أقلام فكرية

أقلام فكرية

التأثير الأيديولوجيّ للعقيدة الإسلاميّة على الفكر السياسيّ الحديث والمعاصر في العالم العربي والإسلامي

لقد شكلت الأيديولوجيا الدينيّة في تاريخ الخلافة العربيّة الإسلاميّة منذ قيامها حتى سقوطها على يد اتاتورك (1924)، أكثر أشكال الأيديولوجيا حضوراً، حيث أصبح الدين منظومة القانون التشريعي، والمذهب السياسي، والتعاليم الأخلاقيّة، هذا دون إنكار لدور القوانين الأخرى الوضعيّة، والمستمد أكثرها شرعيته من الدين نفسه التي فرضها التطور التاريخي للمجتمع عبر امتداد سيرورة وصيرورة حكم الخلافة الإسلاميّة، أو تلك القوانين التي فرضها الخارج على الخلافة العثمانيّة في نهايات حكمها كمضامين خط "كالخانة" وخط "همايون" على سبيل المثال لا الحصر. (1).

نعم لقد مارس الإسلام عبر تاريخه تأثيراً عميقاً على الفكر السياسيّ في الشرق المسلم عموماً، وعالمنا العربيّ على وجه الخصوص، وذلك من خلال اضطلاع الإسلام منذ البداية بدور القاعدة الأيديولوجيّة للخلافة الإسلاميّة التي بدأت إرهاصاتها الأوليّة مع السقيفة.

أما بالنسبة للعقيدة الإسلاميّة والفكر الإسلامي المشتق أساساً من صلب هذه العقيدة، كالفقه وعلم الكلام بشكل عام، وتأثيرهما على وعي الشعوب المسلمة، فقد تضمنت القيم المعنويّة والأخلاقيّة ومعايير السلوك في الحياة العائليّة والمجتمع والاقتصاد. كما جرى استخدام الفكر الدينيّ والتقاليد الدينيّة لغايات سياسيّة مختلفة من قبل قادة الحركات التي قامت ضد استبداد القوى الحاكمة في هذه الخلافة، في العصور الوسطى، كحركة القرامطة والحركة الخرميّة والبابكيّة والزنج، وغيرها من الحركات التي اتخذت من الدين سلاحاً أيديولوجيّا لمقاومة السلطة الحاكمة، وخاصة الحركات التي دافعت عن آل البيت وأحقيتهم بالخلافة، كثورة "المختار الثقفي  والأشعث وزيد بن عليّ" وغيرها. مع تأكيدنا أن مسألة اعتماد المعارضة على الأيديولوجيا الدينيّة ظلت قائمة حتى تاريخنا الحديث والمعاصر، إن كان على مستوى مقاومة الاستعمار أو مقاومة الأنظمة الاستبداديّة الحاكمة في الدول العربيّة بعد نيلها الاستقلال. وهذه المسألة لها أسبابها وطابعها الاجتماعيّ والاقتصاديّ وخصوصياتها الثقافيّة، أو بشكل عام هي انعكاس للوجود الاجتماعيّ وأساليب الإنتاج السائدة إن كان تحت مظلة الخلافة الإسلاميّة، أو تحت مظلة الأنظمة العربيّة المعاصرة في عالمنا العربي، كدول أو مجتمعات متعددة الأنماط  الإنتاجية.

إن سيادة الفكر الدينيّ وانتشاره وتأثيره على حياة الفرد والمجتمع العربي، يعكس السمات الخاصة لأشكال الملكيّة وأنماط الإنتاج المتداخلة، كما يعكس خصوصيّة مزيج الأشكال المختلفة من التطور التاريخي. فتعايش وتركيب العناصر الاجتماعيّة لأنماط الإنتاج وتعددها ومختلف مستويات تطورها، لا يمكن لها إلا أن تترك بصماتها على الطريقة التي يؤثر فيها الدين على المجتمع وحركته.

إن تطور المؤسسات الدينيّة، والصلات السيكولوجيّة (النفسيّة) وقوالب الوعي الجماهيريّ الدينيّة التقليديّة، وتكوين الفكر السياسي، لا بد لها أن تتحدد وتتأثر في شكل الوجود الاجتماعيّ السائد، أي في درجة قوة أو ضعف قوى وعلاقات الإنتاج السائدة. لذلك فإن الفترة الانتقاليّة في المجتمع التقليدي ما قبل الرأسماليّ إلى المجتمع الحديث، ما تزال جاريّة في عالمنا العربيّ رغم عوامل عرقلتها الكثيرة من الداخل والخارج معاً، وهذا يعني أن العناصر الدينيّة والعلمانيّة في حركات الاحتجاج الاجتماعيّ والسياسيّ وكذلك في الوضعيّة الأيديولوجيّة ستظل متعايشة لفترات طويلة قادمة.

إن عمليّة إحلال الأفكار العلمانيّة محل الدينيّة، هي عمليّة موضوعيّة تماماً، وتجري على نحو متفاوت. إن ما حدث من تطور في العالم العربيّ بعد الاستقلال لم يؤدِ بعد إلى إقصاء التقاليد الدينيّة غير العقلانيّة كاملاً، بل سارت الأمور نحو تركيب خاص، يجمع تحت مظلته العوامل الدينيّة والعلمانيّة معاً. ومع ذلك فقد تعرض الدين ذاته إلى تغيرات باتجاهين: الأول ليبراليّ، والثاني أصولي في مجرى التطور العالمي للنظام الرأسماليّ وتأثيره على عالمنا العربي، في الوقت الذي ظلت فيه البرجوازيّة العربيّة الكومبرادوريّة وحتى الوطنيّة منها عاجزة عن تحقيق إعادة صياغة جديدة للدين تتفق وطموحاتها وحاجات العصر معاً. ويأتي في مقدمة هذا التغيير الطموح لفصل الدين عن الدولة.

لقد ظل الفكر السياسيّ مرتبطا في عالمنا العربيّ بالدين طوال فترة الخلافة الإسلاميّة كما أشرنا في موقع سابق، بل هو ارتبط أساساً بالدين منذ بدء الدعوة، فالدعوة في جوهرها وأهدافها هي فعل سياسيّ يرمي إلى تغيير البنية الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة لمجتمع الجزيرة أولاً وللعالم ثانيّاً، تغييراً يتفق ومبادئ الدين الإسلاميّ الذي بشر به الرسول، لذلك اندمج الدين والسياسية لتحقيق هدف مشترك ذي طابع عقيدي هو (التوحيد الإلهي) و كذلك التوحيد (المجتمعي)، كما كان له طابع أخلاقيّ هو (نشر قيم العدالة والمساوة والمحبة والتسامح). ولكن علينا أن نميز هنا بين السياسة في مشروع (الدعوة الإسلاميّة)، وبين مفهوم (الدولة) كدولة لها أسسها ومؤسساتها وحاملها الاجتماعي في الدعوة ذاتها وخطابها السياسي، هذه الدولة التي لم تكن محسوبة على الخطاب الإسلامي برأيي طوال فترة الخلافة الاسلاميّة، وأن كل ما كان يتعلق بجانبها السياسي هو التركيز على "الخليفة" وشروط وآليّة تنصيبه وسماته وخصائصه، كما ذكرت كتب الأحكام السلطانيّة المتعلقة بالشأن السياسي للماوردي وغيره. دون أن نعدم بعض الاشارات هنا وهناك إلى ولاة الأمر وسماتهم وخصائصهم أيضاً.

إن الدولة في مفهومها وجوهرها، والانعطافه التاريخيّة الهامة في تمثل العرب لمفهوم الدولة الحديثة التي بشر بها الفكر الوضعيّ، يرجع إلى تاريخ عصر النهضة الأوربيّة وتأثر الشرق عموما بهذه النهضة ومنه عالمنا العربي، إي بتأثير الاستعمار الأوربي ومشروعه الرأسمالي والثقافي والسياسي الطامح إلى إعادة هيكلة العالم على صورته وتحقيقاً لمصالحه، فهذه العوامل  لعبت دوراً كبيراً في التأثير على بنيّة الخطاب السياسي في عالمنا العربي، هذا التأثير الذي تجلى عمليّاً مع قيام حركة "كمال أتاتورك" الذي الغى نظام الخلافة بكل عُجْرِهِ وَبُجْرِهِ، ليتبنى مفهوم الدولة الحديثة، التي جاء الاستعمار الأوربي المحتل لبلادنا ليؤسس لها في وطننا العربي شرقاً وغرباً.

نعم.. إن مركب السمات التقليديّة والحديثة في الأنموذج الرأسماليّ العربي الكومبرادوري في بنيته الهجينة والضعيفة والمرتبطة بالغرب، قد انعكس على عملية التطور الارتقائي للفكر السياسيّ العربيّ المعاصر. وذلك على اعتبار أن الفكر في عالمنا العربي الذي تأثر بالفكر الحداثي الغربي لم يلغ الفكر الديني، بل على العكس استمر هذا الفكر بشكل قوي وفاعل، وغالباً ما سيس من قبل الغرب ذاته خدمة لمصالحه كتشجيعه للفكر الصوفيّ الطرقيّ من جهة، مع سعة حضور هذا الفكر الديني أصلاً في وعي أفراد الشعب، بوصفه عاملاً محدداً لثقافة هذا الشعب ولم يزل من جهة ثانيّة. لذلك نقول من الناحية السياسيّة في هذا الاتجاه: إن اتخاذ الفكر الديني سابقاً كأيديولوجيا بيد المعارضة والسلطة معاً، ظل سائداً في العصر الحديث، فمثلما كان الوعاظ الدينيون أول الأيديولوجيين الذين اختلط في تفكيرهم الأيديولوجي هذا جملة النظرات الأخلاقيّة والفلسفيّة والسياسيّة، كذلك ظل يقوم بهذه المهمة القطاعات العلمانيّة، إن كانت داخل السلطة أو خارجها، فالدين ظل بالنسبة لها – أي القطاعات العلمانيّة - أداة استخدمته لهدفين هما: المتاجرة به لسحب البساط من تحت القوى السياسيّة الدينيّة الحاملة له أولاً، ثم للمتاجرة به من قبلها لكسب الشارع المتدين والوصل إلى السلطة أو الاستمرار بها ثانياً.  لذلك يمكننا القول: إن كلاً من الانفصال والترابط الجدلي بين الأيديولوجيا باتجاهيها الدينيّ والوضعيّ، وبين الوعيّ الجماهيريّ، يرجعان إلى فترة تشكل الوعي أو الفكر السياسيّ، ويميزان المراحل التاريخيّة اللاحقة لتطور هذا الفكر أيضاً، وهذا الترابط لمسناه بعمق في ما سمي بثورات الربيع العربيّ.

طبيعة الفكر السياسي الحديث والمعاصر:

على العموم تتكشف طبيعة الفكر السياسي الحديث والمعاصر في وجهات نظر أيديولوجيّة داخل عالمنا العربي، أنها تدور حول علاقات الفرد بالمجتمع، والموقف من التقاليد الدينيّة، ومن العلمنة، ومن النظرة إلى العالميّة الرأسماليّة أو الاشتراكيّة أو الطريق الثالث للتنمية، وإلى مسألة التحرر الوطني والثورات الاجتماعيّة... وغير ذلك. هذا ويتجلى مستوى التطور الثقافيّ في عالمنا العربي في السلوك السياسي الجماهيري، والمواقف الأيديولوجيّة التي تستخدمها مختلف القوى الاجتماعيّة في تعبئة الجماهير، هذه التعبئة التي تتوقف بالضرورة على الظروف الموضوعيّة، مثل مرحلة التطور التاريخي للمجتمع، ومستوى البنية الاجتماعيّة والاقتصاديّة  وعلى الخصائص الذاتيّة للقادة أو القوى الحاكمة. علماً أن خصوصيات الهويّة الثقافيّة يمكن لها أن تجعل فهم الجماهير للشعارات السياسيّة والأيديولوجيّة لهؤلاء القادة أكثر صعوبة أو أكثر يسراً. لذلك لا بد من أخذ التمايزات الحضاريّة بين مختلف المناطق والبلدان بعين الاعتبار.

لقد أشرنا في موقع سابق إلى عاملين أساسيين ساهما في استمراريّة قوة الخطاب الدينيّ في عالمنا العربيّ وهما: الاستعمار والقوى الحاكمة المستبدة أولاً، ثم المعارضة لها ثانياً، ويأتي لدينا هنا عامل آخر هو بطء وتيرة بناء المجتمع المدني من جهة ثالثة.

إن المجتمع المدني بطبقاته الحديثة وبناه السياسيّة الحديثة، لم يخرج إلى الوجود ببعض تجلياته إلا مؤخراً، أي بعد الاستقلال  من المستعمر. لذلك في مثل هذه الظروف ظلت الأشكال القروسطيّة من الاحتجاج الاجتماعيّ والساسيّ راسخة بثبات في عقول معظم أبناء المجتمع العربي. و(ثورات الربيع العربي) أنموذجا حياً لذلك. فالقادة التقليديون من مشايخ الدين أو من بعض شيوخ القبائل وبعض الرجالات الوطنين من أبناء الطبقة البرجوازيّة الوطنية هم من تزعم حركة التحرر الوطنيّة في بداية عهدها، وقد استطاع قسم كبير منهم أن يحافظ على وجوده بعد الاستقلال، وساهم في تشكيل أحزاب وطنيّة وصلت إلى السلطة وقادة شؤون البلاد. ولكن ظل للدين دوره المتميز في أشكال الصراع السياسي على السلطة بعد التحرر من المستعمر، مثلما ظل حملة خطابه الأيديولوجي ومن السياسيين بشكل خاص، يمارس نشاطه وبفعالية في حركة التحرر الوطني، وخاصة ضد القوى السياسيّة التي استلمت السلطة وهمشت الحامل الاجتماعيّ للخطاب الإسلامّي كـ (الاخوان المسلمون) أنموذجاً، الأمر الذي جعل من هذه القوى الدينيّة السياسيّة تشكل عقبة كأداء في وجه هذه القوى، الحاكمة لترفع في وجهها شعار (الحاكميّة لله) في كل مرة تجد فيها الفرصة سانحة، وهذا هو تاريخ الإخوان منذ تشكله، وموقف القوى الأصوليّة الجهاديّة التي راحت تتشكل مع انتهاء النظام الاشتراكيّ العالمي  بعد سقوط الاتحاد السوفيات، ومع قيام الثورة الإسلاميّة في إيران. وما يجري اليوم على الساحة العربيّة في تونس والجزائر ومصر وليبيا والعراق وسوريّة يؤكد ذلك. أي يؤكد الدور الفاعل للخطاب الإسلامي في تاريخنا الحديث والمعاصر. وهذا ما يدفعنا للوقوف قليلاً أمام الحركات الأصوليّة الجهاديّة ومشروعها الديني، حيث احتلت هذه الأصوليّة الدينيّة الإسلاميّة في بلدان كثيرة مواقع مؤثرة في الحياة الاجتماعيّة، وخاصة في تبني انصارها الدعوة إلى ضرورة العودة إلى القيم الإسلاميّة التي نادى بها الرسول والسلف الصالح بعده، وهي التي على أساسها قامت الخلافة الإسلاميّة وسيطرت على مساحات كبيرة من العالم، ولكن نسيان المسلمين كما يدعون لهذه القيم والابتعاد عن تطبيقها في حياتهم الخاصة والعامة هي التي أدت إلى انهيار هذه الخلافة والأمّة معاّ، وبالتالي تخلفها وتراجعها أمام شعوب ودول العالم، لذلك لا حل إلا بالإسلام، وخاصة بعد أن فشلت التجارب السياسيّة والرؤى الأيديولوجيّة للاشتراكيّة والقوميّة في تحقيق النهضة والتقدم.

هذا وقد تمثلت هذه الحركات فكريّاً، الخطاب الإسلامي في توجهاته الإخوانيةّ، والوهابيّة، والخمينيّة. وهي حركات يتجسد مثالها الاجتماعي والسياسي في دولة ثيوقراطيّة لا حدود لها، ينضوي تحت لوائها كل المسلمين الذين تجمعهم عقيدة الإسلام، وهم يريدونها دولة خالية من تأثير الغرب والشرق معاً كحضارات، ومن تأثيرات الرأسماليّة أو الاشتراكيّة أو الشيوعيّة كأنظمة. هذا وقد ظهر في هذه الحركات شخصيات كاريزميّة لعبت دوراً كبيراً في الترويج لمشروع هذه الحاكميّة والتأثير على وعي الجماهير المسلمة، كالغنوشي والترابي والبوطي والخميني وباقر الصدر والقرضاوي وسيد قطب وغيرهم الكثير ممن كان للغرب والقوى الحاكمة العربيّة الدور الكبير في السماح لبعضهم بنشر أفكار الحاكميّة عبر منابر الجوامع وقنوات التلفاز العربيّة والعالميّة. وهي في الحقيقة شخصيات تعادي العلمانيّة وتدعوا إلى الفرقة الناجية، واللعب على الورقة الطائفيّة والمذهبيّة، الأمر الذي جعل تأثيرها يمتد إلى ثورات الربيع العربي التي تحولت إلى ثورات طائفيّة ودينيّة، أكثر منها ثورات كانت تدعي المواطنة وتحقيق العدالة والمساوة.  والأهم الحرية.

***

د. عدنان عويد

كاتب وباحث من سوريّة

....................

الهوامش:

1- (راجع كتابنا التبشير بين الأصولية المسيحية وسلطة التغريب دار المدى عام 2000،بحث الاصلاحات العثمانية في القرن التاسع عشر).

"لقد أسسوا المدارس، ليعلموننا كيف نقول نعم بلغتهم" (من رواية موسم الهجرة للشمال، للأديب السوداني، الطيب الصالح ).

"يا له من أب مغفل هذا الذي يرسل ابنه إلى المدرسة من أجل غاية واحدة هي أن يتعلم ما يفكر فيه المعلم" القديس أوغسطين.

***

انطلق أفلاطون Platon (427-348ق.م) في بناء نظريته التربوية من نموذج سياسي قوامه بناء مدينة عادلة وجمهورية فاضلة تحقيق العدالة والتوازن الاجتماعي وتعمل على بناء القيم الأخلاقية عند المواطن. اعتقد أفلاطون أن الشرور لن تتوقف أبدا، إلا إذا استطاع الفلاسفة والحكماء الوصول إلى سدة الحكم، حيث يمكنهم وحدهم استئصال الشرور وتحقيق العدالة الاجتماعية. فالفلسفة الحقّة كما يراها أفلاطون هي هذه التي تؤسس للعدالة الاجتماعية في مجال الحياة العامة كما هو الحال في مجال الحياة الخاصة. ولكن العدالة الاجتماعية تأخذ في منظور أفلاطون طابعا طبقيا، فالمدينة المثالية، التي يصفها بالجمهورية(1) La république تقوم على أساس تقسيم العمل، وهو تقسيم يعبر عن البنية الهرمية أو الطبقية للنفس الإنسانية التي تتمايز في تقاطعات ثلاثة: تقاطع الشهوة والغريزة والميل وفضيلتها العفة، وتقاطع الميول الانفعالية التي تتمثل في القلب بنزعاته وشطحاته وفضيلته الشجاعة، ثم في تقاطع العقل الذي يتفتق بالتفكير والتأمل والفهم وشميلته الحكمة. وتأسيسا على هذا التقسيم وعلى منواله تتموضع في المجتمع  ثلاث طبقات اجتماعية مماثلة لما في الجسد: طبقة المنتجين، وطبقة الحراس، ومن ثم طبقة الحكام الفلاسفة. ومن أجل التخلص من كل أشكال الفوضى والظلم يجب تحقيق التلاحم الوظيفي بين مكونات هذا التقسيم حيث تتكامل قوة القلب مع حكمة العقل واندفاعات الميول الحيوية وهذا يعني بالضرورة أن يأخذ العقل مكان الهيمنة والسيطرة. وإذا كان الفلاسفة يرمزون إلى الحكمة فوظيفتهم تحقيق العدالة عبر الهيمنة والسيطرة للقضاء على كل مفاسد الحياة ومظالمها.

فالتربية هنا تتحول إلى عملية اصطفائية تهدف تدريجيا إلى الفصل بين طبقة الجند، وطبقة الصناع، وطبقة الفلاسفة التي يجب أن تسود وتهيمن. والبرنامج التربوي عند أفلاطون يبدأ من السابعة بالرياضة من أجل الجسد، والموسيقى من أجل الروح، ومن ثم يضاف إلى ذلك الأدب ( ويستبعد الشعر من التربية، وذلك لأنه يحمل في طياته الخرافات والأساطير والتي من شأنها أن تدفع الإنسان بعيدا عن البحث العقلي والمعرفي)، و بالتالي فإن الرياضيات توظف لإيقاظ العقل، هذا وتلعب الرياضيات دورا كبيرا في اصطفاء الشباب من اجل متابعة الدراسات العليا وذلك بعد أداء الخدمة العسكرية الإلزامية، ويتم في الثلاثين من العمر اصطفاء أخير يهدف إلى إيجاد فريق من الفلاسفة المنتجين الذين يمارسون أعمال الحكم في المدينة، وبعد أن يصل هؤلاء الفلاسفة إلى الخمسين ممن العمر فإنهم وبعد امتلاكهم للحكمة الفردية يمكنهم ممارسة شؤون الحكم.

بقي تفكير أفلاطون على مر العصور نوعا من الأيتوبيا، فالبرنامج الذي يرسمه يخرج عن إمكانية التحقق عند الأثينيين، وذلك لأن التعليم كان يهدف إلى تحقيق غايات فورية، فعلى سبيل المثال كان التعليم يهدف إلى إعداد كوادر سياسية، وكانت هذه الكوادر تمثل حاجة حقيقية بالنسبة للحياة الاجتماعية في أثينا (2).

واستطاع فريق آخر من الفلاسفة أن يحقق نجاحا أفضل في بناء نظرياتهم التربوية، أي بمعنى أن أفكارهم كانت أكثر واقعية وقابلية للتطبيق في المجال الاجتماعي. ويتجلى هذا النجاح في الآثار التي تركها كل من كارل ماركس  Marxوكونفشيوس Confucius (551 env.-479 env. av. J.-C.)، بوصفهما نموذجا تاريخيا تربويا بالغ الأهمية، حيث تحولت نظرياتهما التربوية، بعد موتهما طبعا، إلى أفكار ونظريات تربوية رسمية، وعندما نقارن بين أفكارهما وأفكار أفلاطون يمكننا أن نقول أن العقيدة الفلسفية أو الدينية تصبح عقيدة رسمية للدولة عندما تلبي هذه العقيدة حاجة السلطة أو الطبقة الاجتماعية التي تسود وتهيمن فـ كونفشيوس كان يبشر بإرادة سماوية مهيأة لتحقيق الأمن الاستقرار وسيادة النظام القائم، ولكنه كان يؤكد في الوقت نفسه عل أهمية التعليم المفتوح لجميع الطبقات الاجتماعية دون تمييز فلكل فرد في المجتمع (بالمعنى الضيق للكلمة، حيث لا يشمل ذلك النساء) كان له الحق في أن يصل إلى أعلى المراتب الاجتماعية ولكن بشرط أن يحصل على تربية وتعليم كافيين. وكانت هذه الفكرة ثورية جدا بالنسبة لعصر كونفشيوس حيث اقترحت هذه الفكرة أن يجري النظام السائد مسابقات أدبية عالية المستوى من أجل اختيار موظفيه(3).

هذه الفكرة البيروقراطية بدأت تجد صداها في النظام القائم، لقد وجدت السلطات الحاكمة في الكونفوشيوسية تعبيرا عن أيديولوجيتها الكاملة، وذلك لأن تصورات الكونفوشيوسية بدأت تعزز الامتيازات الخاصة للحاكم، وتعمل على إلغاء إمكانيات ثورة الفلاحين ونضمن صعود الطبقة التجارية. فالتاريخ بين لنا كيف تحدث( أو لا تحدث) عملية الانتقال من النظرية المعيارية إلى النظرية العيانية المجسدة في إطار الواقع، وذلك يعني كيفية تحول هذه النظريات إلى أدوات لعملية الإنتاج، وإعادة الإنتاج الاجتماعي.

انطلاقا من وجهة النظر هذه يمكن تطوير منهج معالجة إشكالية النظرية التربوية، فالنظرية التربوية تعزز وجودها من خلال التحليل الأمبيريقي وهذا لا يعني أنها لا تنطلق من فرضيات أو أن المعطيات محايدة، ومع ذلك فهي تسعى أيضا إلى الكشف.

لم تظهر حتى الآن نظرية شمولية بمعنى أن تكون صالحة لكل المجتمعات أو لأغلبها، وذلك في مجال الزمان والمكان. فالنظريات القائمة هي نظريات جزئية ومحلية، هي نظريات جزئية لأنها تتناول جانبا من الحقيقة، وهي محلية لأنها غالبا تقوم على أساس تجربة معاشة في مجتمع محدود (ولا سيما في المجتمعات الصناعية الغربية) ومثال ذلك نظريات إعادة الإنتاج التي طرحت في الساحة الفكرية من قبل الماركسيين. ومهما يكن أمر هذه النظريات فإنها تختلف في المستوى العقائدي حيث يركز بعضها على مبدأي التوازن والتكامل، بينما يركز بعضها الآخر على مبدأ الصراع والهيمنة. وبعض النظريات المعاصرة في التربية يستمد جوهره من ماكس فيبر M.weber فيما يتعلق بالسلطة والمركز، بينما تسعى بعض النظريات الأخرى لتحقيق -التوازن بين الماركسية والوظيفية، ولا يمكن لنا في هذا السياق، أن نستعرض الأدبيات المعاصرة، حول النظريات ويكفينا في هذا السياق أن نستعرض عرضا موجزا حول هذه القضية.

تشكل أعمال المفكر الفرنسي دوركهايم DURKHEIM (1917-1858) الإسهامات الوظيفية الأولى في مجال علم الاجتماع التربوي، ومن أهمها المحاضرات التي ألقاها في السوربون التي جمعت بعد موته من قبل أحد تلامذته والتي نشرت بعنوان التربية المجتمعEducation et sociologie (4) (5). ثم كتابه المعروف التربية الأخلاقيةL’éducation moral((6)، وأعماله المعنونة بالتطور التربوية في فرنساL’évolution pédagogique en France (7).

فالتربية بالنسبة لدوركهايم تمثل مبدأ الوحدة والتنوع في آن واحد، فالحد الأدنى من التجانس بين أفراد المجتمع ضروري لوجود المجتمع واستمراره، وبالتالي فإن التربية تعمل على بناء وتعزيز هذا التجانس بين أفراد المجتمع، وهي من أجل ذلك تغرس في نفوس الأطفال عناصر الوحدة والتجانس الضروري للحياة الاجتماعية، ولكن من جهة أخرى فإن التعاون والتكامل الاجتماعي، لا يمكنه أن يتم إلا من خلال وجود بعض التنوع داخل المجتمع، وهنا يأتي دور التربية التي تضمن وجود التنوع الضروري في المجتمع، وذلك عن طريق تنوعها هي بالذات وعن طريق تخصصها. وهذا يشير بالضرورة إلى ضرورة التقسيم الاجتماعي للعمل عبر التربية، فالفرد نفسه معني بالخضوع للمجتمع الذي يعيش فيه، والفعل الجماعي ينمي في كل واحد منا وعن طريق التربية أفضل ما يوجد لدينا ولا سيما الجوانب الإنسانية. ويبين دوركهايم في هذا الصدد أن الجوانب الجسدية والأخلاقية والعقلية التي تطورها التربية تتلون بطبيعة المجتمع، وهي تتغير عندما يتغير المجتمع عينه، ومع ذلك فإن دوركهايم لا يذهب بعيدا في تحليله، وذلك لأنه لا يطرح المسألة السياسية كما يجب ولا يحلل العلاقات الطبقية والصراع الطبقي في المجتمع بما ينطوي من عمليات وفعاليات تربوية. فالدولة تشكل وحدة مجردة كالمجتمع، ودورها هو ببساطة العمل على إبراز الجوانب الحضارية الجوهرية، ونقلها إلى الأجيال عن طريق المدرسة مثل: احترام العقل، والعلوم، الأفكار والعواطف التي توجد في أصل البنية الأخلاقية للمجتمع الديمقراطي، فصراع الطبقات له ينابيع ولا تكمن هذه الينابيع في تعارض المصالح فحسب بل في الفوضى التي تنجم عن تنظيم سيئ لطموحات الأفراد.

لقد كانت الميزة الأساسية لدوركهايم إضافة لملاحظاته التاريخية العامة هي أنه أبرز الطابع الاجتماعي للتربية وذلك على خلاف الرؤى الفردية التي كانت سائدة في عصره. وتكمن عبقريته أيضا في أنه أبرز بصورة تاريخية أن التعليم يتغير على إيقاع التغيرات الاجتماعية إذ يقول: "تكون التحولات التربوية دائما نتاجا ومؤشرا لتحولات اجتماعية قادرة على أن تفسر ما يجري في مجال التربية"، ومع ذلك فإنه لم يدرس الجوانب العكسية، أي دور التغير التربوي في حياة المجتمع.

وعلى هدى الخطوات الدوركهايمية يولي تالكوت بارسونو TALCOTT-PARSONS أهمية أكبر لمسألة التوازن: فالمجتمع كما يراه بارسونز أشبه ببني حية مركبة من مجموعات بنيوية أربعة هي: الأدوات التي تحدد نشاطات الأفراد (آباء معلمون..الخ)، ومن ثم الجماعات والمؤسسات مثل: العائلة والجامعة والمدرسة والمعايير، وأخيرا القيم. وهذه الوظائف الأربعة تسمح بتحقيق ديمومة التوازن الاجتماعي، وكل وظيفة من هذه الوظائف تتوافق مع العناصر الأربعة المذكورة، وهي وظيفة المحافظة على النماذج التي تتم من خلال قبول أحد أفراد المجتمع للقيم الاجتماعية السائدة، ووظيفة تكامل المعايير الاجتماعية ووظيفة العمل على تحقيق الأهداف والغايات بواسطة الهيئات الاجتماعية، وأخيرا وظيفة التكيف عن طريق ممارسة الأدوار. والمدرسة وفقا لهذه الرواية تقوم بعملية تحقيق الاندماج الاجتماعي والمحافظة على النماذج الثقافية، وهذا الاندماج يتم من خلال تأكيد عنصر الولاء للمجتمع وإعطاء البنية الاجتماعية المتناحرة (التقسيم الطبقي) الشرعية الضرورة لوجودها، ومن ثم المحافظة على النماذج الثقافية والقيم المحركة للأفراد. وقد يحدث في سياق ذلك ظهور نوع من الإكراهات الاجتماعية والضغوط الناجمة عن ضعف في عملية الدمج الاجتماعي ولكن ذلك سرعان ما يجد توازنه من جديد عبر عمليات تصويب قد تكون معلنة وخفية إلى حد ما(8). ففي مقالة له الصف المدرسي كنظام اجتماعي The school class as a social system عام 1959. يبين لنا بارسونز كيف يمكن للمدرسة أن تصبح وكالة رئيسية للتنشئة الاجتماعية، والاصطفاء الاجتماعي، وذلك في مجتمع تكنولوجي مثل الولايات المتحدة الأمريكية. فالمدرسة كما يعتقد بارسونز تغرس في الطلاب والتلاميذ قيم المجتمع والكفاءات والمواقف التي ترمز إلى الشروط الأولية والجوهرية التي تسمح لهؤلاء التلاميذ والطلاب بإنجاز أدوارهم المستقبلية. وهي في الوقت نفسه تعمل على توزيع القوى البشرية في مجال بنية الأدوار الاجتماعية، وبالتالي فإن عمليتي التنشئة الاجتماعية والاصطفاء الاجتماعي تبدأان من المرحلة الابتدائية، ومن ثم يأتي دور المدرسة الثانوية في إكمال الدور وتوزيع الشباب وفقا لأدائهم المدرسي في مجال الفروع العلمية الدراسية المختلفة والحياة العلمية، حيث يترتب على قسم من التلاميذ في هذه المرحلة وتحت تأثير الاصطفاء المدرسي أن ينوعوا في اختصاصاتهم ودراساتهم بينما يترتب على بعضهم الآخر أن يندمج في إطار الحياة المهنية في داخل المجتمع، وتحليل بارسونز يكاد يكون شاملا إلا أنه أهمل أهمية الأصل الاجتماعي وقدرته على تحديد مستويات النجاح المدرسي، كما لم يتطرق إلى دور الطبقات الاجتماعية في تحديد القيم الاجتماعية العامة.

وفي منتصف الطريق بين الماركسيين والوظيفيين يعلن كل من بورديو وباسرون Bourdieu Et Pasron (1970-1964)(9) أن المدرسة تعمل على إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية الطبقية، فهي تعيد إنتاج اللامساواة في التوزيع الرأسمالي الثقافي بين الطبقات الاجتماعية، فالاصطفاء يجري تحت تأثير القيم والمعايير التي تحددها الطبقة السائدة في المجتمع، مع أن هذه المعايير اعتباطية إلا أنها مشروعة وشرعية بالفعل التربوي، وهذه الوظيفة الأيديولوجية الجوهرية –بناء مشروعية النظام الاجتماعي القائم –تكون أكثر فعالية كلما عملت المدرسة على نفي وجود علاقات القوة في نسقها، وكلما نجحت في أن يؤمن لهؤلاء الذين يمارسون أو يخضعون (لعنفها الرمزي) بشرعية عملها ووظيفتها(10).

وعلى خلاف الوظيفيين يعلن الماركسيون أن المدرسة مكان للصراع الطبقي بين طبقتي البرجوازية والعمال، ومع أن ماركس لم يعمل على بناء نظرية تربوية فإن اهتمامه كان باديا في أعماله المختلفة. لقد درس ماركس الجوانب الاقتصادية بوصفها عناصر لقوة العمل المستغلة من قبل راس المال، ففي كتابه الصراع الطبقي في فرنساLes Luttes des Classes en France(11). يبحث ماركس في دور المدرسة كقوة روحية للإكراه، وهو في سياق ذلك يشير إلى حدود التطبيع الأيديولوجي، وذلك لأن المعلمين كانوا يعانون من ملاحقة الحكام، وكان هؤلاء يلعبون دورا طبقيا يتعلق بطبقة الفلاحين.

لقد أهمل كل من ماركس Marx وأنجل Angels دراسة تأثير البناء الفوقي في البنية التحتية، ومن هذا المنطلق عمل غرامشي Antonio Gramsci (1891-1937) على بناء نظرية حول الفعالية الخاصة بالبنية الخاصة بالبنية الفوقية، فهو يولي الثقافة أهمية موازية لأهمية الاقتصاد والسياسة، هذا ويميز غرامشي(12) بين مستويين في البنية الفوقية حيث يشير إلى المجتمع المدني وإلى المجتمع السياسي أو الدولة، فالدولة تمارس هيمنتها في الوقت نفسه وفقا لمدخلين هما ممارسة الإكراه والقهر بصورة مباشرة من جهة، وتوظيف الفعل الثقافية من جهة أخرى، وذلك عن طريق المؤسسة البنيوية التي تشكل مكنونات المجتمع المدني مثل الكنيسة، النقابات، الأحزاب، المدرسة، إذ لا يمكن لطبقة اجتماعية أن تسيطر وتحافظ على أمنها من خلال الفعل السياسي والاقتصادي فحسب، بل يترتب عليها أن تنفذ إلى الشعب بأيديولوجية محكمة بالنموذج الذي تعتمده في عملية الإنتاج وإعادته، وأن تضمن موافقة الشعب بالنموذج الذي تعتمده في مجال الحياة الاجتماعية، وهنا في هذا المجال يشار إلى المدرسة بوصفها المؤسسة الأكثر أهمية في بناء هذه الأيديولوجية وتحقيق هيمنتها.

و في هذا المضمار يميز التوسر( Althusser 1918-1990) بين الجهاز الأيديولوجي وبين القسر والإكراه الذي يتم من خلاله اللجوء إلى العنف (الجيش، الشرطة، العدالة). فالجهاز الأيديولوجي يتمثل في (المدرسة، العائلة، الثقافة، والمعلوماتية..الخ. وهذه المؤسسات مهيأة لإعادة إنتاج شروط الإنتاج (علاقات الإنتاج، القوى المنتجة) وذلك في نسق من الصيغ التي تعزز وجود الأيديولوجيا السائدة وهيمنتها(13).

ويجد هذا التصور صداه عند بودلو واستابليه (14) (1971-1975) فالمدرسة ليست واحدة وليست موحدة فهي تنقسم إلى شبكتين: تضم الأولى أبناء الطبقات البرجوازية (التعليم الثانوي والجامعي) بينما تضم الثانية أبناء الطبقات الشعبية (المدارس المهنية)، وبالتالي فإن توزيع التلاميذ يبدأ من المرحلة الابتدائية حيث تعتمد لغة الطبقة البرجوازية اللغة السائدة في المدرسة، وبالتالي حيث يكون تعلم القراءة والكتابة لصالح أبناء الطبقة البرجوازية. وهنا يبين الكاتبان أن الأيديولوجيا البرجوازية توجه بطريقتين: إحداهما من أجل عمال المستقبل وهي تعتمد في هذا المستوى مفاهيم بسيطة في مجال الأخلاق. أما الأخرى فهي من أجل النخبة تقوم على أساس السيطرة على أفكار والتجريد.

وتنطوي نظرية إعادة الإنتاج جانبا كبيرا من الحقيقة، وإنه لمن المعروف أن اللحظة التربوية هي أداة المجتمع التي يعتمدها في تحقيق استمراريته، ولكن الآثار التربوية الحقيقية لا تكون دائما كما تريدها الطبقة السائدة، فهناك شريحة من المعلمين والمتعلمين تستطيع أن تنفلت من أسار التطبيع الأيديولوجي السائد وتعمل على بناء ما يسمى بالأيديولوجيا المضادة، فالاتفاق لا يكون كليا دائما، وهذا ينطبق على مسالة إعادة الإنتاج الرمزي والتقسيم الاجتماعي من خلال المدرسة والحياة. فهناك دائما تناقضات بين مختلف المؤسسات المدرسية بين المدارس الخاصة والعامة بين التربية الرسمية والتربية غير الرسمية التي تعمدها العائلة في مجال وسائل الإعلام والعمل والنشاط العام والاجتماعي. فالنظريات السابقة تبين أن المدرسة تسهم في إنتاج جماعات جديدة وقيم جديدة، فعلى سبيل المثال في القرن التاسع عشر، وفي أوروبا تحديدا كان يتشكل الوعي الطبقي للطبقة العالمة إطار المدرسة.

وفي هذا المجال يشار إلى أحد البحوث الحديثة التي قامت بدراسة الأطروحات الخاصة بالأجهزة الأيديولوجيا للدولة في مجال المدرسة، وقد انطلقت هذه الدراسة على أسس المنهجية التاريخية، لقد درست كلود لوليفر Claud Leliver تطور وظيفة التعليم ما بعد الابتدائي في إحدى المقاطعات الأمريكية في الفترة الواقعة ما بين عامي 1850و 1914، وكانت المنطقة التي تم اختيارها La Somme من أكثر المناطق تقدما في المستوى المدرسي، وتم اختيار هذه الفترة الزمنية لأهمية هذه المرحلة في إطار أحداث العلمانية التي شهدتها أوروبا في هذه المرحلة. لقد بينت هذه الدراسة أن المؤسسات المدرسية كانت تشكل مجالا حيويا للصراع الأيديولوجي والسياسي، ومع ذلك فإن حقيقة هذه المؤسسات لا يمكن أن تختزل إلى مجرد الأبعاد السياسية والأيديولوجيا. لقد بينت الدراسة تطور هذه المؤسسات وولادتها كانا مرتبطين بالبنى والظروف التقنية والاقتصادية ومع ذلك لا توجد قطيعة نهائية بين النشاطات السياسية والأيديولوجية والاقتصادية. فالسيطرة تمارس من قبل الطبقة السائدة والدولة في مجال الدراسة بصورة آلية. وفي هذا المجال عمل كل من باولس Boueles وجنتس Gintis (المدرسة في إفريقيا الرأسمالية 1976) (School in Capitalist America 1976) على دراسة المدرسة في قلب المجتمع الرأسمالي وتبين لهما بالنتيجة أن التربية تلعب دورين متكاملين، فهي تمكن الأفراد من الحصول على الكفاءة والقدرات الخاصة، وعلى رفع مستوى الإنتاجية عند العمال، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهي تبرز اللامساواة بواسطة أوالية التعزيز المستخدمة، والتي تمارس على المتعلمين داخل المدرسة. وهي في هذا السياق تعزز عملية توزيع الأدوار الاجتماعية وتبررها اجتماعيا وسيكولوجيا. ويبين الباحثان أن وظيفة المدرسة لا تقف عند حدود إعداد التلاميذ مهنيا بل تسعى إلى تكوين وعي سياسي متطور عند الآباء والمعلمين والطلاب، لقد أسهمت الجامعة في بناء حركة قوية راديكالية وتقدمية في المجتمع الرأسمالي.

فالتعليم والتربية يتحركان على عجلات قوى متناقضة، وهذه القوى تلعب دورا بالغ الأهمية في الحياة الاجتماعية والسياسية. فهناك عدد كبير من المشكلات المدرسية التي تنبع من خارج المدرسة وليس من داخلها، وهذا بدوره يعود إلى وظيفة الاقتصاد الرأسمالي عينه وآليات فعله. هذا ويمكن تفسير الإصلاحات الجوهرية في التربية من خلال نضال الطبقات، وأغلبها جاء ليعزز البنى الاجتماعية القائمة والتي تعزز مصالح الفئات الاجتماعية التي توجد في أعلى السلم الاجتماعي. وذلك كله على حسب التغير الاجتماعي.

وباختصار يركز المنظرون الاجتماعيون على أهمية البعد الطبقي وأولويته في بناء نظرياتهم التربوية. فالتربية في هذا المستوى تتجلى بأبعادها الاجتماعية، فهي قضية اجتماعية ويترتب عليها أن تلعب دورا جوهريا في صيرورة الحياة الاجتماعية والثقافية. فالتربية هي نتاج للتفاعل الاجتماعي وهي في النهاية تجسيد لطابع الحياة الاجتماعية وهي في الوقت الذي تستمد فيه وجودها من نسغ الحياة الاجتماعية فإنها تنتج وتعيد إنتاج هذه الحياة الاجتماعية بصورة مستمرة وفقا لصيرورة طبقية لا تنقطع عن الحركة أبدا. ومن هذا المنطلق فإن عددا من المربين والنظريات التربوية تؤكد على أهمية إعداد الإنسان للحياة الاجتماعية.

***

علي أسعد وطفة

كلية التربية – جامعة الكويت

......................

مراجع المقالة:

(1) A. BLOOM, The «Republic» of Plato , New York, 1968

(2) A.-J. FESTUGIERE, Contemplation et vie contemplative selon Platon , Paris, 1936

(3) A. RYGALOFF, Confucius, Paris, 1946.

(4) تمت ترجمة هذا الكتاب من قبل الكاتب: إميل دوركهايم، التربية والمجتمع، ترجمة علي وطفة، دار الوسيم، دمشق، 1991.

(5) E.Durkheim, ُُُeducation et sociologie (1922), rééd. P.U.F., Paris, 1966

(6) - E DURKHEIM, L'éducation morale (1925), P.U.F., Paris, 1963.

(7) - E. DURKHEIM, L’evolution pédagogique en France , 2 vol., F. Alcan, Paris, 1938

(8) T. PARSONS,Eléments pour une sociologie de l’action (Working Papers in the Theory of Action , 1949), trad. F. Bourricaud, Plon, Paris, 1955.

(9). BOURDIEU & J.-C. PASSERON, Les Héritiers. Les étudiants et la culture , Paris, 1964, rééd. 1966.

(10) - P. BOURDIEU & J.-C. PASSERON, La Reproduction. Eléments pour une théorie du système d’enseignement , Minuit, 1970.

(11) K. MARX, Les Luttes de classes en France (Die Klassenkنmpfe in Frankreich , 1850), trad. P. Meier et P. Angrand, ibid. , rééd. 1967.

(12) A. GRAMSCI, Œuvres choisies , trad. et notes G. Moget et A. Monjo, Paris , 1959.

(13) - L. ALTHUSSER, «Idéologie et appareils idéologiques d'état», in La Pensée , Ed. sociales, 1970.

(14) - C. BAUDELOT, R. BENOLIEL, H. CUKROWICZ & R. ESTABLET, Les étudiants, l’emploi, la crise , Paris. , 1981

1. الخيال:

هل الخيال لاشعور خارج احكام العقل ام الخيال هو فعالية تجريدية ترتبط ببيولوجيا العقل؟ ام كليهما معا؟ اذا نحن قلنا اللاشعور الخيالي يتم خارج ادراك العقل له كموضوع فمعنى ذلك يصبح الخيال تهويم من التفكير اللغوي الذي لامعنى له ولا يفهمه العقل. واذا نحن ربطنا الخيال كجوهر فكري ببيولوجيا العقل فمعنى ذلك اننا جعلنا من الحدود الفاصلة بين الشعور واللاشعور غير موجودة. وهو خلط غير مقبول لا منطقيا ولا نفسيا تفكيريا.

الخيال الشعوري هو حلم اليقظة الذي يرتبط بتفكير العقل بيولوجيا. هذا لا يعني منطق العقل الواقعي ينفر ويستبعد عنه  خيال اللاشعور. كون خيال اللاشعور يفوق القدرات التخييلية للشعور. بالحقيقة خيال اللاشعور اكثر خصوبة فاعلية بالنفس والسلوك البشري من خيال الشعور الذي نحياه بحياتنا اليومية وعلاقاتنا مع الاخرين.

خيال اللاشعور آني مؤقت هو نوع من تداعيات ليست مستمدة من خزين الذاكرة. فالذاكرة اذا سلمنا على انها مركز تخزين لتداعيات الاستذكار الشعوري لوجدنا ان تداعيات تفكير اللاشعور لا يمكن تخزينها بالذاكرة لنعود لها عند الحاجة كاستذكارات واقعية حصلت في الماضي كتاريخ. الاستذكار الخيالي هو تاريخ لزمن ماض.

بينما يكون الخيال الشعوري حلم اليقضة هي تداعيات محكومة بالحاضر آنية وقتية وهي اختراع توليدي لعوالم واحداث وظواهر ليست جميعها واقعية قابلة للتطبيق بالحياة.

الخيال غير التفكير المنطقي للعقل. واعتبر ديفيد هيوم الخيال ليست افكارا بل هي تداعيات تهويمية متراخية مترهلة في عدم تماسكها المنطقي العقلي.

كما انكر ديفيد هيوم ايضا من جملة ما انكره  عدم وجود عقل ولا يحكم سيرة الحياة ولا التاريخ (سبب ونتيجة) وما لا يدركه العقل بالتجربة غير موجود وهكذا. كما قال ديفيد هيوم وكان بيركلي سبقه بنفس التعبير ان انطباعات الذهن المستمدة عن الاحساسات المنقولة عن العالم الخارجي هي تداعيات عشوائية مؤقتة زائلة ولا يختزنها الذهن في طريقها نحو الدماغ.

نجد من الخطا المساواة بين تفكير الذهن على انه ذاته تفكير الدماغ. بل الحقيقة البايولوجية المعرفية الفلسفية تذهب الى ان الذهن حلقة غير منفردة عن مجموعة المنظومة الادراكية في مرجعية الدماغ.

الوعي ليس ناتج تفكير الذهن. بل ناتج تفكير الدماغ. وانطباعات الذهن عن وعي العالم الخارجي هي تداعيات من الاحساسات المنقولة عن الحواس في طريقها الوصول عبر شبكة الاعصاب الى الدماغ للبت بها معرفيا نهائيا ويعيدها الدماغ على شكل وعي تجريدي في فهمنا موجودات العالم والوجود.

الوعي هو تعبير تجريد اللغة الاحاطة  بمعرفة وفهم وتفسير مدركات العقل للاشياء واعطائه – اي العقل- فكرة متكاملة عن تلك المدركات بالتناوب الزمني الواصل للدماغ حسب الاسبقية.

2. هيدجر و الوجود:

يتسم العرض الوجودي لتحقق الذات لدى هيدجر بالغموض في نحته مصطلحات جديدة غامضة في الفلسفة، وترتّب على هذا الاجتهاد الهيدجري ارباكا من سوء الفهم البعيد عن الوضوح المطلوب. من شطحات هيدجر قوله "الانسان لا يملك وجوده لأنه هو هو وجوده" واضح هنا هيدجر لايعتبر تحقيق الذات بمعيارية تعالقها الاختلافي مع ادراكها الموضوع الملازم لها ولا يحققها كبنية مستقلة قائمة متمّيزة.

بمعنى هيدجر يعتبر الانسان كائنا من غير وجود منفصل متمايز عن توزّع وجوده في مدركاته الذاتية كمواضيع تختلف معه بالمجانسة المغايرة وتتحد به في تحقيق ذاتيته الانسانية، هنا يمكننا القول بضوء الفهم الهيدجري أن الانسان هو وجود معطى متحقق غير محتاج إثبات كينونة ذاتية له لا بمعيارية ادراك العقل ولا بمعيارية الاختلاف مع ذوات الاخرين.

بنفس هذا المعنى وأشمل منه تأتي مقولة هيجل (الله هو الوجود) عبارة هيجل هذه لا تشي بتصور صوفي ميتافيزيقي، في تقطير وتكثيف عبارته الله هو الوجود. وأجد بهذا المعنى منتهى المادية وليس المثالية الابتذالية الميتافيزيقية، في موضعة الطبيعة والانسان في وجود الله، ولا توجد موجودات الوجود بذاتها مستقلة بل في ذات تدركها.

يمكننا التعبير بجملة إستنباطية بنفس المعنى حين نقول (العقل هو الوجود) وبذلك لا نكون متناقضين لا مع الله ولا مع الطبيعة المادية للانسان. فما لا يدركه العقل ليس غير موجود في استقلالية مادية، بل تصبح لاقيمة للعقل من غير وجود متعيّن يشتغل عليه العقل. في إحالة تحقق الوجود الى الله دلالة استدلالية في تعميق الموجودات المادية والطبيعة إستقلاليتها الاقتران المباشر وغير المباشر بالله. لا يمكن للذات الالهية أن تكون موزّعة الجوهر أو موزعة الصفات في موجودات وأشياء يدركها العقل في مرجعية وجود الله.. وإلا ترتّب على هذا إمكانية العقل البشري معرفة الخالق في وجوده الذاتي والكينونة.

اول ملاحظة على فهم هيدجر للوجود أن تذويت الموجودات وإنصهارها في الانسان كوجود وكينونة تعي ذاتها والموضوع لا يحتاج بعدها الى موضوع يغاير به توكيد وجوده. كون الانسان وجود يمتلك مقومات موجوديته الكاملة التي تدخله حسب تفسيرنا لمقولة هيدجر في انفصامية مرضية هي بحث الانسان عن توكيد وجوده خارج وجوده الحقيقي المعطى طبيعيا له، التطابق القائم بين الذات والكينونة، يعني علاقة الذات بالموضوع لا يلغي إنعدام الفروق غير المتجانسة بينهما رغم حاجة أحدهما الآخر، فالذات بلا موضوع يحقق وجودها لامعنى إفصاحي لها، وكذا المواضيع كموجودات إدراكية لا قيمة تكتسبها في وجودها المستقل سوى بإدراك الذات الانسانية لها.

عبارة هيدجر الانسان لا يملك وجوده لأنه هو هو وجوده. الوجود بمعنى الكينونة المتحققة ذاتيا تحتاج تحقيق وجودها الحقيقي بالمغايرة الموجودية (الموضوع). وحسب عبارة هيدجر تحقق الوجود الاصيل للانسان لا يكون إلا ضمن  وجود – في – عالم تؤكد هذه الحاجة ولا تنفي أهميتها.

الانسان لا يحتاج توكيد وجوده الذاتي في وعيه الادراكي بموجوديته الذاتية بمعزل عن معرفة أين يكون وجوده المتحّقق من وجود الآخرين. الاستنكار الذي واجهه كوجيتو ديكارت أنا أفكراذن انا موجود في تحقق الذات الانفرادية بسلبية منعزلة عن المجموع أو عن الكليّة الناسيّة إستنسخها هيدجر في تحقيق الوجود في إدراك الذات لذاتيتها.

وعي الوجود الضائع الذي يضعه الانسان في جيبه ولا يدركه عقليا، هو وعي الانسان بكينونة متكاملة وإلا يكون الوعي بلا معنى ولا قصدية لاقيمة حقيقية له ترفضه الوجودية ذاتها التي ينتسب لها فيلسوفنا هيدجر. الوجود الملازم للانسان كظله لا يجعله في غنى البحث عن تحقيق ذاتيته القيمية كانسان في بحثه عن مدركات تعطي وجوده معناه الحقيقي ضمن عالم يعيشه.

الانسان في كينونته الكليّة لا ينقسم الى وجود سايكولوجي منفرد، ولا الى وجود (قيمي) آخر انساني أو أخلاقي منفرد حتى لو جاء على صعيد تباين واختلاف السلوك بينهما. ورغم الإفصات السلوكية الانسانية المتباينة عن كلا المحتويين الوجوديين بالحياة. وفي حال تسليمنا أن الانسان ليس بحاجة توكيد وجوده لأنه هو هو وجوده، فبأي وسط يمكن للانسان إمتلاك وجوده الحقيقي غير التكويني الملازم له في محاولته إثبات وجوده المتمايز ضمن فعالية مجتمعية تحتويه هو وغيره.؟

توكيد الذات لنفسها في موجودية منفردة لا قيمة حقيقية لها بالحياة فألانسان موجود لا يحقق كل رغائبه الفردية بمعزل عن مجتمع يحتويه. فما فائدة عبارة هيدجر لايحتاج الانسان البحث عن وجوده لانه هو هو وجوده.؟ وجود الانسان المادي المستقل بالطبيعة هو معطى طبيعي وليس إكتسابا معرفيا يسعى الانسان تحقيقه لنفسه. ثم ان التحقق في اكتساب الذات لموجوديتها بمعزل عن عالم يحتويها لاقيمة حقيقية له.

الوجود الانساني الحقيقي الفاعل بالحياة لا يتم بغير إمتلاكه الفعاليات البيولوجية التالية: التعبير عن الحرية بمسؤولية عن حرية الاخرين، إرادة الفعل والحركة في السلوك، السعي نحو هدف قصدي يحتاجه الانسان تحقيقه له ولغيره. ويوجد أمور أخرى عديدة تمّثل خصائص الوجود الحقيقي للانسان. فالوجود الانساني لا يقاس إلا بمعيارية (الفعل) البراكسيس فقط. والوجود لا يعبّر عن أصالته الحقيقية إلا بالعمل وفق الوعي القصدي بالحياة. لا وفق الوعي النرجسي في توكيد انفراد الذات. رغم ان سعي الانسان تاكيد موجوديته النرجسية مشروعة كون حب الذات غريزة وليست طموحا يكتسبه الانسان في وعي وجوده.

الوجود الديناميكي للإنسان هو وعي قصدي مدرك أهمية الإمتلاك عندما يكون الانسان مشروع تنمية مستدامة من التطور الفاعل لوجوده. وبحسب سارتر تحقق الوجود المتمّيز الفاعل لا يكون إلا في حالة من التنمية المتصاعدة في تخليق الانسان نفسه بنفسه في إمتلاكه وعيه بالحرية الكاملة، فهي أساس كل إختيار حقيقي في الوجود، كما هي أيضا معيارية أصالة الوجود بالحياة. وممارسة الحرية بمسؤولية لا يكون حقيقيا صادقا بغير وعي الذات لأهميتها في تحقق الإرتباط المثمر بالوجود الانساني في صنع الحياة، لذا الحرية وعي وجودي مدرك بإمتلاء ذاتي ومسؤولية انسانية. وهذا لا يتوفر لكينونة لا تمتلك ذاتيتها الوجودية وتعي إرتباطها بعالم. بتعبير سارتر الانسان محكوم بالحرية.

تناقض الوجودية نفسها على لسان هيدجر قوله "الانسان ذاتية خالصة، وليس مظهرا أو تجسيدا لتيار حيوي أشمل منه هو التيار الكوني ". لا أعتقد ونحن نتحدث عن وجود أرضي أن تكون معياريته الحقيقية في ذاتيته الخالصة في تيار أشمل منه هو التيار الكوني. ولا أعتقد هيدجر صاحب مؤلف (الكينونة والزمان ) لا يعرف الزمن هو إدراك الانسان وجوده الديناميكي المتواتر، وهذا الإدراك الزمني كتحقيب أرضي هو معيار موجودية الانسان في تحقيق تنميته الانسانية كذات متمايزة غير منفصلة عن محيطها في حالتي المجانسة بالعيش نوعيا داخل مجتمع بشري، وبين عدم تجانسها الماهوي ولا الصفاتي مع موضوعات يدركها في الطبيعة يتقاطع معها.

الانسان كينونة مدركة في تعّين زماني- مكاني غير مفارق لها.، وإدراك كينونة الانسان أو بعض جوانبها الماهوية وخصائصها الصفاتية من خلال إفتراض تعطيل الزمن الإدراكي الذي يحكم قوانين الطبيعة شاملة، هو نفس الزمن الإدراكي الذي يحدسه الوجود الكوني من غير وجود انساني فيه.

3. الخيال والطبيعة في الفن:

تعتبر اراء الفيلسوف غارودي في الفن هي من الارهاصات  للمفاهيم التجريدية والنظرة الجمالية لمستقبل الفن . ففي كتابه واقعية بلا ضفاف الذي يعتبر الآن من كلاسيكيات فلسفة علم الجمال،  يشير غارودي فيه ان الابداع الفني الجمالي لايستمد مقوماته من الطبيعة فقط في البحث عن الجمال، والا كان اعظم الفنانين هو الذي يقدم لنا  فنا مماثلا للطبيعة .

صوابية وصحة هذه المنطلقات والتي كان يطالب بها على صعيد الفكر الماركسي كل من تروتسكي ومن بعده غرامشي، تذهب انه بخلاف المفهوم الفلسفي الافلاطوني التقليدي، بأن الفن هو (محاكاة ) المثال الاسمى في الطبيعة، اي بمعنى نقل واستنساخ الجمال من الطبيعة كمصدر وحيد للالهام الفني .

ثم جاءت الانعطافة الكبيرة في فلسفة الفن ومفاهيمه وتياراته المتعددة في رفض المنطلقات الافلاطونية في محاكاة المثال في الطبيعة . وتأكد هذا الفهم اكثر بعد اختراع كاميرا التصوير الفوتوغرافية . من حيث ان اروع نماذج محاكاة الطبيعة تنجزه وتوفره لنا كاميرا التصوير، اسود وابيض، وملون، وفيديو.

ما يقوم به  التصوير الفوتوغرافي – وان كان هذا ضربا من الفنون التشكيلية – انما يمثل المحاكاة  الجامدة في لقطة واحدة من سلسلة جريان الطبيعة والحياة . بمعنى ان التصوير الفوتوغرافي  الفني يستمد مقومات بنائه الفني من الطبيعة ولها ومن اجلها، فهو يستمد من الطبيعة خامات الحرفة الفنية بمعزل عن فاعلية خيال الانسان الابداعي وآلية تنفيذ تلك الاخيلة في الواقع الفني.

مدارس وتيارات   الفنون الكلاسيكية مثل الواقعية والانطباعية تعتبر محاكاة الواقع والطبيعة واعادة تخليقها مرات عديدة يجعل من الطبيعة والوجود الواقعي والمعيشي للانسان هو الفن.

في تطور لا حق في مدارس وتيارات فلسفة الفن والحداثة اتضح قصور تلك النظريات الفنية وتم تجاوزها فنيا منذ قرون طويلة في ضرورة اعتماد ( الخيال ) الانساني والمخيلة الفنية المخصّبة، استكمالا لما تعطيه وتمنحه الطبيعة من خامات تدخل في عملية المنجز الفني، وهذا ينطبق على الشعر وبعض الفنون التي لا تعتمد الالوان والمساحات والفراغات والكتل كما في لغة التواصل التشكيلي .

ان المواد الخام التي تمنحها الطبيعة للفنان ليست كافية لتخليق فن حقيقي دائم اصيل، فلا بد للفنان من اضافة نوعين من الاسلوبية في تخليق الفن وانتاج العملية الفنية، هما الخيال الفني الخصب في استقدام واكتشاف عوالم غير معروفة ولا مسبوقة ووضعها في مختبر الانتاجية الفنية، الشيء الآخر المكمّل لخامات الطبيعة وخيال الفنان هو الخبرة المهنية المكتسبة في كيفية توليف معطيات الطبيعة مع معطيات الخيال الفني في تنظيم حرفية انجاز اللوحة التشكيلية، و في توزيع الالوان والكتل والمساحات والفراغات في نسق هارموني منظّم .

الخيال اسمى خاصية يحتازها الانسان مع خاصية الذكاء في تطوير وجوده واغناء وتأثيث حاضره وانتقاله من مرحلة تطورية الى مرحلة اخرى اكثر تطورا .

من هنا نستطيع القول ان  معطيات الطبيعة كخامات اولية في الانتاجية الابداعية لا تخلق منفردة لوحدها فنا اصيلا خالدا يطاول البقاء، كذلك نجد ان جنوح الخيال الفني في مدارس التجريد وما بعد الحداثة ممثلا بالسريالية الغرائبية عند اندريه بريتون في الشعر، وسلفادور دالي في الفن التشكيلي، وكذلك التكعيبية عند بيكاسو والعودة للبدائية في الفن وفن المفهوم وغيرها من المدارس الحداثوية في الفنون التشكيلية انما تقوم جميع هذه التيارات والمدارس على استثمار الخيال الفني في نوع من الادهاش غير المتوقع بمعزل عن كل تأثيرات المحيط والطبيعة، وهذا هو الرسم بالافكار، وهناك دعوة اخذت حيز التنفيذ في الاوساط الادبية والفنية في امريكا واوربا والغرب تذهب الى ضرورة تخصيب الذاكرة التخييلية عند الفنان في تعاطيه المخدرات .

وفي قول هيجل : يبدو اننا محقون في افتراضنا ان جمال الفن هو اعلى من الطبيعة، فجمال الفن جمال مبدع،انه مولود جديد للعقل وبمقدار ما يبدو الروح ونتاجه اعلى من الطبيعة وظواهرها، كذلك يبدو جمال الفن اعلى من جمال الطبيعة. العملية الجمالية يقودها العقل المتخيل، اما العلمية فيقودها العقل المجرد.

وبحسب هيجل أيضا: ان الجمال الذي يخلقه الفن لهو دون مستوى الجمال الطبيعي بكثير، وان اعظم فضل للفن في هذه الحال هو الاقتراب في ابداعاته من الجمال الطبيعي . كما يعتبر هيجل ان الجمال الفني هو اسمى من الجمال الطبيعي لانه من نتاج الروح التي هي اسمى من الجمال الطبيعي وان سمو الروح ينتقل بالضرورة الى نتاجه الفني.

ان مايدعو الى عدم الاخذ بهذه الفرضية الهيجلية، هو ان روح الطبيعة الكلي المطلق ممتد غير محدود بالقياس الى الروح الفني للفنان الذي بدوره يستجلب من الطبيعة ويستمد من روحها الكلي سموه الفني، وهذا السمو الروحي لا يمتلك الاطلاق كما الطبيعة الذي يخلع هو قدرة اغناء الروح الطبيعي.كما نجد من الصحيح ان الفنان حالم يملؤه حلم الواقع الفعلي على حد تعبير سانتيانا، الا اننا نجد ان حلم الفنان وسيلة تنفيذه هو تكسير المألوف في بقاء مرجعيته تغيير الحياة.

اذن لولا المناداة بضرورة اعمال الخيال وتوظيفه في الفن للوصول الى عوالم غير مكتشفة ولا مسبوقة  .... لكان الفن التشكيلي توقف عند سيزان ورامبرانت وفان كوخ وغويا وماتيس في مدارس وتيارات الفن التي اصبحت كلاسيكية كالواقعية والانطباعية والرمزية في محاكاتهم رسم الطبيعة لها في ذاتها، ولكن متى وضعناها في نسق فكري له معنى، او انموذج اكتسبت معناها.

في التعبير الهيدجري المستمد من فلسفة علم الجمال انه يضعنا امام حقيقة موت الفن للأسباب التالية:

1. بوصف الفن يوتوبيا بعيدة عن التحقق والاستيعاب والاستهلاك الواسع.

2. ان الفن اصبح سلعة استهلاكية نخبوية يتداولها الارستقراطيين.

3. بوصف الفن صمتا امام حقيقة ان اساسيات الموروث الفني بالنسبة للفهم الجمالي الفلسفي للفن باتت في حكم الموت والزوال.

***

علي محمد اليوسف 

من المعروف أن أول محاولة في تاريخ الفكر الفلسفي لوضع مشكلة المعرفة الإنسانية موضع البحث المستقل المنظم، كانت في القرن السابع عشر مع الفيلسوف الإنجليزي "جون لوك" في كتابه "مقالة في العقل البشري"، الذي يعد بحق أول بحث علمي منظم تناول بالفحص والدراسة أصل المعرفة وماهيتها، وحدودها ودرجة اليقين فيها. ومع ذلك، فإن البحث في المعرفة قديم قدم التفلسف، إذ كان يمثل قسمًا مهمًا من التقسيم التقليدي لموضوعات البحث الفلسفي.

ومن الثنائيات التي يتناولها البحث في نظرية المعرفة يمكن تحديد الثنائية التي تتصل بالبحث عن الوسيلة أو الأداة أو المصدر الذي تتم عن طريقه المعرفة، فقد ظهر في تاريخ الفكر الفلسفي اتجاهان أساسيان: الأول، يذهب أصحابه إلى أن العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة وهؤلاء هم (العقليون). والثاني، يذهب أصحابه إلى أن التجربة وحدها هي مصدر المعرفة وهؤلاء هم (التجريبيون). وفيما يلي توضيح لذلك:

1- الاتجاه العقلي في المعرفة:

يقوم الاتجاه العقلي في المعرفة على أساس أن العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة، ويذهب أصحابه إلى أنه لا يمكن استنباط الكلية والضرورة، وهما الصفتان الملازمتان المنطقيتان للمعرفة الحقة، من التجربة وتعميمها، إنما يمكن استنباطهما فقط من العقل نفسه، إما من مفهومات فطرية في العقل (نظرية الأفكار الفطرية عند ديكارت)، أو من مفهومات لا توجد إلا في شكل استعدادات مسبقة في العقل (1).

وهكذا يقوم موقف العقليين على التسليم بأن للعقل مبادئ جاهزة، أو طرائقاً فطرية هي التي تقوده إلى معرفة حقائق الأشياء، ولذلك فإن الصورة المثلى للمعرفة عند العقليين هي تلك التي تمثلها البراهين الرياضية؛ فمثل هذه البراهين تبدأ ببديهيات أو حقائق واضحة بذاتها، وتصل عن طريق سلسلة من الاستنباطات المتدرجة إلى نتائج منطقية ضرورية لا رجوع فيها (2).

وقد ظهر المذهب العقلاني كمحاولة لتعليل الخصائص المنطقية مثل: الصدق الرياضي والعلم الطبيعي الرياضي. وكان ممثلوه في القرن السابع عشر "ديكارت" و"سبينوزا" و"لاينبتز" وفي القرن الثالث عشر "كانط" و"فيخته" و"شلنغ" و "هيجل".

ومن الجدير بالذكر، أن فلاسفة المذهب العقلي في العصر الحديث ساروا على طريق "افلاطون" في اهتمامهم البالغ بالرياضيات، واستخدامهم للمنهج الرياضي، ويأتي على رأس هؤلاء أبو الفلسفة الحديثة، الفيلسوف الفرنسي "ديكارت"، فإلى جانب كونه فیلسوفًا، كان "ديكارت" عالمًا رياضيًا. وإذا كان الشك عند "ديكارت" هو مفتاح المنهج، فقد كان العلم الرياضي عنده هو مفتاح المذهب.

وإذا كان "ديكارت" قد أعلن في القاعدة الأولى من قواعد منهجه "ألا يتلقى على الإطلاق شيئًا على أنه حق ما لم يتبين بالبداهة أنه كذلك"، فإنه كان يقصد ذلك النوع من الوضوح الذاتي الضروري. يقول ديكارت: "حتى نتمكن من إضفاء يقين على أي علم يساوي يقين علم الحساب أو علم الهندسة، يجب ألا نشتغل إلا بالمعاني الواضحة المتميزة، وهي التي مضمونها بديهي تام البداهة" (3).

أما "سبينوزا"، فقد كان كثير الشبه من "ديكارت"، إذ يبدأ بأعم الحقائق ويعمل على استنباط كل ما تنطوي عليه من نتائج، ولكن الاختلاف بينه وبين "ديكارت" يتمثل في أن "ديكارت" كان حريصًا على أن يبدأ بقضية ذات وضوح تام، يؤدي إنكارها نفسه إلى تأكيدها، فكانت نقطة انطلاقه هي "أنا أفكر" في حين أن "سبينوزا" كان حريصًا على أن يبدأ بتأكيد الوحدة الشاملة للكل، مما جعله في غنى عن تلك الثنائية التي لا بد أن ينتهي إليها كل من يبدأ بحقيقة الفكر وحده (4).

والمعرفة عند " سبينوزا " حالة من صفاء الذهن يتم التوصل إليها بتصحيح الفهم تصحيحًا يعتمد على تخليصه من الأفكار الغامضة المبهمة التي تنشا عن الخيال والإدراك الحسي، وعندما يعمل العقل على توضيح أفكاره جيدًا ، وإدراك ما تنطوي عليه تلك الأفكار، فإنه عندئذ يحصل على الأفكار الصادقة وعلى اليقين (5).

أما "ليبنتز" فكان يرى أن فلسفة "ديكارت" هي الطريق الذي يؤدي إلى الحقيقة، وذهب إلى أن أفكارنا تكون أصلا في ذهننا، وتأتينا من أعماقنا، وأن أساس يقين الحقائق الكلية يكون في الأفكار نفسها مستقلة عن الحواس، ويُعدّ "ليبنتز" من أكثر العقليين تطرفًا، إذ زعم أن القضايا الصادقة كافة يمكن من حيث المبدأ معرفتها بوساطة الاستدلال العقلي الخالص (6).

يتضح مما سبق، أن أنصار المذهب العقلي يتخذون من العقل الخالص وحده مصدرًا للمعرفة دون اعتماد على الحواس، أو استنادا إلى التجربة في مقابل أنصار الاتجاه التجريبي الخصم المألوف للاتجاه العقلي.

2- الاتجاه التجريبي في المعرفة:

يرى أنصار هذا الاتجاه أن الحس باب المعرفة الوحيد، ويؤكدون على أنه لا يوجد شيء في العقل لم يمر بالحس أولاً، ومن هذا المنطلق ينكرون أن يولد العقل مزودًا بأفكار فطرية موروثة كما يدعي العقليون. ومن هنا يلتقي التجريبيون مع الحسيين، ولكنهم خالفوهم في أنهم جعلوا للعقل فاعلية تبدو في القدرة على التفكير فيما تنقله الحواس من صور ذهنية، وتأليف أفكار من العناصر التي استمدها من التجربة وهي أفكار لا وجود لها في العالم الخارجي. وقد نشأ المذهب التجريبي الحديث بوصفه رد فعل للمذهب العقلي، وقام بتنميته مجموعة متعاقبة من الفلاسفة الإنجليز، كان أبرزهم : "لوك" و "باركلي" و "هيوم". (7)

أما "جون لوك" فإنه يعرب صراحة عن إيمانه بأن معرفتنا بوجود الأشياء لا ينبغي أن ترد إلى الذهن، فالوسيلة الوحيدة لهذه المعرفة في رأيه هي الإحساس، ولا يمكن عن طريق الأفكار الذهنية وحدها إثبات وجود موضوع للفكرة، مثلما لا يمكن إثبات وجود الإنسان من صورته المرسومة.

ويشير "لوك" إلى أن أي فكرة تتولد في الذهن إنما ترتد إلى مصدر واحد فقط هو التجربة، فالعقل، من وجهة نظره، صفحة بيضاء ليس فيه أفكار فطرية أو معاني أولية، وإنما يستمد العقل كل خبراته وأفكاره من التجربة. فالتجربة الحسية هي التي تخط على هذه الصفحة البيضاء سطورها. ومن هذا المنطلق يرى "لوك" أن الإنسان لا يبدأ في التفكير إلا عندما يبدأ في الإحساس، فالإحساس سابق على التفكير، وليس هناك شيء في العقل ما لم يكن قبل ذلك في الحس. الذي به وحده يمكن تفسير المعرفة كلها عند "لوك" (8).

أما "جورج باركلي"، فقد قدم محاولة من أكثر المحاولات تطرفًا لإنكار الوجود المستقل والمتميز للعالم الخارجي مع الاعتراف بأن الأشياء من حيث حقيقتها وواقعيتها ستظل كما هي. ولم يعترف " باركلي إلا بما يظهر لنا من الأشياء من خلال إدراكنا الحسي لها. بعبارة أخرى، لا وجود للمادة المجردة، ولا وجود إلا لما ندركه بحواسنا من المادة. تطبيقًا لمبدأ المذهب الحسي الذي يرى أن المعرفة الحقة هي المقصورة على ما يبدو على الشعور بأعراض محسوسة، وإن ما لا يبدو محسوسًا وهم محض (9).

أما "ديفيد هيوم" فيسلم بكل سهولة باستحالة إدراكنا لأي شيء خلاف أفكارنا. ويقول: "إن أي قدر من الفلسفة يعرفنا عدم إمكان استحضار عقولنا لأي شيء خلاف الصور والمدركات، وإن الحواس هي المنافذ الوحيدة التي تدخل منها هذه الأفكار". ولذا يرى أنه بمقدورنا الحصول على أية معرفة بالمسائل التي تجاوز تجربتنا المباشرة، وتعلو على قدرات عقولنا (10).

يتضح مما تقدم، أن المعرفة عملية مركبة يساهم فيها العقل والحواس معًا، وأن الإنسان مهما كان عاقلًا فإن العقل وحده لا يكفي لوحده كمصدر للمعرفة، كما أن التجربة أيضًا تبقى قاصرة لوحدها، لهذا كانت المعرفة الإنسانية عملية تركيب بين ما هو عقلي وما هو تجريبي، لهذا قال كانط: "الحدوس الحسية من دون مفاهيم تظل عمياء، والمفاهيم من دون حدوس حسية جوفاء". إذًا المعرفة مصدرها العقل والتجربة معًا، ومن ثم فهي ليست فطرية وليست مكتسبة فقط، بل هي فطرية ومكتسبة في الوقت نفسه.

***

د. صابر جيدوري

......................

المراجع

1- يودين م. روزنتال . ب.: الموسوعة الفلسفية، ترجمة سمير کرم، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط3، 1981، ص 472.

2- هنترميد: "الفلسفة أنواعها ومشكلاتها"، ترجمة فؤاد زكريا، دار نهضة مصر، القاهرة، 1999، ص 188.

3- مصطفى غالب: " ديكارت "، دار مكتبة الهلال، بیروت، 1982، ص ص 72-73.

4-  فؤاد زكريا: سبينوزا (ضمن معجم أعلام الفكر الإنساني)، تصدير إبراهيم مدكور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الجزء الأول، 1989، ص 520.

5- الموسوعة الفلسفية المختصرة، نقلها عن الإنجليزية فؤاد کامل وآخرون، دار القلم، بیروت، د. ت، ص 251.

6- ليبنتز: "ابحاث جديدة في الفهم الإنساني"، ترجمة أحمد فؤاد کامل، دار الثقافة، القاهرة، 1983، ص 179.

7- مجمع اللغة العربية: "المعجم الفلسفي"، تصدير إبراهيم مدكور، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1983، ص 145.

8- عزمي إسلام ، " جون لوك "، دار الثقافة، القاهرة، 1976، ص ص 52-53.

9- يحي هويدي: "باركلي" (ضمن معجم أعلام الفكر الإنساني)"، مرجع سابق ، ص 815.

10- ريتشارد شاخت: "رواد الفلسفة الحديثة "، ترجمة أحمد حمدي محمود ، الهئية المصرية العامة للكتاب، القاهرة ، 1993، ص 219.

نظراً لأنَّ طبيعةَ الثقافةِ قد تغيرتْ دون رجعةٍ، فكانَ لابد أنْ تتغير وظيفةَ المثقفِ بالتبعية. وبخاصة أنَّ المثقف كان بمثابة الكائن الذي لا يخلُّو من التلون بحسب الوسط الموجود فيه. ولكن الآن: إذا لم يكن المثقفُ قادراً على الإبداع والتطور الخلاّق، فسيسقط من غربال عصرنا الراهن الذي لم يعُدْ هو الضمان للأوضاع الثقافية كما جرت. إنَّه عصر التعرية، أي عصرُ العراء المفتوح، عصر التحولات الجذرية بإمتياز تاريخي. ودائماً في عصر التحولات لا نتحسس رقابنا فقط، بل نتحسّس كلَّ شيءٍ آخر، ولو كان مُهملاً. والمثقفُ الفاعل يقعُ ضمن دائرة الكائنات المهملة (عن قصد)، ولاسيما في دهاليز بيئاتنا العربية. وهذا ما وَضعَ المثقفَ أمام خيارٍ وحيدٍ (أي ضرورة لا بد منها): أنْ يكون حُراً وخارج القوالب الجاهزة، وإلاَّ فسيكون كالعصف المأكول لا محالة، وسيقع في جوف أيديولوجيا حائرةٍ أو نزعة استبدادية قميئة.

كانت وظيفةُ المثقف سابقاً الترويج لما يراه ويمارسه، وأنْ يتكتل بجوار السلطة تحت عناوين مختلفة منافحاً وحارساً لظلالها. بينما الآن جاء دورُ المثقف باعتباره الكائن المبدع والكوني بالضرورة. أي أنَّ طبيعة الثقافة غدت كونيةً مفتوحةً دون إملاءٍ على فاعليها بالحدود القصوى لوجودهم المادي والروحي. أقول غدت عمليةً اختزلت القيم العُليا التي هي محط عناية البشر والتي تتجاوز الحدود المقيدة للإنسان، كما أنَّ وسائل التواصل أعطتها قدرةً مهُولةً على التداول والانتشار.

المُلاحظ أنَّ الثقافة باتت ذات طابع فلسفي- افتراضي أعمق من ذي قبل، ولم يعد ممكناً استيعابها في قوالب محليةٍ أو محدودةٍ جغرافياً ودلالياً. كما أنَّ التطورات المعرفية والتقنيات الديجيتال التي غذّت الخيال والعقول لم تترك الثقافةَ وشأنَّها، لكنها قد تركت بصمتها الكونية على كل شيءٍ، ولم تستطع الثقافةُ أنْ تقف بمنأى عن حركة المعارف والتقنيات. إنَّ الثقافة الراهنة غدت مرعبةً لكل النزعات والمذاهب الماضوية، وشكلت لُّجة غائرة الأعماق لمن يجيدون فقط السباحة على سطح العالم وأحداثه وحيواته. والتقنيات ليست مجرد أدوات، لكنها عوالم تسير في فلكها مفاهيمٌ وأفكارٌ تواكبُ ثوريتها وقدراتها المُذهلة.

وليس هذا فقط، بل اختلطت التقنيات ثقافياً بكل أبعادنا المكانية والزمانية والأنطولوجية والرمزية وجوانب الماوراء، لقد شكلت الثقافة الراهنة كوناً مذهلاً (داخل / بجانب) الكون الأصلي لحياتنا الإنسانية. وشئنا أم أبينا، سنكون نحن جزءاً من محيط عالمي يُلقي إلينا بموجاتٍ عاصفةٍ من المعارف والوسائط الجديدة. لقد فقدت الثقافة تباعاً وظيفتها الأساسية في كونها تشكل هويةَ الجماعات ورؤاها الحدية للحياة والتاريخ. بسبب أنَّ ماهية الثقافة تعدُّ وهماً خاصاً بـ" العقل الجمعي" المُغلق أكثر من اعتبارها شيئاً أصيلاً في غالبِ الأحيان. لقد تفكّك كلُّ ذلك، وبقي الإنسانُ كإنسانٍ وظلت الثقافةُ تُحلّق بعيداً نحو آفاق الحرية الإنسانية في شخصيتنا القريبة. ولم تعد ترضَ بديلاً عن إدماج الفردي والكوني، الخاص والكلي، المادي والمتخيل في آفاق واحدة.

المثقف المعنى:

إنّه إنسان مُتحرر بكل كيانه من وراء الكواليس المعقدة في المجتمعات الإنسانية. هو مثقف من نوع أصيل أصالة الفكر والحكمة، حيث يجمعُ التعدُد في شخصه الثري، تاركاً الأفكار تصلُّ إلى درجة الاختمار، واضعاً الواقع في إطار معانٍ تعيد الثقافةَ اكتشافها في الأشياء والموجودات والمجتمعات. إنَّ الثقافة – من تلك الزاوية - تغدوُ ثريةً بالنسبة إليه بقدر ما تُشكل جوهر الإنسان وحياته، لأنَّ الثقافة تجعلُّ لجميع الموضوعات والكائنات قيمةً. تُشعرنا بالإمتلاء الرمزي نفسياً وحياتياً طوال الوقت. والمثقف المعنى هو كذلك مثقف يلتزم بالعيش في إطار كهذا ويوسّع آفاقه كلما استطاع أنْ يُوجّه المعاني، ويعيد صياغتها وفقاً للرؤى القيمية والفكرية. وليس هناك مثل هذا النمط الإنساني من جهة تمثله لقدرات الأنبياء والحكماء والشخصيات الرمزية أمام الشعوب المتطلعة للخلاص.

كل الشخصيات المُلهمة في تاريخ الشعوب تنتمي إلى هذا الصنف من المثقفين، هي شخصيات ثقافية دالة بالمقام الأول. وليس هناك أكثر اختزالاً لأصالة البشر والحياة من هذه الشخصيات التي جاءت مصدراً للحماس الفكري والإرادة الحرة وإنطلاقة الحياة. على سبيل المثال: كونفوشيوس وبوذا وسقراط وغاندي ونيلسون ماندلا وشعراء الإنسانية والمتصوفة والأدباء الكبار، أي هؤلاء الذين وضعوا الإنسان في فوهة الحياة والأقدار منتصرين له تحديداً. حيث أعادوا إكتشاف فكرة الإنسانية من جديدٍ بعدما أُهيلت عليها تلالٌ من الغبار والرمال. هؤلاء كانوا ومازالوا يعيشون في المعنى بالنسبة لشعوبهم. فهم نماذج إنسانية حُرة اختاروا أنْ يكونوا معنى معبراً عن  حياتهم. وأنْ ينتجوا المعاني من خلال وجودهم في صور قشيبةٍ وعاليةِ المكانة، ورفيعة التأثير.

إنّهم عندئذ ليسوا أفراداً مشتتين، لكنهم يتمثلُون الجمع بلغة المفرد، يعبرون عن الحقائق الكلية بلغة الأشياء، وعن الأزمنة داخل اللحظات المختلفة، وعن وحدة الكون ضمن يما يتداعي ويزول، وعن قوانين المجتمعات فيما يمارسيه الناس من حماقات أو أحكام بسيطة. إنهم يتحركون بصحبة معاني الإنسانية جيئةً وذهاباً دون عناءٍ، يسيرون في حراسة المجهول الذي يعرفونة جيداً بين الأشياء والركام الحي من الحياة. ولهذا سنجدُ كلَّ إنسانٍ قد عثر لديهم على شيء يخصه، شيء يذهب إليه رأساً من غير إلتواء، أي العثور على معنى كان يبحث عنه أو يود أن يكونه ذات مرةٍ.

وجميع هؤلاء المثقفين بالمغزى السابق كانوا حريصين أنْ تكون حياتهم سرداً رمزياً وطقوسياً لدى الناس. والسرد شكل من أشكال الوعي الشعبي العميق بالحياة والعلاقات والمصير وأبرز الأحداث والأخطار التي تكتنف أوضاع البشر. وإذا كانت الأحداث قابلةً للتكرار لدى غالبية البشر، فقد أخذ المثقف معناه من المكانة ذاتها. إنه علامة تاريخية لا تقل دلالةً عن تلقائية الأحداث، ويبدو المثقف من فوره بمثابة حكمةِ الحياة وخلاصتها. إن ما يلفت انتباهنا فيما يمارس(المثقف - المعنى) هو خلاصةُ ما قام به إزاء الآخرين.

المثقف المؤدِي:

هو الشخص المؤدي واللاعب لمهام ثقافية وفكرية بعينها عكس النمط السابق، إنه الممثل البارع لما يقال له من سيناريوهات. وأحياناً هو(الفرد- الشكلي) الذي يهتم بصورته فقط خلال المواقف ويجيد خطف الأنظار. وهذا الصنف يظل تحت تأثير الأمر والطلب من حين لآخر. الأمر يعني وجودَ سلطةٍ أعلى مُقتنصاً فرص إرضائها والذود عن حياضها. ويبقى طوال مهامه في حالة إنتظار ليس أكثر، لأنَّ الأمر بالنسبة لمكانته نوعٌ من الانتظار النفسي والجسدي. والطلب يعني المهمةَ الموكولة إليه. ونحن وجدنا مثقفين في واقع العرب يبتكرون في تأديّة المهام، يصنعون هذه المهام صناعةً دون تراجع.

المثقف  intellectualعندئذ شخص مؤدٍ performator مثل الكومبارس، ألقته الأحداث في طريق السلطة أو في مسارات الأحداث، ثم اهتبل الفرصة تعبيراً عن سطوتها وقوتها في الواقع. ولذلك سيكون هذا المثقفُ شخصاً يعيش عبر الظلال القاتمة لكل سلطة ممكنةٍ، إنَّه بخلاف جوهر الثقافة يلتزم بأدوار التابع والخانع. والمؤدي دائماً لا يأتي بجديدٍ، لكنه يتقمص الأدوارَ دون نقصان، إنه يتحرك في هذا الإطار المحكُّوم بمركزية خارج فكره أو ذاته، وتجده موهوباً حين يُمارسها كأنَّ الأدوار قد خُلقت له خصيصاً. والموهبة أن يفكر المثقف السابق ويمثل بطريقة المؤدي المسرحي الذي ينهمك في السيناريو والحوار على خشبة المسرح.

الممثل المؤدي شخص لديه قدرة على التقمص، لكنه في الثقافة يتمثل ما يقال له بشكل حرفي، يتلقاه بكل سلبية ممكنةٍ وغير ممكنةٍ، ولعلَّ ذلك نتيجةُ دوره المرسوم منذ البداية وبفضل مكانته التي يعرفها أصحاب السلطة. وأغلب مثقفي العرب ينخرطون في هذا النوع من الأدوار، لأن المثقف في مجتمعاتنا مجرد وظيفة يلتصق بها، ولا يستطيع التحرر منها. وحتى أكثر المثقفين العرب تمرُداً إنما يمارسون هذا الأداء دون وعي. ولنتذكر أن الاتجاهات الفكرية والثقافية التي اهتم بها مثقفو العرب قد تحولت على أيديهم إلى قوالب فارغةٍ وإلى شعارات وعبارات دالة على التقديس والتبجيل.

الماركسيون العرب تمركسوا - إلى أشواطهم الأخيرة - من غير أصالةٍ، وكانوا حريصين على الماركسية حرفياً أكثر من حرص ماركس نفسه. بل ربما لو عاش كارل ماركس حتى يرى مثقفي العرب، لكان قد استنكر النسخةَ العربية من أفكاره وفلسفته. وهي نسخةٌ تحمل كل تشوهات (الأداء الباهت والتمثيل الثوري) في سياق عابر للثقافات. ورغم كون الماركسية في بيئتها الثقافية مبررةً وقادرة على تفجير الطاقات الثورية وتحريك صورة المجتمع بدرجةٍ أو أخرى، غير أنها في بيئتنا الإجتماعية كانت صورةً دون معالم، وربما كانت – لمن لديه رؤية – محل تندُر وسخرية!!

والمدهش أنَّ المثقف الماركسي المؤدي ينطبقُ عليه نقد الماركسية ذاتها لنوع من الوعي المزيف الذي يخادع الجماهير، ويثقب جدار عقولهم ويقودهم نحو آمال خائبةٍ وتجاه مستقبل يجتر القهر والهيمنة مرة ثانيةً. والأكثر إدهاشاً، أنَّ المثقفين الماركسيين العرب أنفسهم- بعد خُفوت بريق الماركسية- أخذوا يتجهون إلى الأصوليات الدينية والانغماس في الخطابات السياسية المؤدلجة أوالقومية الزاعقة بالتطرف والشوفينية. وبخاصة عندما يدركون أنَّ الماركسية قد فقدت صلاحيتها لتفسير التاريخ والأوضاع الإجتماعية المُركبة!!

وما حدث مع (ماركسيي العرب) ينطبق على وجوديي العرب أيضاً (أي متبني الفكر الوجودي)، إذ يبحث هؤلاء الوجوديون عن نسخة من الوجودية في أشعار العرب وفلاسفتهم القدماء أو بعض المفكرين المحدثين المتمردين على واقعهم الإجتماعي. ولذلك لم يُفلحوا في تقديم شيء وجودي حقيقي إلاَّ بعض المقولات القابلة للتوظيف في أي سياق، طالما تنادي بالتحرر وخلاص الإنسانية على حساب أية فكرة ميتافيزيقيةٍ أو نعرات ثقافيةٍ عرقيةٍ. إنَّ الوجوديين العرب هم أصداء عابرة للبحار والقارات بين الغرب والشرق، أصداء لم تجد أيَّ تواصل أو أيّة أصالةٍ في الطرح، لأنَّ تاريخ الوجودية  لا جذور له بمعناها الفلسفي في ثقافتنا التي تعبدُ العنتريات وتمجد أبطال الديكتاتوريات والغوغاء. إنه تحت الناس والجماهير تكمن حالات القهر وعبادة الأوثان بأسماء متواترة. إنَّ وجودية العرب إنْ جاز التعبير باعثة على الغثيان، وهي نتاج الحرمان من الحرية الأصيلة. هي رد فعل لضياع الوجود لا نتيجة الامتلاء بالحياة.

والفكرة ذاتها موجودةٌ عند من يسموا بمثقفي الإسلام السياسي، وهؤلاء يسلمون كيانهم لأدوار الترويج والتداول غير النقدي للأفكار والأقوال والنصوص الموروثة. حيث يعملون على نشر خطابهم المسيَّس، وهذا هو الهدف الأقصى مستغلين التعاطف الديني والمسكنة من الأتباع والجماهير على السواء. كل مثقفي الجماعات الدينية يسقطون حتى من دلالة مثقف بالمعنى الحداثي، لأنَّ المثقف معناه صاحب الرأي والعقل الحر الذي يقاوم مظاهر الإستلاب والإحتواء والتسلط. بينما يوجد ذلك في تلك الجماعات تحت مظلة الدعوة من ناحيةٍ والسمع والطاعة من ناحيةٍ أخرى. هذان هما وجها الرحي للثقافة(إنْ وجدت معناها الحديث) وليس يملك المثقف بهذا المضون سوى التمثيل والأداء.

وطبعاً أُصيب بعدوى فيروس (المثقف المؤدي) رجال الإعلام وحملة ألقاب الفكر والمعرفة والعلوم، فهؤلاء لم يفلحوا الخروج من قمقم الأدوار التي رُسمت لهم، حتى باتوا نهباً لكل من يستطيع توظيفهم لمآربه الخاصة. إن المثقف الراهن ليس شخصاً يرتاد بيوت ومؤسسات السلطة والأنظمة السياسية وحسب، لكنه ينادي- يصدر الأصوات تلو الأصوات- على بضاعته مثل بائعي البضائع في الحارات والشوارع والأزقة. هل من متبنٍ لما أقول؟ هل من صاحب سلطة يأخذ ما أطرحه؟ وكأنه يتحدث إلى الحاكم وصاحب الصولجان كي يوظفا أفكاره، ويستعملانه في أغراضهما الخاصة. هذا المثقف يعيش بلغة المنادي ومثل الندّاه طوال الوقت.

ولم يخرج المثقفُ السابقُ عن كونه صاحبَ حرفةٍ مثل باقي الحرفيين، كالحدادين والوراقين والسقايين والزراع والتجار والحرف اليدوية التي تعيش بهذا الحال والموروثة في مجتمعاتنا العربية. الفارق بين هذا المثقف وبين الآخرين أنه يضع عقله وكيانه تحت تصرف من يستغل ويستثمر. وفجأة بين يوم وليلة سنجده مثقفاً ملء السمع والبصر، ويدخل من فوره عجلة الثقافة اليومية والمعرفة السطحية الرائجة وأخبار السلطة والتداولات اليومية في بورصة الثقافة الشعبية. ويشار إليه بالبنان كأنه مثقف لا يشق له غبار ويتوارى تدريجياً خلف كمٍ مهولٍّ من المساحيق الثقافية وخلف الأخيلة السياسية والاجتماعية.

***

د. سامي عبد العال

يقول الفيلسوف الألماني شوبنهاور (1788-1860) في كتابه (فن العيش الحكيم – تأملات في الحياة والناس) " إن الإنسان يجد في العزلة عزاءه الأخير بعد معاشرته الطويلة للناس، عامة الناس. فبقدر ما يمتلك الإنسان أشياء كثيرة بداخله، بقدر ما يشتد استغناؤه عن الناس وعن العالم الخارجي. على هذا النحو، يكون المتفوق فكرياً، حتماً إنساناً لا اجتماعياً. فلو كان الكم مساوياً للكيف في القيمة، لجاز تجشُّم عناء العيش مع الناس ومخالطتهم، لكن هيهات! فمئة مخبول لا تعادل ولن تعادل أبدا صاحب عقل راجح واحد. فذو العقل الصغير، ما أن يفرغ من إشباع حاجاته الأساسية، وينعم بقليل من الراحة حتى يندفع بحثاً عن تمضية الوقت كيفما اتفق ومخالطة الناس دون تمييز، فهو ينسجم مع الناس ولا يفر إلا من نفسه. فالغبي في عزلته يئن تحت وطأة بؤسه الشخصي، بينما الألمعي الموهوب يؤثث عالمه الخاص والصغير حتى ولو كان في أكثر الأماكن المقفرة لتدب الحيوية والنشاط فيها. ففي العزلة، يختزل كل واحد منا في ما عنده وفي ما يجده بداخله، أي في موارده الذاتية ولا شيء غيرها. وقد صدق "  لوكيوس أنايوس سينيكا " حين قال: الغباء يضجر حتى من نفسه " وعبّر اليسوع عن المعنى نفسه بقوله: " حياة الأحمق أسوأ من الموت".

ويذهب أيضاً الفيلسوف وعالم النفس الألماني – النقدي إريك فروم (1900-1980) في كتابه (المجتمع السوي) إلى أن " الشخص السوي يعاني من العزلة في المجتمع غير السوي، وقد يؤدي عجزه عن التواصل إلى إمراضه نفسياً، فالمجتمع المريض لا يتسامح مع الأصحاء ". ويحذر فروم المجتمعات بعامة بأنها المسؤولة عن اغتراب أفرادها، وقد يكون الشخص سليما معافى، إلا أن المجتمع نفسه إذا لم يكن صحياً بالقدر الكافي فإنه يصبح مجتمعاً مريضاً والطبيعي عندئذ أن يصبح أفراده مرضى، ولذلك ينصح بعلاج المجتمع أكثر من اهتمامه بعلاج الأفراد إذ المجتمع الصحي يفرز أفراد أصحاء.

في حقيقة الأمر، تطرح علينا فكرة هذا المقال العديد من التساؤلات... من أنا؟ ماذا أفعل في هذه الدنيا؟ ماذا أعرف عن نفسي؟ كيف أريد أسلوب حياتي، أهو بعيد عن الناس، أم وسط زحمة هذا العالم، أم في عِداد حاملي الرسالات؟ هذه الأسئلة وغيرها الكثير – التي تتفاوت من شخص لآخر – تحمل لنا العديد من الإجابات المريحة التي تضع النقاط على الحروف في نفوسنا.

يشير مفهوم الذات إلى ما يملكه الشخص من مشاعر وأفكار وإمكانات وقدرات، وتطويرها يعني استغلال ذلك كله الاستغلال الأمثل في تحقيق الأهداف والآمال، وهذه القدرات فيها ما هو موجود بداخلنا بالفعل، ومنها ما نحتاج أن تكتسبه بالممارسة والمران لفنون الكفاءة والفاعلية. فمرحلة اكتشاف الذات هي من أهم المراحل في حياة الإنسان لأنها ترسم مسار رحلته في الحياة الاجتماعية. هذه المرحلة تتطلب من الإنسان أن يوقظ نفسه أن يتوقف لفترة قد تطول أو تقصر عن مجاراة هذا العالم المضطرب. لحظات تطلب منه طرح أسئلة معينة على النفس وهذا لا يستقيم له إلا من خلال العزلة عن الناس لتقييم المرحلة الراهنة التي يحيا بها. لكن قبل أن نحوض في أهمية العزلة في اكتشاف ذواتنا سنحاول التوقف قليلاً عند مفهوم الذات الإنسانية بالتعريف والشرح.

بمعنى أدق، تعبّر ذات الفرد أو شخصيته عن مجموعة من الآليات التي تنظم حياته وعلاقاتهم بالآخر وبالطبيعة وبالله سبحانه وتعالى. وبناء الذات عند كل فرد يقوم على السمات الجوهرية الخاصة بثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه. وعلى هذا فالثقافة هي نظام القيم الأساسية الجوهرية في المجتمع. والذات أو الشخصية أو الأنا أو الهوية، هي صورة مصغرة عن هذه الثقافة أو هي مستودع لها. وثقافة الفرد، التي تشكل ذاته وشخصيته هي جزء من الثقافة الاجتماعية، وهي أيضاً ما نسميه بالهوية.

تركز الدراسات الاجتماعية المعاصرة على قدرة المجتمع على نقل ثقافته من جيل إلى آخر، وتعد ذلك مصدر صحة المجتمع، وضمان سلامة استمراره. وكل مجتمع يسعى دائماً إلى تشكيل بنية ثقافية أصيلة، يحرص على ألا يخرج عليها أحد من أفراده ضماناً للوحدة الاجتماعية الداخلية، فوظيفة الثقافة الاجتماعية إنما هي تحقيق التوازن والتناغم بين أفراد المجتمع، ولا يكون ذلك إلا عندما تتمكن، هي ذاتها، من تحقيق التناغم والتوازن بين عناصرها لتنتظم داخلياً في إطار مجموعة متوازنة من العناصر الثقافية التي يحيا فيها الفرد من جهة، وتشكل مرجعيته ومعياره في التعامل مع الأشياء والحكم عليها من جهة أخرى. وأي خلل في النظام الثقافي يؤدي بالضرورة إلى قلق في حياة الفرد، واضطراب في أحكامه، ينتج عنه فوضى في العلاقات وشلل في القدرات وضمور في الإبداع.

ولا شك، في أن تعدد الكليات في تفسير الذات، وهي جزء من كل، يؤدي إلى عدم انسجام بين الفرد والفرد في المجتمع خاصة، وبين الأفراد والمجتمع عامة، وهو ما ينتج عنه خلل في الأحكام وقلقلة في العلاقات وضبابية في الوعي وضمور في الإبداع.

إن عدم التناغم الوجداني بين الأفراد ينجم عنه التحرك بعيداً عن الآخرين، وإنه يتجنب الصراع، فتصبح العزلة أسلوب لمعالجة المواقف المؤلمة، وهي محاولة يبذلها الفرد لإعادة اتزان النفس، وتحدث فجأة كاستجابة من جانب الفرد كحرمان مفاجئ يطرأ في حياته من أفراد آخرين يعتبرهم ذوي أهمية لديه. مما يدفعنا إلى الحديث عن العزلة الإيجابية كخيار أو ربما ملاذ يقينا شر الخيبات، ويعيننا على ترتيب ذواتنا، وترميم ما أصبح آيلاً للسقوط من الأحلام، أو قد نحكي عنها على أنها العلاج الأجدى لتجديد سمات أرواحنا الحقيقية، مثل قدرتنا على الحب والعطاء والخير. وتُعرف العزلة بأنها قرار يتخذه الفرد بإرادته بعض النظر عن أسبابها. ونقصد بكلمة العزلة في هذا السياق العزلة الإيجابية وهي العزلة الطبيعية التي يحتاجها كل إنسان بين الفترة والأخرى، فهي بمثابة الخلوة مع النفس لفترة من الزمن يعيد من خلالها الفرد حساباته ويرتب أولوياته ويتأمل ويفكر في الأحداث الجارية حوله لمعرفة ما له وما عليه، وبالأخص قبل اتخاذ القرارات المصيرية في الحياة الاجتماعية والمهنية. ومعنى ذلك، أن العزلة بشكل عام تختلف عن الوحدة فهي غالباً ما تكون مفروضة عليه كأن يكون الإنسان وحيداً بسبب بُعد الآخرين عنه، مسافراً مثلاً في بلد غريب، أو أنه يعيش مع أهله وأصدقائه لكنهم لا يمنحونه الاهتمام والعاطفة.

نقصد بالعزلة ترك فضول الصحبة، ونبذ الزيادة منها، وحط العلاوة التي لا حاجة إليك بها، فإن من جرى في صحبة الناس والاستكثار من معرفتهم على ما يدعو إليه شغف النفوس، وإلف العادات وترك الاقتصاد فيها والاقتصار على الذي تدعوه الحاجة إليه. كان جديراً ألا يحمد غبه، وأن تستوخم عاقبته، وكان سبيله في ذلك سبيل من يتناول الطعام في غير أوان جوعه، ويأخذ منه فوق قدر حاجته، فإن ذلك لا يلبث أن يقع في أمراض مدنفة، وأسقام متلفة، وليس من علم كمن جهل، ولا من جرب وامتحن كمن ماد وخاطر. ولينظر المرء لدينه ويحسن الارتياد لنفسه نسأل الله السلامة من شر هذا الزمان وأهله.

لذا نجد أن العزلة عند الفتنة سنة الأنبياء، وعصمة الأولياء، وسيرة الحكماء الألباء، فلا أعلم لمن عابها عذراً، لا سيما في هذا الزمان القليل خيره، البكيء دره (قليلة اللبن)، بالله نستعيذ من شره وريبه. وقد قال الراغب الأصبهاني في تعريفه للعزلة " العزلة توفر العرض، وتستر الفاقة، وترفع ثقل المكافأة.  وقال ما احتنك أحد قط إلا أحب الخلوة ". ويذهب محمود درويش في نصه " لو كنتُ غيري " (ديوان أثر الفراشة) إلى أن العزلة كفاءة المؤتمن على نفسه. مؤكداً أن قدرتك على أن تكون وحيداً " هو تربية ذاتية. العزلة هي انتقاء نوع الألم، والتدرب على تصريف أفعال القلب بحرية العصامي ... أو ما يشبه خلوك من خارجك وهبوطك الاضطراري في نفسك بلا مظلة نجاة... العزلة هي اختيار المترف بالممكنات... هي اختيار    الحر. فكيف تجف وتضيق بك نفسك ".

وفي ذات السياق يعبر الشاعر والأديب الكبير جبران خليل جبران (1883-1931) في كتابه " البدائع والطرائف " عن فلسفته فيما يخص ( الوحدة والانفراد) بقوله إن " الحياة جزيرة في بحر من الوحدة والانفراد. الحياة جزيرة صخورها الأماني، وأشجارها الأحلام، وأزهارها الوحشة، وينابيعها التعطش، وهي في وسط بحر من الوحدة والانفراد. حياتك، يا أخي، جزيرة منفصلة عن جميع الجزور والأقاليم، ومهما سَيَّريت من المراكب والزوارق إلى الشواطئ الأخرى، ومهما بلغ شواطئك من الأساطيل والعمارات فأنت أنت الجزيرة المنفردة بآلامها، المستوحدة بأفراحها، البعيدة بحنينها، المجهولة بأسرارها وخفاياها ".

إلا أن الإنسان عندما يفرح يبحث عمن يشاركه فرحته، ينجح فيتلهف لوجود الآخر للاعتراف بنجاحاته، فلكي يُسمى النجاح نجاحاً لابد من الاعتراف به. تنمو داخل رأسه فكرة ولا تثمر إلا حين يناقشها مع أحد آخر. يتأمل صوره، فيفتش عن صورة تجمعه بشخص ما. الآخر هنا: مرآة. لكن: ماذا عن مرايانا الداخلية؟

يقول العلامة ابن خلدون 1332-1406 في مقدمة كتابه " العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ": إن الإنسان كائناً اجتماعياً بطبعه، والطبع الاجتماعي ليس اختياراً، بل جزءاً من هويتنا، وتطور الحس الاجتماعي كان من أهم عوامل تطور الحياة البدائية. يسعى الكثير من مدربي تطوير الذات إلى دفع الناس نحو تكوين شخصيات انبساطية. لكن الطبائع البشرية مختلفة بشكل جوهري، فدرجة اجتماعية البشر مثلاً تختلف من فرد لآخر. وأي نزعة تحاول وضع المختلفين في قالب واحد، هي نزعة سلطوية شمولية متطفلة على منطق الفردانية الإنسانية الخاص، لماذا يجب أن يكون الإنسان محاطاً بالآخرين طوال الوقت؟ وأن يكونوا شركاء معه في ذاته ومشاعره وأفكاره التي تخصّه وتؤثر على حياته هو في النهاية؟ إن من مظاهر الصحة النفسية، قدرة الإنسان على تحقيق التوافق بين تفاعله مع الآخرين والحفاظ على حيِّزه الخاص ومواجهة ذاته وتحمل مسؤوليتها بعقلانية.

اقترن مفهوم العزلة في الفهم الجمعي بالاكتئاب، بالمرض، بالضعف، وبالنبذ. ما أن تلوذ بعزلتك حتى يهرع الجميع لانتشالك منها باعتبارها انسحاباً أو انهزاماً أو نكوصاً ارتكاسياً نتيجة أزمة، لا موقفاً طبيعياً من العالم، ماذا لو انصهرنا في الآخرين؟ وأصبح اندماجنا معهم وسيلة للهروب من مواجهة ذواتنا؟ ماذا لو أصبحت سعادتنا متعلقة بمشاركتهم لها؟ ولا نتمكن من تحقيق الرضا عن أنفسنا إلا بوجودهم؟ ماذا لو أصبحت نظرتنا لأنفسنا هي نظرتهم لنا؟ وتصوراتنا عن الحياة هي تصوراتهم وحديثنا الداخلي هو حديثهم؟

الجواب إن العزلة هي أن تختار أن تكون أنت، أن تحرس مولد ذاتك، هي الحالة الأصلية أنطولوجياً للذات، وإن تقنا من حين لآخر لأن نصبح مرئيين. في العزلة ندرك ما الذي تعنيه الأنا، وكيف تكون حاضرة. نشعر بها في هذه التجربة تطفو بعد أن تخبو الضوضاء التي كانت تشغل حواسنا وتشتتنا.

وفي طريق التغيير الذي يمس أعماقنا السحيقة، تحضر العزلة كأهم المراحل، وشرطاً لولادة الذات الجديدة، فهي التي تتيح لحظات التأمل، التجربة الفردية الخالصة. نختلي بأنفسنا فنختبرها بمنأى عن ضغوط الآخرين ونعيد اكتشافها. بحرية العصامي نتدارك ما فاتنا، ونصحح مساراتنا الخاطئة، ونجنب ذواتنا سوء الاستخدام، كاستنزاف الطاقة واستهلاك العواطف واقتحام الحدود الشخصية.

وهل للإنسان أن يكون كاتباً إن لم يكن عالقاً مع ذاته الواعية التي لا تغيب ولا تتراجع؟ أليست العزلة للكُتَّاب قوت المخيلة، ومهبط الوحي، ومكمن المعرفة، والخلق والإبداع؟ هنا هي ليست اختياراً أو رفاهية، بل حالة اضطرارية تفرض نفسها. وفي هذا الصدد يقول الروائي النمساوي فرانز كافكا (1883-1924) من أبرز أدباء القرن العشرين ولاسيما في مجال الرواية النفسية: (من أجل الكتابة أحتاج إلى العزلة، ليس مثل زاهد، فهذا لا يكفي، وإنما مثل ميت... الكتابة نوم أعمق من الموت وكما لا يسحب المرء جثة من مرقدها لا يمكن أن يسحبني أحد من مكتبي بالليل). إن العزلة تضع الوجود تحت المجهر... وبمنطق كهذا: فإن عزلة الإنسان - الذي يولد وحيداً، ويموت وحيداً - هي الأصل.

ومعنى ذلك أننا نحتاج بين وقت وآخر لمثل هذه العزلة التي من خلالها نسمح للعقل بالهدوء والسكينة والتركيز، هذا الهدوء تحتاجه النفس في كل مرحلة وبعد كل عاصفة تمر بها. نحتاج العزلة الانتقائية الاختيارية بين وقت وآخر، لشحن النفس بالطاقة وتلمس المعرفة التي نحتاجها لنركز عليها، وللتأكد إن كنا على الطريق الصحيح.

إلا أن على الضفة الأخرى حقيقة لابد من الاعتراف بها....  بعيداً عن أهمية العلاقات الاجتماعية في حياتنا اليومية كداعم أساسي للوصول أو النجاح في كثير من الحالات. فإن دافع الانتماء وتقدير الذات – حسب هرم ماسلو - يعد من أهم الدوافع النفسية ذات الأثر في إنجاز الإنسان. فالإنسان الذي يسعى دائماً للشعور بالقبول والانتماء إلى المجتمع الذي يعيش فيه، وهذا يعني العمل بشكل أكبر، والسعي الحقيقي نحو النجاح، لتصير مرئياً اجتماعياً. كما أن التكوين النفسي والفيزيولوجي والاجتماعي، يخلق لدى الفرد هذا التلهف لوجود الآخر في حياته، الآخر الذي يحتاجه للاعتراف بنجاحاته، فحتى يُسمى النجاح نجاحاً لابد من الاعتراف به ومنحه جزاءه.

إذاً لا نجاح دون الآخر، دون اعتراف الآخر، وإن اقتصر الجزاء على هذا الاعتراف، فإنه في حالات كثيرة يكاد يكون كافياً. لذلك نجد أنفسنا في كثير من الأحيان بعد مضي بعض الوقت على اختيارنا للعزلة نبدأ نتألم، ونأسى لهذا الاختيار، حتى وإن حاولنا ستر هذه المشاعر تحت ألف غطاء، لكنها لا تلبث أن تنفضح بمجرد أن تعذل أحدهم على طول غيابه، أو على قلة اهتمامه وسؤاله. وهكذا، فإننا لا يمكننا أن نتوقف عن توقع قرع أحدهم لبابنا لا يمكننا أن نكف عن التوقع مهما تتالت الخيبات، ولا يمكننا أن نتوقف عن التوقع هذا الفعل الذي يبرهن لنا في كل مرة أننا بحاجة حقيقية للآخر حتى وإن كان " الآخر هو الجحيم " حسب الفيلسوف الوجودية المعاصرة جان بول سارتر. وبما أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بمفرده لذا فهو بحاجة ماسة لأشخاص حوله ليتشارك معهم في العديد من الأمور والجوانب المهمة في الحياة، لهذا علينا أن نسعى وبشكلٍ دائم للبحث عن علاقات اجتماعية مبنية على قواعد مهمة وأساسية لتكون ناجحة وإيجابية.

خلاصة القول، إن العزلة الاجتماعية الإيجابية لفترة من الزمن نحتاجها جميعاً، وهي تخصيص بعض الوقت لنعتزل الآخرين ونجلس مع أنفسنا، محاسبتها والاسترخاء والتركيز مع الذات وتنميتها، وإعادة النظر في حياتنا وأعمالنا وأهدافنا، وتكون هذه المساحة فرصة للمراجعة الذاتية الشاملة، لكن مع الانتباه الواعي لعدم الوقوع في فخ العزلة الاجتماعية، فمهما كان ما يحدث لنا في الحياة، يجب ألا نقرر يوماً العزلة عن الناس والبقاء وحدنا بشكل مطلق، لأننا نكون قد دخلنا في متاهة غير منتهية من المشاكل النفسية والاجتماعية.  وفي الختام نقول إن العزلة بمعناها الواسع تصلح فقط للعلماء العقلاء، وأنها من أضر الأشياء للجهال، فمن أراد الاعتزال فعليه أن يتفقه بالدين والعلم والمعرفة، فقد قال إبراهيم النخعي: تفقه ثم اعتزل.

كما أن العزلة الحقيقية حالة من العيش بحاجة لأن تستثمر. فليس بالوسع الدخول فيها والخروج منها كما نريد. فالعزلة فن تحتاج لمران ذهني لصقلها واستقرارها في النفس. فعندما تتمرن على العزلة، فأنت تكرس ذاتك للاعتناء بروحك. ستيفان باتشيلور (1953-  ) من كتابه فن العزلة.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

.................

المراجع المعتمدة:

1- أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي: العزلة، تحقيق: ياسين محمد السواس، دار ابن كثير، دمشق وبيروت، ط2، 1990.

2- إيريش فروم: المجتمع السوي، ترجمة: محمود منقذ الهاشمي، دار الحوار، اللاذقية، ط2، 2015.

3- حسين الصديق: العودة إلى الذات – نكون أو لا نكون، دار استانبولي، حلب، ط1، 2012.

4- إيمان محمد الطائي: دراسات في سيكولوجية العزلة الوجدانية، مراجعة: محمد السيد عبد الرحمن، دار الجنان، عمان، ط1، 2014.

5- حسام أبو حامد: فن العزلة.. أن تكون سعيداً وسط الحشود، العربي الجديد - ضفة ثالثة، 27 أبريل 2020.

6- سماح العيسى: ما بين جحيم الآخر وجَنّة العزلة، مجلة المحطة إلكترونية، 23 ديسمبر 2022.

7- هناء جابر: العزلة... فن الوجود مع ذواتنا، مجلة العربية، الدمام، الإثنين 30/01/2023.

8- حسام الدين فياض: سوسيولوجيا العلاقات الاجتماعية، دار الأكاديمية الحديثة، إسطنبول، ط1، 2023.

9- أحمد عبد الصادق: التطوير الذاتي – الشخصية المتكاملة، مكتبة النافذة، الجيزة، ط1، 2008.

10- محمود درويش: أثر الفراشة – يوميات، دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، ط2، 2009.

11- أرتور شوبنهاور: فن العيش الحكيم -  تأملات في الحياة والناس، ترجمة: عبد الله زارو، دار الأمان ومنشورات الاختلاف ومنشورات ضفاف، الرباط والجزائر وبيروت، ط1، 2018.

رد فعل الطبيعة:

شكلت الحياة البدائية نمطًا نَوْعِيًّا، إذا جاز وصفها، كما تسمى الحياة، ولكن في تفسيرها العام، يتقلص مؤشر التفسير بشكل كبير، ويرجع ذلك إلى ضياع هذه الحياة لصالح جميع المكونات. يتذكر واعتماده على الصدفة في الحصول على الأسس أو المكونات، وعدم وجود تصميم يعيدنا إلى المعنى التوضيحي لهذه الحياة. وسائل دراسة عصور ما قبل التاريخ بطريقة مقبولة. على العكس من ذلك، فقد اعتمدت أسس المنهج العلمي والأنثروبولوجيا الأسطورية على مؤشرات محددة لدراسة هذا العالم البدائي، ولم تتغلغل في أصول معناه وتفسيره الرمزي في معظم الجوانب، بل اقتنعت في التفسير في بطريقة أحادية الجانب، تم اعتماد منطق المنهج العلمي كأفق واحد في تفسير الشكل العام للعالم البدائي، والمنهج الشامل يبحث عن سياقات عامة وفقدانها كان السبب المباشر للانفصال عن العلمي. طريقة من أقدم حياة بشرية، أن الفرد عاش دون أدلة للغد ودون التفكير بطريقة تؤدي إلى المستقبل، فمن الطبيعي أن يبتعد هذا العالم الفقير عن خصائص أو أسس أو مقومات الحياة، ونقص الوضوح في حياة الفرد البدائي هو خسارة هذه الحياة لأي فائدة، وحتى الجانب القديم المنطق غير واضح بشكل واضح فهو مناسب فقط بعد تكوين مجموعات ذات أفق واحد، والتي يمكن للمرء أن يسميها المجتمعات الصغيرة، والتي هي صراحة النماذج الأولية للدراسة التي يسعى إليها المنهج العلمي، والتي يمكن أن تخرج مع قبول مقبول النتائج.

هنا، في تفسيراتنا المعرفية، لا نذهب مباشرة إلى أفق جغرافية الفرد البدائي، بل ننطلق من الفكر الإبداعي والفلسفة الموضوعية لشرح القضايا التي ترتبط بعصور ما قبل التاريخ، ونعتقد أنه لا يوجد إنسان يكون دون جغرافيا، ولكن يكون أكثر فائدة إذا ما تم المقارنة بين جغرافية بشرية وأخرى، حيث إن النموذج البشري البدائي كان دون بيئة جغرافية محددة بمصادر تاريخية، ولم يتحدد وجود البيئة الجغرافية إلا بعد تكوين المجتمعات، حيث يوجد كانت مجتمعات أو مجموعات صغيرة تمارس جميعها الصيد البحري أو النهري، وهناك وحدة جغرافية تمثل بُعدًا هيكليًا بين أعضاء المجموعة، وهناك مجموعات أخرى تمارس الزراعة بشكل مشترك، حيث تجمع هذه المجموعة أيضًا بيئة جغرافية، من أجل مثال، نموذج البيئة في جغرافيا ببلاد ما بين النهرين مدعومة بنهر التاريخ الجغرافي ودجلة والفرات، وهذا الدعم يعطي المعنى العملي والحياة أيضا صورة أخرى، وهنا نؤكد أن الإنسان الفطري يكتسب من بيئته الحس الجغرافي والطبيعة. ونوعية الأرض ومستويات المعيشة العامة لمست الأرض من النوع الذي يمكن وصفه بروح سهل عريض ومنبسط، مما يعني أنه لا يوجد رد فعل صعب للغاية، والدتك غائبة ويقاومها البدائيون. والفرد أو المجموعة المرتبطة به، والحياة الأولى البدائية ليست رائعة جغرافيًا كما هي حياة المجتمعات الحديثة وعالمنا اليوم، لذلك في هذه الحياة البدائية لا يوجد على الإطلاق أي جهد بشري لمقاومة غضب الجغرافيا ولا توجد إمكانات مناسبة للشكل البدائي لمواجهة غضب الجغرافيا العنيف.

انتقل مفهوم الجغرافيا من الغريزة الأصلية إلى جغرافية الأيديولوجيات المثيرة للجدل، فالعالم البدائي سهل جغرافيًا وليس متعددًا مثل العالم الحديث أو المعاصر، حيث يوجد تعقيد كبير، وهناك حدود منفصلة ومشتركة، والعالم البدائي ليس له فواصل، بينما العالم الحديث يجد أن هناك فواصل بين دولة وأخرى، ولكن هناك حدود تفصل بين عدة دول موحّدة بالدين واللغة والتاريخ المشترك. ففي العالم البدائي يمكنك ترك أي جزء من العالم بدون جواز سفر، في حين أن العالم المعاصر له تعقيد أخلاقي عملي. وحدود التفسير السياسي ليست فقط الفصل بين بلد وآخ، بل هي أهداف سياسية متعددة بالإضافة إلى الجانب التجاري، وإذا كانت الأهداف السياسية هي طمس حدود معينة، فلن يتأخروا عن ذلك، إذا كان يدعم المصالح السياسية الكبرى لمن يقف وراء هذه الأهداف، وهذا عكس الجغرافيا، وهو ليس نتاج الطبيعة، ولكن صناعة الاستثمار، والتي فيها التفكير الجغرافي يعني بتضييق الخيارات البشرية من جوانب معينة وخصوصا السياسية، وفي الواقع كان جدار برلين بهذا المعنى، لأن الخيارات البشرية ضد هذا الجدار الذي قسم الشعب الألماني إلى نصف غربي وآخر فقد النصف الشرقي لأكثر من خمس سنوات بعقود، وهذا ما يسمى غضب الجغرافيا، وخصوصا من السياسة، التي تريد ما بعد البشر ضحايا الطبيعة ايضا تكون ضحية للسياسة.

جغرافيا العالم القديم من حيث الغضب والألم، لا تختلف عن جغرافية العالم الجديد، وخاصة عالم الجغرافيا السياسية. تفتقر الحياة البدائية إلى مكونات ضد الجغرافيا وعنف التضاريس، وكانت الحياة البدائية للفرد عالية جِدًّا في التعرض العام تقريبًا، ولم تكن الحياة في تفسيرها الموضوعي محصنة ضد الخطر. أما التضاريس المعاكسة، فكان الفرد البدائي قبل عصر الزراعة يتجاهل بعض الشيء أهمية المطر، ولعبت طبيعة المناخ الدور الرئيسي. هناك فرق كبير في التضاريس التي تلعب دورها في حياة الأفراد من الحياة البدائية حتى اليوم. في العالم البدائي، كانت الجغرافيا، بتضاريسها، طبيعية إلى أقصى حد ممكن، بينما على العكس من ذلك، فإن الجغرافيا السياسية المعاصرة غامضة ومعقدة بسبب كثرة النوايا، وتختلف إلى حد كبير مع المعارضة وحتى المتوافقة النية السياسية.

كانت غريزة الطبيعة الأولى في عصور ما قبل التاريخ في ذهن خالٍ من كل تلوث، وبما أن الحياة اتسمت بطبيعة غير مخلوقة وجامحة، وكان كل شيء في الحياة الأولى غير مزخرف، وهذا يقودنا إلى فكرة من خلالها الحياة يتمتع بنقاء كبير يفتقر إلى التاريخ الحديث، حيث أصبح كل الوجود مصطنعًا وأصبح الأفراد بنسب متفاوتة من الاغتراب، ولكن كلا منهم لديهم هذا التأثير النفسي المغير للعقل للمعنى الجميل للحياة، ومشكلة العلاقات الممتدة مثل كما أن لشبكة العنكبوت تأثيرا على نفسية الأفراد والعائلات أيضًا، كما أن للجغرافيا وتضاريسها تأثيرا واسعا، حيث يختلف مستوى التفاعل والتفاعل مع المطر، فضلاً عن وجود فرق بين هطول الأمطار في المدينة في النسب وخلافا لهذه الفكرة، هناك من يكره المطر، وقد ينوي آخر تحديد رفضهم للمطر، وهناك نمط من الصراع النفسي بين الفرد والتضاريس يصعب تحديده. ووفقًا للمؤشرات المنهجية لعلم النفس، حيث يمكن لوحدة الوقت أن تقفز فوق النطاقات العامة وتصبح المسألة مشوشة، ويصبح الفرد خارج نطاق السيطرة، وها نحن في أفق المقارنة بين بداية الحياة والحياة المعاصرة مثل المطر في الحياة البدائية التي لم يتدخل فيها الإنسان بأي شكل، بينما المطر في عصر التكنولوجيا المعاصرة لم يتدخل فيه. وأصبح التحكم الإلكتروني أكثر عمومية وشمولية.

لقد طرحت أرض الغضب في الوجود المعاصر أكبر المعضلات والمشاكل أيضًا من خلال العنف السياسي الأساسي. على سبيل المثال جدار برلين، الذي قسم الشعب الألماني بين جهة غربية وجهة معاكسة لها، وقسم تقسيم المعارضة الأيديولوجية السياسية، هو أحد أنواع الغضب الجيوسياسية. وهذه الروح البشعة لا تستحق معنى الحياة الذي يحيي العامل البشري. وعلى العكس من ذلك فهو من عوامل قتل الإنسان في النفس البشرية بأبشع الطرق. لقد أتقن الملوك والسياسيون ابتكار أنواع مهينة من التعذيب النفسي، حيث يجد كل من يفحص أقسى أنواع التعذيب في كيان التاريخ أنه من نتاج سلاطين وملوك وأساقفة ورهبان، بينما تجد أن هناك الكثير من الضحايا من معذبي العبيد الذين هم بشر مسالمون أرادوا تأكيد حريتهم في مصاير الأيديولوجيات أو نشوة الملوك والسلاطين لم يستجيبوا لهم، ولا يهتمون بأن الجغرافيا لا تهتم برغباتهم، وهي لا تراعي ولا تهتم بالمعنى ولو ضحك عليهم القدر، لما امتنعوا عن حرق العالم بلا رحمة، والحرب العالمية الثانية هي أحد الأمثلة في التاريخ الحديث حيث ربما لم تنخفض مستويات الألم إلى أدنى النسب. حتى الآن الذي يخسر الرهان هو الإنسان الذي يموت فينا دون رحمة منا نحن البشر، وهو محاط بأيديولوجيات وأديان ومناطق غاضبة من كل جانب.

شكل الاختلاف في التضاريس الجغرافية بين حياة الفرد البدائي وحياة الفرد المتحضر في الفلسفة الموضوعية هذا الاختلاف النوعي، ويمكن وصف هذا الاختلاف في عدة أطر: الجغرافيا هي حالة تنجذب إليها الروح، حيث توجد فقط واقع واضح دون تشويه أو تغيير في معالمه، ولم تكن الحياة وسيطًا لنفس الأيديولوجيات التي تسيطر عليها وفقًا لاعتقادها، وإذا تجاوزنا البعد الأخلاقي، فهناك البعد النفسي، والذي فيه جغرافية كانت الطبيعة الأولى هادئة للغاية من الناحية النفسية، وكان لهذا أثر إيجابي على أفراد البيئة البدائية، ويجب أن نعترف بأن هناك انسجامًا بين الفرد والطبيعة والجغرافيا للتأثير البصري للسمة الجمالية للطبيعة، الذي تميت رؤيته مباشرة، ولا يوجد فصل بين الطبيعة الجغرافية والفرد البدائي لهؤلاء ص من صنع الأرواح الأيديولوجية، التي لا تهتم بها النفس البشرية بمدى السعي وراء الغايات الأيديولوجية، وما هو الفرق بين مشاهدة طبيعة نمت وترعرعت بالفطرة، وطبيعة تشوبها المباني وتحيط بها من جميع الجهات... أفق المشاهد فرض وطبيعي نفسيا، أفق المشاهد مختلف بشكل ملموس، والحياة السعيدة هي التي لا حدود لها، وخالية من العوائق وفي حرية كاملة، في حين أن أفق الحياة الذي يظهر عدم الرضا، وعدم الرضا يجب أن يكون نتاج القلق النفسي القلق. الموقف، وإذا نشأ القلق فيه يمكن أن يتسبب في حالة من الانهيار، ولا نريد أن نميز حالة بصرية عن أخرى، لكن الأدلة والأدلة الحسية تشير إلى وجود فرق نوعي بين المشهد الذي يظهره البدائي. الفرد والفرد المتحضر، وبصراحة لقد تحول مفهوم الحضارة من المعنى الإنساني الإبداعي إلى المعنى في السياقية.

شكلت طبيعة الحياة المبكرة في تضاريسها المختلفة فتحًا واضحًا ومتعددًا لآفاق طبيعية غير مسبوقة، بينما تختلف طبيعة الحياة المتحضرة اختلافًا كبيرًا، حيث تتسبب المشاهد الطبيعية في اختلاف البعد البصري بشكل كبير، حيث تكون الطبيعة مقيدة ولا تظهر الحرية الواقع وفق أطر الواقع المعاش، بل يعكس بعدًا نَفْسِيًّا يتجاوز حدود القناعات، وتفسيرًا لظهور الطبيعة المثير للشفقة والمقيّد في إطار الفلسفة الموضوعية، يتجه سهمه نحو الرفض الأخلاقي. ولا تهتم الروح بترويج الجمال، بل تهتم بكسب العامل الاقتصادي وتوجيهه نحو المصالح المادية الشخصية. هناك الكثير من الأدلة على نفس الجشع لاستغلال الطبيعة لرغبات مادية شخصية. إن مسألة الإيمان بجمال الطبيعة الروحي يحتاج إلى ذوق يتناسب مع المغزى الجمالي وأيضاً الإحساس به، ولا يمكن ربطه به، ومن أجل المصلحة الذاتية، وبصراحة أفيد أن الجغرافيا قد غضبت وذهبت. وخسر بعض المستثمرين نتيجة ظروف طارئة غيرت مسار الفائدة من الربح إلى الخسارة. في 18 أكتوبر من العام 2019، دعا نظام تسوية المنازعات بين المستثمرين والدول وفي فقرات هذا البيان إلى إيجاد نهج سليم للتفاوض، لكنه كان منحازًا في معظم الفقرات للمستثمرين، وهنا لا بد من أن نفرق بين مستثمر حر وآخر سياسي، وهما يشتركان في غصب أو استثمار مادي إلى حد بلا بعد إنساني.

إن شكل الاستثمار في الطبيعة بروح مادية لا تهتم إلا بالربح هو أحد الأمثلة الجشعة والقبيحة. نحن هنا لا نعترض على صيغة الاستثمار نفسها، بل نعترض على روح الجشع وقبح الاستثمار في الطبيعة وهو أمر غير صحيح في الموقف. تحتاج الطبيعة إلى العناية وليس التخريب لأغراض مادية. صيغ الاستثمار، وهي بصراحة ما يمكن تسميته انتقام الجغرافيا، لأن هذه الجغرافيا كانت حرة إلى أقصى حد في ظروف الحياة البدائية، والفرد البدائي في بداية الحياة الأولى لم يتدخل في قلم لا. جزء من جسد الطبيعة، والطبيعة في ظل ظروف معينة هي التي جردت جزءًا من جسدها وفقًا للفعل الفطري للطبيعة نفسها، وهذا التآكل هو إعادة صياغة غير نمطية للاستثمار المادي، وأن الفرد البدائي لم يتدخل، ونشير إلى أن التدخل حدث بعد إنشاء مجتمعات كاملة، حيث كانت الزراعة نشطة وتحولت من طرق ثانوية إلى أراض خصبة، كما تم إنشاء مثل السدود، ولكن السدود في عالمنا المعاصر أصبحت تسيطر عليها التغذية. ونسمة الأيديولوجيات. وهناك حواجز تشير إلى أهداف سياسية بين شعب وآخر، وهناك العديد من الأمثلة على تلك الذات المتواضعة، والتي في السياق المعاكس تحتاج إلى رد فعل من الطبيعة نفسها للانتقام من صالح نفسه الذي يخضع قسرًا لنفس الأيديولوجيات في ذلك الوقت ضده. الحس الإنساني، وأن السلوك السياسي هو بمثابة دعوة غير معلن عنها لحرب المياه، والتي نراها هنا وهناك أثرا مخزيا، ونفضل حرب المياه كبديل نوعي للحرب الحالية التي تستخدم فيها قوات عسكرية، وهذا الشنيع. استغلال الطبيعة إذا استمر منسوب المياه أبعد من ذلك، وسيتحول العالم إلى كارثة مأساوية في المستقبل القريب بسبب استثمار مادي، وسيكون هناك هذا الأثر الجغرافي المرعب بعد أن تضرب الأراضي الشاسعة بالجفاف، وستموت الخصوبة والهدية هناك.

لقد غيرت الجغرافيا العديد من المعالم في عدة أماكن حيث لعبت التضاريس الجغرافية الدور الأساسي في زعزعة المناخ، وهذا في وجهه تسبب في تراجع أرواح الاستثمار بالاتجاه المعاكس، وخسر المستثمر المركز الذي كان يتخيله. لمصلحته، ولو كان لمنفعة الطبيعة، ولغضب الجغرافيا، فقد كان عادلاً جِدًّا بالمعنى الفطري للطبيعة، والمسألة لا تقتصر فقط على إطار الاستثمار، بل سعت بعض الأيديولوجيات إلى الهدف السياسي والنتائج جاءت بنتائج عكسية وبعيدة عن المتوقع، وأحيانًا تكون الجغرافيا لعنة، كما في أمريكا المكسيكية بدأت اللعنة تتلاشى شمال نهر الضوضاء قبل أكثر من 170 عامًا، عندما اندلعت الحرب بين الولايات المتحدة والمكسيك. وخارج واحتلت أمريكا العاصمة المكسيكية مكسيكو سيتي، وبموجب معاهدة غوادا، مُنحت أراضي كاليفورنيا ونيفادا ويوتاه ومعظم أريزونا ونيو مكسيكو وأجزاء من كولورادو ووايومنغ، والسبب الأساس نفس سياسي، وهذه خسارة فادحة وتغير جغرافي مرير، وأنتج مأساة كبيرة. فالناس في تلك المناطق الذين انتقلوا من المكسيك إلى أمريكا، اليوم لا يشعرون أن جذورهم مكسيكية، وهذا النوع من استغلال الطبيعة لا مبرر له، وهو تأكيد على الانحدار البشع للسياسة، والجريمة البشعة لاستغلال الطبيعة بالقوة، والتي لم تمس في المراحل الأولى من الحياة البدائية، عندما كانت الطبيعة حرة تمامًا، ولا يمكن وصف أي جزء منها بأنه خاضع للاستغلال البشري البشع.

تشكلت الطبيعة منذ بداية الوجود وحتى اليوم، بالنشاط الجغرافي في التضاريس بعد الجوانب، والبعد الرمزي الذي يرفع بصره ونفسيته، وهذا ما يسميه إما احترام الطبيعة، أو قد يعتقد أنها كذلك. الصمت المقدس الذي يسعى لمخاطبة البشر بهذه الصورة الرمزية، حيث يجب أن يكون الفرد البدائي رَمْزِيًّا قبل أن يتأثر بالمحفزات الرئيسية مثل الشمس أو القمر، ويكون انقسام أسياده بعد تطور العلاقة، ولكن الفرد البدائي هو المستفيد الأكبر من الطبيعة الجغرافية. الماء الذي يشربه يأتي من الأنهار، وقد جرب بالتأكيد فرقًا بين مياه الأنهار ومياه البحر، وهناك أيضًا أسماك تعيش في طبيعة الأنهار، وبما أن الأنهار هي مصدر الحياة، فمن الضروري وجودها بتأثير على نفسية الفرد، وتطور إحساسه بالله، لأن طبيعة الماء من العوامل الأساسية في تطور واستمرار حياة الإنسان، وكذلك دور الماء في استمرار ونمو الحياة الزراعية، ولكن التطور السريع للحياة غير وجه ومضمون العلاقة بين الإنسان والطبيعة، ثم تحول الإنسان إلى أسد شرس باستغلال الطبيعة أو توجيهها لصالح النظام السياسي وليس الحياة البشرية. فقدت الطبيعة هيبتها تمامًا عن طريق توجيه شكلها التاريخي مرة أخرى إلى استثمار جشع تمامًا.

لقد رسمت لنا الجغرافيا التاريخية عدة أشكال من الرفض، حيث توجد مراحل تاريخية مر بها البشر بسلوك غير عادل بشكل عام، وعارضت الطبيعة رفضًا قَوِيًّا، ومعظمنا يعرف قصة الفيضان التي مثلت اعتراضًا على طبيعة الحياة البشرية، وهناك صور متعددة لرفض الطبيعة متعدد الأوجه. وهناك أناس في التاريخ قريبون من الحياة البدائية الأولى اقتلعت حياتهم من جذورها بفعل ريح قوية، وفي التاريخ الحديث هناك العديد من الأمثلة على غضب الجغرافيا وثورة التضاريس من خلال مواجهة الطبيعة التي هزمت جيش نابليون نفسياً ووضعتها في نوع من التفاقم النفسي الذي لم يتأثر في الإطار العام، ولكن من المؤكد أن هناك الكثير من الأفراد الذين مروا بهذا التأزم وعانوا منه، ولم تتم دراسة التأثير النفسي أو العثور على الاهتمام المناسب، وتهتم الأيديولوجيات فقط بأنشطتها السياسية وأفعالها التي تتفاخر بها، بينما لا يزال دور الطبيعة وأنشطتها التي يتجاهلها الإنسان غير معروف، والتي لم تحظ بالاهتمام المناسب من التاريخ. دراسات ولا من العقل العسكري وغضب الطبيعة ليس لصالح الأيديولوجيات أو لصالح جماعة معينة، لكن الطبيعة تهتم بتوازن الحياة وتفضل الحس الإنساني في أفقها العام على الحواس الشخصية الأخرى.

منذ العصور القديمة كان العالم أيضًا خاضعًا لتقلبات مناخية طبيعية وغير طبيعية، لذا فإن تغير الفصول يمثل مشكلة معروفة، ولم يعد الناس من التاريخ القديم أو الناس من التاريخ الحديث يختلفون معها، وفي حالات عديدة وقف البشر دون أي رغبة في الرفض أو المعارضة. وعلي العكس من ذلك، غالبًا ما زار البشر، ونبدأ من التاريخ الحديث، عندما قتل حوالي 480 مليونا من الثدييات، وكذلك أنواع معينة من الطيور، وأنواع الحيوانات الزاحفة، بسبب الحرائق التي اجتاحت غابات أستراليا، ومن المحتمل أن تكون العديد من الحوادث قد وقعت في تواريخ سابقة بسبب حرائق في مناطق مختلفة من العالم، ووفقًا للمؤشرات التي أشار إليها خبراء البيئة، وطبعًا لا ندرج ذلك في باب انتقام الطبيعة، بل من خلال الوجود في الغابات الكثيفة، والتي من الطبيعي أن تمر بالنار، وهذا يعيدنا إلى استثمار الفرد البدائي في النار، والاستفادة من خشب الأشجار، ونعتقد أنه كان نوع مقبولاً لروح الإنسان الفطرية، وكما لعب الضوء الناتج عن النار دورًا فاعلًا في إضاءة ليلة الفرد البدائي، وأعتقد أننا أبناء. ولقد مرت حياة الحضارة والتطور بظروف استثنائية ولعب السياسة في بعض الدول الدور المؤسف، وكان استثمار الطبيعة بالصورة البشعة، والهم هو الجانب المادي.

إن خصائص الطبيعة في عصر الاستغلال، وغياب التاريخ المسؤول، والأنظمة المشتركة عالمي، ووجود الحضارة والكياسة، والتي يُضاف إليها التزمت والمناورات الأيديولوجية، تختلف عن عالم وجود كل هذه المكونات، وإذا كانت موجودة، وإذا كان الماضي البعيد مختلفًا جَذْرِيًّا عن العالم المعاصر، فإن الحياة البدائية ليست وصفًا يسمى حياة الفرد، ولكن أيضًا من خلال استنتاجات علم الاجتماع والإثنولوجيا والعلاقات متعددة الأبعاد، حيث يكون الفرد وفقًا للتعبير الفلسفي للفلسفة الموضوعية الذي يتفق مع الفلسفة الماركسية، هو أن الفرد كيان متعدد ومشترك، مَادِّيًّا أو أَخْلَاقِيًّا، وهذا هو الفرق بين الفرد البدائي الذي لديه لا توجد عناصر وتفان في تلك الألوهية المشتركة بنيوياً للمكونات المشتركة الأخرى، وبصراحة فإن آخر ما يفكر فيه الفرد هو الله المعاصر هو رب الفرد العلماني على وجه الخصوص، وبنسب أقل بين أعضاء التدين المشترك في كلي أو جُزْئِيًّا، لأنه ينجذب إلى التأثير النفسي الذي تفرضه الصلات المتعددة الأوجه بينة وبين الآخرين.

تتقدم بنية العالم بسرعة غير طبيعية، بينما تدور بنية العالم حول نفسه، وتشكل بنية العالم كان في نشاطه الحركي، تأملًا نِسْبِيًّا للمستقبل، مهما كان بعيدًا، لكن الفرد لا يفكر العالم المعاصر في المستقبل، لأن بنية العالم المعاصر منفصلة تمامًا تقريبًا عن التاريخ وفقًا لمؤشرات فوكو يا ما ، فقد وصل المنهج العلمي إلى أقصى حدوده الممكنة، والتي لم تعد لها علاقة ب اللحظة الحالية، وفي التفسير الموضوعي، تم قطع العالم المعاصر، حيث تمتلئ الحياة العلمية بالوجوه، والمثير هو أن اللحظة العلمية أصبحت مرة أخرى استخدام الطبيعة، حيث يتم دعم عالم الطاقة الشمسية في وجود الحياة بشكل ملموس، وكما استُخدمت من قبل بواسطة طاقة الماء، والتناقض بين أفق المستقبل في العوالم البدائية والمتوسطة والنهائية، كعالم ما بعد الحداثة الذي أوقف المنهج العلمي في أفق الميتافيزيقيا الجديدة، حتى لا ينحدر إلى العدم، وأن أفق المستقبل كان غائبًا في الحياة، وهذا يقودنا إلى فكرة أن بمساره لقد أصبح المنهج العلمي يدور حول أفق التطور الإلكتروني، الذي لا يعيق السعي وراء مساره، لكنه بصراحة عالم فارغ خال من المعنى البشري في أقصى الحدود إلا في النظرة العامة للحياة، وتلعب السياسة المعاصرة الدور في هدم جمال الطبيعة، ففي الحرب العالمية الثانية استغلت الطبيعة بشكل بشع، واليوم أسوء الاستغلال، ونعتقد أن الحرب العالمية الثالثة هي حرب المياه حسب ظروف الواقع.

إذا كانت الطبيعة ذات وعي صامت، كان على الفرد البشري المعاصر أولاً أن يفوضها بحسه الإنساني، ولكن تشتت كيان الفرد وتوزيعه في اتجاهات عديدة، وهذا يمكن أن يكون في موضع أو سؤال محدد، وهذا التشتت وهذا التوزيع هو من عيوب الحياة المعاصرة، وتفسح الأزمنة الطريق تعبر الطبيعة عن صمتها، لكن هذا لا يصدم الفرد المعاصر ويجعله يشعر أن الحياة فيها تستغل أحيانًا في أبشع أشكالها وبأسوأ معانيها، وهدير البراكين للأسف يذهب سدى، أو يفسره فقط الجانب السلبي، والطبيعة لا تجده اليوم من دعم الإنسان، لكن الاستغلال الجشع لم يتوقف. ولا يوجد مستثمر ينسحب بعد إبعاد الإنسان عن وجوده، وأصبح الفكر الشخصي أساس وجود الحياة، وتغير موقع المعنى الإنساني في الفكر الإنساني، وانتقل الدين من تسييس الكنيسة إلى أخرى أكثر سياسات قاسية وقاسية، فالدين الجديد من خلال الإسلام يدعي الليبرالية، ونؤمن بأن ذلك داخل النظرية، وهذا الدين ليس بصلابة، وأما الإسلام البشري فهو نفسيا عصيبا جدا، ويتطور السلوك في أحيان يكون بقسوة مرعبة، ولا يختلف عن استغلال الطبيعة.

***

محمد يونس محمد 

اذا بحثنا عن ركن يجمع الدين والدولة، فلابد أن نعيد الدين الى اصوله النظرية، ويكون هناك في بنية الدولة الدين وجه الشريعة، لكن الدين هو هنا اصلا يراد له اعادة تفسير من جديد خارج حدوده المذهبية، والا سيكون في مواجهة الدولة شريعة متعارضة مع نفسها، لذلك بنية الدولة من حقها وضع القانون الوضعي امام الواقع الاجتماعي، ورفع قيمة تلك العقيدة الملتبسة الى اعلى لتكون من القيم الكبرى التي لا تمس، ومن خلال محافظة بنية الدولة عليها ستكون في مأمن، واذا اصاب بنية الدولة أي ضرر، فحتما سيصيب ذات الضرر تلك القيم الكبرى، واذا تعرضت بنية الدولة لهجمة من المعارضة ويصبها الضرر الفادح، واصعب ضرر هو اذا اقامت المعارضة السياسية بعد استيلائها على الحكم الى استبدال تلك الدولة بأخرى، وذلك سيسبب اضرارا فادحة، ويفقد مفهوم العدالة بشتى تنويعاته، وتشكل الحاجة الملحة   الى الدولة في كونها نظام شاقولي، والدولة (لا تعني الامتلاك الفعلي للسلطة العليا والحق في الحصول عليها فحسب، بل تعني الحق الطبيعي المصون في سلطة عليا لا تستمد علوها ممن يخضعون لها وهي في الوقت نفسه فوقهم)1، وتلك المعادلة في كون الدولة النظام الذي هو ارقى وفوق الجميع، هو لصالح الجميع سيكون وليس لصالح الدولة نفسها فقط، والرقي والتطور ينبثق من خلال نظام الدولة، وذلك من الممكن أن يشمل حتى القوانين الكبرى المرابطة بالدستور .

من الممكن أن تفسر الدولة بذلك الوعاء الذي يمتلك مقدرة عجيبة في حفظ القيم العليا، والدين دون الدولة عرضة للتجاذبات المتنوعة الإيقاعات، والتي تحتمل تعارضا حادا فيما بينها، ومن الطبيعي أن تجد هناك نفسا شاذا، ولا يتوافق مع الذائقة العامة، وهنا سينتج دين مشوه وبعدة أطر تفسير جديدة، وكل تفسير يسعى لفرض نفسه، حتى لو تطلبت القوة إلى ذلك، وفي واقع الإسلام السياسي لا تعني الدولة إلا ذلك المفهوم البغيض، ففي ما تشكل قوانين الدولة العضوية سيان كانت ليبرالية أو دكتاتورية الرفض على اعتبارها تتعارض ومبادئ الإسلام الحنيف، لذلك تجد الدولة مغلوبة على امرها عندما يسود الاسلام السياسي، والدولة في كيانها  الحقيقي تدرك تماما ما معنى العدل، وتهدف الى ترجمته بصورة عادلة لا تميز احدا على اخر، والدولة ليست سلطة في المظهر كما تفسر عند الاسلام السياسي، بل هي معنى القوة والعدالة والانصاف، فيما انصاف الاسلام السياسي يمر من خلال قناة الحلال والحرام المسيسة، وذلك بعيد كل البعد عن المنطق والصواب، واحالة الفكرة الى العقل السليم والحر، فمن الطبيعي سيكون شطب الاسلام السياسي وظيفيا هو امر اساس، وقضية ملحة لا يمكن التخلي عنها، والعقل يضع الدولة المدنية في نصابها الاساس وفوق الجميع، فهي المعنى الاجدر للعدالة، والذي يتفق تماما مع جوهر الاسلام الحنيف، وتلك الطبيعة الروحية الجديرة بالمعنى السلمي تماما .

لقد تجاوز الاسلام السياسي كل المسميات التاريخية التي سقف عليها ركن الدولة، ولم يجعل الدولة المدنية سوى ذلك الهامش البائس، وجعل سياسته الدينية هي المتن، الذي لابد أن تقف عنده جميع التطبيقات العضوية، لكن لا ننكر بأن هناك اعراف وشرايع تدعو بروح علمانية الى اكتسابها في التطبيق، وكما أن هناك مادة بشرية

مؤهلة للقبول والرفض، فالمسألة بطبيعتها المركبة ما بين العضوي والديني، فمن الطبيعي أن تنقسم المادة البشرية على نفسها، وذلك الانقسام  يؤشر وجود تعارض مسميات، والعالم البشري ليس هو عالم المفاهيم، والدعوة الى المزج بينهما تتم عند الاسلام السياسي، لكن لا تتم عند القانون المدني، فحكم قطع يد السارق فيه القانون المدني يتصل مباشرة بجوهر الدين، لكن مظهر الاسلام السياسي يهتم بقطع اليد وعتبرا بأن النص فيصل وهو يحكم بذلك، لكن مضمون النص لا يجعل السماء بلا عدالة ولا رأفة ولا حكمة، بل الحكمة هي المعيار، فقطع اليد يعني المنع وليس كما يجهر الاسلام السياسي يقطع عضو اليد كاملا معارضا الحكمة الربانية من جهة، وما كرم به البشرية بيد للعمل وتناول الطعام في الافق العضوي، واما العبادة حسب الدين السياسي ستفقد احد اركانها، ولا يحاسب الدين السياسي نفسه على هذه الجريمة التي قام بها ضد معنى الشريعة وجوهره من جهة، ومن جهة اخرى ضد  المعنى المدني والإنساني سوية، ومن جهة ثالثة وضعت احد افراد المجتمع في عوق عصيب، والغريب يلتقي الدين السياسي بإثم الحروب في قطع الاطراف بلا ادنى رحمة او شفقة .

شكلت الدولة المدنية طيلة تاريخها رسم جميع الامور بدقة متناهية، فهناك فرق دينية، وهناك ايضا ايديولوجيات، وهدفت الدولة المدنية الى جعل الجميع امامها من الادنى بالتساوي، فليس هناك تفاوت او تفاضل او تمييز ابدا، ومن الممكن أن يقوم بالتفاضل الفرق الدينية نفسها، او تسعى الايديولوجيات الى التمايز، لكن الدولة هي القيمة الفنية العليا، والتي من المستحيل أن تمس بسوء أي مذهب ديني او ايديولوجيا علمانية، والدولة هي الجهة التي تمكنت من جمع الدين والعلمانية على السواء دون ضرر او مثلبة، فيما الواقع لكل من العلمانية والدين السياسي يتعارض تماما، وهناك نسب من الاتهام تكال من الطرفين، فالإسلام السياسي يجد العلمانية  تجذب البشرية الى الحد الذي تتجاوز سقف الاخلاق العامة، بل تزيح حتى ورقة التوت، فيما العلمانية ذاتها ايضا تتهم الاسلام السياسي بالتعامل بطريقة لا تليق بالمعنى الديني والحكمة التي يتصف بها، وهذا الصراع ما بين جهة عمياء واخرى بلا بصيرة، في وجه الصراحة التامة، تلك الخصومة التاريخية اضعفت القانون الديني داخل بنية الدولة، وكذلك جردت المعنى الاخلاقي للقانون من معناه وافرغته منه، وهنا صار القانون لا ينظر ابدا بمعنى انساني للعدالة، بل هي حق لابد أن يقوم ويأخذ به، ولذلك اصبح القانون بلا روح، وقد اختلط القانون بالظلم، والعدل بالخطيئة، وتخلى القانون في جميع دول العالم عن الحكمة، واصبح عصا غليظة جدا اسمها القانون، وقد قدم لنا  في الرواية المهمة  - البؤساء – احد الامثلة المهمة، فاللص الذي يمتلك روح انسانية قادته الظروف الى أن يكون ذلك المحافظ النبيل الشهم والعادل، وقبالته ذلك الشرطي الذي حولته الظروف ايضا من شرطي في السجن ذاته ليكون يعمل عند ذلك المحافظ، لكن في النهاية يدرك الشرطي بأن القانون الحقيقي ليس في صفه فينتحر، ونحن في قصدنا هذا نتوخى وجود دولة الله وليس دولة البشر، فكيف يكون بشر يحكم بشر اخر ربما يكون اكثر عدلا منه، ومن الطبيعي الدين السياسي والايديولوجيات تسعى لفرض قانونها، فالدين السياسي يضعك امام وجود النص القرآني الخارجي، وتكون مجبرا على التسليم والاستسلام، واما العلمانية السياسية تصرح لك بأنك امام قانون الدولة، فيما هي تدير دفة القانون حسبما تريد ويرضيها .  

***

محمد يونس محمد

منهجُ التحليلِ الاجتماعي لَيْسَ أداةً للسيطرة على الإنسان، وإنَّما هو آلِيَّة فكرية لتحرير الإنسان مِن سَطْوَةِ الأحلام المَقموعة، والصِّراعاتِ الشُّعورية المَكبوتة، مِمَّا يُؤَدِّي إلى الحِفَاظِ على حَيَوِيَّةِ الروابط الوجودية بين الإنسانِ والبيئةِ المُحيطةِ به، وتفعيلِ العلاقات المصيرية بين العقلِ الجَمْعِي والوَعْي القَصْدِي، بِوَصْفِهَا قواعدَ رافعةً للبناء الاجتماعي، وأنساقًا ثقافية تَحْمِي المُجتمعَ مِن الاغترابِ عن طبيعته الإنسانية، وهُويته الحضارية، وسُلطته المعرفية. ولا يُمكِن للإنسانِ أن يَبْنِيَ أبعادَ شخصيته على قواعد البناء الاجتماعي، إلا إذا عَقَدَ مُصالحةً بَين حُرِّيته الإبداعية وسُلطةِ المُجتمع المعرفية، وَصَنَعَ تاريخًا شخصيًّا لأحلامِه وشُعورِه ووَعْيِه، يَحفظ التوازنَ بين المعاييرِ الأخلاقية والأنساقِ الثقافية، لِكَيْلا يَحْدُثَ تآكُلٌ في شخصية الفرد الإنسانية، أو انحسارٌ في مصادر المعرفة التي تَتَحَكَّم بالترابطِ المادي بين مُكَوِّنَات الطبيعة، والتواصلِ الرُّوحي بين عناصر التاريخ.

2

تحريرُ الإنسانِ لا ينفصل عن حُرِّية المُجتمع. والإنسانُ والمُجتمعُ لا يستطيعان إدراكَ جَوْهَرِ الوُجود- واقعيًّا وذهنيًّا- إلا بتحويل الأشكال البدائية للوَعْي الإنساني إلى تيَّارات فكرية قادرة على طرحِ الأسئلة المصيرية، والجَمْعِ بين المَصلحةِ الشخصية والمَنفعةِ الجَمَاعِيَّة، ضِمْن فلسفة الفِعْل الاجتماعي الذي يُعيد الاعتبارَ لإنسانيةِ الإنسان، عن طريق تكريس الأحداثِ اليومية والوقائعِ التاريخية كإحساسٍ مُتَجَدِّد بقيمة الذات، وَلَيْسَ وسيلةً لخداع الذات. وهذا يَعْني أنَّ العلاقات الاجتماعية لا تُصبح أنظمةً حياتيةً فَعَّالَةً إلا إذا امتلكَ الإنسانُ القُدرةَ على صناعةِ الحَاضِرِ،وعدمِ الهُروبِ مِن الماضي،وامتلكَ المُجتمعُ السِّيَادَةَ على مَسَارِه- جَوهريًّا وشكليًّا-. وعمليةُ خِدَاعِ الذاتِ هي مُحاولة يائسة للإفلات مِن الحواجزِ الزمنية والحُدودِ المكانية،لأنَّ الإنسان لا يَتَحَرَّك في الفَرَاغ، ولا يُوَلِّد أفكارَه مِن العَدَم. إنَّ الإنسانَ كائنٌ خاضعٌ لأنماطِ الحياة التي يُفْرِزُها الزمنُ، وكَينونةٌ تابعةٌ للتَّنَوُّع الثقافي الذي يُفْرِزُه المَكَانُ. وبالتالي، مُوَاجَهَةُ الذاتِ أفضل مِن خِدَاعها، وإيجادُ أجوبة وجودية منطقية عن الأسئلة المصيرية أكثرُ جَدْوَى وأهميةً مِن الالتفافِ على الحقيقة، والتَّهَرُّبِ مِن التحديات.

3

الأساسُ الفلسفي لمنهج التحليل الاجتماعي يقوم على رُكْنَيْن : تحرير الإنسان وحُرِّية المُجتمع، وهذا يَضمن انتقالَ الأحلامِ الفرديةِ والطُّموحاتِ الجَمَاعية مِن قَبْضَةِ الزَّمَن إلى أُفُقِ التضامن الاجتماعي، ومِن حَيِّزِ المَكَانِ إلى فضاءِ التفاعل الرمزي بَين اللغةِ والفِعْلِ، ومِن دوافعِ الغريزة إلى سِيَادَةِ المعايير الأخلاقية. وعمليةُ الانتقالِ لا تَحْدُث بِمَعْزِل عن العقل الجَمْعِي، لأنَّه أساسُ التجانسِ الثقافي، ومَنْبَعُ التواصلِ اللغوي، ومَصْدَرُ الشُّعُورِ والوَعْيِ. والعَقْلُ الجَمْعِي يُمَارِسُ سُلطةَ المعرفة في العلاقات الاجتماعية لتخليصها مِن الهَيمنة والتَّبَعِيَّة، ويَضَعُ الشروطَ لتحقيق المُصلحة المشتركة بين الإنسانِ والمجتمعِ. وهذه الشروطُ مُترابطة معَ بُنيةِ الواقع المُعَاصِر، الذي يُقَدِّم فهمًا جذريًّا لمنظومةِ النَّقْدِ والنَّقْضِ الخَاصَّةِ بالسِّيَاق الزمني الذي نَشَأتْ فيه فلسفةُ الفِعْلِ الاجتماعي، التي تَحْمِي الأحداثَ اليوميةَ والوقائعَ التاريخيةَ مِن التَّحَوُّلِ إلى سِلَعٍ ثقافية للاستهلاك الأيديولوجي. وإذا كانَ الفِعْلُ الاجتماعي يُفَسِّر الواقعَ المُعَاصِرَ ويُغَيِّره، باعتباره كِيَانًا فكريًّا احتماليًّا، ولَيْسَ شيئًا حتميًّا، فإنَّ سُلطة المُجتمع المعرفية تُفَكِّك شخصيةَ الإنسانِ وتُرَكِّبها، باعتبارها مَاهِيَّةً وُجوديةً نِسْبِيَّةً، ولَيْسَتْ حقيقةً مُطْلَقَةً، مِمَّا يُؤَدِّي إلى إعادة بناء شخصية الإنسان مِن مَنظور واقعي، يتعامل معَ حيويةِ العقلِ الجَمْعِي كأداةٍ للإنقاذ، ولَيْسَ عِبئًا ثقيلًا يتمُّ التخطيط للتَّخَلُّص مِنه، ويُؤَدِّي - كذلك - إلى إعادة بناء التنظيم الاجتماعي مِن مُنْطَلَق عقلاني، يتعامل معَ انفجار الطاقة الرمزية اللغوية كآلِيَّة للخَلاصِ، ولَيْسَ شِعاراتٍ رَنَّانَة يتمُّ المُتاجرة بها لتحقيق مكاسب شخصية. واتِّحَادُ المَنظورِ الواقعي معَ المُنْطَلَقِ العقلاني يُسَاهِم في اكتشاف جُذورِ الحُلْمِ الإنساني الذي تعيش فيه الأنساقُ الثقافية، ويَعيش فِيها، كما يُسَاهِم في مَنْعِ المُجتمع مِن التَّحَوُّل إلى هِجْرَة وجودية مُستمرة مِن الأحلام الوردية إلى الكوابيس المُزْعِجَة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

في الواقع كان بالإمكان أن يكون العنوان أقل وقعًا على المتلقي فيما لو كان الحديث حول النزعة الانسانية من دون ربطها بفكرة الما بعد، لأنه غالبا في نظام تفكيرنا نكون أقرب الى المفاهيم المألوفة أو التي بالإمكان اختبارها والتحقق منها، ولذلك تمثلت البداية بتفكيك المفاهيم التي يتألف منها العنوان ومن ثم تحليلها .

وفي البدء ما المقصود بالجينيالوجيا Genealogy ؟ تعني الكلمة من الناحية الاشتقاقية العلم الذي يهتم باشتقاق نسب وأصل الأشخاص أو الأفكار أو الظواهر والوقوف عند الأصل، وهذا يعني ان استعمالها تعدى البحث في أصل الأشياء ولذلك دخلت الكلمة الى الكثير من حقول المعرفة .

وضمن الدراسات الثقافية للمفهوم معاني مرتبطة بفوكو، الذي روج الجينيالوجيا من أجل فحص القوة والاستمرارية التاريخية للخطابات لأنه يصغي إلى تاريخ النتاجات الثقافية، ليكشف عما وراءها من صراع بين قوى فاعلة وأخرى منفعلة.

ومن الجدير بالذكر أن الجينيالوجيا "هو تعبير استعمله نيتشه في كتابه عن أصل الأخلاق (1887) لكن بدأ تداوله منذ السبعينيات، نتيجة لأعمال ميشيل فوكو في كتاب تاريخ الجنسانية(1976)، الذي أظهره كشكل من أشكال النقد التاريخي، وصممه لقلب المعايير من خلال الكشف عن أصولها، وهاجم به الأشكال الحديثة لهيمنة السياسة الحيوية .

أما الما بعد فهي انكار للحد لان هدفها يتمثل بتجاوز الحدود وهذا يعني ان لدينا نقطة تحول بين عالمين الأول يدرك بان الاشياء لا توجد الا من خلال حدودها أما الثاني عالم ينظر الى الحدود على انها عقبات وعلينا اسقاطها حتى وان كانت متعلقة بحدود البشر، والعبارة المرادفة (لما بعد) ما هو اكثر - ما هو افضل - وبالتالي رفع ما بعد الانسانيين شعارهم "عقول أفضل، أجساد أفضل، من أجل حياة أفضل" .

فعلى أثر التطور البايولوجي والتكنولوجي، بات الهدف أن يكون هنالك مساع حميدة لتعزيز الطبيعة البشرية، فالوعود التي يلقيها خطاب الما بعد انساني في المجال العام مثل اختفاء الامراض ونهاية الموت والتحسين الجيني والمعرفي الهدف منها هو انتزاع الاعتراف من الناس لما يقتضيه التدخل البيوتكنولوجي وعلم الوراثة، الالكترونيك، الكيمياء، التقنية العالية، والنانو تكنولوجيا) لتحسين المسار الطبيعي للوجود البشري، وهو المشروع الذي طرحته حركة ما بعد الانسانية Posthumanism، فحولوا فكرة الانتخاب من الطبيعي إلى الاصطناعي . من خلال تشجيع تطوير تكنولوجيات تحسين قدرات الإنسان، ولتحديد جينالوجيا هذا المفهوم اتضح ان هناك مسارين يتمثل الاول بظهور الفكرة اما المسار الثاني فتمثل بظهور المفهوم .

أولا- الاطار الفكري: حدد بوستروم في مقالته المعنونة "تاريخ فكر ما بعد الإنسانية"، أن الأطر الفلسفية والثقافية لأطروحة ما بعد الانسانية، تعود إلى حوالي أحد عشر ألف عام، وتتمثل في الرغبة باكتساب قدرات جديدة، إذ تبدأ مع الأساطير السومرية المتمثلة بأسئلة الخلود، فكل الانتصارات والمحن لملايين الشعوب التي سارت على الأرض منذ حضارة بلاد ما بين النهرين ستكون مجرد آلام مخاض للوصول إلى نوع من الحياة لم تبدأ بعد . فضلاً عن سعي مفكري العصور الوسطى للسيطرة على الطبيعة مروراً بـ "معرفة فرانسيس بيكون" التي ولدت الثورة العلمية أو الفلسفة النفعية لجون ستيوارت مل، فضلا عن الشعار الذي رفعته ميكافيللي (الغاية تبرر الوسيلة) الذي اعتمدته السياسة الپراغماتية فيما بعد .

ثانيا - الاطار المفاهيمي: عندما عكف بعضهم على جذور هذا المصطلح وجدوا هناك نصوصا تأسيسية لهذا المفهوم وارجعوا استعماله لجون كوترو مؤسس مركز دراسات المشكلات البشرية والذي نظم مجموعة من الندوات في الاعوام 1936-1939 وفي قلب هذه الندوات ناقش مسالة ما بعد الانسانية وعرضها كفكرة شبه دينية واراد تأسيس ما اطلق عليه دين الحقيقة . لكن فيما بعد تغيرت هذه الرؤية في ما عرف بالإنسان الجديد الذي عرضه الدوس هكسلي صاحب كتاب عالم جديد شجاع في محاضرة عام 1951 . اذ تخيل عالم ما بعد انساني.

لكن من هم أبرز رواد هذه الحركة؟ قبل سنوات بالإمكان القول انهم باحثون امركيون من وادي السليكون كانوا مؤهلين للقيام بأبحاث حول الحوسبة وعلم الوراثة والاعصاب، اما اليوم فيمكن القول انهم باحثون من جميع انحاء العالم في الدول المتقدمة وأبرزهم: الفيلسوف نيك بوستروم Nick Bostrom وعالم الاجتماع والأخلاقيات البيولوجية جيمس هيوز .James Hughes المخترع ورجل الأعمال راي كورزويل Ray Kurzweil منظر تقنية النانو ك إريك دريكسلر K.Eric Drexler والقائمة تطول .

وهناك جانب اخر في ما بعد الانسانية هو نزع الصفة السياسية فإنكارهم للسياسة يقع في قلب اختصاصهم اذ تم نزعها من قبل الاخلاق او حقوق الانسان واليوم يتم نزعها عن طريق التكنولوجيا وربما في فكرتهم هذه حققوا حلم سان سيمون في استبدال حكم الدولة المتمثل بالسلطة - بإدراره الدولة، وربما هذا المقصد الأخير يتضح من خلال كتاب فوكو المراقبة والمعاقبة فمفهوم السلطة لديه قد تحول من سلطة تمارس المعاقبة تعاقب بحكم الاعدام مثلا الى سلطة مراقبة تسعى الى الاحياء عن طريق سلطة المراقبة، ففي عنوان (حق الموت والسلطة على الحياة) أشار فوكو الى أن السلطة المركزية تفككت وتوزعت بين الأطراف أي التي ظهرت في مجموعة متنوعة من المواقع بما في ذلك المدارس والسجون والمستشفيات والمصحات ،...الخ وأنتجت خطابات التأديب والسلطة الحيوية ما أسماه فوكو "أجسادًا سهلة الانقياد "يمكن إخضاعها واستخدامها وتحويلها وتحسينها، وهنا تتبع الجينالوجيا هذه الخطابات والممارسات تاريخيًا في ظروف تاريخية وثقافية محددة.

فالبشر يتواصلون مع المؤسسات وتكون قادرة على مراقبتهم وضبطهم وتحويلهم من بشر بعقول وثقافات وعادات مختلفة الى مجرد أجساد وبذلك أصبح مفهوم السلطة سائل في كل مكان بتعبير باومان. وحينما تسعى السلطة الى الاحياء فإنها تحتاج الى ستراتيجية ومن هنا جاء مفهوم السياسات الحيوية (Biopolitics) والمقصود بها بالنسبة لفوكو، الممارسات وصلاحيات شبكات السلطة التي تدير تخصصات الجسد والسكان. إنها منطقة لقاء بين السلطة ومجالات الحياة. الذي يتحقق في عصر الرأسمالية.

وهنا يجب أن نقف في محاكمة أخلاقية لمثل هذه السياسات اذ انتقدت في الأدبيات الفلسفية وأولهم فوكو ياما في كتابه نهاية الانسان وعواقب الثورة البيوتكنولوجية اذ قال "أن هدف الطب علاج المريض لا أن تتم إحالة الأصحاء إلى آلهة"، فضلا عن جورجيو أغامبين الذي وجد أن السياسة بهذا الشكل هي سياسة موت لان الفرد هنا يفقد هويته والهدف من عملية الاخضاع هو استغلال الأفراد لان رأس المال الوحيد الذي تمتلكه السلطة هو رأس المال البشري .

ومن جانب آخر هناك قضية مهمة تتمثل باننا ندرك ان التقدم العلمي اذا تجاوز حدا معينا يبدأ في تهديد البشرية، ولكن في الوقت نفسه ما يجعل من الصعب مقاومة هذه النزعة هو ان التكنولوجيا تمنح القوة، اذن المسالة باتت لا تتعلق باعتناق هذه الحركة ام لا، بل تتعلق بالقوة التي تمنحها التكنولوجيا أي نحن مطالبين بالحصول على مستوى معين منها حتى لا يتم ابادتنا .

***

أ.د. نوال طه ياسين (جامعة البصرة) 

هذا التاريخ الطويل دولة البشرية ما الذي فعلته من اجل الإنسان، او ما نقصد به الجوهر البشري، فنحن نعتبر الإنسان ليس هو البشر او الشخصية، بل تلك الفطرة السليمة، او ذلك المعنى الجدير، الذي تستجيب له البشرية بمودة واحساس واحترام، ونرى ثمة فارق كبير ما بين أن ندعو البشر شخص او كائن بشري، وما بين أن ندعوه كإنسان، فمن يستثمر الفطرة السليمة هو الشعور الإنساني، ومن يستثمر الفطرة الملوثة الغريزة البشرية، ونحن هنا في اطار فلسفتنا نطلق تلك الفكرة، والمنظور الاساس لهزيمة البشرية طيلة ذلك التاريخ الطويل هو اعتمادها على الغريزة وعدم اهتمامها بالمفهوم الإنساني، والمجتمعات الاولى التي تأسست نمت فيها الغريزة اكثر بكثير من المفهوم الإنساني، وسنواجه علم الاجتماع، والذي قد يرى المفهوم الإنساني لا يشمل كيان المجتمع العام، وهذا ما يتعارض مع الفلسفة الاسلامية، والتي تهتم ببناء مجتمع انسان وليس ببشري، ولابد من تفسير الامر موضوعيا، لا نحتاج التوسع كثيرا، لكن نركز على مفاهيم اساس، من مثل السلطة – الدولة المجتمع – ولنقف على علاقة الإنسان بتلك المفاهيم الثلاثة، والسلطة في تفسيرنا خصم لمفهوم الإنسان، فالسلطة القوة، ونحن نؤمن بتلك القوة اذا كانت لصالح الدولة والمجتمع، لكن اغلب المؤشرات تؤكد السلطة تدعم نفسها بتلك القوة، وتجعلها تمتد اكثر في حالة الخوف من الخصوم، والسلطة تجند كل الطاقات في الدولة والمجتمع لصالحها، ولا تقوم بالعكس لصالح الدولة والمجتمع .

التفريق ما بين الدولة والنظام السياسي مهم جدا، وحسب المفهوم والمبدأ العلمي للدولة لابد أن هي تهيمن على النظام السياسي وليس العكس، لكن كل التقديرات وعلى وجه الخصوص الايديولوجية تعارض هذه الفكرة وترفض تداولها، لذا عاشت الدولة في ظل الصولجان في القرون الوسطى، والمجتمع تحت ظل ذلك الصولجان، وفي تأسيس الدولة الحديثة استغلت الايديولوجيات الدولة والمجتمع عبر مفهوم الديموقراطية والانتخاب الحر، فدفعت المجتمعات الخسارة مضاعفة عن ذي قبل من عهود ساد بها الصولجان، حيث نمت روح الصراع بشكل بشع، وما كان من المفاهيم الايديولوجية الكبرى مثل الرأسمالية والاشتراكية، الا بث السم في العسل كما يقال، كانت الخسارة فادحة بعد تصاعد نفس الصراع، وصارت الرأسمالية تجذب البشرية من جهة، والاشتراكية تقوم بالجذب من الجهة الاخرى، وتفاقمت انفاس العداء من جهة الى اخرى، وتوسعت رقعة ودوافع الاغتيال السياسي الى اقصى الحدود، بل انتعشت الحروب السياسية، فضحايا الحرب العالمية الثانية، كان ما يزيد على اربعين مليون، وتلك الخسارة الفادحة لم تشكل من نسب عالية في الاهتمام عند الجهة التي تظن بأنها انتصرت بالحرب، وكذلك الجهة المهزومة لم تكن ايضا تمتلك التفكير بالخسارة عبر المفهوم الإنساني، وقد انحدرت الظروف الاقتصادية اللعينة في المانيا الى اقسى ما يمكن، وكأن تلك الحرب هي نوع من العقاب للشعوب، فالساسة اندحروا وخلف بدلا عنهم ساسة اخر، ولذلك اسمينا المجتمع السياسي بالمجتمع الطارئ، كون ذلك المجتمع رهين صدفة مواتية، ومن بعدها من ثم يتصاعد ايقاعه ويرسم لنفسه اهمية .

يهتم افلاطون بالنمو الذي يصيب كيان الدولة، وينمي فيها الاداء الجاد المشترك، وطبعا لا يزاح هنا العقل الخلاق، بل يبقى المحور الجوهري لتوسيع افاق الدولة في اكثر من جانب، وذلك الاهتمام والسعي لخلق علاقة توافقية ما بين الفرد والدولة، بالرغم من المفردتين عند افلاطون لهما معنى واحد، وتلك العلاقة صراحة لا تحتاج فرد بالمعنى الحرفي يتعاضد مع الدولة ويزيد من مقدرتها في التوازي مع الند والذي هو النظام السياسي، بل تحتاج الدولة الى وجود المجتمع المحلي يتعاضد معها، ويعرف جاك ماريتان المجتمع المحلي على أنه امة، ونحن نرى تلك الأمة تحتاج الى ادوات تلاءم تماما، وهي غالبا ما تكون مفقودة في المجتمعات العربية خصوصا، ففي المجتمعات العربية هناك ازاحة لمفهوم الأمة واستبداله بمفهوم زائف على مستوى الواقع وهو – القومية -، والقومية هي ستار الشعوبية السياسية، فالدول العربية يجمعها عوامل مشتركة واضحة، لكن النظام السياسي في كل دولة فرض القوانين الصارمة، والمثال المعيب جدا هو دولة المغرب، التي لا تمنح العراقيين تأشيرة الدخول، وهناك تعقيد بشع في بعض الدول التي تجتمع بلغة ودين وتاريخ مزيف ايضا، والدين بمفهومه الطائفي يحكم جميع البلدان العربية، وهو معيار التعامل الاساس في منح التأشيرة، ونحن لسنا ازاء ذلك الاثر النفسي السياسي المتطرف، بقدر ما نشير الى انعدام مفهوم الأمة الى حد ما في التفسير العام والخاص ايضا، وهذا ما يجعل مواجهة الدولة مع النظام السياسي عصيبة.

اذا كانت الدولة في التطور الذي انعش الدولة كمفهوم، لكن لم يكن بذات المستوى في رفع مستوى الدولة العملي، ونحن هنا لا نغالي، فاذا كانت الدولة هامش الصولجان في القون التي سبقت القرن العشرين، فقد حظيت بأهمية افضل في القرن العشرين، لكن امتاز على الواقع العملي النظام السياسي بسعة اكثر، وبوصف النظام السياسي القناة العملية لاستيعاب قوانين وصياغات ادارة الدولة، وقد ابتعد بالتدريج النظام السياسي في قيادة المجتمع، وبعد ذلك امتازت الدكتاتوريات البديلة لسلطة الصولجان، واصبح القمع لأي معرض بالقوة الشرسة، لكن يتم ذلك من خلال استغلال سلطة الدولة دون استعارة مقبولة، بل ما جرى هو اغتصاب لسلطة الدولة ومواجهة أي نمط من المعارضة بها حتى لو كانت معرضة سلمية، واذا سلمنا بالنسبة العالية لظلم الصولجان، فإن ما يشكل الظلم الذي يبثه أي نظام سياسي لحماية نفسه من ما يسميه اخطار خارجية او داخلية، وصراحة اغب الدكتاتوريات هي صناعة الرأسمالية او الشيوعية على السواء، ولم يعد للمبادئ أي تمثيل، بل الشراسة والوقاحة السياسية هي المعيار البديل، والطغاة هم من يكون صار بديلا للسابق فيقوم بمحو كل اثر لما سبق، بوصفه صورة مشوهة، لكن الوصف العام يؤكد لنا قد اصبح اللاحق اشد واكثر شوها، ولكن هناك من القطيع من يقوم بتلميع صورة الطغيان ويجملها، من ثم يقوم من جمل بلعن  ذلك الطاغية .

نحن هنا لسنا ازاء السلوك الاجتماعي للسياسة، لكن اردنا توضيح نقطة مهمة في انعدام أي معنى اخلاقي في السياسة، فهي تفس كفن للمكنات، أي ذلك الاستغلال لمبدأ الفلورنسي في الغاية تبرر الوسيلة، وذلك التبرير يتعارض تماما مع الفلسفة الاسلامية، وهنا نقف على بديل من اخر لعصر ما بعد الطغاة، وقد واجنا مبدأ غريب جدا، فيشكل الاسلام السياسي صورة من الانقلاب على الذات، واستبدل موقف الاحتجاج والرفض ضد منهج الطغاة والدكتاتورية، ليتمتع بسلطة مركبة ما بين القيم العقائدية والدافع السياسي، وطبعا القيم العقائدية هي وسيلة وليست هي الغاية، أي إن الاسلام السياسي قد استثمر ذلك المبدأ الرجعي بصورة مقلوبة، ووجه الاشكال العصيب بأن ستواجه دين وليس مبررات شخصية، وصراحة الفارق نجده هائلا ما بين الدين والمبررات الشخصية، فالنص في مضمون اية قطع يد السارق يعني منعه، والسماء الواسعة الرحمة لا تقبل بذلك العقاب الصارم الذي تفننت فيه الفرق والمذاهب الاسلامية، فمنها من يستخدم السيف لقطع يد السارق كاملة، ومن يجد نفسه ارحم يرى بقطع الاصابع فقط على اعتبار هي جهة التنفيذ، وصراحة الصولجان والدولة اكثر رأفة من تلك البداوة الدينية، وذلك الاستغلال العنيف للمعنى الإنساني للدين، لا يتوافق ابدا الا مع مظهر السور في القرآن، ونسوا أن ثمة قرآن داخل القرآن حيث تعالى قد امر النبي أن يتبعه، ولا يهتم للشكل بذات القدر الذي لابد من الاهتمام به الى المضامين وكشف ذلك الجوهر الامثل .

***

محمد يونس محمد

يُعد ابن سينا فيلسوفا أصليا كتب في وقت كان فيه الإتزان مطلوبا جدا لتحقيق التوازن بين متطلبات العقل والايمان بالطريقة المقنعه له. وبنفس المقدار، هو كان واعياً بفضل أسلافه عليه من الفلاسفة. في هذا المقال سنوضح بعض المفاهيم التي استعارها ابن سينا من ارسطو.سنتطرق الى اول مفهوم يستطلع التركيب الاساسي للروح والذي اشتقه ابن سينا من ارسطو باعتباره ملائما للتصور الديني للكائن البشري كمخلوق وكانسان حر ايضا. المفهوم الثاني هو "الذكاء النظري" وتأثيرات الرؤية التي يكيّفها ابن سينا من ارسطو حول "مرتبة الإدراك". وفي المفهوم الثالث ننظر في نظرية ابن سينا في اكتساب الذكاء والذي ايضا له جذوره في العديد من المفاهيم الأرسطية.

من هو ابن سينا؟

هو فيلسوف فارسي وسياسي وشاعر. كتب في وقت كانت مجموعة صغيرة من الفلاسفة تتحدى المؤسسة الدينية عبر العالم الاسلامي، وحاولت التوفيق بين عناصر معينة من الاسلام و مفاهيم مشتقة من الفلسفة اليونانية. عاش ابن سينا في وقت من الاضطراب السياسي الشديد، عندما كانت بلاد فارس تواجه تحديا كبيرا من جانب الترك وتتعرض للاضمحلال التدريجي. وبالنتيجة، كانت حياته غير مستقرة. تعرّض للسجن أكثر من مرة و اُجبر على الفرار من مدينته بسبب تقلّب الظروف السياسية. دخل السياسة في عدة مناسبات وخلق الكثير من الأعداء له. في عمله هو ايضا واجه معارضة عميقة من كل من معاصريه ومن الفلاسفة اللاحقين. غير انه اليوم يُعد أعظم فيلسوف ذو ميراث فلسفي ثري وكان له تأثيرا كبيرا على الفلاسفة الاوربيين.

هيكل الروح وحرية الانسان

تعريف ابن سينا للروح يتبع ارسطو في تقسيم الروح او النفس الى ثلاثة أجزاء. اولا، العنصر النباتي من الروح وظيفته النمو والتوالد والتغذية وهو موجود لدى النبات والحيوان والانسان.

ثانيا، الجزء الحيواني ووظيفته ادراك الاشياء الجزئية والتحرك بارادة.

ثالثا، النفس الانسانية وتتبنى الافعال او الخيارات العقلية والاستنتاج من الافكار، وبهذا فهي تدرك الكليات وتمارس الاختيار الفردي.

السمتان المعرّفتان لحياة الانسان، وهما الشيء الوحيد الذي يفصلنا عن الحيوان - غير الانسان هما القدرة على التفكير وادراك المفاهيم الكلية. غير ان هاتين السمتين ربما تبدوان متناقضتين مع بعضهما عندما تواجهان تعقيدية شديدة لدرجة لا يمكن لأي من الاستراتيجيات العقلية لدينا ان تجعلها ممكنة الفهم بحيث نستطيع من خلالهما فهم أي شيء كلي.

النفس الانسانية مشروطة بقوانين العالم المادي لكن وظيفتها تتجاوز مشروطيتها. نحن يمكننا ان نلاحظ كيف تبدو نظرية ارسطو للروح جذابة من وجهة النظر الدينية، بمقدار ما تحفظ كل من دور الكائن الانساني كموضوع للخلق، و طبيعة لم نصنعها لأنفسنا وانما صنعها الله لنا، ودور الكائن الانساني كشخصية حرة.

هذا التجاوز لطبيعتنا المشروطة سلفا يبدو يسمح بإمكانية الحرية الانسانية. الملكتان الاثنان للروح الحيوانية هما "الدافع" و "الادراك". الدافع motive بدوره يقسم الى "فعّال" و "حافز". الدافع المنتج للحافز يثير ملكة الشهية، التي يمكن تقسيمها الى رغبة وغضب. عندما يكون الدافع نشطا، فهو القوة اوالحركة.

ملكة الادراك هي ايضا عرضة للقسمة، تفكير داخلي وتفكير خارجي. ابن سينا يرفض النظرية الافلاطونية للبصر كما جاءت في تيماوس:

"العيون كانت أول الأعضاء المصممة من جانب الله، لإيصال الضوء. وهو يفسر سبب ربطها بالرأس. هما يعطيان مظهرا خادعا بان النار لم تكن للإحراق وانما لتوفير ضوء لطيف ملائم دائما. الآن النارالخالصة التي في داخلنا ذات صلة قوية مع تلك النار، هما صُنعا ليتدفقا من خلال العيون".

في الحقيقة، قبل ارسطو، جميع الفلاسفة مالوا للتعامل مع الأحاسيس بطريقة سلبية، لأن أعضاء الحس تغيرت بفعل أشياء خارجية. نظر ارسطو لها باعتبارها "ادراك الإمكانية"، التي رفضها ابن سينا، مستعيداً تصورا أكثر تقليدية للحس: "كل المحسوسات تنقل صورها الى أعضاء الحس وتنطبع فيها، و من ثم تُدرك عبر الملكة الحسية". بعض الحواس الداخلية تدرك شكل الاشياء المحسوسة بينما اخرى تدرك معناها او هدفها.

الذكاء النظري

الذكاء النظري هو ملكة يمكن بواسطتها تجريد أشكال كلية من ماديتها، هذا يتصل باطروحة ارسطو النقدية بان الكليات لا توجد في عالمها الخاص بها وانما يمكن اشتقاقها من العالم المادي،العالم كما ندركه. الذكاء النظري يزيل أي أثر للاصول المادية لهذه الأشكال، فهي منفصلة كليا عن اصولها المادية.

هنا ايضا نحن نعترف بشيء حول هيكل الفكر الأرسطي، كونه يرتبط ليس بأي نظرية معينة وانما بنظرة للعالم،او بروح ابستمية. تصوراتنا هي اداة بواسطتها يصبح التفكير المجرد ممكنا، ولكن بهذا العمل وبمقدار ايجاد استنتاجات حول الكليات، فان تلك الكليات ذاتها لا تحمل أي شبه او علامة لإصولها المادية.

هذا يضعنا في موقف غريب فيما يتعلق بالتصور او أي نوع من الفهم المباشر والقريب. نحن نعرف ان فهم الحقيقة المجردة لايمكن تصوره اساسا بدونها، لكن مع ذلك نحن بنفس المقدار واعون بان مثل هذه الحقائق هي منفصلة كليا عن التجربة.

وبمقدار ما تكون التجربة لها هيكلها الخاص – تكرار، مقابلة، شدة او نقص الاحساس هذه ليس لها علاقة بأي نوع من الحقيقة المجردة. هذا نوع من التوق للحقائق التي هي منفصلة تماما عن التجربة، ومع هذا نحن نعرف ان التجربة لايمكن ان تُنكر تماما او تُتجاهل، هي في لب العديد من خصوصيات الكثير من الفلسفة التي تضع نفسها كجزء من تقليد ينطلق من الفكر اليوناني، سواء رغبنا بتسميتها فلسفة "غربية"او اسم آخر أكثر دقة.

السبب في ذلك هو انها تشجع اتجاه لتجربة غير كلية non-holistic. المسألة هي ليست ايجاد انسجام للتجربة ضمن كليتها وانما لنضعها للاستعمال في خدمة الحقيقة المجردة. بالنسبة للآخر، الجسم يُرى من منظور فلسفي – كنوع من السجن وربما اكثر بالنسبة لافلاطون. بالنسبة لافلاطون، عالم الاشياء المادية هو ببساطة وهمي ونحن يجب ان نضعه جانبا لفهم الكليات. من وجهة نظر ارسطو التي يأخذ بها ابن سينا، الجسم او على الاقل، آلاته الإدراكية – هي عصية على الفهم لو اردنا معرفة مفاهيم كلية، مع ذلك ما نستطيع تعلّمه من الجسم في ذاته هو مضلل تماما.

اكتساب الذكاء:

المفهوم الأخير الذي يجب التطرق اليه يتعلق بالعملية التي بواسطتها يُكتسب الذكاء النظري المشار اليه آنفا. ما يأخذه ابن سينا من ارسطو هو نظرة تيلولوجية او تقدمية للتطور الانساني. الروح الانسانية او "العقلانية" لها ملكتان داخليتان – ملكة عملية، وملكة نظرية. الذكاء النظري يؤدي وظائفه على مراحل. اولا، نحن لدينا مرحلة "الإمكانية المادية" التي يمكن العثور عليها لدى الاطفال الرضع. ثانيا، الإمكانية "النسبية" عندما يتم تطوير اداة لإستقبال الواقع. ثالثا، هناك المرحلة التي تصبح فيها الإمكانية المادية الأصلية متقنة و مثالية.

يصف ابن سينا علاقة الواقع النظري بالمادي المجرد بطريقة من التصنيف الذي هو غير ارسطي. هذه العلاقة تبدأ في مرحلة الإمكانية المادية، تشكل نوعا من الذكاء (العقل) الذي يحوزه كل انسان. بعدها تتقدم نحو اكتساب الفهم (العقل المستفاد)، بواسطته يمكن اكتساب الأشكال من العالم الخارجي.

The collector, March 26,2023

***

حاتم حميد محسن

لعل من المثير ان يكون هنري برجسون الفيلسوف الفرنسي الحائز على جائزة نوبل بالادب هو اول من اشار الى اننا ندرك المكان بسلسلة منظومة العقل الادراكية بدءا بالحواس وشبكة الاعصاب انتهاءا بالدماغ او الجزء منه المخ ولا ندرك ملازمة الزمن له لا متصلا به في ثنائية موحدة غير قابلة للانفكاك ولا مستقلا عن المكان موضوعا يدركه العقل..

ادراكنا المكان على افتراض زمن يلازمه خطأ فلسفي متناقل لم تثبت واقعيته المدركة. اننا ندرك المكان بدلالة زمانية تشكلان وحدة ثنائية زمكانية لا انفكاك بينهما.. وبهذا المعنى يكون هنري برجسون ألغى الزمكان كوحدة ثنائية لا يمكن تفكيكها الى زمان مستقل ومكان منفصل. وقال ادراك المكان وحده لا يلزمنا القول بادراك زمن يلازمه ...

برجسون الغى الزمكان ايضا على صعيدين آخرين انه ليس مادة مستقلة الوجود بابعاد هندسية فيزيائية يدركها العقل وليس الزمكان فراغا احتوائيا استيعابيا خارج العقل كما تذهب له العلوم المعاصرة المرتبطة بفيزياء انشتاين والنسبية العامة.

السؤال هل الزمكان وجود قبلي على الادراك العقلي ام هو وجود مستقل خارج العقل بعدي عليه هو من ابتداع العقل كوسيلة التفتيش عن كيفية الادراك العقلي للاشياء فلسفيا وليس علميا فيزيائيا كما فعل كانط دوجماطيقيا في تقديمه افتعاليا النتيجة على السبب حين قال الادراك هو زمكان فطري يمتلكه العقل في ادراكه موجودات الوجود؟.

الزمن والوعي

الزمن يسبق الوعي ويزامنه فرضية فلسفية صحيحة. اما ان يسبق الوجود المكاني للطبيعة الزمن كما يجد ذلك افلاطون فهو امر مشكوك به في تحديد الاسبقية الوجودية للزمن ام للطبيعة؟ علاقة الوعي بالزمن تجمع تجريدين غير متجانسين مختلفين في الماهية  والصفات. يمكننا القول الزمن يستبق الوعي من حيث الوعي لا يكون ملزما بحاجة الزمن في تحققه مدركات العقل. ما يترتب عليه ان مدركاتنا المكانية في الوجود هي ادراك لزمكان ثنائي يحضر الزمن فيه افتراضا وربما حضورا وهميا لا وجود له يفتقد اثباته.

ادراكاتنا المكان لا علاقة زمنية لها بها الا في حال كانت رغبتنا توثيق زمن تلك الادراكات المكانية في انتقالاتها الحركية من حيث علاقة المكان بالمسافة والسرعة والجاذبية والكتلة وغيرها. لا يوجد تمظهر زماني يلازم المكان ولا يدركه العقل يتم بارادة ذاتية للزمن لا يمتلكها  او بحضور استدعائي افتراضي للزمن لا ندركه نحن ايضا لا متداخلا مع ادراكنا المكان ولا مستقلا محايدا عنه..

حين اراد فرويد صياغة علاقة الوعي بالزمن قال (اللاوعي – وليس الوعي – لا يحتاج الزمن) بمعنى اللاشعور حتى غير المرضي الانفصامي كما هو في احلام الانسان الطبيعية اثناء النوم, فهو يرى تداعيات الامكنة والانتقالات الزمانية بالاحلام وتداخلهما لا تحدّها سطوة شعور العقل لوقائع تلك الاحلام منتظمة ضمن سياق منطقي مترابط كما يجري مع العقل في تنظيمه عشوائية المكان في قدرات الشعور بحياة اليقظة.

ولا سطوة للزمن على احلام اللاشعور اثناء النوم الطبيعي. فالزمن لا يمتلك قابلية تنظيمه عشوائية مدركات اللاشعور الحلمي.كما لا سطوة للعقل تلازم احلام اللاشعور في تداعياتها الاعتباطية الانتقالية العشوائية ولا قدرة التدخل القيام بتنظيمها اثناء النوم.

اذن لماذا بعد انكار حقيقة وجود الزمن في اللاشعورلا ننكره في الشعور اي في الوعي ايضا؟ كما ذهب له برجسون ويتداوله حاليا بعض فلاسفة وعلماء الفيزياء. لا علاقة ادراكية عقلية تجمع الزمكان في ثنائية واحدة على اعتبار ادراكنا المكان لا يقوم على مزامنة ثابتة مع حضور الزمان كدلالة وليس موضوعا. مشروطية ادراكنا المكان لا يلزم عنها مشروطية ملازمة الزمان له وهذا طرح مخالف مناقض لما اعتادته الفلسفة عبر قرون ويتمسك به علم الفيزياء المعاصرين منذ سنين ايضا.. بأن ثنائية الزمكان وحدة ادراكية للعقل.

لقد سبق لافلاطون في محاولته الخلاص من ازدواجية تعالق المكان بالزمان انه اعتبرهما ثنائية ليست موحدة كما ولا توجد علاقة سببية تجمع بينهما اننا بدلالة المكان ندرك الزمان وبالعكس بدلالة الزمن ندرك المكان.

كان افلاطون وضّح علاقة الزمن بالطبيعة (المكان) بمفهوم تحده الطبيعة وليس علاقة ادراكانا مفهوم الوجود الارضي في توزّع وتنوّع موجوداته. الوجود مفهوم ميتافيزيقي لا معنى له من غير معرفة محتوياته المدركة داخله.

افلاطون اعتبر اسبقية المكان اي الطبيعة كمعطى اسبق وجودا على الزمان من دون اثبات فلسفي ولا اثبات علمي فيزيائي لم يكن متوفرا في عصره لما ذهب له. اذن لماذا لا يكون العكس الزمن الازلي اقدم من الوجود والطبيعة جزء من ذلك الوجود الكوني وهو ايضا لا اثبات عليه ؟ ازلية كلا من الزمن اللانهائي تلتقي ازلية الوجود اللانهائي وكلاهما غير مدركين لا بالاثبات الفيزيائي ولا بتفكير العقل المجرد المحدود القدرة.

لذا سبق لافلاطون قوله اننا بدلالة انتظام المكان ننّظم عشوائية الزمان. وكان يقصد افلاطون بالمكان الطبيعة التي تحكمها قوانين ثابتة لم يكن قد اكتشفها عصره بعد ولا يعرف آلية عملها عصر افلاطون وقتذاك. افلاطون اعتبر خلود المكان مطلقا وجوهرا يسبق خلوده التفكير بخلود الزمن وهذه اشكالية ايضا تحتاج البرهنة على صحتها فلسفيا على الاقل رغم أن كلا الخلودين للطبيعة او للزمان امر مشكوك به  يحتاج البرهنة عليه بغير وسائل الميتافيزيقا التي تستبعد العقل وتبقى الامور متارجحة بين التصديق الغيبي والرفض المنطقي العقلي لها..

ايضا قال ديكارت بعد افلاطون الى ان العقل والنفس جوهران خالدان وهو استنتاج فلسفي ميتافيزيقي لا يستحق الوقوف عنده باستثناء انه كان يقصد بالعقل هو التفكير غير الفيزيائي اي غير العضوي الذي ماهيته المعرفة والافكار يكون عندها ديكارت مصيبا ان العقل جوهر خالد لايفنى لانه فكر معرفي لا يطاله العدم بالفناء لانه خلوده ليس بيولوجيا..

كما كان ديكارت يتعمّد عدم التفريق فلسفيا ولا نفسيا ولا بيولوجيا بين الروح والنفس. والعديد من الفلاسفة اقتفوا اثره بهذه القناعة الخاطئة التي سبق لي اوضحتها بمقال منشور لي لا مجال تكراره.

فرويد كان يرى في المكان هو المادة المتعيّنة بابعاد هندسية فيزيائية ثلاثة متفق عليها قبل اضافة انشتاين لها البعد الرابع الزمن. والمكان ثابت من دون سبب خارجي يحركه. رغم ان علم الفيزياء المتطور حديثا اكد ان الحركة الدائبة تحكم المادة في كل اشكال وجودها وتحولاتها وانتقالاتها الا انها اي المادة تفتقد قدرة الانتقال من حالة الثبات الحسي الى حالة اخرى بقواها الحركية الذاتية الداخلية.

اي لا بد من وجود محرك خارجي يحركها. كان يرى افلاطون في الزمان عشوائية لا يحكمها انتظام لذا قال بدلالة انتظامية الطبيعة بقوانينها الثابتة التي كان يجهلها عصره هي التي تقوم بتخليص الزمان من عشوائيته غير النظامية. واعتبر افلاطون الطبيعة اقدم على الزمن.

كما وجد افلاطون نظام الطبيعة مصنوعا بقدرة عجائبية خارقة محكومة بقوانين ثابتة لا يدركها العقل جميعها فلابد لهذه القوانين الطبيعية ان تحكم تنظيم عشوائية الزمن غير المدركة عقليا ايضا. نهائية الطبيعة المدركة عقليا لا تمنح مطلق الزمان اللانهائي احتمالية الادراك له. ثم لا يتوفر الدليل على ان الزمن جوهر مطلق تسوده العشوائية اللانظامية.

لو نحن اخذنا هذا التفسير الافلاطوني اسقاطيا ميكانيكيا على تفكيرنا لخرجنا بنتيجة احتمالية لا برهان يؤكدها ان الزمان مطلق حركي لا تدركه عقولنا والمكان مدرك عقلي بابعاده المادية الهنسية الفيزيائية الثلاث الطول , العرض, الارتفاع وليس في مشروطية ملازمة الزمن له كما اثبت انشتاين في النسبية العامة..

اسبينوزا واشكالية الزمكان

ذهب اسبينوزا في منحى اكثر غرابة فلسفية قوله اننا بدلالة ازلية الجوهر الخالق الذي لا يتقدمه مخلوق ولا تدركه عقولنا المحدودة انما هو وسيلة ادراك بدلالته ندرك جواهر الاشياء بالطبيعة. وكلا الجوهرين الجوهر الالهي الازلي المطلق الذي لا يتقدمه جوهر, والجوهر النسبي المادي المتعيّن بابعاد ومظاهر تتوزعها موجودات الطبيعة كلاهما جوهران لا يدركهما العقل. هنا اقصد (الجوهر) ولا اقصد (الوجود) فالمفهومين يختلفان ادراكيا..

اسبينوزا لم يتعامل مع الزمكان فيزيائيا بل تعامل معه ميتافيزيقيا فلسفيا. كذلك ركّز جلّ اهتمامه حول علاقة الوعي بمذهب وحدة الوجود بعيدا عن العلم والصوفية الدينية القائمة على المعجزات التي ادانها. فيورباخ كان صوفيا لا دينيا ليس على الطريقة الاسبينوزية بل على طريقة المنهج الصوفي المادي التأملي فقد كان مأخوذا بالطبيعة بحب لا نظير له حسب ما كتبه برسالة لابيه يعلمه بها تركه دراسة اللاهوت لانه يذوب عشقا بالطبيعة علما انه شاعرله كتابات شعرية ذات طابع فلسفي. كما كان افلاطون شاعرا ايضا ومصارعا وعديد من الفلاسفة كانوا شعراء..

كما لم ياخذ فيورباخ بمذهب وحدة الوجود في الطبيعة عن اسبينوزا بل اخذ المنحى المادي عن ديالكتيك هيجل المثالي في مركزية الانسان والطبيعة والاله فقد اعتبرهم ثلاثتهم جوهرا واحدا من اختراع علاقة الانسان بالطبيعة.  واصدر ثلاثة كتب بهذا المنحى لعل اهمها كتابيه اصل الدين وكتاب جوهر المسيحية ما اثار حفيظة ماركس وانجلز زميلاه عليه واصدرا كتابا ينددان بافكار فيورباخ الصوفية الطبيعية خاصة حول كتابه الثاني المثير للجدل الفلسفي اصل الدين.., كان فيورباخ فيلسوفا ماديا يمزج ما بين مادية الطبيعة والدين. فاخذ ماركس عنه النزعة المادية الفلسفية وترك له الدين. وبقي فيورباخ فيلسوفا صوفيا بمنهج مادي لا ديني لاهوتي. واعتبر الانسان والطبيعة والدين جوهرا واحدا مركزه الانسان الروحاني في علاقته بالطبيعة والميتافيزيقا.

سورين كيركجورد والعقل

اثرّت الخلفية اللاهوتية العميقة التي وقع في براثنها سورين كيركجورد الفيلسوف الدنماركي الذي توفي في الثلاثينيات من عمره ذو الميول والنزعة الوجودية قبل ظهور وجودية هوسرل وسارتر وهيدجر ومارسيل جبريل وغيرهم. وقف كيركجارد نتيجة تزمته الديني معارضا شديدا رافضا العلم والعقل معا. في رغبته التبشير بما كان يشغل نزعته الفلسفية الايمانية الدينية التي تهاجم اللاهوت والمعجزات ولا تكفر بجوهر الدين على انه منظومة روحية اخلاقية لا تحتاج وسيطا بين الخالق والمخلوق في تنظيم الحياة على اسس من الحرية والاختيار في ضمان الحقوق الانسانية الاساسية للفرد والمجتمع..

ورغم المنحى الصوفي الايماني فقد كان سورين كيركجورد وجوديا مؤمنا دينيا لا ماديا رغم انه عاصر هيجل وماركس. حاول كيركجورد جعل الدين لا يقاطع المادية ولا يتخلى عن اهمية ما اطلق عليه القفزة الايمانية التي مصدرها القلب وليس العقل..كما هو الذي جعل هيجل يؤمن بالقطوعات النوعية التي تغيّر المسار الاحادي في حركة تطور التاريخ نحو حتمية ضرورية ملزمة للتاريخ ان يصلها.  نسب ذلك الانجاز الفلسفي لهيجل والماركسية وليس لكيركجورد.

سورين كيركجورد كان يقر بالقطوعات التاريخية النوعية او ما يسمى بالادبيات الماركسية الطفرات التي اطلق عليها التحولات النوعية في المسار التاريخي لكنه لم يأخذ بالمقولة الماركسية الى ان مسار التاريخ ملزم الوصول الى حتمية مرسومة له سلفا. رغم اعتبار دارسي تاريخ الفلسفة كيركجورد الاب الروحي للوجودية الحديثة الا اننا نفاجأ بشطحات اسبينوزا الفلسفية فلاول مرة في تاريخ الفلسفة قال بدلالة الجوهر غير المدرك عقليا نفهم الوجود المادي. وبهذه المقولة قصم ظهر الوجودية قبل ظهورها  واصابها بمقتل استطاعت تجاوزه حيث أكدت الوجود يسبق الماهية او الجوهر.

ما يجعلنا اليوم ننظر الى فلسفة اسبينوزا حول مذهب وحدة الوجود انها صوفية ميتافيزيقية لم يستطع التخلص من يوتوبيتها الفلسفية. نجد سورين كيركجورد لم ياخذ بمذهب وحدة الوجود القائم على صوفية الجوهر الالهي. كما ولم ياخذ بمقولة اسبينوزا(بدلالة الجوهر ندرك الوجود) التي هزت اركان الوجودية قبل انبثاقها وهو اي سورين كيركجورد المتمسك بارهاصات الوجودية الاولى لم يلتفت لاربعة ركائز كان الاهتمام بها يزلزل مباحث الفلسفة هي:

- اهمل العقل ومعه العلم اهمالا تاما بل وحاربهما كونهما يعارضان الايمان الديني الروحي. (حارب فيما بعد العقل وانكروا وجوده الاسكتلندي ديفيد هيوم والانكليزي جلبرت رايل وآخرين فلاسفة اميركان).

- اهمل كيركجورد مقولة اسبينوزا المجلجلة الجوهر يسبق الوجود وبدلالة الجوهر ندرك الطبيعة في موجوداتها.( لاول مرة في تاريخ الفلسفة لم يسبق اسبينوزا فيلسوفا واحدا يجرؤ البوح بمثل هذا التناقض الميتافيزيقي المعكوس الذي اغاظ فلاسفة الوجودية فيما بعد والفلسفة المادية الماركسية عموما).

- اهمل اللاهوت الكنسي السائد لوجود ثغرات فيه لاتعارض العقل وحسب بل وتعارض الدين باصالته ايضا. كيركجورد لم ياخذ على الدين معارضته العقل والعلم بمصادرتهما فكريا دونما اعطاء بدائل لهذا الرفض كما فعل هو بما اطلق عليه القفزة الايمانية القلبية في مجهول تركن تفكير العقل والعلم جانبا.

- اعتبر كيركجورد صوفية وحدة الوجود مبحثا ميتافيزيقا يحاول اثبات ما ينفيه في علاقة الذات الانسانية بذات الخالق.( تاثر فيورباخ بهذا الطرح واخذ به وهو اكبر إشكال جدالي ادخل الصوفية في نفق تهمة الالحاد والشرك بالوحدانية الالهية). عالجت هذه الاشكالية الصوفية في مقالة لي حول مذهب وحدة الوجود . نشرت المقالة على اربعة مواقع عربية الكترونية ويضمها احد مؤلفاتي الفلسفية.

مطلق الزمان ونسبيته

لو نحن عدنا الى ما قبل اثبات انشتاين في النظرية النسبية العامة 1915 ان الزمن بخلاف نيوتن ليس مطلقا بل نسبيا لوجدنا انفسنا امام حقيقة ان مطلقية الزمن ونسبيته الذي يثبتهما العلم الفيزيائي الكوني مختلفين بمحكومية كلاهما بقوانين ارضية تجعل من الزمان مطلقا حسب نيوتن اكثر مقبولية لطبيعة الحياة على الارض.

اما نسبية الزمن فيزيائيا كونيا على وفق قوانين نسبية انشتاين ونظرية الكوانتم الذرية فهي يجب تحييد نسبيها عن التاثير في مطلق الزمن الارضي الذي قال به نيوتن مكتشف قانون الجاذبية على الارض قبل اكتشافها فيزيائيا علميا معاصرا انها تحكم الفضاء الكوني ايضا.. فنسبية الزمن على الارض لا تحكمها قوانين انشتاين الكونية مقاسة بسرعة الضوء. بينما مطلق الزمن بحسب نيوتن انما تحكمه قوانين ارضية اهمها قانون الجاذبية وسرعة الصوت لا سرعة الضوء التي تعمل في المطلق الكوني الذي اعتمده انشتاين.

لكنهما الزمن المطلق والزمن النسبي حسب الضرورة البراجماتية الارضية لا يوجد غير زمن مطلق واحد لا يدركه العقل لا بالماهية ولا بالصفات وانما بدلالة التوسّل في التوظيف المحايد له في الادراك للمكان والطبيعة وموجودات العالم من حولنا. اشار له نيوتن في اكتشافه قانون الجاذبية. وهذا المطلق الزماني الارضي لا يدركه العقل الا بدلالة تلازمه مع حركة الارض ودوران كواكب المجموعة الشمسية والعلاقات التجاذبية بينها..

الموضعة الشيئية زمكانيا

الموضعة اللغوية بالاشياء هي موضعة تعريف تجريدي وليس موضعة تكوينية لها. اي اللغة في تعبيرها عن موضوع الادراك لا تدخل تموضعيا جزءا من تكوين ذلك الشيء انما تكون وعيا تجريديا في معرفته. هناك نظرية فلسفية يروّج لها البعض مفادها ان العقل عاجز عن ادراك أي شيئ ولا موضوع مالم يكن لديه مخزونات قبلية فطرية عن ذلك الشيء او الموضوع. ويضربون لذلك مثلا فانت لو وضعت امام شاب جهاز حاسوب والشاب كان وضع تحت تجربة حرمانه من معرفة اي شيء سنين طويلة عما يسمى الحاسوب وبعد سنوات تضع امامه جهاز حاسوب وتساله ما هذا؟ وكيف يعمل؟ ولماذا ولأي شيء يستخدم؟ حتما سيكون الصمت سيد الموقف بعبارة تخرج من فمه لا اعرف وسيدهش به مهما امتلك من معارف لا صلة لها بالحاسوب..

حسب هذه النظرية الاحساسات الخارجية التي تنقلها الحواس للذهن ومن ثم العقل لنفس هذا الشخص لا تكفي العقل ان يخرج عن صمته دليل عدم معرفته ما هذا الجهاز وما فائدته وكيفية استعماله فعقل ذاك الشاب هو الاخر لا يمتلك ذخيرة خبراتية مخزنّة تؤهله الكلام عن ما هو جهاز الحاسوب.. اذن لا بد من وجود ذخيرة معلواتية مكتنزة موجودة بالذاكرة فطرية وليست مكتسبة حسب ما يذهب له اصحاب فلسفة الفطرة تستخدم وقت الحاجة لمعرفة كل شيء يدركه العقل.. نظرية السلوك اللفظي حول تعلم اللغة تؤمن بهذه النظرية على يد جماعة سكنر الذي لقيت عند نعوم جومسكي اهتماما كبيرا في نظريته التوليدية اللغوية حول الاستعداد الفطري الانساني لتعلم اللغة.(ناقشت الموضوع بمقالتين لا مجال شرحهما)

اقول هذه النظرية خاطئة للاسباب التالية:

- افتراض وجود خبرة فطرية تكتنزها الذاكرة والدماغ خرافة لا اثبات برهاني يؤكدها. بدليل لوكان الدماغ يمتلك مثل هذه القدرة الخبراتية المكتنزة بالفطرة كان لا يحتاج منع الشاب لسنوات عن معرفة اي شيء عما يسمى حاسوبا. اذ كانت مخزونات الفطرة بالذاكرة بالمعارف القبلية تجعله يعرف عن الحاسوب قبل اكتسابه المعلومات المعرفية المكتسبة عنه.

- كل شيء بحياة الانسان خبرة مكتسبة لا يمكن توريثها بالفطرة باستثناء الموّرثات الجينية التي تتعلق بشكل الجسم والطول واليدين ولون العينين وتقاسيم الوجه ولون البشرة وهكذا. اما المعرفة العقلية العلمية فهي جوهر مكتسب بالحياة لا بفطرة المورّثات.

- موضعة المعرفة تجريدا في التعبير اللغوي عن الاشياء  هي الاخرى وعي مكتسب يفصح عنه تجريد اللغة. بمعنى الموضعة اللغوية عن الشيء لا تغني عن الحاجة المعرفية المكتسبة كخبرة تراكمية وليست الفطرية عنه. اي الادراك الشيئي يحتاج بعض الذخيرة المخزنة عن ذلك الشيء قبل محاولة استكمال معرفته والاضافة له بالتعديل او بالتغيير..

معنى الزمكان الاحتوائي

الزمكان فراغ احتوائي للاشياء مستقل عن العقل كما ولا يدركه ايضا حسب فيزياء انشتاين. فهو أي الزمكان يحتوي كل شيء يقع ضمن نطاق فاعليته بقانون الجاذبية الذي تصل قدرته منافسة سرعة الضوء في ابتلاعه الاشياء او النفايات الكونية وحتى الغازات والابخرة والجسيمات الذرية المتناهية الصغر مثل النيوترونات والالكترونات وحتى الامواج الكرومغناطيسية.. وهذه العملية حسب قوانين الفيزياء غير مدركة لذات الزمكان الاحتوائي وبما تقوم به كما ولا يدرك العقل عملها.فالزمكان الكوني يمتلك جاذبية تفوق سرعة الضوء في ابتلاعها كل شيء.

اذن يصبح الزمكان فراغ اجتذابي ابتلاعي علاقته بالجاذبية الكونية وليس بالادراك العقلي. لكن السؤال الذي يتعلق بعلم الفيزياء الكوني كيف يتم رصد عمليات فيزيائية تجري بالفضاء لا توجد وسيلة عقلية لادراكها سوى بدلالة سرعة الجاذبية والمسافة والزمن. ثم ماهي اوجه الشبه المقارن بين ما يقوم به الزمكان وما تقوم به الثقوب السوداء في نفس الوظيفة الآلية على انها مقبرة نفايات الفضاء.

هنا لا بد لي ختاما  من العودة الى التلفيقية الذكية التي قام بها كانط في عبقرية كتابه نقد العقل الخالص الذي لم يكن يتوقع ان يقول العلم الفيزيائي كلمته يوما بعد قرون من وفاته ان ما جاء به كانط حول الزمكان تلفيق هرائي لاقيمة له. كانط قال منذ القرن الثامن عشر ان الزمكان قالبي ادراك للعقل مركوزان بالدماغ فطريا وهما ليسا موضوعين يدركهما العقل لا في ثنائيتهما الموحدة ولا في امكانية انفصالهما الى زمان مستقل عن مكان مستقل.

رغم كل هذا التفلسف الميتافيزيقي انا اعتبر كانط فيلسوفا تلفيقيا عبقريا لانه كان يتكلم عن زمكان ارضي تحكمه علاقة الوعي الادراكي العقلي للاشياء ولم يكن يتكلم عما جاء به علم الفيزياء من بعده ان نسبية انشتاين العامة كانت تتحدث عن زمكان كوني تحكمه فيزياء الجاذبية والزمن والسرعة والمسافة وكتلة الجسم فقط.

اخيرا ما يحسب للقديس اوغسطين في فلسفته انه كان اول من فصل الزمكان الارضي عن الزمكان الفضائي الكوني باختلاف ان الاول الارضي محكوم بقانون الجاذبية وسرعة الصوت وليس سرعة الضوء كما في الفضاء وعليه نحن نعرف السنة على الارض 364 يوما وليس سنة ضوئية. تحكمها الجاذبية وسرعة الضوء بالثانية 375 الف كيلو متر /ثانية على ما اعتقد.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

................

ملاحظة: المقالة فلسفية وليست فيزيائية علمية.

- المقدمة: يهدف المقال إلى توضيح أثر المكان وفلسفته على سيكولوجية الإنسان، وبلورة شخصيته، ورسم معالم ثقافته. ينحدر الناس - بطبيعة الحال - من ثقافات مختلفة، حيث لا يتحدثون لغات مختلفة فقط، بل هو ربما أكثر أهمية يسكنون عوالم حسية (فيزيقية) مختلفة أيضاً. إن الغربلة الانتقائية للمعلومات الحسية تقبل بعض الأشياء في حين تصفي بعيداً أشياء أخرى، بحيث إن الخبرة كما تُدرك من خلال مجموعة من المناخل الحسية المشكلة للأشياء ثقافياً تكون مختلفة تماماً عن الخبرة المدركة من خلال ثقافة أخرى. وكل ذلك بسبب اختلاف فلسفة المكان (المبنى) الذي يبدأ متأثراً بفكر وفلسفة مصممه ثم تتحول إلى مؤثر في العلاقات الإنسانية التي تدور بداخله إما سلباً أو إيجاباً. لهذا هناك توجه يرمي إلى إعادة الاعتبار إلى الجانب الاجتماعي في مساكننا المعاصرة لأن السلوك المكاني شكل من أشكال التفاعل الاجتماعي الناتج عن حياة الفرد في البيئة من حوله.

- مفهوم البروكسيميكس عند إدوارد تي هول:

ظهر مفهوم بروكسيميكس Proxemics (علم المكان) في ستينيات القرن الماضي، على يد عالِم الانثروبولوجيا الأمريكي إدوارد تي هول Edward T HALL (1914-2009)، الذي درس كيف ندرك الفضاء المكاني في الثقافات المختلفة وكيف نستخدمه لإقامة علاقات مختلفة. أي دراسة العلاقات والتواصل التي نؤسسها نحن البشر عبر الفضاء المكاني وعبر المسافات التي نضعها بيننا وبين الأشياء التي حولنا. ظهرت معظم أفكاره حول هذا المفهوم في كتابه " البعد الخفي " الصادر عام 1966 الذي كان موضوعُه المركزي البروكسيمي وهو " الحيّز الاجتماعي والشخصي وإدراك الإنسان له ".

بمعنى أدق، يستخدم إدوارد هول مفهوم بروكسيميكس لوصف المسافات القابلة للقياس بين الناس أثناء تفاعلهم، إنها مسافات بين الأجسام يتخذها الناس بصورة عفوية، كما يحلل هذا المفهوم العلاقات المتبادلة ونظريات استخدام الإنسان للحيز كتطور متخصص للثقافة.

إن الناس من ثقافات مختلفة لا يتحدثون لغات مختلفة فقط، بل هو ربما أكثر أهمية يسكنون عوالم حسية مختلفة. إن الغربلة الانتقائية للمعلومات الحسية تقبل بعض الأشياء في حين تصفي بعيداً أشياء أخرى، بحيث إن الخبرة كما تُدرك من خلال مجموعة من المناخل الحسية المشكلة للأشياء ثقافياً تكون مختلفة تماماً عن الخبرة المدركة من خلال ثقافة أخرى.

إن البيئات المعمارية والحضرية التي يوجدها الناس هي تعبير عن عملية تصفية – غربلة. في الحقيقة أنه يمكن أن نتعلم من هذا البيئات المتغيرة من قِبل الإنسان كيف تستخدم شعوب مختلفة حواسها. لذلك لا يمكن الاعتماد على الخبرة كنقطة مرجعية ثابتة لأنها تحدث في محيط كان قد شُكل من قبل الإنسان.

إن القيام بفحص كيفية استخدام الحواس من قِبل شعوب مختلفة، أثناء تفاعلهم مع بيئتهم الحية وغير الحية، يزودنا ببيانات واقعية حول بعض الاختلافات بين العرب والأمريكيين، مثلاً. هنا في مصدر التفاعل ذاته من الممكن أن تتحرى الاختلافات الهامة في ما يُنتبه إليه وما هو مُغربَل ويتم التخلص منه. وفي هذا السياق يضرب لنا إدوارد هول مثالاً حول هذه الجزئية، فيقول أظهر بحثي خلال السنوات الخمس الماضية أن الأمريكيين والعرب يعيشون في عوالم حسية مختلفة في كثير الأوقات ولا يستخدمون الحواس نفسها حتى لإنشاء معظم المسافات الفاصلة المُحافَظ عليها خلال المحادثة. حيث إن العرب يستعينون بحاستي الشم واللمس أكثر من الأمريكيين (وهذا ما يفسر لنا حب العرب للطيب والعطور بشكل عام). إنهم يفسرون معلوماتهم الحسية بشكل مختلف ويمزجونها بطرق مختلفة. ويبدو أنه حتى خبرة العرب للجسد في علاقته بالأنا الأعلى تختلف عن خبرة الأمريكيين. والدليل على ذلك أن النساء الأمريكيات المتزوجات من عرب في الولايات المتحدة واللاتي عرفن فقط الجانب الأمريكي المكتسب بالتعلم من شخصياتهن، لاحظن غالباً أن أزواجهن ينتحلون شخصيات مختلفة عندما يعودون إلى أوطانهم الأم حيث ينغمسون في الاتصالات العربية من جديد ويتقيدون بمفاهيم الثقافة العربية. إنهم يصبحون أشخاصاً مختلفين بكل معنى الكلمة.

بالرغم من حقيقة، أن الأنظمة الثقافية تشكل سلوك الإنسان بطرق مختلفة جذرياً، فإنها متجذرة بعمق في البيولوجيا والفيسيولوجيا. إن الإنسان هو كائن ذو ماضٍ رائع واستثنائي. إنه يتميز عن باقي الكائنات بفضل حقيقة أنه طور امتدادات لكيانه. فبتطوير امتداداته، أصبح الإنسان قادراً على تحسين أو تخصيص مهام متنوعة. إن الحاسوب هو امتداد لجزء الدماغ، والهاتف يعزز الصوت، والدراجة امتداد للأرجل والأقدام. إن اللغة تُبسط الخبرة في الزمان والمكان في حين الكتابة توسع اللغة. لقد طور الإنسان امتداداته إلى تلك الدرجة التي نميل إلى نسيان أن إنسانيته متجذرة في طبيعته الحيوانية. حيث بيّن عالِم الإنسان (ويستون لا بار) أن الإنسان نقل التطور من جسده إلى امتداداته وبعمل ذلك فقد سرّع عملية التطور والنشوء بشكل هائل. ومعنى ذلك أن الإنسان ابتكر بُعداً جديداً، البُعد الثقافي والذي يكون البروكسيميكس مجرد جزء منه. إن العلاقة بين الإنسان والبعد الثقافي هي علاقة يتشارك فيها الإنسان وبيئته في تشكيل بعضهما البعض. ويدل ذلك بمعنى أدق أن مدننا تُوجِد أنواعاً مختلفة من الناس - على سبيل المثال - في أحيائها الفقيرة ومصحاتها العقلية وسجونها وضواحيها، هذه التفاعلات الدقيقة تجعل مشكلات التحديث المدني ودمج الأقليات في الثقافة السائدة أمراً صعباً أكثر مما يتوقع غالباً.

عندما طوّر الإنسان الثقافة مدّن نفسه وفي أثناء ذلك ابتكر سلسلة كاملة من العوالم، كل منها يختلف عن الآخر. كل عالم له مجموعته الخاصة من المدخلات الحسية، بحيث إن ما يؤدي إلى ازدحام الناس في ثقافة ما ليس بالضرورة أن يؤدي إلى ازدحام في ثقافة أخرى. بشكل مماثل، فإن فعلاً ما يتسبب بعدوان ولذلك قد يكون مصدر توتر لشعب ما، ربما يكون غير مؤثر بالنسبة لشعب آخر. لذلك على المعماريين ومخططي المدن والبنائين أنه إذا كان على هذا البلد أن يتجنب كارثة، يجب علينا أن نبدأ باعتبار الإنسان كمتحاور مع بيئته، بيئة يقوم هؤلاء المعماريون والمخططون والبناؤون ذاتهم بإيجادها بهدف الاهتمام بحاجات الإنسان البروكسيمية.

من هنا تأتي أهمية هذا المجال في كونه دراسة وتحليل موضوع الربط بين العلاقات الفراغية داخل المسكن (البعد المكاني) وتقديم تأثيرها على الرابط الأسري على سبيل المثال (نموذج مهارات الاتصال بين الأشخاص). ويرى إدوارد هول في كتابه " اللغة الصامتة " إن ما يقوم به الناس يكون في غالب الأحيان أكثر أهمية مما يقولون، وأن تفاعل الفرد مع بيئته هو علامة للحياة والعكس دليل الموت. وأنماط التفاعل بدأت من أبسط أشكال الحياة وأصبحت معقدة على نحو متزايد في جميع نطاق النشوء والتطور، وفي نفس سياق الموضوع أكد هول على أن الزمان والمكان هي أبعاد لخلق التفاعل، وتمثل اكتساب المعرفة واللعب والدفاع أيضاً أشكال محددة من التفاعل. كما أنه تحدث في كتابه " البعد الخفي " عن أهمية البعد المكاني في العلاقات الاجتماعية لأهميته في التواصل فقال " خلال وجودنا نتعلم حرفياً آلاف العلامات المكانية التي تأخذ كل واحدة منها معنى خاصاً في سياق خاص "، وتحدث أيضاً عن ماهية الفضاء المناسب لنشاطات الإنسان، ولتحقيق هذه الغاية، حدد أربع فئات من المسافات الاجتماعية بين الأشخاص (الحميمية، الشخصية، الاجتماعية، العامة)، وأعطى أهمية للمسافة الشخصية بقوله: إنها الكرة الصغيرة الواقية أو الفقاعة التي ينشئها منذ نشأته ليخلق حوله عازل عن الآخرين. كما اعتبرها المنطقة التي تحيط بالفرد وملكاً له من الناحية النفسية. وتمثل هذه المساحة قيمة خاصة لأغلب الأشخاص بل ينتابهم الشعور بعدم الارتياح أو الغضب أو التوتر حال التعدي على هذه المساحة. لذا يحب الناس أن يحافظوا على مسافات بين أنفسهم وبين الآخرين أو الأشياء. وهذه الفقاعة الخفية من الحيز التي تشكل " إقليم " كل شخص هي أحد الأبعاد الرئيسية للمجتمع المعاصر.

- خلاصة القول:

إن ما نسعى إليه من خلال استعراض نظرية هول توضيح العلاقة القائمة بين الإنسان والبيئة الفيزيائية، التي تندرج ضمن مواضيع علم النفس الاجتماعي الفضائي، والذي يهتم بالآثار النفسية والاجتماعية للتصميمات الهندسية للمساكن والمباني والأحياء والمدن والتغيرات البيئية، لمحاولة تطويعها لصالح الإنسان والتكيف معها، كما تدرس أبعاد المكان وتأثيره على سلوك واتجاهات الفرد نحو الآخرين في البيئة الفيزيائية، فالاتجاهات الحديثة أكدت دور المكان في تشكيل التفاعل الاجتماعي وفي إضفاء صبغة معينة للعلاقات الاجتماعية. فالمسكن على سبيل المثال هو مجال ذو حدين، أولاهما الفضاء الداخلي الذي يأخذ طابعاً خاصاً حيث يقضي فيه الفرد معظم وقته، والحد الثاني عام الذي يمثل الفضاء الخارجي للمسكن فيمكن القول إن الإنسان يتخذ لسلوكيات ودوافع معينة اتجاه هذين البعدين، كما نستنتج أن هناك علاقة تبادلية بين المسكن والأسرة يتأثر ويؤثر ما يدعم الاتجاه القائل بأن المبنى يبدأ متأثراً بفكر وفلسفة مصممه ثم تتحول إلى مؤثر في العلاقات الإنسانية التي تدور بداخله إما سلباً أو إيجاباً. لهذا هناك توجه يرمي إلى إعادة الاعتبار إلى الجانب الاجتماعي في مساكننا المعاصرة لأن السلوك المكاني شكل من أشكال التفاعل الاجتماعي الناتج عن حياة الفرد في البيئة من حوله.

وفقاً لهول، يتم تحديد المسافات المادية التي نؤسسها من خلال المعايير الثقافية التي تخبرنا، على سبيل المثال، ما هي حدود الأماكن العامة وما هي في الفضاء الخاص، أو ماذا تعني كلمة الداخل وكلمة الخارج من حيث الأثاث أو الفراغات الفردية داخل المنزل المساحات التي تتأثر أيضاً بالعمر أو الجنس أو المكانة الاجتماعية لكل شخص.

كما تعتبر قواعد بروكسيميكس، قواعد بالغة الأهمية لأولئك الأفراد الذين يسعون إلى تأكيد أنفسهم على أنهم يشكلون " جماعة " تختلف عن الجماعات الأخرى، أي إنها تحدد السمات المشتركة بين بعض الأشخاص، وتعزز مظاهر مفهوم الهوية داخل المجموعة، وفي بعض الأحيان تجعل صياغة الهوية بين المجموعات صعبة. وهذا هو السبب في أن لها تأثيرات مهمة على التواصل الذي ننشئه مع مجموعة الانتماء ومع المجموعات المماثلة، وتسمح لنا بفهم كيفية بناء صورة معينة للعالم، وكذلك قواعد التعايش في سياقات مختلفة.

وهكذا نصل إلى نتيجة مفادها أن لكل منّا إقليم يشكل مملكة كيانه الذي يشعر فيه بالراحة، حيث يمكن لاستخدام الإنسان للحيز أن يؤثر في العلاقات الشخصية وفي علاقات العمل وفي تفاعلات الثقافات المختلفة وفي فن العمارة وتخطيط المدن وتجديد الأحياء الحضرية.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

....................

- المراجع المعتمدة:

1 - Edward T. Hall: The Hidden Dimension, by Anchor, Second Edition, September -1- 1990, First published January 1, 1966.

2-إدوارد تي. هول: البعد الخفي، ترجمة: لميس فؤاد اليحيى، مراجعة وتدقيق: محمود الزواوي، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2007.

3- خالدية جاب الله: مصطلح البروكسيميكا وتوظيفاته المكانية في الممارسات النقدية الجزائرية، مجلة القارئ للدراسات الأدبية والنقدية واللغوية، المجلد: الخامس، العدد: الأول، الجزائر، مارس 2022.

4- إدوارد تي. هول: اللغة الصامتة، ترجمة: لميس فؤاد اليحيى، مراجعة وتدقيق: محمود الزواوي، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2007.

5- دلولة صبة: أثر الفضاء السكني على التغير الاجتماعي للعلاقات الأسرية داخل المجتمع الجزائرية (دراسة تحليلية وفق نظرية إدوارد هول المعاصرة)، مجلة التغير الاجتماعي، جامعة محمد خيضر بسكرة، المجلد: الأول، العدد: الثاني، الجزائر، 10-02-2017. 

 

البُعْدُ المعرفي لتاريخ العلاقات الاجتماعية يُمثِّل نقدًا للواقعِ، وصِياغةً جديدةً له، وهذا يَجعل الواقعَ تنظيمًا عقلانيًّا لخصائصِ السُّلوك اليومي على الصَّعِيدَيْن الفَرْدِي والجَمَاعي، وتجسيدًا لِجَوهرِ الظواهر الثقافية على الصَّعِيدَيْن التَّحْتي والفَوْقي، وتَفَاعُلًا بين النظرية والمُمارَسة على الصَّعِيدَيْن الوجودي والحضاري . وإذا تَرَكَّزَ الوَعْيُ النَّقْدِيُّ في بُنية الواقع المُعاش، فإنَّ العناصر العقلانية سَوْفَ تتكرَّس في مصادر المعرفة، باعتبارها حاكمةً على الواقع المُعَاش، ومُتغلغلة فيه، ومُسيطرة على السِّيَاقاتِ الفِكرية المُنبثقة عنه، وهذا يَمنع تاريخَ العلاقاتِ الاجتماعية مِن إلغاء ذاته بذاته، كما يَمنع حضارةَ الاستهلاكِ الماديَّة القائمة على الآلَةِ المِيكانيكية مِن الانقلابِ على الشُّعُورِ الإنساني والعقلِ الجَمْعِي . وإذا استطاعَ المُجتمعُ أن يُحَوِّلَ فلسفةَ السُّلوكِ اليَومي مِن أداة وجودية حياتية إلى آلِيَّة لُغوية إبداعية، فإنَّ الفِعْلَ الاجتماعي سَيُصبح مشروعًا للنهضة الثقافية، وتحريرًا مُستمرًّا لطبيعةِ الإنسانِ مِن هَيمنةِ اللحظة الآنِيَّة، لأنَّ بُنيةَ الفِعْلِ خاضعة لبناء المُجتمع، كما أنَّ شرعية الفِعْلِ ناتجة عن الإدراكِ والإرادةِ الكَامِنَيْن في السُّلوكِ اليَومي .

2

الإشكاليةُ المَركزيةُ في تاريخ العلاقات الاجتماعية هي غَرَقُ المُجتمعِ في الحنين المُزْمِن إلى ماضٍ لا يَمْضِي، وهذه الإشكاليةُ ذات طبيعة انسحابية، أي إنَّها غَير مَحصورة في الواقع المُعَاش مَعْنًى ومَبْنًى، بَلْ تَنسحب على أحلامِ الفردِ وطُموحاتِ الجَمَاعة، وتُؤَثِّر على مَسَارِ الوَعْي القَصْدِي في النظام الاجتماعي، وهذا يَخلِط زوايا الرؤية للأحداث، فَتُصبح الرُّؤيةُ مُشَوَّشَةً، ويَعْجِز المُجتمعُ عن تشخيص مُشكلاته المصيرية. وإذا غابَ التشخيصُ الدقيقُ غَابَ الدواءُ الفَعَّالُ، وهذا يَجعل الفردَ يَنظُر إلى نَفْسِه كَضَحِيَّة، ويَعتبر التاريخَ مَأسَاةً . وفلسفةُ الضَّحِيَّةِ تَقُوم على استعارةِ الأقنعة كَمُحاولةٍ للهُروبِ مِن الذات، واستعادةِ التاريخ كمحاولة للهُروبِ مِن الحاضر . والحنينُ إلى المَاضِي لا يَعْني بالضَّرورة أنَّه جميلٌ ومُشْرِقٌ وخالٍ مِن العُيُوب، ولكنَّه بالتأكيد يَعْني أنَّه أقلُّ سُوءًا مِن الحاضر، وهذه المُقَارَنَة شديدة الخُطورة، لأنَّها تُخضِع المراحلَ الزمنية لمعايير نِسْبِيَّة، لا تَقُوم على عوامل مَوضوعية وأُسُسٍ منطقية، وإنَّما تقوم على أحاسيس وانطباعات . والإحساسُ بالفَرَحِ أو الحُزْنِ يُقَدِّم تفسيرًا عاطفيًّا لفلسفة التاريخ، يتعارض معَ البُنيةِ العقلانية المُسيطِرة على ماهيَّة الأشياء، ويتصادم معَ قواعدِ التأويل اللغوي المُهيمِنة على سُلطة المَعنى، ويتضارب معَ مركزية الظواهر الثقافية المُتَحَكِّمَة بالهُوِيَّة الإنسانية .

3

العقلانيةُ - كنظامٍ حَيَاتي ومَنظومةٍ مَصْلَحِيَّة - هي القادرة على تحرير المُجتمع مِن الوَعْيِ الزائفِ، وسَيطرةِ التكنولوجيا المادية على الشُّعور الإنساني. ومعَ هذا، فالعقلانيةُ لَيْسَتْ كُتلةً جامدةً، أوْ لائحة تعليمات جاهزة، أوْ خُطَّة مَرسومة مُسْبَقًا، إنَّ العقلانيةَ ثَوْرَةٌ وُجودية تَتَغَيَّر اعتمادًا على رمزيةِ اللغةِ وكيفيةِ تأويلها في الأنساق الحضارية، وَتَتَبَدَّل استنادًا إلى البُنيةِ الوظيفية للنقد الاجتماعي في حياةِ الفردِ والجماعةِ، وَتَتَقَلَّب تَبَعًا للإطارِ المعرفي الحاضن للمعايير الأخلاقية . وهذا يَفْرِض على تاريخ العلاقات الاجتماعية أن يَصْقُلَ العقلانيةَ باستخدام التفاعل الرمزي بين النَّسَقِ اللغوي والفِعْلِ الاجتماعي، وأن يُنَقِّيَ الواقعَ مِن أشكالِ الوَهْم الداخلي والخارجي . وثُنائيةُ ( صَقْل العقلانية / تنقية الواقع ) سَتَمنح الفردَ القُدرةَ على التعامل معَ عناصرِ الطبيعةِ والمُجتمعِ بعيدًا عن مِصْيَدَة الأدلجة المُغْرِضَة، وتَمنح المُجتمعَ القُدرةَ على التعامل مع الشرعية المركزية لرمزية اللغة بعيدًا عَن فَخ الشِّعَارات الفارغة .

4

اندماجُ العَقلانيةِ معَ الواقع سَيُنْتِج واقعًا جديدًا قادرًا على ضَبْطِ نِسْبِيَّة الأفكار الإبداعية، وتوظيفِها في مركزية الظواهر الثقافية، وانتشالِ شخصية الفرد الإنسانية مِن القطيعة المعرفية بين الماضي والحاضرِ، مِمَّا يَدفع باتِّجاه تحقيقِ الانسجام بين طبيعةِ اللغة وطبيعةِ الفرد، باعتبار أنَّ اللغة حاكمة على تفسير الثقافة، والفرد حاكم على تأويلِ الزمن . وكما أنَّ العلاقات الاجتماعية تتأسَّس على المعايير الأخلاقية، كذلك الوَعْيُ النَّقْدِي يتأسَّس على فلسفة التاريخ . وفلسفةُ التاريخ لا قِيمة لها بذاتها، وإنَّما تتَّضح قيمتها بِقَدْرِ مَا يُضْفِي عليها المُجتمعُ القِيمةَ . وهذه القِيمةُ تُمثِّل تأسيسًا واقعيًّا للظواهر الثقافية، بِوَصْفِهَا سِيَاسَةً للوُجود الإنساني، ولَيس وُجودًا للسِّيَاسة النَّفعية . والوُجودُ الإنساني يَستمد مَعْنَاه العميقَ مِن قُدرته على تحويل رمزية اللغة إلى آلِيَّة معرفية للسَّيطرة على الفَوضى في الشُّعورِ والوَعْيِ والإدراكِ والإرادةِ، وهذه الفَوضى ناتجة عن إعادة تأويل فلسفة التاريخ بشكل يُكَرِّس مَنطِقَ القُوَّةِ لا قُوَّةَ المَنطِق، ويَخدِم الغالبَ لا المَغلوبَ . ولا يُمكِن للمُجتمع أن يُحَوِّلَ سُلطته الاعتبارية إلى نظام حياتي - حِسِّيًّا وحَرَكِيًّا - إلا بنقل الوجود الإنساني مِن الحيوية العقلانية إلى الحُرِّية الفاعلة . ولا مَعنى للحيوية بلا عَقلانية، ولا مَعنى للعقلانية بلا حُرِّية، ولا مَعنى للحُرِّية بلا فِعْل على أرض الواقع . وهذه الروابطُ المُتشابِكةُ تُمثِّل الأساسَ الفكري للنظام الاجتماعي المُتماسِك في مُواجهة الفَوْضَى المُنتشرة في تفسيرِ العلاقات الاجتماعية، وتأويلِ فلسفة التاريخ.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

"ما لا يمكن قوله.. سَيُبكيّ!!" حكمة رائعة لشاعرة يونانية أسمها "سافو" لديها مدرسة في الشعر، عاشت في القرن السابع ق.م، فعلًا أي منا من لم يقول ما يريد فإنه سيرتد إلى داخله فتمزق النفس نفسها، هذه الكلمات التي تغص بها النفس وتتعلثم المشاعر وتختنق ولا يستطيع أعلانها أو قولها تتحول هذه الكتلة من الشحنات التي لم تجد لها منفذًا مقبول في القول والكلام من خلال اللغة ستطعن نفسها بنفسها، تبكي كما يبكي الاكتئابي !! لا ندري لماذا ؟ هل يلوم نفسه، هل هو الشعور العميق بالذنب لأنه أراد أن يعلن عن رغبته في الكلام وربما منعها الأخ الكبير، وعبر لسان فصيح بالقول معنى ومبنى!! هل يردد عدت يا يوم مولدي؟ هل يندب حظه لأنه ولد ولم يُسأل؟ هل هو القدر أم اللا أختيار، من لم يتكلم سينفجر، إذا حمل بين ثنايا نفسه وعيًا مفرطًا، إنها الأذهنة، ومع ذلك فإنه يعبر عنها أحيانًا في موضع آخر من مواضع الأذهنة بهذاءات الفصامي البليغة ذات المعاني العميقة، والاستعارات المهولة بالأفكار وبديلها، أو كنايتها التي هي تعبير لا يقصد منه المعنى الحقيقي، وإنما يقصد معنى به ملازم للمعنى الحقيقي، أنه يزيح ما لا يريد قوله، ويستخدم التكثيف لإفكار يقاوم بها ما يريد أن يبعد نفسه وعن عالمنا هذا، أنه يعيش عالمه الخاص ويتحدث بلغة خاصة مع من أختارهم على المستوى المتخيل، لا عالمنا الواقعي الذي نعيشه، أما في موضع آخر وهو العصابية، إذا أدرك أحساسه وعرفه، وطلب المعونة والمشورة بغية التخلص من وساوسه ومخاوفه وتوهمه للمرض، عاش بمعرفة مع صراع دائم لا منتهي، ولأيامٍ بها من المتعة في الحياة ولكن معاناته لم تنتهي، أنها اللاسوية مقابل السوية المبتسرة- الناقصة.. أعني الذهان والعصاب، والامر سيان في الإنحرافات بكل أنواعها.

نتفق مع طروحات التحليل النفسي بأن التثبيتات في مراحل الطفولة من الولادة حتى البلوغ تضع علامات وتثبيتات، أي علامات وقوف للنكوص، وهو كما تعلمنا وما زلنا نتعلم من التحليل النفسي أن هذه العلامات – التثبيتات تضعف القسم المتطور من الشخصية " كما يدونها لنا مصطفى زيور" بمعنى ترهق كيان الفرد في معايشته بمواجهة ضروب الحياة المتعددة ومواجهة أزماتها، وأولها الخلاص من سلطة الوالدين "لأنني أريد أقول ولا أستطيع فيقول سيجموند فرويد: الحق أن الفرد إبتداءً من سن البلوغ، يتعين عليه أن يكرس نفسه لعمل خطير هو تحرير نفسه من والديه، ويضيف" مصطفى صفوان" قوله: الأب هو النقطة التي من خلالها يحكم الشخص على نفسه: كي يُقيمّ الفرد نفسه يجب أن يبتعد عن نفسه حتى يتمكن من رؤية نفسه.. وإلا لن يستطيع قول ما بنفسه عن أقرب الناس لنفسه، هي الأم، أو الأب، أو الأخ الكبير أو من يشكل شخصيته، ويرى "جاك لاكان" في رؤيته بأن الذات هي عبارة السلبية الحركية اللاواعية التي تقاوم الأسر في داخل بنية الهوية على مستوى الأنا، فالذات اللاواعية المتكلمة بحسب طرح لاكان تتكلم من خلال الأنا، بينما تظل متميزة عنها، ولا تختزل بها، ونقول فإذا لم يحدث هذا فإن الذات ستتهشم، تنشطر، تتشظى، لإنها لم تجد الكلام الذي تعبر به عن نفسها وما بنفسها، وأول تلك الأعراض السيكوسوماتيك – النفسجسمية، من قرحة المعدة، إلى القولون العصبي إلى السكري، أو إلى ضغط الدم وغيرها من أضطرابات جلدية مثل الثعلبة أو البهاق وغيرها، وقول "مصطفى زيور" أن خلجات النفس التي لا تجد لها منصرفًا ملائمًا موفقًا، مصيرها إلى الانحباس في تغيرات عضوية قد تكون على درجة عظيمة من الخطورة، ولذلك فإن "لاكان" فتح فتحًا عظيمًا حينما وجد أن اللغة بإمكانها أن تكون منفذ التفريغ المناسب للإنسان لكي يتكلم بلغة ولسان، وبما أن اللغة نظام عقلي إنساني له مفرداته ونحوه وبلاغته وصرفه وبنيته، كما يقول " فرج أحمد فرج" ويؤكد أيضًا بأن دور العوامل الذاتية في الشخصية في تطويع اللغة – تحريفًا وتشويهًا، كما في الهفوات وزلات اللسان والقلم، لمقاصد الفرد. وأزاء ذلك ما لا يمكن قوله سيكبت "الكبت" حتمًا، ولكنه سيعود ولكن ليس كما كبت، الفكرة التي لم يستطيع صاحبها قولها، ستعود بأفعال وحركات وسلوك لا يدري صاحبه أن أصله يعود لمرحلة سابقة من عهد بعيد في الطفولة، عهد فجر حياة الفرد وسنينه الأولى، لم يستطع التعبير عن رغبته المستهجنة فكان الكبت هي الآلية المناسبة لإخفائها ومحوها من الوجود المعلن، لكنها ذهبت إلى غياهب اللاشعور – اللاوعي بطريقة لا أحد يعرف كنهها إلا من تخصص في التحليل النفسي وسبر أغوار النفس ومداخلها ومنحنياتها وتعرجاتها.

حينما يتكلم الإنسان فإنه يتكلم بلغة، وأن اللغة عندما تتكون لدى الفرد، تكون وظيفتها هي تمثيل (أو بعبارة أحسن، حمل) الرغبة البشرية، والقول يعني هو حمل الرغبة في التعبير عن الشيء، والامتناع عن قوله فهو أما قمع في العلن وهو شعوري واعي، أو كبت بوساطة الحيل الدفاعية وتحويله إلى اللاشعور – اللاوعي وإلغاءه من حيز الواقع إلى مجاهل النفس.. حينما يمنع من القول فإنه حتمًا سيبكي آلمًا، لأنه إلغاء للرغبة، ويضيف " فيليب شملا" يلعب "رومان جاكوبسون" دورًا أساسيًا ضمن المؤلفين الذين يستشهد بهم لاكان، ولن نفهم بالضبط فيم " فيم يكون اللاشعور – اللاوعي مبنيًا مثل اللغة " حسب صيغة لاكان"، ما لم نتعود على النظرية القائلة بـ " مظهري اللغة " وهي النظرية التي طورها جاكبسون، أن نؤكد أو الآليات التي تعمل ضمن الأحلام، وفلتات اللسان والنكات، وضمن كل ما يشكل لوازم التحليل النفسي هي آليات اللغة نفسها، وهذا يفرض علينا أن ننظر عن كثب إلى النظرية اللسانية نفسها، ولدى جاكبسون محوران أساسيان للغة هما: المحور التأليفي والذي يضم انتاج اللغة ويقوم على مجموعة العلاقات التأليفية التي تعتقد بين لغوية تنتمي إلى مستوى واحد، تكون متقاربة ضمن ملفوظ معين، أو عبارة ما، أو مفردة . أما المحور الاستبدالي فيقول جاكبسون لا يتوقف الإبداع اللغوي عند الإنسان على العلاقات التأليفية فقط، إنما يستدعي أيضًا علاقات استبدالية تنتمي إلى مجموعة فرعية تتكون من وحدات لغوية قادرة على أن تضطلع بالوظيفة النحوية نفسها في ملفوظ ما، وبعبارة أخرى يمكن لكل وحدة لغوية من تلك المجموعة أن تحل محل الأخرى في جملة معينة .. وهكذا، إذًا يمكن للكلمات التي تقال أن تعبر عن شيء وربما يكون تحويرها للضرورة القصوى لكي تحقق راحة في النفس، لأن القول يحمل رغبة الإنسان في اطلاق ما بداخله، وإذا أحيل بينه وبين القول تَحدث بعد ذلك الهفوات أو زلات اللسان، أن منعت تمامًا يكون ما لا يمكن توقعه وهو البكاء وما نلاحظه في عدة مواضع من حياة الإنسان. إن الامتناع عن القول وحبس الفكرة من البوح بها هو في حد ذاته خلق لحالة من القلق والانفعال يؤدي إلى الهيجان الذي يظل محبوسًا مما يؤدي إلى اضطرابات نفسية ويقول " علي كمال" فإن الدرجات البسيطة من هذه الحالات تعد ضمن حدود الاضطرابات النفسية، بينما تعد الدرجات الشديدة منها اضطرابًا عقليًا، ويضيف "علي كمال" قد يصعب في الحالة الواحدة وضع حد فاصل وواضح بين ما هو نفسي وما هو عقلي من هذه الاضطرابات بالنظر للتشابه في تحسس المصاب العاطفي في كل منهما، ولامكانية تطور الانفعال النفسي إلى حالة عقلية وهو ما يتكرر في الحالات الحدية Border line، وهكذا يكون وجودنا عبر الكلمات وما نقوله بكل حرية، وقول كريستيان هوفمان في محاضرة له بتاريخ 13/ 4/ 2023 في رابطة الفضاء الفرويدي الدولي بعنوان ما بعد الحضارة الأوديبية لمصطفى صفوان، يقول هوفمان: بالكلام نجد الحلول، الكلمة تبقى هي الوسيط بين البشر .

***

د. اسعد الامارة

 

هناك نقاش في امريكا يرى ان نوعية الخطاب الفكري في مدارس الطب وفي عموم التعليم المهني الامريكي،غالبا ما يكون رديء جدا لدرجة يدعو لهيمنة الايديولوجيات السيئة. ثلاثة اطباء رونالد دوركين، جيمس لينش، ثيودور دالريميل جادلوا، بان العديد من الايديولوجين يهتمون بالسطة اكثر من اهتمامهم بالحقيقة، وان التعليم المهني لم يفعل الكثير لتحفيز الخيال الأخلاقي للطلاب، وان الجهود لإعداد الطلاب المهنيين للمواطنة ربما تدفعهم نحو الاستبداد.

في حوار فيدو لافلاطون، يحدد سقراط ما يراه أكبر خطر يمكن ان يتعرض له الانسان. انه ليس فقدان الثروة، ولا خسران السلطة او المعاناة من المرض او السجن وحتى خسارة الحياة. كلا، بالنسبة لسقراط الشر الأعظم الذي يمكن ان يحل بالانسان هو ان يصبح كارهاً للنقاش mislogist. مثلما كارهو البشرية misanthropes يحتقرون الناس الآخرين، كذلك كارهو النقاش يكرهون الخطاب العقلاني او المحادثة الجيدة. في إنكارهم قيمة الحديث، هم يهاجمون ضمنيا جوهر نصوص التقاليد الفلسفية الغربية، وحوارات افلاطون.

هنا تكمن أحدى أهم مظاهر الفشل في التعليم المهني والتطبيقي المعاصر. العديد من اساتذة الجامعات والمحامون ورجال الدين والأطباء ينفذون أعمالهم اليومية في بيئة خالية من المحادثة الجيدة.أساتذة الجامعة ربما منشغلون جدا في ضمان حيازتهم على متطلبات الرصانة، المحامون ربما منشغلون جدا في تعقّب وتدقيق اجور ساعات عملهم، رجال الدين منشغلون جدا في شغل مقاعد الكنيسة، والاطباء منشغلون في ضمان تلبيتهم لمتطلبات الترميز واجور الخدمة. هم جميعا منشغلون لدرجة انهم لايستطيعون التركيز على الاهتمام الملائم لهم. لكن تحت هذا الإنهماك تختفي مشكلة أعمق واكثر خطورة. العديد اعتقدوا انهم كانوا يمارسون مهنهم لتنوير العقول، وترسيخ العدالة وتعزيز الخلاص وإنقاذ حياة الناس، مع ذلك هم يكتشفون بمرور الزمن بانهم منخرطون في نوع من العمل مختلف كليا. معلموهم، اولئك الذين وثقوا بهم ليرونهم الطريق، احيانا يتضح انهم فقدوا أنفسهم. هم لايزالون يتكلمون أقوالا مهنية مبتذلة لكنهم فقدوا كل قناعة وتوقفوا عن فهم ما تعنيه الكلمات حقا.

مقابل الكارهين للبشرية والكارهين للنقاش، هناك وكما يذكر سقراط، الانسان الذي يتعامل مع الحجج ويبدو صائبا في وقت، وزائفا في وقت آخر، وهو لا يلوم نفسه او افتقاره للقدرة وانما، بسبب قلقه ينتهي بنقل اللوم بعيدا عن نفسه نحو الحجج ذاتها ممضيا المتبقي من حياته كارها المحادثات المعقولة وسيكون محروما من الحقيقة، ومن معرفة الاشياء بالطريقة التي هي عليها حقا.

تصحيح وجهات النظر الزائفة ليست ادانة عاطفية، تلصق وصفة لاولئك الذين لا نتفق معهم باعتبارهم غير متعلمين، اشرار. هناك راحة لايمكن إنكارها في تبنّي التحيز باننا، بسبب تعليمنا الراقي، والذكاء الواسع والسمات المتفوقة فطريا، لكن هذه بالطبع فقط شكل آخر للادانة العاطفية . ما يدعو له سقراط هو ليس تأكيد ذاتي متعجرف وانما اشتراك مخلص في الحوار بما في ذلك محادثة جيدة مع منْ لا نتفق معهم. للوصول الى حقائق أعمق، نحن يجب ان نتحدث عن طريقتنا من خلالهم.

الكارهون للجدال، باختصار، لايؤمنون بالحقيقة، بل لا يرون هناك شيء اسمه حقائق. هم يعملون بقناعة ان المحادثة لا تقودنا الى شيء. بدلا من الانخراط في استطلاع جاد للافكار، هم يفضلون هكذا اساليب كالخداع والتخويف والإكراه. في عالم الافكار كما في عالم السياسة، هم يفترضون ان الاقوياء والاذكياء يقومون بما يرغبون به وان الضعيف والكسول يقاسي مما يجب ان يقاسي منه. لكي تربح، من الضروري ان تفرض على الآخرين الرؤية التي لا فائدة من المحاولة بها.

اولئك الذين يرضخون امام كارهي النقاش يجمع بينهم شيء مشترك وهو- الصمت. من خلال عدم قول أي شيء، الفعالية التي اصبحوا مقتنعين ان لافائدة منها، انها تساعد في خلق مناخ يكون فيه الجدال الجيد والمحادثة الجيدة ظاهرة نادرة لو نالت التشجيع. الافكار تنحدر الى مجرد ايديولوجيات والمحاورون يذوبون الى نوع من الحمقى، غير قادرين على المساهمة. هم ليسوا بالضرورة صامتين، لكن في الكلام هم يخونون الرؤية بان جميع التعابير اللفظية حتى بملامح أخلاقية او ثقل سياسي هي ليست اكثر من تعبيرات عن الرأي تشبه كثيرا آيس كريم مفضل.

فقط الكاره للنقاش يمكنه الجدال انه يكفي لمعرفة الحقيقة. اولئك الذين يعرفون الحقيقة، بمقدار ما يعترفون بالعارفين الاخرين، طبيعيا يشعرون بمعيار عميق من المسؤولية لمساعدة الاخرين في تصحيح سوء فهمهم وبعمل كهذا يضعون انفسهم اقرب الى الطريقة التي عليها الاشياء حقا. لماذا سقراط انفق مزيد من الوقت في السوق منخرطا مع الاثنيين والاخرين في اختبار رؤاهم؟ لأنه بهذا العمل هو كان يمارس السخاء بأعلى أشكاله، وهو يثري نفسه ايضا عبر تعزيز فهم متبادل .

بالنهاية، حياتنا لم تُبنى على القوى المادية والجزيئات اكثر مما بواسطة الكلمات، وفقط عندما نفهم الكلمات بشكل صحيح نحن فعلا لدينا الفرصة للعيش بشكل صحيح .

أخطر الأعراض في التعليم المهني المعاصر هو ليس الصمت وانما أحد اضداده – ضجيج الايديولوجية. الرؤى تُطرح كدوغما ولن يتم تحدّيها ابدا. الطلاب قيل لهم احيانا اشياء غير معقولة وحتى متناقضة ذاتيا مثل الثقة الذاتية بانهم صُنعوا ليشعروا ان استجوابهم سوف يحط من قيمتهم دائما كدوغمائيين. حتى إثارة السؤال يوصف كفعل لخيانة المكانة. وكما يقترح دوركين، التعليم يضعف، الأسئلة لن تُطرح، والكلام ينتهي باناس مكرهين للتحدث بكلمات لايؤمنون بها ولا يفهمونها.

عندما نأتي الى مثل هذه الثقافات الغامضة، فان افضل مطهّر هو الضوء – ليس ضوء التحقيقات القائمة على الفرضيات ولا اساليب الاحصاء الحيوي، وانما ضوء المحادثة الجيدة. عالم الاشياء المُقاسة أصغر بكثير مما يُعرف في الكون، وان اولئك الذين يهتمون بالحقائق التي تهم الأغلبية يجب ان يمتلكوا الشجاعة لتجنب الاعتماد الصارم على المهارة الخاصة والتجربة وتفضيل نوع من المعرفة يمكنها ان تصنع او تحطم شخصية الفرد او الجالية.

المضاد لكاره الجدال هو الفيلسوف - شخص ما يحب الحكمة ومتابعتها. التعليم يحتاج فلاسفة، القانون يحتاج فلاسفة، رجال الكنيسة يحتاجون فلاسفة، كل المهن تحتاج فلاسفة، اناس لا يهتمون بالنقود او الشهرة او السلطة اكثر مما يهتمون بالحقيقة. هم يستجيبون اكثر من اي شخص آخر لدعوة المواطنة في مهنهم لأنهم يريدون ضمان انهم يسيرون طبقا لنجوم حقيقية وبهذا يخدمون بشكل أفضل حاجات اولئك الذين هم وُجدوا لأجلهم. وكما يشير لينش، من خلال مواجهته المرضى، المرشد الطبي الناجح يثير الخيال الأخلاقي للمتعلمين.

الفيلسوف لا فائدة له من الايديولوجية، سواء كانت تقدمية او محافظة، تحررية او شمولية، نسبية او مطلقة – لا فائدة منها، الاّ بمقدار ما تخدم كنقاط مفيدة للانطلاق لأجل محادثة واقعية. وكما يوضح سقراط بشكل رائع مع كل شركائه في المحادثة، نحن يجب ان نبدأ كل سفرة ليس من نقطة مثالية وانما من حيث ما نهتم . الطبيب المثالي لايدعو لإستبدال السياسة بالطب وانما كمواطن مهني يأخذ بجدية عالية مسؤولياته تجاه جيرانه والمجتمع.

من أين نبدأ؟

عبر انخراط المتعلمين في المحادثة في غرف الدراسة، او غرف المحكمة او بيوت العبادة او في الكلنك. يمكن دعوتهم لغداء او قهوة او للاشتراك بنقاش او مجموعة قراءة. لا احد يسعى للإحلال وانما للاستجواب – لإستجواب أنفسنا بالاضافة لهم. لابد من السعي لإستبدال الآراء غير المختبرة بحجج والحجج الضعيفة باخرى أقوى. نحن نقاوم قدر ما نستطيع دافع السب والسخرية، نختار بدلا من ذلك التعامل بجدية حتى مع وجهات النظر الأكثر ضعفا بحيث تكون هناك فرصة كي تبرز عيوبها في وضح النهار.

هل يجب ان نعتبر أنفسنا مذنبين بسبب استبدال اولئك الذين جاؤوا قبلنا؟ هل يجب ان نعترف ان محاولات تصنيف الناس عادة تصدمهم وتسبب لهم أذى شديد ؟

هل يجب ان نحارب التعصب الأعمى من خلال تعصب ضد المتعصبين؟ هل يجب ان نصغي للاخرين الذين لا نتفق معهم؟ هل يجب ان نبحث عن اولئك الذين كانوا مهمشين؟ هذه اسئلة مثمرة لو عوملت بروح فلسفية حقة، ستنقلنا على طول المسار نحو فهم أعمق. وعندما نجد أنفسنا في أعلى درجات الإعتداد بالنفس سنكون قريبين جدا من الإستبداد.

الحياة الايديولوجية، مثال عن الحياة غير المختبرة، لا تستحق العيش. في الحقيقة، انها شكل عقيم من الوجود، بمقدار ما تجرّد الفرد من أهم الخصائص الضرورية للانسانية، القدرة على ايجاد الكلمات الملائمة للاشياء، كما عمل آدم في قصة خلق التكوين . في النهاية، حياتنا لم تُبنى كثيرا على القوى المادية والجزيئات اكثر من الكلمات، فقط عندما نفهم الكلمات بشكل دقيق وصحيح ستكون لدينا فرصة للعيش الصحيح. نحن يجب ان نصقل ونهذب قدراتنا الفطرية للتكلم جيدا مع الآخرين. والاّ سوف لن نكون أكثر من كارهين للنقاش وغالبا ما ننزلق نحو كراهية البشر.

Ideology and the ultimate Evil. March31, 2023, Law&Liberty

***

حاتم حميد محسن

 

لنبدأ من افلاطون حيث يعول برديائف على تفكير نوعي عند افلاطون ازاء علاقة المعرفة بالزمان اولا، ففي التعويل يرى نيقولاي برديائف بأن المعرفة انتصار على الزمان، ولكن اذا احلنا الامر للزمن فالمسألة ستختلف في تدبيرها او تفسيرها، واذا كانت المعرفة تتصل بالتاريخ بشكل وثيق في افق خاص، واما الافق العام منذ بداية البشرية والى اليوم، كل معرفة حتى لو كانت جديرة يميل بها الزمن الى العدم، فيما المعرفة في الافق الخاص هناك اشهار له وتوثيق، حيث تسعى المعرفة منذ قديم الزمن الى كسب نصف الاجابة عبر طرح اسئلة مثيرة للجدل من جهة، ومن جهة اخرى تمس العلم بشكل مباشر تلك الاسئلة، وصراحة المنهج العلمي لولا دور المعرفة الساند، لكان قد دخل في افق التحنيط، ودور المعرفة ليس فقط في اثارة السؤال، بل تمتلك المعرفة القدرة في كشف ابعاد منطقة الفراغ، والخروج بنتيجة مطمئنة، والمعرفة هي التي استدعت الميتافيزيقا لتكون واجهة من الممكن أن تتحول فيما بعد الى اطار علمي جديد، لذا (والمعرفة تذكر حينما تتعلق بحقيقة لا يمكن نقلها بواسطة التجربة الحسية المباشرة، اي حينما تتعلق بتجربة خارج هذا الزمان المفكك الذي نسميه الحاضر)1، فالمعرفة هي المستقبل الذي من الممكن وجوده في حيز ذلك الحاضر، ووفق هذا التصنيف تتميز المعرفة على الزمان والتاريخ والحضر، فهي ما يدعى بالأعجاز العلمي، والذي يشغل بال المنهج ويبهجه .

اذا قبلنا وقنعنا بفكرة بأن المعرفة هي المستقبل الذي تمكن من التعايش مع اللحظة الحاضرة منتصرا على الزمان والتاريخ والمنهج ايضا، فبؤس المنهج بدا وضحا من عقود، لكن تلك الهيبة الزائفة ترفض أن تزول، ومن هنا تكون علاقة المعرفة بالزمن مختلفة، ولابد من افق زمني ملاءم لها، ونعتقد ذلك الزمن الذي يراه التصنيف الزمني من الممكن أن يميل بموضوع او فكرة او حقيقة حتى الى العدم، ولكن المعرفة لا تعول على ذلك الزمن كثيرا، ولا هي بساكنة كما المنهج لتعول على الزمن العضوي، والمعرفة هي قديمة وقد سبقت التاريخ، وقد قدر لها التمكن من ازاحة التاريخ والزمان، حيث المعرفة هي لحظة العقل الاولى في اول تعرف حضري قام به الفرد البدائي لتجديد نفسه، وكما هي في المفترض الزمني تلك الايقونة التي لم يكشف المستقبل عن البعد الرمزي لها بالشكل التام، لعدم توفر اية ظروف مناسبة، وكما هي ذلك السؤال الذي يحفر في حجر الحكمة ليكشف عن مضامين فكرية جديدة، وهي تلك اللحظة الزمنية المسكونة بالأعجاز على الدوام، ولن تنتهي تلك اللحظة، ولا هناك زمن يميل بها الى العدم، الا اذا كان هناك اطر ميتافيزيقية صارمة تقف وار العقل العلمي مثيرة له، ولكن من الطبيعي لا يمتلك لها هو اي قدرة على المعالجة والاكتشاف، وينسحب عنها المنهج العلمي مبتعدا كي لا يسقط في فخ المجهول .

اذا كانت الفلسفة حسب التصورات القانعة بالفكرة، قد تحولت قبل عقود الى منهج علمي، وعلى وجه الخصوص بعدما ازدهرت فلسفة الفيزياء، فنحن نرى ذلك ليس بتحول عن اطر الفلسفة التقليدي الى منهج جديد، لا يجد اي اعتراض او جدل يقوم عليه، وتلك الفكرة نراها ضيقة الافق، فالطروحات الفلسفية عن علم التاريخ من الممكن طرحها على علم الفيزياء، والنظرية هي ليست المنهج ذاته، بل افق مجاور له، وتلك النظريات التي من مثل ما طرحه الفيلسوف الليبرالي راسل في الافق العلمي، هي لا تتنمي للمنهج العلمي بل تنتمي بشكل خالص للفلسفة، ونحن نرى لكل عصر فلسفته، وكان القرن العشرين هو الاهم في التاريخ، حيث بلغ المنهج العلمي الى اقصى مستوياته، وتمكن العقل المتنوع من التقارب، وهذا ما اهل اكثر من فيلسوف من مسك تفاحتين بيد واحدة، وقد برع ماريو بونجي، في طرح فلسفة العلم باطار معرفي ومنهجي في ذات الوقت، وكذلك في الاهتمام بالمعرفة الإنسانية، ويعتبر كتابه - المادة والعقل – والذي عرفه كبحث فلسفي في ما صاغته تلك المعرفة التي يتصف بها، وهذا ما يمكن تسميته بالكلاسيك الجديد للمعرفة الإنسانية الخلاقة والفلسفة المعاصرة، وتلك احد مؤشرات الاهمية التي ميزت المعرفة، في اتخاذ المنهج العلمي والتحري وكشف المجهول من داخله، ونجح العقل المعرفي في طرح فلسفة جيدة بوحدات زمن ملائمة لها لطرح السؤال الاجدر .

تتعدد الازمنة كما تتعدد وتختلف ابعاد المعرفة من قرن الى اخر، فالبداية كانت لحظة اكتشاف اكثر مما هي لحظة تعرف، ولكن لم تتوقف لحظة الاكتشاف بعد تأسيس المجتمعات ودخولها في افق الحضارة والتاريخ، وقد توالت اطر المعرفة من افق زماني تاريخي الى اخر، وكذلك توالت الازمنة المرتبطة بالمعرفة وسيرورتها، ومن الطبيعي هناك طبيعة عقلية لكل قرن من قرون التاريخ والحضارة، وبدأ النشاط المعرفي يتبلور فلسفيا منذ سقراط، فهو كشف لنا عن المعنى المكنون للفلسفة، وما تتميز فيه من معرفة جديرة، فالمعرفة الحقيقية هي النقاء والاصالة والتجديد، وتلك الصفات تمثلت في النموذج الاوفى للمعرفة، وسقراط دلنا على نقطة الارتكاز المعرفي، فإذا كانت هناك كراهية داخل النفس البشرية تحررت المعرفة وابتعدت كثيرا، فالكراهية سمة الجاهل، والذي هو بالأساس الوجه المعاكس لنقاء المعرفة، ولكن لندخل في صلب الصراحة، الصولجان والرأسمالية والاشتراكية ايضا اشرت الاضداد لغرض سياسي، فأمريكا استغلت معرفة انتأين، وكان سجن الغولان نهاية كل عالم جدير لا يطيع ارادة ستالين السياسية، وتطورت الفكرة اكثر، ولا يمكن النفي من وجود معلم يكره بعض التلاميذ لسبب او اخر، وهذا طبعا خلاف الاصول المعرفية ذات اقصى مستويات النقاء، والتي تمثلت بجدارة في شخصية سقراط، وكانت بحق أن تجعله القدوة والنموذج المعرفي الاسمى، فما خذا المعرفة والعقل بل خذل الجهة الاخرى حين اختار السم، وما تخلى عن افكاره المعتبرة .

نحن نمزج ما بين المعرفة والعرفان حسب منهجنا الفلسفي، ففي المعرفة النقاء التام يشكل اهمية ووحدة اساس، وفي العرفان ايضا ترد نفس الفكرة لغرض اسمى واجل، فالعارف لا يقف عند افق ومستوى المعرفة البشري، بل يسمو ليبلغ المعرفة العلوية، وتلك من اهم العوامل التي تخلى عنها البعض معرفيا، والقصد أن تسمو بإنسانك لتبلغ اقصى معارج الروح في تدرجك، والمعرفة الحقيقية تدخل في صميم العرفان، حيث السعي الحقيقي في اكتشاف الجمال يكون بذلك التدرج والاكتشاف والانعراج، وتلك الخبرة الروحية هي الديالكتيك الذي به تنضج الخبرة، وذلك ليس بتفكير ميتافيزيقي او رسم عرش للعدم، ونعرج على فكرة جديرة ترى (في ذات الوقت إن معرفة العدم هي عدم للمعرفة، وإن العدم لا يمكن الوصول اليه الا تحت اشكال هجينة وهو متداخل في الوجود)2، ونحن لسنا الفكرة بعينها، لكن مع الرأي في تأهيل وايجاد اشكال هجينة ورحيا وليس ماديا، فالمادة تمكنت من ذلك، لكن نحتاج الى خبرة روحية في هذا المجال، والعقل والخبرة العقلية لا تكتمل ابدا ما دام هناك ديناميكية معرفة تعمل بشكل دائم، ونحن علينا أن نؤمن بأن ثمة عدم فينا تسعى المعرفة لكشفه، ولا يستثنى احد في البشرية من وجود عدم فيه هو ذلك الفراغ والنقص المعرفي المعتاد، والذي يبقى على الدوام يؤشر وجود نسبة من العدم لا تجد لها معرفة تحولها الى حقيقة مفترضة .

شكلت المعرفة تلك الروح الحية للاكتشاف والخلق والانتاج، وهي السيرورة المستمرة، والعالم ينتقل في التفكير من الفلسفة القديمة ومبتغاها ازاء الوجود الى الفلسفة الوسيطة واللاهوت والمثل الكبرى، ومن ثم جمعت المعرفة بين الذات والموضوع، بوصف المعرفة هي السياق المعنوي، والذي يتمكن من جمع ذلك التضاد القائم اساسا ما بين الذات والموضوع، واذا كانت المثالية عبر كانط قد مالت عبر نزعة عقلية لتفضيل الموضوع على الذات، والاهتمام بمفهوم الاخلاق والمنظور الإنساني، واتجه كانط الى الميتافيزيقا عبر فكرة القصور موجود في السببية، فليس كل معرفة تركن الى السببية، وتتفق فلسفة ما بعد الحداثة مع المفهوم الكانطي، ففلسفة ما بعد الحداثة تجد التحليل المعرفي عبر الميتافيزيقا، هو يجذب غير الممكن الى حالة الامكان، ومثلما توصل المفهوم الديكارتي الى النتيجة عبر افق المنطق العضوي، فتجديد الميتافيزيقا الى امكان مواكبتها السعي المعرفي وتقنين الخيال نسبيا، فالنظر الى لوحة فنية يساوي النظر الى ما وراء تلك اللوحة، واذا كان الفن قد كشف لنا عن ابعادا واستدل بها، فمن الطبيعي اعطى لمفهوم الجمال البعد الاوسع المتحرك وغير الساكن، واصبح لدينا حسب كشوفات المعرفة عدة ابعاد، فهناك ابعاد الفن الثلاثة، وهناك البعد الرابع للزمان، واما البعد الخامس الاكثر افتراضا فهو للقيمة الجمالية، وصراحة عبر هذا التفسير يمكن مواكبة مفاهيم السوريالية على اقل تقدير، ولابد من حكمة للفن تكمن ما بين الاصالة والتجديد .

اذا فسرنا الزمن عبر امكانات المعرفة المتاحة، فسنكون نحن ما بين افتراض نعتبره نتيجة وما بين الافتراض الاخر ايضا، والعقل المعاصر من الممكن أن يكون بتلك الحرية النوعية، وصراحة المعايير الكلاسيكية لم تعد تلاءم روح العصر، لذا تجنب الفلاسفة المثالية الجديدة، والتي لم تستغل الا باعتبارها ميتافيزيقا موضوعية، لذلك اصبح مفهوم التفاهة يمتلك ميزة في هذا العصر ما خلال تلك الموضوعية الحرة التي تميزت بها الميتافيزيقا، والتحول عاد من جديد يأخذ مجراه المقبول من الذات، ولكن الى المادة، فالمادة هي المركز التوعي، والذات لا تمتلك الامتناع بل الاستجابة لذلك التغير المثير، ولكن الاخطر في الامر مساواة المادة بالذات، بل اللعنة التي حلت بالبشرية حين تتمركز المادة كسلطة جذب، وتكون للذات الحرية في الانجذاب نحو المادة، واعتقد هذا التفسير الجديد لمبدأ ديكارت، ولكن كما نعتقد بصيغة مقلوبة، فالمادة لا تفكر والذات هي مركز التفكير، واعتقد الرأسمالية والاشتراكية والاسلام السياسي أن عليها أن تستوعب مديات ذلك التحول العصيب، ولكن هي قد انسحبت الى الخلف في ذات الوقت، والذي فقدنا معنى الإنسان، والذي قد استغل ايديولوجيا الى اقصى الحدود، والى العن حد، حتى واجه العقل الجدير تلك القطعان المنتجة للمصالح وليس للمبدأ، وحرية العقل المتاحة هي وهمية وليست حقيقية، فمن كل جانب هناك قطيع، والاخطر هو قطيع الاسلام السياسي، فالسيف هو وسيلة الحد والتجريم، لا بديل للموت ابدا .

***

محمد يونس محمد

....................

1- العزلة والمجتمع – نيقولاي برديائف – ترجمة فؤاد كامل – دار الشؤون العراقية – ص 132

2- المرئي واللامرئي – موريس ميرلو بونتي – ترجمة د سعاد محمد خضر – دار الشؤون الثقافية – ص 84

 

تصدير: الحقيقة التي لا يمكن للعقل الفلسفي تصديقها ولا حتى ادراكها ادراكا سليما هو ان تاريخ الفلسفة اصبح اليوم عبر عصورها الطويلة بضوء تسارع منجزات علم الفيزياء والنظرية النسبية ونظرية الكوانتم سلسلة من الثرثرات اللغوية التي لاقيمة لها بالحياة العملانية.

كما اصبح الاقرار الفلسفي اليوم الذي لايحتاج كبير عناء تجريبي التاكد منه هو ان الفلسفة توازي العلم ولا قدرة لها ان تقاطعه وتتعايش معه الا جثة هامدة الى جانبه بالقياس الى تسارع منجزات علوم الطبيعة والفيزياء بتسارع مطرد لا تفهمه الفلسفة ولا تستطيع تفسيره بادواتها الكلاسيكية القديمة. لقد كان كانط اسطورة الفلسفة في احتياله على معطيات العلم حينما قال في كتابه نقد العقل المحض انه كتاب يحتوي آراءا فلسفية خارج تجريبية العلم وقفل الموضوع بالدرس الذي لم يستوعبه من جاء بعده ان الفلسفة لا يسعها لا التقاطع مع العلم ولا السير بموازاته بتكافؤ معه. ومن يأمل اليوم وضع الفلسفة في خدمة الدين يخون الدين ولا يفهم الفلسفة. لقد حاول ذلك فلاسفة كبار في تاريخ الفلسفة امثال ديكارت وباسكال ولايبنتيز وفشلوا فشلا كبيرا. فمن يسقط بالحياة لا يسنده من هو آيل للسقوط من بعده.

المتن

كما قضى الدين على الاسطورة والسحر نحّى العلم الدين عن طريقه في محاولة الاجهاز النهائي على مستقبل الفلسفة والسرديات الكبرى في مقدمتها السرديتان الدينية والماركسية التي اكتشف العالم انتهاء تاثير هذه السرديات كما تنبأ به عالم الفيزياء ستيفن هوكنج وروّجت له مرحلة ما بعد الحداثة ان السردية الفلسفية في طريقها الانزياح امام هيمنة علوم فيزياء الكون المطلقة الكاسحة. وتعلل بعض الفلاسفة أن رأي ستيفن هوكنج هو رأي عالم فيزياء وليس رأي فيلسوف تعاطى التفلسف والفلسفة باقية بقاء الفلاسفة لا بقاء علماء الفيزياء.

في مقال أعجبني للاستاذ حاتم محسن حميد نشره على موقع المثقف تاريخ 11/4/2023 تحت عنوان (ماذا يعني الان باديو بمعارضته الفلسفة؟ ) اشار الى ان الفيلسوف الفرنسي المعاصر الان باديو ومعه اتباعه هاجم الفلسفة بضراوة متهما اياها انها في مباحثها اليوم اصبحت زائدة دودية في جسد المعرفة الانسانية. وعليهم التفكير بشيء آخر غير الفلسفة يحل محلها. هذا تلميح لما عرضه استاذ حاتم في مقالته عن كتاب الان باديو حول وجوب دفن الفلسفة والخلاص منها.

هذا التوجه في معاداة الفلسفة ليس جديدا بالنسبة لعامة القراء والمثقفين على نطاق عالمي لكن جدّته أن يصدر اليوم عن فيلسوف فرنسي يدين الفلسفة من داخلها وهو احد متعاطيها ومعه ثلة من فلاسفة فرنسيين واوربيين يؤيدون مثل هذا الطرح. الان باديو اراد محاولة استبدال الفلسفة بما يعوّض حاجتنا الزائفة المكابرة لها على حد اعتياشه على مثل هذه الصرعة القديمة الجديدة انتهاء عصر الفلسفة..

على مدار تاريخ الفلسفة نعثر على عشرات الفلاسفة عبر العصور ادانوا عدم جدوى الفلسفة في استنفاد طاقتها الفكرية الحيّة الموصولة بالحياة بدلا من التحديق الماخوذ بميتافيزيقا الوجود الانساني.. وكانت الفلسفة في كل كبوة تكاد تقصم ظهرها تستعيد مسيرتها بتقليعات استهلاكية فلسفية لا تلبث ان يخبو بريقها وتموت في بطء لا تحسد عليه. عثورنا على مباحث فلسفية هابطة عبر تاريخ الفلسفة هو عيب الفلاسفة وليس عيب الفلسفة.

المقولة الفلسفية التي لم يصدقها ويعمل بها الفلاسفة منذ قرون طويلة ان الفلسفة في كل مباحثها هي ميتافيزيقا قائمة على منطقية لغوية لامعنى واقعي لها في الغالب ولا فائدة تطبيقية منها بالحياة اليومية. لتواجههم حقيقة فلسفية بلا مكابرة تلفيقية أن الانسان كائن ميتافيزيقي بالفطرة وحده فقط وليس مباحث الفلسفة ميتافيزيقا لا جدوى منها.

طبعا كان المقصود بميتافيزيقا الانسان بالفطرة معناه انه كائن متديّن بالفطرة كما هي خاصيته كائن اجتماعي ناطق. الفلسفة على حد تبريرهم وهم ان مباحث الفلسفة بقيت عصورا طويلة تقوم على الوجود بماهو موجود في مركزية الانسان فيه، والمبحث الثاني هو ان مبحث الابستمولوجيا يتداخل مع المبحث الاول في مركزية الانسان ايضا هي مركزية معرفة مفهومية بالفلسفة وليس معرفة علمية. والمبحث الثالث والاخير هو مبحث القيم والاخلاق والسلوك النفسي العاطفي الوجداني في مركزية الانسان ايضا.

إذن بلاغة وصدق بروتوغوراس في مقولته (الانسان مقياس كل شيء) خالدة خلود ولادة براجماتية الفلسفة الامريكية التي وصفها بحنق شديد بيراتراند راسل انها فلسفة نذلة وخسيسة لكن واقع الحال لم يكن كذلك للاميركان.

في تاريخ الفلسفة المعاصرة نجد فلاسفة سبقوا الان باديو في دعوته تجديد الفلسفة جذريا من مباحثها الكلاسيكية الثلاث مثل فينجشتين وجورج مور اقطاب الوضعية المنطقية التحليلية الانجليزية اللذان هاجما الفلسفة على انها اصبحت عبئا لغويا في تشتيتها مباحث الفلسفة التقليدية. ودعا الاثنان فينجشتين ومور ضرورة التخلي عن لغة الفلسفة العصيّة على الفهم الاستقبالي واستبدالها بلغة الوضوح القريب من اللغة الدارجة مجتمعيا والا كان الصمت اجدى حين يكون عجز التعبير اللغوي عن افكارنا بوضوح يفهمه العامة على حد تعبير فينجشتين وجورج مور لا يقاطع لغة الفلسفة العصيّة على الاستقبال والتلقي بما يستقي من ينابيع الحياة الواقعية..

كما لا نعدم وجود فلاسفة منذ القرن السادس عشر مثل فرانسيس بيكون الذي هاجم الفلسفة في اسلوب تهكمي ساخر فريد من نوعه سبقه فيه الفيلسوف الارستقراطي هولباخ وكتابات نيتشة التهكمية الساخرة عن لا جدوى الفلسفة. كما اعلن بيراتراند رسل بعد اخفاقه في جعل فلسفة اللغة تقوم على ركيزتي المنطق والرياضيات حسب توصية جاتلوب فريجة وبعد تفكك ماسمي حلقة اكسفورد التحليلية المنطقية التجريبية اعلن راسل صراحة على الملأ انه يفهم بالعلم ويجهل الفلسفة في نبرة تنم عن رغبته الهروب من مسؤولية الاخفاق بدل مواجهة نتائج معركته الخاسرة في تحويل الفلسفة الى منطق رياضي.. وبعد انجاز ما يقرب من خمسين مؤلفا لراسل بالفلسفة اتجه نحو تاليف مثل عددها من كتبه في مباحث ليست فلسفية صرفة حتى وفاته موّثقا تقلباته الفكرية المعهودة عنه في مؤلفاته المتأخرة بعيدا عن مباحث الفلسفة التي استنفدها ولم يعد لديه ماهو جديد يقوله فيها. .

ولو استذكرنا تجربة كارل ماركس وهو قمّة راس هرم الفلسفة المعاصرة في هجره ومعاداته الفلسفة وهجومه عليها بعبارته الشهيرة وجدت الفلاسفة والمفكرين يفسرون التاريخ البشري بدلا من العمل على تغييره. حين وجد ماركس مباحث الفلسفة عقيمة التطويع الايديولوجي الثوري بما ينفعه في طموحه تاليف كتاب راس المال في الاقتصاد السياسي القائم على ايديولوجيا صراع مصالح الطبقات الغنية والطبقات او الشرائح الفقيرة ترك الفلسفة جانبا بعد ان وجدها (مبحثا في ميتافيزيقيا البحث عن الحقيقة) على حد تعبير الباحث حاتم حسن حميد المقتبسة عن الان باديو في مقالته المشار لها.

اجد في ادانة الان باديو وقبله عالم النفس السلوكي الفيلسوف الفرنسي ايضا جان لاكان وعديدين من فلاسفة البنيوية مثل ليفي شتراوس وفوكو والتوسير ودي سوسير انهم بدأوا متحمسين لانقاذ الفلسفة من وهدة سقوطها العقيم في اجترار من تدوير الافكار الفلسفية مع تبنيهم فلسفة اللغة ونظرية المعنى والتحول اللغوي والتوجه نحو علوم اللسانيات اللغوية مطلع القرن العشرين وسرعان ما تخّلوا عنها لامثال بول ريكور في التاويلية وجاك دريدا في التفكيكية وفانتيميو في العدمية يصولون ويجولون في اللعب على مبحث فلسفة اللغة التي اصبحت الفلسفة الاولى في منتصف القرن العشرين على حساب إزاحة مباحث الفلسفة الاخرى خاصة مبحث الابستمولوجيا الذي شن عليها الفلاسفة الاميركان أمثال ريتشارد رورتي وجون سيرل وسيلارز وسانتيانا وغيرهم هجومهم الكاسح علىيها معتبرينها مبحثا فلسفيا استغفاليا سرق من تاريخ الفلسفة قرونا طويلة. وكان هذا النقد الشديد لمبحث الابستمولوجيا جاء قبل تفكير فلاسفة فرنسا والمانيا به. ليواجه فلاسفة البنيوية اللغويين الفشل الذريع امام الفلاسفة الاميركان الذين نصحوهم بعد انتهاء فترة استقدامهم التدريس بالجامعات الاميريكية العودة الى بلدانهم فرنسا ودول اوربا اذ لم يبق لديهم ما يستحق الاهتمام به في فلسفة اللغة والعقل واللسانيات بعد استلامهم اي الفلاسفة الاميركان زمام المبادأة منهم في تطوير مباحث فلسفة اللغة واللسانيات ونظرية المعنى..

لماذا يدين الفلاسفة الاوربيين الفلسفة اليوم؟

ازمة الفلسفة اليوم عالميا هي ازمة الثقافة المكتوبة التي تلازم هيمنة موسوعية الانترنيت الهائلة التي لاحدود لها في طموحاتها العلمية المتحققة والمستقبلية سواء في اروقة الجامعات او على صعيد القراء في ضروب الاجناس الادبية من شعر وقصة ورواية ونقد. كما هو الحال ايضا في مختلف مباحث السرديات الكبرى في التاريخ والدين والانثروبولوجيا والاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع وغيرها.

عالم اليوم ليس عالم النخب الثقافية كما بالامس ولا عالم النخب الفلسفية التي تقود بل عالم النخب التي تنقاد في عزلتها المجدبة الثرثارة القائمة على تدوير الافكار باختلاف لغة التعبير لا في اختلاف لغة المعنى الهادف. عالم اليوم مع الظهور الاستهلاكي الصناعي المبرمج لافاق استخدامات الانترنيت الترياق الاستهلاكي البيولوجي بامتياز ليس الكفيل باشباع الحاجات البيولوجية الغرائزية وحسب بل الساحر العجيب في قتل الوقت استهلاكا كسولا، وترسيخ الاغتراب الانعزالي عن المجتمع، وتعاطي الاباحية الجنسية، وإدمان المخدرات والكحوليات، ودخول نفق كآبة الحياة في انتشار الفقر والبطالة وغير ذلك.

وسط هذا التيه العدمي المعاصر اصبح كل ماهو بعيد عن اشباع حاجات الاستهلاك البيولوجي والغرائزي اليومي السريع لا قيمة له في مقدمتها تاتي الفلسفة النخبوية التي تتطلب مطاولة وجلد قاس في فهم مباحثها بالقراءة الورقية والالكترونية.

لامجال بعد اليوم لكل فعالية معرفية جادة تجدها تحتضر وسط مجتمعات تمور بشتى انواع الاستهلاك اليومي البوهيمي المتسارع جدا. مجتمعاتنا العربية لا تهتم بالفلسفة لانها تتقدمها اولويات اهم اخرى بالحياة التي يبحث الانسان العربي فيها عن لقمة العيش وسلطة حكام يفهمون معنى الوطنية اكثر من المواطن البسيط..

الشيء الملفت للنظر ان بداية تخلّي الفلاسفة الغربيين عن اغناء الفلسفة بمباحث جديدة جاءت علي ايدي فلاسفة البنيوية حين وجدوا في فلسفة اللغة وماسمّي التحول اللغوي طريقا مسدودا بعد ان كانوا هم البادئين به اولا مطلع القرن العشرين، وجدوه لا يوصل لتجديد تصحيحي لمباحث تبدو منطقية لا معنى لها في تاريخ الفلسفة فانصرفوا الى معالجة مباحث قريبة جدا من علم الاجتماع وعلم النفس والاجناس الادبية خاصة في مجال النقد الادبي كما في توظيف التفكيكية في النقد الادبي العربي (كمال ديب). كما دخلوا عوالم علم النفس الفرويدي والسلوكي وربطه بفلسفة اللغة ومنهم من اتجه نحو الانثروبولوجيا مثل شتراوس كما اتجه فوكو نحو الجنسانية والسلطة والجنون.

هذه التنويعة المهمة من مباحث متعالقة فلسفيا مع العلم وغيرها فتحت ابواب الاجتهاد الفلسفي خارج فرنسا والمانيا وفّينا امام الفلاسفة الاميركان الذين استغلوا فلسفة اللغة والعقل واللسانيات افضل استثمار فلسفي حيث ازدهرت الفلسفات الاميريكية ازدهارا لا يزال قائما ولم تفقد الفلسفة لديهم حضورها ومباحثها من الاقبال عليها والاهتمام بها لا في التدريس الجامعي ولا في التاليف الورقي والنشر الرائج على صفحات المواقع الالكترونية..على خلاف انحدار متوالية احتضار الفلسفة في البلدان الاوربية ومعقلها الاول المعاصر فرنسا. رغم ان وباء النزعة الاستهلاكية المجتمعية فاعلة بالاوساط المجتمعية الامريكية اكثر تنوعا مشاعيا مما هو سائد اوربيا في حرية يلجمها القانون احيانا. وهي مفارقة لم يستوعبها فلاسفة اوربا ولكن هضمها الفلاسفة الاميركان دونما جعل الظاهرة الاستهلاكية عندهم تتداخل في حضور الاعاقة الفلسفية النخبوية..

كما اجد ما سبق لي ذكره في اكثر من مقال أن في ادخال فلاسفة اللغة واللسانيات واصحاب نظرية التحول اللغوي الاوربيين الفلسفة في متاهة الغوص باللغة بما هي لغة نحوية هي من اختصاص علماء اللغة واللسانيات في انفاق مقطوعة الاوصال والصلات عن دفق الحياة وتغريب لغة الخطاب الفلسفي من فهم العامة كانت منحدرا خطيرا في تاريخ الفلسفة بدلا من انتشالها من الترهل والانحراف ومراكمة التكرارالكمّي في القائهم التهمة الجاهزة على اللغة انها تضليل العقل في تعبيرها القاصرعن الايفاء باعطاء المعنى الدقيق لمباحث الفلسفة..

كان من المتوقع للفلسفة الاوربية بتنوعها البسيط ان تصل مصيرها البائس المرتقب في الاصطدام بمجاهرة بول ريكور وجاك دريدا وفانتيميو ابو العدمية وغيرهم ممن تلاعبوا بفلسفة اللغة براديكالية ما جعل منها هامشا يوازي الحياة ولا يقاطعها ولا يحتدم بصراع معها يخدمها بل كانت في مجمل كتابات امثال دريدا وبول ريكور الفلسفية وغيرهما لا تخرج عن ثرثرة تداول اللامعنى اللغوي العقيم المتناسل باسم جديد هو فلسفة اللغة بعيدا عن كل صلة ترابطية لها بقضايا الحياة كما هو حال العلم توفيره كل انماط الاستهلاك الترفيهي الجاذب للعامة.

من المسائل التي ازدرتها الفلسفة عامة تفاقم الوعي العنصري العرقي والديني بحدة في بلدان اوربا وامريكا نهايات القرن العشرين مع ازدياد الهجرة الافريقية ومن جميع بلدان العالم الثالث إليها. فدبت المشاعر العدائية العنصرية ونوازع التفرقة وتثوير الحقد تحت مسميات وسلوكيات في معظمها كان يخفي هاجس اشباع نزعة الاستهلاك المتأصلة في الذهنية السلوكية الاوربية - الامريكية الذي يمولها ويغذّيها المبدأ الاجتماعي العام بضرورة ترحيل من يشاطرون السكان الاصليين تقاسم الغنيمة الحضارية الاستهلاكية في وقف مزاحمتهم لهم استنفاد مستهلكات حياة السعادة والرفاهية القائمة على اشباع حاجات وغرائز بيولوجيا بوهيمية..

في مثل هذه الاجواء المعيشة لا تكون نخبوية الفلسفة تهم حتى نخب التدريس بالجامعات الا بمقدار ما تكون الافكار الفلسفية مطيّة الانفراد الامريكي العولمي بالعالم ولعل خير مثال على ذلك خروج اثنان من اساتذة ومفكري امريكا من جامعة هارفارد التي تبنت طروحات كلا من فرانسيس فوكوياما حين نشر عام 1989 مقالة اثارت جدلا حول ما اطلق عليه نهاية التاريخ وعصر الانسان الاخير في العولمة الاحادية الامريكية وافول عصر احتراب الايديولوجيات ابان الحرب الباردة. بعده باربع سنوات نشر صوموئيل هنتكتون مقالة تحت عنوان حتمية صدام الحضارات مرشحا كلا من الاسلام كايديولوجيا دينية ترافقها الصين كقطبي صدام بالضد من العولمة الامريكية. طبعا كلا الطرحين يحملان بذور استحالة تحققهما تاريخيا واقعيا كما اثبتت الاحداث اليوم عالميا. وقد كتبت اكثر من مقالتين منشورتين لي على موقعي المثقف والحوار المتمدن اوضحت خطل ولا واقعية الطروحات العولمية وهي موجودة بكتابي (العولمة بضوء نهاية التاريخ وصدام الحضارات صدر عام 2015). وليس هذا موضوعنا بهذه المقالة.

ومن الاسباب التي جعلت الفلسفة تركن نفسها بالعزلة اليائسة هو هيمنة ايديولوجيا السياسة على منجزات العلم الربحية التجارية المتطورة الهائلة العابرة للقارات لذا لم يعد هناك مجال لتضييع الوقت والجهد فيما تتناوله الفلسفة من مباحث لا صلة حقيقية لها بالحياة الاستهلاكية المتغوّلة وراء اشباع الحاجات الغريزية البيولوجية الصرف التي هي منبع مصنع الحيوية البشرية العلمية في تحقيق الرفاهية والسعادة في جميع اشكالها الابتذالية المتحررة من كل قيد..

في تاكيد مركزية كتاب الان باديو كما عرض التعريف به استاذ حاتم على اهمية مخطوطة اوراق فلسفية او ما اطلق عليه التراكتوس لفينجشتين في زعم كسبه قصب السبق كما يبشّر به الان باديو بمعاداته الفلسفة وفي وجوب تبديل الفلسفة باشياء اخرى جاءت في وثيقته لا صحة لبطلها فينجشتين ولا صحة الافكار الفلسفية المقتضبة المتناثرة التي طرحها فينجشتين بها. آراء فينجشتاين في رسالته الفلسفية وحتى في كتيّبه الصغير الاخر (تحقيقات فلسفية) الذي اقدم فيه على التراجع عن كل الاخطاء التي تضمنتها مخطوطته الاولى حول فلسفة اللغة ولم يجد طريقا ينقذه من فوضى الافكار والاختلافات التي استعرت بينه وبين بيرتراند رسل وبين جورج مور ونورث وايتهيد عالم الرياضيات والمنطق وكارناب احد اقطاب الفلسفة الوضعية التحليلية النمساوية التي انفرط عقدها والانفصال عن مؤسسها فورتيز شليك.

لم يجد فينجشتين امام هذه الفوضى الفلسفية بعد مجيئه لندن وانتمائه تحت حلقة اكسفورد بزعامة راسل سوى صب كامل غضبه الشديد اليائس امام اصطدامه بعجز الايفاء بما اعلن عنه حول مهمة فلسفة اللغة تصحيح تاريخ الفلسفة في تصحيح مسار معنى اللغة.

كان الاجماع الفلسفي بلندن من ضمنهم فينجشتين وحلقة اكسفورد متاثرين بما طرحته الفلسفة البنيوية الفرنسية ان تصحيح تاريخ الفلسفة من الترهل الزائد جدا مرتهن بما ستقوله فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات ونظرية المعنى قبل التشرذم الاختلافي الفلسفي في كيف يكون التصحيح العملاني التجريبي بضوء فلسفة اللغة؟. وهذا لم يكن له من التاثير القوي في تقويض تاريخ الفلسفة بعد وصول فلسفة اللغة الطريق المسدود اوربيا وليس امريكيا ما جعل الفلسفة تتجه نحو طروحات بحثية ودراسات في مواضيع تحاول مهادنة العلم من جهة والدين وعلم الاجتماع من جهة اخرى.

وبعد الاجهاز التام على مبحث الابستمولوجيا من قبل الفلاسفة الاميركان ما جعل الفلسفة تعيش في عراء الوقوف المتجمد في اعتياشها على هامش التداخل مع علم النفس والاجتماع وغيرهما من مباحث استطاع بها الفلاسفة الاميركان المباهاة انهم موجودون قبل وبعد انهيار الفلسفة الاوربية على صعيد مباحث فلسفة العقل واللغة واللسانيات.. اذن لم تمت الفلسفة عالميا عقب جنازة وفاة الفلسفة فرنسيا واوربيا. ومحاولات الان باديو وغيره دفن الارث الفلسفي الفرنسي تحت لعبة استحقاق تاريخ الفلسفة الموت والاندثار بعد ثبوت عجز الفلاسفة استحداثهم مباحث تثري الحياة دعوة يائسة لا تقدم ولا تؤخر.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

 

 

خيمينا دي لا بارا

ر.أ. ديلو بونو

ترجمة: د. هاشم نعمة

***

عندما أضطر التوسع الرأسمالي العالمي للتعامل مع فترات الركود المتكررة خلال السبعينيات، جرى نشر استراتيجية جديدة لتوسيع تغلغله في الأسواق الوطنية. وقد أدى هذا إلى مواجهة بين احتياجات رأس المال العابر للحدود واحتياجات تشكيلات أمريكا اللاتينية غير المتكافئة والمتخلفة. ومع استثناءات قليلة، أدت الأزمة التي تلت ذلك في نموذج اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي لإحلال الواردات إلى فرض تعديل هيكلي على النحو الذي تمليه القوى الاقتصادية العظمى الأساسية. وتشير هذه الأزمة الناتجة داخل الدولة التنموية والكوربوراتية إلى أن موجة أخرى من الإصلاحات كانت وشيكة.

تشكلت الخلفية الجديدة للتنمية من ظهور تكتل قوي من الشركات الضخمة العابرة للوطنية التي أطلق عليها المنظر الأرجنتيني أتيليو بورون "لوياثانس الجديد" (2000). يُتوقع الآن من الدول ذات السيادة في أمريكا اللاتينية أن تتكيف مع "الحقوق الطبيعية" لرأس المال العالمي. وفي وقت لاحق، كان من الواضح أن إعادة الهيكلة العالمية للتراكم الرأسمالي في السبعينيات قد مثّل بداية لما نعرفه الآن بـ "العولمة" في حين أصبحت السياسات الاقتصادية والسياسية التي دعمتها تُعرف بالليبرالية الجديدة. في ظل الليبرالية الجديدة، اعتبر دعم الدولة بعد إصلاحها مرادفا لوعود التنمية للجميع، وظروف معيشية افضل وزيادة مستويات الاستهلاك الشخصي. وستكون الوسيلة لتحقيق ذلك هي السوق، وسيتم إقصاء الدولة التمثيلية لتأكيد سلبية المجتمع المدني وحرمة حقوق الملكية الخاصة باعتبارها أفضل طريقة لتجربة الحقوق الفردية.

مع استثناءات قليلة، مثل دولة جزيرة كوبا، أصبحت الليبرالية الجديدة بسرعة متوطنة في أمريكا اللاتينية. وفي أعقاب فترتين من حكم المحافظين الجدد في عهد رولاند ريغان، أصدر عضو في الإدارة التي خلفت جورج بوش (الأب) ما أصبح يعرف باسم "إجماع واشنطن"، أي مجموعة من المبادئ التوجيهية للشكل الجديد لحكم الدولة الذي تضمن: الانضباط المالي؛ إعادة تنظيم أولويات الانفاق العام؛ إصلاح الضريبة؛ تحرير معدلات الفائدة؛ أسعار صرف تنافسية؛ تحرير التجارة؛ تحرير الاستثمار الأجنبي المباشر الداخل؛ الخصخصة؛ رفع القيود؛ وتعزيز جميع حقوق الملكية (واشنطن 2002). في الواقع، أصبح التراجع الجذري عن المبادئ اليكنزية يُمثل الشكل الوحيد الممكن للتطور الديمقراطي.

بالطبع، لم تكن عملية قبول إملاءات واشنطن سلمية ومتناسقة. كانت الليبرالية الجديدة قد فُرضت أولا عن طريق التجريب وتحت تهديد السلاح في حالة شيلي في عام 1973. وفي أوائل الثمانينيات، خضعت البلدان المثقلة بالديون للتكيف الهيكلي كشرط للحصول على قروض جديدة من أجل بقائها. وعملت المبادرات الجديدة لواشنطن على توحيد هذه السياسات الليبرالية الجديدة وترسيخها من خلال سياسات التجارة والاستثمار "التفضيلية" التي بلغت ذروتها في مجموعة كاملة من اتفاقيات التجارة الحرة شبه الإقليمية والثنائية التي كانت اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية أولها.

سعت الليبرالية الجديدة إلى خلق الأساطير الخاصة بها بشأن توزيع الثروة، وإحياء الفكرة التي فقدت مصداقيتها فعليا القائلة بأن الرأسمالية تصحح نفسها بنفسها وتتطور نحو المزيد من المساواة. ما تم تفسيره على أنه عدم مساواة متأصلة سيظل عند مستوى "مقبول"، كما تقول الخرافة، وسيعمل "سحر السوق" على تسخير التقنيات الجديدة والقوية التي من شأنها تحقيق أفضل عالم ممكن لعدد أكبر من المواطنين. و تحت العبارات الأيديولوجية المتناغمة، سعى إجماع واشنطن لتسهيل الوصول إلى الموارد الطبيعية والمواد الخام الرخيصة في المنطقة، مع التركيز المتزايد على الطاقة. كما اقترحت سياسات تجارية مصممة للاستفادة من هيمنة الولايات المتحدة على التكنولوجيا والمعلومات لتعميق هيمنتها على اقتصادات أمريكا اللاتينية الناشئة. ويسعى الجيل الجديد من مبادرات التجارة العالمية إلى تجريد الدول الوطنية من عمليات صنع القرار الأساسية الخاصة بها، ووضعها في أيدي مؤسسات فوق وطنية وغير ديموقراطية مثل مؤسسات التمويل العالمية والشركات فوق الوطنية، وإخضاعها لآليات التحكم التي تعمل خارج نطاق المؤسسات الوطنية. في هذا السيناريو، وبما إن الكثير من الشركات فوق الوطنية لديها ميزانيات أكبر بكثير من معظم دول أمريكا اللاتينية، فستكون التباينات واضحة إلى حد كبير. باختصار، كان هذا بمثابة هجوم رأسمالي عالمي يهدف إلى تكريس "حقوق" رأس المال على حساب الحقوق البشرية والبيئية لشعوب المنطقة وخارجها.

تمثّل التناقض الواضح لهذه العملية بالفصل العالمي لصنع القرار الاقتصادي عن آليات المشاركة الديمقراطية. ويُمنع المواطنون الذين صوتوا في الانتخابات على نحو متزايد من ممارسة تأثيرهم على السوق التي على العكس من ذلك استجابت لإملاءات الشركات الأجنبية الكبيرة. لقد ركزت الليبرالية الجديدة بدقة على تفكيك جميع أنظمة وقدرات التدخل لدى الدول الوطنية، مدعية أن "السوق الحرة" لا يمكن أن تتسامح مع أي شكل من "تدخل الدولة" في الشؤون الاقتصادية. وباسم الحرية، سيحل الاقتصاد محل السياسة. في حين يجادل بورون بأنه كان هناك دائما اهتمام معين بالمساواة في المبادئ الغربية الديمقراطية منذ أفلاطون، لكن الليبرالية الجديدة كانت تطمح لتحقيق حالة من عدم الاكتراث الكامل بالتوزيع الاجتماعي للثروة، وبالتالي خلق التناقض الكامن وراء الادعاءات الديمقراطية المنسوبة للسياسات الليبرالية الجديدة. ومن خلال تجاهل القبول المتزايد للحقوق الأساسية، فقد صادرت الليبرالية الجديدة بشكل أساسي حق ممارسة المواطنة بصورة فعلية لدى قطاعات اجتماعية بأكملها.

لم تتعرض الليبرالية الجديدة الأرثوذكسية للهجوم من قبل المؤسسات العالمية إلا بعد اندلاع أزمات متعددة في عام 2008، وذلك في محاولة لإعادة الاستقرار للرأسمالية. وبدأ معظم القوى الغربية الرئيسة في سياق الأزمة المالية التحمس بشكل انتقائي لأراء الكينزية الجديدة. تكليف الدولة بدور الإنقاذ المالي لتلك الكيانات نفسها التي تسببت في الأزمة في المقام الأول من خلال تكهناتها المتهورة. ولم يكن هذا سوى نصف الصورة، لأنه بدلا من ضمان العمل والأجر المعيشي للتخفيف من الاتجاه المزمن نحو الإنتاج الزائد وتقلص الطلب الكلي، جرت المحاولة لجعل العمال يتحملون عبء خطة الإنقاذ من خلال خفض الأجور، وتراجع الإنفاق الاجتماعي، والسياسة المالية التراجعية والبطالة والقمع. وقد أبقى هذا الإحياء الجزئي للتفكير الكينزي السليم الاقتصاد العالمي في وضع صعب، في حين أظهر إلى أي مدى باتت الدولة بعيدة عن المبادئ الديمقراطية لتمثيل مصالح الأغلبية.

***

.................

الترجمة من كتاب: Victor Manuel Figueroa Sepulveda (ed.), Development and Democracy: Relations in Conflict (Leiden/ Boston: Brill, 2017).

 

صِناعةُ الثقافةِ انعكاسٌ لفلسفةِ البناءِ الاجتماعي التي تُفَسِّر مصادرَ المعرفةِ، وتُوَظِّفها في السُّلوكِ الحياتي والتاريخِ الشخصي والوَعْيِ الجَمَاعي، مِن أجل تَكوين أفكار إبداعيَّة تَمتاز بالحُرِّيةِ والحيويةِ، وتُفَكِّك الظروفَ التاريخية اعتمادًا على النقد الثقافي، ثُمَّ تُركِّبها استنادًا إلى الرمزية اللغوية المُتَحَرِّرَة مِن الأدلجةِ المُغْرِضَةِ والمِثَالِيَّةِ الوهميَّة. وهذا يَكشِف نِقَاطَ الاتِّصالِ والانفصالِ في المسار التاريخي، كما يَكشِف معالمَ القطيعةِ المعرفية بين الماضي والحاضرِ. وإذا كانت الظروفُ التاريخية لا يُمكِن تَكثيفُها ثقافيًّا ومعرفيًّا إلا بتفكيكِها وتركيبِها، فإنَّ الأحداث اليومية لا يُمكِن تَأصيلُها اجتماعيًّا ولُغويًّا إلا بتشخيصِها ونَقْدِها، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تكوينِ ظواهر ثقافية جديدة في بُنية التاريخ الذي يُعَاد تَشكيلُه باستمرار، وإبرازِ إمكانيات تَوليدية في بناءِ اللغة التي يُعَاد تَأويلُها دائمًا. وإعادةُ تشكيلِ التاريخِ وتَأويلِ اللغةِ تُمثِّل خُطوةً أساسية على طريق تطويرِ الفِكْر الإنساني الحضاري، وتحريرِه مِن الضُّغُوطاتِ الماديَّة والتناقضاتِ الشُّعوريَّة التي يُمْلِيها سِيَاقُ الفِعْل الاجتماعي المُتَشَظِّي بسبب تَكَاثُر زوايا الرُّؤية المُحيطة بشخصية الفرد الإنسانية. ومِن أجْلِ حمايةِ الفردِ والمُجتمعِ مِن التَّشَظِّي والفَوْضَى وتَضَارُبِ المصالحِ،لا بُدَّ مِن إنشاء هُوِيَّة ثقافية مُتماسكة تَحتضِنُ الأحلامَ المَقموعة في الوقائع التاريخية المَسكوت عَنها، وتَستعيدُ الأفكارَ الكامنة في أعماق التاريخ السحيقة، وتُخَلِّصُ الذكرياتِ الغامضة مِن الغُربةِ في المكانِ، والاغترابِ عن الزمان. وكُلُّ هُوِيَّةٍ ثقافيةٍ هي سُلْطَةٌ معرفية تتجاوز القوالبَ الفِكريةَ الجاهزةَ، والأنماطَ الحياتيةَ السائدةَ، وتُؤَسِّس قواعدَ الخَيَالِ الاجتماعي لانتشالِ الحُلْمِ الإنساني الحضاري من قاعِ الواقع المادي الاستهلاكي. والخَيَالُ الاجتماعيُّ لا يَكُون شرعيًّا وفَعَّالًا إلا إذا سَيْطَرَ على الانفجاراتِ الفِكرية في طاقة اللغة، وَنَقَلَ فلسفةَ البناءِ الاجتماعي مِن الكِيَانِ المَحْدُودِ إلى الكَينونة العابرةِ للحُدُودِ.

2

صِناعةُ الثقافةِ لَيْسَتْ نَسَقًا اجتماعيًّا قائمًا على وَضْعِ دَلالات اللغة في أقْصَى مَدَاها المعنوي والماديِّ فَحَسْب، بَلْ هي أيضًا نَسَقٌ وُجودي قائم على الربط بين العلاقات الاجتماعية، باعتبارها مَنظومة أخلاقية حَيَّة وحيوية، ذات أبعادٍ نَفْسِيَّة، ودَلالاتٍ واعية، ومضامين إنسانية، حَيث تَتداخل فيها الأزمنةُ والأمكنةُ، بحيث يُصبح الماضي قُوَّةً دافعةً للحَاضِر، ويُصبح الحاضرُ فلسفةً للمُستقبَل، ويُصبح المُستقبَل تأويلًا مُسْتَمِرًّا للماضي، مِن أجلِ فَتْحِه على كافَّة الاحتمالات، وتَكْرِيسِه كَبُنية حضارية مُتَجَدِّدَة لا كُتلة زمنية جامدة. وهكذا يَتَحَرَّر الفردُ مِن العُقَد التاريخية التي تُشَكِّل عَقَبَةً في طَرِيقِه الوجودي وطَرِيقَتِه المعرفية. وإذا نَجَحَت العلاقاتُ الاجتماعية في صِيَاغة فلسفة جديدة للزمانِ والمكانِ، فإنَّ اللغة سَوْفَ تَتَحَرَّر مِن التَّصَوُّرِ الجَمَالي الهُلامي، لِتُصبح مَصْنَعًا لإنتاجِ الفِعْل الاجتماعي، وتوظيفِه في مَصَادِرِ المَعرفةِ لِمُوَاكَبَةِ تَطَوُّر الوَعْي الإنساني، الذي يُبْرِز دَوْرَ الثقافة التحريري لشخصيةِ الفرد وسُلطةِ المجتمع، ويَمْنَح العَقْلَ الجَمْعي القُدرةَ على الاستفادةِ مِن رُمُوز اللغة للتَّنقيب عن حُلْم الفرد في تفاصيل السُّلوك الحياتي، وَمَنْعِ استخدام الوَعْي الزائف كَبُنية اجتماعية لِقَمْعِ حُرِّية التعبير، والسَّيطرةِ على أشكال تأويل التاريخ، والاستحواذِ على أنماط التنظيم الاجتماعي.

3

صِناعةُ الثقافةِ تُقَدِّم للمُجتمعِ مَشروعًا وُجوديًّا لتحريرِ الإنسان مِن الخَوف، وَجَعْلِه قادرًا على التفاعل الإيجابي معَ الأحداث اليومية، بحيث يُصبح الشُّعورُ والوَعْيُ والإرادةُ مَنظومةً واحدةً لتأويلِ التاريخِ وتفسيرِ الواقعِ داخلَ كِيَانِ الإنسانِ، بِوَصْفِه فَاعِلًا أساسيًّا في السُّلوكِ الحياتي على الصَّعِيدَيْن المعرفي والوجودي، وصَانِعًا لِجَوْهَرِ الفِعْل الاجتماعي على المُسْتَوَيَيْن اللغوي والثقافي، مِمَّا يَحْمِي الهُوِيَّةَ الشخصية للإنسانِ مِن الوَعْيِ الزائفِ والاغترابِ عَن الذات، وَيَحْمِي السُّلطةَ الاعتبارية للمُجتمعِ مِن المُسَلَّمَاتِ الافتراضية وانكسارِ الحُلْمِ الجَمَاعي. وإذا كانت العلاقاتُ الاجتماعيةُ هي مُحَصِّلَةَ تَصَوُّرَاتِ الإنسانِ عَن كِيَانِه وبيئته، فإنَّ الهُوِيَّةَ الشخصيةَ للإنسانِ هي مَجْمُوعُ زوايا الرؤية لطبيعة الأشياءِ وَعَالَمِ الأفكارِ، وهذا الترابطُ المصيري يُحَدِّد أشكالَ الظواهرِ الثقافيةِ وإشكالاتها، ويُكَوِّن المعاييرَ الأخلاقية الحاكمة على فلسفة البناء الاجتماعي، التي تَجعل صِناعةَ الثقافةِ شَبَكَةً معرفيةً مُتَجَانِسَةً، وفلسفةً جديدةً للواقعِ والتاريخِ، ومَرجعيةً نَقْدِيَّةً تُوَازِن بين الرَّمْزِ اللغوي وَمَا يَرْمُز إلَيه، وتُسَاوِي بين الفِعْلِ الاجتماعي وحُرِّيةِ التعبير في ضَوْءِ تَعقيدات الحياة المُعَاصِرَة. وكما أنَّ تحرير الإنسانِ لا يُصبح واقعًا حيويًّا إلا عَن طريق الفِعْل الاجتماعي، كذلك تحرير الثقافة لا يُصبح تاريخًا مُتَجَدِّدًا إلا عَن طريق الرمز اللغوي. والفِعْلُ الاجتماعيُّ والرمزُ اللغويُّ يَتَجَسَّدَان في الفِكْرِ كَنِظَام إبداعي عُضْوِي يُؤَسِّس مركزيةَ الإنسانِ في الحضارة، ولا يَستعير مَسَارَاتِ الوَعْي الزائف لتحقيق مصالح شخصية، ولا يَستعيد مَصَائِرَ الآخرين في المَاضِي لأدلجة العُقَد التاريخية في الحَاضِر.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

"الخوفُ من الفلسفة هو خوفٌ من صورة أنفسنا معكوسةً في مرآة الواقع"

مقولة الخوف (الفوبيا) phobia مقولةٌ ذات أبعادٍ نفسية وإنسانية ٍبأشكالها المختلفة، وتعبر عن مخاوف الفرد من أشياء معينةٍ: فوبيا الأماكن المرتفعة، فوبيا الموت، فوبيا المرض، فوبيا الآخر، فوبيا الحيوانات، فوبيا الغرف المغلقة. وصور الخوف لدى الأفراد مسألة معروفةٌ، لأنَّه خوف يتجلى عبر البنية النفسية لفردٍ أو آخر. ولكن أنْ يتجلى الخوف من النشاط الفكري بصورة عمومية أو أنْ يصبح ظاهرةً ثقافيةً، فذلك شأن آخر يحتاجُ تحليلاً مغايراً. وحده الخوف الجماعي بإمكانه أنْ يقول لنا بأي معنى يفكر هؤلاء الخائفون؟! ولماذا يشيرون بأصابع الاتهام نحو ما يرتعبون منه؟!

بصدد الحذر من الفلسفة، تعدُّ الفوبيا ذات صبغةٍ عامة نتيجة انتشار الثقافة الطاردة للفكر. ويمثل الأفراد أحجاراً على رقعة الشطرنج، مجرد (أوعية ثقافية) تنطق بشكل مجاني دون إرادةٍ للتفكير الحر. وتصل المطاردة إلى أغلب جوانب الحياة، من الشعبي إلى التعليمي، ومن السياسي إلى الاجتماعي، ومن الأخلاقي إلى المعرفي، ومن الديني إلى الشعري، ومن الجمعي إلى الفردي. وقد تلتف كل تلك المستويات معبرة عن عقدة الخوف من الفلسفة، حتى في غير مجالها. كحال بيت الشاعر أبي نواس المتداول (فقل لمنْ يدّعي في العلمِ فلسفةً، حَفِظتَ شيئاً وغابت عنك أشياءٌ).

ورغم أنَّ أبا نواس يستعملُّ كلمةَ فلسفةٍ في موضع المعرفة والعلم، وهي تُطرح كمقابل للإحاطة الشاملة إزاء الأشياء والمعارف، غير أنها – فيما يقول البيت الشعري-مفردة ترتبط بالإدعاء والتظاهر الأجوف، وفي الوقت نفسه لا تتلاشي من دال الكلمة نبرة السخرية. فكأنَّ الذين يتفلسفون يدَّعون معرفة مطلقةً لا تُبقي ولا تذر، بصرف النظر عن إنكار ذلك أم لا. وحتى بمجرد علاقة الكلمة (فلسفة) بهذا المعنى، فلا يصح أن تكون هناك دلالة مقبولة لها، ناهيك عن الإعتراف بها أصلاً.

ولذلك تعدُّ مناقشة فوبيا الفلسفة ضرباً من الإستفهام حول ماهية الفكر، حول كيفية تأثيره ذاتياً وعمومياً على نطاقٍ واسعٍ، ولماذا يخاف الناس من الفلسفة تحديداً؟ وليس هذا فقط، بل هناك – أحياناً - فوبيا نتيجة الإقتراب من آثار الفلسفة تأليفاً واشتغالاً. لأن الخوف لا يكون إلاَّ بتصورات سابقة المعنى، ولا يغدو أي خوف مؤثراً دون حمولات ثقافيةٍ تستحوذ على الخائف. الـ" فوبيا سوفيا "- sophia   phobia(لو صح ذلك الاستعمال) مصطلح يعبر عن هكذا حالة، أي قلق وارتعاب إزاء الحكمة التي تكشف المواقف وتعطي الأشياء والأشخاص حقائق ما لا زيادة ولا نقصان فيها. إنَّ الرُهاب المصاحب للتفكير المُحب سيكون مُؤثراً، متى طالَ كلَّ المناطق المعتمة من مجتمعاتنا البشرية.

ورُهاب الفلسفة نمطٌ من العيش تحت سقف قهر الأشياء والعالم المحيط بالإنسان، إنه بمثابة عدم التكيف والمعقولية التي تعطينا فسحةً لكل جوانب الحياة. أنْ تخاف معناه أنْ تتوهم أشياء وتخلقها في الواقع، ثم تظل رهيناً لها طوال الوقت، وترتعب من مجرد الإقتراب منها أو النظر إليها عن كثبٍ. الرهاب إحساس شديد بالضآلة والإنزواء والحصر الذاتي أمام شيء نعتقد كونه مخيفاً. ونعجز تمام العجز عن الكلام، عُقدت ألسنتنا عن النطق ولو ببنت شفة، كأننا ننظر إلى أشياء غامضة لا تستجيب لنا أو أن هناك كلمات وإشارات تأتينا من العالم المحيط بنا ولا تجد إلاَّ كل آذان صماء. الخوف من طرف واحد، يأتي كاسحاً ولا راد له ودوماً يقع على الطرف الآخر الذي يجب أنْ يخاف.

وهذا بخلاف "محبة الحكمة" فيلو- سوفيا φιλοσοφία‏،philo-sophia التي تعطي الإنسان قدرةً العيش وفقاً للحب لا الرعب، وأن تمنحه الملجأ الروحي والخيالي، وأن يجد العزاء النفسي فيما يمارس ويفكر. الفيلوسوفيا إشباع عقلي وخيالي لحياة ملؤها التأمل والتحرر حتى لا يهاب الإنسان شيئاً. دوماً المقارنة بين النمطين موجودة طالما أن هذا حب وذاك خوفٌ، فلماذا هناك محبة الحكمة بخلاف الرعب منها؟! إنَّ ذلك الوضع الثنائي يكشف تطور المجتمعات ويظهر جانبين من الثقافات التي تتعامل مع الفلسفة والتفلسف. فالمحبة دعوةٌ لأن يعيش الإنسان وفقاً لقانون الأشياء والطبيعة وتبعاً لما يعقله من أفكار ورؤى. وتلك المحبة تشحذ عقله وتملأ نفسه تناغماً وانسجاماً. وهي لحظة التقاء إنساني بين الرغبة والحقيقة، بين العاطفة والتفكر، بين المعنى والصورة، بين المنطق والتخيل، بين العرض والجوهر، بين الحرية والتحرر. إنَّ محبة الحكمة تجيب عن مسألة: كيف يشعر الإنسان بعقله ويعقل بمشاعره دون انفصال؟!

مقولة – فوبياً الفلسفة- بهذا المعنى مبنيةٌ على جوانب ومواقف وموروثات ثقافية. وربما هذا هو السبب وراء العداء الشعبوي للتفلسف والاشتغال به. فالفلسفة لا تعطي نفسها إلاَّ لمن يعطيها كل شيء، ولا ترضى بديلاً عن الإنشغال بإمكانياتها دون محاذير. وتفقد حياتها مع سبق الإصرار والترصد، عندما تجد إهمالاً بعناوين شتى. مرة بضرورة الإهتمام بالمعطيات الملموسة مع شرح أهميتها، وكيف تظهر وتمارس أدوارها الثقافية. ومرة أخرى بتغليب منطق الواقع وممارساته على الأفكار، وهو منطق لا يرى الفكر إلاَّ قزماً بجوار المصالح والمنافع.

إذن يتجدد السؤال: لماذا الخوف من الفلسفة في بعض مجتمعاتنا العربية؟ هل الخوف من التفلسف أمر جدير بالمناقشة في هذا الإطار؟ لماذا تظل الفلسفة غريبة لدينا كأنها صناعة شيطانية، رغم أنها قديمة قدم المعرفة الإنسانية؟! وهل الخوف مبرّر أو بالأحرى أمر منطقي؟ وإذا كان الموضوعُ كذلك، ففي أي سياق وبناءً على أية فكرة؟

الخوف من الفلسفة هو خوف من صورة أنفسنا معكوسةً في مرآة الواقع والحياة، لقد غدا الواقع بملابساته وظروفه الثقافية ثقلاً ينوءُ به الفكر. وليس هناك ما عساه أنْ يملأ هذا الثقب الأسود، لأن الأخير يمتص كافة الجهود المبذولة لتحرير العقول. وحتى عندما تأتي الفلسفة لتوقظ فكراً كهذا، فلن تكون النتائج في صالح صورتنا المرجوّه ولا المستقرة. حيث تتطلب الفلسفة وعياً متوهجاً وتفترض وضع الأشياء في إطارٍ غير معهودٍ، والدفاع عن صحة العقل والمنطق وصيانة البحث عن الحقيقة. إن الفلسفة تحرص على الإتيان بشيء مختلف يعيد الإمتلاء بالمعاني الحُرة للوجود. الفلسفة رغبةٌ جامحةٌ لا تسهُل السيطرة عليها، وقد تعصف بما نملك من أشياء قيد اليقين.

الفلسفة تقضُّ مضجعَ التقاليد في حياتنا العامة، لأنها تحرك القاع والرواسب من تلك الحياة. الفلسفة تضع الأعماق أمام النظر والرؤية الثاقبة للعالم والحقائق، وفجأة سنجد أنفسنا في مهب الفحص والتساؤل، بينما نحن نخاف العواصف التي تعري ما هو مدفون ضمن حياتنا المشتركة. وبخاصة أن الحياة في مجتمعاتنا العربية تشكل جداراً سميكاً من العادات والتقاليد التي نلوذ بالاختباء داخلها.

الفلسفة تهدد الوعي الغفل، تقتحم سكينته الهشة، تخلخل ما هو ثابت معبرةً عن إمكانياته سلباً وإيجاباً. وليس هناك شيءٌ يمثل خطراً على الإنسان أكثر من شعوره باقتحام مساحة اليقين لديه، أي مساحة الوعي الذي اطمأن إليه، وظل تكراره ضماناً للتواصل والتفكير بينه والآخرين. والناس يطمئنون إلى ما يهدّيء حياتهم، ويميلون إلى السكينة والدعة. وإذا كانت الفلسفة لا تُحافظ على هذا الهدوء وتلك السكينة التامة، فلتذهب إلى الجحيم من فورها!!

هكذا كان لسان حال مجتمعاتنا العربية ومقالها إزاء الفلسفة. فلم تُعطَ أية مساحة للتحرك بحرية، إنما تزاحمها المعتقدات وتتحرش بها الأفكار والآراء الشائعة إلى أبعد مدى. وقد يكون وضعٌ كهذا مفهوماً، عندما ندرك المحاذير الكثيرة نتيجة أي تفكير فيما يعتقد الناس أو فيما يمارسون. وبخاصة أنَّ أنظمة السلطة تغلغلت في كلٍّ شيء فارضة نوعاً من الوصاية على العقول والأفهام. والفلسفة في المقابل تفتك بألاعيب الوصاية أيا كانت، فلا فلسفة بإمكانها أن تمارس أي دور مع وجود الوصاية. الوصاية هي العدو اللدود للتفلسف، إنها تكبل العقل فكيف يستطيع أن يبدع أو يفكر. في ثقافتنا العربية تعد الوصاية هي الشرط الأول للتفكير. فأيُّ عقل لا بد له من أنْ يلحق بركب الوصاية حتى يقول" أنا أفكر"، وقد يمارس هو ذاته لوناً من الوصاية، على الرغم من زعمه المتواصل بالبعد عنها ورفضه إياها.

***

د. سامي عبد العال

 

 

تمهيد: نبدأ من حيث انتهينا سابقا في الجزء الاول من هذه الورقة برأي الفيلسوف الكبير عمانوئيل كانط قوله في كتابه الشهير نقد العقل المحض الى ان الزمان والمكان ليسا موادا او كيانات بذاتها وانما هما وسيلتا ادراك. بهذا القول لكانط تصبح نظرية الزمكان على انها فراغ استيعابي مطلق لا يجانس المطلق الكوني ولا هو جزءا منه فهو ذو قدرة كبيرة على احتواء كل شيء ولا يحتويه شيء فرضية صائبة لا اقر انا بها لسبب بسيط ان علماء الفيزياء اعتبروا الزمكان مادة محددة باربعة ابعاد(الطول، العرض، الارتفاع، والزمن) لكنه ليس مادة موجودة انطولوجيا يمكن ادراكها ولا موضوعا خياليا للعقل. مفارقة ان تجد في الوجود المادي لشيء يثبته العقل ادراكا حسيّا على انه غير موجود.

صحيح ان وجود المادة موضوعا مدركا للعقل هو تجريد لغوي تعبيري عنها لكن هذا لا ينفي وجود المادة انطولوجيا موضوعا مستقلا عن العقل ماديا.. ويدركها العقل وعيا تجريديا ايضا. حسب الفيلسوف الامريكي سيلارز الوجود لغة كم تعجبني هذه العبارة العبقرية التي تختصر مجلدات من نقاشات معرفية معاصرة تدور حول مركزية فلسفة اللغة.

هذا الخلط بين لامادية الزمكان كونه فراغا استيعابيا وبين كونه (مادة) بابعاد رباعية يمكننا تحديد وجوده الانطولوجي. هذا تناقض غير مسوّغ ولا مقبول وخلط بين صفات المادة وصفات الزمكان.. فايهما الاصح؟

من المرجّح ان الزمكان كما اشار له كانط وسيلة ادراك افتراضية لا يمكن البرهنة التجريبية على ماديتها هي الصحيحة وذكاء كانط يظهر بهذه الاشكالية حينما لم يتورط باضفاء ابعاد المادة الاربعة على الزمكان. لكن الخطأ الاكبر حينما اضفى بعض علماء الفيزياء ابعاد المادة على الزمكان وهو جوهر غير مدرك عقليا كما هي المادة مدركة حسيّا. المهم ان علماء الفيزياء ارادوا اثبات الزمكان فراغا استيعابيا موجودا انطولوجيا خارج العقل في حين اعتبر كانط الزمكان وسيلة الادراك العقلي للاشياء والعالم من حولنا وبغياب تفكير العقل يغيب الزمكان. والاهم من كل ذلك ان كانط كان يعالج ثنائية الزمكان الارضي وليس الكوني كما ذهب له علماء فيزياء الفلك والفضاء.

قياس الزمن

نقع بداية على عبارة اوغسطين قوله الزمن بحاجة الى كائنات يقصد الانسان ليقوم بقياسه الزمن وهذا القياس يترتب عليه ادراكنا الزمن من عدمه.. ونفهم من هذه العبارة السطحية ان الزمن لا يعود موجودا غير مدرك ولا منظور على الارض بغياب من يقيسه من البشر. فالزمن حتى الارضي كتحقيب وقتي له نفس الخصائص من حيث الصفات بالدلالة ومن حيث الجوهر او الماهية مع المطلق الزمان الازلي السرمدي.

والصحيح ان الزمن باستثناء ما توصله العلم قياس الزمن بساعات متطورة صناعية ذرية ذكية تقيس تجريد الزمن الافتراضي الملازم بحيادية للمكان. لكن في حال رغبنا قياس الزمن الذي يستغرقه قطع عداء رياضي مسافة 100 متر فان ذلك يترتب عليه بدء قياس انطلاقة العداء ووصوله خط النهاية على وفق ضبط ساعة توقيت تعمل بالثواني واجزاء من الثانية متطورة.

بمعنى يصبح قياس الزمن هو قياس مقدار حركة جسم في قطعه مسافة معينة وهو مشروط بطاقة العدّاء وسرعة ركضه. اي لا يمكن معرفة مقدار الزمن الا بدلالة حركة جسم داخله. والزمن لا يعرف عنه فيزيائيا انه يمتلك حركة ذاتية خاصة به بمعنى الزمن امتلاء ثابت في ملازمته احتواء الكون والطبيعة الارضية معا..

لكن الزمن يتأثر ويحضر في غالبية المعادلات الفيزيائية والرياضية والكيمياوية وفي ضروب بحثية علمية اخرى كدلالة علائقية ترتبط بغيرها. كما ان قوانين الطبيعة مثل الجاذبية لها تاثير على الزمن كحركة ملازمة لغيرها لا تمتلك استقلالية تلك الحركة زمنية مستقلة. حتى قوانين النسبية العامة في الفيزياء هي بدورها لها ذلك التاثير على رصدها الانثيالات الموحية للزمن بوجود المادة والطاقة لكنها تعجز تلك القوانين وضع هذا الزمن في زاوية الرصد الادراكي المباشر له الغير المستقل لا بالماهية ولا بالصفات من غير ارتباط تلك الصفات بعلاقات مع ظواهر فيزيائية اخرى.

وحين نتصور مع نظريات بعض علماء الفيزياء ان الزمكان فراغا احتوائيا يمتلك ابعاد المادة لكنه ليس بمادة يدركها العقل هنا تحضر مقولة كانط في اننا ندرك الزمكان كثنائية موحدة لا تقبل الانقسام على نفسها هو انهما الزمان والمكان قالبان فطريان مركوزان بالدماغ هما وسيلة ادراكنا الاشياء لكنهما ليسا موضوعي ادراك للعقل حسب مقولة كانط الشهيرة. وبحسب عبارة كانط هذه يتاكد بطلان الزمكان يمتلك ابعاد المادة في نفس وقت ان لا يكون موضوعا للعقل. وهنا علينا الانتباه ان كانط يتكلم فلسفيا وليس علميا تجريبيا حول علاقة العقل المحض السابق على التجربة بالزمكان. الشيء الاختلافي بين كانط وعلماء فيزياء انشتاين وستيفن هوكنج انهم منحوا الزمكان فلكيا ابعادا مادية يدركها العقل ومنعوا امكانية ان يكون الزمكان مادة مدركة خارج العقل بل هي فراغا احتوائيا لكل شيء قابل للادراك الحسي والعقلي.

كانط كما ذكرت في سطور سابقة لم يقع في مطب الزمكان يمتلك ابعاد المادة والا اصبح الزمكان موضوعا يدركه العقل. وهو ما لا يقر به علماء الفيزياء ان الزمكان مادة يدركها العقل.ولا كانط ايضا يقر ان الزمكان موضوعا لادراك عقلي بل هو وسيلة ادراكعقلي فقط.

وهم الزمن

يشهد تاريخ الفلسفة انه جرت مناقشات مستفيضة ليس على صعيد حضارة اليونان وانما يرجع الى الريادة الفلسفية القديمة الى مصر الفرعونية قبل 2500 عام قبل الميلاد وحضارة قبائل الانكا في بيرو الاقدم منها حيث كانوا يعتبرون الزمان والمكان مفهوم واحد اطلقوا عليه باشا pascha.

واعتبر ابو البركات البغدادي الزمن وهم لا وجود واقعي له. وانا كنت في مقالاتي التي يضمها كتابي ( الزمان والفلسفة) والتي نشرت مقالات الكتاب على مواقع عربية محكمة مثل الحوار المتمدن والمثقف ذهبت هذا المنحى متماهيا مع البغدادي الذي لم اكن قد اطلعت على منظوره الفلسفي حول وهم الزمن ولا زلت على هذه القناعة من زاوية نظر فلسفية وليس علمية تخصصية بمباحث الفضاء الكوني... كما ادين بالفضل لمقالة الباحث الفلسفي القديرحاتم حميد محسن نشرها على موقع المثقف استعرض فيها كتابا جديدا صدر بالولايات المتحدة الامريكية تاليف ثلاثة من علماء الفيزياء ذهبوا فيه الى ان الزمن وهم الحقيقة الفلسفية التي تفتقد اثباتها.

وهناك من الفلاسفة ممن اعتبروا الزمن (ذاتيا) كل فرد منا يدركه بقدراته الفكرية باستقلالية غير ملزمة له تجاه الاخرين وكان القديس اوغسطين من اوائل القائلين بذلك. وهناك من ربط الزمن بالنفس مثل جاستون باشلار وجاك لاكان وغيرهما ممن ربطه بالجيولوجيا والاركيولوجيا واخرين ربطه بالانثروبولوجيا وغير ذلك من ضروب بحثية فلسفية.

اما التحقيب الزماني الارضي فهو برأيي تحقيب وقائع وحوداث تاريخية بدلالة زمنية وليس زمنا بدلالة تاريخية. فعلى حد تعبير احد الفلاسفة (فالماضي لم يعد موجودا سوى بالذاكرة) من حيث الماضي كزمن هو عملية استرجاع استذكارية لوقائع الماضي التي حدثت في زمن متعارف عليه.. والزمن بالنسبة للماضي كتاريخ انما هو دلالة تعريفية مخزّنة بالذاكرة ومركزية كتاب باشلار(الزمن والمكان) يشتغل على هذه الاشكالية القائمة بين الماضي كزمن والتاريخ كوقائع ثابتة. وقد عالجها باشلار برومانسية نفسية خاصة به.(تناولت نقد هذا المنحى النفسي لدى باشلار في اكثر من مقال منشور على عدة مواقع عربية وتحتويها مؤلفاتي).

انكر يوحنا النحوي ان يكون للزمن بداية معروفة ولا نهاية متوقعة معللا قوله (لا يمكن ان توجد نهائية فعلية). وهذه المقولة الصائبة يترتب عليها ان نسبية التحقيب الارضي للزمن كماض وحاضر ومستقبل هي من التداخل الفلسفي الافتراضي بما يعطل واقعيته على حساب افتراضيته التي تمليها القوانين الكونية الفضائية التي تنحى منحى العلم التجريبي الفيزيائي في نظامنا الشمسي بضمنها قوانين المجموعة الشمسية التي تجعل من التحقيب الزمني الى ماض وحاضر ومستقبل تقويما صائبا بدايته الثانية والدقيقة والساعة فاليوم والاسبوع والشهر والسنة وهكذا امر مفروغ من صلاحيته التنظيمية للحياة بدلالة صحة تجارب قوانين الفيزياء على الارض في تعالقها مع القوانين الفيزيائية الفلكية المطلقة الفضائية التي تحكم الكون.. وتعالق تلك القوانين مع مجموعتنا الشمسية. لكن تبقى حقيقة ان الماضي ليس زمنا مستقلا بذاته بل هو لازمة دلالية لتحقيب وقائع تاريخية حدثت في زمن ماض لا يدركه العقل خارج تعالقه مع وقائع التاريخ.

وجود الزمكان

الموقف الواقعي من وجود الزمكان كحيّز وجودي مادي احتوائي مستقل عن العقل بموجوديته وليس بعلاقته الارتباطية بين الاثنين كمادة وادراك لها. اي انهم وهنا المفارقة اعتبروا الزمكان مادة لكنها لا تدرك من قبل العقل موضوعا له. رغم ان الزمكان حسب نظريتهم المستمدة من نسبية انشتاين خلعوا ابعاد المادة الطول والعرض والارتفاع والزمن على خصائص الزمكان وانكروا معاملة الزمكان كمادة لها ذات الخصائص الفيزيائية التي تجعل منها مادة يدركها العقل.

الشيء الذي لا يمكن تجاهله ان اكتساب الزمكان خصائص المادة جعل منه كيانا موجوديا خارج العقل رغم ان العقل يعجز ان يعتبره موضوعا له حسب نظرية بعض علماء الفيزياء المعاصرين. وهذا خطأ فادح كبير اذا ما قارناه معياريا فيزيائيا علميا ان الزمكان حيّزا احتوئيا لغيره من مدركات العقل للاشياء..

لقد كان ارسطو اكثر وضوحا منطقيا في رفضه ان يكون للعالم بداية اونهاية وقال الزمن قديم وليس محدثا لا بداية له ولا نهاية وهو لا متناه. وقد اخذ الرواقيين يتقدمهم لاحقا افلوطين ان ارسطو في تناوله الزمن ادخل نفسه في دوران دائري منطقي حين قال الحركة مقياس الزمان والزمان هو مقدار الحركة وليس هو بذاته حركة يمكن رصدها باستقلالية. رغم مضي عشرات القرون على افكار ارسطو حول الزمن الا انه اعطى مفاهيما ليس من المتاح تخطئتها لحد الان منها ان الزمن كجوهر غير مدرك الفات ولا الماهية لن يكون موضوعا للعقل والثانية مقولته الرائعة (الزمن لا يحدّه زمنا) مؤكدا مطلقية الزمن التي لا تنقسم لا على الارض ولا في الفضاء. .

خاتمة

عل حد تعبير دكتور جواد بشارة قوله (تصف النظرية النسبية العامة لانشتاين ان الزمكان بنية منحنية بوجود المادة والطاقة مما يؤدي الى ظهور ظواهر مثل الجاذبية)1.

هنا من المؤكد ان انشتاين يصف الزمكان في الفضاء الكوني وليس الزمكان الارضي وكلاهما محكومان غير توليديان ولا ناتجان عن قانون الجاذبية الذي يحكم كل شيء في الكون وعلى الارض. حين اجمع بعض علماء الفيزياء تماشيا مع نسبية انشتاين العامة ان الزمكان يمتلك خواص المادة المدركة ارضيا وليس فراغا احتوائيا يهضم كل شيء داخله ويمتلك جاذبية عالية جدا. اصبح مسلما ان حقيقة الزمكان ارضيا هي غيرها حقيقة الزمكان الكونية.

وهذا الفهم الجاذبي الاحتوائي لكل شيء في الزمكان يشبه الى حد كبير خصائص مليارات الثقوب السوداء الحلزونية الدودية الفضائية الابتلاعية لاموات مقبرة الفضاء الكوني التي تقوم بابتلاعها هذه الثقوب السوداء الكونية والتي تمتلك جاذبية تسحب حتى اصغر اجزاء مكونات الذرات في السديم الكوني الهائل ولا زالت لغزا محيّرا لعلماء الفيزياء. وتصل سرعة الجاذبية في احتوائها اموات مقابر الفضاء من نجوم وكواكب وكل ما يقع تحت سطوتها الى اسرع من سرعة الضوء بالثانية.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

 

(التكنولوجيا كظاهرة اجتماعية)

(قد كان في الإمكان أن تكون قوة التكنولوجيا، قوة محررة عن طريق تحويل الأشياء إلى أدوات، ولكنها أصبحت عقبة في وجه التحرر عن طريق تحويل البشر إلى أدوات).. (هربرت ماركيوز: الإنسان ذو البعد الواحد)([1])

يهدف المقال إلى توضيح ماهية فلسفة التكنولوجيا Technological philosophy باعتبارها نتاج التطور السريع الذي عرفه الإنسان منذ عصر الثورة الصناعية إلى عصر الذكاء الاصطناعي والتقنية، وهذا لا يعني أنه لم تكن هناك بحوث فلسفية تتعلق بالتكنولوجيا بصفة عامة. إلا أنه يمكن القول إن البحث الفلسفي التخصصي في مجال التكنولوجيا لم يظهر على الساحة الأكاديمية إلا في وقت متأخر من تاريخ الفلسفة المعاصرة، بمعنى آخر، إن آثار التكنولوجيا ومدى خطورتها على الحياة الاجتماعية المعاصرة لم تظهر إلا في وقتنا الحالي (عصر الذكاء الاصطناعي).

تكمن أهمية هذا النص في الإشارة إلى تزايد اتخاذ التكنولوجيا موضوعاً للنقد وللجدل، وبالأخص عند معرفة ما إذا كان الإنسان هو مَنْ استغل التكنولوجيا محافظاً على معاييره وقيمه الاجتماعية، أم التكنولوجيا هي التي استغلت الإنسان على حساب قميه وعاداته ومبادئه. لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا بناءً على ما سبق ما هي فلسفة التكنولوجيا؟

- فلسفة التكنولوجيا، أو فلسفة التقنية: هي فرع من فروع الفلسفة ظهر منذ نصف قرن تقريباً يدرس طبيعة التكنولوجيا وآثارها الاجتماعية، حيث بدأت النقاشات الفلسفية حول مسائل متعلقة بالتكنولوجيا، أو ما سماه الإغريق باليونانية بـ: " تكني "، منذ فجر الفلسفة الغربية.

يعتبر الفيلسوف الألماني وعالم الجغرافيا إرنست كاب* أول من استخدم عبارة " فلسفة التكنولوجيا "، في كتابه تحت عنوان: أسس فلسفة التقنية Foundations of technology philosophy عام 1877. وبصفة عامة يمكننا القول إن فلسفة التكنولوجيا هي محاولة لفهم طبيعة التكنولوجيا، وفهم تأثيرها في البيئة والمجتمع والوجود الإنساني.

ظهرت فلسفة التكنولوجيا كمجال مستقل للبحث الفلسفي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتجسد العديد من المناهج مثل التقاليد الفلسفية. بعضها أكثر "نظرية"، والبعض الآخر أكثر " تطبيقية". يركز بعض المفكرين أكثر على تأصيل المفاهيم التي يمكننا من خلالها فهم التكنولوجيا، والبعض الآخر يركز أكثر على التنظير وتقييم الأدوار الاجتماعية والثقافية للتكنولوجيا وأثرها على العلاقات الاجتماعية.

تدرس فلسفة التكنولوجيا طبيعة التكنولوجيا وعلاقاتها بالمجتمع. لها فروع مختلفة، تركز على سبيل المثال على أخلاقيات التكنولوجيا، وعلى العلاقات بين العلم والتكنولوجيا، وعلى العلاقات بين الإنسان والتكنولوجيا، أو الأبعاد السياسية للتكنولوجيا. من أهم الفلاسفة البارزين الذين تطرقوا لفلسفة التقنية في وقت مبكر من القرن العشرين هم: جون ديوي، مارتن هايدغر، هربرت ماركيوز، غونتر أندرس، حنة أرندت. حيث رأوا جميعهم أن للتكنولوجيا دور محوري في الحياة الحديثة. إلا أن كل من هايدغر، أندرس، أرندت وماركيوز كانوا أكثر تردداً وشكاً من ديوي حول طبيعة العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا، فالمشكلة الأساسية عند هايدغر*، في كتابه " حول المسألة التقنية "، كانت عدم وضوح طبيعة التكنولوجيا في جوهرها مما وصفها بأنها الخطر العظيم، بنفس الوقت ذو إمكانيات ضخمة.

كما أنتج الفكر المعاصر العديد من الأنساق المعرفية على مدى العقود الأخيرة من القرن العشرين، حيث حققت مجالات البحث " منعطفاً تجريبيا ً"، فحوّلت تركيزها من دراسة التكنولوجيا كظاهرة واسعة إلى دراسة التقنيات الفعلية في علاقاتها التفصيلية مع العلوم، ومع البشر، ومع المجتمع. وبدلاً من تطوير النظريات حول التكنولوجيا بشكل عام، بدأت تأخذ التقنيات الفعلية كنقطة انطلاق للتفكير الفلسفي، ومن أهم الفلاسفة المعاصرين المهتمين بفلسفة التكنولوجيا جان بودريار، ألبرت بورجمان، جورج غران، يورغن هابرماس. وعلى مدى العقود الماضي، نشرت مجموعة من الكتب والدوريات حول مواضيع الفلسفة التكنولوجية منها: بحوث في الفلسفة والتكنولوجيا (مجلة جمعية الفلسفة والتكنولوجيا، نشر فلسفة مركز التوثيق) والفلسفة والتكنولوجيا (سبرنجر). من الجدير بالذكر لم تكن فلسفة التكنولوجيا أبداً مجالاً موحداً للبحث، حيث تتضمن تفاعل مجالات المعرفة المتنوعة كالفلسفة البراغماتية، وعلم الاجتماع، وعلم النفس.

إلا أن فلسفة التكنولوجيا لا تزال مجالاً في طور التكوين، وعلى هذا النحو تتميز بالتعايش بين عدد من الأساليب المختلفة لممارسة فعل التفلسف. حيث يسعى علماء هذا الحقل المعرفي إلى تسليط الضوء على منهجية وموضوع ووظيفة " فلسفة التكنولوجيا " كتخصص أكاديمي لأنها غير واضحة ومحددة باتفاق جميع العلماء. والدليل على ذلك، أن "فلسفة التكنولوجيا" تشير إلى مجموعة المساعي الفلسفية التي تنعكس جميعها بطريقة ما على مفهوم التكنولوجيا، أي أن الفلاسفة والمفكرين لم يفعلوا ذلك بهدف فهم التكنولوجيا وعلاقتها بالإنسان والأخلاقيات والآثار المترتبة عليها، بل قاموا بفحص التكنولوجيا في سياق مشاريع فلسفية أكثر عمومية تهدف إلى توضيح القضايا الفلسفية التقليدية لمفهوم التكنولوجيا.

بناءً على ما سبق، تسعى فلسفة البحث العامة لهذا التخصص إلى فهم وتحليل طبيعة العلاقة الارتباطية القائمة بين الإنسان والتكنولوجيا عبر تتبع تأثير التكنولوجيا على كل مفاصل حياة الإنسان والمجتمع. أي أنها تحاول بشكل أساسي معرفة طبيعة العلاقة القائمة بين الإنسان والتكنولوجيا وكيفية التأثير عليه ككائن أخلاقي، من خلال طرح ثلاثة تساؤلات أساسية، وهي كالآتي:

- الوسائط التكنولوجية: كيف تلعب التقنيات التكنولوجية دوراً محورياً كوسيط للعلاقات بين الإنسان والعالم، مع التركيز على الوسائط التكنولوجية للممارسة العلمية والأخلاق والدين؟

- التكنولوجيا والهوية: كيف (تعيد) التقنيات التكنولوجية صياغة جوانب مهمة من هويتنا الثقافية والاجتماعية، مثل الاستقلالية والحرية والأصالة والفردية والعادات والتقاليد؟

- التكنولوجيا والمدينة: كيف يمكننا فهم وتقييم الدور الاجتماعي والسياسي للتقنيات التكنولوجية في البيئات الحضرية؟ إلا أننا بدورنا نطرح التساؤلات المحورية التالية: هل القيم التكنولوجية التي نتجت عن تطور التقنية، لها دور في تغير القيم الاجتماعية لدى الإنسان البشري في المجتمع؟ ما الدور الذي تلعبه التكنولوجيا في التجربة البشرية اليومية؟ كيف تؤثر مفرزات الأدوات التكنولوجية على وجود الناس وعلاقتهم بالعالم؟

إن القيم التي أفرزتها التكنولوجيا في الواقع الاجتماعي أصبحت تنافس دور الإنسان في مجتمعه، بل هناك من يتنبأ بسيطرة الذكاء الاصطناعي على البشري. ولم تعد المنتجات الإلكترونية الحديثة مجرد أدوات أو ملحقات ثانوية في حياتنا، بل أصبحت الأساس المعتمد عليه في تحديد خطتنا اليومية، بدءاً من ضبط ساعة المنبه وحتى إتمام الأعمال وصياغة الأخبار العالمية بأقل وقت وجهد ممكن، ولا شك أن التقدم الملحوظ في المزايا التقنية للأجهزة الإلكترونية ساعد على منح العالم أفضل مستوى من الخدمات الإلكترونية التي لا غنى عنها في أي مجال، والسبب يعود لارتباط هذه التكنولوجيا الحديثة بأصغر الإنجازات اليومية في الحياة الاجتماعية للفرد.

ويرى ماركيوز أن القدرة التكنولوجية الهائلة التي توصل إليها المجتمع الصناعي المتقدم حققت هيمنة كبرى على الفرد، ذات صورة عقلانية على خلاف اللا عقلانية التي تستخدم في المجتمعات المتأخرة للحفاظ على سيطرة الطبقة الحاكمة، حيث تكمن عقلانية هذا المجتمع في القدرة التي يمتلكها بفضل التطور التقني على استباق كل مطالبه بالتغيير الاجتماعي وعلى تحقيقه تلقائياً. بذلك يصبح التطور التكنولوجي الراهن حسب ماركيوز هو واقع استعباد الإنسان وتشيؤه وتحوله إلى أداة لا واقع تحرره، فالتكنولوجيا سياسة قبل أن تكون أي شيء آخر، لأن منطقها هو منطق السيطرة والهيمنة، ولأنها تخدم سياسة القوى الاجتماعية المسيطرة في الوقت الراهن، فإن فلسفة التكنولوجيا هي استعلاء القيم التكنولوجية على حساب القيم الاجتماعية لدى الإنسان البشري.

ويذهب مارشال ماكلوهان إلى أن التقدم التكنولوجي أوجد معطيات جديدة دفعت بكل قوة إلى نشأة فلسفة التكنولوجيا والقيم التكنولوجية، حيث ساهمت تكنولوجيا المعلومات بدورها في بلورة مفهوم العولمة، أي أن العالم أصبح عبارة عن قرية صغيرة تجاوزت الحدود الزمانية والمكانية. كما ساهمت في بناء قيم اجتماعية وإطلاق العنان لخيال الإنسان وجعله فرداً اجتماعياً داخل الدوائر الإلكترونية، وذلك لأنها (التكنولوجيا) تعمل على توسيع وتقليد عمل العقل البشري وإدماجه في النظم الاجتماعية حتى لو كانت الإلكترونية فقط (مواقع التواصل الاجتماعي بكل أنماطها وأشكالها)، بذلك يمكننا القول إن للاختراعات التكنولوجية تأثير واضح على حياتنا، والوسائل التي يستخدمها المجتمع أو يضطر لاستخدامها تحدد طبيعته وكيفية معالجته لمشاكله وخلق الظروف التي تؤثر على تكوين قناعاته ونظرته للأمور كذلك الأسلوب الذي يفكر به أفراد المجتمع تجاه علاقاتهم وسيطرتهم على البيئة المحيطة، فطبيعة الوسائل المستخدمة في كل مرحلة من المراحل تساعد على تشكيل المجتمع أكثر مما يساعد مضمون تلك الرسائل على تشكيله.

والدليل على ذلك، أنه عندما يُطرح اختراع تكنولوجي جديد، يستقبل المجتمع هذا التطور بنوع من الغرابة والدهشة، حتى يبدأ الأفراد بتعلم والتمرن على هذه الوسيلة، حتى تصبح ظاهرة اعتيادية منخرطة ضمن عادات المجتمع وجزءاً من تركيبته وتنميته لها قيمها الخاصة بها عند استخدامها من قِبل أفراد المجتمع (الواتس آب نموذجاً)، بل تمتد إلى صياغة أشكال وأنماط العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد، أي صياغة وعي جمعي حول استخدامها. وهكذا تصبح الاكتشافات التكنولوجية لها علاقة وثيقة بالتغيرات الاجتماعية التي تحدث في المجتمع ليس على الصعيد المادي فقط بل على صعيد الأحاسيس والقيم الاجتماعية والثقافية أيضاً.

خلاصة القول، إن التكنولوجيا نفسها لم يتضح تأثيرها ومدى خطورتها على الحياة المعاصرة، إلا في الآونة الأخيرة مع الاعتماد المتزايد عليها في كل مفاصل ومناحي الحياة، كما أنها فرضت تحديات على الفلاسفة وعلماء الاجتماع والنفس وجب عليهم التصدي لها للحد من آثارها السلبية على الحياة الاجتماعية والثقافية للإنسان المعاصر بعد أن أضحت القيم الإنسانية في المجتمع الحالي ترتسم خطوطها العريضة من خلال فلسفة التكنولوجيا وقيمها، بسبب منافسة هذه التقنيات في فاعليها مردودية الإنسان بل إنها أصبح لديها القدرة على تتجاوزه في بعض الأحيان، فهناك من يتخوف من سيطرة الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري، حيث بات الإنسان فريسة مشروعة له وبإرادته، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل نحن بصدد انبثاق أخلاق تكنولوجية تحاول فرض نفسها على المجتمع البشري بعيداً عن الأخلاق الإنسانية وتوجهاتها؟

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

...................

- المراجع المعتمدة:

1. دون إد: المدخل إلى فلسفة التكنولوجيا، ترجمة: فريال حسن خليفة، مراجعة: محمد مصطفى الشعبيني، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط 2، 2006.

2. بن راشد رشيد وبلحاج حسنية: تاريخ فلسفة التكنولوجيا: القيم الاجتماعية والقيم التكنولوجيا، مجلة الحكمة للدراسات التاريخية، المجلد: 9، العدد: 2، الجزائر، 2021.

3. يورغن هابرماس: العلم والتقنية (كإيديولوجيا)، ترجمة: حسن صقر، منشورات الجمل، ألمانيا، كولونيا، ط1، 2003.

4. مارتن هيدجر: التقنية – الحقيقة – الوجود، ترجمة: محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1995.

5. جان كير برج أولسن، إيفان سلنجر، سورين ريس: موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا، ترجمة: شوقي جلال، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2018.

6. إبراهيم بعزيز: تكنولوجيا الاتصال الحديثة وتأثيراتها الاجتماعية والثقافية، دار الكتاب الحديث، القاهرة، ط2، 2012.

7. علي رحومة: علم الاجتماع الآلي (مقاربة في علم الاجتماع العربي والاتصال والحاسوب)، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد: 347، يناير- كانون الثاني 2008.

8. هربرت ماركيوز: الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، ط3، 1988.

9. أحمد حسن البرعي: الثورة الصناعية - وآثارها الاجتماعية والقانونية، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1982.

10. جمال عبد ربه الزعانين: التغيرات العلمية والتكنولوجية المتوقعة في مطلع القرن الواحد والعشرين في المجتمع الفلسطيني ودور التربية العلمية في مواجهتها، مجلة الجامعة الإسلامية، غزة، المجلد: 10، العدد:2، 2002.

11. أماني أحمد مشهور هندي وبسمة صالح الدين الرفاعي: تأثير استخدام التكنولوجيا الحديثة على سلوك الإنسان في الفراغات الداخلية، مؤتمر الفنون التطبيقية الدولي الخامس – دمياط – رأس البر " الفنون التطبيقية والتوقعات المستقبلية " (5) 21 - 23 مارس 2017.

د. حسام الدين فياض

([1]) هربرت ماركيوز: برز هربرت ماركيوز كفيلسوف ومُنظّر سوسيولوجي وعالم اجتماع نقدي، انتشرت أفكاره في الكثير من الدوائر الفكرية والسياسية في العالم الغربي، من أهم مؤلفاته "العقل والثورة"1941، "الحب والحضارة" 1951، " الإنسان ذو البعد الواحد " 1960، " فلسفة النفي" 1968، " الثورة والثورة المـضادة " 1972 "الماركسية السوفيتية" 1958. ينتمي ماركيوز إلى الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت النقدية، حيث أنتج أفكار نقدية بالغة الأهمية سعى من خلالها إلى كشف ممارسات ومفرزات العقل الأداتي (العقلانية التقنية) في المجتمع الصناعي المتقدم وانعكاساتها السلبية على الإنسان داخل ذلك المجتمع من خلال كتابه الشهير " الإنسان ذو البعد الواحد- دراسة عن إيديولوجية المجتمع المتقدم " الذي نقد فيه العقل الأداتي وما آلت إليه الحداثة الغربية الرأسمالية أو الاشتراكية عبر التطورات الاقتصادية والتكنولوجية التي شيئت كل شيء حتى الإنسان.

اعتمد ماركيوز على المنهج النقدي في نقده للمجتمع الصناعي المتقدم، الذي أسسه في كتابه " العقل والثورة "، حيث أعاد فيه تفسير آراء وأفكار هيجل الفلسفية، خاصةً فيما يتعلق بمفهوم " السلب " الذي اتخذ منه منهجاً أساسياً بكل دراساته التي بحثها فيما بعد. أما في كـتابه " إيروس الحضارة " فقد قام ماركيوز من خلال هذا النتاج الفكري الهام بإعادة قراءة النصوص الفرويدية على ضوء تحولات المجتمع الصناعي، متسائلاً عن دلالات الرغبة والتصعيد اللاشعوري، وموقع الجنس في آليات الإغراء الحديثة وعلاقتها بالعملية الإنتاجية وعن المعاني الجديدة التي يتخذها الحب ضمن العلاقات الاجتماعية بالمجتمع الصناعي المتقدم. تمثل الاتجاه النظري والمنهجي عند ماركيوز في رفضه السلبي للمجتمع القمعي القائم، من خلال الثورة عليه للتأكيد على الدور الثوري والحاسم للعقل في حياة الإنسان الاجتماعية، ولتجنب النظر إلى المجتمع الإنساني نظرة ذات بعد واحد. لمزيد من القراءة والاطلاع حول ذات الموضوع انظر: حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر( دراسة في النظرية السوسيولوجية المعاصر)، مرجع سبق ذكره، ص(122 وما بعدها).

* إرنست كاب (بالألمانية: Ernst Kapp)‏ هو جغرافي وفيلسوف وتربوي ألماني، ولد في 15 أكتوبر/ تشرين الأول 1808 في لودفيغسشتادت في ألمانيا، وتوفي في 30 يناير/ كانون الثاني 1896 في دوسلدورف في ألمانيا.

* مارتن هايدغر (بالألمانية: Martin Heidegger)‏ (26 سبتمبر/ أيلول 1889 - 26 مايو/ أيار 1976) فيلسوف ألماني. ولد جنوب ألمانيا، درس في جامعة فرايبورغ تحت إشراف إدموند هوسرل مؤسس الظاهريات (الفينومينولوجيا)، ثم أصبح أستاذاً فيها عام 1928. وجه اهتمامه الفلسفي إلى مشكلات الوجود والتقنية والحرية والحقيقة وغيرها من المسائل. ومن أبرز مؤلفاته: الوجود والزمان (1927)، دروب مُوصَدة (1950) ؛ ما الذي يسمى فكراً (1954)، المفاهيم الأساسية في الميتافيزيقا (1961) نداء الحقيقة، في ماهية الحرية الإنسانية (1982)، نيتشه (1983).

تميز هايدغر بتأثيره الكبير على المدارس الفلسفية في القرن العشرين ومن أهمها الوجودية، التأويليات، فلسفة النقض أو التفكيكية، ما بعد الحداثة. ومن أهم إنجازاته أنه أعاد توجيه الفلسفة الغربية بعيداً عن الأسئلة الميتافيزيقية واللاهوتية والأسئلة الابستمولوجية، ليطرح عوضاً عنها أسئلة نظرية الوجود (الأنطولوجيا)، وهي أسئلة تتركز أساساً على معنى الكينونة (Dasein). ويتهمه كثير من الفلاسفة والمفكرين والمؤرخين بمعاداة السامية أو على الأقل يلومونه على انتمائه خلال فترة معينة للحزب النازي الألماني.

يحدد آلان باديو Alain Badiou (1) خيارا بديلا مستلهما من تاريخ الفلسفة. في هذا الخيار هاجم المفكرون نشاط الفلسفة واقترحوا شيئا آخرا بدلا عنها. مناهضة الفلسفة Antiphilosophy مصطلح استعارهُ آلن باديو من لاكان، يصف فيه أفكار عدد مبعثر (وموحّد) من الكتّاب في تاريخ الفلسفة . المصطلح يشير لكراهية هؤلاء الكتاب لفعالية الفلسفة، بالقدر الذي عُرّفت فيه الفلسفة كـ "بحث ميتافيزيقي عن الحقيقة" (بوستيل، مدخل لمناهضة فيتجنشتاين للفلسفة، 2019).

بالإضافة لهذه الكراهية، يقترح باديو ان مناهضة الفلسفة عُرّفت بافتراضها بديلا ونشاطا أسمى من الفلسفة، شيء يمكن ان ننفق به وقتنا بشكل أفضل من مطاردة تلك الأنواع من الحقائق التي انشغلت بها الفلسفة تقليديا، حقائق متعلقة بالوجود، الهوية، التجربة وغيرها. هذا المزيج من النقد وإعادة التوجيه يختار سلسلة من المفكرين كل واحد منهم تولّى منفردا مهاجمة اسس التفكير الفلسفي مستنتجا - بنقد لاذع وغير منافق – ان الفلاسفة على اختلاف انواعهم مقموعين، سخفاء، حمقى، وأشرار.

آلان باديو حول مناهضة الفلسفة والواجب الجديد للفلسفة

في تقييم باديو لهذه الظاهرة، يجب ملاحظة، انه يأتي من فيلسوف صريح – شخص مهتم بالنشاط الذي كان محل سخرية من قبل مناهضي الفلسفة. هذا لا يعني ان موقفه يعكس السخرية والرفض. بدلا من ذلك، يجد باديو في الخط المضاد للفلسفة سلسلة من الاختبارات الهامة والصعبة للفلاسفة يجب اجتيازها. العلاقة توصف كديالكتيك سقراطي مقصود. مناهضة الفلسفة تثير الإهانات وأسئلة تتطلب من الفيلسوف ليس فقط الدفاع عن موقفه وانما تمديده ليأخذ بالاعتبار المعارضات والمقترحات المضادة لمناهضة الفلسفة.

المقترحات المضادة هي ضرورية لمناهضة الفلسفة كما يصفها باديو. وبينما يخلق باديو تشبيها واضحا بين معارضة افلاطون والسوفسطائئن، ومجموعة فلاسفة ومعاصرين لهم من المضادين للفلسفة، هو صريح حول الفرق بين السفسطة والمضاد للفلسفة. الفرق يكمن في سخرية الاولى والكراهية العلنية للاخيرة، ولكن الاكثر أهمية هو مقترح المضاد للفلسفة بنشاط بديل: شيء اكثر قيمة من الفلسفة. هذا النشاط البديل والذي يدّعي انه مفيد وجميل وقوي وصادق بينما الفلسفة عاجزة وقبيحة ومعبّرة عن خداع ذاتي هو السبب المحفز لكتابة المضاد للفلسفة، الاقتراح الذي يستدعي هجوما واسع النطاق يجده باديو في كلمات نيتشة ولاكان وفيتجنشتاين.

بالنسبة لباديو، النشاط البديل المقترح من جانب مناهضي الفلسفة هو عادة خلاق وتقدمي جدا. المضاد للفيلسوف يقدم خياره ليس فقط كشيء يمكّننا من استخدام وقتنا بشكل أفضل، وانما ايضا كنقد للفلسفة: وسيلة لتسليط الضوء على ما لا تستطيع الفلسفة تفسيره او تتعامل معه. وسواء كانت في مجال الفن، العلوم السياسية، او العلوم، يقترح باديو، ان الخيار المقترح للمضاد للفيلسوف هو دائما معاصر – بديل جديد يتّهم الفلسفة بالفشل في معالجة العالم من حولنا. لذلك يرحّب باديو بالمضاد للفلسفة لتحدّيها الفلسفة في تبرير ذاتها ولإجبار الفلسفة على مواكبة عالمها، ولتجعل ذاتها منسجمة بالضبط مع تلك الفعاليات المُبجّلة من قبل الفلسفة، دون التخلّي عن كفاحها نحو الحقيقة. بهذا المعنى، يكتب باديو، ان المضاد للفلسفة "يحدد الواجب الجديد للفلسفة" – الأشياء التي يجب ان تجعل نفسها على وعي بها وتفكر بها والاّ فانها ستسقط في اللاّصلة والعجز التي هي موضع اتّهامات المضادون للفلسفة. من هذا التحدّي والرد الذي يتطلبه من الفلسفة، يراقب باديو بدقة ظهور فلسفة جديدة أكثر كفاءة، تأخذ على محمل الجد اتّهامات المضاد للفلسفة مهما كانت لاذعة. "الفلسفة" حسب قوله، "هي دائما الوريث للمضاد للفلسفة". (مناهضة فتجنشتاين للفلسفة، 2008).

منْ هم المضادون للفلسفة؟

فيتجنشتاين ليس وحده في قائمة باديو للمضادين للفلسفة. في الحقيقة، التفاعل بين المضاد للفيلسوف والفيلسوف هو – حسب تقييم باديو – ربما قديم قدم الفلسفة ذاتها، يعود الى بروتوغوراس وجورجياس، في موقفهما السوفسطائي المعارض لسقراط.

القديس بول Saint paul، شخصية دائمة الإعجاب لباديو، يظهر في سلسلة من الندوات يديرها باديو في باريس، كل واحدة تعالج احد مناهضي الفلسفة البارزين. وكما يفصل باديو في كتابه حول موضوع (القديس بول: اسس العالمية، 1997)، يرفض بول كل من النبوءة اليهودية "خطاب الاشارة"، والخطاب اليوناني في الفلسفة والحكمة، مفضلا الايمان الخالص. اشارة بول المضادة للفلسفة تتجسد في تأسيس مسافة مطلقة لا يمكن اختزالها بين حكمة الانسان والله، رافضا ادّعاءات الاولى في التحقق من الحقائق المطلقة. يصرح بول:

"ألم يجعل الله الحكمة في العالم شيء من الغباء؟ لأن غباء الله اكثر حكمة من الناس، وضعف الله اكثر قوة من الناس"

(1 cor.1:20-25) (2).

فلسفة فتجنشتاين المضادة للفلسفة، تهتم بشكل رئيسي بالخط الحديث المضاد للفلسفة، الذي جسّده مفكرون رئيسيون مثل نيتشة وفتجنشتاين ولاكان. ومع ان هذه القائمة تشير للمضادين للفلسفة الذين جرى التعامل معهم مطولا في ندوات باديو، لكن هناك ايضا يوجد في كتابات باديو ما يتضمن آخرين (بمن فيهم السوفسطائيين بالاضافة للمضادين الملائمين للفلسفة) مثل دريدا ويوتارد ورورتي وأي عدد من فلاسفة اللغة الذين يتخذون من التحقيقات الفلسفية لفتجنشتاين نقطة انطلاق لهم.

وبينما يصر باديو على ان المضادين للفلسفة يشتركون بهيكل هام، فان الاختلافات والارتباطات الداخلية بينهم احيانا تجعل ادّعاء باديو يبدو أكثر غموضا.

في الكتابة ضد "الانعطاف اللغوي" في الفلسفة، وايضا حتى بالنقد اللاذع حول "فلسفة اللغة العادية"، باديو ينزلق احيانا الى استياء غير واضح حول النسبية وحول فكرة ايلاء اهتمام للّغة بما يحقق تقدما (او اختفاء) للفلسفة، كأنه منزعج من الحاجة للتعامل مع اللغة تحت أي ظرف كان .

مع ذلك، في نيتشة، فيتجنشتاين، لاكان، يحدد باديوهيكلا اكثر شيوعا يربط كل واحد منهم بنوع رئيسي من المقترحات المضادة لمناهضة الفلسفة. باديو يلاحظ ان الفعالية المقترحة من جانب المضادين للفلسفة كاستبدال للفلسفة هي دائما تُطرح كشيء اما يعطي الكثير من الفائدة (نيتشة)، او الكثير من الروحانية divinty (القديس بول وربما فيتجنشتاين) او الكثير من الحقيقة (لاكان) قياسا بما أنجزته الفلسفة في أي وقت مضى. مع ذلك، الفعالية، لا تحتاج امتلاك أي علاقة صريحة مع مجال الفلسفة العرضة للنقد.

وهكذا، يقول باديو، ان بديل نيتشة المقترح هو سياسي، وبالنسبة لفيتجنشتاين هو جمالي، وبالنسبة للاكان هو علمي. كذلك، يدّعي باديو ان الفيلسوف المناهض يتقدم دائما بصيغة من الفعالية مفرطة في التشبّع، فيها تجريد يتجاوز أي ممارسة قائمة. وهكذا، هو يقول، فيتجنشتاين يقترح اننا ننخرط في فعالية جمالية أكثر جمالا وأدبية من أي فن حقيقي: فعل يسميه باديو الأعلى جمالا archiaesthetic، ولدى نيتشة الأعلى سياسيا archipolitical ولدى لاكان الأعلى علميا archiscientific.

فيتجنشتاين ومناهضة الفلسفة

يركز باديو أغلب نقاشه عن فيتجنشتاين فقط حول الرسالة المنطقية Tractatus ليجد فيها (بدلا من التحقيقات الفلسفية، او الكتابات اللاحقة الاخرى) التعبير الأكثر قوة عن تحدّي فيتجنشتاين للفلسفة. هنا نحن مرة اخرى نرى باديو يتعامل مع المضاد للفلسفة بقدر ما هي اداة او اختبار للفلسفة الصحيحة: الرسالة المنطقية تعرض اتهام فيتجنشتاين القوي للفلسفة التقليدية التي تتاجر دائما في الهراء – وهي لذلك تُعتبر الاهتمام الأكثر إلحاحا للفيلسوف.

لكن باديو هو ايضا مفتون بالحافز الفلسفي المستمر في الرسالة المنطقية، وفي مراوغة النصوص حول امكانية بيان الحقائق. من بين ما نبذه فيتجنشتاين من اسئلة فلسفية وأجوبة ( لميلها لحشر حقائق مزعومة في افتراضات ليس لها معنى)، هناك بديل صوفي يتهرب من اللغة لكنه يبدو يستمد الجاذبية والخلود الذي تبحث عنه الفلسفة بشأن الحقيقة.

هذا "العنصر الصوفي"، اذا اريد كشفه او التقرب منه، لايتم ذلك بواسطة الفلسفة حسب قول فيتجنشتاين. . باديو وضع موقف فيتجنشتاين المضاد للفلسفة كاستبدال لمفهوم الحقيقة بذلك الخاص بالمعنى. ما ينتج هو مجموعة كاملة من الفلسفة تتعامل بافتراضات لا معنى لها، اشكال من فكر مزعوم ثبت انه مستحيل حتى في الميدان الواسع للواقعي (جميع تلك الحالات الراهنة التي يمكن ان تكون صحيحة)، وبعض الحشو الفارغ:

" 6.1: افتراضات المنطق هي حشو.

6.11: لذلك فان افتراضات المنطق لا تقول شيئا".

(الرسالة المنطقية، 1921)

عندما يحاول باديو تلخيص موقف فيتجنشتاينش المضاد للفلسفة في الصفحات الاخيرة من كتابه، هو يتعقبه رجوعا للعنصر الصوفي، والى أفكار فيتجنشتاين حول الطريقة الصحيحة لمحاولة بيان ذلك. الطريقة الخاطئة بالطبع، هي الفلسفة.

مقتبسا من رسالة من فيتشجنتاين الى فون فليكر Von flicker، يسلط باديو الضوء على وجود نوعين من المعنى في الرسالة المنطقية. فمن جهة هناك معنى ضمن العالم: معنى الافتراضات. هذا المعنى بُني من الذرات والقواعد المنطقية والصارمة المقيّدة بالإمكانية. ومن جهة اخرى، هناك معنى العالم، معناه، الذي يكمن خارج اللغة. عندما تنتهك الافتراضات في اللغة قواعد الاول في محاولة تمديد نفسها باتجاه الأخير، نحن امام ثرثرة او هذيان: "الهذيان هو فلسفة بمعناه الميتافيزيقي".

مشروع آلن باديو

فعالية الفلسفة بالنسبة لباديو هي شيء ضيق جدا. في الحقيقة، جزء من قيمة قراءة المضاد للفلسفة والاشتباك معه، حسب قوله، هو انه يذكّر الفيلسوف بالضبط بمدى خصوصية نشاطه . المضاد للفلسفة، يذكّر الفيلسوف عبر التجسيد اللغوي للسياسة، الفن، العلوم، انها بالضبط ليست هذه الاشياء، وانه لا يجب ان يسعى لإنتاج "الحقائق" بالطريقة التي يقوم بها. على طول عمل فتجنشتاين المضاد للفلسفة، يضع باديو المتشابهات بين المضادين للفلاسفة مع السوفسطائيين القدماء في جانب، ويضع نفسه مع افلاطون وسقراط في الجانب الآخر. بمقدار ما يضع نفسه في مصاف الفلسفة الافلاطونية، يصف باديو مشروعه كـ "شيء صعب":"ان اللاوجود يشكل القاعدة للوجود هو شيء يتباهى به السوفسطائيون. لكن الشيء الذي يصعب عمله هو ليس قول هذا والاستنتاج منه بمرح الشرعية "الديمقراطية" البليغة، انه ان تدير وجود بعض الحقائق". (مراجعة باديو لكتاب بربرا كاسين "الثيولوجي ضد الانطولوجي"، 2012).

الشيء الصعب هو ان الفلسفة والعمل الذي تقوم به، يُقارن مع الشيء السهل والذي هو السفسطة – والى مدى أقل – مع المضاد للفلسفة.

الاستنتاج السوفسطائي هو سهل لأنه لا يتطلب منا ان نؤدي العمل الرياضي والمنطقي للفلسفة لأنه يختزل عمق الفعالية الفلسفية الى تمرين لغوي خالص، متحرر من أي علاقة خاصة مع العالم او ما يكمن خلفه. غير ان هذا لا يمتد الى المضاد للفلسفة، حين يتم رفضها بسهولة باعتبارها متناقضة، لا أخلاقية، او خاطئة. اذاً مرتكزات الفلسفة هي غريبة: هل نحن نتفلسف فقط لأنها صعبة؟

Thecollector.com, March 5, 2023

***

حاتم حميد محسن

......................

الهوامش

(1) آلان باديو فيلسوف فرنسي، وسابقا كان رئيسا لقسم الفلسفة في المدرسة العليا للاساتذة ومؤسسا لكلية الفلسفة في جامعة باريس الثامنة مع جيل دولوز، وميشال فوكو وجان فرانسوا ليوتار. كتب باديو حول مفاهيم الكينونة والحقيقة والحدث والموضوع بطريقة كما يدّعي ليست ما بعد حداثوية ولا مجرد تكرار للحداثة. ولد باديو في المغرب عام 1937، اشترك في عدد من التنظيمات السياسية وجادل بعودة الشيوعية كقوة سياسية.

(2) عندما يتحدث القديس بول عن "حماقة الله" فهو لا يعني ان الله أحمق. بل، هو يقول انه طالما طريقة الله في التفكير هي في توافق مع أشياء الروح، هذا يربك التفكير بالعالم. انه اكثر حكمة من تفكير الانسان لأن الاشياء الروحية هي اكثر حكمة من الأشياء الغير روحية.

(إننا لسنا مجرد ما نراه في المرآة، بل نحن ما يراه الآخرون فينا)... إريك أرين

1- مقدمة:

الإنسان كائن رمزي يتفاعل مع الكون ويتشكل في الوقت نفسه على نحو رمزي، وإذا كانت الهوية تتشكل فعليا على نحو رمزي فإن تدمير الهويات يمكن أن يتم بفعاليات رمزية. وهذا يعني أيضا أن الهوية تبنى رمزيا وتهزم رمزيا أيضا، أي: أنها تتصدع ثم تنكسر على وقع الصدمات الرمزية، بالدرجة نفسها التي تتشكل فيها على ترجيعات العنف الرمزي بتنويعاته وتجلياته المختلفة. فالرموز في حقيقة الأمر تعمل على تشكيل الهوية بطريقة تؤكدها كذات مفترضة أو كهوية ثابتة من جهة ومن ثم يمكنها أن تعمل على تفكيكها وتدميرها عبر إخراجها من الشعور بالقيمة الذاتية والوجودية من جهة أخرى.

فالعلاقة التي تربط بين العنف الرمزي والهوية علاقات تتجاوز حدود المألوف في طبيعة العلاقة بين الأشياء، إذ يتغلغل العنف الرمزي بأدواته السحرية إلى العمق الوجودي للهوية فيعمل على تشكيلها أو تدميرها وفقا لنسق من الآليات والديناميات التي تحكم العلاقة بين الهوية في الصميم وبين الرموز في القاع والأعماق. فالهوية لا تعدو أن تكون في نهاية الأمر أكثر من تشبعات رمزية أسقطتها الفعاليات الثقافية في بوتقة العلاقة بين الأنا والآخر بين الذات والوجود المتكاثف في تشكيلات رمزية.

فالرمز ينطوي في ذاته على قوة ويحمل في ثناياه عنفا، إذ يمتلك القدرة على التغلغل في أعماق النفس الإنسانية فيعمل على هندستها وتشكيلها. ولا يمكن الرمز أن ينفصل عن جوهر القوة بوصفه طاقة تمتلك القدرة على التأثير والفعل والتشكيل. ويكاد السلوك الإنساني يكون تجسيدا لصيرورات رمزية تشبعت بها الهوية والأنا والذوات الاجتماعية بكيفيات تأخذ طابعا الحتميات السلوكية الراسخة في الطباع البشرية.

فسلوك الأفراد لا يعدو حدود الأنساق الرمزية التي تشبعت بها عقولهم وهذه الأنساق تأخذ صورة حتميات وجدانية تفرض على الناس ما هم عليه من استجابات تتعلق بالكون والعالم والوجود. لقد أضفى الإنسان الكون طابعا رمزيا ثم ارتسم على صورة الطاقة الرمزية لهذه الأنساق الرمزية التي تشكله وتهبه صورته الذاتية وتمنحه قدرته على استكناه العالم رمزيا وفقا للصورة الرمزية التي تشكل بها وتعيّن في حدودها.

2- الهيمنة الرمزية وانكسار الهوية:

من السذاجة بمكان الاعتقاد بأن العنف ضد الآخر يتحدد بالاعتداء الفيزيائي على الأشخاص والأشياء مثل الضرب والتدمير والقصف الجوي والتمرد والمذابح وعنف الجماهير فحسب، فهذه الأنماط من العنف لا تقف نتائجها عند حدود الموت والآلام الجسدية أو عند حدود التدمير وإحداث الفوضى المادية، بل تؤدي أيضا إلى توليد آلام وخسائر وأحزان نفسية، وهذه الآثار النفسية تتكشف على صورة نتائج شديدة الوقع والتأثير: الاضطهاد، فقدان الإحساس بالأمن، الحقد والكراهية، ومن ثم تدمير المرجعيات الأخلاقية. هذه الظواهر تبدو من حيث المظهر متباعدة ولكنها في جوهرها تشير إلى عنف من نوع آخر وثيق الصلة بالعنف الفيزيائي وهو ما يسمى بالعنف الرمزي وهي تسمية تطرح بذاتها إشكالية معرفية لأنها غالبا ما توظف في أدبيات علم الاجتماع بمعاني ودلالات مختلفة.

دأب بيير بورديو على استخدام مفهوم العنف الرمزي في أغلب كتاباته الأدبية والتربوية كما في أعماله التي تحمل طابعا اجتماعيا وذلك لتفسير ما يطلق عليه الهيمنة الذكورية. ويلاحظ في هذا السياق أن بورديو قد استخدم هذا المفهوم كنقيض للعنف الاقتصادي ولاسيما في دراسته لأوضاع طبقة الفلاحين في منطقة القبائل الجزائرية كما أنه قد وظفه نقيضا للعنف المادي.

يعرف بورديو العنف الرمزي (الهيمنة الرمزية) بأنه: "عنف ناعم خفي غير مرئي وأنه فوق ذلك كله مجهول من قبل ممارسيه وضحاياه، ويتجلى هذا العنف في ممارسات قيمية ووجدانية حيث يتجسد في قيم الثقة والواجب والإخلاص الشخصي والكرم والعطاء والدين والعرفان والشفقة والرحمة وهذا التجلي يشمل جميع الفضائل التي يعبر عنها بالشرف والأخلاق والسعادة". فالهيمنة الرمزية تمثل في جوهرها عملية تطبيع الآخر على دونية الهوية وضعف الإحساس بالقيمة الذاتية وازدراء الأنا عبر عملية تمويه تعتمد الفعاليات الرمزية في تحقيق أهدافها وغاياتها.

فالعنف الفيزيائي يؤدي إلى توليد آثار نفسيه عند ضحاياه: الشعور بالضعف، الشعور بالحيرة والضياع، ومن ثم الشعور بالدونية. إن إحراق سيارة أو تفجير منزل عمل عدائي ضد الممتلكات، وهو في الوقت نفسه اعتداء ضد مشاعر المالكين أي ضحايا هذا العنف. وكذلك فإن تعرض الفرد إلى الضرب في مظاهرة من قبل مجهولين أمر سيشعره بأنه غير قادر على حماية نفسه. وهذا يعني بالضرورة أن أي اعتداء فيزيائي جسدي سيولد مشاعر المهانة والدونية لدى هؤلاء الذين يتعرضون له. فالآلام الناجمة عن الإحساس بالضعف والدونية والهامشية تشكل عوامل أساسية في عملية تشويه الهوية وتدمير مكوناتها.

ولكن العنف الرمزي، سواء أكان مقترنا بالعنف الفيزيائي أو لم يكن، يولد جروحا نرجسية كبيرة تنال العمق الأساسي للهوية والكينونة. وهذا يتشكل بتأثير التصورات الرمزية التي تأخذ صورة نسق من التصورات والإيماءات والإشارات والتنبيهات والذكريات والفعاليات اللاشعورية التي يستبطنها الفرد ويعتمدها في عملية فهم العالم وإدراك دوره وتحديد وضعياته، وهي نفسها التي تسمح لأفراد جماعة ما أن تأخذ مكانها بالمقارنة مع الجماعات الأخرى التي تجاورها في الوسط الجغرافي والاجتماعي. ومثل هذه التصورات والمحددات الرمزية التي يستبطنها الفرد رمزيا تعمل على تشكيل هويته الفردية والاجتماعية. وغالبا ما تكون هذه الأنساق والتصورات نتاجا للعنف الرمزي الذي يمارس بصورة مباشرة أو عبر فعاليات ثقافية لاشعورية يستبطنها الفرد خلال عملية التنشئة أو التفاعل الاجتماعي وتمارس هذه الفعاليات الرمزية دورا حيويا وحاسما في بناء نواة الهوية.

3- العنف الرمزي وجروح الهوية:

تستمد الفعالية الرمزية المُشَكِّلة للهوية وجودها من الحاجة إلى تأكيد وحدة الشخصية واستمراريتها وصيرورتها الإنسانية. وهذه الحاجة ضرورية وذلك لأن وحدة الهوية معرضة للخطر بصورة دائمة تحت تأثير عوامل الانشطار والانكماش والتجزؤ والتفكك والإحساس بالدونية وهذا ما يطلق عليه علماء النفس قلق التفكك والانشطار (Angoisse de morcellement). فالفرد رغم شعوره بوحدته وتماسكه وتفرده ليس واحدا على مرّ الزمن، فقد لا تكون أفعاله في لحظة ما من لحظات حياته تعبيرا خالصا للشعور بالأنا ووحدة الهوية وذلك عندما نأخذ بعين الاعتبار وضعيات المعاناة والإكراه التي يكابدها في التكيف مع كل حالة من حالات الوجود والاستمرار.

فالفرد يكوّن جوهر هويته ويشكلها في مختلف مراحل التنشئة الاجتماعية تحت تأثير فعالية رمزية مكثفة تنطلق من تشكيلات ثقافية سائدة في الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه. وهنا في دائرة هذا الحقل الرمزي ترتسم أنماط التجاوب مع التحديات في سياق درامي في مختلف المستويات الحياتية: من أكون أو من أنا بالتحديد؟ ما معتقداتي وولاءاتي الأساسية؟ حيث يرتسم في هذا النسق من الأسئلة الحقل الرمزي المشكل للهوية والأنا.

فاسم الفرد يشكل فعالية رمزية مؤثرة لأن الاسم غالبا يحدد جنس الفرد وفقا لأغلب الثقافات، كما يرمز إلى صفات ومعاني يختزنها الفرد لاشعوريا في مختلف مراحل تكونه النفسي والاجتماعي، وهذا ما يعبر عنه القول الدارج في الثقافة الشعبية: (لكل من اسمه نصيب). وهذا يعني أن الاسم الدال على الجنس يرسخ رمزيا في الوعي الفردي نواة الهوية ومركزيتها. ومن المهم في هذا السياق معرفة الدور الكبير الذي يمارسه النسق الرمزي في علاقته مع التحديات التي يواجهها الفرد عبر مسارات الحياة اليومية عبر الزمن. فالفرد يرسم نفسه ويحددها عبر تجاربه الحية في الحياة كعلامات راسخة ونقاط علاّم أساسية توجه مسار حياته نفسيا ورمزيا، وهنا فإن كل المعايير والدلالات التي تثبت وتقاوم الظروف الزمنية تشكل محورا أساسيا للهوية حيث يرمز الثبات إلى انتصار الأنا والذات في مواجهة الموت والعدم.

فالفرد عندما يريد أن يعزز شعور الهوية والإحساس بالأنا يعمل على تزكية قيم أخلاقية مرجعية تشكل مصدرا للسلوك والفعل لديه. وهذه القيم تعطي سلوكه طابع المشروعية التي تؤكد وحدة الشخصية وتماسكها، ومن هنا يمكننا أن ندرك أن عملية اكتشاف الهوية وتنميتها ترتبط جوهريا بالعقائد الدينية والفلسفية كأن يكون المرء مسلما أو مسيحيا أو عقلانيا أو ملحدا.

4- التبخيس عنفاً رمزياً:

فالعنف الرمزي القائم لا يأخذ صورة سلوك متعمد مقصود، وإذا كانت هناك أفعال ومقولات تهدف بصورة متعمدة إلى ازدراء الآخر وإهانته فهذه الأفعال والأعمال هي من نمط آخر مختلف تماما أي ليست رمزية أو لا تحمل طابعا رمزيا. ويمكن للعنف الرمزي هذا أن يؤدي إلى عملية تدمير المرجعيات الأخلاقية والقيمية التي تؤكد الهوية وتنميها وترسم أبعادها. ويمكن لنا في هذا السياق الاستفادة من النماذج الشعرية التي أوضحت عفويا هذا النوع من العنف الرمزي أو الهيمنة الرمزية إذ يقول الشاعر أحمد شوقي:

قد تعيش النفوس على الضيم حتى

لترى في الضيم أنها لا تضام

وفي هذا البيت من الشعر مثال واضح وصريح عن تأثير الهيمنة الرمزية في تشكيل الهوية واستلابها أيضا، فالتبخيس المستمر المذل قد يؤدي إلى تدمير المكون الأخلاقي للهوية وتحويل الذات إلى صورة مبتذلة تغتذي بنسغ المذلة والمهانة والقبول بالضيم على أنه هوية ووجود.

وجاء في بيت شعري آخر نموذج آخر للتأثير الرمزي في تشكيل الهوية حيث يقول عنترة في وصف حي لقوة الرمز والتصورات التي تحيط بالفرد في تدمير الهوية بيتا خالدا من الشعر فحواه:

وَمَنْ يَكنْ عَبْدَ قوْمٍ لا يُخَالِفُهُمْ

إذا جَفَوْهُ وَيَسْتَرْضي إذا عَتِبُوا

وفي هذا تكمن عبقرية عنترة الشعرية في إدراك أهمية التصورات الرمزية في تشكيل هوية الفرد حيث عانى بنفسه من جروح ساحقة للهوية في القبيلة (قبيلة عبس) التي رسمت حوله تصورات تبخيسية دونية بوصفه عبدا لا فارسا يحمي حماها وشاعرا يذود عن حياضها.

وفي هذا المقام يرى جورج ميد George Mead كل تأكيد للذات في الحياة يتضمن أحكاما قيمية ضرورية، ومهما يكن الأمر فإن عملية بناء الهوية تتم عبر العلاقة بالآخر. فالتبخيس والازدراء وتهميش الهوية أمر صادم، وهو يمثل عملية اغتصاب لقيمة إنسانية ضرورية في عملية توازن المجتمعات الإنسانية ولاسيما في المجتمعات الديمقراطية. فالتبخيس والتهميش يأخذ صورة إهانات وتحقير وتصغير وتشهير وتمييز وهي أفعال تمييزية تنتقص من قيمة الفرد وتدمر مرجعيات هويته الإنسانية. وهذا الأمر يشمل السلوك العدواني ضد الآخرين تحت ذريعة أصولهم الدنيا وانحدارهم في مستوى التطور.

لقد دأبت السياسات الاستعمارية على توظيف هذا النوع من التبخيس والتدمير الثقافي للهوية ضد الشعوب المستعمرَة تحت ذريعة التنوير والتبشير والديمقراطية. ويمكن تصنيف تسميات النمو وبلدان العالم الثالث والبلدان النامية تحت هذا العنوان التبخيسي للهوية. ومما لا شك فيه أن هذه التسميات وغيرها التي أطلقت على الشعوب المغلوبة تمثل أحكاما قيمية غامضة بذاتها ترمز إلى تقدم المجتمعات الغربية وتفوقها قياسا إلى تخلف الآخر. حتى أن الحملة الكريمة التي أعلنت من أجل المثل الديمقراطية وحقوق الإنسان التي وظفت في عملية التدخل الإنساني كانت تنطوي على أحكام قيمية تبخيسية ضد الأنظمة الاجتماعية والثقافات الإنسانية لهذه البلدان.

فالسياسات الاجتماعية التي رسمت لتقديم العون والمساعدة إلى الفئات المهمشة والضعيفة مثل العاطلين عن العمل والمعوقين والمهجرين والفقراء كانت وما زالت متشبعة بأحكام قيمية مدمرة لمرتكزات الهوية الاجتماعية لهذه الفئات. فالحياة في الأحياء الفقيرة حيث تغيب الخدمات الاجتماعية تشكل شاهدا على عملية تدمير مرتكزات الأنا والهوية حيث تهمل هذه الأحياء من قبل المؤسسات السياسية والإدارية، ويتعرض سكانها لعملية تبخيس دائم ومستمر يؤدي في النهاية إلى استبطانهم الإحساس بالدونية وفقدان القيمة الإنسانية وعدم الأهلية.

فالنزعة القومية الأصولية، وهذه المضادة للفكر الديني، والاشتراكية الثورية، تيارات وقوى سياسية وجدت نفسها في زحمة التنافس الانتخابي وعملت على نشر أيديولوجيات عمياء ترتكز إلى ثقافة تعصبية مهينة ولكنها فعالة في مجال الحياة السياسية. وفي هذا الثقافة السياسية الجديد يجد الخطاب التبخيسي مصادره ويأخذ مداه ويمارس تأثيره بقوة واضحة المعالم.

لقد أدت الحروب الأهلية في أوروبا في القرن العشرين إلى إيقاظ وعي عام جمعي مضاد لثقافة التبخيس والكراهية إزاء مختلف التكوينات والجماعات والأقليات في هذه البلدان. وعلى خلاف ذلك فإن التصورات التي ترمز إلى دولة الرفاهية والتقدم والرفاه الاقتصادي قد عززت فكرة بناء نمط من التصنيفات الغامضة التي تأخذ طابعا لا يخلو من التبخيس المبطن الذي تعاني منه الفئات الاجتماعية المهيضة والمهمشة. ووفقا لهذا المقياس كان يتم الحكم على فئات المهاجرين الذي تدفقوا في أوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين، وبحكم الظروف السائدة آنذاك وجد هؤلاء المهاجرون أنفسهم بالضرورة في وضعية تبخيس وازدراء وشكلوا موضوعا للكراهية والتعصب من قبل السكان الأصليين.

5- العنف الرمزي وتدمير المرجعيات الثقافية:

نعني بالمرجعيات الثقافية للهوية منظومة من المعايير والقيم والمشاعر الأساسية والتصورات التي تسمح للفرد بأن يتشكل وأن يشعر بتماسك هويته وأن يتخذ وضعية محددة في العالم الذي يعيش فيه وفق مخطط من التصورات والمشاعر والمعايير التي تتسم بالوضوح والوحدة والتكامل، وهذه التصورات تشكل بدورها المحددات الثقافية والتربوية التي تمكن الفرد من أن يرسم نسقا من المسارات التي تسمح له بعملية التكيف والاستمرار بوصفه ذاتا وهوية مع مختلف مثيرات وفعاليات وظروف الوسط البيئي الإنساني والاجتماعي والثقافي الذي يحتضنه. وهذه المرجعيات تسمح للفرد على سبيل المثال أن يقدم إجابات واضحة حول قضايا حيوية ترتبط به في علاقاته بالوسط والآخر حيث يفرض المرء بالاستناد إلى شروط وجوده مخططا واضح المعالم للحياة والوجود يرسم من خلاله مختلف المعايير التي يعتمدها في وجوده واستمراره وتكيفه حيث تكون هذه المعايير نقاط علام بارزة في مسار التكيف والاستمرار والوجود من مثل: ما الأشياء التي تخصني وما التي تخصك أنت؟ من خصومي ومن أعدائي؟ كيف أفرض نوعا من الأمن الذي يتعلق بوجودي وكينونتي؟ مع من أتضامن وإلى من ألجأ ساعة الخطر؟ ما أنماط السلوك المشروعة وغير المشروعة التي يمكن أن أؤديها؟ ما الأمور المرغوبة والمرفوضة التي يمكن أن أقوم بها؟ ما الأشياء المهمة وغير المهمة؟ ما الأمور التي يمكن أن ثمن عاليا وما تلك التي تكون هامشية؟ ما المقدس وما المدنس في الحياة؟ ما الغاية وما الوسيلة في الوجود؟ هذه الأسئلة تشكل مسار وحدود المرجعيات الخاصة بالهوية التي تشكل نواة الوجود والهوية والإحساس بالأنا والتمايز والتكوين.

وفي هذا الخصوص يمكن القول: إن أي خلل أو ضرر أو تدمير يصيب هذه المرجعيات سيؤدي بالضرورة إلى عملية هدم للهوية ذاتها. وهذا يتم تحت تأثير مجموعة من العوامل والتأثيرات المقصودة وغير المقصودة التي تشكل نوعا من العنف الرمزي المدمر للهوية. فأي تبخيس واستصغار وإشعار بالدونية وأية أحكام سلبية رمزية تباشر هذه المكونات الأساسية للهوية يمكنها أن تشكل خطرا على مكونات الهوية ووحدتها. والأمثلة على هذا النوع من العنف الرمزي تتعدد وتتنوع بتعدد وتنوع الديناميات النفسية الاجتماعية.

ويمكن القول أيضا: إن الشكل الأول للعنف الرمزي يتجلى في الخلل الذي يعتري الوسط العاطفي والانفعالي المرجعي للفرد، وهذا يمكن ملاحظته في هذا الخلل الذي أفرزته الحداثة الغربية التي أدت إلى تناول المرتكزات الرمزية للأديان السماوية، وهذا بدوره شكل فوضى قيمية كبيرة في مجال الإحساس بالهوية الدينية. فالمؤمنون اليوم يعيشون في عالم انقلب فيه نسق الأسباب فحلت السببية العلمية مكان السببية الإلهية، وحلت فكرة التقدم العلمي مكان العناية الإلهية، وتركت فكرة الكمال الإلهي مكانها للأخلاق العملية بصورة عفوية مستقلة عن أية دعاية "بروباغاندا" مضادة للدين، ويشكل هذا الانقلاب الرمزي مرتعا لعملية تدمير الهوية الدينية التقليدية مرجعياتها القائمة على أنساق من التصورات الدينية المثقلة بالرموز.

إن قوة الرفض التي تبديها هذه الجماعات المهمشة من أجل الحفاظ على هويتها تعمل على معاقبة هؤلاء الذين ينتهكون قيمها ووصمهم بالخيانة والعار، ومع ذلك فإن هذه الجماعات والأقليات تبدي قلقها وخوفها بصورة واضحة. فالعقائد المنغلقة تعزز أفكارها وتصوراتها لدى أفرادها والمنتسبين إليها، وهي تفعل هذا وفق آلية التغذية الذاتية العفوية حفاظا على مكونات هويتها التي تتعرض للضغط والفوضى بتأثير عوامل الصدمة مع معتقدات الآخر وأنماط وجوده. والشكل الأكثر تطرفا لهذا النمط من العنف الرمزي عملية تدمير الرموز والأيقونات الدينية أو عملية تدمير ورفض لكل المعاني والرموز التي تتصل بالعقائد الدينية حيث يتم تدمير المقدس وانتهاكه ولاسيما في المعابد والمراكز الدينية.

ويشهد العالم المعاصر تنامي أشكال مختلفة من العنف الرمزي الذي يستهدف مرجعيات الهوية وأسسها المركزية، وهذه الأشكال ليست نوعا من التبشير الكلاسيكي الذي يتصف بالعدوانية ويفرض نفسه بقوة المؤسسات الكبرى مثل هذا الذي مارسته الكنائس التبشيرية.

وفي النهاية يمكن القول بأن النتائج السياسية لهذا العنف الرمزي تتميز بالأهمية والحضور والتواتر. ومن المناسب هنا التركيز على مختلف وجهات النظر فيما يتعلق بطريقة معالجة هذه الوضعيات الرمزية ومنها: التراجع إلى ثقافة المتاريس التي تؤدي إلى توليد التناقضات والتوترات في مكونات الهوية، أي وفقا لمفهوم "الأنومية" (Anomie= الفوضى الأخلاقية والقيمية لدى دوركهايم)، أي استبطان مشاعر الدونية واستصغار الذات والهوية وأحيانا توليد مشاعر النقمة والتعويض للضحية عبر العنف من خلال التماهي بسلوك المتسلط أو الجلاد، ومن المؤكد أن العنف الرمزي يؤدي إلى تعزيز وتوليد العنف الفيزيائي، وهو عنف يؤدي إلى تجاوز الحصانة القانونية والمعايير الأخلاقية التي تعمل على حماية الجماعات القوية أو المهيمنة.

6- خلاصة: انشطارات الهوية:

يتكاثف الاستلاب الرمزي للهوية في المجتمعات التقليدية المعاصرة ولاسيما في مجتمعاتنا العربية المعاصرة، ويأخذ هذا الانكسار صيغا متعددة في مستوى الفرد وفي مستوى المجتمع. وما نراه اليوم يكشف عن انفجارات متواترة في الهويات الوطنية في عدد كبير من الدول العربية. فالهويات الوطنية تتشظى إلى هويات طائفية وإثنية وعرقية مغلقة ومتصادمة أيضا في سوريا والعراق ومصر والسودان وغيرها من البلدان العربية. وفي دائرة هذا الانشطار نجد هوسا تدميريا للرمز في معارك التصادم بين الهويات المنشطرة. فكل هوية طائفية أو عرقية وليدة أو مستقرة تنطلق من أنساق رمزية في تثبيت هويتها وفي كسر الهويات المجاورة: التصورات السلبية التي ترسخها كل هوية طائفية أو عرقية ضد الأخرى والتصورات الإيجابية التي ترسمها كل طائفة عن ذاتها في تداعيات إثبات الهوية وترسيم حدودها. وغالبا ما نواجه هويات منكسرة جزئيا أو كليا مستلبة بهذا القدر أو ذاك وهذا الاستلاب يشمل الأبعاد العالمية والإقليمية والمحلية.

ومن الضرورة بمكان أيضا الإشارة في هذا السياق إلى الاستلاب الفردي للهوية فالتربية السائدة تشكل بوتقة من التصورات السلبية التي يتنمذج عليها افراد المجتمع ولاسيما من الطبقات الفقيرة والمهمشة في مختلف جوانب الحياة التربوية والسياسية والاجتماعية. ويمكن القول في النهاية إن هذه المقالة يمكنها أن تشكل منطلقا لدراسات أمبيرقية حول فاعلية الطاقة الرمزية في انتهاك الهويات الفردية والجمعية في مجتمعاتنا العربية المعاصرة واستلابها.

***

علي أسعد وطفة - جامعة الكويت

تمهيد: حسب التعريف الفيزيائي العلمي بضوء نسبية انشتاين لفظة زمكان بالانجليزية (spacetime) او الزمان المكاني هو مصطلح دمج لمفهومي الزمان والمكان، وينتج عن ذلك فضاء استيعابي بابعاده المادية الاربعة التي تشمل الطول، العرض، الارتفاع، واضاف انشتاين البعد الرابع الزمن. هذا الفضاء او النسيج الاحتوائي يحمل كل شيء بهذا الكون. وكل جسم مهما كان حجمه وكل حدث يخضع لها فلا وجود للاشياء ولا للاحداث خارج نطاقي الزمان والمكان.. (ويكيبيديا الموسوعة).

طبعا بضوء هذا التعريف العلمي فيزيائيا الذي ساتناوله تفصيلا لاحقا بمفهوم فلسفي نقول الزمكان مفهوم افتراضي لامادي رغم تحديده بابعاد المادة الاربعة المدركة عقليا التي مررنا عليها. هذا التحديد المادي رباعي الابعاد يصبح باطلا حينما جرى اعتبار الزمكان فضاءا او حيّزا فارغا من مطلق مكاني- زماني اذا صح مثل هذا التعبير يحتوي كل شيء ولا يحتويه شيئا يدركه العقل. اما اذا اخذنا المصطلح ضمن محدداته المادية الاربع كما هي محددات المادة فانه بذلك التعيّن يصبح مادة خارج العقل انطولوجيا يدركها العقل موضوعا له..

يوجد ارباك واضح بين اعتبار الزمكان مطلق لانهائي بابعاد مادية ارضية يحتوي كل شيء قابل للادراك العقلي. اذن ما موقعه من الفضاء الكوني المطلق اللانهائي الذي لا يمكن تحديده بابعاد مادية او غير مادية يمكن ان يدركها العقل؟ لا اعتقد يوجد فضاء مطلق رباعي الابعاد يحتوي كل شيء ولا يدركه العقل موضوعا له هو وجود خارج مطلق الفضاء كأن يكون في عالم الطبيعة والانسان. السؤال الاشكالي طالما جعل علماء الفيزياء الزمكان تحده حدود المادة التي يدركها العقل فلماذا لا يدرك العقل الزمكان كما يدرك المادة؟.

للخروج من هذا التقاطع المزدوج علينا الذهاب الى ان الزمكان بالمعنى خارج تعينّه بالابعاد المادية الاربعة هو مفهوم افتراضي ارضي لا يدركه العقل. الى جانبه بل يحتويه مطلق فضائي كوني لانهائي اشمل منه ولا ابعاد رباعية تحده هو ما يطلق عليه الفضاء السرمدي الازلي اللانهائي.

ولفظة الزمكان تعني بداهة ما يتعالق مع الارض والطبيعة من مكان.أما أن فيزياء الفضاء إعتبرته حيّزا إحتوائيا هو الاخر منفتحا على استيعاب كل شيء فهي عبارة تحتاج الكثير من التوضيح المقارن مع خاصية الاحتواء اللامحدود للفضاء الكوني. من المفروغ منه بغياب ادراك العقل للاشياء لا يبقى هناك مايسمى زمكانا استيعابيا مستقلا ككيان انطولوجي ندركه ارضيا. ليس كافيا القول الزمكان مفهوم مطلقه نسبي في تعالقه مع ادراك العقل للاشياء. ومطلقا في اعتبار علماء الفيزياء له فضاء منفتحا استيعابيا لكل شيء ندركه خارج العقل وهو غير متعيّن وجودا.

ما هو الزمكان فلسفيا؟

الزمكان وحدة ثنائية افتراضية مستحدثة علميا مستقلة ندركها وعيا وجوديا افتراضيا وليس ادراكا وجودا ماديا انطولوجيا. وعي الزمكان وليس ادراكه العقلي كحيّز احتوائي هو تجريد صوري لغوي. الزمكان حسب علماء الفيزياء وجود انطولوجي، بينما الصحيح هو ما اشار له كانط الزمكان قالبي ادراك فطريان هما وسيلة ادراك الاشياء وليسا موضوعين مستقلين للعقل.

الحقيقة التي يجري الخلط بها اننا بامكاننا ادراك المكان بدلالة زمنية ولا يمكننا ادراك الزمان مستقلا بدلالة مكانية. بمعنى ان وعينا الزمن يقوم على دلالة مكانية معرفية تفترض عدم امكانية ادراك مكان من دون ملازمة زمنية. وهو شرط غير مستوف صحة اثباته. الزمن مطلق يحتوي المكان ولا يحتويه الادراك كموضوع مستقل.

اذا حاولنا تناول ثنائية الزمكان كوحدة مستقلة تم اعتبارها علميا حيّزا احتوائيا مطلقا لكل شيء يدركه العقل رغم اننا نفتقد اثبات ملازمة الزمن لكل مدرك مكاني باستثناء اذا ما نحن اردنا توثيق ادراكنا لشيء زمانيا. بالتوقيت العادي بدءا من الساعة وانتهاءا بالفصول الاربعة.

من هنا يبدو التساؤل منطقيا مطلوبا، هل ملازمة الزمن للمكان هي فقط في حال ادراكنا وحدة الدمج الثنائي بين المكان والزمن؟ ومع هذا الدمج الافتراضي لا يتوفر الزمكان على محدودية تجعل منه موضوعا للعقل الا فقط على مستوى الخيال الادراكي.

ام ان الزمكان هو المكان في وجوده المادي المستقل كما ذهبنا له سابقا؟ لا نتوفر على اثبات علمي فيزيائي ولا على اثبات فلسفي تجريدي يقول ادراكنا المكان هو ادراك زمني له ايضا. الا اذا كنا نرغب توثيق وقت قيامنا بفعالية ادراكية لمكان. كل هذا وربما غيره اكثر واقعية تجعلنا التمسك بحقيقة الزمان مفهوم مطلق او حتى دلالة ادراكية فهو – اي الزمان - لا يكون موضوعا مستقلا لادراك عقلي.

اشارة اجدها مهمة هي ان المكان يغادر خاصيته الوجودية انه موضوعا ماديا يدركه العقل ويصبح حيّزا استيعابيا لكل شيء في حال اقترانه بالزمن لتشكيل الزمكان الحيّز الاحتوائي كما يذهب له علماء فيزياء معاصرين.

اعتقد امام هذا التداخل كان لبرجسون اشارة عرضية تهكمية قوله اننا ندعي ادراكنا الزمن بدلالة ادراكنا المكان. والجواب الجاهز بالرد عليه يكون اننا ندرك الزمكان كثنائية غير قابلة للتجزئة والانقسام. وان حقيقة ما ندركه هو المكان مجردا عن زمانيته الافتراضية. ونظرية اننا لا ندرك مكانا من غير ملازمة زمنية له ليست واقعية ولا حقيقية ولا جرى اثباتها علميا.

الافتراض الاقبح مما مررنا عليه هو ما ينسب حديثا لعلماء الفيزياء الكونية ان الزمن يمكنه الانفصال عن المكان ليصبح مدركا مستقلا بذاته . ادراك الزمن نسبيا بدلالة المكان على الارض لا يجعل من مطلق الزمان امكانية يدركها العقل. نسبية الزمان الارضي لا تلغي انه جزء من مطلق زماني فضائي كوني لا يمكن تجزءته.

ما ينسب لعلماء الفيزياء الكوني ان انفصال ثنائية الزمكان الى زمن ومكان يحتفظ كل منهما باستقلالية يتيح ان يصبح الزمن مكانا كما يبيح ان يصبح المكان زمانا اجدها لعبة فيزيائية تحتاج اثباتا تجريبيا. في نفس الوقت الذي نادوا به ان ثنائية الزمكان لا انفصال يطالها والسبب انهم اعتبروا الزمكان فراغا احتوائيا لكل شيء ممكن يدركه العقل. بينما الزمكان ليس موضوعا مستقلا لادراك عقلي بل هو وعي تجريدي خاضع للعقل. هو حسب تعبير كانط وسيلة ادراك وليس موضوعا لادراك.

ربما نجد تخريجا تلفيقيا في تمرير الزمكان ثنائية يمكن ان يتبادل الادوار في تجزئتها الى مكان كي يصبح زمنا او الى زمن يصبح مكانا. هذه الفرضية في محاولة تفكيكنا لها نصطدم بحقيقة لا يمكن التلاعب فيها هي ان الزمن جوهر حيادي في ملازمته ادراكات العقل للمكان. والزمن جوهر مطلق الصفات ومطلق الماهية لا يتقبل التجزئة لا على نفسه ولا على غيره لذا يتعذر علينا ان يصبح الزمن موضوعا بلا دلالة علائقية تربطه بغيره.

من المحال ان يكون للزمن ابعادا مادية مثل المكان. السائد معرفيا فلسفيا اننا بدلالة حركة المكان ندرك محدودية الزمن النسبية على الارض على انها تحقيب تاريخي وتوقيت زمني ضمن علاقته بالاشياء.

واختلاف المكان الارضي عن زمانيته الملازمة له هو الابعاد المادية التي يمكن التحقق منها التي تجعل من مكان ما متعيّنا موجوديا. اما الزمان فهو مطلق نسبي على الارض كدلالة مصاحبة لادراكاتنا الاشياء والعالم من حولنا. لكنه في حقيقته مطلقا فضائيا بلا ماهية ولا صفات قابلة لادراكنا العقلي المحدود ان يجعل من هذا المطلق الزماني موضوعا مستقلا بذاته للعقل. كما هناك اشارة لارسطو حول مطلقية الزمن انه ليس حركة فالحركة خاصية الاجسام المتحركة وليس خاصية زمانية.

إذن امام هذا التعقيد الفلسفي المتداخل مع العلم ما علينا سوى الذهاب الى نوع من التلفيق التخريجي قولنا ادراك الزمكان هو كما ادراكنا المكان انهما تجريد لوعي العقل ولا يلزمنا هذا البرهنة المستحيلة على ان من الممكن ان يكون المكان زمنا مستقلا وفي هذه الحالة ايضا من المحال ان يكون الزمن موضوعا للعقل.

متاهة الزمن فلسفيا

ورد في الكتاب الحادي عشر (مدينة الله) من اعترافات القديس اوغسطين تأملا في طبيعة الزمن تساؤلا على لسانه قوله: ما هو الزمن؟ اذا لم يسالني احد فانا اعلم واذا رغبت شرح ما اعلم فانا لا اعلم. وقدم اوغسطين الحجة الفلسفية الاولى ضد ارسطو – هنا نشير ان كتابات ارسطو عن الزمن من اروع الكتابات الفلسفية التي لم يجر دحض بعضها لحد الان واحيل القاريء الى كتابنا الصادر حديثا عن دار غيداء بالاردن 2022 بعنوان (الزمان والفلسفة) – قائلا اقصد اوغسطين تكراره لما سبق لارسطو ان قال به باستثناء نهاية العبارة (معرفة الوقت – شيء جدير بالتقدير انه لم يقل الزمن- تعتمد على معرفة حركة الاشياء، وبالتالي لا يمكن ان يكون الوقت حيث لا توجد مخلوقات لقياس مروره). هذا التفريق بين الزمن الارضي (الوقت) والزمن الفضائي المطلق الكوني يحسب لاغسطين كحقيقة فلسفية.

اولا بالرد على العبارة الاخيرة لاغسطين فالزمن موجود سواء ادركته مخلوقات ام لا تدركه فهو جوهر وجودي. ومن ناحية منطقية فلسفية وعلمية في تفريق اوغسطين بين الوقت الذي هو الزمن الارضي وبين مطلق الزمان الكوني فهذه تحسب له ولم ينتبه لها ارسطو بكتاباته السابقة على عصر اوغسطين بقرون. من المرجح ان نيوتن في اكتشافه قانون الجاذبية وضع هذا التفريق الاختلافي موضع التنفيذ الواقعي.

الشيء الاكثر اهمية برايي هو طالما حقيقة الزمان الجوهرية هو بلا ماهية ولا صفات خارجية تجعل منه موضوعا للعقل لذا تكون نسبية الزمان ليست قطوعة مدركة منفصلة عن مطلقية الزمان الكونية. فالزمن ليس قطوعات متتالية من حزم يكمل بعضها البعض الاخر. الجاذبية لها تاثير على الزمن ضمن شروط فيزيائية خاصة.

خاتمة

الموقف الذي يتبناه الفلاسفة وعلماء الفيزياء المثاليين انهم ينكرون منذ القرن الثامن عشر كما فعل ديفيد هيوم، جون لوك، بيركلي وغيرهم، ويشكون في وجود اشياء لها صفات مادية لا يطالها العقل. كما (ان بعض مناهضي الواقعية موقفهم من علم الوجود هو ان "بعض" الاشياء توجد خارج العقل ومع ذلك يشّكون في استقلالية الزمن والمكان) عن ويكيبيديا الموسوعة.

كما سبق لي ذكره في بداية ومتن المقال رغم التزامي التام بالمنهج المادي الماركسي فانا مع هؤلاء المثاليين الذين يرون عدم وجود (زمكان) مستقلا عن العقل. بخلاف وجود اشياء مستقلة في وجودها الانطولوجي الواقعي عن ادراك العقل. والسبب المباشر ان الزمكان ليس مادة بل هو مفهوم تجريدي لا يخضع لمنطق العقل المادي الذي يدرك كل شيء كمتعيّن بابعاد رباعية او في بعدين على الاقل الظواهر او الصفات والبعد الثاني الماهية او الجوهر.

تفكير العقل بالزمكان على انه ليس مادة بل حيّزا فراغيا يستوعب كل اشكال وانواع المادة هو يشبه الى حد بعيد تفكير العقل بمواضيع الخيال التي يتارجح ادراك الوعي العقلي لها بين التصديق بواقعيتها الوجودية وبين عدم امكانية اثبات وجودها خارج محدودية الادراك العقلي احتواءها.

اختم براي الفيلسوف الكبير عمانوئيل كانط قوله في كتابه الشهير نقد العقل المحض الى ان الزمان والمكان ليسا موادا او كيانات بذاتها. بهذا القول لكانط تصبح نظرية الزمكان على انها فراغ استيعابي مطلق لا يجانس المطلق الكوني فهو ذو قدرة كبيرة على احتواء كل شيء ولا يحتويه شيء فرضية صائبة لا اقر انا بها لسبب بسيط ان علماء الفيزياء اعتبروا الزمكان مادة محددة باربعة ابعاد لكنه ليس مادة موجودة انطولوجيا. هذا الخلط بين لامادية الزمكان كونه فراغا استيعابيا وبين كونه يمكن تحديد وجوده الانطولوجي بابعاد المادة الثلاث الطول والعرض والارتفاع مضافا لها الزمن. هذا تناقض غير مسوّغ ولا مقبول وخلط بين صفات المادة وصفات الزمكان.. فايهما الصح؟

يتبع لاحقا

***

علي محمد اليوسف /الموصل

مدخل: يعد حقل فلسفة العلم ضمن مجال الفلسفة في الأبستمولوجيا، والذي يهتم بطبيعة العلوم وخصائصها النظرية عبر رؤية مكثفة من خارج العلم تتناول تاريخ العلم ومصادر معرفته وطبيعة نظرياته وخصائص اصطلاحاته وطبيعة البناءات المنهجية التي تحكمه..

والعلوم الانسانية لم تحظَ منذ البدء بفلسفة تبحث في بنيتها، بل تأثرت بفلسفة العلم في العلوم الطبيعية، اذ كانت فلسفة العلم تعنى بالعلوم الطبيعية، ومن ثم وبعد ظهور العلوم الانسانية، تأثرت الأخيرة بفلسفة العلم، وقد واجهت فلسفة العلوم الانسانية بعض الصعوبات، بسبب كونها تدرس ظواهر متفردة وخفية، بمعنى ان موضوعات العلوم الانسانية كعلم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا من الموضوعات غير المشاهدة بالحس، ولا تخضع إلى الإحاطة المختبرية، وانما موصوفة من خلال الملاحظة المجملة لسلوك الفرد والجماعة، مما يتعسر الوقوف على الظاهرة كما يقف العلم التجريبي على الظاهرة في المختبر، ومن ناحية أخرى تمتاز موضوعات العلوم الانسانية بالتعقيد، لكونها متداخلة، ومتغيرة، وفق الاطار الزمكاني، حتى علوم اللغة منها، عصية على مناهج العلم التجريبي، اذن ثمة تأثر وتفاعل بين العلوم الانسانية وفلسفة العلم من جهة، وثمة تعقيد وابهام في اصل تكون فلسفة العلوم الانسانية، لأننا تارة ندرس علم الطبيعة أو علم الانسان، او علم الفيزياء، او علم الاجتماع..، وتارة أخرى ندرس علم العلم، وهو مساحة للتفكير من خارج العلم، وفي مناهج العلم وظواهره ومشكلاته العامة، والأهم من ذلك التفكير في قيمته..

وقد تطورت فلسفة العلم من الوصف الى النقد من خلال تحول تعريفات فلسفة العلم وتطور مفهومها، فبعد أن كانت فلسفة العلم تنحو منحى وصفيا، فقد أصبحت تمارس النقد والتحليل، وهو ما يفضي إلى أن تكون مؤثرة في تطور العلوم وتصحيح بعض مساراتها.

وفي معرض تناول فلسفة العلوم الدينية، ينبغي ملاحظة المحاولات التي ركزت على بعض من تلك العلوم، كما في (فلسفة الفقه) و(فلسفة أصول الفقه)، وفلسفة الدين كمجال أوسع قد يتداخل بنسبة عالية مع ما تتم المحاولة اليه من اكتشاف ملامح لفلسفة العلوم الدينية، اذ تعد فلسفة الدين مجالا واسعا ومفتوحا على فروع الفلسفة (اللاهوت، الابستمولوجيا، الوجود، القيم والجمال)، في حين تكاد تقتصر فلسفة العلوم الدينية على (المجال المعرفي الابستيمي)، من دون التركيز على تناول المجال الوجودي الانطولوجي او القيمي الاكسيولوجي، ومن هنا تبرز الجدة في تناول فلسفة العلوم الدينية بنحو من الاستقلال عن الفروع الاخرى للفلسفة من جهة، والشمول لجل تخصصات العلوم الدينية من جهة أخرى.

لذا يمكن –بنحو أولي- تحديد أهداف عدة لفلسفة العلوم الدينية على وفق الفقرات:

1- تحديد طبيعة مصادر المعرفة في العلوم الدينية.

2- تحديد أسس بناء النظرية العلمية في حقل الاختصاص الديني.

3- تحديد طبيعة مناهج المعرفة والفهم في العلوم الدينية، وثمة خلاف حول هذا الهدف، وهل يعد علم المناهج علما مستقلا، أم ممكن أن ينضوي تحت فلسفة العلم..

4- محاولة تحليل اشكالية الذاتي والموضوعي في البحث المعرفي في العلوم الدينية.

5- تحديد الذاتي والعرضي في البحث المعرفي في العلوم الدينية.

6- تحديد أسس التعاطي مع المعارف الغيبية وتقنين توظيفها في المسارات البحثية بما يتناسب مع مقتضيات البحث العلمي.

7- محاولة اكتشاف وتحديد المرجعيات المعرفية والبرادايم المعرفي من خلال تحديد النماذج الارشادية في مختلف تخصصات المعرفة الدينية.

8- محاولة تحديد قيمة المعرفة التي ينتجها العقل الديني، ومدى ثباتها أو اطلاقها، وتحديد مديات التفاوت فيها.

وهذه الفقرات يمكن عدّها أهداف أولية لفلسفة العلوم الدينية، الى حين الاكتمال والنضج حتى تتم معالجة التداخل فيما بينها، أو الاضافة والحذف لبعض منها، لأن مجال الفلسفة أوسع من مجال العلم، ومديات البحث والتفكير في الفلسفة أبعد منها في العلوم، فغالبا ما يكون العلم محددا بأسيجة من النظريات والقواعد التي تشكل نسقا منسجما له اصطلاحاته وحدوده المنهجية، في حين تطرق الفلسفة جميع أبواب المعرفة فيما يخض العلم، فهي تثير التساؤلات وتقترح الإجابات حول كل علم من العلوم الطبيعة أو الإنسانية.

الخصوصية المعرفية للعلوم الدينية

ربما لا يحظى عدّ (العلوم الدينية من جملة العلوم الانسانية) بمقبولية لدى كثير من الدارسين والمتخصصين، إذ تمثل المعارف الدينية حقلا مفارقا في بعض جوانبه، لما يختص به من عناصر تتصل بالغيب، مما يشكل عائقا أمام التفكير المنهجي الذي يفترض التعاطي مع المعارف على أساس كونها معارف بشرية تتسم بطابع من النسبية والتحول وتخضع أيضا للنقد والتغيير..، لذا فإن تناول فلسفة العلوم الدينية يحيل بالضرورة الى تحديد الفاصل المنهجي بين المعارف الغيبية من جهة، وتجليات الفهم البشري من جهة أخرى، وهذا ما يؤول الى إعمال نظر دقيق في فرز ما هو مقدس عما هو أدنى منه، لتتم عملية التنظيم المنهجي بما لا يتداخل مع المعطى الغيبي يؤدي الى مفارقات معرفية غير منتجة.

ويمكن إجمال خصائص العلوم الدينية بالفقرات:

1- وجود معاني مقدسة ومفارقة، غير قابلة لأن تكون محلا للتفكير والتعقل، مثل البحث في حقيقة الذات الإلهية.

2- وجود نص ديني قطعي الصدور، غير قابل للبحث في صدق صدوره عن جهة غيبية عليا، والا سوف يكون البحث حينئذ في مجال فلسفة الدين.

3- وجود تفاوت في النماذج التي تفسر النص الديني، فمرتبة السنة المبينة أعلى من مرتبة فهم العلماء، ولكل منهما طريقة مختلفة في التعامل.

4- مديات التحول والتغير في المعارف الدينية طويلة الأمد، قد تحتاج الى قرن من الزمن لكي تبين وتنكشف.

5- التردد في طرح الرؤى بسبب ضغط العامل الإيماني على عامل التفكر والتأمل العقلي، مما يفضي إلى التأني في الفهم وطرح الأفكار.

6- ثنائية التنظير والتطبيق، العلم والعمل، في جل المعارف الدينية، مما يؤدي إلى تعدد مناهج الفهم بين ما هو نظري وما هو مرتبط بالواقع العملي.

7- ثنائية الموضوع في العلوم الدينية التي تدور حول محور المقدس من جهة، والانسان من جهة أخرى، مما يؤثر في صياغة التصورات التي تحاول أن تكون في حالة توازن بين مقتضيات وجود المقدس من جهة، ومقتضيات وجود الإنسان من جهة أخرى.

8- وجود علوم آلية تمثل وسائل وأدوات في العلوم الدينية كعلم المنطق والفلسفة والنحو والتاريخ وغيرها من الحقول المعرفية التي يمكن أن تؤدي وظيفة العلوم الخادمة.

من فلسفة الدين إلى فلسفة علوم الدين:

تتناول فلسفة الدين كل ما يرتبط بالدين من خلال رؤية من خارج الدين، تحاول أن تسلط النظر في مديات فهم الدين، من ناحية أصل ونشوء الدين، إلى قيمة عناصر التدين، والهدف من الدين، مما يشير إلى ارتباط خفي مع موضوعات علم الكلام الجديد، وبالتالي فإن فلسفة الدين أرحب وأوسع من أي علم ديني، ويكون البحث في فلسفة الدين ضمن مختلف فروع الفلسفة سواء الوجود أو المعرفة او الجمال والقيم، في حين تعنى فلسفة العلوم الدينية بالجانب المعرفي فقط.

وثمة تداخل بين علم المناهج (ميثودولوجيا) وفلسفة العلم، وفيه اتجاهان، يميل أحدهما إلى عدم التفريق بينهما فيما يميل الآخر إلى التفريق واعتبار أن المناهج علم مستقل تتناوله فلسفة العلم كما تتناول العلوم الأخرى، وهو ما نرجحه، لأن علم المناهج قد يجيب عن ماهية المنهج المتبع في أي حقل أو مجال، لكن فلسفة العلم قد تجيب عن قيمة ذلك المنهج الذي حدده مسبقا علم المناهج، لذا فإن رؤية فلسفة العلم لعلم المناهج توافق رؤيتها لبقية العلوم.

وفيما نعتقد أن فلسفة العلوم الدينية لم يتم الاشتغال عليها بنحو جاد، سوى ما يتعلق بفلسفة الفقه، أو فلسفة أصول الفقه، وأما السعي إلى اكتشاف أو تأسيس فلسفة العلوم الدينية بنحو عام سوف يؤدي وظيفتين في آن واحد:

الأولى: سوف تتشكل لدى من يتناول فلسفة العلوم الدينية رؤية جاهزة عن علم المناهج الدينية، إذ لا يمكن التفكير في فلسفة العلوم الدينية من دون تحديد عناصر العلوم الدينية من الناحية المنهجية وكيف يتكون المصطلح، وتحديد مديات النقد، وأصوله، والمتغيرات المنهجية والمفاهيمية التي تتضمنها العلوم الدينية.

الثانية: تتمثل في وظيفة فلسفة العلم في ذاتها، من خلال تقييم التصورات العلمية والمعرفية التي تم بناؤها، وممارسة النقد في بعض نواحيها، وإعادة انتاج المعارف في العلوم الدينية من خلال ما توفره فلسفة العلم من إضاءات حول المنتج البشري في المعارف والعلوم.

ان الفائدة التي يمكن أن تشكل محورا أساسا في فلسفة العلوم الدينية هي عملية ادراك الأنموذج العلمي (البرادايم)، وهي عملية لا يوفرها العلم، بل فلسفة العلم، ولا يمكن التجديد في أي علم ما لم يتم إدراك البرادايم الذي يحدد المعرفة ويوجهها من دون أن تتم ملاحظته في الغالب، فانسحاب قدسية الوحي على التفسيرات والتأويلات التي يقدمها البشر لمضامين الوحي هو نوع من سلطة الأنموذج العلمي، فما نطلع عليه من تأويل متداخل مع المضمون المتعالي، وفك التداخل لا يتم إلا من خلال إدراك أن المعرفة الوحيانية تمثل أنموذج يحكم الفهم.

على أنه تجدر الإشارة إلى أن حقل أصول الفقه يعد من أهم الحقول في العلوم الدينية التي من شأنها أن تعين على اكتشاف الخرائط المنهجية للعلوم الدينية، وربما يصح أن نطلق على أصول الفقه بـ(علم منهج العلوم الدينية)، لكونه يؤسس إلى قواعد قراءة النص الديني من جهة، وترتيب أولويات الأخذ بالأدلة النصية عبر منظومة (القطع والظن)، وهو بهذه الحال ممكن أن يكون مؤهلا للتفاعل مع القضايا العقدية أيضا، إذا ما تمت ملاحظة الجانب التنظيمي فيه، من ناحية الاختزال الاصطلاحي، والقواعد التي تنظم عملية فهم النصوص الدينية، لذا يمكن البدء فيه لتأسيس أرضية مناسبة للبحث في فلسفة العلوم الدينية، لأن من اجلى وظائف العلم الديني هو فهم معطيات الوحي، أذ يتعامل العقل العلمي الديني مع ثلاثية: (النص، الواقع، الانسان)، وهو ما يحيل إلى ضرورة منهجة التفكير في ذلك الحيز، ومن ثم تشتغل فلسفة العلم الديني على تقييم الممارسة برمتها، بعد إثارة التساؤلات واقتراح الإجابات.

هذه ورقة أولية عن محاولة جادة في مجال فلسفة العلم الديني عسى أن تنتهي إلى بحث أوسع بعون الله تعالى وتوفيقه.

***

د. أسعد عبد الرزاق الأسدي

 

خلال قراءاتنا المتواضعة للتاريخ البشرية -ابتداء بالحضارة السومرية وانتهاء بوقتنا الحاضر- لمسنا ان هناك ثقافة اجتماعية مثيلوجية كوزمولوجية ابستمولوجية دوغمائية تابوهاتية، مورست ضد المرأة كآخر مقصي معني مُبعد دوني فقير ضعيف فاشل غير عاقل غير منتج، لا يصلح الا للإنجاب والعمل في المنزل ولتربية الأطفال او الاعمال الحرفية كالزراعة او نسج الاصواف ورعي الحيوانات وهكذا... وكانت ردّةُ فعل الذكورية ومنذ الميثولوجيا الأسطورية العالمية والفلسفة اليونانية، التي اسس لها سقراط وافلاطون وارسطو مرورا بـ (لاكان، وجون سيتورات، وهيغل، ف فرويد ويونغ، وجان جاك روسو، صعودا الى البطرياكية المسيحية المستمدة من اليهودية في تعاملها مع المرأة -باستثناء قصة السيدة مريم العذراء (ع)- ومحاكم التفتيش، وحركات التنوير او الاستنارة الفكرية، حتى بدايات نشوء الحركات النسوية في الغرب وفي منتصف القرن الثامن عشر ومطلع ومنتصف القرن التاسع عشر وظهور الحركات النسوية، التي اعقبت العصر الفكتوري الانجليزي والثورة الفرنسية، والبلشفية الروسية، وبزوغ الليبرالية الامريكية، والحداثة وما بعد الحداثة، اذ تبنت بعض الناشطات المدنيان النسويات نظرية المساواة والعدالة والعمل والحرية للمرأة، ووقف كل عمال التهميش والعنف والاقصاء للمرأة إرضاءً وطاعة للرجل، ووقفت موقفا معارضا وندّا وحازما تجاه الذكورية التي اقصت المرأة منذ التأسيس المثيلوجي على الرغم من الدور الكبير الذي ادّته المرأة في كافة العصور التاريخية القديمة، اذ كانت المرأة زوجة عظيم او ملكة والهة تُعبد في الديانة السومرية والاكادية والبابلية والامورية والفرعونية والاغريقية والمسيحية، (إنانا، نينهور ساغا، وارشكي جال، وباو، نانايا، نبتليل، نيصابا، عشتار وسيبيل وبلقيس، واللاة والعزى ومناة، وافروديت وهيرا، وايروس، سارة، هاجر، بلقيس، مريم العذراء، خديجة، عائشة، فاطمة، زنوبيا، زرقاء اليمامة، رابعة العدوية،.....) الا إن الذكورية تصرّ على ضعف وفشل ونقص وشرانية المرأة مستندة في ذلك على قصّة الخلق لادم وحوا وقضية التقرّب من الشجرة المنهي عنها واكل التفاحة، وعقوبة الانزال الى الأرض، وتحملت كلَّ نساء الكون جناية اغواء حواء لأدم وآكل التفاحة، وهذا خطاب يتناقض مع كل التعاليم الرسالية السامية والأعراف والأخلاق والمنطق كما جاء في قوله تعالى (ولا تزر وزارة وزرة أخرى). (فاطر/ 18). ثانيا اذا كانت المرأة عورة وفاشلة وعاطلة وغير منتجة وضعيفة وسهلة الاغواء والخداع.. فلماذا خُلِقت ولماذا مَلكت ومُلِّكت وزُّوجت وعُظّمت من قبل انبياء ورسل وملوك والهة. ولماذ عُبِدت؟! ولماذا لا ينطبق هذا التصور او هذه الرؤية على الرجال كذلك فلا توجد عصمة بشرية اطلاقا الا في مراحل ولحظات نزول الرسالات فقط. اذا الرجل كذلك غير معصوم من الزلل والخطأ والشهوة والغريزة والخداع والخيانة والضعف والشر.. فلماذا نمارس هذا الخطاب السلطوي الذي وصفه فوكو بانه يجير كل شيء لصالحه بوسائل اقناعية مغالطة لجهل الوعي الجمعي ووديماغوجية المرسل؟! علينا ان نفكك ونشرح كافة الخطابات المثيلوجية وحتى الرسالية التي تنتقص من هذا الكيان الرقيق وليس الضعيف بل فيه عوامل قوة، كما جاء في القران الكريم (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ). (يوسف/33)، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)). (يوسف/24).وقوله تعالى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيم)). (يوسف /53). كيف يكون كيان المرأة ضعيفا، وان معظم الشعر الجاهلي تغنى وتغزل، بل بكى على اطلال المرأة وليس على المرأة نفسها؟ بل ان كثير من الشعراء مات بسب شغفه وهيامه وحبّه للمرأة؟؟!! كيف ضعيفة وانا هناك الكثير من العظماء والملوك والشعراء والعلماء قد تزوجوا بأكثر من امرأة لفتنتهن وجمالهم او ظرافتهن...؟! فلماذا لا نقول حينئذ ان الرجل كان ضعيفا في مثل تلك المواقف؟! اذا نرى ان القوة والضعف متساوية بين الرجال والنساء ولكن الخطابات المثيلوجية حاولت ان تغلب الذكورية على الانثوية بحكم القوة الجسدية وليست العقلية او الفكرية او الجمالية او الجنسية. فمن الغباء ان نحكم على المرأة بالضعف، نحن كرجال نتناسى اننا لا نستطيع العيش شهرا كاملا من دون هذا الكيان اللطيف الظريف الذي يزيل كل اعبائنا وهمومنا وسمومنا.من منا ينكر كم مِن مِلك او عالم او رجل دين عظيم ضعف امام المرأة وما زال؟! اذن نحن اليوم بحاجة الى إعادة صياغة الخطاب الذكوري المُقصِي للمرأة، والمبني على خرافات وترهات اسطورية، تتغافل عن دور المرأة العظيم في بعض المواقف والاحداث والازمان وتنال وتنتقص من المرأة بشكل عام وهذا تناقض سلوكي وفكري وعقدي نفسي بالرجل.

واذا كانت رؤية وادعاءات هذه الميثولوجيا صحيحة وحقيقية ومنطقية فكيف تنظر او نفسر الحركات النسوية العالمية اليوم التي تبلورت بنشاط ثوري فكري كفاحي سلمي، من قبل نخبة من النساء الثوريات والمفكرات والفيلسوفات والمثقفات والاديبات والمتعلمات والناقدات... امثال: (سيمون دي بفوفار، وسوزان مللر ومارغريت كافديش، اليزابيث كادي ستانتونت بيتي فرايدان، وماري ولستون كرافت، شارلوت بيرونتي، اليس شفارترز، لويزا اتو بيتراز، وجوليا كرستيفا ونناسي، ميلي دافسون، وليندا جيل شفرد، باربارا، والهندية شاندرا موهانتي ونافرمان وتاراباي وايغاري..والنسوية العربية أمثال مي زيادة، وهند نوفل وانيسة نجار، وسحر خليفة، ونازك العابد، وهدى شعراوي، ونوال السعداوي، ونازك الملائكة وفدوة طوقان ويمنى العيد، وغادة السمان وحميدة نعنع ولطيفة الدليمي وانعام كججي... الا انها اصطدمت بعدّة معوقات أولها: انها اصطدمت بمعارضة شديدة من النساء الملونات (السود) في الغرب وفي بادىء الامر، كون المرأة البيضاء (الغربية) شاركت الرجل الابيض الغربي في اقصاء وتعنيف المرأة الملونة، وكذلك اصطدمت بالمرأة الاسيوية المعارضة لها بشكل عام (الصينية والهندية والباكستانية والعربية والإسلامية..) وغيرهن ممَن يجدن ان الحركة النسوية الغربية ماهي الا هيمنة اخرى ومن نوع اخر بوصفها ثقافة غربية وغريبة عليهن تتناقض وتتعارض مع الثقافة النسوية الشرقية. كذلك اصطدمت الحركة النسوية الغربية في الحركة النسوية الاشتراكية الماركسية المادية التي نظرت الى المرآة من جانب مادي ايضا... وتعارضت مع تفاوت المستوى الطبقي والفكري واللغوي والثقافي والديموغرافي العالمي النسوي. اذا المراة ككيان بشري هي تعاني من المخاضر الفكري والثقافي البيئيى والثقافي والجغرافي والطبقي والعقائدي الذي يختلف من بلد الى اخر او منش عب الى اخر فالمجتمعات والأديان المغلقة تضع تابوهات خطرة وشديدة على المرأة يصعب على الحركات النسوية اختراقها وتفليش بناها التحتية العميقة والمتجذرة في وعي شعوبها المنغلقة، لذلك وجدت صعوبة بالغة في توحيد وجمع كل نساء العالم تحت مظلة نسوية واحدة موحدة ولكن هذا لا يعني نهاية المطاف حين تؤسس النسوية وعيا نسويا علميا ثقافيا واعيا، يستوعب كل مخاضات الاحداث التي تتعرض لها النسوية يوميا، وان يقف على ارض قوية ويناضل من اجل ترسيخ النظرية النسوية ودعم الحركة الثورية السلمية الثقافية وانتزاع الحقوق. مايهمنا اليوم هو ان تأخذ الحركة النسوية العراقية على عاتقها تشكيل اجتماعي محلي وعربي وحتى دولي نسوي حركي فكري، يأخذ بنظره الاعتبارات والدروس والتجارب النسوية السابقة، لتلافي الوقوع في نفس الأخطاء او كماشة التشريق والتغريب والبطرياكية.. وكذلك يغذّي نفسه تغذية فكرية وعلمية وثقافية وادبية شاملة ومعمقة، ويحذر شديد الحذر من الالغام التي وقعت بها النسويات الشرقية والغربية على حد سواء، (الليبرالية والاشتراكية والعلمانية والراديكالية) وان تشق المرأة العراقية لنفسها طريقا يلاءم ظروفها وطبيعة وثقافة مجتمعها وخصوصيتها داخل هذه المساحة المتاحة. بعيدا ان الانبهار بثقافة الاخر والاستسلام والتبعية له وبعيدا عن ثقافة التقليد الببغاوية او الإباحية التي جعلت من المرأة سلعة تجارية تحط من قدرها وتزعزع ثقة الرجل بها، وان تنخلع من ثقافة التهميش والاقصاء التسطيحية المحلية. وهذا يتطلب تعبئة وتوعية المرآة ثقافيا وعلميا، لتعيد ثقتها بنفسها وكرامتها المجروحة اولا، ثم التركيز على نتاجها وعطائها الفكري والعلمي والادبي والثقافي وتسويقه بصورة مهذبة ومؤدبة، ضمن خطاب متين رصين حصين لا يدخله الشك لا من شماله او يمينه، لتكسب ثقة الرجل المهزوزة بها منذ بداية الخلق، وتكسر حاجز الخوف والقلق الذي انتاب الذكور جراء السلوكيات المنفلتة لبعض النساء اللواتي استغلن طيبة او عطف الرجال لارتكاب بعض الجرائم المخيبة لهم، وبعض النساء اللواتي وجدن الحرية المنفلتة والمفرطة نوع من انواع التحرر من الذكورية والأعراف الاجتماعي كصاحبات المحتويات الهابطة والاعلانات التجارية الماجنة التي تحطّ من كيان المرآة -ككيان ظريف وجميل وانيق وحميمي ولطيف ورقيق- لتبرر استخدام العنف ضدّ الرّجال والانفصال النهائي. وهذا ما لا يليق بها كآخر صنو وشريك وصانع لهذه الحياة، اذ بلا وجودها لا حياة ولا سعادة ولا نسل ولا ديمومة ولا أطفال ولا تربية ولا رفقة ولا صداقة ولا حميمية ولا جمال ولا نشوة...

لا نريد للمرأة ان تندفع بقوّة من دون تخطيط مسبق يضمن لها الخطوات الواثقة والحاسمة والقانونية، وهذا لا يتم الا عبر سنين من التوعية المتنوعة العلوم والثقافات واللغات. علينا ان نعيد ثقة المرآة بنفسها وانوثتها وفكرها اولا بخاصة نساء القرى والارياف الامّيات. ثم دمجها للعمل في كافة مؤسسات الدولة وفي مختلف الاختصاصات والمجالات، والتركيز على دورها الانتاجي الفكري المعرفي الذي يقلّل من عمليات التعامل معها كسلعة وتوسيع عملية فهم وتفهم وتحاور المرآة مع الاخر، ودعمها اقتصاديا وقانونيا لتكون قوية وحرّة وصاحبة قرار مستقل قوي وجريء وشجاع، يخدم وجودها وكيانها وحريتها واستقلالها. لذلك تُقاس اليوم المجتمعات المتطورة والمتحررة بمدى تطور المرأة وحريتها وانتاجه. فالمسالةُ مسالةُ ازمة ثقة بين الرجل والمرأة منذ بدء الخليقة علينا ان نعيد الثقة بين الجنسين (ادم وحواء) بأبعاد النظرة الدونية للمرأة ومنحها فرصة التعبير عن نفسها وممارسة حرية عملها، ولنرى ولنلمس انتاجها قد تتغير وجهة نظرنا التي اسستها الميثولوجيا الأسطورية في غابر الازمان، فليس من المعقول ان نعشقها ونتزوجها ونعاشرها ونعتبرها أمّا حبيبة وعشيقة وزوجة وجارية وابنة واخت، وفي نفس الوقت نقتلها حيّة ونعتبرها عارا وعورة، ونتهمها بالعطل والفشل من دون ان نعطيها فرصة التعلم والعلم والعمل والتحرر والمساواة معنا، ونأتي بعد هذا كلّه ونحملّها تبعات ووزر واخطاء لا ذنب لها؟!.

***

دكتور واثق الحسناوي

العراق جامعة المثنى

الحَرَاكُ الاجتماعي هو النَّوَاةُ المركزية لوجود الإنسان، التي تُمثِّل منظومةً معرفيةً قائمةً على العقلانيةِ والوَعْيِ بالتَّغَيُّرات الجَذرية في الواقع المُعاش، وتحقيقِ مصالح المُجتمع أفرادًا وجَمَاعَات . وهذه المصالحُ لا تنفصل عن النَّزعة الإنسانية التي تُحَرِّر العقلَ الجَمْعِي مِن الخَوف، وتُخَلِّص الفِعْلَ الاجتماعي مِن التناقض بين الخَيَالِ والحقيقةِ . وإذا كانَ المُجتمعُ يَستمد شرعيته مِن كَوْنِ الإنسان فاعلًا للأحداث، وصانعًا للأشياء، فإنَّ الوَعْي يَستمد فلسفته مِن كَوْنِ المُجتمع مصدرًا للمَعرفة، وطريقةً لاستعادةِ التاريخ كَكِيَان فِكري لا أيديولوجية استهلاكية، مِمَّا يُبْرِز قيمةَ الحياةِ - على الصَّعِيدَيْن الشَّخْصِي والجَمَاعِي _ بِوَصْفِهَا سلسلةً منطقيةً مِن التفاعلات الاجتماعية الرمزية التي تَرْمِي إلى ابتكارِ حُلول إبداعية للمُشكلات اليومية، وتغييرِ أُسلوب التعامل معَ موارد الطبيعة، بحيث يتم الاستفادة مِنها لا استنزافها . وهذا لا يَتَأتَّى إلا بِدَمْجِ إفرازاتِ العقل الجَمْعِي مع انعكاساتِ الفِعْل الاجتماعي ضِمْن سِيَاق عقلاني يُعيد الاعتبارَ لوجودِ الإنسانِ كشخصيةٍ فاعلةٍ وهُوِيَّةٍ فَعَّالةٍ، ويُعيد الاعتبارَ لمركزيةِ المُجتمع ِكَسُلطةٍ حُرَّةٍ وكَينونةٍ مالكةٍ لِمَسَارِها ومَصِيرِها .

2

اكتمالُ الوَعْي في الحَرَاك الاجتماعي يَمنح الإنسانَ القُدرةَ على تأسيسِ المعايير الأخلاقية في الأحداث اليومية، وصناعةِ الأنساق الحياتية في مصادر المعرفة، مِمَّا يَدْفَع باتِّجاه تَكوين حالة من التكامل بين الحياةِ والمعرفةِ، تُخرِج الواقعَ المُعَاشَ مِن السَّلْبِيَّة، وتُعيد بِنَاءَهُ على قاعدة وجودية صُلبة تتكوَّن مِن الفِعْلِ الاجتماعي العقلاني، وتغييرِ زوايا الرُّؤية للأشياء، وأنْسَنَةِ النظامِ الاستهلاكي المادي الذي وَضَعَ قُيودًا على الإنسان، وَشَلَّ قُدْرَتَه على الفِعْلِ والتغييرِ . وإذا تَحَرَّرَ الإنسانُ مِن قُيوده، فَسَوْفَ يُصبح قادرًا على تحقيق التوازن بين الرَّغبةِ والإرادةِ، مِمَّا يَحْمِيه مِن الوَعْيِ الزائف،والشُّعُورِ بالغُربة_نفسيًّا واجتماعيًّا_، الذي يَنتُج عن غَرَقِ الإنسان في قوالب الفِكْر التاريخي المُؤَدْلَجِ سياسيًّا، والعاجزِ عن تأويلِ الماضي، ومُوَاكَبَةِ الحاضر، واقتحامِ المُستقبل. وهذا يُوضِّح أهميةَ تكريسِ الفِكْر التاريخي داخل البُنيةِ الوظيفية للإنسان في المُجتمعِ والطبيعةِ، كَي يُصبح التاريخُ جسدًا للفِعْلِ الاجتماعي، وتجسيدًا للحُلْمِ الواقعي، وَوَعْيًا مُتَجَدِّدًا يُؤَدِّي إلى مَعرفةِ الإنسانِ بِذَاتِهِ ومُجْتَمَعِهِ وكيفيةِ تحليل وُجوده المعنويِّ والماديِّ، وهذا يُسَاهِم في دَمْجِ الزمانِ والمكانِ معًا في الفِكْر التاريخي، وتحويلِ التاريخ إلى بَوَّابَةِ للمُستقبَل، ولَيْسَ عَقَبَةً في طريق المُستقبَل .

3

قواعدُ البناءِ الاجتماعي المُتَحَكِّمَةُ في مَسَارِ الإنسانِ تاريخيًّا وحضاريًّا، تُحَدِّد آلِيَّاتِ التأويل اللغوي للمعرفةِ والمصلحةِ، وتُحَدِّد ماهيَّةَ العلاقةِ بَين التاريخِ المَنسي في داخل الإنسان، والتاريخِ المُهَمَّش في داخل المُجتمع، وإذا كانَ المَعنى الحَيَاتي يَظْهَر ويَختفي تَبَعًا لإفرازات العقل الجَمْعي، واعتمادًا على مَصَادِر المعرفة، واستنادًا إلى شبكة العلاقات الاجتماعية، فإنَّ التأويل اللغوي يَظْهَر وَيَخْتَفي تَبَعًا لأنساقِ الوَعْي، واعتمادًا على التُّرَاث الحضاري، واستنادًا إلى الأفكار المَقموعة . والظُّهُورُ والاختفاءُ في ثُنائية ( المَعنى الحياتي / التأويل اللغوي ) لا يُمكن السَّيطرة عليهما إلا بإعادةِ الوُجود إلى الوَعْي، وإعادةِ الوعي إلى التاريخ . وإذا كانَ التاريخُ حَلَقَاتٍ مُتَّصِلَة لُغويًّا، باعتبار أنَّ اللغة هي التي تَمْنَح التاريخَ مَعْنَاه وجَدْوَاه، وتَحْمِي وُجودَ الإنسانِ من القطيعة المعرفية، فإنَّ الحضارةَ دوائر مُتشابِكة معرفيًّا، باعتبار أنَّ المعرفة هي التي تَمْنَح الحضارةَ هُوِيَّتَهَا وسُلْطَتَهَا، وتَحْمِي الحَرَاكَ الاجتماعي مِن الانفصال اللغوي .

4

الحَرَاكُ الاجتماعي يَحْمِي وُجودَ الإنسانِ مِن الأحلامِ المَكبوتةِ والذكرياتِ المُتصارعةِ والأحزانِ الكامنةِ، ويُحَلِّل أنظمةَ الفِكر المُهيمنة على مَسَارَاتِ التاريخ . وإذا كانت السُّلطةُ الاجتماعيةُ هي القُوَّةَ المُوَلِّدَةَ لمصادر المعرفة، التي تَحْكُم طبيعةَ التأويل اللغوي القائم على البُرهان، وتَتَحَكَّم بالعقلِ المَوضوعي القائم على الاستدلال، فإنَّ الهُوِيَّة الإنسانية هي الفاعليَّة التنظيمية للعلاقات الاجتماعية، التي تُسَيْطِرُ على سِيَاقَاتِ الوَعْي القائم على التَّحَرُّر، وتُهَيْمِنُ على السُّلوكِ الوظيفي القائم على التاريخ . ومُهِمَّةُ الإنسانِ في المُجتمع أن يَمنع الوَعْيَ مِن العَيش خارج الحرية، ويَمنع التاريخَ مِن العَيش خارج اللغة، وهذا الأمرُ في غاية الأهمية، لأنَّه يُحَوِّل وُجودَ الإنسان مِن فلسفة الاتِّبَاع إلى فلسفة الإبداع، ويَنقُل التفاعلاتِ الاجتماعية الرمزية مِن نمط الاستهلاك المادي إلى نَسَق التوليد الفِكري، فَيَتَأسَّس واقعٌ جديدٌ يُوازن بين السُّلطةِ والهُوِيَّةِ، ويَتَكَرَّس فِكْرٌ جديدٌ يُوازن بين الوَعْيِ واللغةِ .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

نشر د. جواد بشارة وهواستاذ باحث في مجال علوم الفيزياء المعاصرة مقالة بعنوان (مفهوم الزمن) على موقعي المثقف والحوار المتمدن تاريخ 4/4/2023. وطبيعي ان يكون باحثا اكاديميا بعلوم الفيزياء مثله ملتزما جانب المنهج العلمي التخصصي الصرف منهمكا تمرير مغالطات عن مفهوم الزمن لا تتقبلها الفلسفة من جهة وتحتاج مناقشة نقدية تمحيصية من لدن علماء في الفيزياء والفلك لتبيان هل استنتاجات بشارة التي ذكرها بمقالته تقر بها النسبية العامة لانشتاين كما وردت في المقالة؟ وهل بشارة نشر المقال في مجلة بحثية رصينة متخصصة بفيزياء الكون بلغة غير العربية وحتى العربية؟ .

1. لم يعالج بشارة مفهوم الزمن الارضي كتحقيب تاريخي تحده الطبيعة نسبي نطلق عليه الوقت بل اوهم القاريء ان ما يقوله العلم الفيزيائي عن المطلق الكوني وما جاءت به نسبية انشتاين عن الزمن يصادر طواعية كل الاجتهادات الفلسفية والفكرية حول الموضوع لان قوانين الفضاء يجب ان تحكم قوانين الطبيعة والانسان على الارض وهذه مغالطة مدانة. لذا كان الاجدر به نشر سلسلة مقالاته الفيزيائية العلمية في مجلات ومنصات تخصصية لها الكلمة الفصل بحقيقة ما يذكره بمقالاته وينسبه الى النسبية لانشتاين وعلماء فيزياء معاصرين فمثل هؤلاء يستطيعون وضع كل اجتهاد علمي عن عالم فيزياء الفضاء في مكانه الصحيح.

2. ذكر الدكتور بشارة في مطلع مقالته (لا يوجد زمن الهي بالمعنى الحرفي للكلمة) الكاتب لا يخفي في كتاباته عدم ايمانه بالاديان كي ينسجم على الاقل مع منهجه التخصصي العلمي في مواضيع الفيزياء الكونية وهذه مسالة خاصة به. وفي تعقيبي على ماجاء بمقالته لا التزم منهج لاهوت الاديان وميتافيزيقا الخلق بل منهج ما تقوله الفلسفة عن قضايا مشتركة بين العلم والفلسفة... في عبارة بشارة اشارة واضحة ان علوم الفيزياء الحديثة لا تعترف بغير الانفجار الكبير عمره 13/7 مليار سنة ضوئية كفرضية علمية في بداية انخلاق الكون الفضائي بصدفة لا يوجد ما يدحضها. والكون في حالة من التمدد المتسارع التي تصل سرعة الضوء بالثانية.

3. في الفيزياء النسبية لانشتاين كما استشهد صاحب المقال على ان الزمن الكوني هو انثيالات يتدفق فيها الزمن. هذا الاستنتاج لا يصلح ان يكون حقيقة لمفهوم الزمن الارضي كمطلق لا يمكن حده بشيء ولايقبل مطلقه التجزئة كما تذهب الفلسفة على ان الزمن مفهوم لا يصلح ان يكون موضوعا مستقلا للعقل البشري. الزمن فلسفيا هو دلالة معرفية لادراك الاشياء. ان تقول وتعرف لي ما هو الزمن بالعلم الدارج غير التخصصي بالكون والفضاء يقول لك ارجع الى تعريف ارسطو ان الزمن هو مقدار حركة جسم لقطع مسافة محددة بسرعة موضوعة لحركة ذلك الجسم. واضاف ارسطو الزمن ليس حركة فالحركة خاصية المتحرك المادي والزمن غير مادي.

4. قال بشارة وهو يخمط من بحوث علماء فيزياء الفضاء تعقيبا على النسبية لانشتاين ان (الجاذبية تشوه الزمن الكوني) وهذه ماخوذة عن انشتاين كعالم فيزياء ولا تلزم الفلسفة بها فهي تتحدث عن مطلق الزمان بالكون وليس على الارض كما تهتم به الفلسفة. الجاذبية كما ينسب بشارة لانشتاين تشوه زمن كوني لامحدود ولا نهائي وهو في حالة نشطة جدا من التمدد الحركي نتيجة الانفجار العظيم. اما عن علاقة الجاذبية بالزمن الارضي هو ما اردنا الباحث توضيحه فهو غير عاجز عن منهج التلفيق كلما دعت الحاجة خروجه من مازق يدخله ولا يعرف الخروج منه..

5. ذكر عبارة تفوق الكفر قوله (الزمن ينوب عن المكان في الادراك ويمكن للزمن ان يكون مكانا) ما هذا التلاعب اللفظي غير العلمي السقيم؟ اذا كان مثل هذا الافتراض التعجيزي لقوانين الطبيعة والعقل الانساني على الارض متاحا بالنسبة للزمن الكوني حسبما تذكر اقتباسات بشارة الصادمة حينما يحاول تضليل القاريء غير المتخصص ان مثل هذه الفذلكات يمكنها الحدوث طالما هي استنتاجات عن النظرية النسبية. على قدر المامي المحدود بفيزياء الكون فانه باستثناء قانون الجاذبية وبعض العلاقات في فيزياء الطبيعة الارضية مثل السبب والنتيجة، تحول الكم الى كيف وغيرها من قوانين مثل سرعة الصوت وسرعة الضوء فليس كل ما تتوصل له فرضيات ونظريات فيزياء الكون هي صحيحة اكتسبت الدرجة القطعية التسليم بها واسقاطها على القوانين التي تحكم الطبيعة والانسان اذ من المحال وانت تعيش على الارض ان تجد الزمن يتحول مكانا مستقلا يمكن ادراكه موضوعا للعقل. وكذا العكس ان يصبح المكان زمانا مستقلا عن زمانية ادراكه المكانية غير المنظورة. اعتقد اراء كانط حول وحدة الزمكان الادراكية لا زالت تفعل فعلها بالنسبة لانسان يعيش على الارض ويتعامل مع الطبيعة بمدركاته العقلية وليس بمطلق القوانين الكونية.. اذ قال الزمكان مدرك لقالبي فطريين متلازمين مركوزين بالذهن. وقالبي الادراك الفطريان بالدماغ هما وسيلتي ادراك ولا يكونان موضوعين مستقلين لادراك العقل.

6. ذكر دكتور بشارة نقلا عن نسبية انشتاين استحالة فصل ثنائية الزمكان التي بنى عليها انها كانت سببا مباشرا لاكتشاف نيوتن قانون الجاذبية. اعود تذكير بشارة اذا ما وجدت علوم الفيزياء علاقة تربط قانون الجاذبية بالزمكان كونيا فهذا حسب قوانين الطبيعة الارضية هي علاقة ليست موجودة. بامكاننا ان نسال بشارة المتخصص بفيزياء الكون هل ادراكية العقل لوحدة وعدم امكانية انفصال ثنائية الزمكان – اذكر انه في الفقرة اعلاه يقر بشارة ان ينوب الزمن عن المكان ادراكيا وبالعكس بمعنى يجوز الفصل بينهما ادراكيا – تتيح لنا امكانية ان نجد ادراكنا للزمكان يتوقف في حال انعدام الجاذبية ؟ اعتقد من وجهة نظر علمية على الارض وفلسفية ليس هناك علاقة لقانون الجاذبية في عملية ادراك العقل للزمكان بالاشياء. وفي حال الاقرار بخطأ ما اورده بشارة ان مفهوم الزمكان كان الحافز لاكتشاف نوتن قانون الجاذبية فايهما سببا للاخر هل الزمكان سببا للجاذبية ام العكس؟ ثم هناك فرق جوهري كبير بين الجاذبية كقانون فيزيائي يحكم الطبيعة والكون وبين عملية الادراك العقلي كخاصية بيولوجية عند الانسان.

7. اعود ثانية لما ذكره بشارة عن ثنائية الزمكان قوله نقلا عن انشتاين (هو كيان يوجد فيه المكان والزمان في بنية واحدة تتاثر بوجود الطاقة والمادة).كما ويتساءل (هل معنى هذا ان يتحول الزمن الى مكان وبالعكس؟).

لا باس من اعادة التاكيد انه اذا كانت الفيزياء الكونية المعاصرة توصلت لوجود علاقة من نوع ما للزمكان مع الطاقة والمادة، فهذا لا يسقط ان علاقة وحدة ثنائية الزمكان هي مع الادراك العقلي لهذه الوحدة الموجودية وربما يترتب في عصور قادمة ان يتحول هذا الادراك الخارجي للزمكان الى النفاذ نحو ادراك العقل للشيء بذاته اي ان يعرف لاحقا ماهية مدركاته العقلية من حيث وجود تاثير طاقة ومادة في وحدة الزمكان. لا يزال الادراك العقلي للزمكان ينحصر في نقل الاحساسات عن الصفات الخارجية للشيء ولا يتمكن النفاذ الى ماهيات الاشياء ومدركات العقل..

من الناحية التعقيبية العامة فلسفيا يمكن الجزم القاطع بوجود هذه المتعالقات بشان الزمكان. حينما نقول لدينا مفاهيم حول الزمان والمكان في الكوني فمعنى ذلك اننا لم نقع بعد على حقائق ومصطلحات متفق عليها صائبة تفيد واقعنا الارضي. المفهوم غير محدود اصطلاحا لذا من غير المتاح لنا معاملتنا لادراكاتنا المادية في عالمنا والطبيعة بمعايير المفاهيم الكونية.

8. كي نقف على بعض تناقضات بشارة في مقالته عن مفهوم الزمن قوله (ان انشتاين اعتبر تداخل الزمكان كيانا موحدا غير قابل للانفصال – ومن يقول غير ذلك سوى دكتور بشارة كما سبق لنا تثبيته؟ - ويمكن دمجهما بعضهما مع بعض على الرغم – والكلام لبشارة - من انه ليس من الصحيح القول تحول الزمان الى مكان وبالعكس – اذكر القاريء ما قاله سابقا وناقشته عليه انه يمكن للمكان والزمان المناوبة عن احدهما التعبير عن الاخر- حسب الفهم والادراك البشري الكلاسيكي المالوف !!). ياسلام على هذه العبقرية التي وصلت بنا ان الادراك البشري الكلاسيكي المالوف يقول امكانية ان يتناوب الزمان والمكان صفة الوجود المستقل احدهما مستقلا بالنيابة عن الاخر موضوعا ادراكيا للعقل. هل استطاع علماء فيزياء انشتاين القول بحقيقة هذا الهراء الذي اصبح كلاسيكيا مالوفا لدى البشر بلا استثناء.؟ هات لنا دكتور بشارة عالما فيزيائيا فرنسيا في محل اقامتك وفي غير فرنسا اثبت علميا انه بالامكان ان يتحول الزمان الى مكان مستقل ادراكيا.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

.................

* لي وقفة تعقيبية ثانية اذا ما احتاج الامر

للاطلاع:

جواد بشارة: مفهوم الزمن

أرسطو احد تلامذة (أفلاطون) البارزين، أتخذ من عملية المواجهة مع الواقع والبحث في مادياته وظواهره حلاً فلسفياً جديداً مغاير لتفكير أستاذه، اذ رد " الاعتبار الى العالم ـــ عالم الأشياء الواقعية ـــ الذي أعتبره افلاطون عالماً للأشباح والظلال، وقد فعل (أرسطو) هذا بالفعل عندما أنزل المثل من العالم السماوي العلوي الى الأشياء الواقعية وجعل المثل صوراً، وتصور الصور بوصفها طاقات وقوى كامنة في الموجود تتحرك حركة (سماها أرسطو الانتليخيا) وهي حركة صوب غاية محددة من شأنها أن تصبح الإطار الذي تتجمع فيه حركتا خلق الشيء وإيجاده "(1) وهذا الإطار قد غير من الرؤية نحو الأشياء، أي غير الأتجاه من الباطن الى الظاهر، ومن المثل الى الواقع، ومن العقل الذي يتجه الى العالم العلوي الى العقل العملي الذي يبحث بالأشياء خارج إطار الماورائيات الأفلاطونية التي شكلت قطع مع العالم المادي . عد (أرسطو) هذا العالم الذي يجب أن نبدأ به ونؤسس عليه أفكارنا واعتقاداتنا في إطار البحث وليس الابتعاد والذهاب الى عالم المثل الأفلاطوني الواقع خارج الصورة صورة الأشياء فهو بحث عن التطابق بين الصورة والمادة من أجل الوصول الى الموجود الطبيعي حتى أنه عد الموجود الطبيعي هو الطبيعة بذاتها وليس خارجها، وعندما وضع نظام للأفكار والمعاني وضعها على وفق هذا التصور؛ إذ إن" رأي (أرسطوطاليس) أن الافكار والمعاني المسلمة بالوجود هي الموجودات المحددة والتي تأتي فقط عن طريق العلاقات ومتغيرة الى موجودات أن كل وجود محدد يحمل عناصر منطقية وسليمة التفكير كما يحمل عناصر روحية لا مادية وهو ما يسميه (أرسطوطاليس) (الشكل أو النموذج) هذا الشكل أو النموذج الروحي اللامادي كفكرة إذا ما تحقق بالتحديد يكون متماثلاً ومتوافقاً مع طبيعة الشيء المعطى أو جوهرياته لهذا يصبح الشكل أو النموذج هو الجوهر والأساس والذي لا ينفصل عن الشيء ذاته فهو في داخل الشيء وهو شريك في المادة الاساس التي يعيش عليها "(2) . إنَّ (ارسطو) إذ يؤكد الى عدم الذهاب خارج العالم الواقعي والطبيعة من حولنا فهو يرى بأن ما يمكن أن نسميه الأفكار التي تؤدي الى عالم المثل عند (أفلاطون) هي موجودة في الشيء ذاته في واقعيته على شرط يوجد توافق بين الفكرة والشيء وتحقق التطابق يكون العالم محسوماً ومعاشاً بشكل سليم وهذا التحقق ناتج من كون الأشياء في الوجود هي من تحقق معانيها في داخل الذهن البشري إذا تم الاستبصار بها بشكل سليم وليس البحث في خارجها عما يؤكدها ويؤكد وجودها فكيف نتحقق من وجود صورها في عالم آخر قد لا يصل اليه بعض البشر الى عالم مثالي مبني على انطباعات قد لا تتحقق و تتطابق مع ما هو موجود كما الشيء في الطبيعة .إنَّ " مزاج (أرسطوطاليس) الفكري درج على رقية العالم التجريبي من منطلقاته الخاصة يوصف واقعاً مئة بالمئة لم يستطيع أن يسلم باستنتاج (أفلاطون) القائل: أن اساس الواقع موجود في ملكوت كيانات مثالية متعالٍ ولا مادي كلياً آمن .أن الواقع الحقيقي هو عالم الأشياء الملموسة القابل للإدراك بالحواس لا عالم أفكار سرمدية عصي على الأدراك ونظرية الأفكار بدأت في نظره غير قابلة للإثبات من ناحية، ومثقلة بحشد من الصعوبات المنطقية من ناحية ثانية "(3)، لذا فهي لا تتماشي مع الفكر الأرسطوطالي حتى وأن كان هذا الفكر قد تبناه في مرحلته الأولى للفكر الأفلاطوني، ولكن عملية بناء منظومة معرفية عن الكون والحياة والإنسان يتطلب إيجاد مسلمات منطقية يتعامل معها الفكر الفلسفي مع الواقع المعاش دون البحث فيما وراء الأشياء عن الأشياء ذاتها وفي ذاتها، لذا فقد عمل الفكر الأرسطوطالي بالبحث عن الصورة والمادة وما هو موجود بالقوة وما هو موجود بالفعل وما هي العلل الأربعة التي يمكن من خلالها يمكن معرفة الوجود والموجود والجزئي المقيد بالزمان والمكان، لذلك جعل العلل أربعة أنواع وهي " العلة المادية والعلة الصورية والعلة الفاعلة والعلة الغائية، العلتان الأولى والثانية تمثلان الوجود الكوني للشيء والثالثة والرابعة تمثلان الوجود الحركي للشيء أو تمثلان الشيء في حالة التغيير والضرورة (...) وعلى ذلك فأن نقطة البدء في التفكير الواقعي بوجه عام ليست هي الذات العارفة (المثالية الرومانسية) وليست الصيرورة الموجهة التي يسيطر عليها وجود المطلق فيها (الواقعية الروحية)، بل الكون الطبيعي في صيرورته الأصلية (الواقعية والطبيعية) "(4). إنَّ ما بين الوجودين الحركي والكوني للشيء وحركيته هو ما يقع في تشكيل المعرفة الأرسطوطالية الواقعية في فهم الأشياء بكلياتها الكوزمولوجية وحركتها التي تسهم في صنع ماهيتها وتثبيت صورها التي تنتقل من حال الى آخر نتيجة لهذا الوجود الحركي الذي يصاحب الأشياء في مديات وجودها منذ بدايتها وحتى النهايات و" هنا يظهر كل الظهور أن أرسطو يعطي أولوية كبيرة للبحث عن العلل كموضوع أساسي للوعي الفلسفي ويؤكد أن هذا الأمر لم يعط حقه كاملاً، ولذلك فهو يجترح رؤية جديدة أساسها أن الهيولي والصورة علتان ذاتيتان يتكون منهما الشيء ويعلم بهما كما يتكون التمثال من النحاس وصورة (ابولون) علما أن العلة تقال أيضاً على نحوين آخرين الواحد ما تصدر عنه بداية الحركة والسكون والثاني الغاية التي تقصد اليها الحركة فتكون العلل أربعاً: علة مادية وصورية وفاعلية وغائية "(5)، وتتحقق (الانتليخيا)عند (أرسطو) من خلال العلل الأربعة التي تشكل مضمون الحركة التي تحتوي في داخلها حركة خلق الشيء وحركة إيجاده .

***

أ.د محمد كريم الساعدي

.......................

الهوامش

1. سليمان، جمال محمد احمد: مارتن هيدجر: الوجود والموجود، بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2009، ص 36.

2. توماس، بيتش: انطولوجيا المسرحية، ترجمة: كمال الدين عيد، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2009، ص 116 .

3. تارناس، ريتشارد: آلام العقل العربي، ترجمة: فاضل ....، ابو ظبي: كلمة، هيئة ابو ظبي للثقافة والتراث، 2010، ص 85.

4. الكومي، محمد شبل: الوجود والحرية، القاهرة: الهية المصرية العامة للكتاب، 2009، ص 105-106.

5. أسبر، علي ممد: ماهية الوعي الفلسفي، دمشق: دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، ط1، 2010، ص 40.

- تفكير العقل في اشياء العالم الخارجي ومواضيع العالم الداخلي هو ابجدية لغوية صورية وليست فكرا مجردا متحررا من الابجدية اللغوية في تعبيرها الخارجي الصوتي او في صمتها التعبيري الخيالي فكرا بلا صوت.

هناك تعريف مصطلحي متفق عليه ان اللغة في ابسط تعريف لها هي ابجدية حروفية يمتلك كل حرف فيها صوتا ومعنى. واجد هذا التعريف ناقصا لانه يقتصر على تعبير اللغة عن اشياء وموجودات العالم الخارجي فقط. فاين يكون تفكير الصمت الداخلي المستمدة موضوعاته من عالم الخيال واشباع الغرائز الجسدية؟ الجواب هو تفكير الصمت ايضا تعبير لغوي في ابجدية حروفية لها معنى صوري وتفتقد الافصاح الصوتي خارجيا. خطأ آخر أجده في تعبير اللغة ابجدية حروفية (صوت ومعنى) يعني في حال انعدام الصوت لا يبقى معنى, وفي انعدام المعنى لا يبقى لغة وهذا ما ينكره تفكير الصمت الداخلي بانه لغة تفكيرية صورية تمتلك المعنى والصوت المدّخر في الصمت وفي الحركات الايحائية لاعضاء جسم الانسان كما في ممارسة الطقوس الدينية واليوغا ورقص الباليه والمسرح الصامت.

- تذهب غالبية الفلسفات المثالية الى ان ما لا يدركه العقل لا وجود مستقل له. والحقيقة ان ملايين الموجودات التي نعايشها بعالمنا الخارجي والطبيعة لها وجود مستقل قد يدركه بعضنا او لا يدركه. الوجود الانطولوجي للاشياء المادية لا يتوقف على ادراكنا له ولا على عدم ادراكنا له. انطولوجيا الموجودات في استقلاليتها كينونة لا تاثير للانسان عليها قبل ادراكه العقلي لها.

- الوعي مرحلة ادراكية عقلية متقدمة على ما تنقله الحواس من احساسات. كما ان الوعي تجريد معرفي يتكامل مع مدركات العقل الانطولوجية ولا تربطه علاقة جدلية بها.التكامل المعرفي في وعي الاشياء هو من اجل تغييرها والاستفادة منها على خلاف الجدل فهو تضاد سلبي طارد لكلا النقيضين في تشكيل الظاهرة المستحدثة الجديدة. معرفة الاشياء في عالمنا الخارجي ليست وعيا جدليا معها بل تعريفا عقليا بها من اجل تغييرها. وكل ارادة انسانية يحكمها الوعي القصدي تكون المرتكز الاساس في احراز تقدم افضل في فهم الوجود وتقدم الحياة. ليس هناك وعيا ادراكيا لا يحمل موضوعه معه ولا يحمل هدفه القصدي الذي يسير نحوه.

- ما فوق اللغة مصطلح فلسفي له ثلاثة تشعبات :

الاول يطلق عليه الميتالغة بمعنى الفهم السبراناتيكي للغة الذي يعتمد الذكاء الصناعي في الريبوت وغير ذلك من تكنولوجيا متطورة. ويطلقون على هذه الميتالغة اللغة المتقدمة المتعالية ترانسدتاليا التي تتحدث عن لغة اخرى ادنى منها. مشتركات اللغات في غير صفات النحو والقواعد الذي يشكل هوية لغوية خاصة بكل لغة لا تمكننا من دمج تلك اللغات مع بعضها في وضع قواعد نحوية مشتركة تجمعها. هذا ما حاوله هيرمان سكنر في نظريته السلوك اللفظي ونعوم جومسكي في التوليدية اللغوية.

الثاني ان مافوق اللغة هو اللغة التواصلية التي لا تحكمها ضوابط النحو والقواعد والصرف وغيرها. فهي لهجة فطرية خاصة بجماعة او قوم اكتسبت صفة هوية يتكلمها ويتواصل بها قوم من الاقوام., ولم تكتسب اللهجة ضوابط المصطلح المتفق عليه على انها لغة خاصة تمتلك كل مقولات وقواعد اللغة الخاصة بقوم من الاقوام او امة من الامم. شرط اللغة هو المصطلح المتفق عليه في تثبيت نحوها وقواعدها الخاصة بها كي تمتلك هوية لغوية لقوم من الاقوام او مجتمع من المجتمعات. اما اللهجة او الكلام الشفاهي فهو وسيلة تواصل مجتمعي لا تمتلك قواعد ونحو لغة مدوّنة كما نجده عند الاقوام البدائية التي لم تكن تعرف التدوين والكتابة الصورية او الحروفية المتقدمة.

الثالث ان ما فوق اللغة هي اللهجات التواصلية لدى اقوام بدائية لم تكن تعرف التدوين. هذه اللهجات من الممكن ان تكون ما فوق لغة لكنها لا تمتلك الابجدية الحروفية المصطلحية المتفق عليها لتكون بعدها لغة تمتلك هوية خاصة بها.(تراجع مقالتنا ما فوق اللغة بالنسبة للعربية).

- الانسان يتكيف مع الطبيعة عندما يجد تفكيره لا يتعدى عالم ما يدركه حسيا. هل يعي الانسان تكيفه مع الطبيعة بارادة ووعي منها ام ان تكيّف الانسان مع تقلبات بعض ظواهر الطبيعة هي استجابة فطرية غريزية لديه.

الاحتمال الثالث الذي اميل اليه ان تطور ذكاء الانسان هو الذي اعطاه معنى التكيّف مع تقلبات ظواهر الطبيعة الذي رافقه انقراض انواع عديدة من الكائنات الحية من حيوان ونبات وبعض من سلالات بشرية تعود الى مراحل عصور تطور الانسان انثروبولوجيا. من حيث ان منهج دارون في اصل الانواع والبقاء للاصلح يعتمد تطور انثربولوجيا تاريخ الانسان وليس تطور الغرائز والفطرة البايولوجية للانواع فقط. نظرية داروين تقاطع في بعض حلقاتها حقائق العلم كما تقاطع ميتافيزيقا السرديات الدينية الكبرى. كما تقاطع الماركسية الحاضنة الاولى لافكار داروين. القوى الذاتية لتطور الانواع وبقاء الاصلح هو ناتج املاءات الطبيعة على الكائنات الحية. الطبيعة وبيولوجيا الانواع المرتكز الاساس في الداروينية.

- افضل الكتابات الفلسفية هي غير الزوبعة التي تثيرها بل هي النبيذ المعتق الذي خمّرته الاعوام الطويلة ليصبح بعدها تذوقا نخبويا فريدا.

- اعجاز العقل يكمن في تفكيره اللغوي الصوري. بمعنى آخر العقل لا يفكر بالفكر المجرد الانفصالي عن الابجدية اللغوية فهذا محال. تفكير العقل ابجدية لغوية صورية صامتة وليس فكرا تجريديا متحررا من ابجدية اللغة. الفكر داخليا في (الجسم) وخارجيا في ادراكه العالم وموجودات الطبيعة والحياة هو لغة لها معنى محدد لموضوع. وهنا اعيد عبارة منسوبة للفيلسوف الاميركي سيلارزهي قمة ما توصلته فلسفة اللغة قوله ( الوجود لغة). وهي تاكيد اننا لا ندرك اي شيء بالفكر وحده مجردا عن ملازمة الابجدية اللغوية له. وجود المادة ادراك لغوي للانسان وحضور مستقل في الطبيعة لا يمتلك التفكير ولا ملكة التعبير عن نفسه.

- تفكير العقل صمتا لا يلغي ابجدية اللغة الصورية صوتا ومعنى كما هي في تعبير اللغة الصائتة عن مدركات العقل من الاشياء والمواضيع في العالم الخارجي. والفكر الذي يعمل على تطوير واقع الاشياء إنما هو الآخر يتطور في مجاراته تطورات الواقع ومجاوزته لتلك التطورات في تعاليه عليها بإستمرار... وفي الفرضية الخاطئة التي تقود الى نتيجة خطأ أيضا هي في إعتبار عملية إدراك الانسان للاشياء هو في سعيه مطابقة قوانينه المستحدثة لديه مع قوانين الاشياء في وجودها المادي المستقل قبل إدراكها وهو إفتراض وهمي غير حقيقي ولا يمكن الانسان فهم وتنظيم عوالمه الحياتية بهذا التنميط من التفكيرالسلبي مع إدراكاته لعوالم الاشياء في وجودها الطبيعي.. بل أن تدخل الاشياء المدركة مع الفكر في تكامل معرفي ثنائي متبادل يكسبهما كلاهما التغيير والتطور وبغير هذا الفهم معناه نفي أن يكون هناك فائدة من وعي الانسان لموجودات الطبيعة وإستحداث رؤيته وقوانينه لها..ألنتيجة التي يحرزها الفكر بالنهاية من هذه العملية هو أن تكون قوانين الفكر هي قوانين الاشياء في الواقع... بمعنى أصبح ما نمتلكه عن الاشياء من أفكار نتيجة مدركاتنا لها هو وحده الذي يعطي وجودها الحضوري الواقعي في حياتنا. مطابقة تفكيرنا للواقع لا يلغي حيازة الفكر خاصية تغيير ذلك الواقع.تفكير العقل في وعيه القصدي لا يسعى مطابقة صحة افكاره مع مدركاته الواقعية بل في محاولته وضع تنظيرات تغييرها. العقل الانساني يبحث عن الاجابة لماذا ندرك الاشياء؟ وليس كيف ندركها.

- إن العقل وحده له الأسبقية في تحديد الوجود والفكرالمتعالق معه أن يكون ماديا أم مثاليا. واللغة تكون في هذه الحالة وعاء الفكر في تحديد نوع الوجود المادي أو المثالي المفصح عنه بتعبير اللغة. في عالم صنع الانسان لحياته في كل مناحيها بعلاقته بظواهرالطبيعة ومواضيعها, بمعنى أن وجود عالم الاشياء سابق على أدراك الانسان لها انطولوجيا, وتنظيم الانسان لوجود عالم الاشياء هو الحافز الاساس لأدراكه تلك الموجودات, والعامل الأهم أنه ينّظم مدركاته للاشياء التي هي بالنتيجة تنظيم حياته ووجوده, والفكر الانساني لا يعمل في فراغ وجودي مادي أوفي فراغ غير موضوعي متخيّل من الذاكرة ولا في تجريد ذهني يلغي مؤثرات علمية ومعرفية عديدة في فهم وبناء الحياة الانسانية...

- اللغة والفكر لا يحضران سوّية الا في محاولة تنفيذ ايعازات مصنع الحيوية العقلية بالاخبار الادراكي العقلي عن موضوع جرى التفكيربه ذهنيا واكتملت مهمة اعادة الوعي من العقل الى عالم الاشياء كفكرجديد بلغة جديدة وليس كوجود سابق مستقل في عالم الاشياء قبل ادراك العقل له.العقل لا يخلق موجودات الحياة القبلية بالفكر بل يخلق وسائل فهم وتفسير وعي تلك الحياة في إعطائها قيمة منظمة تخدم الانسان وتقدمه .

- ايعازات العقل الارتدادية الانعكاسية الصادرة عنه والواردة اليه بواسطة منظومة الجهاز العصبي المرتبطة بالدماغ في تخليقه لمواضيع جرى تفكيره بها انما تتم في تنفيذ اللغة او غير اللغة ايعازات العقل في اعادة الموضوع المفكّر به من العقل الى امكانية ادراكه في العالم الخارجي بفهم جديد عما كان عليه قبل ادراك العقل له, في توّسله اللغة التي هي الفكر ولا فرق بينهما في التعريف المادي او التجريدي بالموضوع في وجوده المستقل في عالم الموجودات الخارجي بعد تخليقه عقليا.الوجود الادراكي الحسي او العقلي المستقل هو وجود فكري لغوي كما هو وجود مادي مستقل في عالم الاشياء ايضا.

- كل خارق لقوانين الطبيعة معجزة لا يستطيعها كل البشر ولا يتم ادراكها عقليا لتصبح وجودا بذاته. يمكن التسليم بها ايمانيا فقط.

- المنفعة او مبدا اللذة الابيقورية وفي الفلسفة البراجماتية الاميريكية هي جوهر انساني فطري غريزي .اي انها لا تحتاج اشتراط فلترتها التجريبية العملانية في تاكيد نفعها من عدمه كما تذهب له الذرائعية الامريكية.

المنفعة غريزة انفرادية يعزز انتشارها انها تعيش ضمن مجتمع. والمنفعة معرفة وسلوك تلازم الانسان كمثل تقاسيم وجهه. اعمال الانسان طيلة حياته هي سعي محموم مرتكزه برمجة الانسان لعقله من اجل تحقيق منفعة انفرادية من حيث طبيعة الانسان كائن نفعي. والتضحية من اجل الاخرين ضرورة ملزمة وليس ارادة ذاتية متحررة. وحين يحب رجلا امراة على سبيل المثال انما يحبها بدافع اشباع لذته ومنفعته الغريزية وليس تلبية رغائب المراة في العملية الجنسية..

- عالمنا المعاصر اصبح مفهوما متفقا عليه يقوم على ثلاثة ركائز هي :اولا الشعور الواقعي هو عالمنا الحقيقي الذي نحياه ولا يشترط ان يكون افضل العوالم كما ذهب له لايبنتيز في القرن الثامن عشر. كا لا يوجد عالما مثاليا لا ندركه هو الاسمى من عالمنا الذي نعيشه كما ذهب له افلاطون ونيتشة وبعض فلاسفة الوجودية. الركيزة الثانية لم يعد امام العالم التراجع عن منجزات العلم الواجبة التكيف معها لذا يكون العقل البوصلة الحقيقية الوحيدة في محاولة معرفتنا موضع اقدامنا. الركيزة الثالثة التفكير الصارم بعدم جنوح النزعات التدميرية والحربية بدل ترسيم مستقبل متعايش بسلام يحتضن الجميع.

- لم يعد امام عالمنا اليوم التعويض عن تازمات الحياة المتوالية في سلسلة متناسلة من الكوارث سوى دخول واقعنا الحقيقي بخطاب نافذ جريء. الخطابات الانانية الضيقة التي تلهث وراء الاستهلاك النخبوي لم تعد صالحة لعالمنا اليوم فقد انتهى زمن القضم من حافات تجسير العلاقات الانسانية وتراجع تاثيرها. اعتقد مقولة برتاغوراس "الانسان مقياس كل شيء" صالحة الاستعمال.

- من جملة فلاسفة عديدين انكروا العقل الانساني يبرز في الفلسفة الغربية المعاصرة الاسكتلندي ديفيد هيوم ليتبعه زميله الانجليزي جلبرت رايل 1900- 1976 الذي قال باصرار عنيد ليس هناك عقلا ولن يكون مستقبلا ابدا.

- الوعي هو الوسيلة الادراكية العقلية لفهم الواقع وتغييره.

- لا علاقة جدلية بين الوعي والواقع, الوعي تجريد عقلي تصوري لا ينتجه الواقع. بل هو توسيط نقل مقولات العقل عن مدركاته الواقعية.

- من تعابير هيدجر التي لا معنى لها قوله الديزاين هو ركض الموت الى العدم.

- مذهب وحدة الوجود مطلق ميتافيزيقي صوفي يجمع بين الدين والفلسفة والطبيعة.

- يقول ياسبرز في عبارة فلسفية رشيقة صحيحة " حقيقة الاخفاق هي التي تؤسس حقيقة الانسان.".

- استوقفني التساؤل التالي : هل اصوات الابجدية الحروفية في اللغة خاصية معنى ام خاصية نحو؟ برايي انها تجمع الخاصيتين معا فهي دلالة عن معنى كما هي خاصية نحوية للغة بعينها.

- ماذا اراد الفيلسوف الاندلسي ابن طفيل في روايته الخالدة حي بن يقظان التاكيد عليه من اهداف؟

1. الانسان بمفرده بالطبيعة قادر عن طريق اعمال العقل المجرد الوصول الى مستوى الانسان الكامل بمجرد ملاحظة الطبيعة والتفكير بها من غير تعليم.

2. الدين والفلسفة والعلم اقانيم ثلاثة تتكامل معرفيا ولا تناقض بينها يلغي معايشة الضرورة للاخر.

3. الوصول الى المعلومات الميتافيزيقية امر فردي بين الخالق والمخلوق.

- محاربة الفلسفة جهلا بها هو مشكلة الجهل وليس الفلسفة.

- الوعي هو نوع من تحرر العقل من الواقع وردت على لسان احد الفلاسفة وكانت صحيحة. ويتعالق مع هذا المعنى الزمن يسبق الوعي الحقيقي والزمن ايضا بعد سببي للزمكان وليس المكان منفردا.

- القانون الفيزيائي المادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم سبق وصاغه بارمنيدس بقوله " لا شيء يمكن ان يتحول الى لا شيء ولا شيء يمكن ان ياتي من لا شيء".

يتبع بحلقة اخرى

***

علي محمد اليوسف /الموصل

 

التَّحَوُّلاتُ في التفكيرِ والسُّلوكِ مُرتبطةٌ بطريقةِ التأويل اللغوي لأحداث التاريخ، وزاويةِ الرُّؤية للجَوْهَر الإنساني في البناء الاجتماعي، وأُسلوبِ التعامل مع مصادر المعرفة كَمًّا وكَيْفًا. وإذا استطاعتْ رمزيةُ اللغةِ استيعابَ التَّحَوُّلاتِ في التفكيرِ والسُّلوكِ، والتَّكَيُّفَ معَ أبعادها المعنوية، والتَّأقْلُمَ معَ دَلالاتها المادية، فإنَّ الوَعْي سَيَرْدِم الفَجْوَةَ بين الحُلْمِ الفردي والعقلِ الجَمْعي، والواقعِ المُعَاش والعَالَمِ الافتراضي، والمَعنى الوُجوديِّ والتَّجربةِ الشخصية. وهذه الفَجْوَةُ نتيجةٌ طبيعية لِغِيَابِ اليقين في تعقيدات الحياة المُعَاصِرَة، التي تَضغط على العلاقات الاجتماعية، وتُعيد تشكيلَها في الهُوِيَّات المُتَشَظِّيَة التي تَجعل الإنسانَ عاجزًا عن إدراك حقيقة ذاته في الأحداثِ المُتسارعة، والعوالمِ المُعَقَّدَةِ، والأفكارِ المُتَغَيِّرَة. وإذا كانتْ مَشروعيةُ التواصلِ الاجتماعي تَقُوم على الفَهْمِ المُتَبَادَل والمصالحِ المُشتركة، فَإنَّ شرعية الذات الإنسانية تَقُوم على تَخَطِّي الصُّوَر التاريخية النَّمطية، وكسرِ القوالب الفكرية الجاهزة، وتَجَاوُزِ الأحكام المعرفية المُعَلَّبَة، وهذا يَتَطَلَّب تكريسَ الوَعْي بالذاتِ والعناصرِ المُحيطة بها كأداةٍ لتوليد أنساق المعرفة في المُجتمع، بِوَصْفِه بُنْيَةً إبداعيَّةً مُتَجَدِّدَةً، وقادرة على صناعةِ الأحلام، وتطبيقِها على أرض الواقع، ولَيْسَ بُنيةً جامدةً تُفْرِز الوَعْيَ الزائف لحماية وُجودها الوهمي.

2

الانقطاعاتُ المعرفية في مَسَارِ التاريخِ ناتجةٌ عن حالة اللايقين المُسيطِرة على مُكَوِّنات الظواهر الثقافية، والانقساماتُ الوُجودية في بُنية المُجتمع ناتجةٌ عن تَوظيف العقل كأداةٍ لتكريس الأدلجة السياسية، ولَيْسَ توليد الفِكْر الإبداعي، وبالتالي، تَعْجِز العلاقاتُ الاجتماعية عَن تَكوين شخصية الفرد الإنسانية، وتَعْجِز رمزيةُ اللغةِ عن تكوين مَنظومة القِيَم الحضارية. وهذا العَجْزُ المُزْدَوَجُ يَجعل العقلَ المُتمركز على المُسَلَّمَات الافتراضية، والمُنغلِقَ أمامَ صَيرورةِ التاريخ وحَتميةِ المُوَاجَهَة معَ الوَهْم، مُتَصَادِمًا معَ ذاته، وغَير مُتصالِح معَ كَينونة الفِعْل الاجتماعي. ولا بُدَّ أن يَكُون العقلُ طاقةً توليديَّةً للمناهجِ الفلسفية الاجتماعية القادرة على نقدِ آلِيَّات الهَيمنة في الأنظمة الاستهلاكية، وكشفِ التناقضات في المعرفة التكنولوجية التي تَرْمِي إلى استنزافِ موارد الطبيعة، ولَيس تنظيمها والاستفادة مِنها. والعِلْمُ إذا لَمْ يَقُمْ على قِيَم إنسانية ومعايير أخلاقية، فإنَّه سَيَتَحَوَّل إلى وحش يَفْرِض سَيطرةَ الآلة الميكانيكية على الإنسانِ والطبيعةِ معًا.

3

التجانسُ في العلاقات الاجتماعية مِن شَأنه تَكوين هُوِيَّةٍ سُلوكيَّة إبداعيَّة، عارفةٍ بذاتها، وجامعةٍ لِمُكَوِّنَاتها، وواعيةٍ بأبعادها. والتجانسُ لا يَعْنِي التطابقَ وعدمَ الاختلاف،بَلْ يَعْنِي تَوظيفَ المناهج العقلانية واقعيًّا واجتماعيًّا وتكامليًّا، بحيث لا تَحْدُث فَوضى في سُلطة المُجتمع الاعتبارية، ولا يَحْدُث اضطراب في شخصية الفرد الإنسانية، مِمَّا يُسَاهِم في تفجير الطاقة الرمزية في اللغة كمشروعٍ وُجودي للخَلاصِ مِن الوَعْي الزائف، وتَخليصِ أحلامِ التغيير للأفضل مِن قُيود المصالح الشخصية الضَّيقة. والتجانسُ في العلاقات الاجتماعية يُسَاهِم في تأسيس مَنظومة التفكير بعيدًا عن ضغط اللحظة الآنِيَّة، والتفكيرُ يَقُود المعاييرَ الأخلاقية إلى بناء السُّلوك الذي يُوَازِن بين الشُّعُور والوَعْي ذهنيًّا وواقعيًّا، والسُّلوكُ يُفَعِّل عمليةَ التأويل اللغوي لأحداث التاريخ. وكُلُّ ثَورةٍ في اللغةِ لفظًا ومَعْنًى، سَتُؤَدِّي _ بالضَّرورة _ إلى تحويل المُجتمع إلى طاقة أخلاقية وإنسانية، تَقُوم على التَّحَرُّرِ والتحريرِ، التَّحَرُّرِ مِن هَيمنة الأنساق اللاعقلانية على أحداث التاريخ، وتحريرِ سُلطةِ المُجتمع الاعتبارية وشخصيةِ الفرد الإنسانية من ثنائية الاستلاب والاغتراب.

4

وظيفةُ الظواهرِ الثقافية في المجتمع هي مَنْعُ العلاقاتِ الاجتماعية مِن التَّشَيُّؤ (التَّحَوُّل إلى علاقات آلِيَّة ميكانيكية في مَوْضِع العَرْض والطَّلَب)، ومَنْعُ أحداثِ التاريخ مِن التَّسَلُّع (التَّحَوُّل إلى سِلَع خاضعة للبَيع والشِّراء وَفْق مَنْطِق سِيَادَة السُّوق). وهذا المَنْعُ - على المُسْتَوَيَيْن الاجتماعي والتاريخي - في غاية الأهمية، لأنَّه يَكشِف آلِيَّاتِ التَّحَكُّم بمصادر المعرفة، وكيفيةَ توظيفها في أنظمة المُجتمع الداخلية والخارجية، على صعيد النظرية والمُمَارَسَة، مِمَّا يُسَاهِم في تأسيس نقد ثقافي للوَهْم الاجتماعي الذي يَتَجَسَّد في الجَوْهَرِ والمَظْهَرِ على حَدٍّ سَوَاء، ويَجعل المَعنى اللغويَّ انعكاسًا لحالة اللايقين في إرادةِ المعرفة وأنسنةِ الوَعْي. ولا بُدَّ أن يَقُوم المُجتمعُ على اليقينِ لا الشَّك، مِن أجل توليدِ التفكير الإبداعي، وتَحليلِ بُنية السُّلوك، والحَفْرِ في أعماق اللغةِ، للوُصُولِ إلى مَنْطِق التاريخ - ثقافيًّا واجتماعيًّا -، وهذا يُحَدِّد فلسفةَ أحداثِ التاريخ، وطبيعةَ تأثيرِ السُّلطة التي تقف وَرَاءَهَا.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

جزيرة كارباثوس أنموذجا

بقلم: بيرنار فينيي*

ترجمة وإعداد: نجاة تميم

***

أود أن أبدأ باقتباس من كتاب بيير بورديو الموسوم "منطق الممارسة": "العنف الرمزي هو ذلك العنف الذي يفرض خضوعا، لا ينظر إليه كخضوع، وذلك لأنه يعتمد على ما تتوقعه الجماعة من خلال معتقدات مغروسة اجتماعيا. كما أن نظرية العنف الرمزي ترتكز على الإيمان أو على نحو أفضل، على نظرية إنتاج المُعتقد، وعلى عملية التنشئة الاجتماعية اللازمة لإنتاج عوامل تتمتع بأنماط الإدراك والتقدير التي ستمكن المهيمَن عليهم من إدراك الأوامر الزجرية المتداولة التي يجب أن يُطيعونها".

يبدو لي أن إحدى الطرق الجيدة لجعل مفهوم العنف الرمزي مفهوما، هو إعطاء، في الوقت نفسه، فكرة عن المدى المحتمل لمجاله التطبيقي، يمكن أن يكون من خلال تقديم سلسلة من أمثلة ملموسة، ومواقف بسيطة ومتنوعة بما فيه الكفاية حيث يمكن تطبيق العنف الرمزي فيها. سآخذ هذه الأمثلة من مجتمع عملت فيه لفترة طويلة كإثنولوجي وسأطبق ما تعلمته من بيير بورديو، خلال دراستي الجامعية في مدينة ليل. هذا سيجعل من الممكن إظهار تنوع الآليات التي يتم التعبير عنها، داخل نفس المجتمع، لممارسة هذا العنف الرمزي والحصول على خضوع، غير مُدرك على هذا النحو، للمهيمَن عليهم ولكن هذا سيوفر أيضا ميزة التأكيد على الطابع التعسفي للحدود الاثنولوجية| الاجتماعية التي تعد واحدة من أهم العقبات التي تعترض تطوير العلوم الاجتماعية من خلال الحد من تنافس الأفكار داخل المجال العلمي.

جزيرة كارباثوس أنموذجا

كان رجال ونساء جزيرة كارباثوس اليونانية، في بحر إيجة، قد نظموا توريث أملاكهم من جيل إلى جيل، حسب مبادئ، تبدو فريدة من نوعها في أوروبا. حتى خمسينيات القرن العشرين، اتسمت العلاقات العائلية بالهيمنة والاستغلال، مفضلين الأبناء البكر من الجنسين على إخوانهم وخصوصا على أخواتهم الأصغر سنا. فهذه العلاقات تجسد عنفا كبيرا، بحسب بورديو. إن نظام القرابة الذي ينظمهم يتميز بوجود أحقية الابن والابنة البكر في الميراث. على عكس ما كان موجودا في جزء كبير من أوروبا في ظل النظام القديم، كان في هذه الجزيرة وريثان لكل أسرة. يرث البكر من الذكور جميع ممتلكات والده (منزل، أرض، طاحونة، مصلى خاص، إلخ) وترث البكر من الإناث من جميع ممتلكات والدتها. كان هذا النظام يسمح لخطين جنسانيين، الذكر والأنثى، منفصلين بوضوح، بالتكاثر من جيل إلى جيل اثناء إعادة إنتاج وضعهما الاجتماعي؛ حيث يتم نقل الميراث الجنساني (من الجنس نفسه) بطريقة متكاملة إلى الطفل من الجنس المقابل. أما الأبناء الآخرون، فيحرمون من الميراث. وتضطر أغلبية الإخوان الأصغر سنا إلى الهجرة. أما أغلبية الأخوات الأصغر سنا فيبقين عازبات مدى الحياة. يعملن كخادمات أو عاملات في الحقول بدون أجر للثنائي البكر (الأخ أو الأخت).

يمكننا وصف علاقات البكر (ذكرا أو أنثى) بالأصغر سنا بالأدوات المفاهيمية الماركسية: يستغل البكر من كلا الجنسين، وهم أصحاب وسائل الإنتاج (الأرض، إلخ) أخواتهم الأصغر سنا، ولأنهن مضطرات من أجل العيش، فإنهن يقدمن مقابل ذلك جهدهن في العمل (كأيدي عاملة). كان هذا الاستغلال شرسا بشكل خاص مقارنة بالاستغلال الذي وصفه ماركس في المجتمعات الرأسمالية. ففي هذه المجتمعات كان الراتب الذي يتقاضاه البروليتاري مقابل قوة عمله يسمح له على الأقل بتأسيس أسرة وإعالتها. كان للبروليتاريا أسلوبها المستقل في التكاثر البيولوجي. أما في مجتمع كارباثوس، فهذه العلاقات الاستغلالية لم تسمح للفتيات الصغيرات ببناء أسرة. هنا كانت المجموعة المهيمِنة من الأبناء البكر الذين، من خلال استنساخ أنفسهم، وازدياد أعدادهم بيولوجيا، ساهموا، في الوقت نفسه، في إعادة إنتاج المهيمَن عليهن، اللواتي هم في حاجة لخدماتهن.

في كلا النوعين من المجتمع، يتم إعادة إنتاج هيمنة المسيطَر عليهم، قبل كل شيء في المجال الاقتصادي. ولكن إذا كانت التبعية القانونية الاقتصادية للفتيات الأصغر سنا كافية لإجبارهن على العمل من أجل إخوانهن وأخواتهن البكر (بنفس الطريقة التي حكمت بها التبعية القانونية الاقتصادية للبروليتاريين، المستبعدين من الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، لتوظيف قوتهم العاملة)، فهذا لا يفسر سبب موافقة الأخوات الصغيرات على البقاء في القرية في ظل ظروف استغلال قاسية جدا. والسؤال:" لماذا لم يحذون حذو إخوانهن الذين فروا من الهيمنة العائلية وهاجروا القرية؟

لفهم هذا اللغز، يجب أن نترك موقف العالِم الذي يحلل الأشياء بشكل موضوعي وعن بعد، كما يسميها بورديو "موضوعية"، وعلينا أن نهتم بالأخوات الأصغر أنفسهن، ونعتبرهن أشخاصا، لديهن مشاعر وإرادة، ونتوجه إلى تجربتهن الحية. ونتساءل كيف ينظرن إلى أنفسهن وكيف يعشن أوضاعهن. فإذا بقين في القرية ووافقن على العمل في مثل هذه الظروف، يبدو أنهن لم يرين استغلالهن بهذه الطريقة ( فهن، إذا ضحايا ما يسميه الماركسيون ظاهرة الوعي الزائف)، يعشن حياتهن ويعتقدن بأن مصيرهن أمر مسلم به.

العنف الرمزي وإخفاء علاقات الهيمنة والاستغلال

يمكننا الآن إعطاء محتوى دقيقا للمفهوم الذي انطلقنا منه. يشير العنف الرمزي إلى كل ما جعل في هذا المجتمع إخفاء علاقات الهيمنة والاستغلال ممكنا على هذا النحو؛ وبشكل أعم، كل ما جعل الفتيات الأصغر سنا (بصرف النظر عن التبعية القانونية والاقتصادية الصارمة) خاضعات، يعشن مصيرهن كأمر طبيعي، أي شرعي.

هناك، أولا، الوزن الهائل للتقاليد. فهذه الأخيرة هي مصدر قوي لإضفاء الشرعية على التعسف في جميع مجتمعات ما قبل الرأسمالية، (وما زالت قوية في مجتمعاتنا التقليدية وتتجلى في زواج أبناء العم مثلا). يكفي أن يكون هذا السلوك موجودا في الذاكرة الحية ليبدو شرعيا. فالفتيات الأصغر سنا يدركن بالكاد تعسف مصيرهن. لأنه، في جميع الأوقات، هو نفس السلوك المتداول والمتعارف عليه وبالتالي كان يبدو لهن كأنه مصير طبيعي. وبتعبير أدق، كن يجدن صعوبة في إدراك استغلالهن على هذا النحو، ولكي يتمكن من أن يقلن لأنفسهن "أنا مستغلَّة"، يجب عليهن أولا التفكير في مقارنة الأجر الذي يتلقيانه مع العمل المقدَّم. من الضروري أن يكن قادرات على الحساب بمنطق اقتصادي صارم. كان الأمر مستحيلا هنا، لأن الفتيات لم يتلقين أي أجر على عملهن. وغياب دفع الأجور مقابل أعمالهن منعهن من التفكير من منظور اقتصادي بحت، وبالتالي منعهن من إدراك استغلالهن.

لقد أدركت النّسَويات أن مؤسسة الأسرة تخفي كفاءة غامضة ورائعة؛ فالعمل الذي تنفذه هؤلاء الفتيات لا يُدرك أبدا وفقا لمنطق اقتصادي بحت. فهذه الخدمات التي هي اقتصادية بشكل موضوعي وتتم داخل هذه القرية (هنا عمل الفتيات)، تخضع تلقائيا لعملية تحويل حقيقية؛ فإنها تتحول إلى إشارات وإثباتات على الإخلاص أو المودة أو الحب. فإذا كانت مؤسسة الأسرة قد لعبت دورا أساسيا في هذا العنف الرمزي تجاه الفتيات الأصغر سنا، فإن عدم تقدير عملهن اقتصاديا هو إنكار اقتصادي بحد ذاته وهو الذي ساهم في عدم وعيهن بالاستغلال الاقتصادي الذي كن ضحاياه.

أما التأثير الأكثر تطرفا لاستغلالهن هو بقاؤهن عازبات. حُكم عليهن باستثمار كل المودة في خدمة الأخ أو الأخت البكر وأولادهم، لدرجة أنهن يهدين المال، في حالة حصلنا عليه من خلال عملهن عند أسر أخرى إلى أطفال إخوانهن البكر وذلك بكل عفوية وسرور. وهذا يعني مدى تهميشهن الاقتصادي وكذلك العاطفي.

وإذا كانت الأخوات الأصغر ينظرن إلى خضوعهن على أنه أمر بديهي وليس قيدا مفروضا، فذلك يرجع إلى أن نظام القرابة، الذي نظم علاقات القرابة العملية، قد نقش في ذهنهن وبعمق فكرة دونيتهن. كما أن القرية بكاملها تمارس هذا العنف الرمزي في الحياة اليومية. فالفتيات يلقين نفس المصير في كل العائلات، ويمكنهن التحقق من أن مصيرهن مصيرا طبيعيا، وأنه يتوافق مع ترتيب الأشياء في الواقع المعاش. يمكنهن أن يرون أن مصطلح "دولا" ويعني عبدة، كان يُستخدم وبسهولة للإشارة إلى الأخوات الأصغر سنا؛" i doula tis Ernia” " أي عبدة إرنيا.

من المفهوم، لاستئناف الاقتباس المقدم في البداية، أن الأخوات الأصغر سنا "مزودات بأنماط الإدراك والتقدير التي ستسمح لهن بإدراك الأوامر (تلك الخاصة بالأخت البكر على سبيل المثال) مدونة في موقف أو في خطاب وذلك لطاعتها". هذه الأنماط من الإدراك والتقدير، التي تم اكتسابها تدريجيا خلال عملية التنشئة الاجتماعية متعددة الأوجه، هي التي تجعل الأخت الصغرى في كل لحظة وفي كل موقف تعرف ما يجب عليها فعله لأختها البكر، حتى قبل ان تتفوه هذه الأخيرة بذلك.

وكما يقول الكثيرون وبورديو ايضا، فإن جميع المجتمعات التي تمر بعلاقات الهيمنة تميل إلى إضفاء الشرعية عليها من خلال تطبيعها وتأسيسها في الطبيعة. وكان هذا هو الحال أيضا في كارباثوس. كان يُعتقد ان الأخوات والإخوان الأصغر سنا هم (apospori) ؛ منتج السائل المنوي الجنسي ذي النوعية الرديئة.

في حالة العنف الرمزي، بحسب بورديو، كانت المشكلة الاجتماعية (ولكن السياسية أيضا) التي يتعين حلها هي: لماذا يوجد تمرد قليل في عالم ما زال يتسم بالكثير من عدم المساواة والظلم، كما يتضح من علاقات الهيمنة و| أو الاستغلال بين الطبقات الاجتماعية، بين الرجال والنساء، بين الأبناء البكر والأبناء الأصغر منهم سنا (في المجتمعات ذات الحقوق المكتسبة للأبناء البكر)، بين سكان الحضر والفلاحين، بين الملك والشعب، إلخ.

الجواب الأول على هذا السؤال: يمكن لمن هم في موقع مهيمِن استخدام القوة الجسدية البسيطة أو المسلحة لمنع أي تمرد. فإن الدولة في مجتمعاتنا (Weber) تحتكر الممارسة المشروعة للعنف الجسدي. نحن نعلم أنه ليس من غير المألوف أن تستخدمه لإخماد التمردات الاجتماعية وبالدم.

***

* أستاذ بجامعة ليون

المصدر

Bernard Vernier, «Violence Symbolique, Pierre Bourdieu», les champs de la critique, Colloque organisé par la BPI en actes, Bibliothèque Centre Pompidou, Paris, 2004. pp. 21-42

عصرنا الحالي هو عصر التعددية، لا توجد هناك طريقة واحدة لعمل الأشياء، وانما هناك عدة طرق، لاعقيدة واحدة وانما تنوّع، لا دين واحد صحيح وانما عدة أشكال من الايمان كلها ذات مشروعية متساوية. نحن نستطيع، ويجب ان نعيش حياتنا كما نرغب طبقا لأهدافنا وقيمنا الشخصية وضمن حدود واسعة.

هذه هي عقيدة العديد من الناس. لكن حتى لو وافقنا على هذا البيان في التنوع، هل هناك عدة طرق صحيحة للمنطق؟ هل الأمر متروك لنا في كيفية التفكير المنطقي؟ هل يمكننا التفكير بطريقة او باخرى اعتماداً على ميولنا ومزاجنا ومنظورنا؟

للإجابة على هذه الأسئلة يجب ان نكون واضحين حول ما يستلزمه التفكير. في لب التفكير يكمن المنطق، وهو الموضوع القديم قدم الفلسفة ذاتها، وأحد فروعها الرئيسية. ارسطو اخترع دراسة المنطق سنة 350 ق.م. هو قام بتنظيم نطاق من الحجج المنطقية أسماها القياس "syllogisms"، منها الشكل التالي:

جميع المؤثرون استعراضيون.

جميع الاستعراضيون بلا حياء.

لذلك: جميع المؤثرون هم بلا حياء.

في القياس أعلاه، تكون الجملتان الاولى والثانية هما مقدمة للحجة، والجملة الثالثة التي تأتي بعد كلمة "لذلك" هي استنتاج الحجة، والاستنتاج يتبع المقدمة ومرتبط بها بشكل وثيق. قد يقول قائل ان المثال أعلاه لم يضعه ارسطو، لكنه شكل من الحجة اعترف به ارسطو ووصفه.

ان دراسة القياس شغلت المنطقيين لعدة قرون. من الواضح ان ارسطو اعتقد ان هناك طريقة صحيحة وطريقة خاطئة للتفكير. مختلف انواع القياس التي ناقشها كانت في جوهر منطقه، وبالنسبة له، لا توجد هناك طريقتنان حول المنطق: اذا كنت تعتقد بالمقدمات، من الأحسن لك ان تعتقد بالإستنتاج. وكما ذكر ارسطو في عمله "التحليلات القبلية"، ان القياس هو شكل من الخطاب "جرى فيه افتراض اشياء معينة كـ "مقدمة"، سينتج عنها بالضرورة "استنتاج" وهو شيء مختلف عن الاشياء التي جرى افتراضها ".

لاحظنا ان ارسطو يقول ان الاستنتاج يجب ان يتبع من المقدمة بالضرورة. لا أحد حاليا من المؤلفين له اتصال مباشر مع ارسطو، لكننا متأكدون بثقة انه سيكون مصدوما بالاقتراح ان هناك اكثر من طريقة صحيحة واحدة للتفكير.

غير ان "التفكير" هو صنف واسع. انه يأتي بعدة أشكال، ليست جميعها منطقية. اذا كنت تعيش في ارض جافة كان فيها قليل من المطر في الشتاء، انت سوف تستنتج وبشكل معقول ان الجفاف سيتبع في الصيف القادم لو انه في الماضي جاء جفاف الصيف بعد شتاء جاف. لكن هذا الاستنتاج لا يتبع بالضرورة من المقدمة: الربيع قد يربك التوقعات ويكون رطبا. تفكيرك هنا لا يقدم سببا مؤكدا لا لبس فيه.

اذاً ما هو الشيء الخاص حول التفكير المنطقي؟ نحن نتفق مع العديد من الفلاسفة ان له علاقة بالشكل.

لنحاول التجربة التالية. لو وجدنا شخصا لا يعرف معنى كلمة "حافر"، بعد ذلك نسأله ما اذا كان في الحجة التالية يأتي الاستنتاج من المقدمتين:

جميع ذات الحوفرا ثدييات.

جميع الثدييات ذوات دم حار.

لذلك: جميع ذات الحوافر هي من ذوي الدم الحار.

هذه الحجة مألوفة لطلاب المنطق، ودائما يصلون الى نفس النتيجة. العديد من الطلاب لا يعرفون ما هي "ذات الحوافر" لكنهم جميعا يعترفون ان الحجة صالحة: اي ان الاستنتاج يتبع وبشكل وثيق من المقدمتين: أي اذا كان ما تقوله المقدمة صحيحا، عندئذ الاستنتاج يجب ان يكون صحيحا.

اذاً ماذا يبيّن هذا؟ انه يبيّن ان الصلاحية المنطقية تعتمد على الشكل.

لهذا، لكي نعترف بصلاحية الحجة، يجب ان نعترف انها تمتلك شكلا منطقيا صالحا، ولا نحتاج معرفة أي شيء آخر.

لذلك، فان المنطق هو شكلي. هو ايضا، وبالمعنى الدقيق للكلمة، ليس نظرية للتفكير. التفكير هو شيء ما نقوم به، اما المنطق هو حول ما تتبعه العبارات من اخرى غيرها. العلاقة المنطقية بين البيانات او العبارات تصمد (او لا تصمد) سواء أحببناها ام لا، المنطق ليس تعبيرا عن مركزية الانسان. وعندما نفكر جيدا، ينبغي ان نحترم مضامين المنطق. اذا كانت بعض المقدمات المعقولة تتضمن منطقيا استنتاجات غير معقولة، سيكون لدينا خيار: اما نقبل بالاستنتاج او نتخلى عن احدى المقدمات.

اذاً ماذا هو المنطق: انه شكلي، وهو متميز عن التفكير، حتى عندما يحاول التفكير الجيد احترام المنطق. الآن نعود الى سؤالنا الأصلي: هل هناك منطق واحد صحيح ام هناك أكثر من واحد؟

إمكانات منطقية

قد يبدو هذا سؤالا غريبا. كل واحد ربما سمع بالمنطق لكن ليس الكثير من المنطق. لنبدأ بالتفكير حول لماذا قد يكون هناك الكثير من المنطق. طلاب المنطق لا يتعلمون فقط حول ذوات الحوافر، هم ايضا يتعلمون مبادئ منطقية مختلفة مثيرة للجدل تسبب ارتباكا. احد المبادئ الذي لا يرغبون العمل به هو التكافؤ الثنائي bivalenc: وهي الفكرة بان كل جملة هي اما صحيحة او زائفة. هم يحتجون قائلين كلّا، لأن هناك عدد هائل من الأمثلة لاتدخل ضمن هذه الثنائية الصارمة. لو قال احد ان "فيلم قوة الكلب هو فيلم جميل"، بالتأكيد انه لم يقل شيئا صحيحا او زائفا، بل، انها مسألة رأي – ونفس الشيء بالنسبة لمسائل الذوق الاخرى، مثل "هذا بيرغر طيب المذاق". ربما اللغة الاخلاقية تسير بالضد من التكافؤ الثنائي. هل القول "إيذاء الكلب عمل خاطئ" هو قول صحيح ام زائف؟ ام انه بدلا من ذلك يعبّر فقط عن عدم موافقة المتكلم على إيذاء الكلب؟ اذا كان الامر هكذا، فالامر يبدو مرة اخرى وكأنه مسألة ذوق.

لو تمعنّا في أي من هذه الامثلة سوف نرى ان التكافؤ الثنائي لا يصمد دون استثناء. لكننا نريد المنطق ان يصمد دائما دون استثناء، ولهذا، التكافؤ الثنائي لا يمكن ان يكون مبدأ للمنطق. احدنا ربما يعتقد ان هناك طريقة ثالثة تكون فيها الجمل غير تلك الـ صحيحة و زائفة، وربما هناك طريقة رابعة او عدد لا متناهي من الطرق.

مهما كانت الطريقة التي نختارها، نحن نبني منطقا يتناسب مع حاجاتنا. كمبتدئين منطقيين، نحن سوف نتعلم ان التناقضات لا يمكن ان تكون صحيحة ابدا حتى عندما نعتقد ان السماء " تمطر وانها لا تمطر" كوصف معقول تماما للرذاذ. نحن سوف نتعلم ان التناقضات تنفجر وتتضمن أي شيء وكل شيء.

أول منطق يتعلمه كل شخص – والذي يتضمن كل هذه المبادئ المثيرة للخلاف – يسمى المنطق الكلاسيكي. الاسم يحمل شعبية عالية، اسم يضع هذا المنطق في مصاف المجموعة الراقية للموسيقى الكلاسيكية او الطبخ الفرنسي الكلاسيكي. لكن المؤيدين للمنطق غير الكلاسيكي سيكونون سعداء للتأكيد، انها ليس اكثر من مصادفة تاريخية انتهينا بالمنطق الذي لدينا. هم ربما يضيفون ان هناك عدة انواع من المنطق في السوق جميعها ترفض جزءاً من المنطق الكلاسيكي المشكوك فيه. أي واحد منها يجب ان نستعمل؟ ربما نستطيع استعمال جميعها، او على الاقل عدد منها. ربما نستطيع التفكير كلاسيكيا معظم الوقت، ولكن ليس كلاسيكيا عندما نشعر بالرغبة في عمل ما. هذا هو الخط الذي سلكه التعدديون المنطقيون. دعْ آلاف الزهور تتفتح، لا حاجة للاختيار من بينها.

لكن، موقف التعدديون المنطقيون هو موقف حساس. هم يريدون الجدال لرؤيتهم، لكن أي وسيلة يستعملون للقيام بهذا؟ الحجة هي، في النهاية، مجال المنطق، وما هو منطقي هو بالضبط ما هو قيد النقاش.

التعددية المنطقية والنسبية الاخلاقية

هذا الموقف ربما يبدو مألوفا. ذكرنا آنفا الإنكار المحتمل للحقائق الاخلاقية. ومع ان هناك عدة طرق لتطوير تلك الرؤية، لكن المسار الذي استعمله الكثيرون هو النسبية الاخلاقية، حيث وفقا لها تكون الادّعاءات الاخلاقية ليست صحيحة ابدا" من تلقاء ذاتها" – وانما انت يجب ان تحدد المعيار الفردي او الاخلاقي الذي بواسطته يمكن تقييم الادّعاء. انه ليس فقط "هذا او ذاك هو حقا صحيح او خطأ"، وانما "طبقا لهذه الثقافة او هذا الفرد، هذا او ذاك هو صحيح او خطأ". النسبية الاخلاقية تواجه عدة مشاكل، ولكن واحدة من أهمها هي انها تبدو تتجاهل ذاتها. انها تقول ان الادّعاءات الاخلاقية هي صحيحة فقط طبقا لثقافة معينة او فرد معين. لكن بيان النسبية الاخلاقية هو ذاته ادّعاء اخلاقي، وعالمي،ايضا. لذا هو صحيح فقط طبقا لبعض المعايير غير النسبية: ان النسبي الاخلاقي يريد من النسبية الاخلاقية ان تكون صحيحة بالمطلق، وليس فقط نسبية. هم يريدون وبإصرار القول ان "كل ادّعاء اخلاقي هو صحيح فقط طبقا لبعض المعايير النسبية، باستثناء هذا المعيار. لكن هذا نوع من الاحتيال.

ماذا يمكن ان نتعلم من قصة النسبية الأخلاقية هذه حول المنطق؟ نحن نرى موقف التعددية المنطقية مماثلا للنسبية الاخلاقية. التعددي المنطقي يعتقد ان موقفه صحيح وهو يريد اقناعنا بذات الشيء. لكن اذا اراد اقناعنا، هو سيحتاج الى تقديم حجة. وان تلك الحجة يجب ان تكون صحيحة. لكنه يقبل بالعديد من انواع المنطق، ويعتقد فقط ان الحجة صالحة قياسا للمنطق المُختار. لذا هو يحتاج القول: "كل حجة هي صالحة فقط طبقا لمنطق مختار، باستثناء حجة التعددية المنطقية". وهذا احتيال ايضا.

هذا التشابه ربما غير مدهش كثيرا. النسبية الاخلاقية توصف عادة كنوع من التعددية. النسبي الأخلاقي يريد ان يدع آلاف الزهور تتفتح. والتعددي المنطقي يوصف عادة كنوع من النسبي. هو يريد تقييم ما اذا كانت الحجة صالحة قياسا بمنطق أخلاقي معين. لذلك نحن نتوقع حججا ضد نظام منطقي معين لنجد ما يقابلها من الحجج ضد الآخر(والمسألة تُعمم لأشكال اخرى من النسبية/التعددية ايضا).

أين يقودنا هذا؟ اذا لم تكن التعددية المنطقية خيارا، عندئذ نحن يجب ان نختار واحدا من انواع المنطق، وندافع عنه باعتباره المنطق الصحيح. السؤال القادم: اذا كان هناك فقط منطق واحد صالح، فما هو؟ هذا السؤال ربما سيكون موضوعا ليوم آخر.

***

حاتم حميد محسن

...............

One logic or many? Philosophy Now, Feb/March 2023

 

يهدف هذا المقال إلى توضيح العلاقة الجدلية بين الهوية واللغة وكيف تساهم اللغة في إيجاد تلك العلاقة بينهما على اعتبار أنه لا هوية بدون لغة وإنتاج فكري ولا ثقافة بدون هوية، ولا حضارة بدون هوية ثقافية كونها ينبوع الحضارات (إن جاز لنا التعبير). بذلك ستنحصر مناقشتنا للأفكار المطروحة أعلاه من خلال تناول المفاهيم التالية والعلاقة القائمة بينها بالدراسة والتحليل، وهي كالآتي:

عرف مفهوم الهوية انتشاراً واسعاً، حيث اكتسح في وقت قصير العلوم الإنسانية وخاصةً الاجتماعية، وفرض نفسه في تحليل حقائق متنوعة. وعلى الرغم من ذلك، فإنه من الصعب أن تجد تعريفاً متوافقاً عليه لمفهوم الهوية. وقد أثبتت الدراسات السوسيولوجية من أن لكل جماعة أو أمة ما مجموعة من الخصائص والمميزات الاجتماعية، والنفسية، والمعيشية، والتاريخية المتماثلة، التي تعبّر عن كيان ينصهر فيه قوم منسجمون ومتشابهون بتأثير هذه الخصائص والميزات التي تجمعهم.

وفي حقيقة الأمر يعاني مفهوم الهوية من مشاكل عديدة، فمن صعوبة الحديث عن الهوية مثلاً، أنه حديث الذات عن نفسها. لذا فإن مشاعر الهوية مشاعر دفاعية ضد إرادة السحق التي يبديها الآخر، كذلك لا يمكن فصل الهوية عن الحركية الاجتماعية، وما يجري فيها من تدافع وصراع. وهنا تتداخل حدود الهوية والسلطة والإيديولوجيا. لكن السؤال الذي يطرح نفسه ما هي الهوية ؟

في البداية يجب أن نشير أن المقصود في هذا العنصر هو الهوية الثقافية لجماعة بشرية معينة، ذلك أن جوهر الهوية الجماعية هو الثقافة بذلك فإن الهوية الجماعية تستمد ملامح مقوماتها من ثقافة المجتمع على اعتبار أن الثقافة تشكل المجموع المنسجم والمستمر للمعاني والرموز المكتسبة المشتركة التي تعمل الجماعة على توصيلها وإعادة إنتاجها من خلال مختلف القنوات التي تنسجها من أجل هذه الغاية. أما عن مفهوم الهوية فهو لفظ تراثي قديم، معناه أن يكون الشيء هو هو وليس غيره، أي ليس له مقابل مما يدل على ثبات الهوية. وهو قائم على التطابق أو الاتساق في المنطق. وهو نقيض الغيرية وقد تكون الغيرية نسبية وليست كلية لتحدد انحراف الهوية. فإن هوية الشيء هي ثوابته، التي تتجدد لا تتغير، تتجلى وتفصح عن ذاتها، دون أن تخلي مكانها لنقيضها، طالما بقيت الذات على قيد الحياة.

ويشير المعنى العام للكلمة إلى الامتياز عن الغير، والمطابقة للنفس، أي خصوصية الذات، وما يتميز به الفرد أو المجتمع عن الأغيار من خصائص ومميزات، ومن قيم ومقومات. أي حقيقة الشيء المطلقة المشتملة على صفاته الجوهرية التي تميزه عن غيره وتسمى أيضاً وحدة الذات.

ومفهوم الهوية خاص بالإنسان والمجتمع، الفرد والجماعة، وهي موضوع إنساني خالص أي ظاهرة إنسانية، فالإنسان هو الذي ينقسم على نفسه، وهو الذي يشعر بالفارقة أو التعالي أو القسمة بين ما كائن وما ينبغي أن يكون، بين الواقع والمثال، وبين الحاضر والماضي، بين الحاضر والمستقبل. وهذا يعني أن الهوية هي إحساس الفرد أو الجماعة بالذات، إنها نتيجة وعي الذات، بأنني أو نحن نمتلك خصائص مميزة ككينونة تميزني عنك وتميزنا عنهم. فالطفل الجديد قد يمتلك هوية ما عند ولادته من خلال اسمه وجنسه وأبوته وأمومته ومواطنته، وهذه الأشياء في كل حال لا تصبح جزءاً من هويته حتى يعي الطفل نفسه بها.

وعلى الرغم من أن الهوية موضوع ميتافيزيقي فإنها مسألة نفسية وتجربة شعورية فالإنسان قد يتطابق مع نفسه أو ينحرف عنها في غيرها. الإنسان الواحد ينقسم إلى قسمين: هوية وغيرية، أو يشعر بالاغتراب إن مالت الهوية إلى غيرها أو انحرفت عن ذاتها. فالاغتراب لفظ فلسفي والانحراف لفظ نفسي. والهوية أن يكون الإنسان هو نفسه متطابقاً مع ذاته. والهوية خاصية للنفس لا للبدن، هي حالة نفسية وليست حالة بدنية.

يمكن لنا تعريف الهوية: بأنها الخصوصية والتميز عن الغير أو مجموعة من المميزات التي يمتلكها الأفراد، وتساهم في جعلهم يحققون صفة التفرد عن غيرهم، وقد تكون هذه المميزات مشتركة بين جماعة من الناس سواءً ضمن المجتمع. أو أنها كل شيءٍ مشترك بين أفراد مجموعة محددة، أو شريحة اجتماعية تساهم في بناء محيط عام لدولة ما، ويتم التعامل مع أولئك الأفراد وفقاً للهوية الخاصة بهم.

وفي النهاية يمكننا القول إن الهوية الثقافية والحضارية لأمة من الأمم، هي القدر الثابت، والجوهري، والمشترك من السمات والقسمات العامة، التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الحضارات، والتي تجعل للشخصية الوطنية طابعاً تتميز به عن الشخصيات الوطنية الأخرى.

وفي سياق الموضوع، يذهب علماء اللغويات إلى أن اللغة منظومة علامات أودعها مِراسُ الكلام في الجمهور المتكلم، وأن المنظومة اللغوية ناتجة عن تبلور اجتماعي، وأن الطبيعة الاجتماعية هي طابع داخلي للمنظومة، وإنه لا توجد حقيقة لسانية خارج الديمومة والجمهور المتكلم. وإن الزمن وحده يأذن للقوى الاجتماعية بممارسة تأثيراتها على اللغة.

تعتبر اللغة العامل الضروري الملازم لكل إنجاز تنموي، بما أنها موضوع للتعليم وللبحث، كما أنها ركن أساسي في كل مشروع اقتصادي فهي ليست مجرد أداة للتعبير يمكن أن نستبدل بها أي أداة تعبيرية أخرى. لذا فاللغة هي المعيار الحقيقي الذي يتشيد به الفكر ويستقيم.

ويجب أن نعلم قبل الدخول في خضم الموضوع عن علاقة الهوية باللغة أنه لا هوية بدون لغة وإنتاج فكري ولا ثقافة بدون هوية، ولا فكر بغير مؤسسات علمية متينة، ولا علم بغير حرية معرفية، ولا تواصل ولا تأثير إلا بلغة وطنية تضرب جذورها في التاريخ وتلبي حاجة الحاضر والمستقبل.

أما عن مفهوم اللغة فهي ظاهرة اجتماعية واصطلاحية بامتياز تستند إلى مكونين متلازمين، الأول حسي والثاني ذهني غير مادي. ويمكن لنا تعريف اللغة بأنها نسق من الإشارات والرموز، تشكل أداة من أدوات المعرفة، وتعتبر اللغة أهم وسائل التفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع في جميع ميادين الحياة. وبدون اللغة يتعذر نشاط الناس المعرفي. وترتبط اللغة بالتفكير ارتباطاً وثيقاً، فأفكار الإنسان تصاغ دوماً في قالب لغوي، حتى في حال تفكيره الباطن. أو هي عبارة عن رموز صوتية لها نظم متوافقة في التراكيب، والألفاظ، والأصوات، وتُستخدم من أجل الاتصال والتواصل الاجتماعي والفردي.

يؤكد خبراء العلوم الإنسانية أن ثمة أربع مسلمات أساسية ينبغي استحضارها عن عند معالجة مسألة اللغة، وهي كالآتي:

- اللغة وعاء الفكر وأداة التفكير.

- ووسيلة للتفاهم والتواصل الاجتماعي.

- وعنوان الهوية للفرد وللمجتمع.

- وترتبط اللغة بالثقافة والقيم الحضارية.

ولذلك تقوم اللغة بأربع وظائف أساسية بحسب العلماء المختصين في علم اللغة: فالأولى هي وظيفة التواصل مع الغير، والثانية هي وظيفة تمثل الكون لأنفسنا في عقولنا، والثالثة والرابعة هما الوظيفتان الوجدانية والأدائية، وهما مرتبطتان بالبحث عن تأويل المعنى، بحسب السياق ومقام الخطاب، ومن ثم، فإن اللغة لا تقتصر على التواصل بين البشر فحسب، وإنما تشكل أساس الوجود الإنساني، إنها تشكل القانون الأول الذي يفرض نفسه على كل فرد داخل المجتمع خلال عملية التنشئة الاجتماعية التي تقوده إلى الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة. وعبر اللغة والثقافة، يتبادل الخضوع للقانون، مقابل الحصول على الهوية في إطار علاقة الجزء بالكل.

بذلك تكون اللغة هي من ولّدت الهوية، لأنها تجرد عالم التجربة إلى كلمات والالتقاء باللغة يجعلنا نتعالى عن التجربة الآنية، وما يمكننا من تشكيل تصور للذات. فالهوية مسألة لغوية في جذورها، ولذلك تُفهم ظاهرة الهوية بوصفها ظاهرة لغوية.

إن اللغة هي الأساس الذي يقوم على مِخْيَال الأمة، ومن هذا الجانب نفهم أهمية اللغة المعيارية، وضوابط التأويل في لغة الخطاب، وهكذا، فإن المنظومة اللغوية هي بمنزلة بيت الكائن البشري، فيها ينظم أمور معاشه، ويخزن رموزه وثرواته. إنها تؤويه وتحفظ أسراره. ومن مشكاتها يرى العالم ويدركه. وهذا جعل الأديب الفرنسي ألبيرمو كامو، إلى أن يقول نعم لي وطن، إنه اللغة الفرنسية. ويقول الألماني هيدجر إن لغتي هي مسكني، هي موطني ومستقري، هي حدود عالمي الحميم ومعالمه وتضاريسه، ومن نوافذها ومن خلال عيونها انظر إلى بقية أرجاء الكون.

ولا شك اليوم في أن الصلة وثيقة بين الهوية واللغة، وإن كان الجدل قائماً حول طريقة تبادل التأثير. فالمشكلة لا تكمن في ارتباط الهوية باللغة بحد ذاتها، بل تكمن في التعامل مع طريق ذات اتجاهين كما لو كانت طريقاً واحداً، فهناك من العلماء سخر كل اهتمامهم لمعالجة الكيفية التي يجري بها تشكيل اللغات الوطنية للهويات الوطنية. ولم يهتموا قط بكيف تشكل الهويات القومية. وهو ما تقوم به في الواقع بشكل عميق.

ولذلك لا توجد لغة محايدة، وكل لغة لقيم، وحامل لروح، فهي وسيلتنا لفهم العالم وتمثيله في أذهاننا وللتواصل مع الآخرين. وبقدر تعدد اللغات تتعدد تمثلاتنا للوجود. إن اللغة تنظم طريق حياة الجماعات والأفراد وتشكل عاداتها أسس العالم الواقعي، فنحن نرى ونسمع ونعبّر بالشكل الذي نرى ونسمع ونعبر به لأن عادات الجماعات اللغوية قد هيأت لنا سلفاً اختيارات معينة في التفسير. وهذه العادات تختلف من جماعة لأخرى، وما من أمة إلا وتتكلم بالشكل الذي تفكر به، وتفكر بالشكل الذي تتكلم به. فهي ترسخ تجاربها في لغتها، بما في ذلك التجارب الحقيقة والتجارب الخاطئة التي تنقلها إلى الأجيال اللاحقة.

وباللغة أيضاً يدوم المتخيَّل الجماعي، وتصاغ المؤسسات قبل أن تترجم إلى سلوكيات، ويُنقل المعيش اليومي أو يصاغ شفهياً أو كتابياً، أو يتخذ موضوعاً للتأمل أو ينقل كما هو، بوصفه شكلاً من الفكر المقولب. كذلك في التنشئة الاجتماعية للطفل، وتُنقل الظاهر الثقافية داخل الأشكال اللغوية الموافق عليها من قبل الجماعة. وهكذا فإن اللغة تكيف المواقف، وتعد سلفاً الأفراد والجماعات للفعل ولرد الفعل، وللتفكير بطريقة محددة.

واللغة هي التي تنتقل الأفراد من جماعة بشرية إلى مجموعة ثقافية، وهذا على وجه التمحيص يعني أن الرابطة اللغوية أقوى من الرابطة السياسية، لأن الجماعة البشرية إذا ترابطت سياسياً كونت مجموعة وطينة، وهذا لا يقضي بالضرورة إلى التجانس الثقافي قد قام فعلاً بين أفراد المجموعة بمجرد الانضواء تحت الرابطة السياسية الواحدة. والتاريخ القديم ومنه المعاصر والحديث مليء بالشواهد الدالة، ويكفي أن نتبين كيف انفلقت كيانات سياسية كان يُظن أنها التحمت بمجرد انصهارها في سياج الدولة السياسية. ولكن سلطة الثقافة كانت أقوى فتفتت المنظومة إلى أثنية ثقافية شأن ما حصل في يوغسلافيا، وفي تشيكوسلوفاكيا، وفي ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي. أما الشاهد المضاد والذي يبرهن على أن السياسة والاقتصاد والإيديولوجيا هي جميعاً أضعف من الثقافة المتجانسة ومن اللغة المشتركة ومن التراث الفكري الواحد فهو توحد ألمانيا بعد سقوط جدار برلين.

أما فيما يتعلق بالهوية الإسلامية نجد أنها هوية متميزة عن غيرها تمتلك مقومات وجودها والحفاظ على ثقافتها وخصوصيتها. ومن الجدير بالذكر أن الهوية الإسلامية تستوعب حياة المسلم كلها وكل مظاهر شخصيته فهي تامة الموضوع محددة المعالم والملامح، بالإضافة إلى إنها واضحة الهدف والغاية، فهي تمتلك مقومات وجودها وبقائها، وتنحصر تلك المقومات باختصار شديد بالعقيد الإسلامية كمرجع أو مصدر أساسي لمختلف شعوب وقوميات وأمم العالم الأخرى الداخلة بالدين الإسلامي، بالإضافة إلى اللغة العربية لغة القرآن الكريم التي تعتبر عامل يجمع ويشمل جميع المسلمين على اختلاف قومياتهم وأعراقهم فكل مسلم عربي بالضرورة فلا يحتاج المسلم لأن يكون عربياً في النسب حتى تكتمل عروبته في نظر الإسلام، كما يلعب التاريخ المشترك، والتراث الحضاري ( الذي ينحدر من خصائص أمة من الأمم المتفاعلة مع البيئة التي نشأت فيها ) دوراً أساسياً في تحديد ملامح تلك الهوية، مما يشكل الوحدة الثقافية المشتركة بين أبناء الأمة الإسلامية النابعة من المقومات الأربعة السابقة، وأخيراً التكوين النفسي المشترك (الأخلاق، العادات والتقاليد، المشاعر، والأحاسيس، والأعياد، ومناسبات الأفراح والأحزان، ... إلخ) التي كان للدين الإسلامي الفضل والدور الأعظم في تشكيلها وصقلها وتهذيبها.

وهكذا نجد أن الهوية الحضارية لأمة من الأمم هي القدر الثابت والجوهري والمشترك من السمات العامة التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الأمم والحضارات، حيث تعتبر اللغة بعد العقيد الدينية بطبيعة الحال المكون الهام والمفصلي للهوية الثقافية والحضارية، فهذه تكاد تكون بديهية، لأن اللغة ثقافة وحضارة وليست فقط أداة تواصل، إنها ليست مجرد أداة للفكر، بل هي الفكر ذاته وهي مرشحة بالتالي لأن تشكل إحدى أهم الهويات للفرد المعاصر المتعدد الهويات، بل إن الهويات الأخرى تصاغ بواسطتها.

ختاماً، نقر بوجود علاقة وثيقة بين الهوية والثقافة، بحيث يتعذر الفصل بينهما، إذ إن ما من هوية إلا وتختزل ثقافة، وقد تتعدد الثقافات في الهوية الواحدة، كما أنه قد تتنوع الهويات في الثقافة الواحدة، وذلك ما يعبَّر عنه بالتنوع في إطار الوحدة، فقد تنتمي هوية شعب من الشعوب إلى ثقافات متعددة، تمتزج عناصرها، وتتلاقح مكوناتها، فتتبلور في هوية واحدة، وعلى سبيل المثال، فإن الهوية الإسلامية تتشكل من ثقافات الشعوب والأمم التي دخلها الإسلام سواء اعتنقته أو بقيت على عقائدها التي كانت تؤمن بها، فهذه الثقافات التي امتزجت بالثقافة العربية الإسلامية وتلاقحت معها، العربية الإسلامية، فهي جماع هويات الأمم والشعوب التي انضوت تحت لواء الحضارة العربية الإسلامية، وهي بذلك هوية إنسانية، متفتحة، وغير منغلقة.

كما تجسد العلاقة بين الهوية والثقافة، علاقة الذات بالإنتاج الثقافي، ولا شك أن أي إنتاج ثقافي لا يتم في غياب ذات مفكرة، دون الخوض في الجدال الذي يذهب إلى أسبقية الذات على موضوع الاتجاه العقلاني المثالي، أو الذي يجعل الموضوع أسبق من الذات، وإن كل ما في الذهن هو نتيجة ما تحمله الحواس وتخطه على تلك الصفحة (ذهن الإنسان) كما يذهب لوك، والاتجاه التجريبي بشكل عام.

خلاصة القول، إن الذات المفكرة تقوم بدور كبير في إنتاج الثقافة، وتحديد نوعها وأهدافها وهويتها في كل مجتمع إنساني وفي كل عصر من العصور، وبناءً على ما سبق فإنه يصعب أن نجد تعريفاً جامعاً مانعاً لمفهوم الهوية الثقافية، فالهوية الثقافية تختلف من مجتمع إلى آخر ومن عصر إلى عصر، كما تختلف باختلاف التوجهات الفكرية والإيديولوجية لمنتجي الثقافة.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

 

لقد عبر الفلاسفة اليونانيين القدماء، مثل هيراقليطس ربط الزمن بالمكان، والتفسير على أنهما واحد يعرف الأخر، وهنا قد يحدث خلط بين الزمن والزمان، اذا فسر المكان الزمن وحدث العكس، واما ارسطو في كتابه الرابع – فيزياء ارسطو- قد واجد تعريفا للزمن على أنه عدد من التغيرات، والتي تستوجب الأخذ بالاعتبار حالة الزمن قبل وبعد تلك التغيرات، وبعد التطورات وطروحات المثالية عند كانت والوجودية وما تلاهما من تفكير فلسفي مؤطر بالعلم، وليس محض فلسفة، وقد قدم غاستون باشلار دراسة مهمة في تفسير وتحليل بنية الزمن فلسفيا ونفسيا، فصارت العلاقة بين الأنسان والزمن بوجهة نظر معاصرة، واصبح هنا ثمة علاقة في اطار التأثر والتأثير بشكل متبادل بين الإنسان و وحدة الزمن، ودخلت تلك الوحدة في الحاجة الإنسانية الملحة، وخصوصا في الالكترونيات،

حسب التقديرات العلمية الحديثة شكل عامل اختصار الزمن حالة مرعبة من جهة القلق الإنساني، حيث كانت قد ادت ادنى نسبة من اختصار الزمن في السلاح الذري الى ابادة مدينة واخرى من مدن اليابان، وفي ذات السياق اشار احد العلماء، بأن اختصار الزمن بنسبة تقارب عشرة بالمائة تكفي لإبادة ثلثي العالم، ومن تأتي الخشية الإنسانية الكبرى، والتي هي منحسرة في حدود الثقافة الاخلاقية، ومعطيات المنهج العلمي بذات مجال تلك الثقافة الاخلاقية، واذا كان العالم قد انحرف بالتدريج عن الحقيقة من خلال ما اتاحت له ما بعد الحداثة، ففقد الخصمان هيبتهما، واصبحت كل من الرأسمالية والشيوعية في وضع هش وخالي من الرصانة، وساعد ايضا في توسيع تلك الهشاشة التحولات التي مرت بها الكنيسة من تطورات ليبرالية داخل المضمون الاجتماعي، وكان ذلك من جهة، واما الجهة الاخرى فقد مثل التخلي عن القيم السمحاء للدين الاسلامي احد المخاوف الكبرى، وتحول ذلك الدين السمح الى غول سياسي يقصي من يقف بالجهة المقابلة، وصراحة وضع العالم في السنين التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، اصبحت الحياة بصورة اخرى معيبة جدا، وصراحة صار هناك نوع من الفراغ الهائل في المستوى الجوهري .

هناك دراسة مقارنة ما بين المكون الاجتماعي في كوريا الجنوبية والمكون الاجتماعي في ارمينيا، وكانت النتائج تشير الى فارق كبير لدخل الفرد في كوريا الجنوبية مقارنة بالرفد في ارمينيا، لكن نسب الانتحار في كوريا الجنوبية تفوق كثيرا نسب الانتحار بأرمينيا، وهذا المثال بدلالة مهمة، فنحن نشعر بأن مساحة الخواء الروحي تتعاظم، ويعني هذا بأن جوهرنا الإنساني قد مر بمرحلة الخطر الحقيقي، وفارق كبير ما بين زمن الخواء الجوهري وما بين زمن الاستعداد النفسي، وتلك القضية تشكل خطورة واهمية، فهي ( رؤية روحية تغير الواقع وتسمح بتفهمه بعد تجاوز مظاهره)1، وبصراحة نحن نضع جل اهتمامنا على الواقع العضوي وتعددات افاقه، فيما جوهرنا الإنساني مهمل الى حد ما، فيما من الضروري جدا وجود نوع من التوازن ما بين المظهر والجوهر، ونحن نثير احد الأسئلة بغاية معرفية، فقد اشار التاريخ الى وجود ناس في لندن يذهبون الى البحر وينتظرون المخلص الروحي، وطبعا هذا ليس على المستوى الديني، بل على المستوى الإنساني، وصراحة الدين لا يحتاج دعم منا بقدر ما يحتاج منا دعم انفسنا، وعلاج الخواء لابد من سبيل اليه .

إن صورة ما سرد المعنى قد تكون صراحة ضيقة جدا في تفسير الزمن، وهنا نحصر مقصدنا في ما نسميه الفضاء الفيزا حسي، والذي نحتاج منا مراجعة لظروفنا وحياتنا واحوالنا، حتى نبلغ ادراك فكرة مهمة ازاء الزمن، حيث هناك وحدة زمن كامنة في تلك الصورة، وأخرى بانه عبر فعل الزمن، زمن العالم، وهو في السياق التقليدي يكون زمنا ثابتا بمراحل التتابع الحركي (زمن فيزيائي)، وهذا الزمن مرتبط بالثبوتيات، مثل المكان المحدد وطبيعة الحياة المعتادة، حيث لا يتغير إن قربناه إلى كيان معمارية الحدث داخليا أو خارجيا، ويبقى زمنه متمثلا بفيزيائيته، والبشرية أيضا في ارتباط حركتهم وأفعالهم وأمكنة وظائفهم أو ما يماثل ذلك، وهنا يكون العامل البشري وحدات فيزيائية تتحرك عبر فعل السرد المحدد وحدة الزمن، لكن ثمة زمن اخرى هو ذلك الكامن في الصورة وعلينا اكتشافه والتقرب من مقومات وابعاد ذلك الزمن، الذي هو كامن في تفسيرنا العضوي، لكن على العكس من ذلك، وكما الارض نبصرها ثابتة وهي تتحرك وتدور .

أن التنويعات الزمنية لم تدرس في المناهج الاخلاقية بشكل يثير الاهتمام والتوضيح المفيد بشكل عام، وبقيت تلك التنويعات محصورة في التفسيرات الفلسفية، والتي تحتمل القبول النسبي، او الرد النسبي من اطرافها، فروح التعارض الأفلاطوني موجودة بشكل واضح لدا الفلاسفة في جميع العصور، وقد تطورت مقولات فلسفية في اطر دراسة تلك التنويعات الفلسفية، فمن ارسطو والى اليوم نشهد تدفق مقولات فلسفية، وقلما شهدنا متن منهجي متكامل، قد درس عنصر الزمن دراسة علمية ومعرفية، والعالم في اختلاف الزمن بشكل موضوعة اخرى، وينحرف عن المسار العام للتفسير، ومشكلة العالم في ذلك الخواء الزمني التاريخي، والحياة تشاركه ايضا في الشكل المنطقي الخالص، والبعد الموضوعي الاعتباري، وبالأداء الذي يفيد اكثر من طبقة او مذهب خاص، وتتوسع تدريجيا لتبلغ ضفة العموم، ولابد للخواء الروحي من علاج، ولا نقول هو بذات الطعم الذي استساغه سقراط بإرادته، ونحن في افقنا البشري ننجح في تحقيق ما تنتخبه انفسنا، ونفشل تماما في معالجة الثغرة الكبيرة الواسعة، والتي تتفاقم اكثر فأكثر .

نحن لا نفكر بصدق بقاعدة الزمن، والفارق بيننا وبين مثال العالم الارجح في وحدة الزمن، فكيف يمكن أن نقف قبالة من يخترق الزمن، ونحن لا نمتلك ادنى قدرة لذلك، وكما أننا ابدا لا نستطيع ذلك، بل ليس هناك أي دافع غريزي لذلك، وهناك اهمال واقعي كبير لما نشعر به من خواء جوهري، ومن منا استطاع التخلي عن نفسه وغريزته لمعناه الحس انسانيا وجوهره النبيل، ، ومن اجل تفسير افق الزمن اوضح، نعود في افق التاريخ نحو حادثة، تعطينا تفسير مهم ازاء الزمن، ودلالة في حادث عاشه النبي محمد ذلك عندما ارادت زوجة النبي أن تمنطقه أي تشد له حزامه، فأتى الحزام بيدها فبهتت، فقال لها النبي الم تعلمي أني من نور، ونحن لا ننظر لتلك الحادثة من افق ديني عقائدي، بل نريد التلميح الى قضية الفارق الزمني، فمن منا يشد حزامه ولا يثبت الحزام في مكانه تماما، والزمن بوصفه احد امثلة التي خارج التسلسل في السيرورة، فهو يكتسب تلك الصفة ويمكن أن يكون فيها النبي من نور، ويتحرك بسرعة الضوء، ويمكن أن يتحرك مثلتا بشريا .

يشكل تفسير فلسفة الزمن للدين من الجانب الفكري ذلك الامر المعقد بنسب معينة، لكن الجهة المقابلة هناك الشواهد العصيبة على العقل والتاريخ، لكن هي حقائق معنوية جديرة، فقد ورد في النص القرآني كيفية حالة الاسراء التي مر بها النبي، فكانت رحلة عبر اختصار الزمن والتاريخ والمعنى، وهكذا خطاب يحتاج الى عقل جدير ليفسره، فالنص ازاح الواقع العلمي، ودخل في ما وراء الواقع والعقل، لكن ذلك السفر عبر اختصار الزمن يمتلك اوقع من جهة وهي ذات النبي، فيما يمتلك معنى فوقيا احتوى ذلك الواقع الذي تمثلت فيه ذات النبي، ويمكن تفسير وحدة الزمن بأنها مرت فيما لا يمكن تفسيره الا من داخل متن النص، فالمكان ليس بمكان والزمان لا هو بزمان، واذا كانت سدرة المنتهى هي الدليل على المكان، فالمكان لا يوجد في الخاطر البشري، والتأسيس له لابد أن يكون معادلا له، ونحن هنا لسنا ضد تحجيم النص دينيا، وايضا لسنا مع ذلك الرفض الايديولوجي، وعلى العقل استيعاب الفكرة معرفيا وامتلاك الجدارة لأجلها ايضا .

من الطبيعي ثمة فلسفة للزمن اقتربت منها الخرافة والاسطورة، وقد ابتعد عنها كثير الواقع العضوي، بل حتى تنكر لها المنهج العلمي بنسب واضحة، لكن التاريخ لا يمكن أن ينكر او يلغي مروره بالكثير من الحوادث التي تمثل احد وجوه الخرافة او الاسطورة القديمة، ونجن نفرق بين الاسطورة القديمة والاسطورة الحديثة وهذا امر لا بد منه، فالعقل لا يتبع الظواهر دون تحديد وتعيين لها، نحن قد فصلنا ما بين اسطورة تنتمي الى عالم الخرافة، واسطورة تنتمي الى عالم الحقيقة، وصراحة مسألة التحديد ترتبط بالعقل اكثر مما هي ترتبط بالواقع، ولا نقف عند الحقيقة الشكلية فقط، فتلك الحقيقة تمثل نفسها ولا تمثل الحقيقة الكلية، ولابد بأن نفهم موقع العقل الجدير هو في جوهره، لذلك نجد ( بأنه يبحث في داخل نفسه، داخل افكاره، وخارج العالم )2، ولابد من فهم ذلك الترجيح وادراك اهميته في المنهج العلمي، ولابد من اعتراف العلم بمهمة العقل حتى لو كانت شاقة، فلولا العقل لما وجد العلم، ولولا الفلسفة ما ادرك العلم قيمة الزمن .

نحن لا نتفكر مليا بصيغ الزمن، ولا نعلم اذا قدر لنا اختصار الزمن نكون قد دخلنا في فضاء اللاممكن، فزوجة النبي التي اتى الحزام بيدها بقت في دهشة واستغراب، وذلك كون عقلها في حدود الممكن، والنبي الذي في السفر عبر الزمن في عالم الاسراء عبر حواجز الممكن، بل حتى غير الممكن ايضا اصبح منطقة سابقة، والعالم السفلي انتهى وجوده بالنسبة للنبي حين تجلى له العالم العلوي، ومر بسدرة المنتهى، أي ينتهي عندها العالم الفيزيائي، ولن يمتلك احد ولو جزء من تلك الطاقة التي توفرت للنبي عبر ارادة الخالق، وفكرة تقابل الممكن واللاممكن في الفلسفة مقبولة، ونعتقد اخر ما طرحه هيدغر من امكان وجود للاممكن في خانة الامكان، فما من عقل بشري لا يستمد ابدا من وراء العقل، وعدم الاستعانة بما وراء العقل يدل على وجود عقل كامل، وهذا يتنافى مع الحقيقة المرتبطة بتلك الفكرة، فالمعتقد الايديولوجي يعارض ما يتنافى معه، وهذا اخلا في المبدأ، ونحن نحتاج علمانية ليبرالية وليست ستالينية، وايضا نحتاج اسلام ليبرالي، ونقف ضد الاسلام المسلح، ونحن نتحدث على مستوى النظرية والموضوع، ولا نتحدث على مستوى الايديولوجيا، والعقل الحر يحاور جميع الجبهات، وعليها القبول بالحوار .

تشكل فلسفة اختصار الزمن احد المعضلات التي تواجه العقل البشري، ولكن هي تعمل لصالح التفكير المباشر للبشرية، والوجود البشري لو تحكم بوحدة الزمن لحدث مشاكل كثيرة، ولدينا دليل تاريخي مؤلم في حقيقة تفسيره، فعندما طلبت امريكا من انشتاين معالجة اثر القنبلة النووية، ففكر بمحاولة اختصار الزمن، لكي يكون الاثر معكوسا، وفعلا تم ذلك بنسب ضئيلة جدا، ونعتقد اثر ضرب المدن

اليابانية لا زال الى اليوم، وكما هناك دلائل على استخدام اليورانيوم المخصب في اسلحة بشرية، وذلك من الممكن أن يخلق اثارا لعينة، ويزيد من حالات الاصابة، وهذا خارج اطار الزمن يحيلنا الى فكرة ترى بأن العالم دخل في صراع مع نفسه، بعدما وجد بأن التطور غير نافع الا في نفسه، وقد حاولت الرأسمالية أن تعيد نفسها، لكن قد اصبحت تلك العجوز التي لا تستطيع أن تعين نفسها، وظهور البديل المعارض، من خلال ما جرى من فرض سياسة دينية، هي تتنافى مع الدين نفسه، فالدين موضوع مسالم اصلا، ويشير الى التوجه للسلم اذا جنح له الخصم، ويعول على الحكمة، والخطاب العسكري في القرآن ليس عاما، بل يخص كفار مكة ومن حولها، وقد اشر القرآن الى ذلك، ومسألة مفهوم – الكافر- بدعة سياسية ولا تتصل بالدين ابدا، ونعود الى رغما عنا الى مشكلة الزمن، فالحدود الزانية التي قبل القرآن مواجهتها عسكريا هي في حدود ام القرى ومن حولها .

الدين والزمن علاقتهما كما علاقة الدين والزمان، فالدين موضوعات يدخل فيها التعدد الزمني موضوعة وفي افق الواقع، فالصلاة موضوع عقائدي، لكن هناك تفصيلات زمنية، وقد اشار برنارد شو الى ذلك قبل قرن، فموضوعة الصلاة فيها تفصيلات عدة وابعاد رياضية في الاداء تدل على وجود تعدد للوحدات الزمنية، مثلما يوجد لجلوس عائلة لمائدة الطعام وجود عدة وجدات زمنية، وكذلك كما يوجد للسفر في طائرة وجود عدة وحدات زمنية، فزمن جلوس المسافر منفصل عن زمن الطائرة وهي محلقة في الجو، ولا يمكن أن تتداخل وحدات الزمن تلك ابدا، وتداخلها يعني حدوث كارثة محتملة، ومن الطبيعي ثمة فارق ما بين زمن الكتروني وزمن بشري، وليس بالهين ذلك الفارق، وكشف الفارق ايضا ليس بالسهل، لكن لابد أن نشير الى التصنيفات الزمنية المختلفة، فوحدة الزمن البشري هي عضوية، فيما وحدة زمن الية الطائرة هي الكترونية، وطبيعي لوحدة زمن الطائرة وجود نظام ثابت يقارب الى حد ما ثبات وحدة الزمن البشري من جهة لافق العام، لكن كلاهما يمكن أن يدخل في تطورات زمنية، فمثلا يواجه الراكب فجأة انخفاض ضغطه الى اعلى المستويات، وهذا سيخرجه عن طبيعة زمنه العام، وكذلك الطائرة في لحظة النزول والتوقف، تخرج عن تلك الطبيعة الزمنية، والزمن الثابت من الممكن أن يختلف باختلاف شدة المؤثر .  

***

محمد يونس محمد

....................

1- واقعية بلا ضفاف – روجيه غارودي – ت حليم طوسون – دار الكتاب العربي للطباعة والنشر – ص 211

2- المرئي واللامرئي – موريس ميلو بونتي – ترجمة د سعاد محمد خضر – دار الشؤون الثقافية - 56

بعض مما نعرفه أو لا نعرفه عن جون بول سارتر وسيمون دي بوفوار (2)

إعداد وتحرير وتأليف وترجمة د. جواد بشارة

تعليقات بخصوص كتاب سارتر الكينونة والعدم

الخلفيات المعرفية في دواخل العقل السارتري:

كنت أقرأ كل ما يقع بين يدي عن سارتر أو ما ينشره سارتر من كتب وأبحاث ودراسات ومقالات وقمت بمحاولة جريئة بقراءة تفكيكية وتأويلية لمنجزه الأساس وهو الكينونة والعدم بعد أن تمكنت من اللغة الفرنسية وقرأته بلغته الأصلية . ثم طلبت موعداً من سارتر في أواخر أيامه قبل وفاته بأشهر قليلة وكان متعباً لكنه لم يرفض طلبي فزرته في مقر استراحته وقدمت له النصوص التي كتبتها كتعليقات وتفسيرات لبعض مما فهمته من أطروحته الفلسفية بعد أن كنت أستمد معرفتي ومعلوماتي من النص المترجم لكتاب الكينونة العدم والذي ترجمه عبد الرحمن بدوي بعنوان الوجود والعدم. وبعد أقل من أسبوع تلقيت مكالمة هاتفية منه يطلب مني أن أستمر في هذه القراءة وأن أعد منها كتاباً سيسعى هو شخصياً لنشره. كثيرًا ما تُقرأ أوصاف وجهة نظر سارتر للوعي كما لو أن الكاتب قد قفز من فصل "سوء النية" في الجزء الأول إلى فصل "العلاقات الملموسة مع الآخرين" في نهاية الجزء الثالث. هذه القفزة تهرب من الفصل الصعب المعنون بالتسامي"Tran scendence" في الجزء الثاني وتفوت فرصة التمعن في الفصل الحاسم " الجسد" "The Body" في منتصف الجزء الثالث. علاوة على ذلك، نظرًا لمنهج سارتر الصعب والمختلف انطلاقًا من المجرد إلى الملموس، فإن مجرد حقيقة أن الوجود والعدم تنتهي بتوضيح فعل "الوجود" "و .. الفعل والامتلاك" نجد هنا أن سارتر لا يعتبر أوصافه للوعي والحرية ملموسة حتى رسم طريقة تصرفنا وسلوكنا. ولكن حتى العبارة المستخدمة يجب أن تكون مؤهلة. يعتبر سارتر أن الوصف الأنطولوجي الكامل مكرر، في نص مخادع أوسع، مجرد أو تجريدي، لأنه لا يأخذ في الاعتبار البعد الأخلاقي للوجود البشري. في الوجود أو الكينونة والعدم، يؤكد سارتر أن الأنطولوجيا تصف "الكينونة" وليس "ما ينبغي" حيال الأفعال البشرية.

احتفظ بهذه الملاحظات القليلة ضمن النطاق الأصلي للتعليق، ولم يحاول شخص واحد إصدار حكم عام على الوجود والعدم ولا اعتبار أي تطور فلسفي لاحق لفكر سارتر. أعتقد أن هذا الأخير لن يكون هو القضية سوى من أجل تشتيت الانتباه إلى أول من يقترب من دراسة الوجود والعدم؛ يؤمن ايضا. أن المراحل اللاحقة من فكر سارتر، وتحديداً ماركسيته الفريدة على النحو الوارد في " النقد الديالكتيكي للعقل Critique dialectale de la raison،، لا يمكن فهمها إلا بعد فهم الأنطولوجيا الخاصة به أولاً.

ومع ذلك، يجب أن يقال شيء عن الإطار العام الذي قدم فيه الوجود لأول مرة. من المثير للاهتمام أنه لا سارتر ولا هيدغر كانا قادرين على إكمال برنامجهما الفلسفي كما كان مخططًا له في البداية. حيث تم تقديم الكينونة والزمن لهيدغر لأول مرة على أنه جزء فقط من دراسة ظواهرية حول مسألة الكينونة، وتم تقديم سارتر للوجود والعدم بدراسة عن الأخلاق. إن فشلهم في الاستمرار في مخططاتهم هو، كما أعتقد، شهادة على صدق نهجهم في الفلسفة الظواهرية ؛ في نهاية دراساتهم المبكرة "رأوا" العالم بشكل مختلف وتعلموا ما يكفي من أوصافه الخاصة لدرجة أنهم لم يتمكنوا من الاستمرار في نهجهم النموذجي المصمم مسبقًا.

الحكم على عمل فلسفي هو في حد ذاته جائزة دخول للفلسفة حيث لا تتمثل المهمة فقط في تأكيد أو إنكار بعض العبارات التي تلخص ظاهريًا موقفًا فلسفيًا، بل الدخول في حوار يفترض مسبقًا معرفة شاملة بالنص نفسه . ".

عانى فهم فكر سارتر سريعًا أحكام وملخصات قصيرة. إذا تم تقديم الوجود والعدم كعمل متكامل، فإن الأنطولوجيا الظواهراتية لسارتر يُنظر إليها على أنها غنية وعميقة وفريدة من نوعها: غنية في تحديدها للجوانب الظرفية لأفعالنا الحرة ؛ عميقة في طريقة تركيزها على جسم الإنسان، الذي يعرّف العالم ويحدده ؛ وفريدة من نوعها في تاريخ الفلسفة. في محاولتها لتمديد المحدود لتوفير صورة كاملة للوجود. ولكن ربما يكون أهم جانب في فكر سارتر بالنسبة لجيلنا هو قدرته على التخلص من خداعنا الذاتي وخداع الذات على نحو عام. دعنا نقبل التشكيل الحر لذواتنا وبيئتنا. إذا أخذ تفكيرنا في الحالة الإنسانية فلسفة سارتر في الحسبان، فلن نغفل أبدًا عن مسؤوليتنا في تحويل أرضنا إلى كوكب تتجسد فيه حرية كل إنسان في بيئته. يؤكد روبرت دينون كومينغ، في مقدمته الممتازة لمختاراته من فلسفة جان بول سارتر، معقولية الحكم القائل بأن سارتر هو "الفيلسوف الوحيد لدينا". قد تكون ملاحظة كومينغ باهظة، لكنها إسراف لا يأتي في توقيت سيئ ولا بلا سبب على الإطلاق.

حاولت حتى الآن تجنب المقاربة الخجولة؛ لكن على الرغم من أن النهج الاعتذاري ليس فلسفيًا أبدًا، إلا أنه ليس دائمًا غير مبرر. ويتطلب ثقل الكثير من الأدبيات الثانوية فيما يتعلق بالوجود والعدم لإحداث بعض التوازن، ففي كثير من الأحيان تؤكد هذه الأدبيات، خارج السياق، على جملة واحدة في نهاية الجزء الرابع، "الرجل هو عاطفة عديمة الفائدة،" لكنه يتجاهل مكانة مهمة يعطيها الكتاب ككل لخروج الإنسان من حيث الزمن،من عبثية الوجود. بشكل عام، يتجاهل هذا الأدب أيضًا أطروحة سارتر القادرة على أن كل حياة بشرية ليست مجرد محاولة لإعطاء معنى لوجودها الخاص، ولكنها أيضًا مخطط لحل مشكلة الوجود العالمية. صياغة سارتر لأطروحته، الواردة في الفصل الأول من الجزء الرابع، هو دليل مفيد لدراسة مسالكه الطويلة في الأنطولوجيا: إذ أن هذا هو"مشروعي النهائي والأولي" كما قال سارتر

- فهذه ليست سوى واحدة، كما سنرى، دائمًا من بين الخطوط العريضة كحل لمشكلة الوجود .... هذا هو نفس الطريق الذي " يجعلني ائتمن نفسي على الجماد، حيث أتخلى عن نفسي لجسدي ... مما يتسبب في ظهور جسدي وعالم الجماد بقيمته الخاصة ".

قراءة أولية للكينونة والعدم بلغته الأصلية الفرنسية:

كل من يحاول قراءة الكينونة والعدم، يدرك صعوبة ذلك. على عكس أعمال سارتر الأدبية والشروح الشعبية للوجودية، فإن الوجود والعدم موجهان إلى مجتمع فلسفي محدد، إلى نخبة فلسفية مثقفة، وبالتالي، مع عدم وجود معرفة بالظواهر، يجد حتى طالب الفلسفة هذا العمل محيرًا إلى حد ما إن لم نقل صعباً. علاوة على ذلك، يمثل أسلوب سارتر مشكلة. سارتر مغرم باللغة كما هو واضح في صياغته لسيرته الذاتية كانت نتيجة هذه العلاقة مع اللغة عملًا غريبًا نسبيًا ومختلطًا بالوضوح الغني والواضح. وغالبًا ما يكون أسلوبه عبارة عن صيغة مختصرة في صياغة المرجع التاريخي، ومختصرة للغاية في شرح الفلسفة والتعبير عنها. ثم، أيضًا، في بعض الأحيان، تتداخل الأنماط، حيث يغزو الأدبي الفلسفة والعكس صحيح، كما هو الحال عندما يصف سارتر الإنسان على أنه كائن ليس ما هو عليه بل مايجب أن يكون عليه.

أدت صعوبة قراءة الكينونة والعدم إلى ظهور عدد من الأبحاث والدراسات الممتازة التي تلخص، وتعيد صياغة، وتقيم حجر الزاوية هذا من فلسفة سارتر ولكنها لا تدعي أنها تساعد المرء على قراءة الكتاب نفسه. هذا التعليق يتعلق فقط بالوجود والعدم ولا يأخذ في الاعتبار الأعمال التي يرجع تاريخها إلى ما بعد الوجود والعدم أو مسألة أي تطور لاحق في فكر سارتر. تمت كتابتها في المقام الأول كوسيلة مساعدة لاكتساب تلك المعرفة المباشرة التي لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال دراسة النص ذاته وبلغته الأصلية. لذلك يجب أن تقرأ بالاقتران مع كتاب الكينونة والعدم. كتابات أخرى محيطة به لسارتر ولغيره ومع ذلك، فقد تم بذل كل جهد لجعل التعليق مقروءًا بشكل مستقل عن عمل سارتر.

بما أن فلسفة سارتر تهم الأشخاص ذوي الذكريات المتنوعة ·لأسباب، سنفترض أن القارئ ليس لديه أي محدد معرفي في الفلسفة. تم توفير خلفية فورية كافية ومخطط تفصيلي لفكر سارتر في الفصل الأول لبدء بداية ذكية في قراءة الكينونة والعدم.

في عمل ضخم مثل الكينونة والعدم، لا يوجد تعليق يمكن أن يوضح هذا الطول في كل جملة يعتقد القارئ أنها غامضة. بشكل عام، يتم تقديم المزيد من التعليقات على مقدمة سارتر والفصول الأولى، حيث يكون الفكر نفسه أكثر صعوبة وحيث يكون القارئ، ربما، أقل خلفية معرفية. تمت محاولة تقديم شرح واضح للمقاطع الأكثر غموضًا وصعوبة في التعليق. في بعض الأحيان، قد يتطلب ذلك تفسيرًا، وسيتم إبلاغ القارئ بذلك. أخيرًا، نظرًا لأننا لا نهتم بمقارنة فكر سارتر بفكر مختلف الفلاسفة وعلماء النفس الذين ذكرهم، فسوف نقبل عروضه وتقييماته في ظاهرها.

توفي مارتن هايدغر في(26 مايو 1976) أي ببضع سنوات قبل وفاة سارتر نفسه، وتم نشر النقد الكامل للعقل الديالكتيكي وفيه يحاول فصل الخلفية هذه عن المقدمة الخاصة لسارتر وتعريف القارئ ببيئة فلسفية كاملة. يؤدي هذا التسلك: إلى دائرية لا يمكن تجنبها: تعمل الخلفية والاستخراج الداخلي على وضع بقية الكتاب في سياقه الصحيح، وبالمثل، يوضح باقي الكتاب هذه الأقسام المبكرة. لذلك يُنصح بقراءة هذه الأقسام بعناية، لكن ليس من الضروري فهم كل مرجع أو سطر من النقاش قبل متابعة بقية الكتاب.

ديكارت وسارتر بصفتهما فرنسيين: كان ديكارت فلسفيًا محط اهتمام سارتر، وكذلك من جانب المجتمع الفرنسي لإيلاء اهتمام جاد لأهم فيلسوف فرنسي، الفيلسوف وعالم الرياضيات في القرن السابع عشر رينيه ديكارت (1596-1650). جلب ديكارت إلى الفلسفة نفس روح الانفصال، ونفس الثقة والتوقع، الذي كان يبديه كعالم رياضيات. لقد كانت نيته أن يؤسس فلسفة يمكن قبولها عالميًا مثل الرياضيات نفسها.

إذا كان للفلسفة أن تمتلك اليقين في الرياضيات، حسب ديكارت، يجب أن تتطور الفلسفة مثل الهندسة، بشكل واضح ومحدد، من الحقائق الأولى المقبولة عالميًا. كما اعتقد ديكارت، هناك حقيقة أولى حاسمة يمكن من خلالها البدء في بناء الفلسفة في نشاط التفكير ذاته. لقد ادعى أننا إذا بدأنا في التفكير الفلسفي كما ينبغي، بمحاولة الشك في كل شيء.فإن الشيء الوحيد الذي وجدناه، أو بعبارة أخرى أن الشيء الوحيد الذي لا نشك فيه هو وجودنا وإننا نفكر و نشك. "وندرك الكوجيتو cogito ''ومن الكوجيتو، خلص ديكارت إلى أن الذات، هي أساسًا عقل نقي أو مادة تفكير، وهي معروفة بسهولة ومباشرة أكثر من العالم. في محاولاته الناجحة، حاول ديكارت بشكل منهجي إعادة بناء كل ما كان يشك به سابقًا. نظرًا لأنه كان يشك في كل شيء، بما في ذلك صحة الحواس وبالتالي وجود جسده والعالم، لم يكن لديه سوى عقله وأفكاره لبدء البحث عن فلسفة مؤكدة تمامًا. كانت الخطوة التالية مكررة مغلقة في عقله، وكانت واضحة: لتوجيه كل انعكاساته النقدية على الفور إلى محتوى عقله، وأفكاره، لتحديد أية تمثيلات حقيقية للواقع والتي تظهر فقط على أنها تمثل حقائق خارج العقل وتبدو كذلك مجرد تعديلات للعقل نفسه. على سبيل المثال، فكر ديكارت في أن فكرة الأبعاد الثلاثة تمثل أجسامًا خارجية، لأنه كلما فكرنا في فكرة الجسم، يجب أن نفكر بتلك الأجسام الخارجية على أنها ثلاثية الأبعاد. ومع ذلك، فإن فكرة اللون لا تمثل اللون في الأجسام الخارجية، لأنه كلما فكرنا في فكرة الجسم، لا يتعين علينا التفكير فيه على أنه ملون.

إن مفهوم المعرفة - أولاً، الإدراك المباشر للأفكار باعتبارها الهدف المباشر للمعرفة، ثم عملية التفكير لتحديد الأفكار التي تكون نسخًا للواقع والتي هي مجرد تعديلات للعقل نفسه - وهو أكثر ما يشير إليه ديكارت. انفصال رائع عن تراثه الدراسي، وهو تراث يحكم نظرته للعقل والوعي.

1. إن تبسيط حجة ديكارت أمر مفيد لأغراضنا. ومع ذلك، يوضح ديكارت أنه بحاجة إلى وجود كود أو شفرة إلى جوار الضد. إن الأفكار، التي هي نفسها مرتبطة بشكل واضح ومتميز، تتوافق في الواقع مع الحقائق غير العقلية.

2. بما أن ديكارت شكك في وجود الجسد مكررًا، في تثبته من حواسه، وبالتالي، فإن العالم الخارجي هو إحساسه (على سبيل المثال، الإحساس باللون) حيث تصبح المفاهيم بالنسبة له موضوعًا مباشرًا للوعي

لفحصها بشكل نقدي للتأكد ما إذا كانت تتوافق مع الحقائق الخارجة عن ضميره.

الأفكار المدروسة تعني أننا نعرف الأشياء بشكل مباشر. كما أنها خطوة حاسمة في تطوير الفلسفة من ديكارت إلى إمانويل كانط (1724-1804). إنه مشروع وهدف فلسفي أولي لديكارت وليس التطور الفعلي لفلسفته، التي تؤثر بقوة على الفلسفة فيرى الشك الأولي في وجود العالم، واليقين المترتب على ذلك من الذات باعتباره مادة تفكير تدرك فورًا أفكارها الخاصة كنسخ محتملة للواقع، وازدواجية العقل والمادة - هذه الجوانب من ديكارت ونظام ديكارت تطارد الفلسفة وتوفر السياق لكثير من تفكير سارتر.

يتفق سارتر مع ديكارت، بخصوص الظاهر الوجودي في الواقع، على أن الهدف الأول للتفكير في الفلسفة هو الإنسان نفسه. في الرواية الأولى لسارتر،الغثيان La Nausée، يُظهر بوضوح دينه لديكارت باعتباره تمييزًا لمقاربته للفلسفة.

التأثير الديكارتي واضح هنا. من الواضح أيضًا أنه، على عكس ديكارت، وجد سارتر أن العلاقات مع المادة والعواطف والمسؤولية عن المشاركة التفسيرية الحرة في العالم تتزامن مع وعي المرء بأنه قائم.

في حالة الغثيان، كانت الأشياء وليس المنطق هي التي أيقظت الشخصية الرئيسية، روكوينتين، على ذاتها الحقيقية كعامل حر تمامًا في العالم. لا يبدأ سارتر الفلسفة بتحليل منطقي للأفكار، كما يقترح ديكارت، ولكن من خلال الاستيقاظ على الواقع على أنه مجرد وجوده هناك دون أي سبب ضروري لوجوده، وبإدراكه بأنه خالٍ تمامًا. في وجه الحرية والمسؤولية لإعطاء معنى للواقع ؛ الكوجيتو cogito الحشوي.على الرغم من تأثره عمومًا بفلسفة ديكارت وفلسفة سارتر.

تختلف وجهة نظر المعرفة والوعي اختلافًا جذريًا. ولقد تطور هذا الانفصال عن التقليد الديكارتي لسارتر بشكل رئيسي من خلال تأثير الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل (1859-1938).4980 سارتر

هوسرل وسارتر:

لفهم نهج هوسرل للفلسفة وعلاقته بسارتر، سوف يساعد في تذكر محاولة ديكارت لبناء فلسفة على أساس راسخ لوجوده، ومهمته اللاحقة لإثبات وجود عالم خارجي للوعي. مع ذلك، من المهم في هذه المرحلة أن نكون واضحين جدًا بشأن الطبيعة الدقيقة لشك ديكارت فيما يتعلق بوجود العالم.

من المؤكد أن "العالم .. بالنسبة إلى ديكارت كان موجودًا، وهو عالمه، ولا يمكن أن تجعل الشكوك الحرجة الخاصة به العالم يتوقف عن الظهور بشكل مستقل عن وعيه به. وهكذا، على سبيل المثال، بدا بالتأكيد أن المكتب الذي كان يكتب عليه كان موجودًا خارج وعيه. لكن كان سؤال ديكارت هو ما إذا كان ما يبدو أنه موجود بشكل مؤكد وواضح موجود بالفعل بشكل مستقل عن وعيه به. هذا التمييز ليس غريباً كما يبدو. لقد عودنا علم العلوم على الإيمان بمفارقة مماثلة، أي أن الطريقة التي تظهر بها الأشياء لحواسنا ليست دائمًا الطريقة التي تظهر بها لعقلنا العلمي. ومع ذلك، فإن معرفتنا العلمية لا تغير الطريقة التي تظهر بها الأشياء لحواسنا. على سبيل المثال، ما زلنا نرى شروق الشمس وغروبها على الرغم من أننا "نعلم" أن الأمر ليس كذلك.

ليس من الواضح ما إذا كان ديكارت ينظر صراحة إلى شكوكه في العالم بهذه الطريقة، لكنها موجودة ضمنيًا في فلسفته وهذه هي النقطة الدقيقة التي تقودنا إلى علاقة هوسرل بسارتر. كان هوسرل على دراية بالصعوبة التي واجهها ديكارت والفلاسفة اللاحقون.

يظهر بشكل سيء في محاولة إثبات وجود العالم الخارجي. لكنه صُدم أيضًا بحقيقة بسيطة مفادها أنه بغض النظر عن شكوكنا بشأن وجود العالم. لا يزال يبدو. على سبيل المثال، أن التفاحة التي يبدو أنها موجودة أمامه قد لا تكون موجودة حقاً أو قد تكون موجودة في ذهني فقط.

الخلفيات المعرفية:

خلفية (5)

أنا، والذي يبدو أنه ينظر إليه على أنه "في الخارج"، يستمر في الظهور على أنه موجود "هناك" بغض النظر عن تكهناتي حول وجوده الخارجي الفعلي. في الحقيقة، يمكن للمرء أن يستمر في التمييز بين التفاحة التي أتذكرها الآن والتفاحة التي يبدو أنها موجودة خارج ذهني، بغض النظر عما إذا كانت هذه الأخيرة موجودة بالفعل. بالنسبة إلى التفاحة التي يبدو أنه ينظر إليها على أنها تستريح على الطاولة، يستمر ظهورها بشكل مختلف عن التفاحة التي أتذكر الآن أنني رأيتها على شجرة في الربيع الماضي. ليس الأمر مجرد أن "التفاح "مختلف، ولكن، وفقًا لهوسرل، تظهر التفاحة في عملية" التذكر "بشكل مختلف عن الطريقة التي تظهر بها في نشاط" الإدراك ". قد يكون من الصعب وصف هذه الاختلافات بدقة بين التفاحة المتبقية · و تصورنا لتفاحة، ولكن عندما نفعل ذلك، سوف نميز "جوهريًا" الفرق بين التفاح بغض النظر عن ما إذا كان الفعل الوحيد موجودًا خارج الذهن.

لذلك يدعي هوسرل أنه إذا وضعنا جانبًا أو "شريحة" مسألة وجود الأشياء، فإنها ستظل تبدو في جوهرها هي نفسها. وهو بذلك يقود إلى إعادة تعريف "الموضوعية". أن نقول أن شيئًا ما "موضوعي" لا يعني أنه موجود خارج أذهاننا، ولكن يمكن وصفه بدقة على أنه الطريقة التي تتسم بها الكمثرى وأن هذا الوصف يمكن توصيله إلى الآخرين. على سبيل المثال، الاختلاف الأساسي بين إن تذكر تفاحة وإدراكها يمكن أن يكون "منعزلاً" عن فرديتنا ونشاطنا الفرعي، علاوة على ذلك، يمكن مشاركة هذا الاختلاف "الأساسي" مع الآخرين.

وبالتالي، بينما يتفق هوسرل مع ديكارت على ذلك الفيلو الحقيقي يجب أن يكون التفكير المنطقي علميًا وأكثر صرامة من أي من العلوم الفيزيائية، فهو يصر على أن طريقته يجب أن تكون وصفية وليست استنتاجية. على سبيل المثال، التفاحة المتصورة أو المتروكة · التفاحة، فيما يتعلق بنشاطها المحدد أو وعيها أو إدراكها أو تذكرها.

في هذا الصدد، ربما نكون قد ضللنا القارئ في وقت سابق عندما قمنا بذلك لنميّز بين طريقة ظهور الأشياء والإدراك العادي

* القارئ الذي يرغب في توسيع معرفته بالظواهر، أوصيه بقراءة عمل هوسيرل الصغير والمقروء للغاية، The Ldea of Phenomenology (لاهاي: Martinus Nijhoff، 1964).

الخلفية (6)

والطريقة التي يظهرون بها للإدراك العلمي. بالتأكيد لن يدعي هوسرل أن النغمات تظهر للإدراك العلمي بطريقة أكثر واقعية من الطريقة التي تظهر بها للإدراك العادي. بدلاً من ذلك، كان سيؤكد بلا شك أن العالم يصف الأشياء ذات الإدراك العادي حيث يتم تعديل هذه الأشياء بواسطة أدوات العالم. وهكذا، يبدو للعالم كموجة أو فوتون، لأنه لا يفحص فقط اللمسة المنعكسة من التفاحة، ولكن الجزء الذي يتم تحليله بواسطة أداة علمية، ويتم تفسيره من خلال الرياضيات، يتم تصوره في النماذج. النقطة المهمة هي أن "ما يظهر" (أو الظواهر)، على سبيل المثال،) الضوء أو الفوتون، يجب "رؤيته" دائمًا فيما يتعلق بنشاط وعي محدد، على سبيل المثال، الإدراك العادي أو العلمي ؛ وبالمثل، فإن أنشطة الوعي، العادية أو العلمية، يتم تحديدها بحد ذاتها من خلال موضوعاتها المميزة. فيما يتعلق بنشاط محدد للوعي، يمكن دائمًا وصف "ما يظهر" بشكل موضوعي، بمعنى أنه يمكن عزله عن فردية الراصد ونقله للآخرين؛ وهذا يعني أنه يمكن وصفه لأنه سيظهر بشكل أساسي لأي وعي منخرط في نفس نشاط الوعي. وهكذا يدعي هوسرل أنه على الرغم من أن العقل نشط، إلا أنه ليس نشطًا بحيث يخفي بشكل دائم البنية الأساسية أو التركيب لما يُعطى له.

ومع ذلك، يدرك هوسرل أن عاداتنا ونظرتنا المكتسبة للأشياء تخفي عنا فهمنا الأصلي للأدلة و "الجوهر". نحن نلجأ أيضًا إلى التداخل العلمي والعادي.

تصور حقيقي: - على سبيل المثال، "تظهر" الأرض حقًا لتدور حول الشمس من مكان آخر في النظام الشمسي، ولكن بالنسبة لشخص يتواجد على الأرض، تبدو أن "الشمس" (أي نمط من الألوان) هي التي تدور حول الأرض. إن هذا المظهر موضوعي، بمعنى أن الظاهرة تظهر بهذه الطريقة بالنسبة لوعي الشخص الموجود على الأرض. أيضًا، لاستخدام صورة سارتر، قد تظهر جذور الشجرة كمضخة معقدة "لمشاهدتها" من خلال صور العلم. لكن الجذور بالتأكيد ليست مضخة بأي معنى من المعنى الأدبي، ومن الصعب، ولكن ليس من المستحيل، بالنسبة لنا الحصول على رؤية للجذر كما يبدو في الأصل لوعينا دون أدنى شك. مشبع بمعرفة كيف يفترض بنا أن ندركه.

تم وصف الظواهر على أنها عودة إلى الموضوع كما هي، تقدم نفسها في الأصل لوعينا.

الخلفية (7)

يتضمن علم التسمية عملية ("اختزال") نستمر من خلالها في إعادة فحص حليف الموضوع والوعي إلى أن "نرى" بوضوح كيف يقدم الموضوع نفسه في الأصل للوعي وكيف يخصص الوعي الشيء لذاته. مرة أخرى، إذا وجهنا انتباهنا بصفتنا علماء ظواهر إلى الإدراك الأحمر للتفاحة، فإن ما ندركه أخيرًا هو خاصية الإدراك · لحمرة تفاحة متميزة عن تفاحة متذكرة بأنها حمراء (ربما يكون اللون الأحمر الملحوظ أكثر تداخلًا بشكل واضح مع "نسيج" التفاحة). وبالتالي، فإن العالم بالنسبة لهوسرل لا يخسر شيئًا من خصومه.

الصبغة أو الثراء إذا قمنا بتقسيم مسألة وجودها وركزنا على ما يُعطى لوعينا. في الواقع، لهذا السبب بالذات وُصِفَ الأساس الفينومينولوجي الظواهراتي بأنه عجائب جديدة في وجه العالم. وفقًا لهوسرل، تكشف الطريقة الظاهراتية عن الهيكل الموضوعي، أو التركيب، أكثر من الاهتمام بالأحرى بمجرد هيكل يصدقه العقل، لأن الوعي هو، لطبيعته بالذات، مخدوع بفظاعة الشيء. الوعي ليس، كما هو الحال مع ديكارت، هو الوعي الذاتي بفحص عقل مستقل ومكتفٍ ذاتيًا بأفكاره الخاصة لإثبات أي منها يمثل الواقع حقًا. بدلاً من ذلك، يشير الوعي تلقائيًا إلى موضوعه أو "يميل إليه"؛ إنه متعمد. يمكن لعادات التفكير أن تحجب عنا، ولكنها لا تدمر، نية الوعي الأصلية للأجسام.

تمنحنا النية، بالنسبة لهوسرل، طريقة جديدة للنظر إلى الكوجيتو الديكارتية (أي يقين وطبيعة وعينا). لم تعد المهمة تكمن في اكتشاف أي من أفكارنا بأنها تمثل حقيقة غير مألوفة ؛ بالأحرى، هو وصف نوايانا الأصلية والأشياء المتعلقة بها. سيكشف هذا الوصف عن "هدف" الموضوع، بغض النظر عما إذا كان الموضوع، كما يتجلى للوعي، موجودًا أيضًا بشكل مستقل عن الوعي أم لا.

يُطلق على موضوع الوعي، والمعطيات المرتبطة به، اسم "ظاهرة" هوسرل. استخدم كانط المصطلح لأول مرة على نطاق واسع. بالنسبة إلى كانط، فإن الظواهر هي أشياء يعرفها العقل وتميزها عن الأشياء كما قد تكون في حد ذاتها - "تسمية". على سبيل المثال، تصور اللون الأحمر للتفاحة هو، بالنسبة لكانط، ظاهرة تفجر التفاحة بدلاً من الكشف عنها؛ إنها الطريقة التي تظهر بها التفاحة لنا بدلاً من الطريقة التي توجد بها في حد ذاتها. كانط سيؤكد أن "التفاحة" (أي الشيء المجهول) موجودة.

الخلفية (8)

بصرف النظر عن معرفتنا بالشيء، لكنه ينكر أننا يمكن أن نعرف طبيعته الحقيقية بسبب الدور الفعال للعقل في المعرفة.

يتفق هوسرل مع كانط في أن الظواهر هي أشياء كما يعرفها وعينا، لكنه ينكر أن الظواهر تحتمل الطبيعة الحقيقية للشيء. وفقًا لهوسرل، فإن الظواهر الحقيقية، الأشياء كما تُرى بعد الاستخدام الصحيح للطريقة الظاهرية، هي طرق موضوعية للوجود. إنها طرق ضرورية للوجود، إذا أريد للشيء أن يوجد. وبالتالي فإن اللون الأحمر المتصور للتفاحة، على عكس اللون الأحمر المُتذكّر، هو الطريقة الضرورية التي يجب أن تتواجد بها التفاحة كالأحمر إذا كانت موجودة مثل اللون الأحمر.

بالنسبة لهوسرل، فإن الظواهر عادة ما تقدم نفسها باعتبارها جوانب لكائن أكثر توحيدًا. التفاحة، على سبيل المثال، تقدم نفسها لي بشكل مختلف، اعتمادًا على مكان عرضها. ومع ذلك، فإن هذه الجوانب تظهر نفسها على أنها جوانب من التفاحة: فهي تقع بطريقة ما في مكانها وتوحد نفسها في وحدة - "تفاحة". يؤكد هوسرل أن توحيد هذه الجوانب يتطلب بنية موحدة داخل الوعي نفسه. هذا الهيكل الموحد يسميه "الأنا المتعالية". لأنه يقطع أو يتخطى فعل الوعي الفردي بينما يعيد توجيه الأساسي لكل فعل ؛ إنها "الأنا" لأنها نفسها (1) التي تدرك كل الجوانب وتوحدها في وحدة. إن فكرة هوسرل عن الأنا المتعالية مهمة لأغراضنا لأن سارتر سيختلف معها.

يتبع سارتر، بشكل عام، فهم هوسرل للفينومينولوجيا كعلم وصفي ومفهومه عن الوعي باعتباره دائمًا وعيًا بشيء ما. إنه يرفض الاختزال الظاهري لهوسرل، مع ما يترتب على ذلك من حدس للجوهر، وغرور هوسرل المتعالي. يؤكد سارتر أن الوجود، وليس الجوهر، يُعطى للوعي مباشرةً. هذا الحدس، أو الإدراك الفوري للوجود، هو جوهر فلسفة سارتر عن الوجود وأساس الوجود والعدم. إن الفهم الكامل لأهمية هذا الحدس سيكون سيئًا فقط يغير دراسة الوجود والعدم. ومع ذلك، فإن نظرته إلى الوجود الوجودي لسارتر ستكون مفيدة لتوجيه عام لهذا العمل الرئيسي. أي وصف جان بول سارتر باس فلسفته بأنها "وجودية".

*. العلاقة بين هيجل (جورج فيلهلم فريدريك هيغل، 1770-1831) وسارتر لم تتم مناقشتها في هذه الخلفية لأن سارتر، في مقدمته، لا يعترف صراحة بانحلاله على هيغل ولا يعترف به.

الخلفية (9)

معلومات أساسية أشار سارتر بشكل ملحوظ في مقالته" الوجودية هي الإنسانية ". بالرغم من أن مصطلح" الوجودية "غامض وينطبق بشكل مختلف على فيلسوف مختلف وفلسفة مختلفة، فإن المصطلح يلفت الانتباه إلى أسس سارتر الأساسية. الوجود وما يترتب عليه من أولوية تكمن فيها فلسفته كلها.

يأتي التمييز بين الجوهر والوجود إلى الفلسفة المعاصرة بشكل رئيسي من خلال تأثير علماء القرون الوسطى، الذين اعتبروا الجوهر والوجود جوانب مميزة لواقع علّي. كان يُنظر إلى الجوهر على أنه الإجابة على سؤال من هو الشيء؛ كان يُنظر إليه على أنه الطبيعة الأساسية، أو "البنية" لشيء ما. وهكذا، بالنسبة للعديد من السكولائيين، يعتبر الإنسان أساسًا حيوانًا عقلانيًا. الوجوديين، على الفرقة الأخرى، أجابوا على سؤال ما إذا كان الشيء موجودًا؛ بالنسبة لهم، هو ذلك الفعل الأساسي الذي يتسبب في وجود شيء ما، مستقلاً عن تفكيرنا فيه. وهكذا، فإن الحوت، على عكس حورية البحر، موجود بشكل مستقل عن أي شخص يفكر فيه.

اعتبر سارتر أن الكثير من الفلسفة "جوهرية" لأنها تؤكد على أولوية الجوهر على الوجود. بالنسبة لسارتر، يعتبر هوسرل جوهريًا لأنه يصر على أن الهدف الأساسي للفلسفة هو الوصول إلى معرفة ماهية الأشياء. علاوة على ذلك، وبالنسبة لسارتر، هذا هو جوهر القضية، فإن تعليق هوسرل للوجود أو وضعه بين قوسين يسرق ثراء العالم بالفعل. لا شك أن سارتر سيصر على أن هوسرل يمكن أن يضع الوجود بين قوسين لأن الأخير اعتبر الوجود على أنه لا يضيف شيئًا إلى ثراء الظاهرة. بالنسبة إلى هوسرل، فإن اللون الأحمر "أحمر في الأساس، والإنسان" هو "إنسان، والشجرة المتصورة" هي "شجرة محصورة، بغض النظر عما إذا كانت هذه الجواهر موجودة أم لا. كتب سارتر رد فعله على وجهة النظر هذه عن الوجود بصيغة أدبية: "تركتني لاهثاً. لم يحدث أبدًا، حتى هذه الأيام القليلة الماضية، أن أفهم معنى "الوجود". كان رقم 1 مثل الآخرين، وكان جيك يمشي على طول شاطئ البحر، وكان يرتدي زي الربيع". قال، تشير إلى أن ديالكتيك هيغل هو السياق المباشر لعمله. في حين أنه من الواضح أن مصطلحات سارتر والكثير من محتوى الأقسام المحددة مدينان إلى حد كبير لهيغل، يعتقد أن نطاق هذه العلاقة هو تفسير. لذلك، لا يُناقش موقف هيغل إلا عندما يصرح سارتر به صراحةً. يتناول العملان التاليان علاقة سارتر بهيجل ببعض التفاصيل: هارتمان، كلاوس، أنطولوجيا سارتر: "الوجود والعدم" في ضوء منطق هيغل

(الصحافة، 1966) ؛ وبرنشتاين، ريتشارد ج.، براكسيس وأكشن (فيلادلفيا: مطبعة جامعة بنسلفانيا، 1971) .

الخلفية (10)

"مثلهم، "المحيط أخضر؛ تلك البقعة البيضاء هناك طائر النورس"..عندما اعتقدت أنني كنت أفكر في الأمر، يجب أن أتأكد من أنني لم أفكر بأي شيء، أو أن رأسي كان فارغًا، أو كانت هناك كلمة واحدة فقط في رأسي، وهي كلمة "أكون". وإلا كنت أفكر... كيف يمكنني شرح ذلك؟ كنت أفكر في الانتماء، كنت أقول لنفسي أن البحر ينتمي إلى فئة الأجسام الخضراء، أو أن اللون الأخضر جزء من جودة البحر.. إذا سألني أي شخص سيء ما هو الوجود، لأجبت، بحسن نية، أنه لا شيء، مجرد شكل فارغ تمت إضافته إلى الأشياء الأبدية دون تغيير أي شيء في طبيعتها. ثم جاء إلي فجأة، كان صافياً كالنهار ؛ كشف الوجود عن نفسه فجأة. لقد فقد المظهر غير المؤذي لفئة مجردة: لقد كان عجينة الأشياء، تم عجن هذا الجذر إلى الوجود (ص 171]. ...

للوجود، بالنسبة لسارتر، أولوية على الجوهر لأن الوجود هو "عجينة الأشياء". ولكن إذا كان الوجود سابقًا على الجوهر، فإن الوجود يسبق المعنى، لأن الجوهر يحدد المعنى الأساسي العقلي للأشياء. يقبل سارتر هذا المنطق. الوجود يسبق المعاني الممكنة، سواء في الإنسان أو في الطبيعة. (في حالة الغثيان، يقول سارتر إن الوجود عبثي، ليس مع صدق نسبي يأخذ معنى في سياق أعلى، ولكن مع صدق مطلق).

بالنسبة لسارتر، فإن أولوية الوجود على الجوهر تنطبق في غاية طريقة خاصة لماو. التي هي مميزة في الإنسان وتنتج من أفعال الرجل ولا تسبق تلك الأفعال. سوف يعترف سارتر بأن الظروف المشتركة بين البشر، مثل امتلاك الجسد والولادة، تسبق في الواقع أفعال الإنسان. لكن هذه الظروف لا تجعل الإنسان إنسانًا مميزًا. إن ما يميز الإنسان عن الإنسان هو تفسيراته وردود أفعاله الحرة لهذه الظروف المشتركة. بالنسبة لسارتر، يمكن للإنسان أن يقول إنه "يخلق" جوهره من خلال أفعاله. يتبع جوهر الإنسان أفعاله ؛ إنه هذا النوع من الرجال لأنه يتصرف بهذه الطريقة. إذا كان للإنسان جوهر يسبق أفعاله، فإن هذا الجوهر سيحدد أفعال الإنسان، مما يجعل من المستحيل عليه أن يكون حراً حقًا.

تتجلى فكرة الذات أيضًا كأولوية الوجود على الجوهر في أفكار سارتر. في مقال نشر مبكرًا بعنوان "تجاوز الأنا"، انتقد سارتر الأنا المتعالية لهوسرل، أي الذي يوحد فردنا أفعال الوعي. يقنع سارتر أن الأنا المتعالية من شأنها أن تسبق كل أفعال الإنسان، بما أنها كذلك تهدف إلى توحيد هذه الإجراءات. أيضا، الأنا المتعالي هو جوهر يسبق الوعي.

خلفية (11)

الأنا المتعالي، بشكل أساسي، هو نفسه في كل إنسان، نظرًا لأن الفعل الموحِّد هو نفسه في جوهره في كل رجل: يتم توحيد وجهات النظر المختلفة للتفاحة بشكل أساسي، من قبل كل فرد، في نفس الكيان، ألــ "تفاحة". وبالتالي، يحافظ سارتر على أن الأنا المتعالية هي نوع من الجوهر الذي يسبق أفعال الإنسان. علاوة على ذلك، فإن الأنا المتعالية "تسكن" كل فعل من أفعال الوعي، وتعيق الوعي وتجعل من المستحيل للوعي أن يكون مقصودًا، أي كليًا ومثاليًا لموضوع. سارتر، على العكس من ذلك، يصر على أن الوعي يجب أن يكون "واضحًا" أو شفافًا تمامًا، حتى يتمكن من الكشف عن الموضوع كما هو، وأيضًا أن الوعي، أو "الذات"، لا يمكن تصورها على أنها جوهر يسبق الإنسان. أجراءات. دعونا نفحص نظرة سارتر عن الوعي والذات عن كثب، على الرغم من أننا سنعود إلى مناقشة أكثر تفصيلاً لاحقاً.

في معارضة فهم هوسرل للأنا 8 العابرة للإنسان، يقترح سارتر فكرته الخاصة عن الأنا 88المتعالية transcendent، أي كونها خارج البنية الداخلية للوعي. أن هوسرل لم يكن متسقًا مع مفهومه الخاص عن الوعي دائمًا لموضوع ما. وفقًا لسارتر، يجب أن يكون الطابع المتعمد للعلم مطلقًا: يجب أن يكون وفقط "لـ،" وليس أناً واعية للأشياء. الأنا التي من شأنها أن تكون موجودة مسبقًا في الوعي وتكون متعالية من شأنها أن تجلب الغموض للوعي على وجه التحديد لأنها ستجعل الوعي نوعًا من "الشيء". لذلك، يزعم سارتر، لا يمكن للأنا أن تكون موجودة مسبقًا في الضمير بل يجب أن تكون موضوعًا للوعي.

يشرح سارتر مفهومه لتجاوز الأنا من خلال الادعاء بوجود نوعين من الذات. هناك الشخصية (الأنا)، التي ندركها في تأملاتنا ومحاولاتنا لاكتشاف أنفسنا. الأمر الذي نتخيله على أنه يسبق نوايانا وأفعالنا، الفكرة التي نمتلكها نحن والآخرون عن أنفسنا. هو الأول الذي منحني سماته النفسية والوراثية والثقافية. ومع ذلك، فإن هذه الشخصية هي معرفة انعكاسية ومشتقة عن الذات ناتجة عن نوايانا وسلوكنا.

*. يدرك سارتر أن هذه الأنا "المُنتَجة" ليست غرور هوسرل المتعالي. ومع ذلك، فإن الأنا المتعالية، إلى الحد الذي يوحد أفعالنا، يعتبرها سارتر "ماهية" وبالتالي مفهوم مشتق عن الذات.

الخلفية (12)

على الجانب الآخر، الذات الحقيقية، بالنسبة لسارتر، غير شخصية ولا يمكن تمييزها عن الذات التي تعرف هذا الشيء. أداء العمل الذاتي. هو يعترف، مع ذلك، أنه إذا سألنا شخص ما من يقوم بهذا الفعل، فسنرد " الأنا". يستنتج سارتر من هذا أننا دائمًا ما ندرك بشكل غير مباشر لـ "الذات" في الذهن المباشر لشيء ما. إن وعي الكائن بالشيء، على وجه التحديد لأنه وعي بشيء ما، هو بشكل غير مباشر وعي ذاتي لـ- كائن، ولكن بشكل مباشر وعي ذاتي لكائن. على سبيل المثال، عندما ننغمس في مشاهدة فيلم، فإننا ندرك الفيلم بشكل مباشر وندرك أنفسنا بشكل غير مباشر.

بالنسبة لسارتر، فإن كوجيتو ديكارت، وبدرجة أقل، حتى الأنا المتعالية لهوسيرل هي في نهاية المطاف أشياء منتجة ومشتقة، ناتجة عن انعكاساتنا على حالتنا البشرية الكلية. هي الذات التي نقدمها لأنفسنا والعالم ككائن يجب فحصه. ومع ذلك، فإن الذات الأكثر جوهرية هي الإدراك غير الشخصي الموجود في كل مرة ندرك فيها شيئًا ما.

إن وجودية سارتر ذات حدين. الوجود يسبق الجوهر في كل من الإنسان والأشياء. الأمر ببساطة هو كونه؛ يفتقر إلى كل الأسباب الضرورية لوجوده. لا يمكن للمرء أن يجد أي تبرير لوجود المادة سواء في الأشياء، لأنها تفتقر إلى الجوهر، أو في الأشياء الخارجية، لأنه بالنسبة لسارتر، لا يوجد إله. الإنسان، أيضًا، قد أُلقي به في العالم دون أي معنى سابق. لكن هناك مؤهلات مهمة. مع وجود الإنسان وظهوره، يصبح الواقع، أو الوجود، ذا مغزى ويصبح "العالم موجوداً".

في دراسته لأولوية الوجود، يعتبر سارتر سلفًا، أن مارتن هيدغر (1889-) هو مفكر الوجود. كان هيدجر تلميذًا لهوسيرل لسنوات عديدة قبل أن يطور نهجًا وجوديًا خاصًا به للظواهر في كينونته وزمانه. الوجود والعدم لدى سارتر هو، بمعنى ما، رد على عمل هيدغر. بالنسبة لهيدغر، الزمن هو أهم جانب من جوانب الواقع، والزمن هو الأهم إلى جانب الكينونة.

نعتقد أن مصطلح "غير شخصي" أكثر دقة من مصطلح "لا شخصي"، والذي يستخدم أحيانًا لوصف الكوجيتوcogito ما قبل التأمل. من الواضح أن سارتر يعترض على معرفة مستمدة من أنفسنا يتم اعتبارها "إدراكاً" حقيقيًا. ولكن، من الواضح أيضًا أنه يعترف بأن الـ " كوجيتو" الاستباقي هو وعي وبما أنه ليس أعمى ؛ في الواقع، فإن سارتر يشيرجلي وواضح ومباشر إلى الكوجيتو cogito ما قبل التفكير على أنه "شخصية!" ثانية .

خلفية (13)

الحقيقة من خلال وجود الإنسان. يهتم هيدغر كثيرًا بالتطور التاريخي للفلسفة وتأثير التاريخ على الوعي البشري. في الكينونة والعدم، لم يكن سارتر مهتمًا بالتاريخ ؛ بل يركز اهتمامه على قدرة الإنسان على تفسير تراثه بحرية على أنه البيئة المحيطة به. بالنسبة لسارتر، ليس الزمن بل العدم هو جوهر الإنسان والوجود، وهذا الرجل يتأرجح إلى الواقع. تتمثل إحدى المهام الرئيسية في هذا التعليق في محاولة تقدير فكرة سارتر عن العدم. في الوقت الحاضر، قد نتذكر إصرار سارتر على أن الوعي يجب أن يكون شفافًا تمامًا، وواضحًا تمامًا، حتى يتمكن من الكشف عن سمة الحقير كما هو. كما يرى سارتر أن الوعي لا يمكن أن يكون حقيقة، لأنه إذا كان كذلك، فإن هذا الواقع سيكون له هوية خاصة به، وبالتالي سيعيق الوعي عن الكشف الدقيق عن موضوعه. بالنسبة لسارتر، وحده العدم يكون واضحًا تمامًا ويمكنه أن يكشف الحقيقة تمامًا. فقط العدم، كما سنرى، يفتقر إلى الهوية مع نفسه وهو متممًا للآخر. يجري، بالنسبة لسارتر، بحيث لا يمكن أن يكشف عن شيء آخر غير نفسه، لأن واقعه هو هلام في الطريق. فقط العدم ليس هو نفسه. كما سيوضح أكثر بعد ذلك، يشير سارتر إلى العدم الملموس، كما هو الحال دائمًا في إدراك غياب شخص ما (فقدان رابع عند الجسر أو إدراك أن الصديق ليس في مكان اجتماع معتاد)، وليس إلى مفهوم مجرد للعدم، مثل مفهوم الفراغ أو الدائرة المربعة.

لفهم إصرار سارتر أكثر على أهمية العدم، قد يكون من المفيد التفكير في أنه في حين أن سارتر لا يحب وجود أي حقائق روحية، فإنه يرفض أيضًا الزواج باعتباره تبسيطًا مفرطًا للحالة الإنسانية. الشيء الوحيد الموجود بالنسبة لسارتر هو المادة. إنه العدم الذي يميز الإنسان عن المادة البحتة. بالنسبة لسارتر، لا إله ولا روح. لا يوجد سوى المادة والعدم وجود ولا شيء آخر. الوجود والعدم. من هذين، ينشأ الإنسان والعالم.

***

................

* مختارات من كتابات وجودية

باتت الفلسفة مثل (الكتابة والنقوش الغريبة) في البيئات التي لا تستطيع التفكير الحُر. وأول شروط التفلسف أنْ تُفكر بلا قيودٍ، أنْ تُمارس الحياة بوافر الوعي كي تستطيع أنْ تقول " أنا". والأنا المُفكر ليس سهلاً تحقيقُ وجوده على نحوٍ قابل للاستقلال. لأنَّك لا تستطيع معرفة الأنا مُتوحداً مع نفسه، دوماً هناك كمٌ من الأغطية الرمزية التي تلفه طوال الوقت. وقد لا تترك له الحياةُ مساحةً دون أنْ يُسمع صدى حركته أو يُتعقب وجوده!!

تتوقف معرفة الإنسان لذاته على درجات الرؤية عبر الأغطية الرمزية المتراكمة (الثقافة، المجتمع، التاريخ، العلاقات، المعتقدات، الآراء الشائعة...). هو أنا يختلفُ من ثقافةٍ إلى أخرى، فكيان الأنا متفردٌ على غرار" البصمة " الوراثية، إذ لا يُوجد اثنان متطابقان منهما رغم تشابُه الظروف. وقد يظل الأنا مُغطّى حدَّ الإختناق أو لا يتم العثور عليه خالصاً طوال مسيرة الإنسان. وربما يمثل الأنا موجات (ترددات) من الإستعارة التي توجّه نظرَ الإنسان أنَّ هناك شيئاً ما داخله اسمه (الأنا)، ولكنه قد لا يعدُّ شيئاً فعلياً ذا بال.

الحقيقة البادية أنَّ تلك الأغطية تتحدد بهذا الأنا وتُظهر قوتها بواسطته دون عنايةٍ كبيرة لوجوده الخاص. فالأنا مصنف في قوالب وظيفية عامة تخدم نظام الضبط والمراقبة وحركة الفئات. إنَّ مجتمعاتنا العربية لا تترك الإنسان وحيداً أو خارج آليات الإدماج الثقافي والاجتماعي. عليك أنْ تكون مُشابهاً للآخرين من غير نقاش، أي أنْ تكون نسخةً مقلّدةً تماماً، وإلّا فسيكون مصيرُك الإقصاء أو على أدنى تقدير الإهمال.

ولكن إذا كانت الفلسفةُ تكتشف ذلك البُعد، فهل الفلسفة تماثل عملية الكتابة والقراءة بصدد مصطلح "محو الأمية"؟! بالطبع فأنْ تتفلسف معناه أنْ تعي من أنت بكامل وجودك الحُر، بحيث يكون وجوداً قادراً على التعبير. فالوجود الإنساني قد يكون (منقوصاً) تحت إطارات الأنظمة السياسية الطائشة، وقد يكون وجوداً (متآكلاً) نتيجة القهر والتخلف والركود، وقد يكون وجوداً (منسحقاً) بفضل العادات والتقاليد. فهذه الأشياء في المجتمعات البشرية تمارس أدوارها على شاكلة الحيوانات المفترسة التي لا تترك شاردة ولا واردة دون مساسٍ. ويتم تحويل المجتمع إلى غابةٍ لا يقوى إنسانها على الوعي لدرجة أنه ينسى شيئاً اسمه التفكير!!

الفلسفةُ لا تعيشُ في الأحراش والعشوائيات، ولا تريد أنْ تكون حيواناً مفترساً، لكنها فاعلية تعيش في الأسواق والساحات بين الناس، بين العلاقات الإنسانية، وبين القوى الحوارية والتنافسية، وبين اختلافات العقول، وبين الرؤى المتبادلة، وداخل صور الحوار التي لا تهدأ، وبين وجوه التأويلات الحياتية للوقائع والأزمنة، وعبر الشعور الوجودي بأحوال العالم والحياة. الفلسفة تنمو حيث التعلُّم الذاتي المستمر لمشكلات الحياة القصوى. الفلسفة أبجدية يجب معرفتة حروفها وتعلُّم أصول كتابتها تماماً مثل نتعلم ألف باء الهجاء والكتابة.

الفلسفة تظهر في حمأة الظواهر والأحداث التي تنتاب المجتمعات لحظة السيرورة والتغيرات الجذرية. ليست هناك فلسفة كثمارٍ معلقةٍ في فراغٍ على أغصان دانيةٍ. وحتى لو كانت الفلسفة حاملةً لمشاعل العزاء الإنساني للبشر، فإنَّها تنغرس عبر لحظة يقظةٍ واعية بإطلاقٍ. لا توجد فلسفة تغمض أحدى عينيها وتفتح الأخرى، ولا توجد فلسفة تقبل نصف الفكرة لصالح النصف الآخر، لابد للفلسفة أن تفتح عينيها معاً حدَّ الإمتلاء بحقيقة العالم.

الفلسفة تناقش قضايا كونيةً تخص إنسانيتنا المترامية في كل مكان وزمان، قضايا الكرامة والتعايش والتسامح والحرية وتوطيد حدود العقلانية وحقوق الإنسان وأفساح آفاق الفهم وإنطلاق العيش ومقابلة الآخر. الفلسفة تدفع الوعي الإنساني إلى أقصاه، إلى اختراق الحواجز والبحث عن البعيد والغائب، والتفلسف هو ذروة الوعي القادر على المساءلة والنقد وإعادة البناء. الفلسفة تقدم لنا العزاء عما فقدناه من أشياء ليست بالقليلة، مثل سلام النفس والطبيعة الحرة والأصالة وتلقائية الحياة وجوانب الإنسانية الجامعة بيننا.

لا تسمح الفلسفة بأن يكون الآخر منبوذاً ولا مطروداً، لأنها ترى فيه وجوداً مساوياً لوجودنا الأصيل، بل مكوناً رئيساً لحياتنا التي نفقد زخمها بدونه. هي تعمل على وجوده الدائم من خلال وجودنا معاً بالتقاطع لا بالتوازي. والفلسفة تظهر في المجتمعات التي تعيش حالةً من المسئولية عن الآخر، لا مجرد إعطائه مساحة من الحوار والفعل. الفلسفة هي ترموميتر قدرتنا على الحوار والفهم، وأن نرصد وجودنا المحتمل في المستقبل. إنها تدربنا على النظر الثاقب نحو الأمام والخلف والعمق في اللحظة ذاتها، فلا توجد فلسفة تجمد نظرها تجاه الماضي وإلاَّ لسقط الإنسان في أقرب حفرة ثقافية تحت قدميه. ولا تطرح الفلسفة المستقبل متخيلاً ويوتوبياً وإلاَّ لسقطنا في الأوهام والأحلام الفارغة، ويستحيل حبس الفلسفة في أسر اللحظة الحاضرة، لكونها تُناقض كل حضور مركزي يمكنه أنْ يبتلعها.

في مجتمعاتنا العربية، لم تأخذ الفلسفة مكانتها الثرية، نظراً لغياب تلك المؤشرات، كانت ثمة بدائل ثقافية تأخذ مواقعها، كما أن مفاهيم الذات والآنا والآخر والحقيقة والفضاء العام والتنوع والاختلاف لم تترسخ بعد، بل غدت مفاهيم غريبة وغير مرغوب فيها أصلاً. وذلك بحكم أنَّ الفلسفة تحتاجُ إلى تربة ثقافية خصبة، حيث لا يكون هناك مطاردة ضروس بين الفكر والواقع. ونحن نعرف سلفاً من سيكون في المقدمة وطارداً للآخر. إن الواقع المتحصن بنمط الحياة السائدة وقوة الصور الحاكمة للتفكير يحول دون وجود الفلسفة بمعناها السابق.

لأنَّ القضايا المثارة في هذا الواقع ليست هي القضايا القابلة للتفلسف، هي قضايا الحد الأدنى من الوجود، هي قضايا الكفاف الفكري، موضوعات الفقر العقلي المُدقع. كما أنَّ واقع مجتمعاتنا العربية لا يعبأ بما هو مشترك على صعيد الإنسانية، هي مجتمعات تسير بالقطعة التاريخية ... خطوة خطوة، حقبة حقبة، مرحلة مرحلة. فاليوم مختلف عن الغد والاثنان مختلفان عن الأمس، وقُلْ ذلك بصدد جوانب التاريخ. وهكذا سيكون وعي الإنسان ممزقاً ومنقسماً على نفسه. وسيتم قطع وتيرة القضايا المشتركة، لأن المشترك هو الاسنثناء المفاجئ لا القاعدة الممتدة، وبالتالي سيكون التفلسف غير ذي أهمية بالنسبة لنظام المجتمع.

إنَّ محاولات التفلسف منذ الفلسفات العربية الإسلامية القديمة لا تواصل طريقها التاريخي، إنما يتم بترها دون أسباب واضحةٍ، بل وتحت مبررات مختلفة كان مصيرها التلاشي والإنزواء. ولم تجد تلك الفلسفات من لديه حساً فلسفياً أصيلاً كي يواصل إحياءها، لأن الثقافة السائدة - مع تعاقب العصور- ناصبت كل ما يمت إلى الفلسفة عداءً وصراعاً طوال الوقت. وفجأة أصبحت الفلسفة مطرودةً من وعينا اليومي والحياتي من غير رجعةٍ. وأخذت تبيت وتصبح خارج منطقة القبول العام، ولذلك كان الفكر لدينا محروماً من الأبعاد الفلسفية الكلية لفهم المشكلات والقضايا وورثنا قلة التبصر الفلسفي تجاه أخص ما نملك وهو وجودنا المشترك.

الأمية الفلسفية مستوى من تفكير واسع الانتشار لدى المثقفين والناس العاديين. فهم يتحدثون في كل شيء ويعلقون بصدد أية أحداث وظواهر، ولكن عندما يكونون بصدد التفكير الفلسفي يغلقون عقولهم ويصمون آذانهم عن السماع والفهم. قد ينخرطون في ثرثرات إعلامية وثقافية لأوقات طويلة، غير أنهم يصمتون صمت القبور حينما تظهر إشكالية فلسفية أو حينما يتطالب الموقف معالجة للأفكار على الصعيد ذاته. والغريب أيضاً أن الأمية الفلسفية توجد كذلك لدى بعض أساتذة الفلسفة أنفسهم، حينما يتكلمون بلهجة الفكر الدارج حول قضايا الواقع والحياة، ويرفضون بلاوعي أنْ تؤثر الفلسفة في رؤيتهم للأشياء والمواقف. هم في الحقيقة يحولون الفلسفة إلى مهنةٍ كلامية لا طائل من ورائها، يفضلون النقل والإستظهار لكنهم لا يكابدون تفكيراً حراً خارج الأطر التقليدية، ولا ينشغلون بهموم فلسفية.

ولذلك تنتشر الأمية الفلسفية بالدرجة الأولى بين المتعلمين، وهذا دليل على كون التعليم غير معني بالفلسفة وأهميتها. وعليه يمكننا محو الأمية الفلسفية عندما نعي حجم المشكلة التي تواجه العقول لدينا، وعندما نقف على ذروة الثقافة المُغلقة التي ترى في الإنسان أداة للتسلط والقهر. تراه وسيلة للقبض على زمام عقله وإدارته كيفما تشاء. علينا إفساح مجالات التعليم ومؤسساته لجوانب كبيرة من الفلسفة، حتى تصبح ممارسة حرة في كافة الأنشطة التعليمية والمعرفية. لأن الفلسفة لصيقة العمل بالعقل طالما هناك إنسان يفكر ويبدع.

إنَّ الأسئلة الفلسفية يستحيل قمعها أو كبتها، ولو حدث ذلك، فقد يكون الوضع إلى حين، بيد أنها ستنفجر في مرحلةٍ لاحقة. وستكون التكلفة الثقافية باهظة الثمن من تدوير الغباء والتنطع الفكري والتمحك اللغوي والخلل في تداول خطابات الغوغاء واستشراء التسلط دون حدود. الفلسفة هي مصل واق لتلك الأمراض التي توجد حال غيابها الفكري. ولعلَّ الأمية الفلسفية سبب عدم جدية الفكر في مجالات السياسة والإجتماع والمعرفة والإعلام لدينا، فقد نتناقش من حين لآخر، لكن مع إقصاء الفلسفة يغدو النقاش قصير الأمد، ولا يبلغ أذني المتحاورين.

الأبجديات الفلسفية هي المفاهيم والمناهج والأفكار التي تتيحها الفلسفة للعقول الحرة التي تتأثر بها وتنتجها. طالما توجد أبعاد فلسفية في أي خطاب، فهذا كفيل بجعله قادراً على التأثير، لأنَّ التفلسف يمثل قوة العقول على الطرح وابتكار الرؤى. وليس عيباً أنْ يعترف الإنسان هنا أو هناك بكونه لا يعرف الفلسفة ولم يتلق تعليما وافراً فيها، ولكن العيب كل العيب أنْ يغلق عقله أمامها بحجة كونها مستغلقةً وصعبة الفهم وأنْ يتخذ من ذلك تعلةً للتراجع أمام الاتجاهات الفلسفية التي هي نتاج الحياة. عليه أنْ يفتح ذهنه دون انغلاق أولاً، وأنْ يتهجى فلسفياً أفكاره من جديدٍ، وأنْ يحاول هضم الأفكار التي توفرها الثقافات الكونية التي سبقتنا في هذا الشأن.

***

د. سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم