
تمهيد: اود ايجاز بعض التوضيح في ما يخص هذا المبحث (التاريخ البدائي والنزعة الانسانية في الفلسفة البنيوية)، اني استقصيت ابرز عاملين او مرتكزين اعتمدتهما البنيوية لدى فلاسفتها ليفي شتراوس الاب الروحي للبنيوية، والتوسير، ولاكان، وفوكو، ودي سوسير وغيرهم. وسنأتي عليهم لاحقا.
كما اود الاشارة ان المقصود بالانسان هنا، ليس الكائن النوعي المتفرد عن جميع الكائنات الاخرى في الطبيعة، كائن انثروبولوجي- بيولوجي وحسب ميزته المتفردة (العقل واللغة)، وانما يعني في هذا المبحث (النزعة الانسانية) بمعناها القيمي والفلسفي في صنع الانسان لتاريخه التطوري الحضاري، وليس كموجود انساني غير فاعل كما هو في مراحل بدائية سحيقة من عمر البشرية.
من الجدير بالذكر ان الانسان اكتسب فرادته النوعية وانسنته بالطبيعة متميزا عن بقية المخلوقات والكائنات الحية على الارض بامتلاكه وحده خاصية الذكاء العقلي واللغة والخيال.
العاملان اللذان اعتمدتهما البنيوية هما:
اولا التاريخ البدائي للاقوام البشرية او ما يسمى علم الاثنولوجيا، وهو علم اجتماعي يدرس الجماعات البشرية البدائية قبل اختراع الانسان للتدوين، اعتمدته البنيوية، فحواه ان تلك الاقوام لا تاريخ لها بالمعنى البنيوي والتطور الخطي الحتمي الحضاري للتاريخ، اذ تعتبر البنيوية تاريخ تلك الاقوام البدائية تاريخا ساكنا في ثباته ومحدوديته في تفكير الانسان. ان هذا التاريخ البدائي الانساني توقف تطوره مراحليا في عصور اكتشاف الانسان للزراعة سبعة الاف سنة قبل الميلاد.
ان عصر اكتشاف الانسان للزراعة اعقب عصر الصيد والالتقاط البدائي، وهو بداية صنع الانسان للحضارة الانسانية، فقد عرف تخزين الحبوب الفائضة عن حاجته، وراقب بدقة تغّير الفصول وموسم سقوط الامطار، واستوطن على شكل مجموعات قرب الانهر والترع، وعرف كيفية تدجين الحيوانات الاليفة والاستفادة منها، وعرف ايضا الوسائل البدائية في الري. وعرف ايضا اهمية تخزينه للحبوب.
لكن الاهم من اكتشاف الانسان للزراعة هو اختراعه ابجدية الكتابة اربعة الاف سنة قبل الميلاد في وادي الرافدين (الكتابة المسمارية) عند السومريين، ومثلها 3200 قبل الميلاد عند الفراعنة المصريين (الكتابة الهيروغليفية). هنا مع اختراع الانسان الكتابة بدأ تاريخ جديد للبشرية اذ اصبح التدوين كتابة متاحا على الواح الطين واوراق البردي وجلود الحيوانات وغيرها، وكل المراحل التاريخية التي سبقت الكتابة تعتبر تاريخ بدائي غير مدوّن ولا معروف توثيقيا سوى آثاريا تنقيبيا فقط، واصبحت تلك الاقوام التي عاشت تلك الاحقاب بلا تاريخ او خارج التاريخ الإنساني المدوّن.
العامل الثاني هو (النزعة الانسانية) مرتكز الفلسفتين الماركسية والوجودية. مع اختلاف المعنى المفهومي بينهما. الذي انكرته البنيوية جملة وتفصيلا.
ان البنيوية تيّار فلسفي معاصر نشأ قبل الحرب العالمية الاولى في مؤلفات توبتسكي وجاكوبسون واعمال هوسرل، في فرنسا معقل الفلسفة العقلانية والحداثة التي ارساها رينيه ديكارت في القرن السابع عشر (العقل والعلم)، مقصّيا الميتافيزيقيا من مباحث الفلسفة معتبرا اياها لغوا فارغا باستثناء ماكانت الكنيسة تريده بعصره . كما ان العديدين يصنفون شتراوس فيلسوف البنيوية الرائد بانه وريث مدرسة فرانكفورت النقدية الالمانية، والبنيوية هي اقرب الى فلسفة الحداثة التي يقودها الفيلسوف المعاصر يورغن هابرماس.
والبنيوية تيارات فلسفية متشعبة تأثرت اول الامر بالماركسية والوجودية قبل ان تنقلب عليهما. (معظم فلاسفة البنيوية والوجودية كانوا في بداياتهم ماركسيين شيوعيين).
وقد عنت البنيوية على يدي دوسوسير ولوفيدج فنتجشتين بعلم الصوتيات واللغة. ويوضح شتراوس:ان الوقائع التجريبية لا معنى لها في ذاتها، ولكن متى وضعناها في نسق فكري له معنى او نموذج اكتسبت معنى علميا.
كما اجد ضروريا التنويه ان تيارات الفلسفة المعاصرة اصبحت مفاهيمها الفلسفية متداخلة في خطاباتها الرؤيوية الفلسفية والمعرفية، بحيث لم نعد نمتلك معه القدرة الكافية على تمييز تلك الفواصل والفروقات المتباينة في ما بين تياراتها بيسر وسهولة، فمثلا نجد فلسفة الحداثة تتداخل مع تيار ما بعد الحداثة بحيث صار بعض الفلاسفة ينكرون فواصل الاختلاف الكبيرة بين الفلسفات المعاصرة، فمثلا التداخل نجده مع ابرز فيلسوف الحداثة يورغن هابرماس الذي تحسب الكثير من افكاره الفلسفية الى البنيوية، فقد اختلف ايضا في مقالة مهمة له بعنوان (الحداثة مشروع لم ينجز بعد) مع ابرز فلاسفة مابعد الحداثة فرانسوا ليوتار الذي يعارض تلك الفكرة بقوله (ان مشروع مابعد الحداثة مشروع مختلف عن مشروع الحداثة التي هي وليدة عصر النهضة والانوار الواجب مجاوزتها. وانها استنفدت اغراضها).
في حين يصر هابرماس ان فلسفة وعصر الحداثة لم يستنفدا اغراضهما ومهامهما بعد. عديدة هي الانتقادات اللاذعة التي واجهتها تيّارات الفلسفة البنيوية، من فلاسفة ومدارس عديدة مناوئة لطروحاتها الفلسفية، كونها (البنيوية) أثارت اشكاليات في الفكر الفلسفي جديدة غير مسبوقة في تاريخ الفلسفة، استلزمتها واحتاجت معها الى نقودات متباينة معها او ضدها، جاءت في مقدمتها من مفكرين وفلاسفة ماركسيين وغير ماركسيين، تلاهم بالتزامن معهم فلاسفة الوجودية الحديثة لعل أبرزهم كان سارتر، في مسألتين او منحيين اثنين نسلّط الضوء عليهما دون غيرهما من قضايا اشكاليات البنيوية المتعددة التي لا تزال وستبقى لفترة غير محدودة مثار نقاش وحوار فلسفي مستمر.
الاول: التاريخ البدائي:
التركيز البنيوي تاريخيا على ( الاثنولوجيا) دراسة تاريخ الجماعات البشرية البدائية، التي اعتمدها أبرز اعلام الفلسفة البنيوية بمختلف الاختصاصات (شتراوس) في دراسة تاريخ انثروبولوجيا الحضارة، (التوسير) في نقده الماركسية وكتاب رأس المال، (لاكان) في علم النفس، (دو سوسير و فنتنجشتين) في علم اللغات واللسانيات، (فوكو) في تاريخ الجنسانية وتاريخ الجنون وهو صاحب مصطلح (اركيولوجيا المعرفة) او مايسمى تعريبا حفريات المعرفة، ويعتبر كتابه الشهير (الكلمات والاشياء) من اشهر كتب الفلسفة في القرن العشرين، و (جان بياجيه) في علم النفس ايضا مع جاك لاكان وهكذا.
أعتبرت البنيوية أن دراسة الاقوام البدائية تمتاز بأنها تعنى بأقوام، كانت تعد خارج التاريخ البشري، ولا تمتلك تاريخا مدّونا وليس لها تاريخ بالمعنى التاريخي المتغّير والمتطّور، التاريخ الخطي في مراحله الحضارية والمتعذّر رصد تغييراته المتسارعة أسوة بغيره كما في تاريخ شعوب ما قبل التاريخ التي عرفت بمراحل تاريخية طويلة بدءا من العصور الحجرية البدائية، وبعدها عصر الصيد والالتقاط تلاها العصور الزراعية والصناعات المعدنية البرونزية اليدوية بأبسط اشكالها واشتمالاتها، وأعتبرت البنيوية تلك المراحل البدائية، مقارنة بالتاريخ الانساني لمراحل ماقبل التاريخ المدّون والموّثق تنقيبيا وآثاريا اركيولوجيا بعد ظهور الكتابة المسمارية في بلاد مابين النهرين والهيروغليفية في مصر القرن الرابع ق. م، على ان ما سبقها تعتبر مراحل اللاتاريخ البشري كما اشرنا له سابقا.
كما أعتبرت البنيوية التاريخ البدائي (تاريخ ساكن) بحكم طبيعة العقل البدائي في ثباته ومحدوديته، وبالتالي أصبح هذا التاريخ أنموذجيا في التناول المنهجي البنيوي البحثي المتعدد التيارات، الذي تخدمه (حالة الثبات والسكون) التي تعتري التاريخ البدائي وتقعده عن الحركة التطورية السريعة المتلاحقة مثلما حصل بعد اختراع الكتابة.
ان هذه المسألة التي اعتمدتها مرتكزا اساسيا الفلسفة البنيوية، أثارت حفيظة الماركسيين من الذين عابوا على البنيوية انها لم تجد في التاريخ الانساني، الا المجتمعات البدائية ما قبل التاريخ، لدراسة تاريخها على وفق منطلقات أسمتها (قطوعات التاريخ) ميزتها ثبات وسكون تلك المجتمعات تاريخيا ومراحليا بما يفتح المجال الى دراستها وتحليلها الانثروبولوجي بدقّة وتناول أيسر. للمفكر مطاع صمدي عبّر عن هذه القطوعات بما اطلق عليه مراحل من غياب التاريخ.**
واذا كانت البنيوية نجحت في اقامة بناءات نسقية معرفية تحت مسمى (التكوين الثابت) للانسان، وتشابه قضايا الانسان في مختلف الازمان والعصور، ليس على صعيد الحقب التاريخية البدائية السحيقة وحسب، وانما على صعيد التاريخ الساكن للانسان في مختلف المراحل التاريخية، لأن مشاكل الانسان كانت وبقيت ثابتة ومتشابهة لم تتغيرجوهريا على حد زعم البنيوية. لكن ما يلحظه الدكتور الباحث فؤاد زكريا وآخرين عديدين غيره من باحثين ماركسيين ووجوديين، أن البنيوية تغاضت واخفقت معا ولم تنجح في تعليل التقدم التطوري والتاريخي انثروبولوجيا الى حد اعتقادها بان ما يدعى التقدم البشري بفعل الاشكاليات البشرية المتنوعة والمتتالية هو محض خرافة ووهم، وان التحديات التاريخية سراب خادع ولم تكن في يوم من الايام عاملا لتقدم حضاري من أي نوع كما ذهبت له البنيوية في ادبياتها البحثية والفلسفية.
ولقد ذهب فوكو الى أبعد من ذلك في قوله: انه يتجنب الخوض في/ ومع كل ما له صلة بمقولات التحّول والتغيير، ولا يرى في كل مرحلة تاريخية الا (ثوابتها) فحسب، ووصل الحد به الى التشكيك بالانسان نفسه، واسقاط التاريخ البعدي القديم والحديث والمعاصر من الحساب الفلسفي البحثي البنيوي نهائيا باستثناء الوقوف عند مراحل اللاتاريخ الذي تمثله الاقوام البدائية باعتبارها مراحل بشرية خارج التحقيب التاريخي الخطي في التطور البشري انثروبولوجيا.
لقد انساق خلف هذه المنطلقات الفلسفية البنيوية العديد من الذين انشقّوا عن الماركسية، ربما كان ابرزهم (التوسير)في استهدافه المادية التاريخية وكتاب رأس المال في انتاجه ماركسية خيالية وتجريدية تعتمد خطابات غامضة واقامة بنى نسقية لا تمّت بأدنى صلة لها مع الواقع العيني ومعالجة مشاكله، وعجزت عن دحض الاسس المادية والجدلية التي قامت عليها الماركسية. وأكثر من ذلك نجده عند اقطاب البنيوية الذين سقطوا في الذهان التجريدي الفلسفي، وخلقوا أنساقا معرفية خارج اهتمام مركزية الانسان وجعلوها حقائق في مواجهتها الفكر المادي والماركسي تحديدا. ان البنيوية تجاهلت الطبيعة الاجتماعية للانسان وحوّلت الانسانيات نحو مملكة التجريد اللغوي. لكن في اعتماد اللغة وعلوم اللسانيات هذه المرة، واعتماد اللغة كمحور ارتكاز في مراجعة جميع مواضيع الفلسفة تجريديا لغويا. ***
و من أبرز الامور في هذا المنحى البنيوي، أن غالبية مدارسها أستقت ينابيع تفلسفها من التاريخ الاسطوري والميثولوجي، الذي أعتبرته البنيوية الأنموذج الأمثل لدراسة القطوعات التاريخية الساكنة التي لايحكمها التغيير او التطور والتبديل. وبذلك تسهل وتتوفر دراستها، وفي اعتمادها الاساطير كما يعتمدها علم النفس الفرويدي على انها حلم جماعي لاشعوري لدى جميع الشعوب قبل وبعد التاريخ، متجاهلة تماما أن ارتباطات مثل اللغة والاسطورة والدين والطقوس والمجتمع او القرابة و القبيلة، والزواج جميعها مرتبطة بالانسان ووجوده الارضي بعرى وثيقة جدا لا ينفع معها المكابرة في تقليل اهميتها في دراسة أي منحى تاريخي او معرفي او فلسفي مبتور لغرض الحصول على استنباطات تعميمية خاصة فقط بالاقوام والقبائل البدائية . ربما كانت تلك المفردات الحياتية بعيدة جدا عن سياقاتها الاجتماعية والانسانية والتاريخية كما حصل في التوظيف البنيوي لها في قراءاتها فلسفة العصر.
ومن الجدير ذكره ان مركزية الانسان في الفلسفة قديمة، ورائدها هو الفيلسوف السفسطائي بروتوغوراس، القرن الرابع قبل الميلاد في مقولته الشهيرة (الانسان مقياس كل شيء). واعقبه فلاسفة الوجودية جميعهم، سورين كيركارد، وهيدجر، ومارسيل جبريل، وصولا الى سارتر وكامو واخرين من فلاسفة البنيوية خرجوا من عباءة الوجودية في الغائهم محورية الانسان كمعيار كل منجز معرفي او حضاري، من دون ادنى تانيب ضمير ولا اسف على الانسان الذي اعتبرته الماركسية اثمن راس مال في الوجود يصار الى الغائه ومصادرة حضوره باكمله.
كما ان الاسطورة التي هي حلم جماعي لا شعوري لدى الشعوب البدائية كما يذهب له علم النفس الفرويدي، الذي يختلف دلالة ومضمونا مع مفهوم البنيوية له، ففي علم النفس الفرويدي يكون المحلل النفسي أعلى مرتبة تمييزية عن المريض، ويعد الطبيب النفسي نفسه، أعلى مرتبة انسانية عن الشخص المعالج، مادام يستطيع كشف أبعاد أعمق من تلك التي يبوح بها الشخص له عن تجاربه العفوية. اما في البنيوية في اتجاهها التحليلي البنيوي السايكولوجي عند (جان لاكان) فان المحلل النفسي (لا يعتبر نفسه سوّيا وسليما بالقياس الى من يقوم بتحليله، كما لا يتخّذ منه اي موقف مميز عنه)1. وبهذا التفريق الافتعالي بين الفهم الفرويدي للاسطورة من جهة، وفهم الفلسفة البنيوية لها في التحليل النفسي من جهة مغايرة، لا اجده يشكل مسألة فلسفية جديرة بالاهتمام والاختلاف حولها. كما اجد ان انحسار المد الفلسفي عن معالجة أمور حقيقية تهم معاناة الانسان في الحياة المعاصرة، واعتبار مسائل اللغة محورا مركزيا في معالجتها كل المسائل الفلسفية، سيجعل من الفلسفة هراءا لا طائل من ورائه وهو يحتضر اليوم سريريا.
الثاني: النزعة الانسانية:
البنيوية بحسب النقاد الماركسيين لها، يلازمهم ومعهم (سارتر) وأقطاب الوجودية الحديثة مثل هيدجر، (فقط بمنطلقات متباينة مختلفة كما سيتضح معنا لاحقا)، يجمعون على ان البنيوية ألغت في فلسفتها مسألتين على جانب كبير من الأهمية في تاريخ الفلسفة، (الذات / والانسانية) واقصتهما نهائيا من التفكير الفلسفي ب (المطلق)، بما يترتّب عليه نسف التاريخ الفلسفي السابق على البنيوية. ان لم يكن نسف ضرورة ذلك التاريخ في عزل البنيوية الانسان كمحور وجودي مركزي في جميع وعلى امتداد تاريخ الفلسفة القديمة والمعاصرة.
قبل التطرق لرد البنيوية على الماركسيين والوجوديين، نرى انه من المتعذّر لأي جديد في الفلسفة الغاء (الذات) والغاء (النزعة الانسانية) من الفلسفة، وماذا يتبقى منها بعدئذ؟ ولمن تخاطب او تكتب من أجله أو له؟ معظم تاريخ الفلسفة في أشد تجريداته وميتافيزيقيته الفلسفية لم يكن محور الانسان غائبا ولا مغيّبا منها، كمحور مركزي في التفلسف (مرسل ومتلقي) (فاعل ومنفعل) (وجود وقضايا) (كينونة وجوهر) (حياة وموت) (خير وشر) وهكذا، ليقوم العقل بعدها وحقول المعرفة والعلوم في اختصاصات الاجتماع، علم النفس، الاقتصاد، السياسة، وامور عديدة لا حصر لها بدورها المكمّل أو المفارق، وفي مختلف شؤون الحياة المتعالقة بالفلسفة.
علما ان الوضعية المنطقية حلقة فيّنا هي الاخرى كانت سبقت البنيوية في تجاهلها موقع الانسان المحوري في الحياة والوجود. وفي معرض دفع (سيباج) هذه المثلبة عن البنيوية يقول (ان كل ما ينتمي الى مجال الانسان لا بد ان يكون من صنع الانسان، ثم لا يصح ان نتصور البنيوية على انها نظرية تجعل أصل الانساق التي تفسر بها الظواهر الانسانية خارجا عن نطاق الانسان)2، بمعنى ان البنيوية لا تلغي الاهتمام بالنزعة الانسانية من قاموسها الفلسفي.
كما ان الوضعية المنطقية في رائدها الفيلسوف اوجست كونت (1798 – 1875) اهتمت بدراسة الظواهر الواقعية المادية فقط، متبنية شعار (ما لا يمكن رصده لا وجود له) رافضة كل تفكير في الغيبيات واعتبرت الميتافيزيقيا لغو فارغ لا معنى له، وان الوضعية هي التي تلتزم العلم في فهم الظواهر الطبيعية والبشرية.
وفي هذا الشعار للوضعية المنطقية يظهر جليّا تناقضها المثالي وفي تطرفها ايضا (رغم ما تدعيه من عقلانية واقعية)، ولا ارغب العودة وتكرار خطر وخطأ التفكير المثالي في اعتماد ان الفكر سابق على الوجود ومنتج له. ناقشت هذا الموضوع سابقا في (اللغة والاشياء) وفي اكثر من موضع.
ان كل تجاوز ونفي للنزعة الانسانية فلسفيا، يجعل من تاريخ الفلسفة قبل البنيوية، تراثا كميّا استذكاريا لا نفع له، ولا علاقة صحّية تربطه بالانسان كوجود نوعي في الحياة التي نحياها على الارض. وأن تاريخ الفلسفة مدموغا بعدم الفاعلية الانسانية، انما تريده البنيوية خطابات من السرد التجريدي المنطقي، وأنساق فارغة أجترارية لمفاهيم موغلة في التجريد من جهة، وموغلة في الغياب من الاسهام في تغيير العياني الواقعي، والتي استنفدت جميع متبنيّاتها ومجالات تناولها البعيدة عن تحقيق حلول حيوية ماثلة في حياة الانسان المعاصر. ارتكبت البنيوية خطأ لم تتمكن تصحيحه بالفلسفة هو عندما قام ليفي شتراوس في عام 1905 من التبشير بنظرية التحول اللغوي وفتح باب اللسانيات وفلسفة اللغة على مصراعيه واخفقت البنيوية تكملة ذلك المبحث الهام الذي يمثل اكبر انعطافة في تاريخ الفلسفة من الانحراف الذي ورثه بول ريكور في الهورمنطيقا وجاك دريدا في التفكيكية.
مؤكد اننا ليس بمقدورنا ان نصادر منطلقات فلسفية تشغل الباحثين عقودا طويلة مثل الفلسفة البنيوية قبل ان نتبيّن ردودها ووجهة نظرها وتعليلها لمثل تلك التوجّهات المصادرة للذات والنزعة الانسانية، خاصة ان ماتدّعيه البنيوية بانها بصدد قلب جميع المفاهيم الفلسفية السابقة عليها من اجل خلق انساق وبناءات لخدمة العلم وتقدم الحياة الانسانية وهذا التوجه لا يخدم الغرض المعلن عنه بوسائلها المحدودة القاصرة على الاقل. . . وليس من الواقع في شيء ان تخرج البنيوية الفلسفة من ذاتيتها الانسانية مهما كانت الذرائع التي ترفعها، على صعيدي التفلسف، وصعيد التلقي الاستقبالي. ويطلق شتراوس على الذاتية انها احد اشكال الوعي البرجوازي التجريدي لذا فهو يرفضها.
كانت البنيوية موفقّة في ادانتها لوجودية سارتر انها فلسفة مغرقة في ذاتيتها غير الانسانوية على مستوى المجموع، وهو شيء لا تنفرد به البنيوية عن سائر منتقدي وجودية سارتر، المغرمة بالتشاؤم والعدم، واللاجدوى، وان الانسان قذف به بمحنة الحياة، حاملا حريته المسؤولة عن ذاته وعن الاخرين الذين هم الجحيم، وعليه خلاص نفسه بقواه الذاتية منفردا من المأزق الوجودي كما في دعوة بوذا (ابحث عن خلاصك وحدك).
كما أعتبرت ذاتية سارتر الفلسفية ذاتية متضخّمة ومتطرّفة لكن ماهو مهم اكثر، وجوب التفريق بين تأكيد سارتر (للذات الانسانية) التي يحاجج بها البنيوية ويحمّلها مسؤولية اضاعتها، وبين (النزعة الانسانية) التي تطالب الماركسية بها البنيوية لأضاعتها لها. فالنزعة الانسانية التي يدّعيها سارتر في فلسفته هي غيرها النزعة الانسانية التي تريد الماركسية حضورها في الفلسفة البنيوية وتفتقدها لديها.
أن البنيوية مهما سعت وبذلت من جهد في ربط منطلقاتها الفلسفية بعلم النفس او الانثروبولوجيا اوالتاريخ، اوعلم الاجتماع او اللغة او علم النفس وغير ذلك فهي بالنتيجة عاجزة عن تحقيق منجز تدّعيه بصدد اقامة (بناءات نسقية) تدّعم مسار العلوم وتساهم بتطويرها وتقدم الحياة بالتزامن مع اعلانها الفلسفي المتشدد ان دور الوجود الانساني في التاريخ اصبح خارج مقولات البحث الفلسفي والمعرفي.
محاورة جان بياجيه:
هنا نعيد قبل ان نعرض محاججة (جان بياجيه) على أدعاءات كل من الماركسيين وسارتر المختلفتين حول (الذات، والانسانية) وتقاطع واختلاف سارترحول النزعة الانسانية الذي اشرنا له سابقا مع البنيوية، عنه في تقاطع واختلاف الماركسية في فهمها النزعة الانسانية المصادرة فلسفيا عند كل من البنيويين وسارتر على السواء.
يذهب بياجيه في رده على نقد سارتر للبنيوية، وتأكيده أهمية محورية الذات الانسانية في فلسفته الوجودية، التي أتهم سارتر بها البنيوية العبور عليها ومجاوزتها
بافتعال غير مقبول او مبرر، فكان رد بياجيه: (ان الذات الانسانية التي يؤكدها سارتر لا تشيّد بناء العلم بحكم طبيعة عملها انها تجريدات لا شخصية، لا يمكننا الاستدلال عنها الا من خلال هذه التجريدات فقط)3. وليست هي (ذات) فاعلة يعتد بها من واقع تأصيل النزعة الانسانية كفاعل تنموي في مجرى الحياة.
هنا بياجيه في رده على سارتر يضع نفسه، بالمثل الدارج فاقد الشيء لا يعطيه، فاذا كانت الذاتية الانسانية عند سارتر تجريدات غير شخصانية، فالبنيوية لا تعتمدها وتلغيها هي اصلا ولا تعترف بها على لسان فوكو بشيء عياني تتمحور الفلسفة حوله وحول قضاياه ومشكلاته ذلك هو الانسان (كذات)، وحتى على لسان شتراوس وفوكو فهما لا يقرّان بأن للانسان تاريخ حضاري أوصله الى مانعيشه اليوم.
وان قضايا الانسان واحدة وتطلعاته لم تتغيرعبر العصور لذا يكون كافيا دراسة تاريخ الاقوام البدائية فقط لنفهم التاريخ البشري بمجمله، بمعنى تعميم منجزات الجزء على الكل. ومن الجدير ذكره ان المفكر الكبير محمد عابد الجابري في دراساته وفلسفته القيّمة حول صياغته لمشروع عربي نهضوي استبعد البنيوية وتحفّظ على التسليم بالكثير من منطلقاتها، لانها وبحسب ادانته لها عملت على تعميم منجز الجزء على الكليات وهو سبب كاف لرفضه.
ويمضي بياجيه في التوضيح أكثر انه يوجد فرق كبير بين العلاقات الشخصية التي تختفي من خلالها الذات الانسانية، كنزعة فطرية (انسانية مجتمعية)، وبين ما يطلق بياجيه عليه (الذات الانسانية في مجال المعرفة)، وهذا بحسب بياجيه فرق كبير وهام، اذ يجده بياجيه التخلي عن الذات الانسانية في مجال المعرفة، انما يحررنا في تخلّينا عن اتجاهنا التلقائي في التمركز حول انفسنا، و (نتحرر من ذاتية العلاقات الشخصية، ولا يكون هناك بعدها للذات وجودا بوصفها ذاتا عارفة، الا بمقدار ترابطاتها المتداخلة التي تتولد منها البناءات)4. رد تجريدي يتلاعب بالالفاظ فقط.
ونكمل مع بياجيه توضيحه: ان البنيوية تفرق بين (الذات الفردية) التي لا تأخذ منها موضوعا للبحث الفلسفي على الاطلاق، وبين (الذات المعرفية) أي تلك النواة التي تشترك فيها الذوات الفردية كلها على مستوى واحد، وهي موضوع الفلسفة ان صح التعبير، كذلك تفرّق البنيوية بين ما تحققه الذات بالفعل، وما بين ما يصل اليها وعيها، وهو محدود بطبيعته، وما تركّز البنيوية عليه هو اهتمامها بتلك العمليات التي تقوم بها الذات وتستخلصها بالتجريد من افعالها الذهنية العامة. 5
ان ما يلاحظ على حجة بياجيه تجاه درء تهمة اغفال البنيوية النزعة الانسانية، ركيزة الفكر الفلسفي الماركسي انها لم تكن مقنعة بما فيه الكفاية، اذ عمد بياجيه باسلوب تجريدي صرف تفنيد مقولات فلسفية تاريخية علمية ومادية صلبة لا تزال تمتلك حراكها العملياني الواقعي المقبول ليس لدى الوجودية والبنيوية، وانما في الماركسية، فهي تمتلك حضورا انسانيا فاعلا في مجرى الحياة وتداخلها معها. ولم يكن بياجيه الوحيد الذي وقع بمطب التجريد الفلسفي المسرف في مناكفة وتضاد مع الماركسية حتى احيانا من دون تسميتها، اذ نجد ان (ألتوسير) كان أنشطهم وأبرزهم تأثيرا في نقده المادية التاريخية وكتاب راس المال كما اشرنا له سابقا*.
وقبل ان نختم مبحثنا هذا نشير الى ان البنيوية ترى ان الكلام يسبق الكتابة، وان الحقائق التاريخية تثبت ان اقدم نظام كتابي يرجع الى خمسة الاف سنة قبل الميلاد، وانه لا يمكن لأي مجتمع الوجود من غير اللغة الكلامية، لذا يكون من المنطقي ان نفترض ان الكلام يرجع الى بداية ظهور المجتمع الانساني، وعلى العكس من البنيوية ترى التفكيكية ان الكتابة تسيق الكلام وان الكلام ولد من رحم الكتابة، وينعتون الكتابة بالعدم والكلام بالوجود ومنطقيا فالعدم يسبق الوجود.
كما ان النص في الفلسفة التفكيكية يظل دائما يحمل عوامل اندثاره وتلاشيه بحسب الباحثة والناقدة سارة كوفمان من رواد الفلسفة التفكيكية، وتجد ان التفكيكية تتعامل مع النص اللاهوتي المتعالي، بانه نص يحمل اسباب تفككه ومغادرته احتكار مركزية خطاب النص، الى ان تصبح حسب رأيها جميع النصوص نسبية الوجود ونسبية التلقي ومتعددة القراءات. كما ان الفيلسوف الانثروبولوجي جيمس فرايزر يذهب الى انه كما استطاع الدين ابطال عمل السحر، فان العلم في طريقه الى ابطال لاهوت الدين.
***
علي محمد اليوسف /الموصل
........................
الهوامش:
** لتوضيح اكثر يراجع كتابنا (العولمة بضوء نهاية التاريخ وصدام الحضارات وبروز ظاهرة الارهاب.
*** لتوضيح اكثر حول محاولة التوسير نقد كتاب راس المال تراجع مقالتنا بعنوان (التوسير وكتاب راس المال).
1. توضيح اكثر انظر، فؤاد زكريا، افاق الفلسفة صفحات 363-365
2. المصدر السابق ص 360
3. نفس المصر السابق ص 366
4. نفس المصدر السابق ص 368
5. نفس المصدر السابق ص 364