أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: ما مستقبل الذات في عالم الاتصالات العنكبوتية الهائلة؟

جواب الفلسفة هو ان الاتصال المفرط Hyperconnectivity يمكنه ان يعيد تعريف الذات عبر مزج الهويتين الفردية والجماعية، لكنه أيضا يثير تحديات في تجزئة الأصالة وفقدان الهوية.

في عالمنا السريع التغيير، يتغير معنى الهوية. كل ما تحتاج اليه هو نقرة واحدة لتجعل الناس يعرفون بماذا تفكر وتعمل. وبسبب التواصل الاجتماعي والذكاء الصناعي وحقيقة ان مختلف الدول تترابط اكثر من أي وقت مضى، فان الأشياء التي اعتُبرت خاصة أصبحت عامة.

لكن هل ان بقاءنا المستمر على الاونلاين يعني اننا لانزال نفس ذواتنا؟ ام اننا نتحول الى نسخ من ذاتنا نعتقد ان الآخرين يحبونها؟

منْ نحن لا يعني ببساطة افكارنا الخاصة وانما التفكير حول ما نرى في أولئك الذين حولنا. الفيلسوف جورج هربرت افترض نظرية "مظهر الزجاج الذاتي" Looking – glass self. هويتنا تشكّل عبر التفاعلات وتصورات الآخرين – مفهوما انطلق بسرعة كبيرة في العصر الرقمي. منصات التواصل الاجتماعي تعمل كمرايا لامتناهية. انها تبيّن لنا كيف يرى الآخرون الأشياء وكيف يمكنهم تضخيم بعض الصفات والاعجابات والسلوكيات في الخوارزميات. وكمثال يمكننا ان نأخذ انستجرام.

هنا، شخص ما ربما يصنع حسابا يبدو انه واثق ومغامر: صور من رحلات خلابة او نزهات ليلية او ابتسامة عريضة للكاميرا دون الاتصال بالإنترنيت، مع ذلك، الحياة قد تكون مختلفة جدا - مليئة بالقلق والوحدة. هذا الاختلاف يخلق ما يسميه الفلاسفة "الذات المجزأة" fragmented self - إحساس بالتوتر بين عالم الاشخاص الواقعي وهويات الاون لاين.

ان المنصات الرقمية تقوّي أيضا ردود الفعل الخارجية. متى ما نحصل على اعجاب او مشاركة او تعليق سنقيّم ما اذا كانت الصورة التي نبعثها حول أنفسنا لازالت كما هي. هذا يمكن ان يعزز ثقتنا لكن أيضا يجعلنا قلقين حول مسألة كوننا "واقعيين". هل نعيش لأنفسنا ام للناس الاخرين؟

الترابط المفرط يهز بقوة احساسنا بالذات. نحن باستمرار علينا ان نجلب مختلف النسخ مع بعضها عن انفسنا. اذا كانت هناك عدة مرايا، أي منها يبيّن منْ نحن حقا؟ هل نحن نعرف ما هو الواقعي بعد الان؟

الفردية مقابل الجماعية: فعل متوازن

هل الفرد يحدد مصيره، ام ان الجماعة التي ينتمي اليها تحدد ذلك؟ الفلاسفة الغربيون وضعوا الحرية في جوهر الهوية لقرون بدءا من دفاع جون لوك عن الحرية الفردية الى احتفال نيتشه "بالسوبرمان". بالمقابل، المدارس الشرقية للكونفوشيوسية والطاوية اكدت على الواجب والتناغم وعدم التميز عن أي شيء أعظم. مع ذلك، في العالم الحديث المترابط، هذه الحدود تتراخى. لنأخذ السوشيال ميديا على سبيل المثال. الناس يمكنهم ان يكون لهم قولهم الخاص وينسجمون مع الحركات العالمية. أحيانا، شخص واحد يقول شيئا ما سيطلق حملات عالمية واسعة، يثبت ان من الممكن ان يكون كلا الوجهين – فرد وجزء من الجماعي. حركة me too وهي حركة اجتماعية ضد التحرش الجنسي مثال جيد على هذا الدور المزدوج. نحن يُطلب منا التحقق من الترابط المفرط. في عالم تقودنا به الخوارزميات نحو غرف الصدى، هل نخاطر بفقدان هويتنا؟ ام اننا نمزج هوية هجينة تعتز بالتعبير الشخصي وتحصل على مدخل للوعي الجمعي العالمي؟

بعض الفلاسفة يجادلون باننا في وسط التحول. بفضل كوننا اكثر ترابطا من قبل، المجتمع لديه وسائل جديدة لتسوية الأمور. يمكن ان يخلق مجالات تعزز كل من الجماعية والفردية. الان، المهمة هي الحفاظ على التوازن في هذه الفضاءات لكي يستطيع كل شخص استعمالها بشكل جيد خاصة بدون فقدان المقدرة على الاتصال بالأخرين او الإحساس بما هو جميل حول البشر ككل.

في عالم تطمس فيه التكنلوجيا الحدود بين أجسامنا وادمغتنا، ماذا يعني ان تكون انسانا؟ ما بعد الإنسانية تقترح ان ذواتنا ليست ثابتة وانما طيعة ودائما مرتبطة بالماكنة.

فمثلا، مقالة دونا هيراوي Dona Heraway عام 1985 بعنوان بيان سايبورغ A cyborg Manifesto تنظر في وجود لم يعد فيه الناس ينظرون لأنفسهم تماما ككائنات عضوية. هذه الأفكار ربما تبدو نظرية خالصة، لكن الأشياء تتغير بسرعة بمقتضى الاتصالات الرقمية الحالية. مفاهيم مثل الربط العصبي تسعى الى دمج الذكاء الصناعي بالوعي البشري بكفاءة عالية لدرجة يستطيع الشخص ان يكون واحدا وهو نفسه (ذات سايبورغ) قادر على معالجة المعلومات اسرع من أي وقت مضى و"الاتصال" بطرق جديدة كليا.

ان الواقع الافتراضي يذهب أبعد من هذا. بيئته تقدم تجارب لا تحتاج فيها الهوية للارتباط بالجسد الفيزيقي للشخص. المشكلة الوحيدة هي ان هذا التقدم يثير أسئلة أخلاقية عميقة. اذا كنا نستطيع تحميل أدمغتنا الى كومبيوتر ونعيش الى الابد رقميا، هل هذا يعني اننا نفقد ما نعنيه بان نكون بشر؟ ماهي هويتنا اذا لم تعتمد على اجسادنا؟ جان بول سارتر يختلف في الرأي هنا. هو يرى ان الذوات توجد فقط بمقدار ما تفعل افعالا حرة تشعر فيها بالمسؤولية. – وهو امر يصعب محاكاته لو كان الشخص برنامج سوفتوير لما بعد الانسان. عندما نصارع بعمق مع عصر تدير فيه التكنلوجيا الحياة، فان إعادة اختراع الذات هي قيد العمل. ولكن يبقى ان نرى هل سيكون ذلك لفائدة الإنسانية ام لضررها وهو السؤال الذي له مضامين عميقة جدا لدرجة انها تمس جوهرنا مباشرة.

وفي عالم مترابط للغاية، كيف سنكون أحرارا حقا؟ الفلاسفة الوجوديون جان بول سارتر ومارتن هايدجر اعتقدا ان الجواب واضح: فقط من خلال الحرية يستطيع الفرد ان يعرّف ذاته. لخّص سارتر هذه الرؤية بالقول "الانسان محكوم عليه ان يكون حرا". هو اعتقد ان الناس يجب ان يقبلوا مسؤولية صنع حياة ذات معنى. هايدجر أيضا اعتقد ان الناس يجب ان يحذروا من جعل الآخرين يقررون ما يجب ان يقوموا به. اذا لم يكن ذلك، ستكون هناك مخاطرة في "السقوط" في حالة من التصرف كما لو ان المرء لم يكن حقا فرد.

اليوم، يثير الاتصال المفرط (كونك متصل بشكل فائق) الكثير من الأسئلة لكن أيضا يوفر طرقا جديدة للتفكير حولها لأن التكنلوجيا الرقمية تربط بلايين الناس مع بعضهم في كل ثانية. كونك فائق الاتصال يثير بعض الأسئلة الجوهرية حول وجودنا. فمن جهة، التكنلوجيا تعطينا المزيد من الحرية، نحن نستطيع ان نغيّر منْ نحن تجاه أصدقائنا وكيف نعمل وحتى ذواتنا ذاتها عندما نريد ذلك. لكن هذا أيضا يجعل من السهل للناس الاخرين (عبر التواصل الاجتماعي) الحكم على ما اذا كان عملنا رائعا ام لا وهو الامر الذي يهدد هذه الحرية. بعض الفلاسفة سيقولون انه لكي تكون حرا حقا، انت لا حاجة لك للاهتمام بهذه الموافقة من الاخرين، لأنك سينتهي بك الامر محاصرا بواسطة أفكارهم.

في عالم فيه الكثير من الارتباطات (الافتراضية او غيرها) عليك ان تعمل بصعوبة طوال الوقت اذا كنت تريد البقاء "صادقا مع نفسك". لا تأخذ على عاتقك فقط الأشياء التي تجعل الحياة أسهل لكنها أقل أصالة. كيف نستطيع الحفاظ على إحساس قوي بمنْ نحن عندما تتنافس على اهتمامنا الكثير جدا من الوسائط الرقمية في كل ثانية؟ بعض النظريات السيكولوجية ترى اننا يجب ان تكون لدينا هوية مستقرة تتكون من خلال تجارب مشابهة. لكن هذا بالضبط ما لا تسمح به تكنلوجياتنا الحالية. في الحقيقة، كوننا دائما في الاون لاين ربما يمنعنا من تطوير إحساس متماسك بالذات. تخيلّ ما يحدث عندما تحاول مشاهدة التلفاز وانت تتصفح السوشيال ميديا وترسل الرسائل للأصدقاء. كل واحدة من هذه النشاطات تجبرك ان تكون نسخة مختلفة قليلا عن نفسك. انها تقريبا كما لو ان دماغك ينقسم الى أجزاء صغيرة كل واحد يفكر في شيء آخر في نفس الوقت.

ومع مرور الوقت، يؤدي الانتقال المستمر بين شخصيات العالم الرقمي والواقعي الى جعل الناس يشعرون وكأن جوهرهم يفتقر الى شيء ما، وهي رؤية جرى توسيعها بشكل مخيف من جانب منظّر الميديا مارشال ام لوهان Marshall M. Luhan في قوله "الوسيط هو الرسالة"، أجهزتنا في التواصل قد تؤدي الى عزلنا.

ليس من الصعب رؤية التأثير النفسي لذلك. البحوث ربطت الاستخدام الثقيل للانترنيت بالغربة والقلق والشعور بعدم القدرة على الاحساس بالذات في أي مكان منفرد. ومع تراكم الاستنتاجات عبر العقود، برزت المخاوف حول عدم وجود هويات متماسكة حتى الان.

ان الاتصال المفرط يتطلب بعض التوازن. تعزيز العلاقات من خلال التكنلوجيا هو دائما جيد. ولكن ليس عندما تترك النتيجة النهائية المستخدمين مجزأين جدا لدرجة يكافحون من اجل التوقف والاستماع الى شيء أعمق، الى ذات اكثر توحدا خارج الانترنيت وسط كل تلك الضوضاء الاجتماعية. لكن ماذا لو لم تؤد الاتصالات المفرطة الى تجزئتنا لأجزاء لكنها حقا تغيّر طبيعتنا – تجعلنا اكثر ديناميكية وارتباطا؟ الفيلسوف مانويل كاستل Manuel Castells يناقش ظاهرة يسميها "الفردية الشبكية" networked individualism : كيف تسمح لنا التكنلوجيا الجديدة لنكون ذواتنا وفي نفس الوقت جزءا من الشبكة العالمية.

ان العالم الافتراضي والتواصل الاجتماعي ليس لهما حدود. هذا يسمح للناس من مختلف الاصقاع في العالم للالتقاء والتسكع بسهولة وحتى الوقوع في الحب، حتى عندما هم يأتون من مختلف الدول او يؤمنون بعقائد تتعارض مع بعضها. الفلسفة البوذية تلقي ضوءا على هذه الاقتراحات. المفكرون الدينيون يعلموننا باننا ليس لدينا ذات انفرادية. ربما انت تظن بنفسك كشيء ثابت لكن في الواقع انت تتغير بسبب علاقاتك مع أشياء أخرى وبسبب ما يحدث لك. تخيّل فنانا من باريس يتعاون مع مبرمج من طوكيو في مسعى رقمي. كلاهما يجلب مهارة متميزة للمشروع، يخلقان شيئا اكبر من ذاتهما. هذه هي إمكانية الهوية المتميزة الفائقة الاتصال، تجمع بين الاصالة والابتكارية المشتركة. لكن هناك مشكلة: كيف نستطيع البقاء واقعيين بينما نكون في حالة من السيولة المفرطة؟ بدلا من النظر الى الامر على انه خسارة لنفسك، ربما عليك ان تفكر في الترقية. تحتضن التغيير كفرصة لصنع معنى جديد خارج حياتك، معنى لا يمكن ان يوجد بدون كل هذه الاتصالات.

اذن، ما مستقبل الذات في عالم فائق الاتصال؟

ان مستقبل الذات في عالم مفرط في الاتصال هو فرصة وتحدّي في آن واحد. مع تسلل التكنلوجيا لكل مظهر من مظاهر الحياة، تتغير الأفكار التقليدية حول الهوية. اذا كانت الاتصالية المفرطة تضخّم التأثيرات الخارجية، وتقود الى شخصيات مختارة وذوات مجزأة، فهي أيضا تسمح بحرية غير مسبوقة لعرض المرء الى العالم. بعيدا عن كونها ثابتة، المفاهيم الفلسفية للذات – من فكرة سارتر عن الاصالة ومعتقدات البوذية حول الهويات الدائمة التغيير الى أفكار ما بعد الحداثة حول سيبورغ – تقترح انها تتحول باستمرار. هذا التحول المستمر يثير أسئلة عميقة، وسط قاعة من المرايا تخبرنا نحن جيدين بما يكفي، هل سنبقى على هذا الحال؟ وهل ان مزج الفردية مع الجماعية عبر جسر التكنلوجيا يعطي ذاتا فائقة؟

الجواب ربما يكمن في التوازن، الاستعمال المفرط ليس لكي يُضعف وانما ليقوّي منْ نحن. لا سؤال عن التخلي عن الهوية – انه حول إعادة تصورها. في عصر تكون فيه الذات دائما سائلة – هيكل مرن مستعد للتكيف والنجاح وسط إمكانات لا متناهية.

***

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم