أقلام فكرية

أقلام فكرية

خصائص النسق الفلسفي

تعريف ومعنى نسق في اللغة: نسَقَ يَنسُق، نَسْقًا، والمفعول مَنْسوق.. نَسَقَ الكُتُبَ: رَتَّبَهَا، نَظَّمَهَا

مطَّرِد النَّسْق: منتظم ومتَّسق

نسَق الكلامَ: عطَف بعضَه على بعضٍ ورتَّبه. (معجم المعاني الجامع).

"النسق" يعني النظام والترتيب والتتابع ويستخدم لوصف الأشياء المتناغمة أو المنظمة معاً مثل "نَسَق الكلام" أي نظمه ورتبه ليؤدي غرضا للمتكلم.

و"نسق الأشجار" أي زرعها ورتبها في خط واحد.

خصائص النسق الفلسفي:

يتميز النسق الفلسفي بعدة خصائص أساسية تجعله بناءً فكريا متكاملا ومتماسكا وهي على وجه الأجمال:

أولا: الكلية:

النسق الفلسفي يسعى للإحاطة بالوجود بأسره بمعنى أنه يقدم رؤية شاملة تشمل مختلف جوانب الواقع والوجود لا رؤية جزئية فتلك من خصائص العلوم التجريبية.

ثانيا: الترابط والانسجام:

المكونات المفاهيمية داخل النسق الفلسفي مترابطة ومتسقة منطقيا حيث تتفاعل الفروض والقضايا والتصورات والمفاهيم لتشكل منظومة متماسكة متناسقة يعمها الصدق والصواب.

ثالثا: الإبداع والتجديد:

النسق الفلسفي يعبر عن رؤية أو موقف فكري مميز ينتقد القديم والراكد ويطرح فرضيات وأفكارا جديدة تسهم في فهم الواقع والوجود بشكل عميق وواضح.

رابعا: خصوصية الجهاز المفاهيمي:

كل نسق فلسفي يمتلك جهازا مفاهيمياً خاصا به يستخدم في تأطير النظريات وشرح الظواهر.

خامسا: التطور:

النسق الفلسفي لا يكون ثابتا وإلا تحول إلى إيديولوجيا بل هو يتطور وينمو جدليا عبر مراحل التطور التاريخي حيث تتبلور الأفكار وتتوسع وتتشعب مما يثري البناء العقلي المتكامل.

مكونات النسق الفلسفي الأساسية:

كما أن النسق الفلسفي له خصائص كذلك له مكونات أساسية تشكل بنيته الفكرية العامة وهذه المكونات هي:

1. وحدات معرفية: تشمل الفروض والقضايا والتصورات والمفاهيم والنظريات التي تشكل الإطار التفكيري للنسق.

2. إطار تصوري مترابط: تعامل هذه الوحدات بطريقة منطقية ومتماسكة بحيث تشكل منظومة فلسفية واحدة متكاملة.

3. جهاز مفاهيمي خاص: يحتوي على مفاهيم وأفكار تميز النسق وتوفر أدوات لتفسير الظواهر.

4. نظام قيمي ومنهجي: يشتمل على قواعد عامة أو قوانين فلسفية توجه فهم الترابط والتفسير في النسق.

5. مرحلة النمو والتطور: يتطور النسق عبر مراحل ترتكز على فكرة أولية تتعمق وتتوسع بفعل التأمل والتفكير المنهجي.

بالتالي النسق الفلسفي هو بناء عقلي يضم مجموعة مترابطة من المفاهيم والمبادئ التي تسمح بفهم وتفسير الوجود والواقع بطريقة شمولية ومنظمة.

ما هو الفرق بين النسق الفلسفي والإطار النظري؟

النسق الفلسفي والإطار النظري مفهومان مترابطان ولكنهما يختلفان في المستوى والشمولية.

النسق الفلسفي هو بناء فكري شامل ومتناسق يضم مجموعة متكاملة من المفاهيم والمبادئ التي تفسر الواقع بشكل كلي ويشير إلى رؤية فلسفية كاملة أو منحى فكري معين يتميز بهيكلية مترابطة وأصول منهجية تعطيه كثافة فكرية خاصة.

أما الإطار النظري فهو مجموعة من النظريات والمفاهيم التي تستخدم لتفسير ظاهرة أو موضوع معين ضمن نطاق معرفي معين وهو أكثر تحديداً وانتقائية مقارنة بالنسق.

ويركز الإطار النظري على بناء تفسيرات قابلة للاختبار والتطبيق في مجال معين من البحث أو الدراسة.

وعليه يكون النسق الفلسفي أوسع وأشمل حيث يشمل إطارات نظرية متعددة بينما الإطار النظري هو جزء من النسق أو أداة منه ضمن سياق معرفي محدود ومحدد.

النسق الفلسفي إذن يوفر الرؤية الفلسفية الكلية والإطار النظري ويوفر البناء المنهجي التفصيلي للمسائل البحثية داخل تلك الرؤية.

ومن الأمثلة المشهورة للأنساق الفلسفية نسق أفلاطون الذي يقوم على فكرة "مثال الخير" أو "الخير الأقصى" ويتضمن ثلاثة مفاهيم أساسية هي عالم المثل (العالم المعقول) والعالم المحسوس واللاوجود (المعدوم). نسقه يربط بين عالم المثل الثابت وبين العالم الحسي المتغير مع تفسير وجودي وأخلاقي وسياسي متكامل.

ونسق أرسطو: الذي يركز على مفهوم الغاية (التيلوس) كأساس لفهم الطبيعة والإنسان ويربط بين المنطق والطبيعة والميتافيزيقا والسياسة والأخلاق ضمن رؤية شمولية مترابطة.

حيث يشير إلى الغاية الجوهرية أو الغرض الكامن في كل شيء سواء كان طبيعيا أو من صنع الإنسان. استخدمه أرسطو بشكل أساسي لوصف السبب النهائي لأي شيء معتقدا أن تحقيق هذه الغاية هو ما يحدد خيرية الشيء ووظيفته الحقيقية

على سبيل المثال: غاية العين هي الرؤية وغايتها في تحقيق هذه الوظيفة هي خيرها الخاص أما غاية الإنسان فهي العيش حياة فاضلة مزدهرة.

ثم نسق هيجل: وهو نسق جدلي كلي تاريخي يشمل العقل والطبيعة والروح في حركة جدلية نحو الكمال المطلق ويتميز بالتطور الجدلي للأفكار والتاريخ.

وهناك أيضا النسق البنيوي: الذي يهتم بتحليل اللغة والمعاني من منظور هيكلي تحليلي حيث يتم فهم الظواهر عبر علاقاتها الداخلية والأنظمة البنائية.

ثم نسق التفكيكية: وهو نسق مرن ديناميكي يكشف التوترات والتناقضات في النصوص والمعاني يركز على التعددية وعدم الثبات في التأويل.

كل من هذه الأنساق تتكون من مكونات معرفية هي الفروض والقضايا والتصورات والمفاهيم والحجج التي تتشابك داخل إطار فكري مترابط ومتسق منطقيا.

وتشترك هذه الأنساق في كونها تعبر عن رؤى كونية وفلسفية شاملة حول الواقع والوجود والإنسان.

أثر هيجل في تشكيل أنساق الفلسفة الحديثة:

لم يأثر فيلسوف كما أثر هيجل في تشكيل أنساق الفلسفة الحديثة والمعاصرة فقد كان عميقا وشاملا حيث يعتبر نسقه الفلسفي أعلى قمة بلغتها الفلسفة الحديثة ويجمع بين تراث الفلسفة العقلانية ليقدم رؤية كلية شاملة تقوم على أن العقل هو جوهر الوجود والتاريخ وهو مسار تحقق الروح والحرية.

هيجل طور مفهوم الجدل (الديالكتيك) كمحرك للتطور الفكري والتاريخي حيث تتفاعل التناقضات لتؤدي إلى تقدم الفكر والواقع وهذا الجدل شكل قاعدة لأنساق فلسفية معاصرة متعددة.

كما دمج بين الفكر والطبيعة والروح في منظومة فلسفية متكاملة اعتبرها تعبيرا عن تحرك العقل المطلق في الواقع.

تأثير هيجل امتد إلى تيارات فلسفية عدة أولها الماركسية التي اقتبست منه الجدل المادي فضلا عن تأثيره على الفينومينولوجيا والفلسفة النقدية والوجودية.

نعم هيجل أسس بحق نسقا فلسفيا شاملا جسد فيه فكرة أن الكينونة معقولة وأن العقل هو المحرك الأساسي للتاريخ والحياة ما جعله مرجعية لا غنى عنها في الفلسفة الحديثة والمعاصرة.

***

سليم جواد الفهد

....................

المصادر المستفاد منها:

1.النسق مفهومه واقسامه، جمعة برجوح بلقاسم.

2.مفهوم النسق في الفلسفة، د. سليمان أحمد الظاهر.

3. حول النسق الهيغلي، سليمان السلطان.

4. الإنسان وأنساقه المعرفية والأخلاقية والجمالية، معاذ بن عامر.

5. نهاية الفلسفة النسقية، عرض لوجهة نظر ريتشارد رورتي، عبد المنعم البري.

 

مقدمة: الإبستمولوجيا، أو نظرية المعرفة، هي الفرع الأساسي في الفلسفة الحديثة الذي يتناول أسئلة: ما هي المعرفة؟ كيف نحصل عليها؟ وما حدودها وشروطها؟ منذ بدايات الحداثة مع ديكارت في القرن السابع عشر، شهدت الإبستمولوجيا تحولات جذرية، من البحث عن اليقين الداخلي إلى نقد الحداثة نفسها في القرن العشرين، مروراً بالتجريبية البريطانية، والمثالية الألمانية، والوضعية المنطقية، والبراغماتية الأمريكية، وصولاً إلى الإبستمولوجيا الاجتماعية والنسوية وما بعد البنيوية. هذه التحولات لم تكن مجرد تطورات نظرية، بل استجابات لأزمات معرفية ناتجة عن الثورة العلمية، والتنوير، والحداثة الصناعية، والحروب العالمية، والثورة الرقمية. يهدف هذا البحث إلى تتبع مسار الإبستمولوجيا في الفلسفة الحديثة من خلال تحليل المحطات الرئيسية، مع التركيز على التحول من الذاتية اليقينية إلى التعددية النسبية، مستنداً إلى أعمال ديكارت، لوك، هيوم، كانط، هيغل، نيتشه، هوسرل، راسل، فتغنشتاين، كواين، كون، فوكو، دريدا، وروتي، لنصل إلى تقييم معاصر يربط بين الإبستمولوجيا والذكاء الاصطناعي والمعرفة الجماعية. ما نسعى اليه هو دراسة في التحولات المفهومية والمنهجية من ديكارت إلى ما بعد الحداثة. فماهي خصائص الابستيمولوجيا الحديثة؟ بماذا تميزت الابستيمولوجيا الديكارتية؟ وماذا كان مصيرها مع مابعد الحداثة؟ والى أي مدى يجوز لنا القول بوجود ابستيمولوجيا للأزمنة مابعد الحديثة؟

الإبستمولوجيا اليقينية: من ديكارت إلى كانط

تبدأ الإبستمولوجيا الحديثة مع رينيه ديكارت (1596–1650)، الذي أسس "المنهج الشكي" في تأملات في الفلسفة الأولى (1641)، محاولاً بناء معرفة يقينية على أساس "الكوجيتو" (أنا أفكر إذن أنا موجود). هنا، تكون المعرفة ذاتية أولاً، ويقينية من خلال الأفكار الواضحة والمتميزة، معتمداً على الاستدلال الرياضي ك نموذج. يُمثل ديكارت الانتقال من الإبستمولوجيا السكولاستية إلى الحداثة، حيث يصبح العقل الفردي مصدر اليقين، لكن هذا يفتح باب الشك المنهجي حول العالم الخارجي، مما أدى إلى المشكلة الشهيرة "الجسر بين الذات والموضوع". رداً على ذلك، طورت التجريبية البريطانية (لوك، بيركلي، هيوم) إبستمولوجيا حسية. جون لوك في مقالة في الفهم الإنساني (1689) يرى العقل "لوحاً أبيض"، والمعرفة تنشأ من التجربة الحسية والتأمل. أما ديفيد هيوم في بحث في الفهم الإنساني (1748)، فيصل إلى الشكوكية من خلال نقد فكرة السببية كمجرد عادة نفسية، لا علاقة ضرورية. هذه التجريبية تهز أسس اليقين الديكارتي، محولة الإبستمولوجيا من البحث عن اليقين المطلق إلى الاحتمالية. بعد ذلك يأتي عمانويل كانط (1724–1804) في نقد العقل الخالص (1781) ليوفق بين العقلانية والتجريبية في "الثورة الكوبرنيكية": المعرفة ليست انعكاساً للعالم، بل تشكيلاً له من خلال الفئات العقلية (الزمان، المكان، السببية). هنا، تكون المعرفة محدودة بالظواهر، لا الشيء في ذاته، مما يضع حداً للإبستمولوجيا المطلقة ويفتح الباب للمثالية.

الإبستمولوجيا المثالية والتاريخانية: من هيغل إلى نيتشه

مع يوهان غوتليب فيخته وفريدريش شيلينغ، ثم جورج فيلهلم فريدريش هيغل (1770–1831)، تتحول الإبستمولوجيا إلى ديناميكية تاريخية. في فينومينولوجيا الروح (1807)، تكون المعرفة عملية ديالكتيكية (أطروحة – نقيض – تركيب)، والروح المطلقة تدرك نفسها عبر التاريخ. هنا، ليست المعرفة فردية، بل جماعية وتاريخية، مما يمهد للإبستمولوجيا الاجتماعية.لكن فريدريش نيتشه (1844–1900) يهدم هذا في ما وراء الخير والشر (1886) وأصل الأخلاق، معتبراً المعرفة "تفسيراً" مشروطاً بإرادة القوة، لا حقيقة مطلقة. شعاره "لا توجد حقائق، فقط تفسيرات" يُنهي الإبستمولوجيا التقليدية، محولاً إياها إلى نسبية قيمية.

الإبستمولوجيا العلمية والتحليلية: من الوضعية إلى فتغنشتاين المتأخر

في القرن العشرين، تسعى الوضعية المنطقية (كارناب، شليك، راسل) إلى إبستمولوجيا علمية صلبة. بيرتراند راسل في مشكلات الفلسفة (1912) يقترح أن المعرفة تنبني من "بيانات حسية"، والمنطق هو لغة المعرفة. أما الدائرة الفيينية، فترفض الميتافيزيقا وتقصر المعرفة على القابل للتحقق. لكن لودفيغ فتغنشتاين يُقلب الطاولة: في الرسالة المنطقية الفلسفية (1921) يرى العالم "مجموع الحقائق"، لكن في تحقيقات فلسفية (1953) ينتقل إلى "ألعاب اللغة": المعنى هو الاستعمال، والمعرفة ممارسة اجتماعية، لا تمثيل. هذا يُنهي الإبستمولوجيا التأسيسية ويفتح الباب للبراغماتية.

الإبستمولوجيا النقدية وما بعد الحداثة: من كون إلى دريدا

توماس كون في بنية الثورات العلمية (1962) يُظهر أن العلم لا يتقدم تراكمياً، بل عبر "تحولات نموذجية"، مشروطة بمجتمعات علمية، لا بموضوعية مطلقة. هذا يجعل الإبستمولوجيا تاريخية واجتماعية. بول فيورابند في ضد المنهج (1975) يذهب أبعد: "كل شيء يجوز" ، رافضاً المنهج الواحد. أما ميشيل فوكو في الكلمات والأشياء (1966) وترتيب الأشياء، فيُظهر أن المعرفة "إبستمي" تاريخي، مشروط بسلطة وخطاب. جاك دريدا في عن الغراماتولوجيا (1967) يفكك الثنائيات (ذات/موضوع، حضور/غياب)، معتبراً المعرفة "تأجيلاً" (différance). ريتشارد روتي في فلسفة ومرآة الطبيعة (1979) يُعلن نهاية الإبستمولوجيا كتأسيس، مقترحاً "محادثة" براغماتية بدلاً من "تمثيل".

الإبستمولوجيا المعاصرة: النقد الاجتماعي، النسوية، والرقمية

في العقود الأخيرة، تبرز الإبستمولوجيا الاجتماعية (غولدمان، فولر) التي ترى المعرفة نتاج تفاعل جماعي، مع "شهادة" وروائز كمصدر أساسي. الإبستمولوجيا النسوية (هاردينغ، لونغينو) تنتقد الحياد المزعوم، مقترحة "معرفة موقفية" تبدأ من تجارب المهمشين.مع الذكاء الاصطناعي، تظهر إبستمولوجيا آلية: كيف "تعرف" الشبكات العصبية؟ هل المعرفة الخوارزمية موضوعية؟ (مثل نقاشات في تعلم الآلة والتحيز الآلي).

الخاتمة

في الختام، شهدت الإبستمولوجيا في الفلسفة الحديثة تحولاً من اليقين الديكارتي إلى الشك الهيومي، ثم التركيب الكانطي، فالديالكتيك الهيغلي، والنسبية النيتشوية، والتحليل اللغوي، والنقد ما بعد البنيوي، وصولاً إلى التعددية المعاصرة. لم تعد المعرفة "تمثيلاً" للواقع، بل ممارسة، خطاباً، وبناءً اجتماعياً. هذا التطور لم يُنهِ الإبستمولوجيا، بل جددها، مما يدعو إلى إبستمولوجيا هجينة تواجه تحديات العصر: كيف نبني معرفة موثوقة في زمن المعلومات المضللة، والذكاء الاصطناعي، والأزمات العالمية؟ الجواب يكمن في توازن بين النقد والتعددية، مع الحفاظ على المسؤولية المعرفية تجاه الحقيقة المشتركة. هكذا، تظل الإبستمولوجيا قلب الفلسفة الحديثة، ليس كتأسيس، بل كسؤال دائم. فهل يمكن عقلنة التعدد المنهجي والفوضى الرقمية والتضخم المعلوماتي؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

تؤكد الفلسفة الوجودية على وجود وحرية ومسؤولية وخيار كل شخص، وجميعها تُعاش وتُطبق في الحاضر فقط. الماضي مضى، انه ذكرى. كل ذكرى، وحتى الحدث ذاته هو متفرد لكل شخص. بالطبع، الذكريات يمكن ان تتغير، لكن هل هذا يعني ان التاريخ يمكن ان يتغير؟ كذكرى، نعم. ولكن كحدث، هل هو يتغير أيضا؟ اذا كانت ذكرى شخص او الافتراضات المشتركة لجماعة معينة تختلف عن تلك التي لدى شخص آخر او جماعة أخرى بشأن الاحداث الماضية، ماذا ستكون النتيجة؟

بالنسبة للمستقبل فهو ليس اكثر من تفكير مستمر، حيث يتم استخدام كلمة المستقبل كواصف. فقط الأجزاء الوحيدة من الزمن، المكان، والحياة حيث يُمارس الوجود والماهية هي التي تقع في الحاضر. ماذا يعني كل هذا؟ هل هو يهم حقا؟ منْ يقوم بالاختيار؟

المكان الوحيد الذي يمكننا العيش فيه هو في اللحظة الحاضرة. كيف نعرف اننا نعيش في الحاضر، او حتى اننا موجودون؟ هذا السؤال طُرح امام ديكارت الذي صرح : "انا افكر، لذلك انا موجود"، كما تُرجمت من الفرنسية واللاتينية. طبقا لديكارت، هذا التصريح الذي يبدأ بـ "انا افكر"، أثبت انه لديه القابلية للاعتراف بوجوده. "انا افكر، لذا انا اتأمل ذاتي". " انا افكر، لذا انا أتصور ذاتي بالإضافة للعالم الخارجي". هذا التصريح الوجودي من جانب ديكارت نال القبول من البعض ورُفض من البعض الآخر. وبهذا، يصرح الادب الوجودي بان هذه اللحظة الحاضرة هي الموقع الوحيد الذي توجد فيه الحياة والخيارات والفهم من حيث الزمان والمكان والتي هي متفردة لكل شخص. هذا يعني بعبارات وجودية هو ان "انا" مرتبطة بالحياة كـما "انا" اتصورها. و "انت" مرتبطة بالحياة كما "انت" تتصور. وباجتماعهما معا يتم التقدم الى ما يُعرف بـ "الافتراضات المشتركة" shared assumptions.

هذه الافتراضات المشتركة بمجملها هي التي زودتنا بوسائل لتحقيق ما أنجزه العالم، وهي تستمر للقيام بهذا. ذلك يتضمن التعليم بكل أشكاله وحقوله، وهو يمكن ان يحدث فقط في الحاضر.

الوجود يسبق الماهية

عندما طرح سارتر تصريحه "الوجود يسبق الماهية" هو جادل من البداية بان الافراد وُلدوا بدون أي هدف مقرر سلفا. ما يتبع ذلك، ونتيجة للوعي، هو الذي يوفر الوسائل المعرفية والفكرية لخلق الهدف. الهدف، مهما كان، يمكن ان يحدث فقط، مبتدئاً بالفكرة، يتبعها الإختيار والفعل. طبقا لسارتر، هذه العملية (من التفكير والاختيار والفعل) هي التي تقوم بصياغة وتشكيل جوهر الفرد. هذه الحقيقة الوجودية طبقا لسارتر، التي تؤكد على الخيارات والحرية والمسؤولية كل واحد منها يستمر بخلق الحياة التي نعيشها، وهكذا فان الجوهر تتم إعادة تشكيله باستمرار.

الوجود، الحرية، التعلم، التعليم، والجوهر

 في نهاية المطاف، ومن المنظور التربوي والتعليمي، المعلمون لديهم الحرية والمسؤولية في تقديم دروسهم، وبهذا، هم أيضا مسؤولون عنها ولديهم الحرية في طرح او عدم طرح الأسئلة والاجابة عليها . هذه الطريقة الوجودية في العيش يشترك بها الطلاب ايضا. الطلاب لديهم الحرية وهم مسؤولون عنها في الاختيار والاستماع لمعلم ام عدمه. عندما يختار الطالب ان لا يستمع او يتعلم فلا شيء هناك يمكن عمله سوى الاستمرار بتقديم الدعم والنصيحة.

وكما أشار سارتر، "نحن محكوم علينا لنكون احرارا". هذا التصريح ليس عقوبة بالسجن. فكما لوحظ أعلاه، التصريح يؤكد بان "الافراد وُلدوا بدون أي غرض مقرر سلفا". والذي يعني ان الفرد حر. هذه الحرية تتعلق بامتلاك قدرة واعية لإختيار أفكار المرء ومواقفه وأفعاله. وبهذا، الحرية ليست ادانة، انها تحرير. انها الذات الواعية التي تعترف بان الذات الموجودة هي حرة بعمل خيارات يكون الفرد مسؤولا عنها.

هذا يمتد فيما بعد الى التربية الوجودية existential pedagogy. كلاسر Glasser،مثلا يسلط الضوء على ان التحفيز الباطني للأفراد والمشاعر الشخصية لهما التأثير الأعظم بما سنقوم به من عمل او قول او انجاز، بما في ذلك ما اذا كنا نختار التعليم والعمل ام لا. اذا لم يختر الطلاب العمل، فهم سوف لن يصلوا الى معايير التمييز الى ان يتخذوا قرارا بالعمل الذي بموجبه سيكونون احرار ومسؤولين عن النتائج المترتبة على ذلك.

نفس المبدأ الأساسي في الحرية والاختيار والمسؤوليات ينطبق على المدارس والمنظمات التعليمية. فمثلا اذا كان جميع الطلاب يعملون بجدية ويجهدون أنفسهم بنجاح، ويكملون برغبة كل العمل المطلوب عبر مراحلهم الدراسية (سواء كانت ابتدائية او متوسطة او جامعية)، عندئذ سوف تعكس درجاتهم هذا الجهد المحفز ذاتيا بما يؤدي الى انجاز اكاديمي عالي.

لكن، بالرغم من كل انضباطهم الذاتي والتفاني والتصميم والاجتهاد (الذي تجسد في اجتياز كل الاختبارات في المستويات الابتدائية والمتوسطة والجامعية)، اذا لم يكن هؤلاء الطلاب يتقدمون ويحصلون على اعتراف دولي (في انسجام مع المعايير الاكاديمية الدولية المقبولة)، هذا سيشير بوضوح الى وجود قضايا اكاديمية وتعليمية خطيرة .

فمثلا، فيما يتعلق بالمعايير المعترف بها دوليا في التميّز الاكاديمي، يقول اريسون Ericsson ان جميع معايير التميز يجب ان تُفهم ويُعترف بها عالميا وتجسد مبادئ مقبولة. مثال دولي على هذا هو جائزة نوبل. حقول هي الفيزياء والكيمياء والفسيولوجي والطب. كل الحقول يتم تطبيقها، والمرشحون يلبون كل المعايير الدولية المعترف بها للتميز الاكاديمي لنيل الجائزة.

لكن اذا لم يصل هؤلاء الطلاب المجتهدون والمتحفزون ذاتيا الى هذه المعايير الدولية للتميز كالأخرين، رغم التزامهم واصرارهم ورغبتهم في انجاز أعلى مستوى ممكن لتميز الدولي، فكيف ستكون النتيجة؟

***

حاتم حميد محسن

..............................

Psychology today, 9 oct,2025

الهوامش:

1-  كويل Coyle. (2009). دليل الموهبة. العظمة لا تولد، بل تنمو، اليك كيف. دار نشر بانتام راندوم هاوس.

2-  داكوورث . بيترسون واخرون (2007). الشجاعة، المثابرة والشغف لتحقيق الأهداف الطويلة المدى، مجلة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي.

تُعد الحاضرية الوجودية الشاملة إطاراً فلسفياً متقدماً، يجمع بين المفاهيم الأنطولوجية والفينومينولوجية الأكثر تعقيداً، ويرتكز بشكل أساسي على محاور الوعي، والماهية، والغيرية. يهدف هذا الإطار إلى تقديم رؤية ديناميكية وروابطية للوجود الإنساني، من خلال تجاوز الأطر الثنائية التقليدية. لا يمكن فهم ماهية الوعي في هذا السياق الشمولي دون نقد جذري لمفهوم الجوهر الثابت والمطلق.

إن الغاية الرئيسية من هذا التحليل الأنطولوجي تكمن في الكشف عن العلاقة الجدلية بين الوعي والإطار نفسه. وهذا يقتضي تجاوز "الانغلاق المعرفي" الذي يفرضه الوعي المحدود، إلى استكشاف "فضاء معرفي لا نهائي" يسمح بتحقيق المعنى الكوني. هذا التأسيس يؤكد أن الوعي ليس كياناً باطنياً معزولاً، بل هو فعل أنطولوجي يتم اكتسابه من خلال الانخراط المستمر في العالم.

نقد الكوجيتو ومأزق الوعي المثالي

ينطلق التحليل الوجودي والفينومينولوجي للوعي ضمن الحاضرية الشاملة من رفض مبدئي وقطعي للمفهوم الكلاسيكي لـ "الكوجيتو الديكارتي" أو "الوعي الخالص". لقد نظر ديكارت إلى الوعي كفكر مجرد، مفاده "أنا أفكر إذن أنا موجود"، مركّزاً على التفكير المثالي الذي لا يتطلب تموضعاً مادياً أو تعلقاً بالواقع.

تعرضت هذه الرؤية المثالية لنقد واسع من قبل مؤسسي الفلسفة الوجودية والظاهراتية، بما في ذلك هوسرل وهايدغر وسارتر. ويتمثل جوهر النقد في أن هذا الوعي الخالص يمثل تفسيراً مثالياً مغلقاً لا يعترف بضرورة تعلق الذات بجدلية الموضوع. بالنسبة لهؤلاء الفلاسفة، فإن الوعي المجرد هو "وهم" لا يمكن إدراكه كوجود فاعل أو متحقق، بل يبقى وجوداً افتراضياً. يشير هذا النقد إلى تحول مركزي في الإطار الأنطولوجي: بما أن الوعي النقي غير قابل للتحقق كوجود، فإن الوجودية الشاملة تقرر أن الوجود الفعلي (الانخراط) يسبق نقاء الوعي، وهذا الوجود الفعلي هو الذي يمنح الوعي حقيقته.

الوعي الحقيقي كـ "انخراط"

يشير هذا الإطار الفلسفي إلى أن ماهية الوعي الحقيقية تكمن في ديناميكية العلاقة والتعلق بالوجود الفعلي. وبما أن الوعي المجرد (النومين) مستحيل إدراكه كوجود فاعل، فإن الوعي الوجودي لا يمكن أن يكون إلا وعياً متعلقاً ومنخرطاً، وهذا الانخراط هو ما يمنحه حقيقته الأنطولوجية.

يُفهم الوعي الحقيقي، في هذا المنظور، على أنه النشاط المبدع الفاعل الذي يمنح المعنى للموجودات. هذه الموجودات كانت مجردة وغير ذات قيمة قبل التفاعل البشري معها. بالتالي، فإن الوعي في الحاضرية الشاملة يُنظر إليه كـ "فعل أنطولوجي" وليس كـ "جوهر داخلي"؛ وهو لا يكتسب صدقه وحقيقته إلا من خارج ذاته، عبر انخراطه المباشر والمقصود في العالم. وهذا التعلق يمثل شرطاً لا غنى عنه لتحويل الوعي من مجرد حالة نظرية إلى قوة فاعلة تحقق المعنى.

الماهية كـ "صَيرورة مُتجددة"

تستند الحاضرية الوجودية الشاملة إلى الأسس الظاهراتية التي وضعها إدموند هوسرل، حيث تُعتبر فلسفة القصدية أساسية. القصدية هي المبدأ الذي يقلب فكرة الوعي المغلق الديكارتي، مؤكداً أن الوعي دائماً "وعي بشيء". هذا يعني أن الوعي لا يمكن أن يوجد في فراغ أو ككيان مجرد، بل هو فعل "التعلق" بشيء ما، وهذا الفعل هو جزء أساسي من طبيعته الأنطولوجية.

إن هذا الفهم للقصدية كـ "ماهية متحركة" ينسجم مع تأكيد هايدغر على أن وعي الذات يجب أن يتسم بالحيوية الديناميكية. القصدية هنا تتجاوز التفكير المجرد لتصبح السعي لتحقيق هدف مُقرر، وهذا السعي هو ما يمنح الوجود معناه الحقيقي. إن هذا التوليف المنهجي يمثل محاولة لتجاوز مأزق الوعي المثالي الديكارتي من خلال الجمع بين حيوية هايدغر الوجودية ووضوح قصدية هوسرل المعرفي.

الروح كمشروع لا كجوهر ثابت

في إطار الحاضرية الوجودية الشاملة، يتم نفي الماهية التقليدية كجوهر ثابت ومطلق، لصالح مفهوم "الروح كـ صيرورة متجددة". لا يُنظر إلى الروح هنا ككيان ميتافيزيقي ثابت، بل كمشروع مستمر للوجود الإنساني يتحقق بشكل متواصل من خلال اختيارات الفرد وتصرفاته الحرة.

هذا المفهوم للماهية يعكس بوضوح مبدأ التزامن الأنطولوجي الوجودي للمعنى، وهو المبدأ الأساسي في هذه الفلسفة. الوعي هنا يصبح مرتبطاً بشكل وثيق بالحرية الإنسانية والتجربة المعاشة.

مستويات الوعي

تفرق الحاضرية الوجودية الشاملة بين مستويين من الوعي لتحقيق التوازن المطلوب:

الوعي الوظيفي: وهو الوعي الضروري لأداء المهام اليومية بكفاءة، ولكنه يمثل وعياً محدوداً ومحصوراً في ذاته، يركز على إدراك الذات المحدودة والمحل المكاني والزماني المباشر فقط.

إن التوقف عند هذا المستوى من الوعي يُعد "انغلاقاً معرفياً". لا يستطيع الوعي الوظيفي، بطبيعته المقتصرة على الضرورات العملية، أن يشمل ما يتجاوز الإطار العملي الضيق، وبالتالي فإنه يعجز عن إدراك المعنى الوجودي الكوني الكامل.

الوعي كـ "نشاط مبدع" لخلق المعنى

الوعي الحقيقي ليس حالة تأمل سلبية، بل هو "نشاط مبدع". هذا النشاط هو الذي يخلق العالم ويمنح المعنى للموجودات التي كانت مجردة قبل التفاعل البشري معها.

إن هذا الدور الإبداعي يفرض الالتزام بالفعل والتدخل، ويتطلب مقاومة "الكسل الفلسفي" و"اللامبالاة الوجودية". التفلسف اليومي والفضول يُعتبران محركاً ضرورياً للوعي والبحث عن الحقائق الجوهرية. وهذا يربط الوعي بالمسؤولية، حيث يجب أن يكون الوجود المبدع موجهاً نحو الالتزام الأخلاقي والعمل الكوني.

الموجود الإنساني مقابل الموجودات الأخرى

يستند هذا التفريق على التمييز الوجودي الذي قدمه سارتر بين "الوجود لذاته" (الإنساني) و"الوجود في ذاته" (غير الإنساني)، والذي يُعتبر أساسياً لفهم ماهية الإنسان كـ "مشروع" حر ومسؤول.

الموجود الإنساني (الوجود لذاته)

يُعرّف الموجود الإنساني بصفته "الوجود لذاته". إن الحرية هي ما يميز الإنسان عن الجماد، وهي مفارقة (الهدية والعبء )في آن واحد، لأنها تفرض المسؤولية الكلية. الإنسان محكوم بالحرية وعليه أن يعيشها قولاً وفعلاً.

يتمثل الفرق الجوهري في "النقص". فالإنسان كائن ناقص وغير مكتمل أنطولوجياً؛ هذا النقص هو المسافة الفاصلة بين "ما هو عليه" و "ما يريد أن يكون". هذا الدافع المستمر للتجاوز، والقلق من الغد، هو ما يمنع الإنسان من التحول إلى مجرد وجود في ذاته. إن هذا النقص هو ما يبرر تزامن الماهية التي تُفهم كـ "صيرورة متجددة" ومشروع مستمر.

الموجودات الأخرى وثبات الماهية

تندرج الموجودات الأخرى (المادية وغير الإنسانية) ضمن تصنيف "الوجود في ذاته". هذه الموجودات تتميز بالثبات والكمال الداخلي؛ فهي "ما هي عليه". حدها النهائي هو وجودها الفعلي، وماهيتها محددة ومكتملة سلفاً، وهي لا تسعى لتجاوز ذاتها ولا يقلقها الغد.

تفتقر هذه الموجودات إلى الوعي القاصد أو الذاتي، وبالتالي فهي غير قادرة على الاختيار أو تحمل المسؤولية. لا يمكنها أن تعي معنى الوجود. وفقاً لهايدغر، غالبًا ما تظهر الموجودات غير الإنسانية كـ "موجودات في متناول اليد" (أدوات)، وتكتسب أهميتها الأنطولوجية من خلال علاقتها بالوجود الإنساني واحتياجه إليها.

الإنسان ككائن مانح للمعنى

في سياق الحاضرية الوجودية الشاملة، يكمن التفريق الحاسم في القدرة على منح المعنى. الوعي الإنساني، وهو النشاط المبدع الذي يخلق العالم ويمنح المعنى للموجودات التي كانت مجردة قبل التفاعل البشري معها.

الموجودات غير الإنسانية تظل في حالة "وجود مجرد" حتى تقع تحت قصدية الوعي الإنساني. هذا يضع مسؤولية أنطولوجية مضاعفة على الإنسان: فهو ليس مسؤولاً عن بناء ماهيته الذاتية (الصيرورة) فحسب، بل هو مسؤول أيضاً عن "تأنسن" العالم المادي ومنحه قيمة ومعنى. إن هذا التمايز الجذري يفسر لماذا تتحدد الماهية الإنسانية في كونها صيرورة متجددة مرتبطة بالحرية، على عكس ثبات الماهية المادية التقليدية.

المسؤولية الوجودية الكلية والالتزام الأخلاقي

في ضوء الوعي، تتحول الحرية، التي هي شرط وجودي وعبء ثقيل في الوجودية، إلى التزام أخلاقي كوني. إن هذا الالتزام يضمن أن يكون الوعي متجهاً نحو الفعل الأخلاقي (القصدية الأخلاقية).

يفرض الوعي تحمل المسؤولية الكاملة عن الاختيارات والتصرفات، ويتسع نطاق هذه المسؤولية ليشمل مصير الآخرين و"الوضع الإنساني ككل". هذا الالتزام الوجودي هو ما يمنع الروح كصيرورة متجددة من الانهيار.

مواجهة الوعي المفرط والاغتراب

على الرغم من أهميته، إلا أن الوعي العميق الناتج عن التفكير المفرط يكشف تناقضات العالم، مما يسبب شعوراً بالاغتراب والعزلة والقلق الوجودي. العقلانية المفرطة هي حالة مرضية من التفكير والتحليل المبالغ فيه، تضع حاجزاً بين الإنسان ومشاعره وتمنعه من التفاعل بعمق مع التجارب الوجودية، مما يؤدي إلى فقدان المعنى الوجودي نتيجة السعي غير الواقعي للكمال.

لهذا السبب، فإن الوعي ليس دعوة للتفكير الزائد، بل هو دعوة لحالة من "السكينة الداخلية المتكاملة" التي تتقبل عدم الكمال الوجودي. لمواجهة هذا، يجب إضافة عنصر "الحكمة أو التوازن الوجودي".

الماهية ووعي الوجود كشرط للمعنى

إن ماهية الوعي في هذا الإطار ليست جوهراً ثابتاً، بل هي "القدرة القصدية المتحررة والمسؤولة" التي تتجسد في الوعي. هذا الوعي يمثل نشاطاً مبدعاً يمنح الوجود معناه الحقيقي. إن تحديد الماهية أخلاقياً (الوعي المسؤول والملزم) هو ما يضمن أن يكون المعنى المتحقق كونياً وشاملاً، وليس فردياً ضيقاً. لذا يجب مقاومة الجمود الفكري واللامبالاة الوجودية واستبدالها بالتفلسف اليومي، ليكون الوعي محركاً دائماً للبحث عن الحقائق وجوهرياً للتدخل الإبداعي في العالم. وعلى الفرد أن يطور وعياً شاملاً يسمح له بتحمل المسؤولية الكاملة.

***

غالب المسعودي

..........................

مراجع

سارتر، جان بول. الوجود والعدم: محاولة في الأنطولوجيا الظاهراتية.

هايدغر، مارتن. الكينونة والزمان (الوجود والزمان).

هوسرل، إدموند. تأملات ديكارتية.

ديكارت، رينيه. تأملات في الفلسفة الأولى.

ميرلوبونتي، موريس. فينومينولوجيا الإدراك.

بقلم: رويفيرا

ترجمة: حاتم حميد محسن

 ***

ماهي بالضبط الاشياء الرياضية؟ وكيف تتصل معرفتنا بها؟ منذ افلاطون (427-347ق.م) كانت هذه الأسئلة أساسية لفلسفة الرياضيات. افلاطون ادرك ان الرياضيات تتضمن دوائر تامة، مثلثات، وما شابه. لكن كما لاحظ افلاطون، ان لا وجود في العالم لدوائر تامة او مثلثات، ما يوجد فقط تقريبات غير تامة. لو تصوّرنا مضلّعا بأعداد متزايدة من أضلاع متساوية. عندما يقترب عدد الاضلاع من اللانهاية، سيصبح المضلع دائرة. وهكذا، الدائرة التامة يمكن تصورها كمضلع بعدد لا متناهي من الأضلاع اللامتناهية في الصغر. لذا، لا يهم كم هو دقيق الكومبيوتر في عمل الدائرة، سوف يكون فقط تقريب غير تام. الانسان المتناهي وما لديه من كومبيوتر لا يستطيع خلق أشياء بخصائص رياضية لا متناهية، مثل الاضلاع اللامتناهية للدائرة المثالية. افلاطون استنتج طالما لا وجود هناك لأشياء رياضية تامة في العالم، فان أشياء الرياضيات (الدوائر التامة والمثلثات والأعداد ذاتها) يجب ان توجد كأشياء مجردة أبدية وراء الزمان والمكان في عالم افلاطوني آخر يسمى عالم الأشكال (الأفكار). نوع افلاطون الخاص للواقعية الرياضية (أي إضفاء الواقع الموضوعي على لأشياء الرياضية) كان من اكثر وجهات النظر السائدة حول الرياضيات بين كل من الفلاسفة والرياضيين منذ ذلك الحين.

لكن العديد من الفلاسفة بعد افلاطون – خاصة التجريبيين الذين ينظرون الى كل المعرفة باعتبارها تُكتسب من خلال التجربة – كانت هذه الرؤية المتجاوزة للرياضيات غير معقولة. وهكذا، منذ زمن افلاطون، كان تاريخ فلسفة الرياضيات مليء بالتفسيرات المناهضة للأفلاطونية محاولا اسقاطها من برجها السماوي واعادتها الى الارض. احد التفسيرات في بداية القرن العشرين سمي بـ التقليدية conventionalism، نظر الى الادّعاءات الرياضية كـ "تحليلية" او صحيحة بحكم الاتفاق. الادّعاء التحليلي هو أي ادّعاء صحيح فقط بسبب المعنى التقليدي لعبارته – مثل "كل العزاب غير متزوجين". ونفس الشيء، الادعاءات الرياضية كان يجب ان يُنظر اليها صحيحة فقط بسبب التعريف التقليدي لعباراتها. أيضا في بداية القرن العشرين، كان الرياضي ديفد هلبرت من البارزين جدا في تطوير الشكلانية formalism، وهي الرؤية بان الرياضيات ليست اكثر من الاستخدام المرتكز على القاعدة لرموز لا أهمية كبيرة لمعانيها. وتقريبا في نفس الفترة، طور الرياضي L.E.J.Brouwer الحدسية intuitionism، التي اعتبرت الادعاءات الرياضية تُبنى من خلال حدسنا الذاتي. هذه التوضيحات للرياضيات جميعها رفضت الافلاطونية من خلال تجنب أي إشارة لذهن – او أشياء رياضية خارجية اسطورية مجردة.

مع ذلك، في ورقة هامة "الحقيقة الرياضية" في مجلة الفلسفة، عدد70،1973، يرى الفيلسوف بول بيناسيراف  Paul Benacerraf ان التفسير الافلاطوني للرياضيات يجرّد الادعاءات الرياضية من حقيقتها الموضوعية بالمعنى الشعبي اليومي، أي، من فكرة ان الحقائق الرياضية صحيحة سواء اعتقد بها المرء ام لا. الحقيقة الموضوعية هي خاصية للرياضيات وهي واضحة لمعظم الناس، لكن التوضيح المناهض للأفلاطونية يجعل الرياضيات ذاتية (رغم ان حجة بيناسيراف موجهة نحو التقليدية والشكلانية، ولن تكون الحدسية أفضل حالا).

في ورقته، يبيّن بيناسيراف ان الادعاءات الرياضية مثل "ان هناك على الأقل ثلاثة أعداد زوجية اكبر من 17" لها نفس الشكل النحوي والمنطقي كما في الادعاءات غير الرياضية مثل "ان هناك على الأقل ثلاث مدن كبرى أقدم من نيويورك". وهكذا، يزعم بيناسيراف بانه لو كانت الادعاءات الرياضية صحيحة بنفس الطريقة الموضوعية التي تكون بها الادعاءات صحيحة لكل الأشياء اليومية او حقائق، عندئذ يجب ان تكون أشياء الادعاءات الرياضية موجودة ايضا بشكل مستقل عن أشكالنا وتقاليدنا الذاتية. بعبارة أخرى، مثلما تصح الادعاءات حول المدن الواقعية التي يجب ان تكون مدن موجودة موضوعيا، كذلك يجب ان تكون ادعاءاتنا الرياضية حول الأعداد والدوائر التامة وما شابه، تكون صحيحة في أعداد ودوائر تامة موجودة موضوعيا. لذلك، سيبدو ان الافلاطونية هي التفسير الرياضي الوحيد الذي يسمح بالحقائق الموضوعية للرياضيات.

كيف نعرف الحقائق الرياضية؟

هناك مشكلة أثيرت امام الافلاطونية عرضها بيناسيراف. اذا كانت الأشياء الرياضية مثل الأعداد والدوائر التامة توجد كأشياء مجردة وراء الزمان والمكان، ولا تتأثر او تؤثر في أي شيء في عالمنا اليومي، كما تزعم الافلاطونية، عندئذ كيف نتوصل الى معرفتها؟ اذا كان يجب علينا ان نفترض وجود الأشياء الرياضية الافلاطونية لعمل ادعاءات رياضية صحيحة موضوعيا، عندئذ نحن تُركنا في مأزق: اما نقول ان الرياضيات ذاتية، او نوضح كيف يمكن ان نمتلك معرفة بالأشياء غير الزمكانية التي لا يمكن الوصول اليها. نعتقد بان التفسير المضاد للأفلاطونية والتجريبي بالكامل للرياضيات هو وحده يستطيع الاستجابة   بشكل مثمر لهذا المأزق الايبستيمولوجي. الفيلسوف فيليب كيتشر Philip Kitcher في كتابه (طبيعة المعرفة الرياضية،1984) يفترض بالضبط مثل هذا التوضيح عبر تحديث التجريبية الرياضية لجون ستيوارت مل.

كيتشر يرى ان الرياضيات تتألف ليس من كينونات افلاطونية مجردة وانما من عمليات تجريبية إنسانية عامة تُجرى في أشياء مادية: مثل جمع وربط وفصل الحصى مثلا. فمثلا، القول الرياضي ان 2+3=5 طبقا لكيتشر سوف يشير أولا الى عملية تجميع تجري في الأشياء تسمى (يساوي 2)، ثم الى عملية تجميع لـ (يساوي 3)، وأخيرا الى العملية النهائية المركبة لـ (يساوي 5). الرياضيات المتقدمة سوف يتم تطويرها من هذه البدايات الادراكية البدائية والتي في النهاية تسمح لنا لتصوّر الهياكل التجريبية للعالم من خلال الرياضيات. وكما يجادل كيتشر، نحن لم نعد نحتاج لتأدية عمليات تجريبية ماديا، نحن نستطيع ان نؤديها في اذهاننا. وحتى مع هذا، العمليات الذهنية التي جُسدت من خلال رموزنا الرياضية لاتزال يتم تعقّبها في النهاية الى التجريبي، أي، للعمليات المادية.

وبالنظر لهذا التوضيح التجريبي، سيتم الاحتفاظ بـ "الحقيقة الرياضية" في المعنى الموضوعي الشعبي . الأقوال الرياضية ستكون صحيحة بمقتضى الواقع الموضوعي للعمليات التجريبية التي تشير اليها الادعاءات الرياضية. كذلك، هذه العمليات تقع كثيرا في الزمان والمكان، وبهذا تتجنب  صعوبات بينساريف الايبستيمولوجية. ستكون لدينا معرفة في الرياضيات ليست من المعرفة حول الأشياء المجردة وانما من المعرفة حول العمليات التجريبية التي ترتكز عليها الرياضيات في النهاية.

درس الرياضيات اللامحدودة

النقد الشائع للتوضيح التجريبي هو ان الرياضيات هي بلاشك حول اللانهائية مثل المجموعات اللامتناهية infinite sets. ربما لنا الحق التساؤل كيف تطورت رياضيات اللامتناهي في ظل التفسير التجريبي طالما انه من غير الممكن للإنسان المحدود ان يؤدي عمليات تجريبية لامحدودة حول أشياء مادية. احد الحلول الممكنة اقترحه كيشر Kitcher، سيكون من الأفضل لنا ان ننظر الى المجالات اللانهائية للرياضيات باعتبارها عمليات تجريبية مثالية لانهائية. علينا ان نتصور نوعا من وكيل مثالي بقدرات لا حصر لها يستكمل بطريقة ما عمليات تجريبية لامحدودة، وبهذا يزودنا بتوضيح تجريبي للانهائيات. يرى كيتشر ان هذه الوسيلة المفاهيمية ستكون قريبة من المثالية المفيدة في الفيزياء مثل غازات مثالية وسطوح خالية من الاحتكاك. البعض اجابوا بان الأشخاص المثاليين هم ذاتهم مشابهين جدا للمجردات الافلاطونية التي نحاول تجنبها. آخرون جادلوا بان المثالية المثيرة للإشكال بشأن اللانهائيات لا داعي للاستعانة بها اذا كانت موافقتنا التجريبية تشير فقط الى لانهائية محتملة وليست لانهائية حقيقية (التمييز الذي اول من وضعه ارسطو). اللانهائية الحقيقية كلية لانهائية مكتملة، مثل مجموعة مكتملة من الاعداد الطبيعية او توسعات عشرية مكتملة لأعداد غيرعقلانية مثل (pi)(1)

بالمقابل، اللانهائية الاحتمالية لا نهاية لها، دائما عملية غير تامة مثل حساب الأرقام الطبيعية او حساب التوسع العشري اللانهائي المحتمل. ان اللانهائية الحقيقية، لو نُظر اليها كعمليات تجريبية سوف تتطلب اشخاصا مثاليين كما افترض كيتشر بسبب اكتمالهم. لكن التجريبي بدلا من ذلك يفسر لانهائية الرياضيات باعتبارها دائما غير تامة – فقط تستلزم عمليات لامتناهية محتملة. فمثلا، التجريبي يمكن ان يفسر الاعداد غير العقلانية مفاهيميا – عملية او حساب مرتكز على تجريب لامتناهي، موّلداً لانهائي محتمل لكن ليس توسع عشري تام. لذا بالرغم من ان التوسع العشري للأعداد غير العقلانية سيكون لامحدود محتمل، سيبقى دائما محدود في أي لحظة من الزمن نتيجة لمحدودية الانسان. هذه الفكرة تتجنب الحاجة لأشخاص مثاليين. بالنسبة للتجريبي، لا وجود هناك الى لانهائي حقيقي ولا أي عمليات لانهائية حقيقية نوعا ما "تامة" من جانب وكلاء مثاليين. هناك فقط لامحدوديات محتملة.

كمثال اخر، دعونا نعود الى الدائرة الافلاطونية التامة التي ذكرناها سابقا والتي جرى تصورها كمضلع لامتناهي الاضلاع.هذا يمكن أيضا ان يُفسر من جانب التجريبي ليس كلامتناهي حقيقي وانما فقط لامتناهي محتمل – كلامتناهي مفاهيميا، دائما كعملية تجريبية غير تامة. وبالضد من الافلاطونية، بالنسبة للتجريبي لا وجود هناك لأعداد افلاطونية ابدية ومجردة، الدوائر التامة والمثلثات وماشابه لا توجد على الأرض ولا في السماء الافلاطوني: هناك فقط عمليات وتقريبات متناهية غير تامة.

هل يمكن ان تكون الحقيقة الرياضية عرضية؟

آخِر مخاوف التجريبية الرياضية هي انه لو كانت الرياضيات حقا تُختزل في النهاية الى عمليات مُلاحظة، ذلك يجعل حقيقة الادعاءات الرياضية عرضية contingent (2) طالما ان الادعاءات المشتقة تجريبيا هي في معظمها صحيحة عرضيا. لكن يبدو لمعظمنا العكس هو الصحيح، الرياضيات صحيحة بالضرورة وغير معتمدة على أي طارئ. الرد التجريبي السريع سيكون ان الرياضيات فقط لأنها تبدو صحيحة بالضرورة، ذلك لا يعني انها كذلك. وكما بالنسبة لجون ستيوارت مل، التجريبي سيكون سعيد جدا في قبول ان الرياضيات فقط صحيحة عرضيا.

وبلا شك، تفسير التجريبي للرياضيات يجعل فهم الرياضيات العالية اكثر صعوبة وبالتالي أقل جاذبية للعديد من الناس. مع ذلك، تفسيرات التجريبية على الأقل تمنع التضخم غير الضروري لما لدينا من ميتافيزيقا طالما هي تتجنب الحاجة لإفتراض وجود أشياء رياضية افلاطونية مجردة.

***

........................

المصدر:

Mathematical knowledge: A Dilemma, Philosophy Now, Oct/Nov 2010

* الكاتب: رويفيرا مصمم غرافيك في مدينة ميسي سوجا، اونتاريو

الهوامش:

(1) العدد غير العقلاني هو ثابت رياضي يساوي 3.14159،أي نسبة محيط الدائرة الى قطرها. قيمة الرقم هو ذاته في كل دائرة بصرف النظر عن حجمها.

(2) الحقائق العرضية يكون فيها الادّعاء صحيح الآن لكن يمكن ان يكون كاذبا في ظروف مختلفة. الحقيقة العرضية غير مضمونة بالمنطق او الضرورة، فهي تعتمد على حقائق العالم الحقيقي وقد تختلف تبعا له.

تأطير الإشكالية الأنطولوجية الكبرى

تُعد إشكالية العلاقة بين الماهية والوجود المحور الأكثر تعقيداً وأساسيةً في تاريخ الفلسفة الغربية، إذ مثّلت سؤالاً جوهرياً للتفكير الميتافيزيقي منذ العصور الكلاسيكية وحتى الفلسفة المعاصرة. إن هذا الجدل الأنطولوجي لا يقتصر على تحديد مفهوميهما فحسب، بل يتمحور حول إشكالية الأولوية: هل الجوهر يسبق التحقق، أم أن التحقق يخلق الجوهر؟

يتطلب فهم هذا الصراع توضيح الحدود المنهجية لكل من المفهومين، ثم تتبع الانقلابات الفلسفية التي أدت إلى تقويض الماهوية التقليدية، وصولاً إلى صياغة نموذج تركيبي جديد هو "الحاضرية الوجودية الشاملة". ويهدف هذا البحث إلى تقديم تعريف منهجي ومفصّل للماهية والوجود، ثم تقديم تعريف مُحدّث لهما من خلال هذا المفهوم الحاضري الذي يسعى لتجاوز ثنائية الأولوية التاريخية.

الإطار المنهجي للجدل الأنطولوجي

التمييز المنهجي للماهية والوجود كبنية للسؤال الفلسفي

يُشكّل كل من الماهية والوجود قُطبي الوجود، إذ يقدم كل منهما إجابة على سؤال وجودي مغاير.

من الناحية الأنطولوجية، تشير الماهية إلى الجوهر الأساسي أو الطبيعة الكامنة لشيء ما، أي ما يجعله ما هو عليه. وهي تمثل الإجابة عن سؤال "ماذا". يمكن استخدام مصطلح الماهية للإشارة إلى الأشياء التي لها وجود حقيقي ملموس أو تلك التي هي مجرد تصورات ذهنية خالصة، فهي تحدد الصفة الأساسية والجوهر الحقيقي للشيء.

الوجود أما الوجود، فهو مفهوم يشير إلى تحقق الأشياء والكائنات في الواقع، وهو الإجابة عن سؤال "أنَّ". ويشمل كل ما هو متجسد، من أشخاص وجمادات، وصولاً إلى الأفكار والمشاعر التي تتحقق في الواقع الذهني أو الخارجي، مشيراً إلى فعل التحقق بحد ذاته.

دلالة الصراع الأنطولوجي: نزاع حول مصدر المعنى

إن النقطة المركزية في الصراع الفلسفي ليست مجرد التعريف النظري، بل تكمن في إشكالية الأولوية الأنطولوجية: هل تحدد الماهية الوجود وتسبقه (الماهوية)، أم أن الوجود هو الأولي ويشترط خلق الماهية (الوجودية).

يتجاوز هذا الصراع مجرد ترتيب زمني ليصبح نزاعاً حول مصدر المعنى والقيمة. فمن جهة، تفترض الماهوية وجود معنى جوهري وموضوعي يجب اكتشافه، الأمر الذي يؤدي إلى تبني فكرة الثبات والتحديد المسبق. ومن جهة أخرى، تصر الوجودية على أن المعنى يُخلق ذاتياً، وهو ما يتبنى فكرة الحركة والحرية المطلقة.

إن الهيمنة الطويلة للتصور الماهوي، التي استمرت لقرون، لم تكن مجرد اختيار فلسفي، بل وظيفة سيكولوجية واجتماعية. لقد وفرت الماهوية "اطمئناناً للعقل بفكرة النظام والثبات"، إذ أزالت عبء خلق المعنى من الفرد وحولته إلى مصدر خارجي أو مبدأ ثابت (سواء كان إلهاً أو طبيعة).

الماهوية الكلاسيكية: سلطة الجوهر والنظام الثابت

لقد ساد التصور الماهوي، الذي يرى أن الماهية تسبق الوجود وتحدده، لقرون طويلة، بدءًا من أفلاطون والفلسفة الكلاسيكية مروراً بالفكر المدرسي الوسيط.

أفلاطون: "الماهية كنموذج مفارق والأصل الأزلي" أرسى أفلاطون الأساس لمفهوم أسبقية الماهية من خلال "نظرية المثل". لقد افترض أن لكل موجود في عالمنا الحسي مثالاً ثابتاً وخالداً يقع في "عالم المثل" المفارق. هذه تمثل الماهيات الحقيقية والكاملة، وهي سابقة على الوجود الحسي المتغير وغير المستقر. في هذا التصور، تُعتبر الموجودات التي ندركها بحواسنا مجرد نسخ أو ظلال ناقصة للمثال الأصلي. وبالتالي، تكون الماهية هي الأصل (النموذج الأزلي)، بينما الوجود الحسي هو التابع.

أرسطو: "الماهية كجوهر كامن وثنائية الكمون والتحقق" شكّل أرسطو تحولاً نحو الواقعية، إذ أعاد الماهية من عالم المثل المفارق إلى الموجودات الحسية ذاتها، ليجعلها جوهراً كامناً فيها. بالنسبة لأرسطو، لا ينفصل الجوهر عن الكيان؛ فالماهية (الصورة أو الجوهر) تشير إلى طبيعة الكيان وخصائصه الجوهرية، بينما الوجود يتعلق بالكيان نفسه كحقيقة متحققة.

ربط أرسطو الوجود بتحقيق الماهية من خلال ثنائية "القوة والفعل" (الكمون والتحقق). الماهية هي "القوة" أو الإمكان الكامن في المادة، بينما الوجود هو "الفعل" الذي يحقق هذا الإمكان. إن الوجود هو كمال القوة ومن أجله وُجدت. وعلى الرغم من اختلاف نزعة أرسطو الفلسفية عن مثالية أفلاطون، فقد أكد موقفه أن الوجود هو عملية تحقيق لجوهر سابق يحدد مسبقاً الغاية والحدود، مما رسخ استمرارية الماهوية كنموذج مهيمن في الفلسفة الغربية.

لقد أثبتت هيمنة هذا النموذج الماهوي لقرون قدرتها على تلبية الحاجة الفطرية للاستقرار المعرفي. لكن هذا الاستقرار الفلسفي هو السبب الجذري الذي أدى لاحقاً إلى ظهور الفراغ العدمي عندما بدأت أسس هذا النظام الثابت بالانهيار، بفعل التحولات الفلسفية الحديثة (مثل كانط وديكارت) والتحولات الاجتماعية المرافقة للعلمانية والثورة الصناعية.

الثورة الوجودية: الوجود يسبق الماهية وسلطة الحرية

شهدت الفلسفة الحديثة تحولاً حاسماً بدءاً من ديكارت وكانط، حيث انتقل مركز الاهتمام من الوجود الخارجي الثابت إلى الذات العارفة. مهد هذا التحول النظري لتقويض الأسبقية الماهوية، خاصة مع كانط الذي اعتبر الوجود "مجرد رابطة لا تضيف صفة حقيقية" إلى المفهوم.

بلغ هذا التحول ذروته في القرن العشرين مع الفلسفة الوجودية التي قادها جان بول سارتر، بإعلانه الانقلاب الفلسفي الكامل على التقليد الذي استمر لأكثر من ألفي عام. صاغ سارتر مقولته المركزية: "الوجود يسبق الماهية".

يُفهم هذا الانقلاب بالقول إن الإنسان كائن أولاً (يُقذف به إلى الوجود)، ثم يتحول فيصير هذا الإنسان أو ذاك؛ وعليه أن يخلق ماهيته الخاصة من خلال أفعاله وخياراته. في هذا السياق، تؤكد الوجودية أن الماهية بالنسبة للإنسان هي "غائبة وتُبتَكر"، أي أن الجوهر غير موجود سلفاً، بل يُخلق ذاتياً. إن العملية الفلسفية هنا هي انتقال في اتجاه مضاد، يفضي من الوجود إلى الماهية، حيث لا يمكن الظفر بالماهية إلا بفعل حر.

الدلالات الأخلاقية الجذرية

إن قلب المعادلة الأنطولوجية عند سارتر يترتب عليه نتائج أخلاقية جذرية. فإذا كان الإنسان غير محدد بـ "طبيعة إنسانية" مسبقة، فهو يمتلك حرية مطلقة، بل يُجبر على أن يكون حرّاً. هذه الحرية هي الأداة التي تمكنه من تشكيل ماهيته الفردية.

إن محاولة الهروب من هذه المسؤولية، سواء بوضع الفرد لنفسه تحت قوانين صارمة أو الاقتناع بأن ماهيته تصنع وجوده، يمثل ما أسماه سارتر سوء النية ومحاولة لإنكار الحرية الأصيلة. سارتر بذلك يحول الوجودية إلى مذهب إنساني يركز على الوعي والاختيار والمسؤولية كخصائص أصيلة للوجود البشري.

فبينما حلّت الوجودية مشكلة التحديد المسبق (بالقضاء على الماهوية)، أدت إلى مشكلة جديدة: يأس العدمية الناتج عن الحرية غير المؤطرة. يتطلب هذا اللا استقرار المتأصل في الوجود الإنساني (في مرحلة ما بعد اللاهوت) آلية زمنية لتثبيت المعنى الذاتي الذي حرره سارتر، وهذا يمهد لظهور الحاضرية الوجودية الشاملة.

الحاضرية الوجودية الشاملة: الأسس ونقد العدمية

في أعقاب الثورة الوجودية، ومع غياب معيار أخلاقي مطلق موجه، وجد الفرد الحديث نفسه في حالة من العدمية.

نشأة الحاضرية الوجودية في مواجهة العدمية

نشأت أفكار العدمية في سياق انهيار الإطار الديني التقليدي وصعود العلمانية، مما أدى إلى ظروف العدمية. وتنطوي حالة العدمية على الاعتراف المروع بأنه لا يوجد سبب عام أو ترتيب أو هدف لوجودنا، وأن كل شيء في الأساس لا معنى له ولا جدوى.

تُعد الحاضرية الوجودية الشاملة، التي ظهرت كتيار فلسفي مستقل، محاولة لمعالجة هذا القلق الناجم عن غياب المعنى الثابت، وذلك من خلال تغيير الإطار الزمني للالتزام.

 تحديد الأسس الفلسفية للحاضرية

ترفض الحاضرية الوجودية الشاملة النظرة التقليدية للفلسفة التي كانت تركز على الأبدية والقواعد العامة. وبدلاً من ذلك، تشدد على:

مركزية الحاضر والتجربة الفردية: تركز على الواقعية والتجربة الفردية ودور الحاضر في تشكيل التفكير والتحليل الفلسفي. هذا التضييق للتركيز الزمني يهدف إلى إيجاد معنى عملي للحياة الوجودية.

مفهوم التورط مقابل الانفصال: ترفض الحاضرية محاولة النظر إلى الحالة الإنسانية من منظور مستقل ومحايد (الانفصال). وبدلاً من ذلك، تؤكد على أننا مشاركون بالفعل في "حدث أو نشاط الوجود"، وهو نشاط متجسد دائمًا ومشعور ومتواجد في سياق تاريخي، وهذا هو مفهوم التورط.

إن التركيز الحاضري على التورط يمثل دحراً حاسماً لحالة الانفصال والضياع التي نتجت عن الحرية السارترية غير المؤطرة. فالعلة وراء الاغتراب الحديث والعدمية هي الانفصال وإحالة المسؤولية بيروقراطياً إلى ماضٍ قاهر أو مستقبل مبهم. لذا، فإن الأثر الناتج عن التركيز الحاضري هو فرض إلزامي في اللحظة الراهنة، مما يؤدي إلى تأصيل المعنى الذاتي في الواقع الملموس، بدلاً من البحث عن أساس ثابت. بهذا، تنجح الحاضرية في ترسيخ المعنى الوجودي في الآنية، وهو ما فشلت الوجودية النقية في استقراره بسبب طبيعتها المؤجلة (الوجود كمشروع مستمر).

إعادة تعريف الماهية والوجود من منظور الحاضرية

إن الإشكالية الأنطولوجية الكلاسيكية كانت محكومة بالانحصار في الثنائية المألوفة: إما أن يكون الشيء وجوداً أو ماهية. سعت الحاضرية الوجودية الشاملة إلى تجاوز هذه المفارقة التاريخية، من خلال تأسيس مفهوم التزامن الأنطولوجي، حيث لا يسبق أحدهما الآخر زمنياً أو منطقياً، بل يتشكلان معاً ويتلازمان في فعل "الآنية" المطلق.

تجاوز مفارقة الثنائية الأنطولوجية

تاريخياً، سعت تيارات فلسفية متأخرة، خاصة في الفكر الإسلامي (حاول صدر المتألهين الشيرازي -الملا صدرا، ت 1050هـ/1640م)، إلى تأصيل الوجود (أصالة الوجود) وتجاوز المفارقة التي تفرق بين طبيعة العالم العلوي (حقيقته الوجود) والسفلي (حقيقته الماهية). هذا التوجه يمهد لقبول التركيب الذي لا يفاضل بين الطرفين، بل يدمجهما في نظام كلي.

في الإطار الحاضري الشامل، لا يُنظر إلى الوجود كشيء يتحقق من أجل ماهية سابقة، ولا يُنظر إلى الماهية كشيء يُخلق في المستقبل على أساس وجود حالي (سارتر). بل إن الوجود والماهية يتشكلان بصورة متزامنة داخل إطار اللحظة الملتزمة.

الوجود كصَيرورة ملتزمة: الوجود في الحاضرية الوجودية الشاملة هو الصيرورة والتحقق المستمر المتجسد في الآنية الوجودية الملتزمة. إن الدلالة الأنطولوجية لهذا التعريف هي رفض حالة الانفصال والانتظار، حيث يصبح الوجود ليس مجرد حقيقة ثابتة أو تحقق انتهى، بل هو فعل "التورط" المباشر والملموس في اللحظة الراهنة. يتم هنا تضييق الأفق الزمني للوجود: فبدلاً من الوجود كـ "مشروع" ممتد على المستقبل (سارتر) أو كـ "قدر محتوم" مصدره الماضي (أرسطو)، يصبح الوجود هو اللحظة المركزة من الفعل الحر المنجز حالياً.

الماهية كانبثاق هيكلي: الماهية في الحاضرية هي النموذج المُصاغ والقيمة المُتكوِّنة نتيجة مجموع الاختيارات الحاضرية الملتزمة (التكثيف الهيكلي). من منظور الحاضرية، ليست الماهية غائبة تماماً كما ذهب سارتر، ولا هي مسبقة كما ذهب أفلاطون. بل هي انبثاق هيكلي فوري يتشكل في اللحظة الراهنة نتيجة المسؤولية والفعل المنجز. إنها الإجابة عن سؤال "ماذا أصبح هذا الكائن في هذه اللحظة؟" نتيجة انخراطه الملتزم. تُشكل الماهية لحظياً وتتجدد وتُنقض في كل "آن" من الوجود. هي بمثابة التكثيف الهيكلي لأفعال الذات في الحاضر.

التداعيات الأخلاقية والاجتماعية للنموذج الحاضري

إن التداعيات الأخلاقية للنموذج الحاضري هي تضييق نطاق المسؤولية وتكثيفها. إذا كان سارتر قد ألقى على الإنسان مسؤولية كونية مطلقة في كل خيار، فإن الحاضرية تؤطر هذه المسؤولية في اللحظة الآنية، مما يجعلها أكثر قابلية للتعامل.

الالتزام والسعادة: يركز النموذج الحاضري على الوجود والحياة في الحاضر، مقدماً إطاراً أخلاقياً يركز على الالتزام الآني كطريق لتعزيز المعنى والسعادة، مما يوفر أملاً عملياً في مواجهة يأس العدمية.

إعادة تعريف سوء النية: في الإطار الحاضري، يتحول سوء النية إلى محاولة للانفصال عن اللحظة الراهنة (الآنية) أو إحالة المسؤولية إلى قوى الماضي أو توقعات المستقبل، بدلاً من التورط الآني والقبول بمسؤولية الفعل الحالي.

مسارات البحث المستقبلية

لتعميق فهم الحاضرية الوجودية الشاملة، يمكن للأبحاث المستقبلية أن تتجه في عدة مسارات:

الموت والزمن في الحاضرية: تحليل كيف يتعامل هذا الإطار مع تناهي الوجود البشري دون تقديم إجابات نهائية بشأن ما يحدث بعد الموت، بل بالتأكيد على أن المصير النهائي لا يقلل من أهمية الالتزام في الحاضر

التفاعل مع تيارات النقد المعاصر: دراسة تفاعل الحاضرية مع تيارات الفلسفة النقدية الحديثة، مثل اللاهوت السياسي وما بعد الحداثة، التي تشترك معها في نقد المفاهيم التقليدية للحقيقة، والهوية، والقوة، والمعرفة.

الهوية والماهية المُنبثقة: بحث التداعيات الهوياتية للماهية الحاضرية في ضوء التشكيل المستمر للهوية الفردية والجماعية، وكيف يمكن لهذه الماهية المتجددة لحظياً أن توفر أساساً للهوية المتماسكة في وجه الاغتراب.

***

غالب المسعودي

..........................

مصادر

أفلاطون (Plato):

الجمهورية (The Republic): لفهم نظرية المُثل وأسبقية الماهية.

أرسطو (Aristotle):

الميتافيزيقا (Metaphysics): لفهم العلاقة بين الصورة والمادة، وثنائية القوة والفعل (الكمون والتحقق).

جان بول سارتر (Jean-Paul Sartre):

الوجود والعدم (Being and Nothingness): المصدر الأساسي لفهم مقولة "الوجود يسبق الماهية" ومفهوم سوء النية (Bad Faith).

الوجودية مذهب إنساني (Existentialism is a Humanism): لبيان النتائج الأخلاقية الجذرية لمذهبه.

فريدريك نيتشه (Friedrich Nietzsche):

إرادة القوة (The Will to Power) / العلم المرح (The Gay Science): لفهم أصول مفهوم العدمية (Nihilism) وتحليله لانهيار الأساس الثابت.

جواب الفلسفة هو ان الاتصال المفرط Hyperconnectivity يمكنه ان يعيد تعريف الذات عبر مزج الهويتين الفردية والجماعية، لكنه أيضا يثير تحديات في تجزئة الأصالة وفقدان الهوية.

في عالمنا السريع التغيير، يتغير معنى الهوية. كل ما تحتاج اليه هو نقرة واحدة لتجعل الناس يعرفون بماذا تفكر وتعمل. وبسبب التواصل الاجتماعي والذكاء الصناعي وحقيقة ان مختلف الدول تترابط اكثر من أي وقت مضى، فان الأشياء التي اعتُبرت خاصة أصبحت عامة.

لكن هل ان بقاءنا المستمر على الاونلاين يعني اننا لانزال نفس ذواتنا؟ ام اننا نتحول الى نسخ من ذاتنا نعتقد ان الآخرين يحبونها؟

منْ نحن لا يعني ببساطة افكارنا الخاصة وانما التفكير حول ما نرى في أولئك الذين حولنا. الفيلسوف جورج هربرت افترض نظرية "مظهر الزجاج الذاتي" Looking – glass self. هويتنا تشكّل عبر التفاعلات وتصورات الآخرين – مفهوما انطلق بسرعة كبيرة في العصر الرقمي. منصات التواصل الاجتماعي تعمل كمرايا لامتناهية. انها تبيّن لنا كيف يرى الآخرون الأشياء وكيف يمكنهم تضخيم بعض الصفات والاعجابات والسلوكيات في الخوارزميات. وكمثال يمكننا ان نأخذ انستجرام.

هنا، شخص ما ربما يصنع حسابا يبدو انه واثق ومغامر: صور من رحلات خلابة او نزهات ليلية او ابتسامة عريضة للكاميرا دون الاتصال بالإنترنيت، مع ذلك، الحياة قد تكون مختلفة جدا - مليئة بالقلق والوحدة. هذا الاختلاف يخلق ما يسميه الفلاسفة "الذات المجزأة" fragmented self - إحساس بالتوتر بين عالم الاشخاص الواقعي وهويات الاون لاين.

ان المنصات الرقمية تقوّي أيضا ردود الفعل الخارجية. متى ما نحصل على اعجاب او مشاركة او تعليق سنقيّم ما اذا كانت الصورة التي نبعثها حول أنفسنا لازالت كما هي. هذا يمكن ان يعزز ثقتنا لكن أيضا يجعلنا قلقين حول مسألة كوننا "واقعيين". هل نعيش لأنفسنا ام للناس الاخرين؟

الترابط المفرط يهز بقوة احساسنا بالذات. نحن باستمرار علينا ان نجلب مختلف النسخ مع بعضها عن انفسنا. اذا كانت هناك عدة مرايا، أي منها يبيّن منْ نحن حقا؟ هل نحن نعرف ما هو الواقعي بعد الان؟

الفردية مقابل الجماعية: فعل متوازن

هل الفرد يحدد مصيره، ام ان الجماعة التي ينتمي اليها تحدد ذلك؟ الفلاسفة الغربيون وضعوا الحرية في جوهر الهوية لقرون بدءا من دفاع جون لوك عن الحرية الفردية الى احتفال نيتشه "بالسوبرمان". بالمقابل، المدارس الشرقية للكونفوشيوسية والطاوية اكدت على الواجب والتناغم وعدم التميز عن أي شيء أعظم. مع ذلك، في العالم الحديث المترابط، هذه الحدود تتراخى. لنأخذ السوشيال ميديا على سبيل المثال. الناس يمكنهم ان يكون لهم قولهم الخاص وينسجمون مع الحركات العالمية. أحيانا، شخص واحد يقول شيئا ما سيطلق حملات عالمية واسعة، يثبت ان من الممكن ان يكون كلا الوجهين – فرد وجزء من الجماعي. حركة me too وهي حركة اجتماعية ضد التحرش الجنسي مثال جيد على هذا الدور المزدوج. نحن يُطلب منا التحقق من الترابط المفرط. في عالم تقودنا به الخوارزميات نحو غرف الصدى، هل نخاطر بفقدان هويتنا؟ ام اننا نمزج هوية هجينة تعتز بالتعبير الشخصي وتحصل على مدخل للوعي الجمعي العالمي؟

بعض الفلاسفة يجادلون باننا في وسط التحول. بفضل كوننا اكثر ترابطا من قبل، المجتمع لديه وسائل جديدة لتسوية الأمور. يمكن ان يخلق مجالات تعزز كل من الجماعية والفردية. الان، المهمة هي الحفاظ على التوازن في هذه الفضاءات لكي يستطيع كل شخص استعمالها بشكل جيد خاصة بدون فقدان المقدرة على الاتصال بالأخرين او الإحساس بما هو جميل حول البشر ككل.

في عالم تطمس فيه التكنلوجيا الحدود بين أجسامنا وادمغتنا، ماذا يعني ان تكون انسانا؟ ما بعد الإنسانية تقترح ان ذواتنا ليست ثابتة وانما طيعة ودائما مرتبطة بالماكنة.

فمثلا، مقالة دونا هيراوي Dona Heraway عام 1985 بعنوان بيان سايبورغ A cyborg Manifesto تنظر في وجود لم يعد فيه الناس ينظرون لأنفسهم تماما ككائنات عضوية. هذه الأفكار ربما تبدو نظرية خالصة، لكن الأشياء تتغير بسرعة بمقتضى الاتصالات الرقمية الحالية. مفاهيم مثل الربط العصبي تسعى الى دمج الذكاء الصناعي بالوعي البشري بكفاءة عالية لدرجة يستطيع الشخص ان يكون واحدا وهو نفسه (ذات سايبورغ) قادر على معالجة المعلومات اسرع من أي وقت مضى و"الاتصال" بطرق جديدة كليا.

ان الواقع الافتراضي يذهب أبعد من هذا. بيئته تقدم تجارب لا تحتاج فيها الهوية للارتباط بالجسد الفيزيقي للشخص. المشكلة الوحيدة هي ان هذا التقدم يثير أسئلة أخلاقية عميقة. اذا كنا نستطيع تحميل أدمغتنا الى كومبيوتر ونعيش الى الابد رقميا، هل هذا يعني اننا نفقد ما نعنيه بان نكون بشر؟ ماهي هويتنا اذا لم تعتمد على اجسادنا؟ جان بول سارتر يختلف في الرأي هنا. هو يرى ان الذوات توجد فقط بمقدار ما تفعل افعالا حرة تشعر فيها بالمسؤولية. – وهو امر يصعب محاكاته لو كان الشخص برنامج سوفتوير لما بعد الانسان. عندما نصارع بعمق مع عصر تدير فيه التكنلوجيا الحياة، فان إعادة اختراع الذات هي قيد العمل. ولكن يبقى ان نرى هل سيكون ذلك لفائدة الإنسانية ام لضررها وهو السؤال الذي له مضامين عميقة جدا لدرجة انها تمس جوهرنا مباشرة.

وفي عالم مترابط للغاية، كيف سنكون أحرارا حقا؟ الفلاسفة الوجوديون جان بول سارتر ومارتن هايدجر اعتقدا ان الجواب واضح: فقط من خلال الحرية يستطيع الفرد ان يعرّف ذاته. لخّص سارتر هذه الرؤية بالقول "الانسان محكوم عليه ان يكون حرا". هو اعتقد ان الناس يجب ان يقبلوا مسؤولية صنع حياة ذات معنى. هايدجر أيضا اعتقد ان الناس يجب ان يحذروا من جعل الآخرين يقررون ما يجب ان يقوموا به. اذا لم يكن ذلك، ستكون هناك مخاطرة في "السقوط" في حالة من التصرف كما لو ان المرء لم يكن حقا فرد.

اليوم، يثير الاتصال المفرط (كونك متصل بشكل فائق) الكثير من الأسئلة لكن أيضا يوفر طرقا جديدة للتفكير حولها لأن التكنلوجيا الرقمية تربط بلايين الناس مع بعضهم في كل ثانية. كونك فائق الاتصال يثير بعض الأسئلة الجوهرية حول وجودنا. فمن جهة، التكنلوجيا تعطينا المزيد من الحرية، نحن نستطيع ان نغيّر منْ نحن تجاه أصدقائنا وكيف نعمل وحتى ذواتنا ذاتها عندما نريد ذلك. لكن هذا أيضا يجعل من السهل للناس الاخرين (عبر التواصل الاجتماعي) الحكم على ما اذا كان عملنا رائعا ام لا وهو الامر الذي يهدد هذه الحرية. بعض الفلاسفة سيقولون انه لكي تكون حرا حقا، انت لا حاجة لك للاهتمام بهذه الموافقة من الاخرين، لأنك سينتهي بك الامر محاصرا بواسطة أفكارهم.

في عالم فيه الكثير من الارتباطات (الافتراضية او غيرها) عليك ان تعمل بصعوبة طوال الوقت اذا كنت تريد البقاء "صادقا مع نفسك". لا تأخذ على عاتقك فقط الأشياء التي تجعل الحياة أسهل لكنها أقل أصالة. كيف نستطيع الحفاظ على إحساس قوي بمنْ نحن عندما تتنافس على اهتمامنا الكثير جدا من الوسائط الرقمية في كل ثانية؟ بعض النظريات السيكولوجية ترى اننا يجب ان تكون لدينا هوية مستقرة تتكون من خلال تجارب مشابهة. لكن هذا بالضبط ما لا تسمح به تكنلوجياتنا الحالية. في الحقيقة، كوننا دائما في الاون لاين ربما يمنعنا من تطوير إحساس متماسك بالذات. تخيلّ ما يحدث عندما تحاول مشاهدة التلفاز وانت تتصفح السوشيال ميديا وترسل الرسائل للأصدقاء. كل واحدة من هذه النشاطات تجبرك ان تكون نسخة مختلفة قليلا عن نفسك. انها تقريبا كما لو ان دماغك ينقسم الى أجزاء صغيرة كل واحد يفكر في شيء آخر في نفس الوقت.

ومع مرور الوقت، يؤدي الانتقال المستمر بين شخصيات العالم الرقمي والواقعي الى جعل الناس يشعرون وكأن جوهرهم يفتقر الى شيء ما، وهي رؤية جرى توسيعها بشكل مخيف من جانب منظّر الميديا مارشال ام لوهان Marshall M. Luhan في قوله "الوسيط هو الرسالة"، أجهزتنا في التواصل قد تؤدي الى عزلنا.

ليس من الصعب رؤية التأثير النفسي لذلك. البحوث ربطت الاستخدام الثقيل للانترنيت بالغربة والقلق والشعور بعدم القدرة على الاحساس بالذات في أي مكان منفرد. ومع تراكم الاستنتاجات عبر العقود، برزت المخاوف حول عدم وجود هويات متماسكة حتى الان.

ان الاتصال المفرط يتطلب بعض التوازن. تعزيز العلاقات من خلال التكنلوجيا هو دائما جيد. ولكن ليس عندما تترك النتيجة النهائية المستخدمين مجزأين جدا لدرجة يكافحون من اجل التوقف والاستماع الى شيء أعمق، الى ذات اكثر توحدا خارج الانترنيت وسط كل تلك الضوضاء الاجتماعية. لكن ماذا لو لم تؤد الاتصالات المفرطة الى تجزئتنا لأجزاء لكنها حقا تغيّر طبيعتنا – تجعلنا اكثر ديناميكية وارتباطا؟ الفيلسوف مانويل كاستل Manuel Castells يناقش ظاهرة يسميها "الفردية الشبكية" networked individualism : كيف تسمح لنا التكنلوجيا الجديدة لنكون ذواتنا وفي نفس الوقت جزءا من الشبكة العالمية.

ان العالم الافتراضي والتواصل الاجتماعي ليس لهما حدود. هذا يسمح للناس من مختلف الاصقاع في العالم للالتقاء والتسكع بسهولة وحتى الوقوع في الحب، حتى عندما هم يأتون من مختلف الدول او يؤمنون بعقائد تتعارض مع بعضها. الفلسفة البوذية تلقي ضوءا على هذه الاقتراحات. المفكرون الدينيون يعلموننا باننا ليس لدينا ذات انفرادية. ربما انت تظن بنفسك كشيء ثابت لكن في الواقع انت تتغير بسبب علاقاتك مع أشياء أخرى وبسبب ما يحدث لك. تخيّل فنانا من باريس يتعاون مع مبرمج من طوكيو في مسعى رقمي. كلاهما يجلب مهارة متميزة للمشروع، يخلقان شيئا اكبر من ذاتهما. هذه هي إمكانية الهوية المتميزة الفائقة الاتصال، تجمع بين الاصالة والابتكارية المشتركة. لكن هناك مشكلة: كيف نستطيع البقاء واقعيين بينما نكون في حالة من السيولة المفرطة؟ بدلا من النظر الى الامر على انه خسارة لنفسك، ربما عليك ان تفكر في الترقية. تحتضن التغيير كفرصة لصنع معنى جديد خارج حياتك، معنى لا يمكن ان يوجد بدون كل هذه الاتصالات.

اذن، ما مستقبل الذات في عالم فائق الاتصال؟

ان مستقبل الذات في عالم مفرط في الاتصال هو فرصة وتحدّي في آن واحد. مع تسلل التكنلوجيا لكل مظهر من مظاهر الحياة، تتغير الأفكار التقليدية حول الهوية. اذا كانت الاتصالية المفرطة تضخّم التأثيرات الخارجية، وتقود الى شخصيات مختارة وذوات مجزأة، فهي أيضا تسمح بحرية غير مسبوقة لعرض المرء الى العالم. بعيدا عن كونها ثابتة، المفاهيم الفلسفية للذات – من فكرة سارتر عن الاصالة ومعتقدات البوذية حول الهويات الدائمة التغيير الى أفكار ما بعد الحداثة حول سيبورغ – تقترح انها تتحول باستمرار. هذا التحول المستمر يثير أسئلة عميقة، وسط قاعة من المرايا تخبرنا نحن جيدين بما يكفي، هل سنبقى على هذا الحال؟ وهل ان مزج الفردية مع الجماعية عبر جسر التكنلوجيا يعطي ذاتا فائقة؟

الجواب ربما يكمن في التوازن، الاستعمال المفرط ليس لكي يُضعف وانما ليقوّي منْ نحن. لا سؤال عن التخلي عن الهوية – انه حول إعادة تصورها. في عصر تكون فيه الذات دائما سائلة – هيكل مرن مستعد للتكيف والنجاح وسط إمكانات لا متناهية.

***

حاتم حميد محسن

 

بين مواجهة العجز الفكري ومعالجة الاخفاق العملي

مقدمة: الوعي بزمانية الوجود البشري – أي إدراك الإنسان لكونه كائنًا محدودًا بالزمن، مولودًا في لحظة وميتًا في أخرى – هو من أعمق الخبرات الإنسانية وأكثرها إثارة للقلق. هذا الوعي ليس مجرد معرفة نظرية بمرور الزمن، بل هو تجربة وجودية تُلقي بالإنسان في مواجهة مباشرة مع عجزه الفكري عن استيعاب الزمن كاملاً، ومع إخفاقاته العملية في استغلال اللحظة المحدودة. في هذه الدراسة، نستكشف هذا الوعي كمحور مزدوج: من جهة، كاشف للعجز الفكري الذي يتجلى في محاولة العقل فهم الزمن خارج حدوده، ومن جهة أخرى، كمعالج للإخفاق العملي من خلال تحويله إلى دافع للعيش الأصيل. نعتمد في تحليلنا على أعمال مارتن هيدجر في الوجود والزمن، جان بول سارتر في الوجود والعدم، ألبير كامو في أسطورة سيزيف، فيكتور فرانكل في الإنسان يبحث عن المعنى، بالإضافة إلى إشارات إلى الفكر الإسلامي الصوفي (الغزالي وابن عربي) والفكر البوذي حول اللحظة الحاضرة. نهدف إلى إظهار كيف يتحول الوعي بالزمن من مصدر قلق إلى أداة للتحرر، متجاوزًا الانقسام بين التأمل الفكري والفعل العملي.

الوعي بزمانية الوجود: الأساس الوجودي

يبدأ الوعي بزمانية الوجود البشري من اللحظة التي يدرك فيها الإنسان أنه "مرمي" في الزمن، كما يعبر سارتر. ليس الإنسان كائنًا أزليًا، بل هو كائن يبدأ وينتهي، يولد دون اختيار ويموت دون سيطرة. هذا الوعي ليس معرفة بيولوجية فحسب، بل هو تجربة أنطولوجية تكشف عن هشاشة الوجود. في الوجود والزمن، يصف هايدجر هذا الوعي بـ"الوجود-نحو-الموت" ، حيث يصبح الموت ليس حدثًا مستقبليًا، بل هو الإمكان الأكثر يقينًا وشخصية في حياة الإنسان. هذا الوعي يُخرج الإنسان من الغفلة اليومية – ما يسميه هيدجر "السقوط في الـهم On" – ويُلقيه في مواجهة ذاته الأصيلة. لكن هذا الوعي لا يأتي دائمًا كإشراق، بل غالبًا كقلق. الزمن هنا ليس ساعة موضوعية، بل هو "الأفق الذي يُفهم من خلاله الوجود"، كما يقول هيدجر. الإنسان يعيش في ثلاثة أبعاد زمنية مترابطة: الماضي (الذي يُلقي به)، الحاضر (الذي يُرمى فيه)، والمستقبل (الذي يُرمى نحوه). هذا الوعي يكشف عن عجز فكري أساسي: العقل لا يستطيع استيعاب الزمن ككل، لأنه جزء منه. كما يشير كانط في نقد العقل الخالص، الزمن هو شكل حدسي للحس الداخلي، لا يمكن تجاوزه. ومع ذلك، فإن محاولة فهم الزمن تُولد إحساسًا بالعجز، حيث يصطدم العقل بحدوده.

مواجهة العجز الفكري: الزمن كلغز لا يُحل

العجز الفكري الناتج عن الوعي بالزمن يتجلى في عدة أشكال.

 أولاً، في محاولة العقل فهم "الأبدية" مقابل "الزمنية". الإنسان يتوق إلى الخلود، لكنه محكوم بالفناء. هذا التوتر يُولد ما يسميه كيركغورد "اليأس"، حيث يحاول الإنسان أن يكون أزليًا داخل زمنيته. في الفكر الصوفي الإسلامي، يعبر الغزالي عن هذا العجز في إحياء علوم الدين بقوله إن العقل محدود، ولا يدرك إلا الظلال، بينما الحقيقة في القلب. محاولة العقل استيعاب الزمن تؤدي إلى تناقضات: كيف نفهم "قبل الولادة" أو "بعد الموت"؟ العقل يصطدم بجدار اللامتناهي.

ثانيًا، العجز يظهر في فشل الفلسفة التقليدية في حل لغز الزمن. أرسطو يعرفه كـ"عدد الحركة حسب القبل والبعد"، لكنه لا يفسر لماذا نشعر بالزمن كضياع. أوغسطينوس في الاعترافات يتساءل: "ما هو الزمن؟ إذا لم يسألني أحد، أعرف؛ إذا أردت أن أشرح، لا أعرف". هذا العجز ليس فشلاً، بل هو دعوة لتجاوز العقل نحو الوجود. كامو في أسطورة سيزيف يرى أن الوعي بالعبث – الذي ينبع من الزمن المحدود – هو بداية التمرد. العجز الفكري إذن ليس نهاية، بل هو البوابة للعيش الأصيل.

معالجة الإخفاق العملي: الزمن كفرصة للمعنى

إذا كان الوعي بالزمن يكشف العجز الفكري، فإنه في الوقت نفسه يُعالج الإخفاق العملي. الإنسان يعيش في روتين يومي يُنكر فيه زمانيته: العمل الرتيب، الاستهلاك، الهروب إلى الترفيه. هذا الإخفاق العملي هو "السقوط" عند هيدجر، حيث يعيش الإنسان كـ"الكل"، غير مدرك لفرديته. الوعي بالموت يُخرجه من هذا السقوط، ويُلزمه بالاختيار الأصيل.

فيكتور فرانكل، الناجي من المعتقلات النازية، يُظهر في الإنسان يبحث عن المعنى كيف تحول الوعي بالزمن المحدود المعاناة إلى معنى. في المعتقل، حيث كان الموت يوميًا، لم يكن السؤال "كم سأعيش؟" بل "كيف أعيش اللحظة؟". الوعي بالزمن يُحول الإخفاق العملي – الفشل في العمل، العلاقات، الأهداف – إلى فرصة. كل إخفاق يصبح درسًا، لأن الزمن محدود. سارتر يعبر عن هذا بـ"المشروع"، حيث يُعيد الإنسان تعريف نفسه في كل لحظة.

في الفكر البوذي، يُعرف الوعي بالزمن كـ"الانتباه إلى اللحظة الحاضرة". الإخفاق العملي – الندم على الماضي أو القلق من المستقبل – يُعالج بالتركيز على "الآن". هذا التركيز ليس هروبًا، بل هو مواجهة: اللحظة هي المكان الوحيد للفعل.

 كامو يُكمل هذا بـ"التمرد"، حيث يدحرج سيزيف الصخرة يوميًا، مدركًا عبثيتها، لكنه يجد في الفعل نفسه الانتصار.

التوازن بين العجز والمعالجة: نحو العيش الأصيل

الوعي بزمانية الوجود لا يُقسم بين عجز فكري ومعالجة عملية، بل يجمعهما في ديناميكية واحدة.

العجز الفكري – عدم القدرة على فهم الزمن – يُحرر الإنسان من الوهم، ويُلزمه بالفعل. كما يقول هيدجر، "القلق يكشف الوجود". هذا القلق ليس مرضًا، بل هو الدعوة للأصالة. في المقابل، المعالجة العملية للإخفاق لا تكون بإنكار الزمن، بل باحتضانه. الإنسان الذي يدرك أن وقته محدود يتوقف عن التأجيل، يختار بحرية، ويُعطي معنى لكل لحظة.

في السياق الحضاري، يعبر ابن عربي في فصوص الحكم عن هذا التوازن بـ"الفناء في اللحظة"، حيث يصبح الإنسان شاهدًا على الله في كل آن. الوعي بالزمن هنا ليس خوفًا من الموت، بل شكرًا للحياة.

 هذا التوازن يظهر أيضًا في الرواقية، حيث يقول ماركوس أوريليوس: "فكر في كل يوم كأنه آخر يوم، وستعيش بسلام".

خاتمة

الوعي بزمانية الوجود البشري هو تجربة مزدوجة: كاشفة للعجز الفكري، ومعالجة للإخفاق العملي. العجز ليس نهاية، بل هو البداية؛ فشل العقل في استيعاب الزمن يُحرر الإنسان من الأوهام، ويُلزمه بالعيش في اللحظة. أما الإخفاق العملي، فيُصبح مادة للمعنى عندما يُواجه بوعي. الإنسان ليس ضحية زمنه، بل هو صانع معناه داخل حدوده. كما يقول كامو: "يجب أن نتخيل سيزيف سعيدًا"، لأن سعادته في الفعل المستمر رغم العبث. في النهاية، الوعي بالزمن ليس لعنة، بل هو النعمة التي تُذكرنا بأن كل لحظة هي فرصة لنكون أكثر إنسانية، أكثر حرية، أكثر أصالة.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

تشكيل الوعي بين المتخيل والمحظور

يمثل التماهي الفلسفي بين الوعي الفردي والذاكرة الجمعية إشكالية تأسيسية في سوسيولوجيا المعرفة، لا سيما عند النظر إليه بوصفه عملية إلزامية وليست اختيارية. إنّ هذا التماهي ليس مجرد انخراط اجتماعي سطحي، بل هو تحول بنيوي يفرض على الوعي الفردي أن يتخذ طابعاً منظورياً يحدده الإطار الجمعي. تبدأ التكلفة اللغوية هنا بتحويل الذات الواعية من كيان مستقل إلى جزء متماهٍ ضمن كائن رمزي أكبر.

تفكيك مفهوم التماهي الفلسفي

يُعرَّف التماهي ضمن هذا السياق بوصفه الاندماج العميق الذي يوجّه الوعي نحو منظور الجماعة. كما يُنظر إلى الوعي كمسألة راهنية، لأنَّ الماضي لا يظهر في الحاضر بصورته المتكاملة والحرفية، بل يُعاد بناؤه ويُهَيَّأ ليتلاءم مع متطلبات اللحظة الراهنة للجماعة. ويتبين من هذا أن التماهي هو عملية تكييف دائمة ومستمرة، تضمن بقاء الذات ضمن النسق الاجتماعي.

إنّ الإطار الاجتماعي، بحسب المفهوم الكلاسيكي الذي أسسه موريس هالبواكس، يُعد شرطاً وجودياً لا محيد عنه لأي إمكانية للتذكر. هذا يعني أن التذكّر الفردي لا يمكن أن ينشأ أو يتم إلا ضمن إطار ثقافي معين يوفّر نسقاً جمعياً يجعل الخبرات الفردية قابلة للتذكر والتفسير. يترتب على هذا الشرط الوجودي تكلفة فورية:

يفقد الوعي الفردي استقلاليته في التعبير عن الذكرى؛ إذ يجب أن تُصاغ لغوياً ضمن الأطر المرجعية للجماعة لكي يُعترف بها وتُفسّر. هذا التقييد على صياغة التجربة الداخلية يشكل التكلفة اللغوية الأولية للتماهي.

نظرية الذاكرة الجمعية عند موريس هالبواكس

يُعد هالبواكس المؤسس الأول لعلم اجتماع الذاكرة، متأثراً بأساتذته إميل دوركهايم وهنري برغسون. لقد تبلورت نظريته في كتاب "الأطر الاجتماعية للذاكرة" (1925)، حيث شدد على أن الذكريات الشخصية مرتبطة بالمجتمع الذي ينتمي إليه الفرد، فهي تملك مكانتها ضمن المنظومة الاجتماعية كنتاج لتفاعل الفرد مع محيطه.

آليات البناء السردي والتكلفة الإبستمولوجية

يُعتبر المتخيل، أو المخيال الجمعي، المجال الذي تتحقق فيه الوظيفة البنائية للذاكرة، حيث يتم تشكيل الماضي لغوياً لخدمة أغراض الهوية الحالية. إن دور المتخيل يتجاوز التخيل البسيط ليصبح وسيلة معرفية تستجلب الابتكارات الجديدة والمعطيات المتنوعة إلى الفعل البشري.

النظرية ما بعد البنيوية

في إطار التماهي الفلسفي، تفرض الذاكرة الجمعية أساساً أو مركزاً ثابتاً للمعنى، مما يتعارض مع الطبيعة المتغيرة للغة التي يراها دريدا. إن التكلفة اللغوية التفكيكية تكمن في أن التماهي يقمع "تلاعب" الدلالات، ويجعل المعنى ثابتاً قسراً. في مواجهة هذا القمع، قد يصبح الصمت هو المساحة الوحيدة التي يتحرر فيها الوعي، لأن اللغة المنطوقة، في سياق التماهي، قد تكون في موقع "السجّان للمعنى" الذي يضل طريق الفكرة الحقيقية. لذلك، يصبح فهم التكلفة اللغوية متوقفاً على تحليل البنى الصامتة والمحذوفة بنفس قدر تحليل الخطاب المعلن.

المحظور الثقافي واللاوعي الجمعي

إن المحظور يجد جذوره في اللاوعي الجمعي والثقافي. يؤكد التحليل النفسي الثقافي أن اللاوعي الثقافي متحكِّم في اللاوعي الفردي. المحظور هو التجسيد السياسي والاجتماعي لهذا الكبت، الذي تفرضه الأنا العليا الثقافية.

إن الصمت، في مواجهة المحظور، قد يتخذ شكلين: إما أن يكون اختياراً واعياً وشكلاً من أشكال التحرر السارتري من تأثير الآخرين والضغوط الاجتماعية، أو أن يكون علامة على العجز اللغوي، حيث تكون التجربة عميقة ومعقدة بحيث لا تستطيع اللغة البشرية احتواء كل أبعادها. في كلتا الحالتين، هي تكلفة لغوية تُدفع، إما إرادياً لغرض المقاومة، أو قسرياً بسبب القيود المفروضة على إنتاج المعنى.

يظهر من التداخل بين المتخيل والمحظور أنهما وجهان لآلية واحدة للضبط الثقافي. فالمتخيل (السرد البنّاء) يحدد ضمنياً ما هو محظور قوله. التكلفة اللغوية تقع في المساحة الضيقة بين الإفراط في القول غير الهادف (التعميم الفائض) والإنهاء القسري للقول (الصمت). إن حظر دلالات معينة يمنع تكوين أنماط محددة من الوعي النقدي، مما يجعل المحظور قيداً مفروضاً على الوعي نفسه.

التأصيل الفلسفي للتكلفة اللغوية

يمكن تأصيل التكلفة اللغوية في الإبستمولوجيا الحديثة عبر استعارة مشكلة القيمة المعرفية كما ناقشها دنكان بريتشارد. التكلفة الإبستمولوجية هنا هي الفرق في القيمة بين المعرفة التي تتوافق مع الأطر الجمعية (الاعتقاد الحقيقي المبرر جمعياً) والمعرفة الفردية أو عملية الفهم العميقة التي قد تظل حبيسة الجوانية.

إن التماهي يفرض أن تكون المعرفة ذات قيمة أعلى فقط إذا كانت ذات "تبرير جمعي"، مما يقلل من القيمة المعرفية للتجربة الفردية غير المُمَأسَسة أو غير المُنَظَّمة لغوياً. هذا يمثل التكلفة المعيارية (Normative Cost)، حيث تُستخدم اللغة لتثبيت مفهوم "السوي" في مقابل "الشاذ"، مما يقنن الوعي الجمعي ويرفض الانزياح اللغوي، وبالتالي يقتل الإبداع اللغوي الفردي.

نموذج الكلفة القصوى

تظهر التكلفة اللغوية في أقصى صورها عندما تُستخدم اللغة كأداة للهيمنة والقمع الثقافي، بهدف محو الذاكرة الجمعية لمجتمع آخر. هذا يعكس أن التماهي يمكن أن يكون قسرياً وتاريخياً.

في سياقات الاحتلال، يصل التخطيط اللغوي إلى حد "إنشاء ذاكرة مزيفة" من خلال حذف الذاكرة الأصيلة. آليات التكلفة القسرية تشمل التغيير المنهجي للهوية، المكان (البنية والصورة والتفاعلات)، مما يجعل اللغة الأصلية غير قادرة على التعبير عن الواقع الجديد المُحتَل. هذه التكلفة تفرض ازدواجية لغوية قسرية حيث يضطر الوعي إلى استخدام اللغة المهيمنة اجتماعياً أو لغة مزدوجة، مما يؤدي إلى تهميش اللغة الأصيلة وانحدار استخدامها في التفكير النقدي والعلمي.

النتائج النقدية والمآلات المستقبلية

يؤكد التحليل النقدي أن التماهي الفلسفي بين الوعي والذاكرة الجمعية ليس تحولاً سلساً، بل هو عملية معقدة يتم فيها دفع "تكلفة لغوية" متعددة الأبعاد. هذه التكلفة تفرض قيوداً وجودية إبستمولوجية على الذات الواعية، وتتراوح بين التقييد الدلالي وصولاً إلى محو الهوية القسري.

الوعي النقدي بين متطلبات الذاكرة والصدق الفردي

تكمن الإشكالية المركزية في تحدي استعادة الوكالة اللغوية للفرد في نظام تكون فيه اللغة مشبعة بأنظمة السلطة والمحظور. إن الذاكرة الجمعية، التي يراها ريكور دافعاً للعدالة، تطالب الفرد بالتماهي مع متطلبات التضحية، مما يجعل التكلفة ضرورية لضمان الأخلاق الجمعية. ولكن إذا أدت هذه العملية إلى طمس التعبير الفردي الصادق، فإنها تخلق "توازناً مستحيلاً" بين متطلبات البقاء الجمعي ومتطلبات الصدق الوجودي للذات.

للتخفيف من هذه التكلفة، ينبغي على الوعي النقدي أن يدرك أن الفكر يمكن أن يذهب إلى ما وراء حدود العلم والسلطة، عبر استلهام النماذج الجمالية (الإستيطاقية) التي تقاوم هيمنة المعرفة المؤسسية.

البحث عن مساحات لغوية مغايرة

تتطلب مقاومة التكلفة اللغوية نقداً جذرياً للغة السوق والثقافة الاستهلاكية، لا سيما في مجتمع الألفية الثالثة الذي يحول كل شيء إلى "ثقافة تسلية مدفوعة الثمن". هذا النقد يجب أن يحيي الجدلية اللغوية التي تُعري استخدام الأشكال الهلامية والتقنيات المبهرة التي تهدف إلى نمطية التجارب الحياتية.

يجب استعادة الخيال التاريخي القادر على التفريق اللغوي بين التاريخ بمفهومه الهرمنيوطيقي (الذي يُظهر الماضي ويُعيده) وبين "مجرد نسخ المعطى". اللغة النقدية هي الأداة التي تستطيع التمييز بين المعطى (ما هو كائن) والمبني (ما هو مُشكَّل بواسطة السرد الجمعي).

التحرر من التبعية النقدية

في الثقافة العربية، لوحظ أن نقد الذاكرة الجمعية بدأ في كثير من الأحيان من الخارج (تحت تأثير التنوير الغربي)، مما أدى إلى تكلفة نقدية تتمثل في عدم قدرة اللغة النقدية المستعارة على اختراق الأطر الجمعية الراسخة (كالمحافظة الدينية وأحادية النظرة)، وبالتالي بقي الوعي الجمعي كموروث دون تغيير جذري.

للخروج من هذه الدائرة، يُقترح استكشاف المناهج الفلسفية التي تقدم إطاراً يتجاوز ثنائية الوعي/الذاكرة في سياقها الغربي. هذا الإطار الفلسفي، الذي يتمأسس على مسلمة "تعدية الوجود الإنساني"، قد يوفر للغة وسيلة لتجاوز حدود المحظور المعرفي والاجتماعي المفروض، مستعيناً بـالاعتراف كفعل أخلاقي يتصل بالسلوك الإحساني. هذا التحول المنهجي ضروري لاستعادة وكالة لغوية نقدية ذات فاعلية حقيقية في الواقع الاجتماعي.

***

غالب المسعودي

.......................

المراجع

academia-arabia.com حقـل "دراسـات الذاكـرة" في العلـوم الإنسـانية والاجتماعية: حضـور - Academia Arabia

ahewar.org زهير سوكاح - مفهوم الذاكرة الجمعية عند موريس هالبواكس - الحوار المتمدن

rjnsq.ir Collective Memory and Identification Process; Some Policy Reflections

iasj.rdd.edu.iq الذاكرة الجمعية وبناء الهوية في المجتمع العراقي ما بعد عام 2003 م

old.sharjah.ac.ae ﺗﻔﺎﻋل اﻟﻧﻘد اﻟﺛﻘﺎﻓﻲ ﻣﻊ اﻟﻣﻧﺎھﺞ اﻟﻧﻘدﯾﺔ واﻟﻣﻌﺎرف اﻟﻣﺗﻌددة: ﻗراءة ﻷھم اﻟﻣﻔﺎھﯾم اﻟرﺋﯾﺳﺔ

humaninstitute.co Memory, History, Forgetting - Human institutealmothaqaf.com قائد عباس حمودي: الصمت وجهة نظر فلسفية - صحيفة المثقف.

annabaa.org الأدوار الاجتماعية للمخيال في الفلسفة السردية - شبكة النبأ المعلوماتية

ebsco.com Collective Memory | Research Starters - EBSCO

syrian-researchers.com ما بعد البنيوية، Poststructuralism

medium.com Memory, History, Forgetting — Paul Ricoeur | by Rosalind Kingsley - Medium

en.wikipedia.org The Social Construction of Reality - Wikipedia

simplypsychology.org Social Construction of Reality - Simply Psychology

مقدمة: أسلوب المقاربات المنهجية في دراسة المعنى هو من أبرز المداخل الأكاديمية التي تجمع بين اللسانيات والفلسفة والعلوم المعرفية، إذ يتيح فحص الكلمة أو العبارة عبر طبقات دلالية متداخلة ومتمايزة في آن. ينطلق هذا الأسلوب من فرضية أساسية تقول إن المعنى ليس كياناً واحداً متجانساً، بل هو بنية متعددة الأبعاد تتشكل عبر تفاعل ثلاثة مستويات رئيسية: المعنى اللغوي (الدلالة الداخلية للنظام اللغوي)، الدلالة الاصطلاحية (المعنى المتخصص في سياق مهني أو علمي)، والمفهوم الفلسفي (البناء النظري الذي يتجاوز اللغة إلى جوهر الوجود والمعرفة). تهدف هذه الدراسة إلى تقديم تحليل موسع يتجاوز الوصف السطحي ليغوص في الآليات التكوينية والتاريخية والمعرفية التي تربط هذه المستويات، مع الاستناد إلى مراجع لسانية وفلسفية كلاسيكية وحديثة، وتقديم أمثلة تحليلية من اللغة العربية واللغات الأوروبية لإثراء المقارنة. كما تسعى إلى كشف التوترات الداخلية بين هذه المستويات، وكيف يمكن للمقاربة الديناميكية أن تُسهم في تطوير نظريات جديدة حول طبيعة اللغة كأداة للتفكير والتواصل. فماهي أسس التمييز بين المقاربات المنهجية؟ وأين تكمن أهمية المقاربة المتعددة المستويات؟ وكيف يمكن استثمارها بنجاعة؟

المستوى الأول: المعنى اللغوي – البنية الداخلية والشبكة الدلالية

يُشكل المعنى اللغوي الطبقة الأولية والأكثر عمومية في سلم الدلالة، إذ ينبع من البنية الداخلية للغة كنظام من الرموز المترابطة. في إطار البنيوية السوسورية، يُميز فرديناند دي سوسور بين الدال (الصورة الصوتية) والمدلول (الصورة الذهنية)، مؤكداً أن العلاقة بينهما تعسفية وتتحدد بالفرق عن غيرها داخل النظام. هذا يعني أن معنى كلمة مثل "شجرة" لا يُستمد من ارتباطها بالواقع المادي مباشرة، بل من تمييزها عن "نبات" أو "غابة" أو "حجر" داخل الشبكة اللغوية. في اللغة العربية، يتجلى هذا المبدأ بوضوح في نظام الاشتقاق والتضاد. فكلمة "عدل" تكتسب معناها اللغوي الأساسي (الاستقامة والتوازن) من خلال اشتقاقاتها مثل "معدل" و"عديل"، وتضادها مع "جور" و"انحراف". هذا المعنى ليس ثابتاً تماماً، إذ يخضع لتأثيرات تاريخية وثقافية. على سبيل المثال، كلمة "دولة" في العربية الفصحى القديمة كانت تشير إلى التناوب والدوران (من الفعل "دال يدول")، ثم تحولت في العصور الوسطى لتعني الكيان السياسي، مما يعكس كيف يتطور المعنى اللغوي عبر الاستخدام الجماعي دون أن يفقد جذوره البنيوية. في اللسانيات التوليدية لنعوم تشومسكي، يُعاد تعريف المعنى اللغوي كجزء من "الكفاءة اللغوية" البيولوجية، حيث تُولد الدلالات الأساسية من قواعد عميقة مشتركة بين البشر. هذا المنظور يوسع المقاربة ليشمل البعد النفسي-العصبي، إذ تُظهر دراسات التصوير الدماغي أن معالجة المعاني اللغوية الأساسية تتم في مناطق محددة من القشرة الجبهية، مما يدعم فكرة أن هذا المستوى ليس مجرد اتفاق اجتماعي، بل له أساس بيولوجي.

المستوى الثاني: الدلالة الاصطلاحية – التهذيب الوظيفي والدقة المتخصصة

تمثل الدلالة الاصطلاحية مرحلة تطورية للمعنى اللغوي، حيث تُقيد الكلمة بسياق معرفي محدد، مما يُقلل من الغموض ويُعزز الوظيفية. هذا المستوى ينشأ عبر عمليات اجتماعية ومؤسساتية، إذ يتفق أعضاء مجتمع معرفي (علماء، قانونيون، تقنيون) على تعريف دقيق للمصطلح لضمان التواصل الفعال. في نظرية المصطلحات ليوجين ووستر، تُعتبر الدلالة الاصطلاحية نظاماً فرعياً داخل اللغة، تخضع لمبادئ الواحدية (كل مفهوم مصطلح واحد) والثنائية (كل مصطلح مفهوم واحد). خذ مثلاً كلمة "طاقة" في اللغة العامة تعني القوة أو النشاط، لكن في الفيزياء، تُعرف اصطلاحياً كالقدرة على بذل شغل، وتُقاس بالجول، وتخضع لقانون حفظ الطاقة. هذا التهذيب ليس عشوائياً، بل يعكس حاجة العلم إلى الدقة القابلة للقياس. في المجال القانوني، كلمة "عقد" في المعنى اللغوي تشير إلى الربط أو الالتزام، لكن اصطلاحياً في القانون المدني، يُعرف كاتفاق يُنشئ التزامات قانونية قابلة للتنفيذ قضائياً، مع شروط محددة كالأهلية والسبب المشروع. في اللغة العربية، نجد أمثلة غنية في المصطلحات الطبية المعربة. فكلمة "جرثومة" كانت في الأصل تعني الجسم الصغير، ثم أصبحت اصطلاحياً تعني الكائن الحي الدقيق القادر على التكاثر والتسبب في الأمراض. هذا التطور يعكس تأثير الترجمة والتخصص العلمي، حيث أُعيد توظيف المعنى اللغوي ليخدم الدقة الطبية. ومع ذلك، قد يؤدي التركيز المفرط على الاصطلاحية إلى "الجفاف الدلالي"، إذ تفقد الكلمة ارتباطها بالتجربة الحسية، مما يُصعب على غير المتخصصين فهمها.

المستوى الثالث: المفهوم الفلسفي – التجريد النظري والتأويل الميتافيزيقي

يتجاوز المفهوم الفلسفي المستويين السابقين ليصل إلى بناء نظري يهدف إلى تفسير الواقع بشكل جذري. هذا المستوى لا يقتصر على وصف اللغة أو تنظيم المعرفة، بل يسعى إلى كشف الجوهر والعلاقات الضرورية. في فلسفة أفلاطون، يُميز بين المثال (الماهية الأزلية) والظل (الظهور الحسي)، مما يجعل المفهوم الفلسفي لـ"الجمال" ليس مجرد صفة حسية، بل كمالاً مثالياً يتجاوز الزمن.

في الفلسفة الحديثة، يُقدم عمانويل كانط تمييزاً حاسماً بين الظاهر والشيء في ذاته ، مما يجعل المفهوم الفلسفي لـ"الحرية" ليس مجرد غياب القيود (كما في المعنى اللغوي) أو حق قانوني (كما في الدلالة الاصطلاحية)، بل قدرة العقل على التشريع الذاتي وفق القانون الأخلاقي. أما مارتن هيدجر في "الوجود والزمان"، فيُعيد تعريف "الوجود" فلسفياً كـ"دازاين" ، أي الوجود المُلقى في العالم، متجاوزاً الدلالات اللغوية والاصطلاحية ليصل إلى البعد الأنطولوجي. في السياق العربي الإسلامي، يُقدم ابن سينا مفهوم "الوجود" كمقولة أولية تسبق الماهية، مستنداً إلى اللغة العربية لكنه يتجاوزها إلى بناء ميتافيزيقي. فكلمة "وجود" في المعنى اللغوي تشير إلى الحضور، وفي الدلالة الاصطلاحية الفقهية تعني الثبوت الشرعي، لكن فلسفياً عند ابن سينا، تصبح الوجود عَرَضاً يُضاف إلى الماهية، مما يُشكل أساساً للتمييز بين الواجب والممكن.

ديناميكية المقاربة: التداخل، التوتر، والتحول

تكمن قوة أسلوب المقاربات في كشفه للديناميكية بين هذه المستويات. فالمعنى اللغوي يُشكل المادة الخام، تُهذبها الدلالة الاصطلاحية لتصبح أداة وظيفية، ثم يُعاد صياغتها فلسفياً لتصبح مفهوماً نظرياً. ومع ذلك، توجد توترات جوهرية: فقد تُفرغ الاصطلاحية المعنى من حيويته الثقافية، كما في حالة المصطلحات التقنية التي تُصبح غريبة عن المتحدث العادي. كذلك، قد يُبعد المفهوم الفلسفي عن الواقع اليومي، مما يُثير نقد الفلسفة التحليلية للميتافيزيقا التقليدية. في أعمال لودفيغ فيتغنشتاين المتأخرة، يُقدم مفهوم "ألعاب اللغة" إطاراً لفهم هذه الديناميكية، إذ يرى أن المعنى يتحدد بالاستخدام داخل سياق حياتي. هذا يعني أن الانتقال بين المستويات ليس خطياً، بل دائرياً وتفاعلياً. فالمفهوم الفلسفي قد يُعيد التأثير على الدلالة الاصطلاحية، كما حدث عندما أثرت فلسفة الحقوق الطبيعية على صياغة الإعلانات الحقوقية الحديثة.

تطبيقات عملية وآفاق مستقبلية

في الترجمة، تُبرز المقاربة تحديات نقل المفاهيم بين اللغات. فمفهوم "ديمقراطية" اليوناني يحمل أبعاداً فلسفية (حكم الشعب نفسه بنفسه) تختلف عن دلالته الاصطلاحية في النظم الحديثة (نظام انتخابي). في الذكاء الاصطناعي، تُستخدم نماذج اللغة الكبيرة لمحاكاة هذه المستويات، لكنها تواجه صعوبة في التقاط الأبعاد الفلسفية العميقة، مما يفتح مجالاً لدراسات هجينة بين اللسانيات الحاسوبية والفلسفة الذهنية.

خاتمة:

في المجمل، يُشكل أسلوب المقاربات بين المعنى اللغوي والدلالة الاصطلاحية والمفهوم الفلسفي مدخلاً شاملاً لفهم اللغة كمرآة للعقل البشري. من خلال تتبع التحولات بين هذه المستويات، نكتشف ليس فقط كيف نتحدث، بل كيف نفكر ونبني عوالمنا. هذا المنهج يدعو إلى بحث متعدد التخصصات يجمع اللسانيات والفلسفة وعلم النفس المعرفي، ليُسهم في تطوير نظريات جديدة حول طبيعة المعرفة والتواصل في عصر الذكاء الاصطناعي والعولمة الثقافية. فكيف يحرص أسلوب المقاربات على التأليف بين الفلسفي والعلمي؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

يمثل التنازع على مرجعية النص محوراً مركزياً في العملية التأويلية والفلسفة المعاصرة. على الرغم من الحضور المكثف للنص في حياتنا اليومية وفي علوم شتى، يظل تحديد ماهيته وتعريفه عصياً على الإجماع، حتى عند المتخصصين في لسانيات النص. ويُعزى هذا الإشكال إلى الحدود المفتوحة للنص، وإلى طبيعته المزدوجة التي تثير التساؤل حول ما إذا كان مجرد أقوال أم خطاباً شفهياً، وهل يخضع النص الفلسفي لشروط النص الأدبي نفسها في التأويل؟

لقد كان النقل المفاهيمي لسلطة النص عملية تدريجية ومعقدة. بدأت بقطيعة فكرية مع الميتافيزيقا الغربية التي تبحث عن الأصل والمركز الثابت (القصد)، مروراً بتأسيس سلطة النص الداخلية والمحايثة (البنيوية)، وانتهاءً بتشريع فاعلية الذات القارئة (الهرمنيوطيقا). هذا التحول يمثل في جوهره مشروعاً تحررياً وفلسفياً جذرياً يسعى لفك ارتباط المعنى بالمرجعية الخارجية المطلقة، سواء تجسدت في ذات المؤلف أو في السلطة التقليدية الحاكمة.

 القطيعة الإبستمولوجية: إعلان موت المؤلف

شكلت النظريات النقدية والفلسفية في أواسط القرن الماضي، وخصوصاً في عصر الحداثة وما بعد الحداثة، منعطفاً حاسماً في التعامل مع النصوص. كان التحدي الأول والأكثر جذرية يتمثل في إقصاء المؤلف كمرجع نهائي. لطالما اعتُبر المؤلف في الحقب النقدية التقليدية والفكر الرومانسي بمثابة "حجر الزاوية في العملية الإبداعية، وصاحب الصوت والسوط أيضاً". لقد وصلت الأمور في وقت ما إلى حد اعتبار المؤلف كياناً مقدساً، مما دفع النقاد الرومانسيين إلى التركيز عليه وعلى ظروفه (التاريخية، الاجتماعية، والنفسية) لتفسير النص، متجاهلين بذلك دور القارئ أو اللغة في إنتاج الدلالة. كان المعنى يُفترض أنه كامن في قصد المؤلف أو إرادته.

جاءت نظرية "موت المؤلف" للناقد والمنظر الفرنسي رولان بارت، التي نُشرت في مقال عام 1967، لتشكل القطيعة الإبستمولوجية الأولى. جادلت هذه النظرية بقوة ضد الممارسة التقليدية للنقد الأدبي التي تعتمد على نيات المؤلف وسيرته لتحديد "المعنى المطلق" للنص.

إن الآلية الإجرائية التي اعتمدها بارت لنقل مركز الثقل الدلالي تتمثل في تركيزه المطلق على دراسة النص ولا شيء غير النص، من خلال تفاعلاته البنيوية الداخلية. عندما يُعلن "موت المؤلف من أجل حياة النص"، يتم تحرير النص بشكل جذري من "أبوته السحرية". هذا الإعلان لم يكن مجرد صرخة أدبية، بل كان ضرورة فلسفية لتحويل مركز الثقل الدلالي من الذات المنتجة (المؤلف الغائب) إلى البنية المنجزة (النص الحاضر).

تأسيس سلطة البنية: التحول الإيديولوجي والفلسفي

إن إعلان موت المؤلف يمثل مشروعاً تحررياً أوسع يهدف إلى مكافحة الهيمنة الرمزية التي يكرسها الفكر السائد والسلطة التقليدية. التخلي عن قصد المؤلف ينسف حجة السلطة المرتكزة على مرجعية ثابتة ومقدسة. النقل لم يكن فورياً إلى القارئ، بل مر عبر تأسيس سلطة النص ككيان مستقل أولاً.

هذا يمثل تحولاً منهجياً، حيث لم يعد القارئ يقرأ النص ليفهم ما أراد الكاتب قوله، بل ليكتشف "كيف يعمل النص من الداخل" (الآلية البنيوية). هذا الاكتشاف المنهجي لآليات البناء الداخلي للنص هو أول خطوة لاستحواذ القارئ على سلطة التحليل والإنتاج؛ مما مهد الطريق للمراحل التالية في نقل السلطة.

السلطة اللغوية والاجتماعية

فلسفياً، يُنظر إلى اللغة كجهاز رمزي يتم بواسطته بناء العالم وإدراك الواقع والتحكم فيه. رولان بارت، حتى بعد إعلان موت المؤلف، ظل يركز على العلاقة بين السلطة واللغة. إن النظام الاجتماعي يفرض قواعده وتوابعه عبر سُنن اللغة، مما يؤثر على التوازن الداخلي للفرد والمجتمع. لذا، فإن تحليل سلطة النص هو بالضرورة نقد للسلطة وأنساقها الإيديولوجية التي تُبث عبر "اللغة المقنّعة".

إن هذا الربط بين السلطة النصية (اللغوية) والسلطة الثقافية والسياسية يوضح أن النزاع على سلطة التأويل يتجاوز مجرد النقد الأدبي ليطال تفكيك الهيمنة الرمزية للمنظومة الفكرية السائدة.

الهرمنيوطيقا وتفعيل دور القارئ

تُعرَّف الهرمنيوطيقا بأنها علم التأويل والفهم. تاريخياً، ارتبطت بتأويل النصوص المقدسة ونقل مقاصدها اللاهوتية إلى مستوى البشرية (كما هو شأن الإله هرمس). مع فريدريش شلايرماخر، تحولت الهرمنيوطيقا إلى منهج عام لتفسير كافة النصوص، وكان هدفها فهم النص كما فهمه مؤلفه، بل أفضل مما فهمه. لاحقاً، قام فلاسفة مثل مارتن هيدغر وهانز جورج غادامير بتوسيع النظرية لتشمل "الفهم البشري الكامل للعالم"، حيث أصبح التأويل ضرورة وجودية، و"حدث إفصاح" للحقيقة يحدث في اللغة، مرتبطاً بعملية فهم الذات والتحول.

غادامير يرفض بشكل قاطع محاولات الفهم الكلاسيكية التي تسعى للدخول إلى قصد المؤلف. بل يؤكد أن القارئ لا يمكنه "أبداً الدخول في عقل المؤلف ليكتشف نواياه الحقيقية"، وعوضاً عن ذلك، يمكن للقارئ فقط "مقابلة المؤلف في الموضوع الذي تتم مناقشته". وبهذا، يتم نقل السلطة التأويلية من البحث عن قصد المؤلف الغائب إلى فهم الموضوع من وجهة نظر القارئ الذاتية (المشروطة تاريخياً)، بمساعدة المؤلف. هذا التحول يعني أن الاستحواذ على السلطة التأويلية يتطلب من القارئ استخدام تاريخه الخاص ووعيه المتأثر تاريخياً كجزء لا يتجزأ من الإنتاج الدلالي.

تبادل مراكز القدسية ونتائج النسبية

يظهر الخطر الفلسفي عندما تعلو سلطة القارئ على سلطة النص. في هذه الحالة، يصبح القارئ موجِّه النص بألفاظه وقواعده، وينزاح مركز القدسية من النص إلى القارئ. هذا الاستحواذ يعني أن القارئ يعمل على "تكسير" بنية التعبير اللغوي للنص لتتوافق مع ما يدركه لسانياً، مما يؤدي إلى توسيع مساحة الاختلاف والخلاف في التأويل. إن هذا التحليل يربط نقل السلطة بتبادل مراكز القدسية، ويسلط الضوء على تأثير ذلك في "ثقافة الاختلاف". إن النزاع بين سلطة النص وسلطة القارئ هو الذي يشكل "محور وعماد عملية التأويل"، وأي توازن بينهما يؤدي إلى توازن في التأويل نفسه.

لقد كان الاستحواذ على سلطة النص من المؤلف إلى التابع نتيجة لثلاثة تحولات إبستمولوجية متكاملة: التحرير من القصد (موت المؤلف)، تأسيس النسق اللغوي كسلطة بديلة (البنيوية)، وتفعيل دور القارئ التاريخي والوجودي في عملية الإنتاج الدلالي (الهرمنيوطيقا والتلقي).

مع ذلك، فإن هذا الاستحواذ يطرح تحدياً مستمراً يتعلق بضبط النسبية التأويلية. إن الإصرار على وجود حدود للتأويل، كما دعا إيكو، يمثل محاولة لإبقاء الحوار مفتوحاً ومثمراً، بحيث لا يصبح النص مجرد مرآة تنعكس عليها أهواء القارئ. يجب على الدراسات الأكاديمية والفلسفية في السياق العربي أن تستمر في "الكشف عن تنازع السلطتين" في سياقاتها النصية الخاصة، خصوصاً في التعامل مع النصوص التي تحمل قدسية، وذلك لضمان التوازن بين الحرية المكتسبة للقارئ والضرورة اللغوية الموضوعية للنص. إن الاستحواذ الأمثل هو الذي يدرك قيوده ليتحول إلى عملية إبداعية مشتركة بدلاً من كونه هيمنة ذاتية مطلقة.

***

غالب المسعودي

.....................

المراجع

آل زعير، وضحاء بنت سعيد. البنيوية وسلطة النص الأدبي

تأويل القرآن سلطة القارئ أم سلطة النص (almutadaber.com).

عودة، ناظم. الفكر السائد يكرّس السلطة ويعزز الاستحواذ والهيمنة (Al Akhbar).

جماليات التلقي من أجل تأويل النص الأدبي (صحيفة المثقف).

هرمينوطيقا انصهار الآفاق عند هانز جورج غادامير (ديوان العرب).

(PDF) إشكالية المعنى بين سلطة المؤلف والقارئ (ResearchGate).

نحو نظرية أدبية ونقدية جديدة: نظرية الأنساق المتعددة | مجلد 1 | صفحة 86 | الفصل الرابع مرجعيات نظرية (جامع الكتب الإسلامية).

 

(حتى لنكاد نمسي غرباء عن أنفسنا)... مصطفى زيور

 ما يحرك النفس في يومها وليلها هي طاقة متجددة، لا تستقر ولا تستكين، هي النفس في هدوئها وفي غليانها، هي هي، في حالة الصحو – وهي واعية، وفي حالة النوم وهي في عالم خارج منظومة الوعي، فقول سيجموند فرويد فننتظر حتى يسترخي الكبت أثناء النوم كي تجد لنفسها منصرفًا كيفما كان، فنقول يظهر ما لا يراد قوله في حالة التعامل مع الناس بشكل واضح، وتساؤلنا ماذا يحدث إن لم تجد شحنات النفس منصرفًا لتلك الطاقة في ذلك الخزان العميق وهو اللاوعي – اللاشعور؟

 أن التفكير يمتلك القدرة على جلب شيء ما تم إدراكه ذات مرة واستحضاره أمام العقل مرة أخرى، هذا الكلام صحيح تمامًا كما يراه فرويد، ربما أعيد إنتاجه من جديد في حالة الوعي الكامل، وأمام الناس في اسلوب التعامل، لكن الطاقة التي لم تجد لها منفذًا للتصريف وقد تكونت من دمج أفكار وعناصر واقعية فضلا عن العناصر الذاتية الداخلية وضاع حينها التمييز بين ما هو ذاتي – داخلي بتكوينه مع متغيرات أخرى من بنية الإنسان، وبين ما هو موضوعي – خارجي من عالمنا البيئي المحيط بنا، هنا قد لا يكون التصريف مقبول اجتماعيًا بقدر ما تتدخل عوامل في إعادة عوامل في إنتاج تلك الخلطة من الأفكار التي لا تكون دائمًا خلطة نقية مخلصة في اهدافها، ربما تشوبها الكثير من القاذورات المترسخة في النفس " أعني أفكار كراهية وحقد" تجاه الآخر أيَنٌ كان، قريب جدًا " دائرة الأبوين والأخوة أو الزوجة في بعض الأحيان أو الزوج"، أو بعيدٌ جدًا – الأصدقاء أو زملاء العمل، وهنا ربما يميل الاختيار بغلبة ذاتية الفرد وتحدث التشوهات، ومع ذلك تجلب كلا الحالتين إشباعًا ولو مبتسرًا ناقصًا، غير كافي لإشباع ولو جزء من الرغبة لا يرقى إلى التفريغ وتنفيس الشحنات الداخلية، إلا بعملية عسيرة جدًا .

هل يساعدنا النتاج الفكري في التفريغ المقبول اجتماعيًا لمنصرف الطاقة النفسية الداخلية، أم بعرض الجميل من النتاج العقلي والفكري لكي يكون هروبًا من العمليات الأولية مثل التكثيف والرمزية والاسقاط والازاحة وغيرها إلى العمليات النفسية الثانوية؟ حينها تكون وسائلنا المنطقية وهي تهذيبًا للعمليات الأولية كما يقول " مصطفى زيور" . أم .. ربما يؤدي إلى اختيار الفعل الحركي بالألعاب والرياضات العنيفة أو من المحتمل الإدمان الأليكتروني على وسائله غير البريئة وبرامجه الخيالية، والأمر سيان حيث يؤدي الانتقال من التفكير إلى الفعل بشقيه المهني والحرفي، أو العنيف . ويقول " فرويد" هو انفاق قليل للتفريغ " في الطاقة". ونقول لا يكفي لتفريغ حجم الشحنات، فكلما كانت الشحنات ثقيلة بالهموم غير المرصودة، كلما كان الفعل الفكري والفني والتشكيلي عميق في رمزيته ونتاجه . فضلا عن الحركي والفكري العقائدي والإيمان بالأفكار المتعصبة المتشددة حتى يبدو الفرد إنفعاليًا واندفاعيًا .

من يدرس التحليل النفسي يتعلم كيف يعرف نفسه، بمعنى أدق يعرف بين ثنايا نفسه الخبيئة، يحاول أن يدرك ما كان يوما لا يراه، فهو كشف لحنايا النفس وما تخبئه وهو فيهِ !! وأزاء ذلك فالمشتغلين بالتحليل النفسي وعمقه يبدأ بمعرفة نفسه أولًا ولمعرفة الآخر ثانيًا، ليس لأن الآخر شبيه له، أو نضير له، أو قرين له، اطلاقًا بل لأن النفس البشرية تحمل عدة بنيات متنوعه ومختلفة، وحتى في البينة الواحدة نجد فروق في البنية والتكوين من حيث الكم، لا من حيث النوع، فلذا فإن الذين يعملون في تخصص علم نفس الأعماق – التحليل النفسي الفرويدي – اللاكاني هم أكثر من يستطيع سبر أغوار نفسه ومن ثم يرى في الآخر ما لا يراه الآخر في نفسه، فربما أحتاج لأن يكون دليله في رحلة معرفة النفس، ويبصره بتقنيات المعرفة التي أكتسبها، والحقيقة عرفها بعد إن كانت خافية عليه، ومن هنا يبدأ الصراع من داخل النفس لا بسبب الهروب بقدر ما تبديه المقاومة من الداخل، بل ترفض لأنها ألفت القديم وهو خطأ، وتعودت عليه وهو خطأ أيضًا، ويأخذ هذا الرفض مختلف أنواع الدفاعات اللاواعية – اللاشعورية التي تفرض نفسه، وحينما تشتد في حالة الوعي يكون تفريغها عبر النوم العميق، والنوم والحلم هو رحلة الاستمتاع في إبداء الرأي بلا قيود، وبلا رقيب، فيكون التفريغ ليس علاجًا بل هو هروب من مواجهة شيء غير مقبول من النفس أولًا، ومن الحياة الاجتماعية والقيم الوالدية ثانيًا . فلم يعد تفريغًا ناجحًا بقدر ما هو تنفيس مؤقت لرغبةٍ.. من المحتمل أن تكون قذرة.

الأحلام منفذ مشروع للتفريغ في حالتها الخفيفة، أما إذا كانت شديدة فكان الكابوس وأحلام الهيلة بشدتها لها الحضور الواضح، حتى ليتعكر مزاج الفرد بعد الاستيقاظ في كل صباح، إذا ما رافقه تعرق، لهاث، أو وهن وهو كان نائمًا، ولا ننسى أن ميكانيزمي " حيلتي – حيلة – آلية الاحلام الرئيسة هي التكثيف والازاحة عند " فرويد" وعند "لاكان" الاستعارة والكناية.

يعلمنا التحليل النفسي كيف يستطيع الفرد أن يجد التفريغ – التنفيس المقبول لتلك الشحنات قبل أن تستفحل وتصبح عبأً على النفس . يعلمنا التحليل النفسي أيضًا بكل اتجاهاته ان أحد محاور العمل هو معرفة التفريغ عبر اللغة، واستنادًا لرؤية " ارسطو" الذي يعد اللغة هي في الأساس نظام من العلامات المستخدمة للتواصل مع الأفكار.

 يعتقد " جاك لاكان" ان الذات المتكلمة إنما هي ذات نقصان، والدخول في عالم اللغة الرمزي، فإنها تخبره على أنه عملية مؤلمة للفقد، ونقول أن الهروب إلى الحلم هو رغبة في التعبير عن شيء عميق لا يمكن قوله، ويرى " لاكان " أيضًا بأن الحلم هو الحدث الذي بفضله تمر المتعة إلى اللاشعور – اللاوعي. ونقول لكي يعبر عن ما لا يمكن التعبير عنه في العلن والبوح عنه ايضًا.

 كان تساؤلنا في بدء المقالة ماذا يحدث عندما لا يستطيع الإنسان أن يجد التفريغ المناسب نفسيًا وإجتماعيًا لما يعتمل في داخل النفس؟ نقول إن النفس تتجه للأعراض المرضية وهو مؤشر للدخول في حالات الاضطرابات النفسية والعقلية حينما تشتد، وعلمتنا الخبرة في التحليل النفسي على مدى سنوات العمر، إن ما لا يستطيع أن يعبر عنه الإنسان في الوقت المناسب قبل أن تكون الحياة مظلمة يظهر في أعراض الإكتئاب بشقيه النفسي أو العقلي، وكلاهما يشكل عبأ لا يطاق على النفس، أو غيرها من الاضطرابات.

***

د. أسعد الاماراة

 

تُعَدّ الهيمنة الاستعمارية الجديدة ظاهرة معقدة تتجاوز السيطرة الاقتصادية والعسكرية التقليدية، لتتغلغل في أعماق البنية المعرفية والثقافية للمجتمعات المستهدفة. إنّ استقرار هذا الشكل من الهيمنة يقوم على شرطين أساسيين ومترابطين: التدمير المنهجي للأساس المعرفي للطرف المستعمَر، وتواطؤ النخب المحلية في تنفيذ الأجندات الفلسفية والأيديولوجية للقوة المهيمنة. هذه العملية تخلق نظام "قبول" داخلي يُلغي المقاومة ويُكرس التبعية.

من الاستعمار العسكري إلى النفوذ الأيديولوجي

ترتبط الهيمنة الإمبريالية ارتباطاً وجودياً بتطور الرأسمالية العالمية. مع اتساع مصالح الرأسمالية وتجاوزها حدودها الوطنية، تطلبت حماية هذه المصالح آليات سيطرة جديدة. في أعقاب الحرب العالمية الثانية وتصاعد حركات التحرر، تراجع الاستعمار العسكري القديم، وصعدت القوى الاستعمارية الجديدة، فانتقلت السيطرة من الاحتلال العسكري المباشر إلى نفوذ يُمارَس عبر آليات غير مباشرة. هذه الآليات تشمل دعم أنظمة حليفة لحماية المصالح الاقتصادية، وتأمين الموارد، والطاقة، والأسواق، وطرق التجارة، والقوى العاملة الرخيصة.

لا يعني هذا التحول غياب القوة، إذ استمرت القوى الإمبريالية في استخدام العمل العسكري المباشر وغير المباشر لتدعيم نفوذها وحماية الأنظمة المتحالفة معها. لكن، يكمن العنصر الأهم في هذا الاستقرار، هو خلق بنية هيكلية للتبعية. توفر نظرية التبعية الإطار الذي تُبنى عليه الهيمنة الجديدة، إذ تُبقي هذه الآليات الدول الطرفية في "فخ استخراجي جديد"، يخنُق استقلالها الذاتي ويقيّد دورها على المستوى الدولي، مما يضمن بقاءها مزوداً للمواد الخام ومستهلكاً للمنتجات المركزية. إنّ اتساع المصالح الرأسمالية هو القوة الدافعة المستمرة للسيطرة؛ تؤدي هذه السلسلة السببية إلى إدامة الهيمنة.

غرامشي ونظام الموافقة

إن الابتعاد عن العنف الصريح قدر الإمكان، والاعتماد على الأنظمة الحليفة، يعني أن استقرار الهيمنة يتطلب خلق شكل من أشكال الموافقة أو القبول الداخلي. وهنا يبرز دور الهيمنة الفلسفية والثقافية، كما حللها أنطونيو غرامشي. وفقاً لغرامشي، لا تقتصر الهيمنة على السيطرة القسرية (المجتمع السياسي)، بل تتجسد بعمق في المجتمع المدني، بما في ذلك المؤسسات الثقافية مثل التعليم والدين ووسائل الإعلام.

يتم هندَسة الموافقة في هذا الإطار بحيث لا تكون بالضرورة تأكيداً طوعياً لحالة الفرد، بل تتحقق في صورة انعدام المقاومة للسلطة التي تفرض خطابها عبر مؤسسات المجتمع المدني. هذه هي المساحة التي تُنفذ فيها الأجندات الفلسفية. لقد شيَّد مفكرون مثل إدوارد سعيد وفرانز فانون نظرية ما بعد الاستعمار بهدف تفكيك خطاب الهيمنة والمركزية الأوروبية، مركزين على نقد المركزية العقلية وخطاب الحضور الميتافيزيقي الغربي. يهدف هذا التفكيك إلى "خلخلة الذات" وإعادة صياغة العلاقة بين الذات المستعمَرة والآخر المهيمن. لكن حتى محاولات التفكيك الفلسفية يمكن أن تتحول إلى فخ، حيث يمكن أن تخدم في نهاية المطاف مركزية العقل الغربي وتكريس "ميتافيزيقا الحضور" الغربية إذا لم يتم الانطلاق من أساس معرفي مستقل. إن الإنسان الذي يُدمَّر أساسه المعرفي الصلب، لن يستطيع بناء مقاومة ثقافية أو سياسية مستقلة، ويصبح تحقيق "انعدام المقاومة" أمراً يسيراً.

 الإبادة المعرفية واستراتيجيتها الشاملة

الإبادة المعرفية هي تدمير المعرفة وتشويهها وإلغاء صلاحية وجودها في الذاكرة الجمعية والتاريخية، وهي معركة مستدامة وممنهجة. وهي تتجسد في الاستعمار الثقافي الذي يفرض ثقافة ونسقاً معرفياً معيناً من قِبل قوى خارجية على المجتمعات المستعمَرة، مما يؤدي إلى تهميش المناهج التعليمية التي تعكس هوية المجتمع وثقافته وتدمير مصادره الثقافية التاريخية.

تعتمد استراتيجية الإبادة المعرفية على وجهين متضادين، ولكنهما متكاملان في الحرب المعرفية:

حصر المعرفة (التسييج): حيث يتم تضييق المجال المعرفي وتسييجه ليصبح حكراً على "نخبة مختارة" تابعة، وتحويل المعرفة إلى مجرد "مقولات أيديولوجية" لا يمكن تجاوزها.

إغراق الذاكرة (الفوضى): حيث يتم تضخيم المعارف وإغراق الذاكرة بالمعرفة الزائفة والمختلة، مما يؤدي إلى تشتيت الإدراك وإرباكه، وبالتالي يمنع العامة من بناء قاعدة معرفية صلبة للمقاومة.

يسعى هذا التكتيك المزدوج إلى ضمان العجز عن "الاستناد إلى أي قاعدة معرفية صلبة" أو الإفلات من المرجعية الأيديولوجية القسرية.

الآليات التفصيلية لتدمير البنية المعرفية

تُنفذ الإبادة المعرفية عبر آليات تفصيلية منظمة تستهدف تدمير البنية التحتية الفكرية:

تدمير آليات إنتاج المعرفة وتداولها: يتضمن ذلك تجريف المكتبات والمدارس، أو تجهيل الأفراد وإعاقة تفكيرهم النقدي، مما يؤدي إلى فقدان القدرة على التمييز بين المعرفة الصحيحة والباطلة، وغياب القوانين المُنظِمة لعملية الصدق المعرفي.

عزل المعرفة عن الواقع الحي (التفريغ): يتم فصل المعرفة عن السياق الاجتماعي، مما ينتج "معرفة مُغترِبة ومُجرَّدة" لا يستطيع المجتمع استخدامها في فهم واقعه أو التأثير فيه، فتفقد قيمتها المعرفية.

تسيس المعرفة وعسكرتها: تتحول المعرفة إلى "أداة سياسية" للسيطرة على الأفراد وتوجيه سلوكهم، أو تُستخدَم في الصناعات العسكرية لخدمة أهداف أمنية ولتبرير الحروب والصراعات.

تشريح النخبة التابعة ونقد فانون

لم تكن النخبة في الدول المتحررة كتلة متجانسة تحافظ على ذاكرة الشعوب وهويتها، بل كانت غالباً "مُفكَّكة" وتتبادل الأدوار مع المجال الإعلامي والثقافي لخدمة الأجندات العليا. وجَّه فرانز فانون نقداً جوهرياً لهذه النخبة، محذراً من "انحراف البرجوازية الوطنية ومهادنتها للاستعمار الجديد" بعد نيل الاستقلال الشكلي. ويرى فانون أن هذه النخبة تخدع نفسها بظن إمكانية تطبيق المثل والمبادئ التي علَّمها إياها الغرب، بدلاً من البحث عن "مسالك جديدة أوجدتها ظروفها الخاصة". هذا الانحراف الوجودي يمنع خلق "إنسان جديد".

يتمثل الخطر الأكبر في ظهور نخب ذات ولاء خارجي، مثل النخب الفرنكوفونية أو الأمريكوفونية، التي قد يكون ولاؤها لثقافة ومصالح المستعمِر "أكبر، أوسع وأهول من ولائها للشعب والوطن". إن ما يُغري هذه النخب بالتخلي عن مجتمع ديمقراطي منتج والانغماس في نظام طغياني واستبدادي فاشل هو الانتفاع المادي والفساد والانتهازية. هذا الانتفاع المادي هو الثمن المدفوع لولائها الثقافي والفلسفي، مما يضمن استمرار النظام التبعي والفخ الاستخراجي.

النخبة كمنفذ للأجندات الفلسفية تحت رايات نبيلة

تضطلع النخب المتواطئة بدور حيوي في تسويق الأجندات الفلسفية الاستعمارية تحت غطاء "نبيل" (الذرائع النبيلة). فقد تواطأت هذه النخب والحكام على الشعوب بذريعة حماية المدنيين أو نشر الديمقراطية، بينما كانت المصالح الحقيقية هي النفط والغاز وضمان ازدهار الأوليكارجيات المالية الغربية.

تتحكم النخبة المتواطئة في التنظيم الإداري والنشاط الأكاديمي والجامعات، مما يمكنها من تحويل المعرفة إلى "أداة سياسية" لترسيخ مفاهيم وأيديولوجيات تخدم برامج القوى المهيمنة. وبفعل ولائها الخارجي، تتولى النخبة مهمة "تعقيم وتطهير" المعرفة من أي أفكار نقدية أو ثورية، مما يضمن أن الخطاب المحلي لا يتجاوز الحدود التي رسمتها البرنامج الفلسفي الغربي. إن نقد فانون للبرجوازية الوطنية يفسر كيف يتم تحقيق "انعدام المقاومة" (مفهوم غرامشي)، حيث تستغل النخبة الهيمنة الخارجية بدلاً من مقاومتها، مما يمنح الشرعية الداخلية للنظام التبعي. كما تلعب النخبة دوراً في المجال الإعلامي، مما يمكنها من تشكيل إدراك الآخرين وتوجيه الفهم (كما بيَّن إدوارد سعيد)، وهذا يغذي فوضى المعرفة الزائفة ويضمن نجاح تسويق الروايات المضللة.

الذات والهيمنة الفلسفية

الهدف النهائي للهيمنة الفلسفية هو السيطرة على العقول وتشكيل الإدراك، ويتم ذلك عبر تقنين المعرفة المعيارية في الذاكرة الجمعية لتغدو "المعرفة الوحيدة والمُسلَّم بها". هذا التقنين يستند إلى "مركزية العقل" الغربي و"ميتافيزيقا الحضور" المرتبطة به، حيث يتم توظيف الخطاب (الكلام والصوت) لتكريس حضور الذات الغربية وإقصاء الذات المستعمَرة.

يضمن هذا تدمير الأساس المعرفي تجريد المقاومة من أساسها الفلسفي والمنطقي. عندما تكون الهوية ممزقة ثقافياً وغارقة في الفوضى، يصبح التحرر مجرد "شعارات طوباوية" لا يمكن ترجمتها إلى عمل سياسي منظم. لذا، شدد غرامشي على أن الثورة تخاطر بتقويض نفسها دون "التحول الواعي"، وأن الطريق إلى التحرر يتطلب "مشاركة فعالة ضد نظام الهيمنة". إن استقرار الهيمنة الاستعمارية الجديدة هو نتاج التقاء عاملين: الجريمة المعرفية (تدمير القاعدة الفكرية) والجريمة الأخلاقية (تواطؤ النخبة التي تتولى التنفيذ والتعقيم).

يستنتج من هذا أن الهيمنة الاستعمارية الجديدة هي منظومة قسرية ثقافياً ومعرفياً، لا يمكنها أن تستقر بالسيطرة الاقتصادية (نظرية التبعية) وحدها. إن التدمير الممنهج للأساس المعرفي يخلق الفراغ اللازم لزرع الأيديولوجيا المستوردة والمُعقَّمة، بينما يضمن تواطؤ النخبة (البرجوازية الوطنية) الوسيط المحلي اللازم لتوفير الغطاء الشرعي لهذا النظام التبعي وتأبيد الفخ الاستخراجي.

الطريق إلى التحرر يتطلب "تبادلاً حراً للأفكار" و"ديمقراطية تشاركية" لمواجهة نظام الهيمنة القائم على التلقين والنمطية. كما يتطلب ذلك الابتعاد عن النخب الانتهازية والاعتماد على النخب المحلية الحقيقية التي تنطلق من الذات، مستلهمة نماذج الكتلة الشعبية التي نجحت في قهر الاستعمار واستعادة السيادة الحضارية والاقتصادية والسياسية.

***

غالب المسعودي

.......................

المراجع

revsoc.me - الهيمنة الاستعمارية والعولمة المسلحة - بوابة الاشتراكي

alsifr.org - نظرية تبعية جديدة؟ | صفر - موقع 0

tadween.alhadath.ps - أنطونيو غرامشي حول الهيمنة الثقافية... ما هي وكيف تعمل؟ - تدوين - صحيفة الحدث

sufirfan.org - فلسفة ما بعد الاستعمار بين التفكيك وإعادة إنتاج السيطرة - Sufirfan

ahewar.org - حمدي سيد محمد محمود - الإبادة المعرفية في العالم العربي: معركة الذاكرة (“الإبادة المعرفية في العالم العربي: معركة الذاكرة والهوية في وجه محاولات ...”)

المقدمة: تُعد الفلسفة من أقدم صور الوعي الإنساني وأكثرها عمقًا في البحث عن الحقيقة والمعنى، فهي التي صاغت منذ بدايات التفكير البشري أسسَ السؤال، ومهّدت لولادة العلم، وأرست قواعد الأخلاق والعقل النقدي. غير أنّ السؤال عن جدوى الفلسفة يظل يتجدّد في كل عصر، ويتخذ صيغًا جديدة تبعًا لتحولات الفكر والمجتمع. ومن هنا تبرز أهمية هذا البحث الذي يسعى إلى الإجابة عن سؤال مزدوج: لماذا الفلسفة؟ ولماذا الآن؟، وهو سؤال يعكس الحاجة الملحّة إلى استعادة دور الفلسفة في زمن يتسم بتسارع المعرفة وتفكك القيم الإنسانية.

تكمن أهمية الموضوع في كونه يتناول جوهر العلاقة بين الإنسان والفكر، ويعيد طرح الفلسفة باعتبارها أداة للفهم والتوجيه في عالمٍ تسيطر عليه التقنية، وتضعف فيه القدرة على التأمل والمعنى. فالعالم المعاصر يعيش أزمة عقلية وأخلاقية تتجلّى في هيمنة النفعية، وتراجع التفكير النقدي، وانفصال التقدم العلمي عن البعد الإنساني؛ مما يجعل العودة إلى الفلسفة ضرورةً لا ترفًا، لأنها تمنح الفكر الإنساني توازنه بين المعرفة والقيمة، وبين الفعل والتأمل.

أما مشكلة البحث فتتمثل في التساؤل عن موقع الفلسفة في عالم اليوم: هل ما زالت قادرة على الإسهام في معالجة أزمات الإنسان الفكرية والروحية، أم أصبحت نشاطًا نظريًا منقطع الصلة بالواقع؟ وهل يستطيع التفكير الفلسفي أن يقدم حلولًا عملية للتحديات الراهنة، كأزمة القيم، وضياع الغايات، وتشيؤ الإنسان في ظل التقدم المادي؟ هذه الإشكالية تمثل محور البحث وتساؤله المركزي.

ويعتمد البحث في معالجة هذه الإشكالية على منهج تحليلي– نقدى مقارن؛ إذ يتناول المفاهيم الأساسية للفلسفة ووظيفتها عبر تحليل نصوص فلسفية ودلالات فكرية، مع استنباط القيم التي يمكن أن تُعيد للفلسفة دورها التوجيهي في الحياة المعاصرة. كما يوظّف المنهج المقارن لإبراز تباين المواقف الفلسفية القديمة والحديثة من دور الفلسفة في المجتمع، وصولًا إلى رؤية متكاملة تُبرز أن الفلسفة ليست مجرد تراث فكري، بل حاجة إنسانية متجددة توجه العقل نحو الحقيقة والخير والجمال.

وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، سيتناول البحث المحاور الآتية: معنى الفلسفة ووظيفتها، والفلسفة كطريق للفهم والمعرفة، ودورها في توليد الطموح والإخلاص، وأزمة العالم المعاصر وحاجته إليها، إضافةً إلى مناهج التفكير الفلسفي وأهميتها، ثم الفلسفة بوصفها نورًا يهدي مسيرة الإنسان، وأساسًا للأخلاق والتقدم الإنساني.

المحور الأول: معنى الفلسفة ووظيفتها

1- تعريف الفلسفة

ما هي الفلسفة؟ سؤال يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه من أعقد الأسئلة التي يمكن أن تُطرح، لأن الفلسفة لا تخضع لتعريف واحد أو نهائي. فهي، بحكم طبيعتها النقدية والتأملية، تظل مفتوحة أمام تفسيرات متعددة. ولهذا لا يمكن لأي فيلسوف أن يقدم تعريفًا يحظى بإجماع جميع الفلاسفة، بخلاف ما نجده في العلوم الأخرى مثل الاقتصاد أو التاريخ أو الأحياء، حيث يمكن تحديد موضوع الدراسة بدقة ووضوح.(1)

فمنذ البدايات الأولى للفكر الفلسفي، لم يكن هناك اتفاق على تعريف محدد للفلسفة؛ إذ نجد أن كل فيلسوف ينطلق في تعريفه لها من زاوية نظره الخاصة، تبعًا للمشكلات التي يراها محورية أو متعلقة بجوهر التفكير الفلسفي. ومن هنا تنوّعت التعريفات بتنوع القضايا التي تتناولها الفلسفة، حتى صار من الصعب الإحاطة بجميع أبعادها في تعريف واحد جامع. ومع ذلك، فإن طرح سؤال "ما هي الفلسفة؟" في ذاته يُعدّ خطوة أولى في عملية التفلسف، لأن التفكير في ماهية الفلسفة هو ممارسة فلسفية بحدّ ذاتها، تنبع من التساؤل حول الحياة والوجود الإنساني وأبعادهما العميقة.(2)

ومن زاوية أخرى، يمكن استخدام كلمة "فلسفة" للإشارة إلى الموقف العام الذي يتبناه الفرد أو الجماعة تجاه الحياة. هذا الموقف يمثل النهج أو الطريقة التي يستجيب بها الإنسان لمختلف الأحداث، ويعكس رؤيته للعالم كما تتجلى في معتقداته وأفكاره، وهي حصيلة ما ورثه وما اكتسبه عبر تجاربه الحياتية. وبناءً على هذا الفهم، يمكن القول إن كل إنسان يمتلك فلسفة ما، تتجسد في نظرته الخاصة إلى الحياة وموقفه منها. ولذلك، حين يتحدث الناس عن "فلسفتي في الحياة" أو "فلسفته"، فإنهم يقصدون بذلك مجموع المبادئ والقناعات التي تحدد أسلوبهم في العيش والتعامل مع الآخرين. إن امتلاك فلسفة شخصية ليس ترفًا، بل هو ضرورة إنسانية، لأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش حياة ذات مغزى دون منظومة من القيم والمعتقدات التي توجه سلوكه وتمنحه معنى وغاية.(3)

نتوقف مع عدة تعريفات للفلسفة كما هي، دون الإشارة إلى الانتقادات والملاحظات التي أُثيرت حولها:

أولًا، الفلسفة هي تاريخ الفلسفة.

"الفلسفة هي في حقيقتها دراسة الشخصيات التاريخية التي يُعَدّ أصحابها فلاسفة. قد يصادف المرء أسماء مثل سقراط، أفلاطون، أرسطو، أوغسطين، طاليس، فيلو، أفلوطين، توما الأكويني، كانط، إريجينا، هيوم، ماركس، هيجل، راسل، فيتجنشتين، وغيرهم كثيرون".(4)

يعتمد هذا التعريف على أن الفلسفة لا يمكن أن تُفهم فهمًا حقيقيًا ما لم يُفهم الماضي. وستكون الفلسفة فقيرة إذا فقدت أيًّا من الأسماء المذكورة أعلاه. ويذهب بعضهم إلى أن معرفة تاريخ الفلسفة شرط أساسي لتقدير الفلسفة تقديرًا إيجابيًا، وضرورة إذا أراد المرء أن يُقدّم إسهامات إبداعية في تطوير الفلسفة. وتكمن قيمة المدخل التاريخي في أنه يقدّم للطالب العقول العظيمة في الماضي ويضعه في مواجهة المشكلات الفلسفية التي أثارها المفكّرون في جميع العصور. وهذا أمر مرغوب فيه في حد ذاته، حتى وإن لم يكن أفضل تعريف للفلسفة.(5)

ثانيًا، الفلسفة هي تحليل اللغة

إن تعريف الفلسفة على أنها تحليل للغة يُحوِّل الفلسفة من كونها موضوعًا قائمًا بذاته إلى مجرد أداة للتعامل مع موضوعات أخرى. فهي تصبح منهجًا بلا مضمون. وهذا التعريف أحادي الجانب. لقد كان تحليل اللغة جزءًا مهمًا من الفلسفة منذ زمن سقراط وغيرِه وصولًا إلى الحاضر. لكن ربط اللغة بمبدأ التحقق وتقييدها به يفرض حدودًا صارمة على مجالات اعتُبرت دائمًا جوهرية في الفلسفة. يظهر هذا القيد بوضوح في مجالي الأخلاق والقيم، إذ إن الأخلاق لا يمكن التحقق منها بطريقة علمية، ومع ذلك يبدو من الواضح أننا نستطيع مناقشة الأفعال واعتماد بعض وسائل التقييم الموضوعي من خلال العقل.(6)

ثالثًا، الفلسفة برنامج للتغيير.

صرّح كارل ماركس بأن دور الفلسفة ليس التفكير في العالم، بل تغييره. فالفلسفة ليست مشروعًا برجوازيًا في برجٍ عاجي بعيدًا عن واقع الشروط الإنسانية. فما الفائدة من تحقيقات إبستمولوجية دقيقة، بينما العلم والتكنولوجيا – من دون أن يشغلا أنفسهما كثيرًا بأسس معرفتهما – يزدادان يوميًا تمكنًا من الطبيعة والإنسان؟ وما الفائدة من تحليل لغوي يتجنب الحديث عن تحوّل اللغة (اللغة العادية!) إلى أداة للسيطرة السياسية؟ وما الفائدة من التأملات الفلسفية في معنى الخير والشر، في حين أن أوشفيتز، والمجازر في إندونيسيا، وحرب فيتنام قد قدمت تعريفًا يخنق كل نقاش حول الأخلاق؟ وما الفائدة من انشغال فلسفي إضافي بالعقل والحرية بينما موارد وملامح المجتمع العقلاني، والحاجة إلى التحرر، كلها واضحة تمامًا، والمشكلة ليست في تصورها، بل في الممارسة السياسية لتحقيقها؟

لكن مسألة التغيير ليست بالضرورة من صميم الفلسفة نفسها، فالفلسفة لا تحمل مطلبًا جوهريًا بأن يكون التغيير هو المنتج النهائي للتفكير. يبدو أمرًا طبيعيًا أن يسعى من يفكر بجدية في مشكلات الإنسان إلى حلول جيدة، ويبدو طبيعيًا أيضًا أن يحاول من يمتلك حلولًا جيدة أن ينفذها. ومع ذلك، فمن الممكن أيضًا أن يكتفي المرء بالتأمل في حلول جيدة من غير أن يباشر أي عمل. فلا يوجد تكليف أصيل في الفلسفة يفرض برنامجًا عمليًا للتغيير، وإن كان من الممكن افتراض أن بعض الأعمال الجيدة قد تخرج ضمنيًا من ذلك.(7)

رابعًا، الفلسفة رؤية كونية.

إن الرؤية الكونية – أو Weltanschauung كما يسميها الألمان – تتجاوز مجرد التساؤل عن الكون، فهي محاولة لصياغة تصور شامل عن العالم في علاقته بتكوين المادة، والإنسان، والإله، والخير، وطبيعة السياسة، والقيم، والجماليات، وكل عنصر آخر في الكون له أهمية. وقد تبنّى هذا التعريف ويليام جيمس الذي قال:"إن المبادئ التفسيرية التي تكمن وراء كل الأشياء دون استثناء، والعناصر المشتركة بين الآلهة والإنسان والحيوان والحجر، والبداية الأولى والنهاية الأخيرة لمسيرة الكون بأسره، وشروط كل معرفة، وأعمّ القواعد التي تحكم الفعل الإنساني – هذه كلّها هي المشكلات التي تُعَدّ فلسفية بامتياز؛ والفيلسوف هو ذاك الذي يجد أكثر ما يُقال عنها."

إن الرؤية الكونية تشمل نظرةً إلى الإنسان، وإلى المسؤوليات الاجتماعية والسياسية المترتبة على هذه النظرة. فأيُّ علم أو دراسة تتعلق بمعنى الإنسان ستكون ذات صلة بالرؤية الكونية، بما في ذلك علم الأحياء، والأنثروبولوجيا، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، واللاهوت، وغيرها من التخصصات المرتبطة. فالرؤية الكونية هي محاولة للتفكير بشكل مترابط عن العالم في شموليته وكماله.(8)

خامسًا، الفلسفة هي النقد.

النقد هو محاولة إزالة التفكير الرديء وترسيخ المفاهيم بمزيد من الدقة والمعنى. يُعد سقراط من أوائل من انخرطوا في النقد الفلسفي، وكان النقد عند سقراط يشير إلى التفكير النقدي القائم على الجدل في إطار المحاورة. ويجب أن نتذكّر أن الجدل (Dialectic) هو نقاش متواصل يتضمن ادّعاءات، وادّعاءات مضادّة، وتوضيحات، وتصحيحات، وتنازلات، على أمل صادق في الوصول إلى فهمٍ لمفهوم ما. وفي هذا السياق، لاحظ جون ديوي أن:"الفلسفة هي في جوهرها نقد، وتمتاز بموقعها المميز بين أنماط النقد المختلفة بعموميتها؛ فهي نقد للنقد إن صحّ القول. النقد هو حكم تمييزي، وتقدير متأنٍ، ويُطلق على الحكم اسم نقد على نحو ملائم حين يكون موضوع التمييز متعلقًا بالخير أو القيم".(9)

وقد كان تعريف الفلسفة باعتبارها نشاطًا نقديًا شائعًا نسبيًا في المشهد الفلسفي المعاصر، إذ يُنظر إليها كعملية تفكير مستمر تهدف إلى توضيح المفاهيم وتصحيح الأخطاء وتوسيع آفاق الفهم. فقد وصف روبرت بول وولف (Robert Paul Wolff) الفلسفة بأنها نشاط يقوم على التفكير المتأني، تحكمه الدقة المنطقية والوضوح. مثل هذا النشاط يقوم على إيمان راسخ بقوة العقل، وهو نشاط يقود فيه العقل إلى الحقيقة.(10)

ومثال آخر على البعد النقدي في الفلسفة هو الحركة الفلسفية المرتبطة باسم إدموند هوسرل، الذي يُعدّ مؤسس الفينومينولوجيا (Phenomenology). والفينومينولوجيا هي منهج نقدي يهدف إلى فحص جوهر أي شيء؛ فجوهر الحب، أو العدالة، أو الشجاعة، أو أي فكرة أخرى يمكن التعامل معها نقديًا للوصول إلى استنتاجات مبدئية بشأنها. مثل هذا النقد يُعدّ حيويًا للفلسفة كما هو ضروري في سائر الحقول المعرفية، إذ يضع الأسس المنهجية للتفكير في المعاني والحقائق دون افتراضات مسبقة.

وانطلاقًا من هذا البعد النقدي والمنهجي، يمكن القول إن الفلسفة هي محاولة منسقة ومنهجية لتقييم الحياة والكون ككل، بالرجوع إلى المبادئ الأولى التي تقوم عليها جميع الأشياء، والتي تنطوي عليها كل تجربة. إنها منهج غير متحيّز في مقاربة جميع مشكلات الحياة وأبعاد الوجود، ولا تقتصر دراستها على العالم التجريبي كما هو الحال في العلوم الفيزيائية والبيولوجية، ولا تُقيَّد بمجالات الإيمان والسلطة أو قضايا العالم الآخر كما في البحوث اللاهوتية، ولا تنحصر في دراسة العقل وسلوكه كما في علم النفس، ولا تُعنى بمجرد الجدل الأخلاقي أو سلوك الإنسان كما في علوم الأخلاق، ولا تقتصر على الواجبات المدنية أو مشكلات الإدارة والدساتير كما في السياسة، ولا تنشغل فقط بحلول تقنية لتنظيم المجتمع أو البحث في أصله وتطوره كما في الاقتصاد وعلم الاجتماع.

بل تُكيِّف الفلسفة نفسها لمعالجة شاملة للمسلمات الأساسية الكامنة في كلٍّ من هذه المجالات، ولِما هو أبعد من ذلك كلّه، لما يُعدّ أساسًا تقوم عليه جميع العلوم، وما يُشكّل أصلًا لكل معرفة وتجربة. وهكذا، تُعدّ الفلسفة أشمل فروع المعرفة قاطبة، وتعمل كمعيار تقيس به سائر أوجه المعرفة البشرية.(11)

2- موضوعات الفلسفة:

تشمل الفلسفة موضوعات ومحاور متعددة، وتُعَدُّ التقسيمات التالية أساسية عند النظر إلى الفلسفة من منظور عام وشامل(12):

أ‌. نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا)

ب‌. الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة)

ج. المنطق

د. علم القِيَم: وهو مجال واسع يضمّ فرعين أساسيين:

- الأخلاق

- علم الجمال

هـ. مجالات فلسفية متخصصة:

- فلسفة الفن

- فلسفة علم الأحياء

- فلسفة التاريخ

- فلسفة القانون

- فلسفة الفلسفة

- فلسفة الفيزياء

- فلسفة العلوم الطبيعية

- فلسفة الدين

- فلسفة الاجتماع

- فلسفة العلم

وتدرس الفلسفة أربعة أنواع من العلاقات، وهي:

(1) العلاقة بين الإنسان والطبيعة،

(2) العلاقة بين الفرد والمجتمع،

(3) علاقة الإنسان بنفسه،

(4) علاقة الإنسان بأي كائن يتجاوز العالم المحسوس، إن وُجد.

وبمعنًى ما، يحتل "الإنسان" موقعًا مركزيًا في الفلسفة. فما إمكانياتنا كبشر؟ وما حدودنا؟ وكيف يمكننا أن نُحقق كامل طاقتنا ونعيش حياة مليئة بالرضا والسعادة؟ تُعدّ هذه الأسئلة ذات أهمية كبرى في الفلسفة(13).

وانطلاقًا من هذا البعد الإنساني، تتغلغل الفلسفة في شتى التخصصات، لأنها تعالج المعرفة الأساسية، وتنطوي على نشاط عقلي، وتستعمل أدواتها الفلسفية للتحقيق في أصل ومصدر وصلاحية التخصصات التي تُعَدّ مكتفية بذاتها. وبصورة عامة، فإن الفلسفة – بوصفها تخصصًا – تطرح أسئلة عن كل ما يمكن أن يُسأل عنه.

وتُعَدّ الفلسفة أمًّا لسائر التخصصات الأخرى، لأنها أنجبتها جميعًا، والعلاقة القائمة بين الفلسفة وسائر العلوم تشبه العلاقة بين الأم وأبنائها؛ إذ تواصل القيام بدور الأم من خلال مساءلة افتراضاتهم الأساسية، وصقل مبادئهم الجوهرية، وتوجيه أنشطتهم.

وتخدم الفلسفة باقي التخصصات لأنها توفر الأساس الذي انبثقت منه، ومن ثَمّ تُعَدّ علم العلوم وأمّ الفنون كلّها(14).

3- وظائف الفلسفة

بعد استعراض موضوعات الفلسفة ومجالاتها، تبرز الحاجة إلى فهم وظائفها في الحياة الإنسانية والمجتمعية، إذ لا تقف عند حدود التنظير، بل تمتد إلى التطبيق العملي والتأثير الأخلاقي والعقلي في سلوك الإنسان ومصيره.

كان سقراط يؤمن بأن الفلسفة ينبغي أن تحقق نتائج عملية من أجل الصالح العام للمجتمع، وسعى إلى تأسيس منظومة أخلاقية تستند إلى العقل البشري بدلًا من العقيدة الدينية. وأوضح أن الاختيار الإنساني تحركه الرغبة في السعادة، وأن أسمى مراتب الحكمة تتحقق من خلال معرفة المرء بنفسه. وكلما ازداد الإنسان معرفة، ازدادت قدرته على التفكير العقلاني واتخاذ القرارات التي تجلب السعادة الحقيقية. ورأى سقراط أن هذا المبدأ ينعكس على السياسة أيضًا، حيث اعتبر أن أفضل أشكال الحكم ليست الاستبداد ولا الديمقراطية، بل الحكم الذي يتولاه أفراد يمتلكون أعلى درجات القدرة والمعرفة والفضيلة، إلى جانب وعي كامل بذواتهم(15).

وتحرّرنا الفلسفة من ضيق الأفق في التفكير التقليدي، وتفتح عقولنا على إمكانيات جديدة. وغالبًا ما تُقدِّم الفلسفة علاجًا ضد الأحكام المسبقة، لا عن طريق حسم الأسئلة الكبرى، بل من خلال إظهار مدى صعوبة حسمها حقًا. ويمكن أن تقودنا إلى مساءلة آرائنا التقليدية التي نتمسّك بها بارتياح واطمئنان(16).

ويقول راسل: "إنّ الإنسان الذي لم يمسّه شيء من الفلسفة يمضي في حياته أسيرًا للأحكام المسبقة الموروثة من الحسّ المشترك، ومن المعتقدات السائدة في عصره أو أمّته، ومن القناعات التي ترسّخت في ذهنه دون مشاركةٍ واعية من عقله المتعمّد أو رضاه. … إنّ حياة الإنسان الغريزي منحصرة داخل دائرة اهتماماته الخاصة. … وفي مثل هذه الحياة يوجد شيء من الحمى والضيق، إذا ما قورنت بالحياة الفلسفية التي تتّسم بالهدوء والحرية. فالعالم الخاص بالاهتمامات الغريزية ضيّق، وهو قائم في وسط عالمٍ واسعٍ وقوي، لا بدّ أن يدمّر عاجلًا أو آجلًا عالمنا الخاص"(17).

إنّ القيمة الأساسية للفلسفة، بحسب راسل، تكمن في أنّها تفكّ قبضة الآراء الممسوكة دون تمحيص، وتفتح العقل على فضاءٍ محرِّر من الإمكانات الجديدة للاستكشاف. "إنّ قيمة الفلسفة تُلتمس، في الواقع، إلى حدٍّ كبير في لايقينها نفسه. … فالفلسفة، وإن كانت عاجزة عن أن تخبرنا بيقينٍ ما هو الجواب الصحيح عن الشكوك التي تثيرها، فإنّها قادرة على أن تقترح إمكانات عديدة توسّع آفاق تفكيرنا وتحرّره من طغيان العادة. وهكذا، وبينما تقلّل من شعورنا باليقين بماهية الأشياء، فإنها تزيد كثيرًا من معرفتنا بما يمكن أن تكون عليه؛ فهي تزيل شيئًا من ذاك الدوغمائية المتعجرفة التي يتسم بها أولئك الذين لم يرحلوا قطّ إلى منطقة الشكّ المحرِّر، كما أنّها تُبقي فينا حيًّا شعور الدهشة من خلال إظهار الأشياء المألوفة في وجهٍ غير مألوف"(18).

المحور الثانى: الفلسفة كطريق للفهم والمعرفة

1- الفلسفة أداة لتوسيع المدارك وتحرير الفكر.

يؤكد ويلفريد سيلارز (Wilfrid Sellars) أن هدف الفلسفة هو فهم نطاق واسع جدًا من الموضوعات—بل أوسع نطاق ممكن. أي أن الفلاسفة ملتزمون بمحاولة فهم كلّ شيء بقدر ما يمكن فهمه. ويختار الفيلسوف أن يدرس الأمور التي تُعدُّ غنية بالمعلومات ومثيرة للاهتمام—تلك التي تمنحنا فهمًا أعمق للعالم ولمكانتنا فيه.

ولكي يتمكن الفلاسفة من إصدار أحكام بشأن أيّ المجالات تستحق الدراسة أو تُثير الفضول، فإنهم بحاجة إلى تنمية مهارة خاصة. يصف سيلارز هذه المهارة الفلسفية بأنها نوعٌ من المعرفة العملية أو الدراية. فالمعرفة الفلسفية لا تعني مجرد معرفة الحقائق، بل تعني معرفة كيفية التنقل في عالم المفاهيم، والقدرة على فهم كيفية ارتباط المفاهيم ببعضها، وكيف تتكامل وتدعم وتتطلب بعضها بعضًا—بعبارة موجزة، تعني الفلسفة معرفة "كيف تتماسك الأمور معًا".(19)

وانطلاقًا من هذا التصور، يمكن القول إنّ ممارسة الفلسفة لا تنفصل عن تاريخها، إذ إنّ قراءة أعمال الفلاسفة السابقين تُسهم في تعميق فهمنا للقضايا الفلسفية المعاصرة. فالحوار مع الماضي يمنحنا أدوات فكرية لفهم الحاضر بشكل أفضل، ويضيء لنا دروبًا جديدة للتفكير والنقاش.(20) ومن هنا، تصبح الفلسفة نشاطًا متجددًا يربط بين الأجيال، ويفتح آفاقًا رحبة أمام العقل الإنساني لمساءلة ذاته والعالم من حوله.

كما أنّ ممارسة الفلسفة تزودنا بمجموعة من المهارات الأساسية التي تعزز التفكير النقدي والمستقل، وتدعم انخراطنا الواعي في المجتمع. يمكن تلخيص هذه المهارات على النحو التالي:

1- مهارات التفكير المنطقي: تتضمن تحليل الأفكار واختبارها، التدريب على استخدام المنطق والحجج بشكل فعّال، وطرح الأسئلة الجوهرية مثل: "هل هذا صحيح؟" و"كيف نعرف ذلك؟"

2- مهارات الاستقصاء: تشمل تنمية الفضول والملاحظة الدقيقة، البحث العميق عن المعاني، وطرح تساؤلات مثل: "ماذا يعني هذا؟" و"كيف يمكننا اكتشاف ذلك؟".

3- مهارات تكوين المفاهيم: تتجسد في القدرة على التعريف والتصنيف، رسم العلاقات بين الأجزاء والكل، استخدام أدوات مثل الخرائط الذهنية والمفاهيمية، مع طرح أسئلة من قبيل: "ما الذي نعرفه؟"، "ما الذي لا نعرفه؟" و"ما نوع المشكلة التي نُواجهها؟".

4- مهارات التواصل والترجمة: تشمل التعبير الواضح والدقيق عن الأفكار، فهم المعاني المختلفة، حل المشكلات واتخاذ القرارات الصائبة، وطرح أسئلة مثل: "كيف يمكننا تفسير ذلك؟" و"ما هي الاستنتاجات التي توصلنا إليها؟".(21)

5- مهارات التحليل المفاهيمى: وإذا كانت هذه المهارات تمثل الركائز الأساسية للتفكير الفلسفي، فإنّ مهارة التحليل المفاهيمي تظل في مقدمتها، إذ تعد من أهم التقنيات التي يستخدمها الفلاسفة لتوضيح وفهم العبارات الفلسفية — سواء أكانت مقدمات أم نتائج. ويُقصد بـالتحليل المفاهيمي تحليلُ المفاهيم أو التصورات أو الأفكار كما تَرِد في العبارات أو الجمل. ويُعد مصطلح "التحليل" جزءًا أساسيًا من مصطلحات ومناهج الفلسفة منذ نشأتها. وفي أبسط معانيه، يشير التحليل إلى عملية تفكيك الأفكار المعقّدة إلى أفكار أبسط منها. كما يتضمن التحليل مجموعة من الاستراتيجيات المتقاربة التي يعتمدها الفلاسفة في سعيهم لاكتشاف الحقيقة، وتهدف كل تقنية من هذه التقنيات إلى الوصول إلى تعريف أوضح وأكثر دقة وقابلية للتطبيق للمفاهيم المطروحة.(22)

وإذا كانت المهارات الفلسفية تمثل الأساس العملي لممارسة التفكير النقدي والتحليلي، فإنها لا تكتمل دون التوجهات العقلية التي تمنحها الحيوية والفاعلية. وإلى جانب المهارات، هناك توجهات عقلية أساسية يجب أن تُنمَّى وتُشجَّع، مثل الفضول والرغبة في الاستكشاف، والقابلية لإعادة تقييم الأفكار والمرونة في التفكير، إلى جانب تقدير أهمية الحوار والإصغاء إلى وجهات نظر الآخرين.

وتتجلى قيمة هذه التوجهات في قدرتها على توجيه المتعلم نحو البحث المستمر، والتمسك بالانفتاح الذهني، وتوسيع آفاق الفهم والنقاش. كما تساعد على طرح أسئلة تعمّق الوعي بالمواقف والأفكار، مثل: هل أتفق مع هذه الفكرة؟ ما هو رأيي فيها؟ وكيف يرى الآخرون هذا الأمر؟(23)

2- دور الفلسفة في بناء الوعي النقدي

يُعد التفكير النقدي مفهومًا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالفلسفة، حيث يمثل رحلة دائمة في حياة الإنسان تهدف إلى تعزيز الانضباط والمسؤولية الفكرية في الأنشطة البشرية. من خلال الاعتماد على العقل والتأمل العميق، يمكن لأي شخص اتخاذ قرارات مدروسة وذكية. وهنا قد يتساءل البعض: "ما معنى التفكير النقدي؟".(24)

يمكن العثور على العديد من التعريفات المتعلقة بمفهوم التفكير النقدي، حيث تختلف هذه التعريفات وفقًا للسياقات الفكرية والفلسفية التي تُستخدم فيها. ومن بين هذه التعريفات:

1- يُعد التفكير النقدي التزامًا واعيًا باستخدام العقل في تشكيل معتقداتنا وصياغتها بطريقة منطقية ومدروسة. كما يمكن اعتباره وسيلة لتوجيه الأفكار والأنشطة نحو تحقيق فهم عميق واتخاذ قرارات مستنيرة.

2- يُعرف التفكير النقدي بأنه عملية تفكير تتميز بالمهارة والوضوح والمعقولية. يعتمد هذا النوع من التفكير على مزيج من الملاحظة الدقيقة والمتشككة، والخبرة المتراكمة، والعقل المنطقي، والتحليل الدقيق، بالإضافة إلى الحكم الرشيد، وتحمل المسؤولية الفكرية، والعقلانية، والتأمل العميق في الأفكار والمواقف.(25)

3- النقد لا يقتصر على الاعتراف بأن الأمور ليست كما ينبغي، بل هو عملية تحليلية تهدف إلى تفكيك الافتراضات الراسخة وأنماط التفكير التقليدية التي غالبًا ما تُعتبر غير قابلة للتحدي. إنه يتطلب منا مواجهة الممارسات التي نقبلها دون تدقيق، وطرح تساؤلات عميقة تكشف أن ما نعتبره بديهيًا أو طبيعيًا قد لا يكون كذلك. لذا، فإن ممارسة النقد ليست مجرد تحليل أو تفكيك، بل هي أيضًا فن إعادة تقييم الأمور التي تبدو واضحة، وتحويل المسلمات السهلة إلى قضايا تتطلب تفكيرًا عميقًا.(26)

وانطلاقًا من هذا التصور، فإن الشخص الذي يُعرف بلقب المفكر الناقد يجب أن يتمتع بعدة صفات أساسية، منها: أن يكون باحثًا متمكنًا في مجاله، وأن يسترشد بالوضوح والدقة والملاءمة والعمق في تحليل القضايا. كما ينبغي له أن يسعى دائمًا نحو الحقيقة، وأن يكون منفتحًا لتبني وجهات نظر جديدة ومتكاملة تضيف إلى فهمه وتوسع آفاقه. ويمكن توضيح ذلك كما يلي:

1- الوضوح: يُعتبر عنصرًا أساسيًا في أي كتابة أو محادثة فعالة، حيث يلعب دورًا حيويًا في إيصال الأفكار بدقة وسلاسة. إنه الأداة التي تعيد تعريف مفهوم التحليل، مما يضمن فهمًا أعمق وتواصلًا أكثر فعالية بين الأطراف.

2- الحقيقة أو الدقة: تُعد أساسًا لا غنى عنه في مجالات العلم والفلسفة، حيث تُدعم بالمبررات المنطقية وتُوثق بالشواهد والأدلة الموثوقة. يجب علينا أن نعبر فقط عما ندركه بوضوح ونتحقق من دقته، لضمان النزاهة الفكرية وتجنب الالتباس أو التضليل.

3- الشعور بالقلق والبحث عن العمق: عند ممارسة التفكير، يجب أن نكون حريصين على عدم إيلاء أهمية للمشكلات غير ذات الصلة. فقط المفكر الناقد يمتلك القدرة على مراجعة مسار تفكيره لتمييز الجوانب ذات الصلة بالقضية المطروحة. العمق، باعتباره معيارًا أساسيًا، يلعب دورًا مهمًا في تطوير التفكير النقدي. فعند تحليل مشكلة ما، ينبغي علينا تجاوز السطحيات والغوص في الجوانب العميقة لفهم طبيعة المشكلة بشكل شامل ومدروس.(27)

4- احترام آراء الآخرين: في عمله الرائع "في ما يهم"، أشار ديريك بارفيت إلى أنه "بعد أن نستفيد من أفكار الفلاسفة العظماء، ينبغي علينا السعي لتحقيق مزيد من التقدم. من خلال الاستناد إلى إنجازات هؤلاء العمالقة، يمكننا أن نرى آفاقًا أوسع مما رأوه." ويؤكد بارفيت على أهمية تشجيع الآخرين، سواء كانوا زملاء أو جمهورًا، على استكشاف وجهات نظر بديلة. كما يبرز ضرورة احترام آراء الآخرين، حيث يسهم هذا النهج في تمكين المفكر النقدي من فهم الحجج المعاكسة لأفكاره، مما يعزز من قوة حججه وعمق تفكيره.(28)

تساهم جميع هذه المعايير في تشكيل المفكر الناقد كشخص يتحلى بالمسؤولية الفكرية، ويكون موجهًا نحو تحقيق الأهداف، وقادرًا على التفكير بعمق وفعالية. لذا، تعتمد الفلسفة على المنهجية التحليلية والمفاهيمية في التفكير النقدي، حيث تُعتبر هذه المنهجية أداة أساسية لفهم وتحليل الأفكار والمواقف بشكل منهجي ومنطقي.(29)

ولا شك أن التصحيح للأخطاء يُعتبر من الوظائف الأساسية والمهمة للنقد. فالنقد لا يقتصر فقط على تحليل الأفكار أو تقييمها، بل يتجاوز ذلك ليصبح وسيلة فعّالة لتصحيح الأخطاء وتوجيه الفكر نحو مزيد من الدقة والعمق.(30)

3- النقد كأداة للتصحيح والتطور الفلسفي

يُعدّ النقد أداة أساسية في تصحيح الأخطاء الفكرية والتوجهات المعرفية، إذ إنه لا يقتصر على تفكيك المقولات أو كشف الثغرات المنهجية، بل يمتد إلى إعادة بناء الأفكار على نحوٍ أكثر قوة ووضوحًا. ومن خلال هذه العملية، يصبح النقد وسيلة فاعلة في دفع التفكير الإنساني نحو النضج والعمق. ويمكن توضيح ذلك في ضوء العناصر التالية:

1- تشخيص الأخطاء بدقة: يساعد النقد في تحديد نقاط الضعف والقصور في الأفكار أو الممارسات، سواء كانت ناتجة عن سوء فهم، أو تعميم مفرط، أو افتراضات غير صحيحة.

2- إعادة بناء الأفكار: لا يقتصر النقد على تفكيك الأفكار الخاطئة، بل يسعى إلى إعادة صياغتها على أسس أكثر متانة وتماسكًا.

3- التعلّم من الأخطاء: يوفر النقد فرصة للتفكير في الأخطاء واستخدامها كوسيلة للنمو الفكري والإبداع.

4- تحفيز النقاش: من خلال معالجة الأخطاء، يفتح النقد المجال لحوارات مثمرة، مما يسهم في إثراء الفكر الجماعي وتعزيز الفهم العميق للقضايا المطروحة.

5- تعزيز الحقيقة: يساعد النقد في تصفية المعرفة من الشوائب، مما يقربنا من رؤية أوضح للحقيقة.

6- تحفيز التطور: من خلال مواجهة الأخطاء، يمكننا التقدّم نحو تحسين الأفكار وتطوير المناهج.

7- تعزيز الاستقلالية الفكرية: يعلمنا النقد كيفية التفكير بشكل مستقل وتجنّب القبول الأعمى لما يُعرض علينا.

يتضح من ذلك أن الفلسفة والنقد مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، لدرجة يمكن القول معها إن الفلسفة ليست سوى شكلٍ من أشكال النقد المنهجي. ولكن يبقى السؤال الجوهري: هل الفلسفة هي جوهر النقد، أم أن النقد هو مجرد أداة من أدواتها؟. لفهم هذه العلاقة يمكن تتبّع التطوّر التاريخي للفكر الفلسفي:

1- منذ سقراط، كانت الفلسفة تمارس النقد الذاتي للفكر عبر التساؤل والتفنيد، إذ كان يدفع محاوريه إلى الاعتراف بجهلهم كخطوة أولى نحو البحث عن الحقيقة.

2- أما كانط، فقد جعل من النقد أساسًا للفلسفة، معتبرًا أن مهمتها هي تحليل حدود العقل وإمكاناته، كما يظهر في مؤلفيه نقد العقل الخالص ونقد العقل العملي.

3- هيجل بدوره رأى أن الفلسفة بطبيعتها جدلية نقدية تتجاوز الفكر الأحادي عبر التناقضات والتطور الديالكتيكي.

4- ماركس استخدم النقد أداة لتحليل البنى الاجتماعية وكشف الأيديولوجيات التي تخفي علاقات السلطة.

5- مدرسة فرانكفورت (مثل أدورنو وهوركهايمر) أكدت أن الفلسفة يجب أن تكون نقدًا للمجتمع الحديث، يكشف كيف يتم التلاعب بالوعي عبر الثقافة والإعلام.

6- فوكوه استخدم الفلسفة لتحليل ونقد آليات السلطة والمعرفة في المجتمعات الحديثة.

7- الفلسفة التحليلية، خاصة عند فيتجنشتين، ركزت على نقد استخدام اللغة، معتبرة أن كثيرًا من المشكلات الفلسفية ترجع إلى سوء فهم لغوي.

8- أما دريدا، فقد مارس نقدًا تفكيكيًا للنصوص الفلسفية نفسها، مؤكدًا أن المعاني ليست ثابتة بل تتشكل عبر الاختلاف والتأجيل.

من هنا، يتضح أن النقد هو عنصر جوهري في الفلسفة، لكنه ليس كلّها. فالفلسفة تبدأ بالنقد، لكنها لا تتوقف عنده، بل تتجاوزه إلى التأمل والبناء وابتكار المفاهيم والسعي نحو الحكمة. فإذا اقتصر الأمر على النقد دون تقديم بدائل، فإنها تتحوّل إلى عدمية فكرية، وهو ما حرص كبار الفلاسفة عبر العصور على تجنّبه.

المحور الثالث: الفلسفة كمولدة للطموح والإخلاص

بعد أن تبيّن أن الفلسفة تمثل ممارسة نقدية مستمرة، تتجاوز حدود التصحيح إلى إعادة بناء الفكر وصياغة المفاهيم، يمكن القول إنها لا تقتصر على تحليل الأخطاء أو مواجهة الانحرافات الفكرية، بل تمتد لتكون قوة إيجابية تُلهم الإنسان نحو التقدّم الأخلاقي والروحي. فالفلسفة، بطبيعتها التأملية والعقلانية، لا تُعنى فقط بتقويم الفكر، بل تُغذّي الإرادة وتُنمّي في الإنسان نزعةً نحو الكمال والسعي لتحقيق الأفضل. ومن هنا يظهر وجهها الإنساني الخلّاق الذي يجعلها مولدة للطموح ومربية على الإخلاص

الطموح هو القوة الدافعة التي تحفّز الإنسان على تجاوز حدوده، والسير بثقة نحو تحقيق الأفضل في حياته. إنه النور الذي يضيء دروب الفرد، مانحًا إياه رؤية لمستقبل أكثر إشراقًا واتساعًا. وامتلاك الطموح يعني التحلّي بعظمة الفكر ونبل الروح، والرغبة في تحقيق أهداف تستحق الجهد والسعي. فالشخص الطموح لا يلتفت إلى الماضي إلا للتعلّم منه، بل يوجّه بصره دائمًا نحو الغايات الأسمى التي تُرضي الله وتخدم الإنسان والمجتمع. الطموح بهذا المعنى هو نزعة فلسفية في جوهرها، لأنه يقوم على الإيمان بإمكان التغيير والتحسّن الدائم، وهو ما تشجّع عليه الفلسفة من خلال دعوتها إلى التفكير المستمر في الغاية من الوجود والسعي نحو الحكمة.(31)

أما الإخلاص، فهو الوجه الآخر للطموح؛ إنه الاستقرار الداخلي الذي يجعل الإنسان صادقًا مع نفسه ومع مبادئه. الإخلاص لا ينشأ إلا عن توازن بين العقل والقلب، وعن قناعة راسخة بالحق الذي يسعى المرء لتحقيقه. فالفرد لا يكون مخلصًا حقًّا لقضية أو هدف ما إلا إذا ثبت قلبه وعقله على هذا الإيمان دون أن يتزعزع أمام الشكوك أو المغريات. وعندما يتبدّل الموقف أو يتغيّر السلوك تجاه هذه القضية، فإن الإخلاص يكون قد فُقد أو تزعزع.

الإخلاص هو إيمان مطلق يغلب على كل مظاهر التردد والريبة، إذ يدفع الإنسان إلى العمل في صمتٍ وإصرار، دون انتظار مقابلٍ أو اعترافٍ، بل بدافع من القناعة الداخلية بضرورة الوفاء بالواجب وأداء الأمانة. إنه التزام روحي وأخلاقي يجعل صاحبه وفيًّا لعقيدته، مخلصًا لوعده، ومثابرًا على أداء رسالته بأفضل ما يستطيع. ومع ذلك، فإن العثور على أفراد يتحلّون بهذا القدر من الثبات والصدق أصبح أمرًا نادرًا في عصرنا الحاضر.(32)

بهذا المعنى، تُسهم الفلسفة في ترسيخ الطموح باعتباره نزعة نحو الكمال، وفي غرس الإخلاص باعتباره فضيلة تضمن صدق التوجّه نحو الغايات العليا. فهي لا تكتفي بتعليم الإنسان كيف يفكّر، بل تُعلّمه أيضًا كيف يعيش بفكرٍ سامٍ وإرادة مخلصة.

بعد أن أبرزنا كيف تُسهم الفلسفة في تنمية الطموح والإخلاص باعتبارهما فضيلتين ترتبطان بجوهر الإرادة الإنسانية وسعيها نحو الكمال، يمكن القول إن هذين البُعدين يشكّلان الأساس الداخلي الذي يهيئ الإنسان لممارسة حريته الفكرية على نحو مسؤول وواعٍ. فالفكر المخلص والطموح لا يمكن أن يزدهرا إلا في مناخٍ من الحرية يسمح للعقل بأن يتأمل، وينقد، ويبدع دون قيد أو خوف. ومن هنا تنتقل الفلسفة من كونها مُوجِّهةً للأخلاق الفردية إلى كونها ركيزة أساسية في بناء الحرية الفكرية، التي تُعد بدورها الشرط الأسمى لكل تفكير فلسفي.

علاقة الفلسفة بتشكيل الحرية الفكرية

في العصر الرقمي الراهن، يبرز توتّر بين ما تنص عليه القوانين الدولية من حقوقٍ للإنسان، وبين كيفية تجسيدها في الأنظمة الدستورية الوطنية، ويتجلّى ذلك خصوصًا في النقاش حول الخصوصية وحرية التعبير. وقد أسهم انتشار التكنولوجيا وهيمنة المنصّات الكبرى على المجال العام في تعزيز هذه الثنائية. غير أنّ الآثار الحقوقية للتقنيات الحديثة أعمق من هذا الجدل، إذ تقتضي مواجهة المخاطر المستقبلية التركيز على الحقوق المهمَّشة، وفي مقدّمتها ما سماه الفقيه يان كريستوف بوبلتس Jan Christoph Bublitz (2014) «الحق المنسي»، أي حق الإنسان في حرية التفكير. ومع صعود الذكاء الاصطناعي، يصبح ضمان هذا الحق ضرورةً أساسية، فهو من القواعد القانونية الآمرة التي لا يجوز المساس بها تحت أي ظرف، شأنه شأن حظر التعذيب أو العبودية، لأنّ أيّ تدخل في حرية الفكر يُعدّ انتهاكًا أخلاقيًا مطلق الرفض.(33)

ويقوم هذا الحق على ثلاثة مرتكزات أساسية:

1- الحق في الحفاظ على أفكارنا خاصّة.

2- الحق في أن تبقى أفكارنا بمنأى عن التلاعب.

3- الحق في ألّا نتعرّض للعقاب بسبب أفكارنا وحدها.(34)

الحق في حرية التفكير حقّ مطلق، غير أنّ ذلك لا يعني أنّ أيّ تدخّل في أفكارنا أو أيّ تأثير عليها يُعدّ انتهاكًا لهذا الحق. فالواقع أنّ حرية التفكير والرأي الحقيقية تقوم على حرية التعبير وحرية الحصول على المعلومات، بما يتيح تطوّر الأفكار ويعزّز فاعلية الإرادة. غير أنّ تحديد النطاق الدقيق لهذا الحق عمليًا أمر معقّد، إذ إنّ مسار التاريخ البشري مشوب باستخدام الدعاية، وحملات التأثير، والإعلانات، والمعلومات المضلّلة والمغلوطة، بل والأساليب العلمية التي تسعى إلى "اختراق عقولنا" والسيطرة على أفكارنا. وتثير المرتكزات الثلاثة لهذا الحق أسئلة جوهرية تساعد على تحديد ما قد يُشكّل انتهاكًا لحرية التفكير وما لا يُشكّله، ومن أبرزها:

1- أين يقع الحدّ الفاصل بين أفكارنا الداخلية وبين التعبير عنها؟

2- ما هي الأفكار أو المعلومات عن أنفسنا التي نشاركها طوعًا، وما الذي نفصح عنه قسرًا عبر استنتاجات الآخرين؟

3- ما معنى "الموافقة" في سياق استخدام التطبيقات التكنولوجية أو وظائفها حين تتقاطع مع العقل البشري؟

4- كيف تُستخدم الاستنتاجات المتعلّقة بحياتنا الباطنية ضدّنا؟

5- وأخيرًا، ما هو الحدّ الفاصل بين التأثير المشروع والتلاعب غير المشروع؟(35)

على مدى السنوات العشر الماضية، أخذ الاعتراف المتنامي يتزايد بأن الحق في حرية الفكر يشكّل عنصرًا أساسيًا في مستقبل علاقتنا بالتكنولوجيا. ففي عام 2012، ألقى إيبن موجلن Eben Moglen خطابًا في أكبر مهرجان أوروبي للمجتمع الرقمي حول الترابط بين حرية الفكر، وحرية الإعلام، وحرية التكنولوجيا. وبعد عامين، نشر بوبليتز Bublitz مقالًا بعنوان: «مرافعة واقتراح لنهضة حق أساسي منسي»، سلّط فيه الضوء على الأهمية البالغة لحرية الفكر في سياق التقنيات العصبية الناشئة. أما سوزي أليجري Susie Alegre) ) فقد كتبت لأول مرة عن الكيفية التي ينخرط بها التوجيه السلوكي السياسي الدقيق مع حقنا في حرية الفكر بطريقة تهدد أسس الديمقراطية. ومنذ ذلك الحين، انعكس هذا الاعتراف الرسمي بأهمية الحق في وثائق أممية، مثل: التعليق العام للجنة حقوق الطفل بشأن حقوق الطفل في البيئة الرقمية (لجنة حقوق الطفل بالأمم المتحدة، 2021)؛ وكذلك في أول تقرير موضوعي لمقرر خاص بالأمم المتحدة خُصص لتحليل الحق في حرية الفكر في السياق المعاصر. كما ركّز المقررون الخاصون بالأمم المتحدة المعنيون بحرية الرأي والتعبير، ومن بينهم ديفيد كاي David Kaye وخليفته إيرين خان Irene Khan، بشكل متزايد على حق الرأي في المجال الرقمي.(36)

تعود فكرة أن التفكير محصَّن بطبيعته ضد السيطرة الخارجية إلى جذورٍ قديمة، تجلّت في القاعدة الرومانية: «لا عقوبة على مجرد الفكر». وقد عبّرت عنها أيضًا الثقافة الشعبية، كما في الأغنية الألمانية التي تقول: «قد يُسجَن الجسد، لكن الأفكار تبقى حرّة»، مؤكدّة أن الفكر لا يُطال ولا يُقيد. فمهما أمكن معرفة بعض ما يدور في عقولنا، يبقى التفكير جوهرًا عصيًا على الإخضاع. وهذا ما أشار إليه جون لوك بقوله إن «الفهم البشري لا يُكرَه على الإيمان بقوة خارجية». والأمر نفسه ينسحب على العواطف، إذ لا يمكن إجبار الإنسان على حبّ ما يكره أو الاستمتاع بما ينفر منه، لأن الحرية الداخلية تبقى من صميم الطبيعة الإنسانية.(37)

غير أنّ هذا التحصين المزعوم للإدراك والعاطفة لا يُعفينا من الحاجة إلى فهم ما الذي يمكن أن يشمله مفهوم «حرية التفكير»، وما إذا كان القانون ينبغي أن يحميه وكيف. فحتى لو كان القاضي ميرفي Murphy محقًّا حين قال إنّ «الحكومة عاجزة عن السيطرة على الآليات الباطنية للعقل»، فإنّ عمل العقل ليس دائمًا «باطنيًّا». وقد أقرّ القاضي نفسه بأنّ الفكر يمكن أن يُعاقَب عليه من قِبل الدولة عندما يُعبَّر عنه بالكلام أو يتجلّى في سلوك آخر. وعلاوة على ذلك، يقدّم لنا التاريخ أمثلة كثيرة على حكّام وحكومات قاموا بتغيير الأفكار والمعتقدات بالقوّة أو بالترغيب، بدءًا من محاكم التفتيش وصولًا إلى معسكرات «إصلاح الفكر». إنّ القسر يُمارَس من الخارج، عبر الحبس أو الإقصاء الاجتماعي، لكنّه يستهدف في النهاية التأثير على الفكر، بل وقد ينجح أحيانًا في ذلك.(38)

تخذ محاولات التأثير في الفكر الإنساني أشكالًا متجددة، وقد حذّر عدد من المفكرين من أن المجتمعات الحديثة تمنح السلطات ـ الحكومية وغيرها ـ نفوذًا متزايدًا يهدّد التفكير النقدي والاستقلال العقلي. وفي هذا السياق، نبّه برتراند رَسِل في محاضرته أمام جماعة التفكير الحر بلندن إلى أن حرية التفكير تواجه «مخاطر جديدة» تتمثل في التعليم الموجّه، والدعاية الرسمية، والضغوط الاقتصادية التي تفرض على الأفراد آراء مقبولة اجتماعيًا. ودعا رَسِل إلى تنمية «إرادة الشك» باعتبارها السلاح الأهم في مواجهة هذه الأخطار، مذكّرًا بأنّ كل معتقدٍ بشري يظلّ ناقصًا ومحاطًا بشيء من الخطأ والالتباس.(39)

علاوة على ذلك، ففي حين كان برتراند رَسِل قد أعرب عام 1922 عن قلقه من أنّ التحوّلات في المجتمع والسياسة والتعليم ستُفضي إلى أشكال جديدة وأكثر قوة من التلاعب بالأفكار – وربما أيضًا إلى أساليب مبتكرة لضمان الاستقلال الذهني – فإنّ لنا سببًا وجيهًا لنسأل ما إذا كانت التغيّرات التكنولوجية المذهلة في عصرنا الراهن ستعيد تشكيل ليس فقط طبيعة التهديدات التي تواجه حرية التفكير، بل أيضًا طرائق حمايتها، ومدى إمكانية إرسائها حيث تكون غائبة، وربما كذلك الكيفية التي ينبغي للمحاكم والباحثين القانونيين والفلاسفة وغيرهم أن يعرّفوا بها مفهوم «حرية التفكير». وهذا التحوّل العلمي والتقني في كيفية فهمنا للتفكير، وما يعنيه امتلاك حرية التفكير، هو ما سيتناوله هذا المجلّد، وما ستستكشفه الأبحاث اللاحقة في سلسلتنا. فهذا التحوّل يطرح تحدّيات جديدة أمام الافتراض القائل بأنّ أفكارنا غير المعبَّر عنها لا تحتاج إلى حماية قانونية، لأنّ أقوى مسؤول، مهما بلغ سلطانه، يظلّ «عاجزًا عن السيطرة على الآليات الباطنية للعقل».(40)

إن مفهوم الحرية يعد أحد أهم نقاط الالتقاء بين الفروع التقليدية للفلسفة النظرية والفلسفة العملية، فالعلاقة بين الحرية والفلسفة عميقة. فالتفكير في الحرية يكشف أن شروط تحققها تشمل ليس فقط بعض التطورات الاجتماعية والسياسية، بل أيضًا ممارسة الفلسفة ذاتها. وبعبارة أخرى، الفلسفة محررة بشكل مباشر وغير مباشر: فهي تسهم بشكل غير مباشر في الحرية من خلال صياغتها للشروط الاجتماعية والسياسية لتحقيقها، كما تسهم مباشرة في الحرية لأن الحرية ليست فقط موضوعًا يفكر فيه الفلاسفة، بل هي أيضًا شيء يُنتج من خلال التفكير الفلسفي.(41)

الحرية هي قدرة الإنسان على التصرف دون قيود، وفق شهواته، ومصالحه، وأهدافه، مع قدرته على تقرير الذات في اختياره للعمل دون الإضرار بالآخرين. يُعد مفهوم الحرية مصطلحًا واسع الاستخدام في مجالات مختلفة. فقد اكتسبت الحرية كفكرة معنى واسعًا في الأدبيات الفلسفية، واللغة الاجتماعية واليومية. وقد تناول هذا المصطلح فلاسفة متنوعون.(42)

شغلت حرية الفكر موقعًا محوريًا في التاريخ الغربي منذ محاكمة سقراط ومعاقبته بسبب آرائه، مرورًا بقيود الفكر التي فرضتها العقائد الدينية والممارسات التفتيشية في العصور الوسطى. وفي العصور الحديثة، تناول مفكرون مثل جون لوك وبيير بايل وبنجامين كونستان وجيفرسون وجون ستيوارت مل هذا الحق مؤكدين أنّ الفكر بطبيعته لا يخضع لسلطة الدولة، لأنها لا تملك الوسائل لقهره حتى إن أرادت. وقد واجهت هذه الرؤية اعتراضات من بعض الفلاسفة، لكنها ظلت حجر الزاوية في الدفاع عن حرية الضمير. ومع التطور التقني المعاصر، خصوصًا في تقنيات مسح الدماغ والإجراءات القانونية التي تمسّ خصوصية الوعي، تجددت الإشكالية حول حدود هذه الحرية في مواجهة أدوات المراقبة الحديثة.(43)

والحقيقة أنه لا تكاد توجد سوى قلة من المفاهيم السياسية والفلسفية تضاهي عظمة حرية التفكير. فجذورها تمتد على الأقل إلى العصر الروماني، وهي تُعَدُّ ربما الشعار الأبرز لعصر التنوير؛ ذلك الشعار الذي صاغه كانط بعبارته الشهيرة "لتكن لديك الشجاعة في أن تفكر بنفسك" بدلًا من التسليم الأعمى للسلطات. وبارتباطها الوثيق بحرية التعبير، فإن حرية التفكير تمهّد السبيل للنظم القانونية الليبرالية وللمنهج العلمي، كما تمهّد للديمقراطية ولعملية نزع القداسة عن العالم. وبهذا المعنى، فقد غيّرت حرية التفكير على نحو عميق شرط الإنسان. ومن هنا يمكن القول إن حرية التفكير تشكّل الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات الحديثة.(44)

مقالة كانط بعنوان "الإجابة على سؤال: ما هو التنوير؟"، التي نُشرت في مجلة برلين الشهرية عام 1784، تقدّم صياغة نموذجية وكلاسيكية الآن لمشكلة وأهمية "الحرية الفكرية". العائق أمام الحرية الفكرية هو "القصور الذاتي المفروض على النفس تقريبًا". هذه الحالة المتمثلة في "العيش تحت سنّ الرشد (الفكري)"، أي البقاء في حالة تبعية دائمة، تعود إلى "نقص الشجاعة" في التفكير لأنفسنا، وهو نقص يغذّيه الخوف من القيام بذلك ويعزّزه أولئك الذين يعملون كـ"موجّهينا". فالحرية الفكرية هي "الاستخدام العام الحر للعقل في كل الأوقات"، وهو ما وحده "يمكن أن يجلب التنوير للبشرية".(45)

2- الفلسفة كمصدر لتحفيز الذات نحو الكمال.

ترى الليدي آيريس مردوخ (1919–1999) أن الأخلاق مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتحسين الذات والسعي نحو الكمال، وأنّ دراسة الأدب الخيالي تؤدي دورًا مهمًا في مسعانا المستمر والدائم نحو التطور الأخلاقي.(46)

فمن منظورها، لا يُعدّ الفعل الأخلاقي مجرد تطبيق لمبدأ نظري أو استجابة لواجب خارجي، بل هو حركة داخلية للوعي تتّجه نحو "الرؤية الصافية" للخير. وبهذا تصبح الفلسفة والأدب معًا وسيلتين لتطهير النفس من الأوهام، وصقل الإرادة في طريقها نحو السمو والكمال.

وبوصفها ثمرة مباشرة لتأملات الحضارة وإدراكها، والتي تبلورت عبر قرون طويلة من التفكير في مختلف أبعاد الكينونة الإنسانية ومظاهر الوجود، سعت الفلسفة المسيحية المتجسّدة في الحكمة الكتابية إلى فكّ شيفرة التعدّد الكامن في ظاهرة التحوّل الأخلاقي الذاتي، تلك الظاهرة التي كُتبت في صميم الطبيعة البشرية وقدَرها. وفي هذا السياق، فإن السعي نحو المطلق، من خلال التأمل الديني في الأفكار والمفاهيم والرموز، يُجسّد توجّهًا استباقيًا نحو الفهم، إذ يحاول الإنسان عبره استكشاف معنى اكتماله الأخلاقي وإدراك أبعاده المتشابكة التي تجمع بين الروحي والعقلي والوجودي.(47)

إنّ التوجيهات الأخلاقية الواردة في القصص الكتابية، التي تتناول الترابط بين الخطيئة والعار والندم والغفران بوصفها مبادئ توجيهية لأفعال الإنسان اليومية، تُسهم على نحو حاسم في صياغة غايته الجوهرية المتمثلة في الكمال الأخلاقي. إذ تتداخل هذه الغاية مع الأسئلة الأصلية للأخلاق حول العلاقة بين الكينونة والحاجة، والوعي الأخلاقي والضمير، والحرية والاختيار، والفضائل والفعل والحكم الأخلاقي. فالنصّ الكتابيّ يتضمّن استبصارات ثمينة حول كمال الإنسان الأخلاقي المهيأ له نوعيًّا، وهو ما تسعى الأخلاق الفلسفية إلى النظر فيه وتفسيره من خلال إقامة صلات بين هذا الكمال وبين الخصائص المحورية في الطبيعة الإنسانية.(48)

ويمكن للمرء أن يجد تعدّدًا في مفاهيم الكمال عند كانط. ففي مقاله ما قبل النقدي عن التفاؤل، يميّز كانط بين نوعين من الكمال:

الأول هو الكمال المطلق، بوصفه درجة من درجات الواقع من دون علاقة بأي شيء آخر؛ والثاني هو الكمال النسبي، وهو الكمال في علاقة بقاعدة أو مبدأ محدّد. وهنا ينصبّ اهتمامه على فكرة «أفضل العوالم الممكنة». وفي نقد العقل الخالص، يتحدث كانط عن الكمال بوصفه الوحدة الغائية الكاملة للطبيعة. أما في أساس ميتافيزيقا الأخلاق، فيشير إلى ما يسميه «المفهوم الأنطولوجي للكمال»، ويخلص إلى أنه غير صالح كأساس للأخلاق. وفي نقد العقل العملي، يميّز بين الكمال النظري والكمال العملي، أي الملاءمة لتحقيق الغايات. ويُفهم الكمال هنا باعتباره تنميةً للمواهب، غير أنّ كانط يرى أنّ هذا المفهوم غير كافٍ لتأسيس الأخلاق. أما في نقد ملكة الحكم، فيقارن بين الحكم الذوقي وفكرة الكمال، حيث يرتبط الثاني بالغايات دون الأول.(49)

ويقدّم كانط تمييزًا آخر بين نوعين من الكمال:الأول هو الكمال النوعي، الذي تُحدّد الغاية ما ينبغي أن يكون عليه الشيء؛ والثاني هو الكمال الكمي، المتعلق بماهية الشيء في ذاته. وفي الدين في حدود العقل وحده، يتحدث كانط عن الكمال الطبيعي ويفسّره على أنه المهارة في الفنون والعلوم والذوق ورشاقة الجسد، لكنه يرى أن هذا النوع من الكمال لا يمكن أن يسهم في تأسيس الأخلاق. كما نجد في الأنثروبولوجيا من منظور براغماتي فكرة شبه أفلاطونية عن الكمال الداخلي تتمثل في سيطرة الفهم على الحساسية. أما في المنطق، فيتحدث كانط عن كمال المعرفة مميّزًا بين الكمال المنطقي والجمالي المرتبط بالجمال.(50)

وعلى وجه العموم، هناك تلاقي بين مشروعي التنوير والكمال عند كانط، فكلاهما يشترك في تنمية قدرات الإنسان النظرية والعملية. وفوق ذلك، فإنّ الكرامة الإنسانية تُذكَر كسبب جامع للحالتين معًا. فحديث كانط عن التنوير وحديثه عن الكمال يشيران إلى مشروع فلسفي واحد يسعى إلى تحقيق الارتقاء العقلي والأخلاقي للإنسان، ولا يمكن فهم أيٍّ منهما بمعزل عن الآخر. فالتنوير والكمال ليسا متطابقين، ولكنهما مترابطان ترابطًا وثيقًا، إذ لا وجود لأحدهما دون الآخر. وهذا هو مجمل موقف كانط، كما عرضه في ميتافيزيقا الأخلاق.(51)

المحور الرابع: أزمة العالم المعاصر وحاجته إلى الفلسفة

في عام 399 ق.م، اتُّهم سقراط من قبل ثلاثة مواطنين أثينيين بإدخال أفكار دينية جديدة وإفساد الشباب، ومخالفته لعبادة آلهة المدينة، وطُلبت له عقوبة الإعدام. واجه سقراط التهم بثبات نادر، متمسكًا بمبادئه الفلسفية رغم منحه فرصة للتراجع. وفي محاكمة أفلاطونية شهيرة، أعلن أنه لن يتوقف عن ممارسة الفلسفة أو البحث عن الحقيقة ما دام حيًّا، مؤكّدًا أن الموت لا يغيّر من قناعاته. وهكذا اختار طريق الشجاعة الفكرية حتى النهاية، فكان موته لحظةً فارقة في تاريخ الفلسفة ورمزًا خالدًا لحرية الفكر والضمي.(52)

صرّح أفلاطون بأن الفلسفة هي عطية من الآلهة وُهِبت للبشر. وقد يعكس هذا قدرة الإنسان على التفكّر في العالم وكذلك في حياته ضمنه ، وفي ضوء هذا، قد يكون من المفيد تهديد القارئ بهذا التحذير: إذا لم تأخذ الفلسفة بجدية، فسوف تتحوّل إلى يقطينة!.(53)

لا شك أن دراسة الفلسفة تلهم الفرد لتطبيق رؤاها في حياته اليومية، من خلال ممارسة التفكير النقدي والتأمل في المعتقدات والدوافع والأبعاد الأخلاقية للأفعال. كما تدعو إلى التواضع الفكري والانفتاح الذهني، أي تقبّل الآراء المخالفة والاستعداد لتغيير المواقف عند ظهور أدلة جديدة. وبذلك يسهم التفكير الفلسفي في تنمية النضج العقلي والاتزان، والابتعاد عن التعصب والجمود الفكري.(54)

يمكنك تعزيز حضور الفلسفة في حياتك من خلال المشاركة في حوارات فلسفية تتناول قضايا أخلاقية أو وجودية، مما يوسّع أفقك الفكري ويصقل رؤيتك. كما يساعدك تخصيص وقت لقراءة النصوص الفلسفية، سواء الكلاسيكية أو الحديثة، على تعميق فهمك للمفاهيم الفكرية وتنمية الحس النقدي والتأملي تجاه العالم. وبممارسة التفكير الفلسفي والتحلي بالتواضع الذهني والانفتاح على النقاش، تغدو الفلسفة وسيلة لتقوية قدراتك العقلية وتوسيع مداركك.(55)

في عالمنا اليوم، نجد أنفسنا محاطين ببيئات أشد خطورة من تلك التي واجهتها أمم أخرى عبر التاريخ. نحن نعيش في ظل حضارة بلغت أعلى مستويات التطور، لكنها تبدو وكأنها تسابق ذاتها نحو الدمار. حضارة تفتقر إلى أسس روحانية راسخة، وتنغمس في الشر والخداع، مبتعدة عن النزاهة والأخلاق، خالية من القيم الدينية، ومثقلة بالفساد.(56)

العالم ما يزال بعيدًا عن الكمال، فهو يعيش في حالة من الفوضى والارتباك. وهذه الفوضى لن تتوقف عند هذا الحد، بل ستتبعها اضطرابات أخرى قد تؤدي إلى زعزعة أسسه بشكل أكبر. لا تظنوا أن المؤتمرات التي انعقدت أو تلك التي ستُعقد لاحقًا قادرة على تهدئة حالة التوتر والاستياء المنتشرة في العالم، أو معالجة الشعور العام بعدم الرضا الذي يعاني منه البشر.(57)

طالما أن الظلم مستمر، والقوي يستغل الضعيف، والدول الكبرى تتآمر فيما بينها لقمع الأضعف، مع إبقاء الأكثر بؤسًا في دائرة الاستعباد ونهب الموارد واستغلالهم، فإن عوامل الحرب ستظل تتصاعد بفعل الانتقام والكراهية والغضب. المستقبل القريب قد يحمل لنا أشد الصراعات دموية على الإطلاق، حيث إن الحضارة الحديثة تسير بخطى ثابتة نحو انهيارها.(58)

في الوقت الحاضر، يتردد كثيرًا الحديث حول تحقيق السلام العالمي. بالرغم من أن العديد من قادة العالم قد أبدوا التزامهم بخطط تهدف إلى إحلال السلام، إلا أن المؤتمرات المختلفة، سواء كانت سياسية أو صناعية، التي انعقدت لتناول هذه القضية لم تنجح حتى الآن في وضع أساس قوي لسلام حقيقي ودائم. من الواضح أن السلام العالمي لا يمكن الوصول إليه عبر الاجتماعات السياسية أو الصناعية فقط. إذا كنا نطمح إلى تحقيق سلام شامل، فإن ذلك يتطلب تنظيم مؤتمر عالمي يجمع بين مختلف الأعراق والجنسيات للتفاهم والتعاون المشترك.(59)

1- التحديات الأخلاقية والإنسانية في زمن التقنية

لقد شكّلت التطورات التكنولوجية المتواصلة في العصر الرقمي حياتنا بطرق لا حصر لها، محوّلةً أساليب الاتصال والتسوق وفهمنا للعالم من حولنا. وبينما مهّدت هذه الابتكارات لعصر من الاتصال غير المسبوق والتواصل الوثيق، فإنها في الوقت نفسه كشفت عن متاهة من المعضلات الأخلاقية، مما يتطلب فحصًا دقيقًا للتداعيات الاجتماعية لقراراتنا الرقمية. فالمشهد الأخلاقي للعصر الرقمي يتعلّق بتحليل التحديات المتعددة الأبعاد التي تفرضها التكنولوجيا، والسعي إلى تقديم إطار عمل موحد للابتكار المسؤول.

في صلب هذه القضايا نجد التكنولوجيا التي قد تزيد من عدم المساواة الاجتماعية القائمة؛ فالانحياز الخوارزمي، وهو قضية مستمرة في العالم الرقمي، يحمل في طياته التمييز والتحامل ويعزز ديناميات القوة الاجتماعية، مما يحدّ من الفرص المتاحة للفئات المهمّشة. كما أثارت التقنيات الرقمية الكبرى مخاوف متزايدة بشأن الخصوصية وأمن البيانات، حيث أدى جمع وتحليل كميات هائلة من المعلومات الشخصية إلى خلق فرص غير مسبوقة للمراقبة والتلاعب، مما يُلقي بظلاله على حرية الفرد والموافقة المستنيرة والتحكم بالمعلومات الشخصية.(60)

وتنبع الأخلاقيات من كونها مدوّنة سلوك تُحدَّد من قبل الجماعة التي ينتمي إليها الفرد. وهي تتغير مع مرور الزمن تبعًا لاحتياجات المجتمع وقيمه المتطورة، إذ تمكّن الأفراد من العمل بتناغم من أجل تحقيق منافع متبادلة كالأمن والعدالة والوصول إلى الموارد. أما المبادئ الأخلاقية الشخصية فهي المعتقدات الجوهرية التي يستند إليها الإنسان في قراراته، مثل احترام الآخرين والصدق والأمانة، وهي التي تشكّل البوصلة الداخلية لتوجيه أفعاله.(61)

وفي الحياة اليومية، يُختبر هذا البعد الأخلاقي في قرارات بسيطة لكنها حاسمة:هل يجوز الكذب لحماية مشاعر شخص ما؟ هل يجب التدخل لمساعدة زميل يعاني من مشكلة اعتماد كيميائي؟ هل يُسمح بالمبالغة في السيرة الذاتية؟ وهل يمكن التهاون في العمل لتلبية موعدٍ ضيق؟ هذه الأسئلة الأخلاقية الصغيرة تُشكّل في مجموعها البنية الأخلاقية للفرد والمجتمع معًا.(62)

وقد نبّهت تحليلات حديثة إلى أن التقنيات محمّلة بالقيم والتحيّزات التي يعكسها مطوّروها، سواء كان ذلك مقصودًا أو غير مقصود. فحين يُدرَّب الذكاء الاصطناعي على بيانات منحازة، تنتقل تلك الانحيازات إلى مخرجاته. ومن ثم، تقع على عاتق صانعي القرار والمشرّعين مسؤولية تحديد التحيّزات المضمّنة في التكنولوجيا، والتفريق بين ما يتعارض مع القيم الإنسانية وما يمكن تقبّله، إلى جانب ضرورة وضع معايير أخلاقية دنيا لتطوير التكنولوجيا وتطبيقاتها.(63)

إن أخلاقيات التكنولوجيا تمثل تطبيق التفكير الأخلاقي على القضايا العملية التي تثيرها التطورات التقنية. ومع التوسع الهائل في قدراتنا التقنية، لم تعد الأفعال مقيدة بضعف الإنسان بل بحكمته، أي بأخلاقياته. وقد أفرزت هذه التطورات تساؤلات جديدة لم تكن مطروحة من قبل، مثل معيار الوفاة الدماغية الذي لم يكن مطروحًا قبل تطور الأجهزة الطبية الحديثة، أو مشكلات التواصل الاجتماعي التي تتعلق بالأخبار الكاذبة، والخصوصية الرقمية، والمساءلة القانونية في الفضاء الافتراضي.(64)

ولذلك برزت في السنوات الأخيرة تفسيرات فلسفية جديدة للتكنولوجيا، لا تراها محايدة، بل تعتبرها محملة بالقيم. فهناك قيم داخلية ترتبط بأهداف التكنولوجيا وعملياتها ونتائجها، مثل الكفاءة والموثوقية والعقلانية، وهناك قيم خارجية تتعلق بتأثير التكنولوجيا على الإنسان والمجتمع والطبيعة. هذا التمييز يوضح أن التكنولوجيا ليست مجرد أدوات، بل هي أيضًا حاملة لغايات وقيم إنسانية تتداخل في تشكيلها.(65)

ومن زاوية أوسع، يمكن القول إن التحولات التكنولوجية المعاصرة أحدثت تأثيرات جذرية وعميقة طالت الفلسفة والمجتمع والاقتصاد والرؤية الكونية ذاتها. لقد دخل العالم في ثورة علمية وتكنولوجية تفوق الثورة الصناعية من حيث عمقها وتأثيرها، إذ غيّرت التكنولوجيا الإلكترونية طرائق التفكير الإنساني ونظرته إلى ذاته وإلى الكون. حتى مفهوم "العالم" ذاته أعيد تعريفه في ظل هذه التحولات، التي أعادت صياغة العلاقة بين الإنسان والمعرفة والوجود.(66)

ومن هذا المنطلق، تُعد الفلسفة عنصرًا نقديًا ضروريًا لتطوير الأخلاق السليمة، إذ إن غيابها يؤدي إلى إفلاسٍ أخلاقيٍ للمجتمع، يترتب عليه فسادٌ عامٌّ وتفككٌ في المسؤولية. ومن ثمّ، تسهم الأخلاقيات الفلسفية في إعادة توجيه المجتمع نحو الانضباط الذاتي والوحدة، وتوفّر الإطار اللازم لاتخاذ القرارات الرشيدة التي تُسهم في بناء الأمة. كما تساعد الفلسفة الاجتماعية والسياسية على معالجة قضايا العدالة والمسؤولية الأخلاقية من خلال مناهج متنوعة كالعواقبية وأخلاق الواجب والفضيلة، التي تمنح الأفراد والمجتمعات أفقًا أوسع للفهم والمساءلة.(67)

وفي النهاية، فإن التكنولوجيا الحديثة تمسّ كل ما هو جوهري في الوجود الإنساني — ماديًا وعقليًا وروحيًا. فهي تؤثر في أنماط الحياة، وطريقة التفكير، وتشكيل الأهداف، وصوغ السياسات، بل وتمتد إلى معنى الحياة ومصير الإنسان ذاته. ومن هنا تبرز الحاجة إلى فلسفة للتكنولوجيا تكون قادرة على احتواء هذه التحولات، وتربط بين العلم والأخلاق والسياسة، لتقدّم رؤية متكاملة للإنسان في عصر التقنية. إنها ليست فرعًا فلسفيًا جزئيًا، بل مشروع شامل يسعى إلى فهم حقيقة الإنسان في عالمٍ بات يُعاد تشكيله باستمرار بفعل الآلة والعقل.(68)

2- الفلسفة كصوت نقدي لمواجهة أزمات العصر

إنّ الحياة الاجتماعية إنجازٌ دقيق ومعقّد. ففي العادة، يجعلنا السطح اليومي للمؤسسات والممارسات الاجتماعية ننسى أن ما يبدو عليه العالم الاجتماعي من وحدةٍ وثباتٍ واستقرارٍ ظاهري، إنما هو في جوهره هشٌّ، خالٍ من الأسس النهائية الثابتة. تتحرك هذه الهشاشة في صمتٍ خفيٍّ لا يكاد يُرى، إلى أن ينكسر شيءٌ ما، وحينها — كما في زلزالٍ اجتماعيٍّ — يضطرب الإحساس العام بالنظام. وهنا تنشأ الأزمة: اللحظة التي يغدو فيها العالم من حولنا إشكاليًا ويفقد طابعه كظاهرةٍ موحّدةٍ وطبيعية. عندئذٍ تتضافر مشاعر الضيق والانقطاع واللايقين، لتجعل من الأزمة لحظةً ناضجة للتساؤل حول الطابع المألوف للمعايير الاجتماعية وقابلية الوقائع الاجتماعية للفهم.

تمثّل الأزمة لحظة يتوقف فيها استقرار الواقع الظاهري، إذ تُثير التساؤل حول ما نعدّه ثابتًا ومبررًا. فهي تدفعنا إلى طرح أسئلة جوهرية مثل: أين نحن؟ وما الذي اختلّ؟ وكيف يمكن تجاوزه؟ ومن خلال هذا التساؤل، ينكسر وهم الاكتمال ويُكشف عن حدود أنماط حياتنا ومعاييرنا الراسخة. فالتساؤل فعل نقديّ يحرّرنا من وهم الصلابة والسيطرة، ويتيح لنا مساءلة المعايير السائدة وكشف التناقضات الكامنة في بنية المجتمع.(69)

تضطلع الفلسفة بدور نقدي بنّاء في حياة الأمم، إذ تمثل مصدرًا للمبادئ الأخلاقية التي تُوجّه مسار البناء والتطور. ومن خلال التفكير النقدي والانفتاح الذهني، تتيح إعادة النظر في النماذج والسياسات القائمة بصورة أكثر عقلانية وعدلاً. وبدون هذا الدور، يفقد البناء الوطني مضمونه، إذ تُصبح المؤسسات فارغة من المعنى ما لم يُدعَمها وعيٌ فلسفي قادر على توجيهها أخلاقيًا. وهكذا، تُسهم الفلسفة في إرساء وعي نقدي يُمكّن القادة والمواطنين من مراجعة معتقداتهم وصياغة مشروع وطني يقوم على التكامل والمسؤولية المشتركة.(70)

يقوم المشروع النقدي للفلسفة على إيمانٍ بأن بناء الأمة يبدأ ببناء الإنسان ذاته، لأن تقدم المجتمعات مرهون بوعي أفرادها بذواتهم ومشكلاتهم المشتركة. فتعزيز الوعي الأخلاقي والمعنوي هو الخطوة الأولى نحو تحقيق الانسجام الاجتماعي والعدالة والمساواة والرفاه العام. ويؤكد أوموريجب Omoregbe أن الطابع الأخلاقي للمجتمع نابع من طبيعة الإنسان بوصفه كائنًا اجتماعيًا وعاقلًا، فيما يرى أودويديم Udoidem أن المجتمع والأخلاق متلازمان، إذ تمثل القيم الأخلاقية الأساس الذي يُبنى عليه كيان الأمة واستقرارها.(71)

تُعد التربية والتعليم الفلسفي من أهم الوسائل لبناء الوعي النقدي، إذ يحرران الإنسان من الجهل، ويمنحانه القدرة على مراجعة المعتقدات السائدة وتوسيع آفاق التفكير. فبترسيخ مهارات النقد والتحليل، يصبح المتعلم مواطنًا فاعلًا يسعى للتغيير الواعي والبنّاء، لا مجرد متلقٍّ للتنمية. ويرى ليوتار Lyotard أن الفلسفة يجب أن توحّد مجالات التعلم المتفرقة عبر "سردٍ عقلاني" يربط العلوم المختلفة بوصفها مراحل في تطور الوعي الإنساني.(72)

وفي الختام، يمكن القول إنّ التفكير الفلسفي هو أداة الإنسان لمواجهة الاضطراب واللايقين في عالمٍ متسارع التحولات. فالتفلسف الحقيقي يقوم على التواضع الفكري، وتنمية روح الفضول، والبحث الصادق عن الحقيقة. ومن خلال تبنّي هذه المبادئ، يستطيع الأفراد أن يكوّنوا ذهنية نقدية ومنفتحة تُعينهم على التعامل مع تعقيدات الحياة. وهكذا تُصبح الفلسفة صوتًا نقديًا وإنسانيًا في مواجهة أزمات العصر، تُعيد للإنسان وعيه بذاته وبالعالم، وتمنحه القدرة على تحويل التساؤل إلى بصيرة، والوعي إلى فعلٍ أخلاقيٍّ بناء.(73)

المحور الخامس: مناهج التفكير الفلسفي وأهميتها

1- مناهج التفكير الفلسفى

إنّ دراسة مناهج التفكير الفلسفي تمثل المدخل الأعمق لفهم طبيعة الفلسفة نفسها، إذ تقوم هذه المناهج على أدوات التحليل والنقد والتأمل والجدال بوصفها وسائل فاعلة لاكتشاف الحقيقة وإدراك المعنى. ومن هذا المنطلق، يمكن تتبّع أبرز هذه المناهج كما تبلورت في التاريخ الفلسفي، بدءًا من المنهج السقراطي وصولًا إلى المنهج الشكي.

أ- المنهج السقراطي

يقوم المنهج السقراطي على حوارٍ تحليلي يهدف إلى تفكيك الآراء السائدة وكشف تناقضاتها، سعيًا للوصول إلى الحقيقة عبر النقاش لا عبر التلقين. ويتظاهر المعلم بالجهل ليحفّز المتحاور على التفكير الذاتي، مستعينًا بالاستجواب والفحص العميق للمفاهيم. وتقوم هذه الطريقة على إدراكٍ دقيق للعلاقات بين عناصر المسألة المطروحة وطريقة تفكير المحاوَر، ويمكن تلخيصها في سلسلة من الخطوات الجدلية المنظمة التي تهدف إلى إيضاح الحقيقة عبر العقل والحوار.

1- افتراض المعلم جهله بالحقيقة، المعروف بالسخرية السقراطية، يمثل نهجًا قائمًا على التواضع الفكري والتركيز على القضايا الجوهرية في بناء الحجة. كما هو الحال مع ديكارت، يُعد هذا النهج ضروريًا لاستكشاف أعماق الحقيقة وفهمها بشكل أعم.

2- أسلوب الحوار أو المحادثة يُعد تقنية فعّالة تهدف إلى الكشف عن الحقيقة من خلال إدراك أن هناك معرفة جوهرية بالحق والخير تكمن في أعماق كل إنسان. ويأتي ذلك رغم أن الشخص قد يصل أحيانًا إلى استنتاجات متسرعة بناءً على ملاحظات غير ناضجة أو تحيزات شخصية. يمكن تسليط الضوء على هذه الحقيقة المشتركة بين البشر بواسطة التحليل الدقيق والتفكير الجدلي والتحقيق القائم على السؤال والجواب. تُعرف هذه الطريقة في كثير من الأحيان بـ "فن التوليد الفلسفي".

3- إرساء المفاهيم والتعريفات الدقيقة يمثل خطوة أساسية تُسبق محاولة فهم كيفية تطبيقها عمليًا في جوانب الحياة المختلفة.

4- فن الانتقال من الحقائق الملاحظة إلى حقائق أكثر شمولية يعتمد على اتباع المنهج الاستقرائي في التفكير. كما أن منهج سقراط يتسم بكونه استنتاجيًا، حيث يقوم باستخلاص النتائج والتداعيات المرتبطة بمفاهيم محددة ومن ثم الحكم على مدى صحتها. (74)

ومن المنهج السقراطي الذي يجعل من الحوار وسيلة لاكتشاف الحقيقة، ينتقل التفكير الفلسفي إلى المنهج الأفلاطوني، الذي وسّع نطاق الحوار إلى رؤية جدلية متكاملة.

ب- المنهج الأفلاطوني

المنهج الجدلي التركيبي عند أفلاطون ركز بشكل أساسي على استكشاف العلاقة السببية بين الفكر والوجود. وقد ارتكز هذا المنهج على تجميع العناصر المتناثرة لتحقيق تشكيل فكرة أو مفهوم واحد شامل، تليها عملية تحليل دقيقة لهذا المفهوم عبر تصنيفه وترتيبه ضمن فئات محددة. الهدف الأساسي كان الوصول إلى الحقيقة عن طريق تأسيس مفهوم أو مبدأ صحيح يمكن البناء عليه. على سبيل المثال، إدراك طبيعة الحق والخير هو شرط أساسي لفهم معنى الحق أو تحديد صفات الرجل الصالح. (75)

وإذا كان أفلاطون قد ربط الفكر بالوجود في وحدة جدلية، فإن الفلسفة النقدية عند كانط تمثل تطورًا جديدًا في تحليل شروط المعرفة وحدودها.

ت- المنهج الكانطي

يقدّم المنهج النقدي أو الترانسندنتالى عند كانط رؤية جديدة لتقييم المذاهب الفلسفية السابقة، إذ يسعى إلى الموازنة بين التجريبية والعقلانية من خلال تحليل شروط المعرفة وحدودها. فالمعرفة، عنده، تُستمد مادتها من الحواس، لكنها تكتسب طابعها الكلي والضروري من الفهم الذي ينظمها وفق مقولاته. غير أن ما ندركه ليس الواقع في ذاته، بل بناء ذهني ناتج عن تفاعل الحواس مع مقولات الفهم. ولأن الإنسان يفتقر إلى حدسٍ عقلي مباشر، تبقى معرفته مقصورة على الظواهر دون جوهر الأشياء. ومن ثم، فإن تصورات العقل عن الواقع ليست حقائق نهائية، بل صيغٌ فكرية يفرضها العقل لتنظيم التجربة الإنسانية وتوجيهها.(76)

ومن هذا الأساس النقدي الذي وضعه كانط، انطلق هيجل ليؤسس منهجه الجدلي الذي يجمع بين النفي والتوليف في حركة فكرية متصاعدة.

ث- المنهج الهيجلي

تجاوز هيجل المنهج النقدي لكانط بتشييد نظامٍ فلسفي مثالي يقوم على المنهج الجدلي، الذي يرى أن تطور الفكر والوجود يتم عبر صراعٍ وتجاوز مستمرين. تقوم الجدلية عنده على ثلاث مراحل: الأطروحة، النقيض، ثم التوليف الذي يوحّد بينهما في مستوى أرقى. هذا التوليف لا يُلغي التناقض، بل يدمجه في وحدة أشمل تتضمنه وتسمو عليه. وتستمر العملية في حركة تصاعدية متواصلة نحو توليفات أوسع وأكمل، تنتهي في المطلق الذي تتلاشى فيه التناقضات داخل وحدة كلية متكاملة. وبهذا، يغدو المنهج الجدلي عند هيجل مسارًا لتطور الوعي والحقيقة في آنٍ واحد.(77)

وإذا كان هيجل قد جعل الجدل طريقًا إلى المطلق، فإن البراجماتيين جعلوا من العمل والمصلحة الإنسانية معيارًا للحقيقة.

ج- المنهج البراجماتي

وفقًا للمنهج البراجماتي، يتحول كل ما هو حقيقي إلى واقع حي عندما يسير نحو نشاط يحمل في طياته نتائج مثمرة تتجاوز السطح. ينبغي أن يكون تحقيق المصالح الأساسية للإنسان هو البوصلة التي توجه خطواتنا في فضاء الفلسفة. فالمصلحة الإنسانية، في عمقها، هي حجر الزاوية الذي يُبنى عليه كل جهد فلسفي، سواء كان ذلك على صعيد الأنشطة الجسدية، أو العقلية، أو حتى الأخلاقية والروحية. إن القيم هنا لا تُقاس بمجرد أقوال أو مفاهيم، بل تُحكم بمدى تأثيرها ونتائجها. ومقياس الحقيقة في هذا السياق هو قدرتها على التطبيق الفعلي والتفعيل في الحياة اليومية. (78)

ومن خلال هذا المنظور العملي، يصبح التحليل أداة ضرورية لتنقية الفكر وتوضيح المفاهيم، وهو ما يمثل جوهر المنهج التحليلي.

ح- المنهج التحليلي

اعتمدت الفلسفة منذ القدم على التحليل العقلي والمنطقي للأفكار والمفاهيم لفهم مكوناتها وعلاقاتها. غير أنها، بخلاف العلوم التجريبية، لا تحتاج إلى مختبر مادي، لأن موضوعها مفاهيم مجردة تُحلَّل داخل العقل نفسه، الذي يُعدّ مختبرًا دائم العمل. ويهدف المنهج التحليلي إلى توضيح الأفكار وتنقيتها من الغموض والتشابك. ومع مرور الوقت، نشأ في القرن العشرين اتجاهٌ فلسفي يُعرف بـ الفلسفة التحليلية، يرى أن وظيفة الفلسفة الأساسية – بل الوحيدة – هي التحليل ذاته.(79)

ومن التحليل الفردي للذهن تنتقل الفلسفة إلى الحوار الجماعي، باعتباره وسيلة لتكامل العقول وتوسيع الأفق المعرفي.

خ- منهج الحوار

يمتلك جميع البشر قدرات عقلية طبيعية، لكنها تختلف في حدودها ومجالات تميزها؛ فبينما يتفوّق بعضهم في الرياضيات أو اللغات، يبرز آخرون في الفنون أو الرياضة. وتتأثر هذه القدرات بالبيئة الاجتماعية والثقافية. ولأن الفرد قد يعجز عن الإحاطة بكل موضوع بمفرده، فإن التفكير الجماعي يتيح دراسة القضايا من زوايا متعددة، مما يمنح التفكير طابعًا أكثر شمولًا وتوازنًا. وتزداد أهمية هذا الأسلوب في الفلسفة، التي لا تعتمد على التجربة والاختبار، بل على الحوار وتبادل الأفكار، فيصبح النقاش الجماعي وسيلة للحد من التحيزات الشخصية وتعميق الفهم.(81)

استخدمت الفلسفة الهندية والغربية منهج الحوار منذ العصور القديمة وسيلةً رئيسة لاكتساب المعرفة. ففي الهند، كان التلاميذ يتلقّون الحكمة من معلميهم الـ«غورو»(المعلم) عبر حواراتٍ تعليمية تهدف إلى إرشادهم في طريق الفهم من خلال الأسئلة والإجابات المتبادلة. وقد تجسّد هذا الأسلوب في نصوص الأوبانيشاد، مثل حوار شفيتاكيتو وأودالكا في شاندوجيا أوبانيشاد، وحوار مايتريي ويادنيافالكيا في بريهد آرانيكا أوبانيشاد. كما ظهر الشكل الحواري في النصوص البوذية مثل ميليندابانا (أسئلة ميليندا)، وفي بهاجافاد جيتا التي تُقدَّم أيضًا في صورة حوار بين كريشنا وأرجونا.(82)

استخدم سقراط منهج الحوار بفعالية لافتة. كان يطرح على المشاركين من المستمعين أسئلة متنوعة في موضوعات متعددة، مثل: "ما الفضيلة؟" و"ما العدالة؟". وكان الناس يتقدمون بثقة للإجابة عن هذه الأسئلة التي تبدو بسيطة في ظاهرها. لكن سقراط كان يفحص إجاباتهم بدقة، ويُشير إلى الثغرات فيها، ويحثّهم على التفكير بصورة أعمق.وفي نهاية هذا الحوار، كان الناس يدركون جهلهم أو قصورهم الفكري. وبدرجة أو بأخرى، كانوا ينتقلون من حالة الالتباس إلى حالة من الوضوح.وقد سار أفلاطون، تلميذ سقراط، على نفس المنهج؛ فبدلًا من كتابة رسائل أو مقالات فلسفية، دوَّن تأملاته على شكل حوارات.(83)

ومن خلال الحوار الذي يسعى إلى التفاهم، يتشكل الجدل الذي يروم بلوغ الحقيقة عبر التفاعل النقدي المتبادل.

د- المنهج الجدلي

إلى جانب الحوار، استخدمت الفلسفة الهندية القديمة منهج الجدل (الفادا) Vada بوصفه أداة أساسية للبحث عن الحقيقة، لا مجرد مناقشة لفظية. فقد كانت تُعقد مناظرات فكرية منظمة يُناقش فيها طرفان قضية معينة من منظورين متعارضين. يبدأ الفادي بطرح رأيه (باكشا)، ثم يرد عليه البراتيفادي بحجج مضادة ويعرض موقفه الخاص. ويتم تبادل النقد والفحص المتبادل للحجج بروح عقلية بنّاءة، بمشاركة الحاضرين الذين يطرحون أسئلة، تحت إشراف ساباباتي، أي رئيس الجلسة الذي ينظم الحوار. وفي الختام، يُعلن الطرف الفائز وفقًا لقوة منطقه وإقناعه، مما جعل من الفادا مدرسة حقيقية للتفكير النقدي والمنطقي.(84)

اعترفت التقاليد الهندية القديمة بحقيقة أن الانفتاح الذهني وجوّ الحرية أمران لا غنى عنهما لاكتساب المعرفة. ومع ذلك، كان بعض الأشخاص يشاركون في الجدل بدافع التنافس والرغبة في التفوّق على الخصم. وكانت هذه المناظرات التنافسية تُعرف باسم جلبا (jalpa).وكان هناك آخرون يُجادلون لمجرد الجدل، حيث كانوا يستمتعون بالردّ على حجج خصومهم دون تقديم أي رأي خاص بهم. وكان هذا النوع من الجدل يُسمى فيتاندا (vitanda).لكن، وعلى الرغم من ذلك، ظلّ البحث عن الحقيقة هو الهدف المحوري في أي فادا (vada) حقيقي وصادق.(85)

وأخيرًا، يظهر منهج الشك كذروة التفكير النقدي، حيث يُستخدم الشك لا كغاية بل كوسيلة لبلوغ اليقين.

ذ- منهج الشك

استخدم رينيه ديكارت، الفيلسوف الفرنسي، ما عُرف بـ "منهج الشك" في تأسيس الفلسفة الغربية الحديثة. ورغم أن الشك يُنظر إليه عادةً بسلبية، فإنه عند ديكارت كان وسيلة عقلية لاكتشاف الحقيقة، لا طعنًا في الأشخاص أو نياتهم. ففي عصر ساد فيه تيار الشكّية الذي أنكر إمكانية الوصول إلى معرفة يقينية، أراد ديكارت أن يثبت العكس. فبدأ يشك في كل ما تعلمه أو آمن به، حتى وصل إلى الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن إنكارها: "أنا أفكر، إذًا أنا موجود". ومن هنا، جعل من الوعي بالذات أساسًا لكل معرفة ممكنة، مؤكدًا أن الشك المنهجي ليس غاية، بل طريق إلى اليقين وبناء العقل الفاعل.(86)

تسعى الفلسفة بمناهجها المختلفة إلى توسيع معرفتنا وتعميق فهمنا للعالم ولمكاننا فيه.(87) وفي سياق المحادثة الفلسفية، يتعلم المرء من الآخرين الذين قد يمتلكون فهمًا أعمق أو منظورًا مغايرًا للمسألة المطروحة. فالتفاعل الفكري لا يهدف إلى فرض الآراء، بل إلى إعادة تقييم المعتقدات وفحصها في ضوء ما يطرحه الآخرون من أفكار وحجج. ومن خلال هذا التبادل، يكتسب الفرد قدرة أعمق على مراقبة عملياته الذهنية، فيتحسن استخدامه لمهارات الاستدلال وتقييم الأدلة، ويصبح أكثر وعيًا بأسس تفكيره. كما أن صياغة الفهم الشخصي للنصوص أو تقديم الاعتراضات المبررة يفتح المجال أمام تصحيح المفاهيم الناقصة وتوسيع أفق النظر.

ويُعد هذا النوع من التفاعل جوهر الحوار السقراطي، الذي صاغه أفلاطون في محاوراته. ففيه يستجوب سقراط محاوريه، الذين يظنون أنهم يمتلكون معرفة يقينية، بأسئلة تكشف عن الافتراضات الضمنية التي تستند إليها آراؤهم. وعلى الرغم من ادعاء سقراط جهله، فإن منهجه الجدلي يقودهم، عبر سلسلة من الأسئلة والأجوبة، إلى إدراك تناقضاتهم الداخلية، ومن ثم إلى الطريق المؤدي إلى الحكمة الحقيقية. وهكذا تتوالى مراحل الحوار بين نقض الفرضيات غير المتماسكة واقتراح فرضيات جديدة أكثر اتساقًا، في مسار عقلاني يعبّر عن روح الفلسفة ذاتها.(88)

ما يُعد ذا أهمية تعليمية في الحوار السقراطي هو نهج القابلة الذي يستخدمه، حيث يُستخرج المعرفة من المتحاورين بدلاً من نقلها إليهم من مصدر خارجي. من خلال طرح أسئلة متزايدة العمق والتحري، يتم تحفيز المتحاورين على التفكير النقدي في أفكارهم الخاصة، وبناءً على ذلك، يصلون إلى الإجابات الصحيحة بأنفسهم. وهكذا، تصبح هذه التبادلات مشروعًا مشتركًا له الهدف العام المتمثل في تعزيز فهمهم.(89)

حتى إن لم تتخذ المحادثات الفلسفية الشكل المثالي للحوار السقراطي، فإنها ينبغي أن تظلّ مثمرة وبنّاءة، لا صراعية أو خصامية؛ إذ إن غايتها الأساسية ليست الانتصار في الجدل، بل تحقيق التنوير والفهم الأعمق. فالحوار الفلسفي الأصيل يسعى إلى الوصول إلى الحقيقة عبر تعاون العقول لا تنازعها.ومن هذا المنطلق، أكّد الفيلسوف هربرت بول جرايس (H. P. Grice) على ضرورة أن يكون المشاركون في الحوار متعاونين إن أرادوا بلوغ فهم متبادل. وقد صاغ ما يُعرف بـ مبدأ التعاون (Cooperative Principle)، الذي يلخصه بقوله:قدّم مساهمتك في المحادثة على النحو المطلوب في المرحلة التي أنت فيها، وفقًا للغرض أو الاتجاه المتفق عليه للحوار الذي تشارك فيه."ولتفعيل هذا المبدأ، أشار جرايس إلى مجموعة من القواعد الأساسية التي ينبغي مراعاتها في أي محادثة فلسفية جادة، وهي القواعد التي تنظّم طريقة تبادل المعلومات وتوجيه الحوار نحو هدفه المعرفي.

1- الجودة (Quality): حاول أن تكون مساهمتك صادقة، أي قل ما تعتقد أنه صحيح وما لديك من أدلة تدعمه.

2- الكمية (Quantity): اجعل مساهمتك معلوماتية بالقدر المطلوب، أي لا تقل ولا تزيد عما هو ضروري لتحقيق الغرض من الحوار.

3- العلاقة (Relation): اجعل مساهمتك ذات صلة بما يهم الطرفين أو بالموضوع المطروح.

4- الأسلوب (Manner): كن واضحًا ومرتبًا، وتجنب الغموض، أو اللبس، أو الإطناب غير الضروري.(90).

تقوم المحادثة الفلسفية على النقد البنّاء لا الجدال الشخصي، إذ يُفحَص الرأي لا صاحبه. ويجب أن يكون الهدف كشف نقاط الضعف في الحجج وتوضيحها بموضوعية واحترام، بعيدًا عن الإحراج أو التقليل من الآخرين. فالهجوم على الأشخاص أو استخدام الأساليب المراوغة والبلاغة الخادعة يُفقد الحوار قيمته الفكرية. لذا، ينبغي أن يكون المتحدث مدروسًا في كلامه، منصتًا بعناية، ساعيًا إلى توسيع الفهم لا إلى فرض رأيه، لأن الغاية ليست الانتصار، بل الوصول إلى رأي أقرب إلى الحقيقة عبر الحجج والأدلة.(91)

المحور السادس: الفلسفة نورٌ يهدي مسيرة الإنسان

الفلسفة باعتبارها شمعةً تنير طريق الحرية والوعي

تُعدّ الفلسفة الدرع الذي يقي الإنسان من سطوة طبيعته الحيوانية، والشمعة التي تضيء ظلمات العقل حين يثقل بالجهل والاضطراب، وهي الترياق الشافي من العلل التي نصنعها بأيدينا. وقد عبّر إبيقور Epicurus عن هذا المعنى بقوله: "عبثًا يكون كلام الفيلسوف إن لم يشفِ معاناة الإنسان." فالفلسفة، في جوهرها، فنّ العيش الجيد، إذ تقوم على استراتيجيات حياتية تتجسّد في الحكم أو الشعارات القصيرة المصمّمة لتحفيز الذاكرة واستدعاء الخبرة المكتسبة من التجربة والتأمل. وتكمن قوتها في ترابط هذه الحكم وتكاملها، حيث لا تُعدّ الخلافات والجدالات بين الفلاسفة عقبة أمام الفهم، بل سبيلًا لتنوّع الخيارات أمام الإنسان، إذ تقدم له طرائق شتى لمواجهة صعوبات الحياة ومشكلاتها الوجودية، بعضها أنفع من غيره بحسب طبيعة الفرد وميوله. إن حجج الفلاسفة هي عدّة الإنسان ووسيلته في فهم ذاته والعالم من حوله. (92)

ومن هنا، يتضح أن الفلسفة لا تكتفي بوضع تصوّراتٍ نظرية أو مفاهيم عامة، بل تمنح الإنسان أدوات عملية للحياة، فهي تُقدّم له استراتيجيات لا حصر لها تُعينه على اجتياز مراحل المعاناة والخذلان والموت، أي الجوانب الأصعب في التجربة الإنسانية. ولا ينبغي أن تظل الفلسفة حبيسة المدارس أو الأحاديث العابرة في المناسبات الفكرية، لأنها في أصلها ممارسة حيّة، تُختبر في واقع الحياة اليومية. فمن خلال استبطان مفاهيمها وتطبيقها عمليًا، يستطيع المرء أن يبلور نمطًا من الممارسة الفعلية للتحوّل الذاتي. وقد عبّر الباحث الفرنسي بيير هادو Pierre Hadot عن هذه الرؤية حين اعتبر أن أعظم الفلسفات ليست تأملاتٍ عقليةً مجردة، بل تمارين روحية تهدف إلى تحويل النفس والروح إلى كيان جميلٍ ونابض بالحياة. (93)

وهكذا، تُصبح الفلسفة ليست تمريناتٍ ذهنيةً فحسب، بل حكمة حياة تُنال عبر التأمل العميق والبحث الدؤوب عن المعنى. فبدونها، تصبح الحياة إخفاقًا كئيبًا يفتقر إلى البوصلة الروحية والعقلية. وقد شدّد سقراط على أن الذين يفتقرون إلى المعرفة الحقة إنما يستحقون أن يُوصموا بالعبودية الفكرية. أما أفلاطون، فقد حسم الأمر حين أعلن أن الخلاص لن يتحقق للبشرية ما لم يصبح الفلاسفة ملوكًا، أو يكتسب الملوكُ الحكمة الحقيقية للفلسفة، بحيث تجتمع السلطة السياسية والعقل الفلسفي في شخص واحد. إنها حقيقة خالدة عبّر عنها أفلاطون، تظل صالحة لكل زمان ومكان، ومفادها أن الحاكم العادل ينبغي أن يكون فيلسوفًا في جوهره، لا مجرد محبٍّ للحكمة، بل حائزًا لها بحق. (94)

2- قدرة الفلسفة على مواجهة التحديات المختلفة

وإذا كانت الفلسفة نورًا يهدي الإنسان إلى الحرية والوعي، فإنّها أيضًا قدرة عقلية فريدة تمكّنه من مواجهة التحديات الأخلاقية والمعرفية التي تعترض طريقه في الحياة. تخيّل أنك تواجه معضلة أخلاقية صعبة: أحد أحبّائك بحاجة ماسّة إلى علاج طبي ينقذ حياته، لكنك لا تستطيع تحمّل تكلفته إلا إذا سرقت المال اللازم. من جهة، أنت تؤمن بالأمانة والنزاهة، ومن جهة أخرى، فإنّ فكرة فقدان شخصٍ عزيزٍ عليك لا تُحتمل. فكيف يمكن التوفيق بين هاتين القيمتين المتعارضتين؟

هنا تحديدًا يأتي دور الفلسفة وأدواتها. فالفلسفة ليست حكرًا على الأكاديميين في أبراجهم العاجية، بل هي طريقة عملية وقيّمة في التفكير تساعدنا على خوض التحديات الأخلاقية والعقلية المعقّدة التي نواجهها في حياتنا اليومية. (95)

في كتابه «كيف تفكر مثل فيلسوف»، يقدّم جوليان باجيني (Julian Baggini) خريطة طريق لتطوير مهارات التفكير النقدي الضرورية للتعامل مع مثل هذه المعضلات. ومن خلال أمثلة مشوّقة وتجارب فكرية، يُظهر باجيني كيف يمكن للفلسفة أن تساعدنا على توضيح قيمنا وتحليل الحجج واتخاذ قرارات أكثر وعيًا وتبصّرًا. ومن خلال تبنّي عقلية فلسفية، يمكننا أن نُنمّي قدرًا أكبر من الوضوح والاتساق والترابط في معتقداتنا وأفعالنا. ومع تعمّقنا في مبادئ المنطق والأخلاق والميتافيزيقا ونظرية المعرفة، سنكتسب فهمًا أعمق لأنفسنا وللعالم من حولنا. (96)

يدفعنا التفكير الفلسفي إلى مراجعة الافتراضات التي توجّه سلوكنا دون وعي، إذ يكشف أن كثيرًا منها يفتقر إلى المنطق أو الدليل. فبدلًا من قبول الأحكام الجاهزة، كاعتقاد أن جميع السياسيين غير أمناء، يسعى الفيلسوف إلى تحليل جذور هذه الأفكار وأسسها. ومن هنا تبرز أهمية تحليل الحجج، أي تفكيكها وتقييم تماسكها المنطقي، لاختبار صدق مقدماتها ونتائجها، واكتشاف المغالطات والثغرات التي تضعفها.

ولا يقف التفكير الفلسفي عند حدود التحليل، بل يمتد إلى النظر في وجهات نظر متعددة حول القضايا المعقدة. فعند مناقشة مثلًا أخلاقيات التجارب على الحيوانات، يسعى الفيلسوف إلى فهم متوازن يجمع بين آراء المدافعين عن حقوق الحيوان والباحثين العلميين، بما يتيح تكوين رؤية أكثر عمقًا وإنصافًا. (97)

وخلاصة القول، إن التشكيك في الافتراضات وتحليل الحجج والنظر في وجهات نظر متعددة هي مكونات أساسية في التفكير الفلسفي تُسهم في تنمية التفكير النقدي والتأمل العقلي. ومن خلال تبنّي هذه المبادئ الجوهرية، يستطيع الأفراد تكوين عقلية فلسفية تُقاوم المعتقدات الراسخة، وتُنمّي مهارات التحليل، وتُثري فهمهم للعالم من حولهم. فالسعي وراء التفكير الفلسفي يمتلك القدرة على كشف آفاق جديدة للفهم، وتوسيع وجهات النظر، وإلهام الفضول الفكري الذي يدفع الإنسان إلى البحث الدائم عن الحقيقة والمعرفة. (98)

ولا يكتمل هذا المسار إلا بالتحلّي بـ التواضع الفكري والفضول والإخلاص للحقيقة، وهي القيم التي تُجسّد روح الفلسفة الحقيقية. فالتواضع الفكري حجر الأساس الذي يمكّننا من الانفتاح على الأفكار الجديدة، ويحمينا من الغرور والتعصّب العقائدي، فيما يُغذّي الفضول الرغبة في التساؤل حول جوهر الوجود والوعي والأخلاق. أما السعي الصادق نحو الحقيقة، فهو ما يجعل الفيلسوف مستعدًّا لمراجعة قناعاته وتقبّل الأدلة الجديدة مهما كانت مزعجة. ومن خلال تجسيد هذه الصفات، يستطيع الإنسان أن يتبنّى منهجًا فلسفيًا راقيًا يُنمّي فيه التفكير النقدي والانفتاح الذهني والنزاهة الفكرية، ويمنحه قدرةً أكبر على فهم العالم والتفاعل معه بوعيٍ وبصيرةٍ نافذة. (99)

المحور السابع: الفلسفة تؤسس للأخلاق والتقدم الإنساني

تُعدّ الفلسفة من أبرز الركائز التي تسهم في تأسيس القيم الأخلاقية وتنمية الوعي الإنساني، إذ تُمدّ الإنسان بالأدوات الفكرية التي تمكّنه من التمييز بين الخير والشر، والحق والباطل، بما يجعلها منبعًا دائمًا للتهذيب الروحي والعقلي.

1- تكوين الأسس الأخلاقية

بالإضافة إلى ذلك، تؤدّي الفلسفة دورًا محوريًا في تكوين الأسس الأخلاقية وأنماط التفكير الأخلاقي. فالمبادئ والنظريات الفلسفية تساعد الأفراد والمجتمعات على اتخاذ قرارات أخلاقية وحلّ المعضلات القيمية. ومن خلال النظر في وجهات النظر الأخلاقية المختلفة والانخراط في نقاشات أخلاقية، تساهم الفلسفة في تطوير فهم أعمق لما هو خير وما هو شر، وتدفع الناس إلى العمل بما يتوافق مع المبادئ الأخلاقية. ويُعدّ هذا الإطار القيمي ضروريًا لمعالجة القضايا المعاصرة مثل العدالة الاجتماعية، والاستدامة البيئية، والتقدّم التكنولوجي، والصراعات العالمية.(100)

2- تعزيز التقدّم الاجتماعي

ولا يتوقف دور الفلسفة عند حدود الأخلاق الفردية، بل يمتد ليشمل البنية الاجتماعية ذاتها، إذ تتحدى الفلسفة الأوضاع القائمة وتعزّز التقدّم الاجتماعي. فعلى مرّ التاريخ، كانت الأفكار الفلسفية شرارةً للثورات، والحركات الاجتماعية، والتطوّرات في مجال حقوق الإنسان. ومن خلال مساءلة المعتقدات والقيم والممارسات السائدة، تُسائل الفلسفة الأنظمة والهياكل غير العادلة، وتمهّد الطريق نحو التغيير المجتمعي. وسواء كانت تدافع عن المساواة أو العدالة أو الحرية أو السعي وراء المعرفة، فإنّ الفلسفة تُمثّل محرّكًا للتقدّم وقوّة دافعة نحو التغيير الاجتماعي.(101)

3- دعم التقدّم العلمي

ويمتد تأثير الفلسفة إلى العلم، إذ كانت منذ القدم مصدر إلهامٍ للبحث والنظر العقلي. فرغم أنّ الفلسفة غالبًا ما تُعتبر مجالًا تجريديًا منفصلًا عن المسعى العلمي، فإنها تاريخيًا كانت مصدرًا وداعمًا للتقدّم العلمي. فقد تساءل أوائل المفكّرين في اليونان القديمة، مثل طاليس، وديموقريطس، وفيثاغورس، عن جوهر الواقع، وطبيعة المادة، والمبادئ الرياضية، وأسّسوا بذلك دعائم التفكير العلمي. أما اليوم، فتتعاون الفلسفة مع العلوم في تشجيع البحث النقدي، والتطوّر النظري، والتقدّم المعرفي. وتُبرِز أمثلةٌ مثل إسهام فلسفة العقل في علم الأعصاب، والمداولات الأخلاقية في البحوث الطبية الحيوية، ودور الميتافيزيقا في ميكانيكا الكمّ، مدى ثراء هذا التحالف المثمر بين الفلسفة والعلوم.(102)

4- تنمية التفكير الأخلاقي والتماسك الاجتماعي

ولا شك أن التأثير العميق للفلسفة يشكّل بوصلة للسلوك الأخلاقي، ويمتدّ إلى ميدان الأخلاق والوحدة الاجتماعية. فمن خلال دراسة الأطر الأخلاقية مثل النفعية، وعلم الأخلاق، وأخلاق الفضيلة، يستطيع الأفراد تنمية قدرة عميقة على التفكير الأخلاقي، والتعامل مع المعضلات القيمية من منظور واعٍ ومستنير. وعلاوة على ذلك، تُسهِم الفلسفة في تعزيز الحوار حول قضايا مثل العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، وتُمكّن المجتمعات من ترسيخ بوصلة أخلاقية خاصة بها وتقييمها باستمرار. فالقوانين، والسياسات الأخلاقية، والمعايير المجتمعية التي تنبثق عن التأمل الفلسفي، تُفضي إلى بناء هيكل اجتماعي عادل ومتماسك.(103)

5- اكتشاف الذات واكتساب الحكمة

وتتجاوز أهمية الفلسفة مجرّد تأثيرها في المجتمع، إذ إنها تمثّل سبيلًا لاكتشاف الذات، والنمو الشخصي، واكتساب الحكمة. فمن خلال التأمّل الذاتي والتفكّر الفلسفي، يستطيع الإنسان أن يُراجع معتقداته، ويفهم وجوده، ويتقبّل التغيّر الشخصي. وقد ساعد فلاسفة الوجودية مثل سارتر، وكامو، وكيركجارد، الناس على مواجهة أسئلة المعنى، والحرية، والموقع في الكون. وتُتيح ممارسة الفلسفة تنمية مهارات التفكير النقدي، وتوسيع الآفاق الذهنية، وتطوير القدرة على حلّ المشكلات. وتسهم هذه التطورات الشخصية في تكوين أفراد متكاملين، وهم أساس لا غنى عنه لمجتمع مستنير.(104)

6- استشراف المستقبل

وفي ظلّ التحوّلات المتسارعة في عالمنا المعاصر، تزداد أهمية الفلسفة كمرشدٍ أخلاقيٍّ وإنسانيٍّ في مواجهة تعقيدات الحياة الحديثة. ففي عصر يتّسم بالتقدّم التكنولوجي وتعقيد الحياة الاجتماعية، تزداد أهمية الفلسفة يومًا بعد يوم. فمع تشكيل الذكاء الاصطناعي والأتمتة لمستقبل البشرية، تظهر تباعًا تساؤلات أخلاقية واعتبارات فلسفية ملحّة. وتُتيح الفلسفة للناس التعامل مع قضايا مثل أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، والتأثيرات الاجتماعية للأتمتة، وتبعات الهندسة الوراثية، وهي قضايا تستوجب معايير أخلاقية وأسسًا قيمية راسخة. علاوة على ذلك، تتناول الفلسفة قضايا وجودية مثل التنوع الثقافي، وأخلاقيات التعدّدية، والالتزامات الأخلاقية العالمية الناشئة عن التسارع الكبير في وتيرة العولمة.(105)

7- الفلسفة كغطاءٍ للأمان الداخلي

غير أنّ الإنسان، رغم كل تقدّمه، يظلّ يبحث عن الأمان في عالمٍ يملؤه القلق واللايقين. في حياتنا، نعلم أن العالم ليس دائمًا آمنًا. لذلك، عندما نشعر بالخوف أو القلق، نبحث عن شيء يجعلنا نشعر بالأمان. ربما نتمسك بشخص نثق به، أو بفكرة نحبها، أو حتى بشيء نملكه. مثل ركّاب سفينة غارقة، نبحث عن أي شيء نتمسك به لنشعر بأننا بخير. الفيلسوف الأمريكي "تشارلز ساندرز بيرس" يقول إن الشكّ وعدم التأكد يسببان القلق، لذلك نحاول الهروب منهما بأي طريقة. لكن هنا تحدث المفارقة: الشيء الذي يجعلنا نشعر بالأمان، قد يصبح مصدر قلق جديد. لماذا؟ لأننا نخاف أن نفقده. فنصبح مشغولين بحمايته، ونقلق أكثر. وهكذا، بدلًا من أن يساعدنا هذا "الغطاء الآمن"، يُصبح عبئًا علينا. ولهذا علينا أن نسأل أنفسنا: هل التمسك الشديد هو الحل؟ أم يجب أن نتعلم كيف نواجه الخوف بطريقة مختلفة؟ (106)

8- الفلسفة وتحرير العقل الإنساني

وفي هذا السياق، يبرز قول "برتراند راسل" الذي يرى أن الإنسان الذي لا يعرف شيئًا عن الفلسفة يعيش حياته سجينًا لتحيّزاته المستقاة من الحسّ المشترك، ومن المعتقدات الشائعة في عصره أو وطنه، ومن قناعات ترسّخت في ذهنه دون أن يمرّرها على عقلٍ متأمّل أو نقدٍ واعٍ. حياة هذا الإنسان الغريزية محصورة داخل دائرة اهتماماته الشخصية. وفي مثل هذه الحياة شيء من الحُمّى والضيق، إذا قورنت بالحياة الفلسفية الهادئة والحرّة. إنّ العالم الخاص الذي يعيش فيه من ينقاد للغريزة عالمٌ ضيّق، مُحاطٌ بعالم كبير قوي، لا بدّ أن يُحطِّم يومًا ما هذا العالم الخاص ويُطيح به.(107)

تتمثّل القيمة الأساسية للفلسفة، كما يرى راسل، في قدرتها على تحرير العقل من سطوة الآراء التي تُعتنق دون تمحيص، وفتح الأذهان أمام آفاق رحبة من الإمكانيات الجديدة. فالفلسفة تكتسب قيمتها - في جانب كبير منها - من كونها لا تقدّم يقينًا ثابتًا، بل تُثري الفكر عبر الشكّ المنهجي. وإن كانت الفلسفة لا تستطيع أن تمنحنا أجوبة قاطعة على التساؤلات التي تُثيرها، فإنها تطرح أمامنا احتمالات متعددة توسّع مداركنا وتُحرّرنا من سلطة العُرف والتقليد. إنها، إذ تقلّل من شعورنا باليقين إزاء ما نظنه ثابتًا، تزيد من وعينا بإمكانات ما يمكن أن يكون عليه الواقع. وبذلك، تُبدّد التصلّب الفكري الذي يلازم من لم يخوضوا تجربة الشكّ المحرّر، وتحفظ في النفس شعور الدهشة والانفتاح، حين تُقدّم المألوف في صورة غير مألوفة.(108)

وفي النهاية، يمكن القول إن الفلسفة لا تُعطينا إجابات نهائية، لكنها تُعطينا القدرة على طرح الأسئلة الصحيحة، وتوسيع أفقنا الفكري، وتحريرنا من طغيان المألوف. وهذا بحد ذاته فضيلة كبرى، تجعل من الفلسفة تمرينًا دائمًا على الحرية العقلية والتأمل النقدي.

2- الفلسفة كدعامة للتنمية والتطور الحضاري

للفلسفة دورٌ جوهري في مسار الحضارة الإنسانية:

أولا: تكشف لنا دراسة التاريخ أن الفلسفات لا تنشأ في فراغ، بل تستجيب لأسئلةٍ يفرضها واقعٌ علميٌّ أو اجتماعيٌّ معيَّن. فلا يمكن، مثلًا، فهم فكر القديس توما الأكويني دون النظر إلى التأثيرات المتشابكة لكلٍّ من أرسطو، والقديس أوغسطينوس، والعقيدة الكاثوليكية في تكوينه الفكري. وبالمثل، تأثّر ديكارت بالفيزياء الرياضية في عصره، وبالفلسفة الجسيمية في القرن السادس عشر، وكذلك بأفكار القديس أوغسطين. غير أن الفلسفة لا تقتصر على استلهام عناصر من حضارتها، بل تتجاوزها إلى إعادة صياغة هذه العناصر في منظومات فكرية شاملة تُوحِّدها وتمنحها تماسكًا داخليًا يجعلها تعبّر عن روح عصرها تعبيرًا عميقًا ومتماسكًا (109).

ثانيا: لا تنشأ التيارات الفكرية بمعزل عن صراع الاتجاهات السائدة، إذ لا تترسّخ مدرسة فكرية إلا بإقصاء غيرها. وهكذا تصبح العقول ميدانًا لتصارع الأفكار المتعارضة التي قد تتعايش دون حسم. ويجد الفكر نفسه أمام خيارين: إمّا السقوط في الشكّ المدمّر، أو انتظار فيلسوف يوحّد المتناقضات، كما فعل توما الأكويني حين جمع بين اللاهوت الأوغسطيني وتعاليم أرسطو، وديكارت حين وفّق بين الفيزياء الرياضية والميتافيزيقا. فالفلسفة بهذا المعنى هي سعي الفكر إلى الوحدة التي تمنح النظام والسلام، إذ يطمح الإنسان إلى انسجام أفكاره ومشاعره وأفعاله، وهو ما اعتبره جيلسون أساس الحضارة وشرط الانسجام مع الذات والآخر. فالفيلسوف، حين يفكر، يفعل ذلك باسم الإنسانية جمعاء، ساعيًا إلى توازن العقول وارتقاء القيم الروحية.(110)

ثالثًا: تبقى الفلسفة حية بعد أفول الحضارات التي نشأت في كنفها، لأنها تحمل حقائق خالدة تتجاوز حدود الزمان والمكان. ففلاسفة كأفلاطون وأرسطو وتوما الأكويني وديكارت وكانط يظلون معاصرين لكل عقل إنساني، إذ تتضمن فلسفاتهم عناصر تمسّ جوهر الإنسان ذاته. ولا تقوم الفلسفات الكبرى على التلفيق، بل على التوفيق العميق بين المتعارضات سعيًا إلى تحرير الفكرة في أنقاها. فبفكر أفلاطون تتكامل الكينونة عند بارمنيدس والصيرورة عند هيراقليطس، وبتوما الأكويني يلتئم الإلهي بالبشري في نظرية التناظر في الوجود، فيما رأى ديكارت أن فيزياء أرسطو روحانية زائفة والذرّية الأبيقورية مادية بلا أساس. وهكذا تستمد الفلسفة قيمتها من انشغالها الدائم بأسئلة الإنسان بوصفه كائنًا عاقلًا، لا من مشكلات عصرٍ محدد، لتظل حدثًا فكريًا خالدًا في حاضرٍ أبدي.(111)

وعليه، فإذا كانت الحضارة ليست مجرد أسلوب حياةٍ لأمةٍ في زمنٍ محدّد، بل هي أيضًا رصيدٌ من القيم والحقائق المتراكمة التي توحّد الإنسانية، فإن الفلسفة لا تنتج النظام في الفكر إلا لأنها تنتج الحقيقة ذاتها. فهي في الوقت نفسه ثمرة التاريخ وصانعته، إذ يقوم فعلها الإبداعي على خضوعٍ صادقٍ للحقيقة يتجاوز حدود الزمان (112).

تناول عدد من فلاسفة الحداثة مفهوم التقدّم بالتحليل والتأمل، من أبرزهم كانط في كتابه «فكرة من أجل تاريخ كوني من منظور مدني»، حيث دعا إلى تحقيق «الغاية الكوزموبوليتية» بإقامة نظام عالمي تنظم فيه العلاقات بين الأمم كما تُنظم بين الأفراد في الدولة. وقد رأى هيجل في «فينومينولوجيا الروح» و«محاضرات في فلسفة التاريخ»أن التقدّم التاريخي هو حركة تصاعدية للروح عبر صراعاتها، بينما اعتبر ماركس وإنجلز أن التقدّم يتحقق من خلال الصراع الطبقي. وعبّر أوجست كونت عن رؤيته لمسار التطوّر الإنساني في «قانون المراحل الثلاث»: اللاهوتية، الميتافيزيقية، ثم الوضعية، مؤكدًا أن النظام شرط للتقدّم. ويرى بعض الباحثين، مثل فوكوياما، أن جذور هذه الفكرة تعود إلى مكيافيلّي، الذي فصل بين السياسة والأخلاق.(113)

3- الفلسفة ودورها في التنمية الوطنية

اهتمَّ المفكر نناميدو بارثولوميو (Nnaemedo Bartholomew) بدراسة أهمية الفلسفة في تحقيق التنمية الوطنية في كتابه «تحليل الدور الخماسي للفلسفة في التنمية الوطنية»، حيث رأى أنَّه «لفهم عصرٍ أو أمة، يجب أن نفهم فلسفتها» كما قال برتراند راسل. وبناءً على ذلك، فإنَّ فهم مفهوم التنمية الوطنية يستلزم فهم فلسفتها التي تجسِّد رؤيتها ورسالتها وأهدافها. فالفلسفة — بحسب بارثولوميو — ضرورية لصياغة التنمية الوطنية وتنفيذها واستكمالها، وقد حدد لذلك خمسة أدوار أساسية للفلسفة في هذا المجال (114).

أولًا: الفلسفة كأساسٍ عقلانيٍّ للتنمية الوطنية

لكل مجالٍ من مجالات التنمية الوطنية فلسفته الخاصة التي تمثِّل الأساس العقلاني الذي يقوم عليه صرح التنمية. وتؤدِّي الفلسفة في هذا السياق ثلاث وظائف رئيسة:

1- توفير رابطٍ يربط بين التنمية الوطنية والبنى الفرعية الأخرى،

2- تخفيف الاحتكاك بين وكلاء المشاريع التنموية وبيئاتهم المباشرة،

3- ضمان تدفّقٍ مستمرٍّ للموارد من البيئات المحيطة.

فالفلسفة هنا تُعدّ الركيزة الفكرية التي تضمن سلامة البناء التنموي من حيث الاتساق الداخلي والترابط المنهجي بين عناصره (115).

ثانيًا: الفلسفة كخريطة طريقٍ للتنمية الوطنية

لا تقتصر وظيفة فلسفة التنمية الوطنية على وضع الأسس النظرية للبنية التحتية فحسب، بل تمتد لتشمل توجيه مسار التنفيذ وضبط حركته لضمان عدم انحراف التنمية عن أهدافها الكبرى. فهي بمثابة بوصلة فكرية تُرشد خطط التنمية لتجنُّب مظاهر الانكسار أو الانفجار أو الركود أو النموّ المفرط، مما يحافظ على توازنها واستدامتها في مواجهة التحولات السياسية والاجتماعية (116).

ثالثًا: الفلسفة كسقفٍ أعلى يحمي التنمية الوطنية

كما أنّ الفلسفة تخدم التنمية الوطنية في مستواها التحتي (البنية التحتية)، فإنّها تواكبها أيضًا في المستوى الفوقي (البنية العليا). فهي توفّر سقفًا رمزيًا يحمي المشاريع التنموية من التأثيرات السلبية الناتجة عن السياسات أو الممارسات الرائجة التي قد تُعيق تحقيق الأهداف. وتشبه هذه الظواهر — في استعارة بارثولوميو — الشمس الحارقة أو العواصف أو الثلوج التي قد تُضعف نموّ المشروع التنموي. ومن ثَمّ، تعمل الفلسفة كقوة تنظيمية تقي التنمية من التشويه أو الانحلال أو التآكل، وتضمن استمرارها في تحقيق أهدافها (117).

رابعًا: الفلسفة كعدسةٍ أخلاقيةٍ للتنمية الوطنية

ينبغي أن تقوم كل عملية تنموية على أساسٍ أخلاقيٍّ متين، إذ تتمثّل الغاية القصوى للتنمية في تحقيق السعادة الإنسانية. فكل منتج من منتجات التنمية الوطنية يجب أن يضع الإنسان في صميم اهتمامه، وإلا فقد قيمته. ومن هنا، تمثّل الأخلاق — بوصفها فرعًا من فروع الفلسفة — العدسة التي تُقيِّم من خلالها التنمية مدى انسجامها مع القيم الإنسانية. فقبل الشروع في أي مشروع، يجب النظر في مدى خدمته للإنسان وكرامته. وهذا ما يجعل الفعل الأخلاقي مميزًا عن الفعل الآلي أو الميكانيكي، لأنّ الأول يصدر عن وعيٍ وإرادةٍ حرة، ويمكن مساءلة الإنسان عنه، بينما الثاني فعلٌ غير إراديٍّ لا مسؤولية فيه (118)

خامسًا: الفلسفة كمحفِّزٍ للتنمية الوطنية

يشبِّه بارثولوميو دور الفلسفة في التنمية بدور المحفّز الكيميائي الذي يُسرّع التفاعل دون أن يتأثّر به. فالفلسفة تُسهم في تسريع وتيرة التنمية الوطنية من خلال إذكاء الوعي النقدي وتوسيع الأفق الفكري، لكنها تظل محتفظة باستقلالها عن نتائج هذه التنمية. ويتجلّى هذا الدور التحفيزي في نظرياتٍ فلسفية عديدة أحدثت تحوّلات عميقة في التاريخ، مثل: الثورة الأخلاقية التي أحدثها سقراط في شباب عصره، والدعوة إلى الزهد التي أكّدها أفلاطون والرواقيون، والمبادئ السياسية والاجتماعية التي قدّمها جون لوك، وهيغل، وكارل ماركس، ومونتسكيو، وجان جاك روسو.

وقد كانت فلسفة سقراط — التي دعت إلى مساءلة الذات وإصلاح الأخلاق — من أبرز الأمثلة على أثر الفلسفة في التغيير الاجتماعي، إذ أحدثت ثورة فكرية بين الشباب دفعت السلطات إلى اتهامه بإفساد عقولهم، فحُكم عليه بالموت وتناول نبات الشوكران تنفيذًا للحكم (119).

الخاتمة

يمكن تلخيص أهم النتائج والاستنتاجات التي توصل إليها البحث حول سؤال: «لماذا الفلسفة؟ ولماذا الآن؟» في النقاط الآتية:

1- الفلسفة ضرورة إنسانية وليست ترفًا فكريًا؛ فهي حاجة وجودية تُلازم الإنسان في سعيه الدائم نحو الفهم والمعنى، وتساعده على إدراك ذاته وموقعه في العالم.

2- وظيفة الفلسفة الأساسية تتمثل في توجيه العقل نحو التساؤل والفهم، وتحرير الفكر من الجمود والاتباع الأعمى، مما يجعلها أداة لتجديد الوعي الإنساني.

3- العالم المعاصر يعيش أزمة قيمية وأخلاقية نتيجة هيمنة النزعة المادية والانغماس في التقدم التقني على حساب البعد الإنساني، وهو ما يجعل العودة إلى الفلسفة ضرورة ملحّة لاستعادة التوازن بين العلم والأخلاق.

4- مناهج التفكير الفلسفي تُعدّ وسيلة فعّالة لتنمية مهارات التحليل والنقد، وتعليم الإنسان كيف يفكر لا ماذا يفكر، وبذلك تُحصّنه ضد الاستسلام للأفكار الجاهزة والمضلّلة.

5- الفلسفة مصدر للطموح والإخلاص، لأنها تغذي في الإنسان الرغبة في البحث عن الحقيقة، وتدفعه إلى العمل المخلص الهادف الذي يتجاوز المصالح الضيقة نحو الخير العام.

6- الفلسفة نور يهدي مسيرة الإنسان، إذ تمكّنه من مواجهة تحديات الحياة المعاصرة بثقة ووعي، وتمنحه القدرة على المواءمة بين التقدم المادي والنمو الروحي.

7- الحاجة إلى الفلسفة الآن أشد من أي وقت مضى؛ لأنها القادرة على إعادة بناء الوعي الإنساني المفقود، وترميم العلاقة بين الفكر والضمير، وبين الإنسان والعالم.

8- الخلاصة النهائية: الفلسفة ليست ماضيًا يُستعاد، بل مشروعًا دائمًا لتجديد الفكر الإنساني وإضفاء المعنى على الوجود، وهي الطريق الذي به يحافظ الإنسان على كرامته ويصون إنسانيته في وجه تحولات العصر.

***

دكتور ابراهيم طلبه سلكها

2025

..................

الهوامش

1- Dr. Oyekunle O. Adegboyega: Introduction to Philosophy and Logic, National Open University of Nigeria, Printed 2018, p. 10.

2- Loc- Cit.

3- Ibid, p. 11.

4- Roark, Dallas M.: Introduction to Philosophy, Emporia, KS: Dalmor Publishing, 1982 (revised 2011), p. 1.

5- Ibid, pp. 1–2.

6- Ibid, pp. 2–3.

7- Ibid, pp. 3–4.

8- Ibid, p. 5.

9- Ibid, p. 7.

See also: John Dewey, Experience and Nature, p. 398.

10- Scherer, Donald, Peter Facione, Thomas Attig, and Frank Miller: Introductory Philosophy, Englewood Cliffs, N.J.: Prentice- Hall, 1979.

11- Swami Krishnananda: The Philosophy of Life, The Divine Life Society, P.O. Shivanandanagar, India, pp. 17–18.

12- Roark, Dallas M., Op- Cit, pp. 8–9.

13- Standard Eleven: Philosophy, Maharashtra State Bureau of Textbook Production and Curriculum Research, Pune, 2020, p. 5.

14- Nweke, Charles C., and Vera A. Uyanwune: “Relevance of Philosophy to Any Discipline.” International Journal of Research and Innovation in Social Science (IJRISS), 4(8), August 2020, ISSN 2454- 6186, p. 784.

15- Meenakshi Mawi: Socrates v/s Plato – Philosophy and Knowledge, International Journal of Humanities and Social Science Research, www.socialsciencejournal.in, ISSN: 2455- 2070, Volume 9, Issue 4, 2023, p. 27.

16- Payne, W. Russ: Introduction to Philosophy, Bellevue College, 2015, Creative Commons Attribution- NonCommercial 4.0 International. http://creativecommons.org/licenses/by- nc/4.0/, p. 7.

17- Ibid, p. 8.

18- Loc- Cit.

19- Nathan Smith: Introduction to Philosophy, OpenStax, Rice University, 2022, p. 36.

20- Loc- Cit.

21- Robert Fisher: Philosophy for Children: Fostering Communities of Philosophical Enquiry and Reflection in Primary and Secondary Schools, A thesis submitted to Brunel University for the degree of Doctor of Philosophy (Published Work) in the School of Education, Brunel University, January 1996, Theme 2, Part 2, p. 3.

22- Nathan Smith: Introduction to Philosophy, OpenStax, Rice University, 2022, p. 37.

23- Robert Fisher, Op- Cit, p. 3.

24- Sanjit Chakraborty: Critical Thinking: An Approach that Synthesizes Analytic Philosophy, India Philosophical Quarterly, University of Pune, Vol. 44, No. 1, December 2017, p. 1.

25- Ibid, p. 2.

26- Daniela Dover: Criticism as Conversation, Philosophical Perspectives, Harvard University Press, 2020, p. 1.

27- Sanjit Chakraborty: Op- Cit, p. 1.

28- Ibid, pp. 1–2.

29- Loc- Cit.

30- Daniela Dover: Op- Cit, p. 2.

31- Amy Jacques- Garvey: Philosophy and Opinions of Marcus Garvey, The Journal of Pan African Studies, 2009, eBook, p. 5.

32- Loc- Cit.

33- Alegre, Susie, and Aaron Shull: Freedom of Thought: Reviving and Protecting a Forgotten Human Right, Waterloo, ON: Centre for International Governance Innovation (CIGI), September 4, 2024, p. 1.

34- Loc- Cit.

35- Ibid, pp. 1–2.

36- Ibid, p. 4.

37- Marc Jonathan Blitz and Jan Christoph Bublitz (eds.): The Law and Ethics of Freedom of Thought, Volume 1: Neuroscience, Autonomy, and Individual Rights, Cham: Palgrave Macmillan, 2021, p. vi.

38- Loc- Cit.

39- Ibid, pp. vi–vii.

40- Ibid, p. vii.

41- Dudley, Will: Hegel, Nietzsche, and Philosophy: Thinking Freedom, Cambridge: Cambridge University Press, 2002, ISBN 052181250X, p. 2.

42- Hoxha, Ermela: “Concept of Freedom in the Philosophy of Fichte.” European Journal of Social Sciences Education and Research, Vol. 2, No. 1, 2014, pp. 131–135, doi:10.26417/ejser.v2i1.p131- 135, p. 131.

43- Marc Jonathan Blitz and Jan Christoph Bublitz (eds.): The Law and Ethics of Freedom of Thought, Volume 1: Neuroscience, Autonomy, and Individual Rights, Cham: Palgrave Macmillan, 2021, p. xi.

44- Ibid, p. 49.

45- Morris, Paul: “Intellectual Freedom Today.” Continental Thought & Theory (CT&T): A Journal of Intellectual Freedom, Vol. 1, No. 1, 2016, pp. 132–136, ISSN 2463- 333X, p. 132.

46- Elisabeth Schelleken: Perfection and Fiction: A Study in Iris Murdoch’s Moral Philosophy, [Frits Gåvertsson, Unpublished manuscript], Date of issue: 17 September 2018, p. ix.

47- Milan Petričković: The Communicational Biblical Motive of Self- Perfection in an Ethical Reflection on Sin, Shame, Remorse and Forgiveness, Informatol., Vol. 47, 2014, No. 1, pp. 20–28, p. 20.

48- Ibid, p. 21.

49- Peter Baumann: Enlightenment as Perfection, Perfection as Enlightenment? Kant on Thinking for Oneself and Perfecting Oneself, College, 500 College Avenue, Swarthmore, PA 19081, USA, p. 284.

50- Loc- Cit.

51- Ibid, p. 285.

52- Alain de Botton: The Consolations of Philosophy, Vintage Books, a Division of Random House Inc., New York, 2001, p. 1.

53- Roark, Dallas M.: Introduction to Philosophy, Emporia, KS: Dalmor Publishing, 1982 (revised 2011), p. 1.

54- Baggini, Julian: How to Think like a Philosopher: Twelve Key Principles for More Humane, Balanced, and Rational Thinking, Chicago: University of Chicago Press, 2023, Chapter 5.

55- Loc- Cit.

56- Amy Jacques- Garvey: Philosophy and Opinions of Marcus Garvey, The Journal of Pan African Studies, 2009, eBook, p. 22.

57- Ibid, p. 23.

58- Ibid, p. 24.

59- Ibid, p. 27.

60- Neha Jain and Ratan Raigar: Ethical Implications of Technology in the Digital Era: A Call for Responsible Innovation, Turkish Journal of Computer and Mathematics Education, Vol. 10, No. 2 (2019), pp. 1145–1147.

61- George W. Reynolds: Ethics in Information Technology, Cengage Learning, Sixth Edition, 2019, ISBN 978- 1337405874, p. 3.

62- Loc- Cit.

63- Karaganis, Milana: “Ethics of Technology.” In Report of the UNECE Workshop on Ethics in Modern Statistical Organizations, Geneva: United Nations Economic Commission for Europe, March 26–28, 2024, pp. 12–14.

64- Rashid, Muhammad Mustafa: Technology Ethics, Online at https://mpra.ub.uni- muenchen.de/105731, 2020, p. 3.

65- Juan Enriquez: Right/Wrong: How Technology Transforms Our Ethics, Routledge, New York, 2020, p. 12.

66- Anil Rajimwale: The Particle and Philosophy in Crisis: Towards Mode of Information, Routledge, New York, First published 2023, p. x.

67- Ihejirika, C. I., & Asike, J.: “Exploring the Power of Philosophy in Nation Building.” [Journal/Publisher if available], [Year not specified], p. 1201.

68- Jonas, Hans: “Toward a Philosophy of Technology.” The Hastings Center Report, Vol. 9, No. 1 (1979), p. 34. https://www.jstor.org/stable/3561700.

69- Rodrigo Cordero: Crisis and Critique: On the Fragile Foundations of Social Life, Routledge, New York, p. 1.

70- Ihejirika, C. I., & Asike, J., Op- Cit, p. 1199.

71- Ibid, p. 1201.

72- Ibid, pp. 1201–1202.

73- Baggini, Julian: How to Think like a Philosopher: Twelve Key Principles for More Humane, Balanced, and Rational Thinking, Chicago: University of Chicago Press, 2023, Chapter 4.

74- Alain de Botton: The Consolations of Philosophy, Vintage Books, a division of Random House Inc., New York, 2001, pp. 16–17.

75- Loc- Cit.

76- Ibid, pp. 18–19.

77- Ibid, p. 19.

78- Dr. Oyekunle O. Adegboyega: Introduction to Philosophy and Logic, National Open University of Nigeria, Printed 2018, p. 17.

79- Ibid, p. 19.

80- Standard Eleven: Philosophy, Maharashtra State Bureau of Textbook Production and Curriculum Research, Pune, 2020, p. 7.

81- Loc- Cit.

82- Ibid, pp. 8–9.

83- Ibid, p. 9.

84- Ibid, p. 10.

85- Loc- Cit.

86- Ibid, p. 12.

87- Jesper Kallestrup: Methods and Skills for Philosophy, Routledge, London and New York, First published 2025, p. x.

88- Ibid, p. 6.

89- Ibid, p. 7.

90- Loc- Cit.

91- Ibid, p. 8.

92- Zachary G. Augustine: Philosophy for Any Life, an open- source self- help book, First edition published 29 September 2015, pp. 3–4.

93- Ibid, p. 4.

94- Swami Krishnananda: The Philosophy of Life, The Divine Life Society, P.O. Shivanandanagar, India, pp. 41–42.

95- Baggini, Julian: How to Think like a Philosopher: Twelve Key Principles for More Humane, Balanced, and Rational Thinking, Chicago: University of Chicago Press, 2023, Chapter 1.

96- Loc- Cit.

97- Ibid, Chapter 2.

98- Loc- Cit.

99- Loc- Cit.

100- American Journal of Interdisciplinary Research and Development: “Philosophy and Its Role in Society,” A. Navoi, Volume 25, February 2024, p. 89.

101- Loc- Cit.

102- Loc- Cit.

103- Ibid, p. 90.

104- Loc- Cit.

105- Loc- Cit.

106- Yoni Porat: A Brief Introduction to Philosophy, Southern Alberta Institute of Technology, Calgary, Alberta, Canada, 2021, p. 11.

107- Ibid, pp. 11–12.

108- Ibid, p. 12.

109- Richard Fafara: Philosophy and Civilization, Rocznik Tomistyczny, Vol. 7 (2018), ISSN 2300- 1976, p. 55.

110- Loc- Cit.

111- Loc- Cit.

112- Ibid, pp. 55–56.

113- Zbigniew Orbik: “On the Evolution of the Concept of Sustainable Development,” Scientific Papers of Silesian University of Technology: Organization and Management Series, No. 223 (2023), p. 388.

114- Nnaemedo Bartholomew: “Analysis of the Five- Fold Role of Philosophy in National Development,” International Journal of Research and Review, Vol. 10, Issue 5, May 2023, p. 348.

115- Ibid, pp. 348–349.

116- Ibid, p. 350.

117- Loc- Cit.

118- Ibid, pp. 350–351.

119- Loc- Cit

الإطار المفهومي: يمثل الخطاب المدني الأخلاقي فضاءً معقداً تتشابك فيه متطلبات النظام السياسي مع القيم الإنسانية الجوهرية. يُعرّف الخطاب المدني على أنه المجال المشاع المشترك لجميع الأفراد في كيان سياسي ما، حيث تتجلى السياسة كشأن جمهوري. ضمن هذا الإطار، تتحول القضايا الأخلاقية من مجرد أحكام شخصية إلى متطلبات جماعية تحمل صفة الوجوب وتخضع للمساءلة القانونية والاجتماعية. إن هذا التفاعل المعقد بين الشأن العام والقيمة ينتج عنه الجدلية الأساسية التي تتمحور حول التسييس والتأنيس.

التفكيك المفهومي

أ. التسييس

يُفهم التسييس على أنه العملية الديناميكية لتحويل القضايا من الدائرة الخاصة إلى الدائرة العامة، جاعلاً إياها ملكًا للجميع وقابلة للحل السياسي. يستكشف التسييس أفقين رئيسيين:

أفق الحرب والنزاع: حيث يسعى التسييس نحو إحلال السلام.

أفق الطبائع والثوابت: حيث يسعى إلى التحرر الاجتماعي والثقافي.

جوهر السياسة يكمن في عملية التسييس ذاتها.

ب. التأنيس

يشير التأنيس إلى مركزية القيمة البشرية. يمكن تمييز نوعين أساسيين من التأنيس في سياق الخطاب الفلسفي:

التأنيس الجوهري: الذي يعتمد على ماهية ثابتة للإنسان (كالعقل أو الروح كما في الفلسفة الكلاسيكية والدينية).

التأنيس الإجرائي: الذي يركز على الإرادة والتعاقد والسياق (كما في الفلسفات الحداثية التي تسعى لنقل الأحكام من الإطار الإلهي إلى الإطار البشري).

طبيعة العلاقة التاريخية

تطورت العلاقة بين التسييس والتأنيس عبر التاريخ الفلسفي، من مرحلة التوحيد الكلاسيكي، مروراً بالانفصال الحداثي والواقعية السياسية، وصولاً إلى مرحلة التفكيك والنقد المعاصر. ويكشف هذا التطور أن التسييس في العصر الحديث لم يكن دائماً فعلاً راشداً، بل في كثير من الأحيان، هو استجابة لأزمة أعمق.

فالخواء الذي خلفته الإيديولوجيات المنسحبة وغياب المرجعية الأخلاقية قد أدى إلى ما يمكن تسميته "تسيس الخواء": كي تحل محل المعاني والقيم دوافع ومحفزات قائمة على عصبيات فردية أو جماعية فارغة. هذا يشير إلى أن التسييس قد يصبح عرضاً مرضياً لفشل التأنيس الجوهري، مما يؤدي إلى تشويه جوهر الإنسان بسبب تراكم صراع المصالح وغياب القيمة.

أفلاطون: العدالة كبنية موحدة

تعتبر الفلسفة الكلاسيكية اليونانية، لاسيما عند سقراط وأفلاطون، نقطة الانطلاق لتأصيل العلاقة الجدلية بين الأخلاق والسياسة. لقد رأى أفلاطون أن السياسة والأخلاق متجذرتان في مفهوم العدالة، وأن العلاقة بينهما جدلية لدرجة أنه "لا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى." نشأة الدولة في المنظور الأفلاطوني هي استجابة لحاجة الفرد للجماعة وعدم استغنائه بنفسه، ويتم ذلك عبر إقامة النظام وتوحيد الجهود. ومن ثم، فإن الدولة في جوهرها ما هي إلا "فرد إنساني متكامل".

هذا التسييس للحياة المدنية يعكس التأنيس الوجودي، حيث تتسرب القوى النفسية الثلاث للإنسان (العقل، العاطفة، الشهوة) لتكوّن طبقات الدولة الثلاث (الحكام/الفلاسفة، الجنود/الحرس، العمال/المنتجون). إن التسييس الأفلاطوني هو في حقيقته آلية ضامنة لنظام أخلاقي داخلي. عبر ربط الحاكم بالفيلسوف الذي يتغلب فيه العقل، وتوجيه "سفينة الدولة" نحو الخير، يصبح التسييس هو الأداة التي تضمن خضوع القوى النفسية الدنيا للفرد للقوة العليا. وبالتالي، فإن التسييس يحمي التأنيس الجوهري من الانحراف.

أرسطو: المدينة كشرط لتحقيق الفضيلة

سار أرسطو على ذات المنهج في ربط الأخلاق بالسياسة، حيث رأى أن مبدأ الغاية هو قوام السياسة والأخلاق على حد سواء، والغاية القصوى هي السعادة التي لا تتحقق إلا في المدينة. ولذلك، فإن التسييس يهدف إلى إتمام التأنيس عبر تحقيق هذه الغاية. رغم هذا التوحيد، فإن أرسطو وضع بذور الانفصال الحداثي عبر إدراكه الفرق بين الدولة والحكومة. هذا التمييز المؤسسي يمثل تسيسا للقانون المدني يمنحه استقلالية نسبية عن الفضيلة المطلقة، لكنه يظل ضمن إطار السعي نحو الخير الأقصى والفضيلة.

الواقعية السياسية وأزمة التأنيس الأخلاقي

شهدت فترة الحداثة انفصالاً جذرياً في العلاقة العضوية بين التسييس والتأنيس، حيث أصبحت السياسة علماً مستقلاً بذاته يهدف إلى الفاعلية والنظام، بدلاً من أن يكون تطبيقاً للفضيلة المطلقة.

مكيافيلي: يمثل نقطة تحول نحو التسييس النفعي. فابتعاده عن القيم الدينية كان بمثابة تحرر؛ وانطلاق نحو نهضة أمته. هنا، يخدم التسييس غاية الدولة النفعية، بغض النظر عن القيود الأخلاقية الصارمة.

ابن خلدون: قدم رؤية مختلفة حيث نظر إلى القيم الدينية باعتبارها "المخرج الأساسي لأمته من أزمتها السياسية". التسييس الفعال في هذا النموذج يظل رهيناً بالتعزيز الأخلاقي القائم على المرجعية الدينية، بعكس النظرة الغربية.

فلسفة التنوير: روسو

حاول فلاسفة التنوير إعادة تأسيس الخطاب المدني الأخلاقي على أسس عقلانية وإنسانية. أدرك روسو ضرورة تسيس المعتقدات الأخلاقية لخدمة الدولة. في "العقد الاجتماعي"، شرح عقيدته حول الدين المدني، الذي يهدف إلى تعزيز "روح الوطنية والتضامن الاجتماعي" الضروريين للدولة المزدهرة.

لكن محاولة التنوير لإعادة دمج التسييس والتأنيس أدت إلى مفارقة؛ حيث كشف فرضه للعقائد تحت التهديد بالعقاب الأقصى عن أداتيه الضمير الأخلاقي لصالح الأمن المدني، والتضحية بالحرية الأخلاقية الفردية من أجل استقرار الدولة.

كانط: التأسيس العقلاني الأخلاقي للخطاب المدني

قدم إيمانويل كانط، عبر أخلاقه الواجبية، أقوى محاولة حداثية لتأسيس الخطاب المدني الأخلاقي على العقل المحض.

الواجب القاطع كنواة للأخلاق المدنية: عملية التسييس المثالية هي تعميم القانون الأخلاقي العقلاني ليصبح قوانينًا عالمية لا يمكن أن تتغير حسب الظروف، وهو ما يمثل التسييس العقلاني للقانون المدني.

الإنسان كغاية في ذاته: تُعلي صيغة الاستقلالية من شأن التأنيس العقلاني إلى أقصى حد، حيث يرى كانط أن الفرد العاقل هو المشرّع للقانون الأخلاقي، وملزم به فقط لأنه نابع من إرادته العقلانية. هذا المبدأ يضمن أن يُعامل الإنسان كغاية في ذاته، وليس مجرد وسيلة لتحقيق أهداف أخرى.

نحو خطاب مدني أخلاقي مرشد

إن المسوغ الجوهري للثورة هو السياسة، حيث تُفهم السياسة كشأن مشاع يسعى للتحرر. يتطلب ذلك أن تكون القضايا الأخلاقية المدنية (مثل حقوق الإنسان والعدالة) قابلة للتسييس في أفق التحرر، بعيدًا عن السيطرة والقمع.

لمواجهة "تسيس الحياة الإنسانية" الذي يؤدي إلى خواء المعنى، يجب ترسيخ منظومات قيمية حقيقية تقوم على مكارم الأخلاق لتربط سلوكيات الأفراد في كل مناحي حياتهم بهذه القيم. هذا الترسيخ هو الضمان ضد الخواء الأيديولوجي الذي يملأ الفراغ بالعصبيات الفارغة.

***

غالب المسعودي

.......................

المراجع:

aljazeera.net. "الضمير الأخلاقي والدين المدني عند جان جاك روسو

aljumhuriya.net. "تسيس: وجها السياسة ومعنياها"

mandumah.com. "الوصف: جدلية العلاقة بين الأخلاق والسياسة"

raya.com. "عندما يموت المعنى!"

tafahom.mara.gov.om. "book tafahom 45.indb"

...

مقاربة فينومينولوجية

"لا يوجد سوى طريقة واحدة لوجود الوعي، وهي أن يكون واعيًا لوجوده الخاص." - جان بول سارتر

مقدمة:

يُشكّل الوعي الإنساني – كما يُعرّفه الفينومينولوجيا – الشرط الأول لكل تجربة، إذ لا يوجد عالم إلا من خلال ظهوره للذات الواعية. لكن هذا الوعي ليس مرآة محايدة، بل حقلًا مليئًا بالأدوات المضللة (اللغة، الثقافة، التكنولوجيا، الأيديولوجيا) والطرق الوعرة (القلق، الغموض، الجسدية، الموت). المشكلة ليست في الوعي نفسه، بل في كيفية توجيهه بين هذين القطبين: الأدوات التي تُبسّط الوجود وتُخفيه، والطرق التي تُعيدنا إلى أصالة التجربة لكن بثمن باهظ.  تهدف هذه الدراسة إلى تحليل هذه الثنائية من منظور فينومينولوجي، مستندة إلى أعمال هوسرل، هيدجر، ميرلو-بونتي، وسارتر، مع التركيز على الوعي كعملية ديناميكية تتأرجح بين الإغواء بالتبسيط والمواجهة بالتعقيد. المقاربة ليست تحليلية مجردة، بل وصفية-تأويلية تسعى لكشف كيف يُعاش الوعي في هذا التوتر.

الإطار الفينومينولوجي: الوعي كقصدية وكشف

تبدأ الفينومينولوجيا مع هوسرل بمبدأ القصدية: الوعي دائمًا وعي بشيء. لكن هذه القصدية ليست آلية، بل عملية كشف تُعلّق فيها الأحكام الطبيعية للوصول إلى الظواهر كما تُعطى. المشكلة تبدأ هنا: الأدوات المضللة تُدخل طبقات من التأويل المسبق (اللغة، العادات، العلم) تُحجب الظاهرة الأصلية. أما الطرق الوعرة فهي اللحظات التي يُجبر فيها الوعي على مواجهة الغموض الأنطولوجي (هيدجر) أو الجسدية الحية (ميرلو-بونتي).  الوعي، إذن، ليس ملكية، بل حدث مستمر يتأرجح بين الإغلاق (بالأدوات) والانفتاح (بالطرق الوعرة). المشكلة ليست في وجود هذين القطبين، بل في التوازن بينهما.

الأدوات المضللة: الوعي المُغلق في التبسيط

الأدوات المضللة ليست أدوات بالمعنى التقني فقط، بل كل بنية تُحوّل الوعي من كشف إلى إسقاط.

أولاً، اللغة: كما يُظهر هيدجر في الوجود والزمن، اللغة هي "بيت الوجود"، لكنها أيضًا سجن. عندما نُسمّي الشيء، نُختزله إلى مفهوم، فنفقد الوجود الحي. الوعي يُصبح أسير المعاني الجاهزة، فيُرى العالم كـ"موضوع" لا كـ"حدث".

ثانيًا، الثقافة والأيديولوجيا: سارتر في الوجود والعدم يتحدث عن سوء النية أو الفكر الجاد- الوعي الذي يُخدع نفسه بقبول الأدوار الاجتماعية كحقيقة. الأيديولوجيا تُقدّم رواية جاهزة عن "الأنا" و"الآخر"، فتُغلق الوعي عن التساؤل.

ثالثًا، التكنولوجيا: ميرلو-بونتي

في فينومينولوجيا الإدراك يُحذّر من أن الأدوات التقنية تُمدّد الجسد، لكنها قد تُحجبه. في العصر الرقمي، الوعي يُعاش عبر الشاشات، فيُفقد الإحساس بالحضور الجسدي. الخوارزميات تُقدّم عالمًا مُبسّطًا، مُفرغًا من الغموض، فتُضلّل الوعي عن الوجود كمخاطرة.

هذه الأدوات لا تُضلّل بالكذب، بل بالتبسيط المُغري: تُعطي إجابات فورية، فتُعفي الوعي من المواجهة.

الطرق الوعرة: الوعي المُفتتح على الغموض

في المقابل، الطرق الوعرة هي اللحظات التي يُجبر فيها الوعي على مواجهة حدوده.

أولاً، القلق:

هيدجر يُصفه كـ"مزاج أساسي" يكشف عن اللا-شيء. في القلق، تُنهار الأدوات المضللة، ويُدرك الإنسان أن وجوده مُلقى في عالم بلا معنى مُعطى. هذا الكشف مؤلم، لكنه أصيل.

ثانيًا، الجسدية:

ميرلو-بونتي يُظهر أن الوعي ليس فكرًا مجردًا، بل جسدًا حيًا. الطريق الوعر هنا هو الإحساس بالجسد كحدّ: المرض، الإرهاق، الشيخوخة. هذه التجارب تُعيد الوعي إلى الوجود قبل اللغة، حيث لا توجد إجابات جاهزة.

ثالثًا، الموت:

هيدجر يُسميه "الإمكان الأكثر خصوصية". الموت ليس حدثًا مستقبليًا، بل هيكل وجودي يُعطي الوعي إلحاحه. في مواجهة الموت، تُفقد الأدوات المضللة فعاليتها، ويُصبح الوعي مُلزمًا بالاختيار الأصيل.

رابعًا، الآخر:

ليفيناس يُضيف بُعدًا أخلاقيًا: وجه الآخر هو طريق وعر يُقاطع الوعي الذاتي، ويُطالبه بالمسؤولية. ليس الآخر موضوعًا للمعرفة، بل حدثًا يُحطّم الاطمئنان.  هذه الطرق ليست عقابًا، بل دعوة لليقظة: تُعيد الوعي إلى أصالته بكشف الوهم الذي تُنتجه الأدوات.

التوتر الديناميكي: الوعي كتأرجح مستمر

الوعي الإنساني لا يختار بين الأدوات والطرق، بل يُعاش في توترهما.

هوسرل يُسمي هذا التذبذب: الوعي يُغلق بالأدوات ليُبسّط العالم، ثم يُفتتح بالطرق الوعرة ليُعيد اكتشافه.  هذا التوتر ليس عيبًا، بل شرط الوجود الأصيل.

سارتر يُقدّم مثالًا: الإنسان مُحكوم عليه بالحرية، أي أن عليه أن يختار دائمًا بين الفكر الجاد (الأدوات) والاختيار الأصيل (الطرق). لا يوجد وعي "خالص"، بل وعي مُتوتّر يُعيد بناء نفسه في كل لحظة.

نحو فينومينولوجيا اليقظة

المشكلة ليست في الأدوات أو الطرق، بل في النسيان: نسيان أن الأدوات تُضلّل، ونسيان أن الطرق الوعرة هي الطريق إلى الذات. الفينومينولوجيا لا تُقدّم حلًا، بل ممارسة:

تعليق الحكم (epoche): رفض الروايات الجاهزة، سواء كانت لغوية أو تكنولوجية.

الانفتاح على الطرق: قبول القلق، الجسد، الموت، الآخر كـمُعلّمين.

الوصف المستمر: كتابة التجربة كما تُعاش، لا كما تُفسّر.

هذه الممارسة ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية: في عالم يُغرقنا بالأدوات، الطريق الوعر هو الطريق الوحيد للبقاء إنسانًا.

الخاتمة

"الوعي هو الأنا الفينومينولوجي كحزمة أو تشابك للتجارب النفسية" إدموند هوسرل، "تأملات ديكارتية".

مشكلة الوعي الإنساني ليست في نقصه، بل في وفرة إغواءاته. الأدوات المضللة تُعطي راحة زائفة، والطرق الوعرة تُعطي ألمًا حقيقيًا. لكن الفينومينولوجيا تُعلّمنا أن الوعي لا يُكتمل إلا في التوتر بينهما.  في النهاية، الوعي ليس ملكية، بل مسؤولية: مسؤولية أن نُبقي الطرق الوعرة مفتوحة، حتى لو كانت تُؤلمنا. لأن في هذا الألم، فقط، نجد أنفسنا. فبأي معنى نقر بأن "كل وعي هو وعي بشيء ما"؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

...........................

المصادر والمراجع

Husserl, Edmund. Ideen zu einer reinen Phänomenologie.

Heidegger, Martin. Sein und Zeit.

Merleau-Ponty, Maurice. Phénoménologie de la perception.

Sartre, Jean-Paul. L’être et le néant.

Levinas, Emmanuel. Totalité et infini.

يُعيد ماكس شيلر ترتيب خريطة الوعي الفلسفي حين يحرر مجال القيم من قبضة العقل، ويعيده إلى موطنه الأصيل: الوجدان. فالعقل — في تصوره — عاجز عن لمس الجوهر القيمي للأشياء، لأنه بطبيعته أداة تحليل، لا أداة كشف. أمّا الوجدان، فهو البصيرة التي ترى ما وراء الظاهر، إنه “العين الباطنة” التي تبصر القيم كما يُبصر البصر الألوان.

بهذا يطبق شيلر منهج هوسرل الظاهراتي، لا على المعرفة أو المنطق كما فعل أستاذه، بل على الحياة الانفعالية ذاتها، حيث الحدس الوجداني يصبح طريقاً إلى إدراك الماهيات القيمية، إدراكاً مباشراً سابقاً للتجربة، قبليًّا ولكنه ليس عقلياً، بل انفعالياً قبلياً، ينبثق من أعماق الكيان الإنساني لا من سطح الفكر. ولهذا يثور شيلر على الإرث الكانطي الذي جرد العاطفة من معناها، وعدّها امتداداً للنظام السيكو-فيزيائي للإنسان، ففي نظره، هذه الرؤية تجهل البنية القصدية للعاطفة؛ إذ إن الوجدان ليس اضطراباً عارضاً في النفس، بل فعل قصديّ متجه نحو قيمة، لانّ القيمة ليست وليدة العاطفة، بل هي سابقة عليها وجوداً ومنزلة، والعاطفة لا تخلق القيمة، وإنما تكشف عنها كما يكشف الضوء عن شكل الشيء، إن القيم موجودة على نحو مستقل عن وعينا بها، والعاطفة ما هي إلا الوسيلة التي تزيح الغطاء عنها.

ويميز شيلر بدقة بين القيمة والواجب، فالواجب المثالي يستند إلى القيمة، لا العكس، ومن هنا يرفض إقامة الأخلاق على أساس الواجب المعياري الذي يفتقر إلى الجذر القيمي الأصيل، فالقيمة هي الأصل، والواجب فرع عنها، كما أن الوجود القيمي سابق على كل فعل أو أمر أخلاقي، فهو أفق تتجلى فيه إمكانات الفعل الإنساني.

ويرى شيلر أن القيم ليست نسبية، لأن معناها لا يقوم على علاقة أو مقارنة، بل تنتمي إلى فئة “الكيفيات المطلقة” التي لا تتبدل، والذي يتغير هو وعينا بها لا هي نفسها، ونسبيتنا المعرفية لا تمس إطلاقها الوجودي، لانها ثابتة، لكنها تتجلى بدرجات مختلفة في الوعي الإنساني والتاريخي. ومن هنا، يشن شيلر حربًا فكرية على كل نزعة تنسبية، سواء أكانت أخلاقية أم تاريخية، مؤكداً أن القيمة ليست اختراعًا بشريًا ولا نتاجًا للتطور الاجتماعي، بل كيانٌ قبليّ متعالٍ على الزمان.

ويُظهر شيلر حسًّا أنثروبولوجيًا عميقًا حين يطبق الظاهراتية على الإنسان ذاته، فيجعله كائنًا قيمياً قبل أن يكون عقلانياً. فالإنسان — في جوهره — ليس “حيواناً عاقلاً” كما وصفه أرسطو، بل كائن يعي القيم ويعيشها وجدانياً، يستمد منها معنى وجوده ومغزى أفعاله، فكل تغير في الحس القيمي، في الأحكام الأخلاقية، في النظم والعادات، هو تغير في الأفق الإنساني ذاته، لا في طبيعة القيمة، فالقيم خالدة، أما طرائق عيشها فتتبدل بتبدل التاريخ.

وهكذا، حرّر ماكس شيلر الفلسفة من أسر المفاهيم العقلانية الجامدة، وأعاد للوجدان مكانته كمصدر أصيل للمعرفة الأخلاقية، فالقيمة عنده ليست فكرة ولا مبدأ، بل حقيقة تُدرك بالحدس الانفعالي، وكأنها إشراقة تكشف للإنسان عن ما يجب أن يكون، لا بما يُفرض عليه من الخارج، بل بما يستدعيه من عمق ذاته الحرة والواعية.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

تعريف الشر الكامل: المفهوم المحوري هنا هو "الشر الكامل الذي لا يملك دوافع تجميلية". هذا الشر لا يمكن تبريره أو "تجميله" بأي غطاء أيديولوجي، أو منفعة ذاتية حقيقية، أو ضرورة تاريخية مزعومة، تجعله مقبولاً ضمن أي نظام قيمي. هذا التحليل يطرح سؤالاً عميقاً: هل تتسم المنظومات الهيكلية الحديثة للاستغلال بالصراحة التدميرية التي تقاوم أي تفسير عقلاني أو أخلاقي؟

الشر الأداتي والأناني

يُعرّف هذا الشر بأنه فعل يُرتكب كوسيلة لتحقيق منفعة ذاتية خالصة، مثل كسب المال أو السلطة أو النجاة. الضرر الذي يلحق بالآخرين في هذه الحالة يكون عرضياً أو ثانوياً بالنسبة للفاعل، وليس هو الغاية المقصودة. الفرد الأناني يعمل وفقاً لمبدأ: "لا تساعد أحداً؛ بل أضرّ بالجميع إذا كان ذلك يحقق لك ميزة". في هذا السياق، يتم "تجميل" الاستغلال بوصفه كفاءة اقتصادية أو ضرورة للتنافس العالمي.

الشر الجذري

يُفهم "الشر الجذري"، وفقاً لإيمانويل كانط، على أنه انحراف فطري داخل الكيان الإنساني، حيث يتم تبني مبادئ تضع المصلحة الذاتية فوق القانون الأخلاقي. قد ينبع هذا الشر مما سماه كانط "اللا مجتمع الاجتماعي"، أي الصراع النابع من التفاعل الاجتماعي البشري. يظل هذا الشر متجذراً في الإنسانية وقابلاً للفهم ضمن إطار عقلاني، ولكنه يمثل تقويضاً ذاتياً للأساس الأخلاقي.

الشر الخالص

يمثل هذا المفهوم، خاصة لدى شوبنهاور، أعلى درجات الفساد الأخلاقي، حيث يُعرّف بأنه الرغبة في تعاسة الآخرين، وتُعتبر معاناة الآخرين "غاية في ذاتها". يوصف الشخص الخبيث بأنه يسعى إلى إلحاق الضرر بالآخرين دون مصلحة ذاتية مباشرة. هذه اللامبالاة بالذات مقابل هدف إيذاء الآخر تجعل "الشر الخالص" أسوأ أخلاقياً من الأنانية.

الشر الكامل والمجاني

يوصف الشر المطلق غالباً بأنه غير عقلاني أو جنوني، مما يجعل الحكم عليه صعباً وفقاً للمعايير الأخلاقية المنطقية. يمكن قياس تأثيره في الألم والمعاناة البشرية والاضطراب الاجتماعي.

أما "الشر المجاني"، وهو مصطلح لاهوتي مطبّق سياسياً، فيُعرّف بأنه أي شكل من الشر كان يمكن منعه بطريقة تجعل العالم أفضل بكثير. هذا التركيز على غياب الضرورة الأخلاقية الكافية هو ما يربط "الشر المجاني" بـ "الشر الكامل"؛ إذ يفتقر كلاهما إلى التبرير الجوهري أو الهدف الأسمى.

غياب "الغطاء التجميلي"

الغطاء التجميلي في هذا السياق لا يعني بالضرورة الجمال الفني، بل يشير إلى الغطاء الأيديولوجي الذي يُستخدم لتزيين الفعل الشرير. يمكن للفن العظيم أن ينتج عن أناس أشرار، ولا تحمل الجماليات بحد ذاتها أيديولوجيا متأصلة.

الغطاء التجميلي هو استخدام خطاب "التنوير" أو "التقدم" لتبرير الاستغلال الاستعماري القديم، أو استخدام خطاب "الكفاءة" و"المنافسة" لتبرير الجشع الرأسمالي الحديث.

إن تطبيق مفهوم "الشر المجاني" على الأنظمة البشرية هو تحويل للنقد من لاهوتي إلى سياسي. فإذا كان النظام النيوكولونيالي ينتج شراً "كان يمكن منعه وجعل العالم أفضل" (أي أن الديون والفقر المفروضين لا يحققان غاية كبرى، بل يعيقان الخير الأعظم)، فإن هذا الشر يفقد صفة "الأداتي العقلاني" ويصبح مجانياً بالنسبة للإنسانية ككل، رغم أنه يظل أداتياً بالنسبة للطبقة المستفيدة من رأس المال.

النيوكولونيالية كمنظومة للشر الهيكلي

النيوكولونيالية هي السيطرة التي تمارسها دولة (عادةً القوة الاستعمارية السابقة) على دولة أخرى مستقلة اسمياً (المستعمرة السابقة) من خلال وسائل غير مباشرة. هذه الظاهرة، التي صاغها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1956)، واستخدمها كوامي نكروما في الستينيات، تستبدل السيطرة العسكرية المباشرة بآليات الإمبريالية الاقتصادية، والعولمة، والإمبريالية الثقافية، والمعونة المشروطة. جوهر هذه العلاقة هو أن الدولة الخاضعة لها، على الرغم من امتلاكها لجميع مظاهر السيادة الدولية، تُوجّه سياستها الاقتصادية والسياسية فعلياً من الخارج.

المال كـ "شر كامل"

لتحقيق "الشر الكامل" الخالي من التجميل، يجب ربط النيوكولونيالية بالطبيعة الميتافيزيقية للمال الحديث. الشر المطلق قد يوصف بأنه "تسامٍ قائم بذاته خالٍ من الحب أو المعنى أو الهدف، إله بلا إله". النظام المالي النيوكولونيالي يتطابق مع هذا الوصف؛ فهو لا يقدم حكماً أخلاقياً (باستثناء الوعد الزائف بالتنمية)، بل هو "كائن، ضخم وغير مبالٍ، يولد نفسه بلا نهاية" عبر آليات الديون والنمو المتفشي.

لا يتبع هذا النظام منطقاً عقلانياً في المدى الطويل. إن عبادة النظام النقدي - التي تقتل الحياة، وتُدمّر الأنظمة الحيوية، وتقلب الأخلاق - هي الأقرب إلى التعريف الفلسفي للشر الكامل الذي يفتقر إلى المنطق الجوهري. هذا التدمير هو مجاني لأنه يهدد استدامة النظام البيئي العالمي ككل، مما يجعل الفوائد المتحققة قصيرة الأجل وغير عقلانية. النيوكولونيالية هي التعبير الهيكلي لهذا الشر، حيث يُنفّذ الشر الأناني (الجشع) بآليات مبتذلة (البيروقراطية)، ولكنه يستند إلى منطق نظامي خبيث يسعى إلى التدمير المجاني لضمان التسامي المقلوب لرأس المال.

الشر الكامل هيكلية هدفها منع الخير الأكبر

يُظهر التحليل أن "الشر الكامل" في النيوكولونيالية هو شر لامركزي. إنه ليس شراً شخصياً محدداً، بل شراً نظامياً يعمل بالتعاون بين الخباثة الهيكلية (التي تصمم القواعد العالمية لتفضيل الشركات على الشعوب) والابتذال البيروقراطي (الذي يضمن التنفيذ).

استراتيجيات فلسفة الأخلاق للمقاومة والتحرر

بما أن "الشر المجاني" هو الشر الذي كان يمكن منعه، وبما أن النيوكولونيالية هي نظام مصمم بشرياً (قواعد تجارية، مؤسسات مالية)، فإن المقاومة الأخلاقية لديها قوة التحويل السياسي:

الإصرار على التفكير النقدي

الإصرار على "التفكير" هو الحصن الوحيد ضد "التمسك بالقواعد السلوكية المقررة". التفكير النقدي ضروري لمواجهة الشر المبتذل في التنفيذ والشر الكامل في التصميم الهيكلي.

إعادة تعريف السيادة والتبعية

تتطلب المقاومة استعادة السيطرة على الاقتصادات والموارد الوطنية والمحلية، وضمان اتخاذ القرارات على المستوى المحلي الأنسب. هذا التفكيك للتبعية النيوكولونيالية يسمح للشعوب ببناء مفاهيمها الخاصة عن الحُسن والعدالة.

نقض الخطاب التجميلي

يتم تجميل الاستغلال بخطاب "التنمية" النيوليبرالي، لكن النتائج الملموسة هي تدمير الأنظمة الحيوية والانقلاب الأخلاقي (تحويل الرذائل إلى فضائل)، مما يثبت أن الغطاء التجميلي زائف ومُهدِّم للحياة.

محاربة الخباثة النظامية

على الرغم من أن التنفيذ يتم عبر أفراد يمارسون الشر المبتذل، فإن قواعد اللعبة العالمية مصممة بنية خبيثة تهدف إلى منع التحرر السياسي والاقتصادي للدول المستقلة.

إن التحدي الأخلاقي ليس مجرد إدانة الأفعال، بل الاعتراف بأن الشر النظامي للنيوكولونيالية هو شر نظامي، وليس مجرد سوء تقدير. هذا الاعتراف يتطلب تحويل النقد الفلسفي إلى جدول أعمال سياسية تهدف إلى استبدال المؤسسات الفاشلة بنظام عالمي يعتمد على الديمقراطية والمساءلة، ويُعلي من قيمة الحياة والعدالة فوق متطلبات النمو النقدي المجرد.

***

غالب المسعودي

.....................

المراجع

beigemoth. blog. Aesthetics and Evil - The Beige Moth

cambridge.org. Gratuitous evil and divine providence | Religious Studies | Cambridge Core

fount.aucegypt.edu. “The Principles of Islamic Moral Philosophy and the Possibility of Re-C” by Muhammad Feteha - AUC Knowledge Fountain - The American University in Cairo

iep.utm.edu. Kant, Immanuel: Radical Evil | Internet Encyclopedia of Philosophy

orca.cardiff.ac.uk. “The poison in the snake's fang”: Schopenhauer on malice

peped.org. Absolute Evil - Philosophical Investigations - PEPED

trendsettercase.wordpress.com. God, Gratuitous Evil, and The Murderous Goose - Parker's Pensées

 

الفرق الدلالي والاجرائي

"الوضع البشري هو المصطلح الوحيد الذي يجب أن ننطلق منه، وإليه يجب أن نعود بكل شيء"

الوضع البشري هو مفهوم فلسفي وعلمي مركزي يُعنى بدراسة طبيعة الوجود البشري، بما يشمل تجاربه، سلوكياته، وتفاعلاته. يتناول كل من علم الاجتماع (السوسيولوجيا) وعلم النفس (البسيكولوجيا) هذا المفهوم من زوايا مختلفة، مما يولد اختلافات دلالية (في المعنى والمفاهيم) وإجرائية (في المنهجيات والتطبيقات). تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الفرق بين التناول السوسيولوجي والتناول البسيكولوجي للوضع البشري من خلال مقارنة دلالية وإجرائية، مع التركيز على الإطار النظري، المنهجيات المستخدمة، والتطبيقات العملية. فماهي احوال الوضع البشري؟ كيف يتم تناول الوضع البشري من جهة السوسيولوجيا والبسيكولوجيا؟ مادا يترتب عن هذا التناول؟ وماهو الفرق الدلالي والاجرائي بينهما؟

الفرق الدلالي

التناول السوسيولوجي

علم الاجتماع يركز على الوضع البشري من منظور جماعي، حيث يُنظر إلى الفرد كجزء من نسيج اجتماعي أوسع. يُعرّف الوضع البشري في هذا السياق من خلال التفاعلات الاجتماعية، الهياكل الاجتماعية (مثل الطبقات، المؤسسات، والثقافات)، والسياقات التاريخية والثقافية التي تشكل سلوك الفرد وهويته. على سبيل المثال: المفاهيم الأساسية: التنشئة الاجتماعية، السلطة، الثقافة، والدور الاجتماعي.

المنظور: يرى السوسيولوجيون أن الوضع البشري مشروط بالبيئة الاجتماعية، حيث تؤثر العوامل الخارجية مثل القوانين، الأعراف، والمؤسسات في تشكيل السلوك البشري.

مثال تطبيقي: دراسة تأثير العولمة على الهوية الثقافية لمجتمع معين.

التناول البسيكولوجي

على النقيض، يركز علم النفس على الفرد كوحدة تحليل أساسية، مع التركيز على العمليات الذهنية الداخلية مثل الإدراك، العواطف، والدوافع. يُعرّف الوضع البشري هنا من خلال التجربة الفردية، الوعي الذاتي، والعوامل النفسية التي تؤثر على السلوك. على سبيل المثال:

المفاهيم الأساسية: الشخصية، الدافعية، الإدراك، والصحة النفسية.

المنظور: يرى علماء النفس أن الوضع البشري يتشكل من خلال التجارب الشخصية، العمليات العقلية، والاستجابات الفردية للمحفزات الخارجية.

مثال تطبيقي: دراسة تأثير القلق على اتخاذ القرار لدى الأفراد.

مقارنة دلالية

التركيز: السوسيولوجيا تركز على "الجماعة" وتأثيرها على الفرد، بينما البسيكولوجيا تركز على "الفرد" وتجربته الداخلية.

السياق: التناول السوسيولوجي يعتمد على السياق الاجتماعي والثقافي، بينما التناول البسيكولوجي يعتمد على العوامل الداخلية والفردية.

المفاهيم: المفاهيم السوسيولوجية تتعلق بالهياكل والعلاقات الاجتماعية (مثل السلطة والطبقة)، بينما المفاهيم البسيكولوجية تتعلق بالعمليات الذهنية (مثل الإدراك والعاطفة).

الفرق الإجرائي

المنهجيات السوسيولوجية

تعتمد السوسيولوجيا على منهجيات تهدف إلى فهم الظواهر الاجتماعية على مستوى الجماعة، وتشمل: الدراسات النوعية: مثل الإثنوغرافيا، المقابلات المتعمقة، وتحليل الخطاب لفهم ديناميكيات المجتمع.

الدراسات الكمية: مثل الاستبيانات، تحليل البيانات الإحصائية، ودراسات الحالة لقياس الظواهر الاجتماعية.

المنهج النظري: الاعتماد على نظريات مثل الوظيفية البنائية (بارسونز)، الصراعية (ماركس)، أو التفاعلية الرمزية (ميد).

مثال إجرائي: تحليل تأثير الفقر على التعليم من خلال دراسة إحصائية لمعدلات التسرب المدرسي في مجتمع معين.

المنهجيات البسيكولوجية

تعتمد البسيكولوجيا على منهجيات تركز على الفرد وعملياته النفسية، وتشمل:

الدراسات التجريبية: مثل التجارب المعملية لقياس الاستجابات النفسية أو السلوكية.

الدراسات السريرية: مثل تحليل الحالات الفردية لفهم اضطرابات الصحة النفسية.

المنهج النظري: الاعتماد على نظريات مثل التحليل النفسي (فرويد)، السلوكية (سكينر)، أو الإنسانية (روجرز).

مثال إجرائي: دراسة تأثير الضغط النفسي على الأداء الأكاديمي باستخدام تجربة معملية تقيس مستويات الكورتيزول.

مقارنة إجرائية

وحدة التحليل: السوسيولوجيا تدرس الجماعات أو المؤسسات، بينما البسيكولوجيا تدرس الفرد.

الأدوات: السوسيولوجيا تستخدم أدوات مثل الاستبيانات الواسعة النطاق والتحليل الإحصائي، بينما البسيكولوجيا قد تستخدم التجارب المعملية أو الاختبارات النفسية.

النتائج: النتائج السوسيولوجية غالبًا ما تكون تعميمات على مستوى المجتمع، بينما النتائج البسيكولوجية تكون خاصة بالفرد أو مجموعات صغيرة.

التطبيقات العملية

التناول السوسيولوجي

" إن تقبُّل مخاطر الحياة الحتمية هو ما يجعل الحالة الإنسانية نبيلة."

تُستخدم الدراسات السوسيولوجية في تصميم السياسات العامة، تحليل التغيرات الاجتماعية، وفهم ديناميكيات السلطة. على سبيل المثال، دراسة تأثير الهجرة على التكامل الاجتماعي.

الأثر: تساهم في تغيير الهياكل الاجتماعية أو تحسين العلاقات بين الجماعات.

التناول البسيكولوجي

تُستخدم في العلاج النفسي، تحسين الأداء الفردي، وفهم الاضطرابات النفسية. على سبيل المثال، تطوير برامج علاجية للقلق أو الاكتئاب.

الأثر: تساهم في تحسين الصحة النفسية الفردية ورفاهية الأفراد.

التكامل بين التناولين

رغم الاختلافات، هناك إمكانية للتكامل بين التناول السوسيولوجي والبسيكولوجي. على سبيل المثال: علم النفس الاجتماعي: يجمع بين المنظورين لدراسة كيفية تأثير البيئة الاجتماعية على العمليات النفسية الفردية.

الدراسات متعددة التخصصات: مثل دراسة تأثير الفقر (سوسيولوجي) على الصحة النفسية (بسيكولوجي).

مثال تطبيقي: تحليل تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الشعور بالوحدة، حيث يُدرس السياق الاجتماعي (مثل ثقافة التواصل) والعمليات النفسية (مثل الشعور بالانتماء).

خاتمة

" إن الوضع البشري يمكّننا من مشاركة أفضل ما فينا فقط، لأننا نسعى دائمًا إلى الحب والقبول."

الفرق بين التناول السوسيولوجي والتناول البسيكولوجي للوضع البشري يكمن في التركيز الدلالي والإجرائي. السوسيولوجيا تركز على الجماعة والهياكل الاجتماعية باستخدام منهجيات واسعة النطاق، بينما البسيكولوجيا تركز على الفرد والعمليات النفسية باستخدام منهجيات دقيقة وتجريبية. مع ذلك، يمكن للتكامل بين المنهجين أن يوفر فهمًا أعمق للوضع البشري، مما يعزز التطبيقات العملية في مجالات مثل السياسات العامة والعلاج النفسي. كيف يمكن تطوير الوضع البشري من التشتت والتأزم الى التألق والاشعاع؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

بقلم: سوزان هاك

ترجمة: د. ابراهيم طلبه سلكها - 2025م

العنوان الأصلى للمقال

Philosophy as a Profession, and as a Calling

Susan Haack

***

الملخص:

لم تكن الفلسفة دائمًا، كما هي اليوم، تخصصًا أكاديميًا يُمارس في الجامعات والكليات. وقد يظن المرء — كما تشير هاك — أن مأسسة الفلسفة واحترافها يعني أن إنتاجها أصبح أكثر وأفضل؛ لكنها تواصل قائلةً، للأسف، إن الأمر ليس كذلك. في هذا المقال، تستكشف هاك الاختلاف بين ممارسة الفلسفة بوصفها مهنةً أو وظيفة، وبين ممارستها بوصفها دعوةً أو رسالة، وتوضح الأسباب التي تجعل أولئك الذين يرون في الفلسفة أكثر من مجرد عملٍ مهني يجدون أنفسهم على خلافٍ مع القيم “الإدارية” التي تهيمن على المهنة الأكاديمية.

الكلمات المفتاحية: الفلسفة، المهنة، الرسالة، الهاوي، العمل، القيم.

الملخّص بالايطالية:

لم تكن الفلسفة دائمًا، كما هي اليوم، مجالًا أكاديميًا يُمارس أساسًا في الجامعات والكليات. قد يُظن — كما تقول هاك — أن احتراف الفلسفة يعني ليس فقط إنتاجًا أكثر، بل أيضًا إنتاجًا أفضل؛ غير أنّها تتابع قائلةً: للأسف، ليس الأمر كذلك. في هذا المقال، تتناول هاك الاختلاف بين التفلسف بوصفه مهنةً أو عملًا، والتفلسف بوصفه دعوةً أو رسالة، وتبيّن الأسباب التي تجعل أولئك الذين يرون في الفلسفة أكثر من مجرد عملٍ مهني يميلون إلى الاصطدام بـ القيم “الإدارية” السائدة في المهنة.

الكلمات المفتاحية: الفلسفة، المهنة، الرسالة، الهاوي، العمل، القيم.

«إن الطبيعة الفلسفية […] ستنمو لا محالة لتتحلّى بكل فضيلة إذا ما تلقت التعليم الملائم؛ أمّا إذا زُرعت وغُرست ونَمَت في بيئة غير مناسبة، فإنها ستتطور على النقيض تمامًا…»(1)

لكن، لِيستسلِم من يشاء لفصل هذين الأمرين،أمّا غايتي في الحياة فهي أن أوحّد مهنتي وهوايتي،كما تتّحد عيناي لتُبصِرا معًا رؤيةً واحدة.فحيثما يلتقي الحبّ بالحاجة،ويغدو العمل لعبًا من أجل رهانٍ بشريّ،حينها فقط يُنجَز الفعل حقًّا،من أجل السماء ومن أجل المستقبل.(2)

المقدمة

بالطبع، لم تكن الفلسفة دائمًا مهنةً أو تخصّصًا أكاديميًا يُمارَس أساسًا في الجامعات والكليات. فقد نال رينيه ديكارت(1596- 1650) –  درجةً في القانون المدني والكنسي، غير أنّه بدلًا من ممارسة المحاماة التحق عام 1618 متطوّعًا بجيش موريس ناساو، ثم لاحقًا بجيش ماكسيميليان البافاري. وفي أواخر عام 1646 بدأت الملكة كريستينا السويدية مراسلاتٍ معه أدّت في النهاية إلى انتقاله إلى السويد عام 1649 برعايتها الملكية.(3) أما بندكت باروخ  سبينوزا(1632-1677) , فقد رفض مناصب تدريس مرموقة، واختار بدلًا من ذلك أن يقتات من عمله في صقل العدسات للأدوات البصرية، متعاونًا في تصميماتها مع كريستيان هويغنس. وقد أدّت أفكاره الفلسفية إلى نبذه من قِبل طائفته اليهودية، ووُضع كتابه الأخلاق (4) على فهرس الكتب الممنوعة التابع للكنيسة الكاثوليكية.(5)

أما جون لوك(1632-1704) ، فقد تلقّى تدريبًا في الطب، ثم عُيّن لاحقًا طبيبًا خاصًا لكفيله أنتوني آشلي كوبر، أوّل إيرل لشافتسبري.(6) في حين كان جورج باركلي(1685-1753)  الابن الأكبر لـ ويليام باركلي، وهو نبيل أنجلو-إيرلندي من الدرجة الصغرى. بعد أن ألقى محاضراتٍ في اللاهوت واللغة العبرية في كلية ترينيتي بدبلن، نال في عام 1721 الرتبة الكنسية، ثم عُيّن عميدًا على درومور(1721-1722)، وبعدها على ديري (1724).   وفي عام 1723 تلقّى ميراثًا من إيستر فان هويمريخ، وتزوّج عام 1728 وسافر إلى أمريكا، قبل أن يعود عام 1732. وفي عام 1735 عُيّن أسقفًا أنجليكانيًا على كلون.(7)

كان ديفيد هيوم) ١٧١١–١٧٧٦ (الابن الثاني في عائلته، وكانت وراثته ضئيلة؛ لذلك انتقل إلى فرنسا حيث كان يمكنه العيش بتكلفة أقل، وهناك بدأ – في سن الثالثة والعشرين – في كتابة مؤلفه الشهير مبحث في الطبيعة البشرية.وفي عام ١٧٤٥ قبل وظيفة مُربيٍ لشابٍ من النبلاء، غير أنّ هذا الأخير تبيّن أنه مجنون؛ فترك العمل بعد عامٍ واحد ليصبح في ١٧٤٦ سكرتيرًا لابن عمه، الفريق جيمس سانت كلير، ورافقه لاحقًا في بعثة دبلوماسية إلى النمسا وإيطاليا.وبين عامي ١٧٥٤ و١٧٦٢ عمل أمين مكتبة في جمعية المحامين في إدنبرة، ثم أصبح سكرتيرًا للسفارة البريطانية في باريس، قبل أن يتقاعد في إدنبرة عام ١٧٦٩.(8) أما توماس ريد (١٧١٠–١٧٩٦) فقد كان قسًّا في الكنيسة الأسكتلندية حتى عام ١٧٥٢، حين أصبح أستاذًا في كلية كينغز بأبردين. وبعد نشر كتابه الأول بوقت قصير، عُيِّن أستاذًا للفلسفة الأخلاقية في جامعة غلاسكو، وهو المنصب الذي كان يشغله من قبل آدم سميث.(9)

كان جون ستيوارت مل (١٨٠٦–١٨٧٣) إداريًّا استعماريًّا في شركة الهند الشرقية منذ عام ١٨٢٣ حتى عام ١٨٥٨، كما شغل عضوية البرلمان عن منطقتي سيتي ووستمنستر من عام ١٨٦٥ إلى ١٨٦٨، وهي الفترة التي كان فيها أيضًا المدير الأعلى (اللورد ريكتور) لجامعة سانت أندروز.(10) أمّا تشارلز ساندرز بيرس (١٨٣٩–١٩١٤)، فباستثناء بضع سنوات عمل فيها محاضرًا في جامعة جونز هوبكنز، فقد أمضى معظم حياته المهنية عالِمًا في هيئة المسح الساحلي الأمريكية، إلى أن استقال عام ١٨٩١ وانتقل للعيش من إرثٍ تركه له والده، عالم الرياضيات بنجامين بيرس.(11)أما فريدريش نيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠)، فقد كان يُدرّس – لا الفلسفة – بل فقه اللغة الكلاسيكي في جامعة بازل من عام ١٨٦٩ إلى ١٨٧٩، واضطر إلى الاستقالة من مهامه الأكاديمية بعدما اكتشف أنه لا يستطيع استعمال عينيه لأكثر من عشرين دقيقة يوميًّا. غير أنه، وبفضل معاشٍ تقاعدي من الجامعة ودعم من الجمعية الأكاديمية التطوعية في مدينة بازل، بدأ بكتابة أهم أعماله الفلسفية. وفي عام ١٨٨٩ أصيب بانهيارٍ جسديٍّ تام، لكنه عاش حتى وفاته بسكتة دماغية عام ١٩٠٠ .(12)

أما جوتلوب فريجه (١٨٤٨–١٩٢٥)، فقد كان يُدرّس – لا الفلسفة – بل الرياضيات في جامعة يينا، وقد عاش في بدايات حياته المهنية على منحٍ دراسية غير مدفوعة الأجر أو زهيدة الأجر، واضطر إلى الاعتماد على إعالة والدته.(13) في حين عاش جيريمي بنتام على إرثٍ تركه له والده، جيرماياه بنثام، الذي كان محاميًا ناجحًا للغاية.(14) في الأزمنة الأحدث، طُرِد برتراند راسل (١٨٧٩–١٩٧٠) من منصبه في كلية ترينيتي بجامعة كامبريدج بعد أن أُدين وحُكم عليه بالسجن بموجب قانون الدفاع عن المملكة بسبب موقفه السلمي المعارض للحرب العالمية الأولى. وبعد ذلك، وفّر له كتابه الشهير تاريخ الفلسفة الغربية (١٩٤٥)(15) دخلًا ثابتًا ومضمونًا مدى الحياة.(16) أما لودفيغ فيتجنشتين (١٨٨٩–١٩٥١) – الذي كان جنديًّا متطوعًا في الجيش النمساوي-المجري أثناء الحرب العالمية الأولى – فقد عمل بستانيًّا ومعلّمًا في المدارس قبل أن يعود إلى جامعة كامبريدج عام ١٩٢٩ .(17)

ومع ذلك، في الوقت الحاضر، فإن الغالبية العظمى من الفلاسفة هم أساتذة أو محاضرون في مؤسسات أكاديمية. نعم، هناك أيضًا فئة من «الباحثين المستقلين»، ولكن كثيرين منهم، على الأقل، هم أشخاص لم ينجحوا في الحصول على وظيفة أكاديمية. ونعم، هناك عدد غير قليل ممن يشغلون مناصب في أقسام الفلسفة ربما لا يرون أنفسهم فلاسفة بالمعنى الحقيقي، بل مجرد معلّمين للفلسفة، دون ادّعاء أو طموح لأن يكونوا فلاسفة بحق.

ومع ذلك، توجد استثناءات نادرة — مثل الفيلسوف الراحل روجر سكروتون، الذي غادر الوسط الأكاديمي بعد عدة عقود، وبدأ يعتمد على نفسه في المعيشة، على ما يبدو، من خلال العمل في الاستشارات لصالح عدد من الشركات في دول الكتلة السوفيتية السابقة، ثم لصالح شركات التبغ، وكذلك من خلال عمله مع مراكز الأبحاث الفكرية، وغير ذلك(18) — لكن، باستثناء هذه الحالات القليلة، يمكن القول إن الفيلسوف في أيامنا هذه هو في الغالب أستاذٌ للفلسفة.

***

قد يخطر ببالك أن هذا يعني أن إنتاج الفلسفة اليوم أكثر، وأن بعضه — على الأقل — أفضل مما كان عليه في الأزمنة السابقة؛ فها نحن الآن أمام آلاف الأشخاص الذين يعملون في هذا المجال، لا بضع مئات فقط، ودون خوفٍ من عقوباتٍ رسمية بسبب الهرطقة أو المعارضة السياسية(19)، ومعظمهم لا يثقلهم كثير من الواجبات الأخرى، بل ويتقاضون أجورًا معقولة.لكن الواقع ليس كذلك؛ بل هو على العكس تمامًا. (وأحيانًا أتساءل إن كان جزءٌ من المشكلة يكمن ببساطة في أن المهنة قد أصبحت واسعةً أكثر مما ينبغي(20) — فشملت، لا محالة، عددًا كبيرًا من أولئك الذين لا يعنيهم من عملهم سوى قضاء الوقت).

وعلى أيّ حال، فإنّ ما نراه في الواقع هو كميات هائلة من الكتابات المنشورة، وأعداد لا تُحصى من الأوراق البحثية المقدَّمة، إلى جانب مهنةٍ باتت مفرطة التخصّص، وحقلٍ فكريٍّ متشظٍ إلى جماعاتٍ صغيرة وإقطاعياتٍ فكرية؛ وسلسلةٍ من النزعات العابرة والاتجاهات المؤقتة؛ وجبالٍ من الدوريات، تصدر كثيرٌ منها عن عددٍ قليل من الشركات التجارية العملاقة — بينما تُزاح الأعمال الجيّدة أو تُغمر وسط الضجيج.وبدل أن نرى أشخاصًا سعداء، شاكرين لكونهم يمارسون عملًا شيّقًا ومليئًا بالتحديات، نرى عددًا كبيرًا منهم يعانون القلق والاكتئاب أو الإرهاق وفقدان الطاقة بعد حصولهم أخيرًا على التثبيت الأكاديمي (التنّور)، أو نراهم في حالٍ من النشاط المحموم، كأنهم عاجزون عن التوقف عن إنتاج المواد الهزيلة التي أوصلتهم إلى تلك المرحلة.

ومن هنا يتحدد موضوعي في هذا المقام: الفرق بين الفلسفة بوصفها مهنةً أكاديمية، والفلسفة بوصفها نداءً أو رسالة — لا بمعناها الديني، بل بالمعنى الذي نصف به مثلًا مهنة التمريض على أنها (بالنسبة لبعضهم) رسالةً أو دعوةً.وهذا التمييز يتجاوز الفارق التقليدي بين "المحترف" و"الهاوي". فكلٌّ من الهاوي وصاحب الرسالة الفلسفية سيواصل الاشتغال بالفلسفة حتى لو لم يُدفَع له أجر لقاء ذلك. غير أنّ مصطلح «الرسالة» كما أستخدمه هنا لا يحمل أيًّا من الدلالات السلبية التي اكتسبها لفظ «هاوٍ» — أي الإيحاء بمرتبةٍ أدنى، كمن يلعب في «دوريٍّ ثانويٍّ» لا في «الدوريّ الممتاز».وحين أتحدث عن أولئك الذين يملكون رسالةً فلسفية، أعني الذين يمارسون الفلسفة بجدٍّ وصدق، ويسعون حقًا إلى فهم الأمور على نحوٍ عميق، حتى لو لم يتقاضَوا أجرًا على ذلك. ومثالٌ واضحٌ على ذلك هو تشارلز ساندرز بيرس، الذي واصل عمله الدؤوب والمنتج في الفلسفة والمنطق والسيميائيات وتاريخ العلوم، قبل أن تطرده جامعة هوبكنز بزمنٍ طويل، واستمر على ذلك المنهج عقودًا بعدها.

وبطبيعة الحال، فإن الفلسفة بالنسبة إلى قلةٍ منّا تُعد في آنٍ واحد مهنةً ورسالة. غير أنّ هذا، كما سأبيّن، يتركنا في كثيرٍ من الأحيان ممزقين بين قيمٍ متعارضة وطموحاتٍ متباينة. ذلك أنّ ممارسة الفلسفة بنجاح — وأعني بها إحراز تقدمٍ في مسألةٍ أو أكثر، أو حتى الوقوع في خطأ صادقٍ يمكن أن يتيح للآخرين فيما بعد أن يُحسنوا التقدّم — تتطلّب مهاراتٍ مختلفة اختلافًا جوهريًا، ومزاجًا مختلفًا، ومواقف مغايرة عمّا يتطلّبه النجاح في مهنة الفلسفة ذاتها، أو في وظيفة أستاذٍ جامعيّ.فإن الطموح الجوهري للفيلسوف هو اقتحام حصن المعرفة، أو على الأقل — كما يقول بيرس — أن يكون أحد الجثث التي تتسلّق فوقها الأجيال اللاحقة في طريقها إلى الحقيقة.(21) ومن الجليّ أن هذا ليس هو الطموح الأساسي لمن يسعى إلى النجاح في المهنة الفلسفية اليوم. إن «الطبيعة الفلسفية» التي يتحدث عنها أفلاطون تُصغي إلى النداء، غير أنها يسهل فسادها إذا وُجدت في بيئةٍ رديئة.

لا تفهمني على نحوٍ خاطئ: لست أقول إنّ أولئك الذين يعدّون الفلسفة نداءً أو رسالةً يؤدّون دائمًا، أو بالضرورة، عملًا أفضل في تطوير الفهم الفلسفي من أولئك الذين يتعاملون معها كمهنةٍ فحسب — فليس الأمر كذلك. فحتى أكثر المخلصين تفانيًا قد يُضيعون وقتهم في طرقٍ مسدودة، كما أن أكثر "المحترفين" تشككًا أو برودًا قد يصيبون أحيانًا شيئًا بالغ القيمة.ولست أقول أيضًا إنّ من يتخذ الفلسفة مجرد وظيفة لا يمكنه أن يكون جادًا تمامًا في عمله، أي أن يسعى بصدقٍ إلى معرفة حقيقة المسائل التي تشغله. غير أنه سيتوقف عن العمل على تلك المسائل متى كُفّ عن دفع الأجر له لقاء ذلك، ولن يُعنى كثيرًا عمّا إذا كانت تلك المسائل لا تتعدّى كونها إشكالاتٍ ثانويةً أو جزئية.

ولست أقول أيضًا إنّ من المستحيل البقاء — فضلًا عن الازدهار — في مهنتنا مع الاستمرار في القيام بعملٍ فلسفيٍّ جادٍّ وأصيل؛ غير أنّ ما أقوله هو أنّ ذلك بالغ الصعوبة — أشدُّ صعوبةً مما ينبغي، أو مما كان سيكون عليه الحال لو كانت مهنتنا، وجامعاتنا عمومًا، أكثر توجّهًا نحو حياة الفكر مما هي عليه الآن.

وسأبيّن أنّ هناك توترًا حقيقيًا بين ما يمكن أن أسمّيه، في غياب مصطلحٍ أفضل، «القيم والأهداف الإدارية» لتلك المؤسسات، وبين القيم الفكرية أو المعرفية للباحث الحقيقي عن الحقيقة.

سيبدأ هذا البحث ببيان تلك القيم والأهداف المتعارضة، ثم يتابع ببعض التأملات حول السبب الذي يجعل — كما رأى أفلاطون — المزاج الفلسفي قابلًا للفساد بسهولةٍ في بيئةٍ غير ملائمة.(22)

أولا: أبدأ بمخططٍ تمهيدي — وأخشى أن يكون أشبه بمرثيةٍ نقدية — عن الحالة الراهنة لمهنتنا.

حدث انفجار في عدد المنشورات، وتكوُّن الشِلَل والاتحادات الاحتكارية، وتراجع في الجودة: فكتالوجات الكتب لدى الناشرين تزداد سُمكًا عامًا بعد عام، ولكن دون أن يعود ذلك بالنفع على التقدُّم الفلسفي. فالكثير من هذه الكتب لا تُباع منها سوى بضع مئات من النسخ في أحسن الأحوال – وربما أقل من ذلك في حالة الكتب المنشورة بطريقة "الطباعة عند الطلب"(23) – وغالبًا ما تُطرح بأسعار مرتفعة إلى حدٍّ لا تستطيع سوى قلّة من المكتبات تحمّله.

وقد حدث كذلك انفجارٌ هائل في عدد المجلات – بعضها، ولحسن الحظ، ما يزال مستقلًّا – لكن كثيرًا منها بات الآن مملوكًا لتلك الدور التجارية العملاقة: سبرينجر (Springer)، إلسيفيير (Elsevier)، دي جرويتر (de Gruyter)، تايلور وفرانسيس (Taylor & Francis)، وغيرها، بل وحتى أوكسفورد وكامبريدج. تصدر هذه الدور آلاف المقالات، غير أن معظمها لا يُقرأ (وبحقٍّ)، أو لا يقرؤه إلا الأعضاء أنفسهم من الدائرة الضيقة ذاتها من المتخصصين الذين يكتبونها ويقيّمونها، في حين يدور عدد كبير منها حول موضوعات عابرة وهزيلة مثل نقد (X) لتفسير (Y) لتعليق (Z) على   . (W)(24)

تُباع اشتراكات هذه المجلات للمكتبات بأسعار باهظة للغاية، ويُبرَّر هذا الثمن بأن محتواها قد خضع لمراجعة من قِبل الأقران؛ غير أنّ ما إذا كانت هذه المراجعة تُعَدّ ضمانًا حقيقيًا للجودة، أو حتى لمستوىٍ أدنى من الكفاءة، فهو أمر مشكوك فيه للغاية(25).والواقع أنّ الطوفان المتزايد من المقالات المقدَّمة للنشر، ولا سيما من طلبة الدراسات العليا الذين يأملون أن يساعدهم ذلك في الحصول على عمل، قد أصبح طاغيًا إلى درجةٍ تفوق قدرة المجلات على الاستيعاب؛ ونتيجةً لذلك يُضطر المحررون إلى الاعتماد على محكّمين قد لا يعرفونهم أصلًا، وغالبًا ما يكونون بعيدين عن الكفاءة المطلوبة. بل لقد أُخبِرتُ أنّ بعض المحررين يكلّفون طلابهم الخريجين بتقرير أيّ الأوراق تُحال إلى التحكيم وأيّها تُرفَض مباشرةً – وهو أمر، في رأيي، غير لائق البتّة.والنتيجة الحتمية لذلك هي نشوء اتحادات احتكارية بين المحكّمين والمراجعين، وهو ما يعزّزه بدوره مظهرٌ مقلق آخر في مهنتنا: فرطُ التخصص والتجزؤ.

حتى أسلوب الكتابة الفلسفية نفسه أصبح أكثر توحّدًا، وأكثر تشابهًا ورتابة، وأقلّ انخراطًا في الفكر الحي. فمعظم ما يُنشر اليوم مكتوبٌ، على الأرجح، بلغةٍ إنجليزية أو ألمانية دوليةٍ صحيحةٍ إلى حدٍّ ما — أو يُعاد تحريره لتوحيد الأسلوب إن لزم الأمر (وغالبًا ما يتولى ذلك موظفون لا يملكون أدنى فهمٍ للموضوعات المطروحة). وقد بلغ الأمر حدًّا صار فيه الأسلوب الجاف الخالي من الحيوية هو القاعدة السائدة، حتى إنّ من يكتب بأسلوبٍ حيٍّ فعلاً، أو بإحساسٍ إيقاعي بلغةٍ إنجليزيةٍ راقية(26)، يُربك بعض القرّاء تمامًا.فعلى سبيل المثال، أصبحت الاختصارات اللغوية من المحظورات الكبرى، وصار يُفرض نمطٌ أسلوبيّ قاتم — وغالبًا ما يكون مضلِّلًا فلسفيًا وتاريخيًا — يعتمد على أسلوب الإحالات الاجتماعية-العلمية بالأسماء والتواريخ وأرقام الصفحات بين قوسين. ومع ذلك، نادرًا ما يشكو أحد، إذ يبدو أن النشر قد أصبح في الغالب مجرّد إجراءٍ شكلي؛ فمعظم الكتّاب اضطروا للتنازل عن جميع حقوقهم في أعمالهم إلى دار أكسفورد، أو سبرينغر، أو غيرها، دون أن تكون لهم أي وسيلةٍ لمعرفة ما سيؤول إليه مصير كتبهم بعد النشر.

هل هناك أعمال جيدة بين هذا الركام من الرداءة؟ على الأرجح نعم. وهل هناك أعمال مهمة فعلًا؟ ربما. لكن من المؤكّد أن بعض الأعمال الجيدة تُرفض لأنها لا تواكب الأدبيات الرائجة المعاصرة بما فيه الكفاية، وأن بعض الأعمال المهمة تُرفض لأنها غير تقليدية أكثر مما ينبغي. واحتمال أن يعثر أحدٌ على أفضل الأعمال ضئيلٌ بطبيعة الحال، لأن الطوفان الهائل من المقالات القابلة للنسيان يغمر كل شيء.وبدلًا من البحث الحقيقي، يعتمد كثيرون على متابعة أعمال من ينتمون إلى دائرتهم الضيقة، أو من «الأسماء الكبيرة» — أي أولئك المنتمين إلى أقسام أكاديمية ذات تصنيف عالٍ، أو الذين اشتهروا بحصولهم على منحٍ ضخمة، أو من يثيرون ضجةً كبيرة على الإنترنت. وهكذا نعتمد، في نهاية المطاف، على مقاييس بديلةٍ زائفة لتقدير الجودة.

الاختصاص المفرط والتشظّي: حين بدأتُ قبل عقود، كانت الأقسام الأكاديمية تضمّ بلا شكّ متخصصين في الفلسفة القديمة، وتاريخ الفلسفة، والمنطق، ونظرية المعرفة، والميتافيزيقا، وفلسفة العلوم، وما إلى ذلك؛ غير أنّ هذه كانت مجالات واسعة لا زوايا ضيّقة، وكان جميع العاملين فيها يبدون اهتمامًا مطّلعًا ومعقولًا بمجالات أخرى أيضًا.أما اليوم، فنرى عددًا متزايدًا من الباحثين المتخصصين في موضوعاتٍ دقيقة للغاية مثل فلسفة أرسطو في الذهن، أو فكرة “التحليل القبلي–البَعدي” لدى كانط وكريبكه، وعددًا أقل من المهتمين بفتراتٍ تاريخيةٍ واسعة من تاريخ الفلسفة. ونرى كذلك تزايدًا في عدد المتخصصين في فروعٍ جزئية مثل نظرية المعرفة الاجتماعية، أو النسوية، أو الصورية، أو فضائل المعرفة، أو نظرية المعرفة التطورية، أكثر مما في نظرية المعرفة العامة نفسها؛ كما نرى تخصصاتٍ أدقّ في فلسفة الفيزياء، أو فيزياء الكم، أو فلسفة الأحياء، أو الأحياء التطورية، أو حتى في الفلسفة النسوية للعلم، أكثر مما في فلسفة العلم بوجهٍ عام — ليغدو لدينا مزيدٌ من المتخصصين في مجالاتٍ تزداد ضيقًا يومًا بعد يوم(27).

هناك وفرة من الشِلَل والتحالفات والاتجاهات العابرة والموضات الفكرية المؤقتة. وإضافةً إلى ذلك، فإنّ النقاشات الدائرة في هذه الزوايا الضيقة باتت أقصر عمرًا من أي وقتٍ مضى، إذ إنّ الأسئلة التي كانت يومًا ما رائجة تختفي ببساطة من المشهد حين يسأم الناس منها. ونادرًا، كما يبدو، ما تُحلّ هذه الإشكالات العابرة فعليًا؛ بل يموت صاحب النظرية التي انبثقت عنها، أو يتقاعد، أو يختفي من الساحة الفكرية، فينتقل الناس ببساطة إلى موضةٍ فكريةٍ عابرةٍ أخرى.

ونتيجةً لذلك، أصبحت الفلسفة نفسها مجزّأة، وأصبح عددٌ أقل من أيّ وقتٍ مضى من الفلاسفة مستعدّين لرؤية الروابط العابرة بين الحقول، حتى بين مجالاتٍ قريبةٍ مثل نظرية المعرفة والميتافيزيقا، أو نظرية المعرفة وفلسفة العلم. وفوق ذلك، فإنّ جانبًا كبيرًا من الفلسفة المعاصرة بات معزولًا عن تاريخها الخاص، مفضِّلًا التركيز على الحديث والجديد فقط. أمّا القلّة الذين ما زالوا يحتفظون بنظرةٍ شموليةٍ، فإنهم غالبًا ما يكونون أصحاب أجنداتٍ فكريةٍ مسبقة، يسعون إلى الترويج لاتجاهٍ أو نزعةٍ معينة، كالمناهج «التجريبية»، أو الإلحاد، أو غير ذلك.

وهكذا نرى اليوم ما يعادل السفسطائيين الذين حذّر أفلاطون منهم — أولئك الذين يسعون لشقّ طريقهم المهني، أو لتحقيق الشهرة في أوساطٍ أوسع، عبر وعودٍ تفوق كثيرًا ما يمكنهم تحقيقه فعليًا. لقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين عددًا من السفسطائيين البارزين (28)، من بينهم كارل بوبر، الذي روّج لفلسفته العلمية ذات الطابع الشكّي المستتر، واليائسة تمامًا من حيث الجوهر، ليس فقط للفلاسفة بل أيضًا للعلماء والقضاة وغيرهم، على أنها مجرّد «لايقينٍ متواضعٍ وواقعي» (29)؛ وريتشارد رورتي، الذي روّج لمزيجه الفوضوي من الالتباسات ما بعد الحداثية تحت شعار «البراجماتية» (30).

واليوم، نرى السفسطائيين الجدد الذين يرفضون كلّ الأسئلة المتعلّقة بالقيم استنادًا إلى الشعار غير المبرهَن القائل بأنّ «الفيزياء تحدد جميع الحقائق» (31)، أو الذين يعدون بأنّ علم الأعصاب سيحلّ لنا جميع المشكلات الفلسفية، أو غير ذلك من الوعود الزائفة المشابهة.

ثانيا: ما الذي يفسّر كل هذا؟ أعتقد أن جزءًا كبيرًا من هذه الكارثة ينشأ عن اختلالٍ جوهري بين ما تتطلّبه الفلسفة الجادّة من شروطٍ للبحث والعمل، وبين ما تتطلّبه البيئة الجامعية المعاصرة المهووسة بمفهوم "الإنتاجية".بل إنّي، بعد التأمّل، أميل إلى القول إنّ انشغال الجامعات المستمرّ بتحفيز الإنتاجية خطأٌ في حدّ ذاته، وأنّ الأفضل كان أن تكتفي هذه المؤسسات باختيار الأشخاص المناسبين ثم تترك لهم حرية العمل دون تدخل. فالمشكلة الحقيقية ليست في نقص الحوافز للعمل الجيّد، بل في فيض الحوافز المشوَّهة التي تدفع إلى إنتاج "أي شيء" بغضّ النظر عن جودته أو قيمته الحقيقية.

ومع ذلك، لا يمكن، بطبيعة الحال، إلقاء اللوم كله على الإداريين؛ إذ علينا أن نواجه الحقيقة المتمثّلة في أننا أسهمنا نحن أنفسنا، إلى حدٍّ ما، في جلب هذه الكارثة، عندما خضعنا بخنوعٍ لتلك القيم الإدارية المشوَّهة.

فما الذي يُحتاج إليه حقًا من أجل ممارسة فلسفة جيّدة؟إنه الاهتمام، والوقت، والقدرة العقلية، والحكم السليم، والواقعية، والخيال، والصبر، والثبات الفكري، والمثابرة. وبصورة أكثر تفصيلًا:

- أولًا، ومن البديهي أن يكون لديك اهتمام حقيقي بالإجابة عن مسألة أو مسائل فلسفية معينة. وليس من الضروري أن يكون هذا الاهتمام ذاتي النشأة أو عفويًّا؛ فقد ينشأ مثلًا من دعوةٍ للكتابة حول موضوع محدد، أو من استفزازٍ أثاره ادعاءٌ خاطئ لشخصٍ آخر. غير أنّ المهم هو أن يكون هذا الاهتمام صادقًا وموجهًا نحو البحث عن إجابة حقيقية للسؤال، لا مجرد رغبة في الجدال العقيم حوله، أو في ابتكار إجابةٍ تبدو مقنعة ومريحة فحسب.

- ثانيًا، ومن الوضوح بمكان، أنك تحتاج إلى الوقت الكافي للتفكير المتأني في الأمور.

- ثالثًا، تحتاج إلى نوعٍ مناسب من القدرة العقلية، وإلى قدرٍ كافٍ من المعرفة الخلفية يمكّنك من أن تبدأ بتلمّس طريقك نحو الإجابات التي تبحث عنها. وهذه “القدرة العقلية الضرورية” لا تعني أنك بحاجة إلى أن تكون سريع البديهة أو لامعًا أو «ذكيًّا» بالمعنى السطحي للكلمة؛ بل إنَّ من يكون أبطأ ولكن أكثر صبرًا ومثابرة قد يكون أفضل بكثير. وكذلك، فإن “المعرفة الخلفية الضرورية” لا تعني وجوب قراءة كل ما كُتب حول الموضوع؛ بل إنَّ الاستفزاز الفكري الذي يبعثه فيك أفلاطون قد يكون أنفع بكثير من قراءة مئة مقالة حديثة في الدوريات الأكاديمية.

- وستحتاج أيضًا إلى إحساس واقعي بما يمكن أن يكون في حدود طاقتك من الأسئلة، حتى لا تهدر وقتك وجهدك في مسائل تتجاوز قدراتك، أو تنفقه في مسائل يسيرة لا تستحق هذا العناء.

- وأبعد من ذلك، تحتاج إلى الخيال الذي يمكّنك من تصور حلولٍ ممكنة، وإلى الصبر اللازم لتفصيلها وتطويرها — إذ ستكون محظوظًا إن أصبتَ الحقيقة، ولو تقريبًا، من المحاولة الأولى.

- وفوق هذا كله، تحتاج إلى صلابة فكرية تمكّنك من البدء من جديد إذا تبيّن فشل أفكارك، وإلى الشجاعة للاعتراف بالخطأ وبأنك ربما أضعت أسابيع وربما سنواتٍ طويلة في تتبّع مساراتٍ زائفة — أو، وهو الأسوأ، في محاولة الإجابة عن سؤالٍ كان من الأصل مغلوط التصوّر أو مضلِّلًا.

- وهذا يعني أنك ستحتاج أحيانًا إلى المثابرة على اكتشاف موضع الخلل في سؤالك نفسه: ربما افتراضٌ خاطئ في بدايات تفكيرك، أو غموضٌ لم تدركه من قبل.

- وكل ذلك يتطلب قدرًا من العناد والاستقلال الذهني؛ إذ من المستحيل أن تنجز عملًا فلسفيًا حقيقيًا إذا كنت منشغلًا بمحاولة إرضاء الآخرين أو نيل قبولهم لأفكارك.

لا أحد يمتلك جميع هذه الصفات مجتمعة وبالقدر نفسه؛ فهي خصال تتكوّن مع الزمن، إن حالف الإنسانَ الحظ. فكثيرون، للأسف، يبدؤون مسيرتهم مفعمين بالحماسة، ثم لا يلبثون أن يستسلموا للملل والفتور؛ أمّا القلّة المحظوظة، فتكتشف أنّها تمارس العمل الذي خُلقت من أجله، وتواصل أداءه بشغف وسعادة — ما دامت البيئة المحيطة تتيح لها ذلك.

لكن كل ذلك يتطلّب، ليس فقط أن تمتلك أو تطوّر الطبع المناسب وجميع الصفات الضرورية الأخرى، بل أيضًا أن توفر لك البيئة المحيطة الوقت وراحة البال لممارسة هذه الصفات، وأن لا تشجّع، خصوصًا، على التسرّع أو الإهمال أو نفاد الصبر أو المراوغة، وما إلى ذلك من السلوكيات الضارّة. في أحسن الأحوال، كان ينبغي للجامعات أن تجتذب الأشخاص القادرين على إنتاج أعمال فلسفية حقيقية وجيدة، وأن توفر لهم الحوافز للاستمرار في العمل رغم الصعوبات، وللإبقاء على إنتاج أفضل ما لديهم. ولكن، للأسف، فإن البيئة الجامعية اليوم بالكاد تصلح لإنجاز عمل حقيقي. فهي، بدلاً من ذلك، تجتذب وتشجّع الكثير من الطامحين ليصبحوا أسماءً كبيرة أو سوفيستيين محتملين، فضلاً عن عدد أكبر يسعى فقط إلى حياة سهلة وهادئة.

ثالثا: بالطبع، طريقة إدارة الجامعات ليست واحدة في كل مكان. سأركّز هنا على الولايات المتحدة وأجزاء أخرى من العالم الناطق بالإنجليزية؛ لكنني سأتناول لاحقًا الاختلافات والقواسم المشتركة، وأهمها من بين القواسم المشتركة الازدياد المستمر للبيروقراطية في الجامعات في أماكن أخرى.

في زمنٍ ما (على الأقل في العالم الناطق بالإنجليزية)، كانت الجامعات تُدار في الغالب بواسطة أعضاء هيئة التدريس، أي أساتذة يعملون فعليًا ويتولّون مهام الرئاسة أو العمادة لمدّة محدودة من السنوات، مع نية صادقة في العودة إلى أعمالهم الفعلية بعد ذلك. وكان يُطلق على ذلك اسم «الخدمة»، وكان يُنظر إليه على أنّه تضحية مؤقتة بالعمل الفكري الجاد من أجل الصالح العام.حتى رؤساء الجامعات كانوا عادةً أكاديميين، وإن كان غالبًا في مرحلة متأخرة من مسيرتهم المهنية. أما باقي الإدارة — مثل الشؤون المالية، والقبول، وتسجيل الطلاب، وتوثيق نتائج الامتحانات، وما إلى ذلك — فكان من اختصاص الإداريين المحترفين، الذين كان يُنظر إليهم (وأعتقد أنهم أنفسهم كانوا يرون كذلك) على أنّهم مكلفون بضمان سير العمل الحقيقي للجامعة بسلاسة.

لكن الأمور الآن مختلفة تمامًا. فـ الجامعات الأمريكية تُدار اليوم في الغالب بواسطة إداريين محترفين — يا لها من كلمة موحية! — الذين ينظرون إلى أعضاء هيئة التدريس على أنّهم «موظفون»، ويقومون بتنظيم ومراقبة «إنتاجيتهم»(32).في الواقع، أصبحت الجامعات الآن بيروقراطيات ضخمة، بعضها يضم أحيانًا عدد إداريين يفوق عدد أعضاء هيئة التدريس. (يلاحظ بعضنا أنّه بطريقة ما، كلما زاد عدد البيروقراطيين، زاد أيضًا العمل البيروقراطي المطلوب من أعضاء هيئة التدريس — فالإداريون، بعد كل شيء، يهتمون بعدد الأشخاص الذين «يعملون تحت إشرافهم»، وهم بارعون جدًا في ابتكار مهام جديدة لتفويضها للمرؤوسين، بمن فيهم نحن «الموظفون الأكاديميون»).

غالبًا ما يكون رؤساء الجامعات من السياسيين السابقين، والعمادات من رؤساء الأقسام السابقين؛ أما الإداريون من المستويات الأدنى فقد يكون لديهم الآن شهادات في الإدارة الأكاديمية تُقدَّم في أقسام التربية.بالطبع، كان العميد غالبًا رئيس قسم سابقًا؛ لكن في الوقت الحاضر أصبح منصب رئيس القسم نفسه في جوهره منصبًا إداريًا؛ ومن يدخل الإدارة قادمًا من الفصل الدراسي أو المختبر أو غيره نادراً ما يعود إلى عمله الأصلي؛ فغالبًا ما يكون هدفه التقدم في الرتب الإدارية، من مساعد عميد إلى عميد مشارك، ومن عميد مشارك إلى عميد، ومن عميد إلى مدير أكاديمي، وربما من المدير الأكاديمي إلى رئيس الجامعة.

معظم هؤلاء «المديرين» لم يعودوا يحتفظون باهتمامات عقلية جدية مستمرة، حتى لو كانت موجودة لديهم سابقًا؛ وبينما يتمتع العديد منهم بالذكاء الكافي على الصعيد السياسي والعملي والبيروقراطي، فإنهم لن يتمكنوا من حل أي مسائل فكرية صعبة. علاوة على ذلك، فإنهم ببساطة غير مجهزين لتقييم قيمة العمل الأكاديمي إلا من خلال مقاييس خارجية وبديلة.وطبيعي أن تكون قيمهم مختلفة تمامًا عن قيم الأكاديميين العاملين التقليديين. سأركّز هنا على رؤساء الأقسام والعمادات — وهم المديرون الوسيطون الذين يحتاجون إلى كسب موافقة كل من أعضاء هيئة التدريس في قسمهم أو كليتهم وكذلك المستويات الإدارية العليا — لأنهم يتخذون الأحكام الأكثر حسمًا بشأن أعمال أعضاء هيئة التدريس، ويقرّرون من يُمنح التثبيت الوظيفي، ومن يُرقّى، ومن يحصل على أي نوع من الزيادة، وما إلى ذلك.

تذكّروا: نحن الأساتذة أصبحنا الآن «موظفين» يُفترض أن نكون، قبل كل شيء، «منتجين». لكن، ماذا يُنتج أعضاء هيئة التدريس؟.طلاب متعلمون جيدًا، نأمل ذلك؛ لكن هذا ليس ما يهم هنا؛ فالمهارة والنجاح في التدريس أصبح يُنظر إليهما بتقدير أقل فأقل، ربما لأن العديد من مهام التدريس أصبحت الآن مخصصة لطلبة الدراسات العليا والمعيدين. لا، الأمر المهم هو البحث العلمي؛ ومن هنا جاء التعبير «نشط في البحث» (وهو مصطلح لم أسمع به في عقودي الأولى من التدريس)، وظهور الرفض والازدراء لما يُسمّى بـ«الأعشاب الميتة»، أي أعضاء هيئة التدريس غير المنتجين.في الماضي، كان الأكاديمي يكتب كتابًا أو مقالًا حين تتكوّن لديه فكرة يرغب في طرحها ومشاركتها؛ أما الآن، فعلينا جميعًا أن نكون منتجين طوال الوقت، ويجب على الإداريين تحديد قيمة ما ننتجه.

ربما لا يزال هناك بعض رؤساء الأقسام الذين يبذلون جهدًا ضميرياً لمتابعة أعمال أعضاء قسمهم؛ لكن خبرتي تشير إلى أنهم باتوا الآن استثناءً لا قاعدة.فالرؤساء مشغولون للغاية، على سبيل المثال؛ ففي أقسام الدراسات العليا، عليهم إدارة فرق من مساعدي التدريس والمعيدين، فضلاً عن ضمان تدريس المقررات الأساسية (نأمل ذلك)، والمشاركة في اجتماعات لا نهاية لها، والتنقّل مستهلكين ميزانيات السفر السخية المخصصة لهم، وما إلى ذلك.وبالاضافة إلى ذلك، بينما كان أن تكون فيلسوفًا يعني في الماضي أن تكون عامًا، ملمًا بعدة مجالات، أصبح الموضوع الآن متخصصًا للغاية لدرجة قد تمنعهم من الحكم على أعمال زملائهم. لا عجب أن الصداقات والأحقاد تلعب دورًا كبيرًا، ولا عجب أن الرؤساء يعتمدون على مكان نشر العمل أكثر من محتواه.

العمادات أقل تأهيلاً بعد لإجراء مثل هذه التقييمات. فكيف يمكن لهم ذلك؟ هناك كم هائل من المواد للقراءة، وحتى لو لم يكن هناك، فإن معظمها سيكون أبعد ما يكون عن قدرتهم على الفهم.لذلك، يعتمدون على حكم رؤساء الأقسام — الذين غالبًا ما يكونون متحيّزين، وكما ذكرت، نادرًا ما يكون تقييمهم مبنيًا على قراءة جدية لأعمال أي شخص — وكذلك على مقاييس بديلة مثل السمعة المفترضة لهذه أو تلك المجلة، أو هذا أو ذلك الناشر، والمراجعين الأقران، ومقدار الأموال البحثية المحصّلة، وبالطبع، على «التصنيفات» .

يميل أعضاء هيئة التدريس الذين يطمحون للحصول على التثبيت الوظيفي، أو زيادة الراتب، أو الترقية إلى استيعاب هذه القيم الإدارية المشوّهة. والنتيجة، حتمًا، تآكل الصفات الشخصية والعادات اللازمة للقيام بعمل جاد.نرى ذلك دائمًا في الفلسفة، حيث يركز الناس على الموضوعات الرائجة التي يعتقدون أنّه من الأسهل نشر أبحاثهم فيها، بدلًا من الموضوعات التي يأملون حقًا في تحقيق تقدم فيها؛ ويركزون على إنتاج شيء قابل للنشر بسرعة بما يكفي للتقرير السنوي التالي، وليس على شيء متين ومدروس بعناية.إنهم يسرعون في إنجاز العمل ويقتصدون في التفاصيل؛ ولا يقبلون بالاعتراف عندما يكونون مخطئين ويحتاجون إلى البدء من جديد. كما أنهم مهتمون أكثر بمكانة المجلات أو دور النشر التي ينشرون فيها، وأحيانًا يهتمون بشكل مفرط بتصنيف قسمهم في تقرير "تصنيف الأقسام الفلسفية" (33)

وعلاوة على ذلك، عندما يتم توظيف أساتذة جدد، يُختار أولئك الذين يُعتقد أنهم من المرجح أن ينجحوا في هذا البيئة، أي السريعون والقابلون للإقناع، وليس أصحاب العقول البطيئة لكنها أعمق وأكثر اجتهادًا.وعندما يقوم الأساتذة بتدريب طلبة الدراسات العليا (وهو تعبير آخر يكشف الكثير! — قبل سنوات كنا نفكر بمصطلحات التدريس وتعليم طلاب الدراسات العليا، لا مجرد "تدريبهم")، فمن الطبيعي أنهم يسعون لجعلهم قابلين للتوظيف(34)، مما يعني… حسنًا، يمكنكم استكمال هذه الجملة بأنفسكم.

هذا هو الحال في الولايات المتحدة. أما في أماكن أخرى، فالأمور تختلف بعض الشيء. ففي أوروبا، على سبيل المثال، قد تأتي الضغوط البيروقراطية ليس من المستوى المحلي، بل بالأساس من الحكومات المركزية؛ وغالبًا ما يكون التركيز جزئيًا على التصنيفات، خاصة تصنيفات المجلات، ولكن قبل كل شيء على المنح البحثية — في الواقع، لقد رأيت بعض السير الذاتية الأوروبية التي تحدد باليورو بالضبط مقدار الأموال التي حصل عليها عضو هيئة التدريس، لكنها تقدم تفاصيل قليلة جدًا عن العمل الذي أنجزوه فعليًا بهذه الأموال!(بالطبع، ستساعد المنح البحثية أيضًا في مسيرتك الفلسفية في الولايات المتحدة؛ لكنها لا تملك — على الأقل حتى الآن — نفس التأثير كما هو الحال في كثير من أنحاء أوروبا).ولكن، عواقب ثقافة المنح والمشاريع البحثية التي تنشأ بسرعة في مثل هذه الظروف كارثية(35).

مع اعتماد التعليم في مرحلة الدراسات العليا على تلك المنح الخارجية، فإن جودته تتأثر حتمًا: فكونك مساعدًا باحثًا لدى X ليس بديلًا عن العمل الفعلي على مشروعك الخاص.وينقسم أعضاء هيئة التدريس تدريجيًا إلى فئتين شديدتي الاختلاف: النخبة الذين يمتلكون منحًا كبيرة وواجبات تدريسية خفيفة، والفلاحون الأكاديميون الذين يتحملون عبء التدريس الأكبر.وبالطبع، فإن كل نظام المنح هذا يحرّف الموضوعات التي يعمل عليها الناس؛ إذ يفعلون ما يعتقدون أنهم سيتمكنون من الحصول على تمويل له. كما أنه يشجع الناس على المبالغة في ما سيحققونه عند حصولهم على المنحة، والأسوأ من ذلك، على المبالغة في ما أنجزوه فعليًا باستخدامها. ومع مرور الوقت، يبدؤون حتمًا بتصديق دعايتهم الخاصة، ويفقدون كل إحساس بالجودة الحقيقية لأعمالهم.

إلى أي مدى يمتد كل هذا في بقية أنحاء العالم، لست متأكدًا تمامًا. لكن كانت هناك مؤشرات أولية: يكتب لي مراسل من المكسيك عن القلق الذي يشعر به بسبب الضغط الممارس عليه ليكون منتجًا؛ ويخبرني زائر صيني أن جامعته تدفع له مكافأة إذا نشر ورقة في مجلة مفهرسة في مكان "معتمد"؛ ويكتب لي مراسل إيراني أن جامعته تضغط على أعضاء هيئة التدريس للنشر في الخارج.لكنني علمت أنني قد لمست نوعًا من الأعصاب الدولية عندما أعيد طبع مقالي "هل يمكن إنقاذ الفلسفة؟"(36)مؤخرًا، وعندما نشرت النسخة المعاد طباعتها على academia.edu، أُبلغت أنه خلال يومين فقط، تم الاطلاع عليها من قبل أشخاص في 39 دولة: الولايات المتحدة، الصين، المجر، البرازيل، بولندا، المملكة المتحدة، أوروغواي، سلوفاكيا، إسبانيا، الأرجنتين، أيرلندا، إيطاليا، أستراليا، المكسيك، ألمانيا، أوكرانيا، كندا، تشيلي، تركيا، كولومبيا، كوستاريكا، البرتغال، بيرو، الإكوادور، إسرائيل، الهند، فرنسا، بلغاريا، الاتحاد الروسي، الجمهورية الإسلامية الإيرانية، جنوب إفريقيا، جمهورية كوريا، اليونان، النرويج، النمسا، فنلندا، ليتوانيا، موزمبيق، والسلفادور. يا إلهي.

رابعا: ربما تأملون أن أخبركم كيفية إصلاح كل هذا. يؤسفني أن أخيب ظنكم، لكن لا أستطيع فعل ذلك – فالأسباب معقدة للغاية، ومؤسسة بعمق، وبصراحة، لا أعرف حقًا من أين أبدأ.علاوة على ذلك، في الوقت الحالي، مع الأزمة الصحية العالمية، تعطّل عمل الجامعات في كثير من أنحاء العالم بشكل كبير لدرجة أنه من المستحيل التنبؤ بالشكل الذي ستبدو عليه بعد عام، أو حتى بعد عدة أعوام – وأظن أنه سيكون مختلفًا تمامًا.أو ربما تأملون أن أخبركم بما يجب عليكم فعله إذا كانت الفلسفة بالنسبة لكم حقًا هي دعوة ومهنة حقيقية. مرة أخرى، يؤسفني أن أخيب ظنكم، لكن لا يمكنني تقديم نصائح عامة هنا أيضًا – فظروف كل شخص ستكون مختلفة للغاية: بعضهم خارج الأوساط الأكاديمية تمامًا، بعضهم يبحث عن وظيفة أكاديمية، بعضهم يأمل في الحصول على التثبيت الوظيفي، وبعضهم يأمل في زيادة راتب أو ترقية، وهكذا. كل واحد منا يمكنه فقط أن يفعل ما بوسعه.

إذا كنت خارج الأوساط الأكاديمية وتعمل كسائق تاكسي، أو مستشار حاسوب، أو مقدم خدمات تموين، أو أي عمل آخر، فستكون المشكلة الأولى هي إيجاد وقت للتفكير والقراءة، وإذا ما خطرت لك فكرة جيدة، للكتابة؛ والمشكلة التالية هي إيجاد وسيلة لتُسمع إذا أنتجت شيئًا يستحق المشاركة.لقد جعل الإنترنت الجزء الأخير أسهل إلى حد ما؛ لكن لا ينبغي أن تتوقع رد فعل حماسي من "المهنة" – مثل الرجلين السابقين من شعر فروست، الذين استاءوا من قيامه بقطع الحطب من أجل حبه للعمل – كان يجب عليهم القيام بذلك من أجل المال! – من المرجح أن يمنحك الفلاسفة المحترفون رد فعل بارد أو تجاهلاً.

إذا كنت داخل الأوساط الأكاديمية، فقد تكتشف أن الفلسفة بالنسبة لك هي دعوة أو نداء بالذات بفضل التوتر الذي تشعر به تجاه تلك القيم "المهنية". إذا كان الأمر كذلك، فسيكون عليك أن «تحافظ على هدوءك، بينما يفقد كل من حولك أعصابهم ويلقون اللوم عليك»(37).وإذا كنت حاصلًا على درجة الدكتوراه حديثًا وتبحث عن وظيفة (بافتراض أنك لم تُفسد بعد بواسطة أحد برامج الدكتوراه "المرموقة"!)، فإن أفضل نصيحة يمكنني تقديمها هي: لا تظن أنه أمر سيئ أن تجد نفسك في قسم لا يحتوي على برنامج دراسات عليا. ليس الأمر كذلك: التدريس الجامعي يمكن أن يكون مجزياً جدًا38 – خصوصًا إذا لم تكن تحت ضغط لإدخال الطلاب المتخرجين في برامج الدراسات العليا المزعومة "النخبوية".

إذا كنت على مسار التثبيت الأكاديمي، فموقعك يكون صعبًا بشكل خاص. حتى حدٍ معيّن، سيتعين عليك أن تكون حيوانًا سياسيًا – حذرًا، ولكن دون أن تنخرط بالكامل، محافظة على تلك القيم الإدارية على مسافة آمنة. يجب عليك، بالطبع، أن تحدد بوضوح ما هو مطلوب منك، وأن تظل يقظًا لأي تغييرات في قسمك أو كليتك قد تؤثر على ذلك، وأن تعرف متى يتجاوز ما هو مطلوب منك الحد الذي لا تستطيع تحمله. من المحتمل أن تضطر لأن تكون أكثر اجتماعية مما ترغب في المثالي. ومع ذلك، ما دامت مؤسستك لا تصر على أن تكون المنشورات محكّمة لتُحتسب، فكن منفتحًا على الدعوات للكتابة في مجلات أقل شهرة، ومستعدًا للمقاومة إذا قدم الحكام مطالب غير معقولة.

وأستطيع أن أقدّم نصيحة صغيرة، من تجربتي الشخصية، للأكاديميين ذوي الخبرة النسبية الذين لديهم دعوة حقيقية للفلسفة ويجدون أنفسهم محبطين بسبب تلك القيم المشوّهة. كن مفيدًا كلما استطعت. لكن تعلّم أن تقول بلباقة: «لا، آسف، لا أستطيع فعل ذلك» – سواء لدعوات الغداء، أو لطلبات تحكيم ورقة تبدو ضعيفة جدًا ويأمل المؤلف أن يقوم الحكم بإعادة كتابتها له، أو لمقترحات الخدمة في هذا أو ذاك من اللجان الجامعية “الهامة” لتصفية نشارة الخشب…(39)، أو غيرها. قرّر أي الاجتماعات ضرورية، لكن لا تحضر الأخرى؛ فهي تضيع وقتك، والأهم من ذلك، تهدر روحك؛ وتعلّم أن تقول بهدوء، عندما يكون الأمر صحيحًا: «لا، أختلف؛ هذه فكرة سيئة، وسيكون من الأفضل القيام بهذا…(40)». (من المحتمل ألا يغيّر هذا النتيجة؛ لكن على الأقل ستشعر على الأرجح بتحسن قليل مقارنةً لو تركت الفكرة السيئة تمر دون اعتراض).

وأواصل قائلاً: انشر فقط عندما يكون لديك ما تقول، لا وفق جدول زمني يحدده أحد المسؤولين؛ ولا تنفّذ بِخضوع كل ما يطلبه المحكّمون في مجلة ما – فإذا كانت مطالبهم غير معقولة، أو واضحة كمحاولة لجعلك تذكر أعمالهم أو أعمال أصدقائهم، حاول أن تقول بلطف: «لا، لا أظن أن ذلك سيحسّن الورقة». حاول بكل الوسائل تجنّب أن تتحوّل إلى شخص غريب يدافع عن فكرته الكبرى أو إلى معلم يجمع أتباعًا؛ واحذر مما أسماه بيرس «غطرسة الذكاء»(41)، أي الاعتقاد المفرط بعظمتك الخاصة. فنحن جميعًا قابلون للخطأ.

لكن الآن أشتّت نفسي عن الموضوع الرئيسي: وهو أنه، رغم أن الجمع بين الهواية المهنية والدعوة الفلسفية مرغوب فيه، إلا أن الواقع اليوم يشهد توتّرات كبيرة جدًا بين القيم والطموحات المهنية والفلسفية – توتّرات لا يمكن لأي منا، ممن تعتبر الفلسفة دعوة كما هي مهنة، تجنّبها، ويجب على جميعنا التعامل معها بطريقة أو بأخرى.

لا أحد يعبّر عن هذا أفضل من ماكس غوتليب، المرشد والبطل لمارتن أروزمايث في رواية آروزمايث لـ سينكلير لويس. هو يتحدث إلى مارتن عن دعوة إلى العلم، وليس الفلسفة، لكنه يعبّر عن الفكرة الأساسية ببراعة(42):

أن تكون عالِمًا – ليس مجرد وظيفة مختلفة، بحيث يختار الإنسان بين أن يكون عالمًا أو مستكشفًا أو تاجر سندات […]. إنه مزيج من المشاعر الغامضة جدًا، مثل التصوف، أو الرغبة في كتابة الشعر؛ يجعل ضحيته مختلفًا تمامًا عن الإنسان العادي الجيد […].

ولكن مرة أخرى، تذكّر دائمًا أن ليس كل من يعمل في العلم علماء. القليل جدًا منهم! الباقون – سكرتارية، وكلاء صحفيون، ورفاق المخيم! […]. إذا كان لديك شيء من دعوة العلم، […] هناك شيئين يجب عليك فعلهما: العمل بجد مضاعف، ومنع الآخرين من استغلالك.

استبدل كلمة “عالِم” بـ “فيلسوف”، وستجد نفسك أمام المعادلة نفسها. ليس كل من يعمل في الفلسفة فيلسوفًا، وأولئك “الضحايا” الذين تعتبر الفلسفة بالنسبة لهم دعوة حقيقية قد يدفعون ثمنًا مهنيًا باهظًا.لكن، وفق تجربتي على الأقل(43)، كان هذا ثمنًا يستحق الدفع(44).

جامعة ميامي

[email protected]

***

.....................

الهوامش

* يختلف هذا المقال عن جميع المقالات الأخرى المنشورة في هذه المجلة، لأن الكاتبة اشترطت كشرطٍ أساسي لنشر مساهمتها أن تُتّبع معاييرها التحريرية الخاصة في كتابة الحواشي السفلية، وهي معايير تختلف عن تلك المعتمدة في المجلة. [ملاحظة المحرر].

سيزيتيس، المجلد الثامن (2021)، ص ص 33–51 / مقالات

الرقم الدولي الموحّد للدوريات (ISSN): 1974-5044 – http://www.syzetesis.it

معرّف الكائن الرقمي (DOI): 10.53242/syzetesis/2

1- أفلاطون، الجمهورية، ترجمة ج. م. أ. غرووب، منقّحة على يد س. د. س. ريف (نحو 380 ق.م)، إنديانابوليس: هاكيت للنشر، 1992، فقرة 492أ (ترقيم ستيفانوس).

2- روبرت فروست، «رجلان من المشردين في زمن الطين»، ضمن كتاب مدًى أبعد (نيويورك: شركة هنري هولت، 1936)، ص. 15. وقد عرفتُ هذه القصيدة – بالمناسبة – من خلال رواية روبرت ب. باركر، رهانات مميتة (نيويورك: دار ديل، 1973)، ثم اكتشفتُ لاحقًا مدى تأثر باركر بفروست. انظر بخاصة روبرت ب. باركر، خريف باكر (نيويورك: دار ديل، 1981)، إذ تتخلل فصوله أفكار فروست عن العمل والاستقلالية وما إليها.

3- انظر: جستن سكيرّي، «رينيه ديكارت (1596–1650)»، موسوعة الفلسفة على الإنترنت (IEP)، تمت زيارة الصفحة في 12 أكتوبر 2020، على الرابط: https://iep.utm.edu/descarte/. وللأسف، أُصيب بالتهاب رئوي وتُوفي عام 1650.

4-بندكت دي سبينوزا، «الأخلاق»، ضمن الأعمال المنشورة بعد وفاته، تحرير ياريغ ييلس ويان ريويرتس (أمستردام: ريويرتس، 1677).

5-تُوفّي سبينوزا عن عمرٍ يناهز الرابعة والأربعين، بسبب مرضٍ في الرئة يُرجَّح – وفقًا لبعض التخمينات – أنّه كان نتيجة استنشاقه لجسيمات زجاجية دقيقة أثناء عمله في صقل العدسات.

٦- «جون لوك»، الموسوعة التاريخية (History)، تحديث بتاريخ ٢٠ سبتمبر ٢٠١٩،

https://www.history.com/topics/british-history/john-locke.

٧ - للمراجعة العامة: هـ. ب. أكتون، «جورج بيركلي»، موسوعة الفلسفة، تحرير بول إدواردز (نيويورك: دار ماكميلان للنشر، ١٩٦٧، المجلد الأول)، ص ٢٩٥–٣٠٤.

٨ - للمراجعة العامة: د. ج. ك. ماكناب، «ديفيد هيوم»، موسوعة الفلسفة، تحرير بول إدواردز (نيويورك: دار ماكميلان للنشر، ١٩٦٧، المجلد الرابع)، ص ٧٨–٨٠.

٩ - للمراجعة العامة: س. أ. غريف، «توماس ريد»، موسوعة الفلسفة، تحرير بول إدواردز (نيويورك: دار ماكميلان للنشر، ١٩٦٧، المجلد السابع)، ص ١١٨–١٢١.

١٠ - للمراجعة العامة: ج. ب. شنيويند، «جون ستيوارت مل»، موسوعة الفلسفة، تحرير بول إدواردز (نيويورك: دار ماكميلان للنشر، ١٩٦٧، المجلد الخامس)، ص ٣١٤–٣١٥.

11- جوزيف برنت، تشارلز ساندرز بيرس: سيرة حياة (بلومنجتون: مطبعة جامعة إنديانا، ١٩٩٣)، ص ص ١٣٩ -٢٠٣.

12- آر. لانيير أندرسون، "فريدريك نيتشه"، موسوعة ستانفورد للفلسفة، تحرير إدوارد ن. زالتا، نُشرت لأول مرة في ١٧ مارس ٢٠١٧،

https://plato.stanford.edu/entries/nietzsche/

(إحدى الفرضيات، على ما يبدو، هي أنه كان يعاني من ورم بطيء النمو في الدماغ خلف عينه اليمنى).الجزء المتعلق بالمعاش مستند إلى: جوليان يونغ، فريدريك نيتشه: سيرة فلسفية (نيويورك: مطبعة جامعة كامبريدج، ٢٠١٠)، ص ص ٢٧٦–٢٧٧.

13- فلسفة فريجه في سياقها، تحرير مايكل بيـني وإريش هـ. ريك (نيويورك: روتليدج، ٢٠٠٥)، ص ص ٢٥–٢٧.

14- تشارلز ميلنر أتكينسون، جيريمي بنتام: حياته وأعماله (لندن: ميثوين وشركاه، ١٩٠٥)، الصفحة ٢٦.

15- برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية (نيويورك: سايمون وشوستر، ١٩٤٥).

16- "سيرة برتراند راسل"، بيوغرافيا أونلاين، تم الدخول في ١٢ أكتوبر ٢٠٢٠،

https://www.biographyonline.net/writers/bertrand-russell.html

17- "لودفيج فتجنشتين: ١٨٨٩–١٩٥١"، في لودفيج فتجنشتين: تقييمات نقدية، تحرير ستيوارت شانكر (لندن: كروم هيلم، ١٩٨٦، المجلد الأول)، الصفحات ٩–١١.

18-روجر سكروتون، "السيرة الذاتية"، السير روجر سكروتون: كاتب وفيلسوف، تم الدخول في ٢١ أبريل ٢٠٢٠،

https://www.roger-scruton.com/homepage/about/curriculum-vitae. ومن المفارقات أن سكروتون توفي بسبب سرطان الرئة.

19-على الرغم من ذلك، أعتقد أن هناك قدرًا كبيرًا من الرقابة الذاتية من قبل أولئك الذين يخشون التعبير عن أفكار غير شائعة.

20-كما اقترح عليّ أوزوالدو شاتوبريان في نقاش بعد أن قدمتُ محاضرة بعنوان تجزئة الفلسفة في جامعة الجمهورية، مونتفيدو، أوروغواي.

٢١ ـ تشارلز ساندرز بيرس، الأوراق المجمَّعة، تحرير: تشارلز هارتشورن، وبول فايس، و(في المجلّدين السابع والثامن) آرثر بوركس، (كامبريدج، ماساتشوستس: مطبعة جامعة هارفارد، ١٩٣١–١٩٥٨)، المجلد السادس، الفقرة الثالثة (١٨٩٨).(تشير الإحالات إلى الأوراق المجمَّعة بحسب رقم المجلد ورقم الفقرة، يليهما التاريخ الأصلي).

٢٢ ـ فكرةٌ بدأت مع سوزان هاك، «خارج الصف»، ضمن كتاب تسخير الفلسفة للعمل: البحث ومكانته في الثقافة، الطبعة الموسَّعة (٢٠٠٨؛ أمهرست، نيويورك: دار بروميثيوس، ٢٠١٣)، الصفحات ٢٥١–٢٦٨ (المتن) و٣١٣–٣١٧ (الهوامش).

٢٣ ـ لا يعني هذا، كما قد تتخيّل، أنّهم سيطبعون الكتاب فور طلبك له؛ بل يعني فقط أنّهم سيطبعون بعض النسخ إذا، ومتى ما رأوا أنّ لديهم عددًا «كافيًا» من الطلبات.

٢٤ ـ سوزان هاك، «خدعة النشر الأكاديمي: ماذا حلّ بحقوق المؤلفين؟»، الفلسفة بلا حدود، المجلد ٢ (٢٠١٩): الصفحات ١–٢١.

٢٥ ـ انظر أيضًا: سوزان هاك، «المراجعة النظيرة والنشر: دروس للمحامين» (٢٠٠٧)، ضمن كتاب أهمية الأدلة: العلم، والحقيقة، والإثبات في القانون (نيويورك: مطبعة جامعة كامبريدج، ٢٠١٤)، ص ص ١٥٦–١٧٩.

٢٦ ـ أو، على ما أظن، الإسبانية أو الإيطالية أو الصينية أو غيرها.

٢٧ ـ انظر: سوزان هاك، «تجزئة الفلسفة والطريق إلى إعادة توحيدها»، ضمن كتاب سوزان هاك: إعادة دمج الفلسفة، تحرير: جوليا غونر وإيفا-ماريا يونغ (برلين: دار سبرينغر، ٢٠١٦)، ص ص ٣–٣٢.

٢٨ ـ يراودني الميل إلى إضافة و. ف. و. كواين إلى هذه القائمة، لأنّ نثره الواضح ظاهريًا يُخفي وراءه العديد من الغموضات القاتلة. انظر على سبيل المثال: سوزان هاك، الأدلة والبحث (١٩٩٣؛ أمهرست، نيويورك: دار بروميثيوس، ٢٠٠٩)، الفصل السادس، حول الغموضات في تصوره لـ«نظرية المعرفة المؤمْوَلة»  (naturalized epistemology). كما تُعَدّ ساندرا هاردينغ، بادعاءاتها المبالغ فيها حول ما يمكن للنسوية أن تقدمه للفلسفة، مرشحة قوية أخرى.

٢٩ ـ سوزان هاك، «قل لا للّاإيجابية المنطقية»، ضمن تسخير الفلسفة للعمل: البحث ومكانته في الثقافة، الصفحات ١٧٩–١٩٤ (المتن) و٢٩٨–٣٠٥ (الهوامش).

٣٠ ـ انظر مثلًا: سوزان هاك، الأدلة والبحث، الفصل التاسع؛ وسوزان هاك، «الذبول وسط الوفرة: مفارقة فلسفة رورتي الثنائية»، مراجعة القنفذ: تأملات نقدية في الثقافة المعاصرة، صيف ٢٠١٦، الصفحات ٧٦–٨٠.

٣١ ـ أليكس روزنبرغ، رؤية الملحد للواقع: عيش الحياة دون أوهام (نيويورك: دار و. و. نورتون، ٢٠١١).

٣٢ ـ بنجامين غينسبرغ، سقوط هيئة التدريس وصعود الجامعة الإدارية (نيويورك: مطبعة جامعة أكسفورد، ٢٠١١).

٣٣ ـ تقرير الذوّاقة الفلسفي (The Philosophical Gourmet Report)، تحرير: بريت بروغارد وكريستوفر أ. باينز، آخر دخول في ١٢ أكتوبر ٢٠٢٠، https://www.philosophicalgourmet.com/

وربما تظنّ أن شكوكي بشأن هذه التصنيفات سببها أن قسمي الأكاديمي ليس مصنّفًا بدرجة أعلى، والواقع عكس ذلك تمامًا؛ فلو كنت أعتقد أن لهذه التصنيفات قيمة (وأنا لا أعتقد ذلك)، لقلت إنّ قسمي مصنَّف بأعلى مما يستحق!

٣٤ ـ وليس المقصود، بالطبع، أن جميع طلاب الدراسات العليا يجدون أنفسهم في وظائف فعلية؛ فقد ظلّ عدد الحاصلين على الدكتوراه أعلى بكثير منذ زمنٍ طويل من عدد الوظائف المتاحة.

٣٥ ـ تسلسلٌ فكري بدأ في مقالة سوزان هاك «اللامعقولية وعواقبها» (Preposterism and Its Consequences)، (١٩٩٦)، ضمن كتاب بيان معتدلة متحمّسة (Manifesto of a Passionate Moderate)، (شيكاغو: مطبعة جامعة شيكاغو، ١٩٩٨)، ص ص ١٨٨–٢٠٤.

٣٦ ـ سوزان هاك، «السؤال الحقيقي: هل يمكن إنقاذ الفلسفة؟ (The Real Question: Can Philosophy be Saved?)، مجلة التحرر الفكري (Free Inquiry)، المجلد ٣٧، العدد ٦ (٢٠١٧): ص ص ٤٠–٤٣.

٣٧ ـ روديارد كبلنج، «إذا——»، في كتاب المكافآت والجنيات (جاردن سيتي، نيويورك: شركة دبلداي، بايج وشركاه، ١٩١٠)، ص. ١٨١.

٣٨ ـ والآن أتذكّر الأستاذ الشاب الذي كان يُدرِّس في قسم يضم طلاب مرحلة البكالوريوس فقط (جامعة أوكلاند)، وقد قال لي: «إنها أفضل وظيفة لم تسمع عنها قط».

٣٩ ـ العبارة مأخوذة من ثورستين فبلن، التعليم العالي في أمريكا: مذكرة حول إدارة الجامعات بواسطة رجال الأعمال (نيويورك: ب. و. هوبش، ١٩١٨)، ص. ٢٥٣. وكما قال فبلن (عام ١٩١٨!)، فإن هذه اللجان «تُنشأ في الأساس لإبقاء أعضاء هيئة التدريس منشغلين بالكلام، بينما تواصل الآلة البيروقراطية عملها تحت إشراف المدير ومستشاريه ومساعديه الشخصيين». المرجع نفسه، ص. ٢٥٣.

وبالفعل، فهذه اللجان تمثل بنسبة ٩٨٪ استشاراتٍ زائفة.

٤٠ ـ أعترف بأنني أجد هذا صعبًا للغاية، إن لم يكن مستحيلًا؛ فمن العسير جدًا أن يحافظ المرء على هدوئه عندما يتصرف الزملاء بسوء. أجد نفسي أتلوّى بصمت كي لا أصرخ، لكنني أكره نفسي بعد ذلك لأنني لم أتحدث!

٤١ ـ بيرس، الأوراق المجمعة، ١.٣١ (١٨٦٩).

٤٢ ـ سنكلير لويس، أروسمِث (١٩٢٥؛ نيويورك: سِجنت كلاسيكس، ١٩٦١)، ص. ٢٧٨–٢٧٩.

٤٣ ـ انظري: سوزان هاك، «لستُ واحدة من الفتيان: مذكرات أكاديمية غير منسجمة»، كوزموس + تاكْسِس، المجلد ٨، العدد ٦ (٢٠٢٠): ص. ٩٢–١٠٦.

٤٤ ـ شكري لمارك ميجوتي على ملاحظاته المفيدة على المسودة، ولنيكولاس ميغانيلي على مساعدته في العثور على المراجع.

خلافا للمطارحات والسجالات التي تقترحها بعض نخبنا العربيّة فيما لا ينفع النّاس في راهنهم، على نحو يسهم في التجهيل ويكرّس التقوقع والتقهقر والرجوع إلى الخلف، بل والعودة إلى الجهالة. كأن تناقش وتتجادل حول القيمة الحضاريّة للزوايا والأضرحة ومقامات الأولياء "الصالحين" وإبراز دورها التاريخي في دعم المسلم روحانيّا أو السعي إلى المحافظة على التصوّف- في وجهه الطرقي الهيستيري التخديري- كظاهرة نفسيّة واجتماعيّة، رغم تماهيها مع الشعوذة. فإنّ طروحات النخب الغربيّة واهتماماتها تسعى غالبا لتنوير العقول وتثويرها وبثّ الوعي في شعوبها للنهوض بها وبلوغ أعلى المراتب. لذلك نلمس الرغبة الجامحة عندهم في خدمة الإنسان من خلال بحث قضاياه الحارقة ذات العلاقة براهنه ومستقبله أكثر ممّا هي مشدودة إلى الماضي السحيق، على أهمّيته. وهو ما ذهب إليه واستبسل في الدفاع عنه، كلّ من المفكّر الفرنسي مونتسكيو (Montesquieux)، في كتابه عن روح القوانين، وعالم الرياضيات والمنظّر السياسي الماركيز نيكولا دي كوندورسيه ((Nicolas de Condorcet، في كتاباته المطوّلة عن موضوع التقدّم وخاصة في كتاب"نشرة تمهيدية لجدول تاريخي بمراحل تقدم العقل البشري"، وأرنولد جوزيف توينبي (Arnold Joseph Toynbee)، في كتابه البشر وأمّهم الأرض . فضلا عن فولتير( (Voltaire في كتابه "مقالات عن السلوك"، وهو عمل فلسفىّ عن الحضارة الحديثة أعتبر في وقته، محاولة جادة لتفسير حركة التاريخ عن طريق التقدّم الحضارى للشعوب، تبرز قدرة الإنسان المطلقة على تحقيق التقدّم على مرّ العصور. فقد أكّد هؤلاء جميعا على وجوب انصراف الذهن إلى التفكير في القضايا الجديرة بالتأمّل والبحث " خدمة للإنسان ودفاعا عن إنسانيته في أي ظرف زمكاني كان.

ولعلّ قضايا فلسفة التاريخ التي دشّن طرحها الفيلسوف الألماني هيغل Hegel)) تندرج بيسر وسلاسة في سياق هذه القضايا التي تتنزّل فكرة نهاية التاريخ ضمنها. وهي ليست اليوم مجرّد موضوع مساءلة فلسفيّة فحسب، بل هي كذلك-وهو الأهمّ- أحد موضوعات الإقتصاد السياسي والثقافة السياسيّة التي ميّزت الفكر المعاصر. وذلك كإفراز لما جدّ من أحداث عظيمة غيّرت وجه التاريخ. لعلّ أهمّها-إذا صرفنا النظر عن الثورة الكوبرنيكيّة_ Revolution Copernicienne في مجال علم الفلك- الثورات السياسيّة والاجتماعيّة التي عرفها العالم، بدءا من الثورة الأمريكيّة(1775-1777) ضد بريطانيا بقيادة الضابط جورج واشنطن، مرورا بالثورة الفرنسيّة (1789– 1799) بقيادة البرجوازيّة المثقّفة والمحامي ماكسميليان دي روبسبير (Maximilien de Robespierre) المتعصّب للأفكار الإجتماعيّة للفيلسوف جان جاك روسوRousseau) Jacques Jean )، والثورة البولشيفيّة(1917) بقيادة المحامي الماركسي فلاديمير لينين (Vladimir Lénine) ومنظّرها ليون تروتسكي(Léon Trotsky) وكذلك الثورة الإيرانيّة(1979) بقيادة الفقيه آية الله الخميني، ووصولا إلى ثورات ما بات يعرف اليوم ببلدان الربيع العربي التي  كان يعوزها القواد، وتتماهى أوضاعها راهنا بأحداث رواية "الآلهة عطشى", (Les dieux ont soif)للكاتب الفرنسي المبدع أناتول فرانس(Anatole France ).وهي التى حاز بفضلها على جائزة نوبل في الآداب لسنة 1919باعتبارها تعدّ من الأدب الرفيع. وهي فعلا كذلك. فهي تصف بدقّة متناهية جو الإرهاب الذي ساد بعد الثورة الفرنسية، ضرورة أنّ رجال الثورة الذين كانوا عطشى للدم، إعتقدوا أنّهم يملكون الحقيقة المطلقة، وأن سواهم من المواطنين متهمين، لا بل مدانين من أجل اللاثوريّة، واللاوطنيّة، والعداء للجمهوريّة. وصنّفوا لذلك بالخونة، وكان جزاؤهم "المستحقّ" هو القتل العشوائي في غير ما رحمة، أو الاستئصال في أقلّ الأحوال. وهو ما حصل إبّان حدوث الثورات العربية الأخيرة، مع اختلافات جوهرية، في كل من تونس ومصر وسوريا وليبيا، وهي البلدان التي أطاحت برؤسائها ولفظتهم كما تلفظ النواة مع إحاطتهم بما يستحقّون من الإهانة وقبرهم في مزبلة التاريخ التي تزكم الأنوف.

ورغم أنّ التاريخ، عند هيغل (Hegel)، وهو فيلسوف التاريخ، صيرورة للعقل المطلق ولحريّة الروح، وفلسفته فلسفة ديناميّة (حركيّة )، تدرس الواقع في تدفّقه وفق نظريّته المعروفة باسم: "Historicism"، فإنّه قال عندي ينتهي التاريخ . فيما ذكر كارل ماركس(Karl Marx) في نظريته الشهيرة "الماديّة التاريخيّة" بأنّ التاريخ الحقيقي للبشر لم يبدأ بعد حتّى يقال أنّه إنتهي . وهو بالقطع يلمّح بذلك إلى أنّ بداية التاريخ إنّما هي عند انتقال القوّة الموجّهة للتاريخ من أيدي طبقة السياسيين الإنتهازيين والرأسماليين المستكرشين إلى طبقة العمّال الكادحين الذين يصنعون التاريخ كما الجغرافيا بأيديهم المنتجة للخيرات. ما يعني أنّ نهاية تاريخ الإضهاد الإنساني تتزامن مع زوال الفروق بين الطبقات الإجتماعيّة. وهي الفروق التي يسعى إلى تقليصها الفعل النقابي المتجذّر بصفة مخصوصة في ذهنيّة وثقافة المجتمع الديمقراطي الغربي راهنا.

والواقع أنّ كلا الفيلسوفين قد تجنّى وتعسّف على التاريخ على نحو شبيه بإهانة للمستقبل أو شتم له كما يقول الفرنسيون (insulter l’avenir). بهذا المعنى إعتبر لاحقا أحد أقطاب المحافظين الجدد المفكّر الأمريكي فرانسيس فوكوياما (Francis Fukuyama) في كتابة "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" أنّ نهاية الحرب الباردة، مع هدم سور برلين (1989)، هي بمثابة النهاية للتاريخ لأنّها وضعت حدّا للفكر الإيديولوجي في التاريخ الإنساني، وأنهت تاريخ الاضطهاد والنظم الشمولية لتحل محلّها الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية، مع استقرار نظام السوق الحرة. وذلك كتتويج مستحق كرّسته الانتصارات المتتالية على بعض الأيديولوجيات كالملكيّة الوراثيّة، والفاشيّة، والنازيّة والشيوعيّة التي كان الإستبداد قاسمها المشترك. ما يعني بالضرورة أنّ المستقبل سيشهد سيادة أو زعامة الرأسماليّة أو الاشتراكيّة الديمقراطيّة.

أمّا صأمويل فلبس هنتنغتون Samuel Phillips Huntingtonفإنّه يرى في كتابه " صراع الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي" أنّ الحضارات هي من سيحلّ مستقبلا محلّ الدول في لعب الأدوار السياسيّة الأساسيّة حيث أنّ صراعات ما بعد الحرب الباردة ستكون كثيرة جدّا وشديدة العنف. كما أنّ محرّكها الأساس سيكون حتما العامل الثقافي والحضاري الذي سيحلّ محلّ العامل العقدي الذي كان سائدا في خضمّ الحرب الباردة. حتّى أنّ المؤرّخ البريطاني جون أرنولد توينبي أقام عليه نظريّته التاريخية الشهيرة المعروفة ب"التحدِّي والاستجابة"، والتي اعتمدت بالأساس على الدين.

إلّا أنّه قد تبدّى اليوم وعلى نحو لا يعتريه الشكّ، أنّ التاريخ الحديث تصنعه الشعوب بجميع مكوّناتها. فلم يعد اليوم للمفكّر والفيلسوف الدور المحوري في النقلات التاريخيّة الهامّة، مثلما كان الشأن قبل وخلال الثورة الأمريكيّة ولا سيما الفرنسيّة. حيث كان دور فلاسفة عصر الأنوار فولتير وروسو وديدرو والماركيز كوندورسيه ثمّ مونتسكيو فيما بعد، حاسما وفعّالا في تنوير العقول وبثّ الوعي وثقافة النقد وروح الثورة لدى الجماهير الشعبيّة. كما لم يعد ممكنا اليوم للعمّال بمفردهم تحقيق ثورة على الراهن تكون في زخم الثورة الروسيّة، التي لم يكن يتوقّعها المنظرون للفكر الماركسي، لا بل حتّى كارل ماركس نفسه، ولا في زخم الثورة الصينيّة بقيادة ماو تسي تونق( (Mao Tsé-toung. مثلما لم يعد للإيديولوجيا أو العقيدة، الدور الحاسم في قيام الثورات كما كان الشأن خلال القرن العشرين.

لقد بات من المؤكّد اليوم أنّ الشعوب وحدها هي من يصنع التاريخ الراهن. على نحو ما قام به الشعب التونسي عند قيام ثورته التي أنجزها، بفضل تلاحم مختلف طبقاته وأطياف مجتمعه المدني بعزيمة قويّة وشكيمة شديدة ضمن وحدة صمّاء غيّرت المفاهيم الثوريّة السائدة التي عرّجنا على البعض منها، وقلبت رأسا على عقب النظريّات التي كانت تعتبر في الماضي من المسلّمات التي لا تقبل الجدل في الفكر الثوري القديم والمعاصر. لذلك كانت نموذجا للثورة المصريّة والثورات االتي أعقبتها. انطلاقا من توظيف الشبكات الإجتماعيّة للتحشيد مرورا برفع الشعارات من مثل شعار "إرحل"Dégage)) و"الشعب يريد إسقاط النظام"، وصولا إلى الطبيعة السلميّة للثورة( التي انحرفت بها كل من الثورة الليبيّة والثورة السوريّة لتصبحا معسكرتين فيما يشبه الحروب الأهليّة نتيجة لتعنّت حكّام الدولتين وجهلهما بقراءة التاريخ واستيعاب أحداثه وعبره). ويضاف إلى ذلك اعتماد طول النفس الثوري والإصرار على إسقاط النظام حتّى خلع الطاغية بالهروب أو بالتنحّي أو بالقتل الفظيع والتمثيل بالجثّة كما كان حال القذّافي.

وخلاصة القول في نهاية التحليل، أنّ التاريخ سيرورة لا نهاية لها وله، وهو لا يعيد نفسه كما يشاع. لأنّ مساره يتشكّل وفق خطّ مستقيم وليس وفق خطّ دائري يسمح بالعودة إلى نقطة البداية. إنّه يتوقّف عند محطّات مهمّة دون المكوث فيها طويلا، ثمّ يرنو على عجل إلى المحطّة القادمة التي تختلف جوهريّا عن سابقاتها. بهذا المعنى لم ينته التاريخ عند هيغل ولم ينته بنهاية تاريخ الاضهاد الإنساني ولا بنهاية الحرب الباردة وغياب تأثير الفكر الإيديولوجي وانتشار الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية، ولا بحلول الحضارات محلّ الدول في لعب الأدوار السياسيّة الأساسيّة. كما أنّه سوف لن يتوقّف بالتأكيد عند زعامة الشعوب للثورات بدلا من الزعامات الفكريّة والميدانيّة التي كانت سائدة في الماضي كما أسلفنا. لأنّ حقيقة نهاية التاريخ ينطبق عليها أيضا ما ذهب إليه هيغل في كتابه "تجسّد الروح" من أنّ التاريخ شيء حيّ وطبيعة كل شيء حيّ، هي دوام التغيّر والتبدّل. بما يتماهى مع مفهوم الحداثة الزئبقي والمراوغ الذي يعسر القبض عليه رغم تكرار المحاولة.

***

المهندس فتحي الحبّوبي

 

الرجلان أحدهما نبي التقدم، والآخر فيلسوف الواقع، يكشفان عن السياسة خلف الأفكار وعن الرغبة الكامنة تحت العقل.

فيلسوفان عملاقان – هيجل وشوبنهاور – يجسّدان التوتر بين وعود العقل وقوة الإرادة. هما كانا معاصرين لبعضهما. وبقيا شخصيتين شاهقتين في الفلسفة، لكن قصتهما أيضا تكشف حقيقة النظام الاكاديمي حيث النجاح في الغالب لا يعتمد كثيرا على قوة الحجة بقدر ما يعتمد على الارتباطات والسياسات وروح العصر. كان هيجل نجم عصره. العديد سُحروا بتعقيديته ورؤيته للتقدم الإنساني. ديالكتيكيته وتاريخيته حفزت المفكرين بعيدا الى ما وراء عصره. حتى اليوم، العديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع لايزالون يتكئون على هيجل. سلافوي جيجيك Slavoj Zizek،مثلا، يصر على انه هيجلي اكثر من كونه ماركسيا. لذا، دعونا نرى منْ هو هيجل.

في سنواته الأخيرة اصبح هيجل أستاذا للفلسفة في برلين، تحت علم ورعاية ملك بروسيا فردريك وليم الثالث. تعيينه في الوظيفة عام 1818 استلزم موافقة الدولة. الملك ووزرائه أرادوا من الجامعة الجديدة ان تجسد القيم البروتستانتية وسلطة الدولة. فلسفة هيجل في الدولة الرشيدة نُظر اليها كداعم قوي للملكية وهي آمنة سياسيا بما يكفي لإعتناقها. العديد من المعجبين به يفضلون تجاهل هذا. وبالنظر الى كل ذلك، كيف يمكن تفسير الفلسفة كمحررة وأيضا تعمل كتبرير للسلطة؟ البعض رأوا هيجل مرة كفيلسوف للحرية والعقلانية والتقدم. مع ذلك وبمرور الزمن، اتضح ان هذا خطير وساذج، شيء اوضحه كارل بوبر في كتابه المجتمع المنفتح واعداؤه. جادل بوبر بان رؤية هيجل تؤدي الى إضفاء الشرعية على السلطة تحت ستار العقل.

وبالنظر الى عالم اليوم، من الصعب انكار ذلك. العملية الديالكتيكية تبدو تتضمن خللا. العقل لا يحكمنا. معظم الأفكار لا تباشر عملية التفكير النقدي. نحن نعيش في عالم يمجد "التفكير النقدي"، ولكن في الغالب بدون تفكير حقيقي – بدون وسائل لإنجاز المركب synthesis . كل ما تبقى هو "النقدي"، صفة ملائمة لعصرنا. مُثل التنوير في الحرية والعقل والعطف حل محلها الانانية ومذهب المتعة والحوافز المدمرة. هذا يحدث في الحياة اليومية وبنفس القدر في قرارات القادة السياسيين.

لذا، نظرية هيجل، مهما كانت براقة، لا تصمد في العالم التجريبي. انها تفكير رغبي، بل ضباب خطير يخفي حقيقة ان العقل نادرا ما يقودنا. تعقيدية هيجل في الغالب تحميه من النقد. عندما يعارضه شخص ما، يكون الجواب انه لا يفهم. ولكن ربما هيجل كان يتعمد الخطأ، نبي التقدم العقلي اعطانا لعبة جميلة نستطيع من خلالها النظر بعيدا عن الاهوال التي يسببها العقل بالتحالف مع السلطة. انظر الى القرن العشرين: الحرب العالمية الأولى، الحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة، او في القرن الواحد والعشرين حيث أزمات المناخ والحروب وعدم الاستقرار الاقتصادي. هل كان هيجل مخطئا، ام ببساطة انه مثالي جدا؟ هل كانت فلسفته تعطي الشرعية لما موجود سلفا؟ نيتشه ادرك ان عظمة الفلسفة تكمن في النظر ما وراء الزمن الحاضر. وفق هذا المقياس يكون هيجل قد فشل. احد معاصريه، نجح فعلا رغم ما تعرّض له من تهميش بسبب هيمنة هيجل. آرثر شوبنهاور احتقر هيجل. اتهمه بالغموض المتمثل بتغليف الأفكار الفارغة بلغة معقدة لإقناع الطلاب وإرضاء الدولة البروسية. لهذا، لم يكن نظام هيجل مسارا للحقيقة وانما لسفسطة مدعومة من الدولة. هو أيضا رتّب محاضراته بنفس وقت محاضرات هيجل بأمل المنافسة لكن قاعات المحاضرة بقيت فارغة. فشله في قاعة المحاضرة يذكّرنا بانه في الفلسفة كما في العلم، الحجة الأقوى لاتربح دائما.

مع ذلك، وبالرغم من تهميشه، استوعب شوبنهاور شيئا أساسيا حول زمانه والناس. بينما هيجل مجّد العقل، التقدم، والدولة الرشيدة، أصر شوبنهاور بان تحت كل ما لدينا من مُثل تكمن قوة عمياء غير رشيدة وهي الإرادة. هو رأى ان الكائنات البشرية لم تُحكم بالعقل وانما بالرغبات والخوف والكفاح اللامتناهي الذي لا يمكن لأي نظام ديالكتيكي تنظيمه. هو جادل ان الحياة هي صراع عبثي لا معنى له. العقل يلعب دورا لكن في الاغلب كخادم للرغبة.

التاريخ أثبت ان شوبنهاور صحيح اكثر من هيجل. الناس نادرا ما يتصرفون بدافع من العقلانية الخالصة، انهم يلوون عنق العقل لتبرير السلطة، الرغبة، او البقاء. اليوم، يتضح ذلك اكثر. مجتمعاتنا تتشكل بواسطة الاستهلاكية: رغبات لا متناهية للسلع، توق مستمر من شيء الى آخر، وبحث لا متناهي عن المعنى في السلع. هذا فقط على الصعيد الشخصي. على المسرح العالمي، السياسة تخضع لهيمنة الانانيين وليس العقل. القادة يندفعون بحوافز باطنية وبالرغبة للهيمنة. السياسة تصبح غاية بذاتها ومسرح للرغبة وليس سعي عقلاني للصالح العام. هذه القوى مجتمعة تشكل الأساس للعالم الذي يصنع رغبات جديدة وبلا نهاية، يدفعنا نحو التدمير الذاتي.

شوبنهاور كشف مالم يستطع هيجل كشفه: العقل ليس المبدأ المرشد للإنسانية. انه مثال، ليس واقعا. ومع ذلك، شوبنهاور لم يتركنا في يأس. هو قدم طرقا لإرخاء قبضة الرغبة.

الأولى هي الفن. في التأمل الجمالي نحن نوقف الرغبة ونخطوا خارج الكفاح اللامتناهي للحياة. بالنسبة لشوبنهاور، الموسيقى هي أعلى درجات الفن: انها عبّرت عن الرغبة ذاتها دون ربطنا بأي شيء للرغبة. للحظة، نحن نوقف الرغبة ونفكر فقط، متحررين من استبداد الكفاح.

الثانية هي العطف. عبر الاعتراف بمعاناة الاخرين كأقرباء لنا، نحن ننتقل الى ما وراء الايغو ونرتبط بإنسانيه مشتركة. العطف يكسر حلقة الرغبة المنعزلة.

والثالثة هي الزهد، إنكار متعمد للرغبة من خلال رفض الالتصاق الدنيوي. هذا الخط من التفكير لشوبنهاور اثّر على أعظم مفكري الحداثة، أمثال كامو وسارتر وحتى فرويد.

بالمقابل، ميراث هيجل بقي أملا تاريخيا بعالم أفضل، أمل ثبت انه فارغ، أقرب الى اللاهوت منه الى الفلسفة. لذا، فان المقارنة بين هيجل وشوبنهاور تعلّمنا درسا أوسع. نحن في الغالب اكثر اعجابا بالأنظمة المثالية مقارنة بالرؤى الواقعية. هذه النزعة تستمر اليوم ليس فقط في الفلسفة وانما أيضا في العلوم خاصة العلوم الاجتماعية حيث السرديات الكبرى والوعود في التقدم لاتزال تهيمن على التحليلات الرصينة للقوى التي تشكّل الحياة حقا. ربما حان الوقت للإعجاب بشخصية مثل شوبنهاور اكثر من هيجل. لأن شوبنهاور واجه الواقع مباشرة بدون تنكّر. وفي النهاية يُترك الامر للقراء: منْ هو زرادشت الحقيقي هيجل فيلسوف التقدم، ام شوبنهاور فيلسوف الواقع؟

***

حاتم حميد محسن

 

تميز العلامة اللغوي العراقي مهدي المخزومي "1917 – 1993" بدعوته الى التحرر من تسلط التفلسف والرؤى العقلية المفروضة على اللغة من خارج سياقاتها الحية، وبدفاعه عن ضرورة دراسة اللغة دراسة وصفية تنصت الى لغة المتحدثين وأساليبهم، وتكشف عن أنماط التعبير كما تتجلى في الاستعمال، لا كما يفترضها العقل. ينطلق المخزومي من موقف يرى الاستعمال هو المعيار الأساسي في اللغة وقواعدها، لذلك دعا الى إعادة فهم اللغة في ضوء سياقات استعمالها، بغية تيسير قواعد النطق فيها، وتجديد معجمها، والنظر اليها بوصفها كائنًا اجتماعيًا حيًا، يتغير ويتحول كما يتغير الإنسان وتتحول الظواهر المجتمعية. لم يتعامل المخزومي مع اللغة كجسد جامد، بل ككائن يتفاعل مع الواقع المجتمعي للناطقين بها، ويتأثر ويعيد تشكيل ذاته في فضاء ما يطرأ على الحياة من متغيرات.

الاستعمال هو الأساس

يرى المخزومي أن مهمة النحوي لا تنبع من رغبة في فرض القواعد وإكراه الناطقين باللغة عليها، ولا من ميل الى تصحيح أساليبهم أو تخطئتها، بل تنبع مهمة النحوي من الوعي بوظيفة اللغة في الحياة، ومن فهمها كما تتجلى في الاستعمال الحي، وملاحظة واقع اللغة وكيفية تداول أهلها في سياقات أحاديثهم اليومية. النحو ليس سلطة تملى على المتحدثين باللغة، ولا منظومة مغلقة تفرض على الكلام، بل هو فهم لكيفية حضور اللغة في الاستعمال، وكيف تتشكل أساليب التعبير في بيئة اجتماعية متغيرة. النحوي الذي يعي مهمته لا يسبق اللغة، ولا يضع لها خارطة طريق مرسومة قبل أن تسير، بل يسير خلف استعمالات أهلها. يرصد النحوي تحولاتها، ويصغي الى كيفية حضورها في الاستعمال، ويستخلص من ملاحظاته ما يمكن أن يصاغ في هيئة قواعد، لا بوصفها أوامر، بل بوصفها فهمًا لما هو كائن، فإذا قال إن الفاعل مرفوع، لم يكن ذلك حكمًا سابقًا، بل نتيجة رصد ومراقبة وملاحظة وتأمل طويل لكيفية الاستعمال، واستقراء دقيق لما يتكرر في أحاديث أهل اللغة. ليست مهمة النحوي أن يخلع على اللغة قوالب المنطق وآراء الفلاسفة ومقولات علماء الكلام، أو أن يخضعها لأحكام عقلية مجردة. اللغة ليست بناءً عقليًا صرفًا، بل ظاهرة اجتماعية تنمو في رحم الجماعة، وتستجيب لحاجاتها، وتتشكل على وفق منطقها الداخلي، الذي قد لا يتطابق مع ما يراه العقل النظري منسجمًا أو منطقيًا. وذلك ما أوضحه المخزومي بقوله: "حاولت في هذه الفصول أن أخلّص الدرس النحوي من سيطرة المنهج الفلسفي عليه، وأن أسلب العامل النحوي قدرته على العمل، وقد كان النحاة رحمهم الله قد جعلوا من هذا العامل منطلقًا لأعمالهم"[1].

لم يتوقف المخزومي عند النقد، بل اقترح أفقًا بديلًا، يحرر اللغة من أسر القوالب الجاهزة، ويعيدها الى فضائها، لمواكبة متغيرات الحياة، والاستجابة لحاجات الإنسان في التعبير والفهم والتواصل، إذ يقول: "ليس من وظيفة النحوي الذي يريد أن يعالج نحوًا للغة من اللغات أن يفرض على المتكلمين قاعدة، أو يخطئ لهم أسلوبًا؛ لأن النحو دراسة وصفية تطبيقية، لا تتعدى ذلك بحال. النحو عارضة لغوية تخضع لما تخضع له اللغة من عوامل الحياة والتطور، فالنحو متطور أبدًا؛ لأن اللغة متطورة أبدًا، والنحوي الحق هو ذلك الذي يجري وراء اللغة يتتبع مسيرتها، ويفقه أساليبها، ووظيفة النحوي أن يسجل لنا ملاحظاته، ونتائج اختباراته في صورة أصول وقواعد تمليها عليه طبيعة هذه اللغة واستعمالات أصحابها، وأن يصف لنا مثلًا ما يطرأ على الكلمة، أو الجملة وأوضاعها المختلفة، فإذا قال النحوي مثلاً: إن الفاعل مرفوع، كان يستند في استنباط هذا الأصل إلى استقراء واع وملاحظة دقيقة، ونظر صائب في الأساليب وليس له أن يفلسف ذلك، أو يبنيه على حكم من أحكام العقل؛ لأن اللغة ظاهرة اجتماعية تخضع لما يخضع له المجتمع من أحكام تستند إلى عقل المجتمع نفسه، وقد لا يتفق مع ما يعرفه"[2].

هكذا يرشد مهدي المخزومي دارسي النحو الى المنهج الذي يجب توظيفه بدراسة العربية ونحوها، وهو منهج يتأسس على كيفية حضور اللغة كما تتجلى في الاستعمال، وينطلق من تتبع ما يقوله أهلها فعلًا، لا ما ينبغي أن يقولوه تبعا لقوانين المنطق الأرسطي وآراء الفلاسفة وتأويلات المتكلمين. لا يرى المخزومي في اللغة كيانًا منطقيًا أو فلسفيًا، بل يتعامل معها بوصفها ظاهرة مجتمعية حيّة، تنشأ وتنمو في أحضان المجتمع، وتتشكل على وفق معتقداته ورؤيته للعالم وأعرافه وقيمه واعتباراته وثقافته، فما يفرضه المجتمع من أساليب التعبير، وما تقتضيه ظروفه من تحولات في المعنى، لا تحكمه في أغلب الأحيان معايير المناطقة، ولا تفسره براهين الفلاسفة، ولا تضبطه محاججات المتكلمين. من هنا جاء تأكيده على أن يكون السلطان المطلق في فهم اللغة صادرًا عن هذه الرؤية التي تنصت الى كيفية استعمال المجتمع للغة، وتصغي الى ما يجرى على لسان الناس، لا ما يفرض عليهم من خارج تجربتهم الحية، إذ يقول: "ألا أن هذه الفكرة التي كانت ينبغي أن يكون لها السلطان المطلق على الدراسات اللغوية في تفسير كثير من ظواهرها، لم يتح لها النمو، فسرعان ما طغى سلطان الفلسفة على عقول الدارسين، فأوصد دونهم الباب الذي ينفذون منه إلى دراسة لغوية، أو نحوية حية"[3].2075 makhzomi

تنبه المخزومي الى خطورة الارتهان للمنهج المعياري في دراسة النحو، سواء استند هذا المعيار الى المنطق أو الفلسفة أو علم الكلام أو أية تصورات عقلية مجردة. لم يرَ في هذه المناهج ما ينير فهم اللغة، بل ما يبعدها عن كونها تنشأ وتتطور في فضاء المجتمع، ويقحم عليها ما لا ينتمي الى بنيتها. حين تُدرَس اللغة بوصفها نظامًا يجب أن يطابق معايير عقلية سابقة، تتجمد في قوالب مغلقة لا تعكس واقع الاستعمال. لذلك، دعا المخزومي الى التحرر من هذه الرؤية المعيارية، والإنصات لما تقوله اللغة في سياقات استعمالها، لا لما يراد لها أن تقوله على وفق أحكام سابقة عليها. النحو، في نظره، لا يبنى على ما ينبغي أن يكون، بل على ما هو كائن فعلًا في كلام الناس، وما يتجلى في أساليبهم المتنوعة في التعبير. وهذا ما دعاه للتحذير من اعتماد المنهج المعياري في دراسة النحو، سواء أكان المعيار منطقيًا أو فلسفيًا أو كلاميًا، بقوله: "كان النحاة قد اجتهدوا فنهجوا في دراسة النحو منهجًا معياريًا ثقيلًا، فأساءوا إلى الدرس من حيث أرادوا الإحسان بإخضاعهم موضوعات النحو للاعتبارات الكلامية والمنطقية، وأساءوا إلى الجملة العربية وأصالتها وصفاتها وحيويتها، وما تتميز به عناصرها من حرية في التقدم والتأخر والذكر والإضمار، وحدوا بغلوّهم في تحكيم الاعتبارات العقلية في الدرس من حرية الكلمة في أثناء الجملة، مع أنها تحمل معها ما يدل على موقعها في الجملة أو ما يدل على معناها الإعرابي"[4].

لم يكتف مهدي المخزومي بنقد المنهج المعياري في دراسة النحو، بل تجاوز ذلك الى مساءلة البنية العميقة التي رسخت أبدية القواعد، وتعاملت معها بوصفها أحكامًا نهائية لا تقبل المراجعة. كان يرى أن هذا الموقف المتصلب عطّل النحو عن التفاعل مع تحولات اللغة، وجمّد حيويته وقدرته على مواكبة تحولات اللسان العربي، وحوّله الى منظومة مغلقة لا تصغي الى ما يتغير في لغة المتحدثين. حرص المخزومي على أن يستعيد النحو وظيفته، وتعامل معه بوصفه مرآة لتحولات الواقع والوعي والثقافة واللغة، لذلك دعا إلى أن يتحرر النحو من تسلط التفلسف، وأن يعاد بناؤه في ضوء ما تقوله اللغة فعلًا. النحو، كما فهمه، ممارسة تتجدد بتجدد الحياة، وتصاغ من جديد كلما تغيرت سياقات الاستعمال، وتغيرت الحاجات اللغوية والثقافية، وتبدلت أساليب التعبير. في ضوء هذه الرؤية، يصبح النحو تأملًا في: كيف يتكلم العربي، وكيف يُعيد تشكيل لغته، وكيف تنبثق المعاني من صميم الواقع الذي يعيشه الإنسان، وليس من قوالب جاهزة.

النحو الحي يستخلص من الفضاء الذي تنبثق فيه اللغة، ومن الأصوات التي تعبّر عنها في استعمالها، ومن الواقع المتجدّد، والحاجات التي تفرض على اللسان أن يتغير كي يظل قادرًا على التعبير. لا يصح أن نفهم النحو إلا بوصفه مرآة للواقع وللوعي، وفضاءً للتأمل في كيفية تكلم الانسان حين يصغي الى ذاته، وحين ينصت الى الواقع، وحين يعيد بناء لغته كي تواكب ما يشعر به، وتعلن عما يريد أن يقوله. لا يستجيب النحو إلى ما يريد الإنسان أن يقوله إلا حين يتحول من قيد يكبل المتكلم الى أداة لتيسير النطق باللغة. رفض المخزومي مفهوم العامل بالمعنى المنطقي والفلسفي، الذي لم ينبثق من طبيعة اللغة الحية، ولم يكن وصفًا لظاهرة لغوية واقعية، بل محاولة لإخضاع اللغة لمنطق العلة والمعلول، وفرض نظام سببي ذهني عليها، بحيث صارت اللغة والنحو تفسر بأدوات خارجية عنها، لا تنتمي إلى بنيتها ولا إلى سياقها الاستعمالي. اللغة لا نفهمها بالعلل العقلية ولا بالقوانين المنطقية، لأنها تتجدد في الاستعمال الإنساني، لكن حين سادت نظرية العامل تحول النحو إلى قواعد منطقية تطلب العلل في العقل لا في اللسان، وابتعدت هذه القواعد عن واقع اللغة في استعمالات أهلها. فقد دعا المخزومي إلى ما أسماه "العامل اللغوي"، لتحرير اللغة من القوالب المنطقية والفلسفية، واستعادة طاقتها في التعبير عن الحياة والمعنى، بقوله: "فإذا تبينا أن أقوال الدارسين في تلك العصور المختلفة، في العوامل، كانت قد تذبذبت بين عامل فلسفي محض، وعامل توفيقي محض، وأن العامل اللغوي لم يكن له سلطان بيّن في دراستهم، وإنما كانوا يتشبثون به إذا واجهتهم قضايا استعصت على فلسفاتهم وأصولهم العقلية، وإذا اقتضى الدرس اللغوي أن نبعد عن مجال البحث النحوي ما لا يتفق مع طبيعته، فينبغي أن ندعو إلى ما سميناه العامل اللغوي"[5].

تساءل المخزومي بإنكار عن سطوة التراث النحوي على عقول الباحثين من المحدثين، وركونهم في الفهم إلى القدماء، وعملهم على استئناف ما كان كما كان، وولعهم بتكرار ما كتبه الأسلاف في القواعد والمسائل النحوية المتنوعة، وكأن اللغة مدونة أحكام أبدية مفروضة على أهلها، إذ يقول: "ولا أدري كيف يؤثر باحث محدث أن يكون النحو أقوى عقلاً، وطريقة القياس فيه أكثر تنظيماً، وأقوى سلطاناً على اللغة؟ وأي نحو هذا الذي يستخلص من القواعد الموضوعة، ولا تستفتي فيه اللغة كل اللغة، مع أن الاستعمال هو صاحب السلطان على اللغة لا عقل الفرد ولا منطقه، ولا قاعدته الموضوعة والمفروضة على الدارسين؟ أليس هذا تقليداً - في غير وعي لأفكار عتيقة كانت تفهم النحو على أنه منطق وفلسفة وتعليل وتقدير، ثم أليس هذا ترديدًا لمزاعم المتعصبين الذين كانوا يرون في منافسيهم الذين كانوا يحترمون ما ورد عن العرب ويحرصون على الفصيح المستعمل - دارسين أفسدوا اللغة والنحو، ويعرضون بالكسائي الذي اجتمع لديه النحو والقراءة، فيتهمونه بإفساد النحو، ويزعمون أنه (كان يسمع الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلًا)"[6].

في دعوته لتجديد اللغة والنحو تأثر مهدي المخزومي بعدد من أعلام النحو، مثل الخليل بن أحمد الفراهيدي ت "170ه"ـ، وأبي زكريا الفراء ت "207هـ"، أحد أبرز رواد مدرسة الكوفة، وابن مضاء القرطبي ت "592هـ"، صاحب "الرد على النحاة".كما تأثر بأستاذه في جامعة القاهرة إبراهيم مصطفى "1888 – 1962"، مؤلف "إحياء النحو"، الذي دعا إلى تجديد النحو وتيسيره. غير أن دعوة المخزومي لم تجد صدى لدى معظم اللغويين في جيله، ولم ينهض تلامذته بالبناء عليها. وقد أُجهِضت هذه الدعوة بفعل السلطات الشمولية، إذ يثير ذعر تلك السلطات كل ما يهدد صلابة بنيتها ورسوخها، فتقاوم التجديد في المعرفة الدينية واللغوية بضراوة، وتطارد من يدعو إليه، لأنه يفضح هشاشة الأسس التي تقوم عليها. إن التجديد في فهم الدين وقراءة نصوصه لا يتحقق من دون تجديد علوم اللغة وإعادة النظر في النحو، لأن اللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير وأداة للتواصل، بل هي الفضاء الذي تتشكل فيه الرؤية إلى العالم.

وعود الجيل الجديد من اللغويين العراقيين

في ضوء التحولات المعرفية والعلمية الحديثة، لم تعد اللغة تدرَس بوصفها منظومة قواعدية مغلقة، بل بوصفها ظاهرة متعددة الأبعاد، تتداخل في دراستها العلوم الإنسانية والطبيعية، وتوظف في مجالات تتجاوز حدود اللسانيات التقليدية. تحولت اللغة الى حقل تفاعلي، تسهم في فهمه علوم ومعارف متداخلة، كل منها يضيء جانبًا من جوانبها، ويكشف عن طاقتها في التعبير والتفكير والتواصل والتأثير. في مقدمة هذه العلوم يأتي علم النفس اللغوي، الذي يدرس كيف يكتسب الإنسان اللغة، وكيف يفهمها وينتجها، وما الذي يحدث في ذهنه حين يتكلم أو يصغي، يوظف هذا العلم في تطوير مناهج تعليم اللغات، وفي علاج اضطرابات النطق، وفي فهم العلاقة بين اللغة والذاكرة والانتباه. ويجاوره علم الأعصاب اللغوي، الذي يستخدم أدوات التصوير الدماغي لتحديد المناطق المسؤولة عن اللغة في الدماغ، ويسهم في فهم الاضطرابات العصبية التي تؤثر في القدرة على الكلام أو الفهم، مثل الحبسة أو التأتأة أو فقدان اللغة بعد السكتات الدماغية. أما علم اللغة الاجتماعي، فيسلط الضوء على كيفية تداخل اللغة مع البنية الاجتماعية، ويكشف عن دورها في تشكيل الهوية، والتعبير عن الانتماء، وإنتاج الفوارق الطبقية والثقافية والدينية، والتمييز بين الرجال والنساء. ويستخدم هذا العلم في تحليل الخطاب السياسي، وفهم الديناميات اللغوية في المجتمعات المتعددة، وتفسير التحولات في اللهجات واللغات الهامشية.كما تدرس الأنثروبولوجيا اللغوية اللغةَ بوصفها ممارسة اجتماعية وثقافية تنتج المعنى وتشكل الهوية، ولا تنظر إلى اللغة على أنها نسق مجرد، بل فعل يومي يعيد تشكيل الحياة والعلاقات والثقافة والهوية. اللغة في هذا الحقل وسيط رمزي يجسد أنماط التفكير، ويمارس من خلالها الإنسان الانتماء والسلطة، وتنعكس فيها التوترات والصراعات الكامنة في الممارسات اليومية.  يضاف الى ذلك علم اللغة الإدراكي، الذي يربط اللغة بالتصورات الذهنية، ويبحث في كيفية بناء المعنى داخل الذهن، ويسهم في تطوير نماذج معرفية لفهم اللغة بوصفها أداة للفكر، لا مجرد وسيلة للتواصل. وتعمل اللسانيات التطبيقية على تحويل هذه الرؤى النظرية الى أدوات عملية، تستخدم في تعليم اللغات، وتصميم المناهج، وتطوير الترجمة، وتحليل الخطاب في الإعلام والتعليم والقانون. كما توظف الفيزياء الصوتية في دراسة الخصائص الفيزيائية للأصوات اللغوية، وتستخدم في تطوير تقنيات النطق الآلي، وتحسين جودة الصوت في وسائل الاتصال، وتشخيص اضطرابات النطق.كذلك يسهم علم البيولوجيا التطورية للغة في فهم أصل اللغة وتطورها، ويطرح أسئلة حول كيف نشأت القدرة اللغوية لدى الإنسان، وما الذي يميزها عن أشكال التواصل الأخرى في الطبيعة، ويستخدم هذا العلم في المقارنة بين اللغات البشرية وأنظمة التواصل الحيوانية، وفي دراسة تطور الدماغ البشري من منظور لغوي. ولا يمكننا إغفال دور الذكاء الاصطناعي، الذي يعد من أكثر الحقول الواعدة اليوم، إذ تستخدم خوارزميات التعلم الآلي لفهم اللغة البشرية، وترجمتها، وتحليلها، وتوليدها آليًا، وتوظف هذه التقنيات في تحليل المشاعر، وتوليد النصوص، وتطوير الحوار بين الإنسان والآلة.

هذه العلوم تعيد تعريف اللغة بوصفها كائنًا حيًا، يتجلى في الوعي، ويتشكل في المجتمع، ويتحول في الزمن. وفي ضوئها لم تعد علوم اللغة حكرًا على المتخصصين التراثيين، بل أصبحت ميدانًا مشتركًا بين علماء النفس والأعصاب والاجتماع والأنثروبولوجيا والإدراك والبيولوجيا والفلسفة والذكاء الاصطناعي. هذا التداخل لا يضعف اللغة، بل يغنيها، ويعيد وصلها بالحياة، ويجعل منها مرآة لتحولات الإنسان في ذاته وعالمه.

حجب طغيان الرؤية التراثية للغة الأفق المضيء الذي غامر بالدعوة إليه مهدي المخزومي، ولم يجرؤ علماء العربية من تلامذته على اختراق حجاب تلك الرؤية. غير أني متفائل بمغامرة جيل جديد من الأكاديميين في العراق، تجرؤوا على تدريس علوم اللغة الحديثة في بعض أقسام اللغة العربية في جامعاتنا، ووجهوا تلامذتهم إلى كتابة أطروحاتهم ورسائلهم في الدراسات العليا لدراسة اللغة وتمثلاتها في الحياة في ضوء المعطيات العلمية الجديدة. استجاب لمتطلبات العصر الرقمي هؤلاء الأكاديميون الأحرار، وانتقلوا بدراسات علوم اللغة والنحو إلى آفاق مضيئة تتخطى الرؤية التراثية للغة والنحو. علوم اللغة الحديثة تعيد للغة دورها بوصفها ظاهرة إنسانية مركبة، تتداخل فيها البنية مع المعنى، والسياق مع الهوية، والتاريخ مع الوعي. هذا الاستئناف النقدي لا يكتفي بتجاوز الرؤية التراثية، بل يعيد تشكيل علاقة اللغة بالوجود، ويمنحها طاقة جديدة لفهم الإنسان في تنوع أنماط وجوده وتحولاته المتواصلة ومواكبته للواقع الذي يعيش فيه. هذا التحول يمثل يقظة لغوية عراقية تستفيق فيها دعوة المخزومي، وتبعث الحياة بمشروعه الذي سعى إلى تحرير اللغة والنحو من تسلط الرؤية التراثية، وربطها بسياقات استعمالها المتغيرة.

تحية للعزيز مؤيد آل صوينت، الذي أخرج للقراء طبعة جديدة للأعمال اللغوية الكاملة لمهدي المخزومي، وللأعزاء اللغويين من جيله، الذين يتطلعون ويعملون على تجديد الدرس اللغوي في الجامعات العراقية. منجزات مؤيد وزملائه تعدنا بعبور الرؤية التراثية للغة، والخلاص من تسلط الفصاحة والنحو.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

.........................

[1] المخزومي، مهدي، في النحو العربي: نقد وتوجيه، ص 16، 1964، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت.

[2] المخزومي، مهدي، الأعمال اللغوية الكاملة، اعتنى بها وقدمها: مؤيد آل صوينت، ج1: ص 15، 2024، دار الشؤون الثقافية، بغداد.

[3] المرجع السابق، ص 15.

[4] المرجع السابق، ص 16 – 17.

[5] المرجع السابق، ص 18.

[6] المرجع السابق، ص 17.

 

دور الفلسفة الحيوي في معالجة أزمات الإنسان والمجتمع المعاصر

مقدمة: الفلسفة اليوم.. ضرورة لا ترف فكري

في عصرٍ تتسارع فيه وتيرة التغيرات التكنولوجية، وتستعر فيه الانقسامات الأيديولوجية، وتتعقد فيه القضايا الأخلاقية، يبدو السؤال عن جدوى الفلسفة، ذلك الحقل المعرفي العتيق، أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. غالبًا ما يُنظر إلى الفلسفة على أنها مجموعة من التساؤلات المجردة التي لا تلامس أرض الواقع، حبيسة الأروقة الأكاديمية وبروجها العاجية. لكن هذا التصور يغفل عن جوهر الفلسفة الحقيقي؛ فهي ليست مجرد ترفٍ فكري، بل هي ضرورة منهجية وأخلاقية لفهم واقعنا وتفكيك مشكلاته.

إن الفلسفة، في جوهرها، هي فن "التساؤل المنضبط" و "التفكير النقدي العميق" حول المبادئ الأولى والأسس التي يقوم عليها وجودنا، ومعرفتنا، وقيمنا. وفي عالمنا المعاصر، المشبع بالمعلومات المتضاربة، واليقين الزائف، والتحديات الوجودية، تقدم الفلسفة الأدوات المنهجية اللازمة ليس فقط لتشخيص المشكلات، بل لاقتراح مسارات لمعالجتها على المستويين الفردي والاجتماعي.

أولًا: الفلسفة كأداة لتفكيك الواقع (المشكلة المنهجية)

قبل الخوض في المشكلات المحددة، لا بد من الإشارة إلى أن الأزمة الأولى التي يعالجها الفكر الفلسفي هي "أزمة التفكير" ذاتها. نعيش اليوم في "مجتمع ما بعد الحقيقة" (Post-truth Society)، حيث تُطمس الحدود بين الحقيقة والرأي، وبين الخبر والبروباغندا.

1. مواجهة السطحية وغسيل الأدمغة: تُعد الفلسفة، وتحديدًا "نظرية المعرفة" (Epistemology) و"المنطق"، خط الدفاع الأول ضد التضليل المعلوماتي. هي لا تعلمنا ماذا نفكر، بل كيف نفكر. تدربنا الفلسفة على:

أ‌- تفكيك المغالطات المنطقية: التي تعج بها الخطابات السياسية والإعلامية.

ب‌- تقييم مصادر المعرفة: التمييز بين المعرفة الموثوقة والادعاءات الزائفة.

ت‌- تحليل الافتراضات المضمرة: كشف ما يكمن خلف الشعارات البرّاقة والأيديولوجيات المتطرّفة.

في زمن الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI) وتقنيات "التزييف العميق" (Deepfakes)، يصبح التفكير النقدي الذي تبنيه الفلسفة ليس مجرد مهارة أكاديمية، بل أداة بقاء ديمقراطي واجتماعي.

2. أنسنة التكنولوجيا (المشكلة التكنو-أخلاقية): لقد وضعتنا الثورة التكنولوجية أمام معضلات لم يسبق للبشرية أن واجهتها. هنا، يبرز دور "فلسفة التكنولوجيا" و "الأخلاقيات التطبيقية" (Applied Ethics) بقوة.

أ‌- أخلاقيات الذكاء الاصطناعي: تطرح الفلسفة الأسئلة الحاسمة: كيف نضمن ألا تكون الخوارزميات متحيّزة؟ من المسؤول أخلاقيًا عن أخطاء الذكاء الاصطناعي؟ هل يمكن للآلة أن تمتلك وعيًا؟ وما هي حدود العلاقة بين الإنسان والآلة؟

ب‌- البيوإيتيقا (الأخلاق الحيوية): مع تطور تقنيات التعديل الجيني (مثل كريسبر)، تتصدى الفلسفة لسؤال "ما معنى أن تكون إنسانًا؟". هل يحق لنا "تصميم" أطفالنا؟ وما هي الخطوط الحمراء في التدخل البيولوجي؟

ت‌- الخصوصية والمراقبة: في عصر "رأسمالية المراقبة"، يعيد الفلاسفة فتح نقاشات عميقة حول مفهوم "الذات"، و "الحرية"، و "الحق في الخصوصية" في الفضاء الرقمي.

ثانيًا: الفلسفة كمرشد للعيش (المشكلات الفردية)

على المستوى الفردي، يعاني إنسان العصر الحديث من أزمات وجودية عميقة: الاغتراب، القلق، وفقدان المعنى.

1. البحث عن المعنى في عالم متغير: في مواجهة تراجع السرديات الكبرى التقليدية وصعود النزعة الاستهلاكية، تقدم الفلسفات الوجودية (مثل أعمال سارتر، كامو، وسيمون دي بوفوار) أدوات لفهم "القلق الوجودي". هي تدعونا لتحمل مسؤولية حريتنا وخلق المعنى الخاص بنا، بدلًا من استهلاكه جاهزًا.

2. العودة إلى "فن العيش": نشهد اليوم عودة قوية للفلسفات القديمة كـ "الرواقية" (Stoicism) كأدوات علاجية. في عالم لا يمكن التنبؤ به، تعلمنا الرواقية التمييز بين ما يمكننا التحكم به وما لا يمكننا، وتدربنا على "الصلابة العقلية" وقبول الواقع كخطوة أولى لتغييره. لم تعد الفلسفة مجرد تأمل، بل أصبحت "ممارسة يومية" لإدارة القلق وتحقيق السكينة (Ataraxia).

ثالثًا: الفلسفة كعقد اجتماعي (المشكلات المجتمعية والسياسية)

لا تنفصل أزمات الفرد عن أزمات المجتمع. وهنا تلعب "الفلسفة السياسية" و"الأخلاق الاجتماعية" دورًا محوريًا.

1. أزمة العدالة والديمقراطية: إن اتساع فجوة اللامساواة الاقتصادية، وصعود الشعبوية، وتآكل المؤسسات الديمقراطية، كلها قضايا تقع في صلب الفلسفة السياسية.

أ‌- نظريات العدالة: تستمر أعمال جون راولز (John Rawls) حول "العدالة كإنصاف" في إلهام النقاشات حول كيفية بناء مجتمع يوازن بين الحرية والمساواة، وكيفية توزيع الثروة والموارد بشكل عادل.

ب‌- التسامح والعيش المشترك: في مواجهة الاستقطاب السياسي والطائفي، تعيد الفلسفة طرح أسئلة التعددية الثقافية، وحدود حرية التعبير، وأسس "العقد الاجتماعي" الذي يجمعنا على الرغم من اختلافاتنا.

2. الأزمة البيئية (أخلاقيات الكوكب): يشكّل تغير المناخ التحدي الأكبر لوجودنا. "الأخلاقيات البيئية" (Environmental Ethics) هي فرع فلسفي يتساءل عن علاقتنا بالعالم الطبيعي.

أ‌- هل البشر هم "أسياد" الطبيعة أم جزء منها؟

ب‌- ما هي مسؤولياتنا الأخلاقية تجاه الأجيال القادمة؟

ت‌- هل للحيوانات والنظم البيئية حقوق؟ تدفعنا الفلسفة هنا لإعادة التفكير جذريًا في نماذجنا الاقتصادية القائمة على النمو اللامحدود، وتدعونا لتبني "أخلاقيات المسؤولية" تجاه الكوكب.

خاتمة: الفلسفة.. ضرورة لإعادة بناء المستقبل

إن المشكلات التي تواجه الإنسان والمجتمع اليوم ليست مجرد مشكلات تقنية أو اقتصادية يمكن حلها بـ "تطبيقات" أو "سياسات" معزولة. إنها في جذورها أزمات "معنى" و "قيمة" و "تفكير".

دور الفلسفة الحالي ليس تقديم إجابات جاهزة، بل هو "إبقاء السؤال حيًّا". إنها المنهج الذي يمنعنا من التكيّف السلبي مع الواقع، ويدفعنا لتخيّل "عوالم ممكنة" أخرى. هي التي تسلّحنا بالشجاعة لنطرح الأسئلة الأكثر إزعاجًا: لماذا الأمور على ما هي عليه؟ وهل يمكن أن تكون أفضل؟

في عالم يقدّس السرعة واليقين، تبدو الفلسفة، بتمهلها وشكها المنهجي، فعلًا راديكاليًا. إنها البوصلة التي نحتاجها لنبحر في تعقيدات القرن الحادي والعشرين، ليس فقط لننجو، بل لنعيش حياة إنسانية أكثر وعيًا، وعدالة، واكتمالًا. فالمجتمع الذي يتوقف عن التفلسف، هو مجتمع يتوقف عن التفكير في مستقبله.

***

أ.د. إحسان علي الحيدري - أستاذ فلسفة الدين والأخلاق

كلية الآداب / جامعة بغداد

يُشكّل التّصوّف، بتجلياته المتعدّدة عبر الثّقافات والحضارات، مجالا خصبا للدّراسة الأنثروبولوجية، فهو لا يقتصر على مجرد ممارسات دينيّة، بل يتجاوز النّظرة اللاّهوتية البحتة ليشمل منظومة من المعتقدات، والسلوكيّات، والخبرات الشّخصيّة التّي تُعرف وتُفهم من خلال منظورها الثّقافي.

تُعنى أنثروبولوجيا التّصوف بفهم هذه المنظومة، وكيفيّة تفاعلها مع البِنى الاجتماعيّة والثّقافية المختلفة، وكيف تُشكل هذه التّجربة الرّوحيّة حياة الأفراد والمجتمعات، وتركّز على تجلياتها في الواقع المعيش، وكيف تتشكّل وتتطوّر عبر الزّمان والمكان، وتتفاعل مع السّياقات الثّقافية المختلفة .

1/ أنثروبولوجيا التّصوف وأهمّيتها:

تُعرف أنثروبولوجيا التّصوف بأنّها دراسة الممارسات الصّوفيّة من منظور أنثروبولوجي، معتمدة على المنهجية الإثنوغرافيّة التّي تركّز على الوصف الدّقيق وجمع المعلومات من خلال الملاحظة، ويهدف هذا التّخصص إلى تفسير السّلوك الباطني أو الهدف الخفيّ من هذه الممارسات، وكيف تتجسد الظّاهرة الدّينية في ظلّ الزّمان والمكان الذّي يحدّده الشّيخ لمريده [1].

وتكمن أهمّية أنثروبولوجيا التّصوف في قدرتها على تقديم فهم شامل ومتعدد الأبعاد للظّاهرة الصّوفية، والذّي لا يقتصر على الجوانب الرّوحية أو الفلسفية، بل يمتد ليشمل التّعبيرات الثّقافية والاجتماعيّة والسّياسيّة، فهي تبحث في كيفيّة تشكيل التّصوف للهويّات الفرديّة والجماعيّة، وتأثيره على العلاقات الاجتماعيّة، ودوره في المشهد السّياسي على حدّ السّواء.

كما لا يقتصر اهتمام الأنثروبولوجيا بالتّصوف على الجانب الوصفي، بل يتجاوز ذلك إلى التّحليل النّقدي، فبدلا من الاكتفاء بتسجيل الممارسات والطّقوس، تسعى هذه الدّراسة لفهم الدّوافع الكامنة وراء هذه الممارسات، وكيف تساهم في بناء الهويّة الفرديّة والجماعيّة، فعلى سبيل المثال، تُحلّل أنثروبولوجيا التّصوف دور الرّموز والطّقوس في خلق حالة من التّواصل مع ما وراء الطّبيعة، وكيف تُسهم هذه الطقوس في بناء الرّوابط الاجتماعيّة وتقوية الشّعور بالانتماء إلى جماعة معيّنة، وهو ما يعكس الأهميّة الكبرى لهذا المجال.

2/ أنثروبولوجيا التّصوف: أنساق الدّراسة ومجالات البحث

أ/ أنساق الدّراسة:

تتناول أنثروبولوجيا التّصوف عدة محاور رئيسيّة لفهم الظّاهرة الصّوفيّة أهمّها:

- الممارسات والطّقوس الصّوفية: حيث تركّز على تحليل الطّقوس والممارسات المتنوّعة التّي تميّز الطّرق الصّوفية المختلفة مثل الذّكر، والجذب، والموالد، والزّيارات للأضرحة، ففي العراق مثلا، بيّنت الدّراسات في المجال أنّ الواقع الدّيموغرافي ووجود أضرحة مؤسّسي الجماعات الصّوفية (القادريّة، الرّفاعية، النّقشبنديّة) له الأثر الأكبر في تشكيل التّجربة الصّوفية العراقيّة.

وفي المغرب، تُعد طقوس "كناوة" مثالا بارزا على الممارسات الشّعبية التّي تمزج بين الدّيني والسّحري، وتعكس تفاعل الثّقافة المحليّة مع الأصول الأفريقيّة .

- الهياكل التّنظيميّة للطّرق الصّوفيّة: إذ تدرس كيفيّة تنظيم الجماعات الصّوفيّة في "زوايا" أو "طرق"، وكيف تتجاوز هذه الهياكل الحدود الجغرافيّة والثّقافية واللّغويّة، ففي أمريكا الشّمالية مثلا تخضع الحركات الصّوفيّة لموجتين تنظيميّتين هما إعادة هيكلة الجماعات إلى النّموذج التّقليدي للطّريقة، أو التّفكيك والخروج من الأنماط التّقليديّة للاندماج في ديناميّات السّوق الدّينيّة.

ب/ مجالات البحث:

تتنوّع أساليب البحث في أنثروبولوجيا التّصوف، فهي لا تقتصر على الملاحظة الميدانيّة والمقابلات، بل تتوسّع لتشمل تحليل النّصوص الدّينية والأدبيّة، ودراسة الفنون والعمارة المرتبطة بالتّصوف، فدراسة الخطوط الكوفيّة في الفن الإسلامي على سبيل المثال، تكشف عن أبعاد روحيّة عميقة تعكس تجربة التّصوف لدى الفنّانين، كذلك، دراسة الموسيقى الصّوفية وطقوسها، تُبرز العلاقة الوثيقة بين الموسيقى وبعض الحالات الرّوحيّة، ومن أمثلة مجالات البحث في أنثروبولوجيا التّصوف:

- التّجربة الشّخصيّة للتّصوف: حيث تركّز هذه الدّراسات على فهم تجارب الأفراد الرّوحيّة، وكيفية تأثيرها على حياتهم اليوميّة، وتكوين هويّتهم.

- التّصوف والسّلطة: تُحلّل هذه الدّراسات العلاقة بين التّصوّف والسّلطة السّياسيّة والدّينية، وكيف استُخدم التّصوف أحيانا كأداة لتدعيم السّلطة أو كوسيلة للمقاومة.

- التّصوف والجنس: وتبحث هذه الدّراسات في دور الجنس والنّوع الاجتماعي في تشكيل التّجربة الصّوفيّة، وكيف تختلف هذه التّجربة بين الرّجال والنّساء.

- التّصوف والبيئة: تُبرز هذه الدّراسات العلاقة بين التّصوف والطّبيعة، وكيف يُستخدم التّصوف في الحفاظ على البيئة.

- علاقة التّصوف بالثّقافة والفن: وتبحث في تأثير التّصوف على الفنون المختلفة كالأدب والموسيقى والشّعر، وكيف يعاد تشكيل ممارساته وخطاباته ضمن سياقات ثقافيّة متنوعة، ويُعد جلال الدّين الرّومي مثالا على ذلك، حيث أصبح شخصيّة مرجعيّة في التّصوف العالمي، وتُرجمت قصائده والعديد من انتاجاته الأدبيّة والفنيّة في الغرب.

- التّصوف والسّياسة: تتناول الأنماط السّياسيّة للتّصوف المعاصر واستراتيجيّاته للتّكيف ضمن المجال السّياسي العالمي، ففي الجزائر مثلا، يظهر الدّعم الحكومي للصّوفيّة جزءًا من مشروع سياسي لمواجهة الحركات السّلفيّة، وفي تركيا حركة غولن والتّي رغم أنّها لا تعلن عن انتمائها الصّوفي بشكل مباشر في السّياق الوطني، إلاّ أنّها تركز على هذا الانتماء عند تقديم نفسها في الأوساط الغربيّة .

- التّصوف المعاصر والعولمة: تدرس كيفيّة تحوّل التّصوف إلى ظاهرة عالميّة تتميّز بأنماط جديدة من التّعبيرات الدّينية والثّقافية والسّياسيّة، وكيف يتفاعل مع مفاهيم مثل "العهد الجديد" (New Age) التّي تجعله تجربة روحيّة عالميّة غير مرتبطة بدين معيّن .

- التّصوف والفلسفة: تهتم أنثروبولوجيا التّصوف أيضا بالعلاقة بين الفلسفة والتّصوّف، وكيف استفاد الخطاب الصّوفي من مفاهيم فلسفيّة في نظرته إلى العالم والتّأويل، وكيف قدمت الفلسفة أدوات معرفيّة لمقاربة ظاهرة التّصوف، ويُعد ابن عربي من أبرز الفلاسفة الصّوفيّين الذّين قدّموا مفهوم "روحانيّة الجسد" متجاوزا الثّنائيّة التّقليدية بين الجسد والرّوح .

3/ التّحديّات والمستقبل:

تواجه أنثروبولوجيا التّصوف تحدّيّات تتعلّق بتعقيد الظّاهرة الصّوفيّة وتنوّعها، وضرورة تجاوز النّظرات التّبسيطيّة أو الأحكام المسبقة، كما أنّ هناك حاجة لدراسة جوانب لم تُغطّ بشكل كاف، مثل علاقة الشّيخ بالمريد في سياق العولمة، وحضور المرأة والشّباب في الحركات الصّوفية المعاصرة، واستخدام الأدوات الجديدة لنشر التّصوف عبر وسائل التّواصل الاجتماعي والمهرجانات الثّقافية.

وبناء على ما سبق، تُعد أنثروبولوجيا التّصوف مجالا بحثيّا غنيّا ومتنوّعا، يساهم في فهم أبعاد التّجربة الرّوحية الإنسانيّة، وكيفيّة تفاعلها مع السّياقات الثّقافيّة المختلفة، فهي لا تُقدم فقط وصفا للممارسات الصّوفية، بل تُساهم في فهم العمليّات الاجتماعيّة والثّقافيّة التّي تُشكّل هذه التّجربة، وتُبرز دورها في بناء الهويّة الفرديّة والجماعيّة.

تسعى أنثروبولوجيا التّصوف إلى فهم "الظّاهرة الصّوفية" بتعقيداتها وتنوّعها، من خلال ملاحظة الممارسات كما هي في الواقع، وتحليل الطّقوس والخطابات، ووضعها في سياق اجتماعي وثقافي وسياسي عالمي.

***

د. سلـــوى بن أحمد

هل حقًا ما لا تريد النفس معرفته، هل يؤدي إلى عقوبة الذات؟ نعم، لأنه يمس بخصوصيتها وعمق ما ترك فيها من أثر وندبات، موضوع يمس ذواتنا ونحن في حالة اليقظة والوعي، ندرك تمامًا ما نراه ونُقيمهُ، ولكن تساؤلنا هل فعلا ما لا نعرفه عن أنفسنا ويدلنا إليه الآخر، لا نقبله؟ وهل هو شيء أحدث جرحًا فينا واصبح جرحًا نرجسيًا في أنفسنا نحاول عدم معرفته؟

 حينما يفاجئنا أحدهم بشيء فينا ولا نعرفه؟ نستعير هذا النص لمعرفة دلالته وهو أن يرى الآخر فينا ما لم نعد نراه بأنفسنا، ليس في موقف واحد من مواقف الحياة، بل في مواقف متعددة منها الأبوة وشدة تأثيرها في بناء شخصيتنا، أو التعلق الأمومي، المحبة تجاه من نكن له العاطفة، الحب والعلاقات العاطفية، حينما نستدعي المؤلم الدفين في دواخلنا في لحظة غير متوقعة.. ترك فينا الأثر والندبة النفسية العميقة، لن تغادرنا طالما نحن نعيش ونتذكر تلك الندبة " الذكرى الدفينة" في حياتنا اليومية ومهما بلغنا من العمر، ومن النضج، ومن القوة، ستعود حتمًا ولكن ليست كما كبتت " الكبت"، بل ستعود بصور حياتيه مختلفة ومتغيرة، مضللة ومدغمة بلفافيف قاتمة أحيانًا، لأنها موقف يتعامل أي منا في مواقف الحياة المتنوعة.. ويمكننا أن نقول صارت سمة تتسم بها شخصياتنا، لأنها تنبع من ذات خبرت تلك وتركت الأثر ونتفق مع سيجموند فرويد بقوله: لا يوجد كبت إلا ويفتضح في أثرٍ ما يدل عليه " صفوان، الكلام أو الموت، ص 31".

طالما أننا نجدد رؤانا كل يوم، لا بل كل ساعة أزاء مواقف الحياة المتنوعة، سوف يكون حضورها حتميًا، لأن النفس لا تمحو شيء، ولا تنسى نسيانًا نهائيًا. وكما يقول " جاك لاكان" الرغبة مجازية بالطبع، فهي تنتقل من شيء إلى آخر، ومن خلال هذه التنقلات تختفظ الرغبة بحد أدنى بالالتصاق الشكلي، وهي مجموعة من السمات الخيالية.

ونقول إذا كانت إيجابية تجعلنا نرغب في ذلك الشيء، أما إذا كانت سلبية فإنها تترك فينا أثر سيء وربما سلبي يدركه من حولنا الآخرين.

الغيرة كما يقول العلامة "مصطفى زيور" تقوم على ضرب من التعاطف تختلط فيه معالم الذات بالآخر، إلا أنه تعاطف معذب، ويقودنا هذا أن كل سمة من سماتنا تحمل بين ثنايا وجودها أثر نرجسي يتعمق تارة، وربما يبقى على السطح تارة أخرى وفي كلا الأمرين، الموضوع سيان حيث يكون الأثر الذي لا.. ولن يمحى من تشبثه في عالم لا حدود له وهو عالم اللاوعي – اللاشعور، فيكون حضوره مرة أخرى وارد في أي موقف من مواقف الحياة المختلفة في العمل أو في العلاقات العامة، أو في العلاقات العاطفية، وربما في العلاقات الحميمية، أو الزوجية موطن اعلان كل الأسرار لدى الطرفين أعني الرجل والمرأة.. تستعيده ظروف مماثلة ومختلفة معًا عن ما جعله يكبت. وقول " لاكان" ما دام الموضوع موجودًا، فإنه يظل نقصًا، كل ما يمكن فعله هو مطاردة ذلك الجزء من ذاته الذي هو ليس جزءًا على الاطلاق، هو نقص يلاحق نقصًا ملموسًا.

 إن بعض المواقف التي تستدعي ما كان يؤلمنا وهربنا منه إلى عالم آخر، ونسترجعه كأننا نسترجع جرحًا نرجسيًا، وقول " سيجموند فرويد" الجرح هنا ليس في الفقد، بل في تذكر ما كان ينبغي أن يُمنح منذ البداية ولم يمنح.

نحن أسوياء كما نعتقد بقدر تعاملنا في تجميل وجودنا مع الناس، مع من نلتقي بهم في دوامة الحياة ولكن ليس في مدورة الألم وخزين النفس، لا ننساه إلا في ظروف الحياة اليومية المتنوعه، وفي الحقيقة ليس هو كماضي منسي، بل كحاضر متكرر.  

 يرى كاتب هذه السطور، وربما غيري ليس كذلك، بأن أي تعلق بشيء في حياتنا من الطفولة، هو تكوين وبناء لن يزول.. لا أقول أبدًا، لكن يحتاج إلى جهاد من النفس لا نضير له، جهاد لم نألفه ونحن في حضارة العجلة واللحاق بالجديد، وهذه العجلة واللحاق بالجديد لا تعطي النفس برهة تأمل ممن هربت منه لتستعجل في كل شيء، ويصدق قول الفيلسوف الألماني " نيتشه" المستعجل هارب من نفسه دائمًا. فكيف إذن يكون التعمق في ما تم التعلق به وأسس بنية النفس البشرية وهو النقص والفقد معًا، هل يبرأ الأصحاء أولا منه وهم يدركونه؟ فكيف إذن بمن يعاني منه ويدركه كعائق وجودي في كينونته، ليومه ومسيرة حياته اليومية، وإن أستطاع البعض ممن جاهد من " النفس" – مع نفسه ضد نفسه لتبديل ما أنهكه وألمه من أفكار وهواجس تلازمه في كل يومه.. يكون قد حقق التسوية الناجحة بين أخطر أمرين في النفس، قبوله ورفضه معًا.

 نتفق مع القول الذي يرى أن الجرح النرجسي لا يشفى بالكامل، لكنه يعاد تشكيله عبر علاقات تحتمل الإنكشاف عبر مساحات لا تطلب الكمال، وعبر لحظات يستطيع فيها الفرد أن يرى نفسه، لا كما يريد أن يكون، بل كما هو، وأن يجد في هذا القبول نفسه بديلًا عن الانعكاس المفقود. ونقول من هو الذي خلق الفقد؟

 تساؤل وجودوي- تساؤلٌ يختص بكينونة الإنسان؟ هل هو أنا كما أدرك ذاتي؟ أم الام التي هي تمنح العاطفة والحنان مع الغذاء معًا. ما نراه في الفصامي هو نفسه ما نراه في الاكتئابي ولكن بصورتين مختلفتين تمامًا، فالأول يكره أمه لأنها سبب أزمته كما يدرك ذلك من داخل نفسه، وهو أمر ليس عقلاني. والثاني الذي يشعر بأنه دمر أمه لما تحملت من أجلهِ كل تلك المعاناة، فأدرك ذلك بأنه إجحاف في حقها، كيف يعيد لها تقديرها في نفسه، وهو أن يقدم نفسه هدية لها، ومكافأة لما قدمته بأن يقدم لها أعز شيء هو نفسه، لكي لا يشعر بالذنب ولوم ذاته ويستمر في حياة مظلمة دائمًا، وهو الموت أختيارًا.. والخلاص من هذا السقم النفسي الذي لا ينتهي، هذا الألم الذي يستجد كل صباح مع التشاؤم الذي يصل حد الوهم، فضلا عن الثقل الواضح في الحركة الجسمية مع الأرق وفقدان الشهية للطعام، ففي كل صباح تكون الاستفاقة مبكرة واشتداد في نوبة الاكتئاب، وأقصد هنا الاكتئاب العقلي، وبأمكاننا أن نميزه عن الاكتئاب النفسي الذي الذي ينجم عادة عن انفعال أو رد فعل لموقف خارجي Reactive، في حين يكون الاكتئاب العقلي – الميلانخولي – السوداوي هو اضطراب بنيوي ذاتي يساعده العامل الذاتي والاستعداد الداخلي للاكتئاب.

هنا يقودنا تساؤل به من الأهمية استنادًا لمقولة " جاك لاكان" الذات تحيا اثر نقص بنيوي يؤسس الرغبة، لذا فهي تفتقد ما لم تملكه أصلًا، وتنتظر ما لن يأتي وهذا هو الموضوع الصغير- الألف الصغير " a " ذو الدلالة العميقة عند جاك لاكان. وهو بنفس الآن ليس شيئًا فقدناه، انه عندئذ نكون قادرين على العثور عليه واشباع رغباتنا، بل إنه الاحساس الدائم الذي ينتابنا كذوات بأن شيئًا ما ينقصنا بحياتنا.

 ولا نغالي لو أتفقنا مع سيجوند فرويد بمقولته وهي أن اختيار نوع العصاب، أي الشكل الذي يتخذه المرض فيما بعد، رهن بالموضوع الذي حدث عند التثبيت. وعودًا لما تقدم به لاكان وفرويد أن نجد البعض من الشباب الذي يقدم على الانتحار بكل جدية وثقة بالنفس لا خوفًا من الموت أو رعبًا منه، بل إن إيمانه وعقيدته الزمته بتقديم نفسه قربان لآخر – هو من يقدسه وهو "الإمام" الذي يرى فيه المخلص من هذا الجحيم في هذه الحياة، هذا "الإمام" الذي يقدسه في داخله وهو مبعث الطمأنينة له.

 أما العامل الخارجي " اعني به من يبشر لهذا المذهب، أو الاتجاه حيث يكون دافعًا للإقدام على فعل الانتحار، وهنا نذكر القول ان المحاولات الانتحارية هي رسالة استغاثة يرسلها الفرد إلى محيطه ومجتمعه، وهي استغاثة لاواعية – لاشعورية، وهي تضم عقابًا ذاتيًا، أو محنة عليه أن يقاسيها، وقول " د. فخري الدباغ " وإذا كانت درجة خطورة المحاولة الانتحارية قليلة فإن ذلك لا يعني بأن الدوافع اللاواعية – اللاشعورية للموت كانت غير صادقة، ونقول أبدًا أن الجرح النرجسي ساهم في التحفيز سواء لدى مضطرب الاكتئاب العقلي، أو المؤمن المتمسك بقدسية رجل ما، بأن الانتحار كهدية تقدم قربان للإمام – السيد المخلص الذي ينتظر قدومه للحياة الأبدية وهذا في فكر " العلياللهية "، فالأمر لا يعدو أن يكون بنية ذهانية أخذت في الأولى طابع الميلانخوليا – الاكتئاب السوداوي، وفي الثانية درجة العتمة في رؤية الحياة ومسارها الذي لن يستقيم إلا من خلال تقديم نفسه قربان للامام – السيد بالانتحار، وهو يقوم على مدى الشعور بالذنب عند الشخص المنتحر متدينًا مؤمنًا بفكر متطرف، فالأمر لا يختلف في دوافع الانتحار والشروع به فكما هو الأمر في العوامل النفسية في مرحلة الطفولة في سنواتها الأولى، وعلاقة الفرد بأبويه، وكلاها لها تأثير في الميول الانتحارية، وما تركه من أثر في جرح نرجسي لن يندمل.. يستثار في مواقف الحياة، ربما يؤدي بصاحبه إلى الإقدام لفعل الانتحار.. يبقى أن نقول ليس بعض ما لا تريد النفس معرفته.. هو عفوي، أو بلا دلالات عميقة منشأها ما تُرك في النفس أثر ربما يؤدي إلى الجنون أحيانًا.

***

د. اسعد الامارة

(نحن نقرأ لا لنكتشف المؤلف، بل لنكتشف أنفسنا من خلال النص)... تزفيتان تودوروف

هل يمكن لنصٍّ مهما بلغ من الجمال أن يُصبح بلا أثر؟ وهل تتوقف عظمة النص على صاحبه أم على طاقته الإبداعية الداخلية؟ تلك الأسئلة القديمة الجديدة التي تشكّل نقطة التماس بين النظرية الأدبية والسوسيولوجيا الثقافية، بين فلسفة الجمال وميتافيزيقا المعنى. فالنص، وإن كان مولودًا من ذات كاتبه، إلا أنه لا يظل رهينها. وما أن يُكتب، حتى يدخل منطقة أخرى، غامضة ومفتوحة، تُعرف بـ"الوجود النصي" المستقل عن النوايا والأسماء.

يؤكد التاريخ الثقافي أن النصوص العظيمة لا تُخلّد بالضرورة بأسماء أصحابها، وأن النصوص الصغيرة قد تتضخم أحيانًا بظلّ شهرة كاتبها. في هذا المفترق الإشكالي، تتولد المفارقة الكبرى، لماذا يتفاعل المتلقي مع النص الشهير، ويصمت أمام النص المغمور؟ أهو نوع من الولاء الرمزي للمؤلف؟ أم أن فعل القراءة نفسه صار ممارسة اجتماعية خاضعة لمنطق الاعتراف والهيمنة الرمزية كما وصفها بيير بورديو؟

إن ما يجعل النص "عظيمًا" ليس هو تاريخه المؤلفي، بل قدرته على إعادة إنتاج المعنى خارج سلطته الأولى. من هنا يتأسس ما يمكن تسميته بـ"تحرر النص"، لحظة انفكاكه عن سيرة كاتبه ودخوله في حوار مع وعي القارئ. وهنا تلتقي أطروحة رولان بارت حول "موت المؤلف" مع المبدأ الهيرمينوطيقي لغادامير، الذي يرى أن النص يعيش فقط حين يعاد تأويله باستمرار في أفق فهمٍ متجدد.

لكن المفارقة أن المتلقي المعاصر، وقد تشرّب ثقافة "الاسم"، لم يعد يبحث في النص عن دلالاته، بل عن صدى كاتبه الاجتماعي وموقعه الثقافي. يغدو النص مجرد ظلٍّ لسلطة الاسم، ويفقد فعله التأثيري الحقيقي. ذلك أن الفعل الثقافي في جانبه التلقّي، حين يتحلل من مسؤوليته الجمالية والمعرفية، يتحوّل إلى شكل من الاغتراب الثقافي، حيث يُستبدل جوهر الإبداع بسطوة الرمزية.

فهل نقرأ النص لنكتشف ذواتنا، أم لنؤكد انتماءنا إلى منظومة أسماء كبرى؟ وهل القيمة الأدبية صادرة من النص ذاته، أم من مؤسسات الاعتراف التي تمنح الشرعية لما يُسمى "الأدب الرفيع"؟ أليست كل قراءةٍ، في العمق، إعادة كتابة من نوع آخر، تجعل من القارئ كاتبًا مؤجّلًا؟

لقد أشار ميشال فوكو في نصه الشهير ما المؤلف؟ إلى أن وظيفة المؤلف ليست وصفًا لشخصٍ بعينه، بل هي نظام خطابٍ ينتج السلطة ويحدّد من يحق له الكلام ومن يُقصى من فضاء المعنى. هكذا يتحوّل الاسم إلى آلية ضبط للخطاب، لا إلى علامة للخلق. أما في المقابل، فإن النص المغمور، الخارج من هامش الثقافة، يحتفظ غالبًا بنقائه الأول، نصٌّ بلا ادعاء، يُريد أن يُقال لا أن يُستعمل.

في هذا الأفق، يمكن القول إن النص الذي يُقاس بمقام كاتبه لا يعيش طويلًا. بينما النص الذي يُقاس بقدرته على استثارة الدهشة والفكر، هو الذي يدخل خلد المكتبة الإنسانية. إننا نقرأ هوميروس دون أن نعرف هويته بدقة، ونبكي مع شعراء مجهولين عبر قرون لأن نصوصهم كانت أكبر من أسمائهم.

ربما كان مصير النص الحق أن يعيش في عزلةٍ نبيلة، ككائنٍ لا يُعرف له أبٌ ولا نسب، يسير في دروب القراءة متخفيًا، يوقظ ما خفي من الوعي، ويكسر ما تراكم من يقين. فحين يموت المؤلف، يولد النص في الزمن. يصبح المعنى جسدًا يتنفس داخل قارئٍ لا اسم له، قارئٍ لا يبحث عن شهرة الكاتب بل عن صدق التجربة الإنسانية فيه. هناك فقط، تتطهر الكلمة من سوق الأسماء، وتستعيد براءتها الأولى، لتغدو فعل معرفةٍ لا يخضع إلا لسلطة الدهشة.

هل يمكن للنص أن يتحرر فعلاً من جاذبية كاتبه؟ وهل يمكن للقارئ أن يقرأ بعيدًا عن التحيزات الرمزية والاجتماعية التي تحكم ذائقته؟

ربما لا جواب نهائي لهذه الأسئلة، لكن قيمتها تكمن في إبقائنا في حالة توتر معرفي جميل بين النص والكاتب والقارئ. ذلك التوتر هو الذي يصنع حياة النصوص، ويدفعنا لأن نسأل من جديد: من يكتب النص؟ ومن يمنحه الخلود؟

فِي خُلُودِ النَّصِّ وَأَوْهَامِ الْكَاتِبِ

إنها استعارة تتجاوز ظاهر الكتابة إلى جوهر الوجود، إذ ليس النص مجرد حروفٍ تُسطَّر على بياضٍ عابر، بل كينونةٌ تنبضُ بما يتخطى صاحبها، لتصبح الذاكرةُ نفسها محبرةً أخرى تواصل الكتابة بعد أن يجفَّ الحبر الأول.

فالكاتب، في لحظة الخلق، يوقظ من المعنى ما يظنه ملكه، غير أن النص ما يلبث أن يتحرر من سلطة صاحبه، ليصير ملكًا للقراءة، ولزمنٍ آخر يمنحه الخلود أو يدفنه في النسيان.

إن الخلود لا تصنعه الأقلام، بل تنحته العقول التي تقرأ، والقلوب التي تعي أن كل نصٍّ عظيم هو محاولة لتحدي الفناء بلغته الخاصة. فالنص، حين يغادر صاحبه، يتحول إلى كيانٍ حرٍّ يعيش بقدر ما يُقرأ، ويُعاد تأويله، ويُستدعى في الذاكرة الجمعية. الكاتب يكتب مرة واحدة، لكن القارئ يخلق النص ألف مرة. لذلك، فإن الخلود لا يكون للنص الذي يصرخ، بل لذاك الذي يهمس في وجدان الزمن، فيجد صداه في أرواحٍ لم تولد بعد.

الخلود إذن، ليس في البقاء المادي للكلمات، بل في قدرتها على أن تُحدث رعشةً في الفكر والوجدان، في أن تترك أثرًا لا يُرى، لكنه يُحَسّ، كأنها نَفَسٌ ممتدٌّ بين الكاتب والقارئ، بين الغياب والحضور، بين الفناء والمعنى.

هكذا فقط، يصبح النص كائنًا حيًّا، يواصل العيش بعد موت كاتبه، لأن من يمنحه الخلود ليس القلم، بل الوعي الذي يعيد قراءته بروحٍ جديدة كل مرة. وهكذا، لا يعود النص ملكًا لكاتبه، بل يصبح مرآةً لما يتجاوز الإنسان ذاته. إنّه أثر الوجود حين يتجلى في اللغة، وبذرة الوعي حين تُزرع في تربة المعنى. قد يرحل الكاتب، لكن كلماته تظلّ تمشي على الأرض كأقدام الضوء، تبحث عن قارئ يمنحها حياة أخرى. فكل قراءة هي بعث جديد، وكل قارئ هو مؤلف ثانٍ يعيد للنص روحه المخبأة.

أعتقد أن الخلود ليس وعدًا أدبيًا، بل فعلُ حضورٍ مستمر، يحدث كلما تلامست روح مع حرفٍ نابض بالحقيقة. عندها فقط، نفهم أن الكاتب لم يكن يكتب ليدوَّن، بل ليُبعث، وأن النص لا يعيش إلا بقدر ما يوقظ فينا ما ظنناه نائمًا من دهشة وبصيرة.

***

د. مصـطـفــى غَـــلمـان

التأصيل الفلسفي للأخلاق الطبيعية

إن مهمة نقض الفطرة الأخلاقية كمصدر للمعيارية تقتضي فهماً عميقاً لجذور هذه الفكرة الفلسفية وتأثيرها التاريخي. فالفطرة الأخلاقية تستند إلى فرضية وجود مبادئ قبلية كامنة في الطبيعة البشرية، يمكن للعقل أو الروح اكتشافها.

كان مفهوم الفطرة موضع خلاف فلسفي جوهري منذ العصور الكلاسيكية. وقد اعتُبر عنصراً أساسياً في حل قضايا رئيسية تتعلق بالأخلاق، والدين، ونظرية المعرفة، والميتافيزيقيا. على سبيل المثال، اتفق الفيلسوف لايبنتز مع أفلاطون على أن مسألة الفطرة هي موضع الخلاف الأكثر أهمية بينه وبين لوك. وقد شكك لايبنتز في أن معارضة لوك لمذهب الفطرة كانت هجوماً غير مباشر على الروحانية، وتحدياً لفكرة الحياة الآخرة والخلود، مما يهدد الدين والأخلاق والنظام العام. وهذا يكشف أن تأييد الفطرة الأخلاقية كان يعني تأسيس الأخلاق على مبادئ كونية غير قابلة للتساؤل، مما يربطها بالثبات الميتافيزيقي ويضفي الشرعية المطلقة على النظام القائم. تعززت هذه المرجعية من خلال المدارس الكلاسيكية، كالأخلاق الأفلاطونية التي تُعد مثالاً أولياً للأخلاقيات المبنية على أساس التعالي/السمو. فقد تأثر أفلاطون بالفيثاغورثيين في تبنيه فكرة أن النظام الإلهي الذي يهيمن على الكون ذو طبيعة رياضية، وأن الروح حبيسة في الجسد، ولا تتحرر إلا عن طريق حياة منسجمة مع هذا النظام (مثل الطهارة، والتنسك، والعدالة). وعليه، كانت الأخلاق الفاضلة عند أفلاطون عملية اكتشاف للنظام الكوني المنسجم عبر العقل، وليست بناءً أو إنشاءً بشرياً.

تعريف الكائن الأخلاقي المعياري والنسبية الأخلاقية

بعد تحديد الفطرة كمرجعية قبلية ميتافيزيقية، ننتقل إلى توضيح ما يعنيه بناء "كائن أخلاقي معياري"، والنسبية الأخلاقية. يُعرّف المعيار فلسفياً بأنه "نموذج أو مقياس مجرد لما ينبغي أن يكون عليه الشيء". ويتوقف تقييم السلوك على وجود هذا المعيار المُبرَّر أخلاقياً بشكل كافٍ، والذي يشترط الوضوح، والدقة، والثبات، والاستقلالية. تمثل النسبية الأخلاقية النتيجة العملية المترتبة على ضعف الأسس المطلقة التي كانت تدعمها الفطرة. النسبية الأخلاقية هي وجهة نظر برزت في القرن العشرين (وإن كانت لها جذور قديمة)، وتقول بأن جميع الأحكام الأخلاقية ومبرراتها ليست مطلقة أو موضوعية، بل نسبية؛ وتتعلق بتقاليد ومعتقدات وممارسات مجموعة من الأشخاص، بل وتتغير هذه المعايير بمرور الزمن حتى في الثقافة الواحدة.

أدت حقبة ما بعد الحداثة، بنقضها للسرديات الكبرى والمبادئ الأخلاقية المطلقة، إلى ظهور سيولة أخلاقية وفقدان الأسس الصلبة والمرجعية الموجهة. ففي حين كانت الفطرة الأخلاقية تزعم بوجود قيم إنسانية كونية مطلقة يستشعرها كل إنسان سويّ، فإن النسبية الثقافية تعتبر التنوع والاختلاف دليلاً على أن القواعد الأخلاقية مُصنَّعة اجتماعياً، لا مكتشفة فطرياً. إن نقض الفطرة بفضل حجج هيوم ومور يخلق فراغاً في الأساس المطلق، مما يفتح الباب أمام النسبية كإطار لوصف وتبرير التنوع الأخلاقي. يرى النقاد أن هذا التفكك يشكل تهديداً خطيراً؛ إذ إنه إذا لم يوجد معيار أو مبدأ مطلق أو موضوعي واحد لتطوير نظام أخلاقي موضوعي، فـ "عندها يصبح كل شيء مباح" (في إشارة إلى العدمية الأخلاقية). هذا الوضع يضع ضغطاً هائلاً على النظم المعيارية المُصنَّعة لإثبات قدرتها على توليد معيار كوني وملزم رغم انطلاقها من أسس غير طبيعية.

النفعية كآلية حسابية للأخلاق

تنقل النفعية مركز التفكير الأخلاقي من مبحث يتركز حول الواجبات (كما عند كانط والرواقيين) إلى مبحث يتركز حول الخير الأسمى (والذي يُعرّف عادةً بأنه السعادة أو المنفعة)، حيث يتم تحديد صواب وخطأ الفعل بناءً على النتائج التي يحققها. النفعية هي نظام معياري مُصنَّع تجريبياً بامتياز. فبدلاً من البحث عن أساس ميتافيزيقي للخير (كالفطرة)، أو أساس عقلي (ككانط)، تقوم النفعية بصياغة القوانين الأخلاقية من خلال حساب النتائج الواقعية. الفعل الصحيح هو الذي يحقق أكبر قدر من المنفعة لأكبر عدد من الناس. وهذا يعني أن المعيار ليس ثابتاً بشكل مطلق، بل يتطور ويتم تعديله بناءً على المآلات التجريبية. هذا التحول الفلسفي يفصل الأخلاق تماماً عن أي أساس ميتافيزيقي أو فطري، ويعتبر أن المسائل الأخلاقية قابلة للحل عبر تقييمات واقعية تتعلق بالطبيعة والسلوك البشريين.

العقد الاجتماعي كآلية إجرائية للبناء الأخلاقي

في سياق بناء الأنظمة المعيارية، يمثل العقد الاجتماعي آلية إجرائية لتوليد القواعد الأخلاقية والسياسية بالاتفاق، بعيداً عن أي أساس فطري. لا تعتمد المقاربات المعاصرة للعقد الاجتماعي بالضرورة على بديهة فطرية، بل تستخدم آليات مثل المساومة أو التجميع للوصول إلى اتفاق يحدد القانون الأخلاقي والاجتماعي. يهدف العقد الاجتماعي إلى تحقيق الشرعنة العامة للقوانين، مما يجعله بناءً إجرائياً ناتجاً عن تفاوض بين الأطراف المفترضة، بدلاً من أن يكون اكتشافاً لقانون طبيعي. هذا المنهج يوفر بديلاً لنظريات القانون الطبيعي أو الحقوق الطبيعية القائمة على البديهة. ومع ذلك، فإن نقض الفطرة يؤدي إلى نقد النفعية والعقد الاجتماعي، حيث يبرر كلاهما الحقوق الفردية بناءً على مبدأ المنفعة. وإذا فشلت الفطرة في توفير أساس مطلق للحقوق، فإن الكائن الأخلاقي المعياري المبني على أسس نفعية يواجه خطر أن تكون حقوقه عرضية ومرهونة بالمنفعة العامة.

البناء بدلاً من الإيقاظ والتحديات الحديثة

في ظل النقض الفلسفي للفطرة، تتحول التربية الأخلاقية من مجرد "إيقاظ" لمبادئ فطرية إلى عملية "تشكيل" مستمرة للوعي الأخلاقي والسلوك. وهي عملية تنموية مستمرة تهدف إلى تعزيز القيم الإنسانية الإيجابية لدى الأفراد وتكوين شخصية متوازنة ومسؤولة. ففي الإطار البنائي، يتم غرس هذه القيم بما يتوافق مع المعايير الأخلاقية والاجتماعية السائدة في المجتمع. وهذا يؤكد أن المعيار الأخلاقي ليس مبدأً جوهرياً مكتشفاً، بل نموذجٌ يتم تركيبه وتطويره عبر عملية تعليمية شاملة، بدءاً من الأسرة وصولاً إلى المدرسة والمجتمع ككل. ويشدد هذا التوجه على أهمية التفاعل والتدريب بدلاً من الاعتماد على مصدر فطري.

تُثبت النماذج المعيارية المبنية فعاليتها في مواجهة تحديات لم تكن متوقعة وقت صياغة نظرياتها، مما يدل على قوة المنهج الإجرائي مقارنة بالاعتماد على الفطرة المحددة. على سبيل المثال، لا تخلق القضايا البيئية مبادئ أخلاقية جديدة، لكنها تلزمنا باستخلاص عواقب جديدة من المبادئ القديمة، وإعادة تصورها. يمكن تطبيق مبادئ كانط، مثل الأمر المطلق، على علاقتنا بالطبيعة والأجيال القادمة من خلال تعميم القواعد على مستوى الكوكب والأزمنة. كذلك، تجد مبادئ كانط (كاحترام الاستقلالية ومعاملة الإنسانية كغاية) تطبيقات متطورة في الأخلاقيات التطبيقية الحديثة (مثل الأخلاقيات الطبية الحيوية)، حيث يعكس مفهوم الموافقة المدروسة مبدأ احترام استقلالية الشخص.

الخلاصة

إن عملية نقض الفطرة الأخلاقية كمصدر لبناء كائن أخلاقي معياري هي عملية فلسفية مزدوجة، تتطلب تفكيكاً ميتاأخلاقياً للأساس الطبيعي، وإقامة بناء منهجي بديل للأساس المعياري. يتم النقض بنجاح عبر الأدوات التي قدمها ديفيد هيوم (إشكالية الكينونة والواجب، والتي تفصل الواجب عن أي حقيقة وصفية)، وعبر جورج إدوارد مور (مغالطة المذهب الطبيعي، الذي يثبت استقلالية مفهوم الخير عن أي تعريف تجريبي)، وهذا يرسخ استقلال الأخلاق عن الطبيعة. إن هذا النقض يترك فراغاً يستوجب عملية "بناء" للكائن الأخلاقي المعياري. وأخيراً يُنظر إلى نقض الفطرة على أنه ضرورة منهجية لإقامة علم أخلاق مستقل وكوني. غير أن هذا النقض يورث الأنظمة المبنية تحدي إثبات أن الإلزام الناتج عن العقل البشري أو الحساب التجريبي يمتلك قوة الإلزام المطلق والشمولية التي كانت تُنسب في السابق للمبادئ الفطرية والكونية.

***

غالب المسعودي

.........................

المصادر

الخلافات التاريخية حول مفهوم الفطرة - مجلة حكمة

الفلسفة/الأخلاق/الأزمنة القديمة/أخلاق افلاطون - ويكي الكتب

ينظر بونيت كومار أستاذ الفيزياء المساعد في جامعة لكناو الهندية ومعه استاذ الفلسفة سانجيف كومار فارشتي في قضية العالم المتشابك. الاستكشافات المتعمقة في عالم الكوانتم تكشف أوجه تشابه ملفتة بين ظواهر ما دون الذرة والفلسفة الهندية. وبينما كل واحدة منهما تقدم منظورا متميزا، لكنهما كلاهما ينسجان قصة تتحدى الحدود التقليدية وتعيدان تعريف فهمنا للواقع.

فيزياء الكوانتم وما تتضمنه من مبادئ التراكب او الوجود المتزامن  superposition والتشابك entanglement وتأثير المراقب the observer effect، عطّلت المفاهيم الكلاسيكية للكون الحتمي. رواد الكوانتم أمثال هايزنبيرغ و شرود نجر و بور أحدثوا ثورة في العلم عبر إدخال اللايقين و المراقب كمظاهر جوهرية للواقع. لكن الأسئلة لازالت قائمة. فمثلا، هل الملاحظة تكشف فقط عن عالم الكوانتم، ام انها تشكّله بشكل نشط – وكيف؟ هذا اللغز يسلط الضوء على علاقة معقدة بين الوعي وميكانيكا الكوانتم، مثيرا حوارا يتجاوز التحقيق العلمي التقليدي.

مقابل هذه الخلفية، نجد بعض الأفكار الأساسية في الفلسفة الهندية توفر رؤى عميقة. تقاليد مثل فيدانتا Vedanta و سامخيا  Samkhya استكشفت لوقت طويل الترابط في كل الأشياء وافترضت الوعي كجوهر للواقع، لذا فان هذه الأطر يتردد صداها بعمق في مواضيع فيزياء الكوانتم، وبهذا تردم الفجوة بين الحكمة القديمة والعلم الحديث.

حدود الكوانتم

ميكانيكا الكوانتم هي فرع من الفيزياء تستطلع سلوك المادة والطاقة في أصغر حجم، مثل الذرات وجسيمات ما دون الذرة. انها تمثل تحولا كبيرا من الفيزياء الكلاسيكية التي لاتزال تصف بدقة حركة الاجسام الكبيرة مثل كرات البليارد او الكواكب. احدى المضامين العميقة لميكانيكا الكوانتم هو تحدّيها لفهمنا للواقع. فمثلا، جسيمات الموجة توجد في وجود متزامن a superposition of states(1)الى ان تُلاحظ ،الامر الذي يجعل المراقبة عاملا حاسما في النتائج التجريبية، لذلك، يُعتقد ان لا وجود لحالة معينة من وجود كوانتمي حتى يُقاس في تلك الحالة. هذا يتحدى المفاهيم التقليدية للواقع الموضوعي، ويدفعنا لإعادة النظر بماهية الواقع. وبالرغم من طبيعتها المضادة للحدس، اثبتت ميكانيكا الكوانتم وبشكل ملحوظ انها ناجحة في وصف سلوك المادة والطاقة في حجم ميكروسكوبي، لذا هي ليست فقط أعادت تشكيل فهمنا للكون وانما أيضا عجّلت من وتيرة التقدم في العلم والتكنلوجيا بدءً من الحوسبة الكوانتمية الى التصوير الطبي، وصولا الى الثنائيات في الكومبيوتر التي لن تعمل بدون تأثير النفق الكوانتمي. ونظرا لكونها حجر الزاوية في الفيزياء الحديثة، تستمر ميكانيكا الكوانتم في قيادة الاستكشافات.

الفلسفة الهندية: الرؤية غير المزدوجة للواقع

تُعتبر الفلسفة الهندية ذات تقاليد عميقة وقديمة تضم عدة مدارس مختلفة من الفكر. ورغم ان هذه المدارس لها افكارها الخاصة بها حول العالم، والمعرفة والحياة، لكنها في الغالب تتفق على مسائل أساسية. العديد منها يتحدث حول اللاازدواجية او "الواحدية" – الترابط بين جميع الأشياء – او حول أهمية الوعي في فهم الواقع. هذه الأفكار المشتركة صاغت رحلة الهنود الفكرية والروحية لآلاف السنين. احدى أهم الأفكار في الفلسفة الهندية تأتي من نص قديم يُعرف بـ ادفيتا فيدانتا Advaita Vedanta والذي هو ذاته يرتكز على تعاليم الاوبنشاد، والذي طُور لاحقا من جانب القس آدي شانكار اشارا. طبقا لمدرسة ادفيتا، الحقيقة النهائية (براهما) لامتناهي، أبدي، ووراء الزمان والمكان والتغيير، ليس له شكل او صفات وهو مصدر كل شيء. كذلك، الروح الفردية (اتمان) قيل انها ليست منفصلة عن الواقع، بل على عكس ذلك، ادفيتا فيدانتا يفيد بان الروح هي الواقع النهائي – بما يعني ان الذات الحقيقية داخل كل شخص هي نفس الأشياء كواقع كوني نهائي. هذه الحقيقة، مختبئة عنا بواسطة الوهم (مايا) – والذي هو ليس زيفا تاما وانما قوة تجعل الواقع يبدو متعددا. وبسبب هذا، نحن نرى اختلافات، تغييرات، وانفصالات في العالم حتى عندما يبدو كل شيء هو واحد. التحرير (موكشا) يأتي عندما يدرك الناس هذه الحقيقة غير المزدوجة ويفهمون ان ذاتهم الحقيقية هي واقع نهائي. هذا الادراك ينهي دورة الموت وإعادة الولادة ويقود الى حرية وسلام أبديين .

مقابل عدم ثنائية ادفيتا، تعرض مدرسة سامخيا رؤية ثنائية للواقع. انها تتحدث عن عنصرين رئيسيين: الطبيعة او المادة (براكريتي)، والوعي الخالص (بوروشا). المادة لها توازن (ستافا)، والنشاط (راجاس)، والجمود (تاماس)، وهي مسؤولة عن كل التجارب المادية والحسية. من جهة أخرى، الوعي في حالته الاصلية هو صامت، أبدي، ويراقب كل شيء بدون الانخراط فيه. طبقا لسامكايا، تحدث معاناتنا لأن الوعي ينسى طبيعته الحقيقية ويبدأ في التعرف على العالم المتغير للمادة. التحرير(kaivalya) اذن يحدث عندما يدرك الوعي بانه منفصل عن المادة ويتوقف عن كونه مرتبط بها. لذا على الرغم من ان (samkhya) لا تؤمن بعدم ثنائية Avaita، انها أيضا ترى الوعي كشيء مركزي، وتعتقد  ان الحرية الحقيقية تأتي من الوعي الذاتي.

البوذية، وخاصة الـ mahayana، تعرض فكرة عميقة أخرى، وهي الفراغ emptiness – وتعني خصيصا ان لا شيء له طبيعة ثابتة ومستقلة: كل شيء نراه وكل تجربة يوجدان فقط بسبب شيء آخر، وكل ذلك يعتمد على الأسباب والظروف. هذه الفكرة تسمى النشأة التابعة "dependent origination". لا شيء يوجد بحد ذاته. على سبيل المثال، الشجرة توجد فقط بسبب البذرة، الماء، ضوء الشمس، والعديد من العوامل الأخرى. وفق هذه النظرة، حتى فكرة الذات الدائمة هي زائفة. بل ان كل شيء يتغير ومترابط، وان ادراك هذا الفراغ او غياب الوجود المتأصل يقود الى الحكمة والعطف والتحرر من الرغبات السخيفة.

طبقا للبوذية، يأتي التنوير عندما نبتعد عن الايغو والرغبة ونفهم ان كل شيء هو جزء من كُل اكبر.

ورغم ان بوذية ادفيتا فيدانتا، وسامكايا وماهايانا تختلف بطرق عميقة، لكنها جميعها تدعونا للنظر الى ما وراء السطح والتحقق من النظرة المادية بان العالم صُنع فقط من شيء مادي. بدلا من ذلك، هي تركز على الوعي والترابط، وهي الفكرة بان العالم كما نراه هو ليس الحقيقة الكاملة وبهذا الادراك سيتمكن الناس من الحصول على السلام والتحرر من المعاناة.

وظيفة الموجة

في ميكانيكا الكوانتم، يوصف نظام الكوانتم المُلاحظ او المُقاس بوسيلة مادية تسمى وظيفة الموجة wave function. وظيفة الموجة تصف جميع النتائج الممكنة التي يمكن للنظام الكوانتمي مراقبتها قبل عرضها، مثل أين ينتهي الالكترون على الشاشة. مع ذلك، هذه الاحتمالات تبقى غير مُدركة او "احتمالية" الى ان يلاحظ شخص ما النظام. فقط في تلك اللحظة تظهر نتيجة معينة. هذه العملية تسمى انهيار الدالة الموجية "wave function collapse".

هذه الفكرة تحمل تشابها مع مفهوم الـ مايا في ادفيتا فيدانتا. طبقا لهذه الفلسفة، الوهم يجعل العالم يبدو مليئا بالاختلافات والحركة والانفصال. العالم الذي نراه ونتفاعل معه ليس زائفا تماما، وانما هو يخفي طبيعة الوجود الحقيقية والغير مقسمة. ولكن مثلما تنهار وظيفة الموجة الى حالة محددة عند ملاحظة الوجود الكوانتمي، كذلك يختفي الوهم عندما يحصل الشخص على المعرفة. وفي كلتا الحالتين – سواء في الفيزياء او في مسار الصحوة الروحية – يلعب المراقب دورا محوريا.

تأثير المراقب هو أحد الأجزاء المحيرة في نظرية الكوانتم. انه يشير الى ان فعل مراقبة النظام الكوانتمي يغيّر سلوكه. بعض تفسيرات الكوانتم مثل تفسير كوبنهان او رؤى واغنر تقول ان الوعي (الملاحظة الواعية) تجعل وظيفة الموجة تنهار الى واقع منفرد. هذا يعني ان المراقب ليس فقط يراقب الواقع وانما في الحقيقة يحدده من خلال فعل الملاحظة. هذه الفكرة يمكن ربطها بتعاليم ادفيتا فيدانتا بان الوعي لم يُخلق بواسطة الدماغ وانما هو القاعدة الأساسية لكل الوجود (بما في ذلك الادمغة). لذا فان كل من فيزياء الكوانتم والفلسفة الهندية يقترحان ان الواقع لا ينتظر هناك لكي يُرى بواسطة الوعي وانما هو يوجد من خلاله .(الفيزيائي وارنر هايزنبيرغ رأى هذا الربط أيضا، ملاحظاً ان الابانشاد تعترف بان الوعي وليس المادة هو مصدر كل شيء).

فكرة أخرى مثيرة في فيزياء الكوانتم هي التشابك. عندما تشتبك اثنتان من الموجة – الجسيم، يبقيان مترابطين بصرف النظر عن مدى البعد بينهما، وان تغيير أحدهما سيغيّر الآخر حالا. هذا يبدو في تضاد مع نظرية اينشتاين في النسبية الخاصة، التي تقول لا شيء يمكن ان يؤثر على شيء آخر بأسرع من سرعة الضوء. التشابك يبيّن ان الكون مترابط بعمق بطرق لا نفهمها. هذا مرة أخرى يعكس أفكار الفلسفة الهندية، خاصة البوذية وفيدانتا. التعاليم البوذية في النشأة التابعة تقول ان لا شيء يوجد بحد ذاته، وكل شيء يوجد من خلال العلاقات. ونفس الشيء، تقول تعاليم فيدانتا ان كل شيء هو جزء من واقع احادي مترابط. كلا الرؤيتين ترفضان الانفصال النهائي، وتقترحان ان كل الأشياء هي في الحقيقة جزء من كُل أكبر مترابط – تماما مثل الجسيمات المتشابكة كما لو انها واقع واحد مترابط حتى عبر المسافات البعيدة جدا.

نيل بور، Niel Bohr احد مؤسسي ميكانيكا الكوانتم، أدخل فكرة التكاملية complementarity التي تقول ان الموجودات الكمومية تتصرف اما على شكل موجات او على شكل جسيمات ولكن ليس الاثنين في وقت واحد. ما نراه يعتمد على كيفية قياسنا. (2) هذا يسير بالضد من العلم الكلاسيكي، وبدلا من ذلك تكون نظرة التكامل مطلوبة لفهم كامل الحقيقة. وبطريقة مشابهة، مدرسة سامكايا أيضا تتحدث عن واقعين اثنين أساسيين متكاملين: المادة والوعي. المادة تتغير باستمرار بينما الوعي ثابت وأبدي، وعلى الرغم من انهما متميزان، هما يعملان مجتمعان لخلق تجربتنا. لذا، مثلما الموجة والجسيم، نجد المادة والوعي مختلفين لكنهما كلاهما ضروريان للصورة الكاملة.

فيزياء الكوانتم أيضا ابتكرت فكرة الاحتمال وجلبتها الى قلب القوانين الفيزيائية. خلافا للفيزياء الكلاسيكية، حيث نستطيع نظريا التنبؤ الدقيق بالنتائج فان معادلات فيزياء الكوانتم تخبرنا عن احتمالات لمختلف النتائج. هذا يذكّرنا بالفكرة الهندية لقانون السبب والنتيجة – كارما - لأننا هنا نجد كل شيء غير ثابت وانما أفعالنا الماضية تؤثر على احتمال ما يحدث في المستقبل. هنا يتوفر مجال للإرادة الحرة.

العديد من رواد فيزياء الكوانتم وجدوا الإلهام في الفلسفة الهندية. اروين شرودنجر Erwin Schrodinger مثلا، تأثر بعمق بـ ـ ادفاتا فيدانتا. في كتابه (ما هي الحياة،1944) هو يكتب حول وحدة كل الحياة، مرددا صدى لفكرة فيدانتا ان الذات هي نفس العالمي. هو اعتقد ان الحياة ليست منفصلة عن الكون، وانما هي واحدة معه.

وبينما نجد التشابهات بين فيزياء الكوانتم والفلسفة الهندية مثيرة ومحفزة فكريا، لكن العلماء يدعون الى توخّي الحذر في رسم المساواة. احدى المخاوف الكبيرة هي خطأ التصنيف category error عندما يمزج احد البُنى العلمية مع المعتقدات الميتافيزيقية والروحية. مفاهيم الكوانتم مثل وظيفة الموجة، التراكب، التشابك تبرز من اطر رياضية صارمة وتجارب ميدانية، بينما الأفكار الميتافيزيقية الهندية تتجذر في الاستبطان والتأمل الفلسفي.

بالإضافة الى ذلك، ميكانيكا الكوانتم منفتحة للتفسيرات المتعددة (مثل تفسير كوبنهاغن في العوالم المتعددة، و نظريات الموجة التجريبية) وهي لا تخصص جميعها  دورا سببيا للوعي. وهكذا، فان مساواة تفسيرات الكوانتم المرتكزة على الوعي مع أفكار فيدانتا ـ شاتشنيا ربما تبالغ في حجم التشابه. هناك أيضا نزعة نحو الرومانسية عندما يقال مثلا ان حكماء الهنود القدماء توقّعوا أفكار الكوانتم. ومع ان الفلسفة الهندية في الحقيقة تعرض رؤى عميقة للواقع، لكن مثل هذه الادّعاءات عادة تفتقر الى الصلاحية التجريبية وتعمل كما لو انها تخاطر في إضعاف كلا الحقلين.

مع ذلك، يمثل الصدى المفاهيمي لهاتين الرؤيتين العالميتين ارضا خصبة للثقافة العابرة والحوار المتعدد الاختصاصات في كل من العلم والفلسفة.

نحو رؤية موحدة

ان التقارب بين فيزياء الكوانتم والفلسفة الهندية لا يقترح مساواة تامة بين الاثنين وانما يسلط الضوء على التداخل في استكشافاتهما للغز الوجود العميق. كلا الحقلين يتحديان الفكرة الكلاسيكية للواقع الموضوعي المستقل المُلاحظ، ويرفعان دور المراقب. ميكانيكا الكوانتم بإطارها الاحتمالي، وانهيار وظيفة الموجة، وتأثير المراقب، تكشف كونا يقاوم الحتمية المادية الصارمة وتدعو لمزيد من الفهم الدقيق التشاركي للواقع. ونفس الشيء بالنسبة للتقاليد الفلسفية الهندية مثل ادفاتا فيدانتا وماهاينا تؤكد على ان الواقع ليس شيئا منفصلا وثابتا، وانما مرتبط بالصميم مع الوعي والتصور. كذلك، بالنسبة للنظرة الاوبانيشادية والفكرة البوذية للنشأة المعتمدة، تتماشى مع رؤية الكوانتم لكون علائقي مترابط.

وكما لاحظ فريتجوف كابرا Fritjof capra في كتابه عام 1975 طريق الفيزياء (The Tao of physics) ان التوازي المثير بين الفيزياء الحديثة والصوفية الشرقية يبرز من ادراكهما المشترك لفهم وحدة جميع الظواهر. ان مضامين هذا الالتقاء في المنظور عميقة. العلم عادة يركز على القياس الموضوعي، يستفيد من الرؤية الفلسفية الأوسع والأكثر تأملا في سياق اكتشافاته. وعكس ذلك، الفلسفة الهندية تكتسب بُعدا جديدا عندما تجد لرؤاها الميتافيزيقية صدى في استنتاجات الفيزياء الحديثة. كلاهما يمهدان الطريق لنظرة عالمية كلية – نظرة غير اختزالية، مترابطة ومتكاملة وتشاركية بعمق. المقارنة بينهما تدعو الى حوار ثري بين العلم والروحانية والعقل والتأمل.

***

حاتم حميد محسن

........................

Quantum physics and Indian philosophy, Philosophy Now ,oct/Nov 2025

الهوامش

(1) يعني وجود نظام في حالات متعددة الاحتمال وفي وقت واحد حتى يُقاس. وعندما يُقاس النظام ينهار في حالة منفردة معينة، لكنه قبل ذلك يوجد في مجموعة من كل الاحتمالات.

(2) فكرة نيل بور في التكاملية هي ان خصائص معينة في الأشياء الكمومية هي تكاملية، مثل الالكترون، بما يعني انها لا يمكن ملاحظتها في نفس الوقت. فمثلا، يستطيع المرء قياس موقع الالكترون او زخمه ولكن ليس الاثنين في وقت واحد.

أو الخطاب ما بعد الاستعماري وفق مقاربة فلسفية ايتيقية

مقدمة: يسعى مدح الإنسانية التقدمية، كخطاب فلسفي معاصر، إلى الاحتفاء بكرامة الإنسان وحريته وقيمته الكونية، متجاوزًا بذلك الانقسامات التاريخية والثقافية والاجتماعية. في سياق ما بعد الاستعمار، يتخذ هذا المدح بُعدًا خاصًا، إذ يُمثل جزءًا من محاولة لإعادة تقييم الإنسانية في ضوء الإرث الاستعماري، والظلم التاريخي، وديناميكيات القوة التي شكلت العلاقات بين الشعوب. تستكشف المقاربة الفلسفية والايتيقية كيف يُمكن لهذا الخطاب أن يُعيد تأكيد الكرامة الإنسانية، مع الاستجابة لتحديات ما بعد الاستعمار، كالاعتراف بالهويات المهمشة، وتفكيك التسلسلات الهرمية المفروضة، وتعزيز العدالة العالمية. تُحلل هذه الدراسة الأكاديمية المتعمقة مدح الإنسانية من منظور خطاب ما بعد الاستعمار، مستندةً إلى الأطر الفلسفية (بما في ذلك أطر إيمانويل ليفيناس، وفرانز فانون، وإدوارد سعيد) والأطر الأخلاقية (المستوحاة من كانط وفلسفة الاعتراف). يتناول هذا الكتاب الأسس النظرية والسياقات التاريخية والتداعيات المعاصرة، مع تسليط الضوء على توترات هذا الخطاب وإمكانياته في ظل العولمة. فكيف ساهمت الإنسانية التقدمية في كسر الحصار ورفع العدوان عن غزة ودعم صمود الشعب الفلسطيني وتمسكه بارضه ومقاومة الهجمة الصهيوامبرايالية؟

تعريفات المفاهيم الرئيسية

مدح الإنسانية:

مدح الإنسانية خطاب فلسفي يحتفي بالقيمة الجوهرية للبشر، مشددًا على عقلانيتهم وحريتهم وقدرتهم على خلق المعنى. يعارض هذا الخطاب جميع أشكال نزع الصفة الإنسانية، سواءً أكانت نابعة من القمع أم الاستغلال أم التهميش.

خطاب ما بعد الاستعمار:

يُحلل خطاب ما بعد الاستعمار، كما طوره مفكرون مثل إدوارد سعيد (الاستشراق، 1978) وهومي بابا، إرث الاستعمار، بما في ذلك التمثيلات الثقافية وعلاقات القوة ومقاومة الشعوب المستعمرة. ويهدف إلى تفكيك السرديات الإمبريالية وتعزيز الأصوات المهمشة.

المقاربة الفلسفية والأخلاقية:

يجمع هذا المنهج بين التحليل الفلسفي، الذي يُسائل الأسس الوجودية والمعرفية للإنسانية، والتأمل الأخلاقي في المبادئ التي تُوجّه العلاقات الإنسانية، كالعدالة والمسؤولية والاعتراف المتبادل.

الإنسانية:

تشير الإنسانية، في هذا السياق، إلى جميع البشر وإلى الصفات التي تُميّزهم: العقلانية، والكرامة، والقدرة على التعاطف والإبداع. من منظور ما بعد الاستعمار، تُعتبر الإنسانية مفهومًا شاملًا، يتجاوز التقسيمات التي فرضها الاستعمار (الغرب/الشرق، المركز/المحيط).

الأسس الفلسفية والأخلاقية:

إيمانويل ليفيناس: أخلاقيات الآخر:

في كتابه "الكلية واللانهاية" (1961)، يضع ليفيناس الأخلاق في صميم الفلسفة، مُؤكدًا أن اللقاء بالآخر هو أساس المسؤولية الأخلاقية. ويستند مدح الإنسانية، في هذا السياق، إلى الاعتراف بالآخر كوجه فريد، لا يُمكن اختزاله في فئة أو منفعة. أهمية ما بعد الاستعمار: يقدم ليفيناس إطارًا لتفكيك التمثيلات الاستعمارية التي تُختزل الشعوب المُستعمَرة إلى صور نمطية (مثل "الشرقي" عند إدوارد سعيد). تدعونا أخلاقيات الآخر إلى الاعتراف بكرامة المهمّشين.

فرانز فانون: تفكيك استعمار البشرية

في كتابيه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" (1952) و"معذّبو الأرض" (1961)، يُحلل فانون كيف يُجرّد الاستعمار المستعمَر والمستعمِر من إنسانيتهما. ويُقدّم رؤيةً للإنسانية المُتحرّرة من خلال النضال من أجل الكرامة وتقرير المصير.

مديح الإنسانية:

يرى فانون أن الاحتفاء بالإنسانية لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تفكيك جذري للاستعمار، يُعيد كرامة المُضطهدين ويُرسي مساواة حقيقية.

إدوارد سعيد: تفكيك الاستشراق

في كتابه "الاستشراق"، يُبيّن سعيد كيف بنى الاستعمار تمثيلاتٍ تُجرّد الشعوب غير الغربية من إنسانيتها. يتطلب مديح الإنسانية في مرحلة ما بعد الاستعمار تفكيك هذه السرديات لتعزيز رؤية عالمية وشاملة.

المقاربة الأخلاقية: يدعو سعيد إلى المسؤولية الفكرية في تمثيل الآخر، بما يتماشى مع أخلاقيات الاعتراف.

عمانويل كانط: الكرامة الإنسانية

في كتابه "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" (1785)، يؤكد كانط على وجوب معاملة الإنسانية كغاية في حد ذاتها، لا كوسيلة. يُعد هذا المبدأ الأخلاقي جوهر مديح الإنسانية الذي يحترم الكرامة العالمية.

أهمية ما بعد الاستعمار: يمكن أن يُشكل المبدأ الكانطي أساسًا لرفض الممارسات الاستعمارية التي استغلت الشعوب المستعمرة (مثل العبودية والاستغلال الاقتصادي).

فلسفة الاعتراف (أكسل هونيث)

يُجادل هونيث، في كتابه "النضال من أجل الاعتراف" (1992)، بأن الإنسانية تتحقق من خلال الاعتراف المتبادل في ثلاثة مجالات: الحب، والقانون، والتضامن. في سياق ما بعد الاستعمار، يُعدّ الاعتراف بالهويات المهمّشة أمرًا أساسيًا لاستعادة الكرامة.

السياق التاريخي: الاستعمار ونزع الصفة الإنسانية

استند الاستعمار (من القرنين السادس عشر إلى القرن العشرين) إلى نزع الصفة الإنسانية بشكل منهجي عن الشعوب المُستعمَرة من خلال العبودية والاستغلال وبناء هرميات عرقية وثقافية.

مثال: وصفت السرديات الاستشراقية الشعوب غير الغربية بأنها "بدائية" أو "دونية"، مبررةً هيمنتها.

إنهاء الاستعمار وظهور ما بعد الاستعمار. مثّلت نضالات إنهاء الاستعمار (مثل الجزائر والهند) نقطة تحول نحو إعادة تأكيد الكرامة الإنسانية. وقد صاغت شخصيات مثل فانون وغاندي خطابًا للتحرر أعاد تعريف الإنسانية. برزت ما بعد الاستعمار، كمجال فكري، لتحليل الإرث الاستعماري وتعزيز إنسانية شاملة.

السياق المعاصر:

في عالمنا المُعولم عام 2025، لا تزال الموروثات الاستعمارية قائمةً بأشكالٍ مثل الاستعمار الاقتصادي الجديد، والتفاوتات العالمية، والتمثيلات الثقافية المُتحيزة.

تُقدم منصاتٌ رقمية نقاشاتٍ حول الهوية والعدالة وإنهاء الاستعمار، مُوضحةً أهمية مديح ما بعد الاستعمار للإنسانية.

التحليل الأخلاقي: مديح الإنسانية في إطار ما بعد الاستعمار

استعادة كرامة المهمّشين. المبدأ الأخلاقي: يتطلب الاعتراف بالكرامة الإنسانية، كما دعا إليه كانط وليفيناس، إعادة تأهيل الهويات التي همّشها الاستعمار (مثل الشعوب الأصلية والأقليات العرقية).

التطبيق: تُجسّد الحركات الاجتماعية (مثل حركة "حياة السود مهمة"، وإنهاء استعمار المتاحف) هذه المسؤولية الأخلاقية.

التطبيقات المعاصرة:

في التعليم: إنهاء استعمار المعرفة: تدمج الجامعات بشكل متزايد منظورات ما بعد الاستعمار لتدريس التاريخ الشامل، والاحتفاء بتنوع البشرية.

مثال: البرامج التعليمية التي تُشرك أصوات السكان الأصليين أو الأفارقة في الدراسات الأدبية أو التاريخية.

في الإعلام والفضاء العام: تُعدّ المنصات الرقمية بمثابة منتديات للنقاش حول إنهاء الاستعمار والعدالة، حيث تستعيد الأصوات المهمّشة كرامتها.

مثال: الحملات الإلكترونية لاستعادة الآثار الثقافية المنهوبة خلال فترة الاستعمار.

في السياسات العالمية: العدالة المناخية: تُطالب الدول المُستعمَرة سابقًا، والتي غالبًا ما تكون الأكثر تضررًا من تغيّر المناخ، باعتراف أخلاقي بإنسانيتها في المفاوضات العالمية.

مثال: دعواتٌ للعدالة المناخية في مؤتمراتٍ مثل مؤتمر الأطراف.

في التكنولوجيا: أخلاقيات الذكاء الاصطناعي: يتطلب مدح الإنسانية أن تحترم التقنيات، مثل الذكاء الاصطناعي، كرامة الإنسان من خلال تجنّب إعادة إنتاج التحيزات الاستعمارية.

مثال: نقاشاتٌ حول الخوارزميات التمييزية في تقنية التعرّف على الوجه.

التحديات والانتقادات:

التوترات بين العالمية والخصوصية: التحدي: يُخاطر مدح الإنسانية بتفضيل عالمية مُجرّدة (مثل كانط) تتجاهل الخصوصيات الثقافية للشعوب المُستعمَرة.

النقد: يُجادل مفكرون مثل سبيفاك بأن العالمية يُمكن أن تُخفي أوجه عدم المساواة الهيكلية الموروثة من الاستعمار.

المقاومة الثقافية

التحدي: في بعض السياقات، يُنظر إلى خطابات ما بعد الاستعمار على أنها تهديد للهويات الوطنية أو الثقافية.

النقد: يمكن إساءة تفسير إنهاء الاستعمار على أنه رفض لجميع التقاليد، مما يُعقّد مدح الإنسانية.

تحدي الحدود الأخلاقية: قد يصعب تطبيق المسؤولية الأخلاقية تجاه الآخر في سياقات الصراع أو محدودية الموارد.

النقد: يُنتقد ليفيناس أحيانًا لنهجه المجرد، الذي لا يُقدّم حلولًا ملموسة لمظالم ما بعد الاستعمار.

المنهج الاستشرافي: مستقبل مدح الإنسانية

سيناريو متفائل: الإنسانية الشاملة: يمكن لمدح الإنسانية ما بعد الاستعمار أن يُعزز الاعتراف العالمي بالهويات المهمّشة من خلال سياسات التعويض والتعليم المُنهى عن الاستعمار.

التكنولوجيا الأخلاقية: يمكن مواءمة التقدم التكنولوجي مع المبادئ الأخلاقية التي تحترم كرامة الإنسان.

سناريو متشائم: استمرار التفاوتات: قد تستمر الإرثات الاستعمارية في تهميش الشعوب، مما يحد من تأثير مدح الإنسانية.

الاستغلال: قد تستغل القوى الاستعمارية الجديدة الخطاب الإنساني للحفاظ على هيمنتها.

سيناريو متوازن: قد ينشأ توازن بين العالمية واحترام الاختلافات الثقافية، يجمع بين أخلاقيات الاعتراف والإجراءات الملموسة لتحقيق العدالة العالمية.

خاتمة:

يُشكل مدح الإنسانية، في إطار ما بعد الاستعمار، مشروعًا فلسفيًا وأخلاقيًا يسعى إلى إعادة تأكيد الكرامة العالمية للبشر مع معالجة المظالم التاريخية للاستعمار. من خلال وجهات نظر ليفيناس وفانون وسعيد وكانط، يقدم هذا الخطاب إطارًا لتفكيك التسلسلات الهرمية الاستعمارية، والاعتراف بالهويات المهمشة، وتعزيز إنسانية شاملة. ومع ذلك، يجب أن يتغلب على تحديات مثل التوترات بين العالمية والخصوصية، والمقاومة الثقافية، والحدود العملية للأخلاق. في عالمٍ مُعولمٍ يتسم بالتقدم التكنولوجي والتفاوتات المُستمرة، يبقى مدح إنسانية ما بعد الاستعمار طموحًا أساسيًا لبناء مستقبلٍ أكثر عدلًا يحترم الكرامة الإنسانية. فمتى يتحول مشروع الدفاع على الانسانية من القول والخطاب الى الفعل والممارسة؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.........................

المصادر والمراجع:

ليفيناس، إيمانويل. "الكلية واللانهاية" (1961

فانون، فرانز. "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" (1952) و"معذّبو الأرض" (1961.

سعيد، إدوارد. "الاستشراق" (1978.

كانط، إيمانويل. "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" (1785.

هونيث، أكسل. "النضال من أجل الاعتراف" (1992.

سبيفاك، غاياتري شاكرافورتي. "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟" (1988".

يُعد التفلسف ظاهرة إنسانية متجذرة، تتجاوز مجرد كونها مجموعة من النظريات الساكنة لتصبح "ديناميكية فاعلة" أو "نشاطاً إدراكياً مستمراً". هذا النشاط يهدف بشكل أساسي إلى معالجة وحل المشكلات التي يطرحها الواقع المعاش؛ لكنه يتميز عن الأنماط المعرفية الأخرى بكونه يعمل على مستوى الشمولية والتجريد. إن التأكيد على مفهوم "النشاط" يشدد على أن التفلسف ليس غاية في حد ذاته (كحالة معرفية ثابتة)، بل هو مسعى مستمر نحو المعرفة الشاملة عن طبيعة التجربة ومعناها وقيمتها. هذه العملية الديناميكية المستمرة تضمن أن التفلسف لا يكون أبدًا نظامًا إبستيمولوجيًا نهائيًا أو مكتملًا بشكل مطلق، بل يظل قوة حيوية تدفع إلى التساؤل.

يتجسد نطاق التفلسف في الفروع الفلسفية الأساسية التي تعالج ثلاث قضايا جوهرية: نظرية الوجود (الأنطولوجيا) التي تدرس الوجود كما هو كائن؛ نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا) التي تركز على كيفية معرفة الوجود؛ ونظرية القيم (الإكسيولوجيا) التي تتناول الوجود "كما ينبغي أن يكون". إن اشتمال نظرية القيم ضمن صميم النشاط الفلسفي ليؤكد أن التفلسف لا يمكن أن يكون مجرد تحليل محايد إبستيمولوجيًا. فالبحث عن المعنى متصل اتصالاً وثيقًا بالبحث عن القيمة، مما يجعل الأخلاق والبحث عن المعايير جزءًا ضروريًا وأساسيًا من أي تفلسف أصيل.

أما منهجيًا، فإن التفلسف يعتمد على منهج استدلالي مضمونه الانتقال من مقدمات عقلية إلى نتائج عقلية، ويتصف بخصائص أساسية تشمل العقلانية، والمنطقية، والنقدية، والشك المنهجي. هذا النمط من التفكير العقلاني يسعى إلى تحديد العلاقة بينه وبين أنماط التفكير الأخرى، وليس إلغاءها أو التناقض معها. وتعود الدلالة الأصلية للمصطلح إلى اللفظ اليوناني (فيلوسوفيا) أي محبة الحكمة، وهو تمييز أسسه الفلاسفة (مثل سقراط) ليميزوا بين هذا الحب المتواضع للمعرفة وادعاء الحكمة المطلقة (كما عند السفسطائيين).

التشريح المفاهيمي: الجدلية الأساسية بين المعنى والفهم

تنشأ علاقة وطيدة بين العقل الإنساني ومطلب الحقيقة، حيث يعتمد العقل على مجموعة من الآليات العقلية، أبرزها آلية الفهم، التي تُعد الطريق الأساسي نحو إدراك المعنى، سواء كان معنى للأفكار، أو الأشياء، أو الحياة بأكملها. ضمن هذا السياق المعقد، تولد جدلية عميقة بين المعنى والفهم، تتجلى معالمها في الوظيفة المزدوجة التي يؤديها المعنى تجاه الفهم:

سجن الفهم: يحدُث هذا عندما يُقيّد المعنى الفهم، جاعلاً إياه محبوسًا ضمن آليات أخرى مثل التفسير والتأويل المسبق، والتي قد تهدف إلى نفس هدف الفهم لكنها لا تمنحه استقلاليته الكاملة. هذا الانحباس يظهر مثلاً في التضييق المفرط لمفهوم المعنى في بعض المدارس الفلسفية (كالوضعية المنطقية) التي تربط المعنى بالصدق القابل للقياس التجريبي حصرًا.

تحرير الفهم: يتمثل هذا الجانب في قدرة المعنى على تحرير الفهم من سجن الآليات التفسيرية التقليدية، مما يسمح له بالاستقلالية والتوجه نحو الكليات والعموميات.

إرادة المعنى والدوافع الوجودية

يُلاحظ أن الانطلاق الإبستمولوجي للتفلسف، الذي يبدأ بالدهشة وطرح سؤال "لماذا"، يتحول مباشرة إلى سؤال "ماذا يعني"؛ مما يبرهن على أن المعنى ليس مجرد نتيجة تُكتشف بعد التفكير، بل هو الطاقة الوجودية الكامنة التي تشعل شرارة الدهشة في المقام الأول. ومع ذلك، لا يمكن فصل هذا المسعى الابستمي عن جذوره الأنطولوجية؛ إذ يظل التركيز على الوجود الإنساني الحي هو البؤرة التي ينبع منها البحث عن المعنى والقيمة.

فقدان المعنى كحافز سلبي للتفلسف

يؤكد التحليل الوجودي على أن فقدان المعنى يمثل دافعًا سلبيًا قويًا نحو التفلسف. فعدم إيجاد غاية للحياة يؤدي إلى حالة من الفراغ الوجودي، والذي يتم تعويضه بسلوكيات تعويضية سلبية أو انفعالات مدمرة. يشير التحليل النفسي الفلسفي إلى أن فقدان الثقة بالمستقبل يقضي على إرادة الحياة، ويؤدي إلى انهيار نفسي وجسدي، قد يصل إلى "الموت الانفعالي" أو التبلد. إن التفلسف، في هذا السياق، يعمل كآلية مقاومة أنطولوجية ضد هذا الاستسلام. فالإصرار على اختراق الوجود بحثًا عن المعنى هو تطلّع نحو الأمام وفرض للمسؤولية، مما يخلق دافعية داخلية للإبداع. هذا يثبت أن التفلسف ليس ترفًا فكريًا، بل هو شرط بقاء وجودي يحافظ على اليقظة العقلية والنفسية في مواجهة الفراغ.

التفكير النقدي كآلية منهجية

يُعد التفكير النقدي جوهر الفلسفة الحديثة والمعاصرة؛ فهو ليس مجرد سمة، بل هو "سداة ولُحمة" الفكر الفلسفي. إن تاريخ الفلسفة هو، في جوهره، تاريخ لتطور الفكر النقدي الذي بدأ مع الفلاسفة الطبيعيين الذين أسسوا التفسير على "اللوغوس" بدلاً من "الميثوس". التفكير النقدي هو عملية تحليلية تقويمية تهدف إلى تحسين التفكير ذاته. إنه يقتضي إخضاع جميع القضايا والمسلمات للمراجعة والتمحيص، حتى تلك التي يتم التوافق عليها. من أهم خصائصه أنه تفكير عقلاني، ومنطقي، وإمبيريقي. كما يتميز بكونه تفكيرًا انعكاسيًا (تفكير في الذات) ليتمكن من إصلاح طرقه وآليات اشتغاله. إن التوسيع الإبستمولوجي للفهم مرتبط ارتباطاً مباشراً بمبدأ. فالتفلسف النقدي يعني "أن أجهر وأجاهر بالحق في التفكير، وهو مرادف لحق الإنسان في عدم السماح لأي شخص بالتفكير نيابة عنه." ولذلك، فإن استقلالية الفكر المعتمدة على النقد تمثل تجسيداً للحرية الإنسانية في المجال المعرفي.

علاوة على المستوى الفردي، يمتد الشك المنهجي ليصبح آلية ضرورية للتجديد الحضاري. فقد أدت حالة الركود الفكري التي شهدها العقل العربي بعد وفاة ابن رشد إلى فجوة فكرية وتأخر حضاري. في المقابل، طورت الفلسفة الغربية مناهجها في التفكير المرتكزة على الشك والنقد، مما أفرز أنساقاً وتيارات عديدة ساهمت في نهضتها الحضارية. وبالتالي، فإن التفلسف النقدي هو العملية التي تكسر الجمود الفكري، وتستبدل التقليد بالابتكار، مما يُعد شرطًا أساسيًا لمجاراة التطور الحضاري.

السجن والتحرير في ضوء اللغة

اللغة وعوائق الفهم

لأن الفلسفة تسعى دائمًا لتجاوز الجزئي والتاريخي إلى الكلي والعام والإنساني، فإنها تعتمد على "العقل التأويلي" للعبور نحو الكليات النصية. لكن هذا العبور ليس خاليًا من العقبات.

أزمة الدلالة: مع ظهور النزعة التجريبية في الفلسفة التحليلية والوضعية المنطقية التي رأت أن إطلاق حكم الصدق أو الكذب على الجملة متوقف على كونها ذات معنى يمكن التحقق منه، تساءل بعض الفلاسفة عن سر نمو اللغة بطريقة تجعلها تكمن في قلب المشكلة المعرفية.

اللغة كوسيط: تتكون المعرفة الإنسانية من أفكار ومفاهيم مصوغة برموز لغوية. ويصبح التفاهم ممكنًا فقط عندما يكون هناك اتفاق وتناسق بين الرموز التي تُنقل إلى الآخرين. هذا يضع اللغة كوسيط حاسم بين المحور الأنطولوجي (المعنى) والمحور الإبستمولوجي (الفهم).

التحدي المعاصر: إن أزمة التفلسف المعاصرة تتركز في كيفية ضمان أن يظل هذا الوسيط قادرًا على نقل المعنى المتسامي دون الوقوع في التجريد أو النقد المفرط.

إن هذا النشاط الفلسفي المزدوج (البحث عن المعنى وتوسيع الفهم) هو عملية مستمرة لإعادة تعريف الوضع الإنساني. تحديد غاية الإنسان (عبر المعنى) وقدراته (عبر الفهم) يحصّنه ضد الاختزال المادي أو الرقمي في العصر الحديث. وفي العصر الحديث، يتجلى الدور الأساسي للفلسفة في وضع المشكلات التي يطرحها فك أسرار الوراثة البشرية، والتحديات التي يفرضها تطويرها، وهي التحديات التي ساهمت في تطور واقع الإنسان فكريًا وسياسيًا واقتصاديًا. وفي المقابل، أدى ركود العقل في حقب معينة إلى عجز حضاري وصدمة ثقافية. وهذا يؤكد أن التفلسف ليس مجرد تفكير نظري منعزل؛ بل هو محرك للتنمية الشاملة.

إن الفهم النقدي، المدعوم بالشك المنهجي، هو أداة التحرير التي تكسر سجن المعاني الجاهزة والمسلمات القديمة، وتسمح للفرد بالدفاع عن حقه في التفكير المستقل. ولكن هذا التحرير يجب أن يكون موجهًا، وإلا فقد يتحول إلى تجريد باهت. لذلك، فإن التفلسف الحق يستلزم الموازنة بين ضرورة البحث عن المعنى المتسامي (وجوديًا)، والذي يمنح الحياة قيمة وهدفًا متجاوزًا للذات، وضرورة الصرامة المنهجية والنقدية (إبستيمولوجيًا) التي تحمي الفكر من الوقوع في الخرافة أو التقليد. يجب على التفلسف أن يعيد الانخراط الجاد مع القضايا الأخلاقية والاجتماعية الملحة، بدلاً من الاقتصار على الميتافيزيقا الصرفة. إن العودة إلى مفهوم "الحكمة العملية" تضمن أن التفلسف يخدم غايات مجتمعية ملموسة.

تبني الشك كآلية للتجديد

يجب النظر إلى الشك المنهجي باعتباره محفزًا أساسيًا للنهضة الفكرية والإنتاج الحضاري المستقل، وكسر أي حالة من الجمود الفكري التي تعيق مجاراة التطور.

***

غالب المسعودي

........................

مصادر:

alhiwarmagazine.blogspot.com

almultaka.org

almothaqaf.com

anfasse.org

ar.wikipedia.org

asjp.cerist.dz

بدأتُ دراسة النحو قبل نصف قرن تقريبًا، فشرعت أولًا بكتاب "الأجرومية"، وهو كتاب مختصر بسيط في النحو، ألّفه ابن آجروم الصنهاجي (672–723هـ)، وتعارفت معاهد التعليم الديني التقليدية على تدريسه لتلامذتها في المرحلة الأولى لدراسة النحو. بعد الدرس الأول رأيت أنه لا ضرورة لحضور هذه الحلقة الدراسية، إذ يمكنني قراءة الكتاب من دون حاجة إلى مدرس، أتذكر أنني أنهيت قراءته ومباحثته مع زميل في أقل من اسبوعين. كان الكتاب التالي: "قطر الندى وبلّ الصدى" لابن هشام الأنصاري (708–761هـ)، معه شعرت أن لغته لا تخلو من إحالات على المنطق الأرسطي الصوري ومصطلحاته، مثلًا في الدرس الأول من الكتاب وردت عبارة: "واستعمال الأجناس البعيدة معيب عند أهل النظر" في شرح ابن هشام على كتابه، ولو لم يشرح مدرسنا المعنى المنطقي للجنس، وتقسيمه إلى قريب وبعيد، لم يفهم الطلاب ذلك. وبعد الفراغ من الكتاب المشار إليه انتقلت إلى دراسة شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، وواصلت الدراسة لكتب البلاغة التراثية.

بعد سنوات عديدة أشار عليّ أحد الزملاء بضرورة حضور دروس العلامة اللغوي رؤوف جمال الدين (1926–2004) لكتاب: "شرح ابن الناظم على ألفية والده ابن مالك"، وابن الناظم هو بدر الدين ابن صاحب الألفية (640–686هـ).كان أستاذنا خبيرًا موسوعيًا في اللغة والنحو، إنسانًا عفويًا جميلًا، ينفر من العناوين والألقاب التفخيمية المتداولة، لذلك بهرتني وطلابه شخصيته الآسرة الجذابة. كان يدرّسنا تحت السماء، ونحن ثلاثة طلاب، يجلس على الأرض، ولحظة يشاهد حرجنا من الجلوس بلا فراش، يبادر فيفرش عباءته لنجلس عليها معه. في كل درس نرحل معه في سياحة نحوية مشبعة بالتعليلات والقياسات والمحاججات المنطقية للقواعد والمسائل النحوية، وكأننا ندرس المنطق الأرسطي الصوري لا النحو. كان أستاذنا بارعًا في التدريس وتوضيح المفاهيم بلغة ميسرة، وعلى الرغم من انشداد طلابه وأنا منهم لشخصيته، كان يقص علينا ذكرياته ويعيد سرد تاريخ عائلته وأجداده، ومكانتهم الدينية، وما تعرضوا له من اضطهاد، إثر موقفهم الاخباري في مواجهة الأصوليين. عفوية وبساطة أستاذنا رؤوف جمال الدين كانت تزودنا بطاقة أخلاقية لم نتذوقها في شخصيات أغلب الأساتذة، لذلك كنا نترقب درسه كل يوم بشغف. كنت أتساءل عن المادة التي ندرسها، أهي نحوٌ؟ وأنا أعرف أن النحو يقوم على بيان قواعد النطق بالعربية التي ولدت في سياق اتفاق اجتماعي للناطقين بها، أم منطقٌ أرسطي صوري؟ وأستاذنا يستغرق في القياسات والتعليل، وأنا أعلم أن قواعد اللغة من الأمور الاعتبارية لا الواقعية. أثار دهشتي واستغرابي توغل مصطلحات المنطق الأرسطي وبراهينه في تدوين النحو وتعليمه، حتى غدا النحو ميدانًا للقياس العقلي لا أفقًا للفهم اللغوي، فامتلأت دروسه بالبراهين المنطقية الخارجة عن سياقاتها، وانشغل طلابه بإثبات القواعد العقلية بدل أن يتذوقوا اللغة بوصفها كائنًا حيًا نابضًا بالمعنى.2034 tabati

شرح العلامة محمد حسين الطباطبائي (1903–1981) معنى الحقائق الواقعية بوصفها ما لها وجود حقيقي في الخارج، سواء أدركها الإنسان أم لم يدركها، فهي موجودة استقلالًا عن الذهن، وعن كل اتفاق اجتماعي. أما الأمور الاعتبارية، فهي ما يضعه العقل أو المجتمع أو الشريعة أو اللغة لتنظيم العلاقات أو التعبير عن معانٍ لا وجود لها في الخارج بشكل مستقل، لأنها تنشأ بالاعتبار الذهني والاجتماعي. أبرز فرق بين الواقعي والاعتباري أن القواعد والقياسات المنطقية والفلسفية تجري في الحقائق الواقعية، ولا تجري في الأمور الاعتبارية، لأن الاعتباريات ليست كشفًا عن واقع موضوعي، بل هي إنشاء للعلاقات والأوضاع التي تحتاجها حياة الإنسان ومعاشه. لذلك يرى الطباطبائي أن كثيرًا من القضايا الأخلاقية والدينية والاجتماعية واللغوية تنتمي إلى دائرة الاعتبار لا الواقع، إذ هي نتاج للعقل الإنساني حين يسعى إلى تنظيم الحياة وضبط سلوك الأفراد والجماعات. من هنا دعا إلى التمييز بين ما هو ثابت في نظام الوجود، وما هو متغير بتغير حاجات الإنسان ومقتضيات أنماط حياته ومعاشه وتاريخه، مبينًا أن الخلط بينهما أوقع الفكر اللغوي والديني والفلسفي في التباسات عميقة، حين حاول إخضاع الاعتباريات لمناهج البرهان العقلي التي لا تجري إلا في مجال الحقائق الواقعية1.

أدركت منذ تلك الأيام عمق تغلغل المنطق الأرسطي الصوري في النحو وعلوم اللغة التراثية، كما تغلغل في علم الكلام وأصول الفقه والفقه وسائر علوم الدين، حتى غدا سلطة تتحكم في طرائق التفكير وأشكال الاستدلال ومناهج التعليم. بمرور الزمن كبّل المنطق الصوري حركة العقل وأخضعه لنظام مغلق من التعريفات والقياسات التي تحاصر السؤال وتمنع المغامرة العقلية باختراق ما لا يسمح التفكير فيه. المنطق الصوري، بوصفه نظامًا صارمًا، فرض على العقل حدودًا ضيّقت مجاله، فانحصر التفكير داخل ما يراه مسموحًا، لا ما يدعو إلى إعادة النظر فيه ومساءلته. تحول التفكير في آفاق هذا المنطق إلى تكرار لبديهياته، بدلًا من أن ينفتح على اكتشاف المعنى. وأغلق الذهن أبواب الشك والسؤال والنقد في النحو واللغة، وانحصر العقل في نطاق ما يتيحه له المنطق الصوري، لا في ما يستدعي إعادة نظر، وإثارة أسئلة عميقة حول مسلماته ويقينياته، ونقد تصلب قواعده وابتعادها عن طبيعة اللغة، بوصفها كائنًا حيًا متغيرًا.

 تحولت المعرفة إلى منظومة يقينيات نهائية تقاس بها الحقيقة، وفقد العقل اللغوي قدرته على ابتكار المفهوم، وخسر العقل الديني طاقته التأويلية على تجديد فهم الدين ونصوصه. هكذا انكمش الأفق الإنساني في كل من اللغة والدين، حين فرض على العقل أن يكرر ما ورثه بدل أن يسائل ما ورثه، وانطفأت شعلة التساؤل التي كانت أصل كل إبداع. جفّت منابع الأسئلة، وتعطل الخيال، وغابت الجرأة على مساءلة المسلّمات، لأن المنهج ذاته تأسس على نفي الاحتمال وتضييق أفق خيارات المفاهيم وتأويلها. في سياق هذا التحول انكمشت الحيوية الفكرية في علوم الدين واللغة، إذ استبدلت الحركة الحرة للعقل بجمود القياس، وحل التلقين محل الاكتشاف، والحفظ محل الفهم، والتكرار محل الإبداع. المنطق الأرسطي لا يعطل السؤال فحسب، بل يعيد تشكيل العقل بوصفه أداة طاعة لا أفق حرية، ويحول الدين من تجربة وجودية إلى منظومة مغلقة، ويجعل اللغة تكرر نفسها داخل قوالب جامدة، فتغيب الحياة من النص ومن المتكلم معًا. في هذا النسق تكرست لغة جامدة تهاب المجاز، وتخشى التأويل، وتتعامل مع النصوص بوصفها مغلقة على معناها الوحيد لا بوصفها فضاءً حيًا يتجدد فيه المعنى بتجدد التجربة. هكذا أضحى المنطق الصوري قيدًا على حرية التفكير، وجدارًا يحاصر العقل ويخنق السؤال، فانطفأ التفكير التساؤلي النقدي الذي يمثل شرط كل نهضة للعقل، وكل إحياء للغة، وكل تجديد في فهم الدين ونصوصه.

إن هذا التغلغل العميق للمنطق الصوري لم يكن مجرد أثر عابر في طرائق التفكير، بل تحولًا جذريًا في بنية الوعي، إذ انتقل العقل من فضاء التساؤل الحي إلى فضاء البرهان الشكلي، ومن البحث عن المعنى إلى البحث عن صحة القياس. في سياق هذا التحول انحسر حضور الإنسان في المعرفة، وصار العقل الديني واللغوي ينظر إلى العالم بعين المنطق لا بعين الخبرة والمعاش والمعاناة والتجربة. أضحى النحو علمًا يجتر القوالب نفسها ويعيد إنتاج المفاهيم ذاتها، وأصبح علم الكلام يكرر الأسئلة القديمة بأدواتها، كأن الزمان لم يتحرك وكأن الوعي لا يتغير. وبعد تراكم القرون غدت سلطة المنطق الأرسطي معيارًا يقاس به التفكير ومصدرًا لتقويم الصواب والخطأ، حتى ضاعت المسافة بين الحقيقة والاصطلاح، وبين الواقع والاعتبار. وهكذا غاب المعنى الإنساني للدين واللغة، إذ صارت اللغة تُدرّس كآلية جامدة لفهم النص، لا كجسر للقاء الإنسان بالعالم، وصار الدين يُفهم كمنظومة أقيسة تنتج مقولات وأحكامًا، لا كخبرة وجودية ووجودية. من هنا برزت الحاجة إلى إعادة اكتشاف العقل بوصفه طاقة حيّة لا آلة قياس، وإلى استعادة اللغة ككائن حيّ يعكس نبض قلب الإنسان وعواطفه وقلقه الوجودي وأسئلته، وإلى تجديد علم الكلام ليغدو علمًا للحياة لا علمًا للجدل، علمًا يحرر المعنى من أسر المنطق الأرسطي، ويعيد للدين إشراقات الروح ورحابة الأخلاق وتجليات الجمال الإلهي.

  في قوالب المنطق صارت الحياة الدينية ممارسات صورية غلّفت التفكير بأسوار من القواعد والقياسات الجامدة، وأقامت حول أشواق الروح جدرانًا تحجب عنها أفق التجربة والمعنى. تحولت اللغة، التي كانت كائنًا حيًا نابضًا بالمجاز والرمز والدلالة، إلى نسق من التعريفات الميكانيكية، تقاس معانيها بحدود المنطق لا بمدى حضورها في الوعي والعواطف. حين ترسخ هذا المنهج غاب السؤال الحي، وتوارى التأمل في ما وراء الألفاظ، إذ صار الكلام مرهونًا ببرهان صوري يطالب بالدقة الشكلية، ويعجز عن إدراك العمق. هكذا سجنت اللغة في أسوار المنطق وفقدت قدرتها على التحديث، بعدما انحبست في قوالب القياس وأشكاله، فانكمش فيها الخيال، وانسدت الآفاق التي تتجدد فيها صلة الإنسان بالمعاني الروحية والأخلاقية والجمالية. إن استعادة حيوية اللغة لا تتحقق إلا بتحريرها من أسر المنطق وعودتها إلى أصلها الإنساني، بوصفها أفقًا للمعنى، ومجالًا للتجربة، ومسكنًا للوجود.

صار المنطق الصوري هو الأفق النهائي المغلق للغة، فلا تتحرك إلا في فضائه، ولا تستنطق مفاهيمها إلا بأدواته، وكأنها فقدت قدرتها على التفكير خارج حدوده. مع سطوة هيمنته الشديدة، انغلقت آفاق الذهن الديني واللغوي في قوالب صورية جامدة، تقيس الحقيقة بموازين التجريد لا بوقائع الحياة، وتتعامل مع المعنى بوصفه نتيجة نهائية لا سيرورة مفتوحة. هكذا تحول المنطق من وسيلة للفهم إلى أداة لتقييد العقل وغلق آفاق التساؤل والتفكير النقدي، ومن طريق للبحث إلى سور يحاصر الأسئلة ويصادر إمكانات الفهم. بمرور الزمن، تحولت النصوص الدينية واللغوية إلى حقول للبرهنة الشكلية، وفقدت علاقتها الحيّة بالوجود الإنساني ومعناه، فغابت التجربة واستبدلت بالتقعيد المغلق، وغابت الروح واستبدلت بالقياس، وأقصي الإنسان عن مركز المعرفة، إذ صار يطلب منه أن يفكر في إطار أشكال قياسات أرسطو المغلقة، لا كما تملي عليه تجربته الوجودية في العالم. في سياق امتداد هذا الإرث وتكرار تلقينه عبر قرون، تكرست ثقافة التلقي والتلقين بدل ثقافة التساؤل، واستحال العقل الديني واللغوي إلى مرآة تعكس الماضي لا ضوءًا يكتشف الحاضر. انطفأت فاعلية اللغة التي كانت ميدانًا لتفتح المعنى وصيرورته، حين تحولت إلى جهاز صوري خاضع لسلطة القاعدة التي قررها المنطق. إن تجاوز هذا الإرث لا يتحقق إلا باستعادة اللغة والعقل إلى مجالهما الإنساني، حيث يصبح التفكير فعلا حرًّا يبتكر المعنى من التجربة، ويعيد وصل الدين بالحياة، والمعرفة بالإنسان، والعقل بالعالم، واللغة بالواقع، فتتحول بواسطته اللغة من سور يحاصر الوعي إلى أفق يفتحها على المعنى، ويتيح لها أن تكون بيتًا للوجود2.

إن انحباس اللغة في أسوار المنطق الصوري لا يمثل مجرد خيار معرفي بل يعكس نمطًا من السيطرة الرمزية التي تعيد إنتاج السلطة عبر تطبيع التطابق وإقصاء التعدد، ويصبح اللفظ قالبًا صوريًا لا حدثًا وجوديًا، وهذا ما يعطل قدرة اللغة على ابتكار المفاهيم، ويعيد إنتاج سلطة النحو بوصفها سلطة معيارية لا بوصفها إمكانًا للتعدد، وهو ما يتكرر في علم الكلام حين يخضع التفكير الديني لقواعد البرهان الأرسطي، فيقاس الغيب بمقولات الجوهر والعرض، ويُحدّ الله بمفاهيم الضرورة، ويُستبدل الكشف بالتقعيد، والتأمل بالتصنيف، فتفقد العقيدة طاقتها الحية، كما تفقد اللغة قدرتها على الولادة، ويغيب المعنى حين يُختزل في الحرف، ويُقصى جدل الاختلاف والتعدد حين يُحاكم بمبدأ عدم التناقض. هكذا يتجلى أثر المنطق الأرسطي في تعطيل إمكانات التجاوز في كل من اللغة والدين، ويُعاد إنتاج السلطة بوصفها معيارًا للصدق لا بوصفها أفقًا للتجدد، مما يستدعي من النقد تفكيك هذا النمط من العقلنة الصورية التي تُقصي الحياة باسم النظام، وتخضع المعنى لمنطق السيطرة بدل أن تفتحه على أفق التحرر.

 حين تنغلق اللغة في أسوار المنطق الصوري تتحول من كائن حيّ ينتج المعنى إلى أداة تقيس الصواب بالحد والقياس، فتتجمد حركتها في قوالب التعريف والتصنيف، ويغدو النحو سلطة تقرر ما يجوز قوله وما يُستبعد، ويصير معيار الفصاحة عقلانية شكلية لا أفقًا للتعدد والاختلاف. بهذا الانغلاق تقصى المجازات وتحاصر التراكيب الجديدة، لأن المنطق الأرسطي يجعل الهوية وعدم التناقض مبدأين يحكمان الفكر واللغة معًا، فيمحو الغموض الخلّاق الذي يولد منه الإبداع، ويستبدل بالمعنى تجربةَ تطابقٍ جامدة بين اللفظ والفكرة. هذا ما فعله المنطق ذاته حين دخل علم الكلام فحول الوحي إلى خطاب برهاني يُقاس بحدود العقل الصوري، وأخضع التأويل لمنطق القياس والتماثل، فتصلبت العقائد في صيغ مغلقة، وغاب الرمز والذوق والتجلي، وفقد الدين طاقته الروحية كما فقدت اللغة قدرتها على الولادة. في كليهما يصبح العقل خادمًا للبنية لا منجمًا للمعنى، ويتحوّل التفكير إلى نسق يكرر ذاته، ويُعاد إنتاج السلطة المعرفية بوصفها ضمانًا للصدق، لا بوصفها أفقًا للتجدد. لذلك دعا مفكرو مدرسة فرانكفورت إلى تفكيك هذا الوعي الأداتي الذي جعل المنطق بديلاً عن الفكر، وطالبوا بعودة اللغة إلى أفقها الجمالي والجدلي حيث يولد المعنى من الاختلاف، لا من التطابق، وحيث تنبع الحقيقة من التجربة لا من القاعدة، لأن الكلمة التي تفكر خارج منطق الحياة تنفصل عن الإنسان، وحين تفقد اللغة إنسانيتها تفقد قدرتها على أن تكون أفقًا للتحرر.

 تجذر بمرور الزمن تسلط المنطق الأرسطي الصوري على التفكير الفلسفي والكلامي والأصولي والفقهي واللغوي في الحضارة الإسلامية، ومازال يتكرر حضوره في معاهد علوم الدين التقليدية، وكأننا لا نعلم بظهور المنطق الحديث في القرن التاسع عشر، الذي تجاوز المنطق الصوري إلى المنطق الجدلي لهيغل، والمنطق الرمزي والرياضي الذي أسسه فريغه، وطورّه لاحقًا راسل ووايتهد، وغيرهما. النحو وعلوم اللغة التراثية لبثا مقيمين في أسوار المنطق الأرسطي الصوري، فاستقرا ضمن بنية عقلية استدلالية أحادية، جعلت من هذا المنطق مرجعية حاكمة لمناهجها ومفاهيمها. هذا التأسيس لم يفتح المجال أمام تطور حيّ أو تفاعل مرن مع اللغة بوصفها ظاهرة بشرية متغيرة، بل قاد إلى مسارات دائرية مغلقة، أعادت إنتاج ذاتها ضمن نسق تقعيدي صارم، وحرمت هذه العلوم من اكتشاف آفاق رحبة تتجاوز تلك المسارات المسدودة. النحو، في هذا السياق، انشغل بإعادة صياغة قواعده وفق منطق الاستنباط، وتراجع عن التناغم مع الواقع اللغوي الحي، مما عطل قدرته على التجديد وأبعده عن روح البحث الحر.

 استعار النحوُ وعلوم اللغة علمَ أصول الفقه، لا بوصفه علمًا جدليًا قائمًا على تعدد الأدلة، بل بوصفه نموذجًا استنباطيًا مغلقًا، فتناغما مع بنيته وكرّرا طرائقه وأعادا إنتاجه في إطار لغوي. كذلك استعار النحوُ وعلوم اللغة أحكام الفقه، وتفاعلا مع علم الكلام لا من موقع النقد أو الحوار، بل من موقع التلقي والتقليد، فتبنيا مقولات وأحكام علوم الدين ونسجا مفاهيمهما على منوالها، مما عمق من طابعهما المغلق وأبعدهما عن إمكانات التجاوز. هذا التداخل بين النحو والمنطق الصوري وأصول الفقه والفقه وعلم الكلام لم ينتج تكاملًا معرفيًا، بل رسخ نمطًا من التفكير الدائري، حيث تتكرر القواعد وتعاد صياغتها دون مساءلة، وتستبعد الأسئلة التي تتطلب إعادة نظر أو تفكيك للأسس. في ضوء فلسفة العلم، غابت عن هذه العلوم قابلية التكذيب، وتحولت فرضياتها إلى يقينيات نهائية، مما عطل قدرتها على التطور وأخرجها من دائرة المعرفة الحية. لذلك تبرز الحاجة إلى مراجعة جذرية لا تكتفي بنقد التفاصيل، بل تُسائِل الأسس التي قامت عليها هذه العلوم، وتعيد فتحها على أسئلة جديدة تنبع من اللغة الحية ومن الإنسان المتكلم، لا من منطق التجريد.  2035 popar

ترى فلسفة العلم الحديثة أن المعارف البشرية تتداخل في شبكة حيّة من الحقول المتفاعلة، حيث يتفاعل الفلسفي مع العلمي، والإنساني مع الطبيعي، ضمن جدل لا يخلو من التوتر والإثمار. التحولات التي تطرأ على الفلسفة والعلوم الإنسانية لا تبقى حبيسة مجالها، بل تمتد آثارها إلى العلوم الطبيعية. في المقابل، تؤدي التغيرات المنهجية والنظرية في العلوم الطبيعية إلى انعطافات في التفكير الفلسفي، وتدفعه نحو إعادة النظر في مفاهيمه ومناهجه. فلسفة العلم الحديثة، كما تجلّت في أعمال كارل بوبر، أبرزت أن التقدم المعرفي لا يسير وفق خط مستقيم أو تراكم يقيني، بل ينشأ من خلال النقد المستمر للفرضيات، واختبار صارم لقابليتها للتكذيب. المعرفة لا تنمو بوصفها يقينًا، بل تتشكل من فرضيات تخضع للنقض، ومفاهيم تواجه التجربة، وحدود تختبرها الوقائع. العلاقة بين الحقول المعرفية لا تنحصر في تأثير ميكانيكي، بل تتأسس على جدلية نقدية. الفلسفة تطرح الأسئلة التي تكشف عن الافتراضات الكامنة في مناهج العلم، بينما يعيد العلم التفكير في نماذجه حين يواجه تعقيدات الظواهر أو قصور التفسير. هذا الترابط لا يعني انصهارًا بين الحقول، بل يشير إلى قابلية كل حقل للتأثر والتأثير، حين ينفتح على أسئلة الآخر، ويخوض تجربة المساءلة. وحدة المعرفة لا تنشأ من التنميط أو التوحيد القسري، بل تنبثق من الحوار النقدي بين التخصصات، ومن الاعتراف بأن كل مشروع معرفي يظل مفتوحًا على احتمالات جديدة. فلسفة العلم، حين تتبنى الموقف النقدي، تتيح أفقًا لتكامل المعارف، لا بوصفها منظومة مغلقة، بل شبكة من الأسئلة والاحتمالات، تتجدد كلما خاضت اختبارًا جديدًا لحدودها.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

....................

1- الطباطبائي، محمد حسين، أصول الفلسفة والمذهب الواقعي، مج: ص ٣٣٥ - ٣٨٠، 2023، دار زين العابدين، قم.

2- الرفاعي، عبدالجبار، مقدمة في علم الكلام الجديد، نشرة مؤسسة هنداوي الإلكترونية، الفصل الأول، المنطق الأرسطي بوصفه مرجعيةً للتفكير الكلامي.

 

مقدمة: القولة "الأخلاق ليست فرعًا من الفلسفة، بل هي الفلسفة الأولى" تُعدّ إحدى الأطروحات المحورية التي تثير نقاشات عميقة في الفلسفة الغربية والعربية على حد سواء. تُبرز هذه القولة الأهمية القصوى للأخلاق كأساس للفكر الفلسفي، متجاوزة بذلك التصور التقليدي الذي يضع الأخلاق كفرع من فروع الفلسفة إلى جانب الميتافيزيقيا، المنطق، والمعرفة. في هذه الدراسة، سنستكشف معاني هذه القولة، ونحلل دلالاتها الفلسفية، ونناقش سياقها التاريخي والفكري، مع التركيز على أهمية الأخلاق في الفكر الفلسفي، وكيف يمكن اعتبارها "الفلسفة الأولى". سنتناول أيضًا الآراء المؤيدة والمعارضة لهذه القولة، مع استعراض لأبرز الفلاسفة الذين تناولوا هذا الموضوع، بالإضافة إلى تحليل السياقات الثقافية والاجتماعية التي تؤثر على هذا النقاش. متى تتحول الاخلاق من مجرد اختصاص فلسفي مثل بقية الاختصاصات الى فلسفة اولى؟ وما الذي يتغير في مستوى المنهج والمفاهيم والموضوع؟ وفيم تتمثل المقاربة الأكسيولوجية؟

تعريف الأخلاق والفلسفة

للبدء، من الضروري توضيح المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها القولة. الفلسفة، في جوهرها، هي السعي إلى فهم الحقيقة والوجود والمعرفة من خلال التفكير النقدي والتحليلي. أما الأخلاق، فهي الفرع من الفلسفة الذي يهتم بدراسة القيم، والصواب والخطأ، والواجب، والمسؤولية الأخلاقية. تقليديًا، تُعتبر الأخلاق جزءًا من الفلسفة إلى جانب فروع أخرى مثل الميتافيزيقيا (علم الوجود)، والإبستمولوجيا (نظرية المعرفة)، والمنطق، والجماليات. ومع ذلك، تقترح القولة إعادة تصنيف جذرية، حيث تُقدم الأخلاق ليس كفرع من الفلسفة، بل كجوهرها وأساسها. هذا الطرح يستدعي التساؤل: لماذا يُمكن اعتبار الأخلاق "الفلسفة الأولى"؟ وما الذي يجعلها تتجاوز الفروع الأخرى في الأهمية؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، يجب أن ننظر إلى السياقات التاريخية والفلسفية التي أدت إلى هذا التصور.

1. الأخلاق في الفلسفة اليونانية

في الفلسفة اليونانية القديمة، كان للأخلاق مكانة مركزية. فلاسفة مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو اعتبروا الأخلاق ليست مجرد فرع من الفلسفة، بل العنصر الأساسي الذي يهدف إلى تحقيق "الحياة الطيبة" (Eudaimonia).  بالنسبة لسقراط، كانت الفلسفة بأكملها تدور حول السؤال: "كيف ينبغي للمرء أن يعيش؟"، وهو سؤال أخلاقي بامتياز. أفلاطون، في حواراته مثل "الجمهورية"، ربط الأخلاق بالعدالة، معتبرًا أن الفلسفة تهدف إلى فهم الكيفية التي يمكن بها للفرد والمجتمع تحقيق الانسجام الأخلاقي. أما أرسطو، في كتابه "الأخلاق إلى نيقوماخوس"، فقد وضع الأخلاق كعلم عملي يهدف إلى تحقيق السعادة من خلال الفضيلة. هذا التركيز على الأخلاق في الفلسفة اليونانية يدعم فكرة أن الأخلاق ليست مجرد فرع، بل هي الغاية الأساسية للتفكير الفلسفي. إذن، يمكن القول إن القولة تجد جذورها في هذا التقليد الفلسفي الذي يضع الأخلاق في صميم الفلسفة.

2. إيمانويل كانط ومكانة الأخلاق

إيمانويل كانط (1724-1804)، أحد أبرز الفلاسفة في التاريخ الحديث، يُعتبر مصدر إلهام محتمل لهذه القولة. في فلسفته الأخلاقية، كما يتضح في كتابه "أسس ميتافيزيقيا الأخلاق" و"نقد العقل العملي"، وضع كانط الأخلاق في مركز الفلسفة. بالنسبة له، الأخلاق ليست مجرد تطبيق للعقل النظري، بل هي تعبير عن العقل العملي الذي يحدد كيف ينبغي للإنسان أن يتصرف بنفسه. مفهومه عن "الواجب" و"الأمر القطعي) يعكس فكرة أن الأخلاق هي المجال الذي يحدد القوانين العقلية التي تحكم السلوك البشري. كانط يرى أن الأخلاق هي المجال الذي يمنح الفلسفة معناها العملي، لأنها تربط الفكر الفلسفي بالحياة الإنسانية الواقعية. من هذا المنظور، يمكن اعتبار الأخلاق "الفلسفة الأولى" لأنها تُعنى بتحديد القيم التي توجه السلوك البشري، وهو ما يمثل جوهر التفكير الفلسفي.

3. الفلسفة الحديثة والمعاصرة

في الفلسفة الحديثة، ومع ظهور تيارات مثل الوجودية والبراغماتية، استمرت الأخلاق في لعب دور مركزي. على سبيل المثال، يرى جان بول سارتر أن الأخلاق تنبع من حرية الإنسان ومسؤوليته في خلق القيم. في الفلسفة المعاصرة، يواصل فلاسفة مثل يورغن هابرماس وجون راولز التأكيد على أهمية الأخلاق في بناء نظريات العدالة والتواصل البشري .ومع ذلك، هناك تيارات فلسفية أخرى، مثل الوضعية المنطقية، قللت من أهمية الأخلاق، معتبرة إياها مجرد تعبير عن المشاعر أو الرغبات الشخصية، مما أثار جدلاً حول مكانتها في الفلسفة. هذا الجدل يعزز أهمية القولة، حيث تتحدى التصورات التي تهمش الأخلاق وتضعها في صدارة الفكر الفلسفي.

المقاربة الأكسيولوجية في الإطار الأخلاقي الإنساني

المقاربة الأكسيولوجية، في الإطار الأخلاقي الإنساني، تركز على دراسة القيم كمحدد أساسي للسلوكيات والقرارات الأخلاقية التي تهدف إلى تعزيز الكرامة الإنسانية والعدالة والرفاهية الجماعية. هذه المقاربة تبحث في القيم الأخلاقية، مثل العدالة، الحرية، المساواة، والمسؤولية، وتسعى إلى فهم كيفية تشكيلها للعلاقات بين الأفراد والمجتمعات. في سياق الأخلاق الإنسانية، تؤكد المقاربة الأكسيولوجية على أهمية القيم الإنسانية المشتركة كأساس لاتخاذ القرارات التي تحترم حقوق الإنسان وتعزز التضامن الاجتماعي. على سبيل المثال، عند مواجهة قضايا مثل الفقر أو التمييز، تقدم هذه المقاربة إطارًا لتقييم الأفعال بناءً على مدى مساهمتها في تحقيق العدالة الاجتماعية أو تقليل المعاناة الإنسانية، مع التركيز على القيم الجوهرية مثل الكرامة والإنصاف. كما تتجاوز المقاربة الأكسيولوجية الاعتبارات المادية لتشمل الأبعاد الروحية والثقافية، حيث تُبرز القيم مثل التعاطف والرحمة كمحركات للسلوك الأخلاقي. على سبيل المثال، في سياق الأزمات الإنسانية كالهجرة أو النزاعات، تدعو هذه المقاربة إلى تبني قيم التضامن والمسؤولية المشتركة لدعم الفئات الضعيفة. من خلال تحليل القيم وتأثيرها على السلوك، تساهم المقاربة الأكسيولوجية في بناء إطار أخلاقي يركز على الإنسان، يوجه السياسات العامة والممارسات الفردية نحو تحقيق مجتمع أكثر عدلاً وإنسانية، مما يجعلها أداة حيوية لمواجهة التحديات الأخلاقية المعقدة في العصر الحديث.

في الاطار البيئي

المقاربة الأكسيولوجية، كإطار فلسفي، تركز على دراسة القيم ودورها في توجيه السلوكيات والقرارات، وتكتسب أهمية خاصة في سياق الأخلاق البيئية والوعي الإيكولوجي. تعتمد هذه المقاربة على فحص القيم الأخلاقية والجمالية والروحية التي تشكل علاقة الإنسان بالبيئة، بهدف تحديد الأسس التي ينبغي أن توجه التفاعل مع الطبيعة. في إطار الأخلاق البيئية، تسعى المقاربة الأكسيولوجية إلى إعادة تعريف القيم التقليدية التي غالبًا ما تكون أنثروبوسنترية (مركزية الإنسان)، وتعزز بدلاً من ذلك قيمًا إيكوسنترية أو بيوسنترية، حيث تُمنح الكائنات الحية والنظم البيئية قيمة جوهرية بغض النظر عن فائدتها للإنسان.

على سبيل المثال، تؤكد هذه المقاربة على أهمية احترام التنوع البيولوجي ليس فقط لأنه يدعم الحياة البشرية، بل لأن له قيمة في ذاته، مستمدة من تعقيد النظم الإيكولوجية وجمالها الطبيعي.

كما تساهم المقاربة الأكسيولوجية في تعزيز الوعي الإيكولوجي من خلال تشجيع الأفراد والمجتمعات على تبني قيم مثل المسؤولية، العدالة البيئية، والتضامن بين الأجيال، مما يؤدي إلى تغيير السلوكيات نحو ممارسات مستدامة، مثل تقليل الاستهلاك المفرط أو دعم السياسات البيئية. علاوة على ذلك، فإن هذه المقاربة تتجاوز الجوانب المادية للبيئة لتشمل البعد الروحي والثقافي، حيث تربط بين القيم الإنسانية، مثل الشعور بالانتماء للطبيعة، والحاجة إلى حمايتها كجزء من الهوية الجماعية.

من خلال إعادة صياغة القيم التي تحكم علاقتنا بالعالم الطبيعي، تُعد المقاربة الأكسيولوجية أداة حيوية لتحقيق تحول جذري نحو مجتمع أكثر وعيًا ومسؤولية تجاه البيئة، مما يجعلها ركيزة أساسية لمواجهة التحديات البيئية المعاصرة.

تحليل القولة: الأخلاق كـ"الفلسفة الأولى"

1. الأخلاق كأساس للتفكير الفلسفي

القولة تشير إلى أن الأخلاق ليست مجرد فرع من الفلسفة يمكن دراسته بشكل مستقل، بل هي الأساس الذي تقوم عليه الفلسفة بأكملها. هذا التصور يمكن تفسيره من خلال عدة زوايا:

الأخلاق كغاية الفلسفة: الفلسفة، في جوهرها، تسعى إلى فهم كيفية عيش الإنسان حياة ذات معنى. الأخلاق، بصفتها الدراسة التي تهتم بالقيم والواجبات، توفر الإطار الذي يجيب عن هذا السؤال. فبدون الأخلاق، تصبح الفلسفة مجرد تأمل نظري خالٍ من التأثير العملي.

الأخلاق كمعيار للفروع الأخرى: الميتافيزيقيا، الإبستمولوجيا، والمنطق، وإن كانت ضرورية، فإنها تخدم في النهاية الأغراض الأخلاقية. على سبيل المثال، تساعد الميتافيزيقيا في فهم طبيعة الوجود، لكن هذا الفهم يكتسب معناه عندما يُستخدم لتحديد كيفية التصرف الأخلاقي في العالم.

الأخلاق كتعبير عن الحرية البشرية: كما أشار كانط، الأخلاق هي المجال الذي يمارس فيه الإنسان حريته العقلية. بينما تُعنى الفروع الأخرى بالحقائق النظرية، فإن الأخلاق تُعنى بالحرية والإرادة والمسؤولية، وهي جوهر الوجود البشري.

2. الأخلاق مقابل الميتافيزيقيا

تقليديًا، اعتُبرت الميتافيزيقيا "الفلسفة الأولى"، كما وصفها أرسطو، لأنها تُعنى بدراسة الوجود بما هو موجود. ومع ذلك، تقترح القولة أن الأخلاق يجب أن تحل محل الميتافيزيقيا في هذا الدور. هذا الطرح يمكن تبريره من خلال القول إن الأخلاق هي التي تمنح المعنى للوجود. فبدون قيم أخلاقية توجه السلوك، يصبح التفكير في الوجود مجرد تأمل مجرد.

3. الأخلاق والسياق الاجتماعي

الأخلاق لا تُدرس في فراغ، بل هي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسياقات الاجتماعية والثقافية. القولة تؤكد على أهمية الأخلاق كأداة لتنظيم العلاقات البشرية وبناء مجتمعات عادلة. في هذا السياق، يمكن اعتبار الأخلاق "الفلسفة الأولى" لأنها توفر الأسس التي يقوم عليها النظام الاجتماعي.

الآراء المؤيدة والمعارضة

1. الآراء المؤيدة

كانط وأتباعه: يرى كانط أن الأخلاق هي تعبير عن العقل العملي، وهي التي تمنح الفلسفة أهميتها العملية. أتباعه، مثل فلاسفة المثالية الألمانية، عززوا هذا التصور.

الوجوديون: فلاسفة مثل سارتر وكامو يرون أن الأخلاق هي جوهر الفلسفة لأنها تعكس حرية الإنسان في خلق القيم.

الفلاسفة الأخلاقيون المعاصرون: مثل ليفيناس وحنة ارندت وبول ريكور جون راولز وغادامير وهابرماس، الذي يرى أن الفلسفة يجب أن تُعنى بتحقيق العدالة الاجتماعية، مما يجعل الأخلاق في صدارة الفكر الفلسفي.

2. الآراء المعارضة

الوضعية المنطقية: يرى أتباع هذا التيار، مثل ألفرد آير، أن الأخلاق ليست علماً موضوعياً، بل مجرد تعبير عن المشاعر، مما يقلل من أهميتها مقارنة بالمنطق أو الميتافيزيقيا.

الفلاسفة الميتافيزيقيون: مثل مارتن هيدجر، الذي ركز على دراسة الوجود (Sein) كأساس للفلسفة، معتبراً الأخلاق ثانوية بالنسبة لفهم الوجود.

النفعيون: على الرغم من تركيزهم على الأخلاق، يرى بعض النفعيين، مثل جون ستيوارت ميل، أن الأخلاق يجب أن تُخضع لمعايير تجريبية، مما يجعلها فرعًا من الفلسفة بدلاً من أساسها.

الأخلاق في الفلسفة العربية والإسلامية

في السياق العربي والإسلامي، لعبت الأخلاق دورًا مركزيًا في الفكر الفلسفي. فلاسفة مثل الكندي والفارابي وابن سينا والغزالي وابن مسكويه وابن باجة وابن طفيل وابن رشد وابن عربي وابن خلدون رأوا أن الأخلاق هي الغاية الأساسية للفلسفة. على سبيل المثال، في كتابه "تهذيب الأخلاق"، ركز ابن مسكويه على الأخلاق كوسيلة لتحقيق السعادة والكمال الإنساني. كما أن الفلسفة الإسلامية ربطت الأخلاق بالدين، معتبرة إياها تعبيرًا عن الشريعة والعقل معًا.

من هذا المنظور، يمكن القول إن القولة تجد صدى في الفكر العربي والإسلامي، حيث تُعتبر الأخلاق ليست مجرد فرع، بل هي جوهر الفلسفة الذي يربط بين العقل والروح والمجتمع.

التحديات والانتقادات

على الرغم من القوة الفكرية للقولة، فإنها تواجه تحديات عديدة:

النسبية الأخلاقية: يرى البعض أن الأخلاق نسبية وتختلف باختلاف الثقافات، مما يجعل من الصعب اعتبارها أساسًا عالميًا للفلسفة.

الطابع النظري للفلسفة: يرى بعض الفلاسفة أن الفلسفة يجب أن تظل مجالاً نظريًا يهتم بالحقيقة المجردة، بينما الأخلاق تُعنى بالتطبيق العملي.

التعددية الفلسفية: في ظل تنوع الفروع الفلسفية، قد يكون من الصعب إعطاء الأولوية للأخلاق على حساب فروع أخرى مثل المنطق أو نظرية المعرفة.

الخاتمة

القولة "الأخلاق ليست فرعًا من الفلسفة، بل هي الفلسفة الأولى" تُعدّ دعوة لإعادة التفكير في طبيعة الفلسفة وأهدافها. من خلال تحليل السياقات التاريخية والفلسفية، يتضح أن الأخلاق تحتل مكانة مركزية في الفكر الفلسفي، سواء في التقاليد اليونانية، أو الفلسفة الحديثة، أو الفكر العربي والإسلامي. الأخلاق، بصفتها المجال الذي يُعنى بالقيم والواجبات والحرية البشرية والمسؤولية على الأفعال، توفر الإطار الذي يمنح الفلسفة معناها العملي والإنساني. ومع ذلك، فإن القولة تظل مثيرة للجدل، حيث تواجه تحديات من تيارات فلسفية تؤكد على أهمية الفروع الأخرى. في النهاية، يمكن القول إن الأخلاق، حتى لو لم تكن "الفلسفة الأولى" بالمعنى الحرفي، فإنها تظل عنصرًا لا غنى عنه في أي تفكير فلسفي يسعى إلى تحقيق حياة إنسانية ذات معنى. هذه الدراسة تؤكد على ضرورة إعادة تقييم مكانة الأخلاق في الفلسفة، مع الأخذ في الاعتبار التحديات الثقافية والاجتماعية التي تواجهها في العصر الحديث. فكيف يمكن تطوير الأخلاق وتجديدها حتى تواكب التغيرات الجذرية في الحقبة المعاصرة؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.........................

المصادر والمراجع:

كانط، عمانويل. أسس ميتافيزيقا الأخلاق.

أرسطو. الأخلاق إلى نيقوماخوس.

ابن مسكويه. تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق.

سارتر، جان بول. الوجودية مذهب إنساني.

راولز، جون. نظرية في العدالة.

هابرماس، يورغن. نظرية الفعل التواصلي.

بقلم: نناميدو بارثولوميو

ترجمة: د. ابراهيم طلبه سلكها

***

Analysis of the Five- Fold Role of Philosophy in  National Development

Nnaemedo Bartholomew

الملخص: يثير دور الفلسفة في التنمية الوطنية سؤالًا كبيرًا في العصر المعاصر، نظرًا للتقدم الهائل المفترض للعلوم الطبيعية. وغالبًا ما تُنسب إلى الفلسفة تسميات مثل: تخصص مجرد وغامض، ومسار مشغول بالجدل، وفي مفترق طرق. ومع ذلك، يبقى السؤال: هل الفلسفة كما وُصفت أعلاه، أم أنها تسمية ناتجة عن السذاجة والتحيز؟ لذلك، يهدف هذا البحث إلى دراسة مدى أهمية الفلسفة، وبشكل خاص في التنمية الوطنية. ويعد هذا ضروريًا لتصحيح المفاهيم الخاطئة والتحيزات السابقة ومنح الفلسفة مكانتها الصحيحة في التنمية الوطنية. ويركز البحث بشكل أساسي على خمسة مجالات: الفلسفة كأساس عقلاني، وخارطة طريق، وسقف، وعدسة أخلاقية، ومحفز للتنمية الوطنية. وتعتبر هذه الدراسة هذا بمثابة الدور الخماسي للفلسفة في التنمية الوطنية، وبالتالي فإن كل هدف آخر للفلسفة في التنمية الوطنية يدور حول هذه الأدوار الخمسة.

الإطار النظري للدراسة هو الوجودية، وطريقة البحث هي التحليل الفلسفي. أما مصادر البيانات الأساسية فهي المكتبة ومواد الإنترنت. وأظهرت النتائج أن الفلسفة تلعب دورًا حاسمًا في التنمية الوطنية، فهي تشكل الأساس، وتمتد عبر الجذع، وتتحقق في ثمار التنمية الوطنية. إن التفكير في التنمية الوطنية من دون فلسفة يشبه تصور نبات بلا جذور. تشكل الفلسفة الجذر العقلاني، والدفة، والسقف، والبوصلة الأخلاقية/القيمية، والمحرك للتنمية الوطنية.

لذلك، يوصي هذا البحث بإعطاء الفلسفة مكانتها المرموقة في العالم الأكاديمي، مؤكدًا على حتميتها في كل جانب من جوانب التنمية الوطنية، والانخراط في إصلاح الفلسفة لدعم متطلبات التنمية الوطنية الناشئة.

الكلمات المفتاحية: الفلسفة، التنمية الوطنية، الأساس العقلاني، العدسة الأخلاقية، التحليل، الدور.

المقدمة

إحدى القضايا المهمة في الفلسفة هي مدى صلتها بالتنمية الوطنية. وتصبح هذه القضية أكثر أهمية عند النظر إلى دور العلوم الطبيعية في التنمية الوطنية مقارنة بالفلسفة. في المجتمع المعاصر، هناك دلائل على التقدم الكبير الذي أحرزته العلوم الطبيعية. على سبيل المثال، انتقل العالم من الأنظمة التناظرية إلى الرقمية بفضل العلوم الطبيعية. اليوم، أصبح العالم قرية صغيرة بفضل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (مكلوهان 1962 و1964). وعلى عكس أنظمة الاتصال التقليدية، يمكن الوصول إلى جمهور كبير ومتعدد في وقت واحد وبفعالية من خلال هذه التقنيات الحديثة.ويظهر تقدم مماثل في مجال العلوم الطبية، حيث أصبح بعض العلاجات الطبية التي كانت تستغرق ساعات عديدة تُنجز الآن خلال ساعات قليلة، بفضل اختراع أجهزة مثل الليزر. كما توجد وسائل حديثة للنقل والتجارة والمعاملات المالية والزراعة والكهرباء (باستخدام الأنظمة الشمسية).

ومع ذلك، يبدو أن نمو الفلسفة يسير بترتيب عكسي مقارنة بالعلوم الطبيعية. فالفلسفة تبدو متشابكة في شبكة من الحجج والردود عليها، بحيث يظهر أن نظامًا فلسفيًا يعارض أو يدحض أو يبيد نظامًا آخر. وصف أولاكا (1992) هذا الوضع بأنه فضيحة الفلسفة، بينما وصفه نناميدو (2023) بأنه فلسفة في مفترق طرق. ومن الأمور المثيرة للقلق أيضًا وصف الفلسفة بأنها علم مجرد (بوتشينسكي، 1969). ويتهم دعاة هذا الاتجاه الفلسفة بالانخراط في قضايا لا تؤثر عمليًا على حياة الإنسان. وبناءً على ذلك، دعا بعضهم إلى رفض الفلسفة، وخاصة الجانب الميتافيزيقي منها (هيوم، 1975). ومن ينتمون إلى هذا التيار هم المفكرون التحليليون مثل الفريد. جولز. آير.

بالنظر إلى السيناريو أعلاه، يتساءل المرء بشكل طبيعي: ما فائدة الفلسفة؟ وما الدور الذي تلعبه في تنمية الإنسان؟ وهل لها مكان في التنمية الوطنية؟ وبالنظر إلى نطاق هذا العمل، تركز هذه الدراسة على السؤال الأخير. لذا، يقوم هذا البحث بتحليل مدى أهمية الفلسفة في التنمية الوطنية.

أهداف الدراسة

تهدف هذه الدراسة إلى:

1- تعريف التنمية وتحديد أنواعها المختلفة،

2- توضيح معنى التنمية الوطنية،

3- شرح فلسفة التنمية الوطنية،

4- وتحديد وشرح دور الفلسفة كقاعدة عقلانية، وخارطة طريق، وسقف، وعدسة أخلاقية، ومحفز للتنمية الوطنية.

الإطار النظري

الإطار النظري لهذه الدراسة هو الوجودية. وكمدرسة فلسفية، تؤكد الوجودية على أن "الفلسفة يجب أن تركز على الفرد الملموس ومشاكله بدلاً من النظر إلى الإنسان كمفهوم مجرد، سواء على المستوى الكوني أو الفردي" (نناميدو، 2023، ص.). وبالنسبة للوجوديين، تهدف الفلسفة إلى تحسين حياة البشر من خلال المساعدة في مواجهة تحدياتهم. كما ترفض الوجودية المذهب الجوهي – وهو الرأي القائل بأن الجوهر يسبق الوجود، والذي يفترض أن للبشر جوهرًا ثابتًا.من بين المفكرين الوجوديين البارزين كان جان بول سارتر، الذي اختلف عن مفكري العصور الوسطى باعتقاده أن الوجود يسبق الجوهر. ونتيجة لذلك، رفض فكرة الله والطبيعة والجوهر الثابت. وبالمثل، يُعتبر الإنسان مؤلف مصيره ويجب أن يتحمل مسؤولية أفعاله. وفي تقدير سارتر، عدم تحمل مثل هذه المسؤولية يُعد خداعًا للذات أو سوء نية.

ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أن نسخة سارتر من الوجودية مليئة بالعيوب. أولاً، فإن مبالغته في الحرية البشرية قد تمهد الطريق للفوضوية الأخلاقية مع ما يترتب عليها من فوضى. ثانيًا، فإن اقتراحه بالحرية المطلقة غير قابل للاستدامة، لأنه يدافع عن الحتمية أكثر من الحرية، نظرًا لأن الادعاء بأن الإنسان حر تمامًا يعني ضمنيًا أنه ليس حرًا، بل محكوم عليه بالحرية. وبذلك، يكون محددًا ليكون حرًا، أي أنه محكوم عليه. على سبيل المثال، عندما يفشل شخص ما في اتخاذ قرار، فهو يختار ضمنيًا، لأن الفشل في الاختيار يعني الاختيار: اختيار عدم الاختيار.

ومع ذلك، تُطبَّق الوجودية في هذه الدراسة لأنها تؤكد على كيفية تأثير الفلسفة على الحالة الإنسانية الملموسة. وفي هذه الحالة، تساعد هذه النظرية على فهم مدى صلة الفلسفة بالتنمية الوطنية.

مفهوم التنمية

كلمة "التنمية" مأخوذة من المصطلح الفرنسي développement، والذي يعني النمو أو التقدم. والصيغة الفعلية منه هي developer، والتي تأتي من المصطلح الفرنسي القديم desveloper، المكوَّن من des- (إلغاء) وveloper (تغطية). وبالتالي، يعني desveloper "كشف، فك، كشف المعنى، تفسير" (إلكايم 2001؛ نناميدو، 2020). ومن هذا المنظور الاشتقاقي، تعني التنمية تحويل الإمكانية إلى فعل، وإظهارها، وإخراجها من الخفاء إلى الإدراك.

ومع ذلك، نظرًا لتعدد فروع التنمية، توجد أيضًا وجهات نظر متنوعة لفهم هذا المفهوم. على سبيل المثال، تصورها روستو (1960) وريغز (1963 و1964) من منظور اقتصادي. كما رأى بعض العلماء أنها تشمل مجالات أوسع، مؤكدين أن حصر التنمية في المجال الاقتصادي أو في جانب واحد من حياة الإنسان أمر غير صحيح (سين، 1988؛ إيرويغبو، 1994؛ بهاردواج، أنصاري وراجبوت، 2012؛ غوبتا، بوو، وروس- تونن، 2015؛ موساهارا، 2016؛ وأبويادا، 2018). وبدلاً من ذلك، يرون أن الفلسفة يجب أن تشمل كل مجال من مجالات حياة الإنسان: الاجتماعي والاقتصادي، والثقافي، والسياسي، والديني، والأخلاقي.

لذلك، تُعد التنمية عملية حاسمة وتقدمية ومسؤولة تتمثل في استثمار الموارد البشرية والطبيعية المتاحة في مجتمع معين بشكل يحقق رفاهه الشامل (نناميدو، 2020). أولاً، تتطلب التنمية جمع جميع الموارد البشرية المتاحة وإحالتها إلى المجال الذي يفيد البشر ويساعدهم على تحقيق الغرض المنشود. ولا تتحقق التنمية الكاملة حتى يدرك البشر أهداف القيم التي تم تنزيلها. فإعداد ميزانية ممتازة أو وجود احتياطي أجنبي ضخم لا يكفي؛ إذ إذا لم تحسن هذه الموارد مستوى معيشة الناس، فهي كقصة يرويها أحمق ولا تعني شيئًا. لذلك، يجب أن يكون للاقتصاد النامي تأثير إيجابي على حياة الناس. ثانيًا، يجب ألا يكون هذا الفائدة أحادية الجانب، بل ينبغي أن تفيد كل جانب من جوانب حياة الإنسان، مع الأخذ في الاعتبار أن الإنسان يتكون من جسد وروح مترابطين بطبيعتهما.

يتطلب هذا التوحد الوجودي أو الجوهري عملًا صحيحًا للمكونين لتحقيق صحة جيدة. عندما يعيش المجتمع في رخاء خالٍ من المكونات الأخلاقية الضرورية، تكون النتيجة دائمًا انعدام الأمن على الحياة والممتلكات. فالشخص في مثل هذا السيناريو يشبه من يعيش في غرفة مكيفة الهواء وصحية لكنه يعرق بغزارة. وبناءً عليه، ينبغي دمج النسبة الصحيحة من جميع جوانب التنمية، بحيث يساهم كل جانب بحصته المتوقعة لتحقيق التنمية المتكاملة.يستلزم ذلك وجود توازن بين التنمية الاقتصادية والجوانب الأخرى للتنمية. فالفضيلة، وفقًا لأرسطو، تكمن في الوسط. وبالتالي، ينبغي أن تقع التنمية الحقيقية بين المطالب الاجتماعية والاقتصادية والمجتمعية الأخرى، لتكون التنمية الأصيلة متوازنة وشاملة.

التنمية الوطنية وفلسفتها

من خلال ما سبق، تنظر هذه الدراسة إلى التنمية الوطنية على أنها الدمج السليم لجميع الموارد البشرية والطبيعية المتاحة لدولة ما من أجل تحقيق رؤيتها ومهمتها وأهدافها التنموية. ويكمن التركيز هنا على دمج جميع الموارد الممكنة، مع التأكيد على ضرورة تنسيق جميع الموارد المتاحة في البلاد لتحقيق الأهداف المرجوة. وبالمفهوم الضمني، يدين ذلك الاحتكار أو الاستخدام الأناني للموارد. كما أن التعريف يؤكد على الموارد الممكنة للإشارة إلى أن مصادر موارد الدولة تمتد إلى ما هو متاح خارج حدودها الإقليمية، وتشمل ما يمكن تحقيقه خارج بيئتها وفي فترة زمنية معينة.

من ناحية أخرى، فإن فلسفة التنمية الوطنية تمثل الإطار العقلاني الحاسم والتأملي والنهائي الذي ينظم التنمية الوطنية. فهي مجموعة من المبادئ التي تحكم المشاريع التنموية المتنوعة للدولة. توضح فلسفة التنمية الوطنية الأساس المنطقي للتنمية الوطنية وتجيب عن أسئلة مثل: لماذا التنمية الوطنية؟ وبدون معالجة هذه الأسئلة الجوهرية، قد يكون الانخراط في أي مشروع تنموي على المستوى الوطني غير ممكن. في أسوأ الحالات، عند المشاركة في مشروع دون معالجة التحدي الأساسي، قد ينتهي الأمر بتوجيه أجندة تنمية وطنية بلا دفة. والنتيجة واضحة: فقدان التركيز وانقلاب سفينة التنمية الوطنية في النهاية.

الدور الخماسي للفلسفة في التنمية الوطنية

"لفهم عصر أو أمة، يجب أن نفهم فلسفتها" (راسل، 1961، ص.11). وبالمفهوم الضمني، لفهم مفهوم التنمية الوطنية، يجب أن نفهم فلسفتها التي تجسد رؤيتها ومهمتها وأهدافها. فالفلسفة ضرورية في صياغتها وتنفيذها وإتمامها. وقد حددت هذه الدراسة خمسة أدوار للفلسفة في التنمية الوطنية: الأساس العقلاني، خريطة الطريق، السقف، العدسة الأخلاقية، والمحرك أو المنشط.

أول: الفلسفة كأساس عقلاني للتنمية الوطنية

لكل مجال من مجالات التنمية الوطنية فلسفته الخاصة وراءه. ويُعد هذا الأساس العقلاني هو الركيزة التي يقوم عليها صرح التنمية. وكركيزة عقلانية للتنمية الوطنية، تؤدي الفلسفة ثلاث وظائف:

1- توفير رابط بين التنمية الوطنية والبنى الفرعية الأخرى،

2- تخفيف الاحتكاك بين وكلاء المشاريع التنموية وبيئاتهم المباشرة، و

3- ضمان تدفق مستمر للموارد من البيئات المباشرة.

الفلسفة تربط التنمية الوطنية بالبنى الفرعية الأخرى كونها تشكل أساسها. ولهذا تُعد واحدة من المتطلبات الأساسية لأي مشروع تنموي وطني، إذ تحدد رؤية المشروع ومهمته وأهدافه بوضوح لا لبس فيه. تربط هذه الأهداف المشروع التنموي بالبنى الفرعية الأخرى، والتي تُعد الأساس النظري للأحداث الاجتماعية الأخرى أو فلسفات تلك الأحداث. هذه البنى الفرعية تمثل المبرر لوجود تلك الأحداث. تربط فلسفة التنمية الوطنية المشاريع التنموية بهذه البنى الفرعية الأخرى، بما يضمن التناسق الصحيح. ومن ثم، فهي واحدة من المتطلبات اللازمة لموافقة الحكومة على أي اقتراح تنموي. وحتى في المجال التعليمي، تتطلب كل تخصص فلسفة محددة جيدًا قبل الحصول على تصريح من السلطة التعليمية المناسبة. وبدون ذلك، لا يحصل أي برنامج تعليمي على الاعتماد أو الموافقة.

تعمل الفلسفة على تخفيف تأثير قوة الاحتكاك بين المشاريع التنموية الوطنية وبيئاتها المباشرة. غالبًا ما تنشأ توترات بين إدارة المشاريع التنموية الوطنية وبيئاتها المباشرة. وإذا لم تُدار هذه التوترات بشكل مناسب، فقد يؤدي الضغط الناتج إلى ركود المشاريع التنموية وحتى تعريض حياة مديري المشاريع للخطر. لتجنب ذلك، يضمن كل شريك في التنمية الوطنية أن تمنع فلسفة مشروعه التنموي حدوث مثل هذا السيناريو. يبدأون بهذه الفلسفة ويستعينون بها في أوقات الأزمات بين الإدارة وبيئتها المباشرة. ونتيجة لذلك، تساعدهم الفلسفة على حل هذه المشكلات ومنع تكرارها في المستقبل.

بالإضافة إلى ذلك، تضمن الفلسفة تدفقًا مستمرًا للموارد من البيئات المباشرة. يتطلب نجاح أي مشروع تنموي وطني وجود علاقة متبادلة بين إدارة المشروع والبيئة المحيطة به. وهذه العلاقة ليست لمرة واحدة، بل تستمر طوال مدة المشروع. تسهم البيئة بالموارد البشرية والطبيعية في أي مشروع يقع ضمنها. ومع ذلك، تضمن فلسفة المشروع التكامل السليم لهذه الموارد لتحقيق إدارة مثلى للمشروع وتحقيق أهدافه.

ثانيا: الفلسفة كخريطة طريق للتنمية الوطنية

لا تنتهي وظيفة فلسفة التنمية الوطنية عند البنية التحتية للتنمية فقط، بل تمتد لتشمل تنفيذ المشاريع وتوجيه التنمية الوطنية لتجنب الانحراف، والانكسار، والانفجار، والانكماش، والركود، والنمو الجانبي أو النمو الزائد.

توجه الفلسفة التنمية الوطنية لتجنب الانحراف من خلال تزويدها بأساس قوي لانطلاقتها. وبالإضافة إلى ذلك، توجهها أثناء تقدمها، مما يمنحها خريطة طريق أساسية لتنظيم عملياتها على البنية الفوقية (البنية الظاهرة). ومن الأدوار المهمة الأخرى التي تلعبها فلسفة التنمية الوطنية حماية المشاريع من الانكسار الناتج عن القوى الأفقية، والتي تمثل العقبات التي تعمل حول جذع المشروع. فهي لا تؤثر على سطح المشروع، بل تعمل حوله. وتشمل هذه المشاريع التي تبدو أدنى من المشاريع التنموية الوطنية لكنها تؤثر عليها سلبًا — فتعمل أفقياً، مما قد يؤدي إلى انكسار المشروع.

بالإضافة إلى ذلك، توجه الفلسفة التنمية الوطنية لتجنب الانفجار. فقد تؤدي التأثيرات الخارجية إلى دفع مديري المشاريع التنموية الوطنية لتجاوز حدودهم. ويحدث هذا عندما يحاول المديرون تجاوز فلسفة مشاريعهم التنموية الوطنية. ونتيجة لذلك، يتم إدخال فلسفة مشروع تنموي معارضة في النظام. وعندما لا يستطيع المشروع مقاومة الضغط بعد ذلك، يؤدي ذلك إلى انفجار النظام بأكمله. ومع ذلك، تحمي فلسفة التنمية الوطنية المشاريع من ذلك من خلال ضمان أن يعيش كل مشروع وفق رؤيته، ومهمته، وأهدافه.

كما تحمي الفلسفة التنمية الوطنية من الانكماش. فالمشروع التنموي ينكمش عندما ينقصه الفهم الفلسفي. ويمكن أن يفشل المشروع في تحقيق أهدافه إذا استخدم فلسفة تأسيسه بشكل قليل أو لم يستخدمها على الإطلاق. وعندما يحدث ذلك، يفقد المشروع الأوتار والسوائل الأساسية التي تشحمه وتحافظ عليه. ويمكن أن يؤدي الانكماش المستمر للمشروع في النهاية إلى وفاة المشروع.

تحمي الفلسفة التنمية الوطنية من الركود. فقد تواجه التنمية الوطنية الركود أيضًا بسبب إخفاق مدير المشروع في الالتزام بفلسفة البرنامج. عندما يفقد المشروع التنموي الوطني رؤية أساسه الفلسفي، يفقد توجيهه. وبعد فقدان التركيز، قد ينحرف خطة التنمية عن مسارها. وعندما يحدث ذلك، تكون النتيجة ركود المشروع قيد النظر. ولا يعني مصطلح الركود بالضرورة البقاء في مكان واحد، بل يشير إلى الفشل في تحقيق أهداف المشروع التنموي. وحتى عندما ينمو هيكل ظاهر، لا يمكن اعتباره تقدمًا إذا كان يتعارض مع فلسفة التنمية.

تحمي الفلسفة أيضًا مشاريع التنمية الوطنية من النمو الزائد غير الضروري. فقد يؤدي الانحراف عن فلسفة المشروع التنموي إلى ظهور نمو زائد غير ضروري حول المشروع. وتهدف فلسفة التنمية الوطنية إلى توجيه شؤون التنمية، فهي تسير بالمشروع نحو هدفه النهائي، مع ضمان أن يقع كل جانب في مكانه الصحيح. كما تمنع العقبات في أي من موارد التنمية وتضمن تحركها السريع نحو نهاياتها المقصودة. من المهم الإشارة إلى أن الفشل في الالتزام بفلسفة التنمية الوطنية هو سبب معظم مشاكل التنمية في نيجيريا اليوم. فالطرق غير المكتملة أو الرديئة البناء، والمرافق الصحية والتعليمية السيئة، والخريجون غير المؤهلين بالكامل، كلها مؤشرات على النمو الزائد غير الضروري في التنمية الوطنية. ويمكن تتبع كل ذلك إلى الفشل في الاستفادة من فلسفة التنمية الوطنية في المجالات المعنية.

ثالثا: الفلسفة كالسقف الأعلى للتنمية الوطنية

كما ذُكر سابقًا، تخدم الفلسفة التنمية الوطنية عند المستوى التحتاني (البنية التحتية) والعليا (البنية الفوقية). كما توفر فلسفة التنمية الوطنية سقفًا أو غطاءً أعلى يحمي المشاريع التنموية من السياسات والممارسات الرائجة التي قد تعرقل تحقيق أهدافها. وتشكل هذه الظواهر مثل الشمس الحارقة، والعواصف الرعدية، والثلوج على المشاريع، أي أنها تعمل كقوة جاذبية تؤثر على برامج التنمية الوطنية. فهي تؤثر مباشرة على سقف المشاريع التنموية لتحقيق أهداف مثل التقزيم، وتشويه الشكل، والانحلال، والسحق، والتآكل، أو غمر المشاريع.

تأتي فلسفة المشروع دائمًا لمساعدة المشروع التنموي في مثل هذه الأوقات. فهي تساعد على اعتراض الدفع للأسفل الناتج عن قوة الجاذبية على البنية الفوقية وتضمن تفريغها بطريقة صحيحة عند القاعدة. وفي هذا السياق، تعمل فلسفة التنمية الوطنية كموصلات للأزمات على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والدينية والثقافية على التوالي.

فلسفة التنمية الوطنية توفر حماية ضد الظواهر السابقة من خلال منحها سقفًا محكمًا لا يمكن اختراقه. طالما أن هذا السقف الفلسفي سليم، فلا خوف على نجاح أي مشروع تنموي وطني. وبمعنى آخر، فإنها توفر للمشروع التنموي كل الغطاء اللازم لضمان تحقيقه الكامل.

رابعا: فلسفة التنمية الوطنية توفر عدسة أخلاقية

يجب أن يتمتع كل برنامج تنموي وطني بأساس أخلاقي راسخ. ينبغي أن يكون هدفه تحقيق السعادة القصوى للبشر. وهذا يعني أن كل منتج من منتجات التنمية الوطنية يجب أن يضع الإنسان في الاعتبار، مهما كانت درجة تطوره أو تعقيده. لا يُعد أي مشروع تنموي ذا قيمة إذا فشل في هذا الجانب. قبل الشروع في أي مشروع، يكون الاعتبار الأول هو مدى صلته بالإنسان. ومن المثير للاهتمام أن الأخلاق، كأحد فروع الفلسفة، تتناول هذه المسألة.

كجانب من الفلسفة العملية، تتعلق الأخلاق بالأفعال البشرية وليس بأفعال الإنسان الميكانيكية أو التلقائية. فهي تختص بالأفعال التي يمكن تحميل البشر مسؤوليتها، أي الأفعال التي يقوم بها الإنسان طوعًا وبوعي كامل. يختلف الفعل البشري عن فعل الإنسان الميكانيكي، الذي لا ينطوي على إرادة مسبقة، فهو غير طوعي وانعكاسي، ولا ينبغي تحميل أحد المسؤولية عنه.

وبالتالي، من خلال فرعها الأخلاقي، تحدد الفلسفة منذ البداية الموقف الأساسي المطلوب في أي منظمة وأي برنامج تنموي وطني. هذا الموقف ينظم شبكة العلاقات داخل المنظمة وبيئتها المباشرة. ويعني ذلك أن الأخلاق تمثل روح كل عملية تنموية وطنية. بدون هذا العنصر الأساسي، تفقد التنمية الوطنية اتجاهها من نقطة البداية (terminus a quo) إلى نقطة الوصول (terminus ad quem).

تواجه المجتمعات المعاصرة العديد من التحديات الأمنية مثل الرعاة المتجولين، العصابات، خطف الأطفال والكبار، الجرائم الإلكترونية، تهديدات المسلحين غير المعروفين، وتعاطي المخدرات، وغيرها. كل هذه المشكلات تنشأ من مجتمع يركز على التنمية دون مراعاة الخير المتكامل للإنسان. وتتميز مثل هذه المجتمعات بتحويل الإنسان إلى مجرد أداة أو شيء، وليس غاية في ذاته، كما أشار كانط (1785).

خامسا: الفلسفة كمحفز للتنمية الوطنية

المحفز هو مادة تسرّع معدل التفاعل الكيميائي أو الفيزيائي دون أن تتغير بعد انتهاء التفاعل. تلعب فلسفة التنمية الوطنية دورًا مشابهًا في التنمية الوطنية. فهي تسرّع وتيرة التنمية الوطنية لكنها تظل غير متأثرة بنتائج هذه التنمية. ويتجلى ذلك في مختلف النظريات الفلسفية التي أحدثت تغييرات متعددة في العالم.

على سبيل المثال، أشار أوموريغبي (2011) إلى عدد من هذه النظريات: الثورة الأخلاقية لسقراط، تأكيد أفلاطون والرواقيين على الزهد، أفكار جون لوك، جورج فيلهلم فريدريش هيغل، كارل ماركس، شارل- لويس دو سكندات، بارون دي لا بريد مونتسكيو، وجان جاك روسو. على سبيل المثال، أحدثت فلسفة سقراط ثورة أخلاقية بين شباب عصره، حيث اتهموه بإفساد الشباب، وأجبرت السلطات الدولة على إجباره على شرب نبات الهيملوك الذي أدى إلى وفاته.

كما أن تأكيد أفلاطون والرواقيين على الزهد دفع كثيرين إلى التخلي عن السعي وراء المكاسب المادية خلال العصر الهلنستي. ومن الواضح أيضًا أن فلسفة جون لوك، وجورج فيلهلم فريدريش هيغل، وكارل ماركس ساهمت في تشكيل المجتمع الغربي. وينطبق الأمر نفسه على فكر مونتسكيو وجان جاك روسو، حيث كان لعقد روسو الاجتماعي تأثير كبير على الثورة الفرنسية.

في كل الحالات السابقة، كانت الفلسفة مجرد محفز للتنمية الوطنية. فهي لم تفعل سوى إثارة اللاعبين في مجال التنمية الوطنية لرؤية ما وراء وضعهم الحالي نحو المستقبل الذي تقترحه المدرسة الفلسفية المعنية. وفي الوقت نفسه، تُحفّز أفكارهم اليوم الآخرين على العمل وقد تؤثر فيهم بشكل أفضل، مما يدل على أن الفلسفة يمكن أن تحفّز التنمية الوطنية.

وبالتالي، يلاحظ بوتشينسكي (1969): "يجعل الناس الفيلسوف مادة للسخرية كشخص غارق بلا أذى في أفكاره… رغم أنه في الواقع قوة مهيبة، وأفكاره لها أثر المتفجرات… على الرغم من أهميتها الظاهرية، فإن الفلسفة قوة فعالة في التاريخ" (ص. 8). وهذا يعني أن الأفكار الفلسفية تحمل نتائج عملية في حياة الناس وقد تكون إيجابية أو سلبية.

يمثل تأثير محاضرة هيجيسيا في الإسكندرية بمصر مثالًا نموذجيًا على التأثير الضار المحتمل للأفكار الفلسفية. فقد كانت محاضرته بحيث انتحر العديد من الحاضرين لها، واضطرت السلطات الحكومية في ذلك الوقت لإيقافها فجأة (أرمسترونغ، 1965؛ كوبليستون، 1962؛ أوموريغبي، 2011).

وهكذا، فإن الأدوات الأيديولوجية الفلسفية هي أدوات ديناميكية قوية جدًا، غالبًا ما تتجاوز تأثيراتها توقعات مخترعيها. فهي تبدو خفية لكنها عظيمة في عملياتها. وككل أيديولوجيا، فهي خالدة. حتى عندما تبدو قديمة أو ميتة، يمكن للمرء أن يفسر بشكل نقدي تأثيراتها التي لا جدال فيها في الفكر المعاصر.

بالطبع، يمكن ملاحظة أن بعض الأيديولوجيات المعاصرة هي أفكار قديمة أعيد ابتكارها أو تفعيلها من جديد، وهي بمثابة نهضة وإعادة ترميز للفكر الكلاسيكي، وربما تأكيد على قول الجامعة (الكتاب المقدس): "ليس هناك شيء جديد تحت الشمس" (جامعة 1:9). ومع ذلك، من الخطأ تفسير هذا القول على أنه يعني أن الإنسانية خالية من الإبداع والابتكار. بل يجب اعتباره من منظور عدم قدرة البشر على الخلق من العدم. فكل ما هو موجود هو ناتج عن شيء موجود مسبقًا. ومع ذلك، من الموجود مسبقًا، يمكن للمرء أن يخلق شيئًا جديدًا.

التوصية

نظرًا للدور الحاسم الذي تلعبه الفلسفة في التنمية الوطنية، يوصي هذا البحث بأن تقوم الحكومة بما يلي:

1- إدخال تعليم الفلسفة في المدارس الابتدائية والثانوية، مما سيساعد على غرس التفكير النقدي مبكرًا في تنمية تعليم الأطفال. الأطفال الذين يُدرّسون الفلسفة في وقت مبكر سيصبحون على الأرجح مفكرين كبارًا، نظرًا لأن العقل البشري، كما أشار جون لوك، هو لوح فارغ (Tabula Rasa) عند الولادة. وستتوافق هذه الممارسة مع مبدأ "تربيتهم منذ الصغر".

2- تشكيل مجلس وطني لتطوير الفلسفة، يضم بشكل رئيسي كبار الفلاسفة، للإشراف على تطوير الفلسفة على المستوى الوطني والمؤسسي، وللعمل كمركز فكري على مختلف المستويات الحكومية: المحلية، والولائية، والفدرالية. كما سيكون هذا المجلس حيويًا في صياغة السياسات الوطنية، وإعادة صياغتها، وتطويرها، وتنفيذها، وتقييمها.

3- جعل الفلسفة مادة دراسية لمدة فصلين دراسيين في مؤسسات التعليم العالي. من التجربة، تدريس الفلسفة لفصل دراسي واحد لا يسمح للطلاب بدراسة المادة بعمق. لذلك، من الضروري تمديدها إلى سنة أكاديمية واحدة على الأقل لضمان فهم أفضل للمادة، نظرًا لأن الفلسفة ليست مجرد تخصص أكاديمي بل رفيق حياة لا مفر منه.

4- إدراج كتابات كلاسيكية مثل محاورات أفلاطون كأحد الكتب الإلزامية في المرحلة الثانوية. من الضروري تعريف الأطفال بأساسيات التفكير النقدي في وقت مبكر جدًا من حياتهم. هذا سيعرضهم لعملية تفكير المفكرين الأوائل ويساعد على إعادة تشكيل طريقة تفكيرهم.

5- التأكد من أن الفلاسفة هم من يقومون بتدريس دورات الأخلاق في جميع الأقسام الأكاديمية. هذا يساعد على تعريض الطالب لجوانب الفلسفة الدقيقة ويجهزه للقيادة المستقبلية، نظرًا لأنه لا يمكن لأحد أن يمنح ما لا يمتلكه (nemo dat quod non habet).

الخاتمة

تلعب الفلسفة دورًا خماسيًا في التنمية الوطنية: الأساس العقلاني، خارطة الطريق، السقف العلوي، العدسة الأخلاقية، والمنبه. باعتبارها أساسًا عقلانيًا للتنمية الوطنية، تقوم الفلسفة بربط المشاريع التنموية وتخفيف قوة الاحتكاك بينها وبين الهياكل الفرعية الأخرى. كما تضمن توفير الموارد بشكل مستمر من البيئة المباشرة للمشاريع. الفلسفة أيضًا تعمل كخارطة طريق للتنمية الوطنية، إذ تحميها من الانحراف، والانكسار، والانفجار، والانكماش، والركود، والنمو الجانبي المفرط أو الزائد. وباعتبارها سقفًا علويًا للتنمية الوطنية، تحمي الفلسفة المشاريع من حرارة الشمس المحرقة، والأمطار، والعواصف الرعدية، والثلوج. كما تعمل الفلسفة كضمير لكل مشروع تنموي، مقدمة بذلك عدسة أخلاقية لتنمية مسؤولة وموجهة للإنسان. وأخيرًا، تحفز الفلسفة التنمية الوطنية، مسرّعةً صعودها نحو نهايتها المقصودة (terminus ad quem).

***

.......................

المراجع

1- أبويادا، ر. 2018. «فشلت نظريات التنمية التقليدية في تلبية احتياجات غالبية الناس على مستوى القاعدة الشعبية مع الإشارة إلى GAD». المجلة الدولية للأعمال والعلوم الاجتماعية 9 (9): 115–119.

2- أرمسترونغ، أ. هـ. 1965. مقدمة في الفلسفة القديمة. لندن: ميثوين وشركاه المحدودة.

3- بهاردواج، ر.، س. أنصاري، و ي. س. راجبوت. 2012. «التنمية البشرية». المجلة الدولية للبحوث العلمية في الهندسة والتكنولوجيا 1 (5): 303–308.

4- بوتشينسكي، إ. م. 1969. الفلسفة الأوروبية المعاصرة. كاليفورنيا: جامعة كاليفورنيا للنشر.

5- كوبليستون، ف. 1962. تاريخ الفلسفة. لندن: دبل داي، كتب الصورة.

6- الكايم، إ.، ل. كاري، و أ. ستيفنسون، محررون. 2001. قاموس فرنسي ورقي. إدنبرة: تشامبرز هاراب للنشر المحدودة.

7- جوبتا، ج.، ن. بوو، و م. روس- توني. 2015. «نحو نظرية موسعة للتنمية الشاملة». المجلة الأوروبية لأبحاث التنمية 27: 541–559.

8- هيوم، د. 1975. تحقيق في الفهم البشري. أكسفورد: كلارندون.

9- إروغبوا، ب. 1994. إينوودمايزيشن والفلسفة الأفريقية. أويري: مطبعة الجامعة الدولية.

10- كانط، إ. 1785. «المبادئ الأساسية لميتافيزيقا الأخلاق». ترجمة توماس ك. أبوت. في ألين وود، محرر. 2011. الكتابات الأساسية لكانط. نيويورك: مكتبة مودرن.

11- ماكلوهان، م. 1962. مجرة غوتنبرغ: صناعة الإنسان الطابع، تورنتو، كندا: جامعة تورنتو للنشر.

12- ماكلوهان، م. 1964. فهم الإعلام: امتدادات الإنسان. كامبريدج: مطبعة MIT.

13- موساهارا، هـ. 2016. النمو والتنمية الشاملة: قضايا في شرق وجنوب إفريقيا. أديس أبابا: منظمة بحوث العلوم الاجتماعية في شرق وجنوب إفريقيا (OSSREA).

14- نناميدو، ب. 2020. تأثير عدم الاستقرار في إدارة الحكومات المحلية على التنمية الريفية: دراسة لمناطق حكومية أوكيغوي وأومواهيا- شمال. رسالة ماجستير، قسم الإدارة العامة، الجامعة الوطنية المفتوحة في نيجيريا.

15- نناميدو، ب. 2023. منصة المفكرين: خارطة طريق إلى الفلسفة. أوكيغوي: فازمن للنشر.

16- أوموريغبي، ج. 2011. معرفة الفلسفة. لاغوس: جويا برس المحدودة.

17- ريغز، ف. و. 1963. «البيروقراطيون والتنمية السياسية». في البيروقراطية والتنمية السياسية، تحرير جوزيف لابالومبارا، 120–167. برينستون، نيوجيرسي: جامعة برينستون للنشر.

18- ريغز، ف. و. 1964. الإدارة في الدول النامية: نظرية المجتمع المنشوري. بوسطن: هوغتون ميفلين.

19- روستو، و. و. 1960. مراحل النمو الاقتصادي: بيان غير شيوعي. كامبريدج، المملكة المتحدة: مطبعة جامعة كامبريدج.

20- راسل، ب. 1961. تاريخ الفلسفة الغربية. لندن: جورج ألين وأونوين المحدودة.

21- سين، أ. 1988. «دليل اقتصاديات التنمية». المجلد 1، 10–26. في دليل اقتصاديات التنمية، تحرير هـ. تشينيري و ت. ن. سرينيفاسان. أمستردام: الناشرون العلميون إلسيفير.

22- أولوكا، ج. 1992. محاضرات غير منشورة في تاريخ الفلسفة. معهد مقعد الحكمة، أويري.

يمكنك الاستشهاد بهذا المقال كالتالي:

نناميدو، بارثولوميو :

"تحليل الدور الخماسي للفلسفة في التنمية الوطنية "

عُرف راسل بنقده الشهير للفلاسفة الامريكيين أمثال وليم جيمس ونظرياته الثورية حول الحقيقة. طبقا لراسل، جيمس والبرجماتيون الامريكيون الآخرون عرّفوا الحقيقة وفقا لما هو مريح ومفيد مؤقتا، بينما الحقيقة هي حول المطابقة للواقع الموضوعي. لكن هجوم راسل يرتكز على كاريكاتير حسبما يرى الفيلسوف جون كاج (1). جيمس والبرجماتيون الامريكيون كان لديهم تفسيرا معقدا جدا تأسس على الاعتراف باننا لن نستطيع ابدا الوصول الى الحقيقة النهائية او نواجه الواقع كما هو. بدلا من ذلك نحن نتعامل مع الواقع من خلال التجربة والحوار المستمر مع العالم الذي يقاومنا.

ان النزاع بين وليم جيمس وبرتراند راسل حول طبيعة الحقيقة هو حدث غير مألوف في تاريخ الفلسفة، دراما تعتمد على الكاريكاتير: جيمس، البرجماتي الامريكي يختزل الحقيقة الى أي معتقد يكون مفيدا ومريحا، بينما راسل يكشف بنقده القوي والواضح سخافة هذا الموقف. يقول راسل ان الحقيقة truth يجب ان تكون شيئا اكثر مما يعمل. انها يجب ان تتطابق مع الحقائق الموضوعية facts، ولاتختلف طبقا لاهتمامات الانسان وحاجاته العرضية.

انها معارضة أنيقة، يرى كاج ان الإغواء يكمن في أناقتها. لكن كما في العديد من المعارضات الفلسفية التي تعيش بفعل التكرار، هي تفشل في القبول بأفضل موقف لتفكير الخصم السليم والواضح المدعوم بالمنطق. للتوضيح اكثر: جيمس لم يدّع ابدا ان الحقيقة مسألة راحة وملائمة او منفعة مؤقتة. جون ديوي ارتكب هذا الخطأ صدفة، لكن جيمس لم يفعل ذلك. برجماتية جيمس، في جوهرها، هي فلسفة تجربة – ليست تجربة في المعنى العابر والذاتي وانما تجربة ممتدة اجتماعيا ومختبرة عبر الأسطح غير المستوية للواقع. هي لا تختلف عن تصوّر سي اس بيرس C.S.Peirce للحقيقة كتقريب للحقائق في المدى الطويل اللامحدود، والمختبرة علميا بالملاحظة والتجربة. حالما يُفهم هذا، يبدأ نقد راسل بالتعثّر.

تفسير راسل للمسألة واضح. في (مشكلة الفلسفة)، هو يكتب: "نظرية المطابقة للحقيقة تكمن في الرؤية بان العقيدة هي صحيحة عندما تكون هناك حقيقة مطابقة وهي زائفة عندما لا توجد هناك حقيقة مطابقة".

جاذبية هذه الرؤية واضحة: انها تأمل بإبقاء الحقيقة موضوعية، لتعزلها عن هشاشة الانسان، عن تدفق الشعور والموضة. لكن هذا العزل يأتي بسعر باهض. انه يتجاهل او على الاقل يقلل من قيمة حقيقة ان البشر لايواجهون الواقع كما هو – هم يواجهونه من خلال التجربة، من خلال الحوار التدريجي مع العالم الذي يقاومهم.

الحقيقة لا تُصنع من الافضليات، انها تُكتشف في عمل الحياة

موقف جيمس الرافض ليس ان المطابقة خاطئة، وانما هي كسولة ابستيمولوجيا ما لم يتم تجسيدها بطرق يستطيع الكائن البشري التثبت منها او، تكذيبها. في البرجماتية، هو يكتب: "الحقيقة .. هي فقط ما هو ملائم من حيث الطريقة التي نتصرف بها". هو يضيف قائلا ان "الملائم" هنا يجب ان لا يلتبس مع ما يمكن الاتفاق عليه او مفيد بشكل عابر. ليست المكافأة الفورية للعقيدة هي التي تجعلها صحيحة وانما قدرتها على العمل "في المدى الطويل وفي التجربة الكلية للحياة".

هذا ما لم يدركه راسل في نقده الساخر لجيمس وهو النقد الذي ساعد في إبعاد البرجماتية عن الانظار كموقف ابستيمولوجي جاد قرابة مائة عام. معارضته للبرجماتية انطوت على قصر نظر وكولومبس معروف جيدا. "طبقا للنظرية البرجماتية"، هو يكتب في (مشاكل الفلسفة)، "اننا يجب علينا التحقق من مدى فائدة الاعتقاد ان كولومبس عبر الاطلسي عام 1492 ام في عام 1491 او في 1493، والتاريخ الذي بدى اكثر فائدة سيكون اكثر صحة".

ان التأثير البلاغي قوي لكن هنا مغالطة تخلق وهم الفوز في ادّعاء الحقيقة من خلال تفنيد موقف لم يتم تبنّيه ابدا. جيمس لم يقترح في أي مكان ان المعتقدات حول الماضي يمكن صنعها عبر الملائمة. بل هو يصر على ان العقائد يجب ان تواجه محكمة التجربة، وان "ما تنفيه التجربة" هو فقط الارضية الصلبة . ان الحقيقة لا تُصنع من التفضيل، انها تُكتشف في عمل الحياة. هذا يفسر لماذا يقول جيمس وبانسجام "اننا نعيش في عوالم من الواقع يمكن ان تكون مفيدة لنا بما لانهاية لو عرفنا كيفية التعامل معها بافكارنا بشكل صحيح". معيار الحقيقة هو مقاومتنا للواقع، معروض ليس في تأمل منفصل – من كرسي بذراعين وجاكيت تدخين مريح – وانما في الاختبار الصبور للعقيدة من خلال التجربة.

معارضة راسل الثانية للتصور البرجماتي للحقيقة، تستلزم ان يكون لدى بابا نويل بناء مشابه. اذا كانت الحقيقة هي ما يعمل، لماذا لا ندّعي ان الايمان ببابا نويل هو صحيح طالما هو مقنع للمؤمن به؟ راسل يقول شيء قوي وبذكاء مميز: "لو اعتقدت انني امبراطور الصين، والعقيدة لها آثار عرفية لإراحتي وتمكيني من اداء عملي بشكل افضل، ذلك يكفي لجعل عقيدتي صحيحة؟".

بالطبع ليس كذلك. لكن هذه المعارضة مرة اخرى تتجاهل اصرار جيمس على ان ما "يعمل" يجب ان يقوم بهذا بطريقة مستمرة واجتماعية ومرتبطة بالواقع. "التجربة" طبقا لجيمس، (يكتب في معنى الحقيقة)، هي "المحكّم النهائي للحقيقة، وان كل نظرية يجب ان تخضع لإختبارها". العقيدة التي تحمي نفسها من التحقق المجتمعي في المدى الطويل، والتي لا تستطيع الصمود امام الضغط المتصاعد للدليل او التجربة التصحيحية للاخرين، ليست صحيحة براجماتيا – انها هشة، عابرة، ومحكوم عليها بالانهيار.

لذلك، فان ابستيمولوجية جيمس ليست ترخيصا بالتفكير الرغبوي وانما التزام بضوابط التحقيق. المعتقدات تُختبر ليس فقط ضد الممارسات المشتركة لحياة الانسان. هذا يفسر لماذا يستطيع جيمس الادّعاء ان "الحقيقة تُصنع من عمليات التثبت او المصادقة " – لم تُخترع حسب الرغبة وانما تصبح مرئية وصادقة من خلال ممارسات الاختبار التجريبية والاجتماعية، والصقل، وتصحيح العقيدة.

استنتاج راسل كمنطقي يحجب هذه النقطة العميقة. هو يعرض الحقيقة كعلاقة ثابتة بين الافتراض والواقع المستقل. لكن جيمس لايهتم كثيرا بتعريف الحقيقة وهي ثابتة بل يهتم ببيان الكيفية التي يقترب نحوها الكائن البشري المحدود والعرضة للخطأ. البرجماتية لا تختزل الحقيقة الى قناعة خاصة، انها تعترف بان الحقيقة تعيش في عالم الممارسة، عرضة الى مفاوضات مستمرة بين العقيدة والواقع.

يؤكد جيمس هنا وبشكل هام جدا على اجتماعية التجربة، اختبار العقيدة ليس شأنا فرديا، انه يتم تضمينه في ممارسات العلم،والتاريخ والتفكير اليومي. العقائد التي لا تستطيع النجاة من هذا الاختبار المجتمعي تُكشف عن حقيقتها: اخطاء، طوباويات، او راحة وملائمة مؤقتة.

في هذه الطريقة، تحافظ برجماتية جيمس على الموضوعية – ليس بإنكار خصوصية او سياق التحقيق وانما بالاصرار على ان الاختبار الطويل الامد للعقيدة في التجربة هو افضل تقريب للوصول الى الواقع.

الحقيقة، في النهاية، لا تُعطى لنا، انها ليست شيئا نمتلكه مرة واحدة الى الابد

قلق راسل يُعتبر مشروعا في جانب واحد: البرجماتي يجب ان يتجنب انهيار الحقيقة الى فائدة مؤقتة او اتفاق محلي. لكن جيمس واع تماما بهذا الخطر. هو يميز بوضوح بين "الحلول الذاتية المريحة و المؤقتة" للعقيدة و العملية الأصلب والأبطأ التي يتم بواسطتها التحقق منها في تجربة الحياة الواسعة. برجماتية جيمس تتطلب الصبر والانضباط والانفتاح للتصحيح.

ان الفلسفة في أفضل حالاتها تتحدث الى ظروف الحياة الانسانية. فلسفة جيمس في التجربة بُنيت لمخلوقات تعيش ضمن زمن، وتتعلم من خلال التجربة والخطأ، وتعتمد على الآخرين لصقل عقيدتها. تصوّر راسل للحقيقة (وبطريقة يبدو فيها متعجرفا) وكأنها تطفو فوق هذه الظروف الانسانية. انها تشبه رجل مربوط جيدا فوق الارض الى بالون.

الحقيقة، بالنهاية، ليست شيئا يُعطى لنا، ولا هي شيء نمتلكه الى الابد. انها شيء نسعى اليه، شيء نختبره، شيء نتفاوض عليه مع الحقائق المقاومة في العالم. "الحيوات الحقيقية"، حسب جيمس، الذي يكتب حول نظام الإئتمان. أفكارنا وعقائدنا "تنجح"، طالما لاشيء يتحدّاها، تماما مثل اوراق البنك النقدية تنجح طالما لا تُرفض". ولكن في اللحظة التي تُستدعى فيها التجربة في ذلك الإئتمان – عندما يرفض الواقع قبول قصصنا المريحة – حينذاك سيأتي الحساب لا محالة.

كلمة أخيرة حول النقد الفلسفي غير العادل. البرجماتيون لم يكونوا ضحايا عاجزين امام هجوم راسل. هم ربما لاذعين وغير فضلاء ايضا. صديق جيمس القديم سي اس بيرس، كتب الى الفيلسوفة السيدة فكتوريا ويلبي التي اجرت العديد من المراسلات مع راسل: "بالنسبة لكتاب راسل، انا عملت فحصا قليلا له لكنه يكفي ليتبيّن لي انه مهما كانت المزايا التي يمتلكها فهو ملخّص لما فعله الآخرون، انه متظاهر ومتعصب، نسب لمؤلفه فضلا لايمكن ان يُنسب له".

الفلاسفة يمكن ان يكونوا خبثاء جدا، لكن عندما تتعرض الحقيقة للهجوم (كما هي اليوم)، ربما يكون هذا هو الحل الافضل للاشخاص العقلانيين بيننا (والذين من بينهم جيمس و بيرس و وراسل) ان لا يراوغوا كثيرا حول التفاصيل، ويلاحظوا ان هناك امورا كارثية كثيرة عندما يتعلق الامر بوضع الحقيقة.

***

حاتم حميد محسن

....................

Russell Vs American philosophers and the attack on truth, iai.tv, 12 May 2025

(1) جون كاج John Kaag بروفيسور الفلسفة في جامعة Massachusetts Lowell ونائب رئيس جمعية وليم جيمس. 

بين غاستون باشلار وبول ريكور

مقاربة لغوية فلسفية

مقدمة: الخيال الشعري والذاكرة السردية هما مفهومان أساسيان يتخللان أعمال غاستون باشلار وبول ريكور، وهما شخصيتان بارزتان في الفلسفة الفرنسية في القرن العشرين. يقترح باشلار، في استكشافه للصور الشعرية والعناصر المادية، ظاهراتية للخيال تُركّز على الإبداع والقطيعة مع الواقع. أما ريكور، فقد طوّر تأويلات للذاكرة السردية، حيث يصبح السرد أداةً لبناء التجربة الإنسانية وإضفاء معنى على الزمن. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل أوجه التقارب والاختلاف بين هذين المفكرين، واستكشاف كيفية تفاعل الخيال الشعري لباشلار مع الذاكرة السردية لريكور من منظور فلسفي. سنبحث كيف يُتيح لنا هذان المفهومان التفكير في الذاتية، والعلاقة بالزمن، وبناء المعنى، مع التساؤل عن آثارهما على فهم أعمق للتجربة الإنسانية. كيف يعرف غاستون باشلار الخيال الشعري؟ وماهي دلالة الذاكرة السردية عند بول ريكور؟ وهل يمكن اجراء مقارنة فلسفية بينهما؟ وبأي معنى يتحدث باشلار عن الذاكرة ويوظف ريكور الخيال؟

أولاً الخيال الشعري عند غاستون باشلار

فينومينولوجيا الخيال

في أعمال مثل "الماء والأحلام" (1942)، و"الهواء والأحلام" (1943)، و"شعرية المكان" (1957)، طوّر غاستون باشلار نهجًا أصيلًا للخيال، ميّزه عن الإدراك أو الفكر العقلاني. يرى باشلار أن الخيال الشعري ليس مجرد زينة أو هروب، بل هو قدرة ديناميكية تُشرك الإنسان في علاقة عميقة مع العالم. ويرى أن الخيال الشعري متجذر في الصور المادية (الماء، النار، الهواء، الأرض) وفي النماذج الأولية التي تُشكّل اللاوعي الجمعي. يقترح باشلار "ظاهرية الصورة الشعرية"، استنادًا إلى فكرة أن الصورة ليست انعكاسًا سلبيًا للواقع، بل هي إبداع فاعل يتجاوز المعطى. وفي "شعرية المكان"، يكتب: "الصورة الشعرية لا تخضع للديناميكية. إنها ظاهرة أصيلة". تشير هذه الفكرة إلى أن الخيال الشعري قوة مستقلة، قادرة على إنتاج المعنى دون الخضوع للمنطق السببي أو التاريخي.

الخيال والقطيعة مع الزمن

يرى باشلار أن الخيال الشعري يُشغّل شكلاً من أشكال تعليق الزمن. فبتحرره من قيود الواقع الموضوعي، يُتيح للفرد الاستقرار في "لحظة شعرية"، لحظة حضور خالص حيث يُعيد الذات الاتصال بحميمية وجودها. تتناقض هذه الزمانية اللحظية مع المفهوم الخطي للزمن، وتُبرز قدرة الخيال على تجاوز الذاكرة التاريخية أو الواقعية للوصول إلى ذاكرة أعمق، ذاكرة الصور البدائية.

ثانيا- الذاكرة السردية عند بول ريكور

السرد كبنية للمعنى

في أعمال مثل "الزمن والسرد" (1983-1985) و"الذاكرة والتاريخ والنسيان" (2000)، يضع بول ريكور السرد في صميم تأملاته حول الذاكرة والهوية. يرى ريكور أن الذاكرة السردية هي العملية التي يُضفي بها الفرد والمجتمع معنىً على تجربتهما من خلال الحبكة ("المحاكاة"). من خلال هيكلة الزمن، يربط السرد الماضي والحاضر والمستقبل في ترابط ذي معنى. يكتب ريكور: "يصبح الزمن إنسانيًا بقدر ما يُعبّر عنه سرديًا". ذاكرة السرد ليست مجرد استرجاع للحقائق، بل هي إعادة بناء فعّالة تُشرك الخيال. يُميّز ريكور بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية، مُؤكدًا على أن السرد يلعب دورًا محوريًا في بناء الهوية الشخصية والاجتماعية. يُبرز هذا النهج التأويلي قدرة السرد على التوسط في التجربة الإنسانية، ونسج الروابط بين الأحداث المتباينة.

جدلية الخيال والذاكرة:

يرى ريكور أن الخيال يلعب دورًا رئيسيًا في ذاكرة السرد. ينطوي فعل السرد على "خيال مُنتج"، لا يُعيد إنتاج الماضي فحسب، بل يُعيد تشكيله أيضًا بإعطائه شكلًا جديدًا. هذا البعد الإبداعي للخيال السردي يشبه ما يسميه ريكور "توليف التباين": إذ يوحد السرد عناصر متفرقة (أحداث، نوايا، ظروف) لإنتاج معنى متماسك. وهكذا، فإن الذاكرة السردية ليست ساكنة، بل ديناميكية، وتعتمد على عمل خيالي يتجاوز الواقع المجرد.

ثالثا- التقارب والتباين

التقارب: الخيال كقوة إبداعية

يتشارك باشلار وريكور في رؤية للخيال كملكة إبداعية أساسية لفهم التجربة الإنسانية. فبالنسبة لباشلار، يسمح لنا الخيال الشعري بتجاوز الواقع للوصول إلى حقيقة وجودية، راسخة في الصور المادية والنماذج الأصلية. أما بالنسبة لريكور، فإن الخيال السردي يُهيكل الزمان والهوية، محولاً شظايا التجربة إلى قصة متماسكة. وفي كلتا الحالتين، يُعد الخيال وسيطاً بين الذات والعالم، ووسيلة لإضفاء شكل على ما لا شكل له. كما يُشدد كلا المفكرين على البعد غير النفعي لمفاهيمهما. فخيال باشلار الشعري ليس له غرض عملي؛ إنه تجربة حرية وتأمل. وبالمثل، فإن ذاكرة ريكور السردية، على الرغم من أنها تُستخدم لبناء الهوية، تتجاوز وظيفتها النفعية البسيطة بالانفتاح على بُعد أخلاقي ووجودي، حيث تُدرك الذات نفسها في تاريخها.

التباينات: اللحظة الشعرية مقابل الزمن السردي

على الرغم من هذه التقاربات، تتباين مقاربات باشلار وريكور في عدة نقاط. يُفضّل باشلار اللحظة الشعرية، وهي زمنية متقطعة تقطع مع خطية الزمن التاريخي. أما الخيال الشعري، فهو بالنسبة له هروب من الزمن، وانغماس في أبدية الصور. أما ريكور، فهو جزء من زمنية متصلة، حيث يُعبّر السرد عن الماضي والحاضر والمستقبل. تتجذر الذاكرة السردية في التاريخ واستمرارية الهوية، بينما يسعى الخيال الشعري عند باشلار إلى التحرر من هذا القيد.

يكمن فرق آخر في علاقتهما بالواقع. يرى باشلار أن الخيال الشعري قطيعة مع الواقع الموضوعي، ووسيلة للوصول إلى واقع أعمق، واقع الصور البدائية. أما ريكور، فيرى أن الخيال السردي ينطلق من الواقع، ويعيد تشكيله من خلال السرد. في حين يحتفل باشلار باستقلالية الصورة الشعرية، يصر ريكور على الترابط المتبادل بين الذاكرة والسرد والواقع التاريخي.

رابعًا: الاستتباعات الفلسفية

الذاتية والمعنى

تكشف دراسة مفهومي الخيال الشعري والذاكرة السردية عن توترٍ ثريّ بين الحرية والبنية في بناء الذاتية. فبالنسبة لباشلار، يُعدّ الخيال الشعري تجربةً لحريةٍ جذرية، حيث يحرر الذات نفسها من الحتميات ليعيد الاتصال بجوهرها. أما بالنسبة لريكور، فتفرض الذاكرة السردية بنيةً، أي حبكةً تسمح للذات بإدراك ذاتها كوحدةٍ في الزمن.

هذان المنهجان، على الرغم من اختلافهما، يلتقيان في رغبتهما في التفكير في الذاتية كعمليةٍ إبداعية، يلعب فيها الخيال دورًا محوريًا.

الأخلاق والمسؤولية

يُقدّم ريكور بُعدًا أخلاقيًا غائبًا لدى باشلار. ففي كتابه "الذاكرة والتاريخ والنسيان"، يستكشف قضايا الذاكرة الجماعية، ولا سيما مسؤولية التذكر وخطر التلاعب بالنسيان. فالخيال السردي، من خلال هيكلة الذاكرة، يُشرك الذات في علاقةٍ أخلاقيةٍ مع الآخرين ومع التاريخ. من ناحية أخرى، يتبنى باشلار منظورًا أكثر فردية وتأملية، حيث يُعدّ الخيال الشعري تجربة حميمة، منفصلة عن القضايا الجماعية.

نحو تأليفية؟

يمكن أن تتمثل الإضافة بين المفكرين في تصور الخيال الشعري كلحظة قطيعة ضرورية للذاكرة السردية. ويمكن اعتبار اللحظة الشعرية عند باشلار شرطًا أساسيًا لتخطيط ريكور: فقبل بناء تجربته في سرد، يحتاج الذات إلى إعادة الاتصال بحميمية وجودها من خلال الخيال. في المقابل، يمكن للذاكرة السردية عند ريكور أن تُقدّم إطارًا لترسيخ صور باشلار الشعرية في زمان وتاريخ مشتركين.

خاتمة

يُقدّم الخيال الشعري لغاستون باشلار والذاكرة السردية لبول ريكور منهجين متكاملين للتفكير في كيفية إعطاء الذات الإنسانية معنىً لتجربتها. يحتفي باشلار، من خلال فينومينولوجيته للصورة، بالحرية الإبداعية للخيال، الذي يتجاوز الواقع ويُعلّق الزمن. أما ريكور، من خلال تأويلاته السردية، فيُظهر كيف يُشكّل الخيال السردي الزمن والهوية، رابطًا الذات بتاريخها وتاريخ الآخرين. يُثري هذان المنظوران معًا فهمنا للذاتية من خلال تسليط الضوء على الدور المركزي للخيال في بناء المعنى. يدعونا التأمل المُتبادل في هذه المفاهيم إلى إعادة التفكير في العلاقة بين الشعر والتاريخ، وبين الآنية والاستمرارية، وبين الحرية والمسؤولية. فهل يمكن تجديل العلاقة بين الذاكرة والخيال في سياق الشعرية والسردية؟

***

د. زهير الخويلدي - كتاب فلسفي

...........................

المصادر والمراجع:

Bachelard, Gaston. La Poétique de l’espace. Paris : PUF, 1957.

Bachelard, Gaston. L’Eau et les Rêves : Essai sur l’imagination de la matière. Paris : José Corti,

Bachelard, Gaston. L’Eau et les Rêves : Essai sur l’imagination de la matière. Paris : José Corti, 1942.

Bachelard, Gaston. L’Air et les Songes : Essai sur l’imagination du mouvement. Paris : José Corti, 1943.

Ricœur, Paul. Temps et Récit. 3 tomes. Paris : Seuil, 1983-1985.

Ricœur, Paul. La Mémoire, l’Histoire, l’Oubli. Paris : Seuil, 2000.

Dosse, François. Paul Ricœur : Les sens d’une vie. Paris : La Découverte, 1997.

Kaplan, David M. Ricœur’s Critical Theory. Albany : SUNY Press, 2003.

دعا توماس هوبز الى ضرورة ايجاد سلطة مطلقة للحفاظ على النظام العام، بينما وقف لوك مع الحكومة المحدودة لحماية حقوق الافراد والحريات. كان لهوبز ولوك تصورات مختلفة عن الطبيعة البشرية والمجتمع. هما سألا: كيف ستكون الحياة بدون حكومة؟ بالنسبة لهوبز، الجواب هو الفوضى والخوف والصراع. اما لوك، فان الحياة بدون حكومة هو سؤال حول الحرية والمساواة في الحقوق الطبيعية. أفكارهما حول "حالة الطبيعة" تحدد الطريقة التي ينظران بها للسلطة والحرية، والكيفية التي تُصنع بها الحكومات. ان فهم الاختلاف بينهما هو وسيلة لرؤية الجذور التي وصلنا منها الى أنظمتنا السياسية الحالية. لنحلل الان هذا بالتفصيل.

مفهوم هوبز لحالة الطبيعة: الحياة سيئة ووحشية وقصيرة

اعتقد توماس هوبز ان الناس سيئين بطبعهم عندما لاتوجد هناك حكومة. هو تصوّر كيف ستكون الحياة بدون قوانين وقواعد واجبة الإتّباع من كل شخص – هذه تسمى "حالة الطبيعة" state of nature. في هذه الحالة، يرى هوبز ان الافراد سيعيشون في خوف دائم بسبب عدم وجود من يحميهم من بعضهم. الموارد مثل الطعام والماء وأماكن العيش ستكون محدودة، ولهذا ستكون الحياة صراعا مستمرا للوجود. النتيجة هي ان الناس ينتهون بحياة "انفرادية، فقيرة، سيئة، وحشية، قصيرة".

لنتخيل لو كنا جميعا نحن الشرطة لأنفسنا، نراقب باستمرار ظهورنا. اذا لم يوجد هناك نظام للحفاظ على الشرعية (حفاظ على السلم)، ولا يوجد رجل شرطة، سوف نصبح قلقين من كل شخص آخر. عندما يزرع شخص ما طعاما، سيكون حتما هناك آخرون يسرقونه – على سبيل المثال، اثناء اوقات الانهيار الاجتماعي، بعد الزلازل، حيث يصارع الناس على أشياء بسيطة مثل قناني ماء. هوبز اعتقد هذه هي الطريقة التي يتصرف بها الناس عندما لا تكون هناك قوانين. اساسا، العنف سيصبح طريقة حياة عادية لكل شخص .

وبسبب هذه الرؤية الكئيبة، جادل هوبز ان الطريقة الوحيدة للهروب من هذا الموقف الموحش والسيء هو ان يتنازل كل شخص عن حقوقه لحاكم قوي منفرد "ليفيثان" يضمن ان يتصرف جميع الناس بشكل جيد. وطبقا لهوبز، يحتاج البشر الى قائد قوي يستطيع فرض القواعد ويوفر الآمان ويمنع المجتمع من العودة الى بداياته الوحشية.

مفهوم لوك لحالة الطبيعة: حقوق طبيعية وحرية

جون لوك تمسك بمنظور أكثر ايجابية من توماس هوبز حول حالة الطبيعة. اذا كان هوبز اعتقد ان الحياة بدون حكومة ستكون "منعزلة، فقيرة، قاسية، وحشية وقصيرة"، فان لوك رأى انها يمكن ان تكون سلمية – طالما تُحترم فيها حقوق الافراد.

طبقا للوك، غياب الحكومة لا يعني الفوضى . بل هي تعني عدم وجود حكام او حكومات. في هذا الموقف، كل شخص هو مستقل ومتساوي. لوك على يقين ان الناس يستطيعون العيش مع بعضهم بسلام بدون أي سلطات طالما يتفقون مع بعضهم على التعامل المتبادل بإنصاف وحماية حرية كل واحد منهم. لكي نفهم هذه الحجة بشكل أفضل، لنتخيل عدد قليل من الناس يعملون بشكل تعاوني: كل واحد يساهم بالمهارة او الموارد للمصلحة العامة. هذا التعاون يرتكز على احترام حقوق الآخر. قال لوك، ان الافراد يمكنهم استعمال العقل لحكم أنفسهم. هم لا يحتاجون لحاكم مطلق للحفاظ على السلم. وبالرغم من السلمية العامة في هذا الظرف الطبيعي، يبقى الصراع ممكنا طبقا للوك. لذا، يتفق الافراد على انشاء حكومة. لكن قوتها يجب ان تكون محددة بشكل صارم، وينبغي لهذه الحكومة وبشكل رئيسي حماية حقوقهم وبشكل أفضل مما يمكنهم القيام به لوحدهم. جادل لوك ان مثل هذه الادارة يجب ان لا تنسى لماذا اتفق المواطنون على حكومة واحدة في المقام الاول – وهي الفكرة التي تتناغم مع العديد من الحركات السياسية اللاحقة وحتى الوقت الحاضر.

دور الخوف والثقة في طبيعة الانسان

توماس هوبز وجون لوك يختلفان في العديد من المظاهر المتعلقة بدور الخوف والثقة في طبيعة الانسان. طبقا لهوبز، الخوف يحفز الافراد. بدون وجود هيئة رسمية تفرض القوانين، سيكون الافراد دائما على الحافة، يخافون اما من الموت او التعرض للخيانة او يُصابون بالأذى من الآخرين. دعونا نتصور الموضوع على الشكل التالي: لو نظرنا الى أي مجتمع فيه كل شخص على أهبة الاستعداد للدفاع. في ظل هذه الظروف، جادل هوبز ان الخوف سيقود الناس للبحث عن الأمن من خلال وضع أنفسهم طوعا تحت سلطة حاكم قوي. هم يمكنهم فيما بعد تأسيس قواعد وتعليمات مع ضمان فرضها بحيث تحمي كل شخص من أي شخص آخر. رؤية لوك ليست تشاؤمية. هو رأى ان الناس قادرين على تأسيس علاقات جديرة بالاحترام مع بعضهم بالارتكاز على الثقة بدلا من الخوف. في حالة لوك الطبيعية، الافراد يمكنهم الاعتراف بحقوق بعضهم والتعاون فيما بينهم لمنافع متبادلة.

لنتخيّل مجموعة من المزارعين منخرطين بتهيئة التمويل اللازم لنظام ري. كل واحد سيكون مقتنعا بكونه ممثل بشكل متساوي وايضا يثق بالآخرين للقيام بهذا. لن تكون هناك حاجة الى استدعاء قوة أعلى كمنفّذ للتعاون. نظر لوك للافراد كونهم لديهم القدرة للعمل مع بعضهم من خلال العقل ومن الطبيعي جدا للناس التعاون بدلا من حالة الصراع المستمر. بالنسبة الى لوك، الثقة وليس الخوف شكّلت الأساس للجماعة وبالتالي، الحافز للحكومات.

العقد الاجتماعي: ليفياثان هوبز مقابل الحكومة المحدودة للوك

آمن توماس هوبز وجون لوك في مفهوم العقد الاجتماعي، رغم الاختلاف في رؤيتهما لهذه الفكرة. هوبز يرى ان الطريق للخروج من فوضى حالة الطبيعة هي ان يتخلى الناس عن بعض حقوقهم لحاكم ذو سلطات مطلقة –"ليفياثان" يثق بطاعة كل شخص للقواعد. بالنسبة لهوبز من الضروري تماما امتلاك شخص ما او مجموعة لسلطة مطلقة للمحافظة على النظام في المجتمع ومنعه من الانزلاق مرة اخرى لحرب الجميع ضد الجميع. الناس يتفقون على طاعة حاكم ومنحه سلطة مطلقة مقابل حماية الافراد ليس فقط من عنفهم وانما ايضا لكي يشعروا بالأمان في السرير ليلا.

نظر لوك الى العقد الاجتماعي بشكل مختلف. هو اعتقد ان الافراد لم يتخلّوا عن كل حقوقهم عندما يلتحقون بالمجتمع. بدلا من ذلك، هم وضعوا اتفاقية مع بعضهم البعض لإمتلاك حكومة تحمي حقوق كل واحد منهم (الحياة، الحرية، الملكية).

انت تستطيع تصوّر جالية اتفقت على انتخاب ممثلين لها. مهمتهم ستكون الإعتناء بمصالح واهتمامات كل الجالية. لوك قال ايضا يجب ان تكون هناك اشياء لا تعملها الحكومة، والناس يجب ان يكون لهم الحق بإنهاء الاتفاقية ان لم تلبّي هذه الشروط. خلافا لهوبز الذي لا يؤمن بقدرة البشر على العيش مجتمعين بدون سيطرة شخص ما قوي – لوك اعتقد ان الناس يمكنهم الإعتناء بأنفسهم. هذه الفكرة حفزت الديمقراطيات في كل مكان (حيث الحكومة مسؤولة عن إجراء انتخابات منتظمة).

حقوق الملكية ومفهوم الملكية

توماس هوبز وجون لوك كان لهما رأيان متضادان بشأن حقوق الملكية والملكية في حالة الطبيعة. طبقا لهوبز، في حالة عدم وجود حكومة، سيكون من المستحيل لأي شخص ان يكون آمنا بسبب عدم وجود آمان للملكية. اعتقد هوبز ان الملكية الحقيقية توجد فقط عندما تكون هناك دولة قوية تفرض القوانين التي تحمي الملكية. في حالة عدم وجود ليفاثيان يضع هذه القواعد، فان كل شيء متاح ويمكن السيطرة عليه في كل الاوقات. اما جون لوك، فقد جادل ان حقوق الملكية هي فطرية. طبقا للوك، اذا مزج الافراد عملهم مع الموارد، يمكنهم المطالبة بتلك الموارد باعتبارها لهم. فمثلا، الشخص الذي زرع الارض وأنتج طعاما، او بنى بيتا فهو له حق متأصل بتلك الملكية الخاصة. لو ان نجارا عمل منضدة من الخشب، يرى لوك ان العمل ذاته هو ضمان ملكية المنضدة، ويضيف ان الحكومة يجب ان تحمي فقط حقوق ملكية معقولة ومرتبطة بالعمل. خلافا لهوبز، هو لم يعتقد ان منع العنف او منع الإستيلاء بالقوة يشكل الهدف الوحيد او الرئيسي للحكومة الشرعية.

اذن ما هي الاختلافات الاساسية بين هوبز ولوك؟

الرجلان لديهما فكرتان متعارضتان بشأن المجتمع والطبيعة البشرية. هوبز اعتقد انه في حالة الطبيعة، ستكون هناك حرب مستمرة – وهو الموقف الذي يكون فيه كل شخص ضد الآخرين – وجود مشبع بالخوف بحيث لا أحد يستطيع فرض السيطرة الاّ الحاكم الأقوى. اما جون لوك فهو يؤمن بالضد من ذلك: هو اعتقد ان الناس كانوا متساوين واحرار في هذا الظرف الماقبل اجتماعي ولازالوا مستعدين للإعتراف بحقوق الآخر.

وعندما يأتي هوبز الى قضية ضمان الأمن، فهو جادل لأجل السلطة المطلقة، بينما أصر لوك على الموافقة كشيء أساسي لحماية الملكية والحرية واسلوب الحياة.

 اذن، ما هو النموذج الأفضل اليوم؟ هذه المفاهيم المختلفة تستمر بالتأثير وصياغة النقاشات السياسية المعاصرة. هل هناك حالات يجب فيها التضحية ببعض الحريات لكي يمكن زيادة الأمن الكلي؟ او هل يجب ترك الافراد دون المساس بحقوقهم الطبيعية؟

يرى هوبز ان سلطات مركزية قوية يجب ان تكون قادرة على الحفاظ على السلم والنظام. افكار لوك تتحدث كثيرا عن الديمقراطية وحرية الافراد والحاجة الى وسائل للرقابة والسيطرة على اولئك الذين يمسكون بالسلطة.

***

حاتم حميد محسن

"الأمل دائمًا أكبر من الواقع"

" نقول.. الخيال أوسع من الواقع"

في حياتنا اليومية المعاشة نجد التخييل "الخيال" عند الإنسان يأخذ أبعادًا عظيمة في جوانبها الإيجابية إذا ما ورد بأذهاننا صياغة الكلمة التي نتحدث بها للمستمع، أو لنعبر بها عن وجهة نظرنا، أو أمام حضور من الجالسين للاستماع عندما أكون أنا المتحدث، أو المستمع، يدخل التخييل في تكوين الجملة من كلمات وافكار وصياغة معنى للفهم، وكذلك عندما أكون أنا المتلقي، استقبل الكلمات والفكرة لاعالجها في مخيلتي كمثير قبل قبولها كأستجابة بعد أن اخترقت عالمي العقلي الداخلي لمعالجتها، أما الصورة الأخرى لهذا المفهوم عند بعض من تركوا الأثر في عقول الاجيال ومنهم من أمتهن صورة الكلمة في الشعر، أو الحديث في الرواية ونسج عمقها، والمسرحية التي تجد عند المشاهد ذلك الانفعال ليس في النص فحسب، وإنما في الأداء، هي الكلمة، هي الصورة المتخيلة لتتحول للمتلقي رسالة تحمل ما حمله خيال كبير وواسع، وهو الإبداع الذي يأخذ أحيانًا صورة الإنحراف عن السوية، وإذا افترضنا أن حالة الاضطراب هو الافراط في الخيال فنجد أنفسنا قد فقدنا معيار الحكم ما بين السوية واللاسوية " الاضطراب".. ويحق لنا أن نقول أنه إنفصال عن الواقع.

نتفق مع مؤسس التحليل النفسي " سيجموند فرويد" حينما استخدم التخييل ليدلل به على الواقع النفسي الداخلي في مقابل الواقع الخارجي.. التخييل " هو نوع من تحقيق رغبات خفية ومقموعة وهو يحمي الأنا من الحصر " القلق " الذي يتمخض عن ذلك التوتر الناتج عن عدم تفريغ الغرائز. وكما ترى " نيفين زيور" التخييل إنما هو نتاج صراع ويمثل تسوية بين هذين النوعين الشعوري – الواعي الواضح واللاشعوري – اللاواعي.

التفكير عند فرويد هو نوعًا من التخييل، ونقول أنه يخلق نتاج فكري وأدبي وفني وعقلي وبناء أسس لنظريات في مختلف التخصصات، ولا نغالي إن قلنا أنه الوصل بين نشأة اللغة وتكونها لتعطي الإنسان السمة الأساسية في شخصيته، وبذلك فإن وظيفته أيضًا هي خلق موقف يشبع الرغبة في إثبات الوجود ومؤانسة يشارك فيها الطفل مع أقرانه.

نتفق مع القول الذي يرى أن التخييل هو من يخلق فجوة مع الواقع، والنظام الرمزي هو من يأتي لسد هذه الفجوة. طالما أن النظام الرمزي يحتوي ويضم كل ما هو يتعايش مع الإنسان ويتعلمه من قيم وتقاليد وأعراف ودين وقوانين المجتمع واللغة التي بوساطتها يدخل هذا العالم وبها يثبت وجوده كإنسان، فالإنسان بما هو إنسان، بقدر ما هو يتكلم. وخير من أثبت ذلك قول " جاك لاكان" في فكرة العقدة البورمية.. ان دخول الإنسان عالم اللغة، أعطى تحقيقًا لوجوده، وهو ما عبر عنه بكلمة " المتكلموجودي" أي الوجود مرهون بالكلام.

إذن اللغة قائمة على فكرة التخييل، والتخييل هو الذي يجعل الإنسان متكلم واعي، وبنفس الآن متكلم غير واعي بما يقول، ليس بفعل المؤثرات الحضارية مثل الخمر وادمانها، أو المؤثرات الطبيعية مثل النباتات كنبتة الخشخاش كموسعات التفكير.. لا.. أبدًا، إنما بفعل حلمه وهو نائم، فهو يسترجع ما كان في يومه السابق، أو اسبوعه السابق، أو من فكرة أو رغبة حرم منها بفعل الجانب الرمزي من قيم المجتمع فلاذ بها إلى عالم خفي وهو عالم اللاوعي – اللاشعور، عاد له في صورة أخرى في الحلم، وما أعظم التخييل عندما يُكونُ الصور والأفكار ويطلق عنانها في نتاج فكري عظيم بلا رقيب، ولا رمزية هاربة في كلماتها من قيم الحياة الواقعية.

التخييل " الخيال " عند الإنسان يسعى دائمًا وراء ما لا يستطيع امتلاكه وتحقيقه في الواقع، وهو يمكننا قوله عن حلم اليقظة وهو في حالة الوعي.. وفي اليقظة. أما التخييل اللاواعي – اللاشعوري هو الطريقة التي يحاول بها بعضنا تنظيم رغباته في مواجهة نقصه، وهو ما يشكل جزءًا أساسيًا من هويته النفسية كما يقول من درس النفس بعمق، ولا ننسى إن ما نفتقر إليه هو الذي يدفعنا إلى اللجوء لعالم التخييل على المستوى الواعي، أو غير الواعي، اقصد اللاواعي – اللاشعوري.

تطرح " نيفين زيور " في كتابها القيم " التخييل " قول " سيجموند فرويد" أنه من الخطأ أن نظن أن اللاشعور يظل في حالة هدوء على حين أن كل عمل الذهن إنما يقوم به القبشور – وأن اللاشعور شيء انتهى أمر إنجازه وكأنه عضو أثري أو مخلف من مخلفات النمو.

تقول المحللة النفسية " سوز ايزاكس" أن التخييل نشط في السواء، كما هو نشط في المرض، والفرق الوحيد إنما يكون في الطريقة التي يتعامل بها الفرد مع التخييلات اللاشعورية – اللاواعية، وتلك العمليات العقلية الخاصة والتي بوساطتها تعدل التخييلات كما يمكن في درجة الإشباع المباشر، أو غير المباشر في العالم الواقعي وفي التوافق معه.

ولننتقل إلى رؤية نفسية مختلفة عما طرحناه عن موضوع التخييل وعلاقته بالتفكير وتتسائل " دافيدوف " هل يفكر الناس في شكل كلمات ؟ أو صور عقلية؟ أم يتخذ تفكيرهم أسلوبًا آخر؟ بالطبع لا يستطيع علماء النفس الملاجظة المباشرة لأفكار أي فرد، إلا أنهم يعالجون هذه المشكلة بطريقة غير مباشرة، ويبدو أن الصورة العقلية مكون مهم لأفكار كثير من الناس، حيث غالبًا ما يذكر العلماء والروائيون، والشعراء أنهم بدأوا أعمالهم من خلال صور في عقولهم.. تخييلات. لقد أكتشف الفيزيائي البرت إينشتاين النسبية بتخيله لنفسه مسافرًا جنبًا إلى جنب مع حزمة من أشعة الضوء عند سرعة 186000 ميل / ثانية. وما رآه إينشتين بعين عقله لا يقابل أي شيء يمكن تفسيره وشرحه بالأفكار النظرية الحالية، ولم تذهب الكلمات المنطوقة إلى الحد الذي ذكره إنشتين، أي دور في تفكيره.

تضيف " دافيدوف " كثيرًا ما يصف الناس أفكارهم بأنها مبتورة، غير كاملة، وإنها كلام غير مرتب على وفق قواعد اللغة. وتؤكد الملاحظات المعملية فكرة أن الناس يتحدثون بأنفسهم أثناء التفكير ونقول هناك صور متخيلة تدعو صاحبها أن يتكلم بهذاءات وهو في حالة الوعي، تأخذ صور حركة البدين، أو إيماءات تظهر على الوجه، وتقول " دافيدوف" نحن غالبًا نؤدي حركات تشبه الكلام بالشفاه أو البلعوم أثناء القراءة وهي نشاط يتطلب الكثير من التفسير، ويبدو أن تلك الحركات تساعدنا في فهم ما نقرأه، ونقول إنما هي صور متخيلة صيغت بأفكار وكلمات أعلنت عن حضورها في الوقت والزمان المناسبين، ولا نستبعد أن تكون لغة الصم عملية تضم الكثير من الاخاييل لتتحول إلى لغة الإشارة بإيصال فكرة ما أو جملة يريد صاحبها القول.

نستنتج مما تقدم بأن التخييل بشقيه الواعي – الشعوري واللاواعي – اللاشعوري ينحى منحى البنية التي كونها الفرد منذ فجر حياته – أعني طفولته الأولى للدلالة على كل من أساليب التفكير والتخييل ونتاجاته الواقعية كسلوك بعد ذلك، لأنها تنشأ من أفكاره وتخيلاته.

***

د. اسعد الامارة

لماذا يهتم الناس كثيرا بمنْ هم؟ بالطبع هم لا يستطيعون فعل الكثير حول هذا. مهما حاولنا تعديل سلوكنا وعاداتنا، وحتى لو نجحنا، نحن حتما ننتهي في كوننا نحن حتى لو ترافق ذلك مع القدرة في الشعور باننا لسنا أنفسنا، او اننا نتغير او نصبح نسخة أفضل لأنفسنا.

ديل كارنيجي Dale Carnegie، أول وأشهر خبير في المساعدة الذاتية لاحظ انه "عندما لا ننشغل بالتفكير حول مشكلة محددة، نحن ننفق 95% من وقتنا نفكر حول أنفسنا". تقديراته كانت شخصية وليست واقعية. البحوث التجريبية تقترح انه حوالي نصف وقت اليقظة والذي يساوي 8 ساعات يوميا للشخص البالغ في العالم المتطور يُخصص للتفكير بما نقوم به حقا والجزء الاكبر من الوقت المتبقي يُخصص لعدم التفكير والعيش في اللحظة.

وللتأكيد، كان أسلافنا من جامعي البذور أقل اهتماما بمنْ هم في أعماقهم او محاولة العثور على انفسهم، حيث ان المهنة كانت منسجمة جيدا مع قيمهم الاساسية وقد زودتهم بإحساس قوي بالمعنى والهدف. في النهاية، أهدافهم الحياتية الكبرى كانت محدودة بالبقاء: يأكلون ما يقع في ايديهم، ويتجنبون ان يكونوا فريسة، ينقلون جيناتهم، يكررونها قدر ما يستطيعون، ثم يموتون (مالم يستطيعوا تجنب ذلك لكنهم لن يستطيعوا). في معظم تاريخنا التطوري كانت الحياة بسيطة.

قبل ظهور الديمقراطيات الحديثة، كانت المجتمعات قد تأسست بطرق هرمية ونخبوية تنتقل فيها السمعة بواسطة الطبقة او المكانة، والافراد نادرا ما ينقلون طبقتهم الاجتماعية او طائفتهم، بما يجعل الاسئلة حول الهوية غير ملائمة. حتى أقاربنا الأقل بعدا مثل عمال خط التجميع في القرن العشرين نادرا ما يعودون للبيت بعد عمل متعب في المصنع، دون ان يشكون لزوجاتهم حول "فقدان معنى الانتماء"، "والهدف" او كونهم غير قادرين "على جلب ذاتهم كاملة الى العمل".

اذن، من أين ينشأ انشغالنا بمعرفة هويتنا العميقة وعيش حياة ذات معنى وحقيقية وأصيلة؟ العيش الأصيل، يتضمن ليس فقط ضرورة معرفة الذات والتصرف طبقا لقيم الفرد، وانما ايضا تجسيد درجة قوية من الانخراط الروحي بحياة وعمل الفرد، ومثّلت لوقت طويل حجر الزاوية الاساسي للعديد من الاطر الفلسفية والاخلاقية لعيش حياة جيدة، وفحص انواع السلوك والمعتقدات التي تمكننا البشر من السعي للتوجّه لحياة اكثر فضيلة وأخلاقية. أمثلة تتوفر في كل من الكونفوشيوسية والهندوسية والبوذية وجميع الاديان الكبرى. في الحقيقة، معرفة الذات وفهم الذات هي من اكثر الموضوعات تكرارا في أي نظام أخلاقي، والتي تتجاوز الزمن والجغرافيا والثقافة .

ان إعادة ظهور الأصالة الحديثة يمكن تعقّبها الى القرنين السابع عشر والثامن عشر، وبالذات في اوربا عندما ادّى ظهور الانسانوية humanism الى تحفيز الناس لإحتضان قيمة ان يكونوا حقيقين في أنفسهم. وبفضل التغييرات الكبرى في المجتمع والسياسة والفلسفة، بدأت افكار من النهضة والاصلاح البروتستانتي والتنوير تهز الاشياء. والناس بدلا من رؤية انفسهم مجرد حلقة ربط في سلسلة صارمة لا تتغير من الوجود، بدأوا يرون انفسهم كافراد متفردين لهم الحق بعمل خياراتهم الخاصة في الحياة.

أساسا، أدّى الانتقال التقدمي من القرون الوسطى الى الانسانوية الى نقل مركز الكون من الخالق العظيم الى الناس، وبدأوا بتحويل ثقتهم من السلطات والافكار الخارجية الى قدراتهم الذاتية في توجيه قراراتهم وأفعالهم. ونظراً لما يبدو عليه هذا من إثارة وجاذبية، فهو قد جلب معه جانبا سلبيا غير متوقع. عندما نهمل الله او الايمان الرسمي، نخلق فراغا روحيا يتركنا نتسائل حول نفس الاسئلة التي قادت الى اختراع الله والدين في المقام الاول: أي، اسئلة ميتافيزيقية لا يستطيع العلم الاجابة عليها. وكذلك، في غياب المدونات الاخلاقية الرسمية لتقرير الخطأ من الصحيح، نحن تُركنا وحيدين لوسائلنا الخاصة، علينا ان نعمل على حل كل شيء بأنفسنا من خلال التجربة والدليل او العقل – والتي اتضح ان لا شيء منها صلبا وقويا كما اُعلن. مرة خرى، هذه الاستقلالية تبدو رائعة، لكنها أصعب بكثير من اتّباع وصفة معيارية.

وكما أشار عالم النفس الاجتماعي روي باوميستر Roy Baumeister، عندما لا توجد هناك قواعد واضحة متفق عليها حول كيفية العيش، نميل للاعتقاد بتلك القواعد المختبئة فينا. اذا كان تقدير الناس للصدق مع انفسهم يأتي جزئيا من الابتعاد عن الدين فان محاولة معرفة ذواتنا الحقيقية قد تكون نوعا من طريقة غير دينية للعثور على معنى في الحياة. انها لاتزال محاولة لإنجاز بعض الاهداف السايكولوجية او الروحية التي سعى لها الدين، كمساعدتنا في فهم العالم، لكن بدون مشاركة الدين الذي لا يتوافق جيدا مع مجتمع اليوم الاكثر علمية ومساواة في التفكير – تماما مثل المدرسة القديمة والقواعد الصارمة وفكرة ان الاشياء يجب ان تكون بطريقة معينة فقط لأن هذه هي الطريقة التي كانت عليها دائما.

ومع ظهور الوجودية في القرنين التاسع عشر والعشرين، اصبحت الأصالة هي الاهتمام المركزي للفلاسفة. أبرز هؤلاء كيركيجارد الذي لاحظ ان الأصالة هي حول القبول والاتفاق مع  نواقص المرء، خاصة تلك المظاهر في حياتنا التي وراء سيطرتنا، والتغلب على قلقنا ومخاوفنا العميقة .

ونفس الشيء بالنسبة لهايدجر الذي اكّد على اننا نعيش في زيف دائم او لاأصالة، كنتيجة لكوننا في إنكار لمحدوديتنا، او نجد العذر للتفكير حول الموت. كذلك سارتر لاحظ اننا في الأغلب نعيش في حالة من "الايمان السيء" او اللاأصالة، كما لو ان قوى خارجية قررت أفعالنا، ولم تكن لدينا سيطرة على حياتنا وهو ما يراه مجرد عذر رخيص لعدم تمكّننا من تنظيم امورنا وتحمّل المسؤولية التي ينبغي لنا ان نتحملها لو ادركنا اننا في الواقع محكوم علينا بالحرية.

المرحلة الأخيرة الهامة في تاريخ الأصالة هي ظهور المجتمع الاستهلاكي، الذي جاء مع حرية غير مسبوقة لإكتساب عدد لا محدود من السلع التي ليس لها قيمة وظيفية على الاطلاق، حيث انها تُباع تحت فرضية ووعد انها تساعدنا في تحديد هويتنا. المجتمع الاستهلاكي يخرّب الأصالة عبر ترسيخ الهويات السطحية المبنية على السلع المشتراة وتعزيز الاعتمادية على الصلاحية الخارجية. وبدلا من تربية هوية فريدة من خلال التفكير الذاتي والتجربة، تقدم الاستهلاكية consumerism هويات جاهزة الصنع مرتبطة بسلع معينة واساليب حياة خاصة.

***

حاتم حميد محسن

 

المركزية الغربية: اللوغوس وميتافيزيقا الحضور

يرى الفكر التفكيكي، ممثلاً بجاك دريدا، أن التراث الفلسفي الغربي ونظرياته المختلفة ليست إلا "صيغاً مختلفة لنظام واحد هو 'التمركز حول العقل' و'ميتافيزيقا الحضور'". هذا التمركز حول العقل (اللوغوس) أنتج "نظاماً مغلقاً للتفكير"؛ حيث ارتبط العقل بالمعنى المطلق للحقيقة، وأقصاء كل ممارسة فكرية لا تمتثل لشروطه.

إن الديمقراطية الغربية، بمفهومها الليبرالي، تُقدم كناتج طبيعي ونهائي لهذا التطور العقلاني. ولذلك، فإن محاولة تصدير نموذج الحكم تأتي دوماً مغلفة بأولوية المركز و"عقلانيته" المزعومة. هذا الإطار الإبستيمولوجي يوفر أداة تبرير للهيمنة، حيث تُجبر الدول التابعة على استيراد "الديكور الديمقراطي" كشرط لتبني الحداثة المزعومة. يخدم الإصرار على الشكل هدفين رئيسيين: أولهما شرعنة النخب الحاكمة محلياً ودولياً، وثانيهما تفريغ هذه المؤسسات من محتواها الاجتماعي والتحويلي، مع الإبقاء على الهياكل التي تمنع ظهور بديل متحرر من "ميتافيزيقا الحضور" الغربية.

الديمقراطية الشكلية في ميزان الفلسفة السياسية

تُعرّف الديمقراطية الإجرائية بأنها "تصور متواضع وإجرائي للديمقراطية بوصفها محض آلية للحد من سلطة الدولة وهيمنتها". لكن في الدول التي تمر بتجارب الانتقال أو في دول ما بعد الاستعمار، يتحول هذا التركيز على الشكل إلى حيلة بحد ذاتها؛ إذ يتم استخدام الممثلين المنتخبين عبر هذه الإجراءات "للإبقاء على أنفسهم في السلطة ضد رغبة الشعب العامة."

يضعف هذا النموذج مفهوم التعاقد السياسي، حيث إن النظم الغربية نفسها استندت إلى فلاسفة العقد الاجتماعي (هوبز، لوك، راولز) الذين ناقشوا القبول السياسي الصريح أو الضمني. لكن الديمقراطية الشكلية ما بعد الكولونيالية تفترض تعاقداً شكلياً أو "مفترضاً" لا يبلغ مستوى "التعاقد الحقيقي" القائم على شرعية الحكم ومحاسبة السلطة. وفي هذا السياق، يوفر توظيف الشكل غطاءً ممتازاً لتجديد الاستبداد.

الاستشراق وأدلجة الحداثة السياسية

يعمل الاستشراق بوصفه "معرفة وإنشاء وسلطة"، وقد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بمؤسسة الاستعمار باعتباره "علماً وظيفياً" لخدمة الهيمنة على الشرق. هذا الخطاب أنتج صورة نمطية قارّة للشرق، تصفه بأنه "غير عقلاني" و"غير قابل للتنبؤ". هذا التصوير يبرر الحاجة إلى التدخل والإشراف الخارجي، الذي يتخذ شكل التبشير بالحداثة وتصدير النموذج الديمقراطي.

تكمن دقة الاستراتيجية الاستعمارية (القديمة والجديدة) في أنها لا تسعى بالضرورة لتغيير ثقافة المحلي بالكامل، بل تسعى لاستغلالها. فقد كان الاستعمار البريطاني على سبيل المثال، يوظف "ثقافة المحلي نفسها" ويخلق تناقضات داخلية تقتضي القبول بالاحتلال. الديمقراطية الشكلية هي التجسيد المعاصر لهذه السيطرة الذكية، حيث يقبل النظام التابع بالهيكل الغربي الإجرائي كخطوة لتجنب الفوضى أو الإقصاء الدولي، وبالتالي يُعاد إنتاج الهيمنة.

الاقتصاد الريعي كحاضنة للديمقراطية الشكلية

لا يمكن فهم الديمقراطية الشكلية كظاهرة سياسية منعزلة؛ بل هي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالبنية الاقتصادية الموروثة والمُستدامة في دول ما بعد الاستعمار، وهي الدولة الريعية.

القوى الاستعمارية (أو القوى الدولية المهيمنة) لم تهتم بالاستغلال المادي فحسب، بل ركزت على هندسة نظام سياسي خاضع ومستمر. الدولة الريعية توفر البنية الاقتصادية المثالية لتحييد المواطن، بينما الديمقراطية الشكلية هي "الحل السياسي" اللازم لتغليف هذا النظام غير الديمقراطي. هذه التجارب "المحاكاة" للديمقراطية هي شرط لعلاقات النظام الهجين بـ "الغرب الإمبريالي"، حيث يوفر "ديكور ديمقراطي" يوحي بنجاح "رسالة التمدين".

يضاف إلى ذلك، تمتع هذه النظم بحماية والتزام من القوى الدولية. قد تلجأ القوى الدولية إلى تضليل النظام الهجين وإيهامه بتهديدات خارجية، الأمر الذي يستدعي مزيداً من التنسيق والتعاون (كصفقات الأسلحة الضخمة). هذا النظام ليس مجرد مرحلة انتقالية فاشلة، بل هو صيغة مستقرة لإدارة التناقضات. فهو يرضي الغرب بمظاهر الليبرالية ويرضي النخب الكمبرادورية المحلية بالسيطرة على الثروات الريعية. هذه القابلية للبقاء ناتجة عن "استمرارية الصراع"، حيث يُبقي النظام على حالة من التوتر تبرر بقاء النخبة الحاكمة وسلطتها الأمنوقراطية.

الاستبداد الناعم كشكل متجدد للهيمنة

إن الاستبداد الناعم في الدول العربية هو استمرار للاستبداد القديم بـ "شكل جديد، ومضمون قديم". وقد تجلى هذا التجديد في "الأمنوقراطية" وهي عقلية سياسية أمنية تعطل قدرات الجماهير وتوظفها لاستمرار الوضع القائم. إن الاستبداد هنا يتخفى وراء واجهة مؤسساتية شكلية خداعة

لضمان استدامة هذا الاستبداد، تعتمد النخب الحاكمة على آليات متعددة للشرعنة الداخلية والخارجية. داخلياً، يتم توظيف الخطاب الديني عبر "فقهاء البلاط والسلطان" لمحاولة إضفاء طابع القدسية والشرعية الدينية على سياسة الحاكم، وتبرير إمارة المتغلب وتشجيع العامة على الإعراض عن الخوض في السياسة.

أما بنيوياً، فترتبط استدامة التسلط بتركيز السلطات في أيدي السلطة التنفيذية، وضعف الشفافية، وتقييد حرية الوصول إلى المعلومات. بهذه الطريقة، يصبح الفساد آلية هيكلية لاستدامة الاستبداد. يبرز هنا مفارقة خطيرة: التيارات الدينية التي تكفّر المطالبين بالديمقراطية الجوهرية، لا تمتد صرخات تكفيرها إلى الحاكم الذي هو "رأس النظام السياسي وراعي الديمقراطية".

تآكل الثقة المجتمعية في الديمقراطية الليبرالية

لقد أدى فشل الديمقراطية الشكلية في تقديم حلول حقيقية إلى تزايد قلق المواطنين في المنطقة إزاء المشكلات المرتبطة بالنظام الديمقراطي، خاصة فيما يتعلق بملفات الأداء الاقتصادي، والاستقرار، والحسم في القرارات. كان يُنظر إلى الديمقراطية على أنها قادرة على مواجهة تحديات الكساد الاقتصادي والبطالة، لكنها فشلت في مواجهة التحديات الهيكلية المتمثلة في الريعية والفساد.

هذا الفشل في تقديم قيمة جوهرية عزز جاذبية النظم غير الديمقراطية التي حققت نمواً اقتصادياً سريعاً، مثل النموذج الصيني، مما جعل الكثيرين غير واثقين من قدرة الديمقراطية على تقديم الحلول.

كما أن هناك قناعة لا تزال سائدة لدى قسم كبير من الرأي العام بأن نظام التعددية والديمقراطية قد يساهم في تزايد النفوذ الأجنبي وتنمية الصراعات الداخلية (مثل الطائفية والعشائرية). يتفق هذا التفكير مع رؤية النخب الحاكمة التي ترى أن الحفاظ على الأمن والوحدة الوطنية يستوجب تقييد الحريات السياسية، وهو ما يفسر القبول الضمني بـ "الأمنوقراطية" كبديل للحسم والاستقرار. الديمقراطية الشكلية هنا تحولت إلى مجرد "منتج استهلاكي" فشل في تلبية احتياجات المجتمع الهش الذي أنتجته الحداثة الرأسمالية.

ما بعد الكولونيالية وما وراء الديمقراطية الشكلية

يمثل استخدام الديمقراطية الشكلية وتسويقها كـ 'حداثة' استراتيجية معرفية وسياسية مدروسة لـ "تنمية التخلف" وزرع جذور التبعية. النظم الهجينة ليست فشلاً عارضاً في الانتقال الديمقراطي، بل هي الهيكل الأمثل لإدامة الهيمنة، حيث تُخضع الثقافات المحلية لمشيئة الكولونيالية الثقافية. لتجاوز هذه التناقضات، يجب اتخاذ خطوات واضحة:

تفكيك البنية الريعية: لا يمكن تجاوز التناقضات بين الديمقراطية والاستبداد إلا بالخروج على مقومات الدولة الريعية التي تلد الاستبداد والتسلط. يجب استبدال الاعتماد على العائدات الخارجية بنظم إنتاجية تُعيد ربط الدولة بالمواطن عبر مبدأ المحاسبة.

التحرر المعرفي: يجب التحرر من عقدة النقص تجاه النموذج الغربي ورفض التماهي الكامل مع النموذج الثقافي والسياسي الغربي. التحرر يتطلب إعادة تعريف الحداثة ليس كقوة مهيمنة، بل كـ "عملية تحرر جماعي" تتبنى الديمقراطية المباشرة والعدالة الاجتماعية.

بناء الوعي النقدي: من الضروري بناء وعي نقدي يتجاوز السائد لتنقية الوعي والنصوص التعليمية من آثار الرأسمالية والكولونيالية. هذا يعني إعطاء الأولوية لاستراتيجية "إعادة الذات إلى محور الوجود والهيمنة" عبر نقد الخطاب المركزي والابتعاد عن التبعية الثقافية. إن الهدف ليس إلغاء الديمقراطية، بل استبدال صيغتها الشكلية المبتورة بصيغة جوهرية متجذرة في الذات الثقافية والاجتماعية.

***

غالب المسعودي

.......................

المراجع

فلسفة ما بعد الاستعمار بين التفكيك وإعادة إنتاج السيطرة

الديمقراطية والدولة الريعية - صحيفة النداء

بعد الاستعمار... ما بعد الديمقراطية - جريدة القدس العربي

ديمقراطية إجرائية - ويكيبيديا

في المثقف اليوم