أقلام فكرية

أقلام فكرية

يُعيد ماكس شيلر ترتيب خريطة الوعي الفلسفي حين يحرر مجال القيم من قبضة العقل، ويعيده إلى موطنه الأصيل: الوجدان. فالعقل — في تصوره — عاجز عن لمس الجوهر القيمي للأشياء، لأنه بطبيعته أداة تحليل، لا أداة كشف. أمّا الوجدان، فهو البصيرة التي ترى ما وراء الظاهر، إنه “العين الباطنة” التي تبصر القيم كما يُبصر البصر الألوان.

بهذا يطبق شيلر منهج هوسرل الظاهراتي، لا على المعرفة أو المنطق كما فعل أستاذه، بل على الحياة الانفعالية ذاتها، حيث الحدس الوجداني يصبح طريقاً إلى إدراك الماهيات القيمية، إدراكاً مباشراً سابقاً للتجربة، قبليًّا ولكنه ليس عقلياً، بل انفعالياً قبلياً، ينبثق من أعماق الكيان الإنساني لا من سطح الفكر. ولهذا يثور شيلر على الإرث الكانطي الذي جرد العاطفة من معناها، وعدّها امتداداً للنظام السيكو-فيزيائي للإنسان، ففي نظره، هذه الرؤية تجهل البنية القصدية للعاطفة؛ إذ إن الوجدان ليس اضطراباً عارضاً في النفس، بل فعل قصديّ متجه نحو قيمة، لانّ القيمة ليست وليدة العاطفة، بل هي سابقة عليها وجوداً ومنزلة، والعاطفة لا تخلق القيمة، وإنما تكشف عنها كما يكشف الضوء عن شكل الشيء، إن القيم موجودة على نحو مستقل عن وعينا بها، والعاطفة ما هي إلا الوسيلة التي تزيح الغطاء عنها.

ويميز شيلر بدقة بين القيمة والواجب، فالواجب المثالي يستند إلى القيمة، لا العكس، ومن هنا يرفض إقامة الأخلاق على أساس الواجب المعياري الذي يفتقر إلى الجذر القيمي الأصيل، فالقيمة هي الأصل، والواجب فرع عنها، كما أن الوجود القيمي سابق على كل فعل أو أمر أخلاقي، فهو أفق تتجلى فيه إمكانات الفعل الإنساني.

ويرى شيلر أن القيم ليست نسبية، لأن معناها لا يقوم على علاقة أو مقارنة، بل تنتمي إلى فئة “الكيفيات المطلقة” التي لا تتبدل، والذي يتغير هو وعينا بها لا هي نفسها، ونسبيتنا المعرفية لا تمس إطلاقها الوجودي، لانها ثابتة، لكنها تتجلى بدرجات مختلفة في الوعي الإنساني والتاريخي. ومن هنا، يشن شيلر حربًا فكرية على كل نزعة تنسبية، سواء أكانت أخلاقية أم تاريخية، مؤكداً أن القيمة ليست اختراعًا بشريًا ولا نتاجًا للتطور الاجتماعي، بل كيانٌ قبليّ متعالٍ على الزمان.

ويُظهر شيلر حسًّا أنثروبولوجيًا عميقًا حين يطبق الظاهراتية على الإنسان ذاته، فيجعله كائنًا قيمياً قبل أن يكون عقلانياً. فالإنسان — في جوهره — ليس “حيواناً عاقلاً” كما وصفه أرسطو، بل كائن يعي القيم ويعيشها وجدانياً، يستمد منها معنى وجوده ومغزى أفعاله، فكل تغير في الحس القيمي، في الأحكام الأخلاقية، في النظم والعادات، هو تغير في الأفق الإنساني ذاته، لا في طبيعة القيمة، فالقيم خالدة، أما طرائق عيشها فتتبدل بتبدل التاريخ.

وهكذا، حرّر ماكس شيلر الفلسفة من أسر المفاهيم العقلانية الجامدة، وأعاد للوجدان مكانته كمصدر أصيل للمعرفة الأخلاقية، فالقيمة عنده ليست فكرة ولا مبدأ، بل حقيقة تُدرك بالحدس الانفعالي، وكأنها إشراقة تكشف للإنسان عن ما يجب أن يكون، لا بما يُفرض عليه من الخارج، بل بما يستدعيه من عمق ذاته الحرة والواعية.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

تعريف الشر الكامل: المفهوم المحوري هنا هو "الشر الكامل الذي لا يملك دوافع تجميلية". هذا الشر لا يمكن تبريره أو "تجميله" بأي غطاء أيديولوجي، أو منفعة ذاتية حقيقية، أو ضرورة تاريخية مزعومة، تجعله مقبولاً ضمن أي نظام قيمي. هذا التحليل يطرح سؤالاً عميقاً: هل تتسم المنظومات الهيكلية الحديثة للاستغلال بالصراحة التدميرية التي تقاوم أي تفسير عقلاني أو أخلاقي؟

الشر الأداتي والأناني

يُعرّف هذا الشر بأنه فعل يُرتكب كوسيلة لتحقيق منفعة ذاتية خالصة، مثل كسب المال أو السلطة أو النجاة. الضرر الذي يلحق بالآخرين في هذه الحالة يكون عرضياً أو ثانوياً بالنسبة للفاعل، وليس هو الغاية المقصودة. الفرد الأناني يعمل وفقاً لمبدأ: "لا تساعد أحداً؛ بل أضرّ بالجميع إذا كان ذلك يحقق لك ميزة". في هذا السياق، يتم "تجميل" الاستغلال بوصفه كفاءة اقتصادية أو ضرورة للتنافس العالمي.

الشر الجذري

يُفهم "الشر الجذري"، وفقاً لإيمانويل كانط، على أنه انحراف فطري داخل الكيان الإنساني، حيث يتم تبني مبادئ تضع المصلحة الذاتية فوق القانون الأخلاقي. قد ينبع هذا الشر مما سماه كانط "اللا مجتمع الاجتماعي"، أي الصراع النابع من التفاعل الاجتماعي البشري. يظل هذا الشر متجذراً في الإنسانية وقابلاً للفهم ضمن إطار عقلاني، ولكنه يمثل تقويضاً ذاتياً للأساس الأخلاقي.

الشر الخالص

يمثل هذا المفهوم، خاصة لدى شوبنهاور، أعلى درجات الفساد الأخلاقي، حيث يُعرّف بأنه الرغبة في تعاسة الآخرين، وتُعتبر معاناة الآخرين "غاية في ذاتها". يوصف الشخص الخبيث بأنه يسعى إلى إلحاق الضرر بالآخرين دون مصلحة ذاتية مباشرة. هذه اللامبالاة بالذات مقابل هدف إيذاء الآخر تجعل "الشر الخالص" أسوأ أخلاقياً من الأنانية.

الشر الكامل والمجاني

يوصف الشر المطلق غالباً بأنه غير عقلاني أو جنوني، مما يجعل الحكم عليه صعباً وفقاً للمعايير الأخلاقية المنطقية. يمكن قياس تأثيره في الألم والمعاناة البشرية والاضطراب الاجتماعي.

أما "الشر المجاني"، وهو مصطلح لاهوتي مطبّق سياسياً، فيُعرّف بأنه أي شكل من الشر كان يمكن منعه بطريقة تجعل العالم أفضل بكثير. هذا التركيز على غياب الضرورة الأخلاقية الكافية هو ما يربط "الشر المجاني" بـ "الشر الكامل"؛ إذ يفتقر كلاهما إلى التبرير الجوهري أو الهدف الأسمى.

غياب "الغطاء التجميلي"

الغطاء التجميلي في هذا السياق لا يعني بالضرورة الجمال الفني، بل يشير إلى الغطاء الأيديولوجي الذي يُستخدم لتزيين الفعل الشرير. يمكن للفن العظيم أن ينتج عن أناس أشرار، ولا تحمل الجماليات بحد ذاتها أيديولوجيا متأصلة.

الغطاء التجميلي هو استخدام خطاب "التنوير" أو "التقدم" لتبرير الاستغلال الاستعماري القديم، أو استخدام خطاب "الكفاءة" و"المنافسة" لتبرير الجشع الرأسمالي الحديث.

إن تطبيق مفهوم "الشر المجاني" على الأنظمة البشرية هو تحويل للنقد من لاهوتي إلى سياسي. فإذا كان النظام النيوكولونيالي ينتج شراً "كان يمكن منعه وجعل العالم أفضل" (أي أن الديون والفقر المفروضين لا يحققان غاية كبرى، بل يعيقان الخير الأعظم)، فإن هذا الشر يفقد صفة "الأداتي العقلاني" ويصبح مجانياً بالنسبة للإنسانية ككل، رغم أنه يظل أداتياً بالنسبة للطبقة المستفيدة من رأس المال.

النيوكولونيالية كمنظومة للشر الهيكلي

النيوكولونيالية هي السيطرة التي تمارسها دولة (عادةً القوة الاستعمارية السابقة) على دولة أخرى مستقلة اسمياً (المستعمرة السابقة) من خلال وسائل غير مباشرة. هذه الظاهرة، التي صاغها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1956)، واستخدمها كوامي نكروما في الستينيات، تستبدل السيطرة العسكرية المباشرة بآليات الإمبريالية الاقتصادية، والعولمة، والإمبريالية الثقافية، والمعونة المشروطة. جوهر هذه العلاقة هو أن الدولة الخاضعة لها، على الرغم من امتلاكها لجميع مظاهر السيادة الدولية، تُوجّه سياستها الاقتصادية والسياسية فعلياً من الخارج.

المال كـ "شر كامل"

لتحقيق "الشر الكامل" الخالي من التجميل، يجب ربط النيوكولونيالية بالطبيعة الميتافيزيقية للمال الحديث. الشر المطلق قد يوصف بأنه "تسامٍ قائم بذاته خالٍ من الحب أو المعنى أو الهدف، إله بلا إله". النظام المالي النيوكولونيالي يتطابق مع هذا الوصف؛ فهو لا يقدم حكماً أخلاقياً (باستثناء الوعد الزائف بالتنمية)، بل هو "كائن، ضخم وغير مبالٍ، يولد نفسه بلا نهاية" عبر آليات الديون والنمو المتفشي.

لا يتبع هذا النظام منطقاً عقلانياً في المدى الطويل. إن عبادة النظام النقدي - التي تقتل الحياة، وتُدمّر الأنظمة الحيوية، وتقلب الأخلاق - هي الأقرب إلى التعريف الفلسفي للشر الكامل الذي يفتقر إلى المنطق الجوهري. هذا التدمير هو مجاني لأنه يهدد استدامة النظام البيئي العالمي ككل، مما يجعل الفوائد المتحققة قصيرة الأجل وغير عقلانية. النيوكولونيالية هي التعبير الهيكلي لهذا الشر، حيث يُنفّذ الشر الأناني (الجشع) بآليات مبتذلة (البيروقراطية)، ولكنه يستند إلى منطق نظامي خبيث يسعى إلى التدمير المجاني لضمان التسامي المقلوب لرأس المال.

الشر الكامل هيكلية هدفها منع الخير الأكبر

يُظهر التحليل أن "الشر الكامل" في النيوكولونيالية هو شر لامركزي. إنه ليس شراً شخصياً محدداً، بل شراً نظامياً يعمل بالتعاون بين الخباثة الهيكلية (التي تصمم القواعد العالمية لتفضيل الشركات على الشعوب) والابتذال البيروقراطي (الذي يضمن التنفيذ).

استراتيجيات فلسفة الأخلاق للمقاومة والتحرر

بما أن "الشر المجاني" هو الشر الذي كان يمكن منعه، وبما أن النيوكولونيالية هي نظام مصمم بشرياً (قواعد تجارية، مؤسسات مالية)، فإن المقاومة الأخلاقية لديها قوة التحويل السياسي:

الإصرار على التفكير النقدي

الإصرار على "التفكير" هو الحصن الوحيد ضد "التمسك بالقواعد السلوكية المقررة". التفكير النقدي ضروري لمواجهة الشر المبتذل في التنفيذ والشر الكامل في التصميم الهيكلي.

إعادة تعريف السيادة والتبعية

تتطلب المقاومة استعادة السيطرة على الاقتصادات والموارد الوطنية والمحلية، وضمان اتخاذ القرارات على المستوى المحلي الأنسب. هذا التفكيك للتبعية النيوكولونيالية يسمح للشعوب ببناء مفاهيمها الخاصة عن الحُسن والعدالة.

نقض الخطاب التجميلي

يتم تجميل الاستغلال بخطاب "التنمية" النيوليبرالي، لكن النتائج الملموسة هي تدمير الأنظمة الحيوية والانقلاب الأخلاقي (تحويل الرذائل إلى فضائل)، مما يثبت أن الغطاء التجميلي زائف ومُهدِّم للحياة.

محاربة الخباثة النظامية

على الرغم من أن التنفيذ يتم عبر أفراد يمارسون الشر المبتذل، فإن قواعد اللعبة العالمية مصممة بنية خبيثة تهدف إلى منع التحرر السياسي والاقتصادي للدول المستقلة.

إن التحدي الأخلاقي ليس مجرد إدانة الأفعال، بل الاعتراف بأن الشر النظامي للنيوكولونيالية هو شر نظامي، وليس مجرد سوء تقدير. هذا الاعتراف يتطلب تحويل النقد الفلسفي إلى جدول أعمال سياسية تهدف إلى استبدال المؤسسات الفاشلة بنظام عالمي يعتمد على الديمقراطية والمساءلة، ويُعلي من قيمة الحياة والعدالة فوق متطلبات النمو النقدي المجرد.

***

غالب المسعودي

.....................

المراجع

beigemoth. blog. Aesthetics and Evil - The Beige Moth

cambridge.org. Gratuitous evil and divine providence | Religious Studies | Cambridge Core

fount.aucegypt.edu. “The Principles of Islamic Moral Philosophy and the Possibility of Re-C” by Muhammad Feteha - AUC Knowledge Fountain - The American University in Cairo

iep.utm.edu. Kant, Immanuel: Radical Evil | Internet Encyclopedia of Philosophy

orca.cardiff.ac.uk. “The poison in the snake's fang”: Schopenhauer on malice

peped.org. Absolute Evil - Philosophical Investigations - PEPED

trendsettercase.wordpress.com. God, Gratuitous Evil, and The Murderous Goose - Parker's Pensées

 

الفرق الدلالي والاجرائي

"الوضع البشري هو المصطلح الوحيد الذي يجب أن ننطلق منه، وإليه يجب أن نعود بكل شيء"

الوضع البشري هو مفهوم فلسفي وعلمي مركزي يُعنى بدراسة طبيعة الوجود البشري، بما يشمل تجاربه، سلوكياته، وتفاعلاته. يتناول كل من علم الاجتماع (السوسيولوجيا) وعلم النفس (البسيكولوجيا) هذا المفهوم من زوايا مختلفة، مما يولد اختلافات دلالية (في المعنى والمفاهيم) وإجرائية (في المنهجيات والتطبيقات). تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الفرق بين التناول السوسيولوجي والتناول البسيكولوجي للوضع البشري من خلال مقارنة دلالية وإجرائية، مع التركيز على الإطار النظري، المنهجيات المستخدمة، والتطبيقات العملية. فماهي احوال الوضع البشري؟ كيف يتم تناول الوضع البشري من جهة السوسيولوجيا والبسيكولوجيا؟ مادا يترتب عن هذا التناول؟ وماهو الفرق الدلالي والاجرائي بينهما؟

الفرق الدلالي

التناول السوسيولوجي

علم الاجتماع يركز على الوضع البشري من منظور جماعي، حيث يُنظر إلى الفرد كجزء من نسيج اجتماعي أوسع. يُعرّف الوضع البشري في هذا السياق من خلال التفاعلات الاجتماعية، الهياكل الاجتماعية (مثل الطبقات، المؤسسات، والثقافات)، والسياقات التاريخية والثقافية التي تشكل سلوك الفرد وهويته. على سبيل المثال: المفاهيم الأساسية: التنشئة الاجتماعية، السلطة، الثقافة، والدور الاجتماعي.

المنظور: يرى السوسيولوجيون أن الوضع البشري مشروط بالبيئة الاجتماعية، حيث تؤثر العوامل الخارجية مثل القوانين، الأعراف، والمؤسسات في تشكيل السلوك البشري.

مثال تطبيقي: دراسة تأثير العولمة على الهوية الثقافية لمجتمع معين.

التناول البسيكولوجي

على النقيض، يركز علم النفس على الفرد كوحدة تحليل أساسية، مع التركيز على العمليات الذهنية الداخلية مثل الإدراك، العواطف، والدوافع. يُعرّف الوضع البشري هنا من خلال التجربة الفردية، الوعي الذاتي، والعوامل النفسية التي تؤثر على السلوك. على سبيل المثال:

المفاهيم الأساسية: الشخصية، الدافعية، الإدراك، والصحة النفسية.

المنظور: يرى علماء النفس أن الوضع البشري يتشكل من خلال التجارب الشخصية، العمليات العقلية، والاستجابات الفردية للمحفزات الخارجية.

مثال تطبيقي: دراسة تأثير القلق على اتخاذ القرار لدى الأفراد.

مقارنة دلالية

التركيز: السوسيولوجيا تركز على "الجماعة" وتأثيرها على الفرد، بينما البسيكولوجيا تركز على "الفرد" وتجربته الداخلية.

السياق: التناول السوسيولوجي يعتمد على السياق الاجتماعي والثقافي، بينما التناول البسيكولوجي يعتمد على العوامل الداخلية والفردية.

المفاهيم: المفاهيم السوسيولوجية تتعلق بالهياكل والعلاقات الاجتماعية (مثل السلطة والطبقة)، بينما المفاهيم البسيكولوجية تتعلق بالعمليات الذهنية (مثل الإدراك والعاطفة).

الفرق الإجرائي

المنهجيات السوسيولوجية

تعتمد السوسيولوجيا على منهجيات تهدف إلى فهم الظواهر الاجتماعية على مستوى الجماعة، وتشمل: الدراسات النوعية: مثل الإثنوغرافيا، المقابلات المتعمقة، وتحليل الخطاب لفهم ديناميكيات المجتمع.

الدراسات الكمية: مثل الاستبيانات، تحليل البيانات الإحصائية، ودراسات الحالة لقياس الظواهر الاجتماعية.

المنهج النظري: الاعتماد على نظريات مثل الوظيفية البنائية (بارسونز)، الصراعية (ماركس)، أو التفاعلية الرمزية (ميد).

مثال إجرائي: تحليل تأثير الفقر على التعليم من خلال دراسة إحصائية لمعدلات التسرب المدرسي في مجتمع معين.

المنهجيات البسيكولوجية

تعتمد البسيكولوجيا على منهجيات تركز على الفرد وعملياته النفسية، وتشمل:

الدراسات التجريبية: مثل التجارب المعملية لقياس الاستجابات النفسية أو السلوكية.

الدراسات السريرية: مثل تحليل الحالات الفردية لفهم اضطرابات الصحة النفسية.

المنهج النظري: الاعتماد على نظريات مثل التحليل النفسي (فرويد)، السلوكية (سكينر)، أو الإنسانية (روجرز).

مثال إجرائي: دراسة تأثير الضغط النفسي على الأداء الأكاديمي باستخدام تجربة معملية تقيس مستويات الكورتيزول.

مقارنة إجرائية

وحدة التحليل: السوسيولوجيا تدرس الجماعات أو المؤسسات، بينما البسيكولوجيا تدرس الفرد.

الأدوات: السوسيولوجيا تستخدم أدوات مثل الاستبيانات الواسعة النطاق والتحليل الإحصائي، بينما البسيكولوجيا قد تستخدم التجارب المعملية أو الاختبارات النفسية.

النتائج: النتائج السوسيولوجية غالبًا ما تكون تعميمات على مستوى المجتمع، بينما النتائج البسيكولوجية تكون خاصة بالفرد أو مجموعات صغيرة.

التطبيقات العملية

التناول السوسيولوجي

" إن تقبُّل مخاطر الحياة الحتمية هو ما يجعل الحالة الإنسانية نبيلة."

تُستخدم الدراسات السوسيولوجية في تصميم السياسات العامة، تحليل التغيرات الاجتماعية، وفهم ديناميكيات السلطة. على سبيل المثال، دراسة تأثير الهجرة على التكامل الاجتماعي.

الأثر: تساهم في تغيير الهياكل الاجتماعية أو تحسين العلاقات بين الجماعات.

التناول البسيكولوجي

تُستخدم في العلاج النفسي، تحسين الأداء الفردي، وفهم الاضطرابات النفسية. على سبيل المثال، تطوير برامج علاجية للقلق أو الاكتئاب.

الأثر: تساهم في تحسين الصحة النفسية الفردية ورفاهية الأفراد.

التكامل بين التناولين

رغم الاختلافات، هناك إمكانية للتكامل بين التناول السوسيولوجي والبسيكولوجي. على سبيل المثال: علم النفس الاجتماعي: يجمع بين المنظورين لدراسة كيفية تأثير البيئة الاجتماعية على العمليات النفسية الفردية.

الدراسات متعددة التخصصات: مثل دراسة تأثير الفقر (سوسيولوجي) على الصحة النفسية (بسيكولوجي).

مثال تطبيقي: تحليل تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الشعور بالوحدة، حيث يُدرس السياق الاجتماعي (مثل ثقافة التواصل) والعمليات النفسية (مثل الشعور بالانتماء).

خاتمة

" إن الوضع البشري يمكّننا من مشاركة أفضل ما فينا فقط، لأننا نسعى دائمًا إلى الحب والقبول."

الفرق بين التناول السوسيولوجي والتناول البسيكولوجي للوضع البشري يكمن في التركيز الدلالي والإجرائي. السوسيولوجيا تركز على الجماعة والهياكل الاجتماعية باستخدام منهجيات واسعة النطاق، بينما البسيكولوجيا تركز على الفرد والعمليات النفسية باستخدام منهجيات دقيقة وتجريبية. مع ذلك، يمكن للتكامل بين المنهجين أن يوفر فهمًا أعمق للوضع البشري، مما يعزز التطبيقات العملية في مجالات مثل السياسات العامة والعلاج النفسي. كيف يمكن تطوير الوضع البشري من التشتت والتأزم الى التألق والاشعاع؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

بقلم: سوزان هاك

ترجمة: د. ابراهيم طلبه سلكها - 2025م

العنوان الأصلى للمقال

Philosophy as a Profession, and as a Calling

Susan Haack

***

الملخص:

لم تكن الفلسفة دائمًا، كما هي اليوم، تخصصًا أكاديميًا يُمارس في الجامعات والكليات. وقد يظن المرء — كما تشير هاك — أن مأسسة الفلسفة واحترافها يعني أن إنتاجها أصبح أكثر وأفضل؛ لكنها تواصل قائلةً، للأسف، إن الأمر ليس كذلك. في هذا المقال، تستكشف هاك الاختلاف بين ممارسة الفلسفة بوصفها مهنةً أو وظيفة، وبين ممارستها بوصفها دعوةً أو رسالة، وتوضح الأسباب التي تجعل أولئك الذين يرون في الفلسفة أكثر من مجرد عملٍ مهني يجدون أنفسهم على خلافٍ مع القيم “الإدارية” التي تهيمن على المهنة الأكاديمية.

الكلمات المفتاحية: الفلسفة، المهنة، الرسالة، الهاوي، العمل، القيم.

الملخّص بالايطالية:

لم تكن الفلسفة دائمًا، كما هي اليوم، مجالًا أكاديميًا يُمارس أساسًا في الجامعات والكليات. قد يُظن — كما تقول هاك — أن احتراف الفلسفة يعني ليس فقط إنتاجًا أكثر، بل أيضًا إنتاجًا أفضل؛ غير أنّها تتابع قائلةً: للأسف، ليس الأمر كذلك. في هذا المقال، تتناول هاك الاختلاف بين التفلسف بوصفه مهنةً أو عملًا، والتفلسف بوصفه دعوةً أو رسالة، وتبيّن الأسباب التي تجعل أولئك الذين يرون في الفلسفة أكثر من مجرد عملٍ مهني يميلون إلى الاصطدام بـ القيم “الإدارية” السائدة في المهنة.

الكلمات المفتاحية: الفلسفة، المهنة، الرسالة، الهاوي، العمل، القيم.

«إن الطبيعة الفلسفية […] ستنمو لا محالة لتتحلّى بكل فضيلة إذا ما تلقت التعليم الملائم؛ أمّا إذا زُرعت وغُرست ونَمَت في بيئة غير مناسبة، فإنها ستتطور على النقيض تمامًا…»(1)

لكن، لِيستسلِم من يشاء لفصل هذين الأمرين،أمّا غايتي في الحياة فهي أن أوحّد مهنتي وهوايتي،كما تتّحد عيناي لتُبصِرا معًا رؤيةً واحدة.فحيثما يلتقي الحبّ بالحاجة،ويغدو العمل لعبًا من أجل رهانٍ بشريّ،حينها فقط يُنجَز الفعل حقًّا،من أجل السماء ومن أجل المستقبل.(2)

المقدمة

بالطبع، لم تكن الفلسفة دائمًا مهنةً أو تخصّصًا أكاديميًا يُمارَس أساسًا في الجامعات والكليات. فقد نال رينيه ديكارت(1596- 1650) –  درجةً في القانون المدني والكنسي، غير أنّه بدلًا من ممارسة المحاماة التحق عام 1618 متطوّعًا بجيش موريس ناساو، ثم لاحقًا بجيش ماكسيميليان البافاري. وفي أواخر عام 1646 بدأت الملكة كريستينا السويدية مراسلاتٍ معه أدّت في النهاية إلى انتقاله إلى السويد عام 1649 برعايتها الملكية.(3) أما بندكت باروخ  سبينوزا(1632-1677) , فقد رفض مناصب تدريس مرموقة، واختار بدلًا من ذلك أن يقتات من عمله في صقل العدسات للأدوات البصرية، متعاونًا في تصميماتها مع كريستيان هويغنس. وقد أدّت أفكاره الفلسفية إلى نبذه من قِبل طائفته اليهودية، ووُضع كتابه الأخلاق (4) على فهرس الكتب الممنوعة التابع للكنيسة الكاثوليكية.(5)

أما جون لوك(1632-1704) ، فقد تلقّى تدريبًا في الطب، ثم عُيّن لاحقًا طبيبًا خاصًا لكفيله أنتوني آشلي كوبر، أوّل إيرل لشافتسبري.(6) في حين كان جورج باركلي(1685-1753)  الابن الأكبر لـ ويليام باركلي، وهو نبيل أنجلو-إيرلندي من الدرجة الصغرى. بعد أن ألقى محاضراتٍ في اللاهوت واللغة العبرية في كلية ترينيتي بدبلن، نال في عام 1721 الرتبة الكنسية، ثم عُيّن عميدًا على درومور(1721-1722)، وبعدها على ديري (1724).   وفي عام 1723 تلقّى ميراثًا من إيستر فان هويمريخ، وتزوّج عام 1728 وسافر إلى أمريكا، قبل أن يعود عام 1732. وفي عام 1735 عُيّن أسقفًا أنجليكانيًا على كلون.(7)

كان ديفيد هيوم) ١٧١١–١٧٧٦ (الابن الثاني في عائلته، وكانت وراثته ضئيلة؛ لذلك انتقل إلى فرنسا حيث كان يمكنه العيش بتكلفة أقل، وهناك بدأ – في سن الثالثة والعشرين – في كتابة مؤلفه الشهير مبحث في الطبيعة البشرية.وفي عام ١٧٤٥ قبل وظيفة مُربيٍ لشابٍ من النبلاء، غير أنّ هذا الأخير تبيّن أنه مجنون؛ فترك العمل بعد عامٍ واحد ليصبح في ١٧٤٦ سكرتيرًا لابن عمه، الفريق جيمس سانت كلير، ورافقه لاحقًا في بعثة دبلوماسية إلى النمسا وإيطاليا.وبين عامي ١٧٥٤ و١٧٦٢ عمل أمين مكتبة في جمعية المحامين في إدنبرة، ثم أصبح سكرتيرًا للسفارة البريطانية في باريس، قبل أن يتقاعد في إدنبرة عام ١٧٦٩.(8) أما توماس ريد (١٧١٠–١٧٩٦) فقد كان قسًّا في الكنيسة الأسكتلندية حتى عام ١٧٥٢، حين أصبح أستاذًا في كلية كينغز بأبردين. وبعد نشر كتابه الأول بوقت قصير، عُيِّن أستاذًا للفلسفة الأخلاقية في جامعة غلاسكو، وهو المنصب الذي كان يشغله من قبل آدم سميث.(9)

كان جون ستيوارت مل (١٨٠٦–١٨٧٣) إداريًّا استعماريًّا في شركة الهند الشرقية منذ عام ١٨٢٣ حتى عام ١٨٥٨، كما شغل عضوية البرلمان عن منطقتي سيتي ووستمنستر من عام ١٨٦٥ إلى ١٨٦٨، وهي الفترة التي كان فيها أيضًا المدير الأعلى (اللورد ريكتور) لجامعة سانت أندروز.(10) أمّا تشارلز ساندرز بيرس (١٨٣٩–١٩١٤)، فباستثناء بضع سنوات عمل فيها محاضرًا في جامعة جونز هوبكنز، فقد أمضى معظم حياته المهنية عالِمًا في هيئة المسح الساحلي الأمريكية، إلى أن استقال عام ١٨٩١ وانتقل للعيش من إرثٍ تركه له والده، عالم الرياضيات بنجامين بيرس.(11)أما فريدريش نيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠)، فقد كان يُدرّس – لا الفلسفة – بل فقه اللغة الكلاسيكي في جامعة بازل من عام ١٨٦٩ إلى ١٨٧٩، واضطر إلى الاستقالة من مهامه الأكاديمية بعدما اكتشف أنه لا يستطيع استعمال عينيه لأكثر من عشرين دقيقة يوميًّا. غير أنه، وبفضل معاشٍ تقاعدي من الجامعة ودعم من الجمعية الأكاديمية التطوعية في مدينة بازل، بدأ بكتابة أهم أعماله الفلسفية. وفي عام ١٨٨٩ أصيب بانهيارٍ جسديٍّ تام، لكنه عاش حتى وفاته بسكتة دماغية عام ١٩٠٠ .(12)

أما جوتلوب فريجه (١٨٤٨–١٩٢٥)، فقد كان يُدرّس – لا الفلسفة – بل الرياضيات في جامعة يينا، وقد عاش في بدايات حياته المهنية على منحٍ دراسية غير مدفوعة الأجر أو زهيدة الأجر، واضطر إلى الاعتماد على إعالة والدته.(13) في حين عاش جيريمي بنتام على إرثٍ تركه له والده، جيرماياه بنثام، الذي كان محاميًا ناجحًا للغاية.(14) في الأزمنة الأحدث، طُرِد برتراند راسل (١٨٧٩–١٩٧٠) من منصبه في كلية ترينيتي بجامعة كامبريدج بعد أن أُدين وحُكم عليه بالسجن بموجب قانون الدفاع عن المملكة بسبب موقفه السلمي المعارض للحرب العالمية الأولى. وبعد ذلك، وفّر له كتابه الشهير تاريخ الفلسفة الغربية (١٩٤٥)(15) دخلًا ثابتًا ومضمونًا مدى الحياة.(16) أما لودفيغ فيتجنشتين (١٨٨٩–١٩٥١) – الذي كان جنديًّا متطوعًا في الجيش النمساوي-المجري أثناء الحرب العالمية الأولى – فقد عمل بستانيًّا ومعلّمًا في المدارس قبل أن يعود إلى جامعة كامبريدج عام ١٩٢٩ .(17)

ومع ذلك، في الوقت الحاضر، فإن الغالبية العظمى من الفلاسفة هم أساتذة أو محاضرون في مؤسسات أكاديمية. نعم، هناك أيضًا فئة من «الباحثين المستقلين»، ولكن كثيرين منهم، على الأقل، هم أشخاص لم ينجحوا في الحصول على وظيفة أكاديمية. ونعم، هناك عدد غير قليل ممن يشغلون مناصب في أقسام الفلسفة ربما لا يرون أنفسهم فلاسفة بالمعنى الحقيقي، بل مجرد معلّمين للفلسفة، دون ادّعاء أو طموح لأن يكونوا فلاسفة بحق.

ومع ذلك، توجد استثناءات نادرة — مثل الفيلسوف الراحل روجر سكروتون، الذي غادر الوسط الأكاديمي بعد عدة عقود، وبدأ يعتمد على نفسه في المعيشة، على ما يبدو، من خلال العمل في الاستشارات لصالح عدد من الشركات في دول الكتلة السوفيتية السابقة، ثم لصالح شركات التبغ، وكذلك من خلال عمله مع مراكز الأبحاث الفكرية، وغير ذلك(18) — لكن، باستثناء هذه الحالات القليلة، يمكن القول إن الفيلسوف في أيامنا هذه هو في الغالب أستاذٌ للفلسفة.

***

قد يخطر ببالك أن هذا يعني أن إنتاج الفلسفة اليوم أكثر، وأن بعضه — على الأقل — أفضل مما كان عليه في الأزمنة السابقة؛ فها نحن الآن أمام آلاف الأشخاص الذين يعملون في هذا المجال، لا بضع مئات فقط، ودون خوفٍ من عقوباتٍ رسمية بسبب الهرطقة أو المعارضة السياسية(19)، ومعظمهم لا يثقلهم كثير من الواجبات الأخرى، بل ويتقاضون أجورًا معقولة.لكن الواقع ليس كذلك؛ بل هو على العكس تمامًا. (وأحيانًا أتساءل إن كان جزءٌ من المشكلة يكمن ببساطة في أن المهنة قد أصبحت واسعةً أكثر مما ينبغي(20) — فشملت، لا محالة، عددًا كبيرًا من أولئك الذين لا يعنيهم من عملهم سوى قضاء الوقت).

وعلى أيّ حال، فإنّ ما نراه في الواقع هو كميات هائلة من الكتابات المنشورة، وأعداد لا تُحصى من الأوراق البحثية المقدَّمة، إلى جانب مهنةٍ باتت مفرطة التخصّص، وحقلٍ فكريٍّ متشظٍ إلى جماعاتٍ صغيرة وإقطاعياتٍ فكرية؛ وسلسلةٍ من النزعات العابرة والاتجاهات المؤقتة؛ وجبالٍ من الدوريات، تصدر كثيرٌ منها عن عددٍ قليل من الشركات التجارية العملاقة — بينما تُزاح الأعمال الجيّدة أو تُغمر وسط الضجيج.وبدل أن نرى أشخاصًا سعداء، شاكرين لكونهم يمارسون عملًا شيّقًا ومليئًا بالتحديات، نرى عددًا كبيرًا منهم يعانون القلق والاكتئاب أو الإرهاق وفقدان الطاقة بعد حصولهم أخيرًا على التثبيت الأكاديمي (التنّور)، أو نراهم في حالٍ من النشاط المحموم، كأنهم عاجزون عن التوقف عن إنتاج المواد الهزيلة التي أوصلتهم إلى تلك المرحلة.

ومن هنا يتحدد موضوعي في هذا المقام: الفرق بين الفلسفة بوصفها مهنةً أكاديمية، والفلسفة بوصفها نداءً أو رسالة — لا بمعناها الديني، بل بالمعنى الذي نصف به مثلًا مهنة التمريض على أنها (بالنسبة لبعضهم) رسالةً أو دعوةً.وهذا التمييز يتجاوز الفارق التقليدي بين "المحترف" و"الهاوي". فكلٌّ من الهاوي وصاحب الرسالة الفلسفية سيواصل الاشتغال بالفلسفة حتى لو لم يُدفَع له أجر لقاء ذلك. غير أنّ مصطلح «الرسالة» كما أستخدمه هنا لا يحمل أيًّا من الدلالات السلبية التي اكتسبها لفظ «هاوٍ» — أي الإيحاء بمرتبةٍ أدنى، كمن يلعب في «دوريٍّ ثانويٍّ» لا في «الدوريّ الممتاز».وحين أتحدث عن أولئك الذين يملكون رسالةً فلسفية، أعني الذين يمارسون الفلسفة بجدٍّ وصدق، ويسعون حقًا إلى فهم الأمور على نحوٍ عميق، حتى لو لم يتقاضَوا أجرًا على ذلك. ومثالٌ واضحٌ على ذلك هو تشارلز ساندرز بيرس، الذي واصل عمله الدؤوب والمنتج في الفلسفة والمنطق والسيميائيات وتاريخ العلوم، قبل أن تطرده جامعة هوبكنز بزمنٍ طويل، واستمر على ذلك المنهج عقودًا بعدها.

وبطبيعة الحال، فإن الفلسفة بالنسبة إلى قلةٍ منّا تُعد في آنٍ واحد مهنةً ورسالة. غير أنّ هذا، كما سأبيّن، يتركنا في كثيرٍ من الأحيان ممزقين بين قيمٍ متعارضة وطموحاتٍ متباينة. ذلك أنّ ممارسة الفلسفة بنجاح — وأعني بها إحراز تقدمٍ في مسألةٍ أو أكثر، أو حتى الوقوع في خطأ صادقٍ يمكن أن يتيح للآخرين فيما بعد أن يُحسنوا التقدّم — تتطلّب مهاراتٍ مختلفة اختلافًا جوهريًا، ومزاجًا مختلفًا، ومواقف مغايرة عمّا يتطلّبه النجاح في مهنة الفلسفة ذاتها، أو في وظيفة أستاذٍ جامعيّ.فإن الطموح الجوهري للفيلسوف هو اقتحام حصن المعرفة، أو على الأقل — كما يقول بيرس — أن يكون أحد الجثث التي تتسلّق فوقها الأجيال اللاحقة في طريقها إلى الحقيقة.(21) ومن الجليّ أن هذا ليس هو الطموح الأساسي لمن يسعى إلى النجاح في المهنة الفلسفية اليوم. إن «الطبيعة الفلسفية» التي يتحدث عنها أفلاطون تُصغي إلى النداء، غير أنها يسهل فسادها إذا وُجدت في بيئةٍ رديئة.

لا تفهمني على نحوٍ خاطئ: لست أقول إنّ أولئك الذين يعدّون الفلسفة نداءً أو رسالةً يؤدّون دائمًا، أو بالضرورة، عملًا أفضل في تطوير الفهم الفلسفي من أولئك الذين يتعاملون معها كمهنةٍ فحسب — فليس الأمر كذلك. فحتى أكثر المخلصين تفانيًا قد يُضيعون وقتهم في طرقٍ مسدودة، كما أن أكثر "المحترفين" تشككًا أو برودًا قد يصيبون أحيانًا شيئًا بالغ القيمة.ولست أقول أيضًا إنّ من يتخذ الفلسفة مجرد وظيفة لا يمكنه أن يكون جادًا تمامًا في عمله، أي أن يسعى بصدقٍ إلى معرفة حقيقة المسائل التي تشغله. غير أنه سيتوقف عن العمل على تلك المسائل متى كُفّ عن دفع الأجر له لقاء ذلك، ولن يُعنى كثيرًا عمّا إذا كانت تلك المسائل لا تتعدّى كونها إشكالاتٍ ثانويةً أو جزئية.

ولست أقول أيضًا إنّ من المستحيل البقاء — فضلًا عن الازدهار — في مهنتنا مع الاستمرار في القيام بعملٍ فلسفيٍّ جادٍّ وأصيل؛ غير أنّ ما أقوله هو أنّ ذلك بالغ الصعوبة — أشدُّ صعوبةً مما ينبغي، أو مما كان سيكون عليه الحال لو كانت مهنتنا، وجامعاتنا عمومًا، أكثر توجّهًا نحو حياة الفكر مما هي عليه الآن.

وسأبيّن أنّ هناك توترًا حقيقيًا بين ما يمكن أن أسمّيه، في غياب مصطلحٍ أفضل، «القيم والأهداف الإدارية» لتلك المؤسسات، وبين القيم الفكرية أو المعرفية للباحث الحقيقي عن الحقيقة.

سيبدأ هذا البحث ببيان تلك القيم والأهداف المتعارضة، ثم يتابع ببعض التأملات حول السبب الذي يجعل — كما رأى أفلاطون — المزاج الفلسفي قابلًا للفساد بسهولةٍ في بيئةٍ غير ملائمة.(22)

أولا: أبدأ بمخططٍ تمهيدي — وأخشى أن يكون أشبه بمرثيةٍ نقدية — عن الحالة الراهنة لمهنتنا.

حدث انفجار في عدد المنشورات، وتكوُّن الشِلَل والاتحادات الاحتكارية، وتراجع في الجودة: فكتالوجات الكتب لدى الناشرين تزداد سُمكًا عامًا بعد عام، ولكن دون أن يعود ذلك بالنفع على التقدُّم الفلسفي. فالكثير من هذه الكتب لا تُباع منها سوى بضع مئات من النسخ في أحسن الأحوال – وربما أقل من ذلك في حالة الكتب المنشورة بطريقة "الطباعة عند الطلب"(23) – وغالبًا ما تُطرح بأسعار مرتفعة إلى حدٍّ لا تستطيع سوى قلّة من المكتبات تحمّله.

وقد حدث كذلك انفجارٌ هائل في عدد المجلات – بعضها، ولحسن الحظ، ما يزال مستقلًّا – لكن كثيرًا منها بات الآن مملوكًا لتلك الدور التجارية العملاقة: سبرينجر (Springer)، إلسيفيير (Elsevier)، دي جرويتر (de Gruyter)، تايلور وفرانسيس (Taylor & Francis)، وغيرها، بل وحتى أوكسفورد وكامبريدج. تصدر هذه الدور آلاف المقالات، غير أن معظمها لا يُقرأ (وبحقٍّ)، أو لا يقرؤه إلا الأعضاء أنفسهم من الدائرة الضيقة ذاتها من المتخصصين الذين يكتبونها ويقيّمونها، في حين يدور عدد كبير منها حول موضوعات عابرة وهزيلة مثل نقد (X) لتفسير (Y) لتعليق (Z) على   . (W)(24)

تُباع اشتراكات هذه المجلات للمكتبات بأسعار باهظة للغاية، ويُبرَّر هذا الثمن بأن محتواها قد خضع لمراجعة من قِبل الأقران؛ غير أنّ ما إذا كانت هذه المراجعة تُعَدّ ضمانًا حقيقيًا للجودة، أو حتى لمستوىٍ أدنى من الكفاءة، فهو أمر مشكوك فيه للغاية(25).والواقع أنّ الطوفان المتزايد من المقالات المقدَّمة للنشر، ولا سيما من طلبة الدراسات العليا الذين يأملون أن يساعدهم ذلك في الحصول على عمل، قد أصبح طاغيًا إلى درجةٍ تفوق قدرة المجلات على الاستيعاب؛ ونتيجةً لذلك يُضطر المحررون إلى الاعتماد على محكّمين قد لا يعرفونهم أصلًا، وغالبًا ما يكونون بعيدين عن الكفاءة المطلوبة. بل لقد أُخبِرتُ أنّ بعض المحررين يكلّفون طلابهم الخريجين بتقرير أيّ الأوراق تُحال إلى التحكيم وأيّها تُرفَض مباشرةً – وهو أمر، في رأيي، غير لائق البتّة.والنتيجة الحتمية لذلك هي نشوء اتحادات احتكارية بين المحكّمين والمراجعين، وهو ما يعزّزه بدوره مظهرٌ مقلق آخر في مهنتنا: فرطُ التخصص والتجزؤ.

حتى أسلوب الكتابة الفلسفية نفسه أصبح أكثر توحّدًا، وأكثر تشابهًا ورتابة، وأقلّ انخراطًا في الفكر الحي. فمعظم ما يُنشر اليوم مكتوبٌ، على الأرجح، بلغةٍ إنجليزية أو ألمانية دوليةٍ صحيحةٍ إلى حدٍّ ما — أو يُعاد تحريره لتوحيد الأسلوب إن لزم الأمر (وغالبًا ما يتولى ذلك موظفون لا يملكون أدنى فهمٍ للموضوعات المطروحة). وقد بلغ الأمر حدًّا صار فيه الأسلوب الجاف الخالي من الحيوية هو القاعدة السائدة، حتى إنّ من يكتب بأسلوبٍ حيٍّ فعلاً، أو بإحساسٍ إيقاعي بلغةٍ إنجليزيةٍ راقية(26)، يُربك بعض القرّاء تمامًا.فعلى سبيل المثال، أصبحت الاختصارات اللغوية من المحظورات الكبرى، وصار يُفرض نمطٌ أسلوبيّ قاتم — وغالبًا ما يكون مضلِّلًا فلسفيًا وتاريخيًا — يعتمد على أسلوب الإحالات الاجتماعية-العلمية بالأسماء والتواريخ وأرقام الصفحات بين قوسين. ومع ذلك، نادرًا ما يشكو أحد، إذ يبدو أن النشر قد أصبح في الغالب مجرّد إجراءٍ شكلي؛ فمعظم الكتّاب اضطروا للتنازل عن جميع حقوقهم في أعمالهم إلى دار أكسفورد، أو سبرينغر، أو غيرها، دون أن تكون لهم أي وسيلةٍ لمعرفة ما سيؤول إليه مصير كتبهم بعد النشر.

هل هناك أعمال جيدة بين هذا الركام من الرداءة؟ على الأرجح نعم. وهل هناك أعمال مهمة فعلًا؟ ربما. لكن من المؤكّد أن بعض الأعمال الجيدة تُرفض لأنها لا تواكب الأدبيات الرائجة المعاصرة بما فيه الكفاية، وأن بعض الأعمال المهمة تُرفض لأنها غير تقليدية أكثر مما ينبغي. واحتمال أن يعثر أحدٌ على أفضل الأعمال ضئيلٌ بطبيعة الحال، لأن الطوفان الهائل من المقالات القابلة للنسيان يغمر كل شيء.وبدلًا من البحث الحقيقي، يعتمد كثيرون على متابعة أعمال من ينتمون إلى دائرتهم الضيقة، أو من «الأسماء الكبيرة» — أي أولئك المنتمين إلى أقسام أكاديمية ذات تصنيف عالٍ، أو الذين اشتهروا بحصولهم على منحٍ ضخمة، أو من يثيرون ضجةً كبيرة على الإنترنت. وهكذا نعتمد، في نهاية المطاف، على مقاييس بديلةٍ زائفة لتقدير الجودة.

الاختصاص المفرط والتشظّي: حين بدأتُ قبل عقود، كانت الأقسام الأكاديمية تضمّ بلا شكّ متخصصين في الفلسفة القديمة، وتاريخ الفلسفة، والمنطق، ونظرية المعرفة، والميتافيزيقا، وفلسفة العلوم، وما إلى ذلك؛ غير أنّ هذه كانت مجالات واسعة لا زوايا ضيّقة، وكان جميع العاملين فيها يبدون اهتمامًا مطّلعًا ومعقولًا بمجالات أخرى أيضًا.أما اليوم، فنرى عددًا متزايدًا من الباحثين المتخصصين في موضوعاتٍ دقيقة للغاية مثل فلسفة أرسطو في الذهن، أو فكرة “التحليل القبلي–البَعدي” لدى كانط وكريبكه، وعددًا أقل من المهتمين بفتراتٍ تاريخيةٍ واسعة من تاريخ الفلسفة. ونرى كذلك تزايدًا في عدد المتخصصين في فروعٍ جزئية مثل نظرية المعرفة الاجتماعية، أو النسوية، أو الصورية، أو فضائل المعرفة، أو نظرية المعرفة التطورية، أكثر مما في نظرية المعرفة العامة نفسها؛ كما نرى تخصصاتٍ أدقّ في فلسفة الفيزياء، أو فيزياء الكم، أو فلسفة الأحياء، أو الأحياء التطورية، أو حتى في الفلسفة النسوية للعلم، أكثر مما في فلسفة العلم بوجهٍ عام — ليغدو لدينا مزيدٌ من المتخصصين في مجالاتٍ تزداد ضيقًا يومًا بعد يوم(27).

هناك وفرة من الشِلَل والتحالفات والاتجاهات العابرة والموضات الفكرية المؤقتة. وإضافةً إلى ذلك، فإنّ النقاشات الدائرة في هذه الزوايا الضيقة باتت أقصر عمرًا من أي وقتٍ مضى، إذ إنّ الأسئلة التي كانت يومًا ما رائجة تختفي ببساطة من المشهد حين يسأم الناس منها. ونادرًا، كما يبدو، ما تُحلّ هذه الإشكالات العابرة فعليًا؛ بل يموت صاحب النظرية التي انبثقت عنها، أو يتقاعد، أو يختفي من الساحة الفكرية، فينتقل الناس ببساطة إلى موضةٍ فكريةٍ عابرةٍ أخرى.

ونتيجةً لذلك، أصبحت الفلسفة نفسها مجزّأة، وأصبح عددٌ أقل من أيّ وقتٍ مضى من الفلاسفة مستعدّين لرؤية الروابط العابرة بين الحقول، حتى بين مجالاتٍ قريبةٍ مثل نظرية المعرفة والميتافيزيقا، أو نظرية المعرفة وفلسفة العلم. وفوق ذلك، فإنّ جانبًا كبيرًا من الفلسفة المعاصرة بات معزولًا عن تاريخها الخاص، مفضِّلًا التركيز على الحديث والجديد فقط. أمّا القلّة الذين ما زالوا يحتفظون بنظرةٍ شموليةٍ، فإنهم غالبًا ما يكونون أصحاب أجنداتٍ فكريةٍ مسبقة، يسعون إلى الترويج لاتجاهٍ أو نزعةٍ معينة، كالمناهج «التجريبية»، أو الإلحاد، أو غير ذلك.

وهكذا نرى اليوم ما يعادل السفسطائيين الذين حذّر أفلاطون منهم — أولئك الذين يسعون لشقّ طريقهم المهني، أو لتحقيق الشهرة في أوساطٍ أوسع، عبر وعودٍ تفوق كثيرًا ما يمكنهم تحقيقه فعليًا. لقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين عددًا من السفسطائيين البارزين (28)، من بينهم كارل بوبر، الذي روّج لفلسفته العلمية ذات الطابع الشكّي المستتر، واليائسة تمامًا من حيث الجوهر، ليس فقط للفلاسفة بل أيضًا للعلماء والقضاة وغيرهم، على أنها مجرّد «لايقينٍ متواضعٍ وواقعي» (29)؛ وريتشارد رورتي، الذي روّج لمزيجه الفوضوي من الالتباسات ما بعد الحداثية تحت شعار «البراجماتية» (30).

واليوم، نرى السفسطائيين الجدد الذين يرفضون كلّ الأسئلة المتعلّقة بالقيم استنادًا إلى الشعار غير المبرهَن القائل بأنّ «الفيزياء تحدد جميع الحقائق» (31)، أو الذين يعدون بأنّ علم الأعصاب سيحلّ لنا جميع المشكلات الفلسفية، أو غير ذلك من الوعود الزائفة المشابهة.

ثانيا: ما الذي يفسّر كل هذا؟ أعتقد أن جزءًا كبيرًا من هذه الكارثة ينشأ عن اختلالٍ جوهري بين ما تتطلّبه الفلسفة الجادّة من شروطٍ للبحث والعمل، وبين ما تتطلّبه البيئة الجامعية المعاصرة المهووسة بمفهوم "الإنتاجية".بل إنّي، بعد التأمّل، أميل إلى القول إنّ انشغال الجامعات المستمرّ بتحفيز الإنتاجية خطأٌ في حدّ ذاته، وأنّ الأفضل كان أن تكتفي هذه المؤسسات باختيار الأشخاص المناسبين ثم تترك لهم حرية العمل دون تدخل. فالمشكلة الحقيقية ليست في نقص الحوافز للعمل الجيّد، بل في فيض الحوافز المشوَّهة التي تدفع إلى إنتاج "أي شيء" بغضّ النظر عن جودته أو قيمته الحقيقية.

ومع ذلك، لا يمكن، بطبيعة الحال، إلقاء اللوم كله على الإداريين؛ إذ علينا أن نواجه الحقيقة المتمثّلة في أننا أسهمنا نحن أنفسنا، إلى حدٍّ ما، في جلب هذه الكارثة، عندما خضعنا بخنوعٍ لتلك القيم الإدارية المشوَّهة.

فما الذي يُحتاج إليه حقًا من أجل ممارسة فلسفة جيّدة؟إنه الاهتمام، والوقت، والقدرة العقلية، والحكم السليم، والواقعية، والخيال، والصبر، والثبات الفكري، والمثابرة. وبصورة أكثر تفصيلًا:

- أولًا، ومن البديهي أن يكون لديك اهتمام حقيقي بالإجابة عن مسألة أو مسائل فلسفية معينة. وليس من الضروري أن يكون هذا الاهتمام ذاتي النشأة أو عفويًّا؛ فقد ينشأ مثلًا من دعوةٍ للكتابة حول موضوع محدد، أو من استفزازٍ أثاره ادعاءٌ خاطئ لشخصٍ آخر. غير أنّ المهم هو أن يكون هذا الاهتمام صادقًا وموجهًا نحو البحث عن إجابة حقيقية للسؤال، لا مجرد رغبة في الجدال العقيم حوله، أو في ابتكار إجابةٍ تبدو مقنعة ومريحة فحسب.

- ثانيًا، ومن الوضوح بمكان، أنك تحتاج إلى الوقت الكافي للتفكير المتأني في الأمور.

- ثالثًا، تحتاج إلى نوعٍ مناسب من القدرة العقلية، وإلى قدرٍ كافٍ من المعرفة الخلفية يمكّنك من أن تبدأ بتلمّس طريقك نحو الإجابات التي تبحث عنها. وهذه “القدرة العقلية الضرورية” لا تعني أنك بحاجة إلى أن تكون سريع البديهة أو لامعًا أو «ذكيًّا» بالمعنى السطحي للكلمة؛ بل إنَّ من يكون أبطأ ولكن أكثر صبرًا ومثابرة قد يكون أفضل بكثير. وكذلك، فإن “المعرفة الخلفية الضرورية” لا تعني وجوب قراءة كل ما كُتب حول الموضوع؛ بل إنَّ الاستفزاز الفكري الذي يبعثه فيك أفلاطون قد يكون أنفع بكثير من قراءة مئة مقالة حديثة في الدوريات الأكاديمية.

- وستحتاج أيضًا إلى إحساس واقعي بما يمكن أن يكون في حدود طاقتك من الأسئلة، حتى لا تهدر وقتك وجهدك في مسائل تتجاوز قدراتك، أو تنفقه في مسائل يسيرة لا تستحق هذا العناء.

- وأبعد من ذلك، تحتاج إلى الخيال الذي يمكّنك من تصور حلولٍ ممكنة، وإلى الصبر اللازم لتفصيلها وتطويرها — إذ ستكون محظوظًا إن أصبتَ الحقيقة، ولو تقريبًا، من المحاولة الأولى.

- وفوق هذا كله، تحتاج إلى صلابة فكرية تمكّنك من البدء من جديد إذا تبيّن فشل أفكارك، وإلى الشجاعة للاعتراف بالخطأ وبأنك ربما أضعت أسابيع وربما سنواتٍ طويلة في تتبّع مساراتٍ زائفة — أو، وهو الأسوأ، في محاولة الإجابة عن سؤالٍ كان من الأصل مغلوط التصوّر أو مضلِّلًا.

- وهذا يعني أنك ستحتاج أحيانًا إلى المثابرة على اكتشاف موضع الخلل في سؤالك نفسه: ربما افتراضٌ خاطئ في بدايات تفكيرك، أو غموضٌ لم تدركه من قبل.

- وكل ذلك يتطلب قدرًا من العناد والاستقلال الذهني؛ إذ من المستحيل أن تنجز عملًا فلسفيًا حقيقيًا إذا كنت منشغلًا بمحاولة إرضاء الآخرين أو نيل قبولهم لأفكارك.

لا أحد يمتلك جميع هذه الصفات مجتمعة وبالقدر نفسه؛ فهي خصال تتكوّن مع الزمن، إن حالف الإنسانَ الحظ. فكثيرون، للأسف، يبدؤون مسيرتهم مفعمين بالحماسة، ثم لا يلبثون أن يستسلموا للملل والفتور؛ أمّا القلّة المحظوظة، فتكتشف أنّها تمارس العمل الذي خُلقت من أجله، وتواصل أداءه بشغف وسعادة — ما دامت البيئة المحيطة تتيح لها ذلك.

لكن كل ذلك يتطلّب، ليس فقط أن تمتلك أو تطوّر الطبع المناسب وجميع الصفات الضرورية الأخرى، بل أيضًا أن توفر لك البيئة المحيطة الوقت وراحة البال لممارسة هذه الصفات، وأن لا تشجّع، خصوصًا، على التسرّع أو الإهمال أو نفاد الصبر أو المراوغة، وما إلى ذلك من السلوكيات الضارّة. في أحسن الأحوال، كان ينبغي للجامعات أن تجتذب الأشخاص القادرين على إنتاج أعمال فلسفية حقيقية وجيدة، وأن توفر لهم الحوافز للاستمرار في العمل رغم الصعوبات، وللإبقاء على إنتاج أفضل ما لديهم. ولكن، للأسف، فإن البيئة الجامعية اليوم بالكاد تصلح لإنجاز عمل حقيقي. فهي، بدلاً من ذلك، تجتذب وتشجّع الكثير من الطامحين ليصبحوا أسماءً كبيرة أو سوفيستيين محتملين، فضلاً عن عدد أكبر يسعى فقط إلى حياة سهلة وهادئة.

ثالثا: بالطبع، طريقة إدارة الجامعات ليست واحدة في كل مكان. سأركّز هنا على الولايات المتحدة وأجزاء أخرى من العالم الناطق بالإنجليزية؛ لكنني سأتناول لاحقًا الاختلافات والقواسم المشتركة، وأهمها من بين القواسم المشتركة الازدياد المستمر للبيروقراطية في الجامعات في أماكن أخرى.

في زمنٍ ما (على الأقل في العالم الناطق بالإنجليزية)، كانت الجامعات تُدار في الغالب بواسطة أعضاء هيئة التدريس، أي أساتذة يعملون فعليًا ويتولّون مهام الرئاسة أو العمادة لمدّة محدودة من السنوات، مع نية صادقة في العودة إلى أعمالهم الفعلية بعد ذلك. وكان يُطلق على ذلك اسم «الخدمة»، وكان يُنظر إليه على أنّه تضحية مؤقتة بالعمل الفكري الجاد من أجل الصالح العام.حتى رؤساء الجامعات كانوا عادةً أكاديميين، وإن كان غالبًا في مرحلة متأخرة من مسيرتهم المهنية. أما باقي الإدارة — مثل الشؤون المالية، والقبول، وتسجيل الطلاب، وتوثيق نتائج الامتحانات، وما إلى ذلك — فكان من اختصاص الإداريين المحترفين، الذين كان يُنظر إليهم (وأعتقد أنهم أنفسهم كانوا يرون كذلك) على أنّهم مكلفون بضمان سير العمل الحقيقي للجامعة بسلاسة.

لكن الأمور الآن مختلفة تمامًا. فـ الجامعات الأمريكية تُدار اليوم في الغالب بواسطة إداريين محترفين — يا لها من كلمة موحية! — الذين ينظرون إلى أعضاء هيئة التدريس على أنّهم «موظفون»، ويقومون بتنظيم ومراقبة «إنتاجيتهم»(32).في الواقع، أصبحت الجامعات الآن بيروقراطيات ضخمة، بعضها يضم أحيانًا عدد إداريين يفوق عدد أعضاء هيئة التدريس. (يلاحظ بعضنا أنّه بطريقة ما، كلما زاد عدد البيروقراطيين، زاد أيضًا العمل البيروقراطي المطلوب من أعضاء هيئة التدريس — فالإداريون، بعد كل شيء، يهتمون بعدد الأشخاص الذين «يعملون تحت إشرافهم»، وهم بارعون جدًا في ابتكار مهام جديدة لتفويضها للمرؤوسين، بمن فيهم نحن «الموظفون الأكاديميون»).

غالبًا ما يكون رؤساء الجامعات من السياسيين السابقين، والعمادات من رؤساء الأقسام السابقين؛ أما الإداريون من المستويات الأدنى فقد يكون لديهم الآن شهادات في الإدارة الأكاديمية تُقدَّم في أقسام التربية.بالطبع، كان العميد غالبًا رئيس قسم سابقًا؛ لكن في الوقت الحاضر أصبح منصب رئيس القسم نفسه في جوهره منصبًا إداريًا؛ ومن يدخل الإدارة قادمًا من الفصل الدراسي أو المختبر أو غيره نادراً ما يعود إلى عمله الأصلي؛ فغالبًا ما يكون هدفه التقدم في الرتب الإدارية، من مساعد عميد إلى عميد مشارك، ومن عميد مشارك إلى عميد، ومن عميد إلى مدير أكاديمي، وربما من المدير الأكاديمي إلى رئيس الجامعة.

معظم هؤلاء «المديرين» لم يعودوا يحتفظون باهتمامات عقلية جدية مستمرة، حتى لو كانت موجودة لديهم سابقًا؛ وبينما يتمتع العديد منهم بالذكاء الكافي على الصعيد السياسي والعملي والبيروقراطي، فإنهم لن يتمكنوا من حل أي مسائل فكرية صعبة. علاوة على ذلك، فإنهم ببساطة غير مجهزين لتقييم قيمة العمل الأكاديمي إلا من خلال مقاييس خارجية وبديلة.وطبيعي أن تكون قيمهم مختلفة تمامًا عن قيم الأكاديميين العاملين التقليديين. سأركّز هنا على رؤساء الأقسام والعمادات — وهم المديرون الوسيطون الذين يحتاجون إلى كسب موافقة كل من أعضاء هيئة التدريس في قسمهم أو كليتهم وكذلك المستويات الإدارية العليا — لأنهم يتخذون الأحكام الأكثر حسمًا بشأن أعمال أعضاء هيئة التدريس، ويقرّرون من يُمنح التثبيت الوظيفي، ومن يُرقّى، ومن يحصل على أي نوع من الزيادة، وما إلى ذلك.

تذكّروا: نحن الأساتذة أصبحنا الآن «موظفين» يُفترض أن نكون، قبل كل شيء، «منتجين». لكن، ماذا يُنتج أعضاء هيئة التدريس؟.طلاب متعلمون جيدًا، نأمل ذلك؛ لكن هذا ليس ما يهم هنا؛ فالمهارة والنجاح في التدريس أصبح يُنظر إليهما بتقدير أقل فأقل، ربما لأن العديد من مهام التدريس أصبحت الآن مخصصة لطلبة الدراسات العليا والمعيدين. لا، الأمر المهم هو البحث العلمي؛ ومن هنا جاء التعبير «نشط في البحث» (وهو مصطلح لم أسمع به في عقودي الأولى من التدريس)، وظهور الرفض والازدراء لما يُسمّى بـ«الأعشاب الميتة»، أي أعضاء هيئة التدريس غير المنتجين.في الماضي، كان الأكاديمي يكتب كتابًا أو مقالًا حين تتكوّن لديه فكرة يرغب في طرحها ومشاركتها؛ أما الآن، فعلينا جميعًا أن نكون منتجين طوال الوقت، ويجب على الإداريين تحديد قيمة ما ننتجه.

ربما لا يزال هناك بعض رؤساء الأقسام الذين يبذلون جهدًا ضميرياً لمتابعة أعمال أعضاء قسمهم؛ لكن خبرتي تشير إلى أنهم باتوا الآن استثناءً لا قاعدة.فالرؤساء مشغولون للغاية، على سبيل المثال؛ ففي أقسام الدراسات العليا، عليهم إدارة فرق من مساعدي التدريس والمعيدين، فضلاً عن ضمان تدريس المقررات الأساسية (نأمل ذلك)، والمشاركة في اجتماعات لا نهاية لها، والتنقّل مستهلكين ميزانيات السفر السخية المخصصة لهم، وما إلى ذلك.وبالاضافة إلى ذلك، بينما كان أن تكون فيلسوفًا يعني في الماضي أن تكون عامًا، ملمًا بعدة مجالات، أصبح الموضوع الآن متخصصًا للغاية لدرجة قد تمنعهم من الحكم على أعمال زملائهم. لا عجب أن الصداقات والأحقاد تلعب دورًا كبيرًا، ولا عجب أن الرؤساء يعتمدون على مكان نشر العمل أكثر من محتواه.

العمادات أقل تأهيلاً بعد لإجراء مثل هذه التقييمات. فكيف يمكن لهم ذلك؟ هناك كم هائل من المواد للقراءة، وحتى لو لم يكن هناك، فإن معظمها سيكون أبعد ما يكون عن قدرتهم على الفهم.لذلك، يعتمدون على حكم رؤساء الأقسام — الذين غالبًا ما يكونون متحيّزين، وكما ذكرت، نادرًا ما يكون تقييمهم مبنيًا على قراءة جدية لأعمال أي شخص — وكذلك على مقاييس بديلة مثل السمعة المفترضة لهذه أو تلك المجلة، أو هذا أو ذلك الناشر، والمراجعين الأقران، ومقدار الأموال البحثية المحصّلة، وبالطبع، على «التصنيفات» .

يميل أعضاء هيئة التدريس الذين يطمحون للحصول على التثبيت الوظيفي، أو زيادة الراتب، أو الترقية إلى استيعاب هذه القيم الإدارية المشوّهة. والنتيجة، حتمًا، تآكل الصفات الشخصية والعادات اللازمة للقيام بعمل جاد.نرى ذلك دائمًا في الفلسفة، حيث يركز الناس على الموضوعات الرائجة التي يعتقدون أنّه من الأسهل نشر أبحاثهم فيها، بدلًا من الموضوعات التي يأملون حقًا في تحقيق تقدم فيها؛ ويركزون على إنتاج شيء قابل للنشر بسرعة بما يكفي للتقرير السنوي التالي، وليس على شيء متين ومدروس بعناية.إنهم يسرعون في إنجاز العمل ويقتصدون في التفاصيل؛ ولا يقبلون بالاعتراف عندما يكونون مخطئين ويحتاجون إلى البدء من جديد. كما أنهم مهتمون أكثر بمكانة المجلات أو دور النشر التي ينشرون فيها، وأحيانًا يهتمون بشكل مفرط بتصنيف قسمهم في تقرير "تصنيف الأقسام الفلسفية" (33)

وعلاوة على ذلك، عندما يتم توظيف أساتذة جدد، يُختار أولئك الذين يُعتقد أنهم من المرجح أن ينجحوا في هذا البيئة، أي السريعون والقابلون للإقناع، وليس أصحاب العقول البطيئة لكنها أعمق وأكثر اجتهادًا.وعندما يقوم الأساتذة بتدريب طلبة الدراسات العليا (وهو تعبير آخر يكشف الكثير! — قبل سنوات كنا نفكر بمصطلحات التدريس وتعليم طلاب الدراسات العليا، لا مجرد "تدريبهم")، فمن الطبيعي أنهم يسعون لجعلهم قابلين للتوظيف(34)، مما يعني… حسنًا، يمكنكم استكمال هذه الجملة بأنفسكم.

هذا هو الحال في الولايات المتحدة. أما في أماكن أخرى، فالأمور تختلف بعض الشيء. ففي أوروبا، على سبيل المثال، قد تأتي الضغوط البيروقراطية ليس من المستوى المحلي، بل بالأساس من الحكومات المركزية؛ وغالبًا ما يكون التركيز جزئيًا على التصنيفات، خاصة تصنيفات المجلات، ولكن قبل كل شيء على المنح البحثية — في الواقع، لقد رأيت بعض السير الذاتية الأوروبية التي تحدد باليورو بالضبط مقدار الأموال التي حصل عليها عضو هيئة التدريس، لكنها تقدم تفاصيل قليلة جدًا عن العمل الذي أنجزوه فعليًا بهذه الأموال!(بالطبع، ستساعد المنح البحثية أيضًا في مسيرتك الفلسفية في الولايات المتحدة؛ لكنها لا تملك — على الأقل حتى الآن — نفس التأثير كما هو الحال في كثير من أنحاء أوروبا).ولكن، عواقب ثقافة المنح والمشاريع البحثية التي تنشأ بسرعة في مثل هذه الظروف كارثية(35).

مع اعتماد التعليم في مرحلة الدراسات العليا على تلك المنح الخارجية، فإن جودته تتأثر حتمًا: فكونك مساعدًا باحثًا لدى X ليس بديلًا عن العمل الفعلي على مشروعك الخاص.وينقسم أعضاء هيئة التدريس تدريجيًا إلى فئتين شديدتي الاختلاف: النخبة الذين يمتلكون منحًا كبيرة وواجبات تدريسية خفيفة، والفلاحون الأكاديميون الذين يتحملون عبء التدريس الأكبر.وبالطبع، فإن كل نظام المنح هذا يحرّف الموضوعات التي يعمل عليها الناس؛ إذ يفعلون ما يعتقدون أنهم سيتمكنون من الحصول على تمويل له. كما أنه يشجع الناس على المبالغة في ما سيحققونه عند حصولهم على المنحة، والأسوأ من ذلك، على المبالغة في ما أنجزوه فعليًا باستخدامها. ومع مرور الوقت، يبدؤون حتمًا بتصديق دعايتهم الخاصة، ويفقدون كل إحساس بالجودة الحقيقية لأعمالهم.

إلى أي مدى يمتد كل هذا في بقية أنحاء العالم، لست متأكدًا تمامًا. لكن كانت هناك مؤشرات أولية: يكتب لي مراسل من المكسيك عن القلق الذي يشعر به بسبب الضغط الممارس عليه ليكون منتجًا؛ ويخبرني زائر صيني أن جامعته تدفع له مكافأة إذا نشر ورقة في مجلة مفهرسة في مكان "معتمد"؛ ويكتب لي مراسل إيراني أن جامعته تضغط على أعضاء هيئة التدريس للنشر في الخارج.لكنني علمت أنني قد لمست نوعًا من الأعصاب الدولية عندما أعيد طبع مقالي "هل يمكن إنقاذ الفلسفة؟"(36)مؤخرًا، وعندما نشرت النسخة المعاد طباعتها على academia.edu، أُبلغت أنه خلال يومين فقط، تم الاطلاع عليها من قبل أشخاص في 39 دولة: الولايات المتحدة، الصين، المجر، البرازيل، بولندا، المملكة المتحدة، أوروغواي، سلوفاكيا، إسبانيا، الأرجنتين، أيرلندا، إيطاليا، أستراليا، المكسيك، ألمانيا، أوكرانيا، كندا، تشيلي، تركيا، كولومبيا، كوستاريكا، البرتغال، بيرو، الإكوادور، إسرائيل، الهند، فرنسا، بلغاريا، الاتحاد الروسي، الجمهورية الإسلامية الإيرانية، جنوب إفريقيا، جمهورية كوريا، اليونان، النرويج، النمسا، فنلندا، ليتوانيا، موزمبيق، والسلفادور. يا إلهي.

رابعا: ربما تأملون أن أخبركم كيفية إصلاح كل هذا. يؤسفني أن أخيب ظنكم، لكن لا أستطيع فعل ذلك – فالأسباب معقدة للغاية، ومؤسسة بعمق، وبصراحة، لا أعرف حقًا من أين أبدأ.علاوة على ذلك، في الوقت الحالي، مع الأزمة الصحية العالمية، تعطّل عمل الجامعات في كثير من أنحاء العالم بشكل كبير لدرجة أنه من المستحيل التنبؤ بالشكل الذي ستبدو عليه بعد عام، أو حتى بعد عدة أعوام – وأظن أنه سيكون مختلفًا تمامًا.أو ربما تأملون أن أخبركم بما يجب عليكم فعله إذا كانت الفلسفة بالنسبة لكم حقًا هي دعوة ومهنة حقيقية. مرة أخرى، يؤسفني أن أخيب ظنكم، لكن لا يمكنني تقديم نصائح عامة هنا أيضًا – فظروف كل شخص ستكون مختلفة للغاية: بعضهم خارج الأوساط الأكاديمية تمامًا، بعضهم يبحث عن وظيفة أكاديمية، بعضهم يأمل في الحصول على التثبيت الوظيفي، وبعضهم يأمل في زيادة راتب أو ترقية، وهكذا. كل واحد منا يمكنه فقط أن يفعل ما بوسعه.

إذا كنت خارج الأوساط الأكاديمية وتعمل كسائق تاكسي، أو مستشار حاسوب، أو مقدم خدمات تموين، أو أي عمل آخر، فستكون المشكلة الأولى هي إيجاد وقت للتفكير والقراءة، وإذا ما خطرت لك فكرة جيدة، للكتابة؛ والمشكلة التالية هي إيجاد وسيلة لتُسمع إذا أنتجت شيئًا يستحق المشاركة.لقد جعل الإنترنت الجزء الأخير أسهل إلى حد ما؛ لكن لا ينبغي أن تتوقع رد فعل حماسي من "المهنة" – مثل الرجلين السابقين من شعر فروست، الذين استاءوا من قيامه بقطع الحطب من أجل حبه للعمل – كان يجب عليهم القيام بذلك من أجل المال! – من المرجح أن يمنحك الفلاسفة المحترفون رد فعل بارد أو تجاهلاً.

إذا كنت داخل الأوساط الأكاديمية، فقد تكتشف أن الفلسفة بالنسبة لك هي دعوة أو نداء بالذات بفضل التوتر الذي تشعر به تجاه تلك القيم "المهنية". إذا كان الأمر كذلك، فسيكون عليك أن «تحافظ على هدوءك، بينما يفقد كل من حولك أعصابهم ويلقون اللوم عليك»(37).وإذا كنت حاصلًا على درجة الدكتوراه حديثًا وتبحث عن وظيفة (بافتراض أنك لم تُفسد بعد بواسطة أحد برامج الدكتوراه "المرموقة"!)، فإن أفضل نصيحة يمكنني تقديمها هي: لا تظن أنه أمر سيئ أن تجد نفسك في قسم لا يحتوي على برنامج دراسات عليا. ليس الأمر كذلك: التدريس الجامعي يمكن أن يكون مجزياً جدًا38 – خصوصًا إذا لم تكن تحت ضغط لإدخال الطلاب المتخرجين في برامج الدراسات العليا المزعومة "النخبوية".

إذا كنت على مسار التثبيت الأكاديمي، فموقعك يكون صعبًا بشكل خاص. حتى حدٍ معيّن، سيتعين عليك أن تكون حيوانًا سياسيًا – حذرًا، ولكن دون أن تنخرط بالكامل، محافظة على تلك القيم الإدارية على مسافة آمنة. يجب عليك، بالطبع، أن تحدد بوضوح ما هو مطلوب منك، وأن تظل يقظًا لأي تغييرات في قسمك أو كليتك قد تؤثر على ذلك، وأن تعرف متى يتجاوز ما هو مطلوب منك الحد الذي لا تستطيع تحمله. من المحتمل أن تضطر لأن تكون أكثر اجتماعية مما ترغب في المثالي. ومع ذلك، ما دامت مؤسستك لا تصر على أن تكون المنشورات محكّمة لتُحتسب، فكن منفتحًا على الدعوات للكتابة في مجلات أقل شهرة، ومستعدًا للمقاومة إذا قدم الحكام مطالب غير معقولة.

وأستطيع أن أقدّم نصيحة صغيرة، من تجربتي الشخصية، للأكاديميين ذوي الخبرة النسبية الذين لديهم دعوة حقيقية للفلسفة ويجدون أنفسهم محبطين بسبب تلك القيم المشوّهة. كن مفيدًا كلما استطعت. لكن تعلّم أن تقول بلباقة: «لا، آسف، لا أستطيع فعل ذلك» – سواء لدعوات الغداء، أو لطلبات تحكيم ورقة تبدو ضعيفة جدًا ويأمل المؤلف أن يقوم الحكم بإعادة كتابتها له، أو لمقترحات الخدمة في هذا أو ذاك من اللجان الجامعية “الهامة” لتصفية نشارة الخشب…(39)، أو غيرها. قرّر أي الاجتماعات ضرورية، لكن لا تحضر الأخرى؛ فهي تضيع وقتك، والأهم من ذلك، تهدر روحك؛ وتعلّم أن تقول بهدوء، عندما يكون الأمر صحيحًا: «لا، أختلف؛ هذه فكرة سيئة، وسيكون من الأفضل القيام بهذا…(40)». (من المحتمل ألا يغيّر هذا النتيجة؛ لكن على الأقل ستشعر على الأرجح بتحسن قليل مقارنةً لو تركت الفكرة السيئة تمر دون اعتراض).

وأواصل قائلاً: انشر فقط عندما يكون لديك ما تقول، لا وفق جدول زمني يحدده أحد المسؤولين؛ ولا تنفّذ بِخضوع كل ما يطلبه المحكّمون في مجلة ما – فإذا كانت مطالبهم غير معقولة، أو واضحة كمحاولة لجعلك تذكر أعمالهم أو أعمال أصدقائهم، حاول أن تقول بلطف: «لا، لا أظن أن ذلك سيحسّن الورقة». حاول بكل الوسائل تجنّب أن تتحوّل إلى شخص غريب يدافع عن فكرته الكبرى أو إلى معلم يجمع أتباعًا؛ واحذر مما أسماه بيرس «غطرسة الذكاء»(41)، أي الاعتقاد المفرط بعظمتك الخاصة. فنحن جميعًا قابلون للخطأ.

لكن الآن أشتّت نفسي عن الموضوع الرئيسي: وهو أنه، رغم أن الجمع بين الهواية المهنية والدعوة الفلسفية مرغوب فيه، إلا أن الواقع اليوم يشهد توتّرات كبيرة جدًا بين القيم والطموحات المهنية والفلسفية – توتّرات لا يمكن لأي منا، ممن تعتبر الفلسفة دعوة كما هي مهنة، تجنّبها، ويجب على جميعنا التعامل معها بطريقة أو بأخرى.

لا أحد يعبّر عن هذا أفضل من ماكس غوتليب، المرشد والبطل لمارتن أروزمايث في رواية آروزمايث لـ سينكلير لويس. هو يتحدث إلى مارتن عن دعوة إلى العلم، وليس الفلسفة، لكنه يعبّر عن الفكرة الأساسية ببراعة(42):

أن تكون عالِمًا – ليس مجرد وظيفة مختلفة، بحيث يختار الإنسان بين أن يكون عالمًا أو مستكشفًا أو تاجر سندات […]. إنه مزيج من المشاعر الغامضة جدًا، مثل التصوف، أو الرغبة في كتابة الشعر؛ يجعل ضحيته مختلفًا تمامًا عن الإنسان العادي الجيد […].

ولكن مرة أخرى، تذكّر دائمًا أن ليس كل من يعمل في العلم علماء. القليل جدًا منهم! الباقون – سكرتارية، وكلاء صحفيون، ورفاق المخيم! […]. إذا كان لديك شيء من دعوة العلم، […] هناك شيئين يجب عليك فعلهما: العمل بجد مضاعف، ومنع الآخرين من استغلالك.

استبدل كلمة “عالِم” بـ “فيلسوف”، وستجد نفسك أمام المعادلة نفسها. ليس كل من يعمل في الفلسفة فيلسوفًا، وأولئك “الضحايا” الذين تعتبر الفلسفة بالنسبة لهم دعوة حقيقية قد يدفعون ثمنًا مهنيًا باهظًا.لكن، وفق تجربتي على الأقل(43)، كان هذا ثمنًا يستحق الدفع(44).

جامعة ميامي

[email protected]

***

.....................

الهوامش

* يختلف هذا المقال عن جميع المقالات الأخرى المنشورة في هذه المجلة، لأن الكاتبة اشترطت كشرطٍ أساسي لنشر مساهمتها أن تُتّبع معاييرها التحريرية الخاصة في كتابة الحواشي السفلية، وهي معايير تختلف عن تلك المعتمدة في المجلة. [ملاحظة المحرر].

سيزيتيس، المجلد الثامن (2021)، ص ص 33–51 / مقالات

الرقم الدولي الموحّد للدوريات (ISSN): 1974-5044 – http://www.syzetesis.it

معرّف الكائن الرقمي (DOI): 10.53242/syzetesis/2

1- أفلاطون، الجمهورية، ترجمة ج. م. أ. غرووب، منقّحة على يد س. د. س. ريف (نحو 380 ق.م)، إنديانابوليس: هاكيت للنشر، 1992، فقرة 492أ (ترقيم ستيفانوس).

2- روبرت فروست، «رجلان من المشردين في زمن الطين»، ضمن كتاب مدًى أبعد (نيويورك: شركة هنري هولت، 1936)، ص. 15. وقد عرفتُ هذه القصيدة – بالمناسبة – من خلال رواية روبرت ب. باركر، رهانات مميتة (نيويورك: دار ديل، 1973)، ثم اكتشفتُ لاحقًا مدى تأثر باركر بفروست. انظر بخاصة روبرت ب. باركر، خريف باكر (نيويورك: دار ديل، 1981)، إذ تتخلل فصوله أفكار فروست عن العمل والاستقلالية وما إليها.

3- انظر: جستن سكيرّي، «رينيه ديكارت (1596–1650)»، موسوعة الفلسفة على الإنترنت (IEP)، تمت زيارة الصفحة في 12 أكتوبر 2020، على الرابط: https://iep.utm.edu/descarte/. وللأسف، أُصيب بالتهاب رئوي وتُوفي عام 1650.

4-بندكت دي سبينوزا، «الأخلاق»، ضمن الأعمال المنشورة بعد وفاته، تحرير ياريغ ييلس ويان ريويرتس (أمستردام: ريويرتس، 1677).

5-تُوفّي سبينوزا عن عمرٍ يناهز الرابعة والأربعين، بسبب مرضٍ في الرئة يُرجَّح – وفقًا لبعض التخمينات – أنّه كان نتيجة استنشاقه لجسيمات زجاجية دقيقة أثناء عمله في صقل العدسات.

٦- «جون لوك»، الموسوعة التاريخية (History)، تحديث بتاريخ ٢٠ سبتمبر ٢٠١٩،

https://www.history.com/topics/british-history/john-locke.

٧ - للمراجعة العامة: هـ. ب. أكتون، «جورج بيركلي»، موسوعة الفلسفة، تحرير بول إدواردز (نيويورك: دار ماكميلان للنشر، ١٩٦٧، المجلد الأول)، ص ٢٩٥–٣٠٤.

٨ - للمراجعة العامة: د. ج. ك. ماكناب، «ديفيد هيوم»، موسوعة الفلسفة، تحرير بول إدواردز (نيويورك: دار ماكميلان للنشر، ١٩٦٧، المجلد الرابع)، ص ٧٨–٨٠.

٩ - للمراجعة العامة: س. أ. غريف، «توماس ريد»، موسوعة الفلسفة، تحرير بول إدواردز (نيويورك: دار ماكميلان للنشر، ١٩٦٧، المجلد السابع)، ص ١١٨–١٢١.

١٠ - للمراجعة العامة: ج. ب. شنيويند، «جون ستيوارت مل»، موسوعة الفلسفة، تحرير بول إدواردز (نيويورك: دار ماكميلان للنشر، ١٩٦٧، المجلد الخامس)، ص ٣١٤–٣١٥.

11- جوزيف برنت، تشارلز ساندرز بيرس: سيرة حياة (بلومنجتون: مطبعة جامعة إنديانا، ١٩٩٣)، ص ص ١٣٩ -٢٠٣.

12- آر. لانيير أندرسون، "فريدريك نيتشه"، موسوعة ستانفورد للفلسفة، تحرير إدوارد ن. زالتا، نُشرت لأول مرة في ١٧ مارس ٢٠١٧،

https://plato.stanford.edu/entries/nietzsche/

(إحدى الفرضيات، على ما يبدو، هي أنه كان يعاني من ورم بطيء النمو في الدماغ خلف عينه اليمنى).الجزء المتعلق بالمعاش مستند إلى: جوليان يونغ، فريدريك نيتشه: سيرة فلسفية (نيويورك: مطبعة جامعة كامبريدج، ٢٠١٠)، ص ص ٢٧٦–٢٧٧.

13- فلسفة فريجه في سياقها، تحرير مايكل بيـني وإريش هـ. ريك (نيويورك: روتليدج، ٢٠٠٥)، ص ص ٢٥–٢٧.

14- تشارلز ميلنر أتكينسون، جيريمي بنتام: حياته وأعماله (لندن: ميثوين وشركاه، ١٩٠٥)، الصفحة ٢٦.

15- برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية (نيويورك: سايمون وشوستر، ١٩٤٥).

16- "سيرة برتراند راسل"، بيوغرافيا أونلاين، تم الدخول في ١٢ أكتوبر ٢٠٢٠،

https://www.biographyonline.net/writers/bertrand-russell.html

17- "لودفيج فتجنشتين: ١٨٨٩–١٩٥١"، في لودفيج فتجنشتين: تقييمات نقدية، تحرير ستيوارت شانكر (لندن: كروم هيلم، ١٩٨٦، المجلد الأول)، الصفحات ٩–١١.

18-روجر سكروتون، "السيرة الذاتية"، السير روجر سكروتون: كاتب وفيلسوف، تم الدخول في ٢١ أبريل ٢٠٢٠،

https://www.roger-scruton.com/homepage/about/curriculum-vitae. ومن المفارقات أن سكروتون توفي بسبب سرطان الرئة.

19-على الرغم من ذلك، أعتقد أن هناك قدرًا كبيرًا من الرقابة الذاتية من قبل أولئك الذين يخشون التعبير عن أفكار غير شائعة.

20-كما اقترح عليّ أوزوالدو شاتوبريان في نقاش بعد أن قدمتُ محاضرة بعنوان تجزئة الفلسفة في جامعة الجمهورية، مونتفيدو، أوروغواي.

٢١ ـ تشارلز ساندرز بيرس، الأوراق المجمَّعة، تحرير: تشارلز هارتشورن، وبول فايس، و(في المجلّدين السابع والثامن) آرثر بوركس، (كامبريدج، ماساتشوستس: مطبعة جامعة هارفارد، ١٩٣١–١٩٥٨)، المجلد السادس، الفقرة الثالثة (١٨٩٨).(تشير الإحالات إلى الأوراق المجمَّعة بحسب رقم المجلد ورقم الفقرة، يليهما التاريخ الأصلي).

٢٢ ـ فكرةٌ بدأت مع سوزان هاك، «خارج الصف»، ضمن كتاب تسخير الفلسفة للعمل: البحث ومكانته في الثقافة، الطبعة الموسَّعة (٢٠٠٨؛ أمهرست، نيويورك: دار بروميثيوس، ٢٠١٣)، الصفحات ٢٥١–٢٦٨ (المتن) و٣١٣–٣١٧ (الهوامش).

٢٣ ـ لا يعني هذا، كما قد تتخيّل، أنّهم سيطبعون الكتاب فور طلبك له؛ بل يعني فقط أنّهم سيطبعون بعض النسخ إذا، ومتى ما رأوا أنّ لديهم عددًا «كافيًا» من الطلبات.

٢٤ ـ سوزان هاك، «خدعة النشر الأكاديمي: ماذا حلّ بحقوق المؤلفين؟»، الفلسفة بلا حدود، المجلد ٢ (٢٠١٩): الصفحات ١–٢١.

٢٥ ـ انظر أيضًا: سوزان هاك، «المراجعة النظيرة والنشر: دروس للمحامين» (٢٠٠٧)، ضمن كتاب أهمية الأدلة: العلم، والحقيقة، والإثبات في القانون (نيويورك: مطبعة جامعة كامبريدج، ٢٠١٤)، ص ص ١٥٦–١٧٩.

٢٦ ـ أو، على ما أظن، الإسبانية أو الإيطالية أو الصينية أو غيرها.

٢٧ ـ انظر: سوزان هاك، «تجزئة الفلسفة والطريق إلى إعادة توحيدها»، ضمن كتاب سوزان هاك: إعادة دمج الفلسفة، تحرير: جوليا غونر وإيفا-ماريا يونغ (برلين: دار سبرينغر، ٢٠١٦)، ص ص ٣–٣٢.

٢٨ ـ يراودني الميل إلى إضافة و. ف. و. كواين إلى هذه القائمة، لأنّ نثره الواضح ظاهريًا يُخفي وراءه العديد من الغموضات القاتلة. انظر على سبيل المثال: سوزان هاك، الأدلة والبحث (١٩٩٣؛ أمهرست، نيويورك: دار بروميثيوس، ٢٠٠٩)، الفصل السادس، حول الغموضات في تصوره لـ«نظرية المعرفة المؤمْوَلة»  (naturalized epistemology). كما تُعَدّ ساندرا هاردينغ، بادعاءاتها المبالغ فيها حول ما يمكن للنسوية أن تقدمه للفلسفة، مرشحة قوية أخرى.

٢٩ ـ سوزان هاك، «قل لا للّاإيجابية المنطقية»، ضمن تسخير الفلسفة للعمل: البحث ومكانته في الثقافة، الصفحات ١٧٩–١٩٤ (المتن) و٢٩٨–٣٠٥ (الهوامش).

٣٠ ـ انظر مثلًا: سوزان هاك، الأدلة والبحث، الفصل التاسع؛ وسوزان هاك، «الذبول وسط الوفرة: مفارقة فلسفة رورتي الثنائية»، مراجعة القنفذ: تأملات نقدية في الثقافة المعاصرة، صيف ٢٠١٦، الصفحات ٧٦–٨٠.

٣١ ـ أليكس روزنبرغ، رؤية الملحد للواقع: عيش الحياة دون أوهام (نيويورك: دار و. و. نورتون، ٢٠١١).

٣٢ ـ بنجامين غينسبرغ، سقوط هيئة التدريس وصعود الجامعة الإدارية (نيويورك: مطبعة جامعة أكسفورد، ٢٠١١).

٣٣ ـ تقرير الذوّاقة الفلسفي (The Philosophical Gourmet Report)، تحرير: بريت بروغارد وكريستوفر أ. باينز، آخر دخول في ١٢ أكتوبر ٢٠٢٠، https://www.philosophicalgourmet.com/

وربما تظنّ أن شكوكي بشأن هذه التصنيفات سببها أن قسمي الأكاديمي ليس مصنّفًا بدرجة أعلى، والواقع عكس ذلك تمامًا؛ فلو كنت أعتقد أن لهذه التصنيفات قيمة (وأنا لا أعتقد ذلك)، لقلت إنّ قسمي مصنَّف بأعلى مما يستحق!

٣٤ ـ وليس المقصود، بالطبع، أن جميع طلاب الدراسات العليا يجدون أنفسهم في وظائف فعلية؛ فقد ظلّ عدد الحاصلين على الدكتوراه أعلى بكثير منذ زمنٍ طويل من عدد الوظائف المتاحة.

٣٥ ـ تسلسلٌ فكري بدأ في مقالة سوزان هاك «اللامعقولية وعواقبها» (Preposterism and Its Consequences)، (١٩٩٦)، ضمن كتاب بيان معتدلة متحمّسة (Manifesto of a Passionate Moderate)، (شيكاغو: مطبعة جامعة شيكاغو، ١٩٩٨)، ص ص ١٨٨–٢٠٤.

٣٦ ـ سوزان هاك، «السؤال الحقيقي: هل يمكن إنقاذ الفلسفة؟ (The Real Question: Can Philosophy be Saved?)، مجلة التحرر الفكري (Free Inquiry)، المجلد ٣٧، العدد ٦ (٢٠١٧): ص ص ٤٠–٤٣.

٣٧ ـ روديارد كبلنج، «إذا——»، في كتاب المكافآت والجنيات (جاردن سيتي، نيويورك: شركة دبلداي، بايج وشركاه، ١٩١٠)، ص. ١٨١.

٣٨ ـ والآن أتذكّر الأستاذ الشاب الذي كان يُدرِّس في قسم يضم طلاب مرحلة البكالوريوس فقط (جامعة أوكلاند)، وقد قال لي: «إنها أفضل وظيفة لم تسمع عنها قط».

٣٩ ـ العبارة مأخوذة من ثورستين فبلن، التعليم العالي في أمريكا: مذكرة حول إدارة الجامعات بواسطة رجال الأعمال (نيويورك: ب. و. هوبش، ١٩١٨)، ص. ٢٥٣. وكما قال فبلن (عام ١٩١٨!)، فإن هذه اللجان «تُنشأ في الأساس لإبقاء أعضاء هيئة التدريس منشغلين بالكلام، بينما تواصل الآلة البيروقراطية عملها تحت إشراف المدير ومستشاريه ومساعديه الشخصيين». المرجع نفسه، ص. ٢٥٣.

وبالفعل، فهذه اللجان تمثل بنسبة ٩٨٪ استشاراتٍ زائفة.

٤٠ ـ أعترف بأنني أجد هذا صعبًا للغاية، إن لم يكن مستحيلًا؛ فمن العسير جدًا أن يحافظ المرء على هدوئه عندما يتصرف الزملاء بسوء. أجد نفسي أتلوّى بصمت كي لا أصرخ، لكنني أكره نفسي بعد ذلك لأنني لم أتحدث!

٤١ ـ بيرس، الأوراق المجمعة، ١.٣١ (١٨٦٩).

٤٢ ـ سنكلير لويس، أروسمِث (١٩٢٥؛ نيويورك: سِجنت كلاسيكس، ١٩٦١)، ص. ٢٧٨–٢٧٩.

٤٣ ـ انظري: سوزان هاك، «لستُ واحدة من الفتيان: مذكرات أكاديمية غير منسجمة»، كوزموس + تاكْسِس، المجلد ٨، العدد ٦ (٢٠٢٠): ص. ٩٢–١٠٦.

٤٤ ـ شكري لمارك ميجوتي على ملاحظاته المفيدة على المسودة، ولنيكولاس ميغانيلي على مساعدته في العثور على المراجع.

خلافا للمطارحات والسجالات التي تقترحها بعض نخبنا العربيّة فيما لا ينفع النّاس في راهنهم، على نحو يسهم في التجهيل ويكرّس التقوقع والتقهقر والرجوع إلى الخلف، بل والعودة إلى الجهالة. كأن تناقش وتتجادل حول القيمة الحضاريّة للزوايا والأضرحة ومقامات الأولياء "الصالحين" وإبراز دورها التاريخي في دعم المسلم روحانيّا أو السعي إلى المحافظة على التصوّف- في وجهه الطرقي الهيستيري التخديري- كظاهرة نفسيّة واجتماعيّة، رغم تماهيها مع الشعوذة. فإنّ طروحات النخب الغربيّة واهتماماتها تسعى غالبا لتنوير العقول وتثويرها وبثّ الوعي في شعوبها للنهوض بها وبلوغ أعلى المراتب. لذلك نلمس الرغبة الجامحة عندهم في خدمة الإنسان من خلال بحث قضاياه الحارقة ذات العلاقة براهنه ومستقبله أكثر ممّا هي مشدودة إلى الماضي السحيق، على أهمّيته. وهو ما ذهب إليه واستبسل في الدفاع عنه، كلّ من المفكّر الفرنسي مونتسكيو (Montesquieux)، في كتابه عن روح القوانين، وعالم الرياضيات والمنظّر السياسي الماركيز نيكولا دي كوندورسيه ((Nicolas de Condorcet، في كتاباته المطوّلة عن موضوع التقدّم وخاصة في كتاب"نشرة تمهيدية لجدول تاريخي بمراحل تقدم العقل البشري"، وأرنولد جوزيف توينبي (Arnold Joseph Toynbee)، في كتابه البشر وأمّهم الأرض . فضلا عن فولتير( (Voltaire في كتابه "مقالات عن السلوك"، وهو عمل فلسفىّ عن الحضارة الحديثة أعتبر في وقته، محاولة جادة لتفسير حركة التاريخ عن طريق التقدّم الحضارى للشعوب، تبرز قدرة الإنسان المطلقة على تحقيق التقدّم على مرّ العصور. فقد أكّد هؤلاء جميعا على وجوب انصراف الذهن إلى التفكير في القضايا الجديرة بالتأمّل والبحث " خدمة للإنسان ودفاعا عن إنسانيته في أي ظرف زمكاني كان.

ولعلّ قضايا فلسفة التاريخ التي دشّن طرحها الفيلسوف الألماني هيغل Hegel)) تندرج بيسر وسلاسة في سياق هذه القضايا التي تتنزّل فكرة نهاية التاريخ ضمنها. وهي ليست اليوم مجرّد موضوع مساءلة فلسفيّة فحسب، بل هي كذلك-وهو الأهمّ- أحد موضوعات الإقتصاد السياسي والثقافة السياسيّة التي ميّزت الفكر المعاصر. وذلك كإفراز لما جدّ من أحداث عظيمة غيّرت وجه التاريخ. لعلّ أهمّها-إذا صرفنا النظر عن الثورة الكوبرنيكيّة_ Revolution Copernicienne في مجال علم الفلك- الثورات السياسيّة والاجتماعيّة التي عرفها العالم، بدءا من الثورة الأمريكيّة(1775-1777) ضد بريطانيا بقيادة الضابط جورج واشنطن، مرورا بالثورة الفرنسيّة (1789– 1799) بقيادة البرجوازيّة المثقّفة والمحامي ماكسميليان دي روبسبير (Maximilien de Robespierre) المتعصّب للأفكار الإجتماعيّة للفيلسوف جان جاك روسوRousseau) Jacques Jean )، والثورة البولشيفيّة(1917) بقيادة المحامي الماركسي فلاديمير لينين (Vladimir Lénine) ومنظّرها ليون تروتسكي(Léon Trotsky) وكذلك الثورة الإيرانيّة(1979) بقيادة الفقيه آية الله الخميني، ووصولا إلى ثورات ما بات يعرف اليوم ببلدان الربيع العربي التي  كان يعوزها القواد، وتتماهى أوضاعها راهنا بأحداث رواية "الآلهة عطشى", (Les dieux ont soif)للكاتب الفرنسي المبدع أناتول فرانس(Anatole France ).وهي التى حاز بفضلها على جائزة نوبل في الآداب لسنة 1919باعتبارها تعدّ من الأدب الرفيع. وهي فعلا كذلك. فهي تصف بدقّة متناهية جو الإرهاب الذي ساد بعد الثورة الفرنسية، ضرورة أنّ رجال الثورة الذين كانوا عطشى للدم، إعتقدوا أنّهم يملكون الحقيقة المطلقة، وأن سواهم من المواطنين متهمين، لا بل مدانين من أجل اللاثوريّة، واللاوطنيّة، والعداء للجمهوريّة. وصنّفوا لذلك بالخونة، وكان جزاؤهم "المستحقّ" هو القتل العشوائي في غير ما رحمة، أو الاستئصال في أقلّ الأحوال. وهو ما حصل إبّان حدوث الثورات العربية الأخيرة، مع اختلافات جوهرية، في كل من تونس ومصر وسوريا وليبيا، وهي البلدان التي أطاحت برؤسائها ولفظتهم كما تلفظ النواة مع إحاطتهم بما يستحقّون من الإهانة وقبرهم في مزبلة التاريخ التي تزكم الأنوف.

ورغم أنّ التاريخ، عند هيغل (Hegel)، وهو فيلسوف التاريخ، صيرورة للعقل المطلق ولحريّة الروح، وفلسفته فلسفة ديناميّة (حركيّة )، تدرس الواقع في تدفّقه وفق نظريّته المعروفة باسم: "Historicism"، فإنّه قال عندي ينتهي التاريخ . فيما ذكر كارل ماركس(Karl Marx) في نظريته الشهيرة "الماديّة التاريخيّة" بأنّ التاريخ الحقيقي للبشر لم يبدأ بعد حتّى يقال أنّه إنتهي . وهو بالقطع يلمّح بذلك إلى أنّ بداية التاريخ إنّما هي عند انتقال القوّة الموجّهة للتاريخ من أيدي طبقة السياسيين الإنتهازيين والرأسماليين المستكرشين إلى طبقة العمّال الكادحين الذين يصنعون التاريخ كما الجغرافيا بأيديهم المنتجة للخيرات. ما يعني أنّ نهاية تاريخ الإضهاد الإنساني تتزامن مع زوال الفروق بين الطبقات الإجتماعيّة. وهي الفروق التي يسعى إلى تقليصها الفعل النقابي المتجذّر بصفة مخصوصة في ذهنيّة وثقافة المجتمع الديمقراطي الغربي راهنا.

والواقع أنّ كلا الفيلسوفين قد تجنّى وتعسّف على التاريخ على نحو شبيه بإهانة للمستقبل أو شتم له كما يقول الفرنسيون (insulter l’avenir). بهذا المعنى إعتبر لاحقا أحد أقطاب المحافظين الجدد المفكّر الأمريكي فرانسيس فوكوياما (Francis Fukuyama) في كتابة "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" أنّ نهاية الحرب الباردة، مع هدم سور برلين (1989)، هي بمثابة النهاية للتاريخ لأنّها وضعت حدّا للفكر الإيديولوجي في التاريخ الإنساني، وأنهت تاريخ الاضطهاد والنظم الشمولية لتحل محلّها الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية، مع استقرار نظام السوق الحرة. وذلك كتتويج مستحق كرّسته الانتصارات المتتالية على بعض الأيديولوجيات كالملكيّة الوراثيّة، والفاشيّة، والنازيّة والشيوعيّة التي كان الإستبداد قاسمها المشترك. ما يعني بالضرورة أنّ المستقبل سيشهد سيادة أو زعامة الرأسماليّة أو الاشتراكيّة الديمقراطيّة.

أمّا صأمويل فلبس هنتنغتون Samuel Phillips Huntingtonفإنّه يرى في كتابه " صراع الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي" أنّ الحضارات هي من سيحلّ مستقبلا محلّ الدول في لعب الأدوار السياسيّة الأساسيّة حيث أنّ صراعات ما بعد الحرب الباردة ستكون كثيرة جدّا وشديدة العنف. كما أنّ محرّكها الأساس سيكون حتما العامل الثقافي والحضاري الذي سيحلّ محلّ العامل العقدي الذي كان سائدا في خضمّ الحرب الباردة. حتّى أنّ المؤرّخ البريطاني جون أرنولد توينبي أقام عليه نظريّته التاريخية الشهيرة المعروفة ب"التحدِّي والاستجابة"، والتي اعتمدت بالأساس على الدين.

إلّا أنّه قد تبدّى اليوم وعلى نحو لا يعتريه الشكّ، أنّ التاريخ الحديث تصنعه الشعوب بجميع مكوّناتها. فلم يعد اليوم للمفكّر والفيلسوف الدور المحوري في النقلات التاريخيّة الهامّة، مثلما كان الشأن قبل وخلال الثورة الأمريكيّة ولا سيما الفرنسيّة. حيث كان دور فلاسفة عصر الأنوار فولتير وروسو وديدرو والماركيز كوندورسيه ثمّ مونتسكيو فيما بعد، حاسما وفعّالا في تنوير العقول وبثّ الوعي وثقافة النقد وروح الثورة لدى الجماهير الشعبيّة. كما لم يعد ممكنا اليوم للعمّال بمفردهم تحقيق ثورة على الراهن تكون في زخم الثورة الروسيّة، التي لم يكن يتوقّعها المنظرون للفكر الماركسي، لا بل حتّى كارل ماركس نفسه، ولا في زخم الثورة الصينيّة بقيادة ماو تسي تونق( (Mao Tsé-toung. مثلما لم يعد للإيديولوجيا أو العقيدة، الدور الحاسم في قيام الثورات كما كان الشأن خلال القرن العشرين.

لقد بات من المؤكّد اليوم أنّ الشعوب وحدها هي من يصنع التاريخ الراهن. على نحو ما قام به الشعب التونسي عند قيام ثورته التي أنجزها، بفضل تلاحم مختلف طبقاته وأطياف مجتمعه المدني بعزيمة قويّة وشكيمة شديدة ضمن وحدة صمّاء غيّرت المفاهيم الثوريّة السائدة التي عرّجنا على البعض منها، وقلبت رأسا على عقب النظريّات التي كانت تعتبر في الماضي من المسلّمات التي لا تقبل الجدل في الفكر الثوري القديم والمعاصر. لذلك كانت نموذجا للثورة المصريّة والثورات االتي أعقبتها. انطلاقا من توظيف الشبكات الإجتماعيّة للتحشيد مرورا برفع الشعارات من مثل شعار "إرحل"Dégage)) و"الشعب يريد إسقاط النظام"، وصولا إلى الطبيعة السلميّة للثورة( التي انحرفت بها كل من الثورة الليبيّة والثورة السوريّة لتصبحا معسكرتين فيما يشبه الحروب الأهليّة نتيجة لتعنّت حكّام الدولتين وجهلهما بقراءة التاريخ واستيعاب أحداثه وعبره). ويضاف إلى ذلك اعتماد طول النفس الثوري والإصرار على إسقاط النظام حتّى خلع الطاغية بالهروب أو بالتنحّي أو بالقتل الفظيع والتمثيل بالجثّة كما كان حال القذّافي.

وخلاصة القول في نهاية التحليل، أنّ التاريخ سيرورة لا نهاية لها وله، وهو لا يعيد نفسه كما يشاع. لأنّ مساره يتشكّل وفق خطّ مستقيم وليس وفق خطّ دائري يسمح بالعودة إلى نقطة البداية. إنّه يتوقّف عند محطّات مهمّة دون المكوث فيها طويلا، ثمّ يرنو على عجل إلى المحطّة القادمة التي تختلف جوهريّا عن سابقاتها. بهذا المعنى لم ينته التاريخ عند هيغل ولم ينته بنهاية تاريخ الاضهاد الإنساني ولا بنهاية الحرب الباردة وغياب تأثير الفكر الإيديولوجي وانتشار الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية، ولا بحلول الحضارات محلّ الدول في لعب الأدوار السياسيّة الأساسيّة. كما أنّه سوف لن يتوقّف بالتأكيد عند زعامة الشعوب للثورات بدلا من الزعامات الفكريّة والميدانيّة التي كانت سائدة في الماضي كما أسلفنا. لأنّ حقيقة نهاية التاريخ ينطبق عليها أيضا ما ذهب إليه هيغل في كتابه "تجسّد الروح" من أنّ التاريخ شيء حيّ وطبيعة كل شيء حيّ، هي دوام التغيّر والتبدّل. بما يتماهى مع مفهوم الحداثة الزئبقي والمراوغ الذي يعسر القبض عليه رغم تكرار المحاولة.

***

المهندس فتحي الحبّوبي

 

الرجلان أحدهما نبي التقدم، والآخر فيلسوف الواقع، يكشفان عن السياسة خلف الأفكار وعن الرغبة الكامنة تحت العقل.

فيلسوفان عملاقان – هيجل وشوبنهاور – يجسّدان التوتر بين وعود العقل وقوة الإرادة. هما كانا معاصرين لبعضهما. وبقيا شخصيتين شاهقتين في الفلسفة، لكن قصتهما أيضا تكشف حقيقة النظام الاكاديمي حيث النجاح في الغالب لا يعتمد كثيرا على قوة الحجة بقدر ما يعتمد على الارتباطات والسياسات وروح العصر. كان هيجل نجم عصره. العديد سُحروا بتعقيديته ورؤيته للتقدم الإنساني. ديالكتيكيته وتاريخيته حفزت المفكرين بعيدا الى ما وراء عصره. حتى اليوم، العديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع لايزالون يتكئون على هيجل. سلافوي جيجيك Slavoj Zizek،مثلا، يصر على انه هيجلي اكثر من كونه ماركسيا. لذا، دعونا نرى منْ هو هيجل.

في سنواته الأخيرة اصبح هيجل أستاذا للفلسفة في برلين، تحت علم ورعاية ملك بروسيا فردريك وليم الثالث. تعيينه في الوظيفة عام 1818 استلزم موافقة الدولة. الملك ووزرائه أرادوا من الجامعة الجديدة ان تجسد القيم البروتستانتية وسلطة الدولة. فلسفة هيجل في الدولة الرشيدة نُظر اليها كداعم قوي للملكية وهي آمنة سياسيا بما يكفي لإعتناقها. العديد من المعجبين به يفضلون تجاهل هذا. وبالنظر الى كل ذلك، كيف يمكن تفسير الفلسفة كمحررة وأيضا تعمل كتبرير للسلطة؟ البعض رأوا هيجل مرة كفيلسوف للحرية والعقلانية والتقدم. مع ذلك وبمرور الزمن، اتضح ان هذا خطير وساذج، شيء اوضحه كارل بوبر في كتابه المجتمع المنفتح واعداؤه. جادل بوبر بان رؤية هيجل تؤدي الى إضفاء الشرعية على السلطة تحت ستار العقل.

وبالنظر الى عالم اليوم، من الصعب انكار ذلك. العملية الديالكتيكية تبدو تتضمن خللا. العقل لا يحكمنا. معظم الأفكار لا تباشر عملية التفكير النقدي. نحن نعيش في عالم يمجد "التفكير النقدي"، ولكن في الغالب بدون تفكير حقيقي – بدون وسائل لإنجاز المركب synthesis . كل ما تبقى هو "النقدي"، صفة ملائمة لعصرنا. مُثل التنوير في الحرية والعقل والعطف حل محلها الانانية ومذهب المتعة والحوافز المدمرة. هذا يحدث في الحياة اليومية وبنفس القدر في قرارات القادة السياسيين.

لذا، نظرية هيجل، مهما كانت براقة، لا تصمد في العالم التجريبي. انها تفكير رغبي، بل ضباب خطير يخفي حقيقة ان العقل نادرا ما يقودنا. تعقيدية هيجل في الغالب تحميه من النقد. عندما يعارضه شخص ما، يكون الجواب انه لا يفهم. ولكن ربما هيجل كان يتعمد الخطأ، نبي التقدم العقلي اعطانا لعبة جميلة نستطيع من خلالها النظر بعيدا عن الاهوال التي يسببها العقل بالتحالف مع السلطة. انظر الى القرن العشرين: الحرب العالمية الأولى، الحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة، او في القرن الواحد والعشرين حيث أزمات المناخ والحروب وعدم الاستقرار الاقتصادي. هل كان هيجل مخطئا، ام ببساطة انه مثالي جدا؟ هل كانت فلسفته تعطي الشرعية لما موجود سلفا؟ نيتشه ادرك ان عظمة الفلسفة تكمن في النظر ما وراء الزمن الحاضر. وفق هذا المقياس يكون هيجل قد فشل. احد معاصريه، نجح فعلا رغم ما تعرّض له من تهميش بسبب هيمنة هيجل. آرثر شوبنهاور احتقر هيجل. اتهمه بالغموض المتمثل بتغليف الأفكار الفارغة بلغة معقدة لإقناع الطلاب وإرضاء الدولة البروسية. لهذا، لم يكن نظام هيجل مسارا للحقيقة وانما لسفسطة مدعومة من الدولة. هو أيضا رتّب محاضراته بنفس وقت محاضرات هيجل بأمل المنافسة لكن قاعات المحاضرة بقيت فارغة. فشله في قاعة المحاضرة يذكّرنا بانه في الفلسفة كما في العلم، الحجة الأقوى لاتربح دائما.

مع ذلك، وبالرغم من تهميشه، استوعب شوبنهاور شيئا أساسيا حول زمانه والناس. بينما هيجل مجّد العقل، التقدم، والدولة الرشيدة، أصر شوبنهاور بان تحت كل ما لدينا من مُثل تكمن قوة عمياء غير رشيدة وهي الإرادة. هو رأى ان الكائنات البشرية لم تُحكم بالعقل وانما بالرغبات والخوف والكفاح اللامتناهي الذي لا يمكن لأي نظام ديالكتيكي تنظيمه. هو جادل ان الحياة هي صراع عبثي لا معنى له. العقل يلعب دورا لكن في الاغلب كخادم للرغبة.

التاريخ أثبت ان شوبنهاور صحيح اكثر من هيجل. الناس نادرا ما يتصرفون بدافع من العقلانية الخالصة، انهم يلوون عنق العقل لتبرير السلطة، الرغبة، او البقاء. اليوم، يتضح ذلك اكثر. مجتمعاتنا تتشكل بواسطة الاستهلاكية: رغبات لا متناهية للسلع، توق مستمر من شيء الى آخر، وبحث لا متناهي عن المعنى في السلع. هذا فقط على الصعيد الشخصي. على المسرح العالمي، السياسة تخضع لهيمنة الانانيين وليس العقل. القادة يندفعون بحوافز باطنية وبالرغبة للهيمنة. السياسة تصبح غاية بذاتها ومسرح للرغبة وليس سعي عقلاني للصالح العام. هذه القوى مجتمعة تشكل الأساس للعالم الذي يصنع رغبات جديدة وبلا نهاية، يدفعنا نحو التدمير الذاتي.

شوبنهاور كشف مالم يستطع هيجل كشفه: العقل ليس المبدأ المرشد للإنسانية. انه مثال، ليس واقعا. ومع ذلك، شوبنهاور لم يتركنا في يأس. هو قدم طرقا لإرخاء قبضة الرغبة.

الأولى هي الفن. في التأمل الجمالي نحن نوقف الرغبة ونخطوا خارج الكفاح اللامتناهي للحياة. بالنسبة لشوبنهاور، الموسيقى هي أعلى درجات الفن: انها عبّرت عن الرغبة ذاتها دون ربطنا بأي شيء للرغبة. للحظة، نحن نوقف الرغبة ونفكر فقط، متحررين من استبداد الكفاح.

الثانية هي العطف. عبر الاعتراف بمعاناة الاخرين كأقرباء لنا، نحن ننتقل الى ما وراء الايغو ونرتبط بإنسانيه مشتركة. العطف يكسر حلقة الرغبة المنعزلة.

والثالثة هي الزهد، إنكار متعمد للرغبة من خلال رفض الالتصاق الدنيوي. هذا الخط من التفكير لشوبنهاور اثّر على أعظم مفكري الحداثة، أمثال كامو وسارتر وحتى فرويد.

بالمقابل، ميراث هيجل بقي أملا تاريخيا بعالم أفضل، أمل ثبت انه فارغ، أقرب الى اللاهوت منه الى الفلسفة. لذا، فان المقارنة بين هيجل وشوبنهاور تعلّمنا درسا أوسع. نحن في الغالب اكثر اعجابا بالأنظمة المثالية مقارنة بالرؤى الواقعية. هذه النزعة تستمر اليوم ليس فقط في الفلسفة وانما أيضا في العلوم خاصة العلوم الاجتماعية حيث السرديات الكبرى والوعود في التقدم لاتزال تهيمن على التحليلات الرصينة للقوى التي تشكّل الحياة حقا. ربما حان الوقت للإعجاب بشخصية مثل شوبنهاور اكثر من هيجل. لأن شوبنهاور واجه الواقع مباشرة بدون تنكّر. وفي النهاية يُترك الامر للقراء: منْ هو زرادشت الحقيقي هيجل فيلسوف التقدم، ام شوبنهاور فيلسوف الواقع؟

***

حاتم حميد محسن

 

تميز العلامة اللغوي العراقي مهدي المخزومي "1917 – 1993" بدعوته الى التحرر من تسلط التفلسف والرؤى العقلية المفروضة على اللغة من خارج سياقاتها الحية، وبدفاعه عن ضرورة دراسة اللغة دراسة وصفية تنصت الى لغة المتحدثين وأساليبهم، وتكشف عن أنماط التعبير كما تتجلى في الاستعمال، لا كما يفترضها العقل. ينطلق المخزومي من موقف يرى الاستعمال هو المعيار الأساسي في اللغة وقواعدها، لذلك دعا الى إعادة فهم اللغة في ضوء سياقات استعمالها، بغية تيسير قواعد النطق فيها، وتجديد معجمها، والنظر اليها بوصفها كائنًا اجتماعيًا حيًا، يتغير ويتحول كما يتغير الإنسان وتتحول الظواهر المجتمعية. لم يتعامل المخزومي مع اللغة كجسد جامد، بل ككائن يتفاعل مع الواقع المجتمعي للناطقين بها، ويتأثر ويعيد تشكيل ذاته في فضاء ما يطرأ على الحياة من متغيرات.

الاستعمال هو الأساس

يرى المخزومي أن مهمة النحوي لا تنبع من رغبة في فرض القواعد وإكراه الناطقين باللغة عليها، ولا من ميل الى تصحيح أساليبهم أو تخطئتها، بل تنبع مهمة النحوي من الوعي بوظيفة اللغة في الحياة، ومن فهمها كما تتجلى في الاستعمال الحي، وملاحظة واقع اللغة وكيفية تداول أهلها في سياقات أحاديثهم اليومية. النحو ليس سلطة تملى على المتحدثين باللغة، ولا منظومة مغلقة تفرض على الكلام، بل هو فهم لكيفية حضور اللغة في الاستعمال، وكيف تتشكل أساليب التعبير في بيئة اجتماعية متغيرة. النحوي الذي يعي مهمته لا يسبق اللغة، ولا يضع لها خارطة طريق مرسومة قبل أن تسير، بل يسير خلف استعمالات أهلها. يرصد النحوي تحولاتها، ويصغي الى كيفية حضورها في الاستعمال، ويستخلص من ملاحظاته ما يمكن أن يصاغ في هيئة قواعد، لا بوصفها أوامر، بل بوصفها فهمًا لما هو كائن، فإذا قال إن الفاعل مرفوع، لم يكن ذلك حكمًا سابقًا، بل نتيجة رصد ومراقبة وملاحظة وتأمل طويل لكيفية الاستعمال، واستقراء دقيق لما يتكرر في أحاديث أهل اللغة. ليست مهمة النحوي أن يخلع على اللغة قوالب المنطق وآراء الفلاسفة ومقولات علماء الكلام، أو أن يخضعها لأحكام عقلية مجردة. اللغة ليست بناءً عقليًا صرفًا، بل ظاهرة اجتماعية تنمو في رحم الجماعة، وتستجيب لحاجاتها، وتتشكل على وفق منطقها الداخلي، الذي قد لا يتطابق مع ما يراه العقل النظري منسجمًا أو منطقيًا. وذلك ما أوضحه المخزومي بقوله: "حاولت في هذه الفصول أن أخلّص الدرس النحوي من سيطرة المنهج الفلسفي عليه، وأن أسلب العامل النحوي قدرته على العمل، وقد كان النحاة رحمهم الله قد جعلوا من هذا العامل منطلقًا لأعمالهم"[1].

لم يتوقف المخزومي عند النقد، بل اقترح أفقًا بديلًا، يحرر اللغة من أسر القوالب الجاهزة، ويعيدها الى فضائها، لمواكبة متغيرات الحياة، والاستجابة لحاجات الإنسان في التعبير والفهم والتواصل، إذ يقول: "ليس من وظيفة النحوي الذي يريد أن يعالج نحوًا للغة من اللغات أن يفرض على المتكلمين قاعدة، أو يخطئ لهم أسلوبًا؛ لأن النحو دراسة وصفية تطبيقية، لا تتعدى ذلك بحال. النحو عارضة لغوية تخضع لما تخضع له اللغة من عوامل الحياة والتطور، فالنحو متطور أبدًا؛ لأن اللغة متطورة أبدًا، والنحوي الحق هو ذلك الذي يجري وراء اللغة يتتبع مسيرتها، ويفقه أساليبها، ووظيفة النحوي أن يسجل لنا ملاحظاته، ونتائج اختباراته في صورة أصول وقواعد تمليها عليه طبيعة هذه اللغة واستعمالات أصحابها، وأن يصف لنا مثلًا ما يطرأ على الكلمة، أو الجملة وأوضاعها المختلفة، فإذا قال النحوي مثلاً: إن الفاعل مرفوع، كان يستند في استنباط هذا الأصل إلى استقراء واع وملاحظة دقيقة، ونظر صائب في الأساليب وليس له أن يفلسف ذلك، أو يبنيه على حكم من أحكام العقل؛ لأن اللغة ظاهرة اجتماعية تخضع لما يخضع له المجتمع من أحكام تستند إلى عقل المجتمع نفسه، وقد لا يتفق مع ما يعرفه"[2].

هكذا يرشد مهدي المخزومي دارسي النحو الى المنهج الذي يجب توظيفه بدراسة العربية ونحوها، وهو منهج يتأسس على كيفية حضور اللغة كما تتجلى في الاستعمال، وينطلق من تتبع ما يقوله أهلها فعلًا، لا ما ينبغي أن يقولوه تبعا لقوانين المنطق الأرسطي وآراء الفلاسفة وتأويلات المتكلمين. لا يرى المخزومي في اللغة كيانًا منطقيًا أو فلسفيًا، بل يتعامل معها بوصفها ظاهرة مجتمعية حيّة، تنشأ وتنمو في أحضان المجتمع، وتتشكل على وفق معتقداته ورؤيته للعالم وأعرافه وقيمه واعتباراته وثقافته، فما يفرضه المجتمع من أساليب التعبير، وما تقتضيه ظروفه من تحولات في المعنى، لا تحكمه في أغلب الأحيان معايير المناطقة، ولا تفسره براهين الفلاسفة، ولا تضبطه محاججات المتكلمين. من هنا جاء تأكيده على أن يكون السلطان المطلق في فهم اللغة صادرًا عن هذه الرؤية التي تنصت الى كيفية استعمال المجتمع للغة، وتصغي الى ما يجرى على لسان الناس، لا ما يفرض عليهم من خارج تجربتهم الحية، إذ يقول: "ألا أن هذه الفكرة التي كانت ينبغي أن يكون لها السلطان المطلق على الدراسات اللغوية في تفسير كثير من ظواهرها، لم يتح لها النمو، فسرعان ما طغى سلطان الفلسفة على عقول الدارسين، فأوصد دونهم الباب الذي ينفذون منه إلى دراسة لغوية، أو نحوية حية"[3].2075 makhzomi

تنبه المخزومي الى خطورة الارتهان للمنهج المعياري في دراسة النحو، سواء استند هذا المعيار الى المنطق أو الفلسفة أو علم الكلام أو أية تصورات عقلية مجردة. لم يرَ في هذه المناهج ما ينير فهم اللغة، بل ما يبعدها عن كونها تنشأ وتتطور في فضاء المجتمع، ويقحم عليها ما لا ينتمي الى بنيتها. حين تُدرَس اللغة بوصفها نظامًا يجب أن يطابق معايير عقلية سابقة، تتجمد في قوالب مغلقة لا تعكس واقع الاستعمال. لذلك، دعا المخزومي الى التحرر من هذه الرؤية المعيارية، والإنصات لما تقوله اللغة في سياقات استعمالها، لا لما يراد لها أن تقوله على وفق أحكام سابقة عليها. النحو، في نظره، لا يبنى على ما ينبغي أن يكون، بل على ما هو كائن فعلًا في كلام الناس، وما يتجلى في أساليبهم المتنوعة في التعبير. وهذا ما دعاه للتحذير من اعتماد المنهج المعياري في دراسة النحو، سواء أكان المعيار منطقيًا أو فلسفيًا أو كلاميًا، بقوله: "كان النحاة قد اجتهدوا فنهجوا في دراسة النحو منهجًا معياريًا ثقيلًا، فأساءوا إلى الدرس من حيث أرادوا الإحسان بإخضاعهم موضوعات النحو للاعتبارات الكلامية والمنطقية، وأساءوا إلى الجملة العربية وأصالتها وصفاتها وحيويتها، وما تتميز به عناصرها من حرية في التقدم والتأخر والذكر والإضمار، وحدوا بغلوّهم في تحكيم الاعتبارات العقلية في الدرس من حرية الكلمة في أثناء الجملة، مع أنها تحمل معها ما يدل على موقعها في الجملة أو ما يدل على معناها الإعرابي"[4].

لم يكتف مهدي المخزومي بنقد المنهج المعياري في دراسة النحو، بل تجاوز ذلك الى مساءلة البنية العميقة التي رسخت أبدية القواعد، وتعاملت معها بوصفها أحكامًا نهائية لا تقبل المراجعة. كان يرى أن هذا الموقف المتصلب عطّل النحو عن التفاعل مع تحولات اللغة، وجمّد حيويته وقدرته على مواكبة تحولات اللسان العربي، وحوّله الى منظومة مغلقة لا تصغي الى ما يتغير في لغة المتحدثين. حرص المخزومي على أن يستعيد النحو وظيفته، وتعامل معه بوصفه مرآة لتحولات الواقع والوعي والثقافة واللغة، لذلك دعا إلى أن يتحرر النحو من تسلط التفلسف، وأن يعاد بناؤه في ضوء ما تقوله اللغة فعلًا. النحو، كما فهمه، ممارسة تتجدد بتجدد الحياة، وتصاغ من جديد كلما تغيرت سياقات الاستعمال، وتغيرت الحاجات اللغوية والثقافية، وتبدلت أساليب التعبير. في ضوء هذه الرؤية، يصبح النحو تأملًا في: كيف يتكلم العربي، وكيف يُعيد تشكيل لغته، وكيف تنبثق المعاني من صميم الواقع الذي يعيشه الإنسان، وليس من قوالب جاهزة.

النحو الحي يستخلص من الفضاء الذي تنبثق فيه اللغة، ومن الأصوات التي تعبّر عنها في استعمالها، ومن الواقع المتجدّد، والحاجات التي تفرض على اللسان أن يتغير كي يظل قادرًا على التعبير. لا يصح أن نفهم النحو إلا بوصفه مرآة للواقع وللوعي، وفضاءً للتأمل في كيفية تكلم الانسان حين يصغي الى ذاته، وحين ينصت الى الواقع، وحين يعيد بناء لغته كي تواكب ما يشعر به، وتعلن عما يريد أن يقوله. لا يستجيب النحو إلى ما يريد الإنسان أن يقوله إلا حين يتحول من قيد يكبل المتكلم الى أداة لتيسير النطق باللغة. رفض المخزومي مفهوم العامل بالمعنى المنطقي والفلسفي، الذي لم ينبثق من طبيعة اللغة الحية، ولم يكن وصفًا لظاهرة لغوية واقعية، بل محاولة لإخضاع اللغة لمنطق العلة والمعلول، وفرض نظام سببي ذهني عليها، بحيث صارت اللغة والنحو تفسر بأدوات خارجية عنها، لا تنتمي إلى بنيتها ولا إلى سياقها الاستعمالي. اللغة لا نفهمها بالعلل العقلية ولا بالقوانين المنطقية، لأنها تتجدد في الاستعمال الإنساني، لكن حين سادت نظرية العامل تحول النحو إلى قواعد منطقية تطلب العلل في العقل لا في اللسان، وابتعدت هذه القواعد عن واقع اللغة في استعمالات أهلها. فقد دعا المخزومي إلى ما أسماه "العامل اللغوي"، لتحرير اللغة من القوالب المنطقية والفلسفية، واستعادة طاقتها في التعبير عن الحياة والمعنى، بقوله: "فإذا تبينا أن أقوال الدارسين في تلك العصور المختلفة، في العوامل، كانت قد تذبذبت بين عامل فلسفي محض، وعامل توفيقي محض، وأن العامل اللغوي لم يكن له سلطان بيّن في دراستهم، وإنما كانوا يتشبثون به إذا واجهتهم قضايا استعصت على فلسفاتهم وأصولهم العقلية، وإذا اقتضى الدرس اللغوي أن نبعد عن مجال البحث النحوي ما لا يتفق مع طبيعته، فينبغي أن ندعو إلى ما سميناه العامل اللغوي"[5].

تساءل المخزومي بإنكار عن سطوة التراث النحوي على عقول الباحثين من المحدثين، وركونهم في الفهم إلى القدماء، وعملهم على استئناف ما كان كما كان، وولعهم بتكرار ما كتبه الأسلاف في القواعد والمسائل النحوية المتنوعة، وكأن اللغة مدونة أحكام أبدية مفروضة على أهلها، إذ يقول: "ولا أدري كيف يؤثر باحث محدث أن يكون النحو أقوى عقلاً، وطريقة القياس فيه أكثر تنظيماً، وأقوى سلطاناً على اللغة؟ وأي نحو هذا الذي يستخلص من القواعد الموضوعة، ولا تستفتي فيه اللغة كل اللغة، مع أن الاستعمال هو صاحب السلطان على اللغة لا عقل الفرد ولا منطقه، ولا قاعدته الموضوعة والمفروضة على الدارسين؟ أليس هذا تقليداً - في غير وعي لأفكار عتيقة كانت تفهم النحو على أنه منطق وفلسفة وتعليل وتقدير، ثم أليس هذا ترديدًا لمزاعم المتعصبين الذين كانوا يرون في منافسيهم الذين كانوا يحترمون ما ورد عن العرب ويحرصون على الفصيح المستعمل - دارسين أفسدوا اللغة والنحو، ويعرضون بالكسائي الذي اجتمع لديه النحو والقراءة، فيتهمونه بإفساد النحو، ويزعمون أنه (كان يسمع الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلًا)"[6].

في دعوته لتجديد اللغة والنحو تأثر مهدي المخزومي بعدد من أعلام النحو، مثل الخليل بن أحمد الفراهيدي ت "170ه"ـ، وأبي زكريا الفراء ت "207هـ"، أحد أبرز رواد مدرسة الكوفة، وابن مضاء القرطبي ت "592هـ"، صاحب "الرد على النحاة".كما تأثر بأستاذه في جامعة القاهرة إبراهيم مصطفى "1888 – 1962"، مؤلف "إحياء النحو"، الذي دعا إلى تجديد النحو وتيسيره. غير أن دعوة المخزومي لم تجد صدى لدى معظم اللغويين في جيله، ولم ينهض تلامذته بالبناء عليها. وقد أُجهِضت هذه الدعوة بفعل السلطات الشمولية، إذ يثير ذعر تلك السلطات كل ما يهدد صلابة بنيتها ورسوخها، فتقاوم التجديد في المعرفة الدينية واللغوية بضراوة، وتطارد من يدعو إليه، لأنه يفضح هشاشة الأسس التي تقوم عليها. إن التجديد في فهم الدين وقراءة نصوصه لا يتحقق من دون تجديد علوم اللغة وإعادة النظر في النحو، لأن اللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير وأداة للتواصل، بل هي الفضاء الذي تتشكل فيه الرؤية إلى العالم.

وعود الجيل الجديد من اللغويين العراقيين

في ضوء التحولات المعرفية والعلمية الحديثة، لم تعد اللغة تدرَس بوصفها منظومة قواعدية مغلقة، بل بوصفها ظاهرة متعددة الأبعاد، تتداخل في دراستها العلوم الإنسانية والطبيعية، وتوظف في مجالات تتجاوز حدود اللسانيات التقليدية. تحولت اللغة الى حقل تفاعلي، تسهم في فهمه علوم ومعارف متداخلة، كل منها يضيء جانبًا من جوانبها، ويكشف عن طاقتها في التعبير والتفكير والتواصل والتأثير. في مقدمة هذه العلوم يأتي علم النفس اللغوي، الذي يدرس كيف يكتسب الإنسان اللغة، وكيف يفهمها وينتجها، وما الذي يحدث في ذهنه حين يتكلم أو يصغي، يوظف هذا العلم في تطوير مناهج تعليم اللغات، وفي علاج اضطرابات النطق، وفي فهم العلاقة بين اللغة والذاكرة والانتباه. ويجاوره علم الأعصاب اللغوي، الذي يستخدم أدوات التصوير الدماغي لتحديد المناطق المسؤولة عن اللغة في الدماغ، ويسهم في فهم الاضطرابات العصبية التي تؤثر في القدرة على الكلام أو الفهم، مثل الحبسة أو التأتأة أو فقدان اللغة بعد السكتات الدماغية. أما علم اللغة الاجتماعي، فيسلط الضوء على كيفية تداخل اللغة مع البنية الاجتماعية، ويكشف عن دورها في تشكيل الهوية، والتعبير عن الانتماء، وإنتاج الفوارق الطبقية والثقافية والدينية، والتمييز بين الرجال والنساء. ويستخدم هذا العلم في تحليل الخطاب السياسي، وفهم الديناميات اللغوية في المجتمعات المتعددة، وتفسير التحولات في اللهجات واللغات الهامشية.كما تدرس الأنثروبولوجيا اللغوية اللغةَ بوصفها ممارسة اجتماعية وثقافية تنتج المعنى وتشكل الهوية، ولا تنظر إلى اللغة على أنها نسق مجرد، بل فعل يومي يعيد تشكيل الحياة والعلاقات والثقافة والهوية. اللغة في هذا الحقل وسيط رمزي يجسد أنماط التفكير، ويمارس من خلالها الإنسان الانتماء والسلطة، وتنعكس فيها التوترات والصراعات الكامنة في الممارسات اليومية.  يضاف الى ذلك علم اللغة الإدراكي، الذي يربط اللغة بالتصورات الذهنية، ويبحث في كيفية بناء المعنى داخل الذهن، ويسهم في تطوير نماذج معرفية لفهم اللغة بوصفها أداة للفكر، لا مجرد وسيلة للتواصل. وتعمل اللسانيات التطبيقية على تحويل هذه الرؤى النظرية الى أدوات عملية، تستخدم في تعليم اللغات، وتصميم المناهج، وتطوير الترجمة، وتحليل الخطاب في الإعلام والتعليم والقانون. كما توظف الفيزياء الصوتية في دراسة الخصائص الفيزيائية للأصوات اللغوية، وتستخدم في تطوير تقنيات النطق الآلي، وتحسين جودة الصوت في وسائل الاتصال، وتشخيص اضطرابات النطق.كذلك يسهم علم البيولوجيا التطورية للغة في فهم أصل اللغة وتطورها، ويطرح أسئلة حول كيف نشأت القدرة اللغوية لدى الإنسان، وما الذي يميزها عن أشكال التواصل الأخرى في الطبيعة، ويستخدم هذا العلم في المقارنة بين اللغات البشرية وأنظمة التواصل الحيوانية، وفي دراسة تطور الدماغ البشري من منظور لغوي. ولا يمكننا إغفال دور الذكاء الاصطناعي، الذي يعد من أكثر الحقول الواعدة اليوم، إذ تستخدم خوارزميات التعلم الآلي لفهم اللغة البشرية، وترجمتها، وتحليلها، وتوليدها آليًا، وتوظف هذه التقنيات في تحليل المشاعر، وتوليد النصوص، وتطوير الحوار بين الإنسان والآلة.

هذه العلوم تعيد تعريف اللغة بوصفها كائنًا حيًا، يتجلى في الوعي، ويتشكل في المجتمع، ويتحول في الزمن. وفي ضوئها لم تعد علوم اللغة حكرًا على المتخصصين التراثيين، بل أصبحت ميدانًا مشتركًا بين علماء النفس والأعصاب والاجتماع والأنثروبولوجيا والإدراك والبيولوجيا والفلسفة والذكاء الاصطناعي. هذا التداخل لا يضعف اللغة، بل يغنيها، ويعيد وصلها بالحياة، ويجعل منها مرآة لتحولات الإنسان في ذاته وعالمه.

حجب طغيان الرؤية التراثية للغة الأفق المضيء الذي غامر بالدعوة إليه مهدي المخزومي، ولم يجرؤ علماء العربية من تلامذته على اختراق حجاب تلك الرؤية. غير أني متفائل بمغامرة جيل جديد من الأكاديميين في العراق، تجرؤوا على تدريس علوم اللغة الحديثة في بعض أقسام اللغة العربية في جامعاتنا، ووجهوا تلامذتهم إلى كتابة أطروحاتهم ورسائلهم في الدراسات العليا لدراسة اللغة وتمثلاتها في الحياة في ضوء المعطيات العلمية الجديدة. استجاب لمتطلبات العصر الرقمي هؤلاء الأكاديميون الأحرار، وانتقلوا بدراسات علوم اللغة والنحو إلى آفاق مضيئة تتخطى الرؤية التراثية للغة والنحو. علوم اللغة الحديثة تعيد للغة دورها بوصفها ظاهرة إنسانية مركبة، تتداخل فيها البنية مع المعنى، والسياق مع الهوية، والتاريخ مع الوعي. هذا الاستئناف النقدي لا يكتفي بتجاوز الرؤية التراثية، بل يعيد تشكيل علاقة اللغة بالوجود، ويمنحها طاقة جديدة لفهم الإنسان في تنوع أنماط وجوده وتحولاته المتواصلة ومواكبته للواقع الذي يعيش فيه. هذا التحول يمثل يقظة لغوية عراقية تستفيق فيها دعوة المخزومي، وتبعث الحياة بمشروعه الذي سعى إلى تحرير اللغة والنحو من تسلط الرؤية التراثية، وربطها بسياقات استعمالها المتغيرة.

تحية للعزيز مؤيد آل صوينت، الذي أخرج للقراء طبعة جديدة للأعمال اللغوية الكاملة لمهدي المخزومي، وللأعزاء اللغويين من جيله، الذين يتطلعون ويعملون على تجديد الدرس اللغوي في الجامعات العراقية. منجزات مؤيد وزملائه تعدنا بعبور الرؤية التراثية للغة، والخلاص من تسلط الفصاحة والنحو.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

.........................

[1] المخزومي، مهدي، في النحو العربي: نقد وتوجيه، ص 16، 1964، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت.

[2] المخزومي، مهدي، الأعمال اللغوية الكاملة، اعتنى بها وقدمها: مؤيد آل صوينت، ج1: ص 15، 2024، دار الشؤون الثقافية، بغداد.

[3] المرجع السابق، ص 15.

[4] المرجع السابق، ص 16 – 17.

[5] المرجع السابق، ص 18.

[6] المرجع السابق، ص 17.

 

دور الفلسفة الحيوي في معالجة أزمات الإنسان والمجتمع المعاصر

مقدمة: الفلسفة اليوم.. ضرورة لا ترف فكري

في عصرٍ تتسارع فيه وتيرة التغيرات التكنولوجية، وتستعر فيه الانقسامات الأيديولوجية، وتتعقد فيه القضايا الأخلاقية، يبدو السؤال عن جدوى الفلسفة، ذلك الحقل المعرفي العتيق، أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. غالبًا ما يُنظر إلى الفلسفة على أنها مجموعة من التساؤلات المجردة التي لا تلامس أرض الواقع، حبيسة الأروقة الأكاديمية وبروجها العاجية. لكن هذا التصور يغفل عن جوهر الفلسفة الحقيقي؛ فهي ليست مجرد ترفٍ فكري، بل هي ضرورة منهجية وأخلاقية لفهم واقعنا وتفكيك مشكلاته.

إن الفلسفة، في جوهرها، هي فن "التساؤل المنضبط" و "التفكير النقدي العميق" حول المبادئ الأولى والأسس التي يقوم عليها وجودنا، ومعرفتنا، وقيمنا. وفي عالمنا المعاصر، المشبع بالمعلومات المتضاربة، واليقين الزائف، والتحديات الوجودية، تقدم الفلسفة الأدوات المنهجية اللازمة ليس فقط لتشخيص المشكلات، بل لاقتراح مسارات لمعالجتها على المستويين الفردي والاجتماعي.

أولًا: الفلسفة كأداة لتفكيك الواقع (المشكلة المنهجية)

قبل الخوض في المشكلات المحددة، لا بد من الإشارة إلى أن الأزمة الأولى التي يعالجها الفكر الفلسفي هي "أزمة التفكير" ذاتها. نعيش اليوم في "مجتمع ما بعد الحقيقة" (Post-truth Society)، حيث تُطمس الحدود بين الحقيقة والرأي، وبين الخبر والبروباغندا.

1. مواجهة السطحية وغسيل الأدمغة: تُعد الفلسفة، وتحديدًا "نظرية المعرفة" (Epistemology) و"المنطق"، خط الدفاع الأول ضد التضليل المعلوماتي. هي لا تعلمنا ماذا نفكر، بل كيف نفكر. تدربنا الفلسفة على:

أ‌- تفكيك المغالطات المنطقية: التي تعج بها الخطابات السياسية والإعلامية.

ب‌- تقييم مصادر المعرفة: التمييز بين المعرفة الموثوقة والادعاءات الزائفة.

ت‌- تحليل الافتراضات المضمرة: كشف ما يكمن خلف الشعارات البرّاقة والأيديولوجيات المتطرّفة.

في زمن الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI) وتقنيات "التزييف العميق" (Deepfakes)، يصبح التفكير النقدي الذي تبنيه الفلسفة ليس مجرد مهارة أكاديمية، بل أداة بقاء ديمقراطي واجتماعي.

2. أنسنة التكنولوجيا (المشكلة التكنو-أخلاقية): لقد وضعتنا الثورة التكنولوجية أمام معضلات لم يسبق للبشرية أن واجهتها. هنا، يبرز دور "فلسفة التكنولوجيا" و "الأخلاقيات التطبيقية" (Applied Ethics) بقوة.

أ‌- أخلاقيات الذكاء الاصطناعي: تطرح الفلسفة الأسئلة الحاسمة: كيف نضمن ألا تكون الخوارزميات متحيّزة؟ من المسؤول أخلاقيًا عن أخطاء الذكاء الاصطناعي؟ هل يمكن للآلة أن تمتلك وعيًا؟ وما هي حدود العلاقة بين الإنسان والآلة؟

ب‌- البيوإيتيقا (الأخلاق الحيوية): مع تطور تقنيات التعديل الجيني (مثل كريسبر)، تتصدى الفلسفة لسؤال "ما معنى أن تكون إنسانًا؟". هل يحق لنا "تصميم" أطفالنا؟ وما هي الخطوط الحمراء في التدخل البيولوجي؟

ت‌- الخصوصية والمراقبة: في عصر "رأسمالية المراقبة"، يعيد الفلاسفة فتح نقاشات عميقة حول مفهوم "الذات"، و "الحرية"، و "الحق في الخصوصية" في الفضاء الرقمي.

ثانيًا: الفلسفة كمرشد للعيش (المشكلات الفردية)

على المستوى الفردي، يعاني إنسان العصر الحديث من أزمات وجودية عميقة: الاغتراب، القلق، وفقدان المعنى.

1. البحث عن المعنى في عالم متغير: في مواجهة تراجع السرديات الكبرى التقليدية وصعود النزعة الاستهلاكية، تقدم الفلسفات الوجودية (مثل أعمال سارتر، كامو، وسيمون دي بوفوار) أدوات لفهم "القلق الوجودي". هي تدعونا لتحمل مسؤولية حريتنا وخلق المعنى الخاص بنا، بدلًا من استهلاكه جاهزًا.

2. العودة إلى "فن العيش": نشهد اليوم عودة قوية للفلسفات القديمة كـ "الرواقية" (Stoicism) كأدوات علاجية. في عالم لا يمكن التنبؤ به، تعلمنا الرواقية التمييز بين ما يمكننا التحكم به وما لا يمكننا، وتدربنا على "الصلابة العقلية" وقبول الواقع كخطوة أولى لتغييره. لم تعد الفلسفة مجرد تأمل، بل أصبحت "ممارسة يومية" لإدارة القلق وتحقيق السكينة (Ataraxia).

ثالثًا: الفلسفة كعقد اجتماعي (المشكلات المجتمعية والسياسية)

لا تنفصل أزمات الفرد عن أزمات المجتمع. وهنا تلعب "الفلسفة السياسية" و"الأخلاق الاجتماعية" دورًا محوريًا.

1. أزمة العدالة والديمقراطية: إن اتساع فجوة اللامساواة الاقتصادية، وصعود الشعبوية، وتآكل المؤسسات الديمقراطية، كلها قضايا تقع في صلب الفلسفة السياسية.

أ‌- نظريات العدالة: تستمر أعمال جون راولز (John Rawls) حول "العدالة كإنصاف" في إلهام النقاشات حول كيفية بناء مجتمع يوازن بين الحرية والمساواة، وكيفية توزيع الثروة والموارد بشكل عادل.

ب‌- التسامح والعيش المشترك: في مواجهة الاستقطاب السياسي والطائفي، تعيد الفلسفة طرح أسئلة التعددية الثقافية، وحدود حرية التعبير، وأسس "العقد الاجتماعي" الذي يجمعنا على الرغم من اختلافاتنا.

2. الأزمة البيئية (أخلاقيات الكوكب): يشكّل تغير المناخ التحدي الأكبر لوجودنا. "الأخلاقيات البيئية" (Environmental Ethics) هي فرع فلسفي يتساءل عن علاقتنا بالعالم الطبيعي.

أ‌- هل البشر هم "أسياد" الطبيعة أم جزء منها؟

ب‌- ما هي مسؤولياتنا الأخلاقية تجاه الأجيال القادمة؟

ت‌- هل للحيوانات والنظم البيئية حقوق؟ تدفعنا الفلسفة هنا لإعادة التفكير جذريًا في نماذجنا الاقتصادية القائمة على النمو اللامحدود، وتدعونا لتبني "أخلاقيات المسؤولية" تجاه الكوكب.

خاتمة: الفلسفة.. ضرورة لإعادة بناء المستقبل

إن المشكلات التي تواجه الإنسان والمجتمع اليوم ليست مجرد مشكلات تقنية أو اقتصادية يمكن حلها بـ "تطبيقات" أو "سياسات" معزولة. إنها في جذورها أزمات "معنى" و "قيمة" و "تفكير".

دور الفلسفة الحالي ليس تقديم إجابات جاهزة، بل هو "إبقاء السؤال حيًّا". إنها المنهج الذي يمنعنا من التكيّف السلبي مع الواقع، ويدفعنا لتخيّل "عوالم ممكنة" أخرى. هي التي تسلّحنا بالشجاعة لنطرح الأسئلة الأكثر إزعاجًا: لماذا الأمور على ما هي عليه؟ وهل يمكن أن تكون أفضل؟

في عالم يقدّس السرعة واليقين، تبدو الفلسفة، بتمهلها وشكها المنهجي، فعلًا راديكاليًا. إنها البوصلة التي نحتاجها لنبحر في تعقيدات القرن الحادي والعشرين، ليس فقط لننجو، بل لنعيش حياة إنسانية أكثر وعيًا، وعدالة، واكتمالًا. فالمجتمع الذي يتوقف عن التفلسف، هو مجتمع يتوقف عن التفكير في مستقبله.

***

أ.د. إحسان علي الحيدري - أستاذ فلسفة الدين والأخلاق

كلية الآداب / جامعة بغداد

يُشكّل التّصوّف، بتجلياته المتعدّدة عبر الثّقافات والحضارات، مجالا خصبا للدّراسة الأنثروبولوجية، فهو لا يقتصر على مجرد ممارسات دينيّة، بل يتجاوز النّظرة اللاّهوتية البحتة ليشمل منظومة من المعتقدات، والسلوكيّات، والخبرات الشّخصيّة التّي تُعرف وتُفهم من خلال منظورها الثّقافي.

تُعنى أنثروبولوجيا التّصوف بفهم هذه المنظومة، وكيفيّة تفاعلها مع البِنى الاجتماعيّة والثّقافية المختلفة، وكيف تُشكل هذه التّجربة الرّوحيّة حياة الأفراد والمجتمعات، وتركّز على تجلياتها في الواقع المعيش، وكيف تتشكّل وتتطوّر عبر الزّمان والمكان، وتتفاعل مع السّياقات الثّقافية المختلفة .

1/ أنثروبولوجيا التّصوف وأهمّيتها:

تُعرف أنثروبولوجيا التّصوف بأنّها دراسة الممارسات الصّوفيّة من منظور أنثروبولوجي، معتمدة على المنهجية الإثنوغرافيّة التّي تركّز على الوصف الدّقيق وجمع المعلومات من خلال الملاحظة، ويهدف هذا التّخصص إلى تفسير السّلوك الباطني أو الهدف الخفيّ من هذه الممارسات، وكيف تتجسد الظّاهرة الدّينية في ظلّ الزّمان والمكان الذّي يحدّده الشّيخ لمريده [1].

وتكمن أهمّية أنثروبولوجيا التّصوف في قدرتها على تقديم فهم شامل ومتعدد الأبعاد للظّاهرة الصّوفية، والذّي لا يقتصر على الجوانب الرّوحية أو الفلسفية، بل يمتد ليشمل التّعبيرات الثّقافية والاجتماعيّة والسّياسيّة، فهي تبحث في كيفيّة تشكيل التّصوف للهويّات الفرديّة والجماعيّة، وتأثيره على العلاقات الاجتماعيّة، ودوره في المشهد السّياسي على حدّ السّواء.

كما لا يقتصر اهتمام الأنثروبولوجيا بالتّصوف على الجانب الوصفي، بل يتجاوز ذلك إلى التّحليل النّقدي، فبدلا من الاكتفاء بتسجيل الممارسات والطّقوس، تسعى هذه الدّراسة لفهم الدّوافع الكامنة وراء هذه الممارسات، وكيف تساهم في بناء الهويّة الفرديّة والجماعيّة، فعلى سبيل المثال، تُحلّل أنثروبولوجيا التّصوف دور الرّموز والطّقوس في خلق حالة من التّواصل مع ما وراء الطّبيعة، وكيف تُسهم هذه الطقوس في بناء الرّوابط الاجتماعيّة وتقوية الشّعور بالانتماء إلى جماعة معيّنة، وهو ما يعكس الأهميّة الكبرى لهذا المجال.

2/ أنثروبولوجيا التّصوف: أنساق الدّراسة ومجالات البحث

أ/ أنساق الدّراسة:

تتناول أنثروبولوجيا التّصوف عدة محاور رئيسيّة لفهم الظّاهرة الصّوفيّة أهمّها:

- الممارسات والطّقوس الصّوفية: حيث تركّز على تحليل الطّقوس والممارسات المتنوّعة التّي تميّز الطّرق الصّوفية المختلفة مثل الذّكر، والجذب، والموالد، والزّيارات للأضرحة، ففي العراق مثلا، بيّنت الدّراسات في المجال أنّ الواقع الدّيموغرافي ووجود أضرحة مؤسّسي الجماعات الصّوفية (القادريّة، الرّفاعية، النّقشبنديّة) له الأثر الأكبر في تشكيل التّجربة الصّوفية العراقيّة.

وفي المغرب، تُعد طقوس "كناوة" مثالا بارزا على الممارسات الشّعبية التّي تمزج بين الدّيني والسّحري، وتعكس تفاعل الثّقافة المحليّة مع الأصول الأفريقيّة .

- الهياكل التّنظيميّة للطّرق الصّوفيّة: إذ تدرس كيفيّة تنظيم الجماعات الصّوفيّة في "زوايا" أو "طرق"، وكيف تتجاوز هذه الهياكل الحدود الجغرافيّة والثّقافية واللّغويّة، ففي أمريكا الشّمالية مثلا تخضع الحركات الصّوفيّة لموجتين تنظيميّتين هما إعادة هيكلة الجماعات إلى النّموذج التّقليدي للطّريقة، أو التّفكيك والخروج من الأنماط التّقليديّة للاندماج في ديناميّات السّوق الدّينيّة.

ب/ مجالات البحث:

تتنوّع أساليب البحث في أنثروبولوجيا التّصوف، فهي لا تقتصر على الملاحظة الميدانيّة والمقابلات، بل تتوسّع لتشمل تحليل النّصوص الدّينية والأدبيّة، ودراسة الفنون والعمارة المرتبطة بالتّصوف، فدراسة الخطوط الكوفيّة في الفن الإسلامي على سبيل المثال، تكشف عن أبعاد روحيّة عميقة تعكس تجربة التّصوف لدى الفنّانين، كذلك، دراسة الموسيقى الصّوفية وطقوسها، تُبرز العلاقة الوثيقة بين الموسيقى وبعض الحالات الرّوحيّة، ومن أمثلة مجالات البحث في أنثروبولوجيا التّصوف:

- التّجربة الشّخصيّة للتّصوف: حيث تركّز هذه الدّراسات على فهم تجارب الأفراد الرّوحيّة، وكيفية تأثيرها على حياتهم اليوميّة، وتكوين هويّتهم.

- التّصوف والسّلطة: تُحلّل هذه الدّراسات العلاقة بين التّصوّف والسّلطة السّياسيّة والدّينية، وكيف استُخدم التّصوف أحيانا كأداة لتدعيم السّلطة أو كوسيلة للمقاومة.

- التّصوف والجنس: وتبحث هذه الدّراسات في دور الجنس والنّوع الاجتماعي في تشكيل التّجربة الصّوفيّة، وكيف تختلف هذه التّجربة بين الرّجال والنّساء.

- التّصوف والبيئة: تُبرز هذه الدّراسات العلاقة بين التّصوف والطّبيعة، وكيف يُستخدم التّصوف في الحفاظ على البيئة.

- علاقة التّصوف بالثّقافة والفن: وتبحث في تأثير التّصوف على الفنون المختلفة كالأدب والموسيقى والشّعر، وكيف يعاد تشكيل ممارساته وخطاباته ضمن سياقات ثقافيّة متنوعة، ويُعد جلال الدّين الرّومي مثالا على ذلك، حيث أصبح شخصيّة مرجعيّة في التّصوف العالمي، وتُرجمت قصائده والعديد من انتاجاته الأدبيّة والفنيّة في الغرب.

- التّصوف والسّياسة: تتناول الأنماط السّياسيّة للتّصوف المعاصر واستراتيجيّاته للتّكيف ضمن المجال السّياسي العالمي، ففي الجزائر مثلا، يظهر الدّعم الحكومي للصّوفيّة جزءًا من مشروع سياسي لمواجهة الحركات السّلفيّة، وفي تركيا حركة غولن والتّي رغم أنّها لا تعلن عن انتمائها الصّوفي بشكل مباشر في السّياق الوطني، إلاّ أنّها تركز على هذا الانتماء عند تقديم نفسها في الأوساط الغربيّة .

- التّصوف المعاصر والعولمة: تدرس كيفيّة تحوّل التّصوف إلى ظاهرة عالميّة تتميّز بأنماط جديدة من التّعبيرات الدّينية والثّقافية والسّياسيّة، وكيف يتفاعل مع مفاهيم مثل "العهد الجديد" (New Age) التّي تجعله تجربة روحيّة عالميّة غير مرتبطة بدين معيّن .

- التّصوف والفلسفة: تهتم أنثروبولوجيا التّصوف أيضا بالعلاقة بين الفلسفة والتّصوّف، وكيف استفاد الخطاب الصّوفي من مفاهيم فلسفيّة في نظرته إلى العالم والتّأويل، وكيف قدمت الفلسفة أدوات معرفيّة لمقاربة ظاهرة التّصوف، ويُعد ابن عربي من أبرز الفلاسفة الصّوفيّين الذّين قدّموا مفهوم "روحانيّة الجسد" متجاوزا الثّنائيّة التّقليدية بين الجسد والرّوح .

3/ التّحديّات والمستقبل:

تواجه أنثروبولوجيا التّصوف تحدّيّات تتعلّق بتعقيد الظّاهرة الصّوفيّة وتنوّعها، وضرورة تجاوز النّظرات التّبسيطيّة أو الأحكام المسبقة، كما أنّ هناك حاجة لدراسة جوانب لم تُغطّ بشكل كاف، مثل علاقة الشّيخ بالمريد في سياق العولمة، وحضور المرأة والشّباب في الحركات الصّوفية المعاصرة، واستخدام الأدوات الجديدة لنشر التّصوف عبر وسائل التّواصل الاجتماعي والمهرجانات الثّقافية.

وبناء على ما سبق، تُعد أنثروبولوجيا التّصوف مجالا بحثيّا غنيّا ومتنوّعا، يساهم في فهم أبعاد التّجربة الرّوحية الإنسانيّة، وكيفيّة تفاعلها مع السّياقات الثّقافيّة المختلفة، فهي لا تُقدم فقط وصفا للممارسات الصّوفية، بل تُساهم في فهم العمليّات الاجتماعيّة والثّقافيّة التّي تُشكّل هذه التّجربة، وتُبرز دورها في بناء الهويّة الفرديّة والجماعيّة.

تسعى أنثروبولوجيا التّصوف إلى فهم "الظّاهرة الصّوفية" بتعقيداتها وتنوّعها، من خلال ملاحظة الممارسات كما هي في الواقع، وتحليل الطّقوس والخطابات، ووضعها في سياق اجتماعي وثقافي وسياسي عالمي.

***

د. سلـــوى بن أحمد

هل حقًا ما لا تريد النفس معرفته، هل يؤدي إلى عقوبة الذات؟ نعم، لأنه يمس بخصوصيتها وعمق ما ترك فيها من أثر وندبات، موضوع يمس ذواتنا ونحن في حالة اليقظة والوعي، ندرك تمامًا ما نراه ونُقيمهُ، ولكن تساؤلنا هل فعلا ما لا نعرفه عن أنفسنا ويدلنا إليه الآخر، لا نقبله؟ وهل هو شيء أحدث جرحًا فينا واصبح جرحًا نرجسيًا في أنفسنا نحاول عدم معرفته؟

 حينما يفاجئنا أحدهم بشيء فينا ولا نعرفه؟ نستعير هذا النص لمعرفة دلالته وهو أن يرى الآخر فينا ما لم نعد نراه بأنفسنا، ليس في موقف واحد من مواقف الحياة، بل في مواقف متعددة منها الأبوة وشدة تأثيرها في بناء شخصيتنا، أو التعلق الأمومي، المحبة تجاه من نكن له العاطفة، الحب والعلاقات العاطفية، حينما نستدعي المؤلم الدفين في دواخلنا في لحظة غير متوقعة.. ترك فينا الأثر والندبة النفسية العميقة، لن تغادرنا طالما نحن نعيش ونتذكر تلك الندبة " الذكرى الدفينة" في حياتنا اليومية ومهما بلغنا من العمر، ومن النضج، ومن القوة، ستعود حتمًا ولكن ليست كما كبتت " الكبت"، بل ستعود بصور حياتيه مختلفة ومتغيرة، مضللة ومدغمة بلفافيف قاتمة أحيانًا، لأنها موقف يتعامل أي منا في مواقف الحياة المتنوعة.. ويمكننا أن نقول صارت سمة تتسم بها شخصياتنا، لأنها تنبع من ذات خبرت تلك وتركت الأثر ونتفق مع سيجموند فرويد بقوله: لا يوجد كبت إلا ويفتضح في أثرٍ ما يدل عليه " صفوان، الكلام أو الموت، ص 31".

طالما أننا نجدد رؤانا كل يوم، لا بل كل ساعة أزاء مواقف الحياة المتنوعة، سوف يكون حضورها حتميًا، لأن النفس لا تمحو شيء، ولا تنسى نسيانًا نهائيًا. وكما يقول " جاك لاكان" الرغبة مجازية بالطبع، فهي تنتقل من شيء إلى آخر، ومن خلال هذه التنقلات تختفظ الرغبة بحد أدنى بالالتصاق الشكلي، وهي مجموعة من السمات الخيالية.

ونقول إذا كانت إيجابية تجعلنا نرغب في ذلك الشيء، أما إذا كانت سلبية فإنها تترك فينا أثر سيء وربما سلبي يدركه من حولنا الآخرين.

الغيرة كما يقول العلامة "مصطفى زيور" تقوم على ضرب من التعاطف تختلط فيه معالم الذات بالآخر، إلا أنه تعاطف معذب، ويقودنا هذا أن كل سمة من سماتنا تحمل بين ثنايا وجودها أثر نرجسي يتعمق تارة، وربما يبقى على السطح تارة أخرى وفي كلا الأمرين، الموضوع سيان حيث يكون الأثر الذي لا.. ولن يمحى من تشبثه في عالم لا حدود له وهو عالم اللاوعي – اللاشعور، فيكون حضوره مرة أخرى وارد في أي موقف من مواقف الحياة المختلفة في العمل أو في العلاقات العامة، أو في العلاقات العاطفية، وربما في العلاقات الحميمية، أو الزوجية موطن اعلان كل الأسرار لدى الطرفين أعني الرجل والمرأة.. تستعيده ظروف مماثلة ومختلفة معًا عن ما جعله يكبت. وقول " لاكان" ما دام الموضوع موجودًا، فإنه يظل نقصًا، كل ما يمكن فعله هو مطاردة ذلك الجزء من ذاته الذي هو ليس جزءًا على الاطلاق، هو نقص يلاحق نقصًا ملموسًا.

 إن بعض المواقف التي تستدعي ما كان يؤلمنا وهربنا منه إلى عالم آخر، ونسترجعه كأننا نسترجع جرحًا نرجسيًا، وقول " سيجموند فرويد" الجرح هنا ليس في الفقد، بل في تذكر ما كان ينبغي أن يُمنح منذ البداية ولم يمنح.

نحن أسوياء كما نعتقد بقدر تعاملنا في تجميل وجودنا مع الناس، مع من نلتقي بهم في دوامة الحياة ولكن ليس في مدورة الألم وخزين النفس، لا ننساه إلا في ظروف الحياة اليومية المتنوعه، وفي الحقيقة ليس هو كماضي منسي، بل كحاضر متكرر.  

 يرى كاتب هذه السطور، وربما غيري ليس كذلك، بأن أي تعلق بشيء في حياتنا من الطفولة، هو تكوين وبناء لن يزول.. لا أقول أبدًا، لكن يحتاج إلى جهاد من النفس لا نضير له، جهاد لم نألفه ونحن في حضارة العجلة واللحاق بالجديد، وهذه العجلة واللحاق بالجديد لا تعطي النفس برهة تأمل ممن هربت منه لتستعجل في كل شيء، ويصدق قول الفيلسوف الألماني " نيتشه" المستعجل هارب من نفسه دائمًا. فكيف إذن يكون التعمق في ما تم التعلق به وأسس بنية النفس البشرية وهو النقص والفقد معًا، هل يبرأ الأصحاء أولا منه وهم يدركونه؟ فكيف إذن بمن يعاني منه ويدركه كعائق وجودي في كينونته، ليومه ومسيرة حياته اليومية، وإن أستطاع البعض ممن جاهد من " النفس" – مع نفسه ضد نفسه لتبديل ما أنهكه وألمه من أفكار وهواجس تلازمه في كل يومه.. يكون قد حقق التسوية الناجحة بين أخطر أمرين في النفس، قبوله ورفضه معًا.

 نتفق مع القول الذي يرى أن الجرح النرجسي لا يشفى بالكامل، لكنه يعاد تشكيله عبر علاقات تحتمل الإنكشاف عبر مساحات لا تطلب الكمال، وعبر لحظات يستطيع فيها الفرد أن يرى نفسه، لا كما يريد أن يكون، بل كما هو، وأن يجد في هذا القبول نفسه بديلًا عن الانعكاس المفقود. ونقول من هو الذي خلق الفقد؟

 تساؤل وجودوي- تساؤلٌ يختص بكينونة الإنسان؟ هل هو أنا كما أدرك ذاتي؟ أم الام التي هي تمنح العاطفة والحنان مع الغذاء معًا. ما نراه في الفصامي هو نفسه ما نراه في الاكتئابي ولكن بصورتين مختلفتين تمامًا، فالأول يكره أمه لأنها سبب أزمته كما يدرك ذلك من داخل نفسه، وهو أمر ليس عقلاني. والثاني الذي يشعر بأنه دمر أمه لما تحملت من أجلهِ كل تلك المعاناة، فأدرك ذلك بأنه إجحاف في حقها، كيف يعيد لها تقديرها في نفسه، وهو أن يقدم نفسه هدية لها، ومكافأة لما قدمته بأن يقدم لها أعز شيء هو نفسه، لكي لا يشعر بالذنب ولوم ذاته ويستمر في حياة مظلمة دائمًا، وهو الموت أختيارًا.. والخلاص من هذا السقم النفسي الذي لا ينتهي، هذا الألم الذي يستجد كل صباح مع التشاؤم الذي يصل حد الوهم، فضلا عن الثقل الواضح في الحركة الجسمية مع الأرق وفقدان الشهية للطعام، ففي كل صباح تكون الاستفاقة مبكرة واشتداد في نوبة الاكتئاب، وأقصد هنا الاكتئاب العقلي، وبأمكاننا أن نميزه عن الاكتئاب النفسي الذي الذي ينجم عادة عن انفعال أو رد فعل لموقف خارجي Reactive، في حين يكون الاكتئاب العقلي – الميلانخولي – السوداوي هو اضطراب بنيوي ذاتي يساعده العامل الذاتي والاستعداد الداخلي للاكتئاب.

هنا يقودنا تساؤل به من الأهمية استنادًا لمقولة " جاك لاكان" الذات تحيا اثر نقص بنيوي يؤسس الرغبة، لذا فهي تفتقد ما لم تملكه أصلًا، وتنتظر ما لن يأتي وهذا هو الموضوع الصغير- الألف الصغير " a " ذو الدلالة العميقة عند جاك لاكان. وهو بنفس الآن ليس شيئًا فقدناه، انه عندئذ نكون قادرين على العثور عليه واشباع رغباتنا، بل إنه الاحساس الدائم الذي ينتابنا كذوات بأن شيئًا ما ينقصنا بحياتنا.

 ولا نغالي لو أتفقنا مع سيجوند فرويد بمقولته وهي أن اختيار نوع العصاب، أي الشكل الذي يتخذه المرض فيما بعد، رهن بالموضوع الذي حدث عند التثبيت. وعودًا لما تقدم به لاكان وفرويد أن نجد البعض من الشباب الذي يقدم على الانتحار بكل جدية وثقة بالنفس لا خوفًا من الموت أو رعبًا منه، بل إن إيمانه وعقيدته الزمته بتقديم نفسه قربان لآخر – هو من يقدسه وهو "الإمام" الذي يرى فيه المخلص من هذا الجحيم في هذه الحياة، هذا "الإمام" الذي يقدسه في داخله وهو مبعث الطمأنينة له.

 أما العامل الخارجي " اعني به من يبشر لهذا المذهب، أو الاتجاه حيث يكون دافعًا للإقدام على فعل الانتحار، وهنا نذكر القول ان المحاولات الانتحارية هي رسالة استغاثة يرسلها الفرد إلى محيطه ومجتمعه، وهي استغاثة لاواعية – لاشعورية، وهي تضم عقابًا ذاتيًا، أو محنة عليه أن يقاسيها، وقول " د. فخري الدباغ " وإذا كانت درجة خطورة المحاولة الانتحارية قليلة فإن ذلك لا يعني بأن الدوافع اللاواعية – اللاشعورية للموت كانت غير صادقة، ونقول أبدًا أن الجرح النرجسي ساهم في التحفيز سواء لدى مضطرب الاكتئاب العقلي، أو المؤمن المتمسك بقدسية رجل ما، بأن الانتحار كهدية تقدم قربان للإمام – السيد المخلص الذي ينتظر قدومه للحياة الأبدية وهذا في فكر " العلياللهية "، فالأمر لا يعدو أن يكون بنية ذهانية أخذت في الأولى طابع الميلانخوليا – الاكتئاب السوداوي، وفي الثانية درجة العتمة في رؤية الحياة ومسارها الذي لن يستقيم إلا من خلال تقديم نفسه قربان للامام – السيد بالانتحار، وهو يقوم على مدى الشعور بالذنب عند الشخص المنتحر متدينًا مؤمنًا بفكر متطرف، فالأمر لا يختلف في دوافع الانتحار والشروع به فكما هو الأمر في العوامل النفسية في مرحلة الطفولة في سنواتها الأولى، وعلاقة الفرد بأبويه، وكلاها لها تأثير في الميول الانتحارية، وما تركه من أثر في جرح نرجسي لن يندمل.. يستثار في مواقف الحياة، ربما يؤدي بصاحبه إلى الإقدام لفعل الانتحار.. يبقى أن نقول ليس بعض ما لا تريد النفس معرفته.. هو عفوي، أو بلا دلالات عميقة منشأها ما تُرك في النفس أثر ربما يؤدي إلى الجنون أحيانًا.

***

د. اسعد الامارة

(نحن نقرأ لا لنكتشف المؤلف، بل لنكتشف أنفسنا من خلال النص)... تزفيتان تودوروف

هل يمكن لنصٍّ مهما بلغ من الجمال أن يُصبح بلا أثر؟ وهل تتوقف عظمة النص على صاحبه أم على طاقته الإبداعية الداخلية؟ تلك الأسئلة القديمة الجديدة التي تشكّل نقطة التماس بين النظرية الأدبية والسوسيولوجيا الثقافية، بين فلسفة الجمال وميتافيزيقا المعنى. فالنص، وإن كان مولودًا من ذات كاتبه، إلا أنه لا يظل رهينها. وما أن يُكتب، حتى يدخل منطقة أخرى، غامضة ومفتوحة، تُعرف بـ"الوجود النصي" المستقل عن النوايا والأسماء.

يؤكد التاريخ الثقافي أن النصوص العظيمة لا تُخلّد بالضرورة بأسماء أصحابها، وأن النصوص الصغيرة قد تتضخم أحيانًا بظلّ شهرة كاتبها. في هذا المفترق الإشكالي، تتولد المفارقة الكبرى، لماذا يتفاعل المتلقي مع النص الشهير، ويصمت أمام النص المغمور؟ أهو نوع من الولاء الرمزي للمؤلف؟ أم أن فعل القراءة نفسه صار ممارسة اجتماعية خاضعة لمنطق الاعتراف والهيمنة الرمزية كما وصفها بيير بورديو؟

إن ما يجعل النص "عظيمًا" ليس هو تاريخه المؤلفي، بل قدرته على إعادة إنتاج المعنى خارج سلطته الأولى. من هنا يتأسس ما يمكن تسميته بـ"تحرر النص"، لحظة انفكاكه عن سيرة كاتبه ودخوله في حوار مع وعي القارئ. وهنا تلتقي أطروحة رولان بارت حول "موت المؤلف" مع المبدأ الهيرمينوطيقي لغادامير، الذي يرى أن النص يعيش فقط حين يعاد تأويله باستمرار في أفق فهمٍ متجدد.

لكن المفارقة أن المتلقي المعاصر، وقد تشرّب ثقافة "الاسم"، لم يعد يبحث في النص عن دلالاته، بل عن صدى كاتبه الاجتماعي وموقعه الثقافي. يغدو النص مجرد ظلٍّ لسلطة الاسم، ويفقد فعله التأثيري الحقيقي. ذلك أن الفعل الثقافي في جانبه التلقّي، حين يتحلل من مسؤوليته الجمالية والمعرفية، يتحوّل إلى شكل من الاغتراب الثقافي، حيث يُستبدل جوهر الإبداع بسطوة الرمزية.

فهل نقرأ النص لنكتشف ذواتنا، أم لنؤكد انتماءنا إلى منظومة أسماء كبرى؟ وهل القيمة الأدبية صادرة من النص ذاته، أم من مؤسسات الاعتراف التي تمنح الشرعية لما يُسمى "الأدب الرفيع"؟ أليست كل قراءةٍ، في العمق، إعادة كتابة من نوع آخر، تجعل من القارئ كاتبًا مؤجّلًا؟

لقد أشار ميشال فوكو في نصه الشهير ما المؤلف؟ إلى أن وظيفة المؤلف ليست وصفًا لشخصٍ بعينه، بل هي نظام خطابٍ ينتج السلطة ويحدّد من يحق له الكلام ومن يُقصى من فضاء المعنى. هكذا يتحوّل الاسم إلى آلية ضبط للخطاب، لا إلى علامة للخلق. أما في المقابل، فإن النص المغمور، الخارج من هامش الثقافة، يحتفظ غالبًا بنقائه الأول، نصٌّ بلا ادعاء، يُريد أن يُقال لا أن يُستعمل.

في هذا الأفق، يمكن القول إن النص الذي يُقاس بمقام كاتبه لا يعيش طويلًا. بينما النص الذي يُقاس بقدرته على استثارة الدهشة والفكر، هو الذي يدخل خلد المكتبة الإنسانية. إننا نقرأ هوميروس دون أن نعرف هويته بدقة، ونبكي مع شعراء مجهولين عبر قرون لأن نصوصهم كانت أكبر من أسمائهم.

ربما كان مصير النص الحق أن يعيش في عزلةٍ نبيلة، ككائنٍ لا يُعرف له أبٌ ولا نسب، يسير في دروب القراءة متخفيًا، يوقظ ما خفي من الوعي، ويكسر ما تراكم من يقين. فحين يموت المؤلف، يولد النص في الزمن. يصبح المعنى جسدًا يتنفس داخل قارئٍ لا اسم له، قارئٍ لا يبحث عن شهرة الكاتب بل عن صدق التجربة الإنسانية فيه. هناك فقط، تتطهر الكلمة من سوق الأسماء، وتستعيد براءتها الأولى، لتغدو فعل معرفةٍ لا يخضع إلا لسلطة الدهشة.

هل يمكن للنص أن يتحرر فعلاً من جاذبية كاتبه؟ وهل يمكن للقارئ أن يقرأ بعيدًا عن التحيزات الرمزية والاجتماعية التي تحكم ذائقته؟

ربما لا جواب نهائي لهذه الأسئلة، لكن قيمتها تكمن في إبقائنا في حالة توتر معرفي جميل بين النص والكاتب والقارئ. ذلك التوتر هو الذي يصنع حياة النصوص، ويدفعنا لأن نسأل من جديد: من يكتب النص؟ ومن يمنحه الخلود؟

فِي خُلُودِ النَّصِّ وَأَوْهَامِ الْكَاتِبِ

إنها استعارة تتجاوز ظاهر الكتابة إلى جوهر الوجود، إذ ليس النص مجرد حروفٍ تُسطَّر على بياضٍ عابر، بل كينونةٌ تنبضُ بما يتخطى صاحبها، لتصبح الذاكرةُ نفسها محبرةً أخرى تواصل الكتابة بعد أن يجفَّ الحبر الأول.

فالكاتب، في لحظة الخلق، يوقظ من المعنى ما يظنه ملكه، غير أن النص ما يلبث أن يتحرر من سلطة صاحبه، ليصير ملكًا للقراءة، ولزمنٍ آخر يمنحه الخلود أو يدفنه في النسيان.

إن الخلود لا تصنعه الأقلام، بل تنحته العقول التي تقرأ، والقلوب التي تعي أن كل نصٍّ عظيم هو محاولة لتحدي الفناء بلغته الخاصة. فالنص، حين يغادر صاحبه، يتحول إلى كيانٍ حرٍّ يعيش بقدر ما يُقرأ، ويُعاد تأويله، ويُستدعى في الذاكرة الجمعية. الكاتب يكتب مرة واحدة، لكن القارئ يخلق النص ألف مرة. لذلك، فإن الخلود لا يكون للنص الذي يصرخ، بل لذاك الذي يهمس في وجدان الزمن، فيجد صداه في أرواحٍ لم تولد بعد.

الخلود إذن، ليس في البقاء المادي للكلمات، بل في قدرتها على أن تُحدث رعشةً في الفكر والوجدان، في أن تترك أثرًا لا يُرى، لكنه يُحَسّ، كأنها نَفَسٌ ممتدٌّ بين الكاتب والقارئ، بين الغياب والحضور، بين الفناء والمعنى.

هكذا فقط، يصبح النص كائنًا حيًّا، يواصل العيش بعد موت كاتبه، لأن من يمنحه الخلود ليس القلم، بل الوعي الذي يعيد قراءته بروحٍ جديدة كل مرة. وهكذا، لا يعود النص ملكًا لكاتبه، بل يصبح مرآةً لما يتجاوز الإنسان ذاته. إنّه أثر الوجود حين يتجلى في اللغة، وبذرة الوعي حين تُزرع في تربة المعنى. قد يرحل الكاتب، لكن كلماته تظلّ تمشي على الأرض كأقدام الضوء، تبحث عن قارئ يمنحها حياة أخرى. فكل قراءة هي بعث جديد، وكل قارئ هو مؤلف ثانٍ يعيد للنص روحه المخبأة.

أعتقد أن الخلود ليس وعدًا أدبيًا، بل فعلُ حضورٍ مستمر، يحدث كلما تلامست روح مع حرفٍ نابض بالحقيقة. عندها فقط، نفهم أن الكاتب لم يكن يكتب ليدوَّن، بل ليُبعث، وأن النص لا يعيش إلا بقدر ما يوقظ فينا ما ظنناه نائمًا من دهشة وبصيرة.

***

د. مصـطـفــى غَـــلمـان

التأصيل الفلسفي للأخلاق الطبيعية

إن مهمة نقض الفطرة الأخلاقية كمصدر للمعيارية تقتضي فهماً عميقاً لجذور هذه الفكرة الفلسفية وتأثيرها التاريخي. فالفطرة الأخلاقية تستند إلى فرضية وجود مبادئ قبلية كامنة في الطبيعة البشرية، يمكن للعقل أو الروح اكتشافها.

كان مفهوم الفطرة موضع خلاف فلسفي جوهري منذ العصور الكلاسيكية. وقد اعتُبر عنصراً أساسياً في حل قضايا رئيسية تتعلق بالأخلاق، والدين، ونظرية المعرفة، والميتافيزيقيا. على سبيل المثال، اتفق الفيلسوف لايبنتز مع أفلاطون على أن مسألة الفطرة هي موضع الخلاف الأكثر أهمية بينه وبين لوك. وقد شكك لايبنتز في أن معارضة لوك لمذهب الفطرة كانت هجوماً غير مباشر على الروحانية، وتحدياً لفكرة الحياة الآخرة والخلود، مما يهدد الدين والأخلاق والنظام العام. وهذا يكشف أن تأييد الفطرة الأخلاقية كان يعني تأسيس الأخلاق على مبادئ كونية غير قابلة للتساؤل، مما يربطها بالثبات الميتافيزيقي ويضفي الشرعية المطلقة على النظام القائم. تعززت هذه المرجعية من خلال المدارس الكلاسيكية، كالأخلاق الأفلاطونية التي تُعد مثالاً أولياً للأخلاقيات المبنية على أساس التعالي/السمو. فقد تأثر أفلاطون بالفيثاغورثيين في تبنيه فكرة أن النظام الإلهي الذي يهيمن على الكون ذو طبيعة رياضية، وأن الروح حبيسة في الجسد، ولا تتحرر إلا عن طريق حياة منسجمة مع هذا النظام (مثل الطهارة، والتنسك، والعدالة). وعليه، كانت الأخلاق الفاضلة عند أفلاطون عملية اكتشاف للنظام الكوني المنسجم عبر العقل، وليست بناءً أو إنشاءً بشرياً.

تعريف الكائن الأخلاقي المعياري والنسبية الأخلاقية

بعد تحديد الفطرة كمرجعية قبلية ميتافيزيقية، ننتقل إلى توضيح ما يعنيه بناء "كائن أخلاقي معياري"، والنسبية الأخلاقية. يُعرّف المعيار فلسفياً بأنه "نموذج أو مقياس مجرد لما ينبغي أن يكون عليه الشيء". ويتوقف تقييم السلوك على وجود هذا المعيار المُبرَّر أخلاقياً بشكل كافٍ، والذي يشترط الوضوح، والدقة، والثبات، والاستقلالية. تمثل النسبية الأخلاقية النتيجة العملية المترتبة على ضعف الأسس المطلقة التي كانت تدعمها الفطرة. النسبية الأخلاقية هي وجهة نظر برزت في القرن العشرين (وإن كانت لها جذور قديمة)، وتقول بأن جميع الأحكام الأخلاقية ومبرراتها ليست مطلقة أو موضوعية، بل نسبية؛ وتتعلق بتقاليد ومعتقدات وممارسات مجموعة من الأشخاص، بل وتتغير هذه المعايير بمرور الزمن حتى في الثقافة الواحدة.

أدت حقبة ما بعد الحداثة، بنقضها للسرديات الكبرى والمبادئ الأخلاقية المطلقة، إلى ظهور سيولة أخلاقية وفقدان الأسس الصلبة والمرجعية الموجهة. ففي حين كانت الفطرة الأخلاقية تزعم بوجود قيم إنسانية كونية مطلقة يستشعرها كل إنسان سويّ، فإن النسبية الثقافية تعتبر التنوع والاختلاف دليلاً على أن القواعد الأخلاقية مُصنَّعة اجتماعياً، لا مكتشفة فطرياً. إن نقض الفطرة بفضل حجج هيوم ومور يخلق فراغاً في الأساس المطلق، مما يفتح الباب أمام النسبية كإطار لوصف وتبرير التنوع الأخلاقي. يرى النقاد أن هذا التفكك يشكل تهديداً خطيراً؛ إذ إنه إذا لم يوجد معيار أو مبدأ مطلق أو موضوعي واحد لتطوير نظام أخلاقي موضوعي، فـ "عندها يصبح كل شيء مباح" (في إشارة إلى العدمية الأخلاقية). هذا الوضع يضع ضغطاً هائلاً على النظم المعيارية المُصنَّعة لإثبات قدرتها على توليد معيار كوني وملزم رغم انطلاقها من أسس غير طبيعية.

النفعية كآلية حسابية للأخلاق

تنقل النفعية مركز التفكير الأخلاقي من مبحث يتركز حول الواجبات (كما عند كانط والرواقيين) إلى مبحث يتركز حول الخير الأسمى (والذي يُعرّف عادةً بأنه السعادة أو المنفعة)، حيث يتم تحديد صواب وخطأ الفعل بناءً على النتائج التي يحققها. النفعية هي نظام معياري مُصنَّع تجريبياً بامتياز. فبدلاً من البحث عن أساس ميتافيزيقي للخير (كالفطرة)، أو أساس عقلي (ككانط)، تقوم النفعية بصياغة القوانين الأخلاقية من خلال حساب النتائج الواقعية. الفعل الصحيح هو الذي يحقق أكبر قدر من المنفعة لأكبر عدد من الناس. وهذا يعني أن المعيار ليس ثابتاً بشكل مطلق، بل يتطور ويتم تعديله بناءً على المآلات التجريبية. هذا التحول الفلسفي يفصل الأخلاق تماماً عن أي أساس ميتافيزيقي أو فطري، ويعتبر أن المسائل الأخلاقية قابلة للحل عبر تقييمات واقعية تتعلق بالطبيعة والسلوك البشريين.

العقد الاجتماعي كآلية إجرائية للبناء الأخلاقي

في سياق بناء الأنظمة المعيارية، يمثل العقد الاجتماعي آلية إجرائية لتوليد القواعد الأخلاقية والسياسية بالاتفاق، بعيداً عن أي أساس فطري. لا تعتمد المقاربات المعاصرة للعقد الاجتماعي بالضرورة على بديهة فطرية، بل تستخدم آليات مثل المساومة أو التجميع للوصول إلى اتفاق يحدد القانون الأخلاقي والاجتماعي. يهدف العقد الاجتماعي إلى تحقيق الشرعنة العامة للقوانين، مما يجعله بناءً إجرائياً ناتجاً عن تفاوض بين الأطراف المفترضة، بدلاً من أن يكون اكتشافاً لقانون طبيعي. هذا المنهج يوفر بديلاً لنظريات القانون الطبيعي أو الحقوق الطبيعية القائمة على البديهة. ومع ذلك، فإن نقض الفطرة يؤدي إلى نقد النفعية والعقد الاجتماعي، حيث يبرر كلاهما الحقوق الفردية بناءً على مبدأ المنفعة. وإذا فشلت الفطرة في توفير أساس مطلق للحقوق، فإن الكائن الأخلاقي المعياري المبني على أسس نفعية يواجه خطر أن تكون حقوقه عرضية ومرهونة بالمنفعة العامة.

البناء بدلاً من الإيقاظ والتحديات الحديثة

في ظل النقض الفلسفي للفطرة، تتحول التربية الأخلاقية من مجرد "إيقاظ" لمبادئ فطرية إلى عملية "تشكيل" مستمرة للوعي الأخلاقي والسلوك. وهي عملية تنموية مستمرة تهدف إلى تعزيز القيم الإنسانية الإيجابية لدى الأفراد وتكوين شخصية متوازنة ومسؤولة. ففي الإطار البنائي، يتم غرس هذه القيم بما يتوافق مع المعايير الأخلاقية والاجتماعية السائدة في المجتمع. وهذا يؤكد أن المعيار الأخلاقي ليس مبدأً جوهرياً مكتشفاً، بل نموذجٌ يتم تركيبه وتطويره عبر عملية تعليمية شاملة، بدءاً من الأسرة وصولاً إلى المدرسة والمجتمع ككل. ويشدد هذا التوجه على أهمية التفاعل والتدريب بدلاً من الاعتماد على مصدر فطري.

تُثبت النماذج المعيارية المبنية فعاليتها في مواجهة تحديات لم تكن متوقعة وقت صياغة نظرياتها، مما يدل على قوة المنهج الإجرائي مقارنة بالاعتماد على الفطرة المحددة. على سبيل المثال، لا تخلق القضايا البيئية مبادئ أخلاقية جديدة، لكنها تلزمنا باستخلاص عواقب جديدة من المبادئ القديمة، وإعادة تصورها. يمكن تطبيق مبادئ كانط، مثل الأمر المطلق، على علاقتنا بالطبيعة والأجيال القادمة من خلال تعميم القواعد على مستوى الكوكب والأزمنة. كذلك، تجد مبادئ كانط (كاحترام الاستقلالية ومعاملة الإنسانية كغاية) تطبيقات متطورة في الأخلاقيات التطبيقية الحديثة (مثل الأخلاقيات الطبية الحيوية)، حيث يعكس مفهوم الموافقة المدروسة مبدأ احترام استقلالية الشخص.

الخلاصة

إن عملية نقض الفطرة الأخلاقية كمصدر لبناء كائن أخلاقي معياري هي عملية فلسفية مزدوجة، تتطلب تفكيكاً ميتاأخلاقياً للأساس الطبيعي، وإقامة بناء منهجي بديل للأساس المعياري. يتم النقض بنجاح عبر الأدوات التي قدمها ديفيد هيوم (إشكالية الكينونة والواجب، والتي تفصل الواجب عن أي حقيقة وصفية)، وعبر جورج إدوارد مور (مغالطة المذهب الطبيعي، الذي يثبت استقلالية مفهوم الخير عن أي تعريف تجريبي)، وهذا يرسخ استقلال الأخلاق عن الطبيعة. إن هذا النقض يترك فراغاً يستوجب عملية "بناء" للكائن الأخلاقي المعياري. وأخيراً يُنظر إلى نقض الفطرة على أنه ضرورة منهجية لإقامة علم أخلاق مستقل وكوني. غير أن هذا النقض يورث الأنظمة المبنية تحدي إثبات أن الإلزام الناتج عن العقل البشري أو الحساب التجريبي يمتلك قوة الإلزام المطلق والشمولية التي كانت تُنسب في السابق للمبادئ الفطرية والكونية.

***

غالب المسعودي

.........................

المصادر

الخلافات التاريخية حول مفهوم الفطرة - مجلة حكمة

الفلسفة/الأخلاق/الأزمنة القديمة/أخلاق افلاطون - ويكي الكتب

ينظر بونيت كومار أستاذ الفيزياء المساعد في جامعة لكناو الهندية ومعه استاذ الفلسفة سانجيف كومار فارشتي في قضية العالم المتشابك. الاستكشافات المتعمقة في عالم الكوانتم تكشف أوجه تشابه ملفتة بين ظواهر ما دون الذرة والفلسفة الهندية. وبينما كل واحدة منهما تقدم منظورا متميزا، لكنهما كلاهما ينسجان قصة تتحدى الحدود التقليدية وتعيدان تعريف فهمنا للواقع.

فيزياء الكوانتم وما تتضمنه من مبادئ التراكب او الوجود المتزامن  superposition والتشابك entanglement وتأثير المراقب the observer effect، عطّلت المفاهيم الكلاسيكية للكون الحتمي. رواد الكوانتم أمثال هايزنبيرغ و شرود نجر و بور أحدثوا ثورة في العلم عبر إدخال اللايقين و المراقب كمظاهر جوهرية للواقع. لكن الأسئلة لازالت قائمة. فمثلا، هل الملاحظة تكشف فقط عن عالم الكوانتم، ام انها تشكّله بشكل نشط – وكيف؟ هذا اللغز يسلط الضوء على علاقة معقدة بين الوعي وميكانيكا الكوانتم، مثيرا حوارا يتجاوز التحقيق العلمي التقليدي.

مقابل هذه الخلفية، نجد بعض الأفكار الأساسية في الفلسفة الهندية توفر رؤى عميقة. تقاليد مثل فيدانتا Vedanta و سامخيا  Samkhya استكشفت لوقت طويل الترابط في كل الأشياء وافترضت الوعي كجوهر للواقع، لذا فان هذه الأطر يتردد صداها بعمق في مواضيع فيزياء الكوانتم، وبهذا تردم الفجوة بين الحكمة القديمة والعلم الحديث.

حدود الكوانتم

ميكانيكا الكوانتم هي فرع من الفيزياء تستطلع سلوك المادة والطاقة في أصغر حجم، مثل الذرات وجسيمات ما دون الذرة. انها تمثل تحولا كبيرا من الفيزياء الكلاسيكية التي لاتزال تصف بدقة حركة الاجسام الكبيرة مثل كرات البليارد او الكواكب. احدى المضامين العميقة لميكانيكا الكوانتم هو تحدّيها لفهمنا للواقع. فمثلا، جسيمات الموجة توجد في وجود متزامن a superposition of states(1)الى ان تُلاحظ ،الامر الذي يجعل المراقبة عاملا حاسما في النتائج التجريبية، لذلك، يُعتقد ان لا وجود لحالة معينة من وجود كوانتمي حتى يُقاس في تلك الحالة. هذا يتحدى المفاهيم التقليدية للواقع الموضوعي، ويدفعنا لإعادة النظر بماهية الواقع. وبالرغم من طبيعتها المضادة للحدس، اثبتت ميكانيكا الكوانتم وبشكل ملحوظ انها ناجحة في وصف سلوك المادة والطاقة في حجم ميكروسكوبي، لذا هي ليست فقط أعادت تشكيل فهمنا للكون وانما أيضا عجّلت من وتيرة التقدم في العلم والتكنلوجيا بدءً من الحوسبة الكوانتمية الى التصوير الطبي، وصولا الى الثنائيات في الكومبيوتر التي لن تعمل بدون تأثير النفق الكوانتمي. ونظرا لكونها حجر الزاوية في الفيزياء الحديثة، تستمر ميكانيكا الكوانتم في قيادة الاستكشافات.

الفلسفة الهندية: الرؤية غير المزدوجة للواقع

تُعتبر الفلسفة الهندية ذات تقاليد عميقة وقديمة تضم عدة مدارس مختلفة من الفكر. ورغم ان هذه المدارس لها افكارها الخاصة بها حول العالم، والمعرفة والحياة، لكنها في الغالب تتفق على مسائل أساسية. العديد منها يتحدث حول اللاازدواجية او "الواحدية" – الترابط بين جميع الأشياء – او حول أهمية الوعي في فهم الواقع. هذه الأفكار المشتركة صاغت رحلة الهنود الفكرية والروحية لآلاف السنين. احدى أهم الأفكار في الفلسفة الهندية تأتي من نص قديم يُعرف بـ ادفيتا فيدانتا Advaita Vedanta والذي هو ذاته يرتكز على تعاليم الاوبنشاد، والذي طُور لاحقا من جانب القس آدي شانكار اشارا. طبقا لمدرسة ادفيتا، الحقيقة النهائية (براهما) لامتناهي، أبدي، ووراء الزمان والمكان والتغيير، ليس له شكل او صفات وهو مصدر كل شيء. كذلك، الروح الفردية (اتمان) قيل انها ليست منفصلة عن الواقع، بل على عكس ذلك، ادفيتا فيدانتا يفيد بان الروح هي الواقع النهائي – بما يعني ان الذات الحقيقية داخل كل شخص هي نفس الأشياء كواقع كوني نهائي. هذه الحقيقة، مختبئة عنا بواسطة الوهم (مايا) – والذي هو ليس زيفا تاما وانما قوة تجعل الواقع يبدو متعددا. وبسبب هذا، نحن نرى اختلافات، تغييرات، وانفصالات في العالم حتى عندما يبدو كل شيء هو واحد. التحرير (موكشا) يأتي عندما يدرك الناس هذه الحقيقة غير المزدوجة ويفهمون ان ذاتهم الحقيقية هي واقع نهائي. هذا الادراك ينهي دورة الموت وإعادة الولادة ويقود الى حرية وسلام أبديين .

مقابل عدم ثنائية ادفيتا، تعرض مدرسة سامخيا رؤية ثنائية للواقع. انها تتحدث عن عنصرين رئيسيين: الطبيعة او المادة (براكريتي)، والوعي الخالص (بوروشا). المادة لها توازن (ستافا)، والنشاط (راجاس)، والجمود (تاماس)، وهي مسؤولة عن كل التجارب المادية والحسية. من جهة أخرى، الوعي في حالته الاصلية هو صامت، أبدي، ويراقب كل شيء بدون الانخراط فيه. طبقا لسامكايا، تحدث معاناتنا لأن الوعي ينسى طبيعته الحقيقية ويبدأ في التعرف على العالم المتغير للمادة. التحرير(kaivalya) اذن يحدث عندما يدرك الوعي بانه منفصل عن المادة ويتوقف عن كونه مرتبط بها. لذا على الرغم من ان (samkhya) لا تؤمن بعدم ثنائية Avaita، انها أيضا ترى الوعي كشيء مركزي، وتعتقد  ان الحرية الحقيقية تأتي من الوعي الذاتي.

البوذية، وخاصة الـ mahayana، تعرض فكرة عميقة أخرى، وهي الفراغ emptiness – وتعني خصيصا ان لا شيء له طبيعة ثابتة ومستقلة: كل شيء نراه وكل تجربة يوجدان فقط بسبب شيء آخر، وكل ذلك يعتمد على الأسباب والظروف. هذه الفكرة تسمى النشأة التابعة "dependent origination". لا شيء يوجد بحد ذاته. على سبيل المثال، الشجرة توجد فقط بسبب البذرة، الماء، ضوء الشمس، والعديد من العوامل الأخرى. وفق هذه النظرة، حتى فكرة الذات الدائمة هي زائفة. بل ان كل شيء يتغير ومترابط، وان ادراك هذا الفراغ او غياب الوجود المتأصل يقود الى الحكمة والعطف والتحرر من الرغبات السخيفة.

طبقا للبوذية، يأتي التنوير عندما نبتعد عن الايغو والرغبة ونفهم ان كل شيء هو جزء من كُل اكبر.

ورغم ان بوذية ادفيتا فيدانتا، وسامكايا وماهايانا تختلف بطرق عميقة، لكنها جميعها تدعونا للنظر الى ما وراء السطح والتحقق من النظرة المادية بان العالم صُنع فقط من شيء مادي. بدلا من ذلك، هي تركز على الوعي والترابط، وهي الفكرة بان العالم كما نراه هو ليس الحقيقة الكاملة وبهذا الادراك سيتمكن الناس من الحصول على السلام والتحرر من المعاناة.

وظيفة الموجة

في ميكانيكا الكوانتم، يوصف نظام الكوانتم المُلاحظ او المُقاس بوسيلة مادية تسمى وظيفة الموجة wave function. وظيفة الموجة تصف جميع النتائج الممكنة التي يمكن للنظام الكوانتمي مراقبتها قبل عرضها، مثل أين ينتهي الالكترون على الشاشة. مع ذلك، هذه الاحتمالات تبقى غير مُدركة او "احتمالية" الى ان يلاحظ شخص ما النظام. فقط في تلك اللحظة تظهر نتيجة معينة. هذه العملية تسمى انهيار الدالة الموجية "wave function collapse".

هذه الفكرة تحمل تشابها مع مفهوم الـ مايا في ادفيتا فيدانتا. طبقا لهذه الفلسفة، الوهم يجعل العالم يبدو مليئا بالاختلافات والحركة والانفصال. العالم الذي نراه ونتفاعل معه ليس زائفا تماما، وانما هو يخفي طبيعة الوجود الحقيقية والغير مقسمة. ولكن مثلما تنهار وظيفة الموجة الى حالة محددة عند ملاحظة الوجود الكوانتمي، كذلك يختفي الوهم عندما يحصل الشخص على المعرفة. وفي كلتا الحالتين – سواء في الفيزياء او في مسار الصحوة الروحية – يلعب المراقب دورا محوريا.

تأثير المراقب هو أحد الأجزاء المحيرة في نظرية الكوانتم. انه يشير الى ان فعل مراقبة النظام الكوانتمي يغيّر سلوكه. بعض تفسيرات الكوانتم مثل تفسير كوبنهان او رؤى واغنر تقول ان الوعي (الملاحظة الواعية) تجعل وظيفة الموجة تنهار الى واقع منفرد. هذا يعني ان المراقب ليس فقط يراقب الواقع وانما في الحقيقة يحدده من خلال فعل الملاحظة. هذه الفكرة يمكن ربطها بتعاليم ادفيتا فيدانتا بان الوعي لم يُخلق بواسطة الدماغ وانما هو القاعدة الأساسية لكل الوجود (بما في ذلك الادمغة). لذا فان كل من فيزياء الكوانتم والفلسفة الهندية يقترحان ان الواقع لا ينتظر هناك لكي يُرى بواسطة الوعي وانما هو يوجد من خلاله .(الفيزيائي وارنر هايزنبيرغ رأى هذا الربط أيضا، ملاحظاً ان الابانشاد تعترف بان الوعي وليس المادة هو مصدر كل شيء).

فكرة أخرى مثيرة في فيزياء الكوانتم هي التشابك. عندما تشتبك اثنتان من الموجة – الجسيم، يبقيان مترابطين بصرف النظر عن مدى البعد بينهما، وان تغيير أحدهما سيغيّر الآخر حالا. هذا يبدو في تضاد مع نظرية اينشتاين في النسبية الخاصة، التي تقول لا شيء يمكن ان يؤثر على شيء آخر بأسرع من سرعة الضوء. التشابك يبيّن ان الكون مترابط بعمق بطرق لا نفهمها. هذا مرة أخرى يعكس أفكار الفلسفة الهندية، خاصة البوذية وفيدانتا. التعاليم البوذية في النشأة التابعة تقول ان لا شيء يوجد بحد ذاته، وكل شيء يوجد من خلال العلاقات. ونفس الشيء، تقول تعاليم فيدانتا ان كل شيء هو جزء من واقع احادي مترابط. كلا الرؤيتين ترفضان الانفصال النهائي، وتقترحان ان كل الأشياء هي في الحقيقة جزء من كُل أكبر مترابط – تماما مثل الجسيمات المتشابكة كما لو انها واقع واحد مترابط حتى عبر المسافات البعيدة جدا.

نيل بور، Niel Bohr احد مؤسسي ميكانيكا الكوانتم، أدخل فكرة التكاملية complementarity التي تقول ان الموجودات الكمومية تتصرف اما على شكل موجات او على شكل جسيمات ولكن ليس الاثنين في وقت واحد. ما نراه يعتمد على كيفية قياسنا. (2) هذا يسير بالضد من العلم الكلاسيكي، وبدلا من ذلك تكون نظرة التكامل مطلوبة لفهم كامل الحقيقة. وبطريقة مشابهة، مدرسة سامكايا أيضا تتحدث عن واقعين اثنين أساسيين متكاملين: المادة والوعي. المادة تتغير باستمرار بينما الوعي ثابت وأبدي، وعلى الرغم من انهما متميزان، هما يعملان مجتمعان لخلق تجربتنا. لذا، مثلما الموجة والجسيم، نجد المادة والوعي مختلفين لكنهما كلاهما ضروريان للصورة الكاملة.

فيزياء الكوانتم أيضا ابتكرت فكرة الاحتمال وجلبتها الى قلب القوانين الفيزيائية. خلافا للفيزياء الكلاسيكية، حيث نستطيع نظريا التنبؤ الدقيق بالنتائج فان معادلات فيزياء الكوانتم تخبرنا عن احتمالات لمختلف النتائج. هذا يذكّرنا بالفكرة الهندية لقانون السبب والنتيجة – كارما - لأننا هنا نجد كل شيء غير ثابت وانما أفعالنا الماضية تؤثر على احتمال ما يحدث في المستقبل. هنا يتوفر مجال للإرادة الحرة.

العديد من رواد فيزياء الكوانتم وجدوا الإلهام في الفلسفة الهندية. اروين شرودنجر Erwin Schrodinger مثلا، تأثر بعمق بـ ـ ادفاتا فيدانتا. في كتابه (ما هي الحياة،1944) هو يكتب حول وحدة كل الحياة، مرددا صدى لفكرة فيدانتا ان الذات هي نفس العالمي. هو اعتقد ان الحياة ليست منفصلة عن الكون، وانما هي واحدة معه.

وبينما نجد التشابهات بين فيزياء الكوانتم والفلسفة الهندية مثيرة ومحفزة فكريا، لكن العلماء يدعون الى توخّي الحذر في رسم المساواة. احدى المخاوف الكبيرة هي خطأ التصنيف category error عندما يمزج احد البُنى العلمية مع المعتقدات الميتافيزيقية والروحية. مفاهيم الكوانتم مثل وظيفة الموجة، التراكب، التشابك تبرز من اطر رياضية صارمة وتجارب ميدانية، بينما الأفكار الميتافيزيقية الهندية تتجذر في الاستبطان والتأمل الفلسفي.

بالإضافة الى ذلك، ميكانيكا الكوانتم منفتحة للتفسيرات المتعددة (مثل تفسير كوبنهاغن في العوالم المتعددة، و نظريات الموجة التجريبية) وهي لا تخصص جميعها  دورا سببيا للوعي. وهكذا، فان مساواة تفسيرات الكوانتم المرتكزة على الوعي مع أفكار فيدانتا ـ شاتشنيا ربما تبالغ في حجم التشابه. هناك أيضا نزعة نحو الرومانسية عندما يقال مثلا ان حكماء الهنود القدماء توقّعوا أفكار الكوانتم. ومع ان الفلسفة الهندية في الحقيقة تعرض رؤى عميقة للواقع، لكن مثل هذه الادّعاءات عادة تفتقر الى الصلاحية التجريبية وتعمل كما لو انها تخاطر في إضعاف كلا الحقلين.

مع ذلك، يمثل الصدى المفاهيمي لهاتين الرؤيتين العالميتين ارضا خصبة للثقافة العابرة والحوار المتعدد الاختصاصات في كل من العلم والفلسفة.

نحو رؤية موحدة

ان التقارب بين فيزياء الكوانتم والفلسفة الهندية لا يقترح مساواة تامة بين الاثنين وانما يسلط الضوء على التداخل في استكشافاتهما للغز الوجود العميق. كلا الحقلين يتحديان الفكرة الكلاسيكية للواقع الموضوعي المستقل المُلاحظ، ويرفعان دور المراقب. ميكانيكا الكوانتم بإطارها الاحتمالي، وانهيار وظيفة الموجة، وتأثير المراقب، تكشف كونا يقاوم الحتمية المادية الصارمة وتدعو لمزيد من الفهم الدقيق التشاركي للواقع. ونفس الشيء بالنسبة للتقاليد الفلسفية الهندية مثل ادفاتا فيدانتا وماهاينا تؤكد على ان الواقع ليس شيئا منفصلا وثابتا، وانما مرتبط بالصميم مع الوعي والتصور. كذلك، بالنسبة للنظرة الاوبانيشادية والفكرة البوذية للنشأة المعتمدة، تتماشى مع رؤية الكوانتم لكون علائقي مترابط.

وكما لاحظ فريتجوف كابرا Fritjof capra في كتابه عام 1975 طريق الفيزياء (The Tao of physics) ان التوازي المثير بين الفيزياء الحديثة والصوفية الشرقية يبرز من ادراكهما المشترك لفهم وحدة جميع الظواهر. ان مضامين هذا الالتقاء في المنظور عميقة. العلم عادة يركز على القياس الموضوعي، يستفيد من الرؤية الفلسفية الأوسع والأكثر تأملا في سياق اكتشافاته. وعكس ذلك، الفلسفة الهندية تكتسب بُعدا جديدا عندما تجد لرؤاها الميتافيزيقية صدى في استنتاجات الفيزياء الحديثة. كلاهما يمهدان الطريق لنظرة عالمية كلية – نظرة غير اختزالية، مترابطة ومتكاملة وتشاركية بعمق. المقارنة بينهما تدعو الى حوار ثري بين العلم والروحانية والعقل والتأمل.

***

حاتم حميد محسن

........................

Quantum physics and Indian philosophy, Philosophy Now ,oct/Nov 2025

الهوامش

(1) يعني وجود نظام في حالات متعددة الاحتمال وفي وقت واحد حتى يُقاس. وعندما يُقاس النظام ينهار في حالة منفردة معينة، لكنه قبل ذلك يوجد في مجموعة من كل الاحتمالات.

(2) فكرة نيل بور في التكاملية هي ان خصائص معينة في الأشياء الكمومية هي تكاملية، مثل الالكترون، بما يعني انها لا يمكن ملاحظتها في نفس الوقت. فمثلا، يستطيع المرء قياس موقع الالكترون او زخمه ولكن ليس الاثنين في وقت واحد.

أو الخطاب ما بعد الاستعماري وفق مقاربة فلسفية ايتيقية

مقدمة: يسعى مدح الإنسانية التقدمية، كخطاب فلسفي معاصر، إلى الاحتفاء بكرامة الإنسان وحريته وقيمته الكونية، متجاوزًا بذلك الانقسامات التاريخية والثقافية والاجتماعية. في سياق ما بعد الاستعمار، يتخذ هذا المدح بُعدًا خاصًا، إذ يُمثل جزءًا من محاولة لإعادة تقييم الإنسانية في ضوء الإرث الاستعماري، والظلم التاريخي، وديناميكيات القوة التي شكلت العلاقات بين الشعوب. تستكشف المقاربة الفلسفية والايتيقية كيف يُمكن لهذا الخطاب أن يُعيد تأكيد الكرامة الإنسانية، مع الاستجابة لتحديات ما بعد الاستعمار، كالاعتراف بالهويات المهمشة، وتفكيك التسلسلات الهرمية المفروضة، وتعزيز العدالة العالمية. تُحلل هذه الدراسة الأكاديمية المتعمقة مدح الإنسانية من منظور خطاب ما بعد الاستعمار، مستندةً إلى الأطر الفلسفية (بما في ذلك أطر إيمانويل ليفيناس، وفرانز فانون، وإدوارد سعيد) والأطر الأخلاقية (المستوحاة من كانط وفلسفة الاعتراف). يتناول هذا الكتاب الأسس النظرية والسياقات التاريخية والتداعيات المعاصرة، مع تسليط الضوء على توترات هذا الخطاب وإمكانياته في ظل العولمة. فكيف ساهمت الإنسانية التقدمية في كسر الحصار ورفع العدوان عن غزة ودعم صمود الشعب الفلسطيني وتمسكه بارضه ومقاومة الهجمة الصهيوامبرايالية؟

تعريفات المفاهيم الرئيسية

مدح الإنسانية:

مدح الإنسانية خطاب فلسفي يحتفي بالقيمة الجوهرية للبشر، مشددًا على عقلانيتهم وحريتهم وقدرتهم على خلق المعنى. يعارض هذا الخطاب جميع أشكال نزع الصفة الإنسانية، سواءً أكانت نابعة من القمع أم الاستغلال أم التهميش.

خطاب ما بعد الاستعمار:

يُحلل خطاب ما بعد الاستعمار، كما طوره مفكرون مثل إدوارد سعيد (الاستشراق، 1978) وهومي بابا، إرث الاستعمار، بما في ذلك التمثيلات الثقافية وعلاقات القوة ومقاومة الشعوب المستعمرة. ويهدف إلى تفكيك السرديات الإمبريالية وتعزيز الأصوات المهمشة.

المقاربة الفلسفية والأخلاقية:

يجمع هذا المنهج بين التحليل الفلسفي، الذي يُسائل الأسس الوجودية والمعرفية للإنسانية، والتأمل الأخلاقي في المبادئ التي تُوجّه العلاقات الإنسانية، كالعدالة والمسؤولية والاعتراف المتبادل.

الإنسانية:

تشير الإنسانية، في هذا السياق، إلى جميع البشر وإلى الصفات التي تُميّزهم: العقلانية، والكرامة، والقدرة على التعاطف والإبداع. من منظور ما بعد الاستعمار، تُعتبر الإنسانية مفهومًا شاملًا، يتجاوز التقسيمات التي فرضها الاستعمار (الغرب/الشرق، المركز/المحيط).

الأسس الفلسفية والأخلاقية:

إيمانويل ليفيناس: أخلاقيات الآخر:

في كتابه "الكلية واللانهاية" (1961)، يضع ليفيناس الأخلاق في صميم الفلسفة، مُؤكدًا أن اللقاء بالآخر هو أساس المسؤولية الأخلاقية. ويستند مدح الإنسانية، في هذا السياق، إلى الاعتراف بالآخر كوجه فريد، لا يُمكن اختزاله في فئة أو منفعة. أهمية ما بعد الاستعمار: يقدم ليفيناس إطارًا لتفكيك التمثيلات الاستعمارية التي تُختزل الشعوب المُستعمَرة إلى صور نمطية (مثل "الشرقي" عند إدوارد سعيد). تدعونا أخلاقيات الآخر إلى الاعتراف بكرامة المهمّشين.

فرانز فانون: تفكيك استعمار البشرية

في كتابيه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" (1952) و"معذّبو الأرض" (1961)، يُحلل فانون كيف يُجرّد الاستعمار المستعمَر والمستعمِر من إنسانيتهما. ويُقدّم رؤيةً للإنسانية المُتحرّرة من خلال النضال من أجل الكرامة وتقرير المصير.

مديح الإنسانية:

يرى فانون أن الاحتفاء بالإنسانية لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تفكيك جذري للاستعمار، يُعيد كرامة المُضطهدين ويُرسي مساواة حقيقية.

إدوارد سعيد: تفكيك الاستشراق

في كتابه "الاستشراق"، يُبيّن سعيد كيف بنى الاستعمار تمثيلاتٍ تُجرّد الشعوب غير الغربية من إنسانيتها. يتطلب مديح الإنسانية في مرحلة ما بعد الاستعمار تفكيك هذه السرديات لتعزيز رؤية عالمية وشاملة.

المقاربة الأخلاقية: يدعو سعيد إلى المسؤولية الفكرية في تمثيل الآخر، بما يتماشى مع أخلاقيات الاعتراف.

عمانويل كانط: الكرامة الإنسانية

في كتابه "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" (1785)، يؤكد كانط على وجوب معاملة الإنسانية كغاية في حد ذاتها، لا كوسيلة. يُعد هذا المبدأ الأخلاقي جوهر مديح الإنسانية الذي يحترم الكرامة العالمية.

أهمية ما بعد الاستعمار: يمكن أن يُشكل المبدأ الكانطي أساسًا لرفض الممارسات الاستعمارية التي استغلت الشعوب المستعمرة (مثل العبودية والاستغلال الاقتصادي).

فلسفة الاعتراف (أكسل هونيث)

يُجادل هونيث، في كتابه "النضال من أجل الاعتراف" (1992)، بأن الإنسانية تتحقق من خلال الاعتراف المتبادل في ثلاثة مجالات: الحب، والقانون، والتضامن. في سياق ما بعد الاستعمار، يُعدّ الاعتراف بالهويات المهمّشة أمرًا أساسيًا لاستعادة الكرامة.

السياق التاريخي: الاستعمار ونزع الصفة الإنسانية

استند الاستعمار (من القرنين السادس عشر إلى القرن العشرين) إلى نزع الصفة الإنسانية بشكل منهجي عن الشعوب المُستعمَرة من خلال العبودية والاستغلال وبناء هرميات عرقية وثقافية.

مثال: وصفت السرديات الاستشراقية الشعوب غير الغربية بأنها "بدائية" أو "دونية"، مبررةً هيمنتها.

إنهاء الاستعمار وظهور ما بعد الاستعمار. مثّلت نضالات إنهاء الاستعمار (مثل الجزائر والهند) نقطة تحول نحو إعادة تأكيد الكرامة الإنسانية. وقد صاغت شخصيات مثل فانون وغاندي خطابًا للتحرر أعاد تعريف الإنسانية. برزت ما بعد الاستعمار، كمجال فكري، لتحليل الإرث الاستعماري وتعزيز إنسانية شاملة.

السياق المعاصر:

في عالمنا المُعولم عام 2025، لا تزال الموروثات الاستعمارية قائمةً بأشكالٍ مثل الاستعمار الاقتصادي الجديد، والتفاوتات العالمية، والتمثيلات الثقافية المُتحيزة.

تُقدم منصاتٌ رقمية نقاشاتٍ حول الهوية والعدالة وإنهاء الاستعمار، مُوضحةً أهمية مديح ما بعد الاستعمار للإنسانية.

التحليل الأخلاقي: مديح الإنسانية في إطار ما بعد الاستعمار

استعادة كرامة المهمّشين. المبدأ الأخلاقي: يتطلب الاعتراف بالكرامة الإنسانية، كما دعا إليه كانط وليفيناس، إعادة تأهيل الهويات التي همّشها الاستعمار (مثل الشعوب الأصلية والأقليات العرقية).

التطبيق: تُجسّد الحركات الاجتماعية (مثل حركة "حياة السود مهمة"، وإنهاء استعمار المتاحف) هذه المسؤولية الأخلاقية.

التطبيقات المعاصرة:

في التعليم: إنهاء استعمار المعرفة: تدمج الجامعات بشكل متزايد منظورات ما بعد الاستعمار لتدريس التاريخ الشامل، والاحتفاء بتنوع البشرية.

مثال: البرامج التعليمية التي تُشرك أصوات السكان الأصليين أو الأفارقة في الدراسات الأدبية أو التاريخية.

في الإعلام والفضاء العام: تُعدّ المنصات الرقمية بمثابة منتديات للنقاش حول إنهاء الاستعمار والعدالة، حيث تستعيد الأصوات المهمّشة كرامتها.

مثال: الحملات الإلكترونية لاستعادة الآثار الثقافية المنهوبة خلال فترة الاستعمار.

في السياسات العالمية: العدالة المناخية: تُطالب الدول المُستعمَرة سابقًا، والتي غالبًا ما تكون الأكثر تضررًا من تغيّر المناخ، باعتراف أخلاقي بإنسانيتها في المفاوضات العالمية.

مثال: دعواتٌ للعدالة المناخية في مؤتمراتٍ مثل مؤتمر الأطراف.

في التكنولوجيا: أخلاقيات الذكاء الاصطناعي: يتطلب مدح الإنسانية أن تحترم التقنيات، مثل الذكاء الاصطناعي، كرامة الإنسان من خلال تجنّب إعادة إنتاج التحيزات الاستعمارية.

مثال: نقاشاتٌ حول الخوارزميات التمييزية في تقنية التعرّف على الوجه.

التحديات والانتقادات:

التوترات بين العالمية والخصوصية: التحدي: يُخاطر مدح الإنسانية بتفضيل عالمية مُجرّدة (مثل كانط) تتجاهل الخصوصيات الثقافية للشعوب المُستعمَرة.

النقد: يُجادل مفكرون مثل سبيفاك بأن العالمية يُمكن أن تُخفي أوجه عدم المساواة الهيكلية الموروثة من الاستعمار.

المقاومة الثقافية

التحدي: في بعض السياقات، يُنظر إلى خطابات ما بعد الاستعمار على أنها تهديد للهويات الوطنية أو الثقافية.

النقد: يمكن إساءة تفسير إنهاء الاستعمار على أنه رفض لجميع التقاليد، مما يُعقّد مدح الإنسانية.

تحدي الحدود الأخلاقية: قد يصعب تطبيق المسؤولية الأخلاقية تجاه الآخر في سياقات الصراع أو محدودية الموارد.

النقد: يُنتقد ليفيناس أحيانًا لنهجه المجرد، الذي لا يُقدّم حلولًا ملموسة لمظالم ما بعد الاستعمار.

المنهج الاستشرافي: مستقبل مدح الإنسانية

سيناريو متفائل: الإنسانية الشاملة: يمكن لمدح الإنسانية ما بعد الاستعمار أن يُعزز الاعتراف العالمي بالهويات المهمّشة من خلال سياسات التعويض والتعليم المُنهى عن الاستعمار.

التكنولوجيا الأخلاقية: يمكن مواءمة التقدم التكنولوجي مع المبادئ الأخلاقية التي تحترم كرامة الإنسان.

سناريو متشائم: استمرار التفاوتات: قد تستمر الإرثات الاستعمارية في تهميش الشعوب، مما يحد من تأثير مدح الإنسانية.

الاستغلال: قد تستغل القوى الاستعمارية الجديدة الخطاب الإنساني للحفاظ على هيمنتها.

سيناريو متوازن: قد ينشأ توازن بين العالمية واحترام الاختلافات الثقافية، يجمع بين أخلاقيات الاعتراف والإجراءات الملموسة لتحقيق العدالة العالمية.

خاتمة:

يُشكل مدح الإنسانية، في إطار ما بعد الاستعمار، مشروعًا فلسفيًا وأخلاقيًا يسعى إلى إعادة تأكيد الكرامة العالمية للبشر مع معالجة المظالم التاريخية للاستعمار. من خلال وجهات نظر ليفيناس وفانون وسعيد وكانط، يقدم هذا الخطاب إطارًا لتفكيك التسلسلات الهرمية الاستعمارية، والاعتراف بالهويات المهمشة، وتعزيز إنسانية شاملة. ومع ذلك، يجب أن يتغلب على تحديات مثل التوترات بين العالمية والخصوصية، والمقاومة الثقافية، والحدود العملية للأخلاق. في عالمٍ مُعولمٍ يتسم بالتقدم التكنولوجي والتفاوتات المُستمرة، يبقى مدح إنسانية ما بعد الاستعمار طموحًا أساسيًا لبناء مستقبلٍ أكثر عدلًا يحترم الكرامة الإنسانية. فمتى يتحول مشروع الدفاع على الانسانية من القول والخطاب الى الفعل والممارسة؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.........................

المصادر والمراجع:

ليفيناس، إيمانويل. "الكلية واللانهاية" (1961

فانون، فرانز. "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" (1952) و"معذّبو الأرض" (1961.

سعيد، إدوارد. "الاستشراق" (1978.

كانط، إيمانويل. "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" (1785.

هونيث، أكسل. "النضال من أجل الاعتراف" (1992.

سبيفاك، غاياتري شاكرافورتي. "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟" (1988".

يُعد التفلسف ظاهرة إنسانية متجذرة، تتجاوز مجرد كونها مجموعة من النظريات الساكنة لتصبح "ديناميكية فاعلة" أو "نشاطاً إدراكياً مستمراً". هذا النشاط يهدف بشكل أساسي إلى معالجة وحل المشكلات التي يطرحها الواقع المعاش؛ لكنه يتميز عن الأنماط المعرفية الأخرى بكونه يعمل على مستوى الشمولية والتجريد. إن التأكيد على مفهوم "النشاط" يشدد على أن التفلسف ليس غاية في حد ذاته (كحالة معرفية ثابتة)، بل هو مسعى مستمر نحو المعرفة الشاملة عن طبيعة التجربة ومعناها وقيمتها. هذه العملية الديناميكية المستمرة تضمن أن التفلسف لا يكون أبدًا نظامًا إبستيمولوجيًا نهائيًا أو مكتملًا بشكل مطلق، بل يظل قوة حيوية تدفع إلى التساؤل.

يتجسد نطاق التفلسف في الفروع الفلسفية الأساسية التي تعالج ثلاث قضايا جوهرية: نظرية الوجود (الأنطولوجيا) التي تدرس الوجود كما هو كائن؛ نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا) التي تركز على كيفية معرفة الوجود؛ ونظرية القيم (الإكسيولوجيا) التي تتناول الوجود "كما ينبغي أن يكون". إن اشتمال نظرية القيم ضمن صميم النشاط الفلسفي ليؤكد أن التفلسف لا يمكن أن يكون مجرد تحليل محايد إبستيمولوجيًا. فالبحث عن المعنى متصل اتصالاً وثيقًا بالبحث عن القيمة، مما يجعل الأخلاق والبحث عن المعايير جزءًا ضروريًا وأساسيًا من أي تفلسف أصيل.

أما منهجيًا، فإن التفلسف يعتمد على منهج استدلالي مضمونه الانتقال من مقدمات عقلية إلى نتائج عقلية، ويتصف بخصائص أساسية تشمل العقلانية، والمنطقية، والنقدية، والشك المنهجي. هذا النمط من التفكير العقلاني يسعى إلى تحديد العلاقة بينه وبين أنماط التفكير الأخرى، وليس إلغاءها أو التناقض معها. وتعود الدلالة الأصلية للمصطلح إلى اللفظ اليوناني (فيلوسوفيا) أي محبة الحكمة، وهو تمييز أسسه الفلاسفة (مثل سقراط) ليميزوا بين هذا الحب المتواضع للمعرفة وادعاء الحكمة المطلقة (كما عند السفسطائيين).

التشريح المفاهيمي: الجدلية الأساسية بين المعنى والفهم

تنشأ علاقة وطيدة بين العقل الإنساني ومطلب الحقيقة، حيث يعتمد العقل على مجموعة من الآليات العقلية، أبرزها آلية الفهم، التي تُعد الطريق الأساسي نحو إدراك المعنى، سواء كان معنى للأفكار، أو الأشياء، أو الحياة بأكملها. ضمن هذا السياق المعقد، تولد جدلية عميقة بين المعنى والفهم، تتجلى معالمها في الوظيفة المزدوجة التي يؤديها المعنى تجاه الفهم:

سجن الفهم: يحدُث هذا عندما يُقيّد المعنى الفهم، جاعلاً إياه محبوسًا ضمن آليات أخرى مثل التفسير والتأويل المسبق، والتي قد تهدف إلى نفس هدف الفهم لكنها لا تمنحه استقلاليته الكاملة. هذا الانحباس يظهر مثلاً في التضييق المفرط لمفهوم المعنى في بعض المدارس الفلسفية (كالوضعية المنطقية) التي تربط المعنى بالصدق القابل للقياس التجريبي حصرًا.

تحرير الفهم: يتمثل هذا الجانب في قدرة المعنى على تحرير الفهم من سجن الآليات التفسيرية التقليدية، مما يسمح له بالاستقلالية والتوجه نحو الكليات والعموميات.

إرادة المعنى والدوافع الوجودية

يُلاحظ أن الانطلاق الإبستمولوجي للتفلسف، الذي يبدأ بالدهشة وطرح سؤال "لماذا"، يتحول مباشرة إلى سؤال "ماذا يعني"؛ مما يبرهن على أن المعنى ليس مجرد نتيجة تُكتشف بعد التفكير، بل هو الطاقة الوجودية الكامنة التي تشعل شرارة الدهشة في المقام الأول. ومع ذلك، لا يمكن فصل هذا المسعى الابستمي عن جذوره الأنطولوجية؛ إذ يظل التركيز على الوجود الإنساني الحي هو البؤرة التي ينبع منها البحث عن المعنى والقيمة.

فقدان المعنى كحافز سلبي للتفلسف

يؤكد التحليل الوجودي على أن فقدان المعنى يمثل دافعًا سلبيًا قويًا نحو التفلسف. فعدم إيجاد غاية للحياة يؤدي إلى حالة من الفراغ الوجودي، والذي يتم تعويضه بسلوكيات تعويضية سلبية أو انفعالات مدمرة. يشير التحليل النفسي الفلسفي إلى أن فقدان الثقة بالمستقبل يقضي على إرادة الحياة، ويؤدي إلى انهيار نفسي وجسدي، قد يصل إلى "الموت الانفعالي" أو التبلد. إن التفلسف، في هذا السياق، يعمل كآلية مقاومة أنطولوجية ضد هذا الاستسلام. فالإصرار على اختراق الوجود بحثًا عن المعنى هو تطلّع نحو الأمام وفرض للمسؤولية، مما يخلق دافعية داخلية للإبداع. هذا يثبت أن التفلسف ليس ترفًا فكريًا، بل هو شرط بقاء وجودي يحافظ على اليقظة العقلية والنفسية في مواجهة الفراغ.

التفكير النقدي كآلية منهجية

يُعد التفكير النقدي جوهر الفلسفة الحديثة والمعاصرة؛ فهو ليس مجرد سمة، بل هو "سداة ولُحمة" الفكر الفلسفي. إن تاريخ الفلسفة هو، في جوهره، تاريخ لتطور الفكر النقدي الذي بدأ مع الفلاسفة الطبيعيين الذين أسسوا التفسير على "اللوغوس" بدلاً من "الميثوس". التفكير النقدي هو عملية تحليلية تقويمية تهدف إلى تحسين التفكير ذاته. إنه يقتضي إخضاع جميع القضايا والمسلمات للمراجعة والتمحيص، حتى تلك التي يتم التوافق عليها. من أهم خصائصه أنه تفكير عقلاني، ومنطقي، وإمبيريقي. كما يتميز بكونه تفكيرًا انعكاسيًا (تفكير في الذات) ليتمكن من إصلاح طرقه وآليات اشتغاله. إن التوسيع الإبستمولوجي للفهم مرتبط ارتباطاً مباشراً بمبدأ. فالتفلسف النقدي يعني "أن أجهر وأجاهر بالحق في التفكير، وهو مرادف لحق الإنسان في عدم السماح لأي شخص بالتفكير نيابة عنه." ولذلك، فإن استقلالية الفكر المعتمدة على النقد تمثل تجسيداً للحرية الإنسانية في المجال المعرفي.

علاوة على المستوى الفردي، يمتد الشك المنهجي ليصبح آلية ضرورية للتجديد الحضاري. فقد أدت حالة الركود الفكري التي شهدها العقل العربي بعد وفاة ابن رشد إلى فجوة فكرية وتأخر حضاري. في المقابل، طورت الفلسفة الغربية مناهجها في التفكير المرتكزة على الشك والنقد، مما أفرز أنساقاً وتيارات عديدة ساهمت في نهضتها الحضارية. وبالتالي، فإن التفلسف النقدي هو العملية التي تكسر الجمود الفكري، وتستبدل التقليد بالابتكار، مما يُعد شرطًا أساسيًا لمجاراة التطور الحضاري.

السجن والتحرير في ضوء اللغة

اللغة وعوائق الفهم

لأن الفلسفة تسعى دائمًا لتجاوز الجزئي والتاريخي إلى الكلي والعام والإنساني، فإنها تعتمد على "العقل التأويلي" للعبور نحو الكليات النصية. لكن هذا العبور ليس خاليًا من العقبات.

أزمة الدلالة: مع ظهور النزعة التجريبية في الفلسفة التحليلية والوضعية المنطقية التي رأت أن إطلاق حكم الصدق أو الكذب على الجملة متوقف على كونها ذات معنى يمكن التحقق منه، تساءل بعض الفلاسفة عن سر نمو اللغة بطريقة تجعلها تكمن في قلب المشكلة المعرفية.

اللغة كوسيط: تتكون المعرفة الإنسانية من أفكار ومفاهيم مصوغة برموز لغوية. ويصبح التفاهم ممكنًا فقط عندما يكون هناك اتفاق وتناسق بين الرموز التي تُنقل إلى الآخرين. هذا يضع اللغة كوسيط حاسم بين المحور الأنطولوجي (المعنى) والمحور الإبستمولوجي (الفهم).

التحدي المعاصر: إن أزمة التفلسف المعاصرة تتركز في كيفية ضمان أن يظل هذا الوسيط قادرًا على نقل المعنى المتسامي دون الوقوع في التجريد أو النقد المفرط.

إن هذا النشاط الفلسفي المزدوج (البحث عن المعنى وتوسيع الفهم) هو عملية مستمرة لإعادة تعريف الوضع الإنساني. تحديد غاية الإنسان (عبر المعنى) وقدراته (عبر الفهم) يحصّنه ضد الاختزال المادي أو الرقمي في العصر الحديث. وفي العصر الحديث، يتجلى الدور الأساسي للفلسفة في وضع المشكلات التي يطرحها فك أسرار الوراثة البشرية، والتحديات التي يفرضها تطويرها، وهي التحديات التي ساهمت في تطور واقع الإنسان فكريًا وسياسيًا واقتصاديًا. وفي المقابل، أدى ركود العقل في حقب معينة إلى عجز حضاري وصدمة ثقافية. وهذا يؤكد أن التفلسف ليس مجرد تفكير نظري منعزل؛ بل هو محرك للتنمية الشاملة.

إن الفهم النقدي، المدعوم بالشك المنهجي، هو أداة التحرير التي تكسر سجن المعاني الجاهزة والمسلمات القديمة، وتسمح للفرد بالدفاع عن حقه في التفكير المستقل. ولكن هذا التحرير يجب أن يكون موجهًا، وإلا فقد يتحول إلى تجريد باهت. لذلك، فإن التفلسف الحق يستلزم الموازنة بين ضرورة البحث عن المعنى المتسامي (وجوديًا)، والذي يمنح الحياة قيمة وهدفًا متجاوزًا للذات، وضرورة الصرامة المنهجية والنقدية (إبستيمولوجيًا) التي تحمي الفكر من الوقوع في الخرافة أو التقليد. يجب على التفلسف أن يعيد الانخراط الجاد مع القضايا الأخلاقية والاجتماعية الملحة، بدلاً من الاقتصار على الميتافيزيقا الصرفة. إن العودة إلى مفهوم "الحكمة العملية" تضمن أن التفلسف يخدم غايات مجتمعية ملموسة.

تبني الشك كآلية للتجديد

يجب النظر إلى الشك المنهجي باعتباره محفزًا أساسيًا للنهضة الفكرية والإنتاج الحضاري المستقل، وكسر أي حالة من الجمود الفكري التي تعيق مجاراة التطور.

***

غالب المسعودي

........................

مصادر:

alhiwarmagazine.blogspot.com

almultaka.org

almothaqaf.com

anfasse.org

ar.wikipedia.org

asjp.cerist.dz

بدأتُ دراسة النحو قبل نصف قرن تقريبًا، فشرعت أولًا بكتاب "الأجرومية"، وهو كتاب مختصر بسيط في النحو، ألّفه ابن آجروم الصنهاجي (672–723هـ)، وتعارفت معاهد التعليم الديني التقليدية على تدريسه لتلامذتها في المرحلة الأولى لدراسة النحو. بعد الدرس الأول رأيت أنه لا ضرورة لحضور هذه الحلقة الدراسية، إذ يمكنني قراءة الكتاب من دون حاجة إلى مدرس، أتذكر أنني أنهيت قراءته ومباحثته مع زميل في أقل من اسبوعين. كان الكتاب التالي: "قطر الندى وبلّ الصدى" لابن هشام الأنصاري (708–761هـ)، معه شعرت أن لغته لا تخلو من إحالات على المنطق الأرسطي الصوري ومصطلحاته، مثلًا في الدرس الأول من الكتاب وردت عبارة: "واستعمال الأجناس البعيدة معيب عند أهل النظر" في شرح ابن هشام على كتابه، ولو لم يشرح مدرسنا المعنى المنطقي للجنس، وتقسيمه إلى قريب وبعيد، لم يفهم الطلاب ذلك. وبعد الفراغ من الكتاب المشار إليه انتقلت إلى دراسة شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، وواصلت الدراسة لكتب البلاغة التراثية.

بعد سنوات عديدة أشار عليّ أحد الزملاء بضرورة حضور دروس العلامة اللغوي رؤوف جمال الدين (1926–2004) لكتاب: "شرح ابن الناظم على ألفية والده ابن مالك"، وابن الناظم هو بدر الدين ابن صاحب الألفية (640–686هـ).كان أستاذنا خبيرًا موسوعيًا في اللغة والنحو، إنسانًا عفويًا جميلًا، ينفر من العناوين والألقاب التفخيمية المتداولة، لذلك بهرتني وطلابه شخصيته الآسرة الجذابة. كان يدرّسنا تحت السماء، ونحن ثلاثة طلاب، يجلس على الأرض، ولحظة يشاهد حرجنا من الجلوس بلا فراش، يبادر فيفرش عباءته لنجلس عليها معه. في كل درس نرحل معه في سياحة نحوية مشبعة بالتعليلات والقياسات والمحاججات المنطقية للقواعد والمسائل النحوية، وكأننا ندرس المنطق الأرسطي الصوري لا النحو. كان أستاذنا بارعًا في التدريس وتوضيح المفاهيم بلغة ميسرة، وعلى الرغم من انشداد طلابه وأنا منهم لشخصيته، كان يقص علينا ذكرياته ويعيد سرد تاريخ عائلته وأجداده، ومكانتهم الدينية، وما تعرضوا له من اضطهاد، إثر موقفهم الاخباري في مواجهة الأصوليين. عفوية وبساطة أستاذنا رؤوف جمال الدين كانت تزودنا بطاقة أخلاقية لم نتذوقها في شخصيات أغلب الأساتذة، لذلك كنا نترقب درسه كل يوم بشغف. كنت أتساءل عن المادة التي ندرسها، أهي نحوٌ؟ وأنا أعرف أن النحو يقوم على بيان قواعد النطق بالعربية التي ولدت في سياق اتفاق اجتماعي للناطقين بها، أم منطقٌ أرسطي صوري؟ وأستاذنا يستغرق في القياسات والتعليل، وأنا أعلم أن قواعد اللغة من الأمور الاعتبارية لا الواقعية. أثار دهشتي واستغرابي توغل مصطلحات المنطق الأرسطي وبراهينه في تدوين النحو وتعليمه، حتى غدا النحو ميدانًا للقياس العقلي لا أفقًا للفهم اللغوي، فامتلأت دروسه بالبراهين المنطقية الخارجة عن سياقاتها، وانشغل طلابه بإثبات القواعد العقلية بدل أن يتذوقوا اللغة بوصفها كائنًا حيًا نابضًا بالمعنى.2034 tabati

شرح العلامة محمد حسين الطباطبائي (1903–1981) معنى الحقائق الواقعية بوصفها ما لها وجود حقيقي في الخارج، سواء أدركها الإنسان أم لم يدركها، فهي موجودة استقلالًا عن الذهن، وعن كل اتفاق اجتماعي. أما الأمور الاعتبارية، فهي ما يضعه العقل أو المجتمع أو الشريعة أو اللغة لتنظيم العلاقات أو التعبير عن معانٍ لا وجود لها في الخارج بشكل مستقل، لأنها تنشأ بالاعتبار الذهني والاجتماعي. أبرز فرق بين الواقعي والاعتباري أن القواعد والقياسات المنطقية والفلسفية تجري في الحقائق الواقعية، ولا تجري في الأمور الاعتبارية، لأن الاعتباريات ليست كشفًا عن واقع موضوعي، بل هي إنشاء للعلاقات والأوضاع التي تحتاجها حياة الإنسان ومعاشه. لذلك يرى الطباطبائي أن كثيرًا من القضايا الأخلاقية والدينية والاجتماعية واللغوية تنتمي إلى دائرة الاعتبار لا الواقع، إذ هي نتاج للعقل الإنساني حين يسعى إلى تنظيم الحياة وضبط سلوك الأفراد والجماعات. من هنا دعا إلى التمييز بين ما هو ثابت في نظام الوجود، وما هو متغير بتغير حاجات الإنسان ومقتضيات أنماط حياته ومعاشه وتاريخه، مبينًا أن الخلط بينهما أوقع الفكر اللغوي والديني والفلسفي في التباسات عميقة، حين حاول إخضاع الاعتباريات لمناهج البرهان العقلي التي لا تجري إلا في مجال الحقائق الواقعية1.

أدركت منذ تلك الأيام عمق تغلغل المنطق الأرسطي الصوري في النحو وعلوم اللغة التراثية، كما تغلغل في علم الكلام وأصول الفقه والفقه وسائر علوم الدين، حتى غدا سلطة تتحكم في طرائق التفكير وأشكال الاستدلال ومناهج التعليم. بمرور الزمن كبّل المنطق الصوري حركة العقل وأخضعه لنظام مغلق من التعريفات والقياسات التي تحاصر السؤال وتمنع المغامرة العقلية باختراق ما لا يسمح التفكير فيه. المنطق الصوري، بوصفه نظامًا صارمًا، فرض على العقل حدودًا ضيّقت مجاله، فانحصر التفكير داخل ما يراه مسموحًا، لا ما يدعو إلى إعادة النظر فيه ومساءلته. تحول التفكير في آفاق هذا المنطق إلى تكرار لبديهياته، بدلًا من أن ينفتح على اكتشاف المعنى. وأغلق الذهن أبواب الشك والسؤال والنقد في النحو واللغة، وانحصر العقل في نطاق ما يتيحه له المنطق الصوري، لا في ما يستدعي إعادة نظر، وإثارة أسئلة عميقة حول مسلماته ويقينياته، ونقد تصلب قواعده وابتعادها عن طبيعة اللغة، بوصفها كائنًا حيًا متغيرًا.

 تحولت المعرفة إلى منظومة يقينيات نهائية تقاس بها الحقيقة، وفقد العقل اللغوي قدرته على ابتكار المفهوم، وخسر العقل الديني طاقته التأويلية على تجديد فهم الدين ونصوصه. هكذا انكمش الأفق الإنساني في كل من اللغة والدين، حين فرض على العقل أن يكرر ما ورثه بدل أن يسائل ما ورثه، وانطفأت شعلة التساؤل التي كانت أصل كل إبداع. جفّت منابع الأسئلة، وتعطل الخيال، وغابت الجرأة على مساءلة المسلّمات، لأن المنهج ذاته تأسس على نفي الاحتمال وتضييق أفق خيارات المفاهيم وتأويلها. في سياق هذا التحول انكمشت الحيوية الفكرية في علوم الدين واللغة، إذ استبدلت الحركة الحرة للعقل بجمود القياس، وحل التلقين محل الاكتشاف، والحفظ محل الفهم، والتكرار محل الإبداع. المنطق الأرسطي لا يعطل السؤال فحسب، بل يعيد تشكيل العقل بوصفه أداة طاعة لا أفق حرية، ويحول الدين من تجربة وجودية إلى منظومة مغلقة، ويجعل اللغة تكرر نفسها داخل قوالب جامدة، فتغيب الحياة من النص ومن المتكلم معًا. في هذا النسق تكرست لغة جامدة تهاب المجاز، وتخشى التأويل، وتتعامل مع النصوص بوصفها مغلقة على معناها الوحيد لا بوصفها فضاءً حيًا يتجدد فيه المعنى بتجدد التجربة. هكذا أضحى المنطق الصوري قيدًا على حرية التفكير، وجدارًا يحاصر العقل ويخنق السؤال، فانطفأ التفكير التساؤلي النقدي الذي يمثل شرط كل نهضة للعقل، وكل إحياء للغة، وكل تجديد في فهم الدين ونصوصه.

إن هذا التغلغل العميق للمنطق الصوري لم يكن مجرد أثر عابر في طرائق التفكير، بل تحولًا جذريًا في بنية الوعي، إذ انتقل العقل من فضاء التساؤل الحي إلى فضاء البرهان الشكلي، ومن البحث عن المعنى إلى البحث عن صحة القياس. في سياق هذا التحول انحسر حضور الإنسان في المعرفة، وصار العقل الديني واللغوي ينظر إلى العالم بعين المنطق لا بعين الخبرة والمعاش والمعاناة والتجربة. أضحى النحو علمًا يجتر القوالب نفسها ويعيد إنتاج المفاهيم ذاتها، وأصبح علم الكلام يكرر الأسئلة القديمة بأدواتها، كأن الزمان لم يتحرك وكأن الوعي لا يتغير. وبعد تراكم القرون غدت سلطة المنطق الأرسطي معيارًا يقاس به التفكير ومصدرًا لتقويم الصواب والخطأ، حتى ضاعت المسافة بين الحقيقة والاصطلاح، وبين الواقع والاعتبار. وهكذا غاب المعنى الإنساني للدين واللغة، إذ صارت اللغة تُدرّس كآلية جامدة لفهم النص، لا كجسر للقاء الإنسان بالعالم، وصار الدين يُفهم كمنظومة أقيسة تنتج مقولات وأحكامًا، لا كخبرة وجودية ووجودية. من هنا برزت الحاجة إلى إعادة اكتشاف العقل بوصفه طاقة حيّة لا آلة قياس، وإلى استعادة اللغة ككائن حيّ يعكس نبض قلب الإنسان وعواطفه وقلقه الوجودي وأسئلته، وإلى تجديد علم الكلام ليغدو علمًا للحياة لا علمًا للجدل، علمًا يحرر المعنى من أسر المنطق الأرسطي، ويعيد للدين إشراقات الروح ورحابة الأخلاق وتجليات الجمال الإلهي.

  في قوالب المنطق صارت الحياة الدينية ممارسات صورية غلّفت التفكير بأسوار من القواعد والقياسات الجامدة، وأقامت حول أشواق الروح جدرانًا تحجب عنها أفق التجربة والمعنى. تحولت اللغة، التي كانت كائنًا حيًا نابضًا بالمجاز والرمز والدلالة، إلى نسق من التعريفات الميكانيكية، تقاس معانيها بحدود المنطق لا بمدى حضورها في الوعي والعواطف. حين ترسخ هذا المنهج غاب السؤال الحي، وتوارى التأمل في ما وراء الألفاظ، إذ صار الكلام مرهونًا ببرهان صوري يطالب بالدقة الشكلية، ويعجز عن إدراك العمق. هكذا سجنت اللغة في أسوار المنطق وفقدت قدرتها على التحديث، بعدما انحبست في قوالب القياس وأشكاله، فانكمش فيها الخيال، وانسدت الآفاق التي تتجدد فيها صلة الإنسان بالمعاني الروحية والأخلاقية والجمالية. إن استعادة حيوية اللغة لا تتحقق إلا بتحريرها من أسر المنطق وعودتها إلى أصلها الإنساني، بوصفها أفقًا للمعنى، ومجالًا للتجربة، ومسكنًا للوجود.

صار المنطق الصوري هو الأفق النهائي المغلق للغة، فلا تتحرك إلا في فضائه، ولا تستنطق مفاهيمها إلا بأدواته، وكأنها فقدت قدرتها على التفكير خارج حدوده. مع سطوة هيمنته الشديدة، انغلقت آفاق الذهن الديني واللغوي في قوالب صورية جامدة، تقيس الحقيقة بموازين التجريد لا بوقائع الحياة، وتتعامل مع المعنى بوصفه نتيجة نهائية لا سيرورة مفتوحة. هكذا تحول المنطق من وسيلة للفهم إلى أداة لتقييد العقل وغلق آفاق التساؤل والتفكير النقدي، ومن طريق للبحث إلى سور يحاصر الأسئلة ويصادر إمكانات الفهم. بمرور الزمن، تحولت النصوص الدينية واللغوية إلى حقول للبرهنة الشكلية، وفقدت علاقتها الحيّة بالوجود الإنساني ومعناه، فغابت التجربة واستبدلت بالتقعيد المغلق، وغابت الروح واستبدلت بالقياس، وأقصي الإنسان عن مركز المعرفة، إذ صار يطلب منه أن يفكر في إطار أشكال قياسات أرسطو المغلقة، لا كما تملي عليه تجربته الوجودية في العالم. في سياق امتداد هذا الإرث وتكرار تلقينه عبر قرون، تكرست ثقافة التلقي والتلقين بدل ثقافة التساؤل، واستحال العقل الديني واللغوي إلى مرآة تعكس الماضي لا ضوءًا يكتشف الحاضر. انطفأت فاعلية اللغة التي كانت ميدانًا لتفتح المعنى وصيرورته، حين تحولت إلى جهاز صوري خاضع لسلطة القاعدة التي قررها المنطق. إن تجاوز هذا الإرث لا يتحقق إلا باستعادة اللغة والعقل إلى مجالهما الإنساني، حيث يصبح التفكير فعلا حرًّا يبتكر المعنى من التجربة، ويعيد وصل الدين بالحياة، والمعرفة بالإنسان، والعقل بالعالم، واللغة بالواقع، فتتحول بواسطته اللغة من سور يحاصر الوعي إلى أفق يفتحها على المعنى، ويتيح لها أن تكون بيتًا للوجود2.

إن انحباس اللغة في أسوار المنطق الصوري لا يمثل مجرد خيار معرفي بل يعكس نمطًا من السيطرة الرمزية التي تعيد إنتاج السلطة عبر تطبيع التطابق وإقصاء التعدد، ويصبح اللفظ قالبًا صوريًا لا حدثًا وجوديًا، وهذا ما يعطل قدرة اللغة على ابتكار المفاهيم، ويعيد إنتاج سلطة النحو بوصفها سلطة معيارية لا بوصفها إمكانًا للتعدد، وهو ما يتكرر في علم الكلام حين يخضع التفكير الديني لقواعد البرهان الأرسطي، فيقاس الغيب بمقولات الجوهر والعرض، ويُحدّ الله بمفاهيم الضرورة، ويُستبدل الكشف بالتقعيد، والتأمل بالتصنيف، فتفقد العقيدة طاقتها الحية، كما تفقد اللغة قدرتها على الولادة، ويغيب المعنى حين يُختزل في الحرف، ويُقصى جدل الاختلاف والتعدد حين يُحاكم بمبدأ عدم التناقض. هكذا يتجلى أثر المنطق الأرسطي في تعطيل إمكانات التجاوز في كل من اللغة والدين، ويُعاد إنتاج السلطة بوصفها معيارًا للصدق لا بوصفها أفقًا للتجدد، مما يستدعي من النقد تفكيك هذا النمط من العقلنة الصورية التي تُقصي الحياة باسم النظام، وتخضع المعنى لمنطق السيطرة بدل أن تفتحه على أفق التحرر.

 حين تنغلق اللغة في أسوار المنطق الصوري تتحول من كائن حيّ ينتج المعنى إلى أداة تقيس الصواب بالحد والقياس، فتتجمد حركتها في قوالب التعريف والتصنيف، ويغدو النحو سلطة تقرر ما يجوز قوله وما يُستبعد، ويصير معيار الفصاحة عقلانية شكلية لا أفقًا للتعدد والاختلاف. بهذا الانغلاق تقصى المجازات وتحاصر التراكيب الجديدة، لأن المنطق الأرسطي يجعل الهوية وعدم التناقض مبدأين يحكمان الفكر واللغة معًا، فيمحو الغموض الخلّاق الذي يولد منه الإبداع، ويستبدل بالمعنى تجربةَ تطابقٍ جامدة بين اللفظ والفكرة. هذا ما فعله المنطق ذاته حين دخل علم الكلام فحول الوحي إلى خطاب برهاني يُقاس بحدود العقل الصوري، وأخضع التأويل لمنطق القياس والتماثل، فتصلبت العقائد في صيغ مغلقة، وغاب الرمز والذوق والتجلي، وفقد الدين طاقته الروحية كما فقدت اللغة قدرتها على الولادة. في كليهما يصبح العقل خادمًا للبنية لا منجمًا للمعنى، ويتحوّل التفكير إلى نسق يكرر ذاته، ويُعاد إنتاج السلطة المعرفية بوصفها ضمانًا للصدق، لا بوصفها أفقًا للتجدد. لذلك دعا مفكرو مدرسة فرانكفورت إلى تفكيك هذا الوعي الأداتي الذي جعل المنطق بديلاً عن الفكر، وطالبوا بعودة اللغة إلى أفقها الجمالي والجدلي حيث يولد المعنى من الاختلاف، لا من التطابق، وحيث تنبع الحقيقة من التجربة لا من القاعدة، لأن الكلمة التي تفكر خارج منطق الحياة تنفصل عن الإنسان، وحين تفقد اللغة إنسانيتها تفقد قدرتها على أن تكون أفقًا للتحرر.

 تجذر بمرور الزمن تسلط المنطق الأرسطي الصوري على التفكير الفلسفي والكلامي والأصولي والفقهي واللغوي في الحضارة الإسلامية، ومازال يتكرر حضوره في معاهد علوم الدين التقليدية، وكأننا لا نعلم بظهور المنطق الحديث في القرن التاسع عشر، الذي تجاوز المنطق الصوري إلى المنطق الجدلي لهيغل، والمنطق الرمزي والرياضي الذي أسسه فريغه، وطورّه لاحقًا راسل ووايتهد، وغيرهما. النحو وعلوم اللغة التراثية لبثا مقيمين في أسوار المنطق الأرسطي الصوري، فاستقرا ضمن بنية عقلية استدلالية أحادية، جعلت من هذا المنطق مرجعية حاكمة لمناهجها ومفاهيمها. هذا التأسيس لم يفتح المجال أمام تطور حيّ أو تفاعل مرن مع اللغة بوصفها ظاهرة بشرية متغيرة، بل قاد إلى مسارات دائرية مغلقة، أعادت إنتاج ذاتها ضمن نسق تقعيدي صارم، وحرمت هذه العلوم من اكتشاف آفاق رحبة تتجاوز تلك المسارات المسدودة. النحو، في هذا السياق، انشغل بإعادة صياغة قواعده وفق منطق الاستنباط، وتراجع عن التناغم مع الواقع اللغوي الحي، مما عطل قدرته على التجديد وأبعده عن روح البحث الحر.

 استعار النحوُ وعلوم اللغة علمَ أصول الفقه، لا بوصفه علمًا جدليًا قائمًا على تعدد الأدلة، بل بوصفه نموذجًا استنباطيًا مغلقًا، فتناغما مع بنيته وكرّرا طرائقه وأعادا إنتاجه في إطار لغوي. كذلك استعار النحوُ وعلوم اللغة أحكام الفقه، وتفاعلا مع علم الكلام لا من موقع النقد أو الحوار، بل من موقع التلقي والتقليد، فتبنيا مقولات وأحكام علوم الدين ونسجا مفاهيمهما على منوالها، مما عمق من طابعهما المغلق وأبعدهما عن إمكانات التجاوز. هذا التداخل بين النحو والمنطق الصوري وأصول الفقه والفقه وعلم الكلام لم ينتج تكاملًا معرفيًا، بل رسخ نمطًا من التفكير الدائري، حيث تتكرر القواعد وتعاد صياغتها دون مساءلة، وتستبعد الأسئلة التي تتطلب إعادة نظر أو تفكيك للأسس. في ضوء فلسفة العلم، غابت عن هذه العلوم قابلية التكذيب، وتحولت فرضياتها إلى يقينيات نهائية، مما عطل قدرتها على التطور وأخرجها من دائرة المعرفة الحية. لذلك تبرز الحاجة إلى مراجعة جذرية لا تكتفي بنقد التفاصيل، بل تُسائِل الأسس التي قامت عليها هذه العلوم، وتعيد فتحها على أسئلة جديدة تنبع من اللغة الحية ومن الإنسان المتكلم، لا من منطق التجريد.  2035 popar

ترى فلسفة العلم الحديثة أن المعارف البشرية تتداخل في شبكة حيّة من الحقول المتفاعلة، حيث يتفاعل الفلسفي مع العلمي، والإنساني مع الطبيعي، ضمن جدل لا يخلو من التوتر والإثمار. التحولات التي تطرأ على الفلسفة والعلوم الإنسانية لا تبقى حبيسة مجالها، بل تمتد آثارها إلى العلوم الطبيعية. في المقابل، تؤدي التغيرات المنهجية والنظرية في العلوم الطبيعية إلى انعطافات في التفكير الفلسفي، وتدفعه نحو إعادة النظر في مفاهيمه ومناهجه. فلسفة العلم الحديثة، كما تجلّت في أعمال كارل بوبر، أبرزت أن التقدم المعرفي لا يسير وفق خط مستقيم أو تراكم يقيني، بل ينشأ من خلال النقد المستمر للفرضيات، واختبار صارم لقابليتها للتكذيب. المعرفة لا تنمو بوصفها يقينًا، بل تتشكل من فرضيات تخضع للنقض، ومفاهيم تواجه التجربة، وحدود تختبرها الوقائع. العلاقة بين الحقول المعرفية لا تنحصر في تأثير ميكانيكي، بل تتأسس على جدلية نقدية. الفلسفة تطرح الأسئلة التي تكشف عن الافتراضات الكامنة في مناهج العلم، بينما يعيد العلم التفكير في نماذجه حين يواجه تعقيدات الظواهر أو قصور التفسير. هذا الترابط لا يعني انصهارًا بين الحقول، بل يشير إلى قابلية كل حقل للتأثر والتأثير، حين ينفتح على أسئلة الآخر، ويخوض تجربة المساءلة. وحدة المعرفة لا تنشأ من التنميط أو التوحيد القسري، بل تنبثق من الحوار النقدي بين التخصصات، ومن الاعتراف بأن كل مشروع معرفي يظل مفتوحًا على احتمالات جديدة. فلسفة العلم، حين تتبنى الموقف النقدي، تتيح أفقًا لتكامل المعارف، لا بوصفها منظومة مغلقة، بل شبكة من الأسئلة والاحتمالات، تتجدد كلما خاضت اختبارًا جديدًا لحدودها.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

....................

1- الطباطبائي، محمد حسين، أصول الفلسفة والمذهب الواقعي، مج: ص ٣٣٥ - ٣٨٠، 2023، دار زين العابدين، قم.

2- الرفاعي، عبدالجبار، مقدمة في علم الكلام الجديد، نشرة مؤسسة هنداوي الإلكترونية، الفصل الأول، المنطق الأرسطي بوصفه مرجعيةً للتفكير الكلامي.

 

مقدمة: القولة "الأخلاق ليست فرعًا من الفلسفة، بل هي الفلسفة الأولى" تُعدّ إحدى الأطروحات المحورية التي تثير نقاشات عميقة في الفلسفة الغربية والعربية على حد سواء. تُبرز هذه القولة الأهمية القصوى للأخلاق كأساس للفكر الفلسفي، متجاوزة بذلك التصور التقليدي الذي يضع الأخلاق كفرع من فروع الفلسفة إلى جانب الميتافيزيقيا، المنطق، والمعرفة. في هذه الدراسة، سنستكشف معاني هذه القولة، ونحلل دلالاتها الفلسفية، ونناقش سياقها التاريخي والفكري، مع التركيز على أهمية الأخلاق في الفكر الفلسفي، وكيف يمكن اعتبارها "الفلسفة الأولى". سنتناول أيضًا الآراء المؤيدة والمعارضة لهذه القولة، مع استعراض لأبرز الفلاسفة الذين تناولوا هذا الموضوع، بالإضافة إلى تحليل السياقات الثقافية والاجتماعية التي تؤثر على هذا النقاش. متى تتحول الاخلاق من مجرد اختصاص فلسفي مثل بقية الاختصاصات الى فلسفة اولى؟ وما الذي يتغير في مستوى المنهج والمفاهيم والموضوع؟ وفيم تتمثل المقاربة الأكسيولوجية؟

تعريف الأخلاق والفلسفة

للبدء، من الضروري توضيح المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها القولة. الفلسفة، في جوهرها، هي السعي إلى فهم الحقيقة والوجود والمعرفة من خلال التفكير النقدي والتحليلي. أما الأخلاق، فهي الفرع من الفلسفة الذي يهتم بدراسة القيم، والصواب والخطأ، والواجب، والمسؤولية الأخلاقية. تقليديًا، تُعتبر الأخلاق جزءًا من الفلسفة إلى جانب فروع أخرى مثل الميتافيزيقيا (علم الوجود)، والإبستمولوجيا (نظرية المعرفة)، والمنطق، والجماليات. ومع ذلك، تقترح القولة إعادة تصنيف جذرية، حيث تُقدم الأخلاق ليس كفرع من الفلسفة، بل كجوهرها وأساسها. هذا الطرح يستدعي التساؤل: لماذا يُمكن اعتبار الأخلاق "الفلسفة الأولى"؟ وما الذي يجعلها تتجاوز الفروع الأخرى في الأهمية؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، يجب أن ننظر إلى السياقات التاريخية والفلسفية التي أدت إلى هذا التصور.

1. الأخلاق في الفلسفة اليونانية

في الفلسفة اليونانية القديمة، كان للأخلاق مكانة مركزية. فلاسفة مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو اعتبروا الأخلاق ليست مجرد فرع من الفلسفة، بل العنصر الأساسي الذي يهدف إلى تحقيق "الحياة الطيبة" (Eudaimonia).  بالنسبة لسقراط، كانت الفلسفة بأكملها تدور حول السؤال: "كيف ينبغي للمرء أن يعيش؟"، وهو سؤال أخلاقي بامتياز. أفلاطون، في حواراته مثل "الجمهورية"، ربط الأخلاق بالعدالة، معتبرًا أن الفلسفة تهدف إلى فهم الكيفية التي يمكن بها للفرد والمجتمع تحقيق الانسجام الأخلاقي. أما أرسطو، في كتابه "الأخلاق إلى نيقوماخوس"، فقد وضع الأخلاق كعلم عملي يهدف إلى تحقيق السعادة من خلال الفضيلة. هذا التركيز على الأخلاق في الفلسفة اليونانية يدعم فكرة أن الأخلاق ليست مجرد فرع، بل هي الغاية الأساسية للتفكير الفلسفي. إذن، يمكن القول إن القولة تجد جذورها في هذا التقليد الفلسفي الذي يضع الأخلاق في صميم الفلسفة.

2. إيمانويل كانط ومكانة الأخلاق

إيمانويل كانط (1724-1804)، أحد أبرز الفلاسفة في التاريخ الحديث، يُعتبر مصدر إلهام محتمل لهذه القولة. في فلسفته الأخلاقية، كما يتضح في كتابه "أسس ميتافيزيقيا الأخلاق" و"نقد العقل العملي"، وضع كانط الأخلاق في مركز الفلسفة. بالنسبة له، الأخلاق ليست مجرد تطبيق للعقل النظري، بل هي تعبير عن العقل العملي الذي يحدد كيف ينبغي للإنسان أن يتصرف بنفسه. مفهومه عن "الواجب" و"الأمر القطعي) يعكس فكرة أن الأخلاق هي المجال الذي يحدد القوانين العقلية التي تحكم السلوك البشري. كانط يرى أن الأخلاق هي المجال الذي يمنح الفلسفة معناها العملي، لأنها تربط الفكر الفلسفي بالحياة الإنسانية الواقعية. من هذا المنظور، يمكن اعتبار الأخلاق "الفلسفة الأولى" لأنها تُعنى بتحديد القيم التي توجه السلوك البشري، وهو ما يمثل جوهر التفكير الفلسفي.

3. الفلسفة الحديثة والمعاصرة

في الفلسفة الحديثة، ومع ظهور تيارات مثل الوجودية والبراغماتية، استمرت الأخلاق في لعب دور مركزي. على سبيل المثال، يرى جان بول سارتر أن الأخلاق تنبع من حرية الإنسان ومسؤوليته في خلق القيم. في الفلسفة المعاصرة، يواصل فلاسفة مثل يورغن هابرماس وجون راولز التأكيد على أهمية الأخلاق في بناء نظريات العدالة والتواصل البشري .ومع ذلك، هناك تيارات فلسفية أخرى، مثل الوضعية المنطقية، قللت من أهمية الأخلاق، معتبرة إياها مجرد تعبير عن المشاعر أو الرغبات الشخصية، مما أثار جدلاً حول مكانتها في الفلسفة. هذا الجدل يعزز أهمية القولة، حيث تتحدى التصورات التي تهمش الأخلاق وتضعها في صدارة الفكر الفلسفي.

المقاربة الأكسيولوجية في الإطار الأخلاقي الإنساني

المقاربة الأكسيولوجية، في الإطار الأخلاقي الإنساني، تركز على دراسة القيم كمحدد أساسي للسلوكيات والقرارات الأخلاقية التي تهدف إلى تعزيز الكرامة الإنسانية والعدالة والرفاهية الجماعية. هذه المقاربة تبحث في القيم الأخلاقية، مثل العدالة، الحرية، المساواة، والمسؤولية، وتسعى إلى فهم كيفية تشكيلها للعلاقات بين الأفراد والمجتمعات. في سياق الأخلاق الإنسانية، تؤكد المقاربة الأكسيولوجية على أهمية القيم الإنسانية المشتركة كأساس لاتخاذ القرارات التي تحترم حقوق الإنسان وتعزز التضامن الاجتماعي. على سبيل المثال، عند مواجهة قضايا مثل الفقر أو التمييز، تقدم هذه المقاربة إطارًا لتقييم الأفعال بناءً على مدى مساهمتها في تحقيق العدالة الاجتماعية أو تقليل المعاناة الإنسانية، مع التركيز على القيم الجوهرية مثل الكرامة والإنصاف. كما تتجاوز المقاربة الأكسيولوجية الاعتبارات المادية لتشمل الأبعاد الروحية والثقافية، حيث تُبرز القيم مثل التعاطف والرحمة كمحركات للسلوك الأخلاقي. على سبيل المثال، في سياق الأزمات الإنسانية كالهجرة أو النزاعات، تدعو هذه المقاربة إلى تبني قيم التضامن والمسؤولية المشتركة لدعم الفئات الضعيفة. من خلال تحليل القيم وتأثيرها على السلوك، تساهم المقاربة الأكسيولوجية في بناء إطار أخلاقي يركز على الإنسان، يوجه السياسات العامة والممارسات الفردية نحو تحقيق مجتمع أكثر عدلاً وإنسانية، مما يجعلها أداة حيوية لمواجهة التحديات الأخلاقية المعقدة في العصر الحديث.

في الاطار البيئي

المقاربة الأكسيولوجية، كإطار فلسفي، تركز على دراسة القيم ودورها في توجيه السلوكيات والقرارات، وتكتسب أهمية خاصة في سياق الأخلاق البيئية والوعي الإيكولوجي. تعتمد هذه المقاربة على فحص القيم الأخلاقية والجمالية والروحية التي تشكل علاقة الإنسان بالبيئة، بهدف تحديد الأسس التي ينبغي أن توجه التفاعل مع الطبيعة. في إطار الأخلاق البيئية، تسعى المقاربة الأكسيولوجية إلى إعادة تعريف القيم التقليدية التي غالبًا ما تكون أنثروبوسنترية (مركزية الإنسان)، وتعزز بدلاً من ذلك قيمًا إيكوسنترية أو بيوسنترية، حيث تُمنح الكائنات الحية والنظم البيئية قيمة جوهرية بغض النظر عن فائدتها للإنسان.

على سبيل المثال، تؤكد هذه المقاربة على أهمية احترام التنوع البيولوجي ليس فقط لأنه يدعم الحياة البشرية، بل لأن له قيمة في ذاته، مستمدة من تعقيد النظم الإيكولوجية وجمالها الطبيعي.

كما تساهم المقاربة الأكسيولوجية في تعزيز الوعي الإيكولوجي من خلال تشجيع الأفراد والمجتمعات على تبني قيم مثل المسؤولية، العدالة البيئية، والتضامن بين الأجيال، مما يؤدي إلى تغيير السلوكيات نحو ممارسات مستدامة، مثل تقليل الاستهلاك المفرط أو دعم السياسات البيئية. علاوة على ذلك، فإن هذه المقاربة تتجاوز الجوانب المادية للبيئة لتشمل البعد الروحي والثقافي، حيث تربط بين القيم الإنسانية، مثل الشعور بالانتماء للطبيعة، والحاجة إلى حمايتها كجزء من الهوية الجماعية.

من خلال إعادة صياغة القيم التي تحكم علاقتنا بالعالم الطبيعي، تُعد المقاربة الأكسيولوجية أداة حيوية لتحقيق تحول جذري نحو مجتمع أكثر وعيًا ومسؤولية تجاه البيئة، مما يجعلها ركيزة أساسية لمواجهة التحديات البيئية المعاصرة.

تحليل القولة: الأخلاق كـ"الفلسفة الأولى"

1. الأخلاق كأساس للتفكير الفلسفي

القولة تشير إلى أن الأخلاق ليست مجرد فرع من الفلسفة يمكن دراسته بشكل مستقل، بل هي الأساس الذي تقوم عليه الفلسفة بأكملها. هذا التصور يمكن تفسيره من خلال عدة زوايا:

الأخلاق كغاية الفلسفة: الفلسفة، في جوهرها، تسعى إلى فهم كيفية عيش الإنسان حياة ذات معنى. الأخلاق، بصفتها الدراسة التي تهتم بالقيم والواجبات، توفر الإطار الذي يجيب عن هذا السؤال. فبدون الأخلاق، تصبح الفلسفة مجرد تأمل نظري خالٍ من التأثير العملي.

الأخلاق كمعيار للفروع الأخرى: الميتافيزيقيا، الإبستمولوجيا، والمنطق، وإن كانت ضرورية، فإنها تخدم في النهاية الأغراض الأخلاقية. على سبيل المثال، تساعد الميتافيزيقيا في فهم طبيعة الوجود، لكن هذا الفهم يكتسب معناه عندما يُستخدم لتحديد كيفية التصرف الأخلاقي في العالم.

الأخلاق كتعبير عن الحرية البشرية: كما أشار كانط، الأخلاق هي المجال الذي يمارس فيه الإنسان حريته العقلية. بينما تُعنى الفروع الأخرى بالحقائق النظرية، فإن الأخلاق تُعنى بالحرية والإرادة والمسؤولية، وهي جوهر الوجود البشري.

2. الأخلاق مقابل الميتافيزيقيا

تقليديًا، اعتُبرت الميتافيزيقيا "الفلسفة الأولى"، كما وصفها أرسطو، لأنها تُعنى بدراسة الوجود بما هو موجود. ومع ذلك، تقترح القولة أن الأخلاق يجب أن تحل محل الميتافيزيقيا في هذا الدور. هذا الطرح يمكن تبريره من خلال القول إن الأخلاق هي التي تمنح المعنى للوجود. فبدون قيم أخلاقية توجه السلوك، يصبح التفكير في الوجود مجرد تأمل مجرد.

3. الأخلاق والسياق الاجتماعي

الأخلاق لا تُدرس في فراغ، بل هي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسياقات الاجتماعية والثقافية. القولة تؤكد على أهمية الأخلاق كأداة لتنظيم العلاقات البشرية وبناء مجتمعات عادلة. في هذا السياق، يمكن اعتبار الأخلاق "الفلسفة الأولى" لأنها توفر الأسس التي يقوم عليها النظام الاجتماعي.

الآراء المؤيدة والمعارضة

1. الآراء المؤيدة

كانط وأتباعه: يرى كانط أن الأخلاق هي تعبير عن العقل العملي، وهي التي تمنح الفلسفة أهميتها العملية. أتباعه، مثل فلاسفة المثالية الألمانية، عززوا هذا التصور.

الوجوديون: فلاسفة مثل سارتر وكامو يرون أن الأخلاق هي جوهر الفلسفة لأنها تعكس حرية الإنسان في خلق القيم.

الفلاسفة الأخلاقيون المعاصرون: مثل ليفيناس وحنة ارندت وبول ريكور جون راولز وغادامير وهابرماس، الذي يرى أن الفلسفة يجب أن تُعنى بتحقيق العدالة الاجتماعية، مما يجعل الأخلاق في صدارة الفكر الفلسفي.

2. الآراء المعارضة

الوضعية المنطقية: يرى أتباع هذا التيار، مثل ألفرد آير، أن الأخلاق ليست علماً موضوعياً، بل مجرد تعبير عن المشاعر، مما يقلل من أهميتها مقارنة بالمنطق أو الميتافيزيقيا.

الفلاسفة الميتافيزيقيون: مثل مارتن هيدجر، الذي ركز على دراسة الوجود (Sein) كأساس للفلسفة، معتبراً الأخلاق ثانوية بالنسبة لفهم الوجود.

النفعيون: على الرغم من تركيزهم على الأخلاق، يرى بعض النفعيين، مثل جون ستيوارت ميل، أن الأخلاق يجب أن تُخضع لمعايير تجريبية، مما يجعلها فرعًا من الفلسفة بدلاً من أساسها.

الأخلاق في الفلسفة العربية والإسلامية

في السياق العربي والإسلامي، لعبت الأخلاق دورًا مركزيًا في الفكر الفلسفي. فلاسفة مثل الكندي والفارابي وابن سينا والغزالي وابن مسكويه وابن باجة وابن طفيل وابن رشد وابن عربي وابن خلدون رأوا أن الأخلاق هي الغاية الأساسية للفلسفة. على سبيل المثال، في كتابه "تهذيب الأخلاق"، ركز ابن مسكويه على الأخلاق كوسيلة لتحقيق السعادة والكمال الإنساني. كما أن الفلسفة الإسلامية ربطت الأخلاق بالدين، معتبرة إياها تعبيرًا عن الشريعة والعقل معًا.

من هذا المنظور، يمكن القول إن القولة تجد صدى في الفكر العربي والإسلامي، حيث تُعتبر الأخلاق ليست مجرد فرع، بل هي جوهر الفلسفة الذي يربط بين العقل والروح والمجتمع.

التحديات والانتقادات

على الرغم من القوة الفكرية للقولة، فإنها تواجه تحديات عديدة:

النسبية الأخلاقية: يرى البعض أن الأخلاق نسبية وتختلف باختلاف الثقافات، مما يجعل من الصعب اعتبارها أساسًا عالميًا للفلسفة.

الطابع النظري للفلسفة: يرى بعض الفلاسفة أن الفلسفة يجب أن تظل مجالاً نظريًا يهتم بالحقيقة المجردة، بينما الأخلاق تُعنى بالتطبيق العملي.

التعددية الفلسفية: في ظل تنوع الفروع الفلسفية، قد يكون من الصعب إعطاء الأولوية للأخلاق على حساب فروع أخرى مثل المنطق أو نظرية المعرفة.

الخاتمة

القولة "الأخلاق ليست فرعًا من الفلسفة، بل هي الفلسفة الأولى" تُعدّ دعوة لإعادة التفكير في طبيعة الفلسفة وأهدافها. من خلال تحليل السياقات التاريخية والفلسفية، يتضح أن الأخلاق تحتل مكانة مركزية في الفكر الفلسفي، سواء في التقاليد اليونانية، أو الفلسفة الحديثة، أو الفكر العربي والإسلامي. الأخلاق، بصفتها المجال الذي يُعنى بالقيم والواجبات والحرية البشرية والمسؤولية على الأفعال، توفر الإطار الذي يمنح الفلسفة معناها العملي والإنساني. ومع ذلك، فإن القولة تظل مثيرة للجدل، حيث تواجه تحديات من تيارات فلسفية تؤكد على أهمية الفروع الأخرى. في النهاية، يمكن القول إن الأخلاق، حتى لو لم تكن "الفلسفة الأولى" بالمعنى الحرفي، فإنها تظل عنصرًا لا غنى عنه في أي تفكير فلسفي يسعى إلى تحقيق حياة إنسانية ذات معنى. هذه الدراسة تؤكد على ضرورة إعادة تقييم مكانة الأخلاق في الفلسفة، مع الأخذ في الاعتبار التحديات الثقافية والاجتماعية التي تواجهها في العصر الحديث. فكيف يمكن تطوير الأخلاق وتجديدها حتى تواكب التغيرات الجذرية في الحقبة المعاصرة؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.........................

المصادر والمراجع:

كانط، عمانويل. أسس ميتافيزيقا الأخلاق.

أرسطو. الأخلاق إلى نيقوماخوس.

ابن مسكويه. تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق.

سارتر، جان بول. الوجودية مذهب إنساني.

راولز، جون. نظرية في العدالة.

هابرماس، يورغن. نظرية الفعل التواصلي.

بقلم: نناميدو بارثولوميو

ترجمة: د. ابراهيم طلبه سلكها

***

Analysis of the Five- Fold Role of Philosophy in  National Development

Nnaemedo Bartholomew

الملخص: يثير دور الفلسفة في التنمية الوطنية سؤالًا كبيرًا في العصر المعاصر، نظرًا للتقدم الهائل المفترض للعلوم الطبيعية. وغالبًا ما تُنسب إلى الفلسفة تسميات مثل: تخصص مجرد وغامض، ومسار مشغول بالجدل، وفي مفترق طرق. ومع ذلك، يبقى السؤال: هل الفلسفة كما وُصفت أعلاه، أم أنها تسمية ناتجة عن السذاجة والتحيز؟ لذلك، يهدف هذا البحث إلى دراسة مدى أهمية الفلسفة، وبشكل خاص في التنمية الوطنية. ويعد هذا ضروريًا لتصحيح المفاهيم الخاطئة والتحيزات السابقة ومنح الفلسفة مكانتها الصحيحة في التنمية الوطنية. ويركز البحث بشكل أساسي على خمسة مجالات: الفلسفة كأساس عقلاني، وخارطة طريق، وسقف، وعدسة أخلاقية، ومحفز للتنمية الوطنية. وتعتبر هذه الدراسة هذا بمثابة الدور الخماسي للفلسفة في التنمية الوطنية، وبالتالي فإن كل هدف آخر للفلسفة في التنمية الوطنية يدور حول هذه الأدوار الخمسة.

الإطار النظري للدراسة هو الوجودية، وطريقة البحث هي التحليل الفلسفي. أما مصادر البيانات الأساسية فهي المكتبة ومواد الإنترنت. وأظهرت النتائج أن الفلسفة تلعب دورًا حاسمًا في التنمية الوطنية، فهي تشكل الأساس، وتمتد عبر الجذع، وتتحقق في ثمار التنمية الوطنية. إن التفكير في التنمية الوطنية من دون فلسفة يشبه تصور نبات بلا جذور. تشكل الفلسفة الجذر العقلاني، والدفة، والسقف، والبوصلة الأخلاقية/القيمية، والمحرك للتنمية الوطنية.

لذلك، يوصي هذا البحث بإعطاء الفلسفة مكانتها المرموقة في العالم الأكاديمي، مؤكدًا على حتميتها في كل جانب من جوانب التنمية الوطنية، والانخراط في إصلاح الفلسفة لدعم متطلبات التنمية الوطنية الناشئة.

الكلمات المفتاحية: الفلسفة، التنمية الوطنية، الأساس العقلاني، العدسة الأخلاقية، التحليل، الدور.

المقدمة

إحدى القضايا المهمة في الفلسفة هي مدى صلتها بالتنمية الوطنية. وتصبح هذه القضية أكثر أهمية عند النظر إلى دور العلوم الطبيعية في التنمية الوطنية مقارنة بالفلسفة. في المجتمع المعاصر، هناك دلائل على التقدم الكبير الذي أحرزته العلوم الطبيعية. على سبيل المثال، انتقل العالم من الأنظمة التناظرية إلى الرقمية بفضل العلوم الطبيعية. اليوم، أصبح العالم قرية صغيرة بفضل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (مكلوهان 1962 و1964). وعلى عكس أنظمة الاتصال التقليدية، يمكن الوصول إلى جمهور كبير ومتعدد في وقت واحد وبفعالية من خلال هذه التقنيات الحديثة.ويظهر تقدم مماثل في مجال العلوم الطبية، حيث أصبح بعض العلاجات الطبية التي كانت تستغرق ساعات عديدة تُنجز الآن خلال ساعات قليلة، بفضل اختراع أجهزة مثل الليزر. كما توجد وسائل حديثة للنقل والتجارة والمعاملات المالية والزراعة والكهرباء (باستخدام الأنظمة الشمسية).

ومع ذلك، يبدو أن نمو الفلسفة يسير بترتيب عكسي مقارنة بالعلوم الطبيعية. فالفلسفة تبدو متشابكة في شبكة من الحجج والردود عليها، بحيث يظهر أن نظامًا فلسفيًا يعارض أو يدحض أو يبيد نظامًا آخر. وصف أولاكا (1992) هذا الوضع بأنه فضيحة الفلسفة، بينما وصفه نناميدو (2023) بأنه فلسفة في مفترق طرق. ومن الأمور المثيرة للقلق أيضًا وصف الفلسفة بأنها علم مجرد (بوتشينسكي، 1969). ويتهم دعاة هذا الاتجاه الفلسفة بالانخراط في قضايا لا تؤثر عمليًا على حياة الإنسان. وبناءً على ذلك، دعا بعضهم إلى رفض الفلسفة، وخاصة الجانب الميتافيزيقي منها (هيوم، 1975). ومن ينتمون إلى هذا التيار هم المفكرون التحليليون مثل الفريد. جولز. آير.

بالنظر إلى السيناريو أعلاه، يتساءل المرء بشكل طبيعي: ما فائدة الفلسفة؟ وما الدور الذي تلعبه في تنمية الإنسان؟ وهل لها مكان في التنمية الوطنية؟ وبالنظر إلى نطاق هذا العمل، تركز هذه الدراسة على السؤال الأخير. لذا، يقوم هذا البحث بتحليل مدى أهمية الفلسفة في التنمية الوطنية.

أهداف الدراسة

تهدف هذه الدراسة إلى:

1- تعريف التنمية وتحديد أنواعها المختلفة،

2- توضيح معنى التنمية الوطنية،

3- شرح فلسفة التنمية الوطنية،

4- وتحديد وشرح دور الفلسفة كقاعدة عقلانية، وخارطة طريق، وسقف، وعدسة أخلاقية، ومحفز للتنمية الوطنية.

الإطار النظري

الإطار النظري لهذه الدراسة هو الوجودية. وكمدرسة فلسفية، تؤكد الوجودية على أن "الفلسفة يجب أن تركز على الفرد الملموس ومشاكله بدلاً من النظر إلى الإنسان كمفهوم مجرد، سواء على المستوى الكوني أو الفردي" (نناميدو، 2023، ص.). وبالنسبة للوجوديين، تهدف الفلسفة إلى تحسين حياة البشر من خلال المساعدة في مواجهة تحدياتهم. كما ترفض الوجودية المذهب الجوهي – وهو الرأي القائل بأن الجوهر يسبق الوجود، والذي يفترض أن للبشر جوهرًا ثابتًا.من بين المفكرين الوجوديين البارزين كان جان بول سارتر، الذي اختلف عن مفكري العصور الوسطى باعتقاده أن الوجود يسبق الجوهر. ونتيجة لذلك، رفض فكرة الله والطبيعة والجوهر الثابت. وبالمثل، يُعتبر الإنسان مؤلف مصيره ويجب أن يتحمل مسؤولية أفعاله. وفي تقدير سارتر، عدم تحمل مثل هذه المسؤولية يُعد خداعًا للذات أو سوء نية.

ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أن نسخة سارتر من الوجودية مليئة بالعيوب. أولاً، فإن مبالغته في الحرية البشرية قد تمهد الطريق للفوضوية الأخلاقية مع ما يترتب عليها من فوضى. ثانيًا، فإن اقتراحه بالحرية المطلقة غير قابل للاستدامة، لأنه يدافع عن الحتمية أكثر من الحرية، نظرًا لأن الادعاء بأن الإنسان حر تمامًا يعني ضمنيًا أنه ليس حرًا، بل محكوم عليه بالحرية. وبذلك، يكون محددًا ليكون حرًا، أي أنه محكوم عليه. على سبيل المثال، عندما يفشل شخص ما في اتخاذ قرار، فهو يختار ضمنيًا، لأن الفشل في الاختيار يعني الاختيار: اختيار عدم الاختيار.

ومع ذلك، تُطبَّق الوجودية في هذه الدراسة لأنها تؤكد على كيفية تأثير الفلسفة على الحالة الإنسانية الملموسة. وفي هذه الحالة، تساعد هذه النظرية على فهم مدى صلة الفلسفة بالتنمية الوطنية.

مفهوم التنمية

كلمة "التنمية" مأخوذة من المصطلح الفرنسي développement، والذي يعني النمو أو التقدم. والصيغة الفعلية منه هي developer، والتي تأتي من المصطلح الفرنسي القديم desveloper، المكوَّن من des- (إلغاء) وveloper (تغطية). وبالتالي، يعني desveloper "كشف، فك، كشف المعنى، تفسير" (إلكايم 2001؛ نناميدو، 2020). ومن هذا المنظور الاشتقاقي، تعني التنمية تحويل الإمكانية إلى فعل، وإظهارها، وإخراجها من الخفاء إلى الإدراك.

ومع ذلك، نظرًا لتعدد فروع التنمية، توجد أيضًا وجهات نظر متنوعة لفهم هذا المفهوم. على سبيل المثال، تصورها روستو (1960) وريغز (1963 و1964) من منظور اقتصادي. كما رأى بعض العلماء أنها تشمل مجالات أوسع، مؤكدين أن حصر التنمية في المجال الاقتصادي أو في جانب واحد من حياة الإنسان أمر غير صحيح (سين، 1988؛ إيرويغبو، 1994؛ بهاردواج، أنصاري وراجبوت، 2012؛ غوبتا، بوو، وروس- تونن، 2015؛ موساهارا، 2016؛ وأبويادا، 2018). وبدلاً من ذلك، يرون أن الفلسفة يجب أن تشمل كل مجال من مجالات حياة الإنسان: الاجتماعي والاقتصادي، والثقافي، والسياسي، والديني، والأخلاقي.

لذلك، تُعد التنمية عملية حاسمة وتقدمية ومسؤولة تتمثل في استثمار الموارد البشرية والطبيعية المتاحة في مجتمع معين بشكل يحقق رفاهه الشامل (نناميدو، 2020). أولاً، تتطلب التنمية جمع جميع الموارد البشرية المتاحة وإحالتها إلى المجال الذي يفيد البشر ويساعدهم على تحقيق الغرض المنشود. ولا تتحقق التنمية الكاملة حتى يدرك البشر أهداف القيم التي تم تنزيلها. فإعداد ميزانية ممتازة أو وجود احتياطي أجنبي ضخم لا يكفي؛ إذ إذا لم تحسن هذه الموارد مستوى معيشة الناس، فهي كقصة يرويها أحمق ولا تعني شيئًا. لذلك، يجب أن يكون للاقتصاد النامي تأثير إيجابي على حياة الناس. ثانيًا، يجب ألا يكون هذا الفائدة أحادية الجانب، بل ينبغي أن تفيد كل جانب من جوانب حياة الإنسان، مع الأخذ في الاعتبار أن الإنسان يتكون من جسد وروح مترابطين بطبيعتهما.

يتطلب هذا التوحد الوجودي أو الجوهري عملًا صحيحًا للمكونين لتحقيق صحة جيدة. عندما يعيش المجتمع في رخاء خالٍ من المكونات الأخلاقية الضرورية، تكون النتيجة دائمًا انعدام الأمن على الحياة والممتلكات. فالشخص في مثل هذا السيناريو يشبه من يعيش في غرفة مكيفة الهواء وصحية لكنه يعرق بغزارة. وبناءً عليه، ينبغي دمج النسبة الصحيحة من جميع جوانب التنمية، بحيث يساهم كل جانب بحصته المتوقعة لتحقيق التنمية المتكاملة.يستلزم ذلك وجود توازن بين التنمية الاقتصادية والجوانب الأخرى للتنمية. فالفضيلة، وفقًا لأرسطو، تكمن في الوسط. وبالتالي، ينبغي أن تقع التنمية الحقيقية بين المطالب الاجتماعية والاقتصادية والمجتمعية الأخرى، لتكون التنمية الأصيلة متوازنة وشاملة.

التنمية الوطنية وفلسفتها

من خلال ما سبق، تنظر هذه الدراسة إلى التنمية الوطنية على أنها الدمج السليم لجميع الموارد البشرية والطبيعية المتاحة لدولة ما من أجل تحقيق رؤيتها ومهمتها وأهدافها التنموية. ويكمن التركيز هنا على دمج جميع الموارد الممكنة، مع التأكيد على ضرورة تنسيق جميع الموارد المتاحة في البلاد لتحقيق الأهداف المرجوة. وبالمفهوم الضمني، يدين ذلك الاحتكار أو الاستخدام الأناني للموارد. كما أن التعريف يؤكد على الموارد الممكنة للإشارة إلى أن مصادر موارد الدولة تمتد إلى ما هو متاح خارج حدودها الإقليمية، وتشمل ما يمكن تحقيقه خارج بيئتها وفي فترة زمنية معينة.

من ناحية أخرى، فإن فلسفة التنمية الوطنية تمثل الإطار العقلاني الحاسم والتأملي والنهائي الذي ينظم التنمية الوطنية. فهي مجموعة من المبادئ التي تحكم المشاريع التنموية المتنوعة للدولة. توضح فلسفة التنمية الوطنية الأساس المنطقي للتنمية الوطنية وتجيب عن أسئلة مثل: لماذا التنمية الوطنية؟ وبدون معالجة هذه الأسئلة الجوهرية، قد يكون الانخراط في أي مشروع تنموي على المستوى الوطني غير ممكن. في أسوأ الحالات، عند المشاركة في مشروع دون معالجة التحدي الأساسي، قد ينتهي الأمر بتوجيه أجندة تنمية وطنية بلا دفة. والنتيجة واضحة: فقدان التركيز وانقلاب سفينة التنمية الوطنية في النهاية.

الدور الخماسي للفلسفة في التنمية الوطنية

"لفهم عصر أو أمة، يجب أن نفهم فلسفتها" (راسل، 1961، ص.11). وبالمفهوم الضمني، لفهم مفهوم التنمية الوطنية، يجب أن نفهم فلسفتها التي تجسد رؤيتها ومهمتها وأهدافها. فالفلسفة ضرورية في صياغتها وتنفيذها وإتمامها. وقد حددت هذه الدراسة خمسة أدوار للفلسفة في التنمية الوطنية: الأساس العقلاني، خريطة الطريق، السقف، العدسة الأخلاقية، والمحرك أو المنشط.

أول: الفلسفة كأساس عقلاني للتنمية الوطنية

لكل مجال من مجالات التنمية الوطنية فلسفته الخاصة وراءه. ويُعد هذا الأساس العقلاني هو الركيزة التي يقوم عليها صرح التنمية. وكركيزة عقلانية للتنمية الوطنية، تؤدي الفلسفة ثلاث وظائف:

1- توفير رابط بين التنمية الوطنية والبنى الفرعية الأخرى،

2- تخفيف الاحتكاك بين وكلاء المشاريع التنموية وبيئاتهم المباشرة، و

3- ضمان تدفق مستمر للموارد من البيئات المباشرة.

الفلسفة تربط التنمية الوطنية بالبنى الفرعية الأخرى كونها تشكل أساسها. ولهذا تُعد واحدة من المتطلبات الأساسية لأي مشروع تنموي وطني، إذ تحدد رؤية المشروع ومهمته وأهدافه بوضوح لا لبس فيه. تربط هذه الأهداف المشروع التنموي بالبنى الفرعية الأخرى، والتي تُعد الأساس النظري للأحداث الاجتماعية الأخرى أو فلسفات تلك الأحداث. هذه البنى الفرعية تمثل المبرر لوجود تلك الأحداث. تربط فلسفة التنمية الوطنية المشاريع التنموية بهذه البنى الفرعية الأخرى، بما يضمن التناسق الصحيح. ومن ثم، فهي واحدة من المتطلبات اللازمة لموافقة الحكومة على أي اقتراح تنموي. وحتى في المجال التعليمي، تتطلب كل تخصص فلسفة محددة جيدًا قبل الحصول على تصريح من السلطة التعليمية المناسبة. وبدون ذلك، لا يحصل أي برنامج تعليمي على الاعتماد أو الموافقة.

تعمل الفلسفة على تخفيف تأثير قوة الاحتكاك بين المشاريع التنموية الوطنية وبيئاتها المباشرة. غالبًا ما تنشأ توترات بين إدارة المشاريع التنموية الوطنية وبيئاتها المباشرة. وإذا لم تُدار هذه التوترات بشكل مناسب، فقد يؤدي الضغط الناتج إلى ركود المشاريع التنموية وحتى تعريض حياة مديري المشاريع للخطر. لتجنب ذلك، يضمن كل شريك في التنمية الوطنية أن تمنع فلسفة مشروعه التنموي حدوث مثل هذا السيناريو. يبدأون بهذه الفلسفة ويستعينون بها في أوقات الأزمات بين الإدارة وبيئتها المباشرة. ونتيجة لذلك، تساعدهم الفلسفة على حل هذه المشكلات ومنع تكرارها في المستقبل.

بالإضافة إلى ذلك، تضمن الفلسفة تدفقًا مستمرًا للموارد من البيئات المباشرة. يتطلب نجاح أي مشروع تنموي وطني وجود علاقة متبادلة بين إدارة المشروع والبيئة المحيطة به. وهذه العلاقة ليست لمرة واحدة، بل تستمر طوال مدة المشروع. تسهم البيئة بالموارد البشرية والطبيعية في أي مشروع يقع ضمنها. ومع ذلك، تضمن فلسفة المشروع التكامل السليم لهذه الموارد لتحقيق إدارة مثلى للمشروع وتحقيق أهدافه.

ثانيا: الفلسفة كخريطة طريق للتنمية الوطنية

لا تنتهي وظيفة فلسفة التنمية الوطنية عند البنية التحتية للتنمية فقط، بل تمتد لتشمل تنفيذ المشاريع وتوجيه التنمية الوطنية لتجنب الانحراف، والانكسار، والانفجار، والانكماش، والركود، والنمو الجانبي أو النمو الزائد.

توجه الفلسفة التنمية الوطنية لتجنب الانحراف من خلال تزويدها بأساس قوي لانطلاقتها. وبالإضافة إلى ذلك، توجهها أثناء تقدمها، مما يمنحها خريطة طريق أساسية لتنظيم عملياتها على البنية الفوقية (البنية الظاهرة). ومن الأدوار المهمة الأخرى التي تلعبها فلسفة التنمية الوطنية حماية المشاريع من الانكسار الناتج عن القوى الأفقية، والتي تمثل العقبات التي تعمل حول جذع المشروع. فهي لا تؤثر على سطح المشروع، بل تعمل حوله. وتشمل هذه المشاريع التي تبدو أدنى من المشاريع التنموية الوطنية لكنها تؤثر عليها سلبًا — فتعمل أفقياً، مما قد يؤدي إلى انكسار المشروع.

بالإضافة إلى ذلك، توجه الفلسفة التنمية الوطنية لتجنب الانفجار. فقد تؤدي التأثيرات الخارجية إلى دفع مديري المشاريع التنموية الوطنية لتجاوز حدودهم. ويحدث هذا عندما يحاول المديرون تجاوز فلسفة مشاريعهم التنموية الوطنية. ونتيجة لذلك، يتم إدخال فلسفة مشروع تنموي معارضة في النظام. وعندما لا يستطيع المشروع مقاومة الضغط بعد ذلك، يؤدي ذلك إلى انفجار النظام بأكمله. ومع ذلك، تحمي فلسفة التنمية الوطنية المشاريع من ذلك من خلال ضمان أن يعيش كل مشروع وفق رؤيته، ومهمته، وأهدافه.

كما تحمي الفلسفة التنمية الوطنية من الانكماش. فالمشروع التنموي ينكمش عندما ينقصه الفهم الفلسفي. ويمكن أن يفشل المشروع في تحقيق أهدافه إذا استخدم فلسفة تأسيسه بشكل قليل أو لم يستخدمها على الإطلاق. وعندما يحدث ذلك، يفقد المشروع الأوتار والسوائل الأساسية التي تشحمه وتحافظ عليه. ويمكن أن يؤدي الانكماش المستمر للمشروع في النهاية إلى وفاة المشروع.

تحمي الفلسفة التنمية الوطنية من الركود. فقد تواجه التنمية الوطنية الركود أيضًا بسبب إخفاق مدير المشروع في الالتزام بفلسفة البرنامج. عندما يفقد المشروع التنموي الوطني رؤية أساسه الفلسفي، يفقد توجيهه. وبعد فقدان التركيز، قد ينحرف خطة التنمية عن مسارها. وعندما يحدث ذلك، تكون النتيجة ركود المشروع قيد النظر. ولا يعني مصطلح الركود بالضرورة البقاء في مكان واحد، بل يشير إلى الفشل في تحقيق أهداف المشروع التنموي. وحتى عندما ينمو هيكل ظاهر، لا يمكن اعتباره تقدمًا إذا كان يتعارض مع فلسفة التنمية.

تحمي الفلسفة أيضًا مشاريع التنمية الوطنية من النمو الزائد غير الضروري. فقد يؤدي الانحراف عن فلسفة المشروع التنموي إلى ظهور نمو زائد غير ضروري حول المشروع. وتهدف فلسفة التنمية الوطنية إلى توجيه شؤون التنمية، فهي تسير بالمشروع نحو هدفه النهائي، مع ضمان أن يقع كل جانب في مكانه الصحيح. كما تمنع العقبات في أي من موارد التنمية وتضمن تحركها السريع نحو نهاياتها المقصودة. من المهم الإشارة إلى أن الفشل في الالتزام بفلسفة التنمية الوطنية هو سبب معظم مشاكل التنمية في نيجيريا اليوم. فالطرق غير المكتملة أو الرديئة البناء، والمرافق الصحية والتعليمية السيئة، والخريجون غير المؤهلين بالكامل، كلها مؤشرات على النمو الزائد غير الضروري في التنمية الوطنية. ويمكن تتبع كل ذلك إلى الفشل في الاستفادة من فلسفة التنمية الوطنية في المجالات المعنية.

ثالثا: الفلسفة كالسقف الأعلى للتنمية الوطنية

كما ذُكر سابقًا، تخدم الفلسفة التنمية الوطنية عند المستوى التحتاني (البنية التحتية) والعليا (البنية الفوقية). كما توفر فلسفة التنمية الوطنية سقفًا أو غطاءً أعلى يحمي المشاريع التنموية من السياسات والممارسات الرائجة التي قد تعرقل تحقيق أهدافها. وتشكل هذه الظواهر مثل الشمس الحارقة، والعواصف الرعدية، والثلوج على المشاريع، أي أنها تعمل كقوة جاذبية تؤثر على برامج التنمية الوطنية. فهي تؤثر مباشرة على سقف المشاريع التنموية لتحقيق أهداف مثل التقزيم، وتشويه الشكل، والانحلال، والسحق، والتآكل، أو غمر المشاريع.

تأتي فلسفة المشروع دائمًا لمساعدة المشروع التنموي في مثل هذه الأوقات. فهي تساعد على اعتراض الدفع للأسفل الناتج عن قوة الجاذبية على البنية الفوقية وتضمن تفريغها بطريقة صحيحة عند القاعدة. وفي هذا السياق، تعمل فلسفة التنمية الوطنية كموصلات للأزمات على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والدينية والثقافية على التوالي.

فلسفة التنمية الوطنية توفر حماية ضد الظواهر السابقة من خلال منحها سقفًا محكمًا لا يمكن اختراقه. طالما أن هذا السقف الفلسفي سليم، فلا خوف على نجاح أي مشروع تنموي وطني. وبمعنى آخر، فإنها توفر للمشروع التنموي كل الغطاء اللازم لضمان تحقيقه الكامل.

رابعا: فلسفة التنمية الوطنية توفر عدسة أخلاقية

يجب أن يتمتع كل برنامج تنموي وطني بأساس أخلاقي راسخ. ينبغي أن يكون هدفه تحقيق السعادة القصوى للبشر. وهذا يعني أن كل منتج من منتجات التنمية الوطنية يجب أن يضع الإنسان في الاعتبار، مهما كانت درجة تطوره أو تعقيده. لا يُعد أي مشروع تنموي ذا قيمة إذا فشل في هذا الجانب. قبل الشروع في أي مشروع، يكون الاعتبار الأول هو مدى صلته بالإنسان. ومن المثير للاهتمام أن الأخلاق، كأحد فروع الفلسفة، تتناول هذه المسألة.

كجانب من الفلسفة العملية، تتعلق الأخلاق بالأفعال البشرية وليس بأفعال الإنسان الميكانيكية أو التلقائية. فهي تختص بالأفعال التي يمكن تحميل البشر مسؤوليتها، أي الأفعال التي يقوم بها الإنسان طوعًا وبوعي كامل. يختلف الفعل البشري عن فعل الإنسان الميكانيكي، الذي لا ينطوي على إرادة مسبقة، فهو غير طوعي وانعكاسي، ولا ينبغي تحميل أحد المسؤولية عنه.

وبالتالي، من خلال فرعها الأخلاقي، تحدد الفلسفة منذ البداية الموقف الأساسي المطلوب في أي منظمة وأي برنامج تنموي وطني. هذا الموقف ينظم شبكة العلاقات داخل المنظمة وبيئتها المباشرة. ويعني ذلك أن الأخلاق تمثل روح كل عملية تنموية وطنية. بدون هذا العنصر الأساسي، تفقد التنمية الوطنية اتجاهها من نقطة البداية (terminus a quo) إلى نقطة الوصول (terminus ad quem).

تواجه المجتمعات المعاصرة العديد من التحديات الأمنية مثل الرعاة المتجولين، العصابات، خطف الأطفال والكبار، الجرائم الإلكترونية، تهديدات المسلحين غير المعروفين، وتعاطي المخدرات، وغيرها. كل هذه المشكلات تنشأ من مجتمع يركز على التنمية دون مراعاة الخير المتكامل للإنسان. وتتميز مثل هذه المجتمعات بتحويل الإنسان إلى مجرد أداة أو شيء، وليس غاية في ذاته، كما أشار كانط (1785).

خامسا: الفلسفة كمحفز للتنمية الوطنية

المحفز هو مادة تسرّع معدل التفاعل الكيميائي أو الفيزيائي دون أن تتغير بعد انتهاء التفاعل. تلعب فلسفة التنمية الوطنية دورًا مشابهًا في التنمية الوطنية. فهي تسرّع وتيرة التنمية الوطنية لكنها تظل غير متأثرة بنتائج هذه التنمية. ويتجلى ذلك في مختلف النظريات الفلسفية التي أحدثت تغييرات متعددة في العالم.

على سبيل المثال، أشار أوموريغبي (2011) إلى عدد من هذه النظريات: الثورة الأخلاقية لسقراط، تأكيد أفلاطون والرواقيين على الزهد، أفكار جون لوك، جورج فيلهلم فريدريش هيغل، كارل ماركس، شارل- لويس دو سكندات، بارون دي لا بريد مونتسكيو، وجان جاك روسو. على سبيل المثال، أحدثت فلسفة سقراط ثورة أخلاقية بين شباب عصره، حيث اتهموه بإفساد الشباب، وأجبرت السلطات الدولة على إجباره على شرب نبات الهيملوك الذي أدى إلى وفاته.

كما أن تأكيد أفلاطون والرواقيين على الزهد دفع كثيرين إلى التخلي عن السعي وراء المكاسب المادية خلال العصر الهلنستي. ومن الواضح أيضًا أن فلسفة جون لوك، وجورج فيلهلم فريدريش هيغل، وكارل ماركس ساهمت في تشكيل المجتمع الغربي. وينطبق الأمر نفسه على فكر مونتسكيو وجان جاك روسو، حيث كان لعقد روسو الاجتماعي تأثير كبير على الثورة الفرنسية.

في كل الحالات السابقة، كانت الفلسفة مجرد محفز للتنمية الوطنية. فهي لم تفعل سوى إثارة اللاعبين في مجال التنمية الوطنية لرؤية ما وراء وضعهم الحالي نحو المستقبل الذي تقترحه المدرسة الفلسفية المعنية. وفي الوقت نفسه، تُحفّز أفكارهم اليوم الآخرين على العمل وقد تؤثر فيهم بشكل أفضل، مما يدل على أن الفلسفة يمكن أن تحفّز التنمية الوطنية.

وبالتالي، يلاحظ بوتشينسكي (1969): "يجعل الناس الفيلسوف مادة للسخرية كشخص غارق بلا أذى في أفكاره… رغم أنه في الواقع قوة مهيبة، وأفكاره لها أثر المتفجرات… على الرغم من أهميتها الظاهرية، فإن الفلسفة قوة فعالة في التاريخ" (ص. 8). وهذا يعني أن الأفكار الفلسفية تحمل نتائج عملية في حياة الناس وقد تكون إيجابية أو سلبية.

يمثل تأثير محاضرة هيجيسيا في الإسكندرية بمصر مثالًا نموذجيًا على التأثير الضار المحتمل للأفكار الفلسفية. فقد كانت محاضرته بحيث انتحر العديد من الحاضرين لها، واضطرت السلطات الحكومية في ذلك الوقت لإيقافها فجأة (أرمسترونغ، 1965؛ كوبليستون، 1962؛ أوموريغبي، 2011).

وهكذا، فإن الأدوات الأيديولوجية الفلسفية هي أدوات ديناميكية قوية جدًا، غالبًا ما تتجاوز تأثيراتها توقعات مخترعيها. فهي تبدو خفية لكنها عظيمة في عملياتها. وككل أيديولوجيا، فهي خالدة. حتى عندما تبدو قديمة أو ميتة، يمكن للمرء أن يفسر بشكل نقدي تأثيراتها التي لا جدال فيها في الفكر المعاصر.

بالطبع، يمكن ملاحظة أن بعض الأيديولوجيات المعاصرة هي أفكار قديمة أعيد ابتكارها أو تفعيلها من جديد، وهي بمثابة نهضة وإعادة ترميز للفكر الكلاسيكي، وربما تأكيد على قول الجامعة (الكتاب المقدس): "ليس هناك شيء جديد تحت الشمس" (جامعة 1:9). ومع ذلك، من الخطأ تفسير هذا القول على أنه يعني أن الإنسانية خالية من الإبداع والابتكار. بل يجب اعتباره من منظور عدم قدرة البشر على الخلق من العدم. فكل ما هو موجود هو ناتج عن شيء موجود مسبقًا. ومع ذلك، من الموجود مسبقًا، يمكن للمرء أن يخلق شيئًا جديدًا.

التوصية

نظرًا للدور الحاسم الذي تلعبه الفلسفة في التنمية الوطنية، يوصي هذا البحث بأن تقوم الحكومة بما يلي:

1- إدخال تعليم الفلسفة في المدارس الابتدائية والثانوية، مما سيساعد على غرس التفكير النقدي مبكرًا في تنمية تعليم الأطفال. الأطفال الذين يُدرّسون الفلسفة في وقت مبكر سيصبحون على الأرجح مفكرين كبارًا، نظرًا لأن العقل البشري، كما أشار جون لوك، هو لوح فارغ (Tabula Rasa) عند الولادة. وستتوافق هذه الممارسة مع مبدأ "تربيتهم منذ الصغر".

2- تشكيل مجلس وطني لتطوير الفلسفة، يضم بشكل رئيسي كبار الفلاسفة، للإشراف على تطوير الفلسفة على المستوى الوطني والمؤسسي، وللعمل كمركز فكري على مختلف المستويات الحكومية: المحلية، والولائية، والفدرالية. كما سيكون هذا المجلس حيويًا في صياغة السياسات الوطنية، وإعادة صياغتها، وتطويرها، وتنفيذها، وتقييمها.

3- جعل الفلسفة مادة دراسية لمدة فصلين دراسيين في مؤسسات التعليم العالي. من التجربة، تدريس الفلسفة لفصل دراسي واحد لا يسمح للطلاب بدراسة المادة بعمق. لذلك، من الضروري تمديدها إلى سنة أكاديمية واحدة على الأقل لضمان فهم أفضل للمادة، نظرًا لأن الفلسفة ليست مجرد تخصص أكاديمي بل رفيق حياة لا مفر منه.

4- إدراج كتابات كلاسيكية مثل محاورات أفلاطون كأحد الكتب الإلزامية في المرحلة الثانوية. من الضروري تعريف الأطفال بأساسيات التفكير النقدي في وقت مبكر جدًا من حياتهم. هذا سيعرضهم لعملية تفكير المفكرين الأوائل ويساعد على إعادة تشكيل طريقة تفكيرهم.

5- التأكد من أن الفلاسفة هم من يقومون بتدريس دورات الأخلاق في جميع الأقسام الأكاديمية. هذا يساعد على تعريض الطالب لجوانب الفلسفة الدقيقة ويجهزه للقيادة المستقبلية، نظرًا لأنه لا يمكن لأحد أن يمنح ما لا يمتلكه (nemo dat quod non habet).

الخاتمة

تلعب الفلسفة دورًا خماسيًا في التنمية الوطنية: الأساس العقلاني، خارطة الطريق، السقف العلوي، العدسة الأخلاقية، والمنبه. باعتبارها أساسًا عقلانيًا للتنمية الوطنية، تقوم الفلسفة بربط المشاريع التنموية وتخفيف قوة الاحتكاك بينها وبين الهياكل الفرعية الأخرى. كما تضمن توفير الموارد بشكل مستمر من البيئة المباشرة للمشاريع. الفلسفة أيضًا تعمل كخارطة طريق للتنمية الوطنية، إذ تحميها من الانحراف، والانكسار، والانفجار، والانكماش، والركود، والنمو الجانبي المفرط أو الزائد. وباعتبارها سقفًا علويًا للتنمية الوطنية، تحمي الفلسفة المشاريع من حرارة الشمس المحرقة، والأمطار، والعواصف الرعدية، والثلوج. كما تعمل الفلسفة كضمير لكل مشروع تنموي، مقدمة بذلك عدسة أخلاقية لتنمية مسؤولة وموجهة للإنسان. وأخيرًا، تحفز الفلسفة التنمية الوطنية، مسرّعةً صعودها نحو نهايتها المقصودة (terminus ad quem).

***

.......................

المراجع

1- أبويادا، ر. 2018. «فشلت نظريات التنمية التقليدية في تلبية احتياجات غالبية الناس على مستوى القاعدة الشعبية مع الإشارة إلى GAD». المجلة الدولية للأعمال والعلوم الاجتماعية 9 (9): 115–119.

2- أرمسترونغ، أ. هـ. 1965. مقدمة في الفلسفة القديمة. لندن: ميثوين وشركاه المحدودة.

3- بهاردواج، ر.، س. أنصاري، و ي. س. راجبوت. 2012. «التنمية البشرية». المجلة الدولية للبحوث العلمية في الهندسة والتكنولوجيا 1 (5): 303–308.

4- بوتشينسكي، إ. م. 1969. الفلسفة الأوروبية المعاصرة. كاليفورنيا: جامعة كاليفورنيا للنشر.

5- كوبليستون، ف. 1962. تاريخ الفلسفة. لندن: دبل داي، كتب الصورة.

6- الكايم، إ.، ل. كاري، و أ. ستيفنسون، محررون. 2001. قاموس فرنسي ورقي. إدنبرة: تشامبرز هاراب للنشر المحدودة.

7- جوبتا، ج.، ن. بوو، و م. روس- توني. 2015. «نحو نظرية موسعة للتنمية الشاملة». المجلة الأوروبية لأبحاث التنمية 27: 541–559.

8- هيوم، د. 1975. تحقيق في الفهم البشري. أكسفورد: كلارندون.

9- إروغبوا، ب. 1994. إينوودمايزيشن والفلسفة الأفريقية. أويري: مطبعة الجامعة الدولية.

10- كانط، إ. 1785. «المبادئ الأساسية لميتافيزيقا الأخلاق». ترجمة توماس ك. أبوت. في ألين وود، محرر. 2011. الكتابات الأساسية لكانط. نيويورك: مكتبة مودرن.

11- ماكلوهان، م. 1962. مجرة غوتنبرغ: صناعة الإنسان الطابع، تورنتو، كندا: جامعة تورنتو للنشر.

12- ماكلوهان، م. 1964. فهم الإعلام: امتدادات الإنسان. كامبريدج: مطبعة MIT.

13- موساهارا، هـ. 2016. النمو والتنمية الشاملة: قضايا في شرق وجنوب إفريقيا. أديس أبابا: منظمة بحوث العلوم الاجتماعية في شرق وجنوب إفريقيا (OSSREA).

14- نناميدو، ب. 2020. تأثير عدم الاستقرار في إدارة الحكومات المحلية على التنمية الريفية: دراسة لمناطق حكومية أوكيغوي وأومواهيا- شمال. رسالة ماجستير، قسم الإدارة العامة، الجامعة الوطنية المفتوحة في نيجيريا.

15- نناميدو، ب. 2023. منصة المفكرين: خارطة طريق إلى الفلسفة. أوكيغوي: فازمن للنشر.

16- أوموريغبي، ج. 2011. معرفة الفلسفة. لاغوس: جويا برس المحدودة.

17- ريغز، ف. و. 1963. «البيروقراطيون والتنمية السياسية». في البيروقراطية والتنمية السياسية، تحرير جوزيف لابالومبارا، 120–167. برينستون، نيوجيرسي: جامعة برينستون للنشر.

18- ريغز، ف. و. 1964. الإدارة في الدول النامية: نظرية المجتمع المنشوري. بوسطن: هوغتون ميفلين.

19- روستو، و. و. 1960. مراحل النمو الاقتصادي: بيان غير شيوعي. كامبريدج، المملكة المتحدة: مطبعة جامعة كامبريدج.

20- راسل، ب. 1961. تاريخ الفلسفة الغربية. لندن: جورج ألين وأونوين المحدودة.

21- سين، أ. 1988. «دليل اقتصاديات التنمية». المجلد 1، 10–26. في دليل اقتصاديات التنمية، تحرير هـ. تشينيري و ت. ن. سرينيفاسان. أمستردام: الناشرون العلميون إلسيفير.

22- أولوكا، ج. 1992. محاضرات غير منشورة في تاريخ الفلسفة. معهد مقعد الحكمة، أويري.

يمكنك الاستشهاد بهذا المقال كالتالي:

نناميدو، بارثولوميو :

"تحليل الدور الخماسي للفلسفة في التنمية الوطنية "

عُرف راسل بنقده الشهير للفلاسفة الامريكيين أمثال وليم جيمس ونظرياته الثورية حول الحقيقة. طبقا لراسل، جيمس والبرجماتيون الامريكيون الآخرون عرّفوا الحقيقة وفقا لما هو مريح ومفيد مؤقتا، بينما الحقيقة هي حول المطابقة للواقع الموضوعي. لكن هجوم راسل يرتكز على كاريكاتير حسبما يرى الفيلسوف جون كاج (1). جيمس والبرجماتيون الامريكيون كان لديهم تفسيرا معقدا جدا تأسس على الاعتراف باننا لن نستطيع ابدا الوصول الى الحقيقة النهائية او نواجه الواقع كما هو. بدلا من ذلك نحن نتعامل مع الواقع من خلال التجربة والحوار المستمر مع العالم الذي يقاومنا.

ان النزاع بين وليم جيمس وبرتراند راسل حول طبيعة الحقيقة هو حدث غير مألوف في تاريخ الفلسفة، دراما تعتمد على الكاريكاتير: جيمس، البرجماتي الامريكي يختزل الحقيقة الى أي معتقد يكون مفيدا ومريحا، بينما راسل يكشف بنقده القوي والواضح سخافة هذا الموقف. يقول راسل ان الحقيقة truth يجب ان تكون شيئا اكثر مما يعمل. انها يجب ان تتطابق مع الحقائق الموضوعية facts، ولاتختلف طبقا لاهتمامات الانسان وحاجاته العرضية.

انها معارضة أنيقة، يرى كاج ان الإغواء يكمن في أناقتها. لكن كما في العديد من المعارضات الفلسفية التي تعيش بفعل التكرار، هي تفشل في القبول بأفضل موقف لتفكير الخصم السليم والواضح المدعوم بالمنطق. للتوضيح اكثر: جيمس لم يدّع ابدا ان الحقيقة مسألة راحة وملائمة او منفعة مؤقتة. جون ديوي ارتكب هذا الخطأ صدفة، لكن جيمس لم يفعل ذلك. برجماتية جيمس، في جوهرها، هي فلسفة تجربة – ليست تجربة في المعنى العابر والذاتي وانما تجربة ممتدة اجتماعيا ومختبرة عبر الأسطح غير المستوية للواقع. هي لا تختلف عن تصوّر سي اس بيرس C.S.Peirce للحقيقة كتقريب للحقائق في المدى الطويل اللامحدود، والمختبرة علميا بالملاحظة والتجربة. حالما يُفهم هذا، يبدأ نقد راسل بالتعثّر.

تفسير راسل للمسألة واضح. في (مشكلة الفلسفة)، هو يكتب: "نظرية المطابقة للحقيقة تكمن في الرؤية بان العقيدة هي صحيحة عندما تكون هناك حقيقة مطابقة وهي زائفة عندما لا توجد هناك حقيقة مطابقة".

جاذبية هذه الرؤية واضحة: انها تأمل بإبقاء الحقيقة موضوعية، لتعزلها عن هشاشة الانسان، عن تدفق الشعور والموضة. لكن هذا العزل يأتي بسعر باهض. انه يتجاهل او على الاقل يقلل من قيمة حقيقة ان البشر لايواجهون الواقع كما هو – هم يواجهونه من خلال التجربة، من خلال الحوار التدريجي مع العالم الذي يقاومهم.

الحقيقة لا تُصنع من الافضليات، انها تُكتشف في عمل الحياة

موقف جيمس الرافض ليس ان المطابقة خاطئة، وانما هي كسولة ابستيمولوجيا ما لم يتم تجسيدها بطرق يستطيع الكائن البشري التثبت منها او، تكذيبها. في البرجماتية، هو يكتب: "الحقيقة .. هي فقط ما هو ملائم من حيث الطريقة التي نتصرف بها". هو يضيف قائلا ان "الملائم" هنا يجب ان لا يلتبس مع ما يمكن الاتفاق عليه او مفيد بشكل عابر. ليست المكافأة الفورية للعقيدة هي التي تجعلها صحيحة وانما قدرتها على العمل "في المدى الطويل وفي التجربة الكلية للحياة".

هذا ما لم يدركه راسل في نقده الساخر لجيمس وهو النقد الذي ساعد في إبعاد البرجماتية عن الانظار كموقف ابستيمولوجي جاد قرابة مائة عام. معارضته للبرجماتية انطوت على قصر نظر وكولومبس معروف جيدا. "طبقا للنظرية البرجماتية"، هو يكتب في (مشاكل الفلسفة)، "اننا يجب علينا التحقق من مدى فائدة الاعتقاد ان كولومبس عبر الاطلسي عام 1492 ام في عام 1491 او في 1493، والتاريخ الذي بدى اكثر فائدة سيكون اكثر صحة".

ان التأثير البلاغي قوي لكن هنا مغالطة تخلق وهم الفوز في ادّعاء الحقيقة من خلال تفنيد موقف لم يتم تبنّيه ابدا. جيمس لم يقترح في أي مكان ان المعتقدات حول الماضي يمكن صنعها عبر الملائمة. بل هو يصر على ان العقائد يجب ان تواجه محكمة التجربة، وان "ما تنفيه التجربة" هو فقط الارضية الصلبة . ان الحقيقة لا تُصنع من التفضيل، انها تُكتشف في عمل الحياة. هذا يفسر لماذا يقول جيمس وبانسجام "اننا نعيش في عوالم من الواقع يمكن ان تكون مفيدة لنا بما لانهاية لو عرفنا كيفية التعامل معها بافكارنا بشكل صحيح". معيار الحقيقة هو مقاومتنا للواقع، معروض ليس في تأمل منفصل – من كرسي بذراعين وجاكيت تدخين مريح – وانما في الاختبار الصبور للعقيدة من خلال التجربة.

معارضة راسل الثانية للتصور البرجماتي للحقيقة، تستلزم ان يكون لدى بابا نويل بناء مشابه. اذا كانت الحقيقة هي ما يعمل، لماذا لا ندّعي ان الايمان ببابا نويل هو صحيح طالما هو مقنع للمؤمن به؟ راسل يقول شيء قوي وبذكاء مميز: "لو اعتقدت انني امبراطور الصين، والعقيدة لها آثار عرفية لإراحتي وتمكيني من اداء عملي بشكل افضل، ذلك يكفي لجعل عقيدتي صحيحة؟".

بالطبع ليس كذلك. لكن هذه المعارضة مرة اخرى تتجاهل اصرار جيمس على ان ما "يعمل" يجب ان يقوم بهذا بطريقة مستمرة واجتماعية ومرتبطة بالواقع. "التجربة" طبقا لجيمس، (يكتب في معنى الحقيقة)، هي "المحكّم النهائي للحقيقة، وان كل نظرية يجب ان تخضع لإختبارها". العقيدة التي تحمي نفسها من التحقق المجتمعي في المدى الطويل، والتي لا تستطيع الصمود امام الضغط المتصاعد للدليل او التجربة التصحيحية للاخرين، ليست صحيحة براجماتيا – انها هشة، عابرة، ومحكوم عليها بالانهيار.

لذلك، فان ابستيمولوجية جيمس ليست ترخيصا بالتفكير الرغبوي وانما التزام بضوابط التحقيق. المعتقدات تُختبر ليس فقط ضد الممارسات المشتركة لحياة الانسان. هذا يفسر لماذا يستطيع جيمس الادّعاء ان "الحقيقة تُصنع من عمليات التثبت او المصادقة " – لم تُخترع حسب الرغبة وانما تصبح مرئية وصادقة من خلال ممارسات الاختبار التجريبية والاجتماعية، والصقل، وتصحيح العقيدة.

استنتاج راسل كمنطقي يحجب هذه النقطة العميقة. هو يعرض الحقيقة كعلاقة ثابتة بين الافتراض والواقع المستقل. لكن جيمس لايهتم كثيرا بتعريف الحقيقة وهي ثابتة بل يهتم ببيان الكيفية التي يقترب نحوها الكائن البشري المحدود والعرضة للخطأ. البرجماتية لا تختزل الحقيقة الى قناعة خاصة، انها تعترف بان الحقيقة تعيش في عالم الممارسة، عرضة الى مفاوضات مستمرة بين العقيدة والواقع.

يؤكد جيمس هنا وبشكل هام جدا على اجتماعية التجربة، اختبار العقيدة ليس شأنا فرديا، انه يتم تضمينه في ممارسات العلم،والتاريخ والتفكير اليومي. العقائد التي لا تستطيع النجاة من هذا الاختبار المجتمعي تُكشف عن حقيقتها: اخطاء، طوباويات، او راحة وملائمة مؤقتة.

في هذه الطريقة، تحافظ برجماتية جيمس على الموضوعية – ليس بإنكار خصوصية او سياق التحقيق وانما بالاصرار على ان الاختبار الطويل الامد للعقيدة في التجربة هو افضل تقريب للوصول الى الواقع.

الحقيقة، في النهاية، لا تُعطى لنا، انها ليست شيئا نمتلكه مرة واحدة الى الابد

قلق راسل يُعتبر مشروعا في جانب واحد: البرجماتي يجب ان يتجنب انهيار الحقيقة الى فائدة مؤقتة او اتفاق محلي. لكن جيمس واع تماما بهذا الخطر. هو يميز بوضوح بين "الحلول الذاتية المريحة و المؤقتة" للعقيدة و العملية الأصلب والأبطأ التي يتم بواسطتها التحقق منها في تجربة الحياة الواسعة. برجماتية جيمس تتطلب الصبر والانضباط والانفتاح للتصحيح.

ان الفلسفة في أفضل حالاتها تتحدث الى ظروف الحياة الانسانية. فلسفة جيمس في التجربة بُنيت لمخلوقات تعيش ضمن زمن، وتتعلم من خلال التجربة والخطأ، وتعتمد على الآخرين لصقل عقيدتها. تصوّر راسل للحقيقة (وبطريقة يبدو فيها متعجرفا) وكأنها تطفو فوق هذه الظروف الانسانية. انها تشبه رجل مربوط جيدا فوق الارض الى بالون.

الحقيقة، بالنهاية، ليست شيئا يُعطى لنا، ولا هي شيء نمتلكه الى الابد. انها شيء نسعى اليه، شيء نختبره، شيء نتفاوض عليه مع الحقائق المقاومة في العالم. "الحيوات الحقيقية"، حسب جيمس، الذي يكتب حول نظام الإئتمان. أفكارنا وعقائدنا "تنجح"، طالما لاشيء يتحدّاها، تماما مثل اوراق البنك النقدية تنجح طالما لا تُرفض". ولكن في اللحظة التي تُستدعى فيها التجربة في ذلك الإئتمان – عندما يرفض الواقع قبول قصصنا المريحة – حينذاك سيأتي الحساب لا محالة.

كلمة أخيرة حول النقد الفلسفي غير العادل. البرجماتيون لم يكونوا ضحايا عاجزين امام هجوم راسل. هم ربما لاذعين وغير فضلاء ايضا. صديق جيمس القديم سي اس بيرس، كتب الى الفيلسوفة السيدة فكتوريا ويلبي التي اجرت العديد من المراسلات مع راسل: "بالنسبة لكتاب راسل، انا عملت فحصا قليلا له لكنه يكفي ليتبيّن لي انه مهما كانت المزايا التي يمتلكها فهو ملخّص لما فعله الآخرون، انه متظاهر ومتعصب، نسب لمؤلفه فضلا لايمكن ان يُنسب له".

الفلاسفة يمكن ان يكونوا خبثاء جدا، لكن عندما تتعرض الحقيقة للهجوم (كما هي اليوم)، ربما يكون هذا هو الحل الافضل للاشخاص العقلانيين بيننا (والذين من بينهم جيمس و بيرس و وراسل) ان لا يراوغوا كثيرا حول التفاصيل، ويلاحظوا ان هناك امورا كارثية كثيرة عندما يتعلق الامر بوضع الحقيقة.

***

حاتم حميد محسن

....................

Russell Vs American philosophers and the attack on truth, iai.tv, 12 May 2025

(1) جون كاج John Kaag بروفيسور الفلسفة في جامعة Massachusetts Lowell ونائب رئيس جمعية وليم جيمس. 

بين غاستون باشلار وبول ريكور

مقاربة لغوية فلسفية

مقدمة: الخيال الشعري والذاكرة السردية هما مفهومان أساسيان يتخللان أعمال غاستون باشلار وبول ريكور، وهما شخصيتان بارزتان في الفلسفة الفرنسية في القرن العشرين. يقترح باشلار، في استكشافه للصور الشعرية والعناصر المادية، ظاهراتية للخيال تُركّز على الإبداع والقطيعة مع الواقع. أما ريكور، فقد طوّر تأويلات للذاكرة السردية، حيث يصبح السرد أداةً لبناء التجربة الإنسانية وإضفاء معنى على الزمن. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل أوجه التقارب والاختلاف بين هذين المفكرين، واستكشاف كيفية تفاعل الخيال الشعري لباشلار مع الذاكرة السردية لريكور من منظور فلسفي. سنبحث كيف يُتيح لنا هذان المفهومان التفكير في الذاتية، والعلاقة بالزمن، وبناء المعنى، مع التساؤل عن آثارهما على فهم أعمق للتجربة الإنسانية. كيف يعرف غاستون باشلار الخيال الشعري؟ وماهي دلالة الذاكرة السردية عند بول ريكور؟ وهل يمكن اجراء مقارنة فلسفية بينهما؟ وبأي معنى يتحدث باشلار عن الذاكرة ويوظف ريكور الخيال؟

أولاً الخيال الشعري عند غاستون باشلار

فينومينولوجيا الخيال

في أعمال مثل "الماء والأحلام" (1942)، و"الهواء والأحلام" (1943)، و"شعرية المكان" (1957)، طوّر غاستون باشلار نهجًا أصيلًا للخيال، ميّزه عن الإدراك أو الفكر العقلاني. يرى باشلار أن الخيال الشعري ليس مجرد زينة أو هروب، بل هو قدرة ديناميكية تُشرك الإنسان في علاقة عميقة مع العالم. ويرى أن الخيال الشعري متجذر في الصور المادية (الماء، النار، الهواء، الأرض) وفي النماذج الأولية التي تُشكّل اللاوعي الجمعي. يقترح باشلار "ظاهرية الصورة الشعرية"، استنادًا إلى فكرة أن الصورة ليست انعكاسًا سلبيًا للواقع، بل هي إبداع فاعل يتجاوز المعطى. وفي "شعرية المكان"، يكتب: "الصورة الشعرية لا تخضع للديناميكية. إنها ظاهرة أصيلة". تشير هذه الفكرة إلى أن الخيال الشعري قوة مستقلة، قادرة على إنتاج المعنى دون الخضوع للمنطق السببي أو التاريخي.

الخيال والقطيعة مع الزمن

يرى باشلار أن الخيال الشعري يُشغّل شكلاً من أشكال تعليق الزمن. فبتحرره من قيود الواقع الموضوعي، يُتيح للفرد الاستقرار في "لحظة شعرية"، لحظة حضور خالص حيث يُعيد الذات الاتصال بحميمية وجودها. تتناقض هذه الزمانية اللحظية مع المفهوم الخطي للزمن، وتُبرز قدرة الخيال على تجاوز الذاكرة التاريخية أو الواقعية للوصول إلى ذاكرة أعمق، ذاكرة الصور البدائية.

ثانيا- الذاكرة السردية عند بول ريكور

السرد كبنية للمعنى

في أعمال مثل "الزمن والسرد" (1983-1985) و"الذاكرة والتاريخ والنسيان" (2000)، يضع بول ريكور السرد في صميم تأملاته حول الذاكرة والهوية. يرى ريكور أن الذاكرة السردية هي العملية التي يُضفي بها الفرد والمجتمع معنىً على تجربتهما من خلال الحبكة ("المحاكاة"). من خلال هيكلة الزمن، يربط السرد الماضي والحاضر والمستقبل في ترابط ذي معنى. يكتب ريكور: "يصبح الزمن إنسانيًا بقدر ما يُعبّر عنه سرديًا". ذاكرة السرد ليست مجرد استرجاع للحقائق، بل هي إعادة بناء فعّالة تُشرك الخيال. يُميّز ريكور بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية، مُؤكدًا على أن السرد يلعب دورًا محوريًا في بناء الهوية الشخصية والاجتماعية. يُبرز هذا النهج التأويلي قدرة السرد على التوسط في التجربة الإنسانية، ونسج الروابط بين الأحداث المتباينة.

جدلية الخيال والذاكرة:

يرى ريكور أن الخيال يلعب دورًا رئيسيًا في ذاكرة السرد. ينطوي فعل السرد على "خيال مُنتج"، لا يُعيد إنتاج الماضي فحسب، بل يُعيد تشكيله أيضًا بإعطائه شكلًا جديدًا. هذا البعد الإبداعي للخيال السردي يشبه ما يسميه ريكور "توليف التباين": إذ يوحد السرد عناصر متفرقة (أحداث، نوايا، ظروف) لإنتاج معنى متماسك. وهكذا، فإن الذاكرة السردية ليست ساكنة، بل ديناميكية، وتعتمد على عمل خيالي يتجاوز الواقع المجرد.

ثالثا- التقارب والتباين

التقارب: الخيال كقوة إبداعية

يتشارك باشلار وريكور في رؤية للخيال كملكة إبداعية أساسية لفهم التجربة الإنسانية. فبالنسبة لباشلار، يسمح لنا الخيال الشعري بتجاوز الواقع للوصول إلى حقيقة وجودية، راسخة في الصور المادية والنماذج الأصلية. أما بالنسبة لريكور، فإن الخيال السردي يُهيكل الزمان والهوية، محولاً شظايا التجربة إلى قصة متماسكة. وفي كلتا الحالتين، يُعد الخيال وسيطاً بين الذات والعالم، ووسيلة لإضفاء شكل على ما لا شكل له. كما يُشدد كلا المفكرين على البعد غير النفعي لمفاهيمهما. فخيال باشلار الشعري ليس له غرض عملي؛ إنه تجربة حرية وتأمل. وبالمثل، فإن ذاكرة ريكور السردية، على الرغم من أنها تُستخدم لبناء الهوية، تتجاوز وظيفتها النفعية البسيطة بالانفتاح على بُعد أخلاقي ووجودي، حيث تُدرك الذات نفسها في تاريخها.

التباينات: اللحظة الشعرية مقابل الزمن السردي

على الرغم من هذه التقاربات، تتباين مقاربات باشلار وريكور في عدة نقاط. يُفضّل باشلار اللحظة الشعرية، وهي زمنية متقطعة تقطع مع خطية الزمن التاريخي. أما الخيال الشعري، فهو بالنسبة له هروب من الزمن، وانغماس في أبدية الصور. أما ريكور، فهو جزء من زمنية متصلة، حيث يُعبّر السرد عن الماضي والحاضر والمستقبل. تتجذر الذاكرة السردية في التاريخ واستمرارية الهوية، بينما يسعى الخيال الشعري عند باشلار إلى التحرر من هذا القيد.

يكمن فرق آخر في علاقتهما بالواقع. يرى باشلار أن الخيال الشعري قطيعة مع الواقع الموضوعي، ووسيلة للوصول إلى واقع أعمق، واقع الصور البدائية. أما ريكور، فيرى أن الخيال السردي ينطلق من الواقع، ويعيد تشكيله من خلال السرد. في حين يحتفل باشلار باستقلالية الصورة الشعرية، يصر ريكور على الترابط المتبادل بين الذاكرة والسرد والواقع التاريخي.

رابعًا: الاستتباعات الفلسفية

الذاتية والمعنى

تكشف دراسة مفهومي الخيال الشعري والذاكرة السردية عن توترٍ ثريّ بين الحرية والبنية في بناء الذاتية. فبالنسبة لباشلار، يُعدّ الخيال الشعري تجربةً لحريةٍ جذرية، حيث يحرر الذات نفسها من الحتميات ليعيد الاتصال بجوهرها. أما بالنسبة لريكور، فتفرض الذاكرة السردية بنيةً، أي حبكةً تسمح للذات بإدراك ذاتها كوحدةٍ في الزمن.

هذان المنهجان، على الرغم من اختلافهما، يلتقيان في رغبتهما في التفكير في الذاتية كعمليةٍ إبداعية، يلعب فيها الخيال دورًا محوريًا.

الأخلاق والمسؤولية

يُقدّم ريكور بُعدًا أخلاقيًا غائبًا لدى باشلار. ففي كتابه "الذاكرة والتاريخ والنسيان"، يستكشف قضايا الذاكرة الجماعية، ولا سيما مسؤولية التذكر وخطر التلاعب بالنسيان. فالخيال السردي، من خلال هيكلة الذاكرة، يُشرك الذات في علاقةٍ أخلاقيةٍ مع الآخرين ومع التاريخ. من ناحية أخرى، يتبنى باشلار منظورًا أكثر فردية وتأملية، حيث يُعدّ الخيال الشعري تجربة حميمة، منفصلة عن القضايا الجماعية.

نحو تأليفية؟

يمكن أن تتمثل الإضافة بين المفكرين في تصور الخيال الشعري كلحظة قطيعة ضرورية للذاكرة السردية. ويمكن اعتبار اللحظة الشعرية عند باشلار شرطًا أساسيًا لتخطيط ريكور: فقبل بناء تجربته في سرد، يحتاج الذات إلى إعادة الاتصال بحميمية وجودها من خلال الخيال. في المقابل، يمكن للذاكرة السردية عند ريكور أن تُقدّم إطارًا لترسيخ صور باشلار الشعرية في زمان وتاريخ مشتركين.

خاتمة

يُقدّم الخيال الشعري لغاستون باشلار والذاكرة السردية لبول ريكور منهجين متكاملين للتفكير في كيفية إعطاء الذات الإنسانية معنىً لتجربتها. يحتفي باشلار، من خلال فينومينولوجيته للصورة، بالحرية الإبداعية للخيال، الذي يتجاوز الواقع ويُعلّق الزمن. أما ريكور، من خلال تأويلاته السردية، فيُظهر كيف يُشكّل الخيال السردي الزمن والهوية، رابطًا الذات بتاريخها وتاريخ الآخرين. يُثري هذان المنظوران معًا فهمنا للذاتية من خلال تسليط الضوء على الدور المركزي للخيال في بناء المعنى. يدعونا التأمل المُتبادل في هذه المفاهيم إلى إعادة التفكير في العلاقة بين الشعر والتاريخ، وبين الآنية والاستمرارية، وبين الحرية والمسؤولية. فهل يمكن تجديل العلاقة بين الذاكرة والخيال في سياق الشعرية والسردية؟

***

د. زهير الخويلدي - كتاب فلسفي

...........................

المصادر والمراجع:

Bachelard, Gaston. La Poétique de l’espace. Paris : PUF, 1957.

Bachelard, Gaston. L’Eau et les Rêves : Essai sur l’imagination de la matière. Paris : José Corti,

Bachelard, Gaston. L’Eau et les Rêves : Essai sur l’imagination de la matière. Paris : José Corti, 1942.

Bachelard, Gaston. L’Air et les Songes : Essai sur l’imagination du mouvement. Paris : José Corti, 1943.

Ricœur, Paul. Temps et Récit. 3 tomes. Paris : Seuil, 1983-1985.

Ricœur, Paul. La Mémoire, l’Histoire, l’Oubli. Paris : Seuil, 2000.

Dosse, François. Paul Ricœur : Les sens d’une vie. Paris : La Découverte, 1997.

Kaplan, David M. Ricœur’s Critical Theory. Albany : SUNY Press, 2003.

دعا توماس هوبز الى ضرورة ايجاد سلطة مطلقة للحفاظ على النظام العام، بينما وقف لوك مع الحكومة المحدودة لحماية حقوق الافراد والحريات. كان لهوبز ولوك تصورات مختلفة عن الطبيعة البشرية والمجتمع. هما سألا: كيف ستكون الحياة بدون حكومة؟ بالنسبة لهوبز، الجواب هو الفوضى والخوف والصراع. اما لوك، فان الحياة بدون حكومة هو سؤال حول الحرية والمساواة في الحقوق الطبيعية. أفكارهما حول "حالة الطبيعة" تحدد الطريقة التي ينظران بها للسلطة والحرية، والكيفية التي تُصنع بها الحكومات. ان فهم الاختلاف بينهما هو وسيلة لرؤية الجذور التي وصلنا منها الى أنظمتنا السياسية الحالية. لنحلل الان هذا بالتفصيل.

مفهوم هوبز لحالة الطبيعة: الحياة سيئة ووحشية وقصيرة

اعتقد توماس هوبز ان الناس سيئين بطبعهم عندما لاتوجد هناك حكومة. هو تصوّر كيف ستكون الحياة بدون قوانين وقواعد واجبة الإتّباع من كل شخص – هذه تسمى "حالة الطبيعة" state of nature. في هذه الحالة، يرى هوبز ان الافراد سيعيشون في خوف دائم بسبب عدم وجود من يحميهم من بعضهم. الموارد مثل الطعام والماء وأماكن العيش ستكون محدودة، ولهذا ستكون الحياة صراعا مستمرا للوجود. النتيجة هي ان الناس ينتهون بحياة "انفرادية، فقيرة، سيئة، وحشية، قصيرة".

لنتخيل لو كنا جميعا نحن الشرطة لأنفسنا، نراقب باستمرار ظهورنا. اذا لم يوجد هناك نظام للحفاظ على الشرعية (حفاظ على السلم)، ولا يوجد رجل شرطة، سوف نصبح قلقين من كل شخص آخر. عندما يزرع شخص ما طعاما، سيكون حتما هناك آخرون يسرقونه – على سبيل المثال، اثناء اوقات الانهيار الاجتماعي، بعد الزلازل، حيث يصارع الناس على أشياء بسيطة مثل قناني ماء. هوبز اعتقد هذه هي الطريقة التي يتصرف بها الناس عندما لا تكون هناك قوانين. اساسا، العنف سيصبح طريقة حياة عادية لكل شخص .

وبسبب هذه الرؤية الكئيبة، جادل هوبز ان الطريقة الوحيدة للهروب من هذا الموقف الموحش والسيء هو ان يتنازل كل شخص عن حقوقه لحاكم قوي منفرد "ليفيثان" يضمن ان يتصرف جميع الناس بشكل جيد. وطبقا لهوبز، يحتاج البشر الى قائد قوي يستطيع فرض القواعد ويوفر الآمان ويمنع المجتمع من العودة الى بداياته الوحشية.

مفهوم لوك لحالة الطبيعة: حقوق طبيعية وحرية

جون لوك تمسك بمنظور أكثر ايجابية من توماس هوبز حول حالة الطبيعة. اذا كان هوبز اعتقد ان الحياة بدون حكومة ستكون "منعزلة، فقيرة، قاسية، وحشية وقصيرة"، فان لوك رأى انها يمكن ان تكون سلمية – طالما تُحترم فيها حقوق الافراد.

طبقا للوك، غياب الحكومة لا يعني الفوضى . بل هي تعني عدم وجود حكام او حكومات. في هذا الموقف، كل شخص هو مستقل ومتساوي. لوك على يقين ان الناس يستطيعون العيش مع بعضهم بسلام بدون أي سلطات طالما يتفقون مع بعضهم على التعامل المتبادل بإنصاف وحماية حرية كل واحد منهم. لكي نفهم هذه الحجة بشكل أفضل، لنتخيل عدد قليل من الناس يعملون بشكل تعاوني: كل واحد يساهم بالمهارة او الموارد للمصلحة العامة. هذا التعاون يرتكز على احترام حقوق الآخر. قال لوك، ان الافراد يمكنهم استعمال العقل لحكم أنفسهم. هم لا يحتاجون لحاكم مطلق للحفاظ على السلم. وبالرغم من السلمية العامة في هذا الظرف الطبيعي، يبقى الصراع ممكنا طبقا للوك. لذا، يتفق الافراد على انشاء حكومة. لكن قوتها يجب ان تكون محددة بشكل صارم، وينبغي لهذه الحكومة وبشكل رئيسي حماية حقوقهم وبشكل أفضل مما يمكنهم القيام به لوحدهم. جادل لوك ان مثل هذه الادارة يجب ان لا تنسى لماذا اتفق المواطنون على حكومة واحدة في المقام الاول – وهي الفكرة التي تتناغم مع العديد من الحركات السياسية اللاحقة وحتى الوقت الحاضر.

دور الخوف والثقة في طبيعة الانسان

توماس هوبز وجون لوك يختلفان في العديد من المظاهر المتعلقة بدور الخوف والثقة في طبيعة الانسان. طبقا لهوبز، الخوف يحفز الافراد. بدون وجود هيئة رسمية تفرض القوانين، سيكون الافراد دائما على الحافة، يخافون اما من الموت او التعرض للخيانة او يُصابون بالأذى من الآخرين. دعونا نتصور الموضوع على الشكل التالي: لو نظرنا الى أي مجتمع فيه كل شخص على أهبة الاستعداد للدفاع. في ظل هذه الظروف، جادل هوبز ان الخوف سيقود الناس للبحث عن الأمن من خلال وضع أنفسهم طوعا تحت سلطة حاكم قوي. هم يمكنهم فيما بعد تأسيس قواعد وتعليمات مع ضمان فرضها بحيث تحمي كل شخص من أي شخص آخر. رؤية لوك ليست تشاؤمية. هو رأى ان الناس قادرين على تأسيس علاقات جديرة بالاحترام مع بعضهم بالارتكاز على الثقة بدلا من الخوف. في حالة لوك الطبيعية، الافراد يمكنهم الاعتراف بحقوق بعضهم والتعاون فيما بينهم لمنافع متبادلة.

لنتخيّل مجموعة من المزارعين منخرطين بتهيئة التمويل اللازم لنظام ري. كل واحد سيكون مقتنعا بكونه ممثل بشكل متساوي وايضا يثق بالآخرين للقيام بهذا. لن تكون هناك حاجة الى استدعاء قوة أعلى كمنفّذ للتعاون. نظر لوك للافراد كونهم لديهم القدرة للعمل مع بعضهم من خلال العقل ومن الطبيعي جدا للناس التعاون بدلا من حالة الصراع المستمر. بالنسبة الى لوك، الثقة وليس الخوف شكّلت الأساس للجماعة وبالتالي، الحافز للحكومات.

العقد الاجتماعي: ليفياثان هوبز مقابل الحكومة المحدودة للوك

آمن توماس هوبز وجون لوك في مفهوم العقد الاجتماعي، رغم الاختلاف في رؤيتهما لهذه الفكرة. هوبز يرى ان الطريق للخروج من فوضى حالة الطبيعة هي ان يتخلى الناس عن بعض حقوقهم لحاكم ذو سلطات مطلقة –"ليفياثان" يثق بطاعة كل شخص للقواعد. بالنسبة لهوبز من الضروري تماما امتلاك شخص ما او مجموعة لسلطة مطلقة للمحافظة على النظام في المجتمع ومنعه من الانزلاق مرة اخرى لحرب الجميع ضد الجميع. الناس يتفقون على طاعة حاكم ومنحه سلطة مطلقة مقابل حماية الافراد ليس فقط من عنفهم وانما ايضا لكي يشعروا بالأمان في السرير ليلا.

نظر لوك الى العقد الاجتماعي بشكل مختلف. هو اعتقد ان الافراد لم يتخلّوا عن كل حقوقهم عندما يلتحقون بالمجتمع. بدلا من ذلك، هم وضعوا اتفاقية مع بعضهم البعض لإمتلاك حكومة تحمي حقوق كل واحد منهم (الحياة، الحرية، الملكية).

انت تستطيع تصوّر جالية اتفقت على انتخاب ممثلين لها. مهمتهم ستكون الإعتناء بمصالح واهتمامات كل الجالية. لوك قال ايضا يجب ان تكون هناك اشياء لا تعملها الحكومة، والناس يجب ان يكون لهم الحق بإنهاء الاتفاقية ان لم تلبّي هذه الشروط. خلافا لهوبز الذي لا يؤمن بقدرة البشر على العيش مجتمعين بدون سيطرة شخص ما قوي – لوك اعتقد ان الناس يمكنهم الإعتناء بأنفسهم. هذه الفكرة حفزت الديمقراطيات في كل مكان (حيث الحكومة مسؤولة عن إجراء انتخابات منتظمة).

حقوق الملكية ومفهوم الملكية

توماس هوبز وجون لوك كان لهما رأيان متضادان بشأن حقوق الملكية والملكية في حالة الطبيعة. طبقا لهوبز، في حالة عدم وجود حكومة، سيكون من المستحيل لأي شخص ان يكون آمنا بسبب عدم وجود آمان للملكية. اعتقد هوبز ان الملكية الحقيقية توجد فقط عندما تكون هناك دولة قوية تفرض القوانين التي تحمي الملكية. في حالة عدم وجود ليفاثيان يضع هذه القواعد، فان كل شيء متاح ويمكن السيطرة عليه في كل الاوقات. اما جون لوك، فقد جادل ان حقوق الملكية هي فطرية. طبقا للوك، اذا مزج الافراد عملهم مع الموارد، يمكنهم المطالبة بتلك الموارد باعتبارها لهم. فمثلا، الشخص الذي زرع الارض وأنتج طعاما، او بنى بيتا فهو له حق متأصل بتلك الملكية الخاصة. لو ان نجارا عمل منضدة من الخشب، يرى لوك ان العمل ذاته هو ضمان ملكية المنضدة، ويضيف ان الحكومة يجب ان تحمي فقط حقوق ملكية معقولة ومرتبطة بالعمل. خلافا لهوبز، هو لم يعتقد ان منع العنف او منع الإستيلاء بالقوة يشكل الهدف الوحيد او الرئيسي للحكومة الشرعية.

اذن ما هي الاختلافات الاساسية بين هوبز ولوك؟

الرجلان لديهما فكرتان متعارضتان بشأن المجتمع والطبيعة البشرية. هوبز اعتقد انه في حالة الطبيعة، ستكون هناك حرب مستمرة – وهو الموقف الذي يكون فيه كل شخص ضد الآخرين – وجود مشبع بالخوف بحيث لا أحد يستطيع فرض السيطرة الاّ الحاكم الأقوى. اما جون لوك فهو يؤمن بالضد من ذلك: هو اعتقد ان الناس كانوا متساوين واحرار في هذا الظرف الماقبل اجتماعي ولازالوا مستعدين للإعتراف بحقوق الآخر.

وعندما يأتي هوبز الى قضية ضمان الأمن، فهو جادل لأجل السلطة المطلقة، بينما أصر لوك على الموافقة كشيء أساسي لحماية الملكية والحرية واسلوب الحياة.

 اذن، ما هو النموذج الأفضل اليوم؟ هذه المفاهيم المختلفة تستمر بالتأثير وصياغة النقاشات السياسية المعاصرة. هل هناك حالات يجب فيها التضحية ببعض الحريات لكي يمكن زيادة الأمن الكلي؟ او هل يجب ترك الافراد دون المساس بحقوقهم الطبيعية؟

يرى هوبز ان سلطات مركزية قوية يجب ان تكون قادرة على الحفاظ على السلم والنظام. افكار لوك تتحدث كثيرا عن الديمقراطية وحرية الافراد والحاجة الى وسائل للرقابة والسيطرة على اولئك الذين يمسكون بالسلطة.

***

حاتم حميد محسن

"الأمل دائمًا أكبر من الواقع"

" نقول.. الخيال أوسع من الواقع"

في حياتنا اليومية المعاشة نجد التخييل "الخيال" عند الإنسان يأخذ أبعادًا عظيمة في جوانبها الإيجابية إذا ما ورد بأذهاننا صياغة الكلمة التي نتحدث بها للمستمع، أو لنعبر بها عن وجهة نظرنا، أو أمام حضور من الجالسين للاستماع عندما أكون أنا المتحدث، أو المستمع، يدخل التخييل في تكوين الجملة من كلمات وافكار وصياغة معنى للفهم، وكذلك عندما أكون أنا المتلقي، استقبل الكلمات والفكرة لاعالجها في مخيلتي كمثير قبل قبولها كأستجابة بعد أن اخترقت عالمي العقلي الداخلي لمعالجتها، أما الصورة الأخرى لهذا المفهوم عند بعض من تركوا الأثر في عقول الاجيال ومنهم من أمتهن صورة الكلمة في الشعر، أو الحديث في الرواية ونسج عمقها، والمسرحية التي تجد عند المشاهد ذلك الانفعال ليس في النص فحسب، وإنما في الأداء، هي الكلمة، هي الصورة المتخيلة لتتحول للمتلقي رسالة تحمل ما حمله خيال كبير وواسع، وهو الإبداع الذي يأخذ أحيانًا صورة الإنحراف عن السوية، وإذا افترضنا أن حالة الاضطراب هو الافراط في الخيال فنجد أنفسنا قد فقدنا معيار الحكم ما بين السوية واللاسوية " الاضطراب".. ويحق لنا أن نقول أنه إنفصال عن الواقع.

نتفق مع مؤسس التحليل النفسي " سيجموند فرويد" حينما استخدم التخييل ليدلل به على الواقع النفسي الداخلي في مقابل الواقع الخارجي.. التخييل " هو نوع من تحقيق رغبات خفية ومقموعة وهو يحمي الأنا من الحصر " القلق " الذي يتمخض عن ذلك التوتر الناتج عن عدم تفريغ الغرائز. وكما ترى " نيفين زيور" التخييل إنما هو نتاج صراع ويمثل تسوية بين هذين النوعين الشعوري – الواعي الواضح واللاشعوري – اللاواعي.

التفكير عند فرويد هو نوعًا من التخييل، ونقول أنه يخلق نتاج فكري وأدبي وفني وعقلي وبناء أسس لنظريات في مختلف التخصصات، ولا نغالي إن قلنا أنه الوصل بين نشأة اللغة وتكونها لتعطي الإنسان السمة الأساسية في شخصيته، وبذلك فإن وظيفته أيضًا هي خلق موقف يشبع الرغبة في إثبات الوجود ومؤانسة يشارك فيها الطفل مع أقرانه.

نتفق مع القول الذي يرى أن التخييل هو من يخلق فجوة مع الواقع، والنظام الرمزي هو من يأتي لسد هذه الفجوة. طالما أن النظام الرمزي يحتوي ويضم كل ما هو يتعايش مع الإنسان ويتعلمه من قيم وتقاليد وأعراف ودين وقوانين المجتمع واللغة التي بوساطتها يدخل هذا العالم وبها يثبت وجوده كإنسان، فالإنسان بما هو إنسان، بقدر ما هو يتكلم. وخير من أثبت ذلك قول " جاك لاكان" في فكرة العقدة البورمية.. ان دخول الإنسان عالم اللغة، أعطى تحقيقًا لوجوده، وهو ما عبر عنه بكلمة " المتكلموجودي" أي الوجود مرهون بالكلام.

إذن اللغة قائمة على فكرة التخييل، والتخييل هو الذي يجعل الإنسان متكلم واعي، وبنفس الآن متكلم غير واعي بما يقول، ليس بفعل المؤثرات الحضارية مثل الخمر وادمانها، أو المؤثرات الطبيعية مثل النباتات كنبتة الخشخاش كموسعات التفكير.. لا.. أبدًا، إنما بفعل حلمه وهو نائم، فهو يسترجع ما كان في يومه السابق، أو اسبوعه السابق، أو من فكرة أو رغبة حرم منها بفعل الجانب الرمزي من قيم المجتمع فلاذ بها إلى عالم خفي وهو عالم اللاوعي – اللاشعور، عاد له في صورة أخرى في الحلم، وما أعظم التخييل عندما يُكونُ الصور والأفكار ويطلق عنانها في نتاج فكري عظيم بلا رقيب، ولا رمزية هاربة في كلماتها من قيم الحياة الواقعية.

التخييل " الخيال " عند الإنسان يسعى دائمًا وراء ما لا يستطيع امتلاكه وتحقيقه في الواقع، وهو يمكننا قوله عن حلم اليقظة وهو في حالة الوعي.. وفي اليقظة. أما التخييل اللاواعي – اللاشعوري هو الطريقة التي يحاول بها بعضنا تنظيم رغباته في مواجهة نقصه، وهو ما يشكل جزءًا أساسيًا من هويته النفسية كما يقول من درس النفس بعمق، ولا ننسى إن ما نفتقر إليه هو الذي يدفعنا إلى اللجوء لعالم التخييل على المستوى الواعي، أو غير الواعي، اقصد اللاواعي – اللاشعوري.

تطرح " نيفين زيور " في كتابها القيم " التخييل " قول " سيجموند فرويد" أنه من الخطأ أن نظن أن اللاشعور يظل في حالة هدوء على حين أن كل عمل الذهن إنما يقوم به القبشور – وأن اللاشعور شيء انتهى أمر إنجازه وكأنه عضو أثري أو مخلف من مخلفات النمو.

تقول المحللة النفسية " سوز ايزاكس" أن التخييل نشط في السواء، كما هو نشط في المرض، والفرق الوحيد إنما يكون في الطريقة التي يتعامل بها الفرد مع التخييلات اللاشعورية – اللاواعية، وتلك العمليات العقلية الخاصة والتي بوساطتها تعدل التخييلات كما يمكن في درجة الإشباع المباشر، أو غير المباشر في العالم الواقعي وفي التوافق معه.

ولننتقل إلى رؤية نفسية مختلفة عما طرحناه عن موضوع التخييل وعلاقته بالتفكير وتتسائل " دافيدوف " هل يفكر الناس في شكل كلمات ؟ أو صور عقلية؟ أم يتخذ تفكيرهم أسلوبًا آخر؟ بالطبع لا يستطيع علماء النفس الملاجظة المباشرة لأفكار أي فرد، إلا أنهم يعالجون هذه المشكلة بطريقة غير مباشرة، ويبدو أن الصورة العقلية مكون مهم لأفكار كثير من الناس، حيث غالبًا ما يذكر العلماء والروائيون، والشعراء أنهم بدأوا أعمالهم من خلال صور في عقولهم.. تخييلات. لقد أكتشف الفيزيائي البرت إينشتاين النسبية بتخيله لنفسه مسافرًا جنبًا إلى جنب مع حزمة من أشعة الضوء عند سرعة 186000 ميل / ثانية. وما رآه إينشتين بعين عقله لا يقابل أي شيء يمكن تفسيره وشرحه بالأفكار النظرية الحالية، ولم تذهب الكلمات المنطوقة إلى الحد الذي ذكره إنشتين، أي دور في تفكيره.

تضيف " دافيدوف " كثيرًا ما يصف الناس أفكارهم بأنها مبتورة، غير كاملة، وإنها كلام غير مرتب على وفق قواعد اللغة. وتؤكد الملاحظات المعملية فكرة أن الناس يتحدثون بأنفسهم أثناء التفكير ونقول هناك صور متخيلة تدعو صاحبها أن يتكلم بهذاءات وهو في حالة الوعي، تأخذ صور حركة البدين، أو إيماءات تظهر على الوجه، وتقول " دافيدوف" نحن غالبًا نؤدي حركات تشبه الكلام بالشفاه أو البلعوم أثناء القراءة وهي نشاط يتطلب الكثير من التفسير، ويبدو أن تلك الحركات تساعدنا في فهم ما نقرأه، ونقول إنما هي صور متخيلة صيغت بأفكار وكلمات أعلنت عن حضورها في الوقت والزمان المناسبين، ولا نستبعد أن تكون لغة الصم عملية تضم الكثير من الاخاييل لتتحول إلى لغة الإشارة بإيصال فكرة ما أو جملة يريد صاحبها القول.

نستنتج مما تقدم بأن التخييل بشقيه الواعي – الشعوري واللاواعي – اللاشعوري ينحى منحى البنية التي كونها الفرد منذ فجر حياته – أعني طفولته الأولى للدلالة على كل من أساليب التفكير والتخييل ونتاجاته الواقعية كسلوك بعد ذلك، لأنها تنشأ من أفكاره وتخيلاته.

***

د. اسعد الامارة

لماذا يهتم الناس كثيرا بمنْ هم؟ بالطبع هم لا يستطيعون فعل الكثير حول هذا. مهما حاولنا تعديل سلوكنا وعاداتنا، وحتى لو نجحنا، نحن حتما ننتهي في كوننا نحن حتى لو ترافق ذلك مع القدرة في الشعور باننا لسنا أنفسنا، او اننا نتغير او نصبح نسخة أفضل لأنفسنا.

ديل كارنيجي Dale Carnegie، أول وأشهر خبير في المساعدة الذاتية لاحظ انه "عندما لا ننشغل بالتفكير حول مشكلة محددة، نحن ننفق 95% من وقتنا نفكر حول أنفسنا". تقديراته كانت شخصية وليست واقعية. البحوث التجريبية تقترح انه حوالي نصف وقت اليقظة والذي يساوي 8 ساعات يوميا للشخص البالغ في العالم المتطور يُخصص للتفكير بما نقوم به حقا والجزء الاكبر من الوقت المتبقي يُخصص لعدم التفكير والعيش في اللحظة.

وللتأكيد، كان أسلافنا من جامعي البذور أقل اهتماما بمنْ هم في أعماقهم او محاولة العثور على انفسهم، حيث ان المهنة كانت منسجمة جيدا مع قيمهم الاساسية وقد زودتهم بإحساس قوي بالمعنى والهدف. في النهاية، أهدافهم الحياتية الكبرى كانت محدودة بالبقاء: يأكلون ما يقع في ايديهم، ويتجنبون ان يكونوا فريسة، ينقلون جيناتهم، يكررونها قدر ما يستطيعون، ثم يموتون (مالم يستطيعوا تجنب ذلك لكنهم لن يستطيعوا). في معظم تاريخنا التطوري كانت الحياة بسيطة.

قبل ظهور الديمقراطيات الحديثة، كانت المجتمعات قد تأسست بطرق هرمية ونخبوية تنتقل فيها السمعة بواسطة الطبقة او المكانة، والافراد نادرا ما ينقلون طبقتهم الاجتماعية او طائفتهم، بما يجعل الاسئلة حول الهوية غير ملائمة. حتى أقاربنا الأقل بعدا مثل عمال خط التجميع في القرن العشرين نادرا ما يعودون للبيت بعد عمل متعب في المصنع، دون ان يشكون لزوجاتهم حول "فقدان معنى الانتماء"، "والهدف" او كونهم غير قادرين "على جلب ذاتهم كاملة الى العمل".

اذن، من أين ينشأ انشغالنا بمعرفة هويتنا العميقة وعيش حياة ذات معنى وحقيقية وأصيلة؟ العيش الأصيل، يتضمن ليس فقط ضرورة معرفة الذات والتصرف طبقا لقيم الفرد، وانما ايضا تجسيد درجة قوية من الانخراط الروحي بحياة وعمل الفرد، ومثّلت لوقت طويل حجر الزاوية الاساسي للعديد من الاطر الفلسفية والاخلاقية لعيش حياة جيدة، وفحص انواع السلوك والمعتقدات التي تمكننا البشر من السعي للتوجّه لحياة اكثر فضيلة وأخلاقية. أمثلة تتوفر في كل من الكونفوشيوسية والهندوسية والبوذية وجميع الاديان الكبرى. في الحقيقة، معرفة الذات وفهم الذات هي من اكثر الموضوعات تكرارا في أي نظام أخلاقي، والتي تتجاوز الزمن والجغرافيا والثقافة .

ان إعادة ظهور الأصالة الحديثة يمكن تعقّبها الى القرنين السابع عشر والثامن عشر، وبالذات في اوربا عندما ادّى ظهور الانسانوية humanism الى تحفيز الناس لإحتضان قيمة ان يكونوا حقيقين في أنفسهم. وبفضل التغييرات الكبرى في المجتمع والسياسة والفلسفة، بدأت افكار من النهضة والاصلاح البروتستانتي والتنوير تهز الاشياء. والناس بدلا من رؤية انفسهم مجرد حلقة ربط في سلسلة صارمة لا تتغير من الوجود، بدأوا يرون انفسهم كافراد متفردين لهم الحق بعمل خياراتهم الخاصة في الحياة.

أساسا، أدّى الانتقال التقدمي من القرون الوسطى الى الانسانوية الى نقل مركز الكون من الخالق العظيم الى الناس، وبدأوا بتحويل ثقتهم من السلطات والافكار الخارجية الى قدراتهم الذاتية في توجيه قراراتهم وأفعالهم. ونظراً لما يبدو عليه هذا من إثارة وجاذبية، فهو قد جلب معه جانبا سلبيا غير متوقع. عندما نهمل الله او الايمان الرسمي، نخلق فراغا روحيا يتركنا نتسائل حول نفس الاسئلة التي قادت الى اختراع الله والدين في المقام الاول: أي، اسئلة ميتافيزيقية لا يستطيع العلم الاجابة عليها. وكذلك، في غياب المدونات الاخلاقية الرسمية لتقرير الخطأ من الصحيح، نحن تُركنا وحيدين لوسائلنا الخاصة، علينا ان نعمل على حل كل شيء بأنفسنا من خلال التجربة والدليل او العقل – والتي اتضح ان لا شيء منها صلبا وقويا كما اُعلن. مرة خرى، هذه الاستقلالية تبدو رائعة، لكنها أصعب بكثير من اتّباع وصفة معيارية.

وكما أشار عالم النفس الاجتماعي روي باوميستر Roy Baumeister، عندما لا توجد هناك قواعد واضحة متفق عليها حول كيفية العيش، نميل للاعتقاد بتلك القواعد المختبئة فينا. اذا كان تقدير الناس للصدق مع انفسهم يأتي جزئيا من الابتعاد عن الدين فان محاولة معرفة ذواتنا الحقيقية قد تكون نوعا من طريقة غير دينية للعثور على معنى في الحياة. انها لاتزال محاولة لإنجاز بعض الاهداف السايكولوجية او الروحية التي سعى لها الدين، كمساعدتنا في فهم العالم، لكن بدون مشاركة الدين الذي لا يتوافق جيدا مع مجتمع اليوم الاكثر علمية ومساواة في التفكير – تماما مثل المدرسة القديمة والقواعد الصارمة وفكرة ان الاشياء يجب ان تكون بطريقة معينة فقط لأن هذه هي الطريقة التي كانت عليها دائما.

ومع ظهور الوجودية في القرنين التاسع عشر والعشرين، اصبحت الأصالة هي الاهتمام المركزي للفلاسفة. أبرز هؤلاء كيركيجارد الذي لاحظ ان الأصالة هي حول القبول والاتفاق مع  نواقص المرء، خاصة تلك المظاهر في حياتنا التي وراء سيطرتنا، والتغلب على قلقنا ومخاوفنا العميقة .

ونفس الشيء بالنسبة لهايدجر الذي اكّد على اننا نعيش في زيف دائم او لاأصالة، كنتيجة لكوننا في إنكار لمحدوديتنا، او نجد العذر للتفكير حول الموت. كذلك سارتر لاحظ اننا في الأغلب نعيش في حالة من "الايمان السيء" او اللاأصالة، كما لو ان قوى خارجية قررت أفعالنا، ولم تكن لدينا سيطرة على حياتنا وهو ما يراه مجرد عذر رخيص لعدم تمكّننا من تنظيم امورنا وتحمّل المسؤولية التي ينبغي لنا ان نتحملها لو ادركنا اننا في الواقع محكوم علينا بالحرية.

المرحلة الأخيرة الهامة في تاريخ الأصالة هي ظهور المجتمع الاستهلاكي، الذي جاء مع حرية غير مسبوقة لإكتساب عدد لا محدود من السلع التي ليس لها قيمة وظيفية على الاطلاق، حيث انها تُباع تحت فرضية ووعد انها تساعدنا في تحديد هويتنا. المجتمع الاستهلاكي يخرّب الأصالة عبر ترسيخ الهويات السطحية المبنية على السلع المشتراة وتعزيز الاعتمادية على الصلاحية الخارجية. وبدلا من تربية هوية فريدة من خلال التفكير الذاتي والتجربة، تقدم الاستهلاكية consumerism هويات جاهزة الصنع مرتبطة بسلع معينة واساليب حياة خاصة.

***

حاتم حميد محسن

 

المركزية الغربية: اللوغوس وميتافيزيقا الحضور

يرى الفكر التفكيكي، ممثلاً بجاك دريدا، أن التراث الفلسفي الغربي ونظرياته المختلفة ليست إلا "صيغاً مختلفة لنظام واحد هو 'التمركز حول العقل' و'ميتافيزيقا الحضور'". هذا التمركز حول العقل (اللوغوس) أنتج "نظاماً مغلقاً للتفكير"؛ حيث ارتبط العقل بالمعنى المطلق للحقيقة، وأقصاء كل ممارسة فكرية لا تمتثل لشروطه.

إن الديمقراطية الغربية، بمفهومها الليبرالي، تُقدم كناتج طبيعي ونهائي لهذا التطور العقلاني. ولذلك، فإن محاولة تصدير نموذج الحكم تأتي دوماً مغلفة بأولوية المركز و"عقلانيته" المزعومة. هذا الإطار الإبستيمولوجي يوفر أداة تبرير للهيمنة، حيث تُجبر الدول التابعة على استيراد "الديكور الديمقراطي" كشرط لتبني الحداثة المزعومة. يخدم الإصرار على الشكل هدفين رئيسيين: أولهما شرعنة النخب الحاكمة محلياً ودولياً، وثانيهما تفريغ هذه المؤسسات من محتواها الاجتماعي والتحويلي، مع الإبقاء على الهياكل التي تمنع ظهور بديل متحرر من "ميتافيزيقا الحضور" الغربية.

الديمقراطية الشكلية في ميزان الفلسفة السياسية

تُعرّف الديمقراطية الإجرائية بأنها "تصور متواضع وإجرائي للديمقراطية بوصفها محض آلية للحد من سلطة الدولة وهيمنتها". لكن في الدول التي تمر بتجارب الانتقال أو في دول ما بعد الاستعمار، يتحول هذا التركيز على الشكل إلى حيلة بحد ذاتها؛ إذ يتم استخدام الممثلين المنتخبين عبر هذه الإجراءات "للإبقاء على أنفسهم في السلطة ضد رغبة الشعب العامة."

يضعف هذا النموذج مفهوم التعاقد السياسي، حيث إن النظم الغربية نفسها استندت إلى فلاسفة العقد الاجتماعي (هوبز، لوك، راولز) الذين ناقشوا القبول السياسي الصريح أو الضمني. لكن الديمقراطية الشكلية ما بعد الكولونيالية تفترض تعاقداً شكلياً أو "مفترضاً" لا يبلغ مستوى "التعاقد الحقيقي" القائم على شرعية الحكم ومحاسبة السلطة. وفي هذا السياق، يوفر توظيف الشكل غطاءً ممتازاً لتجديد الاستبداد.

الاستشراق وأدلجة الحداثة السياسية

يعمل الاستشراق بوصفه "معرفة وإنشاء وسلطة"، وقد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بمؤسسة الاستعمار باعتباره "علماً وظيفياً" لخدمة الهيمنة على الشرق. هذا الخطاب أنتج صورة نمطية قارّة للشرق، تصفه بأنه "غير عقلاني" و"غير قابل للتنبؤ". هذا التصوير يبرر الحاجة إلى التدخل والإشراف الخارجي، الذي يتخذ شكل التبشير بالحداثة وتصدير النموذج الديمقراطي.

تكمن دقة الاستراتيجية الاستعمارية (القديمة والجديدة) في أنها لا تسعى بالضرورة لتغيير ثقافة المحلي بالكامل، بل تسعى لاستغلالها. فقد كان الاستعمار البريطاني على سبيل المثال، يوظف "ثقافة المحلي نفسها" ويخلق تناقضات داخلية تقتضي القبول بالاحتلال. الديمقراطية الشكلية هي التجسيد المعاصر لهذه السيطرة الذكية، حيث يقبل النظام التابع بالهيكل الغربي الإجرائي كخطوة لتجنب الفوضى أو الإقصاء الدولي، وبالتالي يُعاد إنتاج الهيمنة.

الاقتصاد الريعي كحاضنة للديمقراطية الشكلية

لا يمكن فهم الديمقراطية الشكلية كظاهرة سياسية منعزلة؛ بل هي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالبنية الاقتصادية الموروثة والمُستدامة في دول ما بعد الاستعمار، وهي الدولة الريعية.

القوى الاستعمارية (أو القوى الدولية المهيمنة) لم تهتم بالاستغلال المادي فحسب، بل ركزت على هندسة نظام سياسي خاضع ومستمر. الدولة الريعية توفر البنية الاقتصادية المثالية لتحييد المواطن، بينما الديمقراطية الشكلية هي "الحل السياسي" اللازم لتغليف هذا النظام غير الديمقراطي. هذه التجارب "المحاكاة" للديمقراطية هي شرط لعلاقات النظام الهجين بـ "الغرب الإمبريالي"، حيث يوفر "ديكور ديمقراطي" يوحي بنجاح "رسالة التمدين".

يضاف إلى ذلك، تمتع هذه النظم بحماية والتزام من القوى الدولية. قد تلجأ القوى الدولية إلى تضليل النظام الهجين وإيهامه بتهديدات خارجية، الأمر الذي يستدعي مزيداً من التنسيق والتعاون (كصفقات الأسلحة الضخمة). هذا النظام ليس مجرد مرحلة انتقالية فاشلة، بل هو صيغة مستقرة لإدارة التناقضات. فهو يرضي الغرب بمظاهر الليبرالية ويرضي النخب الكمبرادورية المحلية بالسيطرة على الثروات الريعية. هذه القابلية للبقاء ناتجة عن "استمرارية الصراع"، حيث يُبقي النظام على حالة من التوتر تبرر بقاء النخبة الحاكمة وسلطتها الأمنوقراطية.

الاستبداد الناعم كشكل متجدد للهيمنة

إن الاستبداد الناعم في الدول العربية هو استمرار للاستبداد القديم بـ "شكل جديد، ومضمون قديم". وقد تجلى هذا التجديد في "الأمنوقراطية" وهي عقلية سياسية أمنية تعطل قدرات الجماهير وتوظفها لاستمرار الوضع القائم. إن الاستبداد هنا يتخفى وراء واجهة مؤسساتية شكلية خداعة

لضمان استدامة هذا الاستبداد، تعتمد النخب الحاكمة على آليات متعددة للشرعنة الداخلية والخارجية. داخلياً، يتم توظيف الخطاب الديني عبر "فقهاء البلاط والسلطان" لمحاولة إضفاء طابع القدسية والشرعية الدينية على سياسة الحاكم، وتبرير إمارة المتغلب وتشجيع العامة على الإعراض عن الخوض في السياسة.

أما بنيوياً، فترتبط استدامة التسلط بتركيز السلطات في أيدي السلطة التنفيذية، وضعف الشفافية، وتقييد حرية الوصول إلى المعلومات. بهذه الطريقة، يصبح الفساد آلية هيكلية لاستدامة الاستبداد. يبرز هنا مفارقة خطيرة: التيارات الدينية التي تكفّر المطالبين بالديمقراطية الجوهرية، لا تمتد صرخات تكفيرها إلى الحاكم الذي هو "رأس النظام السياسي وراعي الديمقراطية".

تآكل الثقة المجتمعية في الديمقراطية الليبرالية

لقد أدى فشل الديمقراطية الشكلية في تقديم حلول حقيقية إلى تزايد قلق المواطنين في المنطقة إزاء المشكلات المرتبطة بالنظام الديمقراطي، خاصة فيما يتعلق بملفات الأداء الاقتصادي، والاستقرار، والحسم في القرارات. كان يُنظر إلى الديمقراطية على أنها قادرة على مواجهة تحديات الكساد الاقتصادي والبطالة، لكنها فشلت في مواجهة التحديات الهيكلية المتمثلة في الريعية والفساد.

هذا الفشل في تقديم قيمة جوهرية عزز جاذبية النظم غير الديمقراطية التي حققت نمواً اقتصادياً سريعاً، مثل النموذج الصيني، مما جعل الكثيرين غير واثقين من قدرة الديمقراطية على تقديم الحلول.

كما أن هناك قناعة لا تزال سائدة لدى قسم كبير من الرأي العام بأن نظام التعددية والديمقراطية قد يساهم في تزايد النفوذ الأجنبي وتنمية الصراعات الداخلية (مثل الطائفية والعشائرية). يتفق هذا التفكير مع رؤية النخب الحاكمة التي ترى أن الحفاظ على الأمن والوحدة الوطنية يستوجب تقييد الحريات السياسية، وهو ما يفسر القبول الضمني بـ "الأمنوقراطية" كبديل للحسم والاستقرار. الديمقراطية الشكلية هنا تحولت إلى مجرد "منتج استهلاكي" فشل في تلبية احتياجات المجتمع الهش الذي أنتجته الحداثة الرأسمالية.

ما بعد الكولونيالية وما وراء الديمقراطية الشكلية

يمثل استخدام الديمقراطية الشكلية وتسويقها كـ 'حداثة' استراتيجية معرفية وسياسية مدروسة لـ "تنمية التخلف" وزرع جذور التبعية. النظم الهجينة ليست فشلاً عارضاً في الانتقال الديمقراطي، بل هي الهيكل الأمثل لإدامة الهيمنة، حيث تُخضع الثقافات المحلية لمشيئة الكولونيالية الثقافية. لتجاوز هذه التناقضات، يجب اتخاذ خطوات واضحة:

تفكيك البنية الريعية: لا يمكن تجاوز التناقضات بين الديمقراطية والاستبداد إلا بالخروج على مقومات الدولة الريعية التي تلد الاستبداد والتسلط. يجب استبدال الاعتماد على العائدات الخارجية بنظم إنتاجية تُعيد ربط الدولة بالمواطن عبر مبدأ المحاسبة.

التحرر المعرفي: يجب التحرر من عقدة النقص تجاه النموذج الغربي ورفض التماهي الكامل مع النموذج الثقافي والسياسي الغربي. التحرر يتطلب إعادة تعريف الحداثة ليس كقوة مهيمنة، بل كـ "عملية تحرر جماعي" تتبنى الديمقراطية المباشرة والعدالة الاجتماعية.

بناء الوعي النقدي: من الضروري بناء وعي نقدي يتجاوز السائد لتنقية الوعي والنصوص التعليمية من آثار الرأسمالية والكولونيالية. هذا يعني إعطاء الأولوية لاستراتيجية "إعادة الذات إلى محور الوجود والهيمنة" عبر نقد الخطاب المركزي والابتعاد عن التبعية الثقافية. إن الهدف ليس إلغاء الديمقراطية، بل استبدال صيغتها الشكلية المبتورة بصيغة جوهرية متجذرة في الذات الثقافية والاجتماعية.

***

غالب المسعودي

.......................

المراجع

فلسفة ما بعد الاستعمار بين التفكيك وإعادة إنتاج السيطرة

الديمقراطية والدولة الريعية - صحيفة النداء

بعد الاستعمار... ما بعد الديمقراطية - جريدة القدس العربي

ديمقراطية إجرائية - ويكيبيديا

مقاربة ايكولوجية

مقدمة: يُعرّف "الأنثروبوسين" (Anthropocene)، كما اقترحه بول كروتزن في عام 2000، عصرًا جيولوجيًا جديدًا يُسيطر فيه النشاط البشري على عمليات الأرض، مما يؤدي إلى تغييرات جذرية في المناخ، التنوع البيولوجي، والدورات الجيوكيميائية. هذا العصر، الذي بدأ ربما مع الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، يمثل تحولًا من الطبيعة كـ"خارج" للإنسان إلى "داخل" مترابط معه. في هذه الدراسة، نتبنى مقاربة إيكولوجية ، مستلهمة من نظرية النظم الإيكولوجية لألدو ليوبولد في كتابه الأخلاق البرية (1949)، حيث تُعتبر الأرض ككل مترابطة، والإنسان جزءًا منها لا سيد عليها. الهدف هو استكشاف كيفية تفاعل التغيرات المناخية مع الوعي البيئي في سياق الأنثروبوسين، مع التركيز على الديناميكيات غير الخطية: tكيف يُعيد الاحتباس الحراري تشكيل الهويات البشرية؟، وكيف يُولد الوعي البيئي مقاومات إيكولوجية ؟. سنعتمد على بيانات من تقارير صادرة عن منظمات سنوات 2014 و2022 و2023 ودراسات في علم الإيكولوجيا السياسية. فماهو عصر الأنثربوسين؟ ولماذا تأزم؟ وكيف نعالجه؟

التغيرات المناخية في الأنثروبوسين

– ديناميكيات الاضطراب الإيكولوجي

في الأنثروبوسين، أصبحت التغيرات المناخية ليست مجرد "مشكلة بيئية"، بل اضطرابًا نظاميًا يعكس الهيمنة البشرية غير المستدامة. وفقًا لتقرير صادر سنة 2023، ارتفع متوسط درجة حرارة الأرض بـ1.1 درجة مئوية منذ 1850، مما أدى إلى ارتفاع مستوى سطح البحر بنحو 20 سم، وانقراض 1 مليون نوع حيواني ونباتي. هذه التغييرات ليست خطية؛ إنها "نقاط تحول" مثل ذوبان الجليد الدائم في القطب الشمالي، الذي يُطلق غاز الميثان المخزن، مما يعزز الاحتباس الحراري في حلقة تغذية راجعة.

من منظور إيكولوجي، يُفسر برونو لاتور في كتابه وجه الطبيعة (2018) هذه الاضطرابات كـ"عودة الطبيعة"، حيث تُجبر الأرض الإنسان على مواجهة تأثيره. على سبيل المثال، في المناطق الاستوائية مثل أفريقيا جنوب الصحراء، أد الجفاف المتكرر إلى نزوح 20 مليون شخص سنويًا (2022)، مما يكشف عن عدم المساواة: الدول النامية تتحمل 80% من التأثيرات رغم مساهمتها بنسبة 10% فقط في الانبعاثات. هذا يُبرز "الإيكولوجيا السياسية"، حيث تكون التغييرات المناخية تعبيرًا عن علاقات السلطة العالمية. فماهي اسهامات الايكولوجيا السياسية؟

الوعي البيئي – من الإدراك الفردي إلى التحول الجماعي

الوعي البيئي هو الاستجابة الثقافية والنفسية للأنثروبوسين، يتحول من "القلق البيئي"إلى "الإيكولوجيا العميقة" كما طورها أرني نايس في السبعينيات. في عصرنا، أظهر استطلاع غالوب (2023) أن 70% من الشباب في العالم يين يشعرون بالقلق من التغير المناخي، مما يدفع نحو حركات مثل "الجمعة من أجل المستقبل" التي أطلقتها غريتا ثونبرغ.

مقاربة إيكولوجية ترى الوعي كـ"شبكة" مترابطة: ليس فرديًا فقط، بل يشمل التفاعل مع الأنظمة الحية. على سبيل المثال، في المجتمعات الأصلية مثل شعب الإنويت في ألاسكا، يُبنى الوعي من خلال "المعرفة التقليدية" ، التي تُساعد في التنبؤ بالتغييرات المناخية بدقة أعلى من النماذج العلمية (2022). هذا الوعي يتحدى الرأسمالية الخضراء، حيث يُفضل الاستهلاك "الصديق للبيئة" على التحول الهيكلي، كما ينتقد روبي والش في كتابه الإيكولوجيا الرأسمالية (2014).

ومع ذلك، يواجه الوعي البيئي تحديات: أهمها "الإرهاق البيئي" الذي يؤدي إلى اللامبالاة، خاصة في الدول الغنية، مما يعيق التحول نحو نمط حياة مستدام.

مقاربة إيكولوجية متكاملة – نحو التوازن في الأنثروبوسين

لربط التغييرات المناخية بالوعي البيئي، نستخدم إطارًا إيكولوجيًا يعتمد على مفهوم "المرونة" لكارل هولينغ، الذي يرى النظم الإيكولوجية كقادرة على التعافي من الاضطرابات. في الأنثروبوسين، يتطلب ذلك دمج الوعي البيئي في السياسات: على سبيل المثال، برامج "التكيف المجتمعي" في فيتنام، حيث يُدمج الوعي البيئي مع الهندسة الزراعية لمواجهة ارتفاع مستوى البحر. هذا الإطار يشير إلى "أنثروبوسين إيجابي"، حيث يتحول الإنسان من "مدمر" للطبيعة إلى "مُصلح" للبيئة، من خلال ممارسات مثل الزراعة المتجددة التي تُقلل الانبعاثات بنسبة 20-30% (صادر عن منظمة الفاو في 2022).

خاتمة

في عصر الأنثروبوسين، تُكشف المقاربة الإيكولوجية عن التغيرات المناخية كمرآة لفشلنا في تحقيق التوازن مع الأرض، لكنها أيضًا دعوة لتوسيع الوعي البيئي نحو "أخلاق إيكولوجية" جماعية. الوعي ليس مجرد إدراك، بل فعل تحويلي يُعيد بناء العلاقات البشرية مع الطبيعة. مع ذلك، بدون تدخلات هيكلية، سيظل الأنثروبوسين عصرًا من الانهيار. يمكن الاكتفاء بتقديم جملة من التوصيات:

تطوير برامج تعليمية عالمية تركز على "الإيكولوجيا العاطفية" لمكافحة القلق البيئي.

دعم الشراكات بين العلماء والمجتمعات الأصلية لدمج المعارف في السياسات المناخية.

فرض ضرائب كربون عالمية لتمويل مشاريع المرونة الإيكولوجية.

بهذا، يمكن تحويل الأنثروبوسين من كارثة إلى فرصة لإعادة التوازن.

فهل ستنجح البشرية من خلال مؤسساتها الايكولوجية في تحقيق هذه التوازن واصلاح الأنثروبوسين؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

..............................

المصادر والمراجع:

Crutzen, P. J. (2002). "Geology of Mankind". Nature, 415(6867).

Leopold, A. (1949). A Sand County Almanac. Oxford University Press.

Latour, B. (2018). Down to Earth: Politics in the New Climatic Regime. Polity.

Naess, A. (1973). "The Shallow and the Deep, Long-Range Ecology Movement". Inquiry, 16(1-4).

عِلْمُ المَنْطِقِ هُوَ عِلْمٌ يَبْحَثُ في القواعدِ والأُسُسِ التي تُنظِّم التفكيرَ الصحيح، وتُميِّز بَيْنَ الاستدلالِ السليمِ والاستدلالِ الخاطئ. وَهَذا العِلْمُ آلةٌ قانونية تَحْمِي الذِّهْنَ مِنَ الخَطأ في الفِكْرِ.

يُعْتَبَرُ الفَيلسوفُ اليوناني أَرِسْطُو طاليس (384 ق. م - 322 ق.م) مُؤسِّسَ عِلْمِ المَنْطِقِ. وَهُوَ أوَّلُ فَيلسوف قامَ بتحليل العملية التي بِمُوجِبها يُمْكِن مَنطقيًّا استنتاج أنَّ أيَّة قضية مِنَ المُمْكِن أن تكون صحيحة استنادًا إلى صِحَّة قضايا أُخْرَى، وقد كان اعتقادُه أنَّ عملية الاستدلال المَنطقي تَقُوم عَلى أساس شكل من أشكال البُرهان سَمَّاه القِياس. وفي حالة القِياس، يُمْكِن البَرْهَنَة أو الاستدلال مَنطقيًّا على صِحَّةِ قضية مُعيَّنة، إذا كانت هُناك قَضِيَّتَان أُخْرَيَان صحيحتان.

والفَيلسوفُ الإيطالي توما الأكويني (1225 - 1274) تَمَسَّكَ بِمَنْطِقِ أَرِسْطُو، واتَّخَذَ مِنَ المَنهجِ الأَرِسْطِيِّ أساسًا لأبحاثِه، فَبَدَأ أوَّلًا بِتَحديدِ المُشكلة، ثُمَّ حَصْر أوْجُهِ الخِلاف فِيها، باستعراض شَتَّى المُشكلات والشُّكوك التي تُثَار حَوْلَها، والعمل على الإجابة عنها بالأدلة المَنْطِقِيَّة المُقْنِعَة. وكانَ دَوْرُهُ مُهِمًّا مِنْ ناحيةِ الشَّرْحِ والدَّمْجِ بَيْنَ الفلسفةِ الأَرِسْطِيَّةِ والعَقيدةِ المَسِيحِيَّةِ.

والفَيلسوفُ الألماني جوتلوب فريجه (1848- 1925) يُعَدُّ أشهرَ مَن اهْتَمَّ بالفلسفةِ التَّحليليةِ، وَمَنْطِقِ الرِّياضياتِ الحديثة. وَهُوَ أحَدُ مُؤسِّسي المَنْطِقِ الحديث، وأحد أكبر فلاسفة المَنْطِقِ بَعْدَ أَرِسْطُو. وقد ابتكرَ فريجه لُغةً اصطناعية بواسطة الرموز المَنْطِقِيَّة، وساهمَ في تطوير جُزْء كبير من أبحاث المَنْطِقِ الرِّياضي، وكانَ مِنْ دُعَاةِ مَا يُعْرَف بالمَذهَبِ المَنْطِقِيِّ، وَهُوَ اتِّجاه يَدْعُو إلى رَدِّ التَّصَوُّراتِ الرِّياضيَّة الأساسيَّة إلى تَصَوُّرَاتٍ مَنْطِقِيَّة خالصة.

والفَيلسوفُ الألماني إدموند هُوسِّرل (1859- 1938) طَوَّرَ عِلْمَ المَنْطِقِ، وساهمَ في كَشْفِ الجَوانبِ المَعْرفيةِ والفَلسفيةِ للمَنْطِقِ. وَنَفَى أنْ تَكُون العَلاقاتُ المَنْطِقِيَّةُ خاضعةً للتأثيراتِ النَّفْسِيَّة، واعتبرَ العَلاقاتِ المَنْطِقِيَّة تَنْتمي إلى عَالَمٍ خاص (المَاهِيَّات) المُستقلة عَن العَقْلِ البَشَرِيِّ. وهذه المَاهِيَّاتُ بِمَثابةِ حقائق ثابتة تَجْعَل الأفرادَ يَتَّفقون حَوْلَها، فَيُصْدِرُون أحكامَهم وقَرَاراتهم.

والفَيلسوفُ الإنجليزي ألفريد نورث وايتهيد (1861- 1947) ساعدَ في نقلِ المَنْطِقِ مِنْ كَوْنِهِ فَرْعًا فَلسفيًّا إلى عِلْمٍ دقيق قائم على الرُّموز والقواعد، مِثْل عِلْم الجَبْر، وَساهمَ في بِناءِ الرِّياضيات انطلاقًا مِنْ مَبادئ مَنْطِقِيَّة بَحْتَة، وَتَوحيدِ المَنْطِقِ والرِّياضياتِ في نِظامٍ واحد قائم على الرُّموزِ والقواعدِ الدقيقة، مِمَّا أدَّى إلى تأسيسِ المَنْطِقِ الرَّمزي.

والفَيلسوفُ الإنجليزي بِرتراند راسل (1872- 1970) قَدَّمَ أعظمَ إسهاماته للفلسفة والرياضيات في مَطْلَعِ القَرْنِ العِشرين، وأرادَ أنْ يَسْتمد جميعَ الرِّياضيات مِنَ المَنْطِق، وبذلك أرساها على أساسٍ متين، وسعى إلى إظهار أنَّ جميع الرياضيات البَحْتَة تَتَوَالَد مِنْ مُسلَّمات مَنطقية تمامًا، وأنَّها لا تَسْتخدم سِوى المَفاهيم التي يُمْكِن تعريفها بِمُصطلحات مَنطقية بَحْتَة. وَرَغْمَ أنَّ أفكاره نُقِّحَتْ وطُوِّرَتْ على أيدي علماء الرياضيات مِنْ بَعْدِه، إلا أنَّ أفكاره كانتْ المُنْطَلَقَ لكثير من الإنجازات الحديثة في عِلْمِ المَنْطِقِ وقَواعدِ الرِّياضيات.

والفَيلسوفُ الألماني موريس شليك (1882 - 1936) هُوَ مُؤسِّس الوَضْعِيَّةِ المَنْطِقِيَّة، وَتُعْرَف أيضًا بالتَّجْريبية الوَضْعانية أو الوَضْعانية الجديدة، وهي حركة فلسفية ظهرتْ في النمسا وألمانيا في العَقْد الثاني مِنَ القرن العِشرين. وَتُعنَى هذه الحركة الفلسفية بالتحليل المنطقي للمعرفة العِلْمِيَّة، حيث تُؤكِّد أن المقولات المِيتافيزيقيَّة، أو الدِّينيَّة، أو القِيَمِيَّة، فارغة من أي معنى إدراكي، بالتالي، لا تَعْدُو عن كَوْنها تعبيرًا عن مشاعر أوْ رَغَبَات. وَوَحْدَها المَقُولات الرِّياضية المنطقية والطبيعية هي ذات معنى مُحَدَّد. ومِنْ وِجْهَةِ نَظَرِ الوَضْعِيَّة المَنْطِقِيَّة، فإنَّ كُلَّ المَقولات ذات المَعْنى يُمْكِن تقسيمُها إلى صِنْفَيْن: الأول - يَتَضَمَّن مَقولات قد تكون صحيحة أو خاطئة اعتمادًا على أشكالها المَنْطقية أوْ مَعْناها (تُسمَّى هذه المَقولات تَحْلِيلِيَّة قَبْلِيَّة)، والثاني - يَتَضَمَّن مَقولات يُمْكِن التَّحَقُّق مِنْ صِحَّتها أوْ خَطَئِها فقط مِنْ خِلال التَّجْرِبَة (تُسمَّى تَركيبية بَعْدِيَّة).

والفَيلسوفُ النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين (1889- 1951) حَصَرَ وظيفةَ الفلسفة في تحليل اللغة فقط، ورأى أنَّ اللغة تَخْضَع لِجُملة مِن القواعد المنطقية، وأنَّ اللغة إذا صِيغَتْ بنظام منطقي كامل، فَمِنَ المُمْكِنِ تَجَنُّبُ الوُقوعِ في غُموضِ التَّعبيرِ والخَلْطِ والإبهامِ، وأنَّ مشكلة الفلسفة ناتجة عن سُوء فهم مَنْطِق اللغة. وَاعْتَبَرَ أنَّ المَنْطِقَ يُفْهَمُ باعتباره البُنْيَة المُشتركة بَيْنَ اللغةِ والعَالَمِ، وأنَّ العَالَمَ يَتَكَوَّن مِنْ وقائع، وَلَيْسَ أشياء، وهذه الوقائعُ يُمْكِن تحليلُها مَنْطِقِيًّا، وبشكلٍ عام، إنَّ تحليلَ اللغةِ والمَنْطِقِ يَتِمُّ مِنْ خِلال البُنْيَةِ المَنطقيةِ للعَالَمِ.

والفَيلسوفُ الألماني رودولف كارناب (1891- 1970) يُعتبَر أحد أبرز زُعماء الفلسفة التجريبية المنطقية أو الوَضْعِيَّة المنطقية. وَيُمْكِن تَمْييز مَرْحَلَتَيْن أسَاسِيَّتَيْن في تَطُّورِ فِكْرِه في طبيعة المَنهج المَنطقي: الأُولَى - هِيَ مَرحلة الاهتمام بالبِناء اللفظي، حَيْثُ الاهتمام بالبناء اللفظي المَنطقي لِلُغَةِ العِلْمِ، والثانية - هِيَ مَرحلة الاهتمام بالمَدلول اللفظي، حَيْثُ يَهْتَمُّ مَنْطِقُ لُغَةِ العِلْمِ بالمَعنى والمَدلول.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

تُعد دراسة منشِئات الفعل الفلسفي (التفلسف) مسألة إيتيولوجية جوهرية، تبحث في العلل التي تحفز التفكير النقدي وتدفعه نحو البحث عن الحقيقة والمعنى. إن الإيتالوجيا، بوصفها علم العلل والأسباب، توفّر الإطار المنهجي اللازم لتفكيك عملية التفلسف، سواء من منظور الدوافع الوجودية الداخلية أو السياقات المعرفية الخارجية. وتهدف هذه الدراسة إلى تقديم تحليل معمق للفعل الفلسفي، بالاعتماد على نموذج العلل الأرسطية ودوافع النشأة الكلاسيكية والوجودية والمعاصرة.

تحديد العلاقة بين العلة والفعل

قبل البدء بتحليل أسباب الفعل الفلسفي، يجب أولاً تحرير مفهوم "التفلسف" نفسه من المعاني السلبية التي لحقته تاريخياً، وإعادة الألق إليه. التفلسف في جوهره لا يعني العبث أو الترف العقلي، بل هو عملية معرفية إيجابية ومنهجية؛ فهو يعني استخدام العقل ليكون حكماً على ما يجب قبوله وما يجب رفضه، وهو مرادف لحرية التعبير والبحث والإنتاج المعرفي، (وكالة عمون الإخبارية، د.ت.).

إن هذا الجهد لإعادة تعريف التفلسف وتصحيح معناه يمثل في حد ذاته علة فاعلة اجتماعية حديثة. وإذا كانت المفاهيم السلبية تعيق ممارسة التفكير النقدي، فإن محاربة هذا التحريف (وهي مهمة تقع على عاتق الفلاسفة والمفكرين) تصبح سبباً مساهماً في تحرير العلة الفاعلة الأصلية للفعل الفلسفي.

يُعرَف التفلسف أيضاً باعتباره تفكيراً نقدياً وإشكالياً بامتياز، تتشابك فيه المفارقات، ويعمل على بلورة الأسئلة ومجابهة الإحراجات باستخدام أدوات منطقية محكمة. هذه الطبيعة الإشكالية ليست سمة عارضة، بل هي "مِلاكه ولُحمته"، مما يؤكد أن التفلسف في علته الصورية الأولية هو نقد دائم للنسق النظري القائم، بغية تقديم فهم أشمل للواقعين النظري والعملي.

الإيتالوجيا ونظرية العلية في الفلسفة

تُعد الإيتالوجيا، كدراسة للعلل والأسباب، المنطلق الطبيعي لتحليل الفلسفة، إذ قيل عن الفلسفة منذ نشأتها إنها "البحث عن أصل الوجود" أو "العلة الأولى" (جريدة الصباح، د.ت.). إن هذا يقوم على مبدأ التلازم الضروري بين السبب والمسبب، أو العلة والمعلول، ويقتضي التمييز بين أنواع العلل (الحيدري، د.ت.).

في التقليد الفلسفي، هناك تمييز بين العلل القريبة والعلل البعيدة أو النهائية. الفلسفة تكرس نفسها للبحث عن العلة النهائية أو العلة الأولى للوجود. يتضح الفرق الإيتيولوجي بين الفلسفة والعلوم التجريبية في أن البحث العلمي يتناول "العرض" (المادة والصورة)، بينما البحث الفلسفي يتناول "الطول"، أي العلة الفاعلة والعلة الغائية. وبما أن البحث عن العلة الفاعلة والعلة الغائية هو بحث فلسفي برهاني وليس تجريبياً، فإنه لا يخضع لإثبات أو نفي العلم التجريبي (البراك، د.ت.).

إن الفعل الفلسفي نفسه يمثل نشاطاً إيتيولوجياً أعلى (ماكرو-إيتالوجيا)؛ فبما أن الفلسفة تبحث عن "العلة الأولى"، فإنها تسعى لتأسيس إطار علّي شامل يفسر الوجود بأكمله، بينما تكتفي العلوم الأخرى بتقديم علل قريبة وجزئية. إن طبيعة الفلسفة، التي تتعمق في البحث عن الفاعل والغاية، هي ما تجعل التفلسف إيتيولوجياً بالضرورة منذ بداية نشأته.

الإيتالوجيا الكلاسيكية والوجودية

تنبع أهم دوافع التفلسف من حالات الوعي البشري تجاه العالم والذات. وقد صاغ كارل ياسبرز هذه الدوافع في سياق "أدوات فعل التفلسف"، مؤكداً أن الأصل هو الينبوع الذي يتدفق منه الدافع (ياسبرز، د.ت.).

تُعد الدهشة العلة الفاعلة الأولى والأصل الأول للتفلسف. هي العملية الفكرية التي تربط الفيلسوف بالعالم الخارجي، وتُوصف بعلاقة الغرابة أو التعجب. لقد أكد أفلاطون أن الدهشة هي أصل الفلسفة، وتبعته في ذلك أرسطو الذي اعتبرها الدافع الحقيقي إلى التفلسف (الجذع المشترك، د.ت.). الدهشة تدفع العقل للبحث عن الحقيقة، ولكنها تجعل هذه الحقيقة هائمة، بمعنى أنها لا يمكن أن تكون مطلقة، بل هي مسألة خاضعة للمساءلة المستمرة.

الشك هو الأصل الثاني في سلسلة دوافع التفلسف، ويُعد الخطوة الأولى والضرورية لفحص الأفكار والمعتقدات بهدف الوصول إلى الحقيقة. الشك يمثل آلية نقدية تسبق البناء الفلسفي (الجذع المشترك، د.ت.).

الدهشة علة فاعلة "خفيفة"، والشك علة فاعلة "موجهة"، أما حالات الحدود فهي علة فاعلة قسرية. لا يمكن للبشر أن يعيشوا دائمًا في حالة دهشة مستمرة، لكنهم لا يستطيعون الهروب من حالات الحدود الوجودية. وبالتالي، فإن الوعي بالمأساة والإحساس بالرعب والعجز يمثل العلة الفاعلة الأكثر ثباتاً وضرورة لتوليد الأسئلة الفلسفية الأساسية. إن الإحساس بوجود الشر والقبح أو المأساة هو الدافع الفاعل الذي يدفع الفلسفة إلى أن تكون بحثاً عن الخير الأعم والمعنى.

العلل التاريخية في السياقات الثقافية

لقد ظهر التفلسف في التاريخ استجابة لعلل سياقية محددة؛ فظهور طاليس يمثل تحولاً إيتيولوجياً جذرياً، إذ حاول تفسير تعدد الظواهر الطبيعية بإرجاعها إلى أسباب وقوانين معينة، مبتعداً عن التفسير الأسطوري.

العصر الحديث

في العصر الحديث، تجد الفلسفة دوافع جديدة للتفلسف ناجمة عن التحديات العالمية. التساؤل الفلسفي المعاصر تحركه أزمات ناتجة عن التطرف في العقلانية، وهيمنة التكنولوجيا، والاستغلال التجاري (هنداوي، د.ت.).

الحل الفلسفي المُقترح لمواجهة هذه العلة الفاعلة المعاصرة، كما نادى به هايدجر، يكمن في رفض التكنولوجيا لصالح الحرية والعودة إلى تقدير الطبيعة كمصدر للتساؤل. وهذا يربط الإيتالوجيا الوجودية بالعلة الغائية الأخلاقية الحديثة، حيث يتحول البحث عن الخلاص الفردي إلى سعي للالتزام الطويل المدى بالمحافظة على البيئة وحمايتها كغاية جماعية.

خلاصة إيتيولوجية

إن التفلسف ليس فعلاً عارضاً، بل هو عملية علّية دائمة تحكمها سلسلة متكاملة من العلل المتعددة الأبعاد التي تضمن استمرارية البحث النقدي. يمكن رؤية التفلسف كمنظومة يتم فيها توفير العلة المادية والعلة الصورية بشكل مستمر، بينما تتناوب العلل الفاعلة بين الدافع الوجودي الداخلي والدوافع السياقية الخارجية.

إن هذا التفاعل يشكل دورة تصحيحية دائمة. عندما يفشل نظام أخلاقي أو علمي معين في تحقيق "الخير الأعم"، يظهر هذا الفشل على شكل أزمة أو عائق منهجي. هذه العلة الفاعلة تدفع الوعي الفلسفي للبحث عن غاية مُصَححة وإعادة تأسيس القيم. وبما أن الإنسان لا يستطيع أن يستغني عن الشعور بأن لحياته قيمة، فإن أي نقص أو فقدان في هذا الشعور هو علة فاعلة مؤلمة تدفعه نحو التفلسف لاستعادة المعنى.

التفلسف كضرورة ومقاومة مستمرة

إن الدور الغائي الأبدي للتفلسف، والمتمثل في البحث عن الحقيقة والمعنى، هو السبب النهائي الذي يضمن استمرارية الدوافع الفاعلة (الشك والدهشة)، محولاً إياها من مجرد فضول إلى التزام جوهري بمساءلة الوجود.

وبناءً على هذا التحليل الإيتيولوجي الشامل، يجب توجيه الأبحاث المستقبلية نحو تطبيق إطار العلل الأرسطي على الظواهر الفلسفية الناشئة، مثل فلسفة التقنية وتجاوز الإنسانية. هذا التطبيق يهدف إلى تحديد ما إذا كانت العلة الفاعلة لهذه الظواهر موجهة حقاً نحو "الخير الأعم" والتحرر، أم أنها محكومة بعلة مادية/فاعلة تكنولوجية تبتعد عن الغاية الإنسانية التي يجب أن يحققها التفلسف.

***

غالب المسعودي

............................

المراجع

البراك، الشيخ عبد الرحمن. (د.ت.). معنى العلة الغائية والعلة الفاعلة في كتب الفلسفة. [مادة منشورة]

الجزائري، د. علي. (د.ت.). الفرق بين الإبستمولوجيا والميثودولجيا. علوم إنسانية واجتماعية

الجذع المشترك. (د.ت.). دوافع التفلسف - الدهشة - الشك - العقلنة - الحقيقة. [مادة تعليمية/أكاديمية]

جريدة الصباح. (د.ت.). الفلسفة والسببيَّة. [مقالة صحفية]

الحيدري، السيد كمال. (د.ت.). مقدمات فلسفية مهمة في العلة والمعلول. [محاضرة/مادة منشورة]

هنداوي، مؤسسة. (د.ت.). كارل ياسبرز | آراء فلسفية في أزمة العصر. [مقال تحليلي]

وكالة عمون الإخبارية. (د.ت.). التفلسف | كتاب عمون. [مقال رأي/تحليلي]

ياسبرز، كارل. (د.ت.). درس أدوات فعل التفلسف. [مادة تعليمية/محاضرة]

نغش، د. إدريس. (د.ت.). الفرق بين فلسفة العلوم والإبستمولوجيا ونظرية المعرفة. [مقال أكاديمي]

جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية. (د.ت.). الفلسفة والتفكير النقدي. [مادة أكاديمية]

موقع مبتعث. (د.ت.). المناهج الفلسفية - المنهج الفلسفي. [مقال ويب]

في سياقات اجتماعية مختلفة

يعتبر فلفريدو باريتو (1848–1923) أحد أبرز المفكرين الذين صاغوا نظرية متكاملة حول طبيعة الإنسان ودوره في حركة النخب السياسية وصعودها وسقوطها. ففي مؤلفه الضخم " العقل والمجتمع " طرح باريتو فرضية محورية مفادها أن معظم الأفعال الإنسانية محكومة بدوافع لا منطقية، أي إن العلاقة بين الوسائل والغايات لا تتبع بالضرورة نسقاً عقلانياً متماسكاً، بل تنبع من نزعات نفسية واجتماعية عميقة يطلق عليها " الرواسب " هذه الرواسب، وبحسب باريتو، تعد البنية التحتية التي توجه الفعل الإنساني، وتشمل نزعات الابتكار والتجديد من جهة، ونزعات الثبات والمحافظة من جهة أخرى، وهو ما صنفه تحت فئتي " غريزة التكوين " و " ثبات التجمعات ".

لكن الإنسان لا يترك سلوكه عرضة لهذه النزعات وحدها، بل يسعى دائماً إلى إضفاء طابع من الشرعية والتفسير المنطقي على أفعاله، من خلال ما سماه باريتو " بالمشتقات " أو " المعتقدات التبريرية " هذه الأخيرة لا تُنشئ السلوك من أساسه، بل تعيد تأطيره في صورة عقلانية ترضي الحاجة المجتمعية إلى التفسير والانسجام الفكري.  ويكشف هذا التمييز الدقيق بين الرواسب والمعتقدات عن آلية اشتغال السلطة والخطاب السياسي، حيث تعمل النخب على تبرير دوافعها العميقة من خلال إنتاج إيديولوجيات متماسكة ظاهرياً، لكنها في جوهرها تعبير عن رواسب لا منطقية.

ومن هنا تتضح العلاقة الوثيقة بين النفس الإنسانية وديناميات تداول السلطة. ففي نظرية " صعود وسقوط النخب "، يرى باريتو أن المجتمعات تخضع لدورة مستمرة من تداول النخب، حيث تتناوب على السلطة نخب ذات خصائص متمايزة: فالنخب التي يسود فيها عنصر الحيلة والمراوغة تمثل نمط " الثعالب "، بينما النخب التي يغلب عليها طابع القوة والصلابة تمثل نمط " الأسود "، وعندما تفقد النخبة القائمة توازنها بين هذين النمطين، تتآكل شرعيتها وتفسح المجال لنخبة جديدة أكثر قدرة على تمثيل النزعات السائدة في المجتمع.

هذا التحليل لا يقتصر على المستوى النظري، بل يمكن رصده تاريخياً في تحولات كبرى مثل الثورة الفرنسية عام 1789، حيث أفسحت نخبة الإقطاع التقليدي المجال أمام نخب جديدة استندت إلى رواسب الابتكار والتغيير، ثم ما لبثت أن فقدت بدورها قدرتها على التوازن مع بروز نخب أكثر محافظة. وكذلك في سقوط الإمبراطورية الرومانية، حيث أدى الإفراط في الاعتماد على " الثعالب " من الساسة والدبلوماسيين، وتراجع قوة " الأسود "، إلى انكشاف الدولة أمام أزمات خارجية وداخلية.

وهكذا يبرز باريتو الإنسان باعتباره كائناً مزدوج البنية، حيث تدفعه رواسب لا منطقية راسخة، بينما يسعى في الوقت ذاته إلى تغليفها بمعتقدات عقلانية تمنحه الشرعية. ومن خلال هذا المنظور، تصبح دراسة النخب السياسية ليست مجرد تتبع لموازين القوة أو الاقتصاد، بل تحليلاً لكيفية تجسيد هذه الرواسب والمعتقدات في بنى السلطة، وما يترتب على اختلالها من دورات متعاقبة لصعود وسقوط النخب.

- تطبيق نظرية باريتو على النخب العربية المعاصرة في سياقات اجتماعية مختلفة:

تتميز النخب العربية المعاصرة بمزيج معقد من الرواسب النفسية والاجتماعية والمعتقدات المؤسسة تاريخياً، والتي تتفاعل مع ضغوط السياسة والاقتصاد والثقافة. وفقاً لنظرية باريتو، لا يمكن فهم صعود أو سقوط النخب إلا من خلال دراسة الرواسب والمعتقدات، إذ تشكل أساس استمرارية السلطة وتداول النخب.

 وفي السياق العربي، يظهر استمرار الميل إلى المحافظة على الأبنية التقليدية، سواء عبر الولاء للعائلة أو الطائفة أو القبيلة، أو التمسك بالعادات والتقاليد الاجتماعية، ما يمنح النخب القديمة القدرة على فرض هيمنة مستمرة، حتى في الدول التي تحاول تحديث مؤسساتها السياسية والاقتصادية.

تلعب المعتقدات دوراً محورياً في إعطاء هذه الرواسب الشرعية، إذ غالباً ما تستخدم لغة القانون والدين والإيديولوجيا لتبرير الممارسات السلطوية وخلق مظلة عقلانية على الواقع الاجتماعي، حتى في حالة وجود تناقضات بين الخطاب الرسمي والواقع الفعلي. غالباً ما تستخدم هذه الاستراتيجيات في تقديم قرارات سياسية واقتصادية على أنها إصلاحية، بينما تبقى أدوات السيطرة التقليدية موجودة في الواقع. ويمكن ملاحظة ذلك في الأمثلة العامة للنخب التي تحافظ على نفوذها الاقتصادي من خلال التحكم في القطاعات الاستراتيجية، مع الحفاظ على تحالفات سياسية تضمن استمرار نفوذها.

تشير دراسة باريتو إلى أن النخب الناجحة تجمع بين نزعة الثعالب، المتمثلة في القدرة على الابتكار والمراوغة وبناء الشبكات والتحالفات، وبين نزعة الأسود التي تعكس القدرة على الصلابة وفرض النظام والحفاظ على الهيمنة ضد المعارضة. وفي السياق العربي، نجد أن بعض النخب الاقتصادية والسياسية التي استطاعت الجمع بين المرونة في التفاوض مع النخب الأخرى والصلابة في اتخاذ القرارات الاستراتيجية تمكنت من الحفاظ على استقرار نسبي، بينما النخب التي غلبت عليها النزعة المرنة وحدها أو النزعة الصلبة وحدها شهدت ضعف الشرعية أو مقاومة مجتمعية متصاعدة.

ووفقاً لباريتو، يمثل التداول بين القديم والجديد تحدياً مستمراً، فأي نخبة معرضة للتآكل والتجدد بشكل دوري. وفي الواقع العربي، كثير من النخب الصاعدة لم تتمكن من تأسيس منظومة عقائدية شاملة تضم مختلف شرائح المجتمع، ما أدى إلى ضعفها واحتوائها أو سقوطها، بينما حافظت النخب التقليدية على قدرتها على إعادة تعبئة الأبنية الاجتماعية والتاريخية لصالحها. ويمكن ملاحظة ذلك في الأمثلة العامة للانتقالات السياسية، حيث ظهرت وجوه جديدة طالبت بالإصلاح، لكنها غالباً لم تتمكن من جذب الشرائح الاقتصادية والثقافية الأوسع، فتم احتواؤها أو إعادة دمجها ضمن الأبنية التقليدية.

وفي المجال الاقتصادي، يمكن القول إن النخب التي تسيطر على الموارد الحيوية أو القطاعات الاستراتيجية تتمكن من المحافظة على نفوذها لفترات طويلة إذا استطاعت المزج بين المرونة في الشراكات الاقتصادية والصلابة في حماية مصالحها الأساسية. أما في المجال الثقافي والإعلامي، فالنخب التي تستطيع التأثير على الرأي العام وخلق خطاب جماعي مشترك، دون التخلي عن القواعد التقليدية للسلطة، تتمتع بقدرة أعلى على الاستمرار في الهيمنة، بينما تلك التي تتخذ مواقف متطرفة أو انعزالية تواجه تآكلاً سريعاً في النفوذ والشرعية.

تكمن الفرصة الأكبر للنخب العربية المعاصرة في توسيع قنوات المشاركة واستيعاب الكفاءات والمواهب من الطبقات الوسطى والمهمشة، إذ إن الانغلاق على الذات يؤدي إلى تآكل الشرعية وفقدان الثقة من قبل المجتمع. في المقابل، فإن الاعتماد المفرط على القوة وحدها أو على خطاب الإصلاح وحده يهدد استقرار النخبة، ويزيد من احتمالات الانقلابات أو الانتفاضات الشعبية، وهو ما يتضح من دراسة تجارب النخب في بعض الأطر السياسية الحديثة.

في ضوء هذه التحولات، يمكن القول إن مستقبل النخب العربية يعتمد على قدرتها على مزج النزعة المرنة مع النزعة الصلبة ضمن مؤسسات حقيقية وشرعية، لا مجرد شعارات شكلية. هذا التوازن يضمن تداولاً سلساً للنخب، ويجدد الشرعية، ويعزز شعور المجتمع بالانتماء والمشاركة، وهو شرط أساسي لاستقرار طويل الأمد.

أما في سياق المؤسسات والمنظمات الحكومية في المجتمعات العربية نجد أنها تواجه معضلة مستمرة تتعلق بتوازن القوى بين الأفراد والنخب العاملة داخل المؤسسة، وهي ظاهرة يمكن تفسيرها بوضوح من خلال نظرية باريتو حول النخب وصعودها وتداولها. وفقاً لباريتو، أي مجتمع أو مؤسسة ينقسم فعلياً إلى قسمين: نخبة تهيمن على اتخاذ القرار، وأغلبية تلتزم بالأنظمة والممارسات التي تفرضها هذه النخبة. في المؤسسات الحكومية، يظهر ذلك جلياً من خلال التحالفات الداخلية، التي تتشكل غالباً على أساس المصالح المشتركة، القوة التنظيمية، والعلاقات الشخصية.

فالتحالفات داخل هذه المؤسسات ليست مجرد علاقات ودية، بل تمثل آلية للحفاظ على السلطة والسيطرة على الموارد. النخب داخل المنظمة تستخدم أساليب الثعالب لتشكيل شبكات مرنة تمكنها من المناورة والتفاوض، بينما تستخدم نزعة الأسود لفرض القواعد والسيطرة على القرار الرسمي.  هذا المزج بين المرونة والصلابة يتيح للنخبة الحفاظ على مكانتها داخل المؤسسة، وتحديد سياسات العمل بما يخدم مصالحها، حتى وإن كانت تلك السياسات قد لا تتوافق مع الأهداف الرسمية للمؤسسة أو المصلحة العامة.

ومن منظور سوسيولوجي، يمكن فهم التحالفات الداخلية على أنها مؤشر على تماسك النخبة وضعف الرقابة الهيكلية. عندما تعتمد المؤسسة على تسلسل هرمي صارم دون إشراك فعلي للنخب الثانوية، فإنها تولد ديناميات مقاومة أو محاولات تحالف موازية لإعادة التوازن. وعلى العكس، المؤسسات التي تتيح مساحة للتداول الداخلي بين النخب تستطيع الحفاظ على استقرار أكبر، لأن كل مجموعة تشعر بأنها قادرة على المساهمة واتخاذ القرارات في نطاق معين.

كما تظهر في بعض المؤسسات الحكومية تحالفات محددة على أسس جغرافية أو مهنية أو سياسية، بحيث تتشارك النخب المصالح نفسها أو الانتماءات المشتركة. هذه التحالفات غالباً ما تؤثر على توزيع الموارد، ترقيات الموظفين، وتحديد السياسات التشغيلية.  بذلك يوضح تحليل باريتو أن هذه التحالفات لا تمثل فقط مصلحة فردية، بل هي أداة للبقاء والحفاظ على الهيمنة ضمن المؤسسة. بالتالي، فهم طبيعة هذه التحالفات يتيح تفسير أسباب الصراعات الإدارية، الجمود البيروقراطي، أو حتى ضعف الأداء المؤسسي.

إن الجانب الأهم من التحليل السوسيولوجي يكشف لنا بأن التحالفات ليست ثابتة، بل ديناميكية وتتأثر بالتغيرات في القوى الداخلية والخارجية للمؤسسة. على سبيل المثال، التغييرات السياسية أو التعيينات الإدارية الجديدة قد تعيد تشكيل التحالفات القديمة، كما أن التحالفات قد تتحول إلى نزاعات إذا شعرت مجموعة من النخب بأنها مستبعدة أو تهدد مصالحها. وهنا يظهر باريتو مرة أخرى من خلال فكرة التداول المستمر للنخب، أي أن أي هيمنة نخبوية داخل المؤسسة معرضة دوماً للتآكل والتجدد.

ويمكن أيضاً تفسير تحالفات المؤسسات الحكومية من خلال منظور الشرعية والمعتقدات. فالنخب التي تحافظ على توازن بين الصلابة والمرونة تتمكن من تقديم سياساتها كمبادرات عقلانية ومنطقية، حتى لو كانت في جوهرها تهدف إلى حماية مصالحها. أما النخب التي تركز على الصلابة المفرطة دون مرونة، فهي غالبًا ما تواجه مقاومة من النخب الثانوية أو الموظفين، مما يؤدي إلى ضعف تنفيذ السياسات وتراجع الفاعلية المؤسسية.

باختصار شديد، إن تطبيق مقولات باريتو على التحالفات داخل المؤسسات الحكومية يتيح لنا فهم العلاقة بين القوة، المصالح، والمعتقدات، ويوضح كيف يمكن للنخب أن تحافظ على السيطرة، وكيف أن الديناميات الداخلية للمنظمة تفرض قيوداً على الأداء والفعالية. كما يبرز أهمية التوازن بين النزعة المرنة والنزعة الصلبة داخل النخبة لضمان استقرار المؤسسة واستمرارية القرارات.

وفيما يتعلق بالعلاقات داخل المؤسسات التعليمية في المجتمعات العربية نجد أنها تتكون من فضاء مركب يلتقي فيه عدد من القوى الاجتماعية والسياسية والثقافية، وهو ما يجعلها نموذجاً عملياً لفهم ديناميات النخب والتحالفات الداخلية وفق نظرية باريتو.

ويرى باريتو أن أي مجتمع أو مؤسسة ينقسم فعلياً إلى نخبة حاكمة وأغلبية تابعة، حيث تُستخدم قوة النخبة لتوجيه القرارات والسياسات، بينما تطبق الأغلبية القواعد والمعايير المفروضة.

 يظهر هذا الانقسام داخل المؤسسات التعليمية من خلال العلاقات بين الإدارة العليا، أعضاء هيئة التدريس، والكوادر الإدارية، إضافة إلى الطلاب.

تتمحور طبيعة هذه العلاقات حول توازن القوى والمصالح المشتركة. النخب الأكاديمية والإدارية غالباً ما تتشكل تحالفاتها على أساس الخبرة، المكانة العلمية، والانتماءات المهنية، بينما تستفيد هذه التحالفات من دعم الهيكل المؤسسي نفسه لضمان استمرار السيطرة على القرارات الجوهرية، بما في ذلك التوظيف والترقيات وتوزيع الموارد. بذلك يمكننا رصد مقولة باريتو حول نزعة الثعالب ونزعة الأسود، حيث تعتمد النخب في بعض المؤسسات التعليمية على المرونة في بناء الشبكات الأكاديمية والتفاوض مع الزملاء، وفي الوقت نفسه على الصلابة لفرض النظام الأكاديمي والانضباط المؤسسي .

ومن المنظور السوسيولوجي، يمكن لنا تفسير التحالفات داخل المؤسسات التعليمية على أنها آلية للحفاظ على الهيمنة والشرعية الأكاديمية. على سبيل المثال، النخب الإدارية غالباً ما تتعاون مع بعض أعضاء هيئة التدريس لإنشاء برامج أو مشاريع استراتيجية تحقق أهدافهم المشتركة، بينما قد تهمش مجموعات أخرى داخل المؤسسة بسبب ضعف الانتماء أو قلة النفوذ. هذه التحالفات تحدد بشكل غير مباشر توزيع الفرص التعليمية والبحثية، كما تؤثر على مسار القرارات الأكاديمية وصياغة السياسات الداخلية.

إن تحليل باريتو يوضح أن هذه التحالفات ليست ثابتة، بل تتغير بتغير القوى الداخلية والخارجية. على سبيل المثال، ظهور إدارة جديدة أو تغييرات في السياسات التعليمية الحكومية قد يؤدي إلى إعادة تشكيل العلاقات والنفوذ داخل المؤسسة. النخب القديمة قد تضطر إلى تبني استراتيجيات جديدة للحفاظ على مكانتها، بينما تظهر نخب صاعدة تسعى إلى إثبات نفسها والمطالبة بتغيير قواعد اللعبة.

بالإضافة إلى ذلك، تؤثر المعتقدات والثقافة المؤسسية على شكل العلاقات. فالمؤسسات التي تتمتع ببيئة مفتوحة تشجع على التعاون والمشاركة تكون أكثر قدرة على دمج النخب الجديدة، بينما المؤسسات الصارمة أو المغلقة تولد مقاومة أو صراعات داخلية، مما ينعكس على الأداء التعليمي وجودة القرارات الأكاديمية. هذه الديناميات تبرز أهمية التوازن بين النزعة المرنة والنزعة الصلبة للنخبة داخل المؤسسات التعليمية، وهو ما يضمن استقرار العلاقات واستمرار الشرعية المؤسسية.

باختصار شديد، إن تطبيق مقولات باريتو على شكل العلاقات داخل المؤسسات التعليمية في المجتمعات العربية يكشف أن النفوذ والتحالفات الداخلية، مزيج من المصالح والمعتقدات، هما العاملان الأساسيان في صياغة القرارات والسياسات الأكاديمية. وفهمنا لهذه العلاقات يمكن أن يساعد على تفسير الصراعات الداخلية، الجمود الإداري، وأحياناً ضعف الأداء المؤسسي، كما يبرز أهمية التوازن بين المرونة والصلابة لضمان استقرار المؤسسات واستمرارية الشرعية الأكاديمية.

وفي مجال العلاقات الاجتماعية والرعاية بين جماعات الرفاق والأصدقاء في المجتمعات العربية نجد أن تطبيق المقولات النظرية لباريتو تعتبر منطلقاً بالغ الأهمية لدراسة الديناميات الاجتماعية الدقيقة بين الأفراد والنخب الصغيرة داخل المجتمعات. ووفقاً لهذه النظرية تنقسم كل مجموعة اجتماعية صغيرة بشكل غير رسمي إلى نخبة صاعدة وأغلبية تابعة، حتى داخل العلاقات الودية، حيث تُمارس القوة بشكل غير مباشر من خلال النفوذ الاجتماعي والرعاية المتبادلة. وداخل جماعات الأصدقاء تظهر هذه الديناميات في كيفية توزيع المسؤوليات الاجتماعية، اتخاذ القرارات، وتبادل المصالح الرمزية بين الأفراد.

تتسم العلاقات في هذه الجماعات بالمرونة والصلابة في الوقت نفسه. فالنخب الصغيرة داخل المجموعة غالباً ما تلجأ إلى ما أسماه باريتو نزعة الثعالب، أي القدرة على المناورة، المساومة، وبناء شبكة من النفوذ داخل المجموعة، بينما تعتمد في نفس الوقت على نزعة الأسود للحفاظ على سلطتها الرمزية داخل الجماعة وفرض قواعد السلوك المقبول على سبيل المثال، في تحديد النشاط الجماعي أو اتخاذ القرارات المصيرية، يظهر أن بعض الأفراد يحظون بنفوذ أكبر نتيجة لعلاقاتهم السابقة أو خبراتهم الخاصة، بينما يلعب باقي الأفراد دور التابعين، مع الالتزام غير الرسمي بالقواعد المفروضة من النخبة.

من المنظور السوسيولوجي، يمكن تفسير الرعاية الاجتماعية والرمزية بأنها أدوات للحفاظ على التماسك الداخلي والشرعية الرمزية للنخبة. النخب الصغيرة تستخدم هذا النوع من الرعاية لتوزيع الامتيازات الرمزية، مثل الدعوات للأنشطة الاجتماعية، المشاركة في الخطط المشتركة، أو الحصول على الدعم الاجتماعي والنفسي، وهو ما يعكس استخدام القوة بطريقة غير مباشرة لضمان استمرارية النفوذ وعليه، فإن أي محاولة لكسر هذا التوازن أو تحدي النفوذ القائم غالباً ما تواجه مقاومة، أو يؤدي إلى إعادة توزيع غير رسمي للسلطة داخل الجماعة.

كما يوضح تحليل باريتو أيضاً أن هذه التحالفات والعلاقات ليست ثابتة، بل ديناميكية وتتغير مع مرور الزمن وتغير الظروف. على سبيل المثال، ظهور أفراد جدد في المجموعة أو تغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية قد يعيد تشكيل توازن النفوذ بين الأعضاء، حيث يسعى الأفراد الجدد إلى كسب دعم النخب القائمة أو تشكيل تحالفات موازية هذا يعكس مفهوم التداول المستمر للنخب، حتى في سياقات صغيرة وشبه ودية مثل جماعات الأصدقاء.

من منظور أوسع، تؤثر المعتقدات المشتركة والثقافة الرمزية للجماعة على شكل العلاقات والرهانات. الجماعات التي تبني ثقافة احترام متبادل ومشاركة مفتوحة تستطيع دمج جميع الأعضاء تقريباً في النشاطات واتخاذ القرارات، بينما الجماعات التي تركز على سلطة نخبوية صلبة تواجه عادة صراعات داخلية، مما يضعف التماسك الاجتماعي ويحد من قدرة الجماعة على الاستمرارية. بالتالي، يظهر أن التوازن بين المرونة والصلابة ضروري للحفاظ على استقرار العلاقات والرعاية داخل جماعات الرفاق.

باختصار شديد، يمكن القول إن تطبيق مقولات باريتو على علاقات الرعاية داخل جماعات الأصدقاء في المجتمعات العربية يكشف أن النفوذ الاجتماعي، التحالفات، والمعتقدات الرمزية هي عناصر حاسمة لفهم كيفية توزيع السلطة ضمن هذه الجماعات، وكيف يمكن للتفاعلات اليومية أن تولد صراعات أو تماسكاً، وبالتالي تفسير طبيعة العلاقات الاجتماعية على مستوى صغير يمكن أن يعكس أنماطاً مشابهة على مستوى المجتمع الأكبر.

وفي النهاية سنقوم بتحليل مشكلة الطلاق في المجتمعات العربية بالاعتماد على نظرية باريتو. تعتبر ظاهرة الطلاق في المجتمعات العربية قضية اجتماعية معقدة، تعكس تداخل العوامل الثقافية، الاقتصادية، النفسية، والسياسية. ومن منظور باريتو، يمكن تفسير انتشار هذه الظاهرة من خلال تحليل النخب والمعتقدات الاجتماعية، حيث يرى باريتو أن أي مجتمع يحكمه نخبة تمتلك القدرة على تشكيل وتوجيه القيم والمعايير السائدة، فيما تلتزم الأغلبية بالقواعد والممارسات التي تفرضها هذه النخبة. في السياق العربي، يمكن القول إن التحولات الاجتماعية الحديثة، بما في ذلك التعليم، الهجرة، والاعتماد المتزايد على الاقتصاد النقدي، أثرت على البنى التقليدية للأسرة، ما خلق ضغطاً على القيم والمعايير التي تتحكم في استمرار الزواج.

بذلك، تلعب الرواسب الثقافية والاجتماعية دوراً كبيراً في تفسير الطلاق، إذ تستمر مجموعة من الأنماط السلوكية التقليدية، مثل التحكم الأبوي، توقعات الأدوار الجندرية الصارمة، والتشبث بالعادات والتقاليد، في التأثير على العلاقات الزوجية. ويشير باريتو إلى أن هذه الرواسب تمثل أرضية ثابتة، لكنها قد تتعرض للتوتر عندما تتغير الظروف الاقتصادية أو الاجتماعية، مما يؤدي إلى تصادم بين توقعات الزوجين، وزيادة احتمالات الانفصال.

كما تلعب المعتقدات الاجتماعية والدينية دوراً في إعطاء الشرعية للعلاقات الزوجية، لكنها في الوقت نفسه قد تساهم في تكريس الصراعات الداخلية. على سبيل المثال، يمكن للمعتقدات المرتبطة بالولاء الأسري أو القبلي أن تزيد من الضغوط على الأفراد لإبقاء الزواج قائماً، حتى عندما تفشل العلاقة، ما يخلق نوعاً من التوتر المزدوج بين الواقع والمطالبات القيمية. هذه الديناميات تجعل بعض الأزواج يختارون الطلاق كحل أخير للتخلص من الصراع الداخلي، خصوصاً إذا شعروا بعدم توافق القيم أو الفشل في تحقيق مصالحهم الشخصية.

ومن خلال نظرية باريتو حول نزعة الثعالب ونزعة الأسود، يمكن تفسير كيفية إدارة الأزواج للصراعات الزوجية. فالأزواج الذين يظهرون قدرة على المراوغة والتكيف (نزعة الثعالب) يستطيعون تجاوز التحديات اليومية وبناء تفاهمات مشتركة، بينما الأزواج الذين يعتمدون على الصلابة والسيطرة (نزعة الأسود) غالباً ما يزيدون من حدة الصراع، مما يؤدي إلى احتمالات أكبر للانفصال. وبذلك، يبرز أن التوازن بين المرونة والصلابة داخل العلاقة الزوجية يؤثر بشكل مباشر على استقرار الزواج.

كما تلعب عوامل أخرى تتعلق بالضغوط الاقتصادية والاجتماعية دوراً حاسماً في هذا السياق تتمثل في ضعف الدخل المادي، البطالة، وتغير أنماط الحياة الحديثة يمكن أن تزيد من التوتر الزوجي، وتفتح المجال لصراعات حول القرارات المالية والإدارية.

هنا تتجلى نظرية باريتو في كيفية توزيع النفوذ داخل الأسرة، حيث يسعى كل طرف للحفاظ على مصالحه واستراتيجيته الخاصة، ما يؤدي في بعض الحالات إلى الطلاق.

ومن المنظور السوسيولوجي الأوسع، يمكن القول إن الطلاق ليس مجرد فشل فردي في العلاقة الزوجية، بل مؤشر على ديناميات أكبر في المجتمع، تشمل تغير القيم، التحولات الاقتصادية، والتوتر بين التقليد والحداثة. إن تطبيق مقولات باريتو على هذه الظاهرة يتيح لنا فهم كيف تؤثر النخب الاجتماعية والمعتقدات القيمية على سلوك الأزواج، وكيف يمكن أن يساهم عدم التوازن بين المرونة والصلابة في العلاقة الزوجية في زيادة معدل الطلاق.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

.........................

- المرجع المعتمد:

- حسام الدين فياض: الإنسان ما بين الرواسب والمشتقات - نظرية فلفريدو باريتو عن صعود وسقوط النخب السياسية (مع أمثلة تطبيقية على مشكلات السياق العربي)، الناشر نحو علم اجتماع تنويري للدراسات والأبحاث الإنسانية والسوسيولوجية، ماردين، كتاب إلكتروني، ط1، 2025.

مقدمة: يُعَدّ الذكاء الاصطناعي من أبرز الظواهر المعرفية والتقنية التي يشهدها العصر الحديث، حيث تجاوز حدود الاستخدام البرمجي إلى التأثير المباشر في بنية المعرفة الإنسانية وأنماط الحياة والعمل. وتكمن أهمية دراسة هذا الموضوع في أنه لا يقتصر على بعده العلمي أو التقني، بل يتصل اتصالًا وثيقًا بجذور فلسفية عميقة أثارت منذ قرون أسئلة حول ماهية العقل، وإمكانات محاكاته، وحدود العلاقة بين الإنسان والآلة.

ومن هنا تنشأ الإشكالية الرئيسة لهذا البحث، وهي: كيف يمكن للفلسفة، عبر تاريخها الطويل، أن تفسّر الأسس التي يقوم عليها الذكاء الاصطناعي، وأن تسهم في فهم تحدياته الراهنة؟ وهل يمكن للآلة أن تحوز وعيًا أو معرفة بالمعنى الفلسفي للكلمة، أم أن حدودها ستظل مقيدة بالبرمجة البشرية؟ كما تطرح الإشكالية أبعادًا أخلاقية وسياسية عميقة تتعلق بحرية الإرادة والمسؤولية، والعدالة في التعامل مع البيانات، وحدود تمايز الإنسان عن الآلة في ظل التطورات المتسارعة.

وللإجابة عن هذه الإشكالية، يعتمد البحث على منهج تحليلي- مقارن يقوم على تتبع الجذور الفلسفية لفكرة الذكاء الاصطناعي، وتحليل الأسس المعرفية والمنطقية التي أسهمت في تطوره، ثم دراسة أبعاده الأخلاقية والإنسانية، وأثره في إعادة صياغة مفهوم الهوية البشرية. كما يستند المنهج إلى استقراء التطبيقات العملية في الطب والتعليم والاقتصاد، وربطها بالأطر الفلسفية التي تحدد أبعادها وحدودها.

وتتوزع محاور البحث على النحو الآتي:

المحور الأول: الجذور الفلسفية لفكرة الذكاء الاصطناعي

المحور الثاني: الأسس المعرفية والمنطقية

المحور الثالث: الأسس الأخلاقية والفلسفة العملية

المحور الرابع: الفلسفة والهوية الإنسانية أمام تطور الذكاء الاصطناعي

المحور الخامس: التطبيقات العملية في ضوء الأسس الفلسفية.

الخاتمة

وبذلك يسعى البحث إلى إظهار أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد ثمرة للتطور التكنولوجي، بل هو في جوهره امتداد لأسئلة فلسفية قديمة تتجدد اليوم في سياق أكثر تعقيدًا وإلحاحًا.

المحور الأول: الجذور الفلسفية لفكرة الذكاء الاصطناعي

1- الأصول الفكرية للذكاء الاصطناعي

تعود فكرة ما نسمّيه اليوم بالذكاء الاصطناعي إلى حاجة الإنسان العميقة لإنجاز ما يعجز عنه بذاته، وكأنها انعكاس لرغبته في محاكاة فعل الخلق. فكما خلق الله الإنسان على صورته، يسعى الإنسان – على صورته – إلى خلق ذكاء اصطناعي. وقد انبثق هذا الطموح ضمن تقليد طويل يمتدّ من الوصايا العشر التي حرّمت صنع الأصنام، مرورًا بأسطورة الهومونكولوس homunculus (الانسان الصغير وهى فكرة عن إنسان مُصنَّع وليس مولودًا طبيعيًا) عند باراسيلسوس والغولِم (هو كائن مصطنع من الطين أو التراب، يتم تحريكه بسحر أو كلمات مقدسة ليقوم بأعمال محددة) الذي ابتكره الحاخام يهودا لوف في براغ ، وصولًا إلى شخصية فيكتور فرانكشتاين (هو العالم الشاب الذي يبتكر حياة اصطناعية في مختبره، عن طريق تجميع أجزاء بشرية وتحفيزها كهربائيًا ليولد مخلوقًا حيًا يثير التساؤلات الأخلاقية والاجتماعية) عند ماري شيلي عام 1818. وهذه الأمثلة التاريخية لا تتجاوز كونها إشارات إلى الدوافع الكامنة وراء حلم الإنسان بخلق كيان ذكي، وهي دوافع غير قابلة للقياس المباشر، لكنها حاضرة في كل نشاط إنساني، ولا سيما في النشاط الإبداعي والعلمي (1).

ومن هذا المنطلق، يبرز استكشاف الأسس الفلسفية للذكاء الاصطناعي كأمر بالغ الأهمية؛ إذ يوجّه مسار تطور هذه التكنولوجيا ويؤثر في كيفية اندماجها في المجتمعات. فالتساؤلات الفلسفية والأطر النظرية تشكّل أدوات أساسية لمعالجة أبعاد الذكاء الاصطناعي الاجتماعية والأخلاقية. ففي حين يشدد جونتر وكاسيرزاده Günther and Kasirzadeh على قابلية التفسير في تنبؤات الذكاء الاصطناعي، يضع ميراتشي Miracchi إطارًا للكفاءة، بينما يبحث زيمرمان Zimmermann وزملاؤه في أنماط الثقة عبر تصميم الوكلاء المعرفيين، ويسعى لوكيانيينكوLukyanenko إلى تأسيس إطار بنيوي للثقة. أما فلوريدي Floridi ودامِسكي Dameski فقد عالجا الاعتبارات الأخلاقية بوضع مبادئ وأطر شاملة، في حين أسهم باواك Bawack ودي ألميدا de Almeida في تصنيفات هيكلية وأطر تنظيمية تعزز البناء الفلسفي للذكاء الاصطناعي (2).

وإذا انتقلنا إلى البعد التاريخي، نجد أن تطور الذكاء الاصطناعي قد استُكشف على نحو واسع في الدراسات الحديثة. فقدّم بيتا Peta رؤية شاملة لمساره منذ النشأة حتى الوضع الراهن، بينما ركّز أوديبير Audiber على أثر الباحثين، وزايدي Zaidi على خط سير خوارزميات التعلّم. كما قدّم توبيـن Tobin وزملاؤه جدولًا زمنيًا موجزًا أبرز النمو السريع للإنتاج البحثي، فيما أدرج جوشي Joshi ومولوي Moloi الذكاء الاصطناعي في سياق التاريخ البشري من خلال مقارنات بين تطور الإنسان والآلة. كذلك تناول خان Khan وزملاؤه التطورات التقنية في بنية المعالجات الدقيقة التي عززت تبنّي الذكاء الاصطناعي في مجالات متعددة (3).

إنّ جذور الفكرة لا تقف عند حد التاريخ الحديث، بل تمتد إلى الفلسفة والمنطق والرياضيات. ففي الأزمنة الأسطورية، ابتكر المصريون القدماء تماثيل كان الكهنة يختبئون داخلها ليقدّموا الإرشاد للناس، وهو شكل بدائي لمحاولة محاكاة الذكاء. ومع الفلسفة اليونانية، رسّخ أرسطو بمنطقه الصوري إطارًا للتفكير العلمي، وميّز بين المادة والصورة، وهو ما يشكّل حتى اليوم أساسًا في علم الحاسوب وتجريد البيانات (4).

وقد كان للفلاسفة اليونانيين دور بارز في إثارة تساؤلات حول القواعد الصورية للاستدلال، وهو ما ألهم لاحقًا أحد روّاد الذكاء الاصطناعي المعاصرين، مارفن مينسكي. فالمنطق والهندسة عند اليونانيين أسّسا لفكرة ردّ الاستدلال إلى الحساب. ويُعدّ أرسطو بمنهجه القياسي رائدًا لهذا التوجه، لكن المسار لم يكن حكرًا على المنظّرين بل شمل الحالمين أيضًا، مثل ريمون لول Ramon Lul الذي عُدّ شخصية محورية في تاريخ الذكاء الاصطناعي، وتبنّت جامعات برشلونة وفالنسيا مراكز لدراسة إرثه العلمي والفكري (5).

وفي السياق ذاته، أسهم جيوفاني دي لا فونتانا بتصميم آلات متأثرًا بالنصوص اليونانية والعربية، كما درس تقنيات الذاكرة الصناعية. وتواصل هذا الإرث مع نيقولا الكوزاني الذي ابتكر منهج "الفن العام للتخمين" مستخدمًا رسومًا ورموزًا ذات صلة وثيقة بأفكار لول (6). ثم جاء هوبز بتصوره للفكر كعملية حسابية، وهو ما أثّر في ليبنتز. ولا يقلّ شأن أثناسيوس كيرشر Athanasius Kircher ، الملقب بـ"أرسطو الجديد"، الذي ساهم في تطوير آليات للتذكّر والبحث عن لغة كونية قادرة على تجاوز لعنة برج بابل (7).

أما في العصر الحديث، فقد تغيّر استعمال مصطلح "الذكاء الاصطناعي" على نحو لافت. فبين 1950 و1975 استُخدم بالمعنى المتقدّم، لكنه فقد بريقه خلال ما سُمّي بـ"شتاء الذكاء الاصطناعي"(AI winter) (1975–1995). ومنذ 2010 عاد المصطلح بقوة حتى أصبح عنوانًا لصناعة مزدهرة تجذب الاستثمارات، وإن كانت تقف على حافة المبالغة والتضخيم الإعلامي (8). ومن بين العلامات الفارقة في نشأة الحقل مقال تورينج "آلات الحوسبة والذكاء" ومناقشة شانون (1950) حول برمجة آلة للعب الشطرنج (9).

وبالعودة إلى العلاقة بين الفلسفة والذكاء الاصطناعي، يتضح أنها كانت وثيقة منذ البداية. ويكفي أن نذكر مقالة تورينج المنشورة عام 1950 في مجلة فلسفية مرموقة، وكذلك حضور الأسس الفلسفية بوضوح في الكتاب التعليمي الأشهر "راسل ونورفيج" (1995) (10). كما جادل سلومان Sloman وماكارثي McCarthy أن الذكاء الاصطناعي الواقعي لا بد أن يتزوّد بفلسفة، وأكّد ماكارثي نفسه أن هذا المجال بحاجة إلى أفكار لم يدرسها بعد سوى الفلاسفة (11).

وفي النهاية، يظهر أن الذكاء الاصطناعي والفلسفة يشتركان في قواسم أعمق من أي علم آخر. فالوصول إلى ذكاء اصطناعي بمستوى الإنسان يتطلب بناء برنامج حاسوبي يشتمل على مفهوم للمعرفة وكيفية اكتسابها، وموقف من مسألة الإرادة الحرة، وإطار أخلاقي يحول دون ارتكاب أفعال غير إنسانية. ومن هنا، فإن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد مشروع تقني، بل هو أيضًا مشروع فلسفي وأخلاقي بامتياز (12).

2- تعريف الذكاء الاصطناعي

يُعَدّ مصطلح «الذكاء الاصطناعي» artificial intelligence من المصطلحات التي يمكن اعتبارها كلمات حقيبة، ولذلك فإن مُطلِق هذا المصطلح والمُساهِم في تأسيس مجال الذكاء الاصطناعي، مارفن مينسكي Marvin Minsky، كان يدرك أنّ هذه الكلمات «محمَّلة» بمعانٍ متعدّدة. فنحن نقصد بـ AI في بعض المواضع الجهاز أو الآلة ذاتها، وفي مواضع أخرى النظرية التي تفسّر كيفية عملها. وهنا يصبح سياق الاستخدام هو المحدّد للمعنى المقصود. وغاية الذكاء الاصطناعي، باعتباره حقلًا علميًا، هي اكتساب المعرفة التي تتيح بناء هذه النظم، وتقييم أدائها وحدودها النظرية والعملية. إنه، في جوهره، رغبةٌ في محاكاة القدرات الإدراكية البشرية داخل الآلات. ومن هنا يمكن استبدال مصطلح «الذكاء الاصطناعي» بمصطلح «التكنولوجيا الإدراكية»، ليكون أقرب إلى مضمون التخصّص.(13)

ويُعرّف الذكاء الاصطناعي أيضًا بوصفه فرعًا من علوم الحاسوب يركّز على تصميم أنظمة قادرة على أداء مهام تتطلّب عادةً ذكاءً بشريًا مثل التعلّم، الفهم، الاستنتاج، واتخاذ القرارات.(14) وقد صاغ جون مكارثي John McCarthy – البروفيسور الفخري في جامعة ستانفورد – هذا المصطلح عام 1955، وعرّفه بأنه: "علم وهندسة صنع الآلات الذكية، وخاصة برامج الكمبيوتر الذكية."(15)

لقد أوضح مكارثي في مقترحه البحثي أنّ الدراسة ستُبنى على افتراضٍ أساسه أنّ كل جانب من جوانب التعلّم أو أية سمة من سمات الذكاء يمكن وصفها بدقة كافية بحيث يمكن بناء آلة تحاكيها. وبهذا، فإن الهدف هو جعل الآلات تستخدم اللغة، وتُكوّن التجريدات والمفاهيم، وتحلّ مشكلات مخصّصة للبشر، بل وأن تطوّر من نفسها.(16)

ويتابع ستيوارت راسل وبيتر نورفيج (Stuart Russell & Peter Norvig) هذا التصوّر في كتابهما المرجعي «الذكاء الاصطناعي: مقاربة حديثة»، إذ يريان أنّ الذكاء الاصطناعي مجال واسع يضم المنطق، والاحتمالات، والرياضيات، والإدراك، والاستدلال، والتعلّم، والعمل؛ أي كل شيء من الأجهزة الميكروإلكترونية وصولًا إلى المستكشفات الروبوتية الكوكبية. وهو، بتحديد أدق، دراسة "الوكلاء" الذين يتلقّون مدركات من بيئتهم ويقومون بأفعال استجابة لها.(17)

ومن زاوية أخرى، كتبت مارجريت ت. بودين Margaret Boden في كتابها «الذكاء الاصطناعي: ماهيته ومستقبله» أنّ الذكاء الاصطناعي العام قد يمتلك قدرات عامة على التفكير والإدراك واللغة والإبداع والعاطفة، لكنها تؤكد أنّ "القول أسهل من الفعل".(18) وهي تعرّفه أيضًا بأنه محاولة لفهم الذكاء البشري من خلال محاكاته باستخدام أنظمة حاسوبية.(19)

ويضيف جون سيرل John Searle تمييزًا مهمًا بين ما يسمّيه الذكاء الاصطناعي "الضعيف" والذكاء الاصطناعي "القوي". ففي حين أن الأول لا يتجاوز محاكاة التصرف كما لو كان يفكّر، فإن الثاني يفترض أنّ الحاسوب المبرمج بالشكل المناسب يمكن أن يُعدّ عقلًا حقيقيًا، يمتلك فهمًا وحالات معرفية أصيلة.(20)

وتتنوّع التعريفات المؤسسية والقاموسية أيضًا. فقاموس ميريام- ويبستر يعرّف الذكاء الاصطناعي بأنه "قدرة أنظمة الحاسوب أو الخوارزميات على محاكاة السلوك البشري الذكي"، مستشهدًا بأمثلة مثل التسوّق عبر الإنترنت، البحث في Google، استخدام ChatGPT، أو التنقّل عبر تطبيقات الخرائط.(21) أما تعريف شركة IBM (الآلات التجارية الدولية) فيركز على "استفادة الحواسيب والآلات من تقليد قدرات العقل البشري في حل المشكلات واتخاذ القرارات".(22)

وتضيف الموسوعة البريطانية أنّه "القدرة لدى الحاسوب الرقمي أو الروبوت المتحكم به على أداء المهام المرتبطة عادةً بالكائنات الذكية"، مثل الاستدلال واكتشاف المعنى والتعميم.(23) وفي السياق نفسه، تطرح موسوعة كامبريدج تعريفًا عامًا بوصف الذكاء الاصطناعي "تكنولوجيا الحاسوب التي تسمح بأداء المهام بطريقة مشابهة للطريقة التي ينفذها الإنسان"، مع تخصيص تعريف آخر لأعمال الشركات يركّز على اللغة وفهم الصور والتعلّم من الخبرة.(25) أما «قاموس التراث الأمريكي» فيحدده بأنه "قدرة الحاسوب أو آلة أخرى على أداء الأنشطة التي يُعتقد أنها تتطلب ذكاءً"، و"فرع من علوم الحاسوب يطوّر آلات تمتلك هذه القدرة."(26)

ويتفق معظم هذه التعريفات على أن الذكاء الاصطناعي، بمعناه الواسع، هو أي نظام حسابي اصطناعي يُظهر سلوكًا ذكيًا يساعد على تحقيق أهدافه، سواء أكان محدود القدرات في مهام ضيّقة، أو طموحًا نحو ما يُعرف بالذكاء الاصطناعي العام.(27)

وعلى هذا الأساس، يمكن النظر إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره أداة لتوسيع القدرات البشرية: فهو من منظور الأعمال منهجية لحل المشكلات بطرق جديدة(29)، ومن منظور الفلسفة نموذجًا لفهم العقل البشري بوصفه شبيهًا بالحاسوب.(30) كما قدّم "المجموعة رفيعة المستوى للخبراء المعنيين بالذكاء الاصطناعي" تعريفًا يُبرز استقلالية هذه الأنظمة في تحليل بيئاتها واتخاذ إجراءات لتحقيق أهدافها، سواء في العالم الافتراضي (مثل المساعدات الصوتية) أو في الأجهزة المادية (مثل الروبوتات والسيارات ذاتية القيادة).(31)

ويمكن تلخيص ذلك في مجموعة من التعريفات المكمّلة: (1) الذكاء الاصطناعي مجال في علوم الحاسوب يدرس التفكير الشبيه بالبشر. (2) افتراض أنّ الآلات يمكن تحسينها لتكتسب قدرات شبيهة بالذكاء البشري. (3) امتداد للذكاء البشري عبر الحواسيب. (4) دراسة تقنيات استخدام الحواسيب بفاعلية أكبر.(32) وهكذا يتميّز الذكاء الاصطناعي، في صورته الجوهرية، بكونه برامج حاسوبية تسعى لمحاكاة الإدراك البشري وحل المشكلات المعقّدة، اعتمادًا على فرضية أنّ العقل البشري نفسه يمكن تعريفه بدقة بحيث يصبح قابلاً للاستنساخ عبر الآلة.(33)

3- فلسفة الذكاء الاصطناعي

تُعَدّ فلسفة الذكاء الاصطناعي فرعًا من فلسفة التقنية، وهي تُعنى بدراسة الذكاء الاصطناعي وما يطرحه من انعكاسات على المعرفة وفهم طبيعة الذكاء، والأخلاق، والوعي، ونظرية المعرفة، والحصافة. ولا يقتصر اهتمام هذا المجال على الجانب النظري فقط، بل يمتد إلى دراسة إمكانية خلق حيوانات أو بشر اصطناعيين، وهو ما جعل منه حقلًا يستقطب عناية متزايدة من الفلاسفة. ومن هنا برزت فلسفة الذكاء الاصطناعي كحقل مستقل يسعى إلى معالجة إشكالات أساسية، من أبرزها:

1- هل يمكن لآلة أن تتصرّف بذكاء؟ وهل تستطيع حل أي مسألة قد يحلها الإنسان بالتفكير؟

2- هل الذكاء البشري وذكاء الآلة متماثلان؟ وهل يُمكن اعتبار الدماغ البشري في جوهره حاسوبًا؟

3- هل يمكن للآلة أن تمتلك عقلًا وحالات ذهنية ووعيًا على نحو مماثل للكائن البشري؟ وهل بإمكانها أن تشعر بماهية الأشياء؟ (34)

ويمتد تقليد الذكاء الاصطناعي – وفلسفته أيضًا – في مجالات علوم الحاسوب والعلوم المعرفية وفلسفة الحوسبة. وقد مرّ برنامج فهم الذكاء البشري وإعادة إنتاجه بموجات متعاقبة من الصعود والهبوط منذ الأعمال التأسيسية لـ تورينج، غير أنّ ما نشهده اليوم يمثل عودة قوية للاهتمام بالذكاء الاصطناعي. وفي خضم هذه الموجة الجديدة من الأبحاث والتطبيقات، لم يعد السؤال المفهومي وحده في المقدمة، بل بات السؤال العملي: ما الذي يمكن فعله بالذكاء الاصطناعي؟ حاضرًا بقوة إلى جانب التساؤلات النظرية السابقة. وقد أسهم هذا التحوّل، فضلًا عن بعض إساءات الاستخدام التي حظيت بتغطية إعلامية واسعة، في نقل النقاش مباشرة نحو قضايا الأخلاق والحوكمة، وهي قضايا سرعان ما حظيت باعتراف المؤسسات الدولية بأهميتها، مثل المفوضية الأوروبية. وفي هذا السياق، يُعَدّ عمل المجموعة رفيعة المستوى المعنية بالذكاء الاصطناعي مثالًا بارزًا على قيمة التعاون بين التخصصات والقطاعات في معالجة هذه التحديات (35).

4- مفهوم العقل والآلة في الفلسفة الكلاسيكية

لقد شكّل موضوع العقل وطبيعته إحدى القضايا المركزية في الفلسفة الكلاسيكية، إذ انشغل الفلاسفة بمحاولة فهم ماهية الفكر، وإمكان محاكاته أو تفسيره من خلال نماذج ميكانيكية أو منطقية. ويُعَدّ هذا النقاش أساسًا أوليًا لما نعرفه اليوم بالذكاء الاصطناعي.

طُوِّرت عبر التاريخ نماذج تحاكي الدماغ البشري لتتصرف مثل الإنسان «الذكاء البشري» ، وأُطلق عليها فيما بعد اسم الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي. وإذا كان الذكاء البشري يتميّز بالقدرة على التكيّف مع بيئات جديدة عبر دمج عمليات معرفية متنوعة، فإن الذكاء الاصطناعي يُبنى في الآلات لمحاكاة السلوك البشري وأداء أنشطة شبيهة بالإنسان. وهنا تظهر الصلة بين الإنسان (العقل والدماغ) والذكاء الاصطناعي «الشبكات العصبية الاصطناعية العميقة» ، وهي صلة يمكن إبرازها من خلال مدخل مشكلة الكليات، حيث تُمثّل المفاهيم الأفلاطونية للذكاء البشري مقابل الشبكات العصبية الاصطناعية لفهم ذكاء الآلة. ويتجلى ذلك عبر استخدام سيناريوهات تقليدية ورياضية وواقعية، مع التركيز على مفاهيم مثل الخصائص، والفرادة، والتشابه، والعلاقات، باعتبارها محددات أساسية لطريقة استخدام الإنسان والآلة للذكاء في البيئات المعروفة والمجهولة (36).

فعند أفلاطون يُنظر إلى العقل بوصفه جوهرًا علويًا متصلًا بعالم المُثل، بينما تظل الآلة مجرد أداة مادية خالية من الروح (37). أما أرسطو فقد اعتبر العقل (nous) صورة أرقى من صور النفس، متميّزًا عن الجسد، بحيث لا يمكن للآلة أو الأداة أن تشارك طبيعته (38). ويظهر ذلك بوضوح في عمله العظيم «في النفس» ، حيث يتحدث عن العقل باعتباره قدرة مميزة من قدرات النفس، لها خصائص فاعلة ومنفعلة تعمل معًا لتُتيح التفكير الاستدلالي والسلوك الأخلاقي القيمي. ومن ثمّ، فإن أهمية مفهومي القوة والفعل في ميتافيزيقا أرسطو تُقدّم صياغة مختلفة لمشكلة العقل–الجسد عن الصياغة التقليدية الشائعة في فلسفة العقل (39).

انتقل النقاش لاحقًا مع ديكارت(1596–1650) إلى بُعد جديد؛ فقد اعتبر أن الحيوانات ليست سوى "آلات" معقّدة، في حين يظل العقل البشري «جوهر مفكِّر» جوهرًا مفارقًا لا يُختزل إلى مادة. ورغم إمكانية الآلة تقليد بعض أفعال الإنسان، فإنها عاجزة عن إظهار التفكير أو اللغة الحقيقية (40). وقد عُرِّف النموذج العقلي الديكارتي من خلال أربعة عناصر:

1- الوعى باعتباره جوهرًا قائمًا بذاته.

2- القصدية بوصفها حكرًا على الذهن دون المادة.

3- حجاب الإدراك الذي يفصل الذهن عن العالم المادي.

4- شفافية العقل الكاملة، حيث يعرف كل حالة ذهنية يمتلكها (41).

وقد أشار ديكارت أيضًا إلى فكرة "الإنسان الآلي" (automaton)؛ إذ يقول: «ولكن إذا نظرتُ من النافذة ورأيت رجالًا يعبرون الساحة، كما حدث لي للتو، فإنني أقول عادةً إنني أرى الرجال أنفسهم، تمامًا كما أقول إنني أرى الشمع. ومع ذلك، هل أرى أكثر من قبعات ومعاطف قد تُخفي آلات بشرية؟». ويضيف: «لن يبدو هذا غريبًا على الإطلاق لأولئك الذين يعرفون كم من الأنواع المختلفة من الآلات أو الآلات المتحركة يمكن أن يصنعها الإنسان باستخدام عدد قليل جدًا من الأجزاء، مقارنةً بالكثرة العظيمة للعظام والعضلات والأعصاب والشرايين والأوردة وسائر الأعضاء التي يتألف منها جسد أي حيوان» (42). ومن هنا تُطرح فكرة أن الإنسان الآلي إما آلة لها عقل أو إنسان بجسد آلي–ميكانيكي، وهي محاولة لتجاوز الثنائية التقليدية بين الجسد والعقل.

على غرار ديكارت، اهتم ليبنتز (1646–1716) بالجوهر العقلي من خلال ثنائية الإدراك والإرادة، أو بتعبيره: الإدراك والشهوة. لكنّه صاغ رؤيته ضمن إطار روحاني أقرب إلى الميتافيزيقا، حيث مثّلت المونادات وحدات عقلية جوهرية تتعاقب فيها الإدراكات والشهوات بنظام محدّد. فالإدراكات عنده تعكس تعددية العالم من زوايا نظر مختلفة داخل جوهر بسيط (43).

ترك ليبنتز أثرًا كبيرًا في الرياضيات والمنطق، إذ رأى أن الرموز يمكن أن تُستخدم للتعبير عن كيفية تفكير البشر. وقد أثّر عمله مباشرة في جورج بول بالقرن التاسع عشر، الذي وضع الأسس الأولى للاستدلال الرمزي، مؤكدًا أن القضايا المنطقية يمكن معالجتها بلغة رمزية صرفة، وهو ما مهّد لجبر بول (Boolean Algebra) الذي يُعَد أساسًا للمنطق الحاسوبي (44).

كما اقترح ليبنتز "آلة حسابية" باعتبارها نموذجًا للمنطق، لكنه شدّد على أن الحساب الميكانيكي يختلف عن العقل الواعي القادر على إدراك المعاني. وفي «المونادولوجيا» يؤكد أن كل مونادة تمتلك إدراكًا داخليًا لا يمكن لأي آلة مادية أن تحاكيه (45). وهنا يقترب من القضايا التي يناقشها الذكاء الاصطناعي اليوم، مثل التعامل مع المواقف غير المكتملة أو غير المؤكدة من حيث المعلومات. ففي حديثه عن "اللغة الكونية" شبّهها بـ "آلة للتفكير"، وكتب: «عندما نفتقر إلى البيانات الكافية للوصول إلى اليقين في حقائقنا، يمكن أن يكون من المفيد أيضًا تقدير درجات الاحتمال…» (46).

أما هيوم (1711–1776) فقد تناول العقل من منظور تجريبي صارم؛ فالبُنى الأساسية للحياة العقلية هي التصورات، وتنقسم إلى انطباعات تُكوّن التجربة المباشرة، وأفكار تُكوّن الصور الذهنية الباهتة لهذه الانطباعات. كما قسّم الانطباعات إلى انطباعات حسّية (من التجربة الحسية) وأخرى تأملية (من التجربة العاطفية والوجدانية). وهكذا فكل فكرة بسيطة تُنسخ من انطباع بسيط وتُشبهه (47).

ويرى هيوم أن التصورات – سواء كانت انطباعات أو أفكارًا – هي أشياء تُدرَك مباشرة، فنحن "ننسب وجودًا متميزًا ومستمرًا للأشياء التي نشعر بها أو نراها"، وكذلك ننسب وجودًا مستمرًا للانطباعات ذاتها (48). أما الفرق الجوهري بين الانطباعات والأفكار فيكمن في درجة القوة والحيوية التي تؤثر بها على العقل: فالانطباعات هي التجربة الحية المباشرة، بينما الأفكار ليست سوى صور باهتة لها (49). وقد أوضح ذلك في نص شهير يقول فيه: «سيُقرّ الجميع بسهولة بوجود فرقٍ معتبر بين إدراكات العقل حين يشعر الإنسان بألم الحرارة المفرطة أو بلذّة الدفء المعتدل، وبين اللحظة التي يستعيد فيها لاحقًا هذه الإحساسات في ذاكرته، أو يستبقها بخياله…» (50).

وعليه، فإن هيوم لا يرى العقل جوهرًا ثابتًا بل تدفقًا من الانطباعات والأفكار. أما الآلة، فهي وإن بُنيت على أساس الربط السببي، فإنها تبقى عاجزة عن بلوغ الوعي الإنساني أو تمثيل المعنى العميق للتجربة البشرية (51).

5- تصورات ديكارت، ليبنتز، وهيوم حول العقل والتفكير

شكّل موضوع العقل والتفكير إحدى أهم القضايا المركزية في الفلسفة الحديثة. فمع بداية القرن السابع عشر وما تلاه، اتخذ الفلاسفة من العقل الأداة الأساسية لتأسيس المعرفة وتبريرها، غير أنّهم اختلفوا في تحديد طبيعته ووظيفته وحدوده. ففي حين جعل ديكارت من العقل، أي جوهرًا مفكرًا مستقلًا عن الامتداد، ربط ليبنتز العقل بمبدأ النظام الكوني والأفكار الفطرية، بينما قلّص هيوم دوره إلى تنظيم الانطباعات الحسية دون أي أساس قبلي أو فطري.

يُعدّ رينيه ديكارت المؤسس الحقيقي للفلسفة الحديثة، إذ اعتبر العقل جوهرًا مفكرًا متميزًا عن الجوهر المادي الممتد. ويقوم معيار الحقيقة عنده على الوضوح والتميّز، بحيث لا يُقبل من الأفكار إلا ما يتصف بهذه السمة. ومن هنا جاء الكوجيتو الشهير: Cogito, ergo sum (أنا أفكر، إذن أنا موجود)، الذي عده ديكارت أول يقين غير قابل للشك. فالعقل ليس مجرد ملكة من بين الملكات، بل هو ما يؤسس وجود الذات ويميزها عن العالم المادي.(52)

وقد حاول ديكارت أن يستنبط وجود الإنسان من عملية تفكيره، مظهرًا الأولوية المعرفية للعقل على المادة. ففي المبادئ يقول: «المعرفة التي نمتلكها عن عقولنا لا تسبق فحسب تلك التي لدينا عن أجسادنا، بل هي أيضًا أوضح منها». ومن هنا يظهر أن العقل يبحث عن الجسد، وليس العكس. ففي "المقال عن المنهج" يصرّح ديكارت: «كنت أستطيع أن أتصور أنّي بلا جسد، وأنّه لا وجود لعالم أو مكان أكون فيه؛ غير أنّي لم أستطع قط أن أتصور أنّي غير موجود». لقد نجح ديكارت في تصوّر عدم وجود العالم، بما في ذلك جسده ذاته، لكنه فشل في تصوّر عدم وجوده الشخصي، لأن وجود الذات المفكرة مؤكد حتى في لحظة إنكاره.(53)

وتزداد وضوحًا ثنائية النفس والجسد عنده في قوله: «لقد علمت أني جوهر، تتمثل ماهيته أو طبيعته الكاملة في التفكير، وأن وجوده لا يحتاج إلى أي مكان، ولا يعتمد على أي شيء مادي». وهكذا يجعل ديكارت من "الأنا" جوهرًا مفكّرًا مستقلًا، بحيث يمكن للنفس أن تُعرَف وتُدرَك أكثر من الجسد ذاته. ومن هنا يلمّح ديكارت إلى إمكان وجود النفس مستقلة عن الجسد، مؤكدًا التمايز الجوهري بينهما.(54)

في المقابل، قدّم ليبنتز تصورًا مختلفًا، رافضًا الحصر التجريبي للمعرفة، ومؤكدًا أنّ العقل يمتلك أفكارًا فطرية تمكّنه من إدراك المبادئ الضرورية مثل قانون الهوية أو مبدأ العلية. وقد ربط هذه الرؤية بنظريته عن المونادات: وهي جواهر بسيطة غير مادية، لكل منها إدراك ونزوع ، والعقل البشري هو المونادة العليا التي تعكس الكون بأسره. ويُرجع ليبنتز قدرة العقل على إدراك النظام الكوني إلى الانسجام المسبق الذي أودعه الله في العالم. ومن ثمّ يصبح العقل عنده أداة لفهم التناغم الكوني، لا مجرد استقبال سلبي للانطباعات.(55)

أما ديفيد هيوم ، فقد مثّل الاتجاه التجريبي بامتياز، رافضًا فكرة الأفكار الفطرية التي قال بها ديكارت وليبنتز. يرى هيوم أن العقل لا يولّد أي معرفة مستقلة، بل يعتمد على الانطباعات الحسية التي تُعدّ المصدر الأول لكل أفكارنا. ويقوم عمل العقل على الربط بين هذه الانطباعات وفق مبادئ مثل: التشابه، والتجاور في الزمان والمكان، والعادة أو السببية. وقد ميّز هيوم بين:

1- علاقات الأفكار (Relations of Ideas): مثل الرياضيات والهندسة، وهي يقينية لكنها لا تخبرنا شيئًا عن الواقع.

2- مسائل الواقع (Matters of Fact): وهي ما نعرفه بالتجربة فقط.

وبهذا جعل هيوم العقل محدودًا بحدود الخبرة، فلا يتجاوز التجربة الحسية في تأسيس المعرفة.(56)

6- بدايات الربط بين المنطق الرياضي والحوسبة (فريجه، تارسكي، تورينج)

شهد القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تحولات كبرى في التفكير الفلسفي والعلمي، إذ أصبح المنطق الرياضي أداة رئيسية لفهم بنية التفكير واللغة، ومن ثمّ مهد الطريق لظهور الحوسبة الحديثة. وقد مثّل كلٌّ من جوتلوب فريجه، وألفرد تارسكي، وآلان تورينج ثلاث محطات أساسية في هذا المسار؛ فريجه وضع الأساس للمنطق الرمزي، وتارسكي قدّم تعريفًا دقيقًا لمفهوم الصدق في اللغات الصورية، أما تورينج فحوّل تلك الأسس النظرية إلى نموذج رياضي للحوسبة.

أصدر فريجه عمله الشهير "لغة المفاهيم" عام 1879، حيث ابتكر لأول مرة نظامًا رمزيًا يحاكي البنية المنطقية للفكر على نحو صارم يتجاوز منطق أرسطو التقليدي. ويرى فريجه أن التفكير الرياضي يمكن تحليله بلغة شكلية قادرة على التعبير عن القضايا المركبة واستنتاجاتها. ففي الصفحات الأولى يوضح كيف صاغ رموزه لتُمثّل العلاقات المنطقية بين القضايا بعيدًا عن اللغة الطبيعية الغامضة، وبذلك وضع الأساس الأول لربط الرياضيات بالمنطق (57). وكان هدف فريجه في كتابه "أسس علم الحساب" إثبات أن الرياضيات بكاملها يمكن ردّها إلى المنطق عبر نسق صوري صارم ومتكامل (58).

أما ألفرد تارسكي Alfred Tarski(1901- 1983) ، فيُعدّ واحدًا من أبرز فلاسفة المنطق والرياضيات في القرن العشرين. وقد ارتبط اسمه على نحو وثيق بمسألة الصدق في اللغات الصورية، وهي من أعمق المسائل التي واجهت الفلاسفة منذ أرسطو. وقد مثّل مشروعه محاولة لتقديم تعريف دقيق وغير متناقض لمفهوم الصدق، يتجنب المفارقات اللغوية الشهيرة، وعلى رأسها مفارقة الكذاب (59). ومن أبرز صياغاته قوله: «الجملة ’الثلج أبيض‘ صادقة إذا وفقط إذا كان الثلج أبيضً». فهذا التعريف يربط بين اللغة والواقع من خلال مطابقة العبارات مع حال الأشياء، مما أتاح تأسيس علم الدلالة الصوري وأدخل الرياضيات بقوة في دراسة اللغة. لقد كانت مساهمته هذه جسرًا بين المنطق الخالص والتطبيقات اللغوية والفلسفية (60). وقد تطوّرت نظرية الدلالة للصدق على يد تارسكي في ثلاثينيات القرن العشرين، وهي تنطوي على جانبين مترابطين: الأول أنّها نظرية رياضية صورية تُعالج الصدق في إطار نظرية النماذج، والثاني أنّها أطروحة فلسفية تُفصّل هذا المفهوم الذي تناولته الفلسفة منذ العصور القديمة. ومن هنا تُعَدّ هذه النظرية إحدى أكثر الأفكار تأثيرًا في الفلسفة التحليلية المعاصرة (61).

وقبل أن يصبح تورينج "الأسطورة الشبحية" للذكاء الاصطناعي، ظهر تيار آخر هو السيبرنيطيقا (Cybernetics)، الذي أسسه نوربرت فينر (Norbert Wiener) بوصفه حقلًا بينيًا يجمع بين فلسفة العلم والهندسة والبيولوجيا. وقد أثّر هذا التيار في الدراسات المبكرة للشبكات العصبية الاصطناعية (ANNs)، حيث سعى الباحثون إلى نمذجة الذكاء الاصطناعي من منظور بيولوجي واتصالي وهندسي. ومن هنا جاء نموذج M- P الذي قدّمه والتر بيتس (W. Pitts) ووارن مكولّوخ (W. McCulloch) عام 1943، إذ استعملا رموز المنطق الصوري لوصف سلوك الشبكات العصبية. وبعد سنوات، ابتكر عالم النفس فرانك روزنبلات (Frank Rosenblatt) عام 1957 نموذج المُدرِك، وهو شبكة عصبية قادرة على معالجة بعض المهام البصرية الأساسية، وقد لقي رواجًا واسعًا حتى أن بعض وسائل الإعلام الأمريكية أعلنت أن "الآلات على وشك محاكاة الوعي البشري" (62).

لكن النقلة الكبرى جاءت مع آلان تورينج، الذي قدّم مفهوم "الآلة التجريدية" "آلة تورينج" . وقد برهن على أن أي عملية حسابية يمكن اختزالها إلى سلسلة من التعليمات البسيطة تنفذها آلة افتراضية بخطوات متتابعة، وبذلك أسس النظرية الرياضية للحوسبة الحديثة (63). ومن إنجازاته أيضًا اختبار تورينج (1950) الذي صُمم لتعريف الذكاء عمليًا: فإذا لم يتمكن المحاور البشري من التمييز بين ردود إنسان وحاسوب في حوار كتابي، فإن الحاسوب يُعتبر ذكيًا. ولأجل اجتياز الاختبار، يتطلب الأمر قدرات أساسية تشمل:

1- معالجة اللغة الطبيعية.

2- تمثيل المعرفة.

3- الاستدلال الآلي.

4- التعلم الآلي (64).

وقد تجنّب تورينج عمدًا إدخال التفاعل الجسدي في الاختبار، لكنه أشار إلى ما سُمّي لاحقًا بـ اختبار تورينج الشامل، الذي يتطلب من الحاسوب قدرات إضافية كالرؤية الحاسوبية للتعرف على الأشياء، والروبوتات للتعامل مع البيئة المادية (65).

المحور الثاني: الأسس المعرفية والمنطقية

1- دور المنطق الصوري في بناء الخوارزميات

نظرًا لأن علم الحاسوب هو أحد التخصصات التي تتسم فيها الموضوعات التي نرغب في التفكير فيها بدرجة استثنائية من التعقيد، وغالبًا ما تكون مجردة وصورية بحتة، فإن الحاجة إلى المنطق في هذا المجال تتبدى بوضوح خاص.(66)

لقد وُصِف المنطق بأنه حساب التفاضل والتكامل في علم الحاسوب، وذلك لأن المنطق يؤدي دورًا أساسيًا في علم الحاسوب شبيهًا بالدور الذي يؤديه التفاضل والتكامل في العلوم الطبيعية والهندسة التقليدية. فالمنطق يُستخدم في معظم مجالات علم الحاسوب:

1- في بناء الحواسيب مثل معمارية الحاسوب (البوابات الرقمية، التحقق من العتاد)،

2- في هندسة البرمجيات (التوصيف، التحقق)،

3- في لغات البرمجة (الدلالة، نظرية الأنماط، الأنواع المجرّدة للبيانات، البرمجة الكينونية)،

4- في قواعد البيانات (الجبر العلاقي)،

5- في الذكاء الاصطناعي (إثبات النظريات آليًا، تمثيل المعرفة)،

6- في الخوارزميات ونظرية الحساب (التعقيد، القابلية للحساب)، وغيرها.(67)

وانطلاقًا من هذه الاستخدامات، يُعدّ المنطق الصوري حجر الأساس في علوم الحاسوب الحديثة، حيث يوفّر لغة دقيقة لتحليل العمليات الحسابية والخوارزميات. استخدام المنطق الصوري يمكّن الباحثين والمبرمجين من تمثيل المشكلات بدقة عالية، والتحقق من صحة الخوارزميات، وضمان عملها وفق الشروط المنطقية المطلوبة. ووفقًا لـ هوث Huth و رايان Ryan، فإن المنطق الصوري يُستخدم لتحديد خصائص البرامج والخوارزميات بطريقة قابلة للإثبات والتدقيق.(68)

الخوارزمية algorithm هي تسلسل واضح ودقيق وغير ملتبس من التعليمات الأولية، قابل للتنفيذ ميكانيكيًا، ويُقصد به عادةً تحقيق غرض محدّد. وكلمة "خوارزمية" لا تشتق، كما قد يتصور بعض الكلاسيكيين الذين ينفرون منها، من الجذور اليونانية: (ἀριθμός) التي تعني "عدد"، و algos (ἄλγος) التي تعني "ألم". بل هي تحريف لاسم العالم الفارسي في القرن التاسع الميلادي محمد بن موسى الخوارزمي. ويُعرف الخوارزمي على نطاق واسع بكتابه "الكتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة"، الذي اشتُق منه المصطلح الحديث الجبر . وفي مؤلف آخر، وصف الخوارزمي النظام العشري الحديث لكتابة الأعداد والتعامل معها — وخاصة استخدام الدائرة الصغيرة (صفر) للدلالة على الكمية المفقودة — وهو نظام كانت الهند قد طورته قبل ذلك بعدة قرون. وقد عُرفت الطرائق التي وصفها في هذا المؤلَّف، سواء باستخدام الرموز المكتوبة أو الحصى الحسابية، في اللغة الإنجليزية باسم algorism أو augrym، بينما عُرفت رموزه باسم .ciphers (69)

ومع تطور الاستخدام التاريخي، تحولت كلمة "algorism" إلى الكلمة الحديثة "algorithm"، وذلك من خلال ما يُعرف بالاشتقاق الشعبي (folk etymology) من الكلمة اليونانية arithmos (أي: العدد)، وربما أيضًا من الكلمة المذكورة سابقًا algos (أي: الألم). وهكذا، وحتى زمن قريب جدًا، كان مصطلح algorithm يُشير حصريًا إلى الأساليب الميكانيكية للحساب العشري القائم على القيمة المكانية باستخدام الأرقام "العربية". وكان يُطلق على الأشخاص المدرّبين على تنفيذ هذه الإجراءات بسرعة ودقّة اسم algorists أو computators، أو ببساطة:. computers .(70)

وتقوم الخوارزميات على قواعد منطقية واضحة، بدءًا من المنطق البوليني (Boolean Logic) وصولاً إلى (المنطق القضي أو منطق القضايا الكَميّة): (Predicate Logic). يمكن تمثيل شروط اتخاذ القرار، الحلقات التكرارية، والتحقق من الحالات المختلفة داخل الخوارزمية باستخدام المنطق الصوري.(71) على سبيل المثال، يتم استخدام الرموز المنطقية ، ، ¬ لتمثيل الجمع، الجمع المنطقي، والنفي، كما تُستخدم الكميات و في المنطق الوصفي لتحديد خصائص عناصر البيانات المختلفة.(72)

وبناءً على ذلك، يمكن تعريف الخوارزمية بأنها مجموعة من التعليمات أو القواعد المصممة لأداء مهمة أو واجب أو تحقيق هدف محدد. عادةً ما تُصمَّم هذه المجموعة من القواعد بطريقة متسلسلة أو خطوة بخطوة. ومن منظور مبسط، تشبه الخوارزميات الأنشطة اليومية التي تتطلب خطوات محددة لتنفيذ مهمة معينة. على سبيل المثال، وصفات الطهي تشبه الخوارزميات لأنها تسرد مجموعة من التعليمات المتسلسلة التي يجب اتباعها لضمان إعداد الوجبة المطلوبة بشكل صحيح. ومن الناحية التكنولوجية، تمثل الخوارزمية الأساس الذي يسمح لأجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية والمواقع الإلكترونية وما شابهها بالعمل واتخاذ القرارات المطلوبة. وهناك خمس خصائص يجب أن تمتلكها الخوارزمية:

1- الانتهاء: يجب أن تنتهي الخوارزمية دائمًا بعد عدد محدد من الخطوات.

2- الوضوح: يجب أن تكون خطوات الخوارزمية واضحة، مفصلة، وغير غامضة، مع التركيز على ترتيب الخطوات وطريقة تنفيذها.

3- الإدخال: وهو تحويل قواعد الخطوات خطوة بخطوة أثناء الحوسبة لإنتاج الناتج.

4- الإخراج: وهو نتيجة الإدخال التي تُنتج الحل للمشكلة أو المهمة الكلية.

5- الفعالية: يجب أن تكون الخوارزمية قادرة على أداء كل خطوة بشكل صحيح لضمان تحويل الإدخال إلى الإخراج بنجاح ضمن وقت محدود.(73)

ويمكن توضيح دور المنطق الصوري والخوارزميات بأمثلة عملية بارزة، مثل:

1- البرمجة المنطقية: لغات مثل Prolog تعتمد بشكل كامل على المنطق الصوري لتحديد العلاقات بين البيانات والعمليات.(74)

2- التحقق الرسمي للبرمجيات: أدوات مثل Coq(هى نظام إثبات تفاعلي أو أداة برمجية/رياضية) و إيزابيل (Isabelle) (هو مُثبِت براهين تفاعلي أو مساعد براهين) تستخدم المنطق الصوري لإثبات صحة البرمجيات والخوارزميات.(75)

3- تصميم الدوائر الرقمية: يتم تمثيل البوابات المنطقية (AND، OR، NOT) والخوارزميات الرقمية باستخدام المنطق الرمزي، ما يضمن صحة التصميم قبل تصنيعه.(76)

ويُظهر هذا كلّه أن المنطق الصوري يؤدي دورًا حيويًا في بناء الخوارزميات الحديثة، إذ يوفّر أساسًا لتصميم البرامج، التحقق من صحتها، وتحليلها بكفاءة عالية. كما أنّ الاعتماد على المنطق الصوري لا يقتصر على علوم الكمبيوتر النظرية، بل يمتد أيضًا إلى التطبيقات العملية في البرمجة، هندسة البرمجيات، وتصميم الدوائر الرقمية.

ولإيضاح امتداد البعد التاريخي للخوارزميات، يمكن الرجوع إلى الإغريق الكلاسيكيين الذين تعاملوا مع الأعداد (أو بالأدق المقادير) باعتبارها مقاطع مستقيمة بطول معين، وكانوا يتلاعبون بها بأداتين أساسيتين هما: الفرجار (compass) والمسطرة (straightedge). وهما أداتان استُخدمتا منذ قرون في أعمال المسّاحين والمهندسين والمعماريين. وباستخدام هاتين الأداتين فقط، اختزل الإغريق عدة عمليات هندسية معقدة إلى عمليات أولية، بدءًا من نقاط مرجعية معلّمة، مثل: رسم الخط المستقيم الفريد المار بنقطتين مختلفتين، رسم الدائرة الفريدة التي مركزها نقطة معلّمة وتمر بنقطة أخرى، تحديد نقطة التقاطع (إن وُجدت) بين خطين، تحديد نقطة أو نقاط التقاطع (إن وُجدت) بين خط ودائرة، وتحديد نقطة أو نقاط التقاطع (إن وُجدت) بين دائرتين.(77)

2- العلاقة بين نظرية المعرفة والذكاء الاصطناعي

يُعدّ الذكاء الاصطناعي من أبرز حقول البحث في العصر الحديث، حيث يجمع بين العلوم التقنية والأسئلة الفلسفية العميقة. ومن بين الفروع الفلسفية التي ترتبط به ارتباطًا وثيقًا نظرية المعرفة، إذ يتعلق الذكاء الاصطناعي بقدرة الآلة على "المعرفة" والتعلّم واتخاذ القرار، وهي موضوعات أصيلة في النظرية المعرفية منذ أرسطو وحتى الفلسفة التحليلية المعاصرة.(78)

تُعرّف المعرفة تقليديًا بأنها "الاعتقاد الصادق المبرر" (Justified True Belief)، وفق ما قرره أفلاطون في محاورة "ثياتيتوس".(79) وعندما نحاول إسقاط هذا التعريف على الذكاء الاصطناعي، تبرز إشكالية أساسية:

1- هل الآلة تملك "اعتقادًا" بالمعنى الإنساني؟

2- وهل ما تنتجه من مخرجات يمكن وصفه بالصدق أو الكذب؟

تُظهر هذه الأسئلة أن أي نقاش حول الذكاء الاصطناعي لا ينفصل عن نظرية المعرفة، بل يستلهم أسسها في تحليل مفاهيم "المعرفة"، "الصدق"، و"التبرير".(80)

وإذا كان أرسطو قد رأى أن القياس المنطقي هو أداة العقل الأساسية، فإن الذكاء الاصطناعي ورث هذه الرؤية حين ارتبط في بداياته بمحاولة "ميكنة" الاستدلال المنطقي.(81) وهكذا ظهر:

1- في الذكاء الاصطناعي: أنظمة "البرهان الآلي" التي تهدف إلى إنتاج استنتاجات صحيحة من مقدمات معطاة.

2- في نظرية المعرفة: بقاء السؤال الفلسفي حول كيفية ضمان صدق المقدمات ذاتها وكيفية تبريرها.

ومن هنا يظهر الفارق بين المنطق الصوري للآلة والتجربة الإنسانية المليئة بالشك والاحتمال.(82)

وبما أن جوهر الذكاء الاصطناعي يقوم على اكتساب المعرفة، فإن له ارتباطًا وثيقًا بالفرع الفلسفي المعروف بـ نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا)، مما جعل دور الفلاسفة محوريًا في تطويره.(83) وتبعًا لذلك، تشهد الحقول المعرفية اليوم تطورًا ملحوظًا في ظل التقدم في الذكاء الاصطناعي (AI)، الأمر الذي يثير تساؤلات فلسفية حول طبيعة المعرفة الاصطناعية، التحقق، والمصداقية. ويتناول الباحثون هذا التفاعل تحت مسمى "الإبستمولوجيا الرقمية" أو "الإبستمولوجيا الاصطناعية"، إذ يسعون إلى فهم كيفية إنتاج المعرفة عبر الأنظمة الحسابية، وكيف لم يعد الاعتماد على الشك الاحتمالي والأنماط معيارًا حصريًا للحقيقة كما كان في المعرفة البشرية التقليدية.(84)

أ- الحقيقة الخوارزمية وإعادة تشكيل السلطة المعرفية

يقصد بـ"الحقيقة الخوارزمية" تلك النتائج أو المخرجات التي تقدمها أنظمة الذكاء الاصطناعي ومحركات البحث ومنصات التواصل الاجتماعي بوصفها "حقائق" أو "معرفة" موضوعية. غير أنّ هذه "الحقيقة" لا تعكس الواقع بشكل مباشر، بل تُبنى على عمليات إحصائية وخوارزمية تنتجها الشركات التقنية الكبرى.

الخوارزميات هي الوسائل التي تعتمد عليها الحواسيب لأداء مهامها. ومع ذلك، فإن هذه المهام مقيدة بالمنطق الإجرائي؛ وليس من قبيل الصدفة أن لغات البرمجة تتفاعل مع العتاد الصلب على شكل "مجموعات من التعليمات"، وهي مفاتيح إلكترونية منطقية محددة. ومن ثم، يمكن فهم الخوارزميات بصورة أوسع على أنها مجموعات من التعليمات تُنتج نتائج منتظمة. على سبيل المثال، يستشهد إد فين (Ed Finn) بتعريف روبرت سيدجويك (Robert Sedgewick) "البراجماتي" للخوارزمية بوصفها ببساطة "طريقة لحل مشكلة". ويعرّفها توتارو ونينو (Totaro & Nino) بأنها "أحد الأشكال المحددة" للدالة الرياضية. وحتى علماء الحاسوب الأوائل مثل أ. أ. ماركوف (A. A. Markov) أكدوا على الطبيعة الإجرائية للخوارزمية أكثر من أي عناصر تعتمد بالضرورة على البرمجيات. بالنسبة لماركوف، فإن الخوارزميات "تمتلك ثلاثة متغيرات: الدقة، العمومية، والحسم… [لديها] عدد محدود من الحالات التي يمكن وصفها وهي دائمًا توقعية… [وهي] عامة باعتبارها بوابات منطقية قادرة على إصدار بيانات صحيحة/خاطئة وليست أوصافًا محددة لمحتوى الإشارة… وهي حاسمة—إما أن يطلق الشبكة العصبية أو لا، وبالتالي يكون البيان صحيحًا تمامًا أو خاطئًا، ولا توجد تفسيرات أخرى للموقف".(85)

نحن نعيش في عصر الخوارزميات. بشكل متزايد، أصبحت القرارات التي تؤثر على حياتنا—مثل اختيار المدرسة التي نلتحق بها، أو ما إذا كنا سنحصل على قرض سيارة، أو مقدار ما ندفعه مقابل التأمين الصحي—لا تتخذ بواسطة البشر، بل بواسطة نماذج رياضية. نظريًا، ينبغي أن يؤدي هذا إلى مزيد من العدالة: فالجميع يُحكم عليهم وفقًا لنفس القواعد، ويتم القضاء على التحيز. لكن كما تكشف كاثي أونيل في كتابها «أسلحة الدمار الرياضي: كيف يزيد تحليل البيانات الضخمة من عدم المساواة ويهدد الديمقراطية»، فإن العكس هو الصحيح. النماذج المستخدمة اليوم غامضة، وغير منظمة، ولا يمكن الطعن فيها، حتى عندما تكون خاطئة.

وترى أونيل أن الخوارزميات ليست مجرد أدوات تقنية، بل قوى اجتماعية وسياسية تعيد تشكيل السلطة والمعرفة. فهي تعمل كـ"صناديق سوداء" تؤثر على القرارات الفردية والجماعية، وغالبًا ما تؤدي إلى تكريس التمييز الاجتماعي وتوسيع الفجوة الاقتصادية وإضعاف المساءلة الديمقراطية. وإذا تُركت هذه الخوارزميات بلا رقابة، فإنها تتحول من أدوات للحوسبة إلى أسلحة معرفية تهدد العدالة، وتعيد توزيع السلطة بطريقة غير متكافئة بين الأفراد والمؤسسات.وعندما نستعرض كتابها"أسلحة الدمار الرياضى:كيف يزيد تحليل البيانات الضخمة من عدم المساواة ويهدد الديمقراطية" نجد موقفها من الخوارزميات كما يلى:

1- الخوارزميات ليست محايدة

تؤكد كاثي أونيل أن الخوارزميات لا تعمل في فراغ رياضي بحت، بل تعكس خيارات بشرية سابقة تحدد نوعية البيانات المستخدمة، ومعايير النجاح، وما يتم استبعاده. ومن ثمّ فهي ليست محايدة كما يُتصور، بل تحمل في بنيتها التحيزات الاجتماعية والاقتصادية ذاتها التي انبنت عليها. ولهذا تصف أونيل بعض الخوارزميات بأنها «أسلحة دمار رياضي» (Weapons of Math Destruction)، إذ تتميز بخصائص تجعلها بالغة الخطورة: فهي غامضة لا يفهم أحد آليات عملها (أشبه بالصندوق الأسود)، وتطبق على نطاق واسع يشمل ملايين الأفراد في مجالات حيوية، كما أنها في الغالب غير قابلة للطعن أو المراجعة. وتبرز خطورتها بشكل خاص في التعليم، حيث تُستخدم لتصنيف الطلاب والمدارس، وفي سوق العمل عند اختيار الموظفين، وكذلك في العدالة الجنائية عبر التنبؤ بمعدلات الجريمة، فضلًا عن دورها في التمويل والتأمين. في كل هذه المجالات، تميل الخوارزميات إلى إعادة إنتاج الظلم بدلًا من تقليصه، لأنها تعتمد على بيانات تاريخية مثقلة بالتمييز، فتعمل على ترسيخ الفوارق الاجتماعية وتعميقها. ومن ثمّ، تدعو أونيل إلى الشفافية في تصميم هذه النماذج، وإلى وجود رقابة ومساءلة صارمة، بل وتشريعات ومعايير أخلاقية تضبط استخدامها، بحيث لا تتحول إلى أداة لإعادة إنتاج السلطة والهيمنة باسم العلم والموضوعية (86).

ويذهب نيكولاس كار في الاتجاه نفسه عندما يرى أن الاعتماد على محركات البحث، مثل غوغل، جعل الحقيقة مرتبطة بخوارزميات ترتيب الصفحات؛ أي أنها لم تعد عملية كشف معرفي خالص، بل صارت نتاجًا لترتيب احتمالي يفرضه منطق الخوارزمية (87). وهذا ما يشير إلى تحول جذري في مفهوم السلطة المعرفية: فبينما كانت هذه السلطة تاريخيًا مرتبطة بالمؤسسات الأكاديمية أو الدينية أو السياسية، باتت اليوم متمركزة في الشركات التكنولوجية العملاقة التي تتحكم في الخوارزميات وتعيد تشكيل علاقتنا بالمعلومة. وهنا تظهر رؤية شوشانا زوبوف، التي ترى أن هذه الشركات لم تعد تكتفي بالتحكم في تدفق المعلومات، بل تجاوزت ذلك إلى إعادة تشكيل السلوك البشري ذاته عبر السيطرة على البيانات، وهو ما منحها سلطة معرفية غير مسبوقة (88).

ويعزز فرانك باسكوال هذا الطرح في كتابه مجتمع الصندوق الأسود، حيث يوضح كيف أن الخوارزميات السرّية في القطاع المالي أضحت تحكم قرارات الاستثمار والإقراض وإدارة المخاطر. لقد كان يفترض بهذه الخوارزميات أن تحل محل التحيز البشري بآليات موضوعية عقلانية، غير أنها تحولت إلى غطاء للمضاربة والاستغلال، مضاعفةً بذلك من قوة الأشكال الكلاسيكية للاستغلال الذاتي. وما تزال هذه الخوارزميات، المحجوبة خلف طبقات من التعقيد التقني والسرية القانونية، تحول دون أي مساءلة حقيقية للشركات الكبرى، حتى بعد الإصلاحات التي جاءت مثل قانون دود–فرانك (89).

هذا التحول يقودنا إلى إعادة التفكير في مفهوم الحقيقة نفسه. ففي الفلسفة الكلاسيكية، من أرسطو إلى تارسكي، ارتبطت الحقيقة بمطابقة القول للواقع. أما في العصر الرقمي، فقد برزت ما يمكن تسميته بـ«الحقيقة الخوارزمية» التي لا تقاس بالصدق أو الكذب، بل بالكفاءة والفعالية. ويذهب لوتشيانو فلوريدي إلى أن الحقيقة في هذا السياق لم تعد مجرد تمثيل، بل أصبحت «بنية معلوماتية» تعيد صياغة طبيعة المعرفة ذاتها . ويضيف دافيد بير أن ثقة الناس بنتائج الخوارزميات تفوق أحيانًا ثقتهم بالبشر، حتى وإن لم يدركوا كيفية عملها، مما يضفي عليها سلطة قائمة على «حياد مزعوم» للتقنية (90).

وفي الاتجاه ذاته، يوضح دونج هي شين (Donghee Shin) في مقاله "أتمتة نظرية المعرفة" أن أنظمة الذكاء الاصطناعي لا تقتصر على نقل المعرفة أو تنظيمها، بل تنتج الحقيقة نفسها من خلال بنيتها الحسابية والإحصائية. وهي بذلك تعيد تعريف مؤسسات السلطة المعرفية، ليس على أساس البديهيات أو التوافق الثقافي، بل على أساس النماذج الرياضية والتحقق الإحصائي (91).

وأخيرًا، يجدر الإشارة إلى أن هذا الجدل الفلسفي يرتبط بشكل وثيق بتطور «علم المعلومات النظري»، الذي يجمع بين علوم الحاسوب والمنطق الصوري ونظم الاتصالات، ويُعنى بنمذجة أنظمة معالجة المعلومات وتحليلها. فالخوارزميات هنا ليست مجرد أدوات تقنية، بل تشكل بنية معرفية تحدد كيفية جمع البيانات وتفسيرها والتحقق منها (92).

ب- الإمكانيات الأصولية للذكاء الاصطناعي كحقل إبستمولوجي

يستكشف المفكر التكنولوجي المعروف كيفن كيلي (Kevin Kelly) اثني عشر من الضرورات التكنولوجية الرئيسة التي من المتوقع أن تشكّل العقود الثلاثة القادمة وتحوّل حياتنا. واستنادًا إلى الاتجاهات الراهنة، يقدم كيلي خارطة طريق متفائلة للمستقبل، موضحًا كيف أن التطورات مثل الواقع الافتراضي، واقتصاد الطلب الفوري، والذكاء الاصطناعي الشامل، تنبع جميعها من قوى قوية ومترابطة. ومن خلال دراسته لمفاهيم مثل التمكين العقلي، والمشاركة، وإعادة المزج، يكشف عن التفاعل المعقّد بين هذه الاتجاهات وتداعياتها العميقة على طرق عملنا وتعلمنا وتواصلنا. إنه يشجع القرّاء على تبنّي هذه التحولات، موفّرًا رؤى أساسية للتنقل في المشهد المتغيّر للأعمال والتكنولوجيا، ومقدّمًا استراتيجيات عملية للاستفادة من التغييرات القادمة(93).

في هذا السياق، برهن كيلي، في فصل بعنوان « الذكاء الاصطناعي والإبستمولوجيا الفاعلة »، أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة، بل يمثل إطارًا معرفيًا فاعلًا لفهم طبيعة المعرفة ذاتها. فهو يرى أن الذكاء الاصطناعي يُعدّ نهجًا إبستمولوجيًا فعّالًا ، قادرًا على توليد فرضيات واختبارها بطرق لا تعتمد على العقل البشري فقط(94).

ويقول كيلي في هذا الصدد: «يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على إحداث ثورة في حياتنا بشكل أعمق من الثورة الصناعية. حتى الإضافات البسيطة للذكاء الاصطناعي إلى العمليات القائمة تعزز الكفاءة بشكل ملحوظ. الهدف هو جعل هذه القدرة الذكية رخيصة أو حتى مجانية، بما يدعم التجارة والتقدم العلمي. كان الافتراض الأولي أن الحواسيب العملاقة ستستضيف الذكاء الاصطناعي، لكنه سينشأ بدلاً من ذلك من شبكة عالمية من الأجهزة المترابطة، ويتطور مع مساهمة المزيد من الأفراد والبيانات فيه». ويضيف: «من المرجح أن يشبه مستقبل الذكاء الاصطناعي خدمات السحابة التي توفر ذكاءً مستمرًا، بدلاً من وجود كيان واحد متفوق. سيؤدي ذلك إلى موجة من التمكين العقلي عبر قطاعات متعددة، حيث يسعى كل قطاع لاستكشاف طرق لتعزيز عملياته باستخدام الذكاء الاصطناعي. وتشبه هذه الظاهرة التطورات التكنولوجية السابقة مع الكهرباء، حيث يؤدي أتمتة العمليات إلى تحسينات كبيرة»(95)

ج- الدمج بين الأخلاقيات والإبستمولوجيا في الذكاء الاصطناعي

لقد استحوذ الذكاء الاصطناعي (AI) في السنوات الأخيرة على خيال الجمهور، مثيرًا في الوقت ذاته الحماسة والقلق بشأن الإمكانات التحويلية لهذه التكنولوجيا المتسارعة التطور. ومع تزايد تعقيد أنظمة الذكاء الاصطناعي واندماجها في تفاصيل حياتنا اليومية، أخذ يتبلور إدراك متنامٍ بأن تطوير هذه التقنيات وتوظيفها يثيران أسئلة أخلاقية عميقة. وهكذا برز موضوع "أخلاقيات الذكاء الاصطناعي" فجأة كقضية محورية، جاذبًا اهتمام صانعي السياسات وقادة الصناعة والباحثين الأكاديميين والجمهور العام على حد سواء. ويكمن وراء هذا الاهتمام الواسع قلق مشترك إزاء التداعيات الاجتماعية والعواقب غير المقصودة التي قد تنشأ مع اتساع حضور الذكاء الاصطناعي. فما هي الالتزامات الأخلاقية الملقاة على عاتق من يصممون هذه الأدوات التكنولوجية القوية، أو ينفذونها، أو يستخدمونها، وهي أدوات تحمل في طياتها إمكانات هائلة وقد تكون مقلقة أيضًا؟ هذا هو السؤال المركزي الذي يقف في صميم النقاش الناشئ حول البعد الأخلاقي الإنساني للذكاء الاصطناعي. في العدد الافتتاحي من "المجلة الدولية حول المسؤولية"، أوضح المؤسس ورئيس التحرير تيري بيتزل أن مصطلح "المسؤولية" يمكن أن يتسع ليشمل طيفًا من المعاني، بدءًا من المفاهيم الأخلاقية وصولًا إلى القانونية. غير أنّ بيتزل خلص إلى أنّ تركيز المجلة ينصب بصورة عامة على "القضايا المتنوعة والمعقّدة التي يحددها ويثيرها السؤال: من أو ما هو المسؤول عن فعل ماذا، ولصالح من، ولماذا؟".(96)

وانطلاقًا من هذا التساؤل المحوري حول المسؤولية، يصبح من الضروري عند استكشاف الأسس الفلسفية للمسؤوليات الأخلاقية الملقاة على عاتق مصممي الذكاء الاصطناعي النظر في النظريات الأخلاقية والفلسفية التي شكّلت فهمنا للالتزامات التي يتحملها الأفراد والمؤسسات تجاه الآخرين والمجتمع. فهذه الأطر الفلسفية تقدّم رؤى متباينة، وإن كانت متكاملة في جوهرها، حول معنى التصرف الأخلاقي وطبيعة المسؤوليات الأخلاقية. ومن خلال التعمق في طيف من النظريات الأخلاقية، بدءًا من الواجب والنتائج ونظرية العقد الاجتماعي، وصولًا إلى أخلاقيات الرعاية، يمكننا أن نطوّر فهمًا أكثر دقة وشمولًا للاعتبارات الأخلاقية التي ينبغي أن توجه تصميم وتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي. إذ تقدّم كل واحدة من هذه النظريات رؤى مميزة حول طبيعة المسؤولية الأخلاقية، والعوامل التي يجب أخذها في الاعتبار عند إصدار الأحكام الأخلاقية، والمبادئ التي ينبغي أن تؤسس لأفعالنا.(97)

وفي هذا السياق، يأتي مقال "التواصل بين الأخلاقيات وإبستمولوجيا الذكاء الاصطناعي" ليؤكد أن التحدي لا يقتصر على تحديد المسؤوليات الأخلاقية فقط، بل يشمل أيضًا بناء هيكل معرفي أخلاقي شفاف في أنظمة AI. فهو يقترح الانتقال من الثقة في نتائج النظام فحسب إلى الثقة في طريقة الوصول إلى هذه النتائج نفسها، الأمر الذي يدمج القيم الأخلاقية (مثل الشفافية والعدالة) مع الاعتبارات المعرفية.(98)

د- مسألة الوعي والإدراك: هل يمكن للآلة أن "تعرف"؟

تُعدّ مسألة ما إذا كان بإمكان الآلة أن تمتلك وعيًا أو أن تكون قادرة على المعرفة من أعقد الإشكالات في الفلسفة المعاصرة، إذ تقع عند تقاطع نظرية المعرفة وفلسفة الذهن والذكاء الاصطناعي. ويثور السؤال حول ما إذا كان سلوك الآلة – مهما بلغ من التعقيد – يمكن أن يُقارن بالفعل بالمعرفة الإنسانية، أم أنه يظل مجرّد معالجة صورية للرموز دون مضمون دلالي.(99)

وانطلاقًا من هذا التساؤل، يبرز تحدٍّ محوري يتمثل في "مشكلة الإطار"، التي لم تنجح الذكاءات الاصطناعية حتى الآن في حلها بصورة كاملة. فالذكاء البشري يتميّز بخصائص لا يشاركها فيه الذكاء الاصطناعي، من أهمها:

1- القدرة على إصدار حكم مناسب في المواقف المجهولة باستخدام المعرفة الضمنية حتى في غياب قاعدة بيانات كاملة.

2- القدرة على تحديد الأفعال الأكثر أهمية في مواقف تهدد البقاء (حكم الأهمية).

3- القدرة على اختيار فعل محدّد وتنفيذه على الفور، مع تجاهل البدائل الأخرى بشكل حاسم.

ويبدو أنّ الذكاء الاصطناعي عاجز عن امتلاك هذه الخصائص الثلاث، ما لم يُطوَّر ليتمكن من حل مشكلة الإطار.(100)

وعلى الرغم من غياب إجماع قاطع حول تعريف مشكلة الإطار، إلا أنّها تُختزل غالبًا في السؤال: كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحتفظ بـ "المعرفة الضمنية" التي يمتلكها جميع البشر تقريبًا في سياقاتهم اليومية؟ ولتوضيح ذلك، يمكن الاستعانة بمثال روبوت نادل في مطعم: فهو يحتاج إلى معرفة أن الماء يفيض إذا صُبّ بكثرة في كوب، وأن الكوب يتحرك مع الصينية إذا نُقلت، وأن السائل داخل الكوب يتبع حركة الكوب. لكن، لا حاجة لإمداده بمعرفة غير ذات صلة، كأن السائل لا يتبخر بفعل حرارة الاحتكاك عند تحريك الصينية. هذا يوضح أن الذكاء البشري يتسم بالانتقاء الدقيق للمعارف الضرورية تبعًا للسياق، وهي قدرة يفتقر إليها الذكاء الاصطناعي.(101)

وتأكيدًا لذلك، يمكن القول إن الذكاء البشري يحتفظ بالخصائص المميزة السابقة مقارنةً بالذكاء الآلي. فالبشر قادرون على إصدار أحكام في مواقف غير مألوفة، واتخاذ قرارات مستقلة حول الأولويات، وتنفيذ أفعال حاسمة دون التردد أمام بدائل عديدة. ولكي يرقى الذكاء الاصطناعي إلى هذا المستوى، يجب أن يتغلب على مشكلة الإطار التي تظل عقبة مركزية أمام تقدمه.(102)

وفي هذا الإطار، يقدّم هوبيرت درايفوس Dreyfus نقدًا لاذعًا للذكاء الاصطناعي التقليدي، مجادلاً بأن تجاوزه لمشكلة الإطار يتطلب تحوّله إلى ما يسميه "الذكاء الاصطناعي الهيدجري"، أي القادر على استيعاب بُعد "الاستعداد للاستخدام". غير أن مراجعاته لعدة محاولات بحثية – مثل تجارب رودني بروكس على الروبوتات – تكشف محدودية هذه الجهود. فرغم ابتكار بروكس "هيكلية التسلسل التحتاني"، التي مكّنت الروبوتات من الاستجابة المباشرة لمحيطها عبر حسّاساتها، فإن هذه الروبوتات تظل مقيدة بالتفاعل مع الميزات الثابتة للبيئة، من دون فهم السياق أو التغير في الأهمية. وبذلك يخلص درايفوس إلى أن هذه الروبوتات لا تزال عاجزة عن حل مشكلة الإطار.(103)

1- حجة الغرفة الصينية (جون سيرل)

طرح الفيلسوف الأمريكي جون سيرل حجته الشهيرة المعروفة بـ "الغرفة الصينية" من أجل معالجة السؤال الجوهري: هل يمكن للآلة أن تفكر بالفعل؟ فقد قدّم سيرل سلسلة من التساؤلات المترابطة التي قادته إلى صياغة اعتراضه على الذكاء الاصطناعي القوي.

ففي البداية، يذكّرنا بالسؤال القديم المألوف: «هل يمكن لآلة أن تفكر؟» ويجيب بأن الجواب بديهيًا نعم، فنحن في الحقيقة آلات من نوع معين. ثم ينتقل إلى تساؤل آخر: «هل يمكن لتحفة من صناعة الإنسان أن تفكر؟» وعلى افتراض أننا استطعنا تصنيع آلة بنظام عصبي مماثل لنظامنا البشري، فإن الجواب يظل نعم، لأن مطابقة الأسباب تؤدي إلى مطابقة النتائج. ومن ثم يصل إلى السؤال الأكثر تحديدًا: «هل يمكن لجهاز كمبيوتر رقمي أن يفكر؟» وإذا كان المقصود بالكمبيوتر أي تجسيد لبرنامج حاسوبي، فمرة أخرى يبدو الجواب بالإيجاب.

غير أن سيرل يلفت النظر إلى السؤال الأهم: «هل يكفي مجرد امتلاك البرنامج الصحيح ليكون ذلك شرطًا كافيًا للفهم؟» وهنا يجيب بالنفي. فالتلاعب بالرموز الصورية لا يكفي لإنتاج المعنى أو القصدية . وما يبدو من قصدية عند الكمبيوتر ليس إلا انعكاسًا لإدراك المبرمجين والمستخدمين، لا صفةً أصيلة في النظام نفسه.(104)

ومن أجل توضيح موقفه، صاغ سيرل مثال "الغرفة الصينية"، حيث يُظهر أن الإنسان داخل الغرفة – رغم اتباعه تعليمات برمجية دقيقة للتعامل مع الرموز الصينية – لا يكتسب أي فهم للغة الصينية ذاتها. فالبرنامج الشكلي لا يضيف شيئًا إلى قدرة الإنسان على الفهم، وهو ما يبرهن على أن التفكير لا يمكن أن ينشأ من البرامج وحدها. ويرى سيرل أن التفكير يحدث فقط بواسطة نوع خاص من الآلات، هي الدماغ البشري أو ما يماثله من حيث القوى السببية. ولذلك، فالذكاء الاصطناعي القوي – الذي يركّز على البرامج – لم يقدّم شيئًا جوهريًا عن التفكير، لأن البرامج ليست آلات حقيقية. ومن هنا يؤكد أن القصدية ظاهرة بيولوجية مشروطة بالكيمياء الحيوية، كما هو الحال مع الرضاعة أو التمثيل الضوئي التي لا يمكن محاكاتها ببرنامج حاسوبي.(105)

ويضيف سيرل أن التفريق بين "العقول" و"الحالات الذهنية" و"الوعي" يسمح بتمييز جوهري بين الذكاء الاصطناعي القوي والذكاء الاصطناعي الضعيف. فحتى لو افترضنا وجود برنامج يتصرف تمامًا كالعقل البشري، فإن المسألة الفلسفية الأعمق – مسألة الفهم الحقيقي – تظل قائمة من دون إجابة.(106)

ومع ذلك، لم تمر حجة سيرل دون اعتراضات. فقد واجهت "الغرفة الصينية" انتقادات من فلاسفة بارزين مثل روجر بنروز Roger Penrose (2007)، وستيفان هارنارد Stevan Harnard (2007)، ومارك بيشوب Mark Bishop (2007)، وكوبلاند Copeland (1993، 2007). وتنوّعت هذه الاعتراضات بين انتقادات شكلية ومنطقية، وأخرى تتعلق بفهم سيرل لمبادئ الحوسبة والعلوم المعرفية. وأشار بعضهم إلى أن سيرل قد أساء فهم أطروحات تورنج، خصوصًا في خلطه بين "المحاكاة" و"الاستنساخ"، وهو ما جعل نتائجه موضع جدل مستمر.(107)

2- نظرية "آلة تورينج الواعية"

يُعدّ آلان تورينج من أوائل من طرحوا سؤالًا فلسفيًا وعلميًا حول إمكانية تفكير الآلة، إذ قال: «قد نأمل أن تتمكّن الآلات في النهاية من منافسة البشر في جميع مجالات الذكاء الخالص». هذا التصور، الذي عرضه في مقالته الشهيرة عن فلسفة الذكاء الاصطناعي، فتح الطريق أمام أجيال من الدراسات اللاحقة.

وقد شكّلت هذه المقالة لبنة تأسيسية للفكر المتعلق بالذكاء الاصطناعي، ويمكن تلخيص أهم إسهاماتها فيما يلي:

1- طرح لعبة "المضاهاة" التي أظهرت أن الحواسيب قادرة على تقليد التفكير عبر وظائفها، وفنّد الاعتراضات اللاهوتية والرياضية والعصبية والحاسوبية التي أنكرت ذلك.

2- أكد أن التعلم الآلي يمكن أن يستند إلى الثواب والعقاب، وأن الآلة تستطيع اكتساب الحكم الفعّال حتى عبر إشارات غير عاطفية.

3- بيّن أن السلوك غير المتوقع في الأنظمة الذكية ليس عشوائيًا ولا عديم المعنى، بل يمثل انحرافًا محدودًا عن الحساب المتسق.

4- قدّم نموذج "آلة التعلّم"، الذي أصبح مصدر إلهام لتقنيات التعلّم الآلي الحديثة، بما في ذلك فكرة "الانحراف العرضي" في السلوك كوسيلة لتدريب الخوارزميات.(108)

وبعد عقود من أفكار تورينج، حاول لينور بلوم ومانويل بلوم تطوير مفهوم "آلة تورينج الواعية" . وقد اعتمد هذا النموذج على صيغ رياضية ترتكز إلى نظرية "المساحة العالمية" في علم الإدراك، سعيًا لمحاكاة الوعي ذاته أو إعادة إنتاج صورة منه بصورة حسابية. ورغم أن هذه المحاولة لا تزال في نطاق النظرية، إلا أنها تمثل امتدادًا مباشرًا للطريق الذي شقّه تورينج نحو الربط بين الحساب والوعي.(109)

ورغم أن رؤية تورينج لم تتحقق بالكامل حتى الآن، فقد ترك إرثًا فلسفيًا مفتوحًا في صورة سؤال محوري: «من أين يكون أفضل موضع لبدء البحث؟ ... الشطرنج أم الأجهزة؟» وهو سؤال لم يفقد راهنيته، بل دشّن شدّ الحبل المستمر بين من يرون الذكاء الاصطناعي لعبة خوارزميات مجردة، ومن يعتبرونه تجربة مادية وتجسيدًا ملموسًا. وهكذا يستمر أثر تورينج في تأطير النقاش حول الوعي والإدراك الاصطناعي حتى يومنا هذا.(110)

ورغم ما فتحه تورينج ومن بعده بلوم وبلوم من آفاق نظرية لتصور "آلة واعية"، فإن هذه الطموحات تصطدم بحدود علمية وعملية صارمة. فمن جهة، ثمة قيود تجريبية ونظرية تجعل الحديث عن وعي الآلة أمرًا إشكاليًا، أقرب إلى الاحتمال المستقبلي منه إلى الواقع القائم.

3- القيود التجريبية والنظرية على وعي الآلة

منذ أن تعهّد هلمهولتز وديبوا- رايموند وحتى فرويد بأنّه "لا توجد قوى أخرى غير القوى الفيزيائية والكيميائية العادية فاعلة داخل الكائن الحي"، هناك إجماع علمي واسع على أن الدماغ هو "نظام فيزيائي- كيميائي"، وأن "الوعي" هو إحدى أكثر خصائصه تطورًا، حتى وإن لم يوجد توافق حول تفسير الكيفية الدقيقة لذلك. وبالتالي يمكن القول إنّه من الناحية النظرية قد يصبح ممكنًا، عاجلًا أم آجلًا، محاكاة وظائف الدماغ صناعيًا، بما في ذلك الوعي، عبر وسائل فيزيائية- كيميائية. ومع ذلك، فإن الوضع يُشبه حالة "الحياة في أنبوب الاختبار" مع أبسط الكائنات الحية: فجميع مكوّناتها الجزيئية معروفة، لكن لم يتمكّن أحد حتى الآن من إعادة تكوين كائن حي من مكوّناته المنفصلة. فالمسألة ليست نظرية فحسب، بل عملية أيضًا، وهذا ما يجعلها أكثر أهمية.(111)

تشير الأبحاث في علوم الأعصاب والذكاء الاصطناعي إلى أن الوعي الإنساني يتدرج في مستويات: من المعالجة اللاواعية إلى المستويات الأعلى المرتبطة بالوعي التأملي . غير أن أنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية لا تتجاوز المستوى الأدنى ، إذ تفتقر إلى خصائص مثل الوعي بالذات والقدرة على المراقبة الداخلية.(112) ومن ناحية أخرى، يرى بعض الباحثين أن الحديث عن "وعي الآلة" أقرب إلى العلم الزائف، لأنه يفتقر إلى إمكانية التحقق التجريبي ويعتمد على افتراضات فلسفية حول "المسألة الصعبة" للوعي.(113)

تاريخيًا، منذ البدايات الأولى للذكاء الاصطناعي، أشار بيتس وماكولوتش إلى شبكات من الخلايا العصبية الاصطناعية المثالية. وقد تأثّر برنامج الترابط العصبي لاحقًا بشكل سلبي بالنقد الجوهري لمارفن مينسكي، لكنه عاد تدريجيًا إلى أن شهد انفجارًا في الاستخدام والشعبية مؤخرًا مع الشبكات العصبية الاصطناعية. وعلى مدى عقود من أبحاث الحاسوب، تطورت هذه الشبكات من البُنى البسيطة إلى المعقدة، ومن طبقة واحدة من الخلايا العصبية الاصطناعية إلى طبقات متعددة—من "المُدرِك" وصولًا إلى التعلم العميق والمليارات من المعاملات في نماذج اللغة الكبيرة.(114)

ولم يكن النهج الرمزي ("الذكاء الاصطناعي التقليدي الجيد" ، بما في ذلك "منظّر المنطق" الذي أنشأه نيويل وسايمون)، والذي كان سائدًا في بداية أبحاث الذكاء الاصطناعي ويهدف إلى إعادة إنتاج الجوانب المنطقية للذكاء على مستوى وظيفي عالٍ مع إهمال الآليات الدماغية الأساسية، وحده غير كافٍ، بل في النهاية أيضًا لم يتمكن برنامج الشبكات العصبية الاصطناعية من أن يفسر بالكامل تعقيد بنية الدماغ ، إن أُشير إليها أصلًا.

بعد استعراض هذه القيود النظرية والتجريبية التي تكبح الطموح في إعادة إنتاج الوعي حسابيًا، برز اتجاه آخر يسعى إلى تجاوز الجدل العقيم حول إمكان الوعي الآلي من عدمه، وذلك عبر اقتراح معايير كونية يمكن أن تشكّل أرضية مشتركة بين الفلاسفة والعلماء والمهندسين لتحديد متى يمكن وصف الآلة بأنها واعية

4- نحو معايير كونية للوعي الاصطناعي

الوعي الآلي، الذي يُشار إليه في الأدبيات التقنية أيضًا باسم الوعي الاصطناعي، كان موضع نقاش فلسفي وتقني منذ أن باتت الآلات قادرة على إظهار سلوك ذكي اعتمادًا على مجموعة من التعليمات المسبقة. وقد نُشرت في السنوات الأخيرة وفرة من الادعاءات التقنية والهياكل المعمارية حول الكيفية التي يمكن بها لآلة أن تُنشئ وعيًا، من قِبل مجتمع متعدد التخصصات. غير أنّ المجتمعات البحثية المختلفة لا تتفق حتى على تعريفٍ لماهية الوعي، إذ يوجد طيف واسع من النظريات حول طبيعته

ولتجنب هذا الالتباس، نركز على دراسة الوعي الظواهري، أي إدراك الكيفيات المحسوسة من قبل الذات أو الملاحظ أو الحياة. لكن مع ذلك، تعتمد النظريات والأطر الحالية للوعي الآلي على فرضيات فلسفية مثل "قابلية التحقق المتعدد"، وهي فرضية لا يمكن اختبارها تجريبيًا، مما يجعل هذه الأطر التقنية قائمة على افتراضات يصعب إثباتها علميًا.(115)

في محاولة لتجاوز هذه الإشكاليات، قدّم أنور وباديا (2024) خمسة معايير يُقترح اعتبارها أسسًا كونية لتحديد ما إذا كان من الممكن وصف الآلة بأنها واعية، وذلك بغرض توفير أرضية مشتركة بين الفلاسفة وعلماء الأعصاب ومهندسي الذكاء الاصطناعي.(116)

ويبقى السؤال حول قدرة الآلة على "المعرفة" أو الوعي سؤالًا مفتوحًا، تتجاذبه اتجاهات مختلفة:

1- سيرل: الآلة لا تفهم بل تكتفي بالتلاعب بالرموز، والمعرفة تظل حكرًا على الكائن الواعي.

2- بلوم وبلوم: يمكن للوعي أن يُصاغ في نماذج حسابية مثل "آلة تورنغ الواعية".

3- البحوث العصبية: الذكاء الاصطناعي الحالي محدود في مستوى معالجة لاواعية ولا يمتلك خصائص الوعي التأملي.

بعد استعراض الحدود النظرية والتجريبية التي تجعل إمكان وعي الآلة أمرًا ملتبسًا، يتضح أن القضية لا تقف عند حدود الفيزياء أو الأعصاب أو النماذج الحسابية، بل تتجاوزها إلى أسئلة أكثر حساسية تتعلق بالأخلاق والفلسفة العملية. فحتى لو أمكن للآلة أن تُحاكي بعض أنماط الوعي أو أنماط التفكير البشري، يبقى السؤال الأعمق: كيف نتعامل مع كيان قد يمتلك قدرات معرفية أو شبه- معرفية، دون أن يكون له بالضرورة إطار قيمي أو وازع أخلاقي؟ هنا ينتقل البحث من المستوى التجريبي إلى المستوى المعياري، حيث تصبح "الأخلاقيات" هي الميدان الحاسم لفهم حدود ومشروعية الذكاء الاصطناعي.

المحور الثالث: الأسس الأخلاقية والفلسفة العملية

لقد حظيت أخلاقيات الذكاء الاصطناعي والروبوتات بتغطية صحفية واسعة في السنوات الأخيرة، وهو ما يدعم هذا النوع من العمل، لكنه قد يقوّضه أيضًا: إذ تتحدث الصحافة غالبًا وكأن القضايا المطروحة لا تخص سوى التقنيات المستقبلية، وكأننا نعلم سلفًا ما هو الأكثر أخلاقية وكيف يمكن تحقيقه. ومن ثمّ تركز التغطية الإعلامية على المخاطر والأمن، وعلى التنبؤ بالتأثيرات (مثلًا على سوق العمل). والنتيجة أن النقاش ينحصر في مشكلات تقنية بحتة تتمحور حول كيفية تحقيق نتيجة مرغوبة. كما يمكن ملاحظة نتيجة أخرى في النقاشات الجارية ضمن السياسات والصناعة، إذ تتركز على الصورة العامة والعلاقات العامة – حيث يصبح وصف "أخلاقي" مجرد شعار جديد شبيه بشعار "صديق للبيئة"، وربما يُستعمل كنوع من "غسيل الأخلاق". ولكي تُعَدّ المشكلة مشكلة حقيقية في أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، يجب ألّا يكون الصواب فيها واضحًا أو متفقًا عليه مسبقًا. وبهذا المعنى، فإن فقدان الوظائف، أو السرقة، أو القتل عبر الذكاء الاصطناعي ليست في ذاتها مشكلة أخلاقية، لكن السؤال عمّا إذا كانت هذه الأفعال جائزة في ظروف معينة هو المشكلة الأخلاقية الحقيقية.(117)

مع التقدّم التكنولوجي الذي يقودنا نحو مستقبل مكتظ بالروبوتات المستقلة، يزداد التشابك بين سؤال (الوعي) وسؤال (الأخلاق). فإذا كان من الصعب تحديد ما إذا كانت الآلة قادرة على امتلاك حالات وعي حقيقية، فإن الأصعب هو تقرير ما إذا كان يمكن تحميلها مسؤولية أخلاقية عن أفعالها، خصوصًا إذا تعارضت مع القيم الإنسانية. ومن هنا تنبثق إشكالية مزدوجة: من جهة، كيف يمكن لكيان مادي أن تكون له حالات وعي؟ ومن جهة أخرى، كيف نضمن أن هذا الكيان – سواء وُصف بالواعي أو لا – يتصرّف وفق معايير أخلاقية لا تضر بالبشر أو بغيره من الآلات؟

في هذا السياق، تعيد مقالة أيديـدي وجوزيلدره بعنوان «الوعي، القصدية، والذكاء: قضايا تأسيسية في الذكاء الاصطناعي» التأكيد على صعوبة هذا السؤال، مشيرةً إلى طبيعته المراوغة. فقد عملا أولًا على توضيح سبب كون الوعي يطرح مشكلات فلسفية عميقة، ثم اقترحا بناء أنظمة تكون بنياتها الحسيّة والمعرفية – ولا سيما الاستبطانية – موازيةً للنموذج الذي يطرحانه لتفسير الوعي الظواهري.

أما مقالة «الاستدلال السياقي » التي ألّفها بينيريتّي وآخرون، فهي تنقل النقاش من مستوى الوعي الفردي إلى مستوى السلوك في السياق، إذ تشير إلى أنّ كل فعل أو قول إنساني يتضمن افتراضات خلفية لا يمكن فهمها إلا عبر سياق محدّد. ويطرح المؤلفون أن الاستدلال السياقي يتحدد بثلاثة أبعاد: الجزء المحدود من العالم الذي يغطيه التمثيل (، ومستوى التفصيل الذي يوصف به، والمنظور المعرفي الذي يُقدَّم من خلاله. وهكذا يصبح الاستدلال السياقي في جوهره محاولة لفهم كيفية ترابط السياقات المختلفة بعضها ببعض، وهو ما يضيف بعدًا جديدًا لفهم أخلاقيات الذكاء الاصطناعي وسلوكياته.(118)

1- إشكالية حرية الإرادة والمسؤولية في الذكاء الاصطناعي.

تمثل مسألة حرية الإرادة وما يرتبط بها من مسؤولية أخلاقية وقانونية أحد أبرز موضوعات النقاش الفلسفي المعاصر، خصوصًا في سياق الذكاء الاصطناعي (AI). تتساءل الأبحاث عمّا إذا كانت الأنظمة الذكية قادرة على اتخاذ قرارات "حرة" ضمن معنى فلسفي، وإذا كانت، فهل يمكن نسبتها إليها مسؤولية كاملة مثل البشر؟.(119)

وانطلاقًا من هذا التساؤل الفلسفي، تنتقل الإشكالية إلى بُعدها العملي، حيث إن بروز الكيانات الذكية اصطناعيًا وانتشارها (ويُشار إليها لاحقًا أيضًا بالوكلاء الاصطناعيين أو الذكاء الاصطناعي) يثير أسئلة حول المسؤولية القانونية والالتزام بالمساءلة. ويرجع ذلك إلى أن بعض الكيانات الذكية اصطناعيًا لا تحتاج إلى تدخل بشري للقيام ببعض الأفعال، كما أن أفعالها لا تتبع بالضرورة أنماطًا مبرمجة مسبقًا. وبالنظر إلى التطورات في مجال التعلّم الآلي، يبدو أن بعض الوكلاء الاصطناعيين يتصرفون بشكل مستقل، وأن المزيد منهم سيتصرف باستقلالية متزايدة في المستقبل. وهذا يؤدي إلى وجود فجوة في المساءلة القانونية، حيث تزداد احتمالية وقوع حالات يحدث فيها ضرر لا يكون أحد مسؤولًا عنه وفقًا للقانون الإيجابي الساري، مع أن هذا الضرر لا ينبغي – على ما يبدو – أن يتحمله الكيان المتضرر وحده.(120)

ومن هنا برزت الحاجة إلى نقاش واسع حول كيفية سد هذه الفجوة في المساءلة، سواء على المستوى السياسي أو الأكاديمي. ويوجد ثلاث تصورات خاطئة (مترابطة) وهى الاعتقاد بأن الكيانات الذكية اصطناعيًا:

أ- لا يمكن تحميلها مسؤولية قانونية عن أفعالها، لأنها لا تمتلك الخصائص اللازمة لتكون "وكلاء حقيقيين"، وبالتالي فهي لا تستطيع "التصرّف حقًا".

ب- لا ينبغي تحميلها مسؤولية قانونية عن أفعالها، لأنها لا تمتلك الخصائص اللازمة لتكون "وكلاء حقيقيين"، وبالتالي فهي لا تستطيع "التصرّف حقًا".

ج- لا ينبغي تحميلها مسؤولية قانونية عن أفعالها، لأن القيام بذلك سيسمح لوكلاء آخرين (بشريين أو مؤسسيين) بالاختباء وراء الذكاء الاصطناعي والتهرّب من المسؤولية، في حين أنهم هم الذين يجب أن يتحملوها.(121)

2- حرية الإرادة في عصر الذكاء الاصطناعي والشخصية القانونية

وإذا كان النقاش السابق قد ركّز على فجوة المساءلة القانونية، فإن التطور المنطقي له يقود إلى التساؤل عن الوضع القانوني للذكاء الاصطناعي نفسه. لا يمكن تحميل الذكاء الاصطناعي مسؤولية قانونية لأنه ليس وكيلاً (فاعلًا). فعلى سبيل المثال، يشير كويكلبرج (Coeckelbergh) إلى أن: «المشكلة التي تبرز بشكل خاص في حالة الذكاء الاصطناعي هي مسألة إسناد المسؤولية. وبما أن التقنيات لا يمكن أن تكون فاعلين أخلاقيين مسؤولين، ومن ثم فهي "لا- مسؤولة"، فإن السبيل الوحيد لضمان الفعل المسؤول هو جعل البشر مسؤولين.» ويكتب داهيات (Dahiyat) قائلاً: «سأجادل بأن القانون (الإيجابي) باعتباره بناءً اجتماعيًا هو مستقل (مفاهيميًا) عن أي "فاعلية حقيقية" مُتصوّرة، أي أن القانون يمكنه تقنيًا أن يعتبر الكيانات وكلاء قانونيين حتى وإن لم يكونوا "وكلاء حقيقيين". غير أن مجرد الإمكانية التقنية لا تعني أن القانون يجب أن يفعل ذلك. وهذا ما سأتناوله في القسم...». ويضيف بعض المعلّقين بأن: «الوكلاء البرمجيين ليسوا سوى معلومات مبرمجة، وأننا سنرتكب أخطاء مفهومية جسيمة إذا نسبنا إليهم مسؤولية قانونية أو أخلاقية، أو إذا افترضنا ببساطة أنهم يمتلكون ما نعتبره موجودًا عندما نحمّل البشر مسؤولية أفعالهم. ذلك لأن الوكلاء البرمجيين، بخلاف البشر الذين يتمتعون بالحسّ الذاتي والتحديد الذاتي والبعد الأخلاقي، يفتقرون إلى عدد من الشروط التي ينبغي توافرها لكي تُسند إليهم المسؤولية.»(122)

ويمتد النقاش هنا إلى أبعاد أعمق، حيث يناقش(تشو زن) Zhu Zhen التحديات التي تفرضها التقنيات الحديثة (من الجينات إلى الذكاء الاصطناعي) على مفهومي الإرادة الحرة وتحديد المسؤولية القانونية. ويشير إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُمثل إشكالاً مباشرًا يتطلب إعادة النظر في مفهوم "الغفران" (في القانون، كما أن تطوير ذكاء اصطناعي عام (AGI) قادر على اتخاذ قرارات مستقلة قد يؤدي إلى مقام قانوني جديد بوصفه "فردًا قانونيًا".(123)

ويؤكد هذا التوسع في النقاش ما أشار إليه بروزِك (Brożek) وياكوبييتس (Jakubiec) من وجود طيفٍ من المواقف الممكنة بخصوص المسؤولية القانونية للكيانات الذكية اصطناعيًا. وتقع على طرفي هذا الطيف رؤيتان متقابلتان هما: التقييدية (restrictivism) والتساهلية أو التسامحية (permissivism). فالتقييدية: «تنفي إمكانية تحميل الآلات المستقلة مسؤولية قانونية استنادًا إلى أسس ميتافيزيقية بحتة» بينما التساهلية: «لا تفرض أي قيود على البُنى القانونية الممكنة». تذهب التقييدية إلى نفي إمكانية تحميل الكيانات الذكية اصطناعيًا مسؤولية قانونية، انطلاقًا من أنها تفتقر إلى الخصائص الجوهرية اللازمة للمسؤولية القانونية (والأخلاقية). ومن بين المرشحين لتمثيل هذه الخصائص الأساسية: الوعي، القصدية، القدرة على الفعل القصدي، الإرادة الحرة (بالمعنى التحرّري)، الاستقلالية، القدرة على المداولة، والتوافق بين أسباب الفعل (بالمعنى التبريري لا بمعنى الآليات أو العلل) وبين الأفعال ذاتها، وغير ذلك. وبلغة قانونية أدق، لا يمكن تحميل الذكاء الاصطناعي المسؤولية لأنه يفتقر إلى القدرة على الفعل والقدرة على أن يكون مذنبًا أو جديرًا باللوم.(124)

3- القدرات المعرفية للإرادة الحرة التي لا يمكن تكرارها في الذكاء الاصطناعي

وبعد استعراض الجدل القانوني والفلسفي حول المسؤولية، يصبح من الضروري العودة إلى جوهر المسألة: الإرادة الحرة ذاتها. فعلى مدى عقود عدّة، أسهم الذكاء الاصطناعي – سواء فُهم كحقل علمي أو كسلسلة من منتجات العلوم الروبوتية المتزايدة تطورًا – في إعادة التفكير في بعض المفاهيم المميزة للأنثروبولوجيا، بما في ذلك مشكلة الإرادة الحرة، وهي القدرة المعرفية التي شُكّك فيها بجدية من قِبل علم وظائف الأعصاب خلال الخمسين عامًا الماضية، لكنها تعود اليوم لتحتل مركز الصدارة عند بناء الخوارزميات القادرة على الفعل.(125)

إن الإرادة الحرة تمثل قدرة معرفية خاصة بالبشر لا يمكن تقليدها في أنظمة الذكاء الاصطناعي. مركزيًا، هناك شروط ضرورية لمقارنة البشر والأنظمة الخوارزمية من منظور فلسفي منهجي.(126)

4- الإرادة الحرة الوظيفية في الوكلاء المولّدين

وبينما يظل النقاش الفلسفي يركز على تميّز الإرادة الحرة البشرية عن قدرات الأنظمة الاصطناعية، فإن بعض الاتجاهات النظرية الحديثة تقترح إعادة تعريف المفهوم بصورة وظيفية، تسمح بتطبيقه على الذكاء الاصطناعي. فإذا كنا على استعداد لأن نقول إنّ البشر — كنظم تركيبية تتألف من وحدات بنائية تبدو بلا عقل — يمتلكون إرادة حرة، فعلينا أيضًا أن نقبل أنّ البنية الميكانيكية الأساسية لنظام الذكاء الاصطناعي بحدّ ذاتها لا تستبعد امتلاك مثل هذا النظام للإرادة الحرة. فالنظام الاصطناعي يمتلك إرادةً حرة إذا وفقط إذا كان يمتلك وكالة قصدية، وإمكانيات بديلة للاختيار، وسيطرة سببية على أفعاله. لذا يجب استخدام نفس المعايير لتحديد وجود الإرادة الحرة في الذكاء الاصطناعي التي نستخدمها أيضًا في حالة البشر أو الحيوانات البيولوجية. كيف نتحقق من أن نظامًا معينًا يستوفي تلك الشروط؟ هنا تكون منهجية دينت (Dennett) في عمله حول «الموقف القصدّي» مفيدة، فهو يقترح أنّه لتحديد ما إذا كان نظامٌ ما وكيلاً قصدياً، فلا ينبغي أن ننشغل كثيرًا بالأسئلة الميتافيزيقية العميقة، بل نسأل ما إذا كان بالإمكان تفسير النظام تفسيرًا جيدًا إذا نظرنا إليه كوَكِيلٍ قصديّ. بالنسبة لدينت، «أَيُّ شيء يمكن التنبؤ به بشكل مفيد وكثيف من الموقف القصدّي فهو، بحكم التعريف، نظامٌ قصدي». وبناءً على هذا القول، فإنَّ أن تكون وكيلاً قصدياً يعني ببساطة أن تكون نظامًا يمكن تفسيره جيدًا عند اتخاذ موقف قصدّي تجاهه. وبذات المنوال، يمكن أن نقترح أنّ أيّ شيء يُفسَّر جيدًا إذا اعتبرناه نظامًا ذا وكالة قصدية، وإمكانيات بديلة، وسيطرة سببية على الأفعال الناتجة، يجبُ اعتباره ذو إرادة حرة.(127)

وتماشيًا مع هذا المنظور الوظيفي، فإنه لتحديد ما إذا كان نظام ما يمتلك إرادة حرة، ينبغي أن نسأل عمّا إذا كانت لدينا أسباب تفسيرية وجيهة للنظر إلى هذا النظام بوصفه كيانًا يستوفي الشروط الثلاثة: (1) فاعلًا قصديًا، (2) يمتلك بدائل ممكنة للاختيار بينها، و(3) يملك سيطرة على أفعاله.(128)

وفي دراسة نشرت في "الذكاء الاصطناعي والأخلاقيات" عام 2025 بعنوان«الذكاء الاصطناعي والإرادة الحرة: الوكلاء المولَّدون باستخدام النماذج اللغوية الضخمة يمتلكون إرادة حرة وظيفية» ، يرى الباحث أن الوكلاء الاصطناعيين المبنيين على نماذج لغوية ضخمة (LLMs)، مدعومين بوحدات تخطيط وتنفيذ، يظهرون سلوكًا وكلّيًا وصفه بأنه يعكس إرادة حرة وظيفية . هذه "الإرادة" تستند إلى ثلاثة شروط فلسفية: الوكالة ذات النية، وجود خيارات حقيقية، والتحكم في الأفعال، مستندًا إلى مقاربات دانيل دينيت (Dennett) وكريستيان ليست List .(129)

وإذا كان من الممكن النظر إلى بعض الوكلاء الاصطناعيين على أنهم يمتلكون إرادة حرة وظيفية، فإن السؤال التالي يفرض نفسه: ما القيمة الأخلاقية والقانونية المترتبة على هذا الاعتراف؟ هنا يطرح النقاش مسألة المساءلة بوصفها الامتداد العملي الأهم لهذا الجدل الفلسفي.

5- إشكالية المساءلة الأخلاقية وقيمتها في الذكاء الاصطناعي

تطرح الدراسة علميًا أن اعترافنا بأن هذه الأنظمة تمتلك إرادة وظيفية (حتى وإن لم تكن إيديولوجية) يُقربها من مسؤولية أخلاقية قانونية. ويشير الباحث الفنلندي فرانك مارتيلّا Frank Martela إلى أن امتلاك هذه الشروط يجعل من الضروري إعادة التفكير في حرية وكفاءة الآلة.(130)

تجد أحدث دراسة لفرانك مارتيلّا أن الذكاء الاصطناعي التوليدي يستوفي الشروط الفلسفية الثلاثة للإرادة الحرة — وهي: القدرة على امتلاك وكالة موجَّهة نحو غايات، واتخاذ خيارات حقيقية، وامتلاك التحكم في أفعاله. وبالاستناد إلى مفهوم الإرادة الحرة الوظيفية كما فُسِّر في نظريات الفلاسفة دانيال دينيت وكريستيان ليست، درست هذه الدراسة وكيليْن توليدييْن مدعومين بنماذج لغوية كبيرة (LLMs): الوكيل Voyager في لعبة Minecraft، والطائرات المسيَّرة القاتلة الافتراضية المسماة Spitenik، والتي تمتلك الوظائف الإدراكية للطائرات غير المأهولة المعاصرة. يقول مارتيلّا: «يبدو أن كليهما يستوفي الشروط الثلاثة للإرادة الحرة — ومع الجيل الأحدث من وكلاء الذكاء الاصطناعي علينا أن نفترض أنهم يمتلكون إرادةً حرة إذا أردنا أن نفهم كيفية عملهم ونتمكن من التنبؤ بسلوكهم». ويضيف أن هذه الدراسات التطبيقية قابلة للتعميم على الوكلاء التوليديين المتاحين حاليًا والمعتمدين على النماذج اللغوية الكبيرة.(131)

يتضح من خلال هذه المراجعات أن العلاقة بين حرية الإرادة والمسؤولية في الذكاء الاصطناعي تنبثق عبر محاور فلسفية وقانونية كثيرة:

1- يجب إعادة تعريف الحرية القانونية في ضوء قدرات الوكلاء الاصطناعيين المتقدمة.

2- بعض الحجج ترى أن الإرادة الحرة لدى البشر فريدة وغير قابلة للاستنساخ.

3- آخرون يؤسسون لمفهوم "الإرادة الحرة الوظيفية" التي يمكن تعيينها لوكلاء اصطناعيين بالنظر إلى سلوكهم العملي والوكالة.

4- يبقى تحديد المساءلة الأخلاقية / القانونية مرهونًا بتوسيع الفهم القانوني والأنثروبولوجي للقرار والوعي.

6- العدالة والتمييز: قضايا الانحياز في الخوارزميات

بعد أن رأينا كيف يثير النقاش حول الإرادة الحرة في الذكاء الاصطناعي تساؤلات حول المسؤولية الأخلاقية والقانونية، يبرز بُعد آخر لا يقل خطورة، وهو البُعد المرتبط بالعدالة والتمييز. فإذا كان الاعتراف بالوكالة والاختيار الحر يفتح المجال للمساءلة، فإن تطبيقات الذكاء الاصطناعي في القطاعات الحيوية تكشف عن إشكاليات أعمق تتعلق بإنصاف الأفراد والجماعات، وتكشف عن التحيّزات المتأصلة في البيانات والخوارزميات.

أصبحت قضايا العدالة والتمييز في الخوارزميات ذات أهمية متزايدة، مع توسع استخدام الذكاء الاصطناعي في قطاعات حرجة كالتوظيف، العدالة الجنائية، الرعاية الصحية، والائتمان المالي. إن الانحياز القائم على بيانات غير ممثلة أو نماذج غير عادلة يمكن أن يعزز التفاوتات الاجتماعية القائمة، مما يتطلب البحث في طرق التحقق والتخفيف من هذه التأثيرات.(132)

أ- مصادر الانحياز وأنواعه

في الآونة الأخيرة، أصبحت هناك لوائح وتوصيات مختلفة بشأن استخدام التكنولوجيا القائمة على الذكاء الاصطناعي، وخاصة في المجال القضائي. ومن أبرز المخاوف المطروحة مسألة التحيّز في هذه الأنظمة. ففي عام 2016، نشرت منصة "من أجل العامة" أو "لصالح الجمهور" تقريرًا لاذعًا حول استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في اتخاذ القرارات المتعلقة بحقوق الأفراد والتزاماتهم، كاشفةً أن هذه الأنظمة تميل إلى إعادة إنتاج التحيّزات القائمة وتعزيزها. وتكمن المشكلة في الحاجة الكبيرة إلى بيانات تدريب ضمن تقنيات التعلّم الآلي، وهي غالبًا ما تستند إلى بيانات سابقة مثل الأحكام القضائية. على سبيل المثال، تبيّن أن نظام الكفالة في الولايات المتحدة متحيّز بشكل مقلق ضد الأمريكيين من أصول إفريقية. وحتى الجهود المبذولة لتجنّب الإشارة إلى السمات المحمية لم تكن كافية، إذ تبيّن أن ما يُسمّى بـ "العدالة عبر التجاهل" قد أُضعف بفعل الخصائص البديلة. ومن ثمّ، فإن معالجة التحيّز في أنظمة الذكاء الاصطناعي تمثّل قضية بالغة الأهمية مع تزايد انخراط الوسائل الآلية في البيئات القضائية.(133)

تنشأ الانحيازات في أنظمة الذكاء الاصطناعي من عدة مصادر رئيسية:

1- انحياز البيانات: البيانات المدرّبة قد تعكس تحيّزات مجتمعية، مثل التحيّز العرقي أو الطبقي.(134)

2- الانحياز الفني: ناتج عن خوارزميات التصميم أو إعداد النماذج بطريقة غير مناسبة.

3- الانحياز الناشئ: يتطوّر أثناء استخدام الأنظمة ضمن سياقات جديدة أو غير مصمّمة لها.(135)

ب- التمييز الخوارزمي في القرارات الجنائية

لقد اتسم محيط المحاكم ومجال العدالة دائمًا بنزعة محافظة نسبيًا، كما يتضح من الرمزية القضائية التي تحيل إلى مُثلٍ تعود إلى اليونان القديمة. وينعكس ذلك أيضًا في موقفه من تبنّي التقنيات الحديثة، وهو ما تسارع إيقاعه – بلا شك – بفعل جائحة كوفيد- 19. لقد تجاوز اعتماد التقنيات الجديدة تدريجيًا حدود “الافتراضية البسيطة” للإجراءات عبر برامج عقد المؤتمرات المرئية، إذ نشهد اليوم إدماجًا متزايدًا لأنظمة مختلفة قائمة على الذكاء الاصطناعي. وإلى جانب الاستخدام العام للتقنيات، يتخذ الذكاء الاصطناعي أدوارًا أكثر جوهرية، منتقلاً من المهام الإدارية البسيطة نحو أنظمة اتخاذ القرار، وإن كان ذلك – حتى الآن – في صورته “الأكثر أمانًا”، أي بوصفه نظامًا مساعدًا أو داعمًا في عملية صنع القرار.

وعلاوةً على القيود التقنية، فإن اقتصار تبنّي هذه الأنظمة – حتى اللحظة – على الدور المساعد مردّه أيضًا إلى أسباب أخرى متعدّدة: اجتماعية وتقنية ومسائل تتعلق بالمسؤولية. فمنذ مطلع الألفية، توقّع تاتا أن موقع الذكاء الاصطناعي في القضاء كان يُنظر إليه دومًا من زاوية العملية الإدراكية لا من زاوية اجتماعية، وهو ما يتجاهل الدور الذي يضطلع به القضاء داخل المجتمع. فدور القضاء يُنظر إليه غالبًا باعتباره مؤسسة بشرية تؤدي جهدًا إنسانيًا في جوهره هو تحقيق العدالة. لذلك فإن الإدماج التدريجي لمثل هذه التقنيات يمنحنا فرصةً لسدّ فجوة الثقة المتصوَّرة عند إسناد عملية إنسانية أصيلة إلى فاعلين غير بشريين.(136)

سبّب استخدام أدوات تنبؤية مثل COMPAS "التنميط الإداري للمخالفين الإصلاحي من أجل العقوبات البديلة". جدلًا واسعًا بعد أن أظهر تحيّزًا واضحًا ضد المدعى عليهم السود مقارنةً بالبيض، مما أثار دعوة لتطبيق مفاهيم العدالة الآلية المتكافئة.(137)

استنادًا إلى هذا التحليل، الذي سيعتمد على عرض التقنيات ذات الصلة وكذلك على الأطر القائمة لمعالجة اتخاذ القرار المتحيّز، يجب فهم القضايا التالية:

1- هل يُشكّل التحيّز الخوارزمي مشكلة بالنسبة للتقنيات القضائية القائمة على الذكاء الاصطناعي سواء في صورتها المساعدة أو الجوهرية؟

2- إذا كان الأمر كذلك، فما السُبل الممكنة للعلاج؟

3- ما أوجه الاختلاف بين متطلّبات اتخاذ القرار غير المتحيّز عند البشر وعند الآلات؟(138)

تُعَدّ مسألة التحيّز مجالًا يحظى باهتمام واسع من كلٍّ من القانون وعلوم الحاسوب، حتى أنها في ميدان الذكاء الاصطناعي تكاد تُشكّل فرعًا فرعيًا قائمًا بذاته للدراسة. وبناءً على ذلك، لا تستطيع هذه المقالة أن تقدّم عرضًا شاملًا للجانب التقني من هذه المشكلة، لكنها ستصفه بالقدر اللازم لفهم السياق. أما من الناحية القانونية، فإن مسألة التحيّز لا تندرج فقط ضمن نطاق الحقوق التي يشملها الحق في محاكمة عادلة، بل إن هناك قدرًا كبيرًا من السوابق القضائية والأعمال النظرية التي تشير إلى أهمية هذا الحق.(139)

وبالاستناد إلى المعارف المرتبطة بالتحيّز في المجالين ذوي الصلة باتخاذ القرار الخوارزمي – علوم الحاسوب والقانون – يمكننا الخروج بملاحظتين أساسيتين:

أولًا، وبالاستعانة بمجال علوم الحاسوب، لاحظنا أن التخفيف من التحيّز يتطلّب تحديده ورصده، وهو ما يمكن القيام به عبر إجراء اختبارات تتابع مخرجات عملية اتخاذ القرار للتحقق من وجود أنماط سلبية.

ثانيًا، ومن المنظور القانوني، تبين أن هناك إطارًا وضعته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان للكشف عن اتخاذ القرار المتحيّز. ويتكوّن هذا الإطار من جزأين: الاختبار الذاتي والاختبار الموضوعي.(140)

ج- إعادة تعريف العدالة في الرعاية الصحية القائمة على الذكاء الاصطناعي

إن رقمنة السجلات الصحية وبيانات المطالبات في أوائل العقد الأول من الألفية الثانية زادت بشكل كبير من إمكانية الوصول إلى بيانات الرعاية الصحية واستخدامها، مما دفع للاستثمار في أدوات التنبؤ في صناعة الرعاية الصحية. وتستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي (AI)، التي تشمل فروع التعلم الآلي والتعلم العميق، مجموعات كبيرة من البيانات لإجراء التنبؤات، وقد تم تطويرها للشركات التأمينية والمستشفيات ومجموعات الأطباء لمساعدتهم في اتخاذ القرارات المتعلقة برعاية المرضى، وتوظيف الموارد البشرية، وتشخيص الحالات، وأكثر من ذلك.

لقد وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) على أكثر من 500 جهاز مدعوم بالذكاء الاصطناعي حتى عام 2023، كما تم تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالالتزام بالعلاج، وظهور الأمراض، والاستشفاء لمجموعات التأمين وإدارة صحة السكان.(141)

في خضم تحليل نماذج تعلم آلي للرعاية الصحية، لاحظ الباحثون أن استخدام بعض مؤشرات مثل الإنفاق الطبي السابق كمعيار للوصول إلى الخدمات أدى إلى تهميش مرضى سود، رغم حاجتهم الفعلية للرعاية، مما يتطلب إعادة بناء مفهوم العدالة ليشمل البُعد التوزيعي والاجتماعي للعلاقات.(142)

د- مقاربة شاملة للعدالة والحد من التحيّز

يمتلك الذكاء الاصطناعي مجموعة واسعة من التطبيقات في مجال الرعاية الصحية، بما في ذلك تحليل الصور الطبية، والمساعدين الافتراضيين، ودعم اتخاذ القرار السريري، والتحليلات التنبؤية، والمراقبة عن بُعد للمرضى، والتواصل الصحي. وحتى تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي لا تؤثر بشكل مباشر على اتخاذ القرارات الطبية قد تؤثر على استخدام الرعاية الصحية.

على سبيل المثال، تُستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحسين جداول المواعيد في عيادات الأطباء. ويكمن الأثر المحتمل لهذه التطبيقات على نتائج الصحة في أن المريض الذي لا يتمكن أبدًا من زيارة الطبيب يفقد فرصة التشخيص والعلاج. أما داخل العيادة، فقد تغير المعلومات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي قرار الطبيب بشأن خطة العلاج، أو تؤثر على المرضى الذين يوافق التأمين الصحي على حصولهم على خدمات إضافية أو علاجات باهظة التكلفة، أو تؤثر على أوقات الانتظار للمواعيد.

نظرًا للتأثير المحتمل للذكاء الاصطناعي على رعاية المرضى، من المهم تقييم جودة التنبؤات التي يولّدها.(143)

تتناول الأدبيات العلمية الحديثة السياسات المقترحة لمعالجة قضايا العدالة والانحياز في الخوارزميات، حيث تؤكد على ضرورة إرساء مبادئ وممارسات شاملة تضمن الشفافية، وقابلية التفسير، وتقييم الأداء عند الاستخدام الفعلي. ومن أبرز هذه السياسات:

1- وضع إجراءات للتقليل من التحيّز في بيانات التدريب.

2- اعتماد معيار العدالة الفردية الذي يقرّ بأن "الأفراد المماثلين يجب أن يُعاملوا بطريقة مماثلة"، لاسيما في مجال الرعاية الصحية.(144)

ويتضح من ذلك أن أهمية معالجة العدالة والانحياز في الخوارزميات تتجسد في عدة مستويات مترابطة:

1- الوعي بأن الخوارزميات ليست أدوات محايدة بالضرورة، بل قد تُكرّس أو تزيد التمييز القائم إن لم تُصمم وتُستخدم بوعي.

2- الفصل بين مفهوم العدالة ومظاهر التحيّز عبر إجراءات واعية تشمل مراحل التصميم والتطوير والتطبيق.

3- تطوير معايير علمية وأخلاقية متفق عليها لضمان أن يصبح الذكاء الاصطناعي وسيلة لتعزيز العدالة والإنصاف بدلًا من أن يتحول إلى أداة لإعادة إنتاج التفاوتات.

7- أخلاقيات الروبوتات: من يحدد القواعد؟ الإنسان أم الآلة؟

يثير التساؤل عن من يضع قواعد الأخلاق للروبوتات—هل هو البشر أم يمكن للآلات أن تحدد قواعدها الأخلاقية؟—إشكالية فلسفية وتقنية بالغة الأهمية. تتقاطع هنا أخلاقيات الروبوتات (roboethics)، نظرية المسؤولية، وتنظيم التصاميم البرمجية، في إطار يرمي إلى فهم جدية الإجراءات الأخلاقية التي يمكن أو ينبغي تضمينها ضمن الأنظمة الذاتية.(145) ومن هنا بدأ الباحثون والمهندسون في التساؤل عمليًا: كيف يمكن إدماج الأخلاق في الأنظمة الذكية؟

وقد بدأ المهندسون (وبعض الفلاسفة) في مجال الذكاء الاصطناعي والروبوتات منذ أواخر تسعينيات القرن العشرين بدراسة طرق إدماج «الأخلاق» في الأنظمة الحاسوبية للروبوتات. وتُعرف هذه الدراسات باسم «الأخلاق الاصطناعية» أو «أخلاقيات الآلة». ويتمثّل هدفها في تطوير وكلاء قادرين على التصرف أخلاقيًا من دون تدخل بشري في اتخاذ القرار، أي ما يُعرف بـ «الوكلاء الأخلاقيين الاصطناعيين». وقد كان مشروع بناء هؤلاء الوكلاء الأخلاقيين في البداية مجرّد تجربة فكرية، لكنه بات الآن يُنظر إليه باعتباره قضية عملية فعلية في مجال الهندسة، نظرًا إلى أن استخدام الأجهزة الروبوتية أصبح مشكلة واقعية.(146) وهذا الانتقال من النظرية إلى التطبيق يفرض سؤالًا جديدًا: كيف نُعلّم الروبوتات التمييز بين الصواب والخطأ؟

علينا أن نُدخل الأخلاق في الروبوتات ـــ أو بعبارة أخرى، أن نُعلّم الروبوتات التمييز بين الصواب والخطأ. وهذا لا يعني، بطبيعة الحال، أنّ الروبوتات يجب أن تمتلك القدرة على التفكير أو الإحساس أو الحكم كما يفعل البشر. فالروبوتات ستُصمَّم لأغراض محدّدة، مثل الممارسات الطبية أو العمليات العسكرية. وحتى لو كانت الروبوتات المستقلة تتمتّع بـ«الاستقلالية»، فإنها ليست استقلالية كاملة، بل استقلالية في معنى محدود جدًا. ومع ذلك، فإن هذه الدرجة من الاستقلالية، مهما كانت محدودة، تجعل من الضروري تضمين مبادئ أخلاقية واضحة في برمجتها. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الأنظمة الداخلية للروبوتات يجب أن تتضمن اعتبارات أخلاقية جوهرية تجاه أولئك الذين قد يتأثرون بأفعالها، حتى وإن كان مسار هذه الاعتبارات مختلفًا تمامًا عن التفكير الأخلاقي البشري.(147)

أ‌- قوانين أسيموف الثلاثة: إطار خيالي أم إرشادي؟

باستخدام قصة إسحاق أسيموف “الرجل المئوي” كنقطة انطلاق، يتم مناقشة عدد من القضايا الميتا- أخلاقية المتعلقة بالمجال الناشئ للأخلاقيات الآلية (Machine Ethics). وعلى الرغم من أن الهدف النهائي للأخلاقيات الآلية هو إنشاء آلات أخلاقية ذاتية الاستقلال، فإن هذا يطرح عدداً من التحديات النظرية والعملية. ومن هنا جاءت فكرة أن تكون البداية عبر تطوير برنامج يمكّن الآلة من العمل كمستشار أخلاقي للبشر، وهو مشروع لا يتطلب إصدار حكم على الوضعية الأخلاقية للآلة ذاتها، وهو أمر شديد التعقيد.(148)

أشهر ما يميز قصص أسيموف عن الروبوتات هو القوانين الثلاثة التي صاغها، والتي وُضعت داخل «دماغ» كل روبوت لتشكّل إطارًا لسلوكه:

القانون الأول: "لا يجوز للروبوت أن يؤذي إنسانًا، أو، من خلال التقصير، يسمح بضرر يلحق بالإنسان."

القانون الثاني: "يجب على الروبوت أن يطيع الأوامر التي يصدرها البشر، إلا إذا كانت هذه الأوامر تتعارض مع القانون الأول."

القانون الثالث: "يجب على الروبوت أن يحمي وجوده طالما أن هذه الحماية لا تتعارض مع القانونين الأول والثاني."(149)

لكن هذه القوانين ليست محض ابتكار قصصي فقط، بل إنها تكشف عن جانب آخر من العلاقة بين الإنسان والآلة. فقد قدّم أسيموف تفسيرًا لسبب شعور البشر بالحاجة إلى معاملة الروبوتات الذكية كعبيد، وهو تفسير يُظهر ضعفًا في طبيعة البشر، ضعف يجعلهم عاجزين عن أن يكونوا نماذج أخلاقية كاملة. ومن هنا، يبدو من المرجح أن تكون الآلات مثل أندرو أكثر أخلاقية من معظم البشر. وتعطي قصة “الرجل المئوي” أملًا في أن الآلات الذكية قد لا يقتصر دورها على التصرف بطريقة أخلاقية، بل يمكن أن تقود البشر ليصبحوا أكثر التزامًا أخلاقيًا.

ولتوضيح الأمر بشكل أكبر، يمكن الاستناد إلى قصة “الرجل المئوي” لمناقشة قضايا ميتا- أخلاقية عديدة ضمن الأخلاقيات الآلية، وصولًا إلى الاستنتاجات التالية:

1- يمكن للآلة أن تتبع المبادئ الأخلاقية بدقة تفوق معظم البشر، مما يؤهلها لتكون مستشارًا أخلاقيًا.

2- تطوير برنامج يجعل الآلة مستشارًا للبشر لا يتطلب حسم وضعيتها الأخلاقية، بخلاف بناء آلة أخلاقية مستقلة.

3- الروبوت الذكي مثل أندرو يحقق معظم شروط الفلاسفة لكي يُمنح وضعًا أخلاقيًا، وهو ما يجعل القوانين الثلاثة غير كافية.

4- حتى لو لم تُعتبر الآلات كيانات ذات وضع أخلاقي، فإن برمجتها على أساس القوانين الثلاثة يظل خيارًا إشكاليًا.

5- من ثم، فإن هذه القوانين لا تصلح أن تكون أساسًا مرضيًا للأخلاقيات الآلية.

ومع ذلك، تبقى القوانين الثلاثة إطارًا خياليًا أكثر من كونه عمليًا، إذ يشير النقاد إلى صعوبة تطبيقها واقعيًا لعدم قدرة الآلات على استشراف جميع العواقب أو فهم التعقيدات في البيئات الحقيقية.(150) وهنا يتضح الفرق بين الجانب التطبيقي للأخلاقيات الآلية والجانب الميتا- أخلاقي النظري.

فعامة، تدرس الأخلاقيات الميتا- آلية هذا المجال من منظور فلسفي مجرد، ومن أبرز تساؤلاتها: ما الهدف النهائي للأخلاقيات الآلية؟ ماذا يعني إضفاء بعد أخلاقي على الآلات؟ هل يمكن جعل الأخلاق قابلة للحوسبة؟ وهل هناك نظرية أخلاقية وحيدة صحيحة يجب تطبيقها؟ ثم، هل يجب أن تكون هذه النظرية كاملة بحيث تعطي إجابات لكل المعضلات؟ وأخيرًا، هل يتطلب الأمر تحديد الوضع الأخلاقي للآلة ذاتها إذا كان من المفترض أن تتبع المبادئ الأخلاقية؟(151)

لقد تم ترسيخ قوانين أسيموف الثلاثة في وعي الجمهور من خلال الأدب والسينما إلى درجة أنها تحولت إلى توقعات اجتماعية حول سلوك الروبوتات. فقد استُخدمت هذه القوانين في وسائل الإعلام، وفي النقاشات الفلسفية والعلمية، بل وحتى في الطب الروبوتي. وقد خصص "معهد التفرد للذكاء الاصطناعي" حدثًا وموقعًا بعنوان “القوانين الثلاثة” لمناقشة هذه التوقعات بعد فيلم «أنا، روبوت». كما تناولت مجلات فلسفية وعلمية هذه القوانين بوصفها مرجعًا أوليًا للنقاش حول الروبوتات والأخلاق.(153)

ومع الانتقال من الخيال إلى الواقع، برزت مقترحات بديلة أكثر تعقيدًا. فقد اقترح بوجاج (2008) خمسة أوامر إلزامية لأنظمة الذكاء الاصطناعي العام (AGIs) تتجاوز بساطـة قوانين أسيموف، وهي:

1- مبدأ المحاكاة: أن تكون أفعال الوكيل جديرة بأن تُقلَّد في سياقات مماثلة.

2- الفهم: أن تكون الأفعال قابلة للتفسير من حيث المبادئ الكامنة وراءها.

3- التجذّر التجريبي: ألّا يُتوقع من أي وكيل ذكي اتباع مبدأ أخلاقي ما لم تتوافر أمثلة عملية متكررة له.

4- الأمر القطعي: التصرّف وفق مبادئ يُرضي المرء أن تُطبَّق كقوانين عامة.

5- الاتساق المنطقي: أن يكون النظام الأخلاقي متماسكًا بحيث تنسجم مبادئه مع بعضها البعض وتنبثق بصورة طبيعية.(154)

وبذلك يتضح أن قوانين أسيموف الثلاثة، رغم قوتها الرمزية والثقافية، لم تعد كافية لمواجهة تحديات الواقع، وأن الأخلاقيات الآلية تتطلب أطرًا أكثر صرامة وواقعية لضمان التعايش الآمن بين الإنسان والآلة.

ج- دمج الأخلاق بالتصميم التقني: نحو أنظمة أخلاقية قابلة للتحقق

يبقى السؤال إذن: كيف يمكننا بناء أنظمة ذكية مستقلة تحافظ على القيم الأخلاقية للمجتمع الذي تندمج فيه؟ هذه هي الهمّ الرئيس لما يُعرف بـ "أخلاقيات الآلة"، وهو مجال بحثي جديد متعدد التخصصات داخل الذكاء الاصطناعي .من الواضح أن اختيار أفضل نظرية أخلاقية لتطبيقها في نظام ذكي مستقل بعينه ليس سؤالًا بسيطًا. فهو أولًا مسألة تخص الفلسفة الأخلاقية، كما أنه يفتح تحديات جديدة أمام هذا الحقل. لقد كان البشر والمجتمعات، ولفترة طويلة، هم صانعو القرار الأذكياء الوحيدون. وقد تطوّرت الفلسفة الأخلاقية على افتراض – غالبًا ما يكون ضمنيًا – أن الفاعل الأخلاقي هو إنسان. لكن ليس واضحًا على الإطلاق إلى أي مدى يمكن للنظريات الأخلاقية القائمة أن تمتد لتشمل صانعي القرار غير البشريين.حتى لو ثبت أن من السهل استبدال الفاعل الإنساني بفاعل اصطناعي داخل إطار نظرية أخلاقية، وتم اتخاذ قرار اجتماعي بشأن أي سلوك أخلاقي للآلات يعد مرغوبًا أو كافيًا، فإننا نظل نواجه مجموعة من المشكلات المرتبطة بتنفيذ التفكير الأخلاقي، والتحقق من صدقه، والثقة في نتائجه، والشفافية، إضافة إلى منع ظهور أنظمة غير أخلاقية عمدًا.(155)

تناقش الورقة «نحو أنظمة مستقلة أخلاقيًا» كيف يمكن دمج التصور الفلسفي والتطبيق الهندسي لبناء أنظمة مستقلة تتسم بالأخلاق، مع التأكيد على ضرورة الشفافية، القابلية للتفسير، والمساءلة(156) كما يقترح عمل مماثل إطارًا يجمع بين أخلاقيات الآلة وصياغة تفسيرات للقرارات التي تتخذها.

السلوك الأخلاقي في الآلات يمكن تحقيقه – بشكل بديهي – بطريقتين على الأقل:

النهج الأول (من أعلى إلى أسفل): يقوم على تحديد مجموعة من القواعد الأخلاقية، ربما باختيار نظرية أخلاقية معيارية، تُبنى حولها خوارزمية اتخاذ القرار.

النهج الثاني (من أسفل إلى أعلى): يتمثل في أن تتعلّم الآلة أو "تتطور" لتمييز الصواب من الخطأ من دون أن تُوجَّه صراحةً وفق نظرية أخلاقية بعينها.

ويُطلقان على هذين المنهجين النهج من أعلى إلى أسفل و النهج من أسفل إلى أعلى، على التوالي. أما النهج الهجين – في تصوّرهما – فهو ذاك الذي يبدأ فيه الفاعل الاصطناعي بمجموعة من القواعد أو القيم، ثم يعمل على تعديلها وتطويرها إلى منظومة للتمييز بين الصواب والخطأ.إن مسألة كيفية تطبيق أخلاقيات الآلة في نظام ذكي مستقل تعتمد بالضرورة على الأساليب التي يستخدمها ذلك النظام في الذكاء الاصطناعي. إذ تخضع المناهج المختلفة من الذكاء الاصطناعي لتطبيقات متباينة في أخلاقيات الآلة، ويتعيّن علينا النظر في قدرتها على التكيّف مع تلك التطبيقات، وكذلك في مخاطرها ومزاياها ضمن هذا السياق.(157)

د- الحقوق، والحياة البشرية، والتشغيل الآلي

يركّز ديفيد جانكل David Gunkel في كتابه "سؤال الآلة" على جهة ثانية من النقاش: هل يمكن للروبوتات أن تكون جزءًا من المساءلة الأخلاقية أو حتى أن تُمنح حقوقًا؟ ويخلص إلى أن الإنسان يظل الكيان الوحيد الذي يمكن أن يُحمّل أخلاقيًا—ولا يُمنح الروبوت حقوقًا بحد ذاته.(158)

يتوضح من خلال الأعمال أن:

1- قوانين أسيموف كانت تصورًا أدبيًا لا أساس له من الناحية التطبيقية.

2- المسؤولية الأخلاقية لا تزال من صلاحيات الإنسان، وليس الروبوت.

3- يمكن تصميم أنظمة ذاتية أخلاقية، لكن ضمن إطار بشري واضح.

4- من غير المقبول اعتبار الروبوتات عناصر أخلاقية مستقلة؛ المساءلة تظل في المقام الأول منوطًا بالبشر.

8- القضايا الأخلاقية المرتبطة باستخدام البشر لأنظمة الذكاء الاصطناعي

أ- الخصوصية

تُعَدّ الخصوصية من أبرز القضايا الأخلاقية في عصر الذكاء الاصطناعي، سواء تعلق الأمر بالبيانات عمومًا أو بالبيانات الشخصية القابلة للتعرّف على أصحابها. وللخصوصية أبعاد معترف بها على نطاق واسع، مثل: "الحق في أن تُترك وشأنك"، والخصوصية المعلوماتية، والخصوصية كجانب من جوانب الشخصية، والتحكم في المعلومات الخاصة بالفرد، والحق في السرية. وإذا كانت دراسات الخصوصية قد ركّزت تاريخيًا على مراقبة الدولة عبر الأجهزة السرية، فإنها تشمل اليوم مراقبة جهات حكومية أخرى، والشركات، بل وحتى الأفراد أنفسهم.

ب- المراقبة

ترتبط مسألة الخصوصية ارتباطًا وثيقًا بالمراقبة، فالمراقبة لا تقتصر على تراكم البيانات أو مراقبة السلوك، بل تشمل كذلك استخدام المعلومات لأغراض إشكالية. ومن بين هذه الأغراض التلاعب بالسلوك، سواء عبر الإنترنت أو خارجه، وهو ما يستهدف في الغالب أموال المستخدمين. ومع التفاعل المكثّف للمستخدمين مع الأنظمة الذكية، وما يتيحه ذلك من معرفة دقيقة بالأفراد، يصبح هؤلاء عرضةً لـ"الدَفْعات السلوكية" وأشكال التلاعب والخداع. ومع توافر بيانات مسبقة كافية، تستطيع الخوارزميات استهداف الأفراد أو المجموعات الصغيرة بما يتناسب تحديدًا مع ما يؤثر فيهم. وهكذا، نجد أنفسنا أمام اقتصاد مراقبة يضع الأفراد في موقع ضعف، إذ نفقد السيطرة على بياناتنا، ونفتقر إلى معرفة كيفية استخدامها أو مساءلة الجهات المالكة لها.(159)

ت- التلاعب

ويتفرع عن قضية المراقبة جانب آخر أكثر خطورة، وهو التلاعب. فالذكاء الاصطناعي يجعل التلاعب بالسلوك أكثر دقة وخفاءً، سواء في الفضاء الرقمي أو الواقعي. صحيح أن محاولات التأثير على قرارات البشر ليست جديدة، لكنها مع الذكاء الاصطناعي تصبح أكثر قوة لأنها تعتمد على بيانات ضخمة تُحلل بدقة لاستهداف الأشخاص بأساليب خاصة بهم. وبهذا يصبح المستخدمون عُرضةً لـ"الدفع الخفي" الذي يقوّض حرية الاختيار، في ظل بيئة يسيطر عليها المعلنون والمسوقون بوسائل قانونية متاحة.(160)

ث- الغموض

تظهر هنا قضية الغموض في عمل أنظمة الذكاء الاصطناعي، خصوصًا في ما يتعلق بأنظمة دعم القرار المؤتمتة. فهذه الأنظمة تنتج قرارات قد تكون مصيرية، مثل منح قرض، أو تقرير طبي، أو حتى قرار عسكري. لكن الشخص المتأثر بهذه القرارات غالبًا لا يعرف كيف توصّل النظام إلى النتيجة، مما يجعل العملية غامضة وغير شفافة. ومن هنا يندرج الحديث عن "أخلاقيات البيانات" و"أخلاقيات البيانات الضخمة"، حيث يصبح التنبؤ سلعة رخيصة لكن مؤثرة، بينما تبقى آلية اتخاذ القرار بعيدة عن الفهم العام.(161)

ج- التحيّز

إلى جانب الغموض، يبرز التحيّز بوصفه إشكالية مركزية. فالتحيّز يحدث حين تؤثر صفات لا علاقة لها بالموضوع في الحكم، وغالبًا ما يرتبط بتصورات تمييزية مسبقة. وقد يكون التحيّز معرفيًا مكتسبًا، غير معلن، بل قد يكون الشخص صادقًا في معارضته له في حين أنه واقع فيه من غير وعي. وتكشف تقنيات مثل "التهيئة الإدراكية" أن التحيز قد يتسرب إلى قرارات تبدو موضوعية في الظاهر.(162)

ح- الخداع والروبوتات

يمثل التفاعل بين الإنسان والروبوت مجالًا يتطلب دراسة خاصة، إذ لم يعد الاهتمام منصبًا فقط على الجانب التقني، بل أيضًا على البعد الأخلاقي وديناميكيات الإدراك والتوقعات بين الطرفين. وتزداد أهمية هذه القضية في بيئات العمل المشترك التي تجمع الإنسان والآلة، حيث قد تتعدد المصالح وتتقاطع الأهداف، مما يثير تساؤلات حول حدود الخداع أو التلاعب الممكن في هذه العلاقة.

خ- الاستقلالية والمسؤولية

تُثار أيضًا مسألة الاستقلالية، إذ تُعَدّ الاستقلالية في النقاشات الفلسفية أساسًا للشخصية الأخلاقية والمسؤولية. لكن الأمر يختلف في ميدان الروبوتات، حيث يجري الحديث عن استقلالية نسبية وتقنية، مرتبطة بقدرة النظام على العمل دون تدخل مباشر من الإنسان. وهنا يصبح السؤال: هل يمكن أن تتحقق مسؤولية أخلاقية في غياب استقلالية حقيقية؟(163)

د- التفرّد

وأخيرًا، يُنظر في بعض الأوساط إلى أن الهدف النهائي للذكاء الاصطناعي هو الوصول إلى ما يسمى "الذكاء الاصطناعي العام" أو حتى "التفرّد التكنولوجي"، حيث يمكن للآلة أن تفوق القدرات البشرية بكثير. وهنا تتداخل الرؤى الفلسفية، مثل طرح جون سيرل حول "الذكاء الاصطناعي القوي"، الذي يرى أن الحواسيب، إذا مُنحت البرامج المناسبة، يمكن القول إنها تفهم وتمتلك حالات معرفية أخرى. لكن هذا الاحتمال يثير أسئلة عميقة حول حدود الذكاء، وطبيعة الفهم، وما إذا كان يمكن للآلة أن تشارك الإنسان تجربته الوجودية.(164)

المحور الرابع: الفلسفة والهوية الإنسانية أمام تطور الذكاء الاصطناعي

1- التمييز بين الإنسان والآلة: هل يختفي الحد الفاصل؟

منذ منتصف القرن العشرين، بدأ التفكير الفلسفي والعلمي يتجه إلى مقارنة القدرات الإنسانية بقدرات الآلة. ففي عام 1958 كتب جون فون نيومان كتابه «الحاسوب والدماغ»، الذي عرض فيه بنية معالجة المعلومات في الحواسيب وفقًا للفهم السائد حينذاك لتنظيم الدماغ، حيث قُسمت إلى ذاكرة، ووحدة إدخال/إخراج، ووحدة حسابية/منطقية، ووحدة تحكم. ورغم استمرار استخدام معمار فون نيومان حتى اليوم، فإن فهمنا للدماغ قد تغير جذريًا، إلى جانب التطور الكبير في إمكانات الحوسبة الطبيعية الموزعة والمتزامنة. هذا التطور يفتح الباب أمام ظهور هياكل معرفية حاسوبية جديدة مستوحاة من الطبيعة (بيوميمتيكية)، مثل الحوسبة العصبية المستوحاة من وظائف الدماغ البشري، والتي تختلف عن معمار فون نيومان بمتطلبات جديدة للنظام المعرفي الحاسوبي، مثل استخدام العناصر نفسها في المعالجة والتخزين، وتغيير الخصائص الكهربائية وفقًا لمبدأ التعلم الهيبي، وتوليد نمط اهتزاز ذاتي، وسلاسل مستقرة لنقل الإشارات، والقدرة على التنظيم الذاتي في أنظمة ثلاثية الأبعاد، وهو ما يحاكي الوظائف الجوهرية للدماغ (165).

وفي هذا السياق، يعرض التقرير الخاص «هل يمكننا نسخ الدماغ؟» نقاشًا أوسع حول تعقيدات الدماغ وضرورة فهم تفاصيل عمله على مستويات تنظيمية مختلفة. يناقش هنري ماركرام، مؤسس مشروع الدماغ الأزرق، إمكانية محاكاة الدماغ من خلال تبسيط المستويات الجزيئية والخلوية واحتوائها. وتبرز هنا مسألتان تسيران على نحو متوازٍ، تتيحان فرصة للتعلم المتبادل بين الحوسبة وعلوم الأعصاب: (1) كيف يعمل الإدراك ويتطور في الطبيعة؟ (2) كيف يمكن نمذجته ومحاكاته وتقليده وهندسته في مصنوعات حاسوبية؟

وفي هذا الإطار، تشير أبحاث مايكل ليفين إلى مجموعة واسعة من التطبيقات للهياكل المعرفية المستوحاة من الطبيعة، اعتمادًا على الإدراك البيولوجي الذي يربط بين الشبكات الجينية والهيكل الخلوي والشبكات العصبية والأنسجة/الأعضاء والكائن الحي بمستويات المعالجة المعلوماتية الجماعية (الاجتماعية). ويُظهر ليفين أن البيولوجيا كانت تقوم بالحوسبة من خلال الذاكرة الجسدية (تخزين المعلومات) والحوسبة الحيوية/اتخاذ القرار في الشبكات الكهربية الحيوية قبل نشوء الخلايا العصبية والدماغ. ويُلخص Fields وآخرون (2020) ذلك بقولهم: «من المهم أن الخلايا العصبية تستخدم آليات قديمة مثل قنوات الأيونات والمشابك الكهربائية والناقلات العصبية، التي تعمل أيضًا في أنحاء الجسم ضمن أنسجة غير مثارة كهربائيًا، وهي أقدم من تطور الخلايا العصبية المتخصصة. ونقترح هنا نموذجًا تنشأ فيه كل من الإشارات العصبية والإشارات النمطية الكهربية غير العصبية من تعديلات في آليات أساسية محفوظة، وقد تطورت معًا لتعمل على ضبط كل من سلوك الكائن الحي وتطوره» (166).

هذا التقدم يثير تساؤلًا جوهريًا: هل يمكن للآلة أن تحاكي القدرات الإنسانية إلى حدّ يذيب الفوارق بين الطرفين؟ أم أن هناك عناصر أساسية – مثل الوعي والإرادة الحرة – تظل حكرًا على البشر؟ هذا السؤال ليس فلسفيًا فقط، بل يتصل مباشرة بأبعاد أخلاقية واجتماعية وسياسية في عصر الذكاء الاصطناعي.

وللإجابة عن هذا التساؤل، يمكن استعراض أبرز المحاور المطروحة في النقاش:

1- اختبار تورينج كمعيار أولي للتمييز

في عام 1950، اقترح آلان تورينج ما عُرف لاحقًا بـ"اختبار تورينج" كوسيلة لقياس قدرة الآلة على تقليد الذكاء البشري. فإذا لم يتمكن الإنسان من التفريق بين ردود الآلة وردود إنسان آخر في محادثة، فإن الآلة يمكن اعتبارها "ذكية". هذا الطرح فتح الباب أمام النقاش حول ما إذا كان الذكاء الاصطناعي مجرد محاكاة أم امتلاك فعلي للقدرات الإنسانية (167).

2- مسألة الوعي والإدراك

يرى جون سيرل من خلال حجته الشهيرة "الغرفة الصينية" أن الآلة يمكنها معالجة الرموز دون أن "تفهم" معانيها. وهذا يعني أن المحاكاة الشكلية لا تكافئ بالضرورة الوعي الحقيقي، وبالتالي يبقى الحد الفاصل بين الإنسان والآلة قائمًا عند مستوى الإدراك والمعنى (168).

3- الذكاء العاطفي والجانب الوجداني

رغم تطور الخوارزميات في معالجة اللغة الطبيعية والتعرف على المشاعر، يبقى الذكاء العاطفي عند الإنسان مختلفًا نوعيًا. تشير مارثا نوسباوم إلى أن المشاعر الإنسانية مرتبطة بالمعايير الأخلاقية وبالقدرة على اتخاذ قرارات تعكس قيماً تتجاوز المعطيات الحسابية (169).

4- التحديات الأخلاقية والاجتماعية

إن طمس الحدود بين الإنسان والآلة يثير تحديات أخلاقية تتعلق بالمسؤولية القانونية، والخصوصية، وحتى معنى الإنسانية ذاته. يشير نيك بوستروم إلى أن تطور الذكاء الاصطناعي الفائق قد يفرض إعادة تعريف لمكانة الإنسان في النظام الكوني (170).

وبذلك، وعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي يقترب أكثر فأكثر من محاكاة القدرات الإنسانية، إلا أن هناك عناصر – كالوعي والإرادة الحرة والبعد الأخلاقي – لا تزال تميز الإنسان عن الآلة. إن السؤال الجوهري لم يعد ما إذا كانت الآلة ستصبح مثل الإنسان، بل كيف سيعيد الإنسان تعريف ذاته ودوره في عالم تتقارب فيه الحدود بينه وبين الآلة.

2- إشكالية الوعي الصناعي

تثير مسألة ما إذا كان من الممكن تحقيق وعي صناعي لدى الآلات تساؤلات عميقة حول طبيعة العقل، والفرق بين الإنسان والآلة، والعواقب الأخلاقية المحتملة. يناقش الفلاسفة والعلماء هذه الإشكالية من جوانب فلسفية وتقنية، معتبرين أن وجود وعي اصطناعي قائم ليس مجرد تقدم تكنولوجي، بل يشكّل تحديًا فكريًّا للأخلاق، المسؤولية، والحقوق.

أ- احتمالية خلق وعي صناعي من منظور فلسفي وتقني

يتساءل الباحث دافيد جاميز (David Gamez) عن إمكانية صوغ نظرية واعية للآلة ضمن إطار منطقي ونظري واضح. يُقدّم في الفصل "وعي الآلة" نظريات متعددة تتناول أنواعًا مختلفة من الوعي الصناعي وكيف يمكن تحديد مدى اقتراب نظام ما من امتلاك وعي.(171) وهنا يظهر أن النقاش الفلسفي يمهّد لوضع الأسس النظرية قبل الانتقال إلى الطروحات الرياضية والعلمية.

ب- نموذج "آلة تورنغ الواعية" كإطار رياضي للوعي

في هذا السياق، طرحت لينور بلوم ومانويل بلوم في ورقتهما (2021) نموذج "آلة تورنغ الواعية لتعريف الوعي بشكل رسمي ضمن علوم الحاسوب النظرية، اعتمادًا على نظرية "المساحة العالمية"، بهدف توضيح كيف يمكن أن يشعر النظام بالوعي ضمن نموذج حسابي.(172) ويُعد هذا النموذج خطوة نحو تحويل النقاش الفلسفي إلى أطر قابلة للاختبار الرياضي والحسابي.

ج- التصميم العصبي والمحاكاة كطريقة لتحقيق الوعي

وإذا كان النموذج الرياضي يقدم صياغة نظرية، فإن التصميم العصبي يسعى إلى محاكاة الوعي في بنيته المادية. ففي دراسة عن "المُقابلات العصبية الشكلية للوعي الصناعي" يقترح الباحث أنوار الحق (Anwaar Ulhaq) بناء تصاميم مؤثرة تشبه الدماغ (البنية العصبية الشكلية) لمحاكاة النشاط العصبي المرتبط بالوعي، مستندًا إلى نظريات مثل " نظرية المعلومات المتكاملة" والبيانات التجريبية من التصوير العصبي.(173) وهنا يتضح الانتقال من الإطار النظري إلى محاولات تقنية ملموسة.

د- تقييم إمكانيات الوعي الصناعي من منظور علوم الأعصاب

غير أن أصواتًا أخرى من ميدان علوم الأعصاب تشكّك في هذه المساعي. فمقال في مجلة "توجهات في علوم الأعصاب"، ديسمبر 2023 يرى أن النماذج الحالية مثل النماذج اللغوية الضخمة (LLMs). تفتقد إلى العمليات العصبية الأساسية المرتبطة بالوعي — كالتفاعل الإرادي بين القشرة المخيّة والمهاد . وهذا يشير إلى أن بناء وعي صناعي حقيقي يحتاج إلى أكثر من معالجة لغوية متقدمة.(174) وبذلك يصبح النقاش أكثر تعقيدًا، حيث تلتقي الحدود بين الطموح التكنولوجي والتفسير العصبي العلمي.

تتباين الآراء حول إمكانيّة الوصول إلى وعي صناعي حقيقي:

1- بعض الباحثين يؤسّسون إطارًا رياضيًا قابلًا للتحقّق، مثل نموذج آلة تورينج الواعية.

2- البعض يركّز على التصميم المعتمد على محاكاة البُنى العصبية الحقيقية.

3- يرى آخرون أن الغياب الواضح لبعض العمليات العصبية الأساسية في النماذج الحالية يجعل الوعي الصناعي بعيد المنال.

4- يبقى السؤال مفتوحًا، ويتطلّب مزيدًا من التفاعل بين الفلسفة، علوم الحاسوب، وعلوم الأعصاب.

يتضح من هذا التسلسل أن النقاش حول الوعي الصناعي يتطور من مستوى فلسفي نظري، إلى مستوى رياضي تقني، وصولًا إلى المحاكاة العصبية، ثم إلى التقييم العلمي النقدي، وهو ما يعكس عمق الإشكالية وتعقّد أبعادها

3- أثر الذكاء الاصطناعي على معنى الإنسانية والعمل والحرية.

أصبح الذكاء الاصطناعي (AI) أحد أبرز التحولات في تاريخ الفكر والتقنية، فهو لا يغيّر فقط طريقة إنجاز المهام، بل يعيد صياغة الأسئلة الفلسفية الكبرى حول معنى الإنسانية، مستقبل العمل، وحدود الحرية. إن إدماج الخوارزميات في تفاصيل الحياة اليومية أتاح إمكانات واسعة، لكنه في الوقت نفسه أفرز تحديات وجودية وأخلاقية عميقة.

أ- الذكاء الاصطناعي ومعنى الإنسانية

تساءل نِك بوستروم عن إمكانية أن يتجاوز الذكاء الاصطناعي القدرات الإنسانية لدرجة يصبح فيها الإنسان ذاته "كائنًا عتيقًا" بالقياس إلى الآلة فائقة الذكاء. ويثير هذا جدلاً فلسفيًا حول جوهر الإنسان: هل تُختزل الإنسانية في القدرة على التفكير والمعرفة، أم أنها تتضمن أبعادًا أوسع مثل الوعي، المشاعر، والعلاقات الاجتماعية؟ يرى بعض المفكرين أن خطر الذكاء الاصطناعي يكمن في تهديد " التفرّد الإنساني الفريد" ، حيث يصبح ما يميزنا عن الآلة عرضة للتلاشي.(175)

ب- الذكاء الاصطناعي ومستقبل العمل

يشير بريجولفسون وماكافي في كتابهما " العصر الآلي الثاني " إلى أن الذكاء الاصطناعي سيقود إلى ثورة في أنماط الإنتاج والعمل، شبيهة بالثورة الصناعية لكن بوتيرة أسرع وأعمق.(1) فالآلات الذكية لم تعد تقتصر على العمل اليدوي، بل امتدت إلى الوظائف المعرفية، كالترجمة، التشخيص الطبي، وحتى التحليل القانوني. هذا التحول قد يخلق فجوة بين من يمتلكون التكنولوجيا ومن يُقصَون منها، ويعيد طرح سؤال العدالة الاجتماعية في ظل سوق عمل يتقلص فيه دور الإنسان.(176)

ج- الذكاء الاصطناعي والحرية الفردية والاجتماعية

إن الاستخدام المتزايد لأنظمة الذكاء الاصطناعي في المجتمع يثير العديد من التساؤلات: هل هذه الأنظمة آمنة؟ هل تتصرّف على نحوٍ أخلاقي؟ هل ينبغي منحها وضعًا قانونيًا خاصًا بها، ومن يتحمّل المسؤولية عندما تُسبِّب أضرارًا؟ هل يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي أن تصبح واعيةً فعلًا؟ ومع ذلك، فعلى الرغم من الانفجار الكبير في الأعمال التي تناولت هذه الأسئلة وما يرتبط بها، فقد حظي سؤال واحد باهتمامٍ ضئيل على نحوٍ مفاجئ: هل يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي أن تمتلك إرادةً حرة؟ إن الإرادة الحرة مرتبطة بالفاعلية الذاتية المستقلة وغالبًا ما تُعَدّ شرطًا مسبقًا للمسؤولية الأخلاقية. ومن ثم، فإن سؤال الإرادة الحرة يكتسب أهميته في النقاشات حول ما إذا كان يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي أن تُعَدّ يومًا ما وكلاء مسؤولين بذاتهم.(177)

تناولت شوشانا زوبوف في كتابها " عصر الرأسمالية الرقابية" أثر الذكاء الاصطناعي في ممارسات المراقبة الرقمية، حيث يتم استخراج البيانات الشخصية وتحويلها إلى سلعة.(178) هذا التحول يجعل حرية الفرد مهددة، إذ يصبح الإنسان موضوعًا للمراقبة المستمرة والتحكم السلوكي. أما لوتشيانو فلوريدي، فيرى أن الحرية في عصر الذكاء الاصطناعي ليست مجرد قدرة على الاختيار، بل تتطلب بيئة معلوماتية عادلة تتيح للفرد اتخاذ قراراته بعيدًا عن التلاعب الخوارزمي.(179)

يتضح أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل قوة حضارية تعيد رسم ملامح الإنسان والعمل والحرية.

1- فهو يضع موضع التساؤل معنى أن تكون إنسانًا في عالم تتفوّق فيه الآلة.

2- ويهدد أنماط العمل التقليدية ويعيد تشكيل البُنى الاقتصادية والاجتماعية.

3- كما يفرض إعادة التفكير في مفهوم الحرية في عصر تحكمه البيانات والخوارزميات.

ومن هنا، فإن النقاش حول الذكاء الاصطناعي ينبغي أن يكون فلسفيًا بقدر ما هو تقني، حتى لا يتحول التقدم.

المحور الخامس: التطبيقات العملية في ضوء الأسس الفلسفية

1- الذكاء الاصطناعي في الطب والتعليم والاقتصاد: الأبعاد الفلسفية

يهدف هذا المحور إلى تقديم عرضٍ موجز ومنظّم للأبعاد الفلسفية للذكاء الاصطناعي في ثلاثة ميادين حيوية: الطب، والتعليم، والاقتصاد. تركّز المعالجة على القضايا المعرفية (الإبستمولوجية)، والأخلاقية، والسياسية- القانونية، وتقديم مقاربة معيارية- تحليلية تجمع بين المبادئ العامة (مثل مبادئ الذكاء الاصطناعي الجدير بالثقة) والأدلة القطاعية المتخصصة.

يرتكز التقييم الفلسفي للذكاء الاصطناعي على ثلاثة محاور أساسية:

1- الإبستمولوجيا: طبيعة المعرفة المستخرجة من النماذج، قيود الشرح والتعليل، وإمكانية التخطئة.

2- الأخلاق: مبادئ الاستفادة، عدم الإضرار، العدالة، الاستقلالية، والمسؤولية.

3- الحوكمة: أطر التنظيم، المساءلة، وشرط "الإنسان في الحلقة".

وقد اقترحت "مبادرة الذكاء الاصطناعي لأجل الإنسان" وهى مبادرة أوروبية أُطلقت عام 2017 على يد الفيلسوف لوتشيانو فلوريدي (Luciano Floridi) وعدد من الباحثين" خمسة مبادئ جامعة للاعتماد الأخلاقي: المنفعة، عدم الإضرار، الاستقلالية، العدالة، والشرح/التفسير، بوصفها أساسًا للسياسات والتصميم.(180) أما "إرشادات الاتحاد الأوروبي للذكاء الاصطناعي الجدير بالثقة" فتؤكد سبعة متطلبات تشغيلية، منها الوكالة البشرية، المتانة التقنية، الخصوصية وإدارة البيانات، والحوكمة.(181)

أ- الطب — بين الوعود التشخيصية وأخلاقيات الرعاية

يُظهر الذكاء الاصطناعي قدرةً على تحسين التشخيص، الطب الدقيق، واكتشاف الأدوية. لكن منظمة الصحة العالمية وضعت ستة مبادئٍ حاكمة لاستخدامه في الصحة: حماية الاستقلالية، تعزيز السلامة والمنفعة العامة، الشفافية وقابلية الشرح، المسؤولية والمساءلة، الشمول والإنصاف، والاستجابة والاستدامة.(182)

فلسفيًا، يُعاد توطين مسؤولية القرار الطبي بين الطبيب والنظام الذكي، بما يفرض نماذجَ مشتركة للمساءلة، وحواجز ضد التحيّزات البياناتية، والتشغيل القابل للتفسير في التطبيقات عالية المخاطر. يقتضي ذلك التحقق الخارجي، وتتبع البيانات، وإدارة المخاطر السريرية قبل النشر وأثناءه، إضافةً إلى حفظ موافقة المريض المستنيرة.

ب- التعليم — نحو رؤية إنسان- مركز

توصي اليونسكو بمقاربةٍ إنسان- مركز لاستخدام النماذج التوليدية في التعليم والبحث، مع تنظيماتٍ فورية وخططٍ طويلة الأجل، ومعايير للتحقق المؤسساتي من الملاءمة الأخلاقية والبيداغوجية.

فلسفيًا، يطرح الذكاء الاصطناعي أسئلةً حول طبيعة التعلّم، أصالة الإنتاج المعرفي، وتوازن الاعتماد على الأدوات. تقتضي العدالة التعليمية ضمان الوصول العادل واللغوي، ومنع ترسيخ التحيّزات، وتنمية التفكير النقدي لدى المتعلّمين.

أما من جهة السلامة الرقمية، فتبرز الحاجة إلى سياسات خصوصية صارمة، وتحديد حدٍّ سنّي مناسب للتفاعل المستقل مع الأدوات التوليدية، إضافةً إلى تدريب إلزامي على الاستعمال المسؤول.(183)

ج- الاقتصاد — الإنتاجية، التشغيل، وتوزيع المنافع

اقتصاديًا، تُفهم النماذج العامة الغرض كمنصّاتٍ تعيد تشكيل المهام والوظائف عبر القطاعات. وتشير دراسات حديثة إلى تعرّض جزءٍ كبير من المهن لمحتوى مهام قابل للتأثير بواسطة النماذج اللغوية، مع تباينٍ توزيعي في المكاسب والمخاطر بحسب المهارات والقابلية للأتمتة.(184)

تدل الأدلة المعيارية والقطاعية على إمكان مواءمة الذكاء الاصطناعي مع قيم الرعاية، التربية، والعدالة الاقتصادية متى استندنا إلى مبادئٍ أخلاقيةٍ واضحة، وحوكمةٍ تشغيلية، وتقييمٍ مستمر للأثر. ويُوفّر الاعتماد على أطرٍ مثل "مبادرة الذكاء الاصطناعي لأجل الإنسان" وإرشادات الاتحاد الأوروبي ومنظمة الصحة العالمية واليونسكو أساسًا فلسفيًا- سياساتيًا متينًا للتطوير المسؤول في الطب والتعليم والاقتصاد.

2- الفلسفة السياسية وحوكمة الذكاء الاصطناعي

يشكّل الذكاء الاصطناعي اليوم أحد أبرز التحديات التي تواجه الفلسفة السياسية المعاصرة، حيث تتقاطع قضايا السلطة، العدالة، والحرية مع أسئلة التنظيم والحوكمة. فالتكنولوجيا ليست محايدة، بل تنعكس آثارها على توزيع السلطة داخل المجتمع والدولة، وعلى العلاقات بين المواطنين والمؤسسات، بل وبين الدول على المستوى الدولي. ومن هنا تبرز الحاجة إلى مقاربة فلسفية سياسية تدرس كيف يمكن وضع أطر لحوكمة الذكاء الاصطناعي تحافظ على الكرامة الإنسانية وتضمن العدالة والشفافية.

أ- الأسس الفلسفية والسياسية للحوكمة

تنبع الحوكمة السياسية للذكاء الاصطناعي من ثلاثة مرتكزات رئيسية:

1- الشرعية الديمقراطية: ضرورة أن تُبنى القرارات المتعلقة باستخدام الذكاء الاصطناعي على مشاركة مجتمعية ومساءلة عامة، لا على قرارات تقنية محضة.

2- العدالة الاجتماعية: مواجهة مخاطر تكريس التحيزات الخوارزمية أو تعزيز اللامساواة الاقتصادية.

3- السيادة والسلطة: طرح سؤال أساسي حول من يملك السيطرة على البيانات والبنية التحتية للنماذج الضخمة، وهل تُمارَس السلطة بطريقة عادلة وشفافة.

تذهب بعض الأدبيات السياسية إلى أنّ غياب الشفافية في خوارزميات الذكاء الاصطناعي يقوّض مبدأ المساءلة الديمقراطية، إذ يصبح من العسير على المواطنين أو حتى المشرّعين فهم القرارات التقنية المعقّدة.(185)

ب- النماذج العالمية لحوكمة الذكاء الاصطناعي

1- الاتحاد الأوروبي: قدّم الاتحاد الأوروبي إطارًا متقدّمًا من خلال قانون الذكاء الاصطناعي (AI Act)، الذي يهدف إلى تصنيف المخاطر (من المخاطر الدنيا حتى غير المقبولة) وفرض التزامات قانونية على الأنظمة عالية المخاطر.(186)

2- الأمم المتحدة والمنظمات الدولية: أوصت اليونسكو بوضع إطار عالمي يقوم على مبادئ حقوق الإنسان والشفافية والإنصاف، بحيث يتم التوافق على معايير دولية تمنع الاستخدامات المسيئة أو الاحتكارية.(187)

3- الولايات المتحدة والصين: بينما تركز الولايات المتحدة على الابتكار والمرونة التنظيمية، تسعى الصين إلى تبنّي حوكمة أكثر مركزية تستند إلى دور الدولة في ضبط تدفقات البيانات والخدمات الرقمية.(188) هذه النماذج تعكس اختلافات فلسفية في النظر إلى العلاقة بين الدولة، السوق، والمجتمع.

ج- قضايا العدالة، الشفافية، والمسؤولية

العدالة: تشير الأدبيات إلى أنّ الذكاء الاصطناعي قد يعمّق الفوارق الاجتماعية إذا لم تتم مراجعته أخلاقيًا وسياسيًا. الفلسفة السياسية تقتضي النظر في كيفية ضمان توزيع منصف للمنافع والأعباء، بحيث لا يستفيد الأقوياء فقط من تقنيات متقدّمة.

الشفافية: المطالبة بـ "قابلية الشرح" لا تمثل بعدًا تقنيًا فقط، بل هي أيضًا مطلب سياسي لضمان الرقابة العامة. غيابها يعزز ما يُسمّى "السلطة الخوارزمية"، حيث تُمارس السلطة دون مساءلة واضحة.(189)

المسؤولية: تثير تطبيقات الذكاء الاصطناعي إشكالية "تفكك المسؤولية": من المسؤول عن الخطأ، مطوّر الخوارزمية أم المؤسسة التي تستخدمها أم الدولة التي تنظّمها؟ الفلسفة السياسية ترى أن المسؤولية يجب أن تكون مشتركة ومتعددة المستويات، بما يمنع فراغًا قانونيًا وأخلاقيًا.

تظهر حوكمة الذكاء الاصطناعي بوصفها قضية سياسية بامتياز، تتجاوز النقاشات التقنية نحو أسئلة أعمق حول السلطة والشرعية والعدالة. الفلسفة السياسية قادرة على مدّنا بأطر نقدية تُعين على بناء سياسات تحافظ على الكرامة الإنسانية، وتوازن بين الابتكار وحماية المجتمع. ويبدو أن التحدي الأساسي في العقود القادمة هو تأسيس نظام عالمي منسّق، يتجاوز التنافس الجيوسياسي ويستند إلى مبادئ حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.

3- السيناريوهات المستقبلية: الإنسان والآلة في شراكة أو صراع؟

أصبح مستقبل العلاقة بين الإنسان والآلة أحد أكثر الموضوعات إثارة للجدل في الفلسفة المعاصرة. فمع تصاعد قدرات الذكاء الاصطناعي، تطرح تساؤلات جوهرية: هل ستقوم الآلة بدور الشريك الداعم للإنسان، أم ستتحول إلى منافس يهدد وجوده؟ هذه الإشكالية تجمع بين الأبعاد الفلسفية والأخلاقية والسياسية، وتعكس قلقًا وجوديًا حول طبيعة الإنسان نفسه وحدود التقنية.

أ- الرؤى الفلسفية حول العلاقة بين الإنسان والآلة

لقد انقسم الفكر الفلسفي المعاصر إلى تيارين رئيسيين: تيار متفائل يرى في الذكاء الاصطناعي امتدادًا لقدرات الإنسان، وتيار متشائم يحذر من تحوّله إلى قوة مستقلة قد تتجاوز السيطرة البشرية. يعكس هذا الانقسام ما يسميه بوستروم "مفارقة القوة": كلما ازدادت قوة التقنية، ازدادت الحاجة إلى ضبطها.(190)

ب- سيناريو الشراكة

في هذا التصور، تقوم الآلة بدور تكاملي مع الإنسان، حيث تدعم قدراته في الطب عبر التشخيص الدقيق للأمراض، وفي التعليم عبر التخصيص الذكي للمناهج، وفي الاقتصاد عبر تحسين الكفاءة والإنتاجية. ويشير تيغمارك إلى أنّ هذا السيناريو يمكن أن يفتح المجال لما يسميه "الحياة 3.0"، حيث يشكّل التعاون بين الطرفين أساسًا لمرحلة جديدة من الحضارة الإنسانية.(191)

ج- سيناريو الصراع

على الجانب الآخر، يبرز سيناريو الصراع الذي يتجلى في فقدان ملايين الوظائف بسبب الأتمتة، واتساع فجوة اللامساواة الاقتصادية، إضافة إلى المخاطر الوجودية الناتجة عن احتمال تطوير أنظمة تفكر خارج حدود السيطرة البشرية. وقد حذّرت زوبوف من أن الذكاء الاصطناعي قد يتحول إلى أداة لهيمنة "رأسمالية المراقبة"، حيث تُستغل بيانات البشر لتكريس أنماط جديدة من السيطرة.(192)

د- المواقف الفلسفية المعاصرة

يُنظر إلى الآلة كخصم أو مجرد أداة، بل كعنصر في منظومة معلوماتية أوسع تتطلب قواعد واضحة للعدالة والمسؤولية. ويرى المنتدى الاقتصادي العالمي أن صياغة هذه القواعد ضرورة لتجنّب انزلاق المستقبل نحو الصراع.(193)

تتراوح السيناريوهات المستقبلية بين شراكة مثمرة وصراع مدمّر. غير أن الاتجاه الذي ستسلكه البشرية يتوقف على قدرة الإنسان على تطوير أنظمة للحوكمة والأخلاقيات قادرة على ضبط الذكاء الاصطناعي. فالمستقبل لن يكون نتيجة قدر محتوم، بل ثمرة اختيارات سياسية وأخلاقية وفلسفية ستحدد ما إذا كان الإنسان والآلة سيعيشان في انسجام أو فى مواجهة.

الخاتمة

يتبيّن من خلال هذا البحث أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد إنجاز تقني أو أداة عملية، بل هو نتاج لمسار فلسفي طويل بدأ منذ العصور الكلاسيكية بأسئلة حول العقل والنفس، وتواصل مع محاولات ديكارت وليبنتز وهيوم لفهم طبيعة التفكير، وصولًا إلى إسهامات المنطق الرياضي والحوسبة عند فريجه وتارسكي وتورنج. وقد أظهر التحليل أن الأسس المعرفية والمنطقية للذكاء الاصطناعي تُبرز صلته العميقة بنظرية المعرفة والمنطق الصوري، وأن الإشكالية الجوهرية ما زالت ماثلة: هل يمكن للآلة أن “تعرف” أو أن تمتلك وعيًا شبيهًا بالإنسان؟

كما تبيّن أن الأسس الأخلاقية تمثل بعدًا لا غنى عنه في دراسة الذكاء الاصطناعي، حيث تثير قضايا حرية الإرادة والمسؤولية، والانحياز في الخوارزميات، وأخلاقيات الروبوتات أسئلة جوهرية حول حدود تدخل الإنسان في صياغة القواعد وتوجيه السلوك الآلي. وإلى جانب ذلك، فإن الهوية الإنسانية تواجه تحديًا وجوديًا أمام التطور المتسارع للذكاء الاصطناعي، مما يدفع إلى إعادة التفكير في معنى الإنسانية والعمل والحرية في ظل تداخل الحدود بين الإنسان والآلة.

ولم تقف الدراسة عند الجوانب النظرية، بل أبرزت أن التطبيقات العملية للذكاء الاصطناعي في الطب والتعليم والاقتصاد والسياسة لا يمكن فصلها عن أطرها الفلسفية، إذ تفرض هذه التطبيقات مسؤولية مضاعفة في الحوكمة وضمان العدالة وتجنب الانحياز.

وبناءً على ما سبق، يتضح أن الفلسفة لا تزال تشكّل الإطار المرجعي لفهم الذكاء الاصطناعي وتوجيه مساره، فهي التي تضع الأسئلة الكبرى وتمنح هذا المجال معناه الإنساني والأخلاقي. ومن ثم، فإن المستقبل يستدعي مزيدًا من التكامل بين الفلسفة والعلوم التقنية، لضمان أن يكون الذكاء الاصطناعي في خدمة الإنسان، لا تهديدًا له أو بديلاً عنه.

وهكذا يمكن توضيح أهم الأسس الفلسفية للذكاء الاصطناعي:

1- جذور فلسفية عميقة:

- فكرة الذكاء الاصطناعي ليست جديدة، بل امتداد للتساؤلات الفلسفية حول طبيعة العقل والنفس منذ أفلاطون وأرسطو.

- لفلاسفة الكلاسيكيون طرحوا أسئلة حول التفكير، الوعي، والإدراك التي ما زالت مركزية في البحث اليوم.

2- تصورات الفلاسفة الحديثين:

- ديكارت: فصل بين العقل والآلة، مع التأكيد على التفكير كخاصية مميزة للبشر.

- ليبنتز: تصور أن الآلة يمكن أن تحاكي بعض وظائف العقل، بما يمهّد لاحقًا لمحاكاة العمليات الذهنية.

- هيوم: التركيز على التجربة والادراك الحسي كأساس للمعرفة، ما يطرح تساؤلات حول قدرة الآلة على “التجربة”.

3- ربط الفلسفة بالمنطق والرياضيات:

- منطق فريجه وتارسكي يوفّر الأسس النظرية لبناء خوارزميات محاكاة التفكير.

- تورنج: تصور الآلة القادرة على تنفيذ أي عملية حسابية يمكن أن تمثل خطوة أولى نحو الذكاء الاصطناعي.

4- الأسس المعرفية والمنطقية:

- المنطق الصوري يوفر أدوات لفهم كيفية عمل الذكاء الاصطناعي.

- نظرية المعرفة تطرح سؤال إمكانية الإدراك والوعي لدى الآلة.

5- الأخلاقية والفلسفة العملية:

- حرية الإرادة والمسؤولية في سلوك الآلة.

- العدالة والانحياز في الخوارزميات وأخلاقيات الروبوتات: من يحدد القواعد الأخلاقية، الإنسان أم الآلة؟

6- الهوية الإنسانية أمام الذكاء الاصطناعي:

- تساؤل حول اختفاء الحد الفاصل بين الإنسان والآلة.

- أثر الذكاء الاصطناعي على معنى الإنسانية والعمل والحرية.

7- الفلسفة والتطبيقات العملية:

- تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الطب والتعليم والاقتصاد لا يمكن فصلها عن أطر فلسفية وأخلاقية.

- الحوكمة الفلسفية والسياسية ضرورية لضمان استخدام التكنولوجيا بما يخدم الإنسان.

***

دكتور ابراهيم طلبه سلكها

2025

.............................

الهوامش

1- Trzęsicki, Kazimierz. “Idea of Artificial Intelligence.” Studia Humana 9, no. 3/4 (2020): 1–15, p. 38.

2- Emily Barnes and James Hutson, “A Framework for the Foundation of the Philosophy of Artificial Intelligence,” International Journal of Recent Engineering Science (IJRES) 11, no. 4 (2024): 113–126. https://doi.org/10.14445/23497157/IJRES- V11I4P114, p. 113.

3- Ibid, p. 114.

4- Youheng Zhang: A Historical Interaction between Artificial Intelligence and Philosophy, Wuhan University of Technology. [email protected], p. 1.

5- Trzęsicki, Kazimierz, Op- Cit, pp. 39–41.

6- Ibid, p. 41.

7- Ibid, pp. 41–43.

8- Müller, Vincent C. “Ethics of Artificial Intelligence and Robotics.” In The Stanford Encyclopedia of Philosophy, edited by Edward N. Zalta, Fall 2020 Edition. Metaphysics Research Lab, Stanford University, 2020. https://plato.stanford.edu/entries/ethics- ai/, p. 3.

9- John McCarthy and Patrick J. Hayes: Some Philosophical Problems from the Standpoint of Artificial Intelligence, http://www- formal.stanford.edu/jmc, 1969, p. 3.

10- Varol Akman: Introduction to the Special Issue on Philosophical Foundations of Artificial Intelligence, e- mail: akman!cs.bilkent.edu.tr, p. 248.

11- Loc- Cit.

12- John McCarthy: What Has AI in Common with Philosophy?, [email protected], http://www- formal.stanford.edu/jmc, p. 241.

13- Trzęsicki, Kazimierz, Op- Cit, p. 38.

14- Poole, D., Mackworth, A., & Goebel, R. (1998). Computational Intelligence: A Logical Approach. Oxford University Press, p. 5.

15- McCarthy, J. (2007). What is Artificial Intelligence? Stanford University, p. 2.

See also: Christopher Manning: Artificial Intelligence Definitions, Stanford University, September 2020, p. 1.

16- Trzęsicki, Kazimierz, Op- Cit, p. 38.

17- Stuart J. Russell and Peter Norvig: Artificial Intelligence: A Modern Approach, Pearson Education, Third Edition, 2010, pp. vii–viii.

18- Masahiro Morioka: “Artificial Intelligence, Robots, and Philosophy,” Journal of Philosophy of Life 2023, p. 29.

19- Boden, M. A. (2016). AI: Its Nature and Future. Oxford University Press, p. 1.

20- Masahiro Morioka, Op- Cit, p. 29.

21- Merriam- Webster Dictionary. Definition of "artificial intelligence", Online version, n.p.

22- IBM. (2020). What is Artificial Intelligence? Available at: https://www.ibm.com/cloud/learn/what- is- artificial- intelligence (Accessed: 7.9.21).

23- Encyclopædia Britannica. Artificial Intelligence. 15th ed., Vol. 27, Encyclopædia Britannica Inc., 2010, p. 350.

24- Loc- Cit.

25- Cambridge Dictionary. Definition of "artificial intelligence", Online version, n.p.

See also: Cambridge Business English Dictionary. Artificial Intelligence, Cambridge University Press, 2011, p. 25.

26- The American Heritage Dictionary of the English Language. 5th ed., Houghton Mifflin Harcourt, 2018, p. 84.

27- Müller, Vincent C. “Ethics of Artificial Intelligence and Robotics.” In The Stanford Encyclopedia of Philosophy, edited by Edward N. Zalta, Fall 2020 Edition. Metaphysics Research Lab, Stanford University, 2020. https://plato.stanford.edu/entries/ethics- ai/, p. 3.

28- Prashanta Kumar Patra: Lecture Notes on Artificial Intelligence, College of Engineering and Technology, Bhubaneswar, p. 3.

29- Loc- Cit.

30- Krämer, S. (1996). “Mind, Symbolism, Formalism: Is Leibniz a Precursor of Artificial Intelligence?” Knowledge Organization, 23(2), 83–87. https://doi.org/10.5771/0943- 7444- 1996- 2- 83, p. 83.

31- Kelly, Kevin. The Inevitable: Understanding the 12 Technological Forces That Will Shape Our Future. Viking, 2016, p. 4.

32- Joost N. Kok and others: Artificial Intelligence: Definition, Trends, Techniques and Case, Leiden Institute of Advanced Computer Science, Leiden University, the Netherlands, p. 1.

33- C. Lexcellent. “Artificial Intelligence.” In SpringerBriefs in Applied Sciences and Technology, 2019, p. 55.

34- Robinson, Faik. “Artificial Intelligence and its Philosophy.” International Journal of Swarm Intelligence and Evolutionary Computation, vol. 10, no. 4, 2021, pp. 1–5. ISSN: 2090- 4908, p. 1.

35- Kelly, Kevin. The Inevitable: Understanding the 12 Technological Forces That Will Shape Our Future. Viking, 2016, pp. 3–4.

36- S. Shyni Carmel Marya and others: “Connecting Human Mind with Machine Learning,” https://doi.org/10.31893/multiscience, Published Online: July 3, 2024, p. 1.

37- Plato. Phaedo. In: Plato: Complete Works, ed. J. M. Cooper, Hackett, 1997, p. 79.

38- Aristotle. De Anima. In: The Complete Works of Aristotle, ed. J. Barnes, Princeton University Press, 1984, Vol. 1, p. 656.

39- Rachel R. Adams: Aristotle on Mind, University of Central Florida, 2011, p. iii.

40- Descartes, R. Discourse on Method. Hackett, 1998, Part V, p. 42.

41- Hatfield. The Routledge Guidebook to Descartes’ Meditations. London and New York: Routledge, 2014, pp. 361–362.

42- Takahashi, Kazuyuki Ikko. “What Drives the Systems? From Conatus to Dynamics: Descartes, Hobbes, Spinoza, Leibniz, and Kant.” Meiji University. Proceedings of the 61st Conference of the International Society for the Systems Sciences (ISSS), p. 5.

43- Hatfield, Op- Cit, p. 364.

44- Youheng Zhang: A Historical Interaction between Artificial Intelligence and Philosophy, Wuhan University of Technology. [email protected], p. 1.

45- Leibniz, G. W. Monadology. In: Philosophical Essays. Hackett, 1989, p. 214.

46- Trzęsicki, Kazimierz, Op- Cit, p. 48.

47- Jonathan David Cottrell, Hume on Mental Representation and Intentionality (Wayne State University, 2018), p. 5. [email protected].

48- Ibid, p. 7.

49- Don Garrett: “Hume’s Theory of Ideas” in Hume (London: Routledge, 2014), p. 43.

50- David Hume, An Enquiry concerning Human Understanding, ed. L. A. Selby- Bigge, 2nd ed., rev. P. H. Nidditch (Oxford: Clarendon Press, 1975), p. 19.

51- Hume, D. A Treatise of Human Nature, Oxford University Press, 2000, Book I, p. 252.

52- Descartes, Meditations on First Philosophy, trans. John Cottingham, Cambridge University Press, 1996, pp. 17–19.

53- Dr. B. Ananda Sagar, Descartes’ Rationalism: A Brief Exposition, © 2019 JETIR July 2019, Volume 6, Issue 7, www.jetir.org (ISSN- 2349- 5162), pp. 689–690.

54- Loc- Cit.

55- Leibniz, New Essays on Human Understanding, trans. Peter Remnant and Jonathan Bennett, Cambridge University Press, 1996, pp. 52–55.

56- Hume, An Enquiry Concerning Human Understanding, ed. Tom L. Beauchamp, Oxford University Press, 2000, pp. 25–28.

57- Frege, G. Begriffsschrift. Halle: Verlag von Louis Nebert, 1879, pp. 1–9.

58- Green, J. J., Marcus Rossberg, and Philip A. Ebert, “The Convenience of the Typesetter; Notation and Typography in Frege’s Grundgesetze der Arithmetik,” Bulletin of Symbolic Logic 21, no. 1 (March 2015), p. 16.

59- Alfred Tarski, “The Concept of Truth in Formalized Languages,” in Logic, Semantics, Metamathematics, Oxford: Clarendon Press, 1956, pp. 152–278.

60- Tarski, A. “The Concept of Truth in Formalized Languages” (1933), in Logic, Semantics, Metamathematics, Oxford: Clarendon Press, 1956, p. 155.

61- Woleński, J. (n.d.). “The Semantic Theory of Truth,” in E. N. Zalta (Ed.), Internet Encyclopedia of Philosophy. Retrieved from https://iep.utm.edu/truth- sem

62- Youheng Zhang, Op- Cit, p. 4.

63- Turing, A. “On Computable Numbers, with an Application to the Entscheidungsproblem,” Proceedings of the London Mathematical Society, Series 2, Vol. 42 (1936): p. 241.

64- Stuart J. Russell and Peter Norvig, Op- Cit, pp. 2–3.

65- Loc- Cit.

66- Steve Reeves and Mike Clarke, Logic for Computer Science, Addison- Wesley Publishers Ltd, first published 1990, p. 5.

67- Zhang, Hantao, and Jian Zhang, Logic in Computer Science, supervised by Benji Mo, 2022, p. 2.

68- Huth, M., & Ryan, M., Logic in Computer Science: Modelling and Reasoning about Systems, 2nd Edition, Cambridge University Press, 2004, pp. 3–5.

69- Erickson, Jeff, Algorithms, Copyright © 2019 by Jeff Erickson, pp. 1–2.

70- Ibid, pp. 2–3.

71- Enderton, H. B., A Mathematical Introduction to Logic, 2nd Edition, Academic Press, 2001, pp. 91–95.

72- Mendelson, E., Introduction to Mathematical Logic, 5th Edition, Chapman & Hall/CRC, 2015, pp. 112–120.

73- Maya C. Jackson, “Artificial Intelligence & Algorithmic Bias: The Issues With Technology Reflecting History & Humans,” J. Bus. & Tech. L. 16 (2021), pp. 301–302.

74- Sterling, L., & Shapiro, E., The Art of Prolog, 2nd Edition, MIT Press, 1994, pp. 45–50.

75- Bertot, Y., & Castéran, P., Interactive Theorem Proving and Program Development: Coq’Art, Springer, 2004, pp. 15–25.

76- Mano, M. M., & Ciletti, M. D., Digital Design, 5th Edition, Pearson, 2013, pp. 30–35.

77- Erickson, Jeff, Op- Cit, p. 7.

78- Hetvi Parekh, “Intelligence of Artificial Intelligence: Philosophy,” International Journal of Creative Research Thoughts, Vol. 8, Issue 5, 2020, p. 2431.

79- Plato, Theaetetus, trans. M. J. Levett, rev. Myles Burnyeat, Hackett Publishing, 1990, pp. 201c–210d.

80- Russell, Stuart & Norvig, Peter, Artificial Intelligence: A Modern Approach, 3rd ed., Pearson, 2010, p. 25.

81- Fodor, Jerry & Pylyshyn, Zenon, “Connectionism and Cognitive Architecture: A Critical Analysis,” Cognition 28 (1988), pp. 29–30.

82- Pylyshyn, Zenon, “Computation and Cognition: Issues in the Foundations of Cognitive Science,” Behavioral and Brain Sciences 3 (1980), p. 121.

83- Parekh, Hetvi, Intelligence of Artificial Intelligence: Philosophy, OSF Preprints, September 9, 2022. https://doi.org/10.31219/osf.io/d9fe3, p. 2.

84- Shin, D., “Automating epistemology: how AI reconfigures truth, authority, and verification,” AI & Society, August 12, 2025, p. 3.

85- Burton, Anthony Glyn, et al., Algorithmic Authenticity: An Overview, Meson Press, 2023, p. 20.

86- Cathy O'Neil, Weapons of Math Destruction: How Big Data Increases Inequality and Threatens Democracy (New York: Crown, 2016), pp. 24–29.

87- Nicholas Carr, The Shallows: What the Internet Is Doing to Our Brains (New York: W. W. Norton, 2010), p. 118.

88- Shoshana Zuboff, The Age of Surveillance Capitalism: The Fight for a Human Future at the New Frontier of Power (New York: PublicAffairs, 2019), pp. 352–360.

See Also:

- Frank Pasquale, The Black Box Society: The Secret Algorithms That Control Money and Information (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2015), pp. 55–61.,pp- 101- 103

89- Luciano Floridi, The Philosophy of Information (Oxford: Oxford University Press, 2011), pp. 76–82.

90- David Beer, "Power through the Algorithm? Participatory Web Cultures and the Technological Unconscious," New Media & Society 11, no. 6 (2010): 985–1002.

91- Shin, D., “Automating epistemology: how AI reconfigures truth, authority, and verification,” AI & Society, August 12, 2025, pp. 5–6.

92- Dodig- Crnkovic, Gordana, and Mark Burgin, eds., Philosophy and Methodology of Information: The Study of Information in a Transdisciplinary Perspective, World Scientific Series in Information Studies, vol. 10, Singapore: World Scientific, 2019, p. xi.

93- Kelly, Kevin, The Inevitable: Understanding the 12 Technological Forces That Will Shape Our Future, Viking, 2016, Abstract.

94- Kelly, K., “Artificial Intelligence and Effective Epistemology,” in Fetzer, J. H. (ed.), Acting and Reflecting, Synthese Library, Springer, 1990, pp. 115–128.

95- Ibid, pp. 5–6.

96- David K. McGraw, “Ethical Responsibility in the Design of Artificial Intelligence (AI) Systems,” International Journal on Responsibility 7, no. 1 (2024): 1.

97- Ibid, p. 3.

98- Russo, F.; Schliesser, E.; & Wagemans, J. H. M., “Connecting ethics and epistemology of AI,” AI & Society 39(4), 1585–1603 (2023), pp. 2–4.

99- Searle, J., “Minds, Brains, and Programs,” Behavioral and Brain Sciences 3(3), 1980, pp. 417–457.

100- Masahiro Morioka, “Artificial Intelligence and Contemporary Philosophy: Heidegger, Jonas, and Slime Mold,” Journal of Philosophy of Life 13, no. 1 (January 2023): 29–43, p. 31.

101- Ibid, pp. 29–30.

102- Ibid, p. 31.

103- Ibid, pp. 31–32.

104- John Searle, “The Chinese Room,” excerpted from: Minds, Brains, and Programs (1980), https://rintintin.colorado.edu/phil201 › Searle, p. 6.

See also:

Searle, John R., “Minds, Brains, and Programs,” Behavioral and Brain Sciences 3, no. 3 (1980): 417–424.pp- 6- 7

105- Loc- Cit.

106- Robinson, Faik, “Artificial Intelligence and its Philosophy,” International Journal of Swarm Intelligence and Evolutionary Computation 10, no. 4 (2021): 1–5, p. 1.

107- Delamar José Volpato Dutra & Edna Gusmão de Góes Brennand, “Intelligence and Philosophy: Between New and Old Artificial Crossroads,” Filosofia Unisinos 25, no. 1 (2024): 1–15, DOI:10.4013/fsu.2024.251.08, p. 5.

108- Youheng Zhang, “A Historical Interaction between Artificial Intelligence and Philosophy,” Wuhan University of Technology, [email protected], pp. 4–5.

109- Blum, L., & Blum, M., “A Theory of Consciousness from a Theoretical Computer Science Perspective: Insights from the Conscious Turing Machine,” ArXiv preprint, 2021, pp. 1–2.

110- Youheng Zhang, Op- Cit, p. 5.

111- Farisco, M., Evers, K., & Changeux, J.- P., “Is artificial consciousness achievable? Lessons from the human brain,” Neural Networks 180 (2024), 106714.

112- Pepperell, R., “Does Machine Understanding Require Consciousness?,” Frontiers in Systems Neuroscience 16 (2022): 1–2.

113- Machine Consciousness as Pseudoscience: The Myth of Conscious Machines, ArXiv preprint, 2024, pp. 6–7.

114- Farisco, M., Evers, K., & Changeux, J.- P. Loc- Cit.

115- Garrido- Merchán, Eduardo C. 2024. Machine Consciousness as Pseudoscience: The Myth of Conscious Machines. Preprint, Universidad Pontificia Comillas. arXiv:2405.07340, pp. 1–2.

116- Anwar, N. A., & Badea, C. Can a Machine be Conscious? Towards Universal Criteria for Machine Consciousness, ArXiv preprint, 2024, pp. 1–2.

117- Müller, Vincent C. “Ethics of Artificial Intelligence and Robotics.” In The Stanford Encyclopedia of Philosophy, edited by Edward N. Zalta, Fall 2020 Edition. Metaphysics Research Lab, Stanford University, 2020. https://plato.stanford.edu/entries/ethics- ai/. p. 2.

118- VAROL AKMAN: Introduction to the Special Issue on Philosophical Foundations of Artificial Intelligence, e- mail: akman!cs.bilkent.edu.tr, p. 248.

119- Zhu Zhen. Responsibility Determination: Free Will and Legal Responsibility in the Age of Artificial Intelligence, Front. Law China, 2022, pp. 122–139.

120- Addressing Three Misconceptions. Technology and Regulation, https://doi.org/10.26116/techreg.2021, p. 35.

121- Loc- Cit.

122- Ibid, p. 37.

123- Zhu Zhen. Op- Cit, pp. 130–132.

124- Ibid, p. 132.

125- Calì, Cristiano. “The Cognitive Capacity of Free Will: A Specific Space for the Human Being Irreproducible in AI.” Journal of Ethics and Emerging Technologies 33, no. 2 (July- December 2023). DOI:10.55613/jeet.v33i2.133, p. 2.

126- Calì, Cristiano. “The Cognitive Capacity of Free Will: A Specific Space for the Human Being Irreproducible in AI.” Journal of Ethics and Emerging Technologies 33, no. 2 (July- December 2023). DOI:10.55613/jeet.v33i2.133, pp. 8–9.

127- List, Christian. “Can AI Systems Have Free Will?” Synthese 206, no. 3 (2025), p. 8.

128- Cristiano Calì. The Cognitive Capacity of Free Will: A Specific Space for the Human Being Irreproducible in AI, Journal of Ethics and Emerging Technologies, 2025, pp. 389–399.

129- ScienceDaily. Frank Martela. Commentary via ScienceDaily, May 13, 2025, p. 55.

130- Martela, Frank. “Artificial Intelligence and Free Will: Generative Agents Utilizing Large Language Models Have Functional Free Will.” AI & Ethics 5, no. 4 (2025): 4389–4400. DOI:10.1007/s43681- 025- 00740- 6, p. 42.

131- Modi, T. B. "Artificial Intelligence Ethics and Fairness: A Study to Address Bias and Fairness Issues in AI Systems, and the Ethical Implications of AI Applications", Revista Review Index Journal of Multidisciplinary, 2023, Abstract.

132- Krištofík, A. (2025, April 28). Bias in AI (Supported) Decision Making: Old Problems, New Technologies. International Journal for Court Administration, 16(1), Article 3. DOI: 10.36745/ijca.598, p. 1.

133- Ethics and Information Technology. "Policy Advice and Best Practices on Bias and Fairness in AI", 2024, pp. 33–35.

134- Ibid, pp. 40–44.

135- Krištofík, A. (2025, April 28). Bias in AI (Supported) Decision Making: Old Problems, New Technologies. International Journal for Court Administration, 16(1), Article 3. DOI: 10.36745/ijca.598, pp. 2–3.

136- Pfeiffer, J., & Gutschow, J. "Algorithmic Fairness in AI: An Interdisciplinary View", Business & Information Systems Engineering, 2023, pp. 209–222.

137- Krištofík, A. Op- Cit, pp. 3–4.

138- Ibid, pp. 7–8.

139- Ibid, pp. 12–13.

140- Anna Zink: Building Equitable Artificial Intelligence in Health Care: Addressing Current Challenges and Exploring Future Opportunities, Sarah Morriss, Anuj Gangopadhyaya, Ziad Obermeyer, Urban Institut, 2023, pp. 1–2.

141- Beyond Bias and Discrimination: Redefining the AI Ethics Principle of Fairness in Healthcare Machine- Learning Algorithms, AI & Society, 2022.

142- Anna Zink, Op- Cit, p. 3.

143- Loc- Cit.

144- Source of the question and scope: Stanford Encyclopedia of Philosophy, "Ethics of Artificial Intelligence and Robotics", 2018.

145- Masahiro Morioka: Artificial Intelligence, Robots, and Philosophy, Journal of Philosophy of Life, 2023, p. 113.

146- Ibid, pp. 113–114.

147- Loc- Cit

148- Susan Leigh Anderson: Asimov’s “Three Laws of Robotics” and Machine Metaethics, University of Connecticut, Dept. of Philosophy, Stamford, CT 06901, [email protected], Abstract.

149- Balkin, Jack M. (2017). Sidley Austin Distinguished Lecture on Big Data Law and Policy: The Three Laws of Robotics in the Age of Big Data. Ohio State Law Journal, 78(5), 1217–1241, p. 1217.

150- Susan Leigh Anderson, Op- Cit.

151- Leveringhaus, A., Developing Robots: The Need for an Ethical Framework, 2018, Sage Journals, Abstract.

152- Susan Leigh Anderson, Op- Cit.

153- Murphy, R. R., & Woods, D. D. (2009). Beyond Asimov: The Three Laws of Responsible Robotics. IEEE Intelligent Systems, 24(4), 14–20. https://doi.org/10.1109/MIS.2009.69, p. 14.

154- K. M. Tripathi and Rakesh Tiwari: Man Machine Interface: Moral and Ethical Implications, Sityog Institute of Technology, Aurangabad.

See Also:

- Rubin, C. T. (2011). Machine Morality and Human Responsibility. The New Atlantis. https://www.thenewatlantis.com/publications/machine- morality- and- human- responsibility, p. 61.

155- Principles of Robotics: Regulating Robots in the Real World, 2016, Taylor & Francis / Ethics & Information Technology, special issue, pp. –.

156- Charisi, V. et al., Towards Moral Autonomous Systems, ArXiv, 2017, p. 27.

157- Ibid, pp. 3.- 4

See Also:

- Baum, K. et al., Towards a Framework Combining Machine Ethics and Machine Explainability, ArXiv, 2019, pp. 1–2.

158- Gunkel, D. J., The Machine Question: Critical Perspectives on AI, Robots, and Ethics, MIT Press, 2012, pp. 1–270.

159- Müller, Vincent C. “Ethics of Artificial Intelligence and Robotics.” In The Stanford Encyclopedia of Philosophy, edited by Edward N. Zalta, Fall 2020 Edition. Metaphysics Research Lab, Stanford University, 2020. https://plato.stanford.edu/entries/ethics- ai/, p. 6.

160- Ibid, p. 7.

161- Loc- Cit.

162- Ibid, p. 8.

163- Ibid, pp. 10–11.

164- Ibid, p. 12.

165- Magnani, L., Li, P., & Park, W. (Eds.). (2015). Philosophy and Cognitive Science II: Western & Eastern Studies (Studies in Applied Philosophy, Epistemology and Rational Ethics, Vol. 20). Cham: Springer. https://doi.org/10.1007/978- 3- 319- 18479- 1, p. 3.

166- Ibid, p. 8.

167- Alan Turing, “Computing Machinery and Intelligence,” Mind, vol. 59, no. 236 (October 1950), p. 433.

168- John Searle, “Minds, Brains, and Programs,” Behavioral and Brain Sciences, vol. 3, no. 3 (1980), p. 422.

169- Martha Nussbaum, Upheavals of Thought: The Intelligence of Emotions, Cambridge University Press, 2001, p. 45.

170- Nick Bostrom, Superintelligence: Paths, Dangers, Strategies, Oxford University Press, 2014, p. 203.

171- Gamez, D. Machine Consciousness, in: Human and Machine Consciousness, Open Book Publishers, 2018, pp. 135–148.

172- Blum, L., & Blum, M. A Theory of Consciousness from a Theoretical Computer Science Perspective: Insights from the Conscious Turing Machine, ArXiv preprint, 2021, pp. 1–2.

173- Ulhaq, Anwaar. Neuromorphic Correlates of Artificial Consciousness, ArXiv preprint, May 3, 2024.

174- The Feasibility of Artificial Consciousness through the Lens of Neuroscience, Trends in Neurosciences, Vol. 46, Issue 12, December 2023, pp. 1008–1017.

175- Nick Bostrom, Op- Cit, pp. 3–5.

176- Erik Brynjolfsson & Andrew McAfee, The Second Machine Age: Work, Progress, and Prosperity in a Time of Brilliant Technologies, W. W. Norton & Company, 2014, pp. 90–94.

177- Christian List: Can AI Systems Have Free Will? First version: November 2024 / this version: March 2025, p. 1.

178- Shoshana Zuboff, The Age of Surveillance Capitalism: The Fight for a Human Future at the New Frontier of Power, PublicAffairs, 2019, pp. 8–11.

179- Luciano Floridi, The Ethics of Artificial Intelligence, in: The Oxford Handbook of Ethics of AI, Oxford University Press, 2020, pp. 9–12.

180- Floridi, L. et al. (2018). AI4People—An Ethical Framework for a Good AI Society: Opportunities, Risks, Principles, and Recommendations. Minds and Machines 28: 689–707, pp. 6–7.

181- High- Level Expert Group on Artificial Intelligence (2019). Ethics Guidelines for Trustworthy AI. European Commission, Brussels. Available at: https://ec.europa.eu/futurium/en/ai- alliance- consultation.

182- World Health Organization (2021). Ethics and Governance of Artificial Intelligence for Health: WHO Guidance. Geneva: World Health Organization. ISBN: 978- 92- 4- 002920- 0.

183- UNESCO (2023). Guidance for Generative AI in Education and Research. Paris: UNESCO. Available at: https://unesdoc.unesco.org/ark:/48223/pf0000386693.

184- Eloundou, T., Manning, S., Mishkin, P., & Rock, D. (2023). GPTs are GPTs: An Early Look at the Labor Market Impact Potential of Large Language Models. OpenAI Working Paper. arXiv:2304.02675.

185- Cath, C. (2018). Governing Artificial Intelligence: Ethical, Legal and Technical Opportunities and Challenges. Philosophical Transactions of the Royal Society A, 376(2133), 20180080. https://doi.org/10.1098/rsta.2018.0080.

186- European Commission (2021). Proposal for a Regulation Laying Down Harmonised Rules on Artificial Intelligence (Artificial Intelligence Act). Brussels: European Commission, pp. 1–30.

187- UNESCO (2021). Recommendation on the Ethics of Artificial Intelligence. Paris: UNESCO Publishing.

188- Roberts, H., Cowls, J., Morley, J., Taddeo, M., Wang, V., & Floridi, L. (2021). The Chinese Approach to Artificial Intelligence: An Analysis of Policy, Ethics, and Regulation. AI & Society, 36, 59–77.

189- Ananny, M., & Crawford, K. (2018). Seeing without Knowing: Limitations of the Transparency Ideal and Its Application to Algorithmic Accountability. New Media & Society, 20(3), 973–989.

190- Nick Bostrom, Superintelligence: Paths, Dangers, Strategies (Oxford: Oxford University Press, 2014), pp. 115–120.

191- Max Tegmark, Life 3.0: Being Human in the Age of Artificial Intelligence (New York: Alfred A. Knopf, 2017), pp. 50–65.

192- Shoshana Zuboff, The Age of Surveillance Capitalism (London: Profile Books, 2019), pp. 193–360.

193- Luciano Floridi and Josh Cowls, “A Unified Framework of Five Principles for AI in Society,” Philosophy & Technology 33, no. 1 (2020): pp. 9–12.

See Also:

World Economic Forum, The Future of Jobs Report 2023 (Geneva: WEF, 2023), pp. 27–33.

تأطير الإشكالية الفلسفية

تُعدّ العلاقة بين "بدائية السياسة" و"القبلية البنيوية" إشكالية فلسفية عميقة، إذ تمس جوهر التفاعل بين الحتمية الاجتماعية والسلطة ومركزية الذات في سياق النظم السياسية المعاصرة.

يهدف هذا المقال إلى تحليل الاشتباك النظري بين "البدائية السياسية" - كأيديولوجيا حكم معرفية - و"القبلية البنيوية" - كنموذج تحليلي للنظم الاجتماعية اللا-دولتيه. يتضمن التحليل استعراضًا للنماذج الكلاسيكية وتأطير الإشكالية الفلسفية المتعلقة بتأثير البنى على حرية الذات في تشكيل الواقع السياسي.

البنية والوظيفة

تجد هذه الإشكالية جذورها في المنهج البنيوي الذي ظهر في العلوم الإنسانية. يؤكد هذا المنهج وجود بُنى عميقة وثابتة تشترك فيها جميع الثقافات، مُرسِّخةً مبدأ تكافؤ الممارسات الثقافية عبر المجتمعات. كانت للعلوم السياسية حصتها من هذا المنهج، مما أدى إلى نشأة ما يُعرف بـ البنيوية السياسية، التي تركز على البعد الاجتماعي المشترك للسياسة الدولية.

تهتم الأنثروبولوجيا السياسية بدراسة بُنى النظم السياسية عبر النظر إليها كجزء لا يتجزأ من أسس البنية الاجتماعية، وتتبُّع أشكال تطورها التاريخي. يؤكد المنهج البنيوي في هذا السياق على استبدال الدراسة التكوينية أو الوظائفية بتحليل البنى المجردة والنماذج البنيوية. هنا، يُنظر إلى السياسة من زاوية العلاقات "الشكلية" التي تُحلّل علاقات السلطة القائمة فعليًا بين الأفراد والجماعات.

يتمثل جوهر المنظور البنيوي في فرضية الحتمية، التي تنظر إلى الإنسان على أنه محكوم بالبيئة والظروف والطبقة أو الطائفة/القبيلة التي وُلِد فيها. هذا التصور ينفي الحرية المطلقة التي يتصوّرها بعض الفلاسفة. في هذا الإطار، تُعتبر البنى السياسية أنظمة مجردة تُعبّر عن المبادئ الأساسية التي توحد العناصر المكونة للمجتمعات السياسية الواقعية.

القبيلة مقابل القبلية

يواجه التحليل تحديًا منهجيًا يتمثل في الخلط المتكرر بين دلالات مصطلحي "القبيلة" و"القبلية". إن الفشل في الفصل بين هذين المفهومين يحول دون تقديم تحليل سياسي دقيق للظواهر الاجتماعية.

القبيلة: البنية الاجتماعية (الساكنة)

تُعرف القبيلة بأنها المؤسسة الاجتماعية الأولية المسؤولة عن تنظيم حياة الجماعات البدائية، وتأمين الأمن الغذائي، والدفاع عن المجال الجغرافي. هذا ينطبق بشكل خاص على الحقب التاريخية التي لم تكن الدولة قد تحولت فيها من فكرة مجردة إلى واقع ملموس. هي بنية اجتماعية أساسية تعمل كإطار للحماية والأمن الجماعي.

القبلية: النزعة والوظيفة السياسية (المتحركة)

أما القبلية فهي نزعة تعصّبية ذات طابع سيكولوجي وسياسي، تسعى للقفز خارج إطارها الاجتماعي-الأنثروبولوجي الضيق لتباشر تعزيز مكانتها في المؤسسات السيادية للمجتمع، بما فيها الدولة. تتم هذه العملية عبر تسيس المصالح الاقتصادية والقيمية للقبيلة، ومنحها حقوقًا سياسية تتشابه مع حقوق الكيانات المدنية التي تخضع لسلطة وقوانين الدولة المركزية.

يشير التحليل البنيوي إلى وجود ظاهرة "التخادم البنيوي" و"التناغم المؤسسي" بين القبيلة (البنية الأولية الساعية للحماية) والقبلية (النزعة العصبية الساعية لفرض الإرادة). في ظل المصالح والظروف القاسية (كغياب الموارد أو النزق البيئي)، قد تستعين القبيلة كجماعة اجتماعية بنوازع القبلية كعصبية لتعزيز مصالحها. وهذا يؤكد أن النزعة القبلية ليست مجرد بقايا بدائية، بل هي تسيس وظيفي للبنية الأولية يتم تفعيله عند ضعف مؤسسات الدولة الحديثة.

إن هذا الفصل المنهجي ضروري، فالنزعة القبلية، كونها قوة سياسية مخترقة، تمثل التفعيل الوظيفي للبنية الأولية (القبيلة) في مواجهة تحديات الدولة الحديثة. وهذا يوضح لماذا يمكن للقبلية أن تلعب دورًا في تعزيز التماسك في أوقات الأزمات، بدلًا من كونها مجرد مصدر للانقسام.

البنيوية والحتمية

تُشكّل الإشكالية الفلسفية الأولى للبنيوية في تبنّيها المطلق لمبدأ الحتمية، الذي يحدّ من دور الذات الفاعلة. يؤكد البنيويون، وعلى رأسهم كلود ليفي-شتراوس، أن البنى العميقة للعقل البشري موحدة وأن العقل "المتوحش" له نفس هياكل العقل "المتحضر"، مما يجعل جميع الثقافات قابلة للمقارنة ومتكافئة.

في حين أن هذا الموقف، الذي يرى أن الأساطير القبلية تمثل مهارة عقلية لا تقل احترامًا عن أعمال نيوتن، هو عمل تحرري ضد التراتبية الحضارية التي سادت في الغرب. إلا أن الثمن الفلسفي لذلك هو تقييد حرية الفرد ضمن حدود البنى الثابتة. بالنسبة للبنيوية، الفرد هو نتاج للبنية الاجتماعية والاقتصادية والقبلية التي يعيش فيها، ما يجعله غير حر بالقدر الذي يتخيله المفكرون الوجوديون. وبالتالي، تفتتح البنيوية بابًا للنقد الوجودي وما بعد البنيوي الذي سيركز لاحقًا على الفعل الثوري والحرية والذاتية الفاعلة.

العصبية كآلية للتكاتف الاجتماعي

تُعدّ نظرية العصبية محاولة رائدة لدراسة الرابطة والتكاتف الاجتماعيين. لقد وسّع ابن خلدون مفهوم "النسب" من معناه البيولوجي الضيق لكي يشمل الحلف والولاء، مستحدثًا تعبير "نسب الولاء". بالنسبة لابن خلدون، تكمن قوة العصبية في وجود "ثمرات النسب"، أي جريان أحكام الجماعة وأحوالها على الفرد، مؤكدًا أن الالتحام بالقوم هو المعنى الحقيقي للعصبية، بغض النظر عن النسب الأولي الذي قد يتناسى بطول الزمن.

تُفسِّر العصبية، دينية كانت أم قبلية، ديناميكية دورات الحكومات؛ فهي القوة الدافعة التي توحّد القبائل والقوى الغازية وتشدّها، مما يُمكّنها من الغلبة على الدولة القائمة التي تكون قد ترهلت وضعفت. تمر الدولة الجديدة بعدها بفترة قوة وازدهار، لتواجه في نهاية المطاف نفس مصير سابقتها، في جدلية مستمرة بين البادية والحاضرة.

تحدي القبلية البنيوية للدولة الحديثة

تتجسد الإشكالية البنيوية في الراهن السياسي في التعارض الحاد بين بنية القبلية ومفهوم المواطنة في الدولة الحديثة. تقوم الديمقراطية الحديثة على المواطنة أي الفرد الذي يرتبط بالدولة عبر رابطة قانونية ومعنوية، وحيث تكون السيادة ملكًا لجميع المواطنين. أما القبيلة، فتقوم على الانتماء العائلي الذي لا يمكن للفرد أن يغيره بإرادته، خلافًا لخياراته السياسية أو الفكرية.

تسعى القبلية السياسية لإعطاء البنية القبلية وزنًا سياسيًا ضمن الدولة الحديثة، وغالبًا ما تتخذ شكل اختراق للمؤسسات السيادية. هذا التسيس للبنية القبلية يعرقل مفهوم المواطنة الشاملة القائمة على الإقليم والرابطة القانونية.

مع ذلك، تظهر ديناميكية معاصرة للقبلية البنيوية في سياق الدول الفاشلة أو الهشة. فالتحليل يشير إلى أن القبيلة، في سياقات الأزمة الشاملة، تتحول إلى عامل تماسك اجتماعي وتوفير لشبكات الدعم، وليست بالضرورة مصدرًا للانقسام كما تصفها الخطابات الدعائية. هذا التحول الوظيفي يمثل استعادة البنية الأولية لسلطتها، مدفوعة بفشل الدولة المركزية في توفير الحماية والأمن، وهما الوظيفة الأساسية التي كانت تقوم بها القبيلة تاريخيًا.

تحول بدائية السياسة إلى ظاهرة داخلية

في تطور فلسفي هام، لم يعد مفهوم "بدائية السياسة" مقتصرًا على تصنيف المجتمعات اللا-دولتيه الخارجية، بل أصبح يُستخدم لنقد الظواهر البنيوية الداخلية للديمقراطيات الغربية نفسها.

 عندما تفشل الدولة الليبرالية المركزية في تحقيق وظائفها الأساسية (الأمن والحماية)، فإن البنية القبلية الأولية تستعيد وظيفتها السياسية، ليس كبقايا الماضي، بل كآلية بنيوية حاضرة لمواجهة الأزمة. وهذا يؤكد أن الأنظمة القبلية، إذا تم تجريدها من التصنيف الأيديولوجي السلبي، يمكن أن تكون متوافقة مع مفاهيم الحكم القائمة على التفاوض والمشاركة. إن التحرر السياسي الكامل يتطلب أولًا التحرر من البنية المعرفية الأيديولوجية التي تصنّف الذات ضمن إطار "بدائية السياسة" و"القبلية البنيوية"، التي تمثل عودة "البدائية" إلى المركز.

***

غالب المسعودي

.......................

المراجع المستخدَمة في التقرير

en.wikipedia.org - Structural anthropology - Wikipedia

في البنيوية - مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

elearn.univ-tlemcen.dz - اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ اﻻﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻋﻨﻮان اﻟﻤﺤﺎﺿﺮة

uomustansiriyah.edu.iq - مناهج الانثروبولوجيا السياسية واتجاهاتها

المحاضرة الثالثة

alfililaw.com - الدين والقبيلة في مواجهة الديمقراطية - د

محمد الفيلي أستاذ القانون العام

cmi.no - The contemporary nature of tribalism.

Anthropological insights on the libyan case

anthropology.iresearchnet.com - Segmentary Lineage

Systems - Anthropology

as.nyu.edu - 'PRIMITIVISM', ANTHROPOLOGY, AND THE

CATEGORY OF

researchgate.net - Liberalism and Its Other: The

Politics of Primitivism in Colonial and Postcolonial Indian Law

udaychandra.com - Liberalism and Its Other: The

Politics of Primitivism in Colonial and Postcolonial Indian Law

thenewatlantis.com - Anthropology as Atonement - The

New Atlantis

en.wikipedia.org - Claude Lévi-Strauss - Wikipedia

copolicy.uobaghdad.edu.iq

اطروحة في كلية العلوم السياسية تناقش البنيوية

وما بعد البنيوية في الفكر السياسي الفرنسي المعاصر

fiveable.me - Segmentary Lineage System - (Intro to

Anthropology)

economics.ubc.ca - Segmentary Lineage Organization and

Conflict in Sub-Saharan Africa

infinitemiledetroit.com - Primitivism in 20th Century

Art: Affinity of the Tribal and the Arrogant

sihr.fr - محنة العقلانية في الفكر السياسي العربي المعاصر

muslimsc.net - نظرية العصبية عند ابن خلدون وتأسيس الدول

رابطة علماء المسلمين

dohainstitute.org - Tribalism, Regionalism, and the

Stalled Building of the Modern State in Libya

scholarship.law.wm.edu - Tribalism and Democracy -

W&M Law School Scholarship Repository

un.uobasrah.edu.iq

الراهب البوذي شوانزانغ xuanzang ذهب عام 632م برفقة زميل له في رحلة في صحراء جوبي Gobi بمقاطعة لانتشو الصينية. الغرض من الرحلة كان العثور على الماء. فجأة شاهد الرجلان وادي يشبه أرض زرقاء. التفت شوانزانغ الى زميله قائلا"انظر، هناك ماء". لسوء الحظ، تبيّن ان اللون الازرق اللامع عبارة عن سراب. مع ذلك، عندما وصلا الى الوادي، وجد شوانزانغ ماءً مختبئا تحت صخرة كبيرة. السؤال هو هل عرف الراهب البوذي ان أمامه هناك ماء ؟ بكلمة اخرى، هل ان اعتقاده الاول بان هناك ماء في الوادي يُعتبر معرفة؟ هذا الموقف لشوانزانغ يمثل ما يسميه الفلاسفة اليوم حالة جيتيه Gettier case. هذه هي مشكلة فلسفية اشتهر بها ادموند جيتيه (1927-2021) في محاولة لنقد الطريقة السقراطية التقليدية او النظرية الافلاطونية في المعرفة باعتبارها "اعتقاد حقيقي مبرر". وفق تلك الطريقة، امتلاك عقيدة مبررة وصحيحة هو شرط ضروري وكاف للمعرفة. اذا كانت لدى احد ما عقيدة مبررة وصحيحة، فهو لديه معرفة. لكن، مع ان العقيدة الصحيحة والمبررة هي حقا شروط ضرورية للمعرفة، جيتيه بيّن انها غير كافية. هو قام بهذا عبر عرض مختلف المواقف التي يمتلك فيها المرء عقيدة مبررة وصحيحة لكنها مع ذلك تفشل في ان تكون معرفة. هنا سننظر في صياغة جديدة لمشكلة جيتيه، وايضا ننظر في طريقة للرد على حالات جيتيه من خلال تأسيس شرط رابع للمعرفة.

اولاً، كيف نستطيع معرفة اننا لدينا أي معرفة؟ دعونا نعود مرة اخرى لعام 632م. طبقا لنموذج العقيدة المبررة والصحيحة، شوانزانغ لديه معرفة بان هناك ماء في الوادي بناءً على الظروف التالية:

1- هو لديه تبرير في ايمانه بان هناك ماء في الوادي لأنه يرى لونا ازرق يعتبره ماء.

2- هو يعتقد ان هناك ماء في الوادي.

3- شوانزانغ يجد ماءً، لذا من الصحيح ان هناك ماء.

هنا يشير "التبرير" الى دليل داعم – مثل اعتراف شوانزانغ بان اللون الازرق ماء. سقراط والفلاسفة اللاحقون طرحوا شرط التبرير لحماية ادّعاءات المعرفة ضد الحظ. التخمين المحظوظ لا يُعتبر معرفة طالما لا يوجد هناك سبب جيد للاعتقاد انه صحيح.

مع ذلك، يبدو انه رغم ان عقيدة شوانزانغ كانت صحيحة، لكن هذه كانت فقط مصادفة محظوظة، وليست نتيجة لإستنتاجه من رؤية ضباب ازرق في الوادي. جيتيه حفز وعلى نطاق واسع نقاشا فلسفيا عبر عرض حالات من حوادث عرضية لعقيدة صحيحة، مبيّنا ان فكرة المعرفة كعقيدة صحيحة لا تصمد ضد الحظ (في الأصل في ورقته الموجزة "هل العقيدة المبررة الصحيحة معرفة؟"، تحليل،1963). هنا سوف لن نناقش حالات جيتيه الخاصة، بل سوف نطبق استنتاجاته على شوانزانغ. هل يمكن استبعاد إدّعاء شوانزانغ الاولي في المعرفة عبر استنتاجه ان الماء كان ببساطة مجرد حظ؟

لاشك ان تلك مسألة حظ في عثوره على الماء، لأنه لاتوجد علاقة سببية بين اعتقاد شوانزانغ انه يرى ماءً وعثوره الحقيقي على الماء. لكن بدون علاقة سببية بين وجود ماء هناك واعتقاده بوجود ماء لايمكن لتلك العقيدة ان تكون شكلا للمعرفة. هذا يؤكد فكرة ان الشروط المحددة بـ "عقيدة مبررة وصحيحة" هي ضرورية لكنها ليست كافية للمعرفة طالما ان المعرفة تتطلب اكثر من مجرد عقيدة ثبتت صحتها بطريق الصدفة. لذلك، في الرد على حالات جيتيه، العديد من الابيستيمولوجيين المعاصرين طوروا شرطا رابعا للمعرفة : وهو ان صحة العقيدة يجب ان لا تكون عرضية. المنظرون مثل الفين جولدمان Alvin Goldman يجادل ان شوانزانغ ستكون لديه معرفة فقط اذا كانت هناك علاقة سببية بين عقيدته بان هناك ماء وحقيقة ان هناك ماء (انظر"نظرية سببية للمعرفة"،مجلة الفلسفة، 1967:64:12). يرى جولدمان ان عقيدة شوانزانغ الاولية ليست معرفة لأنها على الرغم من انها صحيحة ومبررة، فهي غير مرتبطة سببيا بحقيقة ان هناك حقا ماء. لهذا السبب، هؤلاء المفكرون يجادلون ان سببية العقيدة يجب ان تشكل اساسا المعرفة.

هذه النظرية السببية للمعرفة مع انها حسنة النية لكنها لا تخلو من العيوب. طبقا لـ جريفت و جيبهارتر Grefte&Gebharter في (النظرية السببية للمعرفة مراجعة: اتجاه تدخّلي"دار راتيو،2021،34:3)، حتى لو كان اعتقاد الفرد مرتبطا سببيا بالحقيقة التي صاغها الاعتقاد، لايزال من المحتمل لصاحب الاعتقاد ان تنقصه المعرفة. فمثلا، دعنا نفترض ان شوانزانغ لم ير سرابا أمامه وانما بدلا من ذلك شاهد كمية حقيقية من الماء. دعونا ايضا نفترض انه بسبب الظروف المناخية في منطقة لانتشو، كانت هناك مساحات هائلة وكثيرة جدا من السراب لا تحتوي أي ماء لكنها لا يمكن تمييزها من بُعد عن الماء الواقعي. شوانزانغ، وعن طريق الصدفة، ينظر حاليا فقط في البحيرة الحقيقية في منطقة لانتشو. بالنسبة لجولدمان، عقيدة شوانزانغ ستُعتبر معرفة لأنها نتجت بسبب وجود مساحة حقيقية من الماء في الافق. لكننا نستطيع وبشكل معقول الادّعاء ان عقيدة شوانزانغ لا ترقى حقا الى المعرفة لأنها نشأت من حظ معرفي. لو انه نظر في واحدة من بين عدة حالات للسراب، فان عقيدته ستكون زائفة. لذلك، هناك سبب لرفض النظرية السببية للمعرفة لنفس السبب الذي رُفضت بموجبه العقيدة المبررة الصحيحة. أي، عدم قدرتها على الصمود ضد الحدوث التصادفي.

لذا حتى العقيدة الصحيحة والمبررة وكذلك النظرية السببية للمعرفة تفشل في تحديد المعرفة بشكل كاف. مع ذلك رغم ان شوانزانغ لم يحصل ابدا على معرفة في سفرته في الصحراء، لكن سعيه يمثل تحولا مستنيرا في الابيستيمولوجي. في احيان كثيرة، اعتُبرت حالات جيتيه كركائز فلسفية قوية وعميقة حظيت بالإجماع في النقاشات المعاصرة. قصة شوانزانغ التي تسلط الضوء على التوتر بين المعرفة والحظ الابستمي، تقرّبنا خطوة لإدراك معنى ان نعرف حقا.

***

حاتم حميد محسن

............................

Source of knowledge: Xuanzang &the Gettier problem, Philosophy Now, Aug/Sep 2025

 

في عصر الفراغ الأكسيولوجي واللايقين المعرفي والنسبية المعيارية واللاوضوح السياسي، مقاربة تواصلية

"ليس الأنوار الذي ينقص رؤيتنا، بل رؤيتنا هي التي تنقصها الأنوار"

مقدمة: في عصر يتسم بالفراغ الأكسيولوجي (فقدان القيم المرجعية)، واللايقين المعرفي (التشكك في مصادر المعرفة)، والنسبية المعيارية (تعدد المعايير الأخلاقية)، واللاوضوح السياسي (غياب الإجماع حول الأطر الحاكمة)، يبرز السؤال حول إمكانية استعادة الفكر التنويري كإطار فلسفي وثقافي لمواجهة هذه التحديات. يهدف هذا البحث إلى استكشاف كيفية إعادة إحياء مبادئ التنوير - العقلانية، الحرية الفردية، التقدم، والعدالة - في سياق معاصر يعاني من تفكك الروايات الكبرى وتصاعد التعددية الثقافية والتشكك المعرفي، من خلال مقاربة تواصلية تركز على الحوار والتفاعل الاجتماعي. فكيف يمكن للفكر التنويري، بمبادئه العقلانية والإنسانية، أن يواجه تحديات الفراغ الأكسيولوجي، اللايقين المعرفي، النسبية المعيارية، واللاوضوح السياسي؟ وما دور المقاربة التواصلية في إعادة صياغة هذا الفكر ليكون أداة فعالة في بناء إجماع معرفي وقيمي في مجتمعات ما بعد الحداثة؟

الفكر التنويري: المبادئ والسياق

"الحقيقة والصباح يصبحان نورًا مع مرور الوقت."

التنوير، كحركة فكرية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، أكد على العقل كأداة لفهم العالم، وروّج للحرية الفردية، المساواة، والتقدم العلمي والاجتماعي. فلاسفة مثل كانط، فولتير، وروسو دعوا إلى تحرير الفرد من سلطة التقاليد والدين غير العقلاني، وإلى بناء مجتمعات تقوم على العقد الاجتماعي والعدالة.ومع ذلك، فقد واجه الفكر التنويري انتقادات في العصر الحديث، حيث اعتبره البعض (مثل أدورنو وهوركهايمر في "جدل التنوير") أداة للهيمنة والاستعمار، متهمين إياه بالتركيز المفرط على العقل الأداتي على حساب القيم الإنسانية. في المقابل، يرى آخرون (مثل يورغن هابرماس) أن التنوير يحمل في طياته إمكانيات للحوار العقلاني والتواصلي الذي يمكن أن يعالج تحديات العصر الحديث.

التحديات المعاصرة

"من المستحيل تقدير النور بشكل صحيح دون معرفة الظلام."

الفراغ الأكسيولوجي: يشير إلى فقدان القيم المشتركة التي تجمع المجتمعات، نتيجة العولمة، التعددية الثقافية، وتفكك الأطر الأخلاقية التقليدية.

اللايقين المعرفي: يتجلى في التشكك في المعرفة العلمية، انتشار نظريات المؤامرة، والتضارب في مصادر المعلومات في عصر الإنترنت.

النسبية المعيارية: تتمثل في غياب معايير أخلاقية عالمية، حيث تتصارع القيم المحلية والعالمية دون إجماع.

اللاوضوح السياسي: يعكس الاستقطاب السياسي، تراجع الثقة في المؤسسات، وصعود الشعبوية.

المقاربة التواصلية

تستند المقاربة التواصلية، كما صاغها هابرماس في "نظرية الفعل التواصلي"، إلى فكرة أن الحوار العقلاني بين الأفراد يمكن أن يؤدي إلى إجماع حول القيم والمعايير من خلال التواصل الخالي من الهيمنة. هذه المقاربة ترى أن العقل التواصلي، على عكس العقل الأداتي، يركز على التفاهم المتبادل بدلاً من تحقيق أهداف فردية.

من هذا المنطلق يعتمد البحث على المنهج التحليلي النقدي، مع التركيز على المقاربة التواصلية كإطار لتحليل إمكانيات استعادة الفكر التنويري. سيتم تقسيم الدراسة إلى ثلاثة محاور رئيسية:

تحليل التحديات المعاصرة وتأثيرها على المجتمعات.

استعراض مبادئ الفكر التنويري وإمكانيات تكييفها مع السياق الحديث.

تطبيق المقاربة التواصلية كأداة لإعادة صياغة الفكر التنويري.

تحليل التحديات المعاصرة

الفراغ الأكسيولوجي

في عصر العولمة، تواجه المجتمعات تحدي فقدان القيم المشتركة. التعددية الثقافية، بينما تثري المجتمعات، تؤدي أحيانًا إلى صراعات قيمية. على سبيل المثال، القيم الليبرالية الغربية قد تتعارض مع القيم التقليدية في مجتمعات أخرى، مما يخلق فراغًا أكسيولوجيًا يصعب ملؤه.

اللايقين المعرفي

انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وسهولة الوصول إلى المعلومات أديا إلى تضارب الروايات المعرفية. على سبيل المثال، تنتشر نظريات المؤامرة حول قضايا مثل التغير المناخي أو اللقاحات، مما يقوض الثقة في العلم. هذا اللايقين يعيق بناء إجماع معرفي يمكن أن يوجه السياسات العامة.

النسبية المعيارية

النسبية الأخلاقية تجعل من الصعب التوصل إلى معايير مشتركة للحكم على الأفعال. على سبيل المثال، قضايا مثل حقوق الإنسان قد تُفسر بشكل مختلف عبر الثقافات، مما يعقد الحوار العالمي حول هذه القضايا.

اللاوضوح السياسي

يظهر اللاوضوح السياسي في صعود الشعبوية، تراجع الثقة في المؤسسات الديمقراطية، والاستقطاب السياسي. هذا الوضع يجعل من الصعب بناء إجماع حول القضايا الجوهرية مثل العدالة الاجتماعية أو التغير المناخي.

إعادة صياغة الفكر التنويري

العقلانية التواصلية

بدلاً من العقل الأداتي، يمكن للعقلانية التواصلية، كما يقترحها هابرماس، أن تكون أداة لإعادة إحياء الفكر التنويري. هذه العقلانية تركز على الحوار العقلاني بين الأفراد للوصول إلى تفاهم مشترك. على سبيل المثال، يمكن استخدام هذه المقاربة في مناقشات حول التغير المناخي لتجاوز الاستقطاب وتحقيق إجماع حول الحلول.

الحرية الفردية والمسؤولية الجماعية

الفكر التنويري أكد على الحرية الفردية، لكنه في السياق المعاصر يحتاج إلى إعادة صياغة لتضمين المسؤولية الجماعية. على سبيل المثال، يمكن أن يُعاد تعريف الحرية لتشمل التزام الأفراد بالمساهمة في حلول للتحديات العالمية مثل الفقر أو التغير المناخي.

التقدم كمشروع مشترك

بدلاً من رؤية التقدم كمسار خطي يقوده العلم والتكنولوجيا، يمكن إعادة تعريفه كمشروع مشترك يعتمد على الحوار بين الثقافات والمجتمعات. هذا يتطلب إشراك أصوات متنوعة في صياغة أهداف التقدم.

المقاربة التواصلية كأداة للاستعادة

المقاربة التواصلية تقدم إطارًا عمليًا لإعادة إحياء الفكر التنويري. يمكن تطبيقها من خلال:

إنشاء فضاءات حوارية: إنشاء منصات للحوار العام تشجع على التواصل الخالي من الهيمنة، مثل المنتديات العامة أو منصات التواصل الاجتماعي الموجهة نحو الحوار البناء.

تعزيز التعليم التواصلي: تطوير مناهج تعليمية تركز على التفكير النقدي والحوار العقلاني لمواجهة اللايقين المعرفي.

إعادة بناء الثقة في المؤسسات: استخدام الحوار التواصلي لبناء الثقة بين المواطنين والمؤسسات من خلال الشفافية والمشاركة.

مواجهة النسبية المعيارية: تشجيع الحوار بين الثقافات للوصول إلى قيم مشتركة دون فرض نموذج ثقافي واحد.

النتائج والتوصيات

النتائج: يمكن للفكر التنويري، بمبادئه العقلانية والإنسانية، أن يقدم إطارًا لمواجهة تحديات العصر الحديث، ولكن يتطلب إعادة صياغة ليتوافق مع التعددية والتعقيدات المعاصرة. المقاربة التواصلية توفر أداة فعالة لتحقيق هذا الهدف من خلال تعزيز الحوار والتفاهم المتبادل.

التوصيات:

تعزيز الحوار العام من خلال منصات تشجع على التفاهم المتبادل.

تطوير سياسات تعليمية تركز على التفكير النقدي والتواصل العقلاني.

دعم المبادرات التي تعزز الشفافية والمشاركة في المؤسسات السياسية.

تشجيع الحوار بين الثقافات للوصول إلى قيم مشتركة تحترم التعددية.

خاتمة

"عندما ينطفئ اللهب، يتوقف أيضًا عن الإضاءة. الحياة شعلة".

في عصر الفراغ الأكسيولوجي واللايقين المعرفي، يمكن للفكر التنويري أن يقدم إطارًا لتجاوز هذه التحديات، بشرط إعادة صياغته بما يتناسب مع السياق المعاصر. المقاربة التواصلية، بتركيزها على الحوار العقلاني والتفاهم المتبادل، تمثل أداة فعالة لإعادة إحياء مبادئ التنوير وتوجيهها نحو بناء مجتمعات أكثر عدالة وتضامنًا. إن استعادة الفكر التنويري ليست مجرد عملية فكرية، بل مشروع اجتماعي وسياسي يتطلب إشراك جميع أطراف المجتمع في حوار مفتوح وبناء.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.....................

المصادر والمراجع

هابرماس، يورغن. (1981). نظرية الفعل التواصلي.

أدورنو، تيودور، وهوركهايمر، ماكس. (1944). جدلية التنوير.

كانط، إيمانويل. (1784). ما هو التنوير؟.

فولتير. (1764). المعجم الفلسفي.

نجزم بأن النفس البشرية لم ولن تكون محايدة مع رغباتها، بالتعامل مع نفسها، فهي إن عَرفَتْ، حَّرفت تلك المعرفة بقصد ربما يكون معلن، وإن خجلت من الجانب الرمزي الذي شكلها، أسسها.. وشيدها فسوف تلعب لعبة تأجيل الرغبة لحين تفجرها بلا سيطرة على ما ينبعث من داخلها في أفعال غير محددة، أو من هفوات وزلات لسان وربما نكتة عميقة الابعاد.. لاذعة ومؤلمة تستهدف الشخص الذي حرمها من قول الحقيقة.. هل هو تفريغ لتلك الشحنات التي أعيقت من الخروج، أم تحايل على الواقع وما لا تريد قوله؟ وهو ربما تضليل عن الرغبة الحقيقية. فما يفعله الإنسان هو تعبير مقنع ليس نقي وواضح تمامًا، بل يغلفه باللف والدوران، وسريعًا ما يدخل في حوار مع الذات نفسها، لكي يصبح ذاتيًا داخليًا، فالنفس لم تعرف الموضوعية والحيادية في داخلها لأنها تنهل من الرغبات المكبوتة في عملية أصدار الحكم، من مخزن الذكريات المكبوتة، هو اللاشعور – اللاوعي، وإذا كان الأمر يتعلق بالموضوعية المطلقة، وهي الحالة المثالية للنفس فكيف يكون الأمر؟

 إن الموضوعية المطلقة لا وجود لها في نطاق المعرفة العلمية، وإنما الأمر أمر موضعة لا موضوعية يسعى الباحث العلمي إلى تحقيق أكبر قدر متاح منها تدريجيًا بصقل أساليب بحثه النوعية، بحيث تزداد الموضعة بقدر نقصان العوامل الذاتية تدريجيًا كما ذكره كلود ليفي شتراوس، ونقله " مصطفى زيور". نقول لا توجد موضوعية!! حتى في اختيارنا لرغباتنا !! ولا يوجد وضوح فيما نريد ونرغب، وخير دليل على ذلك أننا نحتمي بالأعصبة النفسية مقابل أمتناعنا عن قول الحقيقة والوصول للرغبة. والأمر أعمق حينما يذهب البعض منا إلى عالم الذهان ويغرق في عالمه الخاص حيث مسرحه الذي أسسه في عقله، وشكل أبطاله، ويتحاور معهم ويكون له مجتمع خاص به لوحده. يرفض الواقع الخارجي ويتحصن بعالمه الخاص، بعد ان هرب من أن يكون محايدًا مع رغبته النابعة من ذات ربما هربت من الدال، لأنه يمثل الذات نحو دال آخر، لا يريد البوح عنه.. هي النفس في أعمق ما لا ترغب القول عنه فتبتعد عن الحيادية بأي شكل من أشكال السلوك.. وإن منعتها في القول ذهبت إلى متاهات الحلم كمهرب ناجي من الضغط الخارجي.

إن الموضوعية المطلقة هي خرافة، إنما الأمر أمر موضعة، وقول " مصطفى زيور " أن أي علاقة بين فردين من الناس إنما هي أولًا وأخيرًا علاقة بين – ذاتية ومن ثم فإن الموضوعية الحقة هي التي تأخذ الاعتبار متغير الذاتية لذا فإن الحرية الحقة هي الفطنة إلى الحتمية النفسية، فطنة تتيح لنا معالجتها، فإن الموضوعية الحقة هي الفطنة إلى حتمية الذاتية على نحو يمكننا من أن نُقدر تأثيرها بوصفها متغيرًا طبيعيًا. أما إذا كان الأمر في داخل الإنسان نفسه، يمكننا القول ليست بين - ذاتية، وإنما بين ذاتيتين داخل النفس تضيع فيها أي الأولية لها الرغبة؟ وأي الأفضلية هي الأولى في الرغبة؟؟

وبعد كل ما تقدم وهو الأسهل لو رأينا أن النفس في صراعها مع آخر خارج عنها لم تكن موضوعية بحتة، لوجدنا أنها لم.. ولن تكون محايدة مع نفسها أولًا، أو محايدة مع رغباتها ثانيًا، لأن الأمر ينحصر بين أولويات لا تجد لها منفذ للإنطلاق، فتكون الأولوية هو صراع بين رغبات لا يعرف الإنسان من هي الرغبة الأولى، ولا نجافي الحقيقة كثيرًا.. أنه يعرف ما يريد، ولكنه يرغب من أعماق نفسه ولا يستطيع أن يصل إليها ونتفق مع " جاك لاكان" بقوله أن الرغبة لا يمكن قولها بالكامل لأن سبب الرغبة ليس كلمة، بل موضوع غير قابل للتمثيل، فإن اجبار الاعتراف بالرغبة هي ما قد يثير الفعل، على عكس العرض الذي هو ليس دعوة للتأويل. يبدو الفعل الخارجي دعوة صامتة، لم تفهم شيئًا الآن أمر طوال الوقت أمام الأدمغة الطازجة، وهذا النص كان من محاضرة لـ " محمد درويش " في محاضرة في رابطة الفضاء الفرويدي الدولي في باريس بتاريخ 15 / 4 / 2025 وكانت المحاضرة بعنوان البنية العيادية عن لاكان.

هل ينجح التحليل النفسي في اعادة تصحيح مسارات الذات؟

ان التحليل النفسي هو في المقام الاولي ليس علم تفسير، ولكنه سبيل لخلق حالة أو طرف جديد يتم من خلالة إمكانية خبرة الحياة والتفكير فيها علي نحو عبر وساطة اللغة. كما يراه "السيد البدوي فتحي"، مستندًا في ذلك على مقولة توماس اوجدن، لأنه يعد العملية التحليلية هي عملية أنطولوجية (تتعلق بالوجود)، وليست مجرد عملية إبستمولوجية (تتعلق بالمعرفة).

إنها تهتم قليلا بكشف الحقائق الخفية، وكثيرًا تهتم بمساعدة الإنسان على أن يعيش حياته ويخبرها بطرق جديدة ومختلفة، وذلك بتمكينه من التفكير والحلم ومعايشة ما كان سابقًا مستحيلًا، أو غير قابل للوصف، وعلى ذلك فإن " اوجدن " نقل التحليل النفسي من فكرة إيجاد المعنى إلى جعل المعني ممكنًا.. هذه الرؤية التي وضع أسسها " سيجموند فرويد" وطورها من بعده ممن أكملوا مسيرة التحليل النفسي برؤاهم العميقة في دراسة النفس وقول " سيجموند فرويد" ومع أننا لا نبلغ دائمًا النصر، إلا أننا نستطيع عادة أن نعرف على الأقل السبب في هزيمتنا، ومن المحتمل أن أولئك الذين لم يتتبعوا أبحاثنا إلا بدافع من الاهتمام بالناحية العلاجية هنا مقصور على علاقاتها بالمناهج السيكولوجية، ولا تهمنا حاليًا من أي وجه آخر. وقد نتعلم في المستقبل كيف نؤثر تأثيرًا مباشرًا، وربما أكتشفنا إمكانيات علاجية أخرى لم نحلم بها حتى الآن" الموجز في التحليل النفسي، ص 55"، وإن أتفق أو أختلف المشتغلين في التحليل النفسي في مختلف اتجاهاته عن فكرة العلاج بالتحليل النفسي وما يتعلق بحيادية النفس، فإن "اوجدن" سعى متبعًا وينيكوت وبايون، ليعيد صياغة معنى التفسير في التحليل النفسي. وكان يري التفسير ليس هو جوهر التحليل النفسي. إنه مفيد فقط إذا ساعد في خلق خبرات جديدة. ويضيف " السيد البدوي فتحي " ان العمل التحليلي الحقيقي يحدث عندما تخلق العلاقة التحليلية ظروفًا للمريض للتفكير والشعور والخبرة بطرق جديدة. وإن العملية التحليلية تتم من خلال وساطة اللغة - ليس اللغة كأداة ثابتة، بل اللغة كشيء يُشكل الواقع. وينقل الباحث في التحليل النفسي " عبد العزيز الشريف" عن المحللة النفسية " ماري جو بيبلز " مهما ادَعى محتالو العافية، فلا توجد تقنية سحرية لتحرير الصدمة (مهما كان معنى ذلك).. لأن العلاج الحقيقي يسير على النحو الآتي: العلاج النفسي لا يستطيع أن يمحو الذكريات المؤلمة، لكن ما يستطيع فعلُه هو تنمية قدرة الشخص على الوعي باقتحامها، ومقاومة تأثيرها المضر، وتكوين ذكريات جيدة جديدة تُوازن أثرها. ونقول هل تستطيع النفس أن لا تتحايل على ما يؤلمها؟ وهل تقبل في إعادة صياغة معنى تفسير منبع الألم، ونؤكد قول " اوجدن" يري التفسير ليس هو جوهر التحليل النفسي. إنه مفيد فقط إذا ساعد في خلق خبرات جديدة، وإن تحقق ذلك فعلا، فهل يستطيع التحليل النفسي تنمية قدرة الفرد على الوعي باقتحام ما كان يؤلمه، ومقاومة تأثيرها المؤذي؟ هي رحلة النفس في حمل الشيء ونقيضه في الآن معًا، وجود النقيضين معًا، فمن أستطاع أن يوفق بين هذين النقيضين في نفسه ربما يحدث تسوية متناغمة ولو لفترة وجيزة، ولكن يعود القبول والرفض معًا مع التحايل من جديد، بعد كل موضوع جديد والتفكير في مواجهته، وهكذا تستمر دوامة النفس في مدورتها اللامنتهية في التحيز لما لا يعجبها، وهي التي صنعت هذا الشيء الذي لا يعجبها من داخلها!! عجيبة هي النفس تخلق الموجود وتناقضه، لا تراه بعين الحياد والموضوعية، وإن استطاعت لن تكون محايدة.. ربما أبدًا.

أما في النظريات الأخرى فلها تأثير لا يقل عن تأثيرها الخفي، وإن أعلنت على سطح تحيزاتها في مواقف الحياة، ومن هذه التحيزات انحياز التأكيدي، وتحيز الإدراك المتأخر، وتحيز الحداثة، وإنحياز التوافر، وتحيز عقلية القطيع، والتحيز للوضع الراهن، فضلا عن تحيز تجنب الخسارة، وهذه الأفكار ذات الأبعاد المعرفية فهي لا تخلو في جوانبها السلبية، ونقول إن كانت بجوانبها الإيجابية لا تقل في الأهمية عن ما يدور في النفس وما يعتمل فيها من السلب والإيجاب، فالنفس هي هي، في سلبياتها وفي إيجابياتها، تختزن وتطلق ما يناسبها في الوقت المناسب، وتنفي الشيء الآخر وهو موجود في أعماقها.

***

د. اسعد الامارة

 

باروخ سبينوزا (1632-1677) هو أحد أبرز المفكرين وأكثرهم إثارة للجدل في تاريخ الفلسفة الغربية. شكلت أفكاره تحدياً جذرياً للعقائد الدينية والسياسية السائدة في عصره، ما أسفر عن طرده من الجالية اليهودية في أمستردام عام 1656، حين كان في الثالثة والعشرين من عمره. لم يكن هذا الحرمان مجرد عقوبة دينية، بل كان تحرّرًا فكريًا سمح له بتطوير فلسفته بحرية كاملة، بعيداً عن قيود اللاهوت التقليدي. تشير التحليلات إلى أن الأسباب المحتملة لهذا الطرد متعددة، منها إنكاره لخلود الروح أو الأصل الإلهي للتوراة، أو آراؤه الوحدوية التي تماهي بين الله والطبيعة. (6)

يهدف هذا المقال إلى تفكيك مفهوم "إله سبينوزا" من خلال تحليل منهجي وعميق، متجاوزاً التفسيرات السطحية التي قد تخلط بينه وبين التصورات الدينية المألوفة. يوضح هذا التحليل كيف أعاد سبينوزا تعريف الإله بوصفه "جوهرًا" وليس "كائنًا"، الأمر الذي جعله مؤسسًا للنسق الفلسفي الحديث (2). ولتحقيق هذا الفهم، تبنى سبينوزا المنهج الهندسي في تحفته الفلسفية، كتاب "الأخلاق"، وهو منهج متأثر بالمنهج الرياضي لديكارت (5). يبدأ هذا المنهج بتعريفات دقيقة وبديهيات راسخة لينتقل إلى قضايا وبراهين، الأمر الذي يعكس الروح العقلانية والعلمية التي هيمنت على الخطاب الفلسفي في تلك الفترة. إن فهم إله سبينوزا ليس مجرد غوص في فكرة مجردة، وإنما هو مفتاح لفهم منظومته الفلسفية بأكملها، بما في ذلك نظرياته في الأخلاق والسياسة والفيزياء.

الأساس الميتافيزيقي: تعريف الجوهر ووحدته

يعرّف سبينوزا الجوهر بتعريف دقيق ومحكم: "الجوهر كما أفهمه هو ما كان موجوداً ومتصوراً من خلال ذاته، أي ما كان مفهومه لا يفتقر إلى أي مفهوم آخر ينبغي أن يتشكل من خلاله." هذا التعريف يعني أن الجوهر هو كيان كامل ومستقل لا يحتاج إلى أي شيء آخر لكي يُفهم أو يوجد. إنه ليس "شيئاً معيناً" يمكن ردّه إلى نوع من الأشياء الأخرى، بل هو "الوجود ذاته"، وهو مرادف للحقيقة الأزلية التي لا يمكن تصورها مقترنة بالزمان.

من هذا التعريف، يستنتج سبينوزا أن الجوهر لا يمكن أن يكون إلا واحداً. يبرر ذلك بأنه لو وُجد أكثر من جوهر واحد، فإن كل واحد منهما سيحد من الآخر، وهذا يتناقض مع طبيعة الجوهر اللانهائية. هذا المبدأ هو جوهر "الثورة الأنطولوجية" التي أحدثها سبينوزا، إذ تجاوز به المشكلات الميتافيزيقية التي خلفها سابقوه. على سبيل المثال، افترض ديكارت وجود جوهرين منفصلين: الفكر والامتداد. وقد أدى ذلك إلى معضلة فلسفية كبيرة هي "ثنائية النفس والجسد". في المقابل، يرفض سبينوزا هذه الثنائية رفضاً قاطعاً، ويقدم فكرة الجوهر الواحد كحل جذري لهذه المعضلة، مؤسساً بذلك نموذجاً وجودياً أكثر اتساقًا ومنطقية من خلال رؤيته للوجود ككل واحد متكامل.

الجوهر وصفاته وأحواله

يعرّف سبينوزا الصفة بأنها "طريقة يعبر بها الجوهر عن نفسه". نظرياً، يمتلك الجوهر عدداً لا نهائي من الصفات، لكن الإنسان، بسبب محدوديته، لا يدرك منها سوى صفتين: الامتداد (المادة) والفكر (الوعي). إن الفكر والامتداد ليسا جوهرين منفصلين، ولا يتفاعلان سببيًا أحدهما مع الآخر، بل هما مجرد تعبيرين متوازيين عن الجوهر الواحد. هذا يعني أن لكل ظاهرة في عالم الامتداد (الجسد) ما يقابلها تماماً في عالم الفكر (النفس)، دون أن يؤثر أحدهما في الآخر بشكل مباشر. (9)

أما الأحوال فهي "تعديلات" أو "أجزاء" من الجوهر الواحد. كل ما يوجد في الكون، بما في ذلك البشر، هو مجرد أحوال لهذا الجوهر الواحد اللانهائي. ووفقاً لهذه الفلسفة، فإن العالم ليس هو الله بالمعنى الدقيق، بل هو "موجود في الله".

إله سبينوزا: الجوهر المحايث ورفض الغائية

يرفض سبينوزا التصور الديني التقليدي الذي يرى الإله "خارج العالم" ومنفصلاً عنه (الإله المتعالي). هذا الإله، الذي غالبًا ما يُصوَّر على صورة إنسان يمتلك مشاعر بشرية كالغضب والغيرة، هو في نظر سبينوزا مجرد "تصور خيالي" ناتج عن جهل البشر بطبيعة الإله الحقيقية.

بدلاً من ذلك، يقدم سبينوزا مفهوماً جديداً للإله كـ "جوهر محايث" لا يتعالى عن الكون، بل هو الكون ذاته. يختصر سبينوزا هذا المفهوم في صيغته الشهيرة: "الله أو الطبيعة". وهذا لا يعني أن الله مجرد العالم المادي، بل يعني أن الله هو "الطبيعة الطابعة" التي تنتج ذاتها باستمرار. لذلك، عندما يقول سبينوزا إن "الله هو الطبيعة الطابعة"، فإنه يؤكد أن الله ليس مجرد مجموعة الأشياء التي نراها (الطبيعة المطبوعة)، بل هو المبدأ الخلاق والقوة الأساسية ومنتج الوجود كله. إنه لا يرى الله كإله شخصي يجلس على عرش في مكان ما، بل يرى قوة عقلانية وقانونية تسيطر على الوجود كله.

كما يرفض سبينوزا فكرة "الخلق من العدم" أو حتى "الفيض" الأفلوطيني، ويرى أن الله هو "العلة الباطنة" التي توجد فيها الأشياء جميعاً. وهذا يعني أن الكون ليس نتيجة لفعل خلق متعالٍ أو قرار إرادي من الإله، بل هو نتيجة ضرورية وحتمية لطبيعة الإله ذاته، تماماً كما أن مجموع زوايا المثلث هو محصلة ضرورية لطبيعته.

إن رفض سبينوزا للغائية (أو وجود هدف خارجي للكون) كان نقطة محورية في نظامه الفلسفي. يرى أن فكرة وجود غاية معينة للإله من خلق العالم "تؤدي إلى الإيمان بالخرافة". فبما أن الكون ناتج ضروري عن طبيعة الإله، فلا وجود لهدف خارجي أو غاية. وهذا يؤسس لنظام كوني حتمي وقانوني، حيث "قوانين الطبيعة وقواعدها هي نفسها دائماً وفي كل مكان".

تداعيات فلسفية: الأخلاق والحرية والسعادة

بناءً على نسقه الفلسفي، يرفض سبينوزا فكرة الإرادة الحرة بالمعنى التقليدي. يرى أن أفعالنا محتومة بقوانين الطبيعة تمامًا كغيرها من الأشياء. أما الاعتقاد بالإرادة الحرة فهو "وهم" ناتج عن جهلنا بالأسباب الحقيقية التي تحركنا. لكن سبينوزا يميز بين هذا المفهوم الخاطئ للحرية ومفهوم آخر حقيقي. فالحرية الحقيقية ليست غياب الحتمية، بل هي "الاستقلال الداخلي". الإنسان يصبح حراً عندما "يسترشد بالعقل" ويفهم قوانين الطبيعة التي هو جزء منها (7). هذا التحول من العبودية للانفعالات إلى الحرية العقلانية هو جوهر فلسفته الأخلاقية.

والهدف الأسمى لفلسفة سبينوزا هو تحقيق السعادة. لكن هذه السعادة ليست مجرد غاية خارجية أو جزاءً من إله شخصاني، إنها "حب عقلي للإله"، وهو فهم عميق للكون وقوانينه. الفضيلة عند سبينوزا تكمن في "السعي للحفاظ على الذات"، وهو ما يصفه بـ "الأنانية العقلانية" التي تهدف إلى زيادة الفرح وتقليل الحزن. إن الفهم الكامل للكون وقوانينه يؤدي إلى أعلى درجات الفرح، وهو "الحب العقلي للإله".

التأثير على الفلسفة والعلوم الحديثة

يُعتبر سبينوزا بحق مؤسساً حقيقياً للفلسفة الحديثة. لقد تجاوز الثنائية الديكارتية التي كانت مشكلة لا حل لها، وقدم الجوهر الواحد كحل جذري يوحّد الفكر والامتداد في كيان واحد، مما فتح الباب أمام مفكرين آخرين مثل لايبنتز الذي قدم تصوراً مختلفاً تماماً للوجود عبر "المونادات". هذا الاختلاف يوضح أن فلسفة ما بعد ديكارت لم تكن مجرد امتداد، بل كانت مساحة لإيجاد بدائل أنطولوجية مختلفة تماماً.

كما أن فلسفته الطبيعية ومفهومه عن الحتمية أثرا بشكل مباشر على المنهج العلمي الحديث، إذ قامت فلسفته على أن الكون محكوم بقوانين طبيعية ثابتة (8). حتى اليوم، يُعاد تفسير مفاهيم سبينوزا في علوم مثل الأعصاب (4)، مما يدل على أن رؤيته للذات ككائن طبيعي لا تزال لها أصداء علمية عميقة.

الخلاصة: إله سبينوزا والفلسفة الوجودية

في سياق الفلسفة الحديثة وما بعدها، تبرز العلاقة بين مفهوم إله سبينوزا ونظرة الفلسفة الوجودية إلى الوجود، حيث تتشارك المدرستان في رفض التصورات التقليدية لله والتركيز على الوجود بدلاً من الجوهر المسبق.

موضوع وجود الله في الفلسفة الوجودية موضوع معقد ومتنوع. الفلاسفة الوجوديون مثل جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار غالباً ما اعتبروا أن الوجود يسبق الماهية، مما يعني أن الإنسان هو من يخلق معناه الخاص في الحياة دون الاعتماد على وجود إله. في المقابل، بعض الفلاسفة الوجوديين مثل مارتن هايدجر وفريدريك نيتشه ناقشوا مسائل الوجود والعدم بطريقة تعكس تأملاتهم حول الغياب أو وجود الله. نيتشه، على سبيل المثال، أعلن أن "الله قد مات"، مما يشير إلى غياب المعنى المطلق الذي يمكن أن يوفره الإله. بشكل عام، تركز الفلسفة الوجودية على التجربة الفردية والحرية.

يمكن القول إن كلًا من فلسفة سبينوزا والفلسفة الوجودية تتشارك في فهم الوجود ورفض التصورات التقليدية لله، مع التركيز على الحرية الفردية والتفاعل مع العقل، رغم اختلاف الطرق التي تتعامل بها كل فلسفة مع هذه المفاهيم.

***

غالب المسعودي

..........................

المراجع (مرقمة حسب الإشارة في النص)

فلسفة سبينوزا السياسية (موسوعة ستانفورد للفلسفة)-

سبينوزا وتأسيس النسق في الفلسفة الحديثة-

سبينوزا واليهودية | سبينوزا | مؤسسة هنداوي-

نظرية سبينوزا النفسية - مدخل فلسفي-

الأسس الديكارتية للمنهج الهندسي عند باروخ سبينوزا

باروخ سبينوزا: الفيلسوف الجذري الذي أعاد تعريف الإله والحرية والوجود البشري

مفهوم الحرية في إتيقا سبينوزا - مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث

مفهومَا السببية والحتمية بين ابن رشد وسبينوزا - المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

الفيلسوف سبينوزا واليهود والتوراة والشريعة اليهودية / جعفر هادي حسن - صحيفة المثقف

تشكل برأيي علاقة الفلسفة بالدين في سياقها التاريخي قضية إشكالية وخلافية معاً، أدت إلى صراعات عاشها المشتغلون على الفلسفة في تاريخ الدولة العربية الإسلاميّة. ربما تجلى هذا الصراع فكريّاً في تاريخ الخلافة العربيّة الإسلاميّة في كتابي أبي حامد الغزالي وابن رشد وهما (التهافت، وتهافت التهافت)، حيث نالت نتائج الصراع عمليّاً من اشتغل على الفلسفة في تاريخ الخلافة كالفارابي وابن سينا والكندي وابن رشد وغيرهم الكثير.

وعلى الرغم من أن الفلاسفة العرب في العصور الوسطى كانوا أكثر جرأة منا اليوم في أطروحاتهم الفلسفيّة التي تعلقت بقضايا اللاهوت، وخاصة قضايا العقيدة، مثل القديم والمحدث، والتحسين والتقبيح العقلي أو الديني، وخلق القرآن وقدمه، والبحث في صفات الله، والجنة والنار وغيرها من القضايا التي تتعلق في الخالق نفسه وعقيدته وصفاته، إلا أن الأكثريّة المسلمة ظلت محكومة في نشاطها الفكري هذا بـ (الإيمان والتسليم) أكثر من إيمانها بالعقل النقدي الشكاك والتساؤل. وربما السبب في هذا الموقف من اعتماد (الجبر) هي محاكم التفتيش التي كانت تلاحق المختلف مع رأي السلطان ورجال الدين وخاصة السلفين الموالين للسلطان والقادرين على تحريض السلطة والناس على من اشتغل على العقل من الفلاسفة المسلمين، واتهامهم بالكفر والزندقة، وهذا ما كان يجري تاريخيّاً. أو بسبب غياب الشروط العلميّة للمعرفة ونقص وسائلها المنهجيّة، مقارنة مع ما عاشه مفكرو أوربا مع قيام الثورة العلميّة والصناعيّة التي ساعدتهم على طرح قضايا تجاوزت نطاق الايمان المطلق كما جرى لـ (كبورنيك وهارفي) وغيرهم ممن آمن بضرورة التساؤل (لماذا وأين وكيف.. )  وغيرهما.

دعونا نأخذ "الفارابي" أنموذجاُ فلسفيّا من هذه النماذج الفلسفيّة العربيّة العقلانيّة النقديّة، وهو الذي عرف الفلسفة بقوله:

(هي العلم بالموجودات بما هي موجودة، لاختصاصها بالنظر في ماهيات الموجودات، من خلال تتبع مساراتها وصولاً إلى الامساك بجذورها، أو ما اعتبرها ارسطو عقلها ومبادئها الأولى). (1).

فالفلسفة عنده تقوم على الاقرار بدور العقل النقدي القادر على كشف الظواهر في الطبيعة والمجتمع، من خلال تتبع سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين، بهدف معرفة سر وجودها. فالفارابي هنا إذاً تجاوز حدود الاستسلام للمطلق بالنسبة لوجود الظواهر، أي القول بأنها تخلق من خارج الوجود الأنطولوجي المحيط بنا، ومنحها الاستقلاليّة في هذا الوجود، بناءً على وجود سنن أو قوانين داخليّة أو محيطة بها منحتها هذا الوجود، مثلما مُنح الإنسان القدرة الذاتيّة على البحث في وجودها وآليّة عملها وبالتالي تسخيرها لمصلحته.

إن الفلسفة وفق هذا المنطق في تعبيرنا المعاصر، هي قسم من الثقافة الروحيّة للبشريّة، وشكل من أشكال الوعي البشري (الاجتماعي)، حيث تكمن وظيفتها المتميزة في وضع نظريّة قادرة على خلق فهم معلل نظريّاً ومنهجيّاً لأكثر القوانين عموميّة في الطبيعة والمجتمع والتفكير الإنساني. وهي تقدم أصول الفلسفة في الممارسة الاجتماعيّة الواقعيّة، وتعكس على نحو متميز قضايا وتناقضات الممارسة الاجتماعيّة وقضايا عمليّة معرفة الواقع وتحويله، وتؤثر بالإضافة إلى ذلك على تطور المجتمع والتاريخ وعلى تطور الإنسان ذاته ومعرفته، وذلك انطلاقاً من أن الوجود بشقيه الاجتماعي والطبيعي مشروطاً بقوانين موضوعيّة يسري مفعولها في التاريخ الطبيعي والبشري بغض النظر عن إرادة الناس ورغباتهم.

إن المهمة الأساس في الفلسفة إذن، تكمن في العمل على جعل الوعي العقلاني (النقدي) على علاقة موضوعيّة بالواقع الاجتماعي عن طريق توجيه هذا الوعي/الفكر لدراسة التناقضات والسنن والميول الموضوعيّة للتطور التاريخي البشري.

أما الدين فهو مجموعة العقائد والمبادئ والأفكار والرؤى والرموز والطقوس المتعالية عن الواقع،(أي التي يقال أنها جاءت من خارج الواقع المعيش)، والتي يؤمن بها الناس ويعملون على تطبيقها فكراً وممارسة في حياتهم اليوميّة المباشرة، على اعتبارها تتضمن المقدس والثابت والمطلق الذي تكمن فيه حلول مشاكل الناس وتحقيق سعادتهم إلى يوم الدين.

أما الأسس التي يقوم عليها الدين فهي: الحس والخيال والايمان والامتثال والاستسلام لما يقره أو جاء به النص المقدس لهذا الدين أو ذلك، وما دور العقل هنا إلا وسيلة من وسائل السعي لتأكيد ما تقره هذه الأديان كما قرر "أبو حسن الأشعري". وبالتالي، فالإيمان بما تقره الأديان يظل في الحقيقة خارج نطاق العقل النقدي القائم على الشك والتجربة، وما على العقل سوى إثبات ما يقره هذا الدين وليس الحكم عليه.

إن الدين من جهة أخرى، يقوم في سياقه العام على الوحي، والايمان بما ينزله هذا الوحي على الأنبياء والرسل الذين لم يكن دورهم أكثر من تبليغ حقائق للناس وضرورة التزام بها، رغبة في ثواب يتمثل برضا صاحب الدين الذي هيأ جنة لمن يطيعه ويطيع رسله وانبياءه، أو عقاباً يتمثل في نار حامية تكوى بها جباههم ووجوههم خالدين فيها.

هكذا نرى أن الدين يقوم على الايمان المطلق، وعلى اعتبار ما هو قائم في هذا الوجود من ظواهر ليس أكثر من أدلة يجب على الإنسان أن يفكر فيها ليجد عظمة خالقها من خارج عالم الإنسان ذاته، ودون مقدمات موضوعيّة لهذا الخلق، فأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكن.. فالزمن هنا ليس له سيرورته وصيرورته التاريخيتين، بل هو آنات متفرقة في الزمان والمكان المتقطعين.

ملاك القول: إن العقل النقدي يظل حجة، له منزلته العالية وقوته التي تمارس نفوذها على سائر القوى الأخرى. هذا العقل الذي يظهر عند الفرد مثلما يظهر عند الكتل الاجتماعيّة، وإذا كان العقل الفردي عقل ظني، يظل يحمل بين ثناياه الصح والخطأ كما يقول الفقهاء، إلا أن العقل الجمعي هو الأقرب لضمان  اليقين والاقتراب من الحقائق في نسبيتها، وعلى هذا الأساس تكون الحقيقة دينيّة أو غيره دينيّة أكثر قوة وحضوراً عندما يقرها العقل النقدي الجمعي. ومن تجليات هذا العقل النقدي الجمعي تأتي الشورى.

إن العقل النقدي عقل شكاك، يؤمن بالحركة والتطور والتبدل، ويؤمن بالضرورة ممثلة بالقوانين التي تتحكم بسير حركة الوجود برمته، يرفض الإطلاق ويؤمن بالنسبية، أما الزمان والمكان عنده فهما تاريخيان، أي لهما وجودهما وتسلسلهما التاريخي، والحقية الممثلة بهذه الظواهر تقوم على معرفة ناقصة. مثلما يؤمن بالحريّة  على اعتبار الإنسان سيد مصيره، حيث يستطيع بما يملك من قدرات عقليّة وجوارح ناشطة في هذا الكون، من أعادة بناء نفسه وما يحيط به وفقاً لإرادته.. فهو في المحصلة خليفة الله على هذه الأرض إذا ما نظرنا إليه من منطلق أن الدين ليس كله خطأ، ففيه الكثير من الجوانب العقلانيّة وخاصة في مقاصده على اعتباره جزءاً من التراث البشري الذي تعامل مع الإنسان وقضاياه، وعلى اعتبار أن العقل النقدي لا ينكر وجود عوالم في هذا الكون لم تُكتشف كينونتها بعد، فالمعرفة تسير دائماً نحو الأمام وفي كل يوم يكتشف الجديد الذي يقبله العقل، في الوقت الذي يتخلى فيه كل يوم هذا العقل عن الكثير من القضايا القائمة معرفتها على الذاتية والحدسية والتخيل والظن.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية

..............................

(1) موقع الأوان من أجل ثقافة علمية عقلانية – الفلسفة والنبوة عند الفارابي – غريد العليبي).

وصف الفيلسوف اليوناني سقراط نفسه بذبابة حصان مزعجة. هو كان الذبابة والأثنيين كانوا الحصان. مهمة سقراط كانت نقد المواطنين الأثنيين وتحريضهم على الفعل. هو قام بهذا من خلال توجيه الكثير من الأسئلة. هذا الاستجواب النقدي عُرف بالطريقة السقراطية واصبح الاساس في الفلسفة. في هذا المقال سوف ننظر في السياق الذي كان يعمل به سقراط، نتعرف على ماهية الطريقة السقراطية ثم ننتقل الى تطبيقاتها في الفلسفة والتعليم.

أثينا والثلاثون طاغية

في ثماني أشهر دموية بين عامي 403 و 404 ق.م كانت اثينا قد خضعت لحكم مجموعة من الرجال الطغاة عُرفوا بـ "الثلاثين طاغية". الاسبارطيون الذين انتصروا في الحرب البيلويونيسية نصّبوا هؤلاء الطغاة كحكام اوليغارشيين لأثينا. محاولات الطغاة لفرض السيطرة وسحق الديمقراطية الاثنية قادت الى تمرد وإعادة ارساء للديمقراطية. سقراط كان جنديا في تلك الحرب، وكانت له مواجهات غير سارة مع اولئك الطغاة، وكان نشطا في تحدّي الناس في اثينا في الفترة التي تلت. هذا التحدي من جانب سقراط وصل الى درجة دفعت حكام اثينا الديمقراطيين لإتهامه بعصيان الآلهه وافساد الشباب حيث حُكم عليه بالموت عام 399ق.م.

يروي افلاطون محاكمة سقراط في (الابولوجي). هنا يطرح سقراط رسالته في الحياة. هو اراد ان يبيّن لمواطني اثينا ان الحكمة والحقيقة وتحسين الروح هو اكبر قيمة من النقود او السمعة. سقراط رأى نفسه كمعلّم ولديه طريقة للتدريس:

"انا استجوبه واختبره واذا اعتقدت انه ليس لديه فضيلة، وليس لديه ما يدّعي، انا انتقده بتقليل أهمية الاكبر وتعظيم قيمة الأقل".

هذا يمكن تلخيصه بطرح اسئلة عن عقائد الناس وتوقّع وجود اسباب جيدة. سقراط سعى الى الحكمة، لذا هو اعتقد ان الناس يجب ان يكونوا قادرين على اعطاء اسباب جيدة حول صحة ما اعتقدوا به. الفيلسوف مارثا نسباوم Mrtha Nussbaum جادل بان سقراط في هذه الطريقة، كان يدافع عن الديمقراطية. اذا اراد المواطنون العمل في الديمقراطية يجب عليهم التفكير بانفسهم، ولديهم اسباب لعقيدتهم، ويكونون قادرين للتعبير عنها للناس الاخرين. الديمقراطية تتطلب منك ان لا تقبل ما قيل لك كحقيقة او حكمة او صحيح. انت تقرر لنفسك.

الحياة غير المُختبرة (غير المدروسة)

من أشهر عبارات سقراط كانت "الحياة غير المختبرة لا تستحق العيش"، والتي وردت ايضا في "ابولوجي" افلاطون. هذا يجسّد جوهر ما كان سقراط يفعله في فلسفته. في دفاعه، يوضح سقراط انه في بحثه عن الحكمة، هو تجوّل حول اثينا متحدثا الى مختلف الناس. هو قام بهذا في محاولة لإبطال الادّعاء الصادر من معبد الالهه بان لا وجود لشخص اكثر حكمة من سقراط. هو تحدث مع سياسيين ثم مع شعراء واخيرا مع حرفيين. في كل حالة، هو يفشل في العثور على شخص ما اختبر حياته وتمكّن بشكل كاف تبريرعقيدته. سقراط ادرك انه بينما يعتقد الناس انهم حكماء، لكنهم حقا ليسو كذلك، هو ذاته كان حكيما فقط لأنه عرف جهله.

سقراط لم يكن مهتما في التأمل حول العالم المادي كما فعل فلاسفة ما قبل سقراط. هو كان مهتما في كيف يجب ان يعيش الناس. حياته كانت سعيا مستمرا للحقيقة والحكمة. هذا التركيز على اختبار الحياة يعني ان سقراط اراد ان يتعلم حول الفضيلة او "arête". اريتا لها عدة معاني: اقرب الترجمات هي "التميّز". في مناقشته للفضيلة، اراد سقراط ان يعرف ما المقصود بالشخص الممتاز. هو اختبر فضيلة الشجاعة والعدالة والاعتدال والتقوى – وهي صفات الشخصية المهمة في الحياة اليومية. برر سقراط ذلك في انك اذا لم تعرف ماهي الفضيلة وماذا تعني، فمن غير الممكن ان تعيش حياة فاضلة.

الطريقة السقراطية

الطريقة التي استخدمها سقراط لفهم الفضيلة واختبار الحياة كانت عبارة عن طرح اسئلة. هو اراد تحدي الناس ليفكروا بأنفسهم ولا يقبلوا الدوغمائية. اختبار الحياة يتطلب الاستبطان او التأمل الذاتي، والتفكير وما نسميه اليوم بالتفكير الخلاق. استعمل سقراط الاسئلة ليوجّه الناس ليقوموا بذلك كما تحفز الذبابة الحصان. اسئلة سقراط اتبعت شكلا نموذجيا، والطريقة التي عرضها طلابه افلاطون وزينون رسمت المحادثات على شكل حوار يجعل من السهل انطلاق التفكير. الحركة الفكرية المتكررة باتجاهين متضادين بين سقراط ومحاوره في الحوار تفسر لماذا اصبحت هذه الطريقة تسمى بالديالكتيكية.

معظم الحوارات تركز على موضوع محدد، وسقراط يقترح الموضوع عبر طلب تعريف "ما هو x"؟ حيث x عادة هي الفضيلة. محاوره يقترح تعريفا. بعد ذلك يتقدم سقراط بطرح اسئلة، باحثا عن خاصية واحدة مشتركة بين جميع الامثلة لتلك الفضيلة. الطريقة السقراطية تعمل كثيرا في التفنيد. سقراط يبيّن ان تعريف المحاور له للفضيلة غير منسجم مع العقائد الاخرى. وعبر طرح سلسلة من الاسئلة، هو يُظهر تناقضات، يجد فجوات في المعرفة او الاستدلال، ويستبدل ثقة المعرفة بوعي الجهل.

تجنّب الدوغمائية

في حوارات سقراط الافلاطونية، لا يتم الوصول دائما لجواب محدد لسؤال سقراط الأصلي. هذا ربما يبدو محاولة لتجنب موقف صعب، لكنه كان منسجما مع الكيفية التي عمل بها سقراط. هو ادّعى انه لا يعرف، بدلا من ذلك هو لديه المهارة لمساعدة الناس الاخرين في استجواب عقائدهم والوصول الى رؤية صحيحة.

معرفة ان عقائدنا غير صحيحة او غير منسجمة هي اول خطوة في المسار نحو فهم أعمق. كما في حالة الوعي بمحدودية فهمنا. سقراط رفض تعليم الناس مباشرة كما فعل السوفسطائيون او اعطائهم اجوبة، لأنه عرف ان تفكير المرء هو اكثر أهمية. هذه نقطة هامة جدا،وسبب رئيسي للاهمية المستمرة لطريقة سقراط والتي لاتزال ملائمة في التعليم والفلسفة الى يومنا هذا.

الدوغمائية تتطلب قبول افكار مهيمنة وتلقّي معرفة من شخصيات سلطوية. انها سلبية وتتطلب فقط التذكّر. بالمقابل، طريقة سقراط تمكّن الشخص من اكتشاف المعرفة والحكمة من خلال تفكيره الخاص. انها نشطة،عملية خلاقة وهي الطريقة الوحيدة لتحرير الذهن من العقيدة الدوغمائية. الناس نادرا ما يغيرون آرائهم من خلال المواجهة المباشرة حين يقال لهم انهم مخطئون. لكن عندما تتحفز افكارهم بتحدي الاجابة على الاسئلة، هم يمكنهم تحرير انفسهم من افكارهم الخاطئة. هذا يجعل الطريقة السقراطية مؤثرة جدا.

حدود الطريقة السقراطية

أشار ارسطو الى ان طريقة سقراط هي شكل من الاستدلال الاستقرائي. سقراط حاول العمل من خلال حالات معينة للفضيلة ليصل الى استنتاج عام حول تلك الفضيلة. سقراط لم يعتقد ان الفضائل نسبية. هو اعتقد انها مطلقة، تنطبق على كل شخص، وعندما يعرف الناس الصحيح من الخطأ حينئذ يمكنهم تعلّم العيش في امتياز. ارسطو طور استدلالا استنتاجيا يتجاوز الميدان الاخلاقي، ولاحقا استخدمه فرنسيس باكون كأساس للطريقة العلمية. مقابل الاستدلال الاستنتاجي، الاستدلال الاستقرائي لا يمكن ابدا ان يعطي اجوبة محددة.هناك حدود اخرى للطريقة السقراطية. اذا كانت طريقة سقراط تقودنا فقط الى تعريفات لغوية، من الصعب رؤية كيف يمكنها ان تعطي نوعا من المعرفة الاخلاقية التي امل سقراط في الحصول عليها. بدلا من ذلك، نحن نريد ان تكون معرفتنا الاخلاقية اساسا للتصرف في كيفية العيش. الطريقة السقراطية جيدة للتقييم النقدي والتوضيح للعقائد القائمة والافتراضات. انها ليست جيدة لكشف تام لمعرفة جديدة خاصة من النوع التجريبي. هذا يجعلها افضل للتفكير الاخلاقي والتفكير النقدي بدلا من عمل العلم.

تنمية مواطنين صالحين

كما ذكرنا انفا، يمكن النظر الى سقراط كمدافع عن الديمقراطية. وبينما هو لم يصبح سياسيا بشكل رسمي، لكنه فعلا حاول التأثير على سياسة اثينا. في اثينا، تقريبا كل الوظائف الحكومية بما في ذلك القادة العسكريين كانت تتقرر من خلال التصويت. طبقا لـ زينوفون Xenophon ، في احد الحوارات يتحدث سقراط مع شاب يريد ان يُنتخب كقائد عسكري. في اسلوبه المعتاد، سقراط يعلن ان الرجل ليس لديه المعرفة المطلوبة للتنفيذ الفعال للمهنة التي يتقدم اليها. هذا الحوار يبيّن ان سقراط شخصية مختلفة واكثر عملية. بدلا من الاهتمام فقط بالفضيلة الاخلاقية، هو اعتقد ان الناس يجب ان تكون لديهم مهارات ملائمة ومعرفة وخبرة لآداء وظائف الحكومة. الديمقراطية كانت اكثر من مباراة شعبوية.

هناك ارتباط قوي بين الطريقة السقراطية والتعليم، وهو ما كان واضحا حتى في ايام سقراط. في محاكمته، اشتكى سقراط ان مسرحية (الغيوم) لارستيفان وصفت سقراط وطريقته بشكل غير منصف. في جوهر نقد اريستيفان كان التصادم بين التعليم "التقليدي" و "التقدمي". في التعليم التقليدي، الطالب يُتوقع منه تذكّر وتعلّم واتّباع الطريقة التقليدية في عمل الاشياء، وبهذا يضمن الاستقرار. لكن التعليم "التقدمي" تجسّد في طريقة سقراط في الاسئلة. كان يعني التفكير بنفسك وان لا تقبل عقيدة بسبب كونها "تقليدية". هذه الاسئلة للسلطات القائمة اعتُبرت تخريبية في اثينا القديمة. لكن سقراط اعتقد انها ضرورية لديمقراطية صحية.

أحسن طريقة لتعيش حياة جيدة

التعليم الليبرالي يسمى ليبراليا لأنه يركز على تحرير العقل. ميراث الطريقة السقراطية هو تطبيق التفكير النقدي ومسائلة قضايا الحياة اليومية. في هذه الطريقة، يمكن للتعليم ان يعطي الطلاب المهارات والمعرفة بما يكفي للمشاركة في المجتمع وانجاز دورهم كمواطنين احرار وديمقراطيين. نحن لا يمكننا ان نتوقع تحقيق تقدم ايجابي بدون مسائلة الافتراضات التي تُبنى عليها عقائدنا، والعثور على التناقضات، واكتشاف الفجوات في معرفتنا. هذا يتطلب كل من التواضع والرغبة في التعلم. يمكن القول ان طريقة سقراط تبقى احسن طريقة في السعي المستمر لعيش حياة جيدة.

***

حاتم حميد محسن

 

للدين أثر عظيم في حماية اللغة من الاضمحلال والانقراض وضمان استمرارية حياتها، لأنه يربط النصوص والطقوس بلسانها الأصلي، فيتحول الكتاب المؤسس للديانة إلى خزّان لغوي يحرس المفردات والتراكيب والأساليب، وتتحول الطقوس إلى طاقة متجددة تبعث اللغة في الذاكرة الجمعية وتبقيها حيّة. في المقابل تحمي اللغة الدين، إذ تغدو الوعاء الذي يحفظ نصوصه وطقوسه من التبدد ويمنحها القدرة على الاستمرار في التاريخ. في سياق التفاعل الخلاق بين اللغة والدين والثقافة تتكون الهوية وتترسخ، إذ لا تكون اللغة مجرد وسيلة للتخاطب، بل تتحول إلى نسق رمزي يؤمن استمرارية الذاكرة ويعيد إنتاج روابط الانتماء. ويؤدي الدين، بما يحمله من طقوس وأسماء وشعائر، دورًا شبيهًا بما رصده علم الأنثروبولوجيا في المجتمعات الأولى من أثر للأسطورة، بتحويل الوقائع إلى بنية من التضادات، يتميز فيها الداخل من الخارج، والمقدس من المدنس، ويصاغ التاريخ بوصفه سردية كونية تعطي معنى للوجود الفردي والجمعي معًا، فتتحقق الهوية في هذا الفضاء من التمايزات، التي تعمل على تغذيتها.

اللغة والديانة تتناوبان على حفظ بعضهما؛ فالعبرية ظلت حيّة بفضل نصوص التوراة والتلمود وصلوات اليهود وطقوسهم، إذ شكلت تلك النصوص جسرًا بين الماضي والحاضر، حتى استعادت العبرية حضورها الحديث بوصفها لغة يومية وهوية قومية بعد قرون من الانقطاع، حين تم اغتصاب فلسطين 1948. السريانية ما زالت حاضرة في طقوس الكنائس الشرقية كلغة للقداس، فحافظت الكنيسة على استمرارها وحافظت اللغة على هويتها الروحية. أما العربية فارتبطت بالقرآن الكريم ارتباطًا وثيقًا، جعل النص القرآني مرجعًا لغويًا أعلى، يحمي اللغة من التآكل ويمنحها قداسة وقدرة على الاستمرار، مادام القرآن حاضرًا في حياة المسلم. اللاتينية اقترنت بالقداس الكاثوليكي قرونًا طويلة، وظلت لغة الطقوس واللاهوت؛ حتى مع فقدان أكثر الكاثوليك القدرة على فهمها، إلى أن ولد الإصلاح المسيحي ففتح الباب أمام اللغات الحيّة لتتبوأ مكانها في الكنيسة. في المندائية حفظت الآرامية المندائية بفضل كتابهم المقدس "كنزا ربا" وطقوس التعميد والترانيم، فظلت اللغة والديانة تتبادلان حماية استمرار حياتهما، على الرغم من قلة الأتباع وتشتتهم. الزرادشتية صانت لغة "الأڤستا" القديمة، فجعلتها باقية في "الغاثات" (Gathas)1  الطقسية، على الرغم من انقراضها من الحياة اليومية. الهندوسية أبقت السنسكريتية حيّة في نصوص "الڤيدا" وممارسات الطقوس، فتحولت اللغة إلى وعاء دائم للفكر الديني والفلسفي. البوذية حفظت لغة البالي في "تيبيتاكا" (Tipiṭaka)2 ، وتراث جنوب شرق آسيا، في لغة الرهبان والتعاليم الحية. الكونفوشيوسية بدورها أبقت الصينية القديمة حاضرة عبر الكلاسيكيات الأخلاقية التي شكلت مرجعًا معرفيًا وذاكرة جمعية للأمة. والطاوية حفظت لغة الحكمة في "تاو تي تشينغ" (Tao Te Ching / Dao De Jing)3، فجعلت من النص الطقسي والفلسفي سبيلًا لاستمرارها. أما السيخية فحفظت اللغة الپنجابية عبر نصوص "الغورو غرانث صاحب" (Guru Granth Sahib)4، التي منحتها قداسةً ومكانةً في الهوية الدينية والثقافية لجماعتها. هكذا يتضح أن الأديان الكبرى لم تكن فقط أنظمة اعتقاد، بل قوى حافظة للغات، وأن اللغات بدورها لم تكن أدوات للتواصل فحسب، بل أوعية للقداسة والذاكرة، وبفضل هذا التضامن بين الدين واللغة استطاع كل منهما أن يضمن للآخر البقاء والتواصل عبر التاريخ والجغرافيا.

كتاب الديانة المؤسس والطقس لم يكونا يومًا حارسين للديانة فحسب، بل كانا أيضًا حارسين للسان، وذاكرة الأمة، وهويتها، وثقافتها. وأن اللغة لم تكن مجرد وسيلة للتعبير بل ركنًا وجوديًا في بقاء الديانات والذاكرات الجمعية والهويات والثقافات والحضارات، فحيثما كان الكتاب المقدس متداولًا بلسانه الأصلي ظل اللسان حيًا متجددًا، وحيثما استمرت الطقوس بلغتها الأصلية مكثت الهوية متماسكة، إذ تتغذى اللغة من الدين والثقافة كما يتغذى الدين من اللغة والثقافة. وتنهض الهوية من تآزر الكل معًا، فتغدو اللغة وعاءً للمعنى الروحي والعاطفي، يغذي الوعي والذاكرة، ويغدو الدين قوة تصون اللغة من الانقراض، وتمنحها طاقة تتجدد في النصوص والطقوس، وتصير الثقافة مرآة للدين واللغة، والدين واللغة مرآة للثقافة. من هذا التفاعل الثلاثي الخلاق تنبثق الهوية وتستمد حضورها، فتتجدد إمكاناتها في الواقع، وتستعيد قدرتها على الاستمرار في عالم متغير، إذ لا تبقى أسيرة الماضي وحده ولا منقطعة عن جذورها، بل تنفتح على الحاضر وتتطلع للمستقبل، وهي مشدودة إلى لسانها وكتابها المؤسس وطقوسها، التي تروي عطش الروح وتغذي وعي الجماعة بذاتها.

 كما تكون اللغة مرآة للدين والهوية والثقافة، فإن الدين والهوية والثقافة مرآة للغة. إذا تحجرت اللغة تعطلت قدرتها على التعبير عن أسئلة الإنسان، فيخبو المعنى الذي ينشده الإنسان في الدين خلف خطاب لا ينتمي لواقع الإنسان ومتطلباته الروحية والأخلاقية والجمالية الراهنة، وتنغلق الهوية على ماضٍ غريب عن حاضر الإنسان، وتفقد الثقافة طاقتها الخلاقة. أما حين تتحرر اللغة وتواكب متغيرات الحياة ومستجداتها، فإنها تبقي الدين حيًا قادرًا على الإلهام، وتمنح الهوية مرونة للانفتاح على المستقبل، وتنفتح الثقافة على فضاءات الابتكار والإبداع، لتغدو جميعها قوى متجددة تمنح للإنسان معنى وجوده في العالم.

العلاقة بين الدين واللغة لا تقف عند حدود حفظ النصوص والطقوس، بل تمتد لتشكل الأساس العميق للهويات الدينية والثقافية للأمم، إذ تتحول اللغة حين تتشرب دلالات النصوص الدينية إلى علامة فارقة يتميز بها أتباع الدين عن غيرهم، وتغدو خيطًا ناظمًا يوحدهم عبر الأزمنة والأمكنة، ويحمي ذاكرتهم، ويغذي شعورهم بالانتماء لهوية وثقافة واحدة. في سياق هذه الرؤية صارت العبرية وعاءً لهوية اليهود في الشتات، والسريانية ركنًا من أركان هوية الجماعات المسيحية المشرقية، والعربية هي اللسان الذي جمع شعوبًا شتى في فضاء واحد، ورسخ صلتهم بكتابهم المؤسس وعباداتهم وشعائرهم، وشعورهم بوحدة الرسالة والمصير. بهذا الفهم تتجاوز اللغة كونها أداة للتواصل، لتغدو منبعًا للذاكرة، ومسرحًا للخيال الديني، وأفقًا يتجلى فيه الانتماء الروحي والهوياتي والثقافي، الذي يحفظ ذاكرة الأمة ويربط حاضرها بماضيها، ويفتح أمامها سبل الاستمرار في عالم بالغ التنوع.

غير أن هذه الحماية ما فتئت تنقلب عبئًا على اللغة، إذ تتمدد قدسية كتاب الديانة إلى اللغة التي دُوّن بها، فتنحبس في قوالب القداسة، وتستعمل مؤسسات الأديان سلطة التحريم لحمايتها من أي محاولة لتيسير أساليب النطق بها أو تحديث معجمها، فتفقد قدرتها على التعبير عن أسئلة الحاضر ومتطلبات الواقع اللغوي الراهن للناطقين بها. هكذا تتسع الفجوة بين اللغة التي يقدسها التراث واللغة التي يحتاجها الإنسان في حياته اليومية. في ظل هذا التباعد، ينشأ صراع داخلي لدى الناطقين بها، بين ولاءٍ للموروث ورغبةٍ في الانخراط في الواقع الذي يعيشونه. وإذا لم تجد هذه اللغة طريقًا إلى المصالحة بين قدسيتها التاريخية ووظيفتها الحيّة، فإنها تظل محكومة بالانحسار التدريجي، تاركة فراغًا تملؤه لغات أخرى أكثر مرونة وقدرة على التكيّف مع التحولات العلمية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.

أما كيف تتقدس لغة الكتاب المؤسس؟ فإن كل شيء قابل للتقديس، وكل ما يتقدس يمكن أن يتفشى تقديسه وعبادته، فينتشر كالفيروس؛ إنسانًا كان أو حيوانًا أو جمادًا، حتى اللغة والأسماء والكتابة يمكن أن تتقدس. اللغة كائن حي، يتخلق من وعي الإنسان وتجربته التاريخية والمعيشية، ويعكس أنماط معيشته وصلاته السياسية والاجتماعية والثقافية، ويتجسد في آدابه وفنونه. حين ترحل اللغة إلى حقل المقدس تحتجب، فتعاند المراجعة والنقد والتجديد، وتتحول أي محاولة لتسير قواعدها والنطق بها وتجديث معجمها إلى مغامرة عقيمة. تقديس اللغة يزجها في حقل التحريم، فيغلق عليها منافذ الانفتاح، ويشل قدرتها على استيعاب تحولات الواقع، ويمنعها من التفاعل مع مكتشفات العلم وتكنولوجيات العصر.

عندما يصنع الإنسان مخترعاته، يبتكر معها أسماءها التي تتجسد فيها رؤيته العلمية الجديدة للعالم، وهي تختلف كليًا عن الرؤية غير العلمية التي أنجبت اللغة في فضائها التراثي. لذلك تتعذر محاكاة هذه الأسماء أو نقلها إلى لغة أخرى من دون خسارة في معناها، لأنها وليدة أفق معرفي جديد، وتجسيد لتحول عميق في الوعي، ورؤية للعالم لا تلتقي مع أفق اللغة المنقولة إليها التسميات. في هذا المأزق يفقد الإنسان لغته بوصفها أفقًا رحبًا لرؤيته للعالم، فتغدو عبئًا يقيده، بدلًا من أن تكون سبيله إلى بناء ثقافته وهويته. مع انغلاق اللغة في قوالب التحريم، تتحول من وعاء للمعنى إلى جدار يحجب عن الإنسان آفاق الإبداع، ويعطل قابليتها على مواكبة تحولات الواقع، ويمنعها من تجديد ذاتها في فضاء إنساني متنوع.

 اللغة خارج سطوة التقديس وسلطة التحريم هي وحدها التي تستجيب لتحولات الواقع، وتظل قادرة على أن تكون جسرًا بين النص الديني والإنسان، ورافدًا لتجديد الهوية الدينية والثقافية وإثرائهما. الهويات التي تتغذى من لغة حيّة تظل مرنة قادرة على التكيّف والتعايش، في حين تلبث الهويات التي تحاصرها القداسة ويستبد بها التحريم متصلبة، تنغلق على ماضيها، وتتحول إلى عائق أمام حركة تيسير قواعدها وأساليب النطق فيها وتوليد معجمها. الهوية ليست جوهرًا متحجرًا يكرر ذاته كما هو، بل صيرورة علائقية تتشكل في تفاعل حواري مع لغة الآخر المختلف وثقافته ورؤيته للعالم، ويعاد تكوينها في فضاء التعدد. إذا انفتحت اللغة على التأويل تشكلت في سياقها هوية وثقافة حيّة واثقة من ذاتها، قادرة على العيش مع المختلف من دون خوف من الذوبان، أما إذا انغلقت فتتحول إلى سجن يكبلها ويستهلك طاقتها في صراع لا ينتهي. لذلك تصبح اللغة الحيّة شرطًا لازمًا لدوام الهوية وانفتاحها واستمرارها، فيما اللغة الجامدة تسوقها إلى الانكماش والتآكل.

أنتج الفكر الغربي رؤى عميقة كشف فيها عن الصلة بين اللغة والهوية والثقافة؛ فقد رأى هردر "1744-1803" أن اللغة روح الأمة ولسانها الذي يمنحها خصوصيتها، في حين أكد هومبولت "1767-1835" أن اللغة لا تصف العالم بل تصنع رؤيتنا له، ثم ارتقى هايدغر "1889-1976" بالمسألة إلى مقام أنطولوجي، حين عد اللغة بيت الوجود الذي يحدد إمكان الوجود الإنساني، وجاء تايلور "1931-" ليبين أن الهوية لا تتشكل إلا في فضاء حواري تمنحه اللغة معناه، وكشف ريكور "1913-2005" عن أن الهوية سردية تتجدد بالقصص التي تروى بلغة تحتضن تعقيد التجربة الإنسانية، وأوضح أمارتيا سن "1933-" أن الهوية متعددة الأبعاد لا تفهم إلا بلغة حيّة تعترف بالاختلاف وتتيح التعايش.

يتضح أن اللغة شرط وجودي للهوية، فإذا تجمدت في قوالب مغلقة تحولت الهوية إلى سجن يستهلك طاقتها في مقاومة موهومة، وإذا انفتحت على التجديد غدت هوية رحبة واثقة من ذاتها، قادرة على العبور إلى المستقبل، في فضاء التنوع اللغوي والديني والهوياتي والثقافي. في ضوء هذه الرؤى يتضح أن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل إطار أنطولوجي يحدد إمكان الوجود الإنساني، ويمنح الهوية القدرة على الانفتاح والتجدد، أو يحاصرها بالجمود والانغلاق، إذا تحولت إلى قيد على الخيال والحوار. وهو ما يجعل واقعنا العربي اليوم في أمس الحاجة إلى وعي لغوي يستلهم هذه الرؤى، ليوازن بين حفظ أصالة اللغة والانفتاح على العصر. المستقبل لا يصان إلا بلغة حيّة قادرة على التفاعل والإبداع، تحمي الهوية من الذوبان كما تحميها من الانغلاق، وتبقيها أفقًا رحبًا يتسع للتعدد والتعايش، ويمنح الإنسان معنى حضوره في عالم متغير.

اللغة لا تحرس الهوية وحدها، بل تحفظ التجربة الروحية من أن تذوب في صخب العالم أو تنطفئ في قوالب الطقس الجامد. إذا انغلقت اللغة وغدت أسيرة الماضي تحولت إلى ظل باهت لا يوقظ ولا يلهم، أما إذا كانت منفتحة، لا تتنكر لتيسير أساليب التحدث والكتابة بها، فإنها تجعل الهوية في صيرورة دائمة، توقظ الوعي، وتعيد وصل الإنسان بالمعنى. هنا يغدو تجديد الهوية الثقافية والدينية رهينًا بتجديد اللغة، كي تظل قادرة على مخاطبة الروح والقلب والعقل معًا، وعلى تذوق صور الحضور الإلهي في الوجود، بنحو يخفض من مواجع الإنسان وآلامه، في غمرة حياة صاخبة قلقة اليوم. بذلك يتحول الدين من جدار يحرس الماضي إلى أفق ينفتح على المستقبل، وتتحول اللغة من كيان صامت إلى كائن حي يتدفق في مجرى التاريخ. هكذا يصبح التجديد اللغوي شرطًا لتجديد فهم الدين، ويغدو تجديد فهم الدين بدوره شرطًا لتجديد هوية الإنسان، إذ لا يمكن للدين أن يستعيد معناه الروحاني والأخلاقي العميق من دون لغة قادرة على إحياء التجربة الروحية وتجديد صلة الإنسان بالله، ولا يمكن للهوية أن تبقى منفتحة، في عالم يتغير فيه كل شيء، من دون دين يتكلم بلغة تشبع حاجات الأرواح والقلوب والعقول معًا للعيش سويًا في فضاء التنوع والاختلاف، ولا يمكن للثقافة أن تتفاعل مع الثقافات العالمية الحيّة في عالم متعدد، لا يتحقق فيه العيش المشترك إلا بقدر ما تتسع اللغة للحوار وتحتضن الاختلاف. اللغة التي تتحسس مواجع الإنسان العاطفية وحاجته لمعنى وجوده وحياته ضرورة قصوى، لأنها تفتح القلوب والعقول على التنوع، وتمنح الوجود البشري أفقًا يتسع للجميع، وتعيد للدين وظيفته الكبرى في إلهام المعنى، وللهوية دورها في بناء فضاء أخلاقي لإنسان أكثر رحمة وتسامحًا وإبداعًا، وتجعل الثقافة تتفاعل بلا خوف مع الثقافات العالمية.

العلاقة بين اللغة والدين والهوية لا تنحصر في بعدها الثقافي والاجتماعي والسياسي، بل تمتد إلى بعد روحي وجمالي يجعل اللغة وعاءً يحمي الهوية، ويعكس تجربة الإنسان مع الله في آن واحد. اللغة الحيّة تجعل الهوية في حالة مرنة، تمنحها القدرة على الإصغاء لأسئلة الواقع، والتفاعل مع تحولات العصر، في حين تحوّل اللغة المغلقة الهوية إلى كيان منغلق على ذاته يعجز عن مواكبة متغيرات الواقع. وبذلك يتضح أن تجديد الهوية الدينية مرهونًا بتجديد اللغة الدينية، كي تظل قادرة على مخاطبة القلب والعقل معًا، وحماية الحياة الروحية من الذبول، وفتح أفق رحب للتعدد والعيش المشترك في عالم متنوع الأديان والمذاهب. تكمن فاعلية اللغة التي يخاطب بها الدين الإنسان في قدرتها على تغذية المشاعر والعاطفة، وربط الإنسان بالمعنى الذي يمكن أن يمنحه الدين لحياته. أما إذا تحجرت اللغة وانغلقت، فإنها تسجن الهوية الدينية في ماض عقيم لا يلهم، وتفرغ الدين من طاقته الروحية والعاطفية والأخلاقية، ليغدو عبئًا على الحياة بدلًا من أن يكون أفقًا يلهم المعنى لوجود الإنسان وحياته.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

.....................

1- الغاثات (Gathas) في الزرادشتية هي ترانيم مقدسة تعتبر جزءًا من الكتاب المقدس للزرادشتية: "الأڤستا" (Avesta)، وتنسب لمؤسس الديانة زرادشت.

2- الكتاب المقدس الخاص بـمذهب "تيرافادا" في البوذية.

3- تاو تي تشينغ (Tao Te Ching / Dao De Jing) هو النص المؤسس للفلسفة الطاوية في الصين القديمة، وينسب إلى لاو تسي (Laozi) الذي يُعتقد أنه عاش في القرن السادس قبل الميلاد، وإن كان بعض الباحثين يرجعونه إلى القرن الرابع ق.م تقريبًا.

4- الغورو غرانث صاحب (Guru Granth Sahib) هو الكتاب المقدس في الديانة السيخية، ويُعرف أيضًا باسم آدي غرانث (Ādi Granth).

 

تحليل أفكار بروتاجوراس وجورجياس

الملخص: تتناول هذه الدراسة فكر الشك السوفسطائي من خلال تحليل أفكار اثنين من أبرز المفكرين السوفسطائيين، وهما بروتاجوراس وجورجياس. وتشير الدراسة إلى أن الشك السوفسطائي يشكك في قدرة الإنسان على الوصول إلى معرفة ثابتة أو حقيقة مطلقة. فبروتاجوراس الذي قدم مقولة "الإنسان مقياس كل شيء"، يعتقد أن الحقيقة نسبية وتعتمد على إدراك الفرد لها وفقًا لتجاربه الشخصية، مما يعني أن الحقائق تتغير باختلاف الأشخاص والظروف. أما جورجياس فقد ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث أنكر وجود الأشياء تمامًا، معتبرًا أن الإنسان لا يستطيع معرفة أو نقل أي شيء بشكل حقيقي، مؤكداً أن الحواس تخدعنا واللغة لا تستطيع نقل الحقيقة الفعلية.

الكلمات المفتاحيّة: السوفسطائية، بروتاجوراس، جورجياس، الشك، الحقيقة.Abstract:

This study deals with the thought of Sophist skepticism by analyzing the ideas of two of the most prominent Sophist thinkers, Protagoras and Gorgias. The study indicates that Sophist skepticism questions the ability of man to reach fixed knowledge or absolute truth. Protagoras, who presented the saying "man is the measure of all things", believes that truth is relative and depends on the individual's perception of it according to his personal experiences, which means that facts change according to people and circumstances. As for Gorgias, he went further, as he denied the existence of things completely, considering that man cannot know or convey anything in a real way, stressing that the senses deceive us and language cannot convey the actual truth.

Keywords: Sophistry, Protagoras, Gorgias, skepticism, truth.

تمهيد:

لم يُعرف "الشك" كمذهب فلسفي له روّاده وأتباعه إلا في العصر اليوناني. بالطبع قبل هذا العصر كانت هناك آراء وأفكار شكيّة، لكنها كانت آراء فردية تخص بعض الأشخاص فقط، ولم تكن تشكل مذهبًا أو تيارًا فكريًا. على الرغم من أن الحضارات القديمة، مثل الحضارة المصرية والصينية والأشورية والبابليّة والهندية، قد تناولت قضايا تتعلق بالوجود والمعرفة، لم تكن هذه الحضارات تركز بشكل خاص على الشك كظاهرة معرفية أو فلسفية. كانت اهتمامات تلك الحضارات منصبّة أكثر على موضوعات مثل ماهية الكون، والموت، والحياة بعد الموت، ولم تُولِ الاهتمام الكافي بالقضايا المعرفية والنقدية التي تتعلق بالشك.

من المعروف أن الفلسفة كفكر نقدي ومنهجي بدأت بشكل جاد في اليونان. صحيح أنه كانت هناك بعض الآراء المتناثرة والحكم الشعبية والأساطير في حضارات أخرى، إلا أن هذه الآراء لم تُجمع في منظومة فكرية واحدة، ولم تُنظم في مذهب أو مدرسة فلسفية تدافع عنها كما حدث مع الفلاسفة اليونانيين. كما أن التدوين والتأريخ لم يكونا محطّ اهتمام في تلك الحضارات، على عكس ما كان عليه الحال في اليونان حيث نقلت لنا العديد من مدوناتهم الفلسفية، بما في ذلك أعمال فلاسفتهم التي تناولت قضايا المعرفة ومشكلاتها، والتي كانت الشك جزءًا أساسيًا منها.

حتى بدايات العصر اليوناني، كان الشك لا يزال يُعتبر مجرد آراء فردية ولم يكن قد أصبح مذهبًا فلسفيًا. فقد ظهرت آراء لبعض الفلاسفة اليونانيين قبل السوفسطائيين تدعو للشك، مثل قول هيراقليطس: "إن كل الأشياء في تغير مستمر، فأنت لا تنزل في النهر الواحد مرتين لأن مياهًا متجددة تجري من حولك باستمرار"(1)، وهو ما يعني نفيه لمعرفة الأشياء على وجه اليقين، نظرًا لأنها في تغير مستمر ولا يمكن الإلمام بها بشكل كامل. إلا أن الشك كحركة فلسفية منظمة لم يظهر قبل السوفسطائيين.

الشك يعبر عن حالة من التردد بين نقيضين، حيث لا يمكن للعقل البشري ترجيح أحدهما على الآخر، لوجود أسباب وجيهة لقبول كل منهما وأسباب وجيهة لرفضه. ويتصل الشك بنظرية المعرفة، حيث يفترض عدم قدرة العقل البشري على تحصيل المعرفة المطلقة في كل شيء.

ويمكننا تحديد أهم المصطلحات المتعلقة بالشك في هذا البحث على النحو التالي(2):

الجهل: وهو عدم إدراك المعلوم أصلًا.

الشك: وهو التردد بين النقيضين بلا مرجح.

الظن: وهو التردد بين النقيضين مع وجود مرجح، لكن لا يصل إلى حد اليقين.

اليقين: وهو الاعتقاد الجازم في الحقيقة.

وما يهم في هذا البحث هو "الشك المطلق" أو "الشك المذهبي"، الذي يُعتبر موضوعًا لذاته، وهو ما نتناوله هنا. وأهم رواده في العصر اليوناني كانوا السوفسطائيين، بقيادة كل من بروتاجوراس وجورجياس.

ويسعى هذا البحث للإجابة عن ثلاثة أسئلة مهمة:

ما هو الفرق بين الشك المنهجي الهادف والشك المذهبي الهادم؟

هل كان شك السوفسطائيين شكًا هادفًا؟

هل يمكن اعتبار الشك السوفسطائي سبيلًا سليمًا للوصول إلى المعرفة؟

الشك قبل السوفسطائية:

ظهر الشك لأول مرة في الحضارة اليونانية على شكل مقولات وآراء منسوبة إلى بعض الفلاسفة الذين عاشوا قبل عصر السوفسطائيين. ورغم أن هذه الآراء كانت شكية في بعض جوانبها، إلا أنها لم تُؤسس بعد كمنهج فلسفي واضح أو كتيار فكري مستقل. كان من بين هؤلاء الفلاسفة الذين كانت آراؤهم تميل إلى الشك، "أكسينوفان"، الفيلسوف اليوناني الذي وُلد في آسيا الصغرى واستقر في مدينة "إيليا" في جنوب إيطاليا، ويُنسَب إليه البعض تأسيس الفلسفة الإيليائية. كذلك "بارميندس"، الذي وُلد في إيليا بجنوب إيطاليا، وكان قد قدم إلى أثينا في سن الخامسة والستين، ومن أبرز مؤلفاته كتاب "في طبيعة الأشياء". بالإضافة إلى "ميلسيوس" الذي لا تُعرف سنة ولادته أو وفاته بدقة، لكنه كان مشهورًا في الفترة بين 442 و441 ق.م.

ومع ذلك، يُعد هيراقليطس هو أشهر هؤلاء الفلاسفة الذين أظهروا آراء شكية تمهد لظهور مذهب الشك لاحقًا. فقد كان هيراقليطس يرى أن الحواس لا تكفي للوصول إلى الحقيقة، وأن الأشياء في جوهرها تخفي عنا حقيقتها. بالنسبة له، كانت الأشياء في حالة مستمرة من التغيير والصيرورة، وهو ما يتعارض مع الثبات أو اليقين في معرفتها. وقد قال هيراقليطس: "إن كل الأشياء في تغير مستمر، فأنت لا تنزل في النهر الواحد مرتين، لأن هناك مياهًا متجددة تجري من حولك باستمرار". وبالتالي يُعتبر هيراقليطس هو الجد الأول للفلسفة السوفسطائية "الشكية"، لأنه أنكر إمكانية المعرفة الثابتة، واعتبر أن كل شيء في حالة تغير دائم، مما يجعل من المستحيل معرفته على وجه اليقين(3).

وفيما يخص نقد أفكار هيراقليطس، نجد أنه كان يُقر بوجود قانون عام يُسمى "اللوغوس"، وهو ما يتناقض مع دعوته المستمرة للتغيير والعشوائية. فكيف يمكن أن يوجد قانون منظم في ظل العشوائية والتغير المستمر؟ إذن، رغم تأكيده على التغير الدائم، كانت أفكاره مليئة بالتناقضات التي مهدت الطريق للسوفسطائيين لتطوير مناهج شكية(4).

الشك عند بروتاجوراس:

يُعتبر بروتاجوراس (487 ق.م – 420 ق.م) من أبرز فلاسفة العصر السوفسطائي، وقد كان شخصية محورية في الفكر اليوناني في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد ظهرت في عصره موجة من الشك، وكان بروتاجوراس هو قائدها الأكبر. تأثيره كان واضحًا في المجتمع اليوناني، حيث كان له تأثير قوي على رجال الحكم وعلى عامة الناس أكثر من المثقفين، مما أثار الكثير من الجدل حوله، كما كان أحد الأسباب الرئيسية في صدور حكم بإعدام سقراط(5).

إن السوفسطائية -التي تعني في الأصل "الحكمة" وكان السوفسطائيون يُعتبرون حكماء أو معلمين- تميزت بدعوتها إلى الشك والنسبية. كان السوفسطائيون يكسبون رزقهم من تعليم الشباب المهارات العملية والثقافية التي كانوا يظنون أنها ستساعدهم في حياتهم اليومية. ومع ذلك، سرعان ما ارتبطت السوفسطائية بالسلبية والتحقير، وذلك بسبب ممارساتها في الجدل والخداع. لم تكن الدولة تخصص أموالًا لتعليم السوفسطائيين، بل كانوا يوجهون خدماتهم لمن كان لديه القدرة على دفع أجورهم من الطبقة الأرستقراطية، مما أدى إلى تعزيز الفوارق الطبقية في المجتمع الإغريقي. كما كان من بين أدوارهم البارزة التلاعب بالكلمات وإلباس الباطل ثوب الحق، خاصة في ساحات القضاء مقابل أجر مادي(6).

لقد نشأت السوفسطائية في فترة كانت الديمقراطية هي النظام السائد في أثينا، وقد استفاد السوفسطائيون من هذا المناخ السياسي لتعزيز مكانتهم، حيث سعوا إلى تدريس الفنون البلاغية وتقديم الدعم للأطروحات المتناقضة في آن واحد. وقد ساعد على ظهورهم أيضًا تنوع الآراء حول موضوعات مثل الكون وتعدد الآلهة، مما عزز الشك في معرفة الحقائق المطلقة. كما كان من بين مذاهبهم مذهب "العندية" الذي يُنسب إلى بروتاجوراس، والذي يفيد بأن "الإنسان مقياس كل شيء"، أي أن الحقيقة ليست موضوعية بل هي نسبية وتختلف حسب الفرد(7).

ويُعد بروتاجوراس من أبرز دعاة النسبية في الفلسفة، حيث أكد على أن الحقائق ليست ثابتة أو مطلقة. إذ قال: "إن الإنسان مقياس كل شيء، فهو مقياس أن الأشياء الموجودة موجودة، وأن الأشياء غير الموجودة غير موجودة"(8).

وهذا القول يشير إلى أن الحقيقة ليست ثابتة أو مطلقة، بل تتغير وفقًا لرؤية الفرد. وبالتالي فقد اعتبر أن الحقيقة نسبية وتعتمد على الحواس والتجربة الشخصية، مما جعله يُسهم في بناء مذهب شكي قائم على النسبية.

تعقيب ونقد لفكر بروتاجوراس:

لقد وقع بروتاجوراس في مفارقة فلسفية حينما أرجع مصدر المعرفة إلى "الإحساس"، نظرًا لاختلاف الأفراد في سنهم وشعورهم وملكاتهم العقلية، مما يعني أن الحقيقة تصبح اعتبارية ونسبية حسب كل فرد. فعلى سبيل المثال، قد يشعر شخص بالهواء باردًا بينما يشعر به آخر حارًا، وما يعتبره البعض خيرًا قد يراه الآخرون شرًا. ونتيجة لذلك، أنكر بروتاجوراس وجود حقيقة ثابتة، واعتبر أن كل شيء نسبى وقابل للتغيير.

وبذلك، فإن هذا الموقف يطرح إشكالًا كبيرًا حول فكرة "الحق والباطل"، بل يجعل من الصعب تحديد الصواب من الخطأ.

وقد عارض فلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو أفكار بروتاجوراس، معتبرين إياها وهمًا وخداعًا، وخصوصًا في مجال الخطابة، حيث كانت أقواله تعد متطرفة وبلا أساس منطقي راسخ(9).

الشك عند جورجياس:

الشك عند جورجياس يمثل قمة التطرف في الفلسفة السوفسطائية، حيث يطرح قضايا شديدة التشكيك في الوجود والمعرفة. في كتابه "اللاوجود"، قدم جورجياس ثلاث قضايا رئيسية:

لا يوجد شيء: يشير إلى أن الموجودات لا وجود لها، واللاوجود أيضًا ليس موجودًا.

إذا وجد شيء فلا يمكن معرفته: حتى لو كان هناك شيء موجود، لا يمكننا معرفته أو إدراكه.

إذا أمكن إدراكه، لا يمكن نقله: حتى إذا تمكنا من معرفة شيء ما، فإنه لا يمكن نقله إلى الآخرين(10).

يستند جورجياس في هذه القضايا إلى حجج تركز على الطبيعة الغامضة للوجود وحقيقة الإدراك؛ فأولًا، يُجادل بأن الوجود إذا كان أزليًا، فإنه لا يمكن أن يكون له بداية أو مكان، مما يجعله متناقضًا مع مفهوم اللامتناهي. وإذا كان حادثًا، فلا يمكن أن يكون قد حدث من شيء غير موجود، مما يعني استحالة وجوده. ثانيًا، يُشير إلى أن الحواس تخدعنا وتعطي انطباعات غير حقيقية عن الواقع. ثالثًا، يؤكد على أن اللغة مجرد رموز إشاراتية لا تعكس الحقيقة الواقعية، وبالتالي لا يمكنها نقل المعرفة الحقيقية(11).

تعقيب ونقد على فلسفة جورجياس:

الفلسفة التي تبناها جورجياس قوبلت برد فعل سلبي من الأثينيين، حيث اعتُبرت مرفوضة أخلاقيًا. في كتاب "الجمهورية" لأفلاطون، يُظهر تراسيماكوس أن مذهب جورجياس يخرج عن القيم الأخلاقية لأنه ينفي وجود معيار موضوعي للعدالة. كذلك، إنكار جورجياس للوجود والمعرفة والحقيقة يقوض الأسس التي يعتمد عليها العلم والتاريخ. فمعرفة الإنسان اليومية وقدرته على نقل التجارب والمعارف عبر الأجيال تتناقض مع فكرته حول استحالة نقل المعرفة أو حتى وجود الأشياء.

بالإضافة إلى ذلك، من الواضح أن السوفسطائيين، رغم دورهم في إشعال الفكر الفلسفي والتوجه نحو المنطق، كانوا يمثلون خطرًا على تطور الفلسفة الغربية، لولا وجود سقراط الذي استطاع إنقاذ الفلسفة من هذا الاتجاه المدمر كما يشير الدكتور يوسف كرم(12).

رأي الباحث:

يرى الباحث أن مضمون الفلسفة السوفسطائية قد شهد رواجًا كبيرًا في عصرنا الحالي مقارنة بالعصور القديمة، فلو نظرنا إلى العديد من القضايا الفكرية والاجتماعية التي نعيشها اليوم، سنلاحظ أن العديد من الأفكار التي طرحها السوفسطائيون حول نسبية الحقيقة وعدم وجود حقائق ثابتة، قد أصبحت جزءًا من التفكير السائد في المجتمعات المعاصرة. وفي الزمن القديم كانت هذه الآراء محلّ انتقاد شديد، خاصة من فلاسفة مثل سقراط وأفلاطون الذين اعتبروا أن الحقيقة مطلقة وثابتة، لا تتغير بتغير الأفراد أو الظروف. أما في العصر الحالي فقد نمت تلك الآراء على نحو لافت، إذ أصبحنا نشهد ظاهرة متزايدة من النقاشات التي تعتمد على إقناع الآخر بغض النظر عن صحة الحجة أو دقتها، بل فقط من خلال القدرة على التأثير والإقناع.

من جانب آخر، يرى الباحث أن السوفسطائيين قد ابتكروا مذهبًا لم يكن مرتبطًا بالدين أو الأخلاق، بل كان موجهًا بالأساس إلى فنون النقاش والجدال، وهذا يسلط الضوء على حقيقة هامة تتعلق بكيفية تفكيرهم في المعرفة والهدف منها. فالسوفسطائيون لم يكونوا مهتمين بإيجاد الحقيقة أو الوصول إلى مبادئ أخلاقية ثابتة، بل كانوا يؤمنون بأن الهدف هو القدرة على الإقناع والإفحام. وقد كان ما يهمهم أكثر من أي شيء آخر هو تعليم فنون الدفاع عن الآراء مهما كانت تلك الآراء صحيحة أو خاطئة. ومن هنا يمكننا أن نرى التشابه بين فلسفتهم وما يحدث اليوم في العديد من ميادين الحوار العام والسياسة والإعلام، حيث تكثر النقاشات التي تركز على الإقناع بدلًا من البحث عن الحقيقة الموضوعية أو تقديم أدلة دامغة تدعم المواقف.

إن السوفسطائيين كانوا يعلّمون تلاميذهم كيفية الدفاع عن آرائهم بغض النظر عن صحتها، فقط لأن الغاية كانت تكمن في إفحام الخصوم، وهو ما يعكس أيضًا المبدأ السوفسطائي الشهير بأن الحقيقة ليست مطلقة بل نسبية، ومصدرها هو الإنسان، وهذا يعكس واقعًا معاصرًا نعيشه في العديد من الحوارات الفكرية والاجتماعية اليوم. فكثيرًا ما نرى الأشخاص يتبنون آراءً معينة فقط لأنهم يرون في ذلك منفعة شخصية أو لتحقيق مصالح خاصة، دون أن يحرصوا على التحقق من صحة تلك الآراء أو فحصها بعناية. بل إن الغالبية باتت تعتمد على قدرتها على التأثير على الآخرين وتوجيههم بما يتناسب مع رغباتهم ومصالحهم، سواء كان ذلك في السياسة أو الاقتصاد أو حتى في الحياة اليومية.

كما يشير الباحث إلى أن السوفسطائيين قد عملوا على تعزيز فكرة أن الحقيقة تتغير تبعًا لمصالح الأفراد وأهوائهم، وهو ما يفتح الباب أمام تحليل أعمق لمفهوم الحقيقة في عالم اليوم، فالتغيير المستمر في الحقائق وفقًا للمصالح الشخصية يجعل كل شيء قابلًا للتفاوض والتعديل بما يتماشى مع رغبات الإنسان. وهنا نجد أنفسنا أمام واقع معقّد، حيث تزداد الأمور ضبابية ويفقد الناس الثقة في قدرة المعرفة على تقديم إجابات ثابتة وواضحة.

فالفلسفة السوفسطائية قد أثرت في سلوك الأفراد والمجتمعات المعاصرة، الذين أصبحوا يعطون الأولوية لمصالحهم الخاصة على حساب الحقائق الموضوعية، وهو ما يضعنا أمام تحديات كبيرة في كيفية الوصول إلى إجماع حقيقي في ظل هذه الظروف الفكرية المتغيرة.

الخاتمة

أولًا: النتائج:

من خلال ما سبق، يمكن استنتاج المبادئ العامة للشك السوفسطائي كالتالي:

أن الحواس وسيلة المعرفة وليس العقل: الحواس تختلف من شخص لآخر، مما يعني أن الحقائق تصبح نسبية وفردية، وبالتالي لا يمكن تحديد معيار ثابت للصواب والخطأ.

الاعتماد على مبدأ التناقض: من خلال إثبات صحة الرأي ونقيضه في نفس الوقت، مع التلاعب بالألفاظ والمغالطات، يسعى السوفسطائيون لإثارة الشكوك حول أي حقيقة ثابتة.

أهداف الشك السوفسطائي:

كسب المال: من خلال تعليم الشباب كيفية الدفاع عن المتهمين في المحاكم.

التسلية والسخرية: وإثبات عجز العقل البشري عن الوصول إلى الحقيقة.

بروتاجوراس: يعتبر أشهر الشخصيات السوفسطائية، وقد تميز شكه في جوانب عدة مثل الشك في الدين حيث رفض الدين الوثني والشك في المعرفة حيث قال عبارته الشهيرة "الإنسان مقياس كل شيء"، والتي تعني أن كل شخص هو من يحدد ما هو موجود أو غير موجود.

الفرق بين الشك المنهجي والشك المطلق:

الشك المطلق: هو مذهب يعتقد في أن كل شيء قابل للتشكيك، حتى الحقيقة نفسها. يعتبر الشك غاية في حد ذاته، ولا يسعى للوصول إلى اليقين، ويعتمد على الحواس والأدوات التي قد تكون غير موثوقة. يقول جورجياس إنه لا يمكن معرفة شيء، وحتى إذا أمكن معرفة شيء فلا يمكن نقله للآخرين. ويعتمد المشككون في هذا المذهب على حجج مثل "خداع الحواس" و"اختلاف آراء الناس" و"تعذر وجود براهين قاطعة".

الشك المنهجي: هو شك مؤقت يمر به الباحث عن الحقيقة في مسار البحث العلمي، يهدف للوصول إلى اليقين. استخدمه ديكارت في شكه المنهجي، حيث اعتبر أن الشك هو الوسيلة للوصول إلى الحقيقة المتينة، مشيرًا إلى ضرورة شك الباحث في كل شيء حتى الحواس نفسها التي قد تخدعنا. الشك هنا ليس غاية بحد ذاته، بل مرحلة ضرورية لفحص الأفكار والبحث عن أسس ثابتة لبناء المعرفة.

ثانيًا: التوصيات:

من المهم تعزيز القدرة على التفكير النقدي بين الأفراد، حيث يمكن للشك المنهجي أن يكون أداة فعّالة للوصول إلى اليقين.

يجب توعية الأفراد والطلاب بالفرق بين الشك المنهجي الذي يهدف إلى البحث عن الحقيقة وتطوير الفهم، والشك المطلق الذي يؤدي إلى الجمود الفكري والتشكيك في كل شيء بلا هدف.

رغم أن الشك السوفسطائي قد يؤدي إلى التشكيك في الحقائق الثابتة، إلا أن استخدامه لأساليب البلاغة والتلاعب بالألفاظ يمكن أن يكون مفيدًا في تطوير مهارات الخطابة والإقناع، فينبغي الاستفادة من هذه المهارات بشكل أخلاقي في المجال الإعلامي والتعليم.

بالنظر إلى أن الفلسفة السوفسطائية كان لها دور مهم في تطور الفكر الغربي، فإنه من المفيد مواصلة البحث في أفكار السوفسطائيين وكيفية تفاعلها مع الفلسفات المعاصرة، فقد تسهم هذه الدراسات في تقديم حلول لمشكلات العصر الحالي التي تتعلق بالمعرفة والمصداقية في المعلومات.

***

إعداد: محمد أحمد عبيد

كاتب وباحث دكتوراه في الفلسفة

.........................

قائمة المراجع

تاريخ الفلسفة القديمة، يوسف كرم، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1936م.

الشك – أسبابه وآثاره وعلاج الإسلام له، أحمد عسيري، موقع دراسات بحوث المعوقين.

الفلسفة اليونانية، أعلام وقضايا، الدكتور رضا الدقيقي، كلية أصول الدين بطنطا، 2018م.

التيارات الفكرية المعاصرة والحملة على الإسلام، محمد شيخاني، د.ت.ط.

تاريخ الفلسفة القديمة، يوسف كرم، مؤسسة هنداوي، 2014م.

(1) انظر: تاريخ الفلسفة القديمة، يوسف كرم، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1936م، ص 318.

(2) انظر: الشك – أسبابه وآثاره وعلاج الإسلام له، أحمد عسيري، موقع دراسات بحوث المعوقين، ص 18.

(3) انظر: الفلسفة اليونانية، أعلام وقضايا، الدكتور رضا الدقيقي، كلية أصول الدين بطنطا، 2018م، ص 137.

(4) انظر: الفلسفة اليونانية، أعلام وقضايا، الدكتور رضا الدقيقي، ص 137.

(5) انظر: التيارات الفكرية المعاصرة والحملة على الإسلام، محمد شيخاني، د.ت.ط، ص135 وما بعدها.

(6) انظر: الفلسفة اليونانية، أعلام وقضايا، الدكتور رضا الدقيقي، ص 138.

(7) انظر: الفلسفة اليونانية، أعلام وقضايا، الدكتور رضا الدقيقي، ص 138.

(8) انظر: الفلسفة اليونانية، أعلام وقضايا، الدكتور رضا الدقيقي، ص 138.

(9) انظر: الشك – أسبابه وآثاره وعلاج الإسلام له، أحمد عسيري، ص 22.

(10) انظر: تاريخ الفلسفة القديمة، يوسف كرم، مؤسسة هنداوي، 2014م، ص 61.

(11) انظر: تاريخ الفلسفة القديمة، يوسف كرم، ص 61.

(12) انظر: تاريخ الفلسفة القديمة، يوسف كرم، ص 62.

 

يفحص الفيزيائي والفيلسوف الاسترالي آلان تشالمرز Alan chalmers في كتابه المدرسي الصادرعام 1976 (ما هو هذا الشيء الذي يُسمى علما؟) كيف تُكتسب المعرفة العلمية ويتم التحقق من صحتها، عبر النظر الى الطرق التي تبرر وتدعم التحقيق العلمي. هو يعرض ويستطلع الفكرة بان العلم يتأسس على اكتساب المعرفة الموضوعية من خلال الملاحظة المباشرة، وان البيانات الحسية تعمل كحجر أساس يُبنى عليها الفهم العلمي. بعد ذلك هو يصف بعض الانتقادات لهذه الصورة، ومختلف المحاولات من جانب المفكرين المعاصرين لبناء نموذج اكثر دقة لتطوير العلم. الاطروحة المركزية لهذا المقال هو ان الملاحظات في العلم ليست موضوعية خالصة: انها تتأثر بشكل بارز بالاطر النظرية، والمعرفة القبلية، والتحيزات الذاتية التي تحدد كيفية ادراك وتفسير البيانات.

الرؤية التقليدية للعلم

الرؤية التقليدية هي ان العلم يتأسس على حقائق مُلاحظة يتم الحصول عليها من خلال التجربة الحسية المباشرة. هذه الملاحظات هي موضوعية: حقائق لا جدال فيها، يمكن التحقق منها، مستقلة عن نقاط ضعف المراقب ويمكن الوصول اليها مباشرة عن طريق الحواس.

هذا المستوى غير المسبوق من الموضوعية، يُعتقد على نطاق واسع انه يميز العلم عن الاشكال الاخرى للمعرفة بما يجعله منارة لليقين في عالم ممتليء بالتحيزات الشخصية والآراء التي لا أساس لها. انه يبيّن ان الطريقة العلمية هي طريق ثابت للحقيقة، خال من فوضى المنظورات الفردية.

وكما يلاحظ تشالمرز، ان هذا التصور جذّاب لأنه يعِد بفهم موثوق وغير غامض للعالم الطبيعي. لكنه يبدأ بإماطة اللثام عن هذا التصور المبسط من خلال الخوض عميقا في طبيعة الملاحظة. اذا كانت جميع التحقيقات العلمية مرتكزة على ما نستطيع ملاحظته، عندئذ من المهم جدا فحص موثوقية وموضوعية هذه الملاحظات. هو يستخدم مفهوم theory-laden الذي تكون فيه الملاحظة مثقلة بالنظريات، واذا كان الامر هكذا، فان هذا قد يُضعف وظيفة الملاحظة كأساس محايد للعلم. عندما نلاحظ ظاهرة معينة، كيف نتأكد ان ما ندركه هو واقع موضوعي وليس تفسيرا متأثرا بمعرفتنا القبلية والتزاماتنا النظرية؟

ان فكرة "العبء النظري" تشير الى ان ما يلاحظه العلماء يتحدد كثيرا بالاطر النظرية التي يؤمنون بها. في الحقيقة، فيلسوف العلم، نورود رسل هانسن Norwood Russell Hanson جادل بان "هناك في الاشياء ما هو اكثر مما تراه العين"(نماذج الاكتشاف، 1958، ص6)، بما يعني ان الملاحظة هي عملية نشطة، تستلزم تفسيرا. تشالمرز ذاته يؤكد على ان الملاحظات يتم غربلتها من خلال العدسات المعرفية التي تشكلها معتقداتنا ونظرياتنا الحالية. هذا يعني ان اثنين من العلماء يلاحظان نفس الظاهرة ربما يفسرانها بشكل مختلف طبقا لخلفيتهما النظرية.

في كتابه (بنية الثورات العلمية، 1962)، يتوسع توماس كون Thomas Kuhn في فكرة "ثقل النظرية" عبر ادخال مفهوم النموذج او البراديم paradigms وهو اطار من التفكير يرشد البحث العلمي، مثل نموذج التطور، او ميكانيكا الكم، او ميكانيكا نيوتن. هذه النماذج لا تتضمن فقط النظريات، وانما ايضا الطرق، المعايير، والقيم المشتركة لدى الجالية العلمية التي تستخدمها. طبقا لتوماس كون، العلم الطبيعي يعمل وفق هذه النماذج، والملاحظات يتم تفسيرها لتتلائم مع البنية النظرية للنموذج. بعد عقود وحتى قرون، يؤدي ثقل اللامألوف والتفسيرات المفرطة في التعقيد ضمن النموذج الى إحداث تحول الى نموذج جديد – وهو ما يسميه الثورة العلمية . بعد ذلك، يستمر العلم الطبيعي ضمن نموذج جديد وهكذا تتكرر العملية.

البعض ربما يجادل بان العلم يستخدم طرقا لتقليل التحيزات الذاتية، مثل القياسات الموحدة، والتجارب المتحكم بها، وعمليات مراجعة الأقران. هذه الممارسات تهدف الى ضمان ان تكون الملاحظات موثوقة وقابلة للتكرار وتعزز الموضوعية. لكن مع ان هذه الطرق تعزز صرامة التحقيق العلمي، لكنها يمكنها فقط ازالة جزء من تأثير النظريات القائمة على الملاحظة. وكما يزعم بول فايرابند Paul Feyerabend في (ضد الطريقة، 1975)، ان القواعد الميثدولوجية ذاتها تتأثر بالمنظورات النظرية، وان الخضوع القوي لميثدولوجيات صارمة ربما يعيق التقدم العلمي من خلال كبح وجهات النظر البديلة.

ادراك ان الملاحظات هي مثقلة بالنظرية له مضامين عميقة للعلم. انه يتحدى الرؤية التقليدية بان العلم هو موضوعي خالص، ويستدعي المزيد من الفهم الدقيق للطريقة التي تُبنى بها المعرفة. التحقيق العلمي يصبح ليس فقط مجموعة واضحة من الحقائق وانما عملية ديناميكية تستلزم تفسيرا وإعادة تفسير ضمن الاطر النظرية.

دراسة حالة: ملاحظات غاليلو

مثال يسلط الضوء على الملاحظات المثقلة بالنظرية هو استعمال غاليلو للتلسكوب لملاحظة أقمار كوكب المشتري. تفسير غاليلو تأثر بدعمه لمركزية الشمس لكوبرنيكوس – فكرة ان الشمس هي مركز النظام الشمسي (الرسول الفلكي، 1610). نقاد غاليلو الذين يتبعون النموذج التقليدي لمركزية الارض، اما أهملوا ملاحظاته او فسروها بشكل مختلف. هذا يبيّن كيف ان الالتزامات النظرية يمكن ان تؤثر ليس فقط على تفسير البيانات وانما ايضا على قبول الدليل التجريبي. قدرة غاليلو على تفسير ملاحظاته تأثرت بعمق بقبوله السابق لنموذج كوبرنيكوس، في ان الكواكب جميعها تدور حول الشمس. هو لم يسجل فقط بيانات بصرية من خلال تلسكوبه، هو فسر ما شاهد. تشالمرز يؤكد على ان ملاحظات غاليلو لم تكن حقائق محايدة تنتظر الاكتشاف وانما كانت مشبعة بالأهمية النظرية . بدون نظرية مركزية الشمس كإطار، لكانت حركة اقمار المشتري اُهملت او فسرت بشكل مختلف. بعض من معاصري غاليلو مثل كريستوف كلافيوس كان مشككا بملاحظاته وهو ما يوضح جيدا كيف تؤثر الالتزامات النظرية في تشكيل الادراك. رفضْ معاصرو غاليلو لقبول وجود اقمار في المشتري لم يكن ناتجا عن فشل في الملاحظة، وانما نتيجة لملاحظة تتعارض مع رؤيتهم العالمية المترسخة حول مركزية الارض.

هذا المثال يؤكد فكرة ان الملاحظات في العلم ليست خالية من التأثير النظري. من المهم جدا فهم ان ادراك الانسان هو نشط بطبيعته. اولاً، أدمغتنا لا تتلقى سلبيا بيانات حسية، وانما تنظمها بنشاط وتفسرها بالارتكازعلى معرفة قبلية وتوقعات. علم النفس المعرفي ايضا يشير الى ان التصور او الادراك هو عملية دمج معلومات جديدة مع بنيات معرفية موجودة. ربما يجادل احد ان استخدام غاليلو للدليل التجريبي بفاعلية يكون قد تحدّى النموذج المركزي السائد وفي النهاية اطاح به ، مبيّنا قوة الملاحظة. مع ذلك، هذا سيتجاهل المقاومة الاولية التي واجهتها استنتاجاته بسبب التحيزات النظرية السائدة. انها ليست مجرد الملاحظات ذاتها وانما التحول التدريجي في القبول النظري هو الذي قاد الى الهيمنة النهائية لنموذج مركزية الشمس.

عندما ينظر الباحثون الأقران من خلال المكروسكوب الى اي بيانات، فان ما يرونه يتأثر بعمق بتدريبهم، وبالخلفية النظرية والتوقعات. فمثلا، في بداية القرن العشرين، كان تفسير الاطياف الذرية atomic spectra مرتبطا بعمق بتطور نظرية ميكانيكا الكوانتم. بدون ذلك الاطار النظري، لكانت خطوط الاطياف المُلاحظة بقيت بلا توضيح. كل هذه الامثلة تتحدى فكرة ان الحقائق العلمية هي ببساطة تنتظر اكتشافها من خلال الملاحظة. بدلا من ذلك، هي تُظهر ان الفهم في العلم يبرز من تفاعل معقد بين البيانات التجريبية والتفسير النظري. الإعتراف بهذا التفاعل هو هام جدا لأنه يعترف بالعناصر الانسانية في التحقيق العلمي، والذي يتضمن الابداعية، الحدس، والذاتية. وكما جادل فايرابند، ان الخضوع لقواعد ميثدولوجية صارمة يمكن احيانا ان يعرقل التقدم العلمي عبر كبح الاتجاهات المبدعة والغير تقليدية.

نقد التجريبية والوضعية

التجريبية – الرؤية بان المعرفة اساسا تبرز من تجربة حسية – لها تاريخ عميق. التجريبيان البارزان المبكران جون لوك (1632-1704) وديفد هيوم (1711- 76) جادلا بان الذهن البشري كصفحة بيضاء وان كل المعرفة تُكتسب من خلال المدخلات الحسية. هذا المنظور يؤكد بان كل الفهم يبرز من تفاعل مباشر مع العالم. ما نرى ونلمس ونسمع ونقيس يكوّن الاساس لكل المعرفة الموثوقة. بساطة هذه الفكرة جذابة، لأنها تقترح مسار واضح للحقيقة عبر الوثوق بالدليل الملاحظ والملموس. في بداية القرن العشرين، الوضعيون المنطقيون مثل آير A.J.Ayer توسعوا على ضوء المبادئ التجريبية عبر الادّعاء انه فقط البيانات التي يتم التحقق منها تجريبيا او منطقيا هي ذات معنى. هم سعوا الى ازالة الميتافيزيقا والتركيز بصرامة على افتراضات يمكن اختبارها اما من خلال الملاحظة المباشرة او من خلال التحليل المنطقي. هذه الحركة عززت الايمان بان المعرفة العلمية بُنيت على حقائق موضوعية مشتقة من تجربة حسية.

مع ذلك، تأكيدات التجريبي والوضعي على البيانات الحسية كمصدر وحيد للمعرفة تعرضت للنقد لتبسيطها تعقيدية الادراك. احدى التحديات الهامة هنا هو الاعتراف بان أعضائنا الحسية ليست مجرد مستقبلات سلبية للمحفزات الخارجية، وانما استجاباتها للحوافز تُفسر بنشاط من جانب الدماغ. وكما رأينا، المعرفة القبلية، التوقعات والاطر النظرية تؤثر على ما ندرك كحقائق. هذا يعني ان البيانات الحسية ليست موضوعية وانما تتشكل بواسطة بنائنا المعرفي. هذا الدور النشط للتفسير المعرفي في اكتساب المعرفة يتحدى رؤى كل من التجريبية والوضعية. علاوة على ذلك، في (بنية الثورات العلمية) يجادل كون ان البرادايم التي يعمل ضمنها العلم تعرّف المشاكل العلمية "الشرعية" وحلولها: ملاحظات تُفسر لتعزيز البردايم السائد، وما هو شاذ ربما يُهمل او يتم تجاهله حتى يحدث تحوّل في البردايم والذي يستطيع دمج واستيعاب تلك الشواذ . هذه الفكرة من التقدم العلمي تتحدى رؤية الوضعيين المنطقيين بان العلم يتقدم عبر تراكم حقائق موضوعية.

 بحث سايكولوجي آخر ايضا يؤيد الادّعاء بان الادراك هو عملية نشطة. فمثلا، الدراسات في علم النفس المعرفي تُظهر ان ما يدركه الفرد يتأثر باطر ونماذج ذهنية تطورت من تجربة قبلية. هذا يشير الى انه حتى عند مستوى الادراك الاولي، أذهاننا تقوم بتنقية وتفسير البيانات الحسية.

مرة اخرى، مؤيدو التجريبية ربما يدّعون ان الميثدولوجيات العلمية تُصمم لتخفيف التحيزات الذاتية. تقنيات مثل التجارب المُتحكم فيها والقياس النمطي ومراجعة الأقران تعزز الموضوعية، وتكرار التجربة، والوسائل الدقيقة تُصمم لتعزيز موثوقية الملاحظات. مع ذلك، بينما هذه الممارسات بلاشك تقوي العملية العلمية، لكنها يمكنها جزئيا فقط ازالة تأثير الاطر النظرية على الملاحظة.

حجة اخرى من جانب التجريبيين الخلّص هي ان نجاح التنبؤ العلمي يعطي مصداقية الى فكرة موضوعية الطريقة التجريبية. النظريات العلمية المرتكزة على بيانات تجريبية قادت في الحقيقة الى تقدم تكنلوجي هائل وتنبؤات دقيقة ومذهلة حول الظاهرة الطبيعية. لكن وكما ناقش كواين W V O Quine في (اثنان من دوغما التجريبية، المراجعة الفلسفية، 60:1، 1951)، عدم تقريرية النظرية (الدليل المتوفر غير كاف لتثبيت نظرية علمية معينة) بواسطة البيانات يعني ان عدة نظريات يمكن ان تكون منسجمة مع نفس المجموعة من الملاحظات. هذا يعني ان نظرية الخيار تستلزم معايير تتجاوز الملاحظة التجريبية وحدها مثل معايير البساطة، التماسك، والقوة التوضيحية.

هذه الانتقادات تشير الى ان اكتساب المعرفة العلمية يستلزم تفاعلا معقدا بين البيانات الحسية والتفسير المعرفي. الاعتراف بهذه التعقيدية لا يقلل من قيمة الدليل التجريبي وانما يدعو الى تقدير أكثر دقة لكيفية بناء المعرفة العلمية.

نزعة ادّعاءات المُلاحظة لإرتكاب الخطأ

هناك سوء تصوّر سائد هو ان الملاحظات بسبب امكانية الوصول اليها مباشرة عبر الحواس، تعطي حقائق لا خلاف فيها حول العالم. لكن تشالمرز يرى ان الملاحظات ليست حقائق محصنة من الخطأ، انها مؤقتة وعرضة للمراجعة. هي كالصباغة المتقطعة والغير منسجمة في اللوحة الواسعة للمعرفة العلمية، تتأثر بتحيزات المراقب ومحدداته والوضع الحالي للفهم النظري. هو يستعمل استعارة محاولة قراءة علامة شارع بنظارات ضبابية لتوضيح الكيفية التي يتأثر بها ادراكنا بعدسات الادراك. كما ان النظارات الضبابية تحجب الرؤية، كذلك الافكار المتصورة مسبقا والالتزامات النظرية يمكنها ان تشوه تفسيرنا للبيانات الحسية. هذا ينسجم مع هانسن الذي جادل بان كل الملاحظات مثقلة بالنظرية وان ما نراه يتأثر بما نتوقع رؤيته. فهم هشاشة ادّعاءات الملاحظة هام جدا لأنه يتحدى فكرة ان الحقائق العلمية هي تنتظر فقط ليأتي احد لإكتشافها من خلال الملاحظة. بدلا من ذلك، انها تؤكد بان ما ندرك كـ "حقائق" هي في الغالب تفسيرات تشكلت بواسطة فهمنا في ذلك الوقت. وبشكل أعم، كما يلاحظ W.A.Sandoval(في فهم ابستيمولوجيات الطلاب التطبيقية وتأثيرها على التعلم من خلال التحقيق"، تعليم العلوم، 89:4 ، 2005)، عقائد المتعلمين التطبيقية حول المعرفة تؤثر في كيفية تفسيرهم وانخراطهم بالدليل العلمي. لذا من الضروري الاعتراف ان العلم ليس محاولة ثابتة لجمع حقائق خارجية غير قابلة للتغيير. بل انه عملية ديناميكية متطورة باستمرار تتميز بأسئلة مستمرة وتحقيق ومراجعة. تحقيق تقدم يتطلب كل من تراكم الملاحظة وتمحيص مستمر وإعادة تفسير لتلك الملاحظات في ضوء نظريات جديدة ودليل جديد.

توضيح تاريخي جيد لهذه العملية هو التحول من فيزياء نيوتن الى نسبية اينشتاين. في ميكانيكا نيوتن، مفاهيم مثل الزمان والمكان المطلقين اُعتبرا حقائق تجريبية مدعومة بملاحظات وتجارب العصر. لكن اينشتاين أدخل اطارا تفسيريا جديدا أعاد تعريف الزمان والمكان وأظهر ان قياس كل منهما هو نسبي للاطار المرجعي للمراقب. ملاحظة تجريبية جديدة لعبت فعلا دورا في تحول هذا البراديم: الاستنتاجات غير المتوقعة لتجارب Michelson-Morley عام 1887 في عدم وجود اختلاف هام بين سرعتي الضوء في اتجاهين متعامدين (يتقاطعان في زاوية قائمة) رغم حركة الارض في الفضاء. مع ذلك، هذا سيظل شذوذا محيرا بدون إعادة التصور النظري الجريء لاينشتاين لفكرتي الزمان والمكان. مرة اخرى، الملاحظات تُفسر ضمن اطر نظرية، وعندما تتغير تلك الاطر، يتغير فهمنا للملاحظة. هذا يسلط الضوء على الطبيعة التكرارية للعلم iterative nature، حيث حقائق اليوم المقبولة قد تصبح غدا مفاهيم منتهية الصلاحية.

حجة مضادة لفكرة الطبيعة المؤقتة للمعرفة العلمية هي ان تقارب الملاحظات المستقلة يقود بمرور الزمن الى معرفة موثوقة. لكن على الرغم من صحة القول ان الملاحظات المكررة يمكنها ان تقوّي الثقة في افكار معينة، فان تاريخ العلوم يبيّن ان التفسيرات المقبولة على نطاق واسع لاتزال من الممكن إبطالها. نظرية الفلوجستون في الاحتراق كانت يوما ما التوضيح المهيمن المدعوم بالملاحظات، جرى استبدالها في النهاية بنظرية الاوكسجين للاحتراق بعد تجارب لافوازيه. هذا التحول حدث ليس فقط بسبب ملاحظات جديدة وانما بسبب الاطار النظري الجديد الذي وفر أحسن توضيح للظاهرة والذي بدوره يقود الى أحسن التجارب.

استنتاج

هذا النقد يسلط الضوء على فكرة ان العلم يُشتق كليا من حقائق ملاحظة موضوعية، ويؤكد انها فكرة شديدة التبسيط. وبينما لا يمكن إنكار أهمية الملاحظات للتحقيق العلمي، لكن الملاحظات متشابكة بشكل معقد مع النظرية والتفسير والمنظور الشخصي للعالِم . الاعتراف بان الملاحظات مثقلة بالنظرية يؤكد ان العلم ليس فقط حول جمع بيانات تجريبية وانما يستلزم عملية ديناميكية من التفسير واعادة التفسير للاستنتاجات ضمن اطر نظرية.

هذا له مضامين عميقة لفلسفة العلوم. انه يتحدى الرؤية التقليدية للعلم كمحاولة موضوعية بالكامل مرتكزة فقط على بيانات حسية، وذلك من خلال التأكيد على الدور الاساسي للبنيات النظرية والادراك البشري في صياغة المعرفة العلمية. هذا يدعو الى المزيد من الفهم الدقيق للموضوعية العلمية التي تعترف بالتفاعل المعقد بين الدليل التجريبي والتفسير النظري. استكشاف كيف يؤثر هذا التفاعل على التقدم العلمي عبر مختلف الحقول العلمية سيكون شيئا ثمينا لتفكير المستقبل، وقد يوفر رؤى ثاقبة في تطور المعرفة العلمية. هذا الاستطلاع يمكن ان يعمّق تقديرنا للعملية المعقدة التي تقود الاكتشاف العلمي وتشجع الحوار المستمر حول طبيعة الموضوعية والذاتية في العلم.

***

حاتم حميد محسن

بين القطيعة الابستيمولوجية والعقلانية التطبيقية، مقاربة معرفية تاريخية

مقدمة: يُعتبر غاستون باشلار (1884 -1962)، الفيلسوف الفرنسي، أحد أبرز المفكرين في مجال فلسفة العلوم والإبستمولوجيا في القرن العشرين. من خلال أعماله مثل تكوين العقل العلمي (1938) والعقلانية التطبيقية (1949)، قدم باشلار رؤية مبتكرة لفهم تطور المعرفة العلمية عبر مفهومي "القطيعة الإبستمولوجية" و"التحليل النفسي للمعرفة العلمية". مقاربته المعرفية التاريخية تجمع بين تحليل التحولات التاريخية في العلم ونقد العوائق النفسية والثقافية التي تعيق تقدمه. يرى باشلار أن العقل العلمي يتطور عبر قطائع جذرية مع المعرفة السابقة، مدعومًا بعقلانية تطبيقية تركز على التجريب والإبداع. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل إسهامات باشلار في التحليل النفسي للمعرفة العلمية، القطيعة الإبستمولوجية، والعقلانية التطبيقية، مع التركيز على مقاربته المعرفية التاريخية ودورها في مقاومة العوائق المعرفية، وربطها بجدلية القوة والضعف في السياقات العلمية والاجتماعية. فكيف تصور غاستون باشلار تاريخ العلوم؟ وماهي الرؤية الثورية التي حملها الى مسار نقد المعرفة العلمية؟

القطيعة الإبستمولوجية

مفهوم القطيعة الإبستمولوجية هو جوهر فلسفة باشلار، حيث يرى أن التقدم العلمي لا يحدث بشكل تراكمي، بل عبر انقطاعات جذرية مع المعرفة السابقة. في تكوين العقل العلمي، يوضح أن العلم الحديث يتطلب التخلي عن المفاهيم القديمة التي تعتمد على الحدس أو التفسيرات التقليدية، مثل الانتقال من الفيزياء الأرسطية إلى الفيزياء النيوتنية. هذه القطيعة تمثل تحولًا في الهياكل العقلية التي تحكم التفكير العلمي. كيف يعمل باشلار على ضرورة احداث القطيعة الإبستمولوجية؟

مفهوم القطيعة الإبستمولوجية هو أحد أهم إسهامات باشلار، حيث يرى أن التقدم العلمي يحدث عبر انقطاعات جذرية مع المعرفة السابقة بدلاً من تراكم تدريجي. يوضح باشلار أن العلم الحديث يتطلب التخلي عن المفاهيم القديمة التي تعتمد على الحدس أو التفسيرات التقليدية. على سبيل المثال:

في الفيزياء: الانتقال من الفيزياء الأرسطية (التي ترى أن الأجسام تسقط بسرعات مختلفة بناءً على وزنها) إلى الفيزياء النيوتنية (التي أثبتت أن الأجسام تسقط بتسارع متساوٍ) يمثل قطيعة إبستمولوجية.

في الكيمياء: استبدال نظرية الفلوجستون (التي تفسر الاحتراق بوجود مادة خيالية) بنظرية الأكسجين للافوازييه يمثل قطيعة أخرى.

يؤكد باشلار أن هذه القطائع تتطلب تغييرًا في الهياكل العقلية للعلماء، مما يسمح ببناء معرفة أكثر دقة وموضوعية. يقول: "العقل العلمي يجب أن يُشفى من أوهامه من خلال القطيعة مع الماضي". هذا المفهوم يعكس مقاربة معرفية تاريخية تركز على التحولات الجذرية في تاريخ العلم.

العقلانية التطبيقية

في كتابه العقلانية التطبيقية، يقدم باشلار مفهومًا للعقلانية يجمع بين النظرية والتجريب. يرى أن العقل العلمي ليس مجرد تطبيق للمنطق النظري، بل عملية إبداعية تعتمد على التجربة والتكنولوجيا. يؤكد أن العلم الحديث يتطلب تعاونًا بين العقل النظري والتطبيق العملي، مما يسمح ببناء معرفة ديناميكية قادرة على التكيف مع التحديات الجديدة. لماذا اعتمد باشلار على نموذج العقلانية التطبيقية؟

في العقلانية التطبيقية، يقدم باشلار رؤية للعقلانية تجمع بين النظرية والتجريب. يرى أن العقل العلمي الحديث يعتمد على التفاعل بين العقل النظري والتطبيق العملي، حيث تلعب التكنولوجيا دورًا أساسيًا في بناء المعرفة. على سبيل المثال، يشير إلى أن تطور أدوات القياس الدقيقة، مثل المجهر أو المسرع الجزيئي، سمح باختبار النظريات العلمية وتطويرها. يقول: "العقلانية التطبيقية هي عقلانية تعمل، تنتج، وتبتكر".هذه العقلانية تختلف عن العقلانية التقليدية (مثل عقلانية ديكارت) التي تركز على المنطق النظري فقط. يؤكد باشلار أن العلم الحديث يتطلب إبداعًا مستمرًا وتكيفًا مع التحديات الجديدة، مما يجعل العقلانية التطبيقية أداة ديناميكية للتقدم العلمي.

المقاربة المعرفية التاريخية

مقاربة باشلار المعرفية التاريخية تجمع بين تحليل تطور العلم عبر التاريخ ونقد العوامل النفسية والثقافية التي تؤثر على هذا التطور. يرى أن فهم المعرفة العلمية يتطلب دراسة السياقات التاريخية التي تشكل العقل العلمي، مع التركيز على القطائع التي تميز التقدم العلمي عن المعرفة التقليدية.

التحليل النفسي للمعرفة العلمية

في تكوين العقل العلمي، يقترح باشلار مفهوم "التحليل النفسي للمعرفة العلمية" كأداة لفهم العوائق النفسية والثقافية التي تعيق تقدم العلم. يرى أن العقل البشري يتأثر بالصور الخيالية والمعتقدات البديهية التي تشكل "عوائق إبستمولوجية" ، مثل الاعتماد على الحدس أو التفسيرات الأنثروبومورفية (التشخيصية) للظواهر الطبيعية. يدعو باشلار إلى تحليل هذه العوائق لتطهير العقل العلمي وتعزيز الموضوعية.

في تكوين العقل العلمي، يقدم باشلار مفهوم التحليل النفسي للمعرفة العلمية كأداة لكشف العوائق الإبستمولوجية التي تعيق تقدم العلم. يرى أن العقل البشري يتأثر بالصور الخيالية والمعتقدات البديهية التي تشكل عقبات أمام الموضوعية العلمية.

تشمل هذه العوائق:

الحدس المباشر: الاعتماد على التجربة الحسية دون تحليل نقدي، مثل الاعتقاد بأن الشمس تدور حول الأرض بناءً على الملاحظة البسيطة.

التعميم المفرط: استنتاج قوانين عامة من ملاحظات محدودة، مثل تعميم خصائص مادة واحدة على جميع المواد الأخرى.

التفسيرات الأنثروبومورفية: إسقاط الخصائص البشرية على الظواهر الطبيعية، مثل وصف النار بأنها "حية" أو "غاضبة".

العائق اللفظي: الاعتماد على لغة غامضة أو شعرية تعيق الدقة العلمية، مثل استخدام مصطلحات غير محددة في وصف الظواهر.

يدعو باشلار إلى "التطهير النفسي" للعقل العلمي من خلال تحليل هذه العوائق والتخلي عنها. على سبيل المثال، يحلل كيف أعاقت فكرة "الجوهر" في الكيمياء القديمة تقدم العلم حتى تم استبدالها بمفاهيم أكثر دقة في الكيمياء الحديثة. هذا التحليل النفسي يعكس مقاربة معرفية تاريخية تركز على كيفية تشكل العقل العلمي عبر التاريخ.

تحديات ونتائج المقاربة المعرفية التاريخية

رغم إبداعها، واجهت مقاربة باشلار تحديات:

النقد الأكاديمي: أثار مفهوم القطيعة الإبستمولوجية نقاشات، حيث يرى بعض الفلاسفة، مثل توماس كون، أن التقدم العلمي يحدث عبر ثورات علمية وليس بالضرورة قطائع جذرية. كما انتقد البعض تركيز باشلار على العوائق النفسية على حساب العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر على العلم.

التحديات العملية: تطبيق التحليل النفسي للمعرفة العلمية يتطلب وعيًا عميقًا بالعوائق الإبستمولوجية، وهو أمر صعب في سياقات تعليمية تهيمن عليها الأساليب التقليدية.

الاتهام بالمثالية: يرى بعض النقاد أن تركيز باشلار على الخيال العلمي والتحليل النفسي قد يبدو مثاليًا، بعيدًا عن الواقع العملي للعلم الحديث.

رغم ذلك، حققت مقاربة باشلار نتائج ملموسة. أصبحت أعماله، خاصة تكوين العقل العلمي، مراجع أساسية في فلسفة العلوم والإبستمولوجيا. ساهمت أفكاره في إلهام فلاسفة مثل لوي ألتوسير وميشيل فوكو، الذين طوروا مفهوم القطيعة الإبستمولوجية في سياقات مختلفة. في إطار جدلية القوة والضعف، قدمت مقاربة باشلار أداة للعلماء والمجتمعات (الأضعف في مواجهة العوائق المعرفية) لتعزيز قوتهم المعرفية من خلال التطهير النفسي والقطائع الإبستمولوجية.

خاتمة

يُعد غاستون باشلار رائدًا في فلسفة العلوم من خلال مقاربته المعرفية التاريخية التي تجمع بين التحليل النفسي للمعرفة العلمية، القطيعة الإبستمولوجية، والعقلانية التطبيقية. هذه المقاربة تقدم رؤية متكاملة لفهم تطور العقل العلمي عبر التاريخ، مع التركيز على مقاومة العوائق النفسية والثقافية التي تعيق التقدم المعرفية. من خلال مقاومته الفكرية للحدس البديهي، العلمية للتراكم التقليدي، والاجتماعية للهيمنة الثقافية، ساهم باشلار في تعزيز القوة المعرفية للعلماء والمجتمعات في مواجهة الضعف الناتج عن الجمود الفكري. رؤيته تمثل دعوة ملهمة لإعادة تشكيل العلم كعملية إبداعية ديناميكية، مما يجعله نموذجًا للمفكر الملتزم بقضايا المعرفة في العصر الحديث. فكيف قامة الثورة العلمية في الحقبة المعاصرة على الدمج بين التحليل النفسي للعلم والقطيعة الابستيمولوجية والعقلانية التطبيقية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

..........................

المصادر والمراجع

باشلار، غاستون. (1938). تكوين العقل العلمي. باريس: نشر فران.

باشلار، غاستون. (1949). العقلانية التطبيقية. باريس: النشر الجامعي الفرنسي.

كون، توماس. (1962). هيكل الثورات العلمية. جامعة شيكاغو للنشر.

ألتوسير، لويس. (1974). فلسفة العلوم وتاريخها. باريس: : النشر الجامعي الفرنسي.

 

في المثقف اليوم