أقلام فكرية

أقلام فكرية

ما الاستعمالات السلبية للغة من وجهة نظر توماس هوبز[2]؟

يجيبنا هوبز عن هذا التساؤل بكون اللغة في استعمالنا الخاص لها، يمكن أن تستخدم بكيفية سلبية. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يمكن بسط تلك الاستعمالات اللغوية السلبية في العناصر الآتية:[3]

أولا؛ تستخدم اللغة بكيفية سلبية، حينما يستعمل المرء مجموعة من الكلمات والأسماء التي لا يدرك معناها. معنى ذلك، أن الكثير من البشر يستعملون الكلمات والأسماء دون إدراك لمعانيها ودلالتها، بل أكثر من ذلك، فأحيانا تستعمل بعض الكلمات والأسماء فقط لكونها متداولة بين الناس، لكن أن تدرك كل الذوات حقيقة الكلمات المستعملة، فهو أمر محال في الكثير من السياقات البشرية. وخير مثال على ذلك، ما كان يقوم به سقراط في محاورته لبعض السفسطائيين، بحيث كان يسألهم عن بعض المفاهيم مثل العدل والأخلاق...، لكن إجابتهم كانت ذات طابع عمومي للكلمات، مما يفيد أن استعمال الناس للكلمات والأسماء، لا يفيد بالضرورة أنهم على علم ودراية بها. إن استخدام كلمات وأسماء بكيفية غير مدركة لمعانيها الأصيلة، له تبعاته السلبية التي قد تؤدي إلى النزاع والشجار، وأحيانا إلى الحروب.

ثانيا؛ تستخدم اللغة بكيفية سلبية، حينما يقدم المرء على استعمال الكلمات المجازية، بما هي كلمات لا تقوم على حقيقة الشيء، وإنما على معان استعارية متخيلة، تتطلب التأويل والتفسير بغية إخراج المعنى المجهول، من الكلام المعلوم. وإذا كان الأمر كذلك، فإن استعمال الكلام بكيفية مجازية، قد يؤدي إلى خلق نوع من سوء الفهم في أفهام الناس، بحيث لا يقدرون على التوافق بشأن كلمة من الكلمات التي تحتاج إلى تفسير، لإخراج ومعرفة دلالات أصحابها.

ثالثا؛ ما دام الإنسان محبا لما يملك في ذاته أو لذاته، فإنه في عملية إبداعه لجملة من الكلمات والأسماء، قد يعتبرها شأنا خاصا به. غير أن هذا الأمر لا يطرح مشكلة، من حيث إن حب التملك هوى إنساني، بينما المشكلة تقع حينما يبدع الإنسان كلمات قد تكون فارغة من المعنى، مثل تلك الكلمات التي كانت متداولة في التقليدين الفلسفي واللاهوتي الوسيطين، والتي لا تفيد في شيء، كالأقنوم، وتحول خبز القربان إلى جسد المسيح ودمه، الآن الأزلي...إلخ.

رابعا؛ لئن كانت اللغة من حيث الاستخدام الإيجابي تستعمل للهو والتنكيت لبعث الفرح لدى البشر، فإن اللغة في استخدامها السلبي يمكن أن تكون وسيلة لإداية الناس. فاللغة بما هي قوة تحملها الذات البشرية، فإنه يمكن أن تستعمل بكيفية سلبية تؤدي إلى خلق فضاء للصراع بين الناس، لاسيما، في استعمال بعض الكلمات التي تقلل من شأن الإنسان كإنسان. يقول هوبز: «والرابعة هي عندما يستخدمونها ليؤذي بعضهم بعضا: وبما أن الطبيعة قد سلحت المخلوقات الحية بعضها بالأسنان، وبعضها بالقرون، وأخرى بالأيدي لتؤذي عدوها، فإنه لمن إساءة استخدام النطق أن نؤذيه باللسان، ما لم يكن إنسانا نحن مجبرون على أن نحكمه، فعندئذ لا يكون الغرض أن نؤديه وإنما أن نؤدبه ونصلحه.»[4].

وبناء على ما سبق، نستنتج أن اللغة حتى وإن كانت من الأدوات الأساسية التي لا غنى عنها في حياة الإنسان، فإن اللغة باعتبارها صناعة بشرية، لها القابلية لكي تستعمل بطرق تكاد تكون أحيانا عامة تبتغي تحويل الخطاب الذهني إلى كلمات وأسماء شفوية هدفها تذكر ما مضى-الربط بينه، أو خاصة تبتغي معرفة أسباب الأشياء، وتعليمها، والتعبير عن إرادة صاحبها ورغباته، والترويح عن النفس. لكن، إن كان الاستخدام الخاص إيجابيا أحيانا، فإنه يمكن أن تستعمل بكيفية سيئة حينما تقوم على مجموعة من الأسماء والكلمات الفارغة من المعنى.

***

د. لوكيلي عبد الحليم - باحث في الفلسفة-المغرب

......................

[2]  توماس هوبز (Thomas Hobbes) فيلسوف وعالم رياضيات وفيزياء إنجليزي ولد يوم 5 أبريل من سنة 1588م في مدينة مالميسبري (Malmesbury)، وتوفي يوم 4 دجنبر من سنة 1679م. اشتهر بنظريته في مجال الفلسفة السياسية أو المدنية، غير أن له اهتمامات فلسفية في مجالات أخرى كالتاريخ والفيزياء والأخلاق واللاهوت...إلخ. ولعل من أهم أعماله التي تعد مصدرا أساسيا في تاريخ الفلسفة هو كتابه التنين أو اللفياثان (Léviathan).

[3] توماس هوبز. اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة. ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب؛ مراجعة وتقديم رضوان السيد. ط. 1. (أبوظبي: معهد أبو ظبي للثقافة والثرات، 2011). ص.41.

[4] توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق، ص.41.

الفلسفة تعني دراسة الأسئلة الأساسية المتعلقة بالحقيقة، والوجود، والقيم، والمعرفة، تهدف إلى فهم العالم والإنسان والعلاقات بينهما. من ناحية اخرى تعني العلوم بدراسة الظواهر الطبيعية والاجتماعية وتطوير نظريات ومفاهيم قائمة على الأدلة والتجربة هناك تفاعل وتأثير متبادل بين الفلسفة والعلوم، فالفلسفة توفر الأسس النظرية والمنهجية للعلوم، بينما العلوم تقدم المعرفة الأمبريقية التطبيقية التي تساهم في تطور الفلسفة الخلل البنيوي في العقلية الفلسفية يشير إلى مجموعة من التحديات والمشكلات التي تواجه الفلاسفة في بناء أفكارهم ونظرياتهم.  كثير من الفلاسفة يواجهون صعوبات في تجنب التناقضات في أفكارهم، هذه التناقضات قد تؤدي إلى ضعف الحجة أو عدم التماسك في النظريات اذ غالبًا ما تعتمد الفلسفات على افتراضات قد تكون غير مبررة أو غير مدروسة بشكل كافٍ، هذه الافتراضات يمكن أن تشكل أساسًا هشًا للنظريات ،الفلسفة تعتمد بشكل كبير على اللغة، لكن اللغة يمكن أن تكون غامضة أو متعددة المعاني، مما يؤدي إلى صعوبات في التعبير عن الأفكار بوضوح ،كما ان الفلسفات تتأثر بالثقافات والخلفيات الاجتماعية، ما يمكن أن يؤدي إلى انحيازات أو تفضيلات معينة تؤثر على الفكر الفلسفي . التطور في الحضارة والتكنولوجيا والاقتصاد عندما تكون هناك نظرية فلسفية خاطئة أو معتقدات غير صحيحة، يؤدي إلى تأثير سلبي على تطور المعرفة العلمية والابتكار التقني. على سبيل المثال، إذا كانت هناك فلسفة تعتقد أن العالم قائم على القدرة الإلهية وأن العلوم الطبيعية لا تكشف عن الحقيقة، يتم تقييد التطور العلمي والتكنولوجي، وبالتالي، يمكن أن يحدث تباطؤ في التقدم التكنولوجي والابتكار وتطور المجتمع ، الفلسفة تسهم أيضًا في توجيه القرارات الاقتصادية وتشكيل النظم الاقتصادية، إذا كانت هناك عقلية فلسفية متخلفة في المنطقة، يكون هناك تأثير سلبي على التطور الاقتصادي، مثل القيود على الحرية الاقتصادية وعدم تشجيع الاستثمار ،لذا يمكن القول إن وجود خلل بنيوي في العقلية الفلسفية يمكن أن ينعكس سلبًا على التطور في الحضارة والتكنولوجيا والاقتصاد،

أمثلة على الخلل البنيوي في العقلية الفلسفية

كان للأساطير والأفكار الخرافية تأثير كبير على الفلسفة والعلوم، على سبيل المثال، في العصور الوسطى، كانت العقلية الفلسفية تعتقد أن الأمراض تحدث بسبب الأرواح الشريرة أو الأسباب الخارقة للطبيعة، هذه العقلية أدت إلى تأخر في تطور فهمنا للأمراض وعلاجها، ومن ثم تأثير سلبي على التقدم الطبي والصحي، الفلسفة الدينية المتشددة تؤدي الى الالتصاق الشديد بمعتقدات دينية التي تشكل قيودا على التطور العلمي والتكنولوجي. تعتبر بعض السرديات الدينية المتشددة العلم والتكنولوجيا تهديدًا للقيم والمعتقدات الدينية، وبالتالي يتم رفضها أو تجاهلها مما يعوق التقدم التكنولوجي والعلمي في المجتمعات التي تتأثر بهذه العقلية، الفلسفة المحافظة والمحافظة تؤدي إلى المقاومة أو الرفض للتغيير والابتكار، على سبيل المثال، في بعض المجتمعات التقليدية، قد يتم رفض الأفكار والتقنيات الجديدة لأنها تعتبر انحرافًا عن التقاليد والقيم التقليدية مما يقيد التطور التكنولوجي والاقتصادي ويمنع استفادة المجتمع من التقدم، الفلسفة السلبية والقائمة على الشك، يمكن أن تؤدي إلى تقييد التطور والابتكار، عندما ينظر الأفراد إلى العالم بشكل سلبي ويشككون في إمكانية تحقيق التقدم فإنهم قد يتجنبون المخاطر ويمتنعون عن تجربة أفكار ومشاريع جديدة ،هذه الأمثلة توضح كيف يمكن أن يؤثر الخلل البنيوي في العقلية الفلسفية على التطور في مختلف المجالات.

الخلل البنيوي العام

من الصعب تحديد الخلل البنيوي العام في العقلية الفلسفية الشرق اوسطية، حيث تتنوع المدارس الفلسفية والتوجهات الفكرية في هذه المنطقة." (“الخلل البنيوي في العقلية الفلسفية الشرق اوسطية”)* ومع ذلك، يمكن التطرق إلى بعض التحديات ونقاط الضعف المحتملة في هذه العقلية:

القدرة على التطبيق العملي، تكون الفلسفة الشرقية اوسطية متمحورة بشكل كبير حول النظريات والتأملات الفلسفية، ويكون من الصعب تحويل هذه الافكار العميقة إلى تطبيقات عملية في الحياة اليومية.

الانغماس الديني، تكون العقلية الفلسفية الشرقية اوسطية مرتبطة بشكل وثيق بالدين والروحانية، ويكون هذا الانغماس الديني عائقًا أمام التفكير النقدي المستقل والتحليل العلمي.

الشمولية الثقافية، تكون الفلسفة الشرق اوسطية مرتبطة بثقافات محددة وسرديات تاريخية مؤدلجة، مما يؤدي إلى انحسارها في سياق ثقافي معين وعدم القدرة على التعامل مع التحديات العالمية بشكل شامل.

العولمة والهوية، تواجه الفلسفة الشرقية اوسطية تحديات في مواجهة العولمة وتأثيرها على الهوية الثقافية والفلسفية. يمكن أن تنشأ أسئلة حول الهوية الثقافية المشتركة والتفاعل بين الثقافات في ظل التحولات العالمية. هذه مجرد بعض القضايا الفلسفية الحالية التي يمكن أن تواجه العقلية الفلسفية الشرقية اوسطية.

مقارنة بين الفلسفة الشرق اوسطية والفلسفة الغربية

المصدر الأساسي للمعرفة:

 في الفلسفة الغربية، تعتمد المعرفة على المنطق والتحليل والاستدلال العقلي. بينما في الفلسفة الشرقية اوسطية، تعتمد المعرفة على السرديات الدينية والتجربة الروحية والتأمل.

التركيز الفلسفي:

 ترتكز الفلسفة الغربية على الفلسفة التأملية والأخلاق والاقتصاد، بينما تركز الفلسفة الشرقية اوسطية على الروحانية والتوازن والحكمة الروحية والتحقيق الذاتي.

النظرة للواقعية:

 الفلسفة الغربية تميل إلى تأكيد وجود الواقع الخارجي المستقل عن الوعي الإنساني، بينما الفلسفة الشرقية الوسطى تعزز فكرة أن الواقع هو نتاج للوعي الذاتي والتفاعل بين الداخل والخارج.

 (“الخلل البنيوي في العقلية الفلسفية الشرق اوسطية”)*

العلاقة بين الإنسان والطبيعة:

 في الفلسفة الغربية، يتم تعامل الإنسان والطبيعة على أنهما كيانان منفصلان، بينما تؤمن الفلسفة الشرقية الوسطى بالتوازن والتناغم والتقديس بين الإنسان والطبيعة ككيان واحد.

الأخلاق والقيم:

 الفلسفة الغربية تركز على الأخلاق الواجبة ومبادئ العدالة والحقوق، بينما الفلسفة الشرقية الوسطى تؤمن بالتوازن والتحقيق الروحي والتطهير الذاتي كأساس للأخلاق.

هذه مجرد بعض الاختلافات العامة بين الفلسفة الشرقية اوسطية والفلسفة الغربية. يجب ملاحظة أن هذه التصنيفات تعتبر عامة ويمكن أن يكون هناك تنوع وتداخل في الفلسفات داخل كل تقاليد، بعض الفلسفات الشرقية اوسطية تعتبر تطور التكنولوجيا والحضارة بشكل سلبي أو تنظر إليه على أنه يؤدي إلى انحراف عن القيم والمبادئ الروحية. ""ومع ذلك، يجب ملاحظة أن هذا الاعتراض ليس صحيحًا لجميع الفلسفات الشرقية اوسطية، وأن هناك تنوعًا واختلافًا بين هذه الفلسفات في مواقفها تجاه التقدم التكنولوجي والحضاري. " (“الخلل البنيوي في العقلية الفلسفية الشرق اوسطية”)* فبعض الفلسفات الشرقية اوسطية تروج لفهم متكامل يجمع بين الجوانب الروحية والمادية للحياة، وتؤمن بإمكانية استخدام التكنولوجيا والتقدم الحضاري لخدمة الإنسانية وتحقيق السعادة والتنمية الشاملة. علاوة على ذلك، يجب أن نفهم أن الفلسفة الشرقية اوسطية ليست كتلة موحدة وأن هناك تنوعًا في تياراتها ومدارسها الفكرية. وبالتالي، يمكن أن يكون لديها تفسيرات ومفاهيم مختلفة بشأن التكنولوجيا والتطور الحضاري. على مر التاريخ، يمكن أن تظهر بعض الدول في الشرق الأوسط بواجهتين، الجانب الثقافي والديني الذي يعكس الفلسفة الشرقية اوسطية، والجانب الاقتصادي والسياسي الذي ينطوي على التحديات التي تواجهها الدول في التطور التقني والحضاري، هناك عوامل عديدة تؤثر على التطور التقني والحضاري في المنطقة، مثل الاستقرار السياسي، التعليم، الابتكار، الاستثمار، والتكنولوجيا مع ذلك، تواجه الدول في الشرق الأوسط تحديات حضارية واقتصادية معاصرة، مثل توزيع الثروة، التعليم، البطالة، الفقر، الحروب والصراعات السياسية. هذه التحديات تؤثر على التطور التقني والحضاري في المنطقة.

الصراعات السياسية وأثرها

 تعاني بعض الدول في الشرق الأوسط من صراعات ونزاعات سياسية واضطرابات أمنية، مما يعرقل التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي. تواجه العديد من الدول في المنطقة تحديات كبيرة في مجال الفقر والبطالة، ويكون النمو السكاني السريع الذي يؤدي الى سوء توزيع الثروة ونقص فرص العمل يعد من الأسباب الرئيسية لهذه المشكلة. كذلك يعاني نظام التعليم في هذه الدول من ضعف التمويل ونقص البنية التحتية وجودة التعليم، مما يؤثر على تطور المهارات والمعرفة اللازمة لتعزيز الابتكار والتقدم الاقتصادي. كما ان هناك نقص في التمويل والاستثمار في البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، مما يؤثر على القدرة على الابتكار وتطوير صناعات جديدة وتحسين البنية التحتية التقنية كذلك تعاني العديد من الدول في الشرق الأوسط من تدفق اللاجئين والمهاجرين، مما يضع ضغوطًا على الموارد والبنية التحتية والخدمات الاجتماعية. من خلال تنمية التفكير النقدي في هذه المجتمعات وتعزيز الوعي الفلسفي والعلمي يمكن تجاوز الخلل البنيوي في الفلسفة الشرق أوسطية وتوفير بيئة داعمة ومحفزة للتفكير العلمي والفلسفي كما ان تشجيع الحوار والنقاش والبحث العلمي في المجتمعات يؤدي الى تحقيق التقدم والتطور. الا ان معظم كيانات المنطقة تسوسها دول هجينة يسودها الفساد بكل اشكاله والتبعية المقيتة.

***

غالب المسعودي

..............................

* الاقتباسات من مقالة لي منشورة في موقع الحوار المتمدن

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=820658

 

يكشف سلافوي جيجيك(1) المفارقة السياسية للكذب. ما تسمى مفارقة الكاذب Liar paradox statement مثل القول "كل ما أقول هو كذب" جرى نقاشها دائما من جانب الفلاسفة بدءاً من فلاسفة اليونان والهند حتى فلاسفة القرن العشرين. المفارقة هي اذا كان هذا القول صادق عندئذ فهو كاذب (كل ما أقول ليس كذبا)، والعكس صحيح. وبدلا من الضياع اللامتناهي في حجج وحجج مضادة، سوف نستفيد من جاك لاكان 1901-81)، الذي يقدم حلا فريدا من خلال التمييز بين محتوى التعبير enunciation والموقف الذاتي المتضمن في هذا التعبير enunciated: بين محتوى ما تقول والموقف المتضمن بما تقول. في اللحظة التي نستخدم فيها هذا التمييز، نرى فورا ان القول "كل ما أقول هو كذب" يمكن ان يكون ذاته صادقا او كاذبا. القول"انا دائما أكذب" يمكنه ان يجعل بشكل صحيح او غير صحيح التجربة الذاتية لكامل وجودي غير أصيلة وزائفة. لكن العكس ايضا صحيح.

لماذا نبذل وقتا في النقاش اللامتناهي بمثل هذه المفارقات؟ لأن في عصرنا عصر"ما بعد الحقيقة" للشعبوية اليمينية، بلغ تطبيق هذه المفارقة حدوده القصوى. لذا فان خطاب السياسيين اليوم لا يمكن فهمه بدون التمييز بين التعبير من جهة وما ينطوي عليه من جهة اخرى.

بعد إعادة انتخاب ترامب عام 2024، ناشدت الكسندريا اوكاسيو علنا (التي احتفظت بمقعدها في الكونغرس) اولئك المصوتين لها والذين ايضا صوتوا لترامب ان يوضحوا لماذا قاموا بهذا التصويت الغريب وغير المنسجم. قيل لها ان السبب هو انه بالمقارنة مع التلاعب الانتخابي لكاميلا هاري والديمقراطيين الاخرين، هي وترمب كلاهما بديا أكثر ثقة. هذا ايضا يفسر لماذا، عندما يقع ترامب في فخ اللاانسجام او الكذب الصريح، فان مثل هذا الافصاح يساعده: أنصاره يأخذون من كذبه كبرهان على انه يتصرف ككائن بشري عادي لايثق فقط بخبرائه المختصين وانما يقول رأيه بصراحة. ان اللاانسجام والكذب في المحتوى المنطوق لأقوال ترامب يعمل كإشارة بانه في مستوى موقف النطق، يتحدث ترامب كانسان أصيل وصادق. هذا يثبت ان الموقف المتضمن في النطق يمكن ان يكون أيضا مزيفا.

ستراتيجية الكذب

الحقيقة الذاتية هي في تضاد مع الحقيقة الواقعية factual truth بطريقة مشابهة للتضاد بين الهيستيريا والعصاب الوسواسي: الاول هو حقيقة في شكل كذبة، والثاني هو كذبة في شكل حقيقة. الهيستيري يقول الحقيقة في شكل كذبة بحيث ما يقال ليس صحيح تماما وانما الكذب يعبر بشكل زائف عن شكوى حقيقية، امّا ما يدّعيه العصابي الوسواسي هو في الواقع صحيح لكنه حقيقة تخدم الكذب.

اليوم، كلا اليمين الشعبوي واليسار الليبرالي اللذان يدعوان للتصحيح السياسي يمارسان هذين الشكلين التكميليين للكذب. اولاً كلا المجموعتين تستخدمان الكذب الواقعي عندما يخدم هذا الكذب ما يتصورونه كحقيقة عليا لقضيتهم. فمثلا، بعض الاصوليين الدينيين يدعون الى "الكذب من أجل يسوع": لكي تُمنع الجرائم المرعبة للاجهاض، يُسمح للمرء بنشر "حقائق" علمية كاذبة حول الأجنة والمخاطر الطبية للاجهاض، او لكي يساعدوا في اشاعة الرضاعة الطبيعية، يُسمح للمرء بعرض ادّعاء كـ حقيقة علمية بان الإمتناع عن الرضاعة الطبيعية يسبب سرطان الثدي. الشعبويون المناوئون للهجرة يتداولون بلا خجل قصصا غير واقعية حول الاغتصاب والجرائم الاخرى للاجئين لكي يعطوا مصداقية لرؤاهم بان اللاجئين يشكلون تهديدا "لإسلوبنا في الحياة". في كثير من الاحيان، ليبراليو التصحيح السياسي يعملون بنفس الطريقة لهدف مضاد، هم يعملون بصمت حول الاختلافات الفعلية بين طرق حياة اللاجئين والاوربيين، طالما يُنظر الى ذكرها كتعزيز للمركزية الاوربية. ونتذكر حالة روثرهام في المملكة المتحدة، حيث قبل عقد تقريبا، اكتشف شرطي ان عصابة من الشباب الباكستانيين كانوا يحضرون منهجيا لإغتصاب الاف الشابات الاوربيات الفقيرات، البيانات جرى تجاهلها في البدء او قُلل من شأنها لكي لاتثير الاسلامفوبيا.

الاستراتيجية المضادة ايضا مورست على نطاق واسع في كلا القطبين. الشعبويون المناوئون للهجرة لا ينشرون فقط اكاذيب واقعية وانما ايضا يستخدمون بمهارة اجزاءً من الحقيقة الواقعية ليضيفوا هالة من الصدق على أكاذيبهم العنصرية، كما ان انصار الحزب الشيوعي ايضا مارسوا هذا النوع من الكذب في صراعهم ضد العنصرية والتمييز الجنسي، هم كثيرا ما أعلنوا عن حقائق يمكن التحقق منها لكنهم يقدمونها بطريقة مشوهة. اليمين الشعبوي ينقل إحباطه الحقيقي وإحساسه بالخسارة الى عدو خارجي، بينما اليسار الشعبوي يستعمل قضاياه الصحيحة (اكتشاف التمييز الجنسي والعنصرية في اللغة) ليعيد الزعم بتفوقه الاخلاقي (وهكذا يمنع التغير الاجتماعي الاقتصادي الحقيقي). المفارقة الكبرى هي ان اليمين الشعبوي يمارس النسبية التاريخية بوحشية اكثر من اليسار، حتى عندما يدينونها في نظريتهم. مع ذلك، الموقف الصحيح هو ليس فقط التمسك بالحقيقة الواقعية، بمعنى ان، هناك "حقائق بديلة" – رغم انها ليست بالمعنى الذي حدث فيها الهولوكوست او لم يحدث. (بالمناسبة، جميع المحققين في الهولوكوست من ديفد ايرفينغ فصاعدا، الذين يدّ عون التحقق من البيانات بطريقة تجريبية صارمة – لا أحد منهم يستحضر نسبية ما بعد الحداثة).

البيانات تقدم ميدانا شاسعا وغير قابل للاختراق، ونحن دائما نقترب من زاوية ما تسميه التأويلات "افق الفهم"، مفضلين بعض البيانات ومتجاهلين اخرى. كل تاريخنا هو بالضبط – قصص يمكن القول عبارة عن مجموعات من بيانات منتقاة في قصص منسجمة بدلا من نسخ فوتوغرافية للواقع. فمثلا، مؤرخو اللاسامية يمكنهم بسهولة كتابة رؤية لدور اليهود في الحياة الاجتماعية للألمان في العشرينات من القرن الماضي، مشيرين الى الكيفية التي سيطر بها اليهود على مهن مثل المحاماة والصحافة والفن، وبغض النظر عن مدى صحتها، فهي من الواضح تعمل في خدمة الكذب. اكثر الكذب كفاءة هو الكذب الذي يعيد انتاج فقط البيانات الواقعية.

لو أخذنا تاريخ بلد ما، يمكن لأحد ما شرح ذلك التاريخ من وجهة نظر سياسية، مركزا على تقلبات السلطة السياسية، او ربما شخص آخر يمكنه التركيز على التنمية الاقتصادية، على الصراعات الايديولوجية، على البؤس الشعبي والاحتجاجات .. أي واحد من هذه الاتجاهات يمكه ان يكون دقيقا واقعيا لكنه ليس "صحيحا" بالمعنى الصارم البعيد عن الشك. لا يوجد هناك شيء "نسبي" حول حقيقة ان تاريخ الانسان دائما قيل من وجهة نظر معينة، جرى الحفاظ عليها بواسطة مصالح ايديولوجية. الشيء الصعب هو ان تبيّن كيف ان وجهات النظر النفعية هذه ليست صحيحة ايضا. بعضها اكثر صدقا من غيرها. فمثلا، عندما يعرض أحد قصة المانيا النازية من وجهة نظر معاناة اولئك الذي اضطُهدوا منها – أي، اذا تأثرنا في سردنا بمصلحة الانعتاق الانساني العالمي – هذه ليست فقط مسألة وجهة نظر ذاتية مختلفة، هذا السرد للتاريخ هو دائما "اكثر صحة" طالما هو يصف بكفاءة ديناميكية الكلية الاجتماعية التي أفرزت النازية. جميع "المصالح الذاتية" ليست نفس الشيء، ليس فقط بسبب ان بعضها مفضلة اخلاقيا على الاخرى، وانما ايضا بسبب ان "المصالح الذاتية" لاتقف خارج التكامل الاجتماعي، بل هي ذاتها أهداف للتكامل الاجتماعي، تكونت بواسطة مشاركين نشطين "او سلبيين" في العمليات الاجتماعية. ذلك يفسر لماذا لا يوجد هناك "ابلاغ "محايد" او "موضوعي" في حرب الشرق الاوسط، ولا حول القمع الروسي ضد اوكرانيا. يستطيع المرء قول الحقيقة حولها فقط من وجهة نظر الضحية . كتاب يورغن هابرماس (المعرفة والمصالح الانسانية، 1968)، هو اليوم الاكثر ملائمة من أي وقت مضى.

الكذب السلبي والكذب النشط

لكي نوضح هذا البُعد، يجب ان نوظف فكرة اخرى تلعب دورا حاسما في تحليل ايديولوجية اليوم: فكرة التداخل السلبي interpassivity التي طورها روبرت فولر. التداخل السلبي هو المضاد لفكرة هيجل في (دهاء العقل)، التي نكون بها نشطين من خلال الاخرين.

فكرة هيجل هي اني هل استطيع البقاء سلبيا، أجلس بارتياح في الخلف، بينما يقوم الاخرون بالعمل لي. بدلا من ضرب المعدن بمطرقة، تستطيع الماكنة القيام بذلك لي، بدلا من ان أقوم بتشغيل الطاحونة بنفسي، يستطيع الماء القيام بذلك. هنا انا احقق هدفي بطريقة التداخل بيني وبين الشيء الذي فيه أعمل شيء طبيعي آخر. لكن نفس الشيء يمكن ان يحدث على المستوى الشخصي. بدلا من ان أهاجم العدو مباشرة، انا استطيع اثارة قتال بينه وبين شخص آخر، بذلك انا استطيع ان اشاهد بارتياح الاثنين يحطمان بعضهما البعض. في حالة التداخل السلبي، على العكس، انا سلبي من خلال الآخر. انا أعترف للاخر بالمظهر السلبي – التمتع – بتجربتي، بينما انا ذاتي أبقى منخرطا بنشاط. انا استطيع الاستمرار بالعمل مساءً، بينما مسجل الفيديو يستمتع سلبيا بالتلفزيون لي، انا استطيع عمل ترتيب مالي لثروة المتوفي بينما الباكون يحزنون.

هذا يقودنا الى فكرة الفعالية الزائفة: الناس لا يتصرفون فقط لكي يغيروا شيئا ما، هم يستطيعون ايضا التصرف لمنع شيء ما من الحدوث او لكي لايتغير اي شيء. هنا تكمن الاستراتيجية الاساسية للعصاب الوسواسي. هو نشط بشكل محموم لكي يمنع الشيء الحقيقي من الحدوث. لنتصور، في موقف جماعي يحصل توتر يهدد بالانفجار، المهوسون يتحدثون كل الوقت لكي يمنعوا اللحظة المحرجة للعلم التي سوف تقنع المشاركين ليواجهوا علنا التوتر الاساسي.

ونفس الشيء، يحصل في علاجات التحليل النفسي، المصاب بالوسواس العصبي يتحدث باستمرار، يغرق المحلل بالحكايات والأحلام والرؤى. هذا النشاط المتواصل مدعوم بالخوف الاساسي بانهم لو أوقفوا الحديث للحظة، فان المحلل سوف يسألهم السؤال الخطير الذي يهم حقا. بكلمة اخرى، هم يتحدثون لكي يجعلوا المحلل ساكنا. حتى في الكثير من السياسات التقدمية اليوم، الخطر ليس السلبية وانما في النشاط الزائف المتحفز ليكون نشطا ومشاركا حتى لو بدون انتاجية. الناس يتدخلون كل الوقت، محاولين القيام بشيء ما، الاكاديميون يشاركون في نقاشات بلا معنى، الصعوبة الحقيقية هي التراجع خطوة الى الوراء والانسحاب. اولئك الذين في السلطة عادة يفضلون المشاركة النقدية على الصمت – لإشغالنا في حوار فقط للتأكد من كسر السلبية المشؤومة. التأكيد اللامتناهي على ضرورة الفعل، القيام بشيء ما، عادة يخون الموقف الذاتي في عدم القيام بأي شيء. كلما تحدثنا كثيرا حول كوارث بيئية وشيكة، كلما كنا أقل استعدادا للعمل. بالضد من نموذج التدخل السلبي الذي نكون به نشطين كل الوقت لضمان ان لا يتغير شيء، اول خطوة حاسمة في معارضته هي الانسحاب الى السلبية ورفض المشاركة. هذه الخطوة الاولى تمهد الطريق لنشاط حقيقي. الاشياء تصبح اكثر تعقيدا في عملية الإعتذار.عندما أتسبب بأذى لشخص ما، الشيء المناسب الذي أقوم به هو ان اقدم له اعتذارا رقيقا، والشيء الملائم له للرد هو قول شيء مثل "شكرا، انا اقدر شعورك لكني لم أكن منزعجا، لذا انت حقا لا تدين لي بأي اعتذار". المسألة بالطبع، انه رغم ان النتيجة النهائية هي ان لا اعتذار مطلوب، لكن المرء يجب ان يمر من خلال كامل عملية تقديم الاعتذار: "انت لا تدين لي باعتذار" يمكن قولها فقط بعد ان اقدم الاعتذار. لذا بالرغم من عدم حدوث شيء رسمي – لأن تقديم الاعتذار اعلن انه غير ضروري – هناك في نهاية العملية ربما يتم الاحتفاظ بالصداقة. الاعتذار نجح بالضبط من خلال اعلانه زائد عن الحاجة.

الحزب الشيوعي الصيني وفر نموذجا مشابها لإستغلال الفجوة بين المنطق والمنطوق. هو تعلّم درسا من فشل غورباشوف في ان الاعتراف التام علنا بـ "الجرائم التأسيسية" للنظام لن تؤدي الاّ الى سقوط النظام بأكمله. لذا فان تلك الجرائم يجب ان تبقى غير معروفة. حقا، بعض أخطاء وتجاوزات الماويين تم التنديد بها (القفزة الكبرى للامام والمجاعة المدمرة التي تبعتها، والثورة الثقافية)، وتقييم دينغ لدور ماو كـ 70% ايجابي و 30% سلبي، هو تكريس للصيغة الرسمية. لكن هذا التقييم يعمل قصداً كإستنتاج رسمي يجعل أي توضيح مفصل آخر غير ضروري. حتى عندما كان ماو سيئا بنسبة 30%، فان التأثير الرمزي لهذا الإعتراف هو محايد، لكي يستمر الاحتفال به كأب مؤسس للامة، لايزال جسده في ضريح وصورته على كل ورقة نقدية.

نحن نتعامل هنا مع حالة واضحة لإنكار يشبه انكار الشذوذ الجنسي. رغم اننا نعرف جيدا ان ماو ارتكب اخطاءً كبيرة وسبّب معاناة هائلة، لكن شخصيته تم الحفاظ عليها بطريقة اسطورية غير ملوثة بهذه الحقائق. بهذه الطريقة، يمكن للشيوعيين الصينيين امتلاك حصتهم من الكعكة، وان التغيرات الراديكالية التي أدت الى تحرير اقتصادي يمكن دمجها في استمرارية نفس الحزب الحاكم كما في السابق.

العملية هنا هي عملية تحييد (او كما يسميها فرويد "عزل"): انت تعترف باشياء فضيعة، لكنك تمنع جميع ردود الافعال الذاتية عليها (رعب مما حدث). ملايين الوفيات اصبحت حقيقة محايدة. اليوم، عندما يعلن إعلام اسرائيل وبعض الغرب عن تدمير غزة، هل انهم لا يمارسون نفس الحيادية؟ ارهابيو حماس يعذبون ويقتلون، بينما ضحايا جيش الدفاع الاسرائيلي تتم تصفيتهم وابادتهم ..

الشائعات والكذب

هناك شائعات تعمل بطريقة غريبة فيما يتعلق بالحقيقة: الحقيقة الواقعية للشائعة يتم تعليقها او تُعامل كشيء غير مادي (انا لا أعرف ان كانت حقيقية لكن هذ ما سمعته)، بينما محتوى الشائعة يحتفظ بكامل فاعليته الرمزية – نحن نستمتع بها، إعادة سردها بشغف (يمكن الوثوق هنا بكتاب الشائعات، للكاتب ملادن دولار، 2024).

لذا انه ليس نفس الشيء كإنكار الشذوذ الجنسي، التي تشبه كثيرا "انا أعرف جيدا انها ليست صحيحة لكن مع ذلك انا اعتقد بها"، بل هو عكسها – شيء مثل "انا لا استطيع القول باني اؤمن بان هذا صحيح، هذا حدث حقا لكن مع ذلك هذا ما أعرفه".

وفيما يتعلق بممارسة السلطة، يبدو حيز الشائعات غامضا. الشائعات القذرة يمكن ان تحافظ على السلطة (من أتاتورك الى تيتو) لكن الشائعات ايضا تلعب دورا حاسما في الاضطرابات بما في ذلك الاضطرابات المناوئة للمهاجرين (كما ذكرنا ان اوربا الآن مليئة بالشائعات ضد المهاجرين الذين يغتصبون النساء، وكيفية مراقبة السلطات للاخبار حول تلك الاغتصابات). هناك ايضا ما يرغب المرء تسميته "شائعات جيدة" – تلك التي تكون مطلوبة لإثارة انفجار ثوري. مثال تاريخي هو الخوف الكبير، الرعب العام الذي حدث بين السابع عشر من جولاي والثالث من اغسطس عام 1789 في بداية الثورة الفرنسية .

الشائعات يُنظر اليها باعتبارها تنسجم تماما مع مأزق اليوم والذي يصفه العديد من الناس بـ "موت الحقيقة" – توصيف هو بالتأكيد خاطئ. ما يقصده اولئك الذين يستعملون هذه العبارة هو انه في السابق (لنقل حتى الثمانينات من القرن الماضي)، رغم كل الاستغلال والتشويهات، ظلت الحقيقة سائدة بطريقة او باخرى، بحيث ان عبارة "موت الحقيقة"هي نسبيا ظاهرة حديثة. لكن نظرة عامة سريعة تخبرنا ان هذه ليست هي الحالة: كم من الانتهاكات لحقوق الانسان والكوارث الانسانية بقيت غير مرئية، من حرب فيتنام الى غزو العراق؟ فقط لنتذكر فترات حكم ريغن ونكسون وبوش ... الفرق لم يكن ان الماضي كان اكثر صدقا وانما ان سيادة الايديولوجية كانت اكثر قوة، بحيث، بدلا مما نراه اليوم من صراع كبير ملتبس في الحقائق المحلية، فان حقيقة واحدة (او كذبة كبيرة) بقيت اساسا هي السائدة.

في الغرب، كانت هذه هي حقيقة الديمقراطية الليبرالية (مع اليسار او اليمين).ما يحدث اليوم هو انه مع موجة الشعبوية التي زعزعت استقرار المؤسسة السياسية، نجد ان الحقيقة/الكذب التي خدمت كأساس ايديولوجي لهذه المؤسسة هي ايضا تنهار. والسبب الحتمي لهذا التفكك هو ليس ظهور نسبية ما بعد الحداثة وانما فشل المؤسسة الحاكمة في كونها لم تعد قادرة على الحفاظ على سيادتها الايديولوجية.

نستطيع ان نرى الآن ماذا يعارض حقا اولئك الذين يحزنون على "موت الحقيقة". تفكك قصة واحدة كبيرة مقبولة بدرجة ما من جانب الاغلبية جلبت استقرار ايديولوجي للمجتمع. ان سر اولئك الذين يلعنون "النسبية التاريخية" هو انهم يفتقدون الموقف الآمن الذي به توفر حقيقة كبرى واحدة (حتى لو كانت كذبة كبرى) الخرائط المعرفية الاساسية للجميع. باختصار، ان الذين ينددون بـ "موت الحقيقة" هم اكثر الاشخاص الراديكاليين لهذا الموت: شعارهم الضمني المنسوب الى غوتة" اللاعدالة افضل من الاضطراب" يعني كذبة كبيرة أفضل من واقع مزيج من صدق وكذب.

لذا عندما نستمع الى ادّعاءات بان المجتمع ينهار مع الإنهيار المستمر للنظام البيئي، يجب ان نكون واضحين جدا حول ما تعنيه تلك الادّعاءات: ليس فقط ان الاكاذيب تنتشر بكثرة وانما ان الكذبة الكبرى التي هي حتى الان تحافظ على التماسك الاجتماعي هي تتفكك. ان "موت الحقيقة" يفتح إمكانية لحقيقة أصيلة جديدة او لكذب كبير أكثر سوءاً. ألمْ يحدث هذا اليوم مع تراجع الديمقراطية الليبرالية والتي تدريجيا طغت عليها شخصيات متعددة من الفاشية الجديدة، بدءاً من الشعبوية الإقطاعية حتى الإستبداد الديني؟

***

حاتم حميد محسن

..........................

Philosophy Now June/July2025, issue 168

(1) سلافوي جيجيك Slavoj Zizek مدير معهد بيركيك للانسانيات في جامعة لندن، استاذ زائر في جامعة نيويورك، باحث أقدم في قسم الفلسفة بجامعة Ljubljana في سلوفانيا.

تمهيد: من خلال ما اشار له فلاسفة عديدين في تلازم الذاكرة والخيال بوجهات نظر متباينة خلصنا أنهما إفصاحان يدركان بدلالة تعبيرهما عن (الزمان) بصورة متضادة متعاكسة، فالذاكرة تعبير إستذكاري متجه نحو الماضي دوما، يعاكسه تعبير الخيال متجها نحو سيرورة مستقبلية غائبة ليست موجودة في زمان مدرك الحضور. الحاضر آنية منحلة مندثرة متلاشية بين شد الماضي وتوظيف المستقبل. حضور الموضوع في الذاكرة والخيال على السواء ضرورة ادراكية.

بالحقيقة هذا التفريق المتعاكس بين إختلاف زمانية الذاكرة نحو الماضي، وزمانية الخيال نحو سيرورة مستقبلية هي إجتهاد لنا سبق لريكور ذكره بعبارة سريعة سرعان ما غادرها من حيث تكريسها الانفصال بين الذاكرة والخيال غير المتفق عليه . وحيث معظم الفلاسفة رغم هذا التعارض الشديد بين تحقيب وقتين مختلفين، يذهبون – الفلاسفة - الى تبعية الذاكرة للمخيلة أو تبعية المخيلة للذاكرة من ناحية أن الذاكرة هي زمان ماض يحتوي زمانية الخيال في إرتباطهما المشترك بتقلبات النفس.

وذهب بعض الفلاسفة تأكيدهم أهمية ربط الذاكرة بالزمن الماضي في معرفة دلالتها حين تكون الذاكرة مرافقة لزمن مرّ، زمن مضى، عليه يمكننا إستخلاص ثلاث نتائج من هذا المعنى ربما لا يأخذ بها بعض الذين يعاملون تجريد الذاكرة والخيال جوهرين لا علاقة تربطهما بالعقل بل هما ولا حتى تجريدين إدراكيين منفصلين يحتويهما العقل بالوصاية الفكرية عليهما:

1. الذاكرة موضوع تجريدي مدرك بدلالة وظيفته في إرتباطه المتلازم بإستذكار وقائع وحوادث الزمان الماضي. والذاكرة في تجريدها من الخيال لا يبقى معنى لها كما يتضح معنا لاحقا.

2. الذاكرة إنشاء تعبيري تجريدي صوري صادر عن العقل في إستذكار وقائع الزمن الماضي. ولا يقلل من هذا تنسيب الذاكرة الى تابعية النفس، الذاكرة لا تمتلك إستقلالية المدرك المجرد ولا بأس من ربط النفس بها كما جرى ربط الخيال بها، ولا معنى لشيء يدعى ذاكرة مجردا عن دلالة ارتباطه بوقائع حدثت وجرت كحوادث واقعية في زمن ماض هو تحقيب تاريخي وليس زمنا.. فالذاكرة هي تخزين تصوري لوقائع قبل كل شيء وهي تحقيب تاريخي لزمن ماض جرى وقائعيا وحصل وغادر حضوره الآني الحالي.

3. الذاكرة فعالية إستذكارية منبثقة عن تفكير عقلي منتج لها ولا تمتلك هي خاصية إستذكار وقائع الماضي من دون مرجعية الخيال العقلي . بمعنى الذاكرة التي تعتمد العقل في إنتاجه لها لا تكون الذاكرة موضوعا مستقلا مجردا للعقل . كما عندما تكون الذاكرة مبعثها إستثارة نفسية لمدّخرات إستذكارية مخزّنة ايضا لا يمنحها هذا غير صفة التجريد المرتبطة بتفكير العقل.

الذاكرة والزمن

علاقة الذاكرة بالزمن علاقة اشكالية في عدة أمور نحاول الاشارة لبعضها حيث يشير بعض الفلاسفة عن إشكالية الذاكرة بالادراك قولهم " البشر يشاركون بعض الحيوانات في الذاكرة المحضة، غير أن الجميع – البشر وبعض الحيوانات - لا يملكون الحس الادراكي على أن الاسبيقية تتضمن بين القبل والبعد – يعني السابق واللاحق هما في الزمان "1

هذا التعبير الملتبس المعنى بعض الشيء نجد في مناقشته أنه من الصحيح الذاكرة قسمة مشتركة بين البشر وبعض الحيوانات وليس جميع الحيوانات إشتراكهم في مرجعية العقل والذاكرة لذا لا يمكن للحيوان إمتلاك فاعلية الاستذكار بمعزل عن فاعلية العقل بتزويد الذاكرة بهذه الخاصية الاستذكارية للماضي. الاستذكار خاصية انسانية فقط دون بقية الكائنات والموجودات في الطبيعة.

والحقيقة التي لا نقاش عليها أن البشر والحيوانات لا يمتلكون الحس الادراكي للزمن في تجريده الاستشعاري غير المتحق عقليا، بمعنى إدراك الزمن كتجريد ماهوي قائم لوحده لا يدركه الانسان ولا الحيوان.. علما إن الحس الادراكي للزمن عند الحيوان معدوم تقريبا حسيا وتجريديا. بخلاف الانسان الذي يدرك الزمن بدلالة غيره ممثلا بمقدار حركة الاجسام التي يحتويها.

الزمن لا يدرك بزمن يجانسه كون ماهية الزمن لا تقبل التجزئة ولا التقسيم تماهيا مع تعبير ارسطو لا يحد الزمان بالزمان. (لايضاح المزيد عن هذه الجزئية أدعو مراجعة أكثر من مقال لي منشور على مواقع عربية عن الزمان بالمنظور الفلسفي آخرها كان بعنوان (الزمان المطلق وهم الاتصال والانفصال).

ذاكرة الانسان تدرك الزمان الارضي الطبيعي كتقطيع إفتراضي كتحقيب يقوم على إدراك مقدار ونوعية حركة الاجسام داخله. والزمان ماهية وصفات تعجز حتى بعض الحيوانات القريبة عقليا من ذكاء الانسان ادراك الزمان بمقدار حركة الاجسام لا هي بذاتها ولا بدلالة غيرها من أجسام تدرك حركتها لكنها تجهل زمانية تلك الحركة، الزمان تجريد يعرف ويدرك بدلالة قياس حركة غيره من الاجسام داخله، والمساواة بين الادراكين الحركة وزمانها بإنفصال الحركة عن زمانها هو محال لا يدركه العقل. فهما غير متساويين بل ومختلفين. فحركة الجسم هو مقدار زماني، وليس زمانا مجردا يدرك وحده منفصلا - اي موضوعا - عن حركة الاجسام داخله (الزمن). كما أن إدراك الزمان كتحقيب يتوزعه الماضي والحاضر والمستقبل يكون في إرتباط حركة الارض حول نفسها وحول الشمس ايضا وعلاقة الارض مع باقي أجرام المجموعة الشمسية تحديدا القمر وقانون الجاذبية.

المقصود التوضيحي انت لا تستطيع ادراك حركة الشيء بمعزل عن ادراكك مقدار تلك الحركة زمانيا. لذا يكون ادراك حركة الشيء زمنيا لا يعني ادراك زمن تلك الحركة تجريدا زمنيا منفصلا عن حركة الشيء او الجسم داخل الزمن. بمعنى الزمان محال إدراكه ماهويا إلا بدلالة مقدار حركة جسم تلازمه في داخله يحتويها الزمن بحيادية تامة.

الزمن ماهية لا تدرك وغير قابلة لادراك العقل كموضوع قائم بذاته مجردا. ومحال ادراك الحيوان (للماقبل والمابعد) اي لحظتي الزمان الافتراضية غير المتحققتين ادراكا. لا يدرك الحيوان للماقبل ولا للمابعد مطلقا بهدف إدراكه مقدار الزمن بل ولا إدراكه زمن موجودات الاشياء التي تشاركه وجوده الانطولوجي ايضا، والزمان حتى بالنسبة للانسان يدرك كتحقيب وقائعي في تعاقب الزمان بالقياس لحركة الاجسام ولا يستطيع الانسان إدراك الزمان كماهية مجردة أو صفات نتيجة إدراكه مقدار حركة الاجسام في زمان لا يدرك لوحده كينونة مستقلة وجودا يمكن إدراكها من غير الحركة المادية الحاصلة داخل الزمن وليس خارجه فلا يوجد للزمن (خارج) يحدّه.

ذاكرة الحيوان في حال أفتراضنا أنها تمتلك استذكار الاشياء والوقائع من الماضي كما يفعل الانسان . فهي – الحيوانات - لا تعي تحقيب الزمان الارضي كوقائع كما يدركه الانسان كماض وحاضر ومستقبل. أي ذاكرة الحيوان لا تعي الزمن كتحقيب تسلسلي نظامي كما يعيه الانسان ويتكيّف بموجبه. ذاكرة الحيوان تجد في الحاضر الذي تعيشه ولا تدركه عادة من السلوك المعتاد الذي لا يحتاج معه ذاكرة. والحيوان مثلا يشعر بتبدلات المناخ والبيئة من حوله واحيانا يتنبأ قبل الانسان بحدوث ظواهر طبيعية لكنه يجهل أسباب حدوث هذه التغيرات المناخية وهذه الظواهر ولماذا تحدث؟

وحين يطرح ارسطو في كتابه " الانطباعات" قوله " أننا حين ندرك الحركة فأننا ندرك الزمن. غير أن الزمان لا يدرك كمختلف عن الحركة، إلا اذا حددناه. أي أذا إستطعنا تمييز حركتين الاولى كسابقة والثانية كلاحقة، وفي هذه النقطة يتقاطع تحليل الزمان عن تحليل الذاكرة "2

من الصائب الصحيح الظاهر من العبارة تعبير ارسطو قوله " حين ندرك الحركة ندرك الزمن " لكن إلتباس العبارة يكمن أننا ندرك الزمن بدلالة حركة جسم ولا يعني هذا امكانية إدراكنا الزمن مجردا عن حركة الشيء المتحرك داخله. بمعنى إدركنا الزمان مجازيا مجردا في إدراكنا حركة جسم داخله، أننا نقيس مقدار الحركة لمعرفة زمن حركة تلك الاجسام وليس مقدار حركة الزمان بدلالة حركة الجسم. الزمان ماهية وصفات تجريدية ثابتة محال ادراك الماقبل كلحظة تسبق المابعد بغير دلالة حركة شيء زمانا...عبارة ارسطو التي مررنا بها في منتهى الدقة والصواب قوله (الزمان لا يدرك كمختلف عن الحركة) بمعنى لا إدراك زمن من دون إرتباطه بدلالة حركة جسم أو شيء فيه. وإدراك الزمان لا يدرك بإختلافه عن الحركة ايضا. الزمان قياس مقدار حركة جسم داخله لكنه اي الزمن ليس بحركة.

الزمان حتى في قياسنا مقدار اللحظة فيه يكون متعذرا من غير تعالقة مع حركة الاجسام كزمان مطلق ميتافيزيقي لا يمكننا ادراكه مجردا يمّثل نفسه كوجود ندركه وحده. وعندما نحاول وصول – تحقيق المستحيل الفيزيائي – حسب رغبة ارسطو تحديد زمانية الماقبل عن لحظة زمانية المابعد مجردتين عن حركة جسم ما نكون دخلنا تقاطع تحليل الزمان عن تحليل الذاكرة حسب تعبير ارسطو، والسبب واضح لماذا؟

أولا لا يمكن تحديد لحظتين زمانيتين مجردتين عن حركة جسم يلازمهما. الزمان لا يدرك موضوعيا لا في كينونته المطلقة الكلية ولا في إفتراضنا الخاطيء أننا نستطيع تجزئة وتقسيم الزمان الى لحظات أو غير لحظات من غير دلالة حركة شيء جسم يداخله زمانيا. من حيث اللحظة هي مقدار زمني لحركة شيء وليست اللحظة تجريدا زمانيا يمكننا حدّه وإدراكه بزمن. الزمان تجريد لا يدركه العقل لأنه ليس من صنع وأبتداع إدراك العقل له كوجود ولا هو معطى أنطولوجي متعالق وجودا بالطبيعة يدرك منفصلا بغير موجوداتها. بخلاف جميع التجريدات الادراكية الاخرى التي يصدرها العقل وهو يدركها ويعيها لأنه صانعها وهي التي ندركها زمانيا كونها أصبحت تجريدا عقليا. الزمان في كل الاحوال لا يكون موضوعا مستقلا لادراك العقل. وعندما نقر بصحة إختلاف تحليل الذاكرة عن تحليل الزمان المشروطة بتحديد اللحظتين الزمانيتين (الماقبل والمابعد) اللتين من المحال تحققهما كما أوضحناه قبل أسطر قليلة، نجد حقيقة الذاكرة هي أستذكار تصوري تجريدي لوقائع وحوادث وقعت في الماضي محفوظة بالذاكرة تستطيع الذاكرة إسترجاعها الاستذكاري الناقص بتأثير عامل النسيان. وهذا التجريد يختلف تماما عن إمكانية إدراك عقل الانسان للزمان مجردا عن الحركة التي يحتويها لجسم، في معرفته لحظتي الماقبل والمابعد. الانسان ليس بمقدوره ادراك الزمان مجردا عن حركة الاجسام داخله. الزمان محال إدراكه تجريدا مفهوما أو موجودا لوحده فيزيائيا. الزمان ليس بموضوع يدركه العقل، كما الزمان دلالة حركة لكنه ليس بحركة يمكن رصدها. الحركة صفة للمادة لكنها اي الحركة ليست صفة للزمن بل صفة لحركة جسم يحتويه زمن. فيزيائية الزمن على انه حركة ملازمة لادراكنا الاشياء خطأ. بدلالة الحركة ندرك حركة الاشياء والاجسام داخل الزمن.

النفس والذاكرة

جرت محاولة فلسفية ربط الذاكرة والخيال بالنفس في تاكيد مقولة افلاطون بهذا المعنى، تلا ذلك تعبيرات فلسفية حول تعالق الذاكرة بالزمن مثل قول مونييه " كل ذكرى تصاحبها فكرة الزمن" وقول سوراجي " كل ذكرى تتضمن الزمان" وقول منسوب لارسطو " أن نكون في الزمان يعني أن يقيسنا الزمان في ذاتنا وفي وجودنا وبالنسبة للحركة، فأننا واقع كوننا في الزمان يعنى واقع أن نقاس في وجودنا" " وتعلن النفس أن هناك لحظتين السابقة من جهة واللاحقة من جهة أخرى، عندها نقول هذا هو الزمان". العبارات المقتبسة عن المصدر هامش رقم3

تعقيب: ربط الذاكرة بالخيال والنفس لا يغير من حقيقة أن مرجعية العقل تحدد كل شيء بالنسبة لهم ثلاثتهم كتعبيرات صادرة عن العقل. وربط الذاكرة بالماضي كتحقيب لازماني لا يجعل من الخيال تابعا للتعبير عن الماضي فزمان الذاكرة هو غير زمان الخيال والمخيلة. وتوضيحات اكثر نجدها في:

- الذاكرة ليست مصدر توليد تداعيات المخيّلة، والذاكرة استذكار صوري لافكار تجريدية في تعبيرها عن وقائع زمانية الماضي. وربط الذاكرة بالخيال قضية جدالية غير محسومة بين مؤيد داعيا لانفصالهما مثل بول ريكور ومن قبله برجسون، وبين داع لربطهما مثل العديد من الفلاسفة الذين يرون في أحدهما تعبيرا ضمنيا عن الاخر.فعندما نلفظ مفردة ذاكرة فالمفهوم الدارج أننا نقصد ملازمة الخيال لها وتوليدها ماهو ماض إستذكاري مخزون لديها.

- أن نكون في الزمان لا يكفي التسليم أننا أصبحنا يقيسنا الزمان في ذاتنا وفي وجودنا حسب ارسطو، هذا الافتراض يحتاج أدلة برهانية تصادقه لأننا ببساطة، لا نستطيع إدراك الزمن لوجودنا وذواتنا بدلالة طرف ثالث غير موجود يحكم ويراقب وجودنا في أحتواء الزمان لنا، الزمان يقيس الحركة بوجود جسم متحرك وطرف ثالث غير الزمان وحركة الجسم به يقيس مقدار الزمن بالحركة وليس مقدار الزمان فينا الذي لا ندركه؟ الشيء الذي لا يمكننا تصوره اننا داخل الزمن في كل لحظات وعينا لذواتنا. معنى تعبير ارسطو (ندخل الزمن) بقياس مقدار حركتنا به خطأ.

صحيح جدا من الناحية الفلسفية نردد مع ارسطو أننا نقع في قياس الزمن لنا، لكن الاهم من ذلك هذا الافتراض ندركه بدلالة ماذا ودلالة من؟ المفروض الواجب هنا كي ندرك قياس الزمن لنا ولذواتنا يتحتم وجود طرف ثالث لا هو الزمن ولا هو نحن الذي يتلبسنا الزمن داخله. حضور الطرف الثالث محال تحققه ليؤكد قياس الزمن لنا كوجود انطولوجي تسبح أجسامنا داخل الزمان الذي يحتوينا ويدركنا ولا ندركه...باستثناء إفتراض تصنيع آلة كطرف ثالث لهذا الغرض.

- من البساطة الافتراض أننا بمقدار ما نفتقد القدرة على هيمنة الزمان فهو أيضا يفتقد القدرة على التلاعب الحركي زمانيا بنا، الزمان دلالة ادراكية يتبع حركة الاشياء داخله ولا يتبع وجود الاشياء داخله. فالانسان وكافة الاشياء والموجودات لا تدرك الزمان يحيط بها إلا بدلالة (حركة) ليس للزمان علاقة باستحضارها بمقدار ما تكون الحركة خاصية الاجسام المراد قياس زمانها. بمعنى حركة الاجسام داخل الزمن لا يولدها ويخلقها الزمن خاصية داخل الاجسام المتحركة كي يدركها الزمن. فالادراك يتحدد بحركة الاجسام خاصية لها داخل الزمان وليس بحركة الزمان الملازمة للاجسام وهي لا تمثل جزءا من تلك الاجسام. فحركة الجسم هي خاصية في تكوينه، لكن قياس مقدار حركة ذلك الجسم الذي هو الزمن يكون طارئا لا يجانس الجسم ولا حركته لا بالصفات ولا بالماهية، بمباشر العبارة الزمان ليس وجودا ندركه كما ندرك وجود بقية الاجسام فيزيائيا. .

- ربط الذاكرة بالنفس يبرره بعض الفلاسفة الى أن التذكر مبعثه إنفعال نفسي، والذاكرة لا تستستطيع تذكر وقائع الماضي من غير إستثارة نفسية تحفز الذاكرة على انبعاث انطباعاتها التذكرية االمخزونة فيها. التساؤل هنا هل الذاكرة هي الخيال نفسه ولا فرق بينهما؟ بدليل الذهاب الى أن استذكار الماضي هو خاصية الذاكرة، وأفكار الخيال رغم أنها تحوي إستذكارات واقعية ماضية، الا أن الخيال يمثل تفكيرا مستحدثا أيضا لاعلاقة تربطه بالذاكرة في توجهه نحو المستقبل.

هذا يجنبنا الوقوع في محذورين الاول أن الذاكرة ليست توليدا لافكار الخيال، والثاني أن الخيال يمتلك إستقلالية تفكيرية عن خاصية الذاكرة أنها لاتستطيع التعبير عن أفكار خيالية لم تكن مطبوعة بالذاكرة مكتسبة فيها كخبرة متراكمة.

الذاكرة واللغة

من المسائل المهمة العالقة بموضوعة الذاكرة هو صورة التذكر الاسترجاعية لغويا. فالذاكرة بمقدار ما تكون إفصاحاتها التذكرية أسترجاعا مبعثه الانفعال النفسي، لما سبق وأن إنطبع عليها صوريا كخزين، إلا أن زمن الاسترجاع لاحداث الماضي ليست هي لغة التخزين الذاكراتي. غالبا ما يكون الاسترجاع التذكري هو الزمن الحاضر الذي يجعل من الاسترجاع التذكري للماضي منقوصا غير متطابق فيه لغة التصور الاستذكاري مع لغة الواقع الذي تكون عليه قراءتها كاحداث جرت في الماضي. لسببين الاول آفة النسيان التي ترافق الذاكرة، والثاني إختلاف لغة التعبير الزماني في محاولة الربط الاستذكاري بين ماض وحاضر. بمعنى الوقائع الماضية رغم تقادم الزمن عليها تبدو أكثر أصالة حقيقية منها في حالة لغة الاسترجاع التذكري الناقص لها.

بهذا نكون وصلنا الى نقطة مفصلية في توكيد حقيقة هيمنة الخيال على الذاكرة وليس العكس، حين نجد أن كل تصورات الذاكرة الاسترجاعية التذكرية أنما هي تصورات لغوية من صنع الخيال، وبغير هذه الملكة التي يمتلكها الخيال ولا تمتلكها الذاكرة، أنما يكون فيها الخيال يعيد نفسه إسترجاعيا بتوسيله الذاكرة القيام بما يحمله الخيال من دلالات تعبيرية، وعليه لا يبقى هناك ما تلعبه الذاكرة بمعزل عن وصاية الخيال عليها. لكن هذا الاستنباط في مصادرة الذاكرة لصالح الخيال تصطدم بخاصية تمتلكها الذاكرة ولا يمتلكها الخيال، فالذاكرة تتجه الى إستذكار كل ماهو واقعي تاريخي حدث في زمن ماض، في حين الخيال يمتلك ايضا ما لا تمتلكه الذاكرة من حيث هو يتجه نحو تحقيق حضور ما هو وهمي مطلوب استحضاره.، غير واقعي، يوتوبي، وأحيانا غير موجود.. وأمام هذه المعضلة التي لا يمكن حلها إلا بالتسليم في إستحالة فصل الذاكرة عن الخيال في القصدية التي تبدو لنا متناقضة لكن هي في حقيقتها متكاملة.

حقيقة الذاكرة وصدق التعبير

من خلاصة ما مر بنا وغيره كثير نجد أن عدم الثقة بكل من الذاكرة والخيال يرتبط بتقصيرهما المشترك في عدم صدقية كل منهما في التعبير عن موضوعه. فالذاكرة يشوبها النقص الملازم الاول لها في آفة (النسيان) الذي تعجز الذاكرة التعبير عنه بصدقية موثوقة يمكن الاخذ بها. الناحية الثانية من تقصير الذاكرة هو أن افكارها الاستذكارية ليست تنميطا نوعيا يشمل جميع الذين يحاولون استذكار نفس الوقائع من الماضي.

فالذاكرة هي والخيال خاصيتان انفراديتان من ناحية الفاعلية الادراكية، وهما بنفس الوقت خاصيتين متلازمتين من ناحية كونهما تجريدان إدراكيان في منظومة العقل الادراكية. يتفاوتان من شخص لآخر نتيجة عوامل ذاتية وموضوعية ترتبط بذاكرة كل شخص منفردا. فالذاكرة قد تمرض ويصيبها الوهن والضعف، وفي أوقات وشروط موضوعية تنشط، وهناك مقولة تذهب أن المسنين يملكون ذكريات أكثر من الشباب لكن عندهم ذاكرة غير نشطة تتذكرأقل ما تتذكره ذاكرة الشاب..

ما يتفق عليه الفلاسفة هو أننا لا نملك شيئا كوسيلة أفضل من الذاكرة متاحة لنا في إستذكار الماضي كوقائع، الذي يجعلنا ندرك مسبقا وجود ماض بحاجة الى إفصاح وتذكر له. ولا توجد وسيلة لكشف هذا الافصاح غير الذاكرة. لكن هل معنى هذا إكتساب الذاكرة الصفة الانفرادية الموثوقية المطلقة بها؟ وهل ما تنقله لنا الذاكرة كاف للتدليل على مصداقية مطلقة لعملية الاستذكار؟ ينقل بول ريكور عن كتاب ارسطو "مابعد الطبيعة" مقولة شهيرة لارسطو مفادها "الذاكرة من الماضي، والوجود الماضي يقال بطرق متعددة، فالوجود يقال على أوجه عدة".4

يعبّر بول ريكور عن هذا إلاحراج المتسائل قوله لا يمكننا أماطة اللثام عن حقيقة ومصداقية الاستذكارات، الا من خلال توسيط طرف ثالث يكون هيئة نقدية تعارض وتدرس وتقارن بين شهادات الذاكرة لاتاحة ما أسماه المرور الموثوق بين الذاكرة وبين التاريخ.5 .أما مسألة الطعن بمصداقية الخيال من ناحية المقارنة بينه وبين الذاكرة فنجد أن مساحة التشكيك بمصداقيته غير الموثوق بها نابعة أصلا من موضوع المعالجة التي هي من حصة الخيال في تصورات وهمية وأماني معلقة وسياحة فكرية في انتقالات اللاشعور غير المحدود لا يلتزم كما في الذاكرة شروط التفريق بين الشعور واللاشعور وبين الحقيقي والوهمي وبين الصادق والكاذب وغيرها من أمور يكون فيها خداع الخيال أصدق من التعبير عن الواقع الحقيقي للذاكرة في الكثير من الاحيان.

الذاكرة والتاريخ

يذكر بول ريكور كنت أعالج القطب القصصي للخيال في كتابي (الزمان والسرد)، حين عارضت السرد الروائي الخيالي بالسرد التاريخي، أما الآن فعلينا أن نضع أنفسنا بالنسبة للقطب الاخر قطب الهلوسة، وكما أعطى برجسون طابعا دراميا الى قضية الذاكرة عن طريق منهجه بالتقسيم والانتقال الى الطرف الاقصى، علينا أن نعطي طابعا دراميا الى موضوعاتية الخيال بأن ننظمها بالنسبة الى قطبي القصصية الخيالي والهلوسة)6

أن تواشج خاصية (الهلوسة) الوهمية رغم عقلانية الذاكرة التي تتسم بها،هي قسمة مشتركة بين الذاكرة والخيال معا. فالماضي بالنسبة للذاكرة هي نوع من الدراما المكتوبة على وفق نسق تاريخي يخترمه إنتظام الزمن. وهو ملك مشاع لاستذكار الذاكرة بنفس الوقت الذي يكون فيه ساحة ملعب لهلوسات الخيال يصول ويجول فيه....الشيء أو الفارق الذي يتوجب الاشارة له في هذا التداخل الذاكراتي مع الخيال بالنسبة للماضي كدراما تاريخية هو (الزمن)، ليس بالافتراق التقليدي أن الذاكرة هي توثيق زمن الماضي، والخيال يحسب على مداخلة تعبيره عنهما (زمني الحاضر والمستقبل) الذي يحاول تصنيعهما وتنبؤه في مستقبلهما.

الخيال حين يزاحم الذاكرة في منطقة وساحة نفوذها دراما تاريخية الماضي الذي من حقها الارجح التعبير عنه، نجد الخيال بطبيعته اللاشعورية المهلوسة الفوضوية يتناول حقائق التاريخ بعيدا عن الانتظام الزماني في ضبط تسلسل الاحداث التي يكتنفها الزمن بانضباط عالي يحكمه التاريخ كتحقيب زماني يتوزعه الماضي والحاضر والمستقبل من الناحية التاريخية المتداخلة مع انتقالات الزمن من الماضي الى الحاضر والى المستقبل. الحقيقة الزمن لا ينتقل حسب رغائبنا، بل انتقالات النفس والاستذكار لدينا تنتقل من حالة لاخرى والزمن ثابت.

ميزة الذاكرة في تعبيرها عن السرد التاريخي التوثيقي تكون أكثر صدقية من محاولة الخيال التعبير عنه، فبالخيال يتم الاسقاط الوهمي، وغير المتوقع، غير الحاصل على هذا السرد المحكوم بسلطة تنظيم الزمان لوقائعه تاريخيا بما لا تستطيع تلك الحوادث الخلاص والانفكاك من سطوة الماضي عليها.

نحن لو تحرينا الصدق والامانة في تعبير الذاكرة عن تاريخية الماضي كسردية، وتعبير الخيال عن تلك السردية رغم أن الخيال بطبيعته هو تعبير جمالي فني، لوجدنا التداخل بينهما على أشده في تعبيرهما الانتقالي عن الماضي كتاريخ سردي نوعي متمّيز روائيا في حال جرى التوظيف النقلي على وفق أطر وأنساق ومواصفات فنية جمالية نجدها تدفن ما ليس قابلا للانسجام الفني الادبي من وقائع هي من إختصاص تاريخي سردي توثيقي صرف.

الخيال يتمثل التاريخ الماضي دراما حقيقية في تعبيره الخيالي عنها إسقاطا فنيا، وهذا لا يمنح الذاكرة تفويضا مفتوحا في أنحيازها للصدق النقلي التمثلي ذاكراتيا لوقائع وأحداث يحكمها الزمن الماضي. تمنع الخيال دخوله المزارع الخاصة بالذاكرة.

كيف نميّز بين صدقية الذاكرة من صدقية الخيال في نقلهما دراما الماضي ليس كسردية تاريخية بل كدراما ممكن التلاعب بها لمقتضيات فنية مستلهمة من الماضي كتاريخ؟ كلاهما الذاكرة والخيال لا يمتلكان الصدقية التامة في التعبير النقلي لوقائع التاريخ منفردين ولا حتى متكاملين لاسباب تتعلق بأن السرد التاريخي يمتاز بصفات من الواقعية الاركيولوجية التي تجعل من الذاكرة والخيال التعبير الخالص التام عن تلك الوقائع مشكوكا به ناقصا أو مشوّها.

المخيلة تحتاج الذاكرة، والذاكرة تحتاج الخيال، لذا أذا أردنا توّخي الجمالية الفنية في نقل وقائع التاريخ دراميا، نكون بحاجة الى تمرير الاندماج المتكامل بينهما، فالذاكرة لا تنقل دراما التاريخ الماضي بإسلوب السرد الذي تحكمه الوقائع ولا تستطيع هي التحكم فيه، ويوجد فرق كبير بين السرد الروائي الخيالي عن السرد التاريخي الواقعي.

لذا نصبح أمام قبول حقيقة تفرض نفسها أن الذاكرة ليس بمقدورها نقل دراما التاريخ الماضي بنوع من السرد التوثيقي أكثر من حفريات الاركيولوجيا الذي هو من مهام عالم التاريخ والاثار والانثروبولوجيا التي تقف معها الذاكرة عاجزة عن مجاراة تمثيل منطق الحفر الاركيولوجي التاريخي. فالواقع على الارض يكون والحالة هذه يدمغ كلا من الذاكرة والخيال بالابتعاد التام عن مشغل حفريات التاريخ بما هو تدوين توثيقي صادق مصدره الاساس التنقيبات الحفرية وليس التنظير الفلسفي. كل ما يتم التعبير عنه كادراك لغوي لا ينجو من إستهداف القصدية السيئة له. التي تحاول صهر حوادث التاريخ بسبيكة تجمع الحاكم كسلطة تعلو التاريخ ورغبته تدخل على تجيير مصداقية الوقائع التاريخية له.

قصدية إدراك وقائع الماضي إستذكارا صادقا محايدا لا ينجو من السطو السلطوي الحاكم الذي يرغب جعل نقل أصالة التاريخ مطواعا لتمرير كل سوءات ومظالم حاكمية سلطة الحاضر الجائرة. يعبر بول ريكور عن هذه الازدواجية قوله "الذاكرة مهددة بشكل كلي في أستهدافها الصادق للحقيقة عن طريق سوء الاستعمال"7.

***

علي محمد اليوسف/الموصل

......................

الهوامش

1. بول ريكور/الذاكرة، التاريخ، النسيان/ ترجمة وتقديم د. جورج زيناتي/ ص52

2. نفسه نفس الصفحة

3. نفسه نفس الصفحة

4. نفسه ص 65

5. نفسه ص 74

6. نفسه ص 103

7. نفسه ص 109

 

أولا: التحليل فى الفلسفة

كلمة " تحليل " analysis هى كلمه يونانية، تعنى فك كل ماهو مركب إلى أجزائه، وتقابلها كلمة "تركيب" synthesis التى تعنى بناء "الكل" من الأجزاء(1) والتحليل قد يكون عقلياً أو تجريبياً، أو منطقياً أو استقصائياً، أو نفسياً، أو ترانسندنتالياً.. إلخ.

وإذا كان عالم الكيمياء مثلاً يقوم بتحليل مركباته المادية وردها إلى أبسط عناصرها، فإن الفيلسوف التحليلي يقوم أيضَا بهذه العملية التحليلية لكنه يقوم بها في مجال اللغة. والفيلسوف التحليلي لا ينظر إلي اللغة على أنها وسيلة، بل أيضاً على أنها هدف من أهداف البحث الفلسفى. فهو لايدرس اللغة من أجل وضع فروض علمية بشأنها، بل لاعتقاده بأن مثل هذه الدراسة لها قيمتها بالنسبة للفلسفة ذاتها. ومع أن الفلاسفه التحليليين يتفقون على أهمية البدء بدراسة اللغة، فإنهم يختلفون حول نوع اللغة التى يدرسونها، وينتمون في ذلك - بوجه عام- إلى فريقين: الأول: يرى أن التحليل الفلسفي للغة يجب أن يتجه إلى تأليف لغة إصطناعية جديدة بإعتبار أن قواعد مثل هذه اللغة أوضح وأدق من القواعد التى تحكم استعمال اللغة العادية، كما هو الحال في مجال العلم. فالفلسفة يجب أن تطور مفرداتها وتصطنع سلسلة من المفاهيم لحل مشكلاتها الأساسيه. أما الفريق الثانى: فيرى أن مثل هذه اللغات الإصطناعية لا تساعد كثيراً على حل المشكلات الفلسفية إذ أن هذه المشكلات يمكن حلها على أفضل وجه عن طريق التحليل الدقيق للغة العادية التى نستخدمها جميعاً في التواصل مع الأخرين(2)

والحق أن تصور الفلسفة على أنها، بوجه عام، عبارة عن "تحليل" Analysis يشكل أساساً رؤية معاصرة، مع أن جذور هذه الرؤية قديمة قدم الفلسفة ذاتها. ذلك أن جوهر أعمال جميع الفلاسفة، تقريباً، هو التحليل نفسه. فالتحليل منذ زينون الإيلى (430- 490 ق. م) مروراً بفلاسفة ميغارا philosophers of Megara وصوراً إلى الرواقيين كان مألوفاً ومميزاً بخاصته المنطقية، وكان يهدف إلى توضيح المواقف المتقابلة ومفارقتها وأنماط التفكير غير المقبولة، فالفيلسوفان الإيليان "زينون" و"بارمنيدس" وأنصارهما اعتقدوا أن هذا التحليل السلبى يؤدى أحياناً إلى معرفة موثوق بها. ومن الملاحظ أن شهرة زينون تتعلق أساساً بتميزه فى إجراءات هذا التحليل فهو أول من أوضح – فى دراسته لفلسفة بارمنيدس الواحدية من خلال هجومه على التعدديين – أن المذهب التعددى أو مذهب الكثرة يؤدى إلى مفارقات أو تناقضات ذاتية(3).

وكان "التحليل" عند سقراط يهدف إلى توضيح المعانى الأخلاقية فى ضوء منهجه الديالكتيكى... فقد حاول سقراط فى جميع تساؤلاته أن يرد جميع الفضائلvirtues إلى فضيلة واحدة وصفها بفضيلة الحكمة wisdom أو المعرفة، معرفة الخير والشر. فبعد أن حصل فى محاوره "مينون" meno مجموعة الفضائل المقبولة بصفة عامة استطرد قائلاً: و"الآن خذ تلك الفضائل التى لا تبدو لنا معرفة وانظر فيما إذا لم تكن فى بعض الأحيان ضارة مثلما تكون نافعة. مثلاً افترض أن الشجاعة Courage ليست حكمة ولكنها نوع من التهور. أليس صحيحاً أن الإنسان يصيبه الضرر عندما يكون واثقاً من نفسه بلا مبرر والعكس صحيح؟ فعندما يمارس الإنسان كل هذه الصفات ثم ينظمها فى إطار مترابط منطقى تصير نافعة ومفيدة على عكس إذا ما خلت من الوعى والمنطق. باختصار، عندما تكون الحكمة هى المرشد فإن أفعال الروح تؤدى إلى السعادة، وعندما ترشدها الحماقة تؤدى العكس. وعلى هذا فإن كانت الفضيلة خصلة من خصال الروح، أو هى بطبيعتها نافعة ومفيدة فلابد وأن تكون حكمة. فالصفات الروحية جميعها فى ذاتها وبذاتها ليست نافعة أو ضارة، ولكن عندما يحكمها الغباء والحماقة تصير ضارة". وبهذا المعيار الذى دافع عنه سقراط يقف العقل كى يميز المنفعة الحقيقية والدائمة من المنفعة الزائفة التى تؤدى إلى لذة أو صواب مصطنع(4).

وهكذا كان سقراط مهتماً بالمعانى الأخلاقية، كما كان أفلاطون فيلسوفاً تحليلاً فى كثير مما تعرض له.. فإذا كانت قواعد التحليل ذاتها يجب أن تكون ميتافيزيقية فى طبيعتها، بمعنى أنه لابد أن تتضمن مناقشة العروض الفلسفية بواسطة إجراءات العقل العامة بدلاً من الاعتماد على مضامين خاصة فإن هذه الخاصية للتحليل نجدها بوضوح فى محاورات أفلاطون التى عبر فيها عن جميع مهاراته التحليلية لا سيما عرضه لنظرية المثل(5).

ونجد فى المرحلة الحديثة أن معظم الفلاسفة التجريبيين- على حد تعبير إير- كانوا تحليليين إذ أن معظم ما كتبه هؤلاء الفلاسفة يندرج تح نظرية المعرفة، والمفروض فيها أن تحلل ضروب الإدراك المختلفة بما فى ذلك المعرفة ذاتها والخيال والاعتقاد والتمييز بين مختلف الألوان... فالفيلسوف لوك كان تحليلاً لأنه كما يتضح من كتابه "مقال فى الفهم الإنسانى" لا يثبت صحة قضايا تجريبية بعينها أو ينفيها بل نجده يركز فقط على تحليلها. وكذلك "باركلى" لم ينكر- فى الواقع- الأشياء المادية كما هو شائع عنه. وإن ما أنكره فعلاً هو تحليل "لوك" لمثل هذه الأشياء. فقد جعل "لوك" أفكار الإحساس Ideas of sensation التى نتلقاها بحواسنا من شىء ما مرتبطة بعنصر معين، أى أن للشىء جوهراً مركزياً تلتف حوله صفاته. غير أن باركلى لم يوافق على هذا التحليل، وجعل صفات الشىء لاتلتف حول عنصر أو جوهر بل يرتبط بعضها ببعض فحسب. بحيث لايكون الشىء عنده إلا مجموعة إحساساتنا به، متصلاً بعضها ببعض فحسب على صورة ما. وكان الخطأ الذى وفيه فيه "باركلى" حين تصدى لنقد "لوك" هو أنه استثنى النفس إذ جعلها عنصراً قائماً بذاته. ولهذا نهض "هيوم" ليدفع نقد "باركلى" إلى نتائجه المنطقية حتى النهاية، وإذن فالنفس أيضاً إن هى إلا حالات مجزأة متتابعة متصل بعضها ببعض على صورة ما دون أن يكون هناك عصر جوهرى مركزى تتعلق به تلك الحالات. حتى فكرة السببية التى كثيراً ما يقال عن "هيوم" أنه أنكرها لم تكن فقط موضع إنكار لأنه فيلسوف يحلل العبارات والمدركات لا يثبت شيئاً، أو ينكر شيئاً، إنه اقتصر فى فكرة السببية على تحديدها وتعريفها... إلخ(6).

كما أن "هوبز" و"بنتام" و"جون ستيوارت مل" فلاسفة تحليل فإذا تأملنا أعمال "هوبز" و"بنتام" نجد أنهما قد انشغلا بتقديم تعريفات للقضايا، وأن أعظم بعد من أبعاد فلسفة "مل" هو تطويره للتحليل عند "هيوم". وبذلك يرى غير أن مهمة التفلسف أساساً مهمة تحليلية وأن هذه المهمة نجدها متحققة بوضوح فى الفلسفة التجريبية الإنجليزية. ولكن ليس معنى ذلك أن ممارسة التحليل الفلسفى تقتصر على أعضاء هذه المدرسة الفلسفية وإنما ترتبط بهم تاريخياً بشكل قوى(7).

وهكذا يؤكد إير أنه لا جديد فى القول بأن توضيح الأفكار من أهداف الفلاسفة لأنه قول يمتد على الأقل إلى سقراط الذى كان مشغولاً أساساً بأسئلة معينة مثل ما العدل، وما المعرفة؟. ونجد ذلك عند "هيوم" فى تقسيمه كل أنواع الدراسة المشروعة إلى علم مجرد موضوعه الكم والعدد، وأبحاث فى أمور الواقع والوجود تعتمد أساساً على الخبرة، وهجومه على الميتافيزيقا المدرسية والذى نتج عنه حصر الفلاسفة فى التحليل. وقد أعلن فتجنشتين فى العشرينيات من هذا القرن أن الفلسفة ليست مجموعة نظريات لكنها نشاط يهدف إلى توضيح الأفكار ولقد تبنى الوضعيون المناطقة موقف فتجنشتين والفروض التى اعتمد عليها "هيوم" فى صورة ما سماه الوضعيون "مبدأ التحقق" الذى صاغه مورتس شليك بقوله "إن معنى قضية ما يقوم فى منهج تحقيقها"(8).

ولكن مع أن التحليل كان شائعاً فى الفلسفة منذ قديم، فإن أنصار الفلسفة التحليلية المعاصرة يتفردون بما يميزهم عن أسلافهم. وإنهم يتميزون بحذفهم للميتافيزيقا من قائمة الكلام المقبول، فهم يحذفون الميتافيزيقا حذفاً تاماً على أساس تحليلاتهم المنطقية للعبارات اللغوية، ثم يتميزون كذلك بتفرقتهم بين قضايا المنطق والرياضة من جهة وقضايا العلوم الطبيعية من جهة أخرى، على حين كان المحللون السابقون يفسرون هذه بما يفسرون تلك كما فعل هيوم نفسه أو يفسرون تلك بما يفسرون هذه كما فعل "مل" حين رد القضايا الرياضية إلى أصول حسية، وفى كلتا الحالتين يكون إشكال، ففى الحالة الأولى ينتهى الأمر بالتشكك فى العلوم الطبيعية ما دامت لا توصل إلى يقين فى الرياضة، وفى الحالة الثانية ينتهى الأمر بجعل قضايا الرياضة احتمالية لا يقينية(9).

ثانيا: التحول اللغوى

تمتاز الفلسفة التحليلية بجملة من الخصائص تميزها عن المدارس الفلسفية الأخرى فى الفلسفة المعاصرة ومنها:

1- فكرة مركزية اللغة بالنسبة للفلسفة، إذ يعتقد الفلاسفة التحليليون أن قضايا الفلسفة يمكن فهمها جيداً عن طريق العناية باللغة. وهذا الاتجاه نحو الاهتمام باللغة أصبح يسمى فى العرف الفلسفى " التحول اللغوى "وهو أصدق ما توصف به الفلسفة التحليلية وتعرف فى كلمتين.

2- الاعتماد على المنهج التحليلى سواء اتخذ هذا المنهج صورة التحليل المنطقى أو التحليل اللغوى.

3- احترام نتائج العلم والحقائق التى يسلم بها الحس المشترك، وأخذها بعين الاعتبار عند معالجة المشكلات الفلسفية (10)

ولقد نسب الفيلسوف مايكل داميت Michael Dummett الصيغة الكلاسيكية  " التحول اللغوى "إلى فريجه، مؤسس المنطق الرياضى الحديث، حيث قال: "إن موضوع بحث الفلسفة لم يحدد بصفة نهائية إلا مع فريجه، بحيث تبين (1) أن هدف الفلسفة قائم فى تحليل بنية الفكر، (2) وأن دراسة الفكر ينبغى أن تتميز عن دراسة عمليات التفكير النفسية،(3) وأن المنهج الكفؤ لتحليل الفكر يستند إلى تحليل اللغة"(11).

وهذا ما أكده أنتونى كينى Anthony Kenny فى كتابه "فريجه "بقوله: ".. إذا كانت الفلسفة التحليلية قد ولدت عندما حدث التحول اللغوى، فإن ولادتها لابد من أن تؤرخ بنشر كتاب فريجه "أسس الحساب "عام 1984 عندما قرر أن الطريق إلى بحث طبيعة العدد هو تحليل الجمل التى تظهر فيها الأعداد " (12).

كما أكد داميت فى موضع آخر دور فتجنشتين المهم فى هذا الشأن فقال: ".. إذا جعلنا من التحول اللغوى نقطة إنطلاق الفلسفة التحليلية، فإننا، على الرغم من تقديرنا لأعمال فريجه، ومور ورسل التى هيأت الأجواء، لن نستطيع أن نشك فى أن الخطوة الرئيسية نحو هذا التحول خطاها فتجنشتين فى كتابه "رسالة فلسفية منطقية " (13). فقد رأى أن العمل الفلسفى هو فى جوهره توضيحات، حيث قال: "إن موضوع الفلسفة هو التوضيح المنطقى للأفكار، فالفلسفة ليست نظرية بل هى فاعلية. ولذلك يتكون العمل الفلسفى أساساً من توضيحات لا تكون نتيجة الفلسفة عدداً من القضايا الفلسفية إنما هى توضيح للقضايا. فالفلسفة يجب أن تعمل على توضيح الأفكار وتحديدها بكل دقة وإلا ظلت تلك الأفكار معتمة مبهمة إذا جاز لنا هذا الوصف " (14).

ولقد رأى فتجنشتين أن العمل الفلسفى هو فى جوهره توضيحات وقال: أن موضوع الفلسفة هو التوضيح المنطقى للأفكار، فالفلسفة ليست نظرية بل هى فاعلية. ولذلك يتكون العمل الفلسفى أساساً من توضيحات لاتكون نتيجة الفلسفة عدداً من القضايا الفلسفية إنما هى توضيح للقضايا. فالفلسفة يجب أن تعمل على توضيح الأفكار وتحديدها بكل دقة وإلا ظلت تلك الأفكار معتمة مبهمة إذا جاز لنا هذا الوصف(15).

وقد يكون الفيلسوف إير هو أول من لفت الانتباه إلى "التحول اللغوى "، فهو يقول: " إن الفيلسوف من حيث إنه محلل ليس معنياً بالخصائص الفيزيائية التى تتميز بها الأشياء. هدف الفيلسوف هو أن ينظر فى الكيفية التى نتحدث بها عن الأشياء ". أو بعبارة أخرى: "إن قضايا الفلسفة ليست قضايا واقعية، بل هى فى طبيعتها قضايا لغوية. فهى لا تصف سلوك الأشياء المادية، ولا حتى الأشياء العقلية، بل تقتصر على التعبير عن التعريفات أو النتائج الصورية التى تترتب على التعريفات. وكنتيجة لذلك تكون الفلسفة علامة بارزة من علامات البحث المنطقى الخالص " (16).

يؤكد إير ضرورة أن ينحصر دور الفلسفة فى التحليل فيقول: "إذا أراد الفيلسوف أن يثبت صدق ما يزعمه من أنه شريك فى زيارة المعرفة الإنسانية فلا يجوز له أن يحاول وصف الحقائق عن طريق التأمل الخالص، أو أن يبحث عن المبادئ الأولى، أو أن يصدر أحكاماً قبلية عن صحة ما نعتقد فى صدقه على أساس التجربة، بل ينبغى له أن يحصر مجهوده فى التوضيح والتحليل"(17).

إن الفلسفة المعاصرة – بوجه عام- تتخذ من "التحليل" منهجاً وموقفاً ثابتاً فى دراستها للعديد من المشكلات وهى تركز أساساً على "تحليل" الألفاظ والقضايا التى يستخدمها العلماء فى أبحاثهم العلمية واللغة العادية التى يتعامل بها الناس فى حياتهم اليومية. ولذا فإنها تتخذ موقفاً عدائياً من الفلسفة المثالية وتتعصب ضد الميتافيزيقا وتنحاز مع العلم. وهذا ما عبر عنه مور فى مقالته "تفنيد المثالية" the refutation of idealism الذى استهدف فيها دحض مبدأ "الوجود إدراك" باعتباره ضرورياً لكل مثالية، وأيضاً فى مقالته "دفاع عن الحس المشترك". كما راسل وفتجنشتين وفلاسفة الوضعية المنطقية عن هذا المعنى فى مواقفهم التحليلية المختلفة.

أكد مور ضرورة "تحليل" "لغة" "الحس المشترك" لتوضيحها وإبراز عناصرها، وكذلك تحديد معانى المفاهيم الأخلاقية. بل ورأى أن عدم الاهتمام الجاد بالتحليل هو السبب المباشر فى وجود مشكلات فلسفية.. وفى ذلك نجده يقول: "يبدو لى فى علم الأخلاق كما فى كل الدراسات الفلسفية الأخرى أن الصعوبات والخلافات التى يكتظ بها تاريخها إنما ترجع أساساً إلى سبب بسيط جداً هو: أننا نحاول الإجابة عن أسئلة لم نتبين على وجه الدقة معناها أوبدون أن نتبين أى سؤال هو الذى نريد الإجابة عنه. وأنا لا أعرف المدى الذى قد يصل إليه الفلاسفة باستبعادهم مصدر هذا الخطأ Error إذا ما حاولوا أن يكشفوا عن السؤال الذى يسألونه قبل أن يشرعوا فى الإجابة عنه، إذ أن القيام بالتحليل والتمييز عمل بالغ الصعوبة غير أننى أميل إلى الظن أن المحاولة الجادة القائمة على العزم والتصميم تكفى لتحقيق أو ضمان النجاح، وأن كثيراً من أصعب المشكلات وأشدها إثارة للخلافات Disagreements فى الفلسفة سوف تزول لو أننا قمنا فعلاً بمثل هذه المحاولات الجادة، ولكن يبدو أن الفلاسفة بصفة عامة لايقومون فى أغلب الأحوال بمثل هذه المحاولة الجادة، بل هم يحاولون دائماً أن يبرهنوا على أن الإجابة "بنعم أو لا" هى الإجابة الصحيحة عنها، وذلك لأنهم لا يضعون أمام أذهانهم سؤالاً واحداً بعينه بل عدة أسئلة تكون الإجابة عن بعضها بالنفى وعن بعضها بالإيجاب"(18)

ويعترف مور بأن "التحليل" هو من أهم وظائف الفلسفة وأنه يجب أن ينصب على المفاهيم. ولذلك نجده فى رده على الآراء التى عبر عنها لانج فوردLangfrd فى مقالته "فكرة التحليل فى فلسفة مور" يعلن عن خطأ لانج فورد فى افتراضه أن "التحليل الفلسفى" يرتكز مباشرة على التعبيرات اللفظية Verbal Expressions. وبين فى استخدامه لكلمة "التحليل" أنه لا يركز على تحليل التعبيرات اللفظية بل تحليل المفاهيم Concepts أو القضايا propositions. ولعل سبب رفض مور الاهتمام بتحليل التعبيرات اللفظية هو افتراضه أن مثل هذا التحليل سوف يكون نمطياً خالصاً. وعندما يتناول مور تحليل المفاهيم أو القضايا نجد تحليله لا يزيد عن كونه منصباً على ما تعنيه التعبيرات اللفظية.. ولهذا نجده يضع خمسة شروط لتحليل (المفهوم) يجب توافرها ليكون مقبولاً: الأول، لا أحد يمكنه أن يعرف أن موضوع التحليل Analysandum ينطبق على شىء بدون أن يعرف أن عناصر التحليل Analysans تنطبق عليه. الثانى، لا أحد يستطيع أن يثبت أن موضوع التحليل ينطب قعلى شىء بدون أن يثبت أن عناصر التحليل يتم تطبيقها عليه. الثالث، أى تعبير يعبر عن موضوع التلحيل يجب أن يكون مترادفاً مع التعبير الذى يعبر عن عناصر التحليل. الرابع، التعبير المستخدم لعناصر التحليل يجب أن يذكر بوضوح المفاهيم التى لم تذكر بوضوح بواسطة التعبير المستخدم لموضوع التحليل. أخيراً، التعبير المستخدم لعناصر التحليل يجب أن يذكر الطريقة التى ترتبط بها المفاهيم التى يذكرها موضوع التحليل(19). كما يؤكد مور أن الاهتمام الحاد بالحس المشترك واللغة العادية هو مفتاح حل المشكلات الفلسفية وتوضيحها(20).

وطبق رسل كذلك "منهج التحليل" على كثير من المشكلات الفلسفية. وقد استخدمه فى تحليل الموضوعات المادية إلى المعطيات الحسية أو "الأحداث" حيث كان يهدف رد الموضوعات المستدل عليها إلى عناصرها البسيطة التى نكون على ثقة منها بحيث نستغنى عن افتراض تلك الكائنات، ونكتفى بتقرير هذه العناصر، ما دامت تحقق جميع الأغراض التى تحققها تلك الكائنات المفترضة. كما طبقه أيضاً فى تحليل العقل حيث رده إلى مجموعة المظاهر، وهى الأحداث الذهنية بحيث لم تعد هناك ضرورة لافتراضه ككائن(21).

ولهذا يرى اير أن فلسفة التحليل المعاصرة تعد ثور فى تاريخ الفكر الفلسفى(22).

و" التحول اللغوى " Linguistic Turn هو التحول نحو اللغة واتخاذها موضوعاً للفلسفة ؛ وهذا التحول لم يأخذ صيغة واحدة، كما يصوره أنصار الفلسفة التحليلية، وإنما يأخذ فى الحقيقة صوراً متعددة. وأصبحت عبارة " التحول اللغوى " أكثر انتشاراً عندما استعملها رورتى عنواناً للكتاب الجماعى الذى أشرف عليه وكتب له مقدمة نشرت عام 1967. وهذا الكتاب عبارة عن مجموعة من المقالات أغلبها لفلاسفة مناطقة وتحليليين، ومنها: "مستقبل الفلسفة " لـ (مورتس شليك)، " التجريبية، السيمانطيقا، والأنطولوجيا " لـ)رودلف كارناب)، " الوضعية المنطقية، اللغة، وإعادة بناء الميتافيزيقا " لـ (كوستاف برجمان)، "التعبيرات النسقية الخاطئة " لـ (جيلبرت رايل) و" معضلة فلسفية " لـ (جون وزدم) و" التقدم السيمانطيقى " لـ (ويلارد كواين) و" الاكتشافات الفلسفية " لـ (ر.م. هير) و" أرامسون ودارنوك " لـ (جون أوستن)، " مدخل إلى اللغة: الكلمات والمفاهيم " لـ (ستيوارت هامبشير)، " تاريخ التحليل الفلسفى " لـ (أرامسون) و" التحليل، العلم، والميتافيزيقا " لـ (بيتر ستروسون).. الخ.

يقول رورتى فى مقدمة كتابه " التحول اللغوى ": " إن الهدف الذى يصبو إليه هذا الكتاب يتصل بتقديم معطيات تمكن من التفكير فى الثورة الفلسفية التى حدثت فى السنوات القليلة الماضية، أى فى الفلسفة اللغوية. وأعنى " بالفلسفة اللغوية " هنا " تلك الرؤية التى تقضى بأن المشكلات الفلسفية يمكن حلها سواء بإصلاح اللغة، أو بالمزيد من الفهم الذى يمكن أن نصل إليه حول اللغة التى نحن بصدد استعمالها " (23). وهو يعرف "التحول اللغوى " بأنه ذلك " التحول الذى اتخذه الفلاسفة فى اللحظة التى هجروا فيها الخبرة بوصفها موضوعاً فلسفياً وتبنوا موضوع اللغة وبدأوا فى السير خلف خطى فريجه بدلاً من لوك " (24).

وأكد رورتى هذا المعنى فى موضع آخر فقال: " لقد اتخذت صورة الفلسفة القديمة والوسيطة " الأشياء " Things منطلقاً لها، واتخذت الفلسفة فى القرون من السابع عشر إلى التاسع عشر " الأفكار " Ideas منطلقاً لها، ويتم توضيح الساحة الفلسفية المعاصرة بواسطة " الكلمات " Words (25). وأضاف رورتى أن النظام المعرفى المسمى حالياً " فلسفة اللغة " له مصدران أساسيان:

المصدر الأول: جملة المشكلات التى عالجها فريجه وناقشها، على سبيل المثال، فتجنشتين فى "الرسالة"، وكارناب فى "المعنى والضرورة ". وهى مشكلات بخصوص معرفة كيفية تنظيم أفكارنا عن المعنى والإشارة بطريقة تمكننا من الإفادة من المنطق الكمى، والحفاظ على حدوسنا عن منطق الجهة، وبصفة عامة، تقديم صورة واضحة ومرضية حدسياً تتشكل من مفاهيم " الحقيقة "، و"المعنى"، و" الضرورة " و" الإسم ". ويسمى رورتى هذه الفئة من المشكلات " موضوع فلسفة اللغة الخالصة "، وهى نظام ليس له شكل معرفى ولا حتى أى علاقة مع معظم الاهتمامات التقليدية للفلسفة الحديثة.

المصدر الثانى: هو المصدر المعرفى، ويتمثل فى محاولة استعادة صورة الفلسفة الكانطية كإطار تاريخى دائم للبحث فى شكل "نظرية المعرفة ". فقد بدأ " التحول اللغوى " كمحاولة لتقديم نزعة تجريبية غير نفسية عن طريق إعادة صياغة الأسئلة الفلسفية بخصوص المنطق. ولقد جرى الاعتقاد بأنه من الممكن الأن، تقديم المذاهب التجريبية والفينومينولوجية ليس بوصفها تعميمات تجريبية – نفسية ولكن كنتائج " للتحليل المنطقى للغة ". وبوجه عام، إن الفعاليات الفلسفية حول طبيعة المعرفة الإنسانية ومجالها (على سبيل المثال ما قدمه كانط من مزاعم معرفية حول " الإله " و" الحرية " و" الأخلاق") يجب أن تقدم من جديد فى شكل ملاحظات أو تعليقات حول اللغة (26).

ويرى رورتى أن " الفلسفة التحليلية " بوصفها صورة من التجريبية قد انطلقت فى عصرنا من أعمال رسل وكارناب – الخ- وأن الفيلسوف إير هو الذى استوعب هذه الأعمال وقام بنشرها وتفسيرها خاصة فى كتابه " اللغة والصدق والمنطق " (1936). حيث قدم من خلاله جملة من الأفكار التى تشكل ما يسمى فى عصرنا " الوضعية المنطقية " أو " التجريبية المنطقية " وهى الأفكار نفسها التى أعادت الابستمولوجيا التأسيسية للتجريبية البريطانية إلى مجراها اللغوى بدلاً من النفسى. وهذه الأفكار تختلف بشكل كبير عن الأفكار التى تشكل الأساس لما يسمى، أحياناً، " فلسفة تحليلية ما بعد الوضعية " – وهى فرع من الفلسفة يقال عنه أنه " أبعد من " أو " تجاوز " للتجريبية والعقلانية (27).

ويقول رورتى: " إن التحول الذى حدث داخل الفلسفة التحليلية منذ بداياتها فى حدود 1950 م، إلى غاية اكتمالها فى سنة 1970م، من الصعب رصده بيسر وتحديده بدقة، فهو يرجع إلى تفاعل معقد لقوى كثيرة صاحبت الفلسفة التحليلية. لكن مع هذه الصعوبة هناك ثلاثة أعمال رئيسية ساهمت فى مسار الفلسفة التحليلية وهى: "معتقدان للتجريبية " لـ (ويلارد فان أورمان كواين) و" بحوث فلسفية " لـ (لودفيج فتجنشتين) و" التجريبية وفلسفة العقل" لـ (وليفرد سيلرز) (28)

ومقال سيلرز، من بين تلك الأعمال الثلاثة، والذى يتصف بالتعقد والثراء، هو أقلها شهرة ومناقشة. فقد أكد مؤرخوا الفلسفة الأنجلوأمريكية أهمية مقال كواين فى إثارة الشكوك حول فكرة " الصدق التحليلى " وكذلك حول فكرة رسل وكارناب القائلة " بأن الموضوع الرئيسى للفلسفة يجب أن يكون " التحليل المنطقى للغة ". كما عملوا على إبراز قيمة مقال فتجنشتين ودوره فى هدم كثيراً من مشكلات الفلسفة التقليدية. ومع هذا، فإنهم لم يسلطوا الضوء بشكل كاف لتقدير دور سيلرز فى هذا المجال. وسيلرز (1912 -1982) بأعماله العديدة ورؤيته الموسوعية والعميقة بتاريخ الفلسفة قد تميز عن كثير من فلاسفة التحليل وعلى رأسهم كواين وفتجنشتين؛ فهو يقول: " إن الفلسفة من دون تاريخ الفلسفة، إن لم تكن عمياء، فإنها على الأقل تكون خرصاء "(29).

والحقيقة أن محاولة رورتى للجمع بين " التجريبية " و"العقلانية" تعتمد أساساً على أفكار سيلرز وخاصة فى كتابه "التجريبية وفلسفة العقل ". وهو الكتاب الذى أشاد به رورتى واعتبره من أكثر الأعمال جاذبية فى عصرنا، ولا يمكن التعرف على مشروع سيلرز الفلسفى من دونه. والفكرة الرئيسية فى هذا الكتاب هى قول كانط: " الحدوس من دون مفاهيم تكون عمياء ". فوجود انطباع حسى، هو فى حد ذاته ليس مثالاً للمعرفة ولا للخبرة الواعية. سيلرز، مثل فتجنشتين المتأخر، وعكس كانط، رأى أن وجود "مفهوم " يعنى " التمكن من استعمال كلمة ". ولذلك فهو يقول: " إن كل وعى بالأنواع، وبالتماثلات، وبالوقائع.. الخ، أى باختصار، كل وعى بالكيانات المجردة – بل حتى كل وعى بالجزئيات هو " عمل لغوى". ومذهبه الذى سماه " النزعة الاسمية السيكولوجية" Psychological Nominalism يوضح – كما يرى رورتى – أن لوك، وباركلى، وهيوم كانوا مخطئين فى اعتقادهم أننا " ندرك أنواع محددة.. وذلك ببساطة بفضل وجود أحاسيس وصور(30).

و" النزعة الأسمية السيكولوجية " عند سيلرز مبنية على أسلوب فتجنشتين فى كتابه "بحوث فلسفية "، والذى أكد ارتباط المعرفة بالممارسة الاجتماعية.. وتؤدى إلى تضييق الخلاف، بل والجمع بين توجهات " العقلانيين " و" التجريبيين " (31).وذلك من خلال توسط اللغة ومعالجة المشكلات الفلسفية بالرجوع إليها.. يقول سيلرز: " إن التحكم فى اللغة هو الشرط الضرورى لكل خبرة واعية " (32).

ويقسم رورتى فلاسفة العقل واللغة إلى قسمين: فلاسفة ذريين Atomists وفلاسفة كليين Holists ؛ وهؤلاء جميعاً يرون أن أهم ما يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات هو العقل واللغة. وقد زادت حدة الخلاف بين الفريقين منذ نشر كتاب " مفهوم العقل " لـ " رايل "، و" بحوث فلسفية " لـ " فتجنشتين "، و" التجريبية ومفهوم العقل "  و" معتقدان للتجريبية " لـ " كواين ". فقد شك فتجنشتين فى منطلق النظرية النسقية للمعنى، وسخر كواين من القول " بوجود كيانات تسمى (معانى) مرتبطة بالتعبيرات اللغوية"، وشك رايل فى تصورات علم النفس التجريبى، وسار سيلرز على نهج فتجنشتين بقوله إن ما يميز البشر هو قدرتهم على التخاطب مع بعضهم البعض، وليس امتلاكهم حالات عقلية داخلية متماثلة بشكل ما مع حالات بيئتهم (33).

وبعد أن تربى رورتى فى أحضان الفلسفة التحليلية، وتمرس على آلياتها سرعان ما تمرد عليها وانتقدها بعدما اكتشف إخفاقاتها المتنوعة.

ثالثا: نظرية الأوصاف عند رسل

يعد رسل B. Russell من أهم رواد " مدرسة كمبردج Cambridge school وهى مدرسة تحاول إقامة لغة مثالية كوسيلة أفضل من اللغة العادية للتفكير الفلسفي، وتعرف هذه اللغة عند رسل بـ " اللغة الكاملة منطقياً" lofically perfect language..... وفي ضوء تصور رسل لهذه اللغة المثالية يقول، عن فلاسفة اللغة العادية، في أكثر من موضوع، إنهم قوم ينشغلون بالأشياء التافهة التى يقولها البلهاء، وهذا أمر قد يكون مسليا لكنه ليس مهما. وينتهى رسل إلى أن المأخذ الوحيد الذى يؤخذ على الفلسفة التحليلية هو أنها أدت إلى أمثال هذه الاتجاهات اللغوية المتطرفة حيث أصبحت الفلسفة معنية أكثر بفهم نفسها، وتنكرت للمهمة التى اضطلعت بها الفلسفة منذ طاليس وطوال عهودها، وهى مهمة فهم العالم.(34)

أما " نظرية الأوصاف" theory of descriptions فقد حظيت، منذ عرضها رسل، باهتمام كثير من المفكرين، سواء من قاموا بتفسيرها، والتعليق عليها، والدفاع عنها، أم من اعترضوا عليها وكشفوا عن قصورها. ونجد ذلك عند إير A.J.Ayer في مقالة "نظرية الأوصاف"، ومور G.E. moore في مقالة " نظرية الأوصاف عند رسل"، كواين V.O.Quine في مقالة "التطور الانطولوجى عند رسل"، رامزى F.P.Ramsey في كتابة "أسس الرياضيات"، وهوايت A.White في مقالة "، معنى نظرية الأوصاف عند رسل"، جرام M. Gramفي كتابة " الانطولوجيا ونظرية الأوصاف، مقالات عن برتراند رسل"، ماكس بلاك M.Black في مقالة " فلسفة اللغة عند رسل"، هوشبرج H. Hochberg في مقالة " الدليل الانطولوجى عند أنسلم ونظرية الأوصاف عند رسل "، وبورجمان A. Borgmann في مقالة " نظرية الأوصاف المحددة عند رسل".. الخ. يضاف إلى ذلك تحليلات بعض المفكرين العرب لهذه النظرية في كتاباتهم أمثال، د. زكي نجيب محمود في كتابة " برتراند رسل، سلسلة نوابغ الفكر الغربي "، د. محمد مهران في كتابة " فلسفة برتراند رسل "، د. يحيى هويدي في كتابة " ما هو علم المنطق"، د. زكريا إبراهيم في كتابة "دراسات في الفلسفة المعاصرة" الجزء الأول، د. على عبد المعطي في كتابة " أسس المنطق الرياضي وتطوره" ود. ماهر عبد القادر في كتابة " المنطق الرياضي "... الخ.

والآن: إذا كانت نظرية الأوصاف" قد لاقت قبولاً لدى كثير من المفكرين، وتعددت نواحى البحث فيها، فماذا تعنى هذه النظرية ؟ وما أهدافها ؟ وما أهم منطلقاتها أو الظروف التى أدت برسل إلى التفكير فيها

تلك هى المشكلة التى نركز عليها، ونحن إذ نسترشد بالدراسات المختلفة حول هذه النظرية ونتأمل نصوص رسل ومواقفه المختلفة حولها نستطيع أن نبحث مسألتين أساسيتين، تتعلقان بجوانب نظرية الاوصاف

جوانب نظرية الأوصاف عند رسل:

عرض رسل نظريته في الأوصاف في مقالات وكتب مختلفة منها: مقال " في الدلالة " نشرة لأول مرة عام (1905) في مجلة "العقل "، كتاب " مبادئ الرياضيات" الجزء الأول عام (1910)، مقال "المعرفة بالإدراك المباشر والمعرفة بالوصف" عام (1911)، كتاب "مشكلات الفلسفية" عام (1912)، مقال طبيعة المعرفة بالإدراك المباشر" عام (1914)، محاضراته عن " فلسفة الذرية المنطقية" عام (1918)، كتاب "مقدمة للفلسفة الرياضية" عام (1919)، كتاب "بحث في المعنى والصدق" عام (1940) وكتاب "تطورى الفلسفى" عام (1959).. الخ. وعندما نقرأ ما قدمه رسل فى هذه الأعمال نلحظ أن نظريته في الأوصاف ذات جانبين أساسيين: جانب منطقي وجانب ابستمولوجى.

1- الجانب المنطقى:

يلزم في تفسيرنا لنظرية الأوصاف أن نفكر في العلاقات بين الألفاظ والأشياء. وإذا كان من الواضح أننا لا نستطيع أن نتحدث عن أى شئ بدون استعمال ألفاظ، فإنه من الواضح أيضا أن ما نتحدث عنها ليست هى الألفاظ نفسها التى نستعملها، وعندما لا تشير الألفاظ، بطريقة ما، إلى أشياء فإن هذه الألفاظ، قد تكون عقيمة أو مضللة. والوسيلة أو الوسائل التى بها تشير الألفاظ إلى الأشياء لها أسماء عديدة في الكلام العادى، وفي المنطق مثل: التسمية naming، المعنى meaning، المغزى signifying، المفهوم connotation، الماصدق denotation.. الخ. والفكرة التى نريد إبرازها، أنه لا توجد جملة لها أى استعمال ما لم نفهم ما تشير إليه الألفاظ، ولذلك يركز المنطق جل اهتمامه على التمييز بين أنواع الألفاظ المختلفة وفقا للتمييز بين أنواع الأشياء المختلفة التى تشير إليها.(35)

ومن أهم هذه التمييزات المألوفة التمييز بين الحدود الشخصية أو الفردية singular terms والحدود العامة General Terms. والحد الشخصي هو ما يشير دائما إلى فرد واحد أو شئ معين مثل "سقراط"، " محمد " و"أحمد"، ومن أمثلة الحدود المفردة "أسماء الأعلام" proper names، وأما الحد العام فيشير إلى فئة معينة أو الخاصة التى تميز أفراد الفئة جميعا مثل "إنسان" و"حصان" ويمكننا تفسير العبارات أو الحدود سواء ما يطلق منها على مسمى واحد أو مسميات كثيرة تشترك في صفات تجعلها أعضاء في فئة واحدة. ولكن تواجهنا دائما مشكلة في تفسيرنا كثير من العبارات مثل " الغيلان هى حيوانات خرافية" و"ليس هناك ملك لباتاجونيا". ففى الحالة الأولي (وفي ضوء الفحوى العادى للكلمة) لا نجد شيئا يسمى "غول" أو ما يشكل "فئة الغيلان"، إذ ما الذى تشير إليه كلمة " غول" ؟، وفي الحالة الثانية، إذا لم يكن هناك ملك لباتاجونيا، فكيف يمكن أن يكون للحد الفردى " ملك باتاجونيا" أى إشارة ؟.(36)

والمشكلة هنا، في الحالة الأولى، أننا لم نقابل في الواقع شيئا يسمى "غول"، وكيف يمكننا أن نفهم ما نقوله عن هذا الكائن في الوقت الذى ننكر وجوده؟. ومفتاح حل هذه المشكلة يكمن في ألفاظ "تقابلت بـ" فعندما أقول أننى تقابلت بشئ ما، فأنا لا أعنى أننى قد سمعت من يتحدث عنه، أو أن هناك دليلاً على أنه غير موجود، ولكن أعنى أن لدى بالفعل اتصالاً به في خبرتى الخاصة. وكل هذه العبارات هى أسماء لعلاقة بسيطة يسميها رسل " المعرفة بالإدراك المباشر" وهذه العلاقة، وإن كان يصعب تحديدها، فإن المرء يستطيع أن يوضحها بطرح أمثلة. فأنا عندما أقابل مباشرة شيئا جزئيا تتكون لدى معرفة فعلية عنه عن طريق حواسى، ومعرفة مباشرة عن صفاته كاللون الأحمر مثلاً، وتتكون لدى معرفة عن بعض العلاقات مثل "أكبر من" أو "مساولـ". لكن كيف فهمنا ما قصدناه بلفظ "غول" على الرغم من أنه لا يوجد من البشر من التقاه ؟ لأننا بهذا اللفظ فهمنا (على الأقل عن طريق المعجم) أنه حيوان ما له جسم حصان، وقرن مستقيم وسط جبهته، وذيل أسد... الخ. ومع أن أحدا لم يلتق " الغول" مباشرة إلا أننا ندرك مباشرة تلك الصفات المختلفة المسماه في هذه الكلمة، ويمكن استعمال الألفاظ للإشارة مباشرة إليها. ولذلك فإن العبارة "لا يوجد غول" تساوى ببساطة العبارة "لا يوجد شئ له هذه الصفات" وهى جسم حصان، وقرن مستقيم وسط جبهته.. الخ، وبهذا نقف على أعتاب "نظرية الأوصاف".(37)

وقبل عرضنا لهذه النظرية يجب الإشارة إلى أن المشكلة الخاصة بالكائنات التى لا وجود لها في الواقع مثل "العنقاء"، و"الغول" و"المربع الدائرى" كانت محور اهتمام بعض الفلاسفة السابقين أمثال المنطقي الألماني "ألكسيوس مينونج" Alexius Meinong (1953- 1921).. فقد اعتقد "مينونج" أن لكل فكرة نمتلكها أو نتحدث عنها موضوعاً يقابلها، سواء أكان هذا الموضوع عبارة عن (1) موضوع حقيقي، أم (2) موضوع ضمنى أو مثالى كالعدد والعلاقة، أم (3) موضوع خالص pure object يستحيل وجوده مثل "المربع الدائري" و"الجبل الذهبى".(38) إذن للوجود درجات منها ما هو وجود حقيقي ومنها ما هو وجود ضمني ومنها ما هو وجود خالص.

ولكن هذه الأشياء التى توجد ضمنياً وأمثالها إذا دخلت في قضايا سليمة التركيب من الناحية اللغوية فإنها تشير إلى وجود منطقي وتصبح " موضوعات منطقية"؛ فقضية: "الجبل الذهبي غير موجود "قضية حملية، وعبارة " الجبل الذهبي" موضوع حمل حقيقي فيها، ويشير إلى شئ حقيقي على الرغم من أنه ليس شيئاً محسوساً لأنك إن قلت إن "الجبل الذهبي غير موجود " فإنك تكون قد أصدرت حكما على شئ ما بعدم وجوده، ومن الواضح أن هنالك شيئاً لتقول عنه إنه غير موجود هو الجبل المكون من ذهب. فهذا الجبل إذن ـ لابد أن يكون من ذهب وأن يكون موجوداً ضمنياً في عالم أفلاطونى تكتنفه الظلال، وإلا كان حديثك عن "الجبل الذى من ذهب غير موجود" ليس بذي معنى.(39)

وقد ظل رسل يشارك "مينونج" معظم أفكاره أول أمره، ولكنه راجعه مواقفه بعد ذلك وانتقد نظريته، ولذلك نجده يقول: "أعترف بأن هذه النظرية كانت تبدو لي مقنعة حتى بدت لى نظرية العبارات الوصفية".(40) كما أنه قد احتفظ في كتابة "أصول الرياضيات" (1903) ببعض المبادئ الخاصة بمذهبه الواقعي لكنه رأي بعد نشر هذا الكتاب مباشرة أن مذهبه الواقعي قد يؤدي إلى نوع من التناقض مثل القضية "المربع الدائري ليس له وجود"، فهذه قضية صادقة وذات مغزى. وعلى الرغم من ذلك فقد اقترح رسل أنه "لو كان هناك شئ معين فإنه سيكون موجوداً بالفعل، فنحن لا نستطيع أن نفترض من أول لحظة وجود شئ وبعد ذلك ننكر وجوده نفسه". فكيف يمكن أن نتحدث عن أشياء إذا لم يكن لها وجود إطلاقاً بأى معنى. وبالتخلي عن هذا المذهب وضع رسل مشكلته الخاصة بتحليل القضايا التى تتضمن رموز الموضوعات غير الحقيقية والمتناقضة ذاتياً، وهذا التحليل الذى يتعلق بإحساسنا القوى بالواقع ويتيح لنا الحديث عن هذه الموضوعات الزائفة أو " شبة ـ الموضوعات " pseudo-objects التى يمكن معرفتها. وقد توصل رسل إلى حل لهذه المشكلة من خلال " نظرية الأوصاف".(41)

وإذا كانت هذه النظرية كما وصفها فرانك رامزى F.Ramsey في كتابة أسس الرياضيات " تمثل "نموذج الفلسفة " paradigm of philosophy.(42) ما العبارات الوصفية التى تشكل هذه النظرية ؟ وما العوامل التى تجعل منها نموذجاً للفلسفة ؟ لقد استخدم رسل لفظ "الأوصاف" بمعنيين فنيين مختلفين في مواضع مختلفة من كتاباته أحدهما استخدمه في كتابه " برنكبيا ما ثماتيكا" (1910) والآخر في عملين تاليين له هما "مقدمة للفلسفة الرياضية" ومحاضراته حول "فلسفة الذرية المنطقية".(43)

وهو يوضح لنا هذين المعنيين فيقول إن الوصف قد يكون أحد نوعين: وصف محدد definite description ووصف غير محدد indefinite description. الوصف غير المحدد عبارة عن صورة " كذا وكذا" "so-and so" والوصف المحدد عبارة عن صورة "الكذا وكذا" the so-and so (في المفرد)".(44) وهذا كما يلي:

أـ الوصف غير المحدد:

الوصف غير المحدد هو ذلك الوصف الذى يخبرنا بإبهام مثل: "رجل ما"، "بعض الرجال"، "أى رجل"، "جميع الرجال"، "كل الرجال". فهب أننى "قابلت رجلا" فما الذى أقرره بحق حين أقول إننى "قابلت رجلا" ؟. هبنى صادقا فيما أقول، وأننى في الواقع "قابلت محمداً. فمن الواضح أن ما أقرره "ليس" هو "قابلت محمداً"، فقد أقول "قابلت رجلا ولكنه ليس محمداً" فإننى في هذه الحالة لا أناقض نفسي على الرغم من أننى أكذب وأننى أعنى حقا أننى أكذب، وأن الشخص الذى أحدثه يستطيع أن يفهم ما أقوله حتى ولو كان غريبا ولم يسمح قط عن "محمد".(45)

ولكننا قد نذهب أبعد من ذلك، فنقول إن محمدا ليس هو وحده الذى لا يدخل في عبارتى، بل لا يدخل فيها أى موجود بالفعل أيضا، وهذا يتضح عندما تكون العبارة كاذبة، ومن ثم لا يكون هناك سبب آخر لوجود محمد في القضية أكثر من أى فرد آخر. وبالفعل ستظل العبارة ذات مغزى، على الرغم من أنها لا يمكن أن تكون صادقة حتى ولو يكن هناك أى إنسان فعلى.(46)

بهذا يوضح رسل أن عبارتى "قابلت رجلا" وقابلت محمداً" ليستا متساويتين، ويكفى لبيان ذلك ملاحظة أننى قد أكون صادقا في العبارة الأولي، وكاذبا في العبارة الثانية؛ إذ ربما أكون قد قابلت رجلا لكن هذا الرجل لم يكن هو محمد. كما أن قولى "قابلت رجلا" لا يعنى أننى قابلت فعلا فردا بذاته من الناس.. والدليل على ذلك أننى قد أقول "قابلت غولاً" أو "قابلت عنقاء" ويكون لقولى هذا معناه على الرغم من أنه ليس هناك في عالم الأشياء الملموسة غول حقيقي أو عنقاء حقيقية لأنها كائنات من تصوير الخيال. وما يدخل في القضية ليس إلا تصور "الغول" أو "العنقاء". ففى حالة الغول ليس هناك إلا التصور التالي: لا يوجد في أى مكان شئ غير واقعي يمكن أن يسمى "غولاً"، وبالتالى فإن قولى "قابلت غولاً" له معنى (رغم أنه كاذب)، إذ من الواضح أن هذه القضية لا تحتوى على مكون الغول في مكوناتها ولا تشير إلى شئ أو مسمي واقعي في عالم الأشياء على الرغم من أنها تحتوى على التصور "غول".(47)

فأنا حين أقول "قابلت رجلا" فإنما أعنى بكلمة "رجل" مجموعة من صفات تنطبق على هذا وذاك من أفراد الناس، فهى أوصاف عامة، أتصورها بالذهن، ولو لم يكن هناك الفرد الذى تنطبق عليه. إذ الأمر هنا لا يزيد ولا يقل عن الأمر في العبارات التى تتحدث عن كائنات خيالية كالغول والعنقاء.. وعلى ذلك فالمراد بالعبارة الوصفية العامة (غير المحددة) هو المدرك العقلي لا الافراد الحقيقيون الواقعون في عالم الأشياء. كما يتضح وجه الشبه، ويتضح وجه الاختلاف، بين عبارة تتحدث عن شئ حقيقي وأخرى تتحدث عن شئ خيالي وهمي، فكلتا العبارتين تكون مفهومة للسامع على حد سواء، فلا فرق من حيث الفهم بين أن أقول: "قابلت رجلاً" أو أن أقول "قابلت غولاً" ـ إذا كان للغول صفات معلومة محدودة ـ لكن تعود العبارتان فتختلفان من حيث إن للأولي أفراداً في عالم الواقع، وأنها قد تصدق على أي فرد منهم، وأما الثانية ـ فعلي الرغم من أنى قد أفهم معناها ـ فليس في عالم الواقع أفراد تصدق على هذا أو ذاك منهم.(48)

لكن إذا كان الأمر كذلك فما مصدر الحديث عن كائنات ليست بذات وجود فعلي مثل "الغول" والعنقاء" و" المربع الدائري" ؟. لقد ذهب رسل في شرحه لهذه المسألة إلى أن مصدر افتراض كائنات وهمية هو أن معظم المناطقة انخدعوا بالنحو وتناولوا هذه المشكلة من منطلق خطأ. ذلك أنهم اعتبروا الصورة النحوية grammatical form مرشداً أوثق في التحليل مما هى عليه في الواقع، ولم يدركوا تلك التمييزات المهمة في الصورة النحوية. فالقول "قابلت محمداً " و" قابلت رجلا" عندهم من صورة نحوية واحدة، ولكنهما في الواقع من صورتين مختلفين تماماً: فالأولي تسمى شخصاً بالفعل وهو "محمد" على حين أن الثانية تتضمن دالة قضية propositional function وتصبح عندما يصرح بها كما يأتي: "الدالة قابلت س، س إنسان صادقة أحياناً وبتعبير آخر: "قابلت رجلاً" دالة قضية لا قضية وتحليلها هو {"قابلت س "،" س إنسان" دالة تصدق على فرد واحد على الأقل}.(49)

ويعتقد رسل أن الافتقار إلى جهاز دوال القضايا هو الذى أدي بالعديد من المناطقة إلى النتيجة القائلة بأن هناك أشياء غير واقعية. فلقد زعم "مينونج" مثلاً أننا يمكن أن نتحدث عن "الجبل الذهبي" و" المربع الدائري"، وما إلى ذلك، وأننا نستطيع أن نقرر قضايا صادقة هذه الأشياء موضوعاتها وبالتالي فلابد أن يكون لها نوع ما من الكيان المنطقي وإلا ستكون القضايا التى ترد فيها عديمة المعنى.(50)

وهناك سبب آخر مهم يفضح المغالطة التى أدت بالفلاسفة إلى استعمال تلك العبارات التى تقرر الوجود الضمني وهو عدم الالتزام بالواقع. وهذا ما يوضحه رسل بقوله: "يبدو لي أنه في مثل هذه النظريات هناك عجز عن ذلك الإحساس بالواقع الذى يجب أن نحافظ عليه حتى في أكثر النظريات تجريداً.. فالمنطق لا ينبغي أن يسمح بوجود غول أكثر مما يسمح به علم الحيوان، ولو أن المنطق يبحث في ملامح العالم الأكثر عمومية وتجريداً. والقول بأن للغيلان وجوداً في أخبار الفروسية أو الأدب أو الخيال هروب من الحقيقة يرثي له ولا أهمية له. ذلك أن ما يوجد في الفروسية ليس حيواناً مكوناً من لحم ودم، يتحرك ويتنفس بذاته، بل الموجود صورة أو وصف في ألفاظ ويشبه بذلك القول بأن هاملت مثلا يوجد في عالمه الخاص، نعنى عالم خيال شكسبير، كما وجد نابليون مثلا في عالمنا العادى، هو أن نقول شيئاً يدعو إلى الخلط عن قصد أو أنه شديد الخلط إلى حد لا يكاد يصدق".(51)

وهذا الخلط يرجع إلى وجود عالم واحد هو العالم الواقعى، وخيال شكسبير جزء منه، والأفكار التى وردت في ذهنه عند كتابة هاملت واقعية، وكذلك الأفكار الموجودة عندنا عند قراءة الرواية، ولكن من جوهر الخرافة أن تكون الأفكار والمشاعر وغير ذلك في كتابات شكسبير وعند قرائه واقعية دون أن يكون ثمة، بالإضافة إلى ذلك هاملت خارجى. وأنت إذا أخذت في الاعتبار جميع المشاعر التى أثارها نابليون في الكتاب والقراء في التاريخ لن تكون قد لمست الرجل بالفعل، ولكن في حالة هاملت فأنت تقتحمه في الصميم. ولو أن أحداً لم يفكر في هاملت ما بقي منه شئ، أم لو أن أحداً لم يفكر في نابليون لعهدنا على الفور إلى أحد بذلك.(52)

وإذن فالذين يستنتجون من مجرد تحدثنا عن كلمات دالة على أوصاف عامة، وجود كائنات تكون بمثابة المسميات لتلك الكلمات ـ كما فعل مينونج ـ قد أخطأوا لخلطهم بين القضية ودالة القضية، إنهم تصوروا أن قولنا "قابلت غولاً" قضية، وإذن فهى حديث عن شئ ما، وإذن فلابد أن يكون لذلك الشئ نوع من الوجود المنطقي، وإلا لخلت القضية من معناها، مع أن العبارة التى من هذا القبيل، أى العبارة التى تتحدث عن كلمة دالة على أوصاف عامة، هى دالة قضية، لا تتحدث عن شئ، ولا تتحول إلى قضية متحدثة عن شئ إلا إذا أحللنا اسم علم مكان الكلمة ذات المعنى الكلي. وهذا ممكن في مثل قولى "قابلت رجلا" ـ بأن أجعلها "قابلت العقاد" ـ وغير ممكن في مثل قولي "قابلت غولاً". ومن ثم كانت العبارة الأولي مشيرة إلى فرد ما من أفراد الوجود الواقعي، على حين أن الثانية لا تشير إلى أحد.(53)

ما الفرق بين وجود "هاملت" ـ وهو شخص خيالي في الأدب ـ وبين وجود "نابليون" ـ وهو شخص حقيقي في التاريخ ؟ ـ إن كلا منهما قد ورد اسمه في مجموعة عبارات مكتوبة في الكتب، لكن الأمر في حالة هاملت ينتهى عند حد هذه العبارات المكتوبة. أما في حالة نابليون، فقد كان في عالم الأشياء ـ بالإضافة إلى العبارات المكتوبة ـ كائن من لحم ودم يمشي ويحارب ويخطب في الناس. وهكذا قل في العبارة التى تتحدث "رجل" والأخرى التى تتحدث عن "غول". فلكل منهما معنى يفهمه السامع، وإلى هنا يتشابهان، لكنهما يعودان فيختلفان في أن الأولي يمكن تحويلها إلى قضية عن فرد معين له اسم معروف، أما الثانية فتقف عند حد فهم معناها. بعبارة اصطلاحية: الأولي دالة قضية يمكن تحويلها إلى قضية، والثانية دالة قضية لا يمكن تحويلها إلى قضية.(54)

وما يحافظ على سلامة فكرنا هو اللجوء إلى الواقع ولهذا يقول رسل: "إن الإحساس بالواقع أمر حيوى في المنطق، وأيا كان من يتلاعب بالواقع زاعما أن لهاملت نوعا آخر من الواقعية إنما يسئ إلى الفكر. إن الإحساس القوى بالواقع ضروري جداً لإجراء تحليل صحيح للقضايا التى تدور حول الغيلان، والجبال الذهبية، والمربعات الدائرية، وغير ذلك من الموضوعات الزائفة أو شبه الموضوعات".(55)

واستجابة للإحساس بالواقع سنصر عند تحليل القضايا على عدم السماح بشئ " غير واقعي". لكن إذا لم يكن ثمة شئ غير واقعي فكيف "يمكن" أن نسمح بشئ غير واقعي؟. الجواب عن ذلك عند رسل هو أننا في بحث القضايا إنما نبحث أولاً رموزاً symbols، وأننا إذا نسبنا مغزى لمجموعة من الرموز لا مغزى لها فسنقع في خطأ الاعتراف بموضوعات غير واقعية على المعنى الوحيد المحتمل لهذا المصطلح نعنى كأشياء موصوفة، ففى القضية "أنا قابلت أحد الغيلان" نجد أن مجموع الألفاظ الأربعة معا تكون قضية مفيدة، ولفظة " الغول" لها على حدتها مغزى كالمغزى نفسه للفظة " رجل". ولكن اللفظتين "أحد الغيلان" لا يكونان مجموعة تابعة لها معنى مستقل بذاته. فإذا نحن نسبنا بالباطل معنى لهاتين اللفظتين لوجدنا أنفسنا نمتطى ظهر "أحد الغيلان"، فنواجه مشكلة ترجع إلى كيفية وجود مثل هذا الشئ في عالم ليس فيه غيلان. ذلك أن "أحد الغيلان" وصف غير محدد لا يصف شيئاً، إنه ليس وصفاً محدداً يصف شيئاً ما غير واقعي. وهذه القضية من مثل " س غير واقعية" إنما يكون لها معنى عندما تكون "س" وصفاً، محدداً أو غير محدد، وفي هذه الحالة ستكون القضية صادقة إذا كانت " س" وصفاً لا يصف شيئاً. ولكن سواء أكانت "س" وصفا يصف شيئاً ما أم لا يصف شيئاً فهى على أيه حال ليست من مكونات القضية التى ترد فيها. فهى كالحال في " أحد الغيلان" ليست مجموعة تابعة لها معنى مستقل بذاته. وكل هذا ينشأ عن أنه عندما تكون " س" وصفاً، فإن " س غير واقعية" أو "س ليست موجودة ليست لغواً، ولكنها ذات مغزى في بعض الأحيان، وقد تكون صادقة.(56)

ولكن كيف يتم تحليل القضايا المحتوية على أوصاف غير محددة ؟ والجواب عن ذلك هو أن هذا التحليل يتم ـ في اعتقاد رسل ـ باللجوء إلى جهاز دوال القضايا. فلو أردنا أن نقول قولاً عن "كذا وكذا" فإننا نقوله في الواقع عن الموضوعات (أو القيم) التى لها الخاصية هـ، أى عن الموضوعات التى تكون دالة القضية هـ س صادقة بالنسبة لها، فلو كانت " كذا وكذا" هى " إنسان" مثلا، لكانت هـ س هى " س إنساني"، وهذا يعنى أن تقرير شئ عن الرجل سوف يكون تقريراً عن القيم المتعددة التى لها الخاصية هـ. أما لو أردنا أن نقرر أن "كذا وكذا" له خاصية ما، لكان ذلك يعنى أن هناك موضوعاً أو أكثر س له الخاصية هـ ـ التى هى كذا وكذا ـ له أيضاً خاصية أخرى ط. ومن الواضح هنا أن القضية القائلة أن " كذا وكذا " له الخاصية ط ليست من الصورة ط س (التى قد تعنى قابلت رجلا) لأنها لو كانت كذلك لكانت كذا وكذا متطابقة مع س. وبالتالي لكانت العبارة الوصفية تعنى موضوعاً، وهذا ما يريد رسل أن يتجنبه، وعلى ذلك فإن القول بأن موضوعاً ما له الخاصية هـ له الخاصية ط يعنى أن التقرير الخاص هـ س ليس كاذباً دائماً.(57)

ويرتبط هذا التحليل للقضايا التى تحتوى على أوصاف غير محددة بتعريف " الوجود" existence. فقد ذهب رسل إلى أننا نقول " الناس موجودون" men exist أو " يوجد رجل " a man exists إذا كانت دالة القضية "س إنسان" صادقة أحيانا، وبوجه عام يوجد " كذا وكذا " إذا كانت " س هى كذا وكذا" صادقة أحياناً. ويمكن أن نضع هذه المسألة في عبارة أخرى. فالقضية " سقراط هو إنسان" لا شك تكافئ "سقراط هو إنساني" ولكنها ليست القضية نفسها بالضبط. ذلك أن " هو is " في " سقراط هو إنساني" تعبر عن علاقة الموضوع subject بالمحمول predicate، أما " هو " في "سقراط هو إنسان" فإنها تعبر عن التطابق. لقد كان من المشين للجنس البشرى أن يختار استعمال اللفظة نفسها " هو is " لهاتين الفكرتين المختلفتين تمام الاختلاف، وهو أمر مشين تعالجه بالطبع لغة المنطق الرمزى. فالتطابق في " سقراط هو إنسان" تطابق بين شئ مسمى(بفرض أن سقراط اسم يقبل جملة من الأوصاف) وبين شئ غامض الوصف. والشئ الغامض الوصف " سيوجد" عندما تكون على الأقل إحدى مثل هذه القضايا صادقة. أى عندما توجد على الأقل قضية واحدة صادقة من الصورة " س هى كذا وكذا " حيث "س " اسم.(58)

ومن مميزات الأوصاف الغامضة (في مقابل الأوصاف المحددة) أنه قد يكون هناك أى عدد من قضايا الصادقة من الصورة السابقة: سقراط إنسان، أفلاطون إنسان.. الخ. وهكذا فإن "إنسان موجود" تلزم عن سقراط أو أفلاطون أو أي شخص آخر.(59)

ب ـ الأوصاف المحددة:

تعد "نظرية الأوصاف المحددة" عند رسل من أبرز الأمثلة التى يمكن ذكرها للفوائد الناتجة عن مواجهة اللغة العادية باللغة الاصطناعية. فلا تزال هذه النظرية تعبر عن "روح فلسفة اللغة المثالية" the spirit of ideal language philosophy وذلك لأنها صممت لحل بعض مفارقات اللغة العادية عن طريق تفسير البنية المنطقية للمفارقات، وهذه البنية ـ كما يدعي رسل ـ مضمرة في اللغة العادية.(60) وقد نشأت هذه المفارقات من عبارات في اللغة العادية تبدو وكأنها تؤدي وظيفة " أسماء الأعلام" proper names والتى يمكن إدراكها من صورتها " الكذا وكذا " حيث إن " كذا وكذا " تشير إلى حد شخصي.(61) وتبدو هذه العبارات وكأنها تصف كينونة معينة محددة وبالتالي تسمى " أوصاف محددة ".(62)

ولتوضيح هذه الأوصاف بحث رسل أداة التعريف " ال" (في المفرد)، ورأي أن إحدى النقاط المهمة جداً حول تعريف " كذا وكذا " أنه ينطبق على " الكذا والكذا " سواء بسواء. والتعريف المنشود هو تعريف قضايا ترد فيها هذه العبارات لا تعريف العبارة ذاتها على حدة. وفي حالة " كذا وكذا" هذا واضح بما فيه الكفاية: فلا أحد يستطيع أن يزعم أن " رجل " كان شيئاً محدداً (معرفاً) يمكن أن يحدد بذاته. فنحن نقول "سقراط إنسان"، "أفلاطون إنسان" و"أرسطو إنسان" ولكننا لا نستطيع أن نستنتج من ذلك أن "إنسان" يعنى الأمر نفسه الذى يعنيه سقراط، وكذلك الذى يعنيه أفلاطون، والذى يعنيه أرسطو، ما دامت هذه الأسماء الثلاثة لها معان مختلفة. ومع ذلك، فإننا بعد أن نحصي جميع الناس في العالم، لا يبقي شئ يمكن أن نقول عنه " هذا إنسان"، وليس هذا فقط، ولكنه " ال" إنسان، ذلك الشئ بالذات الذى هو بالضبط إنسان غير محدد دون أن يكون أي " شخص بالذات". ومن الواضح، بالطبع، أن كل ما هو موجود في العالم فهو محدد: فإن كان إنساناً، فهو إنسان واحد محدد لا أى إنسان آخر. وبذلك لا يمكن أن يوجد مثل هذا الشئ مثل " إنسان " في العالم في مقابل الناس المعينين. وتبعا لذلك من الطبيعي أننا لا نحدد " إنسان" نفسه، بل نحدد فقط القضايا التى يرد فيها.(63)

ومن الأمثلة المهمة التى ذكرها رسل ليوضح المشكلات المتعلقة بالعبارات العادية ما يلي: أراد الملك جورج الرابع أن يعرف ما إذا كان " سكوت" هو مؤلف ويفرلى". والآن: فإن " سكوت" و" مؤلف ويفرلي" متطابقان أي أنهما يدلان على الشئ نفسه. فالاسم "سكوت" والوصف المحدد " مؤلف ويفرلي" يمكن استخدامهما بطريقة تبادلية أي يمكن أن نقيم تطابقاً تاماً بينهما عندما يشيران إلى كينونة واحدة. ففى الجملة:

1- جورج الرابع أراد أن يعرف ما إذا كان " سكوت" هو " مؤلف ويفرلي". يجب أن نستبدل " سكوت" بـ " مؤلف ويفرلي". وهذا يؤدي إلى الجملة التالية:

2- جورج الرابع أراد أن يعرف ما إذا كان "سكوت" هو "سكوت". ولكن نتيجة هذا التبديل أن العبارة الثانية غير متطابقة مع العبارة الأصلية، لأنه من الصحيح أن جورج الرابع أراد أن يعرف ما إذا كان " سكوت" هو "مؤلف ويفرلي". ولكن، بطبيعة الحال، فإن أحداً من الناس لم يكن ليريد أن يعرف ما هو صادق وبديهي وهو أن "سكوت هو سكوت".

والسؤال هو: أين يوجد الخطأ ؟ أين المشكلة في هذا المثال ؟. يري رسل أن الخطأ يوجد في افتراض أن الوصف المحدد له المعنى نفسه الذى يوجد للاسم وهو الإشارة إلى الكينونة بالتسمية أو الوصف. وهذا الافتراض الخاطئ نشأ من الصورة التى يتخذها الوصف المحدد في اللغة العادية. فتحليل " وصف محدد عادى" وتحويله إلى لغة معبرة منطقياً سيوضح أن " الاسم " و"الوصف المحدد" غير متكافئين ولا يمكن استبدال أحدهما مكان الآخر.(64)

لكن ما هو التحليل المنطقي الملائم للوصف المحدد عند رسل؟. يطالب رسل بضرورة أن نفسر، منذ البداية، بطريقة أكثر دقة، التمييز بين " الأسماء" و"الأوصاف المحددة" لأن فشلنا في معرفة هذا التمييز هو أساس المشكلة برمتها.(65) وهذا كما يلي:

1- الاسم رمز بسيط simple symbol معناه شئ ما يمكن أن يرد فقط بوصفه موضوعاً، أى يشير مباشرة إلى الفرد الذى يكون هو معناه، وهذا المعنى يخصه هو ويكون مستقلاً عن جميع المعاني الأخرى. أما "الأوصاف المحددة" فتفتقر إلى هذه التلقائية والفورية لأنها تكتسب معانيها بطريقة معقدة وتابعة لأشياء أخرى تظهر عندما نعكسها على الصورة العامة للسياقات التى قد ترد بها هذه الأوصاف.(66)

والرمز البسيط رمز ليست له أجزاء هى رموز. وهكذا فإن "سكوت" في القضية "سكوت مؤلف ويفرلي" رمز بسيط، فمع أن له أجزاء (هى الحروف المنفصلة) إلا أن هذه الأجزاء ليست رموزاً. ومن جهة أخرى "مؤلف ويفرلي" ليست رمزاً بسيطاً لأن الألفاظ المنفصلة التى تؤلف العبارة مركبة من أجزاء هى رموز. وإذا كان، بحسب الحالة، ما يبدو " فرداً " قابلا حقا للتحليل أكثر من ذلك، فينبغي أن نقنع بما قد نسمية " الأفراد النسبيين" relative individuals، وهى حدود terms. وبالتوفر على مشكلتنا الراهنة أى الخاصة بتعريف الأوصاف، فهذه المشكلة يمكن تجاهلها سواء أكانت الأسماء مطلقة أم نسبية فقط، ما دامت المشكلة تتعلق بمراحل مختلفة في سلم " الأنماط" حيث يجب علينا المقارنة بين هذه الأزواج مثل " سكوت" و"مؤلف ويفرلي" وكلاهما ينطبق على الشئ نفسه، ولا يشير مشكلة الأنماط.(67)

لدينا إذن أمران علينا أن نقارن بينهما (1) الاسم الذى هو رمز بسيط والذى يدل مباشرة على فرد هو معناه، ويكون هذا المعنى له من حقه مستقلاً عن معانى سائر الألفاظ الأخرى. (2) الوصف الذى يشتمل على ألفاظ عدة معانيها ثابتة من قبل، وينشأ عنها أى شئ ـ تأخذه كمعنى للوصف. (68) فالاسم رمز تام بينما الوصف المحدد رمز ناقص. نسمى الرمز تاما حين يفيد معنى تاما في ذاته ولا يعتمد فهمنا له على كلمة أخرى تعطيه معنى، وأسماء الأعلام جميعها من هذا النوع. لكنا نسمى الرمز ناقصاً إذا لم يعط في ذاته معنى تاما وإنما يكتسب هذا المعنى في سياق معين، ومن ثم فالوصف المحدد رمز ناقص. "مؤلف ويفرلي" وحدها تثير معنى ناقصا لا يتم، لأن قراءتنا لها أو سماعنا إياها يثير عدة أسئلة مثل: من هو ؟ أو ماذا تريد أن تقول عنه ؟ وقد نكف عن هذه الأسئلة حين يقال لنا، مثلاً، إن مؤلف ويفرلي شاعر ملهم.(69)

2-الاسم "رمز تام" لأنه يفيد معنى تاما في ذاته ولا يعتمد فهمنا له على لفظة أخرى تعطيه معنى، بينما الوصف "رمز ناقص" incomplete symbol ليس له معنى في ذاته وإنما يكتسب معنى إذا دخل في سياق قضية، فجملة "مؤلف ويفرلي" رمز ناقص وليست اسم علم وذلك لثلاثة أسباب هى:

أ- هى ليست رمزاً بسيطاً تدل على شئ جزئي، أو شخص بعينه متحقق في الخارج بل هى رمز مركب.

ب- يمكن تحديد معناها بمعرفة معانى الألفاظ التى تتكون منها بصورة منفصلة عن بعضها، بينما معنى اسم العلم لا يمكن تحديده بمعانى الألفاظ ولكن عن طريق معرفتنا لما يشير إليه هذا الاسم أو يدل عليه.

جـ- لو كان الوصف المحدد "اسم علم" لكانت القضية "سكوت مؤلف ويفرلي" إما أنها (تحصيل حاص) أو غير متصلة في صدقها بكل الوقائع الموجودة في العالم (والتساوي عندما نقول "سكوت" هو "سكوت")، أو كاذبة (إذا كان "مؤلف ويفرلي" يدل على أي شئ آخر لا يتصل بسكوت"). ولكن القضية إخبارية (أى ليست تحصيل حاصل) وصادقة تعبر عن واقعة في تاريخ الأدب.(70)

3- القضية التى تشتمل على وصف ليست متطابقة مع ما تصير إليه تلك القضية عند استبدال اسم حتى إن كان الاسم يسمى الشئ نفسه الذى يصفه الوصف. فقولنا "سكوت مؤلف ويفرلي" من الواضح أنها قضية مختلفة عن "سكوت هو سكوت" فالأولي حقيقة واقعة في تاريخ الأدب، والثانية تحصيل حاصل. ولو أننا وضعنا أي شخص آخر مكان "مؤلف ويفرلي" لكانت قضيتنا كاذبة، وما بقيت عندئذ القضية نفسها. ولكن قد يقال إن قضيتنا هى أساسا من نفس الصورة كالقضية (مثلاً) "سكوت هو سير ولتر" حيث فيها اسمان يقال أنهما ينطبقان على الشخص نفسه.(71)

وجواب رسل عن ذلك أنه إذا كانت "سكوت هو سيرولتر" تعنى حقا الشخص المسمى "سيرولتر" فالأسماء إذن مستعملة كأوصاف؛ أى أن الفرد بدلاً من تسميته فهو موصوف على أنه الشخص صاحب ذلك الاسم، وهذه طريقة كثيراً ما تستعمل فيها الأسماء عادة، ولن يوجد ـ كقاعدة ـ شئ في الصياغة اللفظية يبين هل هى مستعملة على هذا النحو أو على أنها أسماء. وعندما يستعمل الاسم مباشرة للدلالة فقط على ما نتحدث عنه، فهو ليس جزءا من "الحقيقة المقررة" أو من الخطأ إذا ما حدث وكان تقريرنا كاذب: فهو جزء من الطريقة الرمزية التى بها نعبر عن فكرنا. وما نريد أن نعبر عنه شئ يمكن أن نترجمه إلى لغة أجنبية، وهو شئ تكون الألفاظ بالنسبة له أداة دون أن تكون جزءا منه.(72)

ويرى رسل، من ناحية أخرى، أننا عندما نعقد قضية عن "الشخص المسمى سكوت"، فالاسم الواقع بالفعل وهو" سكوت" يدخل فيما نقرره، وليس فقط في اللغة المستعملة لعمل التقرير. والآن ستصبح قضيتنا مختلفة لو استبدلنا "الشخص المسمى " سيرولتر"، فلا مدخل لذلك فيما نقرره تماما كالحال إذا تحدثنا الإنجليزية أو الفرنسية سواء بسواء. وبالتالى فما دامت الأسماء تستعمل كأسماء فإن "سكوت هو سيرولتر" هى القضية التافهة نفسها مثل "سكوت هو سكوت". وهذا يكمل الدليل القائل بأن "سكوت مؤلف ويفرلي" ليست القضية نفسها كتلك التى تنشأ عن استبدال اسم مكان "مؤلف ويفرلي" مهما يكن شأن الاسم الذى نستبدله.(73)

4- إن الاسم كما هو واضح هو ما يسمى به شخص من الأشخاص، وهو تعسفي تماماً، فليس في طبيعة الأشخاص ما يجعل من الضروري أن يسمى كل شخص باسم بعينه دون غيره من الأسماء، أما "سكوت" فقد كان "مؤلف ويفرلي" في وقت لم يكن أحد يسميه بهذه الطريقة، بل حين لم يكن أحد قد عرف ما إذا كان هو سكوت أم غيره فكونه مؤلف ويفرلي كان واقعة فيزيقية، وهى أنه جلس على مكتبه وكتبه بيده، ولم تكن لهذه الواقعة علاقة بما كان يسمى به، وهذا أمر ليس تعسفيا بأي حال من الأحوال فليس لنا الخيار في أن نسميه مؤلف ويفرلي أولا نسميه، لأنه في واقع الأمر اختار أن يكتب هذا الكتاب، وهذا ما يفسر كيف أن "مؤلف ويفرلي" شئ مختلف تماما عن الاسم.(74)

5- وهناك تمييز آخر بين "الاسم" و" الوصف المحدد" ينطلق من تحليل رسل للعبارة الوصفية المحددة عن طريق لغة " دالة القضية". ولتوضيح ذلك يجب الإشارة إلى معنى القضية وأنواعها والفرق بينها وبين دالتها في فكره.

فهناك محاولة مهمة لوضع تمييز ثلاثي بين الجملة sentence والعبارة statement والقضية proposition، والمقصود بالجملة ـ وفقاً لهذا التمييز ـ هو أية سلسلة من التعبيرات expressions الكاملة والصحيحة نحوياً في لغة طبيعية. ومثال ذلك: "الثلج الأبيض"، أغلق الباب" و"هل الباب مغلق" ؟.. أما العبارة فهى ما يقال عندما تنطق الجملة الإخبارية أو تكتب. وفي الاستعمال غير الإصطلاحي للعبارة، نراها غامضة بين الحدث الخاص بالنطق أو الكتابة الخاصة بالجملة ومضمون ما ينطق أو يكتب. والمغزي الثاني هو الملائم في تحديد العبارة.. وأما القضية فهى ما يكون مشتركاً بالنسبة إلى مجموعة من الجمل الإخبارية المترادفة. وبهذا المغزي للقضية تعبر الجملتان عن القضية نفسها إذا كان لهما المعنى نفسه.(75)

ونجد رسل في كتابة المهم "بحث في المعنى والصدق" يميز بين الجملة والقضية بقوله: "إن القضية هى شئ ما يمكن أن يقال في أية لغة: "سقراط فإن "socrates est mortal، socrates is mortal،" قولان يعبران عن القضية نفسها. وربما يقال ذلك في أية لغة معلومة بطرق متعددة: فالاختلاف بين "قتل فيصر في الخامس عشر من مارس" و"كان الخامس عشر من مارس هو يوم مقتل فيصر" هو في الأساس اختلاف بلاغي. ومن ثم يمكن أن يكون لصورتين من الألفاظ "المعنى نفسه" the same meaning. ونستطيع أن نعرف القضية بأنها "جميع الجمل التى لها المعنى نفسه الذى يكون لجملة معلومة.. أما الجملة فهى "عدد من الألفاظ توضع معاً وفق قواعد دراسة المركبات اللغوية.(76)

ويقول رسل في عبارة أخرى:"يمكننا أن نعرف القضية بأنها "ما تدل عليه الجملة"، وإن كان بعضها ليست لها دلالة معينة.. ولكن إذا ما وجدت هذه الدلالة لأية جملة لكانت هذه هى المقصود بالقضية".(77)

كما أن القضية ـ وفقاً لرسل ـ هى الجملة الإخبارية التى تحتمل الصدق والكذب، ومن ثم فإن صيغ السؤال، والتمني، والأمر، والنهي والنداء ليست قضايا، والمقصود باحتمال الصدق والكذب أن القضية تقرر شيئاً أو تنكره، أو أنها تحوى حكماً نعتقد بصدقة أو كذبه. "سقراط فيلسوف" قضية صادقة، "سقراط مؤسس الفلسفة المادية" قضية كاذبة، لكن ما ذلك الشئ الذي تقرره القضية أو تنكره ؟، لا تقرر القضية شيئاً جزيئاً لأن هذا مما يمكن تسميته أو الإشارة إليه، لا تقريره، تقرر القضايا وقائع facts.(78)

والمقصود بدالة القضية، تعبير غير محدد ليس صادقاً ولا كاذباً، مثل قولنا "س إنسان". وهذا التمييز بين القضية ودالة القضية هو أساس نظرية التضمن theory of implication عند رسل. فهناك كما يقول، نمطين من التضمن: تضمن مادى وهو علاقة بين قضايا، وتضمن صورى وهو يربط بين دوال القضايا.(79)

ويوضح رسل ما يقصده بدالة القضية بقوله: "ليست دالة القضية إلا صيغة لفظية تحتوى متغيراً، وتصبح قضية عندما نعين قيمة للمتغير. فمثلاً "س إنسان" دالة قضية. فإذا وضعنا ـ بدلاً من "س " ـ سقراط أو أفلاطون أو أي إنسان آخر، كان لنا بذلك قضية. على أننا نستطيع أيضاً أن نستبدل بـ "س " شيئاً آخر ليس بإنسان، فيكون لدينا على الرغم من ذلك قضية وإن كانت قضية كاذبة في هذه الحالة. دالة القضية، إذن، ليست سوى صيغة لفظية، وهى بذاتها لا تصف أي شئ لكنها يمكن أن تصبح جزءا من جملة تحمل خبراً صادقاً أو كاذبا. فقولنا "كان س حوارياً " لا ينبئ بشئ. أما قولنا "هناك اثنتا عشرة قيمة لـ "س" يصدق عليها قولنا "س حواري" فهو جملة كاملة".(80)

ويقرر رسل ثلاثة أمور لدالة القضية: (1) أن نستبدل الثابت بالمتغير، فإذا كان لدينا أى دالة من دوال القضايا ـ ولتكن س ـ فإن هناك مدى ينتظم قيم س، وتكون الدالة بالنسبة له ذات دلالة، أى أنها إما أن تكون صادقة أو كاذبة. فإذا كانت " أ " هى أى قيمة من قيم هذا المدى فإن " د أ " تكون صادقة أو كاذبة. (2) أن نقرر كل قيم الدالة، أى نؤكد أنها تصدق علي الدوام مثل دالة القضية "إذا كانت س إنسان، فإن س فأن" هذه صادقة على الدوام. (3) أن نقرر بعض قيمها فحسب أو على الأقل قيمة واحدة من قيمها، أى نؤكد أنها لا تصدق إلا في بعض الأحيان مثل دالة القضية "س إنسان" فهى لا تصدق إلا في بعض الأحيان.(81)

ويتضح لنا ذلك إذا ما نظرنا في تحليل رسل للقضايا التى يرد فيها الوصف المحدد. فهو يرى أن الشي الوحيد الذى يميز "الكذا والكذا" من "كذا وكذا" هو لزوم الانفراد. فلو قلنا "الساكن في لندن" لكان وصفاً محدداً، مع أن هذه العبارة لا تصف في الواقع أى فرد محدد. ولا نستطيع أن نتحدث عن "الملك الحالى لفرنسا" لأنه لا يوجد ملك حالى، ولكننا نستطيع أن نتحدث عن "الملك الحالي لانجلترا". وهكذا فإن القضايا عن "الكذا والكذا" تستلزم دائماً القضايا المناظرة عن "كذا وكذا" مع إلحاق هذه الإضافة، وهى أنه لا يوجد أكثر من "كذا وكذا" واحد. إن هذه القضية مثل "سكوت مؤلف ويفرلي" لا يمكن أن تكون صادقة لو أن ويفرلي لم تكتب البته، أو لو أن عدداً من الناس كتبها. وكذلك لا يمكن أن تكون أية قضية أخرى تنشأ عن دالة قضية "س" باستبدال مؤلف ويفرلي بدلاً من "س" صادقة. لكننا قد نقول إن " مؤلف ويفرلي " تعنى قيمة س في القضية س كتب ويفرلي، صادقة".(82)

وهكذا فإن القضية "مؤلف ويفرلي كان اسكتلندياً " يمكن تحليلها إلى القضايا الثلاث الآتية:

"س كتب ويفرلي" ليست كاذبة دائماً.

"إذا كان س وص كتبا ويفرلي، كان س وص متطابقين صادقة دائماً.

"إذا كان س كتب ويفرلي، كان س اسكتلندياً صادقة دائماً.

هذه القضايا الثلاث تقرر عند ترجمتها إلى لغة عادية ما يأتي:

شخص واحد على الأقل كتب ويفرلي.

شخص واحد على الأكثر كتب ويفرلي.

أياً ما كان الشخص الذى كتب ويفرلي فهو اسكتلندي.

فهذه القضايا الثلاث جميعها يتضمنها قولنا "مؤلف ويفرلي كان اسكتلندياً". ولا تكفي أية واحدة، ولا أية اثنتين لتفي بالمعنى كله الذى تحمله الجملة الأصلية والعكس صحيح أيضاً. وبالتالي يمكن أن نأخذ الثلاث معاً على أنها تعرف المقصود من القضية " مؤلف ويفرلي كان اسكتلندياً".(83)

ويعبر رسل عن هذه القضايا الثلاث بطريقة أكثر بساطة على النحو التالي: الأولي والثانية معا يكافئان: هناك حد جـ بحيث أن "س كتب ويفرلي" صادقة عندما تكون س هى جـ، وكاذبة عندما لا تكون س هى جـ " بعبارة أخرى: "هناك حد جـ بحيث أن: س كتب ويفرلي "تكافئ دائما " س هى جـ" (تكون القضيتان متكافئتين عندما يكون كلاهما صادقاً أو كلاهما كاذبا) فعندنا هنا بادئ ذي بدء دالتان لـ "س"، "س كتب ويفرلي" و" س هى جـ"، ونكون دالة لـ "جـ" باعتبار تكافؤ هاتين الدالتين لـ " س لجميع قيم س ". ثم نشرع بعد ذلك في تقرير أن الدالة الناتجة عن جـ " صادقة أحياناً" أى أنها صادقة على الأقل لقيمة واحدة لـ هـ (من الواضح أنها لا يمكن أن تكون صادقة لأكثر من قيمة واحد لـ جـ). وهذان الشرطان معا يعرفان بأنهما يعطيان معنى "مؤلف ويفرلي موجود".(84)

وتحليل مثل هذه القضايا التى تحتوى على أوصاف محددة يمكننا من الحديث عن الأشياء المتناقضة بذاتها ولا تقوم في الواقع الخارجي، مثل "الملك الحاضر لفرنسا" أو "المربع الدائري" لأن القضايا الخاصة بها يمكن معالجتها أيضاً على أنها دوال قضايا ذات متغيرات لا موضوعات غير موجودة في العالم الخارجي. (85) لذلك وصل رسل من هذا التحليل إلى دليل آخر على التمييز الأساسي بين اسم العلم والوصف المحدد. فحين نترجم قضية تحوى اسم علم إلى دالة قضية فإن هذا الاسم يظهر في الترجمة الجديدة، أما حين نترجم قضية بها وصف محدد إلى دالة قضية فسوف يختفي هذا الوصف.(86)

ولذلك يرى رسل أن هناك نوعين من السياقات التى توجد بها الأوصاف: الأول يقرر أو ينكر وجود "الكذا والكذا"، والثاني ينسب خاصية أو ينكرها لـ "الكذا والكذا". ومن أمثلة النوع الأول "ملكه إنجلترا موجودة"، ومن أمثلة النوع الثاني "مؤلف ويفرلي كان اسكتلندياً". والنقطة الملحوظة هنا أننا نستطيع أن نعطي كل وصف محدد داخل السياق قضية جديدة تطابق منطقياً القضية الأصلية ـ كما يقول رسل ـ ولكنها لا تشتمل على مجموعة من الرموز التى يمكن أن تسمى "وصف محدد". وبالنسبة للقضية الأولي وهي:

3- ملكة إنجلترا موجودة.

نجد رسل يحللها إلى:

4- هناك فرد واحد وواحد فقط يحكم إنجلترا وهو امرأة.

والقضية الأصلية:

5- مؤلف ويفرلي كان اسكتلندياً.

فإن رسل يحللها إلى:

6- فرد واحد وواحد فقط كتب ويفرلي وأنه كان اسكتلندياً.

ويمكن القول أن (4) صحيحة (أو خاطئة) عندما تكون (3) صحيحة (أو خاطئة). وكذلك الحال مع (6) و(5). ولكن الوصف المحدد لكل من (3)، (5) يختفي عندما يتم تحليل (3) و(5) إلى (4) و(6) وبالتالي فليس هناك أى مجال في (4) و(6) لأن نخلط بين مجموعة رموز واسم. هذا ينطبق بسهولة على لغزنا الحالي، فالجملة (1) تتحول بطريقة ملائمة إلى:

7- أراد جورج الرابع أن يعرف ما إذا كان من كتب ويفرلي وسكوت هو الشخص نفسه. فيبدو أن (7) تحتفظ بالإشارة المتفردة نفسها المميزة لـ (1)، ولكن في ضوء وجود أو عدم وجود كينونة غير محددة (شخص) له جانب من خاصية (كاتب ويفرلي) وله خاصة أخرى (كان هو سكوت)، وبالتالي لا يبدو أنه يوجد أى تضمن أو حتى اقتراح (كما في 1).

أننا نتعامل مع اثنين من الكيانات اللفظية المنفصلة ("مؤلف ويفرلي" و"سكوت") لهما المعني نفسه ويدلان على الشئ نفسه. وبالتالي لا يوجد هناك احتمال في (7) لاحلال كيان لفظي (سكوت) محل آخر (مؤلف ويفرلي)، ومن ثم فلو تحدثنا عن اللغة الموضحة في (1) فإن المشكلة التى بدأنا بها لم يكن لتظهر على السطح.(87)

6- لا يجوز الشك في "وجود" مسمى اسم العلم وجوداً حقيقياً، ويجوز الشك في حالة العبارة الوصفية المحددة. ذلك لأنه إذا لم يكن هناك فرد معين بذاته موجود وجوداً حقيقياً واقعياً لما أمكن ـ من الوجهة المنطقية ـ أن نطلق عليه اسماً. إذ إن الكائن الفرد يوجد أولاً، ثم نطلق عليه اسمه المميز ثانياً. وعليه فعبارة مثل "طه حسين موجود" عبارة لا تزيد في معناها عن قولنا "طه حسين" فقط، إذ يكفي ذكر اسم العلم وحده للدلالة على وجود المسمى وجوداً يملأ الآن ـ أو ملأ فيما مضى ـ لحظات من زمان ومسافات من مكان. وليس الأمر كذلك في حالة العبارة الوصفية المحددة، لأن هناك حالات نصوغ فيها عبارة من هذا النوع، دون أن يكون لها مسمي في الواقع كقولنا "ملك فرنسا الحالي" إذ لا يوجد ملك في فرنسا اليوم.(88)

إذن اسم العلم دال حتما على وجود مسماه أما الوصف المحدد قد لا يكون مسماه ذا وجود فعلي.. فقد نعرف كثيراً من القضايا التى تتصل بـ "الكذا والكذا" دون أن نعرف بالفعل ما "الكذا والكذا" أي دون أن نعرف أية قضية من الصورة "س هى الكذا والكذا" حيث س اسم. فمثلاً نجد في الرواية البوليسية قضايا تتجمع حول "الرجل الذى ارتكب الفعلة" على أمل أنها في النهاية ستكفي لبيان أن "أ" هو الذى ارتكب الفعلة. ومن ثم يحسن بنا أن نحصر اسم العلم في أسماء الإشارة وحدها مثل "هذا" و"ذاك"، إذ لا يعقل أن تشير قائلاً "هذا" دون أن يكون هنالك الفرد المشار إليه. فالقضية "الكذا والكذا" تفيد معنى سواء أكانت صادقة أم كاذبة. ولكن إذا كان "أ" هو "الكذا والكذا" (حيث أ اسم) فاللفظتان "أ موجود" لا معنى لهما.(89)

فالوجود لا يمكن أن يحكم به، بطريقة مفيدة، إلا على الأوصاف فقط، محددة أو غير محددة، لأنه إذا كان "أ" اسما فلابد أن يسمى شيئاً ما: وما لا يسمى شيئاً فليس اسما، وبناء على ذلك إذا قصدنا أن يكون اسما فهو رمز يخلو من المعنى، على حين أن الوصف مثل "الملك الحالي لفرنسا" لا يصبح غير قابل لأن يفيد لمجرد أنه لا يصف شيئاً، وعلة ذلك أنه رمز مركب يشتق معناه من رموزه التى يتكون منها. ومن ثم فعندما نتساءل عما إذا كان هوميروس موجوداً فإننا نستعمل لفظة "هوميروس" كوصف مختصر: ويمكننا أن نستبدله بـ مؤلف الإلياذة والأوديسا"، وتكاد تنطبق الاعتبارات نفسها على كل الاستعمالات لما يبدو شبيهاً بـ "أسماء الأعلام".(90)

وبهذا التمييز الدقيق بين اسم العلم والوصف المحدد، وترجمة القضية التى تحوى أحدهما أو كليهما إلى دالة قضية. ومعنى الوجود في الدالة، استطاع رسل تقديم تحليل صحيح لنوع من القضايا مثل "الجبل الذهبي غير موجود"، "الملك الحاضر لفرنسا أصلع"، وبذلك يكون قد استطاع أن يجد أساسا لرفض نظرية "مينونج" في الوجود الواقعي المنطقي لموضوعات الفكر مستقلا عن العقل الإنساني. يقول رسل إننا إذا أخذنا الوجود بمعنى " الصادق أحيانا وعدم الوجود بمعنى "الكاذب دائما" أمكننا التخلص من إسناد وجود موضوعي لمعنى العبارة الوصفية التى لا تشير إلى واقع محسوس، ومن ثم تصبح "الجبل الذهبى غير موجود" ـ بفضل النظرية الوصفية ـ تعنى "دالة القضية " هـ ذهبي "و" هـ جبل "كاذبة في كل قيم هـ". لقد اختفت هنا عبارة "الجبل الذهبي" ومن ثم لم تعد اسما ولا تشير إلى شئ واقعي بأي معنى من المعانى. وما دامت "الجبل الذهبي" ليست اسما فلن تكون موضوعاً منطقياً في القضية التى ترد فيها وإنما "موضوع حسب مكانه من الجملة" فقط كما لاحظ رسل أن القضية السابقة تخضع لقانون عدم التناقض ـ خلافا لما أعلن "مينونج" ـ لأننا نقرر أن "الجبل الذهبي موجود" قضية كاذبة وأن "الجبل الذهبي غير موجود" صادقة.(91)

ويرتبط هذا عند رسل بتمييزه بين الورود الابتدائي primary occurrences والورود الثانوى secondary occurrences للعبارات الوصفية في القضايا، فهو يرى أن الوصف يكون له ورود ابتدائي عندما تنشأ القضية التى يرد فيها من استبدال س بالوصف في دالة القضية    س ويكون له ورود ثانوى عندما لا تعطي نتيجة استبدال س بالوصف من   س إلا "جزءا" من القضية المذكورة. ويوضح ذلك المثال التالي:

لو اعتبرنا "ملك فرنسا الحاضر أصلع" نجد "ملك فرنسا الحاضر" لها ورود ابتدائي، والقضية كاذبة. وكل قضية فيها وصف لا يصف شيئاً وله ورود أولى فهى كاذبة. ولكن لو اعتبرنا "ملك فرنسا الحاضر ليس أصلعا" فهذه قضية غامضة. لأننا وحللنا أولا "س أصلع" ثم وضعنا "ملك فرنسا الحاضر" بدلا من س، ثم أنكرنا النتيجة، لكان ورود "ملك فرنسا الحاضر" ثانوياً وتكون قضيتنا صادقة. ولكن لو أخذنا "س ليس أصلعاً" واستبدلنا "ملك فرنسا الحاضر" بـ "س" عندئذ "ملك فرنسا الحاضر" له ورود ابتدائي وتكون القضية كاذبة.(92)

ويؤكد رسل أن الخلط بين الورود الابتدائي والورود الثانوى يعد مصدراً دائما للأغاليط أو المغالطات عندما نتحدث عن الأوصاف.(93)

2- الجانب الابستمولوجي (المعرفي):

لاشك في أن "لنظرية الأوصاف" وظيفة أبستمولوجية epistemological function واضحة (وترتبط هذه الوظيفة ارتباطا وثيقا بوظيفتها المنطقية، بل وتمثل امتداداً لها). فلقد ميز رسل في تحليلة الابستمولوجي بين نوعين من المعرفة: معرفة بالاتصال المباشر knowledge by acquaintance ومعرفة بالوصف knowledge by description. ومن نافلة القول إن "نظرية الأوصاف" تطبق في العلاقة بين هذين النوعين للمعرفة.(94)

وهذا ما أوضحه رسل في الفصل الأخير من كتابة "التصوف والمنطق" والفصل الخامس من كتابة "مشاكل الفلسفة". حيث تحدث عن أربع صور للمعرفة تتعلق بالمعرفة المباشرة التى تقوم على المشاهدة الخاصة بالجزئيات والمعرفة الوصفية التى تقوم على السماع أو القراءة والوصف، وأكد أن العلم بالشئ الموصوف يمكن إرجاعه في النهاية إلى علم بما نحن على معرفة مباشرة به. ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:

أولاً: يعنى رسل "بالوصف" أى عبارة تأتي على صورة "كذا وكذا" أو "الكذا والكذا". ويسمي العبارة التى تأتي على صورة "كذا وكذا" بالوصف الغامض ambiguous description، ويسمى العبارة التى تأتي على صورة "الكذا والكذا" (في المفرد) بالوصف المحدد. ولذلك فإن كلمة "رجل" وصف غامض، و"الرجل ذو القناع الحديدى" وصف محدد.(95)

ونقول إننا نعرف شيئا ما بالوصف حينما نعرف أنه يتضمن "الكذا والكذا" أى حينما نعرف أن هناك شيئا واحداً لا أكثر له خاصية معينة، ويتضمن ذلك، بالطبع، أننا لا نكون على معرفة مباشرة بذلك الشئ نفسه. فنحن نعرف أن الرجل ذا القناع الحديدى موجود، ونعرف قضايا كثيرة عنه ولكننا لا نعرف من يكون هذا الرجل. ونعرف أن المرشح الذى يحصل على معظم الأصوات سوف يتم انتخابه، وفي هذه الحالة نكون على معرفة مباشرة بالمرشح (بالمغزى الذى يمكن أن نكون فيه على معرفة مباشرة بغيرنا من الناس) الذى سيحصل على معظم الأصوات، ولكننا لا نعرف أي هؤلاء المرشحين سوف يكون ذلك الرجل، أى أننا لا نستطيع أن نعرف أية قضية على صورة ("أ" هو المرشح الذى سينال معظم الأصوات) إذا كان "أ" هو أحد المرشحين المعروفين بالاسم. وسوف نقول إن لدينا "معرفة بالوصف فحسب" عن "الكذا والكذا" إذا كنا ـ على الرغم من معرفتنا إن "الكذا والكذا" موجودان، وعلى الرغم من أننا قد نكون على معرفة مباشرة بهذا الشخص ـ نعرف أى قضية عن ("أ" هو الكذا والكذا) حيث إن "أ" شيئا نكون على معرفة مباشرة به.(96)

وحينما نقول "الكذا والكذا" موجود نقصد أن شيئا واحداً فقط هو "الكذا والكذا". فالقضية ("أ" هو الكذا والكذا) تعنى أن "أ" له الخاصية "كذا وكذا" ولا شئ آخر يشاركه في هذه الخاصية. فإذا قيل إن "أحمد هو المرشح لاتحاد العمال في هذه الدائرة الانتخابية" فمعنى ذلك أن "أحمد" هو مرشح اتحاد العمال لهذه الدائرة ولا أحد غيره يشاركه في هذه الخاصية. ولذلك فحينما نكون على معرفة مباشرة بشئ على أنه " الكذا والكذا" موجود في حين أننا لسنا على معرفة مباشرة بأي شئ نعرف أنه "الكذا والكذا" وحتى حينما لا تكون لنا معرفة مباشرة بأي شئ يكون هو "الكذا والكذا".(97)

كما يؤكد رسل أن الألفاظ العامة هى أوصاف على وجه حقيقي. فمعرفتى بالمنضدة كموضوع فيزيقي ليست معرفة مباشرة بل مستدل عليها مما نعرفه عنها معرفة مباشرة وهو المعطيات الحسية.(98)

ثانياً: يرى رسل أن افتراض، عبارة ما قالها أحد الناس عن "بسمارك" مثلاً، وافتراض أن هناك شخصا ما يكون على معرفة بنفسه، وأن بسمارك نفسه كان يستعمل هذا الاسم بشكل مباشر ليعين شخصا جزئياً هو على معرفة مباشرة به. فلو أصدر بسمارك، في هذه الحالة، حكما على نفسه، فلابد أن يكون هو نفسه مكوناً من مكونات الحكم. فلاسم العلم هنا استعمال مباشر بوصفه يدل على شئ معين فقط ولا يدل على وصف لذلك الشئ.(99)

ثالثاً: وأما إذا أصدر أحد أصدقاء بسمارك حكما عليه لاختلف الوضع، لأن ما كان هذا الشخص على معرفة مباشرة به إنما هو معطيات حسية sens – data تتصل (بفرض أنه على صواب في ذلك) بجسم بسمارك وعقله. فجسمه بوصفه شيئاً مادياً، وكذلك عقله يعرفان فقط بوصفهما جسما وعقلاً متصلين بهذه المعطيات الحسية، أى أنهما عرفا بالوصف. أما ما يبدو من صفات عن مظهر شخص ما في عقل صديق له فأمر قائم، بالطبع، على محض المصادفة. ولذلك فإن الوصف الذى يدور في عقل هذا الصديق عندما يفكر في صديقه إنما يحصل عرضا واتفاقا. والنقطة الجوهرية هى أنه يعرف أن الأوصاف المختلفة جميعها تنطبق على الذات نفسها على الرغم من عدم وجود معرفة مباشرة بهذه الذات الحقيقية التى هى موضع البحث.(100)

وأما لو قمنا نحن الذين لا نعرف عن بسمارك شيئا بإصدار حكم عنه، فإن الوصف في عقولنا سيكون، على الأرجح، عبارة عن مجموعة غامضة من المعرفة التاريخية، وهى معرفة تزيد في أغلب الحالات عما نحتاج إليه في تحقيق هويته. فنحن نعرفه مثلاً بأنه "المستشار الأول للإمبراطورية الألمانية" ولكن لا نكون على معرفة مباشرة به فكل الكلمات هنا كلمات مجردة ما عدا كلمة "ألمانيا" فإنها بدورها ذات معان تختلف باختلاف الناس. فقد تحمل بعض الناس على تذكر رحلات قاموا بها في ألمانيا، وقد تحمل بعضهم على تذكر رؤيتها على الخريطة وهكذا. ولكن إذا كان لنا أن نحصل على وصف نعرف أنه منطبق تماماً على الأشياء التى نريد وصفها، فعلينا أن نشير إلى بعض الأجزاء التى نكون على معرفة مباشرة بها. ومثل هذه الإشارة يشملها إي ذكر للماضي، أو الحاضر، أو المستقبل (بإعتبارها مقابلة لتواريخ معينة) كما يشملها أى ذكر لهذا المكان أو ذاك أو ما يكون قد أخبرنا به الآخرون. وعلى ذلك يبدو أن أي وصف نعرف أنه منطبق علي جزئي آخر نكون على معرفة مباشرة به إذا كانت معرفتنا بذلك الشئ الموصوف ليست مجرد نتيجة تترتب منطقياً على الوصف.(101)

رابعا: يرى رسل أن عبارة من مثل "أكثر الناس تعميراً" هى وصف لابد أن ينطبق على شخص ما، ولكننا لا نستطيع أن نصدر أحكاما تتعلق بهذا الشخص تتضمن معرفة به أبعد مما نصل إليه عن طريق الوصف. فإذا قلنا إن "المستشار الأول للإمبراطورية الألمانية كان دبلوماسياً بعيد النظر" فنحن نكون متأكدين فقط من صدق حكمنا اعتماداً على شئ نكون على معرفة مباشرة به هو عادة شهادة الغير التى نصل إليها عن طريق السمع أو القراءة وبعيداً عن المعلومات التى نوصلها إلى الآخرين، أو عما يمكن أن يعرف عن بسمارك الحقيقي مما يجعل لحكمنا أهمية، فالفكر الذى يدور في عقولنا في الحقيقة يحتوى على الجزئي أو الجزيئات الخاصة التى عرضنا لها بالوصف، وفيما عدا ذلك لا يحتوى الفكر إلا على تصورات كلية. فكل أسماء الأمكنة كلندن وإنجلترا وأوربا والأرض والمجموعة الشمسية تشتمل بالمثل على الأوصاف التى تنشأ من واحد أو أكثر من الجزئيات الخاصة التى نكون على معرفة مباشرة بها.(102)

وأنه لا يبدو ـ فيما يرى رسل ـ حينما نقول عبارة حول شئ ما نعرفه ـ بالوصف فقط، أننا نقصد غالباً ألا تكون عبارتنا على صورة تتضمن الوصف، بل نقصد أن تكون العبارة حول ذات الشئ الموصوف. ومعنى ذلك أننا حينما نصدر أى حكم عن بسمارك فإننا نرغب جهد استطاعتنا أن نصدر الحكم الذى يستطيع بسمارك وحده أن يصدره أى الحكم الذى قوامه بسمارك نفسه. ولابد أن نبوء بالفشل في هذا ما دام بسمارك الحقيقي غير معروف لنا. ولكننا نعرف أن هناك شيئاًَ "ب" يسمى بسمارك وأن "ب" هذا كان دبلوماسياً ماهراً. وبهذا التصور نستطيع أن نصف القضية التى نرغب أن نثبتها وهى (لقد كان "ب" دبلوماسياً ماهراً) و"ب" هنا هو الشئ الذى هو بسمارك. والذى يمكننا من التفاهم معا على الرغم من الأوصاف المختلفة التى نستعملها هو أننا نعرف أن هناك قضية صادقة تتعلق ببسمارك الحقيقي، وأننا مهما اختلفنا في الوصف (ما دام هذا لوصف صحيحاً) فإن القضية التى عرضنا لها بالوصف تبقي هى هى. وهذه القضية الموصوفة التى نعرف صدقها هى ما نهتم به في الحقيقة، ولكننا لسنا على معرفة مباشرة بالقضية نفسها، ولا على معرفة بها، ولو أننا نعرف أنها صادقة.(103)

ويتوصل رسل من ذلك إلى أن هناك مراحل مختلفة في الانتقال من المعرفة المباشرة بالجزئيات، فهناك بسمارك للناس الذين شاهدوه وهناك بسمارك آخر للناس الذين عرفوه من التاريخ وهناك المعرفة بالرجل ذى القناع الحديدى، وهناك المعرفة بأطول الناس عمراً. وهذه الصور الأربع أنواع من المعرفة تتدرج في ابتعادها عن المعرفة المباشرة بالجزئيات، فالقضية الأولي أقرب ما يمكن إلى المعرفة المباشرة حينما تتعلق المعرفة بشخص آخر، والقضية الثانية هى أن من عرف بسمارك من التاريخ يمكن أن يقال عنه أنه يعرف (من كان بسمارك) أما في القضية الثالثة فنحن لا نعلم من كان الرجل ذو القناع الحديدي ولو كان في استطاعتنا أن نعلم كثيراً من الأحكام عنه التى يمكن أن نستنتج منطقياً من كونه كان ذا قناع حديدي، أما في القضية الرابعة فإن معرفتنا لا تتعدى الاستنتاج المنطقي من تعريف الرجل. وكما توجد مراتب تصاعدية في الجزئيات توجد أيضاً مثل هذه المراتب في دائرة الكليات، فكثير من الكليات مثلها مثل كثير من الجزئيات نعرفها عن طريق الوصف، وفي حالة الكليات كما في حالة الجزئيات نرى أن العلم بالشئ الموصوف يمكن إرجاعه في النهاية إلى علم بما نحن على معرفة مباشرة به.(104)

ويؤكد رسل أن المعرفة كلها سواء أكانت معرفة بالأشياء أم معرفة بالحقائق تقوم على المعرفة المباشرة كأساس لها. (105) وذلك لأن المبدأ الابستمولوجي epistemological principle الأساسي الذى يلجأ إليه في تحليله القضايا المشتملة على أوصاف هو: "كل قضية نستطيع أن نفهمها لابد أن تتألف برمتها من مكونات نعرفها بالاتصال المباشر".(106)

وعلى الرغم من تأكيد رسل أن ما نقول عنه إنه معرفة بالوصف يمكن تحويله في النهاية إلى معرفة بالاتصال المباشر، إلا أنه يؤمن بأهمية المعرفة بالوصف في التوصل إلى حقائق جديدة. فهو يقول: "إن الأهمية الرئيسية للمعرفة بالوصف هى أنها تساعدنا على أن نمضي إلى ما وراء حدود خبراتنا الخاصة لكى نعرف أشياء أخرى لن ندركها بالخبرة. ولكن على الرغم من أننا لا نستطيع أن نعلم إلا الحقائق التى تؤلف جميعها من جزئيات وصلنا إلى معرفة مباشرة بها عن طريق خبراتنا فإنا مع ذلك نستطيع أن نصل إلى معرفة بالوصف بأشياء لم تكن قد مرت بخبراتنا".(107)

ولم يكن هذا رأي رسل وحده بل شاركه فيه كثير من الفلاسفة. بل يمكن القول بأن هناك اتفاقاً عاماً على أن "نظرية المعرفة بالوصف" تعد أهم إضافة أسهم بها رسل في ميدان الفلسفة.. فذكر "مور" في هذا الصدد: "لقد كانت نظرية المعرفة بالوصف شيئا جديداً للغاية. إنها أعظم اكتشاف فلسفي قام به رسل، أهم من أي شئ آخر قاله فيما بعد. فهو عمله المجدد الأصيل الذى لم يتأثر فيه بأي إنسان آخر على الإطلاق"(108) وقال "إير":" يبدو لي أن إحدى المزايا العظيمة لنظرية رسل في العبارات الوصفية، هى أنها تلقي ضوءاً على استعمال طائفة معينة من العبارات في حديثنا المألوف. وتلك نقطة لها أهمية فلسفية ذلك لأنه حين بين أن عبارات مثل "الملك الحالي لفرنسا" لا تؤدي وظيفة اسم العلم قد فضح المغالطة التى أدت بالفلاسفة إلى الاعتقاد بموجودات ضمنية".(109)

وإذا كانت "نظرية الأوصاف" عند رسل قد لاقت قبولاً واسعاً لدى كثير من الفلاسفة والباحثين في العصر الحديث، إلا أنها لا تزال مثار مناقشة وهجوم بين عدد آخر من الفلاسفة، ولعل من أبرز الاعتراضات عليها تلك التى قدمها الفيلسوف ستروسون.

***

ا. د. ابراهيم طلبه سلكها

................................

الهوامش

1-H. N. S: "analysis" in "The concise Encyclopedia of Western philosophy and philosophers" ed J. O. Urmsonl، p-2.

2-Ammerman، Robert. R. (editor)Classics of analytic philosophy،TaTa Mc Graw- Hill publishing company LTD. Bombay، New Delhi، 1956 pp. 1-3.

راجع أيضاً د. محمد مهران: دراسات فى فلسفة اللغة، ص ص15-16.

3- Sheldon peterfreund (and others): Contemporary philosophy and Its origins، D van Nostrand company، inc، London 1968 p- 234.

4-Guthrie. W. K. C.: Th Greek philosophers from Thales to Aristotle، Methuen، London، 1987،m pp-104-105.

5- Sheldon p. peterfreund (and others): op- cit، pp- 237- 238.

6-Ayer، A. J. language، truth and logic pp- 70- 72.

7- Ibid، p- 74.

8- Ayer، A.، J: The Central Questions of philosophy، pp- 23- 25.

قارن الترجمة العربية ص ص37- 39.

9- د/ زكى نجيب محمود: مرجع سابق ص ص146- 147.

10- د. صلاح إسماعيل: نظرية جون سيرل فى القصدية، دراسة فى فلسفة العقل، حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية – الحولية السابعة والعشرون، مجلس النشر العلمى، جامعة الكويت، 2007، ص34.

11- Timothy Williamson: Op – cit، pp- 11-12.

12- Anthony Kenny: Frege: An Introduction to the  Founder of Modern Analytical philosophy، oxford، Blackwell، 2000، p-211

13-Michael Dummett: Origins of Analytical philosophy، Cambridge، Mass: Harvard university press، 1996، p- 25.

14- لودفيج فتجنشتين: رسالة فلسفية منطقية، ترجمة د. عزمى إسلام، مراجعة د/ زكى نجيب محمود، مكتبة الأنجلو المصرية، 1968، ص ص 36، 37.

15- د/ محمد مهران رشوان: دراسات فى فلسفة اللغة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع 1998 ص37.

16-Alfred Jules Ayer: Language، Truth and logic، Penguin Books، 1936،p- 76.

17- د/ زكى نجيب محمود: موقف من الميتافيزيقا، دار الشروق ط3 1937 ص21.

18-Moore، E. G: principia Ethica، Cambridge university press 1962، p- vii

19-Ayer، A. J: Russell and Moore، the Analytical Heritage Macmillan، London، 1971 pp- 221- 222.

20-Sheldon p. peterfreund (and others): op. ci p- 252.

21- د/ محمد مهران رشوان: دراسات فى فلسفة اللغة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع 1998 ص37.

22- Ayer، A، J (ed)، The Revolution in philosophy، paperback، London، p-1.

23- Richard Rorty: The Linguistic Turn، Essay in philosophical Method، The University of Chicago press، 1992، p- 3.

24-Richard Rorty: The Linguistic Turn، Essay in philosophical Method، The University of Chicago press، 1992، p- 3.

25-محمد جديدى: مرجع سابق، ص 256.

26- Richard Rorty: Philosophy and the Mirror of Nature، p-263.

(194) Ibid، pp- 257-258.

قارن د.محمد جديدى: مرجع سابق ص 259

27- Richard Rorty: " Introduction " In " Empiricism and the philosophy of Mind " edited by willforid Sellars، Cambridge، Mass، Harvard University press، 1997، p-1.

28- Ibid، pp- 1-2.

29- Ibid، pp- 2-3.

30- Ibid، pp- 3-4.

31-Ibid، pp- 4-5.

32- Ibid، p- 9.

33- Richard Rorty: Contingency، Irony and solidarity، Cambridge university press، 1995، pp—176 – 180.

لا يوجد، بالطبع، تمييز حاسم بين (مدرسة كمبردج "مور"، "رسل"، "فتجنشتين"، وزدم... الخ) وبين (مدرسة اكسفورد "رايل، أوستن، ستروسون"... الخ) بل لا يوجد اتفاق تام بين أعضاء كل مدرسة على حدة.

34-د. يمني طريف الخولي: "جدل المثالية والواقعية في التصور الانطولوجي عند برتراند رسل"، مقال نشر بمجلة عالم الفكر، صادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، المجلد 30- يوليو، سبتمبر ـ 2001، ص12.

35-Dorward، A، Bertrand Russell، A short Guide to his philosophy، longmans، Green and co، London 1951، P-17.

36-Ioc – cit.

37-Ibid، pp-17-18.

38-Fritz، C. A.، Bertrand Russell's construction of External world، routledge and kegan paul Itd، London، 1952، pp-53-54.

39-Russell، B، My philosophical Development، George Allen and Unwin، London، 1959، p-84.

لقد صدرت لهذا الكتاب ترجمة عربية بعنوان: فلسفتي كيف تطورت، ترجمة عبد الرشيد الصادق، مراجعة د. زكي نجيب محمود، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة ط1، 1960، والملاحظ أن هذه الترجمة حذفت الجزء الأخير الخاص بردود رسل على النقاد.

انظر أيضا: د. محمود فهمي زيدان: المنطق الرمزى، نشأته وتطوره، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة 1999، ص ص 233- 234.

40-Ioc – cit.

41-Edwards، p (ed)، the Encyclopedia of philosophy، Macmillan publishing، New York Volums، I and 2، 1967، p-96.

42-Ramsey، F. A، the foundation of Mathematics، kegan paul London، 1931، p-263.

43-Moore، G: "Russell' s Theory of Descriptions" in:

P. A. Schilpp(ed)، the philosophy of Bertrand Russell، the library of living philosopher، Vol. V. London، 1887، p-177.

44-Russell، B، "descriptions" in: Weitz، M(ed)، Twentieth- century philosophy، the Analytical tradition، A division of Macmillan publishing co. Inc New York p. 146.

Sea also:

Russell، B، Introducion to Mathematical philosophy (London: George allen and Umwin، itd، 1919)، chap. 16.

لقد صدرت لهذا الكتاب ترجمة عربية بعنوان: مقدمة للفلسفة الرياضية ترجمة، د. محمد مرسي أحمد، راجعه، د. أحمد فؤاد الأهواني، مؤسسة سجل العرب، القاهرة.

45-Ioc-cit.

راجع أيضا: د. محمد مهران: فلسفة برتراند رسل، دار المعارف ط3، 1986، ص 283.

46-Ioc-cit.

47-Ibid، pp-146-147.

48-د. زكي نجيب محمود: موقف من الميتافيزيقا، دار الشروق ط3، 1408هـ، 1987م، ص ص 165- 166.

49-Russell، B، "Descriptions"، p-147.

50-Ioc-cit.

51-Ibid، pp-147-148.

52-Ioc-cit.

53-د. زكي نجيب محمود: مرجع سابق ص ص 168- 169.

54-الموضع نفسه.

55-Russell، B، "Descriptions"، p-148.

56-Ioc-cit.

57-د. محمد مهران: فلسفة برتراند رسل، ص ص 284-285.

58-Russell، B، "Descriptions"، pp-149-150.

59-Ioc-cit.

60-Borgmann، A، the philosophy of Ianguage، Historical foundation and contemporary Issues، Martinus Nijhoff، 1974، pp-99-100.

61-Russell، B، "on Denoting" in: his Iogic and knowledge، Georage Allen and Unwin، 1950، p-93.

62-Borgmann، A،op-Cit. P-100.

63-Russell، B، "Descriptions"، p-150.

64-Borgmann، A،op-Cit. PP-100-101.

65-Ioc-cit.

66-Ioc-cit.

67-Russell، B، "Descriptions"، p-151.

68-Ioc-cit.

69-د. محمود زيدان: المنطق الرمزي، نشأته وتطوره، دار النهضة العربية، بيروت، 1973، ص 238.

70-Edward paul، (ed)، the Encyclo pedia of philosophy، vol. I، pp-98-99.

71-Russell، B، "Descriptions"، p-151.

72-Ibid، pp-151-152.

73-Ioc-cit.

74-د. محمد مهران: فلسفة برتراند رسل ص 288.

75-Haack، Susan، philosophy of logics، cambridge university press، 1978، pp-74-76.

انظر أيضا: د. صلاح إسماعيل: مرجع سابق ص 299.

76-Russell، B، Inquiry into Meaning and truth، George Allen and Unwin (publishers) Itd، 1980 p-12.

انظر أيضا: د. محمد مهران: فلسفة برتراند رسل ص ص 243-244.

77-Ioc-cit.

78-د. محمود فهمي زيدان: المنطق الرمزي، نشأته وتطوره، ص ص 176-177.

79-Passmore، J، A hundred years of philosophy، penguin books، 1968-p-218.

80-Russell، B، My philosophical Development، p-56.

قارن الترجمة العربية للكتاب، ص ص 81- 82.

81-Ibid، p-67.

قارن الترجمة العربية للكتاب ص 97.

82-Russell، B، "Describtions"، p-152.

83-Ibid، p-153.

84-Ibid، pp-153-154.

85-Borgmann، A،op-Cit. Pp-101-102.

86-د. محمود فهمي زيدان: فلسفة اللغة، دار النهضة، بيروت، 1985م. ص18.

87-Borgmann، A،op-Cit. Pp-101-102.

88-د. زكي نجيب محمود: مرجع سابق ص 173.

89-Russell، B، "Describtions"، Pp-155.

90-Ioc-cit.

91-د. محمود فهمي زيدان: المنطق الرمزي، نشأته وتطوره، ص 242.

92-Russell، B، "Describtions"، p-155.

93-Ioc-cit.

94-Fritz، C. A.، op-cit. P-62.

95-Russell، B، Mysticism and logic، Unwin books، London، 1963، p. 156.

96-Ioc-cit.

97-Ioc-cit.

98-د. محمد مهران: فلسفة برتراند رسل ص ص 298- 299.

99-Russell، B، Mysticism and logic، pp-156-157.

100-Ioc-cit.

101-Io-c-cit.

102-Ioc-cit.

103-Ibid، p-158.

104-Ioc-cit.

105-Russell، B، the problems of philosophy، oxford university press، 1959 p-80.

لقد صدرت لهذا الكتاب ترجمة عربية بعنوان: "مشاكل الفلسفة" ترجمة د. عبد العزيز البسام ومحمود إبراهيم محمد، مطبعة نهضة مصر، القاهرة ط2.

106-Ibid، p-70.

قارن الترجمة العربية ص 58.

107-Ibid، p-87.

قارن الترجمة العربية ص 69.

108-Moore، G. E، Russell's "theory of description"، p-16.

انظر أيضا الآن وود: برتراند رسل بين الشك والعاطفة ترجمة د. رمسيس عوض، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1404هـ ـ 1984م.

109-Ayer، A، J، language، truth and logic، penguin books، 1963، p-33.

انظر أيضا د. زكي نجيب محمود: موقف من الميتافيزيقا، ص ص 178-179.

ترجع هذه الشهرة أساسا إلى أن مقالة "عن الإشارة" تركز على نقد "نظرية الأوصاف" عند رسل.

يتناول الفيلسوف الإيطالي والناقد السياسي جيورجيو أغامبين georgeo agamben موضوع السياسة الحيوية، ضمن طيات مشروعه الفكري الموسوم بالإنسان المستباح homo sacer، المكون من عدة أجزاء مقسمة الى مجموعة  كتب، في سبيل تحديد مميزات عمل السياسة المعاصرة في عدة مستويات، لعل أهم ما كتبه وما يهمنا هو عمل البيوسلطة في المجتمعات المعاصرة، التي صارت تعمل وفق نمط دمج المجتمع ككل على نموذج السياسة الحيوية، أي جعل حياة الأفراد موضوعا لعمل السياسي، بحيث يستهدف نمط معيشته وجسده عبر عمليات بيولوجية مختلفة، كما بينتهُ دراسات ميشيل فوكو، التي يهتم بها أغامبين كدراسة أحدثت ثورة فكرية في مجال الفلسفة السياسية المعاصرة، لكنه كأي ناقد سياسي، يتجه نحو أبعد منه، تعديلا توجيها، قبل أن يخوض في دراسة هذا المفهوم بجهاز مفاهيمي خاص به، خاصة وأنه اهتم بدراسة المعتقلات، مُؤرخا لما يحدث فيها من أساليب وطرق تستعملها السياسات أو المستعمرات بغرض تنقيح المجتمع، والحفاظ على الهدوء وحالة الاستقرار، الذي يمثل هاجس عمل السّياسي الأول.1647 iman

ولعل أهم ما يميز السياسة الحيوية هو تحول الانسان الى انسان مستباح homo sacer1 الذي يعيش ضمن نطاق الحياة العارية La vie nue2 وهي بدورها تعرضه الى أقصى ما يمكن أن يتعرض اليه في هذا العالم من ناحية التهميش والعبث بجسده وبحياته ككل.

بداية يهتم أغامبين بفكر كارل شميث، بحيث يعد من أبرز المحاولات في تكوين نظرية عن حالة الاستثناء الذي يضمن وجود علاقة ما بالنظام القانوني، كما يؤكد على أن الاستثناء هو تلك المنظومة الأصلية التي بواسطتها يرتبط القانون ويحتويها بداخله، وذلك من خلال تعليق العمل بالقانون نفسه، ويصير النظام موجودا حتى لو لم يكن الأمر قانونيا ليصير الفرد في حالة ديكتاتورية وتبعية.3

قبل تحليل السياسة الحيوية عند أغامبين علينا بطبيعة الحال فهم الأرضية التي بنيت عليها، وهي بالدرجة الأولى حالة الاستثناء Etat d’exception 4التي تقوم على استبعاد فرد ما أو مجموعة من الناس من النطاق السياسي القانوني، والسيد هو من يقرر ذلك حسب تصريحات شميث التي تأثر بها أغامبين، وبالتالي لن تتمكن الهالة القانونية من حمايته أو التفكير في مصلحته، لكنها لن تستبعده استبعادا تاما، وانما تضعه تحت المراقبة ويتم التصرف في جسده، بكل سهولة، ولن يحميه القانون من هذا التعدي، ببساطة لأن الجسد هنا هو جسد  الانسان الحرام المنبوذ.

يكون الانسان المستباح مستثنى داخل المحتشد باعتباره فضاء سياسي حيوي، ويظهر أنه النموذج الخفي للفضاء السياسي للحداثة، اذ أصبح التشابك بين السياسة والحياة ضيقا لا يمكن تحليله بسهولة، لأن السياسة حينما تدخل الى البيولوجيا والطب والجنس فإنها تفقد الوضوح، خاصة حينما سقطت بعض الأنظمة الحاكمة في العنصرية ، ان السياسة الحيوية حسب أغامبين تكون مطبقة أكثر في اللحظات الاستثنائية، أو الأماكن الاستثنائية، كالمحتشدات أو المعتقلات، فهي فضاء حاسم يعبر عن الهيمنة الحداثية، وهي الأماكن التي يُحبس فيها الأفراد، لسبب معين، أو يحدث ذلك في المستعمرات حين يجمع رجل السلطة المواطنين، المحتلين أو المعاقبين أو اللاجئين وغيرها، أو أفراد المجتمعات الشمولية، الذين تكون حياتهم ملكا لصاحب السيادة، هنا يصبح هؤلاء فاقدين للأهلية القانونيةـ، يمكن قتلهم ومعاقبتهم دون تدخل يمنع ذلك، لأنهم منبوذين وحياتهم مختلفة، و السياسة تطبق عليهم الكثير من التقنيات البيولوجية، بهدف التحسين، أو اجراء التجارب من أجل الاطلاع على النتيجة، وتقديم الأدوية الجديدة لهم لرؤية تأثيرها وما سيحدث لهم فيمابعد، أي جعلهم باختصار عرضة للتجريب، كما يحدث في السجون وفي السلطة المميتة أي النازية التي تمثل فضاء السياسة الحيوية المميتة ، اذن يصير الانسان المستباح في المعتقل انسانا مباحا للتجريب البيولوجي العنيف، وتجد السلطة هنا منفذها من أجل تعرية الحياة، ليصبح الانسان المستباح يعيش في كنف الحياة العارية، ولن يفقد حقوقه وقوانينه فقط، بل يفقد حق التصرف في حياته، ومن ثمة حياته ككل، لأن السياسة حين يكون هدفها الحياة أعمالها لا تكون واضحة، ولانستطيع تحديد منهجها وتقنياتها بدقة، بالأحرى تتميز بالمرونة ولايمكن الإمساك بها ولا نعلم ماذا تريد بالضبط من انتهاك الأجساد، الا حينما نرى النتائج.

يرى أغامبين أن ميشيل فوكو ضمن تحليلاته عن السياسة الحيوية، لم يقدم أفكارا عن السياسات الشمولية في القرن 20، وبما أن حنة أرندت hennah Arendt (1906-1975) قدمت دراسات حول السياسة الشمولية، غير أن دراساتها غاب عنها المنظور البيوسياسي، وهذا مؤشر يدل على صعوبة هذه المشكلة.5 اذن يجمع أغامبين، بين رؤية فوكو وحنة أرندت، بحيث أن فوكو الذي فصل بين السلطة السيادية والحيوية، في حين أنهما يهدفان الى نفس المهمة وهي مهمة حيوية في ذاتها، أي أن كل منهما يهدف الى السيطرة على الحياة، وبالتالي فالفصل بينهما سيرجعنا الى نقطة يلتقيان فيها وهي التحكم الحيوي في المجتمع، وبالتالي لاينبغي إقامة حد فاصل بينهما حسب أغامبين، ومن خلال تحليلات فوكو في ضبط عمل وميكانيزمات السياسة الحيوية، التي تكون غايتها الحياة البيولوجية، قد رصد استخدام الدول لهذه السياسة وبالأخص النازية، لكنه لم يشر الى عمل النُظم الشمولية الديكتاتورية التي تستغل الحكم المطلق والنفوذ الذي تتمتع به لصالحها، وتحاول الهيمنة على كافة الأفراد، وعلى كافة الجوانب، وبما أن السياسة الحيوية انتشرت بمحاذاة العلم فان هذه النظم تجد متنفسا جديدا لغزو مجتمعاتها عبر سياسة جديدة في الحياة، لتمارس أفظع التجارب على الانسان، كما حللت أرندت طريقة عمل هذه النظم لكنها لم تستند الى عنصر السياسة الحيوية، الذي يتخلل عمل هذه الأنظمة، في تنظيمها للسكان وممارسة التجارب عليهم، وتعريضهم للخطر عبر عدة تقنيات حيوية، وبالرغم من أنه نقص يحدده داغوني لدى كلا من الفيلسوفين، غير أنه يرى أن هذا أمر معذور لأن طبيعة الموضوع تفرض ذلك فالأنظمة الشمولية تتميز بالتنظيم الحيوي الى درجة أنه لايسعنا الفصل بين تلك الأنظمة والسياسة الحيوية خاصة في طبيعة العمل.

ان مبادئ تحسين النسل التي اعتمدتها السياسة الحيوية الاشتراكية القومية، كذلك تعزيز هتلر للقتل الرحيم، عبر عن مفهوم الحياة التي تستحق العيش، ليس باعتباره مفهوم أخلاقي وانما مفهوم سياسي وهو تحول الحياة الى حياة عارية التي يمكن أن نقتل فيها، ولايتم التضحية بها. 6 لقد عملت معظم الدول على توظيف تقنيات العلم والبيولوجيا في تعاملها مع الأفراد، لأن تلك التقنيات ستعمل على فرز المجتمع بدقة، خاصة عبر تقنيات التحسين، كما هو معروف بأن تلك الدول تعزز مبدأ العنصرية البيولوجية، وتقصي جانب كبير من الأفراد تحت ذريعة العلم، فالمصابين بالعاهات والقصور الجسدي لا يمكن لهم الاستمرار في العيش والعطاء، لأنهم يشوهون المجتمع وصورته، وانتاجه الاقتصادي وتشكل نظرة الاقصاء هذه الملامح العامة لعمل الدول وفقا لمبادئ التعديل الحيوي البيولوجي، وقد استعملت تقنية الموت الرحيم Euthanasié عبر البرنامج الحيوي للدول المميتة لعل أبرزها النازية، فقد كان القتل واجبا نحو من فقد الأهلية الإنسانية، أي الصفات التي تؤهله ليكون فردا كاملا، من الناحية البدنية أو العقلية، وفقد القدرة على العيش الطبيعي والتعايش الاجتماعي، واستمراره في الحياة مرهون بالأجهزة الطبية المتصلة به، فان نُزعت عنه، يموت مباشرة، خاصة وأن الموت الرحيم يعني نزع الأجهزة الطبية لمن لا أمل في شفاءه لأن حياته عبارة عن ألم فقط، وهذا مفهوم أخلاقي بالدرجة الأولى لكنه صار مع تحديات السياسات وتطلعاتها المرهونة بقوة الإرادة البشرية، قد أصبح  مفهوم سياسي، اذ عملت الدول الديكتاتورية على تطبيقه والعمل به، خاصة مع سياسة هتلر، أين تمت محاكمة العديد من الأطباء الذين اعترفوا بفعل الكثير من التقنيات البيوطبية الخطيرة لعل أبرزها الموت الرحيم، والذي صار يطبق أيضا في المحتشدات حسب أغامبين.

اذن أصبحت الحياة في عصر البيوسلطة حياة عارية تتعرض للتحسين المستمر والاستثمار الاقتصادي، أي أنها دخلت في لعبة انتاج أنظمة عديدة، لتشكل فائض حياة، يكون الانسان هو النواة الأولى في لعبتها السياسية هذه التي تتتميز بالاستثناء، هذا وأن الجائحة أيضا التي شهدها عصرنا الحالي والمتمثلة في كوفيد 19 حسب أغامبين ظاهرة معقدة عبرت بصورة واضحة عن حالة الاستثناء التي استعجلت السياسات للإعلان عليها، اذ أنها معقدة في علاقتها بالاستثناء السياسي، وليست معقدة في ذاتها لأنها عبارة عن كائن فيروسي، وهنا نستحضر رؤية فوكو عند أغامبين في رؤيته للأوبئة حيث يؤكد على أن السلطة تستثمر اللحظات الاستثنائية، ولعل الكوفيد صورة استثنائية تحدث في المجتمع تستغلها الدولة لفرض حالة الحصار.

***

د. ايمان عامر

.........................

الاحالات:

1- الانسان المستباح: ترجمت الى العربية بالإنسان الحرام، وبالمنبوذ، ونفضل الانسان المستباح، وhomo sacer هو مصطلح استعاره أغامبين من القانون الروماني القديم، وهو الاسم القانوني لشخص حالته كالآتي: هو شخص لايمكن التضحية به كقربان لله، ولكنه في نفس الوقت مستباح الدم، بمعنى أي كان يمكن أن يقتله من دون أن تتم معاقبته على ذلك أبدا، هو شخص اذن خارج كل من القانون الالاهي فهو غير مقبول كأضحية، والقانون البشري فقتله أمر مباح تماما، شخص مطرود مرتين من رحمة الله ومن رحمة الانسان، هو شخص عرضه للموت اذن طوال الوقت، بوسع أي أحد أن يقتله دونما حرج، هذه العرضة الراديكالية للموت يسميها أغامبين بالحياة العارية.(ميكا اوجاكانجاس، حوار مستحيل حول البيوسلطة أغامبين وفوكو، ترجمة: طارق عثمان، مركز نماء للبحوث والدراسات،2005، ص9)

2 - الحياة العارية: حياة الانسان المستباح، أي محض الحياة أو مجرد الحياة، أو الحياة في صورتها الخام، الحياة البيولوجية، لاتوجد على نحو طبيعي، وانما يتعين انتاجها وهو ما تقوم به السلط عبر تقنيات معقدة.(المرجع نفسه،ص ص 9، 15.)

3- Georgeo agamben, homo sacer2, state of exception, translated by kevin attel, Stanford university press, California, 2017, p.p 193,194

4 - الاستثناء: حسب أغامبين هو ضرب من الاستبعاد، والسمة المميزة للاستثناء حسب أغامبين هي أن مايتم استبعاده من خلال لايصير باستبعاده، منبت الصلة عن القاعدة العامة، وانما على العكس تماما، فما يتم استبعاده بالاستثناء يحافظ على صلته بالقاعدة في شكل تعليق، تعطيل هذه القاعدة، أي أن القاعدة تظل مطبقة على الاستثناء، مثلا المعتقلين في سجن غوانتنامو، هؤلاء محرومون من أي حقوق قانونية، ومستثنون من القاعدة القانونية الطبيعية، لكنهم لايزالوا محتوون داخل القانون في صورة استثنائهم منه.( ميكا اوجاكانجاس، حوار مستحيل حول البيوسلطة أغامبين وفوكو، مرجع سابق،ص17) Ibid

.5- page 71

6-Ibid, page 82

هل السؤال الفلسفي واحد أم متعدد؟

تتميز الفلسفة بكونها حقلا معرفيا يتقوم على أسئلة فلسفية دقيقة، تبتغي الكشف عن أسباب الأشياء وأصولها. وإذ كان الأمر كذلك، فإنه بالنظر إلى طبيعة هذه الأسئلة في تاريخ الفلسفة الممتد لقرون (27ق)، لا نحصل على نمط واحد منها، بقدر ما أن هناك تعدد في أنماطها، بحسب مستجدات العصر الفكرية والعلمية من جهة، وبحسب تصور الفيلسوف الذي يسعى إلى إدراك حقيقة الأشياء من جهة أخرى. ولعل أبرز أنواع الأسئلة الفلسفية التي اشتهرت بها الفلسفة منذ نشأتها إلى اليوم، نجد -حسب علمنا- نوعين مختلفين من حيث طبيعتهما وزمان حضورهما. لقد اشتهرت الفلسفة اليونانية بالسؤال الفلسفي التوليدي، كما اشتهرت الفلسفة الأوروبية الحديثة بالسؤال الفلسفي النقدي.

يشاع عن سقراط (470ق.م-399ق.م) أن أمه كانت مولدة نساء، ولذلك، يعتبر نفسه مولدا للأفكار كما كانت أمه تولد النساء. إن قراءة المحاورات التي تدور رحاها حول قضايا مختلفة (سياسية وأخلاقية...إلخ) بين سقراط والسفسطائيين، يبين أنها محاورات كانت تطلق عليها اسم "مايوطيقا"؛ (la maïeutique) أي التوليد. يبدأ سقراط محاوراته بتقديم قضية محددة يتلوها بسؤال، فيستدرج المحاور للإجابة، إيمانا منه بأن المحاور لا يملك معرفة دقيقة بما يتساءل عنه، ثم بعد ذلك، ينطلق من إجابته ليولد منها سؤال آخر، يدفع صاحبها إلى التشكيك في معارفه وإجاباته. وبهذه الكيفية، يجعل سقراط من المحاور في حالة من الريبة المعرفية التي تجعله منصتا بعناية إلى ما يدعيه سقراط من تصورات فكرية ومعرفية تتجاوز فكرة السفسطائية القائلة بجعل الإنسان مقياس كل الأشياء.

يتضح إذن، أن الحوار السقراطي الذي يشترط طرفين على الأقل في العملية الحوارية، يعتمد على تقنية السؤال والجواب التي تهم تحديد بعض المفاهيم تحديدا دقيقا، يخرج بها من رتابة المبتذل إلى مقام العلو والحكمة. والانتقال من السؤال إلى الجواب يعتمد على كيفية توليدية، تنطلق من سؤال حول مفهوم محدد، واستنادا إلى جواب بعض السفسطائيين، يجعل سقراط من الجواب -وبنوع من التهكم والسخرية- بداية نحو سؤال آخر، كي يبين لهم بأن ما يدعونه من معارف ليست بالضرورة واضحة ومتميزة في الأذهان. وبالتالي، إن السؤال الفلسفي السقراطي سؤال توليدي يبتغي تفنيد كل ادعاء للمعرفة التي هي في الأصل ادعاء للجهل.

هكذا، يمكن القول بأن السؤال السقراطي التوليدي، كان موجها نحو المعرفة فقط-أي بيان تهافتها وضعفها الحجاجي، بل إن كل معرفة سفسطائية كانت بمثابة ادعاء للمعرفة، والحال أنها ادعاء للجهل فقط- ولم يكن موجها نحو منبع هذه المعرفة ومصدرها. لذلك، ومع المستجدات النظرية التي شهدها تاريخ الفلسفة منذ بداية الفكر الأوروبي الحديث، وما صاحب ذلك من تحولات رفعت مقام الإنسان في علاقته بموجودات العالم، من حيث إنه الكائن المالك لجملة من القدرات التي تسمح له ببناء المعنى والمعقولية لذاته وللعالم، لم تعد الأسئلة توجه بالضرورة نحو المعرفة، بل نحو أسسها ومصادرها.

في هذا السياق، يأتي نوع آخر من الأسئلة الفلسفية الذي طبعت مرحلة القرن الثامن عشر، أعني بذلك، السؤال النقدي الذي اشتهر به الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724م-1804م). نعلم بأن لهذا الفيلسوف ثلاثية نقدية (نقد العقل المحض، نقد العقل العملي، ونقد ملكة الحكم)، فيها نستشف بأن كانط لا يوجه سهام نقده للمعرفة كما دأب على ذلك الفيلسوف اليوناني سقراط، بل إلى أسس هذه المعرفة؛ أي العقل. إن الخوض فيما إذا كان ما نعرفه من أشياء صحيحا أم لا، يتوقف على مدى قدرتنا على المعرفة؛ أي فيما إذا كنا نملك عقلا يمكننا من معرفة متكاملة أم أنه محدود بحدود الزمان والمكان. ثم، إن السؤال النقدي الذي كان موجها نحو مبادئ إنتاج المعرفة، وليس المعرفة في حد ذاتها، لم يشترط وجود أطراف حوار، أو اعتماد لتقنية السؤال الذي يليه الجواب، وجعل الجواب بمثابة منطلق نحو أسئلة أخرى، أو اعتماد للسخرية والتظاهر بالجهل، بقدر ما أنه سؤال يدفع المرء نحو التفكير في الأسس التي يبني عليها فكره ومعرفته، حتى لا يكون في وضع جهل بإمكاناته الذاتية نحو بناء المعنى والمعقولية بخصوص ذاته والعالم.

***

د. لوكيلي عبد الحليم - أستاذ فلسفة

المغرب

الزمان والنظام: عن جاستون باشلار "النظام ليس في الزمان، وإنما الزمان هو تكريس نظام مفيد وفعال نفسيا ولعلنا نستطيع التسليم مع برجسون بأن إختلال النظام في المكان ليس إلا نظاما غير متوقع، وجدلية النظام واللانظام ليس لها قاعدة مكانية "1.

بضوء هذا الإجتزاء نضع التساؤلات التالية المتعالقة بها وهي:

- الأسبقية الوجودية الإدراكية لمن هي؟ هل للزمان أم للمكان؟، أم لا توجد أسبقية تزامنية بينهما؟، فالمدرك مكانا هو المدرك زمانا في ملازمة تمليها قابلية الادراك العقلي، ولا يمليها تكامل أو إنفصال الزمان عن المكان؟ فحيثما ندرك مكانا ندرك زمانيته الملازمة له وبغير هذا التداخل الادراكي الزمكاني المشترك لا ندرك مكانا ولا زمانا لوحدهما ...

- إذا كان الزمان جوهرا لا إدراكيا للعقل وهي مقولة فلسفية دارجة، والمكان بخلافه جوهر إدراكي للعقل، فهل نستطيع إدراك المكان بغير دلالة ملازمة الزمان له؟ وفي إستحالة إمكانيتنا إدراك الزمان بغيردلالة موجودية المكان. كما ليس متاحا لنا إدراك مقدار الزمان بغير دلالة مقدار حركة اجسام المكان داخله .

- هل المكان و(الطبيعة) وجود عشوائي أم وجود منظم بقوانين ثابتة على مستوى الطبيعة وقوانين متغيرة وضعية على مستوى تنظيم المكان؟ وهل الزمان جوهر إفتراضي منّظم تلقائيا أم عشوائيا غير منظم لكنه ينتظم إدراكيا بدلالة مدركاته من الاشياء؟ ومن ينّظم عشوائية الآخر هل عشوائية المكان سابقة وجودا على إمكانية تنظيم عشوائية الزمان لتلك العشوائية المكانية ؟ هنا نفرّق بين المكان كموجودات ثابتة في الطبيعة عن موجودات واشياء العالم الخارجي المتغيّرة من حولنا. فالطبيعة معطى إدراكي يحمل قوانينه النظامية الثابتة، عليه تكون عشوائية المكان لا تنسحب على نظام الطبيعة الثابت.

- افلاطون يعتبر المكان معطى سابق على مخلوق الزمان اللاحق، والمكان منّظم من خالق أعطى المكان مهمة تنظيم عشوائية الزمان المطلقة. بخلاف الفهم السطحي الذي إعتدناه الزمان هو ادراكنا تنظيمه عشوائية المكان. حيث يؤكد افلاطون عشوائية الزمان تتم بدلالة المكان وليس العكس. من المرجّح أن افلاطون يقصد بنظامية المكان السابق على عشوائية الزمان هو ثبات قوانين الطبيعة الفيزيائية المحكمة. التي قطعا لم يكن افلاطون في عصره يدركها ويعرفها علميا كما هو الحال اليوم. افلاطون كان يحدس التنظيم الاعجازي في الطبيعة ويجهل القوانين الفيزيائية التي لم يكن اكتشفها العلم بعد.

- لكن السؤال المقلق حقا لماذا جعل الخالق الموجد للكون نظام المكان أو الطبيعة تلازمه عشوائية الزمان؟ وماهي الآلية التي تستطيع نظامية المكان إنجازها تنظيم عشوائية الزمان من خلال االتخارج المعرفي الإدراكي التكاملي وليس الجدل الديالكتيكي الماركسي بمعنى التضاد بينهما الذي يمكننا فهمه؟

- افلاطون يعتبر تداخل الزمان الإدراكي مع المكان المنتظم هو الكفيل بتخليص الزمان من عشوائيته بدلالة نظامية المكان التي جعلها خالقها بنظام ثابت يفتقده الزمان في المطلق غير الثابت. والمكان جوهر سابق على جوهر الزمان. وهنا يقصد بالمكان هو المعطى الناجز بنظام تحكمه قوانين طبيعية ثابتة وليس المقصود عشوائية الموجودات المكانية في العالم من حولنا. توضيح أكثر أن افلاطون يرى وهو احتمال إنقاذ الزمان من عشوائيته المطلقة غير المدركة لا يكون إلا من خلال محدودية الزمان بوجود مكاني محدود إدراكيا. حينها يصبح كل مدرك مكاني كوجود منظم مدرك اكتسب منه الزمان العشوائي وجوده المنظم بدلالة مكان محدودية إدراكه.

- مقولة ارسطو الرائعة التي سبقت عصرها هي (الزمان لا يحده زمان) اي عدم وجود زمانين احدهما كوني والاخر تحقيب وقتي ارضي بمعنى زمان. لكن واقعية المكان المتعيّنة وجودا انطولوجيا يمكن ان نحد الزمان بها؟ لماذا؟

مقولة ارسطو تؤكد التجانس الزمني وماهيته الفيزيائية التي لا تتبدل التي ينطبق عليها عبث المقولة التي نتداولها عربيا (فسّر الماء بعد جهد جهيد بالماء) أما إمكانية أن نحد الزمان إفتراضا بالمكان فهو وارد جدا كون ماهية المكان او صفاته الخارجية لا تجانس الزمان الذي لا يمتلك صفات ولا ماهية يمكننا ادراكها بمعزل عن تداخل الزمان بالمكان على صعيد الادراك فقط وليس على صعيد الجدل الديالكتيكي المتعذر تحققه بين المكان والزمان بسبب اختلاف المجانسة النوعية الوادة بينهما ان يكونا قطبي تناقض وتضاد داخل ظاهرة وجودية واحدة تجمعهما. حسب الجدل الديالكتيكي ارتباط المكان بالزمان ليس جدليا لافتقاد كلا قطبي التناقض للمجانسة النوعية الواحدة. اذن ما تعليلنا لاندماج المكان والزمان اي الزمكان؟ هذا النوع من العلاقة بين المكان والزمان هي علاقة تكامل معرفي تخارجي في التاثر والتاثير.

- بضوء مقولة افلاطون نرى الزمان في إحتوائه المكان إدراكيا هو يقوم بتنظيم عشوائيته الوجودية بدلالة نظام المكان أو بدلالة قوانين الطبيعة الثابتة. عشوائية اللانظام الزماني المستمد من إدراك تنظيم المكان له، لا يعني عشوائية الزمان التي اكتسبها من نظامية المكان في جدل غير متجانس الصفات ولا الماهية ولا أية رابطة تجمعهما تجانسيا. المجانسة المادية للمكان لا تجانس المجانسة غير المادية للزمان. وجوهر المكان يختلف جدا عن جوهر الزمان والاكثر اهمية انهما لا يتناقضان جدليا في ازاحة احدهما الاخر بل يتكاملان ادراكيا.

- جدلية الزمان الادراكي مع المكان ليس جدلا (ماديا) يقوم على تضاد سلب مع إيجاب بل هو جدل يقوم على تغيير إدراكي وليس على إستحداث ظاهرة إدراكية جديدة ثالثة هي وليدة جدل تناقضي متضاد. والسبب بذلك هو إختلاف المجانسة الماهوية النوعية بين المكان والزمان التي أشرنا لها في الفقرة السابقة. علاقة التداخل الادراكي الذي يجمع الزمان بالمكان ليس علاقة جدل ديالكتيكي بل علاقة تكامل إدراكي معرفي تخارجي .

- حسب باشلار ومن قبله برجسون كل عشوائية مكانية في نظام الاشياء والطبيعة، يبتني عليها نظاما طارئا جديدا لا يلغي بصفاته الخارجية عشوائية المكان. هذه العشوائية المكانية التي تنظّم نفسها بدلالة عشوائية الزمان التي اعتبرناها خاطئة حسب فلسفة افلاطون. لذا يكون معنا الزمان لا ينّظم المكان بل يدركه كما هو كموجود. والمكان ينظم نفسه بدلالة تنظيمه عشوائية الزمان المتعالق مع موجودات المكان. لكن هذه فرضية لا يمكننا اثباتها.

- أيضا بضوء مقولة افلاطون المكان معطى قبلي منظم يستبق الزمان وجودا. يجعلنا ندرك حقيقتين : اولاهما رغم عشوائية الزمان المنسوبة له من قبل افلاطون إلا أن ميزة الزمان الإطلاقية عشوائيا التي تعجز كل موجودات عالمنا مجاراتها هو أن الزمان نظام يحتوي الوجود والطبيعة والمكان بغض النظر عن دوره السلبي أو الايجابي لهذا الإحتواء الإدراكي. المكان لا يدركه العقل مجردا عن زمن إدراكه والغريب بالأمر كيف يكون المكان معطى قبليا نظاميا يعقبه معطى بعدي زمانيا يفتقد النظام؟. علما أن مصدر خلقهما واحد هو الله حسب افلاطون وفلاسفة مؤمنين عديدين أعقبوه. لماذا يكون للطبيعة نظاما تحكمه قوانين فيزيائية ثابتة، ويفتقدها الزمان بعشوائيته اللانظامية في تعالقه الوثيق مع الطبيعة؟ لماذا تكون الطبيعة جوهرا مدركا ثابتا بقوانينه، ولا يكون الزمان مدركا بقوانين فيزيائية تحكمه بثبات ادراكي كما هو حال الطبيعة؟

جاستون باشلار والوجود

يتناول باشلار قضية فلسفية عالقة كانت مثار اهتمام عباقرة الفلسفة هي الوجود والعدم، وابرز ميراث سبق به هذه العلاقة سارتر في كتابه الشهير (الوجود والعدم) واعقبه هيدجر بكتابه (الكينونة والعدم) وتقوم فلسفة باشلار في معالجته هذه العلاقة على ما يلي:

- "إمتلاء الوجود يقابله العمل الثابت للوظائف"2،

بمعنى توضيحي الوجود الناقص الإمتلاء ناقص القدرة على إداء وظائفه الحيوية المترتبة عليه بالحياة. رغم أن تعبير الإمتلاء الوجودي مفهوم ملتبس غير واضح من الناحية الادراكية او العملانية. فالامتلاء الوجودي غير محدد بماذا يمتليء؟ والوجود ليس فراغا إحتوائيا ليمتليء، وماهي معيارية هذا الإمتلاء بالتمام والنقصان؟ وبأي شيء يكون الوجود ممتلئا؟ باشلار ربما لا يعني بالوجود الممتليء هو الوجود الطبيعي الذي يدرك بموجوداته، وهو غير الوجود النفسي الذي ربما يقصده باشلار الممتليء بموجوداته المجردة غير المادية التي مصدرها الذاكرة والخيال والنفس وجميعها مفردات تجريد.

- إرادة الحياة دائمة السيرورة ولا تتوقف، والوجود يريد خلق حركة ولا يريد خلق راحة حسب تعبير باشلار. والوجود تناغم دقيق لخلق التنوع. والوجود الناجح المتحقق لا يكتفي الوقوف من غير سعي لاضافة نجاحات أخرى جديدة عليه.

وجدلية الوجود والعدم تتبدل وتتغير وفقا للظروف الموضوعية الخارجية حسب باشلار، وليس بتضاد داخلي يجمع وحدة المتناقضات حسب الجدل الماركسي. لماذا لا يكون تناقض الوجود والعدم يحكمه ديالكتيك على النمط الماركسي التقليدي؟

أولا من الخطأ الفادح أن نعتبر إمكانية حصول جدل بين وجود وعدم، أي بين شيء مدرك من جهة ولاشيء غيرمدرك غير موجود من جهة أخرى، الجدل الديالكتيكي المنبثق عنه ظاهرة مركبة ثالثة مستحدثة إنما تكون هي نتيجة تضاد جدلي داخل مجانسة نوعية واحدة تجمع متضادين إثنين في ظاهرة واحدة. والجدل الديالكتيكي لا يكون بجمع مدركين خارجيين منفصلين بل الجدل يكون في تناقض قطبين داخلين ضمن الظاهرة المتجانسة الواحدة. لنا توضيح لاحق لهذا الالتباس في اسطر لاحقة.

- يؤكد باشلار أن فهمنا الصحيح للوجود يتوقف على جملة من الامور منها : الوجود حسب تعبيره تناغم دقيق وخلق التنوع فيه، وطبيعة الوجود هو ان يتغير، والوجود الناجح يريد دوما تجاوز مرحلة نجاحه الى اخرى متقدمة عليها، كما يجد باشلار الحياة لا تنفي نفسها بالفشل، بل هي تبني اعادة نفسها في ديناميكية تقودها ارادة التغيير والتجديد المتقدم الى امام. ملاحظة مهمة باشلار يقصد بالوجود هو الموجود الانساني، ولا يقصد الوجود كفهوم مطلق.

لا نجانب الصواب قولنا ان كل ماذكره باشلار لا يشكل رؤية فلسفية جديدة لم يسبقه بها أحد غيره، ويمكننا أن نجمل تعقيبنا باختصار شديد، أنه من المسلمات أن الحياة لاتصنعنا على الدوام دونما ارادة واستعداد مسبقين منا كبشر من جنس نوعي متمايز على صعيدي الفرد والمجتمع، الحياة نحن من يمنحها إمتياز التدخل في رسم معظم ملامح سلوكنا الوعوي الذي نجد تكيفنا معه ميسورا بسيطا. وكل تقاطع مع إرادتنا في تصنيع حياتنا مع ارادة الحياة الواجب التكيف الايجابي معها في ممارستنا تعديل الخاطيء الذي لا يناسبنا نحو الافضل، سيقود الى انكفاء ذاتي على مستوى الفرد والى استلاب اغترابي على صعيد المجتمع. الحياة تصنع وجودنا الحقيقي الحي بنفس مقدار صناعتنا نحن للحياة التي نرغبها.

جدل الزمان والمكان

في سطور سابقة جرى توضيحنا لها لا يوجد جدل ديالكتيكي مادي يحكم المكان والزمان، واوضحنا ان علاقة الزمان بالطبيعة وموجوداتها المكانية هي من نوع الادراك التكاملي وليس من نوع التضاد الجدلي في خلق الظاهرة الجديدة. وسبب ذلك أن الجدل الديالكتيكي المادي وجدل التاريخ لا يكون إلا على صعيد المجانسة الواحدة التي تجمع نقيضين لا يمكنهما التعايش معا داخل المادة المتجانسة الواحدة.. الديالكتيك يحدث داخل متناقضات النوع المادي أو التاريخي الموحد في المجانسة. مثال ذلك لا يمكن أن يحدث ديالكتيك بين حيوان وانسان أو بين نبات وانسان او بين زيت وماء او بين منضدة وكرسي الخ.الديالكتيك تضاد بين نقيضين متجانسين نوعيا ينتج عنهما مرّكبا ثالثا جديدا لا يلبث أن يخلق تناقضه التالي..

تناقض الاضداد جدليا داخل المادة أو الموضوع المتجانس الواحد لا يكون مدركا من طرف ثالث محايد باستثناء العوامل الموضوعية المحيطة بهما من أجل تسريع وحدة التناقض الداخلي لينتج عنه المركب الثالث أو الظاهرة المستحدثة الجديدة التي لا تشبه أحد المتناقضين. أما الجدل على صعيد تنازع وتفاوت مصالح الطبقات المتناحرة اقتصاديا كما يحصل بين الطبقة الفقيرة العاملة التي تبيع قوة وناتج عملها للطبقة الغنية الراسمالية التي تستثمر قوة عمل هؤلاء الفقراء.

كما تحكم الجدل المادي قوانين تحولية انتقالية خاصة من مرحلة الى مرحلة أخرى وهي القوانين الكلاسيكية الثلاث التي أرستها الفلسفة الماركسية، قانون وحدة وصراع الاضداد، وقانون تحول التراكم الكمي الى تراكم نوعي جديد يحمل خصائص نوعية مغايرة، والقانون الثالث الذي يحكمه التطور الحتمي بقانون ما يسمى نفي النفي في استحداث الظاهرة الجديدة التي تحمل معها عوامل التناقض داخلها وحتمية انحلالها. ما يعنينا من كل هذا التوضيح هو كيف يكون الفكر او الوعي الذي هو تجريد لا يشارك المادة التي يدخل معها بجدل ديالكتيكي وكل منهما(الفكر والمادة) يحمل صفاته النوعية الخاصة به التي تقاطع وحدة التجانس الجدلي داخل الظاهرة النوعية في الخواص الواحدة.؟ لا يوجد جدل منطقي على صعيد الميتافيزيقا ولا على صعيد الفكر المجرد. جدلية الزمان التي يعالجها جاستون باشلار هي جدلية ميتافيزيقية، وبنى على تلك الفرضية الفلسفية على نوع من تقلبات النفس. اننا ندرك الزمان على انه سلسلة من الانقطاعات التي تتحكم بها ذاكرتنا.

لكن الحقيقة الجوهرية للزمان تقاطع هذا التوجه الاستدلالي به. وهي ان تفكيرنا خارج فاعلية الزمن الجدلية هي التي تكون سلسلسة من الانقطاعات المتتالية. قطوعات الذاكرة التعاقبية هي التي تقود الزمن. بمعنى استكمال الادراك بدلالته. قطوعات التفكير الاسترجاعي المستمد من مصدره الذاكرة، إنما يكون افكارا مكتسبة مخزّنة خارج تعاقبية زمنية يتعالق بها الماضي مع الحاضرالمؤقت.

قطوعات التفكير هي خارج فاعلية جدلية الزمان بها، فالجدل الحقيقي لا يحصل في ميتافيزيقا الافكار بل يحدث في الوجود المادي للاشياء. وتبقى قطوعات التفكير خارج جدلية الزمان هي استذكارات نتخيلها بالفكر الملازم لزمانيته الذي في حقيقته لا زمان يقود الاستذكارات التي نرغب استحضارها، ولا دخل للزمن فيها الا بدلالة أن نعرف استكمال ادراكاتنا بدلالة زمنيتها في حاضرنا الذي نفكر فيه.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

.....................................

الهوامش: 1،2، جاستون باشلار/ الجدل والزمان /ت: خليل احمد خليل/ ص 36 – ص 38

عرفت البلاغة الغربية أوج ازدهارها مع أرسطو ومعلمه أفلاطون، ثم شيشرون وكنتنليان، وقبل أن ينطفئ نورها جاء شاييم بيرلمان وزميلته البلجيكية لوسي أولبريخت تيتيكاه فأعادا لها بريقها من خلال المؤلف الشهير" المصنف في البرهان: البلاغة الجديدة"، وتبلورت هذه البلاغة مع ستيفان أولمان في كتاب "استعمالات الدليل والحجة"، وأيضا شارل هاميلان في كتابه" الأوهام"، فقامت بلاغة هؤلاء على استعمال آليات وتقنيات بلاغية لغوية ومنطقية، واعتنوا بالاستراتيجيات التي يستعملها المتكلم من أجل إقناع السامع، وبالتالي ارتبطت بلاغتهم بالحجاج المرتبط بالإفهام والإقناع القائم إما على الصدق أو المغالطة. لذلك احتل مبحث المغالطات الحجاجية مرتبة متقدمة في البحث الحجاجي المعاصر، وشكل تطوّرا طبيعيا للدراسات اللسانية، التي عُنيت بالتواصل الإنساني، وبالأساليب التي تعتمدها أطراف التواصل من أجل التأثير في الغير أو الاستحواذ عليه وتطويعه، ومنه ارتأينا تقصي حيثيات ومسار تشكل هذا النوع من الحجاج في الفكر الغربي القديم فالحديث ثم المغربي كنموذج. فلم تكن دراسة المغالطات والاهتمام بها أمرا جديدا في الدرس البلاغي، بل هي مسائل قديمة قدم علم المنطق الذي أينع نتيجة ظاهرة السفسطة التي عرفها المجتمع الأثيني، فلقد كان مهدها الفكر اليوناني.

الحجاج المغالط في المنجز اليوناني

إن تفطن الإنسان لما في المغالطة الحجاجية من قوة وقدرة على التأثير بغض النظر عن كونها تعبر عن الحقيقة أم لا، هو الذي دفع بعض الفلاسفة إلى احترافها وتوظيفها من أجل الغلبة والتكسب بتعليمها للناس.

وقد ارتبطت المغالطة في الفكر اليوناني بالتيار السفسطائي، حيث كان أنصاره" يفاخرون بتأييد القول الواحد ونقضيه على السواء، وبإيراد الحجج الخلابة في مختلف المسائل و المواقف ومن كانت هذه غايته فهو لا يبحث عن الحقيقة، بل عن وسائل الإقناع والتأثير الخطابي"[1]، وأبرز زعمائه نجد: بروتاغوراس الإبديري Protagoras of Abdera  وغورغياس الصقلي Gorgias of Siceliot وبروديكوس دو سيوس Prodicos de ceos ، فقد أعطى هؤلاء وآخرون من حاملي هذا التوجه الفكري مشروعيته لاستعمال الحيل الخطابية، ومنه صارت السفسطة في بعض الممارسات الخطابية استدراجا للسامع وفنا يسمح بإظهار الأقل ضعفا، ولقد راهن السفسطائيون على عالم يتعلق باللغة هو عالم مخلوق ومحتوى في الكلام الإنساني فقط،[2] وهذا في حد ذاته تعبير عن وعي عميق بدور اللغة وأهميتها، بل وخطورتها كسلاح لا يختلف في شيء عن باقي الأسلحة المادية التي يستخدمها الإنسان للحفاظ على وجوده والدفاع عن كينونته أو لقضاء مأربه وحوائجه.

في ظل انتشار هذه الحركة الفكرية في اليونان القديمة خلال القرن الخامس قبل الميلاد ظهر مجموعة من الفلاسفة حملوا مشعل التصدي للألاعيب القولية التي اعتمدها السفسطائيون من بينهم أفلاطون أب منطق المغالطات من خلال مجموع محوراته التي حملت أسماء أعلام سوفسطائيين مثل: هبياس الصغير، وهبياس الكبير، وبروتاجوراس، وجورجياس و السفسطائي... من بين آخرين، وتتضمن نقدا لآرائهم، وهجوما على دورهم الهدّام في الفكر اليوناني،[3] فقد بدأ معه الانفصال بين الخطابة والسفسطة لتستقل الأخيرة بذاتها حاملة معها كل النعوت القدحية، بل وأصبحت كل ممارسة فكرية أو كلامية لا تتقيد بضوابط المعقولية والواقعية، وتوصف بكونها سفسطة،[4] وسار أرسطو أيضا على نفس المنوال متسلحا بالمنطق العقلي محاولا نقد المنهج السفسطائي في الجدل في كتابه الطوبيقاأو الجدل،[5] وإحصاء مغالطات هذا التيار وتصنيفها في كتابه السوفسطيقا أو الأغاليط، وأشهر أبوابه: القياس والمغالطة، أنواع الحجج في المناقشة، الأغراض الخمسة للحجاج السفسطائي، التبكيت في القول، التبكيتات التي خارج القول، رد الأغاليط إلى تجاهل الرد، أسباب الأغاليط، المبكتات السوفسطائية في المادة، استحالة معرفة كل التضليلات...إلخ،:[6] وعمل على تخليص عملية الإقناع من الحجاج المغالطي من خلال نظريته في بلاغة الحجاج عبر حصر كل أشكال التبكيتات السفسطائية، فحدد من جهة اللفظ ستة أصناف، هي:[7]

اشتراك اللفظ المفرد: حيث يعمد السفسطائي إلى التضليل من خلال استعمال اللفظ الواحد الذي قد يدل على أكثر من معنى. مثل قولك إنما العلماء بالنحو يعلمون، وإن الذي أطلقت ألسنتهم منذ قريب يعلمون، فالتعليم اسم مشترك يقع على الذي يتفهم هو ونفسه ويستنبط، وعلى الذي يستفيد ويتعلم من غيره، فأما فهمه والمعرفة به فذاك هو استعمال العلم ومعرفته، وحسب ابن رشد المتعلم عالم، لأن المتعلم يعلم، والذي يعلم عالم، فالمتعلم عالم".

اشتراك اللفظ المؤلف: ويتفرع إلى: ما كان من قبل التقديم والتأخير (ضرب موسى عيسى)، وما كان راجعا إلى احتمال الضمير أكثر من معنى (قال خالد لعلي أنه ذكي)، وما كان راجعا إلى التباس الإضافة (كتاب الطالب الجديد)

إفراد القول المركب: يتعلق الأمر بإفراد القول أو إسناده، فمثل قولك: سقراط عالم بالطب، فسقراط إذن عالم، وذلك أنه قد يصدق على سقراط أنه عالم بالطب، وليس يصدق عليه أنه عالم بإطلاق... لأنه ليس يلزم إذا صدق القول المركب على شيء أن تصدق أجزاؤه مفردة على ذلك الشيء

القسمة: كأن يعمد المغالطي إلى استلزام صدق المركب بناء على صدق أفراده، مثال: قول القائل: (أنت عبد، أنت لي، فأنت عبد لي) ومن الحوارات الطريفة ما جاء في كتاب الأذكياء ما روي عن ابن قتيبة أنه قال:" كان أبو العاج على حوالي البصرة فأتى برجل من النصارى فقال: ما اسمك؟ فقال: بندار شهر بندار، فقال: أنتم ثلاثة وجزية واحدة، لا والله العظيم فأخذ منه ثلاث جزى". فقد فرض الوالي على النصراني ثلاث جزى لأن اسمه مركب من ثلاث مفردات في اسمه؛ أي قسّم الكل إلى أجزاء وأعطى لكل جزء خصائص الكل.[8]

الإعجام: ويتعلق بخصائص مميزة للغة المنطوقة أو المكتوبة، كالأداء الصوتي أو إهمال الإعراب وتبديل اللفظ وإعجامه، يكون غالبا فيم يكتب وفي الشعر خاصة.

شكل الألفاظ: وفيه يتم التلاعب بصيغ اللفظ، مثل: أرهبَ الناسُ معاذَ، أرهبَ الناسَ معاذُ، أرهبُ الناسِ معاذُ، أرهِبِ الناسَ معاذُ.

يمكن ردّ هذه التصنيفات إلى خمسة أغراض هي:[9] (الإبطال والغلط ومخالفة الرأي المشهور والاستعجام وإيقاع الخصم في الهذر المحض، ترد بدورها إلى ثلاث آليات عامة هي:[10]

التغليط بالأقوال اللغوية: كثيرا ما يراهن المغالط في بناء استراتيجيته التضليلية على اللغة وخصائصها التركيبية والدلالية والتداولية، إضافة إلى بعض الظواهر البلاغية، ويمكن للمغالطة أن تكون باللفظ؛ وذلك متى لم يطابق القول المعنى بشكل يجعل دلالة اللفظ مشتركة فيلتبس الأمر على المتلقي ويسهل تغليطه، ويمكن أن يكون من جهة المعنى؛ فالمضامين التي يلجـأ إليها المغالط قد تكون غير مضللة في ذاتها، لكنه يعدُّها بطريقة يسمح باستخدامها لهذا الغرض، فالمغالطة في أصلها خروج اللفظ إلى معاني متعددة، فيفهم السامع معنى ويقصد المتكلم أخر.

التغليط خارج – لغوية: معناه استخدام كل الظروف المتاحة للإيقاع بالخصم، بحيث يلجأ المغالط إلى الكذب والمداهنة والمدح والاستعطاف والتهديد والوعيد...، وبالتالي إلى أساليب السلطة والتهكم على الخصم، لأن دغدغة عواطف الجمهور ورغباته حسب أفلاطون أشد إقناعا من أي احتكام للعقل، وذلك من خلال إرباكه والضغط عليه لتعطيل عملية التفكير عنده وتشتيت انتباهه.

التغليط العائد إلى سبل التدليل: أي إيهام المحاور باستخدام قياسات صحيحة بينما هي مضللات، فيصوغ المغالط أقواله بشكل منطقي، لكنه يظهر فيها الفاسد صحيحا والكاذب صادقا، ويدفع بخصمه بعيدا عن قصده فيضمر أكثر مما يظهر، أو يبني القياس على مقدمات توهم بالصحة أو يخادع في ترتيبها على نحو يؤدي إلى تعميم الأحكام أو اختزالها دون أن يكون الأمر في الإمكان.

ومنه يكون التغليط خروجا عن الشكل الصحيح للقياس، وبالتالي نكون أمام استراتيجيات خطابية تعتمد الإيهام والمناورة وتستعمل استدلالا سليما في الظاهر لكنه في باطنه يقوم على خلل في البناء المنطقي.

الحجاج المغالط في الفكر الغربي الحديث والمعاصر

بعد إسهامات أفلاطون وأرسطو بقرون حذا حذوهما الكثير من الفلاسفة أمثال جون لوك، واتلي، شوبنهاور، جون ستيوارت مل، جريمي بنتام، واستمر مبحث المغالطات يثير اهتمام الكثير من المناطقة حتى اليوم، غير أن هذا الاهتمام بدأ ينحسر مع تطور المنطق غير الصوري وارتياده آفاقا جديدة من البحث، وقد ذهب بعض المناطقة خاصة من تأثر منهم بنظرية التواصل ، إلى أن دراسة المغالطات ليست بديلا عن دراسة مبادئ الاستدلال الصحيح، فمادامت المغالطات هي انحراف عن القواعد الضمنية التي تحكم شتى أصناف التداول الحواري فإن الأجدر التركيز على دراسة هذه القواعد عوض دراسة الانحرافات،[11] كما ساهم العديد من الباحثين في الفكر الغربي الحديث في الكشف عن عوائق المسار الحجاجي أمثال فرانسيس بيكون والذي قسم الأوهام المغلطة إلى أربعة أقسام:[12]

أوهام القبيلة: وهي مشتركة بين جميع الأفراد، كالميل إلى التعميم مع تجاهل الحالات الخاصة.

أوهام الكهف: وهي فردية سببها أن كل إنسان ينظر إلى العالم من كهفه الخاص، فيحكم وفق هواه.

أوهام السوق: وترتبط باللغة اليومية المشتركة التي تتحكم فيها الحاجات اليومية النفعية.

أوهام المسرح: وهي الأخطاء المعرفية المتولدة من المعتقدات الفلسفية الموروثة ومن المبادئ المغلوطة.

ارتبطت عودة الباحثين المعاصرين في قضايا الحجاج والخطابة بالبلاغة القديمة، فحاولوا استخراج ما تزخر به كتب القدماء من درر، وإعادة صياغتها بشكل تصير معه قابلة للإسهام في تطوير الممارسة الحوارية المعاصرة، وتجنبها السقوط في مظاهر العبث والمشاغبة السفسطائية التي تضر بالعلم وتفسد العمل، وللوقوف على كل هذا يمكن الرجوع إلى الكتاب الشهير لهامبلين Hamblin المعنون بالسفسطات Fallacies، وأيضا الوصف الدقيق الذي قام به كل من فان إيمرن Van Emren وروب خروتندورست Rob Grootendost الهولنديين في مقالهما" السفسطات من منظور تداولي جدلي"، وأبحاث دوغلاس والتون في مجموعة من كتبه ومقالاته، من بين آخرين أسهموا في إعادة إحياء درس المغالطة القديم في إطار المتطلبات النظرية والعملية المعاصرة.[13]

عموما، يمكن القول إن الدراسات الحديثة والمعاصرة بقدر ما أفادت من الإسهام التراثي في هذا الباب بقدر ما كانت حريصة على تجديده وتطويره بالوجه الذي يصير معه قابلا للانخراط في السياق العلمي والعملي المعاصر، وأهم مظاهر هذا الجهد التجديدي نجد التطوير الدقيق لمفهوم المغالطة نفسه، بحيث لم تعد تشير إلى تلك الممارسات الفكرية المنحرفة، بل أصبحت تدل على صفة تكوينية في أي فاعلية فكرية

الحجاج المغالط في النقد المغربي (محمد العمري نموذجا)

إن اهتمام محمد العمري بنقد الخطاب المغالط إنما جاء من فكرة أن التنظير لبلاغة خطابية عربية حديثة لن يتأتى دون الرجوع إلى التاريخ ومحاورته، ثم تطبيقه على الواقع، فقد عمل على استثمار مفاهيم الحجاج المغالط في تحليل مختلف الخطابات التراثية وأيضا المعاصرة، حيث سعى من خلالها للكشف عن الآليات المغالطة ، ومواضع التمويه والتضليل كما في مصنف البخلاء للجاحظ، حيث وظف الجاحظ القدرات الإقناعية في تعليل سلوكات البخلاء غير المألوفة، ورغم مستواهم الحجاجي إلا أنهم يقعون تحت سطوة الهوى، ويشكل هذا حسب العمري "مصدر الالتباس بالنسبة لبعض القراء الذين ينظرون إلى سعة معرفة البخيل وتنوع مصادر احتجاجه، وصواب أفكاره الجزئية في ذاتها"[14]

اعتمد العمري في تحليله للخطاب التراثي على العديد من آليات المغالطة، على سبيل المثال نذكر:[15]

الاحتكام إلى حجة السلطة: ففي بخلاء الجاحظ مثلا وجد العمري أنهم عمدوا إلى الاستعانة بهذه المغالطة لستر إفراط شحهم، واستدراج المتلقي ومحاولة إقناعه بدعواهم، وهو ما نجده عند الجاحظ مثلا عندما يتلاعب بالإسناد أو يحاكيه محاكاة ساخرة من قبيل : "زعم الناس[16] "، "سمعت شيخا من مشايخ الأَبُلَّة"[17] " وأنت رجل قد طعنت في السن، ولم تزل تشكو من الفالج طرفا، ومازال الغليل يسرع إليك، وأنت في الأصل لست بصاحب عشاء[18] ..، والمتتبع لمدونة البخلاء سيشتشف كثرة توظيف الآيات القرآنية ونماذج من الشعر العربي، وذلك لحمل المخاطَب مضطرا ليصل علمه بعلم الأكبر سلطة منه.

وأكد العمري على أن هذا النوع أيضا موجود في خطابات تراثية أخرى كخطبة الحجاج وما تحمله من عنف لفظي باعتباره وسيلة لدفع المتلقي لقبول عدوى المخاطِب، يقول الحجاج:" فإنكم كأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فكفرت لأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون"[19] فقد اعتمد الحجاج في هذا المقطع تمثيلا تضليليا يوهم المتلقي بحجيته.

القياس الفاسد: يقول الحجاج في خطبة له:" ألا إن الزبير كان من أحبار هذه الأمة حتى رغب في الخلافة ونازع فيها وخلع طاعة الله واستكن بحرم الله، ولو كان شيئا مانعا للعصاة لمنع أدم حرمة الجنة، لأن الله تعالى خلقه بيديه وأسجد له ملائكته، وأباحه جنته، فلما عصاه أخرجه منها بخطيئته، وآدم على الله أكرم من ابن الزبير، والجنة أعظم حرمة من الكعبة"، في هذا المقطع الحجاجي إيهام بالتشابه بمشروعية إخراج آدم من الجنة ومشروعية قتل ابن الزبير.

فساد التعليل: جاء في كتاب البخلاء للجاحظ قول أبا عبد الرحمان:" أي بني، لمّ صار الضبّ أطول عمرا إلا لأنه يعيش بالنسيم" فالمحاج هنا يوهم المحاور بأن طول العمر سببه العيش بالنسيم، فالبخيل أخفق في توجيه الحجة لأنه بنى المسار الحجاجي على تعليل فاسد.

لم يقتصر محمد العمري على تحليل النصوص التراثية في مسار بحثه في الحجاج المغالط، بل أيضا نظر في الخطابات المعاصرة الشيء الذي أثمر مجموعة من الدراسات من قبيل: دائرة الحوار ومزالق العنف، منطق رجال المخزن وأوهام الأصوليين، عوائق الحوار مع الأصوليين، لكن ما عُرف عن العمري في هذا المجال هو عنايته بالخطاب السياسي، وما يكتنفه من حجاج مغالطي خاصة التاريخي والمعرفي والسعي وراء التحليل الموضوعي في قراءة هذا النوع من الخطابات المعاصرة،[20] لأن هذا النوع من الخطابات يهدف قبل كل شيء إلى" تحقيق منفعة آنية دونما مراعاة لتشويه التاريخ والعلم والقفز على حقائقهما"[21]

وفي ظل الفوضى الفكرية وما كثر من فتاوى وشائعات وأكاذيب وبرامج موجهة... باعتبارها من معالم الزحف التكنولوجي والعولمي، فإن واقع العصر يلزمنا معاودة طرح قضايا المغالطات على محك التحليل والمراجعة لما لها من تأثير على عواطف المستمع وأحاسيسه إن لم نقل الموجه للتكوين السيكولوجي لأطراف الخطاب، يقول أفلاطون في محاورة جورجياس:[22]

" في جدالٍ حول الغذاء يدور أمام جمهورٍ من الأطفال فإنَّ الحلواني كفيلٌ بأن يهزم الطبيب، وفي جدالٍ أمام جمهورٍ من الكبار فإن سياسيٍّا تَسَلَّح بالقدرة الخطابية وحِيَلِ الإقناع كفيلٌ بأن يَهزمَ أيَّ مهندسٍ أو عسكري، حتى لو كان موضوعُ الجدال هو من تخصص هذين الأخيرين، وليكن تشييد الحصون أو الثغور! إن دغدغة عواطف الجمهور ورغباته لَأشَدُّ إقناعًا من أي احتكامٍ إلى العقل"

استنتاجات:

الحجاج المغالطي قديم قدم الدراسات البلاغية الغربية، وجذوره ضاربة في التاريخ.

اللجوء للحيل الخطابية والألاعيب القولية لتحقيق المصالح الشخصية، أمور توجه البحث في الأخطاء المنطقية والاستدلالية في عمليات الحوار.

البلاغة الجديدة مع برلمان حلقة وصل بين التراث اليوناني والتراث العربي.

الدور الفعال للمغاربة، محمد العمري نموذجا، في تجديد المشروع البلاغي ليلائم التراث العربي.

اعتماد محمد العمري على الحجاج المغالط في قراءة التراث نابع عن وعيه العميق بالعلاقة التي تربط بين المكون التداولي والبلاغة.

***

غزلان زينون

...................

المراجع

يوسف كرم (1936) تاريخ الفلسفة اليونانية، لجنة التأليف والترجمة والنشر القاهرة، د.ط.

فيليب بروتون وجيل غوتييه (2011) تاريخ نظريات الحجاج، ترجمة محمد صالح الغامدي، مركز النشر العلمي، جامعة الملك عبد العزيز، ط1.

مصطفى عادل (2019) شيء من المنطق، المغالطات المنطقية، رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة 15.

رشيد الراضي (2008) السفسطات في المنطقيات المعاصرة التوجه التداولي الجدلي، مجلة عالم الفكر، العدد 4، المجلد 36

عبد الرحمان بدوي 1980، منطق أرسطو، وكالة المطبوعات، الكويت، دار القلم، بيروت، ط1، ج3

هيفاء بو بكر جدة (2025) معنى المغالطة ومضاربه التداولية: الخطاب الفلسفي الأرسطي نموذجا، مجلة سيميائيات، المجلد 20، العدد 1، انظر أيضا: رشيد الراضي (2010) الحجاج والمغالطة من الحوار في العقل الى العقل في الحوار، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط 1

نبيلة بوقرة (2017) استراتيجية المغالطة في حوارات الأذكياء، نماذج من كتاب الأذكياء لابن الجوزي، مجلة سياقات اللغة والدراسات البينية، المجلد 2، العدد 5،

الراضي رشيد، (2010) الحجاج والمغالطة، من الحوار في العقل إلى العقل في الحوار، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى.

غالم عبد الصمد (2020) الحجاج المغالط في النقد المغاربي المعاصر: محمد العمري نموذجا، مجلة (لغة- كلام) المجلد 6، العدد3،

الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر (ت. 255 ه) البخلاء، فضاء الفن والثقافة للنشر والتوزيع.

طيلون هاني علي سليم، المغالطة في القياس المنطقي عند الإمام الغزالي، مجلة قطاع أصول الدين، العدد 19.

[1]   يوسف كرم (1936) ص 58

[2]  فيليب بروتون وجيل غوتييه (2011) ص 24

[3] المغالطة في القياس المنطقي عند الإمام الغزالي ص 1076 مجلة قطاع أصول الدين العدد 19طيلون هاني علي سليم

[4]  الراضي رشيد (2008) ص 135

[5] المغالطة في القياس المنطقي ص 1078

[6]  بدوي عبد الرحمان (1980) ص 773 وما بعدها

[7]  بو بكر جدة هيفاء (2025) ص 43

[8] بوقرة نبيلة (2017) ص 198

[9] نفسه، ص 195

[10] نفسه

[11] عادل مصطفى (2019) ص 18

[12] يوسف كرم (1936) ص 47

[13] الراضي رشيد (2010) ص15-16

[14] غالم عبد الصمد (2020) ص 409

[15] نفسه، ص 410

[16] الجاحظ، البخلاء، ص 170

[17] نفسه، ص 113

[18] نفسه، ص 111

[19] غالم عبد الصمد (2020) ص 10

[20] نفسه، ص 412

[21] نفسه، ص 413

[22] مصطفى عادل (2019) ص 15

 

أولا: تعريف الدهشة

ترى لورانس فانين أن الدهشة تمثل الطريق نحو المعرفة، فهي السعي الدائم نحو "الفهم". ومن هذا المنطلق، يصبح التفلسف بمثابة يقظة فكرية تدفع الإنسان للتأمل والتساؤل المستمر حول العالم المحيط به، في محاولة للوصول إلى فهم أعمق وأكثر وضوحًا.(1)

وعامة تُعرف الدهشة، في السياق الفلسفي، على أنها "حالة" يتأثر بها العقل البشري، نتيجة تعرضه أو اطلاعه على شيءٍ جديد، أو غريب، أو شيءٍ غير مألوفٍ لا يقدر على فهمه واستيعابه، كما تعرف الدهشة الفلسفية كذلك على أنها "شعور" يراود الإنسان، ويساهم في إنارة عقله، والتوصل إلى إجاباتٍ بخصوص القضايا والمسائل التي تثير الحيرة لديه، وعندما تسود الدهشة على الإنسان أو تصيبه؛ فإنها تحفزه على إثارة التساؤلات، ووقف التكتم أو التجاهل بخصوص وجوده، ووجود العالم الذي يعيش فيه والكون، كما أنها تدفعه إلى التأمل وملاحظة كل ما يحيط به، بغرض إيجاد الإجابات التي ترضي حيرته وفضوله، وتعتبر الدهشة الفلسفية طريقًا يوصل بدورهِ إلى الحكمة، وقد حظيت بأهمية كبيرة في اليونان القديمة؛ بل إنها قد ولدت هناك، ونالت في ذلك الوقت اهتمام اثنين من أعظم الفلاسفة الإغريق، وهما أفلاطون وأرسطو، وبالنسبة لأفلاطون، فقد اعتبر أنّ الدهشة هي الطريق المُوصل إلى الحقيقة، وتحديدًا إلى حقيقة الوجود، في حين أنّ أرسطو اعتبر الدهشة دليلاً على الوعي بأنّ هناك ما يحتاج إلى التحقق والبحث بخصوصه، وأنها تساهم في إيجاد الحلول للشكوك التي تحوم حول الحقيقة. ولقد أكد سقراط أن الدهشة هى بداية الفلسفة حيث تمكننا من ادراك ان العالم يصعب فهمه او تفسيره، وانه ليس امرا مسلما به، وان ما يفعله الانسان غير مهم. فالعقل الانسانى حين يندهش لايتوقف عن اثارة التساؤلات.(2)

ثانيا: أهمية الدهشة

من المعروف فلسفيًا أن فقدان الدهشة يعني فقدان الحياة، حيث إن الروتين والعادات يعيقان رغبة الإنسان في الاستكشاف والمعرفة. على العكس، فإن الدهشة تزيل الألفة عن الأشياء وتكسر بساطتها، مما يحفز العقل على التساؤل والبحث. لذلك، يُعرّف الفيلسوف نفسه كإنسان يرفض التكيف مع العالم وعاداته، مُقدِّرًا كل لحظة من التأمل والتساؤل. كما قال أرسطو: "ما دفع الناس في البداية وما يدفعهم اليوم إلى البحث الفلسفي هو الدهشة." وبالتالي، تُعتبر الدهشة جوهر الفلسفة، فهي المحرك الأساسي للفكر الفلسفي. يتجاوز الفيلسوف مجرد الدهشة أمام الظواهر الغريبة ليشعر بالدهشة حتى أمام أكثر الأشياء ألفة. على سبيل المثال، كانت دهشة نيوتن من الظاهرة البسيطة لسقوط التفاحة نحو الأرض بدلاً من السقوط للأعلى، مما أدى به إلى اكتشاف قانون الجاذبية.

ترى الفيلسوفة جان هرش* أن الدهشة استبدت بكثير من الفلاسفة عبر تاريخ الفكر الغربى الذى يمتد لأكثر من ألفى سنة، تلك الدهشة التى منها ولدت الفلسفة وهى التى تعمل على اثارة الأسئلة الجوهرية.. وأن نندهش تلك هى الخاصية المميزة للانسان وعندما يقرأ المرء تاريخ الفكر الغربى سيعرف قدرته على الدهشة، فى دهشة غيره سيتمكن من التعرف عليها والاعتراف بها.. هذه هى سيرورة الانسان الخلاقة، السيرورة التى بوسعها أن تقود القارىء الى أن يتفلسف بنفسه.(3)

تقول جان هارش:".. هل مايزال بوسع انسان القرن العشرين أن "يندهش " أو يتعجب على الأقل؟ اننا نحيا فى عصر العلم، اننا نعتقد فى كوننا نعرف كل شىء، أو على الأقل نستطيع معرفة كل شىءلكن سيظل دائما ثمة بشر يندهشون ان الدهشة هى أساس الشرط الانسانى.ولايكفى ان يعاصر المرء كبار العلماء حتى يفلت من نير الجهل بل ان من الفيزائيين أنفسهم من لايكف عن الاندهاش.. ذاك أن كتبهم مليئة بالدهشة الفلسفية والميتافيزيقية الشبيهة باندهاش الأطفال.(4)

ونجد الدهشة عند الناس الذين عاشوا فى بداية العصر اليونانى القديم فى القرن السادس قبل الميلاد.. وبالدهشة يملك كل واحد منا قدرا من التجربة الفلسفية، التى تميزه عن غيره، فكلما واجهنا اختيارا فعليا وجب علينا الحسم فيه، الا وساءلنا أنفسنا لامساءلة فلسفية، دون أن ننتبه الى الأمر. الأطفال فى سن الخامسة، تقريبا، يطرحون أسئلة فلسفية، شأنهم شأن الشباب فى سن الخامسة عشرة والسادسة عشرة. والحقيقة ان الدهشة الفلسفية لمفكرى الماضى تشهد على القوة الخلاقة والقدرة على الابداع التى تميزنا نحن البشر، حيث كانت تتمتع بكل الجدة فى عصرها. لقد كانوا ذوى عقول نيرة، كانوا فلاسفة قادرين على الاندهاش، قادرين على مجاوزة مايبدو بديهيا فى الحياة اليومية.(5)

وهكذا تؤكد الفيلسوفة لورانس فانين أن الفلسفة تنطلق من حالة الدهشة وإثارة التساؤلات، حيث تشير إلى أن نشأة الفلسفة لدى الإغريق كانت مدفوعة بالدهشة، لكنها لم تكن دهشة بسيطة، بل كانت دافعًا للفضول الفكري والتأمل العميق. في البداية، كان التركيز على التساؤلات المتعلقة بالظواهر ومحاولة فهمها. ورغم ارتباط الفلسفة في العصور القديمة بالشعائر والأساطير وأنواع من المعتقدات، إلا أنها سرعان ما انفصلت عن هذه الروابط. ومع ذلك، ظل سؤال أصل العالم قائمًا بقوة: لماذا يوجد البشر؟ ولماذا توجد الأشياء والعالم؟ كان الانشغال الفلسفي في بداياته يدور حول معرفة الطبيعة ومبادئها المختلفة، وفهم العلة الأولى لكل شيء، مع السعي المستمر للتأمل في هذه القضايا الأساسية.(6)

يعكس هذا الفضول الفكري روح الشباب الحقيقية للفكر، حيث يمثل مرحلة الطفولة في حياة الإنسان، التي يبدأ فيها بملاحظة العالم من حوله ويتساءل ببراءة عن طبيعة الأسئلة نفسها. في هذه اللحظة، يشعر الإنسان بالعالم، ويتفاعل معه، ويستشعر جماله كما لو كان في حديقة مليئة بالاكتشافات. تجسد هذه اللحظة فضولًا بسيطًا ومبهجًا، وتعكس أصالة الوعي الإنساني. ومع ذلك، فإن هذه الأصالة تتراجع مع تزايد النزعات الاصطناعية والفردانية التي تنتشر بسرعة في مجتمعاتنا الحديثة. تؤدي هذه النزعات إلى تقليص فضولنا الفطري، وتدفعنا نحو أنماط تكيّف محدودة ومقيدة نتيجة لهذه التغيرات.(7)

على عكس اللامبالاة التي تجعلنا كائنات منعزلة وغير مهتمة بالجديد، تُعتبر الدهشة حالة من الذهول والقدرة على المفاجأة. إنها تدفعنا نحو ما يثير التفكير، وتحثنا على تبني سلوك فكري نقدي. فالدهشة تمثل منهجًا من التساؤلات نستكشف من خلاله وعينا بالعالم. الشخص الذي يتساءل هو من يدرك جهله، ويُعتبر هذا الإدراك الخطوة الأولى نحو المعرفة. لأن من لا يدرك أنه يجهل شيئًا لن يسعى للتحرر من قيود هذا الجهل. كانت الدهشة القوة المحركة التي ألهمت المفكرين الأوائل للغوص في التأملات الفلسفية، إذ تنبع موضوعاتها من الظواهر التي تفاجئنا وتحفزنا على التساؤل: "لماذا تكون الأمور على هذا النحو؟". وبالتالي، فإن التساؤل يُعبر عن المشاركة في يقظة الفكر وسعيه المستمر نحو الفهم.(8)

يبدو أن الدهشة وإثارة التساؤل تقودان إلى المعرفة، وهذا ما توضحه لورانس ڤانين، حيث تشير إلى أن الدهشة تمثل توجهًا نحو المعرفة. تقول: "باندهاشي أعي جهلي، وأسعى نحو المعرفة فقط لأعرف، وليس لتلبية مطلب عادي".ومن هذا المنطلق، يصبح التفلسف حالة من اليقظة الفكرية التي تدفع الإنسان لاستكشاف ذاته والعالم من حوله، متحررًا من الأهداف النفعية، ومنفتحًا على البحث عن الحقيقة من أجلها.(9)

لقد تبين لنا أن التفلسف يبدأ أولًا باستعداد فكري خاص، كما يتضح من اشتقاق الكلمة ذاتها. فكلمة philosophia  تنحدر من الفعل philein، الذي يعني المحبة، والاسم Sophia، الذي يعني الحكمة. هذا الحب يدفعنا للاندفاع نحو الحكمة والسعي لنصبح حكماء. والحكمة هنا تشير إلى امتلاك معرفة ما، وهي معرفة تخص الكائن العاقل. ومن ثم، فإن الفيلسوف هو صديق الحكمة الذي يسعى بحب وإصرار إلى حيازتها وبذل الجهد المستمر لتحقيقها.(10)

ولكن.. كيف ندرك هذه الحكمة؟ من الناحية النظرية، تمثل الحكمة المعرفة والعلم، وهي البحث المستمر عن الحقيقة. أما من الناحية العملية، فإنها تشير إلى سلوك الحكيم الذي يتميز بالاعتدال والرزانة. يُعتبر الفيلسوف شخصًا يمتلك المعرفة، ويُحسن ضبط نفسه في مختلف الظروف. يستخدم فكره ليُحسن التصرف، كما يتصرف وفقًا للقيم الخيّرة، لأن التجربة تظهر أن الحكيم يحب قيم الحق، والجمال، والعدالة، والاعتدال، والخير، وبتلك القيم يُكمل ذاته. كما يتميز الحكيم بفكر شغوف وديناميكي، مجتهد في سعيه لتحقيق هذا المقام. وعليه، أن يندهش من الأشياء ليبدأ في مساءلة العالم دون كلل أو ملل، باحثًا عن الفهم العميق للحياة. (11)

الخلاصة: تُعتبر الفلسفة منذ بداياتها أداةً رئيسة للتأمل والبحث عن الحقيقة من خلال ممارسة السؤال، وكان سقراط، أبو الفلسفة، أبرز من اتبع هذه الطريقة. يتميز السؤال الفلسفي بطبيعته بأنه يحمل شكًا مسبقًا في الإجابة، حيث يُعتبر الجواب معرفة غير مكتملة. يُطرح هذا السؤال فقط على من يُعتقد أنه يمتلك المعرفة، بهدف كشف تناقضاتها أو تعزيز فهمها. يُبرز هذا المنهج السقراطي أهمية الحوار والمساءلة كوسيلة للوصول إلى حكمة أعمق وفهم أكثر تعقيدًا للوجود والإنسان.

والدهشة هى المحرك الأساسي للتفلسف، حيث تدفعنا إلى طرح أسئلة حول أنفسنا والأشياء التي نعتقد أننا نفهمها. بمعنى آخر، تنشأ الفلسفة من لحظة اندهاش العقل ورغبته في استكشاف ماهية الأشياء وجوهرها. وقد عبّر الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر عن هذا المفهوم بقوله: "إن اندهاش الفكر يعبر عن نفسه بالسؤال"، مما يبرز أن الفلسفة تبدأ في اللحظة التي يتوقف فيها العقل أمام المألوف، متسائلاً عن حقيقته وما وراءه، لتبدأ بذلك رحلة البحث عن الحقيقة والمعرفة.

ويمكن القول ان الجوهر الأساسي في الخطاب الفلسفي هو السؤال، الذي يُعتبر العنصر المميز له عن غيره من أنماط التفكير. إن استمرار الفلسفة عبر العصور منذ بدايتها يعود إلى اعتمادها على طرح الأسئلة بدلاً من تقديم إجابات نهائية. فلو كانت الفلسفة تكتفي بالإجابات، لكانت قد انتهت منذ زمن بعيد. لكن قدرة الفلسفة على إعادة صياغة الأسئلة، بل وحتى التساؤل حول طبيعة السؤال نفسه، هي ما يمنحها حيوية دائمة وتجدد مستمر. وقد عبّر كارل ياسبرز عن ذلك بقوله: "السؤال في الفلسفة أهم من الجواب، فكل جواب يصبح سؤالاً جديدًا"، مما يعكس الطبيعة الديناميكية للفلسفة كبحث مستمر عن الحقيقة.

واذا كان ذلك كذلك يمكن تحديد أهداف الدهشة كما يلى:

1- إثارة مشاعر القلق تجاه الظواهر الكونية والقضايا المتعلقة بالحياة، وهو قلق يدفع الفرد إلى السعي نحو المعرفة وفهم ما يحيط به. يُعتبر هذا القلق، بما يحمله من تساؤلات وجودية، المدخل الرئيسي للوصول إلى الحقيقة. فالدهشة تُحفز الفيلسوف على تحويل هذا القلق إلى سؤال فلسفي منهجي، مما يجعله أداة للبحث العميق عن الحقيقة والمعرفة، ويبرز دور الدهشة كعنصر أساسي في انطلاق الفكر الفلسفي والإبداع العقلي.

2- تنشيط الحس الداخلي الذي يضيء العقل، مما يتيح للإنسان إظهار ما كان مخفيًا أو في الظل إلى ساحة الواقع. يتم هذا الإظهار بعد المرور بمرحلتي الملاحظة الدقيقة والتأمل العميق، حيث تصبح الدهشة دافعًا لتحليل الظواهر وفهم معانيها. ومن خلال هذا التفاعل بين العقل والحس، يسعى الإنسان للعثور على إجابات للأسئلة التي لطالما حيرت الفكر البشري، مما يجعل الدهشة نقطة انطلاق أساسية نحو المعرفة والتفكير الفلسفي.

3- الوصول إلى حالة من السمو الفكري، حيث تُعتبر الدهشة أرقى ما يمكن أن يحققه الإنسان. فهي تعكس براءة الإنسان وحريته، إذ تُظهر قدرته على الانفتاح على العالم واستعداده لاستكشاف المجهول. ينبع هذا الاندهاش من وعي الإنسان بالعلم وفهمه لطبيعة الوجود المحدود، مما يدفعه للتساؤل والتأمل والسعي نحو فهم أعمق وشامل للكون والحياة، وبالتالي يرتقي تفكيره إلى آفاق أكثر سموًا وشمولًا.

4- تثير في لحظات معينة أسئلة عميقة تتعلق بحياتنا، مما يدفعنا للبحث عن الحقيقة والتأمل في جوهر الوجود. هذه الدهشة تشكل الأساس الأول للفكر الفلسفي، حيث تفتح أمامنا أبواب التساؤل التي تقود إلى المعرفة. الفلسفة، كما تُعرض في الكتب والمكتبات، ليست مجرد تجميع للأفكار، بل هي تعبير عن دهشة الإنسان تجاه العالم. وقد كانت هذه الدهشة هي المحرك الأساسي لفلاسفة عظماء، الذين أسسوا الطريق للعلم والتقدم، إذ لم يكن بالإمكان بناء العلم دون أن تسبقه تلك الدهشة الفلسفية التي حفزت العقول على البحث والاكتشاف.

5- تعمل الدهشة الفلسفية على إحياء التساؤلات المنطقية التي طرحها الفلاسفة عبر العصور، حيث تسعى لتفسير الظواهر والأحداث التي تحيط بنا. إنها تحفز العقل على إعادة التفكير في الأسئلة الوجودية والجوهرية، مما يدفعه للبحث عن إجابات عميقة تكشف غموض تلك التساؤلات. ومن خلال هذا المسار التأملي والتحليلي، تتيح الدهشة للإنسان الوصول إلى نتائج وإجابات تُثري فهمه للوجود، وتساهم في تشكيل رؤية فلسفية أعمق لحياته والعالم من حوله.(12)

ثالثا: أنواع الدهشة

1- الدهشة الطبيعية

يعبر مفهوم الدهشة الطبيعية عن الشعور الذي يختبره الإنسان عند مواجهته لموقف غير متوقع أو مفاجئ، مما يؤدي إلى حالة من الذهول والانفعال القوي. يرافق هذا الانفعال مشاعر وجدانية وعاطفية نتيجة التعرض لشيء غير مألوف أو استثنائي. من الناحية النفسية، تترافق الدهشة مع شعور بالتوتر والحيرة، وأحيانًا الألم، حيث يحدث صراع داخلي في العقل عندما يجد صعوبة في فهم حدث أو ظاهرة معينة. هذا الصراع المعرفي يحفز التفكير والبحث، مما يعكس قدرة العقل على التفاعل مع المجهول والمثير للدهشة. (13) ولهذه الدهشة الطبيعية أو العادية خصائص عديدة منها:

1- انها شعور فطري يرافق الإنسان منذ لحظة ولادته، حيث تمنحه فضولًا لاستكشاف العالم من حوله وطرح تساؤلات بسيطة حول الظواهر اليومية. إنها قدرة فطرية تدفع العقل للتفاعل مع كل ما هو جديد أو غير مألوف، مما يثير التساؤلات والرغبة في البحث. من ناحية أخرى، فإن الاعتياد على رؤية الأشياء بشكل طبيعي يعكس إحدى سمات الدهشة الطبيعية، حيث يتوقف الإنسان عن طرح الأسئلة ويتكيف مع الظواهر حتى تصبح جزءًا من روتينه اليومي، مما يؤدي إلى تراجع شعوره بالدهشة تجاه ما يراه بشكل معتاد.

2- عندما تثير التساؤلات، غالبًا ما تبدأ تلك الدهشة بالمشكلات اليومية التي يواجهها الإنسان، والتي لا يوليها الكثيرون اهتمامًا كبيرًا. ومع ذلك، يمكن أن تتطور هذه الأسئلة البسيطة تدريجيًا لتصبح مشكلات أكثر عمقًا وتعقيدًا. تشترك الدهشة الطبيعية بين جميع البشر، فهي جزء من التجربة الإنسانية المشتركة التي تحفز العقل على التساؤل عن العالم المحيط به، وتفتح آفاق البحث والاكتشاف التي قد تؤدي إلى فهم أعمق وأوسع للوجود.

3- هذه الأسئلة البسيطة التى تثيرها الدهشة الطبيعية يمكن أن تفتح الأفق تدريجيًا للانتقال إلى قضايا أعمق وأكثر تعقيدًا. فعندما يتوقف الفرد للتفكير في الأمور التي يعتبرها طبيعية أو بديهية، يتطور تفكيره ليشمل مسائل وجودية أو فلسفية، مما يؤدي إلى رحلة بحث أعمق عن الحقيقة والمعنى.

4- هى سمة مشتركة بين جميع البشر، فهي جزء من تجربتنا الإنسانية الفطرية. منذ لحظة ولادتنا، نبدأ في التفاعل مع ما يحيط بنا بعيون مليئة بالدهشة، مما يعكس فضولنا الفطري لاستكشاف العالم وفهمه. هذه الدهشة تفتح أمامنا المجال لطرح الأسئلة وتحدي المفاهيم المألوفة، مما يعزز التفكير والبحث. ومع مرور الزمن، تبقى الدهشة عنصراً أساسياً في التجربة البشرية، مما يجعلها رابطاً مشتركاً بين الثقافات المختلفة عبر العصور والأماكن.(14)

2- الدهشة العلمية

ترتبط الدهشة العلمية ارتباطًا وثيقًا بالعالم المادي والطبيعي، حيث يُعتبر الفهم والتفسير المحرك الأساسي لها. بينما تنشأ الدهشة الطبيعية من الظواهر اليومية التي نراها بأعيننا، فإن الدهشة العلمية تظهر عندما يواجه الإنسان أحداثًا أو ظواهر غير مفهومة تمامًا، مما يدفعه للبحث عن تفسيرات منطقية وعلمية. هذا النوع من الدهشة يعزز من روح الاكتشاف والتجربة، ويشكل أساسًا لفهم الظواهر الطبيعية وتفسيرها من خلال المنهج العلمي، مما يسهم في تقدم المعرفة في مجالات مثل الفيزياء والكيمياء وعلم الفضاء.

عندما نسأل المفكرين والعلماء عن الدافع الأساسي وراء انخراطهم في العلم، نجد أنهم غالبًا ما يتحدثون عن شعور بالدهشة. لذا، يمكننا أن نبدأ دراستنا للتجربة الشاملة للعلم من خلال تحليل الدور الذي يلعبه التعجب أو الدهشة في العملية العلمية. يعرَّف التعجب بشكل رسمي من خلال ثلاثة جوانب: أولاً، كشيء يثير العجب ويجذب الانتباه؛ ثانيًا، كشيء يثير الإعجاب والسرور؛ وثالثًا، كشيء يترك الشخص في حالة من الانبهار والتساؤل. بناءً على ذلك، يمكن أن يكون هذا التقسيم الثلاثي الذي تقدمه دلالات التعجب بمثابة دليل إرشادي في سعيّنا لفهم أسباب ظهور العلم وما يمكن أن يؤدي إليه.(15)

وهكذا تتسم الدهشة العلمية بثلاثة أبعاد مترابطة تعكس طبيعتها المدهشة والمتعددة الأوجه:

1- المفاجأة والجذب: الدهشة هي استجابة لما هو غير متوقع، ما يثير اهتمام العقل ويجذبه نحو استكشاف المجهول.

2- الإعجاب والبهجة: تنطوي الدهشة على شعور بالاحترام والجمال تجاه ما يتم اكتشافه أو ملاحظته.

3- الاندهاش والتساؤل: تثير الدهشة حالة من الفضول العميق، ما يدفع الإنسان إلى طرح الأسئلة ومحاولة الوصول إلى إجابات.

لتوضيح ذلك علينا أن نبدأ من نقطة الصفر: ما الذي يحفز الجهود العلمية في الأساس؟ بعبارة أخرى، ما الذي يدفع العقل البشري للبحث عن المعرفة التي ستتحول في النهاية إلى علم؟ إذا استفسرنا من ذوي الخبرة، وهم العلماء المبدعون، فإن إجابتهم ستكون متطابقة. إذا سألنا العلماء المبدعين أنفسهم عن دافعهم الأول لممارسة العلم، فالإجابة تأتي بالإجماع: الشعور بالمفاجأة.(16)

من الناحية النفسية، يحتاج الإنسان إلى المفاجأة كي يبدأ رحلته في ممارسة العلم. فالعلم، في جوهره، هو السعي نحو معرفة جديدة، ولا يمكن تحفيز هذا السعي إلا عندما يتحدى الواقع التوقعات المألوفة. ولا يسعى أحد إلى اكتشاف معرفة جديدة إلا عندما يتفاجأ بالطريقة التي تسير بها الأمور، بدلاً من اعتبارها أمراً بديهياً. ويعبر الإجماع الشعبي عن ذلك بوضوح: " ما نعتاد عليه يوميًا يصبح تافهًا في نظرنا؛ لا يثير فضولنا ولا يدفعنا للتساؤل". العلم يبدأ حيث تتوقف العادة، ويستمر في دفع الإنسان للتفكر في العالم بعيون جديدة. فكل اكتشاف علمي جديد هو نتيجة لهذه المفاجأة الأولى، التي تجعل الإنسان يعيد النظر في الأشياء المألوفة، ليرى فيها إمكانات غير متوقعة. وتكون هذه المفاجأة من نوع معرفي، بمعنى مزدوج. المعنى الأول هو الإدراك المفاجئ بأن العالم، رغم كونه قابلاً للمعرفة، إلا أن الإنسان لم يستكشفه بعد. وبالتالي، فإن ما يدفع الإنسان لممارسة العلم هو الرغبة في استكشاف الأمور بوضوح، لكنه تم تجاهلها أو التغاضي عنها حتى الآن.(17)

للحصول على مثال يوضح الدور الذي لعبه الشعور بالدهشة في نشوء العلم، يمكن أن نجد مثالًا قويًا في حياة اثنين من أعظم رواد فيزياء الكم، وهما نيلز بور و فيرنر هايزنبرج. كما هو معروف، يتميز هذا المجال من العلوم بالمعادلات الرياضية المعقدة للغاية ويتعامل مع كائنات لا يمكن للإنسان رؤيتها مباشرة أو تصورها بشكل ملموس..، ومن المتوقع أن يكون العلماء الذين يدرسون هذا المجال مدفوعين بمفاهيم متعلقة بالرياضيات البحتة والمنطق الصارم. ومع ذلك، عندما نسأل بور وهايزنبرج عن سبب اختيارهما أن يصبحا فيزيائيين كميين، فإن إجابتهما الواضحة هي: الشعور بالدهشة. لقد اندهشا من أن الأشياء التي نراها في التجارب اليومية كانت كما هي، وتفاجآ بأن الناس لم يلاحظوا شيئًا مثيرًا في هذا السياق، مما دفعهما لتكريس حياتهما لاكتشاف ذلك.(18)

فعادةً ما يشعر العالم بالدهشة في بداية مسيرته، عندما يدرك أن العالم قابل للفهم ولكنه لا يزال مجهولاً. وتزداد دهشته عندما يحقق هدف سعيه، أي عندما يكتشف بوضوح الطبيعة التي كان يسعى لفهمها. المفاجأة هنا ليست في مواجهة شيء أعظم أو أكثر إثارة مما كان متوقعًا. ولتمييز هذا النوع من العجب عن النوع الأول، يمكننا الإشارة إلى الإعجاب والمشاعر المرتبطة به، مثل الفرح والشعور بالمكافأة والإشباع.(19)

عندما نفكر في العملية العلمية، غالبًا ما نتصور العلماء كمخلوقات عقلانية بحتة، بعيدة عن العاطفة، تركّز فقط على البيانات والمنطق. ومع ذلك، فإن التجربة العلمية تُظهر عكس ذلك تمامًا. إن عواطف العلماء جزء لا يتجزأ من عملية الاكتشاف، وهي تعزز بشكل كبير دافعهم للاستمرار في البحث. العديد من العلماء يتحدثون عن مشاعرهم العاطفية المتعلقة بالاكتشافات العلمية. على عكس التصور التقليدي عن العلماء كـ منطقيين فقط، يتضح أن الإثارة والتشويق هما جزء من جوهر العمل العلمي. هذا يعني أن الخبرات العاطفية لا تقل أهمية عن التحليل العقلاني في تحفيز العلماء على مواصلة استكشافهم. إحدى المقارنات التي يستخدمها العلماء لوصف مشاعرهم هي التشبيه الذي يقارن السعي العلمي بالبحث عن الذهب. يشبّه العالم العلمي نفسه بـ المنقب عن الذهب الذي يقضي أيامه في الجرف والبحث، أحيانًا دون نتيجة تذكر، فقط ليكتشف فجأة كتلة صلبة من الذهب. تلك اللحظة من الاكتشاف هي اللحظة التي يُدرك فيها المنقب مكافأته العاطفية، وهي التي تدفعه لمواصلة عمله الجاد. عندما يتحدث العلماء عن الإثارة التي يشعرون بها عند تحقيق اكتشاف جديد، فإنهم يصفون نوعًا من التجربة العاطفية التي تعوض عن المشقة. كما ذكر العلماء: "أكبر إثارة بالنسبة لنا هي رؤية تأثير جديد لأول مرة"، وأن هذه اللحظات التي تحدث مرة أو مرتين في السنة، تستحق كل الجهد الذي بذله.(20)

وهكذا يتتضح لنا أن الانخراط العاطفي العميق للعلماء في البحث يعكس أن العلم ليس مجرد فكر عقلاني جاف، بل هو عملية حية تحتوي على مشاعر من الإثارة والدهشة والبهجة. هؤلاء العلماء، الذين يقضون سنوات في العمل المضني، يدركون أن الفائدة العاطفية التي يحصلون عليها من لحظة الاكتشاف تجعل كل الجهد يستحق العناء.

ويؤكد العلماء بشكل متكرر أن السعي للمعرفة لا يقتصر فقط على جمع الحقائق أو حل المعادلات الرياضية، بل يتضمن تجربة عاطفية عميقة. كما يشير الكيميائيين البارزين إلى هذه الفكرة بشكل مثير: "هناك شيء واحد يتعلق بالعلم وهو أن البحث عن الفهم أكثر إثارة بكثير مما كنا نتوقعه عندما كنا صغارا". هذه التجربة العاطفية التي يتحدث عنها الكيميائيين تُظهر أن العلم لا يمكن اختزاله في مجرد نتائج أو فرضيات، بل هو رحلة شغف وإثارة لا يمكن التنبؤ بها بالكامل.(21) وهذا يشير إلى أن الدهشة تتجاوز التوقعات الأولى لدى العلماء عند بداية رحلتهم العلمية. هذا الشعور يجعل العلم أكثر من مجرد وسيلة للوصول إلى حقائق؛ إنه رحلة استكشاف مليئة بالمفاجآت غير المتوقعة.

من الواضح أن الجانب العاطفي للإعجاب يلعب دورًا حيويًا في البحث العلمي. ولكن إذا كانت مشاعر العالم جزءًا من العملية العلمية، كيف يمكننا تقييم هذا الوضع؟ هل يعتبر رد فعل العالم شيئًا ذاتيًا، وتفريغًا للتوتر النفسي غير المرتبط بالمحتوى الموضوعي للعلم؟ يبدو أن العديد من الفلاسفة يرون ذلك، بينما يملك العلماء وجهة نظر مختلفة تمامًا. على سبيل المثال، عبّر أحد الكيميائيين لإيدسون عن سعادته تجاه العلم بطريقة ملهمة، حيث قال: "بالنسبة لي، العلم مثير للغاية. لا أقول إن الرضا يأتي فقط من حل المشكلة؛ بل إن الرضا الحقيقي – بالنسبة لي – يكمن في تحقيق الفهم."(22)

والشعور الذاتي يترافق هنا مع وعي الإبداع الموضوعي، كما يحدث في مجالات الفن والفلسفة. "تُشبه هذه المتعة إلى حد ما تلك التي يشعر بها أي شخص يحل الكلمات المتقاطعة، لكنها تتجاوز ذلك بكثير، وربما تكون أكثر إرضاءً من المتعة التي تُكتسب من الأعمال الإبداعية في مجالات أخرى غير الفن. إنها تتجلى في الإحساس باختراق أسرار الطبيعة، واكتشاف خفايا الخلق، وإضفاء بعض المعنى والنظام على جزء من العالم الفوضوي، مما يُحقق إرضاءً فلسفياً."(23)

في ضوء ما تم ذكره، نفهم لماذا يصر العلماء المبدعون على أن العلم هو في جوهره رؤية نظرية، تختلف تمامًا عن النتائج العملية التي قد يتوقعها الإنسان من العلم نفسه. كما يصف دي برولي، " العلم يشبه البرق المفاجئ الذي يضيء أفقًا من التناغمات لم تكن معروفة من قبل، ويجلب معه شعورًا يشبه الفرح الإلهي. هذه اللحظات من التناغم الكوني تمنح العلم قيمته الجوهرية، وهي التي تجعل العلماء يستمرون في السعي وراء الفهم العميق للطبيعة دون أن يدخروا جهدًا أو يسعوا إلى الربح."(24)

وهكذا تبين لنا أن الدهشة تلعب دورًا محوريًا في بداية المسار العلمي، حيث تحفز الباحث على البدء في استكشاف الواقع. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تبقى الدهشة مستمرًة بعد أن يتمكن العلم من تقديم تفسيرات ونظريات ثابتة للظواهر؟ هل الدهشة عنصر مؤقت ينشأ فقط في مرحلة التكوين العلمي، أم أنها تظل جزءًا لا يتجزأ من التجربة العلمية نفسها؟.هذه هى القضية الأخرى التى ينبغى علينا استكشافها لفهم الدور الذي يلعبه العجب في علاقته بالعلم.

هناك نوعين من العجب:العجب الناتج عن الجهل: هذا النوع من العجب ينشأ عندما يكون الإنسان غير مدرك للآليات أو القوانين التي تحكم ظاهرة معينة. على سبيل المثال، الأطفال أو البسطاء قد يتفاجؤون بحيل السحرة أو المحرضين، ولكن هذا العجب يتلاشى بمجرد كشف الخدعة أو تفسير الظاهرة. والعجب الناتج عن الفهم: وهو النوع الذي يرتبط بالفكر التأملي والعلمي. هذا العجب لا ينبع من الجهل، بل من التقدير العميق للتناغم، والبساطة المذهلة، أو التعقيد الذي يكشفه العلم في الطبيعة. إنه نوع من الدهشة التي تصاحب فهمًا أعمق للعالم. السؤال الأساسي هنا هو: هل يؤدي العلم إلى "قتل" العجب من خلال تقديم تفسيرات دقيقة للظواهر، أم أنه يعمق شعورنا بالعجب من خلال الكشف عن الأبعاد الخفية للواقع؟ للإجابة عن هذا السؤال، دعونا نستعرض آراء اثنين من أبرز المفكرين: إرنست ماخ وألبرت أينشتاين.(25)

إرنست ماخ، كفيزيائي وفيلسوف، كان ملتزمًا برؤية صارمة تجعل من العلم أداة للقضاء على الجهل وتبسيط الفهم البشري للعالم. موقفه من العجب متجذر في رؤيته الفلسفية، حيث يرى أن الدهشة ليست خاصية موضوعية للعالم، بل هي رد فعل شخصي نابع من نقص المعرفة أو من الارتباك أمام ظاهرة جديدة. الدهشة شخصية بحتة: أي أنها لا تنبع من الطبيعة ذاتها أو من الظاهرة الملاحظة، بل من حالة الشخص الذي يواجهها. العجب مؤقت: عندما يفهم الإنسان الظاهرة أو يكيف عاداته الفكرية معها، يتلاشى العجب. الهدف الأساسي للعلم، في نظر ماخ، هو إزالة الغموض والتخلص من المفاجأة. فالعلم يُمكِّن العقول النشطة من استيعاب ما هو جديد بسرعة، مما يجعل الدهشة غير ضرورية. كما قال: " الجدة تثير الدهشة لدى الأشخاص الذين اهتزت عاداتهم الفكرية وتشتت بسبب ما يشاهدونه. لكن عنصر الدهشة لا يكمن أبدًا في الظاهرة أو الحدث الذي يتم ملاحظته، بل مكانه في الشخص الذي يراقب." الأفراد ذوو العقول الأكثر نشاطاً يسعون على الفور لتكييف أفكارهم بما يتماشى مع ما لاحظوه، وهكذا يصبح العلم في النهاية العدو الطبيعي للدهشة."(26)

باختصار: يرى ماخ أن العلم، في جوهره، ليس أكثر من تنظيم للانطباعات الحسية وتكييف للعقل مع الواقع. هذا التعريف يجعل من العجب ظاهرة مؤقتة ناتجة عن عدم تكيّف الفكر مع الظواهر الجديدة. ولكن، في هذا السياق، يبدو أن العلم يتعارض مع الشعور بالدهشة. إذ أنه من الواضح أنه لن يكون هناك مجال للدهشة عندما يتكيف عقل الإنسان مع مجموعة من الانطباعات الحسية. بل، وفقًا لهذا الافتراض، يجب أن يكون العكس هو الصحيح. وهذا يعني أن العلم لا يقتصر على تدمير الدهشة، بل يترك الإنسان أيضًا مع شعور بخيبة الأمل. فالتكيف في النهاية يؤدي إلى إدراك أن الأشياء تصبح بديهية وتفقد قيمتها العملية. وهذا هو جوهر مبدأ ماخ. كما يقول: " في الواقع، كل تقدم تنويري يتم إحرازه في العلم يصاحبه شعور معين بخيبة الأمل. فنحن نكتشف أن ما بد لنا رائعًا ليس أكثر روعة من الأشياء الأخرى التي نعرفها غريزيًا ونعتبرها بديهية... حيث يتبين أن لغزنا لم يعد لغزًا؛ فهو يختفي في العدم، ويأخذ مكانه بين ظلال التاريخ."(27)

باختصار، يتسم موقف ماخ بالوضوح والشفافية، لكنه ليس مستندًا بشكل مباشر إلى تجربته الشخصية كعالم. بل هو تعبير عن تفسيره الفلسفي لعلم الميكانيكا.(28)

وعند الانتقال إلى وجهة نظر أينشتاين، نجد أنفسنا في بيئة مختلفة تمامًا. كان أينشتاين على دراية تامة بأعمال ماخ التاريخية والفلسفية، بل إنه أشار إلى أن لها تأثيرًا إيجابيًا معينًا على نشوء نظريته النسبية.(29)

ومع ذلك، لم يقتصر الأمر على عدم توافق آينشتاين مع وجهة نظر ماخ حول العجب، بل إنه تمسك بوضوح بفرضية معاكسة تمامًا. بالنسبة له، لا يوجد أدنى شك في أن العلم، بدلاً من أن يقضي على العجب، يسهم فعليًا في تحقيقه. فكلما زادت الدهشة، زاد تقدم العلم نفسه. فما هو السبب وراء إدانته؟ يمكننا أن نقول بثقة إن هذا السبب يعود إلى تجربته الشخصية كمبدع علمي. يظهر نص واحد بشكل خاص، وهو جزء من رسالة خاصة إلى صديق، المصدر التجريبي لقناعة آينشتاين بوضوح. يقول: "أنت تعتبر أنه من الغريب أنني أرى العالم (بقدر ما يمكننا الحديث عنه) كأعجوبة أو لغز خارجي. يجب أن نتوقع بشكل بديهي وجود عالم لا يمكن فهمه بأي شكل من الأشكال بواسطة الفكر. يمكن للمرء (وهذا أفضل، ينبغي) أن يتوقع أن العالم يجب أن يظهر أنه يخضع للقانون فقط بقدر ما نتدخل من خلال تنظيمه بأنفسنا. سيكون ذلك نوعًا من النظام مثل الترتيب الأبجدي. على النقيض من ذلك، فإن نوع الانتظام الذي ينتج، على سبيل المثال، من نظرية نيوتن في الجاذبية، له طابع مختلف تمامًا، على الرغم من أن بديهيات النظرية قد وضعت."(30)

ومع ذلك نجد ماكس بلانك يؤكد أن العجب ليس مجرد تجربة عابرة ترافق بدايات العلم، بل هو عنصر يتزايد مع كل تقدم علمي. ويستند هذا العجب إلى خصائص أساسية تتعلق بوحدة القوانين الطبيعية وتوسع نطاقها غير المتوقع. يشدد بلانك على أن العجب في العلم ينبع من التفاعل مع نظام الكون الموحد والمترابط. هذه الوحدة، إلى جانب النطاق غير المتوقع للقوانين الطبيعية، تجعل العلم وسيلة دائمة لتوسيع آفاق الإنسان وتعزيز شعوره بالدهشة أمام روعة العالم. كما يقول بلانك: "إذا نظرنا إلى الأمر بعمق، فإن العجب الحقيقي يكمن في أننا نواجه قوانين طبيعية تنطبق على البشر من جميع الأجناس والأمم. وهذه حقيقة ليست بديهية على الإطلاق. والعجب الآخر هو أن جزءًا من هذه القوانين، بالنسبة لمعظم الناس، له نطاق لا يمكن توقعه مسبقًا، مما يزيد من عنصر العجائب في بنية الصورة الكونية مع اكتشاف كل قانون جديد."(31)

يتعلق الأمر بالطريقة الغريبة التي يتغير بها العلم نفسه على مر القرون. من حيث المبدأ، لا ينبغي لأحد أن يفاجأ بتغير العلم. فالأشياء تتغير بمرور الوقت، والرجال يتغيرون أيضًا. ومن ثم، فمن المتوقع أن تكون معرفة الإنسان بالطبيعة عرضة للتغيير. ومع ذلك، فإن قابلية العلم للتغيير تثير الدهشة لأن كل المستجدات التي يكتشفها العلم لا تمحو النظرة العلمية السابقة للعالم، ولكنها ببساطة تعمل على تحسينها واستكمالها. وهذا أمر مثير للدهشة لأنه يبدو ظاهرة فريدة في تاريخ البشرية. للاستشهاد بلانك، مرة أخرى،:"لكن الظرف الذي يدعو إلى دهشة أكبر من أي وقت مضى، لأنه ليس أمرا بديهيا بطبيعة الحال، هو أن صورة العالم الجديد لا تمحو الصورة القديمة، بل تسمح لها بالوقوف في كليتها، و ويضيف فقط شرطًا خاصًا لها... بينما يتكشف العدد الكبير من الظواهر الطبيعية التي يتم ملاحظتها في جميع المجالات بغزارة أكثر ثراءً وتنوعًا، فإن الصورة العلمية للعالم، المشتقة منها، تتخذ دائمًا شكلاً أكثر وضوحًا وتحديدًا. إن التغيرات المستمرة في الصورة العالمية لا تعني بالتالي تذبذبًا غير منتظم في خط متعرج، بل تعني تقدمًا وتحسنًا واكتمالًا".(32)

وبهذا يمثل تطور العلم بالنسبة لبلانك عملية مدهشة لأنها تتميز بخصائص التراكمية والوضوح المتزايد. هذه الظاهرة، التي تجمع بين التغير المستمر والحفاظ على المكتسبات السابقة، تجعل العلم أكثر من مجرد نشاط معرفي؛ إنه رحلة مستمرة نحو الكمال، مما يعزز العجب والإعجاب في قلوب العلماء والمتأملين.

و في ختام التأمل في أعجوبة العلم، يبرز الفيزيائي لويس دي برولي سؤالًا أساسيًا: لماذا يمكن للعلم أن يوجد أصلًا؟ يشير دي برولي إلى أن وجود العلم نفسه هو أعجوبة تتجاوز الاكتشافات الفردية، إذ إنه يكشف عن توافق مذهل بين العقل البشري وقوانين الطبيعة.

خلاصة القول: يتضح أن العجب والعلم مرتبطان بشكل وثيق، ليس فقط كحالة نفسية تنطلق منها عملية الاكتشاف العلمي، بل كخاصية أساسية تتجدد مع كل تقدم علمى للطبيعة. فالمبدعون الكبار في العلم هم الأكثر شعورًا بالدهشة، لأنهم يقفون في مواجهة مباشرة مع النظام الدقيق للطبيعة. وبدلاً من أن يُفهم العلم كعملية باردة تحل الألغاز وتزيل الغموض، يتضح أنه تجربة إنسانية متكاملة تعيد للإنسان إحساس العجب والدهشة. بهذا، يصبح العلم مصدرًا لإثراء الروح الإنسانية وتعميق رؤيتنا للعالم والطبيعة.وعليه، يمكن القول إن العجب هو جوهر العلم وروحه الحية، وهو ما يجعل العالم والطبيعة أكثر إشراقًا وإلهامًا مع كل اكتشاف جديد.(33)

3- الدهشة الفلسفية

تُعتبر الدهشة الفلسفية من الخصائص الجوهرية للتفكير الفلسفي، حيث تمثل حالة ذهنية يتغير فيها تصور الإنسان للأشياء، مما يجعلها تبدو مختلفة عن مظهرها المعتاد. في هذه الحالة، تتلاشى المعاني التقليدية التي يدركها العقل، مما يفتح المجال للتساؤل والاستكشاف. تنبع الدهشة هنا من الجهل أو نقص الفهم الكافي، وهما عنصران أساسيان يحفزان التفكير الفلسفي ويعكسان المرحلة الأولى في رحلة البحث عن المعرفة. من خلال هذه الدهشة، يبدأ الفيلسوف في طرح الأسئلة التي تقوده إلى اكتشافات جديدة وفهم أعمق للعالم من حوله.(34)

الدهشة الفلسفية ليست مجرد فضول عابر، بل هي تأمل عميق بامتياز. فهي لا تكتفي بتفسير الظواهر، بل تسعى لاكتشاف معانٍ أعمق وراءها. من خلال تحليل المعاني التقليدية للأشياء، تهدف الدهشة الفلسفية إلى تجاوز التفسيرات السطحية وكشف القيود الخفية التي تحيط بها. وبهذا، تصبح الدهشة أساسًا للفلسفة، حيث تعمل كمحفز للتساؤل المستمر والبحث الذي لا ينتهي. وقد أشار أرسطو إلى أن الدافع الأساسي وراء الدراسات الفلسفية هو الدهشة، وهو ما بدأ به الفلاسفة اليونانيون الذين اعتبروا أن التفكير الفلسفي ينطلق عندما تتعطل المعرفة التقليدية ويشعر العقل بدهشة تدفعه للبحث عن الحقيقة.(35) ولهذه الدهشة الفلسفية خصائص عديدة منها:

1- الدهشة الفلسفية تتطلب نوعًا من المعاناة الذهنية والعاطفية، حيث تنبع من حالة التوتر والقلق التي يختبرها الإنسان عند مواجهته للأسئلة الجوهرية المتعلقة بالوجود والمعنى. هذه الدهشة ليست مجرد شعور عابر، بل هي حالة دائمة من التساؤل العميق، تتطلب من الفرد القدرة على الاستمرار في طرح الأسئلة دون انقطاع. إنها دعوة للبحث المستمر عن الحقيقة والتأمل في الأبعاد الأكثر عمقًا للواقع، مما يدفع الفيلسوف إلى تجاوز الإجابات السطحية والسعي نحو أفكار ونظريات تفسر الظواهر من منظور أوسع.

2- الدهشة الفلسفية تُعتبر السؤال الجوهري الذي ينطلق منه الفكر الفلسفي، وهو يتجلى في سؤال "ما هو الوجود من حيث هو موجود؟" هذا السؤال لا يركز على الوجود الفردي أو المحدد للأشياء، بل يتناول الوجود في جوهره وعناصره الأساسية. إنه تساؤل عميق يعكس السعي نحو فهم شامل للواقع كما هو، بعيدًا عن التصورات التقليدية. هذه الدهشة تُعد مصدرًا لكل تساؤل فلسفي آخر، حيث تدفع الفيلسوف إلى محاولة فك رموز المعنى الكامن وراء الوجود والبحث عن تفسير أعمق لماهية الأشياء، مما يفتح أمامه آفاقًا لا حصر لها من التأمل الفلسفي.

3- الدهشة الفلسفية تمثل الفعل الذي يدفع الإنسان لتجاوز حدود عالمه المألوف، ويشجعه على الخروج من نطاق ذاته المحدودة ليتأمل في أعمق الأسئلة الوجودية. إنها لحظة من الوعي العميق تفتح أمام الإنسان آفاقًا جديدة للتفكير، مما يمكّنه من استكشاف معانٍ ومعارف تتجاوز تجربته الشخصية وعالمه الحسي. من خلال هذه الدهشة، يسعى الإنسان للتفاعل مع الوجود بشكل أوسع، محاولًا فهم القوانين الكونية والحقائق الكامنة وراء الظواهر، مما يقوده إلى رحلة من التفكير المستمر والمستقل.

4- الدهشة الفلسفية تحول النظرة التقليدية واليومية إلى العالم إلى رؤية أعمق وأشمل، حيث تتحرر من أي أغراض عملية أو نفعية. إنها سعي غير مشروط نحو المعرفة من أجل المعرفة ذاتها، بعيدًا عن أي أهداف خارجية أو منافع مباشرة. في هذه اللحظة، لا يكون الهدف من التفكير هو إيجاد حلول للمشكلات الحياتية أو تحسين الظروف الراهنة، بل هو السعي لفهم الحقيقة في جوهرها، دون تحيز أو مصلحة. وبهذا، تصبح الفلسفة رحلة تأملية في الأسئلة الكبرى المتعلقة بالوجود والواقع، حيث تتجاوز الفرد لتتناول المفاهيم الكونية والعامة.

5- الدهشة الفلسفية تنبع من أعماق الإنسان وتجربته اليومية، حيث تبدأ تساؤلاتها من تجاربه الشخصية وواقعه المعيش. فهي ليست منفصلة عن العالم الإنساني، بل تنبع من فهم أعمق لوجود الإنسان ذاته. من خلال هذه الدهشة، يسعى الفيلسوف إلى استكشاف معاني الحياة والوجود، ويتساءل عن جوهر الإنسان وكينونته، محاولًا اكتشاف الحقيقة التي تتجاوز الظواهر والأحاسيس المألوفة. وبالتالي، تكشف هذه الدهشة الفلسفية عن طبيعة الإنسان وتحدياته، وتدفعه لإعادة التفكير في معاني الحياة والوجود والعلاقات بين الأفراد والمجتمع.(36)

وسوف نتتبع حركة الفكر الفلسفى لمعرفة مواقف بعض الفلاسفة من الدهشة ، فلقد رأى كل من أفلاطون وأرسطو أن الدهشة تشكل المحرك الأساسي للفكر الفلسفي. بالنسبة لأفلاطون، يُعتبر الاندهاش نقطة البداية لكل شيء، وهو الشرارة التي تحفز التساؤلات في عقل الفيلسوف حول العالم والوجود. ويعبر أفلاطون عن ذلك بقوله: "لا يوجد أصل أو مبدأ آخر في الفلسفة سوى رثاء الاندهاش"، مما يدل على أن الدهشة هي ما يدفع الإنسان للبحث عن المعرفة الحقيقية. من جهته، يؤكد أرسطو أن الدهشة هي التي حفزت البشر على التفكير الفلسفي وممارسة البحث العقلي حول العالم والحياة. وفقًا لأرسطو، يُعتبر الاندهاش بداية عملية التفكير الفلسفي، حيث يدفعنا للتساؤل عن الأمور التي نعتبرها عادة مسلمات في حياتنا اليومية.(37)

وعند تأملنا في هذه العبارات، يمكننا تحديد ثلاثة عناصر رئيسة للفلسفة:

أولاً: هناك "تجربة داخلية ترافق تصورنا للعالم" تعكس نوعًا من الوعي. قد ترتبط هذه التجربة بتقديرنا للظواهر الطبيعية أو الفلسفية التي تبدو معقدة أو غامضة، مما يثير فينا شعورًا بالشفقة تجاه محدوديتنا في فهم أو إدراك هذه الظواهر. هذا النوع من "الشفقة" يمكن أن يكون إدراكًا مدهشًا لوجود أشياء لا نستطيع السيطرة عليها أو فهمها بشكل كامل، لكنه يثير فينا الرغبة في الفهم والتفسير. الطبيعة، مثل أمواج البحر وحركة النجوم، تثير تساؤلات حول أصلها ومعناها، مما يدفعنا للبحث عن إجابات. قد تبدو بعض الأمور بديهية للبعض، لكن هذه الظواهر العادية تصبح مليئة بالدهشة عندما ننظر إليها من منظور فلسفي أو تأملي. كما أشار أرسطو، تلعب حواسنا، وخاصة حاسة البصر، دورًا مهمًا في دفعنا نحو التفكير والتفسير. حواسنا هي الوسيلة التي نتفاعل بها مع العالم من حولنا، ومن خلالها نلاحظ أشياء قد تبدو طبيعية، لكنها تحمل في طياتها أسرارًا ومعجزات تتطلب منا التأمل والتحقيق. إن هذا الشعور بالدهشة والتساؤل عن العالم هو ما يحفز الفكر الفلسفي ويساهم في تطوره.

ثانيا: نجد أنفسنا في حالة من الإعجاب أمام هذا العالم الغريب الذي يبدو كأنه يحمل أسرارًا خفية. يوجهنا حدسنا إلى أن هناك نظامًا كونيًا متخفيًا في طيات هذا العالم المدهش، ومع ذلك، فإنه يكشف عن نفسه لعقولنا الفضولية. إن تجربة الإعجاب المرتبطة بهذه الدهشة تدفعنا إلى الاقتناع بأن العالم في جوهره هو كيان واحد متماسك، حيث يتعين علينا التمييز بين الجوهر والمظهر. إن ظهور العديد من الظواهر التي نلاحظها يرتبط بطريقة ما بجوهر النظام الداخلي لكل شيء. فهم هذا الجوهر والنظام الكوني ليس بالأمر السهل. إن الدهشة والإعجاب تدفعاننا للقيام بما هو مطلوب، وهو ممارسة التأمل والتفكير. وليس في قدرتنا أن نرى هذا النظام الكوني الخفي وهو يكشف عن نفسه، بل يتجلى فقط من خلال الفكر.

إن التمييز بين عالم الإدراك المتعدد الأبعاد وعالم الفكر الموحد يعكس أيضًا الفارق بين الباطن والظاهر، والداخلي والخارجي. لا يمكن اكتشاف الجوهر الداخلي للعالم وحقيقته إلا من خلال العقل الداخلي. يتماشى جوهر العالم مع العالم الداخلي للعقل. بينما يتجلى العالم من خلال سلسلة لا نهائية تقريبًا من الظواهر، فإن هذا يتوافق مع الإدراك الخارجي. في تاريخ الفلسفة، كانت الحقيقة المتعلقة بهذا العالم الخارجي هي الهدف الرئيسي للفلاسفة؛ وفي النهاية، تمكنت الفلسفة من اكتشاف العالم الداخلي للعقل البشري عبر مسيرتها.

ثالثًا: من عناصر الدهشة الفلسفية: الافتراض بأن جوهر العالم ذو طبيعتين متباينتين ومتكاملتين، الأولى ثابتة ومقررة تعكس النظام والتناغم الكوني، والثانية متحركة ومتغيرة تعبر عن التحول والصيرورة المستمرة. هذا التباين يصبح واضحًا عندما نتأمل في الطبيعة؛ فبينما تبرز الطبيعة ديناميكيتها وحركتها الدائمة من خلال تغير الفصول أو حركة الأجرام السماوية، فإن الفكر الإنساني، خاصة عند التعبير عنه كتابة، يسعى لتثبيت المعاني وتحديدها ضمن قوالب ثابتة. إن هذه التجربة الجوهرية لتعارض الوجود والصيرورة ليست مجرد تناقض، بل هي الدافع وراء السؤال الفلسفي الأساسي الثالث الذى يشغل الفلسفة بأكملها: كيف يمكن فهم العلاقة بين ما هو ثابت ومطلق، وما هو متغير ومتجدد؟.

هكذا تؤدي الدهشة إلى الفلسفة: إن جوهر العالم، الذي يتجاوز مجرد الإدراك، هو كيان متماسك واحد. يتم التعبير عن هذا الجوهر من خلال العقلانية البشرية. هناك ارتباط ما بين المفاهيم الأبدية للعقل البشري وتنوع الطبيعة وزوالها. هذه التأملات قادت الفلسفة اليونانية في بداياتها إلى محاولة الإجابة عن ثلاثة أسئلة أساسية: ما هو جوهر العالم وما الذي يجعل منه كيانًا متماسكًا؟، كيف يمكن لـالعقل البشري أن يعبر عن هذا الجوهر الكوني؟ و ما العلاقة بين المفاهيم الأبدية والتغير المستمر في الطبيعة؟.(38)

تبدو الفلسفة الغربية وكأنها تنطلق من دهشة أفلاطون الناتجة عن إدانة المدنية لسقراط والحكم عليه بالموت. يتساءل أفلاطون: لماذا لم يُفهم سقراط؟ ولماذا أُدين هذا الرجل الذي لم يُسئ إلى أحد، بل كان مواطنًا طيبًا وشجاعًا؟ رجل اكتفى بدعوة الناس إلى معرفة أنفسهم، وردّ العالم إلى العقل الذي أنشأه. عندما يقرأ الإنسان أفلاطون، يشعر بوضوح أنه ينظر إلى ما حدث وكأنه فضيحة حقيقية. ورغم أن مثل هذه الفضائح لم تكن دائمًا بهذا العنف كما كان الحال مع موت سقراط، فإنها تستمر وتتكرر. ويبدو أن نسبة تكرارها تتناسب مع حزن الفيلسوف حين يلاحظ أن الحقائق التي يرى أنها أساسية ومهمة تُقابل بالعناء والاحتقار، رغم أنها الحقائق التي يجب أن تفرض نفسها على كل ضمير نزيه. وهكذا، يبقى صوت سقراط، الذي خنقته المدينة، حاضرًا في عقولنا كنداء عاطفي يدعونا إلى التحاور مع الآخرين عبر العصور، ونعني هنا التحاور الفلسفي الذي يسعى لفهم الإنسان والعالم.(39)

إذا كانت المعرفة تبدأ بالإحساس، فإنه من الضروري تحليل هذا الإحساس والحكم عليه باستخدام الفهم، وصولًا إلى الفهم الخالص الذي يصوغه العقل في شكل فكرة. يتعلق الأمر هنا بالخروج من كهف أفلاطون، ومغادرة عالم المظاهر والظنون للانطلاق نحو التأمل في الحقيقة. فالظن لا يصمد طويلًا أمام اختبار النقد، ولهذا يتطلب الوصول إلى المعرفة عملاً شاقًا للتحقق من مضامين الأفكار، إما لإثباتها أو لرفضها، في سبيل تحقيق فهم أعمق وأكثر رسوخًا للحقيقة.(40)

وهكذا، فإن التفلسف يقتضي الفهم كأساس للتعلم والمعرفة، تلك المعرفة التي تقوم على الذوق والإدراك الواعي. كما يتطلب تحرير أفكارنا من الانفعالات والأوهام التي تشوشها. ومن هذا المنطلق، تصبح الفلسفة رغبة حقيقية في المعرفة، وهي تتطلب ما تتطلبه أي عرفة جادة: أدلة وبراهين واضحة يمكن أن تُنشر وتُعمم، وتفرض نفسها على كل العقول اليقظة، واعدة بالوصول إلى الحقيقة. علاوة على ذلك، تتسم الفلسفة بطابع نقدي، إذ تجعل من المعارف المكتسبة موضوعًا لها، متسائلة عن طبيعتها، ومداها، وحدودها. ومن خلال هذا النقد، نكتشف أن وراء كل فكرة توجد الذات التي جعلتها ممكنة. بذلك تظهر الفلسفة كمعرفة للمعرفة، تهدف إلى فهم أعمق لأصل الأفكار ومضمونها.(41)

يتضح موقف أرسطو هنا من مقولته الشهيرة التي تربط بين الدهشة والتفلسف: "لقد بدأ الناس بالتفلسف من خلال الدهشة." يمكن تعليم الآخرين كيفية استخدام تقنيات الفلاسفة، لكن لا يمكن تعليمهم إثارة الدهشة، لأنها شعور ذاتي ينبع من الفضول الداخلي والقدرة على رؤية العالم بمنظور جديد.(42)

لا شك أن الإنسان السعيد هو الذي لا يظل عالقًا في نفس الاتجاه، بل هو الذي يحول نظره بعيدًا عن الرؤية العامة، من يُحسن إحباط الوهم، ويتوجه نحو السعي للمعرفة. يمتلك هذا الشخص مرونة فكرية وحيوية تؤهله للازدهار العقلي، حيث يبني فكره من خلال استثمار المعرفة بطريقة ديناميكية. وكان شوبنهاور (Arthur Schopenhauer) يرى أن الفلسفة تنبع من العقل ومن وجودنا الذي يفرض نفسه أمامه، بوصفه لغزًا يثير في الإنسان رغبة مستمرة في البحث عن حلول له.(43)

***

ا. د. ابراهيم طلبه سلكها

......................

الهوامش

1- لورانس ڤانين- ڤيرنا: الإنسان المهموم "العلاجيات الفلسفية"، ترجمة: محمد شوقي الزين، دار الروافد الثقافية، ط1، 2023، ص 31.

2- ضحى الطلافيح: مفاهيم فى الفلسفة، ماذا تعنى الدهشة الفلسفية؟ ، عالم الفلسفة، 22ديسمبر 2022م شبكة المعلومات الدولية النت، 25/7/2023م

*ولدت جان هاش فى جنيف سنة 1910، وبعد مسار دراسى فلسفى طويل تتلمذت فيه على يد ياسبرز، وعرفت فيه فلاسفة كبارا من قبيل هيدجر، انتهى بها المطاف استاذة فلسفة فى بكلية جنيف،ورئيسة قسم الفلسفة باليونسكو، بالاضافة الى تمثيلها سويسرا فى الجهاز التنفيذى لهذه المنظمة.كان تأثيرها حاسما فى تدريس الفلسفة وفى تاريخها، وحصلت اعترافا دوليا بقيمتها فكريا وآدبيا.خلفت العديد من الكتب والدراسات والترجمات، من بينها " الوهم الفلسفى "1936، و" العدو هو العدمبة "1981، بالاضافة الى ترجمة عدد من أعمال الفيلسوف الألمانى كارل ياسبرز.. توفيت سنة 2000.( جان هارش: الدهشة الفلسفية تاريخ للفلسفة، ترجمة محمد آيت حنا، منشورات الجمل، بيروت، لبنان، 2019، ص 1)

3- جان هارش: الدهشة الفلسفية، تاريخ للفلسفة، ترجمة محمد آيت حنا، منشورات الجمل، بيروت، لبنان، 2019، ص 4

4- د.فارس راتب الأشقر: فلسفة التفكير ونظريات فى التعلم والتعليم،دار زهران للنشر والتوزيع، المملكلة الأردنية الهاشمية، ط1، 1431ه- 2011م، ص 6

5- المرجع نفسه، ص7

6- لورانس ڤانين- ڤيرنا: لماذا نتفلسف؟ سبل الحرية، ترجمة: محمد شوقي الزين، دار الروافد الثقافية، ط1، 2021، ص ص 29- 30.

7- المرجع نفسه، ص 41.

8- المرجع نفسه، ص ص 41- 42.

9- المرجع نفسه، ص 34.

10- المرجع نفسه، ص 56

11- المرجع نفسه، ص ص 56- 57.

12- عبد الغفار مكاوي، مدرسة الحكمة، مؤسسة هنداوى سى آى  سى، ص ص 57

راجع أيضا

جان هارش: الدهشة الفلسفية، تاريخ للفلسفة، ترجمة محمد آيت حنا، منشورات الجمل، بيروت، لبنان، 2019، ص ص 5- 9

13- علي صبيح التميمي، الدولة في الفلسفة السياسية، نظرية بناء الدولة، دار أمجد للنشر والتوزيع، ج1،ط 1، 2016 ، ص ص26- 28

14- د. عبد الله شمت المجيدل، تطور الفكر الفلسفي من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة المعاصرة، ص 35.

15- Cantore، Scientific Man. The Humanistic Significance of Science (New York: ISH Publications، 1977)، p- 95.

16- Der Teil und das Ganze: Gespräche im Umkreis der Atomphysik (Munich: Piper، 1969)،p- 600

17- E. Cantore، Op- Cit، p- 95.

18- Ibid،p- 96

19- Loc- Cit

20- F. Bello in P.C. Obler، and H. Estrin، eds.، The New Scientists: Essays on the Methods and Values of Modern Science (New York: Doubleday Anchor Books، 1962)، p. 81.

21- E. Cantore، Op- Cit، p- 97

22- B.T. Eiduson، Scientists: Their Psychological World (New York: Basic Books، 1962)، p. 110.

23- M. Born، My Life and Views (New York: Scribner، 1968)، pp. 47f.

24- L. de Broglie، Physics and Microphysics، trans. M. Davidson (New York: Grosset & Dunlap، 1966)، p. 208.

25- E.Cantore، Op- Cit، p- 99

26- E. Mach، “On Transformation and Adaptation of Scientific Thought،” in his Popular Scientific Lectures، trans. T.J. McCormack (La Salle، Ill.: Open Court، 1943)، pp. 214- 235، especially p. 224.

27- E. Mach، “The Economical Nature of Physical Inquiry،” in Popular Scientific Lectures، pp. 186- 213، especially p. 41.

28- E.Cantore، Op- Cit، p- 99

29- Einstein’s Autobiographical Notes، in P.A. Schilpp، ed.، Albert Einstein، Philosopher- Scientist (New York: Harper Torchbooks، 1959)، p. 21

30- Einstein، Lettres à Maurice Solovine (Paris: Gauthier- Villars، 1956)، p. 114; letter dated March 30، 1952.

31- M. Planck، Scientific Autobiography and Other Papers، p. 93

32- Ibid، pp. 98- 100.

33- E.Cantore، Op- Cit، p- 106

34- Anders Schinkel: "Wonder، Mystery، and Meaning"، published onlinen: 29،Nov2018،p- 293

35- د.عبد الله شمت المجيدل، مرجع سابق، ص 35

36- عبد الغفار مكاوي، مدرسة الحكمة، مؤسسة هنداوى سى آى  سى، ص ص 80 - 95(بتصرف)

37- Robbert Veen:Introduction to philosophy ، Three elements of philosophy،August 25،2018،p- 1

38- Loc- Cit

39- فريناند ألكييه: معنى الفلسفة، ترجمة: حافظ الجمالي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999، ص 36.

40- المرجع نفسه، ص ص 42- 43.

41- المرجع نفسه، ص 66.

42- Oleksandr Kulyk: On the Possibility to Teach Doing Philosophy، ASIANetwork Exchange A Journal for Asian Studies in the Liberal Arts، December 2018،pp- 4- 7

43- لورانس ڤانين – ڤيرنا: لماذا نتفلسف؟ سبل الحرية، ص 40.

 

لم يكتب نيتشه لذوي الأذهان المشتتة او المتسرعين او المستريحين. هو اعتقد ان الكتاب يتطلب جهداً، يحرّض على المقاومة، ويترك بصمة له. في السنوات الأخيرة، كان هناك انتشارا هادئا للمقالات والكتب والكتيّبات تدعو القرّاء ليتجهوا للنصوص، وخاصة النصوص من غير الروايات، بعناية كبيرة واهتمام وبشك. من تقنيات القراءة السريعة الى بيانات في مدح التباطؤ، اصبح السؤال عن الكيفية التي يجب ان نقرأ بها هو الشغل الشاغل في عصر التشتت العالمي.

من الملائم اذن ان أي تفكير حول القراءة اليوم يجب ان يبدأ بفعل القراءة ذاته. وقبل وقت طويل من هذا الإنتعاش المعاصر، كان فردريك نيتشة (1844-1900) سلفا جعل فعل القراءة مركزيا في تفكيره.

قيل عادة، ان الفلاسفة مالوا لتجاهل عمل نيتشة الفلسفي، بينما الاكاديميون الكلاسيكيون من جهتهم نادرا ما اعتبروه كواحد منهم. وفي العقود التي تلت وفاته، بقيت هذه المظاهر لنتاجاته الاكثر انسجاما مع الدراسات الاكاديمية الكلاسيكية متجاهلة. على سبيل المثال، عندما سعى والتر كوفمان لإعادة تأهيل سمعة نيتشة في العالم الناطق بالانجليزية في الخمسينات من القرن الماضي، وفك الاشتباك بين تفكيره وظلال الاشتراكية القومية، لم تنل كتاباته الاكاديمية المبكرة اهتماما كبيرا.

وفي العقود الاخيرة، تمت استعادة نيتشة العالم اللغوي philoglogist بشكل تدريجي نتيجة التقدير الكبير للأعمال المطبوعة لأثنين من المختصين الايطاليين وهما ورجيو كولي ومازينو مونتيناري الذين أنتجا طبعات موثوقة لكتاباته بما في ذلك مراسلاته ومقاطع ما بعد الوفاة. اليوم، يقف الكلاسيكي نيتشه على أرض صلبة بجانب شخصيته الاخرى ذات التوجهات الفلسفية الواسعة.

بدأت انطلاقة نيتشه في الدراسة الاكاديمية الكلاسيكية في شولبفورتا، وهي مدرسة داخلية انسانية قرب ناومبورغ في ساكسونيا، تأسست المدرسة في القرن السادس عشر كأكاديمية رهبانية. أنتجت المدرسة جيلا بارزا من الخريجين، من ضمنهم الشاعر نوفاليس وفيشته والاخوين شليغل (فردريك واوغست). سيتبع نيتشه من هناك ويلاموفيتز، ناقده المستقبلي. ومن شولبفورتا، تقدّم نيتشة الى جامعة بون حيث كان يدرس تحت اشراف اوتو جان وفردريك ريتشل. الاخير وهو الممثل الصارم للتقاليد اللغوية لريتشارد بنتلي، أثّر بعمق على اتجاه نيتشه في التحليلات اللغوية والنقد النصي. وعندما انتقل ريتشل الى لايبزيغ، تبعه نيتشه ممضيا أربع سنوات مفصلية بين عامي 1865 و1869.

ضمن هذا التقليد، بدأ نيتشه عمله المهني كعالِم لغوي تقليدي: منهجي، دقيق، متمسك بشدة بالأساليب العلمية التخصصية لأساتذته. في عام 1869، اُعتبر نيتشه على نطاق واسع كمعجزة تسنده مرجعية ريتشل المتوهجة.  هو عُيّن في كرسي علم اللغة الكلاسيكية في جامعة باسيل دون ان يكمل اطروحة الدكتوراه.

كانت التحولات قد حدثت سلفا قبل تولّي نيتشه لمنصبه الرسمي. هذه كانت سنوات من الاضطراب العلمي والفلسفي السريع الذي شهد نشر نظرية دارون في التطور وكتاب تاريخ المادية (1866) لفردريك البرت لانغ. وفي نفس الوقت تقريبا، التقى نيتشه بـ واغنر واكتشف شوبنهاور. هذه التأثيرات مجتمعة أعادت تشكيل الافق الفكري لنيتشه وبدأت بسحبه بعيدا عن الارثودكسية اللغوية التي تشكّل فيها. وفي عام 1875، تخلّى نيتشه كليا عن علم اللغويات. ليس من المستغرب اذن ان نفس الرجل الذي أعلن في (شفق الاصنام) عن عدم ثقته في الأنظمة لم يسع أبدا الى صياغة تفكيره في علم اللغة. مع ذلك، تكشف القراءة الدقيقة لرسائله، ومقاطعه وتأملاته المتناثرة عن إنشغاله الدائم بفن القراءة.

يكتب نيتشة في كتابه (الفجر)،"لتكون لغويا ان تكون مدرسا في القراءة البطيئة. في النهاية انا ايضا تعلمت ان أكتب ببطء. انا طورت اسلوبي فقط من هذا". في هذه الرؤية، يأتي علم اللغة للاشارة الى القراءة اليقظة والقصدية. انه يقدم للقارئ مقياسا للمسافة من النص، فضاءً للجهد، تأملا، وعودة. احيانا، يتطلب الامر صمتا، مثل ذلك الصمت الذي تميز به رهبان القرون الوسطى لتعزيز بطء الروح. يستمر نيتشه ليطرح تشبيها حيا : "هذا الفن في الكتابة، مثل فن القراءة، هو فن غولدسمث (الخبير في الصناعات الذهبية)، فن يتطلب الكثير من الدقة والصبر، ومراقبة التفاصيل".

مما تقدم يبرز المبدأ الثاني: القراءة الصحيحة وبتحدّ هادئ تستبدل الروح السائدة للعمل الحديث والثقافة، التي تمجد السرعة والفاعلية والفهم السطحي. جوهر علم اللغة لا يكمن فقط في مقاومة الأزمان، وانما في السعي لتشكيلها، والإصرار على قيمة التأمل والدقة لأجل عصر لم يأت بعد. هذا الطموح هو الذي وصفه ويلاموفتيز بـ "فلسفة نيتشه للمستقبل": الايمان، قبل كل شيء، بانك لكي تقرأ بشكل صحيح هو ان تقرأ ببطء.

مع ذلك، البطء وحده لايكفي. نيتشه أصر ايضا على نوعية الانخراط. لكي يقرأ جيدا، يجب على المرء ان يكون نشطا بدلا من ان يكون سلبيا: القراءة ليست استهلاكا وانما مواجهة. هو يطرح اتفاقا ملزما بين اولئك الذين يتذوقون النص ويصارعون معه، واولئك الذين يسخر منهم ويصفهم بـ "المتسكعين": ناهبون يسلبون الأعمال من أجل الشعارات، ويتركون الباقي في حيرة. في كتابه انسان انساني جدا: كتاب الارواح الحرة ( Human, all too human)(1)، هو يشبّه هؤلاء القرّاء بجنود النهب. بالمقابل، القارئ المنضبط يشبه صائغ الروح، يصقل رؤاه بصبر في وعاء صهر الصعوبة.

في هذا الشأن، كان نيتشه يكتب للقلة. هو أعلن بوضوح مرات ومرات ان كتبه ليست موجهة لكل قارئ وانما لـ "القارئ المثالي": الذي يجمع بين الفضول والشجاعة والصبر. في كتابه شخص فريد (Ecce Homo) (2)هو يسمي مثل هذا الشخص بـ "وحش الشجاعة والفضول". هذه ليست مُثل ديمقراطية للقراءة، وانما هي ارستقراطية، كاستدعاء لاولئك الذين يرغبون ليس فقط بالاتفاق مع نيتشة ولكن للصراع معه وربما ليتم تغييرهم اثناء العملية. في كتابه (انسان انساني جدا ..) يعود نيتشة الى موضوع القراءة كحرفة، ويتعقب ظهورها كإنجاز بطيء وشاق.  هو يكتب "انتاج وحفظ النصوص، الى جانب تفسيراتها، بقيت لقرون عمل حرفي، قادت فقط  تدريجيا الى اكتشاف طرق ملائمة. كل القرون الوسطى كانت غير قادرة على تأسيس اتجاه علم لغة سليم، والذي هو، رغبة أساسية لفهم ما يعنيه المؤلف". الحكم تميّز بالجدل. نعم، سيكون تقصيرا اذا تجاهلنا حقيقة ان تعليم القرون الوسطى على الرغم من كل القيود الظاهرة، حفظ ونقل العديد من النصوص التي غذت لاحقا النهضة والعلم الحديث المبكر. نيتشه عاد باستمرار للفعل، والى فن القراءة طوال حياته.

في كتابه (المسيح الدجال)(3)، هو يصف القارئ المثالي " كونه يميز الحقائق الواقعية بدون تشويه من خلال عدسة التفسير، بدون التضحية بالتفكير النقدي والصبر او البراعة، في محاولة الفهم". هذه تشكل مبدأ نيتشه الثالث: علم اللغة، صدى للتحقيق وضبط النفس اليوناني، وهو يقف في تضاد مع دافع التفسير المتعجل. انه يقاوم الاغواء لفرض معنى قبل الأوان سواء كان في قراءة الكتب او استهلاك الاخبار، او الحكم على الأحداث المعاصرة.

في هذا، يتوقع نيتشه مشكلة ستشغل لاحقا اللسانيات الحديثة: الانزلاق في المعنى. مثل فرديناند سوسر، هو اعترف بان الكلمات لاتحمل قيمة ثابتة، وانما توجد علائقيا ضمن انظمة من الاختلاف. لذلك فان القراءة تتطلب حساسية حادة ليست فقط لما يقال وانما لكيفية القول وسببه.

القراءة، طبقا لنيتشه، لا تمنح بطبيعتها وبلا شروط  بعض الكتب مكانة راقية، هو اعتقد  انها يمكن ان تسمّم بسهولة كما يمكنها ان تقوّي: "هناك كتب لها قيمة هائلة للروح وللصحة". القارئ يجب ان يجلب التمحيص بالاضافة الى الصبر. الكتب ليست علاجا عالميا، ربما هي عامل للتآكل النشط . هي تقوّض الأصالة، تميل الى الخمول، او تغرق الذات في شعارات. قارئ نيتشه الحقيقي يقترب من الكتب ليس للفرار منها وانما لينمو من خلالها واحيانا ليفكر بخطورة اكبر.

من وجهة نظر نيتشه، القراءة المتأنية والقصدية تعمل كترياق للحداثة وللروح القلقة للعصر الصناعي. لكي نقرأ جيدا ذلك يتطلب عددا من الفضائل الفكرية: تركيز دائم، انفتاح ذهني، معايير نقدية، حساسية، وحكم تأملي. قبل كل هذا يجب على المرء ان يتعلم القراءة قبل الاندفاع للتحليل او التفسير. هذا التأكيد يعكس التزام نيتشه الفلسفي الواسع بالمنظورية، وهو المبدأ الذي بث الحياة بجميع أعماله. في عالمنا المحكوم دائما بالسرعة الخوارزمية والحافز للحكم، دعوة نيتشه للقراءة البطيئة ليست مجرد عادة اكاديمية وانما فعل فلسفي للمقاومة.

الدرس الأخير في رؤية نيتشه للقراءة هو درس صارخ: القراءة الحقيقية ينبغي ان تجرحنا. أحسن الكتب هي ليست تلك التي تهدئ او تؤكد وانما تلك التي تتطلب شيئا منا."في كل ما كُتب" هو قال، "انا أحب فقط ماكتبه شخص ما بدمه". مثل هذه الكتابة لا يتم التخلص منها، وانما يتم تحمّلها. حسب نيتشه، القارئ الحقيقي هو مغامر: يرغب ان يتميز بالمعنى وربما يتحول به.

حين نقرأ بهذه الروح لا نهرب من العالم وانما لكي نعد أنفسنا لمواجهته بحذر ودقة كبيرتين وربما بصدق أكبر.

***

حاتم حميد محسن

........................

Nietzsche’s manifesto for reading, Engelsberg Ideas.July2, 2025

الهوامش

(1) كتاب نيتشه (الانسان،انساني جدا:كتاب الارواح الحرة) نُشر لأول مرة عام 1878، يستدل فيه نيتشه على ان معتقداتنا الدينية وحوافزنا نحو تفسيرات ميتافيزيقية للعالم تتأسس على الخوف والجهل. بالنسبة له، نحن نتعامل مع اللغز ورعب الوجود عبر خلق آلهة ودوغمائيات لكي نريح أنفسنا. يشير الكتاب الى الفكرة بان الناس بطبيعتهم معيبون ومحدودون، غالبا بطرق يمكن التنبؤ بها وحتى عادية. انه يسلط الضوء على القاعدة الحيوانية والمظاهر المعيبة لطبيعة الانسان، بما يشير الى ان تبريراتنا وتصوراتنا عن أنفسنا انما تخفي عنا حقيقتنا التي عادة ما تكون متواضعة.

(2) يشير معنى الكتاب Ecce Homo الى شخص هام جدا، لكن عنوان نيتشه يقدم تباينا ساخرا لهذه الرمزية. شخص هام وفريد، مثال للرجل وفق اعتباراتك وليس كنموذج للاخلاق، ليس رجلا للتقليد او للعبادة.

(3) في كتاب نيتشه (المسيح الدجال) الذي نُشر عام 1895 اعتقد ان الحداثة كانت مرضا احتاج الناس للتحرر منه. من أجل استعادة الغريزة الطبيعية للانسان، يرى نيتشه ان كل الاديان وأولها المسيحية يجب رفضها. كل الفضائل والحوافز يجب ان تأتي من الفرد وليس من دين او دوغما خارجية.  

 

في الفرق بين الإشكال الفلسفي والمشكلة (أو الإشكالية) الفلسفية

خلصنا في المقال السابق إلى أن السؤال الفلسفي يختلف اختلافا جوهريا عن السؤال العادي أو العامي، سواء من حيث طبيعة السؤال أو من حيث مضمونه والغاية منه. واستمرارا في هذه الإضاءات المفاهيمية حول بعض المعدات التي لا مناص للمشتغل بالفلسفة في أن يكون على إلمام واطلاع بها، سنحاول في هذا الصدد أن نبين الفرق بين الإشكال الفلسفي والإشكالية أو المشكلة الفلسفية. وعليه؛ ماذا نعني بالإشكال الفلسفي (Le problème philosophique)؟ وما أبرز سماته وخصائصه؟ وما المقصود كذلك، بالإشكالية أو المشكلة الفلسفية La problématique philosophique)؟ وما سماتها وخصائصها؟

لعل أبرز ما يمكن أن نعرف به الإشكال الفلسفي هو أنه «قضية استفهامية تقتضي الإجابة عنها استحضار أطروحات علمية وفلسفية». مثال ذلك، القول: هل الدولة عادلة أم ظالمة؟. فالقضية هي الدولة عادلة أم ظالمة، وأداة الاستفهام هي كلمة "هل"، وعلامة الاستفهام هي "؟". وإذا بدأنا بتحليل أداة الاستفهام "هل"، فإنها أداة تحيل إلى نمط من الإشكالات المعرفية والفكرية التي تتطلب ليس إجابة واحدة ممكنة، بل إجابتين أو أكثر. ذلك، أن كلمة "هل" هي أداة استفهام تدفعني إلى الإجابة إما بالإيجاب أو السلب. بمعنى، إما تأكيد ما جاء في القضية كون الدولة عادلة أو نفي ذلك، أي اعتبارها ظالمة، بالرغم من أنه يمكن الذهاب نحو احتمال ثالث مفاده التأكيد والنفي في الأن نفسه؛ أي اعتبار الدولة عادلة في سياقات معينة، وظالمة في سياقات أخرى.

إن اعتبار الإشكال الفلسفي إشكالا معرفيا وفكريا يتطلب الإجابة عنه استحضار أجوبة احتمالية متعددة، يبين الفرق بينه وبين السؤال الفلسفي. فالسؤال الفلسفي لا يقتضي منا سوى إجابة واحدة ممكنة، إذ حينما نقول مثلا "ما الدولة؟"، فإن المبتغى هو تقديم تعريف جامع مانع للدولة، دون الخوض في بعض التفاصيل الإشكالية التي تنتج عن المفهوم ذاته، كأصلها وطبيعتها والغاية منها. بينما الإشكال الفلسفي فهو في صيغته التركيبية يقتضي منا إجابتين أو أكثر. ولذلك، نعتبر الإشكال الفلسفي من بين الأنماط التساؤلية الأكثر تعقيدا مقارنة مع السؤال الفلسفي والأسئلة اليومية المبتذلة، وإن كانت لها قيمتها وأهميته في حياة الإنسان والفكر.

جدير بالذكر، أن للإشكال الفلسفي سمات وخصائص يتسم بها، وإن كانت في بعضها شبيهة بما يتميز به السؤال الفلسفي. يتميز الإشكال الفلسفي بكونه قضية استفهامية تتطلب إجابات ممكنة، وليس إجابة واحدة فقط. وإذا كان كذلك، فإن تقديم إجابات ممكنة لإشكال فلسفي معين، لا يعني بأي حال من الأحوال، تداعي ذلك الإشكال وانهياره، بقدر ما أنه يبقى ممتدا في التاريخ الفكري للإنسانية، إذ يتم إحياؤه باستمرار (نتيجة أزمات معرفية وفكرية) لتقديم إجابات أخرى ممكنة، تتماشى والتحولات العلمية والفكرية لكل عصر أصابته أزمة في أسسه المعرفية والفكرية التي كان يقوم عليها. يتسم الإشكال الفلسفي كذلك، بكونه إشكالا له قصدية معرفية وفكرية ومنهجية، وهي قصدية مرتبطة بفهم الإنسان لذاته والعالم الذي يعيش فيه، وهو بذلك يستدعي من الباحث جهدا عقيلا وذهنيا. وإذا كان كذلك، فإن الإشكالات الفلسفية تتسم بسمة الكونية، إذ حينما نقول "هل الدولة عادلة أم ظالمة؟"، فإننا لا نقصد بذلك دولة بعينها، بقدر ما أننا نبحث عن الأسس النظرية التي تفسر لنا ما إذا كانت الدولة عادلة أم ظالمة، مع تقديم شروط تحقق كل سمة على حدة. وإذا كان الإشكال الفلسفي متسم بهذه السمات والخصائص، فما طبيعة الإشكالية؟ وما خصائصها؟

لا تحدد الإشكالية أو المشكلة في كونها قضية استفهامية، لاسيما، وأنها لا تكتب في صيغة استفهام، بقدر ما أننا نعتبرها «قضية معرفية أو فكرية»، كقولنا "مشكلة الدولة"، أو «مشكلة الجور»، "مشكلة الحرية".. إلخ. وبهذا المعنى، يمكن القول إن الأسئلة الفلسفية والإشكالات الفلسفية، يتم استنباطها من المشكلات المعرفية والفكرية. فإذا انطلقنا من مشكلة الدولة، فإنه يمكن تفريع هذه المشكلة بوصفها قضية معرفية وفكرية إلى أسئلة (ما الدولة؟) وإشكالات (هل الدولة عادلة أم ظالمة؟) فلسفية.

استنادا إلى ذلك، يمكن حصر السمات والخصائص التي تتميز بها المشكلة أو الإشكالية في العناصر التالية: أولا؛ ليست المشكلة قضية استفهامية، بل قضية معرفية وفكرية فقط. ثانيا؛ بما أن المشكلة أو الإشكالية قضية معرفية، فإنها لا تقتصر على إجابة واحدة أو إجابتين، بقدر ما أنها مفتوحة على كل الأفاق البحثية الممكنة. ثالثا؛ تتسم المشكلة أو الإشكالية بكونها ذات قصدية معرفية وفكرية تهم الإنسانية جمعاء. رابعا؛ كل مشكلة أو إشكالية إلا وتدفع الذات الباحثة نحو مجهود عقلي وذهني، بغية الكشف عن بعض الأجوبة الممكنة. خامسا؛ كل مشكلة أو إشكالية إلا وتتسم بالكونية، ما دامت رهينة ولصيقة بالإنسان.

***

د. لوكيلي عبد الحليم - أستاذ فلسفة

شهدت الساحة الأدبية على مر أزمنة مضت اتجاهات نقدية سعت إلى دراسة النصوص الأدبية وتناولتها من جوانب شتى، فارتبط النقد العربي في محطاته المتأخرة بالمنجز الغربي ونقل مناهجه وحاول تطويعها لتناسب الإبداع العربي، وقد مر النقد عبر هذه الأزمنة بالعديد من التحولات المنهجية بدءا بالنقد الانطباعي الذي عادة ما كان يلامس الشعر وبلاغته، مرورا بالمناهج الموضوعية التي جندت أدواتها الإجرائية وفق تصورات محددة لدراسة النصوص، كالمناهج السياقية/الحديثة (التاريخي، والاجتماعي، والنفسي) والتي تناولت دراسة النصوص و نقدها استنادا على مشيرات خارجية، ثم المناهج النسقية (الحداثية)التي اهتمت بالبحث داخل النص نفسه، فسعت البنيوية كنموذج لها إلى تأسيس مذهب نقدي يعتمد في شرعيته على منهج علمي تجريبي، وتبنت النموذج اللغوي كمدخل للمقاربة البنيوية للنصوص الأدبية، وحينما تأكد قصور النموذج اللغوي في تحقيق المعنى، واكتشف أنه يعجز عن تقديم نموذج عام للتطبيق على جميع النصوص بنفس القدرة، سقط المشروع البنيوي لتنبثق من عباءته مناهج ما بعد الحداثية، حيث انفتح النقد الأدبي على العديد من النظريات الجديدة من حيث الأسس والمبادئ، وانفتح أيضا على القارئ الذي همشته البنيوية/ الحداثية، فأصبح مصدرا إبداعيا لا متناهي القراءات وبالتالي الدلالات، وأصبح نقد ما بعد البنيوية يجسد مبادئ نقدية مستمدة من تراكمات فلسفية للفكر الإنساني، فجاء ثائرا متمردا على مقولات الفكر الحداثي الغربي، وأعلن في مرحلة نضج المنهج البنيوي على ظهور المنهج التفكيكي بآلياته المبتكرة في مجال تحليل النصوص، مسيطرا على السياقات النقدية، محاولا دمج الوعي المعاصر في عمليات توليد المعنى، وبالتالي تجدد هذا الأخير وتغيره المستمر نتيجة عدم استقرار الحركية الزمكانية لهذا الوعي. واستنادا على هذا التحول الدياكروني للمناهج النقدية، ارتأيت التوقف عند المنهج التفكيكي، ومعاينة الأسس والمبادئ الفلسفية التي قام عليها، والوقوف على جملة الآليات الإجرائية التي توسل بها.

- الأسس والمبادئ:

خلال القرن 17 أقامت التجريبية فلسفتها على إمكانية المعرفة اليقينية عن طريق الاعتماد على الحواس والثقة في المعرفة، والقول بتأسيس المعرفة على سلطة الحواس يعني الشك في سلطة اليقين، واستمرت التجريبية كمنهج لتحقيق المعرفة اليقينية إلى أن شككت الفلسفة الميثالية مع كانط في قدرة الخارج وحده على تحقيق تلك المعرفة، وأصبحت التجريبية موضع الشك قابله يقين قدرة العقل بمقولاته الميتافيزيقية[1] العليا، بعدها بدأت دورة جديدة للثنائية( الشك واليقين) ظهرت فيها البنيوية وازدهرت لفترة من الزمن في أحضان العلم والتجريب، وفي منتصف القرن الماضي (بعد الحرب العالمية الثانية)انعكست الثنائية من جديد وعاد الشك الفلسفي من جديد، ولكنه شك في كل شيء، وفي خضم هذه الثنائية، انبثقت التفكيكية[2].

فقد استمدت التفكيكية مفاهيمها وآلياتها الإجرائية من فلسفة الشك مع هايدغر هوسرل وفوكو وغيرهم، يقر جاك دريدا بأن المنطلق الأساسي الذي ألهمه في التنظير لتفكيكيته هي الأفكار الفلسفية الوجودية التي وضعها هايدغر، حيث تتجلى معالم هذا التأثر في القراءة التقويضية[3]، التي تنهجها التفكيكية في نقض النص، وهي استراتيجية مستوحاة من منهجيّة هايدغر ذاته، فهذا التأثر هو إقرار بأن أشدّ استراتيجيات دريدا أصالة في تحقيق تعليقه للمفاهيم وتعطيلها، نابعة من ممارسة هايدغر نفسه للنصوص، ويطلق على هذه الطريقة اسم وضع الكلمات تحت المحور ويعني عبور الكلمات من خلال النص، ثم تحذير القارئ بعد ذلك حتى لا يأخذ تلك الكلمات أو يقبلها بقيمتها السطحية الفلسفية[4].

يقول جاك دريدا:" إن ديني لهايدغر هو من الكبر، بحيث أنه سيصعب أن نقوم هنا بجرده، والتحدث عنه بمفردات تقييمية أو كمية، وأوجز المسألة بالقول إنه هو من قرع نواقيس نهاية الميتافيزيقا وعلمنا أن نسلك معها سلوكا استراتيجيا يقوم على التموضع داخل الظاهرة، وتوجبه ضربات متوالية لها من الداخل"[5]، ويقول أيضا: "أما بالنسبة لنقد هايدغر فهذا ما كنت أقوم به في الواقع منذ البداية. وفي جوانب كثيرة من عمله، وجدته ما يزال حبيس الرؤية الميتافيزيقية"[6] وهذا اعتراف من دريدا باستفادته من هايدغرا[7]، خاصة استخدامه للمفهوم الهادغري "التدمير" والذي استعمله في مناحي عدة بمعنى التفكيك فقد دافع هايدغر في كتابه الكينونة والزمن الذي ترجم إلى الإنجليزية(1962) أي قبل ظهور المفهوم عند دريدا ب4 سنوات ، إلى فكرة تدمير تاريخ المعرفة أو بمعنى أصح الثورة على التاريخ والتقاليد لكنه ليس تدميرا بالمعنى الحرفي له، لكن المعنى هنا هو إعادة كتابته[8]، وهنا يظهر مدى تماهي المرجعيتين وتأثر دريدا بهايدغر والذي نجم بطبيعة الحال عن واقع المثاقفة.

إنّ هذا التقارب بين تفكيكية جاك دريدا و باقي الفلسفات؛ هو الذي يزيد التفكيكية غموضا في الساحة النقدية، ويدفع النقاد إلى تتبع مرجعياتها الفلسفية من أجل فهمها والتمكن من تمثل آلياتها في مقاربة مختلف النصوص، ذلك أنّ التفكيكية كاستراتيجية لقراءة النصوص وتقويضها، تقوم على نهج قراءة تقويضية تكشف بها عن التناقض الذي يحيط بدلالة النص، فهذه القراءة تحفز الشك في اليقينيات النصية، ثم تعتمد بعد ذلك على "أسلوب تحليلي واستراتيجية نصية قائمة على التعامل مع النص باعتباره نشاطا لغويا متعدد الطبقات، ويقوم الناقد التفكيكي باختراق الكلمات في سياقها النصي قبل أن يقبل الدلالات المرافقة وليس باعتبارها مسلمات فلسفية أو عقلية، إن منهجية دريدا قائمة على تحرير اللغة من دلالتها المقيّدة بقواعد النحو ووضعها في إطار تحليلي من الفكر والرؤية الشعرية"[9]

لقد ساهمت فلسفة هوسرل أيضا في بلورة الآليات المعتمدة في التفكيكية، فقد حاول دريدا عبر الخلفيات الفكرية لهوسرل أن يبين الكيفية التي يتصور بها فعل الدلالة المنبثق عن الصوت/ العبارة، ذلك أن العبارة إذا كانت إخراجا للمعنى فإن هذا الإخراج موجود أصلا فيها، والخارج هنا لا علاقة له بأي شيء موجود بعيدا عن الوعي، فهو مدلول يخرج من نفسه ويقع على العبارة نفسها، ويشبه ذلك "التلقي الضمني الذي يفترض وجوده بالضرورة في أي خطاب ذاتي، على أن صوت الذات هو عبارة الخطاب بحد ذاتها، لأنها إرادة قاصدة تهب للمعنى بعده الروحاني حسب تعبير هوسرل"[10].

- آليات الاشتغال:

التفكيكية هي امتداد لنظريات التلقي(نقد ما بعد الحداثة)، حيث ركزت على سلطة القارئ في قراءة النص وتأويل معناه ، على عكس المناهج البنيوية التي اكتفت بسلطة اللغة عند مقاربة النص مقاربة محايثة[11]، وبذلك فالتفكيكية في تركيزها على القارئ، لم تخرج عما قدمته نظريات التلقي في مرحلة نقد ما بعد البنيوية؛ فهي منحت للقارئ دورا في توليد دلالة النص باستمرار، وهو ما يجعل المعنى متجددا ومختلفا من قراءة لأخرى، ومن سياق لآخر، فالتفكيكية " دراسة حتمية لنظريات التلقيreception theory، والنقد قائم على استجابة القارئ، ولن ندخل هنا في مجال التفرقة بين المسميين أو أيهما يتسع للآخر، إن أهم محاور التفكيك يرتكز على الأهمية الجديدة التي يكتسبها القارئ والدور الأساسي الذي يلعبه في تفسير النص"[12].

فالتفكيكية إذن تعيد بعث مكانة القارئ في النقد الأدبي، بعدما همشته المناهج النقدية الحداثية، إذ شجعت التفكيكية القارئ على ممارسة فعل القراءة المتجددة للنص، بحيث لا يقتصر دوره على قراءة النص، واكتشاف معانيه، بل صار دوره قائما على إعادة بناء معان جديدة للنص، تكون قابلة للتغير مع كل قراءة جديدة، وتتغير بتغير سياق القراءة من فترة إلى أخرى ، فهي ترفض أن يبقى النص محافظا على تماسكه البنائي وفق نظام معين، لذلك فهي تسعى إلى خلق الفوضى في النص من خلال إشاعة مبدأي الشك والنقض اللذين تتميز بهما، وهو ما يجعل التفكيكية نظرية للهدم والتشتيت والتقويض.

واستطاعت التفكيكية بآليتها النقدية الثائرة على مبادئ النقد البنيوي أن تقلب موازين النص وتخلخل قواعده المنطقية، ليصبح في حالة من اللااستقرار واللاثبات، فالتفكيكية كما يشبهها عبد العزيز حمودة(1998) في تعاملها مع النص الأدبي "كالثور الهائج أطلقه عصر الشك الشامل من مربطه يحطم كل شيء، فلا شيء معتمد ولا شيء موثوق ولا شيء مقدّس"[13].

أ- التفكيك:

هو تعبير لاتيني استخدمه دريدا للدلالة على نوع من القراءة تشتغل من داخل النص الفلسفي أو الأدبي من أجل زعزعة بنائه القائم على الثنائيات المتضادة" الخير والشر، اللسان والكتابة، الدال والمدلول المحسوس والمعقول، التعاقب والتزامن، والسكون والحركة...، وبيان أن هذه الثنايات ترتبط فيما بينها على علاقة التجاذب وهو ما يلغي مركزية أحدها وهامشية الآخر، ويضع الطرفين في موضع حاجة كل منهما إلى الآخر، فالصوت في حاجة إلى الصمت مثلا والعكس بالعكس[14].

إن مصطلح التفكيك في أساسه الأول يعمل على الهدم والتفريق والتناثر، أما من حيث دلالته فهو يقوم بخلخلة وفك شفرة النصوص والخطابات لمعرفة خباياها المختلفة، وفك تلك الارتباطات الموجودة في اللغة وكل ما يقع خارجها.

فالتفكيكية حسب جاك دريدا ليست تحليلا ولا نقدا ولا منهجا[15] ، بل هي استراتيجية في قراءة الخطابات من خلال التموضع داخلها وتقويضها من الداخل من خلال توجيه بعض الأسئلة وطرحها عليها من الداخل، بنيت على رفض الفلسفات الميتافيزيقية الغربية باعتبارها أيديولوجيات عرقية ذات تصور ذهني قائم على الثنائيات (الخير والشر، الحضور والغياب، الواقع والحلم...)

فالتفكيك يهدف إلى استنطاق النص والكشف عن الحقيقة الخفية داخله والمتناقضة مع المعنى الظاهر.

ب- الاختلاف:

سعى النقاد إلى فهم وترجمة خصوصية هذا المصطلح؛ الذي يظهر تفرده في طريقة كتابة كلمة الاختلاف Différanceوهو تميز يراه دريدا حكرا على المصطلح ذاته، يقول: "أعتقد أن قلقك حول ترجمة هذه المفردة يتّجه إلى صميم المشكل، فهي ليست غير قابلة للترجمة إلى العربية فحسب، وإنما حتى الإنجليزية وسواها من اللغات وحتى إلى الفرنسية بمعنى ما، من حيث إنّها تتعارض مع الكلمات المتجذرة من الميراث اللاتيني كما أنّها في اقتصادها نفسه غير قابلة للإبدال بمفردة أخرى"[16].

استمد مصطلح الاختلاف Différance ميزته الفريدة من تركيبته اللغوية التي خالف بها جاك دريدا Différence ، وهو تمايز يبدو واضحا بين الأحرف ance و ence ، في حين أن مفهوم الاختلاف يتحدد عنده كشيء ديناميكي لا يرتبط في اختلافه بالأشياء الأخرى المقابلة له، فهو اختلاف منبعث من دلالة الشيء ذاته أي بين الشيء الأصل، ومثال ذلك "سافر= انتقل شخص من مكان إلى آخر" وفقا لمعناها فإنها ستفتح المجال لتكون هنالك قراءات متعددة تعطي معنى مختلفا، لكنه لا يخرج عن دائرة مدلول الانتقال من مكان لآخر مثل: الهجرة، الرحلة، المغادرة، الغربة، الارتحال، الحرقة، وهي كلها ألفاظ تحمل معنى الانتقال بألفاظ مختلفة ومتعددة، دون أن تكون هذه الألفاظ ذات علاقة ضدية مع المعنى الأول، حيث يري دريدا "بمحاكاة ديالكتيكية[17] نوعا ما، أن الأصلي لا يكون أصليا إلا بالاستناد إلى النسخة التالية له، التي يسود الزعم أنها تأتي لتنسخه وتكرره، ضامنة له بذلك حيازة تسمية الأصلي أو الأصل، لا يكون الأول أولا إلا بالاستناد، استنادا مؤسسا، أي يقيم في جوهر الأول نفسه بما هو أول نقول الاستناد إلى الثاني الذي يدعم ذلك الأول في أوليته"[18].

يؤسس دريدا من خلال الاختلاف مقولته حول الحضور والغياب، ويرى دريدا أن مفهوم الاختلاف مرتكز من المرتكزات الأساسية للمنهجية التفكيكية ...، فيشرح مفهوم الاختلاف في إطار كلامه عن الصوت والظاهرة الفينومينولوجيا[19] لدى هايدغر اعتماد على حالتي التعارض والتكامل التي تحصل بينهما، بحيث لا يمكن لكل منهما الاستغناء عن الأخر، فالصوت باعتباره يمثل الحضور الذاتي للمتكلم في حاجة إلى نقيضه أي الصمت، وهذا إشارة إلى ضرورة الغياب لتأكيد حضور الذات، فالذات بحاجة لإثبات حضورها بوجود غيابها أيضا، وبالتالي فهي تعيش في حالة اختلاف دائم عن نفسها كلما أرادت أن تثبت حضورها[20].

ج- الحضور والغياب:

من بين أهم المرتكزات في مشروع دريدا التفكيكي نجد ثنائية الحضور والغياب، فالعملية النقدية للتفكيك تعمل من أجل حضور الدوال التي تكون حاضرة في اللغة، وقد رأى دريدا أن الحضور بشكل عام يتشكل داخل الميتافيزيقا، أي "وجود سلطة أو مركز خارجي يعطي الكلمات والكتابات و الأفكار والأنساق معناها ويؤسس مصداقيتها، حيث إنّ اللغة خارج النص الأدبي أو داخله تكتسب مصداقيتها من إحالتها إلى المركز أو تلك السلطة الخارجية"[21].

تسعى التفكيكية إلى خلخلة النص تقويضه، حتى يكون النص هشا، ويصبح معناه متحررا، فتزول قصدية دلالته لتحمل معنى مختلفا ومتجددا من قراءة لأخرى، استنادا لتحرير الدوال من المركز الخارجي الذي تقوم عليه، الذي يتجسد عبره مبدأ الحضور والغياب، ويتم ذلك عبر الشك "في وجود مركز، أي مركز مرجعي خارجي يعطي الأشياء شرعيتها ويمكن اللغة من الدلالة وبدلا من التقاليد التي يجب أن تدمر بعد أن حجبت الكينونة والنظام الخارجي الذي لم يعد له وجود في ظل غيبية المركز القادر على تثبيت الأشياء تؤكد استراتيجية التفكيك استحالة الحضور، فحضور ذلك المركز المحوري الخارجي داخل النص أو اللغة يرتبط دائما بالغياب، وتصبح المراوغة indeterminacy والغموض ambigüité والانتشار

Dissémination والبينصية ولا نهائية الدلالة هي أبرز سمات النص"[22].

فالتفكيكية بذلك تقوم على فصل النص عن كل قوة خارجية فيصبح النص متحررا، وبالتالي تصبح العلامة اللغوية مشتتة، ومعناه متعددا، لأنه يغيب ويحضر من قراءة إلى أخرى، فالدوال تحمل مدلولات تتعدد تبعا لمبدأ الاختلاف، فيحضر معنى ويغيب آخر.

د- المعنى اللانهائي:

يعطي جاك دريدا أولوية للمدلول على حساب الدال، أي الأسبقية للضمني على الظاهر، لأنه يرى أن الدال سطحي ووهمي، بينما الحقيقة تختفي خلف المدلولات.

لقد أقر جاك دريدا أن النص يحمل معنى لا متناهيا، حيث يحتمل قراءات متعددة، فكل قراءة فيه تولد معنى جديدا يختلف عن السابق، دون أن يكون هنالك ثبات في المعنى، حيث "إنّ التغيير الجوهري الذي طرأ على نظرة ما بعد البنيوية إلى اللغة، يتضح في التّعديل الذي حدث للعلاقة بين طرفي العلامة وهما الدال والمدلول واللذان يمثلان معا وحدة العلامة اللغوية، وهو التغيير يتمثل في بعد المسافة بين الدال ومدلوله أو في ضعف العلاقة بينهما... وتتسع مساحة الشك / الفجوة حتى تختفي العلاقة بين الدال ومدلوله ولا تبقى في النهاية إلا الفجوة بين الاثنين، الفجوة التي يتحقّق فيها اللعب الحر للمدلولات، وتتحقق لا نهائية الدلالة أو المعنى، وحيث تصبح كل قراءة إساءة قراءة[23].

إن النص عند دريدا غير ثابت على قراءة واحدة، وبذلك فهو لا يستقر على معنى واحد، بل هو يعيش في حالة من التشتت نتيجة تجدّد القراءات، وتجدّد المعاني بالنسبة للنص الواحد، أو القارئ الواحد من سياق لآخر، وهذا الوضع يتشكل عندما تقوم التفكيكية بهدم مركز النص، وعزله عن السياقات الخارجية التي تتحكم في معناه، وعليه يكون النص متحررا من الضوابط والقوانين المركزية، فلا تصبح علامته اللغوية مقيّدة ومغلقة، بل تصير منفتحة ومتحرّرة، حتى تكتسب دلالات متعددة ولانهائية[24].

فالتفكيكية إذن تقوم في المرة الأولى بالتشكيك في اليقينيات المنطقية، التي يتمثلها الفكر الغربي، ثم تقوم بخلخلة النص عبر البحث في بنيته المضطربة، ثم بعد ذلك تقوض دلالة النص من خلال تبيان التناقض القائم بين المعنى الظاهر والمعنى المضمر، حيث يمثل المعنى المضمر من منظور التفكيكية المعنى الحقيقي للنص.

***

غزلان زينون

..............................

قائمة المراجع

نوريس كريستوفر (1989) التفكيكية النظرية والممارسة، ترجمة صبري محمد حسن، دار المريخ للنشر، الرياض.

لحميداني حميد (2014) الفكر النقدي الأدبي المعاصر مناهج ونظريات ومواقف، مطبعة أنفو، فاس، الطبعة 3.

حمودة عبد العزيز (1998) المرايا المحدبة، من البنيوية إلى التفكيك، دار المعرفة.

جاك دريدا (2000) الكتابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهاد، تقديم محمد علال سيناصر، دار توبقال للنشر، الطبعة 2.

عطية أحمد عبد الحليم (2010) جاك دريدا والتفكيك، دار الفارابي، بيروت، الطبعة 1.

هوامش

[1] - الميتافيزيقا" أو ما وراء الطبيعة، من الأطروحات الفلسفية التي تسعى إلى تفسير الأمور الغيبية التي لا نستطيع إخضاعها للتجارب العلمية، كانت تسمى عند الفلاسفة اليونان بالفلسفة الأولى

[2] - حمودة عبد العزيز،1998، المرايا المحدبة، ص 260

[3] - التقويض: نقض المبادئ والقيم المعروفة في العرف القائم، لمحاولة تغيير نظام سلطوي مترسخ في هذا العرف.

[4] - نوريس كريستوفر، 1989، التفكيكية النظرية والممارسة، ترجمة صبري محمد حسن، ص 152

[5] - جاك دريدا،2000، الكتابة والاختلاف، ص 47

[6] - جاك دريدا،2000، الكتابة والاختلاف، ص 47

[7] - جاك دريدا،2000، الكتابة والاختلاف، ص 47

[8] - حمودة عبد العزيز،1998، المرايا المحدبة، ص 146

[9] - عطية أحمد عبد الحليم 2010، جاك دريدا والتفكيك، ص 117

[10] - لحميداني حميد،2014، الفكر النقدي الأدبي المعاصر، ص 194

[11] - المحايثة تعني دراسة النص في ذاته بعيدا عن كل سياق خارجي.

[12] - حمودة عبد العزيز، 1998، المرايا المحدبة، ص 274

[13] - حمودة عبد العزيز، 1998، المرايا المحدبة، ص 270

[14] - لحميداني حميد، 2014، الفكر النقدي الأدبي المعاصر، ص 205

[15] - جاك دريدا، 2000، الكتابة والاختلاف، ص 60- 61

[16] - جاك دريدا، 2000، الكتابة والاختلاف، ص 53

[17] - ديالكتيكية: الجدل والمحاورة

[18] جاك دريدا، 2000، الكتابة والاختلاف، ص 30

[19] - الفينومينولوجيا أو الظاهراتية: رائدها هوسرل، هي الدراسة العلمية للوعي بالظواهر أو أشياء العالم الخارجي في الوعي، وطريقة إدراكه لها، وكيفية حضور الظواهر في خبرته، غير أن الفينومينولوجيا لا تعني علم النفس الذي يدرس الحالات العصبية والسلوكية للمخ البشري ، بل بإدراك الوعي للموضوعات من أجل الوصول إلى معرفة يقينية وموضوعية حوله.

[20] - الحميداني حميد، الفكر النقدي المعاصر، 207- 208

[21]- حمودة عبد العزيز، 1998، المرايا المحدبة، ص 330

[22] - حمودة عبد العزيز، 1998، المرايا المحدبة، ص 331

[23] - حمودة عبد العزيز، 1998، المرايا المحدبة، ص 303- 304

[24] - حمودة عبد العزيز، 1998، المرايا المحدبة، ص 336- 337- 338

 

أول خداع عرفه الإنسان هو في مرحلة الطفولة – مرحلة المرآة حينما يرى الطفل ذو الستة أشهر - الثمانية عشر شهرًا من عمره صورته أمام المرآة. وجد علماء النفس أن قوة الصورة نفسها كشكل نهائي محمل بالمعنى، قادر على الحفاظ على هوية الطفل، لقد أراد بالأساس أن يتتبع آثار الخيالي في تكوين الأنا والجسد والعلاقة مع الشبيه المرآوي، لكن قدم " جاك لاكان " مفهوم " الآخر"، وجاءت مرحلة المرآة لتشير كيفية عمل الدور التأسيسي لنظرة الآخر في تشكيل الجهاز العقلي للذات، وبعد ذلك أتخذ لاكان المرآة بمثابة استعارة لنظرة الآخر "" جاك لاكان، اعداد هبة صبري، مرحلة المرآة ".          نحن من نحدد ما نريد قبوله، أو رفضه، فهو فينا ونحن مسؤولين عن تكوينه، نخادع أنفسنا بأن ذلك مقبول، وذلك غير مقبول، أو أن يتخيل أحدٌ اشخاصًا آخرين ما هي صفاتهم أو من يكونون، يعني من ثم ما يتخيله هو عن نفسه عما هي صفاته، أو من يكون هو وذلك عند التواصل والتفاعل " كما ذكره أدريان جونستون في فلسفته عن لاكان، في موقع حكمة"، أو حينما ندخله في مدورة الشريعه والحلال والحرام فيبدو الفقه فيه من دواخل أنفسنا وإن أختلفنا فيه، ومنه يكون الافتاء لما تدلنا عليه نفسنا، النفس آمارة بالسوء، في قلوبهم مرض، فزادهم الله مرضا " هذه نصوص قرآنية" وغيرها في النصوص الدينية الآخرى في تعاليم السيد المسيح، أو في العهد القديم، هي النفس في تأويل النص، في رفضه أو قبوله.. وهو خداع للنفس لنفسها في حالة قبول ما تشتهي وتريد، وليست ما هي الحقيقة، نأول النص، أو الفكرة، أو حتى الكلمة لنقبلها وإن خدعنا أنفسنا.

نتساءل: أليس هذا خداع في النفس، ومن النفس، وإلى النفس.. حتى يصبح واقع؟

هذا جزء يسير من خداع النفس فما بالك في فكرة القتل المشروع، والتعذيب المشروع، واغتصاب المرأة المشروع، والعنف الموجه لأقلية ما بحجة تفسير الفقيه، أو المفتي – من يقوم بإطلاق الفتاوى، فما بالك وهو إنسان يفتي بما تحمله نفسه من حقد دفين على نفسه ضد من حمله هذا الحقد: سلطان الأب، سلطان الأم، سلطان الأخ الكبير، سلطان القيم السائدة " الجانب الرمزي " عند جاك لاكان بما يمثله القانون، المجتمع.. الخ، فَتكونَ وأصبح بنية تشكل شخصية أي منا مستندًا إلى أعظم ما يتميز به الإنسان هو التخييل.

لا نستثني أي مخلوق من البشر من الخيال – التخييل لأنه غذاء النفس في اغناء فكره ما، أو فعل سيتحقق، فالخديعه، خديعة النفس لنفسها، وجودنا خدعة نتعايش معها ونقتنع بها، ونحاول أن نخدع الأخر مهما كان قربه منا الزوجة، الأبن، الأبنة، القريب الطيب، إلى أن تخرج هذه الخدعة إلى المجتمع الأوسع في المدرسة، في المهنة، في العلاقات بين الناس، ويصاحب كل خدعة تخييل نفسي، يكون محترف أحيانًا، ويحمل بين طياته تمثل " والتمثل في التحليل النفسي هو تصور أو مجموعة التصورات التي تثبت الرغبة خلال تاريخ الشخص كما تقول الدكتورة نيفين زيور ".

فالخدعة على النفس هي أفتقار، والأفتقار هو الذي يولد الرغبة، لإن الإنسان دائمًا يسعى وراء ما لا يستطيع امتلاكه بالكامل كما يقول " لاكان"، فخداع النفس هو تخييل واعي وبنفس الوقت لاواعي – لاشعوري، وهو الطريقة التي يحاول بها الإنسان تنظيم رغباته في مواجهة نقصه، وهو ما يشكل جزءًا أساسيًا من هويته النفسية كما عبر عنه " جاك لاكان".

الخداع قناعة الإنسان بما ينتجه فكره من خيالات

خداع النفس يمكننا القول بأنه مطاردة الإحساس بالتمزق ومحاولة الإمساك به، حينما تجد النفس نفسها في مواجهة رغباتها غير المقبولة ولا تستطيع المواجهة لهذه الرغبات فتدنو نحو القبول لأنها هي أساسًا مرحلة من العجز والتكامل أو بمعنى أدق الهدم والبناء. فتظهر الاضطرابات النفسية وما أكثرها، إبتداءً من القلق السوي ثم القلق المرضي حتى تقع في حضن الاضطراب النفسي بأسره " توهم المرض أو الوساوس، أو المخاوف المرضية – الفوبيا – أو الاضطرابات النفسجسمية ومنها البهاق أو قرحة المعدة أو الثعلبة، أو القولون العصبي وغيرها، وبرانويا العظمة بكل دقتها وتفاصيلها لأن المعرفة البرانوية تكتسب من خلال علاقتها الخيالية بالآخر كخطأ بدائي في التعرف على الهوية، أو اعتراف ذاتي وهمي بالاستقلالية والسطرة والقدرة مما يؤدي إلى القلق الاضطهادي والاغتراب الذاتي " كما دونه لاكان في مرحلة المرآة.

أننا محمين بعصابنا " امراضنا النفسية " لأنها تدرء عنا الوقوع في عالم الذهان " المرض العقلي من الفصام بهلوساته، وضلالاته، وتخيلاته.. الخ، أما البرانويا بشقيها العظمة والاضطهاد فهي منبع التخييلات وأنواع الخداع النفسي وبالأخص في برانويا العظمة، " لا نقول أن خداعنا لإنفسنا يحمينا بقدر ما هو سور ينهار في أية لحظة، أو هو حصن لا يقينا من مضاعفات نتائجه، وأقلها الاضطرابات بنوعيها النفسسية والعقلية.. ولا ننسى كيف تلعب آليات – ميكانيزمات الدفاع في عملية خداع النفس لغرض تطمينها ولو لحين من القدرة على المواجهة، والامر ذاته عند بعض النظريات المعرفية في معرفة أساليب التعامل الشعورية مع مواجهة ضغوط الحياة الخارجية وتأثرها في النفس، إذا ما كانت النفس تحمل في طياتها الإستعداد – التهيؤ للمرض.

خداع النفس هو القوة المرتكزة على العجر أذا صح تعبيرنا عنه، وهو في الآن نفسه يتحدث عندئذ بما يلي هل أحب أمي، أم أمقتها " إنموذج الاكتئاب بشقيه النفسي والعقلي " وهو الامر نفسه عند الفصامي ولكن بنقيضه، أكرهها لأنها كانت ترضعني سم، ولو تناولنا الحالتين لوجدنا التساؤل التالي: إنها تفرض علي ما تعتقده خيرًا لي !!؟؟ ولكني أخدع نفسي برفضه، أو قبوله بمضض لما قَدمتهُ لي حتى ولو كان ذلك لا يناسب ما أرغبه بأي وجه من الوجوه، وماذا عن ما تحمله نفسي من بنية – بناء تشكلت من داخلي، رغم ان أمي على يقين إنها تفرض عليَّ اخلاصها، وتفرض عليَّ مساعدتها، وأنا ملزم بأن أتحمل كل شيء تحت طائلة اللوم والغضب أو الاصرار على فعل مغاير لما ترغب هيَّ، فلو أني حاولت أن أُفَهمها بأن لذوقي أهمية أيضًا لما خدعت نفسي وخدعتها، ولكني لا أملك هذا القرار لأنني طفل لم أبلغ بعد القدرة على القرار بقبوله، أو رفضه، وهذا ما يتعبني إلى أقصى حد في البلوغ.

 هي الأسرة – الأم، الأب، الأخ الكبير، أو من ينوب عنهم، أما تصنع منك إنسانًا أو كومة عقد. لا نبخس حق من يكون الأب المثالي، أو الأب الواقعي، أو الأب الرمزي في تشكيل بنيتنا السوية إن وجدت، أو القريبة للسواء النفسي وهو التمني على الأقل.

يقودنا الخداع النفسي " أقصد خداع النفس بنفسها " قول الطفل عند " لاكان " في مرحلة المرآة: أنا أصف وأَشكل نفسي بالطريقة التي يصفني بها الآخرون، هكذا أتشكل أمام عيني – أرى نفسي – بالطريقة التي أفترض أن الآخر يراني بها.

وقاد هذا إلى مشكلة العصر وهي الحرية الجنسية عند البعض بعد أن توحد بها – تماهى معها – تعين فيها تعيينًا نفسيًا، أو تقمص من شَكلَ له هذا الخلل النفسي – الجسمي – الجنسي وقول " سيجموند فرويد " مؤسس التحليل النفسي في كتابه ثلاث مقالات في نظرية الجنسية، ص 37، أن أنطباعًا فعالا مبكرًا قد ترك أثرًا باقيًا في صورة ميل جنسي مثلي. وقوله أيضًا.. وأنه لدى كثير غيرهم، يمكن تحديد ظروف خارجية من ظروف الحياة كان لها تأثير معطل، أدت عاجلا أو آجلا إلى تثبيت الانحراف.

خداع النفس في قبول الشيء ونقيضه معًا هي أنه لا يخلص الفرد لنفسه في ما يراه، أنه تَكونْ في شخصية أميل فيها إلى انحرافها عن المعيار السائد بين الصحة والمرض، رغم أن معرفتنا ترى أن الصحة النفسية هي جماع بين التكيف والتطور، وبين التقبل والرفض، وبعبارة أخرى الجمع بين الأضداد في إطار واحد " كما عبر عنه محمد شعلان". ويمكننا القول بأنه مصاب بهوس إجبار الآخرين بهدوء على قبول كل شيء يفعلوه وحدهم تمامًا، ولديه الإحساس بأن الغير عاجز تماما عن أن يفعل شيء ناجح، فضلا عن أن الشخص الذي يخدع نفسه يشعر بالحاجة إلى كسب الاعتراف بالجميل الذي يعزز أمنه الداخلي، ولم ولن يجده إطلاقًا، لأن كل العملية هي خداع.. خداع للنفس.. ولنا جولة أخرى كيف يؤثر التخييل في تكوين سلوك خداع النفس وما الآليات التي يستخدمها.

***

د. اسعد الامارة

الزمان الفيزيائي: لا يوجد زمان نفسي وزمان علمي او زمان طبيعي او زمان تاريخي او زمان فيزيائي وهكذا، وانما يوجد زمان افتراضي واحد هو الزمن الوجودي فقط. والزمان بالمنظور الفلسفي المجرد من الإدراك ماهويا يقاس بدلالة مقدار حركة موجوداته داخله و يمكننا تّمثله بمنحيين جوهريين:

- زمان أرضي كتحقيب توقيتي وزماني معا يشمل الماضي كتاريخ ناجز والحاضر والمستقبل كتحقيبين تصنيعيين بإرادة ذاتية تدرك زمن موجودات الطبيعة فيه بدلالة حركة الاجسام داخله.

- الزمان كمطلق كوني لامتناهي أزلي لا يمكن إدراك لامتناهيه بمحدودية مستحيلة على الصعيد الفلسفي خارج مدركات العقل له، وتبقى نسبية ومطلق الزمان الكوني من إختصاص قوانين علوم الفيزياء خارج الفهم الفلسفي المجرد بعيدا عن التجربة العلمية..

حين نقول الزمان هو تحقيب على صعيد موجودات الطبيعة وحركة كوكب الارض حول نفسها وحول الشمس، هنا يتحول مفهوم الزمان من مطلق لانهائي أزلي غير محدود لا بالصفات المجردة ولا بالجوهر الماهوي له الى تحقيب زمني أرضي (وقت) ندركه بدلالة حركة الموجودات التي يحتويها، فالزمان الارضي يدرك بدلالة ملازمته إدراكنا المكان ثابتا ومتحركا أوضمن حالة من سيرورة انتقالية دائمة في حركة الاشياء. يلاحظ اننا نستعمل لفظة الزمان هي المردف لكلمة وقت، وهو استعمال خاطيء. فالوقت هو غير الزمن.

الزمان الارضي المنقسم إفتراضيا الى ماض وحاضر ومستقبل يكون على مستوى تحقيب زماني لتاريخ يدرك بمحدودية وقت وقائعه، ويكون الزمان الارضي توقيتا تتوزعه الثانية فالدقيقة والساعة واليوم والاسبوع والشهر والسنة وصولا الى الفصول الاربعة، فهذه القطوعات الزمنية الافتراضية الوهمية من حيث أن الزمن واحد لا يمكن تجزئته فهو وحدة واحدة من المجانسة الماهوية التي يتصف بها الزمن ولا يدركها الانسان كتجريد منفصل عن المكان.، وهذه القطوعات الزمنية نعرفها بدلالة قوانين الفيزياء التي تنّظم حركة الارض حول نفسها وحول الشمس، وعلاقة تلك الحركة بحركة الجاذبية الارضية والجاذبية الكوكبية الكونية حول مركز الشمس والجاذبية المتعالقة بين الكواكب في السديم الفضائي الكوني.

ونلاحظ هذه العلاقة ازدواجية الزمن تحقيبا تاريخيا وتوقيتا ارضيا من جهة وكونيا من جهة اخرى يمكننا بها تفريق الزمان أن يكون تحقيبا لتاريخ ندركه بدلالة وقائعه الثابتة في الماضي ليصبح توقيتا لزمان دائب الحركة التغييرية حاضرا ومستقبلا.

الماضي زمان إفتراضي نسبي بدلالة تغيرات الحاضر وتصنيع المستقبل لنفسه ذاتيا على حساب معطيات الحاضر المتحركة المتغيرة على الدوام. ونسبي ايضا لأننا ما زلنا لا نستطيع الجزم القاطع أننا أصبحنا نعرف كل شيء عن الماضي لسببين: الاول لم يعد كل شيء يخص الماضي دراسة علمية تاريخية متاحا امام المؤرخين في اكتشافاتهم الاركيولوجية الاثارية وفي اللقى والعثور على بعض الكتابات التدوينية كافية توصلهم لحقائق يقينية موثوقة عن الماضي كتحقيب تاريخي.

والسبب الثاني انه في محاولتنا إستذكار الماضي كتحقيب وقائعي تاريخي تكون الذاكرة قد نالت منها آفة النسيان كثيرا من جهة، وتداخل الاستذكار مع منتج المخيلة الخيال الذي لا يعتد الاخذ به كونه امتلاء من الاساطير والخرافات وحكايات السحر والاكاذيب وهكذا.

برجسون والزمان الفلسفي

برجسون وعلى لسان باشلار يعتمد ربط الزمان – اود التنبيه انني استعمل كلمة الزمان كما يفهمه غيري وليس بما افهمه انا انه خرافة متراكمة الاستعمال-  بإعتباره قرينة نفسية معرفية يحدّها سلوك عاطفي وجداني وإنفعالي يحتويه الشعور واللاشعور على السواء حسب المفهوم الكلاسيكي لعلم النفس الفرويدي. والنفس بفلسفة برجسون ليست هي النفس التي أشرنا قبل اسطرالى صفاتها بضوء قوانين الفيزياء ومفهوم علم النفس الحديث. الذي يشتمل إدراكها إفصاحا سلوكيا خاصا بالانسان وحده كنوع يمارس سلوكه المنفرد في الحياة ضمن محددات قوانين مجتمعية.

تجريد النفس من خواصها الفيزيائية الواقعية كسلوك متعدد التمظهرات الحياتية، ومن الغرائز المنسوبة لها والاحاسيس الداخلية المعبّرة عنها، يعمد برجسون إخراجها من هذا الحّيز المعرفي الكلاسيكي، ليجعل منها ظاهرة (زمانية) لا علاقة لها بسلوك يحتويه مجتمع، ولا علاقة لها بتوكيد إثبات ذاتي في إدراك موجودات الطبيعة ودلالات الزمن في قوانين فيزيائية بعضها من إختراع الانسان إعتمادا على القوانين الطبيعية الفيزيائية التي تحكم الفضاء الكوني من ضمنه فضاء الطبيعة.

 جاستون باشلار في تماهيه مع برجسون يجد " في علم النفس البرجسوني – حسب تعبيره -  يفسح الزمان الممتليء، العميق، المتواصل، الغني، ليكون (مكانا) للجوهر الروحي، وفي كل الظروف لا تستطيع النفس الانفصال عن الزمان "1

يلاحظ في العبارات السابقة إنتقالات اللغة في تحولات بلا معنى متماسك، إن النفس بفعل ملازمتها الزمان المطلق الذي هو في حقيقته (الجوهر) الازلي اللامتناهي غير المدرك، والذي يعتبره برجسون (الروح) ليس بدلالة ميتافيزيقية،بل هو الروحي حين يتحول من زمان نفسي الى موجود مكاني مدرك وجودا حسب تعبير برجسون.

في هذا المعنى الإعتسافي يصبح أمامنا تحصيل حاصل تجريد النفس المزامن غير المفارق لتجريد الزمان عن النفس المشترك المتعاشق معها إدراكيا، لتكون النفس جوهرا روحيا متعاليا (لمكان) إدراكي نفسي مصدر كل الصفات الخيرية الايجابية في الإفصاح عن نفسها سلوكيا.

ثمة عدة تساؤلات تبقى عالقة لا نجد لها تفسيرا بضوء هذه الترابطات الإعتسافية والإنتقالات من معنى الى تفسير لاحق له بلا معنى ندرج بعضها:

- كيف يتحوّل الزمان النفسي الى روح مدرك (مكانا) حسب تعبير برجسون؟، في حين كل الدلائل الموثوقة تثبت أن النفس والروح ليستا لفظتين تعبران عن معنى دلالي واحد ولا فرق بينهما في الاستعمال السردي المنطقي الفلسفي.

وكلاهما النفس والروح جوهران تجريديان لاماديان يختلفان في الافصاح التعبيري عن مكنوناتهما في مفارقة إنفرادية أحداهما عن الآخرفي العديد من الإختلافات أبسطها النفس منتج نفسي- عقلي والروح مفهوم ميتافيزيقي لا تدرك ملامحه ولا ماهيته ولا جوهره ولا صفاته. الروح مفهوم ميتافيزيقي وليس مصطلحا متفقا عليه.

- الروحي الذي يقصده برجسون هوالزمان النفسي الذي يتعالى على كل مدرك سلوكي مادي أو لا مادي . برجسون يعتبر الروحي هو مدرك الزمان النفسي مكانا. وليس الروحي هو اللازماني الذي يخرق قوانين الطبيعة ويعلو إدراك العقل في ماهيته الميتافيزيقية بأزليته ولاتناهيه غير المحدود غير المدرك.

- بريجسون يعتبر على لسان باشلار النفس تملك زمانها، ولا ضير في ذلك فكل شيء في الوجود يطاله الزمن بالدلالة عليه أدركناه أم لم ندركه، وتكون هذه النفس ممتلئة بكل ما هو إيجابي متفائل بالحياة، والنفس ليست وعاءا إحتوائيا فارغا. والزمان القرين الملازم للنفس بلا إنفكاك عنها هي مملوكة للزمان غير مالكة هي له بضوء فهم برجسون. وهذه الملكية الزمانية للنفس ليس تلبية لوعي ينزع إدراكيا توكيده الذات نفسيا. بل النفس ترتبط بوعي روحي زماني يربط الماضي بالحاضر والمستقبل زمكانيا.

- هذا الربط البرجسوني الفلسفي بين النفس ومالكها المهيمن عليها الزمان، هو مبعث ذكريات الماضي أن تكون حضورا في حاضر زمني يتمّثلها نفسيا، مملوءة بكل ما هو سعيد يغني عن أهمية أن يعيش الانسان الحياة بكل صعوباتها ومنغصّاتها. وهذا تعبير برجسوني على لسان باشلار في مطابقة فلسفية وجدانية لا تبتعد كثيرا عن تأثير جمالية المكان على الروح والنفس.

- في حال إضطرارنا الإستمرار بمناقشة أفكار برجسون الباشلارية الخالية من كل معنى هادف فلسفيا حتى لو كان على مستوى تعبير اللغة، لكان الى جانبنا ما يسوّغ لنا دخول المناقشة العقيمة هذه بالتالي:

على صعيد النفس كمصدر لتخيّلات الذاكرة أو بالعكس كمخزون الذاكرة يحدد إفصاحات النفس عن كوامنها، يمكننا تمرير أن مخيلة النفس في إستقدامها الماضي ليكون حضوريا في آنية زمانية هي الحاضر لا غبار عليه شرط أن لا يقتصر فهم الماضي حضوريا هو اولا واخيرا مبعث ذكريات نفسية لا قيمة لها كتحقيب تاريخي زماني يتجاوز إستثارة نزعات النفس العاطفية والسايكولوجية الفردية المتلاشيّة. الماضي وقائع تاريخية لا تكون جميعها مصدر إغناء الذاكرة والمخيلة بالذكريات الجميلة التي ترغبها النفس.فالماضي كتحقيب تاريخي زماني وقائعي مثقل بما لا يستطيع حمله من أحزان وآلام ومآسي وحروب وفقر ومجاعات وأوبئة الخ.

والحقيقة الاخرى التي لا يستطيع برجسون عبورها والقفز من فوقها، هي أن الماضي تحقيب زماني ثابت محكوم بثبات وقائعه التاريخية. والحاضر زمان يدرك حضوره بدلالة إستذكاره الماضي من جهة وتصنيعه المستقبل كسيرورة تاريخية من جهة أخرى مقابلة للماضي. الحاضر لحظة لازمنية لانها سيرورة منحلة يتقاذفها شد الجذب نحو الماضي تارة ونحوتصنيع المستقبل تارة اخرى.

فكيف يتسنى للزمان النفسي الإلمام التحكمّي بكل هذه المستويات الزمانية وما تحتويه من موضوعات ووقائع وتغيرات وسيرورة وتوقعات وعلاقات وهكذا ما لا حدود له.؟ ملازمة النفس للزمان لا يمنح النفس الإمكانية الإحتوائية للزمان كمطلق لا متناهي بذريعة الزمان يحتويها ولا تحتوي هي الزمان ولا تنوب عنه.

الطاقة النفسية في الإدراك الاستذكاري للزمن الماضي محدودة بالنسبة لمطلق الزمان. وحين يربط برجسون ملكية النفس للزمان ليس معنى هذا إمتلكت النفس الطاقة اللامحدودة للزمان وذابت وتلاشت الفروقات بينهما. الزمن فضاء إحتوائي مطلق أزلي والنفس جوهر محتواة متعيّن محدود يطالها التغيير والتبديل وحتى التلاشي والإضمحلال كمحتوى للعواطف والانفعالات والاحساسات .

ولو نحن أجرينا مقارنة بين الماضي كزمن تحقيبي تاريخي مع الحاضر الذي هو تمّوجات من الحركة الدائبة التغييرالمستمر وعدم الإستقرار نتيجة ملاحقة ما يطرأ على الحاضر من مستجّدات يحاول الزمن المستقبلي دوما تجييرها لحسابه لا للحاضر ولا للماضي. الزمان المستقبلي تصنيع مصدره تداخل الماضي بالحاضر.

حينها لا يمكننا أن نجيز للنفس إمتلاكها التحكم بالزمن بالإستذكارت لا ماضيا ولا حاضرا ولا مستقبلا. ونعود الى حقيقة أن الزمن جوهر يمتلك كل شيئ ولا يملكه شيء أبدا. حتى الانسان جوهر مملوك للزمن ولا يقدر هو إمتلاكه الزمن أو السيطرة عليه.

باشلار وجوهر النفس

في تقصّي جاستون باشلار خطى هنري برجسون حول الزمن النفسي العابر للسايكولوجيا يرى " الفلسفة النفسية لم تعد سوى فلسفة زمنية، ولم يعد التواصل هو تواصل الجوهر المفكر سوى تواصل الجوهر الزماني، إن الزمان حي والحياة زمانية، ولم يحدث هذا أبدا قبل برجسون أن تم وضع التعادل بين الوجود والصيرورة على هذا النحو"2.

هل هذا الفتح التمجيدي لبرجسون يستحق مثل هذا الإطراء من باشلار الذي ليس في مكانه من الناحية الفكرية الفلسفية وليس من ناحية فيلسوف ينفخ في قربة فيلسوف آخر مثقوبة. عن آراء فكرية تحمل كل معوقات الإدانة في دحضها؟

لو نحن عدنا لما كنا أشرنا له سابقا في إعتبارنا حقيقة الزمان جوهرا كليّا مطلقا- نحن نتناول الزمن ليس من منظور علمي فيزيائي نسبي كما توصله انشتاين في النسبية العامة 1915- لا متناهيا متحررا من ملازمته النفس التي هي جوهر فيزيائي تدرك تمظهراتها الإفصاحية النفسية المرتبطة إرتباطا وثيقا مع الوعي القصدي السلوكي تحت رقابة العقل، وترتبط بسايكلوجيا الشعور واللاشعور سواء في التعامل السلوكي خارجيا في تخارج متبادل مع العالم الخارجي أو داخل جسم الانسان في الاستجابة تلبية لرغائب الاحاسيس التي تستشعرها النفس داخليا وتنقلها للدماغ في وجوب إشباع الايعازات الاجرائية.. .

بهذه الوظيفة البايولوجية للنفس التي هي تملّك تجريد زماني وتملّك تجريد إدراكي وتملك تجريد تعبيري ايضا عن كل ما يعزز وجودها على صعيدي الواقع خارج جسم الانسان كسلوك وعلى صعيد الواقع الاستبطاني داخليا في تلبية إشباع غرائز الجسم.

النفس كوجود مادي وليس كتجريد نفسي خارج محدودية السلوك الواقعي المترتب وظيفيا على النفس بإعتبارها وعيا قصديا ماهيته الجوهرية هو السلوك ضمن مجتمع، ومخرجات النفس السلوكية والأخلاقية والعاطفية هي تداعيات من شعور يمتلك وعيه القصدي ممتزجا مع لاشعور لا يحدّه منطق فلسفي تجريدي إلا من خلال التعبير عن نفسه سلوكيا أو تفكيرا خياليا، والنفس ليست سايكولوجيا تدرك إفصاحاتها عقليا قبل ترجمة ما تملكه في تعاملها مع الواقع. هذا التحقق الاصيل لجوهر النفس هو زمان فلسفي نفسي خارج معاملة الزمان بمنطق رياضي صارم يماليء منطق التفلسف في طواعية على حساب سيولة مخرجات النفس السلوكية قاطبة.

برجسون والعدم

" يرى باشلار أن فكرة العدم هي في نهاية المطاف أغنى من فكرة الوجود للسبب التالي – والكلام لباشلار -  هو أن فكرة العدم لا تتدخل ولا تتبلور إلا بزيادة وظيفة إضافية للإعدام على شتى الوظائف التي نطرح الوجود بواسطته ونصنّفه ."3

ويضيف ايضا " وفكرة العدم البرجسوني تعتبر وظيفيا أغنى من فكرة الوجود.". في تعريف سابق لي منشور عن العدم أن العدم لا يتقدمه وجود ولا يعقبه وجود ولا يتوسط موجودين لا بالفراغ ولا بالامتلاء، بل هو عملية إفناء يلازم كل موجود في الوجود. عليه برأيي الشخصي كلمات باشلار لا تمتلك حجّة الإقناع الفلسفي خاصّة إعتباره العدم أغنى من الوجود قيمة وظيفية ولا نعرف ماهيّة هذه الوظيفة خارج حقيقة العدم أنه لاشيء... العدم هو اللاشيء الذي يفني كل شيء حي، ولا يعدمه شيء.

العدم بإجماع فلسفي هو ليس جوهرا  مدركا لا ممتلئا ولا فارغا، العدم هو مطلق إفنائي بلا محدودية ولا تعريف أنه اللاشيء. ولا يحدّه إدراك زمكاني، فكيف يرغب باشلار على لسان بريجسون تحميل العدم بما لا يستطيع الوجود حمله من إمتلاء غني؟ كيف يصبح العدم حمولة مكتنزة موجودية وظائفية هي في نهاية المطاف عند برجسون وباشلار هي أكثر بقاءا وغنى بالقياس لحمولة أي موجود مادي عياني؟ الوجود هو ما نعيشه وليس ما نتخيله، والوجود يكتنز بموجوداته المحتواة فيه ماديا وهو ما لا يتوفر للعدم أن يكون أكثر حمولة موجودية في التعبير عن الحياة بمصادرة حقيقة الوجود الجوهرية.

كل تصور فلسفي يعتبر العدم (فراغا) قابلا للاحتواء فيه يمكن إدراكه بحمولة امتلاءاته هو كلام فارغ لا معنى له بل وسذاجة فلسفية. فالعدم ليس فراغا وجوديا قابلا لتحديده أنطولوجيا ليكون مستودعا خزنيا لإمتلاءات موجودية مادية وخيالية، وليس عدما يركب ظهر كل موجود ويحكمه بحتمية الموت والفناء.

العدم هو اللاشيء الذي يمكننا إدراك نتائجه الإفنائية للاحياء فقط، ونعجز عن إدراكه لا ماديا ولا تجريدا ولا نفسيا، ولا يتّخلق عن العدم وجود محدود ولا وجود مطلق.العدم ليس وجودا بل هو فائض وجود سلبي طاريء على كل موجود حي لوصول حتمية إفنائه. العدم دلالة عن وجود وهمي غير موجود لا في الحياة ولا في مطلق الكون.

واذا ما كان العدم حسب برجسون أو باشلار لا فرق بينهما (جوهرا) ممتلئا بأكثر مما يحتويه الوجود، فبأي منطق فلسفي يتاح لنا تصويب هذا الإدعاء؟ وإذا ما كان العدم جوهرا ممتلئا بأكثر من حمولة الوجود، فأين نضع فذلكة هيدجر متسائلا حين وضع العربة أمام الحصان قوله: لماذا كان الوجود ولم يكن العدم؟ بهذا التساؤل الهيدجري يلمّح الالتقاء بنفس الفهم الذي عبّر عنه باشلار من بعده. لماذا كان الوجود ولم يكن العدم ؟ تساؤل هيدجر هذا هو هروب الى أمام من مواجهة الاجابة وتوضيحه على شكل تساؤل مراوغ لا يعرف خلاص عدم قدرة الاجابة عنه. هذا الافتراض غير المنطقي الذي يقاطع منهج الفلسفة قبل حقيقة رفض العقل التفتيش عن إجابة مقنعة لفرضية إفتعالية لا معنى لها.

لنتخيّل هذه الفرضية التي بلا معنى التي أثارها فاتح الفتوحات الفلسفية هيدجر أن العدم يحضر بدلا من الوجود فبأي معنى يكون وجود الطبيعة والانسان في جميع تعالقاتهما بالحياة؟

أنا ليس عجبي طرح عبارة ساذجة صادرة عن فيلسوف لخبط كثيرا بالفلسفة في كتابه (الكينونة والعدم) في محاولته مزاحمة كتاب سارتر (الوجود والعدم). وتلقى هيدجر الاجلال والتبجيل العربي وغير العربي الأحمق في كتابة الاطاريح الجامعية في تحميل الكتاب ماليس به من فوضى مصطلحية وفوضى مفاهيمية، بل ما أعجب له هو معاملة هذه السخافات الهيدجرية عندنا عربيا على طريقة ملابس الامبراطور الجديدة ولم نسمع طفلا يصرخ ببراءة وسط حمقى لا يسمعون أن الامبراطور عاريا. أليس من السذاجة تمرير أن العدم إمتلاء أكثر مما يمتليء به الوجود، وكأنما حالنا يوجب علينا الاهتمام إحصاء عدد قتلانا بمعركة طاحنة ونتبّرك بعدد الناجين القلائل السالمين من الموت.

نكمل مع الحاصل على جائزة نوبل الفيلسوف برجسون عن الجوهر هذه المرة قائلا:" الجوهر المنظور اليه بوصفه جملة إمكانات يعتبر غير قابل للنفاد، فالممكن لا يفشل أبدا من حيث هو ممكن لأنه يظل ممكنا، والمرجّح بصرف النظر عن النكسات أو النجاحات، فإن المرجّح الموزون جيدا من حيث هو مرجّح إنما يحتفظ دائما بقيمته الصحيحة " ص 18

اذا كان المقصود بهذه الاجترارات في تقيوءاتها الهضمية المعبّر عنها بتهويمات لغوية لا يلجمها عائق عن الهذيان ويوقفها، فمتى وكيف يمكننا الجزم أن الجوهر بوصفه جملة إمكانات غير قابل للنفاد، وكيف لنا إثبات الجوهر يمتلك طاقة لا محدودة لا تنفد، فهل المقصود بالجوهر هو كل عصّي على التصّور الإدراكي منه سواء ماكان ماديا أو كان تصورّيا خياليا تجريديا؟ ومتى كانت النفس أو العدم أو أي مصطلح فلسفي غيرهما يخص الانسان والطبيعة يقاس بمعيارية الجوهر الذي لا يدركه العقل؟ كما ولا تدركه النفس ايضا. الجوهر كمحتوى وجودي إفتراضي في الاشباء لم تتم البرهنة على وجوده إدراكيا، كذلك الجوهر ميتافيزيقا بدلالتها نفهم الوجود لم تثبت هي الاخرى صحتها فعن أي جوهر يتحدثون؟

متى كان الجوهر يسبق الوجود الإدراكي لكينونة الموجود ويملأ الفراغات؟ ومتى كان الجوهر هو ماليء الفراغات في الوجود ؟الجوهر يكون أو لا يكون وفي كل الافتراضين هو مقولة لم يتحقق توضيح ما هو المعني بها تحديدا كمصطلح وليس كمفهوم..

الجوهر يستبق الوجود الطبيعي والكوني معا حينما يكون جوهرا ازليا يمتلكه الله وحده كما ذهب له اسبينوزا معتبرا الوجود يعرف بدلالة الجوهر وليس العكس أن نعرف الجوهر بدلالة الوجود ونفتش عنه إبرة ضائعة وسط جبل من القش..

على صعيد الانسان والطبيعة، فالانسان وحده يمتلك جوهرا إستثنائيا كنوع عن جميع موجودات الطبيعة، وجوهر الانسان لا يسبق موجوديته الانطولوجية. الجوهر الذي يسبق الوجود كما في مذهب وحدة الوجود لدى اسبينوزا، هو جوهر إلهي إيماني غير موزّع جوهره ولا صفاته على موجودات الطبيعة كما يردد بعض أصحاب مذهب وحدة الوجود.

كل موجود بالطبيعة يحمل جوهرا دلاليا عن وجود الله. عندما نقول الله لا يوزع بعضا من صفاته ولا بعضا من ماهيته أو جوهره على موجودات الطبيعة للبرهنة الاستدلالية على وجوده الايماني، فهو لسبب نعقله لا يحتاج البرهنة على خطئه.

من حيث أن الجوهر الإلهي الازلي لا يجانس ماهويا الجواهر المادية التي يمكن للعقل الانساني إدراكها في حال التاكد من وجودها وراء صفات الموجودات في الطبيعة. حسب إعتقادي لا يوجد كائن من مخلوقات ومكوّنات الطبيعة يمتلك جوهرا هو غير صفاته الخارجية ما عدا الانسان الذي يمتلك قابلية تصنيع جوهره الخاص ولاصفاته الخارجية هي تعبير عن جوهره تمتلكه داخلها.

الانسان يمتلك جوهرا وصفات بخلاف كل موجودات الطبيعة من حيوان ونبات وجماد لا يمتلكون غير الصفات الخارجية التي يدركها الانسان. والشيء الذي سبق لي ذكره في غير هذا المقال أن اسبينوزا إعتبر إدراك الوجود بموجوداته لا يسبق الجوهر الأزلي الذي بدلالته غير الحسّية الإدراكية نعرف الوجود بحمولته من الموجودات.

لا يوجد على مستوى الطبيعة والكون والخالق سوى جوهران أحدهما يمتلكه الخالق وحده ولا يشاركه به أي موجود لا في الطبيعة ولا في غيرها والثاني يمتلكه الانسان فقط دون جميع كائنات الطبيعة من الاحياء كونه جوهرا يصنعه الانسان ذاتيا لنفسه وهو غير مدرك للعقل من غيره لأنه جوهر فردي إختلافي مصنوع على مستوى النوع.

الطبيعة في وجودها المستقل إنما يتم إدراكها بدلالة جوهر ألهي أزلي لا يدرك هذا الجوهر في موجوداته ولكن موجودات الطبيعة والانسان تدرك بدلالته.. وهذا حين يكون الجوهر مطلقا خالقا لموجوداته وبدلالة جوهره تعرف تلك الموجودات وهذا منهج منطقي ميتافيزيقي صرف في ازلية الجوهر إعتمده كما ذكرنا اسبينوزا في مذهب وحدة الوجود...

عجز الانسان إدراك بعضا من الجوهر الالهي موزعا موجوديا في الطبيعة أو مختزنا نورانيا في الله يقف على حافة إدراكه المتصوف يعتبر معجزة دينية قائمة بذاتها، لأن إدراك جزءا من جوهر إلهي في الطبيعة يقود الى إدراك ميزات جوهرية وصفات توصل لماهية وجود الخالق وإتاحة امكانية إدراكه بكماله الالهي وهو محال. تشييء الله او بعضا من صفاته غير المعروفة ولا المدركة عملية لا معنى لها.

ما هو الجوهرالفلسفي؟

 الجوهر هو الماهيّة التي تجعل من الموجود كينونة مدركة بكمالها، الكينونة موجود بلا ماهية تطال كائنات الطبيعة ما عدا الانسان. كل مدرك وجودي مادي وغير مادي ندركه من حولنا بصفاته الخارجية فقط وتبقى مسألة الجوهر فرضية لم يستطع أحدا البرهان عليها.

لا بد لنا الاجابة عن تساؤل مشروع هو لماذا يمتلك الانسان جوهرا هي غير صفاته الخارجية؟ جواب هذا التساؤل كان سبقنا به سارتر معتبرا الجوهر ليس معطى جاهزا يرثه الانسان بالفطرة الولادية، ويحتجب خلف الصفات الخارجية للانسان، بل الجوهر هو عملية تصنيع ذاتي غائي يقوم على تراكمات من التجارب والخبرات المكتسبة من الحياة والمحيط التي تختلف من شخص لآخر، فلا يوجد شخصان يمتلكان جوهرين متشابهين حتى لو كانا توأم بالولادة الفكرية يمتلكان نفس الملامح الخارجية لكنما كل واحد منهما يصنع ماهيته الشخصية به منفردا عن الاخر..

وجوهر أي فرد هو جوهر لا يدركه ولا يعيه شخصا آخر غير صاحبه. لذا ما ندركه بالانسان (كينونة) موجودية هي صفاته الخارجية ودواخله النفسية التي إتخذت حالة السلوك الفردي أو المجتمعي. وما عدا ذلك يدخل ضمن جوهر الانسان المتفرّد به وحده. مثل إمتلاك الضمير، حب الخير، العواطف والوجدانات، الاخلاق الخ من تجليّات نفسية ندركها بسلوك الشخص وتصرفاته بالحياة.

سؤال إشكالي آخر هو مالفرق بين الجوهر في مذهب وحدة الوجود لدى الصوفية وبعض الفرق الدينية من جهة، والجوهر الذي يمتلكه الانسان غير المحتاج البرهنة الايمانية الدينية ليمتلك جوهره الماهوي؟ الجواب نلخصه بالتالي:

إنتهينا في أسطر سابقة أن جوهر الانسان خاصية إنفرادية ليس على مستوى الاختلاف مع الكائنات الحية بالطبيعة التي لا تمتلك جوهرا أبعد من صفاتها الخارجية. لكن هل يلتقي جوهر الانسان بجوهر الخالق الذي يعتبره اسبينوزا وصوفية مذهب وحدة الوجود، مستمدا من جوهرالخالق الخالد الازلي الله.؟ الجواب قطعا بالنفي ولماذا ؟ جوهر الانسان تكوين خبراتي مادي مكتسب من مدركات الطبيعة والمحيط والحياة، فهو جوهرمصدر خلقته الطبيعة والحياة في تصنيع الانسان له، لذا فهو لا رابط روحي ولا صفاتي ولا ماهوي له مع الجوهر الازلي الخالق لكل موجود.

الله لا يوزع صفاته على موجودات الطبيعة التي يمكن للانسان أن يدركها بعقليته المحدودة. وكذا لا يوزّع بعضا من جوهره الالهي على الانسان أو كائنات وموجودات في الطبيعة لأن إدراك تلك الجواهر من قبل الانسان تبيح الطريق له  معرفة ألاكثر من جوهر الخالق وهو محال عقليا قبل ان يكون محذورا دينيا. .

فالعقل الانساني مبرمج على قدرة إستيعاب إدراكية لا تتعدى حدود ما يمكن ومسموح به إدراكه من الطبيعة وقوانين فيزيائية لا أكثر من ذلك. بمعزل تام عن الجوهر الالهي وتجريد الجوهر عن الموجود محال معرفته قبل محال إمكانية فصله.

حسب طرح اسبينوزا حول الجوهر، لم يقل أن كل شيء بالطبيعة يحمل جوهر خالقه، فجوهر الخالق إستدلال شمولي مطلق لامتناهي لا يدرك وبدلالة هذا الجوهر نعرف وندرك الوجود بموجوداته.

سابقا كان الفلاسفة يبحثون عن جواهر الاشياء الدفينة خلف صفاتها الخارجية البائنة المدركة ولم يجدوا شيئا، لذا اسبينوزا قلب المعادلة قوله بدلالة الجوهر ندرك الوجود. بمعنى نسف كل الفلسفات المادية التي ترى الوجود سابق على الجوهر، والاولية للوجود قبل الماهية لم تعد تقنع اسبينوزا الذي زرع بذرته بدلالة الجوهر الالهي ندرك الوجود قبل ظهور مبدأ الوجودية الانسان يوجد اولا ومن ثم تتكون ماهيته الجوهرية..

أما إذا كان برجسون وباشلار يريان الجوهر يزامن النفس ويلازمها لدى الانسان فهو رأي مقبول بإشتراط ملزم يفرض نفسه، هو أن يكون جوهر الانسان مدركا بدلالة إدراك النفس لذاتها قبل إدراك العقل للجوهر.

وفي كلا الافتراضين محال معرفي إدراكي عقلي. الوجود يعرف بدلالة جوهر(لامادي) يبقى طرحا ميتافيزيقيا ومادة نقاشية يطول حسمها. علما أن اسبينوزا كما مر بنا يؤمن بهذا المبدأ في حال معرفة تبعية إدراك الوجود بدلالة جوهر الهي لا يدرك جوهر خالق الوجود ولم يخلق جوهره ولا وجوده أحد.

أما أن الجوهر يكون إستدلالا عن نفس تعي ذاتها كنوع – الانسان فقط -  فهذا ليس له علاقة إستنساخ من غيره على إفتراض مشكوك به هو أن يكون لموجودات الطبيعة جواهرا هي غير صفاتها الخارجية. كل موجودات الطبيعة هي صفات خارجية لا تمتلك جواهر مستقلة عن صفاتها باستثناء الانسان فهو يمتلك صفات خارجية مدركة لا تمثل ماهيته.

الجوهر الزماني النفسي

حسب تعبير باشلار على لسان برجسون يرى مخزون الجوهر القيمي هو أسمى في التعالي وأكثر بألامكانيات من الوجود،  كلام  مسؤول البرهنة على صدقيته.

تعبير باشلار هذا وتعبيرات فلاسفة عديدين لا يحصى عددهم المليئة كتبهم ومقالاتهم الفلسفة بتهويمات لا معنى لها يلجأنا بالضرورة العودة الى مرجعية فلسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية فائض المعنى ومباحث علوم اللغة واللسانيات، رغم كل السلبيات والإحباطات التي اصابتها في مفاصل قاتلة، إلا أننا مع كل ذلك نعتبرها قارب النجاة لتخليصنا من طلاسم لغوية المفروض بها أن تتسم بالوضوح الكافي وتعبّر عن معرفة رصينة يدعمها إدراك العقل.

وكان فلاسفة اللغة غير المتطرفين في منتهى العبقرية حين رفضوا أن تبقى الفلسفة كما هي عبر قرون طويلة تجريدا فلسفيا عصّيا على الإستقبال في إنغلاق لغة التعبير الفلسفي على نفسها بغموض تجريدي يخلط الاخضر واليابس.

باشلار الذي عرفناه فيلسوفا ذي نزعة علمية في الفلسفة  ودعوته الى تكامل يخدم العلم والفلسفة نجده يقع في كتابة تعابير فلسفية غريبة متهالكة المعنى مثل قوله " لن نفهم جيدا دلالة ومدى النقد البرجسوني الدقيق إلا إذا وقفنا بعناية في المضمار المثالي لمعرفة الوجود الانطولوجي " ومضيفا " وعلى هذا النحو يحضر الحوار المتصل أبدا بين الروح والاشياء. وهكذا تكون القاطرة المتواصلة التي تجعلنا نشعر بالجوهر في ذاتنا على مستوى الحدس الحميم، رغم تناقضات الإختبار الخارجي "4.

هذه التعبيرات وغيرها التي تجد حوارا بين الروح والاشياء بعيدا عن البعد الانطولوجي والعلم الذي هو حقيقة ألاشياء في وجودها، وكذلك في إنزال الروح من حقيقة اللاجوهرالتي لا يمكننا إدراك تلك الروح أنها تقود القاطرة التي تجعلنا نشعر بالجوهر في ذاتنا على مستوى الحدس الحميم رغم تناقضات الاختبار الخارجي.

أي أن هذه العلاقة بين الروح والاشياء التي تشعرنا بجوهرنا لا نقول خاطئة تماما حيث علاقة المكان بالنفس تخلق تداعيات غير مسبوقة وتستدعي تداعيات أخرى من الذاكرة بما يجعل النفس حالة من الانتشاء المريح للنفس ولا يبعث حقيقة جوهرنا المبالغ به. إستقدام الروح بدل الشعور النفسي الدخول في حوار مع الاشياء غير موفق، الروح لا تتعامل مع المادي بل تتعامل مع ما هو متعالي على الوجود والمادة، لذا تدخل النفس بعلاقة حميمية مؤنسة مع الاشياء وارد جدا ولا ينطبق على الروح ولا يمنحنا حقيقة الشعور بجوهرنا..الجوهر يختلف عن الروح أنه صفات مدركة من صاحبها، بينما الروح هي غير النفس اولا، وثانيا الروح جوهر غير مدرك حتى بعد موت الجسم وفنائه، ومقولة الروح تغادر الجسم حال وفاته تحتاج دليل برهاني لا يمكن تعويضه بمشاعر نفسية انطباعية تجريدية وسلوكية.

وعندما ربط باشلار بين حوار الروح والاشياء سرعان ما استدرك قوله " هذا الحوار يجعلنا التسليم بحدس حميم متناقض على مستوى الإختبار الواقعي المادي الخارجي".

لا أعتقد نحتاج تفنيد أكثر ما موجود في عبارة باشلار نفسه من حيث أن حوار الروح مع الاشياء لا يمنحنا جوهرنا الذي يناقضه الواقع الخارجي. وتحقيق الإفتراض أن يكون للنفس وليس للروح جوهرا يعبر عن نفسه بمنأى تقاطعه مع الواقع المادي الخارجي الذي يدحضه أمر مفروغ التسليم به يقرّه باشلار نفسه بعبارته الإستدركية التي اشرنا لها...

يقول باشلار" عندما لا أعترف بالواقع فذلك لأني مستغرق في الذكريات التي طبعها الواقع ذاته في نفسي، ولأنني إستدرت نحو ذاتي"5

هنا ينزلنا باشلار من التحليق الروحي النفسي معه الى حوار مشترك مع الاشياء. إلا أن الواقع هو مصدر إنطباعات الذكريات ما يغني عن الواقع ذاته الذي لا يعترف به باشلار، الذي تفرض الاستعاضة عنه إستدارة فيلسوفنا باشلار نحو الذات التي إنطبعت كل ذكريات الواقع عليه.

إذا كانت أفكار باشلار التي مررنا بها تقود الى تحقق علاقة روحية بين النفس والذات كمستودع إحتواء لذكريات جميلة بديلا عن الواقع لكنها المستمّدة منه . هذه العلاقة إنما تكون في تعالق النفس مع الخيال والذاكرة وليس مع الجوهر الذي هو تراكم خبرة معرفية.

وكل توجه وتفكير مثالي في التعبير عنه، مقولات، موجودات، علاقات، سيرورة في الواقع المادي للاشياء لا قيمة حقيقية لها لا على مستوى التفكير الفلسفي، ولا على مستوى علم النفس التقليدي. وتبقى الذكريات التي يستعيدها مخزون الذات بشكل نوازع ورغبات نفسية تحاول تطويع تناقضها الخيالي مع تصادمها بالواقع، ومدركات العقل المادية الى مشاعر وعواطف وإنفعالات في مرجعية النفس لها وليس في مرجعية العقل لها.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

......................

الهوامش: 1، 2، 3، 4، 5، جاستون باشلار/ جماليات المكان /ترجمة خليل احمد خليل/ ص16 – ص18.

في الفرق بين السؤال العادي والفلسفي

عادة ما يقال إن الفلسفة تتميز بكونها حقلا معرفيا يهتم بالأسئلة المرتبطة بالوجود البشري في تنوعه وتركيبته المعقدة، دون أن يكون له اهتماما واضحا وقصديا بالأجوبة الممكنة عنها. إن هذا الانطباع الذي يصاحب كل ذات تتطلع لمعرفة أولية بالفلسفة، أو حتى عند المشتغلين بها، يحمل بعض الوجاهة التي تقتضي الاهتمام بها وتأملها فلسفيا، في أفق الكشف عن طبيعتها ومدى صحتها الاستدلالية والحجاجية.

لذلك، يمكن القول إن من طبيعة التفكير الفلسفي أنه تفكير يعتمد على نوع من الأسئلة التي تخلق لنا الكثير من المفارقات الفكرية والمعرفية التي لن نجد لها حلولا نهائية، اللهم بعض الأجوبة الممكنة في الزمان والمكان. نعني بذلك، أن التفكير الفلسفي يتقوم على السؤال الفلسفي بوصفه سؤالا يتسم باللاتناهي من حيث الطرح والمعرفة، إذ كل ما حولنا تحديد قضيته إلا وينفلت منا، فيفتحنا على آفاق بحثية أخرى إلى ما لا نهاية.

ولئن كان الأمر بهذه الكيفية، فذاك يعني أن ذلك الانطباع المشاع بين الناس حول الفلسفة في كونها تهتم بالسؤال أكثر من اهتمامها بالجواب، يحمل بعض الصحة من حيث المبدأ، لا من حيث التدليل والحجة، لأن الفلسفة حينما تركز اهتمامها على السؤال، فلكونها تنطلق من فرضية أساسية مفادها أن الإنسان-الفيلسوف بوصفه كائنا يحمل في جوفه النقص والمحدودية، فإنه يعجز عن تحصيل معرفة نهائية لموضوع معقد ومركب هو الإنسان ذاته. وبما أن كل جواب ممكن هو جواب غير مكتمل من حيث المعنى والمعقولية، فإن السؤال يبقى دائم الحضور والاهتمام في أفق الحصول على إجابات أكثر معنى ومعقولية.

وإذا كانت الفلسفة متميزة من هذه الزاوية بحضور السؤال وديمومته، بوصفه أداة لفتح آفاق بحثية حول الإنسان وما يرتبط بكينونته ووجوده، فإن الضرورة المنهجية تستدعي منا الكشف عن طبيعة السؤال الفلسفي، والفرق بينه وبين الأسئلة اليومية المبتذلة التي تخص الحياة الذاتية في أبسط تجلياتها ورتابتها، مع الوقوف عند أهم الخصائص التي تميز كل نمط على حدة.

إن أول ما يمكن أن نبتدئ به في سيرورة بسطنا لطبيعة السؤال الفلسفي وخصائصه، هو الوقوف عند طبيعة السؤال عامة. لذلك، يمكن تحديد السؤال في كونه قضية استفهامية لا تتطلب الإجابة عنها استحضار أطروحة فلسفية أو علمية. مثال ذلك، حينما نتساءل "كم الساعة الأن؟. فالقضية هي الساعة الآن، أما أداة الاستفهام فهي تجمع بين كلمة "كم" والرمز التالي (؟). وبما أن هذا السؤال يخص التوقيت الزمني للحظة الراهنة، ولا يخص الزمن كمفهوم فلسفي أو كقضية إشكالية، فإن الإجابة عنه لا تتطلب استحضار تصورات فلسفية وعلمية، بقدر ما نحتاج في الإجابة عنه النظر إلى الساعة وإخبارنا بذلك.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن للسؤال العام أو العادي جملة من السمات التي ينفرد بها، وهي كالتالي: أولا: يتميز السؤال العادي في كونه قضية استفهامية فقط، وليس قضية إشكالية ضرورة. ثانيا: لا يتطلب هذا النوع من الأسئلة إجابات متعددة، بل إجابة واحدة ممكنة. ثالثا: يتسم السؤال العادي بكونه سؤالا ينتهي بمعرفة الجواب (معرفة التوقيت الزمني اللحظي نموذجا). رابعا: لا يستدعي السؤال العادي في الإجابة عنه مجهودا عقليا وفكريا. خامسا: لا يتميز السؤال العادي بالقصدية المعرفية. سادسا: لا يتسم هذا النوع من السؤال بالكونية، لكونه ليس سؤالا معرفيا محضا.

أما السؤال الفلسفي، فهو ذلك النمط من الأسئلة الذي يتحدد في كونه "قضية استفهامية تتطلب الإجابة عنها استحضار تصور فلسفي أو علمي". مثال ذلك، القول: ما أساس هوية الشخص عند جون لوك؟. فالقضية هي هوية الشخص عند جون لوك، أما أداة الاستفهام فهي كلمة "ما" ورمز أداه الاستفهام (؟). وإذا كان السؤال الفلسفي يتسم بكونه قضية استفهامية تستدعي الإجابة عنها استحضار تصور فلسفي أو علمي، فإن لهذا النوع من القضايا الاستفهامية خصائص وسمات كذلك. يتسم السؤال الفلسفي بكونه قضية استفهامية تتطلب إجابة ممكنة أو إجابات ممكنة، لكونه لا ينتهي بمعرفة جواب محدد بعينه. ثم، إن كل سؤال لا ينتهي بمعرفة الجواب، إلا ويمكن اعتباره سؤالا إشكاليا محضا يتطلب من الباحث عن جواب له جهدا ذهنيا وعقليا. وإذا كان السؤال الفلسفي سؤال يدفع الباحث عن جواب له نحو اشتغال ذهني، فإن ذلك يفيد أن للسؤال الفلسفي قصدية معرفية من ورائه، ولذلك، نعتبره سؤالا كونيا.

***

د. لوكيلي عبد الحليم - المغرب

أستاذ مادة الفلسفة

المقدمة: في عالمٍ يُرفع فيه شعار الحرية في كل مكان، ويُروَّج لثقافة الاختيار كأقصى تعبير عن الذات، يبدو الإنسان وكأنه يعيش في فضاءٍ مفتوح يتيح له أن يكون ما يشاء ويختار ما يشاء. لكنّ نظرةً فاحصة تكشف هشاشة هذا التصوّر؛ فما يُقدَّم كحرية غالبًا ما يكون مُصاغًا ضمن قوالب مسبقة، وخياراتٍ محدودة لا تخرج عن المسار المُراد. نختار بين سلعٍ تُسوَّق إلينا، بين أفكارٍ مُعدَّة سلفًا، بين نماذج للحياة تُفرض كـ"عصرية" أو "ناجحة"، بينما نُمنَع من تجاوز الخطوط غير المعلَنة التي ترسمها السلطة، أكانت سياسية أو اقتصادية أو ثقافية. إن ما نعيشه قد لا يكون حرية بقدر ما هو وهمٌ مُتقن التصميم؛ حريةٌ مشروطة، تُتاح فقط في حدود ما لا يُربك النظام. من هنا، تنبع إشكالية هذا المقال: هل نحن أحرار حقًا؟ أم أننا نعيش تحت وطأة اختياراتٍ محدَّدة، وصيغٍ مروَّضة من الحرية تُخدّر وعينا وتُفرغ إرادتنا؟ هل الحرية كما نمارسها اليوم هي تعبير عن ذواتنا، أم مجرد شكلٍ ناعم من الطاعة؟

الحرية في الفلسفة: المفهوم المثالي

منذ فجر الفكر الفلسفي، شكّلت الحرية جوهر تساؤل الإنسان عن ذاته ومصيره، بوصفها أعلى مراتب الوجود الواعي. لم تكن الحرية مجرد قدرة على الفعل، بل قدرة على التعقّل والاختيار الأخلاقي في عالم يضجّ بالإمكانات والتناقضات. عند أفلاطون، اقترنت الحرية بالانسجام الداخلي بين النفس والعقل، بينما رأى أرسطو أنها تتجلى في ممارسة الفضيلة ضمن نظام يوازن بين الفرد والجماعة. أما الفلاسفة الحداثيون كـديكارت وكانط، فقد جعلوا من الحرية أساسًا للكرامة والعقلانية، شرطًا لإتيان الفعل الأخلاقي لا نتيجة له. غير أن هذا المفهوم المثالي ظلّ معلقًا بين الرغبة في الاستقلال والتقييد الملازم للعيش المشترك. الحرية، في صورتها الفلسفية، تُفترض كقيمة أولى، لا كمعطى واقعي. إنها، في نهاية المطاف، لحظة وعي بالقدرة على تجاوز الحتمي، لا حالة دائمة أو مضمونة.

وهم الاختيار: حدود حرية الفرد

في الواقع اليومي، يبدو الإنسان وكأنه يختار بحرية: ما يلبسه، ما يستهلكه، من يتابع، وحتى من يحب. لكن هذا التنوع الظاهري يخفي خلفه نظامًا صارمًا من التوجيه المسبق والتطبيع، حيث تُقدَّم الاختيارات لا بوصفها إمكانات مفتوحة، بل كمصفوفة محكومة بالذوق العام، بالعرض، بالتسويق، وبمنظومة القيم السائدة التي تُصاغ بفعل الإعلام والرأسمال والمعايير الثقافية. نختار داخل إطار مُعدّ مسبقًا، لا خارجه. حتى "الاختلاف" نفسه غالبًا ما يُعاد إنتاجه كنمط. نحن نختار، نعم، لكن من قائمةٍ كُتبت لنا، لا من إحساسٍ داخلي بالحرية. وهكذا يتحوّل الفعل الحرّ إلى تكرار ناعم لقوالب جاهزة، تختزل الذات إلى مستهلكٍ مُطيع يظن أنه يتحكّم، بينما هو يتحرّك ضمن حدود مرسومة بعناية. في هذا السياق، يصبح وهم الاختيار أكثر خطورة من القيد الظاهر، لأنه يُقنعنا بأننا أحرار بينما يُفرغ الحرية من معناها العميق.

سلاسل الترويض: التكييف الاجتماعي والسيطرة

منذ الولادة، يُحاط الإنسان بشبكة غير مرئية من التوجيهات تبدأ بالأسرة ولا تنتهي بالمؤسسة، من المدرسة إلى الإعلام، من الدين إلى القانون، من اللغة إلى العادات. كل تفصيلة في الوجود تُعيد تشكيله وفق قوالب محددة، تُكسبه "القبول" و"الاحترام" متى خضع، وتُقصيه أو تُجرّمه إن تمرّد. هذه ليست عملية تربية فقط، بل ترويض ممنهج، حيث يُكافَأ الانصياع ويُعاقَب الخروج عن النص، لا بصيغة قمعية دائمًا، بل غالبًا عبر التكييف الناعم: غرس القيم، تشكيل الذوق، تحديد المسموح والممنوع، صقل الطموحات وتوجيه الرغبات. لا يُطلب من الإنسان الطاعة الصريحة، بل أن يتماهى مع النظام حتى لا يعود يشعر بوجوده، بل يظنه امتدادًا لطبيعته. وهكذا تتحوّل الحرية إلى سجن بأبواب مفتوحة، وتُصبح الذات نسخة مصقولة من النموذج المقبول اجتماعيًا، لا كينونة حرة. في هذا الترويض، يكمن أخطر أشكال السيطرة: السيطرة التي تُحبّب العبودية، وتُخيف من التحرّر.

الحريات المشروطة في العالم المعاصر

في العالم المعاصر، تُرفع شعارات الحريات كأسمى ما أنجزته الحداثة، لكن ما يُمنح ليس حرية مطلقة، بل حرية مقنّنة، محكومة بشبكة من الشروط والمصالح. يحق لك أن تعبّر، ما لم تُهدّد النظام القائم؛ أن تختار، ما دامت خياراتك ضمن ما تتيحه السوق أو ما تقرّه الدولة؛ أن تعيش كما تشاء، ما دمت لا تزعج التوازنات التي تضمن استمرار اللعبة. يُروَّج للفرد كفاعل مستقل، بينما تُحدَّد له حدود اللعب مسبقًا، وتُرسم له مسارات الاختيار، فلا يخرج منها دون تكلفة. حتى الحرية صارت سلعة تُباع وتُشترى، أو امتيازًا يُمنح وفق الولاء والانتماء. يُسمّى هذا تقدمًا، لكنه في جوهره هندسة دقيقة للسيطرة الناعمة، حيث تُدار المجتمعات باسم الحرية، لا بقمعها، بل بإعادة تعريفها بشكل يخدم من يملك السلطة والثروة. وهكذا، لا تُقمع الحرية، بل تُعاد صياغتها لتلائم مقاسات السوق، السياسة، والمصالح الكبرى، فتُصبح الحرية طيفًا، والاختيار وَهمًا متقن الصنع.

مقاومة الترويض وإعادة تعريف الحرية

في مواجهة هذا الترويض المُمنهج، تبرز الحاجة إلى مقاومة تتجاوز ردود الفعل الغريزية أو الشعارات الجوفاء، نحو وعي فلسفي يعيد مساءلة مفاهيم الحرية نفسها. لا يكفي أن نطالب بالحرية كما تُعرّفها الأنظمة أو تبيعها الأسواق، بل يجب أن نعيد تعريفها بما ينسجم مع الكرامة الإنسانية والقدرة على التملّك الواعي للذات. مقاومة الترويض تبدأ من إدراكنا أن كثيرًا من "خياراتنا" ليست سوى استجابات مُهندسة، وأن الاستقلال الحقيقي لا يعني فقط كسر القيد، بل أيضًا فهم اليد التي صنعته. إنها مقاومة صامتة أحيانًا، لكنها عميقة: في الرفض الصغير، في السؤال غير المتوقع، في المحافظة على لحظة تأمل داخل صخب الإجبار. في أن تخلق مساحتك خارج منطق السوق، وأن تقول "لا" حين يكون الصمت هو المتوقع. الحرية ليست أن يُسمح لك، بل أن تُدرك أنك لست بحاجة لإذن كي تكون. إنها عملية مستمرة من الانفصال عن المألوف، وإعادة بناء الذات كفعل واعٍ، لا كنتاج لترويض خفي.

وهكذا، حين نتأمل في معمار العالم الحديث، نكتشف أن الحرية لم تُسلب منا بوضوح، بل تم تشذيبها وتكييفها حتى غدت نسخة مروّضة من ذاتها، تُمنح بحدود وتُصادر بصمت. نعيش في واقعٍ نُخيَّر فيه ضمن ما يُتاح، ونُقاد ونحن نظن أننا نختار. لكن الوعي بهذه الحيلة هو الخطوة الأولى في كسرها. فالتحرر لا يبدأ من الخارج، بل من لحظة إدراك دقيقة: أننا محاطون بأسوار ناعمة تُقنعنا بأننا أحرار. ومن هنا، يصبح الطريق نحو حريةٍ أصيلة — لا مشروطة ولا مُعلّبة — هو طريق مقاومة مستمرة، لا تبحث عن الانفلات فقط، بل عن استعادة الإنسان لقدرته على أن يكون ذاته، لا ما يُراد له أن يكون.

***

مازن جراي - تونس

 

يحتل موضوع الدين في تاريخ الفلسفة مكانة هامة، من حيث إنه موضوع من الموضوعات الذي اهتمت به منذ ظهورها نظريا في اليونان. غير أنها مكانة لا تستمد -في نظرنا- من طبيعة حضور الدين في السياقات الاجتماعية والثقافية فقط، وإنما من طبيعة النسق الفلسفي نفسه. بحيث إذا كانت الفلسفة منذ تقعيدها نظريا في اليونان، كانت غايتها الكشف عن معقولية الأشياء التي يجدها الإنسان-الفيلسوف في فضاء حياته ومعيشه اليومي، فإن ظهور الدين سواء في بعده الطبيعي النابع من مقومات الذات الإنسانية، أو في بعده الفائق للطبيعة النابع من كائن متعال هو الإله، شكل «ظاهرة فكرية جديدة، كان لزاما على النظرية الفلسفية القائمة استيعابها، وإدماجها ضمن معقوليتها.»[2]. لكن، لم الحاجة إلى لزوم تناول موضوع الدين فلسفيا؟

في نظرنا، تعود الحاجة إلى تناول موضوع الدين فلسفيا إلى شروط نظرية مرتبطة بطبيعة موضوع الفلسفة نفسه. فالفلسفة، بما هي نمط من التفكير الإنساني القائم على العقل/المنطق، لم تظهر في بدايتها الأولى تحت اسم فلسفة (Philosophia/La Philosophie)، بقدر ما أنها ظهرت في شكل حكمة (La sagesse/Sophia). لذلك، ابتدأت الحكمة بفكرة غريبة-كإجابة عن سؤال أساسي هو؛ ما أصل الأشياء في الطبيعة؟-متمثلة في أن «الماء هو أصل كل الأشياء»[3]، وغرابتها تتجلى في أنها تجيب عن سؤال مركزي في تلك المرحلة اليونانية التي كان السائد فيها بوجه عام، هو التفكير القائم على الأساطير التي ترجع سبب الأشياء إلى تعدد الآلهة[4]. كما أنها فكرة لا تقوم على أية صور أو سرد أسطوري خيالي، لاسيما، وأنها ترجع الكل إلى واحد هو الماء، الذي في إمكان كل إنسان أن يكشف عن ذلك بنفسه؛ فيما إذا كان أصل ما يوجد في الطبيعة هو الماء، أم لا. يترتب عن ذلك، أن الحكمة ابتدأت بسؤال الطبيعة؛ أي أن الموضوع الأساس الذي ابتدأ به الحكماء الطبيعيون هو البحث عن أصل الأشياء في الطبيعة. لذا، كان هناك اختلاف بينهما في تحديد طبيعة هذا الأصل، إذ هناك من يرجعه إلى الماء (طاليس)، وهناك من يرجعه إلى العدد (فيثاغورس)، وهناك من يرجعه إلى الهواء (انكسمانس) ...إلخ.

غير أن التفكير القائم على العقل-المنطق، سيعرف تحولا من مستوى القول بكونه حكمة، إلى مستوى القول بكونه فلسفة. وهو تحول كان لأول مرة كما يشاع مع الفيلسوف والرياضي «فيثاغورس» الذي أشار بالقول «لست حكيما، فإن الحكمة لا تضاف لغير الآلهة، وما أنا إلا فيلسوف.»: أي محب للحكمة[5]. فالذي يبحث في أسباب الأشياء، لا يمكن أن يكون «حكيما» (Sophos): أي ذاك الذي في مقدرته معرفة حقيقة الأشياء كما هي، بقدر ما أنه «محب للحكمة» (Philosophos/Philosophe): أي أنه الشخص الذي يستعمل عقله بكيفية منطقية بغية ملامسة حقيقة الأشياء فقط. خصوصا، وأن الحكمة هي من اختصاص الآلهة التي أوجدت الطبيعة، لا من اختصاص البشر. وبهذا المعنى، ستظهر كلمة الفلسفة التي ستتخذ لنفسها مسارا آخرا، من حيث طبيعة الموضوع الذي يمكن تناوله في مجالها. فمع «سقراط» في محاورة فيدروس ستعرف الفلسفة تحولا عميقا يتجلى في الانتقال من مستوى اعتبار الطبيعة كموضوع للحكمة-الفلسفة، إلى مستوى اعتبار الإنسان هو الموضوع الأساس الذي تدور في فلكه الفلسفة[6]. بمعنى آخر، ستعرف الفلسفة تغييرا في طبيعة الموضوع الذي ينبغي أن يكون مجالا للدراسة الفلسفية من الطبيعة إلى الإنسان، غير أن هذا التحول لا يعني التخلي عن موضوع الطبيعة، بقدر ما يعني أن الاشتغال على موضوع الإنسان هو اشتغال يتضمن كل ما يرتبط به من موضوعات؛ سواء تعلق الأمر بالطبيعة، أو الكواكب، أو غيرهما.

وإذا أصبح الإنسان موضوعا للدراسات الفلسفية، فإن الإمساك بمقوماته وقدراته، لا يمكن أن يتم إلا من خلال الوقوف عند ما يميزه عن سائر الكائنات الأخرى، خصوصا، وأنه لا وجود لمعرفة كلية به. وإذا كانت المعرفة الكلية بالإنسان منعدمة، فإنه لا يبقى أمام الفيلسوف من زوايا النظر فيه، إلا الكشف عن السمات والخصائص التي ينفرد بها لذاته. لذلك، إن أهم سمة يتميز بها الكائن البشري -نظريا- عن سائر الكائنات الأخرى، هي سمة العقل (أو التعقل). فالإنسان-مثلما هو متعارف عليه- هو الكائن الوحيد الذي يملك عقلا، يجعله في حال تفكير ومساءلة لذاته وللعالم الذي يعيش فيه، بغية بناء تصور عن أسباب الأشياء، ومن ثم، بناء المعنى لذاته وللعالم. وإذا كان الإنسان متفردا بكونه كائنا عاقلا، فإن تفرده ذاك يجعله حاملا لصفات وسمات أخرى، لا يمكن أن نجدها عند كائن غير الإنسان. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يحمل جملة من السمات والخصائص التي لا يمكن أن يتفرد بها كائن غيره، باعتباره حاملا لسمة العقل، مثل: كونه كائنا معرفيا، أو سياسيا، أو أخلاقيا، أو متدينا ...إلخ.

وبناء عليه، وبما أن الموضوع الأساس للفلسفة هو الإنسان، فإن ذلك يفيد أن مجال الاشتغال حوله يتوقف على تحديد طبيعة الخصائص والسمات التي ينفرد بها عن سائر الكائنات الأخرى. ولربما هنا تنبع مسألة اعتبارنا بكون الاهتمام بالدين في تاريخ الفلسفة عامة، هو اهتمام نابع من طبيعة الفلسفة نفسها. فما دامت الفلسفة مهتمة بالإنسان كموضوع لها، فإن الدين هو خاصية إنسانية، وإذا كان كذلك، فإنه موضوع للدراسة الفلسفية. خصوصا، وأنه لا وجود لكائن غير الإنسان يمكن اعتباره كائنا متدينا. فالفلسفة إذن، بما هي سيرورة عقلنة وكشف لأسباب الأشياء، فقد كان منبع اهتمامها بالدين مرتبطا بكونه موضوعا لصيقا بالكائن البشري. لذا، يتطلب الأمر الخوض فيه بغية استيعاب تعاليمه[7]، بما يتماشى والأسس المعرفية والفكرية لكل عصر.

وبهذا المعنى، لم يكن النظر إلى الدين في تاريخ الفكر الفلسفي الكوني، نشازا أو ترفا فكريا، بقدر ما أنه توجه  يسعى إلى استيعابه، وعقلنته في حدود مدركاته ككائن بشري متناهي، ما دامت هي سمة لصيقة به (أي سمة الدين)، من حيث إنه كائن عاقل.

***

د. لوكيلي عبد الحليم - المغرب

أستاذ مادة الفلسفة

...............................

[2] عبد المجيد باعكريم. "العنف في تاريخ الفكر النظري؛ إشكالية العقل والإيمان نموذجا". مجلة وليلي. المدرسة العليا للأساتذة-مكناس، (2009)، عدد 14، ص. ص. 87-124.

[3] فريديريك نيتشه. الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي. تعريب سهيل القش. ط.2. (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1983)، ص. 46.

[4] مثال أسطورة «ثيوغونيا» (La Théogonie) التي كانت نموذجا للتفسير المتخيل-الأسطوري لنشأة الأشياء في الطبيعة، انطلاقا من فكرة تعدد الآلهة.

[5] نقلا عن: يوسف كرم. تاريخ الفلسفة اليونانية. مراجعة وتنقيح الدكتورة هلا رشيد أمون. ط.1. (دبي: دار القلم للنشر والطباعة والتوزيع، 1936)، ص. 33.

[6] يقول سقراط «إنني لا أفكر فيها (الآلهة)، بل أفكر في نفسي.».

[7] أنظر: فانسان كارو. ابتكار الأنا. ترجمة عبد المجيد باعكريم. ط.1. (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2021)، ص.14.

تزعم حجة الكلام الكوزمولوجية ان كل ما موجود في الكون له سبب، وان السبب "الأول" يجب ان يكون الله. فما مدى صلاحية هذه الحجة؟

تسعى حجة الكلام الكونية التي عادت الى الصدارة عام 2010 بفضل وليم لين كريج الى إثبات وجود الله من خلال المنطق والاستدلال اعتماداً على الكون ذاته. لكن هناك عدد من الافتراضات التي تقوم عليها الحجة ليست صالحة بالضرورة، وان النزاهة الفكرية تتطلب التمحيص الدقيق لهذه الادّعاءات. وبينما يعترف العلم بإمكانية انبثاق الكون من خالق متعمد، لكن هذا ليس الحل الوحيد الذي ينسجم مع ما متوفر من دليل. الله ربما موجود لكن حجة الكلام الكونية بعيدة عن البرهان.

نحن نعرف ان كل شيء موجود في الكون اليوم، انبثق من حالة موجودة سلفا كانت تختلف عما هو عليه الحال الان. قبل بلايين السنين لم يكن هناك انسان ولا كوكب أرض لأن نظامنا الشمسي والمكونات الضرورية للحياة لم تتشكل بعد. الذرات والجزيئات الضرورية للارض ايضا احتاجت الى أصل كوني: من حياة وموت النجوم، جثث نجمية، ومركبات تلك من الجسيمات. النجوم ذاتها احتاجت لتتشكل من ذرات بدائية بقيت من الانفجار الكبير. في كل خطوة، عندما نتعقب تاريخنا الكوني الى مديات أبعد وأبعد، نجد ان كل شيء موجود او وُجد له سبب، وان هناك حالة سابقة أدّت الى وجوده. حتى الانفجار الكبير ذاته نتج عن تضخم كوني والذي نفترض (دون ان نثبت) يجب ان يكون هو ذاته له سبب أولي.

هل نستطيع تطبيق هذا البناء المنطقي على الكون ذاته؟ منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي زعم الفلاسفة وعلماء الدين - الى جانب العلماء الذين ايضا تدخّلوا في تلك المجالات – اننا نستطيع ذلك.

يمكن تجزئة حجة الكلام الكونية Kalam cosmological argument الى ثلاث خطوات بسيطة:

1- كل ما يبدأ في الوجود له سبب أدّى الى وجوده

2- الكون الموجود يجب ان يكون بدأ وجوده في وقت ما

3- ولذلك فان الكون ذاته يجب ان يكون له سبب لوجوده.

اذاً، ما هو سبب وجود الكون؟ الجواب طبقا للمؤيدين والمدافعين عن حجة الكلام الكونية يجب ان يكون الله. هذه الحجة طُرحت عندما زعم الناس "ان علم الكون الحديث يثبت وجود الله". لكن الى أي مدى يمكن ان تصمد المقدمات الثلاث أعلاه أمام التحقيق العلمي؟ هل أثبت العلم صحتها؟ ام ان هناك خيارات اخرى محتملة وحتى محتملة جدا؟ الجواب لايكمن في المنطق ولا في الفلسفة الثيولوجية، وانما في معرفتنا العلمية الحقيقية عن الكون ذاته. دعونا نبدأ بالمقدمة الاولى للحجة الكونية:

الزعم بان كل شيء يأتي الى الوجود او بدأ الوجود يجب ان يكون له سبب. هل هذا صحيح؟ او هل يجب ان يكون صحيحا؟ اذا كنا نفكر عقلانيا، فمن البديهي ان لا يأتي شيء من لاشيء. فكرة ان شيئا يأتي من لاشيء تبدو سخيفة، اذا كان ذلك ممكناً فهو سوف يقوّض كليا فكرة السبب والنتيجة التي نطبقها بشكل تام في حياتنا اليومية. ان فكرة الخلق من العدم او من لاشيء تخالف أفكارنا عن الحس السليم.

لكن تجاربنا اليومية لا تمثل مجموع كل ما في الكون، وان أفكارنا حول الحس السليم لا تنتقل بالضرورة الى عوالم لا تُطبق فيها الدروس المستفادة من تجاربنا اليومية . هناك الكثير من الظواهر المادية القابلة للقياس تبدو فعلا تخالف هذه الافكار في السبب والنتيجة، والتي أشهرها ما يحدث في الكون الكوانتمي. كمثال بسيط، نحن نستطيع النظر الى ذرة واحدة مشبعة. اذا كان لديك عدد كبير من هذه الذرات، انت يمكنك ان تتنبأ كم من الوقت يحتاج نصفها لكي يتحلل. بالنسبة لأي ذرة منفردة، اذا سألنا، "متى تتحلل هذه الذرة؟" او "ما السبب الذي يجعل الذرة في النهاية تتحلل؟"او "ما الذي يسبب ظهور الحالة المتحللة؟" لا جواب للسبب والنتيجة.

من وجهة نظر فيزياء الجسيمات، ربما انت تكون قادرا لتشير الى شيء ما مثل "إنبعاث او تبادل جسيم افتراضي معين" كسبب أساسي، لكن هذا لا يبيّن ولا يخبرك متى يحدث التبادل، ما الذي حفز ذلك التبادل في لحظة معينة بدلا من أي لحظة اخرى. في الحقيقة هناك أفعال مادية يمكنك عملها تجبر نواة الذرة على الانقسام، انت تستطيع الحصول على نفس النتيجة بسبب ملموس ومقصود خلفها. لو انك أطلقت جسيما على النواة الذرية، مثلا، انت ربما تساعد في انقسامها الى أجزاء واطلاق طاقة. لكن ظاهرة التحلل الاشعاعي تجبرنا على التعامل مع هذه الحقيقة غير المريحة:

نفس النتيجة التي يمكننا تحقيقها بسبب تحريضي يمكننا ايضا تحقيقها، طبيعيا، بدون أي سبب تحريضي على الاطلاق. بكلمة اخرى، لا يمكن ابدا معرفة متى تتحلل الذرة لأن العملية عشوائية تماما. هي كما لو ان الكون يمتلك نوعا من طبيعة سببية عشوائية تجعل ظاهرة معينة غير محددة من حيث الاساس ولا يمكن معرفتها. في الحقيقة، هناك عدة ظواهر كوانتمية اخرى تعرض نفس هذا النوع من العشوائية، بما في ذلك الدورات المتشابكة، الكتل المتبقية من جسيمات غير مستقرة، موقع الجسيم الذي يمر عبر شق مزدوج، وغيرها. في الحقيقة، هناك عدة تفسيرات لميكانيكا الكوانتم – أهمها كان تفسير كوبنهاغن – حيث يكون نقص السببية خاصية مركزية للطبيعة ولايمكن تجنبها، وليست "خللا" في عملها.

ربما يقول البعض، ان تفسير كوبنهاغن ليس الطريقة الوحيدة لفهم الكون وان هناك تفسيرات صالحة اخرى لميكانيكا الكوانتم هي حتمية تماما. وبينما يصح هذا، هو ايضا ليس جدالا مقنعا، لأن تفسيرات ميكانيكا الكوانتم القابلة للتطبيق جميعها لا يمكن تمييزها من حيث الملاحظة عن تفسير آخر، بما يعني انها كلها تمتلك ادّعاءً متساوي الصلاحية. انت لا تستطيع ببساطة اختيار التفسير الذي تحب، او التفسير الذي يدعم استنتاجاتك المفضلة وتقول "هذا صحيح بينما جميع التفسيرات الاخرى غير ملائمة". في هذه الطريقة انت لا تثبت أي شيء ابدا: انه غير منطقي وبالتأكيد غير علمي.

هناك ايضا عدة ظواهر في الكون لايمكن توضيحها بدون أفكار مثل:

1- جسيمات افتراضية

2- تقلبات في مجالات كوانتمية (لايمكن قياسها)

3- وسيلة قياس تدفع الى حدوث "تفاعل".

هناك دليل على هذا في التجارب العميقة المتشتتة والغير مرنة التي تستطلع البناء الداخلي للبروتونات، نحن نتنبأ انها تحتاج ان تحدث لكي توضح تحلّل الثقب الاسود واشعاع هاوكنغ. الزعم ان "كل ما يبدأ في الوجود يجب ان يمتلك سببا" يتجاهل العديد والعديد من الأمثلة من واقعنا الكوانتمي لدرجة يمكننا القول ان مثل هذا الادّعاء لم يتأسس بقوة. ربما من الممكن ان تكون هذه الحالة، لكنها ليست مؤكدة على الإطلاق.

مع ذلك، هذه فقط "الخطوة" الاولى في الحجة، هناك خطوات اخرى بحاجة للدراسة ايضا. هل الكون، الموجود، له لحظة او حدث بدأ فيه الوجود؟ هذا الادّعاء سواء صدّقت ام لم تصدق، مشكوك فيه اكثر من الادّعاء السابق – بينما يمكننا ان نتخيل ان هناك واقعا حتميا اساسيا، غير عشوائي، ذو سبب ونتيجة يكمن وراء ما نلاحظه باعتباره عالما كوانتميا غريبا مخالفا للحدس، فمن الصعب الاستنتاج ان الكون ذاته يجب ان يبدأ الوجود في لحظة ما.

يمكننا سلفا الاستماع الى الرأي المعارض، "لكن ماذا عن الانفجار الكبير؟" أليس صحيحا ان كوننا بدأ بانفجار عظيم حار قبل 13.8 بليون سنة؟

نعم، بالتأكيد صحيح اننا نستطيع تعقّب تاريخ كوننا رجوعا الى الحالة المبكرة، الحارة، الكثيفة، الموحدة، السريعة التوسع. صحيح اننا نسمي تلك الحالة بالانفجار العظيم الحار. لكن ما هو غير صحيح، وما عُرف انه غير صحيح لمنْ أعمارهم فوق الاربعين، هو فكرة ان الانفجار العظيم هو بداية المكان، الزمان، الطاقة، قوانين الفيزياء، وكل ما نعرف ونمارس. الانفجار العظيم لم يكن البداية وانما هو سبقته حالة مختلفة كليا تُعرف بـ التضخم الكوني cosmic inflation .

رغم ان العديد لايزالون يتعاملون مع التضخم كنظرية تخمينية، لكن ذلك بالتأكيد غير منصف وفق الاسس العلمية في القرن الواحد والعشرين. هناك عدد هائل من الادلة الكاسحة على ذلك منها:

1- طيف متغير الحجم من عيوب الكثافة التي عرضها الكون في بداية الانفجار العظيم الحار.

2- وجود تلك المناطق ذات الكثافة العالية والكثافة المنخفضةعلى المقاييس الكونية فائقة الافق.

3- حقيقة ان الكون عرض تقلبات غير مستقرة تماما في كثافة مختلف مكونات الكون في الاوقات المبكرة.

4- حقيقة ان هناك حد أعلى لدرجات الحرارة المتحققة في الكون المبكر والتي هي دون طاقة بلانك، وهو المقياس الذي تنهار عنده قوانين الفيزياء.

التضخم الكوني يتطابق مع مرحلة الكون التي فيها لم يمتلأ بالمادة والاشعاع، بل امتلك طاقة كبيرة ايجابية متأصلة بنسيج الفضاء ذاته. بدلا من الحصول على أقل كثافة عند تمدد الكون، يحافظ الكون التضخمي على كثافة طاقة ثابتة طالما يستمر التضخم. ذلك يعني انه بدلا من التمدد والتبريد والتباطؤ في التوسع، الذي كان يحصل في الكون منذ بداية الانفجار العظيم، كان الكون قبل ذلك يتمدد بسرعة كبيرة: بلا هوادة وبسرعة ثابتة. هذا يمثل تغييرا هائلا لصورتنا عما بدت عليه الاشياء في البداية. اذا كان الكون الممتلئ بالمادة والاشعاع سيقود للعودة الى نقطة التفرد singularity(1)، فان الزمكان التضخمي لا يستطيع ذلك. انه لا يمكن ان يقود الى التفرد بمفرده. لنتذكر، ماذا نعني بالدالة الأسية في الرياضيات: بعد مقدار معين من الزمن، كل ما لديك سوف يتضاعف. عندما يمر نفس المقدار من الزمن مرة اخرى، سيتضاعف مرة اخرى، ومع مرور كل لحظة هو يستمر يتضاعف. انه يقوم بهذا مرة بعد اخرى بدون قيد طالما يبقى السلوك الأسي قائما. نفس المنطق يمكن تطبيقه على الماضي: ان نفس المقدار من الزمن الماضي، طالما يبقى السلوك الاسي قيد العمل، مهما رجعنا سيكون لدينا في ذلك الوقت نصف المقدار الذي لدينا الآن. ولو أخذنا خطوة زمنية اخرى مساوية للخلف، وقسمناها الى النصف مرة اخرى، لا يهم كم مرة يُقسم فيها النصف الى النصف ومن ثم الى النصف فسوف لن نصل الى الصفر ابدا. هذا ما نتعلمه من التضخم: لأن الكون، طالما يستمر التضخم، فهو يصبح فقط أصغر لكنه لن يصل الى صفر أبدا او الى زمن يمكن تحديده كبداية. لا يوجد أي معنى ان تنشأ كمية متزايدة بشكل كبير(او اذا عدنا الى الوراء، كمية متناقصة بشكل كبير) من نقطة متفردة، او "حدث" يتطابق مع اصل متفرد. لسوء الحظ، في اللغة العلمية، نحن نستطيع فقط قياس وملاحظة ما يعطينا اياه الكون من كميات قابلة للقياس وملاحظة. على الرغم من كل نجاحات التضخم الكوني، الا انه يفعل شيئا مؤسفا: بطبيعته، يزيل أي معلومات من الكون وُجدت قبل التضخم. ليس فقط ذلك، بل يزيل أي من هذه المعلومات التي برزت قبل الجزء الضئيل النهائي من الثانية قبل نهاية التضخم، الذي سبق وخلق الانفجار العظيم. لكي نزعم "الكون بدأ الوجود" هو احتمالية يمكن ان تكون صحيحة اذا نشأت حالة ما قبل التضخم غير المكتشفة حتى الان من نقطة التفرد. لكن لكي نزعم ان "الكون يجب ان يكون بدأ في الوجود" هو زعم لم ينل الدعم كليا لا نظريا ولا تجريبيا. صحيح انه قبل عشرين سنة كانت هناك نظرية نُشرت بعنوان – Borde-Guth-Vilenkin theorem - اظهرت ان الكون الذي يتوسع دائما لايمكن ان يقوم بهذا الى الماضي الى مالانهاية . (انها طريقة اخرى للتعبير عن عدم اكتمال الماضي). مع ذلك، لاشيء هناك يستدعي ان الكون المتضخم تسبقه مرحلة هي ايضا تتوسع. هناك ثغرات كبيرة جدا في هذه النظرية: اذا انت تعكس اتجاه سهم الزمن، النظرية ستفشل، اذا انت تستبدل قانون الجاذبية بمجموعة محددة من ظاهرة جذب كمومي، النظرية ستفشل، وهي تفشل ايضا اذا كنت تبني كونا ثابتا متضخما الى الابد.

مرة اخرى، كما في النقطة الاولى من حجة الكلام الكونية، "الكون الذي جاء الى الوجود من لا وجود"هي امكانية لكنها لم يتم اثباتها ولم تنفِ الإحتمالات الهامة الاخرى.

والان، بعد حساب الخطوتين الاوليتين من حجة الكلام الكونية، نصل الى الخطوة الثالثة والأخيرة: الكون ذاته له سبب لوجوده وان ذلك السبب هو الله.

نحن أسسنا سلفا ان المقدمتين السابقتين لحجة الكلام الكونية لم يتم اثباتهما. لو افترضنا انهما مع ذلك صحيحتان هل ذلك يعني ان الله يجب ان يكون السبب لوجود الكون؟ هذا ممكن الدفاع عنه فقط اذا كنت تعرّف الله كـ "كائن جعل الكون يأتي الى الوجود من حالة اللاوجود". هنا بعض الامثلة تبيّن لماذا هذا التعريف خاطئ:

1- عندما نحاكي كون ذو بعدين في الكومبيوتر، هل نجلب ذلك الكون الى الوجود، وهل سنكون نحن الله لذلك الوجود؟

2- اذا كانت حالة تضخم الكون برزت من حالة موجودة مسبقا عندئذ هل الحالة التي أدّت الى التضخم هي إله كوننا؟

3- واذا كانت هناك تقلبات كوانتمية عشوائية سبّبت نهاية التضخم وبداية الانفجار العظيم او الكون كما نعرفه، هل تلك العملية العشوائية مساوية الى الله؟ . على الرغم من انه من المحتمل ان يكون هناك منْ يجادل بالايجاب، الاّ ان هذا لا يبدو مثل الكائن القادر على كل شيء، العليم بكل شيء الذي نتخيله عندما نتحدث عن الله. اذا كانت المقدمة الاولى والثانية صحيحتين – لنتذكر انهما لم يتم اثبات صحتهما – عندئذ كل ما نقوله هو ان الكون له سبب وليس ان السبب هو الله.

هناك درس مهم يتم تعلّمه هنا، وليس الدرس الذي يطرحه اولئك الذين يؤيدون حجة الكلام الكونية: من غير العلمي اساسا محاولة استعمال جزء من البيانات العلمية لدعم أي موقف او استنتاج يفضله المرء. العلم هو عملية جمع بيانات ومن ثم استعمال كل تلك البيانات بشكل مسؤول لإختبار مختلف الفرضيات الهامة المتبقية. انت يجب ان لا تبدأ اطلاقا من الاستنتاج الذي تأمل الوصول اليه وتسير رجوعا من هناك. ذلك مضاد لأي مشروع باحث عن المعرفة.

بدلا من ذلك، فان المسار المسؤول هو صياغة ادعائاتك بطريقة يمكن تمحيصها واختبارها ثم اما تأكيد صلاحيتها او تكذيبها. انت لا تستطيع طرح ادّعاء لا يمكن اثباته وتدّعي انك اثبتت وجود شيء ما عن طريق الاستدلال الاستنتاجي. اذا لم تستطع اثبات المقدمة او الافتراضات الاساسية الكامنة خلف المقدمة، فان كل الاستدلال المنطقي المبني على تلك المقدمة هو لا أساس له من الصحة.

يبقى إحتمال ان الكون فعلاً في جميع المستويات، يتبع القاعدة البديهية للسبب والنتيجة رغم ان امكانية كون عشوائي، غير محدد، سببيا، تبقى ملائمة (ويمكن القول مفضلة) ايضا. من الممكن ان الكون فعلا امتلك بداية لوجوده، رغم ان ذلك لم يتأسس أبدا بعيدا عن الشك العلمي المعقول. واذا كان كلا الامرين صحيحا، عندئذ فان وجود الكون سيمتلك سببا وهذا السبب ممكن ان يكون (مع انه ليس بالضرورة) شيئا نستطيع وصفه بالإله، لكن كلمة (ممكن) لاتتساوى مع البرهان.

مالم نتمكن من إثبات العديد من الاشياء التي لم يتم إثباتها بعد، فان حجة الكلام الكونية سوف تقنع فقط اولئك الذين هم مستعدين سلفا للموافقة على استنتاجاتها بصرف النظر ما اذا كانت ثبتت صحتها ام لا.

***

حاتم حميد محسن

..................

No, the (Kalam cosmological argument) doesn’t prove God’s existence, Big Think, April3, 2025

الهوامش

(1) مفهوم نقطة التفرد يشير الى النقطة التي تأخذ بها الدالة قيمة لامتناهية، خاصة في الزمكان حيث تكون المادة لامتناهية الكثافة، كما في مركز الثقب الاسود.

 

بما أن هناك اختلاف في تحديد مصدر نشأة اللغة بين الديني والفلسفي، فإن هوبز ينطلق من تأكيد مفاده أن «أول مؤلف للنطق كان الإله نفسه، الذي علم آدم كيف يسمي المخلوقات التي جعلها ماثلة أمام بصره.».[2]وهي أطروحة يستند فيها إلى جملة من النصوص الدينية التي تؤكد أن الإله أول خالق لنشوء الأسماء والكلمات التي تطلق على الأشياء والموجودات في العالم. وأول هذه النصوص ما جاء في العهد القديم من الكتاب المقدس، حيث يقول الإله: «وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء، فأحضرها لآدم ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها.»[3]، أو كما جاء في نص ثان يقول فيه الإله «فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء وجميع حيوانات البرية.»[4].

تفيد هذه النصوص الدينية السالف ذكرها، أن الإله لما خلق آدم علمه الأسماء كلها التي تطلق على الأشياء في العالم، وبذلك، فهو أول مؤلف وخالق للغة عند البشر. وإذا نظرنا إلى مسألة تعليم آدم أسماء الأشياء والمخلوقات من زاوية منطقية، سنجد أن هذه القصة مقبولة ذهنيا، من حيث إن آدم باعتباره كائنا بشريا يتصف بالنقص والمحدودية، فإنه لا يقدر على تخيل شيء، أو التفكير فيه، دون أن يكون له به اطلاع مسبق. يعني ذلك، أن آدم لو ترك بدون أن يعلمه الإله اللغة، ما كان في إمكانه أن يعرف مسميات الأشياء، بل ما كان في مقدرته أن يفكر في الأصل. ذلك، أن اللغة هي وسيلة الإنسان في التفكير، وأداته في إبداع المفاهيم والتصورات والنظريات. بمعنى آخر، إذا كان العمل كما يقال هو الوسيط بين الإنسان والطبيعة، فإن اللغة هي الوسيط بين الفكر والوجود. فالفكر «ليس شيئا داخليا، ولا يوجد خارج دائرة العالم والكلمات.»[5].

وإذا كان «الكلام هو حركة ودلالة العالم»[6]، فإن تعليم آدم أسماء الكائنات التي خلقها الإله، كانت له غاية هي تزويده بما يقدر به على التفكير في العالم الذي سيوجد فيه، نتيجة ارتكابه للخطيئة بحسب النصوص الدينية. غير أن القول بكون الإله هو المؤلف والخالق الأول للكلام، من باب أنه علم آدم جملة من الأسماء التي تطلق على الكائنات والمخلوقات، يضعنا أمام مشكلة تتجلى في التساؤل حول ما إذا كان الإله قد علم آدم الأسماء كلها، أم بعضها فقط[7]. بمعنى آخر، هل وهب الإله لآدم كل الكلمات والأسماء التي تطلق على الأشياء والكائنات منذ بداية البشرية إلى اليوم، أم أنه لم يزوده إلا ببعض ما يقدر به على إبداع أخرى؟

لم يعلم الإله آدم إلا ما هو ظاهر أو ماثل أمام بصره، أما ما لم يكن ماثلا أو ظاهرا له، فقد ترك للإنسان حرية إبداعه بما يتماشى وقدراته وإمكاناته. لكن مهما يكن مقدار ما تعلمه آدم من أسماء الكائنات التي كانت متجلية أمام بصره، فإن تعلمه ذاك «كان كافيا لتوجيهه نحو إضافة تسميات أخرى، بمناسبة اختباره للمخلوقات ولاستخدامها، وربط هذه التسميات تدريجيا لكي يجعل نفسه مفهوما. وهكذا، اكتسب مع الوقت مقدارا من النطق كان كافيا لاستخدامه، وإن لم يكن بالقدر الذي يحتاج إليه خطيب أو فيلسوف.»[8]. فتعلم آدم لبضع كلمات وأسماء من الإله، لم يكن وسيلة لجعله في مستوى انعدام الحاجة إلى اختراع وإبداع أسماء أخرى، وإنما كان أداة مساعدة لجعله قادرا على التفكير والإبداع لمجموعة من الأسماء التي لم يتعلمها مسبقا من الإله.

وبهذا المعنى، فالإنسان يعد مؤلفا ثانيا للغة، من حيث إنه استطاع أن يصنع لنفسه جملة من الكلمات والأسماء الجديدة التي لم يكن آدم نفسه على علم بها. إن الإنسان (آدم) في تعلمه لبضع كلمات وأسماء، كانت كافية لكي تجعله مبدعا لمجموعة من الكلمات والأسماء الأخرى، بل إن صنعه ذاك سيتجاوز صنع الكلمات والأسماء إلى صنع لغات متعددة ومختلفة من حيث النطق، يرمز بها إلى الأشياء والكائنات والعلاقات الرابطة بين الأفراد في المجتمعات البشرية. غير أن هوبز في سياق إبراز مدى قدرة الإنسان على صنعه وإبداعه للغة، يستند إلى حدث ديني كان سببا في أن يأخذ الإنسان على عاتقه ابتكار كلمات وأسماء جديدة، يتعلق الأمر بما حدث في برج بابل من نقمة أنزلها الإله على عباده هناك، أتلف بها لسانهم، وضيع عنهم ما كانوا يملكونه من كلمات وأسماء نتيجة تمردهم. وهو حدث مذكور في العهد القديم من الكتاب المقدس، حيث نجد في الإصحاح الحادي عشر ما يلي:

«وكانت الأرض كلها لسانا واحدا ولغة واحدة (1). وحدث في ارتحالهم شرقا أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار وسكنوا هناك (2). وقالوا هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرج رأسه بالسماء، ونصنع لأنفسنا اسما لئلا نتبدد على وجه كل الأرض (4). فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما (5). وقال الرب؛ هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه (6). هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض (7).»[9].

فانطلاقا من هذه الآيات الدينية يتبين أن ما تعلمه آدم ونسله ضاع ونسي في برج بابل الذي سمي كذلك، نتيجة البلبلة التي أحدثت هناك بسبب تمرد نسل آدم على تعاليم الإله. ومن نتائج ضرب «يد الإله كل إنسان لتمرده»[10]أن ذلك أدى إلى تفرقهم في أنحاء كثيرة في الأرض، الشيء الذي يلزم عنه «أن تنوع اللغات القائم الآن قد صدر عنهم تدريجيا، وفق ما اقتضت حاجتهم، التي هي أم الاختراع، وأصبح مع الوقت أكثر غنى في كل مكان.»[11]كما يقول هوبز.

وبناء على ما سبق، إن ما يسعى إليه هوبز في عملية استحضاره لهذه الأحداث الدينية التي تبين النشأة الأولى والثانية للغة، هو التأكيد من جهة؛ أن النشأة الأولى للغة كانت دينية، بحيث إن الإله هو المؤلف الأول للغة[12]، لكن من جهة أخرى؛ وبما أن ما تعلمه آدم قد ضاع في برج بابل، فإن حاجة الإنسان إلى اللغة أدت به إلى اختراعها، وبذلك، فاللغة كصنعة ثانية بعد الإله هي صنعة بشرية خالصة[13]. بمعنى آخر، فحتى وإن كان آدم قد تعلم من الإله مجموعة من الأسماء والكلمات التي أضيفت لها أخرى، وتم ضياعها نتيجة تمرد نسله في برج بابل، فإنه لا وجود في الكتاب المقدس لشيء «يمكن أن نستخلص منه، مباشرة أو باستنتاج أن آدم قد تعلم تسميات كل الأشكال، والأعداد، والمقاييس، والألوان، والأصوات، والتخيلات والعلاقات، أو تسميات تتعلق بالكلمات وصيغ الكلام، مثل "عام"، و"خاص"، و"إثباتي"، و"إنكاري"، و"استفهامي"، و"دال على التمني"، و"مصدري"، وكلها ألفاظ مفيدة، وأقل من هذا كله "كيان"، و"قصدية"، و"جوهر"، وباقي الكلمات المدرسية التافهة.»[14].

نخلص من خلال تحليلنا لمسألة نشأة اللغة عند هوبز، إلى التأكيد أن اللغة اتفاق وتوافق بين البشر؛ بما يفيد أنها صناعة بشرية غايتها تسمية ما يوجد في الوجود من أشياء وكائنات. «فاللغة عنده بناء صناعي، مثلها مثل المجتمع المدني، وهي ليست نحوا طبيعيا، وهي لهذا السبب لم تأت عن طريق ضرورة طبيعية مثل إشارات الحيوان.»[15]. وإذا كان الأمر كذلك، فإن هوبز لم يتوصل لهذه الأطروحة بناء على رؤية تاريخية، وإنما وفق تحليل منطقي عميق للمسألة[16]، استدعى منه ذلك، البدء من اللغة كما هي عليه كمظهر أو كأثر، ومن ثم، عمل على الكشف عن أسباب وأصول حدوثها، التي تبتدئ دينيا كتوليفة إلهية إلى أن تصير توليفة بشرية بعد ضياعها.

 ***

د. لوكيلي عبد الحليم

أستاذ مادة الفلسفة - المغرب

......................

 المصادر والمراجع

[2] توماس هوبز. اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة. ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب؛ مراجعة وتقديم رضوان السيد. ط. 1. (أبوظبي: معهد أبو ظبي للثقافة والثرات، 2011)، ص. 40.

[3] الكتاب المقدس. العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الثاني رقم 19. (نقلا عن: http/www.st-takla.org)

[4] الكتاب المقدس. العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الثاني رقم 20. (نقلا عن: http/www.st-takla.org)

[5] موريس ميرلوبونتي. ظواهرية الإدراك. ترجمة فؤاد شاهين. ط.1. (الرياض: معهد الأنماء العربي، 1998)، ص. 156.

[6] المرجع عينه، ص. 157.

[7] في القرآن مثلا، لقد أجيب عن هذا السؤال، حيث جاء في الآية 31 من سورة البقرة الآتي: "وعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ."

[8] توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق، ص. 40.

[9] الكتاب المقدس، العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الثاني 1-7. (نقلا عن: http//www.st-takla.org)

[10] توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق، ص. 40.

[11] توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق، ص. 40.

[12] يشير الباحث «فيليب كرينون» (Philippe Crignon) إلى أن اعتبار الإله هو المؤلف الأول للغة يفيد أن اللغة ليست سمة طبيعية توجد في الإنسان، لأنها لو كانت كذلك، لما علم الإله آدم الأسماء كلها. أنظر:

- Philippe Crignon. "La Pluralité Humaine chez Hobbes et sa lecture par Strauss et Kojéve", Kless-revue philosophique. (2009), N°12, p.88.

[13] إمام عبد الفتاح إمام. توماس هوبز؛ فيلسوف العقلانية. ط.1. (عمان: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1958)، ص. 206-207.

[14] توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق، ص. 40.

[15] إمام عبد الفتاح إمام، توماس هوبز؛ فيلسوف العقلانية، مرجع سابق، ص. 207.

[16] Richard Peters. Hobbes. 1sted. (Londres: Penguin books, 1956), p. 175-176.

تمهيد: يُعتبر اللاوعي كيانًا نفسيًا، منفصلًا عن الوعي، وقادرًا على تطوير الأفكار. بهذا المعنى تتحكم آليات اللاوعي في معظم قراراتنا ومشاعرنا وسلوكياتنا. في هذه المداخلة، نركز على اللاوعي ونشرحه.

كما يشير الوعي واللاوعي إلى مجالات نشاط العقل، أو النفس، التي يدرسها التحليل النفسي.فما هو الوعي ؟ وماهو اللاوعي؟ وماهي العلاقة بينهما؟ هل يوجد تناقض أم تبادل للخدمات؟ ما تأثير اكتشاف اللاوعي على الحرية الإنسانية؟ ألا توجد حتمية نفسية؟ هل الحياة النفسية تختزل في اللاوعي؟

الوعي واللاوعي

الوعي هو حالة الفرد التي يعرف فيها من هو، وأين هو، وما يمكنه فعله أو لا يمكنه فعله في السياق الذي يجد نفسه فيه. وبشكل أعم، هو القدرة على "رؤية" الذات والتعرف عليها في أفكاره وأفعاله.

اللاوعي هو ما يفلت من الوعي.. فما هو اللاوعي؟

يشير اللاوعي إلى عمليات حقيقية لا نعيها، ولا ندرك حدوثها داخلنا لحظة حدوثها. أما اللاوعي عند فرويد فيتحدد كما يلي: كان نشأة التحليل النفسي مع سيغموند فرويد هو ما ارتبط بفرضية اللاوعي: جزء من حياتنا النفسية (أي نشاط عقولنا) يستجيب لآليات لاواعية لا نملك نحن، كذوات واعية، معرفة واضحة ومباشرة بها. كتب سيغموند فرويد عام ١٩١٥ في كتابه "علم ما وراء النفس": "إن فرضية اللاوعي ضرورية لأن بيانات الوعي ناقصة للغاية؛ فكثيرًا ما تحدث لدى الأصحاء والمرضى أفعال نفسية تفترض، لتفسيرها، أفعالًا أخرى لا تستفيد من شهادة الوعي. تضعنا تجاربنا اليومية الشخصية في مواجهة أفكار تأتي إلينا دون أن نعرف مصدرها، ونتائج أفكار يبقى تفصيلها مخفيًا عنا."

آليات اللاوعي

بالنسبة لفرويد، يُمثل اللاوعي ذكرياتٍ مكبوتة تخضع للرقابة، وهي نفسها لاواعية، وتسعى بكل الطرق لإظهار نفسها للوعي من خلال التحايل على الرقابة. يمكن تحقيق هذا الظهور للوعي من خلال عمليات تمويه تجعلها غير قابلة للتمييز (مثل الأخطاء، زلات اللسان، الأحلام، أعراض المرض).

كيف تكتشف اللاوعي؟

هناك علاجاتٌ مُختلفة تُتيح لك اكتشاف اللاوعي.

الدوامة الحسية

الدوامة الحسية هي أسلوبٌ من أساليب التنويم الذاتي. يهدف هذا العلاج إلى تغيير مستوى وعيك من خلال تمكين لقاءٍ بين الوعي واللاوعي.

أحلام اليقظة الحرة

أحلام اليقظة الحرة هي أداةٌ للعلاج النفسي والتنمية الشخصية. يُبرز هذا العلاج صورًا مدفونة في اللاوعي لفكّ رموزها. ان الهدف من أحلام اليقظة الحرة هو تحرير المريض من عوائقه.

التنفس الهولوتروبي

التنفس الهولوتروبي هو تقنية تجمع بين فرط التنفس والموسيقى. يهدف هذا العلاج إلى استرجاع الذكريات والمشاعر المدفونة من خلال اللاوعي.

اللاوعي: قوة هائلة

تُظهر العديد من التجارب النفسية أن اللاوعي قوي جدًا، وأن آلياته تتحكم في معظم سلوكياتنا وخياراتنا وقراراتنا. لا يمكننا التحكم في هذا اللاوعي. التحليل النفسي وحده هو الذي يُمكّننا من فهم صراعاتنا الداخلية. ينطلق التحليل النفسي من خلال اكتشاف مصدر صراع اللاوعي "المكبوت" الذي يُسبب مشاكل حياتنا. إن محاولة تحليل أحلامنا، وزلات لساننا، وأفعالنا الضائعة، وما إلى ذلك، أمرٌ مهم لأنه يُمكّننا من سماع رغباتنا المكبوتة، دون الحاجة إلى إشباعها بالضرورة. في الواقع، إذا لم تُسمع رغباتنا المكبوتة، فقد تتحول إلى أعراض جسدية. فهل اللاوعي صديقنا أم عدونا؟

لا يُريد اللاوعي لنا الخير ولا الشر. في الواقع، اللاوعي موجود فقط لمنعك من السماح لأي شيء بالدخول إلى عالم الوعي قد يؤذيك، أو يضرك، أو يخيفك، أو يعطيك صورة سيئة عن أحبائك، على سبيل المثال. ان اللاوعي موجود دائمًا، لذا فإن الأفكار المكبوتة لا تُسكت أبدًا بما يكفي لنسيانها.

فهل يتناقض اللاوعي مع الحرية؟

نتصرف بحرية إذا كانت إرادتنا هي أساس أفعالنا، إذا لم يكن هناك أي عامل خارجي آخر (مثلاً، مسدس مصوّب نحوي) يُحدد اختياري. وإلا، فأنا أتصرف تحت الضغط. ولكن كيف نتأكد من عدم وجود دافع آخر يتدخل في قراري؟ إذا كان الدافع واضحاً كوجود مسدس مصوّب نحوي، فلا يُطرح هذا السؤال. ولكن لنفترض أن هناك عنصراً يُحدد إرادتي سراً، دون وعي مني؟ لذا، يبدو أن فرضية اللاوعي تُشكك في مفهوم الحرية ذاته. إذا كانت الدوافع اللاواعية هي التي تدفعني إلى التصرف بهذه الطريقة أو تلك، فكيف يُمكننا القول إنني حر؟ ومع ذلك، قد يتساءل المرء عما إذا كان لا ينبغي التشكيك في فرضية العقل اللاواعي ذاته. ألا تبقى حريتنا سليمة؟ لذا، يجب أن نسأل أنفسنا: هل تُشكك دوافع لاواعية تتدخل في أفعالنا في حريتنا؟

يُفنّد اللاوعي فكرة الذات العقلانية، المُتحكمة في أفعالها – عند فرويد. تشير فكرة اللاوعي إلى أن الذات ليست شفافة تمامًا تجاه نفسها، وأن هناك مجموعة من التمثيلات والصور والأفكار التي، بسبب طبيعتها المُقلقة، لا تصل إلى الوعي، بل تُكبت منه بشكل مُمنهج. ولكنها تُشير أيضًا إلى أن هذه التمثيلات تنجح أحيانًا في تجاوز حاجز الرقابة، لتأتي وتُؤثر على الوعي بطريقة مُقنّعة: يحدث هذا في الأحلام، أو زلات اللسان، أو بعض السلوكيات العصابية. هذا هو النمط العام الذي طرحه فرويد في جميع أعماله. في الموضوع الثاني، يُلخّص فرويد هذا برسم الخريطة التالية: يُمثّل "الهو" جميع التمثيلات المُقلقة، والخطيرة على الصحة النفسية، نظرًا لطبيعتها المُزعجة أو اللاأخلاقية. ويُمثّل "الأنا الأعلى" جميع القواعد الأخلاقية، التي تُشكّل أساس رقابة تمثيلات "الهو"، مانعةً إياها من الوصول إلى "الأنا". بما أن هذه الرغبات وتمثيلات الهو مكبوتة، فإنها لا تصل إلى الوعي. إنها لا واعية. ومع ذلك، فإنها أحيانًا تتجاوز حاجز الرقابة، وتُعدِّل نفسها بطريقة تُخدع الحاجز الذي يُشكِّله الأنا الأعلى. ثم تُحدِّد، دون قصد، بعض أفعالنا. العصاب مثال على ذلك. ويمكننا أن نرى كيف يُشكِّك هذا في حريتنا: فبعض أفعال الأنا العقلانية ليست تعبيرًا عن إرادتها، بل تُحدَّد سرًّا وبلا قصد من قِبَل عناصر لا واعية. يُلخِّص فرويد هذا بقوله في "مقالات في التحليل النفسي التطبيقي" إن الأنا ليست سيدًا في بيتها الخاص: في بعض الأمراض، وبالتحديد في العصاب الذي ندرسه، تشعر الأنا بالقلق؛ إذ تبلغ حدود قوتها في بيتها الخاص، الروح. تنبثق فجأة أفكار لا نعرف من أين أتت؛ ولا نستطيع طردها. حتى أن هؤلاء الضيوف الغرباء يبدون أقوى من أولئك الخاضعين للأنا. هكذا يسعى التحليل النفسي إلى توجيه الأنا. لكن الرؤيتين اللتين يقدمهما لنا: معرفة أن الحياة الغريزية للجنس لا يمكن ترويضها تمامًا فينا، وأن العمليات النفسية هي نفسها لا واعية، ولا تصبح متاحة وخاضعة للأنا إلا من خلال إدراك ناقص وغير مؤكد، هما بمثابة تأكيد على أن الأنا ليست سيدًا في بيتها. ولهذا السبب، يمثل التحليل النفسي، بعد الإهانات التي ألحقها كوبرنيك (الأرض ليست مركز الكون) أو داروين (الإنسان ينحدر من الحيوانات)، جرحًا نرجسيًا ثالثًا، كما يشير فرويد في مقدمة التحليل النفسي: سيُلحق البحث النفسي المعاصر دحضًا ثالثًا بجنون العظمة البشري، الذي يهدف إلى إظهار الأنا أنها ليست فقط ليست سيدًا في بيتها، بل إنها مُجبرة على الاكتفاء بمعلومات نادرة ومُجزأة عما يحدث، خارج وعيها، في حياتها النفسية. كما نرى، تُشكك فرضية اللاوعي في فكرة الحرية ذاتها. فإذا لم يعد مبدأ الأفعال هو الإرادة العقلانية للأنا فحسب، بل دوافع لا واعية تُحددنا سرًا، فإن أفعالنا لم تعد تُمارس بحرية. ولكن، هل اللاوعي حقيقة؟ أليس هو بالأحرى خرافة، ذريعة للهرب من حريتنا ومسؤوليتنا؟

اللاوعي ليس إلا أسطورة، ولذلك لا يُشكك في حريتنا

حريتنا قد تُخيفنا. من الصعب مواجهة الإمكانيات اللامحدودة المتاحة لنا واتخاذ قرار. من الأسهل بكثير اتباع الأوامر، أو اتباع مسار مُحدد مسبقًا، من التحكم في حياتنا وتحديد شكلها. الحرية تعني أيضًا تحمل مسؤولية أفعالنا المختلفة. من الأسهل بكثير التهرب من مسؤولياتنا واختلاق الأعذار: فعلتُ هذا لأن فلانًا طلب مني ذلك، إلخ. هذه هي نقطة انطلاق الوجودية عند سارتر: الحرية. الإنسان حر تمامًا لأنه لا وجود لجوهر الإنسان الذي قد يُقيده لأنه مُلزم بالامتثال له. بل هو الوجود، وهو يُشكل تدريجيًا، من خلال أفعاله وحياته بأكملها، ماهيته. ما يُقدمه سارتر في الوجودية هو الإنسانية: كتب دوستويفسكي: "لو لم يكن الله موجودًا، لكان كل شيء مباحًا". هذه هي نقطة انطلاق الوجودية. في الواقع، كل شيء مباح إذا لم يكن الله موجودًا، وبالتالي يُهجر الإنسان لأنه لا يجد في داخله ولا خارجه سبيلًا للتمسك. لا يجد في البداية أي أعذار. إذا كان الوجود سابقًا للماهية، فلا يمكن تفسيره أبدًا بالرجوع إلى طبيعة بشرية مُعطاة وثابتة؛ بمعنى آخر، لا وجود للحتمية، فالإنسان حر، الإنسان هو الحرية. أما إذا لم يكن الله موجودًا، فلن نواجه قيمًا أو أنظمة تُشرع سلوكنا. وهكذا، في عالمنا الروحي، لا توجد لدينا قيم ولا مبررات ولا أعذار. نحن وحدنا، بلا أعذار. هذا ما أود التعبير عنه عندما أقول إن الإنسان محكوم عليه بالحرية. تبدو الحتمية إذن كفعل سوء نية: فالإنسان، في سبيل فراره من حريته، يكذب على نفسه متوهمًا أن دوافع أخرى غير إرادته هي أصل أفعاله. إنه شكل من أشكال الجبن: لقد عرّفنا وضع الإنسان بأنه اختيار حر، بلا أعذار أو مساعدة؛ أي إنسان يلجأ إلى ذريعة أهوائه، أي إنسان يخترع الحتمية، هو إنسان سيئ النية. أولئك الذين يخفون حريتهم الكاملة، من خلال الجدية أو الأعذار الحتمية، سأسميهم جبناء. فرضية اللاوعي، وهي نوع من الحتمية (لأن العناصر اللاواعية هي التي تسبب أفعالي)، ليست سوى شكل من أشكال سوء النية: يبحث البشر عن أعذار بمفهوم اللاوعي. كما نرى، فإن مفهوم اللاوعي لا يشكك في حريتي، لأنه مجرد أسطورة، خالية من أي حقيقة، مصممة فقط لإعفاء البشر من مسؤولياتهم. ومع ذلك، يمكننا أن نتخيل أن جزءًا كبيرًا من أفكارنا أو تصوراتنا لا تصل إلى الوعي أبدًا دون التشكيك في حريتنا.

الإدراكات اللاواعية الصغيرة

بعض الإدراكات متناهية الصغر، وبالتالي فهي لاواعية. نحن نعي فقط الكل. هذا ينطبق، على سبيل المثال، على صوت البحر: فنحن لا نعي صوت كل قطرة ماء. من ناحية أخرى، نسمع الضجيج العام، كما يوضح لايبنتز في كتابه "مقالات جديدة في الذهن الإنساني":وعلاوة على ذلك، هناك آلاف الدلائل التي تدفعنا إلى الحكم بوجود عدد لا نهائي من الإدراكات في داخلنا، ولكن دون إدراك وبلا وعي ودون تأمل، أي تغيرات في الروح نفسها لا ندركها، لأن هذه الانطباعات إما أن تكون صغيرة جدًا وكثيرة جدًا، أو مترابطة جدًا، بحيث لا يوجد شيء مميز عنها بحد ذاتها، ولكنها مع غيرها، لا تزال تؤثر، ويشعر بها المجتمعون بشكل مشوش على الأقل. ولكي نحكم بشكل أفضل على الإدراكات الصغيرة التي لا نستطيع تمييزها بين الحشود، عادةً ما أستخدم مثال هدير أو ضجيج البحر الذي يصيبنا عندما نكون على الشاطئ. لكي نسمع هذا الضجيج كما نفعل، علينا أن نسمع الأجزاء التي تُكوّن هذا الكل، أي أصوات كل موجة، مع أن كل صوت من هذه الأصوات الصغيرة لا يُعرَف إلا في تجمّع الأصوات الأخرى المُشوّش، أي في هذا الزئير نفسه، ولن يُلاحَظ لو كانت الموجة التي تُصدره وحدها. لأننا يجب أن نتأثر قليلاً بحركة هذه الموجة، وأن يكون لدينا إدراكٌ ما لكل صوت من هذه الأصوات، مهما صغر حجمها؛ وإلا، لما كان لدينا إدراكٌ لمئة ألف موجة، لأن مئة ألف لا شيء لا يُمكنها أن تُحدث شيئًا. كيف تُقيّد هذه المُدركات التي لا تصل إلى وعينا حريتنا؟ إذًا، نرى أن اللاوعي، بهذا المعنى (أي عندما يُشير إلى مجموعة الأفكار التي لا توجد حاليًا في وعينا، أو المُدركات اللامتناهية الصغر)، لا يُشكّك في حريتنا أساسًا.

الخاتمة

الخلاصة القول إذن، أننا نرى أن اللاوعي لا يُشكّك في حريتنا بالضرورة. هذا هو الحال إذا فهمناه بالمعنى الفرويدي، ولكن يُمكننا أن نتفق مع سارتر على أن هذا مُجرّد خرافة. من ناحية أخرى، فإن العمليات العديدة التي تجري في عقولنا دون وعينا لا تُهدد حريتنا، بل تُساهم فقط في الأداء الطبيعي للعقل.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

يذهب جورج بيركلي أنه يمكننا تحديد المقصود ب"وجود" دون اللجوء الى أدوات لغوية، وجود الشيء هو وجود إدراكه الشيئي. كما إعتبر أفلاطون الوقائع المعنيّة هي أفكار أي هي كيانات مختلفة تماما عن كيانات العالم المحسوس. وعن ارسطو قوله: الانسان لا يمكنه التحدث إلا إذا تحدّث عن شيء ما مسّبق بذهنه. وأضاف التعبير عن الوجود ليس فقط أن تقول ماهو موجود، وأنما أن تقول أي نوع من الوجود تقصده. وعن بارمنيدس مقولته الوجود موجود، وعدم الوجود غير موجود،فأنت لا يمكنك إدراك شيء أنت تخلق وجوده بتفكيرك وتدركه بإحساسك.

تعقيب توضيحي

* الوجود المادي للاشياء والمخيال بموضوعات الذاكرة إستبطانيا تكون سابقة على ادراكها المادي خارجيا، وخياليا استبطانيا داخليا.. وسابقة على تعبير الفكر واللغة عنهما في كلا المنحيين.

* كل تفكير يتمثله العقل لغة صورية وتعبر عنه اللغة الصوتية لاحقا.

* السؤال بماذا يختلف ما هو موجود مادي، عما هو غير موجود مادي خيالي بالنسبة للفكر واللغة؟ لا يوجد فرق في تعبير اللغة بين ماهو موجود مادي خارجي وبين ماهو موضوع خيالي تصوّري داخلي. من المهم ادراكنا اللغة تحتفظ بنفس اسلوب التجريد اللغوي في تعبيرها عما هو موجود ماديا، وما هو موجود خياليا. اللغة هي الثابت في تعبيرها عن موضوعاتها مهما تغير حال الموجود.

* إدراك الموجودات لا يتم بغير دلالة عقلية له، لذا يكون الوجود مصدر إدراك العقل، ولا يكون إدراك العقل هو مصدر تحقق موجود مادي لن يتحقق الا بالذهن فقط في مرجعية العقل.

* لا يمكننا معرفة موجود بغير دلالة تعبيرية لغوية عنه. إدراك الشيء هو أن تتصوره بالفكر واللغة. ونعبر بهما ايضا لاحقا عن مدركاتنا في لغة صائتة.

* حتى الحواس لا تنقل الاحساسات عن الاشياء بغير تعالق ما تنقله الحواس في تصوّر وتمثّل لغوي. اعتقد عندما قال الفيلسوف الامريكي سيلارز الوجود لغة فقد افحم الجميع ان يقولوا شيئا يتجاوز مقولته الفلسفية.

* الموجود المادي هو موضوع لتعبير اللغة وتفكير العقل، وعندما نقول الموجود المادي هو لغة تجريد انطولوجي لذلك الموجود. وحينما نقول الموجود المادي هو لغة ليست متموضعة في الاشياء والمواضيع التي يدركها العقل، وإدراك الشيء المادي حسيّا هو إدراكه لغويا، كما وإدراك الموضوع الخيالي هو إدراك وتعبير لغوي مجرد ايضا.. كل تصوراتنا عما حولنا هو تمثّل صوري لغوي.

* أمّا حين نقول مع أفلاطون الموجودات ومدركات العقل هي أفكار فهو صحيح تماما لا يحتاج أدنى نقاش. وجميع علاقاتنا بالاشياء هو لغة. تفكير العقل هو لغة، الادراكات والاحاسيس هي لغة.

* اللغة والفكر المعبّران عن موجود متعّين أنطولوجيا، يكون دليل قاطع أن وجود الموجودات سابقة على إدراك العقل وتعبير اللغة والفكر عنها. وهو تعبيرمنهجي مادي. أما الوجه الآخر المقابل في هذا الطرح فهو يقوم على أن الموجود هو لغة مستقلة في التعبير عن دلالة الموجود ماديا، فالتعبير لغويا عن شيء أو عن موضوع من الخيال لا وجود مادي له بالواقع، فتكون اللغة تفكير لغوي تجريدي صرف لا علاقة تربطها بالموضوع المعّبر عنه سوى منهج تخارج معرفي هو علاقة التأثير بالمؤثر على صعيد الفكر فقط.

* جدل علاقة التاثير والمؤثر بين الموضوع في وجوده المادي وتفكير العقل وتعبير اللغة عنه، هو بالمحصلة يقود الى تطوير الفكر المتعالق مع موضوعه، وتسريع التطور المادي لموضوع الفكر بقدراته الذاتية وليس بقدرات التفكير به.. جدلية الفكر بالمادة تبقى جدلية غير حقيقية غير قائمة، وسبب ذلك هو إنعدام المجانسة النوعية بين الموجود المادي وتفكير العقل عنه. فالوجود مادي وتفكير العقل هو تجريد لغوي. جدل تناقض الاضداد لا تتم الا داخل مادة او موضوع يحمل المجانسة النوعية التكوينية الواحدة في داخله بين سالب وموجب تنبثق عنه الظاهرة المستحدثة الجديدة التي هي بدورها تحمل جدل تناقضها الداخلي ايضا. ركيزة الجدل الاولوية هو في المجانسة النوعية التي تجمع قطبي التضاد.

الصفات والماهية

يقول أحد تلامذة السوسفطائي جورجياس والذي أصبح من تلامذة سقراط فيما بعد قوله " أنا لايمكنني أن أحدد ماهية الشيء، وإنما يمكنني فقط أن أحدد بعض الخصائص التي يمتلكها هذا الشيء، وهناك ما هو أسوأ من ذلك فأنا لا يمكنني القول عن شيء محدد ما ليس هو عليه ولا حتى أن أقول عنه غير موجود."

ما يقصده جورجياس لا يمكننا تحديد ماهيّة الشيء، إنما كان وضع بذلك بذرة فلسفية في حقل فلسفي نقاشي دام قرونا طويلة، وتناول كانط وهيجل وفلاسفة الماركسية وفلاسفة الوجودية جميعا تلك المقولة. وهؤلاء أكدّوا عدم إمكانية إدراك ماهية الشيء بل المتاح إدراكه هو الصفات الخارجية فقط...فلاسفة الماركسية لم يعيروا إهتماما كبيرا لهذه الاشكالية الفلسفية، بل إكتفوا بمعرفة صفات الشيء تغني عن معرفة ماهيته أو جوهره، بإستثناء سارتر قوله :

* لا يشترط أن يكون لكل موجود أو شيء جوهرا علينا التفتيش عنه وملاحقته. فالماهية وعلاقتها بالصفات الخارجية المدركة للشيء أو الموجود المادي الواحد، من غير الانسان كانت محط إختلاف ونقاش دائم.

* ذهب سارتر في تفرّد عن فلاسفة الوجودية الذين ارادوا ترك القضّية معلقة لا حل لها. أن الانسان هو الكائن الوحيد الذي يمكننا تأكيد ماهيته. ماهيّة الانسان ليست موضوعا أو معطى مجّاني يتعالق مع الانسان في وجوده الطبيعي، بل الماهية عملية تصنيع ذاتي يقوم بها الانسان ذاته. جوهر أو ماهيّة الانسان عملية سيرورة دائمية من إنشاء البناءات التراكمية والخبرات المكتسبة للانسان.

* إختلاف الوجود بإختلاف موجوداته التي يحتويها وتشّكل مضمونه. لذا تكون نوعية الوجود وإدراكه تتم بدلالة موجوداته. فالوجود مفهوم مطلق وليس مصطلحا محدود، لا يحده غير موجوده الذي يحتويه. كل موجود يستمد معناه من محتواه النوعي.

* عبارة جورجياس الماضية الملغمة قوله لا يمكنني القول عن شيء محدد هو ما ليس به ولا حتى أقول عنه غير موجود، فهو أراد بذلك أن الحواس تخطيء الإدراك في الإحساسات، وتكون عاملا أوليا في تضليلها العقل. الشيء الثاني أن تعبير اللغة هو الآخر قاصر عن الإحاطة في التعبير عن مدركاتها الموضوعية بتمامها.

شيلر .. والانسان

يدين ماكس شيلر 1874-1921 صاحب مقولة الانسان هو المكان الوحيد الذي يتجمّع فيه الاله. المنهج الاستقرائي في المعرفة، قوله "إن ميدان القبليات البديهية لا علاقة لها على أي نحو مع ماهو صوري " ويرى شيلر هناك وجود مادي هو مضمونات مستقلة عن الخبرة وعن الإستقراء، ويرفض شيلر بقوة شديدة ومتكافئة الاتجاه التصوري – المثالي، والإتجاه الاسمي الوصفي.

مثالية شيلر هي نسخة متقدمة عن مثالية كانط أنه لا يوجد مدركات قبلية بديهية معطاة للعقل النظري بالفطرة. كما أن التفريق بين ما هو تصوري مثالي، والإتجاه الإسمي الوضعي في العقل قضّية محسومة أن العقل هو حصيلة الواقع المادي، والواقع المادي يخلق التصورات الذهنية والإدراكية عن الاشياء.كما يرى شيلر في معرض إدانته لكانط في عبارة بليغة جدا قوله " لا يوجد عقل يفرض قوانينه على الطبيعة، وأننا لا نستطيع إثبات إلا ما يعتمد على الإتفاق والإصطلاح، أما القوانين فلا يستطيع أحد فرضها "، ثم أن مثالية كانط حول معارضة لايبنتيز في إقراره ملكة الفطرة القبلية في المعرفة، ينكرها كانط باستثناء وحيد هو أن العقل لا يتزود بالفطرة بمعارف سوى ما اطلق عليه قالبي الزمان والمكان في الادراك. بمعنى كانط فطري احيانا ولا فطري معا.

تعقيب توضيحي

* الطبيعة المادية هي مصدر قوانين العقل، وليس العكس العقل مصدر قوانين الطبيعة. قوانين الطبيعة الثابتة هي قوانين ذاتية تحكمها، لم تعيها الطبيعة ولا هي صانعة لها، كذلك قوانين العقل هي إكتشاف قوانين الطبيعة والاستفادة منها وليس خلقها بقوانين العقل.

* القانون المستمد عقليا من الطبيعة لا بد له من التداخل في تخليق العقل لمدركات الطبيعة. والعقل الانساني في طبيعته الادراكية للطبيعة عقل متكيّف مع قوانين الطبيعة الثابتة، وعقل محتدم متصارع مع ظواهر طبيعية تحاول النيل من الانسان في وجوده ولا تمثل تلك الظواهر التي يصارعها الانسان ويحتدم بها قوانين ثابتة تتبع قوانين الطبيعة بل هي مظاهر طبيعية عشوائية تعترض الانسان في حياته.

* يرى شيلر أن الذي يمّيز العقل الانساني تمييزا قاطعا هو نشاط الافكار التصورية له. أي فصل الماهية عن الموجود، وبالتالي فإن العقل موضوعي وإمكانية وارادة، يحددها شكل وهيئة الاشياء ذاتها في موجوديتها الطبيعية.

* الافكار التصورية للعقل الانساني هي مرتبة ثانية في إدراك العقل للوجود. فالعقل يدرك الوجود المادي للاشياء قبل الإهتمام في التعبير عنها صوريا تجريديا.

* مخرجات العقل لا تدرك وجود الاشياء بهدف التعبير عنها لغويا تجريديا صوريا من غير ملازمة قصدية تلازم عملية الإدراك العقلي للاشياء. العقل لا يعبّرعن مخرجاته بالفكر واللغة بحيادية. بل يعبّر عنها بعلاقة تخارجية يلزم عنها محاولته تغييرها.

هيدجر ومازق مفهوم الوجود

يعتبر هيدجر مفهومه عن الوجود في كتابه الشهير) الوجود والكينونة) المليء بالمصطلحات التعبيرية الغامضة النشاز التي تخلط بين المصطلحات الفلسفية دونما أي تحفظ كونها صادرة عن فيلسوف لا يتكرر. فهيدجر يعتبر الوجود من أغمض المفهومات على الاطلاق، والوجود ليس شبيه المتواجد من حيث هو متواجد، الذي هو الموجود هناك الديزاين "الانسان". وماهية ذلك الموجود هناك ليس ما يحتويه، وإنما ماهيته تقوم في كينونته المتعيّنة، والذي يفّسر تلك الماهية هو دائما هذه الكينونة. ويعّبر هيدجر عن أصالة تلك الماهيّة إنما تقوم على إستخلاص المتواجد الانسان من العتمة والظلام.

تعقيب اولي

* بحسب مفهوم هيدجر أنه كي يحقق الموجود هناك "الديزاين" أصالته الوجودية الحقيقية، عليه الإنسحاب من الظلمة المعتمة على حد تعبيره. ويتم هذا الإنسحاب من الكليّة الناسيّة أو المجتمعية، والناسّية حسب فهم هيدجر الذي يعتبر الوجود الحقيقي للذات هو في وجودها ضمن عالم يتسم بالديناميكية والحركة والتغيير المستمر.. لكننا نجده مع هذا يطالب الانسان الفرد الخلاص من العتمة والظلام التي هي بحسب هيدجر الانسحاب من الناسّية المجتمعية.

* هذه الكلية المجتمعية أو الناسّية في الوجود كما يرى هيدجر هي تضييع الوجود الاصيل للموجود هناك الدزاين الذي هو الانسان. فتجعل من وجود الانسان كائنا قطيعيا منساقا وضائعا في رتابة الحياة القائمة على إشباع الحاجات الأساسية  البيولوجية الروتينية في الحياة.

* إذن لا يكون خلاص الموجود هناك الانسان بغير قرار وإختيار وارادة فيها يمتلك ذاته الحقيقية وحريته التي تحكمه هي، الحرية حسب مفهوم سارتر تحكم الانسان بالمسؤولية المجتمعية ولا قدرة له على التحكم بها.، ولا يتحكم هو بها إلا في مسؤوليته عن حرية المجموع، التحقق الذاتي المتعالي على الناسيّة بالوجود هو تحقق نوعي للذات في إمتلاكها لذاتها الحقيقية المتحررة إنفراديا. وهو من أخطاء الفهم الوجودي للذات.

* ويرى هيدجر تحقيق مثل هذه الحقيقة هو في الإنعزال عن الكليّة المجتمعية بما يجعل الموجود هناك الانسان يحس ويعرف قيمة أناه الفردية في تجليات خروجها من سلبية الوجود ضمن كلية مجتمعية زائفة، ويتحرر من هذه الاحتوائية الاستلابية لوجوده الحقيقي الاصيل بالحياة. في ان يعيش العزلة باختياره.

الصوفية وافلوطين

كيف يمكن للمتصوف أن يعرف اللامتناهي؟ قبل عرض جواب افلوطين نود التاشير إلى أن مقولة هذا التساؤل المنسوب لافلوطين خاطئة، كون المتصوف لا يدرك اللامتناهي في تجربته الصوفية – الله- فكيف يكون الحال في معرفته؟ التي هي أرفع درجة من الادراك.

يجيب افلوطين الفيلسوف الهلنستيني المتصوف عن السؤال قائلا" اننا – يقصد المتصوفة – لا نعرف اللامتناهي عن طريق العقل، لأن وظيفة العقل التمييز والتحديد، ولا يمكن للمتناهي أن يكون على مرتبة واحدة مع موضوعاته، وإنك لا يمكنك إدراك اللامتناهي إلا بالدخول في حالة لم تعد أنت موجودا فيها. ولا ذاتك المتناهية وهذا يعني تحرر ذهنك من الوعي المتناهي، وعندما تتوقف أن تكون متناهيا فإنك تصبح واحدا مع اللامتناهي"

تعقيب توضيحي:

* اللامتناهي حسب تعبير افلوطين لا يدرك بالعقل، بل يدرك في تسامي روحي يكون أعلى مرتبة من مادية العقل الطبيعية، بمعنى حالة التصوف هي إعدام كليّ لإحساسات العقل المادية غير الروحية. وحسب تعبير والتر ستيس وهو فيلسوف يعنى بالصوفية يجد بذلك مفارقة أن الكشف الصوفي يتجاوز العقل. إننا نرى لا تجربة صوفية يحققها العقل. فالعقل يدرك ما يرغب معرفته بحدود امكاناته المحدودة إدراكيا في إمتلاكه قدرة إدراك الاشياء المادية ويعجزعن إدراك الروحانيات الميتافيزيقية بضمنها التجربة الصوفية.

* الحلول الصوفي بالذات الالهية غير وارد، كون الإله غير مادي وغير مدرك الصفات ولا يتجانس مع الذات الانسانية الصوفية. ويؤكد والتر ستيس :أن الروح لا تستطيع أبدا أن تبلغ درجة الاتحاد بالله. ويذهب الى أن هناك في تراث الديانات السامّية عموما هوة عظيمة تفصل بين الخالق ومخلوقاته، ولا تستطيع روح الفرد إزالتها، بضرب نوع من التجديف.

* لا صحة لإدعاء افلوطين الحلول الصوفي هو إندغام الذات الانسانية المتحررة من العقل والوعي مع الذات الالهية، بحيث يكون الصوفي في حالة من الوجود الارضي غير الموجود الا على صعيد التسامي الروحي فقط. وهي ممارسة وتجربة إعجازية لا يمكن تصديقها في عدم التحقق منها.

هيدجر وتشتيت الوجود

يتسم العرض الوجودي لتحقق الذات لدى هيدجر بالغموض في نحته مصطلحات جديدة غامضة في الفلسفة، وترتّب على هذا الاجتهاد الهيدجري إرباكا من سوء الفهم البعيد عن الوضوح المطلوب. من شطحات هيدجر قوله "الانسان لا يملك وجوده لأنه هو هو وجوده" واضح هنا هيدجر لايعتبر تحقيق الذات بمعيارية تعالقها الاختلافي مع الموضوع الملازم لها لا يحققها كبنية قائمة متمّيزة.

بمعنى هيدجر يعتبر الانسان كائن من غير وجود منفصل متمايز عن توزّع وجوده في مدركاته الذاتية كمواضيع تختلف معه بالمجانسة المغايرة وتتحد به في تحقيق ذاتيته الانسانية، هنا يمكننا القول بضوء الفهم الهيدجري أن الانسان هو وجود معطى متحقق غير محتاج إثباته.

بنفس هذا المعنى وأشمل منه تأتي مقولة هيجل (الله هو الوجود) عبارة هيجل هذه لا تشي بتصور صوفي ميتافيزيقي، في تقطير وتكثيف عبارته الله هو الوجود. وأجد بهذا المعنى منتهى المادية وليس المثالية الابتذالية، في موضعة الطبيعة والانسان في وجود الله، ولا توجد موجودات الوجود بذاتها مستقلة بل في ذات تدركها.

يمكننا التعبير بجملة إستنباطية بنفس المعنى حين نقول (العقل هو الوجود) وبذلك لا نكون متناقضين لا مع الله ولا مع الطبيعة المادية للانسان. فما لا يدركه العقل ليس غير موجود في استقلالية، بل تصبح لاقيمة للعقل من غير وجود يشتغل عليه العقل. في إحالة تحقق الوجود الى الله دلالة استدلالية في تعميق الموجودات المادية والطبيعة إستقلاليتها الاقتران المباشر وغير المباشر بالله. لا يمكن للذات الالهية أن تكون موزّعة الجوهر أو موزعة الصفات في موجودات وأشياء يدركها العقل في مرجعية وجود الله.. وإلا ترتّب على هذا إمكانية العقل البشري معرفة الخالق في وجوده.

تعقيب نقدي تحليلي

- اول ملاحظة على فهم هيدجر للوجود هو أن تذويت الموجودات وإنصهارها في الانسان كوجود وكينونة تعي ذاتها والموضوع لا يحتاج بعدها الى موضوع يغاير به توكيد وجوده. كون الانسان وجود يمتلك مقومات موجوديته الكاملة التي تدخله حسب تفسيرنا لمقولة هيدجر في انفصامية مرضية هي بحث الانسان عن توكيد وجوده خارج وجوده الحقيقي المعطى له، التطابق القائم بين الذات والكينونة، يعني علاقة الذات بالموضوع لا يلغي إنعدام الفروق غير المتجانسة بينهما رغم حاجة أحدهما الآخر، فالذات بلا موضوع يحقق وجودها لامعنى إفصاحي لها، وكذا المواضيع كموجودات إدراكية لا قيمة تكتسبها في وجودها المستقل سوى بإدراك الذات الانسانية لها.

- عبارة هيدجر الانسان لا يملك وجوده لأنه هو هو وجوده. الوجود بمعنى الكينونة المتحققة ذاتيا تحتاج تحقيق وجودها الحقيقي بالمغايرة الوجودية (الموضوع). وحسب عبارة هيدجر تحقق الوجود الاصيل للانسان لا يكون إلا ضمن وجود – في – عالم تؤكد هذه الحاجة ولا تنفي أهميتها. الانسان لا يحتاج توكيد وجوده الذاتي في وعيه الادراكي بموجوديته الذاتية بمعزل عن معرفة أين يكون وجوده المتحّقق من وجود الآخرين. الاستنكار الذي واجهه كوجيتو ديكارت أنا أفكر في تحقق الذات الانفرادية بسلبية منعزلة عن المجموع أو عن الكليّة الناسيّة إستنسخها هيدجر في تحقيق الوجود في إدراك الذات لذاتيتها.

- وعي الوجود الضائع الذي يضعه الانسان في جيبه ولا يدركه عقليا، هو وعي الانسان بكينونة متكاملة وإلا يكون الوعي بلا معنى ولا قصدية ولاقيمة حقيقية له ترفضه الوجودية ذاتها التي ينتسب لها فيلسوفنا هيدجر. الوجود الملازم للانسان كظله لا يجعله في غنى البحث عن تحقيق ذاتيته القيمية كانسان في بحثه عن مدركات تعطي وجوده معناه الحقيقي ضمن عالم يعيشه.

- الانسان في كينونته الكليّة لا ينقسم الى وجود سايكولوجي منفرد، ولا الى وجود (قيمي) آخر انساني أو أخلاقي منفرد حتى لو جاء على صعيد تباين واختلاف السلوك بينهما. ورغم الإفصات السلوكية الانسانية المتباينة عن كلا المحتويين الوجوديين بالحياة. وفي حال تسليمنا أن الانسان ليس بحاجة توكيد وجوده لأنه هو هو وجوده، فبأي وسط يمكن للانسان إمتلاك وجوده الحقيقي غير التكويني الملازم له في محاولته إثبات وجوده المتمايز ضمن فعالية مجتمعية تحتويه هو وغيره.؟ توكيد الذات لنفسها في موجودية منفردة لا قيمة حقيقية لها بالحياة فألانسان موجود لا يحقق كل رغائبه الفردية بمعزل عن مجتمع يحتويه. فما فائدة عبارة هيدجر لايحتاج الانسان البحث عن وجوده لانه هو هو وجوده.؟ وجود الانسان المادي المستقل بالطبيعة هو معطى طبيعي وليس إكتسابا معرفيا يسعى الانسان تحقيقه.

- الوجود الانساني الحقيقي الفاعل بالحياة لا يتم بغير إمتلاكه الفعاليات البيولوجية التالية: التعبير عن الحرية بمسؤولية عن حرية الاخرين، إرادة الفعل والحركة، السعي نحو هدف قصدي يحتاجه الانسان تحقيقه له ولغيره. ويوجد أمور أخرى عديدة تمّثل خصائص الوجود الحقيقي للانسان. فالوجود الانساني لا يقاس إلا بمعيارية (الفعل) البراكسيس فقط. والوجود لا يعبّر عن أصالته الحقيقية إلا بالعمل وفق الوعي القصدي بالحياة. لا وفق الوعي النرجسي في توكيد الذات.

- الوجود الديناميكي للإنسان هو وعي قصدي مدرك أهمية الإمتلاك عندما يكون الانسان مشروع تنمية مستدامة من التطور الفاعل لوجوده. وبحسب سارتر تحقق الوجود المتمّيز الفاعل لا يكون إلا في حالة من التنمية المتصاعدة في تخليق الانسان نفسه بنفسه في إمتلاكه وعيه بالحرية الكاملة، فهي أساس كل إختيار حقيقي في الوجود، كما هي أيضا معيارية أصالة الوجود بالحياة. وممارسة الحرية بمسؤولية لا يكون حقيقيا صادقا بغير وعي الذات لأهميتها في تحقق الإرتباط المثمر بالوجود الانساني في صنع الحياة، لذا الحرية وعي وجودي مدرك بإمتلاء ذاتي ومسؤولية انسانية. وهذا لا يتوفر لكينونة لا تمتلك ذاتيتها الوجودية وتعي إرتباطها بعالم.

- تناقض الوجودية نفسها على لسان هيدجر قوله "الانسان ذاتية خالصة، وليس مظهرا أو تجسيدا لتيار حيوي أشمل منه هو التيار الكوني ". لا أعتقد ونحن نتحدث عن وجود أرضي أن تكون معياريته الحقيقية في ذاتيته الخالصة في تيار أشمل منه هو التيار الكوني. ولا أعتقد هيدجر صاحب مؤلف (الكينونة والزمان ) لا يعرف الزمن هو إدراك الانسان وجوده الديناميكي المتواتر، وهذا الإدراك الزمني كتحقيب أرضي هو معيار موجودية الانسان في تحقيق تنميته الانسانية كذات متمايزة غير منفصلة عن محيطها في حالتي المجانسة بالعيش نوعيا داخل مجتمع بشري، وبين عدم تجانسها الماهوي ولا الصفاتي مع موضوعات يدركها في الطبيعة.

- الانسان كينونة مدركة في تعّين زماني- مكاني غير مفارق لها.، وإدراك كينونة الانسان أو بعض جوانبها الماهوية وخصائصها الصفاتية من خلال إفتراض تعطيل الزمن الإدراكي الذي يحكم قوانين الطبيعة شاملة، هو نفس الزمن الإدراكي الذي يحدسه الوجود الكوني من غير وجود انساني فيه.

***

علي محمد اليوسف

 

في الغالب ما نعتبر أن الفلسفة لم تظهر نظريا إلا في الحضارة الإغريقية القديمة، نتيجة مجموعة من العوامل السياسية والتاريخية والاقتصادية...إلخ. لكن، ما يتم إغفاله هو أن الفلسفة بما هي تفكير قائم على المعقولية، فهي سابقة من حيث الظهور والانبلاج عن الإغريق. وذلك لسبب بسيط، وهو أن ملكة الاستدلال العقلي التي تحملها كل ذات إنسانية، هي نتيجة استخدام اللغة باعتبارها مكونا أساسيا من مكونات جعل الذات في حال تفكير وتأمل. فاستعمال اللغة يجعلنا أمام تصور يفيد أنه من المحتمل أن يوجد عند أقدم الكائنات البشرية بعض الاكتشافات والحقائق، كقدم اللغة نفسها. لكن، ونظرا لكون هذه الحقائق لم تصلنا كتابة ولا نثرا، فإننا نعمد على نفي أن تكون هناك فلسفة غير ما ظهر عند الإغريق قديما. فصحيح، أن البشر في المجتمعات القديمة كانوا يعيشون وفق التجربة البدائية التي تحقق لهم شبه الاكتفاء الذاتي من الطعام، والتقليل من فرط الخوف من الموت العنيف (La mort violente) الذي يصاحب كل ذات، بسبب الهشاشة (La fragilité)  والضعف (la faiblesse). غير أن هؤلاء لا يعني أنهم يفتقدون لبعض الأحكام الأخلاقية السليمة، وكذا بعض المعارف الحسابية التي كانت تخول لهم القسمة والحسبة للأعداد البسيطة والصغيرة، وإن كانوا ليسوا بفلاسفة على وجه التحديد[2]. خصوصا، وأن هؤلاء لم تكن الغاية من عملهم وكدهم واجتهادهم، إلا تحقيق ما سلف ذكره من أساسيات العيش، أما الاهتمام ببذور المعرفة في ذاتها فهو أمر لم تكن له أهمية.

ولعل السبب في ذلك، أن هؤلاء الناس كانوا في حال افتقار «إلى وقت الفراغ بسبب السعي وراء ضرورة الحياة، والدفاع عن أنفسهم ضد جيرانهم»[3]كما يقول هوبز. فانعدام وجود الفراغ الذي يتيح للإنسان إمكانية التفكير والتأمل والإبداع، يجعل من الاهتمام بالمعرفة في ذاتها، وما يمكن أن نُحصله منها من فوائد ومنافع عملية، أمرا مستحيلا. وعلة ذلك، أن الازدهار والتقدم والإبداع لا يمكن أن يقوم على أنقاض التوجس من مآلات الحياة، وصعوبة العيش وكدرها، لأن الإنسان في هذه الحالة، يكون منهمكا وشاردا تفكيرا وتأملا في البحث عما يمكن أن يسد به رمق الجوع، بل وما يمكن أن يحفظ به حياته من الأعداء في ظل انعدام وجود المنتجات بوفرة. مما يترتب عن ذلك، أن الحياة التي تكون آمنة مطمئنة، وفيها حيز من الفراغ الذي يسمح للذات بأن تُمرن عقلها وفكرها وخيالها، هي الحياة التي سمحت بظهور الفلسفة كنمط من التفكير الإنساني القائم على البحث عن معقولية الأشياء. وبهذا المعنى، فحيث يوجد مجال وحيز لإطلاق عنان الخيال والتفكير، يكون للفلسفة إمكان للظهور، وهو ما يعبر عنه هوبز بالقول: «إن وقت الفراغ هو أم الفلسفة»[4].

هكذا، فوقت الفراغ هو المقام الذي يسمح بخلق فضاء للتفكير والإبداع الفلسفي. غير أن هذا الوقت لا يمكن أن يتحصل إلا بوجود فضاء علائقي مشترك هو المدينة أو الدولة الذي يسمح ويُؤَّمن ذلك. فظهور المدن-الدول الكبرى في تاريخ البشرية، سمح بإتاحة حيز من الزمن الذي يعيشه الإنسان للتفكير والتأمل في حياته ومحيطه الذي يعيش فيه، لاسيما، بعد التقليل من فرط الخوف من الجوع والموت العنيف. وبهذا المعنى، تكون «الفلسفة هي بنت المدينة فقط»[5]، بحيث لا تبزغ شمسها «إلا على مدينة بلغت من التحضر أوجه، وكمُلت لها هويتها الذاتية وشخصيتها اللغوية، وأدركت من الاستقرار والوفرة ما تسمح به للعقول المفكرة أن تنطلق إلى البحث عن كمالاتها الممكنة.»[6].

في هذا الصدد نفسه، لا نجد أي فصل بين ظهور المدن-الدول كفضاء لتحقيق السلام وظهور الفلسفة عند توماس هوبز، إذ يقول بوضوح في كتابه «اللفياثان» ما مفاده أن «الدول هي أم السلام ووقت الفراغ، وحيث قامت وازدهرت مدن عظيمة بداية، كانت هناك أول دراسة للفلسفة.»[7]. وبهذا المعنى، لم تظهر الفلسفة بداية عند الإغريق وباقي شعوب الغرب،[8]بل وجدت في لحظة وجود أعظم الممالك القديمة عن الإغريق مثل؛ الهند، وفارس، والكلدانيين، والمصريين...إلخ. ففي هذه المناطق الجغرافية التي وجدت فيها أقدم الممالك البشرية، كان للفلسفة ولادة وظهور. لذلك، نجد أقدم الفلاسفة -من وجهة نظر هوبز- هم النساك الأوائل في الهند (Gymnophysists)، والمجوس في فارس، وكهنة الكلدانيين والمصريين[9]. أما الإغريق فهي حضارة لم تكن بعد قد نهضت واستقرت، نتيجة الحروب التي كانت سائدة فيها، والتي لم تسمح بإتاحة وقت من الفراغ لظهور التفكير الفلسفي.

لكن، لما «وحدت الحرب العديد من هذه المدن اليونانية الصغيرة إلى مدن أقل وأعظم، بدأ سبعة رجال من أجزاء مختلفة من اليونان يكونون سمعة بأنهم حكماء، بعض منهم لأحكامه الأخلاقية والسياسية، وآخرون لتعلمهم من الكلدانيين والمصريين، وكان ذلك، في مجالي الفلك والهندسة.»[10]. ففي هذه اللحظة التي تم فيها ظهور المدينة-الدولة ظهرت الفلسفة اليونانية، ولعل هذا ما يؤكده أحد المؤرخين المعاصرين بالقول:

«بزغت الفلسفة، كتفكير عقلي جديد، نتيجة ابتكار للمؤسسات السياسية التي سميت بالمدينة-الدولة (polis)، فمع ظهور المدينة، ولأول مرة في تاريخ البشرية اعتبرت القضايا المشتركة بين الناس غير خاضعة للحسم، وأن القرارات المتعلقة بالمصلحة العامة لا يمكن أن تتخذ إلا بعد نقاش علني وسجالي يكون مفتوحا للجميع، تتعارض فيه الأقوال المدعمة ببراهين.»[11]. وعليه، فظهور الفلسفة كان رهينا بوجود المدينة-الدولة التي تسهر على إتاحة حيز من الزمن، للانشغال بالهموم الفكرية والبحثية التي تسمح باستنتاج واستنباط جملة من المبادئ والقوانين التي تنظم حال الوجود والطبيعة والإنسان.

بالإضافة إلى ما سبق، إن الأمكنة التي كانت مخصصة للدراسة والتعلم في الحضارة الإغريقية، كان يطلق عليها اسم (Schola) التي تعني في المعنى اليوناني القديم «وقت الفراغ»[12]. مما يفيد أن التعلم لا يمكن أن يتم إلا في وقت الفراغ الذي يكون وقتا قد تخلص فيه الإنسان من كل مطبات الحياة ومشاغلها. بل حتى المناظرة التي كانت تقام بين من يدعي بكونه حكيما أو فيلسوفا، كانت تسمى باللغة اليونانية (Diatriba) التي تعني في الدلالة العامية آنذاك «تمضية الوقت»[13]، وكأن مكان التعلم؛ أي المدرسة بلغتنا اليوم هي فضاء لتمضية الوقت، بل هي كذلك، غير أنها فضاء لتمضية الوقت فيما ينفع الذات، فيجعلها في حالة إدراك لنفسها ووجودها، لا فيما يضرها، فيجعلها في حال جهل ونكوص[14]. وبناء عليه، فالفلسفة قد انطلقت نمطا من التفكير في مسارها الذي يمتد لقرون، نتيجة وجود المدن-الدول العظيمة التي سمحت بوجود وقت للفراغ.

وإن كان هذا المسار سيعرف تبدلات وتغيرات من حيث أسس التفكير ومضامينه. بحيث إذا كان الفكر الفلسفي القديم يقوم في بنيته الميتافيزيقية على مجموعة من المبادئ النظرية مثل، العلم بالكليات، والتفكير القائم على ما هو مكاني (فوق- تحت)... إلخ، فإنه في العصر الأوروبي الحديث، سيتم الانتقال من مستوى العلم بالكليات إلى العلم بالجزئيات، ومن التفكير القائم على المكان إلى التفكير القائم على فكرة الزمان؛ أي ما قبل وما بعد، نتيجة جملة من الشروط النظرية (الدين، العلم...) التي سمحت بذلك[15].

***

د. لوكيلي عبد الحليم

أستاذ مادة الفلسفة - المغرب

....................

المصادر والمراجع

[2] توماس هوبز. اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة. ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب؛ مراجعة وتقديم رضوان السيد. ط. 1. (أبوظبي: معهد أبو ظبي للثقافة والثرات، 2011)، ص.631.

[3] المصدر عينه، ص.631-632.

[4] المصدر عينه، ص. 632.

[5] إبراهيم بورشاشن، (2023)، الفلسفة والمدينة. موقع (https://www.alittihad.ae). نشر يوم 07 أبريل 2023، وقد تم الاطلاع عليه يوم 06-05-2023.

[6] المرجع عينه.

[7] توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق، ص. 632.

[8] تجدر الإشارة إلى أن المقصود هنا، ليس الحديث عن الفلسفة النظرية التي لم تظهر إلا مع فلاسفة اليونان (أفلاطون وأرسطو نموذجين)، بل الحديث عن الفلسفة في بعدها العملي كنمط من التفكير والتأمل في الذات ومعيشها ومحيطها.

[9] توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق، ص. 632.

[10] المصدر عينه.

[11] جان بيير فرنان. بين الأسطورة والسياسة. ترجمة جمال شهيد. ط.1. (دمشق: دار دمشق، 1999)، ص. 67-68.

[12] توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق، ص. 633.

[13] المصدر عينه.

[14] يشير الدكتور محمد الشيكر في مقاله «هيجل والتربية» إلى أن لفظ (Scholae) «ينطوي (...) في اللغة اليونانية على دلالة «محل أو مكان الدروس»، ولكنه يدل في ذات الآن على معنى الترفيه، مما يشي بأن المدرسة هي مكان للجد واللعب في آن.». أنظر:

-محمد الشيكر. «هيجل والتربية». ضمن أعمال ندوة «فلسفة الأنوار ومسألة التربية». بكلية الآداب والعلوم الإنسانية-القنيطرة، 01 دجنبر 2016. ط.1. (الرباط: دار أبي رقراق للطباعة والنشر، 2018)، ص. 196.

[15] عبد المجيد باعكريم وآخرون. "أولويات البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية والشرعية في العالم العربي". ط. 1. (قطر: مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية، 2020)، ص. 66.

 

1.مقدمة في اللسانيات التنموية

1.1. نظرة استكشافية: يقول جان بول سارتر" الإنسان هو اللغة، إن الإنسانَ هو أولا ما يقولُه"،[1] لكن اللغة تتعدى هذه المقولة وتتعدى بذلك كونها تعبيرا عن الفكر أو وسيلة للتواصل إلى كونها وسيلة الحركة الإنسانية كلها، سواء تعلق الأمر بالمجال العلمي، الاجتماعي، التربوي، الاقتصادي، أو السياسي، فاللغة وعاء ذلك كله ووسيلة ذلك كله، وإذا تراجعت اللغة توقفت الحركة الإنسانية وتوقف معها الاتصال والتواصل بل وحتى التفاهم، حتى لو كان بإمكاننا تصور مجتمع بدون نظام لغوي فلا يمكننا تصور وضع راهن لمجتمع بدون مراكز بحث وعلوم ومؤسسات تعليمية ووسائل اتصال ومعاملات بنكية وتجارية... ولا يمكن تحقيق أي من هذه الأنشطة بدون لغة، مادام التطور والتقدم مرتبط بالناس فإن المساهمة التي يطلب منهم تقديمها هي من خلال المشاركة في التواصل ونشر المعلومات وتبادل المعرفة والتغذية الراجعة واكتساب المهارات، وما ينبغي ملاحظته هو أنه عندما ينظر إلى الأسباب التي تؤدي إلى الفشل في تحقيق أهداف التنمية لا يتم ذكر اللغة كعامل مساهم بل يُنظر إلى التنمية من منظور ضيق يرتبط بما هو اجتماعي واقتصادي مع إهمال العامل البشري، فاللغة هي الحلقة المفقودة في محاولات النهوض بالمجتمعات البشرية. وهذا ما يجعلنا نتساءل: كيف يمكن للغة أن تساهم في تحقيق التنمية؟ - وما دور اللغوي في ذلك؟

1.1.1.نظرة في المصطلح

- مفهوم اللسانيات

تعد اللسانيات la linguistique من العلوم المستحدثة، حيث يوثق لظهورها بداية القرن العشرين، ورغم ذلك احتلت مكانة كبيرة في حقل العلوم الإنسانية، أطلق عليها العرب عدة تسميات من قبيل: اللسانيات، اللّسنِيات، الألسنية، وعلم اللغة العام، وفقه اللغة، وعلم اللغة، وهي تسميات لمصطلح واحد أخذ جذره اللغوي من مادة لسن، و"اللسن الكلام ولاسنه ناطقه"[2]. يعرفها الحليلي" أنها العلمُ الذي يدرس اللغات الطبيعية الإنسانية في ذاتها، مكتوبةً أو منطوقة كانت أم منطوقة فقط ... وتهدف إلى وصف وتفسير أبنية هذه اللغات واستخراج القواعد العامة المشتركة بينها والقواعد الخاصة التي تضبط العلاقات بين العناصر المؤلفة لكل لغة على حدة[3]، هذا التحديد لا ينفي انشغال العلماء والفلاسفة قديما باللغة غير أن انشغالهم هذا كان مجرد انطباعات حول اللغة أخذت صفتها العلمية مع ظهور لسانيات دو سوسير التي شكلت مهد الدراسات اللغوية التي سادت في أوروبا وأمريكا بكل اتجاهاتها إلى حدود يومنا هذا، وحسب الحليلي لا ينظر إلى موضوع اللسانيات على أنه اللغة بمعناها العام أي الملكة اللغوية والقدرة على اللغو بغض النظر عن العرق والجنس والمجتمع، وإنما هو اللسانla langue ذلك النسق من القواعد المجردة العامة المشتركة بين المتكلمين داخل مجتمع واحد.[4] وهذا إن دل فإنما يدل على أن أصل اللغة عند الأفراد نابع من طبيعتهم الاجتماعية التي تلازمهم، ومن حاجاتهم إلى التواصل مع الأخر.

-مفهوم التنمية

جاء مفهوم التنمية في المعاجم العربية بمعنى الارتفاع والزيادة،[5] وارتبط هذا التعريف بالمعنى الاصطلاحي أيضا، فتعلق حصرا بالجانب الاقتصادي والاجتماعي، فكانت العناصر المادية هي المحدد الأساس للتنمية، لكن لاحقا اتسعت الرؤية بخصوص هذا المفهوم وأصبحت أكثر شمولية، فعندما تُحدد التنميةُ بدقة بحيث ترتبط بنمو الإنتاج وارتفاع الناتج المحلي الإجمالي أو الدخل الفردي وتوزيع الثروات والاستثمارات الأجنبية، فنحن هنا أمام وضع يسمى" بالنمو الاقتصادي" وليس" التنمية الاقتصادية"، لأن الوضع الأول مرتبط بالقيمة والسلع والخدمات، بينما الوضع الثاني يرتبط برفاهية المواطنين، بحيث من الممكن تحقيق نمو اقتصادي دون تنمية اقتصادية، فقد تُسجِّل دولةٌ ما ارتفاعا في الناتج المحلي الإجمالي بينما يعيش أفرادها في فقر مدقع، لكن لا يمكن إنكار أن النمو الاقتصادي أحدُ جوانب عملية التنمية المستدامة، فهذه الأخيرة هي الغاية بينما النمو الاقتصادي مجرد وسيلة.[6]

إن التنمية الحقيقية ينبغي أن تهدف إلى التحقيق الكامل للإمكانات البشرية وتوظيف موارد الأمة لصالح الجميع، فالتنمية سواء كانت محددة بشكل ضيق أو واسع لا يمكن تحقيقها ما لم ينخرط الجميع في عملية التنمية، وهذا الانخراط يتطلب حتما قدرة الناس على الوصول إلى بعضهم البعض، لذلك يمكننا ربط مفهوم التنمية بالنقط التالية:[7]

الاهتمام بتطوير المجتمع يبدأ من تطوير الفرد.

ترتبط التنمية الشاملة للأمة بمشاركة أكبر قدر من الناس خاصة الأكثر حرمانا.

يُفهم مفهوم التنمية على أنه عملية شاملة تسمح للسكان بتحقيق رفاهية ليس فقط على المستوى الاقتصادي، بل أيضا في المجالات ذات الأولوية كالصحة والأمن الغذائي والتعليم والبيئة...

رغم تعقد الأوضاع الاجتماعية في المجتمعات الفقيرة إلا أن التراث اللغوي إذا ما توفرت له الإدارة المناسبة يلعب دوره في دعم التنمية بهدف تحقيق قدر معين من الاستدامة.

خلق المعرفة وتداولها وتقاسمها عوامل تسهم في التقدم.

المدرسة ليست المكان الوحيد لتعزيز اللغات الهوية.

أ-مؤشرات تقييم التنمية

باعتبار التنمية هي التحسين المستدام لشروط حياة السكان على جميع المستويات، تم وضع مؤشر للتنمية يتألف من المعايير التالية: [8]

مستوى الرعاية الصحية، ويشمل أمد الحياة ونسب وفيات الأطفال.

المستوى الثقافي والتعليمي، ويحدد على أساس نسبتي التمدرس والأمية.

مستوى الدخل الفردي الذي يساوي حاصل قسمة الناتج الوطني الخام على عدد السكان، وفي ارتباط التنمية بالمؤشر الأخير فهي بذلك تتخذ أبعادا اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية.

ويُعتمد في دراسة التنمية على مقاربات عدة من قبيل:[9]

المقاربة الاجتماعية: وتقوم على مؤشرات اجتماعية مثل: نسبة الفقر والأمية والتأطير الطبي.

المقاربة الديمغرافية: وتقوم على مؤشر نسبة الولادات والوفيات والتكاثر الطبيعي.

المقاربة السياسية: تعتمد التنمية السياسية، على مستوى الديمقراطية وحقوق الإنسان خاصة في الدول النامية.

المقاربة البيئية: تركز على مراعاة البعد البيئي في مخططات التنمية.

ب- أنواع التنمية

لقد كان مفهوم التنمية- منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية عقدِ الثمانينات- قاصرًا على كمية ما يحصل عليه الفرد من سلع وخدمات مادية، ولكن مع تدشين مفهوم التنمية البشرية عام (1990) عندما تبناه برنامج الأمم المتحدة للإنماء، أصبح الإنسان هو صانع التنمية وهدفها. فصار الحديث يتناسل عن المؤشرات الجديدة على هذا المفهوم، وكيف السبيل إلى تحقيق جودة حياة لهذا الإنسان، من خلال الارتقاء بمستويات عيشه المادية والمعنوية في توازن مع محيطه وثقافته وتاريخه ولغته.[10] إن التنميةَ مفهوم واسع يشمل جوانب متعددة تتعلق بتطوير المجتمعات والارتقاء بجودة حياة الأفراد، ويمكن التمييز فيه بين ثلاثة أنواع:

التنمية الشاملة: التي تركز على جميع جوانب حياة الأفراد، فهي عبارة عن عملية مجتمعية تهدف إلى إيجاد مجموعة من التحوّلات الهيكلية وذلك بتوجيه جهود الأفراد الواعية وتسخيرها عبر تحفيز الطاقة الإنتاجية لديهم من خلال تحقيق الحياة الكريمة والعيش برفاهية عبر التعليم والصحة والتركيز على جميع طبقات المجتمع، وفتح آفاق أمام المرأة للانخراط في كافة مجالات الحياة وتعزيز مفاهيم الثقافة الوطنية.[11]

التنمية المستدامة: ظهر هذا المصطلح مع الحاجة إلى تصور نموذج مجتمعي قادر على بلوغ اندماج ثلاث مكونات هي: التنمية الاقتصادية واحترام حقوق الإنسان وحسن تدبير موارد طبيعية محدودة، ترجع جذورُه إلى القرن التاسع عشر حيث تزامنت من الانشغالات الأولية بالبيئة والمناخ، لاحقا ومع توالي الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية- خلال القرن العشرين- سيتم إرساء المفهوم بشكل رسمي خلال قمة الأرض ريو(1992)، وتسعى التنمية المستدامة إلى تلبية احتياجات البشر في الوقت الراهن دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تحقيق أهدافها،[12] كما تركز على ثلاث دعامات، هي: النجاعة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والجودة البيئية،[13] ففي 20 شتنبر (2010) اعتمدت قمة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة قرارا بعنوان" تحويل عالمنا: جدول أعمال (2030) للتنمية المستدامة شمل 17 هدفا و 169 غاية، يمكن تلخيصها إلى ثلاثة أهداف كبرى:[14]

الاستدامة البشرية: تهدف إلى تطوير قدرات الإنسان لخدمة نفسه ومجتمعه من خلال تحسين الظروف التعليمية والثقافية والصحية، وإشباع حاجياته المادية والروحية والمعنوية لضمان دوره الفعال في عجلة الاقتصاد والمجتمع والبيئة.

الاستدامة البيئية: تهدف إلى الارتقاء بالبيئة وحماية عناصرها ومكوناتها عبر التعريف بهذه الأخيرة والتحسيس بأهمية التأثريات البيئية على مختلف الكائنات الحية، والتعاون بين الدول لترشيد الاستهلاك والاكتظاظ السكاني والتحكم البيئي.[15]

الاستدامة الاقتصادية: تهدف إلى زيادة الدخل الوطني وتحسين مستوى المعيشة وتقليل التفاوت في الدخل والثروات وبناء الأساس المادي للتقدم.

التنمية البشرية: مفهوم التنمية البشرية يستند إلى الإنسان وتكون غايته الإنسان، فهدف التنمية البشرية هو تنمية الإنسان فيمجتمع ما، من كل النواحي: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلميةوالفكرية، يُعرّف هذا المفهوم على أنه تطوّر الأشخاص واستغلالُ نقاط القوة لديهم لتحسين مستويات الحياة الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية، من حيث تحفيز وتعليم الإنسان كيفية استثمار العناصر المتاحة من وقت ومال وجهد وعلاقات لتطبيق نظرية التطور الاجتماعي التي تعطي للإنسان قيمة وأهمية باعتباره العنصرَ الفاعل والأبرزَ في عملية التطور، إضافة إلى أهمية تحقيق المواءمة بين احتياجات الإنسان ومتطلباته وبين الظروف المحيطة به على الصعيدين المادي والمعنوي ومدى التأثير المتبادل بينهما.[16]

أخلُص من خلال هذا الفصل إلى أن التنمية الشاملة عملية تنموية متكاملة تستهدف جميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية لتحقيق النمو والتقدم المتوازن؛ تسعى إلى تحسين مستوى المعيشة في جميع المجالات دون ترك أي جانب متخلف، بينما التنمية المستدامة تهدف إلى تحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي مع الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية للأجيال القادمة. تعتمد على مبدأ الاستدامة، أي تلبية احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها، أما التنمية البشرية فتركز على تحسين القدرات الفردية مما يمكن الأفراد من المشاركة الفعالة في عملية التنمية. تُعتبر العنصر الأساس في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة. بعبارة أخرى، التنمية الشاملة تهتم بجميع القطاعات، والتنمية المستدامة تُراعي الحفاظ على الموارد، والتنمية البشرية تُركز على الإنسان كمحور أساسي للتقدم.

2.1.1. مسوغات العلاقة بين اللغة والتنمية:

إن علاقة اللغة بالتنمية هي حقيقة لا تحتاج توضيحا ولا تفسيرا، فهي في حد ذاتها علاقة بين اللغة والقوة، خاصة في ظل عولمة السوق واقتصاد المعرفة؛ لأن اللغة، اليوم، أصبحت تستند إلى المعرفة فتجاوزت بعدها الإيديولوجي إلى كونها إحدى أعمدة التنمية المستدامة؛ لقد أصبحت لها أهمية كبرى في النشاط الاقتصادي في العصر الراهن لتعدد مجالات استخدامها تبعا لتعدد أدوات الاتصال التجاري بين الأفراد والشعوب حتى أصبحت هي الأخرى ينظر إليها على أنها سلعة ذات قيمة تبادلية تتزايد مبيعاتها في ظل الطلب المتنامي عليها، ومن ثم أصبحت ذات قيمة سوقية تسهل تلبية حاجيات الأفراد وتوسع مجال الفعل لديهم، إذا كانت النقود وسيطا للتبادل فإن اللغة تسهل التبادل، وهذه القيمة السوقية للغة تخضع للعوامل الاقتصادية، لقد ذهب كل من ليبينتز ودايفيد هيوم ويوهان جورج هامان إلى أن اللغة ليست قيمة في حد ذاتها بل تنطوي أيضا على القيمة الاقتصادية، فاللغة اليابانية- عكس الصينية- ارتفعت قيمتها في السوق العالمية للغات الأجنبية خلال العقد الماضي، وهو تطور يشبه إلى حد كبير ارتفاع قيمة الين في سوق العملات، حيث أصبحت اليابان شريكا تجاريا مهما لعدة بلدان على مستوى القارات.[17]

وفي ظل حركية العالم أعطى المجتمع الدولي أهمية كبرى لما يسمى ب"اقتصاد المعرفة "، وذلك من خلال تقارير التنمية البشرية التي أصدرتها العديد من المحافل والمؤسسات الدولية حيث أصبح ينظر إلى المعرفة على أنها رافعة للاقتصاد نحو التنمية والانتعاش، لكن ما علاقة اللغة باقتصاد المعرفة؟ وما مدى قدرتها على حمل مشروع المعرفة نحو التنمية؟

ترتبط المعرفة بالسياسات الاقتصادية لأن تطوير الإنتاج الاقتصادي رهين بالمشاريع العلمية المعرفية التي يتم التخطيط لها، فهي تتعلق بمعرفة المعلومات المتداولة في سوق الاقتصاد، أما اللغة فهي أداة حصول هذه المعرفة ودلالة اللغة على المعرفة الاقتصادية يجعلنا أمام وظيفة جديدة للغة وهي "الوظيفة الاقتصادية" إلى جانب الوظيفة التعليمية والإعلامية والسياسة للغات داخل البلد.[18]

فالمعرفة هي القوة المُتوِّجة والموجهة للقوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية والمالية والثقافية، تتجلى من خلال الاستثمار في الرأسمال البشري عبر توفير نظام تعليمي متين في جميع مراحله، ونظام تأهيل مبني على كفاءات متمكنة، وبناء عقول مبتكرة ومنفتحة على كل جديد ومواكِبة له، فالعنصر البشري من أهم العوامل التي تصنع التنمية ووسيلته في ذلك اللغة، فالإنسان جيد التعليم والتدريب على العلوم المعاصرة والتقنيات الحديثة والمتشبث بتراثه و ثقافته وحضارته، هو القادر على تحقيق التنمية الشاملة خاصة في ظل عالم سريع التغير يعرف طلبا متزايدا على الاستثمار في اعتماد الذكاء الاصطناعي وفي التعليم. [19]

لذلك يرى بيرجيت بروك أنه ينبغي أن يكون التعليم في قلب أجندة التنمية بسبب المساهمة التي يقدمها في العديد من المجالات التنموية، بما في ذلك التوظيف والصحة والاستدامة البيئية وبناء السلام والأمن الغذائي وأيضا تعزيز الحقوق الديمقراطية والمواطنة، ومن هذا الجانب أيضا يرى ميرسير أنه "لتحسين نتائج التعلم يجب أن يتم التركيز على دعم تطوير واستخدام لغة التدريس ومحو الأمية..."، [20] وقد ركز تقرير الأمم المتحدة عن التنمية المعرفية في العالم العربي على ضرورة العناية بالتعليم المبكر وضرورة إقامة تعليم عال وتقني باللغة العربية مع تقوية الجهد في تعليم اللغات الأجنبية حتى تحصل قدرات التملك والتفكير وتنمية القدرات الذهنية والإبداعية للفرد وإقامة جسور التداخل والتكامل بين التخصصات، وبالتالي فاللغة هي رابطة العقد في منظومة المعرفة.[21]

فالنهوض بالمجتمع يبدأ أولا بتطوير الأفراد من خلال الاستثمار في تعليم اللغة ورفع مستوى الوعي وتعزيز وسائل التعبير لديهم من أجل الانفتاح على خبرات وتجارب وعلوم الآخرين، أو بالأحرى يمكننا القول: التنمية الشاملة بوابتها التنمية اللغوية.

إذن يمكن النظر إلى هذه العلاقة السببية بين اللغة والتنمية كما يلي:[22]

اللغة رافعة من رافعات التنمية الشاملة والمستدامة.

اللغة محفز للإبداع والابتكار والنهوض متى امتلكت بالأمة الآليات لذلك.

اللغة عامل مهم لنشر المعرفة بشكل موسع مما يسهم في تشكيل مجتمع المعرفة.

اقتصاد المعرفة اقتصاد بديلٌ قوامه مجتمع المعرفة.

3.1.1.لسانيات من أجل التنمية:

إن التحدي الذي أصبح يمثله التراكم المعرفي السريع في سباق مع زمن العولمة نحو المواكبة والإنتاج يقود بشكل مستعجل إلى تهييئ لغوي موجه بشكل صريح نحو تعزيز التقدم الاجتماعي والاقتصادي في ظل التطور العلمي، الشيء الذي يضعنا أمام سؤال: كيف يمكن تأسيس لسانيات موجهة بالتحديد للقيام بهذه المهمة؟

تتفق الدراسات الحديثة على أن الخطاب العلمي لا ينشأ دائما من الفضول العلمي بل أحيانا من الضرورة الاجتماعية، ودليل ذلك حسب جراوتزgrawitz ما عرفته العلوم الاجتماعية من تطور بفعل تأثير تجربة الحرب العالمية الثانية،[23] وبالتالي فإن الحديث عن علاقة اللغة بالتنمية ينقلنا من مجال اللسانيات التقليدية، التي تعنى بدراسة اللغة على أنها نسق رمزي وظاهرة مستقلة عن السياقات الاجتماعية، الغرض من دراستها هو فهم القواعد والأنظمة اللغوية، إلى مجال اللسانيات التنموية التي تتعامل مع اللغة في سياقها الاجتماعي وتعتبرها جزءا من النسيج الثقافي وتركز بالضبط على العلاقة القائمة بين اللغة والتنمية الاجتماعية.[24]

نجد في الأدبيات ثلاثةَ منظورات تتساءل عن العلاقة بين اللسانيات والتنمية: تنمية اللغة عند الفرد ( الاكتساب اللغوي أو المستوى التطوري) تنمية اللغة في المجتمع ( التخطيط والسياسة اللغوية أو المستوى البنائي) قيمة اللغات على مستوى الموضوع أو المجموعة(اقتصاد اللغات، أو المستوى القيمي/ الإيديولوجي)، هذه المنظورات ترتبط مع بعضها البعض، حيث ترتبط قضايا اكتساب اللغة (وأيضاً التعلم وحتى فقدان اللغة) بشكل مباشر بظروف انتقالها ومكانتها في المجتمع، فمثلا لم نعد نتحدث عن انتقال اللغة من الآباء إلى الأبناء( اللغة العامية)، بل أصبحنا أمام فرض لغة مرموقة في المدرسة، كونها حاملة للمستقبل والتنمية التقنية والاقتصادية؛ كما هو الحال بالنسبة للغة الفرنسية واللغة الإنجليزية في شمال إفريقيا، حيث تشكلان إطاراً للعديد من الاختيارات الفردية والعائلية والجماعية، والتي غالباً ما تمليها رؤية نفعية للغات الطبيعية.[25] وفي السنوات الأخيرة تم إثراء هاتين اللغتين من خلال منهج جديد يطلق عليه اللسانيات التنموية أو لسانيات من أجل التنمية( الاجتماعية)، حيث يتم استخدام أدوات عالم اللغة في خدمة التنمية، ويرتبط ظهور هذا النوع من اللسانيات والذي هو فرع من اللسانيات التطبيقية بظهور ثلاث حالات طارئة والتي تتطلب بطبيعة الحال اللغة والخطاب:

ظهور مفهوم التنمية المستدامة، وبالتالي صعود الخطاب البيئي.

التنوع اللغوي وارتباط قيمته بقيم التنوع البيولوجي.

الدفاع عن الحقوق اللغوية باعتبارها حقوقا إنسانية في حد ذاتها، وهذا في إطار منظور عام يتعلق بإنهاء الاستعمار وتمكين الشعوب والأفراد وتقرير مصيرهم.

باختصار، اللسانيات من أجل التنمية هو برنامج بحث عملي يحشد الموارد اللغوية استناداً إلى تشخيصات دقيقة، لتحسين الظروف المعيشية للأفراد والمجتمعات المهمشة- وهذا التحسين هو ما يسمى ب"التنمية"- وذلك من خلال إعادة تأهيل و إحياء اللغات المحلية من أجل تعزيز الهوية الثقافية وتقوية الروابط الاجتماعية داخل هذه المجتمعات، وتطوير برامج تعليمية تتناسب مع اللغات والثقافات المحلية، مما يسهل الوصول إلى تعليم شامل، بالإضافة إلى تعزيز المشاركة المجتمعية للأفراد وفك العزلة عن الجماعات المهمشة( الرحل والمهاجرون)، وتحليل الخطابات السياسية والإعلامية والوقوف على مدى تأثير اللغة في الوعي العام والسياسات العامة.[26]

إن الغايات التي تهدف إليها اللسانيات من أجل التنمية تجعلنا نفهم مدى حرصها على تحقيق مشروعيتها العلمية من خلال توسلها بالآليات الإجرائية التي تسمح لها بتحويل المجال الاجتماعي وتحسين ظروف عيش البشرية، إنها تظهر في سياقات اجتماعية واقتصادية تتسم بالفشل الواضح للسياسات التي تجاهلت البعد البشري في التنمية، إن هذا الفرع من اللسانيات لا يظهر إلا في تظافر اللغة والمجتمع ، لكن طموح المرحلة الراهنة لا يتلخص في إثارة إشكالية العلاقة بين اللغة والمجتمع بقدر ما يتلخص في إثبات دور الدارسين اللغويين في المشاركة في التنمية البشرية،[27] يؤيد هذا الرأي عدد من الباحثين الرائدين في هذا المجال أمثال: بوت با نجوك Bot Ba Njock توماس بيرث Bearth thomasبيبان تشومبو Beban Chumbow ديكي كيديري Diki-Kidiri وتادادجوTadadjeu, وتورنوكس Tourneux وسيلاSylla (المؤسس المشارك للجمعية الإفريقية للتعليم والتدريب من أجل التنمية) SAFEFOD)) من بين آخرين، واعترافهم بمدى مساهمة البحث اللساني في تنفيذ استراتيجيات لصالح التنمية،[28] نلاحظ إذن أن المساهمات البحثية تأتي من العقول الإفريقية، لذلك ليس من الغريب أن تكون مجلة"Jeynitaare" مجلة إفريقية خاصة باللسانيات من أجل التنمية، وأن تكون الشبكة الدولية "POCLANDE " ( السكان والثقافة و اللغات والتنمية) قد تأسست كتجمع علمي في عام (2018) في أكرا (غانا) خلال مؤتمر دولي لعلم اللسانيات إفريقية، وبفضل هذه الشبكة تكتسب اللسانيات من أجل التنمية بعدها الدولي بشكل متزايد وتتشكل بما يتماشى مع المجالات التي تعمل فيها خاصة: بأمريكا اللاتينية و الشمالية( من خلال البحث في اللهجات)، والنموذج الكندي( الحقوق والواجبات اللغوية) و حتى أوروبا الوسطى والجزر ذات الأقليات بها،[29]وتظهر أهمية هذا الفرع من اللسانيات من خلال الاختيار المتكرر لهذا الموضوع في سياق العديد ما الأحداث والمحافل الدولية، أذكر منها:[30]

الدفاع عن اللسانيات التنموية كجزء من برنامج عمل لتوجيه البحث في جامعة سوربونSorbonne( 2009).

نشر عمل تورنوكس(اللغات والثقافة والتنمية في إفريقيا)(2008).

اختيار موضوع اللغة والتنمية كمشروع بالجامعة الأكاديمية في الكامرون التي نظمتها وزارة التعليم العالي في ياوندي(2007).

إطلاق مشروع LAGSUS(اللغة LanguageوالجنسGender والاستدامة Sustainability ) في ساحل العاج(2003).

انعقاد المؤتمر الدولي 23 للمنظمة الإفريقية للغات حول موضوع اللسانيات الإفريقية أداة لتنمية المجتمعات الإفريقية(2002).

إنشاء الجمعية الإفريقية للتعليم والتدريب SAFEFOD من أجل التنمية في داكار(1991).

إنشاء قسم اللغة والتنمية في LLACAN(المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي CNRS) باريس.

إنشاء برنامج اللغة والتنمية من قبل الوكالة الجامعية للفرونكفونية AUF.

ترويج مفهوم التواصل من أجل التنمية من قبل هيئات المنظمات الدولية UNICEF, UNESCO وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائيPNUD... سعيا لدمج هذا المفهوم في جميع مكونات الاتصال الاجتماعي....

وأيضا من خلال الاهتمام الذي توليه بعض الجامعات به، حيث تقدم برامج تدمج عناصر من اللسانيات من أجل التنمية الاجتماعية (LDS)، رغم أن هذا المجال لا يذكر دائما باسمه المحدد. فيما يلي بعض الأمثلة البارزة:[31]

1. جامعة بوردو مونتين (فرنسا)

- ماجستير "التعدد اللغوي واللسانيات من أجل التنمية الاجتماعية"

يقدم هذا البرنامج تكوينا في قضايا التعدد اللغوي وتفاعل اللغات، مع التركيز على الجوانب النظرية والتطبيقية المتعلقة بالتنمية الاجتماعية.

- شهادة مزدوجة بين جامعة بوردو فرنسا) وجامعة كونستانز (ألمانيا )

يتيح هذا البرنامج فرصة الدراسة في جامعة كونستانز، مما يمنحه بُعدا دوليا.

https://formations.u-bordeaux-montaigne.fr/fr/catalogue-des-formations/master-XB/master-plurilinguisme-et-linguistique-du-developpement-social-dd-konstanz-KTY6S33N.html

2. جامعة باريس سيتي ( Université Paris Cité)

- مدرسة الدراسات العليا في اللسانيات

تجمع هذه المدرسة بين عدة برامج ماجستير متخصصة في علم الاجتماع اللغوي وتحليل الخطاب، وهي مجالات وثيقة الصلة بـ LDS.

https://u-paris.fr/graduate-schools/linguistics-graduate-school/

- ماجستير في علوم اللغة - تخصص: علم الاجتماع اللغوي وتحليل الخطاب

يوفر هذا التخصص تكوينا متقدما في علم الاجتماع اللغوي، مما يسمح باكتساب مهارات قابلة للتطبيق في التنمية الاجتماعية.

https://odf.u-paris.fr/fr/offre-de-formation/master-XB/sciences-humaines-et-sociales-SHS/sciences-du-langage-K2M2HGHR/master-sciences-du-langage-parcours-sociolinguistique-et-analyse-du-discours-JT5LFIRF.html

3. جامعة جان مولان ليون 3 (فرنسا)

- ماجستير في اللسانيات والدراسات اللهجية

يوفر هذا البرنامج تكوينا معمقا في اللسانيات العامة واللهجيات، مع التركيز على مجالات مثل علم الاجتماع اللغوي، وهو مجال مرتبط بالـ LDS.

https://facdeslangues.univ-lyon3.fr/master-linguistique-et-dialectologie

الملاحظ أن اللسانيات من أجل التنمية الاجتماعية (LDS) لا تزال مجالا ناشئا، وبالتالي فإن البرامج الجامعية المتخصصة فيه نادرة حاليا. ومع ذلك، توفر العديد من الجامعات مقررات أو تخصصات في علم الاجتماع اللغوي، التعدد اللغوي، وتحليل الخطاب، وهي موضوعات قريبة جدا من LDS .

نجد من جانب آخر أن اللسانيات من أجل التنمية تستعير مفاهيمها من حقول معرفية ولسانية عدة، على سبيل المثال، نجد أن مفهوم الهوية له أصول في علم النفس، لكن إضفاء البعد اللغوي في مركز هوية الفرد يجعل منه مفهوما مألوفا في هذا المجال،[32] كما يميل التوجه العام للبحث في هذا الفرع من اللسانيات في تقاطعه مع اللسانيات الاجتماعية نحو التَّكرار من خلال تناوله مواضيع من قبيل: تخطيط اللغة[33] من أجل التنمية، والتخطيط المصطلحي والصرف تركيبي، والتخطيط الثقافي، والترجمة، والبحث في اللغات العابرة للحدود...إلخ، [34]غير أن ما تسعى إليه اللسانيات الاجتماعية عبر سياسة التخطيط هو تنظيم وإدارة اللغات في مجتمعات التعددية اللغوية، بينما تسعى اللسانيات التنموية إلى استخدام اللغة كأداة للتغيير الاجتماعي في البلدان المهمشة، خاصة تلك التي كانت مستعمرة سابقا والموجودة شمال إفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، والتي تحارب من أجل تجاوز التحديات التي تواجهها للهروب من الفقر،[35] هنا سنجد أنفسنا بين مفهومين متداخلين:" تنمية اللغة" و" لغة التنمية"، فلكي تعمل اللغة كرافعة للتنمية يجب أن تكون أولا وظيفية وقابلة للاستخدام، فإذا أردنا استخدام تنوع لغوي معين لتحسين مستوى التماسك الاجتماعي لمجتمع ما، ينبغي أولا توثيقُ هذا التنوع وتوحيدُه علميا في كل من الشكل الشفهي والمكتوب، ولا يتم ذلك إلا من خلال التخطيط للغة وقدرتها على أن تكون متداولة في الفضاء العام،[36]وهذا يضعنا أمام التساؤل من جديد عن ماهية العملة اللغوية التي يمكنها المساهمة في تحقيق التنمية، هل هي اللغة العالمة أم اللغة الأم أم هما معا؟

خلاصة:

لم يأت الوقوف على اللغة على أنها استجابة آنية ومستقبلية للحاجة التنموية داخل المجتمع، عبثا؛ بل هو نتاج الوعي بقيمتها و بأنها الوسيلة الأنجع والسبيل الصحيح نحو التغيير، وأيضا بعد استيعاب مدى الخطر الذي قد تسببه الخلافات اللغوية داخل المجتمعات، ففهم تأثير اللغة على الأفراد والمجتمع عبر الأجيال موضوع يستحق البحث والدراسة العميقة، خاصة في ظل التحولات الثقافية والسياسية التي يشهدها العالم، إذ إن اللغة ليست وسيلة للتواصل فقط؛ بل هي نظام معقد يؤثر في الهوية الوطنية والسياسة التعليمية والاستراتيجيات اللغوية داخل الدول والتنمية المستدامة، إن السعي نحو العمل على اللغة كمجال استراتيجي ذي أولوية يؤثر على مختلف الميادين، هو ما جعل الدراسين اللغويين يعيدون التفكير في طرق استثمار الدراسات اللغوية وفي سبل جعل البحث اللساني مفتاحا لتقدم الأوطان وتعزيز مكانة اللغة عالميا.

***

الطالبة الباحثة: زينون غزلان

ماستر تحليل الخطاب وقيم التنمية

........................

لائحة المراجع العربية

ابن فارس (2008)، ج2، مقاييس اللغة، باب النون والميم وما يثلثهما، تحقيق ابراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية.

حليلي عبد العزيز (1991) اللسانيات العامة واللسانيات العربية: تعاريف – أصوات، منشورات دراسات (سال)، الطبعة الأولى

فلوح أحمد، (2020) اللغة والتعليم والتنمية، مجلة السراج في التربية وقضايا المجتمع، العدد 1.

غلفان، مصطفى ( 2010) في اللسانيات العامة، تاريخها، طبيعتها، موضوعها، مفاهيمها، دار الكتاب الجديدة المتحدة، الطبعة الأولى.

كولماس فلوريان،(2000)، اللغة والاقتصاد، ترجمة: أحمد عوض، مراجعة: عبد السلام رضوان، سلسلة عالم المعرفة.

المحمود محمود بن عبد الله(2018) التخطيط اللغوي والسياسة اللغوية، تأصيل نظري، مركز التخطيط والسياسة اللغوية، العدد 6.

المقالات الالكترونية:

إدريس مقبول، اللغة العربية من سؤال الهوية إلى رهان التنمية، رابطة أدباء الشام http://www.odabasham.net

بودرع عبد الرحمان، اللغة العربية والمعرفة في سياق التنمية البشرية والاقتصادية، الرابطة المحمدية للعلماء https://www.arrabita.ma/blog

القصباوي مصطفى، مفهوم التنمية، تعدد المقاربات، التقسيمات الكبرى للعالم خريطة التنمية، موقع الشاوني التربوي http://www.histgeo.net

التنمية البشرية مفهومها، أهدافها، مقوماتها، ومعوقاتها، الشبكة العربية للتميز والاستدامة. https://sustainability-excellence.com

الأداء اللغوي والتنمية المستدامة في عصر المعرفة، اقتصاديو العرب https://economistsarab.com

المندوبية السامية للتخطيط، المديرية الجهوية لسوس ماسة، غشت 2021، أهداف التنمية المستدامة، قراءة في منهجية الإعداد والأجرأة. https://www.hcp.ma/region-agadir

عن الإعلان العالمي حول علاقة البيئة بالتنمية، قمة ريو (1992) خلال مؤتمر الأمم المتحدة

المعني بالبيئة والتنمية https://www.mdpi.com

اليحياوي إيمان، مفهوم التنمية الشاملة، موقع موضوع https://mawdoo3.com

لائحة المراجع الأجنبية

Ayo, Bamgbose,The language factor in development goals, Language Rich africa policy dialogue, university of lbadan Nigeria, The Cape Town Language and Development Conference:

Birgit Brock-utne, Language as a contributor to post-MDG development perspectives in Africa, Language Rich Africa policy dialogue, university of lbadan Nigeria, The Cape Town Language and Development Conference: Looking beyond 2015,

British council.

Giovanni Agresti (2024), Une linguistique pour le développement social, HAL open science.

Laurain, Assipolo, La monnaie linguistique : une solution pour le développement de l’Afrique ? Université de Yaoundé.

Léonie, Métangmo-tatou, (2019), Pour une Linguistique du développement, Essai d’épistémologie sur l’émergence d’un nouveau paradigme en sciences du langage, éditions science et bien commun, avenue de Bourlamaque, Québec (Québec) G1R 2P4 Looking beyond 2015, British council.

Plurilinguisme et linguistique du développement social, université Bordeaux montaigne. https://formations.u-bordeaux-montaigne

[1] غلفان مصطفى (2010) ص: 12

[2] حليلي (1991) ص: 11

[3] نفسه، ص: 11

[4] نفسه، ص: 194

[5] ابن فارس، مقاييس اللغة، ج 2، باب النون والميم وما يثلثهما.

[6] Ayo, Bamgbose, The language factor in development goals, Language Rich africa, p 98

[7]   Léonie Métangmo-tatou,(2019) P 39

[8] القصباوي مصطفى، مفهوم التنمية http://www.histgeo.net

[9] نفسه.

[10] مقبول إدريس، اللغة العربية من سؤال الهوية إلى رهان التنمية، http://www.odabasham.net

[11] مفهوم التنمية الشاملة https://mawdoo3.com/

[12] المندوبية السامية للتخطيط، ص 4

[13] نفسه، ص 4

[14] نفسه، ص 7

[15] عن الإعلان العالمي حول علاقة البيئة بالتنمية، قمة ريو https://www.mdpi.com

[16] التنمية البشرية مفهومها، أهدافها، مقوماتها، ومعوقاتها https://sustainability-excellence.com

[17] كولماس فلوريان،(2000) ص: 9

[18] بودرع عبد الرحمان، اللغة العربية والمعرفة في سياق التنمية البشرية https://www.arrabita.ma/blog

[19] الأداء اللغوي والتنمية المستدامة في عصر المعرفة https://economistsarab.com

[20] Birgit Brock-utne, Language as a contributor to post-MDG development perspectives in Africa, Language Rich Africa, P 114-115

[21] بودرع عبد الرحمان، اللغة العربية والمعرفة في سياق التنمية البشرية والاقتصادية https://ww>> يلا بانw.arrabita.ma/blog

[22] فلوح أحمد، (2020) ص: 50

[23]   Léonie Métangmo-tatou, (2019) p 39

[24] نفسه، ص 40- 39

[25] Plurilinguisme et linguistique du développement social, université Bordeaux montaigne

[26]   Giovanni Agresti(2024) pp 5-6-10

[27]Léonie Métangmo-tatou,(2019) p 39

[28] نفسه، ص 41

[29] Plurilinguisme et linguistique du développement social, université Bordeaux montaigne

[30]   Léonie Métangmo-tatou,(2019) p 46-47

[31] منقول عن الدكتور الساحلي عادل، أستاذ وحدة اللسانيات التنموية، ماستر تحليل الخطاب وقيم التنمية.

[32]   Léonie Métangmo-tatou,(2019) p 55

[33] - ميز كوبر بين ثلاثة أنواع من التخطيط: تخطيط الوضع اللغوي، تخطيط المتن اللغوي، تخطيط الاكتساب اللغوي، وأضاف أخرون: تخطيط المكانة اللغوية وتخطيط الخطاب، للتوسع في هذه الأنواع يُنظر: د. محمود بن عبد الله المحمود، التخطيط اللغوي والسياسة اللغوية، تأصيل نظري، مركز التخطيط والسياسة اللغوية العدد السادس 2018 أبريل، ص 14 -15 -16

[34] نفسه، ص: 160

[35] Laurain Assipolo, La monnaie linguistique : une solution pour le développement de l’Afrique ? Université de Yaoundé I, p1

[36]    Giovanni Agresti (2024), p 3

 

البنية اللغوية في موازاة الواقع

هل تراجعت اللغة كنسق نظامي مستقل في تعبيرها عن الوجود؟، وهل أصبحت جوهرا محايدا في فلسفة اللغة وتيارات فلاسفة التاويلية والتفكيكية والتحليلية المنطقية في تعبيرها عن المعنى الدال وتراجعت مهمة التواصل المجتمعي الى مرتبة ثانوية في خلق اللغة عوالمها الموازية لعالم الواقع الحقيقي لا تقاطعه ولا تحتدم معه بصراع ولا تتناغم معه كتكوين متموضع تجديدي؟ هل تنازلت اللغة عن مهمتها في تحقيقها الإدراك الشيئي القائم على مطابقة الدال اللغوي مع المدلول الشيئي مطابقة تامة تجعل من المدركات الشيئية بديهيات معرفية لا تقبل التشكيك بها، بعدما إكتسبت تلك الاشياء البداهة الحدسية الموجودية في مطابقة الدلالة اللغوية مع وجودها الشيئي زمكانيا.؟

فلسفة اللغة أدخلت مبحث اللغة في دوامة من المتناقضات التي إعتبرها فلاسفة اللغة وعلوم اللسانيات وفلاسفة مبدأ التحول اللغوي علي يد كل من فريجة ودي سوسير، وفلاسفة اللغة، ونظرية القراءة الجديدة وحفريات النص في تقصّي البحث عن فائض المعنى اللغوي . المعنى غير المكتشف في ثنايا تداولية اللغة بمثابة محاولة عملية إنقاذ فاشلة لمباحث الفلسفة من تقليديتها الخاوية المفرغة من مرحلة الاحتضار والموت البطيء التي كانت تعانيه طيلة قرون طويلة في دورانها المتمركز حول الانسان والمعرفة والوجود والطبيعة والعلاقات البينية بين تلك المباحث وغيرها.. ما اقصده هنا هو تشخيص الاعتلال والمرض لا يعني إمكانية الشفاء منه كما حاولته تيارات ومدارس فلسفة اللغة والتحويل اللغوي وفشلت.

الحقيقة التي لا يمكن القفز من فوقها أن التيارات الفلسفية التي عمّت وسادت اوربا وامريكا بعد أفول نجم البنيوية التي رافقت بكل إمكاناتها طروحات مرحلة ما بعد الحداثة، لم تحقق الطموح الذي كانت تتوخاه من عملية التحول اللغوي وإعتماد علوم اللسانيات وفلسفة اللغة وما يتفرع عنها في محاولة إدخال فلسفة اللغة في كل مبحث فلسفي أو مبحث معرفي حتى وصل الحد تجاوز إدخال الفلسفة بعلوم الفيزياء الى إدخالها في علوم الرياضيات وباقي العلوم الطبيعية التي تمتلك خصائصها النوعية التي تقاطع منطق الفلسفة تماما. ليس في إختلاف شكلية التعبير اللغوي بين الفلسفة التي تعتمد اللغة الابجدية الصوتية، وبين العلوم الطبيعية التي يكون تعبيرها اللغوي هو علامات ورموز ما يسمى بالمعادلات الرياضية . إنما الإختلاف أبعد من ذلك حول إهتمامات ما يشغل التفكير العلمي في تقاطعه مع ما يشغل مباحث الفلسفة. ولو نحن إستقصينا في جردة سريعة الإخفاقات التي رافقت فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات ولم تنجز اليسير مما كان يمّثل طموحا مرتجى صدر عنها وأعلنت هي عنه، فلا البنيوية ولا التاويلية ولا حتى نهايات الوجودية الحديثة، ولا التفكيكية، ولا العدمية ولا التحليلية المنطقية الانجليزية جميعهم منفردين ولا حتى متداخلين لم يتمكنوا من إسعاف بعضهم البعض ولا إستطاعوا إنجاز ما كانوا يأملونه من توظيفات فلسفة اللغة وعلوم اللغة واللسانيات بما لا يمكن حصره من مباحث وقضايا كانت فلسفة اللغة على الدوام توازيها ولا تتقاطع أو تتداخل معها حينما كانت غارقة في مثالية إعتماد مركزية اللغة هي الحل السحري لمشاكل وقضايا تاريخ الفلسفة المستعصية أو الميئوس منها..

أغلب المطلعين على مباحث فلسفة اللغة يدركون جيدا أن المبدأ العام في المنطق النظري الذي طرحته فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات كان في تمام المقبولية والإقرار بحقيقة أن معنى اللغة أضاع على مباحث الفلسفة الوصول الى مثابات إرتكاز تجديدية لم تتحقق عبر تاريخها الطويل وبقيت مباحث الفلسفة التقليدية تراوح مكانها إجترارا تقليديا لا معنى حقيقي له بات مركونا بالظل في غياب توافر ملء الفراغ التجديدي له. وقالوا مشكلة الفلسفة اولا واخيرا مشكلة تعبير اللغة في تضليلها العقل وخيانتها المعنى.

فلسفة اللغة حديثا شطرت مباحث الفلسفة شطرين: الاول أن مباحث فلسفة اللغة هي ليست الابحار العميق في تقليب صفحات تتوخى تصحيح نحو اللغة وقواعدها التركيبية لإعطاء كمال المعنى باللغة المجردة عن كل قصدية قبلية سابقة تروم وصولها.

والثاني وجدوا في مباحث فلسفة اللغة أنها لم تكن غاية بذاتها بل وسيلة تصحيح مسارات مباحث الفلسفة الغارقة في مستنقعات الإعادة والتكرار في مواضيع تتوزعها مباحث الوجود ومباحث الابستمولوجيا والمعارف، ومباحث القيم الاخلاقية الاكسيولوجيا.

لذا نجد أول من تنبّه تحاشي هذا المنزلق الخطير هم فلاسفة البنيوية التي ركنت مباحث فلسفة اللغة جانبا بعد أن كانت ألسبّاقة الاولى في فتحها فضاءات فلسفة اللغة والمعنى على مصاريعها، كما وركنت البنيوية مباحث الفلسفة التقليدية ثانيا لتقوم بطرق أبواب مباحث فلسفية جديدة لم تكن ذات إهتمام عند الفلاسفة طيلة قرون، كما نجد ذلك عند فوكو والتوسير ولاكان ودي سوسير وليفي شتراوس وباشلار وهكذا في اشتغالهم على مباحث فلسفية لا علاقة ترابطية تداخلية لها مع مركزية فلسفة وعلوم اللغة.

أبدأ بسؤال: هل فلسفة اللغة أغنت مباحث الفلسفة القديمة والحديثة التي جاءت بها؟ أم عملت على تشتيت إهتمامات الفلسفة في السير وراء تجريدات من الاشتغال على بنية اللغة كنصوص تتداولها الفلسفة بما هي لغة تشكيل علاماتي يتكوّن من نحو وقواعد وصرف خاصة باللغة شكلا ومحتوى؟ أم أن فلسفة اللغة فتحت أبوابا بحثية فلسفية كانت موصدة ولم تحقق المرجو المطلوب منها حيث أضحى تراشق تهم خيانة اللغة وبراءة الفكر في أولويات مداخل مباحث الفلسفة اللغوية التي أصبحت في متراكمها الكمّي والنوعي متاهات من التجريد الذي جعل من اللغة إنفصالا تاما عن كل ما هو جدير بالإهتمام في الحياة والانسان والعقل ناهيك عن العلم بكل تجليّاته.

هنا ربما يساء الفهم أننا نطالب أن تكون مباحث فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات ايديولوجيات تعبوية ملتزمة قضايا الانسان في حياته اليومية.من هذه النقطة الاخيرة نستعير كلمات بول ريكور في إدانة إنفصال اللغة عن الواقع الميداني، والمفارقة الغريبة هي أن بول ريكور هو الآخركان يسبح في مغطس تضليل الفلسفة بإسم الإحتماء خلف فلسفة اللغة في تاويليته. في الهورمنطيقا لكنه ربما أراد ترقيع الفتق الفاصل بين فلسفة اللغة والفلسفة ; كسردية منطقية بما أطلق عليه التاويلية أو الهورمنطيقا التي لم تغادر محكومية الإنقياد وراء فلسفة اللغة لها بمعزل تام عن قضايا الواقع والحياة في مباحث الفلسفة التقليدية.

أمام حقيقة الاصطدام أن فلسفة اللغة أصبحت إنفصالا تاما عن التزامها التعبير عن الواقع الخارجي الحياتي للانسان، وصف بول ريكور فيلسوف التاويلية إدانته الفلسفة البنيوية التي خرج من تحت عباءتها قائلا ما معناه التفكير البنيوي النسقي في البنيوية كان يتخّبط في نمطيّة كليّة من التفكير في عالم اللغة الداخلي الذي يتخّطى جميع الاشتراطات المنهجية الذي ينشدها عالم الانسان الخارجي، عليه لم تعد اللغة بعدها توسيطا بين العقل والاشياء بل البحث عن تشكيل بنية عالم لغوي منفرد خاص باللغة وحدها.

بهذه النظرة رفض بول ريكور الفكرة الأساسية التي كان دافع فينجشتين عنها بإلحاح حينما كان أحد اعضاء فلسفة تحليلية اكسفورد في وجوب التعامل مع اللغة بوصفها صورة حياتية تنمو وتتطور من خلال طبيعتها المجتمعية، وفي وجوب جريان ينابيع اللغة مع دفق الحياة في سيرورتها الدائمية. وكأنما كانت هذه الدعوة من فينجشتين هي تكفير عن ذنب إرتكبه وخرجت معالجته من بين يديه. وحتى ريكور رغم إدانته الصحيحة للبنيوية فهو عجز عن إعطاء بديل عنها.

بول ريكور في الهورمنطيقا سبق جميع التيارات الفلسفية السابقة عليه في رفضه إتجاهين فلسفيين رئيسيين أحدهما متمثلا بالفلسفة التي كانت تنادي في إصلاح معنى اللغة تمهيدا لإصلاح قضايا الفلسفة عامة في وضعها على سكة معالجتها قضايا فلسفية تكون فيها اللغة ليست بنية نسقية في تنظيم نفسها باستقلالية تامة عن عالم الانسان الخارجي والحياة والإتجاه الثاني أن اللغة كبنية نسقية تبني نفسها بنفسها كي لا تكون سلوكا نفسيا ولا نزوعا فطريا يسكن الفرد يتطور ذاتيا بمعزل أن يكون للمجتمع دورا تكامليا معه.، فأصبحت فلسفة اللغة لا علاقة لها مع وجوب معالجة قضايا إنسانية هي خارج تشكيل إستقلالية بناء نسق لغوي من التجريد لا يمكن تطبيقه ولو جزئيا على ضروب معرفية سوى ما جرى على مستوى نقد الادب كما فعل رولان بارت، وغيره من المتاثرين بتفكيكية جاك دريدا ممن وجدوا في معالم التفكيكية وبعض موروثات البنيوية إمكانية أن تكون منهاجا تطبيقيا تجديديا في ضروب مناهج النقد الادبي...

ربما يبدو مصادرة فكرية قولنا كان سعي بول ريكور تاسيس بنية لغوية هي إكتفاء لغوي ذاتي يقوم على إعتماد تطورات اللغة في مجمل التناقضات والاختلافات والفروقات القائمة داخل النظام اللغوي المستقل عن العالم الخارجي.. النسق اللغوي المكتفي ذاتيا الذي إخترعه ريكور ودريدا بفارق ليس جوهريا، هو خلق نسق لغوي إغترابي تعسّفي داخل نظام اللغة ما جعل الفلسفة الغربية تدور في مناخات البحث عن التجديد الذي قفلته مباحث فلسفة اللغة الخالية من مضمونية شكل اللغة بما هي قواعد نحوية فقط.

البنيوية واللغة

رغم أن البنيوية اشّرت وظيفة اللغة في فلسفة العقل ونظرية المعنى، أن وظيفة اللغة لم تعد تلك الوسيلة المعرفية لفهم الواقع والتعبير عن مشكلاته، وخرجت اللغة أن تكون وسيطا علائقيا بين الأفكار والاشياء. نجد بول ريكور شنّ هجوما على البنيوية من حيث أنها تعاملت مع اللغة خارج منطق اللغة في التعبير المستقل عن ذاتيتها.

فالبنيوية لم تحاول مسك تلابيب الواقع الخارجي وتوظيف نظرية المعنى في جعل علاقة اللغة بالواقع علاقة جدلية مثمرة وليست منفصمة كما أرادت البنيوية وريكور ذلك. البنيوية منذ بدايات دي سوسير عام 1905 لم تعمل على ترسيخ حيوية اللغة في ربطها بالواقع كما تبنّى فينجشتين هذا الطرح لاحقا قبيل وفاته، وكان تحذيره من انزلاق الفلسفة نحو انشاء بنيّة كليّة تجعل من اللغة اكتفاءا ذاتيا لا يؤثر بالواقع الخارجي ولا يتأثر به ويكون خطرا لم تتم معالجته. ما عدا إلتماعات متناثرة تبنّاها جورج مور في دعوته من داخل الفلسفة المنطقية التحليلية الانجليزية الى أن يكون أصلاح قضايا الفلسفة إنما يكون في إصلاح نظام اللغة التي إنحرفت الفلسفة عموما به ودعا مور الى أهمية اللغة العادية المجتمعية في تطوير الفلسفة من جهة وتطوير مباحثها من جهة أخرى.هذه الدعوة ذهبت أدراج الرياح في إصرار كلا من بيرتراند رسل أن تكون مباحث فلسفة اللغة تقوم على الرياضيات والمنطق حسب وصّية فريجة نصا وأقنع راسل فينجشتين بذلك ايضا. وكان لوايتهيد عالم الرياضيات الانكليزي دورا هاما في دعمه بيرتراند رسل واشتراكهما معا في تاليف كتابهما( مباديء لرياضيات العامة).

وإهتمام راسل بمبحث الرياضيات بشكل استثنائي يوازي لابل يفوق إهتماماته الفلسفية والمنطقية ما جعله يتنقل في مؤلفاته من مبحث لآخرفي تنويعة بدت لبعض المهتمين بالفلسفة متناقضات. والى جانب ذلك برزت مدرستي التوليدية اللغوية الفطرية لدى نعوم جومسكي، وأخرى مناوئة لها أطلقت على نفسها فلسفة السلوك اللغوي روادها ودعاتها هم الفلاسفة الاميركان ابرزهم سكينر حصرا نأتي على ذكرهم لاحقا.

الوعي واللغة

طرح الباحث اللغوي عبد القادر البار تساؤلا هاما على صعيد إشكالية اللغة مع الفلسفة. قائلا: أين يوجد معنى اللغة؟ هل يوجد في أذهان البشر؟ أم يوجد في العالم الخارجي المشترك بينهم؟ وهل يمكن للمعنى أن يتكون وينمو خارج المكونات التقليدية الخاصة بما لا يمكن تجاوزه بسهولة ؟

نجد في محاولة مقاربة فتح هذه المسالك الفلسفية أن نبدا بالوعي كمفردة مفتاحية للدخول في معترك تلك الاسئلة المتداخلة...فالوعي يمكننا تصنيفه الحذر أنه حلقة في بايولوجيا منظومة العقل الادراكية ليست لها ميزة فيزيائية غير تجريدية كما هو حال الفكر واللغة. والوعي الذي أصبح له فلسفة خاصة به. الوعي الذاتي أي تعبير ذهن الانسان عن مدركاته إنما يمتلك معان مستمدة من الاحساسات يمكن أن تكون إضافة نوعية تثري المعنى اللغوي في تعبيره.

في أغلب الاحيان لا يطابق معنى الذهن معنى الموجود المادي في واقعه الاستقلالي، كون جوهر الذهن هوإنطباعات عشوائية خارجية وليس جوهر الذهن افكارا إكتسبت كامل اليقينية، فهل نلجأ الى تفعيل دور الوعي أن يكون وسطا بين المدرك المادي ومعنى التعبير اللغوي عنه؟ الوعي يتداخل تخارجا بينه وبين ما يمتلكه الذهن من معنى لم يأخذ حيّز التنفيذ الإفصاحي لغويا له، لذا يكون الوعي توسيط بين الذهن في نقله الانطباعات المؤقتة، والمعنى الدلالي اللغوي عن الشيء المقصود. والوعي كما أشرنا هو خصيصة إدراكية ذاتية منفردة، بمعنى حينما نقول الوعي الجمعي أو الوعي المجتمعي فهذا لا يتحقق على صعيد التفكير التجريدي المنفرد بل يتحقق على صعيد التوافق غير المعلن لمجموعة من الناس في التعبير عن قضية أو عن موضوع يجمعون عليه سواء أكان ماديا أو غير مادي معين. وما يدركه الذهن من معنى هو إدراكات إنطباعية لتداعيات تفارقه بسهولة. ألذهن ليس مستودعا لتخزين الانطباعات ولا حتى الافكار. والوعي لا يعمل في فراغ ولا يعّبر عن معنى غير قصدي يمكن التأكد منه.الذهن ليس ذاكرة من جهة، ولا هي عقل تفكيري ينوب عن العقل من جهة ثانية، واخيرا الذهن ليس مستودعا لتخزين الافكار فيه.

الوعي هو معنى لغوي وحلقة غير منظورة في منظومة العقل الإدراكية، هذه المنظومة الادراكية بعضها بايولوجي عضوي وظيفي مثل الحواس والجهاز العصبي ومحتويات تكوين الدماغ، وبعضها الآخر له مناطق عصبية مسؤولة عنه في القشرة الإمامية للدماغ، وهي في حقيقتها الإفصاحية بالدلالة إنما هي تعبيرات من الفهم الادراكي التجريدي مثل الاحساسات، الاحاسيس، الذهن، الذاكرة، المخيلة، الوعي، الادراك، الفكر، واللغة. والوعي لا يكون تعبيرا أفصاحيا ذاتيا عن اشياء خارجية مادية فقط وإنما الوعي يكون إستجابة إدراكية داخلية أيضا في التعبير عن النفس والعواطف والضمير والاخلاق والسلوك وغيرها.

الوعي الفلسفي

الوعي مصطلح فلسفي تجريدي – بيولوجي غامض الولادة، والخوض في معتركه لا يسلم صاحبه من الأخطاء لكن مع هذا فالدراسات والابحاث الفلسفية العديدة بدأت التركيز على بسط الوعي كمبحث فلسفي يستحق الإهتمام الإستثنائي به. خاصة بعدما تراجعت مباحث الفلسفة امام انبثاق فلسفة اللغة والتحول اللغوي.

ومنذ منتصف القرن العشرين حينما أصبحت فلسفة اللغة هي الفلسفة الاولى، نشأ الاهتمام الملتبس حول الوعي الفلسفي، وأكثر الفلاسفة إهتماما بالوعي هم الفلاسفة الاميركان المعاصرين يتقدمهم جون سيرل وريتشارد رورتي وسيلارز وكواين يسبقهم الانجليزي جلبرت رايل فيلسوف العقل 1900- 1976 الذي انكر ان يكون هناك شيء اسمه العقل...حين وجدوا في فلسفة العقل واللغة، الارضية المناسبة للاهتمام بدراسة الوعي من الناحية الفلسفية إذ لم يروا مناسبا طغيان التحول اللغوي على مباحث الفلسفة في هيمنة الفلاسفة الفرنسيين على المشهد الفلسفي اوربيا ويبقى الفلاسفة الاميركان متفرجين، فعمدوا الى إستعارة مفهوم الوعي من عميد البراجماتية الامريكية وليم جيمس عالم النفس وفيلسوف الذرائعية الذي لخّص فهمه الوعي:

- اولا الوعي يقوم على أساس أنه ليس جوهرا مستقلا بل هو وظيفة.

نزع صفة الجوهر عن الوعي في إعتباره وظيفة فقط لا يقلل من أهميته أنه حلقة إدراكية غير فيزيائية تعبر عن جوهر العقل الذي ليس هو ماهية مفكرة فقط، لذا فالوعي يستمد جوهره من العقل بإعتباره وظيفة ملحقة لا غنى للعقل عنها. فالوعي إفصاح ادراكي وسيلته التعبيرية الفكر واللغة.

رب تساؤل يقول مالفرق بين وظائف العقل والوعي والذهن والذاكرة، وهل بمكنة وإستطاعة الوعي الإنابة عن العقل بالوظيفة الإدراكية؟ لكي نجيب:

- الوعي لا يقوم بمهمة العقل التفكيرية بل هو الوسيلة لتلك الخاصيّة العقلية..

- الوعي إستجابة ناقلة لردود أفعال العقل، وكذلك وظيفة ناقلة لإنطباعات الذهن الى العقل.

- يشترك العقل والوعي بوسيلة الفكر واللغة في الافصاح التعبيري عن مدركاتهما.

- ما يدركه العقل يدركه الوعي بالضرورة، بفارق العقل جوهر كليّ والوعي جوهر وظيفي جزئي حلقة في منظومة العقل الادراكية.

الصفة الثانية للوعي حسب وليم جيمس أن الوعي تجربة صرفة لا يمكن تجزئتها الى أفكار واشياء، والوعي ليس تجربة عقلية ولا طبيعية . وتعقيبنا عليه هو:

الوعي تجربة صرفة يمكن تجزئتها الى أفكار إدراكية لاشياء بإعتباره حلقة تابعة لمنظومة العقل الإدراكية. كل حلقة في منظومة العقل الادراكية هي جزء يمّثل نفسه بدلالة مرجعية العقل له، لكنه لا ينوب عن العقل في دلالة الادراك الكامل عن الاشياء منفردا والتعبير اللغوي عنها..

الوعي هو فكر وإحساس عن شيء شأنه شأن ووظيفة كل حلقة إدراكية مرجعيتها العقل. وليم جيمس كونه عالم نفس وفيلسوف اراد أن يجعل الوعي إنطباعا نفسيا حين يصفه ليس تجربة عقلية ولا هو تجربة طبيعية.

لا يمكن الحكم على الوعي انه ليس تجربة عقلية ولا طبيعية وهو حلقة توسيط ادراكية للعقل للاشياء.الوعي تجربة عقلية في مرجعية العقل له وليس هناك وعي يريد الافصاح عن ذاتيته من غير وصاية العقل عليه. في ذلك تعجيز وظائف العقل.

نعت وليم جيمس الوعي انه ليس تجربة عقلية ولا طبيعية في تعبير خاطيء بوضوح، فالوعي يستمد سمته العقلية من جوهر العقل الادراكي التفكيري الذي يرتبط به الوعي، ولا يمكن أن يكون للعقل مخرجات معرفية يصدرها العقل عن شيء لا يكون الوعي ناقلا لها بمعزل عن وعي العقل لمدركاته هذا محال.

قول وليم جيمس الوعي ليس تجربة طبيعية غير صحيحة، فالطبيعة وكل ما يدركه العقل يجري وفق تراتيبية نظامية طبيعية للعقل والوعي جزءا من تفكير العقل التجريدي، وليس طارئا منفصلا عنه .. والوعي هو إدراك متعال على الطبيعة وليس ناتجا عنها.كما هو شأن العقل بعلاقته بالطبيعة هو جزء منها متعال بذكائه المعرفي الخصائصي المعروف عنها.. في امتلاكه وعي الذات والموضوع معا، امتلاكه اللغة، امتلاكه الخيال، احساسه بالزمن.

اذا إعتبرنا مع وليم جيمس الوعي ليس تجربة طبيعية بمعنى ليس تجربة فطرية مرتبطة بفطرية العقل الادراكي يحوزها الانسان كجزء من تكوين العقل في وظيفته غير الفيزيائية كون الوعي تجريد لغوي يحتوي الفكر التجريدي بينما العقل تجريد ناتج عن منظومة عضوية بايولوجية هي جزء من تكوين جسم الانسان تسمى العقل الوظيفي العضوي الدماغ ومحتوياته من المخ، المخيخ، النخاع الشوكي، ومنظومة شبكة الاعصاب الناقلة والمستلمة للاحساسات والمثيرات...لا يشترط أن يكون ما هو طبيعي جزءا من الطبيعة غير منقاد لها وهو ما ينطبق على الوعي كونه حلقة إستدلالية معرفية تطال كل موجود في الطبيعة ولا تكون جزءا منها متموضعة فيها..

الوعي واللغة

تعتبر الكتابة في أبسط تعبير لها هي عملية تدوين الافكار اللغوية من حالة المشافهة المنطوقة صوتيا لسانيا الى حالة التدوين الكتابي المقروء أو المنظور الصامت. ويعتبر إختراع الكتابة طفرة نوعية في اللغة ترقى الى مستوى إختراع الانسان لغة الكلام. ويرى "غودي "أن الكتابة هي إرتقاء الى شكل جديد من أشكال التقنيّات الفكرية وبالتالي الى شكل جديد من العقلية ".بهذا المعنى تكون الكتابة هي الخروج من الخاص الى الفضاء العام بأن لغة الكتابة تصبح من حصة المجموع اولا، وتصبح الافكار المكتوبة تدوينا عابرا للتاريخ باقيا على مر الاجيال من غير إندثار بخلاف لغة الكلام الشفاهي التي تندثر في فترة زمنية محدودة.ونستطيع القول أن اللغة أوالكلام الشفاهي هو كل ما لا نتمكن من حفظه تاريخيا زمانيا الا بوسيلتي التدوين الكتابي أو التسجيل الآلي للغة المشافهة صورة وصوت. بخلاف اللغة المكتوبة التي تعتمد تدوين تفكير العقل لها.

نتساءل الآن هل توجد لغة في ما وراء المدلول الشيئي.؟

هناك ظاهرة يصفها علماء اللغة بمصطلح ما "فوق لغوية" وهي إمتلاك بعض الشعوب تجربة تقنية لغوية من دون تعلم مسّبق لقواعد ونظام نحو تلك اللغة، فمثلا عندنا في لغتنا العربية نجد الشعراء العرب نظموا الشعر موزونا مقفى بضوابط بحور الشعر قبل وضع العبقري الخليل بن احمد الفراهيدي المتوفي سنة 170 هجرية نظام العروض الشعري. أي بعد مضي قرون طويلة على تداول العرب الشعر الجاهلي وهم لا يعرفون ما معنى بحور الشعر بل كانوا يفهمون الشعر بالسليقة كلاما له ضوابط تميّزه عن النثر. كما يذهب علماء اللغة المحدثين "عدم وجود علم لغة الا اذا كان هناك علم ماوراء لغوي، اي عندما يكون لدينا لغة ماورائية ما وراء اللغة هي لتمثيل لغة اخرى تكون هي اللغة الموضوع " ومعنى ذلك إن فنون اللغة(الشعر والنثر) تنشا قبل علوم وضوابط ونحو اللغة. أي كما ذكرنا لا يشترط الابداع في اللغة أن يقوم على مدى إتقان قواعد تلك اللغة، لكنما برأينا نجد هذا الحكم نسبيا بالنسبة للغات منها اللغة العربية. حين قام الخليل بن احمد الفراهيدي في القرن الثاني الهجري بتنقيط المصحف الكريم المكتوب في وضعه علامات الحركات في ملازمتها الحروف كصوت لغوي الكسرة، الضمة، الفتحة، السكون، والشدّة والتنوين لم يكن أحدا من عرب ذاك الزمان يلحن في لفظ المفردات العربية و لا يعرف بالفطرة المتوارثة الفرق بين المرفوع، والمنصوب، والمجرور، والفرق بين الاسم والفعل والحرف وما يتفرع عنها في صياغة الجمل والعبارات. هذه الظاهرة هي مايسمى فوق اللغة. اي في القدرة على التعامل الفطري باللغة قبل معرفة ضوابطها النحوية وخصائصها المميزة لها.

فينجشتين والوضعية المنطقية

في الوقت الذي ذهب فيه فينجشتين في الوضعية المنطقية مجموعة فيّنا، التي جرى تعديلها لاحقا فلسفيا في التحليلية المنطقية الانجليزية بزعامة بيرتراند راسل، وجورج مور، وايتهيد، فلاسفة جامعة اكسفورد والتي إنضم لها كل من كارناب، وفينجشتين الذي كان استاذا للفلسفة في جامعة كامبريدج.كان لفينجشتين رأيه الخاص في إعتباره اللغة منطق قوانينه قبلية مستقلة عن التجربة لكنها أيضا تحصيل حاصل أنها لا تعني شيئا. ولا تدل على شيء في التجربة. فما قوانين المنطق إلا قواعد نحوية تنّظم تنظيما ميّسرا بفضاءات التجربة الحسّية . وأضاف أن المنطق يتكوّن من قواعد تركيبية أي تنّظم تركيبا وهذه القواعد تستخرج من مباديء تم إخيارها بطريقة تحكميّة.

التحليل النقدي والتعقيب

- كل ما هو قبلي معرفي تجريدي مستقل عن التجربة الإدراكية لا معنى له ولا يعبّر عن مدرك حقيقي مادي ولا عن موضوع خيالي.

- أصحاب الوضعية المنطقية الجدد من الانكليز وجدوا إمكانية التحدّث عن اللغة بوسيلة إستخدام لغة ثانية أطلقوا عليها "لغة اللغة" والتفلسف ما هو إلا شرح معنى لغوي بمعنى لغوي آخر. لغة شارحة بعدية للغة قبلية سابقة عليها في ملاحقة فائض المعنى.

- اللغة هي إحساس نسقي منّظم لا علاقة له بالإدراك الشيئي حسب فلسفة اللغة ونظرية المعنى، وإحساس اللغة يكون إحساسا زائفا حينما لا يكون تعبيرا لمعنى واضح الدلالة حسب المناطقة.

- بحسب المناطقة الجدد لا فرق بين زيف الإحساسات حينما تكون تعبيرا لغويا لا معنى له. ولا يمكن التحقق من صدقيته، لذا يبقى الإحساس موضع شك.

- العديد من المباحث المفاهيمية لا ينطبق عليها المنهج التجريبي النقدي الذي تنادي به الوضعية الجديدة. فكل شيء بمفهوم العلم هو موضع شك، يتطلب تبيان جوانب الإدانة فيه وتصويب أخطائه.

كارناب وربط اللغة بالعلم

يميز رودولف كارناب 1891- 1970 بين عدة وظائف للغة إما أن تدل على معنى أو تعبّر عن رغبات وعواطف. ومن واجب الفلسفة حسب المنطقية الوضعية الانجليزية أن تحصر نفسها في تحليل لغة العلم باستخدام المناهج المنطقية التي أساسها الرياضيات، وما عدا هذه المهام فاللغة تبقى مبحثا له اكثر من مدلول وخارج ميدان مباحث الطبيعة. وأدان كارناب فلاسفة اللغة الذين يضعون قيودا على الإستعمالات اللغوية، بدل الإهتمام بتجديد الشروط التي تطابق اللغة معناها.

تعقيب تحليلي

- هذه المهام للغة التي لخصّها كارناب لا تقول جديدا ما عدا ما يجب أن تقوم الفلسفة على تحليل لغة العلم بمنطق الرياضيات كما اسّس له فريجة وتبّناه بيرتراندراسل مع وايتهيد ومن قبله دي سوسير. فليس سهلا أن تكون الفلسفة تابعة للعلم بمجرد أنها تمتلك منطقا منهجيا تحليليا للعلم. وهذا لا ينفي بل يؤكد حقيقة تاريخ الفلسفة انها لم تكن تابعة للعلم تقتفي آثاره بل كانت توازيه على الدوام وتتداخل معه في نطاق ضّيق.

- العلوم الطبيعية قاطبة وليس فقط العلوم الانسانية تقوم على مبدأ إستقلالية منطق تجريدي إشاري علاماتي من المعادلات الرياضية لا يخضع الى نقد لغوي عادي سردي كما يجري في لغة نقد سرديات الادب والايديولوجيا وعلم الاجتماع والاديان التي أطلقت عليها ما بعد الحداثة السرديات الكبرى..

- أدان ريشنباغ وهو من فلاسفة الوضعية توّجه كارناب وأشياعه قائلا: أنهم يخطئون حين يحاولون البحث عن يقين مطلق، حيث ليس هناك من بديل، وإنما مجرد إحتمال. ومّيز ريشنباغ بين التحقق التكنولوجي في عصر ما، والتحقق الفيزيائي الذي لا يتعارض مع قوانين الطبيعة،.

- إنتهى كارناب في أخريات تطوره الفلسفي الفكري الى أنه يجب التوّصل الى تعريفات دقيقة للمفاهيم الاساسية التي يستخدمها العلم في إطار لغة صورية منطقية تماما.

- كما إنتهى جورج مور على العكس من لغة المنطق ضرورة العودة الى لغة الناس العاديين الجارية المتحاورة معتبرا ذلك الشرط الاساسي للتحليل العلمي الصحيح. وربط التحليل الفلسفي بكل من الإدراك العام أو الإدراك الفطري.

***

علي محمد اليوسف

 

هابرماس والفعل التواصلي

يقصد (يورغن هابرماس) بالتواصل، جعل الشيء مشتركاً، أي الانتقال من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية عبر الفعل. وقد أصبح هذا المفهوم من المفاهيم المركزية المتداولة في الفلسفة المعاصرة. اذ لم يعد الاهتمام بالتواصل منحصرا في المجال التداولي المرتبط بتبادل المعلومات وتقنيات تبليغها وايصالها، بل أصبح يشكل نظرية علمية وفلسفية مستقلة بذاتها. وتعد مرجعية (هابرماس) الفلسفية دليلا على هذا التحول. انها مرجعية استفادت من نظريات العلوم الاجتماعية التي كانت سباقة الى التمهيد لذلك التحول عندما ركزت على أن الأنا أو الهوية الذاتية هي حصيلة تفاعل رمزي مع الآخرين.

يعتقد (هابرماس) ان الفكر ما بعد الميتافيزيقي هو مفتاح الانعطاف نحو الاهتمام باللغة والتواصل، كما أن التحول من فلسفة المعرفة الى فلسفة التواصل ينطوي على تجاوز لفلسفة الذات والوعي بمختلف اشكالها ووجوهها رغبة في بناء فلسفة تواصلية، تعد اللغة أحد مكوناتها الاساسية؛ وفي هذا السياق كان اهتمام (هابرماس) بالتداولية ونظريات الأفعال اللغوية. وبالتالي يتجه (هابرماس)، تحديداً في اهتماماته الأخيرة في نظرية فعل التواصل إلى فلسفة اللغة، وذلك بهدف إثراء المساحة المعرفية للنظرية النقدية، حيث يدعو إلى ضرورة التحرر بما يدعوه بفلسفة الوعي، وهي تلك التي ترى العلاقة بين اللغة والعقل كعلاقة الذات بالموضوع. وبالتالي فإن اهتمام (هابرماس) بالمعنى والحقيقة لا يخرج عن نزوعه نحو تحديد جديد لمفهوم العقل، يتخلى عن ادعاءات الفكر الميتافيزيقي، ويُبرز أهمية الجانب التكاملي للخطاب الجدلي البرهاني، فالعقل يمتلك قدرة هائلة على التبرير ومُراجعة أساسياته وأحكامه.

كما ويسعى إلى إخراج العقلانية الأداتية إلى الأنوار العقلانية التواصلية، وهذا لا يكون إلا عن طريق تأطير العقل بمقاييس العقلنة التي ترتكز على الحجة والبرهان الأقوى والأفضل، والاعتراف المتبادل بين المشاركين في النشاط التواصلي إنه عقل تواصلي يتجاوز الذات ليكون نسيجاً من الذوات المتواصلة التي تتجاوز ذاتيتها. وتتمثل دعواه في إمكانية الإفلات من العقلانية الوظيفية التي تمارس التقنية، والتي أطبقت سيطرتها على الاقتصاد، وتحكّمت بيروقراطيتها في الدولة، لكي يعود الاقتصاد والدولة وضيفتها الطبيعية، إذ لا يمكن أن يؤدي الاقتصاد والدولة مهامها إلا باعتبارهما نسقين متداخلين، فلا يجوز من هذا المنطلق أن يحتكر السوق وحدة مهمة لإعادة التوازن. وأراد (هابرماس) تغيير الوضع القائم على السيطرة تقديم البديل الممكن للعقلانية الأداتية التي أحكمت قبضتها على الإنسان، لقد قام بإعادة التأسيس النظرية النقدية على ما يسميه العقلانية التواصلية المرتبطة بعملية التنشئة الاجتماعية التي لا تتحقق إلا بواسطة التوافق والتفاهم.

العقلانية الأداتية في نظر (هابرماس) وبعض أقطاب النظرية النقدية تمثل السيطرة، وتستلزم المستوى الشكلي في الإجراءات، لأن عرضها الأساسي عملي ونفعي، وهذا لا يخدم في نهاية الأمر سوى مشروع السيطرة لأنها أضعفت أواصر العلاقات الاجتماعية. وقد حدد (هابرماس) العقلانية بقوله: إنَّ ما نسميه العقلانية هو أولاً الاستعداد الذي نبرهن عليه ذوات قادرة على الكلام والعمل وعلى اكتساب وتطبيق معرفة قابلة للخطأ. أما العقل الأداتي أو العقلانية التقنية فهو من المصطلحات الأساسية والجوهرية في قضايا النظرية النقدية، فقد ظهر في كتابات (هوركهايمر)، تحديداً في كتابه عن (جدل التنوير)، وظهر كذلك مع (ماركيز) من خلال مؤلفه (الإنسان ذو البعد الواحد)، وهو –أي العقل الأداتي- منطق التفكير وأسلوب في رؤية العالم. ولقد استطاع (هابرماس) أن يستخلص السمات العامة للعقل الأداتي من حيث هو استراتيجية للاختزال والنظرة التماثلية للواقع وعدم اهتمامه بالخصوصية.

وبحسب (هابرماس)، فأن العقلانية الأداتية قد اختزنت دلالة السيطرة والهيمنة، وهذا ما دفعه إلى إيجاد بديل، لأن العقلانية الأداتية رسخت عقيدة الذات بقدرتها على توفير السعادة الموهومة التي جعلت الفرد تابع لإرادة الآلة، حيث نقلت الإنسان من الذات المفكرة إلى الذات المدركة حسياً، وفي هذا المجال تمدنا الملاحظة العلمية باليقين وتتراجع الوظائف التلقائية للفكر. فهي نوع من التفكير من خلاله يستبعد القرارات الأخلاقية والسياسية، وهو بذلك عقل سيء، عقل ناظم لأفعال الإنسان في إطار إنجاز غاية عملية محددة. هو نتاج انشطار واغتصاب أي نتاج سيرورة اجتماعية، فقد وصفها (أدورنو وهوركهايمر وفوكو) بأنها سيرورة الذاتية بوصفها تتجاوز قواها وتتشيأ. لذلك فهي أداة للسيطرة والهيمنة، كونها رسّخت عقيدة الذات من خلال توفير السعادة الوهمية التي جعلت الفرد تابع للآلة، لذلك شدّد على وظيفة التفاعل والحوار كبديل، ولقد أراد أن يعيد تشكل النظرية عن طريق إعادة بناء العقلانية الاجتماعية، فقدم ما أُطلق عليه بـ(العقلانية التواصلية) في مقابل (العقلانية الأداتية)، لذلك وجد (هابرماس) في الفعل التواصلي الوسيلة القادرة على الخروج من الانحراف والسقوط في التطرف. على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار إنّ (هابرماس) لا يتجاوز العقلانية الأداتية بإلغائها نهائياً، لأن هدفه هو ربط تصورات العقل الخاصة بالتصور والتواصل في إطار النظري للبحث.

ويعتقد أن التفاعلية الأداتية، والتي يعتبرها سمة من سمات الفكر ما بعد الميتافيزيقي؛ قد تجاوزت الطبيعة، لتحاول أن تهيمن على الإنسان بعوالمه الذاتية الخاصة وتجاربه مع الآخرين، والتي تهدف إلى التفاهم بشكلٍ رئيس، لا إلى الربح والنجاح والسيطرة، لذلك يؤكد ضرورة تصحيح المسار باتجاه التواصل بين الذوات الفاعلة، أو ما يُعرف بـ(النقاش التداولي)، والذي يهدف إلى فهم السلوكيات المتحصلة بين أفراد المجتمع.

والفعل عنده يقع على صورتين، الفعل الاستراتيجي الذي يتصف بالغائية، في حين يرمي فعل التواصل للوصول إلى الفهم. وإن الفعل التواصلي قد وُلد في الأساس للخروج من هيمنة العقل الأداتي، والذي يقوم على تنشيط التواصل وتمكين قيمة الإنسان في المجتمع وقد وجد فيه، أي العقل التواصلي، الوسيلة القادرة على إنقاذها –أي الحداثة-من الانحراف والسقوط في التطرق والتعصب الأعمى الذي مردّه عند الأوربيين هو عدم الثقة بالقادمين الجدد والأصل في ذلك يعود إلى انعدام الثقة بالذات، وانعدام الثقة هذا يرجع إلى التجارب التي مرَّ بها الأوربيين مع أنفسهم.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

باشلار فيلسوف فرنسي معاصر توفيقي على صعيد تفكيره الفلسفي المتأخر المختلف عن بداياته الفلسفية العلمية في مؤلفاته الاولى، يسعى باشلار في مؤلفه (جدلية الزمن) الوصول الى دمج (الذات، النفس، الزمان) بتوليفة منطقية فلسفية واحدة يحاول فيها تطويع كل ما يمكننا تصوره واستذكاره نفسيا ويكون صالحا لادراك العقل له بما يلغي الحدود الفاصلة بين الذات والنفس والزمان أنطولوجيا - ميتافيزيقيا..

وحين يصبح الزمان عند باشلار موضعة ادراكية للذات معّبرة عن تجلياتها النفسية الرومانسية المحدودة بحدود مواضيعها المدركة، يكون حينها الزمان أصبح خارج مطلقه الميتافيزيقي ليكون مدركا محدودا ونسبيا يتمثّله العقل، وقتها ايضا لا نجد أدنى غرابة في إعتبار باشلار تأملات النفس حول ما يطلق عليه حتمية إندثار الانسان بالموت، التي عادة ما تنفر النفس من مواجهة هذه الحقيقة البايولوجية المرعبة من هول الصدمة عليها، كما ينفر الجواد من رؤيته جثة حصان فارق الحياة مطروحا ارضا على حد توصيف باشلار.

باشلار يتقبّل فكرة أن ينفصل الانسان عن ذاته خارج وعيه لذاته وموضوعه معا، لكنه من غير المتاح أمامه تقبله تصّور أن الزمن الافتراضي يقوده نحو حتمية الإندثار العدمي بإفنائه البايولوجي كاملا جسدا ونفسا وعقلا وروحا. الانسان يفنى بحتمية الموت بايولوجيا وليس كما هو التصور السائد الانسان يفنى الانسان ويموت نتيجة وصوله زمنيا عمر الشيخوخة.

عبارة باشلار التي تحمل الكثير من الملابسات في إمكانية الانسان الانفصال عن ذاته، حيث لا يمكن أن تكون حقيقة مقبولة إلا في حال توفر اكثرمن إشتراطين لا يتوفران إلا في حال جعل وعي الذات وعيا ميتافيزيقيا لا تحده انطولوجيا الوجود الادراكي واقعيا وهو محال للاستحالات الادراكية التالية:

- أن يتوقف العقل عن وعيه لذاته.

- أن يتوقف العقل عن التفكير التجريدي بموضوع مادي أو خيالي.

- أن يتوقف العقل عبر منظومته الحسيّة الادراكية في وعي الوجود من حوله..

إن محاولة باشلار نقل الانسان من حتمية زمانية إندثاره بالموت الى واقعية التعامل مع الزمان كمحتوى تذكري لمخزون ماضي زمني رومانسي تحتويه الذاكرة إبتهاجا بالحياة التي لا نجدها في حاضرنا ولا في مستقبلنا بل في ماضينا فقط. حتى جمالية المكان القديم التي نتذوق استذكاراتها نفسيا بكل نشوة وغبطة وانتعاش رومانسي لذيذ إنما السبب في ذلك هو العودة للماضي كتاريخ بدلالة وقائعه المتموضعة فيه وليس العودة الى زمن ماض جديد نتعرف عليه لاول مرة تخلقه الرغبة النفسية الرومانسية في الاستذكار لحوادث الماضي.

عبر إستذكارات المخيّلة في عبورها حاجز الحاضر المقلق المرعب نحو الماضي البهيج المريح نفسيا. هنا ربما أستبق الامور القول أن العودة الاستذكارية نحو الماضي هي عودة (تاريخية) استذكارية وليست عودة (زمانية) بمعنى الذاكرة أو المخيلة الاستذكارية لا تخلق لها زمنا ماضيا آخر خاص بها بدلا من زمن الماضي كتحقيب تاريخي لازمني تعيد الذاكرة استذكاره وليس زمانا ماضيا مجردا عن ملازمته مدركاتنا الواقعية والخيالية..

الانسان أمام هذه الحالة في جعل ماهو مادي يتداخل مع ماهو ميتافيزيقي يدركهما العقل معا في تداخلهما إنما يكون دافعها هو إرادة النفس الهروب الى أمام في محاولة خروج الانسان على حتمية مسار الزمان الانحداري الهابط به نحو الاندثار النهائي العدمي بالموت، في محاولة الخلاص في إبتداع زمانا إستذكاريا تجريديا ليس مطلقا في وحدته الوجودية التي تختلط فيها الالام والاحزان في تذويبها بمصهر التفاؤل والامل بالسعادة الخادعة نفسيا. لذا يطلق باشلار على هذه الحالة النفسية التي تحاول النفس تطويع مسار التاريخ المتّعثر الى ما اسماه "سلسلة القطوعات الزمانية" حسب تعبيره.

وفي حقيقتها هي قطوعات استذكارية نفسية لا علاقة إرتجاعية لها في ملازمة الزمان الحاضر لها نحو إستذكار زمنا ماضيا بحوادثه ووقائعه وليس رغبة إكتشاف الزمان الماضي كزمن خالص هذا محال. هو غير الزمان الماضي الذي يحتوي تاريخية وقائع وأحداث جرت فيه فأصبحت جزءا من تاريخ ماض ثابت مدوّن زمانيا.. الزمن كمفهوم هو مطلق تجريدي لا يقبل القطوعات الطارئة عليه مهما كان مصدرها. نسبية الزمان المثبوتة علميا لا تلزمنا الذهاب الى ان الماضي زمان نسبي. الماضي تحقيب ارضي وقائعي تاريخي وقتي لا يحده الزمان.

فالزمان لا يعود الى الوراء في مطلق التجريد كماهية غير مدركة بل يعود الى الوراء (الماضي) كتحقيب تاريخي يحتوي وقائعه واحداثه بدلالة الماضي كتحقيب غير زمني وغير تابع لزمن متغير يقوده بل التاريخ يحتاج زمنا مجردا تسترشد به الذاكرة كتاريخ مدوّن ثابت في الماضي كوقائع.

قطوعات الزمان يقر باشلار أنها في حقيقتها قطوعات زمانية حادة تدخل على سيرورة الحياة فتملأها بالحزن والالم، ولن تكون بالضرورة إستجابة لما ترغب النفس تحقيقه من أحلام اليقظة السعيدة، الحقيقة الزمانية التي يدركها باشلار تعني لنا أن القطوعات الزمانية المتعاقبة بخلاف باشلار لا تخضع لارادة الانسان كما ولا تتحكم بها رغائب النفس التي تحاول نزع التفاؤل الرومانسي البهيج من براثن سلسلة قطوعات الزمان الحاضر المؤلمة على الدوام في اتجاهها صوب المستقبل الذي هو النهاية الحتمية بالموت والاندثار... حين نغادر الزمن كمفهوم ميتافيزيقي مطلق ازلي – في حقيقته العلمية حسب نظرية انشتاين زمن نسبي - لا يدرك مجردا إلا بدلالة حركة مكانية لأجسام يحتويها عندها يمكننا التسليم أن الزمان تسوده قطوعات هي في منطق علم الفيزياء عارية عن الصحة تماما. فالزمن لا يقبل القسمة على نفسه وغير قابل للتجزئة. والزمان التجريدي المنفصل عن موضوعاته المكانية الادراكية لن يكون مدركا لمحدودية العقل في قابلية إدراكه زمنا مجردا عن ملازمة أشيائه والتعريف بها. الشيء الأهم أن الزمان على الارض وفي الكون يمتلك خاصيّة ماهوية واحدة هي أنه وحدة من جوهر أزلي مطلق كونيا وعابر للنسبية الارضية، يحكمنا نحن والطبيعة ولا نقوى على إدراكه ومعرفته الا بدلالة غيره من حركة أجسام أو مواد تداخله في انفصالية ماهوية عن مدركاته.

الحقيقة التي لا تحتاج نقاش ان الزمن وحدة من الكلية التي لا تقبل القسمة على نفسها. ولا يوجد ازمان متعددة مثل زمن نفسي واخرمكاني واخر تاريخي وآخر رومانسي وآخر تراجيدي وهكذا. بمعنى تقلبات النفس شعوريا ليست زمانية.

ولتوضيح معنى التداخل بين المكان والزمان إدراكيا وليس جدليا في إنفصالية بينهما غير منظورة وغير مدركة حسّيا وعقليا هو بسبب ماهية كل جزء صغير في الطبيعة وصولا الى ماهية أكبر شيء موجود فيها يمتلك خصائصه الهوياتية وصفاته التي لا تتجانس مع ماهية وجوهر الزمان الثابتة وتتقاطع معها، لذا يكون الادراك الزمكاني للاشياء وموجودات العالم الخارجي لا تعني أبدا أن الزمان تموضع في مدركات المكان وغادر ماهيته الخصائصية الفريدة المستقلة عن موضوع إدراكها. كل زمان لا يكون محدودا افتراضا الا بمحدودية مكان يلازمه. اما الزمان كمفهوم ميتافيزيقي فهو مطلق حدسي ندركه بدلالة المكان لكن من المحال حد الزمان لا تجريديا ولا تموضعيا في الاشياء المدركة مكانا.

وأن المكان كحيّز إحتوائي يكسب الزمان لجانبه دونما التضحية ببعض خصائصه بشيء لصالح الزمان معادلة يقبلها العقل. إستكمال الزمان لإمكانية إدراك المكان تكون في وحدة غير تجانسية وفي إنفصالية ماهوية مختلفة لا تقبل الدمج والتذويت لاحدهما في الاخر. والزمان يبقى في كل الاحوال وجميع الادراكات جوهرا موحدا غير منقسم على نفسه ولا يقبل القسمة بمدرك مادي لا يجانسه ماهويا ولا يتقّبل التجزئة والقطوعات الطارئة خارجيا عليه.

باشلار يدرك تماما أن حقائق الحياة الكبرى الميتافيزيقية لا تستطيع إرادة الانسان التلاعب بها وتوجيهها. فسلسلة القطوعات الزمانية الافتراضية فلسفيا التي حاولها باشلار لا توقف خاصّية مطلقية الزمان الافتراضية غير المدركة، بالتدفق والجريان الحركي الدائم الى أمام، فالزمن لا يتراجع الى الوراء وعندما نقول رجعنا الى الزمن الماضي فإننا نعبّربذلك ضمنيا أننا رجعنا كتفكير مجرد عن زمانيته هي التي رجعت للوراء الى ما ندعوه العودة الى الزمن الماضي الذي هو في حقيقته الجوهرية تاريخا ثابتا وليس زمنا متحركا تجريدا يمتلك خصائصه الذاتية له المطلقة التي لا يمكن لإدراك مكاني أو حتى تاريخي مصادرتها، الزمن قانون فيزيائي يحكم الانسان والطبيعة والكوني. كما أن الزمن لا يلغي الإندثار الحتمي الزائل للانسان كما هو في حقيقته لا يلغي حوادث التاريخ.

الزمان في مقايستنا له بمعيارية ما تدركه وترغبه النفس هي في حقيقتها قطوعات في تفكير ومخيّلة الانسان الاستذكارية ولا تمت بصلة حقيقية في ملازمة الزمان لها كوسيلة إدراكية تعود للزمن الحاضر الذي تعيشه تلك المخيلة الاستذكارية. ليس هناك من قطوعات حادة توقف الزمن بما تحمله من أحزان وآلام لا نرغب إستذكارها وهي بمجملها حالات من تداعيات نفسية لا علاقة للزمن في توليدها حين اصبحت ندركها احداثا ماضية. الزمان لا يقود النفس في رغائبها فهو خارج وصايتها عليه. حضور الزمان المدرك بدلالة حركة مكانية من قبلنا هو حضور إدراكي زمني محايد .

استذاكارات النفس المرحة البهيجة التي يحاول باشلار إستحضارها في مواجهة حتمية (العدم) المأساوي الزماني، إنما هي في حقيقتها محاولة إيقاف الزمان في قطوعات ثابتة تقريبا هي محطات إستذكارات النفس أيامها السعيدة بالحياة. الزمان لا يتوقف في محطات إستراحة يرغبها قطار النفس. اذا افترضنا إجراء نوعية العلاقة الفيزيائية التي تحكم مسيرة الزمان واستذكارات النفس لوجدناها ليست علاقة متوازية ولا علاقة متقاطعة بل سنجدها علاقة متعاكسة بالاتجاه. فالنفس التي تريد استذكار تاريخ الماضي الجميل تسير للوراء بينما تبقى مسيرة الزمان تعاكس النفس في استمرارية التقدم الى امام متجاوزة الحاضر نحو المستقبل، بالحقيقة تتجاوز الماضي نحو المستقبل. ولا يعني هذا ان الزمان يقود الانسان الى حتفه بالموت والاندثار فالزمن لا يمتلك مثل هذه القدرة. الزمن محكوم بقوانين ازلية لا يدركها العقل الانساني ولا يمتلك الزمان نفسه التصرف بها أو الخروج عليها. الزمن جوهر أزلي مخلوق غير خالق. الانسان يموت ويفنى بيولوجيا عضويا وليس زمنيا.

وهذه القطوعات الزمانية ليست حقيقية بقدر ماهي إستيهامات تخييلية مستمدة من الذاكرة استجابة لارادة النفس لا علاقة لها في تعاقب سريان الزمان نحو المستقبل كمطلق غير مدرك. الذاكرة أو المخيلة تستطيع العودة الى الماضي ليس كزمن تجريدي بل كتاريخ مدون بوقائعه وأحداثه، أما أن يتاح للذاكرة أو المخيلة إدراك الزمن كماهية مطلقة تجريدية فهو محال. فالزمن وحدة واحدة من الماهية الخصائصية النوعية الفريدة المطلقة التي لا تقبل التجزئة ولا تتقبل التقسيم على صعيد التجريد الميتافيزيقي ولا على صعيد تموضعها الادراكي في المكان.. يبقى الزمان إدراكا دلاليا للمكان لكنه لا يصبح جزءا منه.

ولكي يتمكن الانسان بوعيه الادراكي المحدود إحداث سلسلة قطوعات زمانية متعاقبة في الزمن يتوجب عليه إمتلاكه زمنا آخر يجانس مطلق الزمان الارضي والكوني في المشابهة التطابقية التامة مع (الماهية) الزمانية الثابتة وهو ما يتعذر تحققه استحالة. وهذا مصداق مقولة ارسطو الشهيرة (لا يمكننا حد الزمان بزمان).الزمان ماهية ثابتة لا تتغير ولا تتكرر فهو وحدة ادراك واحدة.

الزمان وحدة مطلقة من التواصل الدائم الذي لا يتقبّل الطاريء عليه لا في القطوعات المادية ولا في المداخلة الإدراكية التي ترغبها النفس....وما يحدث معنا من قطوعات نحسبها زمانية مجردة زمانا إنما هي في حقيقتها قطوعات في تفكير الذاكرة والذهن في الاستذكار للحوادث والوقائع كتاريخ حصل في زمن ماض، وليس زمانا نبحث عن ذكرياتنا فيه في زمن ماض نعود له لنجده حيّا ينبض بالحيوية والاستقبال الحار لنا.. الزمان الماضي في حقيقته تاريخا تدوينيا ثابتا يداخله مطلق الزمان غير الثابت.

باشلار يربط ما تتمناه النفس من الراحة التي بمقدورها إيقاف سلسلة الزمان الحركية التعاقبية، في نفس الوقت التي تجعل من الحياة جديرة بالمعنى والقيمة على حساب تحييد الزمن الذي يقود الانسان نحو حتمية الإندثار العدمي.

ربما تصدمنا الحقيقة قولي أن لا ذنب للزمان في المضي بنا عبر سنوات العمر كي يوصلنا محطة الموت والاندثارالبيولوجي ويعود الى حال سبيله، فحينما نموت نحن ويبقى الزمان حيّا لا يموت ربما وخالدا فهو جوهر ازلي يحكمنا بحتمية إفنائنا بلغزه الذي لا ندركه ولا نعرفه. الحقيقة أن الزمن في هذه الحال يكون (مسيّرا لا مخيّرا) حسب تعبير فلاسفة المنطق العربي – الاسلامي الاشاعرة بالضد من المعتزلة. كثيرا ما تعبّر أفكار باشلار في المرحلة المتأخرة من حياته الى ما يطلق عليه هو "احلام اليقظة" الرومانسية التي يحكمها الشعور في عودة الإستذكار الخيالي لكل ما ترتاح له النفس بعيدا عن حتمية الفناء المستقبلية التي يسوقنا اليها الزمان صاغرين مرغمين. الحقيقة التي هي اكبر من افناء الزمن لحياة الانسان، تلك هي الزمن بريء من تهمة قيادة الزمن لافنائنا. الانسان على الصعيد الفرد يموت بايولوجيا وليس زمانيا.

النفس والزمن

من البديهيات التي نتمنى القفز من فوقها عبثا هي أن الارادة الانسانية ورغائب النفس لا تؤثر بمسار الزمن في مطلقيته الحتمية الحركية المتجهة دوما نحو الامام المستقبلي الذي هو إقتراب لا إرادي نسلكه في السير نحو الفناء وليس الحصول على التجديد في الحياة السعيدة بوفرة المتعة واللذة التي تزودنا بها المخيلة في إستذكار حوادث الماضي.. ولا علاقة للزمن بذلك. هنا النفس هي التي تمر بتقلبات لا زمنية بل هي مظاهر للنفس.

الادراك النفسي العقلي يتوقف تماما أمام استحالة معرفة ماهية الزمن وكيفية إدراكها مجردة عن الحركة المادية للاشياء حتى لو تيّسر لنا ذلك على مستوى الصفات للزمان فقط. فصفات الزمان تعرف بدلالة غيره في مقدار حركة الاجسام فيه. والزمن وحدة قياس حركة الاجسام المادية داخله لكن الزمن ليس حركة مجرّدة نستطيع إدراكها لوحدها... الزمن ليس حركة بل هو دلالة حركية لجسم. .

لذا فالزمان الذي تنتابه القطوعات المتعاقبة وحتى القفزات النوعية فيه إنما هي في حقيقتها تمّثل إنعكاسات نتائجية هي حاصل تفاعل تخارج وجودنا مع مدركاتنا المادية في الطبيعة والعالم الخارجي التي نتعايش معها وليست حصيلة فاعلية إرادة إنسانية أو رغبة نفسية ينفذّها الزمان إستجابة لنا. الاستذكار ليس زمانيا بل الاستذكار هو بيولوجيا تقلبات النفس.

الزمان جوهر ماهوي محايد لا يحكمه الجدل الديالكتيكي بعلاقته بمدركاتنا الموجودية في عالمنا الطبيعي المادي. الزمان جوهر تكاملي مع المدرك المكاني وليس جدلا ديالكتيكيا معه. وحين نعتبر الزمان في تعسّف خاطيء أنه جدلي ديالكتيكي في تداخله الإدراكي مع الاشياء والنفس والذات وغيرها فهو بالمحصلة هراء لا قيمة له، هذا الخطأ يعني أننا نجعل من الزمان مدركا متموضعا بالذات مجردا يعيه العقل ويدركه تجريدا حتى من غير تعالقه بالمكان.

إدراكنا المكان لا يكون مجردا عن زمانيته الإدراكية كما نتوهم، لذا إعتبر كانط ما ندركه مكانا هو ما ندركه زمانا بنفس الوقت، ولا إنفكاك يحكم الإدراكين المكاني والزماني. وهو الشيء الصحيح فلا وجود لإدراك مكاني مجردا عن زمانيته الافتراضية غير المثبوتة. اقول الزمانية الافتراضية لاكثر من سبب اولا الزمن ماهية لاتدرك بالعقل. ثانيا الادراكات المكانية يرافقها بالحتم زمانانا هي ايضا مقولة عادة وليس مقولة تحقق فلسفي وعلمي ايضا.، كما لا وجود لإدراك زماني مجردا عن مكانيته في الموجودات والطبيعة من حولنا. ولا أسبقية تفريق بينهما. اذ لا تفريق بين ادراك المكان وزمانه.

في هذه النقطة أجد من الطريف الإشارة الى تقاطع برجسون مع مقولة كانط في الإدراك الزمكاني غير القابل للانفصال قوله إننا نوهم أنفسنا ويتوهم العلم معنا الوقوع بالخطأ أن إدراك المكان لا يلازمه بالضرورة إدراكا زمانيا فلا يوجد غير إدراك مكاني منفرد واحد مجردا عن زمانيته المزعومة. وما ندركه مكانا لا يوجد لدينا دليلا مقنعا أننا ندركه زمانا بذات الوقت.

الزمان في مساره الذي يبدو لنا مسارا مجرّدا من ماديته هو مسار متّعثر بمحتواه الوجودي المدرك ذاتيا، ما يجعله مستقلا متّحكما بنا لا نتحكم نحن به، رغم إعترافنا المسبق أن الزمان يتعامل مع المادة إدراكا محايدا وليس تداخلا تموضعيا ماديا أو غير مادي جدلي بها وكذا مع العديد من مسارات الحياة. علاقة الزمن بإدراك الاشياء هي علاقة ابستمولوجية.

ولتوضيح هذه النقطة نقول مثلما تموضع إدراك الذات للاشياء لا يفقدها إستقلاليتها الكينونية عن مدركاتها المادية والخيالية،كذلك يكون معنا نفس الشيء حينما يتموضع الزمان إدراكيا في العديد من الامكنة فهو أي الزمان يبقى محتفظا بإنفصالية مستقلة عن مدركاته ولا يخسر في موضعته شيئا من تلك الخصائص التي يمتاز بها وحده. التموضع الزماني في الاشياء هو إدراك لها وليس تداخل تموضعي إندماجي عضوي بها.

لذا تكون إنعكاسات النفس الواعية تماما هي التي تضفي على إستقلالية الزمان المحايدة الكثير من الأحكام التي تشرعنها النفس هي وتحاول فرضها علينا زمنيا. فمثلا الملل من طول وقت إنتظارنا لمجيء شخص ما في وقت محدد، ليست هي خاصّية زمانية سببية بل هي خاصية نفسية نستشعرها لا علاقة للزمان بها. تعبيرات النفس المتقلبة ليس سببها الزمن الذي تمر به ولا علاقة تربطها بالزمن خارج اولوية ارتباطها بالذات.

القلق النفسي وتبادل الادوار

نحن اذا ما أردنا العودة الى قراءة عنوان كتاب باشلار مصدرنا الذي نعتمده (جدلية الزمن) ندرك بلا عناء أن مصادرة عنونة الكتاب الخاطئة مقبول وارد بدليل أن الزمن جوهر في ماهيّة خاصة مطلقة منفردة لا يدخل بأي شكل من الاشكال في جدلية مع الانسان وموجودات الطبيعة، كون الجدل يحدث في تضاد يجمع نقيضين توحدهما مجانسة نوعية واحدة. وكانت لي مقالة سابقة عن هذه شرحت بها إستحالة دخول الزمان كمطلق تجريدي في جدل مادي مع أشياء تقاطعه المجانسة الماهوية..

عليه إعتاد باشلار معاملة ماهية الزمان ليس كتحقيب طبيعي أرضي بل كمطلق وجودي يدركه العقل في ماهيته (نفسيا) أي في إسقاط رغائب النفس المحدودة على مطلقية الزمان كخاصّية منفردة لا تحدّها أمكنة تخالفها تلك الماهية، الزمان جوهر يتسم بحقائق خصائصية ثابته هي: أنه لا يدرك لا بالماهية ولا بالصفات، الزمان سيرورة تعاقبية في مسارها قيادة الانسان من غير وعي به. الزمان لا يدرك من قبل العقل تجريديا. الزمان وسيلة ادراك المكان لا تتداخل معه جدليا بل يتعامل الزمان مع مدركات المكان بحيادية تكاملية إدراكية، والزمان لا يتموضع في مكان يصبح جزءا منه، ولا يفقد ايّا من صفاته الماهوية غير المدركة.

كل ما ذكرناه عن الزمان يسقطه باشلار في محاولته ترويج تحقق قيادة النفس للزمن في تلبييتها رغائب النفس ومكبوتاتها وأمنياتها ودوافعها الشعورية واللاشعورية الى ما يجعل الزمان يتحرك طواعية تحت وصاية النفس. وعن هذا المعنى يقول " بين الماضي الحي والمستقبل تنتشر منطقة من حياة ميتة"1. ويضيف "لا يكون الاسف والشعور بالخسارة شديدين في اي مكان اخر مثلما يكون حالهما هنا وعلى هذا النحو يكون الزمان حسّيا بالنسبة لنا"2، كما ويربط باشلار هذا الإسقاط التعويضي في الهروب من حتمية مسار الزمان نحو الاندثار والفناء في"ابتعادنا عن القلق النفسي الملازم لنا أن نصبح لا شيئا يذكر ويتهدم على هذا النحو عالم باسره، فمن منا لم يشعر بهذه الفكرة التي تدخل النفس كشفرة قاطعة" 3.

في فلسفة باشلار حول مفهومه جدلية الزمن يسمح لنفسه تبادل الادوار ما بين النفس والزمان في علاقة ترابط سببية، تاركا وراءه ثبات مطلق الزمان الفيزيائية وحيادية الزمان في مزامنته حركية وانفعالات النفس وما ينتابها من قلق مصيري وجودي ليس مبعثه الزمن. وليس بمقدور الزمان ايقاف ما يعتمل بالنفس أو إعاقة مسيرة الحياة الانسانية المؤلمة.

إن هذا القلق الانساني الوجودي الذي ينزل على النفس كشفرة قاطعة يحس بها الجميع كما يقول باشلار، يبقي التساؤل قائما وماذا بعد ذلك؟ مأزق الانسان الوجودي بالحياة ليس حله والخلاص منه رهين أرادة أو لا إرادة الزمن، فالزمن لا يقود الحياة بارادة ذاتية يمتلكها يعيها هو ذاتيا قصديا. بل الزمان كما ذكرت سابقا مسيّرا لا مخيّرا. رغم أن فناء الانسان الارضي بيولوجيا يقود الى خلود الزمان بما نجهله فيما بعد عنه.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

.............................

هوامش: 1،2،3، جاستون باشلار، جدلية الزمن/ ت: خليل احمد خليل/ ص 50

وتجارب معاداة الحداثة.. مقاربة جذرية

العدمية هي فلسفة ترفض القيمة والإحساس بالوجود. لا وجود لحقيقة موضوعية أو قيمة أخلاقية أو كل شيء ولكن في الحياة. من الواضح أن هذا هو بمثابة رفض للمبادئ والوصايا الأساسية للمجتمع. يبدو أن المصطلح "عدمية" هو مصطلح لاتيني "nihil" والذي يعني "لاشيء". إنه مرتبط برؤية متشائمة للحياة، حيث لا وجود لها بكل معنى الكلمة أو الموضوع. انتشرت العدمية على يد رواية "الآباء والأطفال" التي ألفها إيفان تورغينييف في عام 1862. وقد أصبحت شخصية بازاروف، العدمي، رمزًا للفكر العدمي. وقد أثرت العدمية أيضًا على المفكرين مثل لودفيغ فيورباخ، وتشارلز داروين، وهنري بوكلي. هناك أشكال عديدة من العدمية، بما في ذلك: العدمية الوجودية: التأكيد على أن الوجود الإنساني ينبع من الإحساس والوجود. العدمية الأخلاقية: عدم وجود قيم أخلاقية للأهداف، يرفض فكرة "السعادة" و"السوء". العدمية المعرفية: ليس هناك إمكانية لمعرفة موضوعي وآمن. اما علاقة العدمية والفلسفة فلقد تم دراسة العدمية على نطاق واسع وناقشها فلاسفة مثل فريدريك نيتشه، الذين ارتبطوا بالعدمية بموت الله وأزمة القيم الغربية. استكشف مارتن هيدجر أيضًا العدمية في تفسيراته لفلسفة نيتشه. كما ارتبطت العدمية بحركات التمرد ضد النظام الاجتماعي والتقاليد. قد يكون بمثابة رد فعل على فقدان القيمة والتقليدية. ان العدمية هي فلسفة لا معنى لها ولا قيمة للوجود، وترفض أفكار الحقيقة الموضوعية والقيم الأخلاقية والحياة. هناك العديد من أشكال العدمية التي تم دراستها ومناقشتها على نطاق واسع من قبل الفلاسفة وعلماء الاجتماع.

في استكشافه المُحفّز للعلاقة بين الحداثة والحداثة والعدمية، يُواجه شين ويلر إحدى المُشكلات المحورية في الفكر الجدلي الغربي: وجود مسارين مُتناقضين إلى اللامكان. يُمكن أن تكون العدمية حالة من الانغماس المفرط في العالم أو الانفصال المُفرط عنه. في نقد الحداثة، تُمثّل العدمية الآلية المُختلّة والوحشية التي تُجبر قيم التنوير للعقل والتقدم على بلوغ حدود مُرعبة، وهي الجبار الذي يُهيئ الوحل أولًا، ثم يُواصل الضغط بلا هوادة لإنتاج التقنيات البدئية لحروب القرن العشرين ومحرقة الهولوكوست، مُستبدلًا في النهاية المستنقع بالأرض القاحلة. ولكن هناك أيضًا عدمية الإنكار الدنيوي، والانفصال عن الحياة وقيمها الوضعية، والموقف الفلسفي والسياسي الذي ينطوي على رفض المُطلقات الأكيدة للقوة المُهيمنة. في ظل هذه الصيغة الثنائية، يكون العدمي مُطوّر عقارات وراهبًا في آنٍ واحد، ويتتبع ويلر تشوهات هذا المفهوم المُزدوج الجوانب وتطبيقاته وهو يشق طريقه عبر التاريخ كاختصارٍ مُهينٍ لأعداء المرء. تُقدم دراسة ويلر سردًا للاستحضارات الأوروبية المُختلفة للعدمية، بدءًا من أصولها اللاهوتية في منتصف القرن الثامن عشر وانتهاءً بدور العدمية في الفن والفلسفة ما بعد الحداثية. ويعود ويلر طوال الكتاب إلى نظريات فريدريك نيتشه، الذي يضعه "بلا شك أهم شخصية في تاريخ نشر مفهوم العدمية". يُشكِّل الفكر النيتشوي إنتاج دلالات عدمية مستقرة من خلال تصنيف كلٍّ من قمع أنظمة السلطة المُقيّمة ذاتيًا واستراتيجيات المقاومة ضدها على أنها عدمية. علاوة على ذلك، يُقسّم ويلر هذه الاستراتيجيات إلى أشكال "فاعلة" و"سلبية"، تطهيرٌ تمهيديٌّ وانكفاءٌ ذاتي. يدّعي ويلر أن نيتشه يُفضّل العدمية الفاعلة، المُتمثلة في القطيعة العنيفة التي شهدتها الثورة الفرنسية مع أساطير التقاليد، ويرى في تمسك المسيحية بالقيم الأخلاقية شكلاً متطرفاً من العدمية السلبية. وبالتالي، لا يقتصر الأمر على أن يتعاطى ويلر مع الخصوصية التاريخية للعدمية فحسب، بل أيضاً مع تناقضها العالمي الظاهر. وبالنظر إلى هذه المعايير، فليس من المُستغرب أن يُشدّد في بداية العمل على أنه "لا وجود للعدمية بحد ذاتها"، وأن يُصبح وصف نيتشه لها بأنها "أغرب الضيوف" لازمةً طوال تحليل ويلر. إذا كانت العدمية نقدًا للحداثة وتهمةً موجهةً إلى هؤلاء النقاد أنفسهم، فإن العدمية تشغل بالضرورة علاقةً غامضةً بالحداثة، التي يُعرّفها ويلر، بشكلٍ عام، بأنها الاستجابات الفلسفية والجمالية للحداثة. تُعرّف العدمية بهذا الشكل بأنها منافسٌ للحداثة وشكلٌ أو استراتيجيةٌ لها، ويتمثل التحدي المستمر لنهج ويلر في إثبات قدرة هذا المصطلح على الصمود أمام الضغوط الدلالية للمعنى نفسه ونقيضه. يبدأ ويلر باقتراح علاقة بين الحداثة الفلسفية والحداثة الجمالية، حيث تجد الأولى في الثانية أقوى الأدوات ضد عدمية الهيمنة. أما بالنسبة لنيتشه، فهي الفن الديونيسي، الذي تُذيب سيولته الذاتية التقييم الوضعي وتُعيد الحياة كعملية صيرورة مُفككة. بالنسبة لمارتن هيدجر، فإن شعر فريدريش هولدرلين هو الذي يُذكّر بقداسة الوجود لمجتمع نسيها، وبالنسبة لثيودور أدورنو، فإن كتابات فرانز كافكا وصمويل بيكيت، التي تُقوّض جمالياتهما في النفي اللغوي اليقينيات القمعية للاستبداد الذي تدعمه لغة القانون. وبطبيعة الحال، غالبًا ما يُرتبط هؤلاء الفلاسفة والفنانون أيضًا بالترويج للعدمية، عادةً من قِبل النقاد على اليمين السياسي، وبالتالي، كما يُشير العدمية النيتشوية، فإن معاداتهم للعدمية تُوصَم بالعدمية من قِبل العدميين الذين يسعون إلى معارضتهم. على سبيل المثال، فُسِّرت حملة نيتشه للتغلب على القيمة الأخلاقية والذاتية المُدرَكة لحداثة بيكيت المتأخرة على أنها إفناء للمعنى الموضوعي. ومع ذلك، في دائرة موبيوس هذه من الاتهامات، ما يتضح هو أن كلا جانبي العدمية يعتبران الجمالية تلعب دورًا محوريًا. من غير المستغرب أن ينحاز ويلر إلى الحداثيين. يُعدّ قسم "من فلوبير إلى دادا"، الذي يُمثّل الجسر الزمني بين نيتشه والحداثة الفلسفية والجمالية في منتصف القرن العشرين، الأقلّ إشراقًا بين فصوله، ولكن ما إن تتجاوز هذه الفترة حتى تستعيد تحليلاته قوتها الاستفزازية. في مناقشاته حول هيدجر، وألبير كامو، وموريس بلانشو، وبول سيلان، يُحدّد عمليةً تُصبح فيها استخداماتهم المختلفة للنفي، والتي تجعلهم عُرضةً لتهمة العدمية، غير مكتملة حتمًا. أي أن شيئًا ما ينجو دائمًا من النفي؛ فالعدمية نفسها تُنفي بقوتها الخاصة. ومرة أخرى، نصل إلى عتبةٍ غريبة، حيث يبقى ما يُفنى طيفيًا في حضور غيابه. يرى بلانشو أن العدمية عاجزة، ولذلك فإن العالم المنفي في كتابات كافكا يُفضي إلى تجاوز إله ميت، لا إلى فناء الإله نفسه، وهذا الإله الميت أقوى بكثير لأنه لا يُقتل مرة أخرى. في شعر بول سيلان، نجد هذا الشعور: "لا شيء كنا، نكون، سنبقى، مزدهرين: العدم، وردة لا أحد."  يُمثل هذا الإزهار في الفراغ تفاؤل، وفي بعض المعاني، أجندة سياسية، لأولئك الذين يجادلون بأن العدمية، كونها دائرة مغلقة، يجب دحرها من الداخل، وأن النفي يُوفر أرضًا خصبة بشكل غريب لظهور شيء لم يُتخيل بعد. يُذكرنا هذا بالموقف الرواقي لثورة كامو المُحكوم عليها بالفشل ضد العبث في "أسطورة سيزيف"، مع أن الرواقية، كما يُشير ويلر، قد انتُقدت أيضًا باعتبارها واحدة من أشهر الحركات العدمية في العالم.

 يُشدد ويلر على الطبيعة غير الغائية لهذا الشكل من العدمية كما يتجلى في الحداثة الجمالية. يُجسد بيكيت هذه الروح الأخلاقية لأنه رأى أن دور الكاتب هو التعمق في حصن اللغة للكشف عما يكمن وراءها، سواء كان ذلك شيئًا أم لا. هذا هو تمهيد الطريق للعدمية النشطة عند نيتشه، ويتتبع ويلر روحًا مماثلة مستمرة في المناورات الفلسفية والجمالية لما بعد الحداثة. في هذا القسم الأخير، ينظر ويلر في إمكانية التمييز بشكل قاطع بين ما بعد الحداثة والحداثة في علاقتهما بالعدمية، ويخلص، كما هو متوقع، إلى استحالة تحقيق تمييز "محكم" . ويجادل بأن ما بعد الحداثة تمتلك عدمية غريبة كسابقاتها، بل إن إحدى متع هذا الكتاب هي رؤية غموض جدلي مماثل يلاحق القرون. إن تخلي ما بعد الحداثة عما يسميه إرنستو لاكلو "أسطورة الأسس" لا ينتج شيئًا، بل انتشارًا لأشياء متعددة، ومع ذلك، فقد تم انتقاد هذا التبني للبنى الخطابية باعتباره تحطيمًا للعالم الموضوعي. بالنسبة لجاك دريدا، فإن العدمية هي إفناء الآخرية، ونظافة الفاشية، والتي يقاومها الأدب والدراسة التفكيكية للنصوص من خلال إنتاج مساحة تحافظ على الاختلاف. إن إنتاج مثل هذه المساحة يعني مستقبلاً وشيكاً قد يأتي ليحتلها، وهنا نرى صدى هيدجر، الذي كان يعتقد أن مجتمعه يعيش في فترة زمنية فاصلة بين رحيل مجموعة من الآلهة ووصول المجموعة التالية. تُسلَّط الأضواء على التشابكات الخانقة لمفهوم العدمية في القسم الأخير من الكتاب، حين يتساءل ويلر: "هل يُمكن إيجاد في ما بعد الحداثة الجمالية مخرجًا من عقدة الحداثة-الحداثة-العدمية؟". أحد سبل الهروب من هذه العقدة هو تفصيل "العدم"، وهي فكرة يُلمِّح إليها ويلر لكنه لا يُطوِّرها بشكل كبير. بمعنى آخر، هل "العدم" الوجودي الذي أعقب أهوال أوشفيتز هو نفسه "العدم" الأيديولوجي للعدمي الشهير تورغينيف، بازاروف؟ ستُبدَّد غرابة العدمية إلى حدٍّ ما لو وُجدت مفردات تُحدِّد فئات الفراغ المختلفة التي وجدت السياسات والفلسفات والجماليات المختلفة نفسها فيها. لا شك أن جزءًا من انزلاق العدم هو أنه يتحدى مثل هذه الخرائط، ونظراً لهذا التحدي المفاهيمي، يقدم ويلر دراسة ثاقبة بشكل ملحوظ لهذا الظل المتغير الشكل.  كيف يمكن من الناحية الفلسفية الانتصار على العدمية؟

***

د زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

........................

المصدر:

شين ويلر، الحداثة والعدمية (باسينجستوك: بالجريف ماكميلان، 2011)

Shane Weller, Modernism and Nihilism (Basingstoke: Palgrave Macmillan, 2011.

الحياة وهم نعيشه مرغمين بوجودنا، ولكن الحقيقة ليست كذلك.. أين تكمن الحقيقة؟

الوهم هو الألم في هوية صامته لا تعبر عن نفسها إلا بما خزن في النفس وصار حقيقة لا يدانيها الشك، فالفرد حين يدخل عالم الوهم لا يستطيع أن يتخلص منه إطلاقًا، لأنه غلاف النفس من الداخل وضبابية لا رؤية أخرى فيها، فتعم الذاتية المطلقة بدل الموضوعية في رؤية الأشياء، والأمر أمر موضعة، لأنها لا توجد موضوعية، فقبولها يصبح حقيقة ووهم.

 ويرى الفلاسفة ومنهم " كيركجارد" أن الكائن البشري محكوم بالتوتر بين ما هو عليه وما يجب أن يُكونهُ، فهو يبحث في الوهم الخيال الذي يراه واقعي، لا يتنازل عنه، أو لا يستطيع رفضه، ربما هذا الوهم مقدس – الدين إنموذجًا – عند كل الديانات السماوية وغير السماوية، أو الفلسفات ذات الطابع الديني، أو وهم سياسي، أو وهم الشعور بالعظمة والقوة، أو الوهم بأنه يمتلك بتحقيق الوجود الذي لا ملامح له، لذا فإن الفرد لا يستطيع الفكاك منه بل بنفيٍ داخلي لقدرة الذات على الفعل، على أن تكون واقعية، حقيقية، ترى بعين أكثر موضوعية. إنه النموذج البدائي الذي نصادف موضوعاته لدى أفراد يعيشون بيننا في أيامنا هذه، في خيالاتهم وأحلامهم، هذياناتهم وضلالاتهم، هذه الصور النموذجية، وما يتصل بها، هي ما أطلق عليه اسم الأفكار البدائية، وكلما اشتدت حيوية هذه الأفكار اشتدت حدة المشاعر الناجمه عنها، فهي تنطبع وتؤثر فينا وتفتتنا، هذه الأفكار البدائية تستمد أصولها من النموذج البدائي الذي هو – بحد ذاته – شكل سابق الوجود، غير شعوري، وغير قابل للتمثيل، ويبدو جزءًا من بنية النفس الموروثة كما يراه " يونغ"

دخل الكثير من السياسيين في دوامة الوهم، ومن قاد دولته إلى الإنهيار معتقدًا بوهم النصر وتحقيق المكاسب والنجاحات. أما الوهم لدى الفصامي فهو وهم فلسفي، لأنه يتكلم فلسفة، وسماها أطباء النفس الفلسفة الكاذبة، فهو يعتقد بأن أفكاره تسرق، وإن المخابرات العالمية تطارده لأفكاره، حتى صاحب الشخصية البرانويه " برانويا العظمة " تسيطر عليه أوهام العظمة.

نتساءل ويتساءل معنا بعض العقلاء هل نحن نفكر فعلًا؟ إذا كنا كذلك فمن أين يداهمنا الوهم، وكيف يغلف تفكيرنا بضبابية معتمة لا رؤية فيها، رغم أننا نتحصن بما نؤمن به حتى وإن كان وهم من أوهام تاريخية – حفرية من حفريات الحضارات التي سادت ثم بادت وشكلت سلوكنا وطريقة تفكيرنا، فهي تراكم آثار الحضارات القديمة وغبارها، وما تبقى في النفس وخير من يعرف ذلك من درس انثربولوجيا الإنسان، والانثروبولوجيا الثقافية.

إن العوامل الذاتية تلعب الدور الأكبر وبالأخص الميول والاستعدادات الذاتية لكل فرد، تلعب دورًا يصعب تقييمه عندما يكون القصد تكوين مثل ذلك الحكم كما عبر عنه " سيجموند فرويد " في كتابه مستقبل وهم. ويضيف " فرويد " أن الناس يعيشون الحاضر عادة على نحو ساذج اذا جاز التعبير ويعجزون عن تقييم ما يحمله إليهم، فالحاضر لابد له من أن يكتسب بعض التراجع، أي أن يصبح ماضيًا حتى يمكنه أن يقدم بعض نقاط ارتكاز ليبني عليها حكم بصدد المستقبل.

وهم الحقيقة، وحقيقة الوهم!!

نعيشها كل لحظة في كل يوم ولا ندركها، وإن أدركنا بعض منها نهرب إلى موضوع آخر، بمعنى أدق نزيحها كما تعودنا في استخدام ميكانيزمات – الحيل – الدفاع، هروبًا منها لإننا لا نريد أن نكشف الوهم في داخلنا، فنتبجح بالنصر ونحن مهزومين، ونتبجح بالصحة ونحن مرضى، ومنها بدأت فكرة الذهاني " مريض العقل " حينما يرفض الاعتراف بأنه مجنون، ويتهم الطبيب الذي يعالجه بأنه هو المجنون. فهذا جزء من وهم الصحة، أو من يعتقد بالتدين الصحيح ولكن يكشف زيفه أول مواجهة بين الحق وشبيهه فيذهب إلى شبيه الحق بحيلة شرعية كما يسميها بعض المتدينين وهو ما نعنيه الوهم في النفس بين الحقيقة ونقيضها.

كثير من أولئك المتدينين ممن يمارسون الشعائر الدينية في العلن ولديهم أعتقاد عميق بما يؤمنون ولكن الواقع يكشفهم، فضلا عن غطاء الوهم الذي لا ينجح في كبح هذه الرغبة في تحقيقها، أو ما تمارسه بعض النساء من وهم الشعور بالسطوة والقوة، ولكن يظهر زيف هذه القوة بسطوة الرغبة الجنسية الجامحة أمام مخلوق بشري ليس جدير بالاحترام، لا نقول غير أنها النفس في ما ترغب وهو وهم، وما تريد وهو وهم، وما تعتقد أنه حقيقة ولكنها وهم الحقيقة، ونقول هي النفس في صدقها مع نفسها، وفي توهمها مع نفسها والأمر سيان لأن النفس هي هي.. في الرغبة الأولى، وفي تأثير الوهم. وعند " جاك لاكان " الأب الرمزي هو القانون، أو الأب المقتول " الميت " حيث لا يمكن لأحد أن يحل مكانه إلا في حالات الأنظمة الديكتاتورية، حيث يصبح الحاكم هو القانون، والقانون " هو " يشرع القوانين على هواه، الأب الرمزي يشير إلى الفراغ أي إلى النقصان، أي عمل يملأ الفراغ يحيي الشعور بالذنب المرتبط بقتل الأب كما عبر عن ذلك " عدنان حب الله" وهذا هو لب الوهم بالأبوة ورمزيتها التي تحولت إلى مفهوم سياسي سلطوي، والأمر نفسه عند رجل الدين الذي يقود أتباعه إلى ما يعتمل بداخله من أوهام وخيالات واعية أو لاواعية، ويظهر لنا " عدنان حب الله" في وهم الأب المخيالي حد التقديس للأب وهذا ما يهمنا في مبحثنا حيث يحمل الأب المتخيل في طياته كل هذه الصفات التي تعود إلى الأب البدائي، صورة المنقذ القوي الرادع ضد فكرة الأله قبل التوحيد، أي رادع إله الزوابع، أو الأقدار، أو المعالج ضد الامراض، أو حتى قابض الأرواح التي ينقلها إلى عالم الخلود، يمكننا القول أننا نعيش الوهم منذ الخليقة وما بعدها في التحضر وفي عصر التطور التكنولوجي.

نعرض بعض الأمثلة القديمة عن الأوهام عن الروح لدى القبائل البدائية حيث يكون من المفترض أن الروح تخرج من المنافذ الطبيعية للجسم كما تعتقد بعض الأقوام البدائية، خصوصًا الفم والمنخرين " الانف " لذلك نرى قوم " سيليب " يربطون أنف المريض وسرته وقدميه بصنابير صيد السمك كي تعلق الروح بالصنارة عندما تهرب، ويرفض قوم تيوريك على بارام في بورنيو أن يفارقوا ومعهم حجارة تشبه الصنارة لأنها تربط الروح بالجسد وتمنع انفصال الروح عن المادة، وعندما يبدأ الساحر من البحر عمله، من المفترض أن تملأ الصنابير أصابعه ليتثبت بوساطتها من الروح البشرية عندما تطير بعيدًا ثم تلتقط أرواح الأعداء بالاضافة إلى أرواح الأصدقاء وعملًا بهذا المبدأ يعلق صيادوا الرؤوس في بورنيو صنابير خشبية بجانب جماجم أعدائهم المقتولين معتقدين أن هذا يعينهم في غزواتهم على التقاط رؤوس جديدة، كما ذكر هذا " جيمس فرايزر " في كتابه المهم الغصن الذهبي ويضيف " فرايزر" ومن وسائل الطبيب أو الساحر في " هايدي" عَظمَةٌ " عظم " مجوفة يحبس فيها الأرواح المغادرة ثم يعيدها إلى أصحابها، ومن أوهام الشعوب القديمة أيضًا كلما تثاءب الشخص بحضور الهندوس ينقفون بابهامهم معتقدين أن هذا يعيق خروج الروح من الفم المفتوح، وكذلك كما أعتاد قوم " الماركويسكان " أن يسدوا فم وأنف الشخص الذي يحتضر كي يحافظوا على حياته ويمنعوا روحه من التسرب، ومن أوهام الشعوب حيث يقوم قوم الـ " إيتوناما في أمريكا الجنوبية" بسد عيني وأنف المحتضر كي لا تخرج روحه وتأخذ معها أرواحًا أخرى، وكذلك يعمد أهالي نياس خوفًا من أن تقوم الأرواح الخفية بالتعرف على الجسد خلال النَّفَس – التنفس. هذه الأوهام في عادات الشعوب التي تناقلتها الأقوام وظلت مع ظهور الحضارة وتطور الإنسان وازدياد التعليم والتكنولوجيا إلا انها ما زالت عند  بعض الاقوام في مجتمعاتنا الشرقية المعاصرة مثل تأثير العطسه حينما ترى فيها، بأنها بشرى لتأكيد قول في حضرة الآخرين مثل ما يقولون هذه بـ شهادة، أو عندما يزحف الطفل وهو يمشي منذ سنوات، فإن هناك ضيوفًا سيقدمون إلى هذه الأسرة، أو حينما يحلم الكبير – الرجل أو المرأة بحلم يفسر على انه بادرة خير، أو شؤم. أو حينما يسافر أحد أفراد الأسرة يقذف بعض الماء خلفه إيمانًا بعودته سالمًا.. وهناك الكثير من الأوهام التي تم توارثها.

ولو استعرضنا رؤية " بول ريكور" التي ينقلها عن رؤية التحليل النفسي عند فرويد لوجدنا أن للأخلاق والدين جذعًا مشتركًا، العقدة الأبوية ذات الأصل الأوديبي وبهذا المعنى تكون نظرية الوهم عنوان زاوية في نظرية المثل وَتكُون ما يمكننا أن نسميه خيالي الأنا الأعلى، إنها مرحلة التنسيق المرتبطة بمرحلة التحريم. ويضيف " ريكور " أن مشكل الوهم إنه ذو علاقة بقراءة شيفرة رموز العلاقات الخفية بين الأعتقاد والرغبة. وينقل أيضًا من فرويد في كتابه مستقبل وهم: ما يميز الوهم أنه مشتق من غرائز الإنسان.. ونحن نسمي اعتقادًا أنه وهم عندما يكون إنجاز الرغبة عاملًا سائدًا من عوامل دافعيته، في حين أننا لا نأخذ بالحسبان علاقته بالواقع، شأنه تمامًا شأن الوهم الذي يرفض الواقعي أن يؤكده " كما يراه لاكان في سيمناره " فهذا التواطؤ بين تحديد محتوى الرغبة وتعذر التحقق يُكّون الوهم، والفارق بين الوهم والهذيان لم يعد عندئذ سوى فارق في الدرجة، النزاع مع الواقع مستتر في الوهم، ومكشوف في الهذيان. وفي نهاية القول نرى أن وجهة نظر فرويد هي أن للأفكار الدينية في الأزمة الغابرة أعظم نفوذ وأقوى تأثير على البشرية ونقول تبقى تشكل سلوك الكثير من الشعوب، فقراءة الطالع، وقراءة الكف، وقراءة الحظ والبخت هو السائد في حضارتنا اليوم، فأفضل مثل على ذلك أن معظم الرؤساء والملوك لديهم من هذه الشريحة يالتي تقوم بقراءة الطالع لمعرفة المستقبل ويدفع له الملايين لكي يعرف هل أنه سيبقى في الحكم أم هناك من يدبر له أمرًا في ليلٍ.

***

د. اسعد الامارة

 

هل هناك معنى للوجود الانساني ام انه بلا معنى؟ اذا كان هناك معنى لحياة الانسان فما الذي يعطي لحياته ذلك المعنى؟ بعض الوجوديين مثل سارتر تسائل ان كانت الحياة بطبيعها خالية من المعنى؟ اذا كان الامر هكذا كيف يمكن ان يعيش المرء ويجد القناعة في عالم خالي من المعنى؟ هذه هي الأسئلة الاساسية في الفلسفة الوجودية. هي أساسية لأن اسئلة المعنى واللامعنى هي "مخاوف اساسية" سائدة في كل مكان حسبما جاء في كتاب Tillich 1952 و Yalom,1980.

اما فكتور فرانك (1985) يزعم اننا مخلوقات نبحث فطريا عن المعنى، ويمكن القول ايضا اننا قلقون بالوجود وبرغبة متقدة لا تنطفيء، تدفعنا حاجة مستمرة لنعرف ونحاول ايجاد معنى لكل من العالمين الداخلي والخارجي اللذين نقيم فيهما. هذه الرغبة الملحّة للمعنى والتي عادة ما تكون واعية لكنها في أغلب الاحيان غير واعية هي ما تدفع الناس للبحث عن علاج نفسي. نعم، ظاهريا ان معاناتهم تنبثق من أعراض عصابية او ذهانية، الخسارة والندم، الإغتراب او صراعات العلاقات، قلق وجودي. ذلك يحفز المرء للبحث عن مساعدة نفسية، لكن وراء تلك الأعراض والمعاناة تختفي "الاسئلة الكبرى": "لماذا هناك الكثير من الشر والمعاناة في العالم؟"لماذا اعاني؟"، اذا كان هناك إله، كيف يسمح بهذه المعاناة؟ ما أهمية المعاناة الانسانية؟ نحن نرغب يائسين لإيجاد معنى لوجود يبدو عبثيا. في الحقيقة، يمكن القول وقد قيل من جانب علماء نفس بارزين مثل كارل جنك و اوتو رانك و فكتور فرانك و رولو ماي بان السبب الحقيقي لمعظم المعاناة الانسانية هو الإحساس العميق باللامعنى والعبثية.

فمثلا، فرانك (1985) الذي يرى ان الكائن البشري يمتلك رغبة فطرية للمعنى والتي، عندما تُحبط بشكل مزمن تؤدي الى "فراغ وجودي" او فراغ اللامعنى – وهو ينسب الإكتئاب اواليأس الى التجربة الذاتية لمعاناة اللامعنى (D=S-M)(1). في الحقيقة، بعض الدراسات أشارت الى الارتباط  بين المعنى والاخلاق طوال حياة المرء، بينما دراسات اخرى اشارت الى ان 68%من المرضى الخارجيين الذين يدخلون عيادات العلاج النفسي قالوا ان حاجتهم لزيادة معنى الحياة كانت حافزا هاما للبحث عن علاج. العبثية بوضوح هي السبب الرئيسي للدخول لعيادات العلاج النفسي. لكن هذا يطرح السؤال الكبير: هل يمكن للعلاج النفسي ان يجعل الحياة ذات معنى؟ هل يمكن معالجة اللامعنى نفسيا او تحسينه علاجيا؟ وكيف يمكن تحقيق ذلك؟

لاحظ عالِم النفس الوجودي الامريكي Rollo May(1909-1994) انه وجد ان العلاج المعاصر متعلق بالكامل بمشاكل بحث الفرد عن الاساطير. الاسطورة هي طريقة لخلق معنى في عالم بلا معنى. الأساطير هي قصص تعطي أهمية لوجودنا"(ص9-15). ويستمر ماي ليقول "ما اذا كان معنى الوجود هو فقط ما نضع في الحياة عبر صمودنا الفردي، كما اعتقد سارتر، او ما اذا كان هناك معنى نحتاج اكتشافه، كما ذكر كيركيجارد، النتيجة هي ذاتها: الأساطير هي طريقتنا في ايجاد هذا المعنى والأهمية "(ص15).

اللا اسطورة تعني اللا معنى. الاساطير بفضل ما تحتويه من معنى، تقدم ترياقا للظروف السامة للعبثية المتصورة. الميثولوجيا هي المحور المركزي في تحليلات يونغ Jung، وتهدف لصنع احساس ذو معنى في تجربة المريض وتضعها في منظور نموذجي أكبر كجزء من ظروف الانسان.

وكما يفهم جنك، الميثولوجيا تكشف ان تجربتنا، وبالذات معاناتنا، ليست فقط شخصية وانما ايضا متجاوزة او فوق شخصية. بما ان الاساطير تدمج الحقائق الأبدية المتعلقة بظروف الانسان المنبثقة من تاريخنا الجمعي المشترك، فهي تستطيع جعل الحياة أغنى واكثر هدفية وتساعد في تهدئة إحساسنا الوجودي بالوحدة والإغتراب.

***

حاتم حميد محسن

........................

الهوامش

(1) هذه المعادلة ترمز الى ان (اليأس Despair يساوي المعاناة S ناقص المعنى M) وتُنسب الى فكتور فرانك مؤسس Logotherapy العلاج بالمعنى، وتؤكد على أهمية ايجاد معنى في المعاناة لتخفيف وتهدئة اليأس.

 

يشير هنري برجسون في معرض علاقة الوعي بالذات والاشياء قائلا " اننا لا ننقطع عن التفكير في ذاتنا الا لكي نفكر بالاشياء. وكذلك فإن هجر الاشياء يعني حكما العودة الى ذاتنا"1 ويضيف " الفكر كوجود دائم هيولي زمني"2.

تفكير الذات تجريدا هو تفكيرها في جواهرها وفي الاشياء كينونة موجودية معا. اذ لا يعي الوعي التفكير بغياب موضوعه من الاشياء المادية أو من الموضوعات الخيالية، والتفكير الذاتي هو تفكير تعاقبي ضمن سيرورة دائمية لا إنقطاع فيها مطلقا. التفكير الذاتي بالاشياء هو ليس لإثبات الوجود الانطولوجي بالمغايرة الإدراكية...بل تفكير الذات بالاشياء هو تفكير قصدي يبغي المعرفة وليس الادراك الحسّي الشيئي فقط الذي هو واجب ما تقوم به الحواس. اما عن عبارة برجسون الفكر وجود دائم هيولي زمني فهي خاطئة تماما. الفكر سيرورة من التعاقب اللازمني. بمعنى الزمن يحتوي الفكر بحيادية تامة.

الأهم الذات لا تتكافأ مع مدركاتها من الاشياء المادية ولا مع المواضيع التي مصدرها الذاكرة الخيالية، ليس من حيث أن مدرك الذات الانسانية من الموضوعات والاشياء لا يمتلك قابلية الجدل مع الذات التي تدركه، بل ومن خلال إنعدام المجانسة النوعية الماهوية بين الذات كتجريد واع مع الاشياء كوجود مادي غير تجريدي مستقل في العالم الخارجي لا تربطهما مجانسة نوعية. وهذه الميزة عدم المجانسة النوعية تبطل الديالكتيك الذي يؤكد وحدة المجانسة النوعية في التضاد الذي يلغي احد طرفي التضاد في بقاء الاخر. فلا الفكر بمستطاعه الغاء الواقع ولا الواقع بمستطاعه الغاء الذات. ومن المحال دخولهما في جدل ديالكتيكي.

الخاصية الماهوية للذات هو الوعي الإدراكي التجريدي في معرفة الاشياء المادية والتعبير عنها بالفكر واللغة. في حين تبقى مدركات الذات موجودات مستقلة لا تمتلك قابلية التعبير عن نفسها حضوريا من دون ذات تدركها ويحتويها تعبير اللغة.ولا يتموضع الادراك الفكري اللغوي الذاتي بمدركاته الشيئية المادية والخيالية ويبقى تجريدا منفصلا عنها. موضعة الذات بمدركاتها استحالة عقلية. فالذات لا يمكن لها ان تكون جزءا من موضوعها المدرك.

الوعي الذاتي هو تجريد فكري يجسد موضوع إدراكه، والفكر خاصية الوعي التفكيري، ولا يمكن تصورنا وجود فكر لا يعيه الوعي بأية وسيلة وعلى أية صورة كانت. الذات لا يمكنها التحكم اللاارادي أنها بداية عملية تفكيرية. الذات ليست وجودا ماديا لكنها بالضرورة الادراكية هي ملكة تفكير عقلي تدرك نفسها كما تدرك المادي وغير المادي الواقعي والخيالي على السواء. ولا يتوقف تفكير العقل لحظة واحدة حتى اثناء النوم واللاشعور.. تداعيات الاحلام اثناء النوم هي تفكير لاشعوري لغوي صامت في غياب الزمن والعقل. بهذا المعنى يقول فرويد اللاشعور لازمني.

الذات لا يمكنها التخلي عن خاصّيتها الماهوية التي هي التفكير بالاشياء في الانفصال عنها لإدراك ذاتها مجردة عن الاشياء. علاقة الذات بالاشياء علاقة مغايرة موجودية بالإدراك وليست عملية تخارج ادراكي جدلي بينهما في تغييب احد الطرفين على حساب الظاهرة المستحدثة الجديدة. وفرضية برجسون التفكير المنكفيء نحو إدراك الذات جوّانيا لنفسها بمعزل عن الاشياء عملية لا يمكن حدوثها حتى في حال تفكير الذات تجريدا مستمدا صامتا في تمُثله موضوعات مخّيلة الذاكرة بالفكر وليس بتعبير اللغة الصائتة.

الفكر هو ملازمة دائمية تستوعب وعيها الاشياء أو المواضيع الخيالية وغير المادية في كل لحظات توفر الوعي الذاتي حضوريا. والفكر لا يكون موجودا متموضعا بالزمن، الفكر تجريد يدركه الوعي به في تعالقه مع موجود تفكيره الذي يعرف بدلالة الزمن الافتراضي المحايد، الوجود المادي للاشياء وليس للافكار يتعذر ادراكها من غير وجود لغة يحتويها الفكر ويكون حركة مادية لشيء داخل دلالة الزمن الافتراضية. اللغة مرجعية حضور كل شيء يدركه العقل. كل شيء مدرك كموضوع هو لغة بعدية على موجوديته المادية المستقلة..

افلوطين ومغادرة الذات للجسد

حين يتم التعبير عن أهمية تحرر الذات من سجن الجسد، ما يعني عودة الذات الى نفسها، الى حقيقة ذاتها خالصة هي محض افتراضية لا تتحقق.، لكن في كل أحوال تحرر الذات من عبودية الجسد لا تكون الذات خالصة عارية تماما من موضوعات الجسد الذي كانت الذات متموضعة فيها بتفكير شعوري مجرد قبل تحررها من ارتباطها بكل ما هو مدرك عقلي واقعي أو خيالي. الذات في تحررها لا تفقد خاصيّتها الماهوية انها ذات ادراكية لاشياء وموضوعات كل العالم الخارجي، وليست ذاتا تفكيرية مجردة تسيح في عوالم خيالية تتبادل الاجترار الاستبطاني الداخلي معها بصمت تعبيري لغوي.الخلاصة الذات هي موضوعها المغاير لها المنفصل عنها. وحين يعبّرهوسرل الذات والموضوع شيء واحد فهو تعبير خاطيء لأنه يلغي المغايرة الموجودية بين الذات وموضوعها.

الذات إدراك مادي جوهره متعيّن تفكيريا تجريديا باللغة، وليس لدينا ذاتا متحررة من الجسد تكون متحررة تماما بشكل لا يصدق أننا يمكننا أن نجوهر الذات كخاصّية يمكنها إدراك نفسها وتعالقها مع الاشياء المادية الى ذات خالصة تماما كجوهر خالص تدرك ذاتها بذاتها ولذاتها ايضا في استقلالية. الذات كينونة جسدية انثروبولوجية، ومفارقة الذات للجسد تفكير لا واقعي ولا صحيح. من المتعذر تصورنا ذاتا متحررة تدرك نفسها ذاتيا وتتعامل مع مواضيع إدراكها خياليا على أنها في تحررها من الجسد تحولت من ذات تدرك المادة الى ذات (روحية) تدرك ما وراء المادة كما فعل ذلك أفلوطين الفيلسوف الصوفي الهلنستي.

الحقيقة التي تتجاهلها الصوفية هي أن الذات في نشدانها الحلول مع الذات الالهية لا تدرك سوى ذاتها فقط ولا تدرك الذات الالهية. لافتقاد المجانسة الماهوية بينهما من جهة وإفتقاد النديّة المتكافئة مع الذات الالهية من جنبة اخرى.

حين يعبّر أفلوطين بنبرة صوفية تتلبسه العودة الى الذات المجردة عن كل محدودية إدراكية مادية متموضعة في التفكير بالاشياء قائلا " غالبا ما أجدني، وأنا أغادر جسدي عائدا الى نفسي، خارج كل الاشياء لكني أكون داخل أناي رائيا جمالا إلهيا أكثر إدهاشا، وكوني أصبحت شيئا مماثلا مع الالهي مستقرا فيه فوق كل موضوع فكري آخر"3.

ماسبق لي تقديمه حول فكرة تحولات الذات صوفيا قبل تثبيت رأي أفلوطين يغنينا عن التكرار لكن هذا لا يعفينا تثبيت التالي:

- الذات بوصفها ماهية إدراكية يحتويها الجسم هي نفسها الذات الادراكية المتحررة من الجسم نفسيا داخل الجسم أيضا لا خارجه ودليل هذا تعبير افلوطين حين أجدني أغادر جسدي عائدا الى نفسي..خلاص الذات من سجن الجسد داخليا لا يمنحها هوية روحية هي غيرها داخل الجسم. هذه غير واردة ولا متحققة ابدا. فالروح داخل الجسم هي الروح خارج الجسم ولا فرق بينهما. الذات ماهية ثابتة لا تتغير تبعا لإدراك موضوعاتها.

- الذات هوية ثابتة لا تتحول من خاصّية التفكير المادي كذات تدرك ذاتها والموجودات الى خاصّية هوياتية خارج ارتباطها بالجسم منزوعة المادة الادراكية والخيالية، إدراك الذات الانسانوية للذات الالهية بروحانية متعالية عن الطبيعي الفيزيائي للوجود البشري محال. الذات التي تدرك الوجود المادي وتعيشه هي الذات الروحية التي تدرك الذات الالهية افتراضيا في دخول الصوفي مرحلة اللاشعور.

الذات الاغترابية في قصدية تحرر الروحي عن الجسد في الصوفية هي الذات نفسها التي تريد القرب من الذات الالهية كتكامل جزئي يروم الاندماج الكلي في الماهية الكونية الازلية وهو محض وهم لا حقيقة له..الروح ليست متحققا إدراكيا للاشياء بل هي محض تجريد مفهومي فقط لا تمتلك برهان تحققها بغير وسائل تفكير الميتافيزيقا.

الوعي التواصلي والتعاقب

يؤكد جاستون باشلار في معرض محاججته النقاشية المتماهية مع برجسون " إقتران الفكرة (التواصل) بفكرة (التعاقب) هو إقتران مجاني لا برهان عليه. يتجاوز دائما وفي كل مجال الاختبار الطبيعي والنفساني على حد سواء"4.

في كل أشكال الوعي الادراكي تكون حقيقة الفكرهي تواصل تعاقبي مجاني، بمعنى التواصل هو الطبيعي الذي لا يحتاج البرهنة على صدقيته في خاصية التتابع. الوعي كما المحنا له سابقا هو سيرورة الفكر نحو هدف قصدي يرسمه الوعي والفكر في ملازمة من التواصل التعاقبي. الفكر هو مضمون الوعي الذي يأخذ شكل تعبير اللغة عن نفسه. ولا يمكن إعتبار الوعي الذاتي هو محطة إستراحة  يكون الفكر الملازم لها سيرورة فكرية مستقلة قائمة لوحدها. السيرورة الفكرية هي  المزامنة لكل أشكال الوعي. وليس من الممكن فرز التزامن في هذه السيرورة المتعالقة بينهما. زمن الفكر هو زمن الوعي الذي هو زمن إدراكي لكل موجود. وفي غياب الموجودية المادية للاشياء لا يبقى هناك وعيا فكريا يحققه تجريد اللغة والزمن.

ويثير باشلار إشكالية أخرى قوله " هل سينقذ المتواصل الزمني بتجريد الزمن كشكل قبلي؟ أن هذا المنهج والقول لباشلار يعني أننا على نحو ما نجوهر الزمن من تحت في فراغه وخلوّه خلافا للمنهج البرجسوني الذي يجوهر الزمان مع مرور الوقت من فوق في إمتلائه"5.

الزمان مطلق جوهري مجرد لا يدركه العقل لا بالصفات ولا بالماهية. وعبارة باشلار الزمن تجريد (قبلي) هي عبارة صحيحة تماما. جوهر الزمان كتجريد ماهوي سابق على جوهر الوجود كثبات مادي.

والزمان جوهر ممتليء لا ندرك إمتلائه ولا خلوّه. الزمان لا يكون خلوّا فارغا لا على صعيد التحقيب الزماني الارضي في إدراكنا موجودات الطبيعة بدلالة الزمان، ولا يكون الزمان فارغا خلوّا وهو يحتوي الكون اللانهائي ولا يحتويه الكون المادي، ولا يوجد قانون فيزيائي أرضي أو قانون فيزيائي على الصعيد الكوني لا يدخل فيه الزمان معادلة علمية لا قيمة لها في إلغاء تجريد الزمان منها.

الزمان جوهر ثابت (نسبي كونيا / مطلقا ارضيا) مخلوق لا يتعالق إمتلائه الافتراضي ولا خلوه بدلالة جوهرة غيره من الاشياء. لا يوجد هناك حتى على المستوى الميتافيزيقي إمتلاء زمني تحتاني يختلف أو يتكامل مع إختلاف إمتلاء زمني فوقاني. فيزائية الزمان لا تقبل التجزئة على صعيد ماهيته الجوهرية لكنه يقبل التجزئة الافتراضية على صعيد تحقيبنا الزمان ارضيا لتوفير إمكانية ادراكنا ومعرفتنا تغيّرات الطبيعة ورصد حركة سيرورة الاشياء في العالم الارضي المحيط بنا في معرفتنا الوقت وضبط تغيرات المناخ. المقصود هنا انه بدلالة حركة الكواكب في المجموعة الشمسية نحدد الوقت وليس الزمن تحقيبا ارضيا نعرف به الوقت بدءا من الثانية وليس انتهاءا بالفصول الاربعة.

الحقيقة التي تحكمنا هي أننا ندرك الموجودات مكانا بدلالة زمانيتها، في نفس وقت أننا ندرك محدودية الزمان كتحقيب تاريخي ماض وليس كمطلق زمني بدلالة إدراكنا المكان وموجودات الطبيعة والوجود زمكانيا مشتركا متداخلا.. التحقيب التاريخي لوقائع الماضي الزمن غير موجود، والموجود هو التحقيب التاريخي لوقائع من ماض لازمني في توقيت حدوثها.

الزمان والعدم

بضوء ما ذكرناه ربما يبرزامامنا تساؤل مالفرق بين الزمن والعدم في حالتي الفراغ وفي حالة الامتلاء التي قال بها باشلار؟ إجابتنا تتحدد بالتالي:

- الزمان يلتقي العدم في واحدية الامتلاء لكليهما، فلا زمن بلا إمتلاء وجودي يحتويه ولا عدم بلا إمتلاء وجودي يفنى فيه. الزمان يحتوي الوجود كاملا، والعدم يزامن الوجود ولا يحتويه.

- الزمان يحتوي الوجود بدلالة ادراكية لمعرفته من قبل الانسان، والعدم يلازم الوجود لافنائه بالموت. لذا من أفدح الأخطاء على صعيد الفلسفة أن نعتبر الزمن مكافئا (العدم) بعلاقتهما المتباينة بالوجود، فعلاقة الزمن بالوجود هي علاقة إدراك توكيدي ملازم للوجود،بينما يكون العدم لاشيء يمكننا الدلالة على أنه يمتلك أستقلالية موجودية خارج ملازمته الموجودات الحية لافنائه وليس لتوكيدهها الادراكي كموجودات. ومن الاخطاء الاكثر فداحة فلسفية ايضا هي إعتبارنا إمتلاء الزمان يشابه ويكافيء إمتلاء العدم. العدم لا يكون ممتلئا أبدا في جميع الحالات فهو اي العدم ليس فراغا متعيّنا بل هو اللاشيء. فالعدم ليس فراغا إحتوائيا ليمتليء. العدم وهم وجودي يدرك بدلالة إفنائه الاشياء والكائنات الحيّة في مقدمتها موت وفناء الانسان.

- الزمان والعدم كلاهما لا يلتقيان بخاصية أنهما لا يدركان كجوهرين متمايزين مختلفين بمعيارية الفراغ، ولا يمكن إدراكنا زمانا تحقيبيا ارضيا ولا كونيا فارغا بمعنى الزمان لا يتوسط إمتلائين، ونفس الشيء ينطبق على العدم في إستحالة توسيطه كفراغ لوجودين أحدهما سابق عليه والآخر لاحق عليه.

جدل المجانسة والاختلاف

عن جاستون باشلار ايضا قوله ما معناه لا يوجد جدل منطقي حقيقي على صعيد مباحث الميتافيزيقا، وهي عبارة ذكية صحيحة تماما لا تحتاج برهان تحققها. إذ نحن غالبا ما نوظف الجدل الإفتراضي على صعيد الفكر بدلالة المادة وهما لا يرتبطان بنوع من المجانسة النوعية. أبجدية التفكير المادي الجدلي أن الوجود يسبق الفكر الذي هو ناتج الوجود المستقل للاشياء المادية في العالم الخارجي. وعبارة باشلار أراد بها التنبيه أن الجدل الحقيقي إنما يكون على صعيد المادة في إمتلاك التضاد داخلها بالمجانسة النوعية الواحدة بين قطبي التضاد.أي جدل صراع تناقض الاضداد يتم داخل مجانسة نوعية تجمعهما معا. ومن المحال الساري خطأ القول ان الديالكتيك يكون بين الفكر كتجريد والواقع المادي. القانون الاول في الديالكتيك يقول (وحدة وصراع الاضداد). فما المقصود بوحدة طرفي الصراع؟ المقصود هو المجانسة النوعية التي تجمعهما على صعيد التضاد بينهما. فانت من المحال ان تقول تدخل الشجرة والانسان في صراع اضداد مثلا وذلك لانعدام وحدة المجانسة النوعية بينهما.

الشيء الآخر أن الجدل الذي يتم في وحدة المجانسة التي تجمع بين نقيضين يشتركان بالصفات والماهية، والجدل الذي نتصوره يحدث خارج وحدة المجانسة النوعية أو خارج المادة والتاريخ على صعيد الميتافيزيقا كما عبّر باشلار عنه هو نوع من الجدل غير القائم حقيقة وجدل زائف لا قيمة له لأنه غير حادث أصلا ولا تتوفر إمكانية حدوثه.. لذا وصفه باشلار بالجدل الميتافيزيقي، اي الجدل غير الحادث واقعيا.

أكثر من مرة تحاشيت الإجابة عن كيفية حدوث جدل ديالكتيكي حقيقي غير ميتافيزيقي بين المادة والفكر وهما كيفيتان غير متجانستان لا بالصفات ولا بالماهية. فالمادة جوهر وجودي مستقل تدركه الحواس، والفكر تجريد تصوري تمّثلي في التعبير عن المدركات المادية بوسيلة اللغة.

ليس هناك من وجهة نظري جدلا ديالكتيكيا منطقيا يخرج على مجانسة النوع الواحد الذي يجمع بين نقيضين داخله. والتناقض والتضاد وصراع الطبقات على مستوى التاريخ يكون بين قطبين متنافرين تجمعهما المجانسة النوعية الواحدة التي لا يمكن تجزئتها وتوزيعها بين المتناقضين. بل يحسمها التضاد في هزيمة احد قطبي الجدل.

والتناقض والتضاد على مستوى المادة والصراع بين الطبقات الاجتماعية على مستوى جدل المادية التاريخية، هو تضاد وصراع بين قطبين يعتملان داخليا لا يخترعهما الانسان ولا يمكنه التدخل في نصرة أحدهما على الآخر. كما أنه صراع ينبثق للعلن بعد توافر العوامل الموضوعية الخارجية المساعدة التي تعمل على تسريع وتنضيج هذا التضاد الداخلي في إنتاج الظاهرة المستحدثة الجديدة أو ما يعرف بالمرّكب الثالث.

بعد بروز الظاهرة المستحدثة الجديدة يلعب الفكر دوره الايجابي في الانتصار لما هو تقدمي يخدم الانسان ويتطور به الى أمام. وهو في طريقه نحو حتمية التناقض الجدلي والانحلال في استحداثه الظاهرة الاخرى الجديدة وهكذا. بمعنى الجدل هو قانون الحركة المتضادة الدائمية داخل سيرورة المادة وتطورالتاريخ.

بضوء ما تم شرحه هل من الممكن إعتبار التناقض الجدلي المادي، هو عملية إنقطاع مؤقت لوعي الفكر في ثبات الادراك؟ لا علاقة تقاطع مباشرة بين الوعي الذاتي المستقل عن حدوث التضاد الداخلي الذي لا يتوقف بفعل عوامل ظرفية مساعدة مستقلة عن إرادة ورغبة الانسان.

الزمان القبلي

هل الزمان قبلي كما يشير له باشلار "ارتقاب مجرى الزمان مكتوب في الذاكرة وقبلية الزمان لا تظهر إلا لاحقا كضرورة منطقية "6

قبل الدخول في مناقشة باشلار اود تثبيت ما يلي:

- الزمان جوهر كيفي ثابت – انا هنا استبعد نسبية انشتاين في تحرك الزمن على شكل حزم متموجة تتقلص وتتمدد - لا يمكن التلاعب في ماهيته غير المدركة للانسان. بمعنى الزمان جوهر غير متعالق مع رغبة الانسان مطلقا فهو محايد حاله من حال قانون الجاذبية مثلا، ولا يوجد هناك قدرة انسانية يمكنها التحكم بالزمان في أي شكل من الاشكال لسبب إنعدام المجانسة الماهوية بين الزمان وبين كل شيء موجود يتعالق مع الزمان إدراكيا فقط. عقل الانسان ودلالة الزمان الافتراضية لا يلتقيان.

- الزمان جوهرافتراضي غير ديالكتيكي وهذه حقيقته الانفصالية المطلقة عن الاشياء خارج علاقته انه دلالة إدراك الاشياء وليس في التداخل الجدلي الديالكتيكي معها.

- الزمان وحدة كليّة وجوهر ماهوي مطلق تجريديا لا يمكن تجزئة الزمان ولا تحديده ويقول ارسطو في عبارة رائعة (لا يمكننا حد الزمان بزمان) اي من المحال ان يكون هناك زمانين اثنين او ثلاثة. فأنت عندما تريد محدودية زمانية يتوجب عليك أن يتوفر لديك زمان آخر يمتلك ماهية زمانية مغايرة أخرى تحّد بها زمانا لا يشاركه المجانسة الماهوية النوعية وهو محال فالزمن جوهر واحد في مجانسة نوعية ماهوية واحدة. وما يحكم العالم والانسان والطبيعة والكون زمان واحد يمتلك كيفية ماهوية واحدة لا تنقسم على نفسها ولا تتجزأ ولا يمكن حدّها.

- السؤال هل من الممكن حد الزمان بالمادة؟ كتحقيب أرضي وليس كمطلق ازلي زماني.؟ ايضا هنا الجواب في منتهى الإحراج. الزمان يدرك بحسب مقدار حركة الاجسام داخله على الارض. لذا فالزمان من خواصه أنه يتمدد ويتقلص كما هي خاصيّة المادة لكن من غير فقدانه لماهيته الزمانية التي لا يمكننا ادراكها بغير دلالة حركة جسم يحتويه الزمان.

-  إننا نستطيع تحديد الزمان بحركة الاجسام داخله في توازن ماهوي جوهري لهما متصلين في دلالة أحدهما إدراك الاخر، ومنفصلين بالخصائص الذاتية المختلفة بين الزمان والاجسام التي يحتويها الزمن. لا الجسم يفقد خصائصه في حركته داخل الزمان ولا الزمان يفقد خصائصه الماهوية كزمن لا يمكن إدراكه إلا بدلالة حركة غيره ماديا.

- الزمان قبلي على الإدراك بعدي على الوجود، علما أن الوحدة الزمانية لماهيّة الزمان لا تتغير في الحالتين. كون الزمان جوهر لا يقبل التجزئة والانقسام لا على نفسه ولا بعلاقته بموجود مدرك بحركته داخل الزمن.

- المشكلة الميتافيزيقية التي أثارها سبينوزا بحق هي في إعتباره الطبيعة مخلوق قبلي على بعدية الزمان، فالوجود أولا والزمان ثانيا. سبينوزا من المدهش حقا إنطلاقه تحت تأثير لاهوتي أن الخالق خلق المكان والمقصود بها الطبيعة بنظام ثابت في قوانينه الفيزيائية التي تحكمه، والطبيعة بنظامها هذا هي التي أسبغت على عشوائية الزمان نظامه. لذا إعتبر سبينوزا إدراكنا الوجود والزمان إنما يتم بدلالة ازلية الجوهر الذي هو الله. يوجد عبارة لافلاطون يقول فيها اننا بدلالة المكان ننظّم عشوائية الزمان. العبارة اوردتها فقط للتدليل على ان الطبيعة او المكان اسبق وجودا من الزمن. وليس مهما إثبات قول افلاطون اننا بدلالة نظام الطبيعة ننظم عشوائية الزمن.

- لما كان الانسان يدرك ويحّس الزمان بخلاف الحيوان الذي لا يدرك ذاته ولا يدرك نظام الطبيعة والأهم أنه لا يدرك الزمان ولا يتمتع بخيال ميتافيزيقي. لذا نجد الحيوان متكيّفا إنقياديا سلبيا ذاتيا مع الطبيعة في إدامة حياته يعيش ليأكل، في حين العلاقة التكيّفية عند الانسان مع الطبيعة لا تقوم على الانقياد لها من دون وعي منها. فالطبيعة لا تعقل نفسها من جهة ولا تعقل وجود الانسان المتمايز عنها من جهة أخرى. وعلاقة الانسان بالطبيعة تتمحور حول الانسان العاقل والطبيعة غير العاقلة. بهذه الميزة الانسان يقود الطبيعة ولا ينقاد لها.

التعاقب الادراكي

برجسون يخرق حقيقة علمية فيزيائية تقول إدراك كل شيء هو (زمكانيا) وهي الحقيقة التي ارساها كانط ومن جاء من بعده. يعبر برجسون قائلا " أن امتلاء المادة للزمان هو الاكثر كثافة من إمتلاء المادة للمكان، وما تزال المادة تملأ الزمان بشكل مؤكد أكثر مما تملأ المادة المكان"7.

من المعروف جيدا أن كل إمتلاء مكاني هو في نفس اللحظة من الحين والوقت يكون إمتلاءا زمانيا افتراضيا، وإدراك الإمتلاء لا يخضع لتعاقب تسلسلي في الأسبقية لتعذر إمكانية معرفة فصل إمتلاء المكان بمعزل عن إمتلاء الزمان. إدراك أي شيء لا يتم وفق تراتيبية أسبقية بين إدراك المكان عل بعدية إدراك الزمان. وعندما يفصل برجسون الادراك في الإمتلاء بين المكان والزمان كلا على إنفراد حسب مرجعية الامتلاء، فهذا الفصل ميتافيزيقي وهمي تصعب البرهنة على حدوثه وإمكانية تحققه سوى في تصور ميتافيزيقي غارق في تجريد فلسفي.

ومن البديهيات التي لا تحتاج نقاشا هي حضور المادة زمانيا في إحتواء الزمان الطبيعة أكثر كثافة من محدودية المكان في إحتواء الامتلائي للاشياء. ولا ينتج عن كل هذه السفسطة ما يستوجب الايهام أن برجسون وباشلار يناقشان قضية عالقة من مباحث الفلسفة جديرة بأهمية الأمتلاء الزماني بالمقارنة مع الإمتلاء المكاني.

هل من المتاح تصور أن كلا من الزمان والمكان حيّزان فارغان لإستيعابهما إمتلاء المادة لهما.؟ المادة وجود زمكاني مدرك مستقلا ولا يحتاج إمتلاء فراغات زمانية أكثر منها إمتلاء فراغات مكانية. ما هو أبسط تعريف للمادة هي كل شيء يشغل حيّزا من الفراغ، والمقصود بالفراغ هنا الحيّز المحدود الذي يناسب موضعة المادة أو الشيء فيه، لذا الفراغ المكاني لا يسبق المادة في موضعتها المكانية، وكذا المادة موجود مكاني يسبق إدراك الزمن له. لا يوجد وعائين فارغين زماني - مكاني لاستيعاب إمتلاء المادة بهما الا في تفكير باشلار الميتافيزيقي.

***

علي محمد اليوسف – الموصل

..............................

الهوامش: 1 – 7، جاستون باشلار / الجدل والزمن/ ترجمة خليل احمد خليل/ الصفحات 41- 45

الفلسفة ضحية نظام تعليمي يكرس السذاجة

فرش إشكالي: يجسِّد تعليم الفلسفة في الواقع التربوي المعاصر عندنا في الجزائر مفارقةً وجوديةً قاسيةً؛ فهو من ناحيةٍ يُقدَّم بوصفه مشروعًا تحرُّريًّا يتبنى المقاربةَ بالكفاءات كآليةٍ لتحرير العقل، ومن ناحيةٍ أخرى يُختَبر إدراكُ الطلاب لهذه الكفاءات عبر آلياتٍ تقييديةٍ تُحيلُ الفكرَ الفلسفيَّ إلى مجرَّدِ استظهارٍ لإجاباتٍ جاهزةٍ، تُروَّجُ في فضاءات الدروس الخصوصية كسلعٍ معرفيةٍ. هذا التناقضُ الجوهريُّ بين النموذج التحرري للفلسفة (كنقدٍ وتشكيكٍ وتحريرٍ) والممارسة الواقعية (كتلقينٍ واتباعٍ لنماذجَ مُعلَّبةٍ) لا يكشفُ فقط عن اغترابِ الفلسفة عن غاياتها، بل يُعرِّي أزمةً أخلاقيةً في البنية التعليمية، حيثُ يتحوَّلُ المعلمُ من حاملٍ لرسالةِ التنوير إلى وسيطٍ في سوقِ "سمسرةِ المعرفة"، يُنتجُ طلَّابًا مُطيعينَ لا عقول فلسفية تتساءل.

فكيف لدرسٍ يُفترضُ أن يكونَ حقلَ تفكيكٍ للسلطاتِ أن يتحوَّلَ هو ذاتُه إلى سلطةٍ مطلقةٍ، تُفرضُ عبرَ خطابٍ تجاريٍ يُعيدُ إنتاجَ السذاجةِ الفكرية؟ هذه الورقةُ تحللُ هذا الانزياحَ من الفلسفةِ كممارسةٍ حرةٍ تُعلي سؤالَ الحقيقةِ، إلى منتجٍ استهلاكيٍّ يُختزلُ في عملياتِ تداولٍ ربحيةٍ، مُستكشفةً تداعياتِ تحوُّلِ المعرفةِ إلى كسب مادي في سياقِ الليبراليةِ التعليميةِ الجديدة.

في "المقدمة" (الفصل السابع والثلاثون: "وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته")، ينتقد ابن خلدون ظاهرةَ انحراف التعليم عن غاياته المعرفية، ويُسلط الضوء على عدة إشكاليات تتعلق بفساد المنهج التعليمي وسوء ممارسات بعض المعلمين. ومنها:

1. ظاهرة الارتزاق بالعلم: يحذر ابن خلدون من فئة "المتطفلين على العلوم" الذين يحوِّلون التعليم إلى وسيلةٍ للكسب المادي، مما يؤدي إلى تدهور قيمة المعرفة وتحويلها إلى مجرد بضاعة. ويؤكد أن هذا الانزياح يُفقد العلمَ جوهرَه الأصلي:" إذا اتُّخِذ العلم بضاعةً، فسدت الفلسفة وخَملتْ شريعةُ الحكمة." وهذا القول يشير إلى أن تسليع العلم يُفقد الفلسفةَ قيمتها النقدية، ويُحيلها إلى نشاطٍ آليٍ خالٍ من العمق.

2. إشكالية تحريف المعرفة وسوء المنهج: ينتقد ابن خلدون بعض المعلمين الذين يقدمون المعرفةَ بشكلٍ سطحيٍ لجذب الطلاب، بدلًا من بناء ملكة الفهم النقدي. ويوضح أنهم:

"يُحْضِرُون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها... ويخلطون عليه بما يُلقون له من غايات الفنون في مبادئها، وقبل أن يستعدَّ لفهمها."

وهذه المغالطات تُربك المتعلم وتعيق تكوين "ملكة النقد"، أي القدرة على التصرف في العلم بنقدٍ وإبداع.

3. أزمة انقطاع السند التعليمي وضعف تكوين الأستاذ: يشير ابن خلدون إلى أن انهيار المنظومة التعليمية في المغرب (بعد سقوط مراكز العلم في قرطبة والقيروان) أدى إلى ضعف الملكة العلمية لدى الطلاب، حيث أصبح التعليم يعتمد على الحفظ دون الفهم أو المناظرة:

"فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتًا لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة."

مما نتج عنه قصورٌ في القدرة على النقاش والتعليم، إذ لم يعد الطلاب قادرين على توظيف المعرفة توظيفًا نقديًا.

في المسار التاريخي للفلسفة اليونانية، يبرز سقراط في المحاورات الأفلاطونية (وخاصة في "بروتاغوراس" و"جورجياس") كنموذج للفيلسوف الذي يقف بالمرصاد لظاهرة تسليع الحكمة. عبر منهجه التوليدي (المايوتيكي) وتهكمه السقراطي، يكشف لنا كيف حول السوفسطائيون المشروع الفلسفي من بحث عن الحقيقة إلى مجرد "تقنية بلاغية" تهدف إلى تحقيق المكاسب المادية. هذا التحويل الجوهري للفلسفة من مسعى وجودي-معرفي إلى مهارة نفعية، يشكل في جوهره اغتراباً عن المهمة الفلسفية الأصلية.

في هذا السياق، تظهر المفارقة السقراطية في موقف كاليكليس (في محاورة جورجياس) الذي يسخر من سقراط لرفضه قبول الأجر على تعليمه، بينما يتباهى جورجياس بثرواته التي جمعها من بيع المعرفة. هذه الثنائية تفضح التناقض الجوهري بين الفلسفة الحقيقية كنشاط تحرري والسفسطة كصناعة استهلاكية. في محاورة "هيبياس الأكبر"، يصل هذا التناقض إلى ذروته عندما يتباهى هيبياس بأنه "كسب في رحلة واحدة إلى صقلية أكثر من 150 مينا" وهو مبلغ يعادل في قيمته الحالية راتب عام كامل لخمسين عاملاً.

رد فعل سقراط على هذا النموذج من التبضيع المعرفي كان ثورياً في عصره: "أنا لا أبيع الحكمة، لأني لا أمتلكها أصلاً". هذه العبارة التي تبدو تواضعاً تحتوي في طياتها نقداً جذرياً لادعاءات السوفسطائيين بامتلاكهم للمعارف الجاهزة. تعليقه الساخر "لو كانت الحكمة تُباع كالسمك، لكان السوق مليئاً بالحكماء!" يكشف عن التناقض الأساسي بين طبيعة الحكمة كمسعى فردي وبين محاولة توحيدها وتسويقها.

اليوم، نجد إعادة إنتاج كاريكاتورية لهذا النموذج السوفسطائي في مشهدنا التعليمي المعاصر، حيث يتجلى في ثلاث شخصيات أساسية:

1. جورجياس المعاصر: يتمثل في أولئك الأساتذة الذين يحولون العمل الأكاديمي إلى "صناعة معرفية" عبر تقديم "دورات المقالات الجاهزة" بمقابل مادي باهظ، محولين الفلسفة من حوار عقلي إلى "وجبات سريعة" فكرية تهدف إلى الربح المادي.

2. بروتاغوراس الرقمي: يظهر في شكل "الخبراء" الذين يختزلون العمل الفلسفي إلى محتوى رقمي سريع الاستهلاك، معتمدين على منطق الإغراء والإبهار بدلاً من التحليل النقدي، محولين السؤال الفلسفي من "ما الحقيقة؟" إلى "كيف تحصل على العلامة الكاملة؟".

3. كاليكليس العولمي: يتمثل في الأستاذ المتعالي الذي يسخر من زملائه الملتزمين بالبحث الجاد، معتبراً إياهم فاشلين لأنهم لم يخضعوا لمنطق السوق، فيكرس بذلك ثنائية زائفة بين "النجاح" المادي والقيمة الفكرية الحقيقية.

هذه التجليات المعاصرة تطرح إشكالية عميقة حول علاقة المعرفة بالسلطة والمال، وتستدعي إعادة قراءة نقد سقراط في ضوء تحولات العصر الرقمي والرأسمالية المعرفية. فكما كان سقراط ينظر إلى السوفسطائيين كأعداء للحكمة الحقيقية، يمكننا اليوم أن ننظر إلى هذه النماذج المعاصرة كتعبير عن أزمة أعمق في علاقة المعرفة بالسلطة في عصرنا.

الفيلسوف الألماني نيتشه في كتابه "هكذا تكلم زرادشت": في فصل الحديث عن الكهنة يهاجم "مُعلّمي الفضيلة" الذين يحولون الفكر إلى دوجما (عقيدة جامدة) لأغراض نفعية. قائلا: " لقد أراد هؤلاء الكهنة أن يعيشوا كأشلاء أموات؛ فسربلوا جثثهم بالسواد فإذا هم ألقوا مواعظهم انتشرت منها رائحة اللحود. إن من يجاور هؤلاء الناس فكأنما هو ساكن على ضفة الأنهار السوداء حيث لا يسمع إلا نقيق الضفادع الحزين" يهاجم نيتشه وينتقد أولئك الذين "يدّعون الفضيلة" لكنهم في الحقيقة يخدمون مصالحهم ينطبق هذا على الأساتذة الذين يُكررون نفس المقالات منذ 20 عامًا او أكثر. يُحوّلون التعليم إلى مصنع شهادات لتحقيق أرباح أو سمعة وينتقد النظرة السياسية الضيقة التي تشتغل على تصميم المناهج لـغسل الأدمغة بدلًا من تنويرها " جميعكم أيها الحكماء المتمتعون بالشهرة قد خدمتم الشعب وما يؤمن به منَّ خرافات، ولو أنكم خدمتم الحقيقة لما كرمكم أحد، ومن أجل هذا احتمل الشعب شكوككم في بيانكم المنمق؛ لأنها كانت السبيل الملتوي الذي يقودكم إليه، وهكذا ً يوجد السيد لنفسه عبيدا يلهو بضلالهم الصاخب، وما الانسان الذي يكرهه الشعب كره الكلاب للذئب الا صاحب الفكر الحر عدو القيود الذي لا يتعبَّد، ولا يلذ له الا ارتياد الغاب "والاسوء هنا ليس الجهل، بل وهم المعرفة الذي تخلقه الأنظمة التعليمية التي :

* تُكرّس الحفظ عن ظهر قلب بدلًا من التفكير النقدي.

* تُعاقب الأسئلة الجريئة وتُكافئ الطاعة العمياء.

* برامج تعليمية تُنتج أفرادًا مُطيعين للنظام (السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي) بدلًا من مُفكّرين أحرار.

تشريح الأزمة: التمزق الثقافي وأثره على الكتابة الفلسفية

أ. الصراع اللغوي:

- التلميذ يتعامل مع لغة مزدوجة:

- لغة التدريس في الثانوية يفترض انها (عقلانية، مجردة، نسقية).

- لغة الحياة اليومية وأحيانا حتى الدروس الخصوصية (عامية، تهكمية، سطحية).

- النتيجة: كتابة هجينة تفتقد التماسك المنطقي وفقيرة من حيث المبنى والمعنى.

ب. صدام المنطق:

- منطق تدريس الفلسفة وفق المقاربة بالكفاءات يتطلب الشعور بوجود مشكلة ومن ثمة كفاءة التحليل وامتلاك ملكة النقد ورصيدا معرفيا تراكميًا يوظف قصد محاولة حلها ( خلاف ذلك التلميذ يعيش في عالم افتراضي لا يشعر بوجود مشكلة ولا يندهش ولايتساءل يؤمن بمنطق القفز كما هو الحال في "ثقافة التيك توك.

ج. أزمة الزمن:

- الفلسفة تُعلّمنا أن الماضي حي نستعيده من خلاله الذاكرة لتوظيفه في بناء استجابة تكيفية ناجحة مع الواقع وان الحاضر ندركه ونتعامل معه بذكاء وبصيرة وان المستقبل نؤسس له، بينما التلميذ يعيش في زمن مُجزأ لا ماضي ولا مستقبل، فقط "اللايك" الحالي، والاستمتاع باللحظة من خلال التفاعل مع الريلز وتبادل النكت مع الأصدقاء.

المسؤولون عن الأزمة: من النظام إلى وسائل الإعلام

أ. الثانوية:

- تتعامل مع الفلسفة كـ "شكل ومادة" لا كـ" روح وممارسة حية". ،تصنف الفلسفة كـ"مادة ثانوية". خاصة الأقسام العلمية والتقنية، وتتعامل مع التلاميذ كأعداد وكتلة يجب مراقبتها والتحكم فيها وتوجيهها وتُهمل تعليم التفكير النقدي لصالح الحفظ.

 ب. الأسرة والمجتمع:

- تُكرّس النفعية والنظرة البراغماتية المفرغة من القيم الروحية حيث الهدف هو النجاح بأي ثمن ولو بالغش والحصول على الشهادة لأجل الوظيفة ولاقيمة للفكر في هذه المعادلة، والنظام التعليمي الذي يشجع على "الحفظ والتوقع" بدلًا من التفكير النقدي يُنتج طلابًا غير قادرين على مواجهة التحديات غير المتوقعة. هذه الظاهرة تعكس خللًا في غرس قيم الاجتهاد والإبداع ورفض بعض الأساتذة للتغيير في نمط الأسئلة قد يعبّر عن مقاومة التحديث في المناهج أو الخوف من فقدان السيطرة على مصادر المعرفة، بينما يطالب الطلاب بامتحانات "مألوفة" كحقّ مكتسب.

ج. وسائل الإعلام والرقمنة:

تُعزز السطحي من خلال نشر المحتوى السريع، والإجابات الجاهزة انها تشجع التلميذ على الكسل وتغرس لديه وهم امتلاك المعرفة وتُفكك قدرته على التركيز وتضعف ارادته مثلا بدل قراءة كتاب والتحضير من خلاله او الاشتغال على تمارينه يكتفي التلميذ المغرر به بمشاهدة "ريلز" او المشاركة في دورة مدفوعة الثمن على الانترنت للتباهي والهروب من الواقع وما يفرضه من اكراهات العمل وبذل الجهد. وهنا تتحول المنصات إلى فضاءات لنشر "أسئلة مزعومة" او ما يسمى التسريبات، ظاهرة تعكس تأثير المجتمع الافتراضي في تشكيل الواقع التعليمي، حيث تتحول الشائعات إلى حقائق مُسلَّمة بفعل التكرار والمصادر "المزعومة" (التي يروج لها بعض الأساتذة).

كتخريج عام

يمكن القول ان دفاع بعض الأساتذة عن أسئلة البكالوريا "المتوقعة" له علاقة وظيفية بالدروس الخصوصية وضعف التكوين في مجتمع سائل يعيش حالة من التخلف الثقافي والهشاشة الحضارية

واقعة تحركها المصلحة المادية حيث لا يجد بعض الأساتذة حرجا في تحويل الامتحانات إلى سلعة، وهنا تصبح "التنبؤات" بالأسئلة وسيلة لتعزيز مكانتهم في سوق الدروس الخصوصية، وجذب الطلاب عبر وعود بتحقيق نجاح مضمون تحت تأثير وهم السمعة المهنية التي يُروج البعض لها ولمقالاتهم "المُعدة مسبقًا" وتكهناتهم التي لاتخطئ في نظرهم كدليل على "خبرتهم"، مما يخلق هالة زائفة حول قدرتهم على التحكم في نتائج الامتحانات، ويُضعف ثقة الطلاب بالمنظومة الرسمية مما يعكس رفض التجديد- كما هو حال بكالوريا الفلسفة 2025 شعبة آداب وفلسفة - خوفًا من فقدان الامتيازات المرتبطة بكونهم "وسطاء" بين المنهج والطلاب، خاصة إذا كانت مهاراتهم لا تتجاوز تقديم إجابات جاهزة حالة كرست التبعية: من خلال تحويل التعليم إلى مقامرة على الأسئلة بدلًا من بناء المهارات مما أدى الى تآكل مصداقية المؤسسة التعليمية: فعندما يُنظر إلى الامتحان على أنه "مسابقة تخمين"، يُفقد التعليم قيمته الحضارية كأداة لتقييم المعرفة الحقيقية وبناء ما نسميه المواطن الحر والمسؤول.

***

عمرون علي – تخصص فلسفة

قَوْلٌ في فِعْل الاقْتِبَاسْ والاسْتِئْنَاسْ

مُفْتَتَحْ إشْكَالِي: إنّ الكتابة هي الحِفَاظ والتَرْسِيخْ، وهي إثبات للوجود والإقرار بفَعَّاليته وحَركِيتِهِ، والحقّ في التفكُّر والفهم والتعبير عن المواقِف والآراء والتقديرات بالحُجّة والمِثَال. فَمَنْ يكتُب يُحْفَظْ، خاصّة إذا كانت كتاباته ذات وزن ثَقِيل من الجدّية والرَصَانَة والتَعْميق. وللكتابة كَمَا جَرَى الاتّفاق صِلَة وَثيقَة مُتبادلة التأثير مع القِراءة؛ إذ أنّنَا نَحْتاج أن نَقْرأ كيّ نكتُبْ ونَحْتاج إلى ما هو مكتوب كيّ نَقْرَأْ، وحقًا الكتابة والقِراءة تضمّ جميع أفعال العقل توظيفًا وتفعيلاً كالتفكير، التحليل، التركيب، النّقد، المُقارنة والاستنتاج (...).

ويتقدّم حقل الفلسفة كأبرز الحُقول الدافِعَة بالعقل إلى أن يَقْرَأَ ويَكْتُبَ، ما أنْتَجَ العديد من النُّصوص المُخْتَلِفَة اللّغات والمَشَارب والمناهج والموضوعات والغايات، فلِكُلّ نصّ قِصّة مَنْسُوجَة من معانيها البَيّنَة والمُتوارية. وبإعراض المُبالاة عن مَدَى قُوّة أو ضُعف، أغراض ومقاصد، تأصيليّة أو تكراريّة، استئناف لِمَا سَلَفْ أو قَطيعَة هذا النصّ أو ذاك، تُعَيّن النُّصوص كوعاء حامِل للكثير من الدلالات وزاوية من زوايا النَظَر إلى العالَم. ومن بين هذه النُّصوص نَجِد تِلك التي يكتُبها الباحث الجزائري في بُحوثه الأكاديميّة العِلّمية على سيرة التخصيصّ والضَبطّ. ومن أوجه الاعتراف بهذه النُّصوص وتقديرها، اعتمادها في الامتحانات والمُسابقات، وقد جاءت بكالوريا 2025م بالجزائر لتَشْهَدَ توظيف كتابات جزائريّة في امتحان مادة الفلسفة، وتضرب تكهُّنات الموضوعات وعقلية التوقّعات عُرض الحائِط، ومنه فإنّ الإشكال الرئيسي الذي نطرحُه ونحنُ نُقارِبُ هذا الموضوع تحليلاً ونقدًا، ماهي القيم التي كَشَفَ عنها امتحان مادة الفلسفة في بكالوريا 2025م والدروس التي ينبغي استخلاصها ضِمنَ مُحاولتنا في صياغة قول في فِعل الاقتباس والاستئناس؟

1- الفلسفة والمُقْترح: جدل التصديق والتكذيب

تُصَنَّف مادة الفلسفة كإحدى أهمّ المواد الأساسيّة التي يُمْتَحَنْ فيها تلاميذ شُعبة الآداب والفلسفة؛ حيث يُقدّر مُعاملها بستّة وهو رقم مُرتفع يُمكِّن من تحصيل نتيجة جيّدة أو مُتدنّية في المُعدّل العام قِياسًا على العلامة المُحَصّل عليها. والحقّ أنها مادة مُهِمّة كذلك بالنِسبة لبقية الشُعب خاصّة لِمَنْ يطمح ويطمع سَعّيًا لتحقيق مُعدّل عالٍ. ومن الجديد الذي أضحى قديم بسبب انتشاره وتحوّله إلى ظاهرة تمثّلت في حملة التوقّعات والترشيحات التي يُمارسها البعض من أساتذة الدروس الخُصوصية، مِمَّا جعل الحال يسوء إضافة إلى ما هو جاري من مشاكل؛ حيث أصبح التلاميذ يُغادرون مقاعد الدراسة في الربيع ويلتحقون بمقاعد أساتذة خارج القسم والمُراهنة على مجموعة من المقالات أو الموضوعات والذهاب بها يوم الامتحان. وقد يحصُل أن يصدُقَ توقُّعًا من التوقّعات وليسَ هذا من قَبيل الفلاح العِلمي والفلسفي وإنّمَا صُدفة أو حُسن حظّ وتوفيق ترشيح.

لتأتي بكالوريا 2025م وتَقْلِبَ الموازين وتُثير ضَجّة واسِعة؛ إذ لم يصدُق صِدقًا واقعيًا ولا اقتراح من الاقتراحات والمُحتملات التي تَغَنَّى بها فِئَة من أساتذة الدروس الخُصوصية ورفعوا بها سقف آمال التلاميذ في ضَمَانْ علامة جيّدة أو حتى مُمتازة في امتحان مادة الفلسفة. فَعَلَى حسب العديد من تصريحات التلاميذ أن موضوع الأخلاق لم يكُنْ ضِمن قائِمة المُنجّمِين وحتى موضوع الشعور واللاّشُعور، مِمَّا أثار موجة سُخط وانهيار لَدَى البعض منهم وحتى الأولياء وأشباه الأساتذة الدُخلاء على الفلسفة.

إنّ مسؤولية ما حدث تُعزى لعديد الأطراف وهي مسؤولية شامِلة، من ناحية أولى، تبتدئ في البدء بغِياب الضَمير الأخلاقي والمهني لفريق من الأساتذة الذين يُزاولون حرفة التدريس الخُصوصي، فحَسّبُهم مُنجّمون لَسْنَا ندري، ظَنَّا منهم أنها طريقة لجذب التلاميذ في حين هي خيانة أمانة وتضييع جيل، فنحنُ لَسْنَا ضِدّ دُروس الدعم ولكنّنا ضِدّ عقلية التكهُن، وما أضرّ بالفلسفة إلاّ قريبها، سواء منها كمُشْتَغِلَة بتِكرار أو منها كمُسْتَرْزِقَة بانتفاع فردي.

ومن التَبِعات المَرضيّة والآثار السلّبية النّاتِجة عن ظاهرة التكهّنات والأَمَرّ من ذلك المُرور إلى الإقناع بها وكأنهم هُم من يضعون الأسئلة، استفحال الحفظ الآلي من دون فهم عَميق ولا استيعاب مُتمكِّن للدُروس والمُشكلات المَطْروحَة، فيجد الأستاذ المُصَحِّح نفسه أمام مجموعة كبيرة من الإجابات المُتماثِلة وفي حالات مُتطابِقة حول الموضوع الواحد، ما يُفضي إلى رتابة رديئة ونَمَطْ من الكتابات الهَيّنَة والوَاهِنَة. ومن ناحية ثانية، تعود المسؤولية إلى التلاميذ المُعلّبة عُقولهم، بنفسيات هَشّة وشخصيات ضَعيفة تنساقُ وراء كلّ شيء بِمَا في ذلك من تفاهات وطُرق مُؤدّية إلى الخُسران. هؤلاء التلاميذ ويا للآسف ينجرفون خلف أيّ تيار يوهِمُهُمْ بأنّهم سيتحصّلون على علامة من قَبيل تقدير: جيّد جدًا أو مُمتاز وبالتالي النجاح في المادة حليفهم ونيل الشهادة في أفُق الإمكان السهلّ.

لماذا لا تتمّ مُراجعة وفهم واستيعاب جميع الدروس المُقَرَّرَة؟ ما الفائِدة من عقلية الترشيحات التي هي عبارة عن ضغط نفسي لا أكثر في أن تصدُق أو لا تصدُق؟ لماذا يُغادر البعض الأقسام مُبكِّرًا؟ لماذا يتعاملون بنوعٍ من الاستهتار والاستهزاء بامتحان البكالوريا التجريبي؟

مَتَى يُدرك التلاميذ أن ما يُسمّى بالتوقّعات تحمِل بُذور انهيارها في ذاتها، وتحمِل في طيّاتها مُفارقتها؟ نقول: مِنَ المُتوقّع أن يكون هذا الموضوع أحد موضوعات الامتحان، ونقول أيضًا: مِنَ المُتوقّع أن لا يكون هذا الموضوع أحد الموضوعات التي سنُمْتَحَنْ فيها، والنتيجة أن المُتوقّع معناه إمكان الوجود أو الحُدوث وإمكان العدم أو الغياب.

ومن ناحية ثالثة يتحمّل الأولياء جُزء من المسؤولية، لماذا يُوافِقُون على هذا الوهم؟ وعلى هذه المهزلة؟ وعلى هذا المُنْكَرْ الفلسفي الحاصِل؟ كان حريٌّ بهم نُصح أبنائِهم وتوعيتهم ودعوتهم بحِرص ومُتابعة مُسْتَمِرَة إلى ضرورة الانتباه إلى أستاذ القسم والاستفادة من أستاذ الدعم مع مُراجعة جميع الموضوعات وتفاصيل البرنامج المُسَطّر من طرف الوزارة الوَصِيَّة والابتعاد عن أجواء المُحتملات وأشخاص التكهنات.

وخِلال رحلة التوقّعات هذه تَبْرُز جدلية التصديق والتكذيب يوم الامتحان، ولا شيء محسُوم أو مضمون العاقِبة الحَسَنَة إلاّ من اجتهد وأحسن عَمَلاَ، ولهذا يجب على تلاميذ البكالوريا استخلاص الدروس والعِبرْ، بالاستعداد ذهنيًا ونفسيًا والتحضير بجدّية والتركيز بقُوّة يوم الامتحان وقبل ذلك الإحاطة الشَامِلَة بموضوعات ومُشكلات المادة. كمَا يُقترح إعادة النَظَر في برنامج المادة الذي جاء طويلاً ومُرْهِقًا على حَسَب بعض الآراء والتصريحات.

2- أهميّة تحليل النصّ والبحث عن سبب عُزوف التلاميذ عنه

يتجلّى النصّ ككيان من المعاني والأفكار والتصوّرات، وهو يُمثِّل عالَم من الإيحاءات والدلالات، تَتّصِل بالبيئة الثقافية والاجتماعية والتاريخية والمعرفية المُشكِّلَة له وأيضًا بنسيجه اللغوي. ولهذا تَعَين النصّ كأحد أهمّ محاور اهتمام العديد من المدارس على غِرار البنيوية والتفكيكية، لدرجة أنه قيل: لا شيء خارجه.

وضِمن السياق التربوي، بالتحديد شأن البكالوريا في الجزائر يكون النصّ دائِمًا هو الموضوع الثالث بعد موضوعي الجدل أو المُقارنة، أو الاستقصاء بالوضع أو بالرفع. وتتحقّق قيمة النصّ بالنِسبة للمُتلقّي الباحث والمُحَلِّل له تشريحًا وبِناءً أنه يُمثِّلُ التقاءً مُباشرًا مع الأفكار والرؤى والمواقف ما قد يُولِّدُ تفاعلاً حيًّا حراريًا من خِلال قِراءات وتحليلات مُتوالدة، كمَا أنه يُمكِّنُ الدارس له من التعرّف على النزعة، التيار، المنهج والمذهب الموصولة بالكاتب. ويُشكِّلُ النصّ لحظة آنيّة من النِّقاش والمُدارسَة مع العودة إلى الأفكار المُكتَسَبَة ذات الصِلَة به. يُضاف إلى كون النصّ شبكة من المفاهيم والتصوّرات والدلالات منها ما هو ظاهري ومنها ما هو مُتواري، ما يدفع بالباحث إلى استنطاقه وإزالة ذلك الحُجُب والإبانة عنه بالمُعاينة والتحليل والنّقد. ولقد أبان الراحل الأستاذ الجزائري "محمود يعقوبي" (1931 - 2020م) عن أهميّة تحليل النصّ وخُطواته ودعوته إلى تدريب التلميذ على الاشتغال عليه، في كتابه: أصول الخِطاب الفلسفي (مُحاولة في المنهجية)، بالتحديد في الفصل الثالث عشر: "مُعالجة النُّصوص".

ومن المُلاحَظ على اختيارات التلاميذ أثناء الإجابة في امتحان مادة الفلسفة في البكالوريا في جميع الشُعب وبالأخصّ في شُعبة الآداب والفلسفة، نُفورهم وعُزوفهم عن مُعالجة الموضوع الثالث الذي يأتي دائِمًا مطلوبه في مُعالجة النصّ في شكل تحرير مقال عنه. وتختلف الأسباب والمُبرِّرات من طرفهم، فمنهم من ينحو مَنْحَى القول بصُعوبته ومنهم من يقول بغُموض أفكاره وخشية الفهم المغلوط لمضمونه، ومنهم من يُسوِّغ عدم اختياره لتحليل النصّ بمُسوِّغ أن الأساتذة المُصحِّحون لا يضعون علامات جيّدة عند تصحيح المقال المَنْسُوج حول أفكاره. وهكذا دَرَجَ على الألسُن وترسّخ في الأذهان أن تحليل النصّ مُغامَرة، لا يلجأ إليه إلاّ من يفتقر للأفكار والحُجّج بخُصوص الموضوعين الأوّل والثاني.

3- بَيَانٌ لقيمة الاعتماد على نُصوص فلسفيّة جزائريّة أو في ثَمْرَة النصّ المحلي

مِنَ الجدير بالطرح والاعتزاز ما شَهِدهُ امتحان الفلسفة في البكالوريا لهذه السنة، من اقتباس نُصوص فلسفيّة جزائريّة والاستئناس بها، بالضَبطّ في الموضوع الثالث "تحليل نصّ"؛ حيث تمّ الاعتماد على نصّ من كتاب: مدخل إلى الفلسفة العامة للأستاذ "عبد الرزّاق بلعقروز" (1981م) في شُعبة الآداب والفلسفة، ونصّ من كتاب: فلسفة الثورة الجزائريّة للأستاذ المرحوم "البخاري حمانة" (1937 – 2018م) في شُعبة لغات أجنبية وفنون، ونصّ من كتاب: مُشكلات فلسفيّة ونُصوصها للأستاذ "محمد شوقي الزين" (1972م) في شُعبة علوم تجريبية ورياضيات. هي عودة لِمَا يكتُبُه العقل الجزائري وما يطرحه بالتحليل والنِّقاش والنّقد، عودة اعتراف وتثمين للجُهود الجزائريّة، ودعم وتشجيع للإقبال على القِراءة والكتابة وإثبات الوجود الفَعَّال، وقيمة العِلم والمعرفة والفلسفة في عَمَلية البِناء الحضاري والإنتاجية التي تُغَيّر وتُعَمِّر، للأحسن وبالأحسن.

يكشِف هذا الفِعل الاقتباسي والاستئناسي من قِبل لجنة صياغة الأسئلة عن وجود درجة مُعتبرة من الوعي والإدراك بقيمة النصّ المحلي وثِماره التي تظهرُ في توظيفِه في امتحان رسمي كالبكالوريا. والأمر الإيجابي المُضاف، أضحى الاهتمام بكتابات وجُهود روّاد الدرس الفلسفي الناشِطين اليوم، في حين كُنَّا سابِقًا نلحظ نُصوص فلسفيّة جزائريّة تَرِدُ في امتحان رسمي لكُتّاب وأساتذة قد غادرونا؛ أيّ أدركهُم الموت. ويَبْرُز الدور المُحرّك والفاعِل، الإغنائي والإنمائي لهذا الاهتمام بوصّفِه تفاعُلاً مع حركية الزمن المُعاصر، وارتباط بمضمون نصّ قد يكون مُواكِبًا لتحوّلات نماذج الفهم والتفكير، ولنقد الأسُسّ وتغيّر مبادئ النَظَر إلى العالَم والمُستجدات العِلّمية.

إنّ الاستثمار في فِعل الاقتباس والاستئناس بتأليفات العقل الجزائري، له من الأهميّة الشيء الكَثير والوَفير من الفائِدة الناهِضة بالأجيال؛ إذ يُمكِّنُ من التعريف للتلاميذ وللمُتتبّع للشأن التربوي والفكري بوجود كُتّاب جزائريين لهُم مُدوّنات حَصيفَة المبنى والمعنى تستحِق أن تُدرَجَ كمادة عِلّميّة يُمتحنُ حولها. عِلاوة على هذا، يُسّهِمُ في تربية الناشِئة على مُعالجة النصّ المحلي والشُّعور بنوعٍ من الأُلفة والمُؤانَسَة والمُعايَشَة عقليًا ونفسيًا وكأنه يُعالجُ حدث أو قضيّة من عُمق واقعه، في حين قد يكون النصّ غريب المضمون مألوف المُؤلِّف. مع زرع حُبّ الانتماء فيه وقُوّة الارتباط وتقديره.

4- من النصّ إلى المَقُولَة: توسيع نِطاق الاقتباس والاستئناس

لا يقتصِر أمر اقتباس كتابات فلسفيّة جزائريّة والاستئناس بها في مادة الفلسفة ضِمن امتحان البكالوريا على الموضوع الثالث التي تكون دائِمًا مادته نصّ وغرضه تحليله، إنّمَا من خيرة الفِعل وضرورته أن يشمُل أيضًا الموضوعين الأوّل والثاني، اللّذان يأتيان في شكل مقولة يُطلَبُ مُعالجتها في مقال سواء بطريقة الجدل أو المُقارنة أو الاستقصاء بنوعيّه. وللمقولة حظُّها الإيجابي مثل حظّ النصّ، فهي من جهة "عبارة" تَسْتَفِزُ العقل للتفكير فيها وفي كيفية مُعالجتها تحليلاً وحُجّة ونقدًا. ثُمّ إنه لَمَّا يتمّ التعبير بصيغة: يقول، يرى، يذهب، يعتقد، ليكون المطلوب الدِّفاع أو الإبطال أو المُقارنة أو التجديل، فإنّ في الصيغة إنساب وتعيين لصاحب المقولة وإشارة مُباشرة له. بينمَا مع النصّ لابُدّ من قِراءة معلومات الاقتباس حتى يعْلَمَ المُترشِّح أن الكاتب جزائري.

5- تعميم الإجراء على كافة الامتحانات ومُختلف أنماط الكتابات

يبعثُ فِعل الاقتباس والاستئناس بِمَا يكتُبُه العقل الجزائري على الثِقة ويدفع كلّ شخصّ يبحث ويُمارس الكتابة الجادّة والمُثْمِرَة ويتحرّى التعميق والتدقيق، يجتهِد في أن يكون مُبدِعًا ويجترح الجديد والمُختلف من دون ترك أو رَسمْ قَطيعَة مع المُؤتلِف، يتفاعل مع الراهِن والعصر ولا ينسلِخ من الماضي والأصل، يُراجع قناعاته وأفكاره مُراجعة مُنفتِحة ومُؤسَّسَة على قُوّة الحُجج والأدلّة العِلّمية والمنطقيّة. ولهذا تتقّرّر ضرورة تعميم الإجراء على كافة الامتحانات من امتحان البكالوريا والامتحانات العادية على مُستوى كلّ ثُلاثي، وامتحانات الجامعة وامتحان الدكتوراه. فالوضع بِحاجة إلى استنفار جُهود وتكاثُف مساعِ حتى يغدو تقليد من تقاليد الامتحانات الجزائريّة. كمَا ويُشار على جَنَاح الاستحقاق أن ذلك الفِعل لا يتوقّف على الكتابات الفلسفيّة بل يَطَال النُّصوص التاريخيّة والاجتماعيّة والأدبيّة والثقافيّة وغيرها، ويُمكن تحقيق هذا التوسُّع أكثر في امتحان مُسابقة الدكتوراه.

6- متى وكيف نَقْتَبِسْ ونَسْتأْنِسْ؟

لَيْسَ كلّ نصّ يستحِق الاقتباس والاستئناس به بِصَرَفْ النَظَر عن اسم صاحبه ولقب كاتبه، بصيغة أخرى لا تُوفِّر كلّ النُّصوص ما يُؤهِّلُها لكيّ تكون مادة للامتحان، وكمُحَصِّلة لهذا الإقرار يستلزم حُصول جُملة من الشُّروط التالية:

- مَدَى توافُق أو على الأقلّ قَرابَة مضمون النصّ مع مُقرّرات الدروس والمُشكلات التي درسها التلميذ خِلال السنة.

- مُراعاة المُستوى والفُروقات الفردية في اختيار النصّ.

- وضوح الكلمات والأسلوب؛ أيّ البَسَاطَة العَميقَة.

- أن يكون النصّ مُكتمل الأركان، بحيث يحتوي ما يُمكِّن من طرح المُشكلة، تحديد موقف صاحب النصّ، الحُجج (...) إلخ.

- أن يكون النصّ قوي المباني والمعاني، ما يستفز العقل ويدفعه إلى التفكير فيه تحليلاً وحُجّة ونقدًا.

- اقتباس النُّصوص المُكْتَمَلَة ولَيْسَ المُجَزّأة إلاّ ما حُذِف من الشرح الزائِد والعبارة الطويلة المُرهِقَة والتكرار غير الضّروري الإبقاء.

- المُوازَنَة بين الأفكار المُكتسَبَة في العام الدراسي وبعض الأفكار المُستجدة من دون تجاوز معارف التلميذ، على مِنوال المِثال: نصّ حول مصدر الفِعل الأخلاقي ويتضمّن أفكار تتحدّث عن ما بعد الأخلاق.

- المُوازَنَة بين النُّصوص القَديمَة والنُّصوص الجَديدَة.

- أن لا يحتوي على تحيّزات إيديولوجية فاضِحَة، بل يكون نصًّا عِلميًا موضوعيًا.

- أن لا يُكرِّسَ لثقافة ماضوية مُنغلِقَة ولا لثقافة مُعاصرة مُنسلِخَة.

- أن لا يحمِل إيحاءات تشجيعيّة على العُنف والخِلاف والنِّزاع والتعصّب.

- أن لا يكون نَصًّا للمُجاملة والتعظيم والتقديس الأعمى سواء لكتابات الفكر العربي والإسلامي أو لكتابات الفكر الغربي.

- الابتعاد عن منطق الجهويّة في انتقاء النُّصوص بِمُوجَبْ فِعل الاقتباس والاستئناس، والعَمَلْ بمنطق الكِفايَة والاستحقاق فقط.

7- بين الكتابات الجزائريّة وخُطوات تحليل النصّ الفلسفي: عَقَبَات وتَحَدّيات

مِنَ المُتَداول منهجيًا أن خُطوات تحليل النصّ الفلسفي تكون كالتالي:

أ- مُقدِّمة:

- تمهيد وظيفي.

- الإطار الفلسفي للنصّ (الإشارة إلى مبحث النصّ).

- مُناسَبَة كتابة النصّ وتحديد المُشكلة.

- طرح المُشكلة في صيغة استفهامية.

ب- العرض والتحليل:

- توضيح موقف صاحب النصّ (آرائه وتقديراته).

- استخراج الحُججّ والبراهين.

- النّقد والتقييم (مع الرأي الشخصي).

ج- الخاتمة:

- حلّ المُشكلة

لكن بعض النُّصوص المُقْتَبَسَة والمُسْتأنَسْ بها تطرح عَقَبَات وتَحَدِّيات، يُمكن إيجازها في عَقَبتيّنِ أو تَحدّيينِ.

تَتَجَسّد العَقَبَة الأولى في كون النصّ قد يرِدُ عرضًا لمواقِف ورؤى صاحبه وتقديراته وتحليلاته ووجهة نَظَرِهِ مع الحُجّة، وقد يكون عرضًا لمواقف غيره من دون بَيَان موقف واضِح للكاتب، مِمّا يُثير تَحدّي تحديد موقفه ومَدَى مشروعية نقده وتقييمه في الخُطوة الأخيرة من خُطوات العرض والتحليل. وأمّا العَقَبَة الثانية فَتَتَعَيّن في عدم معرفة صاحب النصّ من طرف المُمْتَحَنْ؛ أيّ عدم الإحاطة بطبيعة اشتغالاته وبُحوثه، تخصّصه واهتماماته على أقلّ تقدير بشكلٍ عام، ما ينجُمْ عنه تَحدّي ضَبطّ نزعة صاحب النصّ.

8- تَرْسِيخْ الجُهود الجزائريّة ودعم المُؤلّفِينَ والمُؤلَّفَات

ابتغاء تجاوز ما ذكرناه من عَقَبَات وتَحَدِّيات، سَطَرّنَاهَا في عَقَبتيّنِ أو تَحدّيينِ، يجب البدء قبل كلّ شيء بالتهيئة من أجل تحقيق التنمية على مُستوى الطور الثانوي، وذلك بإدراج محور يُمكن تَسّميتِهِ برُوّاد الدرس الفلسفي الجزائري ضِمن برنامج السنة الثانية والسنة الثالثة شُعبة الآداب والفلسفة. يحتوي في السنة الثانية على الشخصيات الفلسفيّة المعروفة الراحِلَة، مثل: "مالك بن نبي"، "كريبع النبهاني"، "عبد الله شريط"، "محمود يعقوبي"، "البخاري حمانة"، "البشير ربوح" (...) وفي السنة الثالثة على الشخصيات الفلسفيّة اليوم، مثل: "عبد الرحمان بوقاف"، "إسماعيل زروخي"، "الحاج أحمنة دواق"، "عبد الرزّاق بلعقروز"، "مصطفى كيحل"، "محمد شوقي الزين"، "نورة بوحناش"، "محمد جديدي"، "الدراجي زروخي"، "خديجة زتيلي"، "عمر بوساحة"، "ميلود بلعالية دومة"، "عنيات عبد الكريم"، "كمال بومنير" (...) والقائِمة تطول. ولَيْسَ شَرْطًا تقديم نُصوص جميع هذه الشخصيات ولكن على الأقلّ مُجملِها. وقد يقول البعض أن البرنامج طويل فكيف لنا أن نُضيف هذا المحور؟ حقًا، غير أنه يُمكِنُ التخفيف منه وإدراج محور رُوّاد الدرس الفلسفي الجزائري لأنّنَا بِحاجّة ماسّة إليه؛ إذ كيف نُقدِّم نَصًّا ونَتَغَنَّى أن من كتبه جزائري والتلميذ يجهل ذلك!

كمَا ينبغي تدريب التلاميذ على مُناقَشَة هذه النُّصوص ونقدها، لأنّنَا لا نُريد الإعداد لجيل يظُنّ أن النّقد إهانة، في حين هو كرامة تقديرية. هذا ويوجد مقياس "فكر جزائري" يُدرّس في السنة أولى ماستر تخصّص الفلسفة التطبيقية في الجامعة، لكنه غير كافٍ ومضمونه مُختزل.

وبالنِسبة للشُعب العِلّمية أيضًا، شُعبة العُلوم التجريبية وشُعبة الرياضيات، فَكَمٍّ من فلاسِفة هُم في الأصل عُلماء في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والطب، وكذا شُعبة التقني رياضي وشُعبة التسيير والاقتصاد وشُعبة اللغات الأجنبية وشُعبة الفنون، يجب التعريف بالمُدوّنات الفلسفيّة الجزائريّة وأصحابها.

نقترِح إقامة ندوات ولِقاءات بشكل دوري للتلاميذ، تكون فُرص حقيقية للتوعية بوجود كتابات في الفلسفة من العقل الجزائري ومُؤلِّفِيهَا، من طرف أساتذة مادة الفلسفة (الثانوية) بالتعاون مع أساتذة تخصّص الفلسفة (الجامعة). ودعوة الأساتذة الذين يُدرّسون مادة الفلسفة إلى السَّعيّ خِلال حصص الدروس والتطبيق في فتح أذهان التلاميذ على جُهود الجزائري وإسهاماته الفلسفيّة، وإلى الاقتباس من هذه الإسهامات والاستئناس بها في امتحانات الثلاثي الأوّل والثاني والثالث وتقديمها كمادة ضِمن الواجبات. بالإضافة إلى دعوة وزارة التربية والتعليم إلى إنشاء ديوان وطني للمطبوعات الفلسفيّة الجزائريّة ينشُر كتب تضمّ نُصوص فلسفيّة مُختارة مع فسح المجال لكلّ نصّ جادّ وقيّم ومُثْمِر، وكتب تتضمّن مقولات فلسفيّة مُختارة، مع التشجيع على المُشَاركة في تأليفها.

خاتمة:

في خِتام هذه الورقة التفكّريّة التي تناولت بالتحليل والنّقد والأشْكَلَة أفكار أساسيّة ضِمن موضوع توظيف الكتابات الفلسفيّة الجزائريّة في امتحان البكالوريا، وأرادت تحرير قول في فِعل الاقتباس والاستئناس، نُدرِكُ باقتناع قيمة النِّقاش الحَيّ الفَعَّال والمُنفتِح بالعقلانيّة والنّقد على الواقع حول هذا الموضوع الذي لا يُمكِنُ اعتباره حدثًا عابِرًا ولا سِّمَة مُمَيّزة لبكالوريا 2025م فقطْ، إنّمَا الأجدر والأصوب التفكير فيه بِجِدّية وبذهنية إنْمَائِيَة من أجل إنصاف كلّ الشرائِح المَعْنِيَّة من تلاميذ، أساتذة وأصحاب النُّصوص والنُّصوص ذاتها. وإذ نُؤكِّدُ مرة ثانية على الأهميّة المُتوالدة معرفيًا ومنهجيًا لتحليل النصّ وعلى ضرورة رِعايته رِعاية مُثَوِّرة لدلالاته وتدريب التلاميذ تدريبًا مُتمِكِّنًا مُنْتجًا، وإكسابه الآليات الصَحيحة في التعامُل مع النُّصوص. كمَا لا يفوتنا التنويه إلى القيمة العِلمية والفلسفيّة والرمزيّة لاعتماد نُصوص من مُؤلّفات جزائريّة، فَمَنْ لا يُقدِّر ذاته تقديرًا سَويًّا لإنجازاتها ومُتَعَلِّمًا من زلاّتها سَائِرًا دومًا نحو النُضج أكثر بعيدًا عن التقدير التعظيمي العَليل، لن يُقدِّره غيره، ففي سياق البِنَاء الحضاري لابُدّ من التدافُعْ والتنافُسْ.

وبعد نِهاية المَطَاف والخِتام، تتجدّد المُسَاءلَة: هل يكفي أن يكون صاحب النصّ جزائري الانتماء حتى نقول هذا نصّ جزائري؟ ماذا عن شُّروط الإنساب والتأصيل؟ وهل كلّ نصّ يتحدّث عن الفلسفة أو عن مواقف فلاسفتها وطُروحاتهم نقول عنه نصّ فلسفي؟

***

د. شهرزاد حمدي - تخصّص الفلسفة العامة

 جامعة محمد لمين دباغين سطيف2، الجزائر

لا تربط الفكرُ النقدي بالكائن البشري حاجة عابرة، وإنما هو عنصر أصيل من عناصر التفكير السويّ لديه. فلا ينحصر دور هذا الفكر في التنديد بما قد يتهدّد الرصيد القِيَمي والجمالي من تآكلٍ، أو بما قد يعتري حياة البشر من زيف جرّاء تغوّل الأيديولوجيا والديماغوجيا، وإنما تأتي الحاجة إلى الحضور المستدام للفكر النقدي لأجل تعزيز رصيد الناس المعرفي، والتوقّي من مخاطر فقدان الكينونة، وهو ما قد يحدث جراء الإيقاع بالناس من حيث لا يعلمون.

يتعزّز ذلك الحضور للنقد بغرض دفع الناس صوب المسلك القويم في تقييم الأشياء، وانتهاج سبيل الرشاد في تبنّي الخيارات الحرة. وبالتالي يبدو مفهوم الفكر النقدي، من هذا الجانب، مغريا، وأداة فعالة بحوزة المرء لفرز الغثّ من السمين حين تختلط الثنايا، وتختلّ المقاييس. كون العملية النقدية تقف على نقيض الخيارات السلبية، وتؤسس لوجود متحرّر من شتى أوجه الاغتراب. لذا تلوح الفعلة النقدية، بصرف النظر عن دوافعها ونتائجها، مغامَرةً واعية وليست مقامَرة يائسة، تهدف لاستعادة الأصالة، وتأسيس الوجود الحق، والقطع مع السلبية.

ومع هذه الحمولة الإيجابية التي ينطوي عليها الفكر النقدي، يظلّ في كثير من الأحيان مبهَمًا، تغشاه ضبابية يعوزها التفصيل والتوضيح، وتفتقر إلى البيان والتبيين. ولو شئنا شرح تجليات الفكر النقدي في المعيش اليومي، وتقفّي آثاره المباشرة، لقلنا هو القدرة التي تتيح للمرء العيش في العالم وليس خارجه، والمشي سويا على قدميه وليس مكبّا على وجهه. إذ يشكّل الفعل النقدي المتأتي من الوعي النقدي نحتًا للكيان، وإغناءً للذات قبل أن يكون تتبُّعا لعورات الآخرين وترصُّدًا لسقطاتهم أو تشهيرا بزلّاتهم. وبالتالي الفكر النقدي هو إدراكٌ واعٍ قائم على التحليل والتقييم لأيّ طرْح وأيّ عرْض، بغرض تبيّن حظوظ التلاؤم مع الواقعية. والأمر في هذا الجانب، يتعلق بآلة قياس تَقِي ضدّ الخديعة وسوء الفهم لذواتنا ولنظرائنا في العالم.

لكن ثمة أسئلة جوهرية على صلة بالموضوع على غرار علامَ يقوم الفكر النقدي؟ وما هي مقوّماته؟ وهل هو آلة متعددة الأوجه تناسب كل الوقائع والحالات بما يعني القدرة التي بوسعها التعامل والتكيف مع كل الظروف والأحوال؟

بادئ ذي بدء، نشير إلى أنّ اكتساب هذه المَلَكة يتضافر مع جملة من القدرات ينبغي بلوغها، على غرار التجرد في الحكم والنباهة النقيض للاستحمار. ومن ثَمَّ فإنّ الفكر النقدي هو أهلية يجري تطويرها على مراحل، وليس معطى مورَّثا أو مكتَسبًا في الحين، كما أنه ليس معتقدا أو خيارا يتبنّاه المرء ويركن إليه بدون مراجَعة أو إعادة نظر، كما قد يتصوّر البعض خطأ، وإنما هو سياق معرفي تصنعه عوامل تاريخية متداخلة وأوضاع اجتماعية حاضنة.

كان الفكر النقدي في مفهومه القديم مجرّد مجافاة للسائد المجتمعي والاعتقاد الجمعي، من قِبل أفراد أَبَوا الانخراط في الحشد ومجاراة المألوف. ويأتي الإغريقي كسينوفان دي كولوفان (ق 6 ق. م) من الرواد في سلسلة العقول النقدية التي وقفت ضد تجسيم الذات الإلهية. وقد عبّر عن ذلك في قوله الشهير: "يتصور الناس الآلهة متولدة كإياهم، وتمتلك ألسنة، وتصدر عنها أصوات، وتميزها أبدان على شاكلتهم... تَمثَلوا آلهتهم على هيئتهم، الزنجي يراها فطساء الأنوف والأشقر يراها شقراء الشعر وزرقاء العيون... حتى الخيول والثيران لو قُدّر لها أن تعرف الرسم لرسمت الآلهة في صور مماثلة لها، ولكانت لنا صور إلهية مضاهية لكل الأصناف الحيوانية". ولكن بعيدا عن الطابع الساخر لذلك الفكر النقدي مع كسينوفان، فقد كان الرجل على قناعة راسخة بوحدانية الألوهية، بوصفها محلّ الكمالات كافة.

تلك العملية النقدية لم تغب في تاريخنا القديم عنّا، وقد ورد صداها عبر جملة من المواقف في التراث العربي القديم. ولكن تلك العملية النقدية ما كانت تتمّ في تصوّر الجاهليّ ضمن إطار نسقيٍّ جدليٍّ، وإنّما في ظلّ نفور عفويّ لا وعي معرفيّ. ولم يتطوّر الأمرُ إلى صياغة رؤى وجوديّةٍ سياقية قائمة على أسس مغايِرةٍ. نجد ذلك في ما أورده الكلبي في "كتاب الأصنام" أنّ رجلا من كنانة قَدِم إلى صنم سعد تبرّكًا وتقرّبًا، فما راعه إلا أن نفرت إبله عند رؤية تلطّخ الصّنمِ بالدماء، فما كان منه إلّا أن رمى ربّه بحجر، وقال: لا بارك الله فيك إلهًا أَنفرْتَ عليّ إِبِلي وأنْشدَ:

أَتيْنا إلى سعد لِيجمَع شملنا/ فشتّتنا سعد فلا نحن من سعد

وهل سعد إلّا صخرة بتنوفة/ من الأرض لا يدعى لِغيّ ولا رشد

وبالمثل موقف ذلك الرجل الذي لفي الثعلبان قد تبوّل على رأس صنمه فصدح قائلا:

أربّ يبول الثعلبان برأسه/ لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب

فلو كان ربّا كان يمنع نفسه/ فلا خير في ربّ نأتْه المطالب

وبالتالي ما بلغنا من لوامع الوعي النقدي من الحقبة الجاهلية، سواء مع مبغضي الوثنية أو مع أتباع الحنيفية، قد دار حول رفض بعض الطقوس انطلاقا من تخمينات ذاتيّة، ولم يتحوّل الأمر إلى تقليد رؤيويّ يطبع التصورات الجماعية. ومن ثَمَّ فالوعي النقدي ما كان مطلبا جماعيا، لِما يطبع حياة الحشد من ركون للسائد. ولو نظرنا إلى مستهلّ الحقبة الحديثة نرى أن الإنسانوية قد مثّلت فكرا ناقدا للسائد الكَنَسي، ولكن الإنسانوية التي أزهرت مع توماس مور، وإرازموس دي روتردام، وخوان لويس فيفاس، وجون كوليت لم تعمّر طويلا لترثها رؤى أكثر نضجا.

وفي تاريخنا الحديث نعرف أن كانط في ثلاثيته، "نقد العقل الخالص" و"نقد العقل العملي" و"نقد ملكة الحكم"، قد أدرج النقد شرطا ضمن سياق صوابية الفعل، بوصف النقد أحد دعامات فلسفة التنوير؛ غير أنّ النقد مع تطور القراءة الماركسية للرأسمالية، ونقد البنى الاجتماعية، والقوى المتحكمة بالأوضاع الاجتماعية، اتخذ طابعا أيديولوجيا، وهو ما تطور لاحقا بشكل موسع مع جورج لوكاش وأنطونيو غرامشي. فالفكر النقدي قد تتهدّده من داخله أعراض الانحراف التي تظهر في التأدلج والتحزب والتمذهب. مع هذا، فالخطّ النقدي، بصرف النظر عن حمولته الأيديولوجية أحيانا، يظلّ مسعى للكشف عن فحوى ما هو سائد وبيان ما يعتريه من نقص. وبشكل عام، وضمن فهمٍ سياقي للفكر النقدي، فهو عملية ذهنية تطورية تجري داخل صيرورة تاريخية وليس معطى ثابتا.

وفي عصرنا الحالي المشبع بالتفرّع، تنوعت حقول النقد: النقد الأدبي، والنقد الفني، والنقد السينمائي وغيرها، وكأن هذه الحقول الرخوة بحاجة إلى صرامة لا يتكفّل بها سوى العقل الناقد، وذلك لفرز ما هو محض وخالص مما هو مزوَّر وشبيه ودخيل. ومن ضمن تلك الفروع النقدية نشير إلى النقد السياسي أيضا. فإن يكن الهدف الرئيس للنقد السياسي التطلع إلى إيجاد مواطنين مسؤولين لا رعايا خاضعين، وإشاعة ثقافة المسؤولية لا ثقافة الأداء، فإن العملية في جوهرها هي ممارسة مستقلة وراقية للقدرات العقلية.

ولكن ينبغي أن نعي أن صعود تلك المراقي النقدية لا ينبع من فراغ، بل يتأتى عبر سياق بحث، كما يقول جون ديوي في كتاب "كيف نفكر". لسبب واضح، أنّ الفكر هو بحث وحفر، وإحاطة واستقصاء، أو باختصار هو تساؤل، والفكر النقدي يعلّمنا كيف نكون عقلاء في زمن تدحرجت فيه حشود إلى ما دون سنّ الرشد.

***

عزالدّين عناية – أستاذ جامعي

تمهيد اولي: لا نجانب الصواب لا بالفلسفة ولا بالعلم اذا قلنا ان تعاملنا مع العالم الخارجي الطبيعة والوجود والكوني انما هي علاقة تجريد لغوي معرفي. كل شيء في الوجود من حولنا مدركات وموضوعات وظواهر نتعامل معها في تعبير لغوي تجريدي، فالعقل ذاته جوهر قائم على ثنائية لا انفكاك بينها هي (بيولوجيا اللغة وتجريد الفكر).. وحين نذهب مع وليفريد سيلارز الفيلسوف الامريكي في مقولته الرائعة المكتنزة علميا وفلسفيا (الوجود لغة) نكون في الجانب الصائب من التفكير الفلسفي وحتى العلمي. واذا ما علمنا ان الانسان اهمية ننعته اليوم بكائن لغوي اوكائن ميتافيزيقي اوكائن خيالي اوكائن علمي ذكي قبل ان نقول عنه كائنا اجتماعيا هو عين الصواب بالاهمية الانثروبولوجية التاريخية لتطور وجود الانسان وليس في التراتيبية التي تكون فيها الاولوية والغلبة لانثروبولوجيا الانسان كائنا اجتماعيا قبل ان يخترع اللغة، وقبل ان ينشغل خياله بميتافيزيقا البحث عن الاله الخالق المعبود. عرف الانسان اللغة حوالي 250-300 الف قبل الميلاد. واصبح الانسان كائنا ميتافيزيقيا في اختراعه الاديان الوثنية حوالي 750 الف ق.م. في ابان ظهور العصر الزراعي الذي يعتبره المؤرخون بداية صنع الانسان للحضارة. ونستطيع اليوم المجاهرة بأن مقولة الانسان كائن اجتماعي انتفت الحاجة لها اليوم وتراجعت امام الانسان كائن علمي او كائن فوق ذكاء اصطناعي اوكائن فضائي اوكائن سبراني وهكذا.

العلة والجوهر

يقول جان فال الفيلسوف الفرنسي (العلة والجوهر ليسا تجريدان وليسا افكارا، كما انهما ليسا اشياءا او موضوعات من الخارج). أولا الجمع بين العلة والجوهر عملية إعتسافية. ثم اذا كانتا العلة والجوهرليسا تجريد ولا اشياء ولا موضوعات، فما هما اذن؟ الصحيح الذي ناخذ به من العبارة هو ان العلة والجوهر كمبحثين يلازمان عالمنا الشيئي داخليا كونهما تجريدان لغويان لا يدركان ماديا. والحقيقة ان السببية او العلة تتوزع الوجود الداخلي والخارجي لعالمنا بعلاقات بينية (سبب ونتيجة)، اما الجوهر فملازمته داخل الموجود فقط.. الجوهر هو الدفين بالاشياء والموجودات الذي لا تحكمه العلّية السببية. كون الجوهر مفهوم مطلق تغلب عليه ميتافيزيقا التفكير . وهو السبب الذي جعل كل من ديفيد هيوم وجورج بيركلي ينكران السببية العلية ان تحكم العلاقة البينية بين الاشياء وهذا هراء اذ يعزو هيوم رفضه السببية بانها ظاهرة تحكمها العادة بالتكرار. وينكرهيوم ايضا وجود العالم الخارجي اصلا ما لم يكن موضوعا لادراك قبلي بالفكر (مثالية ابتذالية). فالفكر يسبق الواقع عندهما بيركلي وهيوم وكل شيء بالفكر موجوديته قبلية اولا قبل وجوده المادي. والجوهر دفين وراء الصفات الخارجية فالذي ينكر مادية الوجود كاملا يكون طبيعيا لا يوقفه عائق حين ينكر موجودية الجوهر الجزء المحتجب خلف الصفات الخارجية في تركيب الكينونة المستقلة لكل مدركاتنا المادية... الجوهر مطلق ميتافيزيقي اكثر منه جزءا بيولوجيا في مادية الموجودات كما نتعامل معه.

نعتقد اسبينوزا تناول الجوهر في تجريد لغوي ميتافيزيقي كي يهرب من الاستحقاق المطلوب فلسفيا هو خطأ (الجوهر موضوع للعقل)، تجنبه اسبينوزا بنجاح في تجريده ميتافيزيقيا الجوهر بموجودات واشياء عالمنا الخارجي، ونسبه لله الخالق التام الازلي اللانهائي في جوهره غير المدرك وليس في تكوينه الالهي، كما لم يهتم اسبينوزا بالجوهر بعيدا عن ربطه بميتافيزيقا مذهب وحدة الوجود. والا كان سقط بالمحذور الذي نبّه عليه جدا كانط قوله الجوهر ميتافيزيقا وليس موضوعا يدركه العقل. مذهب وحدة الوجود كل شيء في الله، والله في كل شيء. مبدأ اسبينوزي بعيدا عن الايمان بالمعجزات الدينية وتغليبه لمقولته اننا بدلالة الجوهر الالهي ندرك الوجود. (هذه المقولة لاسبينوزا لم يقل بها ولا فيلسوف واحد قبله وتعارضه كلا من الافكار الوجودية وافكار الماركسية بشدة).

من المهم التذكير انه بالفلسفة ادراك كل شيء والتعبير عنه تجريدا لغويا إنما يكون خاضعا لمنطق ان الوجود برمته علاقتنا واتصالنا به هو تعبير صوري تمثّلي تجريدي في تفكير عقلي يتم بتوسيط (اللغة). بمعنى ان كل ادراكاتنا من اشياء وموضوعات وظواهر العالم الخارجي والداخلي فينا ومن حولنا انما نتعامل معها ادراكيا باسلوب وحيد هو التجريد الصوري الذي تستوعبه اللغة تجريديا وحدها بما لا يجاريها غيرها بهذه الخاصية كما يذهب له الفيلسوف الامريكي وليفريد سيلارز في مقولته الرائعة (الوجود لغة). ليس غريبا اذا قلنا كل شيء في حياتنا يتعطل من غير اللغة. 

والقول ان الفكر يسبق تعبير اللغة في انتاجية تفكير العقل لهما، لذا من المباح لنا ان نقول الوجود (فكر) بدلا من قولنا الوجود لغة. اذ ان تراتيبية الفكر قبلية على تجريد اللغة. فالفكر محتوى يسبق تعبير اللغة مجازا (كشكل) ولكن لا يمكننا فصل الفكر عن اللغة ابدا الا في حالة الصمت. حيث يكون الصمت هو التفكير اللغوي الذي تحتويه اللغة ولا تؤطره صوتيا في تعبيرها الخارجي عن الاشياء. لكنها تؤطر الفكر في صمت اللغة كتفكير صوري يتمّثل موضوعه. بمعنى حتى انتاجية الصمت هو لغة. واسبقية الفكر على تعبير اللغة خطأ جرى معنا توضيحه كون الفكر الذي لا يؤطره تعبير لغوي صائت صوتي هو صمت لغوي سلبي لا يسعف نفسه في قدرة الحضور من دون شكل لغوي يحتويه ويعبّر عنه.. ثم هناك خاصية فلسفية لا يمكننا العبور من فوقها ان الفلسفة في تعبيرها اللغوي المنطقي تعوّض وتسد النقص عن كل ما يعجز العقل ادراكه واقعيا ماديا كما في ابداعات المخيلة وموضوعات الخيال في الاجناس الادبية والفنون.. وحتى هذا الاستثناء الاخير حول تعويض الخيال الذي اوردناه لا يتم اشتغاله في غير تفكير (اللغة – الصمت) كون ادراك العقل للاشياء هو تفكير وتعبير لغوي تجريدي (فكر صامت ولغة صوتية تلازمه). ادراك الشيء والوعي به هو تمثل لغوي له سواء في تعبير اللغة او صمت الفكر. والعقل من دون موضوع لا تحضره اللغة يكون حضورا ادراكيا منفعلا له يعتريه العجز عن اثبات وجوده. فالعقل بلا موضوع وبلا تفكير لغوي لا معنى له حتى في وجوده البايولوجي كدماغ يكون تعطيل اللغة فيه تعطيل لعمله كاملا. وجود العقل الطبيعي بايولوجيا كدماغ تحتويه الجمجمة لا يعمل ويشتغل الا تفكيرا لغويا تجريديا بموضوع ماثل يشغل الدماغ تفكيريا.

ازدواجية الذات على نفسها

عبارة مين دي بيران (انني من اجل ذاتي، لكني لست بذاتي) ربما يبدو غريبا للبعض اذا قلنا العبارة صحيحة سليمة وليست هراءا فلسفيا متناقضا. بضوء الحقيقة غير المعلنة ان وجود الانسان هو العمل الذي ليس له نهاية من اجل تلبية متطلبات الذات في كل اشباعاتها بدءا من الاحتياجات البايولوجية والنفسية والى اللذات الجسدية التي تبقي الكائن الحي موجودا لا ينقرض. والحقيقة الثانية الذات لا تنقسم على نفسها لا بيولوجيا ولا تجريديا رغم اجازة فرويد انقسام الذات نفسيا. وهنا تكون الذات منفصلة فرويديا في اللاشعور اذا صح لنا التعبير تماشيا مع العبارة عن الانا التي تخدم ذاتها وهي منفصلة خارجة بعيدة عنها بنوع من اغترابية بناءة هادفة. بمعنى توجد ذاتا تعيش لذاتها وتوجد (انا) غير متحدة بها تعمل على بناء وتطوير الذات وكانما الذات اصبحت موضوعا مستقلا لادراك ذاتي متعال عليها.. هذا منطق فلسفي يتوسل فائض التجريد على حساب تغييب مادية التفكير العقلاني. تحت ذريعة الفلسفة تعبير لغوي منطقي تجريدي مفتوح النهايات لا يخضع للتجربة ولا للتطبيق الواقعي.

وقد يبدو هذا تخريجا مسعفا لركاكة الفهم التعبيري الفلسفي الوارد بالعبارة (انني من اجل ذاتي لكني لست بذاتي). الحقيقة الفلسفية الباطنية تشير حسب العبارة الى ان الذات واحدة وليست منقسمة على نفسها (انا وذات) كما هي في علم النفس. الانسان الذي يعيش من اجل ذاته بانفصال تام عنها (مجازيا) وليس حقيقيا. هذا جائز في علم النفس وفي اللاشعور اما على صعيد منطق العقل الفلسفي فهو هراء فلسفي أن نجد الانا منقسمة على نفسها مرتين او اكثر وتبقى محتفظة بحضورها الشعوري التفكيري المنطقي والادراكي السليم عقليا محال. اذا قلنا العقل هو المطابقة التامة مع الذات حقيقة بايولوجية غير قابلة لادحاضها.

لتوضيح اكثر نتساءل هل من الممكن ان تكون الذات تجريدا عابرا للعضوية الفسلجية البايولوجية المرتبطة بالعقل والنفس؟ ام خاصية الذات هو التجريد التفكيري على صعيد الفلسفة فقط؟ هل من المنطقي السليم ان نجد الذات تجاهر بانقساميتها على نفسها وتبقى محتفظة بعلاقة بيولوجية سليمة مع عقل سليم يوجهها؟ ازدواجية الذات على نفسها حسب مصطلح علم النفس هي حالة انفصام مرضي شيزروفينيا. ولو نحن ابحنا للفيلسوف الفرنسي المجاهرة بانقسام الذات على نفسها (إغترابا ذاتيا) وتبقى تتفلسف بمنطق لغوي سليم يحتويه العقل لاصبحت ازدواجية الذات غير مرضية كما اعتمدها واشار لها فرويد. في تقسيمه الانا بثلاث درجات تراتبية هي الانا الاولى والوسطى والثالثة المتعالية تراسندتاليا مثاليا.

في المطابقة السائدة فلسفيا – علميا الانا هي الذات لكن ان يعمل الانسان من اجل ذاته وهو منفصل عنها متحرر منها، فيكون معنا انفصال الانا عن موضوعها الذات تجريدا لغويا وليس حقيقة بايولوجية اذ لا يوجد غير ذات واحدة موحدة تحت وصاية عقلية. وليس من رابطة تجمع بين الانا والذات اذا جاز لنا التفريق بينهما سوى التجريد اللاشعوري، وكليهما الذات والأنا جوهر بيولوجي نفسي واحد بمرجعية العقل.

 ومن تجليات نزعة فائض التجريد الفلسفي يصف مين دي ميران ان الوعي ميتافيزيقي. والحقيقة الوعي لا يمكن ان يكون ميتافيزيقيا وتجريدا غير قصدي ماثل بموضوع العقل الادراكي. الوعي هو توسيط شعور العقل في مدركاته. الوعي خاصية العقل البيولوجية في التعبير عن مدركاته معرفيا ولغويا.

مالبرانش والوعي

ينسب لمالبرانش مقولته (الوعي لا يمكن ان يصير موضوعيا والوعي ناقص) اذا قلنا بالرد المباشر ان الوعي لا يكون ولا يوجد الا موضوعيا، والوعي خارج موضوعيته غير موجود. لان الوعي علاقة توسيط العقل بمدركاته. محاولة جعل الوعي موضوعا مستقلا للعقل محاولة غير مجدية. اما ان يكون الوعي ناقصا فمصدره ان فاعلية العقل الادراكية بالتفكير تخطأ معظم الاحيان نتيجة تضليل الحواس في نقلها الانطباعات الحسّية لمدركاتها من موضوعات واشياء العالم الخارجي. الشيء الملاحظ في مباحث الفلسفة انها لدى بعض الفلاسفة يذهبون بالتجريد الفائض بعيدا عن الواقعية والتفكير المتزن الذي لا ترفضه الفلسفة وتحتويه.. فهي اي الفلسفة ان تتفلسف بكل شيء في سلسلة من الادهاشات على شكل متوالية هندسية من تساؤلات مفتوحة النهايات لا قرار لها ولا نتائج.

الوعي تجريد عقلي يداخل ويتخارج مع موضوع العقل البيولوجي معرفيا وليس ديالكتيكيا، والوعي من غير حضور موضوع مدرك تفكيري للعقل اي الوعي لا يشتغل على موضوع خاص به بل يشتغل على موضوع ادركه العقل واعطى مقولاته عنه كما يشير كانط. وبغير ذلك لا يعمل العقل تفكيريا ولا يعمل الوعي توسيطا تخارجيا معرفيا. والوعي لا ينفصل عن الموضوع الذي هو مادة موضوع تفكير العقل القبلي. ادراك الدماغ للشيء يسبق ثانوية الوعي به. الوعي هو الارتدادات الصادرة عن العقل حول مدركاته من اشياء وموضوعات.

فائض التجريد لعبة فلسفية عقيمة

يلاحظ في تاريخ الفلسفة ادراج العديد من موضوعات فلسفية قائمة على غرائبية من تعبيرات فائض التجريد المجاني بلا معنى ما يسقط تلك المباحث في تهويمات بعيدة جدا عن النسق المنطقي اللغوي المتماسك في معالجته قضايا فلسفية حيوية هامة. لماذا وكيف نرفض فائض التجريد المجاني بمباحث الفلسفة؟ سنجيب عن التساؤل بمنطق الفلسفة.

لا بأس ان ندخل في استطراد سريع هو لماذا كانت فلسفة اللغة بداية القرن العشرين هي الفلسفة الاولى بعد تنحية مبحث تسيّد الابستمولوجيا (المعرفة) لقرون طويلة واعتبروها خرافة غير واقعية ولا حقيقية؟ السبب هو انتباه اللاسفة المتأخر الى ان تاريخ الفلسفة مليء بالاخطاء اللغوية والتجريد الفائض عن الحاجة الفلسفية.

وطرح الفلاسفة البنيويين رواد فلسفة اللغة تهمة عويصة ان اللغة في تاريخ الفلسفة كانت تضليلا للعقل. على كل حال ليس هذا موضوعنا بالرد وقد عالجته في اكثر من مقالة منشورة لي.. افضل مثال على توظيف فائض التجريد الحشو الزائد عن ضرورات الحاجة بالفلسفة وابرز مثال على هذا الهراء الفلسفي هو ما اقدم عليه جاك دريدا بالتفكيكية بما اطلق عليه استراتيجية الهدم والتقويض بما لا نهاية له في استهداف نسق تجريد اللغة (النص) في البحث عن فائض المعنى في متوالية لانهاية لها. في تاريخ الفلسفة الفرنسية تحديدا نجدها مليئة بتقليعات هي فائض تجريد طروحات غرائبية تحتويها الفلسفة بكل يسر ويجري تمريرها تحت فائض التجريد التهويمي على حساب اهمال وتمييع كل ما يمت بصلة للفكر المادي ومرجعية الواقع والعقل البيولوجي واهتماماته. نجد مثال ذلك كابانيس وهو من رواد الفكر الفرنسي في القرن الثامن عشر يجاهر بدون ادنى التزام بما يقول (ان كل ما فينا عضوي) وفي ظل هذه العبارة وغيرها اكثر ابتذالا حين يقول فيلسوف فرنسي اخر (للطبيعة عقل) وآخر يقول (للجماد الصخر عقل). ورغم كل هذا التبجح بحضور بايولوجيا العقل نجدهم يتسابقون وراء غرائبية فائض التجريد الفلسفي بما يجعل دور بيولوجيا ومادية العقل بالتفكير تتراجع جدا. ويجعل من التهمة الحاضرة ان الفلسفة لا تقول شيئا جاهزة للتسويق.

***

علي محمد اليوسف

مصطلح العمل الكلي Total work صاغه الفيلسوف الالماني جوزيف بيبير بعد الحرب العالمية الثانية في كتابه (الترفيه: أساس الثقافة، 1948)، ويعني به العملية التي يتم من خلالها تحويل البشر الى عمال ولاشيء آخر. ظاهرة العمل الكلي هي نتاج لترافق الخوف من محدودية العمل مع تصوّر العمل كفضيلة. لو تصورنا ان العمل سيطر على العالم، عندئذ سيكون هو المركز الذي تدور حوله بقية الحياة. وسيصبح كل شيء آخر خاضعا للعمل. هنا وبشكل بطيء وغير محسوس، سوف تصبح كل الاشياء الاخرى مثل الألعاب التي نلعبها، الأغاني التي يتم غنائها، مظاهر الحب المنجزة والمهرجانات المحتفل بها كلها متشابهة وتصبح بالنهاية عملا. ثم يأتي وقتا هو ذاته غير مُلاحظ، عندما تختفي كليا من السجل الثقافي العديد من العوالم التي كانت موجودة قبل هيمنة العمل على العالم و يطويها النسيان.

في هذا العالم من العمل الكلي كيف يفكر الناس وكيف يتكلمون ويتصرفون؟ عندما ينظر الناس في أي مكان سيرون موظفا سابقا، موظفا، موظف بعقد، وغير موظف او عاطل، وسوف لن يكون أي شخص خارج هذا التصنيف. في كل مكان هم يمدحون ويحبون العمل، يتمنون ان يبذل كل شخص جهده ليوم منتج، يفتحون أعينهم على العمل ويغلقونها فقط عند النوم. في كل مكان هناك أخلاق العمل الشاق التي يتم تمجيدها كوسيلة يتحقق بواسطتها النجاح، والكسل يُعتبر أعظم الخطايا. في كل مكان بين مقدمي المحتوى، وسطاء المعرفة، مهندسو التعاون ورؤساء الاقسام الجديدة سوف نسمع ثرثرة متواصلة حول سير العمل، الخطط والمعايير، التوسع والعائدات والنمو.

في هذا العالم، الأكل، الراحة، الجنس، التأمل والتنقل – يتم مراقبتها بدقة ويجري تحسينها باستمرار – ستكون سببا للصحة الجيدة، والتي بدورها توضع في خدمة من يكون أكثر انتاجية. لا أحد يشرب كثيرا، البعض سيتناول جرعة صغيرة من المخدرات كي يعزز ادائه، وكل شخص سيعيش الى أجل غير محدود. في الزوايا، تنتشر الشائعات حول الموت او الانتحار من الإرهاق، لكن مثل هذه الهمسات الخفيفة لا تُعتبر اكثر من مظاهر محلية لروح العمل الكلي، حتى ان البعض يرى هذه طريقة جديدة بالثناء لإنجاز العمل الى حدوده المنطقية المتمثلة بالتضحية النهائية. لذلك، في كل زوايا العالم، سوف يتصرف الناس لكي يكملوا توقهم العميق للعمل الكلي: ليروا أنفسهم يتجلّون بشكل كامل.

هذا العالم، ليس من الخيال العلمي، انه بلاشك قريب من عالمنا. مصطلح "العمل الكلي" يعني، ان العمل بالنهاية سيصبح كليا، في الحقيقة، ان العمل الكلي يحصل عندما يكون هو المركز الذي تدور حوله كل حياة الانسان، عندما كل شيء آخر يوضع في خدمته، عندما تتشابه التسلية، الاحتفالات واللعب تدريجيا وتصبح عملا، عندما لا يبقى هناك بُعد آخر للحياة وراء العمل، عندما يعتقد الانسان تماما اننا وُلدنا فقط لنعمل، وعندما تختفي من الذاكرة الثقافية تماما جميع طرق الحياة الاخرى التي كانت موجودة قبل انتصار العمل الكلي.

نحن على وشك بلوغ العمل الكلي. كل يوم نتحدث مع اناس يسيطر العمل على حياتهم، محوّلين عالمهم الى واجب، افكارهم عبء غير مُعلن.

بالنسبة للشخص المختلف الذي كرس نفسه لحياة التأمل، يأخذه العمل الكلي ليكون في الاساس شخصا يقف أمام العالم الذي يُفسّر كمجموعة لامتناهية من المهام تمتد الى مستقبل غير محدد. بعد هذه المهاماتية taskification للعالم، يرى المرء الزمن كمورد نادر يجب استعماله بحذر، وهو دائما قلق بما يجب عمله، وعادة هو قلق حول ما اذا كان الشيء الصحيح يتم الان وايضا حول ان كان هناك دائما ما يتطلب المزيد من العمل. ان الموقف من العامل الكلي لا يُفهم جيدا في حالات العمل المرهق، وانما في الطريقة اليومية التي يركز بها المرء بشكل كامل على المهام التي يتعين اكمالها، وفي الانتاجية والكفاءة والفاعلية التي يجب تعزيزها. كيف يتم هذا؟ من خلال طرق التخطيط الفعال، والتفضيل الماهر والتفويض في الوقت المناسب. العمل الكلي، باختصار، هو شكل من النشاط المتواصل والمتوتر والمزدحم، المشكلة الرئيسية فيه معاناة وجودية عميقة متجذرة في انتاج المفيد.

ما هو مزعج في العمل الكلي هو ليس فقط انه يسبب معاناة انسانية غير ضرورية وانما ايضا يقضي على أشكال التأمل المرح المتعلق بسؤالنا والتفكير والاجابة على معظم الاسئلة الاساسية للوجود. لكي نرى كيف يسبب العمل الكلي معاناة انسانية غير ضرورية، لننظر في ظاهرة العمل الكلي كما تظهر في الوعي اليومي لشريكين خياليين في محادثة. هناك في البدء توتر مستمر، شعور كاسح بالضغط المرتبط بفكرة ان هناك شيء يجب عمله، شيء ما دائما يُفترض اني اقوم به حتى الان. وكما يوضح الشريك الثاني في المحادثة، هناك في نفس الوقت السؤال المهم الذي يلوح في الافق: هل هذا أفضل استخدام للوقت؟ الوقت عدو، نادر، يكشف عن قدرة الشخص المحدودة في الفعل، ألم المضايقة، تكاليف الفرص التي لم يُجب عليها.

وباجتماع، الافعال التي يُفترض عملها لكن لن تتم بعد، وتلك التي يجب ان تكون اُنجزت سلفا، وما يُحتمل ان هناك شيء اكثر انتاجية يجب القيام به، والشيء القادم الذي ينتظر الجميع القيام به كلها تعمل مجتمعة كعدو لإزعاج الشخص الذي هو دائما في الخلف في عمل غير مُستكمل الآن.

ثانيا، المرء يشعر بالذنب متى ما كان غير منتج بأقصى ما يمكن. الذنب، في هذه الحالة، هو تعبير عن الفشل لمجاراة او البقاء في قمة الاشياء، في ظل التدفق في المهام بسبب الاهمال المفترض او الخمول النسبي.

اخيرا، ان الحافز المستمر على إنجاز الامور يعني انه مستحيل عمليا، وفق هذه الطريقة في الوجود، ممارسة الاشياء بشكل تام. الرجل الاول يستنتج ان "وجودي" هو "عبء: والذي يعني دورة لامتناهية من عدم الرضا. ان طبيعة عبء العمل الكلي تُعرّف بالفعالية اللامتناهية والمستمرة والمقلقة. القلق حول المستقبل، الذنب المرتبط بامكانية الخمول. وعليه، فان "مهاماتية" العالم مرتبطة بطبيعة عبء العمل الكلي. باختصار، العمل الكلي بالضرورة يسبب المعاناة او dukkha بالتعبير البوذي وهو مصطلح يشير الى الطبيعة غير المقنعة لحياة مليئة بالمعاناة.

العمل الكلي، بالاضافة الى ما يسببه من معاناة، يمنع بلوغ مستويات عليا للواقع. لأن ما يضيع في العمل الكلي هو الايحاء الفني للمحات الخلود الدينية الجميلة، وفرحة الحب النقية، وإحساس الفيلسوف بالدهشة. كل هذه تتطلب صمتا، هدوءاً، رغبة مخلصة للفهم. اذا فُهم المعنى كتفاعل تلقائي للمحدود واللامتناهي، هو بالضبط ما يتجاوز، حاليا، المعرفة بانشغالاتنا وواجباتنا الروتينية، يمكّننا لتكون لدينا تجربة مباشرة بما هو أكبر من أنفسنا، عندئذ ما يضيع في عالم العمل الكلي هو بالضبط إمكانية تجربتنا للمعنى. ما يضيع هو الذي يبحث لماذا نحن هنا.

***

حاتم حميد محسن

عمد فويرباخ أن يجعل من الطبيعة منشأ وأصل الدين، وينصّب الانسان (الها) عليها ومن خلالها، فهو – فيورباخ - جعل الانسان يقدّس ويؤله الطبيعة بتأملاته الخيالية والميتافيزيقية المحدودة أدراكيا عقليا، وأن يعتبر (الانسان) دون وعي منه، الطبيعة بكل ماتمتلكه من ظواهر وهيئات وتنوعات جغرافية وبيئية وتضاريس وانهار وجبال وحيوانات ما هي الا مصدر (الاله) الذي يحتاجه الانسان روحيا وماديا أيضا في تعليل اسباب وجوده او المساعدة في ايجاد حلول لجميع المشكلات التي تعترضه والظواهر والموجودات الاخرى التي تتعايش معه وتحيط به.

فويرباخ كما معلوم أبرز فيلسوف أنشق مع آخرين من تلامذة هيجل واطلقوا على أنفسهم الشبان اليساريين الهيجليين، منهم ماركس وانجلز وشتيرنر وشتراوس وشيلروغيرهم.وربما يكون أهم انجاز فلسفي تركه فويرباخ هو كتبه الثلاث (اصل الدين)و(جوهر المسيحية) و(جوهر الايمان) في محاولته تثبيت نزعته الالحادية وشرح فلسفته في منشأ الدين عن الطبيعة واغتراب الانسان عن ذاته .

ولقّب فويرباخ بأنه صاحب منهج فلسفي مادي تصوفي او تأملي ذاتي، البعض ينعت فويرباخ فيلسوف الذات فهو عالج موضوعة أغتراب الذات فلسفيا في سبق فلسفي يحسب له . ومن الماركسيين المحدثين الذين ينكرون التأثير المادي لفويرباخ على ماركس، بنفس معيار أنكارهم الجدل الهيجلي على ماركس أعتبارهم فويرباخ هو الآخر مثاليا تجريديا تأمليا، واقفا على رأسه بدلا من قدميه قبل ماركس، علما أن جميع دارسي وباحثي الماركسية يذهبون الى أن المادية التصوفية الفويرباخية والجدل او الديالكتيك الهيجلي كانتا دعامتي الديالكتيكية المادية، والجدل المادي التاريخي الذي اعتمدهما ماركس في صياغته قوانين تطور المادة والتاريخ، بعد تخليص مادية فويرباخ من تصوّفها التأملي الديني، وتخليص الجدل الهيجلي من مثاليته المقلوبة.

المهم أن هذا ليس موضوعنا، لكن لا يمكن لأحد نكران أن المعارف والفلسفات وحتى العلوم الانسانية، هي تراكم معرفي وحضاري تاريخي محكوم بالكم والكيف، في تقادم زمني لا يلغي تماما جهد السابقين على اللاحقين تاريخيا، مهما اعتور وشاب تلك المسيرة من النقد والمراجعة والحذف والتفسير والتفنيد ..الخ.كما يتعذر ولادة معارف علمية أو فلسفية من فراغ فكري سابق عليهما. واذا سمحنا لانفسنا اسقاط الفهم الحداثي وما بعد الحداثي على اي نص مكتوب، فهو بحسب رولان بارت في مقولته الشهيرة موت المؤلف، في ردّه كل نص الى تناصه المتعالق مع سابقاته من النصوص من جهة، ومن جهة اخرى فأن النص بعد كتابته ونشره يصبح ملكا صرفا للقاريء المتلقي، او بالاحرى المتلقين الآخرين في تعدد وتنوع قراءآتهم للنص.وهو ما ينطبق على كل نص تداولي مكتوب سواء في الثقافة او المعارف او الفلسفة او السرديات الكبرى كالايديولوجيا والتاريخ والدين الخ.

ويؤكد البرتو ايكو هذا المعنى لدى بارت قائلا (بارت يقوم بتفريق هام بين نص القراءة، الذي يستهلكه القاريء، والذي يمنح نفسه للقاريء بلا مشّقة، ومن ثم يقوم بترسيخ العادة وألمالوف، وبين نص الكتابة الذي يقوم القاريء بكتابته مرة اخرى، ومرات عديدة في كل قراءة اخرى جديدة).

يقول ماركس في عبارته المتعالقة مع فويرباخ:(ان الدين باق معنا، في بقاء الاسباب التي أدّت الى نشوئه)1. لا نجانب الصواب حين نرد وننسب التقاء ماركس وفويرباخ في نشأة المسألة الدينية لديهما في اشتراكهما ليس في طبيعة الحادهما وحسب، وانما في طبيعة نسبة مصدر الدين ومنبع وسبب نشوئه الطبيعة ذاتها والانسان ذاته ايضا.معتبرين الدين من صنع الانسان وصنع الطبيعة معا.وملخص ذلك في عبارة فيورباخ (عبادة الله تعتمد على عبادة الانسان لنفسه).

الطبيعة الارضية الحيّة التي وجد الانسان نفسه مقذوفا بها كوجود من غير ارادته مع باقي المخلوقات والكائنات الطبيعية والحياتية النباتية والحيوانية والجمادية، وسط اشكال وظاهرات متنوعة، اشجار ونباتات وجبال عملاقة وصخوروانهار وبيئة متنوعة وغير ذلك.كان محتّما ومحكوما على الانسان ان يتكيّف ويتعايش مع هذه الطبيعة شاء أم أبى، ويتماشى مع مراحل تطورها التاريخي، محاولا فهم صفاتها وقوانينها وكيفية التعامل والتكيّف والتعايش معها.

وفي معرض الحديث عن تعالق الدين واللغة عند الفيلسوف بروديكوس، ان الانسان البدائي والذي بدا له ان كثيرا من الظواهر الطبيعية معادية له، ومع ذلك كان معجبا جدا بالهبات التي تزوده بها الطبيعة لتسهيل حياته ورفاهيته.

هذه الطبيعة المادية في مجموع تكويناتها وتنوعاتها الارضية، لم تكن طبيعة جامدة (روحيا) بمعنى الثبات والسكون الفيزيائي والبيولوجي الذي يعدم تساؤلات ما وراءهما.، تساؤلات الانسان الكائن النوعي في ذكائه المتفرد به عن باقي المخلوقات والكائنات (عقليا - روحيا) خياليا تأمليا ميتافيزيقيا الى ماوراء ظواهر الطبيعة. في هذا التأمل الروحاني البسيط، حسب فويرباخ أخذ الانسان يخلع على الطبيعة، بعضا من خصائصه الذاتية عليها، ليصل بعدها خطوة او مرحلة متقدمة في(تأليه) اغترابه عن الطبيعة، متصوّرا أن قدراتها وما تمتلكه الطبيعة من صفات لا يمتلكها هو تجعله بالضرورة يجعل من الطبيعة كائنا يفوقه بالقدرة والمكانة، ويستوجب عليه تقديسه واعتباره (الها) له يعبده ويعمل بجميع الوسائل كسب مرضاته ووقايته من الحاق ضرره(العفوي) المقصود به في كل خوارق العواصف والزلازل والفياضانات وهكذا في كل ما يهدد حياته ووجوده.هنا بدأ الانسان يفهم ان الطبيعة الاله، تمتلك وتستطيع فعل كل ما يعجز عنه تفكيره ان يفعله ويعمله، في وجوده المادي الحسّي والروحي على السواء.

ان تفسير فويرباخ (الوهية) الطبيعة المتخيّلة والمصنّعة انسانيا ذاتيا، هو ان(الانسان وضع اسمى خصائصه الانسانية، ماهيته، او جوهره في الطبيعة فقدسّها، ثم خلع عليها صفات وقدرات الالوهية في تجريدها من عينيتها اي واقعيتها المادية، ومن ثم رفعها الى السماء، وسماها(الله) بلغات مختلفة وكيفيات مختلفة ورموز مختلفة وخصائص مختلفة وهيئات مختلفة.)2.

واضح ان الدين لدى فويرباخ هو الطبيعة، ويعتبر الانسان الديني هنا، انما يتعامل مع (الطبيعة – الدين) من خلال الوعي بذاته، كذات عقلانية مدركة للطبيعة والمحيط وتعي اغترابها عنهما معا (اغتراب ذاتي واغتراب عن الطبيعة). وبالتالي فان (اله) الانسان لا يعكس سوى حالته فقط، ذاتيته، وجوهره المتفرد الخاص به وحده دون غيره من الكائنات.

تأسيسا على ما ذكرناه يعتبر فويرباخ الطبيعة المبتدأ الاول والمنتهى الاخير لفهم نشوء الدين، لذا تكون تبعية الانسان لحاجة التديّن، هي لاشعوره الدفين بتبعيته للطبيعة التي لا يستطيع تصوّر الحياة من دونها وما توفره له من اسباب العيش والبقاء.

من المعلوم جيدا ان جدل الانسان مع الطبيعة يقوم على جوهر ومرتكز(أنسنة) الانسان لها، ومحاولته السيطرة على بعض تجليّاتها وتسخيرها لمنفعته، أو محاولة اكتشاف بعض قوانينها الطبيعية التي تعمل بمعزل عن رغباته ووجوده ومحاولته الاستفادة منها في تمشية حياته والتكيّف مع الطبيعة.

بالمقابل الجدلي المناقض للانسان نجده في فرض الطبيعة، تطبيع الانسان على التكيّف معها في مقابل محاولته هو أنسنتها، في افتراض واقعي علمي ان جدل التناقض في قطبيه الانسان والطبيعة لا يعيان ادراكيا تضادهما الجدلي ولا حتى النتائج الغائية المتولدة منه والمفصحة عنه. الجدل والتضاد بينهما في قانون الماركسية وحدة وتصارع الاضداد الذي يحكم المادة والتاريخ والوجود عامة. انه من المفهوم جيدا ان جدل الانسان في محاولته انسنة الطبيعة يقوم على اكثر من خاصيتين يمتلكها الانسان وتفتقدها الطبيعة وهي عوامل (الذكاء واللغة والخيال ووعي الذات والعقل)، لذا بالامكان ترجيح جدل التضاد بين الانسان والطبيعة في صالح الانسان وليس في صالح الطبيعة وهو ما ثبت انثروبولوجيا وعلميا في التطور التاريخي والحضاري للانسان. ثم اضيفت للانسان قدرات اضافية لا تجاريه فيها الطبيعة مثل انتصاب القامة واستعمال اليد بمساعدة اصبع الابهام الذي لا تمتلكه سائر الحيوانات، وفي مرحلة متقدمة جدا اخترع الانسان اللغة مع دخوله عصر الزراعة، عصر صنع الحضارة الانسانية. (عصر الزراعة سبعة الاف سنة قبل الميلاد، وعصر اختراع الكتابة بحدود (2200 – 2300) ق. م.*

نعود لنكمل مع فويرباخ (اذا كان الانسان يؤمن بكائن مختلف مستقل عنه، والذي ليست له طبيعة بشرية، وليست له صفات بشرية، فان ذلك الكائن ليس شيئا سوى الطبيعة في الحقيقة، وان كل الاسماء التي يمنحها هذا الانسان لكائن متخيّل ما هي في الاصل الا سمات الطبيعة ذاتها)3.

ويمضي فيورباخ قائلا في تأليهه الطبيعة (انه اذا كان الله بنظر اللاهوتيين عبارة عن كائن خالد لا يفنى، فانه لا يوجد في الحقيقة كائن خالد سوى الطبيعة، حيث يموت جيل ويعقبه جيل آخر، في حين نجد أن الارض، الشمس، الماء خالدين الى الابد)4.

كما يرى فويرباخ أن جوهر الدين هو جوهر الانسان، وماهية الدين هي ماهية الانسان نفسه، وبهذا المعنى فان فويرباخ بحسب الاستاذ الباحث جاد الكريم الجباعي (لا يؤسس للالحاد، بل يؤسس الدين برده الى اصله (الانسان) وعلة وسبب نشوء الدين هو اغتراب الانسان الذاتي واغترابه عن الطبيعة معا)5.

وبهذا الفهم الاغترابي الادماجي المركّب حسب فويرباخ يصبح كلا من الانسان والطبيعة والاله المصنّع خياليا ميتافيزيقيا (الها واحدا) متمثلا في محورية ومركزية الانسان وليس الطبيعة ولا اله ما وراء الطبيعة.

من الواضح ان فويرباخ جعل قدم الوهية الطبيعة متقدمة على الوهية الانسان لئلا يقع في التفسير المثالي الذي تحاشاه وهو ان الطبيعة الالهية والاله الميتافيزيقي كلاهما من صنع الانسان، وبهذا المنطق المثالي الذي تحاشاه فويرباخ ابقى الطبيعة وجودا ماديا بمعزل عن كل وجميع رغائب الانسان وذهب الى ان الطبيعة منشأ الدين وليس الدين من صنع وخلق الانسان المحض. متجاهلا ان حقيقة التفسير العقلي المنطقي بغض النظر عن ماديته او مثاليته يذهب الى ان الطبيعة وحدها لا تستطيع صنع دينها بنفسها لولا توّسل الانسان بها وقيادته هو للطبيعة وليس العكس.عندها يصبح التفسير المثالي او المادي في ان الدين لم تصنعه الطبيعة بقواها الذاتية لولا توّسل الانسان بها واعتماده لها مقبولا صحيحا، وبالتالي يبطل قول فويرباخ ان الطبيعة مصدر ومنشأ الدين. بل الانسان الميتافيزيقي هو اصل اختراع الدين. وفي تحاشي فويرباخ عدم الانزلاق بهذا الفخ لجأ الى القول ان الانسان خلق تدينه من الطبيعة ولم تفرض الطبيعة دينها ان صح التعبير هي عليه .اي ان فويرباخ وقع في مأزق المراوحة بين التفكير المادي الذي يتبناه ويحمله من جانب، وبين الفهم المثالي الذي لا يقر فويرباخ الاخذ به من جانب اخر.

فقد عمد الانسان تأليه الطبيعة التي يجهل خلقها ومن أوجدها، لذا فقد اعتبرت الطبيعة منذ تلك الحقب التاريخية السحيقة والى يومنا هذا ميراثا للانسان ووجوده الارضي لا ينازعه بها أحد منذ انقراض الديناصورات والماموث وغيرها من الكائنات التي كانت تهدد وجوده بالانقراض عصر ذاك.

وسواء ورث الانسان الارض هبة من الخالق ام كنزا وجده مصادفة هيأته له ارادة اخرى مجهولة خفيّة في التطور البيولوجي والكوسمولوجي، فهو وجد نفسه حاكما متحّكما في الكثير من امورها الغامضة او الواضحة ليكون سيّد الطبيعة.

وحسب فويرباخ فان الانسان خلع على الطبيعة من صفاته رغبة منه في حل الغاز وجوده، ونضيف تماشيا مع تصور فويرباخ انه لما كانت الطبيعة عاجزة عن حمل رسالة الالوهية بما يلبي رغبات الانسان ويبعث الطمانينة بنفسه، فهي لا تجترح المعجزات ولا تجيب على اسئلة عقل الانسان المحيّرة ووجوده النوعي، فأن الانسان لم يمتلك سوى الارتداد الى ذاته في تصنيعه الطبيعة (الها)، الى مرحلة لم يكن يعيها جيدا انه بأمكانه ان يكون هو (الها) للطبيعة والمخلوقات الأخرى معه التي لا تدركه. من الطريف ان نجد الانسان ينصّب نفسه الها للطبيعة من غير ارادتها ووعيها، ونجده ينصب نفسه الها لباقي كائنات الطبيعة من غير ادراك تلك الكائنات له.

مانجده متحققا في مراحل تاريخية متطورة حضاريا من وجود البشرية في اعلان الانسان نفسه (الها) وحتى ليس نبيا، في الاساطير والميثولوجيا، وحتى الى عصور متقدمة معاصرة جدا في اعلان امبراطور الحبشة (اثيوبيا) هيلاسلاسي نفسه(الها) مخلصّا يعبد بحسب المعتقد الديني في (الراستفارية) عند بعض القبائل الاثيوبية- الجامايكية. بالحقيقة لم يكن يدرك الانسان ان من خصائص الاله اجتراح المعجزات عصر ذاك، لذا كانت الوهية الانسان لا ارادية عفوية غير عقلانية لا يؤمن بها غير الفرد الذي اخترعها، بمعنى لم يكن الانسان عصرذاك نبيا يحتاج اجتراح المعجزات كي يصدق القوم الوهيته. يحصل هذا سواء اكانت الطبيعة الها ام لم تكن، او كان الانسان مخلوقا عبدا ام الها مرسلا ام غير مرسل بوحي.

ولأن الانسان بحسب فويرباخ (كائن غير ميتافيزيقي فان تفكيره الميتافيزيقي (نقض) بمعنى السلب النفي، لفن التفكير كأنه سلب مطلق، والطبيعة له ليست الا المقابل العقلي له)6. (والكائن الذي يوجد في الفكر بالنسبة للمفكر، هو الجوهر الحقيقي، ومع هذا فانه يكون واضحا بذاته له، والكائن الذي لا يوجد في الفكر لا يمكن ان يكون جوهرا صحيحا)7. اول خطأ وقع به فيورباخ قوله الانسان غير ميتافيزيقي، فميتافيزيقا الانسان التفكيرية والى يومنا هذا هي التي جعلت من اختراع الدين بطبعاته المكررة في الاديان التوحيدية واقعا يعيش من اجله الانسان الحياة.

كما ان الذي لا يعطيه لنا الفكر بفعل التفكير كناتج تفكيري وفهم الذي هو الموضوع المادي المدرك لذاته، او الكائن المدرك وجوده خياليا (روحيا) عندها يكون المخيال الغاءا افتراضيا مطلوبا لادراك وجود الطبيعة ماديا.التي يرغب الانسان اعطاءها صفة المتعالي والمقدس والالوهية، على حساب الغاء فاعلية العقل الحسّي في تحقق وجود الاشياء.على وفق قصدية روحانية دائمة التصادم والتضاد، في عجز الانسان والطبيعة معا اي الخالق الطبيعة والمخلوق الانسان العبدين كليهما وجدا عجز اثبات ان الطبيعة تمتلك سمات الالوهية والمقدس في اجتراح المعجزات وتحقيق اماني العبد الانسان في درء الاخطار المحدقة به وحمايته. هذه السمات لم تكن الطبيعة تمتلكها اولا، ولا هي (الطبيعة) ارغمت الانسان خلعه عليها، وتصنيع الانسان الهه منها وعبادته لها على وفق ما يطلبه ويتمناه لا وفق ماترغبه الطبيعة، فهي لم تكن ولن تكون مستقبلا بحاجة الى انسان روحي يستمد تدينه من الطبيعة كون الطبيعة لا تدرك ذاتها بوعي منها كما هي الحال مع الانسان.

وفي مقولة هيجل (الدين هو أعلى صورة من صور التعبير عن الوعي الذاتي) نستطيع فهم ان ذاتية الانسان هي التي جعلت من الطبيعة الها افتراضيا هو من صنع خيال الذات الانسانية في ايجاد وسيلة تخلع عليها صفات الالوهية، ويعبدها الانسان فلا يجد غير الصفات التي تتفرد بها الطبيعة، او الصفات المشتركة بينهما، ويصنع من الطبيعة الها ماهو الا ذاته هو الانسان، التي خلعها على الطبيعة. تم هذا بواقع تفسير خيالي افتراضي ان الطبيعة قادرة ان تعطي كل متطلبات معيشة الانسان، وبالتالي فهي تستحق التأليه الذي يحتاجه الانسان روحيا في فزعه من الموت والفناء اذا ما توقفت الطبيعة امداده باسباب البقاء والحياة.

***

علي محمد اليوسف

.......................

الهوامش:

* اعتمدت في هذه المقالة المداخلة، مقالة الاستاذ الباحث جاد الكريم الجباعي/الالحاد لا يقي من المثالية والغيبيات/موقع مؤمنون بلا حدود، نيسان 2018 في عرض اراء فويرباخ كتابه اصل الدين تعريب وترجمة الاستاذ احمد عبد الحليم.

1.  نقلا عن المصدر اعلاه نفسه

2.  المصدر اعلاه نفسه

3.  المصدر اعلاه نفسه

4.  المصدر اعلاه نفسه

5.  المصدر اعلاه نفسه

6.  المصدر اعلاه نفسه

7.  المصدر اعلاه نفسه

*هذا الموضوع شائك وغير محسوم بين البنيوية والتفكيكية ايهما أسبق على الآخر الكتابة ام الكلام؟ اذا اعتبرنا ان النقوشات والمحفورات البدائية الصورية على جدران الكهوف هي اسبق على الكلام، قد يبدو صحيحا، لكن اذا اعتبرنا الكلام التخاطبي الشفاهي هو غير لغة التداول والتدوين، عندها تكون اللغة المكتوبة المدونة أسبق على الكلام الشفاهي في التداول. (المؤلف)

مَدرسةُ فرانكفورت (1923 - 1970) هِيَ مَدرسة للنظرية الاجتماعية والفلسفةِ النَّقْدية، مُرتبطة بمعهدِ الأبحاثِ الاجتماعية في جامعة غوتة في مَدينة فرانكفورت الألمانية، ضَمَّتْ المُفكِّرين والأكاديميين والمُنشقين السِّياسيين غَير المُتَّفقين معَ الأنظمة الاقتصادية الاجتماعية المُعَاصِرَة (الرأسماليَّة، الفاشيَّة، الشُّيوعيَّة) في ثلاثينيات القرن العِشرين.

تُفْهَمُ أعمالُ مَدرسةِ فرانكفورت في سِيَاقِ الأهدافِ الفِكرية للنَّظريةِ النَّقْدِيَّة، التي تَقُومُ على النَّقْدِ الاجتماعيِّ الرَّامي إلى إحداثِ تغيير اجتماعيٍّ، وتَحقيقِ التَّحَرُّرِ الفِكْرِيِّ مِن خِلالِ التَّنويرِ غَيْرِ الجَامِدِ في افتراضاته، وكَشْفِ تَناقضاتِ المُجتمع الغربيِّ الحَديثِ، وتَحديدِ مَظاهرِ الاستغلالِ والاستلابِ والاغترابِ التي أفْرَزَتْهَا الحَدَاثةُ المَادِيَّةُ نَتيجة هَيمنةِ العَقْلانيَّةِ الأداتيَّةِ.

وَقَدْ هَاجَمَتْ مَدرسةُ فرانكفورت ابتعادَ الفَلسفةِ عَنْ دَوْرِها الاجتماعيِّ، وانتقدتْ تهافتَ النَّزعةِ الوَضْعِيَّة التي تَجْعَلُ مِنَ العُلومِ الطبيعيةِ نموذجًا لِلْعِلْمِيَّةِ، وتَجْعَل العِلْمَ والتِّقنيةَ الأدَاتَيْن القَادِرَتَيْن بِمُفردهما عَلى إحداثِ التَّغييرِ الاجتماعيِّ، وتَحقيقِ سَعادةِ الإنسانِ، كما انتقدتْ تَحَوُّلَ أدواتِ التَّثقيفِ وَوَسَائِلِ الإعلامِ إلى أدوات تُمارسها سُلطة الأنظمة السِّيَاسِيَّة الغربية للسَّيطرةِ على الناسِ، والهَيمنةِ عَلى مَسارِ حياتهم، وتَوجيهِ الرَّأي العام.

يُعْتَبَر الفَيلسوف الألماني يورغن هَابِرْمَاس (وُلِدَ عام 1929) مِنْ أهَمِّ عُلماءِ الاجتماعِ والسِّيَاسَةِ في العَالَمِ، وَهُوَ المُمَثِّلُ الأكثرُ شُهرةً للجيلِ الثاني لِمَدرسةِ فرانكفورت، وَالوَرِيثُ الرئيسيُّ المُعَاصِر لأفكارِهَا ونظرياتها وإسهاماتِ أساتذته: ماكس هوركهايمر(1895_ 1973)، وتيودور أدورنو (1903_1969)، وهِربرت ماركوز (1898_ 1979)، وفالتر بنيامين (1892_ 1940)، وإريك فروم (1900_ 1980).

ومَهْمَا كانَ التلميذُ ذكيًّا ومُبْدِعًا لا يَستطيع التَّخَلُّصَ مِنْ تأثيراتِ أساتذته بشكل كامل، ولا يَقْدِر على التَّحَرُّرِ مِنْ أفكارِ العُلماءِ الذينَ دَرَّسُوه بِصُورةٍ تَامَّة. لذلك تُعَدُّ فَلسفةُ يورغن هابرماس استمرارًا وتَطَوُّرًا للفِكْرِ النَّقْدِيِّ الذي أسَّسَتْهُ مَدرسةُ فرانكفورت، مَعَ تَبَنِّي المَنهجِ التواصلي الذي يُرَكِّز على العَقلانيةِ التواصليَّة، ونَقْدِ العقلانيَّة الأداتيَّةِ.

وَقَد اعْتَبَرَ هابرماس أنَّ إنجازه الرئيسيَّ هُوَ تطوير مَفهوم ونظرية العقلانيَّة التواصليَّة، وذلك بِتَحديدِ العقلانية في بُنى الاتصالِ اللغويِّ الشَّخْصِيِّ. وَتُقَدِّمُ هذه النَّظريةُ الاجتماعيةُ أهدافَ الانعتاقِ أو التَّحَرُّرِ الإنسانيِّ، ضِمْن الإطارِ الأخلاقيِّ الشامل، والفَهْمِ المُتَبَادَلِ بين البَشَر.

وتأثيرُ مَدرسةِ فرانكفورت في فَلسفةِ هابرماس يَتَجَلَّى في النَّظريةِ النَّقْدِيَّةِ، التي تَنْتقِد المُجتمعَ الرَّأسماليَّ الحديثَ وعَقْلانيته الأداتيَّة، مِمَّا أدَّى إلى تَهميشِ وتَشَيُّؤ الأفرادِ. والتَّشَيُّؤُ: تَحَوُّلُ العَلاقاتِ بَين البَشَرِ إلى مَا يُشْبِهُ العَلاقاتِ بَين الأشياء، ومُعاملةُ الناسِ باعتبارهم مَوْضِعًا للتبادُل. وعِندما يَتَشَيَّأ الإنسانُ، فإنَّهُ سَينظر إلى مُجتمعِه وتاريخِه باعتبارهما قُوى غريبة عَنْه، وهَذا يَقُودُ إلى سُقوطِ الإنسانِ في فَخِّ الاستلابِ ومِصْيَدَةِ الاغترابِ.

وَقَدْ تَبَنَّى هابرماس جُزْءًا مِنْ نَقْدِ مَدرسةِ فرانكفورت للحَداثةِ، لكنَّه اختلفَ معها في رُؤيتها المُتشائمة للحَداثةِ، حَيْثُ رَأى أنَّ الحَداثة مشروع غَيْر مُكتمِل، يَجِبُ استكمالُه، ولَيْسَ التَّخَلِّي عَنْه. كما أنَّه انتقدَ العقلانيَّة الأداتيَّة التي رَكَّزَتْ على تَحقيقِ الأهدافِ والغَاياتِ مِنْ خِلالِ الوَسائلِ الأكثر فَعَالِيَّة، ورَأى أنَّها أدَّتْ إلى تهميش القِيَم الإنسانيَّة والمُجتمعية.

وعَلى الرَّغْمِ مِنَ الاختلافاتِ بَيْنَ أجيالِ مَدرسةِ فرانكفورت، بسبب الاعتباراتِ التاريخية والظُّروفِ المَعيشيةِ وتَبَايُنِ طَبيعةِ الناسِ وَعَادَاتِهم، إلا أنَّ فلاسفة المَدرسةِ لَمْ يَعتمدوا على التَّقليدِ الأعمى والنَّسْخِ والاتِّبَاعِ والتَّكْرَارِ، وهَذا سَاهَمَ في تَكوينِ نظريات مُتَجَدِّدَة باستمرار. وهَذه النَّظرياتُ ذَات هُوِيَّة مَركزية تَرتبط بالتُّراثِ الفلسفيِّ الغَرْبيِّ بِكُلِّ تَشَابُكَاتِهِ وتقاطعاتِه، بَعْدَ إخضاعِه للنَّقْدِ والغَرْبَلَةِ والتَّصْفِيَة.

لَقَدْ وَرِثَ هابرماس عَن مَدرسةِ فرانكفورت تقاليدَها في نَقْدِ الحَداثةِ التي كَشَفَتْ عَن الجَوانبِ المُدَمِّرَة للعَقْلانيَّةِ وآلِيَّاتِ السَّيطرةِ والضَّبْطِ التي قَدَّمَتْهَا المَعرفةُ التِّقنية للسُّلطةِ، وأسَّسَ فَلْسَفَتَهُ عَلى التُّراثِ النَّقْدِيِّ لِفلاسفةِ مَدرسةِ فرانكفورت، حَيْثُ فَتَحَ الفَلسفةَ المُعَاصِرَةَ عَلى فِكْرَةِ التَّوَاصُلِ والسُّلوكِ الاتِّصَاليِّ بَيْنَ أبناءِ الحَضاراتِ المُختلفة، مُحَاوِلًا تَحليل أسباب ونتائج العَواملِ التي تُهَدِّد الحَيَاةَ الإنسانيَّة فَرْدِيًّا وجَمَاعِيًّا. كما أنَّهُ اعتمدَ على اللغةِ بِوَصْفِهَا فِكْرًا وسُلوكًا اتِّصَالِيًّا لِتَحقيقِ الحِوَارِ والتَّفَاهُمِ بَيْنَ البَشَرِ، وُصُولًا إلى تَحقيقِ حَالةِ السِّلْمِ الاجتماعيِّ في ظِلِّ الاختلافاتِ العَقَائِدِيَّةِ والثقافيةِ، والتَّبَايُنَاتِ الطَّبَقِيَّةِ، وتَرسيخِ قِيَمِ الحُرِّيةِ الفِكْرية والعَدالةِ الاجتماعيَّة.

إنَّ نظرية الفِعْلِ التَّواصليِّ وَضَعَهَا هابرماس مِنْ أجْلِ تَفْسيرِ كَيفيةِ تَشكيلِ العلاقاتِ الاجتماعية، وتَطويرِ الثَّقَافات، وَهِيَ طريقة أساسيَّة للتواصلِ بَيْنَ الأفرادِ في المُجتمع، وتَبَادُلِ المَعلوماتِ والأفكارِ والمَشاعرِ والأهدافِ عَبْرَ اللغة، بِوَصْفِهَا أداة رئيسيَّة للتَّعبيرِ والاتِّصَالِ، والهَدَفُ هُوَ التَّوَصُّلُ إلى تفاهم مُشترَك بَيْنَ الأفرادِ، والإجابةُ عَن الأسئلةِ المُعقَّدة حَوْلَ الطبيعةِ الإنسانيَّة والاجتماعيَّة. والفَضَاءُ العامُّ هُوَ المكانُ الذي يَتِمُّ فيه تبادُل الآراء والأفكار بِحُرِّية، وَهُوَ ضَروريٌّ لِتَشكيلِ الرَّأيِ العَامِّ واتِّخَاذِ القَراراتِ المَصِيرية. ***

 إبراهيم أبو عواد

 

 

تعد مشكلة الخوف من الموت وطبيعته تقليدياً من دائرة اختصاص الدين، والدين ينكر عادة الطابع اللامتناهي للموت، إذ يؤكد استمرارية الشخصية الانسانية سواء في شمولها النفسي – البدني او كروح متحررة من البدن، مؤكدا على طابعها الممّيز المألوف. ومن ثم فأن الفلسفة لم تشرع في الاهتمام بالموت الا حينما اصبح التأكيد الذي يطرحه الدين مشكوكا فيه وموضع ريبة، او حينما بدا هذا التأكيد في تناقض لا مفر منه مع شهادة حواسنا المباشرة التي لا جدال فيها.

وحينما اصبح الرد الديني على الموت موضع تشكيك سعت الفلسفة الى دعمه بحجّة عقلانية، وعندما غدا الامر متعلقا بالتناقض راحت الفلسفة تسعى الوصول من خلال النظر العقلي الى رد مؤكد مماثل لذلك الذي طرحه الدين منذ وقت طويل، او تصدت للوصول الى التصالح مع الموت منظورا اليه باعتباره نهائيا او بحسبانه خلودا غير شخصي، خلود الانسان كنوع. وهناك امكانية ثالثة، فالعجز عن تقبل الحل الديني يمكن ان يؤدي بالفيلسوف الى الاهمال الكلي للمشكلات التي يطرحها الموت، والى انكار انها تقع في دائرة اختصاص الفلسفة.

وفي غياب اقتناعات دينية محددة تماما، كما كان الامر في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد في بلاد الاغريق على سبيل المثال، وفي القرنين الثاني والاول قبل الميلاد في روما، نجد الموت لا كموضوع للفسلفة فحسب، وانما كمحرك لها ايضا، لكنه مع مجيء المسيحية، ووعدها بالبعث والحياة الخالدة، في العالم الاخر تقلصت الضرورة الحيوية لقيام الفلسفة بتناول الموت. حيث غدت الفلسفة ذاتها تابعة للاهوت لاسباب عديدة. لكن سيكون من الخطأ الاستنتاج بأن الانشغال بالموت قد اختفى في العصر المسيحي فالظهور التدريجي لتصور محدد للحياة الاخرى، التي طورها اللاهوت وجعلها الشعر، والنحت، والتصوير، واقعية بصورة مرئية.

وخلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر التي سادت فيهما نوبة تسلط الموت على الاذهان والقلوب، اصبح حدث الموت بالاضافة الى المخاوف المعتادة المرتبطة به، اكثر اثارة للفزع، لان لحظة الموت اكتسبت معنى خاصا ومشؤوما، حيث ان لحظة هروب الروح من الجسد المحتضر، هي الفرصة الاخيرة لقوى الجحيم من السيطرة على هذه الروح.

ونجد مع استئناف التفكير الفلسفي المستقل في عصر النهضة ان الفلاسفة يميلون فيما يتعلق بمشكلة الموت الى انكار الخلود الشخصي، ويمكن ان يقال انه منذ اللحظة التي انحاز فيها بيترو بومبونازي P.Pomponazzi الى صفوف القائلين بانكار الخلود، اصبح انكار خلود الروح بصورة تدريجية الموقف الفلسفي غير المنازع في كل من فرنسا والمانيا في القرنين الثامن والتاسع عشر. ولم تهمل الفلسفة مشكلة الموت، فحتى الماديون الفرنسيون في غمار انكارهم لخلود الروح ووصفهم بانه (كذبة كهنوتية) وانه عقبة في وجه تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لكنهم تناولوا الموت بالدراسة. وكان هناك دائما جهدا دائبا من جانب بعض الفلاسفة لاثبات خلود النفس. وفي الضرب الاول أي الفلسفات التي تتناول مشكلة الموت تظهر العلاقة بين واقعة الموت والبحث الفلسفي في ثلاثة جوانب هي:

1- يمكن ان يكون الموت مصدر الهام للفلسفة وقوة الدفع الكامنة وراء التفلسف الذي يهدف اساسا الى السيطرة على الخوف من الموت والتصالح مع حتميته. وكانت هذه فلسفة شوبنهاور.

2- يمكن ان يكون الموت اداة للفلسفة التي تزعم انها وحدها التي تناسب الوصول الى فهم الوجود والكشف عن طبيعته الحقة التي يتخللها اللاوجود على حد تعبير هيدجر.

3- اخيرا الموت كما يقول افلاطون يمكن ان يكون الوضع المثالي للتفلسف وحالة يمكن فيها وحدها ان يتحقق سعي الفيلسوف وراء المعرفة الحقة.

ان مهمة الفلسفة هي التيّقن من طبيعة الموت والبرهنة على انه ليس فناءا نهائيا، او اظهار الاسباب الكامنة وراء موقفنا من الموت الذي يذهب الى انه رغم الموت هو (النهاية) فانه لاينبغي ان يكون موقفنا هو الخوف بل اللامبالاة والاذعان بل التقبل والابتهاج..

لقد سهّل استبعاد مشكلات الموت عن الفلسفة تحت ضروب التقدم المذهلة التي أحرزتها العلوم الدقيقة، الى ترك الموت ومشكلاته على قارعة الطريق. وعلى اية حال فقد أعلن انصار النزعة العلمية حماس احتضار الموت، بينما اعترف به بأسى وحزن ممثلو الدين التقليدي فقد كتب احدهم (ان الموت المجرد كمحرك قد احتضر... لقد فقد الموت ضروب افزاعه). وكتب اخر (ان القرن العشرين اكثر انشغالا من ان يشغل نفسه كثيرا بالمشكلات التي يطرحها الموت، وما يعقبه فالرجل المحنك يكتب وصيته، ويؤمن على حياته، ويزيح موته جانبا باقل صور التأديب...  الموت كمصير يلقي بظلاله وكموضوع كان الخلاف حوله شاملا).

غير ان آرثر شننتزلر يجد انه ما من شخص جدير بالاحترام لايفكر في الموت، وبينما انسحب الفلاسفة المحترفون الى البحث المتخصص. اعرب كتاب وشعراء من امم عديدة عن ادراكهم للموت وأساهم ازاء الظل المعتم الذي يلقيه على كل ما يحيا ويتنفس، وعلى وجودهم بصفة خاصة، وهناك تولستوي الذي كانت فكرة الموت تطارده دونما توقف والذي واصل التساؤل في يأس (أي حقيقة يمكن ان توجد اذا كان هناك موت؟).

وهناك اونامونو (1864-1936) فيلسوف وجودي اسباني تأثر في مذهبه بابي الوجودية سورين كيركارد، الذي كانت شهوته للخلود، وشكهّ في الحياة بعد الموت يجعلانه ينشد عبثا الهروب من المعنى المأساوي للحياة، بان يكرر لنفسه دونما توقف ان على المرء ان يؤمن بالايمان ذاته، وهناك (ريلكة) الذي اصيب بعذاب الزوال وناضل ببسالة ليحول الموت من شبح مفزع الى اعظم حدث في الحياة، وهناك بروست الذي سعى للوصول الى مهرب من المرور الفاني للزمن من خلال محاولة استرجاع الماضي بأمل باطل هو انه اذا كان بوسعه القيام بذلك، فان كلمة الموت لن يعود لها معنى بالنسبة له.

ومع بداية القرن الحالي على وجه التقريب فحسب حدث رد فعل في الفلسفة ضد استبعاد الموت من التأمل الفلسفي، فتمرد وليام جيمس، وهنري برجسون على استبعاد جميع العناصر الشخصية من الفلسفة، ولاحظ جورج زمل بأسى (بأن جانبا بالغ الضآلة من المعاناة الانسانية- يقصد الموت- شق طريقه الى الفلسفة).

وحدث انقسام حاد بين الفلاسفة المعاصرين فيما يتعلق بما اذا كان من الضروري اعتبار الموت موضوعا مناسبا للفلسفة من عدمه، وانفصال الفلاسفة التحليليون عن اولئك الذي يتعاطفون مع تصور اوسع نطاقا لمهمة الفلسفة باعتبارها تعنى كذلك بمسائل المصير النهائي للانسان ولكن هناك كذلك اشكالات اخرى للانقسام فقد هاجم برنشفيك صاحب الوضعية المنطقية حلقة فيّنا بشدة، هاجم جبرائيل مارسيل احد اقطاب الوجودية الحديثة وهو لاهوتي التفكير. وعند نيكولاي هارتمان (1882-1950) وهو فيلسوف الماني وضع مذهبا يدور حول الانطولوجيا النقدية، كما وضع مذهبا للاخلاق ونظرية القيم وعلم الجمال ونظرية المعرفة، فهو يتحدث عن رجال الميتافيزيقيا الذين يعذبون انفسهم، وينكر اهتمام الفلسفة بالموت، لان تعذيب الذات امر لا اخلاقي، ويذهب قائلا: اذا لم يكن الموت الا عدما، فانه لايمكن ان يكون شرا. غير ان شيلر يسخر من العبث الميتافيزيقي للفلاسفة الذين لا يرغبون في معالجة المسائل المطلقة، ومشكلة الموقف بشكل خاص، وفي غمرة نظر راسل الى الانسان باعتباره محكوما عليه بان يفقد احب الناس اليه وانه يمر هو ذاته في الغد عبر بوابات الظلام، فانه يدرك بصورة ملحة الحاجة الى شيء (يلوح للخيال وكأنه يحيا في سماء بعيدة عن فكي الزمان المفترسين).

ويكتب بردياييف: (انني لا اميل الى الخوف من الموت على نحو ما كان يفعل تولستوي على سبيل المثال، لكني شعرت بألم حاد ازاء فكرة الموت وبرغبة جامحة في اعادة الحياة لكل من ماتوا، وبدا لي قهر الموت المشكلة الاساسية للحياة، فالموت حدث اكثر اهمية وحيوية للحياة من الميلاد).

وفي عبارة كونفوشيوس المعاكسة (اننا لانعرف أي شيء عن الحياة، فكيف نستطيع ان نعرف شيئا عن الموت؟) فما لانعرفه عن الحياة أي معناها وهدفها المطلقين، يرتبط ارتباطا وثيقا بالموت، ومشكلة هذا الاخير اننا لانعرفه خير المعرفة.

الفلسفة تعنى بامور كثيرة منها الموت والامر يرجع الى الفيلسوف الفرد في متابعة المشكلات التي يعتقد انها هامة، لكن الفلسفة باهمالها لمشكلات الموت كلية انما تفصل نفسها عن احد ينابيعها الرئيسية التي تنشّط البحث الفلسفي بقوة تضاهي الفضول العقلي والدهشة.

وان الحجة القائلة بان الاهتمام بالموت يؤدي الى اهمال المهمة المحددة والملحة المتمثلة في تحسين الوضع الانساني والاهتمام بالرخاء والسعادة، تتجاهل واقعة ان الموت بدوره ينتمي الى الوضع الانساني العام، وان الابحاث التي اجريت في السنوات الاخيرة مقنعة بما يكفي لاظهار ان الشخص العادي يفكر في الموت اكثر بكثير مما يفترض عادة. واذا كان الادب ذو المعنى في عصرنا يصلح كمؤشر للمزاج الحديث، فيكفي ان نشير الى هيمنجواي، فوكنر، مالرو، كامو، ت.س، اليوت، وديلين توماس، فالموت يثقل كاهل شريحة هامة من الانسانية المعاصرة كما يجد البعض امكانية الاقتناع بان الحياة عبث، وانها مجردة من المعنى ولايحملها القلائل أي معنى آخر، وضروب الموت العبثية تبدو سطحية وموضع تشكك طالما انها ليست قابلة للتطبيق على ضروب الموت الاخرى.

ويقدم مالرو صياغة بليغة لذلك حينما يقول ان الحياة رخيصة في الوقت نفسه ما من شيء غال كالحياة، ويشير براتراندرسل قائلا: (ان اولئك الذين يحاولون ان يجعلوا من النزعة الانسانية التي لاتعترف بشيء اعظم من الانسان دينا، لايرضون عواطفي، رغم اني عاجز عن الايمان بان هناك في العالم على نحو ما نعرفه ما يمكن ان اقدره خارج نطاق الموجودات البشرية).

ننتقل الى احد اقطاب البراجماتية الامريكية وليم جيمس (1842-1910) وما يميزه عن غيره من فلاسفة البراجماتية هو رؤيته الخاصة الى قضايا الاعتقاد الديني، والحقيقة ان رؤية جيمس الدينية لا تصدر عن قناعة فكرية ولا تقوم على ايمان راسخ محدد، فهو في الحقيقة لايؤمن بالدين والديانات السماوية التوحيدية وهو ما نجده واضحا في قوله بان البراجماتية يمكن ان تكون دينية اذا ما كانت تؤمن بالتعدد والتطور.

ان البحث في الجانب الديني من براجماتية جيمس تكمن اهميته عن حقيقة موقف جيمس من الاعتقاد، والمعتقدات الدينية ويعدها نوعا من التجريبية النفسية الواقعية، وفي تأكيده على النفعية فقد جعل من الدين بضاعة تباع وتشترى على اساس الرغبة ومقدار نفعها وقيمتها المادية العاجلة.

يؤكد جيمس على الارادة انها حق الاختبار والاعتقاد يقوم على الرغبة الذاتية والمنفعة الشخصية، والاعتقاد لدى جيمس احد القوى النفسية ولابد ان يبقى عنصرا ثابتا من عناصر البناء الفلسفي، وخاصة لانه يحمل معه في كثير من الحالات براهينه، عليه فالدين عند جيمس اعتقاد فردي وموقف شخصي لايقرره منطق العلم، ولا يدعمه مصدر سماوي فالدين عند جيمس مجموعة وجدانات وافعال وتجارب يعانيها الافراد في وحدتهم كلما ادركوا انهم على علاقة مع أي شيء يعتبر الهاً، وان جوهر مثل هذا الدين الشخصي هو الاعتقاد.

ان جيمس لا يقر دينا معينا وبخاصة الاديان السماوية، التي يرى جيمس ان الايمان بها في طريقة الى الزوال قائلا: (انه لم يهتم بالاديان السماوية، وسيوجه همّه الى الديانة الشخصية، وان لكل متدين دينه الخاص). فاساس الدين عنده امر واقعي وشخصي وليس الدين في ذاته، الدين الواحد الثابت حقيقة مدرسية فارغة، فهناك من الاديان بمقدار ما يوجد من افراد، ولم يكن عبثا ان يضع وليم جيمس على كتابه عنوان (تعدد التجربة الدينية)، وعن القضايا الروحية يقول جيمس (لم يحتقر العلم على العموم شيئا من تلك البواقي غير المنسقة كما احتقر تلك المسائل الروحية الغامضة. اذ ان علم النفس المحافظ يعرض عنها، واما الطب فيبعدها كلية، ويصفها بـ (عمل الوهم والخيال).

ومن المسائل الروحية التي يذكرها جيمس هي: (التفكير الديني، والتفكير الاخلاقي، والخيال الشعري، والتفكير الغائي، والتفكير العاطفي والانفعالي، وكل ما يصفه الانسان بانه افكار شخصية ليميزه بذلك عن الاراء الآلية الميكانيكية، او كل ما يصفه بانه افكار رومانتيكية، كل هذه الافكار كانت ولا زالت خارجة عن الدائرة العلمية، وهي في نظر الميكانيكية العقلية، حديث خرافة).

ويؤكد جيمس: (لكننا لا ندري من اين أتت تلك الحاجة النفسية الى الاعتقاد في ان هذا العالم المشاهد ليس الا مجازا لعالم اخر اكثر منه روحانية وابدية. من القدرة والسلطان على النفوس هؤلاء الذين يشعرون بها مثل ما للحاجة النفسية الى الاعتقاد المطرد في قوانين السببية من قوة وسلطان على عقول العلماء)، ويعتبر جيمس حرية الاعتقاد ركيزة مهمة في تكوين قناعات الافراد، ويقول: (لنا الحق في ان نعتقد في بعض الموضوعات الدينية، على الرغم من انه قد لايكون لنا من الادلة المنطقية ما يكفي لاقناع قوانا العقلية). وفي تأكيده على حرية المعتقد الديني يتبين بحسب جيمس:

- حق الانسان الفرد في الاعتقاد بأن يؤيد فكرة مهما تبدو غير مناسبة لغيره من الافراد وتحقق المنفعة الذاتية له.

- الاعتقاد بالشيء ممكن، وان لم يدعمه دليل منطقي علمي.

- الاعتقاد قضية فرضية تصدر من تجربة نفسية ذاتية، وتخضع لقواعد المنهج العلمي في الفروض العلمية.

- الاعتقاد في موضوع من الموضوعات الاعتقادية، يصدر عن ارادة المعتقد في السلوك، وباصراره على الفعل دائما، ويدوم الاعتقاد اذا استمرت ارادة الفعل نحوه عند الفرد.

- الاعتقاد لابد ان يكون نافعا، محققا رغبات الفرد في حياته.

ويرى جيمس اذا كان الاعتقاد بالدين حقا فرديا، ولم تكن براهينه كافية، يكون الاعتقاد فرض يعتمد على المخاطرة، كما ان عدم الاعتقاد يقود الى المخاطرة ايضا. والاثنان ميل نفسي لا دليل قاطع يفصل بينهما. لذلك يدعو الى الاعتقاد الديني على وفق رؤية براجماتية خاصة تؤكد على ما هو عملي نفعي، يناقضه في ذلك البابا حين يدين الدفاع البراجماتي عن الدين، ويبين الرؤية الدينية القائمة على الايمان الراسخ بوجود الله دون تفكير في منفعة دنيوية عاجلة.

***

علي محمد اليوسف - الموصل

.....................................

الهوامش: المصدر كتاب (الموت في الفكر الفلسفي الغربي) جاك شورون، سلسلة عالم المعرفة. ت: امام عبد الفتاح امام.

في نهاية حياته، كتب هيرمن ميليفيل كتابا بعنوان الرجل الواثق: حفلة تنكرية. تدور أحداث الرواية على متن سفينة بخارية، وتتضمن مجموعة من الرسوم التوضيحية تتضمن محتالين، مخادعين، أغبياء. في عالم ميليفيل، ينقسم الناس الى ثلاثة أنواع: الواثقون بالمخادعين، المشككون، ذوي التعامل اللاشرعي. انت لا تحتاج لقراءة الرجل الواثق لمعرفة النهاية – السذج يأتون اخيرا. هم يتم مضغهم وبصقهم. ستتأكد ان أي مخدوع بارادته، سوف يكون فقير حالا.

الانسان يكذب طوال الوقت. أحدنا ربما كذب مؤخرا، معظم الناس يكذبون حوالي ثلاثين مرة في اليوم. الكذب أحد أهم الحيل لدينا للحصول على ميزة على الآخرين. وبهذا، فان الاتصالات الانسانية عادة تستلزم نوعا من سباق تسلح. الناس يحاولون خداعك، وانت سوف تطور وسائل لتحدّي خداعهم. الناس سوف يحاولون بيعك شيء ما، وانت سوف تتعلم الشك.

هذا قاد الفلاسفة والسايكولوجيون لصياغة فكرة "اليقضة المعرفية" epistemic vigilance". حجة اليقضة المعرفية تؤكد باننا نمتلك ترسانة من الأدوات الرقابية لتحديد وكشف الأكاذيب. في ورقة شهيرة حول الموضوع، جادل sperber بان "الناس لديهم آليات معرفية لليقضة الابستمية لمواجهة خطر تلقّي معلومات مضللة من الآخرين". نحن لدينا جهاز كشف الكذب.

حجة اليقضة المعرفية

هناك فرعان للحجة. الاول هو ان البالغين باستمرار يقيسون مدى الموثوقية بالاخرين. نحن نميل عموما للوثوق بمصداقية الاخرين واعتبار اكثرهم نزيهين. وبمرور الزمن، عندما يقول شخص ما قولا كذبا او يقوم بشيء خاطئ، نلجأ ليقضتنا المعرفية. نحن نقول، "اوكي، زيد بوضوح لا يعرف شيئا حول كرة القدم، لذا انا سوف لن أسأله مرة اخرى".

الملاحظة الثانية هي ان الاطفال يتعلمون في وقت مبكر جدا بمنْ يثقون او لا يثقون. السايكولوجي باسكال بوير لاحظ ان الاطفال الرضع "يبدون حساسين للفرق بين الخبراء والعاملين المبتدئين. لاحقا، الاطفال الصغار يستخدمون اشارات الكفاءة للحكم على مختلف أقوال الافراد، وعدم الوثوق باولئك الذين كانوا مخطئين في مواقف سابقة، او اولئك الذين يبدو مصممين على استغلال الآخرين".

الحجة لهذا السبب تؤكد ان الناس يولدون بمهارات معينة او آليات رقابية للبحث عن الحقيقة مقابل الزيف. لديهم يقضة معرفية.

خطأ منطقي

الفيلسوف جوزيف شيبير Joseph Shieber يرى ان شيئا خاطئا هنا. هو لا يعارض حقيقة اننا يقضين – الدليل يبدو يشير الى ذلك، لكنه يعارض تسمية هذا باليقضة المعرفية.

المشكلة هي ان الانسان أظهر مرة بعد اخرى انه خصيصا لا يجيد التمييز بين الحقيقة والكذب. وكما يذكر شيبير "رغم عدة عقود من البحث، الاستنتاج يُظهر ان الانسان فقير جدا في كشف الخداع". اذا كنا نمتلك جهازا داخليا لكشف الكذب، فهو غير دقيق، وفي أغلب الاحيان لا يعمل، وعادة يتشتت ذهنه بالأشياء الاخرى.

نحن ايضا لسنا جيدين بقول ما اذا كان شخص ما كفئاً. دراستان من عام 1996 الى 2005 اظهرتا كيف يستخدم الناس عوامل غير ابستمية لتقرير ما اذا كان شخص ما جيدا في مهنته. نحن نعتقد خطئا ان الشخص ذو الوجه الملائم هو كفء، او ان شخصا ما يمشي، يتحدث، ويبرز نفسه بطريقة معينة يمكن ان يكشف عن قدراته. في الحقيقة، لا أحد من هذه العوامل مسؤولة حقا عن الكفاءة او المصداقية.

اطروحة نيتشة (1)

اذاً، نحن تُركنا مع حقيقتين. نحن يقضين حول ما يقوله الناس، لكن يقضتنا لا ترتكز على أساس ادراكي. اذاً، أي نوع من اليقضة هي؟ شيبير صاغ تعبير "اطروحة نيتشة". هو يجادل ان "هدفنا في المحادثة ليس من حيث الاساس اكتساب معلومات موثوقة وانما الهدف هو "تجسيد ذاتي - ادارة انطباع الاخرين عنا والتحكم به". بكلمة اخرى، نحن نقبل او نرفض اقوالا مرتكزة على اهداف نفعية وليس على مصداقيتها. في كلمات نيتشة، نحن نقبل ونبحث عن الحقيقة فقط عندما تكون لها "نتائج سارة ومحافظة على الحياة".

وبالعكس، نحن كارهون"للحقائق المؤذية والمدمرة". نحن لا نمتلك يقضة ابستمية وانما يقضة ميكافيلية.

هناك ملاحظة هامة حول المجتمع الحديث الذي ربما يعطي مصداقية لأفكار شيبير: شعبية نظريات المؤامرة و هراء غرف الصدى(2).

 اذا كانت اليقضة المعرفية صحيحة، سنكون دائما مدققين للحقيقة وطاردين للمؤامرات طول الوقت. لكننا لسنا كذلك. عندما يلقي متحدث كاريزمي او مقنع بيانا، نحن نقبله في كثير من الاحيان بالارتكاز على خطوط ميكافيلية. انا سوف أقبله حين يحافظ على منزلتي الاجتماعية.

اطروحة شابير تعرض اسئلة كبيرة ليس فقط للفلسفة وانما ايضا للقانون: اذا لم يكن الناس يهتمون بالحقيقة، عندئذ كيف يمكن الوثوق بالشهادة في المحاكم؟ انها ايضا مسألة هامة يجب تذكّرها في تفاعلاتنا مع بعضنا البعض بالاضافة الى ما نقرأ، نسمع، نرى اونلاين. من الجيد ان نتذكر اننا سيئين جدا وايضا قليلي الاهتمام بالحقيقة. في أغلب الاحيان، نحن نهتم بالاشياء الاخرى غير المعرفية.

***

حاتم حميد محسن

............................

Big Think, November, 2023

الهوامش

(1) اطروحة نيتشة Nietzsche Thesis لا تشير الى اطروحة معينة لنيتشه معترف بها عالميا. انها تشير الى أهم الافكار والحجج المتناثرة التي وُجدت في جميع أعمال نيتشة الفلسفية.

(2) غرف الصدى تشير الى الافكار والآراء او المعلومات التي يتم تداولها باستمرار وتجسيدها ضمن نظام مغلق، مثل جماعة الاون لاين، حيث يتفاعل فيها فقط الافراد المتشابهين فكريا، بينما يتم استبعاد الرؤى المخالفة او تسقيطها. هذا يخلق موقفا يتم فيه تسليط الضوء على أفراد معينين وتعزيزعقائدهم القائمة، بما يقود الى تشويه الواقع او المبالغة بفهمه.غرف الصدى تخلق صدى بنفس الطريقة التي يحدث بها الصدى في الكنائس او الكهوف. هي دائما تكون واسعة ومغلقة وتنطوي على مساحات فارغة مسقفة ومحاطة بجدران ومواد تعكس الموجات الصوتية جيدا.

 

في المثقف اليوم