أقلام فكرية

غالب المسعودي: الوعي القاتل.. مقاربة تكاملية للقفزة المعرفية

القلق الوجودي، والأسس البيولوجية للنزعة السلطوية

التناقض الأساسي للوجود البشري

يمثّل التطور المعرفي البشري، أو ما يُعرف بـ "القفزة المعرفية"، قوة مزدوجة في تاريخ الوجود الإنساني. فبينما وفّر هذا التطور آليات متقدمة للتحرر والاستدلال، فقد أنتج في الوقت ذاته شروط العبودية الوجودية. وهذه القفزة، التي مكّنت من العمليات المعرفية العليا كالتفكير المجرد واللغة، حملت معها إدراكاً لا مفر منه لحتمية الفناء الذاتي، وهو ما يشكّل مصدر "الإرهاب الوجودي" الكامن في صميم التجربة البشرية.

يكمن التناقض المركزي للوجود الإنساني في الصدام بين الدافع الغريزي القوي والساحق للاستمرار في الحياة، وبين الوعي المعرفي اليقيني والمفاجئ بضرورة وحتمية الموت الكوني، ما يُعرف بـ "مبدأ الفناء المتناقض". وهذا الصدام ينتج خزانًا من القلق يمكن أن يؤدي الى تعطيل الحركة إن لم تتم إدارته. ولأن هذا الإرهاب الكامن لا يمكن مواجهته بشكل مستمر وواعٍ، فقد تطورت آليات نفسية واجتماعية معقدة، تعمل في ميكانيزمات اللاوعي الدقيقة، بهدف إدارته وقمع وعيه المباشر.

 القفزة المعرفية والقطيعة الفلسفية

تُعرّف القفزة المعرفية بأنها تجاوز نوعي في القدرات العقلية، يسمح بالانتقال إلى التفكير النظري في القضايا الفلسفية والأخلاقية. وتُشبّه هذه القفزة بـ "القطيعة المعرفية" التي تحدث عند قلب المفاهيم السابقة، كما حدث مع نظريات كوبرنيكوس وداروين، مما يُوهم بكسر قانون التراكم. ومع ذلك، فإن هذه القفزة، في سياق التطور المعرفي البشري، هي "تجاوز إيجابي" يمتص ويتمثّل ما في القديم من إيجابيات، ممهِّدة بذلك للوعي بالفناء كظاهرة وجودية وليست بيولوجية بحتة.

 آلية اللاوعي الدقيقة

يشير هذا المفهوم إلى الآليات العصبية والنفسية الدقيقة التي تعالج إرهاب الموت قبل أن يتمكن من شل حركة الفرد. هذه الآليات تهدف إلى منع الإرهاب من الدخول إلى الوعي اليومي، وتشمل عمليات القمع البيولوجي، وتوجيه الغرائز، وتفعيل الآليات الدفاعية المعرفية المعقدة.

 الجذور الفلسفية للوعي القاتل

القفزة المعرفية تُنتج ما يُسمى "الوعي القاتل" لأنها هي التي تمكّن قدرة التنبؤ والتفكير في المستقبل البعيد. هذه القدرة تنمو مع تطور آليات التفكير المجرد والاستنباط التي تظهر في مرحلة المراهقة النضيجة. هذا الإدراك المعرفي يسمح للوعي ببناء تمثّلات تشمل المعارف والاعتقادات المبرهنة وغير المبرهنة.

هذا التجاوز المعرفي هو الذي سمح للإنسان بإدراك حدود وجوده الفاني. وعندما نقضت النظريات العلمية الأصول الفلسفية القديمة، انفتح المجال أمام الوعي الذاتي لاستكشاف الوجود بمعزل عن الماهيات المسبقة، ما دفع فلاسفة الوجودية لوضع الموت في صميم التجربة البشرية.

 الموت بنية أساسية للوجود لدى هايدغر

قدّم مارتن هايدغر تحليلاً أساسياً لدور الموت في الوجود البشري، مؤكداً أنه إذا كان هناك شيء يشكّل جوهر وجود الإنسان، فهو الموت.

يفرّق هايدغر جوهرياً بين موت الإنسان وموت الحيوان؛ فالإنسان يعي يقينًا بأنه سيموت، بينما الحيوان يفتقر إلى هذا الوعي. الحيوان يدرك الموت كحادثة أو خطر خارجي يمكن الفرار منه. أما الإنسان، فيدركه كوجهة نهائية لا مفر منها تحدث في أي وقت. هذا الوعي يشكّل الهيكل الجوهري للوجود الإنساني، ولكنه يولد قلقاً مستمراً ومفزعاً، يدفع الإنسان نحو "هروب ضخم، فردي وجماعي، من أمام هذا القلق."

إن هذا الوعي المعرفي المتقدم هو أصل الإرهاب الوجودي، إذ يضع القدرة على التنبؤ (الناتجة عن القفزة المعرفية) في صدام مع الدافع الغريزي للبقاء. وهذا الصدام هو الشرط الذي يجعل الوجود يتأثر بشكل أساسي بهذا الوعي الصادم.

التحليل النفسي الفرويدي: صراع إيروس وثاناتوس

قدّم سيغموند فرويد نموذجاً لآليات اللاوعي، مؤكداً أن السلوك البشري كما تشير عبارة التحليل النفسي الفرويدي: صراع إيروس وثاناتوس إلى نظرية أساسية في علم النفس طورها سيغموند فرويد، والتي تفترض وجود صراع دائم داخل النفس البشرية بين قوتين متعارضتين،

إيروس يمثل غريزة الحياة، الحب، والترابط. يُعرف أيضًا باسم "الليبيدو"، وهو يشمل الرغبة في البقاء، والتكاثر، والإبداع، والاتصال بالآخرين وهو القوة الدافعة وراء العلاقات الاجتماعية الإيجابية، والتنمية الشخصية، وثاناتوس يمثل غريزة الموت، التدمير، والعدوان.

يمثّل ثاناتوس الدافع الكامن للعودة إلى حالة اللاعضوية، متوافقاً مع مبدأ الإنتروبيا و"مبدأ النيرفانا". هذا الدافع هو القوة التدميرية الكامنة. يشير فرويد إلى أن الصراع المستمر بين القوتين يوجّه طاقة الموت (التي تسعى للتدمير الذاتي والرجوع إلى حالة العدم) نحو الخارج في شكل عدوان.

إن قلق الموت يغذّي هذا الصراع. بالتالي، فإن توجيه طاقة ثاناتوس إلى الخارج في شكل عدوان ودفاع عن الذات هو ميكانزيم أساسي يغذّي العنف بين المجموعات والدفاع القسري عن الحدود الثقافية، وهي الأرضية النفسية التي تتأسس عليها النزعة السلطوية.

القمع الاجتماعي للوعي الفردي

تُستخدم "الجمعنة" كآلية دفاع وجودي تفرض التجانس الثقافي على الأفراد. إن الأنظمة السلطوية تدرك أن الوعي الفردي، الذي هو أقرب للصدق، يولد القلق الوجودي الذي تسعى الأيديولوجية لإدارته.

لذلك، يتم طمس معالم الشخصية الفردية وتأجيل تطوير الوعي الفردي لصالح "الأنا الجمعي المجبول على فرض التجانس". هذا التحول ضروري للسلطة لأن الوعي الجمعي يدمج الفرد في بنية خلود رمزي أكبر منه (الدولة، الأمة، الأيديولوجيا). النزعة السلطوية، من هذا المنطلق، لا توفّر القوة فحسب، بل تبيع الغياب المنظَّم للقلق، عبر إعادة الفرد إلى حالة "الغفلة والتسطّح" (ما قبل الوعي)، ولكن ضمن إطار اجتماعي مقبول.

يُفسّر هذا على أساس الدوافع التطورية والجينية، حيث يُعد نقل الجينات والشعور بالذات إلى النسل آلية لـ "الخلود الرمزي". هذا يربط بين الدافع الجيني للنجاة وبين دعم الأيديولوجيات الثقافية. تستغل النزعة السلطوية هذا الأساس البيولوجي بتوفير نظام اجتماعي قوي يُفترض أن يضمن استمرار النسل والمجموعة، وبالتالي يُستخدم الدافع الجيني غير الواعي لتعزيز التماسك الأيديولوجي والسلطوي.

***

غالب المسعودي

.....................

المراجع

بيكر، إرنست. إنكار الموت (The Denial of Death). (مصدر أساسي لفهم الإرهاب الوجودي والخلود الرمزي)

بياجيه، جان. نشأة الذكاء عند الطفل. (لتعزيز الجزء المتعلق بالقفزة المعرفية والتفكير المجرد في المراهقة)

هايدغر، مارتن. الكينونة والزمان (Being and Time). (لتعميق تحليل دور الموت كبنية للوجود)

فروم، إريك. الهروب من الحرية. (لتحليل الجانب الاجتماعي والنزعة السلطوية كهروب من الوعي الفردي)

في المثقف اليوم