمع، انعكس بالضرورة على بنية التفكير التي كانت سائدة قبل قيام هذه الثورة الصناعيّة، وخاصة الفكر المدرسي اللاهوتي الذي قدم حقائق مطلقة عن الطبيعة والمجتمع أقرتها الكتب المقدسة، وعلى الناس الالتزام بها في حياتهم الفكريّة والعمليّة، وبالتالي كل من خرج عن هذه الحقائق محاولاً إثبات عدم صحتها حورب، وهذا ما جرى لـ"كوبرنيك" على سبيل المثال لا الحصر عندما قال بقضيّة دوران الأرض، في الوقت الذي لم يقل فيها الكتاب المقدس.

نقول: على الرغم من علميّة وماديّة الرؤى الفكريّة لبيكون في عصره، إلى أن هذه الرؤى ظلت بعيدة إلى حد ما عن قضية جوهريّة وهي قضية الوجود الاجتماعي والتناقضات الطبقيّة فيه والتي تشكل القاعدة الأساس للتحولات والتغيرات التي تصيب بنية المجتمع، وما تعكسه هذه التحولات والتغيرات على البنية الفكريّة والفلسفيّة في مقدمتها.

لقد كان للطبقة السياسيّة المهيمنة على السلطة إن كانت سلطة الملك والكنيسة والنبلاء مع قيام الثورة الصناعيّة، أو سلطة الطبقة البرجوازيّة لاحقاً بعد الثورة الفرنسيّة ووصولها إلى السلطة، الدور الكبير في تحطيم الإرهاصات الأوليّة للبنى الفكريّة التنويريّة العقلانيّة هذه، عند بيكون، أو ديكارت، أو سبينوزا، وجان لوك، وهوبس، أو فيما بعد عند فلاسفة عصر التنوير كروسو وريكاردو وفولتير وهلفسيوس، وحتى أفكار اليسار الهيجلي كأفكار شتنر، وفيورباخ وفورباخ، منذ بداية القرن التاسع عشر حتى اليوم.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

............................

المراجع:

1- (1). الويكيبيديا.

2- (الشرق الأوسط - فرانسيس بيكون.. الأكثر جدارة بين فلاسفة المنهج في «الأرغانون الجديد»). بتصرف.

3- (- جورج كرم-  تاريخ الفلسفة الحديثة- دار القلم – بيروت – دون تاريخ النشر. ص47.) بتصرف.

4- .(موقع الحوار المتمدن - غازي الصوراني - فرنسيس بيكون ( 1561 م _ 1626 م ).

5- د. عدنان عويّد – الأيديولوجيا والوعي المطابق – دار التكوين – دمشق – 2006- ص. 23و24.

6- المرجع نفسه، الأيديولوجيا والوعي المطابق . ص.23و24.

7- الأيديولوجيا والوعي المطابق: المرجع نفسه. ص. 23 و24.

8- (فلسفة التكنولوجيا بين المنظورين الغربي والإسلامي – د. صبري محمد خليل - https://sudanile.com/). بتصرف.

9- (- للاستزادة في التعرف على أفكار فرانسيس بيكون العودة إلى كتاب موجز تاريخ الفلسفة – تألف مجموعة من الكتاب السوفييت – إصدار دار الجماهير – دمشق- 1971. ص239 وما بعد.).

مدارات فلسفية

كيف تنشأ الدولة، وما الأسس التي يبني عليها افلاطون نشأتها وتطورها اللاحق؟

وهل للأسطورة أثر في تحديد الطبقات الاجتماعية وطبيعة الإعمال المناطة بها؟.

وفق ما جاء في محاورة " المدينة الفاضلة - السياسة " فإن الدولة تنشأ بسبب حاجات الأفراد واستعداداتهم الطبيعية، وتقسيم العمل على وفق هذه الاستعدادات، ولما كان الفرد غير قادر على سد جميع حاجاته بنفسه فانه بحاجة الى معونة الآخرين، وهكذا ينشأ الاجتماع البشري بسبب تعدد الحاجات وتنوعها، وبسبب حاجة الإنسان الى معونة غيره لسد حاجاته. وكما يقرر أفلاطون فإنه : " لما كان لكل منا احتياجات كثيرة، لزم أن يتألب عدد عديد منا، من صحب ومساعدين، في مستقر واحد، فنطلق على ذلك المجتمع اسم مدينة أو دولة. إن حاجات الأفراد متعددة، لكن أهمها الحاجة التي يتوقف عليها حفظ حياتنا واستمرار وجودنا، وهي حاجة الغذاء، ثم تليها حاجة السكن، وبعدها حاجة الكساء. ولما كان لا يمكن لفرد واحد ان يؤمن هذه الحاجات وغيرها لزم ان يكون واحد فلاحاً، وآخر بناءً، وآخر نساجاً، وآخر سكافاً، لأنه لا يمكن لفرد واحد ان يبني مسكنه بنفسه، وينسج ثيابه، ويصنع حذاءه، ذلك لان الطبيعة جعلت في الواحد من الناس استعداداً خاصاً لنوع من الأعمال، وفي غيره استعداداً لعمل آخر. ولكي يكون الإنتاج أفضل وأغزر فانه من الأفضل أن يؤدي كل واحد من الأفراد المهنة الخاصة به، التي تؤهله استعداداته للقيام بها من دون الانشغال بالمهن الأخرى لان ذلك من اختصاص غيره من الأفراد. ولأن الفَّلاح لا يستطيع ان يصنع بنفسه محراثاً متقناً ولا غيره من آلات الحراثة، وكذلك البَّناء والحائك والاسكافي، كل هؤلاء غير قادرين على صناعة أدوات مهنهم بمهارة وإتقان، لزم وجود مهن أخرى مثل النجارة والحدادة وغيرهما من الصناعات ليصير النجارون والحدادون وغيرهم من الصناع أعضاء في الدولة ويؤلفون وإخوانهم شعباً. وبالطبع فإن المدينة ستكون بحاجة الى رعاة المواشي لإمداد الفلاحين بالثيران وغيرها من الحيوانات لجر المحراث، وكذلك ستكون بحاجة الى مواد البناء للبَّنائين، ونقل الجلود والأصواف للأساكفة والحاكة.  وهكذا تكتمل المدينة – الدولة، وتدور فيها عجلة الحياة، تزرع وتأكل وتسكن وتلبس بأداء كل فرد من الأفراد لمهنته الخاصة به. غير أن المدينة ستكون بحاجة الى واردات وأشخاص يجلبون لها ما تحتاج اليه من المدن الأخرى، وأنها لا تستطيع ان تفعل ذلك من دون ان تحقق زيادة في منتوجها يفوق استهلاكها، ليكون لها ما تدفعه بدل ما تستورده من الخارج، وبذلك تحتاج المدينة الى زراع وصناع أكثر، والى وكلاء كثيرين لتصدير البضائع وتوريدها، واذا كانت التجارة بحرية لزمنا الكثير غيرهم من حُذّاق الملاحين، وهكذا ينتعش التبادل التجاري الداخلي والخارجي وتتم عمليات البيع والشراء وتداول النقود لتسهيل المعاملات في الأسواق، وينشأ كذلك الوسطاء بين المنتج والمستهلك " باعة المفرق" الذين يجولون من مدينة الى أخرى، وتظهر أيضا حاجة الأسواق الى العمال الذين يمتلكون قوة بدنية تمكنهم من العمل الشاق، فيبيع هؤلاء قدرتهم البدنية ويقبضون ثمنها اجوراً ".  تلك هي المدينة التي تقتصر على الضروريات، أما اذا أردنا مدينة مرفهة تشتمل على الضروريات والكماليات فإننا يجب ان نؤَّمن لها وسائل الرفاهية، ذلك ان بعض الناس لا يكتفون بالضروريات، بل يرمون ان يقتنوا أسرة وموائد، وكل أنواع الرياش، مع اللحوم والطيوب والعطور والحظايا والحلويات مع الإكثار من هذه الطيبات، وبذلك فان المدينة لم تعد تكتفي بالحاجات الضروريـة " القوت والمسكن والكسوة والحذاء" بل يلزمها النقش والرسم والذهب والعاج وكل متاع ثمين، وهكذا تتوسع المدينة وتمد أطرافها وتمتلئ بالمهن المنوعة التي لا توجد في المدن المكتفية بسد حاجاتها الطبيعية، مثل الموسيقيين والشعراء والفنانين والمربين والمربيات والمراضع والممرضات والوصائف والخادمات، والصيادين والحلاقين والطهاة والحلوانيين وصانعي البهارج وحلي النساء، كما يلزم المدينة الكثير من المواشي لأجل من يرغبون في أكل لحومها. وعندما ننتقل من مدينة الضروريات الى مدينة الكماليات، تصبح رقعة أرض المدينة صغيرة على سكانها، فيلزمها إضافة أراضٍ واسعة بالحرب التي هي شر الويلات التي تحل بالدولة جماعة وأفراداً. وهكذا تعتدي المدينة على جيرانها، ويلزمها لذلك تجهيز جيش كامل يستطيع ان يدافع عن أملاكها ويستولي على أملاك الأعداء، ويتصدى للغزاة، فتصبح أعمال الحرب مهنة جديدة للمدينة، وهذه المهنة يجب ان تعطى اهتماماً اكبر من المهن الأخرى  ويختار لها من يحملون في طبائعهم استعدادات معينة، مثل الفطنة التي تمكنهم من اكتشاف الأعداء، والثبات في الميدان، والشجاعة التي تمكنهم من كسب الحرب، وتتطلب هذه المهنة أيضا مزاجاً خاصاً، وصفات متناقضة، لأن حماة المدينة يجب ان يكونوا أشداء على الأعداء لطفاء مع مواطنيهم، وهكذا ينبغي اختيار جيش الدولة من الناس الذين يتمتعون بمزاج غضبي وبغريزة فلسفية، ونخضعهم لتربيـة خاصـة تؤهلهم لأهم المهن في الدولـة.  وتبقى المهمة الأساسية التي يتوقف عليها خلاص الدولة واستقامة أمورها.

لقد لجأ افلاطون الى لغة الأسطورة، اللغة الميثولوجية لتسويغ واجبات كل طبقة من الطبقات الاجتماعية، والغريب انه يفعل ذلك مع إدراكه صعوبة إقناع الناس في زمانه بهذا الأسلوب، وهذه اللغة بحسب أفلاطون " سنخبر شعبنا بلغة ميثولوجية: كلكم اخوان في الوطنية، ولكن الإله الذي جبلكم، وضع في طينة بعضكم ذهباً ليمكنهم من إن يكونوا حكاماً، فهؤلاء هم الأكثر احتراماً، ووضع في جبلة المساعدين فضة، وفي العتيدين أن يكونوا زراعاً وعمالاً، وضع نحاساً وحديداً. ولما كنتم متسلسلين، بعضكم من بعض فالأولاد يمثلون والديهم. على انه قد يلد الذهب فضة، والفضة ذهباً، هكذا يلد كل ما يلد ".

وقبل ان ينتهي افلاطون على لسان سقراط من ذلك يلتفت الى غلوكون قائلاً :

- فهل عندك من حيلة لإقناعهم " الناس في ذلك الزمان " بهذه الخزعبلة ؟

فيجيب غلوكون: لا حيلة في اقناع أبناء هذا الزمان. على أنني سأبتدع حيلة تقنع أبناءهم وأحفادهم وكل الأجيال التالية بصحة هذه الأسطورة .  إنها حقاً من المواقف الغريبة التي يلجأ اليها فيلسوف مثل افلاطون مبتدع نظرية المُثل العقلية المجردة لتسويغ الوضع الطبقي في مدينته الفاضلة، وتلك واحدة من التناقضات الافلاطونية التي نعثر عليها بين الحين والآخر في ثنايا محاوراته المختلفة، وهو اذ يستخدم هذه الأسطورة الفينيقية الجذور فانه يقرر أن الطبيعة هي المسؤولة عن تقسيم الناس الى طبقات. ووفق رأيه فإن خلاص المجتمع والأجيال البشرية لا يكون الا بتنظيم الدولة على وفق معادن المواطنين، فالحكم للطبقة الذهبية، وتنفيذ القرارات وإطاعة أوامر الحكام من واجبات الطبقة الفضية، أما الإنتاج فتتولاه طبقة الحديد والنحاس.  ألا يبدو مجتمع افلاطون بناء على هذه الطبقية القدرية الصارمة، مجتمعاً آلياً مغلقاً مكوناً من عناصر فاقدة الإحساس والقدرة على التغيير، وليس مجتمعاً بشرياً ؟ . إن هذا التساؤل لا يهم افلاطون، فالذي يهمه بالدرجة الأساس هو أن الدولة وحدة متماسكة يعمل فيها الأفراد كأجزاء في آلة ضخمة تعمل بدقة وتماسك ونظام وانسجام .  لقد عاش أفلاطون في عصر تسوده الفوضى السياسية، وشاهد أمام عينيه مساوئ الأنظمة التي توالت على الحكم في أثينا في سنوات متعاقبة قصيرة، وتأسى على تدهور القوانين والأخلاق التي بلغت حداً من الفساد جعلته كمصاب بدوار– كما يصف حالته بنفسه في الرسالة السابعة – حتى انتهى به المطاف الى ان يتبين بوضوح ان جميع أنظمة الحكم الموجودة في زمانه ومن دون استثناء، أنظمة فاسدة. لكن ما أسباب هذا التدهور والخراب والفوضى، وكيف السبيل للخروج من هذا الوضع  ووضع حد للتدهور السياسي والأخلاقي ؟ . لقد حدث كل هذا لأن الشعب فقد هدى الفلاسفة وحكمتهم وعدلهم، وأصبح الحكم بيد التجار الذين يملأ قلوبهم حب الثروة، أو بيد القادة العسكريين الذين استخدموا الجيش لإقامة حكومة عسكرية دكتاتورية، فلا التاجر ولا العسكري يصلح لإدارة الدولة، لأن ذلك علمٌ وفنٌ لا يجيده إلَّا من خصص عمره، وأعد نفسه إعداداً طويلاً لهذه المهمة. أما طريق الخلاص فلا يكون إلَّا بإعادة ارستقراطي العقل الذين اجتازوا مراحل التربية الخاصة الى الحكم، ولا يكون إلَّا بتسليم مقاليد السلطة الى الفلاسفة، أو يتفلسف الحكام. فقد وهبت الطبيعة لبعض الأفراد صفات تؤهلهم  لأن يحكموا غيرهم ويجب اكتشاف هذه الصفات منذ الصغر، لكي يجري تربية الحكام تربية خاصة، ذهنية وجسدية، فيتم تعليمهم الفلسفة، وفنون الحرب، والرياضة البدنية، والفنون والموسيقى والعلوم الرياضية كالحساب والهندسة والفلك، ليسيروا نحو الكمال، ويكونوا نموذجاً للحاكم الفيلسوف الكفء" فلسفي النزعة، عظيم الحماسة، سريع التنفيذ، شديد المراس". إن الصفات التي تجعل الفلاسفة جديرين بالحكم، هي " تعلقهم الشديد بأي معرفة تكشف لهم عن شيء من تلك الماهية التي تظل باقية أبداً، والتي لا تنال منها تقلبات الكون والفساد، والصدق ومحبة الحق، وكراهية الزيف، وعدم قبول الكذب في أي صورة من صوره  وسعيهم الى اللذة التي تستمتع بها الروح وحدها، وتركهم جانباً لذات البدن، وابتعاد أنفسهم عن الوضاعة، ما دام صغر النفس هو أبعد الأمور عن الروح التي تتجه دوماً الى إدراك مجموع الأشياء الإنسانية والإلهية معاً، فضلاً عن ذلك فإن من كان بطبيعته جباناً وضيعاً لا يستطيع ان يسهم في الفلسفة الحقة بنصيب، أما اذا كان المرء معتدلاً، مترفعاً عن الجشع وعن الوضاعة والغرور والجبن، فلن يكون من الصعب التعامل معه، ولن يكون ظالماً، ومن الصفات الأخرى المميزة للروح الفلسفية اتصاف المرء منذ حداثته بصفات النزاهة والرقـة وحسن المعاملـة، وسرعـة التعلم، وقوة الذاكرة، ومحبة الاتسـاق والجمال ".  " هذه الصفات الروحية والعقلية التي منحتها الطبيعة لأولئك الذين جُبلوا من معدن الذهب تؤهلهم لتولي الحكم بعد ان يكتمل علمهم وتكتمل خبرتهم، فهم وحدهم القادرون على ان يفعلوا بالمدينة ما يفعله الرسام بالجدار الذي يزخرفه، فهو ينظفه بادئ الأمر بعناية، ثم يرسم عليه صورة المدينة، مقارناً رسمه في كل لحظة بنموذج العادل الذي في مقدوره ان يتأمله "، ذلك لأن الفلاسفة هم الذين يرون نور العقل والحق، وهم القادرون على معرفة الحقيقة  وهم المؤهلون لإنقاذ المجتمع من السقوط والتدهور والانحلال. لقد أصبحت هذه الدعوة المحور الذي دارت عليه فلسفة أفلاطون السياسية، والعمود الفقري لمدينته الفاضلة، والهدف الذي ابتغاه من الفلسفة، وما زاده يقيناً في ان الجنس البشري لن يخلص من متاعبه، إلَّا ان يستولي الفلاسفة على السلطة السياسية، أو يصبح الحكام فلاسفة، مما زاده يقيناً بذلك اشمئزازه من الأحوال السياسية ومفاسدها في أثينا وغيرها من المدن الإغريقية، التي وصلت الى الحد الذي جعلته يخاطب الأثينيين على لسان سقراط : أرجو ان لا يؤلمكم الحق ان أنبأتكم به، فالحق انه يستحيل على من يرافقكم الى الحرب، أو أي اجتماع آخر ويقاوم فساد الأخلاق، وأخطاء الدولة ان ينجو بحياتــه.

كان افلاطون يدرك ان هذا " الفساد " وهذه " الأخطاء " هي التي قادت الى انهيار أثينا العسكري أمام اسبرطة في الحرب البلوبونيزية، وكانت هذه من أهم الأحداث التي أثرت تأثيراً عميقاً في تكوين عقلية افلاطون، ومن الكوارث الكبرى التي شهدها في مطلع رجولته، وعانى ايام طفولته وشبابه من ويلاتها. وبناءً على ذلك كله تأتي دعوته الصريحة لتسليم مقاليد الحكم الى الفلاسفة أصحاب المواهب الحقيقية، والعقول العلمية، والروح الفلسفية، وتأكيده على الأثر السياسي والاجتماعي للفيلسوف " فما لم يصبح الفلاسفة ملوكاً في بلادهم، أو يصبح اولئك الذين نسميهم الآن ملوكاً وحكاماً فلاسفة جادين متعمقين، ومالم تجتمع السلطة السياسية والفلسفة في فرد واحد، فلن تهدأ حدة الشرور التي تصيب الدولة، بل ولا تلك التي تصيب المجتمع البشري بأكمله".

***

د. طه جزاع

..........................

* ملاحظة: ما ورد من نصوص مقتبسة في هذا المقال فإنها تعتمد كلياً على ترجمة حنا خباز لـ "جهورية أفلاطون" الطبعة الأولى لسنة 1929، مطبعة المقتطف. المقطم. القاهرة.

* المقال منشور في موقع مراصد أيضاً

 

بقلم: جان لومبار

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

الليتي Léthè النسيان، بيوس bios الحياة وكرونوس chronos الزمن: جدلية الحفظ والفقد.

نحن نعلم أيضا بأنّ الزمن المستعاد le temps retrouvé، حتى نستخدم معجمية بروست، لا يمكن تحديدا أن يُستعاد إلاّ إذا فقدناه. تثبت تجربة الذاكرة اللارادية (تجربة نكهة المادلين الشهيرة مثلا) استمرارية الهوية الفردية عبر الزمن، لكنها تثبت أن إيجادها لا قيمة له إلاّ بعد النسيان. إنها تبيّن كيف أن عمق النسيان هو الأصل الجيولوجي للذاكرة: هو ما يذكّرنا بشكل أفضل بالماضي، هو بالضبط ما نسيناه، يقول بروست.

إنّ هذا الشكل من التذكّر موجود في كل موضع من "البحث عن الزمن الضائع" ونحن نفكّر في صوناتا فانتوي sonate de Vinteuil الشهيرة،هذه الموسيقى التي يبدو انه قد نُسيت دون أن تكون قد استُمع إليها بما أنّ شارل سيوان قد تعرّف عليها لحظة التقى بها : مثال جيد عن الحميميّة العفوية والمُرْبِكة  مع شيء من العالم يبدو انه آت من عالم آخر. يمكننا ملاحظة هذه الظاهرة بالقيام بتجربة إعادة قراءة كتاب ما سبق أن قرأناه ثمّ نسيناه. فسنكتشف إذن أن " إعادة القراءة" هو أن نحيا من جديد دون توقّع، وهي تحصيل الانطباع بما سبقت رؤيته دون التوقّف عن رؤيته قادما"، وانطلاقا من هذه التجربة الخاصّة للغياب، نشعر في الآن نفسه " بلطف العودة ولذّة الانتظار" (44). كان لدى أفلاطون بعدُ تحليلا أوليا للنسيان الأصليّ مع أسطورة " آير البافيلي التي ينتهي بها الكتاب العاشر للجمهورية. مات آير على ساحة المعركة، وقد وضع على حطبٍ كي يحرق، فيقدر على رؤية ما سيحدث للأرواح بعد الحياة وقبلها. وفي إجراء معقّد يفضي إلى التناسخ، تتوقّع مرحلة تختارها كل نفس بدورها، من بين مصائر مقترحة، حياتها الجديدة. بقدر ما تسلك الطريق نحو سَهْل الليتي Léthè النسيان) للشرب من ماء النهر(45). ويجعلها هذا الماء تنسى ذكرى الحياة الماضية، قبل أن تُنقل نحو مكان ولادتها الموالية، أي في الأجساد حيث تُنْسَخ. لقد اختارت النفس بحرية مصيرها الجديد قبل نسيان حياتها الماضية، ويقول النص بأنّ نَفْسَâme اوليس (46) قد اختارت اختيار صائبا، مستلهمٍ من التجربة الثرية المكتسبة من مغامرات الأوديسا. غير أن النسيان وحده يسمح بإيجاد مكان للجديد والفعل من جديد، وفي هذا المعنى، فإن شرب ماء نهر أميليس، الليتي Léthè، وبتعبير آخر القدرة على النسيان، هي الشرط الحقيقيّ للحريّة:  أن أكون حرّا، هو أن لا نخضع لما سبق. وفي ذات الوقت، تظلّ آثار حياة قديمة ربّما، تظهر من جديد بوصفها علامات إلغازية في الوجود الجديد. وبالفعل فإنّ  البدء أو البدء من جديد "يمثّل تجربة لا تقبل طعن" كما يقول بول ريكور: فمن دونها لن نفهم ما يعنيه الاستمرار والدوام والبقاء والانتهاء". (47) كل عود على بدء محكوم بماض منسيّ. كل بداية جديدة مشروطة  بماض منسيّ، للماضي الذي، بعبارة سارتر، "ينتظر التصديق"(48)، النسيان بوصفه فعل ماض. وفي هذا المعنى، يبني النسيان الماضي ويسمح، من وراء الماضي وحده، باحتلال المسافة الزمنية وبالتالي هيكلة كليّة الزمن. يعرف المؤرخون بالخصوص، بأنّ الذاكرة، سواء أكانت "جماعية أو فردية  هي أيضا نسق تنظيم للنسيان. لكن، كان برجسون في شأن بناء الماضي، أوّل من تساءل في حال تكوّن الذكرى، عن اللحظة التي يختفي فيها الإدراك ويترك المكان للذكرى. لقد طرح هذا السؤال  غير المألوفوالجوهري سنة 1908 في تذكر الحاضر والاعتراف الكاذب(49)، حيث بيّن بأنّ نسيان الإدراك ضروري كي تظهر الذكرى." إن تشكلّ الذكرى ليس مابعديا بالنسبة إلى ذكرى الإدراك، يقول برجسون، إنه متزامن معها".(50)، لكن مع نسيان هذه الذكرى، التي هي بالضرورة بعدية،  فإنّ الزمن هو الذي يمرّ".

وفي هذا المعنى، فإنّ للّليتي Léthè  رابط جدّ قوّي مع الكرونوس Chronos  والبيوس bios، مثلما يبّن ذلك المشهد ذي المحتوى الميتافيزيقي الرفيع والذي حضره آر البامفيلي Er le Pamphylien، الذي اختاره أفلاطون لملاحظة كيفية اشتغال العالم من خلال الكواليس. يجري هذا المشهد في آخر محاورة الجمهورية أيضا وفق منطق هو منطق النسيان الذي يبني الزمن: هو منطق الانتقال المتبادل على نحو ما بين الحيوات viesالماضية والوجود المستقبلي، التي اختارتها الأنفس التي وقعت محاسبتها والمصنفة، مع تدخّل توسّطي للنسيان في وظيفته التطهيريّة، والإبداعية والتجديدية. وبفضل الليتي(النسيان) يحتل البيوس (الحياة) مكانه ضمن الكرونوس (الزمن). لا يستخدم الإغريق مفردة موحدة للتعبير عن الحياة. لقد انشئوا تمييزا سنجد صعوبة  في تجاوزه الآن، بين كلمتين: زو وي zôê، مجرد أن نحيا وهو المشترك بين جميع الأحياء والحيوانات والبشر بل والآلهة، والكلمة التي نجدها مختصرة ومخصصة في زوولوجيا zoologie وبين كلمة بيوس طريقة الحياة، نجده في البيوغرافيا، السيرة الذاتية biographie (51). لقد ابتكر الإغريق القديم إذن ووضع الوجود من وراء الحياة، هذا الوجود الذي نرويه في السير الذاتية.  ليست السيرة الذاتية ممكنة مع ذلك، إلاّ انطلاقا من خط تقاسم بين الذاكرة والنسيان، ونحن نعرف فعلا أنه يجب   أن يقرأ ما بَيْنَ السيرة الذاتية  بعمق بقدر ما يقرأ سطحيا. بينما الكرونوس (الزمن) فهو ما يحدث في مقابل اللحظة، kairos، الحد الذي تعذّر الإمساك به، والأبدية aiôn، الزمن الذي لا يحدث.  فليس من الغريب إذن بأن يكون انصراف الاهتمام إلى الذكرى والنسيان في أعلى مستواه لدى فلاسفة الزمن.فقد كتب القديس أغسطينوس الذي نعرف مقامه الرفيع مفكرّا في الزمنية (52)، في الكتاب العاشر من " الاعترافات "ترنيمة نابضة بالحياة للذاكرة، مجاز " قصر الذاكرة الواسع" مع "كنوزها التي لا تحصى"، مجازا معروفا جدا. وعلينا قراءة الفصول 8 و13 من هذا الكتاب العاشر، عن وطن الذاكرة، ذاكرة العالم  واستمرارية الذات  وعالم المعارف (53). فنحن نجد فيها ذكر الكنوز العظيمة للذاكرة السعيدة. لكن ها انه منذ الفصل 14، توضع هذه الذاكرة موضع السؤال، ذلك أن اغسطينوس قد قابل النسيان باندهاش ثم بأَسَى :" كيف يكون النسيان حاضرا،بينما يمنعني حضوره من التذكّر؟". و بعبارة أخرى، كيف يمكن أن يكون لما هو غياب مثل هذا الحضور؟ كيف يمكن لسلبية أن تكون ذات ضرر كبير؟ " عل أيّ حال، إلهي، أنا  أعاني من هذا الموضوع ومن ذاتي ؟" (54)، كما يقول أغسطينوس في نهاية هذا التحليل الدرامي. ويقدّرأغسطينوس أنه من الفضيحة أن يجتاح ذكرياتنا وفي ذات الوقت يساهم في الإيجاد و التقدير، وان يكون أيضا مدمّرا.  ويقول بأنّ هذا المفترس، ويقصد النسيان، الذي يعمّق وضعه المأساوي باعتباره يستخدم على نحو ما الذاكرة بما هي شريك بجعلها تشهد بالموضوع المنسيّ وبالتالي بواقعها الخاص. ويعود أغسطينوس إلى ذلك عديد المرّات قائلا: " مهما كان غير قابل للتفسير، فإنّني أتذكر بالذات النسيان، أنا على يقين، النسيان الذي  يدفن ذكرياتنا"، وفي موضع آخر يقول: "لا يمكننا البحث عن ذكرى ضائعة إذا كان النسيان مطلقا"(55). لقد أصبحت هذه الصفحات ذاتها، حيث الإعجاب بالذاكرة ملغوم بالتهديد المخيف للنسيان، خالدة.

إلا أنّ النسيان لا يهدّد الذاكرة فحسب، بل الوجود أيضا. ثمّ إنّ الخشية التي عبّر عنها اغسطينوس هي في قلب كلّ لاهوت الغرب. فالعهد القديم يقدّم علاقة الإله بشعبه المختار بوصفها ميثاقا على عدم النسيان: الله لا ينسى شعب إسرائيل  إذا لم تنس إسرائيل الله. لأجل ذلك، تقرّ الكتابة صراعا لا ينتهي مع خطر النسيان (56). وبدورها ستقدّم المسيحية نفسها بعد اليهودية بوصفها دين الذاكرة:" افعل هذا تخليدا لذكراي" هي لعنة للنسيان من حيث هو الوجه المظلم للذاكرة. وقد أقيمت، حفاظا على استمرارية إسهام الإغريق المتعدد الآلهة مع ذلك، محاور كبرى لجدلية الحفظ والتلف.

إنّ الحفظ عبارة قديمة (المكان الآمن  كلمة من القرون الوسطى) لكن لها راهنية ومستقبل في مجال الإعلامية. الحفظ هو تأمين، وبالتالي احتياط جذريّ بالنسبة إلى النسيان . وبالفعل، فإنّ تراكم المعطيات في النظام الحديث المفرط يطرح مشاكل خاصّة مقلوبة تماما لأولئك الذين هم من زمن تحمل فيه الرغبة على شمولية المعرفة، ويكون فيه الهدف هو الجمع وحفظ المعطيات، الزمن المجيد لورق البردي و فيما بعد بالمكتبات. يتعلق الأمر اليوم بالحماية من النموّ غير المعقول للمخزون من كلّ نوع. لقد أبرز هنريش بول مؤلف "صورة لمجموعة مع سيدة"، هذه الظاهرة لتشبّع مجتمعات المعرفة في قصّة تسمّى " الرامي" (57) حيث يتحدّث عن ولادة مهنة جديدة. رجل متحفّظ، يلبس بلوزة رمادية، ويشتغل يوما بعد يوم على تحطيم بريد غير ضروري لشركة تأمين كبيرة لعطر الكولونيا. فهو يرمز بداهة إلى وظيفة الإتلاف التي تَنْتهي الذاكرة في حالتها قصوى دائما إلى استدعاءها، نقيضا تماما لخطر لانهائي للفقد. نلتقي في هذا المحور بعدد كبير من الأعمال الأدبية المعروفة والشعبية أحيانا، لأن الحفظ والفَقْد يؤطران بالتأكيد  أكثر من أيّ وقت مضى وجود الإنسان المعاصر.

تطابق الذاكرة القصوى أوّلا على وجه العموم لهاجس حقيقيّي بالماضي.إنّ إعادة قراءة مثيرة للمؤلف المشهور "حكايات مونت كريستو" للإسكندر ديما، كانت انطلاقا من هذه الفرضية. (58) نعرف أن إيدمون دونتاس، وقد أصبح غنيا وقويّا، بدأ بشكل منهجي، وخلف هوية مونت - كريستو، بالانتقام من أولئك الذي اتهموه ظلما وسجنوه. فهو لم يغفر لأحد، بينما كان بإمكان "حظه الوقح وثروته غير المتوقعه، آن يجعلاه أكثر تسامحا. لكنه كان مهووسا بالماضي "الذي" بالبحث في الذاكرة لا يجد سوى النسيان". إذ لا احد سيتعرّف عليه باستثناء مارسيديس. ومن الحقيقيّ بأنه مثل إيليس في عودته إلى إيثاكيا، لم يرد أن يقع التعرف عليه، مفضلا القيام "بقطيعة زمنية" في حياة أولئك الذين يريد الانتقام منهم. نرى جيّدا هنا، بأنّ فكرة الانتقام ترتكز على العجز عن النسيان أكثر من الانشغال بتحقيق العدالة . فدانتيس لا يريد لا إرساء توازن مختلّ ولا العودة إلى الوضع الراهن. لم يتوّصل بكل بساطة إلى تجنّب الإساءة والضرر الذي لحقه- وانّ الخراب قد وقع إصلاحه كفاية بعدُ. إنّ هاجسه هو كشف قناع رفاقه القدامى، وإظهار حقيقتهم بالتأكيد على الفارق بين ما صاروا عليه وما كانوا عليه من قبل. يستخدم في هذه الاستراتيجيا التي يصرّ عليها، عدّة أقنعة (مونت كريستو، الب بيسوني واللورد ويلمور). وما هو ملفت الانتباه، هو أنّه يذهب إلى لقاء ماضيه لكنه لا يعثر عليه أبدا. فكلّ شيء يمّحي بقدر ما يقترب، أصدقاءه من قبل، ذكرياته وشغفه بمارسيديس وحتى، في النهاية، قوة رغبته في الانتقام. فهذا الماضي الذي لم يستطع نسيانه لم يترك مكانه فحسب لحياة أخرى ممكنة أو شغف جديد، بل يفقد شيئا فشيئا، حتى بالنسبة إلى نفسه، كلّ معنى. كان دانتيس مهووسا بالزمن و ليس لهذا الهوس دون نسيان ممكن، من معنى أكثر من نسيان دون هوس. " ماتت مارسيديس ولا أعرف إنسانا بهذا الاسم"، يقول مونت دريستو لحبّ شبابه. إنه لا يتخيّل حتى الإيدمون الذي كانه في حياة أخرى. تشعر مارسيديس بأنّ تقبيل يدها الذي كان يقوم به هو بلا لهفة، مثل التي يكون ليد رخامية لتمثال قديسة"، كما ورد في النص. رحل إيدمون ولكن وحيدا، إذ في الواقع لا يستطيع الذهاب إلى أيّ مكان : وفي الجملة انتصر الزمان على المكان. يصبح غياب النسيان في هذا الاحتفاظ المتوتّر والدغمائي بالماضي، حدّا قدَرَيٍا.

نجد في الطرف الآخر حدّا مخالفا، كان موضوع أعمال أدبية كبرى لإعادة بناء الزمن. نذكر بدرجة أولى بروست. وعلى خلاف مونت كريستو، الذي يبحث عن الذاكرة لكنه لا يعثر إلاّ على النسيان، فإنّ الراوي في " البحث عن الزمن المفقود" يبحث عن النسيان ويعثر على الذاكرة. (59). " يقول يروست في " بالقرب من سوان" : " لا يتكوّن الواقع إلاّ في الذاكرة"، مضيفا هذه الصياغة المدهشة: " إنّ الأزهار التي تقدّم إليّ اليوم لأول مرّة ليست أزهارا حقيقيّة". (60) يتعلق الأمر هنا بالذاكرة اللاإرادية، الوحيدة التي لها قيمة شعرية حسب بروست، وليست الذاكرة الإرادية، العقلية - الفكرية إن أمكن أن نقول - تلك التي لا تتوصّل رغم جهودنا، إلى ردّ الماضي حقّا. تنمو الإرادة الحقيقيّة، التي هي إرادة الحواسّ، بطريقة تحتية، عبر النسيان. النسيان طويلا وبعمق شديد قدر الإمكان، الوقوع في هاوية النسيان، هو الوسيلة الوحيدة للشفاء من خوف الزمن و قلق الموت- نحن نعرف المكانة التي يحتلها القلق من الشيخوخة ومن الاختفاء في البحث عن الزمن المفقود، العنوان الذي ألفناه كثيرا والذي لا نفكّر حتى في أنه يعالج الفقدان، هو النقيض الأمثل للحفظ.

يمكن للنسيان المنتظم أن يكون بالمناسبة بابا للخروج، ووسيلة مضمونة في أن نكون على نحو ما دون ماض. ففجوة الذاكرة trou de mémoire مثلا، يمكن أن تكون، من وجهة نظر علم النفس التحليلي، حذف سحريّ لكلّ ما سبقها. هذا ما حدث لكازانوفا، المُغوي الشهير، بينما كان في الخامسة عشرة من عمره. يحدث المشهد في 19 مارس 1741. كان على كازانوفا وقد دخل بعدُ في الحياة الدينية، أن يلقي خطبة، أول خطبة دون شكّ عن القديس جوزيف  الزوج العفيف للعذراء. لم يكن على ما يرام بعد غداء أفرط فيه قليلا في شرب الخمر، حينما بدأ كازانوفا الشاب في إلقاء الخطبة، التي حفظها عن ظهر قلب، وسرعان ما التبس عليه الأمر ولم يستطع المتابعة. شعر بضيق وسرعان ما وجد نفسه على حافة الإغماء وأحس "بفجوة في ذاكرته" زادت الطين بلّة. (61). وكان لابد من إخراجه. استخلص كازانوفا من هذا الذي حدث العبرة بالتخلّي عن البابوية.إنّ هذا النسيان المطلق الذي قرّره سيترك المكان كلّه، وفق ميكانيزم أثرناه من قبل، لحياة جديدة: الطريق مفتوحة لقدرته على الإغواء. لقد ولد كازانوفا. لا يجب أن نرى هنا حلقة معزولة : كلّ حياة كازانوفا هي التي ستكون استراتيجيا متواصلة من الفقد، وتعاقب لنسيان مقيّد. لقد وقع سريعا في حبّ حفيدة الراهب توسيللو، ذاك الذي جعل كنيسته مكانا لأول خطبة ولفجوة الذاكرة الحاسمة. وَعَدَتْ أنجيلا الشابة بالإخلاص في حبها لكازانوفا لكنها دافعت عن فضيلتها " مثل تنّين" كما يقول. وسيكون لكازانوفا عديد المغامرات العاطفية غايتها نسيان هذا الحب الأوّل المتوتّر والمحفوف بالمزالق. نسيان أنجيلا، ضمنيا إلى الأبد، سيصبح هاجسا. و ستهتم فتاتان نانات ومارتون بذلك . و قد عنون كازانوفا الفصل 5 من الكتاب الأول للمذكّرات :"أنسى أنجيلا" . والباقي في مجمله سيكون سلسلة متواصلة من النسيان لترك المكان بوضوح لغوايات جديدة، وصولا إلى التي لا تنسى هنريات Henriette.

هكذا كانت حكايات الحب لكازانوفا حكايات نسيان، بخلاف حكايات دون جوان، هاوي جمع المغامرات العاطفية الذي يرتكز إذن على الذاكرة. يتدخّل "نسي" هنا كفعل حدث دون مفعول به، مستعمل إطلاقا، ومعبّرا عن اكتمال الفقد perte .يوجد هذا المعنى أيضا حينما يحمل المفعول اسمه لكن على أصل، مثلما في عنوان كتاب إيدومون دي شارل- رو" نسيان بالارموPalerme، الذي يعبّر طبعا عن إصرار الهويّة. نعثر على هذا المعنى الجذريّ لفعل نسيَ في الفعل verbe الذي يشير إلى الفعل l'action بالضبط نقيضا لشعار كيبيك السامي أتذكّر Je me souviens، حيث يقول غياب المفعول بقدر من القوّة ما لا يقول." (يتبع)

***

............................

- هوامش:

44- مارك أوغي  المصدر السابق ص 65.

45- عن فعل "النسيان" لنهر الليتي، انظر فرجيل "الانيادة" الكتاب 4.

46- الجمهورية أفلاطون الكتاب العاشر 619ب621

47- بول ريكور، الذاكرة والزمن والنسيان" باريس سوي2000 ص40.

48- سارتر " الوجود والعدم" ص 559." إنّ ماضيّ قضية ملموسة ومحدّدة، ينتظر  بما هي كذلك تصويبا".

49- نص أعاد برجسون النظر فيه (1919) وادمجه في كتاب الطاقة الروحية

50- برجسون، الأعمال الكاملة  باريس بيف 1959 نسخة المائوية ص 913.

51- انظر الأسطر الأولى من  جيورجيو أغامبان/ الإنسان الكاهن الجزء 1 " السلطة السيادية والحياة لعارية" باريس سوي 1997ص9.

52- الزمن موضوع الكتاب 11 للاعترافات، والنسيان والذاكرة موضوعا الكتاب العاشر.

53- القديس أغسطينوس " إعترافات" باريس غاليمار 1998ص989-995.

54- المصدر السابق ص997.

55- الاعترافات الكتاب 10 و14و 19

56- انظر مثلا دوترينوم 4، 5، 6، .

57- " دير فاغفارفار"، مينيخ 1982.

58- مارك اوغي المصدر المشار إليه سابقا ص 86 والصفحات الموالية.

59- انظر في " سادوم و غومور" عن الملاحظة القائلة بان الذاكرة تعني التناقض الغريب جدا للبقاء والعدم  ".

60- بروست،" البحث عن الزمن المفقود" الكتاب 1 ص 2

61- عن هذا الحديث انظر نسخة " تاريخ حياتي " في سلسلة بوكان باريس لافون 1993 وكذلك تحليل ه. وانريش في المصدر السابق ص 115-123.

 

"يُحرم الفرد باستمرار من اتخاذ القرارات الأخلاقية فيما يتعلق بطريقته في الحياة، وبدلا من ذلك، فهو يُحكم و يُطعم ويُكسى ويُعلّم كوحدة اجتماعية ويتم منحه سكنا ملائما، ويستمتع وفقا للمعايير التي تعطي المتعة والقناعة للناس". (كارل جنك، الحضارة في تحوّل،جزء 10،1964)

كلمة حرية "freedom" يُعلن عنها اليوم بثقة، وحتى بلا مبالاة، كشيء لا يتطلب تعريفا او توصيفا. لقد نُسي الزمن الذي كان فيه الفلاسفة يحققون في معنى الحرية محاولين الإمساك بطبيعتها الوهمية . الانسان في الغرب الحديث لديه القليل من اليقينيات في حياته، احداها معرفته بانه يعرف ما تعنيه كلمة الانسان الحر. ولكن عندما يتحدث الانسان الحديث عن الحرية freedom، هو في الحقيقة يتحدث عادة عن التحرر liberty.(1)

اول فيلسوف بارز أشار الى أهمية التمييز المفاهيمي بين الحرية والتحرر كانت حنا أرندت (1906-1975). هي اعتبرت هذا التمييز هاما جدا من أجل فهم الحياة السياسية في عصرنا الحديث. ومؤخرا، تحدّثت المنظّرة السياسية الامريكية هانا بيكتين Hannah F. Piktin (1931-2023)عن الفرصة الفريدة التي امتلكها متحدثو الانجليزية ليقرروا بين الكلمتين الحرية والتحرر، حيث امتلكوا القدرة على وصف مفهومين مختلفين جدا.(السياسة، العدالة، الفعل، 2016).

وكما لاحظت بيكتن، ينطوي مفهوم التحرر على نظام من القواعد يمتلك فيه الافراد القدرة على عمل الخيارات. اما مفهوم الحرية، فهو ظرف أوسع بكثير وأعمق وأكثر خطورة، يفترض مسبقا الإعفاء التام  من أنظمة القواعد . لكن الحرية ربما تُفهم بشكل أفضل كإمكانية لتحويل ما موجود سلفا لخلق شيء ما جديد او كما تقول ارندت غير متوقع.

لذا، بينما الحديث عن "التحرر" يتخذ معناه في الاطار السياسي - الدولة، حيث تزود الافراد بمشروع لتوجيه افعالهم، فان الحديث حول الحرية غالبا ما يكون مضللا ان لم يكن هراءً في مثل هذا السياق. الحرية تُفهم كإمكانية لخلق شيء جديد وغير متوقع – شيء يعكس حقا الضمير المتفرد للفرد – وهي تُستهجن في معظم الانظمة السياسية عندما يُحتمل ان تنحرف عن البناء، ولذا هي محدودة جدا ان لم تُكبح.

يمكن القول، ان أي نوع من التنظيم الاجتماعي يتطلب منا التضحية بدرجة معينة من حريتنا الفردية لتسهيل التدفق السلس للحياة الاجتماعية. لكن اذا كان هذا المطلب لـ"التقييد الطوعي الذاتي" يحتاج شرعية ضمن المجتمع الذي يقيّم الحرية الفردية والاستقلالية، عندئذ فانه يجب الاعتراف ان نتائج التسوية تستحق التضحية، طالما ان هدف القواعد  بالنهاية هو تسهيل حياة الافراد وليس لفرض إيقاعات وأهداف الحياة. لكن التمييز بين التحرر والحرية يصبح حاسما في مجتمعات السلطة المركزية. في مثل هذه المجتمعات يكون من الخطير جدا التفكير فقط في اطار تلك الاشكال من التحرر الذي نستطيع الاستفادة منه ضمن الاطار المسموح به. نحن يجب ان لا ننسى ابدا ان شرعية الاطار السياسي هي فقط بمقدار ما يعطي منافع  تكفي لتبرير تقليص حريات الافراد التي تأتي  بدرجات مختلفة مع السلطة المركزية. بالنهاية، النظر الى الحرية كواحدة من أعلى القيم لحياة الانسان يجب ان يحفزنا لبناء أنظمة اجتماعية واقتصادية تسمح للناس للعب دور فاعل ومركزي في تقرير حياتهم، بدلا من اختزالها الى موارد تُدار او وحدات تُمنح.

حدود التحرر في الديموقراطيات الليبرالية

مهما كان الكتاب الذي نطالعه سواء كان في السوسيولوجي او في القانون سنجد دائما ان الحكومة وتنظيمها وأفعالها تشغل حيزا كبيرا فيه لدرجة تدفع للاعتقاد ان لا شيء هناك عدى الحكومة ورجال الدولة، ولكن حالما ننتقل من المواد المكتوبة الى الحياة ذاتها، وحالما نلقي نظرة على المجتمع، سنصطدم بالدور الضئيل للغاية الذي تلعبه الحكومة فيه" (بيتر كروبوتكن، إخضاع الخبز،1892).

ما يجعلنا نشعر بعدم الحرية حتى في الديمقراطية الليبرالية هو حقيقة اننا نفتقر للمقدرة على التعبير عن ضميرنا بطريقة مقنعة. نحن ليست لدينا القدرة لرؤية انعكاس مادي لقيمنا في العالم الذي حولنا. نحن نستطيع التعبير عنها بأكثر الطرق سطحية. انا استطيع الكتابة حول رؤاي واشاركها مع الناس الاخرين، وحتى انشر افكاري في الصحافة .. مع ذلك، انا اُمنع من اخذ زمام المبادرة في جعل قيمي واقعا سياسيا.

نعم، نستطيع دائما التصويت للمرشحين السياسيين لكن ذلك كيف يضمن ان رؤانا سوف تُمثل (دعك عن ان تُنفذ) بشكل صحيح؟ حتى في حالة وجود مرشح اؤمن به حقا وسيتمكن من الوصول الى الحكومة، وهو امر غير مرجح، ليس هناك ما يضمن انه سيفعل في النهاية ما صوتت له للقيام به. كل شخص يعرف هذا، وهذا يفسر لماذا الكثير من الناس متعبين من السياسة. كذلك، التصويت للسياسيين له تأثير قليل على حياة الناس المنهمكين بشكل رئيسي في العثور على عمل وتحقيق غاياتهم والعيش في بيئة صحية. السياسة في الحقيقة بعيدة عن التجارب الملموسة لمعظم الناس لدرجة انها تفشل في تحفيز أي ثقة او أمل للتغيير في معظم الناس. حتى لو حقا نفترض سلفا توفر النية الحسنة في مرشحينا، كيف يمكن لبضعة سياسيين امتلاك المعرفة والخبرة لعمل قرارات بشأن مسائل لا يعرفون الا القليل عنها ان لم يجهلوها تماما؟ كيف يمكن لوزير زراعة لم يسبق له فلاحة هكتار واحد من الارض في حياته ان يتخذ قرارات  صحيحة لمزارعين على نطاق واسع يشمل كافة البلاد وبمختلف التضاريس والمناخات؟ لماذا لا يكون الناس ذوي التجربة المباشرة بالتحديات التي يواجهونها هم منْ يتخذ  القرارات السياسية بالاضافة الى القرارات الفورية المباشرة؟

هذا الحرمان للناس هو احيانا يُبرر بادّعاء انه مالم يكن هناك توجيه مباشر من سلطة عليا، فان الناس سوف يهتمون فقط بانفسهم. لكن، طالما الحكومة تُصنع من اناس، فكيف لنا ان نثق بان مصالح الجالية التي عادة لا يعرف عنها السياسيون واحيانا لم يسمعوا ابدا بها سيؤخذ بها جديا؟ ربما شخص ما لديه اشتراك في قضية معينة وهو جزء من الجالية لديه حافز قوي لاتخاذ قرار يسمح له للحفاظ على رأسماله الاجتماعي، لأنه لو اتخذ قرارا يؤدي الى تفكك الجالية التي هو جزء منها، سيُجبر على المغادرة. لكن عندما يتخذ ممثل الناس  قرارا خاطئا ، فمنْ الذي يُلقى عليه اللوم؟ منْ يعتبر مسؤولا؟ سيتضح ذلك فقط عندما يكون للاعلام أجندة معينة.

هل يستطيع الناس بشكل أفضل التنفيذ المباشر للتغيرات لمصلحة جالياتهم؟ ان العالم الذي نعيش فيه منظّم بشكل كبير لدرجة ان تبرير "الحفاظ على النظام" يقتل أي فعل جماعي تلقائي يبرز طبيعيا بين الناس الذين يشتركون بنفس البيئة والتحديات. منْ سيسمح لبعض متعددي الجنسية للمجيء لمناطقهم وتلويث مياههم – كما حدث في فرموزا وتكساس والعديد من المدن الاخرى؟ الجواب بالتأكيد هو لا أحد يقوم بذلك وهو في كامل قواه العقلية. حتى الان، يجادل البعض بان الناس غير السياسيين لن يكونوا قادرين للتوصل الى اتفاقية عندما تكون مصالحهم في خطر.

في الحقيقة، نحن فعلا نرى الناس يأتون بشكل طبيعي مع بعضهم لحل قضايا يهتمون بها. هذا نراه في الناس الذين ينظمون انفسهم ضد العنف، او شعب كابور(في البرازيل) الذين يتعاملون مع القضايا بانفسهم لمنع تحطيم الغابات. هذه ليست حالات استثنائية، التنظيم الذاتي يحدث طبيعيا عندما يهتم الناس بشيء ما ويُسمح لهم بالتصرف في الدفاع عن مصالحهم. نزعة الناس الطبيعية للتعاون والارتباط الحر جرى توثيقها بشكل جيد من جانب كل من بيتر كروبوتكين  و ديفد غرابير وديفد وينغرو مؤخرا (فجر كل شيء: تاريخ جديد للانسانية، 2021).

الناس يميلون طبيعيا نحو الارتباط الحر بدلا من السلوك الفردي الصرف. لكن في مجتمع مثل مجتمعنا، وحيث آلاف القوانين تنظم كل مظاهر حياتنا، وهيئات الحكومة تهتم بكل شيء، كيف لحريتنا في الضمير يُعبّر عنها عمليا؟ ماذا يعني بشكل ملموس ان نكون احرارا في عالم تكون فيه الطريقة التي يتم بها تنظيم المجتمع سياسيا للمجالات الاساسية التي تشكل حياتنا هي جوهريا خارجة عن سيطرتنا ؟. هناك من يرى اننا لا نحتاج الى منظمات ضخمة، واننا ربما نثق في جارنا أكثر من ثقتنا بأي رئيس.

***

حاتم حميد محسن

....................

الهوامش

(1) التحرر والحرية هما مفهومان مترابطان لكن هناك اختلافات هامة بينهما. التحرر يؤكد على اهمية حقوق الفرد وتقييد سلطة الحكومة، بينما مفهوم الحرية يركز كثيرا على قدرة الافراد على متابعة اهتماماتهم. عمليا، هذا يقود الى مختلف الايديولوجيات السياسية. التحرريون مثلا، يفضلون الحرية الفردية وتقييد تدخل الدولة، بينما التقدميون يركزون على الحريات الاجتماعية والاقتصادية التي تسمح للافراد بتحقيق طموحاتهم. 

 

في مثالية ساذجة يذهب هوسرل الى "ان الموضوع ليس معطى غفلا بل هو حقيقة تستمد معناها من القصد". في العبارة نجد بسهولة اول خطأ مثالي سطحي هو تغليب هوسرل اولوية وقبلية الوعي القصدي على بعدية الموضوع. وثانيا لايمتلك الموضوع المستقل انطولوجيا خاصيّة ان يكون (حقيقة) بل ان يكون الوعي الادراكي له (معرفة). وهذا التفريق بين الحقيقة والمعرفة ليس على صعيد اختلاف المصطلح بين الاثنين فقط بل على صعيد المعنى المحتوى.

الثابت في الادبيات الفلسفية ومثله في التفكير العلمي الذي لا يمكن تجاهله هي أن مصطلح (الحقيقة) يلتقي مع مصطلح (المعرفة) في أن كليهما مصطلحان نسبيان بمعنى هما سيرورتان تقبلان الاضافة التراكمية الكميّة والنوعية لكن ايضا باختلاف. فالتراكم الذي تتقبله الحقيقة هو قفزة نوعية ناسخة لما قبلها اما التراكم المعرفي فهو خبرة كميّة مضافة تعتمد ماقبلها ولا تلغيه.

كما أن الفرق بين الحقيقة انها مفهوم مطلق مثلما نقول الوجود هو مفهوم مطلق غير متعيّن بابعاد معرفية تجعل منه مصطلحا متفقا عليه. فالوجود يكون مصطلحا بمحتوياته الموجودية فيه فقط في حالات موجوديتها المستقلة انطولولوجيا داخل كليّة الوجود الذي هو مفهوم تبحث فيه الميتافيزيقا منهجا ماجعل نيتشة يسخر سخرية شديدة قوله ليس هناك شيء لاندركه لا بصفاته ولا بماهيته وندعوه الوجود.. وكذا فعل بعده هيدجر أنه لا شيء يدعى وجودا.

ليس غريبا ان نجد بالفلسفة مثل هذه المفهومات التي نعتبرها متناقضة لا يقبلها العقل لكنها ليست بعيدة المصداقية التسليم بها. مثال آخر حينما الغى الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (العقل المعرفي) التجريدي وليس العقل البيولوجي. سرعان ما تلقف هذه المقولة الفيلسوف الانجليزي جلبرت رايل 2900- 1976 قائلا من السخرية الفلسفية ان نقر بوجود عقل انساني ابدا. علما أن ديكارت في القرن السابع عشر سبق وقال العقل جوهر خالد خلود النفس وهو يقصد العقل المجرد وليس العقل البيولوجي عجينة الدماغ بتركيبة ما تحتويه الجمجمة. نفس الشيء تكرر مع التشكيك بوجود الزمن المفهوم عدا الدلالة المعرفية لملازمة الزمن للمكان.  وابرز من أنكر حتى عدم حاجتنا ملازمة الدلالة الزمانية للمكان هو برجسون. ودبّت الحياة بالتشكيك بوجود الزمن على يد ثلاثة فلاسفة اميركان معاصرين ذهبوا نفس المنحى انكارهم وجود الزمن حتى كدلالة ادراكية للمكان.(لي مقال منشور اؤيد فيه هذه النظرية الفلسفية غير الفيزيائية علميا ان الزمن مفهوم مطلق لا يمكننا البرهنة اليقينية عليه خارج ملازمته الحيادية للمكان).

طبيعي ومهم أن نشير الى أن نظرية نكران الزمكان أي ملازمة الزمن للمكان ادراكيا في توليفة واحدة سوف تصطدم بعقبة كأداء لا يمكن تجاوزها بسهولة هي تاكيد النسبية العامة لانشتاين 1915 حين اكد توليفة الزمكان علميا فيزيائيا باكثر مما سبق لكانط وفلاسفة عديدين القول به.

واكثر من ذلك اضاف انشتاين في النسبية العامة الزمن بعدا رابعا لأبعاد المادة الثلاث الطول، العرض، الارتفاع. بمعنى المادة اصبحت باربعة أبعاد ادراكبة. اذن من الممكن القول اننا بدلالة الابعاد الثلاث للمادة ندرك الزمن ليس مثل ادراكنا المادة بابعاد ثلاثة خالية من الزمن... البعد الرابع الذي اضافه انشتاين ليس تعسفيا بل فيزيائيا علميا على المادة في النسبية العامة التي لا يتوفر الى اليوم بديل تخطئتها او إدحاضها. لكن مشكلة ارتباط الزمن بابعاد المادة التي ندركها يفتح امامنا احتمال ادركنا الزمن موضوعا مستقلا وهو محال.

 اما حين تقول الوجود وتعني به الكليّة غير المتحققة وجودا فهو يكون مفهوما وليس مصطلحا متفقا عليه في حين تكون المعرفة (الابستمولوجيا) مصطلحا بحثيا متفقا عليه. والسبب يعود لامكانية حصرنا المعرفة بابعاد فيزيائية او كيميائية او مادية وغيرها من تجربة علمية ومعادلات رياضية. وهذا لا ينطبق على الوجود الذي نعي تعيّنه الفيزيائي من خلال معرفتنا لمحتوياته الموجودية فقط.

ثم الوعي القصدي للاشياء والمواضيع حسب هوسرل واشياعه هو الوصول لهدف يتوخاه التفكيرالمسبّق قبل ادراك الموضوع او الوعي به حسب فهمنا تعبير هوسرل. أي أن المعنى برأينا ليس خاصّية معرفية موجودة بالوعي القصدي بل المعنى خاصية الشيء في وجوده المستقل بعالمنا الخارجي.

القصد أو القصدية في الوعي لايحمل معنى قبليا يخلعه هو على موضوعه بل القصد يحمل خاصيّة البحث عن المعنى في مدركه الوجودي (الموضوع). هنا تتبيّن حقيقة الموضوع أنه ليس وسيلة ادراكية هادفة معرفية بل هو هدف بذاته بخلاف الوعي القصدي الذي هو وسيلة البحث عن المعنى في الموجود اي عن المعنى في موضوع تفكيره.. وليس في خلعه المعنى على مدركاته.

طبعا هوسرل في منهجه الظاهراتي (الفينامينالوجيا) ومعه تلميذيه هيدجر وميرلوبونتي ذهبوا الى تبنّي الوعي القصدي الذي قال به برينتانو في معرض رده على الكوجيتو الديكارتي انا افكر.. وما يخص موضوعنا يعنى الموضوع في التفكير القصدي به قبل أن يكون (غفل) اصطدام الوعي به كموجود مستقل طاريء صدفة سابق على التفكير القصدي به فهو بالتأكيد يكون غفلا كموضوع يحتويه عالمنا الخارجي..

اذا نحن سلمنا مع هوسرل بان الموضوع ليس معطى غفلا عندها نسقط انفسنا في سذاجة فلسفية مثالية مغلوطة جدا هي أن كل مدركات العقل انما هي موجودات غير مادية ولا وجود لعالم خارجي يحتويها. فالموجودات المادية هي مواضيع (غفل) ليس بمحكومية ادراكنا لها بل بمحكومية وجودها المادي المستقل. والعقل لا يبحث عن مواضيعه الادراكية بنزعة وعيه القصدي. بل يبحث عن المعنى المعرفي بالمواضيع والاشياء المستقلة عنه. كذلك حين نقول مواضيع الخيال هي الاخرى ليست غفلا وبذلك نلغي انتفاء مادية مواضيع الخيال اولا وهو اجتهاد يمكننا تمريره في تبرير ان اللاشعور الذي هو مصدر مواضيع المخيّلة ليس هو الاخر غفلا. فالخيال وإن كان تداعيات انثيالاته الصورية بالذهن تسقطها المخيلة على التفكير العقلي الا ان الخيال لا وجود له بدون تفكير بموضوع حتى لو كان موضوع الخيال لا تنتظمه اللغة المحكومة بضابطي محدودية المعنى ومحدودية انتظام الكلمات في التعبير عن الصوت والمعنى الدال. حتى الصمت هو تفكير لغوي صورة ودلالة صوتية او غير صوتية لا يهم حين نريد الوصول الى حقيقة أن الخيال بلا موضوع هو هذيان من التفكير والاصوات غير المنضبطة بمعنى غير العاقلة في معرفتها اهمية واسلوب تعبير اللغة عن معنى قصدي تبتغيه اللغة توصيله للمتلقي..

الوعي القصدي هو الشعور بالاتجاه المعرفي نحو هدف معيّن سبق التفكير به ذهنيا كموضوع. لذا يكون الشعور قرين الموضوع المحدد ماديا وليس قرين الموضوع (الغفل) الذي هو قرين اللاشعور الذي تفصح عنه تداعيات اللغة الحلمية في يقظة الخيال الشعوري.

هنا علينا التمييز بين اللاشعور غير المسّيطر عليه في انتظام تداعيات الافصاح اللغوي عنه أي هو حالة من العصاب النفسي وليس اللاشعور المتمثّل في ابداعات لغة الاجناس الادبية التي تكون فيها مساحة المخيال اللاشعوري اكبر من مساحة تداعيات اللاشعور في لغة الكلام التداولي العادية. وهنا يكون المخيال في الاجناس الادبية مسيطرا عليه من قبل المبدع وسائبا عند تداعيات الجنون الصوتية العشوائية التي لا معنى لها يؤطرها لا شكلا ولا محتوى.

متى يصح معنا القول الموضوع (غفلا) يحمل القصد معناه؟ حين يكون ادراكنا المواضيع بمحكومية محض الصدف لوجودها المستقل ولمباغتة الوعي التفكير القصدي بها اي معرفتها. وهذه الصدف التي تلازم بعض المواضيع تنفي ان يكون الوعي القصدي التفكيري بالهدف يتم بالذهن قبل وجوده المادي المستقل بالعالم الخارجي كما تذهب له فينامينالوجيا هوسرل. والصدف الملازمة لبعض الموضوعات التي يستهدفها الوعي القصدي بالمعرفة عنها تؤكد (الغفل) الذي يجعل من الصدفة اصدق تعبير عن الموضوع من الوعي القصدي الذي يتراجع دوره.

ثم هنالك زاوية نظر حول ان الصدف في تناول الادراك للموضوعات الغفل تخرج فاعلية العقل باختياره الموضوعات التي لها معنى. واذا افترضنا ان الوعي القصدي ينوب عن العقل الادراكي في الاختيار فهو يبطل التوجه نحو المواضيع الغفل التي تصبح كل ما يدركه العقل ليس صدفة ولا غفلا وهذه النظرة قاصرة بسبب ان العقل يدرك المواضيع التي تحكمها الصدف اكثر اهمية بكثير من الموضوعات التي تبدأ بالفكر وتنتهي بالموضوع في حكم الوعي القصدي باختياره مواضيع ليست غفلا ولا تحكمها صدفة وهذا غير منطقي.

فيورباخ وموضوعات الطبيعة

كان ولع فيورباخ الفيلسوف المادي اليساري المنشق بالطبيعة وصل مرحلة العبادة حد الهوس بعد وفاة هيجل ومعه ماركس وانجلز وشيلر وباور وشتراوس وفي رسالة كتبها لابيه مخاطبا إياه اني تركت دراسة اللاهوت ليس ازدراءا به ولكن لأن الفلسفة والطبيعة وفرتا لي ما كنت اجد نفسي به. واصدر اهم كتابين له الاول (اصل الدين) والثني (جوهر المسيحية) ما سبب له تهمة الالحاد. حيث تملكته فكرة وحدة الوجود المادية الصوفية التأملية في تخليق الانسان لمعبوده انما يتم بعلاقة ميتافيزيقية تجمع بين الطبيعة والانسان.

طبعا رغم إعتراف ماركس بجميل فويرباخ الفلسفي انه اي ماركس اخذ من فويرباخ (ماديته) واخذ عن هيجل (ديالكتيكه) الواقف على راسه بالمقلوب بدلا من قدميه واعاده ماركس الى وضعه الطبيعي في صياغته نظرية المادية التاريخية والديالكتيك في المادة.الا ان ماركس هاجم فيورباخ بثلاثة اطروحات مجلدات طبعت ونشرت بعد وفاته.

لماذا هاجم ماركس في اطروحاته الثلاث كلا من هيجل وفيورباخ؟

الاسباب التي دعت ماركس الهجوم على ديالكتيك هيجل هي:

1. هيجل اعتبر الديالكتيك يتم يالذهن قبل الواقع. واسبقية الفكر على الواقع ماجعل ماركس يرد عليه ان الوجود سابق على الفكر. والديالكتيك الحاصل في المادة (صراع الاضداد) وفي التاريخ (الصراع الطبقي) هو الذي يقود الديالكتيك في الفكر.

2. الادهى من ذلك قول هيجل أن طبيعة العقل أي تركيبته البايولوجية هي جوهر طبيعي مزروع في الدماغ بالفطرة هو الديالكتيك. وهذه الطبيعة الديالكتيكية الفطرية للعقل تنعكس على الواقع المادي وعلى التاريخ فيضفي عليهما حتمية حصول الديالكتيك. (تناولت هذا الخطأ لدى هيجل باكثر من مقال منشور لي على مواقع التواصل الاجتماعي كما هو موزع بمؤلفاتي).

ننتقل الان الى الاسباب التي دعت ماركس يكتب ثلاث اطروحات ضد فيورباخ:

1. ابتداع فيورباخ مادية تاريخية صوفية تاملية بنشأة الدين في تطويعه نزعته المادية في ايجاد نوع من وحدة الوجود التصوفي.

2. اهتمام فيورباخ باهمية الدين في حياة الانسان في بحثه الدائب عن اله يجده بالطبيعة او الانسان رغم الحاد فيويرباخ الذي انكره بعض الفلاسفة واعتبروه بريء من وصمه به.

3. تطيّر ماركس من تاليف فويرباخ كتابين احدهما (اصل الدين) وكتاب (جوهر المسيحية) مركزا اهتمامه اي فيورباخ على ان علاقة الانسان بالطبيعة هما اللذان اخترعا الاله الذي هو الانسان بذاته.

ويرى فيورباخ بهذا المعنى الانسان هو الاله الذي يصنعه من خامة الطبيعة ويؤمن به معبودا متعاليا يحمل كل الصفات الجيدة التي يتمناها الانسان لنفسه ولا يستطيع ذلك كونها صفات متعالية مطلقة بالقياس لمحدودية الانسان كجوهر مادي كلي. لذا فهو يخلعها على معبوده ليجده اعلى مرتبة في امتلاكه الخصائص التي يرتاح بعبادة الانسان لها . بمعنى مقولة شيلر كل شيء تجده مجتمعا بالانسان ولا تبحث عن شيء خارجه بمعنى تجد العلاقة وليس الاحتواء فقط.

***

علي محمد اليوسف

كانت نظرية "الحداثة السائلة" لـعالم الاجتماع والفيلسوف البولندي البريطاني "زيجمونت بومان" Zygmunt Bauman أحد أهم المنظرين الاجتماعيين في القرنين العشرين والحادي والعشرين، موضوعاً للعديد من المجالات. شدد باومان على أن بيئة اليوم التي تتسم بعدم اليقين وانعدام الأمن، إلى جانب المخاوف التي يعيشها الأفراد، ولدت الحداثة السائلة. بومان الذي وجه نقداً لاذعاً للحداثة قبل تنظيره للحداثة السائلة، ذكر في أعماله أنه مع الحداثة. تدير الحكومات العنف فعلياً وأن العنف يمارس على الأفراد الذين يُنظر إليهم على أنهم الآخر في كل مجال. على الرغم من أن فترة ما بعد الحداثة تبدو بمثابة تحرر من الشمولية التي شهدتها الحداثة، إلا أن باومان يعتقد أن فترة ما بعد الحداثة لم تكن مختلفة تماماً عن الحداثة، بل إنها جعلت حياة الأفراد أكثر غموضاً. قام زيجمونت بومان بدراسة العديد من المجتمعات من منظور نقدي في دراساته. قبل دراسة نظرية باومان حول الحداثة السائلة، من المهم للغاية التعرف عليه وفهم أعماله النظرية.

بومان الذي ولد كيهودي في بولندا، واجه صعوبات أن يكون الآخر طوال معظم حياته، فحص هذه الصعوبات في عيون المجتمع في أعماله. أتيحت لباومان، الذي تحولت حياته إلى منفى بعد الاحتلال النازي، فرصة دراسة مجتمعات مختلفة بسبب تواجده في أماكن عديدة. في المرحلة الأولى من الدراسة تم إدراج حياة باومان وأعماله والأسماء التي أثرت فيه وشرح دراساته النظرية. يرى بومان، الذي يطلق على نفسه اسم مؤرخ الحداثة وما بعد الحداثة، أن الحداثة ليست من بقايا البربرية، بل هي نفسها. على الرغم من أن باومان رأى في البداية فترة ما بعد الحداثة بمثابة خلاص للحداثة، إلا أنه أكد لاحقاً في العديد من أعماله أن ما بعد الحداثة لا تختلف عن الحداثة. من الممكن النظر إلى تنظير الحداثة السائلة، كنقد لما بعد الحداثة. يرى باومان أن البيئة المتغيرة التي تتسم بعدم اليقين وانعدام الأمن اليوم، إلى جانب المخاوف التي يعيشها الأفراد، وأكد أنها ولدت الحداثة. وقبل تنظيره للحداثة السائلة، كان من أشد منتقدي الحداثة.

من هو زيجمونت بومان

زيجمونت باومان (19 نوفمبر 1925 - 9 يناير 2017) كان عالم اجتماع وفيلسوف بولندي بريطاني. وُلِد باومان لعائلة يهودية بولندية غير ملتزمة دينياً في "بوزنان" boznan الجمهورية البولندية الثانية، عام 1925. وفي عام 1939، عندما غزت ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي بولندا، هربت عائلته شرقًا إلى الاتحاد السوفييتي. أُجبر على التخلي عن جنسيته البولندية. هاجر إلى إسرائيل؛ وبعد ثلاث سنوات انتقل إلى المملكة المتحدة. أقام في إنجلترا منذ عام 1971، حيث درس في كلية لندن للاقتصاد وأصبح أستاذاً لعلم الاجتماع في "جامعة ليدز" University of Leeds ثم أصبح أستاذاً فخريًا. كان باومان منظّراً اجتماعياً، وكتب عن قضايا متنوعة مثل الحداثة والمحرقة، والاستهلاك ما بعد الحداثي والحداثة السائلة. خلال الحرب العالمية الثانية، التحق باومان بالجيش البولندي الأول الذي كان خاضعًا لسيطرة السوفييت، وعمل كمدرس سياسي. وشارك في معركة "كولبرج" Kohlberg (1945). في مقابلة مع صحيفة "الغارديان" The Guardian أكد بومان أنه كان شيوعياً ملتزماً أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية ولم يخف ذلك أبداً.

باومان لم يشارك والده في الميول الصهيونية وكان مناهضاً للصهيونية بشدة. أكمل درجة الماجستير وفي عام 1954 أصبح محاضراً في "جامعة وارسو" University of Warsaw حيث بقي حتى عام 1968. أثناء وجوده في "كلية لندن للاقتصاد" London School of Economics حيث كان مشرفه "روبرت ماكنزي" Robert Mackenzie أعد دراسة شاملة عن الحركة الاشتراكية البريطانية، وهي أول كتاب رئيسي له. في مواجهة الضغوط السياسية المتزايدة المرتبطة بالتطهير السياسي تخلى بومان عن عضويته في حزب العمال البولندي الموحد الحاكم في يناير 1968. بلغت الأزمة السياسية البولندية عام 1968 ذروتها في التطهير الذي دفع العديد من البولنديين الشيوعيين المتبقين من أصل يهودي إلى مغادرة البلاد. كان عليه التخلي عن الجنسية البولندية للسماح له بمغادرة البلاد. في عام 1968، ذهب إلى إسرائيل للتدريس في جامعة تل أبيب. في عام 1970، انتقل إلى بريطانيا، حيث قبل منصب رئيس قسم علم الاجتماع في جامعة ليدز. هناك عمل أيضاً بشكل متقطع كرئيس للقسم. بعد تعيينه، نشر حصريًا تقريبًا باللغة الإنجليزية، لغته الثالثة، ونمت شهرته. ومنذ أواخر التسعينيات، مارس باومان تأثيراً كبيراً على الحركة المناهضة للعولمة أو المغايرة لها.

في مقابلة عام 2011 في الأسبوعية البولندية "بوليتيكا" Politics انتقد باومان الصهيونية وإسرائيل، قائلاً إن إسرائيل غير مهتمة بالسلام وأنها "تستغل الهولوكوست لإضفاء الشرعية على الأفعال غير العادلة". وقارن الجدار الإسرائيلي في الضفة الغربية بجدران غيتو وارسو، حيث مات الآلاف من اليهود في الهولوكوست.

تزوج باومان من الكاتبة "جانينا باومان" Janina Baumann توفي زيجمونت بومان في ليدز في 9 يناير/كانون ثاني 2017. قام بتأليف ونشر 57 كتاباً وأكثر من مئة مقال. تتناول معظم هذه الأعمال عددًا من الموضوعات المشتركة، من بينها العولمة والحداثة وما بعد الحداثة والاستهلاك والأخلاق. أقدم منشورات باومان باللغة الإنجليزية هي دراسة لحركة العمال البريطانية وعلاقتها بالطبقة والطبقية الاجتماعية. استمر في النشر حول موضوع الطبقة والصراع الاجتماعي حتى أوائل الثمانينيات. كان آخر كتاب له حول موضوع ذكريات الطبقة. في حين أن كتبه اللاحقة لا تتناول قضايا الطبقة بشكل مباشر، فقد استمر في وصف نفسه بأنه اشتراكي، ولم يرفض الماركسية تماماً. ظل المنظر الماركسي الجديد والفيلسوف الإيطالي "أنطونيو جرامشي" Antonio Gramsci على وجه الخصوص أحد أعمق مؤثراته، إلى جانب عالم الاجتماع والفيلسوف الكانطي الجديد الألماني "جورج سيميل".

الحداثة والعقلانية

في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات نشر باومان عدداً من الكتب التي تناولت العلاقة بين الحداثة والبيروقراطية والعقلانية والاستبعاد الاجتماعي. وتبعاً لعالم النفس النمساوي "سيجموند فرويد" Sigmund Freud توصل باومان إلى اعتبار الحداثة الأوروبية بمثابة مقايضة: فقد زعم أن المجتمع الأوروبي وافق على التنازل عن مستوى من الحرية لتلقي فوائد زيادة الأمن الفردي. وزعم باومان أن الحداثة، فيما أطلق عليه لاحقاً شكلها "الصلبة"، تنطوي على إزالة المجهول وعدم اليقين. كما تنطوي على السيطرة على الطبيعة، والبيروقراطية الهرمية، والقواعد واللوائح، والسيطرة والتصنيف - وكلها حاولت إزالة انعدام الأمن الشخصي تدريجياً، مما يجعل الجوانب الفوضوية للحياة البشرية تبدو منظمة ومألوفة. وفي وقت لاحق في عدد من الكتب بدأ باومان في تطوير موقف مفاده أن مثل هذا التنظيم لا ينجح أبداً في تحقيق النتائج المرجوة.

لقد زعم باومان أن الحياة حين تنظم إلى فئات مألوفة وقابلة للإدارة، فإنها تُنشأ دوماً مجموعات اجتماعية لا يمكن إدارتها، ولا يمكن فصلها أو السيطرة عليها. وفي كتابه "الحداثة والتناقض" بدأ باومان في صياغة نظريات حول مثل هؤلاء الأشخاص غير المحددين من خلال شخصية رمزية أطلق عليها "الغريب". واستعان باومان بعلم اجتماع الألماني "جورج سيميل" Georg Simmel وفلسفة الفرنسي "جاك دريدا" Jacques Derrida فوصف الغريب بأنه الشخص الحاضر غير المألوف، الذي لا يمكن للمجتمع أن يقرره. وفي كتابه "الحداثة والتناقض" حاول باومان أن يقدم وصفاً للمناهج المختلفة التي يتبناها المجتمع الحديث في التعامل مع الغريب. فقد زعم من ناحية أن الغريب وغير المألوف في الاقتصاد الموجه نحو الاستهلاك يكون دائماً مغرياً؛ ومن ناحية أخرى، في أنماط الطعام المختلفة، والأزياء المختلفة، وفي السياحة، من الممكن أن نختبر جاذبية ما هو غير مألوف. ولكن هذه الغرابة لها أيضاً جانب أكثر سلبية. فالغريب، لأنه لا يمكن السيطرة عليه أو إصدار الأوامر له، يكون دائماً موضعاً للخوف؛ إنه اللص المحتمل، الشخص خارج حدود المجتمع الذي يشكل تهديدًا دائمًا.

كتاب باومان الأكثر شهرة، "الحداثة والهولوكوست" Modernity and the Holocaust هو محاولة لإعطاء حساب كامل لمخاطر هذا النوع من المخاوف. بالاستعانة بكتب الفيلسوفة الألمانية الأمريكية "هانا أرندت" Hannah Arendt، وعالم الاجتماع الألماني "ثيودور دبليو أدورنو" عن الشمولية والتنوير، طور باومان الحجة القائلة بأن الهولوكوست لا ينبغي اعتباره مجرد حدث في التاريخ اليهودي، ولا تراجعاً إلى البربرية ما قبل الحديثة. بدلاً من ذلك، جادل بأنه يجب النظر إلى الهولوكوست على أنه مرتبط ارتباطاً عميقاً بالحداثة وجهودها في صنع النظام. العقلانية الإجرائية، وتقسيم العمل إلى مهام أصغر وأصغر، والفرز التصنيفي للأنواع المختلفة، والميل إلى النظر إلى الطاعة للقواعد على أنها جيدة أخلاقياً، قد لعبت جميعها دورها في حدوث الهولوكوست. لقد جادل بأن المجتمعات الحديثة لهذا السبب لم تستوعب تماماً دروس الهولوكوست؛ يميل الأمر إلى أن يُنظر إليه - لاستخدام استعارة باومان - مثل صورة معلقة على الحائط، لا تقدم سوى القليل من الدروس. في تحليل باومان، أصبح اليهود "غرباء" بامتياز في أوروبا. وقد صور الحل النهائي من قبله كمثال متطرف لمحاولة المجتمع لاستئصال العناصر غير المريحة وغير المحددة الموجودة داخله. زعم باومان، مثل الفيلسوف الإيطالي "جورجيو أجامبين" Giorgio Agamben أن نفس عمليات الإقصاء التي كانت تعمل في الهولوكوست يمكن أن تلعب دوراً اليوم، وإلى حد ما تفعل ذلك.

ما بعد الحداثة والاستهلاك

في منتصف إلى أواخر التسعينيات، بدأ باومان في استكشاف ما بعد الحداثة والاستهلاك. افترض أن تحولاً حدث في المجتمع الحديث في النصف الأخير من القرن العشرين. لقد تغير من مجتمع المنتجين إلى مجتمع المستهلكين. وبحسب باومان، فإن هذا التغيير عكس المقايضة "الحديثة" التي طرحها فرويد ـ أي التخلي عن الأمن في مقابل المزيد من الحرية، حرية الشراء والاستهلاك والاستمتاع بالحياة. وفي كتبه التي صدرت في تسعينيات القرن العشرين، وصف باومان هذا التحول بأنه تحول من "الحداثة" إلى "ما بعد الحداثة". ومنذ مطلع الألفية الثالثة، كان الناس في عصر ما بعد الحداثة يتطلعون إلى الحرية، ولكنهم لم يعودوا قادرين على تحمل المسؤولية.

منذ عام 1990، حاول باومان في كتبه تجنب الارتباك المحيط بمصطلح "ما بعد الحداثة" باستخدام استعارات الحداثة "السائلة" و"الصلبة". في كتبه عن الاستهلاك الحديث، لا يزال باومان يكتب عن نفس الشكوك التي صورها في كتاباته عن الحداثة "الصلبة"؛ لكنه في هذه الكتب يكتب عن المخاوف التي أصبحت أكثر انتشاراً وأصعب تحديداً. في الواقع إنها باستخدام عنوان أحد كتبه، "مخاوف سائلة" - مخاوف بشأن الاعتداء الجنسي على الأطفال، على سبيل المثال، والتي هي غير متبلورة ولا يوجد لها مرجع يمكن التعرف عليه بسهولة.

يُنسب إلى باومان صياغة مصطلح "الألوسامية" Alosamia ليشمل كل من المواقف المحبة للسامية والمعادية للسامية تجاه اليهود باعتبارهم الآخرين. يُقال إن باومان تنبأ بالتأثير السياسي السلبي الذي تخلفه وسائل التواصل الاجتماعي على اختيار الناخبين من خلال إدانتها باعتبارها "فخاً" حيث "يرى الناس فقط انعكاسات وجوههم".

الفرد والمجتمع في الحداثة السائلة

انطلاقًا مما بعد الحداثة، والتأمل الفلسفي والاجتماعي لزيجمونت باومان، يفتح - من خلال تحليل ظاهرة العولمة - على المستوى الفوقي للحياة، ثم يحدد أحدث الأفكار حول الحياة السياسية، حتى يصل إلى الحداثة السائلة: التغلب على ما بعد الحداثة نفسها. ونتيجة لذلك، يصبح الفرد والمجتمع والأخلاق والسلطة والدين تلك الكلمات المشبعة بسيولة قادرة على تكثيف الجوانب الأكثر أهمية في الواقع الحالي: البعد الذي يفسح فيه الدائم المجال للعابر، والحاجة للرغبة، والضرورة للمنفعة.

يرى زيجمونت باومان وهو أحد أعظم مفسري عصرنا، أن العصر الذي يتحول إلى كتلة بلا شكل يميل إلى التغيير المستمر الذي لا هوادة فيه. إن هذه ليس العصر الحديث، ولا العصر ما بعد الحداثي، إن كان هناك أي شيء، فإن هذه الفترة يمكن تحديدها جيداً على أنها فترة الحداثة السائلة: وهو مفهوم قادر على التركيز على التحولات التي تؤثر على حياة الإنسان فيما يتعلق بتحديدات السياسة العامة للحياة. وعلاوة على ذلك، فإن الحداثة السائلة لبومان هو مصطلح يمكنه التغلب على مفهوم ما بعد الحداثة، لأنه يميل بشكل أساسي نحو العالم المعاصر: الواقع الذي تنظر فيه الحياة إلى ما هو عابر وليس دائماً، والمباشر وليس طويل الأمد؛ وتعتبر المنفعة سابقة لأي قيمة أخرى. وبالتالي فمن الأساسي أن نفهم مسبقاً وبعمق مفهوم السيولة الذي ينسج باومان حوله أحدث تأملاته الفلسفية والاجتماعية. إن الصلابة والسيولة هما السمتان المميزتان لعصرين: الحداثة وما بعد الحداثة، التي أصبحت حداثة سائلة فيما يتصل بالوجود المعاصر. إنها وجود حيث تفسح الحاجة المجال للرغبة التي تفتت الرجال في ظل التغيرات والتحولات المستمرة التي تؤثر على حياتهم، والتي تحول الهوية من حقيقة إلى مهمة: كل واحد منا يركض إلى بناء الذات، الذي يحل محل المشروع نفسه. والواقع أن العلاقة بين الفرد والمجتمع تتغير في عصرنا المعاصر لأن مفاهيم الهوية والفرد والفردية أصبحت بلا معنى.

يطالب العالم الفرد بالبحث المستمر والمثير للجدل على نحو متزايد عن الهوية وتتبع المعايير لتوحيد المعايير من أجل الحصول على "دور" الأفراد، لأن الهوية اليوم أصبحت مهمة. إن كون الفرد فرداً في المجتمع السائل لا يعني ببساطة أن يكون مستهلكاً جيداً، بل يعني أيضاً أن يكون سلعاً قادرة على المنافسة في السوق العالمية. ولا تتطلب هذه الحالة شراء "سلع الموضة" فحسب، بل وأيضاً شراء "جسد عصري" يساعد في الانتقال الكامل من التلاعب الذاتي بجسدنا، إلى الاختيار المباشر والمستقل الحقيقي للجسد الذي نريده لأطفالنا. وبناءً على هذا النمط، تؤكد رؤية باومان المستقبلية أن "كون المرء ملائماً للعالم" لن يكتفي لفترة طويلة بالجراحة التجميلية وإعادة التشكيل على أساس الطوبولوجيا التي تولدها باستمرار سياسات السوق العالمية.

ومن المهم ليس فقط شراء ما يجعلنا "ملائمين" للعالم المعاصر، بل وقبل كل شيء تغيير أنفسنا، الجزء الأقرب إلى إمكانية التلاعب والتدخل: الجسد. يصبح ذلك مساحة حرة لتشكيل الذات المرئية، لأنه إذا لم نكن قادرين على تزيين أجسادنا، فهذا يعني أننا نفتقر إلى شيء ما. إن الإدارة المستقلة لجسدنا، والمسؤولية الشخصية، التي تحمل "مسؤولية كوننا أفراداً"، تنبع من مفهوم التملك وعدم الوجود. أن يكون لديك يعني أن تمتلك لأن بعض أشكال التحكم قادرة على توليد الأمن في عالم يفتقر إلى نقاط مرجعيته الصلبة. ولهذا السبب فإن شروط التملك تقع أيضاً على جسد الإنسان المعاصر، الذي يجد فيه شكلاً من أشكال اليقين: التلاعب والسيطرة.

إن الوسائل المادية التي تعمل على ما أنت متأكد من أنه إن الاستهلاك هو وسيلة مادية تعمل على ما أنت متأكد من امتلاكه. إن الدمج والامتلاك يشكلان جزءًا من الامتلاك، والذي يتم في عصرنا من خلال الاستهلاك كما يقول "إن فعل الاستهلاك هو شكل من أشكال الامتلاك، وربما يكون الأكثر أهمية بالنسبة للمجتمع الصناعي المترف اليوم. إن الاستهلاك له سمات متناقضة: فهو يخفف من القلق، لأن ما يملكه المرء لا يمكن استعادته، ولكنه يتطلب أيضاً أن يستهلك المستهلكون بشكل متزايد، لأن الاستهلاك السابق يفقد قريباً ميزته المجزية"".

الاستهلاك الجامح

هذه الدوامة الخبيثة، التي تجري بين الامتلاك والاستهلاك، هي التأثير الأكثر وضوحاً لما يسميه باومان بالحداثة السائلة، والتي - على عكس ما بعد الحداثة - لها علاقة مستمرة بعملية التحديث، التي لها أصولها في العصر الحديث - لكنها تطول وتتكثف حتى تصل إلى سيولة عصرنا، التي تتميز بالاستهلاك الجامح. وفي التقارب بين الهوية والاستهلاك تكمن إحدى السمات الرئيسية لعصرنا، لأن المجتمع المعاصر يتعامل مع أعضائه في المقام الأول كمستهلكين، وفي المرتبة الثانية فقط، وجزئياً يشركهم أيضاً كمنتجين. وللوفاء بمعايير الحياة الطبيعية والاعتراف بنا كأعضاء ناضجين ومحترمين في المجتمع، يجب أن نستجيب بسرعة وفعالية لإغراءات سوق السلع الاستهلاكية. إننا في حاجة إلى تقديم مساهمة منتظمة للطلب تصلح لاستيعاب العرض، وفي مراحل انعكاس أو ركود الاقتصاد، يتعين علينا أن نشارك في التعافي الذي يقوده المستهلكون. إن الفقراء والعاطلين عن العمل، أولئك الذين لا يملكون دخلاً لائقاً، أو بطاقات ائتمان، أو أملاً في أيام أفضل، ليسوا على قدر هذه المتطلبات. وبالتالي فإن القاعدة التي يكسرها الفقراء اليوم، وانتهاك هذه القاعدة يميزهم ويضعهم في خانة غير الطبيعيين، هي معيار الكفاءة أو اللياقة كمستهلكين، وليس معيار التوظيف. إن الفقراء اليوم (أي أولئك الذين يشكلون مشكلة للآخرين) هم في المقام الأول مستهلكون وليسوا عاطلين عن العمل. إنهم يتحددون في المقام الأول بحقيقة كونهم مستهلكين سيئين: والواقع أن أبسط الالتزامات الاجتماعية، التي لا يلتزمون بها، هي واجب كونهم مشترين نشطين وفعالين للسلع والخدمات التي تقدمها السوق".

وهذا يعني أنه إذا كان الاستهلاك في العصر الحديث يؤدي وظيفة نشاط ثانوي مقارنة بالإنتاج، فإن قدرة الشخص على الاستهلاك في العالم المعاصر تحدد اندماجه الاجتماعي في مجتمع لم يعد يقتصر على السياق المحلي أو على حجم الوجود اليومي، بل في مجتمع كلي يتطلب متطلبات دخول دقيقة ومحددة. ويقع الوصول مباشرة على عاتق الفرد، الذي يفضل، من أجل بناء فرديته، استثمار موارده الاقتصادية المتاحة لشراء تلك الوسائل المناسبة لتصنيف وتحديث وإدخال من يهمه الأمر في قائمة من يهمه الأمر.

 وعلاوة على ذلك، في فترة الأزمة الاقتصادية الحادة تظهر إحصاءات أخرى بأن الاستهلاك الأولي، الذي يشير إلى الضروريات الأساسية، يتم وضعه جانباً لشراء منتجات التكنولوجيا المتقدمة والملابس ومستحضرات التجميل. إن هذه المنتجات تهدف إلى تحديث الجسد وفقاً للمعايير الدنيا المطلوبة ليكون "داخلياً"، أي اكتساب وضع اجتماعي لا يميز، إن وجد، بين كل أولئك الذين يبدو أنهم قادرون على تحديث أنفسهم، بغض النظر عن القدرة الإنتاجية الاجتماعية والدور الذي يمكن أن يلعبه كل فرد.

يبدو أن الاستهلاك اليوم نشاط متجانس، ووفقاً لبومان، فهو وسيلة لقياس مدى قدرة الشخص - في المجتمع السائل - على أن يكون فرداً. وعلى هذا المفهوم، يبني بومان فكره حول الفرد والمجتمع، والذي يسير على خطين رئيسيين. يتجسد الأول في فكرة مفادها أن غزو الهوية في العالم السائل يسير جنباً إلى جنب مع الالتزام بقواعد مجتمع المستهلكين الذي توجهه سياسات السوق العالمية: فكون المرء فرداً يعادل كونه مستهلكاً. ولكن الخط الثاني، الذي يذهب إلى أبعد من ذلك الاعتبار، يتوسع ليشمل الفرد في المنتجات.

إن العلاقة بين الفرد والذات، وكذلك بين الفرد والآخرين، تكتسب من خلال فكر باومان معنى جديداً، يقوم على تحول أنثروبولوجي حقيقي. إن كون المرء فرداً وكونه مستهلكاً يصبحان في الواقع أكثر التحديدات عمومية للفرد الذي يتأثر بالآثار الأكثر إشكالية لعملية إزالة الطابع الاجتماعي، التي بدأت بالعولمة، والتي وصلت الآن إلى واحدة من أكثر مراحلها حدة وتطرفاً. إن التجميع والتنظيم الاجتماعيين محرومان من مهامهما التقليدية: فهما يتوقفان عن أن يكونا أبعاداً هوية للذات قادرة على توفير مجموعة من المعايير والنقاط المرجعية. ويصبح الفرد وحدة معزولة تبحث دائماً عن أشكال جديدة من الحياة.

إن التنشئة الاجتماعية، التي تعمل بدلاً من توفير الأمان والرفاهية، على توسيع الفجوة بين الإنسان والذات وبين الإنسان والآخر. إنها نظام اجتماعي ـ على الرغم من امتلاكه لوسائل مبتكرة بشكل متزايد للتواصل والتفاعل ـ مع زملائه ـ يولد عدم الراحة والوحدة، ـ ويرجع هذا في الأساس إلى أن نجل الفردية الشبكية ـ "نموذج اجتماعي، وليس مجموعة من الأفراد المنعزلين"، وذلك لأن "الدور الأكثر أهمية للإنترنت في هيكلة العلاقات الاجتماعية هو المساهمة في النموذج الجديد للتواصل الاجتماعي القائم على الفردية. ويتزايد عدد الأشخاص المنظمين في شبكات اجتماعية، يتواصلون عبر الحاسوب. وبالتالي، فليس الإنترنت هو الذي يخلق ـ نموذجاً للفردية الشبكية، بل إن تطوير الإنترنت هو الذي يوفر الدعم المادي الكافي ـ لنشر الفردية في الشبكة باعتبارها الشكل السائد ـ من أشكال التنشئة الاجتماعية عبر الإنترنت".

وينشأ هذا الشكل الجديد كمصفوفة لتحديث الهوية المطلوب من قبل العالم العالمي من أجل "الشمول"، حيث إن الحاجة إلى الشمول ليست أكثر من إرث التخلي عن الشعور الأصيل بالانتماء. والواقع أن الانتماء يتسم بأنه شعور إنساني طبيعي، والذي، بعد قمعه في الوقت الحاضر - يتجلى في أشكال بديلة من التجمع الاجتماعي الافتراضي التي تمثل محاولة لإشباع القدرة الطبيعية على الاختلاط البشري. والواقع أن مجتمع المستهلكين لا يتجمع، على أي حال، بل يتفكك ويتحول الجماعات إلى وحدات منعزلة، ذات روابط ضعيفة ومجزأة، حيث يتبلور الفرد بين البحث عن الذات والفوضى في اللا-ذات. إن فكرة المجتمع لا تزال باقية من حيث الاتجاهات المشتركة التي يجب اتباعها، حيث يتم توجيه المجموعات بشكل مجهول تقريباً في السعي وراء تلك "السعادة"، والتي تم تصميم آثارها من قبل جهات خارجية. وفقاً لبومان، فإن هذا هو مراجعة وتنقيح "التضامن الميكانيكي" عند دوركهايم، والذي تميزه خصائصه عن التضامن "العضوي". يتم استبدال تفرد الفرد وتميزه بتدفق احتياجات المجموعة، والتي - في عالمنا المعاصر - تبدو وكأنها تتخذ مظهر سرب.

أسراب استهلاكية

 في التمييز بين السرب والمجموعة، يحدد بومان التغييرات الجذرية التي تؤثر على الفرد والمجتمع في الواقع الاستهلاكي السائل، حيث "يميل السرب إلى استبدال المجموعة وقادتها وتسلسلها الهرمي و"ترتيبها الهرمي". "إن السرب يستطيع الاستغناء عن كل الطقوس والحيل التي لولاها لما تمكن من التشكل أو البقاء. فهو يتجمع ويتفرق ويتجمع من جديد من مناسبة إلى أخرى، وفي كل مرة لا محالة لسبب مختلف، وينجذب إلى أهداف متغيرة. إن القوة المغرية للأهداف المتحركة تشكل قاعدة كافية لتنسيق الحركات، وهذا يكفي لجعل أي أمر آخر أو فرض من أعلى غير ضروري. والواقع أن الأسراب لا تملك حتى أعلى وأسفل: بل لديها فقط اتجاه لحظي للطيران لوضع وحدات السرب (التي تعمل بالدفع الذاتي) في موضع القائد أو التابع، وعادة ما يكون ذلك لمدة طيران معينة، أو حتى جزء منها. وحتى التسلسلات الهرمية التقليدية التي تولد النظام تذوب وتصبح نواة قوية لا تنتهك يستطيع الفرد أن يجد نفسه فيها، ويوجه رغباته ويحد منها. وهذا يعني أن كل فرصة لمخاطبة الإنسان تنهار. وبالتالي يُنظَر إلى الفرد باعتباره وحدة لحظية من السرب العابر ويحركه التيار العابر. وهذا بُعد مشبع بأمن وهمي يتمثل في الاختيار الحر الأمثل لأنه اختيار عدد كبير من الناس. والاختيار هو ما يتجمع في عالم سائل، لأن هذه المساحات لابد أن تُعاد النظر فيها وإعادة تصميمها وفقاً لقواعد معينة قادرة على تشكيل المجتمعات التي يستطيع الفرد ـ المستهلك ـ أن يجد فيها ويحقق شعوره بالانتماء. وتبدو مراكز التسوق وكأنها خلايا أسراب من بومان، باعتبارها تقدم المجتمع المتخيل المثالي: مكاناً حيث تتجمع أغراض الشراء. "وبالتالي فإن ""أماكن التسوق/الاستهلاك تقدم ما لا يمكن لأي "واقع حقيقي" خارجي أن يقدمه: توازن شبه مثالي بين الحرية والأمن. وداخل معابدها قد يجد المشترون/المستهلكون أيضاً ما كانوا يبحثون عنه في الخارج، بلا جدوى وبلا ينضب: الشعور المريح بالانتماء، والانطباع المطمئن بأنهم جزء من مجتمع.

إن المشاركة هي إحدى الطرق التي يصبح بها الاستهلاك نشاطاً أساسياً للإنسان المعاصر، وخاصة مبدأ إدماج واستبعاد الذات. وعلاوة على ذلك، بهذا المعنى، يتتبع باومان استراتيجية أكل الإنسان التي نظّر لها عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي " كلود ليفي شتراوس" Claude Levi-Strauss إذ كانت ممارسة القضاء على الاختلافات بين الأفراد، والتي يتم إعادة إنتاجها في السوبر ماركت: الأماكن المميزة للمستهلكين، إن الأماكن التي تتغذى على الإنسان تتناقض في الواقع مع الأماكن "الأنثروبولوجية"، والتي تتألف من تقيؤ وبصق الآخرين، واعتبارهم غرباء لا علاج لهم، ومنع الاتصال الجسدي، والحوار، والعلاقات الاجتماعية، وأي نوع من أنواع التجارة، أو التشارك، أو الزواج. إن المتغيرات المتطرفة لهذه الاستراتيجية الأنثروبولوجية هي، اليوم كما كانت دائماً، السجن، والترحيل، والقمع الجسدي. وهناك شكلان محدثان، ومُحسَّنان هما الفصل المكاني، والأحياء الفقيرة الحضرية، والوصول الانتقائي إلى الفضاءات. وتتألف الاستراتيجية الثانية مما يسمى "نزع الاغتراب" عن المواد الغريبة: "عن طريق البلع" و"أكل" الأجسام والأرواح الغريبة لجعلها، من خلال التمثيل الغذائي، متطابقة ولا يمكن تمييزها عن الجسم الذي يبتلعها". وبالتالي يصبح الاستهلاك وسيلة بديلة للتجمع الاجتماعي، والتي تحل محل الشعور بالانتماء بالحاجة إلى الإدماج. وتستبعد هذه العملية حتماً أولئك الذين لا يمتلكون الوسائل المناسبة لأداء هذا النشاط، والذي يظل في الواقع منعزلاً في الأساس.

هنا في هذه اللعبة من المظاهر والاستنساخ، تفسح المجموعة الطريق للسرب، الذي يفقد في الدوامة الجماعية ذلك الشعور الأصيل بالانتماء الذي يجعل كل إنسان عضواً في المجتمع، حيث يؤدي - على حد قول دوركهايم - الثنائية الطبيعية للموضوع: حيوان بشخصية اجتماعية، واتحاد الغريزة والعقل، والذات والعالم.

بدءاً بالشيوعية ومن ثم الانتقال إلى الغرب، ورؤية الجوانب المختلفة للحداثة عن كثب لم يشعر بومان بأنه في بيته في أي من هذه المراحل. الحداثة هي مكان القتل الجماعي. وبينما كان يقدم مبرراً مشروعاً لتدمير الأمة، كان لديه انطباع بأنه وجد الحل فيما بعد الحداثة. على الرغم من أن بومان رأى في البداية أن ما بعد الحداثة هي الحل، إلا أنه استخدمها لاحقاً في أعماله لينتقد ما بعد الحداثة بقسوة. ما بعد الحداثة، التي يراها نسخة لامعة من الحداثة التي كثيراً ما يذكرها في أعماله مرتبطة بعدم اليقين وانعدام الأمن، وخلق الخوف لدى الأفراد.

***

د. حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

 

بقلم: انيا ستانبوير

ترجمة أ. م. د ليث أثير يوسف

***

What You Need to Read Before You Read Kant

22nd April 2024 is the 300th birthday of Immanuel Kant. Anja Steinbauer introduces the man and gets you ready for his three Critiques.

مقالة بمناسبة الذكرة السنوية (300 سنة) لوفاة الفيلسوف ايمانويل كانط، بقلم الاستاذة انيا ستانبوير استاذة الفلسفة واحد منقحي موقع الفلسفة الان  Philosohy Now الشهير

***

تمر علينا الذكرى السنوية لوفاة الفيلسوف ايمانويل كانط وقد تعودنا في مرحلة الدراسات الأولية، وعندما يطلب أحد الطلبة المبتدئين نصيحة منك حول احد الكتب الممهدة لفهم الفلسفة سيجيبه أستاذي القديم كتاب (نقد العقل الخالص) وللوهلة الأولى يبدو للبعض إن هذا الأمر سخيفاً فنصوص كانط ولاسيما أعماله المتأخرة عسيرة الفهم، وربما الكثير من القراء يتحاشاها بل حتى صديق كانط موسى مندلسون وهو أحد أعظم مفكري القرن الثامن عشر أعلن صراحة ان نقد العقل الخالص نفسه ب" كتاب يرهق الأعصاب" ومع ذلك أعتقد إن أستاذي القديم كان على حق فبمجرد ان تستهل تلك النصوص بقراءتها تجدها نصوصا مفيدة لتعلم المنهجية الصحيحة للتفلسف، وتحفزك على التصارع معها والاختلاف معها فهي نصوص منهجية ونقدية على نحو مرض، إذاً كيف تبدأ ؟ أرى من المفيد قبل القراءة إن تعرف القليل عن خلفية ذلك الفيلسوف واهتماماته وطريقة تفكيره بالإضافة إلى المفاهيم التي كان يستخدمها في نصوصه .

من الشائع إن أغلب مفكري وفلاسفة عصر التنوير كانوا أثرياء على عكس ايمانويل كانط الذي نشأ بين تسعة أطفال لاب فقير كان يصنع اللجام وكان اقتصاديا وزاهدا بل كانت عائلته تمتاز بالتقوى، وهي جزء من حركة دينية إصلاحية ظهرت في القرن السابع عشر، وكانت تهدف إلى إحياء الشعائر البروتستانتية وإحداث إصلاح في الكنيسة، لم يكن كانط متدينا حين بلغ أشده، وهذا ماأثار السخط تجاه سلوكه هذا، وكانت أصابع الاتهام دائما موجهة إليه، ولكنه كان يقابلها بسلوكه الهادئ والعقلاني الإيجابي يرافقه سلوك مليء بالتقوى والزهد، وهو يذكرنا ب" الحكيم الرواقي" وقد اعترف نفسه بأن هذا السلوك اقتبسه، وتعلمه من والدته التي اتسمت بفضائلها الأخلاقية العالية، وبدعم من الأصدقاء والمقربون الذين اكتشفوا موهبة كانط تم دفع الرسوم الدراسية من قبلهم وارسلوه الى مدارس جديدة نموذجية كانت تتميز بالصرامة ومناهجها وطريقة تدريسها كان جافاً بل لاتلبي حاجات المبتدئين في طرح الاسئلة الفلسفية ولاتكترث لمثل هذه التساؤلات ولكن مع ذلك بقي كانط فضويا ومفكراً وتم تسجيله كطالب في الجامعة وأستطاع الانفاق على نفسه من خلال العمل كمحاضر وايضا الكسب من خلال المراهنات في لعبة البليارد فقد كان بارعا فيها وهذه مكنته وأعانته في فترة حياته المبكرة وفي سن السادسة والاربعين حصل أخيرا على درجة الاستاذية في تخصص المنطق والميتافيزيقا التي كان يتوق اليها وهي ماأنعشت حياته الاقتصادية .

عاش كانط طوال حياته في كونجسبرغ .التي كانت في ذلك الوقت مركزا تجاريا صاخبا في منطقة بروسيا وكان لديه اصدقاء متنوعين وأفضلهم كان تاجرا انجليزيا مهاجرا يُدعى جرين، أما بالنسبة لطلابه فهم متنوعون ايضا كانوا يقدمون من بروسيا والولايات الالمانية داخلها وخارجها وحتى من روسيا ودول البلطيق وبولندا، وعلى الرغم من كانط قد كرس جل وقته للعمل الاكاديمي لكنه لم يغفل حياته وتواصله الاجتماعي فقد كان يتناول غدائه من اصدقاءه ويمارس لعبة البليارد ولعبة الورق ويتابع المسرحيات وهذا الجو الممتع بالطبع حدث نتيجة لتغير الحياة الثقافية اثناء الاحتلال الروسي لكونجسبرغ (1758-1762) وجعلها اكثر ليبرالية واقل صرامة للحياة الاجتماعية وأكثر رفاهية وانفتاحا على الحياة العصرية.

نشر كانط في وقت مبكر من عام 1755 كتاباً اسماه (The General Natural History and Theory of the Heavens) (التاريخ الطبيعي العام ونظرية السموات)، طرح فيه تفسيرا ميكانيكياً لبداية الكون وكان في وقته مثيرا للنقاشات العلمية الفلكية، أما كتبه حول الدين فقد واجه فيها مشكلة مع السلطة كون النظام السياسي القديم الذي كان يشجع على نقد الدين بزعامة الحكام التنويريين مثل فريدريش فيلهلم الأول وفريدريك الكبير قد انتهى وبدأ عصر جديد مع عهد فريدريش فيلهلم الثاني الذي كان متشدداً ولفترة طويلة من الزمن كانت هناك شائعات بأن فيلسوفنا قد تم نفيه أو تكميم فاه وفقدان حقه في النشر ولكن هذا الامر لم يحدث حقيقة ولكن الذي حدث فعلا هو في تلقي كانط تحذيراً شديد اللهجة من الملك شخصيا والذي اتهمه بإساءه استخدام منصبه كمربي للعقول الشابة وتحريضهم على الاساءة لتعاليم الكنيسة وقد أنكر كانط جميع هذه الاتهامات ولكنه في الوقت نفسه وعد بعدم نشر اي كتابات اخرى حول الدين طوال فترة حكم الملك وبعد وفاة الملك نشر كانط افكاراً اكثر انتقادا للدين وفي عام 1796 وعن عمر ناهز ال 73 عاما القى كانط محاضرته الاخيرة .

كتب كانط النقدية الثلاثة

بعد عقود من الانغماس في العلوم والفلسفة والموضوعات الاخرى بدأ كانط مشروعه النقدي (Critical) فبمجرد ان بدأ بمشروعه الاول (نقد العقل الخالص) تغير اسلوب حياته وتحول من مثقف شجاع اجتماعي الى استاذ منعزل يتبع حياة صارمة يسودها الدقة والانضباط الذاتي المتصاعد، ويًشار الى فلسفة كانط بـ (المتعالية) (transcendental) وهذا المصطلح بحد ذاته لا يعني (ما وراء) أو بطريقة ما عالم اخر بل الكلمة هنا لها معنى تقني، فهي تشير الى البحث في (الشروط اللازمة لإمكانية حدوث ذلك) وبمعنى اخر في كتاب نقد العقل الخالص يتساءل كانط قائلا :مالذي نحتاجه في بحثنا لكي نصل الى معرفة ممكنة ؟"، هنالك فلاسفة اخرون طرحوا تساؤلات حول :ما هو محتوى معارفنا ؟وماذا يمكننا أن نعرف ؟لكن على النقيض من ذلك يتساءل كانط هنا حول الشروط المسبقة للمعرفة الانسانية وبنفس الوقت كرر الامر ذاته في كتابه نقد العقل العملي فيسال كانط عن شروط الاخلاق وفي نقد الحكم في شروط الجمال وغيرها في تطبيقات الحكم (judgment) .

السؤال هنا لماذا تحمل الكتب الكانطية الثلاثة اسم (نقد) فماذا كانت تلك الكتب الثلاثة تنتقد ولماذا ؟ .انها انعكاس نقدي لحدود امكانية العقل وهذا بالطبع المذهب العقلي الذي استقاه كانط من المدرسة العقلية التي ترأسها لايبنز ونقحها كريستيان وولف .فالفلاسفة العقليون يعتقدون بأن المعرفة تنبع من العقل وقد بدأت عند كانط الشكوك حول دقة هذا الاعتقاد قبل سنوات من فترة الانقلاب النقدي لديه وبالتحديد عندما قرأ كتب ديفيد هيوم التي أيقظته تماما من سباته الدوغمائي . وأصبحت العقلانية أو المذهب العقلاني ضربا من ضروب الدوغمائية بينما كان يشير الى هيوم وتعاليمه بأنها (تجريبية شكية) فالفلاسفة التجريبيون على النقيض من الفلاسفة العقلانيون يعتقدون المعرفة تنبع من التجربة وحدها ومن المفيد هنا التمييز بين العقل والفهم فالعقل هو قابلية البشر على التفكير المنطقي وهذا الامر لايرتبط بالذكاء كون الفرد متعلما أو غير ذلك وهناك طرق تتيح تحسين مهاراتك في التفكير ويعتقد كانط ان هذه القدرة يمتلكها كل البشر لذلك لايوجد استثناء فالكل قادر على التفكير بعقلانية ويعني بالقدرة هنا استنتاج النتائج من الاسباب وتجنب الوقوع في المغالطات مثل قلب ونقض النتائج لذا فالعقل هو ما نستخدمه بالتفكير بشكل جيد بمعزل عن التجربة على عكس الفهم الذي يرتبط بالواقع وفهمه وتفسيره الذي يرتبط بالتجربة فالأول يرتبط بالطور الفطري أو القبلي (apriori) والاخر اي الفهم يرتبط بالطور البعدي (aposteriori) اي بعد التجربة والغريب هنا ان كانط يقول بأن العقل ليس شرطاً كافيا للمعرفة فهي يعتقد بأننا بحاجة الى مدخلات من العالم لامتلاك المعرفة لذا فأن الفهم والطرق المعقدة التي يعمل بها العقل ويتفاعل مع الحواس والعالم الخارجي هي التي تمنحنا المعرفة فالمعرفة امر لاحق وأي محاولة للحصول على المعرفة عن طريق العقل وحده ستودي بنا الى الغرق بالظلام والتناقضات وفي مجال الاخلاق في كتابه نقد العقل العملي يعتقد كانط اننا نستخدم العقل لنكون احراراً في تفكيرنا حول المباديء الاخلاقية (القبلية) .

السؤال هنا لماذا عمد كانط الى وضع ثلاث كتب نقدية بدلا من اثنين؟ من السهل هنا ملاحظة الفرق بين نقد العقل النظري والعقل العملي ففي الكتاب الاول استكشف كانط كل مانحتاجه لاكتساب المعرفة وبنفس الطريقة طبق ذلك على الاخلاق في كتابه نقد العقل العملي الذي يعمل بطريقة مختلفة فمالذي سيفعله بالكتاب الثالث نقد ملكة الحكم؟ انه موجود للتوسط بين عوالم النقدين الاخرين فعند قراءتها يبدو عالم الخبرة الحسية والعالم الاخلاقي، الطبيعة والحرية منفصلين فالحكم هنا قدرة انسانية تجمع بين الاثنين والحكم هنا قدرة انسانية تدمجهما معا فالحكم الجمالي يختلف عن الحكم المعرفي مثل قولنا ان الوردة حمراء وقولنا ان الوردة جميلة وبنفس الوقت يختلف الحكم في وضع البيان الاخلاقي فالأحكام الجمالية تتطلب منا الاهتمام بالطبيعة والخبرة الحسية واستخدام الحرية الانسانية والخيال الذاتي .

السؤال هنا لماذا الكتب النقدية الثلاثة مهمة وستظل كذلك ؟ ولماذا اعتقد شوبنهاور ان نقد العقل الخالص هو اهم كتاب في اوربا على الاطلاق ؟ ولماذا شعر كوليريدج، عند قراءته، بأنه "مكتوب بإحكام " ؟هل لأن كانط كان على حق في كل ما ذكره في كتبه الثلاثة ؟ بالطبع لا.  فالبحث الفلسفي لا يقر بأن هناك فلسفة مانعة جامعة فالكثير من الفلاسفة اعترضوا على النتائج التي توصل اليها كانط في حقل الاخلاق وقوله انها مبنية على قواعد يجب على كل شخص ان يختارها بنفسه وبحرية وأنه يجب ان يطيعها بشكل قاطع، إن ما يسمى بالضرورات أو الاوامر القاطعة (categorical imperatives) هي ملزمة سلفاً بغض النظر عن احوالها ومع ذلك يحق للبعض الاعتراض حول طبيعة الاخلاق والتفكير الاخلاقي عند كان فمن خلال المناقشات الفلسفية حول هذ الامر تبين لنا ان هذا النظام الاخلاقي الكانطي من الصعب إتباعه في حياتنا اليومية وبنفس الوقت لا نستطيع تجاهله في موضوع الاخلاق الفلسفية وينطبق نفس الشيء على نقد العقل الخالص والاطروحات التي ذُكرت في هذا الكتاب وغيرت افكارنا تجاه الميتافيزيقا ونظرية المعرفة، وأخيرا يُعد كتاب نقد ملكة الحكم عملا رائداً ومتميزاً في وضع الاسس الجمالية الفلسفية والتي لاتزال صحيحة حتى اليوم وربما نحن لا نتوقع ان يقدم لنا اي كتاب فلسفي اجابات نهائية حول تساؤلاتنا ولكن من المفيد قراءته كونه يفتح وجهات نظر جديدة تجعل الكثير من تلك التساؤلات ممكنة .

الان هل أنت جاهز !

الان لديك فكرة اساسية حول فلسفة كانت ومشاريعه لذا فأنت في مكان جيد للبدء في قراءته، وحتى انتقاداته الصعبة فكل شيء ستحتاجه سيتعين عليك احضاره الى الحفلة بنفسك .إن قراءه الفلسفة هي عملية بطيئة ويجب ان تكون كذلك لذا فالصبر هو احد الاشياء التي لا تستطيع الاستغناء عنها، يدعونا كانط مثل العديد من الفلاسفة العظماء الى الانخراط بشكل نقدي في افكاره لذا كن مستعداً للتفكير وبكامل نشاطك وأخيرا اتخذ قرارك بشأن قيمة مساهمة كانط الفلسفية في زماننا .أفعل ذلك بطريقة مستنيرة ومعقولة وقم بعملك مثلما فعل كانط.

***

الجامعة المستنصرية - قسم الفلسفة

22-4-2024

مقدمة: لقد أصبح العلم جانبًا أساسيًا من جوانب المجتمع الحديث، مما يسمح لنا باكتساب معرفة أكبر بالعالم من حولنا وتطوير تقنيات جديدة لحل المشكلات المعقدة. ومع ذلك، فإن ممارسة العلوم ليست بهذه البساطة كما يبدو. يعتمد العلم على فرضيات وأفكار وإجراءات محددة تتأثر بإطار فلسفي أوسع يعرف بالفلسفة العلمية. تهتم فلسفة العلم بأسس العلم وأساليبه ونتائجه. انها نظام فلسفي يدرس موضوعات مثل ماهية العلم، وكيف يعمل، وما الذي يميز المعرفة العلمية عن أنواع المعرفة الأخرى، وما هي حدود البحث العلمي؟. فلسفة العلم هي أحد الفروع التقليدية للفلسفة. يمكننا تعريف فلسفة العلم، أو نظرية المعرفة، بأنها هذا النظام الذي يسعى للإجابة على السؤال: ماذا يمكنني أن أعرف؟ وكيف؟ فمن يسعى إلى تحديد حدود المعرفة؟. إنها مسألة استخلاص قوانين من دراسة تاريخ العلم، أو العقل البشري، تسمح لنا بالإجابة على هذا السؤال. ان فلسفة العلم هي دراسة فرضيات وأسس ونتائج البحث العلمي. وتدرس فروع العلوم المختلفة وبنيتها الأساسية. الأسئلة المركزية هي "ما هو العلم؟" و"ما الذي ليس علمًا؟" وكذلك "ما الذي يميز العلم؟" و"كيف نحقق التقدم العلمي؟". فماهي التحولات التاريخية والمعرفية التي حدث في فلسفة العلوم؟

تاريخ فلسفة العلوم

تاريخ فلسفة العلوم له جذوره في الفلسفة وظهر كنظام مستقل خلال القرن التاسع عشر. يعتبر أوغست كونت وجون ستيوارت ميل من الأفراد المهمينين في ظهور هذا التخصص، على الرغم من أن فلاسفة مثل كوبرنيك وبيكون وجاليلي وكبلر طوروا أفكارًا مهمة وحاسمة في موضوعات ذات صلة.

الحقيقة والواقع

يمكن اعتبار فلسفة العلم وسيلة لوصف ممارسة البحث وطريقة لتحديد كيفية تنفيذها. كيف يرتبط العالم الحقيقي والبيانات التجريبية والنماذج والنظريات ببعضها البعض، وما الذي يمكن فعله لتحسين علاقتها؟

ان العلاقة بين الحقيقة والنظرية هي جوهر العلم، فهي تحدد ما إذا كانت النظرية مقبولة كواقع. إن الجدل بين الواقعية واللاواقعية هو جدل فلسفي علمي، فهو يستكشف أسس الحقائق العلمية المقبولة بشكل عام.  الاختزال العلمي فكرة مثيرة للجدل في فلسفة العلم. في هذا النموذج، يختزل العلم التفاعلات والكيانات المعقدة إلى مجموع الأجزاء المكونة لها. فما هي فلسفة العلم؟

فلسفة العلم هي نظام فلسفي يهدف إلى فهم طبيعة العلم وأساليبه وعواقبه. يدرس العلاقة بين الأفكار والنماذج والبيانات العلمية، والافتراضات والمفاهيم الأساسية التي يقوم عليها النشاط العلمي. في جوهرها، تدرس فلسفة العلم الاهتمامات الأساسية حول طبيعة المعرفة العلمية من خلال طرح أسئلة مثل هذه:

* ما هو العلم وكيف يختلف عن أنواع المعرفة الأخرى؟

* ما هي المتطلبات الأساسية للمعرفة العلمية وكيف يتم تبرير الادعاءات العلمية؟

* لماذا يستمر العلماء في الاعتماد على النماذج والمفاهيم التي يعرفون أنها خاطئة جزئياً على الأقل؟ فيزياء نيوتن مثلا.

* ما هي حدود البحث العلمي؟ وكيف نستخدم البيانات التجريبية لاختبار الفرضيات العلمية؟

* كيف تؤثر الجوانب الاجتماعية والسياسية والتاريخية على البحث العلمي؟ وكيف تحدد هذه العناصر تطور المعرفة العلمية؟

* ما هو القانون الطبيعي؟ هل هناك تخصصات غير مادية مثل علم الأحياء وعلم النفس؟

تعتمد فلسفة العلم على تقاليد فلسفية مختلفة لمعالجة هذه القضايا، بما في ذلك نظرية المعرفة والتجريبية والأخلاق وغيرها. كما أنها تشارك أيضًا في الممارسة العلمية، وتتعاون بشكل متكرر مع العلماء لإنشاء وتحسين الأفكار والمنهجيات. لذلك تعد العلاقة بين النظرية والبرهان موضوعًا مهمًا للدراسة في فلسفة العلوم. تسعى النظريات والنماذج العلمية إلى تفسير الأحداث التي يمكن ملاحظتها، ولكن قيمتها النهائية تتحدد من خلال قدرتها على تقديم تنبؤات دقيقة وتحمل الاختبارات التجريبية. كما تدرس فلسفة العلوم كيفية تطوير الفرضيات واختبارها وتقييمها لتحديد ما إذا كانت صحيحة أم خاطئة بناءً على الأدلة التجريبية. تعد أهمية الجوانب الاجتماعية والتاريخية والنفسية في الدراسة العلمية موضوعًا بحثيًا مهمًا آخر في فلسفة العلوم. وبعيدًا عن الحقائق العلمية البحتة، يتأثر العلماء بالتحيزات الثقافية، والأعراف الاجتماعية، والظروف التاريخية والعوامل النفسية. وتحلل فلسفة العلم تأثير هذه العناصر على البحث العلمي وكيف يمكن أن تؤثر على إنتاج المعرفة العلمية وقبولها في المجتمع.

فروع فلسفة العلوم

فلسفة العلوم هي مجال واسع يتضمن مجموعة من التخصصات الفرعية والأساليب الجزئية. والآن بعد أن أجاب المقال على السؤال الأساسي "ما هي فلسفة العلم؟"، حان وقت التطرق إلى فروعها:

نظرية المعرفة او الابستيمولوجيا

نظرية المعرفة هي مجال فلسفي يدرس طبيعة المعرفة وكيفية الحصول عليها. تهتم نظرية المعرفة بالمسائل المتعلقة بطبيعة المعرفة العلمية، والتقنيات المستخدمة للحصول عليها، والمعايير المستخدمة لتقييم الادعاءات العلمية.

التجريبية

وهو منهج فلسفي يؤكد على أهمية الأدلة التجريبية في تطوير المعرفة. تهتم التجريبية بأهمية الملاحظة والتجريب في البحث العلمي، فضلا عن مدى إمكانية تبرير الفرضيات العلمية على أساس الأدلة التجريبية.

المعيارية

يتناول هذا النوع من الفلسفة القضايا المتعلقة بالصواب والخطأ، والمثل الأخلاقية التي توجه العمل البشري، وبشكل أساسي الآثار الأخلاقية للبحث العلمي والواجبات المجتمعية للعلماء.

الاستقراء

تُعرف عملية الاستدلال من ملاحظات محددة إلى استنتاجات أوسع باسم الاستقراء، وهو مشكلة تبرير الاستدلال من ملاحظات محددة إلى قواعد أو فرضيات كونية. يعد الاستدلال الاستقرائي جانبًا حاسمًا من جوانب البحث العلمي، ولكنه يخضع أيضًا للنقد والنقاش.

الاستنتاج

الاستنتاج يشبه إلى حد كبير الاستدلال الاستقرائي، على الرغم من أنه غالبًا ما يعتبر أكثر صرامة من الأخير. يستخدم الاستنباط لاختبار الأفكار العلمية عن طريق وضع تنبؤات أو فرضيات محددة بناءً على تلك الأفكار.

التحولات النموذجية والثورات العلمية

اقترح توماس كون مفاهيم التحول النموذجي والثورة العلمية في كتابه "بنية الثورات العلمية".

اقترح كون أن التطور العلمي يحدث على مرحلتين: العلم العادي، حيث يعمل العلماء ضمن إطار نظري أو نموذج معين، والثورة العلمية، حيث ينشأ نموذج جديد ليحل محل النموذج السابق.

تؤدي التحولات النموذجية والثورات العلمية إلى تغييرات في الافتراضات والمفاهيم والمنهجيات الأساسية للتخصص العلمي.

النماذج العلمية

النموذج العلمي هو إطار يحتوي على جميع الأفكار المقبولة بشكل عام حول موضوع ما. اقترح الفيلسوف توماس كون أن البحث العلمي لا يتقدم نحو الحقيقة ولكنه يخضع للعقيدة والسعي العقيم للنظريات القديمة.

الثورة العلمية

إن الثورة العلمية، وهي التغيير الذي يغير تماما الطريقة التي ينظر بها العلم إلى العالم، غالبا ما يشار إليها على أنها نقلة نوعية. ومن الأمثلة على التحول النموذجي اكتشاف النظرية النسبية مع اينشتاين التي أحدثت ثورة في فهم الفيزياء المعاصرة بين البشر.

التنظير

غالبًا ما توصف شفرة أوكام بأنها "أبسط إجابة هي الصحيحة في أغلب الأحيان". يتعلق الأمر بتجريد المعلومات لتسهيل اكتشاف الحقيقة. يتيح استخدام شفرة أوكام للباحث دراسة أبسط النظريات أولاً. من الطبيعي جمع البيانات التي تدعم النظرية عند إجراء البحوث. في بعض الأحيان يكون الباحثون مشغولين باختبار نظريتهم لدرجة أنهم ينسون أخذ الملاحظات التي تتعارض مع النظرية بعين الاعتبار. يُشار إلى هذا غالبًا على أنه خطأ في التحقق. يمكن أن يحدث هذا عندما يكون أحد العلماء مرتبطًا بشكل مفرط بنظرية ما، غالبًا لأنه "اخترعها". غالبًا ما يُفضل تزييف النظرية. يحاول العالم التوسع في النظرية بتنبؤات جريئة وقابلة للاختبار. العلماء أكثر عرضة لتزييف نظريتهم ويميلون إلى تكييف النظرية مع الواقع، بدلا من تكييف الواقع مع نظرياتهم. يؤدي القيام بذلك غالبًا إلى صياغة نظريات بطريقة تؤكد "كل شيء". غالبًا ما يستخدم الباحثون فرضية بحثية لجعل علومهم قابلة للاختبار. ومع ذلك، فإن التحليل المخصص هو نوع من الفرضيات الإضافية التي تتم إضافتها إلى نتائج التجربة في محاولة لشرح الأدلة المخالفة. أثناء إجراء بحث، قد يكون من المفيد تذكر أن دقة النظرية لا تعتمد على معتقدات الباحث - فهي ليست أكثر أو أقل صحة، بغض النظر عن مدى الاعتقاد بها.

تعريف العلم وغير العلم

مشكلة ترسيم الحدود، التي تشير إلى صعوبة التمييز بين المعتقدات والتقنيات والممارسات العلمية وبين تلك التي ليست كذلك، هي معضلة طويلة الأمد في فلسفة العلم. تنشأ هذه المشكلة لأنه لا توجد مجموعة معايير مقبولة بشكل عام لتصنيف النظرية أو الممارسة على أنها علمية أو غير علمية. لقد أشار كارل بوبر، فيلسوف العلم الشهير، إلى أن مشكلة ترسيم الحدود كانت من الأسئلة الكبرى في فلسفة العلم. قابلية التكذيب هي معيار استنتاجي لتقييم النظريات والفرضيات العلمية؛ تكون النظرية أو الفرضية قابلة للدحض (أو قابلة للتفنيد) إذا كان من الممكن دحضها منطقيًا عن طريق اختبار تجريبي. يعد هذا المعيار مهمًا لأنه يسمح باختبار الفرضيات العلمية وتقييمها بدقة، فضلاً عن السماح للعلماء بتطوير نظرياتهم وتحسينها بمرور الوقت. ومع ذلك، لا تستوفي جميع النظريات معايير قابلية الدحض. بعض النظريات، على سبيل المثال، قد تعتمد على افتراضات غير قابلة للاختبار أو أحداث غير قابلة للملاحظة، مما يجعل الاختبار التجريبي صعبا أو مستحيلا. وتصنف هذه المعتقدات على أنها علمية زائفة لأنها تدعي أنها علمية ولكنها تفتقر إلى الأساس الدقيق والتجريبي للنظريات العلمية الحقيقية.

التحليل النفسي، وعلم الخلق، والمادية التاريخية هي مجرد أمثلة قليلة من النظريات التي كانت موضوع الجدل العلمي:

* تعرض التحليل النفسي، وهو عمل سيجموند فرويد، للتحدي بسبب تركيزه على التفسيرات الذاتية والادعاءات التي لا يمكن التحقق منها حول العقل البشري.

* رفض المجتمع العلمي علم الخلق الذي يرى أن الكون خلقه كائن إلهي، وذلك لعدم وجود أدلة واقعية عليه وارتباطه بالعقيدة الدينية.

* تعرضت المادية التاريخية، وهي نظرية ماركسية للتاريخ، للانتقاد بسبب منهجها الحتمي والاختزالي في التعامل مع عمليات المجتمع والاقتصاد.

بشكل عام، تظل مشكلة ترسيم الحدود في فلسفة العلم موضوعًا محل خلاف، حيث يستشهد العديد من العلماء بمعايير وتقنيات مختلفة للتمييز بين العلم وغير العلم. ومع ذلك، لا يمكن المبالغة في أهمية هذه القضية، لما لها من عواقب مهمة على صحة وموثوقية المعرفة العلمية، فضلا عن دور العلم في المجتمع.

فلسفة العلوم الخاصة

وفيما يلي نظرة عامة على الفلسفة المتعلقة بعلوم معينة:

فلسفة علم الأحياء

يدرس هذا المجال من فلسفة العلوم طبيعة الحياة والأنظمة الحية، بالإضافة إلى المنهجيات والمفاهيم البيولوجية. كما يغطي الاهتمامات الأخلاقية والاجتماعية المرتبطة بالبحوث البيولوجية، فضلا عن العلاقات بين علم الأحياء والتخصصات الأخرى مثل الكيمياء والفيزياء.

فلسفة الطب

فلسفة الطب هي مجال فرعي من فلسفة العلوم التي تدرس الأسس النظرية والمفاهيمية للمعرفة والممارسة الطبية. تدرس طبيعة فلسفة الطب الصحة والمرض، والأهداف الطبية، والعواقب الأخلاقية والاجتماعية للممارسة الطبية، ومنهجيات ومفاهيم البحث الطبي.

فلسفة علم النفس

يهتم هذا المجال من فلسفة العلوم بالأسس الفلسفية لعلم النفس، مثل طبيعة العقل، والوعي، والإدراك. كما يدرس أيضًا الروابط بين علم النفس والتخصصات الأخرى مثل علم الأعصاب والعلوم المعرفية، فضلاً عن الاهتمامات الأخلاقية والاجتماعية المتعلقة بالأبحاث النفسية.

فلسفة الفيزياء

يهتم هذا المجال من الفلسفة العلمية بأسس الفيزياء، مثل طبيعة المكان، والزمان، والمادة، والطاقة. وهو مهتم أيضًا بكيفية تأثير النظريات الفيزيائية مثل النسبية وفيزياء الكم على معرفتنا بالكون.

فلسفة العلوم الاجتماعية

يهتم هذا المجال من فلسفة العلوم بطبيعة الظواهر الاجتماعية وكذلك طرق التحقيق الاجتماعي. ويستكشف الروابط بين العلوم الاجتماعية والعلوم الأخرى مثل علم النفس والاقتصاد، فضلا عن الاهتمامات الأخلاقية والسياسية المتعلقة بالبحث الاجتماعي.

فما هو العلم على وجه الدقة؟

تسعى فلسفة العلم إلى التمييز بين العلم والدين والعلوم الزائفة. الأساليب المذكورة أعلاه (مثل شفرة أوكام، وقابلية التزييف، وقابلية الاختبار) كلها طرق لفصل العلم عن "اللاعلم". هيمنت مناقشة العلم مقابل الدين على الأخبار أكثر من أي وقت مضى في السنوات الأخيرة. بدأ الانقسام بين العلم والدين في القرن السابع عشر وكان خطوة ضرورية في تقدم المعرفة الإنسانية. العلم الهامشي هو فرع من العلوم ينحرف عن النظريات العلمية الراسخة. وعلى عكس العلوم الزائفة، فإنه لا يزال يستخدم المنهج العلمي ولكنه يعتمد على التأمل إلى حد كبير، على الأقل وفقًا لوجهات النظر الشائعة في ذلك الوقت. إن العلوم غير المرغوب فيها هي نقيض العلوم الهامشية، والتي غالبًا ما تمارس عندما تؤثر السياسة والتجارة بشكل مفرط على الأبحاث. ان المفاهيم الخاطئة هي اعتقاد شائع وهو في الواقع نصف حقيقة أو كذبة يتم ترسيخها كحقيقة علمية. بالنسبة لعالم المعرفة كارل بوبر، لا يمكن للنظرية أن تدعي أنها علمية إلا إذا كان من الممكن، بموجب القانون، إبطالها: "لا يمكن أبدًا تبرير النظريات العلمية أو التحقق منها بشكل كامل، ولكن مع ذلك يمكن إخضاعها للاختبارات". وبالتالي فإن درجة صحة النظرية العلمية تعتمد على قدرتها على الصمود أمام الاختبارات التي تحاول إبطالها. النظرية التي لا تقبل اختبار التزوير ستسمى بعد ذلك نظرية علمية زائفة.

قيمة الفلسفة العلمية

اكتشف نظرة عامة واضحة ويمكن الوصول إليها عن المبادئ والخلافات الرئيسية التي تشكل هذا المجال.

إن فلسفة العلم لها هدفها العلم، أو بشكل أكثر دقة، مختلف التخصصات والممارسات العلمية. بالنسبة لفيلسوف العلم، فإن الأمر يتعلق بتحليل التكوين، وأنماط التطور، والأساليب، والمنطق الداخلي، وعمليات الاختراع وتبرير المعرفة العلمية في جميع مجالات تطبيقاتها المتنوعة. وتنطوي مهمتها على اهتمام خاص بالعلاقة المتبادلة بين التخصصات العلمية، وكذلك بالقيم الفكرية والاجتماعية التي تنقلها والتي غالبا ما تحفزها بطريقة غير تأملية، بل ومتناقضة: هذه القيم هي البحث عن الحقيقة، تقدم المعرفة والتطور التكنولوجي وتحول الظروف المعيشية والتنظيم في المجتمع . بعد أخذ كل الأمور بعين الاعتبار، يتركز اهتمام فيلسوف العلم في المقام الأول على النشاط المتعدد الأشكال، النظري والعملي، للعقل البشري، وهو النشاط الذي يتم إنجازه بطريقة متجددة باستمرار في عمل العلم. لقد كانت علاقة الفلسفة بالعلم في كثير من الأحيان، عبر التاريخ، علاقة السلف بنسله. تشكلت العلوم عمومًا ضمن الفلسفة . كانت أغراض كل منهما غير واضحة نسبيًا: كان من الضروري بلا شك تصور طبيعة الكيانات التي تشكل أثاث الكون قبل الانخراط في التحقيق التفصيلي له، وكان من الضروري تحديد الخطوات التي يجب اتخاذها لتحقيق هذه الغاية بعقلانية. وهكذا كان أرسطو فيلسوفًا وعالم أحياء. لقد تصور جاليلي فلسفة ميكانيكية للطبيعة سمحت له بقراءة كتاب العالم العظيم المكتوب باللغة الرياضية. وقد طور ديكارت ميتافيزيقاه ليصل إلى مبادئ فلسفة الطبيعة التي تشكل جذور شجرة تشكل الفيزياء جذعها وتنبثق منها فروع مختلف مجالات تطبيق العلم. لا شك أننا وجدنا الفلسفة حاضرة في مصادر علم اللغة عند دومارسيه وكونديلاك أو علم الاجتماع عند كونت أو دوركهايم أو ماكس فيبر، لإعطاء هذه الأمثلة فقط من بين العديد من الأمثلة الأخرى المحتملة. أما بالنسبة للمسائل الكونية ذات الجوهر الفلسفي، مثل تلك المتعلقة بواقع أو مثالية المكان والزمان، والتي كانت حاضرة بوضوح في الجدل بين لايبنتز والنيوتنيين في بداية القرن الثامن عشر، أفلم تغذي التحليلات التي أدت إلى النظرية النسبية في قلب الفيزياء المعاصرة؟

لا تزال مثل هذه الأساليب التأسيسية على حدود الأنطولوجيا الفلسفية والعلوم موضحة حتى اليوم في عدد من الأبحاث النظرية المتطورة. ومن المؤكد أن الفيلسوف قد تعامل أحيانًا مع العلم بشكل عام، خاصة من منظور فحص الأساليب العقلانية التي يجب أن تجسدها أي ممارسة علمية. دعونا نفكر في خطاب ديكارت حول المنهج (1637) الذي طور فكرة الرياضيات، أي تطور العقل وترتيب الأشياء التي يجب معرفتها، والتي تنطبق على جميع مجالات المعرفة. يبدو أن طموح الفيلسوف هو تأسيس صرح العلم من خلال تزويده بالمبادئ وطرق التفسير وتحديد موضوع بحثه. دعونا ننظر أيضًا في التحليلات الفلسفية العديدة التي ميزت اختراع وانتقاد الأساليب التجريبية في العلوم، من خلال تعزيز منطق الخبرة والتحقق من صحة المنطق التجريبي المطبق على الظواهر. وهكذا يمكن تتبع المسار المعرفي من فرانسيس بيكون و"الفلاسفة التجريبيين" للجمعية الملكية - بويل ولوك ونيوتن - في القرن السابع عشر، إلى مروجي الحتمية التجريبية في القرن التاسع عشر، مثل كلود برنارد، أو النظرية المنطقية التجريبية في القرن العشرين، مثل كارناب، ورايشنباخ، وهمبل وغيرهم من خلفاء دائرة فيينا. حتى لو استمرت وجهات النظر التأسيسية والمنهجية في البحث الفلسفي المعاصر، فإن الصورة الرئيسية لفلسفة العلم تظهر بشكل مختلف إلى حد ما في البانوراما الحالية. استهل لوك مقالته المتعلقة بالذه، الإنساني (1690) بطرح فكرة أن العلم له مهندسيه الخاصين وأن الفيلسوف يجب أن يُخضع نفسه من الآن فصاعدًا لمشروع التنوير هذا: في الأساس، يجب أن تتكون مهمته من التفكير في وسائل المعرفة المتاحة لنا لتحقيق التمثيل الموضوعي للظواهر وتجنب العقبات الكامنة في التصور العلمي. وبطريقة مختلفة قليلًا، يؤكد مؤلفو ملخص فلسفة العلوم الذي نشر مؤخرًا في عام 2011: "إن مهمة فلسفة العلم هي فهم وتقييم المشروع الهائل الذي هو العلم" . ولذلك سيتم تفصيل هذه الولاية في البحث عن الأهداف والأساليب والمبادئ والعلاقات المتبادلة بين التخصصات العلمية. لكن الأمر الأكثر جوهرية بلا شك هو أن فلسفة العلم ستهدف إلى إقامة علاقة بالواقع للمفاهيم والفرضيات والقوانين والنظريات التي تطورها العلوم المختلفة في منهجها التفسيري لنظام الأشياء، وتحديد كيفية المراجعة والتصحيح والتخريب واستبدال التمثيلات الموجودة في هذا الحوار بين الوكلاء وأشياء المعرفة العلمية. ومن هنا سيتركز اهتمام الفيلسوف، بطريقة تأملية ونقدية، على الخطاب العلمي نفسه وعلى الممارسات التي يدمجها. يهدف هذا الخطاب إلى أن يكون عقلانيًا ومفصلًا منطقيًا وموضوعيًا وتفسيريًا ومحايدًا أيديولوجيًا . ولكن إلى أي مدى وتحت أي ظروف يمكن لفيلسوف العلوم دعم هذا الادعاء؟ كيف وبأي وسيلة داخلية وخارجية تتطور المعرفة النقدية للعلم فعلياً؟

خاتمة

على النقيض من الرأي، أو حتى الإحساس، فإن العلم يشير إلى أي معرفة عقلانية يتم الحصول عليها عن طريق البرهان أو عن طريق الملاحظة والتحقق. اعتمادًا على ما إذا كانت تسبق التجربة أو ما إذا كانت تبدأ منها، يقال إن منهجها إما استنتاجي افتراضي أو استقرائي. يسمى النظام الذي يدرس العلوم نظرية المعرفة. والغرض منه هو التشكيك في مبادئه وتطوره التاريخي؛ وبشكل أكثر دقة، فهي تريد أن تفهم ما الذي يفسر الثورات العلمية (مثل ثورة جاليلي)، والتغيرات في الأساليب (على سبيل المثال استخدام التجريب في الطب) أو حتى ظهور علوم جديدة (مثل العلوم الإنسانية في القرن التاسع عشر). ومن بين المشاكل الكلاسيكية التي تناولتها فلسفة العلوم، يمكننا أن نتذكر ما إذا كان لكل نوع علمه الخاص (كما يقول أرسطو) أو ما إذا كان يمكن استخدام نفس الطريقة لجميع العلوم (كما يعتقد ديكارت). الإيمان بالعلم (أو العلموية)، المنتشر اليوم على نطاق واسع بسبب التقدم في المعرفة، يُدان أحيانًا باعتباره مفرطًا وأيديولوجيًا. ولهذا السبب تحب الفلسفة أن تذكرنا، مع رابليه، بأن "العلم بدون ضمير لا يؤدي إلا إلى تدمير الروح".  ما هي فلسفة العلم من وجهة نظر تاريخية نقدية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

مع نهاية سنة 2023م، وضعت برنامجا خاصا لمطالعة الفلسـفة الألمانية الحديثة والمعاصرة وسير روادها وإكتشاف جذورها في الفلسفة الكلاسيكية، وكان أول كتاب تاريخ الفلسفة الألمانية (L’Histoire de la Philosophie Allemande) للفيلسوف الفرنسي إيميل بريهي (Emile Bréhier)، وكان كتابا شيقاً وممتعاً، وطالمـا أجلتـه مـن سـنة إلى أخرى حتى حان ميعاده. وقبل هـذه السـنة، كنـت مـن وقـت لآخـر، أرجـع إلـى كتـب الفلسفة الألمانية المعاصرة خاصة كتب يورغن هابرماس وبومان وهوسرل وهايدغر وأحيانا دراسات وبحوث عن الفلسفة الألمانية بأقسامها وأصنافها وأزمنتهـا الحديثـة والمعاصرة وأغلبها باللغة الفرنسية والبعض منها بالانجليزية ذات ترجمات رصينة من لغتها الأصلية الألمانية، طبعا مطالعاتي للفكر الفلسفي الألماني تعود لأيام الجامعة باللغتين العربية والفرنسية بصورة متفرقـة ومتقطعـة خصوصا مع ترجمات المرحوم المفكر الدكتور حسن حنفي وكذلك المرحوم الدكتور عبد الفتاح إمام وكذلك كتب الأكاديمي التونسي الدكتور فتحي المسكيني والأكاديمي الجزائري الدكتور محمد جديدي، كوني كنـت لا أريـد الانقطاع أو التوقف عن التواصل مع الفلسـفة عموما والألمانية منها على وجه الخصوص، وكنـت حريصـاً فـي كل سنة على مطالعة شيء منها كترجمات الدكتور المسكيني لنيتشه وهايدغر وكانط وهابرماس وكذلك ترجمات ودراسات الدكتور جديدي لأعمال ماكس فيبر وما هنالك من كتب باللغة الفرنسية حول رواد الفلسفة الألمانية وأفكارهم الفلسفية والنقدية، كان آخرها كتاب ميشال كانمب بعنوان: سبعة أيام في رحاب حياة ليبنز الفيلسوف الألماني:

sept jours dans la vie de Leibniz : Michael Kempe

الصادر عن Flammarion  أيلول 2023، وذلك لقناعتي الراسخة أن الاشتغال بالإستكشاف الثقافي والمعرفي للآخر، يتطلـب تواصلاً مستمراً وفعالاً مع الفلسفة التي أنتجت هذه التحديات الثقافية والعولمية في كل المجالات، لتعميق المعرفة  من جهة، واستنهاض ملكة النقد من جهة ثانية، مع تحصيل كفاءة  فـي الكشـف عـن كليـات القضايا الفلسفية والفكرية وما ورائياتها وآفاقها ومقاصدها وغاياتها مـن جهـة ثالثـة، ومن جهة أخيرة لامتلاك إتقان منهجي في الربط بين المخزون الفلسفي الغربي - خاصة منه الألماني والأمريكي- والعلـوم والمعـارف والتكنولوجيات والإستراتيجيات في قيادة العالم والهيمنة على الأفراد والمجتمعات والمؤسسات الدولية وأهمية ذلك في تنمية الوعي النقدي لدى المثقف العربي،  كل ذلك رسمته بناء على قاعدة أن إلـى جانـب كـل منتج (مادي، رمزي، فني وما هنالك من منتجات تسوق عبر وسائل الإعلام والاتصال) هنـاك فلسـفة، وأن لـيس هناك قيادة وهيمنة وسلطة بلا فلسفة. وبرنامج المطالعة عنـدي دائمـاً مـا يكـو ن مقترنـاً بالكتابـة، ولا أفصل بين المطالعة والكتابة، ولا أحبذ هذا الفصل أساساً، وكما يعبر صديقي المفكر السعودي الدكتور زكي الميلاد عن ذلك بالقول: أليس إننا نقرأ من أجل أن نكتب، ونكتب مـن أجـل أن نقـرأ، والذين يقرؤون ولا يكتبون هم أشبه بأولئـك الـذين يجمعـون مـالاً ولا ينفقون منه شيئاً، أو كمن يزرعون زرعاً ولا يحصدون منه شيئاً.

عند قراءتي لكتاب إيميل بريهي (Emile Bréhier) لفت إنتباهي إشارات مهمة في آخر الكتاب ترتبط برائد الظاهراتية المؤرخ والفيلسوف الألماني الشهير وذو حضور لافت في مسارات الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة: ادموند هوسرل (Edmund Husserl)، الذي يمثل بعد آخر للفلسفة المعاصرة الألمانية كونه ضد علم النفس والذي توحي فلسفته حضور ليبنز في مقابل كانط، حيث يشير الاستخدام المكرس لمصطلح "phénoménologie" الظاهراتية إلى تلك الحركة الفكرية المستوحاة من فلسفة هوسرل. لكن يكفي العودة إلى منبع "الحركة الظاهراتية" والفلسفة الهوسرلية، حتى نكتشف أن هذا المفهوم ليس حكرا على هذه المدرسة الواحدة، وأنه ليس حكرا على هذه الشبكة من المراجع التي يشكلها أولئك الذين يدعون انتماء معين إلى هذه الحركة. على المرء فقط أن يفكر في كلمات كانط في رسالته إلى تلميذه وصديقه المقرب ماركوس هيرز1، الذي أعلن بالفعل عن الظاهراتية، وبالتالي حدد ما أصبح -بعد بضع سنوات- نقد العقل الخالص. كما قدم كارل رينهولد الأول أيضا دراسة الوعي كمصطلح "دراسة الوعي" وهيجل، في عمله عام 1807م، فينومينولوجيا العقل، باسم "علم تجربة الوعي". وقد يتساءل المرء بالتأكيد عما إذا كنا نتعامل هنا مع نفس المفهوم، إلى جانب استخدام المفهوم ذاته. ومن المفارقات أنه على الرغم من أن علم الظواهر أصبح عنوانا عاما، بل وشعارا، حشد جزءا كبيرا من الفلسفة في القرن العشرين، إلا أن هوسرل لم يعرفها بوضوح أبدا، أكثر من مفهوم الفلسفة المرتبط بها. لذلك هذه صعوبة حاسمة لتفسير فكره، ومشكلة لا يمكن التغلب عليها تقريبا عندما يتعلق الأمر بمقارنتها بفكر فيخت وهو من تأخر بفلسفة هذا الأخير بعد صدور كتاب الأبحاث المنطقية وتناول فلسفته منذ 1907 إلى 1918 في ثلاث محاضرات له. علاوة على ذلك، فإن العلاقة بين الظواهر والفلسفة كما تصورها هوسرل هي من جانب واحد، كما يتضح من تطور ظاهراتيته.

الفلسفة، في تطورها التاريخي، ستميل بالفعل نحو الظواهر، لكن هذا سيبقى مستقلا نسبيا في مواجهة الفلسفة الكلاسيكية والميتافيزيقا، كما يشهد بوضوح البحث المنطقي والحركة الجديدة المستوحاة منه. ويجب أن نضيف إلى هذه المشكلة الطابع الفريد لهوسرل كمؤرخ، حيث تسترشد قراءته لفيخت والكانطية أحيانا بمفهوم لتاريخ الفلسفة يمكن وصفه بأنه خاص بقدر ما يميل إلى استلهام "رواد الظاهراتية التراستندنتالية" (المتعالية) من ديكارت أو كانط أو فيخت.  وهذا ما يفسر الميل إلى تفضيل "الفكرة المتعالية" التي يتم الإعلان عنها من خلال هذه الشخصيات العظيمة للحداثة وفق الطابع المحدد لفلسفاتهم. وترجع الصعوبة الثالثة إلى حقيقة أن الإشارات إلى فلسفة فيخت غالبا ما تكون مسيئة وأنها تحدث في كثير من الأحيان في سياق مناقشة فلسفة كانط. علاوة على ذلك، تستند معرفة هوسرل بعمل فيخت بشكل أساسي إلى كتاباته الشعبية، على الرغم من أنه يجب النظر في المعرفة غير المباشرة بعقيدة العلوم عبر جوناس كوهن وخاصة إيميل لاسك، طالب هنريش جون ريكرت2.  هذا لا يقلل بأي شكل من الأشكال، اهتمام هوسرل بفلسفة فيخت، كما يتضح من الدروس والمحاضرات التي ألقيت بين عامي 1903 و1918، وكذلك من خلال المراجع اللاحقة، ولا سيما في"أزمة العلوم الأوروبيّة والظاهريّات التراستندنتالية " Krisis، وترتبط العديد من الموضوعات باسم فيخت في عمل هوسرل، وقد تم بالفعل التعليق على العديد منها.3

أحد الموضوعات الأساسية المرتبطة بإسم فيخت، الموضوع الذي، على حد قراءتي الأولية، لم يتم تناوله بإستفاضة وعمق في الكتابات الفلسفية هو العلاقة بين الفلسفة المتعالية التراستندنتالية وعلم النفس، وهو موضوع يرتبط ارتباطا وثيقا بالمفارقة الشهيرة للذاتية البشرية في "أزمة العلوم الأوروبيّة والظاهريّات التراستندنتالية ".

ما بين الظاهراتية وعلم النفس:

على أساس هذا الموضوع، نود أن نسلط الضوء على مسألة أسس الفلسفة التراستندنتالية عند هوسرل وفيخت. قد يكون الموضوع النفسي صادما في السياق الحالي. لكن ألم نتعود قراءة الظاهراتية الهوسرلية وخاصة الفلسفة الألمانية الكلاسيكية من خلال إنكار علم النفس، سواء كان يفهم على أنه روح أو علم، ليس له أية صلة بالأسئلة الأساسية للفلسفة؟ هذا ليس موقف هوسرل تجاه علم النفس، الذي يتمثل هنا بأكثر من عنوان. في الواقع، فإن نسختي الظاهراتية الموجودة في عمل هوسرل، وهي نسخة الأبحاث المنطقية، والتي تفهم على أنها علم النفس الوصفي، والنسخة المتعالية التراستندنتالية التي فرضت نفسها بعد نشر الأبحاث المنطقية، حيث تتوافق بدقة مع اتجاهين مستوحى كل منهما عن كانط، المثالية وما أسماه يوهان إدوارد إردمان  J.E Erdmann"علم النفس Psychologisme" لتعيين التفسير النفسي للنقد.

تتوافق هاتان النسختان من الظاهراتية مع مسارين يؤديان إلى الكانطية:

الأول يمر على وجه التحديد من خلال علم النفس وينتقل من راينهولد (Karl Leonhard Reinhold) إلى ظواهر البحث المنطقي، ويمر بالطبع عبر فرايز (Jakob Friedrich Fries) وبينيكي (Friedrich Eduard Beneke  ) وهيربارت (  Johann Friedrich Herbart).

والثاني، الطريق الملكي، إذا أردنا أن نصدق المفسرين الذين درسوا موضوعنا هذا، يمر عبر المثالية وينتقل مباشرة من فيخت إلى الفلسفة التراستندنتالية التي هيمنت على فكر هوسرل بعد الأبحاث المنطقية.

الآن، وبالحكم من خلال ملاحظات هوسرل في جميع أنحاء عمله حول كانط وفيخت، فإن الموضوع النفسي لا يقل أهمية بالنسبة للظاهراتية عن أهمية المثالية بالنسبة للفلسفة التراستندنتالية. هذا لأنه في أعماله الأخيرة، يحتفظ هوسرل بمكانة خاصة لما يسميه علم النفس المتعمد في كل الظواهر، والعديد من الاعتراضات الموجهة ضد فيخت وكانط تعتمد عليه بشكل مباشر. هذا هو السبب في أننا سوف نسير بسرعة في المسار النفسي، ونكتفي هنا بمؤشرات عامة، ثم نسلك الطريق الذي يؤدي إلى المثالية في مقالات لاحقة. إن طرح السؤال النفسي هو فتح صندوق باندورا [1]، سواء بالنسبة لغالبية أنصار الكانطية أو للقراء المعتمدون لظاهراتية هوسرل. هناك العديد من الخلافات في التفسير المعاصر لفلسفة كانط، ولا سيما تلك التي تعارض أولئك الذين يجعلون نقد العقل الخالص مساهمة في علم النفس المعاصر وأولئك الذين يقاومون من خلال التشكيك في أهمية الموضوع النفسي لدى كانط. وليس هذا هو الوقت المناسب للدخول في هذا النقاش 4. ومع ذلك، لا ينبغي لنا أن نقلل من اهتمام كانط المستمر بعلم النفس، على الرغم من أحكامه القاسية حول علم النفس العقلاني، وخاصة علم النفس التجريبي، الذي خفضه إلى مرتبة العلم الزائف5. ولا يمكننا تجاهل حقيقة أن كانط، على الرغم من انتقاده المتكرر لعلم النفس، وضع المعايير العامة التي جعلت من الممكن ولادة علم النفس العلمي، علم النفس التجريبي لفيخنر (Gustav Fechner) وخاصة فونت (Wilhelm Wundt ) وتشكل علم النفس كما نعرفه اليوم.

هذه ليست مساهمة بسيطة عندما نعرف الأهمية التي اكتسبتها الظاهراتية التراستندنتالية في القرن العشرين!  لكن هذا الفصل من التاريخ يبدأ مع كارل راينهولد الأول، على ما يبدو، الذي جعل الموضوع النفسي عند كانط مشكلة، هو الذي شجب استخدام كانط غير النقدي لمفاهيمه النفسية الأساسية.، ولا سيما مفهوم التمثيل6(Représentation).

شجع هذا الاعتراض راينهولد على جعل طبيعة العقل، ما يسميه أيضا الوعي، الموضوع المركزي للفلسفة. في هذا المنظور، يقدم مفهوم الظواهر، بمعنى قريب من هوسرل، لتعيين هذا المنهج الأساسي الذي تتمثل مهمته بدقة في وصف ما يعطى أو يظهر للوعي. ولكن لم يكن حتى تلميذه يعقوب ف. فرايز ومجموعة من الفلاسفة، المستلهمين أيضا من الفلسفة الكانطية، ولكن دافعوا عن موقف أقرب إلى التجريبية من مثالية فيخت، للحديث عن مساهمة في علم النفس العلمي. اسمان مهمان هنا، ليس فقط لمساهمتهما في علم النفس ولكن قبل كل شيء لأنهما محاوران متميزان لهوسرل في الأبحاث المنطقية، هما يوهان فريدريش هيربارت وفريدريش إدوارد بينيكي7. المفارقة في هذه القصة هي أن حجج كانط المختلفة ضد إمكانية تطور علم النفس كعلم حقيقي كانت بمثابة دليل لهذا الفريق، بما في ذلك فكرة هيربارت عن علم النفس الرياضي، أو فكرة بينيكي عن علم النفس التجريبي، وكلاهما اعتبره كانط غير ممكن.

على أي حال، كان أعضاء هذه المجموعة على وجه التحديد هم الذين أثروا في تطور علم النفس العلمي، سواء لدى فانت أو هلمهولتز (Hermann von Helmholtz) أو حتى برنتانو(Franz Clemens  Brentano) هذه أيضا نقطة انطلاق هوسرل في الأبحاث المنطقية المجلد 1.        " مقدمات في المنطق الخالص"، يعترف هوسرل بالقيمة العلمية لعلم النفس التجريبي، لكنه يطعن في الادعاءات التأسيسية التي منحها لها هيربارت وبينيكي، أو فانت وجون ستيوارت ميل، للمنطق والفلسفة بشكل عام.

يوصف هذا الموقف في هذا الكتاب بأنه علم النفس، ويشير إلى "اختزال جميع الأبحاث الفلسفية بشكل عام، وجميع الأبحاث المعرفية بشكل خاص، في علم النفس"8.  هذا هو الهدف الرئيسي لهوسرل في مقدماته، وتنسب واحدة من أهم الحجج المضادة لعلم النفس إلى كانط وتستند إلى الطابع المعياري للمنطق9.

تم تفسير هذه الحجة، التي دافع عنها أيضا جوتلوب فريج (Gottlob Frege )، لاحقا على أنها رفض خالص وصريح لعلم النفس خارج الفلسفة، مما  خلف فجوة بين مجال التحقيق في الفلسفة وأيضا في علم النفس. لدرجة أن علماء النفس أغلقوا الباب خلفهم، وتجنبوا الفلسفة، وأنشأوا مدارسهم الخاصة. لكن معاداة علم النفس في مجلد "مقدمات في المنطق الخالص"، إذا كانت موجهة ضد الادعاءات التأسيسية لعلم النفس، لا ينبغي فهمها على أنها رفض خالص وصريح وشامل لعلم النفس. لأن ظاهراتية الأبحاث المنطقية تعرف بأنها "علم نفس وصفي"، بمعنى سيدها برنتانو، والدافع النفسي موجود في كل مكان في الأبحاث الستة التي يتكون منها الكتاب. هذا لا يعني أن هوسرل يتفق مع علماء النفس، لكنه يعترف، وسيعترف حتى نهاية عمله، بدور مركزي لعلم النفس في ظاهراتيته.

يخلص هوسرل في الفقرة السادسة من مقدمة المجلد الثاني من الأبحاث المنطقية، ولا سيما في "التذييل رقم3"11، عبر الشرح بطريقة أوضح، العلاقة بين الظاهراتية وعلم النفس الوصفي، أي خصوصية نهجه في استخراج - من تحليلاته لــ "تجارب الفكر"- المنطق الخالص كمكان للوصول إلى معرفة ما هو. ليس هناك شك في أنه إذا قُرأ هذا النص بعناية، لكان قد جنب أتباع الظاهراتية وعلماء النفس الكثير من سوء الفهم والتفسيرات الخاطئة في تفسير ظاهراتية هوسرل.

وهذا الأخير عبر بأن الظاهراتية تتعلق بعلم النفس تماما كما تتعلق الرياضيات بالفيزياء. ومع ذلك، يجب ألا يؤدي القياس إلى نوع من التحديد الذي من شأنه أن يجعل الظاهراتية نوعا من رياضيات الفكر. لكن، هذا التوازي سيقود هوسرل إلى صعوبات حقيقية للغاية عندما يتعلق الأمر بالانتقال إلى جغرافية التراستندنتالية في أواخر حياته. دعونا نكتفي بالتأكيد، في الوقت الحالي، على ما هو متناقض حول وضع هوسرل وستكون لنا مقالات أخرى نكتشف من خلالها تضاريس الفلسفة الظاهراتية لهوسرل...

***

أ. مراد غريبي

................

الهوامش:

Kant, Lettre à Marcus Herz du 21 février 1772, in Pléiade, tome 1,p 691

طبعة كاملة في 12 مجلدا أعدت من قبل الأكاديمية البافارية للعلوم تحت إشراف ر. لاوث وهـ. جاكوب، شتوتغارت. في Krisis، يذكر هوسرل مشاريع تدريس العلوم في سياق التفكير في إرادة الفلسفة الحديثة في جعل الفلسفة " علم تأسيسي في نهاية المطاف" (ص 227).

R. Boehm « Husserl et' I' idéalisme classique », Revue philosophique de Louvain, tome 57, (1959) p. 351-396

" Critique de la déduction transcendantale de Kant Chez Fichte et Husserl ", Études Husserliennes 2 (1985) 53 à 74.

Kant et le kantisme Jean-Cassien Billier ; Armand collin Editions ; 1998

Karl Leonhard Reinhold : Philosophie élémentaire. Présentation et traduction par François-Xavier Chenet. Coll. « Bibliothèque des textes philosophiques ». 1989, P487

De la psychologie cognitive et de la didactique des mathématiques à la didactique professionnelle

Recherches logiques. II – Recherches pour la phénoménologie et la théorie de la connaissance. Première partie : Recherches I et II, Paris, PUF, 1961, p. 57-64

Voir Les Recherches logiques P.U.F., collection “épiméthée”, Paris, 1959 - 1963. Tome II

Les Recherches logiques P.U.F., collection “épiméthée”, Paris, 1959 - 1963. Tome II p 18.

La psychologie comme phénoménologie transcendantale : Husserl et au-delà de Husserl, Marc Richir, La voix des phénomènes, Presses universitaires Saint-Louis Bruxelles 1995, p 361

[1]  في الميثولوجيا الإغريقية، هو صندوق حُمل بواسطة باندورا( "المرأة التي منحت كل شيء") يتضمن كل شرور البشرية من جشع، وغرور، وافتراء، وكذب وحسد، ووهن، ووقاحة ورجاء. ويكيبيديا.

 

استكمالاً لما طرحناه في مدار "الورقاء التي حيَّرت الشيخ الرئيس" حول موضوع النفس في المقال السابق، نعرض هنا لأهم البراهين التي قدمها ابن سينا لإثبات وجود النفس وطبيعتها، لكونه أحد أهم فلاسفة الإسلام الذين أبدوا عناية فائقة بها من حيث وجودها وطبيعتها وقواها ومصيرها، ومن الواضح كما رأينا في القصيدة العينية، أن ابن سينا قد أخذ بمبدأ إن النفس مخالفة في طبيعتها للبدن، وانها لا تهلك بهلاكه، لذلك فانه مضطر لأن يوجد لها مكاناً وحالاً بعد هلاك البدن. ويبدو انه قد تسلى في أول الامر بنظم هذه القصيدة التي جمع فيها رأي أفلاطون الى رأي أفلوطين في هبوط النفس من عالمها العلوي الالهي الى العالم الأرضي، ثم اتصالها بالجسد، وبعد ذلك نفورها من هذا الجسد – السجن، وصولاً الى اطمئنانها اليه مع مرور الايام واعتيادها عليه، ثم يصف ابن سينا فرح النفس اذا هي فارقت البدن، وعادت الى عالمها الذي أُهبطت منه عنوةً ومن دون رغبة منها لـ " تعود عالمةً بكل خفيةٍ في العاَلَمين". و يُعَّد الفيلسوف اليوناني أفلوطين 203- 270 م من ابرز ممثلي الافلاطونية المحدثة التي تبلورت على يديه في مدينة الاسكندرية المصرية، وقد تحدث عن ثنائية في النفس: نفس عليا اقرب ما تكون الى العقل وابعد ما تكون عن إحداث المحسوسات، ونفس دنيا اقرب ما تكون الى المحسوس، وبالتالي هي القادرة وحدها على إحداث كل الحوادث او الموجودات المحسوسة. ومن أهم البراهين التي قدمها ابن سينا لإثبات وجود النفس ومخالفتها للبدن - والتي استخلصناها من كتبه الشفاء والإشارات والتنبيهات ورسالته في معرفة النفس الناطقة وأحوالها، فضلاً عما تم شرحه بصددها في كتب إبراهيم مدكور، وعبد الرحمن مرحبا، وعمر فروخ، ومحمد قاسم -، البراهين الخمسة الآتية:

1- البرهان الطبيعي:

يُقسم ابن سينا الحركة الى قسمين: الحركة القسرية، والحركة الارادية، والحركتان لا تصدران عن الجسم، فالأولى تصدر عن محرك خارجي يحركهُ، والثانية نوعان : منها ما يحدث على مقتضى الطبيعة، كسقوط حجر من أعلى الى أسفل، ومنها ما يحدث ضد مقتضى الطبيعة، كالإنسان الذي يمشي على وجه الارض مع ان ثقل جسمه كان يدعوه الى السكون، أو كالطائر الذي يحلق في الجو بدل ان يسقط الى مقره فوق سطح الأرض، وهذه الحركة المضادة للطبيعة تستلزم محركاً خاصاً زائداً على عناصر الجسم المتحرك, وهو النفس، وفي الواقع أننا " نشاهد أجساماً تحس وتتحرك بالإرادة، بل نشاهد أجساماً تتغذى وتنمو وتوَلِد المِثْل وليس ذلك لها بجسميتها، فبقي ان تكون في ذواتها مبادئ لذلك غير جسميتها، والشيء الذي تصدر عنه هذه الافعال، فإنما نسميه نفساً ". وهذا البرهان أخذه ابن سينا عن أفلاطون وأرسطو.

2- البرهان السيكولوجي:

وهذا البرهان يستند الى الادراك " ومن خواص الانسان انه يتبع ادراكاته للأشياء النادرة، انفعال يسمى التعجب ويتبعه الضحك، ويتبع ادراكه للأشياء المؤذية انفعال يسمى الضجر، ويتبعه البكاء، وقد يتبع شعوره بشعور غيره أنه فعل شيئاً من الاشياء التي قد أجمع على انه لا ينبغي ان يفعلها، انفعال انساني يُسمى الخجل". ويمتاز الانسان ايضاً بالنطق واستخدام الإشارة "  وأخص الخواص بالإنسان تصور المعاني الكلية العقلية المجردة عن المادة كل التجريد،  والتوصل الى معرفة المجهولات تصديقاً وتصوراً من المعلومات الحقيقية ". فهذه الأحوال أو الأفعال المتكررة هي مما يوجد للإنسان، وجلُّها يختص به الإنسان، وإن كان بعضها بدنياً ولكنه موجود للإنسان بسبب النفس التي هي للإنسان وليست لسائر الحيوان".. ألا يعني هذا ان للإنسان المدرك قوة يتميز بها عن الكائنات غير المدركة ؟ .

3- برهان الاستمرار:

يقارن ابن سينا بين النفس والجسد، ويلاحظ ان الجسد عرضة للتغير والتبدل والزيادة والنقصان و ومركب من أجزاء عرضة للعوامل نفسها، أما النفس فأنها ثابتة باقية على حالها : " تأمل أيها العاقل في إنك اليوم في نفسك هو الذي كان موجوداً في جميع عمرك حتى انك تتذكر كثيراً مما جرى من أحوالك، فأنت اذن ثابت مستمر لاشك في ذلك، وبدنك وذاته ليس ثابتاً مستمراً،  بل هو دائماً في التحلل والانتقاص، ولهذا يحتاج الانسان الى الغذاء بدل ما تحلل من بدنه، فتعلم نفسك ان في مدة عشرين سنة لم يبقَ شيء من أجزاء بدنك، وانت تعلم بقاء ذاتك في هذه المدة، بل جميع عمرك، فذاتك مغايرة لهذا البدن واجزائه الظاهرة والباطنة. فهذا برهان عظيم يفتح لنا باب الغيب، فانَّ جوهر النفس غائب عن الحس والاوهام" .

4 – وحدة النفس وبرهان "الأنا":

ان النفس محل المعقولات، " وهذا الجوهر الذي هو محل المعقولات ليس بجسم ولا هو قائم بجسم على انه قوة فيه او صورة له بوجه "، ويفرض ابن سينا صورة معقولة في نقطة من الجسم غير منقسمة ويبين ان ذلك مُحال.  ثم يفرض هذه الصورة المعقولة في شيء منقسم، فاذا انقسم هذا الشيء انقسمت الصورة أيضاً الى جزئين متشابهين، أو غير متشابهين " فان كانا متشابهين، فكيف يجتمع منها ما ليس بهما، وان كانا غير متشابهين فكيف يمكن ان تكون للصورة المعقولة اجزاء غير متشابهة ؟ " فيجب ان يكون محل الصور المعقولة جوهراً ليس بجسم وغير قابل للقسمة، ولو كان غير ذلك للحق الصورة ما يلحق الجسم من الانقسام . ولهذه النفس وظائف مختلفة، لكنها تظل واحدة على الرغم من تعدد هذه الوظائف انه يجب لهذه القوى – الشهوانية والغضبية والمدركة – رباط يجمع بينها كلها، وتكون نسبته الى هذه القوى نسبة الحس المشترك الى الحواس، فأنا نعلم ان هذه القوى يشغل بعضها بعضاً ويستعمل بعضها بعضاً، وهذا الشيء لا يجوز ان يكون جسماً، ولا اعتراض على ان النفس غير جسم.

يقول ابن سينا في رسالته المسماة " رسالة في معرفة النفس الناطقة واحوالها" : ان الانسان يقول أدركتُ الشيء الفلاني ببصري واشتهيته أو غضبتُ منه، وكذا يقول، أخذتُ بيدي، ومشيتُ برجلي، وتكلمتُ بلساني، وسمعتُ بأذني، وتفكرتُ في كذا وتوهمته، وتخيلته. فنحن نعلم بالضرورة ان في الانسان شيئاً جامعاً يجمع هذه الادراكات، ويجمع هذه الأفعال، ونعلم أيضاً بالضرورة أنه ليس شيء من اجزاء هذا البدن مجمعاً لهذه الادراكات والافعال: فأنه لا يبصر بالأذن، ولا يسمع بالبصر، ولا يمشي باليد، ولا يأخذ بالرجل، ففيه شيء مجمع لجميع الادراكات والافاعيل. فأذن الانسان يشير الى نفسه بـ " أنا " مغاير لجملة أجزاء البدن، فهو شيء وراء البدن .

5 - برهان الانسان المعلق في الهواء "الانسان الطائر":

وهو من البراهين الطريفة التي قدمها ابن سينا لأثبات وجود النفس، وهو شديد الشبه ببرهان ديكارت الشهير الذي قدمه بعد ابن سينا بما يزيد عن ستة قرون، وعبَّر عنه بقوله " أنا افكر اذن أنا موجود ". يقول ابن سينا " ولو توهمتَ ان ذاتك قد خُلقت أول خلقها صحيحة العقل والهيئة، وفُرض انها على جملة من الوضع والهيئة لا تبصر اجزاءها ولا تتلامس أعضاؤها، بل هي منفرجة ومعلقة لحظة ما في هواءٍ طلقٍ، وجدتها قد غفلت عن كل شيء إلا عن ثبوت إنَّيتَّها ". ويقول في كتاب "الشفاء " : يجب ان يتوهم الواحد منا - اي يتخيل - كأنه خُلق دفعةً، وخُلق كاملاً، ولكنه حُجب بصره عن مشاهدة الخارجات، وخُلق يهوي في هواءٍ أو خلاءٍ هوياً لا يصدمه ُفيه قوام الهواء صدماً ما يحوج الى ان يُحس، وفُرَّق بين اعضائه فلم تتلاق، ولم تتماس. ثم يتأمل أنه هل يثبت وجود ذاته، ولا يشك في اثباته لذاته موجوداً، ولا يثبت مع ذلك طرفاً من أعضائه، ولا باطناً من أحشائه ولا قلباً، ولا دماغاً ولا شيئاً من الاشياء من خارج، بل كان يُثبت ذاته ولا يثبت لها طولاً ولا عرضاً ولا عمقاً، ولو انه أمكنه في تلك الحالة ان يتخيل يداً أو عضواً اَخر لم يتخيله جزءاً من ذاته ولا شرطاً في ذاته. وانتَ تعلم ان المثَبت غير الذي لم يُثَبت، والُمقَّر به غير الذي لم يُقَّر به. فاذن، للذات التي أُثبت وجودها خاصية على انها هو بعينه - اي الانسان بعينه - غير جسمه وأعضائه التي لم تثبَت. فأذن المثبِت له سبيل الى ان يثبته على وجود النفس شيئاً غير الجسم، بل غير جسم، ولأنه عارف به، مستشعر له .

عوضاً عن هذه البراهين فأن لابن سينا براهين اخرى في اثبات ان النفس جوهر روحاني، قائم بنفسه، غير محتاج في قوامه الى مادة، وهو موجود فعلاً مستقل عن البدن، ومن ذلك :

* ان ادراكنا للمعقولات - الصور المجردة - التي لا تُدرك بالحواس أصلاً " اسماء المعاني مثل الشرف، الخير، جمع الاعداد وتفريقها، الخ" يدل على اننا ادركناها بشيء من جنسها وليس بحواسنا- لأن حواسنا لا تدرك الا المحسوسات المادية والماثلة أمامنا-  فيجب ان يكون قد ادركناها بأنفسنا، ولذلك كانت أنفسنا روحانية مثل تلك المعقولات التي ادركناها.

* ان الحواس تدرك اشياء قليلة - معدودات محدودة وموجودة في نطاق معين - بينما نحن ندرك بالنفس معقولات لا حصَر لها ولا حدود لها : اننا نبصر جبلاً صغيراً أو جزءاً من جبل، أو عدداً معيناً من النجوم، ولكننا ندرك بالنفس مدى البحر، وعِظَم الجبل، وعدد النجوم الذي لا يُحصى .

* ان الحواس لا تُدرك إلا صور الموجودات الحاضرة، بينما النفس تحفظ صور الاشياء بعد ان تغيب الاشياء عن حواسنا، فمحل هذه الصور المعقولة اذن، بعد غيابها عن الحواس، ليس في عضو معين .

* ان حواسنا الخمس تضعف عادةً اذا ضَعُفَت أعضاؤها بالهرم أو المرض - فالسمع يخف اذا تعرضت الاذن لعاهة، والبصر يكل عادةً بالتعب، أو المرض، أو مع تقدم السن - أما الادراك بالنفس الناطقة - أي بالعقل - فلا يضعف ضرورةً مع المرض أو الهرم، بل ربما زاد قوة.

لقد جمع ابن سينا في نظرية النفس اَراء الفلاسفة الى اصول الدين، فأقتبس من أرسطو حدوث النفس، ومن أفلاطون خلودها، وضم الى ذلك شيئاً من تصوف الشرق ومذاهب الهنود، وان النفس عنده هي مبدأ الافعال والحركات، وان هذه الافعال، اما ان تكون نباتية، واما ان تكون حيوانية، واما ان تكون انسانية، لذلك انقسمت النفس الى ثلاث نفوس هي:  النباتية والحيوانية والانسانية. فالنباتية هي كما أول لجسم طبيعي اَلي من جهة ما يتولد ويربو ويتغذى، فالقوة النباتية اذن ثلاث: المولدة والمنمية والغاذية. وهي موجودة في النبات والحيوان والانسان. أما النفس الحيوانية فهي كمال أول لجسم طبيعي اَلي من جهة ما يدرك الجزئيات، ويتحرك بالإرادة، وهي موجودة في الحيوان والانسان، أما النفس الانسانية فهي النفس الناطقة وهي تنقسم الى قوتين : القوة العاملة، والقوة العالمة، وكل قوة من هاتين القوتين تسمى عقلاً، فالعاملة هي العقل العملي، والعالمة هي العقل النظري .

وقف ابن سينا من قضية النفس وخلودها، مواقف قد تبدو متناقضة مثلما بدا ذلك واضحاً في القصيدة العينية، تناقض ما بين فلسفته الأرسطية لكونه من أكبر الفلاسفة المَّشائين المسلمين، وهي فلسفة طبيعية مادية، وما بين فلسفة أفلاطون المثالية التي أُغرم بها هؤلاء الفلاسفة حتى اطلقوا على أفلاطون اسم الإلهي لانهم وجدوا أن فلسفته أقرب الى روح دينهم من فلسفة أرسطو، وهكذا نجد ان ابن سينا قد أخذ من أرسطو ما يعينه في تقسيم قوى النفس المادية. لكنه مال لأفلاطون في قضية خلودها وعدم فنائها بفناء الجسد، وذلك ضمن السياق العام لفلاسفة الاسلام في التوفيق والتوائم ما بين الفلسفة والدين الاسلامي .

***

د. طه جزاع – كاتب أكاديمي

..........................

* المقال منشور في مجلة مراصد البغدادية أيضا

في المثقف اليوم