أقلام فكرية

أقلام فكرية

اعتقد وجود عشرات التساؤلات تلوح في مخيلة أذهان قرائنا وجميعها يدور حول غرابة عتبة الخطاب (عنوان المقال) دلالته ومعناه وحيثياته وبنيته والقضايا ذات الصلة التي يثيرها في سماء ثقافتنا الملبدة بالغيوم والدخان والضباب المتوهم من فرط غياب صفاء المصارحة المعرفية، ووضوح المعاني، وصدق الصور، والأصوات والمشاعر التي تنقلها الحواس للأذهان لتقوم بدورها النقدي لغربلة الوافد من المدركات والأوهام للوصول إلى المعقولات والقناعات المنطقية حيث درجات الحقائق ودركات الأوهام الخادعة والمعارف الزائفة فتفصل بين اليقين والإفك؛ الأمر الذي لا سبيل إليه سوى ما نطلق عليه فلسفة الكذب.

أجل نتسائل هل يمكننا الجمع بين محبة الحكمة وكراهة الكذب في سياق واحد؟ وما ذلك الذي يربط بين أيقونة الفضائل العقلية وأحط الرذائل النفسية وأقبح النقائص الأخلاقية أو واحدة من المفاسد التربوية؟ وماذا نجني من تلك الرابطة في ذلك النسق العقلي؟ وهل تحدث الحكماء عن الكذب بوصفه جنوحاً أو سلوكاً أو وسوسة شيطانية وإحدى النقائض الكامنة في النفس البشرية (الفجور والتقوى، الشر والكذب، الحب والكراهية، التسامح والتجبر)؟ وماذا قدم الحكماء من أراء أخلاقية وآليات معرفية ونهوجًا منطقية لمكافحة ذلك الكذب في ميدانيّ القيم والمعرفة؟ وما تلك الطرائق والآليات لمكافحة تلك الوساوس وفضح ألاعيب صناع الأوهام والأكاذيب.

لذا سوف أحاول في السطور التالية الإجابة عن هاتيك التساؤلات حتى يزال اللبس وتنكشف مواطن الغموض.

***

فيبدو أن معظم المثقفين غير متخصصين في المعارف الفلسفية قد خفي عليهم أن للفلسفة مباحث رئيسة (الوجود، المعرفة، القيم) ومباحث أخرى فرعية تنطلق من العلوم والموضوعات التي تطرح على مائدة النظر العقلي وهي متباينة ومتعددة ومتجددة ومتطورة وفق الثقافة السائدة وحركة التاريخ وجميعها يحتكم إلى منهجيات تتواءم مع طبيعة بنية الأفكار المطروحة من جهة وتستعين بآليات توافق ثقافة العصر الذي تطرح فيه تلك الأمور الفلسفية وهي من ناحية أخرى تنقسم تلك المعارف الفلسفية إلى جانبين (نظري وتطبيقي) الأول يختص بالمعارف التجريدية التي تحتكم إلى المعقولات والمنطق أو للتجربة العلمية الحسية

 أما الجانب الثاني فمجاله التطبيق والممارسة ويكتسب قيمه من التجربة العملية الأداتية والوظيفية وتحتكم إلى كفاءتها وقدرتها على القيام بوظيفتها بالوجه المناسب للواقع أيضًا أي أن المعيار هو التطبيق العملي . وقد اختلف الباحثون في بنية الفلسفة حول معنى العقل وميادينه ومجالاته ومن ثم تباينت تصنيفاتهم للعلوم النظرية والتجريدية والتجريبية والوجدانية والروحية وعلى سبيل المثال أدرجت فلسفة اللغة ضمن العلوم اللسانية التطبيقية وانقسم علم الأخلاق إلى قيم عامة وأخلاقيات تطبيقية وآداب مهنية وميزت بعض التصنيفات فلسفة الدين عن فلسفة اللاهوت وجعلت ضربين للمنطق نسقي عقلاني وعلمي تجريبي كما نزعت بعض الفلسفات المعاصرة إلى نقد هذه التصنيفات ونقض تلك المناهج والأسس والضوابط الحاكمة للتفكير في هذا أو ذاك وتمردت على بنية المحتوى المعرفي للتفكير فشرعت في الحديث عن (المابعديات) مثل ما بعد المنطق، ما بعد العلم ، ما بعد الدين. كما استشرفت نهايات لمبحث الوجود مثل نهاية التاريخ ونهاية الحضارة ونهاية الإنسان. واستحدثت فلسفات نوعية مثل فلسفة النقد، وفلسفة القراءة، والفلسفة النسوية، وفلسفة المستقبل، وفلسفة الروح.

أما الموضوع الذي نحن بصدده (فلسفة الكذب) فهو ينتمي إلى الفلسفة الأخلاقية التطبيقية في جانبه القيمي وينضوي تحت فلسفة المنطق والعلوم المعاصرة في جانبه المعرفي. شأنه في ذلك شأن فلسفة اللعب وفلسفة الحب وفلسفة البيئة وفلسفة الجنس وفلسفة الحرب وفلسفة الفن وفلسفة الضحك فجميعها تطبيقية تتشكل بنياتها تبعًا لطابعها العملي وموضوعاتها الأداتية.

***

وعليه أن فلسفة الكذب معنية بأمرين أولهما نظري يتمثل في تحليل بنية الكذب وعلة وجوده وتحديد شكله وأثره في المجتمع وأغراضه ومراميه وكيفية صناعته.  أما الجانب التطبيقي فيتعين في آليات كشفه والتحكم في آثاره وإيجاد أيسر السبل لمقاومته وأقوى النهوج للتصدي إليه وإحباط مؤامراته عن طريق معالجة منافذ ظهوره ومقومات انتشاره.

لذا نجد معظم فلاسفة التربية والأخلاق قدماء ومحدثين يرغّبون النشأ في فضيلة الصدق ويرهبونهم ويحذرونهم من تبيعات الكذب وذهبوا في الوقت نفسه لتتبع مراحل نمو هذا الداء فاجتهدوا في نزع الخوف من الأذهان والخجل والجبن من المشاعر وأعلوا من شأن فضيلة الشجاعة والحياء والمصارحة في برامجهم التربوية واتخذوا من عملية إحلال الفضائل عوضًا عن مكامن الرذائل والنقائص التي تسللت للعادات باعتبار هذا النهج أولى خطوات معالجة الكذب وقد كشفوا أيضًا أن الثقافة السائدة في المجتمع تعد من العلل الرئيسة لظهور الإفك والغدر والخيانة والنكوث بالوعود ونقد العهود وجميعها شكل من أشكال الكذب وعلل ذلك ترد في المقام الأول إلى ضعف الوازع القيمي المستمد في أغلب تلك الثقافات من الفكر الديني وغيبة القدوة والمصلحين أضف إلى ذلك تفشي الفساد وانتشار المحرضين عليه وغيبة العدالة والإنصاف في الأمور الاجتماعية والسياسية وجحد الناس للقوانين والضوابط واستخفافهم بها حتى أضحى الرأي العام يأن من العوز والفقر والشعور بالإحباط والعجر عن بلوغ المقاصد والمطامح والآمال فانقسمت المجتمعات إلى طبقات واتجاهات وملل ومذاهب وطوائف وأحزاب الأمر الذي ولد الخلط بين العديد من المفاهيم مثل (التسامح والطيبة والجبن والحياء والعفة والتحرر والإباحية والعري). وراق لفريق آخر من المتفلسفة البحث عن علة الكذب في الطبائع البشرية؛ فالشخص المصاب بالأنانية أو بالنرجسية أو المغالي في حكمه على قدراته والمتطلع إلى ما لا يتفق مع مؤهلاته فجميع تلك الشخصيات تلجأ للكذب رفضًا لواقعها وتمردًا على ظروفها وهناك بعض الشخصيات التي تؤثر التملق والمداهنة والنفاق على بذل الجهد والكد والاجتهاد لتصل إلى ما تطمح إليه وذلك بالمداراة والغش والبوح بنقيض الحقيقة. وهناك فريق ثالث من العلماء والفلاسفة والمفكرين قد عني جد عنايته بتحليل كتابات الأغيار الطاعنة في الثقافة العربية الإسلامية بداية من جحد عراقة تراثها القديم وطبيعة دور هذه الأمة العريقة في الحضارة الإنسانية والمشككة في قداسة عقيدتها الإسلامية والمسيحية وعقلانية مصنفات المفكرين في الحضارة الإسلامية سواء في ميادين العلم، الفلسفة، الفن؛ أو في المباحث الفقهية والكلامية والصوفية.

ولعل أشهر هذه المحاولات النقدية التي عمدت إلى فضح أكاذيب غلاة المستشرقين هي ترجمة دائرة المعارف الإسلامية إلى العربية والتعقيب على موادها المعرفية وذلك في مطلع العقد الثالث من القرن العشرين ناهيك عن المحاولات النقدية الفردية لصد هذه الهجمة الغادرة التي اضطلع بها أوائل رواد النهضة العربية الإسلامية في الربع الأول من القرن التاسع عشر؛ وذلك للكشف عن زيف ادعاءات كُتابها وفضح دوافعهم العدائية وعصبتيهم الشيفونية وذلك للحط من شأن ثقافتنا التليدة.

كما عكف طريق رابع على تحليل الشائعات والادعاءات والاخبار والاعلانات وغير ذلك من آليات التواصل الجماهيري وذلك لكشف المغالطات المنطقية في تلك الدعاوى والأهداف الحقيقية من وراء ذيوع الخبر وانتشاره كما استخدمها المحققون لاستجلاء الحقائق من فرط الخداع الذي اتخذته الحروب المعاصرة سلاحًا لها إذ طمست الحقائق وروجت لوجود الأوهام وحجبت النتائج العلمية الحديثة عن الشعوب المتطلعة للتقدم والتطور وبررت ذلك بأن الخداع والمراوغة من آليات الحروب وفاتهم أن هذا الصراع جزئي وليس دائم أو كلي فالأصل في التعايش الإنساني هو السلم والتعاون وليس الإضلال والتضليل والخداع والخيانة والتآمر والكيد.

 ومثل كل تلك الأمور تنضوي بالقطع تحت قناع الكذب.

أما الجانب التنويري والتوجيهي فيمثل الشق الإيجابي من وظائف الفلسفة حيال هذه الآفة التي كفرت بالصدق وشوهت الحق وشوشت على المعارف وشككت في الثوابت فغلت العقول وأضلتها؛ الأمر الذي دفع الفلاسفة قديمًا وحديثًا إلى إحياء هذا الجانب النقدي للفلسفة علمًا بأن أقدم الدراسات التي حملت عنوان (فلسفة الكذب) في مصر والعالم العربي ترجع إلى العقد الرابع من القرن العشرين وبالتحديد على يد محمد مهدي علام (1992-1900) عام 1932 بعنوان (فلسفة الكذب) أما أحدثها فهي للدكتورة سهام محمد عام 2024 م بعنوان (صناعة الكذب)؛ الأمر الذي يكشف عن أصالة هذا المبحث في الدراسات العربية ومن ثم فأنني أناشد شبيبة الباحثين الاضطلاع بهذه المهمة أي عقد دراسات تطبيقية عن فلسفة الكذب وذلك لنتمكن من صد الهجمة الشرسة التي وجهت أسلحتها لاقتلاع وجودنا بداية من التشكيك في أصالة ثوابتنا وصدق رموزنا وقادتنا وأهل الرأي فينا ومرورًا بالعمل على الحط من عزائمنا في شتى الميادين وانتهاءً بإفساد حياتنا الاجتماعية والأخلاقية والتربوية والتعليمية والسياسية وتضليل القائمين عليها. وليعلم المعنيون بالدراسات الفلسفية أن الخطب جلل ويحتاج إلى جهود بحثية وتطبيقية لدفع الضرر عن أمتنا.

وللحديث بقية عن جوانب فلسفة الكذب التطبيقية.

***

بقلم: د. عصمت نصّار

 

من التمايز المصطلحي إلى التكامل المعرفي

مقدمة: يُمثل الإدراك البشري (Perception) أحد الموضوعات الأساسية في الفلسفة، حيث يتناول العملية التي يترجم بها العقل البشري المعطيات الحسية إلى معرفة. يتمحور النقاش الفلسفي حول الإدراك حول سؤال أساسي: هل الإدراك عملية موضوعية تعكس الواقع كما هو، أم أنه ذاتي يتشكل وفقًا لتجارب الفرد وتصوراته؟ هذا المقال يهدف إلى استعراض التمايز المصطلحي بين الذاتية والموضوعية في سياق الإدراك، ثم استكشاف إمكانية التكامل المعرفي بينهما، مع الاستناد إلى التراث الفلسفي وآراء فلاسفة مثل ديكارت، كانط، وهوسرل، إلى جانب الإسهامات الحديثة في فلسفة العقل وعلم الإدراك.

التمايز المصطلحي: الذاتية والموضوعية

يُعرف الإدراك في الفلسفة بأنه العملية التي يتم من خلالها تفسير البيانات الحسية لفهم العالم الخارجي. يتمحور التمايز بين الذاتية والموضوعية حول مصدر المعرفة وطبيعتها:

  الذاتية (Subjectivité): تشير إلى الإدراك كتجربة فردية تتأثر بالعوامل الشخصية مثل الخلفية الثقافية، العواطف، التجارب السابقة، والتحيزات المعرفية. في هذا السياق، يُنظر إلى الإدراك كعملية داخلية تعكس حالة الذات أكثر من الواقع الخارجي. على سبيل المثال، يرى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت في كتابه التأملات في الفلسفة الأولى (1641) أن المعرفة الحسية قد تكون خادعة، وأن اليقين الحقيقي يكمن في الذات الواعية ("أنا أفكر، إذًا أنا موجود").

الموضوعية (Objectivité): تفترض أن الإدراك يمكن أن يعكس الواقع كما هو، مستقلًا عن الذات الفردية. هذا الموقف تجسد في الفلسفة الواقعية، التي تؤكد أن هناك عالمًا خارجيًا موجودًا بغض النظر عن إدراكنا له. على سبيل المثال، يرى جون لوك في مقال في الفهم البشري (1689) أن الأفكار تنقسم إلى صفات أولية (موضوعية مثل الحجم والشكل) وصفات ثانوية (ذاتية مثل اللون والطعم).

التمايز بين الذاتية والموضوعية يطرح إشكالية فلسفية عميقة:

هل يمكن للإدراك أن يكون موضوعيًا بالكامل، أم أن الذاتية جزء لا يتجزأ منه؟ هذا السؤال قاد إلى انقسامات فلسفية بين التيارات المثالية (Idéalisme)، التي ترى أن الواقع يعتمد على الذهن (كما عند بيركلي)، والتيارات الواقعية (Réalisme)، التي تؤكد وجود عالم مستقل.

الإدراك عند الفلاسفة: من ديكارت إلى كانط

 رينيه ديكارت (1596-1650): أسس ديكارت للشك المنهجي، معتبرًا أن الحواس قد تكون خادعة، كما في مثال الشمع الذي يتغير شكله عند الذوبان، لكنه يظل شمعًا في جوهره. اقترح ديكارت أن العقل هو مصدر المعرفة الحقيقية، مما يعزز الطابع الذاتي للإدراك.

إيمانويل كانط (1724-1804): قدم كانط في كتابه نقد العقل الخالص (1781) رؤية ثورية تربط بين الذاتية والموضوعية. يرى كانط أن الإدراك يتشكل من خلال هياكل معرفية مسبقة في العقل (مثل الزمان والمكان)، والتي تُنظم المعطيات الحسية. وفقًا لكانط، لا ندرك "الشيء في ذاته" (Noumène)، بل الظاهرة (Phénomène) كما يتشكل في وعينا. هذا النهج يُظهر تفاعلًا بين الذاتية (هياكل العقل) والموضوعية (المعطيات الخارجية).

إدموند هوسرل (1859-1938): في الفينومينولوجيا، دعا هوسرل إلى "تعليق الحكم" (Epoché) لدراسة الإدراك كما يظهر للوعي، متجاوزًا الافتراضات حول الواقع الخارجي. يرى هوسرل أن الإدراك عملية ذاتية في جوهرها، لكنها تتيح فهمًا مشتركًا للواقع عبر التجربة الواعية.

التكامل المعرفي: جسر بين الذاتية والموضوعية

في الفلسفة الحديثة وعلم الإدراك، ظهرت محاولات لتجاوز الثنائية بين الذاتية والموضوعية من خلال التكامل المعرفي. يمكن تلخيص هذا النهج في النقاط التالية:

  الفينومينولوجيا والتجربة المشتركة: يقترح هوسرل ومن تبعه (مثل موريس ميرلو-بونتي) أن الإدراك، رغم ذاتيته، يعتمد على تجربة مشتركة بين البشر. على سبيل المثال، إدراك اللون الأحمر قد يختلف في تفاصيله بين الأفراد، لكنه يتيح التواصل بفضل السياقات الثقافية واللغوية المشتركة.

علم الإدراك (Science cognitive ): تُظهر الدراسات الحديثة أن الإدراك يتأثر بتفاعل معقد بين العمليات العصبية والمعطيات الخارجية. على سبيل المثال، نظرية "الإدراك التوقعي" تقترح أن العقل يبني نماذج تنبؤية بناءً على المعطيات الحسية والتجارب السابقة، مما يجمع بين الذاتية (النماذج الداخلية) والموضوعية (المدخلات الحسية).

التشابكية: هذا النهج، الذي طوره فرانسيسكو فاريلا وآخرون، يرى أن الإدراك ليس مجرد استقبال للمعطيات، بل عملية ديناميكية تنشأ من التفاعل بين الكائن الحي وبيئته. هذا التفاعل يتيح التكامل بين الذاتية (تجربة الفرد) والموضوعية (البيئة الخارجية).

التحديات والنقاشات المعاصرة

رغم محاولات التكامل، لا تزال هناك تحديات:

  الوهم الإدراكي: تُظهر الظواهر مثل الأوهام البصرية أن الإدراك قد يكون خادعًا، مما يعزز الطابع الذاتي. على سبيل المثال، تجربة "فستان الألوان" (2015) أثارت نقاشًا عالميًا حول اختلاف إدراك الألوان بين الأفراد.

التحيزات المعرفية: تؤثر التحيزات مثل تأثير التأكيد على الإدراك، مما يجعل الموضوعية الكاملة أمرًا صعب المنال.

الذكاء الاصطناعي: مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، أصبحت فلسفة الإدراك تواجه أسئلة جديدة: هل يمكن للآلات أن تدرك بطريقة موضوعية، أم أن إدراكها يعتمد على برمجة ذاتية؟

خاتمة

فلسفة الإدراك البشري تكشف عن توتر دائم بين الذاتية والموضوعية، لكنها تُظهر أيضًا إمكانية التكامل المعرفي. من ديكارت الذي ركز على الذات الواعية، إلى كانط الذي جمع بين هياكل العقل والواقع الخارجي، إلى الإسهامات الحديثة في الفينومينولوجيا وعلم الإدراك، يتضح أن الإدراك عملية مركبة تجمع بين التجربة الفردية والبيئة الخارجية. التكامل المعرفي، كما يظهر في التشابكية ونظريات الإدراك التوقعي، يقدم أملًا في فهم أعمق لهذه العملية. ومع ذلك، تبقى التحديات قائمة، مما يجعل الإدراك موضوعًا حيويًا للنقاش الفلسفي والعلمي في القرن الحادي والعشرين. فكيف جعلت فلسفة الذهن من الادراك تجربة أساسية للكائن الحي؟.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

يتحوّل النص الأدبي، حين يُثقل بكوابيس المستقبل، إلى ما يشبه نداءً داخلياً يتجاوز حدود اللعب الجمالي، ويتلمّس في الخيال وسيلة لمواجهة شعور دفين بالخسارة، وقلقٍ يتنامى إزاء ما هو آت، فالدافع إلى الكتابة في هذا السياق لا يبع من الرغبة في إنتاج عالم متخيل مستقل، بل من رغبة ملحّة في مساءلة الواقع وكشف اختلالاته، لا بوصفه ما هو كائن فحسب، بل ما يمكن أن يكون، إذا ما استمرّ مسار العالم في منحدره الراهن.

لذلك يغدو الأدب الديستوبي (The Dystopian Literature) شكلًا من أشكال المقاومة السردية، حيث تتقاطع المخيلة مع النقد الاجتماعي لتنتج رؤية مغايرة للواقع، وكما يوضح إم كيث بوكر(M. Keith Booker)،  في كتابه (الدافع الديستوبي في الأدب الحديث: القصة كنقد اجتماعي)، أن (تناول المجتمعات المتخيلة في أبرز روايات الديستوبيا لا ينفصل، في جوهره، عن قضايا ومجتمعات واقعية بعينها، إذ تبقى هذه الأعمال وثيقة الصلة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بوقائع "العالم الحقيقي") وعليه، فإن تخييل المستقبل في هذا الأدب لا يُعدّ انفصالاً عن الحاضر، بل هو تكثيف لأزماته، وإعادة قولبته في صورة كابوسية تُظهر بشاعة ما يُنظر إليه عادة كمألوف أو حتمي.

يستند الأدب الديستوبي إلى تقنية أساسية هي (نزع الألفة؛ فمن خلال تركيزه النقدي على بيئات متباعدة زمانياً أو مكانياً، يتيح إمكانية النظر إلى ممارسات اجتماعية وسياسية إشكالية، من زوايا جديدة، والتي قد تبدو، في سياقاتها المألوفة، طبيعية أو حتمية أو غير قابلة للمساءلة)، وبهذا، لا يعود "الخيال" انفصالاً عن الواقع، بل يصبح الأداة التي يمكن من خلالها تفكيك هذا الواقع، وفضح ما يختبئ فيه من آليات إخضاع وتسليم.

هذا التوتر بين الحلم واليقظة، بين الكمال المرغوب والكارثة الممكنة، هو ما يجعل من الديستوبيا شكلًا مضاداً لليوتوبيا من حيث البنية، لكنه غير مفصل عنها من حيث الوظيفة. فكما يشير بوكر، فإن المفارقة الكبرى في أدب الديستوبيا تكمن في أنه (قد يُشكّل تصحيحاً ضرورياً) للميل اليوتيوبي، بما هو تنبيه دائم إلى ما يمكن أن يحدث حين تُفرض الرؤى المثالية كوقائع نهائية مغلقة، فتتحول إلى أدوات قمع واستبداد، وهذا ما يدفع العديد من المفكرين إلى التحذير لا من استحالة اليوتوبيا، بل من قابليتها للتحقق، إذ يرى إليوت أن (اليوتوبيا كلمة سيئة اليوم، ليس لأننا يائسون من إمكانية تحقيقها، بل لأننا نخشاها. لقد أصبحت اليوتوبيا نفسها (وفقاً لمعنى خاص للمصطلح) هي العدو).

بهذا المعنى، لا تتعامل الديستوبيا مع المستقبل بوصفه زمناً مفترضاً، بل بوصفه صورة مضخّمة لما يحدث في الحاضر، وقد بلغ مداه الأقصى، إنها تُعرّي حاضراً ملوثاً تحت الأقنعة، وتُظهر كيف يمكن لأحلام العدالة والمساواة والقيم الإنسانية السامية أن تنقلب، إذا أُديرت من داخل منظومات مغلقة، إلى أدوات لتكريس الطاعة وتدمير الفرد، وسقوط القييم، وهذا ما تؤكده أبرز الأعمال الديستوبية، واللافت أن كثيراً من هذه النصوص تنبّهنا إلى أن أخطر أشكال الاستبداد ليست تلك التي تُمارس بالقوة الصريحة، بل التي تُمارس من خلال الإقناع، أو حتى عبر الاستبطان الطوعي، لذلك يكتسب مفهوم "الرضا الشعبي" بعداً مقلقاً، إذ كما يقول بوكر(إذا كان لأدب الديستوبيا أن يُعلّمنا شيئاً، فهو أن التواطؤ الشعبي مع الأوضاع القائمة، أو الشعور بالرضا الجماعي، يُعدّ من أكثر الطرق المضمونة نحو الاستبداد)، فالخطر الأكبر لا يكمن في القمع الظاهر، بل في تواطؤ الجماعة مع منطق السيطرة، حين يصبح الاستعباد ذاته مقنّعاً على هيئة أمن أو رخاء أو انسجام.

ولأن هذا النوع الأدبي مشغول، في عمقه، بنقد النظام الرمزي الذي يؤسس للسلطة، فإن اللغة نفسها تتحوّل إلى ساحة صراع، فهي إما أن تُستخدم كأداة للهيمنة وإعادة إنتاج التبعية أو تُغدو وسيلة مقاومة واستعادة للذات. وهنا يُفهم لماذا تصبح الكتابة، في هذا السياق، أكثر من مجرد فعل فني،إنها فعل سياسي بامتياز، يُعيد ترتيب العلاقة بين الذات والعالم، ويستعيد للإنسان صوته في وجه آلة التماثل والرقابة.

وفي هذا الإطار، يلتقي الأدب الديستوبي مع الفكر النقدي المعاصر، الذي أظهر، منذ نيتشه وفرويد، أن النظام لا يُقوَّض فقط من خلال المواجهة المباشرة، بل من خلال التشويش على منطقه الداخلي، وكشف تناقضاته، وفضح لغته، ولذلك لا يمكن فصل هذا الأدب عن الأسلة التي طرحها مفكرون كأدورنو، وفوكو، وهابرماس، الذين رأوا أن أي طموح يوتيوبي، إذا لم يُراجع باستمرار، فإنه مُعرّض لأن يتحوّل إلى شكل من أشكال الهيمنة، وفي المقابل، فإن الفكر الديستوبي، بما يطرحه من تحذيرات، يظل ضرورياً من أجل (الحفاظ على أي إمكانية قائمة لحلم بمستقبل أفضل).

هكذا، لا تُعدّ الديستوبيا مجرد تصوّر أدبي سوداوي، بل استجابة ثقافية نقدية لانسداد الأفق، إنها لا تهدف إلى بثّ اليأس، بل إلى استعادة القدرة على التفكير في البدائل، لا عبر الحلم الساذج، بل عبر المواجهة المباشرة مع ما هو كائن، فالسؤال الذي تطرحه الديستوبيا ليس ما المجتمع المثالي؟ بل ما الذي يجعل المجتمع الراهن مُرعباً إلى هذا الحد؟ وكيف يمكن منع هذا الرعب من التحوّل إلى قاعدة؟ ومن هنا، فإنها تفتح باباً لا للهرب، بل للمساءلة، وللتفكير في ما يتطلبه الأمل من يقظة دائمة ووعي نقدي لا ينام.

***

أمجد نجم الزيدي

الزمن جزء من كينونة الإنسان ومن صميمه، فنحن لا نتحرّك في الزمن، بل نصنع ذاكرتنا منه، ونشتقّ منه معنى لما كنّا وما نريد أن نكون، نعم إنه الزمن، لطالما شعرت أنه ليس ما نراه في عقارب الساعة أو حركة تعاقب الليل والنهار، بل ما نعيشه في عمقنا عندما ننتظر شيئًا بشغف، أو حين نفقد شيئًا فنشعر أن الوقت كان هشًّا، متفلّتًا.

حينما نبحث في أعمال كل من ديان بونومانو وألبرت تساو وويليام فرايدمان من بين آخرين، كيف أن الدماغ يُشفّر الزمن، وكيف أن خلايا دقيقة تترتب بداخلنا لتسجّل اللحظات وتضع لها علامة...إلخ، أو حين نقرأ أن الزمن الحقيقي لا يُقاس بالساعات، بل يُعاش داخليًا كتيار شعوري متدفّق لا يمكن تقسيمه أو تثبيته رياضيًّا كما صاغه هنري برجسون، وأن الإنسان لا "يوجد" إلا من خلال الزمن، لأن الماضي يُشكّل ذاكرته، والمستقبل يُحرّك مقاصده، والحاضر هو لحظة اختيار تؤسّس فعل الوجود، مما يجعله يحمل بداخله توترًا دائمًا بين ما كان وما سيكون، مما يمنحه القدرة على التفكير، الإبداع، والتأويل، كما أوضح مارتن هايدغر... يخطر ببالي سؤال مزعج: لماذا رغم كل هذا الإدراك الداخلي، نستهين بالزمن في حياتنا؟

أنا لا أتحدّث هنا كعالمة أعصاب أو كفيلسوفة، بل كإنسانة تمرّ بي الأيام وكأنني أطاردها وهي تفرّ، أنا أعلم أن الزمن مكوّن منّا كما هو مكوّن لنا، لكنه يتسرّب من بين أفعالنا، من بين تأجيلاتنا، من بين ساعات نضيعها في عبارات "فيما بعد أو لاحقا..". إننا نعرف الزمن علميًا، لكن لا نعامله كما نعرفه.

إن كل لحظة تمرّ هي فرصة لا تتكرّر لبناء معنى، لكننا نختار في معظم الوقت أن نعيش في الماضي أو الهروب إلى مستقبل مجهول، وفي المقابل تذوب في روتيننا اليومي "الآن" تلك اللحظة التي يدعونا هايدغر إليها لنفهمها كمساحة للاختيار، فلا نسمع صوتها فتنفلت منا أو بالأحرى نحن من نغفل عنها.

هذه الملزمة ليست بحثًا، بل تذكيرٌ لنفسي قبل أن أدرك كل لحظة كنبض في الوعي، أنا أعرف الزمن جيدًا، أعرف كيف يمرّ، وكيف يُخلّد، وكيف يُنسى، قرأت عنه كثيرا، كيف ترصده أدمغتنا، وحاولت أن أكتشف كيف تُشفّره الخلايا لتكوّن ذاكرتنا، لكنني وسط كل هذا الإدراك أمارسه كما لو أنه لا يعنيني، أحيانا أهدره وكأنه ليس مني ولا أُصنَع منه، أمارسه وكأنه خارج الذات، فقط يُقاس، يُؤجَّل، يُهدر، لماذا؟

هذه المفارقة ليست معرفية فحسب… بل وجودية. إنها تلك الفجوة بين من يعرف قيمة الشيء، ثم لا يستثمره، وكأن المعرفة ليست كافية لصون ما نعرفه.

نحن نعلم أن اللحظة فريدة، ومع ذلك نطردها من انتباهنا بحركة أصبع على شاشة، أو بتأجيلٍ متكرّر لأشياء نُحبّها. وكأن الزمن ملكنا حينًا، وعبءٌ علينا في كثير من الأحيان.

ربما حين نُدرك أن الزمن ليس في الساعة بل في الذات… وأن اللحظة التي نحسن الإنصات لها تغدو أوسع من عمرٍ يُعاش بالتشتّت، نستطيع تقليص الهوة بين المعرفة التي تُقيم الزمن في جوف الذات، والسلوك الذي يُبدّده في ضجيج اليوم، حيث ينشأ سؤال: لماذا هذا العبث؟

الزمن ليس ما نقيسه بل ما نحسّه، هذه الفكرة ظلّت تراودني كلما وجدتُ نفسي في لحظة انتظار طويلة أو في لحظة فرح قصيرة تُمرّ كطيف. إدراكي للزمن لا يرتبط بعدد الدقائق بل بمدى غِنى اللحظة وسكونها أو توترها.

يخبرنا علم الأعصاب أن الدماغ يُعيد ترتيب الأحداث لا وفق ساعات العالم الخارجي بل وفق شعوره بها، فهناك خلايا تُشفّر لحظة بلحظة، ترتّب لنا الذكريات كما لو كانت فصولًا في كتاب نكتبه دون أن نعي ذلك. وهذا يجعلني أتساءل: إن كان جسدي يعرف الزمن بهذه الدقة، فلماذا لا أعرفه أنا؟ ولماذا أحيانًا يبدو لي الوقت بلا طعم ولا شكل؟

أشعر أن الزمن يتكثّف حين أكون منصتة، ويتفكك حين أكون مشوشة، وكل لحظة أعيها بصدق تصبح أعمق من عشرات الساعات التي أمضيتها في فعلٍ لا أذكر منه شيئًا، وأنني أُدرك الزمن أكثر مما أعيشه، كأن في داخلي صوتًا يعرف تمامًا أن اللحظة ثمينة، لكنني أُطفئه كلما انشغلت بما لا يستحق. فنحن لا نهدر الوقت عن جهل بل عن غفلةٍ مقصودة، تلك التي نمارسها حين نؤجل حلمًا، أو نغلق نافذةً كان يمكن أن تُطلّ بنا على شيء أجمل.

أعلم جيدًا، كما يعلم منكم كثير، أن الزمن لا يعود، وربما المستقبل لن يأتي، لكننا نستسهل التكرار، نُعيد اليوم كما لو أنه نسخة من أمس، ونسمح للساعات أن تتدفّق دون مقاومة، ما الذي يجعلنا نمارس هذا الانفلات رغم أننا نحمل في داخلنا قدرة عجيبة على التنظيم والتأمل؟

ربما لأننا اعتدنا على أن اللحظة صارت صندوقًا نملأه بالمهام، لا فسحةً نفهم فيها أنفسنا، فصرنا نركض خلف الزمن في الخارج، ونترك زمننا الداخلي فارغًا، وكأننا نستكثر على أنفسنا حق الإنصات لنبضها، فكيف نعيد علاقتنا بالزمن؟

أظن أن الأمر لا يحتاج إلى نظريات معقّدة، بل إلى لحظة صدق... تلك اللحظة التي نقف فيها وقول: "نحن هنا، الآن"، أن نُقرّ بأن الزمن ليس خارجنا، بل هو نحن حين ننتبه، حين نختار، حين نقرر..،

 حين أتأمل علاقتنا بالزمن، أشعر وكأننا نعيش على هامشه لا فيه، نتعامل معه كعامل خارجي يُلزمنا بالمواعيد والمهام، ليس كجزء حميم من تكويننا الداخلي يُنبتُ فينا الإدراك، وما يُشكّلُ ذاكرتنا وهويتنا.

لكي نعيد علاقتنا به، لا يكفي أن نُنظّم وقتنا، لكن يجب أن نُغيّر كيفية التفكير في الوقت، لذلك أُحاول بين فينة والأخرى أن أصنع لنفسي طقسًا صغيرًا، لربما يعيد لي هذه العلاقة: كوب قهوة في صمت، دفتر أكتب فيه أفكاري، لحظة تأمل لا تُقاس بالهدف بل بالحضور، حيث أُراقب الكون وهو يتحرّك من حولي لأشعر أنني فيه، فأُفكّر في مسألة أننا لا نحتاج لفهم الزمن بل نحتاج لأن نُعيد إليه مكانته كرفيق يُشكّل الحياة لحظة بلحظة، فبين الإدراك والانفلات نعيش ونُدرك تفاصيلًا لا نُحسن صيانتها، ونفقد لحظاتٍ كنّا نستطيع أن نُقيم فيها ذكرى أو فكرة أو بصمة صدق.

الزمن ليس عدوّنا ولا لغزًا، إنه مرآة تختبر مدى حضورنا في أنفسنا، وكلما حاولنا الإمساك به أدركنا أنه لا يُحسَن القبض عليه باليد، بل يُعاش بالوعي والإدراك، وربما حين نكفّ عن اللهاث خلف الوقت، ونبدأ الإنصات له، سنكتشف أن الزمن لا يتفلّت بل نحن من كُنّا نغيّبُه.

***

بقلم الطالبة الباحثة: غزلان زينون

"الدين أفيون الشعوب".. هي واحدة من أشهر مقولات كارل ماركس وأكثرها إثارة للجدل وسوء الفهم. لفهمها بعمق يجب وضعها في سياقها الفلسفي والنظر إلى الظروف التاريخية والفكرية التي قيلت فيها.

السياق الكامل للمقولة:

وردت هذه المقولة في مقدمة كتاب ماركس "مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل" الذي كتبه عام 1843 ونُشر عام 1844 والنص الكامل الذي وردت فيه المقولة هو:

(إن الشقاء الديني هو من جهة تعبير عن الشقاء الواقعي وهو من جهة أخرى احتجاج على هذا الشقاء. الدين هو زفرة المخلوق المضطهد، هو قلب عالم لا قلب له، وروح أوضاع لا روح فيها إنه أفيون الشعوب).

رؤية هيجل ونقدها:

كان هيجل يرى أن التاريخ هو تطور للروح المطلق-الله- وإن الدولة هي أعلى تجليات هذا الروح على الأرض.

أما ماركس فقد قلب هذه المعادلة مؤكداً أن الواقع المادي والظروف الاقتصادية والاجتماعية هي التي تشكل الوعي البشري والمؤسسات الاجتماعية بما في ذلك الدولة.

يُعتبر عمل ماركس "مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل" بمثابة أول عمل رئيسي لماركس يوضح فيه انفصاله عن هيجل. في هذا العمل يقوم ماركس بتحليل دقيق ومفصل لأفكار هيجل حول الدولة والقانون مقدماً رؤية مغايرة تماماً تركز على الواقع المادي والصراعات الطبقية منطلقا من نفس منهج الجدل الهيجلي لكن هذه المرة بشكل عكسي حيث أقام الجدل على قدميه بعد أن كان يمشي على رأسه.

الأفكار الأساسية في النقد الماركسي لهيجل:

تعتمد مساهمة ماركس في نقد فلسفة الحق عند هيجل على عدة مفاهيم أساسية يمكن تفصيلها على النحو التالي:

1.الجدلية والتجريد:

ينتقد ماركس هيجل لكونه يبدأ العديد من حججه الجدلية معتمدا على التجريد.

ومنهج هيجل هكذا (المقولة تثير نقيض يتصارعان فيؤدي الصراع إلى تركيب جديد يتحول بدوره إلى مقولة تثير نقيض وهكذا من مقولة الوجود إلى الفكرة المطلقة). مما يؤدي إلى انفصال الفلسفة عن الواقع المادي الملموس فهيجل يقلب العلاقة بين الفكر والواقع حيث يجعل الفكر أو الوعي هو الذي يحدد الواقع بينما يرى ماركس أن الواقع المادي (الظروف الاقتصادية والاجتماعية) هو الذي يحدد الفكر والوعي. فبدلاً من تحليل الظواهر الاجتماعية والسياسية كما هي في الواقع يقوم هيجل ببناء نظام فلسفي مجرد ومعقد لا يعكس الواقع الفعلي بل يبرره ويضفي عليه طابعاً عقلانياً وضرورياً.

هذا التجريد في نظر ماركس يؤدي إلى إخفاء التناقضات والصراعات الحقيقية الموجودة في المجتمع ويقدم صورة مثالية للدولة لا تتوافق مع واقعها. فهيجل يبدأ من الفكرة المجردة للدولة ثم يحاول إيجاد تجسيد لها في الواقع بينما يجب أن يكون العكس هو الصحيح.

أي البدء من الواقع المادي الملموس ثم تحليل كيف تتشكل الأفكار والمؤسسات من هذا الواقع.

2. الاغتراب:

يتأثر ماركس في تحليله لمفهوم الاغتراب بأعمال لودفيج فيورباخ الذي يرى أن الدين هو شكل من أشكال الاغتراب حيث يقوم الإنسان بإسقاط صفاته الإنسانية على كائن إلهي.

فالإنسان فعليا يركع أمام ماهيته الناقصة لكنه يغطي هذا النقص بتصور ماهية كاملة مطلقة على كائن متخيل يراه قمة الرحمة وقمة الشفقة وكامل القدرة وتام العلم ثم يعتقد أن هذا الكائن يهتم لأمره ويحيطه بعنايته.

ويوسع ماركس هذا المفهوم ليشمل الاغتراب الاقتصادي والسياسي ففلسفة هيجل لا تعالج الاغتراب الحقيقي الذي يعيشه الإنسان في المجتمع الرأسمالي بل تبرره أو تتجاهله فالدولة الهيجلية بدلاً من أن تكون حلاً للاغتراب هي في حد ذاتها شكل من أشكاله. فالفرد في المجتمع الرأسمالي مغترب عن عمله عن نتاج عمله عن طبيعته الإنسانية وعن الآخرين.

والدولة كما يرى ماركس تساهم في إدامة هذا الاغتراب من خلال حماية مصالح الطبقة الحاكمة التي تستغل العمال وتعزلهم عن نتاج عملهم فيصير الاغتراب ليس مجرد حالة نفسية أو روحية بل هو ظاهرة مادية واجتماعية ناتجة عن العلاقات الاقتصادية والاجتماعية القائمة على الملكية الخاصة وتقسيم العمل.

3. العلاقة بين المجتمع المدني والدولة:

يركز ماركس بشكل كبير على تحليل العلاقة بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي (الدولة). يرى هيجل أن الدولة هي الكلية الأخلاقية التي تتجاوز وتحل التناقضات الموجودة في المجتمع المدني وأنها هي المحرك الأساسي والمحقق للحرية. أما ماركس فيرى أن هيجل يقلب العلاقة بينهما لأن الدولة في نظر ماركس هي نتاج للصراعات الطبقية في المجتمع المدني وأنها تخدم مصالح الطبقة الحاكمة. فالدولة ليست تجسيداً للعقل المطلق كما يرى هيجل بل هي أداة للقمع الطبقي. إنها ليست حلاً للتناقضات بل هي تعبير عنها. فالمجتمع المدني (الذي يشمل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية) هو الأساس الحقيقي الذي تنشأ منه الدولة والدولة ليست سوى انعكاس للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية السائدة.

فالدولة بهذا المعنى هي بنية فوقية تعكس البنية التحتية الاقتصادية للمجتمع.

صار واضحا أن هيجل يضفي طابعاً مثالياً على الدولة ويجعلها كياناً مستقلاً عن المجتمع بينما هي في الواقع مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالظروف المادية للمجتمع.

4. الدين:

يقدم ماركس في مقدمة عمله نقداً للدين ويرى أن نقد الدين هو شرط مسبق لكل نقد. فالدين، بالنسبة لماركس، هو "أفيون الشعوب"، وهو تعبير عن المعاناة الحقيقية وفي الوقت نفسه واحتجاج على هذه المعاناة. ففلسفة هيجل بتبريرها الدولة كتحقيق للعقل المطلق تساهم في إدامة الأوهام الدينية والسياسية. وهنا يتحول الدين إلى وهم يوفر عزاءً زائفاً للناس في عالم مليء بالظلم والمعاناة ويمنعهم من إدراك واقعهم الحقيقي وبالتالي السعي لتغييره.

الدين في الفهم الدقيق هو نتاج لظروف اجتماعية معينة وهو يعكس الاغتراب الذي يعيشه الإنسان في هذه الظروف و نقد توظيف الدين لتزييف وعي الجماهير هو الخطوة الأولى نحو تحرير الإنسان من الأوهام وبالتالي تمكينه من تغيير واقعه المادي.

5. الدولة كتحقيق للعقل المطلق:

ينتقد ماركس بشدة فكرة هيجل بأن الدولة هي تحقيق للعقل المطلق على الأرض. فهذه الفكرة سخيفة بقدر ما هي خاطئة فهي تبرر الوضع الراهن وتحافظ عليه وتضفي عليه طابعاً مقدساً مما يمنع أي تغيير ثوري.

فالدولة الهيجلية في نظر ماركس هي دولة مثالية لا وجود لها في الواقع وهي مجرد أداة للحفاظ على النظام القائم ومصالح الطبقة المستَغِلة الحاكمة.

نعم فهيجل بهذا الفهم يضفي طابعاً ميتافيزيقياً على الدولة ويجعلها كياناً مستقلاً عن الأفراد والمجتمع بينما هي في الواقع نتاج للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية ببن حاكم مُستَغِل ومحكوم مُستَغَل.

حقيقة الدولة النهائية في جوهرها هي أداة في يد الطبقة الحاكمة للحفاظ على سيطرتها وقمع الطبقات الأخرى.

أخيراً أقول: هيجل باعتبار فهمه المثالي للدولة يخلط بين الدولة المثالية كتحقيق للمطلق وبين الدولة الواقعية وأسسها الاجتماعية والاقتصادية وعلى ضوء فهمه المقلوب يقدم تبريراً فلسفياً للدولة البرجوازية القائمة ويدافع عنها مكرساً بذلك الاستبداد السياسي ومقرا بالتفاوت الاقتصادي وصولا إلى الظلم الاجتماعي.

شكل هذا النقد الماركسي الأساس العميق للمادية التاريخية التي ترى أن التطور التاريخي مدفوع بالصراعات الطبقية والتغيرات في الأنماط الاقتصادية. كما أثر نقد ماركس على فهم العلاقة بين الدولة والمجتمع حيث أصبح يُنظر إلى الدولة على أنها ليست كياناً محايداً أو تجسيداً للعقل المطلق بل هي أداة في يد الطبقة المهيمنة. وقد ألهم هذا النقد العديد من الحركات الثورية التي سعت إلى تغيير الأنظمة السياسية والاقتصادية القائمة.

تُعد مساهمة كارل ماركس في نقد فلسفة الحق عند هيجل نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي. فقد قدم ماركس نقداً جذرياً للمثالية الهيجلية مؤكداً على أهمية الواقع المادي والصراعات الطبقية في تشكيل الوعي والمؤسسات الاجتماعية. من خلال تحليله لمفاهيم الجدلية والاغتراب والعلاقة بين المجتمع المدني والدولة والدين. وكشف ماركس عن التناقضات الكامنة في فلسفة هيجل وقدم رؤية بديلة للدولة والمجتمع. على الرغم من أن نقد ماركس كان موجهاً بشكل خاص إلى هيجل إلا أن تأثيره امتد ليشمل مجالات أوسع في الفلسفة والاقتصاد والسياسة وما زال يشكل مرجعاً أساسياً في دراسة الفكر النقدي.

ألقينا الضوء على مساهمة ماركس في نقد فلسفة الحق عند هيجل باختصار والآن نعود إلى مقصود ماركس من مقولتة "الدين أفيون الشعوب".

قلنا هي واحدة من أشهر اقتباساته وأكثرها إثارة للجدل.

والنص الكامل الذي وردت فيه المقولة هو: "إن الشقاء الديني هو من جهة تعبير عن الشقاء الواقعي، وهو من جهة أخرى احتجاج على هذا الشقاء. الدين هو زفرة المخلوق المضطهد، هو قلب عالم لا قلب له، وروح أوضاع لا روح فيها. إنه أفيون الشعوب".

تحليل المعنى:

عندما وصف ماركس الدين بأنه "أفيون" لم يكن يقصد بالضرورة إدانة الدين في حد ذاته بل كان يحلل وظيفته الاجتماعية في ظل الظروف القاسية التي عاشتها الطبقة العاملة (البروليتاريا) في القرن التاسع عشر عصر ماركس كان الأفيون يُستخدم كدواء ومسكن لتخفيف الآلام الجسدية فاستخدم ماركس هذا التشبيه ليقول إن الدين يقوم بوظيفة مماثلة على المستوى النفسي والاجتماعي. فهو يقدم العزاء والراحة للناس في مواجهة بؤسهم ومعاناتهم في عالم رأسمالي قاس. فالدين عبر وعده بمكافأة في الحياة الآخرة يمنح الطبقات العاملة أملاً كاذباً ويصرف انتباههم عن ضرورة تغيير ظروفهم الواقعية البائسة. بدلاً من الثورة على الظلم والاستغلال في الدنيا يجعلهم الدين يركزون على الخلاص في الآخرة. فالطبقات الحاكمة تستخدم الدين كأداة أيديولوجية للحفاظ على سيطرتها فهي ترى الدين أكثر من مجرد معتقد شخصي هو في نظرها بنية سلطوية تعمل على تنظيم وتوجيه سلوك الأفراد والجماعات.

من منظور فلسفي لا يمكن التعامل مع مقولة ماركس كشتيمة أيديولوجية للدين بل كنقطة بداية لتحليل آليات الهيمنة الرمزية التي يمارسها الخطاب الديني على الوعي الفردي والجمعي.

يجب أن نفرق في العلاقة بين الدين كأداة خطابية وبين المؤسسات الدينية التي تنتجه وتتكفل به حفظا وأدامة.

الدين كخطاب مصدره المقدس يشجع على قيم مثل الصبر وتحمل المصير والقبول بالقدر خيره وشره. وهذا الخطاب يخلق نسقا ذهنيا مضمرا من الخضوع يمنع العمال من التمرد على مُستَغلِيهم ويجعل الظلم الاجتماعي يبدو وكأنه جزء من نظام إلهي طبيعي. هنا يبدأ عمل المؤسسات الدينية وهو تكريس هذا الخضوع لخلق الوعي المُزيف بالواقع فالدين الكهنوتي غالباً ما كان يُستخدم لضبط الجماعات عبر تشكيل ضمير جمعي موحد قائم على الطاعة والتسليم والقبول لا على النقد والتساؤل.

في الوقت نفسه لم يغفل ماركس الجانب الإيجابي للدين كشكل من أشكال الاحتجاج. فالدين بالنسبة للمضطهدين هو "تنهيدة" و"احتجاج" ضد معاناتهم الحقيقية وهو محاولة لإيجاد "قلب في عالم لا قلب له" حسب تعبيره الدقيق.

إذن لم يكن نقد ماركس موجهاً للدين كمعتقد روحي فردي- أي علاقة بين الإنسان وخالقه- بقدر ما كان موجهاً لدور "المؤسسة الدينية" كجزء من البنية الفوقية للمجتمع التي تخدم مصالح الطبقة السائدة. كان يعتقد أنه في مجتمع عادل خالٍ من الطبقات والاستغلال لن يحتاج الناس إلى "وهم" يخلقه رجال الدين لتزييف وعي الناس لأنهم سيحققون سعادتهم الحقيقية على الأرض إذا فهموا حقيقة أستغلالهم.

فالقصد الدقيق لعبارة ماركس أن المؤسسة الدينية ورجال الدين بتحالفهم مع الطبقة الحاكمة المتسلطة تجعل الدين يعمل كمخدر يخفف من آلام الواقع المزري للطبقة العاملة عبر تزييف الوعي بخلق قناعة في أذهان الناس بأن هذا قدر من الله ومن يصبر عليه فله جنة الخلد خالدا فيها أبدا. وهكذا يُمنع الناس من مواجهة الأسباب الحقيقية لمعاناتهم وبؤسهم حتى لا يثوروا عليه.

نعم الدين أفيون الشعوب لكنه ليس الألم.

***

سليم جواد الفهد

حسب ريتشارد رورتي.. مقاربة برغماتية جديدة

مقدمة: يُعتبر ريتشارد رورتي (1931-2007) أحد أبرز الفلاسفة البرغماتيين في القرن العشرين، وقد أثار جدلاً واسعًا بسبب مقاربته الجريئة لإعادة تعريف منزلة الفلسفة في عالم الثقافة المعاصر. من خلال كتاباته، مثل الفلسفة ومرآة الطبيعة ( 1979) والطوارئ والتضامن والعرضية (1989)، يقترح رورتي إعادة صياغة الفلسفة كأداة ثقافية تخدم الحوار الاجتماعي والسياسي بدلاً من البحث عن "حقائق مطلقة" أو تقديم أسس ميتافيزيقية للمعرفة. تتناول هذه الدراسة منزلة الفلسفة في عالم الثقافة اليوم من منظور رورتي البرغماتي، مع التركيز على مقاربته الجديدة التي تؤكد على دور الفلسفة كممارسة سردية وتفسيرية، تهدف إلى تعزيز التضامن الإنساني وإعادة تشكيل الخيال الثقافي. يعتمد المقال على تحليل أكاديمي معمق، مع الإشارة إلى المراجع والتعليقات النقدية، لاستكشاف كيفية تطبيق هذه المقاربة في سياق العالم المعاصر.

البرغماتية الجديدة عند رورتي: إعادة تعريف الفلسفة

نقد الفلسفة التقليدية

يبدأ رورتي نقده للفلسفة التقليدية بالهجوم على فكرة الفلسفة كنسق معرفي يسعى لتقديم تمثيلات دقيقة للواقع، كما تجسد ذلك في الفكر الديكارتي والكانطي. في الفلسفة ومرآة الطبيعة، يجادل رورتي بأن الفلسفة التقليدية، التي ترى نفسها "مرآة" تعكس الحقيقة الموضوعية، قد فشلت في تحقيق أهدافها بسبب اعتمادها على افتراضات ميتافيزيقية غير قابلة للإثبات[1]. يرى رورتي أن الفلسفة يجب أن تتخلى عن طموحها لتكون "حارسة العقل" أو مصدرًا للحقائق المطلقة، وأن تتحول إلى ممارسة ثقافية تهدف إلى تعزيز الحوار والتفاهم المتبادل

البرغماتية كبديل

تستلهم البرغماتية الجديدة عند رورتي من أعمال فلاسفة مثل ويليام جيمس وجون ديوي، ولكنها تذهب إلى أبعد من ذلك بتبني منظور "ما بعد ميتافيزيقي". يقترح رورتي أن الفلسفة يجب أن تكون "تأويلية" بدلاً من "ابستيمولوجية"، أي أنها يجب أن تركز على إعادة صياغة السرديات الثقافية والاجتماعية بدلاً من البحث عن أسس معرفية ثابتة[2]. في هذا السياق، تصبح الفلسفة أداة لتوسيع "المفردات" الثقافية، مما يسمح للمجتمعات بإعادة تصور ذاتها وخلق معانٍ جديدة تتناسب مع تحديات العصر.

منزلة الفلسفة في عالم الثقافة اليوم

الفلسفة كحوار ثقافي

في عالم الثقافة المعاصر، يرى رورتي أن الفلسفة يجب أن تلعب دورًا في تعزيز الحوار بين الثقافات المختلفة، لا سيما في ظل العولمة وتعددية الهويات. يجادل رورتي بأن الفلسفة يمكن أن تساهم في بناء "التضامن" الإنساني من خلال إنتاج سرديات مشتركة تعزز التفاهم المتبادل، بدلاً من فرض أطر ميتافيزيقية صلبة. على سبيل المثال، في الطوارئ والتضامن والعرضية، يقترح رورتي مفهوم "الليبرالية الريبية"، حيث يدرك الفرد عَرَضية معتقداته ومع ذلك يلتزم بقيم مثل الحرية والعدالة كوسيلة لتعزيز التضامن الاجتماعي[3]. في عالم اليوم، حيث تتصاعد التوترات الثقافية والسياسية، يمكن لهذه المقاربة أن تساعد في بناء جسور بين الثقافات المتنوعة، مثل الغربية والإسلامية أو الشرقية، من خلال الحوار بدلاً من المواجهة

الفلسفة والخيال الثقافي

يرى رورتي أن الفلسفة يجب أن تكون أداة لتوسيع الخيال الثقافي، أي القدرة على تخيل طرق جديدة للعيش والتفكير. في هذا السياق، يقترح أن الفلاسفة يجب أن يكونوا "رواة قصص" يساعدون في إعادة صياغة السرديات الثقافية التي تشكل هوية المجتمعات. على سبيل المثال، يشير رورتي إلى الأدب والفن كمصادر للإلهام الفلسفي، حيث يمكن لروايات مثل تلك التي كتبها جورج أورويل أو مارسيل بروست أن تساهم في تعزيز التعاطف والتضامن أكثر من النظريات الفلسفية التقليدية[4]. في عالم الثقافة اليوم، حيث تتزايد تأثيرات وسائل الإعلام الرقمية، يمكن للفلسفة أن تلعب دورًا في نقد هذه السرديات وإعادة تشكيلها لتعكس قيم التنوع والعدالة.

الفلسفة والسياسة

يؤكد رورتي على أهمية الفلسفة في المجال السياسي، ليس كمصدر للحقائق المطلقة، بل كأداة لتعزيز الديمقراطية الليبرالية. في كتابه تحقيق بلدنا ( 1998)، يدعو رورتي إلى إحياء الخيال السياسي التقدمي من خلال الفلسفة، مؤكدًا أن الفلاسفة يمكنهم المساهمة في إعادة صياغة الأمل الاجتماعي والسياسي من خلال سرديات تلهم التغيير الاجتماعي[5]. في سياق عالم اليوم، حيث تواجه الديمقراطيات تحديات مثل الشعبوية وتراجع الثقة في المؤسسات، يمكن للفلسفة أن تساعد في إعادة بناء الثقة من خلال الحوار والتفكير النقدي.

تحديات المقاربة البرغماتية الجديدة

نقد الرفض الميتافيزيقي

واجهت مقاربة رورتي انتقادات من فلاسفة مثل هيلاري بوتنام ويورغن هابرماس، اللذين رأيا أن رفضه الكامل للميتافيزيقا قد يؤدي إلى نسبية فكرية تهدد بتقويض أسس النقاش العقلاني[6]. يجادل النقاد بأن الفلسفة لا يمكن أن تتخلى تمامًا عن دورها في تقديم معايير معرفية، لأن ذلك قد يؤدي إلى فقدان القدرة على الحكم على السرديات المتنافسة. على سبيل المثال، يرى بوتنام أن البرغماتية الجديدة قد تكون عرضة لخطر التحول إلى شكل من أشكال النسبية الثقافية، حيث تصبح جميع السرديات متساوية القيمة[7].

محدودية التضامن

كما أن مفهوم التضامن عند رورتي واجه انتقادات لكونه يعتمد بشكل كبير على القيم الليبرالية الغربية، مما قد يحد من قدرته على التواصل مع ثقافات أخرى ذات قيم مختلفة. على سبيل المثال، أشار بعض النقاد إلى أن مقاربة رورتي قد لا تكون كافية لمعالجة التوترات الثقافية في سياقات غير غربية، مثل الصراعات الدينية أو القومية في الشرق الأوسط[8]. ومع ذلك، يمكن الدفاع عن رورتي بالقول إن مقاربته لا تهدف إلى فرض قيم موحدة، بل إلى تشجيع الحوار المفتوح بين الثقافات.

التحديات في العصر الرقمي

في عالم الثقافة اليوم، حيث تسيطر وسائل الإعلام الرقمية على تشكيل الخطاب العام، تواجه مقاربة رورتي تحديات جديدة. فالانتشار السريع للمعلومات المغلوطة والاستقطاب السياسي يعقدان مهمة الفلسفة في تعزيز التضامن. ومع ذلك، يمكن أن تكون مقاربة رورتي مفيدة في هذا السياق، حيث تدعو إلى نقد السرديات المهيمنة وإعادة صياغتها بطريقة تعزز التفاهم المتبادل بدلاً من الصراع.

تطبيقات المقاربة البرغماتية في عالم الثقافة المعاصر

الفلسفة والتعددية الثقافية

في عالم متزايد التعددية، يمكن لمقاربة رورتي أن تساهم في تعزيز الحوار بين الثقافات المختلفة. على سبيل المثال، يمكن للفلسفة أن تلعب دورًا في نقد السرديات القومية أو الدينية المتطرفة، وتشجيع سرديات بديلة تعزز التعايش. في سياق التوترات بين الغرب والعالم الإسلامي، يمكن للفلسفة أن تساعد في إعادة صياغة الحوار حول القيم المشتركة، مثل العدالة والحرية، كما اقترح رورتي في كتاباته حول التضامن[9].

الفلسفة والتكنولوجيا

في عصر التكنولوجيا الرقمية، يمكن للفلسفة، وفقًا لمقاربة رورتي، أن تساهم في نقد تأثير التكنولوجيا على الثقافة والمجتمع. على سبيل المثال، يمكن للفلاسفة تحليل كيف تشكل وسائل التواصل الاجتماعي السرديات الثقافية، واقتراح طرق لاستخدام هذه المنصات لتعزيز التضامن بدلاً من الاستقطاب. يرى رورتي أن الفلسفة يمكن أن تساعد في إعادة صياغة الخيال الثقافي لمواجهة تحديات مثل الذكاء الاصطناعي وتأثيره على العمل والخصوصية[10].

الفلسفة والتعليم

يمكن لمقاربة رورتي أن تؤثر على التعليم من خلال تشجيع مناهج تركز على التفكير النقدي والحوار بدلاً من حفظ الحقائق. في عالم الثقافة اليوم، حيث يواجه التعليم تحديات مثل التجارة والتكنولوجيا، يمكن للفلسفة أن تساعد في تطوير مناهج تعليمية تعزز الخيال الثقافي والتضامن، كما دعا رورتي في تحقيق بلدنا[11].

خاتمة

من خلال مقاربته البرغماتية الجديدة، يقدم ريتشارد رورتي رؤية متجددة لمنزلة الفلسفة في عالم الثقافة اليوم. بدلاً من السعي إلى حقائق مطلقة، يرى رورتي أن الفلسفة يجب أن تكون أداة سردية وتأويلية، تساهم في تعزيز التضامن الإنساني وإعادة تشكيل الخيال الثقافي. في عالم يتسم بالتعددية والاستقطاب، تقدم هذه المقاربة إطارًا لفهم دور الفلسفة في مواجهة التحديات المعاصرة، سواء في الحوار بين الثقافات، نقد التكنولوجيا، أو إصلاح التعليم. ومع ذلك، تواجه هذه المقاربة تحديات تتعلق بالنسبية والمحدودية الثقافية، مما يتطلب تكييفها لتكون أكثر شمولية في سياق عالمي. يظل إرث رورتي دعوة لإعادة التفكير في الفلسفة كممارسة ثقافية حية، قادرة على إلهام التغيير الاجتماعي والسياسي في عالم متغير.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

...................................

الاحالات والهوامش:

[1] Rorty, Richard. Philosophy and the Mirror of Nature. Princeton University Press, 1979, pp. 3-12.

[2] Rorty, Richard. Consequences of Pragmatism. University of Minnesota Press, 1982, pp. 139-160.

[3] Rorty, Richard. Contingency, Irony, and Solidarity. Cambridge University Press, 1989, pp. 73-95.

[4] Ibid., pp. 44-69.

[5] Rorty, Richard. Achieving Our Country: Leftist Thought in Twentieth-Century America. Harvard University Press, 1998, pp. 89-104.

[6] Putnam, Hilary. Realism with a Human Face. Harvard University Press, 1990, pp. 19-40.

[7] Ibid., pp. 41-60.

[8] Safranski, Rüdiger. How Much Globalization Can We Bear?. Polity Press, 2005, pp. 56-78.

[9] Rorty, Richard. Contingency, Irony, and Solidarity. Cambridge University Press, 1989, pp. 189-198.

[10] Rorty, Richard. Philosophy as Cultural Politics. Cambridge University Press, 2007, pp. 45-67.

[11] Rorty, Richard. Achieving Our Country. Harvard University Press, 1998, pp. 120-135.

يختلف مفهوم النشوة فلسفيا حسب السياق الثقافي والفكري، تشير النشوة أحيانًا الى حالة من الوعي المرتفع أو التجربة المتجسدة، حيث يشعر الانسان بالتحرر من القيود اليومية، يمكن أن تكون نتيجة للتأمل، الفن، أو التجارب الروحية .في الفلسفة اليونانية تعتبر النشوة تجربة قريبة من الكمال أو الجمال المثالي، حيث يُشعر الفرد بالارتباط بالعالم المثالي، الرواقيون يرون النشوة كحالة من الهدوء الداخلي، حيث يحقق الفرد توازنًا بين العقل والعاطفة، مما يؤدي إلى شعور بالسعادة والسلام الداخلي، فلاسفة اخرون يعتبرون النشوة تجربة مرتبطة بالفضيلة، حيث تأتي من الالتزام بالمبادئ الأخلاقية، في الفلسفات الحديثة، تُعتبر النشوة جزءًا من التجربة الإنسانية المعقدة، حيث تناولوا العلاقة بين النشوة واللذة، والمعنى، والغرض، لذا النشوة تحمل معانٍ متعددة، ترتبط بتجارب شخصية، روحية، وفلسفية كما تعكس هذه المفاهيم التفاعلات المعقدة بين العقل، العاطفة، والتجربة الإنسانية.

الفلسفة الوجودية ومفهوم النشوة

الفلسفة الوجودية تقدم تفسيرًا فريدًا لمفهوم النشوة، حيث تركز على التجربة الفردية والمعنى الشخصي. تعتبر النشوة تجربة شخصية تعكس حالة من الوعي الذاتي للوجود. يرتبط الشعور بالنشوة بتحقيق الذات والتواصل مع العالم، تعزز الفلسفة الوجودية فكرة أن النشوة تأتي من قبول الفرد لحرية اختياراته. هذا الوعي بالحرية يمكن أن يؤدي إلى شعور عميق بالفرح أو النشوة، فلاسفة وجوديون مثل جان بول سارتر وألبير كامو يرون أن مواجهة العبث وعدم المعنى يمكن أن تخلق لحظات من النشوة، حيث يجد الأفراد معنى في حياتهم رغم الفوضى، يركز الوجوديون على أهمية التجارب الحقيقية، مثل الحب، الفن، أو الطبيعة، كوسائل لتحقيق النشوة. هذه التجارب تعزز الارتباط بالعالم وتمنح الحياة معنى، النشوة تُعتبر حالة من الوعي الكامل باللحظة الحالية، حيث يتجاوز الشخص القلق حول المستقبل أو الندم على الماضي، في الفلسفة الوجودية، تُفهم النشوة كحالة تتعلق بالحرية، التجربة الفردية، والبحث عن المعنى في عالم معقد. هي لحظة من الارتباط العميق بالوجود، تتجاوز القيود التقليدية وتحتفل بالحياة.

القلق الوجودي والوصول إلى النشوة

القلق الوجودي يلعب دورًا مهمًا في مفهوم النشوة في الفلسفة الوجودية. القلق الوجودي ينشأ من الوعي بالحرية والمسؤولية. هذا الوعي يمكن أن يؤدي إلى شعور بالضياع، ولكنه أيضًا يفتح الأبواب أمام تجارب جديدة ونشوة حقيقية، من خلال مواجهة العبث، يمكن للأفراد أن يجدوا معنى شخصيًا، مما يؤدي إلى لحظات من النشوة، القلق الوجودي يمكن أن يعمل كدافع للتحول والنمو عندما يشعر الأنسان بالقلق حيال وجوده، يسعى الى استكشاف تجارب جديدة، مما يؤدي إلى النشوة، من خلال التعامل مع القلق يمكن للإنسان أن يكتشف جمال اللحظات الحقيقية في الحياة. هذه التجارب، مثل الحب والفن تؤدي إلى شعور عميق بالنشوة وتدفع الأنسان الى تحرير نفسه من القيود الاجتماعية أو النفسية. هذا التحرر يمكن أن يؤدي إلى شعور قوي بالنشوة، حيث يشعر الانسان بأنه يعيش حياته بشكل كامل لذا يُعتبر القلق الوجودي جزءًا أساسيًا من التجربة الإنسانية، ويمكن أن يكون دافعًا للوصول إلى النشوة من خلال مواجهة العبث، استكشاف الذات، وإيجاد المعنى.

مفهوم النشوة في الفلسفة اليونانية

الفلسفة اليونانية (أفلاطون وأرسطو)

النشوة كمعرفة عند أفلاطون، تُعتبر النشوة تجربة مرتبطة بالتواصل مع المثل العليا، حيث يشعر الانسان بالارتباط بالعالم المثالي. بينما أرسطو يراها جزءًا من تحقيق الفضيلة والسعادة من خلال العيش وفقًا للفضائل، تركز هذه الفلسفات على العقل والمعرفة كوسائل للوصول إلى النشوة، الرواقيون يرون النشوة كحالة من الهدوء الداخلي والسكينة، تأتي من التحكم بالعواطف والتوازن بين العقل والعاطفة. أبيقور يعتبر النشوة تجربة مرتبطة باللذة، حيث يمكن تحقيقها من خلال تجنب الألم والبحث عن المتعة الفكرية.

النشوة بديلا عن مفهوم اللذة والسعادة

يمكن لمفهوم النشوة أن يكون بديلاً عن مفهوم اللذة والسعادة، وكل منها يحمل دلالات مختلفة. النشوة تُعتبر تجربة عميقة تتضمن الوعي الذاتي والارتباط بالعالم، وغالبًا ما تأتي من تجارب ذات معنى، مثل الفن، الحب، أو التأمل، اللذة تركز عادةً على المتعة الحسية أو العاطفية، وقد تكون سطحية أو قصيرة الأمد، في الفلسفة الوجودية، يمكن أن تأتي من مواجهة القلق والعبث، مما يؤدي إلى إحساس بالتحرر والمعنى، عادة ما تُعتبر حالة دائمة أو هدفًا يسعى الأنسان لتحقيقه، وقد تكون مرتبطة بتحقيق رغبات أو متطلبات معينة بذلك يمكن أن تكون لحظات مستدامة ولكن مكثفة، تعكس تجربة إنسانية ثرية، اللذة والسعادة غالبًا ما تُعتبر حالات ذات طابع أكثر استمرارية ظاهريا، ولكنها تكون أيضًا عرضة للتقلبات، النشوة ترتبط بالبحث عن المعنى والحرية، مما يجعلها تجربة شخصية فريدة، اللذة والسعادة تُعتبر أكثر ارتباطًا بالتجارب المادية أو الاجتماعية، و تكون أقل ارتباطًا بالمسؤولية الذاتية بينما يمكن لمفهوم النشوة أن يكون بديلاً عن اللذة والسعادة، حيث يقدم تجربة أكثر عمقًا ومعنى، تتجاوز المتع السطحية. النشوة تعكس الارتباط الذاتي بالعالم وتجربة الوجود، مما يجعلها تجربة متميزة في السياق الفلسفي.

النشوة والسعادة من منظور علم النفس

النشوة والسعادة هما مفهومين نفسيين لهما دلالات مختلفة. النشوة تُعتبر حالة من الارتفاع العاطفي المكثف، وغالبًا ما تحدث نتيجة تجارب استثنائية أو عميقة، مثل الإبداع، الحب، أو التأمل السعادة تُعرف عادةً بأنها حالة مستمرة من الرضا والراحة النفسية، وهي نتيجة لتوازن العوامل النفسية والاجتماعية، النشوة تنشأ غالبًا من تجارب فريدة أو محفزات قوية، مثل الفنون، الطبيعة، أو اللحظات الروحية، السعادة يمكن أن تأتي من عوامل متعددة، مثل الإنجازات، أو السلام الداخلي، النشوة يمكن أن تؤدي إلى استجابة جسدية قوية، مما يؤدي إلى شعور بالتحرر والفرح، السعادة ترتبط عادةً بتوازن كيمياء الدماغ، النشوة تُعتبر تجربة ذات مغزى وعميق، يسعى الأفراد لتحقيقها، ترتبط النشوة بتجارب عاطفية مكثفة، ترتبط بحالة مستمرة من الرضا.

النشوة واللذة والسعادة في الفكر المتطرف

يشعر الأفراد في الجماعات المتطرفة بنشوة نتيجة الانتماء إلى فكرة أو عقيدة يعتقدون أنها تمثل الحق المطلق. هذا الانتماء يعطيهم شعورًا بالتميز والخصوصية، البعض يجدون لذة في ممارسة القوة والسيطرة على الآخرين، الفكر المتطرف يمكن أن يوفر للناس إحساسًا بالقوة من خلال التهديد أو العنف ويشعر الأفراد في هذه الأيديولوجيات بسعادة مؤقتة نتيجة تحقيق أهدافهم، لكن هذه السعادة غالبًا ما تكون سطحية وغير مستدامة، لأنها ترتبط بالعنف والعداء. توفر الجماعات المتطرفة هوية قوية، مما يجعل الأفراد يشعرون بالسعادة نتيجة الانتماء إلى مجتمع يشاركهم نفس القيم والأفكار، بعض الأفراد يعتقدون أن أفعالهم المتطرفة هي وسيلة لتحقيق العدالة أو التغيير الاجتماعي، مما يمنحهم شعورًا بالرضا عن النفس، يمكن أن ترسم هذه الجوانب صورة معقدة حول كيف يمكن للفكر المتطرف أن يثير مشاعر النشوة واللذة والسعادة، رغم الأضرار والآثار السلبية التي تنجم عنه، لكنها يمكن أن تؤدي مشاعر النشوة واللذة والسعادة المرتبطة بالفكر المتطرف إلى إدمان هذا الفكر، يؤدي الانغماس في الفكر المتطرف إلى عزل الأفراد عن المجتمع، مما يجعلهم يعتمدون بشكل أكبر على الجماعة المتطرفة لتلبية احتياجاتهم العاطفية والاجتماعية، عندما يشعر الأفراد بالسعادة أو النشوة نتيجة أفعالهم المتطرفة، يصبح هذا السلوك معززًا إيجابيًا، مما يدفعهم للمزيد من الانخراط في تلك الأفكار وذلك بتشكيل نمط من الاعتماد العاطفي والسلوكي، مما يجعل من الصعب على الأفراد الخروج منه.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

 

هل المعاناة شيء يعيقنا ام انها تساعد على المضي قدما؟ شوبنهاور يبحث عن حل للمأزق، بينما نيتشه يصر باننا نستطيع استخدامها بطريقة فعالة. هل الحياة تثقلنا، ام انها مغامرة يجب القبول بها؟ نيتشه وشوبنهاور يختلفان بعمق حول معنى الوجود وطبيعة المعاناة الانسانية. شوبنهاور، المتشائم أصلا، اعتقد ان الحياة وبشكل حتمي جلبت لنا الألم والعذاب وان أحسن طريقة للتعامل معها هو ان نتجنب الارتباط بهذا العالم وبؤسه. نيتشه اقتنع بنصف الكأس المملوء. هو اعتقد ان المعاناة ضرورية لتحفيز الذات على التطور: "ما لا يقتلك يجعلك أقوى". لنستطلع الان أفكار كلا الفيلسوفين.

تشاؤمية شوبنهاور: الحياة كمعاناة

لو تتخيّل الوجود كدائرة لامتناهية من الرغبات. انت دائما تسعى نحو شيء ما، لكن بمجرد حصولك عليه ستحل رغبة اخرى محل الاولى. هذه رؤية شوبنهاور حول العالم. جوهر فلسفته هي الرغبة: دافع أعمى غير عقلاني يحفز كل الاشياء الحية. نحن نعتقد اننا نتصرف لأسباب جيدة، لكن في الحقيقة نحن فقط نطيع أوامر هذه القوة الخارجة عن السيطرة، التي لا يمكن إشباعها ابدا، وبهذا نحن دائما نريد الكثير.

بالنسبة لشوبنهاور، المعاناة تعرّف واقع الانسان. صحيح، نحن نستطيع احيانا ان نكون سعداء – لكن هذا الشعور سوف لن يستمر، في أفضل الاحوال، سيكون انقطاعا مؤقتا في نوع معين من الألم بانتظار وصول ألم جديد.

لننظر في الجوع: انت تتناول طعام وتشعر بالرضا، لكن بعد وقت قصير ستعود الآلام. الان تخيّل هذا النموذج يحدث في جميع رغبات الانسان نحو (الحب، النجاح، الأمن): الحياة تصبح تمرينا في الشعور بالاحباط. كيف يمكننا الخروج من هذا المأزق؟ شوبنهاور اقترح ثلاثة مسارات:

1- الزهد – التخلي عن الرغبات (كما يفعل الرهبان).

2- الفن والموسيقى – الانغماس لحد الضياع في شيء جميل ينسى فيه المرء ذاته ولو مؤقتا.

3- التعاطف compassion – ادراك ان كل فرد مبتلى بالرغبات ومن الافضل المساعدة ليعم الخير ويصبح الجميع في أفضل حال.

في البوذية، هناك النيرفانا وهي بلوغ حالة تزول فيها الرغبة. هذه تشبه الحالة عند الرواقيين عندما ذكر ماركوس ارليوس ان المرء يجب ان لا يكون مختلفا في أي شيء عدى الفضيلة.

لكن على خلاف اولئك الفلاسفة في العصور القديمة، شوبنهاور لا يقدم رسالة مبهجة حول الطريقة التي نكون بها سعداء، يقدم فقط افكار حول كيفية الفهم الأفضل للمعاناة والغاية منها.

تأكيد نيتشه: الحياة كإرادة للقوة

اعتقد شوبنهاور ان المعاناة يجب تجنبها مهما كانت الكلفة طالما هي توقعنا في الفخ. نيتشه رفض ذلك: هو اعتقد ان الألم احيانا يكون مفيدا بل وضروريا.

الرياضي يشعر بعدم ارتياح شديد اثناء اللعب لكنه يستمر لأنه يريد الفوز، الفنان يشعر بحزن كبير لكنه يستعمله لخلق شيء جميل. بالنسبة لنيتشه، ايضا، المعاناة شيء ثمين: لأنه من خلال العمل في تجارب شاقة، يصبح المرء شخصا أفضل.

نيتشة لا يعتقد ان الناس يجب ان يرفضوا الحياة ويفضلوا التعاسة على نيل هدف معين (موقف الزهد). لكنه ايضا لم يكن مهتما في التظاهر ان كل شيء على ما يرام. هو اعتقد ان الفن العظيم يمكنه ان يبيّن وحشية الواقع، ولايزال يجعل الحياة تستحق العيش.

هو اعتقد ان شوبنهاور كان سلبيا جدا. الحياة ليست ان تكون منفصلا وانما في البقاء مشاركا، تقبل الصراع ولديك رأي في التعامل مع الاشياء. نيتشه طرح سؤالا: هل تريد ان تتجنب المعاناة، ام تريد ان تكون جيدا في التعامل معها؟ رؤيته الخاصة قوية وواضحة: الناس الذين يعيشون حياة مقنعة لا يترددون في مواجهة التحديات. هم يأخذونها على محمل الجد.

الأخلاق ومشكلة التعاطف

عندما نأتي الى الاخلاق، يقول شوبنهاور ان هناك فقط شيئا واحدا جيدا: العاطفة (هو اسماها Mitleid). اذا انت تريد ان تعيش حياة جيدة، هو اعتقد، يجب ان تكون رقيقا عندما يعاني الاخرون من ألم.

لأنه اذا كان كل الناس يهتمون بانفسهم، عندئذ لا احد يساعد الاخر، وسينتهي بنا الامر نعيش في تعاسة اكبر. لكن التصرف بدافع الاهتمام بالاخرين يمكن ان يربطنا معهم، وان تقاسم المعاناة هو أقل سوءا من الذهاب معها وحيدا. هذه الطريقة في النظر الى الاشياء لها بعض الارتباطات مع الاخلاق البوذية . نيتشه ربط هذا النقد بالمسيحية، زاعما ان الاخلاق المسيحية صُممت لتمجيد الضعف: انها "اخلاق العبيد".

هو ما كان يرغب ان يرى الناس يشعرون بالاسف تجاه بعضهم – الشعور الذي ربطه بالايمان برحمة الله. هو اراد الافراد ان يتخلوا عن فكرة الشفقة وبدلا من ذلك يحفزوا انفسهم والاخرين "ليصبحوا هم كما في ذاتهم".

اليوم، نرى نفس الشكل لكن بتعبيرات أكثر أهمية: هل يجب على الناس جعل الاشياء افضل لاولئك الذين في الأسفل (رؤية شوبنهاور حول الرفاهية) ام تشجيع الناجين على التفوق؟ (انه يبقى سؤالا مفتوحا في السياسة، والمساعدة الذاتية، وحقول اخرى).

الفن ودور الجماليات

نظر شوبنهاور للفن باعتباره اكبر من مجرد وسيلة للتعبير عن الجمال. هو يراه ايضا طريقة للهروب. بما ان التجربة ذاتها مليئة بالألم، كما اوضح، فان المرء يستطيع فقط العثور على الراحة عبر تحرير نفسه مؤقتا من الاضطراب الدائم للرغبة الكونية. متى مانستمع للموسيقى، ندرس اللوحة، او نقرأ القصيدة، نحن نلمح شيئا أعمق: الحقيقة التي تكمن وراء رغباتنا واحباطاتنا اليومية.

هو اُعجب خصيصا ببيتهوفن لخلقه أعمالا ذات قوة مذهلة تحمل الذهن الانساني خارج الاهتمامات اليومية – ولو لفترة قصيرة. نيتشه كانت له رؤية مختلفة. الفن، كما يرى، يجب ان لا يكون حول الهروب من صعوبات الحياة. بدلا من ذلك، يجب التعامل مع الصعوبات وجه لوجه واعطائها معنى. في النهاية الفن العظيم حقا لا يحمينا من قسوة العالم، بل يمكّننا من مواجهة ما هو مروّع بطريقة نستطيع ان نتماشى معه.

هو كان من محبي التراجيديا اليونانية، التي لم تُنكر فيها المعاناة وانما جرى استطلاعها كمظهر اساسي للحياة. التراجيديا لا تبيّن لنا طريقا للخروج، انها تبيّن لنا كيف نواجه الحياة بشجاعة. كان ريتشارد واغنر Richard Wagner هو عازف نيتشه المفضل، خاصة في الاوبرا المبكرة، حيث القوة، الصراع، والبطولة التي جرى التعبير عنها عبر الموسيقى. أعمال واغنر، طبقا لنيتشه، هي توضيحات غير مشوهة لإرادة القوة: انها تحتفل بالحياة بكل شغفها.

لذا، هل يجب ان يقدم الفن ملاذا من المعاناة (كما يعتقد شوبنهاور) – ام انه يساعدنا لتحويل المعاناة الى شيء ما نحتفل به (كما يرى نيتشه)؟ جدالهما لازال يؤثر في ما اذا كنا نعتقد اليوم ان الموسيقى والادب والابداع يجب ان تريحنا ام تتحدانا.

السؤال النهائي: احتضان الحياة ام الهروب منها؟

في جوهر النقاش حول نيتشه مقابل شوبنهاور يبقى سؤالا واحدا شموليا: هل يجب ان نؤكد ونقبل الحياة، ام يجب ان نتغلب عليها ونتركها خلفنا؟ شوبنهاور يرى ان الكائن المتنور يجب ان ينسحب من العالم. طالما ان العالم مليء بالمعاناة فان أفضل شيء يمكن عمله هو فك الارتباط بالرغبة، وعدم الكفاح، وعدم المنافسة. الرهبان الزاهدون والصوفيون الذين تخلوا عن الملذات الدنيوية كانوا المثال الرائع له . بالنسبة له، الوجود ليس شيئا يجب التغلب عليه، انه اكثر من شيء يمكن فك التشابك معه. نيتشه عارض تماما اتجاهه السلبي. بدلا من تجاهل الوجود، حسب قوله، الشخص الأقوى يحتضن محنه وانتصاراته. الكفاح هو الذي يحصّن، والألم ليس لعنة وانما مصدر للنمو. ولكي يختبر هذا، اخترع نيتشه فكرة العود الابدي: اذا كانت كل حياتك يجب ان تُعاش مرة بعد مرة، وبالضبط  في نفس الشكل، والى الابد هل ستكون مسرورا بذلك؟ اذا كان الجواب كلاّ، عندئذ فان شيئا ما يحتاج تغيير – نحن يجب علينا اعادة تشكيل حياتنا بحيث نحبها الى الابد.

هذا التباين بين الفيلسوفين يعرّف رؤيتيهما:

1- زهد شوبنهاور = التخلي عن الرغبة، السلام، وعدم المشاركة

2- بطولة نيتشه  = الكفاح، السيطرة، والتجاوز

اذن، ما هي طريقة الاختيار؟ التخلي ام الاحتضان. هذا هو أعظم مأزق تركاه لنا.

الإرث والتأثير: اي رؤية هي الفائزة؟

شوبنهاور ونيتشه كلاهما تركا تأثيرا دائما على الفلسفة، لكن العالم الاوسع تأثر بميراثهما بطرق مختلفة. فرويد كان قد تأثر بعمق بشوبنهاور. هو طور علم النفس انطلاقا من فكرة ان الكائن البشري مندفع برغبات لاواعية، مشابهة للرغبة العمياء لشوبنهاور. واغنر وجد فكرة شوبنهاور في ان الموسيقى يمكن ان تسمح للناس بإلقاء لمحات وراء المعاناة فكرة ساحرة – ألهمت أعظم أعمال الاوبرا. تولستوي والمفكرون الغربيون الذين تأثروا بالبوذية ايضا احتضنوا تشاؤمية شوبنهاور: الايمان باننا نعيش في أسوأ عالم ممكن . البعض يرى ان الانفصال عن الرغبات كطريق للحكمة. في الفن، يمكن النظر الى تأثيره في الاعمال البسيطة minimalist works التي تركز على الجمال ولا تهتم كثيرا في العالم التي حولها.

تشاؤميته الفلسفية التي يتردد صداها اليوم، قادت العديد للبحث عن سلام داخلي (عادة من خلال التأمل)، الابتعاد عن الاستهلاكية، او احتضان العزلة.

لكن نيتشه كان له تأثيرا أكبر على العالم الذي نعيش به اليوم. افكاره حول التغلب على الذات، كونك فرد، وخلق قيم جديدة كان لها التأثير الكبير على الوجودية (سارتر وكامو) وما بعد الحداثة (فوكو ودولوز) – حتى اشخاص مثل خبراء المساعدة الذاتية او مدراء القيادة مدينون له.

 ربما هما صائبان كلاهما. هذه الايام، هل لانزال نؤمن ان المعاناة شيء يمكن التخلص منه بكل ثمن، ام انها اصبحت مجرد تحدّ آخر قد يكون مفيدا لنا؟

بالنهاية، انت فقط منْ يقرر كيف تعيش مع الحقائق غير المريحة التي نواجهها اليوم. هل تريد ان تكون مثل شوبنهاور وتحاول العثور على الهدوء (بينما تتجنب معظم الاشياء)؟ ام تتبنّى رؤية نيتشه: تحتضن الحياة بكل ما فيها من فوضى وتحاول خلق شيء هاما؟

***

حاتم حميد محسن

.......................

The collector: July21, 2025

حين تستيقظ الذات على تكرارها

ليست العادة مجرد تكرار ميكانيكي لأفعال يومية، بل هي خيط دقيق ينسج الكينونة داخل الزمن ويمنح الحياة شكلًا يمكن احتمالُه. العادات التي نظنّها بسيطة، كشرب القهوة أو الكتابة أو المشي، تختزن في عمقها دلالة وجودية، لأنها محاولات دؤوبة لترميم الذات أو تأجيل تفككها. من هنا تصبح العادة شكلًا من أشكال المقاومة الصامتة للعدم، واستراتيجية للتموضع في العالم، يلتقي فيها الفلسفي بالأنثروبولوجي، والوجودي بالاجتماعي.

العادة.. حضور متجسد للزمن في الجسد

يرى مارتن هايدغر أن الكينونة لا تُفهم إلا من خلال “الوجود في العالم”، حيث يتحقق الزمن كخبرة معاشة، كما أشار في كتابه الوجود والزمان. في هذا السياق تغدو العادة طقسًا زمنيًا يكرّس الجسد كذاكرة تتكرر، وكأن الإنسان يعيد كل صباح بناء وجوده من خلال ما اعتاده. فشرب القهوة مثلًا ليس ترفًا، بل عودة إلى الذات، إلى تموضعها داخل إيقاع مألوف تعيد به تعريف كينونتها. ولهذا قال هايدغر إن “الوجود الإنساني هو وجود منفتح على الزمن، والطقوس اليومية ليست إلا تجليًا لهذا الانفتاح”

سوسيولوجيا التفاصيل الصغيرة.. العادة كحامل للمعنى

كما يرى ميشيل دي سيرتو، فإن الممارسات اليومية تشكل نوعًا من “التكتيك” الذي يمارسه الأفراد داخل النسق الاجتماعي من أجل خلق حيز من الحرية. فالعادات ليست مجرد طاعة بل مقاومة صامتة، تُمارَس داخل حدود المألوف لتوليد ذاتية مبدعة. حين نكتب أو نعدّ الشاي بطريقة خاصة، نحن لا نكرر فقط، بل نستعيد السيطرة على تفاصيل الحياة. ولذلك ذكر دي سيرتو في اختراع الحياة اليومية أن “العادة اليومية هي شكل من أشكال التعبير عن الذات داخل فضاء اجتماعي تُرسم حدوده خارجيًا”

الكتابة عادة.. حين تُصبح الحروف بيتًا للوجود

الكتابة بالنسبة لمن يمارسها ليست مجرد تقنية بل فعل وجودي، طقس متجدد تنبع فيه الذات من ذاتها. حين تجلس الذات أمام الورقة كل صباح، فهي تعيد سرد كينونتها بلغة جديدة، تواجه بها العدم، وتضمد بها هشاشتها. وقد رأى رولان بارت في الكتابة “حالة من التطهير”، كما ذكر في كتابه متعة النص، مؤكدًا أن اللغة لا تُستخدم فقط للتعبير، بل للمقاومة لذلك قال: “الكتابة ليست مجرد أداة، بل طقس من طقوس العبور نحو الذات”

العادة بين الانغلاق والخلق.. مفارقة الطقس اليومي

غير أن العادة، كما أشار إليها نيتشه، تحمل في ذاتها تناقضًا بنيويًا: فهي من جهة تعيد ترتيب الفوضى، لكنها من جهة أخرى قد تُغلق الأفق على الذات. فالاعتياد اليومي قد يُغرق الإنسان في تكرار يفقده ذاته، كما كتب في هذا هو الإنسان. لكنه أيضًا يرى أن تجاوز هذا التكرار لا يتم إلا من داخله، كما لو أن الإنسان يحتاج إلى العادة كي يخلق من داخلها فعلًا حرًّا. ولهذا حذر قائلًا: “احذروا العادة، فهي قد تُصبح سجنًا إن لم تحولوها إلى رقص”

حين تُصبح العادة تجسيدًا للحرية

تقدّم العادة نفسها كوسيلة لترسيخ وجود الإنسان في العالم، فهي لا تعارض الحرية بل تُنظّمها. في عالم متسارع ومفكك، تسمح الطقوس الصغيرة بتأسيس بنية نفسية ـ اجتماعية تحفظ الذات من التفكك. إنّ العادة ليست فعلًا هامشيًا بل شرط للكينونة اليومية، حيث تتجلى الحياة بأبسط صورها وأكثرها عمقًا. فالطقوس التي نظنها تكرارًا، كالمشي أو تحضير القهوة أو الكتابة، ما هي إلا إعلانٌ متجدد للوجود. إنها تقول للكون: نحن هنا، نعيد كل صباح ترميم ذواتنا بفعل نحفظه ونحبّه، ونقاوم به العدم.

***

د. آمال بوحرب 

(القوة الناعمة تضمن إجبارا وإلزاما غير مباشرين على التغيير، قد تعجز القوة الصلبة على القيام به. والقوة الناعمة ليست دعاية سياسية، ولكنها سجال عقلي يهدف إلى التأثير على الرأي العام وتحديثه. فخطورة الإعلام تكمن في القدرة على التأثير وبلورة الفكر، الذي يتحكم في تصرفاتنا ويعدل أفكارنا ويجعلنا نقتبس أحيانا مالا يلائمنا ولا يتوافق مع عاداتنا وتقاليدنا، استجابة لطبيعة المرحلة)... ميشيل فوكو

يخوض تأويل الظاهرة العصبية الاضطرابية، أو ما يسمى لدى علماء العلاج السلوكي والمعرفي ب(الميسوفونيا)  لدى الشعوب المسحوقة بتصادمات الحروب وانفعالاتها الداخلية، في حيز زمني، يقصر أو يطول، حسب الآفات والتوابع والإفرازات المستتبعة لها، (يخوض) نقاشا محموما حول التقائيته بالمآلات الحربية وجنون البشرية، أو ما يسميها كلاوزفيتز تحديدا ب"غوغائية الحرب"، وما ينتج عنها من ارتدادات تتعلق أساسا بالأخلاقيات والعدالة التناسبية، وتحرير السلطة من وازع الانتقام والحقد وتشويه الحقيقة.

وتثير (الميسوفونيا) كمعيار نفسي اجتماعي وثقافي، في ارتباطه بالواجهة المقيدة للحروب، انشغالات ثاوية في صلب تعاطي الإعلام مع الأزمات المكرسة للفوارق الاجتماعية، واستهدافاته لنظم المعرفة والأخلاق وقيم الإخلاص للهوية والانتماء.

إن الحروب الجديدة الآن، وكل النزاعات المسلحة التي تشكل بؤرا حامية على طول وعرض الكرة الأرضية، هي بالأساس حروب اقتصادية وتجارية وتكنولوجية، خارج الأنظمة البشرية والقانون الدولي والقضاء. تقوم على فلسفة الهجوم وإعلام "القطيعة الثقافية" والاجتماعية والنفسية المشبعة بامتدادات السياسة، حيث يغيب منطق الأخيرة ويستوعب اقتيادا مغايرا لنشر الأخبار الزائفة،"The Fake News" ، باعتبارها سلاحا فتاكا منذورا لتحطيم الوعي الإنساني واستقرار وأمن المجتمعات.

يكرس هذا المنحى، بروز دراسات تخصصية في "ميسوفونيا الحرب الإعلامية" الجديدة، تقودها أجهزة اختراقية دقيقة، وجيوش إلكترونية جرارة، يكون منتهى أعمالها، هو تأبيد الاستراتيجيات المحاصرة للأمن والسلم الاجتماعيين، مع استمرار توتير الخلفيات الأساسية لوقوع الأزمات وانتشارها على نحو يقطع مع التفكير الجماعي واليقظة المجتمعية، والتركيز المستقبلي.

وتتحوز "الميسوفونيا" تلك، على أنماط إبدالية مخالفة للسياقات المرصودة، تستأثر على مواقع ودراسات ترصد أسئلة الإعلام، ليس فقط في الذهنيات التي تخوض رهاناتها من داخل الثكنات الحربية، فهذه تعمل على إنشاء وحدات استراتيجية لدراسة شروط إنتاج المعلومات قبل وأثناء وبعد النصر، لا سيما وأن استخدام الرقابة الشاملة في مجتمعاتنا الديمقراطية أصبح غير مقبول وأكثر تكلفة على المستوى السياسي من نفعه العسكري ولكن، أيضا من خارج السياق الحربي، في إدارة وسائل الإعلام للنزاعات، بتحديد عناصر الاستمرارية وعوامل التغيير، ومراعاة بُعدي العلاقة التي تجمع حاليًا بين الحروب ووسائل الإعلام، أي الجيش والصحفيين.

ويرى علماء الاجتماع، أن استخدام القوة يعني شنّ حرب على وسائل الإعلام، لا يمنع من شنّ الحرب من خلالها، أو من خلال الدعاية المباشرة، أو من خلال التحكم في التمثلات التي تنقلها. في أوقات الحرب، حيث يصبح مفهوم الصحافة الحرة، الذي يُكلّف الصحفيين المستقلين بمهمة البحث عن المعلومات أو الصور التي قد تكون مخفية، أمرًا لا يُطاق بالنسبة للسلطات المدنية والعسكرية.

ومجال حظر معلومات عن الحرب، هو بالأساس انسياق خلف أيديولوجية معينة، وإخلال بمنظومة نشر "المعلومات" دون فرض رقابة صارمة على المحتوى. وفي ذلك تصريح مباشر بإبعاد الصحفيين على الأرض عن العمليات، وبالتالي استخدام مبرم للصحافة في لنقلها خطابات الدعاية، بعد إخضاع رموزها وعلاماتها للرقابة وتعرض الصحفيين للترهيب. ولا يزال هذا هو الحال اليوم في العديد من الوضعيات، وليس آخرها الحرب الإبادية على غزة، حيث تمارس وسائل الإعلام التابعة أو المدجنة، وبخليفات سياسية وتجارية ولا أخلاقية، أعمالا مخلة بالأخلاقيات ومشوهة للمعلومات والمعطيات على الأرض. ومن خلالها يتم التغطية على الجرائم الحربية المرفوضة أمميا والمعاكسة لأدنى حقوق الضحايا والأبرياء المدنيين والجوعى والمعطوبين والمقبورين تحت الأنقاض ؟.

إن الحرب الإعلامية، أو "ميسوفونيا" الدعاية، كما يحلو للباحث الفرنسي أرنو مرسييه (أستاذ الاتصالات بجامعة باريس بانتيون)، أن يسميها، هي جزء من العمل الاتصالي المرتبط بنظم الإعلام واقعًا من وقائع الحرب، مندمجة بالعقائد العسكرية كأهداف قائمة بذاتها. ينتج عنها تفكيك لقيم الإعلام النبيلة، كما تحددها الأكاديما أو الثقافة التي توظفها في الأدوات الفكرية المشروعة والإنسانية. وهي على هذا المنوال، تشكل بحضورها الإكراهي الجديد حالة ناشزة في أفق التعتيم والتحول الذي أضحى حقل المعلومات يشهده، تحت نظر تسارع تسلط التكنولوجيات العالية، وتغول جغرافية الذكاء الاصطناعي، وتنامي مخاطره على الأسرة والمدرسة والثقافة المجتمعية.

من أجمل ما قرأت في هذا المجال كتاب متفرد للفيلسوف والمفكر الأمريكي نعوم تشومسكي "السيطرة على الإعلام"، يستحضر فيه الوجه الآخر للإعلام المتواري خلف واقع يعري الصورة الحقيقية والمتوحشة للإعلام الأمريكي، في انتفاء لوصل الصور التي يزينها للناظرين، ولكنها تعكس الفارق والجوهر الحقيقان بالمعرفة والكشف، وكيف أن الدعاية أو البروبجندا هي السلطة المستحوذة على الشارع أو الرأي العام.

يستعرض تشومسكي في كتابه أيضا، في واحدة من أبلغ الاستعارات السوسيولوجية، قصة الإعلامي القادم من المريخ، والذي أراد به أن يوجد فاعلا محايدا يتخذه حكما على تناقضات الولايات المتحدة الأمريكية في حربها على ما تزعمه " إرهابا"، بيد أنها تغظ الطرف عن جرائم ومذابح ضد الإنسانية كانت طرفا رئيسيا فيها، لتظهر نواياها المبيتة تحت غطاءِ هذا المبرر "السخيف" لشن حربها المُخطّطِ لها مسبقا مثلما فعلت مع ألمانيا والشيوعية. ومعها الآليات الدعائية التي تجمل لها أفعالها وتوطن بإزاء ذلك، لا محدودية المؤامرة، وانفضاح السياسات الأمبريالية تجاه أنظمة تم تبييؤها وشحنها لتكون وعاء للسيطرة والقوة فقط ؟.

***

د. مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

 

مقدمة: يُشكل محمد أركون (1928-2010) واحدًا من أبرز المفكرين العرب والمسلمين في القرن العشرين، حيث قدم إسهامات فكرية عميقة في دراسة التراث الإسلامي والفكر الديني من منظور نقدي ومعاصر. يتمحور مشروعه الفكري حول إعادة قراءة التراث الإسلامي بمنهجية نقدية تاريخية، تسعى إلى تحرير الفكر الإسلامي من التقليدية والجمود، وإعادة بنائه في ضوء التحديات المعاصرة. يهدف هذا البحث إلى تحليل منهجية محمد أركون ومشروعه الفكري، مع التركيز على أسسه النظرية، أهدافه، أدواته، وتأثيراته.

العنصر الأول: الإطار النظري لمنهجية محمد أركون

السيرة الفكرية لمحمد أركون

وُلد محمد أركون في الجزائر عام 1928، ونشأ في بيئة ثقافية متنوعة تجمع بين التراث الأمازيغي والإسلامي والاستعماري الفرنسي. درس الفلسفة في جامعة الجزائر ثم انتقل إلى فرنسا حيث حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون. تأثر أركون بمفكرين مثل ميشيل فوكو، جاك دريدا، ولويس ماسينيون، مما ساعده على صياغة منهجية نقدية تجمع بين التاريخانية والسيميائية والأنثروبولوجيا[1]

 أسس منهجية أركون

تعتمد منهجية أركون على ثلاث ركائز أساسية:

النقد التاريخي: يدعو أركون إلى دراسة النصوص الدينية والتراث الإسلامي في سياقها التاريخي والاجتماعي، لفهم الظروف التي أنتجتها. يرى أن النصوص الدينية ليست ثابتة، بل هي نتاج تفاعل مع الواقع التاريخي[2].

التحليل السيميائي: يركز أركون على تحليل اللغة والرموز في النصوص الدينية، معتبرًا أن المعاني ليست مطلقة، بل متغيرة حسب السياقات الثقافية والاجتماعية.

الأنثروبولوجيا التاريخية: يستخدم أركون الأنثروبولوجيا لفهم العلاقة بين الدين والمجتمع، مع التركيز على كيفية تشكل الوعي الديني في سياقات ثقافية محددة.

مفهوم "الإسلاميات التطبيقية"

ابتكر أركون مفهوم "الإسلاميات التطبيقية" كبديل للإسلاميات التقليدية التي يراها أسيرة المنظور الاستشراقي أو التقليدي. يهدف هذا المفهوم إلى دراسة الإسلام بمنهجية علمية متعددة التخصصات، تجمع بين التاريخ، اللسانيات، الأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، لفهم الظاهرة الإسلامية بطريقة ديناميكية وشاملة[3].

العنصر الثاني: مشروع محمد أركون الفكري

الأهداف الأساسية للمشروع

يسعى مشروع أركون إلى تحقيق الأهداف التالية:

تحرير الفكر الإسلامي: يدعو أركون إلى تحرير الفكر الإسلامي من الجمود العقائدي والتقليد الأعمى، من خلال إعادة قراءة النصوص الدينية بمنظور نقدي.

إعادة بناء الهوية الإسلامية: يرى أركون أن الهوية الإسلامية يجب أن تُعاد صياغتها في ضوء التحديات المعاصرة، مثل العولمة والحداثة.

مواجهة الهيمنة الثقافية: يسعى أركون إلى مقاومة الهيمنة الثقافية الغربية من خلال إحياء التراث الإسلامي بطريقة نقدية ومعاصرة[4].

تعزيز الحوار بين الثقافات: يدعو إلى حوار بين الحضارات يعتمد على التفاهم المتبادل واحترام التنوع.

المحاور الرئيسية للمشروع

نقد العقل الإسلامي: يركز أركون على نقد العقل الإسلامي التقليدي الذي يعتمد على التفسيرات الحرفية للنصوص. يقترح إعادة قراءة القرآن والسنة بمنهجية تاريخية وسيميائية[5].

إعادة قراءة التراث: يدعو أركون إلى دراسة التراث الإسلامي، بما في ذلك الفقه، الكلام، والفلسفة، بطريقة تكشف عن التنوع والديناميكية في التفكير الإسلامي.

التعامل مع الحداثة: يسعى أركون إلى التوفيق بين الإسلام والحداثة، من خلال تبني قيم الحرية، العقلانية، والديمقراطية، دون التخلي عن الهوية الإسلامية.

نقد الاستشراق: يرى أركون أن الاستشراق الغربي شوه صورة الإسلام، ويدعو إلى دراسة الإسلام من منظور داخلي يحترم خصوصيته الثقافية.

أدوات المشروع

التحليل التاريخي: دراسة النصوص والأحداث في سياقاتها التاريخية.

السيميائيات: تحليل اللغة والرموز في النصوص الدينية.

التعددية التخصصية: استخدام مناهج من الفلسفة، الأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع.

الحوار النقدي: فتح حوار بين المفكرين المسلمين وغير المسلمين لتعزيز التفاهم المتبادل.

العنصر الثالث: تطبيقات منهجية أركون في السياق العربي والإسلامي

إعادة قراءة القرآن

يرى أركون أن القرآن ليس مجرد نص ديني، بل هو ظاهرة لغوية وثقافية يجب دراستها في سياقها التاريخي. يدعو إلى تحليل القرآن باستخدام السيميائيات والأنثروبولوجيا لفهم كيفية تشكل معانيه في المجتمع العربي في القرن السابع الميلادي[6]. على سبيل المثال، يقترح دراسة مفهوم "الجهاد" لفهم تطوره التاريخي بدلاً من التفسيرات الحرفية.

نقد الفقه الإسلامي

يعتبر أركون أن الفقه الإسلامي أصبح أسير التقليد، مما أدى إلى جمود الفكر الديني. يدعو إلى إعادة النظر في الأحكام الفقهية في ضوء القيم الإنسانية المعاصرة، مثل المساواة بين الجنسين وحقوق الإنسان

التعامل مع التنوع الثقافي

يدعو أركون إلى احترام التنوع الثقافي داخل العالم الإسلامي، ويرى أن الإسلام ليس كتلة واحدة، بل هو ظاهرة متنوعة تتشكل حسب السياقات الثقافية والتاريخية

مواجهة التحديات المعاصرة

يطبق أركون منهجيته على قضايا معاصرة مثل الديمقراطية، حقوق الإنسان، والبيئة. يرى أن الفكر الإسلامي يمكن أن يساهم في هذه القضايا إذا تم تحريره من الجمود.

العنصر الرابع: تأثير مشروع أركون وانتقاداته

التأثير الفكري

إلهام المفكرين: ألهم أركون جيلًا من المفكرين العرب والمسلمين، مثل نصر حامد أبو زيد ومحمد شحرور، لتبني مناهج نقدية في دراسة التراث.

تطوير الإسلاميات: ساهم مفهوم "الإسلاميات التطبيقية" في إعادة تعريف دراسة الإسلام في الأوساط الأكاديمية.

تعزيز الحوار بين الحضارات: شجع أركون على الحوار بين الثقافات الإسلامية والغربية، مما ساهم في تقليل سوء الفهم.

الانتقادات

الاتهام بالعلمانية: يرى البعض أن نهج أركون يميل إلى العلمانية، مما يناقض التصورات التقليدية للإسلام. يرد أركون بأن منهجيته لا تهدف إلى إلغاء الدين، بل إلى تجديده[7].

التعقيد الأكاديمي: ينتقد البعض أركون لأن منهجيته معقدة وغير عملية للجمهور العام.

الابتعاد عن التراث: يرى بعض التقليديين أن أركون يبتعد عن التراث الإسلامي الأصيل، بينما يؤكد هو على ضرورة إحياء التراث بطريقة نقدية.

العنصر الخامس: التحديات والآفاق المستقبلية

التحديات

مقاومة التقليديين: يواجه مشروع أركون مقاومة من التيارات التقليدية التي ترفض النقد التاريخي للنصوص الدينية.

الهيمنة الثقافية الغربية: يواجه الفكر الإسلامي تحديات العولمة التي تفرض قيمًا غربية.

نقص المؤسسات الأكاديمية: غياب مؤسسات تدعم الإسلاميات التطبيقية يحد من انتشار مشروع أركون.

الآفاق المستقبلية

تطوير الإسلاميات التطبيقية: يمكن تطوير هذا المفهوم من خلال إنشاء مراكز بحثية متخصصة.

تعليم النقد التاريخي: إدخال منهجية أركون في التعليم العالي لتشجيع التفكير النقدي.

تعزيز الحوار بين الأديان: يمكن أن يلعب مشروع أركون دورًا في تعزيز التفاهم بين الأديان والثقافات.

الخاتمة

يمثل مشروع محمد أركون الفكري محاولة جريئة لإعادة قراءة التراث الإسلامي بمنهجية نقدية تاريخية، تهدف إلى تحرير الفكر الإسلامي من الجمود وإعادة بنائه في ضوء التحديات المعاصرة. من خلال مفهوم "الإسلاميات التطبيقية"، قدم أركون إطارًا متعدد التخصصات لفهم الإسلام كظاهرة ديناميكية. على الرغم من الانتقادات، فإن إسهاماته فتحت آفاقًا جديدة للتفكير الإسلامي، مما يجعله نموذجًا للمفكرين الذين يسعون إلى التوفيق بين الأصالة والمعاصرة. إن تطبيق منهجيته يتطلب دعمًا مؤسسيًا وتعليميًا لضمان استمرار تأثيره في المستقبل. فهل يبقى فكر محمد اركون راهنا؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.......................

الاحالات والهوامش:

[1]: أركون، محمد. (1990). الفكر الإسلامي: قراءة نقدية. بيروت: دار الساقي.

[2]: أركون، محمد. (1984). نقد العقل الإسلامي. بيروت: دار الطليعة.

[3]: أركون، محمد. (2001). الإسلاميات التطبيقية. ترجمة هاشم صالح. بيروت: دار الساقي.

[4]: أركون، محمد. (1992). تاريخية الفكر العربي الإسلامي. بيروت: مركز الإنماء القومي.

[5]: أركون، محمد. (1986). القرآن: من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني. ترجمة هاشم صالح. بيروت: دار الطليعة.

[6]: أركون، محمد. (2005). الإسلام: الأخلاق والسياسة. ترجمة هاشم صالح. بيروت: دار الساقي.

[7]: أركون، محمد. (1993). العلمنة والدين. ترجمة هاشم صالح. بيروت: دار الساقي.

المصادر والمراجع:

أركون، محمد. (1990). الفكر الإسلامي: قراءة نقدية. بيروت: دار الساقي.

أركون، محمد. (1984). نقد العقل الإسلامي. بيروت: دار الطليعة.

أركون، محمد. (2001). الإسلاميات التطبيقية. ترجمة هاشم صالح. بيروت: دار الساقي.

أركون، محمد. (1992). تاريخية الفكر العربي الإسلامي. بيروت: مركز الإنماء القومي.

أركون، محمد. (1986). القرآن: من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني. ترجمة هاشم صالح. بيروت: دار الطليعة.

أركون، محمد. (2005). الإسلام: الأخلاق والسياسة. ترجمة هاشم صالح. بيروت: دار الساقي.

أركون، محمد. (1993). العلمنة والدين. ترجمة هاشم صالح. بيروت: دار الساقي.

صالح، هاشم. (2010). محمد أركون: سيرة فكرية. بيروت: دار الطليعة.

 

منذ فجر الحضارة، شغل ثلاثيّة الدّين والفلسفة والعلم حيّزا مركزيّا في سعي الإنسان لفهم العالم والوجود، حيث تتقاطع هذه المجالات الثّلاثة في محاولتها للإجابة عن الأسئلة الكبرى المتعلّقة بالكون والحياة والمصير الإنساني، ومع ذلك، فقد شهدت هذه المجالات على مر العصور صراعات وتوتّرات، بالإضافة إلى فترات من التّكامل.

الدّين والفلسفة: البحث عن الحقيقة

إنّ نقطة التقاء الدّين والفلسفة هي السّعي نحو الحقيقة، وإن اختلفا في المنهج والأدوات، فالدّين يقدّم رؤية شاملة للكون والحياة، ويستند إلى الوحي والإيمان كأساس للمعرفة، بينما تعتمد الفلسفة على العقل والمنطق في استكشاف الوجود، وتسعى إلى فهم العالم من خلال التّفكير النّقدي والتّحليل.

يقول ابن رشد في كتابه فصل المقال "فعل الفلسفة ليس شيئا أكثر من النّظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصّانع"1، وهذا يعكس وجهة نظر ترى أنّ الفلسفة يمكن أن تكون وسيلة لفهم الدّين وتعزيزه، وليس بالضرورة معارضته.

غير أنّ التّاريخ قد شهد صراعات بين الفلاسفة ورجال الدّين، والتّي غالبا ما كانت تنشأ بسبب اختلاف وجهات النّظر حول طبيعة الحقيقة ومصادر المعرفة، فقد اتّهم الفلاسفة بالإلحاد والزّندقة، بينما اتّهم رجال الدين بالجمود والتّعصب، لكن في المقابل كان هناك البعض من رجالات الفلسفة الذّين حاولوا التّوفيق بين الدّين والفلسفة، مثل ابن سينا وابن رشد، الذّين سعوا إلى إظهار أن العقل والإيمان يمكن أن يتعايشا ويتكاملا.

الدّين والعلم: من الصّراع إلى الحوار

العلاقة بين الدّين والعلم شهدت تحوّلات كبيرة في فترات كثيرة، من الصّراع إلى الحوار والتّكامل في العصور الوسطى، حيث كان العلم في كثير من الأحيان خاضعا لسلطة الكنيسة التّي اعتبرت أنّ المعرفة الدّينيّة هي المصدر الأساسي للحقيقة، وهو ما أدّى إلى قمع بعض الاكتشافات العلميّة التّي تعارضت مع العقيدة الدّينية، نذكر في السّياق الكنيسة الكاثوليكيّة في أوروبا وما كانت تتمتع به من سلطة كبيرة، وحيث أنّها كانت تعتبر الكتاب المقدّس المصدر النّهائي للمعرفة فإنّ أي اكتشافات علميّة تتعارض مع تفسير الكنيسة للكتاب المقدس هو هرطقة تُواجه بالقمع ومنه قضية غاليليو غاليلي الذّي أُجبر على التّراجع عن آرائه، وتمّ وضعه تحت الإقامة الجبريّة لأنّه دافع عن نظريّة مركزيّة الشّمس (أنّ الشّمس هي مركز الكون)، والتّي تعارضت مع وجهة نظر الكنيسة القائلة بأنّ الأرض هي مركز الكون2.

لقد كانت العديد من الاختصاصات تحت سلطة الكنيسة حتّى الطّب الذّي كان يُمارس غالبا من قبل رجال الدّين الذّين كانوا يعتقدون أنّ المرض هو عقاب من الله، وأنّ الشّفاء يمكن أن يتحقق من خلال الصّلاة والتّوبة، ومع تطوّر العلم، بدأ الأطبّاء في استخدام الملاحظة والتّجربة لفهم الأمراض وعلاجها.

في وقت ما أدّت نظريّة التّطور لداروين مثلا إلى جدل كبير بين العلم والدّين، وقد اعتقد البعض أنّ هذه النّظريّة تتعارض مع قصّة الخلق في الكتاب المقدّس، ومع ذلك، قبل بها العديد من العلماء ورجال الدّين، معتبرين أنّها طريقة لفهم كيفيّة خلق الكون.

ومع ظهور عصر النّهضة وعصر التّنوير، بدأ العلم في التّحرر من قيود الدّين، واكتسب استقلاليّته، بعد صراع عميق بين من يمثّل العلم ومن يمثّل الدّين، حيث اتّهم الطّرف الأوّل الدّين بالخرافة والجهل، واتهم الطّرف الثّاني العلم بالتّهديد للإيمان والأخلاق. لكن في العصر الحديث، بدأ الحوار بين العلم والدّين، حيث أدرك كل منهما أهميّة الآخر، فالعلم يوفر لنا فهما أفضل للعالم من حولنا، بينما يوفر الدّين لنا القيم والأخلاق التّي توجّه السّلوك، يقول أينشتاين "العلم بدون دين أعرج، والدّين بدون علم أعمى"3، وهذا يعكس وجهة نظر ترى أنّ العلم والدين يمكن أن يكمّلا بعضهما البعض، وأن كُلاّ منهما ضروري لفهم العالم والإنسان.

نقاط الالتقاء والاختلاف:

تتلاقى الفلسفة والدّين والعلم في السّعي نحو فهم العالم والإنسان، ولكنّها تختلفان في المنهج والأدوات، فالفلسفة تعتمد على العقل والمنطق، والدّين يعتمد على الوحي والإيمان، والعلم يعتمد على الملاحظة والتّجربة.

وعليه، تكمن نقاط الالتقاء في السّعي نحو الحقيقة، وطرح الأسئلة الكبرى حول الوجود والحياة والمصير الإنساني.

أمّا نقاط الاختلاف فتكمن في المنهج والأدوات، وفي طبيعة الحقيقة التّي يسعون إليها، فالفلسفة تسعى إلى الحقيقة من خلال التّفكير النّقدي والتّحليل، والدّين يسعى إلى الحقيقة من خلال الإيمان والوحي، والعلم يسعى إلى الحقيقة من خلال الملاحظة والتّجربة.

وبناء على ما سبق، العلاقة بين الدّين والفلسفة والعلم معقّدة ومتشابكة، وتشهد على الدّوام تحوّلات وتطوّرات، فالدّين والفلسفة والعلم ثلاثة مسارات مختلفة في سعي الإنسان لفهم العالم والوجود، وعلى الرغم من التّوترات والصّراعات التّي شهدتها هذه المجالات عبر التّاريخ، إلاّ أنّها يمكن أن تتعاون وتتكامل، وأن تساهم في إثراء المعرفة الإنسانيّة وتعزيز الوعي بالذّات والعالم.

***

د. سلوى بنأحمد - باحثة في علم الكلام وقضايا الإرهاب والتّطرّف / جامعة الزّيتونة - تونس

........................

1- القرطبي، ابن رشد، فصل المقال، تح محمّد عمارة، دار المعارف، ط2/ دت، ص22.

2- مينوا، جورج، الكنيسة والعلم، دار الأهالي، دمشق، ط1/ 2005، ص 547.

3- صديقي، عبد اللطيف، المسألة الدينية عند آينتشاين، منشورات الاختلاف منشورات ضفاف، ص 19.

 

بين تفكيك المعرفة الاستشراقية واسترداد الهوية الفلسطينية المغتربة

مقدمة: يُعتبر إدوارد سعيد (1935-2003) واحدًا من أبرز المفكرين في القرن العشرين، حيث ترك بصمة عميقة في مجالات النقد الأدبي، الدراسات ما بعد الاستعمارية، والفكر السياسي. من خلال عمله الرائد الاستشراق (1978)، قدم سعيد نقدًا جذريًا للطريقة التي شكلت بها الثقافة الغربية صورة الشرق، معتبرًا أن هذه الصورة تخدم الهيمنة الاستعمارية. في الوقت ذاته، كانت رحلته الشخصية كفلسطيني مغترب في المنفى تجربة محورية شكلت كتاباته حول الهوية، المنفى، والمقاومة الثقافية. يهدف هذا البحث إلى تحليل رحلة إدوارد سعيد الفكرية والشخصية، مع التركيز على كيفية تفكيكه للمعرفة الاستشراقية وجهوده لاسترداد الهوية الفلسطينية المغتربة، من خلال مقاربة تحليلية تستند إلى أعماله وتجربته الشخصية.

.1. إدوارد سعيد: سياق الحياة والمنفى

وُلد إدوارد سعيد في القدس عام 1935 لعائلة فلسطينية مسيحية، ونشأ في بيئة متعددة الثقافات بين القدس، القاهرة، والولايات المتحدة. بعد النكبة عام 1948، عاش سعيد تجربة المنفى التي شكلت وعيه بهويته الفلسطينية. كما أثر تعليمه الغربي في جامعة هارفارد وبرينستون على تشكيل رؤيته النقدية للثقافة والسلطة (1999). هذه التجربة المزدوجة جعلته يتحرك بين عالمين: الشرق كموطن أصلي، والغرب كفضاء فكري وسياسي. يصف سعيد هذه الحالة في كتابه خارج المكان بأنها تجربة "اللاانتماء"، التي أثرت على رؤيته للهوية كمفهوم ديناميكي ومتنازع عليه.

.2. تفكيك المعرفة الاستشراقية

في كتابه الاستشراق (1978)، قدم سعيد تحليلًا نقديًا للاستشراق كممارسة معرفية وسياسية تُنتج صورًا نمطية عن الشرق لخدمة المصالح الاستعمارية الغربية. استند سعيد إلى أفكار ميشيل فوكو حول العلاقة بين المعرفة والسلطة، مؤكدًا أن الاستشراق ليس مجرد دراسة أكاديمية للشرق، بل خطاب هيمنة يصور الشرقي كـ"آخر" متخلف وغريب (1977; 1978). يرى سعيد أن هذا الخطاب ساهم في تبرير الاستعمار من خلال تقديم الشرق كفضاء يحتاج إلى "تدجين" و"تحضير".من الناحية الميتودولوجية، استخدم سعيد نهجًا تأويليًا لتحليل النصوص الأدبية، الفنية، والعلمية التي أنتجها المستشرقون، مثل إدوارد لين وغوستاف فلوبير، ليكشف كيف شكلت هذه النصوص صورة الشرق في الخيال الغربي. كما أشار إلى أن الاستشراق ليس ظاهرة منفصلة عن السياق السياسي، بل هو جزء من مشروع السيطرة الاستعمارية (1978).

3 - استرداد الهوية الفلسطينية المغتربة

إلى جانب نقده للاستشراق، كرس سعيد جزءًا كبيرًا من حياته الفكرية والسياسية للدفاع عن القضية الفلسطينية واسترداد الهوية الفلسطينية المغتربة. في كتابه مسألة فلسطين (1979)، قدم سعيد تحليلًا للتاريخ الفلسطيني من منظور ما بعد استعماري، مؤكدًا أن النكبة لم تكن مجرد حدث سياسي، بل عملية مستمرة لتشتيت الهوية الفلسطينية ومحوها. كما ركز على مفهوم "المنفى" كحالة وجودية وثقافية، حيث يعيش الفلسطينيون حالة من الاغتراب الدائم بسبب التهجير والاحتلال.في أعمال مثل بعد السماء الأخيرة (1986)، بالتعاون مع المصور جان موهر، استخدم سعيد النصوص والصور لتوثيق الحياة الفلسطينية، مؤكدًا على أهمية السرد الذاتي في مقاومة الروايات المهيمنة التي تحاول طمس الهوية الفلسطينية. كما دعا إلى "المقاومة الثقافية" كوسيلة لاستعادة الصوت الفلسطيني، معتبرًا أن الثقافة والأدب يمكن أن يكونا أدوات لمواجهة الهيمنة السياسية والثقافية.

4. الربط بين تفكيك الاستشراق واسترداد الهوية

تتجلى رحلة سعيد الفكرية في الربط بين نقده للاستشراق وجهوده لاسترداد الهوية الفلسطينية. ففي حين كشف في الاستشراق عن الآليات التي استخدمها الغرب لتشويه صورة الشرق، عمل في كتاباته عن فلسطين على تقديم رواية مضادة تعيد بناء الهوية الفلسطينية كجزء من مقاومة الخطاب الاستعماري. يرى سعيد أن الهوية ليست ثابتة، بل هي عملية ديناميكية تتشكل من خلال التفاعل مع التاريخ، الثقافة، والسياسة (1999). من الناحية النظرية، يمكن اعتبار هذا الربط امتدادًا لمفهوم "الثقافة والهيمنة" الذي طوره سعيد في كتابه الثقافة والإمبريالية (1993). هنا، يربط سعيد بين الأدب، الثقافة، والسياسة، مشيرًا إلى أن الروايات الثقافية يمكن أن تكون أدوات للمقاومة أو الهيمنة. بالنسبة للفلسطينيين، كان استرداد الهوية يعني استعادة السرد التاريخي والثقافي الذي حاول الخطاب الصهيوني والاستعماري طمسه.

5. التحديات والإسهامات

التحديات: الاستقطاب السياسي:

واجه سعيد انتقادات حادة من قبل مؤيدي الصهيونية الذين اعتبروا كتاباته عن فلسطين متحيزة، كما انتقده بعض المستشرقين التقليديين لتفكيكه للاستشراق.

التعقيد الهوياتي: كمثقف فلسطيني في المنفى، واجه سعيد تحديات في التوفيق بين هويته المزدوجة كفلسطيني وأكاديمي غربي.

الإسهامات:

إعادة تعريف الاستشراق: قدم سعيد إطارًا نظريًا جديدًا لفهم العلاقة بين المعرفة والسلطة، مما أثر على الدراسات ما بعد الاستعمارية والنقد الثقافي.

تمكين الصوت الفلسطيني: ساهم في إعادة صياغة الرواية الفلسطينية عالميًا، مؤكدًا على أهمية الثقافة في المقاومة.

التأثير الأكاديمي: ألهم جيلًا من الباحثين في مجالات النقد الأدبي، الدراسات الثقافية، والعلوم السياسية.

6. التوصيات

للاستفادة من إرث سعيد في السياق المعاصر، يُوصى بما يلي:

تعزيز الدراسات ما بعد الاستعمارية في الأوساط الأكاديمية العربية لفهم تأثير الخطابات الاستعمارية على الهوية العربية.

دعم المشاريع الثقافية التي توثق التجربة الفلسطينية، مثل الأدب، الفن، والسينما.

تشجيع الحوار بين الثقافات لتفكيك الصور النمطية المتبادلة بين الشرق والغرب.

تطوير مناهج تعليمية تستند إلى أفكار سعيد لتعليم الطلاب أهمية النقد الثقافي والسياسي.

خاتمة

تُعد رحلة إدوارد سعيد الفكرية والشخصية نموذجًا فريدًا للمثقف الملتزم الذي جمع بين النقد الأكاديمي والنضال السياسي. من خلال تفكيكه للمعرفة الاستشراقية، كشف سعيد عن الآليات التي تستخدمها الثقافة للهيمنة، بينما ساهم في استرداد الهوية الفلسطينية المغتربة من خلال إعادة صياغة السرد الفلسطيني. يظل إرثه حيًا في قدرته على إلهام الباحثين والناشطين لمواجهة التحديات الثقافية والسياسية المعاصرة بأدوات النقد والمقاومة. فكيف يمكن الاستئناس بمسار سعيد النضال الفكري والسياسي في تجذير الفعل المقاوم؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.........................

الاحالات والهوامش:

[1] يُعد مفهوم "المعرفة والسلطة" عند ميشال فوكو أساسًا مركزيًا في تحليل سعيد للاستشراق كخطاب هيمنة.

[2] يشير ادوارد سعيد في خارج المكان إلى تجربته الشخصية كفلسطيني مغترب، مما أثر على رؤيته للهوية والمنفى.

[3] تُظهر أعمال سعيد عن فلسطين، مثل مسألة فلسطين، التزامه بالدفاع عن الحقوق الفلسطينية من خلال الثقافة والسياسة.

المصادر والمراجع:

Foucault, M. (1977). Discipline and Punish: The Birth of the Prison. New York: Pantheon Books.

Said, E. W. (1978). Orientalism. New York: Pantheon Books.

Said, E. W. (1979). The Question of Palestine. New York: Times Books.

Said, E. W. (1986). After the Last Sky: Palestinian Lives. New York: Pantheon Books.

Said, E. W. (1993). Culture and Imperialism. New York: Knopf.

Said, E. W. (1999). Out of Place: A Memoir. New York: Knopf

محاولة لمعرقة شيء من اعماق النفس

هل حقًا ما نقوله هو ما نعبر عنه؟>> هل هناك علاقة بين الكلام الذي نقوله واللغة المنطوقة؟

 لا اعتقد لأن اللغة تحمل أكثر من معنى مرئي ومسموع وبالآن نفسه إيماءات الوجه أيضًا تحمل دلالات لا يستطيع المتكلم اخفائها، ولا ننسى أيضًا التأويل بالتحدث، والتأويل باستلام الرسالة كمستمع، والتأويل بما اريد اسمعه، وهناك الكثير الذي لا يحصى.

 حينما نتكلم نجمع الحروف لنتكلم بكلمة تشكل مجموعة الكلمات جملة كما نريدها، وأحيانًا نزيح الكلمات في بنية الجملة المجازية حيث يوجد انتقال، أو تحويل مشاعر، أو ربما حتى السلوك من موضع الكلمة المنطوقة من ذات الشخص، إلى شخص آخر ربما غير موجود، أو شيء آخر ليس هو الشخص الذي فعلهُ سابقًا، فاستدعاه المتكلم من عالم اللاشعور – اللاوعي في لحظة لاسيطرة فيها، وآخر غير ذلك، فبين خبايا اللغة تنطوي معاني لا تخرج بكلمات، وإن خرجت بلسان فهي تؤدي وظيفة واحدة هي إيصال رسالة لم تفسر بُعد وعمق المحكي – المنقول للمستمع، للمتلقي.

هي بعض من أعماق النفس وما يدور بين ثنايا الكلمة، أو الفكرة المبعثرة بفعل الكبت العميق، وقول " سيجموند فرويد " ان النشاط النفسي يخضع لحتمة سيكولوجية، فليس في العالم النفسي مجال للمصادفة الطارئة، ومن ثم فكل ما يصدر عن الإنسان من سلوك إنما هو محتم " حتمي " بما سبق أن خبره في أطوار حياته " محاضرات تمهيدية، ص 37" وأزاء ذلك فإن ما نقوله، أو ما نريد قوله أو فعله، أو حتى حينما نفكر به ولم يخرج من بين ثنايا اللسان، أو النفس هو تكوين فرضي، له دلالة التكوين من أعماق النفس، وإذا ما خرج بكلمة مفهومة، أو مدغمة بمعاني عدة فإنها تحمل دواخل الفرد وما رشح منه من عالم اللاشعور.. إذن هو سلوكنا، الكلمة المحكية – المنطوقة، الفكرة الهاربة المتشتتة، الكلمة المقلوبة بالحروف وأعطت معنى آخر، إلا أن حروفها نفسها ولكن تغيرت مكان تواجدها بالكلمة مثلا تنادي لشخص أسمه (صالح) وتناديه (صاحل) أو تنطق أسم شخص آخر ليس هو اسم الشخص الواقف أمامك، وهو صاحبك وتعرفه حق المعرفة ويمشي معك !! هي النفس في تداعياتها تبدأ ليس بالكلمة فقط، ولا بالحروف المنطوقة عن اسم الشخص الذي تعرفه وتتعايش معه، بل بأبعاد ما تم خزنه في عالم القارة الخفية، أعني اللاشعور – اللاوعي، ربما تنطق الزوجة بأسم شخص – امرأة أو رجل، فتنطق بأسم شخص آخر، أو الأم التي تنادي على بنتها وبدلا من أن تقول يا فلانه بأسمها تقول بأسم آخر؟؟ اسم بنتها لكنها تقول أسم أختها وتعيد ذلك الفعل عدة مرات في ايام معينه.

 أتسائل وأقول هل هذا الحدث عفوي؟ لا معنى له أو دلالة؟

أبدًا.. ومستحيل، ما تعلمناه من التحليل النفسي بأن كل ما يصدر عن الإنسان من قلب الحروف، أو قول اسم شخص، أو تداخل في الكلمة له معنى وله دلالة، حتى وإن غاب عن التفسير لدى معظم الناس، إلا ان المشتغلين بالتحليل النفسي وممن استطاعوا أن يسبروا أحوال النفس لهم معرفة حقه في ذلك السلوك، من تكوينه الفرضي، إلى النطق به، إلى تشتت الكلمات.

 نعترف وكاتب هذه السطور أيضًا يعترف بأننا نحن أسوياء ولكن كل منا بطريقته الخاصة، وإن حاول التقرب لهذا المثل الأعلى " اقصد هنا السوية " الذي نحاول الاقتراب منها كما عبر عنه " صلاح مخيمر" 

هل الشعر والرمزية فيه تنقل الفكرة بسطحيتها، أو اللوحة الجميلة التي الوانها تغمر الناظر بعمق تشكلاتها المتقاطعة، هل قال الشاعر حقيقة ما دار في وجدانه من اعماق نفسه، هل أن الرسام التشكيلي في رمزيته للوحة هو ما قاله فعلا وكان يعتقد به حقًا؟    

هي محاورة النفس في ما تحمل من عمق اللغة والمعاني والكلمات ولو كانت بفرشة فنان. هل هي اعترافات، أم توكيد لشيء لا يستطيع البوح به، وما أكثره في دواخلنا، نلف وندور به بكلمات مفهومة بالعلن، وأحيانًا برمزية عالية الدقة والعمق.. وخير ما نجده في ما يطرحه الاعلام والسياسة والساسة والتاجر، ومن يتدبر الأمر في ليل، يظهر شيء ما في العلن، ويخفي اشياء لا حصر لها، وعند رجال الدين الأمر أعمق بكثير مما نسمعه ونراه.

 هي النفس في ما يصدر عنها من خطاب للآخر، أيًا كان، الاب لإبنه أو بنته أو لزوجته، أو الاخ لإخيه، أو المعلم في تدريسه، أو أي خطاب، وادعوا القارئ الكريم لقراءة الخطابات الأربعة للمحلل النفسي الفرنسي " جاك لاكان " الذي سبر أغوار النفس بهذا العمق بعد " سيجموند فرويد " وبأسلوبه المعمق والذي استهدف كشف اسرار الإنسان وما يجول بداخله، وهذه الخطابات الاربعة والثابت في الخطابات الأربعة هو المتكلم / المتحدث / المُخاطب وهذه الخطابات الأربعة هي : خطاب السيد، خطاب الجامعي، خطاب الهستيري، خطاب المحلل.

تعد الاغنية وأداءها وشعرها، النكتة وبناءها اللغوي وتأثيرها، وحركة الجسد عند راقص البالية، هل هي حقًا تمثل كل قدرته على الأداء، هل هي توكيد لما يعتمل في داخله أم رفض له، هل فلتات لسان عند البعض هي توكيد لشيء لا يمكن قوله؟ هي بعض من دينامية النفس في تبدلها وتغيرها نحو (!) أو نحو (!) ولكن لا تتوقف في الحالة الاولى ولا في الحالة الثانية، ولا ينتهي فالأول بالفشل، والثاني بالنجاح، لأننا نحن لسنا كما نعتقد نحن، فدواخلنا تمتلك أكثر مما نعرف، فكما هي تعبر عن الفعل ليس كما هو، بل في كل الأحوال لا يظهر أعلى شيء، وما يظهره الأن سيكون غدًا من الماضي وربما يشكل رفض له، أو استهجان لأن فكرته كانت ترمز لشيء عميق وخفي.

معظمنا يحمل في طيات نفسه ما لا نهاية له من المخزونات في اللاشعور – اللاوعي، حينما تداعب بعض الوقائع الخارجية تشتعل من الداخل فينا ونحن لا نعلم أنها اثارت فينا بعض المواجع. فما نقوله هل حقًا كل ما نعتقد به؟ أو ما نفعله هو فعلا ما هو بدواخلنا؟ هي أسئلة لا إجابات لها، وإذا عرفناها اعتقد أننا نخشى قولها، هي التي هربنا منها فذهبنا بوعينا، أو لاوعينا لقول نقيضها، بقلب المعنى، بقلب المنطوق، إدغام الكلمة، وإذا تحايل البعض منا فهرب، أو استطاع الهرب، فسيعود بشكل آخر غير متوقع في الحلم، واساس الحلم هو الإزاحة والتكثيف كما دونه " فرويد" أو عند المحلل النفسي " جاك لاكان " الكناية والاستعارة ".

***

د. اسعد الامارة

مقدمة: قامت الليبرالية الأوربية على أنقاض الكنيسة فرفعت شعار الحرية وعتقت الفرد من صكوك الغفران ومنحته الأولية ليقتحم الفكر الليبرالي الساحة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فكيف نشأت الليبرالية وماهي مبادئها؟ وهل تؤسس لأرضية أخلاقية؟.

مفهوم الليبرالية:

قبل أن نخوض غمار البحث في الفكر الليبرالي وجب علينا ضبط مفهوم الليبرالية الذي يعتبر زئبقيًا ينفلت من دائرة التعريف، حيث اختلفت في تحديده المعاجم والموسوعات ذلك نظرا لتطور والالتباس حول نشأته إلا أن أكثر التعريفات شيوعا أن الليبرالية ترجع في الأصل إلى لفظ اللاتيني "ليبرالس" ويُقصد به الشخص الحر. وقد مثل هذا اللفظ الأكثر تداولاً منذ نهاية القرن 17 أما مع نهاية القرن التاسع عشر ظهر لفظ الليبرالية محملاً بخلفية فكرية اقتصادية وسياسية وقد عرف الطيب بوعزة الليبرالية في قوله "الليبرالية هي فلسفات اقتصادية وسياسية ترتكز على أولوية الفرد بوصفه كائنًا حر" ويعرفها المؤرخ مورس فلامون بأنها "مذهب الحرية" وبهذا المعنى نخلص إلى أن الليبرالية مـذهب فكري ينـادي بالحريـة الكاملـة في مختلف ميـادين الحيـاة.

وجدير بالذكر أن الليبرالية كلفظ اصطلاحي ظهرت بعد ظهورها التاريخي حيث تبلورت أفكارها في أول حزب ليبرالي وهو حزب الكورتيس الاسباني.

وإذا ما نظرنا في شهادة ميلاد الليبرالية سنجد أنها برزت في عصر التنوير خلال القرن السابع عشر كحركة سياسية رافضة لسائد من امتياز وراثي والحكم بحق الاهي وقد جاءت حصيلة جهود عدد من المفكرين والفلاسفة أمثال ستواريت ميل وموتسكيو وجون لوك الذي أكد على الحق الطبيعي لإنسان في الحياة والحرية والتملك.

مبادئها:

من أهم المبادئ التي قامت عليها الليبرالية والتي تعتبر القاسم المشترك بين مختلف تياراتها هي الحرية و من معانيها؛ حرية الفرد الذي تعتبره النواة الأولى المكونة للمجتمعات حيث أن لكل فرد الحق في فعل ما يريد شريطة أن لا يضر هذا غيره وفق القولة الشائعة "تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية غيرك"

وقد أكد جون لوك على الحق الطبيعي للفرد في الحياة والحرية ويذهب جون لوك في تعريفه للحرية "الحرية هي ألا يتعرض المرء للتقييد والعنف من الآخرين"

أي أن حرية الفرد لا تتحقق في إطار تقيدي أو عنف يهدد وجودها وقد تجسدت الحقوق الطبيعية والحريات في وثيقة اعلان حقوق الإنسان والمواطن إبان الثورة الفرنسية في 1789وقد تأثر الاعلان بفكر التنوير والحقوق الطبيعية التي قال بها مفكرون أمثال جون لوك، فولتير، مونتيسكيو ويقوم الأساس الفكري للحرية على مفهوم الفردية، إذ يبنى لوك النظرية الذرية التي استعارها من حقل الفيزياء لتؤكد على فكرة مفادها بما أن الذرة هي أساس الكون فالفرد هو أساس المجتمع و يجب المحافظة على حقوقه والسعي خلف حريته واستقلاليته وما إن يمتلك الفرد هذه الحرية بإمكانها حينها تحقيق مصلحته واذا ما حقق كل فرد مصلحته تتحقق المصلحة العامة.

فالليبرالية بهذا المعنى تعيد للانسان الفرد حقوقه المنهوبة من قبل الكنسية و الأباطرة والاقطاعين وتجعل منه القيمة الأساسية والمركزية في الوجود المجتمعي وتنادي الحرية في وجهها الاقتصادي بحق الفرد في تملك وسائل الإنتاج والتعاملات الاقتصادية إذ تؤيد الليبرالية اقتصاد عدم التدخل أو الاقتصاد الحر بمعنى عدم تـدخل الدولـة في النشـاط الاقتصادي وترك السوق ينظم نفسه بنفسه وسعي كـل فـرد لتحقيـق مصـلحته الشخصية من خلال امتلاكه لوسائل الإنتاج وقد لخص شـعار "دعـه يعمـل، دعـه يمر" الرسمالية الليبرالية الذي نظر لها آدم سميث وقد جاء في كتابه ثروة الأمم " لكل فرد الحرية الكاملة في السعي إلى تحقيق مصلحته بطريقته الخاصة"

أما في المجال السياسي تتجلى الحرية في التعددية والمشاركة في الحياة السياسة من خلال حق التصويت وحرية اختيار الرئيس وممثلي الشعب والمعارضة السياسية فبتالي يصبح للمواطنين بغض النظر عن عقائدهم واختلافتهم فرصا سياسية متساوية كما أكد ستوارات ميل على حرية الفكر والاعتقاد وأن ليس من حق الحكومات إخراس صوت الفرد ويقول في هذا

 "إنْ كانت البشرية كلها ما عدا فرد واحد مجمعة على رأي ما، فلا يسوغ لها ذلك إسكات ذلك الفرد"

كما لا يمكننا المرور دون ذكر أهمية العقل لدى الليبرالين ونقصد به الاتجاه العقلاني أو العقلانية والتي يحكم فيها الأفراد على الأمور استناد إلى العقل فتقصي بذلك الشعور أو العاطفة وترفض التسليم بما جاءت به الأديان فهي لا تعترف إلا بالمحسوسات وتنأى عن الماورئيات التي تختص بها الأديان فيمكن القول إذا أن العقلانية طريقة تفكير علمية تجريبية لا تعترف بلاهوت وتؤمن فقط بالحقيقة والعلم فهي بذلك تحرير العقل بما تسميه "أفيون" الماورئيات والخرافات اللاهوتية

وبكل ما أسلفنا القول نلحظ أن الحرية ليس مبدأ بل ركيزة أساسية يقوم عليها صرح الليبرالية في مختلف المجالات وبالتي يمكننا الجزم بأن الليبرالية لم تعد مجرد نظام مجتمعي من بين الأنظمة الأخرى بل أصبحت النظام الوحيد والأنجع والأفضل فالنظام الليبرالي هو إشارة لنهاية التاريخ كما يعبر عنها فوكياما إذ ليس في الإمكان أبدع مما كان وهذا الانبهار باللبرالية لم تتأثر به أوروبا وحدها بل كذلك المشرق العربي لحظة الاحتكاك بين الاسلام وأوربا المعاصرة في ظل الاصطدام العسكري في القرن 19مع حملة نابليون وهزيمة ايسلي في المغرب والحمالات الاستكشافية التي قام بها طلاب الجامعات في أوروبا ليطرح المثقف العربي السؤال الأهم "كيف تأخرنا وتقدموا؟".

وفي بحثه للإجابة عن هذا السؤال وجد أن الأيديولوجية الليبرالية هي الطاغية على المناخ الفكري الأوروبي يقول عبد الله العروي في هذا:

"يجب أن لا ننسى أن الليبرالية كانت الهواء الذي يستنشقه كل من كان واعيا بحقوقه الأوروبية"

ليشكل رواد الفكر النهضوي العربي أمثال الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وخير الدين التونسي بداية دخول الليبرالية إلى الواقع العربي الا أننا لا نجد في أدبياتهم إعلانًا صريحًا باعتناق مذهب الليبرالية، لكنهم انتقوا منها بعض الأفكار وأبرزها الحرية. ولم يكتفي رواد النهضة باستعارة مبادئ الفكر الليبرالي مثل الحرية والمساواة من أوروبا بل حاولوا تأصيلها في التربة العربية الإسلامية من خلال تأويل النص القرآني.

الليبرالية وسؤال الأخلاق:

من المعلوم أن لكل أيديولوجية أوجه قصور فإذا ما نظرنا للوجه الثاني من العملة سنجد أن الليبرالية ليست أبدع مما كان أو ما سيكون فهي ليست الأيديولوجية الوحيدة التي أكدت على الحرية فكثير من الدينات والفلسفات والأنظمة دعت إلى الحرية وبالتالي لا يمكن اختزال الحرية في مذهب واحد أو فلسفة واحدة كما أن الحرية لطالما مثلت أفقا تترقبه الإنسانية وتأمله كما أن القول بنهاية التاريخ لا يعني شيء سوى تعطل الفكر وموت الابداع ، إضافة إلى المساوة التي دعت إليها الليبرالية والتي أعدمت منذ أن تم إعلان الملكية فخلقت الطبقية ونمت العبودية من جديد في مجتمع الملكية والأرستقراطية، وهي عبودية الطبقة الغير مالكة لوسائل الإنتاج لطبقة المالكة ويقول روسو في هذا المعنى: "دائماً ما تكون القوانين مفيدةً؛ لأولئك المالكين، وتضرُ بأولئك الذين لا يملكون شيئاً"

وقد ظهرت النظرية الماركسية نسبة إلى ماركس الذي يمثل الفرد عنده في المنظومة الرأسمالية القائمة على الأسس الليبرالية مجرد شيء فمنطق الربح أصبح يحكم العلاقات الاجتماعية وقيمة السلع هي التي تحدد مركز الأفراد في المجتمع كما وجه ماركس النقد للملكية الخاصة التي تدعو إليها الليبرالية فهي تساهم في تشضي المجتمع الواحد إلى طبقات مختلفة بعضها يملك وسائل انتاج والآخر لا يملك غير ساعده وعندئذ تصبح الطبقة المالكة مستغلة ويحدث الصراع بين المُستغِلين والُستغٓلين حيث يسيطرُ الرأسماليون على الفائضِ، الذي أنتجتهُ الأيدي العاملة، وهكذا تحّول الرأسمالية، العُمالَ إلى سلع، وتطمس إنسانيتهم

وبالتالي تجعل الرأسمالية الأغنياء أكثر غنًا والفقراء أكثر فقرًا ولا يمكن حينها الحديث عن عدالة لاجتماعية وتوزيع العادل لثروات نتيجة غياب الدور الفعال لدولة وهو ما يؤدي إلى تفاقم الطبقية وسخط الفقراء على الأوضاع الاجتماعية وبروز طبقة البروليتاريا وقد حذرت الاشتراكية الماركسية من تغول الرأسمالية حيث انتقد ماركس استغلال الرأسمالين لطبقة العاملة وتراكم الثروة في يد الأقلية وهو ما يعبر عنه في قوله "إن تراكم الثروة في قطب واحد من المجتمع هو في نفس الوقت تراكم الفقر والبؤس في القطب الآخر. "

 فدعا إلى النظام الاشتراكي كنظام بديل للرأسمالية الليبرالية ويهدف النظام الاشتراكي لتملك الاجتماعي لوسائل الإنتاج و توزيع الأرباح بتساوي بين الأفراد مما ينتج عنه إلغاء الطبقية إذ تمثل المصلحة العامة لدى الاشتراكية هي مصلحة الفرد المنصهر داخل بوتقة المجتمع. كما أن التيار الليبرالي لم يول المسائل الأخلاقية ما تستحقه من عناية، ويمكن القـول بأنـه كـان يعـاني مـن اللامبـالاة الأخلاقيـة، لأن نسب الأخلاق إلى الليبرالية أمر فيه نظر فمن المعلوم أن الخلق مجموع من القيم والقواعد الواجب الالتزام بها من قبل الفرد على مستوى سلوكه و علاقته بالآخرين وبما أننا نتحدث عن قواعد فإننا نقف بلا شك أمام حلم التحرر

ومن هنا يجوز لنا القول أن الليبرالية بكونها فلسفة اقتصادية نفعية تفتقر إلى أرضية أخلاقية على المستوى النظري وكذلك التطبيقي إذ لا شيء يعلو على المنفعة الفردية فكيف إذا يمكن لمنظري الليبرالية أن يتفادوا هذا النقص

قدم موريس فلامون في كتابه تاريخ الليبرالية ما أسماه بالاخلاق العملية ويرى أنها ثلاث تتمثل أساسًا في المعاملات الاقتصادية بين الأفراد كاحترام العقود والمسؤولية وسياسة التقشف وكانت هذه محاولة فلامون البحث عن ما يمكن قوله في الجانب الأخلاقي لليبرالية و امتدت هذه المحاولة على صفحة ونصف

وهو ما يظهر جليًا أن حضور الأخلاق في التيار الليبرالي محتشم و يعد يكون هامشيًا أما بالنسبة لجيريمي بنتام فقد حاول تأسيس نظرية أخلاقية كاملة لليبرالية إلا أنه وقق في فخ النفعية مجددا حيث قام بقياس الأخلاق التي من المفترض أن تكون قيمًا مثلى بالكم فأصبحت أخلاق تجارية تقاس بالمال. ثم إنه لو كان لليبرالية وجه أخلاقي لماذا يحاول الليبراليون التاكيد على وجوده إلى هذه الدرجة قد يعترضنا قائلا فيقول إن عدم اضرار الفرد بحرية غيره والمساوة بين القانون هي في حد ذاته تجليات أخلاقية وربما في هذا شيء من الوجاهة لكن على مستوى نظري أما على المستوى الواقعي التطبيقي فالأفراد الذي يملكون وسائل الإنتاج ورؤوس الأموال يستغلون الأفراد الذين يعملون تحت امرتهم زد على ذلك أنهم لا يحترمون حرياتهم و يعاملونهم معاملة الآلة التي تنتج لهم مزيد من الأرباح كما يمكن لنا في نفينا للبعد الأخلاقي لليبرالية ذكر حادثة فرنسية بشعة قامت على أساس العقلانية والحرية والعلمانية وتعتبر جميعها مبادئ الليبرالية ونقصد هنا مذبحة فيندي عام 1793بفرنسا عقب الثورة الفرنسية فقد قابلت الحكومة العلمانية الجديدة تمرد الفلاحين من الأوضاع الاقتصادية والكاثوليك بالقمع الشديد إذ طبقت عليهم حكومة التنوير سياسات وحشية تم على إثرها اعدام آلاف الأسرى من بينهم الاطفال والنساء والشيوخ وحرق بيوتهم وارضيهم

وانطلاقًا من هذه الحادثة التاريخية التي وقعت بمقربة زمنية لإعلان حقوق الإنسان و الاعتراف بمبادئ الليبرالية قد نصاحب الصواب إذا ما قلنا أن الليبرالية لا تعترف بالاخلاق و أنها قد تقاتل باسم الحرية والعقلانية معارضيها بأبشع الطرق كل ذلك في سبيل تحقيق المنفعة والربح حتى لو كان الطريق إليهما يقتضي الدوس على الأخلاق.

أما بالنسبة للخطاب النهوضي فتحدر الإشارة إلى أن المثقف العربي رغم أنه سعى إلى الانتقاء من الليبرالية إلا أنه تعامل مع ما انتقه تعامل المسلمات فقد غابات الأدبيات التي تحلل الأطروحة الليبرالية وتفسرها وان ضعف التحليل والفهم الدقيق لليبرالية نشأ نتيجة معاينة الاطروحة الليبرالية في لحظة انبهار واندهاش أو بما يسمى بصدمة الحداثة إذ أن الفكر النهضوي العربي اقتبس منها بعض من مبادئها وحاول تأصيلها في الحضارة العربية الإسلامية ولا يمكن في كل حال اقتباس نموذج جاهر نشأ وفق معطيات تارخية وثقافية معينة لحضارة ما و تطبيقه على حضارة اخر. مختلفة تمامًا فنهضة المجتمع العربي لا تكون باستنساخ قوالب جاهزة بل بابتكار نموذج خاص مع مراعاة طبيعة وخصوصية هذا المجتمع.

خاتمة:

على الرغم من أن الليبرالية قد أثبتت نجاحاها على المستوى الإقتصادي وأعادت للفرد الأوروبي بعض من حريته التي فقدها في عصور أوروبا المظلمة إلا أنها تظل تعاني من مشكلة الأخلاق في تعاملها مع هذا الفرد معاملة الألة وبقواعد الرأسمالية المتوحشة ولا يمكن بأي شكل من الأشكال تصور نظام عالمي دون أرضية أخلاقية لأن غياب هذه الأرضية سيسبب في تكون أموال طائلة لكن ملطخة بالدماء التي تسببها الحروب.

***

آية مصدق - باحثة

 

الباراديغم هو نموذج أو إطار مفهومي يُستخدم لفهم وتفسير ظواهر معينة. في العلوم، يشير إلى مجموعة من القيم والمفاهيم والأساليب التي يتبناها مجتمع علمي معين. يتمثل دور الباراديغم في توجيه البحث وتحديد الأسئلة التي تُعتبر ذات أهمية، الدوغماتية تشير إلى التفكير أو الاعتقاد الثابت الذي لا يقبل الشك أو النقد. في سياق الفلسفة والعلم، تُعتبر الدوغماتية عائقًا أمام التفكير النقدي، لأنها تعزز القبول الأعمى للمعتقدات دون تدقيق أو تحليل. يُمكن أن تؤدي الدوغماتية إلى مقاومة التغيير والابتكار، اما الأبستمولوجيا هي فرع من الفلسفة يهتم بدراسة طبيعة المعرفة، مصادرها، وحدودها. تطرح أسئلة مثل: ما هي المعرفة*؟ كيف نحصل عليها؟ وما هو الأساس الذي يجعل اعتقادًا ما صحيحًا؟ تستكشف الأبستمولوجيا الفروق بين المعرفة الموثوقة والاعتقاد العشوائي، وتُعتبر ضرورية لفهم كيفية تطور العلوم والمفاهيم المجتمعية، تتفاعل هذه المفاهيم مع السرديات التاريخية بشكل معقد، حيث تؤثر الباراديغم على كيفية سرد الأحداث، بينما قد تحد الدوغماتية من الابتكار الفكري. في المقابل، توفر الأبستمولوجيا الأدوات اللازمة لتحليل وفهم هذه الروايات بشكل نقدي، مما يعزز من دقة وموضوعية السرد التاريخي.

ويمكننا القول إن علاقة الباراديغم بالأبستمولوجيا والدوغماتية هي علاقة تفاعلية وتأثيرية. فالباراديغم يحدد كيفية اكتساب المعرفة وتقديرها في مجال علمي، وبالتالي ينطوي على افتراضات ابستمولوجية. كما أن الباراديغم قد يصبح دوغماتيًا إذا لم يكن قابلاً للتغير أو التطور والتحدي. بالمقابل، فإن المنظور الابستميولوجي يؤثر في اختيار أو تقبل أو رفض براديغم معين. وكذلك هو الموقف الدوغماتي قد يعرقل التقدم العلمي أو يحد من الابتكار أو يسبب الصراعات.

هناك أسئلة تثار في الذهن المتوقد هل المعرفة تخضع لمبادئ، وقواعد، ومعايير ثابتة، ومطلقة ؟، أم هي تخضع لمصالح، وقيم، وأهداف نسبية، ومتغيرة؟، في الحقيقة لا توجد إجابة واحدة أو نهائية على هذا السؤال، اختلف الفلاسفة والعلماء على مر العصور حول طبيعة المعرفة وأصولها وحدودها. بعضهم رأى أن المعرفة ثابتة ومطلقة، وأنها تستند إلى العقل، التجربة، الوحي، أو الحدس. بعضهم الآخر رأى أن المعرفة نسبية ومتغيرة، وأنها تستند إلى اللغة، الثقافة، الإيديولوجية، والسياق. كما اختلف الفلاسفة والعلماء والمفكرون على مر العصور حول دور وقيمة الأديان في أبستمولوجيا المعرفة. بعضهم رأى أن الأديان هي ضرورة لتوجيه الإنسان نحو الخير والسلام والتضامن، وأنها تحمل رسائل إلهية أو حكمية تحتوي على حقائق عن الوجود والغائية، بعضهم الآخر رأى أن الأديان هي عائق أمام التقدم والحرية والتنوير، وأنها تستند إلى أساطير وخرافات تحتوي على أخطاء وتناقضات، لا يمكن لأي شخص أو تيار فكري أن يدعي الحصول على الحقيقة المطلقة فيما يتعلق بالأديان أو المعرفة، الأديان وفلسفة المعرفة تتعاملان مع مجموعة واسعة من المسائل والاعتقادات التي تختلف بين الأفراد والثقافات، تتميز الأديان بمجموعة من المعتقدات والتعاليم الروحية التي يؤمن بها أتباعها، بينما تستكشف الفلسفة الأفكار والمفاهيم الأساسية التي تتعلق بالحياة والوجود.

الوصول إلى الحقيقة عن طريق العقل هو مسألة معقدة تعتمد على كثير من العوامل. العقل هو وسيلة لاكتشاف وفهم العالم من حوله، والتوصل إلى الحقائق عن طريق العقل هو أساس العلم والفلسفة، من خلال استخدام العقل، يمكن للإنسان أن يقوم بتجميع المعلومات والأدلة، وتحليلها، والتفكير فيها بشكل منطقي. "يستخدم العقل أدوات مثل الملاحظة والتجريب والاستدلال المنطقي والتحليل العقلي لاستكشاف العالم واكتشاف الحقائق. (“غالب المسعودي - الباراديغم الدوغماتية والإبستمولوجيا”)** وتجب أن الملاحظة أن العقل البشري ليس مثاليًا تماما وقد يكون معرضًا للخطأ والتحيز. وهذا يؤثر على قدرة العقل على الوصول إلى الحقيقة بشكل مطلق، علاوة على ذلك، يواجه العقل البشري قيودًا في بعض المجالات، مثل المفهومات الفلسفية العميقة أو المسائل التي تتعلق بالأخلاق والقيم، و قد يصعب على العقل الفردي الوصول إلى إجابات نهائية في هذه المسائل المعقدة، على الرغم من أن العقل هو أداة قوية للاكتشاف العلمي والتوصل إلى الحقائق، إلا أنه ليس الطريقة الوحيدة للوصول إلى الحقيقة في العالم الخارجي، قد يتطلب الأمر أيضًا التعاون مع الآخرين ومشاركة المعرفة والتجارب للوصول إلى فهم أعمق وأكثر شمولًا للحقيقة.

رغم ان العقل البشري لديه القدرة على التحليل النقدي والتفكير النقدي، هذا يمكنه من تجاوز التحيزات الشخصية والوصول إلى مستوى أعلى من الحقيقة، هذا  عندما يكون الشخص على استعداد لتحدي المعتقدات السابقة وفحص الأدلة والمعلومات بشكل منصف، يمكنه من أن يقترب أكثر من الحقيقة، وذلك بتجاوزالباراديغم والدوغماتية لأنها أما أن تكون نظارة ذات لون محدد أمام العقل أو أنها لا تتيح الرؤية الجانبية الممتدة أفقيا وعموديا للأبستمولوجيا، عندها سيكون هناك تعارض في الأدلة الواقعية الوجودية ونظرية المعرفة، إن الأشخاص من ثقافات المختلفة قد يتبعون مسارات مختلفة لفهم الحقيقة المطلقة، و يتمثل هذا التعارض في التفسيرات المختلفة، أو بين المفاهيم الفلسفية المتنافرة، و بين النصوص المقدسة المختلفة، هذا التعارض لا يعني بالضرورة أن إحدى الأدلة أو الأمثلة تكون صحيحة على حساب الأخرى، لكنه يعكس ببساطة وجهات نظر ومعتقدات متنوعة تعتمد على الثقافة والتجربة والتراث الفكري لكل فرد ومجتمع، في مثل هذه الحالات، يكون من المهم أن يتمتع الأفراد بالاحترام والتسامح تجاه وجهات نظر الآخرين ومعتقداتهم، كما يمكن أن يكون الحوار والتفاهم المتبادل دون لف عنق الحقيقة باتجاه وجهة نظر ثابتة لان الحقيقة نفسها لا تتقبل أو ترفض وجهات النظر، وإنما تكمن في الواقعية الوجودية وان حقائق المعرفة موجودة بغض النظر عن الآراء أو الاعتقادات الشخصية.

التناقضات بين النظريات الفلسفية والوحي الخارجي

يمكن ان يكون هناك تناقض بين بعض النظريات الفلسفية والوحي الخارجي فيما يخص الحقيقة، ذلك يعتمد على كيفية تسجيل الوحي والتثبت منه أبستمولوجيا وفهمه وتفسيره وكيفية تطبيقه في سياق ثقافي وديني محدد. في المفاهيم الدينية، يعتقد الأتباع أن الوحي يمثل الحقيقة المطلقة ولا يقبل التنازل أو النقض، في هذه الحالة، يتعارض مع النسبية التي تعتبر الحقيقة نسبية ومتغيرة مع وجهة نظر معظم الفلاسفة، وهذه هي الدوغماتية بحقيقتها رغم ذلك يحاول المفسرون ان يجدوا طرقًا لتوفيق بين النظريات الفلسفية والوحي، عن طريق تفسير الوحي بما يتوافق مع النظريات الحديثة وذلك عن طريق التأمل والتفكير العميق في العلاقة بينهما.

تعتبر الأدلة الأثرية والأركيولوجية جزءًا من المصادر التي يمكن استخدامها لفهم الأحداث التاريخية والثقافية القديمة. ومن الممكن أن تتوافق بعض منقولات الوحي مع الأدلة الاركيولوجية الموجودة، وتؤكد بعض الأدلة المادية على حدوث أحداث تاريخية محددة، رغم ذلك يجب أن نفهم أن الأدلة الاركيولوجية غالبًا ما تكون مفسرة وفقًا لتحليلات واستنتاجات الباحثين، وقد تكون هناك تفسيرات متناقضة للأدلة نفسها إن قبول وتصديق منقولات الوحي يعتمد على الاعتقادات الشخصية والقناعات الدينية والثقافية للفرد وقد يكون هناك تناقض بين الاعتقادات الدينية والعلمية أو الأدلة الاركيولوجية، وهذا يشكل جزءًا من التنوع والتعدد ،لكن وجود التفسيرات المختلفة في العالم والنظريات المختلفة لا يجب أن يسفه المفكرين المختلفين بدواعي دوغماتية ووضع براديغم محدد اتجاه المختلف واعتبار أن البحث الابستميولوجي حق لكل انسان مهما كانت الطريقة التي تكون معتقده للوصول إلى الحقيقة النسبية. لان الحقيقة المطلقة غائبة معرفيا.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

...............................

 *https://www.elmajale.com/2023/02/blog-

post_18.html

**https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=809480

"المطلب الحصري هو الفلسفة الملتزمة المقاومة كأداة للوحدة والتقدم والتحرر"

إن المطلب الحضاري الذي يدعو إلى تبني فلسفة ملتزمة مقاومة يمثل رؤية شاملة تهدف إلى مواجهة التحديات المتعددة الأبعاد التي تواجه الأمة العربية والإسلامية. هذه الفلسفة ليست مجرد إطار فكري، بل هي منهج عملي يسعى لتحقيق الوحدة بعد التفرقة، التقدم بعد التأخر، التحرر بعد الاستعباد، النمو بعد الفقر، المعرفة بعد الجهل، السيادة بعد الاستعمار، والسعادة بعد الشقاء. يهدف هذا التوسيع إلى تحليل دور الفلسفة الملتزمة المقاومة في المجالات الاجتهادية الدينية، الاقتصادية، القانونية، والبيئية، مع تقديم تحليل أكاديمي مدعوم بالهوامش والمراجع، لتعزيز فهم هذا المطلب الحضاري وتطبيقاته العملية. في الواقع نحن في حاجة إلى هذه الفلسفة الملتزمة لكي نتوحد بعد أن تفرقنا ولكي نتقدم بعد تأخرنا ولكي نتحرر بعد أن استعبدنا ولكي ننمو بعد أن فقرنا ولكي نعرف بعد أن جهلنا ولكي نسود بعد استعمرنا ولكي نسعد بعد أن شقونا. فكيف نحقق الاقلاع التام والنهائي من هذه الآفات ونزرع الفضائل ونربي الكفاءات ونطور القدرات؟

العنصر الأول: مفهوم الفلسفة الملتزمة المقاومة

تعريف الفلسفة الملتزمة

الفلسفة الملتزمة، كما عرفها جان بول سارتر، هي فلسفة تتحمل مسؤولية التغيير الاجتماعي والسياسي من خلال التزام الفرد بقضايا مجتمعه[1]. في السياق العربي والإسلامي، تتجاوز هذه الفلسفة الإطار الوجودي لتشمل التزاما بقيم العدالة والحرية المستمدة من التراث الديني والثقافي. إنها فلسفة تجمع بين النقد الفكري والعمل العملي لتحقيق التحرر الشا

المقاومة كبُعد أساسي

المقاومة في هذا السياق تشمل مقاومة الهيمنة الثقافية، السياسية، الاقتصادية، والبيئية. يرى محمد عابد الجابري أن الفلسفة المقاومة يجب أن تستند إلى إعادة قراءة التراث بطريقة نقدية، مع التركيز على القضايا المعاصرة مثل العدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية[2]

أمية الفلسفة الملتزمة المقاومة

تكمن أهمية هذه الفلسفة في قدرتها على تقديم حلول شاملة للتحديات الحضارية، مع الأخذ في الاعتبار الأبعاد الدينية، الاقتصادية، القانونية، والبيئية. إنها فلسفة تحررية تهدف إلى بناء مجتمع عادل ومتوازن يحترم التنوع ويعزز الوحدة.

العنصر الثاني: تحليل المطلب الحضاري

الوحدة بعد التفرقة

التفرقة السياسية والطائفية تعيق تقدم الأمة. الفلسفة الملتزمة المقاومة تدعو إلى حوار فكري يجمع بين التيارات المختلفة، مع التركيز على القيم الإنسانية المشتركة. يشير حسن حنفي إلى أن الوحدة تتطلب إعادة بناء الهوية الجماعية من خلال اجتهاد ديني يركز على العدالة والمساواة[3]

التقدم بعد التأخر

التأخر الحضاري يتطلب إحياء روح الإبداع العلمي والفكري. الفلسفة الملتزمة تدعو إلى إصلاح التعليم وتعزيز البحث العلمي، مع الاستفادة من التجارب العالمية دون الخضوع للهيمنة الثقافية[4]

التحرر بعد الاستعباد

الاستعباد، سواء كان سياسيًا أو اقتصاديًا أو ثقافيًا، يتطلب مقاومة فكرية وعملية. يرى فرانز فانون أن التحرر يبدأ بتحرير العقل من الهيمنة الاستعمارية، وهو ما يتطلب فلسفة ملتزمة تعزز الكرامة الإنسانية[5].

النمو بعد الفقر

الفقر هو نتيجة لسياسات الاستغلال وسوء توزيع الثروات. الفلسفة الملتزمة تدعو إلى نموذج اقتصادي عادل يعتمد على التنمية المستدامة والتوزيع العادل للموارد

المعرفة بعد الجهل

الجهل يُعدّ عقبة رئيسية أمام التقدم. الفلسفة الملتزمة تركز على التعليم كأداة للتحرر، مع تشجيع التفكير النقدي والبحث العلمي[6]

السيادة بعد الاستعمار

الاستعمار الحديث يتخذ أشكالاً اقتصادية وثقافية. الفلسفة المقاومة تدعو إلى بناء مؤسسات وطنية قوية تحافظ على السيادة الوطنية.

السعادة بعد الشقاء

السعادة تتحقق من خلال تحقيق العدالة الاجتماعية، الحرية، والرفاهية. الفلسفة الملتزمة تسعى إلى خلق بيئة اجتماعية تدعم الكرامة الإنسانية.

العنصر الثالث: الفلسفة الملتزمة المقاومة في المجالات الاجتهادية

المجال الاجتهادي الديني

الاجتهاد الديني هو أداة أساسية لتجديد الفكر الديني ومواجهة التحديات المعاصرة. الفلسفة الملتزمة المقاومة تدعو إلى اجتهاد ديني يركز على:

إعادة قراءة النصوص الدينية: يجب قراءة النصوص الدينية في ضوء الواقع المعاصر لتعزيز قيم العدالة والمساواة. يرى محمد أركون أن الاجتهاد الديني يتطلب تحرير التفكير الديني من التقليد الأعمى[7].

مواجهة التطرف: الفلسفة الملتزمة تقاوم التفسيرات المتشددة للدين التي تؤدي إلى التفرقة، وتعزز فهمًا إنسانيًا للدين يدعم الوحدة.

تعزيز الحوار بين الأديان: تدعو الفلسفة إلى حوار بين الأديان والمذاهب لتعزيز الوحدة الوطنية والإنسانية.

المجال الاقتصادي

الاقتصاد هو أحد أهم ركائز النهوض الحضاري. الفلسفة الملتزمة المقاومة في المجال الاقتصادي تركز على:

العدالة الاقتصادية: تدعو إلى توزيع عادل للثروات ومكافحة الفساد الاقتصادي. يشير سمير أمين إلى أن الاقتصاد العادل يتطلب مقاومة الهيمنة الرأسمالية العالمية[8].

التنمية المستدامة: تركز الفلسفة على استغلال الموارد الطبيعية بطريقة مستدامة تحافظ على حقوق الأجيال القادمة.

الاقتصاد الإنتاجي: يمكن أن يلعب الاقتصاد الإننتاجي، بمبادئه مثل الزكاة والمشاركة، دورًا في تحقيق العدالة الاقتصادية.

المجال القانوني

الفلسفة الملتزمة المقاومة في المجال القانوني تهدف إلى:

إصلاح النظم القانونية: تدعو إلى بناء أنظمة قانونية عادلة تحترم حقوق الإنسان وتعزز المساواة. يرى عبد الله العروي أن القانون يجب أن يكون أداة للتحرر وليس للقمع[9].

سيادة القانون: تعزيز سيادة القانون كأساس للمجتمع العادل، مع مقاومة الفساد القضائي.

التشريعات المستلهمة من التراث: يمكن استلهام مبادئ الشريعة الإسلامية، مثل العدل والشورى، لتطوير قوانين حديثة تتماشى مع الواقع.

المجال البيئي

البيئة أصبحت قضية مركزية في العصر الحديث. الفلسفة الملتزمة المقاومة في المجال البيئي تركز على:

الاستدامة البيئية: تدعو إلى حماية البيئة من خلال سياسات مستدامة تحافظ على الموارد الطبيعية. ان التنمية البيئية هي جزء لا يتجزأ من العدالة الاجتماعية[10].

مقاومة الاستغلال البيئي: تقاوم الفلسفة استغلال الموارد الطبيعية من قبل الشركات متعددة الجنسيات، وتدعو إلى سياسات وطنية لحماية البيئة.

التوعية البيئية: تعزيز الوعي البيئي من خلال التعليم والإعلام لخلق مجتمع يحترم التوازن البيئي.

العنصر الرابع: آليات تطبيق الفلسفة الملتزمة المقاومة

إصلاح التعليم

يجب أن يركز التعليم على تعزيز التفكير النقدي والوعي بالقضايا الدينية، الاقتصادية، القانونية، والبيئية. يتضمن ذلك إدخال مناهج دراسية تشجع الاجتهاد الديني والتفكير الاقتصادي المستدام.

تعزيز الحوار الفكري

الحوار الفكري بين العلماء، الاقتصاديين، القانونيين، والناشطين البيئيين ضروري لتطوير رؤية مشتركة. يمكن تنظيم مؤتمرات وورش عمل لتعزيز هذا الحوار.

بناء مؤسسات قوية

المؤسسات الدينية، الاقتصادية، القانونية، والبيئية يجب أن تعمل معًا لتحقيق أهداف الفلسفة الملتزمة. على سبيل المثال، يمكن للمؤسسات الدينية دعم الاجتهاد الديني، بينما تعمل المؤسسات الاقتصادية على تعزيز التنمية المستدامة.

مقاومة الهيمنة الثقافية والاقتصادية

يجب مقاومة الهيمنة الثقافية والاقتصادية من خلال تعزيز الهوية الوطنية والاستقلال الاقتصادي. يمكن تحقيق ذلك من خلال دعم الصناعات المحلية وإحياء التراث الثقافي.

التوعية البيئية والاجتماعية

يجب إطلاق حملات توعية لتعزيز الوعي بالقضايا البيئية والاجتماعية، مع التركيز على دور الأفراد والمجتمعات في تحقيق التغيير.

الفصل الخامس: التحديات والحلول

التحديات

التفرقة الدينية والطائفية: الانقسامات الدينية تعيق الوحدة.

الفساد الاقتصادي: يؤدي إلى تفاقم الفقر وسوء توزيع الثروات.

الفجوة القانونية: غياب سيادة القانون يعيق تحقيق العدالة.

التدهور البيئي: استغلال الموارد الطبيعية يهدد الاستدامة.

الحلول

الاجتهاد الديني: تعزيز الاجتهاد لمواجهة التطرف وتعزيز الوحدة.

إصلاح اقتصادي: تطبيق سياسات اقتصادية عادلة ومستدامة.

تعزيز سيادة القانون: بناء أنظمة قانونية تحترم حقوق الإنسان.

حماية البيئة: إطلاق سياسات لحماية الموارد الطبيعية وتعزيز الاستدامة.

الخاتمة

نحن في حاجة ماسة لهذه الفلسفة الملتزمة لكي نقلع نهائيا من التشرذم والانقسام والتبعية والفقر والغلو والتصحر والتخلف والتأخر والاستعباد والفساد والجدب والهدر والهزيمة والتعثر والشقاء والمعاناة.

إن الفلسفة الملتزمة المقاومة تمثل إطارًا شاملًا لمواجهة التحديات الحضارية في المجالات الدينية، الاقتصادية، القانونية، والبيئية. من خلال الاجتهاد الديني، يمكن تجديد الفكر الديني ليعزز الوحدة والعدالة. في المجال الاقتصادي، يمكن تحقيق نمو مستدام من خلال توزيع عادل للثروات. قانونيًا، يجب تعزيز سيادة القانون لضمان العدالة. بيئيًا، يجب حماية الموارد الطبيعية لضمان استدامة الأجيال القادمة. إن تطبيق هذه الفلسفة يتطلب تعاونًا بين المؤسسات والأفراد لتحقيق نهوض حضاري شامل.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

............................

الهوامش

[1]: سارتر، جان بول. (1946). الوجودية مذهب إنساني. ترجمة عبد المنعم الحفني. القاهرة: دار الكاتب العربي.

[2]: الجابري، محمد عابد. (1984). نحن والتراث. بيروت: دار التنوير.

[3]: حنفي، حسن. (1998). من النقل إلى الإبداع. القاهرة: دار المعارف.

[4]: سعيد، إدوارد. (1978). الاستشراق. ترجمة كمال جاد. بيروت: دار الآداب.

[5]: فانون، فرانز. (1961). معذبو الأرض. ترجمة سامي الدروبي. دمشق: دار الحقيقة.

[6]: حسين، طه. (1938). مستقبل الثقافة في مصر. القاهرة: دار المعارف.

[7]: أركون، محمد. (1990). الفكر الإسلامي: قراءة نقدية. بيروت: دار الساقي.

[8]: أمين، سمير. (1997). الرأسمالية في عصر العولمة. ترجمة محمد نايل. القاهرة: دار الفكر.

[9]: العروي، عبد الله. (1981). مفهوم الحرية. بيروت: المركز الثقافي العربي.

المراجع

سارتر، جان بول. (1946). الوجودية مذهب إنساني. ترجمة عبد المنعم الحفني. القاهرة: دار الكاتب العربي.

الجابري، محمد عابد. (1984). نحن والتراث. بيروت: دار التنوير.

حنفي، حسن. (1998). من النقل إلى الإبداع. القاهرة: دار المعارف.

سعيد، إدوارد. (1978). الاستشراق. ترجمة كمال جاد. بيروت: دار الآداب.

فانون، فرانز. (1961). معذبو الأرض. ترجمة سامي الدروبي. دمشق: دار الحقيقة.

حسين، طه. (1938). مستقبل الثقافة في مصر. القاهرة: دار المعارف.

أركون، محمد. (1990). الفكر الإسلامي: قراءة نقدية. بيروت: دار الساقي.

أمين، سمير. (1997). الرأسمالية في عصر العولمة. ترجمة محمد نايل. القاهرة: دار الفكر.

العروي، عبد الله. (1981). مفهوم الحرية. بيروت: المركز الثقافي العربي.

 

تلاميذ المستوى الثانوي الإعدادي نموذجا

تمهيد: وُجدت اللغة مع وجود الإنسان، ثم بدأ هذا الأخير يتكون في شكل جماعات بشرية مختلفة تنتقل باستمرار بحثا عن مقومات العيش على سطح الأرض، فصار لكل جماعة بشرية لغة تميزها عن باقي الجماعات، وترتب عن عدم الاستقرار والتنقل الدائم ظهور تنوع لغوي استمر في النمو والتوسع بحكم التطور المستمر للمجتمعات نتيجة عدة عوامل اجتماعية سياسية واقتصادية وثقافية... وهو تطور نتج عنه أيضا احتكاك الأنظمة اللغوية مع بعضها البعض داخل حيز جغرافي واحد، الشيء الذي سيسفر عن تطور ظواهر لغوية متعددة من قبيل: التعدد اللغوي، والثنائية اللغوية، والازدواجية اللغوية، والتداخل اللغوي، والتحول اللغوي الذي سيكون موضوع عرضنا هذا، والذي حاولنا من خلاله الإجابة عن الإشكاليات التالية:

ما مفهوم التحول اللغوي وما هي أنواعه وما أسباب وقوعه في التواصل؟

كيف نشأ هذا المصطلح في الأدبيات اللسانية وكيف تم تناوله من منظور علم اللغة الاجتماعي؟

كيف يتمظهر هذا الوضع اللغوي عند الناشئة- تلاميذ المستوى الثانوي الإعدادي نموذجا- وكيف يتعاملون مع هذه الظاهرة؟

بناء على هذه الإشكاليات تناولنا العرض من جانبين: جانب سنجيب فيه عن السؤالين الأول والثاني، والجانب الثاني شق تطبيقي سنقف من خلاله على ظاهرة التحول اللغوي عند عينة من تلاميذ المستوى الثانوي الإعدادي.

وقبل الخوض في تعريف هذا المفهوم سنتعرض لبعض المفاهيم المرتبطة به، خاصة مفهومي  الثنائية اللغوية والازدواجية اللغوية باعتبار التحول اللغوي النقطة التي تجمع بينهما.

الثنائية اللغوية

الثنائية اللغوية هي مقابل للمصطلح الإنجليزي Bilingualism[1] وتتكون من السابقة اللاتينية Bi وتعني المثنى أو المضاعف، وLingual أي لغوي، واللاحقة ism بمعنى الحالة أو الصفة، وحاصل الترجمة؛ سلوك لغوي ثنائي أو مضاعف/ الثنائية اللغوية[2].

وقد تعددت تعاريف مفهوم الثنائية اللغوية بتعدد أراء الدارسين ووجهات نظرهم، فنجد مثلا:

أن فرانسوا جروجون Francois Grosjean يرى أن "ثنائيي اللغة هم أناس يستخدمون لغتين، أو لهجتين أو أكثر في حياتهم اليومية، فالإيطاليون الذين يستخدمون واحدة من لهجات إيطاليا- مثل البوليزية- مع الإيطالية الرسمية، يمكن وصفهم بأنهم ثنائيو اللغة"[3]. أما جورج مونان Georges Mounin فيرى أن ثنائي اللغة هو الفرد الذي يتحدث لغتين دون تمييز. وينظر إليها بلومفيلد Bloomfild على أنها إجادة الفرد للغتين مختلفتين. ويعرفها ماكي Mackeyبأنها الاستخدام المتناوب للغتين أو أكثر من قبل نفس الفرد[4].

من خلال هذه التعاريف يتبين لنا أن الباحثين يتفقون على أن الثنائية اللغوية مرتبطة بالفرد الواحد ومدى قدرته على استخدام لغتين أو أكثر في محادثاته، لكن شرط الإجادة الذي وضعه بلومفيلد يضعنا أمام التساؤل عن وضع الفرد الذي يعرف لغتين أو أكثر بدرجات متفاوتة.

فالشخص قد يستعمل اللغتين الأولى والثانية بصورة متكافئة فتسمى هذه الثنائية بالثنائية اللغوية المتوازنة، وقد يتقن اللغة الأم أكثر من اللغة الأخرى فتسمى ثنائية اللغة السائدة، وهذا ما يطلق عليه الدارسون المظهر الفردي للثنائية اللغوية، أما المظهر الاجتماعي فهو استعمال الأفراد داخل المجتمع لغتين أو أكثر، فيختارون استعمال لغة في مواقف معينة، ولغة أخرى في مواقف أخرى، أو قد يزاوجون بينهما في موقف واحد[5].

ويمكننا وصف الشخص بأنه ثنائي اللغة إذا ما توفرت أربع خصائص؛ درجة المعرفة باللغتين اللتين يستخدمهما الشخص، والدور الذي تلعبه هذه اللغات في البنية العامة لسلوك الفرد والهدف الذي يسعى إليه من خلال استخدام هذه اللغات، وكيفية الانتقال من لغة إلى أخرى، ثم الحالة التي يتمكن فيها الفرد من الإبقاء على اللغتين منفصلتين[6].

لقد كانت مسألة التمييز بين الثنائية اللغوية والازدواجية اللغوية محط نقاش طويل بين الدارسين، ترتب عن الخلط الذي اعترى المصطلحين منذ ظهورهما عند الأوروبيين بسبب تقارب البنية المصطلحية للمفهومين في اللاتينية، لكن تم لاحقا الفصل بينهما عندما تم نقل المصطلحين إلى اللغة الإنجليزية ليدل كل منهما على شكلين مختلفين من الاستخدام اللغوي.

ويكون فرجسون بذلك أول من وضع الحدود العامة لمفهوم الازدواجية، ثم جاء فيشمن فأقر بأن الثنائية اللغوية هي صفة مميزة للتصرف اللغوي على المستوى الفردي، أما الازدواجية فهي خاصية من خصائص التنظيم اللغوي على مستوى مجتمع ما[7].

الازدواجية اللغوية

الازدواجية اللغوية هي ترجمة للمصطلح الإنجليزي [8]Diglossia، ويتكون المصطلح من Di وتعني في اللاتينية مثنى أو مضاعف، و glossمعناه لغة، واللاحقة ia وتعني الحالة، وحاصل الترجمة هو حالة لغة مضاعفة أو مثناه/ الثنائية اللغوية[9]، وهنا يظهر جليا تطابق مصطلح الازدواجية مع مصطلح الثنائية أعلاه، وهو واقع أربك علماء السوسيولسانيات في أوروبا بداية القرن العشرين.

ويجمع الدارسون على أن كرومباشر (1856 – 1909) Karl Krumbacher أول من تعرض لمصطلح الازدواجية اللغوية بالدراسة، إلا أن بعضهم يؤكدون على أن الفرنسي وليام مارسي Willam Marssais أول من استخدم المصطلح، لكن أن أغلب الدراسات لم تشر إلى دراسة مارسي، بل تبنت عمل شارل فرجسونFerguson Albert Charles [10].

ميز فرجسون في رأيه حول الازدواجية اللغوية بين شكل لغوي أعلى/ فصيح يكون عادة لغة الأدب المكتوب، وهو نوع يتم تعلمه عن طريق التعليم الرسمي ويٌستخدم في الكتابة والتحدث الرسميين، وشكل لغوي أدنى/ العامية وهو لغة التداول اليومي. أما فيشمن فكانت له نظرة مغايرة، فهو يرى أن الازدواجية اللغوية لا تقتصر على وجود لهجتين فصيحة وعامية في المجتمع الواحد، كما لا يهم إن كانتا لهجتين أو أسلوبين أو لغتين... بل الازدواجية تتحدد بوجود اللغات المختلفة في هذا المجتمع، وهو هنا أدخل الثنائية مع الازدواجية، أي أن الازدواجية يدخل فيها تعدد اللهجات وحتى تعدد اللغات في مجتمع لغوي ما، عكس الثنائية التي يُستخدم فيها أكثر من لغتين على المستوى الفردي. أما فاسولد فالازدواجية عنده تضم اللغات واللهجات والأساليب، ما دام هناك توزيع وظيفي لها، حيث حدد أربع نقاط يمكن من خلالها الوصول إلى نظرية متكاملة للازدواجية، أولا؛ وجود "الشكل المعياري واللهجات"، ذلك أن الجمع بينهما لا يتعارض مع معنى الازدواجية، ثم "العلاقة الثنائية" بين اللغة العليا واللغة الدنيا (الفصحى والعامية)، وأيضا "الترابط"، حيث وصف الازدواجية من خلال الحالات التي يكون فيها الشكلان اللغويان الأعلى والأدنى لغتين مختلفتين، كما هو بين اللغة الإنجليزية واللغة السواحلية بتانزانيا، وأخيرا "الوظيفة"؛ فاللغة واللهجة والأسلوب الأعلى تستخدم في الوظائف الرسمية في المجتمع، أما اللغة واللهجة والأسلوب الأدنى فهي للاستعمالات غير الرسمية أو الحديث اليومي[11].

هذه التعاريف توضح لنا أن الازدواجية يندرج ضمن نطاقها أشكال لغوية مختلفة للغة واحدة، عكس الثنائية التي تتعامل من لغتين مختلفتين تماما، لا تنتميان إلى نفس النسق التركيبي والصرفي. فالازدواجية إذن مرتبطة بالمجتمع بينما الثنائية فترتبط بالفرد.

أما التعدد اللغوي Multilingualism[12] فيدخل ضمنه الثنائية اللغوية والازدواجية اللغوية، فهو يحيل على "استعمال الفرد أو على قدرة الفرد أو على الوضعية اللغوية في أمة كاملة/ مجتمع ما"[13].

التحول اللغوي

ظهرت العديد من الكتب والمقالات اهتمت بمفهوم التحول اللغوي، وكان الموضوع الأكثر جدلا خاصة في الدراسات المهتمة بالثنائية اللغوية والاتصال اللغوي، وحسب ميوسكن Muysken فإن السبب ربما يرجع إلى حقيقة أن الناس قادرون على استخدام أكثر من لغة في نفس الوقت ونفس المحادثة وحتى في نفس الجملة، وليس العكس[14].

1-3- تعريف التحول اللغوي

يعرف الباحثون التحول اللغوي [15]code-switching على أنه ظاهرة يتحول خلالها المتكلم بلغتين أو أكثر- فجأة- إلى استعمال لغة أو جملة أو عبارة بلغة أخرى في سياق محادثاته، ومن التعريفات التي وضعت له نجد:

كريستال (1987)، ويعرف التحول اللغوي بأنه "تحول الفرد أثناء حديثه مع شخص آخر من لغة إلى لغة ثانية أو من لغة فصيحة إلى لغة عامية أو العكس، ويرى أن هذا التناوب في استخدام اللغات يحدث عند شخص ثنائي اللغة القادر على التواصل بدرجات متفاوتة بلغة ثانية أو القادر على استخدام لغة ثانية لكنه لم يفعل (ثنائي اللغة الخاملة Dormant Bilingulism) أو لديه مهارة كبيرة في لغة ثانية"[16].

أما حسب ميوسكن Muysken (2000) "فيشير التحول اللغوي إلى التناوب السريع بين عدة لغات في حدث كلامي واحد، وهو بذلك يميزه عن التداخل اللغوي الذي يشر إلى الحالات التي تظهر فيها العناصر المعجمية والسمات النحوية من لغتين في جملة واحدة، عكس الرأي الذي يقول أن التحول اللغوي هو نتيجة التداخل بين لغتين مما ينتج عنه لغة ثالثة"[17] )وهو رأي كل من ديفز وبنتاهيلا Davies and Bentahila ، ينظر إلى: Gerald Stell and Kofi Yakpo(2014))

يعرفه بولوك وتورْبيو (2009) Bullok and Torbio بأنه "القدرة على التبديل بين اللغات في وضعية غير متغيرة، وعرفته بوبلاك Poplack(2001) بأنه المزج بين لغتين أو أكثر في الخطاب دون تغيير موضوعه"[18].

كل هذه التعاريف تتفق على أن التحول اللغوي هو انتقال من لغة إلى أخرى في سياق تواصلي ما، وهو ما يؤكد ارتباط التحول بالثنائية اللغوية من جهة وبالتداخل اللغوي من جهة أخرى بحيث تتطلب الظاهرة وجود أكثر من لغة عند الفرد الواحد وانشار أكثر من واحدة في مجتمع واحد، بحيث يتم استخدام مفردات أو عبارات خاصة بلغة ثانية في الخطاب التواصلي، غير أننا لا يمكن النظر إلى مفهوم التحول اللغوي ومفهوم التداخل اللغوي على أنهما مصطلح واحد.

فالتحول اللغوي حسب سكيبا يتم بطريقة شعورية أو لا شعورية ويبقي اللغتين منفصلتين ومتميزتين، وهو ما يخلق حاجزا يحول دون حدوث تداخل بينهما[19].

فالتحول اللغوي هو امتداد للغة بالنسبة لثنائيي اللغة، ويتم على مستوى المفردات والجمل وليس تداخلا، بينما التداخل هو تأثير اللغة الأولى على اللغة الثانية التي تعلمها الشخص في مستويات عدة: صوتية، نحوية، ومعجمية ودلالية، فالتحول اللغوي هو شكل من أشكال التداخل اللغوي[20].

مثال: (حوار دار بين تلميذتين من المستوى الثاني من التعليم الثانوي الإعدادي في مجموعة تربوية عبر تطبيق واتساب)

التلميذة1: واش نكتبو القاعدة لي عطات لينا الأستاذة ونأونكادريوها؟

التلميذة2: je pense  لا، ماقالتهاش لينا.

في السؤال الذي طرحته التلميذة 1 نجد تداخلا لغويا على مستوى الفعل encadrer فقد تمت معاملته معاملة الفعل غير التام في العامية المغربية، تمت إضافة (السابقة) صرفة الزمن (ن) والتي حققت سمة الزمن+ الشخص، وأيضا اللاحقة( واو الجماعة) الدالة على العدد والجنس، فحاولت بناء الفعل في الفرنسية على غرار الفعل( نكتبوا) وجعلته يوافقه في الزمن والتطابق، كما تم إلحاقه بعائد يعود على "القاعدة"، ليصبح الحاصل في النهاية جملة "نأونكادريوها": فعل –فاعل- عائد، وبالتالي خرق في الرتبة المعروفة في الفرنسية ب فاعل- فعل- مفعول به، هذه التلميذة قامت بتداخل لغوي بين اللغتين العامية المغربية والفرنسية، حاولت من خلاله جمعهما في بنية واحدة رغم اختلاف قواعد النسقين وهذا التداخل يسمى بالتداخل السلبي[21]، حيث نقلت التلميذة 1 مقولات وظيفية من العامية المغربية وأسقطتها على مقولة معجمية من اللغة الفرنسية دون مراعاة خصائص البنيوية لهذه الأخيرة، بالإضافة إلى خرق فونيمي باستبدال فونيمات اللغة الفرنسية بأخرى عربية، أما في جواب التلميذة 2 فهناك تحول لغوي حدث داخل الجملة لكن لم يتم خرق قاعدة أي من اللغتين الفرنسية والعامية المغربية، فالجملة الفرنسية   pense je" هنا حافظت على رتبة فاعل – فعل، وبالتالي أبقت على اللغتين منفصلتين من حيث قواعدهما الخاصة.

2-3- نشأة المصطلح

إن مصطلح التحول اللغوي قديم قدم مفهوم الثنائية اللغوية نفسها، وهو مصطلح صاغه فوجيت(1954)voget في مراجعته لكتاب فاينرايشWrinreich’s "اللغة في تماس" (1953)[22]، وقد استحوذ المصطلح حينئذ على اهتمام الباحثين وتطورت المواقف تجاهه بشكل كبير وكان التصور المبكر للتحول اللغوي سلبيا، حيث كان يُعتقد أنه يحدث بسبب ضعف القدرة اللغوية لدى ثنائيي اللغة، ومع تطور الدراسات اللسانية الحديثة تغيرت النظرة للمصطلح، وأصبح التحول اللغوي منذ السبعينيات من القرن الماضي موضوعا مستقلا للدراسة له مفاهيمه الخاصة ومنهجيته الخاصة في الدراسة، لذلك لا عجب إن كثرت التعريفات حوله أو تناقضت، وجاء بعد ذلك كل من كويك (1987) و ماكسوان(2000) ليؤكدا أن التحول اللغوي يمكن النظر إليه على أنه مؤشر مرموق للقدرة اللغوية واعتبراه استراتيجية للتواصل ولزيادة إثراء الخطاب[23] ، عكس الادعاءات السابقة.

3-3- وجهات نظر

لقد تم إجراء عدة دراسات تناولت التحول اللغوي من ثلاث وجهات نظر مترابطة مع بعضها البعض.

المنظور اللغوي The linguistic perspective: اهتم بما يتعلق بالنظرية اللغوية و القيود اللغوية على التحول اللغوي، كما حددتها بوبلاك(1980) وسلسلة القيود التي جاءت بعدها، والتصنيف البنيوي الذي جاء به ميوكسن(2000) [24].

المنظور اللغوي الاجتماعيThe sociolinguistic perspective: اهتم بالدوافع الاجتماعية وراء عملية التحول اللغوي، وبالتفسيرات الاجتماعية المرتبطة به كالتعبير عن الهوية وعن القيم الأيدولوجية أو الثقافية...

فقد تناولت الدراسات الأولى للتحول اللغوي مع غامبرز(1971) الوظائف الاجتماعية للتحول اللغوي وكان سؤال البحث، لماذا ينخرط المتحدثون في التحول اللغوي؟ وتم التوصل إلى إجابة مفادها أن التحول اللغوي هو استراتيجية للتأثير على العلاقات الشخصية، واستمر البحث خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي لتنقيح هذه الإجابة، واعتبر كل من غامبيرز(1982)و أوير(1984) أن التحول اللغوي إشارة سياقية وهي واحدة من مجموع الأدوات التي تستعمل في الإشارة إلى نوايا المتكلم في الخطاب، كما درس أغلب الباحثين الوظائف الاجتماعية للتحول اللغوي وأشكال استخدامه بين الأشخاص، التي تعكس قيم المجموعة والمعايير المرتبط بالتنوعات اللغوية داخل المجتمع[25].

المنظور اللغوي النفسيThe psycholinguistic perspective: وقد ركز على كيفية تخزين الأنظمة اللغوية عند الأشخاص ثنائيي اللغة والوصول إليها في النظام المعرفي؟ وحاول البحث عن إجابة لسؤال: كيف تكتسب اللغة الثانية؟ سؤال أثار جدلا واسعا بين الباحثين، نتج عنه وجهتا نظر مختلفتين هما: أن الأشخاص ثنائيي اللغة يتشكل لديهم "نظام لغوي واحد" منذ بداية الطفولة وينفصل فيما بعد، ودليل ذلك أن الأطفال في السنوات الأولى من عمرهم يخلطون لغتيهم معا أو يستخدمون قاعدة واحدة قد يستمدونها من إحدى اللغتين، ومَثَّل لذلك فرانسوا جروجون بطفلة ثنائية اللغة في الفرنسية والإنجليزية، وُضعت تحت تجربة لدراسة اكتساب المفردات، فلوحظ أنها كانت تمزج بين chaud (الفرنسية) وhot ( الإنجليزية) في كلمة واحدةshot أو تمزج بين pickle و cornichonفي كلمة pinichon، وطفل آخر كان يقول: papa-daddy وchaud-hot. أما وجهة النظر الثانية فترى أن الأشخاص ثنائيي اللغة يتشكل لديهم "نظام لغوي مزدوج" مميز منذ البداية، حيث تستطيع كل لغة من اللغتين أثناء اكتسابهما أن تتطور على نحو مستقل وبنمط اكتساب مماثل للذي عند أحاديي اللغة، وحجة ذلك ما قدمته الباحثة بيرجمان كورال، كون أن ابنتها كانت تميز بين اللغتين قبل السن الثانية تقريبا وتستخدم كل لغة على انفراد وهو الطرح الذي تبناه الباحثون بعد ذلك حيث فسروا الطرح الأول على أنه مجرد تحول لغوي لا غير[26] .

4-3- التصنيف البنيوي للتحول اللغوي:

يقسم ميوسكنMuysken (2000) التحول اللغوي حسب المنهج البنيوي إلى ثلاثة أقسام[27]:

الإدماجInsertional[28] : حيث يتم دمج مكونات من A في إطار صَرفي نحوي يهيمن عليهB.

التناوب Alternational[29] : حيث يتناوب A وB دون التعدي على الحدود الصَّرف نحوية الخاصة بكل منهما.

التطابق المعجميCongruent Lexicalization[30]: حيث يتقارب A وB في الإطار الصَّرفي النحوي.

يتضمن الإدماج دمج عناصر معجمية لوحدات من اللغة الأولى في بنية اللغة الثانية أو العكس، ويتراوح هذا النوع من التحول بين تبديل كلمة أو عبارة كاملة، أما في التناوب فتحافظ عناصر اللغة على بنيتها النحوية مستقلة، أي يتم استخدام بنيات مختلفة وفقا لقواعد لغتها الخاصة، رغم استخدامها في بنية مختلفة، ويرى مويرMoyer أن التناوب يتوافق مع التحول بين الجمل ويشير إلى الحالة التي يقول فيها متحدث ثنائي اللغة جملة بلغة أولى ثم جملة أخرى بلغة ثانية لنفس الحوار، أما في النوع الثالث والأخير فيتم دمج المفردات من لغات مختلفة داخل بنية نحوية مشتركة (نفس الجملة) حيث لا يتم ملاحظة المفردات المتطابقة إلا إذا كانت اللغتان لهما بنيات نحوية ومعجمية متشابهة، مما يعطي انطباعا بأن التطابق بين المفردات يتطلب تطابقا  أو تشابها بين اللغتين، كالإنجليزية والفرنسية مثلا، وهذا النوع يستعمله ثانئيو اللغة الذين لهم مهارة لغوية عالية بنفس الدرجة في كلتا اللغتين[31].

5-3- القيود

بنت بوبلاك(1980) poblack أول نموذج نظري للقيود البنيوية على التحول اللغوي من خلال وضع قيدين أساسين هما[32]:

قيد الصَّرف الحر [33] The free morpheme constraint؛ يشير هذا القيد إلى أنه لا يجوز التحول داخل نفس الكلمة، مثل إلحاق علامة الجمع باسم voiture فنقول فواتيرات أو  singer(مغني) سينجرون.

قيد التكافؤ The equivalence constraint[34] : تبعا لهذا القيد، التحول اللغوي ينبغي أن يقع في نقطة ما في الجملة بحيث لا تُخترق قواعد كل من اللغتين كأن نقول مثلاmilk je bois، هذا المثال يخرق قاعدة الرتبة في اللغتين الفرنسية الإنجليزية فعل- فاعل- مفعول به.

وهذه القيود توفر الآلية المناسبة تحول دون حصول تداخل لغوي في المحادثات بين ثنائيي اللغة.

6-3- أنواع التحول اللغوي:

"أنواع التحول اللغوي بالنظر إلى المتكلم والمستمع.

التحول الإنتاجي: يقوم به المتكلم شفهيا أو كتابيا.

التحول الاستقبالي: يقوم به المستمع، فكلما تحول المتكلم من لغة إلى أخرى يتحول معه المستمع، فيصبح المتكلم هو الموجه والمتحكم في الخطاب والمقام والوقت، ويبقى المستمع هو المتفاجئ بهذا التحول، الشيء الذي يضعه أمام احتمال عدم قدرته على فهم الكلام"[35].

أنواع التحول بالنظر إلى المستوى اللغوي:

تحول داخلي/ثابت: يتم داخل نفس اللغة، كالتحول من العربية الفصحى إلى العربية المغربية/ العامية.

تحول خارجي/ متغير: يكون بين لغتين مختلفتين في مجتمع لغوي واحد، كالعربية والفرنسية في المغرب، أو من لهجة إلى أخرى[36].

ج- أنواع التحول بالنظر إلى السياق والمتكلم حسب بلوم وغامبيرز:

تحول سياقي/ ظرفي: يحدث هذا التحول حسب الموقف وذلك عندما تتغير اللغة المستعملة وفق الموقف الذي يجد المتكلم نفسه فيه، وباختلاف الموقف تتغير اللغة، فالموقف يملي- داخل جماعة ثنائية اللغة- اختيار التنوع، وهذا التنوع يتحدد من خلال العلاقة بين المتخاطبَين، ويرى كل من جانيت ودونالد (2015) أن الازدواجية اللغوية تعزز الاختلافات بين المتكلمين في حين أن التحول اللغوي يميل إلى تقليصها.

التحول اللغوي العاطفي/ الرمزي: حيث يحمل اختيار لغة بدل أخرى في خطاب ما بُعدا رمزيا، وذلك لتتناسب لغة التبليغ مع الخطاب، ويتضح ذلك من خلال المثال الذي ضرباه جانيت ورولاند بشارلز حاكم روما، حينما قال: أنا أتحدث الإسبانية مع الله، والإيطالية مع النساء، والفرنسية مع الرجال، والألمانية مع حصاني، فالانتقال من لغة إلى أخرى يحدث لإرادة داخلية لها بعد عاطفي بالدرجة الأولى[37].

يتم تحديد التحول اللغوي إذن، إما من خلال عوامل خارجية للمتحدث كإدخال موضوع جديد في المحادثة، أو أن المتحدث نفسه هو الذي يخلق تغييرا في المحادثة من خلال تغيير اللغات، فيصبح التحول بذلك أداة للكشف عن نوايا المتحدث وتفسيرها.

7-3- أسباب التحول اللغوي.

هناك عدة أسباب تدفع المتكلم إلى التحول من لغة إلى أخرى، من هذه الأسباب نجد[38]:

رغبة المتكلم في التأثير في السامع.

رغبته في التعبير عن التضامن مع جماعة لغوية.

رغبته في الحفاظ على سرية المعلومة، إقصاء شخص ما من دائرة الحديث، أو إخراجه من سياقه، فيتعرض المرء أحيانا إلى الإقصاء لأنه لا يجيد لغة الآخرين.

توضيح المعنى باللغة الثانية، أو تأكيد مفردة أو جملة.

الاقتباس، قد يحدث التحول بالاقتباس من لغة ثانية؛ شعرا، أو قولا مأثورا.

تحديد المخاطب وتوجيه الكلام له في جماعة لغوية، حيث يتم إنشاء علاقة ودية بين المتحدث والمستمع عندما يستجيب المستمع لهذا التحول. وهذا النوع من التحول يمكن استعماله لإقصائه من دائرة الحديث وإخراجه من سياقه لإظهار رفعة المكانة، باستخدام لغة أخرى قد يعطيها المجتمع منزلة أعلى من غيرها.

إعطاء إشارة بإدراك اللغة الثانية، أو نقل انفعال ما، يميل هذا النوع من الأشخاص إلى التحول اللغوي عندما يكون منزعجا أو متعبا أو...

واقع التحول اللغوي عند تلاميذ المستوى الإعدادي.

تعد المرحلة العمرية ما بين 12- 18 سنة تقريبا- مرحلة المراهقة- من المراحل التي يمكن أن نلمس فيها الكثير من التحول اللغوي، فهي المرحلة التي يستكشف فيها المتحدثون مدى قدرتهم على التلاعب باللغة أو اختراع ألفاظ جديدة وما إلى ذلك، وهي أيضا الفترة التي يحاولون فيها إثبات أنفسهم بين أقرانهم وأيضا تأثرهم بسلوكيات غيرهم ولعل التحول اللغوي من أبرزها.

سنحاول في هذا المحور من العرض الوقوف على ظاهرة التحول اللغوي عند هذه الفئة العمرية، وعينة الاشتغال هم تلاميذ من المستوى الثانوي الإعدادي بالتعليم الخصوصي (عددهم59 تلميذا) تم اكتشاف هذه الظاهرة في تواصلهم عبر الرسائل القصيرة داخل مجموعة تربوية لتبادل الدروس والمعلومات على تطبيق واتساب.

وقد استندنا في هذا العمل على بعض الأسئلة والاستبيانات، ونماذج من المحادثات لتقصي هذا الوضع اللغوي لدى هذه الفئة، فكانت الأسئلة المطروحة عليهم كالآتي:

- هل يحدث التحول اللغوي في تواصلك؟

- لماذا تلجأ إلى توظيف لغة ثانية في محادثتك، هل الأمر مقصود؟

- ما هي اللغة التي تتحول إليها عادة في حديثك؟

- هل يحدث التحول في البيت أم المدرسة أم في الشارع؟

- ما هو محيطك الذي تنتشر فيه ظاهرة التحول اللغوي بكثرة، هل البيت أم المدرسة أم الشارع أم الوسائل التكنولوجية الحديثة؟

بعد فحصنا لأجوبة هذه الأسئلة توصلنا إلى ما يلي:

يظهر المبيان أن جل التلاميذ موضوع الاشتغال يحصل عندهم تحول لغوي، لكنهم يتفاوتون في اللغات التي يتحولون إليها ماعدا العربية والفرنسية فهم متساوون فيهما، ويرجع ذلك إلى أن العربية والفرنسية هما اللغتان اللتان يتعلمانها منذ السنوات الأولى من عمرهم في المدرسة بعد اللغة الأم، بالإضافة إلى تشابه العربية الفصحى مع اللهجة المغربية في الكثير من الخصائص( النحوية، الصرفية، الدلالية...)، والعكس بالنسبة للذين يتحولون بين اللهجة المغربية والأمازيغية لأن هذه الأخيرة هي اللغة الأم التي تم اكتسابها وأصبحوا يتحولون منها إلى لغات أخرى لكن فقط مع من يتحدثون الأمازيغية، فرغم أن عددهم قليل كما يوضح المبيان، إلا أنهم الأكثر قدرة على التحول بين اللغات من غيرهم أو بالأحرى القدرة على التحول إلى أكثر من لغة في سياق واحد. أما اللغة الإنجليزية فقليلا ما يتحولون إليها ربما لأنها جاءت في المرتبة الثالثة بعد الفرنسية والعربية في التعلم والتلقين داخل المؤسسة التعليمية، لكنهم يقبلون عليها عبر الوسائل التكنولوجية الحديثة.

وللإشارة فالتلاميذ الجدد الملتحقون بالمؤسسة لهذا الموسم الدراسي (2024/2025) منخرطون أيضا في هذه العينة وينتقلون بنفس الكثافة بين اللغات رغم أن بعضهم كان متمدرسا بالقطاع العمومي، لنعدم حقيقة أن المدرسة هي المسؤول الوحيد عن التحول اللغوي لدى هذه الفئة من التلاميذ.

يوضح لنا هذا المبيان أن التحول اللغوي يحدث في كل الأوساط التي يتواجد فيها التلاميذ- موضوع البحث- أغلب وقتهم، وقد تم وضع استبانة على مجموعات الواتساب، طرح فيها السؤال الآتي، ما هو محيطك الذي تنتشر فيه بكثرة ظاهر التحول من لغة إلى أخرى في المحادثات؟ بحيث ينتقل المتخاطبون من لغة إلى أخرى أو يخلطون بينها. وكانت المعلومات التي توصلنا إليها هي ما يقدمه المبيان أعلاه.

بحيث أقر حوالي 49 من التلاميذ من المجموعة أنهم يلاحظون هذه الظاهرة بشكل كبير على شبكة الأنترنيت وتم الاستفسار عن المواقع والتطبيقات التي يحدث فيها بكثرة، فكانت أغلب أجوبتهم: الواتساب والفضاء الأزرق واليوتيوب وموقع spotify. وأغلب ما يشاهدونه أو يسمعونه عبر التطبيقين الأخيرين هو البودكاست، وهو من الوسائط الإعلامية الرقمية المشهورة في الآونة الأخيرة والتي يمكن أن نلاحظ فيها ظاهرة التحول بين اللغات بشكل كبير، وتأتي المدرسة في المرتبة الثانية بعد الأنترنيت ويقر التلاميذ أن المدرسة ثاني وسط يحصل فيه الانتقال بين اللغات لكن يقل ذلك أثناء الحصص الدراسية خاصة في المواد الأدبية، ويأتي الشارع في المرتبة الثالثة، بحكم أن الاحتكاك مع المتخاطبين في هذا المحيط يختلف من شخص إلى أخرى بحسب الفئة العمرية وبحسب إمكانية حصول التحول اللغوي أم لا؛ هناك أشخاص لا يحصل لديهم تحول لغوي وهناك أشخاص يحصل لديهم تحول لغوي لكن بدرجات. أما البيت فيحصل فيه التحول اللغوي بشكل قليل، ويتحكم فيه الوضع الثقافي والاجتماعي وحتى المادي لأسر التلاميذ، فبعد الاستفسارات التي قمنا بها وجدنا أن التلاميذ الأكثر تحولا بين اللغات منحدرون من أسر ميسورة وأفرادها إما مثقفون أو موظفون، وكلما كان أحد أفراد الأسرة غير مثقف خاصة الأم وثم الأخوة، تحول التلميذ إلى لغة واحدة فقط. وهذا إن دل فهو يدل على دور الأسرة في تثبيت وترسيخ قيم المعرفية التي يكتسبها التلميذ في باقي الأوساط.

إذا فكيف لتلميذ من هذه الفئة العمرية ألا تحصل معه هذه الظاهرة وكل من يحيطون به متعددوا اللغات و يحصل لديهم تحول لغوي في محادثاتهم؟ لذك فمحيط التلميذ له دور فعال في توجيه لغويا كيفما كان نوع هذا المحيط.

نماذج من التحول بين اللغات عند العينة:

عندما بحثنا في المجموعات التربوية- على التطبيق المذكور أعلاه- عن نماذج من التحول اللغوي، استوقفنا حوار قصير دار بين تلميذتين من المستوى الثاني إعدادي، موضوعه الاستفسار عن تتمة درس علوم الحياة والأرض على شبكة الأنترنيت.

التلميذة 1: واش ساليتي الفيديو دعاء؟

التلميذة 2:   آه

التلميذة 1:  أنا Non، عاودت leçonكاملة  (2)

التلميذة 1: ولكن مشارحاش الأستاذة Last document (3)

التلميذة 2:  واه مشرحاتوش ولكن دبا يشرح لنا الأستاذ

التلميذة 1:  داكشي لي بالي ماشارحاش first one ، راها دايرة تكميلته فشي فيديو آخر Maybe (4)

التلميذة 2:  I think (5)

التلميذة 2:  ولكن تكون تكون دايرة cours كامل في another vidio (6)

التلميذة 1:  Maybe

...

سنحلل هذه الأمثلة وفق التقسيم البنيوي الذي وضعه ميوسكين(2000) والقيود الصَّرف النحوية التي وضعتها بوبلاك(1980).

الملاحظ في الأمثلة أن التحول اللغوي عند التلميذتين كان من العربية المغربية( اللهجة المغربية) إلى الفرنسية تارة أو إلى الإنجليزية تارة أخرى أو إليهما معا (تحول خارجي) وهو تحول استقبالي كانت التلميذة 1 المثال (4) المتحكمة فيه والموجهة للغة التي انتقلت إليها التلميذة 2 المثال (5) ، والملاحظ أيضا غياب النوع الثاني الذي ذكره ميوسكن في تقسيمه( التناوب بين الجمل في سياق واحد).

في المثال (2) تحولت التلميذة من الدارجة المغربية إلى اللغة الفرنسية وتم إدراج العنصرين non و Leçon في بنية اللهجة المغربية دون أن تخرق القيد الأول كأن تلحق(ال) التعريف مثلا ب الاسم Leçon ، ولم تخرق القيد الثاني وأبقت المفعول به leçon بعد الفعل والفاعل في الرتبة المخصصة له فلم تكتب مثلا: *Leçon عاودت. وبالتالي فالمثال(1) هو نموذج عن التحول اللغوي.

في المثال (3) أدرجت التلميذة عناصر من اللغة الإنجليزية في بنية اللهجة المغربية فحافظت أيضا على رتبة: نفي+ فعل + فاعل+ مفعول به( document) كما هي في العربية، ورغم معرفتها برتبة موصوف+ صفة في العربية الفصحى وفي العربية المغربية( الدارجة) حافظت على رتبة الصفة + موصوف  last documentفي الإنجليزية وبالتالي أبقت قواعد اللغتين منفصلتين وهذا في حد ذاته يتطلب وجود قدرة لغوية في كلتا اللغتين وكثرة الممارسة، كما لا نجد خرقا للقيد الصرفي فالاسم document بقي مستقلا بمكوناته دون أن تدخل عليه مكونات صَرفية عربية.

في المثال(6) تم الانتقال من الدارجة المغربية إلى الفرنسية ثم إلى الإنجليزية في نفس المحادثة، العنصر اللغويcours من اللغة الفرنسية، والعنصران another vidio من اللغة الإنجليزية وتم إدراج العنصرين داخل بنية الدارجة المغربية دون خرق القيدين الصرفي أو النحوي.

ما نستنتجه من هذه المحادثات-وحتى باقي المحادثات المكتوبة والشفهية لدى هذه الفئة من الأشخاص هو غياب المستوى الثاني من تقسيم ميوسكن(التناوب) وهذا يدل على أن هذه الفئة تميل إلى التحول اللغوي الذي يشمل المفردات وليس الجمل، فكمية المادة اللغوية المستعملة التي يقع التحول اللغوي فيها، تقل عند هذه الفئة، بينما عند الأشخاص الأكبر سنا سنجد أن التحول اللغوي يشمل الانتقال بين الجمل. وهو ما يفسر أن الانتقال من لغة إلى أخرى في التواصل لا يحدده فقط السياق ونوع المخاطَب ومقصدية المتكلم بل أيضا يتحكم فيه عامل السن.

وبعد استجواب قمنا به مع هذه العينة تبين أنهم ينتقلون أحيانا بين الجمل، لكن بشكل قليل جدا، وأنهم يقومون بذلك بشكل متعمد لأن عليهم التريث والتفكير جيدا في جملة اللغة المراد الانتقال إليها لتوظيفها في محادثتهم، أما الكلمات فينتجونها بشكل لا شعوري ويوظفونها تلقائيا فهم لا يستوعبون أنهم يوظفونها، وحتى وإن كان توظيفها مقصودا فإن ذلك من أجل الشرح والإبانة، إذا فهم يميلون بحكم سنهم إلى السهولة والسرعة في أداء المحادثة.

خاتمة:

إن التحول اللغوي ظاهرة منتشرة في كل مجتمع لغوي وكسلوك بشري هي مسألة حتمية في عصر أصبح الناس فيه يختلفون في العادات والثقافات واللغة، لذلك فالتحول اللغوي قد لا يعني صعود لغة على حساب أخرى وإنما هو وسيلة فعالة لتعلم اللغات الأجنبية في وقت أصبحت الحاجة إلى هذه الأخيرة ملحة، وقد ساعدنا هذا البحث على الوقوف على هذه الظاهرة واستنتجنا ما يلي:

اللغة كائن يستجيب للاختلاط اللغوي وهذا الاختلاط يسمح بوجود عدة لغات في مجتمع واحد.

التحول اللغوي مفهوم قديم قدم الثنائية اللغوية نفسها وحقل أسال حبر العديد من الباحثين.

التحول اللغوي مرتبط بالازدواجية والثنائية اللغوية والتداخل اللغوي.

التحول اللغوي هو وضع يعكس ديناميكية المنافسة بين عدة لغات في سياق تواصلي واحد.

التحول اللغوي هو استراتيجية يستخدمها ثنائيو اللغة لإثراء الخطاب.

التحول اللغوي ظاهرة تتحكم فيها عوامل عدة: كالموقف والعلاقة بين المتخاطبين ونوايا المتكلم والسن...

التحول اللغوي له أنماط وقيود تضبطه، حددها علماء علم اللغة الاجتماعي.

***

غزلان زينون - باحثة

..................

قائمة المراجع:

بلرهمي نسرين(2003) التداخل اللغوي بين العربية والأمازيغية وتأثيره على تلقي الطفل لقواعد اللغة العربية في المرحلة الابتدائية، مذكرة ماستر، جامعة محمد خيضر بسكرة.

الفاسي الفهري عبد القادر، العمري نادية(2007) معجم المصطلحات اللسانية، دار الكتاب الجديدة المتحدة.

فرونسوا جروجون (2017) ثنائيو اللغة، ترجمة زينب عاطف، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، الطبعة الأولى.

القطيطي بدر بن سالم، الثنائية اللغوية وظاهرة التحول اللغوي، قراءة فيما وراء اللغة في ضوء علم اللغة الاجتماعي، المجلس الدولي للغة العربية، المؤتمر الدولي السابع للغة العربية.

كزار حسن(2018) اللسانيات الاجتماعية في الدراسات العربية الحديثة، التلقي و التمثلات، الطبعة الأولى، دار الرافدين، لبنان

كايد محمود إبراهيم(2002) العربية الفصحى بين الازدواية اللغوية والثنائية اللغوي،المجلة العلمية لجامعة الملك فيصل )العلوم الإنسانية والإدارية( المجلد الثالث - العدد الأول-

المرزوقي منال(2015) التعدد اللساني في المجتمع الإماراتي، دراسة اجتماعية تربوية، مركز حمدان بن محمد لإحياء التراث، الطبعة الأولى.

محمد اسماعيلي علوي ، التداخل اللغوي الإيجابي وتأثيره في تعليم اللغة العربية وتعلمها، المدرسة المغربية أنموذجا، العدد الأول، مجلة الميادين للدراسات في العلوم الإنسانيـة المجلد الثاني ـ madjalate-almayadine.com

Benazouz Nadjiba, sociolinguistique, Université M. Kheider. Biskra. Faculté des Lettres et des Langues, 2eme lmd

Florian Coulmas (1998) The Handbook of Sociolinguistics, Blackwell reference online, ,

Gerald Stell , Kofi Yakpo (2015) Code-switching Between Structural and Sociolinguistic Perspectives, walter de Gruyter Gmbh. Berlin/Munich/ Boston .

Mehmet TUNAZ ( 2016) Development of Code-Switching, A Case Study on a Turkish/ English/Arabic Multilingual Child , Erciyes University

Rajend Mesthrie (2011)The Combridge Hanbook of Sociolinguistics, Cambridge University Press

Richard Skiba ( 1997) Code Switching as a Countenance of Language Interference http://iteslj.org/Articles/Skiba/CodeSwitching.html

Ronald Wardhaugh and Janet M. fuller (2015) An Introduction to Sociolinguistics, seventh edition, Wiley Blackwell,.

هوامش

[1]  الفاسي الفهري عبد القادر، العمري نادية (2007) معجم المصطلحات اللسانية، ص 30.

[2] كايد محمد إبراهيم) 2002( العربية الفصحى بين الازدواجية اللغوية والثنائية اللغوية، العدد الأول، المجلد الثالث، المجلة العلمية لجامعة الملك فيصل (العلوم الإنسانية والإدارية)، ص 55.

[3]  فرانسوا جروجون(2017) ثنائيو اللغة، ترجمة زينب عاطف، مؤسسة هنداوي للنشر، ص .19

[4]  Benazouz Nadjiba, sociolinguistique, Université M. Kheider. Biskra. Faculté des Lettres et des Langues, 2eme lmd p 12.

[5] Benazouz Nadjiba , p 12 – 13.

[6]  , p 12. Benazouz Nadjiba

[7]  كايد محمود إبراهيم، ص 55- 56 – 57.

[8] الفاسي الفهري عبد القادر(2007) معجم المصطلحات اللسانية ، ص 80

[9]  كايد محمود إبراهيم، ص 55.

[10]  المرزوقي منال (2015) التعدد اللساني في المجتمع الإماراتي، دراسة اجتماعية تربوية، الطبعة الأولى، مركز حمدان بن محمد لإحياء التراث، ص 19 – 20.

[11]  المرزوقي منال(2015)، ص 20- 21- 22- 23.

[12] الفاسي الفهري عبد القادر(2007)، ص 207.

[13]  كزار حسن(2018) اللسانيات الاجتماعية في الدراسات العربية الحديثة، التلقي و التمثلات، الطبعة الأولى، دار الرافدين، لبنان. ص 46.

[14]  Rajend Mesthrie (2011)The Hanbook of Sociolinguistics, Combridge University Press p 301

[15] الفاسي الفهري عبد القادر(2007)، ص 325.

[16]   p 1 ، Code Switching as a Countenance of Language Interference، Richard Skiba http://iteslj.org/Articles/Skiba-CodeSwitching.html

[17]     Gerald Stell , Kofi Yakpo (2015) Code-switching Between Structural and Sociolinguistic Perspectives, walter de Gruyter Gmbh. Berlin/Munich/ Boston .p 2.

[18]   Mehmet TUNAZ( 2016) Development of Code-Switching, A Case Study on a Turkish/ English/Arabic Multilingual Child , , Erciyes University , p 4

[19]  P 5 ، Code Switching as a Countenance of Language Interference، Richard Skiba http://iteslj.org/Articles/Skiba-CodeSwitching.html

[20]  بلرهمي نسرين(2003) التداخل اللغوي بين العربية والأمازيغية وتأثيره على تلقي الطفل لقواعد اللغة العربية في المرحلة الابتدائية، مذكرة ماستر، جامعة محمد خيضر بسكرة، ، ص 37.

[21]  محمد اسماعيلي علوي ، التداخل اللغوي الإيجابي وتأثيره في تعليم اللغة العربية وتعلمها، المدرسة المغربية أنموذجا، ـ العدد الأول، مجلة الميادين للدراسات في العلوم الإنسانيـة المجلد الثاني ، ص 122. (يحدث التداخل السلبي عندما ينقل الشخص بنيات من لغته ويسقطها على اللغة الثانية)  www.madjalate-almayadine.com

[22]  Gerald Stell , Kofi Yakpo (2015) Code-switching Between Strucrural and Sociolinguistic Perspectives, p 2

[23]  Mehmet TUNAZ (2016), p 5.

[24]  Gerald Stell , Kofi Yakpo (2015), p 3- 4- 5.

[25] Florian Coulmas(1998) The Handbook of Sociolinguistics, Blackwell reference online p 149

[26]  فرونسوا جروجون (2017) ثنائيو اللغة، ترجمة زينب عاطف، الطبعة الأولى، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ص 175 – 176.

[27] Gerald Stell , Kofi Yakpo(2015), p 4.

[28]  الفاسي الفهري عبد القادر(2007)، ص 149

[29]  الفاسي الفهري عبد القادر (2007)، ص 19

[30] الفاسي الفهري عبد القادر(2007)، ص 55.

[31] Mehmet TUNAZ (2016) , p3-4.

[32]    . p 2، Code Switching as a Countenance of Language Interference، Richard Skiba http://iteslj.org/Articles/Skiba-CodeSwitching.htm l

[33]  الفاسي الفهري عبد القادر(2007) ص 111.

[34]  الفاسي الفهري عبد القادر(2007)، ص 95.

[35] القطيطي بدر بن سالم، الثنائية اللغوية وظاهرة التحول اللغوي، قراءة فيما وراء اللغة في ضوء علم اللغة الاجتماعي، المجلس الدولي للغة العربية، المؤتمر الدولي السابع للغة العربية، ص 167.

[36]  القطيطي بدر بن سالم ، ص 167 .

[37]  Ronald Wardhaugh and Janet M. fuller, An Introduction to Sociolinguistics, seventh edition, Wiley Blackwell, p 98.

[38] القطيطي بدر بن سالم، ص 166- 167.

 

إن أهم سمة ميّزت القرن العشرين عن سواه من العصور الفلسفية المنصرمة، هو أنه عصر تحليل بامتياز، اهتمّ دعاته بالمنهج الدقيق، وعرض القضايا الكبرى تحت مجهر التحليل. ومن بين هذه القضايا، قضية اللغة التي انشغل بها النمساوي لودفيغ فتجنشتاين في أول حياته وآخرها.

1- رسالة منطقية فلسفية ثتائية اللغة والعالم:

شغل فتجنشتاين كرسي الفلسفة أمدًا طويلًا في جامعة كمبردج. ولو ألقينا نظرة على المجهود الفلسفي الذي اضطلع به فيلسوفنا في كتابه الأول «رسالة منطقية فلسفية» أو تراكتاتوس، سنجد أن الفكرة الأهم تتمثل في الصلة التي تربط اللغة بالعالم. ولا يمكن سبر أغوار هذه العلاقة إلا بتحليل العالم واللغة. فأما العالم، بحسب لودفيغ فتجنشتاين، فيتكوّن من مجموعة من الوقائع، هي حالات واقعية متحققة. وهذه الوقائع ذرّية، لا تقبل التفتت إلى وقائع أخرى، فهي تمثل الجوهر.

وتتكوّن الوقائع من أشياء بسيطة وروابط. وبهذا المعنى، فإن العالم حسب فتجنشتاين ذو بنية منطقية. أما بالنسبة للغة، فهي أيضًا ذات بنية منطقية، وهي - إن صحّ القول - مرآة تعكس العالم ومجموع الوقائع داخله. وبالتالي فإن اللغة عملية تصوير وتمثيل للواقع، وهي مجموع من القضايا التي تقابل الوقائع في العالم.

فعندما يقول أحدهم: «الكتاب فوق الطاولة»، فهذه واقعة لا يمكن فهمها إلا من خلال اللغة. فعند سماعنا لهذه الجملة يتشكّل في ذهننا صورة الطاولة والكتاب اللذين لهما تمثُّل واقعي سلفًا. وإذا ما عبّرت اللغة عن واقعة خارجية كما هي في الواقع، تكون القضية صادقة. فالكتاب فوق الطاولة هو حقًّا يوجد كتاب فوق الطاولة. كما يمكن أن تكون القضية كاذبة في حال عدم وجودها واقعيًّا. إلا أننا لا يمكن أن نحكم عليها بالخطأ؛ فجملة «الكتاب فوق الطاولة» سليمة تركيبًا إلى جانب واقعيتها وإمكان حدوثها أو حدوثها فعليًّا

وبالتالي فإن كل قضية لا تعبّر عن الواقع هي مفرغة من المعنى ومجرّد هراء، مثل القضايا الميتافيزيقية التي ليس لها تمثُّل في الواقع، فهي بالتالي خارج حدود العالم، أي خارج حدود الفكر واللغة، إذ هي مجرد قضايا بلا معنى. لذلك يجب البحث عن كل ما يستوعبه العالم واللغة، وما لا نعرفه يجب أن نصمت إزاءه.

وبما أن اللغة والفكر والعالم، كلها متماثلة، فأي محاولة لأن نقول بالمنطق (أي باللغة) «إن العالم فيه هذا وهذا، ولكن ليس فيه ذاك» محكوم عليها بالفشل، لأن هذا سيعني أن المنطق قد خرج عن حدود العالم، أي عن ذاته. ومن هنا يمكن أن نستنتج مع فتجنشتاين أن المعضلات الفلسفية هي معضلات لغوية بالأساس، ناتجة عن سوء استخدام اللغة.

كما ينبغي الإشارة إلى أن فتجنشتاين حاول في كتاب «الرسالة» إرساء قواعد اللغة المثالية الصارمة والمضبوطة وفق قواعد منطقية، من أجل أن تصوّر وتصف العالم الذي يتكوّن هو الآخر من بنية منطقية. ومن هنا تنشأ النظرية التصويرية لدى فتجنشتاين، التي وقع مناقضتها والثورة عليها، ليس من الفلاسفة المخالفين لفتجنشتاين، بل من فتجنشتاين نفسه.

2- تحقيقات فلسفية ثورة فتنجنشتاين على نفسه:

ففي كتابه «تحقيقات فلسفية»، والذي نُشر بعد وفاته، انقلب الفيلسوف النمساوي على أفكاره في «الرسالة» انقلابًا جذريًّا، بعد أن كان يظن أنه حلّ جميع مشكلات الفلسفة. لكن فتجنشتاين اللاحق أو المتأخر، قدّم لنا في «تحقيقات فلسفية» نظرية جديدة عن المعنى، هي نقيض النظرية المنطقية الذرية في «الرسالة»، وهي نظرية تبحث عن المعنى في استعماله.

صحيح أن فتجنشتاين قد ظلّ على رأيه في الاهتمام بدراسة اللغة في صلتها بالعالم، إلا أنه عدل عن رأيه السابق في أن مهمة اللغة هي وصف الوقائع، كما تخلّى عن رغبته في إرساء لغة مثالية. وصبّ جلّ اهتمامه في اللغة العادية التي تحقق التواصل بين مستخدميها.

«فليس لأي لفظ معنى إلا في مجرى الحياة.» بهذا القول نفهم من فتجنشتاين أن أي لفظ لا يمكن استخدامه في الحياة الواقعية، أي في سياقه، فهو لفظ بلا معنى. فمعنى أي كلمة هو طريقة استعمالها. ويمكن أن نستدل بمثال أورده فتجنشتاين في كتابه، وهو صورة البط والأرنب، وتتمثل في خدعة بصرية إذ تحتوي الصورة على رأس لأرنب أو بط. ولا يمكن أن نفهم ما إذا كان بطًّا أو أرنبًا إلا بوضع الصورة بين صور البط، وهو الحال نفسه بالنسبة للأرنب. فلا يمكن أن ترى أعيننا الحيوان بوضوح إلا عند وضعه بين بني جنسه. وهو الحال نفسه بالنسبة للفظ؛ فإن وقع اجتثاثه من سياقه يصبح فارغًا من المعنى.

ومن هنا تجاوز الفيلسوف علاقة اللغة بالعالم إلى علاقة اللغة بمستخدميها. فاللغة مجموعة من الأنشطة الاجتماعية غير محددة، وهي أيضًا مجموعة من الألعاب اللغوية. ونعني بمصطلح «ألعاب اللغة» أي اللغة في سياقها، أي الاستخدام الفعلي للغة. وبالتالي، فإن اللغة هي مجرد لعبة بيننا نتبادل فيها أحاسيسنا ومشاعرنا، إلا أنها تظلّ عاجزة عن إيصال هذه المشاعر والتجارب الخاصة إلى الآخر كما هي، بل تكتفي بالتعبير عنها لا وصفها.

ولبيان ذلك قدّم فتجنشتاين تجربة الخنفساء، فيقول:

«لنفترض أن كل شخص لديه صندوق به شيء فيه: نسميه “خنفساء”. لا يمكن لأحد أن ينظر إلى صندوق أي شخص آخر، والجميع يقول إنه يعرف ما هي الخنفساء فقط من خلال النظر إلى خنفسائه. هنا سيكون من الممكن جدًّا أن يكون لدى الجميع شيء مختلف في صندوقه. الشيء الموجود في العلبة ليس له مكان في لعبة اللغة على الإطلاق.»

الصندوق هو عقلنا، والخنفساء هي تجاربنا الشخصية كالإحساس بالسعادة والألم. كل شخص يعرف ما يوجد في صندوقه، لكن لا يعلم شيئًا عن صندوق الآخر. فلو طلبنا من أحد أن يصف لنا شعور الألم، سيصف كل شخص حسب تجربته الخاصة. وهكذا سنجد أكثر من تعريف للألم. ولكن مهما حاول شخص أن يصف هذا الألم، لن يستطيع أن ينقله كما هو. ولا حاجة لنقله كما هو، حسب فتجنشتاين، لأن هذا لا يدخل في لعبة اللغة على الإطلاق. فمهمة اللغة هي التعبير لا النقل.

اللغة ليست ماهية واحدة، بل هي ممارسة لغوية وأنشطة لغوية، وكل نشاط له منطق خاص به. ودعا فتجنشتاين الفلاسفة إلى الاهتمام باللغة العادية وترك إقامة اللغة المثالية، فالمشكلات الفلسفية ناتجة عن مشكلات استخدام اللغة العادية.

حسبنا في النهاية أن نشير إلى أن الفيلسوف النمساوي قد انتهى إلى تحطيم الإطار الضيّق للفلسفة التحليلية الذي وضع مور وراسل دعائمها.

في النهاية، يمكننا القول إن فتجنشتاين أغفل مهمة الفلسفة الأصلية، وهي الاهتمام بالمسائل الكبرى التي تشغل الإنسان، ووقف عند بعض التحليلات اللغوية وألعاب اللغة، مما ضيّق النظرة الفلسفية. ويمكن القول إن فتجنشتاين قد ساهم، بوعي أو من دون وعي، في انتشار اللافلسفة في الفكر الغربي المعاصر.

***

آية مصدق - تونس

ما الاستعمالات السلبية للغة من وجهة نظر توماس هوبز[2]؟

يجيبنا هوبز عن هذا التساؤل بكون اللغة في استعمالنا الخاص لها، يمكن أن تستخدم بكيفية سلبية. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يمكن بسط تلك الاستعمالات اللغوية السلبية في العناصر الآتية:[3]

أولا؛ تستخدم اللغة بكيفية سلبية، حينما يستعمل المرء مجموعة من الكلمات والأسماء التي لا يدرك معناها. معنى ذلك، أن الكثير من البشر يستعملون الكلمات والأسماء دون إدراك لمعانيها ودلالتها، بل أكثر من ذلك، فأحيانا تستعمل بعض الكلمات والأسماء فقط لكونها متداولة بين الناس، لكن أن تدرك كل الذوات حقيقة الكلمات المستعملة، فهو أمر محال في الكثير من السياقات البشرية. وخير مثال على ذلك، ما كان يقوم به سقراط في محاورته لبعض السفسطائيين، بحيث كان يسألهم عن بعض المفاهيم مثل العدل والأخلاق...، لكن إجابتهم كانت ذات طابع عمومي للكلمات، مما يفيد أن استعمال الناس للكلمات والأسماء، لا يفيد بالضرورة أنهم على علم ودراية بها. إن استخدام كلمات وأسماء بكيفية غير مدركة لمعانيها الأصيلة، له تبعاته السلبية التي قد تؤدي إلى النزاع والشجار، وأحيانا إلى الحروب.

ثانيا؛ تستخدم اللغة بكيفية سلبية، حينما يقدم المرء على استعمال الكلمات المجازية، بما هي كلمات لا تقوم على حقيقة الشيء، وإنما على معان استعارية متخيلة، تتطلب التأويل والتفسير بغية إخراج المعنى المجهول، من الكلام المعلوم. وإذا كان الأمر كذلك، فإن استعمال الكلام بكيفية مجازية، قد يؤدي إلى خلق نوع من سوء الفهم في أفهام الناس، بحيث لا يقدرون على التوافق بشأن كلمة من الكلمات التي تحتاج إلى تفسير، لإخراج ومعرفة دلالات أصحابها.

ثالثا؛ ما دام الإنسان محبا لما يملك في ذاته أو لذاته، فإنه في عملية إبداعه لجملة من الكلمات والأسماء، قد يعتبرها شأنا خاصا به. غير أن هذا الأمر لا يطرح مشكلة، من حيث إن حب التملك هوى إنساني، بينما المشكلة تقع حينما يبدع الإنسان كلمات قد تكون فارغة من المعنى، مثل تلك الكلمات التي كانت متداولة في التقليدين الفلسفي واللاهوتي الوسيطين، والتي لا تفيد في شيء، كالأقنوم، وتحول خبز القربان إلى جسد المسيح ودمه، الآن الأزلي...إلخ.

رابعا؛ لئن كانت اللغة من حيث الاستخدام الإيجابي تستعمل للهو والتنكيت لبعث الفرح لدى البشر، فإن اللغة في استخدامها السلبي يمكن أن تكون وسيلة لإداية الناس. فاللغة بما هي قوة تحملها الذات البشرية، فإنه يمكن أن تستعمل بكيفية سلبية تؤدي إلى خلق فضاء للصراع بين الناس، لاسيما، في استعمال بعض الكلمات التي تقلل من شأن الإنسان كإنسان. يقول هوبز: «والرابعة هي عندما يستخدمونها ليؤذي بعضهم بعضا: وبما أن الطبيعة قد سلحت المخلوقات الحية بعضها بالأسنان، وبعضها بالقرون، وأخرى بالأيدي لتؤذي عدوها، فإنه لمن إساءة استخدام النطق أن نؤذيه باللسان، ما لم يكن إنسانا نحن مجبرون على أن نحكمه، فعندئذ لا يكون الغرض أن نؤديه وإنما أن نؤدبه ونصلحه.»[4].

وبناء على ما سبق، نستنتج أن اللغة حتى وإن كانت من الأدوات الأساسية التي لا غنى عنها في حياة الإنسان، فإن اللغة باعتبارها صناعة بشرية، لها القابلية لكي تستعمل بطرق تكاد تكون أحيانا عامة تبتغي تحويل الخطاب الذهني إلى كلمات وأسماء شفوية هدفها تذكر ما مضى-الربط بينه، أو خاصة تبتغي معرفة أسباب الأشياء، وتعليمها، والتعبير عن إرادة صاحبها ورغباته، والترويح عن النفس. لكن، إن كان الاستخدام الخاص إيجابيا أحيانا، فإنه يمكن أن تستعمل بكيفية سيئة حينما تقوم على مجموعة من الأسماء والكلمات الفارغة من المعنى.

***

د. لوكيلي عبد الحليم - باحث في الفلسفة-المغرب

......................

[2]  توماس هوبز (Thomas Hobbes) فيلسوف وعالم رياضيات وفيزياء إنجليزي ولد يوم 5 أبريل من سنة 1588م في مدينة مالميسبري (Malmesbury)، وتوفي يوم 4 دجنبر من سنة 1679م. اشتهر بنظريته في مجال الفلسفة السياسية أو المدنية، غير أن له اهتمامات فلسفية في مجالات أخرى كالتاريخ والفيزياء والأخلاق واللاهوت...إلخ. ولعل من أهم أعماله التي تعد مصدرا أساسيا في تاريخ الفلسفة هو كتابه التنين أو اللفياثان (Léviathan).

[3] توماس هوبز. اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة. ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب؛ مراجعة وتقديم رضوان السيد. ط. 1. (أبوظبي: معهد أبو ظبي للثقافة والثرات، 2011). ص.41.

[4] توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق، ص.41.

الفلسفة تعني دراسة الأسئلة الأساسية المتعلقة بالحقيقة، والوجود، والقيم، والمعرفة، تهدف إلى فهم العالم والإنسان والعلاقات بينهما. من ناحية اخرى تعني العلوم بدراسة الظواهر الطبيعية والاجتماعية وتطوير نظريات ومفاهيم قائمة على الأدلة والتجربة هناك تفاعل وتأثير متبادل بين الفلسفة والعلوم، فالفلسفة توفر الأسس النظرية والمنهجية للعلوم، بينما العلوم تقدم المعرفة الأمبريقية التطبيقية التي تساهم في تطور الفلسفة الخلل البنيوي في العقلية الفلسفية يشير إلى مجموعة من التحديات والمشكلات التي تواجه الفلاسفة في بناء أفكارهم ونظرياتهم.  كثير من الفلاسفة يواجهون صعوبات في تجنب التناقضات في أفكارهم، هذه التناقضات قد تؤدي إلى ضعف الحجة أو عدم التماسك في النظريات اذ غالبًا ما تعتمد الفلسفات على افتراضات قد تكون غير مبررة أو غير مدروسة بشكل كافٍ، هذه الافتراضات يمكن أن تشكل أساسًا هشًا للنظريات ،الفلسفة تعتمد بشكل كبير على اللغة، لكن اللغة يمكن أن تكون غامضة أو متعددة المعاني، مما يؤدي إلى صعوبات في التعبير عن الأفكار بوضوح ،كما ان الفلسفات تتأثر بالثقافات والخلفيات الاجتماعية، ما يمكن أن يؤدي إلى انحيازات أو تفضيلات معينة تؤثر على الفكر الفلسفي . التطور في الحضارة والتكنولوجيا والاقتصاد عندما تكون هناك نظرية فلسفية خاطئة أو معتقدات غير صحيحة، يؤدي إلى تأثير سلبي على تطور المعرفة العلمية والابتكار التقني. على سبيل المثال، إذا كانت هناك فلسفة تعتقد أن العالم قائم على القدرة الإلهية وأن العلوم الطبيعية لا تكشف عن الحقيقة، يتم تقييد التطور العلمي والتكنولوجي، وبالتالي، يمكن أن يحدث تباطؤ في التقدم التكنولوجي والابتكار وتطور المجتمع ، الفلسفة تسهم أيضًا في توجيه القرارات الاقتصادية وتشكيل النظم الاقتصادية، إذا كانت هناك عقلية فلسفية متخلفة في المنطقة، يكون هناك تأثير سلبي على التطور الاقتصادي، مثل القيود على الحرية الاقتصادية وعدم تشجيع الاستثمار ،لذا يمكن القول إن وجود خلل بنيوي في العقلية الفلسفية يمكن أن ينعكس سلبًا على التطور في الحضارة والتكنولوجيا والاقتصاد،

أمثلة على الخلل البنيوي في العقلية الفلسفية

كان للأساطير والأفكار الخرافية تأثير كبير على الفلسفة والعلوم، على سبيل المثال، في العصور الوسطى، كانت العقلية الفلسفية تعتقد أن الأمراض تحدث بسبب الأرواح الشريرة أو الأسباب الخارقة للطبيعة، هذه العقلية أدت إلى تأخر في تطور فهمنا للأمراض وعلاجها، ومن ثم تأثير سلبي على التقدم الطبي والصحي، الفلسفة الدينية المتشددة تؤدي الى الالتصاق الشديد بمعتقدات دينية التي تشكل قيودا على التطور العلمي والتكنولوجي. تعتبر بعض السرديات الدينية المتشددة العلم والتكنولوجيا تهديدًا للقيم والمعتقدات الدينية، وبالتالي يتم رفضها أو تجاهلها مما يعوق التقدم التكنولوجي والعلمي في المجتمعات التي تتأثر بهذه العقلية، الفلسفة المحافظة والمحافظة تؤدي إلى المقاومة أو الرفض للتغيير والابتكار، على سبيل المثال، في بعض المجتمعات التقليدية، قد يتم رفض الأفكار والتقنيات الجديدة لأنها تعتبر انحرافًا عن التقاليد والقيم التقليدية مما يقيد التطور التكنولوجي والاقتصادي ويمنع استفادة المجتمع من التقدم، الفلسفة السلبية والقائمة على الشك، يمكن أن تؤدي إلى تقييد التطور والابتكار، عندما ينظر الأفراد إلى العالم بشكل سلبي ويشككون في إمكانية تحقيق التقدم فإنهم قد يتجنبون المخاطر ويمتنعون عن تجربة أفكار ومشاريع جديدة ،هذه الأمثلة توضح كيف يمكن أن يؤثر الخلل البنيوي في العقلية الفلسفية على التطور في مختلف المجالات.

الخلل البنيوي العام

من الصعب تحديد الخلل البنيوي العام في العقلية الفلسفية الشرق اوسطية، حيث تتنوع المدارس الفلسفية والتوجهات الفكرية في هذه المنطقة." (“الخلل البنيوي في العقلية الفلسفية الشرق اوسطية”)* ومع ذلك، يمكن التطرق إلى بعض التحديات ونقاط الضعف المحتملة في هذه العقلية:

القدرة على التطبيق العملي، تكون الفلسفة الشرقية اوسطية متمحورة بشكل كبير حول النظريات والتأملات الفلسفية، ويكون من الصعب تحويل هذه الافكار العميقة إلى تطبيقات عملية في الحياة اليومية.

الانغماس الديني، تكون العقلية الفلسفية الشرقية اوسطية مرتبطة بشكل وثيق بالدين والروحانية، ويكون هذا الانغماس الديني عائقًا أمام التفكير النقدي المستقل والتحليل العلمي.

الشمولية الثقافية، تكون الفلسفة الشرق اوسطية مرتبطة بثقافات محددة وسرديات تاريخية مؤدلجة، مما يؤدي إلى انحسارها في سياق ثقافي معين وعدم القدرة على التعامل مع التحديات العالمية بشكل شامل.

العولمة والهوية، تواجه الفلسفة الشرقية اوسطية تحديات في مواجهة العولمة وتأثيرها على الهوية الثقافية والفلسفية. يمكن أن تنشأ أسئلة حول الهوية الثقافية المشتركة والتفاعل بين الثقافات في ظل التحولات العالمية. هذه مجرد بعض القضايا الفلسفية الحالية التي يمكن أن تواجه العقلية الفلسفية الشرقية اوسطية.

مقارنة بين الفلسفة الشرق اوسطية والفلسفة الغربية

المصدر الأساسي للمعرفة:

 في الفلسفة الغربية، تعتمد المعرفة على المنطق والتحليل والاستدلال العقلي. بينما في الفلسفة الشرقية اوسطية، تعتمد المعرفة على السرديات الدينية والتجربة الروحية والتأمل.

التركيز الفلسفي:

 ترتكز الفلسفة الغربية على الفلسفة التأملية والأخلاق والاقتصاد، بينما تركز الفلسفة الشرقية اوسطية على الروحانية والتوازن والحكمة الروحية والتحقيق الذاتي.

النظرة للواقعية:

 الفلسفة الغربية تميل إلى تأكيد وجود الواقع الخارجي المستقل عن الوعي الإنساني، بينما الفلسفة الشرقية الوسطى تعزز فكرة أن الواقع هو نتاج للوعي الذاتي والتفاعل بين الداخل والخارج.

 (“الخلل البنيوي في العقلية الفلسفية الشرق اوسطية”)*

العلاقة بين الإنسان والطبيعة:

 في الفلسفة الغربية، يتم تعامل الإنسان والطبيعة على أنهما كيانان منفصلان، بينما تؤمن الفلسفة الشرقية الوسطى بالتوازن والتناغم والتقديس بين الإنسان والطبيعة ككيان واحد.

الأخلاق والقيم:

 الفلسفة الغربية تركز على الأخلاق الواجبة ومبادئ العدالة والحقوق، بينما الفلسفة الشرقية الوسطى تؤمن بالتوازن والتحقيق الروحي والتطهير الذاتي كأساس للأخلاق.

هذه مجرد بعض الاختلافات العامة بين الفلسفة الشرقية اوسطية والفلسفة الغربية. يجب ملاحظة أن هذه التصنيفات تعتبر عامة ويمكن أن يكون هناك تنوع وتداخل في الفلسفات داخل كل تقاليد، بعض الفلسفات الشرقية اوسطية تعتبر تطور التكنولوجيا والحضارة بشكل سلبي أو تنظر إليه على أنه يؤدي إلى انحراف عن القيم والمبادئ الروحية. ""ومع ذلك، يجب ملاحظة أن هذا الاعتراض ليس صحيحًا لجميع الفلسفات الشرقية اوسطية، وأن هناك تنوعًا واختلافًا بين هذه الفلسفات في مواقفها تجاه التقدم التكنولوجي والحضاري. " (“الخلل البنيوي في العقلية الفلسفية الشرق اوسطية”)* فبعض الفلسفات الشرقية اوسطية تروج لفهم متكامل يجمع بين الجوانب الروحية والمادية للحياة، وتؤمن بإمكانية استخدام التكنولوجيا والتقدم الحضاري لخدمة الإنسانية وتحقيق السعادة والتنمية الشاملة. علاوة على ذلك، يجب أن نفهم أن الفلسفة الشرقية اوسطية ليست كتلة موحدة وأن هناك تنوعًا في تياراتها ومدارسها الفكرية. وبالتالي، يمكن أن يكون لديها تفسيرات ومفاهيم مختلفة بشأن التكنولوجيا والتطور الحضاري. على مر التاريخ، يمكن أن تظهر بعض الدول في الشرق الأوسط بواجهتين، الجانب الثقافي والديني الذي يعكس الفلسفة الشرقية اوسطية، والجانب الاقتصادي والسياسي الذي ينطوي على التحديات التي تواجهها الدول في التطور التقني والحضاري، هناك عوامل عديدة تؤثر على التطور التقني والحضاري في المنطقة، مثل الاستقرار السياسي، التعليم، الابتكار، الاستثمار، والتكنولوجيا مع ذلك، تواجه الدول في الشرق الأوسط تحديات حضارية واقتصادية معاصرة، مثل توزيع الثروة، التعليم، البطالة، الفقر، الحروب والصراعات السياسية. هذه التحديات تؤثر على التطور التقني والحضاري في المنطقة.

الصراعات السياسية وأثرها

 تعاني بعض الدول في الشرق الأوسط من صراعات ونزاعات سياسية واضطرابات أمنية، مما يعرقل التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي. تواجه العديد من الدول في المنطقة تحديات كبيرة في مجال الفقر والبطالة، ويكون النمو السكاني السريع الذي يؤدي الى سوء توزيع الثروة ونقص فرص العمل يعد من الأسباب الرئيسية لهذه المشكلة. كذلك يعاني نظام التعليم في هذه الدول من ضعف التمويل ونقص البنية التحتية وجودة التعليم، مما يؤثر على تطور المهارات والمعرفة اللازمة لتعزيز الابتكار والتقدم الاقتصادي. كما ان هناك نقص في التمويل والاستثمار في البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، مما يؤثر على القدرة على الابتكار وتطوير صناعات جديدة وتحسين البنية التحتية التقنية كذلك تعاني العديد من الدول في الشرق الأوسط من تدفق اللاجئين والمهاجرين، مما يضع ضغوطًا على الموارد والبنية التحتية والخدمات الاجتماعية. من خلال تنمية التفكير النقدي في هذه المجتمعات وتعزيز الوعي الفلسفي والعلمي يمكن تجاوز الخلل البنيوي في الفلسفة الشرق أوسطية وتوفير بيئة داعمة ومحفزة للتفكير العلمي والفلسفي كما ان تشجيع الحوار والنقاش والبحث العلمي في المجتمعات يؤدي الى تحقيق التقدم والتطور. الا ان معظم كيانات المنطقة تسوسها دول هجينة يسودها الفساد بكل اشكاله والتبعية المقيتة.

***

غالب المسعودي

..............................

* الاقتباسات من مقالة لي منشورة في موقع الحوار المتمدن

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=820658

 

يكشف سلافوي جيجيك(1) المفارقة السياسية للكذب. ما تسمى مفارقة الكاذب Liar paradox statement مثل القول "كل ما أقول هو كذب" جرى نقاشها دائما من جانب الفلاسفة بدءاً من فلاسفة اليونان والهند حتى فلاسفة القرن العشرين. المفارقة هي اذا كان هذا القول صادق عندئذ فهو كاذب (كل ما أقول ليس كذبا)، والعكس صحيح. وبدلا من الضياع اللامتناهي في حجج وحجج مضادة، سوف نستفيد من جاك لاكان 1901-81)، الذي يقدم حلا فريدا من خلال التمييز بين محتوى التعبير enunciation والموقف الذاتي المتضمن في هذا التعبير enunciated: بين محتوى ما تقول والموقف المتضمن بما تقول. في اللحظة التي نستخدم فيها هذا التمييز، نرى فورا ان القول "كل ما أقول هو كذب" يمكن ان يكون ذاته صادقا او كاذبا. القول"انا دائما أكذب" يمكنه ان يجعل بشكل صحيح او غير صحيح التجربة الذاتية لكامل وجودي غير أصيلة وزائفة. لكن العكس ايضا صحيح.

لماذا نبذل وقتا في النقاش اللامتناهي بمثل هذه المفارقات؟ لأن في عصرنا عصر"ما بعد الحقيقة" للشعبوية اليمينية، بلغ تطبيق هذه المفارقة حدوده القصوى. لذا فان خطاب السياسيين اليوم لا يمكن فهمه بدون التمييز بين التعبير من جهة وما ينطوي عليه من جهة اخرى.

بعد إعادة انتخاب ترامب عام 2024، ناشدت الكسندريا اوكاسيو علنا (التي احتفظت بمقعدها في الكونغرس) اولئك المصوتين لها والذين ايضا صوتوا لترامب ان يوضحوا لماذا قاموا بهذا التصويت الغريب وغير المنسجم. قيل لها ان السبب هو انه بالمقارنة مع التلاعب الانتخابي لكاميلا هاري والديمقراطيين الاخرين، هي وترمب كلاهما بديا أكثر ثقة. هذا ايضا يفسر لماذا، عندما يقع ترامب في فخ اللاانسجام او الكذب الصريح، فان مثل هذا الافصاح يساعده: أنصاره يأخذون من كذبه كبرهان على انه يتصرف ككائن بشري عادي لايثق فقط بخبرائه المختصين وانما يقول رأيه بصراحة. ان اللاانسجام والكذب في المحتوى المنطوق لأقوال ترامب يعمل كإشارة بانه في مستوى موقف النطق، يتحدث ترامب كانسان أصيل وصادق. هذا يثبت ان الموقف المتضمن في النطق يمكن ان يكون أيضا مزيفا.

ستراتيجية الكذب

الحقيقة الذاتية هي في تضاد مع الحقيقة الواقعية factual truth بطريقة مشابهة للتضاد بين الهيستيريا والعصاب الوسواسي: الاول هو حقيقة في شكل كذبة، والثاني هو كذبة في شكل حقيقة. الهيستيري يقول الحقيقة في شكل كذبة بحيث ما يقال ليس صحيح تماما وانما الكذب يعبر بشكل زائف عن شكوى حقيقية، امّا ما يدّعيه العصابي الوسواسي هو في الواقع صحيح لكنه حقيقة تخدم الكذب.

اليوم، كلا اليمين الشعبوي واليسار الليبرالي اللذان يدعوان للتصحيح السياسي يمارسان هذين الشكلين التكميليين للكذب. اولاً كلا المجموعتين تستخدمان الكذب الواقعي عندما يخدم هذا الكذب ما يتصورونه كحقيقة عليا لقضيتهم. فمثلا، بعض الاصوليين الدينيين يدعون الى "الكذب من أجل يسوع": لكي تُمنع الجرائم المرعبة للاجهاض، يُسمح للمرء بنشر "حقائق" علمية كاذبة حول الأجنة والمخاطر الطبية للاجهاض، او لكي يساعدوا في اشاعة الرضاعة الطبيعية، يُسمح للمرء بعرض ادّعاء كـ حقيقة علمية بان الإمتناع عن الرضاعة الطبيعية يسبب سرطان الثدي. الشعبويون المناوئون للهجرة يتداولون بلا خجل قصصا غير واقعية حول الاغتصاب والجرائم الاخرى للاجئين لكي يعطوا مصداقية لرؤاهم بان اللاجئين يشكلون تهديدا "لإسلوبنا في الحياة". في كثير من الاحيان، ليبراليو التصحيح السياسي يعملون بنفس الطريقة لهدف مضاد، هم يعملون بصمت حول الاختلافات الفعلية بين طرق حياة اللاجئين والاوربيين، طالما يُنظر الى ذكرها كتعزيز للمركزية الاوربية. ونتذكر حالة روثرهام في المملكة المتحدة، حيث قبل عقد تقريبا، اكتشف شرطي ان عصابة من الشباب الباكستانيين كانوا يحضرون منهجيا لإغتصاب الاف الشابات الاوربيات الفقيرات، البيانات جرى تجاهلها في البدء او قُلل من شأنها لكي لاتثير الاسلامفوبيا.

الاستراتيجية المضادة ايضا مورست على نطاق واسع في كلا القطبين. الشعبويون المناوئون للهجرة لا ينشرون فقط اكاذيب واقعية وانما ايضا يستخدمون بمهارة اجزاءً من الحقيقة الواقعية ليضيفوا هالة من الصدق على أكاذيبهم العنصرية، كما ان انصار الحزب الشيوعي ايضا مارسوا هذا النوع من الكذب في صراعهم ضد العنصرية والتمييز الجنسي، هم كثيرا ما أعلنوا عن حقائق يمكن التحقق منها لكنهم يقدمونها بطريقة مشوهة. اليمين الشعبوي ينقل إحباطه الحقيقي وإحساسه بالخسارة الى عدو خارجي، بينما اليسار الشعبوي يستعمل قضاياه الصحيحة (اكتشاف التمييز الجنسي والعنصرية في اللغة) ليعيد الزعم بتفوقه الاخلاقي (وهكذا يمنع التغير الاجتماعي الاقتصادي الحقيقي). المفارقة الكبرى هي ان اليمين الشعبوي يمارس النسبية التاريخية بوحشية اكثر من اليسار، حتى عندما يدينونها في نظريتهم. مع ذلك، الموقف الصحيح هو ليس فقط التمسك بالحقيقة الواقعية، بمعنى ان، هناك "حقائق بديلة" – رغم انها ليست بالمعنى الذي حدث فيها الهولوكوست او لم يحدث. (بالمناسبة، جميع المحققين في الهولوكوست من ديفد ايرفينغ فصاعدا، الذين يدّ عون التحقق من البيانات بطريقة تجريبية صارمة – لا أحد منهم يستحضر نسبية ما بعد الحداثة).

البيانات تقدم ميدانا شاسعا وغير قابل للاختراق، ونحن دائما نقترب من زاوية ما تسميه التأويلات "افق الفهم"، مفضلين بعض البيانات ومتجاهلين اخرى. كل تاريخنا هو بالضبط – قصص يمكن القول عبارة عن مجموعات من بيانات منتقاة في قصص منسجمة بدلا من نسخ فوتوغرافية للواقع. فمثلا، مؤرخو اللاسامية يمكنهم بسهولة كتابة رؤية لدور اليهود في الحياة الاجتماعية للألمان في العشرينات من القرن الماضي، مشيرين الى الكيفية التي سيطر بها اليهود على مهن مثل المحاماة والصحافة والفن، وبغض النظر عن مدى صحتها، فهي من الواضح تعمل في خدمة الكذب. اكثر الكذب كفاءة هو الكذب الذي يعيد انتاج فقط البيانات الواقعية.

لو أخذنا تاريخ بلد ما، يمكن لأحد ما شرح ذلك التاريخ من وجهة نظر سياسية، مركزا على تقلبات السلطة السياسية، او ربما شخص آخر يمكنه التركيز على التنمية الاقتصادية، على الصراعات الايديولوجية، على البؤس الشعبي والاحتجاجات .. أي واحد من هذه الاتجاهات يمكه ان يكون دقيقا واقعيا لكنه ليس "صحيحا" بالمعنى الصارم البعيد عن الشك. لا يوجد هناك شيء "نسبي" حول حقيقة ان تاريخ الانسان دائما قيل من وجهة نظر معينة، جرى الحفاظ عليها بواسطة مصالح ايديولوجية. الشيء الصعب هو ان تبيّن كيف ان وجهات النظر النفعية هذه ليست صحيحة ايضا. بعضها اكثر صدقا من غيرها. فمثلا، عندما يعرض أحد قصة المانيا النازية من وجهة نظر معاناة اولئك الذي اضطُهدوا منها – أي، اذا تأثرنا في سردنا بمصلحة الانعتاق الانساني العالمي – هذه ليست فقط مسألة وجهة نظر ذاتية مختلفة، هذا السرد للتاريخ هو دائما "اكثر صحة" طالما هو يصف بكفاءة ديناميكية الكلية الاجتماعية التي أفرزت النازية. جميع "المصالح الذاتية" ليست نفس الشيء، ليس فقط بسبب ان بعضها مفضلة اخلاقيا على الاخرى، وانما ايضا بسبب ان "المصالح الذاتية" لاتقف خارج التكامل الاجتماعي، بل هي ذاتها أهداف للتكامل الاجتماعي، تكونت بواسطة مشاركين نشطين "او سلبيين" في العمليات الاجتماعية. ذلك يفسر لماذا لا يوجد هناك "ابلاغ "محايد" او "موضوعي" في حرب الشرق الاوسط، ولا حول القمع الروسي ضد اوكرانيا. يستطيع المرء قول الحقيقة حولها فقط من وجهة نظر الضحية . كتاب يورغن هابرماس (المعرفة والمصالح الانسانية، 1968)، هو اليوم الاكثر ملائمة من أي وقت مضى.

الكذب السلبي والكذب النشط

لكي نوضح هذا البُعد، يجب ان نوظف فكرة اخرى تلعب دورا حاسما في تحليل ايديولوجية اليوم: فكرة التداخل السلبي interpassivity التي طورها روبرت فولر. التداخل السلبي هو المضاد لفكرة هيجل في (دهاء العقل)، التي نكون بها نشطين من خلال الاخرين.

فكرة هيجل هي اني هل استطيع البقاء سلبيا، أجلس بارتياح في الخلف، بينما يقوم الاخرون بالعمل لي. بدلا من ضرب المعدن بمطرقة، تستطيع الماكنة القيام بذلك لي، بدلا من ان أقوم بتشغيل الطاحونة بنفسي، يستطيع الماء القيام بذلك. هنا انا احقق هدفي بطريقة التداخل بيني وبين الشيء الذي فيه أعمل شيء طبيعي آخر. لكن نفس الشيء يمكن ان يحدث على المستوى الشخصي. بدلا من ان أهاجم العدو مباشرة، انا استطيع اثارة قتال بينه وبين شخص آخر، بذلك انا استطيع ان اشاهد بارتياح الاثنين يحطمان بعضهما البعض. في حالة التداخل السلبي، على العكس، انا سلبي من خلال الآخر. انا أعترف للاخر بالمظهر السلبي – التمتع – بتجربتي، بينما انا ذاتي أبقى منخرطا بنشاط. انا استطيع الاستمرار بالعمل مساءً، بينما مسجل الفيديو يستمتع سلبيا بالتلفزيون لي، انا استطيع عمل ترتيب مالي لثروة المتوفي بينما الباكون يحزنون.

هذا يقودنا الى فكرة الفعالية الزائفة: الناس لا يتصرفون فقط لكي يغيروا شيئا ما، هم يستطيعون ايضا التصرف لمنع شيء ما من الحدوث او لكي لايتغير اي شيء. هنا تكمن الاستراتيجية الاساسية للعصاب الوسواسي. هو نشط بشكل محموم لكي يمنع الشيء الحقيقي من الحدوث. لنتصور، في موقف جماعي يحصل توتر يهدد بالانفجار، المهوسون يتحدثون كل الوقت لكي يمنعوا اللحظة المحرجة للعلم التي سوف تقنع المشاركين ليواجهوا علنا التوتر الاساسي.

ونفس الشيء، يحصل في علاجات التحليل النفسي، المصاب بالوسواس العصبي يتحدث باستمرار، يغرق المحلل بالحكايات والأحلام والرؤى. هذا النشاط المتواصل مدعوم بالخوف الاساسي بانهم لو أوقفوا الحديث للحظة، فان المحلل سوف يسألهم السؤال الخطير الذي يهم حقا. بكلمة اخرى، هم يتحدثون لكي يجعلوا المحلل ساكنا. حتى في الكثير من السياسات التقدمية اليوم، الخطر ليس السلبية وانما في النشاط الزائف المتحفز ليكون نشطا ومشاركا حتى لو بدون انتاجية. الناس يتدخلون كل الوقت، محاولين القيام بشيء ما، الاكاديميون يشاركون في نقاشات بلا معنى، الصعوبة الحقيقية هي التراجع خطوة الى الوراء والانسحاب. اولئك الذين في السلطة عادة يفضلون المشاركة النقدية على الصمت – لإشغالنا في حوار فقط للتأكد من كسر السلبية المشؤومة. التأكيد اللامتناهي على ضرورة الفعل، القيام بشيء ما، عادة يخون الموقف الذاتي في عدم القيام بأي شيء. كلما تحدثنا كثيرا حول كوارث بيئية وشيكة، كلما كنا أقل استعدادا للعمل. بالضد من نموذج التدخل السلبي الذي نكون به نشطين كل الوقت لضمان ان لا يتغير شيء، اول خطوة حاسمة في معارضته هي الانسحاب الى السلبية ورفض المشاركة. هذه الخطوة الاولى تمهد الطريق لنشاط حقيقي. الاشياء تصبح اكثر تعقيدا في عملية الإعتذار.عندما أتسبب بأذى لشخص ما، الشيء المناسب الذي أقوم به هو ان اقدم له اعتذارا رقيقا، والشيء الملائم له للرد هو قول شيء مثل "شكرا، انا اقدر شعورك لكني لم أكن منزعجا، لذا انت حقا لا تدين لي بأي اعتذار". المسألة بالطبع، انه رغم ان النتيجة النهائية هي ان لا اعتذار مطلوب، لكن المرء يجب ان يمر من خلال كامل عملية تقديم الاعتذار: "انت لا تدين لي باعتذار" يمكن قولها فقط بعد ان اقدم الاعتذار. لذا بالرغم من عدم حدوث شيء رسمي – لأن تقديم الاعتذار اعلن انه غير ضروري – هناك في نهاية العملية ربما يتم الاحتفاظ بالصداقة. الاعتذار نجح بالضبط من خلال اعلانه زائد عن الحاجة.

الحزب الشيوعي الصيني وفر نموذجا مشابها لإستغلال الفجوة بين المنطق والمنطوق. هو تعلّم درسا من فشل غورباشوف في ان الاعتراف التام علنا بـ "الجرائم التأسيسية" للنظام لن تؤدي الاّ الى سقوط النظام بأكمله. لذا فان تلك الجرائم يجب ان تبقى غير معروفة. حقا، بعض أخطاء وتجاوزات الماويين تم التنديد بها (القفزة الكبرى للامام والمجاعة المدمرة التي تبعتها، والثورة الثقافية)، وتقييم دينغ لدور ماو كـ 70% ايجابي و 30% سلبي، هو تكريس للصيغة الرسمية. لكن هذا التقييم يعمل قصداً كإستنتاج رسمي يجعل أي توضيح مفصل آخر غير ضروري. حتى عندما كان ماو سيئا بنسبة 30%، فان التأثير الرمزي لهذا الإعتراف هو محايد، لكي يستمر الاحتفال به كأب مؤسس للامة، لايزال جسده في ضريح وصورته على كل ورقة نقدية.

نحن نتعامل هنا مع حالة واضحة لإنكار يشبه انكار الشذوذ الجنسي. رغم اننا نعرف جيدا ان ماو ارتكب اخطاءً كبيرة وسبّب معاناة هائلة، لكن شخصيته تم الحفاظ عليها بطريقة اسطورية غير ملوثة بهذه الحقائق. بهذه الطريقة، يمكن للشيوعيين الصينيين امتلاك حصتهم من الكعكة، وان التغيرات الراديكالية التي أدت الى تحرير اقتصادي يمكن دمجها في استمرارية نفس الحزب الحاكم كما في السابق.

العملية هنا هي عملية تحييد (او كما يسميها فرويد "عزل"): انت تعترف باشياء فضيعة، لكنك تمنع جميع ردود الافعال الذاتية عليها (رعب مما حدث). ملايين الوفيات اصبحت حقيقة محايدة. اليوم، عندما يعلن إعلام اسرائيل وبعض الغرب عن تدمير غزة، هل انهم لا يمارسون نفس الحيادية؟ ارهابيو حماس يعذبون ويقتلون، بينما ضحايا جيش الدفاع الاسرائيلي تتم تصفيتهم وابادتهم ..

الشائعات والكذب

هناك شائعات تعمل بطريقة غريبة فيما يتعلق بالحقيقة: الحقيقة الواقعية للشائعة يتم تعليقها او تُعامل كشيء غير مادي (انا لا أعرف ان كانت حقيقية لكن هذ ما سمعته)، بينما محتوى الشائعة يحتفظ بكامل فاعليته الرمزية – نحن نستمتع بها، إعادة سردها بشغف (يمكن الوثوق هنا بكتاب الشائعات، للكاتب ملادن دولار، 2024).

لذا انه ليس نفس الشيء كإنكار الشذوذ الجنسي، التي تشبه كثيرا "انا أعرف جيدا انها ليست صحيحة لكن مع ذلك انا اعتقد بها"، بل هو عكسها – شيء مثل "انا لا استطيع القول باني اؤمن بان هذا صحيح، هذا حدث حقا لكن مع ذلك هذا ما أعرفه".

وفيما يتعلق بممارسة السلطة، يبدو حيز الشائعات غامضا. الشائعات القذرة يمكن ان تحافظ على السلطة (من أتاتورك الى تيتو) لكن الشائعات ايضا تلعب دورا حاسما في الاضطرابات بما في ذلك الاضطرابات المناوئة للمهاجرين (كما ذكرنا ان اوربا الآن مليئة بالشائعات ضد المهاجرين الذين يغتصبون النساء، وكيفية مراقبة السلطات للاخبار حول تلك الاغتصابات). هناك ايضا ما يرغب المرء تسميته "شائعات جيدة" – تلك التي تكون مطلوبة لإثارة انفجار ثوري. مثال تاريخي هو الخوف الكبير، الرعب العام الذي حدث بين السابع عشر من جولاي والثالث من اغسطس عام 1789 في بداية الثورة الفرنسية .

الشائعات يُنظر اليها باعتبارها تنسجم تماما مع مأزق اليوم والذي يصفه العديد من الناس بـ "موت الحقيقة" – توصيف هو بالتأكيد خاطئ. ما يقصده اولئك الذين يستعملون هذه العبارة هو انه في السابق (لنقل حتى الثمانينات من القرن الماضي)، رغم كل الاستغلال والتشويهات، ظلت الحقيقة سائدة بطريقة او باخرى، بحيث ان عبارة "موت الحقيقة"هي نسبيا ظاهرة حديثة. لكن نظرة عامة سريعة تخبرنا ان هذه ليست هي الحالة: كم من الانتهاكات لحقوق الانسان والكوارث الانسانية بقيت غير مرئية، من حرب فيتنام الى غزو العراق؟ فقط لنتذكر فترات حكم ريغن ونكسون وبوش ... الفرق لم يكن ان الماضي كان اكثر صدقا وانما ان سيادة الايديولوجية كانت اكثر قوة، بحيث، بدلا مما نراه اليوم من صراع كبير ملتبس في الحقائق المحلية، فان حقيقة واحدة (او كذبة كبيرة) بقيت اساسا هي السائدة.

في الغرب، كانت هذه هي حقيقة الديمقراطية الليبرالية (مع اليسار او اليمين).ما يحدث اليوم هو انه مع موجة الشعبوية التي زعزعت استقرار المؤسسة السياسية، نجد ان الحقيقة/الكذب التي خدمت كأساس ايديولوجي لهذه المؤسسة هي ايضا تنهار. والسبب الحتمي لهذا التفكك هو ليس ظهور نسبية ما بعد الحداثة وانما فشل المؤسسة الحاكمة في كونها لم تعد قادرة على الحفاظ على سيادتها الايديولوجية.

نستطيع ان نرى الآن ماذا يعارض حقا اولئك الذين يحزنون على "موت الحقيقة". تفكك قصة واحدة كبيرة مقبولة بدرجة ما من جانب الاغلبية جلبت استقرار ايديولوجي للمجتمع. ان سر اولئك الذين يلعنون "النسبية التاريخية" هو انهم يفتقدون الموقف الآمن الذي به توفر حقيقة كبرى واحدة (حتى لو كانت كذبة كبرى) الخرائط المعرفية الاساسية للجميع. باختصار، ان الذين ينددون بـ "موت الحقيقة" هم اكثر الاشخاص الراديكاليين لهذا الموت: شعارهم الضمني المنسوب الى غوتة" اللاعدالة افضل من الاضطراب" يعني كذبة كبيرة أفضل من واقع مزيج من صدق وكذب.

لذا عندما نستمع الى ادّعاءات بان المجتمع ينهار مع الإنهيار المستمر للنظام البيئي، يجب ان نكون واضحين جدا حول ما تعنيه تلك الادّعاءات: ليس فقط ان الاكاذيب تنتشر بكثرة وانما ان الكذبة الكبرى التي هي حتى الان تحافظ على التماسك الاجتماعي هي تتفكك. ان "موت الحقيقة" يفتح إمكانية لحقيقة أصيلة جديدة او لكذب كبير أكثر سوءاً. ألمْ يحدث هذا اليوم مع تراجع الديمقراطية الليبرالية والتي تدريجيا طغت عليها شخصيات متعددة من الفاشية الجديدة، بدءاً من الشعبوية الإقطاعية حتى الإستبداد الديني؟

***

حاتم حميد محسن

..........................

Philosophy Now June/July2025, issue 168

(1) سلافوي جيجيك Slavoj Zizek مدير معهد بيركيك للانسانيات في جامعة لندن، استاذ زائر في جامعة نيويورك، باحث أقدم في قسم الفلسفة بجامعة Ljubljana في سلوفانيا.

تمهيد: من خلال ما اشار له فلاسفة عديدين في تلازم الذاكرة والخيال بوجهات نظر متباينة خلصنا أنهما إفصاحان يدركان بدلالة تعبيرهما عن (الزمان) بصورة متضادة متعاكسة، فالذاكرة تعبير إستذكاري متجه نحو الماضي دوما، يعاكسه تعبير الخيال متجها نحو سيرورة مستقبلية غائبة ليست موجودة في زمان مدرك الحضور. الحاضر آنية منحلة مندثرة متلاشية بين شد الماضي وتوظيف المستقبل. حضور الموضوع في الذاكرة والخيال على السواء ضرورة ادراكية.

بالحقيقة هذا التفريق المتعاكس بين إختلاف زمانية الذاكرة نحو الماضي، وزمانية الخيال نحو سيرورة مستقبلية هي إجتهاد لنا سبق لريكور ذكره بعبارة سريعة سرعان ما غادرها من حيث تكريسها الانفصال بين الذاكرة والخيال غير المتفق عليه . وحيث معظم الفلاسفة رغم هذا التعارض الشديد بين تحقيب وقتين مختلفين، يذهبون – الفلاسفة - الى تبعية الذاكرة للمخيلة أو تبعية المخيلة للذاكرة من ناحية أن الذاكرة هي زمان ماض يحتوي زمانية الخيال في إرتباطهما المشترك بتقلبات النفس.

وذهب بعض الفلاسفة تأكيدهم أهمية ربط الذاكرة بالزمن الماضي في معرفة دلالتها حين تكون الذاكرة مرافقة لزمن مرّ، زمن مضى، عليه يمكننا إستخلاص ثلاث نتائج من هذا المعنى ربما لا يأخذ بها بعض الذين يعاملون تجريد الذاكرة والخيال جوهرين لا علاقة تربطهما بالعقل بل هما ولا حتى تجريدين إدراكيين منفصلين يحتويهما العقل بالوصاية الفكرية عليهما:

1. الذاكرة موضوع تجريدي مدرك بدلالة وظيفته في إرتباطه المتلازم بإستذكار وقائع وحوادث الزمان الماضي. والذاكرة في تجريدها من الخيال لا يبقى معنى لها كما يتضح معنا لاحقا.

2. الذاكرة إنشاء تعبيري تجريدي صوري صادر عن العقل في إستذكار وقائع الزمن الماضي. ولا يقلل من هذا تنسيب الذاكرة الى تابعية النفس، الذاكرة لا تمتلك إستقلالية المدرك المجرد ولا بأس من ربط النفس بها كما جرى ربط الخيال بها، ولا معنى لشيء يدعى ذاكرة مجردا عن دلالة ارتباطه بوقائع حدثت وجرت كحوادث واقعية في زمن ماض هو تحقيب تاريخي وليس زمنا.. فالذاكرة هي تخزين تصوري لوقائع قبل كل شيء وهي تحقيب تاريخي لزمن ماض جرى وقائعيا وحصل وغادر حضوره الآني الحالي.

3. الذاكرة فعالية إستذكارية منبثقة عن تفكير عقلي منتج لها ولا تمتلك هي خاصية إستذكار وقائع الماضي من دون مرجعية الخيال العقلي . بمعنى الذاكرة التي تعتمد العقل في إنتاجه لها لا تكون الذاكرة موضوعا مستقلا مجردا للعقل . كما عندما تكون الذاكرة مبعثها إستثارة نفسية لمدّخرات إستذكارية مخزّنة ايضا لا يمنحها هذا غير صفة التجريد المرتبطة بتفكير العقل.

الذاكرة والزمن

علاقة الذاكرة بالزمن علاقة اشكالية في عدة أمور نحاول الاشارة لبعضها حيث يشير بعض الفلاسفة عن إشكالية الذاكرة بالادراك قولهم " البشر يشاركون بعض الحيوانات في الذاكرة المحضة، غير أن الجميع – البشر وبعض الحيوانات - لا يملكون الحس الادراكي على أن الاسبيقية تتضمن بين القبل والبعد – يعني السابق واللاحق هما في الزمان "1

هذا التعبير الملتبس المعنى بعض الشيء نجد في مناقشته أنه من الصحيح الذاكرة قسمة مشتركة بين البشر وبعض الحيوانات وليس جميع الحيوانات إشتراكهم في مرجعية العقل والذاكرة لذا لا يمكن للحيوان إمتلاك فاعلية الاستذكار بمعزل عن فاعلية العقل بتزويد الذاكرة بهذه الخاصية الاستذكارية للماضي. الاستذكار خاصية انسانية فقط دون بقية الكائنات والموجودات في الطبيعة.

والحقيقة التي لا نقاش عليها أن البشر والحيوانات لا يمتلكون الحس الادراكي للزمن في تجريده الاستشعاري غير المتحق عقليا، بمعنى إدراك الزمن كتجريد ماهوي قائم لوحده لا يدركه الانسان ولا الحيوان.. علما إن الحس الادراكي للزمن عند الحيوان معدوم تقريبا حسيا وتجريديا. بخلاف الانسان الذي يدرك الزمن بدلالة غيره ممثلا بمقدار حركة الاجسام التي يحتويها.

الزمن لا يدرك بزمن يجانسه كون ماهية الزمن لا تقبل التجزئة ولا التقسيم تماهيا مع تعبير ارسطو لا يحد الزمان بالزمان. (لايضاح المزيد عن هذه الجزئية أدعو مراجعة أكثر من مقال لي منشور على مواقع عربية عن الزمان بالمنظور الفلسفي آخرها كان بعنوان (الزمان المطلق وهم الاتصال والانفصال).

ذاكرة الانسان تدرك الزمان الارضي الطبيعي كتقطيع إفتراضي كتحقيب يقوم على إدراك مقدار ونوعية حركة الاجسام داخله. والزمان ماهية وصفات تعجز حتى بعض الحيوانات القريبة عقليا من ذكاء الانسان ادراك الزمان بمقدار حركة الاجسام لا هي بذاتها ولا بدلالة غيرها من أجسام تدرك حركتها لكنها تجهل زمانية تلك الحركة، الزمان تجريد يعرف ويدرك بدلالة قياس حركة غيره من الاجسام داخله، والمساواة بين الادراكين الحركة وزمانها بإنفصال الحركة عن زمانها هو محال لا يدركه العقل. فهما غير متساويين بل ومختلفين. فحركة الجسم هو مقدار زماني، وليس زمانا مجردا يدرك وحده منفصلا - اي موضوعا - عن حركة الاجسام داخله (الزمن). كما أن إدراك الزمان كتحقيب يتوزعه الماضي والحاضر والمستقبل يكون في إرتباط حركة الارض حول نفسها وحول الشمس ايضا وعلاقة الارض مع باقي أجرام المجموعة الشمسية تحديدا القمر وقانون الجاذبية.

المقصود التوضيحي انت لا تستطيع ادراك حركة الشيء بمعزل عن ادراكك مقدار تلك الحركة زمانيا. لذا يكون ادراك حركة الشيء زمنيا لا يعني ادراك زمن تلك الحركة تجريدا زمنيا منفصلا عن حركة الشيء او الجسم داخل الزمن. بمعنى الزمان محال إدراكه ماهويا إلا بدلالة مقدار حركة جسم تلازمه في داخله يحتويها الزمن بحيادية تامة.

الزمن ماهية لا تدرك وغير قابلة لادراك العقل كموضوع قائم بذاته مجردا. ومحال ادراك الحيوان (للماقبل والمابعد) اي لحظتي الزمان الافتراضية غير المتحققتين ادراكا. لا يدرك الحيوان للماقبل ولا للمابعد مطلقا بهدف إدراكه مقدار الزمن بل ولا إدراكه زمن موجودات الاشياء التي تشاركه وجوده الانطولوجي ايضا، والزمان حتى بالنسبة للانسان يدرك كتحقيب وقائعي في تعاقب الزمان بالقياس لحركة الاجسام ولا يستطيع الانسان إدراك الزمان كماهية مجردة أو صفات نتيجة إدراكه مقدار حركة الاجسام في زمان لا يدرك لوحده كينونة مستقلة وجودا يمكن إدراكها من غير الحركة المادية الحاصلة داخل الزمن وليس خارجه فلا يوجد للزمن (خارج) يحدّه.

ذاكرة الحيوان في حال أفتراضنا أنها تمتلك استذكار الاشياء والوقائع من الماضي كما يفعل الانسان . فهي – الحيوانات - لا تعي تحقيب الزمان الارضي كوقائع كما يدركه الانسان كماض وحاضر ومستقبل. أي ذاكرة الحيوان لا تعي الزمن كتحقيب تسلسلي نظامي كما يعيه الانسان ويتكيّف بموجبه. ذاكرة الحيوان تجد في الحاضر الذي تعيشه ولا تدركه عادة من السلوك المعتاد الذي لا يحتاج معه ذاكرة. والحيوان مثلا يشعر بتبدلات المناخ والبيئة من حوله واحيانا يتنبأ قبل الانسان بحدوث ظواهر طبيعية لكنه يجهل أسباب حدوث هذه التغيرات المناخية وهذه الظواهر ولماذا تحدث؟

وحين يطرح ارسطو في كتابه " الانطباعات" قوله " أننا حين ندرك الحركة فأننا ندرك الزمن. غير أن الزمان لا يدرك كمختلف عن الحركة، إلا اذا حددناه. أي أذا إستطعنا تمييز حركتين الاولى كسابقة والثانية كلاحقة، وفي هذه النقطة يتقاطع تحليل الزمان عن تحليل الذاكرة "2

من الصائب الصحيح الظاهر من العبارة تعبير ارسطو قوله " حين ندرك الحركة ندرك الزمن " لكن إلتباس العبارة يكمن أننا ندرك الزمن بدلالة حركة جسم ولا يعني هذا امكانية إدراكنا الزمن مجردا عن حركة الشيء المتحرك داخله. بمعنى إدركنا الزمان مجازيا مجردا في إدراكنا حركة جسم داخله، أننا نقيس مقدار الحركة لمعرفة زمن حركة تلك الاجسام وليس مقدار حركة الزمان بدلالة حركة الجسم. الزمان ماهية وصفات تجريدية ثابتة محال ادراك الماقبل كلحظة تسبق المابعد بغير دلالة حركة شيء زمانا...عبارة ارسطو التي مررنا بها في منتهى الدقة والصواب قوله (الزمان لا يدرك كمختلف عن الحركة) بمعنى لا إدراك زمن من دون إرتباطه بدلالة حركة جسم أو شيء فيه. وإدراك الزمان لا يدرك بإختلافه عن الحركة ايضا. الزمان قياس مقدار حركة جسم داخله لكنه اي الزمن ليس بحركة.

الزمان حتى في قياسنا مقدار اللحظة فيه يكون متعذرا من غير تعالقة مع حركة الاجسام كزمان مطلق ميتافيزيقي لا يمكننا ادراكه مجردا يمّثل نفسه كوجود ندركه وحده. وعندما نحاول وصول – تحقيق المستحيل الفيزيائي – حسب رغبة ارسطو تحديد زمانية الماقبل عن لحظة زمانية المابعد مجردتين عن حركة جسم ما نكون دخلنا تقاطع تحليل الزمان عن تحليل الذاكرة حسب تعبير ارسطو، والسبب واضح لماذا؟

أولا لا يمكن تحديد لحظتين زمانيتين مجردتين عن حركة جسم يلازمهما. الزمان لا يدرك موضوعيا لا في كينونته المطلقة الكلية ولا في إفتراضنا الخاطيء أننا نستطيع تجزئة وتقسيم الزمان الى لحظات أو غير لحظات من غير دلالة حركة شيء جسم يداخله زمانيا. من حيث اللحظة هي مقدار زمني لحركة شيء وليست اللحظة تجريدا زمانيا يمكننا حدّه وإدراكه بزمن. الزمان تجريد لا يدركه العقل لأنه ليس من صنع وأبتداع إدراك العقل له كوجود ولا هو معطى أنطولوجي متعالق وجودا بالطبيعة يدرك منفصلا بغير موجوداتها. بخلاف جميع التجريدات الادراكية الاخرى التي يصدرها العقل وهو يدركها ويعيها لأنه صانعها وهي التي ندركها زمانيا كونها أصبحت تجريدا عقليا. الزمان في كل الاحوال لا يكون موضوعا مستقلا لادراك العقل. وعندما نقر بصحة إختلاف تحليل الذاكرة عن تحليل الزمان المشروطة بتحديد اللحظتين الزمانيتين (الماقبل والمابعد) اللتين من المحال تحققهما كما أوضحناه قبل أسطر قليلة، نجد حقيقة الذاكرة هي أستذكار تصوري تجريدي لوقائع وحوادث وقعت في الماضي محفوظة بالذاكرة تستطيع الذاكرة إسترجاعها الاستذكاري الناقص بتأثير عامل النسيان. وهذا التجريد يختلف تماما عن إمكانية إدراك عقل الانسان للزمان مجردا عن الحركة التي يحتويها لجسم، في معرفته لحظتي الماقبل والمابعد. الانسان ليس بمقدوره ادراك الزمان مجردا عن حركة الاجسام داخله. الزمان محال إدراكه تجريدا مفهوما أو موجودا لوحده فيزيائيا. الزمان ليس بموضوع يدركه العقل، كما الزمان دلالة حركة لكنه ليس بحركة يمكن رصدها. الحركة صفة للمادة لكنها اي الحركة ليست صفة للزمن بل صفة لحركة جسم يحتويه زمن. فيزيائية الزمن على انه حركة ملازمة لادراكنا الاشياء خطأ. بدلالة الحركة ندرك حركة الاشياء والاجسام داخل الزمن.

النفس والذاكرة

جرت محاولة فلسفية ربط الذاكرة والخيال بالنفس في تاكيد مقولة افلاطون بهذا المعنى، تلا ذلك تعبيرات فلسفية حول تعالق الذاكرة بالزمن مثل قول مونييه " كل ذكرى تصاحبها فكرة الزمن" وقول سوراجي " كل ذكرى تتضمن الزمان" وقول منسوب لارسطو " أن نكون في الزمان يعني أن يقيسنا الزمان في ذاتنا وفي وجودنا وبالنسبة للحركة، فأننا واقع كوننا في الزمان يعنى واقع أن نقاس في وجودنا" " وتعلن النفس أن هناك لحظتين السابقة من جهة واللاحقة من جهة أخرى، عندها نقول هذا هو الزمان". العبارات المقتبسة عن المصدر هامش رقم3

تعقيب: ربط الذاكرة بالخيال والنفس لا يغير من حقيقة أن مرجعية العقل تحدد كل شيء بالنسبة لهم ثلاثتهم كتعبيرات صادرة عن العقل. وربط الذاكرة بالماضي كتحقيب لازماني لا يجعل من الخيال تابعا للتعبير عن الماضي فزمان الذاكرة هو غير زمان الخيال والمخيلة. وتوضيحات اكثر نجدها في:

- الذاكرة ليست مصدر توليد تداعيات المخيّلة، والذاكرة استذكار صوري لافكار تجريدية في تعبيرها عن وقائع زمانية الماضي. وربط الذاكرة بالخيال قضية جدالية غير محسومة بين مؤيد داعيا لانفصالهما مثل بول ريكور ومن قبله برجسون، وبين داع لربطهما مثل العديد من الفلاسفة الذين يرون في أحدهما تعبيرا ضمنيا عن الاخر.فعندما نلفظ مفردة ذاكرة فالمفهوم الدارج أننا نقصد ملازمة الخيال لها وتوليدها ماهو ماض إستذكاري مخزون لديها.

- أن نكون في الزمان لا يكفي التسليم أننا أصبحنا يقيسنا الزمان في ذاتنا وفي وجودنا حسب ارسطو، هذا الافتراض يحتاج أدلة برهانية تصادقه لأننا ببساطة، لا نستطيع إدراك الزمن لوجودنا وذواتنا بدلالة طرف ثالث غير موجود يحكم ويراقب وجودنا في أحتواء الزمان لنا، الزمان يقيس الحركة بوجود جسم متحرك وطرف ثالث غير الزمان وحركة الجسم به يقيس مقدار الزمن بالحركة وليس مقدار الزمان فينا الذي لا ندركه؟ الشيء الذي لا يمكننا تصوره اننا داخل الزمن في كل لحظات وعينا لذواتنا. معنى تعبير ارسطو (ندخل الزمن) بقياس مقدار حركتنا به خطأ.

صحيح جدا من الناحية الفلسفية نردد مع ارسطو أننا نقع في قياس الزمن لنا، لكن الاهم من ذلك هذا الافتراض ندركه بدلالة ماذا ودلالة من؟ المفروض الواجب هنا كي ندرك قياس الزمن لنا ولذواتنا يتحتم وجود طرف ثالث لا هو الزمن ولا هو نحن الذي يتلبسنا الزمن داخله. حضور الطرف الثالث محال تحققه ليؤكد قياس الزمن لنا كوجود انطولوجي تسبح أجسامنا داخل الزمان الذي يحتوينا ويدركنا ولا ندركه...باستثناء إفتراض تصنيع آلة كطرف ثالث لهذا الغرض.

- من البساطة الافتراض أننا بمقدار ما نفتقد القدرة على هيمنة الزمان فهو أيضا يفتقد القدرة على التلاعب الحركي زمانيا بنا، الزمان دلالة ادراكية يتبع حركة الاشياء داخله ولا يتبع وجود الاشياء داخله. فالانسان وكافة الاشياء والموجودات لا تدرك الزمان يحيط بها إلا بدلالة (حركة) ليس للزمان علاقة باستحضارها بمقدار ما تكون الحركة خاصية الاجسام المراد قياس زمانها. بمعنى حركة الاجسام داخل الزمن لا يولدها ويخلقها الزمن خاصية داخل الاجسام المتحركة كي يدركها الزمن. فالادراك يتحدد بحركة الاجسام خاصية لها داخل الزمان وليس بحركة الزمان الملازمة للاجسام وهي لا تمثل جزءا من تلك الاجسام. فحركة الجسم هي خاصية في تكوينه، لكن قياس مقدار حركة ذلك الجسم الذي هو الزمن يكون طارئا لا يجانس الجسم ولا حركته لا بالصفات ولا بالماهية، بمباشر العبارة الزمان ليس وجودا ندركه كما ندرك وجود بقية الاجسام فيزيائيا. .

- ربط الذاكرة بالنفس يبرره بعض الفلاسفة الى أن التذكر مبعثه إنفعال نفسي، والذاكرة لا تستستطيع تذكر وقائع الماضي من غير إستثارة نفسية تحفز الذاكرة على انبعاث انطباعاتها التذكرية االمخزونة فيها. التساؤل هنا هل الذاكرة هي الخيال نفسه ولا فرق بينهما؟ بدليل الذهاب الى أن استذكار الماضي هو خاصية الذاكرة، وأفكار الخيال رغم أنها تحوي إستذكارات واقعية ماضية، الا أن الخيال يمثل تفكيرا مستحدثا أيضا لاعلاقة تربطه بالذاكرة في توجهه نحو المستقبل.

هذا يجنبنا الوقوع في محذورين الاول أن الذاكرة ليست توليدا لافكار الخيال، والثاني أن الخيال يمتلك إستقلالية تفكيرية عن خاصية الذاكرة أنها لاتستطيع التعبير عن أفكار خيالية لم تكن مطبوعة بالذاكرة مكتسبة فيها كخبرة متراكمة.

الذاكرة واللغة

من المسائل المهمة العالقة بموضوعة الذاكرة هو صورة التذكر الاسترجاعية لغويا. فالذاكرة بمقدار ما تكون إفصاحاتها التذكرية أسترجاعا مبعثه الانفعال النفسي، لما سبق وأن إنطبع عليها صوريا كخزين، إلا أن زمن الاسترجاع لاحداث الماضي ليست هي لغة التخزين الذاكراتي. غالبا ما يكون الاسترجاع التذكري هو الزمن الحاضر الذي يجعل من الاسترجاع التذكري للماضي منقوصا غير متطابق فيه لغة التصور الاستذكاري مع لغة الواقع الذي تكون عليه قراءتها كاحداث جرت في الماضي. لسببين الاول آفة النسيان التي ترافق الذاكرة، والثاني إختلاف لغة التعبير الزماني في محاولة الربط الاستذكاري بين ماض وحاضر. بمعنى الوقائع الماضية رغم تقادم الزمن عليها تبدو أكثر أصالة حقيقية منها في حالة لغة الاسترجاع التذكري الناقص لها.

بهذا نكون وصلنا الى نقطة مفصلية في توكيد حقيقة هيمنة الخيال على الذاكرة وليس العكس، حين نجد أن كل تصورات الذاكرة الاسترجاعية التذكرية أنما هي تصورات لغوية من صنع الخيال، وبغير هذه الملكة التي يمتلكها الخيال ولا تمتلكها الذاكرة، أنما يكون فيها الخيال يعيد نفسه إسترجاعيا بتوسيله الذاكرة القيام بما يحمله الخيال من دلالات تعبيرية، وعليه لا يبقى هناك ما تلعبه الذاكرة بمعزل عن وصاية الخيال عليها. لكن هذا الاستنباط في مصادرة الذاكرة لصالح الخيال تصطدم بخاصية تمتلكها الذاكرة ولا يمتلكها الخيال، فالذاكرة تتجه الى إستذكار كل ماهو واقعي تاريخي حدث في زمن ماض، في حين الخيال يمتلك ايضا ما لا تمتلكه الذاكرة من حيث هو يتجه نحو تحقيق حضور ما هو وهمي مطلوب استحضاره.، غير واقعي، يوتوبي، وأحيانا غير موجود.. وأمام هذه المعضلة التي لا يمكن حلها إلا بالتسليم في إستحالة فصل الذاكرة عن الخيال في القصدية التي تبدو لنا متناقضة لكن هي في حقيقتها متكاملة.

حقيقة الذاكرة وصدق التعبير

من خلاصة ما مر بنا وغيره كثير نجد أن عدم الثقة بكل من الذاكرة والخيال يرتبط بتقصيرهما المشترك في عدم صدقية كل منهما في التعبير عن موضوعه. فالذاكرة يشوبها النقص الملازم الاول لها في آفة (النسيان) الذي تعجز الذاكرة التعبير عنه بصدقية موثوقة يمكن الاخذ بها. الناحية الثانية من تقصير الذاكرة هو أن افكارها الاستذكارية ليست تنميطا نوعيا يشمل جميع الذين يحاولون استذكار نفس الوقائع من الماضي.

فالذاكرة هي والخيال خاصيتان انفراديتان من ناحية الفاعلية الادراكية، وهما بنفس الوقت خاصيتين متلازمتين من ناحية كونهما تجريدان إدراكيان في منظومة العقل الادراكية. يتفاوتان من شخص لآخر نتيجة عوامل ذاتية وموضوعية ترتبط بذاكرة كل شخص منفردا. فالذاكرة قد تمرض ويصيبها الوهن والضعف، وفي أوقات وشروط موضوعية تنشط، وهناك مقولة تذهب أن المسنين يملكون ذكريات أكثر من الشباب لكن عندهم ذاكرة غير نشطة تتذكرأقل ما تتذكره ذاكرة الشاب..

ما يتفق عليه الفلاسفة هو أننا لا نملك شيئا كوسيلة أفضل من الذاكرة متاحة لنا في إستذكار الماضي كوقائع، الذي يجعلنا ندرك مسبقا وجود ماض بحاجة الى إفصاح وتذكر له. ولا توجد وسيلة لكشف هذا الافصاح غير الذاكرة. لكن هل معنى هذا إكتساب الذاكرة الصفة الانفرادية الموثوقية المطلقة بها؟ وهل ما تنقله لنا الذاكرة كاف للتدليل على مصداقية مطلقة لعملية الاستذكار؟ ينقل بول ريكور عن كتاب ارسطو "مابعد الطبيعة" مقولة شهيرة لارسطو مفادها "الذاكرة من الماضي، والوجود الماضي يقال بطرق متعددة، فالوجود يقال على أوجه عدة".4

يعبّر بول ريكور عن هذا إلاحراج المتسائل قوله لا يمكننا أماطة اللثام عن حقيقة ومصداقية الاستذكارات، الا من خلال توسيط طرف ثالث يكون هيئة نقدية تعارض وتدرس وتقارن بين شهادات الذاكرة لاتاحة ما أسماه المرور الموثوق بين الذاكرة وبين التاريخ.5 .أما مسألة الطعن بمصداقية الخيال من ناحية المقارنة بينه وبين الذاكرة فنجد أن مساحة التشكيك بمصداقيته غير الموثوق بها نابعة أصلا من موضوع المعالجة التي هي من حصة الخيال في تصورات وهمية وأماني معلقة وسياحة فكرية في انتقالات اللاشعور غير المحدود لا يلتزم كما في الذاكرة شروط التفريق بين الشعور واللاشعور وبين الحقيقي والوهمي وبين الصادق والكاذب وغيرها من أمور يكون فيها خداع الخيال أصدق من التعبير عن الواقع الحقيقي للذاكرة في الكثير من الاحيان.

الذاكرة والتاريخ

يذكر بول ريكور كنت أعالج القطب القصصي للخيال في كتابي (الزمان والسرد)، حين عارضت السرد الروائي الخيالي بالسرد التاريخي، أما الآن فعلينا أن نضع أنفسنا بالنسبة للقطب الاخر قطب الهلوسة، وكما أعطى برجسون طابعا دراميا الى قضية الذاكرة عن طريق منهجه بالتقسيم والانتقال الى الطرف الاقصى، علينا أن نعطي طابعا دراميا الى موضوعاتية الخيال بأن ننظمها بالنسبة الى قطبي القصصية الخيالي والهلوسة)6

أن تواشج خاصية (الهلوسة) الوهمية رغم عقلانية الذاكرة التي تتسم بها،هي قسمة مشتركة بين الذاكرة والخيال معا. فالماضي بالنسبة للذاكرة هي نوع من الدراما المكتوبة على وفق نسق تاريخي يخترمه إنتظام الزمن. وهو ملك مشاع لاستذكار الذاكرة بنفس الوقت الذي يكون فيه ساحة ملعب لهلوسات الخيال يصول ويجول فيه....الشيء أو الفارق الذي يتوجب الاشارة له في هذا التداخل الذاكراتي مع الخيال بالنسبة للماضي كدراما تاريخية هو (الزمن)، ليس بالافتراق التقليدي أن الذاكرة هي توثيق زمن الماضي، والخيال يحسب على مداخلة تعبيره عنهما (زمني الحاضر والمستقبل) الذي يحاول تصنيعهما وتنبؤه في مستقبلهما.

الخيال حين يزاحم الذاكرة في منطقة وساحة نفوذها دراما تاريخية الماضي الذي من حقها الارجح التعبير عنه، نجد الخيال بطبيعته اللاشعورية المهلوسة الفوضوية يتناول حقائق التاريخ بعيدا عن الانتظام الزماني في ضبط تسلسل الاحداث التي يكتنفها الزمن بانضباط عالي يحكمه التاريخ كتحقيب زماني يتوزعه الماضي والحاضر والمستقبل من الناحية التاريخية المتداخلة مع انتقالات الزمن من الماضي الى الحاضر والى المستقبل. الحقيقة الزمن لا ينتقل حسب رغائبنا، بل انتقالات النفس والاستذكار لدينا تنتقل من حالة لاخرى والزمن ثابت.

ميزة الذاكرة في تعبيرها عن السرد التاريخي التوثيقي تكون أكثر صدقية من محاولة الخيال التعبير عنه، فبالخيال يتم الاسقاط الوهمي، وغير المتوقع، غير الحاصل على هذا السرد المحكوم بسلطة تنظيم الزمان لوقائعه تاريخيا بما لا تستطيع تلك الحوادث الخلاص والانفكاك من سطوة الماضي عليها.

نحن لو تحرينا الصدق والامانة في تعبير الذاكرة عن تاريخية الماضي كسردية، وتعبير الخيال عن تلك السردية رغم أن الخيال بطبيعته هو تعبير جمالي فني، لوجدنا التداخل بينهما على أشده في تعبيرهما الانتقالي عن الماضي كتاريخ سردي نوعي متمّيز روائيا في حال جرى التوظيف النقلي على وفق أطر وأنساق ومواصفات فنية جمالية نجدها تدفن ما ليس قابلا للانسجام الفني الادبي من وقائع هي من إختصاص تاريخي سردي توثيقي صرف.

الخيال يتمثل التاريخ الماضي دراما حقيقية في تعبيره الخيالي عنها إسقاطا فنيا، وهذا لا يمنح الذاكرة تفويضا مفتوحا في أنحيازها للصدق النقلي التمثلي ذاكراتيا لوقائع وأحداث يحكمها الزمن الماضي. تمنع الخيال دخوله المزارع الخاصة بالذاكرة.

كيف نميّز بين صدقية الذاكرة من صدقية الخيال في نقلهما دراما الماضي ليس كسردية تاريخية بل كدراما ممكن التلاعب بها لمقتضيات فنية مستلهمة من الماضي كتاريخ؟ كلاهما الذاكرة والخيال لا يمتلكان الصدقية التامة في التعبير النقلي لوقائع التاريخ منفردين ولا حتى متكاملين لاسباب تتعلق بأن السرد التاريخي يمتاز بصفات من الواقعية الاركيولوجية التي تجعل من الذاكرة والخيال التعبير الخالص التام عن تلك الوقائع مشكوكا به ناقصا أو مشوّها.

المخيلة تحتاج الذاكرة، والذاكرة تحتاج الخيال، لذا أذا أردنا توّخي الجمالية الفنية في نقل وقائع التاريخ دراميا، نكون بحاجة الى تمرير الاندماج المتكامل بينهما، فالذاكرة لا تنقل دراما التاريخ الماضي بإسلوب السرد الذي تحكمه الوقائع ولا تستطيع هي التحكم فيه، ويوجد فرق كبير بين السرد الروائي الخيالي عن السرد التاريخي الواقعي.

لذا نصبح أمام قبول حقيقة تفرض نفسها أن الذاكرة ليس بمقدورها نقل دراما التاريخ الماضي بنوع من السرد التوثيقي أكثر من حفريات الاركيولوجيا الذي هو من مهام عالم التاريخ والاثار والانثروبولوجيا التي تقف معها الذاكرة عاجزة عن مجاراة تمثيل منطق الحفر الاركيولوجي التاريخي. فالواقع على الارض يكون والحالة هذه يدمغ كلا من الذاكرة والخيال بالابتعاد التام عن مشغل حفريات التاريخ بما هو تدوين توثيقي صادق مصدره الاساس التنقيبات الحفرية وليس التنظير الفلسفي. كل ما يتم التعبير عنه كادراك لغوي لا ينجو من إستهداف القصدية السيئة له. التي تحاول صهر حوادث التاريخ بسبيكة تجمع الحاكم كسلطة تعلو التاريخ ورغبته تدخل على تجيير مصداقية الوقائع التاريخية له.

قصدية إدراك وقائع الماضي إستذكارا صادقا محايدا لا ينجو من السطو السلطوي الحاكم الذي يرغب جعل نقل أصالة التاريخ مطواعا لتمرير كل سوءات ومظالم حاكمية سلطة الحاضر الجائرة. يعبر بول ريكور عن هذه الازدواجية قوله "الذاكرة مهددة بشكل كلي في أستهدافها الصادق للحقيقة عن طريق سوء الاستعمال"7.

***

علي محمد اليوسف/الموصل

......................

الهوامش

1. بول ريكور/الذاكرة، التاريخ، النسيان/ ترجمة وتقديم د. جورج زيناتي/ ص52

2. نفسه نفس الصفحة

3. نفسه نفس الصفحة

4. نفسه ص 65

5. نفسه ص 74

6. نفسه ص 103

7. نفسه ص 109

 

أولا: التحليل فى الفلسفة

كلمة " تحليل " analysis هى كلمه يونانية، تعنى فك كل ماهو مركب إلى أجزائه، وتقابلها كلمة "تركيب" synthesis التى تعنى بناء "الكل" من الأجزاء(1) والتحليل قد يكون عقلياً أو تجريبياً، أو منطقياً أو استقصائياً، أو نفسياً، أو ترانسندنتالياً.. إلخ.

وإذا كان عالم الكيمياء مثلاً يقوم بتحليل مركباته المادية وردها إلى أبسط عناصرها، فإن الفيلسوف التحليلي يقوم أيضَا بهذه العملية التحليلية لكنه يقوم بها في مجال اللغة. والفيلسوف التحليلي لا ينظر إلي اللغة على أنها وسيلة، بل أيضاً على أنها هدف من أهداف البحث الفلسفى. فهو لايدرس اللغة من أجل وضع فروض علمية بشأنها، بل لاعتقاده بأن مثل هذه الدراسة لها قيمتها بالنسبة للفلسفة ذاتها. ومع أن الفلاسفه التحليليين يتفقون على أهمية البدء بدراسة اللغة، فإنهم يختلفون حول نوع اللغة التى يدرسونها، وينتمون في ذلك - بوجه عام- إلى فريقين: الأول: يرى أن التحليل الفلسفي للغة يجب أن يتجه إلى تأليف لغة إصطناعية جديدة بإعتبار أن قواعد مثل هذه اللغة أوضح وأدق من القواعد التى تحكم استعمال اللغة العادية، كما هو الحال في مجال العلم. فالفلسفة يجب أن تطور مفرداتها وتصطنع سلسلة من المفاهيم لحل مشكلاتها الأساسيه. أما الفريق الثانى: فيرى أن مثل هذه اللغات الإصطناعية لا تساعد كثيراً على حل المشكلات الفلسفية إذ أن هذه المشكلات يمكن حلها على أفضل وجه عن طريق التحليل الدقيق للغة العادية التى نستخدمها جميعاً في التواصل مع الأخرين(2)

والحق أن تصور الفلسفة على أنها، بوجه عام، عبارة عن "تحليل" Analysis يشكل أساساً رؤية معاصرة، مع أن جذور هذه الرؤية قديمة قدم الفلسفة ذاتها. ذلك أن جوهر أعمال جميع الفلاسفة، تقريباً، هو التحليل نفسه. فالتحليل منذ زينون الإيلى (430- 490 ق. م) مروراً بفلاسفة ميغارا philosophers of Megara وصوراً إلى الرواقيين كان مألوفاً ومميزاً بخاصته المنطقية، وكان يهدف إلى توضيح المواقف المتقابلة ومفارقتها وأنماط التفكير غير المقبولة، فالفيلسوفان الإيليان "زينون" و"بارمنيدس" وأنصارهما اعتقدوا أن هذا التحليل السلبى يؤدى أحياناً إلى معرفة موثوق بها. ومن الملاحظ أن شهرة زينون تتعلق أساساً بتميزه فى إجراءات هذا التحليل فهو أول من أوضح – فى دراسته لفلسفة بارمنيدس الواحدية من خلال هجومه على التعدديين – أن المذهب التعددى أو مذهب الكثرة يؤدى إلى مفارقات أو تناقضات ذاتية(3).

وكان "التحليل" عند سقراط يهدف إلى توضيح المعانى الأخلاقية فى ضوء منهجه الديالكتيكى... فقد حاول سقراط فى جميع تساؤلاته أن يرد جميع الفضائلvirtues إلى فضيلة واحدة وصفها بفضيلة الحكمة wisdom أو المعرفة، معرفة الخير والشر. فبعد أن حصل فى محاوره "مينون" meno مجموعة الفضائل المقبولة بصفة عامة استطرد قائلاً: و"الآن خذ تلك الفضائل التى لا تبدو لنا معرفة وانظر فيما إذا لم تكن فى بعض الأحيان ضارة مثلما تكون نافعة. مثلاً افترض أن الشجاعة Courage ليست حكمة ولكنها نوع من التهور. أليس صحيحاً أن الإنسان يصيبه الضرر عندما يكون واثقاً من نفسه بلا مبرر والعكس صحيح؟ فعندما يمارس الإنسان كل هذه الصفات ثم ينظمها فى إطار مترابط منطقى تصير نافعة ومفيدة على عكس إذا ما خلت من الوعى والمنطق. باختصار، عندما تكون الحكمة هى المرشد فإن أفعال الروح تؤدى إلى السعادة، وعندما ترشدها الحماقة تؤدى العكس. وعلى هذا فإن كانت الفضيلة خصلة من خصال الروح، أو هى بطبيعتها نافعة ومفيدة فلابد وأن تكون حكمة. فالصفات الروحية جميعها فى ذاتها وبذاتها ليست نافعة أو ضارة، ولكن عندما يحكمها الغباء والحماقة تصير ضارة". وبهذا المعيار الذى دافع عنه سقراط يقف العقل كى يميز المنفعة الحقيقية والدائمة من المنفعة الزائفة التى تؤدى إلى لذة أو صواب مصطنع(4).

وهكذا كان سقراط مهتماً بالمعانى الأخلاقية، كما كان أفلاطون فيلسوفاً تحليلاً فى كثير مما تعرض له.. فإذا كانت قواعد التحليل ذاتها يجب أن تكون ميتافيزيقية فى طبيعتها، بمعنى أنه لابد أن تتضمن مناقشة العروض الفلسفية بواسطة إجراءات العقل العامة بدلاً من الاعتماد على مضامين خاصة فإن هذه الخاصية للتحليل نجدها بوضوح فى محاورات أفلاطون التى عبر فيها عن جميع مهاراته التحليلية لا سيما عرضه لنظرية المثل(5).

ونجد فى المرحلة الحديثة أن معظم الفلاسفة التجريبيين- على حد تعبير إير- كانوا تحليليين إذ أن معظم ما كتبه هؤلاء الفلاسفة يندرج تح نظرية المعرفة، والمفروض فيها أن تحلل ضروب الإدراك المختلفة بما فى ذلك المعرفة ذاتها والخيال والاعتقاد والتمييز بين مختلف الألوان... فالفيلسوف لوك كان تحليلاً لأنه كما يتضح من كتابه "مقال فى الفهم الإنسانى" لا يثبت صحة قضايا تجريبية بعينها أو ينفيها بل نجده يركز فقط على تحليلها. وكذلك "باركلى" لم ينكر- فى الواقع- الأشياء المادية كما هو شائع عنه. وإن ما أنكره فعلاً هو تحليل "لوك" لمثل هذه الأشياء. فقد جعل "لوك" أفكار الإحساس Ideas of sensation التى نتلقاها بحواسنا من شىء ما مرتبطة بعنصر معين، أى أن للشىء جوهراً مركزياً تلتف حوله صفاته. غير أن باركلى لم يوافق على هذا التحليل، وجعل صفات الشىء لاتلتف حول عنصر أو جوهر بل يرتبط بعضها ببعض فحسب. بحيث لايكون الشىء عنده إلا مجموعة إحساساتنا به، متصلاً بعضها ببعض فحسب على صورة ما. وكان الخطأ الذى وفيه فيه "باركلى" حين تصدى لنقد "لوك" هو أنه استثنى النفس إذ جعلها عنصراً قائماً بذاته. ولهذا نهض "هيوم" ليدفع نقد "باركلى" إلى نتائجه المنطقية حتى النهاية، وإذن فالنفس أيضاً إن هى إلا حالات مجزأة متتابعة متصل بعضها ببعض على صورة ما دون أن يكون هناك عصر جوهرى مركزى تتعلق به تلك الحالات. حتى فكرة السببية التى كثيراً ما يقال عن "هيوم" أنه أنكرها لم تكن فقط موضع إنكار لأنه فيلسوف يحلل العبارات والمدركات لا يثبت شيئاً، أو ينكر شيئاً، إنه اقتصر فى فكرة السببية على تحديدها وتعريفها... إلخ(6).

كما أن "هوبز" و"بنتام" و"جون ستيوارت مل" فلاسفة تحليل فإذا تأملنا أعمال "هوبز" و"بنتام" نجد أنهما قد انشغلا بتقديم تعريفات للقضايا، وأن أعظم بعد من أبعاد فلسفة "مل" هو تطويره للتحليل عند "هيوم". وبذلك يرى غير أن مهمة التفلسف أساساً مهمة تحليلية وأن هذه المهمة نجدها متحققة بوضوح فى الفلسفة التجريبية الإنجليزية. ولكن ليس معنى ذلك أن ممارسة التحليل الفلسفى تقتصر على أعضاء هذه المدرسة الفلسفية وإنما ترتبط بهم تاريخياً بشكل قوى(7).

وهكذا يؤكد إير أنه لا جديد فى القول بأن توضيح الأفكار من أهداف الفلاسفة لأنه قول يمتد على الأقل إلى سقراط الذى كان مشغولاً أساساً بأسئلة معينة مثل ما العدل، وما المعرفة؟. ونجد ذلك عند "هيوم" فى تقسيمه كل أنواع الدراسة المشروعة إلى علم مجرد موضوعه الكم والعدد، وأبحاث فى أمور الواقع والوجود تعتمد أساساً على الخبرة، وهجومه على الميتافيزيقا المدرسية والذى نتج عنه حصر الفلاسفة فى التحليل. وقد أعلن فتجنشتين فى العشرينيات من هذا القرن أن الفلسفة ليست مجموعة نظريات لكنها نشاط يهدف إلى توضيح الأفكار ولقد تبنى الوضعيون المناطقة موقف فتجنشتين والفروض التى اعتمد عليها "هيوم" فى صورة ما سماه الوضعيون "مبدأ التحقق" الذى صاغه مورتس شليك بقوله "إن معنى قضية ما يقوم فى منهج تحقيقها"(8).

ولكن مع أن التحليل كان شائعاً فى الفلسفة منذ قديم، فإن أنصار الفلسفة التحليلية المعاصرة يتفردون بما يميزهم عن أسلافهم. وإنهم يتميزون بحذفهم للميتافيزيقا من قائمة الكلام المقبول، فهم يحذفون الميتافيزيقا حذفاً تاماً على أساس تحليلاتهم المنطقية للعبارات اللغوية، ثم يتميزون كذلك بتفرقتهم بين قضايا المنطق والرياضة من جهة وقضايا العلوم الطبيعية من جهة أخرى، على حين كان المحللون السابقون يفسرون هذه بما يفسرون تلك كما فعل هيوم نفسه أو يفسرون تلك بما يفسرون هذه كما فعل "مل" حين رد القضايا الرياضية إلى أصول حسية، وفى كلتا الحالتين يكون إشكال، ففى الحالة الأولى ينتهى الأمر بالتشكك فى العلوم الطبيعية ما دامت لا توصل إلى يقين فى الرياضة، وفى الحالة الثانية ينتهى الأمر بجعل قضايا الرياضة احتمالية لا يقينية(9).

ثانيا: التحول اللغوى

تمتاز الفلسفة التحليلية بجملة من الخصائص تميزها عن المدارس الفلسفية الأخرى فى الفلسفة المعاصرة ومنها:

1- فكرة مركزية اللغة بالنسبة للفلسفة، إذ يعتقد الفلاسفة التحليليون أن قضايا الفلسفة يمكن فهمها جيداً عن طريق العناية باللغة. وهذا الاتجاه نحو الاهتمام باللغة أصبح يسمى فى العرف الفلسفى " التحول اللغوى "وهو أصدق ما توصف به الفلسفة التحليلية وتعرف فى كلمتين.

2- الاعتماد على المنهج التحليلى سواء اتخذ هذا المنهج صورة التحليل المنطقى أو التحليل اللغوى.

3- احترام نتائج العلم والحقائق التى يسلم بها الحس المشترك، وأخذها بعين الاعتبار عند معالجة المشكلات الفلسفية (10)

ولقد نسب الفيلسوف مايكل داميت Michael Dummett الصيغة الكلاسيكية  " التحول اللغوى "إلى فريجه، مؤسس المنطق الرياضى الحديث، حيث قال: "إن موضوع بحث الفلسفة لم يحدد بصفة نهائية إلا مع فريجه، بحيث تبين (1) أن هدف الفلسفة قائم فى تحليل بنية الفكر، (2) وأن دراسة الفكر ينبغى أن تتميز عن دراسة عمليات التفكير النفسية،(3) وأن المنهج الكفؤ لتحليل الفكر يستند إلى تحليل اللغة"(11).

وهذا ما أكده أنتونى كينى Anthony Kenny فى كتابه "فريجه "بقوله: ".. إذا كانت الفلسفة التحليلية قد ولدت عندما حدث التحول اللغوى، فإن ولادتها لابد من أن تؤرخ بنشر كتاب فريجه "أسس الحساب "عام 1984 عندما قرر أن الطريق إلى بحث طبيعة العدد هو تحليل الجمل التى تظهر فيها الأعداد " (12).

كما أكد داميت فى موضع آخر دور فتجنشتين المهم فى هذا الشأن فقال: ".. إذا جعلنا من التحول اللغوى نقطة إنطلاق الفلسفة التحليلية، فإننا، على الرغم من تقديرنا لأعمال فريجه، ومور ورسل التى هيأت الأجواء، لن نستطيع أن نشك فى أن الخطوة الرئيسية نحو هذا التحول خطاها فتجنشتين فى كتابه "رسالة فلسفية منطقية " (13). فقد رأى أن العمل الفلسفى هو فى جوهره توضيحات، حيث قال: "إن موضوع الفلسفة هو التوضيح المنطقى للأفكار، فالفلسفة ليست نظرية بل هى فاعلية. ولذلك يتكون العمل الفلسفى أساساً من توضيحات لا تكون نتيجة الفلسفة عدداً من القضايا الفلسفية إنما هى توضيح للقضايا. فالفلسفة يجب أن تعمل على توضيح الأفكار وتحديدها بكل دقة وإلا ظلت تلك الأفكار معتمة مبهمة إذا جاز لنا هذا الوصف " (14).

ولقد رأى فتجنشتين أن العمل الفلسفى هو فى جوهره توضيحات وقال: أن موضوع الفلسفة هو التوضيح المنطقى للأفكار، فالفلسفة ليست نظرية بل هى فاعلية. ولذلك يتكون العمل الفلسفى أساساً من توضيحات لاتكون نتيجة الفلسفة عدداً من القضايا الفلسفية إنما هى توضيح للقضايا. فالفلسفة يجب أن تعمل على توضيح الأفكار وتحديدها بكل دقة وإلا ظلت تلك الأفكار معتمة مبهمة إذا جاز لنا هذا الوصف(15).

وقد يكون الفيلسوف إير هو أول من لفت الانتباه إلى "التحول اللغوى "، فهو يقول: " إن الفيلسوف من حيث إنه محلل ليس معنياً بالخصائص الفيزيائية التى تتميز بها الأشياء. هدف الفيلسوف هو أن ينظر فى الكيفية التى نتحدث بها عن الأشياء ". أو بعبارة أخرى: "إن قضايا الفلسفة ليست قضايا واقعية، بل هى فى طبيعتها قضايا لغوية. فهى لا تصف سلوك الأشياء المادية، ولا حتى الأشياء العقلية، بل تقتصر على التعبير عن التعريفات أو النتائج الصورية التى تترتب على التعريفات. وكنتيجة لذلك تكون الفلسفة علامة بارزة من علامات البحث المنطقى الخالص " (16).

يؤكد إير ضرورة أن ينحصر دور الفلسفة فى التحليل فيقول: "إذا أراد الفيلسوف أن يثبت صدق ما يزعمه من أنه شريك فى زيارة المعرفة الإنسانية فلا يجوز له أن يحاول وصف الحقائق عن طريق التأمل الخالص، أو أن يبحث عن المبادئ الأولى، أو أن يصدر أحكاماً قبلية عن صحة ما نعتقد فى صدقه على أساس التجربة، بل ينبغى له أن يحصر مجهوده فى التوضيح والتحليل"(17).

إن الفلسفة المعاصرة – بوجه عام- تتخذ من "التحليل" منهجاً وموقفاً ثابتاً فى دراستها للعديد من المشكلات وهى تركز أساساً على "تحليل" الألفاظ والقضايا التى يستخدمها العلماء فى أبحاثهم العلمية واللغة العادية التى يتعامل بها الناس فى حياتهم اليومية. ولذا فإنها تتخذ موقفاً عدائياً من الفلسفة المثالية وتتعصب ضد الميتافيزيقا وتنحاز مع العلم. وهذا ما عبر عنه مور فى مقالته "تفنيد المثالية" the refutation of idealism الذى استهدف فيها دحض مبدأ "الوجود إدراك" باعتباره ضرورياً لكل مثالية، وأيضاً فى مقالته "دفاع عن الحس المشترك". كما راسل وفتجنشتين وفلاسفة الوضعية المنطقية عن هذا المعنى فى مواقفهم التحليلية المختلفة.

أكد مور ضرورة "تحليل" "لغة" "الحس المشترك" لتوضيحها وإبراز عناصرها، وكذلك تحديد معانى المفاهيم الأخلاقية. بل ورأى أن عدم الاهتمام الجاد بالتحليل هو السبب المباشر فى وجود مشكلات فلسفية.. وفى ذلك نجده يقول: "يبدو لى فى علم الأخلاق كما فى كل الدراسات الفلسفية الأخرى أن الصعوبات والخلافات التى يكتظ بها تاريخها إنما ترجع أساساً إلى سبب بسيط جداً هو: أننا نحاول الإجابة عن أسئلة لم نتبين على وجه الدقة معناها أوبدون أن نتبين أى سؤال هو الذى نريد الإجابة عنه. وأنا لا أعرف المدى الذى قد يصل إليه الفلاسفة باستبعادهم مصدر هذا الخطأ Error إذا ما حاولوا أن يكشفوا عن السؤال الذى يسألونه قبل أن يشرعوا فى الإجابة عنه، إذ أن القيام بالتحليل والتمييز عمل بالغ الصعوبة غير أننى أميل إلى الظن أن المحاولة الجادة القائمة على العزم والتصميم تكفى لتحقيق أو ضمان النجاح، وأن كثيراً من أصعب المشكلات وأشدها إثارة للخلافات Disagreements فى الفلسفة سوف تزول لو أننا قمنا فعلاً بمثل هذه المحاولات الجادة، ولكن يبدو أن الفلاسفة بصفة عامة لايقومون فى أغلب الأحوال بمثل هذه المحاولة الجادة، بل هم يحاولون دائماً أن يبرهنوا على أن الإجابة "بنعم أو لا" هى الإجابة الصحيحة عنها، وذلك لأنهم لا يضعون أمام أذهانهم سؤالاً واحداً بعينه بل عدة أسئلة تكون الإجابة عن بعضها بالنفى وعن بعضها بالإيجاب"(18)

ويعترف مور بأن "التحليل" هو من أهم وظائف الفلسفة وأنه يجب أن ينصب على المفاهيم. ولذلك نجده فى رده على الآراء التى عبر عنها لانج فوردLangfrd فى مقالته "فكرة التحليل فى فلسفة مور" يعلن عن خطأ لانج فورد فى افتراضه أن "التحليل الفلسفى" يرتكز مباشرة على التعبيرات اللفظية Verbal Expressions. وبين فى استخدامه لكلمة "التحليل" أنه لا يركز على تحليل التعبيرات اللفظية بل تحليل المفاهيم Concepts أو القضايا propositions. ولعل سبب رفض مور الاهتمام بتحليل التعبيرات اللفظية هو افتراضه أن مثل هذا التحليل سوف يكون نمطياً خالصاً. وعندما يتناول مور تحليل المفاهيم أو القضايا نجد تحليله لا يزيد عن كونه منصباً على ما تعنيه التعبيرات اللفظية.. ولهذا نجده يضع خمسة شروط لتحليل (المفهوم) يجب توافرها ليكون مقبولاً: الأول، لا أحد يمكنه أن يعرف أن موضوع التحليل Analysandum ينطبق على شىء بدون أن يعرف أن عناصر التحليل Analysans تنطبق عليه. الثانى، لا أحد يستطيع أن يثبت أن موضوع التحليل ينطب قعلى شىء بدون أن يثبت أن عناصر التحليل يتم تطبيقها عليه. الثالث، أى تعبير يعبر عن موضوع التلحيل يجب أن يكون مترادفاً مع التعبير الذى يعبر عن عناصر التحليل. الرابع، التعبير المستخدم لعناصر التحليل يجب أن يذكر بوضوح المفاهيم التى لم تذكر بوضوح بواسطة التعبير المستخدم لموضوع التحليل. أخيراً، التعبير المستخدم لعناصر التحليل يجب أن يذكر الطريقة التى ترتبط بها المفاهيم التى يذكرها موضوع التحليل(19). كما يؤكد مور أن الاهتمام الحاد بالحس المشترك واللغة العادية هو مفتاح حل المشكلات الفلسفية وتوضيحها(20).

وطبق رسل كذلك "منهج التحليل" على كثير من المشكلات الفلسفية. وقد استخدمه فى تحليل الموضوعات المادية إلى المعطيات الحسية أو "الأحداث" حيث كان يهدف رد الموضوعات المستدل عليها إلى عناصرها البسيطة التى نكون على ثقة منها بحيث نستغنى عن افتراض تلك الكائنات، ونكتفى بتقرير هذه العناصر، ما دامت تحقق جميع الأغراض التى تحققها تلك الكائنات المفترضة. كما طبقه أيضاً فى تحليل العقل حيث رده إلى مجموعة المظاهر، وهى الأحداث الذهنية بحيث لم تعد هناك ضرورة لافتراضه ككائن(21).

ولهذا يرى اير أن فلسفة التحليل المعاصرة تعد ثور فى تاريخ الفكر الفلسفى(22).

و" التحول اللغوى " Linguistic Turn هو التحول نحو اللغة واتخاذها موضوعاً للفلسفة ؛ وهذا التحول لم يأخذ صيغة واحدة، كما يصوره أنصار الفلسفة التحليلية، وإنما يأخذ فى الحقيقة صوراً متعددة. وأصبحت عبارة " التحول اللغوى " أكثر انتشاراً عندما استعملها رورتى عنواناً للكتاب الجماعى الذى أشرف عليه وكتب له مقدمة نشرت عام 1967. وهذا الكتاب عبارة عن مجموعة من المقالات أغلبها لفلاسفة مناطقة وتحليليين، ومنها: "مستقبل الفلسفة " لـ (مورتس شليك)، " التجريبية، السيمانطيقا، والأنطولوجيا " لـ)رودلف كارناب)، " الوضعية المنطقية، اللغة، وإعادة بناء الميتافيزيقا " لـ (كوستاف برجمان)، "التعبيرات النسقية الخاطئة " لـ (جيلبرت رايل) و" معضلة فلسفية " لـ (جون وزدم) و" التقدم السيمانطيقى " لـ (ويلارد كواين) و" الاكتشافات الفلسفية " لـ (ر.م. هير) و" أرامسون ودارنوك " لـ (جون أوستن)، " مدخل إلى اللغة: الكلمات والمفاهيم " لـ (ستيوارت هامبشير)، " تاريخ التحليل الفلسفى " لـ (أرامسون) و" التحليل، العلم، والميتافيزيقا " لـ (بيتر ستروسون).. الخ.

يقول رورتى فى مقدمة كتابه " التحول اللغوى ": " إن الهدف الذى يصبو إليه هذا الكتاب يتصل بتقديم معطيات تمكن من التفكير فى الثورة الفلسفية التى حدثت فى السنوات القليلة الماضية، أى فى الفلسفة اللغوية. وأعنى " بالفلسفة اللغوية " هنا " تلك الرؤية التى تقضى بأن المشكلات الفلسفية يمكن حلها سواء بإصلاح اللغة، أو بالمزيد من الفهم الذى يمكن أن نصل إليه حول اللغة التى نحن بصدد استعمالها " (23). وهو يعرف "التحول اللغوى " بأنه ذلك " التحول الذى اتخذه الفلاسفة فى اللحظة التى هجروا فيها الخبرة بوصفها موضوعاً فلسفياً وتبنوا موضوع اللغة وبدأوا فى السير خلف خطى فريجه بدلاً من لوك " (24).

وأكد رورتى هذا المعنى فى موضع آخر فقال: " لقد اتخذت صورة الفلسفة القديمة والوسيطة " الأشياء " Things منطلقاً لها، واتخذت الفلسفة فى القرون من السابع عشر إلى التاسع عشر " الأفكار " Ideas منطلقاً لها، ويتم توضيح الساحة الفلسفية المعاصرة بواسطة " الكلمات " Words (25). وأضاف رورتى أن النظام المعرفى المسمى حالياً " فلسفة اللغة " له مصدران أساسيان:

المصدر الأول: جملة المشكلات التى عالجها فريجه وناقشها، على سبيل المثال، فتجنشتين فى "الرسالة"، وكارناب فى "المعنى والضرورة ". وهى مشكلات بخصوص معرفة كيفية تنظيم أفكارنا عن المعنى والإشارة بطريقة تمكننا من الإفادة من المنطق الكمى، والحفاظ على حدوسنا عن منطق الجهة، وبصفة عامة، تقديم صورة واضحة ومرضية حدسياً تتشكل من مفاهيم " الحقيقة "، و"المعنى"، و" الضرورة " و" الإسم ". ويسمى رورتى هذه الفئة من المشكلات " موضوع فلسفة اللغة الخالصة "، وهى نظام ليس له شكل معرفى ولا حتى أى علاقة مع معظم الاهتمامات التقليدية للفلسفة الحديثة.

المصدر الثانى: هو المصدر المعرفى، ويتمثل فى محاولة استعادة صورة الفلسفة الكانطية كإطار تاريخى دائم للبحث فى شكل "نظرية المعرفة ". فقد بدأ " التحول اللغوى " كمحاولة لتقديم نزعة تجريبية غير نفسية عن طريق إعادة صياغة الأسئلة الفلسفية بخصوص المنطق. ولقد جرى الاعتقاد بأنه من الممكن الأن، تقديم المذاهب التجريبية والفينومينولوجية ليس بوصفها تعميمات تجريبية – نفسية ولكن كنتائج " للتحليل المنطقى للغة ". وبوجه عام، إن الفعاليات الفلسفية حول طبيعة المعرفة الإنسانية ومجالها (على سبيل المثال ما قدمه كانط من مزاعم معرفية حول " الإله " و" الحرية " و" الأخلاق") يجب أن تقدم من جديد فى شكل ملاحظات أو تعليقات حول اللغة (26).

ويرى رورتى أن " الفلسفة التحليلية " بوصفها صورة من التجريبية قد انطلقت فى عصرنا من أعمال رسل وكارناب – الخ- وأن الفيلسوف إير هو الذى استوعب هذه الأعمال وقام بنشرها وتفسيرها خاصة فى كتابه " اللغة والصدق والمنطق " (1936). حيث قدم من خلاله جملة من الأفكار التى تشكل ما يسمى فى عصرنا " الوضعية المنطقية " أو " التجريبية المنطقية " وهى الأفكار نفسها التى أعادت الابستمولوجيا التأسيسية للتجريبية البريطانية إلى مجراها اللغوى بدلاً من النفسى. وهذه الأفكار تختلف بشكل كبير عن الأفكار التى تشكل الأساس لما يسمى، أحياناً، " فلسفة تحليلية ما بعد الوضعية " – وهى فرع من الفلسفة يقال عنه أنه " أبعد من " أو " تجاوز " للتجريبية والعقلانية (27).

ويقول رورتى: " إن التحول الذى حدث داخل الفلسفة التحليلية منذ بداياتها فى حدود 1950 م، إلى غاية اكتمالها فى سنة 1970م، من الصعب رصده بيسر وتحديده بدقة، فهو يرجع إلى تفاعل معقد لقوى كثيرة صاحبت الفلسفة التحليلية. لكن مع هذه الصعوبة هناك ثلاثة أعمال رئيسية ساهمت فى مسار الفلسفة التحليلية وهى: "معتقدان للتجريبية " لـ (ويلارد فان أورمان كواين) و" بحوث فلسفية " لـ (لودفيج فتجنشتين) و" التجريبية وفلسفة العقل" لـ (وليفرد سيلرز) (28)

ومقال سيلرز، من بين تلك الأعمال الثلاثة، والذى يتصف بالتعقد والثراء، هو أقلها شهرة ومناقشة. فقد أكد مؤرخوا الفلسفة الأنجلوأمريكية أهمية مقال كواين فى إثارة الشكوك حول فكرة " الصدق التحليلى " وكذلك حول فكرة رسل وكارناب القائلة " بأن الموضوع الرئيسى للفلسفة يجب أن يكون " التحليل المنطقى للغة ". كما عملوا على إبراز قيمة مقال فتجنشتين ودوره فى هدم كثيراً من مشكلات الفلسفة التقليدية. ومع هذا، فإنهم لم يسلطوا الضوء بشكل كاف لتقدير دور سيلرز فى هذا المجال. وسيلرز (1912 -1982) بأعماله العديدة ورؤيته الموسوعية والعميقة بتاريخ الفلسفة قد تميز عن كثير من فلاسفة التحليل وعلى رأسهم كواين وفتجنشتين؛ فهو يقول: " إن الفلسفة من دون تاريخ الفلسفة، إن لم تكن عمياء، فإنها على الأقل تكون خرصاء "(29).

والحقيقة أن محاولة رورتى للجمع بين " التجريبية " و"العقلانية" تعتمد أساساً على أفكار سيلرز وخاصة فى كتابه "التجريبية وفلسفة العقل ". وهو الكتاب الذى أشاد به رورتى واعتبره من أكثر الأعمال جاذبية فى عصرنا، ولا يمكن التعرف على مشروع سيلرز الفلسفى من دونه. والفكرة الرئيسية فى هذا الكتاب هى قول كانط: " الحدوس من دون مفاهيم تكون عمياء ". فوجود انطباع حسى، هو فى حد ذاته ليس مثالاً للمعرفة ولا للخبرة الواعية. سيلرز، مثل فتجنشتين المتأخر، وعكس كانط، رأى أن وجود "مفهوم " يعنى " التمكن من استعمال كلمة ". ولذلك فهو يقول: " إن كل وعى بالأنواع، وبالتماثلات، وبالوقائع.. الخ، أى باختصار، كل وعى بالكيانات المجردة – بل حتى كل وعى بالجزئيات هو " عمل لغوى". ومذهبه الذى سماه " النزعة الاسمية السيكولوجية" Psychological Nominalism يوضح – كما يرى رورتى – أن لوك، وباركلى، وهيوم كانوا مخطئين فى اعتقادهم أننا " ندرك أنواع محددة.. وذلك ببساطة بفضل وجود أحاسيس وصور(30).

و" النزعة الأسمية السيكولوجية " عند سيلرز مبنية على أسلوب فتجنشتين فى كتابه "بحوث فلسفية "، والذى أكد ارتباط المعرفة بالممارسة الاجتماعية.. وتؤدى إلى تضييق الخلاف، بل والجمع بين توجهات " العقلانيين " و" التجريبيين " (31).وذلك من خلال توسط اللغة ومعالجة المشكلات الفلسفية بالرجوع إليها.. يقول سيلرز: " إن التحكم فى اللغة هو الشرط الضرورى لكل خبرة واعية " (32).

ويقسم رورتى فلاسفة العقل واللغة إلى قسمين: فلاسفة ذريين Atomists وفلاسفة كليين Holists ؛ وهؤلاء جميعاً يرون أن أهم ما يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات هو العقل واللغة. وقد زادت حدة الخلاف بين الفريقين منذ نشر كتاب " مفهوم العقل " لـ " رايل "، و" بحوث فلسفية " لـ " فتجنشتين "، و" التجريبية ومفهوم العقل "  و" معتقدان للتجريبية " لـ " كواين ". فقد شك فتجنشتين فى منطلق النظرية النسقية للمعنى، وسخر كواين من القول " بوجود كيانات تسمى (معانى) مرتبطة بالتعبيرات اللغوية"، وشك رايل فى تصورات علم النفس التجريبى، وسار سيلرز على نهج فتجنشتين بقوله إن ما يميز البشر هو قدرتهم على التخاطب مع بعضهم البعض، وليس امتلاكهم حالات عقلية داخلية متماثلة بشكل ما مع حالات بيئتهم (33).

وبعد أن تربى رورتى فى أحضان الفلسفة التحليلية، وتمرس على آلياتها سرعان ما تمرد عليها وانتقدها بعدما اكتشف إخفاقاتها المتنوعة.

ثالثا: نظرية الأوصاف عند رسل

يعد رسل B. Russell من أهم رواد " مدرسة كمبردج Cambridge school وهى مدرسة تحاول إقامة لغة مثالية كوسيلة أفضل من اللغة العادية للتفكير الفلسفي، وتعرف هذه اللغة عند رسل بـ " اللغة الكاملة منطقياً" lofically perfect language..... وفي ضوء تصور رسل لهذه اللغة المثالية يقول، عن فلاسفة اللغة العادية، في أكثر من موضوع، إنهم قوم ينشغلون بالأشياء التافهة التى يقولها البلهاء، وهذا أمر قد يكون مسليا لكنه ليس مهما. وينتهى رسل إلى أن المأخذ الوحيد الذى يؤخذ على الفلسفة التحليلية هو أنها أدت إلى أمثال هذه الاتجاهات اللغوية المتطرفة حيث أصبحت الفلسفة معنية أكثر بفهم نفسها، وتنكرت للمهمة التى اضطلعت بها الفلسفة منذ طاليس وطوال عهودها، وهى مهمة فهم العالم.(34)

أما " نظرية الأوصاف" theory of descriptions فقد حظيت، منذ عرضها رسل، باهتمام كثير من المفكرين، سواء من قاموا بتفسيرها، والتعليق عليها، والدفاع عنها، أم من اعترضوا عليها وكشفوا عن قصورها. ونجد ذلك عند إير A.J.Ayer في مقالة "نظرية الأوصاف"، ومور G.E. moore في مقالة " نظرية الأوصاف عند رسل"، كواين V.O.Quine في مقالة "التطور الانطولوجى عند رسل"، رامزى F.P.Ramsey في كتابة "أسس الرياضيات"، وهوايت A.White في مقالة "، معنى نظرية الأوصاف عند رسل"، جرام M. Gramفي كتابة " الانطولوجيا ونظرية الأوصاف، مقالات عن برتراند رسل"، ماكس بلاك M.Black في مقالة " فلسفة اللغة عند رسل"، هوشبرج H. Hochberg في مقالة " الدليل الانطولوجى عند أنسلم ونظرية الأوصاف عند رسل "، وبورجمان A. Borgmann في مقالة " نظرية الأوصاف المحددة عند رسل".. الخ. يضاف إلى ذلك تحليلات بعض المفكرين العرب لهذه النظرية في كتاباتهم أمثال، د. زكي نجيب محمود في كتابة " برتراند رسل، سلسلة نوابغ الفكر الغربي "، د. محمد مهران في كتابة " فلسفة برتراند رسل "، د. يحيى هويدي في كتابة " ما هو علم المنطق"، د. زكريا إبراهيم في كتابة "دراسات في الفلسفة المعاصرة" الجزء الأول، د. على عبد المعطي في كتابة " أسس المنطق الرياضي وتطوره" ود. ماهر عبد القادر في كتابة " المنطق الرياضي "... الخ.

والآن: إذا كانت نظرية الأوصاف" قد لاقت قبولاً لدى كثير من المفكرين، وتعددت نواحى البحث فيها، فماذا تعنى هذه النظرية ؟ وما أهدافها ؟ وما أهم منطلقاتها أو الظروف التى أدت برسل إلى التفكير فيها

تلك هى المشكلة التى نركز عليها، ونحن إذ نسترشد بالدراسات المختلفة حول هذه النظرية ونتأمل نصوص رسل ومواقفه المختلفة حولها نستطيع أن نبحث مسألتين أساسيتين، تتعلقان بجوانب نظرية الاوصاف

جوانب نظرية الأوصاف عند رسل:

عرض رسل نظريته في الأوصاف في مقالات وكتب مختلفة منها: مقال " في الدلالة " نشرة لأول مرة عام (1905) في مجلة "العقل "، كتاب " مبادئ الرياضيات" الجزء الأول عام (1910)، مقال "المعرفة بالإدراك المباشر والمعرفة بالوصف" عام (1911)، كتاب "مشكلات الفلسفية" عام (1912)، مقال طبيعة المعرفة بالإدراك المباشر" عام (1914)، محاضراته عن " فلسفة الذرية المنطقية" عام (1918)، كتاب "مقدمة للفلسفة الرياضية" عام (1919)، كتاب "بحث في المعنى والصدق" عام (1940) وكتاب "تطورى الفلسفى" عام (1959).. الخ. وعندما نقرأ ما قدمه رسل فى هذه الأعمال نلحظ أن نظريته في الأوصاف ذات جانبين أساسيين: جانب منطقي وجانب ابستمولوجى.

1- الجانب المنطقى:

يلزم في تفسيرنا لنظرية الأوصاف أن نفكر في العلاقات بين الألفاظ والأشياء. وإذا كان من الواضح أننا لا نستطيع أن نتحدث عن أى شئ بدون استعمال ألفاظ، فإنه من الواضح أيضا أن ما نتحدث عنها ليست هى الألفاظ نفسها التى نستعملها، وعندما لا تشير الألفاظ، بطريقة ما، إلى أشياء فإن هذه الألفاظ، قد تكون عقيمة أو مضللة. والوسيلة أو الوسائل التى بها تشير الألفاظ إلى الأشياء لها أسماء عديدة في الكلام العادى، وفي المنطق مثل: التسمية naming، المعنى meaning، المغزى signifying، المفهوم connotation، الماصدق denotation.. الخ. والفكرة التى نريد إبرازها، أنه لا توجد جملة لها أى استعمال ما لم نفهم ما تشير إليه الألفاظ، ولذلك يركز المنطق جل اهتمامه على التمييز بين أنواع الألفاظ المختلفة وفقا للتمييز بين أنواع الأشياء المختلفة التى تشير إليها.(35)

ومن أهم هذه التمييزات المألوفة التمييز بين الحدود الشخصية أو الفردية singular terms والحدود العامة General Terms. والحد الشخصي هو ما يشير دائما إلى فرد واحد أو شئ معين مثل "سقراط"، " محمد " و"أحمد"، ومن أمثلة الحدود المفردة "أسماء الأعلام" proper names، وأما الحد العام فيشير إلى فئة معينة أو الخاصة التى تميز أفراد الفئة جميعا مثل "إنسان" و"حصان" ويمكننا تفسير العبارات أو الحدود سواء ما يطلق منها على مسمى واحد أو مسميات كثيرة تشترك في صفات تجعلها أعضاء في فئة واحدة. ولكن تواجهنا دائما مشكلة في تفسيرنا كثير من العبارات مثل " الغيلان هى حيوانات خرافية" و"ليس هناك ملك لباتاجونيا". ففى الحالة الأولي (وفي ضوء الفحوى العادى للكلمة) لا نجد شيئا يسمى "غول" أو ما يشكل "فئة الغيلان"، إذ ما الذى تشير إليه كلمة " غول" ؟، وفي الحالة الثانية، إذا لم يكن هناك ملك لباتاجونيا، فكيف يمكن أن يكون للحد الفردى " ملك باتاجونيا" أى إشارة ؟.(36)

والمشكلة هنا، في الحالة الأولى، أننا لم نقابل في الواقع شيئا يسمى "غول"، وكيف يمكننا أن نفهم ما نقوله عن هذا الكائن في الوقت الذى ننكر وجوده؟. ومفتاح حل هذه المشكلة يكمن في ألفاظ "تقابلت بـ" فعندما أقول أننى تقابلت بشئ ما، فأنا لا أعنى أننى قد سمعت من يتحدث عنه، أو أن هناك دليلاً على أنه غير موجود، ولكن أعنى أن لدى بالفعل اتصالاً به في خبرتى الخاصة. وكل هذه العبارات هى أسماء لعلاقة بسيطة يسميها رسل " المعرفة بالإدراك المباشر" وهذه العلاقة، وإن كان يصعب تحديدها، فإن المرء يستطيع أن يوضحها بطرح أمثلة. فأنا عندما أقابل مباشرة شيئا جزئيا تتكون لدى معرفة فعلية عنه عن طريق حواسى، ومعرفة مباشرة عن صفاته كاللون الأحمر مثلاً، وتتكون لدى معرفة عن بعض العلاقات مثل "أكبر من" أو "مساولـ". لكن كيف فهمنا ما قصدناه بلفظ "غول" على الرغم من أنه لا يوجد من البشر من التقاه ؟ لأننا بهذا اللفظ فهمنا (على الأقل عن طريق المعجم) أنه حيوان ما له جسم حصان، وقرن مستقيم وسط جبهته، وذيل أسد... الخ. ومع أن أحدا لم يلتق " الغول" مباشرة إلا أننا ندرك مباشرة تلك الصفات المختلفة المسماه في هذه الكلمة، ويمكن استعمال الألفاظ للإشارة مباشرة إليها. ولذلك فإن العبارة "لا يوجد غول" تساوى ببساطة العبارة "لا يوجد شئ له هذه الصفات" وهى جسم حصان، وقرن مستقيم وسط جبهته.. الخ، وبهذا نقف على أعتاب "نظرية الأوصاف".(37)

وقبل عرضنا لهذه النظرية يجب الإشارة إلى أن المشكلة الخاصة بالكائنات التى لا وجود لها في الواقع مثل "العنقاء"، و"الغول" و"المربع الدائرى" كانت محور اهتمام بعض الفلاسفة السابقين أمثال المنطقي الألماني "ألكسيوس مينونج" Alexius Meinong (1953- 1921).. فقد اعتقد "مينونج" أن لكل فكرة نمتلكها أو نتحدث عنها موضوعاً يقابلها، سواء أكان هذا الموضوع عبارة عن (1) موضوع حقيقي، أم (2) موضوع ضمنى أو مثالى كالعدد والعلاقة، أم (3) موضوع خالص pure object يستحيل وجوده مثل "المربع الدائري" و"الجبل الذهبى".(38) إذن للوجود درجات منها ما هو وجود حقيقي ومنها ما هو وجود ضمني ومنها ما هو وجود خالص.

ولكن هذه الأشياء التى توجد ضمنياً وأمثالها إذا دخلت في قضايا سليمة التركيب من الناحية اللغوية فإنها تشير إلى وجود منطقي وتصبح " موضوعات منطقية"؛ فقضية: "الجبل الذهبي غير موجود "قضية حملية، وعبارة " الجبل الذهبي" موضوع حمل حقيقي فيها، ويشير إلى شئ حقيقي على الرغم من أنه ليس شيئاً محسوساً لأنك إن قلت إن "الجبل الذهبي غير موجود " فإنك تكون قد أصدرت حكما على شئ ما بعدم وجوده، ومن الواضح أن هنالك شيئاً لتقول عنه إنه غير موجود هو الجبل المكون من ذهب. فهذا الجبل إذن ـ لابد أن يكون من ذهب وأن يكون موجوداً ضمنياً في عالم أفلاطونى تكتنفه الظلال، وإلا كان حديثك عن "الجبل الذى من ذهب غير موجود" ليس بذي معنى.(39)

وقد ظل رسل يشارك "مينونج" معظم أفكاره أول أمره، ولكنه راجعه مواقفه بعد ذلك وانتقد نظريته، ولذلك نجده يقول: "أعترف بأن هذه النظرية كانت تبدو لي مقنعة حتى بدت لى نظرية العبارات الوصفية".(40) كما أنه قد احتفظ في كتابة "أصول الرياضيات" (1903) ببعض المبادئ الخاصة بمذهبه الواقعي لكنه رأي بعد نشر هذا الكتاب مباشرة أن مذهبه الواقعي قد يؤدي إلى نوع من التناقض مثل القضية "المربع الدائري ليس له وجود"، فهذه قضية صادقة وذات مغزى. وعلى الرغم من ذلك فقد اقترح رسل أنه "لو كان هناك شئ معين فإنه سيكون موجوداً بالفعل، فنحن لا نستطيع أن نفترض من أول لحظة وجود شئ وبعد ذلك ننكر وجوده نفسه". فكيف يمكن أن نتحدث عن أشياء إذا لم يكن لها وجود إطلاقاً بأى معنى. وبالتخلي عن هذا المذهب وضع رسل مشكلته الخاصة بتحليل القضايا التى تتضمن رموز الموضوعات غير الحقيقية والمتناقضة ذاتياً، وهذا التحليل الذى يتعلق بإحساسنا القوى بالواقع ويتيح لنا الحديث عن هذه الموضوعات الزائفة أو " شبة ـ الموضوعات " pseudo-objects التى يمكن معرفتها. وقد توصل رسل إلى حل لهذه المشكلة من خلال " نظرية الأوصاف".(41)

وإذا كانت هذه النظرية كما وصفها فرانك رامزى F.Ramsey في كتابة أسس الرياضيات " تمثل "نموذج الفلسفة " paradigm of philosophy.(42) ما العبارات الوصفية التى تشكل هذه النظرية ؟ وما العوامل التى تجعل منها نموذجاً للفلسفة ؟ لقد استخدم رسل لفظ "الأوصاف" بمعنيين فنيين مختلفين في مواضع مختلفة من كتاباته أحدهما استخدمه في كتابه " برنكبيا ما ثماتيكا" (1910) والآخر في عملين تاليين له هما "مقدمة للفلسفة الرياضية" ومحاضراته حول "فلسفة الذرية المنطقية".(43)

وهو يوضح لنا هذين المعنيين فيقول إن الوصف قد يكون أحد نوعين: وصف محدد definite description ووصف غير محدد indefinite description. الوصف غير المحدد عبارة عن صورة " كذا وكذا" "so-and so" والوصف المحدد عبارة عن صورة "الكذا وكذا" the so-and so (في المفرد)".(44) وهذا كما يلي:

أـ الوصف غير المحدد:

الوصف غير المحدد هو ذلك الوصف الذى يخبرنا بإبهام مثل: "رجل ما"، "بعض الرجال"، "أى رجل"، "جميع الرجال"، "كل الرجال". فهب أننى "قابلت رجلا" فما الذى أقرره بحق حين أقول إننى "قابلت رجلا" ؟. هبنى صادقا فيما أقول، وأننى في الواقع "قابلت محمداً. فمن الواضح أن ما أقرره "ليس" هو "قابلت محمداً"، فقد أقول "قابلت رجلا ولكنه ليس محمداً" فإننى في هذه الحالة لا أناقض نفسي على الرغم من أننى أكذب وأننى أعنى حقا أننى أكذب، وأن الشخص الذى أحدثه يستطيع أن يفهم ما أقوله حتى ولو كان غريبا ولم يسمح قط عن "محمد".(45)

ولكننا قد نذهب أبعد من ذلك، فنقول إن محمدا ليس هو وحده الذى لا يدخل في عبارتى، بل لا يدخل فيها أى موجود بالفعل أيضا، وهذا يتضح عندما تكون العبارة كاذبة، ومن ثم لا يكون هناك سبب آخر لوجود محمد في القضية أكثر من أى فرد آخر. وبالفعل ستظل العبارة ذات مغزى، على الرغم من أنها لا يمكن أن تكون صادقة حتى ولو يكن هناك أى إنسان فعلى.(46)

بهذا يوضح رسل أن عبارتى "قابلت رجلا" وقابلت محمداً" ليستا متساويتين، ويكفى لبيان ذلك ملاحظة أننى قد أكون صادقا في العبارة الأولي، وكاذبا في العبارة الثانية؛ إذ ربما أكون قد قابلت رجلا لكن هذا الرجل لم يكن هو محمد. كما أن قولى "قابلت رجلا" لا يعنى أننى قابلت فعلا فردا بذاته من الناس.. والدليل على ذلك أننى قد أقول "قابلت غولاً" أو "قابلت عنقاء" ويكون لقولى هذا معناه على الرغم من أنه ليس هناك في عالم الأشياء الملموسة غول حقيقي أو عنقاء حقيقية لأنها كائنات من تصوير الخيال. وما يدخل في القضية ليس إلا تصور "الغول" أو "العنقاء". ففى حالة الغول ليس هناك إلا التصور التالي: لا يوجد في أى مكان شئ غير واقعي يمكن أن يسمى "غولاً"، وبالتالى فإن قولى "قابلت غولاً" له معنى (رغم أنه كاذب)، إذ من الواضح أن هذه القضية لا تحتوى على مكون الغول في مكوناتها ولا تشير إلى شئ أو مسمي واقعي في عالم الأشياء على الرغم من أنها تحتوى على التصور "غول".(47)

فأنا حين أقول "قابلت رجلا" فإنما أعنى بكلمة "رجل" مجموعة من صفات تنطبق على هذا وذاك من أفراد الناس، فهى أوصاف عامة، أتصورها بالذهن، ولو لم يكن هناك الفرد الذى تنطبق عليه. إذ الأمر هنا لا يزيد ولا يقل عن الأمر في العبارات التى تتحدث عن كائنات خيالية كالغول والعنقاء.. وعلى ذلك فالمراد بالعبارة الوصفية العامة (غير المحددة) هو المدرك العقلي لا الافراد الحقيقيون الواقعون في عالم الأشياء. كما يتضح وجه الشبه، ويتضح وجه الاختلاف، بين عبارة تتحدث عن شئ حقيقي وأخرى تتحدث عن شئ خيالي وهمي، فكلتا العبارتين تكون مفهومة للسامع على حد سواء، فلا فرق من حيث الفهم بين أن أقول: "قابلت رجلاً" أو أن أقول "قابلت غولاً" ـ إذا كان للغول صفات معلومة محدودة ـ لكن تعود العبارتان فتختلفان من حيث إن للأولي أفراداً في عالم الواقع، وأنها قد تصدق على أي فرد منهم، وأما الثانية ـ فعلي الرغم من أنى قد أفهم معناها ـ فليس في عالم الواقع أفراد تصدق على هذا أو ذاك منهم.(48)

لكن إذا كان الأمر كذلك فما مصدر الحديث عن كائنات ليست بذات وجود فعلي مثل "الغول" والعنقاء" و" المربع الدائري" ؟. لقد ذهب رسل في شرحه لهذه المسألة إلى أن مصدر افتراض كائنات وهمية هو أن معظم المناطقة انخدعوا بالنحو وتناولوا هذه المشكلة من منطلق خطأ. ذلك أنهم اعتبروا الصورة النحوية grammatical form مرشداً أوثق في التحليل مما هى عليه في الواقع، ولم يدركوا تلك التمييزات المهمة في الصورة النحوية. فالقول "قابلت محمداً " و" قابلت رجلا" عندهم من صورة نحوية واحدة، ولكنهما في الواقع من صورتين مختلفين تماماً: فالأولي تسمى شخصاً بالفعل وهو "محمد" على حين أن الثانية تتضمن دالة قضية propositional function وتصبح عندما يصرح بها كما يأتي: "الدالة قابلت س، س إنسان صادقة أحياناً وبتعبير آخر: "قابلت رجلاً" دالة قضية لا قضية وتحليلها هو {"قابلت س "،" س إنسان" دالة تصدق على فرد واحد على الأقل}.(49)

ويعتقد رسل أن الافتقار إلى جهاز دوال القضايا هو الذى أدي بالعديد من المناطقة إلى النتيجة القائلة بأن هناك أشياء غير واقعية. فلقد زعم "مينونج" مثلاً أننا يمكن أن نتحدث عن "الجبل الذهبي" و" المربع الدائري"، وما إلى ذلك، وأننا نستطيع أن نقرر قضايا صادقة هذه الأشياء موضوعاتها وبالتالي فلابد أن يكون لها نوع ما من الكيان المنطقي وإلا ستكون القضايا التى ترد فيها عديمة المعنى.(50)

وهناك سبب آخر مهم يفضح المغالطة التى أدت بالفلاسفة إلى استعمال تلك العبارات التى تقرر الوجود الضمني وهو عدم الالتزام بالواقع. وهذا ما يوضحه رسل بقوله: "يبدو لي أنه في مثل هذه النظريات هناك عجز عن ذلك الإحساس بالواقع الذى يجب أن نحافظ عليه حتى في أكثر النظريات تجريداً.. فالمنطق لا ينبغي أن يسمح بوجود غول أكثر مما يسمح به علم الحيوان، ولو أن المنطق يبحث في ملامح العالم الأكثر عمومية وتجريداً. والقول بأن للغيلان وجوداً في أخبار الفروسية أو الأدب أو الخيال هروب من الحقيقة يرثي له ولا أهمية له. ذلك أن ما يوجد في الفروسية ليس حيواناً مكوناً من لحم ودم، يتحرك ويتنفس بذاته، بل الموجود صورة أو وصف في ألفاظ ويشبه بذلك القول بأن هاملت مثلا يوجد في عالمه الخاص، نعنى عالم خيال شكسبير، كما وجد نابليون مثلا في عالمنا العادى، هو أن نقول شيئاً يدعو إلى الخلط عن قصد أو أنه شديد الخلط إلى حد لا يكاد يصدق".(51)

وهذا الخلط يرجع إلى وجود عالم واحد هو العالم الواقعى، وخيال شكسبير جزء منه، والأفكار التى وردت في ذهنه عند كتابة هاملت واقعية، وكذلك الأفكار الموجودة عندنا عند قراءة الرواية، ولكن من جوهر الخرافة أن تكون الأفكار والمشاعر وغير ذلك في كتابات شكسبير وعند قرائه واقعية دون أن يكون ثمة، بالإضافة إلى ذلك هاملت خارجى. وأنت إذا أخذت في الاعتبار جميع المشاعر التى أثارها نابليون في الكتاب والقراء في التاريخ لن تكون قد لمست الرجل بالفعل، ولكن في حالة هاملت فأنت تقتحمه في الصميم. ولو أن أحداً لم يفكر في هاملت ما بقي منه شئ، أم لو أن أحداً لم يفكر في نابليون لعهدنا على الفور إلى أحد بذلك.(52)

وإذن فالذين يستنتجون من مجرد تحدثنا عن كلمات دالة على أوصاف عامة، وجود كائنات تكون بمثابة المسميات لتلك الكلمات ـ كما فعل مينونج ـ قد أخطأوا لخلطهم بين القضية ودالة القضية، إنهم تصوروا أن قولنا "قابلت غولاً" قضية، وإذن فهى حديث عن شئ ما، وإذن فلابد أن يكون لذلك الشئ نوع من الوجود المنطقي، وإلا لخلت القضية من معناها، مع أن العبارة التى من هذا القبيل، أى العبارة التى تتحدث عن كلمة دالة على أوصاف عامة، هى دالة قضية، لا تتحدث عن شئ، ولا تتحول إلى قضية متحدثة عن شئ إلا إذا أحللنا اسم علم مكان الكلمة ذات المعنى الكلي. وهذا ممكن في مثل قولى "قابلت رجلا" ـ بأن أجعلها "قابلت العقاد" ـ وغير ممكن في مثل قولي "قابلت غولاً". ومن ثم كانت العبارة الأولي مشيرة إلى فرد ما من أفراد الوجود الواقعي، على حين أن الثانية لا تشير إلى أحد.(53)

ما الفرق بين وجود "هاملت" ـ وهو شخص خيالي في الأدب ـ وبين وجود "نابليون" ـ وهو شخص حقيقي في التاريخ ؟ ـ إن كلا منهما قد ورد اسمه في مجموعة عبارات مكتوبة في الكتب، لكن الأمر في حالة هاملت ينتهى عند حد هذه العبارات المكتوبة. أما في حالة نابليون، فقد كان في عالم الأشياء ـ بالإضافة إلى العبارات المكتوبة ـ كائن من لحم ودم يمشي ويحارب ويخطب في الناس. وهكذا قل في العبارة التى تتحدث "رجل" والأخرى التى تتحدث عن "غول". فلكل منهما معنى يفهمه السامع، وإلى هنا يتشابهان، لكنهما يعودان فيختلفان في أن الأولي يمكن تحويلها إلى قضية عن فرد معين له اسم معروف، أما الثانية فتقف عند حد فهم معناها. بعبارة اصطلاحية: الأولي دالة قضية يمكن تحويلها إلى قضية، والثانية دالة قضية لا يمكن تحويلها إلى قضية.(54)

وما يحافظ على سلامة فكرنا هو اللجوء إلى الواقع ولهذا يقول رسل: "إن الإحساس بالواقع أمر حيوى في المنطق، وأيا كان من يتلاعب بالواقع زاعما أن لهاملت نوعا آخر من الواقعية إنما يسئ إلى الفكر. إن الإحساس القوى بالواقع ضروري جداً لإجراء تحليل صحيح للقضايا التى تدور حول الغيلان، والجبال الذهبية، والمربعات الدائرية، وغير ذلك من الموضوعات الزائفة أو شبه الموضوعات".(55)

واستجابة للإحساس بالواقع سنصر عند تحليل القضايا على عدم السماح بشئ " غير واقعي". لكن إذا لم يكن ثمة شئ غير واقعي فكيف "يمكن" أن نسمح بشئ غير واقعي؟. الجواب عن ذلك عند رسل هو أننا في بحث القضايا إنما نبحث أولاً رموزاً symbols، وأننا إذا نسبنا مغزى لمجموعة من الرموز لا مغزى لها فسنقع في خطأ الاعتراف بموضوعات غير واقعية على المعنى الوحيد المحتمل لهذا المصطلح نعنى كأشياء موصوفة، ففى القضية "أنا قابلت أحد الغيلان" نجد أن مجموع الألفاظ الأربعة معا تكون قضية مفيدة، ولفظة " الغول" لها على حدتها مغزى كالمغزى نفسه للفظة " رجل". ولكن اللفظتين "أحد الغيلان" لا يكونان مجموعة تابعة لها معنى مستقل بذاته. فإذا نحن نسبنا بالباطل معنى لهاتين اللفظتين لوجدنا أنفسنا نمتطى ظهر "أحد الغيلان"، فنواجه مشكلة ترجع إلى كيفية وجود مثل هذا الشئ في عالم ليس فيه غيلان. ذلك أن "أحد الغيلان" وصف غير محدد لا يصف شيئاً، إنه ليس وصفاً محدداً يصف شيئاً ما غير واقعي. وهذه القضية من مثل " س غير واقعية" إنما يكون لها معنى عندما تكون "س" وصفاً، محدداً أو غير محدد، وفي هذه الحالة ستكون القضية صادقة إذا كانت " س" وصفاً لا يصف شيئاً. ولكن سواء أكانت "س" وصفا يصف شيئاً ما أم لا يصف شيئاً فهى على أيه حال ليست من مكونات القضية التى ترد فيها. فهى كالحال في " أحد الغيلان" ليست مجموعة تابعة لها معنى مستقل بذاته. وكل هذا ينشأ عن أنه عندما تكون " س" وصفاً، فإن " س غير واقعية" أو "س ليست موجودة ليست لغواً، ولكنها ذات مغزى في بعض الأحيان، وقد تكون صادقة.(56)

ولكن كيف يتم تحليل القضايا المحتوية على أوصاف غير محددة ؟ والجواب عن ذلك هو أن هذا التحليل يتم ـ في اعتقاد رسل ـ باللجوء إلى جهاز دوال القضايا. فلو أردنا أن نقول قولاً عن "كذا وكذا" فإننا نقوله في الواقع عن الموضوعات (أو القيم) التى لها الخاصية هـ، أى عن الموضوعات التى تكون دالة القضية هـ س صادقة بالنسبة لها، فلو كانت " كذا وكذا" هى " إنسان" مثلا، لكانت هـ س هى " س إنساني"، وهذا يعنى أن تقرير شئ عن الرجل سوف يكون تقريراً عن القيم المتعددة التى لها الخاصية هـ. أما لو أردنا أن نقرر أن "كذا وكذا" له خاصية ما، لكان ذلك يعنى أن هناك موضوعاً أو أكثر س له الخاصية هـ ـ التى هى كذا وكذا ـ له أيضاً خاصية أخرى ط. ومن الواضح هنا أن القضية القائلة أن " كذا وكذا " له الخاصية ط ليست من الصورة ط س (التى قد تعنى قابلت رجلا) لأنها لو كانت كذلك لكانت كذا وكذا متطابقة مع س. وبالتالي لكانت العبارة الوصفية تعنى موضوعاً، وهذا ما يريد رسل أن يتجنبه، وعلى ذلك فإن القول بأن موضوعاً ما له الخاصية هـ له الخاصية ط يعنى أن التقرير الخاص هـ س ليس كاذباً دائماً.(57)

ويرتبط هذا التحليل للقضايا التى تحتوى على أوصاف غير محددة بتعريف " الوجود" existence. فقد ذهب رسل إلى أننا نقول " الناس موجودون" men exist أو " يوجد رجل " a man exists إذا كانت دالة القضية "س إنسان" صادقة أحيانا، وبوجه عام يوجد " كذا وكذا " إذا كانت " س هى كذا وكذا" صادقة أحياناً. ويمكن أن نضع هذه المسألة في عبارة أخرى. فالقضية " سقراط هو إنسان" لا شك تكافئ "سقراط هو إنساني" ولكنها ليست القضية نفسها بالضبط. ذلك أن " هو is " في " سقراط هو إنساني" تعبر عن علاقة الموضوع subject بالمحمول predicate، أما " هو " في "سقراط هو إنسان" فإنها تعبر عن التطابق. لقد كان من المشين للجنس البشرى أن يختار استعمال اللفظة نفسها " هو is " لهاتين الفكرتين المختلفتين تمام الاختلاف، وهو أمر مشين تعالجه بالطبع لغة المنطق الرمزى. فالتطابق في " سقراط هو إنسان" تطابق بين شئ مسمى(بفرض أن سقراط اسم يقبل جملة من الأوصاف) وبين شئ غامض الوصف. والشئ الغامض الوصف " سيوجد" عندما تكون على الأقل إحدى مثل هذه القضايا صادقة. أى عندما توجد على الأقل قضية واحدة صادقة من الصورة " س هى كذا وكذا " حيث "س " اسم.(58)

ومن مميزات الأوصاف الغامضة (في مقابل الأوصاف المحددة) أنه قد يكون هناك أى عدد من قضايا الصادقة من الصورة السابقة: سقراط إنسان، أفلاطون إنسان.. الخ. وهكذا فإن "إنسان موجود" تلزم عن سقراط أو أفلاطون أو أي شخص آخر.(59)

ب ـ الأوصاف المحددة:

تعد "نظرية الأوصاف المحددة" عند رسل من أبرز الأمثلة التى يمكن ذكرها للفوائد الناتجة عن مواجهة اللغة العادية باللغة الاصطناعية. فلا تزال هذه النظرية تعبر عن "روح فلسفة اللغة المثالية" the spirit of ideal language philosophy وذلك لأنها صممت لحل بعض مفارقات اللغة العادية عن طريق تفسير البنية المنطقية للمفارقات، وهذه البنية ـ كما يدعي رسل ـ مضمرة في اللغة العادية.(60) وقد نشأت هذه المفارقات من عبارات في اللغة العادية تبدو وكأنها تؤدي وظيفة " أسماء الأعلام" proper names والتى يمكن إدراكها من صورتها " الكذا وكذا " حيث إن " كذا وكذا " تشير إلى حد شخصي.(61) وتبدو هذه العبارات وكأنها تصف كينونة معينة محددة وبالتالي تسمى " أوصاف محددة ".(62)

ولتوضيح هذه الأوصاف بحث رسل أداة التعريف " ال" (في المفرد)، ورأي أن إحدى النقاط المهمة جداً حول تعريف " كذا وكذا " أنه ينطبق على " الكذا والكذا " سواء بسواء. والتعريف المنشود هو تعريف قضايا ترد فيها هذه العبارات لا تعريف العبارة ذاتها على حدة. وفي حالة " كذا وكذا" هذا واضح بما فيه الكفاية: فلا أحد يستطيع أن يزعم أن " رجل " كان شيئاً محدداً (معرفاً) يمكن أن يحدد بذاته. فنحن نقول "سقراط إنسان"، "أفلاطون إنسان" و"أرسطو إنسان" ولكننا لا نستطيع أن نستنتج من ذلك أن "إنسان" يعنى الأمر نفسه الذى يعنيه سقراط، وكذلك الذى يعنيه أفلاطون، والذى يعنيه أرسطو، ما دامت هذه الأسماء الثلاثة لها معان مختلفة. ومع ذلك، فإننا بعد أن نحصي جميع الناس في العالم، لا يبقي شئ يمكن أن نقول عنه " هذا إنسان"، وليس هذا فقط، ولكنه " ال" إنسان، ذلك الشئ بالذات الذى هو بالضبط إنسان غير محدد دون أن يكون أي " شخص بالذات". ومن الواضح، بالطبع، أن كل ما هو موجود في العالم فهو محدد: فإن كان إنساناً، فهو إنسان واحد محدد لا أى إنسان آخر. وبذلك لا يمكن أن يوجد مثل هذا الشئ مثل " إنسان " في العالم في مقابل الناس المعينين. وتبعا لذلك من الطبيعي أننا لا نحدد " إنسان" نفسه، بل نحدد فقط القضايا التى يرد فيها.(63)

ومن الأمثلة المهمة التى ذكرها رسل ليوضح المشكلات المتعلقة بالعبارات العادية ما يلي: أراد الملك جورج الرابع أن يعرف ما إذا كان " سكوت" هو مؤلف ويفرلى". والآن: فإن " سكوت" و" مؤلف ويفرلي" متطابقان أي أنهما يدلان على الشئ نفسه. فالاسم "سكوت" والوصف المحدد " مؤلف ويفرلي" يمكن استخدامهما بطريقة تبادلية أي يمكن أن نقيم تطابقاً تاماً بينهما عندما يشيران إلى كينونة واحدة. ففى الجملة:

1- جورج الرابع أراد أن يعرف ما إذا كان " سكوت" هو " مؤلف ويفرلي". يجب أن نستبدل " سكوت" بـ " مؤلف ويفرلي". وهذا يؤدي إلى الجملة التالية:

2- جورج الرابع أراد أن يعرف ما إذا كان "سكوت" هو "سكوت". ولكن نتيجة هذا التبديل أن العبارة الثانية غير متطابقة مع العبارة الأصلية، لأنه من الصحيح أن جورج الرابع أراد أن يعرف ما إذا كان " سكوت" هو "مؤلف ويفرلي". ولكن، بطبيعة الحال، فإن أحداً من الناس لم يكن ليريد أن يعرف ما هو صادق وبديهي وهو أن "سكوت هو سكوت".

والسؤال هو: أين يوجد الخطأ ؟ أين المشكلة في هذا المثال ؟. يري رسل أن الخطأ يوجد في افتراض أن الوصف المحدد له المعنى نفسه الذى يوجد للاسم وهو الإشارة إلى الكينونة بالتسمية أو الوصف. وهذا الافتراض الخاطئ نشأ من الصورة التى يتخذها الوصف المحدد في اللغة العادية. فتحليل " وصف محدد عادى" وتحويله إلى لغة معبرة منطقياً سيوضح أن " الاسم " و"الوصف المحدد" غير متكافئين ولا يمكن استبدال أحدهما مكان الآخر.(64)

لكن ما هو التحليل المنطقي الملائم للوصف المحدد عند رسل؟. يطالب رسل بضرورة أن نفسر، منذ البداية، بطريقة أكثر دقة، التمييز بين " الأسماء" و"الأوصاف المحددة" لأن فشلنا في معرفة هذا التمييز هو أساس المشكلة برمتها.(65) وهذا كما يلي:

1- الاسم رمز بسيط simple symbol معناه شئ ما يمكن أن يرد فقط بوصفه موضوعاً، أى يشير مباشرة إلى الفرد الذى يكون هو معناه، وهذا المعنى يخصه هو ويكون مستقلاً عن جميع المعاني الأخرى. أما "الأوصاف المحددة" فتفتقر إلى هذه التلقائية والفورية لأنها تكتسب معانيها بطريقة معقدة وتابعة لأشياء أخرى تظهر عندما نعكسها على الصورة العامة للسياقات التى قد ترد بها هذه الأوصاف.(66)

والرمز البسيط رمز ليست له أجزاء هى رموز. وهكذا فإن "سكوت" في القضية "سكوت مؤلف ويفرلي" رمز بسيط، فمع أن له أجزاء (هى الحروف المنفصلة) إلا أن هذه الأجزاء ليست رموزاً. ومن جهة أخرى "مؤلف ويفرلي" ليست رمزاً بسيطاً لأن الألفاظ المنفصلة التى تؤلف العبارة مركبة من أجزاء هى رموز. وإذا كان، بحسب الحالة، ما يبدو " فرداً " قابلا حقا للتحليل أكثر من ذلك، فينبغي أن نقنع بما قد نسمية " الأفراد النسبيين" relative individuals، وهى حدود terms. وبالتوفر على مشكلتنا الراهنة أى الخاصة بتعريف الأوصاف، فهذه المشكلة يمكن تجاهلها سواء أكانت الأسماء مطلقة أم نسبية فقط، ما دامت المشكلة تتعلق بمراحل مختلفة في سلم " الأنماط" حيث يجب علينا المقارنة بين هذه الأزواج مثل " سكوت" و"مؤلف ويفرلي" وكلاهما ينطبق على الشئ نفسه، ولا يشير مشكلة الأنماط.(67)

لدينا إذن أمران علينا أن نقارن بينهما (1) الاسم الذى هو رمز بسيط والذى يدل مباشرة على فرد هو معناه، ويكون هذا المعنى له من حقه مستقلاً عن معانى سائر الألفاظ الأخرى. (2) الوصف الذى يشتمل على ألفاظ عدة معانيها ثابتة من قبل، وينشأ عنها أى شئ ـ تأخذه كمعنى للوصف. (68) فالاسم رمز تام بينما الوصف المحدد رمز ناقص. نسمى الرمز تاما حين يفيد معنى تاما في ذاته ولا يعتمد فهمنا له على كلمة أخرى تعطيه معنى، وأسماء الأعلام جميعها من هذا النوع. لكنا نسمى الرمز ناقصاً إذا لم يعط في ذاته معنى تاما وإنما يكتسب هذا المعنى في سياق معين، ومن ثم فالوصف المحدد رمز ناقص. "مؤلف ويفرلي" وحدها تثير معنى ناقصا لا يتم، لأن قراءتنا لها أو سماعنا إياها يثير عدة أسئلة مثل: من هو ؟ أو ماذا تريد أن تقول عنه ؟ وقد نكف عن هذه الأسئلة حين يقال لنا، مثلاً، إن مؤلف ويفرلي شاعر ملهم.(69)

2-الاسم "رمز تام" لأنه يفيد معنى تاما في ذاته ولا يعتمد فهمنا له على لفظة أخرى تعطيه معنى، بينما الوصف "رمز ناقص" incomplete symbol ليس له معنى في ذاته وإنما يكتسب معنى إذا دخل في سياق قضية، فجملة "مؤلف ويفرلي" رمز ناقص وليست اسم علم وذلك لثلاثة أسباب هى:

أ- هى ليست رمزاً بسيطاً تدل على شئ جزئي، أو شخص بعينه متحقق في الخارج بل هى رمز مركب.

ب- يمكن تحديد معناها بمعرفة معانى الألفاظ التى تتكون منها بصورة منفصلة عن بعضها، بينما معنى اسم العلم لا يمكن تحديده بمعانى الألفاظ ولكن عن طريق معرفتنا لما يشير إليه هذا الاسم أو يدل عليه.

جـ- لو كان الوصف المحدد "اسم علم" لكانت القضية "سكوت مؤلف ويفرلي" إما أنها (تحصيل حاص) أو غير متصلة في صدقها بكل الوقائع الموجودة في العالم (والتساوي عندما نقول "سكوت" هو "سكوت")، أو كاذبة (إذا كان "مؤلف ويفرلي" يدل على أي شئ آخر لا يتصل بسكوت"). ولكن القضية إخبارية (أى ليست تحصيل حاصل) وصادقة تعبر عن واقعة في تاريخ الأدب.(70)

3- القضية التى تشتمل على وصف ليست متطابقة مع ما تصير إليه تلك القضية عند استبدال اسم حتى إن كان الاسم يسمى الشئ نفسه الذى يصفه الوصف. فقولنا "سكوت مؤلف ويفرلي" من الواضح أنها قضية مختلفة عن "سكوت هو سكوت" فالأولي حقيقة واقعة في تاريخ الأدب، والثانية تحصيل حاصل. ولو أننا وضعنا أي شخص آخر مكان "مؤلف ويفرلي" لكانت قضيتنا كاذبة، وما بقيت عندئذ القضية نفسها. ولكن قد يقال إن قضيتنا هى أساسا من نفس الصورة كالقضية (مثلاً) "سكوت هو سير ولتر" حيث فيها اسمان يقال أنهما ينطبقان على الشخص نفسه.(71)

وجواب رسل عن ذلك أنه إذا كانت "سكوت هو سيرولتر" تعنى حقا الشخص المسمى "سيرولتر" فالأسماء إذن مستعملة كأوصاف؛ أى أن الفرد بدلاً من تسميته فهو موصوف على أنه الشخص صاحب ذلك الاسم، وهذه طريقة كثيراً ما تستعمل فيها الأسماء عادة، ولن يوجد ـ كقاعدة ـ شئ في الصياغة اللفظية يبين هل هى مستعملة على هذا النحو أو على أنها أسماء. وعندما يستعمل الاسم مباشرة للدلالة فقط على ما نتحدث عنه، فهو ليس جزءا من "الحقيقة المقررة" أو من الخطأ إذا ما حدث وكان تقريرنا كاذب: فهو جزء من الطريقة الرمزية التى بها نعبر عن فكرنا. وما نريد أن نعبر عنه شئ يمكن أن نترجمه إلى لغة أجنبية، وهو شئ تكون الألفاظ بالنسبة له أداة دون أن تكون جزءا منه.(72)

ويرى رسل، من ناحية أخرى، أننا عندما نعقد قضية عن "الشخص المسمى سكوت"، فالاسم الواقع بالفعل وهو" سكوت" يدخل فيما نقرره، وليس فقط في اللغة المستعملة لعمل التقرير. والآن ستصبح قضيتنا مختلفة لو استبدلنا "الشخص المسمى " سيرولتر"، فلا مدخل لذلك فيما نقرره تماما كالحال إذا تحدثنا الإنجليزية أو الفرنسية سواء بسواء. وبالتالى فما دامت الأسماء تستعمل كأسماء فإن "سكوت هو سيرولتر" هى القضية التافهة نفسها مثل "سكوت هو سكوت". وهذا يكمل الدليل القائل بأن "سكوت مؤلف ويفرلي" ليست القضية نفسها كتلك التى تنشأ عن استبدال اسم مكان "مؤلف ويفرلي" مهما يكن شأن الاسم الذى نستبدله.(73)

4- إن الاسم كما هو واضح هو ما يسمى به شخص من الأشخاص، وهو تعسفي تماماً، فليس في طبيعة الأشخاص ما يجعل من الضروري أن يسمى كل شخص باسم بعينه دون غيره من الأسماء، أما "سكوت" فقد كان "مؤلف ويفرلي" في وقت لم يكن أحد يسميه بهذه الطريقة، بل حين لم يكن أحد قد عرف ما إذا كان هو سكوت أم غيره فكونه مؤلف ويفرلي كان واقعة فيزيقية، وهى أنه جلس على مكتبه وكتبه بيده، ولم تكن لهذه الواقعة علاقة بما كان يسمى به، وهذا أمر ليس تعسفيا بأي حال من الأحوال فليس لنا الخيار في أن نسميه مؤلف ويفرلي أولا نسميه، لأنه في واقع الأمر اختار أن يكتب هذا الكتاب، وهذا ما يفسر كيف أن "مؤلف ويفرلي" شئ مختلف تماما عن الاسم.(74)

5- وهناك تمييز آخر بين "الاسم" و" الوصف المحدد" ينطلق من تحليل رسل للعبارة الوصفية المحددة عن طريق لغة " دالة القضية". ولتوضيح ذلك يجب الإشارة إلى معنى القضية وأنواعها والفرق بينها وبين دالتها في فكره.

فهناك محاولة مهمة لوضع تمييز ثلاثي بين الجملة sentence والعبارة statement والقضية proposition، والمقصود بالجملة ـ وفقاً لهذا التمييز ـ هو أية سلسلة من التعبيرات expressions الكاملة والصحيحة نحوياً في لغة طبيعية. ومثال ذلك: "الثلج الأبيض"، أغلق الباب" و"هل الباب مغلق" ؟.. أما العبارة فهى ما يقال عندما تنطق الجملة الإخبارية أو تكتب. وفي الاستعمال غير الإصطلاحي للعبارة، نراها غامضة بين الحدث الخاص بالنطق أو الكتابة الخاصة بالجملة ومضمون ما ينطق أو يكتب. والمغزي الثاني هو الملائم في تحديد العبارة.. وأما القضية فهى ما يكون مشتركاً بالنسبة إلى مجموعة من الجمل الإخبارية المترادفة. وبهذا المغزي للقضية تعبر الجملتان عن القضية نفسها إذا كان لهما المعنى نفسه.(75)

ونجد رسل في كتابة المهم "بحث في المعنى والصدق" يميز بين الجملة والقضية بقوله: "إن القضية هى شئ ما يمكن أن يقال في أية لغة: "سقراط فإن "socrates est mortal، socrates is mortal،" قولان يعبران عن القضية نفسها. وربما يقال ذلك في أية لغة معلومة بطرق متعددة: فالاختلاف بين "قتل فيصر في الخامس عشر من مارس" و"كان الخامس عشر من مارس هو يوم مقتل فيصر" هو في الأساس اختلاف بلاغي. ومن ثم يمكن أن يكون لصورتين من الألفاظ "المعنى نفسه" the same meaning. ونستطيع أن نعرف القضية بأنها "جميع الجمل التى لها المعنى نفسه الذى يكون لجملة معلومة.. أما الجملة فهى "عدد من الألفاظ توضع معاً وفق قواعد دراسة المركبات اللغوية.(76)

ويقول رسل في عبارة أخرى:"يمكننا أن نعرف القضية بأنها "ما تدل عليه الجملة"، وإن كان بعضها ليست لها دلالة معينة.. ولكن إذا ما وجدت هذه الدلالة لأية جملة لكانت هذه هى المقصود بالقضية".(77)

كما أن القضية ـ وفقاً لرسل ـ هى الجملة الإخبارية التى تحتمل الصدق والكذب، ومن ثم فإن صيغ السؤال، والتمني، والأمر، والنهي والنداء ليست قضايا، والمقصود باحتمال الصدق والكذب أن القضية تقرر شيئاً أو تنكره، أو أنها تحوى حكماً نعتقد بصدقة أو كذبه. "سقراط فيلسوف" قضية صادقة، "سقراط مؤسس الفلسفة المادية" قضية كاذبة، لكن ما ذلك الشئ الذي تقرره القضية أو تنكره ؟، لا تقرر القضية شيئاً جزيئاً لأن هذا مما يمكن تسميته أو الإشارة إليه، لا تقريره، تقرر القضايا وقائع facts.(78)

والمقصود بدالة القضية، تعبير غير محدد ليس صادقاً ولا كاذباً، مثل قولنا "س إنسان". وهذا التمييز بين القضية ودالة القضية هو أساس نظرية التضمن theory of implication عند رسل. فهناك كما يقول، نمطين من التضمن: تضمن مادى وهو علاقة بين قضايا، وتضمن صورى وهو يربط بين دوال القضايا.(79)

ويوضح رسل ما يقصده بدالة القضية بقوله: "ليست دالة القضية إلا صيغة لفظية تحتوى متغيراً، وتصبح قضية عندما نعين قيمة للمتغير. فمثلاً "س إنسان" دالة قضية. فإذا وضعنا ـ بدلاً من "س " ـ سقراط أو أفلاطون أو أي إنسان آخر، كان لنا بذلك قضية. على أننا نستطيع أيضاً أن نستبدل بـ "س " شيئاً آخر ليس بإنسان، فيكون لدينا على الرغم من ذلك قضية وإن كانت قضية كاذبة في هذه الحالة. دالة القضية، إذن، ليست سوى صيغة لفظية، وهى بذاتها لا تصف أي شئ لكنها يمكن أن تصبح جزءا من جملة تحمل خبراً صادقاً أو كاذبا. فقولنا "كان س حوارياً " لا ينبئ بشئ. أما قولنا "هناك اثنتا عشرة قيمة لـ "س" يصدق عليها قولنا "س حواري" فهو جملة كاملة".(80)

ويقرر رسل ثلاثة أمور لدالة القضية: (1) أن نستبدل الثابت بالمتغير، فإذا كان لدينا أى دالة من دوال القضايا ـ ولتكن س ـ فإن هناك مدى ينتظم قيم س، وتكون الدالة بالنسبة له ذات دلالة، أى أنها إما أن تكون صادقة أو كاذبة. فإذا كانت " أ " هى أى قيمة من قيم هذا المدى فإن " د أ " تكون صادقة أو كاذبة. (2) أن نقرر كل قيم الدالة، أى نؤكد أنها تصدق علي الدوام مثل دالة القضية "إذا كانت س إنسان، فإن س فأن" هذه صادقة على الدوام. (3) أن نقرر بعض قيمها فحسب أو على الأقل قيمة واحدة من قيمها، أى نؤكد أنها لا تصدق إلا في بعض الأحيان مثل دالة القضية "س إنسان" فهى لا تصدق إلا في بعض الأحيان.(81)

ويتضح لنا ذلك إذا ما نظرنا في تحليل رسل للقضايا التى يرد فيها الوصف المحدد. فهو يرى أن الشي الوحيد الذى يميز "الكذا والكذا" من "كذا وكذا" هو لزوم الانفراد. فلو قلنا "الساكن في لندن" لكان وصفاً محدداً، مع أن هذه العبارة لا تصف في الواقع أى فرد محدد. ولا نستطيع أن نتحدث عن "الملك الحالى لفرنسا" لأنه لا يوجد ملك حالى، ولكننا نستطيع أن نتحدث عن "الملك الحالي لانجلترا". وهكذا فإن القضايا عن "الكذا والكذا" تستلزم دائماً القضايا المناظرة عن "كذا وكذا" مع إلحاق هذه الإضافة، وهى أنه لا يوجد أكثر من "كذا وكذا" واحد. إن هذه القضية مثل "سكوت مؤلف ويفرلي" لا يمكن أن تكون صادقة لو أن ويفرلي لم تكتب البته، أو لو أن عدداً من الناس كتبها. وكذلك لا يمكن أن تكون أية قضية أخرى تنشأ عن دالة قضية "س" باستبدال مؤلف ويفرلي بدلاً من "س" صادقة. لكننا قد نقول إن " مؤلف ويفرلي " تعنى قيمة س في القضية س كتب ويفرلي، صادقة".(82)

وهكذا فإن القضية "مؤلف ويفرلي كان اسكتلندياً " يمكن تحليلها إلى القضايا الثلاث الآتية:

"س كتب ويفرلي" ليست كاذبة دائماً.

"إذا كان س وص كتبا ويفرلي، كان س وص متطابقين صادقة دائماً.

"إذا كان س كتب ويفرلي، كان س اسكتلندياً صادقة دائماً.

هذه القضايا الثلاث تقرر عند ترجمتها إلى لغة عادية ما يأتي:

شخص واحد على الأقل كتب ويفرلي.

شخص واحد على الأكثر كتب ويفرلي.

أياً ما كان الشخص الذى كتب ويفرلي فهو اسكتلندي.

فهذه القضايا الثلاث جميعها يتضمنها قولنا "مؤلف ويفرلي كان اسكتلندياً". ولا تكفي أية واحدة، ولا أية اثنتين لتفي بالمعنى كله الذى تحمله الجملة الأصلية والعكس صحيح أيضاً. وبالتالي يمكن أن نأخذ الثلاث معاً على أنها تعرف المقصود من القضية " مؤلف ويفرلي كان اسكتلندياً".(83)

ويعبر رسل عن هذه القضايا الثلاث بطريقة أكثر بساطة على النحو التالي: الأولي والثانية معا يكافئان: هناك حد جـ بحيث أن "س كتب ويفرلي" صادقة عندما تكون س هى جـ، وكاذبة عندما لا تكون س هى جـ " بعبارة أخرى: "هناك حد جـ بحيث أن: س كتب ويفرلي "تكافئ دائما " س هى جـ" (تكون القضيتان متكافئتين عندما يكون كلاهما صادقاً أو كلاهما كاذبا) فعندنا هنا بادئ ذي بدء دالتان لـ "س"، "س كتب ويفرلي" و" س هى جـ"، ونكون دالة لـ "جـ" باعتبار تكافؤ هاتين الدالتين لـ " س لجميع قيم س ". ثم نشرع بعد ذلك في تقرير أن الدالة الناتجة عن جـ " صادقة أحياناً" أى أنها صادقة على الأقل لقيمة واحدة لـ هـ (من الواضح أنها لا يمكن أن تكون صادقة لأكثر من قيمة واحد لـ جـ). وهذان الشرطان معا يعرفان بأنهما يعطيان معنى "مؤلف ويفرلي موجود".(84)

وتحليل مثل هذه القضايا التى تحتوى على أوصاف محددة يمكننا من الحديث عن الأشياء المتناقضة بذاتها ولا تقوم في الواقع الخارجي، مثل "الملك الحاضر لفرنسا" أو "المربع الدائري" لأن القضايا الخاصة بها يمكن معالجتها أيضاً على أنها دوال قضايا ذات متغيرات لا موضوعات غير موجودة في العالم الخارجي. (85) لذلك وصل رسل من هذا التحليل إلى دليل آخر على التمييز الأساسي بين اسم العلم والوصف المحدد. فحين نترجم قضية تحوى اسم علم إلى دالة قضية فإن هذا الاسم يظهر في الترجمة الجديدة، أما حين نترجم قضية بها وصف محدد إلى دالة قضية فسوف يختفي هذا الوصف.(86)

ولذلك يرى رسل أن هناك نوعين من السياقات التى توجد بها الأوصاف: الأول يقرر أو ينكر وجود "الكذا والكذا"، والثاني ينسب خاصية أو ينكرها لـ "الكذا والكذا". ومن أمثلة النوع الأول "ملكه إنجلترا موجودة"، ومن أمثلة النوع الثاني "مؤلف ويفرلي كان اسكتلندياً". والنقطة الملحوظة هنا أننا نستطيع أن نعطي كل وصف محدد داخل السياق قضية جديدة تطابق منطقياً القضية الأصلية ـ كما يقول رسل ـ ولكنها لا تشتمل على مجموعة من الرموز التى يمكن أن تسمى "وصف محدد". وبالنسبة للقضية الأولي وهي:

3- ملكة إنجلترا موجودة.

نجد رسل يحللها إلى:

4- هناك فرد واحد وواحد فقط يحكم إنجلترا وهو امرأة.

والقضية الأصلية:

5- مؤلف ويفرلي كان اسكتلندياً.

فإن رسل يحللها إلى:

6- فرد واحد وواحد فقط كتب ويفرلي وأنه كان اسكتلندياً.

ويمكن القول أن (4) صحيحة (أو خاطئة) عندما تكون (3) صحيحة (أو خاطئة). وكذلك الحال مع (6) و(5). ولكن الوصف المحدد لكل من (3)، (5) يختفي عندما يتم تحليل (3) و(5) إلى (4) و(6) وبالتالي فليس هناك أى مجال في (4) و(6) لأن نخلط بين مجموعة رموز واسم. هذا ينطبق بسهولة على لغزنا الحالي، فالجملة (1) تتحول بطريقة ملائمة إلى:

7- أراد جورج الرابع أن يعرف ما إذا كان من كتب ويفرلي وسكوت هو الشخص نفسه. فيبدو أن (7) تحتفظ بالإشارة المتفردة نفسها المميزة لـ (1)، ولكن في ضوء وجود أو عدم وجود كينونة غير محددة (شخص) له جانب من خاصية (كاتب ويفرلي) وله خاصة أخرى (كان هو سكوت)، وبالتالي لا يبدو أنه يوجد أى تضمن أو حتى اقتراح (كما في 1).

أننا نتعامل مع اثنين من الكيانات اللفظية المنفصلة ("مؤلف ويفرلي" و"سكوت") لهما المعني نفسه ويدلان على الشئ نفسه. وبالتالي لا يوجد هناك احتمال في (7) لاحلال كيان لفظي (سكوت) محل آخر (مؤلف ويفرلي)، ومن ثم فلو تحدثنا عن اللغة الموضحة في (1) فإن المشكلة التى بدأنا بها لم يكن لتظهر على السطح.(87)

6- لا يجوز الشك في "وجود" مسمى اسم العلم وجوداً حقيقياً، ويجوز الشك في حالة العبارة الوصفية المحددة. ذلك لأنه إذا لم يكن هناك فرد معين بذاته موجود وجوداً حقيقياً واقعياً لما أمكن ـ من الوجهة المنطقية ـ أن نطلق عليه اسماً. إذ إن الكائن الفرد يوجد أولاً، ثم نطلق عليه اسمه المميز ثانياً. وعليه فعبارة مثل "طه حسين موجود" عبارة لا تزيد في معناها عن قولنا "طه حسين" فقط، إذ يكفي ذكر اسم العلم وحده للدلالة على وجود المسمى وجوداً يملأ الآن ـ أو ملأ فيما مضى ـ لحظات من زمان ومسافات من مكان. وليس الأمر كذلك في حالة العبارة الوصفية المحددة، لأن هناك حالات نصوغ فيها عبارة من هذا النوع، دون أن يكون لها مسمي في الواقع كقولنا "ملك فرنسا الحالي" إذ لا يوجد ملك في فرنسا اليوم.(88)

إذن اسم العلم دال حتما على وجود مسماه أما الوصف المحدد قد لا يكون مسماه ذا وجود فعلي.. فقد نعرف كثيراً من القضايا التى تتصل بـ "الكذا والكذا" دون أن نعرف بالفعل ما "الكذا والكذا" أي دون أن نعرف أية قضية من الصورة "س هى الكذا والكذا" حيث س اسم. فمثلاً نجد في الرواية البوليسية قضايا تتجمع حول "الرجل الذى ارتكب الفعلة" على أمل أنها في النهاية ستكفي لبيان أن "أ" هو الذى ارتكب الفعلة. ومن ثم يحسن بنا أن نحصر اسم العلم في أسماء الإشارة وحدها مثل "هذا" و"ذاك"، إذ لا يعقل أن تشير قائلاً "هذا" دون أن يكون هنالك الفرد المشار إليه. فالقضية "الكذا والكذا" تفيد معنى سواء أكانت صادقة أم كاذبة. ولكن إذا كان "أ" هو "الكذا والكذا" (حيث أ اسم) فاللفظتان "أ موجود" لا معنى لهما.(89)

فالوجود لا يمكن أن يحكم به، بطريقة مفيدة، إلا على الأوصاف فقط، محددة أو غير محددة، لأنه إذا كان "أ" اسما فلابد أن يسمى شيئاً ما: وما لا يسمى شيئاً فليس اسما، وبناء على ذلك إذا قصدنا أن يكون اسما فهو رمز يخلو من المعنى، على حين أن الوصف مثل "الملك الحالي لفرنسا" لا يصبح غير قابل لأن يفيد لمجرد أنه لا يصف شيئاً، وعلة ذلك أنه رمز مركب يشتق معناه من رموزه التى يتكون منها. ومن ثم فعندما نتساءل عما إذا كان هوميروس موجوداً فإننا نستعمل لفظة "هوميروس" كوصف مختصر: ويمكننا أن نستبدله بـ مؤلف الإلياذة والأوديسا"، وتكاد تنطبق الاعتبارات نفسها على كل الاستعمالات لما يبدو شبيهاً بـ "أسماء الأعلام".(90)

وبهذا التمييز الدقيق بين اسم العلم والوصف المحدد، وترجمة القضية التى تحوى أحدهما أو كليهما إلى دالة قضية. ومعنى الوجود في الدالة، استطاع رسل تقديم تحليل صحيح لنوع من القضايا مثل "الجبل الذهبي غير موجود"، "الملك الحاضر لفرنسا أصلع"، وبذلك يكون قد استطاع أن يجد أساسا لرفض نظرية "مينونج" في الوجود الواقعي المنطقي لموضوعات الفكر مستقلا عن العقل الإنساني. يقول رسل إننا إذا أخذنا الوجود بمعنى " الصادق أحيانا وعدم الوجود بمعنى "الكاذب دائما" أمكننا التخلص من إسناد وجود موضوعي لمعنى العبارة الوصفية التى لا تشير إلى واقع محسوس، ومن ثم تصبح "الجبل الذهبى غير موجود" ـ بفضل النظرية الوصفية ـ تعنى "دالة القضية " هـ ذهبي "و" هـ جبل "كاذبة في كل قيم هـ". لقد اختفت هنا عبارة "الجبل الذهبي" ومن ثم لم تعد اسما ولا تشير إلى شئ واقعي بأي معنى من المعانى. وما دامت "الجبل الذهبي" ليست اسما فلن تكون موضوعاً منطقياً في القضية التى ترد فيها وإنما "موضوع حسب مكانه من الجملة" فقط كما لاحظ رسل أن القضية السابقة تخضع لقانون عدم التناقض ـ خلافا لما أعلن "مينونج" ـ لأننا نقرر أن "الجبل الذهبي موجود" قضية كاذبة وأن "الجبل الذهبي غير موجود" صادقة.(91)

ويرتبط هذا عند رسل بتمييزه بين الورود الابتدائي primary occurrences والورود الثانوى secondary occurrences للعبارات الوصفية في القضايا، فهو يرى أن الوصف يكون له ورود ابتدائي عندما تنشأ القضية التى يرد فيها من استبدال س بالوصف في دالة القضية    س ويكون له ورود ثانوى عندما لا تعطي نتيجة استبدال س بالوصف من   س إلا "جزءا" من القضية المذكورة. ويوضح ذلك المثال التالي:

لو اعتبرنا "ملك فرنسا الحاضر أصلع" نجد "ملك فرنسا الحاضر" لها ورود ابتدائي، والقضية كاذبة. وكل قضية فيها وصف لا يصف شيئاً وله ورود أولى فهى كاذبة. ولكن لو اعتبرنا "ملك فرنسا الحاضر ليس أصلعا" فهذه قضية غامضة. لأننا وحللنا أولا "س أصلع" ثم وضعنا "ملك فرنسا الحاضر" بدلا من س، ثم أنكرنا النتيجة، لكان ورود "ملك فرنسا الحاضر" ثانوياً وتكون قضيتنا صادقة. ولكن لو أخذنا "س ليس أصلعاً" واستبدلنا "ملك فرنسا الحاضر" بـ "س" عندئذ "ملك فرنسا الحاضر" له ورود ابتدائي وتكون القضية كاذبة.(92)

ويؤكد رسل أن الخلط بين الورود الابتدائي والورود الثانوى يعد مصدراً دائما للأغاليط أو المغالطات عندما نتحدث عن الأوصاف.(93)

2- الجانب الابستمولوجي (المعرفي):

لاشك في أن "لنظرية الأوصاف" وظيفة أبستمولوجية epistemological function واضحة (وترتبط هذه الوظيفة ارتباطا وثيقا بوظيفتها المنطقية، بل وتمثل امتداداً لها). فلقد ميز رسل في تحليلة الابستمولوجي بين نوعين من المعرفة: معرفة بالاتصال المباشر knowledge by acquaintance ومعرفة بالوصف knowledge by description. ومن نافلة القول إن "نظرية الأوصاف" تطبق في العلاقة بين هذين النوعين للمعرفة.(94)

وهذا ما أوضحه رسل في الفصل الأخير من كتابة "التصوف والمنطق" والفصل الخامس من كتابة "مشاكل الفلسفة". حيث تحدث عن أربع صور للمعرفة تتعلق بالمعرفة المباشرة التى تقوم على المشاهدة الخاصة بالجزئيات والمعرفة الوصفية التى تقوم على السماع أو القراءة والوصف، وأكد أن العلم بالشئ الموصوف يمكن إرجاعه في النهاية إلى علم بما نحن على معرفة مباشرة به. ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:

أولاً: يعنى رسل "بالوصف" أى عبارة تأتي على صورة "كذا وكذا" أو "الكذا والكذا". ويسمي العبارة التى تأتي على صورة "كذا وكذا" بالوصف الغامض ambiguous description، ويسمى العبارة التى تأتي على صورة "الكذا والكذا" (في المفرد) بالوصف المحدد. ولذلك فإن كلمة "رجل" وصف غامض، و"الرجل ذو القناع الحديدى" وصف محدد.(95)

ونقول إننا نعرف شيئا ما بالوصف حينما نعرف أنه يتضمن "الكذا والكذا" أى حينما نعرف أن هناك شيئا واحداً لا أكثر له خاصية معينة، ويتضمن ذلك، بالطبع، أننا لا نكون على معرفة مباشرة بذلك الشئ نفسه. فنحن نعرف أن الرجل ذا القناع الحديدى موجود، ونعرف قضايا كثيرة عنه ولكننا لا نعرف من يكون هذا الرجل. ونعرف أن المرشح الذى يحصل على معظم الأصوات سوف يتم انتخابه، وفي هذه الحالة نكون على معرفة مباشرة بالمرشح (بالمغزى الذى يمكن أن نكون فيه على معرفة مباشرة بغيرنا من الناس) الذى سيحصل على معظم الأصوات، ولكننا لا نعرف أي هؤلاء المرشحين سوف يكون ذلك الرجل، أى أننا لا نستطيع أن نعرف أية قضية على صورة ("أ" هو المرشح الذى سينال معظم الأصوات) إذا كان "أ" هو أحد المرشحين المعروفين بالاسم. وسوف نقول إن لدينا "معرفة بالوصف فحسب" عن "الكذا والكذا" إذا كنا ـ على الرغم من معرفتنا إن "الكذا والكذا" موجودان، وعلى الرغم من أننا قد نكون على معرفة مباشرة بهذا الشخص ـ نعرف أى قضية عن ("أ" هو الكذا والكذا) حيث إن "أ" شيئا نكون على معرفة مباشرة به.(96)

وحينما نقول "الكذا والكذا" موجود نقصد أن شيئا واحداً فقط هو "الكذا والكذا". فالقضية ("أ" هو الكذا والكذا) تعنى أن "أ" له الخاصية "كذا وكذا" ولا شئ آخر يشاركه في هذه الخاصية. فإذا قيل إن "أحمد هو المرشح لاتحاد العمال في هذه الدائرة الانتخابية" فمعنى ذلك أن "أحمد" هو مرشح اتحاد العمال لهذه الدائرة ولا أحد غيره يشاركه في هذه الخاصية. ولذلك فحينما نكون على معرفة مباشرة بشئ على أنه " الكذا والكذا" موجود في حين أننا لسنا على معرفة مباشرة بأي شئ نعرف أنه "الكذا والكذا" وحتى حينما لا تكون لنا معرفة مباشرة بأي شئ يكون هو "الكذا والكذا".(97)

كما يؤكد رسل أن الألفاظ العامة هى أوصاف على وجه حقيقي. فمعرفتى بالمنضدة كموضوع فيزيقي ليست معرفة مباشرة بل مستدل عليها مما نعرفه عنها معرفة مباشرة وهو المعطيات الحسية.(98)

ثانياً: يرى رسل أن افتراض، عبارة ما قالها أحد الناس عن "بسمارك" مثلاً، وافتراض أن هناك شخصا ما يكون على معرفة بنفسه، وأن بسمارك نفسه كان يستعمل هذا الاسم بشكل مباشر ليعين شخصا جزئياً هو على معرفة مباشرة به. فلو أصدر بسمارك، في هذه الحالة، حكما على نفسه، فلابد أن يكون هو نفسه مكوناً من مكونات الحكم. فلاسم العلم هنا استعمال مباشر بوصفه يدل على شئ معين فقط ولا يدل على وصف لذلك الشئ.(99)

ثالثاً: وأما إذا أصدر أحد أصدقاء بسمارك حكما عليه لاختلف الوضع، لأن ما كان هذا الشخص على معرفة مباشرة به إنما هو معطيات حسية sens – data تتصل (بفرض أنه على صواب في ذلك) بجسم بسمارك وعقله. فجسمه بوصفه شيئاً مادياً، وكذلك عقله يعرفان فقط بوصفهما جسما وعقلاً متصلين بهذه المعطيات الحسية، أى أنهما عرفا بالوصف. أما ما يبدو من صفات عن مظهر شخص ما في عقل صديق له فأمر قائم، بالطبع، على محض المصادفة. ولذلك فإن الوصف الذى يدور في عقل هذا الصديق عندما يفكر في صديقه إنما يحصل عرضا واتفاقا. والنقطة الجوهرية هى أنه يعرف أن الأوصاف المختلفة جميعها تنطبق على الذات نفسها على الرغم من عدم وجود معرفة مباشرة بهذه الذات الحقيقية التى هى موضع البحث.(100)

وأما لو قمنا نحن الذين لا نعرف عن بسمارك شيئا بإصدار حكم عنه، فإن الوصف في عقولنا سيكون، على الأرجح، عبارة عن مجموعة غامضة من المعرفة التاريخية، وهى معرفة تزيد في أغلب الحالات عما نحتاج إليه في تحقيق هويته. فنحن نعرفه مثلاً بأنه "المستشار الأول للإمبراطورية الألمانية" ولكن لا نكون على معرفة مباشرة به فكل الكلمات هنا كلمات مجردة ما عدا كلمة "ألمانيا" فإنها بدورها ذات معان تختلف باختلاف الناس. فقد تحمل بعض الناس على تذكر رحلات قاموا بها في ألمانيا، وقد تحمل بعضهم على تذكر رؤيتها على الخريطة وهكذا. ولكن إذا كان لنا أن نحصل على وصف نعرف أنه منطبق تماماً على الأشياء التى نريد وصفها، فعلينا أن نشير إلى بعض الأجزاء التى نكون على معرفة مباشرة بها. ومثل هذه الإشارة يشملها إي ذكر للماضي، أو الحاضر، أو المستقبل (بإعتبارها مقابلة لتواريخ معينة) كما يشملها أى ذكر لهذا المكان أو ذاك أو ما يكون قد أخبرنا به الآخرون. وعلى ذلك يبدو أن أي وصف نعرف أنه منطبق علي جزئي آخر نكون على معرفة مباشرة به إذا كانت معرفتنا بذلك الشئ الموصوف ليست مجرد نتيجة تترتب منطقياً على الوصف.(101)

رابعا: يرى رسل أن عبارة من مثل "أكثر الناس تعميراً" هى وصف لابد أن ينطبق على شخص ما، ولكننا لا نستطيع أن نصدر أحكاما تتعلق بهذا الشخص تتضمن معرفة به أبعد مما نصل إليه عن طريق الوصف. فإذا قلنا إن "المستشار الأول للإمبراطورية الألمانية كان دبلوماسياً بعيد النظر" فنحن نكون متأكدين فقط من صدق حكمنا اعتماداً على شئ نكون على معرفة مباشرة به هو عادة شهادة الغير التى نصل إليها عن طريق السمع أو القراءة وبعيداً عن المعلومات التى نوصلها إلى الآخرين، أو عما يمكن أن يعرف عن بسمارك الحقيقي مما يجعل لحكمنا أهمية، فالفكر الذى يدور في عقولنا في الحقيقة يحتوى على الجزئي أو الجزيئات الخاصة التى عرضنا لها بالوصف، وفيما عدا ذلك لا يحتوى الفكر إلا على تصورات كلية. فكل أسماء الأمكنة كلندن وإنجلترا وأوربا والأرض والمجموعة الشمسية تشتمل بالمثل على الأوصاف التى تنشأ من واحد أو أكثر من الجزئيات الخاصة التى نكون على معرفة مباشرة بها.(102)

وأنه لا يبدو ـ فيما يرى رسل ـ حينما نقول عبارة حول شئ ما نعرفه ـ بالوصف فقط، أننا نقصد غالباً ألا تكون عبارتنا على صورة تتضمن الوصف، بل نقصد أن تكون العبارة حول ذات الشئ الموصوف. ومعنى ذلك أننا حينما نصدر أى حكم عن بسمارك فإننا نرغب جهد استطاعتنا أن نصدر الحكم الذى يستطيع بسمارك وحده أن يصدره أى الحكم الذى قوامه بسمارك نفسه. ولابد أن نبوء بالفشل في هذا ما دام بسمارك الحقيقي غير معروف لنا. ولكننا نعرف أن هناك شيئاًَ "ب" يسمى بسمارك وأن "ب" هذا كان دبلوماسياً ماهراً. وبهذا التصور نستطيع أن نصف القضية التى نرغب أن نثبتها وهى (لقد كان "ب" دبلوماسياً ماهراً) و"ب" هنا هو الشئ الذى هو بسمارك. والذى يمكننا من التفاهم معا على الرغم من الأوصاف المختلفة التى نستعملها هو أننا نعرف أن هناك قضية صادقة تتعلق ببسمارك الحقيقي، وأننا مهما اختلفنا في الوصف (ما دام هذا لوصف صحيحاً) فإن القضية التى عرضنا لها بالوصف تبقي هى هى. وهذه القضية الموصوفة التى نعرف صدقها هى ما نهتم به في الحقيقة، ولكننا لسنا على معرفة مباشرة بالقضية نفسها، ولا على معرفة بها، ولو أننا نعرف أنها صادقة.(103)

ويتوصل رسل من ذلك إلى أن هناك مراحل مختلفة في الانتقال من المعرفة المباشرة بالجزئيات، فهناك بسمارك للناس الذين شاهدوه وهناك بسمارك آخر للناس الذين عرفوه من التاريخ وهناك المعرفة بالرجل ذى القناع الحديدى، وهناك المعرفة بأطول الناس عمراً. وهذه الصور الأربع أنواع من المعرفة تتدرج في ابتعادها عن المعرفة المباشرة بالجزئيات، فالقضية الأولي أقرب ما يمكن إلى المعرفة المباشرة حينما تتعلق المعرفة بشخص آخر، والقضية الثانية هى أن من عرف بسمارك من التاريخ يمكن أن يقال عنه أنه يعرف (من كان بسمارك) أما في القضية الثالثة فنحن لا نعلم من كان الرجل ذو القناع الحديدي ولو كان في استطاعتنا أن نعلم كثيراً من الأحكام عنه التى يمكن أن نستنتج منطقياً من كونه كان ذا قناع حديدي، أما في القضية الرابعة فإن معرفتنا لا تتعدى الاستنتاج المنطقي من تعريف الرجل. وكما توجد مراتب تصاعدية في الجزئيات توجد أيضاً مثل هذه المراتب في دائرة الكليات، فكثير من الكليات مثلها مثل كثير من الجزئيات نعرفها عن طريق الوصف، وفي حالة الكليات كما في حالة الجزئيات نرى أن العلم بالشئ الموصوف يمكن إرجاعه في النهاية إلى علم بما نحن على معرفة مباشرة به.(104)

ويؤكد رسل أن المعرفة كلها سواء أكانت معرفة بالأشياء أم معرفة بالحقائق تقوم على المعرفة المباشرة كأساس لها. (105) وذلك لأن المبدأ الابستمولوجي epistemological principle الأساسي الذى يلجأ إليه في تحليله القضايا المشتملة على أوصاف هو: "كل قضية نستطيع أن نفهمها لابد أن تتألف برمتها من مكونات نعرفها بالاتصال المباشر".(106)

وعلى الرغم من تأكيد رسل أن ما نقول عنه إنه معرفة بالوصف يمكن تحويله في النهاية إلى معرفة بالاتصال المباشر، إلا أنه يؤمن بأهمية المعرفة بالوصف في التوصل إلى حقائق جديدة. فهو يقول: "إن الأهمية الرئيسية للمعرفة بالوصف هى أنها تساعدنا على أن نمضي إلى ما وراء حدود خبراتنا الخاصة لكى نعرف أشياء أخرى لن ندركها بالخبرة. ولكن على الرغم من أننا لا نستطيع أن نعلم إلا الحقائق التى تؤلف جميعها من جزئيات وصلنا إلى معرفة مباشرة بها عن طريق خبراتنا فإنا مع ذلك نستطيع أن نصل إلى معرفة بالوصف بأشياء لم تكن قد مرت بخبراتنا".(107)

ولم يكن هذا رأي رسل وحده بل شاركه فيه كثير من الفلاسفة. بل يمكن القول بأن هناك اتفاقاً عاماً على أن "نظرية المعرفة بالوصف" تعد أهم إضافة أسهم بها رسل في ميدان الفلسفة.. فذكر "مور" في هذا الصدد: "لقد كانت نظرية المعرفة بالوصف شيئا جديداً للغاية. إنها أعظم اكتشاف فلسفي قام به رسل، أهم من أي شئ آخر قاله فيما بعد. فهو عمله المجدد الأصيل الذى لم يتأثر فيه بأي إنسان آخر على الإطلاق"(108) وقال "إير":" يبدو لي أن إحدى المزايا العظيمة لنظرية رسل في العبارات الوصفية، هى أنها تلقي ضوءاً على استعمال طائفة معينة من العبارات في حديثنا المألوف. وتلك نقطة لها أهمية فلسفية ذلك لأنه حين بين أن عبارات مثل "الملك الحالي لفرنسا" لا تؤدي وظيفة اسم العلم قد فضح المغالطة التى أدت بالفلاسفة إلى الاعتقاد بموجودات ضمنية".(109)

وإذا كانت "نظرية الأوصاف" عند رسل قد لاقت قبولاً واسعاً لدى كثير من الفلاسفة والباحثين في العصر الحديث، إلا أنها لا تزال مثار مناقشة وهجوم بين عدد آخر من الفلاسفة، ولعل من أبرز الاعتراضات عليها تلك التى قدمها الفيلسوف ستروسون.

***

ا. د. ابراهيم طلبه سلكها

................................

الهوامش

1-H. N. S: "analysis" in "The concise Encyclopedia of Western philosophy and philosophers" ed J. O. Urmsonl، p-2.

2-Ammerman، Robert. R. (editor)Classics of analytic philosophy،TaTa Mc Graw- Hill publishing company LTD. Bombay، New Delhi، 1956 pp. 1-3.

راجع أيضاً د. محمد مهران: دراسات فى فلسفة اللغة، ص ص15-16.

3- Sheldon peterfreund (and others): Contemporary philosophy and Its origins، D van Nostrand company، inc، London 1968 p- 234.

4-Guthrie. W. K. C.: Th Greek philosophers from Thales to Aristotle، Methuen، London، 1987،m pp-104-105.

5- Sheldon p. peterfreund (and others): op- cit، pp- 237- 238.

6-Ayer، A. J. language، truth and logic pp- 70- 72.

7- Ibid، p- 74.

8- Ayer، A.، J: The Central Questions of philosophy، pp- 23- 25.

قارن الترجمة العربية ص ص37- 39.

9- د/ زكى نجيب محمود: مرجع سابق ص ص146- 147.

10- د. صلاح إسماعيل: نظرية جون سيرل فى القصدية، دراسة فى فلسفة العقل، حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية – الحولية السابعة والعشرون، مجلس النشر العلمى، جامعة الكويت، 2007، ص34.

11- Timothy Williamson: Op – cit، pp- 11-12.

12- Anthony Kenny: Frege: An Introduction to the  Founder of Modern Analytical philosophy، oxford، Blackwell، 2000، p-211

13-Michael Dummett: Origins of Analytical philosophy، Cambridge، Mass: Harvard university press، 1996، p- 25.

14- لودفيج فتجنشتين: رسالة فلسفية منطقية، ترجمة د. عزمى إسلام، مراجعة د/ زكى نجيب محمود، مكتبة الأنجلو المصرية، 1968، ص ص 36، 37.

15- د/ محمد مهران رشوان: دراسات فى فلسفة اللغة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع 1998 ص37.

16-Alfred Jules Ayer: Language، Truth and logic، Penguin Books، 1936،p- 76.

17- د/ زكى نجيب محمود: موقف من الميتافيزيقا، دار الشروق ط3 1937 ص21.

18-Moore، E. G: principia Ethica، Cambridge university press 1962، p- vii

19-Ayer، A. J: Russell and Moore، the Analytical Heritage Macmillan، London، 1971 pp- 221- 222.

20-Sheldon p. peterfreund (and others): op. ci p- 252.

21- د/ محمد مهران رشوان: دراسات فى فلسفة اللغة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع 1998 ص37.

22- Ayer، A، J (ed)، The Revolution in philosophy، paperback، London، p-1.

23- Richard Rorty: The Linguistic Turn، Essay in philosophical Method، The University of Chicago press، 1992، p- 3.

24-Richard Rorty: The Linguistic Turn، Essay in philosophical Method، The University of Chicago press، 1992، p- 3.

25-محمد جديدى: مرجع سابق، ص 256.

26- Richard Rorty: Philosophy and the Mirror of Nature، p-263.

(194) Ibid، pp- 257-258.

قارن د.محمد جديدى: مرجع سابق ص 259

27- Richard Rorty: " Introduction " In " Empiricism and the philosophy of Mind " edited by willforid Sellars، Cambridge، Mass، Harvard University press، 1997، p-1.

28- Ibid، pp- 1-2.

29- Ibid، pp- 2-3.

30- Ibid، pp- 3-4.

31-Ibid، pp- 4-5.

32- Ibid، p- 9.

33- Richard Rorty: Contingency، Irony and solidarity، Cambridge university press، 1995، pp—176 – 180.

لا يوجد، بالطبع، تمييز حاسم بين (مدرسة كمبردج "مور"، "رسل"، "فتجنشتين"، وزدم... الخ) وبين (مدرسة اكسفورد "رايل، أوستن، ستروسون"... الخ) بل لا يوجد اتفاق تام بين أعضاء كل مدرسة على حدة.

34-د. يمني طريف الخولي: "جدل المثالية والواقعية في التصور الانطولوجي عند برتراند رسل"، مقال نشر بمجلة عالم الفكر، صادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، المجلد 30- يوليو، سبتمبر ـ 2001، ص12.

35-Dorward، A، Bertrand Russell، A short Guide to his philosophy، longmans، Green and co، London 1951، P-17.

36-Ioc – cit.

37-Ibid، pp-17-18.

38-Fritz، C. A.، Bertrand Russell's construction of External world، routledge and kegan paul Itd، London، 1952، pp-53-54.

39-Russell، B، My philosophical Development، George Allen and Unwin، London، 1959، p-84.

لقد صدرت لهذا الكتاب ترجمة عربية بعنوان: فلسفتي كيف تطورت، ترجمة عبد الرشيد الصادق، مراجعة د. زكي نجيب محمود، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة ط1، 1960، والملاحظ أن هذه الترجمة حذفت الجزء الأخير الخاص بردود رسل على النقاد.

انظر أيضا: د. محمود فهمي زيدان: المنطق الرمزى، نشأته وتطوره، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة 1999، ص ص 233- 234.

40-Ioc – cit.

41-Edwards، p (ed)، the Encyclopedia of philosophy، Macmillan publishing، New York Volums، I and 2، 1967، p-96.

42-Ramsey، F. A، the foundation of Mathematics، kegan paul London، 1931، p-263.

43-Moore، G: "Russell' s Theory of Descriptions" in:

P. A. Schilpp(ed)، the philosophy of Bertrand Russell، the library of living philosopher، Vol. V. London، 1887، p-177.

44-Russell، B، "descriptions" in: Weitz، M(ed)، Twentieth- century philosophy، the Analytical tradition، A division of Macmillan publishing co. Inc New York p. 146.

Sea also:

Russell، B، Introducion to Mathematical philosophy (London: George allen and Umwin، itd، 1919)، chap. 16.

لقد صدرت لهذا الكتاب ترجمة عربية بعنوان: مقدمة للفلسفة الرياضية ترجمة، د. محمد مرسي أحمد، راجعه، د. أحمد فؤاد الأهواني، مؤسسة سجل العرب، القاهرة.

45-Ioc-cit.

راجع أيضا: د. محمد مهران: فلسفة برتراند رسل، دار المعارف ط3، 1986، ص 283.

46-Ioc-cit.

47-Ibid، pp-146-147.

48-د. زكي نجيب محمود: موقف من الميتافيزيقا، دار الشروق ط3، 1408هـ، 1987م، ص ص 165- 166.

49-Russell، B، "Descriptions"، p-147.

50-Ioc-cit.

51-Ibid، pp-147-148.

52-Ioc-cit.

53-د. زكي نجيب محمود: مرجع سابق ص ص 168- 169.

54-الموضع نفسه.

55-Russell، B، "Descriptions"، p-148.

56-Ioc-cit.

57-د. محمد مهران: فلسفة برتراند رسل، ص ص 284-285.

58-Russell، B، "Descriptions"، pp-149-150.

59-Ioc-cit.

60-Borgmann، A، the philosophy of Ianguage، Historical foundation and contemporary Issues، Martinus Nijhoff، 1974، pp-99-100.

61-Russell، B، "on Denoting" in: his Iogic and knowledge، Georage Allen and Unwin، 1950، p-93.

62-Borgmann، A،op-Cit. P-100.

63-Russell، B، "Descriptions"، p-150.

64-Borgmann، A،op-Cit. PP-100-101.

65-Ioc-cit.

66-Ioc-cit.

67-Russell، B، "Descriptions"، p-151.

68-Ioc-cit.

69-د. محمود زيدان: المنطق الرمزي، نشأته وتطوره، دار النهضة العربية، بيروت، 1973، ص 238.

70-Edward paul، (ed)، the Encyclo pedia of philosophy، vol. I، pp-98-99.

71-Russell، B، "Descriptions"، p-151.

72-Ibid، pp-151-152.

73-Ioc-cit.

74-د. محمد مهران: فلسفة برتراند رسل ص 288.

75-Haack، Susan، philosophy of logics، cambridge university press، 1978، pp-74-76.

انظر أيضا: د. صلاح إسماعيل: مرجع سابق ص 299.

76-Russell، B، Inquiry into Meaning and truth، George Allen and Unwin (publishers) Itd، 1980 p-12.

انظر أيضا: د. محمد مهران: فلسفة برتراند رسل ص ص 243-244.

77-Ioc-cit.

78-د. محمود فهمي زيدان: المنطق الرمزي، نشأته وتطوره، ص ص 176-177.

79-Passmore، J، A hundred years of philosophy، penguin books، 1968-p-218.

80-Russell، B، My philosophical Development، p-56.

قارن الترجمة العربية للكتاب، ص ص 81- 82.

81-Ibid، p-67.

قارن الترجمة العربية للكتاب ص 97.

82-Russell، B، "Describtions"، p-152.

83-Ibid، p-153.

84-Ibid، pp-153-154.

85-Borgmann، A،op-Cit. Pp-101-102.

86-د. محمود فهمي زيدان: فلسفة اللغة، دار النهضة، بيروت، 1985م. ص18.

87-Borgmann، A،op-Cit. Pp-101-102.

88-د. زكي نجيب محمود: مرجع سابق ص 173.

89-Russell، B، "Describtions"، Pp-155.

90-Ioc-cit.

91-د. محمود فهمي زيدان: المنطق الرمزي، نشأته وتطوره، ص 242.

92-Russell، B، "Describtions"، p-155.

93-Ioc-cit.

94-Fritz، C. A.، op-cit. P-62.

95-Russell، B، Mysticism and logic، Unwin books، London، 1963، p. 156.

96-Ioc-cit.

97-Ioc-cit.

98-د. محمد مهران: فلسفة برتراند رسل ص ص 298- 299.

99-Russell، B، Mysticism and logic، pp-156-157.

100-Ioc-cit.

101-Io-c-cit.

102-Ioc-cit.

103-Ibid، p-158.

104-Ioc-cit.

105-Russell، B، the problems of philosophy، oxford university press، 1959 p-80.

لقد صدرت لهذا الكتاب ترجمة عربية بعنوان: "مشاكل الفلسفة" ترجمة د. عبد العزيز البسام ومحمود إبراهيم محمد، مطبعة نهضة مصر، القاهرة ط2.

106-Ibid، p-70.

قارن الترجمة العربية ص 58.

107-Ibid، p-87.

قارن الترجمة العربية ص 69.

108-Moore، G. E، Russell's "theory of description"، p-16.

انظر أيضا الآن وود: برتراند رسل بين الشك والعاطفة ترجمة د. رمسيس عوض، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1404هـ ـ 1984م.

109-Ayer، A، J، language، truth and logic، penguin books، 1963، p-33.

انظر أيضا د. زكي نجيب محمود: موقف من الميتافيزيقا، ص ص 178-179.

ترجع هذه الشهرة أساسا إلى أن مقالة "عن الإشارة" تركز على نقد "نظرية الأوصاف" عند رسل.

يتناول الفيلسوف الإيطالي والناقد السياسي جيورجيو أغامبين georgeo agamben موضوع السياسة الحيوية، ضمن طيات مشروعه الفكري الموسوم بالإنسان المستباح homo sacer، المكون من عدة أجزاء مقسمة الى مجموعة  كتب، في سبيل تحديد مميزات عمل السياسة المعاصرة في عدة مستويات، لعل أهم ما كتبه وما يهمنا هو عمل البيوسلطة في المجتمعات المعاصرة، التي صارت تعمل وفق نمط دمج المجتمع ككل على نموذج السياسة الحيوية، أي جعل حياة الأفراد موضوعا لعمل السياسي، بحيث يستهدف نمط معيشته وجسده عبر عمليات بيولوجية مختلفة، كما بينتهُ دراسات ميشيل فوكو، التي يهتم بها أغامبين كدراسة أحدثت ثورة فكرية في مجال الفلسفة السياسية المعاصرة، لكنه كأي ناقد سياسي، يتجه نحو أبعد منه، تعديلا توجيها، قبل أن يخوض في دراسة هذا المفهوم بجهاز مفاهيمي خاص به، خاصة وأنه اهتم بدراسة المعتقلات، مُؤرخا لما يحدث فيها من أساليب وطرق تستعملها السياسات أو المستعمرات بغرض تنقيح المجتمع، والحفاظ على الهدوء وحالة الاستقرار، الذي يمثل هاجس عمل السّياسي الأول.1647 iman

ولعل أهم ما يميز السياسة الحيوية هو تحول الانسان الى انسان مستباح homo sacer1 الذي يعيش ضمن نطاق الحياة العارية La vie nue2 وهي بدورها تعرضه الى أقصى ما يمكن أن يتعرض اليه في هذا العالم من ناحية التهميش والعبث بجسده وبحياته ككل.

بداية يهتم أغامبين بفكر كارل شميث، بحيث يعد من أبرز المحاولات في تكوين نظرية عن حالة الاستثناء الذي يضمن وجود علاقة ما بالنظام القانوني، كما يؤكد على أن الاستثناء هو تلك المنظومة الأصلية التي بواسطتها يرتبط القانون ويحتويها بداخله، وذلك من خلال تعليق العمل بالقانون نفسه، ويصير النظام موجودا حتى لو لم يكن الأمر قانونيا ليصير الفرد في حالة ديكتاتورية وتبعية.3

قبل تحليل السياسة الحيوية عند أغامبين علينا بطبيعة الحال فهم الأرضية التي بنيت عليها، وهي بالدرجة الأولى حالة الاستثناء Etat d’exception 4التي تقوم على استبعاد فرد ما أو مجموعة من الناس من النطاق السياسي القانوني، والسيد هو من يقرر ذلك حسب تصريحات شميث التي تأثر بها أغامبين، وبالتالي لن تتمكن الهالة القانونية من حمايته أو التفكير في مصلحته، لكنها لن تستبعده استبعادا تاما، وانما تضعه تحت المراقبة ويتم التصرف في جسده، بكل سهولة، ولن يحميه القانون من هذا التعدي، ببساطة لأن الجسد هنا هو جسد  الانسان الحرام المنبوذ.

يكون الانسان المستباح مستثنى داخل المحتشد باعتباره فضاء سياسي حيوي، ويظهر أنه النموذج الخفي للفضاء السياسي للحداثة، اذ أصبح التشابك بين السياسة والحياة ضيقا لا يمكن تحليله بسهولة، لأن السياسة حينما تدخل الى البيولوجيا والطب والجنس فإنها تفقد الوضوح، خاصة حينما سقطت بعض الأنظمة الحاكمة في العنصرية ، ان السياسة الحيوية حسب أغامبين تكون مطبقة أكثر في اللحظات الاستثنائية، أو الأماكن الاستثنائية، كالمحتشدات أو المعتقلات، فهي فضاء حاسم يعبر عن الهيمنة الحداثية، وهي الأماكن التي يُحبس فيها الأفراد، لسبب معين، أو يحدث ذلك في المستعمرات حين يجمع رجل السلطة المواطنين، المحتلين أو المعاقبين أو اللاجئين وغيرها، أو أفراد المجتمعات الشمولية، الذين تكون حياتهم ملكا لصاحب السيادة، هنا يصبح هؤلاء فاقدين للأهلية القانونيةـ، يمكن قتلهم ومعاقبتهم دون تدخل يمنع ذلك، لأنهم منبوذين وحياتهم مختلفة، و السياسة تطبق عليهم الكثير من التقنيات البيولوجية، بهدف التحسين، أو اجراء التجارب من أجل الاطلاع على النتيجة، وتقديم الأدوية الجديدة لهم لرؤية تأثيرها وما سيحدث لهم فيمابعد، أي جعلهم باختصار عرضة للتجريب، كما يحدث في السجون وفي السلطة المميتة أي النازية التي تمثل فضاء السياسة الحيوية المميتة ، اذن يصير الانسان المستباح في المعتقل انسانا مباحا للتجريب البيولوجي العنيف، وتجد السلطة هنا منفذها من أجل تعرية الحياة، ليصبح الانسان المستباح يعيش في كنف الحياة العارية، ولن يفقد حقوقه وقوانينه فقط، بل يفقد حق التصرف في حياته، ومن ثمة حياته ككل، لأن السياسة حين يكون هدفها الحياة أعمالها لا تكون واضحة، ولانستطيع تحديد منهجها وتقنياتها بدقة، بالأحرى تتميز بالمرونة ولايمكن الإمساك بها ولا نعلم ماذا تريد بالضبط من انتهاك الأجساد، الا حينما نرى النتائج.

يرى أغامبين أن ميشيل فوكو ضمن تحليلاته عن السياسة الحيوية، لم يقدم أفكارا عن السياسات الشمولية في القرن 20، وبما أن حنة أرندت hennah Arendt (1906-1975) قدمت دراسات حول السياسة الشمولية، غير أن دراساتها غاب عنها المنظور البيوسياسي، وهذا مؤشر يدل على صعوبة هذه المشكلة.5 اذن يجمع أغامبين، بين رؤية فوكو وحنة أرندت، بحيث أن فوكو الذي فصل بين السلطة السيادية والحيوية، في حين أنهما يهدفان الى نفس المهمة وهي مهمة حيوية في ذاتها، أي أن كل منهما يهدف الى السيطرة على الحياة، وبالتالي فالفصل بينهما سيرجعنا الى نقطة يلتقيان فيها وهي التحكم الحيوي في المجتمع، وبالتالي لاينبغي إقامة حد فاصل بينهما حسب أغامبين، ومن خلال تحليلات فوكو في ضبط عمل وميكانيزمات السياسة الحيوية، التي تكون غايتها الحياة البيولوجية، قد رصد استخدام الدول لهذه السياسة وبالأخص النازية، لكنه لم يشر الى عمل النُظم الشمولية الديكتاتورية التي تستغل الحكم المطلق والنفوذ الذي تتمتع به لصالحها، وتحاول الهيمنة على كافة الأفراد، وعلى كافة الجوانب، وبما أن السياسة الحيوية انتشرت بمحاذاة العلم فان هذه النظم تجد متنفسا جديدا لغزو مجتمعاتها عبر سياسة جديدة في الحياة، لتمارس أفظع التجارب على الانسان، كما حللت أرندت طريقة عمل هذه النظم لكنها لم تستند الى عنصر السياسة الحيوية، الذي يتخلل عمل هذه الأنظمة، في تنظيمها للسكان وممارسة التجارب عليهم، وتعريضهم للخطر عبر عدة تقنيات حيوية، وبالرغم من أنه نقص يحدده داغوني لدى كلا من الفيلسوفين، غير أنه يرى أن هذا أمر معذور لأن طبيعة الموضوع تفرض ذلك فالأنظمة الشمولية تتميز بالتنظيم الحيوي الى درجة أنه لايسعنا الفصل بين تلك الأنظمة والسياسة الحيوية خاصة في طبيعة العمل.

ان مبادئ تحسين النسل التي اعتمدتها السياسة الحيوية الاشتراكية القومية، كذلك تعزيز هتلر للقتل الرحيم، عبر عن مفهوم الحياة التي تستحق العيش، ليس باعتباره مفهوم أخلاقي وانما مفهوم سياسي وهو تحول الحياة الى حياة عارية التي يمكن أن نقتل فيها، ولايتم التضحية بها. 6 لقد عملت معظم الدول على توظيف تقنيات العلم والبيولوجيا في تعاملها مع الأفراد، لأن تلك التقنيات ستعمل على فرز المجتمع بدقة، خاصة عبر تقنيات التحسين، كما هو معروف بأن تلك الدول تعزز مبدأ العنصرية البيولوجية، وتقصي جانب كبير من الأفراد تحت ذريعة العلم، فالمصابين بالعاهات والقصور الجسدي لا يمكن لهم الاستمرار في العيش والعطاء، لأنهم يشوهون المجتمع وصورته، وانتاجه الاقتصادي وتشكل نظرة الاقصاء هذه الملامح العامة لعمل الدول وفقا لمبادئ التعديل الحيوي البيولوجي، وقد استعملت تقنية الموت الرحيم Euthanasié عبر البرنامج الحيوي للدول المميتة لعل أبرزها النازية، فقد كان القتل واجبا نحو من فقد الأهلية الإنسانية، أي الصفات التي تؤهله ليكون فردا كاملا، من الناحية البدنية أو العقلية، وفقد القدرة على العيش الطبيعي والتعايش الاجتماعي، واستمراره في الحياة مرهون بالأجهزة الطبية المتصلة به، فان نُزعت عنه، يموت مباشرة، خاصة وأن الموت الرحيم يعني نزع الأجهزة الطبية لمن لا أمل في شفاءه لأن حياته عبارة عن ألم فقط، وهذا مفهوم أخلاقي بالدرجة الأولى لكنه صار مع تحديات السياسات وتطلعاتها المرهونة بقوة الإرادة البشرية، قد أصبح  مفهوم سياسي، اذ عملت الدول الديكتاتورية على تطبيقه والعمل به، خاصة مع سياسة هتلر، أين تمت محاكمة العديد من الأطباء الذين اعترفوا بفعل الكثير من التقنيات البيوطبية الخطيرة لعل أبرزها الموت الرحيم، والذي صار يطبق أيضا في المحتشدات حسب أغامبين.

اذن أصبحت الحياة في عصر البيوسلطة حياة عارية تتعرض للتحسين المستمر والاستثمار الاقتصادي، أي أنها دخلت في لعبة انتاج أنظمة عديدة، لتشكل فائض حياة، يكون الانسان هو النواة الأولى في لعبتها السياسية هذه التي تتتميز بالاستثناء، هذا وأن الجائحة أيضا التي شهدها عصرنا الحالي والمتمثلة في كوفيد 19 حسب أغامبين ظاهرة معقدة عبرت بصورة واضحة عن حالة الاستثناء التي استعجلت السياسات للإعلان عليها، اذ أنها معقدة في علاقتها بالاستثناء السياسي، وليست معقدة في ذاتها لأنها عبارة عن كائن فيروسي، وهنا نستحضر رؤية فوكو عند أغامبين في رؤيته للأوبئة حيث يؤكد على أن السلطة تستثمر اللحظات الاستثنائية، ولعل الكوفيد صورة استثنائية تحدث في المجتمع تستغلها الدولة لفرض حالة الحصار.

***

د. ايمان عامر

.........................

الاحالات:

1- الانسان المستباح: ترجمت الى العربية بالإنسان الحرام، وبالمنبوذ، ونفضل الانسان المستباح، وhomo sacer هو مصطلح استعاره أغامبين من القانون الروماني القديم، وهو الاسم القانوني لشخص حالته كالآتي: هو شخص لايمكن التضحية به كقربان لله، ولكنه في نفس الوقت مستباح الدم، بمعنى أي كان يمكن أن يقتله من دون أن تتم معاقبته على ذلك أبدا، هو شخص اذن خارج كل من القانون الالاهي فهو غير مقبول كأضحية، والقانون البشري فقتله أمر مباح تماما، شخص مطرود مرتين من رحمة الله ومن رحمة الانسان، هو شخص عرضه للموت اذن طوال الوقت، بوسع أي أحد أن يقتله دونما حرج، هذه العرضة الراديكالية للموت يسميها أغامبين بالحياة العارية.(ميكا اوجاكانجاس، حوار مستحيل حول البيوسلطة أغامبين وفوكو، ترجمة: طارق عثمان، مركز نماء للبحوث والدراسات،2005، ص9)

2 - الحياة العارية: حياة الانسان المستباح، أي محض الحياة أو مجرد الحياة، أو الحياة في صورتها الخام، الحياة البيولوجية، لاتوجد على نحو طبيعي، وانما يتعين انتاجها وهو ما تقوم به السلط عبر تقنيات معقدة.(المرجع نفسه،ص ص 9، 15.)

3- Georgeo agamben, homo sacer2, state of exception, translated by kevin attel, Stanford university press, California, 2017, p.p 193,194

4 - الاستثناء: حسب أغامبين هو ضرب من الاستبعاد، والسمة المميزة للاستثناء حسب أغامبين هي أن مايتم استبعاده من خلال لايصير باستبعاده، منبت الصلة عن القاعدة العامة، وانما على العكس تماما، فما يتم استبعاده بالاستثناء يحافظ على صلته بالقاعدة في شكل تعليق، تعطيل هذه القاعدة، أي أن القاعدة تظل مطبقة على الاستثناء، مثلا المعتقلين في سجن غوانتنامو، هؤلاء محرومون من أي حقوق قانونية، ومستثنون من القاعدة القانونية الطبيعية، لكنهم لايزالوا محتوون داخل القانون في صورة استثنائهم منه.( ميكا اوجاكانجاس، حوار مستحيل حول البيوسلطة أغامبين وفوكو، مرجع سابق،ص17) Ibid

.5- page 71

6-Ibid, page 82

هل السؤال الفلسفي واحد أم متعدد؟

تتميز الفلسفة بكونها حقلا معرفيا يتقوم على أسئلة فلسفية دقيقة، تبتغي الكشف عن أسباب الأشياء وأصولها. وإذ كان الأمر كذلك، فإنه بالنظر إلى طبيعة هذه الأسئلة في تاريخ الفلسفة الممتد لقرون (27ق)، لا نحصل على نمط واحد منها، بقدر ما أن هناك تعدد في أنماطها، بحسب مستجدات العصر الفكرية والعلمية من جهة، وبحسب تصور الفيلسوف الذي يسعى إلى إدراك حقيقة الأشياء من جهة أخرى. ولعل أبرز أنواع الأسئلة الفلسفية التي اشتهرت بها الفلسفة منذ نشأتها إلى اليوم، نجد -حسب علمنا- نوعين مختلفين من حيث طبيعتهما وزمان حضورهما. لقد اشتهرت الفلسفة اليونانية بالسؤال الفلسفي التوليدي، كما اشتهرت الفلسفة الأوروبية الحديثة بالسؤال الفلسفي النقدي.

يشاع عن سقراط (470ق.م-399ق.م) أن أمه كانت مولدة نساء، ولذلك، يعتبر نفسه مولدا للأفكار كما كانت أمه تولد النساء. إن قراءة المحاورات التي تدور رحاها حول قضايا مختلفة (سياسية وأخلاقية...إلخ) بين سقراط والسفسطائيين، يبين أنها محاورات كانت تطلق عليها اسم "مايوطيقا"؛ (la maïeutique) أي التوليد. يبدأ سقراط محاوراته بتقديم قضية محددة يتلوها بسؤال، فيستدرج المحاور للإجابة، إيمانا منه بأن المحاور لا يملك معرفة دقيقة بما يتساءل عنه، ثم بعد ذلك، ينطلق من إجابته ليولد منها سؤال آخر، يدفع صاحبها إلى التشكيك في معارفه وإجاباته. وبهذه الكيفية، يجعل سقراط من المحاور في حالة من الريبة المعرفية التي تجعله منصتا بعناية إلى ما يدعيه سقراط من تصورات فكرية ومعرفية تتجاوز فكرة السفسطائية القائلة بجعل الإنسان مقياس كل الأشياء.

يتضح إذن، أن الحوار السقراطي الذي يشترط طرفين على الأقل في العملية الحوارية، يعتمد على تقنية السؤال والجواب التي تهم تحديد بعض المفاهيم تحديدا دقيقا، يخرج بها من رتابة المبتذل إلى مقام العلو والحكمة. والانتقال من السؤال إلى الجواب يعتمد على كيفية توليدية، تنطلق من سؤال حول مفهوم محدد، واستنادا إلى جواب بعض السفسطائيين، يجعل سقراط من الجواب -وبنوع من التهكم والسخرية- بداية نحو سؤال آخر، كي يبين لهم بأن ما يدعونه من معارف ليست بالضرورة واضحة ومتميزة في الأذهان. وبالتالي، إن السؤال الفلسفي السقراطي سؤال توليدي يبتغي تفنيد كل ادعاء للمعرفة التي هي في الأصل ادعاء للجهل.

هكذا، يمكن القول بأن السؤال السقراطي التوليدي، كان موجها نحو المعرفة فقط-أي بيان تهافتها وضعفها الحجاجي، بل إن كل معرفة سفسطائية كانت بمثابة ادعاء للمعرفة، والحال أنها ادعاء للجهل فقط- ولم يكن موجها نحو منبع هذه المعرفة ومصدرها. لذلك، ومع المستجدات النظرية التي شهدها تاريخ الفلسفة منذ بداية الفكر الأوروبي الحديث، وما صاحب ذلك من تحولات رفعت مقام الإنسان في علاقته بموجودات العالم، من حيث إنه الكائن المالك لجملة من القدرات التي تسمح له ببناء المعنى والمعقولية لذاته وللعالم، لم تعد الأسئلة توجه بالضرورة نحو المعرفة، بل نحو أسسها ومصادرها.

في هذا السياق، يأتي نوع آخر من الأسئلة الفلسفية الذي طبعت مرحلة القرن الثامن عشر، أعني بذلك، السؤال النقدي الذي اشتهر به الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724م-1804م). نعلم بأن لهذا الفيلسوف ثلاثية نقدية (نقد العقل المحض، نقد العقل العملي، ونقد ملكة الحكم)، فيها نستشف بأن كانط لا يوجه سهام نقده للمعرفة كما دأب على ذلك الفيلسوف اليوناني سقراط، بل إلى أسس هذه المعرفة؛ أي العقل. إن الخوض فيما إذا كان ما نعرفه من أشياء صحيحا أم لا، يتوقف على مدى قدرتنا على المعرفة؛ أي فيما إذا كنا نملك عقلا يمكننا من معرفة متكاملة أم أنه محدود بحدود الزمان والمكان. ثم، إن السؤال النقدي الذي كان موجها نحو مبادئ إنتاج المعرفة، وليس المعرفة في حد ذاتها، لم يشترط وجود أطراف حوار، أو اعتماد لتقنية السؤال الذي يليه الجواب، وجعل الجواب بمثابة منطلق نحو أسئلة أخرى، أو اعتماد للسخرية والتظاهر بالجهل، بقدر ما أنه سؤال يدفع المرء نحو التفكير في الأسس التي يبني عليها فكره ومعرفته، حتى لا يكون في وضع جهل بإمكاناته الذاتية نحو بناء المعنى والمعقولية بخصوص ذاته والعالم.

***

د. لوكيلي عبد الحليم - أستاذ فلسفة

المغرب

الزمان والنظام: عن جاستون باشلار "النظام ليس في الزمان، وإنما الزمان هو تكريس نظام مفيد وفعال نفسيا ولعلنا نستطيع التسليم مع برجسون بأن إختلال النظام في المكان ليس إلا نظاما غير متوقع، وجدلية النظام واللانظام ليس لها قاعدة مكانية "1.

بضوء هذا الإجتزاء نضع التساؤلات التالية المتعالقة بها وهي:

- الأسبقية الوجودية الإدراكية لمن هي؟ هل للزمان أم للمكان؟، أم لا توجد أسبقية تزامنية بينهما؟، فالمدرك مكانا هو المدرك زمانا في ملازمة تمليها قابلية الادراك العقلي، ولا يمليها تكامل أو إنفصال الزمان عن المكان؟ فحيثما ندرك مكانا ندرك زمانيته الملازمة له وبغير هذا التداخل الادراكي الزمكاني المشترك لا ندرك مكانا ولا زمانا لوحدهما ...

- إذا كان الزمان جوهرا لا إدراكيا للعقل وهي مقولة فلسفية دارجة، والمكان بخلافه جوهر إدراكي للعقل، فهل نستطيع إدراك المكان بغير دلالة ملازمة الزمان له؟ وفي إستحالة إمكانيتنا إدراك الزمان بغيردلالة موجودية المكان. كما ليس متاحا لنا إدراك مقدار الزمان بغير دلالة مقدار حركة اجسام المكان داخله .

- هل المكان و(الطبيعة) وجود عشوائي أم وجود منظم بقوانين ثابتة على مستوى الطبيعة وقوانين متغيرة وضعية على مستوى تنظيم المكان؟ وهل الزمان جوهر إفتراضي منّظم تلقائيا أم عشوائيا غير منظم لكنه ينتظم إدراكيا بدلالة مدركاته من الاشياء؟ ومن ينّظم عشوائية الآخر هل عشوائية المكان سابقة وجودا على إمكانية تنظيم عشوائية الزمان لتلك العشوائية المكانية ؟ هنا نفرّق بين المكان كموجودات ثابتة في الطبيعة عن موجودات واشياء العالم الخارجي المتغيّرة من حولنا. فالطبيعة معطى إدراكي يحمل قوانينه النظامية الثابتة، عليه تكون عشوائية المكان لا تنسحب على نظام الطبيعة الثابت.

- افلاطون يعتبر المكان معطى سابق على مخلوق الزمان اللاحق، والمكان منّظم من خالق أعطى المكان مهمة تنظيم عشوائية الزمان المطلقة. بخلاف الفهم السطحي الذي إعتدناه الزمان هو ادراكنا تنظيمه عشوائية المكان. حيث يؤكد افلاطون عشوائية الزمان تتم بدلالة المكان وليس العكس. من المرجّح أن افلاطون يقصد بنظامية المكان السابق على عشوائية الزمان هو ثبات قوانين الطبيعة الفيزيائية المحكمة. التي قطعا لم يكن افلاطون في عصره يدركها ويعرفها علميا كما هو الحال اليوم. افلاطون كان يحدس التنظيم الاعجازي في الطبيعة ويجهل القوانين الفيزيائية التي لم يكن اكتشفها العلم بعد.

- لكن السؤال المقلق حقا لماذا جعل الخالق الموجد للكون نظام المكان أو الطبيعة تلازمه عشوائية الزمان؟ وماهي الآلية التي تستطيع نظامية المكان إنجازها تنظيم عشوائية الزمان من خلال االتخارج المعرفي الإدراكي التكاملي وليس الجدل الديالكتيكي الماركسي بمعنى التضاد بينهما الذي يمكننا فهمه؟

- افلاطون يعتبر تداخل الزمان الإدراكي مع المكان المنتظم هو الكفيل بتخليص الزمان من عشوائيته بدلالة نظامية المكان التي جعلها خالقها بنظام ثابت يفتقده الزمان في المطلق غير الثابت. والمكان جوهر سابق على جوهر الزمان. وهنا يقصد بالمكان هو المعطى الناجز بنظام تحكمه قوانين طبيعية ثابتة وليس المقصود عشوائية الموجودات المكانية في العالم من حولنا. توضيح أكثر أن افلاطون يرى وهو احتمال إنقاذ الزمان من عشوائيته المطلقة غير المدركة لا يكون إلا من خلال محدودية الزمان بوجود مكاني محدود إدراكيا. حينها يصبح كل مدرك مكاني كوجود منظم مدرك اكتسب منه الزمان العشوائي وجوده المنظم بدلالة مكان محدودية إدراكه.

- مقولة ارسطو الرائعة التي سبقت عصرها هي (الزمان لا يحده زمان) اي عدم وجود زمانين احدهما كوني والاخر تحقيب وقتي ارضي بمعنى زمان. لكن واقعية المكان المتعيّنة وجودا انطولوجيا يمكن ان نحد الزمان بها؟ لماذا؟

مقولة ارسطو تؤكد التجانس الزمني وماهيته الفيزيائية التي لا تتبدل التي ينطبق عليها عبث المقولة التي نتداولها عربيا (فسّر الماء بعد جهد جهيد بالماء) أما إمكانية أن نحد الزمان إفتراضا بالمكان فهو وارد جدا كون ماهية المكان او صفاته الخارجية لا تجانس الزمان الذي لا يمتلك صفات ولا ماهية يمكننا ادراكها بمعزل عن تداخل الزمان بالمكان على صعيد الادراك فقط وليس على صعيد الجدل الديالكتيكي المتعذر تحققه بين المكان والزمان بسبب اختلاف المجانسة النوعية الوادة بينهما ان يكونا قطبي تناقض وتضاد داخل ظاهرة وجودية واحدة تجمعهما. حسب الجدل الديالكتيكي ارتباط المكان بالزمان ليس جدليا لافتقاد كلا قطبي التناقض للمجانسة النوعية الواحدة. اذن ما تعليلنا لاندماج المكان والزمان اي الزمكان؟ هذا النوع من العلاقة بين المكان والزمان هي علاقة تكامل معرفي تخارجي في التاثر والتاثير.

- بضوء مقولة افلاطون نرى الزمان في إحتوائه المكان إدراكيا هو يقوم بتنظيم عشوائيته الوجودية بدلالة نظام المكان أو بدلالة قوانين الطبيعة الثابتة. عشوائية اللانظام الزماني المستمد من إدراك تنظيم المكان له، لا يعني عشوائية الزمان التي اكتسبها من نظامية المكان في جدل غير متجانس الصفات ولا الماهية ولا أية رابطة تجمعهما تجانسيا. المجانسة المادية للمكان لا تجانس المجانسة غير المادية للزمان. وجوهر المكان يختلف جدا عن جوهر الزمان والاكثر اهمية انهما لا يتناقضان جدليا في ازاحة احدهما الاخر بل يتكاملان ادراكيا.

- جدلية الزمان الادراكي مع المكان ليس جدلا (ماديا) يقوم على تضاد سلب مع إيجاب بل هو جدل يقوم على تغيير إدراكي وليس على إستحداث ظاهرة إدراكية جديدة ثالثة هي وليدة جدل تناقضي متضاد. والسبب بذلك هو إختلاف المجانسة الماهوية النوعية بين المكان والزمان التي أشرنا لها في الفقرة السابقة. علاقة التداخل الادراكي الذي يجمع الزمان بالمكان ليس علاقة جدل ديالكتيكي بل علاقة تكامل إدراكي معرفي تخارجي .

- حسب باشلار ومن قبله برجسون كل عشوائية مكانية في نظام الاشياء والطبيعة، يبتني عليها نظاما طارئا جديدا لا يلغي بصفاته الخارجية عشوائية المكان. هذه العشوائية المكانية التي تنظّم نفسها بدلالة عشوائية الزمان التي اعتبرناها خاطئة حسب فلسفة افلاطون. لذا يكون معنا الزمان لا ينّظم المكان بل يدركه كما هو كموجود. والمكان ينظم نفسه بدلالة تنظيمه عشوائية الزمان المتعالق مع موجودات المكان. لكن هذه فرضية لا يمكننا اثباتها.

- أيضا بضوء مقولة افلاطون المكان معطى قبلي منظم يستبق الزمان وجودا. يجعلنا ندرك حقيقتين : اولاهما رغم عشوائية الزمان المنسوبة له من قبل افلاطون إلا أن ميزة الزمان الإطلاقية عشوائيا التي تعجز كل موجودات عالمنا مجاراتها هو أن الزمان نظام يحتوي الوجود والطبيعة والمكان بغض النظر عن دوره السلبي أو الايجابي لهذا الإحتواء الإدراكي. المكان لا يدركه العقل مجردا عن زمن إدراكه والغريب بالأمر كيف يكون المكان معطى قبليا نظاميا يعقبه معطى بعدي زمانيا يفتقد النظام؟. علما أن مصدر خلقهما واحد هو الله حسب افلاطون وفلاسفة مؤمنين عديدين أعقبوه. لماذا يكون للطبيعة نظاما تحكمه قوانين فيزيائية ثابتة، ويفتقدها الزمان بعشوائيته اللانظامية في تعالقه الوثيق مع الطبيعة؟ لماذا تكون الطبيعة جوهرا مدركا ثابتا بقوانينه، ولا يكون الزمان مدركا بقوانين فيزيائية تحكمه بثبات ادراكي كما هو حال الطبيعة؟

جاستون باشلار والوجود

يتناول باشلار قضية فلسفية عالقة كانت مثار اهتمام عباقرة الفلسفة هي الوجود والعدم، وابرز ميراث سبق به هذه العلاقة سارتر في كتابه الشهير (الوجود والعدم) واعقبه هيدجر بكتابه (الكينونة والعدم) وتقوم فلسفة باشلار في معالجته هذه العلاقة على ما يلي:

- "إمتلاء الوجود يقابله العمل الثابت للوظائف"2،

بمعنى توضيحي الوجود الناقص الإمتلاء ناقص القدرة على إداء وظائفه الحيوية المترتبة عليه بالحياة. رغم أن تعبير الإمتلاء الوجودي مفهوم ملتبس غير واضح من الناحية الادراكية او العملانية. فالامتلاء الوجودي غير محدد بماذا يمتليء؟ والوجود ليس فراغا إحتوائيا ليمتليء، وماهي معيارية هذا الإمتلاء بالتمام والنقصان؟ وبأي شيء يكون الوجود ممتلئا؟ باشلار ربما لا يعني بالوجود الممتليء هو الوجود الطبيعي الذي يدرك بموجوداته، وهو غير الوجود النفسي الذي ربما يقصده باشلار الممتليء بموجوداته المجردة غير المادية التي مصدرها الذاكرة والخيال والنفس وجميعها مفردات تجريد.

- إرادة الحياة دائمة السيرورة ولا تتوقف، والوجود يريد خلق حركة ولا يريد خلق راحة حسب تعبير باشلار. والوجود تناغم دقيق لخلق التنوع. والوجود الناجح المتحقق لا يكتفي الوقوف من غير سعي لاضافة نجاحات أخرى جديدة عليه.

وجدلية الوجود والعدم تتبدل وتتغير وفقا للظروف الموضوعية الخارجية حسب باشلار، وليس بتضاد داخلي يجمع وحدة المتناقضات حسب الجدل الماركسي. لماذا لا يكون تناقض الوجود والعدم يحكمه ديالكتيك على النمط الماركسي التقليدي؟

أولا من الخطأ الفادح أن نعتبر إمكانية حصول جدل بين وجود وعدم، أي بين شيء مدرك من جهة ولاشيء غيرمدرك غير موجود من جهة أخرى، الجدل الديالكتيكي المنبثق عنه ظاهرة مركبة ثالثة مستحدثة إنما تكون هي نتيجة تضاد جدلي داخل مجانسة نوعية واحدة تجمع متضادين إثنين في ظاهرة واحدة. والجدل الديالكتيكي لا يكون بجمع مدركين خارجيين منفصلين بل الجدل يكون في تناقض قطبين داخلين ضمن الظاهرة المتجانسة الواحدة. لنا توضيح لاحق لهذا الالتباس في اسطر لاحقة.

- يؤكد باشلار أن فهمنا الصحيح للوجود يتوقف على جملة من الامور منها : الوجود حسب تعبيره تناغم دقيق وخلق التنوع فيه، وطبيعة الوجود هو ان يتغير، والوجود الناجح يريد دوما تجاوز مرحلة نجاحه الى اخرى متقدمة عليها، كما يجد باشلار الحياة لا تنفي نفسها بالفشل، بل هي تبني اعادة نفسها في ديناميكية تقودها ارادة التغيير والتجديد المتقدم الى امام. ملاحظة مهمة باشلار يقصد بالوجود هو الموجود الانساني، ولا يقصد الوجود كفهوم مطلق.

لا نجانب الصواب قولنا ان كل ماذكره باشلار لا يشكل رؤية فلسفية جديدة لم يسبقه بها أحد غيره، ويمكننا أن نجمل تعقيبنا باختصار شديد، أنه من المسلمات أن الحياة لاتصنعنا على الدوام دونما ارادة واستعداد مسبقين منا كبشر من جنس نوعي متمايز على صعيدي الفرد والمجتمع، الحياة نحن من يمنحها إمتياز التدخل في رسم معظم ملامح سلوكنا الوعوي الذي نجد تكيفنا معه ميسورا بسيطا. وكل تقاطع مع إرادتنا في تصنيع حياتنا مع ارادة الحياة الواجب التكيف الايجابي معها في ممارستنا تعديل الخاطيء الذي لا يناسبنا نحو الافضل، سيقود الى انكفاء ذاتي على مستوى الفرد والى استلاب اغترابي على صعيد المجتمع. الحياة تصنع وجودنا الحقيقي الحي بنفس مقدار صناعتنا نحن للحياة التي نرغبها.

جدل الزمان والمكان

في سطور سابقة جرى توضيحنا لها لا يوجد جدل ديالكتيكي مادي يحكم المكان والزمان، واوضحنا ان علاقة الزمان بالطبيعة وموجوداتها المكانية هي من نوع الادراك التكاملي وليس من نوع التضاد الجدلي في خلق الظاهرة الجديدة. وسبب ذلك أن الجدل الديالكتيكي المادي وجدل التاريخ لا يكون إلا على صعيد المجانسة الواحدة التي تجمع نقيضين لا يمكنهما التعايش معا داخل المادة المتجانسة الواحدة.. الديالكتيك يحدث داخل متناقضات النوع المادي أو التاريخي الموحد في المجانسة. مثال ذلك لا يمكن أن يحدث ديالكتيك بين حيوان وانسان أو بين نبات وانسان او بين زيت وماء او بين منضدة وكرسي الخ.الديالكتيك تضاد بين نقيضين متجانسين نوعيا ينتج عنهما مرّكبا ثالثا جديدا لا يلبث أن يخلق تناقضه التالي..

تناقض الاضداد جدليا داخل المادة أو الموضوع المتجانس الواحد لا يكون مدركا من طرف ثالث محايد باستثناء العوامل الموضوعية المحيطة بهما من أجل تسريع وحدة التناقض الداخلي لينتج عنه المركب الثالث أو الظاهرة المستحدثة الجديدة التي لا تشبه أحد المتناقضين. أما الجدل على صعيد تنازع وتفاوت مصالح الطبقات المتناحرة اقتصاديا كما يحصل بين الطبقة الفقيرة العاملة التي تبيع قوة وناتج عملها للطبقة الغنية الراسمالية التي تستثمر قوة عمل هؤلاء الفقراء.

كما تحكم الجدل المادي قوانين تحولية انتقالية خاصة من مرحلة الى مرحلة أخرى وهي القوانين الكلاسيكية الثلاث التي أرستها الفلسفة الماركسية، قانون وحدة وصراع الاضداد، وقانون تحول التراكم الكمي الى تراكم نوعي جديد يحمل خصائص نوعية مغايرة، والقانون الثالث الذي يحكمه التطور الحتمي بقانون ما يسمى نفي النفي في استحداث الظاهرة الجديدة التي تحمل معها عوامل التناقض داخلها وحتمية انحلالها. ما يعنينا من كل هذا التوضيح هو كيف يكون الفكر او الوعي الذي هو تجريد لا يشارك المادة التي يدخل معها بجدل ديالكتيكي وكل منهما(الفكر والمادة) يحمل صفاته النوعية الخاصة به التي تقاطع وحدة التجانس الجدلي داخل الظاهرة النوعية في الخواص الواحدة.؟ لا يوجد جدل منطقي على صعيد الميتافيزيقا ولا على صعيد الفكر المجرد. جدلية الزمان التي يعالجها جاستون باشلار هي جدلية ميتافيزيقية، وبنى على تلك الفرضية الفلسفية على نوع من تقلبات النفس. اننا ندرك الزمان على انه سلسلة من الانقطاعات التي تتحكم بها ذاكرتنا.

لكن الحقيقة الجوهرية للزمان تقاطع هذا التوجه الاستدلالي به. وهي ان تفكيرنا خارج فاعلية الزمن الجدلية هي التي تكون سلسلسة من الانقطاعات المتتالية. قطوعات الذاكرة التعاقبية هي التي تقود الزمن. بمعنى استكمال الادراك بدلالته. قطوعات التفكير الاسترجاعي المستمد من مصدره الذاكرة، إنما يكون افكارا مكتسبة مخزّنة خارج تعاقبية زمنية يتعالق بها الماضي مع الحاضرالمؤقت.

قطوعات التفكير هي خارج فاعلية جدلية الزمان بها، فالجدل الحقيقي لا يحصل في ميتافيزيقا الافكار بل يحدث في الوجود المادي للاشياء. وتبقى قطوعات التفكير خارج جدلية الزمان هي استذكارات نتخيلها بالفكر الملازم لزمانيته الذي في حقيقته لا زمان يقود الاستذكارات التي نرغب استحضارها، ولا دخل للزمن فيها الا بدلالة أن نعرف استكمال ادراكاتنا بدلالة زمنيتها في حاضرنا الذي نفكر فيه.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

.....................................

الهوامش: 1،2، جاستون باشلار/ الجدل والزمان /ت: خليل احمد خليل/ ص 36 – ص 38

عرفت البلاغة الغربية أوج ازدهارها مع أرسطو ومعلمه أفلاطون، ثم شيشرون وكنتنليان، وقبل أن ينطفئ نورها جاء شاييم بيرلمان وزميلته البلجيكية لوسي أولبريخت تيتيكاه فأعادا لها بريقها من خلال المؤلف الشهير" المصنف في البرهان: البلاغة الجديدة"، وتبلورت هذه البلاغة مع ستيفان أولمان في كتاب "استعمالات الدليل والحجة"، وأيضا شارل هاميلان في كتابه" الأوهام"، فقامت بلاغة هؤلاء على استعمال آليات وتقنيات بلاغية لغوية ومنطقية، واعتنوا بالاستراتيجيات التي يستعملها المتكلم من أجل إقناع السامع، وبالتالي ارتبطت بلاغتهم بالحجاج المرتبط بالإفهام والإقناع القائم إما على الصدق أو المغالطة. لذلك احتل مبحث المغالطات الحجاجية مرتبة متقدمة في البحث الحجاجي المعاصر، وشكل تطوّرا طبيعيا للدراسات اللسانية، التي عُنيت بالتواصل الإنساني، وبالأساليب التي تعتمدها أطراف التواصل من أجل التأثير في الغير أو الاستحواذ عليه وتطويعه، ومنه ارتأينا تقصي حيثيات ومسار تشكل هذا النوع من الحجاج في الفكر الغربي القديم فالحديث ثم المغربي كنموذج. فلم تكن دراسة المغالطات والاهتمام بها أمرا جديدا في الدرس البلاغي، بل هي مسائل قديمة قدم علم المنطق الذي أينع نتيجة ظاهرة السفسطة التي عرفها المجتمع الأثيني، فلقد كان مهدها الفكر اليوناني.

الحجاج المغالط في المنجز اليوناني

إن تفطن الإنسان لما في المغالطة الحجاجية من قوة وقدرة على التأثير بغض النظر عن كونها تعبر عن الحقيقة أم لا، هو الذي دفع بعض الفلاسفة إلى احترافها وتوظيفها من أجل الغلبة والتكسب بتعليمها للناس.

وقد ارتبطت المغالطة في الفكر اليوناني بالتيار السفسطائي، حيث كان أنصاره" يفاخرون بتأييد القول الواحد ونقضيه على السواء، وبإيراد الحجج الخلابة في مختلف المسائل و المواقف ومن كانت هذه غايته فهو لا يبحث عن الحقيقة، بل عن وسائل الإقناع والتأثير الخطابي"[1]، وأبرز زعمائه نجد: بروتاغوراس الإبديري Protagoras of Abdera  وغورغياس الصقلي Gorgias of Siceliot وبروديكوس دو سيوس Prodicos de ceos ، فقد أعطى هؤلاء وآخرون من حاملي هذا التوجه الفكري مشروعيته لاستعمال الحيل الخطابية، ومنه صارت السفسطة في بعض الممارسات الخطابية استدراجا للسامع وفنا يسمح بإظهار الأقل ضعفا، ولقد راهن السفسطائيون على عالم يتعلق باللغة هو عالم مخلوق ومحتوى في الكلام الإنساني فقط،[2] وهذا في حد ذاته تعبير عن وعي عميق بدور اللغة وأهميتها، بل وخطورتها كسلاح لا يختلف في شيء عن باقي الأسلحة المادية التي يستخدمها الإنسان للحفاظ على وجوده والدفاع عن كينونته أو لقضاء مأربه وحوائجه.

في ظل انتشار هذه الحركة الفكرية في اليونان القديمة خلال القرن الخامس قبل الميلاد ظهر مجموعة من الفلاسفة حملوا مشعل التصدي للألاعيب القولية التي اعتمدها السفسطائيون من بينهم أفلاطون أب منطق المغالطات من خلال مجموع محوراته التي حملت أسماء أعلام سوفسطائيين مثل: هبياس الصغير، وهبياس الكبير، وبروتاجوراس، وجورجياس و السفسطائي... من بين آخرين، وتتضمن نقدا لآرائهم، وهجوما على دورهم الهدّام في الفكر اليوناني،[3] فقد بدأ معه الانفصال بين الخطابة والسفسطة لتستقل الأخيرة بذاتها حاملة معها كل النعوت القدحية، بل وأصبحت كل ممارسة فكرية أو كلامية لا تتقيد بضوابط المعقولية والواقعية، وتوصف بكونها سفسطة،[4] وسار أرسطو أيضا على نفس المنوال متسلحا بالمنطق العقلي محاولا نقد المنهج السفسطائي في الجدل في كتابه الطوبيقاأو الجدل،[5] وإحصاء مغالطات هذا التيار وتصنيفها في كتابه السوفسطيقا أو الأغاليط، وأشهر أبوابه: القياس والمغالطة، أنواع الحجج في المناقشة، الأغراض الخمسة للحجاج السفسطائي، التبكيت في القول، التبكيتات التي خارج القول، رد الأغاليط إلى تجاهل الرد، أسباب الأغاليط، المبكتات السوفسطائية في المادة، استحالة معرفة كل التضليلات...إلخ،:[6] وعمل على تخليص عملية الإقناع من الحجاج المغالطي من خلال نظريته في بلاغة الحجاج عبر حصر كل أشكال التبكيتات السفسطائية، فحدد من جهة اللفظ ستة أصناف، هي:[7]

اشتراك اللفظ المفرد: حيث يعمد السفسطائي إلى التضليل من خلال استعمال اللفظ الواحد الذي قد يدل على أكثر من معنى. مثل قولك إنما العلماء بالنحو يعلمون، وإن الذي أطلقت ألسنتهم منذ قريب يعلمون، فالتعليم اسم مشترك يقع على الذي يتفهم هو ونفسه ويستنبط، وعلى الذي يستفيد ويتعلم من غيره، فأما فهمه والمعرفة به فذاك هو استعمال العلم ومعرفته، وحسب ابن رشد المتعلم عالم، لأن المتعلم يعلم، والذي يعلم عالم، فالمتعلم عالم".

اشتراك اللفظ المؤلف: ويتفرع إلى: ما كان من قبل التقديم والتأخير (ضرب موسى عيسى)، وما كان راجعا إلى احتمال الضمير أكثر من معنى (قال خالد لعلي أنه ذكي)، وما كان راجعا إلى التباس الإضافة (كتاب الطالب الجديد)

إفراد القول المركب: يتعلق الأمر بإفراد القول أو إسناده، فمثل قولك: سقراط عالم بالطب، فسقراط إذن عالم، وذلك أنه قد يصدق على سقراط أنه عالم بالطب، وليس يصدق عليه أنه عالم بإطلاق... لأنه ليس يلزم إذا صدق القول المركب على شيء أن تصدق أجزاؤه مفردة على ذلك الشيء

القسمة: كأن يعمد المغالطي إلى استلزام صدق المركب بناء على صدق أفراده، مثال: قول القائل: (أنت عبد، أنت لي، فأنت عبد لي) ومن الحوارات الطريفة ما جاء في كتاب الأذكياء ما روي عن ابن قتيبة أنه قال:" كان أبو العاج على حوالي البصرة فأتى برجل من النصارى فقال: ما اسمك؟ فقال: بندار شهر بندار، فقال: أنتم ثلاثة وجزية واحدة، لا والله العظيم فأخذ منه ثلاث جزى". فقد فرض الوالي على النصراني ثلاث جزى لأن اسمه مركب من ثلاث مفردات في اسمه؛ أي قسّم الكل إلى أجزاء وأعطى لكل جزء خصائص الكل.[8]

الإعجام: ويتعلق بخصائص مميزة للغة المنطوقة أو المكتوبة، كالأداء الصوتي أو إهمال الإعراب وتبديل اللفظ وإعجامه، يكون غالبا فيم يكتب وفي الشعر خاصة.

شكل الألفاظ: وفيه يتم التلاعب بصيغ اللفظ، مثل: أرهبَ الناسُ معاذَ، أرهبَ الناسَ معاذُ، أرهبُ الناسِ معاذُ، أرهِبِ الناسَ معاذُ.

يمكن ردّ هذه التصنيفات إلى خمسة أغراض هي:[9] (الإبطال والغلط ومخالفة الرأي المشهور والاستعجام وإيقاع الخصم في الهذر المحض، ترد بدورها إلى ثلاث آليات عامة هي:[10]

التغليط بالأقوال اللغوية: كثيرا ما يراهن المغالط في بناء استراتيجيته التضليلية على اللغة وخصائصها التركيبية والدلالية والتداولية، إضافة إلى بعض الظواهر البلاغية، ويمكن للمغالطة أن تكون باللفظ؛ وذلك متى لم يطابق القول المعنى بشكل يجعل دلالة اللفظ مشتركة فيلتبس الأمر على المتلقي ويسهل تغليطه، ويمكن أن يكون من جهة المعنى؛ فالمضامين التي يلجـأ إليها المغالط قد تكون غير مضللة في ذاتها، لكنه يعدُّها بطريقة يسمح باستخدامها لهذا الغرض، فالمغالطة في أصلها خروج اللفظ إلى معاني متعددة، فيفهم السامع معنى ويقصد المتكلم أخر.

التغليط خارج – لغوية: معناه استخدام كل الظروف المتاحة للإيقاع بالخصم، بحيث يلجأ المغالط إلى الكذب والمداهنة والمدح والاستعطاف والتهديد والوعيد...، وبالتالي إلى أساليب السلطة والتهكم على الخصم، لأن دغدغة عواطف الجمهور ورغباته حسب أفلاطون أشد إقناعا من أي احتكام للعقل، وذلك من خلال إرباكه والضغط عليه لتعطيل عملية التفكير عنده وتشتيت انتباهه.

التغليط العائد إلى سبل التدليل: أي إيهام المحاور باستخدام قياسات صحيحة بينما هي مضللات، فيصوغ المغالط أقواله بشكل منطقي، لكنه يظهر فيها الفاسد صحيحا والكاذب صادقا، ويدفع بخصمه بعيدا عن قصده فيضمر أكثر مما يظهر، أو يبني القياس على مقدمات توهم بالصحة أو يخادع في ترتيبها على نحو يؤدي إلى تعميم الأحكام أو اختزالها دون أن يكون الأمر في الإمكان.

ومنه يكون التغليط خروجا عن الشكل الصحيح للقياس، وبالتالي نكون أمام استراتيجيات خطابية تعتمد الإيهام والمناورة وتستعمل استدلالا سليما في الظاهر لكنه في باطنه يقوم على خلل في البناء المنطقي.

الحجاج المغالط في الفكر الغربي الحديث والمعاصر

بعد إسهامات أفلاطون وأرسطو بقرون حذا حذوهما الكثير من الفلاسفة أمثال جون لوك، واتلي، شوبنهاور، جون ستيوارت مل، جريمي بنتام، واستمر مبحث المغالطات يثير اهتمام الكثير من المناطقة حتى اليوم، غير أن هذا الاهتمام بدأ ينحسر مع تطور المنطق غير الصوري وارتياده آفاقا جديدة من البحث، وقد ذهب بعض المناطقة خاصة من تأثر منهم بنظرية التواصل ، إلى أن دراسة المغالطات ليست بديلا عن دراسة مبادئ الاستدلال الصحيح، فمادامت المغالطات هي انحراف عن القواعد الضمنية التي تحكم شتى أصناف التداول الحواري فإن الأجدر التركيز على دراسة هذه القواعد عوض دراسة الانحرافات،[11] كما ساهم العديد من الباحثين في الفكر الغربي الحديث في الكشف عن عوائق المسار الحجاجي أمثال فرانسيس بيكون والذي قسم الأوهام المغلطة إلى أربعة أقسام:[12]

أوهام القبيلة: وهي مشتركة بين جميع الأفراد، كالميل إلى التعميم مع تجاهل الحالات الخاصة.

أوهام الكهف: وهي فردية سببها أن كل إنسان ينظر إلى العالم من كهفه الخاص، فيحكم وفق هواه.

أوهام السوق: وترتبط باللغة اليومية المشتركة التي تتحكم فيها الحاجات اليومية النفعية.

أوهام المسرح: وهي الأخطاء المعرفية المتولدة من المعتقدات الفلسفية الموروثة ومن المبادئ المغلوطة.

ارتبطت عودة الباحثين المعاصرين في قضايا الحجاج والخطابة بالبلاغة القديمة، فحاولوا استخراج ما تزخر به كتب القدماء من درر، وإعادة صياغتها بشكل تصير معه قابلة للإسهام في تطوير الممارسة الحوارية المعاصرة، وتجنبها السقوط في مظاهر العبث والمشاغبة السفسطائية التي تضر بالعلم وتفسد العمل، وللوقوف على كل هذا يمكن الرجوع إلى الكتاب الشهير لهامبلين Hamblin المعنون بالسفسطات Fallacies، وأيضا الوصف الدقيق الذي قام به كل من فان إيمرن Van Emren وروب خروتندورست Rob Grootendost الهولنديين في مقالهما" السفسطات من منظور تداولي جدلي"، وأبحاث دوغلاس والتون في مجموعة من كتبه ومقالاته، من بين آخرين أسهموا في إعادة إحياء درس المغالطة القديم في إطار المتطلبات النظرية والعملية المعاصرة.[13]

عموما، يمكن القول إن الدراسات الحديثة والمعاصرة بقدر ما أفادت من الإسهام التراثي في هذا الباب بقدر ما كانت حريصة على تجديده وتطويره بالوجه الذي يصير معه قابلا للانخراط في السياق العلمي والعملي المعاصر، وأهم مظاهر هذا الجهد التجديدي نجد التطوير الدقيق لمفهوم المغالطة نفسه، بحيث لم تعد تشير إلى تلك الممارسات الفكرية المنحرفة، بل أصبحت تدل على صفة تكوينية في أي فاعلية فكرية

الحجاج المغالط في النقد المغربي (محمد العمري نموذجا)

إن اهتمام محمد العمري بنقد الخطاب المغالط إنما جاء من فكرة أن التنظير لبلاغة خطابية عربية حديثة لن يتأتى دون الرجوع إلى التاريخ ومحاورته، ثم تطبيقه على الواقع، فقد عمل على استثمار مفاهيم الحجاج المغالط في تحليل مختلف الخطابات التراثية وأيضا المعاصرة، حيث سعى من خلالها للكشف عن الآليات المغالطة ، ومواضع التمويه والتضليل كما في مصنف البخلاء للجاحظ، حيث وظف الجاحظ القدرات الإقناعية في تعليل سلوكات البخلاء غير المألوفة، ورغم مستواهم الحجاجي إلا أنهم يقعون تحت سطوة الهوى، ويشكل هذا حسب العمري "مصدر الالتباس بالنسبة لبعض القراء الذين ينظرون إلى سعة معرفة البخيل وتنوع مصادر احتجاجه، وصواب أفكاره الجزئية في ذاتها"[14]

اعتمد العمري في تحليله للخطاب التراثي على العديد من آليات المغالطة، على سبيل المثال نذكر:[15]

الاحتكام إلى حجة السلطة: ففي بخلاء الجاحظ مثلا وجد العمري أنهم عمدوا إلى الاستعانة بهذه المغالطة لستر إفراط شحهم، واستدراج المتلقي ومحاولة إقناعه بدعواهم، وهو ما نجده عند الجاحظ مثلا عندما يتلاعب بالإسناد أو يحاكيه محاكاة ساخرة من قبيل : "زعم الناس[16] "، "سمعت شيخا من مشايخ الأَبُلَّة"[17] " وأنت رجل قد طعنت في السن، ولم تزل تشكو من الفالج طرفا، ومازال الغليل يسرع إليك، وأنت في الأصل لست بصاحب عشاء[18] ..، والمتتبع لمدونة البخلاء سيشتشف كثرة توظيف الآيات القرآنية ونماذج من الشعر العربي، وذلك لحمل المخاطَب مضطرا ليصل علمه بعلم الأكبر سلطة منه.

وأكد العمري على أن هذا النوع أيضا موجود في خطابات تراثية أخرى كخطبة الحجاج وما تحمله من عنف لفظي باعتباره وسيلة لدفع المتلقي لقبول عدوى المخاطِب، يقول الحجاج:" فإنكم كأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فكفرت لأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون"[19] فقد اعتمد الحجاج في هذا المقطع تمثيلا تضليليا يوهم المتلقي بحجيته.

القياس الفاسد: يقول الحجاج في خطبة له:" ألا إن الزبير كان من أحبار هذه الأمة حتى رغب في الخلافة ونازع فيها وخلع طاعة الله واستكن بحرم الله، ولو كان شيئا مانعا للعصاة لمنع أدم حرمة الجنة، لأن الله تعالى خلقه بيديه وأسجد له ملائكته، وأباحه جنته، فلما عصاه أخرجه منها بخطيئته، وآدم على الله أكرم من ابن الزبير، والجنة أعظم حرمة من الكعبة"، في هذا المقطع الحجاجي إيهام بالتشابه بمشروعية إخراج آدم من الجنة ومشروعية قتل ابن الزبير.

فساد التعليل: جاء في كتاب البخلاء للجاحظ قول أبا عبد الرحمان:" أي بني، لمّ صار الضبّ أطول عمرا إلا لأنه يعيش بالنسيم" فالمحاج هنا يوهم المحاور بأن طول العمر سببه العيش بالنسيم، فالبخيل أخفق في توجيه الحجة لأنه بنى المسار الحجاجي على تعليل فاسد.

لم يقتصر محمد العمري على تحليل النصوص التراثية في مسار بحثه في الحجاج المغالط، بل أيضا نظر في الخطابات المعاصرة الشيء الذي أثمر مجموعة من الدراسات من قبيل: دائرة الحوار ومزالق العنف، منطق رجال المخزن وأوهام الأصوليين، عوائق الحوار مع الأصوليين، لكن ما عُرف عن العمري في هذا المجال هو عنايته بالخطاب السياسي، وما يكتنفه من حجاج مغالطي خاصة التاريخي والمعرفي والسعي وراء التحليل الموضوعي في قراءة هذا النوع من الخطابات المعاصرة،[20] لأن هذا النوع من الخطابات يهدف قبل كل شيء إلى" تحقيق منفعة آنية دونما مراعاة لتشويه التاريخ والعلم والقفز على حقائقهما"[21]

وفي ظل الفوضى الفكرية وما كثر من فتاوى وشائعات وأكاذيب وبرامج موجهة... باعتبارها من معالم الزحف التكنولوجي والعولمي، فإن واقع العصر يلزمنا معاودة طرح قضايا المغالطات على محك التحليل والمراجعة لما لها من تأثير على عواطف المستمع وأحاسيسه إن لم نقل الموجه للتكوين السيكولوجي لأطراف الخطاب، يقول أفلاطون في محاورة جورجياس:[22]

" في جدالٍ حول الغذاء يدور أمام جمهورٍ من الأطفال فإنَّ الحلواني كفيلٌ بأن يهزم الطبيب، وفي جدالٍ أمام جمهورٍ من الكبار فإن سياسيٍّا تَسَلَّح بالقدرة الخطابية وحِيَلِ الإقناع كفيلٌ بأن يَهزمَ أيَّ مهندسٍ أو عسكري، حتى لو كان موضوعُ الجدال هو من تخصص هذين الأخيرين، وليكن تشييد الحصون أو الثغور! إن دغدغة عواطف الجمهور ورغباته لَأشَدُّ إقناعًا من أي احتكامٍ إلى العقل"

استنتاجات:

الحجاج المغالطي قديم قدم الدراسات البلاغية الغربية، وجذوره ضاربة في التاريخ.

اللجوء للحيل الخطابية والألاعيب القولية لتحقيق المصالح الشخصية، أمور توجه البحث في الأخطاء المنطقية والاستدلالية في عمليات الحوار.

البلاغة الجديدة مع برلمان حلقة وصل بين التراث اليوناني والتراث العربي.

الدور الفعال للمغاربة، محمد العمري نموذجا، في تجديد المشروع البلاغي ليلائم التراث العربي.

اعتماد محمد العمري على الحجاج المغالط في قراءة التراث نابع عن وعيه العميق بالعلاقة التي تربط بين المكون التداولي والبلاغة.

***

غزلان زينون

...................

المراجع

يوسف كرم (1936) تاريخ الفلسفة اليونانية، لجنة التأليف والترجمة والنشر القاهرة، د.ط.

فيليب بروتون وجيل غوتييه (2011) تاريخ نظريات الحجاج، ترجمة محمد صالح الغامدي، مركز النشر العلمي، جامعة الملك عبد العزيز، ط1.

مصطفى عادل (2019) شيء من المنطق، المغالطات المنطقية، رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة 15.

رشيد الراضي (2008) السفسطات في المنطقيات المعاصرة التوجه التداولي الجدلي، مجلة عالم الفكر، العدد 4، المجلد 36

عبد الرحمان بدوي 1980، منطق أرسطو، وكالة المطبوعات، الكويت، دار القلم، بيروت، ط1، ج3

هيفاء بو بكر جدة (2025) معنى المغالطة ومضاربه التداولية: الخطاب الفلسفي الأرسطي نموذجا، مجلة سيميائيات، المجلد 20، العدد 1، انظر أيضا: رشيد الراضي (2010) الحجاج والمغالطة من الحوار في العقل الى العقل في الحوار، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط 1

نبيلة بوقرة (2017) استراتيجية المغالطة في حوارات الأذكياء، نماذج من كتاب الأذكياء لابن الجوزي، مجلة سياقات اللغة والدراسات البينية، المجلد 2، العدد 5،

الراضي رشيد، (2010) الحجاج والمغالطة، من الحوار في العقل إلى العقل في الحوار، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى.

غالم عبد الصمد (2020) الحجاج المغالط في النقد المغاربي المعاصر: محمد العمري نموذجا، مجلة (لغة- كلام) المجلد 6، العدد3،

الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر (ت. 255 ه) البخلاء، فضاء الفن والثقافة للنشر والتوزيع.

طيلون هاني علي سليم، المغالطة في القياس المنطقي عند الإمام الغزالي، مجلة قطاع أصول الدين، العدد 19.

[1]   يوسف كرم (1936) ص 58

[2]  فيليب بروتون وجيل غوتييه (2011) ص 24

[3] المغالطة في القياس المنطقي عند الإمام الغزالي ص 1076 مجلة قطاع أصول الدين العدد 19طيلون هاني علي سليم

[4]  الراضي رشيد (2008) ص 135

[5] المغالطة في القياس المنطقي ص 1078

[6]  بدوي عبد الرحمان (1980) ص 773 وما بعدها

[7]  بو بكر جدة هيفاء (2025) ص 43

[8] بوقرة نبيلة (2017) ص 198

[9] نفسه، ص 195

[10] نفسه

[11] عادل مصطفى (2019) ص 18

[12] يوسف كرم (1936) ص 47

[13] الراضي رشيد (2010) ص15-16

[14] غالم عبد الصمد (2020) ص 409

[15] نفسه، ص 410

[16] الجاحظ، البخلاء، ص 170

[17] نفسه، ص 113

[18] نفسه، ص 111

[19] غالم عبد الصمد (2020) ص 10

[20] نفسه، ص 412

[21] نفسه، ص 413

[22] مصطفى عادل (2019) ص 15

 

أولا: تعريف الدهشة

ترى لورانس فانين أن الدهشة تمثل الطريق نحو المعرفة، فهي السعي الدائم نحو "الفهم". ومن هذا المنطلق، يصبح التفلسف بمثابة يقظة فكرية تدفع الإنسان للتأمل والتساؤل المستمر حول العالم المحيط به، في محاولة للوصول إلى فهم أعمق وأكثر وضوحًا.(1)

وعامة تُعرف الدهشة، في السياق الفلسفي، على أنها "حالة" يتأثر بها العقل البشري، نتيجة تعرضه أو اطلاعه على شيءٍ جديد، أو غريب، أو شيءٍ غير مألوفٍ لا يقدر على فهمه واستيعابه، كما تعرف الدهشة الفلسفية كذلك على أنها "شعور" يراود الإنسان، ويساهم في إنارة عقله، والتوصل إلى إجاباتٍ بخصوص القضايا والمسائل التي تثير الحيرة لديه، وعندما تسود الدهشة على الإنسان أو تصيبه؛ فإنها تحفزه على إثارة التساؤلات، ووقف التكتم أو التجاهل بخصوص وجوده، ووجود العالم الذي يعيش فيه والكون، كما أنها تدفعه إلى التأمل وملاحظة كل ما يحيط به، بغرض إيجاد الإجابات التي ترضي حيرته وفضوله، وتعتبر الدهشة الفلسفية طريقًا يوصل بدورهِ إلى الحكمة، وقد حظيت بأهمية كبيرة في اليونان القديمة؛ بل إنها قد ولدت هناك، ونالت في ذلك الوقت اهتمام اثنين من أعظم الفلاسفة الإغريق، وهما أفلاطون وأرسطو، وبالنسبة لأفلاطون، فقد اعتبر أنّ الدهشة هي الطريق المُوصل إلى الحقيقة، وتحديدًا إلى حقيقة الوجود، في حين أنّ أرسطو اعتبر الدهشة دليلاً على الوعي بأنّ هناك ما يحتاج إلى التحقق والبحث بخصوصه، وأنها تساهم في إيجاد الحلول للشكوك التي تحوم حول الحقيقة. ولقد أكد سقراط أن الدهشة هى بداية الفلسفة حيث تمكننا من ادراك ان العالم يصعب فهمه او تفسيره، وانه ليس امرا مسلما به، وان ما يفعله الانسان غير مهم. فالعقل الانسانى حين يندهش لايتوقف عن اثارة التساؤلات.(2)

ثانيا: أهمية الدهشة

من المعروف فلسفيًا أن فقدان الدهشة يعني فقدان الحياة، حيث إن الروتين والعادات يعيقان رغبة الإنسان في الاستكشاف والمعرفة. على العكس، فإن الدهشة تزيل الألفة عن الأشياء وتكسر بساطتها، مما يحفز العقل على التساؤل والبحث. لذلك، يُعرّف الفيلسوف نفسه كإنسان يرفض التكيف مع العالم وعاداته، مُقدِّرًا كل لحظة من التأمل والتساؤل. كما قال أرسطو: "ما دفع الناس في البداية وما يدفعهم اليوم إلى البحث الفلسفي هو الدهشة." وبالتالي، تُعتبر الدهشة جوهر الفلسفة، فهي المحرك الأساسي للفكر الفلسفي. يتجاوز الفيلسوف مجرد الدهشة أمام الظواهر الغريبة ليشعر بالدهشة حتى أمام أكثر الأشياء ألفة. على سبيل المثال، كانت دهشة نيوتن من الظاهرة البسيطة لسقوط التفاحة نحو الأرض بدلاً من السقوط للأعلى، مما أدى به إلى اكتشاف قانون الجاذبية.

ترى الفيلسوفة جان هرش* أن الدهشة استبدت بكثير من الفلاسفة عبر تاريخ الفكر الغربى الذى يمتد لأكثر من ألفى سنة، تلك الدهشة التى منها ولدت الفلسفة وهى التى تعمل على اثارة الأسئلة الجوهرية.. وأن نندهش تلك هى الخاصية المميزة للانسان وعندما يقرأ المرء تاريخ الفكر الغربى سيعرف قدرته على الدهشة، فى دهشة غيره سيتمكن من التعرف عليها والاعتراف بها.. هذه هى سيرورة الانسان الخلاقة، السيرورة التى بوسعها أن تقود القارىء الى أن يتفلسف بنفسه.(3)

تقول جان هارش:".. هل مايزال بوسع انسان القرن العشرين أن "يندهش " أو يتعجب على الأقل؟ اننا نحيا فى عصر العلم، اننا نعتقد فى كوننا نعرف كل شىء، أو على الأقل نستطيع معرفة كل شىءلكن سيظل دائما ثمة بشر يندهشون ان الدهشة هى أساس الشرط الانسانى.ولايكفى ان يعاصر المرء كبار العلماء حتى يفلت من نير الجهل بل ان من الفيزائيين أنفسهم من لايكف عن الاندهاش.. ذاك أن كتبهم مليئة بالدهشة الفلسفية والميتافيزيقية الشبيهة باندهاش الأطفال.(4)

ونجد الدهشة عند الناس الذين عاشوا فى بداية العصر اليونانى القديم فى القرن السادس قبل الميلاد.. وبالدهشة يملك كل واحد منا قدرا من التجربة الفلسفية، التى تميزه عن غيره، فكلما واجهنا اختيارا فعليا وجب علينا الحسم فيه، الا وساءلنا أنفسنا لامساءلة فلسفية، دون أن ننتبه الى الأمر. الأطفال فى سن الخامسة، تقريبا، يطرحون أسئلة فلسفية، شأنهم شأن الشباب فى سن الخامسة عشرة والسادسة عشرة. والحقيقة ان الدهشة الفلسفية لمفكرى الماضى تشهد على القوة الخلاقة والقدرة على الابداع التى تميزنا نحن البشر، حيث كانت تتمتع بكل الجدة فى عصرها. لقد كانوا ذوى عقول نيرة، كانوا فلاسفة قادرين على الاندهاش، قادرين على مجاوزة مايبدو بديهيا فى الحياة اليومية.(5)

وهكذا تؤكد الفيلسوفة لورانس فانين أن الفلسفة تنطلق من حالة الدهشة وإثارة التساؤلات، حيث تشير إلى أن نشأة الفلسفة لدى الإغريق كانت مدفوعة بالدهشة، لكنها لم تكن دهشة بسيطة، بل كانت دافعًا للفضول الفكري والتأمل العميق. في البداية، كان التركيز على التساؤلات المتعلقة بالظواهر ومحاولة فهمها. ورغم ارتباط الفلسفة في العصور القديمة بالشعائر والأساطير وأنواع من المعتقدات، إلا أنها سرعان ما انفصلت عن هذه الروابط. ومع ذلك، ظل سؤال أصل العالم قائمًا بقوة: لماذا يوجد البشر؟ ولماذا توجد الأشياء والعالم؟ كان الانشغال الفلسفي في بداياته يدور حول معرفة الطبيعة ومبادئها المختلفة، وفهم العلة الأولى لكل شيء، مع السعي المستمر للتأمل في هذه القضايا الأساسية.(6)

يعكس هذا الفضول الفكري روح الشباب الحقيقية للفكر، حيث يمثل مرحلة الطفولة في حياة الإنسان، التي يبدأ فيها بملاحظة العالم من حوله ويتساءل ببراءة عن طبيعة الأسئلة نفسها. في هذه اللحظة، يشعر الإنسان بالعالم، ويتفاعل معه، ويستشعر جماله كما لو كان في حديقة مليئة بالاكتشافات. تجسد هذه اللحظة فضولًا بسيطًا ومبهجًا، وتعكس أصالة الوعي الإنساني. ومع ذلك، فإن هذه الأصالة تتراجع مع تزايد النزعات الاصطناعية والفردانية التي تنتشر بسرعة في مجتمعاتنا الحديثة. تؤدي هذه النزعات إلى تقليص فضولنا الفطري، وتدفعنا نحو أنماط تكيّف محدودة ومقيدة نتيجة لهذه التغيرات.(7)

على عكس اللامبالاة التي تجعلنا كائنات منعزلة وغير مهتمة بالجديد، تُعتبر الدهشة حالة من الذهول والقدرة على المفاجأة. إنها تدفعنا نحو ما يثير التفكير، وتحثنا على تبني سلوك فكري نقدي. فالدهشة تمثل منهجًا من التساؤلات نستكشف من خلاله وعينا بالعالم. الشخص الذي يتساءل هو من يدرك جهله، ويُعتبر هذا الإدراك الخطوة الأولى نحو المعرفة. لأن من لا يدرك أنه يجهل شيئًا لن يسعى للتحرر من قيود هذا الجهل. كانت الدهشة القوة المحركة التي ألهمت المفكرين الأوائل للغوص في التأملات الفلسفية، إذ تنبع موضوعاتها من الظواهر التي تفاجئنا وتحفزنا على التساؤل: "لماذا تكون الأمور على هذا النحو؟". وبالتالي، فإن التساؤل يُعبر عن المشاركة في يقظة الفكر وسعيه المستمر نحو الفهم.(8)

يبدو أن الدهشة وإثارة التساؤل تقودان إلى المعرفة، وهذا ما توضحه لورانس ڤانين، حيث تشير إلى أن الدهشة تمثل توجهًا نحو المعرفة. تقول: "باندهاشي أعي جهلي، وأسعى نحو المعرفة فقط لأعرف، وليس لتلبية مطلب عادي".ومن هذا المنطلق، يصبح التفلسف حالة من اليقظة الفكرية التي تدفع الإنسان لاستكشاف ذاته والعالم من حوله، متحررًا من الأهداف النفعية، ومنفتحًا على البحث عن الحقيقة من أجلها.(9)

لقد تبين لنا أن التفلسف يبدأ أولًا باستعداد فكري خاص، كما يتضح من اشتقاق الكلمة ذاتها. فكلمة philosophia  تنحدر من الفعل philein، الذي يعني المحبة، والاسم Sophia، الذي يعني الحكمة. هذا الحب يدفعنا للاندفاع نحو الحكمة والسعي لنصبح حكماء. والحكمة هنا تشير إلى امتلاك معرفة ما، وهي معرفة تخص الكائن العاقل. ومن ثم، فإن الفيلسوف هو صديق الحكمة الذي يسعى بحب وإصرار إلى حيازتها وبذل الجهد المستمر لتحقيقها.(10)

ولكن.. كيف ندرك هذه الحكمة؟ من الناحية النظرية، تمثل الحكمة المعرفة والعلم، وهي البحث المستمر عن الحقيقة. أما من الناحية العملية، فإنها تشير إلى سلوك الحكيم الذي يتميز بالاعتدال والرزانة. يُعتبر الفيلسوف شخصًا يمتلك المعرفة، ويُحسن ضبط نفسه في مختلف الظروف. يستخدم فكره ليُحسن التصرف، كما يتصرف وفقًا للقيم الخيّرة، لأن التجربة تظهر أن الحكيم يحب قيم الحق، والجمال، والعدالة، والاعتدال، والخير، وبتلك القيم يُكمل ذاته. كما يتميز الحكيم بفكر شغوف وديناميكي، مجتهد في سعيه لتحقيق هذا المقام. وعليه، أن يندهش من الأشياء ليبدأ في مساءلة العالم دون كلل أو ملل، باحثًا عن الفهم العميق للحياة. (11)

الخلاصة: تُعتبر الفلسفة منذ بداياتها أداةً رئيسة للتأمل والبحث عن الحقيقة من خلال ممارسة السؤال، وكان سقراط، أبو الفلسفة، أبرز من اتبع هذه الطريقة. يتميز السؤال الفلسفي بطبيعته بأنه يحمل شكًا مسبقًا في الإجابة، حيث يُعتبر الجواب معرفة غير مكتملة. يُطرح هذا السؤال فقط على من يُعتقد أنه يمتلك المعرفة، بهدف كشف تناقضاتها أو تعزيز فهمها. يُبرز هذا المنهج السقراطي أهمية الحوار والمساءلة كوسيلة للوصول إلى حكمة أعمق وفهم أكثر تعقيدًا للوجود والإنسان.

والدهشة هى المحرك الأساسي للتفلسف، حيث تدفعنا إلى طرح أسئلة حول أنفسنا والأشياء التي نعتقد أننا نفهمها. بمعنى آخر، تنشأ الفلسفة من لحظة اندهاش العقل ورغبته في استكشاف ماهية الأشياء وجوهرها. وقد عبّر الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر عن هذا المفهوم بقوله: "إن اندهاش الفكر يعبر عن نفسه بالسؤال"، مما يبرز أن الفلسفة تبدأ في اللحظة التي يتوقف فيها العقل أمام المألوف، متسائلاً عن حقيقته وما وراءه، لتبدأ بذلك رحلة البحث عن الحقيقة والمعرفة.

ويمكن القول ان الجوهر الأساسي في الخطاب الفلسفي هو السؤال، الذي يُعتبر العنصر المميز له عن غيره من أنماط التفكير. إن استمرار الفلسفة عبر العصور منذ بدايتها يعود إلى اعتمادها على طرح الأسئلة بدلاً من تقديم إجابات نهائية. فلو كانت الفلسفة تكتفي بالإجابات، لكانت قد انتهت منذ زمن بعيد. لكن قدرة الفلسفة على إعادة صياغة الأسئلة، بل وحتى التساؤل حول طبيعة السؤال نفسه، هي ما يمنحها حيوية دائمة وتجدد مستمر. وقد عبّر كارل ياسبرز عن ذلك بقوله: "السؤال في الفلسفة أهم من الجواب، فكل جواب يصبح سؤالاً جديدًا"، مما يعكس الطبيعة الديناميكية للفلسفة كبحث مستمر عن الحقيقة.

واذا كان ذلك كذلك يمكن تحديد أهداف الدهشة كما يلى:

1- إثارة مشاعر القلق تجاه الظواهر الكونية والقضايا المتعلقة بالحياة، وهو قلق يدفع الفرد إلى السعي نحو المعرفة وفهم ما يحيط به. يُعتبر هذا القلق، بما يحمله من تساؤلات وجودية، المدخل الرئيسي للوصول إلى الحقيقة. فالدهشة تُحفز الفيلسوف على تحويل هذا القلق إلى سؤال فلسفي منهجي، مما يجعله أداة للبحث العميق عن الحقيقة والمعرفة، ويبرز دور الدهشة كعنصر أساسي في انطلاق الفكر الفلسفي والإبداع العقلي.

2- تنشيط الحس الداخلي الذي يضيء العقل، مما يتيح للإنسان إظهار ما كان مخفيًا أو في الظل إلى ساحة الواقع. يتم هذا الإظهار بعد المرور بمرحلتي الملاحظة الدقيقة والتأمل العميق، حيث تصبح الدهشة دافعًا لتحليل الظواهر وفهم معانيها. ومن خلال هذا التفاعل بين العقل والحس، يسعى الإنسان للعثور على إجابات للأسئلة التي لطالما حيرت الفكر البشري، مما يجعل الدهشة نقطة انطلاق أساسية نحو المعرفة والتفكير الفلسفي.

3- الوصول إلى حالة من السمو الفكري، حيث تُعتبر الدهشة أرقى ما يمكن أن يحققه الإنسان. فهي تعكس براءة الإنسان وحريته، إذ تُظهر قدرته على الانفتاح على العالم واستعداده لاستكشاف المجهول. ينبع هذا الاندهاش من وعي الإنسان بالعلم وفهمه لطبيعة الوجود المحدود، مما يدفعه للتساؤل والتأمل والسعي نحو فهم أعمق وشامل للكون والحياة، وبالتالي يرتقي تفكيره إلى آفاق أكثر سموًا وشمولًا.

4- تثير في لحظات معينة أسئلة عميقة تتعلق بحياتنا، مما يدفعنا للبحث عن الحقيقة والتأمل في جوهر الوجود. هذه الدهشة تشكل الأساس الأول للفكر الفلسفي، حيث تفتح أمامنا أبواب التساؤل التي تقود إلى المعرفة. الفلسفة، كما تُعرض في الكتب والمكتبات، ليست مجرد تجميع للأفكار، بل هي تعبير عن دهشة الإنسان تجاه العالم. وقد كانت هذه الدهشة هي المحرك الأساسي لفلاسفة عظماء، الذين أسسوا الطريق للعلم والتقدم، إذ لم يكن بالإمكان بناء العلم دون أن تسبقه تلك الدهشة الفلسفية التي حفزت العقول على البحث والاكتشاف.

5- تعمل الدهشة الفلسفية على إحياء التساؤلات المنطقية التي طرحها الفلاسفة عبر العصور، حيث تسعى لتفسير الظواهر والأحداث التي تحيط بنا. إنها تحفز العقل على إعادة التفكير في الأسئلة الوجودية والجوهرية، مما يدفعه للبحث عن إجابات عميقة تكشف غموض تلك التساؤلات. ومن خلال هذا المسار التأملي والتحليلي، تتيح الدهشة للإنسان الوصول إلى نتائج وإجابات تُثري فهمه للوجود، وتساهم في تشكيل رؤية فلسفية أعمق لحياته والعالم من حوله.(12)

ثالثا: أنواع الدهشة

1- الدهشة الطبيعية

يعبر مفهوم الدهشة الطبيعية عن الشعور الذي يختبره الإنسان عند مواجهته لموقف غير متوقع أو مفاجئ، مما يؤدي إلى حالة من الذهول والانفعال القوي. يرافق هذا الانفعال مشاعر وجدانية وعاطفية نتيجة التعرض لشيء غير مألوف أو استثنائي. من الناحية النفسية، تترافق الدهشة مع شعور بالتوتر والحيرة، وأحيانًا الألم، حيث يحدث صراع داخلي في العقل عندما يجد صعوبة في فهم حدث أو ظاهرة معينة. هذا الصراع المعرفي يحفز التفكير والبحث، مما يعكس قدرة العقل على التفاعل مع المجهول والمثير للدهشة. (13) ولهذه الدهشة الطبيعية أو العادية خصائص عديدة منها:

1- انها شعور فطري يرافق الإنسان منذ لحظة ولادته، حيث تمنحه فضولًا لاستكشاف العالم من حوله وطرح تساؤلات بسيطة حول الظواهر اليومية. إنها قدرة فطرية تدفع العقل للتفاعل مع كل ما هو جديد أو غير مألوف، مما يثير التساؤلات والرغبة في البحث. من ناحية أخرى، فإن الاعتياد على رؤية الأشياء بشكل طبيعي يعكس إحدى سمات الدهشة الطبيعية، حيث يتوقف الإنسان عن طرح الأسئلة ويتكيف مع الظواهر حتى تصبح جزءًا من روتينه اليومي، مما يؤدي إلى تراجع شعوره بالدهشة تجاه ما يراه بشكل معتاد.

2- عندما تثير التساؤلات، غالبًا ما تبدأ تلك الدهشة بالمشكلات اليومية التي يواجهها الإنسان، والتي لا يوليها الكثيرون اهتمامًا كبيرًا. ومع ذلك، يمكن أن تتطور هذه الأسئلة البسيطة تدريجيًا لتصبح مشكلات أكثر عمقًا وتعقيدًا. تشترك الدهشة الطبيعية بين جميع البشر، فهي جزء من التجربة الإنسانية المشتركة التي تحفز العقل على التساؤل عن العالم المحيط به، وتفتح آفاق البحث والاكتشاف التي قد تؤدي إلى فهم أعمق وأوسع للوجود.

3- هذه الأسئلة البسيطة التى تثيرها الدهشة الطبيعية يمكن أن تفتح الأفق تدريجيًا للانتقال إلى قضايا أعمق وأكثر تعقيدًا. فعندما يتوقف الفرد للتفكير في الأمور التي يعتبرها طبيعية أو بديهية، يتطور تفكيره ليشمل مسائل وجودية أو فلسفية، مما يؤدي إلى رحلة بحث أعمق عن الحقيقة والمعنى.

4- هى سمة مشتركة بين جميع البشر، فهي جزء من تجربتنا الإنسانية الفطرية. منذ لحظة ولادتنا، نبدأ في التفاعل مع ما يحيط بنا بعيون مليئة بالدهشة، مما يعكس فضولنا الفطري لاستكشاف العالم وفهمه. هذه الدهشة تفتح أمامنا المجال لطرح الأسئلة وتحدي المفاهيم المألوفة، مما يعزز التفكير والبحث. ومع مرور الزمن، تبقى الدهشة عنصراً أساسياً في التجربة البشرية، مما يجعلها رابطاً مشتركاً بين الثقافات المختلفة عبر العصور والأماكن.(14)

2- الدهشة العلمية

ترتبط الدهشة العلمية ارتباطًا وثيقًا بالعالم المادي والطبيعي، حيث يُعتبر الفهم والتفسير المحرك الأساسي لها. بينما تنشأ الدهشة الطبيعية من الظواهر اليومية التي نراها بأعيننا، فإن الدهشة العلمية تظهر عندما يواجه الإنسان أحداثًا أو ظواهر غير مفهومة تمامًا، مما يدفعه للبحث عن تفسيرات منطقية وعلمية. هذا النوع من الدهشة يعزز من روح الاكتشاف والتجربة، ويشكل أساسًا لفهم الظواهر الطبيعية وتفسيرها من خلال المنهج العلمي، مما يسهم في تقدم المعرفة في مجالات مثل الفيزياء والكيمياء وعلم الفضاء.

عندما نسأل المفكرين والعلماء عن الدافع الأساسي وراء انخراطهم في العلم، نجد أنهم غالبًا ما يتحدثون عن شعور بالدهشة. لذا، يمكننا أن نبدأ دراستنا للتجربة الشاملة للعلم من خلال تحليل الدور الذي يلعبه التعجب أو الدهشة في العملية العلمية. يعرَّف التعجب بشكل رسمي من خلال ثلاثة جوانب: أولاً، كشيء يثير العجب ويجذب الانتباه؛ ثانيًا، كشيء يثير الإعجاب والسرور؛ وثالثًا، كشيء يترك الشخص في حالة من الانبهار والتساؤل. بناءً على ذلك، يمكن أن يكون هذا التقسيم الثلاثي الذي تقدمه دلالات التعجب بمثابة دليل إرشادي في سعيّنا لفهم أسباب ظهور العلم وما يمكن أن يؤدي إليه.(15)

وهكذا تتسم الدهشة العلمية بثلاثة أبعاد مترابطة تعكس طبيعتها المدهشة والمتعددة الأوجه:

1- المفاجأة والجذب: الدهشة هي استجابة لما هو غير متوقع، ما يثير اهتمام العقل ويجذبه نحو استكشاف المجهول.

2- الإعجاب والبهجة: تنطوي الدهشة على شعور بالاحترام والجمال تجاه ما يتم اكتشافه أو ملاحظته.

3- الاندهاش والتساؤل: تثير الدهشة حالة من الفضول العميق، ما يدفع الإنسان إلى طرح الأسئلة ومحاولة الوصول إلى إجابات.

لتوضيح ذلك علينا أن نبدأ من نقطة الصفر: ما الذي يحفز الجهود العلمية في الأساس؟ بعبارة أخرى، ما الذي يدفع العقل البشري للبحث عن المعرفة التي ستتحول في النهاية إلى علم؟ إذا استفسرنا من ذوي الخبرة، وهم العلماء المبدعون، فإن إجابتهم ستكون متطابقة. إذا سألنا العلماء المبدعين أنفسهم عن دافعهم الأول لممارسة العلم، فالإجابة تأتي بالإجماع: الشعور بالمفاجأة.(16)

من الناحية النفسية، يحتاج الإنسان إلى المفاجأة كي يبدأ رحلته في ممارسة العلم. فالعلم، في جوهره، هو السعي نحو معرفة جديدة، ولا يمكن تحفيز هذا السعي إلا عندما يتحدى الواقع التوقعات المألوفة. ولا يسعى أحد إلى اكتشاف معرفة جديدة إلا عندما يتفاجأ بالطريقة التي تسير بها الأمور، بدلاً من اعتبارها أمراً بديهياً. ويعبر الإجماع الشعبي عن ذلك بوضوح: " ما نعتاد عليه يوميًا يصبح تافهًا في نظرنا؛ لا يثير فضولنا ولا يدفعنا للتساؤل". العلم يبدأ حيث تتوقف العادة، ويستمر في دفع الإنسان للتفكر في العالم بعيون جديدة. فكل اكتشاف علمي جديد هو نتيجة لهذه المفاجأة الأولى، التي تجعل الإنسان يعيد النظر في الأشياء المألوفة، ليرى فيها إمكانات غير متوقعة. وتكون هذه المفاجأة من نوع معرفي، بمعنى مزدوج. المعنى الأول هو الإدراك المفاجئ بأن العالم، رغم كونه قابلاً للمعرفة، إلا أن الإنسان لم يستكشفه بعد. وبالتالي، فإن ما يدفع الإنسان لممارسة العلم هو الرغبة في استكشاف الأمور بوضوح، لكنه تم تجاهلها أو التغاضي عنها حتى الآن.(17)

للحصول على مثال يوضح الدور الذي لعبه الشعور بالدهشة في نشوء العلم، يمكن أن نجد مثالًا قويًا في حياة اثنين من أعظم رواد فيزياء الكم، وهما نيلز بور و فيرنر هايزنبرج. كما هو معروف، يتميز هذا المجال من العلوم بالمعادلات الرياضية المعقدة للغاية ويتعامل مع كائنات لا يمكن للإنسان رؤيتها مباشرة أو تصورها بشكل ملموس..، ومن المتوقع أن يكون العلماء الذين يدرسون هذا المجال مدفوعين بمفاهيم متعلقة بالرياضيات البحتة والمنطق الصارم. ومع ذلك، عندما نسأل بور وهايزنبرج عن سبب اختيارهما أن يصبحا فيزيائيين كميين، فإن إجابتهما الواضحة هي: الشعور بالدهشة. لقد اندهشا من أن الأشياء التي نراها في التجارب اليومية كانت كما هي، وتفاجآ بأن الناس لم يلاحظوا شيئًا مثيرًا في هذا السياق، مما دفعهما لتكريس حياتهما لاكتشاف ذلك.(18)

فعادةً ما يشعر العالم بالدهشة في بداية مسيرته، عندما يدرك أن العالم قابل للفهم ولكنه لا يزال مجهولاً. وتزداد دهشته عندما يحقق هدف سعيه، أي عندما يكتشف بوضوح الطبيعة التي كان يسعى لفهمها. المفاجأة هنا ليست في مواجهة شيء أعظم أو أكثر إثارة مما كان متوقعًا. ولتمييز هذا النوع من العجب عن النوع الأول، يمكننا الإشارة إلى الإعجاب والمشاعر المرتبطة به، مثل الفرح والشعور بالمكافأة والإشباع.(19)

عندما نفكر في العملية العلمية، غالبًا ما نتصور العلماء كمخلوقات عقلانية بحتة، بعيدة عن العاطفة، تركّز فقط على البيانات والمنطق. ومع ذلك، فإن التجربة العلمية تُظهر عكس ذلك تمامًا. إن عواطف العلماء جزء لا يتجزأ من عملية الاكتشاف، وهي تعزز بشكل كبير دافعهم للاستمرار في البحث. العديد من العلماء يتحدثون عن مشاعرهم العاطفية المتعلقة بالاكتشافات العلمية. على عكس التصور التقليدي عن العلماء كـ منطقيين فقط، يتضح أن الإثارة والتشويق هما جزء من جوهر العمل العلمي. هذا يعني أن الخبرات العاطفية لا تقل أهمية عن التحليل العقلاني في تحفيز العلماء على مواصلة استكشافهم. إحدى المقارنات التي يستخدمها العلماء لوصف مشاعرهم هي التشبيه الذي يقارن السعي العلمي بالبحث عن الذهب. يشبّه العالم العلمي نفسه بـ المنقب عن الذهب الذي يقضي أيامه في الجرف والبحث، أحيانًا دون نتيجة تذكر، فقط ليكتشف فجأة كتلة صلبة من الذهب. تلك اللحظة من الاكتشاف هي اللحظة التي يُدرك فيها المنقب مكافأته العاطفية، وهي التي تدفعه لمواصلة عمله الجاد. عندما يتحدث العلماء عن الإثارة التي يشعرون بها عند تحقيق اكتشاف جديد، فإنهم يصفون نوعًا من التجربة العاطفية التي تعوض عن المشقة. كما ذكر العلماء: "أكبر إثارة بالنسبة لنا هي رؤية تأثير جديد لأول مرة"، وأن هذه اللحظات التي تحدث مرة أو مرتين في السنة، تستحق كل الجهد الذي بذله.(20)

وهكذا يتتضح لنا أن الانخراط العاطفي العميق للعلماء في البحث يعكس أن العلم ليس مجرد فكر عقلاني جاف، بل هو عملية حية تحتوي على مشاعر من الإثارة والدهشة والبهجة. هؤلاء العلماء، الذين يقضون سنوات في العمل المضني، يدركون أن الفائدة العاطفية التي يحصلون عليها من لحظة الاكتشاف تجعل كل الجهد يستحق العناء.

ويؤكد العلماء بشكل متكرر أن السعي للمعرفة لا يقتصر فقط على جمع الحقائق أو حل المعادلات الرياضية، بل يتضمن تجربة عاطفية عميقة. كما يشير الكيميائيين البارزين إلى هذه الفكرة بشكل مثير: "هناك شيء واحد يتعلق بالعلم وهو أن البحث عن الفهم أكثر إثارة بكثير مما كنا نتوقعه عندما كنا صغارا". هذه التجربة العاطفية التي يتحدث عنها الكيميائيين تُظهر أن العلم لا يمكن اختزاله في مجرد نتائج أو فرضيات، بل هو رحلة شغف وإثارة لا يمكن التنبؤ بها بالكامل.(21) وهذا يشير إلى أن الدهشة تتجاوز التوقعات الأولى لدى العلماء عند بداية رحلتهم العلمية. هذا الشعور يجعل العلم أكثر من مجرد وسيلة للوصول إلى حقائق؛ إنه رحلة استكشاف مليئة بالمفاجآت غير المتوقعة.

من الواضح أن الجانب العاطفي للإعجاب يلعب دورًا حيويًا في البحث العلمي. ولكن إذا كانت مشاعر العالم جزءًا من العملية العلمية، كيف يمكننا تقييم هذا الوضع؟ هل يعتبر رد فعل العالم شيئًا ذاتيًا، وتفريغًا للتوتر النفسي غير المرتبط بالمحتوى الموضوعي للعلم؟ يبدو أن العديد من الفلاسفة يرون ذلك، بينما يملك العلماء وجهة نظر مختلفة تمامًا. على سبيل المثال، عبّر أحد الكيميائيين لإيدسون عن سعادته تجاه العلم بطريقة ملهمة، حيث قال: "بالنسبة لي، العلم مثير للغاية. لا أقول إن الرضا يأتي فقط من حل المشكلة؛ بل إن الرضا الحقيقي – بالنسبة لي – يكمن في تحقيق الفهم."(22)

والشعور الذاتي يترافق هنا مع وعي الإبداع الموضوعي، كما يحدث في مجالات الفن والفلسفة. "تُشبه هذه المتعة إلى حد ما تلك التي يشعر بها أي شخص يحل الكلمات المتقاطعة، لكنها تتجاوز ذلك بكثير، وربما تكون أكثر إرضاءً من المتعة التي تُكتسب من الأعمال الإبداعية في مجالات أخرى غير الفن. إنها تتجلى في الإحساس باختراق أسرار الطبيعة، واكتشاف خفايا الخلق، وإضفاء بعض المعنى والنظام على جزء من العالم الفوضوي، مما يُحقق إرضاءً فلسفياً."(23)

في ضوء ما تم ذكره، نفهم لماذا يصر العلماء المبدعون على أن العلم هو في جوهره رؤية نظرية، تختلف تمامًا عن النتائج العملية التي قد يتوقعها الإنسان من العلم نفسه. كما يصف دي برولي، " العلم يشبه البرق المفاجئ الذي يضيء أفقًا من التناغمات لم تكن معروفة من قبل، ويجلب معه شعورًا يشبه الفرح الإلهي. هذه اللحظات من التناغم الكوني تمنح العلم قيمته الجوهرية، وهي التي تجعل العلماء يستمرون في السعي وراء الفهم العميق للطبيعة دون أن يدخروا جهدًا أو يسعوا إلى الربح."(24)

وهكذا تبين لنا أن الدهشة تلعب دورًا محوريًا في بداية المسار العلمي، حيث تحفز الباحث على البدء في استكشاف الواقع. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تبقى الدهشة مستمرًة بعد أن يتمكن العلم من تقديم تفسيرات ونظريات ثابتة للظواهر؟ هل الدهشة عنصر مؤقت ينشأ فقط في مرحلة التكوين العلمي، أم أنها تظل جزءًا لا يتجزأ من التجربة العلمية نفسها؟.هذه هى القضية الأخرى التى ينبغى علينا استكشافها لفهم الدور الذي يلعبه العجب في علاقته بالعلم.

هناك نوعين من العجب:العجب الناتج عن الجهل: هذا النوع من العجب ينشأ عندما يكون الإنسان غير مدرك للآليات أو القوانين التي تحكم ظاهرة معينة. على سبيل المثال، الأطفال أو البسطاء قد يتفاجؤون بحيل السحرة أو المحرضين، ولكن هذا العجب يتلاشى بمجرد كشف الخدعة أو تفسير الظاهرة. والعجب الناتج عن الفهم: وهو النوع الذي يرتبط بالفكر التأملي والعلمي. هذا العجب لا ينبع من الجهل، بل من التقدير العميق للتناغم، والبساطة المذهلة، أو التعقيد الذي يكشفه العلم في الطبيعة. إنه نوع من الدهشة التي تصاحب فهمًا أعمق للعالم. السؤال الأساسي هنا هو: هل يؤدي العلم إلى "قتل" العجب من خلال تقديم تفسيرات دقيقة للظواهر، أم أنه يعمق شعورنا بالعجب من خلال الكشف عن الأبعاد الخفية للواقع؟ للإجابة عن هذا السؤال، دعونا نستعرض آراء اثنين من أبرز المفكرين: إرنست ماخ وألبرت أينشتاين.(25)

إرنست ماخ، كفيزيائي وفيلسوف، كان ملتزمًا برؤية صارمة تجعل من العلم أداة للقضاء على الجهل وتبسيط الفهم البشري للعالم. موقفه من العجب متجذر في رؤيته الفلسفية، حيث يرى أن الدهشة ليست خاصية موضوعية للعالم، بل هي رد فعل شخصي نابع من نقص المعرفة أو من الارتباك أمام ظاهرة جديدة. الدهشة شخصية بحتة: أي أنها لا تنبع من الطبيعة ذاتها أو من الظاهرة الملاحظة، بل من حالة الشخص الذي يواجهها. العجب مؤقت: عندما يفهم الإنسان الظاهرة أو يكيف عاداته الفكرية معها، يتلاشى العجب. الهدف الأساسي للعلم، في نظر ماخ، هو إزالة الغموض والتخلص من المفاجأة. فالعلم يُمكِّن العقول النشطة من استيعاب ما هو جديد بسرعة، مما يجعل الدهشة غير ضرورية. كما قال: " الجدة تثير الدهشة لدى الأشخاص الذين اهتزت عاداتهم الفكرية وتشتت بسبب ما يشاهدونه. لكن عنصر الدهشة لا يكمن أبدًا في الظاهرة أو الحدث الذي يتم ملاحظته، بل مكانه في الشخص الذي يراقب." الأفراد ذوو العقول الأكثر نشاطاً يسعون على الفور لتكييف أفكارهم بما يتماشى مع ما لاحظوه، وهكذا يصبح العلم في النهاية العدو الطبيعي للدهشة."(26)

باختصار: يرى ماخ أن العلم، في جوهره، ليس أكثر من تنظيم للانطباعات الحسية وتكييف للعقل مع الواقع. هذا التعريف يجعل من العجب ظاهرة مؤقتة ناتجة عن عدم تكيّف الفكر مع الظواهر الجديدة. ولكن، في هذا السياق، يبدو أن العلم يتعارض مع الشعور بالدهشة. إذ أنه من الواضح أنه لن يكون هناك مجال للدهشة عندما يتكيف عقل الإنسان مع مجموعة من الانطباعات الحسية. بل، وفقًا لهذا الافتراض، يجب أن يكون العكس هو الصحيح. وهذا يعني أن العلم لا يقتصر على تدمير الدهشة، بل يترك الإنسان أيضًا مع شعور بخيبة الأمل. فالتكيف في النهاية يؤدي إلى إدراك أن الأشياء تصبح بديهية وتفقد قيمتها العملية. وهذا هو جوهر مبدأ ماخ. كما يقول: " في الواقع، كل تقدم تنويري يتم إحرازه في العلم يصاحبه شعور معين بخيبة الأمل. فنحن نكتشف أن ما بد لنا رائعًا ليس أكثر روعة من الأشياء الأخرى التي نعرفها غريزيًا ونعتبرها بديهية... حيث يتبين أن لغزنا لم يعد لغزًا؛ فهو يختفي في العدم، ويأخذ مكانه بين ظلال التاريخ."(27)

باختصار، يتسم موقف ماخ بالوضوح والشفافية، لكنه ليس مستندًا بشكل مباشر إلى تجربته الشخصية كعالم. بل هو تعبير عن تفسيره الفلسفي لعلم الميكانيكا.(28)

وعند الانتقال إلى وجهة نظر أينشتاين، نجد أنفسنا في بيئة مختلفة تمامًا. كان أينشتاين على دراية تامة بأعمال ماخ التاريخية والفلسفية، بل إنه أشار إلى أن لها تأثيرًا إيجابيًا معينًا على نشوء نظريته النسبية.(29)

ومع ذلك، لم يقتصر الأمر على عدم توافق آينشتاين مع وجهة نظر ماخ حول العجب، بل إنه تمسك بوضوح بفرضية معاكسة تمامًا. بالنسبة له، لا يوجد أدنى شك في أن العلم، بدلاً من أن يقضي على العجب، يسهم فعليًا في تحقيقه. فكلما زادت الدهشة، زاد تقدم العلم نفسه. فما هو السبب وراء إدانته؟ يمكننا أن نقول بثقة إن هذا السبب يعود إلى تجربته الشخصية كمبدع علمي. يظهر نص واحد بشكل خاص، وهو جزء من رسالة خاصة إلى صديق، المصدر التجريبي لقناعة آينشتاين بوضوح. يقول: "أنت تعتبر أنه من الغريب أنني أرى العالم (بقدر ما يمكننا الحديث عنه) كأعجوبة أو لغز خارجي. يجب أن نتوقع بشكل بديهي وجود عالم لا يمكن فهمه بأي شكل من الأشكال بواسطة الفكر. يمكن للمرء (وهذا أفضل، ينبغي) أن يتوقع أن العالم يجب أن يظهر أنه يخضع للقانون فقط بقدر ما نتدخل من خلال تنظيمه بأنفسنا. سيكون ذلك نوعًا من النظام مثل الترتيب الأبجدي. على النقيض من ذلك، فإن نوع الانتظام الذي ينتج، على سبيل المثال، من نظرية نيوتن في الجاذبية، له طابع مختلف تمامًا، على الرغم من أن بديهيات النظرية قد وضعت."(30)

ومع ذلك نجد ماكس بلانك يؤكد أن العجب ليس مجرد تجربة عابرة ترافق بدايات العلم، بل هو عنصر يتزايد مع كل تقدم علمي. ويستند هذا العجب إلى خصائص أساسية تتعلق بوحدة القوانين الطبيعية وتوسع نطاقها غير المتوقع. يشدد بلانك على أن العجب في العلم ينبع من التفاعل مع نظام الكون الموحد والمترابط. هذه الوحدة، إلى جانب النطاق غير المتوقع للقوانين الطبيعية، تجعل العلم وسيلة دائمة لتوسيع آفاق الإنسان وتعزيز شعوره بالدهشة أمام روعة العالم. كما يقول بلانك: "إذا نظرنا إلى الأمر بعمق، فإن العجب الحقيقي يكمن في أننا نواجه قوانين طبيعية تنطبق على البشر من جميع الأجناس والأمم. وهذه حقيقة ليست بديهية على الإطلاق. والعجب الآخر هو أن جزءًا من هذه القوانين، بالنسبة لمعظم الناس، له نطاق لا يمكن توقعه مسبقًا، مما يزيد من عنصر العجائب في بنية الصورة الكونية مع اكتشاف كل قانون جديد."(31)

يتعلق الأمر بالطريقة الغريبة التي يتغير بها العلم نفسه على مر القرون. من حيث المبدأ، لا ينبغي لأحد أن يفاجأ بتغير العلم. فالأشياء تتغير بمرور الوقت، والرجال يتغيرون أيضًا. ومن ثم، فمن المتوقع أن تكون معرفة الإنسان بالطبيعة عرضة للتغيير. ومع ذلك، فإن قابلية العلم للتغيير تثير الدهشة لأن كل المستجدات التي يكتشفها العلم لا تمحو النظرة العلمية السابقة للعالم، ولكنها ببساطة تعمل على تحسينها واستكمالها. وهذا أمر مثير للدهشة لأنه يبدو ظاهرة فريدة في تاريخ البشرية. للاستشهاد بلانك، مرة أخرى،:"لكن الظرف الذي يدعو إلى دهشة أكبر من أي وقت مضى، لأنه ليس أمرا بديهيا بطبيعة الحال، هو أن صورة العالم الجديد لا تمحو الصورة القديمة، بل تسمح لها بالوقوف في كليتها، و ويضيف فقط شرطًا خاصًا لها... بينما يتكشف العدد الكبير من الظواهر الطبيعية التي يتم ملاحظتها في جميع المجالات بغزارة أكثر ثراءً وتنوعًا، فإن الصورة العلمية للعالم، المشتقة منها، تتخذ دائمًا شكلاً أكثر وضوحًا وتحديدًا. إن التغيرات المستمرة في الصورة العالمية لا تعني بالتالي تذبذبًا غير منتظم في خط متعرج، بل تعني تقدمًا وتحسنًا واكتمالًا".(32)

وبهذا يمثل تطور العلم بالنسبة لبلانك عملية مدهشة لأنها تتميز بخصائص التراكمية والوضوح المتزايد. هذه الظاهرة، التي تجمع بين التغير المستمر والحفاظ على المكتسبات السابقة، تجعل العلم أكثر من مجرد نشاط معرفي؛ إنه رحلة مستمرة نحو الكمال، مما يعزز العجب والإعجاب في قلوب العلماء والمتأملين.

و في ختام التأمل في أعجوبة العلم، يبرز الفيزيائي لويس دي برولي سؤالًا أساسيًا: لماذا يمكن للعلم أن يوجد أصلًا؟ يشير دي برولي إلى أن وجود العلم نفسه هو أعجوبة تتجاوز الاكتشافات الفردية، إذ إنه يكشف عن توافق مذهل بين العقل البشري وقوانين الطبيعة.

خلاصة القول: يتضح أن العجب والعلم مرتبطان بشكل وثيق، ليس فقط كحالة نفسية تنطلق منها عملية الاكتشاف العلمي، بل كخاصية أساسية تتجدد مع كل تقدم علمى للطبيعة. فالمبدعون الكبار في العلم هم الأكثر شعورًا بالدهشة، لأنهم يقفون في مواجهة مباشرة مع النظام الدقيق للطبيعة. وبدلاً من أن يُفهم العلم كعملية باردة تحل الألغاز وتزيل الغموض، يتضح أنه تجربة إنسانية متكاملة تعيد للإنسان إحساس العجب والدهشة. بهذا، يصبح العلم مصدرًا لإثراء الروح الإنسانية وتعميق رؤيتنا للعالم والطبيعة.وعليه، يمكن القول إن العجب هو جوهر العلم وروحه الحية، وهو ما يجعل العالم والطبيعة أكثر إشراقًا وإلهامًا مع كل اكتشاف جديد.(33)

3- الدهشة الفلسفية

تُعتبر الدهشة الفلسفية من الخصائص الجوهرية للتفكير الفلسفي، حيث تمثل حالة ذهنية يتغير فيها تصور الإنسان للأشياء، مما يجعلها تبدو مختلفة عن مظهرها المعتاد. في هذه الحالة، تتلاشى المعاني التقليدية التي يدركها العقل، مما يفتح المجال للتساؤل والاستكشاف. تنبع الدهشة هنا من الجهل أو نقص الفهم الكافي، وهما عنصران أساسيان يحفزان التفكير الفلسفي ويعكسان المرحلة الأولى في رحلة البحث عن المعرفة. من خلال هذه الدهشة، يبدأ الفيلسوف في طرح الأسئلة التي تقوده إلى اكتشافات جديدة وفهم أعمق للعالم من حوله.(34)

الدهشة الفلسفية ليست مجرد فضول عابر، بل هي تأمل عميق بامتياز. فهي لا تكتفي بتفسير الظواهر، بل تسعى لاكتشاف معانٍ أعمق وراءها. من خلال تحليل المعاني التقليدية للأشياء، تهدف الدهشة الفلسفية إلى تجاوز التفسيرات السطحية وكشف القيود الخفية التي تحيط بها. وبهذا، تصبح الدهشة أساسًا للفلسفة، حيث تعمل كمحفز للتساؤل المستمر والبحث الذي لا ينتهي. وقد أشار أرسطو إلى أن الدافع الأساسي وراء الدراسات الفلسفية هو الدهشة، وهو ما بدأ به الفلاسفة اليونانيون الذين اعتبروا أن التفكير الفلسفي ينطلق عندما تتعطل المعرفة التقليدية ويشعر العقل بدهشة تدفعه للبحث عن الحقيقة.(35) ولهذه الدهشة الفلسفية خصائص عديدة منها:

1- الدهشة الفلسفية تتطلب نوعًا من المعاناة الذهنية والعاطفية، حيث تنبع من حالة التوتر والقلق التي يختبرها الإنسان عند مواجهته للأسئلة الجوهرية المتعلقة بالوجود والمعنى. هذه الدهشة ليست مجرد شعور عابر، بل هي حالة دائمة من التساؤل العميق، تتطلب من الفرد القدرة على الاستمرار في طرح الأسئلة دون انقطاع. إنها دعوة للبحث المستمر عن الحقيقة والتأمل في الأبعاد الأكثر عمقًا للواقع، مما يدفع الفيلسوف إلى تجاوز الإجابات السطحية والسعي نحو أفكار ونظريات تفسر الظواهر من منظور أوسع.

2- الدهشة الفلسفية تُعتبر السؤال الجوهري الذي ينطلق منه الفكر الفلسفي، وهو يتجلى في سؤال "ما هو الوجود من حيث هو موجود؟" هذا السؤال لا يركز على الوجود الفردي أو المحدد للأشياء، بل يتناول الوجود في جوهره وعناصره الأساسية. إنه تساؤل عميق يعكس السعي نحو فهم شامل للواقع كما هو، بعيدًا عن التصورات التقليدية. هذه الدهشة تُعد مصدرًا لكل تساؤل فلسفي آخر، حيث تدفع الفيلسوف إلى محاولة فك رموز المعنى الكامن وراء الوجود والبحث عن تفسير أعمق لماهية الأشياء، مما يفتح أمامه آفاقًا لا حصر لها من التأمل الفلسفي.

3- الدهشة الفلسفية تمثل الفعل الذي يدفع الإنسان لتجاوز حدود عالمه المألوف، ويشجعه على الخروج من نطاق ذاته المحدودة ليتأمل في أعمق الأسئلة الوجودية. إنها لحظة من الوعي العميق تفتح أمام الإنسان آفاقًا جديدة للتفكير، مما يمكّنه من استكشاف معانٍ ومعارف تتجاوز تجربته الشخصية وعالمه الحسي. من خلال هذه الدهشة، يسعى الإنسان للتفاعل مع الوجود بشكل أوسع، محاولًا فهم القوانين الكونية والحقائق الكامنة وراء الظواهر، مما يقوده إلى رحلة من التفكير المستمر والمستقل.

4- الدهشة الفلسفية تحول النظرة التقليدية واليومية إلى العالم إلى رؤية أعمق وأشمل، حيث تتحرر من أي أغراض عملية أو نفعية. إنها سعي غير مشروط نحو المعرفة من أجل المعرفة ذاتها، بعيدًا عن أي أهداف خارجية أو منافع مباشرة. في هذه اللحظة، لا يكون الهدف من التفكير هو إيجاد حلول للمشكلات الحياتية أو تحسين الظروف الراهنة، بل هو السعي لفهم الحقيقة في جوهرها، دون تحيز أو مصلحة. وبهذا، تصبح الفلسفة رحلة تأملية في الأسئلة الكبرى المتعلقة بالوجود والواقع، حيث تتجاوز الفرد لتتناول المفاهيم الكونية والعامة.

5- الدهشة الفلسفية تنبع من أعماق الإنسان وتجربته اليومية، حيث تبدأ تساؤلاتها من تجاربه الشخصية وواقعه المعيش. فهي ليست منفصلة عن العالم الإنساني، بل تنبع من فهم أعمق لوجود الإنسان ذاته. من خلال هذه الدهشة، يسعى الفيلسوف إلى استكشاف معاني الحياة والوجود، ويتساءل عن جوهر الإنسان وكينونته، محاولًا اكتشاف الحقيقة التي تتجاوز الظواهر والأحاسيس المألوفة. وبالتالي، تكشف هذه الدهشة الفلسفية عن طبيعة الإنسان وتحدياته، وتدفعه لإعادة التفكير في معاني الحياة والوجود والعلاقات بين الأفراد والمجتمع.(36)

وسوف نتتبع حركة الفكر الفلسفى لمعرفة مواقف بعض الفلاسفة من الدهشة ، فلقد رأى كل من أفلاطون وأرسطو أن الدهشة تشكل المحرك الأساسي للفكر الفلسفي. بالنسبة لأفلاطون، يُعتبر الاندهاش نقطة البداية لكل شيء، وهو الشرارة التي تحفز التساؤلات في عقل الفيلسوف حول العالم والوجود. ويعبر أفلاطون عن ذلك بقوله: "لا يوجد أصل أو مبدأ آخر في الفلسفة سوى رثاء الاندهاش"، مما يدل على أن الدهشة هي ما يدفع الإنسان للبحث عن المعرفة الحقيقية. من جهته، يؤكد أرسطو أن الدهشة هي التي حفزت البشر على التفكير الفلسفي وممارسة البحث العقلي حول العالم والحياة. وفقًا لأرسطو، يُعتبر الاندهاش بداية عملية التفكير الفلسفي، حيث يدفعنا للتساؤل عن الأمور التي نعتبرها عادة مسلمات في حياتنا اليومية.(37)

وعند تأملنا في هذه العبارات، يمكننا تحديد ثلاثة عناصر رئيسة للفلسفة:

أولاً: هناك "تجربة داخلية ترافق تصورنا للعالم" تعكس نوعًا من الوعي. قد ترتبط هذه التجربة بتقديرنا للظواهر الطبيعية أو الفلسفية التي تبدو معقدة أو غامضة، مما يثير فينا شعورًا بالشفقة تجاه محدوديتنا في فهم أو إدراك هذه الظواهر. هذا النوع من "الشفقة" يمكن أن يكون إدراكًا مدهشًا لوجود أشياء لا نستطيع السيطرة عليها أو فهمها بشكل كامل، لكنه يثير فينا الرغبة في الفهم والتفسير. الطبيعة، مثل أمواج البحر وحركة النجوم، تثير تساؤلات حول أصلها ومعناها، مما يدفعنا للبحث عن إجابات. قد تبدو بعض الأمور بديهية للبعض، لكن هذه الظواهر العادية تصبح مليئة بالدهشة عندما ننظر إليها من منظور فلسفي أو تأملي. كما أشار أرسطو، تلعب حواسنا، وخاصة حاسة البصر، دورًا مهمًا في دفعنا نحو التفكير والتفسير. حواسنا هي الوسيلة التي نتفاعل بها مع العالم من حولنا، ومن خلالها نلاحظ أشياء قد تبدو طبيعية، لكنها تحمل في طياتها أسرارًا ومعجزات تتطلب منا التأمل والتحقيق. إن هذا الشعور بالدهشة والتساؤل عن العالم هو ما يحفز الفكر الفلسفي ويساهم في تطوره.

ثانيا: نجد أنفسنا في حالة من الإعجاب أمام هذا العالم الغريب الذي يبدو كأنه يحمل أسرارًا خفية. يوجهنا حدسنا إلى أن هناك نظامًا كونيًا متخفيًا في طيات هذا العالم المدهش، ومع ذلك، فإنه يكشف عن نفسه لعقولنا الفضولية. إن تجربة الإعجاب المرتبطة بهذه الدهشة تدفعنا إلى الاقتناع بأن العالم في جوهره هو كيان واحد متماسك، حيث يتعين علينا التمييز بين الجوهر والمظهر. إن ظهور العديد من الظواهر التي نلاحظها يرتبط بطريقة ما بجوهر النظام الداخلي لكل شيء. فهم هذا الجوهر والنظام الكوني ليس بالأمر السهل. إن الدهشة والإعجاب تدفعاننا للقيام بما هو مطلوب، وهو ممارسة التأمل والتفكير. وليس في قدرتنا أن نرى هذا النظام الكوني الخفي وهو يكشف عن نفسه، بل يتجلى فقط من خلال الفكر.

إن التمييز بين عالم الإدراك المتعدد الأبعاد وعالم الفكر الموحد يعكس أيضًا الفارق بين الباطن والظاهر، والداخلي والخارجي. لا يمكن اكتشاف الجوهر الداخلي للعالم وحقيقته إلا من خلال العقل الداخلي. يتماشى جوهر العالم مع العالم الداخلي للعقل. بينما يتجلى العالم من خلال سلسلة لا نهائية تقريبًا من الظواهر، فإن هذا يتوافق مع الإدراك الخارجي. في تاريخ الفلسفة، كانت الحقيقة المتعلقة بهذا العالم الخارجي هي الهدف الرئيسي للفلاسفة؛ وفي النهاية، تمكنت الفلسفة من اكتشاف العالم الداخلي للعقل البشري عبر مسيرتها.

ثالثًا: من عناصر الدهشة الفلسفية: الافتراض بأن جوهر العالم ذو طبيعتين متباينتين ومتكاملتين، الأولى ثابتة ومقررة تعكس النظام والتناغم الكوني، والثانية متحركة ومتغيرة تعبر عن التحول والصيرورة المستمرة. هذا التباين يصبح واضحًا عندما نتأمل في الطبيعة؛ فبينما تبرز الطبيعة ديناميكيتها وحركتها الدائمة من خلال تغير الفصول أو حركة الأجرام السماوية، فإن الفكر الإنساني، خاصة عند التعبير عنه كتابة، يسعى لتثبيت المعاني وتحديدها ضمن قوالب ثابتة. إن هذه التجربة الجوهرية لتعارض الوجود والصيرورة ليست مجرد تناقض، بل هي الدافع وراء السؤال الفلسفي الأساسي الثالث الذى يشغل الفلسفة بأكملها: كيف يمكن فهم العلاقة بين ما هو ثابت ومطلق، وما هو متغير ومتجدد؟.

هكذا تؤدي الدهشة إلى الفلسفة: إن جوهر العالم، الذي يتجاوز مجرد الإدراك، هو كيان متماسك واحد. يتم التعبير عن هذا الجوهر من خلال العقلانية البشرية. هناك ارتباط ما بين المفاهيم الأبدية للعقل البشري وتنوع الطبيعة وزوالها. هذه التأملات قادت الفلسفة اليونانية في بداياتها إلى محاولة الإجابة عن ثلاثة أسئلة أساسية: ما هو جوهر العالم وما الذي يجعل منه كيانًا متماسكًا؟، كيف يمكن لـالعقل البشري أن يعبر عن هذا الجوهر الكوني؟ و ما العلاقة بين المفاهيم الأبدية والتغير المستمر في الطبيعة؟.(38)

تبدو الفلسفة الغربية وكأنها تنطلق من دهشة أفلاطون الناتجة عن إدانة المدنية لسقراط والحكم عليه بالموت. يتساءل أفلاطون: لماذا لم يُفهم سقراط؟ ولماذا أُدين هذا الرجل الذي لم يُسئ إلى أحد، بل كان مواطنًا طيبًا وشجاعًا؟ رجل اكتفى بدعوة الناس إلى معرفة أنفسهم، وردّ العالم إلى العقل الذي أنشأه. عندما يقرأ الإنسان أفلاطون، يشعر بوضوح أنه ينظر إلى ما حدث وكأنه فضيحة حقيقية. ورغم أن مثل هذه الفضائح لم تكن دائمًا بهذا العنف كما كان الحال مع موت سقراط، فإنها تستمر وتتكرر. ويبدو أن نسبة تكرارها تتناسب مع حزن الفيلسوف حين يلاحظ أن الحقائق التي يرى أنها أساسية ومهمة تُقابل بالعناء والاحتقار، رغم أنها الحقائق التي يجب أن تفرض نفسها على كل ضمير نزيه. وهكذا، يبقى صوت سقراط، الذي خنقته المدينة، حاضرًا في عقولنا كنداء عاطفي يدعونا إلى التحاور مع الآخرين عبر العصور، ونعني هنا التحاور الفلسفي الذي يسعى لفهم الإنسان والعالم.(39)

إذا كانت المعرفة تبدأ بالإحساس، فإنه من الضروري تحليل هذا الإحساس والحكم عليه باستخدام الفهم، وصولًا إلى الفهم الخالص الذي يصوغه العقل في شكل فكرة. يتعلق الأمر هنا بالخروج من كهف أفلاطون، ومغادرة عالم المظاهر والظنون للانطلاق نحو التأمل في الحقيقة. فالظن لا يصمد طويلًا أمام اختبار النقد، ولهذا يتطلب الوصول إلى المعرفة عملاً شاقًا للتحقق من مضامين الأفكار، إما لإثباتها أو لرفضها، في سبيل تحقيق فهم أعمق وأكثر رسوخًا للحقيقة.(40)

وهكذا، فإن التفلسف يقتضي الفهم كأساس للتعلم والمعرفة، تلك المعرفة التي تقوم على الذوق والإدراك الواعي. كما يتطلب تحرير أفكارنا من الانفعالات والأوهام التي تشوشها. ومن هذا المنطلق، تصبح الفلسفة رغبة حقيقية في المعرفة، وهي تتطلب ما تتطلبه أي عرفة جادة: أدلة وبراهين واضحة يمكن أن تُنشر وتُعمم، وتفرض نفسها على كل العقول اليقظة، واعدة بالوصول إلى الحقيقة. علاوة على ذلك، تتسم الفلسفة بطابع نقدي، إذ تجعل من المعارف المكتسبة موضوعًا لها، متسائلة عن طبيعتها، ومداها، وحدودها. ومن خلال هذا النقد، نكتشف أن وراء كل فكرة توجد الذات التي جعلتها ممكنة. بذلك تظهر الفلسفة كمعرفة للمعرفة، تهدف إلى فهم أعمق لأصل الأفكار ومضمونها.(41)

يتضح موقف أرسطو هنا من مقولته الشهيرة التي تربط بين الدهشة والتفلسف: "لقد بدأ الناس بالتفلسف من خلال الدهشة." يمكن تعليم الآخرين كيفية استخدام تقنيات الفلاسفة، لكن لا يمكن تعليمهم إثارة الدهشة، لأنها شعور ذاتي ينبع من الفضول الداخلي والقدرة على رؤية العالم بمنظور جديد.(42)

لا شك أن الإنسان السعيد هو الذي لا يظل عالقًا في نفس الاتجاه، بل هو الذي يحول نظره بعيدًا عن الرؤية العامة، من يُحسن إحباط الوهم، ويتوجه نحو السعي للمعرفة. يمتلك هذا الشخص مرونة فكرية وحيوية تؤهله للازدهار العقلي، حيث يبني فكره من خلال استثمار المعرفة بطريقة ديناميكية. وكان شوبنهاور (Arthur Schopenhauer) يرى أن الفلسفة تنبع من العقل ومن وجودنا الذي يفرض نفسه أمامه، بوصفه لغزًا يثير في الإنسان رغبة مستمرة في البحث عن حلول له.(43)

***

ا. د. ابراهيم طلبه سلكها

......................

الهوامش

1- لورانس ڤانين- ڤيرنا: الإنسان المهموم "العلاجيات الفلسفية"، ترجمة: محمد شوقي الزين، دار الروافد الثقافية، ط1، 2023، ص 31.

2- ضحى الطلافيح: مفاهيم فى الفلسفة، ماذا تعنى الدهشة الفلسفية؟ ، عالم الفلسفة، 22ديسمبر 2022م شبكة المعلومات الدولية النت، 25/7/2023م

*ولدت جان هاش فى جنيف سنة 1910، وبعد مسار دراسى فلسفى طويل تتلمذت فيه على يد ياسبرز، وعرفت فيه فلاسفة كبارا من قبيل هيدجر، انتهى بها المطاف استاذة فلسفة فى بكلية جنيف،ورئيسة قسم الفلسفة باليونسكو، بالاضافة الى تمثيلها سويسرا فى الجهاز التنفيذى لهذه المنظمة.كان تأثيرها حاسما فى تدريس الفلسفة وفى تاريخها، وحصلت اعترافا دوليا بقيمتها فكريا وآدبيا.خلفت العديد من الكتب والدراسات والترجمات، من بينها " الوهم الفلسفى "1936، و" العدو هو العدمبة "1981، بالاضافة الى ترجمة عدد من أعمال الفيلسوف الألمانى كارل ياسبرز.. توفيت سنة 2000.( جان هارش: الدهشة الفلسفية تاريخ للفلسفة، ترجمة محمد آيت حنا، منشورات الجمل، بيروت، لبنان، 2019، ص 1)

3- جان هارش: الدهشة الفلسفية، تاريخ للفلسفة، ترجمة محمد آيت حنا، منشورات الجمل، بيروت، لبنان، 2019، ص 4

4- د.فارس راتب الأشقر: فلسفة التفكير ونظريات فى التعلم والتعليم،دار زهران للنشر والتوزيع، المملكلة الأردنية الهاشمية، ط1، 1431ه- 2011م، ص 6

5- المرجع نفسه، ص7

6- لورانس ڤانين- ڤيرنا: لماذا نتفلسف؟ سبل الحرية، ترجمة: محمد شوقي الزين، دار الروافد الثقافية، ط1، 2021، ص ص 29- 30.

7- المرجع نفسه، ص 41.

8- المرجع نفسه، ص ص 41- 42.

9- المرجع نفسه، ص 34.

10- المرجع نفسه، ص 56

11- المرجع نفسه، ص ص 56- 57.

12- عبد الغفار مكاوي، مدرسة الحكمة، مؤسسة هنداوى سى آى  سى، ص ص 57

راجع أيضا

جان هارش: الدهشة الفلسفية، تاريخ للفلسفة، ترجمة محمد آيت حنا، منشورات الجمل، بيروت، لبنان، 2019، ص ص 5- 9

13- علي صبيح التميمي، الدولة في الفلسفة السياسية، نظرية بناء الدولة، دار أمجد للنشر والتوزيع، ج1،ط 1، 2016 ، ص ص26- 28

14- د. عبد الله شمت المجيدل، تطور الفكر الفلسفي من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة المعاصرة، ص 35.

15- Cantore، Scientific Man. The Humanistic Significance of Science (New York: ISH Publications، 1977)، p- 95.

16- Der Teil und das Ganze: Gespräche im Umkreis der Atomphysik (Munich: Piper، 1969)،p- 600

17- E. Cantore، Op- Cit، p- 95.

18- Ibid،p- 96

19- Loc- Cit

20- F. Bello in P.C. Obler، and H. Estrin، eds.، The New Scientists: Essays on the Methods and Values of Modern Science (New York: Doubleday Anchor Books، 1962)، p. 81.

21- E. Cantore، Op- Cit، p- 97

22- B.T. Eiduson، Scientists: Their Psychological World (New York: Basic Books، 1962)، p. 110.

23- M. Born، My Life and Views (New York: Scribner، 1968)، pp. 47f.

24- L. de Broglie، Physics and Microphysics، trans. M. Davidson (New York: Grosset & Dunlap، 1966)، p. 208.

25- E.Cantore، Op- Cit، p- 99

26- E. Mach، “On Transformation and Adaptation of Scientific Thought،” in his Popular Scientific Lectures، trans. T.J. McCormack (La Salle، Ill.: Open Court، 1943)، pp. 214- 235، especially p. 224.

27- E. Mach، “The Economical Nature of Physical Inquiry،” in Popular Scientific Lectures، pp. 186- 213، especially p. 41.

28- E.Cantore، Op- Cit، p- 99

29- Einstein’s Autobiographical Notes، in P.A. Schilpp، ed.، Albert Einstein، Philosopher- Scientist (New York: Harper Torchbooks، 1959)، p. 21

30- Einstein، Lettres à Maurice Solovine (Paris: Gauthier- Villars، 1956)، p. 114; letter dated March 30، 1952.

31- M. Planck، Scientific Autobiography and Other Papers، p. 93

32- Ibid، pp. 98- 100.

33- E.Cantore، Op- Cit، p- 106

34- Anders Schinkel: "Wonder، Mystery، and Meaning"، published onlinen: 29،Nov2018،p- 293

35- د.عبد الله شمت المجيدل، مرجع سابق، ص 35

36- عبد الغفار مكاوي، مدرسة الحكمة، مؤسسة هنداوى سى آى  سى، ص ص 80 - 95(بتصرف)

37- Robbert Veen:Introduction to philosophy ، Three elements of philosophy،August 25،2018،p- 1

38- Loc- Cit

39- فريناند ألكييه: معنى الفلسفة، ترجمة: حافظ الجمالي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999، ص 36.

40- المرجع نفسه، ص ص 42- 43.

41- المرجع نفسه، ص 66.

42- Oleksandr Kulyk: On the Possibility to Teach Doing Philosophy، ASIANetwork Exchange A Journal for Asian Studies in the Liberal Arts، December 2018،pp- 4- 7

43- لورانس ڤانين – ڤيرنا: لماذا نتفلسف؟ سبل الحرية، ص 40.

 

لم يكتب نيتشه لذوي الأذهان المشتتة او المتسرعين او المستريحين. هو اعتقد ان الكتاب يتطلب جهداً، يحرّض على المقاومة، ويترك بصمة له. في السنوات الأخيرة، كان هناك انتشارا هادئا للمقالات والكتب والكتيّبات تدعو القرّاء ليتجهوا للنصوص، وخاصة النصوص من غير الروايات، بعناية كبيرة واهتمام وبشك. من تقنيات القراءة السريعة الى بيانات في مدح التباطؤ، اصبح السؤال عن الكيفية التي يجب ان نقرأ بها هو الشغل الشاغل في عصر التشتت العالمي.

من الملائم اذن ان أي تفكير حول القراءة اليوم يجب ان يبدأ بفعل القراءة ذاته. وقبل وقت طويل من هذا الإنتعاش المعاصر، كان فردريك نيتشة (1844-1900) سلفا جعل فعل القراءة مركزيا في تفكيره.

قيل عادة، ان الفلاسفة مالوا لتجاهل عمل نيتشة الفلسفي، بينما الاكاديميون الكلاسيكيون من جهتهم نادرا ما اعتبروه كواحد منهم. وفي العقود التي تلت وفاته، بقيت هذه المظاهر لنتاجاته الاكثر انسجاما مع الدراسات الاكاديمية الكلاسيكية متجاهلة. على سبيل المثال، عندما سعى والتر كوفمان لإعادة تأهيل سمعة نيتشة في العالم الناطق بالانجليزية في الخمسينات من القرن الماضي، وفك الاشتباك بين تفكيره وظلال الاشتراكية القومية، لم تنل كتاباته الاكاديمية المبكرة اهتماما كبيرا.

وفي العقود الاخيرة، تمت استعادة نيتشة العالم اللغوي philoglogist بشكل تدريجي نتيجة التقدير الكبير للأعمال المطبوعة لأثنين من المختصين الايطاليين وهما ورجيو كولي ومازينو مونتيناري الذين أنتجا طبعات موثوقة لكتاباته بما في ذلك مراسلاته ومقاطع ما بعد الوفاة. اليوم، يقف الكلاسيكي نيتشه على أرض صلبة بجانب شخصيته الاخرى ذات التوجهات الفلسفية الواسعة.

بدأت انطلاقة نيتشه في الدراسة الاكاديمية الكلاسيكية في شولبفورتا، وهي مدرسة داخلية انسانية قرب ناومبورغ في ساكسونيا، تأسست المدرسة في القرن السادس عشر كأكاديمية رهبانية. أنتجت المدرسة جيلا بارزا من الخريجين، من ضمنهم الشاعر نوفاليس وفيشته والاخوين شليغل (فردريك واوغست). سيتبع نيتشه من هناك ويلاموفيتز، ناقده المستقبلي. ومن شولبفورتا، تقدّم نيتشة الى جامعة بون حيث كان يدرس تحت اشراف اوتو جان وفردريك ريتشل. الاخير وهو الممثل الصارم للتقاليد اللغوية لريتشارد بنتلي، أثّر بعمق على اتجاه نيتشه في التحليلات اللغوية والنقد النصي. وعندما انتقل ريتشل الى لايبزيغ، تبعه نيتشه ممضيا أربع سنوات مفصلية بين عامي 1865 و1869.

ضمن هذا التقليد، بدأ نيتشه عمله المهني كعالِم لغوي تقليدي: منهجي، دقيق، متمسك بشدة بالأساليب العلمية التخصصية لأساتذته. في عام 1869، اُعتبر نيتشه على نطاق واسع كمعجزة تسنده مرجعية ريتشل المتوهجة.  هو عُيّن في كرسي علم اللغة الكلاسيكية في جامعة باسيل دون ان يكمل اطروحة الدكتوراه.

كانت التحولات قد حدثت سلفا قبل تولّي نيتشه لمنصبه الرسمي. هذه كانت سنوات من الاضطراب العلمي والفلسفي السريع الذي شهد نشر نظرية دارون في التطور وكتاب تاريخ المادية (1866) لفردريك البرت لانغ. وفي نفس الوقت تقريبا، التقى نيتشه بـ واغنر واكتشف شوبنهاور. هذه التأثيرات مجتمعة أعادت تشكيل الافق الفكري لنيتشه وبدأت بسحبه بعيدا عن الارثودكسية اللغوية التي تشكّل فيها. وفي عام 1875، تخلّى نيتشه كليا عن علم اللغويات. ليس من المستغرب اذن ان نفس الرجل الذي أعلن في (شفق الاصنام) عن عدم ثقته في الأنظمة لم يسع أبدا الى صياغة تفكيره في علم اللغة. مع ذلك، تكشف القراءة الدقيقة لرسائله، ومقاطعه وتأملاته المتناثرة عن إنشغاله الدائم بفن القراءة.

يكتب نيتشة في كتابه (الفجر)،"لتكون لغويا ان تكون مدرسا في القراءة البطيئة. في النهاية انا ايضا تعلمت ان أكتب ببطء. انا طورت اسلوبي فقط من هذا". في هذه الرؤية، يأتي علم اللغة للاشارة الى القراءة اليقظة والقصدية. انه يقدم للقارئ مقياسا للمسافة من النص، فضاءً للجهد، تأملا، وعودة. احيانا، يتطلب الامر صمتا، مثل ذلك الصمت الذي تميز به رهبان القرون الوسطى لتعزيز بطء الروح. يستمر نيتشه ليطرح تشبيها حيا : "هذا الفن في الكتابة، مثل فن القراءة، هو فن غولدسمث (الخبير في الصناعات الذهبية)، فن يتطلب الكثير من الدقة والصبر، ومراقبة التفاصيل".

مما تقدم يبرز المبدأ الثاني: القراءة الصحيحة وبتحدّ هادئ تستبدل الروح السائدة للعمل الحديث والثقافة، التي تمجد السرعة والفاعلية والفهم السطحي. جوهر علم اللغة لا يكمن فقط في مقاومة الأزمان، وانما في السعي لتشكيلها، والإصرار على قيمة التأمل والدقة لأجل عصر لم يأت بعد. هذا الطموح هو الذي وصفه ويلاموفتيز بـ "فلسفة نيتشه للمستقبل": الايمان، قبل كل شيء، بانك لكي تقرأ بشكل صحيح هو ان تقرأ ببطء.

مع ذلك، البطء وحده لايكفي. نيتشه أصر ايضا على نوعية الانخراط. لكي يقرأ جيدا، يجب على المرء ان يكون نشطا بدلا من ان يكون سلبيا: القراءة ليست استهلاكا وانما مواجهة. هو يطرح اتفاقا ملزما بين اولئك الذين يتذوقون النص ويصارعون معه، واولئك الذين يسخر منهم ويصفهم بـ "المتسكعين": ناهبون يسلبون الأعمال من أجل الشعارات، ويتركون الباقي في حيرة. في كتابه انسان انساني جدا: كتاب الارواح الحرة ( Human, all too human)(1)، هو يشبّه هؤلاء القرّاء بجنود النهب. بالمقابل، القارئ المنضبط يشبه صائغ الروح، يصقل رؤاه بصبر في وعاء صهر الصعوبة.

في هذا الشأن، كان نيتشه يكتب للقلة. هو أعلن بوضوح مرات ومرات ان كتبه ليست موجهة لكل قارئ وانما لـ "القارئ المثالي": الذي يجمع بين الفضول والشجاعة والصبر. في كتابه شخص فريد (Ecce Homo) (2)هو يسمي مثل هذا الشخص بـ "وحش الشجاعة والفضول". هذه ليست مُثل ديمقراطية للقراءة، وانما هي ارستقراطية، كاستدعاء لاولئك الذين يرغبون ليس فقط بالاتفاق مع نيتشة ولكن للصراع معه وربما ليتم تغييرهم اثناء العملية. في كتابه (انسان انساني جدا ..) يعود نيتشة الى موضوع القراءة كحرفة، ويتعقب ظهورها كإنجاز بطيء وشاق.  هو يكتب "انتاج وحفظ النصوص، الى جانب تفسيراتها، بقيت لقرون عمل حرفي، قادت فقط  تدريجيا الى اكتشاف طرق ملائمة. كل القرون الوسطى كانت غير قادرة على تأسيس اتجاه علم لغة سليم، والذي هو، رغبة أساسية لفهم ما يعنيه المؤلف". الحكم تميّز بالجدل. نعم، سيكون تقصيرا اذا تجاهلنا حقيقة ان تعليم القرون الوسطى على الرغم من كل القيود الظاهرة، حفظ ونقل العديد من النصوص التي غذت لاحقا النهضة والعلم الحديث المبكر. نيتشه عاد باستمرار للفعل، والى فن القراءة طوال حياته.

في كتابه (المسيح الدجال)(3)، هو يصف القارئ المثالي " كونه يميز الحقائق الواقعية بدون تشويه من خلال عدسة التفسير، بدون التضحية بالتفكير النقدي والصبر او البراعة، في محاولة الفهم". هذه تشكل مبدأ نيتشه الثالث: علم اللغة، صدى للتحقيق وضبط النفس اليوناني، وهو يقف في تضاد مع دافع التفسير المتعجل. انه يقاوم الاغواء لفرض معنى قبل الأوان سواء كان في قراءة الكتب او استهلاك الاخبار، او الحكم على الأحداث المعاصرة.

في هذا، يتوقع نيتشه مشكلة ستشغل لاحقا اللسانيات الحديثة: الانزلاق في المعنى. مثل فرديناند سوسر، هو اعترف بان الكلمات لاتحمل قيمة ثابتة، وانما توجد علائقيا ضمن انظمة من الاختلاف. لذلك فان القراءة تتطلب حساسية حادة ليست فقط لما يقال وانما لكيفية القول وسببه.

القراءة، طبقا لنيتشه، لا تمنح بطبيعتها وبلا شروط  بعض الكتب مكانة راقية، هو اعتقد  انها يمكن ان تسمّم بسهولة كما يمكنها ان تقوّي: "هناك كتب لها قيمة هائلة للروح وللصحة". القارئ يجب ان يجلب التمحيص بالاضافة الى الصبر. الكتب ليست علاجا عالميا، ربما هي عامل للتآكل النشط . هي تقوّض الأصالة، تميل الى الخمول، او تغرق الذات في شعارات. قارئ نيتشه الحقيقي يقترب من الكتب ليس للفرار منها وانما لينمو من خلالها واحيانا ليفكر بخطورة اكبر.

من وجهة نظر نيتشه، القراءة المتأنية والقصدية تعمل كترياق للحداثة وللروح القلقة للعصر الصناعي. لكي نقرأ جيدا ذلك يتطلب عددا من الفضائل الفكرية: تركيز دائم، انفتاح ذهني، معايير نقدية، حساسية، وحكم تأملي. قبل كل هذا يجب على المرء ان يتعلم القراءة قبل الاندفاع للتحليل او التفسير. هذا التأكيد يعكس التزام نيتشه الفلسفي الواسع بالمنظورية، وهو المبدأ الذي بث الحياة بجميع أعماله. في عالمنا المحكوم دائما بالسرعة الخوارزمية والحافز للحكم، دعوة نيتشه للقراءة البطيئة ليست مجرد عادة اكاديمية وانما فعل فلسفي للمقاومة.

الدرس الأخير في رؤية نيتشه للقراءة هو درس صارخ: القراءة الحقيقية ينبغي ان تجرحنا. أحسن الكتب هي ليست تلك التي تهدئ او تؤكد وانما تلك التي تتطلب شيئا منا."في كل ما كُتب" هو قال، "انا أحب فقط ماكتبه شخص ما بدمه". مثل هذه الكتابة لا يتم التخلص منها، وانما يتم تحمّلها. حسب نيتشه، القارئ الحقيقي هو مغامر: يرغب ان يتميز بالمعنى وربما يتحول به.

حين نقرأ بهذه الروح لا نهرب من العالم وانما لكي نعد أنفسنا لمواجهته بحذر ودقة كبيرتين وربما بصدق أكبر.

***

حاتم حميد محسن

........................

Nietzsche’s manifesto for reading, Engelsberg Ideas.July2, 2025

الهوامش

(1) كتاب نيتشه (الانسان،انساني جدا:كتاب الارواح الحرة) نُشر لأول مرة عام 1878، يستدل فيه نيتشه على ان معتقداتنا الدينية وحوافزنا نحو تفسيرات ميتافيزيقية للعالم تتأسس على الخوف والجهل. بالنسبة له، نحن نتعامل مع اللغز ورعب الوجود عبر خلق آلهة ودوغمائيات لكي نريح أنفسنا. يشير الكتاب الى الفكرة بان الناس بطبيعتهم معيبون ومحدودون، غالبا بطرق يمكن التنبؤ بها وحتى عادية. انه يسلط الضوء على القاعدة الحيوانية والمظاهر المعيبة لطبيعة الانسان، بما يشير الى ان تبريراتنا وتصوراتنا عن أنفسنا انما تخفي عنا حقيقتنا التي عادة ما تكون متواضعة.

(2) يشير معنى الكتاب Ecce Homo الى شخص هام جدا، لكن عنوان نيتشه يقدم تباينا ساخرا لهذه الرمزية. شخص هام وفريد، مثال للرجل وفق اعتباراتك وليس كنموذج للاخلاق، ليس رجلا للتقليد او للعبادة.

(3) في كتاب نيتشه (المسيح الدجال) الذي نُشر عام 1895 اعتقد ان الحداثة كانت مرضا احتاج الناس للتحرر منه. من أجل استعادة الغريزة الطبيعية للانسان، يرى نيتشه ان كل الاديان وأولها المسيحية يجب رفضها. كل الفضائل والحوافز يجب ان تأتي من الفرد وليس من دين او دوغما خارجية.  

 

في الفرق بين الإشكال الفلسفي والمشكلة (أو الإشكالية) الفلسفية

خلصنا في المقال السابق إلى أن السؤال الفلسفي يختلف اختلافا جوهريا عن السؤال العادي أو العامي، سواء من حيث طبيعة السؤال أو من حيث مضمونه والغاية منه. واستمرارا في هذه الإضاءات المفاهيمية حول بعض المعدات التي لا مناص للمشتغل بالفلسفة في أن يكون على إلمام واطلاع بها، سنحاول في هذا الصدد أن نبين الفرق بين الإشكال الفلسفي والإشكالية أو المشكلة الفلسفية. وعليه؛ ماذا نعني بالإشكال الفلسفي (Le problème philosophique)؟ وما أبرز سماته وخصائصه؟ وما المقصود كذلك، بالإشكالية أو المشكلة الفلسفية La problématique philosophique)؟ وما سماتها وخصائصها؟

لعل أبرز ما يمكن أن نعرف به الإشكال الفلسفي هو أنه «قضية استفهامية تقتضي الإجابة عنها استحضار أطروحات علمية وفلسفية». مثال ذلك، القول: هل الدولة عادلة أم ظالمة؟. فالقضية هي الدولة عادلة أم ظالمة، وأداة الاستفهام هي كلمة "هل"، وعلامة الاستفهام هي "؟". وإذا بدأنا بتحليل أداة الاستفهام "هل"، فإنها أداة تحيل إلى نمط من الإشكالات المعرفية والفكرية التي تتطلب ليس إجابة واحدة ممكنة، بل إجابتين أو أكثر. ذلك، أن كلمة "هل" هي أداة استفهام تدفعني إلى الإجابة إما بالإيجاب أو السلب. بمعنى، إما تأكيد ما جاء في القضية كون الدولة عادلة أو نفي ذلك، أي اعتبارها ظالمة، بالرغم من أنه يمكن الذهاب نحو احتمال ثالث مفاده التأكيد والنفي في الأن نفسه؛ أي اعتبار الدولة عادلة في سياقات معينة، وظالمة في سياقات أخرى.

إن اعتبار الإشكال الفلسفي إشكالا معرفيا وفكريا يتطلب الإجابة عنه استحضار أجوبة احتمالية متعددة، يبين الفرق بينه وبين السؤال الفلسفي. فالسؤال الفلسفي لا يقتضي منا سوى إجابة واحدة ممكنة، إذ حينما نقول مثلا "ما الدولة؟"، فإن المبتغى هو تقديم تعريف جامع مانع للدولة، دون الخوض في بعض التفاصيل الإشكالية التي تنتج عن المفهوم ذاته، كأصلها وطبيعتها والغاية منها. بينما الإشكال الفلسفي فهو في صيغته التركيبية يقتضي منا إجابتين أو أكثر. ولذلك، نعتبر الإشكال الفلسفي من بين الأنماط التساؤلية الأكثر تعقيدا مقارنة مع السؤال الفلسفي والأسئلة اليومية المبتذلة، وإن كانت لها قيمتها وأهميته في حياة الإنسان والفكر.

جدير بالذكر، أن للإشكال الفلسفي سمات وخصائص يتسم بها، وإن كانت في بعضها شبيهة بما يتميز به السؤال الفلسفي. يتميز الإشكال الفلسفي بكونه قضية استفهامية تتطلب إجابات ممكنة، وليس إجابة واحدة فقط. وإذا كان كذلك، فإن تقديم إجابات ممكنة لإشكال فلسفي معين، لا يعني بأي حال من الأحوال، تداعي ذلك الإشكال وانهياره، بقدر ما أنه يبقى ممتدا في التاريخ الفكري للإنسانية، إذ يتم إحياؤه باستمرار (نتيجة أزمات معرفية وفكرية) لتقديم إجابات أخرى ممكنة، تتماشى والتحولات العلمية والفكرية لكل عصر أصابته أزمة في أسسه المعرفية والفكرية التي كان يقوم عليها. يتسم الإشكال الفلسفي كذلك، بكونه إشكالا له قصدية معرفية وفكرية ومنهجية، وهي قصدية مرتبطة بفهم الإنسان لذاته والعالم الذي يعيش فيه، وهو بذلك يستدعي من الباحث جهدا عقيلا وذهنيا. وإذا كان كذلك، فإن الإشكالات الفلسفية تتسم بسمة الكونية، إذ حينما نقول "هل الدولة عادلة أم ظالمة؟"، فإننا لا نقصد بذلك دولة بعينها، بقدر ما أننا نبحث عن الأسس النظرية التي تفسر لنا ما إذا كانت الدولة عادلة أم ظالمة، مع تقديم شروط تحقق كل سمة على حدة. وإذا كان الإشكال الفلسفي متسم بهذه السمات والخصائص، فما طبيعة الإشكالية؟ وما خصائصها؟

لا تحدد الإشكالية أو المشكلة في كونها قضية استفهامية، لاسيما، وأنها لا تكتب في صيغة استفهام، بقدر ما أننا نعتبرها «قضية معرفية أو فكرية»، كقولنا "مشكلة الدولة"، أو «مشكلة الجور»، "مشكلة الحرية".. إلخ. وبهذا المعنى، يمكن القول إن الأسئلة الفلسفية والإشكالات الفلسفية، يتم استنباطها من المشكلات المعرفية والفكرية. فإذا انطلقنا من مشكلة الدولة، فإنه يمكن تفريع هذه المشكلة بوصفها قضية معرفية وفكرية إلى أسئلة (ما الدولة؟) وإشكالات (هل الدولة عادلة أم ظالمة؟) فلسفية.

استنادا إلى ذلك، يمكن حصر السمات والخصائص التي تتميز بها المشكلة أو الإشكالية في العناصر التالية: أولا؛ ليست المشكلة قضية استفهامية، بل قضية معرفية وفكرية فقط. ثانيا؛ بما أن المشكلة أو الإشكالية قضية معرفية، فإنها لا تقتصر على إجابة واحدة أو إجابتين، بقدر ما أنها مفتوحة على كل الأفاق البحثية الممكنة. ثالثا؛ تتسم المشكلة أو الإشكالية بكونها ذات قصدية معرفية وفكرية تهم الإنسانية جمعاء. رابعا؛ كل مشكلة أو إشكالية إلا وتدفع الذات الباحثة نحو مجهود عقلي وذهني، بغية الكشف عن بعض الأجوبة الممكنة. خامسا؛ كل مشكلة أو إشكالية إلا وتتسم بالكونية، ما دامت رهينة ولصيقة بالإنسان.

***

د. لوكيلي عبد الحليم - أستاذ فلسفة

شهدت الساحة الأدبية على مر أزمنة مضت اتجاهات نقدية سعت إلى دراسة النصوص الأدبية وتناولتها من جوانب شتى، فارتبط النقد العربي في محطاته المتأخرة بالمنجز الغربي ونقل مناهجه وحاول تطويعها لتناسب الإبداع العربي، وقد مر النقد عبر هذه الأزمنة بالعديد من التحولات المنهجية بدءا بالنقد الانطباعي الذي عادة ما كان يلامس الشعر وبلاغته، مرورا بالمناهج الموضوعية التي جندت أدواتها الإجرائية وفق تصورات محددة لدراسة النصوص، كالمناهج السياقية/الحديثة (التاريخي، والاجتماعي، والنفسي) والتي تناولت دراسة النصوص و نقدها استنادا على مشيرات خارجية، ثم المناهج النسقية (الحداثية)التي اهتمت بالبحث داخل النص نفسه، فسعت البنيوية كنموذج لها إلى تأسيس مذهب نقدي يعتمد في شرعيته على منهج علمي تجريبي، وتبنت النموذج اللغوي كمدخل للمقاربة البنيوية للنصوص الأدبية، وحينما تأكد قصور النموذج اللغوي في تحقيق المعنى، واكتشف أنه يعجز عن تقديم نموذج عام للتطبيق على جميع النصوص بنفس القدرة، سقط المشروع البنيوي لتنبثق من عباءته مناهج ما بعد الحداثية، حيث انفتح النقد الأدبي على العديد من النظريات الجديدة من حيث الأسس والمبادئ، وانفتح أيضا على القارئ الذي همشته البنيوية/ الحداثية، فأصبح مصدرا إبداعيا لا متناهي القراءات وبالتالي الدلالات، وأصبح نقد ما بعد البنيوية يجسد مبادئ نقدية مستمدة من تراكمات فلسفية للفكر الإنساني، فجاء ثائرا متمردا على مقولات الفكر الحداثي الغربي، وأعلن في مرحلة نضج المنهج البنيوي على ظهور المنهج التفكيكي بآلياته المبتكرة في مجال تحليل النصوص، مسيطرا على السياقات النقدية، محاولا دمج الوعي المعاصر في عمليات توليد المعنى، وبالتالي تجدد هذا الأخير وتغيره المستمر نتيجة عدم استقرار الحركية الزمكانية لهذا الوعي. واستنادا على هذا التحول الدياكروني للمناهج النقدية، ارتأيت التوقف عند المنهج التفكيكي، ومعاينة الأسس والمبادئ الفلسفية التي قام عليها، والوقوف على جملة الآليات الإجرائية التي توسل بها.

- الأسس والمبادئ:

خلال القرن 17 أقامت التجريبية فلسفتها على إمكانية المعرفة اليقينية عن طريق الاعتماد على الحواس والثقة في المعرفة، والقول بتأسيس المعرفة على سلطة الحواس يعني الشك في سلطة اليقين، واستمرت التجريبية كمنهج لتحقيق المعرفة اليقينية إلى أن شككت الفلسفة الميثالية مع كانط في قدرة الخارج وحده على تحقيق تلك المعرفة، وأصبحت التجريبية موضع الشك قابله يقين قدرة العقل بمقولاته الميتافيزيقية[1] العليا، بعدها بدأت دورة جديدة للثنائية( الشك واليقين) ظهرت فيها البنيوية وازدهرت لفترة من الزمن في أحضان العلم والتجريب، وفي منتصف القرن الماضي (بعد الحرب العالمية الثانية)انعكست الثنائية من جديد وعاد الشك الفلسفي من جديد، ولكنه شك في كل شيء، وفي خضم هذه الثنائية، انبثقت التفكيكية[2].

فقد استمدت التفكيكية مفاهيمها وآلياتها الإجرائية من فلسفة الشك مع هايدغر هوسرل وفوكو وغيرهم، يقر جاك دريدا بأن المنطلق الأساسي الذي ألهمه في التنظير لتفكيكيته هي الأفكار الفلسفية الوجودية التي وضعها هايدغر، حيث تتجلى معالم هذا التأثر في القراءة التقويضية[3]، التي تنهجها التفكيكية في نقض النص، وهي استراتيجية مستوحاة من منهجيّة هايدغر ذاته، فهذا التأثر هو إقرار بأن أشدّ استراتيجيات دريدا أصالة في تحقيق تعليقه للمفاهيم وتعطيلها، نابعة من ممارسة هايدغر نفسه للنصوص، ويطلق على هذه الطريقة اسم وضع الكلمات تحت المحور ويعني عبور الكلمات من خلال النص، ثم تحذير القارئ بعد ذلك حتى لا يأخذ تلك الكلمات أو يقبلها بقيمتها السطحية الفلسفية[4].

يقول جاك دريدا:" إن ديني لهايدغر هو من الكبر، بحيث أنه سيصعب أن نقوم هنا بجرده، والتحدث عنه بمفردات تقييمية أو كمية، وأوجز المسألة بالقول إنه هو من قرع نواقيس نهاية الميتافيزيقا وعلمنا أن نسلك معها سلوكا استراتيجيا يقوم على التموضع داخل الظاهرة، وتوجبه ضربات متوالية لها من الداخل"[5]، ويقول أيضا: "أما بالنسبة لنقد هايدغر فهذا ما كنت أقوم به في الواقع منذ البداية. وفي جوانب كثيرة من عمله، وجدته ما يزال حبيس الرؤية الميتافيزيقية"[6] وهذا اعتراف من دريدا باستفادته من هايدغرا[7]، خاصة استخدامه للمفهوم الهادغري "التدمير" والذي استعمله في مناحي عدة بمعنى التفكيك فقد دافع هايدغر في كتابه الكينونة والزمن الذي ترجم إلى الإنجليزية(1962) أي قبل ظهور المفهوم عند دريدا ب4 سنوات ، إلى فكرة تدمير تاريخ المعرفة أو بمعنى أصح الثورة على التاريخ والتقاليد لكنه ليس تدميرا بالمعنى الحرفي له، لكن المعنى هنا هو إعادة كتابته[8]، وهنا يظهر مدى تماهي المرجعيتين وتأثر دريدا بهايدغر والذي نجم بطبيعة الحال عن واقع المثاقفة.

إنّ هذا التقارب بين تفكيكية جاك دريدا و باقي الفلسفات؛ هو الذي يزيد التفكيكية غموضا في الساحة النقدية، ويدفع النقاد إلى تتبع مرجعياتها الفلسفية من أجل فهمها والتمكن من تمثل آلياتها في مقاربة مختلف النصوص، ذلك أنّ التفكيكية كاستراتيجية لقراءة النصوص وتقويضها، تقوم على نهج قراءة تقويضية تكشف بها عن التناقض الذي يحيط بدلالة النص، فهذه القراءة تحفز الشك في اليقينيات النصية، ثم تعتمد بعد ذلك على "أسلوب تحليلي واستراتيجية نصية قائمة على التعامل مع النص باعتباره نشاطا لغويا متعدد الطبقات، ويقوم الناقد التفكيكي باختراق الكلمات في سياقها النصي قبل أن يقبل الدلالات المرافقة وليس باعتبارها مسلمات فلسفية أو عقلية، إن منهجية دريدا قائمة على تحرير اللغة من دلالتها المقيّدة بقواعد النحو ووضعها في إطار تحليلي من الفكر والرؤية الشعرية"[9]

لقد ساهمت فلسفة هوسرل أيضا في بلورة الآليات المعتمدة في التفكيكية، فقد حاول دريدا عبر الخلفيات الفكرية لهوسرل أن يبين الكيفية التي يتصور بها فعل الدلالة المنبثق عن الصوت/ العبارة، ذلك أن العبارة إذا كانت إخراجا للمعنى فإن هذا الإخراج موجود أصلا فيها، والخارج هنا لا علاقة له بأي شيء موجود بعيدا عن الوعي، فهو مدلول يخرج من نفسه ويقع على العبارة نفسها، ويشبه ذلك "التلقي الضمني الذي يفترض وجوده بالضرورة في أي خطاب ذاتي، على أن صوت الذات هو عبارة الخطاب بحد ذاتها، لأنها إرادة قاصدة تهب للمعنى بعده الروحاني حسب تعبير هوسرل"[10].

- آليات الاشتغال:

التفكيكية هي امتداد لنظريات التلقي(نقد ما بعد الحداثة)، حيث ركزت على سلطة القارئ في قراءة النص وتأويل معناه ، على عكس المناهج البنيوية التي اكتفت بسلطة اللغة عند مقاربة النص مقاربة محايثة[11]، وبذلك فالتفكيكية في تركيزها على القارئ، لم تخرج عما قدمته نظريات التلقي في مرحلة نقد ما بعد البنيوية؛ فهي منحت للقارئ دورا في توليد دلالة النص باستمرار، وهو ما يجعل المعنى متجددا ومختلفا من قراءة لأخرى، ومن سياق لآخر، فالتفكيكية " دراسة حتمية لنظريات التلقيreception theory، والنقد قائم على استجابة القارئ، ولن ندخل هنا في مجال التفرقة بين المسميين أو أيهما يتسع للآخر، إن أهم محاور التفكيك يرتكز على الأهمية الجديدة التي يكتسبها القارئ والدور الأساسي الذي يلعبه في تفسير النص"[12].

فالتفكيكية إذن تعيد بعث مكانة القارئ في النقد الأدبي، بعدما همشته المناهج النقدية الحداثية، إذ شجعت التفكيكية القارئ على ممارسة فعل القراءة المتجددة للنص، بحيث لا يقتصر دوره على قراءة النص، واكتشاف معانيه، بل صار دوره قائما على إعادة بناء معان جديدة للنص، تكون قابلة للتغير مع كل قراءة جديدة، وتتغير بتغير سياق القراءة من فترة إلى أخرى ، فهي ترفض أن يبقى النص محافظا على تماسكه البنائي وفق نظام معين، لذلك فهي تسعى إلى خلق الفوضى في النص من خلال إشاعة مبدأي الشك والنقض اللذين تتميز بهما، وهو ما يجعل التفكيكية نظرية للهدم والتشتيت والتقويض.

واستطاعت التفكيكية بآليتها النقدية الثائرة على مبادئ النقد البنيوي أن تقلب موازين النص وتخلخل قواعده المنطقية، ليصبح في حالة من اللااستقرار واللاثبات، فالتفكيكية كما يشبهها عبد العزيز حمودة(1998) في تعاملها مع النص الأدبي "كالثور الهائج أطلقه عصر الشك الشامل من مربطه يحطم كل شيء، فلا شيء معتمد ولا شيء موثوق ولا شيء مقدّس"[13].

أ- التفكيك:

هو تعبير لاتيني استخدمه دريدا للدلالة على نوع من القراءة تشتغل من داخل النص الفلسفي أو الأدبي من أجل زعزعة بنائه القائم على الثنائيات المتضادة" الخير والشر، اللسان والكتابة، الدال والمدلول المحسوس والمعقول، التعاقب والتزامن، والسكون والحركة...، وبيان أن هذه الثنايات ترتبط فيما بينها على علاقة التجاذب وهو ما يلغي مركزية أحدها وهامشية الآخر، ويضع الطرفين في موضع حاجة كل منهما إلى الآخر، فالصوت في حاجة إلى الصمت مثلا والعكس بالعكس[14].

إن مصطلح التفكيك في أساسه الأول يعمل على الهدم والتفريق والتناثر، أما من حيث دلالته فهو يقوم بخلخلة وفك شفرة النصوص والخطابات لمعرفة خباياها المختلفة، وفك تلك الارتباطات الموجودة في اللغة وكل ما يقع خارجها.

فالتفكيكية حسب جاك دريدا ليست تحليلا ولا نقدا ولا منهجا[15] ، بل هي استراتيجية في قراءة الخطابات من خلال التموضع داخلها وتقويضها من الداخل من خلال توجيه بعض الأسئلة وطرحها عليها من الداخل، بنيت على رفض الفلسفات الميتافيزيقية الغربية باعتبارها أيديولوجيات عرقية ذات تصور ذهني قائم على الثنائيات (الخير والشر، الحضور والغياب، الواقع والحلم...)

فالتفكيك يهدف إلى استنطاق النص والكشف عن الحقيقة الخفية داخله والمتناقضة مع المعنى الظاهر.

ب- الاختلاف:

سعى النقاد إلى فهم وترجمة خصوصية هذا المصطلح؛ الذي يظهر تفرده في طريقة كتابة كلمة الاختلاف Différanceوهو تميز يراه دريدا حكرا على المصطلح ذاته، يقول: "أعتقد أن قلقك حول ترجمة هذه المفردة يتّجه إلى صميم المشكل، فهي ليست غير قابلة للترجمة إلى العربية فحسب، وإنما حتى الإنجليزية وسواها من اللغات وحتى إلى الفرنسية بمعنى ما، من حيث إنّها تتعارض مع الكلمات المتجذرة من الميراث اللاتيني كما أنّها في اقتصادها نفسه غير قابلة للإبدال بمفردة أخرى"[16].

استمد مصطلح الاختلاف Différance ميزته الفريدة من تركيبته اللغوية التي خالف بها جاك دريدا Différence ، وهو تمايز يبدو واضحا بين الأحرف ance و ence ، في حين أن مفهوم الاختلاف يتحدد عنده كشيء ديناميكي لا يرتبط في اختلافه بالأشياء الأخرى المقابلة له، فهو اختلاف منبعث من دلالة الشيء ذاته أي بين الشيء الأصل، ومثال ذلك "سافر= انتقل شخص من مكان إلى آخر" وفقا لمعناها فإنها ستفتح المجال لتكون هنالك قراءات متعددة تعطي معنى مختلفا، لكنه لا يخرج عن دائرة مدلول الانتقال من مكان لآخر مثل: الهجرة، الرحلة، المغادرة، الغربة، الارتحال، الحرقة، وهي كلها ألفاظ تحمل معنى الانتقال بألفاظ مختلفة ومتعددة، دون أن تكون هذه الألفاظ ذات علاقة ضدية مع المعنى الأول، حيث يري دريدا "بمحاكاة ديالكتيكية[17] نوعا ما، أن الأصلي لا يكون أصليا إلا بالاستناد إلى النسخة التالية له، التي يسود الزعم أنها تأتي لتنسخه وتكرره، ضامنة له بذلك حيازة تسمية الأصلي أو الأصل، لا يكون الأول أولا إلا بالاستناد، استنادا مؤسسا، أي يقيم في جوهر الأول نفسه بما هو أول نقول الاستناد إلى الثاني الذي يدعم ذلك الأول في أوليته"[18].

يؤسس دريدا من خلال الاختلاف مقولته حول الحضور والغياب، ويرى دريدا أن مفهوم الاختلاف مرتكز من المرتكزات الأساسية للمنهجية التفكيكية ...، فيشرح مفهوم الاختلاف في إطار كلامه عن الصوت والظاهرة الفينومينولوجيا[19] لدى هايدغر اعتماد على حالتي التعارض والتكامل التي تحصل بينهما، بحيث لا يمكن لكل منهما الاستغناء عن الأخر، فالصوت باعتباره يمثل الحضور الذاتي للمتكلم في حاجة إلى نقيضه أي الصمت، وهذا إشارة إلى ضرورة الغياب لتأكيد حضور الذات، فالذات بحاجة لإثبات حضورها بوجود غيابها أيضا، وبالتالي فهي تعيش في حالة اختلاف دائم عن نفسها كلما أرادت أن تثبت حضورها[20].

ج- الحضور والغياب:

من بين أهم المرتكزات في مشروع دريدا التفكيكي نجد ثنائية الحضور والغياب، فالعملية النقدية للتفكيك تعمل من أجل حضور الدوال التي تكون حاضرة في اللغة، وقد رأى دريدا أن الحضور بشكل عام يتشكل داخل الميتافيزيقا، أي "وجود سلطة أو مركز خارجي يعطي الكلمات والكتابات و الأفكار والأنساق معناها ويؤسس مصداقيتها، حيث إنّ اللغة خارج النص الأدبي أو داخله تكتسب مصداقيتها من إحالتها إلى المركز أو تلك السلطة الخارجية"[21].

تسعى التفكيكية إلى خلخلة النص تقويضه، حتى يكون النص هشا، ويصبح معناه متحررا، فتزول قصدية دلالته لتحمل معنى مختلفا ومتجددا من قراءة لأخرى، استنادا لتحرير الدوال من المركز الخارجي الذي تقوم عليه، الذي يتجسد عبره مبدأ الحضور والغياب، ويتم ذلك عبر الشك "في وجود مركز، أي مركز مرجعي خارجي يعطي الأشياء شرعيتها ويمكن اللغة من الدلالة وبدلا من التقاليد التي يجب أن تدمر بعد أن حجبت الكينونة والنظام الخارجي الذي لم يعد له وجود في ظل غيبية المركز القادر على تثبيت الأشياء تؤكد استراتيجية التفكيك استحالة الحضور، فحضور ذلك المركز المحوري الخارجي داخل النص أو اللغة يرتبط دائما بالغياب، وتصبح المراوغة indeterminacy والغموض ambigüité والانتشار

Dissémination والبينصية ولا نهائية الدلالة هي أبرز سمات النص"[22].

فالتفكيكية بذلك تقوم على فصل النص عن كل قوة خارجية فيصبح النص متحررا، وبالتالي تصبح العلامة اللغوية مشتتة، ومعناه متعددا، لأنه يغيب ويحضر من قراءة إلى أخرى، فالدوال تحمل مدلولات تتعدد تبعا لمبدأ الاختلاف، فيحضر معنى ويغيب آخر.

د- المعنى اللانهائي:

يعطي جاك دريدا أولوية للمدلول على حساب الدال، أي الأسبقية للضمني على الظاهر، لأنه يرى أن الدال سطحي ووهمي، بينما الحقيقة تختفي خلف المدلولات.

لقد أقر جاك دريدا أن النص يحمل معنى لا متناهيا، حيث يحتمل قراءات متعددة، فكل قراءة فيه تولد معنى جديدا يختلف عن السابق، دون أن يكون هنالك ثبات في المعنى، حيث "إنّ التغيير الجوهري الذي طرأ على نظرة ما بعد البنيوية إلى اللغة، يتضح في التّعديل الذي حدث للعلاقة بين طرفي العلامة وهما الدال والمدلول واللذان يمثلان معا وحدة العلامة اللغوية، وهو التغيير يتمثل في بعد المسافة بين الدال ومدلوله أو في ضعف العلاقة بينهما... وتتسع مساحة الشك / الفجوة حتى تختفي العلاقة بين الدال ومدلوله ولا تبقى في النهاية إلا الفجوة بين الاثنين، الفجوة التي يتحقّق فيها اللعب الحر للمدلولات، وتتحقق لا نهائية الدلالة أو المعنى، وحيث تصبح كل قراءة إساءة قراءة[23].

إن النص عند دريدا غير ثابت على قراءة واحدة، وبذلك فهو لا يستقر على معنى واحد، بل هو يعيش في حالة من التشتت نتيجة تجدّد القراءات، وتجدّد المعاني بالنسبة للنص الواحد، أو القارئ الواحد من سياق لآخر، وهذا الوضع يتشكل عندما تقوم التفكيكية بهدم مركز النص، وعزله عن السياقات الخارجية التي تتحكم في معناه، وعليه يكون النص متحررا من الضوابط والقوانين المركزية، فلا تصبح علامته اللغوية مقيّدة ومغلقة، بل تصير منفتحة ومتحرّرة، حتى تكتسب دلالات متعددة ولانهائية[24].

فالتفكيكية إذن تقوم في المرة الأولى بالتشكيك في اليقينيات المنطقية، التي يتمثلها الفكر الغربي، ثم تقوم بخلخلة النص عبر البحث في بنيته المضطربة، ثم بعد ذلك تقوض دلالة النص من خلال تبيان التناقض القائم بين المعنى الظاهر والمعنى المضمر، حيث يمثل المعنى المضمر من منظور التفكيكية المعنى الحقيقي للنص.

***

غزلان زينون

..............................

قائمة المراجع

نوريس كريستوفر (1989) التفكيكية النظرية والممارسة، ترجمة صبري محمد حسن، دار المريخ للنشر، الرياض.

لحميداني حميد (2014) الفكر النقدي الأدبي المعاصر مناهج ونظريات ومواقف، مطبعة أنفو، فاس، الطبعة 3.

حمودة عبد العزيز (1998) المرايا المحدبة، من البنيوية إلى التفكيك، دار المعرفة.

جاك دريدا (2000) الكتابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهاد، تقديم محمد علال سيناصر، دار توبقال للنشر، الطبعة 2.

عطية أحمد عبد الحليم (2010) جاك دريدا والتفكيك، دار الفارابي، بيروت، الطبعة 1.

هوامش

[1] - الميتافيزيقا" أو ما وراء الطبيعة، من الأطروحات الفلسفية التي تسعى إلى تفسير الأمور الغيبية التي لا نستطيع إخضاعها للتجارب العلمية، كانت تسمى عند الفلاسفة اليونان بالفلسفة الأولى

[2] - حمودة عبد العزيز،1998، المرايا المحدبة، ص 260

[3] - التقويض: نقض المبادئ والقيم المعروفة في العرف القائم، لمحاولة تغيير نظام سلطوي مترسخ في هذا العرف.

[4] - نوريس كريستوفر، 1989، التفكيكية النظرية والممارسة، ترجمة صبري محمد حسن، ص 152

[5] - جاك دريدا،2000، الكتابة والاختلاف، ص 47

[6] - جاك دريدا،2000، الكتابة والاختلاف، ص 47

[7] - جاك دريدا،2000، الكتابة والاختلاف، ص 47

[8] - حمودة عبد العزيز،1998، المرايا المحدبة، ص 146

[9] - عطية أحمد عبد الحليم 2010، جاك دريدا والتفكيك، ص 117

[10] - لحميداني حميد،2014، الفكر النقدي الأدبي المعاصر، ص 194

[11] - المحايثة تعني دراسة النص في ذاته بعيدا عن كل سياق خارجي.

[12] - حمودة عبد العزيز، 1998، المرايا المحدبة، ص 274

[13] - حمودة عبد العزيز، 1998، المرايا المحدبة، ص 270

[14] - لحميداني حميد، 2014، الفكر النقدي الأدبي المعاصر، ص 205

[15] - جاك دريدا، 2000، الكتابة والاختلاف، ص 60- 61

[16] - جاك دريدا، 2000، الكتابة والاختلاف، ص 53

[17] - ديالكتيكية: الجدل والمحاورة

[18] جاك دريدا، 2000، الكتابة والاختلاف، ص 30

[19] - الفينومينولوجيا أو الظاهراتية: رائدها هوسرل، هي الدراسة العلمية للوعي بالظواهر أو أشياء العالم الخارجي في الوعي، وطريقة إدراكه لها، وكيفية حضور الظواهر في خبرته، غير أن الفينومينولوجيا لا تعني علم النفس الذي يدرس الحالات العصبية والسلوكية للمخ البشري ، بل بإدراك الوعي للموضوعات من أجل الوصول إلى معرفة يقينية وموضوعية حوله.

[20] - الحميداني حميد، الفكر النقدي المعاصر، 207- 208

[21]- حمودة عبد العزيز، 1998، المرايا المحدبة، ص 330

[22] - حمودة عبد العزيز، 1998، المرايا المحدبة، ص 331

[23] - حمودة عبد العزيز، 1998، المرايا المحدبة، ص 303- 304

[24] - حمودة عبد العزيز، 1998، المرايا المحدبة، ص 336- 337- 338

 

أول خداع عرفه الإنسان هو في مرحلة الطفولة – مرحلة المرآة حينما يرى الطفل ذو الستة أشهر - الثمانية عشر شهرًا من عمره صورته أمام المرآة. وجد علماء النفس أن قوة الصورة نفسها كشكل نهائي محمل بالمعنى، قادر على الحفاظ على هوية الطفل، لقد أراد بالأساس أن يتتبع آثار الخيالي في تكوين الأنا والجسد والعلاقة مع الشبيه المرآوي، لكن قدم " جاك لاكان " مفهوم " الآخر"، وجاءت مرحلة المرآة لتشير كيفية عمل الدور التأسيسي لنظرة الآخر في تشكيل الجهاز العقلي للذات، وبعد ذلك أتخذ لاكان المرآة بمثابة استعارة لنظرة الآخر "" جاك لاكان، اعداد هبة صبري، مرحلة المرآة ".          نحن من نحدد ما نريد قبوله، أو رفضه، فهو فينا ونحن مسؤولين عن تكوينه، نخادع أنفسنا بأن ذلك مقبول، وذلك غير مقبول، أو أن يتخيل أحدٌ اشخاصًا آخرين ما هي صفاتهم أو من يكونون، يعني من ثم ما يتخيله هو عن نفسه عما هي صفاته، أو من يكون هو وذلك عند التواصل والتفاعل " كما ذكره أدريان جونستون في فلسفته عن لاكان، في موقع حكمة"، أو حينما ندخله في مدورة الشريعه والحلال والحرام فيبدو الفقه فيه من دواخل أنفسنا وإن أختلفنا فيه، ومنه يكون الافتاء لما تدلنا عليه نفسنا، النفس آمارة بالسوء، في قلوبهم مرض، فزادهم الله مرضا " هذه نصوص قرآنية" وغيرها في النصوص الدينية الآخرى في تعاليم السيد المسيح، أو في العهد القديم، هي النفس في تأويل النص، في رفضه أو قبوله.. وهو خداع للنفس لنفسها في حالة قبول ما تشتهي وتريد، وليست ما هي الحقيقة، نأول النص، أو الفكرة، أو حتى الكلمة لنقبلها وإن خدعنا أنفسنا.

نتساءل: أليس هذا خداع في النفس، ومن النفس، وإلى النفس.. حتى يصبح واقع؟

هذا جزء يسير من خداع النفس فما بالك في فكرة القتل المشروع، والتعذيب المشروع، واغتصاب المرأة المشروع، والعنف الموجه لأقلية ما بحجة تفسير الفقيه، أو المفتي – من يقوم بإطلاق الفتاوى، فما بالك وهو إنسان يفتي بما تحمله نفسه من حقد دفين على نفسه ضد من حمله هذا الحقد: سلطان الأب، سلطان الأم، سلطان الأخ الكبير، سلطان القيم السائدة " الجانب الرمزي " عند جاك لاكان بما يمثله القانون، المجتمع.. الخ، فَتكونَ وأصبح بنية تشكل شخصية أي منا مستندًا إلى أعظم ما يتميز به الإنسان هو التخييل.

لا نستثني أي مخلوق من البشر من الخيال – التخييل لأنه غذاء النفس في اغناء فكره ما، أو فعل سيتحقق، فالخديعه، خديعة النفس لنفسها، وجودنا خدعة نتعايش معها ونقتنع بها، ونحاول أن نخدع الأخر مهما كان قربه منا الزوجة، الأبن، الأبنة، القريب الطيب، إلى أن تخرج هذه الخدعة إلى المجتمع الأوسع في المدرسة، في المهنة، في العلاقات بين الناس، ويصاحب كل خدعة تخييل نفسي، يكون محترف أحيانًا، ويحمل بين طياته تمثل " والتمثل في التحليل النفسي هو تصور أو مجموعة التصورات التي تثبت الرغبة خلال تاريخ الشخص كما تقول الدكتورة نيفين زيور ".

فالخدعة على النفس هي أفتقار، والأفتقار هو الذي يولد الرغبة، لإن الإنسان دائمًا يسعى وراء ما لا يستطيع امتلاكه بالكامل كما يقول " لاكان"، فخداع النفس هو تخييل واعي وبنفس الوقت لاواعي – لاشعوري، وهو الطريقة التي يحاول بها الإنسان تنظيم رغباته في مواجهة نقصه، وهو ما يشكل جزءًا أساسيًا من هويته النفسية كما عبر عنه " جاك لاكان".

الخداع قناعة الإنسان بما ينتجه فكره من خيالات

خداع النفس يمكننا القول بأنه مطاردة الإحساس بالتمزق ومحاولة الإمساك به، حينما تجد النفس نفسها في مواجهة رغباتها غير المقبولة ولا تستطيع المواجهة لهذه الرغبات فتدنو نحو القبول لأنها هي أساسًا مرحلة من العجز والتكامل أو بمعنى أدق الهدم والبناء. فتظهر الاضطرابات النفسية وما أكثرها، إبتداءً من القلق السوي ثم القلق المرضي حتى تقع في حضن الاضطراب النفسي بأسره " توهم المرض أو الوساوس، أو المخاوف المرضية – الفوبيا – أو الاضطرابات النفسجسمية ومنها البهاق أو قرحة المعدة أو الثعلبة، أو القولون العصبي وغيرها، وبرانويا العظمة بكل دقتها وتفاصيلها لأن المعرفة البرانوية تكتسب من خلال علاقتها الخيالية بالآخر كخطأ بدائي في التعرف على الهوية، أو اعتراف ذاتي وهمي بالاستقلالية والسطرة والقدرة مما يؤدي إلى القلق الاضطهادي والاغتراب الذاتي " كما دونه لاكان في مرحلة المرآة.

أننا محمين بعصابنا " امراضنا النفسية " لأنها تدرء عنا الوقوع في عالم الذهان " المرض العقلي من الفصام بهلوساته، وضلالاته، وتخيلاته.. الخ، أما البرانويا بشقيها العظمة والاضطهاد فهي منبع التخييلات وأنواع الخداع النفسي وبالأخص في برانويا العظمة، " لا نقول أن خداعنا لإنفسنا يحمينا بقدر ما هو سور ينهار في أية لحظة، أو هو حصن لا يقينا من مضاعفات نتائجه، وأقلها الاضطرابات بنوعيها النفسسية والعقلية.. ولا ننسى كيف تلعب آليات – ميكانيزمات الدفاع في عملية خداع النفس لغرض تطمينها ولو لحين من القدرة على المواجهة، والامر ذاته عند بعض النظريات المعرفية في معرفة أساليب التعامل الشعورية مع مواجهة ضغوط الحياة الخارجية وتأثرها في النفس، إذا ما كانت النفس تحمل في طياتها الإستعداد – التهيؤ للمرض.

خداع النفس هو القوة المرتكزة على العجر أذا صح تعبيرنا عنه، وهو في الآن نفسه يتحدث عندئذ بما يلي هل أحب أمي، أم أمقتها " إنموذج الاكتئاب بشقيه النفسي والعقلي " وهو الامر نفسه عند الفصامي ولكن بنقيضه، أكرهها لأنها كانت ترضعني سم، ولو تناولنا الحالتين لوجدنا التساؤل التالي: إنها تفرض علي ما تعتقده خيرًا لي !!؟؟ ولكني أخدع نفسي برفضه، أو قبوله بمضض لما قَدمتهُ لي حتى ولو كان ذلك لا يناسب ما أرغبه بأي وجه من الوجوه، وماذا عن ما تحمله نفسي من بنية – بناء تشكلت من داخلي، رغم ان أمي على يقين إنها تفرض عليَّ اخلاصها، وتفرض عليَّ مساعدتها، وأنا ملزم بأن أتحمل كل شيء تحت طائلة اللوم والغضب أو الاصرار على فعل مغاير لما ترغب هيَّ، فلو أني حاولت أن أُفَهمها بأن لذوقي أهمية أيضًا لما خدعت نفسي وخدعتها، ولكني لا أملك هذا القرار لأنني طفل لم أبلغ بعد القدرة على القرار بقبوله، أو رفضه، وهذا ما يتعبني إلى أقصى حد في البلوغ.

 هي الأسرة – الأم، الأب، الأخ الكبير، أو من ينوب عنهم، أما تصنع منك إنسانًا أو كومة عقد. لا نبخس حق من يكون الأب المثالي، أو الأب الواقعي، أو الأب الرمزي في تشكيل بنيتنا السوية إن وجدت، أو القريبة للسواء النفسي وهو التمني على الأقل.

يقودنا الخداع النفسي " أقصد خداع النفس بنفسها " قول الطفل عند " لاكان " في مرحلة المرآة: أنا أصف وأَشكل نفسي بالطريقة التي يصفني بها الآخرون، هكذا أتشكل أمام عيني – أرى نفسي – بالطريقة التي أفترض أن الآخر يراني بها.

وقاد هذا إلى مشكلة العصر وهي الحرية الجنسية عند البعض بعد أن توحد بها – تماهى معها – تعين فيها تعيينًا نفسيًا، أو تقمص من شَكلَ له هذا الخلل النفسي – الجسمي – الجنسي وقول " سيجموند فرويد " مؤسس التحليل النفسي في كتابه ثلاث مقالات في نظرية الجنسية، ص 37، أن أنطباعًا فعالا مبكرًا قد ترك أثرًا باقيًا في صورة ميل جنسي مثلي. وقوله أيضًا.. وأنه لدى كثير غيرهم، يمكن تحديد ظروف خارجية من ظروف الحياة كان لها تأثير معطل، أدت عاجلا أو آجلا إلى تثبيت الانحراف.

خداع النفس في قبول الشيء ونقيضه معًا هي أنه لا يخلص الفرد لنفسه في ما يراه، أنه تَكونْ في شخصية أميل فيها إلى انحرافها عن المعيار السائد بين الصحة والمرض، رغم أن معرفتنا ترى أن الصحة النفسية هي جماع بين التكيف والتطور، وبين التقبل والرفض، وبعبارة أخرى الجمع بين الأضداد في إطار واحد " كما عبر عنه محمد شعلان". ويمكننا القول بأنه مصاب بهوس إجبار الآخرين بهدوء على قبول كل شيء يفعلوه وحدهم تمامًا، ولديه الإحساس بأن الغير عاجز تماما عن أن يفعل شيء ناجح، فضلا عن أن الشخص الذي يخدع نفسه يشعر بالحاجة إلى كسب الاعتراف بالجميل الذي يعزز أمنه الداخلي، ولم ولن يجده إطلاقًا، لأن كل العملية هي خداع.. خداع للنفس.. ولنا جولة أخرى كيف يؤثر التخييل في تكوين سلوك خداع النفس وما الآليات التي يستخدمها.

***

د. اسعد الامارة

الزمان الفيزيائي: لا يوجد زمان نفسي وزمان علمي او زمان طبيعي او زمان تاريخي او زمان فيزيائي وهكذا، وانما يوجد زمان افتراضي واحد هو الزمن الوجودي فقط. والزمان بالمنظور الفلسفي المجرد من الإدراك ماهويا يقاس بدلالة مقدار حركة موجوداته داخله و يمكننا تّمثله بمنحيين جوهريين:

- زمان أرضي كتحقيب توقيتي وزماني معا يشمل الماضي كتاريخ ناجز والحاضر والمستقبل كتحقيبين تصنيعيين بإرادة ذاتية تدرك زمن موجودات الطبيعة فيه بدلالة حركة الاجسام داخله.

- الزمان كمطلق كوني لامتناهي أزلي لا يمكن إدراك لامتناهيه بمحدودية مستحيلة على الصعيد الفلسفي خارج مدركات العقل له، وتبقى نسبية ومطلق الزمان الكوني من إختصاص قوانين علوم الفيزياء خارج الفهم الفلسفي المجرد بعيدا عن التجربة العلمية..

حين نقول الزمان هو تحقيب على صعيد موجودات الطبيعة وحركة كوكب الارض حول نفسها وحول الشمس، هنا يتحول مفهوم الزمان من مطلق لانهائي أزلي غير محدود لا بالصفات المجردة ولا بالجوهر الماهوي له الى تحقيب زمني أرضي (وقت) ندركه بدلالة حركة الموجودات التي يحتويها، فالزمان الارضي يدرك بدلالة ملازمته إدراكنا المكان ثابتا ومتحركا أوضمن حالة من سيرورة انتقالية دائمة في حركة الاشياء. يلاحظ اننا نستعمل لفظة الزمان هي المردف لكلمة وقت، وهو استعمال خاطيء. فالوقت هو غير الزمن.

الزمان الارضي المنقسم إفتراضيا الى ماض وحاضر ومستقبل يكون على مستوى تحقيب زماني لتاريخ يدرك بمحدودية وقت وقائعه، ويكون الزمان الارضي توقيتا تتوزعه الثانية فالدقيقة والساعة واليوم والاسبوع والشهر والسنة وصولا الى الفصول الاربعة، فهذه القطوعات الزمنية الافتراضية الوهمية من حيث أن الزمن واحد لا يمكن تجزئته فهو وحدة واحدة من المجانسة الماهوية التي يتصف بها الزمن ولا يدركها الانسان كتجريد منفصل عن المكان.، وهذه القطوعات الزمنية نعرفها بدلالة قوانين الفيزياء التي تنّظم حركة الارض حول نفسها وحول الشمس، وعلاقة تلك الحركة بحركة الجاذبية الارضية والجاذبية الكوكبية الكونية حول مركز الشمس والجاذبية المتعالقة بين الكواكب في السديم الفضائي الكوني.

ونلاحظ هذه العلاقة ازدواجية الزمن تحقيبا تاريخيا وتوقيتا ارضيا من جهة وكونيا من جهة اخرى يمكننا بها تفريق الزمان أن يكون تحقيبا لتاريخ ندركه بدلالة وقائعه الثابتة في الماضي ليصبح توقيتا لزمان دائب الحركة التغييرية حاضرا ومستقبلا.

الماضي زمان إفتراضي نسبي بدلالة تغيرات الحاضر وتصنيع المستقبل لنفسه ذاتيا على حساب معطيات الحاضر المتحركة المتغيرة على الدوام. ونسبي ايضا لأننا ما زلنا لا نستطيع الجزم القاطع أننا أصبحنا نعرف كل شيء عن الماضي لسببين: الاول لم يعد كل شيء يخص الماضي دراسة علمية تاريخية متاحا امام المؤرخين في اكتشافاتهم الاركيولوجية الاثارية وفي اللقى والعثور على بعض الكتابات التدوينية كافية توصلهم لحقائق يقينية موثوقة عن الماضي كتحقيب تاريخي.

والسبب الثاني انه في محاولتنا إستذكار الماضي كتحقيب وقائعي تاريخي تكون الذاكرة قد نالت منها آفة النسيان كثيرا من جهة، وتداخل الاستذكار مع منتج المخيلة الخيال الذي لا يعتد الاخذ به كونه امتلاء من الاساطير والخرافات وحكايات السحر والاكاذيب وهكذا.

برجسون والزمان الفلسفي

برجسون وعلى لسان باشلار يعتمد ربط الزمان – اود التنبيه انني استعمل كلمة الزمان كما يفهمه غيري وليس بما افهمه انا انه خرافة متراكمة الاستعمال-  بإعتباره قرينة نفسية معرفية يحدّها سلوك عاطفي وجداني وإنفعالي يحتويه الشعور واللاشعور على السواء حسب المفهوم الكلاسيكي لعلم النفس الفرويدي. والنفس بفلسفة برجسون ليست هي النفس التي أشرنا قبل اسطرالى صفاتها بضوء قوانين الفيزياء ومفهوم علم النفس الحديث. الذي يشتمل إدراكها إفصاحا سلوكيا خاصا بالانسان وحده كنوع يمارس سلوكه المنفرد في الحياة ضمن محددات قوانين مجتمعية.

تجريد النفس من خواصها الفيزيائية الواقعية كسلوك متعدد التمظهرات الحياتية، ومن الغرائز المنسوبة لها والاحاسيس الداخلية المعبّرة عنها، يعمد برجسون إخراجها من هذا الحّيز المعرفي الكلاسيكي، ليجعل منها ظاهرة (زمانية) لا علاقة لها بسلوك يحتويه مجتمع، ولا علاقة لها بتوكيد إثبات ذاتي في إدراك موجودات الطبيعة ودلالات الزمن في قوانين فيزيائية بعضها من إختراع الانسان إعتمادا على القوانين الطبيعية الفيزيائية التي تحكم الفضاء الكوني من ضمنه فضاء الطبيعة.

 جاستون باشلار في تماهيه مع برجسون يجد " في علم النفس البرجسوني – حسب تعبيره -  يفسح الزمان الممتليء، العميق، المتواصل، الغني، ليكون (مكانا) للجوهر الروحي، وفي كل الظروف لا تستطيع النفس الانفصال عن الزمان "1

يلاحظ في العبارات السابقة إنتقالات اللغة في تحولات بلا معنى متماسك، إن النفس بفعل ملازمتها الزمان المطلق الذي هو في حقيقته (الجوهر) الازلي اللامتناهي غير المدرك، والذي يعتبره برجسون (الروح) ليس بدلالة ميتافيزيقية،بل هو الروحي حين يتحول من زمان نفسي الى موجود مكاني مدرك وجودا حسب تعبير برجسون.

في هذا المعنى الإعتسافي يصبح أمامنا تحصيل حاصل تجريد النفس المزامن غير المفارق لتجريد الزمان عن النفس المشترك المتعاشق معها إدراكيا، لتكون النفس جوهرا روحيا متعاليا (لمكان) إدراكي نفسي مصدر كل الصفات الخيرية الايجابية في الإفصاح عن نفسها سلوكيا.

ثمة عدة تساؤلات تبقى عالقة لا نجد لها تفسيرا بضوء هذه الترابطات الإعتسافية والإنتقالات من معنى الى تفسير لاحق له بلا معنى ندرج بعضها:

- كيف يتحوّل الزمان النفسي الى روح مدرك (مكانا) حسب تعبير برجسون؟، في حين كل الدلائل الموثوقة تثبت أن النفس والروح ليستا لفظتين تعبران عن معنى دلالي واحد ولا فرق بينهما في الاستعمال السردي المنطقي الفلسفي.

وكلاهما النفس والروح جوهران تجريديان لاماديان يختلفان في الافصاح التعبيري عن مكنوناتهما في مفارقة إنفرادية أحداهما عن الآخرفي العديد من الإختلافات أبسطها النفس منتج نفسي- عقلي والروح مفهوم ميتافيزيقي لا تدرك ملامحه ولا ماهيته ولا جوهره ولا صفاته. الروح مفهوم ميتافيزيقي وليس مصطلحا متفقا عليه.

- الروحي الذي يقصده برجسون هوالزمان النفسي الذي يتعالى على كل مدرك سلوكي مادي أو لا مادي . برجسون يعتبر الروحي هو مدرك الزمان النفسي مكانا. وليس الروحي هو اللازماني الذي يخرق قوانين الطبيعة ويعلو إدراك العقل في ماهيته الميتافيزيقية بأزليته ولاتناهيه غير المحدود غير المدرك.

- بريجسون يعتبر على لسان باشلار النفس تملك زمانها، ولا ضير في ذلك فكل شيء في الوجود يطاله الزمن بالدلالة عليه أدركناه أم لم ندركه، وتكون هذه النفس ممتلئة بكل ما هو إيجابي متفائل بالحياة، والنفس ليست وعاءا إحتوائيا فارغا. والزمان القرين الملازم للنفس بلا إنفكاك عنها هي مملوكة للزمان غير مالكة هي له بضوء فهم برجسون. وهذه الملكية الزمانية للنفس ليس تلبية لوعي ينزع إدراكيا توكيده الذات نفسيا. بل النفس ترتبط بوعي روحي زماني يربط الماضي بالحاضر والمستقبل زمكانيا.

- هذا الربط البرجسوني الفلسفي بين النفس ومالكها المهيمن عليها الزمان، هو مبعث ذكريات الماضي أن تكون حضورا في حاضر زمني يتمّثلها نفسيا، مملوءة بكل ما هو سعيد يغني عن أهمية أن يعيش الانسان الحياة بكل صعوباتها ومنغصّاتها. وهذا تعبير برجسوني على لسان باشلار في مطابقة فلسفية وجدانية لا تبتعد كثيرا عن تأثير جمالية المكان على الروح والنفس.

- في حال إضطرارنا الإستمرار بمناقشة أفكار برجسون الباشلارية الخالية من كل معنى هادف فلسفيا حتى لو كان على مستوى تعبير اللغة، لكان الى جانبنا ما يسوّغ لنا دخول المناقشة العقيمة هذه بالتالي:

على صعيد النفس كمصدر لتخيّلات الذاكرة أو بالعكس كمخزون الذاكرة يحدد إفصاحات النفس عن كوامنها، يمكننا تمرير أن مخيلة النفس في إستقدامها الماضي ليكون حضوريا في آنية زمانية هي الحاضر لا غبار عليه شرط أن لا يقتصر فهم الماضي حضوريا هو اولا واخيرا مبعث ذكريات نفسية لا قيمة لها كتحقيب تاريخي زماني يتجاوز إستثارة نزعات النفس العاطفية والسايكولوجية الفردية المتلاشيّة. الماضي وقائع تاريخية لا تكون جميعها مصدر إغناء الذاكرة والمخيلة بالذكريات الجميلة التي ترغبها النفس.فالماضي كتحقيب تاريخي زماني وقائعي مثقل بما لا يستطيع حمله من أحزان وآلام ومآسي وحروب وفقر ومجاعات وأوبئة الخ.

والحقيقة الاخرى التي لا يستطيع برجسون عبورها والقفز من فوقها، هي أن الماضي تحقيب زماني ثابت محكوم بثبات وقائعه التاريخية. والحاضر زمان يدرك حضوره بدلالة إستذكاره الماضي من جهة وتصنيعه المستقبل كسيرورة تاريخية من جهة أخرى مقابلة للماضي. الحاضر لحظة لازمنية لانها سيرورة منحلة يتقاذفها شد الجذب نحو الماضي تارة ونحوتصنيع المستقبل تارة اخرى.

فكيف يتسنى للزمان النفسي الإلمام التحكمّي بكل هذه المستويات الزمانية وما تحتويه من موضوعات ووقائع وتغيرات وسيرورة وتوقعات وعلاقات وهكذا ما لا حدود له.؟ ملازمة النفس للزمان لا يمنح النفس الإمكانية الإحتوائية للزمان كمطلق لا متناهي بذريعة الزمان يحتويها ولا تحتوي هي الزمان ولا تنوب عنه.

الطاقة النفسية في الإدراك الاستذكاري للزمن الماضي محدودة بالنسبة لمطلق الزمان. وحين يربط برجسون ملكية النفس للزمان ليس معنى هذا إمتلكت النفس الطاقة اللامحدودة للزمان وذابت وتلاشت الفروقات بينهما. الزمن فضاء إحتوائي مطلق أزلي والنفس جوهر محتواة متعيّن محدود يطالها التغيير والتبديل وحتى التلاشي والإضمحلال كمحتوى للعواطف والانفعالات والاحساسات .

ولو نحن أجرينا مقارنة بين الماضي كزمن تحقيبي تاريخي مع الحاضر الذي هو تمّوجات من الحركة الدائبة التغييرالمستمر وعدم الإستقرار نتيجة ملاحقة ما يطرأ على الحاضر من مستجّدات يحاول الزمن المستقبلي دوما تجييرها لحسابه لا للحاضر ولا للماضي. الزمان المستقبلي تصنيع مصدره تداخل الماضي بالحاضر.

حينها لا يمكننا أن نجيز للنفس إمتلاكها التحكم بالزمن بالإستذكارت لا ماضيا ولا حاضرا ولا مستقبلا. ونعود الى حقيقة أن الزمن جوهر يمتلك كل شيئ ولا يملكه شيء أبدا. حتى الانسان جوهر مملوك للزمن ولا يقدر هو إمتلاكه الزمن أو السيطرة عليه.

باشلار وجوهر النفس

في تقصّي جاستون باشلار خطى هنري برجسون حول الزمن النفسي العابر للسايكولوجيا يرى " الفلسفة النفسية لم تعد سوى فلسفة زمنية، ولم يعد التواصل هو تواصل الجوهر المفكر سوى تواصل الجوهر الزماني، إن الزمان حي والحياة زمانية، ولم يحدث هذا أبدا قبل برجسون أن تم وضع التعادل بين الوجود والصيرورة على هذا النحو"2.

هل هذا الفتح التمجيدي لبرجسون يستحق مثل هذا الإطراء من باشلار الذي ليس في مكانه من الناحية الفكرية الفلسفية وليس من ناحية فيلسوف ينفخ في قربة فيلسوف آخر مثقوبة. عن آراء فكرية تحمل كل معوقات الإدانة في دحضها؟

لو نحن عدنا لما كنا أشرنا له سابقا في إعتبارنا حقيقة الزمان جوهرا كليّا مطلقا- نحن نتناول الزمن ليس من منظور علمي فيزيائي نسبي كما توصله انشتاين في النسبية العامة 1915- لا متناهيا متحررا من ملازمته النفس التي هي جوهر فيزيائي تدرك تمظهراتها الإفصاحية النفسية المرتبطة إرتباطا وثيقا مع الوعي القصدي السلوكي تحت رقابة العقل، وترتبط بسايكلوجيا الشعور واللاشعور سواء في التعامل السلوكي خارجيا في تخارج متبادل مع العالم الخارجي أو داخل جسم الانسان في الاستجابة تلبية لرغائب الاحاسيس التي تستشعرها النفس داخليا وتنقلها للدماغ في وجوب إشباع الايعازات الاجرائية.. .

بهذه الوظيفة البايولوجية للنفس التي هي تملّك تجريد زماني وتملّك تجريد إدراكي وتملك تجريد تعبيري ايضا عن كل ما يعزز وجودها على صعيدي الواقع خارج جسم الانسان كسلوك وعلى صعيد الواقع الاستبطاني داخليا في تلبية إشباع غرائز الجسم.

النفس كوجود مادي وليس كتجريد نفسي خارج محدودية السلوك الواقعي المترتب وظيفيا على النفس بإعتبارها وعيا قصديا ماهيته الجوهرية هو السلوك ضمن مجتمع، ومخرجات النفس السلوكية والأخلاقية والعاطفية هي تداعيات من شعور يمتلك وعيه القصدي ممتزجا مع لاشعور لا يحدّه منطق فلسفي تجريدي إلا من خلال التعبير عن نفسه سلوكيا أو تفكيرا خياليا، والنفس ليست سايكولوجيا تدرك إفصاحاتها عقليا قبل ترجمة ما تملكه في تعاملها مع الواقع. هذا التحقق الاصيل لجوهر النفس هو زمان فلسفي نفسي خارج معاملة الزمان بمنطق رياضي صارم يماليء منطق التفلسف في طواعية على حساب سيولة مخرجات النفس السلوكية قاطبة.

برجسون والعدم

" يرى باشلار أن فكرة العدم هي في نهاية المطاف أغنى من فكرة الوجود للسبب التالي – والكلام لباشلار -  هو أن فكرة العدم لا تتدخل ولا تتبلور إلا بزيادة وظيفة إضافية للإعدام على شتى الوظائف التي نطرح الوجود بواسطته ونصنّفه ."3

ويضيف ايضا " وفكرة العدم البرجسوني تعتبر وظيفيا أغنى من فكرة الوجود.". في تعريف سابق لي منشور عن العدم أن العدم لا يتقدمه وجود ولا يعقبه وجود ولا يتوسط موجودين لا بالفراغ ولا بالامتلاء، بل هو عملية إفناء يلازم كل موجود في الوجود. عليه برأيي الشخصي كلمات باشلار لا تمتلك حجّة الإقناع الفلسفي خاصّة إعتباره العدم أغنى من الوجود قيمة وظيفية ولا نعرف ماهيّة هذه الوظيفة خارج حقيقة العدم أنه لاشيء... العدم هو اللاشيء الذي يفني كل شيء حي، ولا يعدمه شيء.

العدم بإجماع فلسفي هو ليس جوهرا  مدركا لا ممتلئا ولا فارغا، العدم هو مطلق إفنائي بلا محدودية ولا تعريف أنه اللاشيء. ولا يحدّه إدراك زمكاني، فكيف يرغب باشلار على لسان بريجسون تحميل العدم بما لا يستطيع الوجود حمله من إمتلاء غني؟ كيف يصبح العدم حمولة مكتنزة موجودية وظائفية هي في نهاية المطاف عند برجسون وباشلار هي أكثر بقاءا وغنى بالقياس لحمولة أي موجود مادي عياني؟ الوجود هو ما نعيشه وليس ما نتخيله، والوجود يكتنز بموجوداته المحتواة فيه ماديا وهو ما لا يتوفر للعدم أن يكون أكثر حمولة موجودية في التعبير عن الحياة بمصادرة حقيقة الوجود الجوهرية.

كل تصور فلسفي يعتبر العدم (فراغا) قابلا للاحتواء فيه يمكن إدراكه بحمولة امتلاءاته هو كلام فارغ لا معنى له بل وسذاجة فلسفية. فالعدم ليس فراغا وجوديا قابلا لتحديده أنطولوجيا ليكون مستودعا خزنيا لإمتلاءات موجودية مادية وخيالية، وليس عدما يركب ظهر كل موجود ويحكمه بحتمية الموت والفناء.

العدم هو اللاشيء الذي يمكننا إدراك نتائجه الإفنائية للاحياء فقط، ونعجز عن إدراكه لا ماديا ولا تجريدا ولا نفسيا، ولا يتّخلق عن العدم وجود محدود ولا وجود مطلق.العدم ليس وجودا بل هو فائض وجود سلبي طاريء على كل موجود حي لوصول حتمية إفنائه. العدم دلالة عن وجود وهمي غير موجود لا في الحياة ولا في مطلق الكون.

واذا ما كان العدم حسب برجسون أو باشلار لا فرق بينهما (جوهرا) ممتلئا بأكثر مما يحتويه الوجود، فبأي منطق فلسفي يتاح لنا تصويب هذا الإدعاء؟ وإذا ما كان العدم جوهرا ممتلئا بأكثر من حمولة الوجود، فأين نضع فذلكة هيدجر متسائلا حين وضع العربة أمام الحصان قوله: لماذا كان الوجود ولم يكن العدم؟ بهذا التساؤل الهيدجري يلمّح الالتقاء بنفس الفهم الذي عبّر عنه باشلار من بعده. لماذا كان الوجود ولم يكن العدم ؟ تساؤل هيدجر هذا هو هروب الى أمام من مواجهة الاجابة وتوضيحه على شكل تساؤل مراوغ لا يعرف خلاص عدم قدرة الاجابة عنه. هذا الافتراض غير المنطقي الذي يقاطع منهج الفلسفة قبل حقيقة رفض العقل التفتيش عن إجابة مقنعة لفرضية إفتعالية لا معنى لها.

لنتخيّل هذه الفرضية التي بلا معنى التي أثارها فاتح الفتوحات الفلسفية هيدجر أن العدم يحضر بدلا من الوجود فبأي معنى يكون وجود الطبيعة والانسان في جميع تعالقاتهما بالحياة؟

أنا ليس عجبي طرح عبارة ساذجة صادرة عن فيلسوف لخبط كثيرا بالفلسفة في كتابه (الكينونة والعدم) في محاولته مزاحمة كتاب سارتر (الوجود والعدم). وتلقى هيدجر الاجلال والتبجيل العربي وغير العربي الأحمق في كتابة الاطاريح الجامعية في تحميل الكتاب ماليس به من فوضى مصطلحية وفوضى مفاهيمية، بل ما أعجب له هو معاملة هذه السخافات الهيدجرية عندنا عربيا على طريقة ملابس الامبراطور الجديدة ولم نسمع طفلا يصرخ ببراءة وسط حمقى لا يسمعون أن الامبراطور عاريا. أليس من السذاجة تمرير أن العدم إمتلاء أكثر مما يمتليء به الوجود، وكأنما حالنا يوجب علينا الاهتمام إحصاء عدد قتلانا بمعركة طاحنة ونتبّرك بعدد الناجين القلائل السالمين من الموت.

نكمل مع الحاصل على جائزة نوبل الفيلسوف برجسون عن الجوهر هذه المرة قائلا:" الجوهر المنظور اليه بوصفه جملة إمكانات يعتبر غير قابل للنفاد، فالممكن لا يفشل أبدا من حيث هو ممكن لأنه يظل ممكنا، والمرجّح بصرف النظر عن النكسات أو النجاحات، فإن المرجّح الموزون جيدا من حيث هو مرجّح إنما يحتفظ دائما بقيمته الصحيحة " ص 18

اذا كان المقصود بهذه الاجترارات في تقيوءاتها الهضمية المعبّر عنها بتهويمات لغوية لا يلجمها عائق عن الهذيان ويوقفها، فمتى وكيف يمكننا الجزم أن الجوهر بوصفه جملة إمكانات غير قابل للنفاد، وكيف لنا إثبات الجوهر يمتلك طاقة لا محدودة لا تنفد، فهل المقصود بالجوهر هو كل عصّي على التصّور الإدراكي منه سواء ماكان ماديا أو كان تصورّيا خياليا تجريديا؟ ومتى كانت النفس أو العدم أو أي مصطلح فلسفي غيرهما يخص الانسان والطبيعة يقاس بمعيارية الجوهر الذي لا يدركه العقل؟ كما ولا تدركه النفس ايضا. الجوهر كمحتوى وجودي إفتراضي في الاشباء لم تتم البرهنة على وجوده إدراكيا، كذلك الجوهر ميتافيزيقا بدلالتها نفهم الوجود لم تثبت هي الاخرى صحتها فعن أي جوهر يتحدثون؟

متى كان الجوهر يسبق الوجود الإدراكي لكينونة الموجود ويملأ الفراغات؟ ومتى كان الجوهر هو ماليء الفراغات في الوجود ؟الجوهر يكون أو لا يكون وفي كل الافتراضين هو مقولة لم يتحقق توضيح ما هو المعني بها تحديدا كمصطلح وليس كمفهوم..

الجوهر يستبق الوجود الطبيعي والكوني معا حينما يكون جوهرا ازليا يمتلكه الله وحده كما ذهب له اسبينوزا معتبرا الوجود يعرف بدلالة الجوهر وليس العكس أن نعرف الجوهر بدلالة الوجود ونفتش عنه إبرة ضائعة وسط جبل من القش..

على صعيد الانسان والطبيعة، فالانسان وحده يمتلك جوهرا إستثنائيا كنوع عن جميع موجودات الطبيعة، وجوهر الانسان لا يسبق موجوديته الانطولوجية. الجوهر الذي يسبق الوجود كما في مذهب وحدة الوجود لدى اسبينوزا، هو جوهر إلهي إيماني غير موزّع جوهره ولا صفاته على موجودات الطبيعة كما يردد بعض أصحاب مذهب وحدة الوجود.

كل موجود بالطبيعة يحمل جوهرا دلاليا عن وجود الله. عندما نقول الله لا يوزع بعضا من صفاته ولا بعضا من ماهيته أو جوهره على موجودات الطبيعة للبرهنة الاستدلالية على وجوده الايماني، فهو لسبب نعقله لا يحتاج البرهنة على خطئه.

من حيث أن الجوهر الإلهي الازلي لا يجانس ماهويا الجواهر المادية التي يمكن للعقل الانساني إدراكها في حال التاكد من وجودها وراء صفات الموجودات في الطبيعة. حسب إعتقادي لا يوجد كائن من مخلوقات ومكوّنات الطبيعة يمتلك جوهرا هو غير صفاته الخارجية ما عدا الانسان الذي يمتلك قابلية تصنيع جوهره الخاص ولاصفاته الخارجية هي تعبير عن جوهره تمتلكه داخلها.

الانسان يمتلك جوهرا وصفات بخلاف كل موجودات الطبيعة من حيوان ونبات وجماد لا يمتلكون غير الصفات الخارجية التي يدركها الانسان. والشيء الذي سبق لي ذكره في غير هذا المقال أن اسبينوزا إعتبر إدراك الوجود بموجوداته لا يسبق الجوهر الأزلي الذي بدلالته غير الحسّية الإدراكية نعرف الوجود بحمولته من الموجودات.

لا يوجد على مستوى الطبيعة والكون والخالق سوى جوهران أحدهما يمتلكه الخالق وحده ولا يشاركه به أي موجود لا في الطبيعة ولا في غيرها والثاني يمتلكه الانسان فقط دون جميع كائنات الطبيعة من الاحياء كونه جوهرا يصنعه الانسان ذاتيا لنفسه وهو غير مدرك للعقل من غيره لأنه جوهر فردي إختلافي مصنوع على مستوى النوع.

الطبيعة في وجودها المستقل إنما يتم إدراكها بدلالة جوهر ألهي أزلي لا يدرك هذا الجوهر في موجوداته ولكن موجودات الطبيعة والانسان تدرك بدلالته.. وهذا حين يكون الجوهر مطلقا خالقا لموجوداته وبدلالة جوهره تعرف تلك الموجودات وهذا منهج منطقي ميتافيزيقي صرف في ازلية الجوهر إعتمده كما ذكرنا اسبينوزا في مذهب وحدة الوجود...

عجز الانسان إدراك بعضا من الجوهر الالهي موزعا موجوديا في الطبيعة أو مختزنا نورانيا في الله يقف على حافة إدراكه المتصوف يعتبر معجزة دينية قائمة بذاتها، لأن إدراك جزءا من جوهر إلهي في الطبيعة يقود الى إدراك ميزات جوهرية وصفات توصل لماهية وجود الخالق وإتاحة امكانية إدراكه بكماله الالهي وهو محال. تشييء الله او بعضا من صفاته غير المعروفة ولا المدركة عملية لا معنى لها.

ما هو الجوهرالفلسفي؟

 الجوهر هو الماهيّة التي تجعل من الموجود كينونة مدركة بكمالها، الكينونة موجود بلا ماهية تطال كائنات الطبيعة ما عدا الانسان. كل مدرك وجودي مادي وغير مادي ندركه من حولنا بصفاته الخارجية فقط وتبقى مسألة الجوهر فرضية لم يستطع أحدا البرهان عليها.

لا بد لنا الاجابة عن تساؤل مشروع هو لماذا يمتلك الانسان جوهرا هي غير صفاته الخارجية؟ جواب هذا التساؤل كان سبقنا به سارتر معتبرا الجوهر ليس معطى جاهزا يرثه الانسان بالفطرة الولادية، ويحتجب خلف الصفات الخارجية للانسان، بل الجوهر هو عملية تصنيع ذاتي غائي يقوم على تراكمات من التجارب والخبرات المكتسبة من الحياة والمحيط التي تختلف من شخص لآخر، فلا يوجد شخصان يمتلكان جوهرين متشابهين حتى لو كانا توأم بالولادة الفكرية يمتلكان نفس الملامح الخارجية لكنما كل واحد منهما يصنع ماهيته الشخصية به منفردا عن الاخر..

وجوهر أي فرد هو جوهر لا يدركه ولا يعيه شخصا آخر غير صاحبه. لذا ما ندركه بالانسان (كينونة) موجودية هي صفاته الخارجية ودواخله النفسية التي إتخذت حالة السلوك الفردي أو المجتمعي. وما عدا ذلك يدخل ضمن جوهر الانسان المتفرّد به وحده. مثل إمتلاك الضمير، حب الخير، العواطف والوجدانات، الاخلاق الخ من تجليّات نفسية ندركها بسلوك الشخص وتصرفاته بالحياة.

سؤال إشكالي آخر هو مالفرق بين الجوهر في مذهب وحدة الوجود لدى الصوفية وبعض الفرق الدينية من جهة، والجوهر الذي يمتلكه الانسان غير المحتاج البرهنة الايمانية الدينية ليمتلك جوهره الماهوي؟ الجواب نلخصه بالتالي:

إنتهينا في أسطر سابقة أن جوهر الانسان خاصية إنفرادية ليس على مستوى الاختلاف مع الكائنات الحية بالطبيعة التي لا تمتلك جوهرا أبعد من صفاتها الخارجية. لكن هل يلتقي جوهر الانسان بجوهر الخالق الذي يعتبره اسبينوزا وصوفية مذهب وحدة الوجود، مستمدا من جوهرالخالق الخالد الازلي الله.؟ الجواب قطعا بالنفي ولماذا ؟ جوهر الانسان تكوين خبراتي مادي مكتسب من مدركات الطبيعة والمحيط والحياة، فهو جوهرمصدر خلقته الطبيعة والحياة في تصنيع الانسان له، لذا فهو لا رابط روحي ولا صفاتي ولا ماهوي له مع الجوهر الازلي الخالق لكل موجود.

الله لا يوزع صفاته على موجودات الطبيعة التي يمكن للانسان أن يدركها بعقليته المحدودة. وكذا لا يوزّع بعضا من جوهره الالهي على الانسان أو كائنات وموجودات في الطبيعة لأن إدراك تلك الجواهر من قبل الانسان تبيح الطريق له  معرفة ألاكثر من جوهر الخالق وهو محال عقليا قبل ان يكون محذورا دينيا. .

فالعقل الانساني مبرمج على قدرة إستيعاب إدراكية لا تتعدى حدود ما يمكن ومسموح به إدراكه من الطبيعة وقوانين فيزيائية لا أكثر من ذلك. بمعزل تام عن الجوهر الالهي وتجريد الجوهر عن الموجود محال معرفته قبل محال إمكانية فصله.

حسب طرح اسبينوزا حول الجوهر، لم يقل أن كل شيء بالطبيعة يحمل جوهر خالقه، فجوهر الخالق إستدلال شمولي مطلق لامتناهي لا يدرك وبدلالة هذا الجوهر نعرف وندرك الوجود بموجوداته.

سابقا كان الفلاسفة يبحثون عن جواهر الاشياء الدفينة خلف صفاتها الخارجية البائنة المدركة ولم يجدوا شيئا، لذا اسبينوزا قلب المعادلة قوله بدلالة الجوهر ندرك الوجود. بمعنى نسف كل الفلسفات المادية التي ترى الوجود سابق على الجوهر، والاولية للوجود قبل الماهية لم تعد تقنع اسبينوزا الذي زرع بذرته بدلالة الجوهر الالهي ندرك الوجود قبل ظهور مبدأ الوجودية الانسان يوجد اولا ومن ثم تتكون ماهيته الجوهرية..

أما إذا كان برجسون وباشلار يريان الجوهر يزامن النفس ويلازمها لدى الانسان فهو رأي مقبول بإشتراط ملزم يفرض نفسه، هو أن يكون جوهر الانسان مدركا بدلالة إدراك النفس لذاتها قبل إدراك العقل للجوهر.

وفي كلا الافتراضين محال معرفي إدراكي عقلي. الوجود يعرف بدلالة جوهر(لامادي) يبقى طرحا ميتافيزيقيا ومادة نقاشية يطول حسمها. علما أن اسبينوزا كما مر بنا يؤمن بهذا المبدأ في حال معرفة تبعية إدراك الوجود بدلالة جوهر الهي لا يدرك جوهر خالق الوجود ولم يخلق جوهره ولا وجوده أحد.

أما أن الجوهر يكون إستدلالا عن نفس تعي ذاتها كنوع – الانسان فقط -  فهذا ليس له علاقة إستنساخ من غيره على إفتراض مشكوك به هو أن يكون لموجودات الطبيعة جواهرا هي غير صفاتها الخارجية. كل موجودات الطبيعة هي صفات خارجية لا تمتلك جواهر مستقلة عن صفاتها باستثناء الانسان فهو يمتلك صفات خارجية مدركة لا تمثل ماهيته.

الجوهر الزماني النفسي

حسب تعبير باشلار على لسان برجسون يرى مخزون الجوهر القيمي هو أسمى في التعالي وأكثر بألامكانيات من الوجود،  كلام  مسؤول البرهنة على صدقيته.

تعبير باشلار هذا وتعبيرات فلاسفة عديدين لا يحصى عددهم المليئة كتبهم ومقالاتهم الفلسفة بتهويمات لا معنى لها يلجأنا بالضرورة العودة الى مرجعية فلسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية فائض المعنى ومباحث علوم اللغة واللسانيات، رغم كل السلبيات والإحباطات التي اصابتها في مفاصل قاتلة، إلا أننا مع كل ذلك نعتبرها قارب النجاة لتخليصنا من طلاسم لغوية المفروض بها أن تتسم بالوضوح الكافي وتعبّر عن معرفة رصينة يدعمها إدراك العقل.

وكان فلاسفة اللغة غير المتطرفين في منتهى العبقرية حين رفضوا أن تبقى الفلسفة كما هي عبر قرون طويلة تجريدا فلسفيا عصّيا على الإستقبال في إنغلاق لغة التعبير الفلسفي على نفسها بغموض تجريدي يخلط الاخضر واليابس.

باشلار الذي عرفناه فيلسوفا ذي نزعة علمية في الفلسفة  ودعوته الى تكامل يخدم العلم والفلسفة نجده يقع في كتابة تعابير فلسفية غريبة متهالكة المعنى مثل قوله " لن نفهم جيدا دلالة ومدى النقد البرجسوني الدقيق إلا إذا وقفنا بعناية في المضمار المثالي لمعرفة الوجود الانطولوجي " ومضيفا " وعلى هذا النحو يحضر الحوار المتصل أبدا بين الروح والاشياء. وهكذا تكون القاطرة المتواصلة التي تجعلنا نشعر بالجوهر في ذاتنا على مستوى الحدس الحميم، رغم تناقضات الإختبار الخارجي "4.

هذه التعبيرات وغيرها التي تجد حوارا بين الروح والاشياء بعيدا عن البعد الانطولوجي والعلم الذي هو حقيقة ألاشياء في وجودها، وكذلك في إنزال الروح من حقيقة اللاجوهرالتي لا يمكننا إدراك تلك الروح أنها تقود القاطرة التي تجعلنا نشعر بالجوهر في ذاتنا على مستوى الحدس الحميم رغم تناقضات الاختبار الخارجي.

أي أن هذه العلاقة بين الروح والاشياء التي تشعرنا بجوهرنا لا نقول خاطئة تماما حيث علاقة المكان بالنفس تخلق تداعيات غير مسبوقة وتستدعي تداعيات أخرى من الذاكرة بما يجعل النفس حالة من الانتشاء المريح للنفس ولا يبعث حقيقة جوهرنا المبالغ به. إستقدام الروح بدل الشعور النفسي الدخول في حوار مع الاشياء غير موفق، الروح لا تتعامل مع المادي بل تتعامل مع ما هو متعالي على الوجود والمادة، لذا تدخل النفس بعلاقة حميمية مؤنسة مع الاشياء وارد جدا ولا ينطبق على الروح ولا يمنحنا حقيقة الشعور بجوهرنا..الجوهر يختلف عن الروح أنه صفات مدركة من صاحبها، بينما الروح هي غير النفس اولا، وثانيا الروح جوهر غير مدرك حتى بعد موت الجسم وفنائه، ومقولة الروح تغادر الجسم حال وفاته تحتاج دليل برهاني لا يمكن تعويضه بمشاعر نفسية انطباعية تجريدية وسلوكية.

وعندما ربط باشلار بين حوار الروح والاشياء سرعان ما استدرك قوله " هذا الحوار يجعلنا التسليم بحدس حميم متناقض على مستوى الإختبار الواقعي المادي الخارجي".

لا أعتقد نحتاج تفنيد أكثر ما موجود في عبارة باشلار نفسه من حيث أن حوار الروح مع الاشياء لا يمنحنا جوهرنا الذي يناقضه الواقع الخارجي. وتحقيق الإفتراض أن يكون للنفس وليس للروح جوهرا يعبر عن نفسه بمنأى تقاطعه مع الواقع المادي الخارجي الذي يدحضه أمر مفروغ التسليم به يقرّه باشلار نفسه بعبارته الإستدركية التي اشرنا لها...

يقول باشلار" عندما لا أعترف بالواقع فذلك لأني مستغرق في الذكريات التي طبعها الواقع ذاته في نفسي، ولأنني إستدرت نحو ذاتي"5

هنا ينزلنا باشلار من التحليق الروحي النفسي معه الى حوار مشترك مع الاشياء. إلا أن الواقع هو مصدر إنطباعات الذكريات ما يغني عن الواقع ذاته الذي لا يعترف به باشلار، الذي تفرض الاستعاضة عنه إستدارة فيلسوفنا باشلار نحو الذات التي إنطبعت كل ذكريات الواقع عليه.

إذا كانت أفكار باشلار التي مررنا بها تقود الى تحقق علاقة روحية بين النفس والذات كمستودع إحتواء لذكريات جميلة بديلا عن الواقع لكنها المستمّدة منه . هذه العلاقة إنما تكون في تعالق النفس مع الخيال والذاكرة وليس مع الجوهر الذي هو تراكم خبرة معرفية.

وكل توجه وتفكير مثالي في التعبير عنه، مقولات، موجودات، علاقات، سيرورة في الواقع المادي للاشياء لا قيمة حقيقية لها لا على مستوى التفكير الفلسفي، ولا على مستوى علم النفس التقليدي. وتبقى الذكريات التي يستعيدها مخزون الذات بشكل نوازع ورغبات نفسية تحاول تطويع تناقضها الخيالي مع تصادمها بالواقع، ومدركات العقل المادية الى مشاعر وعواطف وإنفعالات في مرجعية النفس لها وليس في مرجعية العقل لها.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

......................

الهوامش: 1، 2، 3، 4، 5، جاستون باشلار/ جماليات المكان /ترجمة خليل احمد خليل/ ص16 – ص18.

في الفرق بين السؤال العادي والفلسفي

عادة ما يقال إن الفلسفة تتميز بكونها حقلا معرفيا يهتم بالأسئلة المرتبطة بالوجود البشري في تنوعه وتركيبته المعقدة، دون أن يكون له اهتماما واضحا وقصديا بالأجوبة الممكنة عنها. إن هذا الانطباع الذي يصاحب كل ذات تتطلع لمعرفة أولية بالفلسفة، أو حتى عند المشتغلين بها، يحمل بعض الوجاهة التي تقتضي الاهتمام بها وتأملها فلسفيا، في أفق الكشف عن طبيعتها ومدى صحتها الاستدلالية والحجاجية.

لذلك، يمكن القول إن من طبيعة التفكير الفلسفي أنه تفكير يعتمد على نوع من الأسئلة التي تخلق لنا الكثير من المفارقات الفكرية والمعرفية التي لن نجد لها حلولا نهائية، اللهم بعض الأجوبة الممكنة في الزمان والمكان. نعني بذلك، أن التفكير الفلسفي يتقوم على السؤال الفلسفي بوصفه سؤالا يتسم باللاتناهي من حيث الطرح والمعرفة، إذ كل ما حولنا تحديد قضيته إلا وينفلت منا، فيفتحنا على آفاق بحثية أخرى إلى ما لا نهاية.

ولئن كان الأمر بهذه الكيفية، فذاك يعني أن ذلك الانطباع المشاع بين الناس حول الفلسفة في كونها تهتم بالسؤال أكثر من اهتمامها بالجواب، يحمل بعض الصحة من حيث المبدأ، لا من حيث التدليل والحجة، لأن الفلسفة حينما تركز اهتمامها على السؤال، فلكونها تنطلق من فرضية أساسية مفادها أن الإنسان-الفيلسوف بوصفه كائنا يحمل في جوفه النقص والمحدودية، فإنه يعجز عن تحصيل معرفة نهائية لموضوع معقد ومركب هو الإنسان ذاته. وبما أن كل جواب ممكن هو جواب غير مكتمل من حيث المعنى والمعقولية، فإن السؤال يبقى دائم الحضور والاهتمام في أفق الحصول على إجابات أكثر معنى ومعقولية.

وإذا كانت الفلسفة متميزة من هذه الزاوية بحضور السؤال وديمومته، بوصفه أداة لفتح آفاق بحثية حول الإنسان وما يرتبط بكينونته ووجوده، فإن الضرورة المنهجية تستدعي منا الكشف عن طبيعة السؤال الفلسفي، والفرق بينه وبين الأسئلة اليومية المبتذلة التي تخص الحياة الذاتية في أبسط تجلياتها ورتابتها، مع الوقوف عند أهم الخصائص التي تميز كل نمط على حدة.

إن أول ما يمكن أن نبتدئ به في سيرورة بسطنا لطبيعة السؤال الفلسفي وخصائصه، هو الوقوف عند طبيعة السؤال عامة. لذلك، يمكن تحديد السؤال في كونه قضية استفهامية لا تتطلب الإجابة عنها استحضار أطروحة فلسفية أو علمية. مثال ذلك، حينما نتساءل "كم الساعة الأن؟. فالقضية هي الساعة الآن، أما أداة الاستفهام فهي تجمع بين كلمة "كم" والرمز التالي (؟). وبما أن هذا السؤال يخص التوقيت الزمني للحظة الراهنة، ولا يخص الزمن كمفهوم فلسفي أو كقضية إشكالية، فإن الإجابة عنه لا تتطلب استحضار تصورات فلسفية وعلمية، بقدر ما نحتاج في الإجابة عنه النظر إلى الساعة وإخبارنا بذلك.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن للسؤال العام أو العادي جملة من السمات التي ينفرد بها، وهي كالتالي: أولا: يتميز السؤال العادي في كونه قضية استفهامية فقط، وليس قضية إشكالية ضرورة. ثانيا: لا يتطلب هذا النوع من الأسئلة إجابات متعددة، بل إجابة واحدة ممكنة. ثالثا: يتسم السؤال العادي بكونه سؤالا ينتهي بمعرفة الجواب (معرفة التوقيت الزمني اللحظي نموذجا). رابعا: لا يستدعي السؤال العادي في الإجابة عنه مجهودا عقليا وفكريا. خامسا: لا يتميز السؤال العادي بالقصدية المعرفية. سادسا: لا يتسم هذا النوع من السؤال بالكونية، لكونه ليس سؤالا معرفيا محضا.

أما السؤال الفلسفي، فهو ذلك النمط من الأسئلة الذي يتحدد في كونه "قضية استفهامية تتطلب الإجابة عنها استحضار تصور فلسفي أو علمي". مثال ذلك، القول: ما أساس هوية الشخص عند جون لوك؟. فالقضية هي هوية الشخص عند جون لوك، أما أداة الاستفهام فهي كلمة "ما" ورمز أداه الاستفهام (؟). وإذا كان السؤال الفلسفي يتسم بكونه قضية استفهامية تستدعي الإجابة عنها استحضار تصور فلسفي أو علمي، فإن لهذا النوع من القضايا الاستفهامية خصائص وسمات كذلك. يتسم السؤال الفلسفي بكونه قضية استفهامية تتطلب إجابة ممكنة أو إجابات ممكنة، لكونه لا ينتهي بمعرفة جواب محدد بعينه. ثم، إن كل سؤال لا ينتهي بمعرفة الجواب، إلا ويمكن اعتباره سؤالا إشكاليا محضا يتطلب من الباحث عن جواب له جهدا ذهنيا وعقليا. وإذا كان السؤال الفلسفي سؤال يدفع الباحث عن جواب له نحو اشتغال ذهني، فإن ذلك يفيد أن للسؤال الفلسفي قصدية معرفية من ورائه، ولذلك، نعتبره سؤالا كونيا.

***

د. لوكيلي عبد الحليم - المغرب

أستاذ مادة الفلسفة

المقدمة: في عالمٍ يُرفع فيه شعار الحرية في كل مكان، ويُروَّج لثقافة الاختيار كأقصى تعبير عن الذات، يبدو الإنسان وكأنه يعيش في فضاءٍ مفتوح يتيح له أن يكون ما يشاء ويختار ما يشاء. لكنّ نظرةً فاحصة تكشف هشاشة هذا التصوّر؛ فما يُقدَّم كحرية غالبًا ما يكون مُصاغًا ضمن قوالب مسبقة، وخياراتٍ محدودة لا تخرج عن المسار المُراد. نختار بين سلعٍ تُسوَّق إلينا، بين أفكارٍ مُعدَّة سلفًا، بين نماذج للحياة تُفرض كـ"عصرية" أو "ناجحة"، بينما نُمنَع من تجاوز الخطوط غير المعلَنة التي ترسمها السلطة، أكانت سياسية أو اقتصادية أو ثقافية. إن ما نعيشه قد لا يكون حرية بقدر ما هو وهمٌ مُتقن التصميم؛ حريةٌ مشروطة، تُتاح فقط في حدود ما لا يُربك النظام. من هنا، تنبع إشكالية هذا المقال: هل نحن أحرار حقًا؟ أم أننا نعيش تحت وطأة اختياراتٍ محدَّدة، وصيغٍ مروَّضة من الحرية تُخدّر وعينا وتُفرغ إرادتنا؟ هل الحرية كما نمارسها اليوم هي تعبير عن ذواتنا، أم مجرد شكلٍ ناعم من الطاعة؟

الحرية في الفلسفة: المفهوم المثالي

منذ فجر الفكر الفلسفي، شكّلت الحرية جوهر تساؤل الإنسان عن ذاته ومصيره، بوصفها أعلى مراتب الوجود الواعي. لم تكن الحرية مجرد قدرة على الفعل، بل قدرة على التعقّل والاختيار الأخلاقي في عالم يضجّ بالإمكانات والتناقضات. عند أفلاطون، اقترنت الحرية بالانسجام الداخلي بين النفس والعقل، بينما رأى أرسطو أنها تتجلى في ممارسة الفضيلة ضمن نظام يوازن بين الفرد والجماعة. أما الفلاسفة الحداثيون كـديكارت وكانط، فقد جعلوا من الحرية أساسًا للكرامة والعقلانية، شرطًا لإتيان الفعل الأخلاقي لا نتيجة له. غير أن هذا المفهوم المثالي ظلّ معلقًا بين الرغبة في الاستقلال والتقييد الملازم للعيش المشترك. الحرية، في صورتها الفلسفية، تُفترض كقيمة أولى، لا كمعطى واقعي. إنها، في نهاية المطاف، لحظة وعي بالقدرة على تجاوز الحتمي، لا حالة دائمة أو مضمونة.

وهم الاختيار: حدود حرية الفرد

في الواقع اليومي، يبدو الإنسان وكأنه يختار بحرية: ما يلبسه، ما يستهلكه، من يتابع، وحتى من يحب. لكن هذا التنوع الظاهري يخفي خلفه نظامًا صارمًا من التوجيه المسبق والتطبيع، حيث تُقدَّم الاختيارات لا بوصفها إمكانات مفتوحة، بل كمصفوفة محكومة بالذوق العام، بالعرض، بالتسويق، وبمنظومة القيم السائدة التي تُصاغ بفعل الإعلام والرأسمال والمعايير الثقافية. نختار داخل إطار مُعدّ مسبقًا، لا خارجه. حتى "الاختلاف" نفسه غالبًا ما يُعاد إنتاجه كنمط. نحن نختار، نعم، لكن من قائمةٍ كُتبت لنا، لا من إحساسٍ داخلي بالحرية. وهكذا يتحوّل الفعل الحرّ إلى تكرار ناعم لقوالب جاهزة، تختزل الذات إلى مستهلكٍ مُطيع يظن أنه يتحكّم، بينما هو يتحرّك ضمن حدود مرسومة بعناية. في هذا السياق، يصبح وهم الاختيار أكثر خطورة من القيد الظاهر، لأنه يُقنعنا بأننا أحرار بينما يُفرغ الحرية من معناها العميق.

سلاسل الترويض: التكييف الاجتماعي والسيطرة

منذ الولادة، يُحاط الإنسان بشبكة غير مرئية من التوجيهات تبدأ بالأسرة ولا تنتهي بالمؤسسة، من المدرسة إلى الإعلام، من الدين إلى القانون، من اللغة إلى العادات. كل تفصيلة في الوجود تُعيد تشكيله وفق قوالب محددة، تُكسبه "القبول" و"الاحترام" متى خضع، وتُقصيه أو تُجرّمه إن تمرّد. هذه ليست عملية تربية فقط، بل ترويض ممنهج، حيث يُكافَأ الانصياع ويُعاقَب الخروج عن النص، لا بصيغة قمعية دائمًا، بل غالبًا عبر التكييف الناعم: غرس القيم، تشكيل الذوق، تحديد المسموح والممنوع، صقل الطموحات وتوجيه الرغبات. لا يُطلب من الإنسان الطاعة الصريحة، بل أن يتماهى مع النظام حتى لا يعود يشعر بوجوده، بل يظنه امتدادًا لطبيعته. وهكذا تتحوّل الحرية إلى سجن بأبواب مفتوحة، وتُصبح الذات نسخة مصقولة من النموذج المقبول اجتماعيًا، لا كينونة حرة. في هذا الترويض، يكمن أخطر أشكال السيطرة: السيطرة التي تُحبّب العبودية، وتُخيف من التحرّر.

الحريات المشروطة في العالم المعاصر

في العالم المعاصر، تُرفع شعارات الحريات كأسمى ما أنجزته الحداثة، لكن ما يُمنح ليس حرية مطلقة، بل حرية مقنّنة، محكومة بشبكة من الشروط والمصالح. يحق لك أن تعبّر، ما لم تُهدّد النظام القائم؛ أن تختار، ما دامت خياراتك ضمن ما تتيحه السوق أو ما تقرّه الدولة؛ أن تعيش كما تشاء، ما دمت لا تزعج التوازنات التي تضمن استمرار اللعبة. يُروَّج للفرد كفاعل مستقل، بينما تُحدَّد له حدود اللعب مسبقًا، وتُرسم له مسارات الاختيار، فلا يخرج منها دون تكلفة. حتى الحرية صارت سلعة تُباع وتُشترى، أو امتيازًا يُمنح وفق الولاء والانتماء. يُسمّى هذا تقدمًا، لكنه في جوهره هندسة دقيقة للسيطرة الناعمة، حيث تُدار المجتمعات باسم الحرية، لا بقمعها، بل بإعادة تعريفها بشكل يخدم من يملك السلطة والثروة. وهكذا، لا تُقمع الحرية، بل تُعاد صياغتها لتلائم مقاسات السوق، السياسة، والمصالح الكبرى، فتُصبح الحرية طيفًا، والاختيار وَهمًا متقن الصنع.

مقاومة الترويض وإعادة تعريف الحرية

في مواجهة هذا الترويض المُمنهج، تبرز الحاجة إلى مقاومة تتجاوز ردود الفعل الغريزية أو الشعارات الجوفاء، نحو وعي فلسفي يعيد مساءلة مفاهيم الحرية نفسها. لا يكفي أن نطالب بالحرية كما تُعرّفها الأنظمة أو تبيعها الأسواق، بل يجب أن نعيد تعريفها بما ينسجم مع الكرامة الإنسانية والقدرة على التملّك الواعي للذات. مقاومة الترويض تبدأ من إدراكنا أن كثيرًا من "خياراتنا" ليست سوى استجابات مُهندسة، وأن الاستقلال الحقيقي لا يعني فقط كسر القيد، بل أيضًا فهم اليد التي صنعته. إنها مقاومة صامتة أحيانًا، لكنها عميقة: في الرفض الصغير، في السؤال غير المتوقع، في المحافظة على لحظة تأمل داخل صخب الإجبار. في أن تخلق مساحتك خارج منطق السوق، وأن تقول "لا" حين يكون الصمت هو المتوقع. الحرية ليست أن يُسمح لك، بل أن تُدرك أنك لست بحاجة لإذن كي تكون. إنها عملية مستمرة من الانفصال عن المألوف، وإعادة بناء الذات كفعل واعٍ، لا كنتاج لترويض خفي.

وهكذا، حين نتأمل في معمار العالم الحديث، نكتشف أن الحرية لم تُسلب منا بوضوح، بل تم تشذيبها وتكييفها حتى غدت نسخة مروّضة من ذاتها، تُمنح بحدود وتُصادر بصمت. نعيش في واقعٍ نُخيَّر فيه ضمن ما يُتاح، ونُقاد ونحن نظن أننا نختار. لكن الوعي بهذه الحيلة هو الخطوة الأولى في كسرها. فالتحرر لا يبدأ من الخارج، بل من لحظة إدراك دقيقة: أننا محاطون بأسوار ناعمة تُقنعنا بأننا أحرار. ومن هنا، يصبح الطريق نحو حريةٍ أصيلة — لا مشروطة ولا مُعلّبة — هو طريق مقاومة مستمرة، لا تبحث عن الانفلات فقط، بل عن استعادة الإنسان لقدرته على أن يكون ذاته، لا ما يُراد له أن يكون.

***

مازن جراي - تونس

 

يحتل موضوع الدين في تاريخ الفلسفة مكانة هامة، من حيث إنه موضوع من الموضوعات الذي اهتمت به منذ ظهورها نظريا في اليونان. غير أنها مكانة لا تستمد -في نظرنا- من طبيعة حضور الدين في السياقات الاجتماعية والثقافية فقط، وإنما من طبيعة النسق الفلسفي نفسه. بحيث إذا كانت الفلسفة منذ تقعيدها نظريا في اليونان، كانت غايتها الكشف عن معقولية الأشياء التي يجدها الإنسان-الفيلسوف في فضاء حياته ومعيشه اليومي، فإن ظهور الدين سواء في بعده الطبيعي النابع من مقومات الذات الإنسانية، أو في بعده الفائق للطبيعة النابع من كائن متعال هو الإله، شكل «ظاهرة فكرية جديدة، كان لزاما على النظرية الفلسفية القائمة استيعابها، وإدماجها ضمن معقوليتها.»[2]. لكن، لم الحاجة إلى لزوم تناول موضوع الدين فلسفيا؟

في نظرنا، تعود الحاجة إلى تناول موضوع الدين فلسفيا إلى شروط نظرية مرتبطة بطبيعة موضوع الفلسفة نفسه. فالفلسفة، بما هي نمط من التفكير الإنساني القائم على العقل/المنطق، لم تظهر في بدايتها الأولى تحت اسم فلسفة (Philosophia/La Philosophie)، بقدر ما أنها ظهرت في شكل حكمة (La sagesse/Sophia). لذلك، ابتدأت الحكمة بفكرة غريبة-كإجابة عن سؤال أساسي هو؛ ما أصل الأشياء في الطبيعة؟-متمثلة في أن «الماء هو أصل كل الأشياء»[3]، وغرابتها تتجلى في أنها تجيب عن سؤال مركزي في تلك المرحلة اليونانية التي كان السائد فيها بوجه عام، هو التفكير القائم على الأساطير التي ترجع سبب الأشياء إلى تعدد الآلهة[4]. كما أنها فكرة لا تقوم على أية صور أو سرد أسطوري خيالي، لاسيما، وأنها ترجع الكل إلى واحد هو الماء، الذي في إمكان كل إنسان أن يكشف عن ذلك بنفسه؛ فيما إذا كان أصل ما يوجد في الطبيعة هو الماء، أم لا. يترتب عن ذلك، أن الحكمة ابتدأت بسؤال الطبيعة؛ أي أن الموضوع الأساس الذي ابتدأ به الحكماء الطبيعيون هو البحث عن أصل الأشياء في الطبيعة. لذا، كان هناك اختلاف بينهما في تحديد طبيعة هذا الأصل، إذ هناك من يرجعه إلى الماء (طاليس)، وهناك من يرجعه إلى العدد (فيثاغورس)، وهناك من يرجعه إلى الهواء (انكسمانس) ...إلخ.

غير أن التفكير القائم على العقل-المنطق، سيعرف تحولا من مستوى القول بكونه حكمة، إلى مستوى القول بكونه فلسفة. وهو تحول كان لأول مرة كما يشاع مع الفيلسوف والرياضي «فيثاغورس» الذي أشار بالقول «لست حكيما، فإن الحكمة لا تضاف لغير الآلهة، وما أنا إلا فيلسوف.»: أي محب للحكمة[5]. فالذي يبحث في أسباب الأشياء، لا يمكن أن يكون «حكيما» (Sophos): أي ذاك الذي في مقدرته معرفة حقيقة الأشياء كما هي، بقدر ما أنه «محب للحكمة» (Philosophos/Philosophe): أي أنه الشخص الذي يستعمل عقله بكيفية منطقية بغية ملامسة حقيقة الأشياء فقط. خصوصا، وأن الحكمة هي من اختصاص الآلهة التي أوجدت الطبيعة، لا من اختصاص البشر. وبهذا المعنى، ستظهر كلمة الفلسفة التي ستتخذ لنفسها مسارا آخرا، من حيث طبيعة الموضوع الذي يمكن تناوله في مجالها. فمع «سقراط» في محاورة فيدروس ستعرف الفلسفة تحولا عميقا يتجلى في الانتقال من مستوى اعتبار الطبيعة كموضوع للحكمة-الفلسفة، إلى مستوى اعتبار الإنسان هو الموضوع الأساس الذي تدور في فلكه الفلسفة[6]. بمعنى آخر، ستعرف الفلسفة تغييرا في طبيعة الموضوع الذي ينبغي أن يكون مجالا للدراسة الفلسفية من الطبيعة إلى الإنسان، غير أن هذا التحول لا يعني التخلي عن موضوع الطبيعة، بقدر ما يعني أن الاشتغال على موضوع الإنسان هو اشتغال يتضمن كل ما يرتبط به من موضوعات؛ سواء تعلق الأمر بالطبيعة، أو الكواكب، أو غيرهما.

وإذا أصبح الإنسان موضوعا للدراسات الفلسفية، فإن الإمساك بمقوماته وقدراته، لا يمكن أن يتم إلا من خلال الوقوف عند ما يميزه عن سائر الكائنات الأخرى، خصوصا، وأنه لا وجود لمعرفة كلية به. وإذا كانت المعرفة الكلية بالإنسان منعدمة، فإنه لا يبقى أمام الفيلسوف من زوايا النظر فيه، إلا الكشف عن السمات والخصائص التي ينفرد بها لذاته. لذلك، إن أهم سمة يتميز بها الكائن البشري -نظريا- عن سائر الكائنات الأخرى، هي سمة العقل (أو التعقل). فالإنسان-مثلما هو متعارف عليه- هو الكائن الوحيد الذي يملك عقلا، يجعله في حال تفكير ومساءلة لذاته وللعالم الذي يعيش فيه، بغية بناء تصور عن أسباب الأشياء، ومن ثم، بناء المعنى لذاته وللعالم. وإذا كان الإنسان متفردا بكونه كائنا عاقلا، فإن تفرده ذاك يجعله حاملا لصفات وسمات أخرى، لا يمكن أن نجدها عند كائن غير الإنسان. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يحمل جملة من السمات والخصائص التي لا يمكن أن يتفرد بها كائن غيره، باعتباره حاملا لسمة العقل، مثل: كونه كائنا معرفيا، أو سياسيا، أو أخلاقيا، أو متدينا ...إلخ.

وبناء عليه، وبما أن الموضوع الأساس للفلسفة هو الإنسان، فإن ذلك يفيد أن مجال الاشتغال حوله يتوقف على تحديد طبيعة الخصائص والسمات التي ينفرد بها عن سائر الكائنات الأخرى. ولربما هنا تنبع مسألة اعتبارنا بكون الاهتمام بالدين في تاريخ الفلسفة عامة، هو اهتمام نابع من طبيعة الفلسفة نفسها. فما دامت الفلسفة مهتمة بالإنسان كموضوع لها، فإن الدين هو خاصية إنسانية، وإذا كان كذلك، فإنه موضوع للدراسة الفلسفية. خصوصا، وأنه لا وجود لكائن غير الإنسان يمكن اعتباره كائنا متدينا. فالفلسفة إذن، بما هي سيرورة عقلنة وكشف لأسباب الأشياء، فقد كان منبع اهتمامها بالدين مرتبطا بكونه موضوعا لصيقا بالكائن البشري. لذا، يتطلب الأمر الخوض فيه بغية استيعاب تعاليمه[7]، بما يتماشى والأسس المعرفية والفكرية لكل عصر.

وبهذا المعنى، لم يكن النظر إلى الدين في تاريخ الفكر الفلسفي الكوني، نشازا أو ترفا فكريا، بقدر ما أنه توجه  يسعى إلى استيعابه، وعقلنته في حدود مدركاته ككائن بشري متناهي، ما دامت هي سمة لصيقة به (أي سمة الدين)، من حيث إنه كائن عاقل.

***

د. لوكيلي عبد الحليم - المغرب

أستاذ مادة الفلسفة

...............................

[2] عبد المجيد باعكريم. "العنف في تاريخ الفكر النظري؛ إشكالية العقل والإيمان نموذجا". مجلة وليلي. المدرسة العليا للأساتذة-مكناس، (2009)، عدد 14، ص. ص. 87-124.

[3] فريديريك نيتشه. الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي. تعريب سهيل القش. ط.2. (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1983)، ص. 46.

[4] مثال أسطورة «ثيوغونيا» (La Théogonie) التي كانت نموذجا للتفسير المتخيل-الأسطوري لنشأة الأشياء في الطبيعة، انطلاقا من فكرة تعدد الآلهة.

[5] نقلا عن: يوسف كرم. تاريخ الفلسفة اليونانية. مراجعة وتنقيح الدكتورة هلا رشيد أمون. ط.1. (دبي: دار القلم للنشر والطباعة والتوزيع، 1936)، ص. 33.

[6] يقول سقراط «إنني لا أفكر فيها (الآلهة)، بل أفكر في نفسي.».

[7] أنظر: فانسان كارو. ابتكار الأنا. ترجمة عبد المجيد باعكريم. ط.1. (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2021)، ص.14.

تزعم حجة الكلام الكوزمولوجية ان كل ما موجود في الكون له سبب، وان السبب "الأول" يجب ان يكون الله. فما مدى صلاحية هذه الحجة؟

تسعى حجة الكلام الكونية التي عادت الى الصدارة عام 2010 بفضل وليم لين كريج الى إثبات وجود الله من خلال المنطق والاستدلال اعتماداً على الكون ذاته. لكن هناك عدد من الافتراضات التي تقوم عليها الحجة ليست صالحة بالضرورة، وان النزاهة الفكرية تتطلب التمحيص الدقيق لهذه الادّعاءات. وبينما يعترف العلم بإمكانية انبثاق الكون من خالق متعمد، لكن هذا ليس الحل الوحيد الذي ينسجم مع ما متوفر من دليل. الله ربما موجود لكن حجة الكلام الكونية بعيدة عن البرهان.

نحن نعرف ان كل شيء موجود في الكون اليوم، انبثق من حالة موجودة سلفا كانت تختلف عما هو عليه الحال الان. قبل بلايين السنين لم يكن هناك انسان ولا كوكب أرض لأن نظامنا الشمسي والمكونات الضرورية للحياة لم تتشكل بعد. الذرات والجزيئات الضرورية للارض ايضا احتاجت الى أصل كوني: من حياة وموت النجوم، جثث نجمية، ومركبات تلك من الجسيمات. النجوم ذاتها احتاجت لتتشكل من ذرات بدائية بقيت من الانفجار الكبير. في كل خطوة، عندما نتعقب تاريخنا الكوني الى مديات أبعد وأبعد، نجد ان كل شيء موجود او وُجد له سبب، وان هناك حالة سابقة أدّت الى وجوده. حتى الانفجار الكبير ذاته نتج عن تضخم كوني والذي نفترض (دون ان نثبت) يجب ان يكون هو ذاته له سبب أولي.

هل نستطيع تطبيق هذا البناء المنطقي على الكون ذاته؟ منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي زعم الفلاسفة وعلماء الدين - الى جانب العلماء الذين ايضا تدخّلوا في تلك المجالات – اننا نستطيع ذلك.

يمكن تجزئة حجة الكلام الكونية Kalam cosmological argument الى ثلاث خطوات بسيطة:

1- كل ما يبدأ في الوجود له سبب أدّى الى وجوده

2- الكون الموجود يجب ان يكون بدأ وجوده في وقت ما

3- ولذلك فان الكون ذاته يجب ان يكون له سبب لوجوده.

اذاً، ما هو سبب وجود الكون؟ الجواب طبقا للمؤيدين والمدافعين عن حجة الكلام الكونية يجب ان يكون الله. هذه الحجة طُرحت عندما زعم الناس "ان علم الكون الحديث يثبت وجود الله". لكن الى أي مدى يمكن ان تصمد المقدمات الثلاث أعلاه أمام التحقيق العلمي؟ هل أثبت العلم صحتها؟ ام ان هناك خيارات اخرى محتملة وحتى محتملة جدا؟ الجواب لايكمن في المنطق ولا في الفلسفة الثيولوجية، وانما في معرفتنا العلمية الحقيقية عن الكون ذاته. دعونا نبدأ بالمقدمة الاولى للحجة الكونية:

الزعم بان كل شيء يأتي الى الوجود او بدأ الوجود يجب ان يكون له سبب. هل هذا صحيح؟ او هل يجب ان يكون صحيحا؟ اذا كنا نفكر عقلانيا، فمن البديهي ان لا يأتي شيء من لاشيء. فكرة ان شيئا يأتي من لاشيء تبدو سخيفة، اذا كان ذلك ممكناً فهو سوف يقوّض كليا فكرة السبب والنتيجة التي نطبقها بشكل تام في حياتنا اليومية. ان فكرة الخلق من العدم او من لاشيء تخالف أفكارنا عن الحس السليم.

لكن تجاربنا اليومية لا تمثل مجموع كل ما في الكون، وان أفكارنا حول الحس السليم لا تنتقل بالضرورة الى عوالم لا تُطبق فيها الدروس المستفادة من تجاربنا اليومية . هناك الكثير من الظواهر المادية القابلة للقياس تبدو فعلا تخالف هذه الافكار في السبب والنتيجة، والتي أشهرها ما يحدث في الكون الكوانتمي. كمثال بسيط، نحن نستطيع النظر الى ذرة واحدة مشبعة. اذا كان لديك عدد كبير من هذه الذرات، انت يمكنك ان تتنبأ كم من الوقت يحتاج نصفها لكي يتحلل. بالنسبة لأي ذرة منفردة، اذا سألنا، "متى تتحلل هذه الذرة؟" او "ما السبب الذي يجعل الذرة في النهاية تتحلل؟"او "ما الذي يسبب ظهور الحالة المتحللة؟" لا جواب للسبب والنتيجة.

من وجهة نظر فيزياء الجسيمات، ربما انت تكون قادرا لتشير الى شيء ما مثل "إنبعاث او تبادل جسيم افتراضي معين" كسبب أساسي، لكن هذا لا يبيّن ولا يخبرك متى يحدث التبادل، ما الذي حفز ذلك التبادل في لحظة معينة بدلا من أي لحظة اخرى. في الحقيقة هناك أفعال مادية يمكنك عملها تجبر نواة الذرة على الانقسام، انت تستطيع الحصول على نفس النتيجة بسبب ملموس ومقصود خلفها. لو انك أطلقت جسيما على النواة الذرية، مثلا، انت ربما تساعد في انقسامها الى أجزاء واطلاق طاقة. لكن ظاهرة التحلل الاشعاعي تجبرنا على التعامل مع هذه الحقيقة غير المريحة:

نفس النتيجة التي يمكننا تحقيقها بسبب تحريضي يمكننا ايضا تحقيقها، طبيعيا، بدون أي سبب تحريضي على الاطلاق. بكلمة اخرى، لا يمكن ابدا معرفة متى تتحلل الذرة لأن العملية عشوائية تماما. هي كما لو ان الكون يمتلك نوعا من طبيعة سببية عشوائية تجعل ظاهرة معينة غير محددة من حيث الاساس ولا يمكن معرفتها. في الحقيقة، هناك عدة ظواهر كوانتمية اخرى تعرض نفس هذا النوع من العشوائية، بما في ذلك الدورات المتشابكة، الكتل المتبقية من جسيمات غير مستقرة، موقع الجسيم الذي يمر عبر شق مزدوج، وغيرها. في الحقيقة، هناك عدة تفسيرات لميكانيكا الكوانتم – أهمها كان تفسير كوبنهاغن – حيث يكون نقص السببية خاصية مركزية للطبيعة ولايمكن تجنبها، وليست "خللا" في عملها.

ربما يقول البعض، ان تفسير كوبنهاغن ليس الطريقة الوحيدة لفهم الكون وان هناك تفسيرات صالحة اخرى لميكانيكا الكوانتم هي حتمية تماما. وبينما يصح هذا، هو ايضا ليس جدالا مقنعا، لأن تفسيرات ميكانيكا الكوانتم القابلة للتطبيق جميعها لا يمكن تمييزها من حيث الملاحظة عن تفسير آخر، بما يعني انها كلها تمتلك ادّعاءً متساوي الصلاحية. انت لا تستطيع ببساطة اختيار التفسير الذي تحب، او التفسير الذي يدعم استنتاجاتك المفضلة وتقول "هذا صحيح بينما جميع التفسيرات الاخرى غير ملائمة". في هذه الطريقة انت لا تثبت أي شيء ابدا: انه غير منطقي وبالتأكيد غير علمي.

هناك ايضا عدة ظواهر في الكون لايمكن توضيحها بدون أفكار مثل:

1- جسيمات افتراضية

2- تقلبات في مجالات كوانتمية (لايمكن قياسها)

3- وسيلة قياس تدفع الى حدوث "تفاعل".

هناك دليل على هذا في التجارب العميقة المتشتتة والغير مرنة التي تستطلع البناء الداخلي للبروتونات، نحن نتنبأ انها تحتاج ان تحدث لكي توضح تحلّل الثقب الاسود واشعاع هاوكنغ. الزعم ان "كل ما يبدأ في الوجود يجب ان يمتلك سببا" يتجاهل العديد والعديد من الأمثلة من واقعنا الكوانتمي لدرجة يمكننا القول ان مثل هذا الادّعاء لم يتأسس بقوة. ربما من الممكن ان تكون هذه الحالة، لكنها ليست مؤكدة على الإطلاق.

مع ذلك، هذه فقط "الخطوة" الاولى في الحجة، هناك خطوات اخرى بحاجة للدراسة ايضا. هل الكون، الموجود، له لحظة او حدث بدأ فيه الوجود؟ هذا الادّعاء سواء صدّقت ام لم تصدق، مشكوك فيه اكثر من الادّعاء السابق – بينما يمكننا ان نتخيل ان هناك واقعا حتميا اساسيا، غير عشوائي، ذو سبب ونتيجة يكمن وراء ما نلاحظه باعتباره عالما كوانتميا غريبا مخالفا للحدس، فمن الصعب الاستنتاج ان الكون ذاته يجب ان يبدأ الوجود في لحظة ما.

يمكننا سلفا الاستماع الى الرأي المعارض، "لكن ماذا عن الانفجار الكبير؟" أليس صحيحا ان كوننا بدأ بانفجار عظيم حار قبل 13.8 بليون سنة؟

نعم، بالتأكيد صحيح اننا نستطيع تعقّب تاريخ كوننا رجوعا الى الحالة المبكرة، الحارة، الكثيفة، الموحدة، السريعة التوسع. صحيح اننا نسمي تلك الحالة بالانفجار العظيم الحار. لكن ما هو غير صحيح، وما عُرف انه غير صحيح لمنْ أعمارهم فوق الاربعين، هو فكرة ان الانفجار العظيم هو بداية المكان، الزمان، الطاقة، قوانين الفيزياء، وكل ما نعرف ونمارس. الانفجار العظيم لم يكن البداية وانما هو سبقته حالة مختلفة كليا تُعرف بـ التضخم الكوني cosmic inflation .

رغم ان العديد لايزالون يتعاملون مع التضخم كنظرية تخمينية، لكن ذلك بالتأكيد غير منصف وفق الاسس العلمية في القرن الواحد والعشرين. هناك عدد هائل من الادلة الكاسحة على ذلك منها:

1- طيف متغير الحجم من عيوب الكثافة التي عرضها الكون في بداية الانفجار العظيم الحار.

2- وجود تلك المناطق ذات الكثافة العالية والكثافة المنخفضةعلى المقاييس الكونية فائقة الافق.

3- حقيقة ان الكون عرض تقلبات غير مستقرة تماما في كثافة مختلف مكونات الكون في الاوقات المبكرة.

4- حقيقة ان هناك حد أعلى لدرجات الحرارة المتحققة في الكون المبكر والتي هي دون طاقة بلانك، وهو المقياس الذي تنهار عنده قوانين الفيزياء.

التضخم الكوني يتطابق مع مرحلة الكون التي فيها لم يمتلأ بالمادة والاشعاع، بل امتلك طاقة كبيرة ايجابية متأصلة بنسيج الفضاء ذاته. بدلا من الحصول على أقل كثافة عند تمدد الكون، يحافظ الكون التضخمي على كثافة طاقة ثابتة طالما يستمر التضخم. ذلك يعني انه بدلا من التمدد والتبريد والتباطؤ في التوسع، الذي كان يحصل في الكون منذ بداية الانفجار العظيم، كان الكون قبل ذلك يتمدد بسرعة كبيرة: بلا هوادة وبسرعة ثابتة. هذا يمثل تغييرا هائلا لصورتنا عما بدت عليه الاشياء في البداية. اذا كان الكون الممتلئ بالمادة والاشعاع سيقود للعودة الى نقطة التفرد singularity(1)، فان الزمكان التضخمي لا يستطيع ذلك. انه لا يمكن ان يقود الى التفرد بمفرده. لنتذكر، ماذا نعني بالدالة الأسية في الرياضيات: بعد مقدار معين من الزمن، كل ما لديك سوف يتضاعف. عندما يمر نفس المقدار من الزمن مرة اخرى، سيتضاعف مرة اخرى، ومع مرور كل لحظة هو يستمر يتضاعف. انه يقوم بهذا مرة بعد اخرى بدون قيد طالما يبقى السلوك الأسي قائما. نفس المنطق يمكن تطبيقه على الماضي: ان نفس المقدار من الزمن الماضي، طالما يبقى السلوك الاسي قيد العمل، مهما رجعنا سيكون لدينا في ذلك الوقت نصف المقدار الذي لدينا الآن. ولو أخذنا خطوة زمنية اخرى مساوية للخلف، وقسمناها الى النصف مرة اخرى، لا يهم كم مرة يُقسم فيها النصف الى النصف ومن ثم الى النصف فسوف لن نصل الى الصفر ابدا. هذا ما نتعلمه من التضخم: لأن الكون، طالما يستمر التضخم، فهو يصبح فقط أصغر لكنه لن يصل الى صفر أبدا او الى زمن يمكن تحديده كبداية. لا يوجد أي معنى ان تنشأ كمية متزايدة بشكل كبير(او اذا عدنا الى الوراء، كمية متناقصة بشكل كبير) من نقطة متفردة، او "حدث" يتطابق مع اصل متفرد. لسوء الحظ، في اللغة العلمية، نحن نستطيع فقط قياس وملاحظة ما يعطينا اياه الكون من كميات قابلة للقياس وملاحظة. على الرغم من كل نجاحات التضخم الكوني، الا انه يفعل شيئا مؤسفا: بطبيعته، يزيل أي معلومات من الكون وُجدت قبل التضخم. ليس فقط ذلك، بل يزيل أي من هذه المعلومات التي برزت قبل الجزء الضئيل النهائي من الثانية قبل نهاية التضخم، الذي سبق وخلق الانفجار العظيم. لكي نزعم "الكون بدأ الوجود" هو احتمالية يمكن ان تكون صحيحة اذا نشأت حالة ما قبل التضخم غير المكتشفة حتى الان من نقطة التفرد. لكن لكي نزعم ان "الكون يجب ان يكون بدأ في الوجود" هو زعم لم ينل الدعم كليا لا نظريا ولا تجريبيا. صحيح انه قبل عشرين سنة كانت هناك نظرية نُشرت بعنوان – Borde-Guth-Vilenkin theorem - اظهرت ان الكون الذي يتوسع دائما لايمكن ان يقوم بهذا الى الماضي الى مالانهاية . (انها طريقة اخرى للتعبير عن عدم اكتمال الماضي). مع ذلك، لاشيء هناك يستدعي ان الكون المتضخم تسبقه مرحلة هي ايضا تتوسع. هناك ثغرات كبيرة جدا في هذه النظرية: اذا انت تعكس اتجاه سهم الزمن، النظرية ستفشل، اذا انت تستبدل قانون الجاذبية بمجموعة محددة من ظاهرة جذب كمومي، النظرية ستفشل، وهي تفشل ايضا اذا كنت تبني كونا ثابتا متضخما الى الابد.

مرة اخرى، كما في النقطة الاولى من حجة الكلام الكونية، "الكون الذي جاء الى الوجود من لا وجود"هي امكانية لكنها لم يتم اثباتها ولم تنفِ الإحتمالات الهامة الاخرى.

والان، بعد حساب الخطوتين الاوليتين من حجة الكلام الكونية، نصل الى الخطوة الثالثة والأخيرة: الكون ذاته له سبب لوجوده وان ذلك السبب هو الله.

نحن أسسنا سلفا ان المقدمتين السابقتين لحجة الكلام الكونية لم يتم اثباتهما. لو افترضنا انهما مع ذلك صحيحتان هل ذلك يعني ان الله يجب ان يكون السبب لوجود الكون؟ هذا ممكن الدفاع عنه فقط اذا كنت تعرّف الله كـ "كائن جعل الكون يأتي الى الوجود من حالة اللاوجود". هنا بعض الامثلة تبيّن لماذا هذا التعريف خاطئ:

1- عندما نحاكي كون ذو بعدين في الكومبيوتر، هل نجلب ذلك الكون الى الوجود، وهل سنكون نحن الله لذلك الوجود؟

2- اذا كانت حالة تضخم الكون برزت من حالة موجودة مسبقا عندئذ هل الحالة التي أدّت الى التضخم هي إله كوننا؟

3- واذا كانت هناك تقلبات كوانتمية عشوائية سبّبت نهاية التضخم وبداية الانفجار العظيم او الكون كما نعرفه، هل تلك العملية العشوائية مساوية الى الله؟ . على الرغم من انه من المحتمل ان يكون هناك منْ يجادل بالايجاب، الاّ ان هذا لا يبدو مثل الكائن القادر على كل شيء، العليم بكل شيء الذي نتخيله عندما نتحدث عن الله. اذا كانت المقدمة الاولى والثانية صحيحتين – لنتذكر انهما لم يتم اثبات صحتهما – عندئذ كل ما نقوله هو ان الكون له سبب وليس ان السبب هو الله.

هناك درس مهم يتم تعلّمه هنا، وليس الدرس الذي يطرحه اولئك الذين يؤيدون حجة الكلام الكونية: من غير العلمي اساسا محاولة استعمال جزء من البيانات العلمية لدعم أي موقف او استنتاج يفضله المرء. العلم هو عملية جمع بيانات ومن ثم استعمال كل تلك البيانات بشكل مسؤول لإختبار مختلف الفرضيات الهامة المتبقية. انت يجب ان لا تبدأ اطلاقا من الاستنتاج الذي تأمل الوصول اليه وتسير رجوعا من هناك. ذلك مضاد لأي مشروع باحث عن المعرفة.

بدلا من ذلك، فان المسار المسؤول هو صياغة ادعائاتك بطريقة يمكن تمحيصها واختبارها ثم اما تأكيد صلاحيتها او تكذيبها. انت لا تستطيع طرح ادّعاء لا يمكن اثباته وتدّعي انك اثبتت وجود شيء ما عن طريق الاستدلال الاستنتاجي. اذا لم تستطع اثبات المقدمة او الافتراضات الاساسية الكامنة خلف المقدمة، فان كل الاستدلال المنطقي المبني على تلك المقدمة هو لا أساس له من الصحة.

يبقى إحتمال ان الكون فعلاً في جميع المستويات، يتبع القاعدة البديهية للسبب والنتيجة رغم ان امكانية كون عشوائي، غير محدد، سببيا، تبقى ملائمة (ويمكن القول مفضلة) ايضا. من الممكن ان الكون فعلا امتلك بداية لوجوده، رغم ان ذلك لم يتأسس أبدا بعيدا عن الشك العلمي المعقول. واذا كان كلا الامرين صحيحا، عندئذ فان وجود الكون سيمتلك سببا وهذا السبب ممكن ان يكون (مع انه ليس بالضرورة) شيئا نستطيع وصفه بالإله، لكن كلمة (ممكن) لاتتساوى مع البرهان.

مالم نتمكن من إثبات العديد من الاشياء التي لم يتم إثباتها بعد، فان حجة الكلام الكونية سوف تقنع فقط اولئك الذين هم مستعدين سلفا للموافقة على استنتاجاتها بصرف النظر ما اذا كانت ثبتت صحتها ام لا.

***

حاتم حميد محسن

..................

No, the (Kalam cosmological argument) doesn’t prove God’s existence, Big Think, April3, 2025

الهوامش

(1) مفهوم نقطة التفرد يشير الى النقطة التي تأخذ بها الدالة قيمة لامتناهية، خاصة في الزمكان حيث تكون المادة لامتناهية الكثافة، كما في مركز الثقب الاسود.

 

بما أن هناك اختلاف في تحديد مصدر نشأة اللغة بين الديني والفلسفي، فإن هوبز ينطلق من تأكيد مفاده أن «أول مؤلف للنطق كان الإله نفسه، الذي علم آدم كيف يسمي المخلوقات التي جعلها ماثلة أمام بصره.».[2]وهي أطروحة يستند فيها إلى جملة من النصوص الدينية التي تؤكد أن الإله أول خالق لنشوء الأسماء والكلمات التي تطلق على الأشياء والموجودات في العالم. وأول هذه النصوص ما جاء في العهد القديم من الكتاب المقدس، حيث يقول الإله: «وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء، فأحضرها لآدم ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها.»[3]، أو كما جاء في نص ثان يقول فيه الإله «فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء وجميع حيوانات البرية.»[4].

تفيد هذه النصوص الدينية السالف ذكرها، أن الإله لما خلق آدم علمه الأسماء كلها التي تطلق على الأشياء في العالم، وبذلك، فهو أول مؤلف وخالق للغة عند البشر. وإذا نظرنا إلى مسألة تعليم آدم أسماء الأشياء والمخلوقات من زاوية منطقية، سنجد أن هذه القصة مقبولة ذهنيا، من حيث إن آدم باعتباره كائنا بشريا يتصف بالنقص والمحدودية، فإنه لا يقدر على تخيل شيء، أو التفكير فيه، دون أن يكون له به اطلاع مسبق. يعني ذلك، أن آدم لو ترك بدون أن يعلمه الإله اللغة، ما كان في إمكانه أن يعرف مسميات الأشياء، بل ما كان في مقدرته أن يفكر في الأصل. ذلك، أن اللغة هي وسيلة الإنسان في التفكير، وأداته في إبداع المفاهيم والتصورات والنظريات. بمعنى آخر، إذا كان العمل كما يقال هو الوسيط بين الإنسان والطبيعة، فإن اللغة هي الوسيط بين الفكر والوجود. فالفكر «ليس شيئا داخليا، ولا يوجد خارج دائرة العالم والكلمات.»[5].

وإذا كان «الكلام هو حركة ودلالة العالم»[6]، فإن تعليم آدم أسماء الكائنات التي خلقها الإله، كانت له غاية هي تزويده بما يقدر به على التفكير في العالم الذي سيوجد فيه، نتيجة ارتكابه للخطيئة بحسب النصوص الدينية. غير أن القول بكون الإله هو المؤلف والخالق الأول للكلام، من باب أنه علم آدم جملة من الأسماء التي تطلق على الكائنات والمخلوقات، يضعنا أمام مشكلة تتجلى في التساؤل حول ما إذا كان الإله قد علم آدم الأسماء كلها، أم بعضها فقط[7]. بمعنى آخر، هل وهب الإله لآدم كل الكلمات والأسماء التي تطلق على الأشياء والكائنات منذ بداية البشرية إلى اليوم، أم أنه لم يزوده إلا ببعض ما يقدر به على إبداع أخرى؟

لم يعلم الإله آدم إلا ما هو ظاهر أو ماثل أمام بصره، أما ما لم يكن ماثلا أو ظاهرا له، فقد ترك للإنسان حرية إبداعه بما يتماشى وقدراته وإمكاناته. لكن مهما يكن مقدار ما تعلمه آدم من أسماء الكائنات التي كانت متجلية أمام بصره، فإن تعلمه ذاك «كان كافيا لتوجيهه نحو إضافة تسميات أخرى، بمناسبة اختباره للمخلوقات ولاستخدامها، وربط هذه التسميات تدريجيا لكي يجعل نفسه مفهوما. وهكذا، اكتسب مع الوقت مقدارا من النطق كان كافيا لاستخدامه، وإن لم يكن بالقدر الذي يحتاج إليه خطيب أو فيلسوف.»[8]. فتعلم آدم لبضع كلمات وأسماء من الإله، لم يكن وسيلة لجعله في مستوى انعدام الحاجة إلى اختراع وإبداع أسماء أخرى، وإنما كان أداة مساعدة لجعله قادرا على التفكير والإبداع لمجموعة من الأسماء التي لم يتعلمها مسبقا من الإله.

وبهذا المعنى، فالإنسان يعد مؤلفا ثانيا للغة، من حيث إنه استطاع أن يصنع لنفسه جملة من الكلمات والأسماء الجديدة التي لم يكن آدم نفسه على علم بها. إن الإنسان (آدم) في تعلمه لبضع كلمات وأسماء، كانت كافية لكي تجعله مبدعا لمجموعة من الكلمات والأسماء الأخرى، بل إن صنعه ذاك سيتجاوز صنع الكلمات والأسماء إلى صنع لغات متعددة ومختلفة من حيث النطق، يرمز بها إلى الأشياء والكائنات والعلاقات الرابطة بين الأفراد في المجتمعات البشرية. غير أن هوبز في سياق إبراز مدى قدرة الإنسان على صنعه وإبداعه للغة، يستند إلى حدث ديني كان سببا في أن يأخذ الإنسان على عاتقه ابتكار كلمات وأسماء جديدة، يتعلق الأمر بما حدث في برج بابل من نقمة أنزلها الإله على عباده هناك، أتلف بها لسانهم، وضيع عنهم ما كانوا يملكونه من كلمات وأسماء نتيجة تمردهم. وهو حدث مذكور في العهد القديم من الكتاب المقدس، حيث نجد في الإصحاح الحادي عشر ما يلي:

«وكانت الأرض كلها لسانا واحدا ولغة واحدة (1). وحدث في ارتحالهم شرقا أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار وسكنوا هناك (2). وقالوا هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرج رأسه بالسماء، ونصنع لأنفسنا اسما لئلا نتبدد على وجه كل الأرض (4). فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما (5). وقال الرب؛ هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه (6). هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض (7).»[9].

فانطلاقا من هذه الآيات الدينية يتبين أن ما تعلمه آدم ونسله ضاع ونسي في برج بابل الذي سمي كذلك، نتيجة البلبلة التي أحدثت هناك بسبب تمرد نسل آدم على تعاليم الإله. ومن نتائج ضرب «يد الإله كل إنسان لتمرده»[10]أن ذلك أدى إلى تفرقهم في أنحاء كثيرة في الأرض، الشيء الذي يلزم عنه «أن تنوع اللغات القائم الآن قد صدر عنهم تدريجيا، وفق ما اقتضت حاجتهم، التي هي أم الاختراع، وأصبح مع الوقت أكثر غنى في كل مكان.»[11]كما يقول هوبز.

وبناء على ما سبق، إن ما يسعى إليه هوبز في عملية استحضاره لهذه الأحداث الدينية التي تبين النشأة الأولى والثانية للغة، هو التأكيد من جهة؛ أن النشأة الأولى للغة كانت دينية، بحيث إن الإله هو المؤلف الأول للغة[12]، لكن من جهة أخرى؛ وبما أن ما تعلمه آدم قد ضاع في برج بابل، فإن حاجة الإنسان إلى اللغة أدت به إلى اختراعها، وبذلك، فاللغة كصنعة ثانية بعد الإله هي صنعة بشرية خالصة[13]. بمعنى آخر، فحتى وإن كان آدم قد تعلم من الإله مجموعة من الأسماء والكلمات التي أضيفت لها أخرى، وتم ضياعها نتيجة تمرد نسله في برج بابل، فإنه لا وجود في الكتاب المقدس لشيء «يمكن أن نستخلص منه، مباشرة أو باستنتاج أن آدم قد تعلم تسميات كل الأشكال، والأعداد، والمقاييس، والألوان، والأصوات، والتخيلات والعلاقات، أو تسميات تتعلق بالكلمات وصيغ الكلام، مثل "عام"، و"خاص"، و"إثباتي"، و"إنكاري"، و"استفهامي"، و"دال على التمني"، و"مصدري"، وكلها ألفاظ مفيدة، وأقل من هذا كله "كيان"، و"قصدية"، و"جوهر"، وباقي الكلمات المدرسية التافهة.»[14].

نخلص من خلال تحليلنا لمسألة نشأة اللغة عند هوبز، إلى التأكيد أن اللغة اتفاق وتوافق بين البشر؛ بما يفيد أنها صناعة بشرية غايتها تسمية ما يوجد في الوجود من أشياء وكائنات. «فاللغة عنده بناء صناعي، مثلها مثل المجتمع المدني، وهي ليست نحوا طبيعيا، وهي لهذا السبب لم تأت عن طريق ضرورة طبيعية مثل إشارات الحيوان.»[15]. وإذا كان الأمر كذلك، فإن هوبز لم يتوصل لهذه الأطروحة بناء على رؤية تاريخية، وإنما وفق تحليل منطقي عميق للمسألة[16]، استدعى منه ذلك، البدء من اللغة كما هي عليه كمظهر أو كأثر، ومن ثم، عمل على الكشف عن أسباب وأصول حدوثها، التي تبتدئ دينيا كتوليفة إلهية إلى أن تصير توليفة بشرية بعد ضياعها.

 ***

د. لوكيلي عبد الحليم

أستاذ مادة الفلسفة - المغرب

......................

 المصادر والمراجع

[2] توماس هوبز. اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة. ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب؛ مراجعة وتقديم رضوان السيد. ط. 1. (أبوظبي: معهد أبو ظبي للثقافة والثرات، 2011)، ص. 40.

[3] الكتاب المقدس. العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الثاني رقم 19. (نقلا عن: http/www.st-takla.org)

[4] الكتاب المقدس. العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الثاني رقم 20. (نقلا عن: http/www.st-takla.org)

[5] موريس ميرلوبونتي. ظواهرية الإدراك. ترجمة فؤاد شاهين. ط.1. (الرياض: معهد الأنماء العربي، 1998)، ص. 156.

[6] المرجع عينه، ص. 157.

[7] في القرآن مثلا، لقد أجيب عن هذا السؤال، حيث جاء في الآية 31 من سورة البقرة الآتي: "وعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ."

[8] توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق، ص. 40.

[9] الكتاب المقدس، العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الثاني 1-7. (نقلا عن: http//www.st-takla.org)

[10] توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق، ص. 40.

[11] توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق، ص. 40.

[12] يشير الباحث «فيليب كرينون» (Philippe Crignon) إلى أن اعتبار الإله هو المؤلف الأول للغة يفيد أن اللغة ليست سمة طبيعية توجد في الإنسان، لأنها لو كانت كذلك، لما علم الإله آدم الأسماء كلها. أنظر:

- Philippe Crignon. "La Pluralité Humaine chez Hobbes et sa lecture par Strauss et Kojéve", Kless-revue philosophique. (2009), N°12, p.88.

[13] إمام عبد الفتاح إمام. توماس هوبز؛ فيلسوف العقلانية. ط.1. (عمان: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1958)، ص. 206-207.

[14] توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق، ص. 40.

[15] إمام عبد الفتاح إمام، توماس هوبز؛ فيلسوف العقلانية، مرجع سابق، ص. 207.

[16] Richard Peters. Hobbes. 1sted. (Londres: Penguin books, 1956), p. 175-176.

تمهيد: يُعتبر اللاوعي كيانًا نفسيًا، منفصلًا عن الوعي، وقادرًا على تطوير الأفكار. بهذا المعنى تتحكم آليات اللاوعي في معظم قراراتنا ومشاعرنا وسلوكياتنا. في هذه المداخلة، نركز على اللاوعي ونشرحه.

كما يشير الوعي واللاوعي إلى مجالات نشاط العقل، أو النفس، التي يدرسها التحليل النفسي.فما هو الوعي ؟ وماهو اللاوعي؟ وماهي العلاقة بينهما؟ هل يوجد تناقض أم تبادل للخدمات؟ ما تأثير اكتشاف اللاوعي على الحرية الإنسانية؟ ألا توجد حتمية نفسية؟ هل الحياة النفسية تختزل في اللاوعي؟

الوعي واللاوعي

الوعي هو حالة الفرد التي يعرف فيها من هو، وأين هو، وما يمكنه فعله أو لا يمكنه فعله في السياق الذي يجد نفسه فيه. وبشكل أعم، هو القدرة على "رؤية" الذات والتعرف عليها في أفكاره وأفعاله.

اللاوعي هو ما يفلت من الوعي.. فما هو اللاوعي؟

يشير اللاوعي إلى عمليات حقيقية لا نعيها، ولا ندرك حدوثها داخلنا لحظة حدوثها. أما اللاوعي عند فرويد فيتحدد كما يلي: كان نشأة التحليل النفسي مع سيغموند فرويد هو ما ارتبط بفرضية اللاوعي: جزء من حياتنا النفسية (أي نشاط عقولنا) يستجيب لآليات لاواعية لا نملك نحن، كذوات واعية، معرفة واضحة ومباشرة بها. كتب سيغموند فرويد عام ١٩١٥ في كتابه "علم ما وراء النفس": "إن فرضية اللاوعي ضرورية لأن بيانات الوعي ناقصة للغاية؛ فكثيرًا ما تحدث لدى الأصحاء والمرضى أفعال نفسية تفترض، لتفسيرها، أفعالًا أخرى لا تستفيد من شهادة الوعي. تضعنا تجاربنا اليومية الشخصية في مواجهة أفكار تأتي إلينا دون أن نعرف مصدرها، ونتائج أفكار يبقى تفصيلها مخفيًا عنا."

آليات اللاوعي

بالنسبة لفرويد، يُمثل اللاوعي ذكرياتٍ مكبوتة تخضع للرقابة، وهي نفسها لاواعية، وتسعى بكل الطرق لإظهار نفسها للوعي من خلال التحايل على الرقابة. يمكن تحقيق هذا الظهور للوعي من خلال عمليات تمويه تجعلها غير قابلة للتمييز (مثل الأخطاء، زلات اللسان، الأحلام، أعراض المرض).

كيف تكتشف اللاوعي؟

هناك علاجاتٌ مُختلفة تُتيح لك اكتشاف اللاوعي.

الدوامة الحسية

الدوامة الحسية هي أسلوبٌ من أساليب التنويم الذاتي. يهدف هذا العلاج إلى تغيير مستوى وعيك من خلال تمكين لقاءٍ بين الوعي واللاوعي.

أحلام اليقظة الحرة

أحلام اليقظة الحرة هي أداةٌ للعلاج النفسي والتنمية الشخصية. يُبرز هذا العلاج صورًا مدفونة في اللاوعي لفكّ رموزها. ان الهدف من أحلام اليقظة الحرة هو تحرير المريض من عوائقه.

التنفس الهولوتروبي

التنفس الهولوتروبي هو تقنية تجمع بين فرط التنفس والموسيقى. يهدف هذا العلاج إلى استرجاع الذكريات والمشاعر المدفونة من خلال اللاوعي.

اللاوعي: قوة هائلة

تُظهر العديد من التجارب النفسية أن اللاوعي قوي جدًا، وأن آلياته تتحكم في معظم سلوكياتنا وخياراتنا وقراراتنا. لا يمكننا التحكم في هذا اللاوعي. التحليل النفسي وحده هو الذي يُمكّننا من فهم صراعاتنا الداخلية. ينطلق التحليل النفسي من خلال اكتشاف مصدر صراع اللاوعي "المكبوت" الذي يُسبب مشاكل حياتنا. إن محاولة تحليل أحلامنا، وزلات لساننا، وأفعالنا الضائعة، وما إلى ذلك، أمرٌ مهم لأنه يُمكّننا من سماع رغباتنا المكبوتة، دون الحاجة إلى إشباعها بالضرورة. في الواقع، إذا لم تُسمع رغباتنا المكبوتة، فقد تتحول إلى أعراض جسدية. فهل اللاوعي صديقنا أم عدونا؟

لا يُريد اللاوعي لنا الخير ولا الشر. في الواقع، اللاوعي موجود فقط لمنعك من السماح لأي شيء بالدخول إلى عالم الوعي قد يؤذيك، أو يضرك، أو يخيفك، أو يعطيك صورة سيئة عن أحبائك، على سبيل المثال. ان اللاوعي موجود دائمًا، لذا فإن الأفكار المكبوتة لا تُسكت أبدًا بما يكفي لنسيانها.

فهل يتناقض اللاوعي مع الحرية؟

نتصرف بحرية إذا كانت إرادتنا هي أساس أفعالنا، إذا لم يكن هناك أي عامل خارجي آخر (مثلاً، مسدس مصوّب نحوي) يُحدد اختياري. وإلا، فأنا أتصرف تحت الضغط. ولكن كيف نتأكد من عدم وجود دافع آخر يتدخل في قراري؟ إذا كان الدافع واضحاً كوجود مسدس مصوّب نحوي، فلا يُطرح هذا السؤال. ولكن لنفترض أن هناك عنصراً يُحدد إرادتي سراً، دون وعي مني؟ لذا، يبدو أن فرضية اللاوعي تُشكك في مفهوم الحرية ذاته. إذا كانت الدوافع اللاواعية هي التي تدفعني إلى التصرف بهذه الطريقة أو تلك، فكيف يُمكننا القول إنني حر؟ ومع ذلك، قد يتساءل المرء عما إذا كان لا ينبغي التشكيك في فرضية العقل اللاواعي ذاته. ألا تبقى حريتنا سليمة؟ لذا، يجب أن نسأل أنفسنا: هل تُشكك دوافع لاواعية تتدخل في أفعالنا في حريتنا؟

يُفنّد اللاوعي فكرة الذات العقلانية، المُتحكمة في أفعالها – عند فرويد. تشير فكرة اللاوعي إلى أن الذات ليست شفافة تمامًا تجاه نفسها، وأن هناك مجموعة من التمثيلات والصور والأفكار التي، بسبب طبيعتها المُقلقة، لا تصل إلى الوعي، بل تُكبت منه بشكل مُمنهج. ولكنها تُشير أيضًا إلى أن هذه التمثيلات تنجح أحيانًا في تجاوز حاجز الرقابة، لتأتي وتُؤثر على الوعي بطريقة مُقنّعة: يحدث هذا في الأحلام، أو زلات اللسان، أو بعض السلوكيات العصابية. هذا هو النمط العام الذي طرحه فرويد في جميع أعماله. في الموضوع الثاني، يُلخّص فرويد هذا برسم الخريطة التالية: يُمثّل "الهو" جميع التمثيلات المُقلقة، والخطيرة على الصحة النفسية، نظرًا لطبيعتها المُزعجة أو اللاأخلاقية. ويُمثّل "الأنا الأعلى" جميع القواعد الأخلاقية، التي تُشكّل أساس رقابة تمثيلات "الهو"، مانعةً إياها من الوصول إلى "الأنا". بما أن هذه الرغبات وتمثيلات الهو مكبوتة، فإنها لا تصل إلى الوعي. إنها لا واعية. ومع ذلك، فإنها أحيانًا تتجاوز حاجز الرقابة، وتُعدِّل نفسها بطريقة تُخدع الحاجز الذي يُشكِّله الأنا الأعلى. ثم تُحدِّد، دون قصد، بعض أفعالنا. العصاب مثال على ذلك. ويمكننا أن نرى كيف يُشكِّك هذا في حريتنا: فبعض أفعال الأنا العقلانية ليست تعبيرًا عن إرادتها، بل تُحدَّد سرًّا وبلا قصد من قِبَل عناصر لا واعية. يُلخِّص فرويد هذا بقوله في "مقالات في التحليل النفسي التطبيقي" إن الأنا ليست سيدًا في بيتها الخاص: في بعض الأمراض، وبالتحديد في العصاب الذي ندرسه، تشعر الأنا بالقلق؛ إذ تبلغ حدود قوتها في بيتها الخاص، الروح. تنبثق فجأة أفكار لا نعرف من أين أتت؛ ولا نستطيع طردها. حتى أن هؤلاء الضيوف الغرباء يبدون أقوى من أولئك الخاضعين للأنا. هكذا يسعى التحليل النفسي إلى توجيه الأنا. لكن الرؤيتين اللتين يقدمهما لنا: معرفة أن الحياة الغريزية للجنس لا يمكن ترويضها تمامًا فينا، وأن العمليات النفسية هي نفسها لا واعية، ولا تصبح متاحة وخاضعة للأنا إلا من خلال إدراك ناقص وغير مؤكد، هما بمثابة تأكيد على أن الأنا ليست سيدًا في بيتها. ولهذا السبب، يمثل التحليل النفسي، بعد الإهانات التي ألحقها كوبرنيك (الأرض ليست مركز الكون) أو داروين (الإنسان ينحدر من الحيوانات)، جرحًا نرجسيًا ثالثًا، كما يشير فرويد في مقدمة التحليل النفسي: سيُلحق البحث النفسي المعاصر دحضًا ثالثًا بجنون العظمة البشري، الذي يهدف إلى إظهار الأنا أنها ليست فقط ليست سيدًا في بيتها، بل إنها مُجبرة على الاكتفاء بمعلومات نادرة ومُجزأة عما يحدث، خارج وعيها، في حياتها النفسية. كما نرى، تُشكك فرضية اللاوعي في فكرة الحرية ذاتها. فإذا لم يعد مبدأ الأفعال هو الإرادة العقلانية للأنا فحسب، بل دوافع لا واعية تُحددنا سرًا، فإن أفعالنا لم تعد تُمارس بحرية. ولكن، هل اللاوعي حقيقة؟ أليس هو بالأحرى خرافة، ذريعة للهرب من حريتنا ومسؤوليتنا؟

اللاوعي ليس إلا أسطورة، ولذلك لا يُشكك في حريتنا

حريتنا قد تُخيفنا. من الصعب مواجهة الإمكانيات اللامحدودة المتاحة لنا واتخاذ قرار. من الأسهل بكثير اتباع الأوامر، أو اتباع مسار مُحدد مسبقًا، من التحكم في حياتنا وتحديد شكلها. الحرية تعني أيضًا تحمل مسؤولية أفعالنا المختلفة. من الأسهل بكثير التهرب من مسؤولياتنا واختلاق الأعذار: فعلتُ هذا لأن فلانًا طلب مني ذلك، إلخ. هذه هي نقطة انطلاق الوجودية عند سارتر: الحرية. الإنسان حر تمامًا لأنه لا وجود لجوهر الإنسان الذي قد يُقيده لأنه مُلزم بالامتثال له. بل هو الوجود، وهو يُشكل تدريجيًا، من خلال أفعاله وحياته بأكملها، ماهيته. ما يُقدمه سارتر في الوجودية هو الإنسانية: كتب دوستويفسكي: "لو لم يكن الله موجودًا، لكان كل شيء مباحًا". هذه هي نقطة انطلاق الوجودية. في الواقع، كل شيء مباح إذا لم يكن الله موجودًا، وبالتالي يُهجر الإنسان لأنه لا يجد في داخله ولا خارجه سبيلًا للتمسك. لا يجد في البداية أي أعذار. إذا كان الوجود سابقًا للماهية، فلا يمكن تفسيره أبدًا بالرجوع إلى طبيعة بشرية مُعطاة وثابتة؛ بمعنى آخر، لا وجود للحتمية، فالإنسان حر، الإنسان هو الحرية. أما إذا لم يكن الله موجودًا، فلن نواجه قيمًا أو أنظمة تُشرع سلوكنا. وهكذا، في عالمنا الروحي، لا توجد لدينا قيم ولا مبررات ولا أعذار. نحن وحدنا، بلا أعذار. هذا ما أود التعبير عنه عندما أقول إن الإنسان محكوم عليه بالحرية. تبدو الحتمية إذن كفعل سوء نية: فالإنسان، في سبيل فراره من حريته، يكذب على نفسه متوهمًا أن دوافع أخرى غير إرادته هي أصل أفعاله. إنه شكل من أشكال الجبن: لقد عرّفنا وضع الإنسان بأنه اختيار حر، بلا أعذار أو مساعدة؛ أي إنسان يلجأ إلى ذريعة أهوائه، أي إنسان يخترع الحتمية، هو إنسان سيئ النية. أولئك الذين يخفون حريتهم الكاملة، من خلال الجدية أو الأعذار الحتمية، سأسميهم جبناء. فرضية اللاوعي، وهي نوع من الحتمية (لأن العناصر اللاواعية هي التي تسبب أفعالي)، ليست سوى شكل من أشكال سوء النية: يبحث البشر عن أعذار بمفهوم اللاوعي. كما نرى، فإن مفهوم اللاوعي لا يشكك في حريتي، لأنه مجرد أسطورة، خالية من أي حقيقة، مصممة فقط لإعفاء البشر من مسؤولياتهم. ومع ذلك، يمكننا أن نتخيل أن جزءًا كبيرًا من أفكارنا أو تصوراتنا لا تصل إلى الوعي أبدًا دون التشكيك في حريتنا.

الإدراكات اللاواعية الصغيرة

بعض الإدراكات متناهية الصغر، وبالتالي فهي لاواعية. نحن نعي فقط الكل. هذا ينطبق، على سبيل المثال، على صوت البحر: فنحن لا نعي صوت كل قطرة ماء. من ناحية أخرى، نسمع الضجيج العام، كما يوضح لايبنتز في كتابه "مقالات جديدة في الذهن الإنساني":وعلاوة على ذلك، هناك آلاف الدلائل التي تدفعنا إلى الحكم بوجود عدد لا نهائي من الإدراكات في داخلنا، ولكن دون إدراك وبلا وعي ودون تأمل، أي تغيرات في الروح نفسها لا ندركها، لأن هذه الانطباعات إما أن تكون صغيرة جدًا وكثيرة جدًا، أو مترابطة جدًا، بحيث لا يوجد شيء مميز عنها بحد ذاتها، ولكنها مع غيرها، لا تزال تؤثر، ويشعر بها المجتمعون بشكل مشوش على الأقل. ولكي نحكم بشكل أفضل على الإدراكات الصغيرة التي لا نستطيع تمييزها بين الحشود، عادةً ما أستخدم مثال هدير أو ضجيج البحر الذي يصيبنا عندما نكون على الشاطئ. لكي نسمع هذا الضجيج كما نفعل، علينا أن نسمع الأجزاء التي تُكوّن هذا الكل، أي أصوات كل موجة، مع أن كل صوت من هذه الأصوات الصغيرة لا يُعرَف إلا في تجمّع الأصوات الأخرى المُشوّش، أي في هذا الزئير نفسه، ولن يُلاحَظ لو كانت الموجة التي تُصدره وحدها. لأننا يجب أن نتأثر قليلاً بحركة هذه الموجة، وأن يكون لدينا إدراكٌ ما لكل صوت من هذه الأصوات، مهما صغر حجمها؛ وإلا، لما كان لدينا إدراكٌ لمئة ألف موجة، لأن مئة ألف لا شيء لا يُمكنها أن تُحدث شيئًا. كيف تُقيّد هذه المُدركات التي لا تصل إلى وعينا حريتنا؟ إذًا، نرى أن اللاوعي، بهذا المعنى (أي عندما يُشير إلى مجموعة الأفكار التي لا توجد حاليًا في وعينا، أو المُدركات اللامتناهية الصغر)، لا يُشكّك في حريتنا أساسًا.

الخاتمة

الخلاصة القول إذن، أننا نرى أن اللاوعي لا يُشكّك في حريتنا بالضرورة. هذا هو الحال إذا فهمناه بالمعنى الفرويدي، ولكن يُمكننا أن نتفق مع سارتر على أن هذا مُجرّد خرافة. من ناحية أخرى، فإن العمليات العديدة التي تجري في عقولنا دون وعينا لا تُهدد حريتنا، بل تُساهم فقط في الأداء الطبيعي للعقل.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

في المثقف اليوم