أقلام فكرية

أقلام فكرية

يتبنى هوسرل في فلسفة الفينامينالوجيا مقولة الوعي هو موضوع نفسي. ويعزو سبب ذلك الى حقيقة الوعي ليس موضوعا يقبل المشاهدة او الملاحظة الخارجية بل هو حقيقة نفسية تستلزم ضربا من التحليل القصدي على حد تعبيره الخاطئ.

الوعي اشمل من ان يكون حقيقة نفسية وليس حقيقة عقلية. طالما نعجز عن تعريف ما هو الوعي؟ بذلك نكون اخرجنا ان يكون الوعي موضوعا للنفس وحتى موضوعا مستقلا للعقل لكن يبقى وعينا الاشياء ومعرفتها وادراكها هو وسيلة العقل في تنظيم وتخارج معرفي بين الوعي والاشياء. بعلاقات لا حصر لها مع موجودات عالمنا الخارجي من ضمنها عالم الشعور النفسي...

 ميزة الوعي هو الذاتية الانفرادية في دخول معرفتنا العقلية وخبراتنا مع المدركات. اذا اجزنا لانفسنا استعارة مقولة ديكارت العقل اعدل قسمة مشتركة بين بني البشر فنكون مطمئنين القول الوعي هو اعدل قسمة يمتلكها جميع البشر الاسوياء لكن باختلافات نوعية.

ولا يحتاج الوعي الى ضرب من التحليل القصدي النفسي حسب ما يرغبه تعبير هوسرل وذهب الى ان التحليل القصدي يمهد الطريق كي يستخلص من المعاني الكامنة في كل من الشعور والادراك الحسي والتصور الذهني ماهياتها الفينامينالوجية.

الوعي وسيلة وظائفية للعقل الانفرادي أي ما يدركه (س) من الناس هو غير ما يدركه آخرين للموضوع المشترك الواحد. الوعي بمفهومه النفسي كما يطرحه برجسون يعجز عن استخلاص المعاني الكامنة في الشعور والادراك الحسي والتصور الذهني وصولا الى معرفة الماهيات.

هذه القصديات الذاتية السلوكية النفسية التي ادرجها هوسرل يحققها الوعي العقلي وليس الوعي النفسي. هنا نود تثبيت الوعي كمصطلح مفهومي أنه جوهر خاصية النوع البشري حاله حال العقل واللغة والزمن والوجود.

الوعي وبعدد بما لا يمكننا حصره بمجالات اشتغاله لكنه وعي عقلي واحد لا ينقسم الى كثرة من الوعي. نستطيع الجزم القاطع ان الانسان والطبيعة والعالم الخارجي وكل المدركات الارضية والكونية هي وعي عقلي واحد لا غيره فلا يوجد فبركة فلسفية ابتدعها هوسرل اسماها الوعي القصدي فالوعي تفكير قصدي مجرد في حقيقته ناتج عقلي.. فليس هناك وعي خاص بالنفس وآخر خاص باللغة وثالث خاص بالحواس وهكذا. الوعي هو وسيلة العقل في معرفة وجودنا بمجمل طبيعتنا الادراكية. والوعي بخلاف الزمن غير محايد في علاقته بموضوعه.

لذا عمد ديكارت الى اختزال كل هذه الحالات والتجليّات الوجودية في عبارته ان الانسان موجود لانه يفكّر ولم يقل يفكر بماذا معتبرا التفكير بذاته وعيا بموضوع من الواقع او من الخيال... التفكير المجرد عن معناه مجردا بالضرورة الاستباقية الاولى هي لا تفكير له معنى ليس له موضوعا.، لان ذلك بديهية لوظيفة العقل الذي يفكر موضوعيا وتجريديا فكريا ايضا، بمعنى اوضح لاوجود لتفكير من فراغ او عدم بلا موضوع متعيّن يفكّر العقل به يكون محايث الادراك والتفكير في اثبات الوجود النوعي للانسان، حتى وان كان موضوع التفكير متخيّلا فكريا خارج المعطى المحسوس او العياني الواقعي للاشياء.

على اعتبار ان تخيّل الشيء ذهنيا لا ادراكيا حسيّا عقليا يدل على فعالية واشتغال (العقل) في اثبات وجود الشخص تأمليا مفكرا وذاتا تعي وجودها والمحيط من حولها. وان الخيال العقلاني المفكر الصامت يختلف عن الحوار المتعيّن وجودا ادراكيا في وعي الذات والتعبير عن موضوع لغويا. وحوار اللغة صمتا تفكيريا يكون بين الذات ووعيها لمدركاتها الموضوعية، بخلاف الخيال المعبّر عنه في اللغة المكتوبة او المنطوقة او الصورية او الفنية فيكون تفكيرا واقعيا.

كذلك فان وجود اي شخص كوعي ذاتي وادراك عقلي او حسي يعي الموجودات من حوله، يصبح مفروغا منه، في عبارة ديكارت(انا افكر اذن انا موجود) ليس من تفكيره حتى الخيالي بشيء معين دون غيره وحسب، وانما وجود الانسان الواقعي الفاعل المتواصل الدائم يأتي من قدرة الانسان على التفكير وامتلاكه ملكة العقل والذكاء والخيال واللغة في ما لا نهاية له من ادراكات الموضوعات والاشياء الواقعية او المتخيّلة التي تشغل التفكير ويكون تثبيت الوجود الذاتي والموضوعي معا بها ومن خلالها كعلّة وسبب . 

ان الموجودات والاشياء اللامتناهية في الطبيعة والكوني التي يريد الشخص ادراكها ومعرفتها هي التي تمنحه وجوده الفاعل بالحياة، ووعي الذات لا يكون في غياب الموضوعات او الاشياء عنه عقليا ولا تخييليا . فليس الانسان موجود لانه يفكر تجريديا ذهنيا فقط كما يذهب له ديكارت، بل هو موجود في امتلاكه اثبات قدراته العقلية الذهنية اللغوية وملكته على الفهم والادراك لوجوده ووجود الاشياء من حوله أيضا وفي إمكانية التاثير المتبادل بينهما.

أي ان وعي الذات لا يقوم على التفكير المجرد في وعي الوجود الذاتي لنفسه فقط من دون حضور الاشياء المفكر بها، لان وعي الوجود مرهون بالسبب المحايث للتفكير الذي هو وجود الموجودات والاشياء اللانهائية المادية وغير المادية وعلاقة الانسان بها .

فوعي الوجود لا يتم الا بوعي الموجودات والمحيط واقعيا أو خياليا صامتا عندما لا يعبّر الوعي عن التفكير الذهني الصامت لغويا، على اعتبار الخيال هو تفكير او حوار لغوي داخلي صامت يتم في الذهن المتخيّل عقليا تجريديا فقط، وعندما لا يتحول التفكير الخيالي الى لغة ناطقة تداولية او فعالية تعبيرية فنية تخاطب الاخر، فان فاعلية الخيال المنتج تتوقف عن تحويل موضوع الخيال المفكر به، مدركا كان او متعيّنا واقعيا مستقلا بوجوده، اوموجودا باللغة او غيرها من وسائط التواصل في التعريف بذلك الموجود او الموضوع المفكر به.

وفي تغييب هذه الخاصية التنظيمية للافكار لا يكون للخيال أي معنى او مغزى بل يصبح تهويما داخليا في العقل لا علاقة له بالتنظيم اللغوي السليم ولا في قدرة الخيال تحويل الموضوع المفكّر به الى موجود متعين او خيالي يمتلك تداولية القبول به مع الاخر، وهذا النوع من التخيلات العقيمة نجدها في هلاوس المجانين والانفصاميين العصابيين ومرضى الذهان العقلي  وغيرها من عوامل تجعل الوجود المرضي وتفكيره بلا معنى، فهو عندهم تفكير غير معقلن لا يتوسط اللغة تداوليا، كسبب وعي الوجود وكذلك المحيط والموضوعات من حوله.

بمعنى ان التفكير العقلي الذهني الصامت المجرد وسيلة افتراقه عن الخيال المريض هي أن هذا الاخير عاجز عن تعيين وجوده وغيره من الموجودت بواسطة نظام اللغة التواصلي.

وفي التوضيح اكثر هو ان فاعلية الفكر بادراك الشيء والوعي به مصدرها الاحساس بالموضوع اولا ومرجعية العقل ثانيا، عليه نضع انفسنا امام استحالة ادراكية – عقلية وذهنية في الوعي  بشيء مادي او غير مادي، بمجرد قولنا حسب هوسرل (ان الاشياء ومواضيع الادراك غير موجودة ولا فائدة منها بمجرد عدم وعينا وادراكنا لها). هذا كلام فارغ فموجودات الوجود لا تحدد وجودها الادراكي رغبة الانسان من عدمها فالموجودات مستقلة موجودة قبل رغبة الادراك العقلي فهمها.

وهنا يكون الادراك مثاليا في ادراك ذهني لا علاقة له بالخيال المنتج او ادراك الواقع. وهذا النوع من الادراك تم تجاوزه فلسفيا  كما  موجود في فلسفة هيجل المثالية الجدلية، على يد ماركس في المادية الديالكتيكية والتاريخية التي تذهب عكس ما ذهب له هوسرل في أسبقية الوعي على المادة، وبأن المادة حسب ماركس أسبق على الوعي المفروز عنها. أي وجود الشيء مسبقا يحدد تفكيرنا به لاحقا، وليس العكس ان وعي البشر هو الذي يحدد وجود الاشياء، بل العكس ان وجود الناس الاجتماعي والطبقي هو الذي يحدد وعيهم الفكري والثقافي والفني والديني.

كما ان ما لا ندركه لا أهمية له لدى هوسرل ربما تنطبق صحته الوهمية الساذجة في عدم حاجتنا او بعضنا التفكير في امور الميتافيزيقا ومسائل الدين في الجنة والنار وغيرها من غيبيات اللاهوت، فهي لا تعني كل الناس في اهمية ووجوب التفكير بها عقليا ادراكيا والتوصّل الى يقينيات بشأنها، وانما الايمان والتسليم بها غيبيا في القلب هي الغالبة.

ومن دعوة هوسرل (انه لا ذات بلا موضوع) التي هي سليمة وصحيحة الى حد ما، اذا ما فهمت الجملة بصيغة الجدل الديالكتيكي في تبادل التاثير المتناوب بين الذات والموضوع، وتصبح باطلة غير صحيحة في قول هوسرل: (ليس هناك من حاجة او اهمية لفصل الذات عن الموضوع!! والذات والموضوع متداخلان لا يمكن ولا يجوز الفصل بينهما، والذات والموضوع شيء واحد) حسب ادبيات فلسفته الظاهراتية (الفينامينالوجيا).

هنا يكرر هوسرل مفهوم الدائرة المغلقة عند شوبنهاور، بان الوجود الانساني هو الحلقة الدائرية التي يحياها الانسان في تعاقب ابدي هو فهم مستمد من نيتشه انه لا حقيقة نعيش من اجلها الحياة، ولا حقيقة نعيش من اجلها وهم الخلود بعد الموت، وان دورة الحياة الدائرية انما هي تبدا بنقطة افتراضية وهمية ولا تنتهي بنقطة تتوقف عندها بعد الممات.

 وفي فهم هوسرل ان (الانسان ذات وموضوع في وقت واحد) التي أخذها عن شوبنهاور، هو فهم صحيح بالنسبة للانسان وحده كوجود مستقل عن الاخر وعالم الاشياء الخارجية المحيطة به تماما،  في ادراك الانسان ذاته ووعيه بها عندما يتأمل وجوده كموضوع، الموضوع المتداخل مع ذاته في كينونة مستقلة واحدة تجمعهما، اما في حال ادراك الانسان للمواضيع والاشياء الخارجية عنه، فهنا تكون الذات والموضوع كلا منهما وجودا مستقلا عن الاخر، وفي استقلالية وجودية احدهما عن الاخر، ولا تبقى الذات والموضوع واحدا في وحدة اندماجية لا يتم التفريق بينهما. او يتعذر ذلك الفصل المطلوب بينهما.

هنا احاول اضرب مثالا هو القول بعدم امكانية فصل الموضوع عن الذات وهم فلسفي غير صائب. لو اخذنا بالقانون الميكانيكي الفيزيائي (لكل فعل رد فعل يعاكسه بالاتجاه ويساويه بالمقدار) هذا بدا بالقانون الفعل هو الموضوع الاستفزازي للذات بالرد (الذات) على الموضوع الصادر عنه الفعل برد فعل يعاكسه الاتجاه ويساويه بالمقدار. ولو كانت الذات هي والموضوع جوهرا واحدا لابطلنا صحة القانون الفيزيائي لانه فرّق بين الذات والموضوع.

اضرب مثالا آخر على خطل وعدم صواب ان تكون الذات هي موضوعها وكلاهما جوهر واحد لا انفكاك بينهما. توجد للمؤرخ العالم بتاريخ نشوء وشيخوخة الحضارات هو شبنجلر. القانون الذي اخ اضرب مثالا آخر على خطل وعدم صواب ان تكون الذات هي موضوعها وكلاهما جوهر واحد لا انفكاك بينهما. توجد للمؤرخ العالم بتاريخ نشوء وشيخوخة الحضارات هو شبنجلر. القانون الذي اخترعه الالماني اوسفولد شبنجلر فيلسوف ومؤرخ وعالم تاريخ الحضارات 1880-1936 هو قانون (التحدي والاستجابة) الذي هو نسخة اسقاطية للقانون الفيزيائي الذي مررنا عليه (لكل فعل رد فعل....الخ) اسقطه شبنجلر على نظريته بنشوء الحضارات. بداية نشوء كل حضارة هي استفزاز الظروف الموضوعية والتاريخية لارادة الانسان بوجوب المواجهة ووجوب وضع الحلول للافضل بالحياة والتاريخ.

التفكير لا يكون آلية بيولوجية - فيزيائية

 ان امتلاك الانسان قدرة وآلية التفكير الواقعي او التجريدي لا  تجعل من الانسان مفكرّا، الا بعد أن يكون في وعيه وادراكه أو حتى في خياله موضوعا او شيئا متعيّنا مفكّرا به اي يكون موضوعا للتفكير، وبهذا الفهم تصبح مقولة هوسرل انا افكر بشيء اذن انا موجود صحيحة لكنها لا تمثّل تخطئة صائبة لكوجيتو ديكارت.

وهي مشروطة بعدم وجود فعالية تفكيرية عقلانية يحوزها الانسان فقط، من غير موضوع او موجود مستقل مفكّر به سواء ادركه العقل ام لم يدركه حسيا او تخيليا. وحتى الصمت الخيالي هو في حقيقته تفكير وحوار داخلي لا يعبّر عنه باللغة التداولية، لكنه يبقى تفكيرا ذهنيا تنعدم فيه اللغة المنطوقة او المكتوبة او المعبّر عنها باللغة الحركية الصورية الايحائية، ولا يمكننا الحديث عن ادراك للذات بدون موضوع او شيء مغاير عنها (شيء آخر غير الانا المفكّرة). ووعي الانسان بذاته لا يتحقق من دون ارتباطه واقترانه بشيء مغاير لذاته. ولا يمكننا التأكد من حضورنا كذوات مفكّرة وموجودة دون وجود الغير المتعّين او الاشياء بأي شكل او صيغة بدت لنا، ولا نتوحد معها كيفيا في تطابق بالصفات بالنسبة للنوع كبشر، أي وعي الناس بوجودهم المفكر ذاتيا لا يكون حقيقيا من دون احساسهم بالوجود الخارجي للأشياء المفارق لوجودهم وتفكيرهم.

 ان الوجود ممثلا بالطبيعة وقوانينها المستقلة عن الوجود الانساني، وفي مختلف التجليات لوجود الاشياء هو وجود قائم بذاته خارج رغباتنا. وجود الذات هو في المغايرة مع وجود الآخر كمتعيّن حاضر في علاقة الارتباط بغيره من الاشياء. وان وعي الانسان بوجود انسان آخرمثله، لا يعني تطابقهما الكيفي بادراك الذات او الوجود المغاير، حتى في الموضوع الواحد المشترك بينهما، وانما بالتقاء صفاتهما او بعضها في الجنس الواحد كنوع جامع لهما، لكنهما يبقيان محتفظان بادراكهما المتمايز المختلف في فهم الوجود والاشياء وهو ما يصح تعميمه على الوجود البشري عامة، بأن جميع الادراكات مختلفة ومتنوعة بعدد البشر ولا نهائية الاشياء والموجودات والكوني وفي لا نهائية ولادة البشر وموتهم جيلا بعد جيل.

للمقال صلة

***

علي محمد اليوسف

 

في كتاب الجمهورية لأفلاطون كان يدعو الى شيوعية الأطفال أي ان يكون الأطفال تحت رعاية الدولة، وهي التي تتكلف بتربيتهم ونشأتهم حتى يمتلكوا شعور الولاء للدولة، وحتى تتولد عاطفة جماعية اتجاه الأطفال من قبل المجتمع، وكذلك تعامل معهم ارسطو اذ جعل تفكير الأطفال بمستوى تفكير العبيد ؛ لأنه تفكير سطحي ويفتقر للحكمة والمنطق ولا يستحق الاهتمام، وفرق كذلك بين أبناء الطبقة السفلى، والمتوسطة، والعليا، وهي طبقة العبيد، والطبقة البرجوازية، والطبقة الحاكمة النبلاء، وتلقي التربية والتعليم الجيد يجب ان تكون أولويته لأبناء الطبقة الوسطى والعليا للمجتمع.

وفي العصر الوسيط كان التعامل مع الأطفال على أسس دينية واحكام قبلية، تستند بعضها الى المتوارث من الأفكار، والتقاليد الاجتماعية التي تضيع كثير من حقوق الطفل. وفي العصر الحديث بدأت الأفكار التنويرية تلقي بظلالها على طبيعة التفكير في الطفل وتربيته ونشأته ومستقبله، وذكر عن روسو مقولته "يا معشر الفلاسفة اننا نجهل الطفولة" في اشاره الى الإهمال التاريخي في التعامل مع الطفل وحقوقه، وهي بمثابة دعوة الى العناية بالطفل على وفق النظريات الحديثة، والتنويرية الضامنة لحقوق الطفل، ورعايته من قبل أبويه رعاية واعية. وبعدها تطورت النظريات الناظرة في نشأة الطفل وتربيته والعناية به ضمن نظريات سلوكية، ونظريات النمو، ونظريات التربية، وقدمت كل من النظرية الماركسية، والنظرية البركماتية، والنظرية الفرويدية، والنظرية النازية، أفكار عن الطفل وكيفية تربيته بما يتلائم مع التوجهات الفكرية والسياسية والأيديولوجية، اذ انها ابتعدت أيضا عن التعامل مع الطفل على أساس برائته وفطرته، وأدخلته في الحسابات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتجارية. مثل : استغلال النازية لنظريات تطوير النسل لصالح الأيديولوجية الألمانية النازية.

أما المحور الثاني فتحدثنا فيه عن القواعد التأسيسية في تكوين الأطفال، وانجابهم، وتربيتهم، وصولاً الى مرحلة البلوغ، وتطرقنا الى خطورة النظريات البايولوجية المعاصرة التي تتحكم بالجينات والرحم، والنطف، وعقاقير النمو، ومعالجة أمراض الطفولة، وتطوير مهارات الأذكياء منهم، وهي ما كانت محط اهتمام مباحث البيوتيقا ودراساتها المعمقة لكل المشاكل الناتجة عن تطور الأبحاث البايولوجية على حساب كرامة الإنسان ومستقبل الطفل البايولوجية، وبقدر ما قدم العلم والبايولوجيا أفكار وتطبيقات مفيدة في خدمة البشرية وسلامة الطفولة، بقدر ما اضرت به من خلال التوظيف غير الصحيح لكل التفوق البحثي والصناعي والتكنولوجي للتحكم بالبيوض، والنطف، والجينات، والنمو، والوعي عند الأطفال ونشأتهم.

فالقواعد التأسيسية لإنجاب الأطفال وهي مرحلة تأسيسية تنطلق من غريزة الأمومة، أو الأبوة، أو من فكرة انجاب الأطفال لأهداف خاصة لكل فرد من افراد المجتمع، احدهم يريد ان ينجب أطفال بدوافع اقتصادية أي يريد من الطفل ان يساعده في اعماله وكسب رزقه وتشغيله. ومنهم يريده ان يكون امتدادا له لحفظ ثروته من الضياع او التمثيل الاجتماعي امام العشيرة والعائلة والمجتمع، أو ان يكون له مساعد في شؤون الأسرة العامة. فالطفل هنا لا يكون مرغوب في ذاته بل بقصدية هي ادنى من منزلة الطفل وكرامته، فالطفل بعد ما يولد يكون انسان له قيمته المعنوية، وكرامته، وحقوقه وشرفه، وله اعتباره الذي يجب ان يؤخذ بالحسبان من كل خطة يخطوها الوالدين اتجاه الطفل منذ فكرته ونطفته ووجوده في بطن امه بمختلف مراحله.

وهي مرحلة المحاولة لإنجاب الأطفال، سواء كان بالحالة الطبيعية، او بالحالة الصناعية، بين مرحلة تنظيم الإنجاب طبيعيا أو صناعيا، بما فيها محاولات معالجات العقم. واعطت الأبحاث البايولوجية الحق للأفراد بأتباع وسائل بدائية، أو علمية متقدمة في محاولات الحصول على طفل. واعطت التشريعات القانونية للأفراد الحق في الانجاب، أو الحد من الإنجاب، أو المعالجة العقمية لمحاولات الإنجاب. وهذه القواعد تأثرت في وقتنا الراهن بتطور النظريات السياسية والتوجهات الليبرالية الخاضعة لسلطة العلم، ويدخل في ذلك حق المرحلة الجنينية.

اما القواعد التأسيسية لما بعد الإيجاد (الانجاب): مثل : حق مسقط الرأس، وحق الاسم، وحق الحماية، وحق الرعاية، وحق الإمومة، وحق الحياة، وحق الميراث. وتتأثر هذه القواعد كذلك في النظريات الفلسفية، والدينية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية وغيرها. مثل : نظرية شيوعية الأطفال عن أفلاطون التي سبق ذكرها والنظرية الشيوعية الماركسية، والنظرية العدمية، والنظرية الأمريكية البركماتية. والنظرية النازية، وهذه المرحلة تخضع لعدة قواعد منها القواعد الاخلاقية، وقواعد قانونية، وقواعد شرعية، وقواعد تربوية، وقواعد سياسية، وقواعد بايولوجية ونفسية.

وفي المحور الثالث تحدثنا فيه عن التشريعات القانونية، وتساءلنا فيه ؛ من الذي يحدد مرحلة الخروج من مرحلة الطفولة ؟ حدد القانون الدولي والقانون العراقي عمر ما ان اتمه الطفل حتى عد رجلاً بالغاً، وهو تمام الثامنة عشرة من العمر.

وتطرقنا إلى تاريخية القوانين التي شرعت لصالح الطفل وحمايته وضمان حقوقه، وبينا فيه طبيعة تعامل الحكومات العراقية منذ تاريخ الدولة العراقية الحديثة مع حقوق الطفل، والتي كانت ليست بمنأى عن الاستغلال السياسي والايديولوجي، فضلا ًعن التناقض بين التشريع وتطبيق ذلك التشريع، اذ سخر الأطفال لصالح أيديولوجيا حزب البعث في زجهم بمعسكرات التدريب في ما يعرف (اشبال صدام) وطالتهم أيضا الاعدامات والمعتقلات والجوع والموت، بفعل سياسة التجويع، والحصار، واليتم، وفقدان المعيل بسبب الهاء الآباء والأمهات في فعاليات الحزب والعسكرة.

فالمشرع العراقي لم يغفل اهم الحقوق للطفل العراقي، وانصفه واولى رعايته بشكل دقيق، ولكن دائما ما نعاني من مشكلة عدم التطبيق والإهمال والتقصير في ذلك، فقد ضمن المشرع حق الطفل في الحياة، والرعاية، والاسم، والنسب، والجنسية وحق رعاية القاصرين والميراث والموهبة، وغيرها من الحقوق الأساسية الضامنة لحقوقه، وهذا على مستوى الحقوق المباشرة، اما الحقوق الملازمة لحقه في الأمومة، والأبوة، والرعاية الأسرية، والتعليم، والتربية، فقد صدرت قوانين تؤكد على هذا الحق وتضمنه، مثل: قانون الزامية التعليم، والزامية الرعاية الصحية والرعاية وغيرها.

وفي الختام بينا قصدية انجاب الأطفال وهدفيتها ورسالتها، كرسالة إلهية عبر قصتين من القرآن الكريم، وهي قصة إسماعيل وقصة عيسى عليها السلام، والذي كان انجابهم لإبراهيم ومريم عليما السلام بقصد ألهي، وعلى ذلك فالبشر يجب ان تكون لهم قصدية، وهدف، ورسالة من انجاب الأطفال، وليس ترك الأمر للفطرة، والغريزة، ورغبة التكاثر.

***

د. رائد عبيس

أستاذ الفلسفة المعاصرة في جامعة الكوفة

20/11/2024

......................

* القيت هذه المحاضرة في مركز دراسات الكوفة في ندوة حوارية حول حقوق الطفل بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الطفل، وكانت محاضرتنا الموسومة (حقوق الطفل بين النظريات الفلسفية والقوانين) بينا في المحور الأول منها تاريخية التعامل مع الطفولة عبر النظريات الفلسفية التي قدمت رؤية أُحادية الجانب في معالجة مشاكل الطفل، مما جعل الطفل عرضة للتوظيفات السياسية والأيديولوجية ولم تراع فيه براءته ونشأته وتربيته والهدف من إيجاد الأطفال وانجابهم.

يسألونك عن الفلسفة ومقامها ومنفعتها ومقاصدها فقل لما كانت المعاني والمفاهيم لا تعرف إلا بأضدادها ونظائرها فالفلسفة في أبسط معانيها هي المنهج المسئول عن تهذيب الأفكار ونقدها وتقويمها وتأهيلها للممارسة والتفعيل ولها جانبان تطبيقي ونظري يختص الأول بالنهوج والثاني بالآراء والرؤى والتصورات دون أدنى قيد أو شرط سوى العقلانية المشفوعة بالدليل والبرهان.

وأبسط مفاهيم الفلسفة التطبيقية أي في جانبها العملي والإجرائي هو المنهج الذي تشتمل مقاصده على تحليل بنية الوافد إلى العقل من معارف شتى ثم تنظيمها وترتيبها في شكل نسقي يسهل على الذهن استيعابه وتقييمه ثم نقضه وتوجيه تلك المعارف إلى خدمة صوالحه كفرد، وعضو في جماعة ومنتمي إلى وطن وعقيدة ووجهة.

والفلسفة أيضا هي ذلك الميزان الحساس الذي يفاضل بين الرغبات والغايات والطموحات بموازنة ترضي الأنا وينطلق من ما انتهت إليه من قناعات إلى العمل والاجتهاد والابداع ليحقق ما اهتدت إليه الذات ولعل مقدمة (إعرف نفسك) التي طالما رددها الفلاسفة والحكماء في شتى العصور والثقافات هي مفتاح حسن الاختيار وأفضل النهوج للعيش الصادق والآمن مع الذات والأغيار.

وهي النهج الذي يحتكم إليه لاختبار الآراء والعواطف والعادات والتقاليد والنافع من الأعمال ثم انتخاب أيسر الآليات لتحقيقها كما أن الحكمة العملية هي التي تمنح قدرة الذهن على التمييز بين الأضداد والمتشابهات (الاستبداد والحسم، الحرية والفوضى، الالزام والالتزام، الثابت والمتحول، الذكاء والدهاء، النافع والمفيد، الدين والعقيدة، الشرائع والشعائر، الحب والشهوة، مشورة الأيقاظ العارفين و ديموقراطية الدهماء المغيبين، القبيح والمستقبح.) وغير ذلك من الأشباه والنظائر التي تسبب شكلا من أشكال الإشكاليات.

والفلسفة هي دوما القادرة على البحث عن أجوبة مقنعة وبراهين صادقة مثل: ما سبب؟ وكيف يقع؟ ومن هو؟ وماذا يطلب؟. وعن طريق تلك الإجابات تمكن الأذهان من كشف النقاب وفضح المستور ونقد الأكاذيب، ونقض الأوهام.

أضف إلى ذلك كله أن للفلسفة خاصية تنفرد بها عن كل المعارف الإنسانية ألا وهي الجمع بين النقائض والأضاد ويرجع ذلك لكونها الرحم الذي تولدت عنه كل الأفكار والتصورات والرؤى بجميع أشكالها فهي لا تتبرأ من الجنوح والجموح والشطح والالتزام والركوض والرقود وهي تفلح في الوقت نفسه في إعطاء الدواء ومعالجة الجانحين والمجترئين والمتطرفين والرجعيين والجامدين والواقعيين والحالمين ولا تفيق بكل أشكال النقد ولا تعبئ بالنقض غير المبرر.

وهي اللغة التي تستطيع أن تتشكل في أنساق شتى وترتدي جل الأساليب للتعبير عن ما تحويه من أفكار وتصورات ومعاني فتخاطب العوام في قالب النكتة وتعبر عن مكنونها بالضحك والسخرية وهي قادرة على تهذيب وتثقيف أحاديث العلماء وتحمي تعبيراتهم من الغموض واللبس حتى يتحقق التواصل بين المتحاورين وتقترح الأفكار بين المخاطب والمتلقي . فالتفكير الفلسفي يمتلك الآليات التي تمكنه من بناء الأنساق العلمية وفحصها وتفكيك السياقات المعرفية وغربلتها .

وهي الآلية التي يعول عليها المفكرون بخاصة والمثقفون بعامة في إحياء النفيس من الموروث ونقضه وتجديده وتحديثه واستيعاب الطريف والمبتكر وتقييمه وتطويعه وإعادة تشكيله ليتوائم مع العقل الجمعي والروح العام لمختلف الثقافات.

***

أما عن الهجمة غير المبررة على التفكير الفلسفي ومكانة معارفه في المناهج الدراسية فأقل ما يمكننا وصفه به هو عبث حاطب ليل مثل طالب العلم الذي ألقى بآلياته بجية تحصيله أو من أراد القضاء على المرض بترياق الأفاعي أو من استشار البلهاء والحمقى لكتابة دستور وميثاق للمستقبل وحسبه في هذا المقام الاستشهاد بقادة الرأي وزعماء الإصلاح ورواد التنوير في مصر والعالم العربي وذلك في رحلة انتقال المجتمع من طور التخلف والتقليد إلى طور النهوض والتجديد إذ بدأوا بإدخال المعارف الفلسفية في بنية المناهج والمقررات الدراسية والتربوية بداية من أخريات القرن السابع عشر إلى نجاحهم في الاشراف على أقسام تدريس الفلسفة في شتى جامعات العالم العربي والإسلامي.

أما عن دور الفلسفة في نهضة الفكر المصري فتشهد الواقعات والأحداث بأن المتفلسفة المحدثين هم الذيم هذبوا المناهج الدراسية وطوروا المنابر الثقافية ووجهوا الصحافة صوب الغاية الكبرى ألا وهي إعادة تشكيل العقل الجمعي المصري لاستيعاب الوافد من الموروث والجديد من النافع غير المألوف.

وهم أيضا بفضل استيعابهم للمناهج الفلسفية حرروا العقل الجمعي من العديد من القيود التي فرضت عليهم مثل الجهل والخرافة والوعي الزائف والاستبداد والتبعية والخلط بين العقائد والمعتقدات والشائع والمعروف الذي تؤكده التجربة العلمية وراحوا يعودون شبيبة المثقفين على استيعاب مختلف الآراء دون تعصب والاقلاع عن الاندفاع في معالجة الصعاب والمشكلات وأن الأناه والموضوعية هما السبيل الأمثل للحل دون القوة والعنف أو التعلق بالشعارات الزائفة.

وعودوا قادة الرأي من الحكام والوزراء على ضرورة الاستعانة بالنابهين من المفكرين في التشاور.

وبالجملة أن من يتأمل سجل الأعلام في الأدب والعلم والتربية والسياسة والدين سوف يجد في طليعة كل هذه السجلات من تغذوا وفطنوا واستوعبوا النهوج الفلسفية في شتى نواحي حياتهم الشخصية والعملية والعلمية.

ومن المثير للأسف وجود عشرات الاستفتاءات قامت بها أعرق الصحف المصرية حول القرارات والقوانين والحلول المقترحة لحل كل قضايا المجتمع منذ مئة عام بينما نعاني اليوم من جمود فكري يطيح بالمعارف الفلسفية بحجة أنها غير منتجة في المدينة الفاضلة التي يحلمون بها علما بأن تلك الأحلام لا يمكن تحققها إلا بفضل من يريدون طردهم منها وعلى من يشكك في ما أوردته عليه بقراءة وقائع أسس النهضة المصرية ومقابلتها بالواقع المعيش الذي أهملنا فيه المعارف الفلسفية وقيدنا ألسنة وأقلام العارفين من أهلها وادعينا أن المجتمع والمستقبل المأمول ليس في حاجة إلى لغوهم وغاب عن أولئك المشككين أن منابرهم الإعلامية قد عملقت الأقزام وأجلست المشاهير من الجهلاء على الكراسي ومنابر بغير استحقاق.

ونصيحتي التي لن أمّل من تكرار التنبيه على ضرورة التمهل في الإجابة عن السؤال المطروح من نحن وماذا نريد ولماذا؟.

***

أ. د. عصمت نصار أستاذ الفلسفة الإسلامية والفكر العربي الحديث بكلية الآداب جامعة القاهرة فرع الخرطوم

 

ذكر هيرقليطس ان الجوهر الأساسي في الكون هو النار. هو وصل الى هذا الاستنتاج لأنه اعتقد ان كل شيء يتغير. كذلك هو اول من صاغ مقولة عدم امكانية النزول في نفس النهر مرتين. تميّز هيرقليطس بفهمه العميق للتغيير. هو لم ينظر فقط للتغيير الذي يمكن للناس تحقيقه بالافعال المقصودة، بل هو ايضا ادرك ان التغيير يحدث حتى عندما لا يوجد دليل مرئي للتحول. وهكذا، كان شهرقليطس يُعد عبقريا حقيقيا بسبب هذا الكشف وحده. غير ان هيرقليطس كان غير قادر على ان يحدد بالضبط  طبيعة التغيير.

رؤية امبيدوكلس Empedocles

حاول امبيدوكلس التوفيق بين اطارين فلسفيين مختلفين لكل من هيرقليطس و بارمنديس. في الوهلة الاولى، يبدو امبيدوكلس كأنه يعرض حلا دبلوماسيا للخلاف. في لغة اليوم يبدو امبيدوكلس يحاول ان لا يقف الى جانب فيلسوف دون آخر. غير ان التمحيص الدقيق لإقتراحه خلق طريقة جديدة لفهم العالم المادي. امبيدوكلس كان من بين أوائل الفلاسفة الذين حددوا بشكل صحيح الطبيعة الحقيقية للاشياء. من الصحيح ان الاشياء تتغير،لكن عنصرها الاساسي لا يتغير. هذه الفكرة مهدت الطريق لفهم الجزيئات والذرات.

رؤية اناكسيماندر

افترض اناكسيمندر رؤية بديلة تتعارض مع رؤية هيرقليطس و طاليس. هو افترض ان أحسن طريقة لفهم العالم هو البحث عن العنصر الاساسي، حيث افترض ان الحل للمشكلة هو البحث عن العمليات الاساسية والقوى الطبيعية السابقة للتغيير. مساهماته الأصلية كانت توفير رؤية ليست ميثولوجية عن كيفية خروج الاشياء الى الوجود. لكنه لم يستطع اثبات ادّعائه.

مقارنة بين رؤيتي برمنديس و هيرقليطس

لم يكن برمنديس مهتما في اكتشاف العنصر الاساسي. هو عرف ان الناس يتغيرون وان الاشياء عرضة للتغيير. وهكذا، هو استنتج بان هذه المظاهر هي مجرد اوهام. رؤيته كانت في تناقض حاد مع رؤية هيرقليطس حول التغيير. مع ذلك، نجد ان الاطار النظري لبرمنديس قد فشل في تطوير دفاع مقبول حول مفهوم الوهم.

من السهل الإيمان بافتراض هيرقليطس وتجاهل حجة بارمنديس. هيرقليطس لم يعرض فقط اطارا فلسفيا يوضح الطبيعة الحتمية للتغيير، هو ايضا افترض ان التغيير نتاج ثانوي لنظام كوني يسمى اللوغس. هيرقليطس اعتقد ان التغيير في العالم المادي لم يكن عشوائيا ابدا. هذا الافتراض قريب من الفهم الحديث لطبيعة التغيير.

رؤية بروتوغوراس

اعتقد بروتوغاروس ان المعرفة تعتمد على تصور الكائن البشري. لذلك، أعلن بروتوغاروس بان لا توجد هناك طريقة للوصول الى معرفة مطلقة. افترض بروتوغاروس ان وجهات نظرنا الشخصية في شكلها الاساسي هي صالحة حتى عندما يرى الآخرون انها خاطئة. كان هذا منطقيا من زاوية نظر الأجهزة الحسية. شخصان قد يران نفس الحدث لكنهما يختلفان في تفسيره.

رؤية فيثاغوروس

كان فيثاغوروس اول فيلسوف اقترح توضيحا رياضيا للطبيعة الحقيقية للعالم المادي. بكلمة اخرى، هناك اساس رياضي لخلق الاشياء. هذا الافتراض يوضح ايضا لماذا هناك استقرار نسبي ونظام في الكون. هذه تُعد رؤية راديكالية خاصة عندما يقارنها المرء باعلان هيرقليطس ان كل شيء يتغير. فيثاغوروس لم يدّعي النظام فقط، هو ايضا اشار الى الطبيعة المتنبأ بها للتصميم. الفكرة احتاجت مئات السنين للتحقق من صحة ادّعائه. لكن فيثاغوروس ترك بصمته عندما افترض فكرة ان هناك طريقة لوصف الاشياء رياضيا في العالم المادي.

رؤية اناكساجوراس

عمل أناكساجوراس على خطى افكار امبيدوكلس. عندما افترض امبيدوكلس ان الاشياء لا تتغير هو وضع افتراض ان لا وجود هناك لطريقة لتجزئة الاشياء المادية الى جسيمات أبسط. اناكساجوراس طرح الحجة المضادة بان هناك طريقة لتبسيط المادة. هو قال ان الاشياء المادية مركبة من جسيمات اصغر. نقطة الضعف الوحيدة في رؤية اناكساغوراس كانت انه لم يؤمن بوجود الجسيمات الذرية او ما دون الذرة. مع ذلك،افكاره رسخت الفهم العالمي القديم للجسيمات، ومهدت الطريق لاكتشاف الجزيئات.

اليونانيون الأوائل وطبيعة الواقع

يمكن القول ان امبيدوكلس عرض نظرية واضحة وشاملة حول طبيعة الواقع.  كان صائبا عندما قال ان الاشياء تتغير. وفي نفس الوقت، هو كان صائبا ايضا عندما افترض ان الاشياء آمنة في هويتها لأن العناصر الاساسية لا تتغير. فكرته توضح وجود العمليات التحويلية، بينما في نفس الوقت اوضح وجود اشياء يمكن التعرف عليها ولا تتأثر او تتغير بهذه العمليات التحويلية. فمثلا، هناك قوى تحويلية تغير الاشياء الطبيعية التي تحيط بالمنزل. لكن هيكل المنزل يبقى ذاته لعدة سنوات. النقد الوحيد لرؤية امبيدوكلس هي انه استعار عناصره من مصادر مختلفة.

نقد افلاطون لرؤية بروتوغاروس

لم يتفق افلاطون مع افتراض بروتوغاروس في ان المعرفة ذاتية. افلاطون بدأ نقده لإطار بروتوغاروس الفلسفي عبر القول ان رؤية سلفه كانت خاطئة. جادل افلاطون ان الحدس مكّن الناس من تصور المعرفة. لذلك، ادّعى افلاطون ان هناك طريقة لمعرفة الحقيقة المطلقة.

فكرة ارسطو في العلل الأربع

شكّلت فكرة ارسطو في العلل الاربع اطارا رائعا لمساعدة العالم القديم في فهم طبيعة الاشياء. كان المظهر المثير للاشكالية هو فقط العلة الاولى التي سماها ارسطو "السبب الصوري" لأن هذه ليست الطريقة التي يفسر بها الناس الحديثين مفردة السبب.

مع ذلك، التغيير في المنظور سوف يمكّن القراء من ادراك ان السبب الاول هو في الحقيقة تصميم الشيء. بالاضافة الى ذلك، يمكن القول ان ارسطو لم يزيل نهجه الابستيمولوجي من الالوهية. لذلك، يمكن تفسير السبب الاول كخالق وراء الشيء. السبب الثاني هو ايضا افتراض رائع لأنه يوضح مادية الشيء. السبب الثالث ايضا تطور رئيسي في الابستيمولوجي لأنه مهد الطريق لفهم العمليات الطبيعية في خلق الاشياء. اخيرا، السبب الرابع مكّن الناس من تنظيم الاشياء والاشياء الحية طبقا لغرضها الخاص بها.

أصناف ارسطو العشرة ونظرية الشكل

ساعدت نظرية ارسطو في الأصناف العشرة للأشياء ايجاد تصنيف باسلوب اكثر تنظيما. هو وفر طريقة لتمييز الاشياء بالاستناد على عشرة اصناف اساسية: 1-الكمية 2- النوعية 3- العلاقات 4- المكان 5- الزمان 6- الموقع 7- التكوين المادي 8- اللانشاط 9- الفعالية 10 الجوهر.

كان ارسطو صائبا عندما ذكر ان هذه الانواع من التصنيف ساعدت الناس في النظر الى الاشياء والكائنات في صورة افضل. ميز ارسطو رؤيته عبر تحديد الأشكال ضمن اشياء معينة.  في حجة الشخص الثالث The Third Man Argument (1) حاول ارسطو توضيح ان الأشكال العالمية ليس لها وجود مستقل. ارسطو كان لديه توضيح افضل معتبرا ان العملات لا تمتلك احتكارا للدائرية.

مقارنة بين رؤية افلاطون وارسطو

يبدو ان فكرة افلاطون حول التغيير والأشكال تجسدت ضمن نظرية شاملة تستلزم الالوهية. بكلمة اخرى، اعتقد افلااطون في السبب الاول الذي هو الله. هو أكّد ان السبب الاول يوضح أصل الاشياء. انه توضيح معقول مرتكز على سياق الفلسفة اليونانية القديمة لأن هناك حاجة لتبرير أصل التغيير. افترض ارسطو طريقة مختلفة. هو لم يعرض تمييزا واضحا او حجة مضادة لموقف افلاطون. ارسطو من جهة اخرى وفر توضيحا لسبب اختلاف الاشياء عن اخرى. هو قال ان "جنس" الشيء او الكائن الحي يوفر نوعا من القالب، يعطي تعليمات حول أي المظاهر  تختلف عن غيرها.

افلاطون وارسطو يتفقان بان احد المكونات الرئيسية للشيء هو مفهوم سمي (الشكل). بكلمة اخرى، العملة تبدو دائرية لأنها تفترض شكل اساسي للدائرة. التصميم الاساسي للعملة يتطلب مفهوم الدائرية. من المهم تسليط الضوء على هذا التشابه بين الرجلين لأن افلاطون وارسطو اعتقدا ان الاشياء تتبع تصميما معينا. غير ان ارسطو عزز الفكرة الاساسية لإفلاطون بتأكيده انه بصرف النظر عن عنصر "الشكل"،فان الشيء ايضا يتطلب مادة. بدون عنصر المادة، يمتنع الشيء عن الوجود

***

حاتم حميد محسن

..................

المصادر:

1- cohen M.(2011). Reading in ancient Greek philosophy. IN: Hackett publishing. Web

2- Moor, B., &Bruder,K.(2008). Philosophy the power of ideas. CA: California state university press. Web

 الهوامش

(1) هذه الحجة هي حجة في التراجع regress يدّعي فيها ارسطو انه لكي نبيّن وجود شكل حتى وان كان شكلا واحدا، يعني ان هناك عدة اشكال لا متناهية منه. هذا التراجع (العودة الى السابق) يمكن اعتباره في ذاته كرفض لنظرية الأشكال لأن الأشكال يجب ان تكون متفردة، والتراجع سيحطم امكانية المعرفة (oxford Academic).

تأملات في أصل وانتشار القومية

المجتمع المتخيل هو مفهوم طوره عالم السياسة والمؤرخ الإيرلندي الأمريكي "بنديكت أندرسون" في كتابه كتاب "المجتمعات المتخيلة: تأملات في أصل وانتشار القومية" Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism Paperback Benedict Anderson حول تطور الشعور الوطني في عصور مختلفة وفي مختلف المناطق الجغرافية في جميع أنحاء العالم. يصور أندرسون الأمة كمجتمع مبني اجتماعياً، يتخيله الأشخاص الذين يرون أنفسهم جزءًا من مجموعة. وقد قدم مصطلح "المجتمعات المتخيلة" كوصف لمجموعة اجتماعية - الأمم على وجه التحديد - ومنذ ذلك الحين دخل المصطلح الاستخدام القياسي في عدد لا يحصى من مجالات العلوم السياسية والاجتماعية. نُشر الكتاب لأول مرة في عام 1983 وأعيد إصداره مع فصول إضافية في عام 1991 ونسخة منقحة أخرى في عام 2006. يعتبر الكتاب مؤثراً على نطاق واسع في العلوم الاجتماعية، ربما يكون الكتاب الأكثر قراءة حول القومية". وهو من بين أكثر عشر منشورات استشهادًا في العلوم الاجتماعية.

يركز أندرسون على الطريقة التي تخلق بها وسائل الإعلام مجتمعات متخيلة، وخاصة قوة وسائل الإعلام المطبوعة في تشكيل النفسية الاجتماعية للفرد. يحلل أندرسون الكلمة المكتوبة، وهي أداة تستخدمها الكنائس والمؤلفون وشركات الإعلام (خاصة الكتب والصحف والمجلات)، فضلاً عن الأدوات الحكومية مثل الخريطة والتعداد والمتحف. تم بناء كل هذه الأدوات لاستهداف وتحديد جمهور كبير في المجال العام من خلال الصور والأيديولوجيات واللغة السائدة. يستكشف أندرسون الأصول العنصرية والاستعمارية لهذه الممارسات قبل شرح نظرية عامة توضح كيف يمكن للحكومات والشركات المعاصرة (وغالباً ما تفعل ذلك) الاستفادة من نفس الممارسات. لم يتم تطبيق هذه النظريات في الأصل على الإنترنت أو التلفزيون.

وفقاً لنظرية أندرسون للمجتمعات المتخيلة، فإن الأسباب التاريخية الرئيسية للقومية تشمل: الأهمية المتزايدة لمحو الأمية العامية الجماعية، الحركة لإلغاء أفكار الحكم بالحق الإلهي والملكية الوراثية (وُلِد المفهوم في عصر كان فيه التنوير والثورة يدمران شرعية العوالم الأسرية الهرمية التي أقرها الله. تحلم الأمم بالحرية. إن مقياس ورمز هذه الحرية هو الدولة ذات السيادة). وظهور رأسمالية الطباعة (التقارب بين الرأسمالية وتكنولوجيا الطباعة. وتوحيد التقويمات الوطنية والساعات واللغة تجسد في الكتب ونشر الصحف اليومية) تزامنت كل هذه الظواهر مع بداية الثورة الصناعية.

ومن هذا، يزعم أندرسون أنه في وجود وتطور التكنولوجيا، بدأ الناس في التمييز بين ما يعنيه الإلهي والألوهية وما هو حقًا تاريخ وسياسة لأن الإلهية وتاريخ المجتمع والسياسة كانا في البداية قائمين على وجود دين مشترك كان بمثابة مظلة توحيد لجميع الناس في جميع أنحاء أوروبا. ومع ظهور المطابع والرأسمالية، اكتسب الناس وعياً وطنياً فيما يتعلق بالقيم المشتركة التي تجمع هؤلاء الناس معاً. بدأت المجتمعات المتخيلة بإنشاء لغات الطباعة الوطنية الخاصة بهم والتي تحدث بها كل فرد. وقد ساعد ذلك في تطوير الأشكال الأولى للدول القومية المعروفة، والتي خلقت بعد ذلك شكلها الخاص من الفن والروايات والمنشورات ووسائل الإعلام الجماهيرية والاتصالات.

الأصل

وفقًا لأندرسون، أصبح إنشاء مجتمعات متخيلة ممكناً بسبب "رأسمالية الطباعة". قام رواد الأعمال الرأسماليون بطباعة كتبهم ووسائل الإعلام باللغة العامية (بدلاً من لغات الكتابة الحصرية، مثل اللاتينية) من أجل تعظيم التوزيع. ونتيجة لذلك، أصبح القراء الذين يتحدثون لهجات محلية مختلفة قادرين على فهم بعضهم البعض، وظهر خطاب مشترك. زعم أندرسون أن الدول القومية الأوروبية الأولى تشكلت بهذه الطريقة حول "لغاتها المطبوعة الوطنية". يزعم أندرسون أن الشكل الأول للرأسمالية بدأ بعملية طباعة الكتب والمواد الدينية. بدأت عملية طباعة النصوص باللغة العامية مباشرة بعد أن بدأت طباعة الكتب بلغات الكتابة، مثل اللاتينية، والتي أشبعت سوق النخبة. في تلك اللحظة، لوحظ أيضاً أن فئة صغيرة فقط من الناس كانت تتحدث بها وكانت جزءًا من المجتمع الثنائي اللغة. كانت بداية الثورة الثقافية والوطنية حوالي عام 1517 عندما قدم الكاهن وعالم اللاهوت الألماني "مارتن لوثر" Martin Luther وجهات نظره بشأن الكتاب المقدس، حيث قال إنه يجب أن يتمكن الناس من قراءته في منازلهم. وفي السنوات التالية، من عام 1520 إلى عام 1540، حملت أكثر من نصف الكتب المطبوعة بالترجمة الألمانية اسمه. وعلاوة على ذلك، يُقال إن أولى الدول القومية الأوروبية التي يُقدَّم أنها تشكلت حول "لغاتها الوطنية المطبوعة" كانت موجودة في المنطقة الأنجلوساكسونية، إنجلترا اليوم، وحول ألمانيا. ولم تكن عملية إنشاء أمة ناشئة في أوروبا الغربية فحسب. ففي غضون بضعة قرون، أنشأت معظم الدول الأوروبية لغاتها الوطنية الخاصة بها، ولكنها كانت لا تزال تستخدم لغات مثل اللاتينية أو الفرنسية أو الألمانية (الفرنسية والألمانية في المقام الأول) للشؤون السياسية.

الأمة كمجتمع متخيل

وفقاً لأندرسون، فإن الأمم مبنية اجتماعياً. بالنسبة له فإن فكرة "الأمة" جديدة نسبياً وهي نتاج قوى اجتماعية مادية مختلفة. وقد عرّف الأمة بأنها "مجتمع سياسي متخيل - ومتخيل على أنه محدود وسيادي بطبيعته". وكما يقول أندرسون، فإن الأمة "متخيلة، لأن أعضاء حتى أصغر أمة لن يعرفوا أبداً معظم أعضائها، أو يلتقوا بهم، أو حتى يسمعوا عنهم، ومع ذلك، في أذهان كل منهم تعيش صورة شراكتهم". في حين أن أعضاء المجتمع ربما لن يعرفوا أبداً كل الأعضاء الآخرين وجهاً لوجه، فقد يكون لديهم اهتمامات مماثلة أو يتم تحديدهم كجزء من نفس الأمة. إن الأعضاء يحملون في أذهانهم صورة ذهنية عن تقاربهم: على سبيل المثال، الشعور بالانتماء القومي مع أعضاء آخرين من أمتك عندما يشارك "مجتمعك المتخيل" في حدث أكبر، مثل الألعاب الأوليمبية. إن الأمم "محدودة" لأنها "تتمتع بحدود محدودة، وإن كانت مرنة، تتجاوزها أمم أخرى". إنها "ذات سيادة"، حيث لا يمكن لأي ملكية سلالية أن تدعي السلطة عليها، في العصر الحديث: ولد المفهوم في عصر حيث كان التنوير والثورة يدمران شرعية المملكة السلالية الهرمية التي أمر بها الله. لقد بلغ هذا المفهوم مرحلة النضج في مرحلة من التاريخ البشري حيث كان حتى أتباع أي دين عالمي الأكثر تديناً يواجهون حتماً التعددية الحية لمثل هذه الأديان، والتشابه [التناقض، الانقسام] بين المطالبات الوجودية لكل دين وامتداده الإقليمي، وتحلم الأمم بالحرية، وإذا كانت تحت حكم الله، فهي كذلك بشكل مباشر. إن مقياس ورمز هذه الحرية هو الدولة ذات السيادة.

ورغم أننا قد لا نرى أحداً في مجتمعنا المتخيل، فإننا لا نزال نعرف أنهم موجودون من خلال وسائل الاتصال، مثل الصحف. ويصف فعل قراءة الصحيفة اليومية بأنه "احتفال جماعي": "يتم إجراؤه في خصوصية صامتة، في عرين الجمجمة. "ومع ذلك، يدرك كل مشارك جيداً أن الطقوس التي يؤديها يتم تكرارها في نفس الوقت من قبل الآلاف (أو الملايين) من الآخرين الذين يثق في وجودهم، ولكن ليس لديه أدنى فكرة عن هويتهم."

وأخيراً، الأمة هي مجتمع، لأنه، بغض النظر عن عدم المساواة والاستغلال الفعلي الذي قد يسود في كل منها، يتم تصور الأمة دائماً على أنها رفاقية عميقة وأفقية. في نهاية المطاف، هذه الأخوة هي التي تجعل من الممكن، على مدى القرنين الماضيين، لملايين عديدة من الناس، ليس فقط القتل، ولكن الموت طوعاً من أجل مثل هذه التخيلات المحدودة.

النقد

كان أول انتقاد رئيسي لنظرية أندرسون من قبل عالم السياسة وعالم الأنثروبولوجيا الهندي "بارثا تشاترجي" Partha Chatterjee الذي يزعم أن الاستعمار الأوروبي فرض بحكم الأمر الواقع حدوداً للقومية: "حتى خيالنا يجب أن يظل مستعمراً إلى الأبد". وقد أشارت مؤرخات نسويات، مثل الأكاديمية البريطانية "ليندا ماكدويل" Linda McDowell إلى أن "القومية لا يمكن أن تكون مستعمرة، بل يجب أن تكون مستعمرة". وقد لاحظ أندرسون قبولاً أوسع بكثير، ولكنه غير انعكاسي للقومية، باعتبارها رؤية جندرية: "إن مصطلح الرفقة الأفقية يحمل معه دلالات التضامن الذكوري" (كما تقول ماكدويل). لا يتناول كتاب "المجتمعات المتخيلة" الطبيعة الجندرية للقومية بشكل مباشر. انتقد الكاهن والمؤرخ البريطاني "أدريان هاستينجز" Adrian Hastings التفسيرات الحداثية لأندرسون لتقييد ظهور القومية بالعصر الحديث والقرن الثامن عشر وتجاهل المشاعر الوطنية في العصور الوسطى والإطار للتعايش الوطني داخل الكتاب المقدس واللاهوت المسيحي. زعم أستاذ التاريخ الأوروبي والعالمي، الأمريكي "دين كوستانتاراس" Dean Kostantaras أن دراسة أندرسون للقومية كانت واسعة للغاية، وأن الموضوع يتطلب تحقيقاً أكثر شمولاً. في عام 2024، زعم المؤرخ الأمريكي "صامويل كلوز هونيك" Samuel Clowes Huneke أن الكتاب عانى من عيوب في إطاره الماركسي، مشيراً إلى أنه "لا يستطيع تفسير التفاني الذي تتمتع به الأمم وتستمر في إلهامه"، بينما زعم أيضاً أن تأكيد أندرسون على "الأمم التي تلهم الحب" يتجاهل تاريخ العنصرية في صعود القومية، مدعياً في النهاية أنه في حين أن الكتاب "يقدم رواية مقنعة لأصول القومية، فإنه يتحدث قليلاً عن المظاهر التي عادت بها القومية إلى الظهور في القرن الحادي والعشرين، في نفس الوقت "إن فكرة أن الانتشار المتزامن للرأسمالية والقومية - وكلاهما كان ملفوفاً بشكل كبير في الاستعمار - لا علاقة له بالعنصرية أمر مثير للسخرية".

مقدمة الكتاب

في مقدمته، يوضح أندرسون ما هو خاص بالقومية من خلال دراسة حالة. في عامي 1978 و1979، غزت فيتنام كمبوديا، ثم غزت الصين فيتنام. وهذا أمر لافت للنظر لأن الدول الثلاث كانت ماركسية، وبالتالي كانت لها أهداف متقاربة في المجال الدولي وكان من المتوقع أن تقف إلى جانب بعضها البعض أثناء الحروب، وليس القتال ضد بعضها البعض. لكن هذه الدول وضعت أيديولوجياتها القومية فوق أيديولوجياتها الماركسية، وسمحت لمظالمها التاريخية ومفاهيمها للهوية العرقية بالوقوف في طريق أهدافها السياسية الطويلة الأجل. وهذا يوضح أن القومية تختلف عن غيرها من المذاهب السياسية: لا أحد يموت من أجل فكرة الليبرالية، لكن الآلاف من الناس يموتون من أجل أوطانهم كل عام. إن فكرة الأمة قوية إلى الحد الذي يجعل الجميع يفترضون أن الجميع ينتمون إلى أمة واحدة؛ والهيئة السياسية الدولية الأكثر أهمية في العالم تسمى الأمم المتحدة؛ و"منذ الحرب العالمية الثانية، كانت كل ثورة ناجحة تحدد نفسها من حيث المصطلحات الوطنية". ولكن أندرسون يلاحظ أن لا أحد يعرف أو يتفق على معنى "الأمة والجنسية والقومية"، وكلما بحث العلماء عن تفسيرات أو مبررات للقومية، كلما بدت أقل منطقية. فعندما يموت شخص ما من أجل وطنه، فما هي تضحيته في الواقع؟ وفقاً لأندرسون، فهي من أجل فكرة: فالأمم ظواهر عاطفية وثقافية، وليست ظواهر ملموسة. ويعرّف أندرسون الأمة بأنها "مجتمع سياسي متخيل ــ ومتخيل على أنه محدود بطبيعته وسيادي". ومثل أي مجموعة أكبر من قرية صغيرة، فإن الأمة "متخيلة" لأن معظم المواطنين لن يلتقوا وجهاً لوجه، ومع ذلك يرون أنفسهم جزءاً من "مجتمع سياسي" يشبه الأسرة، مع أصول مشتركة ومصالح متبادلة و"رفقة عميقة أفقية". وتُرى حدود الأمة على أنها محددة ("محدودة") وتُرى باعتبارها السلطة الشرعية الوحيدة داخل تلك الحدود ("السيادية").

الفصل الأول: تبدأ دراسة بنديكت أندرسون الرائدة للقومية، المجتمعات المتخيلة، برفض الافتراض القائل بأن الأمم وحدة اجتماعية طبيعية أو حتمية. وبدلاً من ذلك، يصف أندرسون الأمة باعتبارها بناء ثقافياً، له تاريخ معين متجذر في سقوط الملكيات والإمبراطوريات، فضلاً عن التقدم المحدد في محو الأمية والتكنولوجيا والرأسمالية. لفهم السمات الأساسية للأمم والقوة المذهلة التي يبدو أنها تتمتع بها على مواطنيها، يشير أندرسون إلى الاستمرارية بين الأمم التي تشكلت في عصور وأماكن مختلفة، والتي يزعم أن العديد منها ناتج عن قيام الدول ببساطة بنسخ بعضها البعض. لكنه يلجأ أيضاً إلى الاختلافات الجذرية بين الأمم، سواء في العصور التي تشكلت فيها واليوم، للإشارة إلى الطريقة التي تعتمد بها على التاريخ وإظهار كيف تحافظ على العديد من الهياكل والميول والتفاوتات المتأصلة في أشكال التنظيم الاجتماعي والسياسي التي حلت محلها.

الفصل الثاني: "الجذور الثقافية"، يزعم أندرسون أن أحد أهم تأثيرات القومية هو خلق المعنى حيث يفتقر إليه - عندما يموت شخص في معركة، على سبيل المثال. عندما تراجعت أهمية الدين وفقد دوره السياسي بعد عصر التنوير، احتلت القومية مكانها بشكل ملائم في إعطاء المعنى لسعي الناس إلى التحسين، وخدمة أسيادهم، وحتى الموت. بعد العصور الوسطى، بدأ الناس من ديانات مختلفة في الالتقاء ببعضهم البعض، وبدأت اللغات العامية تحل محل اللغات المقدسة في المطبوعات، وبدأ الناس يفكرون في "التاريخ كسلسلة لا نهاية لها من السبب والنتيجة"، بدلاً من كونه إرادة الله المقدرة مسبقاً. (يسمي أندرسون هذا المفهوم الجديد "الزمن المتجانس الفارغ"). وينظر أندرسون إلى بعض الأمثلة على الروايات القومية المكتوبة باللغة العامية لإظهار كيف تبدأ في تصوير مجتمع من المواطنين الذين يعيشون في كيان إقليمي محدود، ثم يحلل "الصحيفة كمنتج ثقافي" لإظهار كيف تبني مجتمعًا متخيلاً من قرائها.

الفصل الثالث: "أصول الوعي الوطني"، ينظر أندرسون بعمق أكبر إلى دور النصوص المطبوعة المتداولة بلغات يسهل الوصول إليها بشكل متزايد لجمهور أوسع نطاقاً، والذي يطلق عليه رأسمالية الطباعة. ويستشهد بالإصلاح البروتستانتي كتأثير مبكر مهم ساعد في "خلع" اللاتينية من مكانتها كلغة أكاديمية وسياسية مشتركة في أوروبا. ثم يوضح أندرسون كيف ساهمت رأسمالية الطباعة في توحيد اللغات: اختار الناشرون لهجة "قياسية" للطباعة بها، وهي اللهجة التي يمكن الوصول إليها من قبل جمهورهم بالكامل. أصبحت هذه اللهجات القياسية نسخاً "مرموقة" للغات، ولأنها أصبحت الآن مكتوبة، فقد تغيرت بشكل أقل بكثير من اللغات الشفهية عبر العصور.

الفصل الرابع: وفيه يتطرق أندرسون إلى الحركات القومية الأولى، التي كانت في الأمريكتين (وليس في أوروبا) وقادتها طبقات الكريول النخبوية (وليس الجماهير المحرومة من حقوقها). ولأنهم كانوا يشتركون في اللغات مع حكامهم الإمبراطوريين في أوروبا وكانوا قادرين بسهولة على الوصول إلى فلسفة التنوير الأوروبية، فقد ثارت النخبة الاستعمارية بسهولة وأنشأت حتماً جمهوريات ديمقراطية في العالم الجديد بدلاً من تكرار الملكيات الأوروبية التي قمعتهم اقتصادياً وثقافياً. في النصف الثاني من هذا الفصل، يحاول أندرسون شرح حجم الحركات القومية: لماذا أصبحت الولايات المتحدة دولة واحدة كبيرة، لكن الإمبراطورية الإسبانية انقسمت إلى أكثر من اثنتي عشرة دولة؟ في حين كانت المستعمرات البريطانية "متجمعة جغرافيًا معاً"، مع تكامل أسواق الصحف واقتصاداتها بشكل وثيق، كانت المستعمرات الإسبانية أكثر انتشاراً. وعلاوة على ذلك، في الإمبراطورية الإسبانية، لم يكن بوسع البيروقراطيين المولودين في المستعمرات العمل إلا في أقرب عاصمة استعمارية، ولكن لم يكن بوسعهم أبداً القيام "برحلة حج" طوال الطريق إلى مدريد. ونتيجة لهذا التنظيم الإداري وهذه القيود الجغرافية، نشأ اقتصاد منفصل ونظام صحفي وشعور بالهوية الوطنية في كل إقليم استعماري إسباني رئيسي، ثم أطلق كل إقليم ثورة منفصلة ليصبح بلداً خاصاً به.

الفصل الخامس: "اللغات القديمة، نماذج جديدة"، يتحول أندرسون إلى المئة عام التالية، من حوالي 1820 إلى 1920، عندما بدأت الجمهوريات القومية في إزاحة الملكيات في أوروبا. ومرة أخرى، كانت اللغة حاسمة: بدأت "فئات القراءة" في كل لغة أوروبية رئيسية تفكر في نفسها كمجتمع، كما توسعت بسرعة بسبب نمو البيروقراطيات الحكومية وطبقة برجوازية جديدة (وكلاهما يتطلب في الأساس أن يكون الأعضاء متعلمين). لكن أندرسون يقدم أيضاً سبباً جديداً للقومية: حقيقة أن الأوروبيين كانوا قادرين على تقليد نظرائهم الأميركيين، الذين ثاروا بالفعل وبنوا دولاً. يطلق أندرسون على هذه الظاهرة "القرصنة".

الفصل السادس: "الإمبريالية الرسمية والقومية"، ينظر أندرسون إلى الكيفية التي بدأت بها الدول والإمبراطوريات الراسخة أيضاً في نسخ المجازات القومية في محاولة لدرء الثوار الشعبويين. ويقدم عدداً من الأمثلة على القومية الرسمية، من الإمبراطوريتين الروسية والبريطانية اللتين فرضتا لغاتهما الوطنية على الأقليات اللغوية إلى تايلاند التي نسخت المشاريع الدبلوماسية والبنية التحتية للإمبراطوريات الأوروبية في محاولتها الناجحة في نهاية المطاف لتجنب غزوها.

الفصل السابع: يتحول أندرسون إلى "الموجة الأخيرة" من القوميات، التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية في أفريقيا وآسيا، وتحديداً في المستعمرات المتمردة ضد الحكم الأوروبي. كانت التكنولوجيا الجديدة ونمو البيروقراطية يعنيان أن مواطني هذه المستعمرات يمكنهم المشاركة بسهولة أكبر في الحكومة والقيام برحلات الحج إلى أوروبا. وباعتبارهم صغاراً ومثاليين إلى حد كبير، أصبحوا ثوريين ممتازين، حيث نسخوا استراتيجيات القوميين الأوائل في قارات أخرى وحددوا دولهم على النقيض من البلدان الأوروبية المحددة التي استعمرتهم (ولكن باستخدام نفس اللغات الأوروبية). ولكن لا تزال هناك اختلافات بين هذه الدول: على سبيل المثال، أصبحت أرخبيل إندونيسيا الضخم والمتنوع، الذي استعمره الهولنديون، ولكن حكموه بشكل غير مباشر، دولة واحدة بعد الحرب العالمية الثانية إلى حد كبير بسبب انتشار اللغة الملايوية القياسية (التي تسمى الآن باهاسا إندونيسيا) ومركزية التعليم العالي في عدد قليل من الجامعات في غرب جاوة. وعلى النقيض من ذلك، في غرب أفريقيا والهند الصينية، بنى الفرنسيون مدارس في مدن أكثر إقليمية ولعبوا على الجماعات العرقية ضد بعضها البعض، مما أدى إلى انقسام هذه الأراضي إلى دول أصغر مختلفة.

الفصل الثامن: يتساءل أندرسون لماذا يشعر الناس بالارتباط الشديد بأممهم، إلى حد الموت من أجلها. غالباً ما تسير القومية والعنصرية جنباً إلى جنب، كما أشار العديد من العلماء، لكن القومية تؤدي أيضاً إلى "حب التضحية بالنفس بشكل عميق"، على غرار حب الناس لعائلاتهم. يزعم أندرسون أن القومية مفتوحة دائماً لإمكانية انضمام أشخاص جدد إلى الأمة، على سبيل المثال من خلال تعلم اللغة والتجنس، في حين "تحلم العنصرية بالتلوث الأبدي" وقد استخدمها أشخاص أقوياء في كل مكان، طوال التاريخ، كأداة للقمع. وبناءً على ذلك، يخلص إلى أن القومية لا تسبب العنصرية ولا تؤدي إليها، على الرغم من أنه يمكن التعبير عن العنصرية بلغة قومية.

الفصل التاسع: الاستنتاج الأصلي لمجتمعات متخيلة، يعيد أندرسون التأكيد على دور التقليد و"القرصنة" في تاريخ القومية. يتتبع مثاله الأصلي من المقدمة - الصين وفيتنام وكمبوديا - إلى الدول التي تنسخ نماذج سيئة للقومية الرسمية والثورة الماركسية. مع كون القومية أكثر أهمية بشكل واضح لدول مثل هذه من الإيديولوجيات السياسية التي تتبناها رسمياً، يعتقد أندرسون أن العلماء يجب أن يتوقفوا عن وضع النظرية الماركسية قبل الأدلة ويبدأوا في توقع المزيد من "الاشتراكية الدولية" و"الحروب".

الفصلان الأخيران: هما إضافات لاحقة، محاولات أندرسون لتنقيح حججه في الطبعة المنقحة من الكتاب. ينظر الفصل العاشر إلى ثلاث مؤسسات استعمارية - "التعداد، والخريطة، والمتحف" - يعتقد أندرسون أنها مكنت الثوار بعد الحرب العالمية الثانية من تخيل أراضيهم كأمم (على وجه التحديد في جنوب شرق آسيا، مجال خبرته). استخدمت التعدادات والخرائط الاستعمارية "القياس الكمي المنهجي" لتقسيم الناس والأراضي إلى أنظمة "تصنيف إجمالي"، في حين خلقت الخرائط والمتاحف شعارات ورموز الهوية الوطنية، وحولت التاريخ الحي إلى سلسلة من القطع الأثرية الميتة. ينظر الفصل الحادي عشر إلى دور التاريخ نفسه في سرديات الأمم للهوية. كانت الأمم الأولى تتطلع إلى المستقبل واعتبرت نفسها تخترق أرضًا تاريخية جديدة، لكن الجيل التالي (1815-1850) زعم أن أممه كانت "تستيقظ من النوم"، حيث أدرك شعوبها وحدة قديمة بدائية طويلة الأمد. مع التحول المقابل إلى الوقت المتجانس الفارغ، أصبح التخصص الأكاديمي الجديد للتاريخ أداة رئيسية للأمم لتحديد الروابط العميقة التي تربط شعوبها، وتحديداً من خلال الاختيار الانتقائي لما "يجب تذكره/نسيانه"؛ أي ما يجب تضمينه ومحوه من سرديات الهوية الوطنية.

*** 

د. حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

"اللاوعي ليس فقط هذا الشيء او ذاك لكنه المجهول الذي يؤثر فينا مباشرة"
"أنا لست ما حدث لي، انا ما اخترت ان أكون"
كارل غوستاف يونغ

***

مدخل اشكالي:
يعد التحليل النفسي من اهم النظريات التي حاولت مقاربة الظواهر النفسية وفق منهج جديد اختلف اهل الفكر في تصنيفه منهم من صنفه ضمن دائرة العلوم ومنهم من نظر اليه كتجلي لفكر فلسفي تأملي في النفس وعلاقتها بالجسد والعالم الخارجي ويقصد بالتحليل النفسي الفرويدي ذلك المذهب الذي أسسه فرويد وميز فيه ثلاثة مستويات: فهو على الصعيد الأول طريقة في الإستقصاء تتلخص أساساً في تبيان المعنى اللاواعي لكلام وأفعال شخص ما، وكذلك معنى إنتاجه الخيالي (من أحلام وهفوات، وهذيانات) وهو على الصعيد الثاني طريقة في العلاج النفسي وهو على الصعيد الثالث مجمل النظريات النفسانية والنفسية المرضية التي تنظم من خلالها المعطيات التي تقدمها الطريقة التحليلية النفسية في الإستقصاء والعلاج.
وقد استخدم فرويد باديء ذي بده مصطلحات التحليل، وتحليل النفس، والتحليل النفساني، والتحليل التنويمي، وذلك في مقالته الأولى عام1894 ولم يدخل مصطلح التحليل النفسي إلا لاحقاً وقد قدم فرويد تعاريف عديدة للتحليل النفسي وكتب قائلا: " لقد أطلقنا إسم التحليل النفسي على العمل الذي تجلب من خلاله إلى وعي المريض ذلك المحتوى النفسي المكبوت لديه. فلماذا استخدمنا كلمة تحليل، التي تعني التفتيت والتفكيك وتوحي بالتشابه مع العمل الذي يقوم به عالم الكيمياء على المواد التي يجدها في الطبيعة، والتي يحملها إلى مختبره ؟ لقد تم ذلك لأن هناك ما يبرر ويدعم فعلياً مثل هذا التشابه، في نقطة هامة. ذلك أن أعراض المريض وتجلياته المرضية هي ذات طبيعة تبلغ درجة عالية في تركيبها، شأنها في ذلك شأن كل نشاطاته النفسية؛ ولا تعدو عناصر هذا التركيب في نهاية المطاف كونها دوافع، وحركات نزوية. إلا أن المريض لا يعلم إلا القليل، أو هو لا يعلم شيئاً عن هذه الدوافع الأولية. إننا نعلمه إذا أن يفهم تركيب هذه التكوينات النفسية البالغة التعقيد، ونرد الأعراض إلى الحركات النزوية التي تحركها، وندل المريض على الدوافع النزوية التي كان يجهلها إلى ذلك الحين في أعراضه، شأننا في ذلك شأن الكيميائي الذي يفصل المادة الأساسية، أو العنصر الكيميائي عن الملح الذي ضاعت معالمه فيه من خلال تركيبه مع عناصر أخرى ".
وهكذا يمكن القول ان التحليل النفسي عبارة عن عملية يتم من خلالها استكشاف ماضي (خبرات) اللاشعور، وأحداث وذكريات مؤلمة، فضلاً عن الصراعات والدوافع والانفعالات الشديدة التي تؤدي في النهاية إلى الاضطراب النفسي، وأن التحليل النفسي هو عملية استدراج هذه الخبرات المؤلمة من منطقة اللاشعور وذلك عن طريق التعبير الحر التلقائي (التداعي الحر free association) والتنفيس الانفعالي Catharsis ومساعدة المريض في حل مشاكله. عن طريق التعبير اللفظي والتداعي الحر وتحليل الأحلام. فهو منهج بحث لدراسة السلوك الإنساني. وهو أيضاً طريقة علاج فعالة يتم فيها كشف المواد المكبوتة في اللاشعور، واستدراجها من أعماق اللاشعور إلى مجال الشعور بهدف إحداث تغيير أساسي في بناء الشخصية وهو يرتكز على علاقة شخصية ذات طرفين هما: المعالج والمريض، وهو أحد فروع العلاج النفسي وليس هو كل العلاج النفسي، وليس العلاج النفسي مرادفاً للتحليل النفسي.
وهناك اتجاهان رئيسيان في التحليل النفسي:
التحليل النفسي الكلاسيكي: ورائده سيجموند فرويد Freud.
التحليل النفسي الحديث: وله أكثر من رائد وهم الفرويديون الجدد new Freudians. أمثال كارل يونج Jung، آنا فرويد Anna Freud، ألفريد آدلر Adler، كارين هورني Horney، أوتو رانك Rank، إيريك فروم Fromm، هاري سناك سوليفان Sulivan.
وفي مقالنا هذا سنركز على ثلاثة أسماء بارزة في مدرسة التحليل النفسي (فرويد، يونغ، ادلر) ونتساءل:
كيف يمكننا أن نميز بين فرويد وتلامذته؟ وما هي الاختلافات الجوهرية بين فرويد و تصوراتهما حول منهج التحليل النفسي؟ وهل وجود الاختلاف يؤشر على وجود قطيعة بين فرويد وتلامذته؟

بداية نقول انه على الرغم من التكامل بين اتجاه التحليل النفسي الكلاسيكي والتحليل النفسي الحديث، فإن بينهما اختلافات تظهر عند مقارنة آراء سيجموند فرويد رائد التحليل النفسي الكلاسيكي، ورواد التحليل النفسي الحديث في نقاط محددة:581 tableكارل غوستاف يونغ الذي ظل طيلة حياته يشيد بجهود شیخه فروید، حيث اشتغل معه ما بين 1907 و 1912، لم يبق طويلاً ذلك المريد القنوع بتكرار وجهات النظر الفرويدية، بل أوصلته أبحاثه إلى أن يختلف مع أستاذه حول أمور جوهرية أدت إلى قطيعة علمية بينهما، فجرها كتابه استحالات داخلية ورموز اللبيدو" سنة 1913، لا سيما حول اللبيدو الذي يعتبره فرويد محركاً لحاجيات الكائن الإنساني منذ فجر حياته. فالطفل، من وجهة نظره، لا يعيش، ولا يتلذذ، ولا يعاني إلَّا باللبيدو الجنسي. بينما يرى يونغ أن اللبيدو، عند الطفل، ينشط الوظائف الثانوية ذات الطبيعة النفسية والبدنية أكثر من الوظيفة الجنسية المحلية، فهو لا يقع تحت أولية اندفاعات جنسية وحيدة، ولكنه "قيمة طاقية يمكنها أن تنتشر في أي مجال كان(قدرة، أو حقد، أو جوع، أو جنسانية، أو دين إلخ...) من غير أن تكون نزوعاً نوعياً."
اللبيدو عند يونغ هو "اسم الطاقة التي تتجلى في إجراء الحياة التي ندركها بكيفية ذاتية على شكل أماني ورغبات" لقد استعمل فرويد لفظ لبيدو للتعبير عن "قوة متغيرة بشكل كمي، تسمح بقياس الإجراءات وتغيير المواضع في الإثارة الجنسية: " ولقد تميز يونغ، بشكل مبكر جداً، بهذا الموقف: في سنة 1909، كتب إلى فرويد "الاحظ أن صعوباتي حول مسألة اللبيدو [...] تنبعث ظاهرياً من كوني لم أقرب بعد موقفي من موقفك بشكل أكبر"
وفي سنة 1912يُشكل تصوره الخاص للبيدو بوصفه طاقة نفسية وقال: "إنني أتصور هذه كمماثلة نفسية للطاقة الجسدية [...] ولهذا أرفض كل تحديد نوعي للبيدو" لقد أراد يونغ بالفعل أن يتحرر من التجسيم الذي ارتبط إلى حدود ذلك بنظرية اللبيدو". فلم يرد الكلام إطلاقاً عن غريزة جنسية للجوع، والاعتداء، أو الجنسانية، ولكنه يرى "كل هذه التجليات مثل تعابير متنوعة عن الطاقة النفسية إن الاكتشافات المتقدمة ليونغ حول الطاقة النفسية هي مرتبطة بثقافة عصره في النصف الثاني للقرن التاسع عشر.
لقد كان يونغ دائماً متفقاً مع فرويد حول الدور المهم الذي تلعبه الجنسانية في تطور الفرد. إنها "المذهب الجنساني الشامل الفرويدي الذي لم يقنعه أبداً بشكل تام. فمنذ بداية التقائهما، سنة 1906، كتب في مقدمة كتاب "بسيكولوجيا العته البكور": "إذا قبلت، مثلاً، وجود ميكانيزمات معقدة في الحلم وفي الهستيريا، فهذا لا يدل بتاتاً [...] على أنني أمنح الجنسانية مكانة متفوقة إلى هذا الحد، وأيضاً أقل من أن أعترف لهذه الأخيرة بالشمولية البسيكولوجية المُسلَّم بها من قبل فرويد "
فبالنسبة إلى يونغ، اللبيدو الجنسي لا يستطيع بأي حال تفسير الذهان، خصوصاً(الشيزوفرينيا). وبحسب ملاحظاته، اتجه إلى انتقاد الجانب النسقي والأحادي الجانب لوجهة النظر الفرويدية، وانتهى إلى محو علاماتها. ليس لأنه قد رفض الجنسانية كما قيل ذلك دائماً بطريقة تبسيطية، ولكنه كان يعتقد أنه لا يمكن أن يتم تفسير كل شيء بالاندفاع الجنسي ولا شيء غيره، والذي على منوال الكائنات الحيوانية الأخرى، تَدْخُلُ في الحُسْبَان غرائز أخرى خلال التطور البشري. "لا يستطيع أحد نكران كثافة الحياة عند الطفل، خلال السنوات الأولى، لكن، هل يمكننا أن نقبل، مع فرويد، أن الطفل يحيلنا إما إلى صفة ما هو جنسي (sexuel) لا يعيش، ولا يتلذذ، ولا يعاني إلا باللبيدو الجنسي ؟!" يتساءل يونغ سنة 1913 قبل أن يستنتج أن "اللبيدو، عند الطفل، ينشط الوظائف الثانوية ذات الطبيعة النفسية والبدنية أكثر من الوظيفة الجنسية المحلية"
لم يتوقف يونغ، طيلة السنوات كلها التي استمر تعاونهما الودي عن محاولة إقناع فرويد ليوسع تصوره حول اللبيدو يكتب قائلاً في رسالة بتاريخ 31: "ألا يكون من الممكن التفكير، مارس 1907، مراعاة للتصور المحدود للجنسانية الذي هو مقبول حالياً، وتخصيص ألفاظ جنسية للأشكال الوحيدة القصوى "للبيدو" الخاص بكم؟". ولتعذر الوصول إلى ذلك، انتهى سنة 1911، إلى تحديد تصوره الخاص، إنه لبيدو لا يقع تحت أولية اندفاعات جنسية وحيدة، ولكنه "قيمة طاقية يمكنها أن تنتشر في كل مجال. وفي سنة 1913، في النظرية التحلينفسية، يصف ثلاثة أطوار
للحياة الإنسانية ولتطور الجنسانية. قبل كل شيء، يوجد الطور ما قبجنسي pre-sexuel، الذي يطابق السنوات الأولى للحياة، نحو5-3 سنوات، الممتلئ تقريباً، وبشكل حصري، بممارسة وظائف التغذية والنمو ". بعد ذلك طور قبل البلوغ pre-pubère الذي يمضي من الطفولة الثانية إلى البلوغ و " في أثنائه تتولد الجنسانية" وأخيراً، طور النضج الذي يبدأ في سن البلوغ، إنه سن الرشد.
لا "يُجرد" يونغ اللبيدو " من النشاط الجنسي"، لكنه يريد أن يعطي ثانية المكونات المتعددة للطاقة النفسية، مشروعيتها وقيمتها. وفي ندوة يقدمها بلندن في اوت 1913، يقول: "لقد توصلت إلى استنتاج أن الاندفاعات الدينية والفلسفية - ما يُسميه شوبنهاور "الحاجة الميتافيزيقية" للإنسان - ينبغي أن تُؤخذ بعين الاعتبار خلال العمل التحليلي. لا ينبغي أن تصير مدمرة باختزالها في جذورها الجنسية البدائية، ولكن يجب أن تسهم في خدمة غايات بيولوجية، بصفتها عوامل بسيكولوجية مقبولة."
Psychologie analytique علم النفس التحليلي مقابل التحليل النفسي الفرويدي
إن المعايشة اليومية لحالات انخفاض المستوى العقلي والاكتئاب والعصاب، والذهان، والفصام أو تفكك الشخصية (الشيزوفرينيا)، والانطواء على الذات، والنكوص، إلخ.... أخصبت تجربة يونغ مع حالات مرضية، بل إن جرأة يونغ في أن يقترح نفسه وعدداً من أفراد أسرته وأصدقائه، كذوات مجرب عليها
وقد اختار يونغ هذا اللفظ ليميز طريقته التحلينفسية عن تلك الخاصة بفرويد. لقد تردد بين عبارات مختلفة مثل "علم النفس المعقد" أو "علم نفس الأعماق"، و لقد حصل استعمال هذا اللفظ للمرة الأولى خلال محاضرة حول التحليل النفسي قدمها يونغ في لندن بجمعية الطب النفسي في أوت 1913، تحت عنوان la Psycho-Medical Sociéty "المظاهر العامة للتحليل النفسي". فاستعمله حينئذ ليسمي "علم التحليل النفسي الجديد" الذي خرج من رحم "تقنية التحليل النفسي" وفي سنة 1914، بعد استقالته من رئاسة الجمعية الدولية للتحليل النفسي ، الذي كان أول رئيس لها طيلة أربع سنوات، شكل عدد من الأطباء، حول يونغ، ما سمي حينها مدرسة زوريخ للتحليل النفسي École de psychanalyse de Zürich بالقياس إلى مدرسة فيينا Ecole de Vienne. وفي سنة 1916، نشر يونغ، في آن واحد في نيويورك ولندن، سلسلة مقالات كتبها على امتداد الأربعة عشرة

الفروق بين سيجموند فرويد، وألفريد آدلر
تركزت الاختلافات الأساسية بين أدلر وفرويد على ادعاء أدلر بأن المجال الاجتماعي (الخارجي) مهم لعلم النفس مثل المجال الداخلي (الداخلي). تمتد ديناميكيات القوة والتعويض إلى ما هو أبعد من الجنسانية، ويمكن أن يكون الجنس والسياسة بنفس أهمية الرغبة الجنسية. كما لم يشارك فرويد معتقدات أدلر الاشتراكية. ولقد كان أدلر مهتمًا بالتغلب على ديناميكية التفوق / النقص وكان أحد أوائل المعالجين النفسيين الذين تخلصوا من الأريكة التحليلية لصالح كرسيين. يسمح هذا للطبيب والمريض بالجلوس معًا على قدم المساواة إلى حد ما. جادل أدلر لصالح الكلية، ورؤية الفرد بشكل كلي بدلاً من الاختزال، حيث يكون الأخير هو العدسة السائدة لعرض علم النفس البشري. كان أدلر أيضًا من بين أوائل علماء النفس الذين جادلوا لصالح النسوية والمحللة الأنثوية، حيث جادلوا بأن ديناميكيات القوة بين الرجال والنساء ضرورية لفهم علم النفس البشري.
تتجلى بين فرويد وادلر في الجدول التالي الذي يقارن بينها:582 tableوكتخريج عام تذكر تذكر الدكتورة زهرة إبراهيم أن قطيعة يونغ مع أستاذه فرويد سنة 1913 أدت الى ظهور قناعات مفارقة وفاصلة بين رؤاهما - لا سيما حول دور اللبيدو واللاوعي، والنظرية الجنسانية في تشكيل شخصية الفرد، وتوجيه حياته النفسية - قد خدم بشكل بناء تطور علم النفس، وعلم النفس التحليلي المعاصرين، وبالتالي اجتراح مفاهيم وسعت منافذ الولوج إلى سحيق النفس البشرية. ولاشك ان هذا الامر ينطبق أيضا على ادلر حيث توجد في جميع أنحاء العالم منظمات مختلفة تعمل على تعزيز توجهات أدلر نحو الرفاهية العقلية والاجتماعية. وتشمل هذه المنظمات اللجنة الدولية للمدارس والمعاهد الصيفية الأدلرية (ICASSI)، وجمعية أمريكا الشمالية لعلم النفس الأدلري (NASAP) والرابطة الدولية لعلم النفس الفردي. توجد معاهد وبرامج تعليمية في النمسا وكندا وإنجلترا وألمانيا واليونان وإسرائيل وإيطاليا واليابان ولاتفيا وسويسرا والولايات المتحدة وجامايكا وبيرو وويلز. ترك أدلر وراءه العديد من النظريات والممارسات التي أثرت بشكل كبير على عالم الطب النفسي. تُعرف هذه المفاهيم اليوم باسم علم النفس الأدلري.
***
علي عمرون – تخصص فلسفة

 

إن مفهوم "الطبيعة" يعتبر بشكل عام أساس الفلسفة والسياسة البيئية، إلا أن "الطبيعة" مفهوم غامض في أفضل الأحوال يفلت من التعريف الواضح. لقد نجح الفلاسفة تقليديًا في تجنب هذا الغموض من خلال الدعوة إلى الاختزالية أو التعددية. في كتابه "التفكير مثل المركز التجاري" اختار ستيفن فوجل بدلاً من ذلك الإقصائية، أو "ما بعد الطبيعية". في رأيه، فإن المفهوم التقليدي للطبيعة، بالإضافة إلى الغموض، يحتوي أيضًا على تناقضات مستعصية، وأهمها الصراع الذي حدده في الأصل جون ستيوارت ميل، بين الطبيعة ككل والطبيعة غير البشرية. يرى فوجل أن أيًا من المفهومين لا يوفر أساسًا ذا مغزى لأخلاقيات بيئية - لا يمكن أن تلحق الأنشطة البشرية الأذى بالطبيعة ككل، في حين لا يمكن التفاعل مع الطبيعة غير البشرية دون تدميرها. إن الفكرة الساذجة القائلة بأن الطبيعة الأخيرة يمكن الحفاظ عليها من خلال تركها على حالها، والتي كانت الدافع وراء "مثال البرية" في الحفاظ على البيئة في أمريكا في القرن العشرين، لا يمكن أن تستمر، لأن انتشار التأثير البشري يجعل جميع البيئات الأرضية "إنسانية" إلى حد ما على الأقل. هذه ليست ظاهرة حديثة - فقد حول البشر بيئتهم جذريًا منذ أن تمكنوا من السيطرة على النار. ونظراً لهذه الصعوبات، يزعم فوجل أن مفهوم الطبيعة يثبت أنه عقبة أمام فلسفة بيئية عملية وبالتالي من الأفضل الاستغناء عنه لصالح التركيز على البيئة المبنية كما بناها البشر من خلال العمل المنظم اجتماعيًا. على الرغم من رفضه "الماركسية السياسية"، أي الماركسية اللينينية وفروعها ، فإن ما بعد الطبيعية لفوجل ينتمي إلى حد كبير إلى التقاليد الماركسية الغربية، وخاصة البنائية المبكرة لجورجي لوكاش، كما يتجلى في التأكيد على أن "الطبيعة هي فئة اجتماعية". في حين أن الجذور اللوكاشية لحجج فوجل البيئية أكثر وضوحًا في كتابه السابق، ضد الطبيعة، فإنه يوضح أن "الكثير من حججي ... يمكن اعتبارها تطبيقًا لبعض أفكار لوكاش على الفلسفة البيئية". وبالتالي فإن إعادة تركيز النقد على الفلسفة البيئية غير الماركسية، في مقابل الصعوبات المفاهيمية للنظرية النقدية مع "الطبيعة"، هو تغيير في التركيز وتطوير لحجة أكبر بدلاً من الانفصال الحاد بين العملين. قبل استكشاف ما قد يعنيه "التفكير مثل مركز التسوق"، سوف أقوم أولاً بتلخيص ما يعنيه فوجل بـ "الفلسفة البيئية بعد نهاية الطبيعة". في عام 1989، حذر بيل مكيبن في مرثيته البيئية "نهاية الطبيعة" من أن الاختراق العالمي لتغير المناخ وغيره من قوى التغيير البيئي التي يسببها الإنسان يستلزم خسارة الطبيعة في النهاية لاستقلالها عن التأثير البشري. لقد وصلت الطبيعة بمعنى ما إلى نهايتها، ولا يمكن إنقاذ بقاياها الباقية إلا من خلال التراجع البشري الشامل عن الهيمنة على الطبيعة واستغلالها. يقبل فوجل فرضية مكيبن القائلة بأنه إذا تم تعريف الطبيعة على أنها مستقلة عن التأثير البشري، فقد يقال إنها انتهت، لكنه يقلب حجة مكيبن رأساً على عقب، مشيرًا إلى أنه نظرًا لانتشار التحول البيئي البشري، فمن المستحيل تتبع الإنسانية والطبيعة "الخالصتين" المستقلتين عن التأثير المتبادل. إن افتراض خلاف ذلك يستلزم تبني ثنائية ديكارتية حيث يتم فصل البشر بطريقة ما عن الطبيعة. إن المثل الأعلى للحياة البرية الذي أيده مكيبن يرتكز على إنكار مكانة الإنسان في العالم؛ فنحن لا نقوم إلا بالتدخل في عقول الآخرين مؤقتًا في غيرية الطبيعة. يرى فوجل أن هذه الثنائية الوجودية مرتبطة بالثنائية المعرفية الموجودة في التقليد التجريبي، والتي تؤكد على نحو مماثل على السلبية باعتبارها ضرورية لتحقيق المعرفة بشكل صحيح. وبالتالي تنكر كل من الثنائيتين الطابع النشط بالضرورة للوجود البشري (والكائنات الحية الأخرى) والمعرفة الدنيوية، وتتعامل مع التحولات المادية التي تشكل شروطًا أساسية ضرورية للمعرفة والسلوك باعتبارها لعنة. يتبنى فوجل التركيز على الممارسات المادية للبناء (أي الممارسة) من أجل فهم التفاعلات الاجتماعية والبيئية البشرية. وعلى النقيض من البنائية الاجتماعية الكلاسيكية، التي لديها ميل ثنائي إلى التعامل مع الثقافة والمجتمع باعتبارهما شبكة مجردة تغطي طبيعة قائمة بشكل مستقل، تؤكد البنائية الراديكالية لفوجل على تضمين البناء المفاهيمي في العمليات المادية للبناء الاجتماعي. إن الأمر لا يتعلق فقط بتغيير العالم بل بتفسيره فحسب، بل إن العالم يتغير من خلال عملية التفسير ذاتها. واستناداً إلى ماركس، يزعم فوجل أن هذه القوة الجماعية لإعادة تشكيل بيئتنا وإعادة تصورها مخفية عنا بسبب اغترابنا البيئي، وهو الاغتراب الذي لا ينتج عن الابتعاد عن الطبيعة بل عن طريق تجسيدها كمعيار أخلاقي خارجي. وفي ظل الرأسمالية، يتفاقم هذا التعبد للطبيعة بسبب الظروف الاستغلالية والذرية للإنتاج، والتي تعزل الأفراد وتحرمهم من القوة. وبالتالي، يصبح نتاج عملهم، البيئة المبنية، شيئاً ضدهم، قوة أجنبية خارجة عن سيطرتهم. ولا تتحطم هذه الواجهة إلا عندما نصبح على وعي بالطبيعة باعتبارها من صنعنا. إن هذا المفهوم للطبيعة باعتبارها إنتاجاً بشرياً لا يزال يضرب أغلب الفلاسفة البيئيين باعتباره غطرسة بروميثيوسية. ولكن هذا، كما يزعم فوجل، هو سوء فهم للبناء باعتباره عملية مادية. وهو هنا يستهدف الرواية القصدية للصناعة، أي الاعتقاد بأن النشاط البشري يختلف عن النشاط في العالم الآخر لأنه متعمد وبالتالي فإن التدخلات البشرية الواعية "غير طبيعية". ويؤسس هذا التفسير، على سبيل المثال، ادعاء عالم الأخلاق البيئي إريك كاتز بأن مشاريع الترميم البيئي لا يمكنها أبداً إعادة خلق المناظر الطبيعية بشكل أصيل لأن العمليات المعنية مدفوعة عمدا. وفي مواجهة هذا المظهر الإضافي للثنائية، يزعم فوجل أن النوايا البشرية ليست مدمجة مادياً في محيطها فحسب، بل إنها علاوة على ذلك لا تتوقع نتائج العمل بشكل كامل - فهناك دائماً فجوة بين النية والنتيجة. فالمصنوعات اليدوية ليست مجرد نوايا ظاهرة بل إنها تتمتع دائماً بحياة خاصة بها. وبالتالي، في البناء، يعمل المرء دائماً بقوى خارجة عن سيطرته وفهمه. إن هذه القوى لا ينبغي الخلط بينها وبين الطبيعة المستقلة، كما يحذر فوجل، لأن الطبيعة كمقاومة هي مرة أخرى طبيعة تتجاوز التفاعل البشري. وبدلاً من ذلك، يجب فهم مقاومة المواد في البناء على أنها جزء من عملية البناء نفسها. إن هذا التفسير للقطع الأثرية باعتبارها "برية" يشكل الأساس لحجة فوجل في الفصل الذي يحمل عنوان الكتاب. يشير العنوان إلى مقال ألدو ليوبولد "التفكير مثل الجبل"، وهو مقال أساسي في الحركة البيئية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية والذي يقترح إعطاء الكيانات غير الحية اعتبارًا أخلاقيًا باعتبارها أجزاء لا يتجزأ من المشهد الطبيعي. يزعم فوجل أن حجج ليوبولد، إذا تم قبولها، يجب أن تمتد إلى القطع الأثرية المبنية، حتى تلك القبيحة مثل مراكز التسوق في المدينة. إن ميلنا إلى التعامل مع الجبال بشكل مختلف عن مراكز التسوق لا يعكس فقط الانتشار الثقافي لطبيعة البرية المثالية، بل وأيضًا إهمالنا العميق للبيئة المبنية، والبيئة التي نعيش فيها بشكل أساسي والتي تقع على عاتقنا مسؤولية جماعية لإدارتها. لذلك، في حين أن فوجل لا يدافع فعليا عن حقوق مراكز التسوق، فإنه يعتقد أننا بحاجة إلى أن نكون أكثر وعيا بشأن ممارسات البناء لدينا وبمسألة البيئة التي ينبغي لنا أن نتعامل معها. إن كيفية اتخاذنا للخيارات البيئية الإيجابية تشغل الفصلين الأخيرين من كتاب "البيئة المبنية". وبما أن البيئة المبنية تنتج من خلال ممارسات اجتماعية جماعية، فإن فوجل يؤكد أن الحلول للأزمات البيئية تتطلب عملاً اجتماعياً جماعياً. ولكن ما هي التوجيهات التي ينبغي أن توجه هذا العمل، ومن هم المشاركون الذين ينبغي إشراكهم في صنع القرار والتصرف؟ هنا، تصبح تأثيرات هابرماس على فوجل واضحة ــ فالسياسة البيئية لابد وأن تتحدد من خلال المداولات الديمقراطية، ولأن الطبيعة صامتة فإنها لا تستطيع إلا أن تكون صبورة، وليس مشاركة، في هذه العملية. ومن ثم فهو يرفض موقف برونو لاتور القائل بأن سياسة الطبيعة تتطلب "برلمان الأشياء"، لأن الأشياء "لا تستطيع أن "تتفاوض"، وبالتالي لا تستطيع أن تخدم في أي برلمان". وعلاوة على ذلك فإن فوجل متشكك في فكرة لاتور القائلة بأن "المتحدثين باسم الطبيعة" يمكن أن يقوموا بدور الممثلين للطبيعة، لأن هذا الموقف من شأنه أن يفتح الباب أمام إساءة استخدام من قِبَل بطنانيي الأصوات الذين يخفون مصالحهم الخاصة باعتبارها مصالح الطبيعة. إن النتيجة المترتبة على هذه الاستنتاجات هي أن "القضايا البيئية هي قضايا سياسية" ولا يمكن حلها من خلال الرجوع إلى معايير خارجية خارج المجال السياسي. إن مركزية فوجل الصارخة تجاه الإنسان سوف ينظر إليها باعتبارها مخاطرة بالنسبية. ولكنه يؤكد أن هذا يعني سوء فهم طبيعة المجتمع. صحيح أن اتباع المصلحة الفردية بشكل أعمى دون مراعاة تأثيرها الجماعي من شأنه أن يؤدي إلى "مأساة المشاع"، كما في نموذج جاريت هاردين الذي يتنافس فيه الرعاة على رعي أعداد متزايدة من الماشية على أرض مشتركة. ولكن ما يشكل أهمية بالغة في نموذج هاردين هو أن الرعاة لا يتواصلون مع بعضهم البعض وبالتالي يفشلون في إدارة مواردهم بشكل جماعي. وفي ظل ظروف السوق، نصبح نحن أيضاً معزولين ونشعر بالرغبة في السعي إلى تحقيق ميزة فردية خشية أن نخسر. ولكن إذا تمكنا من التواصل، فسوف نتمكن من تحديد الأهداف والقيم المشتركة، بما في ذلك تقييم البيئة. وهذه القيم المشتركة، بمجرد الاعتراف بها، تفرض قيوداً أخلاقية على سلوكنا البيئي، خشية أن نتعدى على قيم الآخرين. إن الديمقراطية التداولية التي يدعو إليها فوجل، مثل نموذجه الذي يتبنى نظرية هابرماس، يمكن اتهامها بأنها انكماشية ومثالية في الوقت نفسه ـ انكماشية لأنها تحصر الأخلاق البيئية في بناء الإجماع السياسي؛ وهي مثالية لأنها تعتقد أن مجرد زيادة الوعي الاجتماعي من شأنه أن ينتج حلولاً قابلة للتطبيق (على النقيض من التسويات غير الفعّالة مع مصالح الشركات وغيرها من المصالح القصيرة الأجل التي تتسم بها الديمقراطيات الليبرالية على سبيل المثال). ولقد أدى خيبة الأمل في الخطاب البرلماني القائم على الإجماع إلى دفع منافس فوجل اليميني لاتور إلى اقتراح استخدام القوة القسرية من أعلى إلى أسفل لفرض السياسة البيئية. ولكن مثل هذه الاستراتيجيات الفظة تخاطر بتوليد ردود فعل معادية للبيئة لا تقل تعصباً. ولعلنا إذن ينبغي لنا أن ننظر إلى اقتراحات فوجل الختامية باعتبارها مؤشراً ليس على السذاجة بل على الإصلاحية المقيدة التي لا تتعامل مع الديمقراطية التداولية باعتبارها علاجاً لكل داء بل باعتبارها أفضل السبل إلى الأمام. إن التركيز الذي يبديه فوجل ينصب بعد ذلك على الممارسة العملية ـ إن بناء الإجماع أمر صعب، ولكن بالصبر وتعزيز الوعي البيئي، يمكن التوصل إلى حلول عملية مقبولة اجتماعياً. والسؤال الآن هو ما إذا كان الوقت كافياً، في عالم يشهد أزمة بيئية متسارعة، لإجراء إصلاحات اجتماعية جزئية، أم أن الأمر يتطلب اتخاذ تدابير أكثر صرامة. لكن كيف يمكن الحفاظ على البيئة بدون الطبيعة؟ باي معنى نتحدث عن الحياة مع القول باننا في مرحلة نهاية الطبيعة؟
***
د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي
......................
المصدر

Vogel, S. Thinking like a Mall: Environmental Philosophy after the End of Nature. Cambridge, MA.: The MIT Press, 2015.

يُعتبر الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أحد أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين، ومن أبرز الوجوه الفكرية في تاريخ فرنسا، تمركزت أعماله في الكشف عن العلاقة بين السلطة والمعرفة، وتحليل الخطاب بإعتباره آلية من آليات السّلطة، ويتضح مشروع فوكو الأساسي في كتابه " الكلمات والأشياء" الذي يعتبر أهم كتبه والذي كشف فيه ؛عن لا تواصلية الفكر المعرفي الغربي (القطيعة المعرفية)، مبيّناً مقدرة العقل البشري على إكتشاف الأنظمة المعرفية المرتبطة بكل حقبة زمنية منفصلة عن ماقبلها ومابعدها، مايميّز فوكو عن سواه هو تفكيره في اللّا مفكر فيه؛ وهي جملة من القضايا التي لم تكن تشغل معاصريه وهذا ما أكسبه فُرادته وتميّزه. نشر العديد من الأعمال المهمة في تاريخ الفكر إبتداءً من "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي” 1961 والذي يعد باكورة أعماله، تاريخ العيادة، المراقبة والعقاب، حفريات المعرفة، المعرفة والسلطة. وتعتبر أعماله من أكثر المراجع الذي يتم الإستشهاد بها.
الخطاب عند فوكو:
إذا كان الخطاب يعرّف على أنه سلسلة من العبارات والمقولات، المفاهيم والإشارات والدّوال، التي تصدر عن منتج للخطاب وتستند على أوتستثمر رأس مال رمزي للتعبير عن أيديولوجيا محددة، ليصل إلى مجال تأثير مُحدد في البناء، كما أنه مجموعة من الممارسات التي تسمح بتمرير الأفكار عبر المجتمع، مع إختلاف تمظهراته سواء كان مكتوباً، شفاهياً، نثراً أو شعراً . فإن فوكو وبخلاف مايعتقده كثيرين لايفسّر الخطاب من وجهة تحليلية لتوضيح المقاصد والدّلالات التي يحويها الخطاب؛ بل يعمل على تفكيكه وهو ما أشتهر عنه بوصفه فيلسوفاً تفكيكياً*، ومن ثم التعامل معه كمكون مادي له آثاره وسلطاته التي تحدث تأثيرها الإجتماعي. وكما ذُكر آنفاً فإن الخطاب يسمح بتمرير الأفكار عبر المجتمع، ومن هذا المنطلق فإن ميشيل فوكو يتناول الخطاب كاشفاً عن : الشّروط والإجراءات والقيود التي تجعل من أي خطاب مقبولاً وتتيح له إمكانية الوجود، وعن تلك التي تمنع وجود خطابات أخرى. مبيناً أن الكلام ليس بالأمر السهل وأن كثرة الخطابات باتت تمثل خطورة، متسائلاً عن ماهية تلك الخطورة " أفترض أن إنتاج كل خطاب في كل مجتمع،هو في نفس الوقت إنتاج مراقب، منقّى، ومنظم، ومعاد توزيعه من خلال عدد من الإجراءات التي يكون دورها هو الحد من سلطاته، ومخاطره، والتحكم في حدوثه المحتمل، وإخفاء ماديته الثقيلة والرهيبة، إننا نعرف طبعاً في مجتمع كمجتمعنا، إجراء الإستبعاد. أكثر هذه الإجراءات بداهة، وأكثرها تداولاً كذلك هي المنع، إننا نعرف جيداَ أنه ليس لدينا الحق في أن نقول كل شيء، وأننا لا يمكن أن نتحدث عن كل شيء في كل ظرف، ونعرف أخيرأً ألا أحد يمكنه أن يتحدث عن أي شيء كان. " (1) . بمعنى آخر فإن كل خطاب في أي مجمتع لايتم إنتاجه بحرية تامة ؛ إذ أن هنالك مجموعات من الضوابط والقوانيين التي تتحكم في إنتاجه، وتجعله محكموماً بسياق محدد، ومرجعيات وأهداف قبل خروجه في شكله النهائي. وذلك لأن أي خطاب مرتبط إرتباطاً مباشراً بالسلطة، بإعتباره وسيلة للسلطة وإمتلاكه يعني إمتلاك الأخيرة.
لقد أسّس فوكو علماً منفرداً للخطاب، وحدّد فيه مجموعة من القواعد والضوابط الداخلية والخارجية التي تتحكم في إنتاج خطاب حُر شفّاف، وأول هذه الضوابط، هو المنع، حيث أننا نعرف أن في كل مجمتع هنالك ماهو مسكوت عنه أو ما لايجب الحديث عنه، وهنالك العديد من المواضيع التي أُحكِم السياج حولها لحساسيتها، منها ماهو سياسي، ومايتعلق بالجنس، حيث أن الخطابات هنا لاتنتج محايدة وشفافة لإرتباطها بالسلطة والرغبة. وثاني هذه الإجراءات هي الإبعاد عن طريق القسمة (القبول والرفض) وبتوضيح أكثر، تقسيم الخطاب الى خطاب صادر عن عاقل، وخطاب صادر عن غير العاقل (المجنون)** حيث أن خطاب العاقل محط قبول وتقدير لكونه صادر من شخص بكامل أهليته، أما الخطاب الصادر عن مجنون فلا ينظر إليه ولايعطى له إعتبار، وقد توسع فوكو في هذا الإجراء مشيراً الى أن كلام المجنون أو الحمقى كان ينظر إليه في فترة من الفترات في تاريخ أوربا على أنه كلام لايعبر إلا عن الحقيقة، وأنا الحُمق مرتبط بروح متعالية لذلك كان محط تقديس وتبجيل في عصر النهضة، وفي الفترات التي تلته أصبح كلام لايلتفت إليه ويسقط في العدم، وظل كلامًا مستبعداً، لأنه حديث لاقيمة له، وقد كانت عملية القسمة تتم بناءًا على ما تفوه به.
أما الإجراء الثالث والأخير من الإجراءات الداخلية فهو إرادة الحقيقة" التميز بين الحقيقة والخطأ. ويتساءل فوكو" كيف يمكننا أن نقارن مقارنة معقولة إجبارية بقسمات كهذه، قسمات قد تكون جزافية في البداية، أو على الأقل تنتظم حول عوارض تاريخية، قسمات لاتعتبر فقط قابلة للتغير ولكنها في حالة تنقل مستمر، قسمات قد تحملها منظومة كاملة من المؤسسات بحيث تفرضها وتقودها، وهي الأخيرة قسمات لاتمارس بدون إرغام ولابغير قسط ولو ضئيل من العنف" (2) يوضح فوكو في هذا الإجراء أن المحكوم بالكشف عن الحقيقة أو الخطأ القابع في الخطاب في معضلة حقيقة، وهو أن الحقيقة غير ثابتة وأنها قابلة للتغيير والتعديل لإرتباطها بمتغيرات تاريخية؛ فما هو صحيح اليوم قد يصبح غداً خاطئ، فالحقائق العلمية والمعتقدات السياسية، الدينية..... الخ قد تتغير أيضاً مع الوقت، مع العلم أن هذه الخطابات التي تبدو حقيقة في أي آن وحاضر تستمد حقيقتها من الدعم الذي تقدمه المؤسسات التي تقودها، وهي المؤسسات المرتبطة بالسلطة.إضافة لهذه الإجراءات الخارجية التي تمارس على الخطاب، المتعلقة بالسلطة والرغبة، حدد فوكو أيضاً الضوابط والإجراءات التي تعمل على تصنيف وتوزيع الخطاب من الداخل، وأول هذه الإجراءات التعليق، حيث أنه في كل مجتمع، مجال، حقل معين نص أساسي، أو كما يجدر القول خطاب أساسي تتناسل منه مجموعة من التعليقات أو الخطابات الأخرى التي لايمكن أن تخرج في فحواها عن مضمون الخطاب الأصلي، سواء كان نص ديني، سياسي، قانوني، علمي، فلسفي، بمعنى أن تفسير أو تأويل كل نص منفتح على عدد غير محدد من القراءات والتأويلات التي يجب أن لاتخرج عن النص الأساسي. ويعبّر فوكو عن ذلك " إن التعليق ليس له دور، مهما كانت تقنياته المستعملة، سوى أن يقول في الأخير ماكان منطوقاً به بصمت هناك، يتعين على التعليق وفق مفارقة يغير هو موقعها دوماً، وإن كان لايفلت منها أبداً، يتعين عليه أن يقول لأول مرة، ماكان قد قيل من قبل، وأن يكرر بلا ملل مالم يكن قد قيل أبداً" (3). أما ثاني هذه الإجراءات هو المؤلف بإعتباره مبدأ لتجميع الخطاب، وكوحدة وأصل لدلالات الخطابات وبؤرة لتناسقها، إذ أن الخطابات تعطى معانيها من معرفة مؤلفها في شتى ميادين الأدب، الفلسفة والعلوم، غير أن هذا المبدأ لايعمل به في أي مكان بكيفية ثابتة، وقد أشار فوكو على أنه في القرون الوسطى كان معرفة إسم المؤلف يعطي قيمة للنص، وأن النصوص في ذلك الوقت كانت تستمد قبولها وأحقيتها من إسم مؤلفها، إلا أنه في القرن السابع عشر أخذت هذه السمة في الإنمحاء، ولم يعد يعمل به من أجل إعطاء إسم معين لنظرية ما، في المجال العلمي، غير أن وظيفة المؤلف في المجال الأدبي تضاعفت أهميتها على خلاف ماكان في القرون الوسطى، حيث أن معظم النصوص مجهولة القائل، وباتت معرفة إسم المؤلف ذات إهمية، إذ أنها باتت تقود للعديد من الأسئلة، على شاكلة من أين أتت، من هو كاتبها، ويطلب من المؤلف أن يحمل معه المعنى الخفي الذي يخترق هذا النصوص، وأن يربطها بحياته الشخصية وماعاشه من تجارب، فالمؤلف هو من يعطي اللغة مظاهر وحدتها، وبؤرة تماسكها، واندراجها في الواقع.
وثالث الضوابط والإجراءات الداخلية التي تعمل على تشكيل وإبداع الخطاب هي الضوابط المتعلقة بالفروع العلمية، حيث أن لكل فرع علمي، ضوابطه، أدواته، منهجياته المتبعة واللازمة في عملية التحليل، وأن الكاتب داخل أي حقل علمي مُلزم بقواعد ومحددات الفرعي العلمي المُحدد، وأن العمل خارج هذه القواعد تجعل الخطاب وإن كان ذو نتائج صحيحة، خطاباً ممسوخاً لكونه خطاب لايندرج تحت الشروط العلمية التي تعمل على إنتاجه، بإعتبار إن الخطأ في الفروع العلمية ضمن قواعدها وضوابطها ومناهجها أهم من الحقائق الممسوخة، تلك التي قد تكون صحيحة ولكنها لا تتضمن محددات الفرع العلمي.
وعلى سبيل المثال فإنه وإبتداءً من نهاية القرن السابع عشر كان لأي قضية أن تكون نباتية شريطة تعلقها بالبنية المرئية للنبتة، وبمنظومة تشاباتها القريبة والبعيدة، أو بألية سوائلها، حيث لم تعد كما في القرن السادس عشر، إذ يطلق على القضية أنها نباتية إذا أحتفظت بمجموع خصائصها التي كان يعترف لها بها في القديم.
أما في القرن التاسع عشر فلم يعد ينظر للقضايا الطبية على انها طبية إذا؛ إستخدمت مدلولات الإنسداد، السوائل المسخنة، أو الجوامد المجففة، بل يتعين عليها استخدام مدلولات مجازية أيضاً، لكن مبنية على نموذج أخر، نموذج وظيفي وفسيولوجي. ولكي تنتمي أي قضية لمجال معيّن، كان لابد أن تسجّل نفسها ضمن أفق نظري محدد، ولقد إستشهد فوكو بذلك بالعالم البيولوجي " مندل"*** الذي أحدث طفرة في علم الوراثة بتحديده الطفرة الوراثية كموضوع بيولوجي جديد، ولكن لم يلتفت إليه لكونه خرج عن قواعد وضوابط الفرع المعرفي، وبهذا فهي ممسوخة. في الوقت الذي كان فيه العالم شليدين**** ومنذ ثلاثين عام لم يكن يصوغ سوى خطأ منتظم ضمن السياق المعرفي مما جعل خطابه غير ممسوخ ومقبول .
وقد حدد فوكو أيضاً مجموعة ثالثة أخرى من الإجراءات والشروط التي تتمكن من مراقبة الخطاب، ولكنها لا تتعلق بالتّحكم في السلطة التي يحملها الخطاب، أو الحد من ظهورها بل هي التي تحدد شروط إستخدام الخطاب، وفرض عدد من القواعد على الأفراد الذين يلقونها، وبالتالي هي تعمل على تقليل الذوات المتكلمة،الأمر الذي أدى إلى تكوين جمعيات الخطاب، وهي التي لاتسمح لكل من هب ودب في الحديث في المجال المحدد، من دون أن تكون له علاقة به، فجمعيات الخطاب تفرض مجموعة من الشروط والإمكانيات والمؤهلات التي تسمح لفرد ما بالدخول ضمن الخطاب، مثل جمعيات الطب، الهندسة، المحاماة، المحاسبة، فلابد لأي متحدث ضمن هذه المجالات أن يكون ممتلكاً المؤهل العلمي الأكاديمي الذي يسمح له بالحديث داخل إطاره، ومن دون ذلك فهو لايمتلك سلطة الحديث، لأن الخطاب يملك فعاليته حين صدوره من متحدث يملك هذا الإمتياز، ويتحدث فوكو أيضاً عن شرط آخر من الشروط وهي المذاهب الدينية، السياسية، والفلسفية والتي هي بخلاف جمعيات الخطاب التي لايمكن أن يتدوال فيها الخطاب سوى في عدد محصور من الافراد، فإن المذاهب كما هو معروف تميل للإنتشار، وبواسطة الخطاب المشترك لنفس المجموعة الواحدة. حيث يعرف عدد الأفراد انتماءهم مهما كان عددهم، شريطة الإعتراف بنفس الحقائق والشروط وقبول قاعدة معينة، مرنة إلى حد ما للتوافق مع الخطابات المصادق عليها، وفي هذه الحالة تكون مراقبة الخطاب على الشكل المنطوق والمضمون وليس على الذات المتكلمة.
وآخر هذه الإجراءات التي تحدد شروط إستخدام الخطاب هي التربية، إذ أنها هي التي تمنح الحق قانونياً في أن ينخرط أي فرد في المجتمع، بشكل مشروع في الخطاب، ومن المعروف أن التربية تتبع في توزيعها، وفيما تسمح به، وفيما تمنعه، الخطوط المطبوعة بالتباينات والتعارضات والصراعات الإجتماعية، وأن المنظومة التربوية عبارة عن طريقة أساسية للإبقاء على تملك الخطاب والاندراج تحته، أو لتعديل هذا التملك.
ختاماً: يعتبر نظام الخطاب من الكتب المهمة لفوكو، لأنه يمثل تلخيصاً لكتب فوكو، التي سبقت هذا الكتاب، بالإضافة لأنه أفصح عن مشاريعيه التي تم إنجاز البعض منها وأخرى لم تكتمل (الجنسانية).
***
مودة جمعة
........................
الهوامش
* يرفض فوكو وضعه في أي أطر أو قوالب.
** راجع كتاب – الجنون في العصر الكلاسيكي – الطبعة الأولى 2006- المركز الثقافي العربي، الدّار البيضاء.
*** غريغور يوهان مندل نمساوي ورجل دين وعالم نبات وهو مؤسس علم الوراثة الحديث.
**** ماتياس شلايدن عالم ألماني اشتُهر باكتشاف ان جميع النبات تتكون من خلايا
(1) نظام الخطاب ص 4
(2) نفس المرجع ص 7
(3) نفس المرجع ص 13

بين التأصيل العلمي والافتراض الفلسفي

فرش اشكالي: احتل مفهوم الوعي الصدارة في الفكر الكلاسيكي على اعتبار أنه خاصية الانسان العاقل فهو جذر كل تفكير وأساس كل استدلال ومرتكز كل العمليات العقلية - على حد تعبير هاملتون- إنه يتحكم في مدركاتنا ويحدد نظرتنا لأنفسنا والعالم الخارجي ويصاحبنا في كل ما نفكر فيه وما نفعله ويسيطر على ارادتنا ويراقب ويوجه رغباتنا وهو بهذا المعنى يتماهى مع الحياة النفسية في وحدة لا انفصام فيها واذا كان الانسان من الممكن ان يتحرر من بدنه في النوم فانه من منظور ابن سينا يستحيل ان يتجرد من وعيه وشعوره ومن هنا كان الوعي عند مؤسس العقلانية والحداثة في الفكر الغربي رونيه ديكارت العلامة الحقيقية على سيادة الذات المفكرة مادام الوعي يحقق لصاحبه فضيلة النظام ويرتقي به الى مراتب النضج والكمال.
لكن رغم التمسك بمركزية الوعي وسيادة الأنا في الفلسفة التقليدية ظهر طرح آخر مناقض ركز فيه اصحابه على وجود دوافع خفية لا يعيها الفرد تحركه وتدفعه نحو سلوكات معينة وهي دوافع كامنة في لا وعيه وقد تجلى ذلك بوضوح في اطروحات ليبنتز وشوبنهاور ونيتشه لتبلغ ذروتها عند اصحاب مدرسة التحليل النفسي مع مؤسسها فرويد وتلامذته ادلر ويونغ ... هو طرح مناقض احتل فيه اللاشعور مساحة واسعة وتم النظر اليه كجانب خفي ومظلم وكمستودع للرغبات والميول والافكار والذكريات المكبوتة واضحى الانا في نظر فرويد ليس سيدا حتى في بيته وبعدها كان ينظر الى الشعور كمفتاح لفهم الانا من منطلق ان الفكر قادر على حدس احواله وافعاله اصبح ينظر الى أفعال الانسان على انها أفعال في الغالب لاشعورية،هذا التقابل في المفهوم بين الشعور واللاشعور والتناقض في الطرح يدفعنا بداية الى التساؤل:
-هل يستقيم منطقيا وواقعيا الاقرار بوجود حياة نفسية لاشعور في ظل التسليم بان الانسان كائن عاقل؟
-هل فكرة اللاشعور تمثل حقيقة علمية ام يبقى مجرد افتراض فلسفي؟
-هل منهج التحليل النفسي يمثل نظرية علمية ام هو امتداد للمناهج الفلسفية؟
-وهل حقا فرويد لم يكن عالما؟ والى حد يمكن الثقة بأفكاره؟
-وهل لازلنا بحاجة الى منهج التحليل النفسي؟
أولا: التشكيك في علمية التحليل النفسي واعتبار فرضية اللاشعور فكرة فلسفية بالأساس
يؤكد المشككون في علمية منهج التحليل النفسي انه لا يرتقي الى مرتبة النظرية العلمية فهو من منظور كارل بوبر شبه علم بل يمكن ادراجه ضمن دائرة العلوم الزائفة.
والتهجم على منهج التحليل النفسي يرتكز على مبررات عديدة منها انه تم تأسيسه على مسلمة اللاشعور وهي مجرد افتراض فلسفي يحمل تناقضا متنكرا فمن غير المنطقي التسليم بوجود عقل لا يعقل ونفس لا تشعر ما دمنا نصف الانسان بانه كائن عاقل إضافة الى ان نتائج هذا المنهج لا تقبل التعميم . ذلك أن الطريقة التي اعتمد عليها فرويد في تبرير الكبت اللاشعوري لا يمكن تعميمها على جميع الأفراد لان تطبيقه كان على عينة خاصة ومحدودة من المرضى فقط وقد أكد الباحث ستيغنر بأن فرويد لم يقم بحوثه على اي دراسات فعلية على الأطفال، وفي النفس السياق نجد الفرنسي ميكال بورغ جاكوبسن نشر في كتابه «مرضى فرويد: المصائر» ما اكتشفه عن حقيقة الحالات التي قيل إن فرويد عالجها بفضل
جلسات التحليل، وكتب قائلا: " كل نظريات فرويد بُنيت على دراسة حالات محدودة كـ(دورا) و(آنا او) و(رجل الذئاب) و(دانيال بول شريبر) هذه الحالة الأخيرة استحوذت على اهتمام سيغموند فرويد، الذي قدم تفسيًرا تحليلًيا نفسًيا لأعراضه في مقال "ملاحظات تحليلية نفسية على حساب السيرة الذاتية لحالة جنون العظمة" سنة 1911حيث نظر الى حالة شريبر على أنها مظهر من مظاهر الرغبات الجنسية المثلية المكبوتة والصراعات الأوديبية لم يتم حلها، والمتجذرة في علاقته مع والده الاستبدادي ويؤكد صاحب هذا الكتاب " انه حين نبحث في الأرشيف، الذي تمكنا من الحصول عليه بعد عقود طويلة ظل فيها مسجلاً تحت (سرّي)، نجد أن ثلاثاً أو أربع حالات فقط كُتب لها الشفاء، وهذا رغم تأكيداته المعاكسة" وتفيض هارييت هال بمزيد من التفصيل في مجلة: (Science based in medicine) " كان أسلوب فرويد غير علمي ولم يختبر أفكاره مع التجارب التي قد تكون منافية لمعتقداته وتجاهل الحقائق التي تتناقض مع معتقداته" .
ومن عيوب منهج التحليل النفسي خلوه من التنبؤات الحقيقية، فهو يفسر لنا ما وقع ولكنه عاجز عن التنبؤ بما سيكون والعديد من العلماء اعترض على أن نظرية فرويد غير مدعومة بنتائج بحثية وعلمية، ففي الحقيقة بعد أن بدأ علماء النفس بإعادة دراسة الكثير من أفكاره توصلوا إلى عدم صحة بعضها علميا، وعدم إمكانية إثباتها أو دحضها من خلال التجربة لتصبح مجرد فرضيات وما يأخذ البعض على فرويد انه لم يستخدم الأساليب التجريبية والتقييمات الموضوعية، وإنما كل نظرياته قائمة على الوقائع والخيالات التي كانت ترويها له شخصياته المريضة، والتي كان يسجلها بعد ساعات من سماعها، مما يجعلها هي ذاتها موضع شك، وهو لم يحاول التحقق من أقوال المرضى بمضاهاتها بأقوال أي من معارفه أو بأي طريقة أخرى اعتمادًا على ثقته في التداعي الحر.
من عيوب هذا المنهج غياب الموضوعية وافتقاره الى اللغة العلمية ورغم ادعاء فرويد الموضوعية في البحث والاحتكام الى منطق التجريب لا التجريد إلّا أن هذا لم يمنعه من الاستشهاد، طيلة مسيرته، بعشرات الأسماء والمفاهيم والأطروحات الفلسفية، وهو الذي عرف الفلسفة والفلاسفة عن قُرب في شبابه، من خلال حضوره لدروس الفيلسوفين فرانز برينتانو وتيودور غومبيرز، وترجمته نصوصاً للفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل .
من هنا حاول البعض ادراج التحليل النفسي وما يحفل به من مصطلحات وما ينطوي عليه من قصص ونتائج ضمن دائرة الادب والفن فالباحث السويدي نيلز ويكلند نشر في المجلة الفرنسية «الأزمنة الحديثة» مقالاً تم تداوله كثيراً بعنوان «لماذا لم يحصل فرويد على جائزة نوبل؟» شرح فيه الأسباب التي جعلت لجنة «نوبل» ترفض منح فرويد جائزة الطب، رغم أنه رُشح لها 12 مرة ما بين 1915 و1938، مُلخصاً الدوافع في انعدام الثقة لدى الأوساط العلمية في أفكار فرويد، بسبب غياب الدلائل العلمية التي تبرهن على صحّتها. والأدهى -كما يضيف- هو أن الطبيب الذي فشل في إقناع المجتمع العلمي بقيمة نظرياته، قد نجح لحدّ ما في الحصول على اعتراف الأوساط الأدبية بقيمة أعماله، حيث مُنح جائزة «غوته» التي تكافئ أحسن الأعمال الأدبية الألمانية عام 1930، كما رشّحته بعض الشخصيات كالكاتب الفرنسي رومان لوران لجائزة نوبل للآداب عام 1936؛ حيث كتب هذا الأخير في رسالة التوصية التي بعث بها لأعضاء لجنة نوبل ما يلي: “ أعلم أنه للوهلة الأولى سيبدو ترشح العالم اللامع أكثر توافقاً مع جائزة في الطب، لكن أعماله العظيمة فتحت طريقاً جديداً لتحليل الحياة العاطفية والفكرية، وأثرت على الأدب بقوة على مدار ثلاثين سنة”. ويتفق عالم النفس هانز آيزنك مع هذا الطرح مؤكدا على أن فرويد عبقري ولكن " عبقري في الترويج والإعلان والإقناع والفن الأدبي وليس في العلم والإثبات القوي وانشاء التجارب" ودراسته ككاتب في أقسام اللغة والأدب أفضل من دراسته كعالم في أقسام علم النفس.
كما نجد ميشال اونفراي في كتابه أفول صنم: الأكذوبة الفرو بدية " يهاجم فرويد بحدة مؤكدا ان أغلب الحالات التي أعلن عن شفائها لا وجود لها أبدا وانه اسقط حياته الشخصية على بحوثه يقول:" أراد فرويد بناء "علم"، ولم ينجح. أراد أن "يثبت" أن اللاوعي له قوانينه ومنطقه الجوهري وبروتوكولاته التجريبية ولكن للأسف كذب ليزين نفسه بالشعارات العلمية. لقد سرق أفكار نيتشه وشوبنهاور"
ويؤكد ميشال اونفراي أن التحليل النفسي تلفيق، وخيال، وبناء أدبي، ومنتج فني، وبناء شعري بالمعنى الاشتقاقي.فقد تعمد فرويد تشابك الخصلة، وطمس المسارات عمدا، ومحو الآثار، وزور نتائج اكتشافاته، ومارس في أغلب الأحيان الرخصة الأدبية بالاختباء وراء الذريعة العلمية، ودمر المراسلات، وسعى لتخليص أخطر ما عرّض بريق أسطورته للخطر التحليل النفسي وهو التنكر لفضل شوبنهاور ونيتشه ففي عام 1914، في مساهمة في تاريخ حركة التحليل النفسي، ادعى فرويد أنه قرأ شوبنهاور بالتأكيد، لكن نظريته في القمع لا علاقة لها بكتاب "العالم كإرادة وتمثيل"، على الرغم من أنه هو نفسه تمامًا. يسبقه بأكثر من نصف قرن! ويمكن لقارئ كتاب فلسفة اللاوعي الذي ألفه إدوارد فون هارتمان أن يشير أيضًا إلى أوجه تشابه أخرى بين فرويد وهذا الفيلسوف الألماني وتظل الحقيقة أن الفرويدية تبدو فرعًا فريدًا من النيتشية بالنسبة لأي قارئ حتى لو كان لديه القليل من المعرفة بالفلسفة.
ولقتل الآب الذي يمثله نيتشه، حاول فرويد تجاهله، وقلل من وجوده، بل حاول اغتياله رمزيًا عن طريق تشويه سمعة الرجل من خلال قراءة أخلاقية ماكرة. يصبح فيها نيتشه مثليًا جنسيًا، ومنقلبًا، ومترددًا على بيوت الدعارة الذكورية حيث أصيب بمرض الزهري في نهاية وجوده، فقد كتب فرويد في رسالة إلى أرنولد تسفايج (11 مايو 1934): " خلال شبابي، كان [نيتشه] يمثل بالنسبة لي نبلًا كان بعيدًا عن متناول يدي. تعرف عليه صديق لي، الدكتور بانيث، في إنجادين وكان يكتب لي الكثير من الأشياء عنه. "
لقد أخفى فرويد حسب ميشال اونفراي احتياجاته الفسيولوجية، وادعى الموضوعية. ومعه يأخذ إخفاء هذه الأدلة وتمويهها منحىً غير عادي. وبكل تأكيد التحليل النفسي هو تفسير لجسد فرويد ولا شيء غيره. لكن فرويد يقول عكس ذلك تماما: التحليل النفسي هو تفسير لجميع الأجسام، باستثناء جسمه. إنها تمثل، للعين الواعية، قراءة ذاتية لمأساة وجودية شخصية تحمل ختم الرغبة في سفاح القربى؛ فعندما كان طفلا كان يرغب في أمه بخيال سفاح القربى: فرويد كشخص بالغ ينظر إلى عالمية ما يسمى بعقدة أوديب. نيتشه يعطي مفتاح هذه المغامرة للجميع. لم يرد فرويد أن يسمع عن هذا المفتاح، فهو يعلم أنه يفتح غرفة مظلمة مليئة بالفئران الميتة، والثعابين الانتقامية، والحشرات الجائعة....
ويعتبر جاك فون ريلر، أستاذ علم النفس في جامعة لوفان ببلجيكا، أكثر من هاجم فرويد ومناهجه العلاجية، حيث شرح في كتابه «أوهام التحليل النفسي» ما يلي: «وصلنا إلى خلاصة مفادها أن التحليل النفسي لم يكن أكثر من ظاهرة ثقافية عرفت الرواج في حقبة تاريخية، كان فيها التوجه السائد للنخبة هو تبجيل كل ما يأتي في السياق الحداثي، لكن سرعان ما استيقظ الكلّ ليكتشف أنه لم يعالج أحداً، وأننا نعيش في أوهام منذ عقود...» كما رفض من قبل جون بول سارتر فكرة اللاشعور واعتبره مجرد "خداع النفس" وعنده أن منهج التحليل النفسي تأسس على أفكار ميتافيزيقية وما يعاب على فرويد ربطة هذا المنهج بمجموعة من التفسيرات الفلسفية والاساطير ومثال ذلك حديثه عن غريزتي البقاء (ايروس) والموت (ثاناتوس) وكذا عقدة اوديب وعقدة إلكترا وملخص أسطورة أوديب كما وردت في مأساة سوفوكليس ان العراف قال لملك طيبة انذاك (لايوس) بانه سيقتل بيد ابنه، وفي ذلك الوقت كانت زوجته حاملا فلما ولدت أوديب أمر الملك بان تدق مسامير في أقدام الوليد وهو السر في تسمية الطفل "أوديب" أي صاحب الاقدام المتورمة وكذا اسطورة الكترا الإغريقية، التي أرادت من أخيها أن يتأر لموت أبيها أغامينون، وذلك بقتل أمهما كليمنسترا، وذلك لأنها شاركت في قتل زوحها، والد الكترا .
ومن عيوب منهج التحليل النفسي تركيره على الفرد من دون الالتفات إلى تأثير البيئة والمجتمع والثقافة. وقد اعتبرت اراء فرويد قاصرة لتركيز نظريته على العامل الجنسي فقط متناسيا العوامل الأخرى التي تساهم في بناء نفسية الفرد يقول الفيلسوف الفرنسي الان:" الفرويدية الذائعة الصيت هي فن اختراع حیوان مخيف داخل كل إنسان من خلال علامات عادية" وقال أيضا: " اللاشعور" احتقار للأنا وعبودية للجسد"
و كتب رينيه بومبيي وهو مشكك وباحث فرنسي كتاباً بعنوان علم نفس الحياة اليومية أو عندما ينتقل فرويد من الصباح إلى المساء كناية عن الاشكاليات المتعددة التي يواجهها فرويد في طرحه بهذا الكتاب. بدءاً من إشكاليات الاقتباس وانتهاءاً بالمغالطات العلمية الواضحة ومن الأمثلة عن غياب التأصيل العلمي أن هناك كُتباً قبل فرويد قدمت تفسيرات مقنعة عن الهفوات. وأستخدم فرويد احدها لميرانجر والمنشور في عام 1895 حيث ذكر الكتاب توضيحاً استعان به فرويد في كتابه الصادر سنة 1904 وفي مقاله الأخير اقتبس فرويد نفس المقال دون ذكر المصدر. ويضاف الى ذلك التناقض بين بعض اراء فرويد وما اثبته علم النفس ففرويد مثلا يقول ان نسيان الاسماء كنوع من الهفوات في اذهاننا سببها قمع المشاعر والدوافع تحت ضغط التربية الاخلاقية كالأنانية والغيرة والعداء والتيارات الجنسية المختلفة، لكن علم النفس الحقيقي اثبت ان تذكر اسماء العلم بسرعة وبدقة يصبح صعبا بشكل متزايد عندما نكبر في السن.
وذهب كارل بوبر إلى أن التحليل في صيغته الحاضرة علمٌ زائفٌ لأنه محصَّن بطبيعته من التكذيب، ونقد بوبر للتحليل النفسي هو نقد منطقي بالأساس، وينصب على «الصورة» أو «الصغية» المنطقية للنظرية باعتبارها " غير قابلة للتكذيب من حيث المبدأ " يقول بوبر في «منطق الكشف العلمي»: «إن النسق الذي ينتمي إلى العلم التجريبي ينبغي أن يكون في إمكان التجربة أن تكذبه، وهكذا، فعبارة «قد تمطر السماء هنا غدًا أو لا تمطر» لن تُعتبر عبارة تجريبية، لسبب بسيط وهو أنها لا يمكن تفنيدها، على العكس من عبارة «ستمطر السماء هنا غدًا» التي ستؤخذ على أنها عبارة تجريبية.» أمَّا العلم الزائف فهو يرفض من حيث المبدأ السماح بإجراء عملية التكذيب على قضاياه، فقضايا التحليل النفسي مثلًا لا تعدو أن تفسر الأوضاع الممكنة للأشياء دون أن تشير إلى حالة الأشياء الملاحَظة، ومن ثُمَّ لا يمكن تكذيبها بالملاحظة. إن النسق النظري للتحليل النفسي كله نسق لا وصفي، فهو يتساوق مع كل ملاحظة ممكنة، ويلائم الشيءَ ونقيضَه، ولا يُقدِّم لنا ما عسى أن تكون عليه الأشياءُ الملاحَظة لو أن قضاياه كانت كاذبة.
ويأخذ البعض على فرويد أنه كان يتجنَّب أية معالجة كمية لمواده التجريبية، وأنه لم يصل إلى نتائجه بواسطة استدلال منطقي واضح، ففي كتابه «الحدوس الافتراضية والتفنيدات» يروي بوبر قصته مع الملاحظات الإكلينيكية، ولا ننسَ أنه كان مساعدًا لأدلر في عيادته وأنه مُلِمٌّ إلمامًا حقيقيًّا بهذه النظريات. يقول بوبر:" كان المحللون الفرويديون يؤكدون أن نظرياتهم تجد لها تحقيقًا دائمًا في «ملاحظاتهم الإكلينيكية». أمَّا عن أدلر فقد كان لي معه موقفٌ شخصي لا أنساه، فقد حدث ذات يوم في عام 1919م أن أدليتُ له عن حالةٍ لم تَبدُ لي أدلريةَ الطابع. غير أنه لم يجد أدنى صعوبة في تحليلها في ضوء نظريته عن مشاعر الدونية Inferiority Feelings، رغم أنه حتى لم يَرَ الطفل. فسألته وقد نالني دَهشٌ: «فيم كلُّ هذه الثقة وأنت لم تر الطفل؟» فأجاب: «لأن لي بذلك الأمر ألف تجربة». هنالك لم أتمالك نفسي قائلًا: «وبهذه الحالة الجديدة أرى أن تجاربك صارت ألفًا وواحدة!» ولما سُئل نعوم تشومسكي عن ما إذا كان محللا نفسيا أجاب: "أعتقد أن التحليل النفسي لا يستند على اي اساس علمي اذا كنا غير قادرين على تحديد لماذا استدار صرصور ما نحو اليسار, إذن كيف لنا أن نشرح قرار انسان ما اتخذه؟"
ومن الأدلة التي تستخدم ضد فكرة اللاشعور ومنهج التحليل النفسي ان يفتقر الى الاجماع ونتائجه غير قابلة للتكرار بل وتحمل الفكرة ونقيضها والمبالغات التي حفل بها التحليل النفسي مع مؤسسه الرائد قد أدت إلى الشك في الطبيعة العلمية لفرضية اللاشعور بل أن تلاميذ المدرسة كانوا أول من عارضوا بعض النتائج التي توصل اليها فرويد والتيكانت في نظره حقائق لا تقبل الشك ، فمثلا ادلر رأى أن اللاشعور ليس مرده إلى الليبيدو، بل هو راجع إلى الشعور بالقصور، فالمصاب بقصور عضوي يسعى إلى تعويض هذا القصور، وكل ما فسره فرويد بالكبت فسره آدلر بعقدة القصور أما كارل يونع فقد عارض هو الآخر استاذه ورأى أن النظرية الجنسية كما وضعها فرويد غير كافية لأنها لا تتناول إلا جانبا واحد من المشكلة، فيسعي أن تضاف إليها الحاجة إلى السيطرة. وبذلك فقد وضع نظرية في اللاشعور الجمعي ومن الذين رفضوا فكرة اللاشعور الفرويدي الطبيب النمساوي ستيكال، الذي قال: " لا أومن باللاشعور، لقد أمنت به في مرحلتي الأولى لكن بعد تجاربي التي دامت ثلاثين سنة وجدت أن كل الأفكار المكبوتة، إنما هي تحت شعورية، وأن المرضى يخافون دائما من رؤية الحقيقة".
ثانيا: منهج التحليل النفسي منهج عيادي واللاشعور حقيقة علمية
في الجهة المقابلة وعلى النقيض انصار منهج التحليل النفسي يؤكدون أنه يحب النظر اليه كمنهج عيادي: حيث يعتبر في نظرهم التحليل النفسي نظرية علمية حول النفس البشرية وممارسة علاجية في الوقت نفسه. وقد أسسه سيغموند فروید بین عامي 1885 و1939، وكتب قائلا: من الممكن للتحليل النفسي دراسة الظواهر المرضية وإن يجد لها تفسيراً في اطار العلم " ومن حجج انصار هذا الطرح انه يمكن تطبيق منهج التحليل النفسي في أربعة مجالات رئيسية أولا: باعتباره نظرية حول طريقة عمل النفس، وثانيا: مساهمته الفعالة في علاج المشاكل النفسية وثالثا: بوصفه منهجا للبحث ورابعا: باعتباره طريقة للنظر في الظواهر الثقافية والاجتماعية مثل الأدب الفن الأفلام، العروض الفنية السياسة الخ .
ومما لا شك فيه أن التحليل النفسي كشف عن فعاليته وجدواه في علاج بعض الاضطرابات العصبية، كما كشف عن مدى تأثير تجارب الطفولة المبكرة في سلوكات الراشدين حيث يعجز الطفل في الغالب في هذه المرحلة على مواجهة المشكلات المستجدة فتراه يلجأ الى الية دفاعية هي الكبت وقد استخدم ويليام وردزورث التعبير، "الطفل هو أب الرجل" في قصيدته الشهيرة عام 1802، "قلبي يقفز للأعلى"، والمعروفة أيضًا باسم "قوس قزح" وهذه المقولة استخدمها لا حقا فرويد .
واليوم اصبحت الدراسات والنتائج التي استخلصها التحليل النفسي لقضايا اللاشعور تثير الكثير من الجوانب في سلوك المجرمين والمنحرفين والمجانين والفاشلين، وقد عززت هذه الدراسات الجانب الإنساني فاصبح عدد من المنحرفين يدخلون المستشفيات بعد أن كان يلقى بهم قديما في غياهب السجون، أو يضلون عرضة للسخرية والامتهان، وقد استند فرويد Sigmund Freud صاحب مقولة:" فرضية اللاشعور لازمة ومشروعة " الى منهج علمي في تبرير اطروحته وقدم حججا وبراهينا متعددة الاشكال منها تلك الأفكار التي لا نعرف مصدرها كالحب والكره من اول نظرة او تفضيل لون عن لون اخر او اتخاذ قرارات ثم التراجع عنها وكذلك (زلات القلم فلتات اللسان،إضاعة الشيء،النسيان المؤقت، وكذلك مدلول الأحلام،النكت .....) مؤكدا أنه لا يمكن فهم كل منها بدون التسليم بفكرة اللاشعور حيث كشفت التجارب العلمية القائمة على التنويم المغناطيسي والتي اشتهر بها الطبيب شاركو Jean-Martin Charcot الذي التقى به فرويد Sigmund Freud سنة 1885 ان هناك جانب خفي لا شعوري يؤثر في أفعال الانسان وخاصة السلوكيات المرضية كما هو واضح في مرض الهستيريا التي تنطوي على أعراض كثيرة منها (فقد البصر، السمع، أوجاع المفاصل والظهر القرحة المعدية...).
وقد تفطن جوزيف بروير Joseph Breuer الى ان سبب الهستيريا هو الدوافع اللاشعورية وقد اشترك مع فرويد Sigmund Freud في علاج المريضة (آنا أو) واسمها الحقيقي بيرثا بابنهايم كانت تعاني من حالات اغماء وشلل وعيف للطعام وهي اعراض عصابية يقول بروير Joseph Breuer: "كلما وجدنا أنفسنا أمام أحد الأعراض العصابية وجب علينا أن نستنتج لدى المريض بعض النشاطات اللاشعورية ". وقسم فرويد الجهاز النفسي الى ثلاثة اقسام (الانا،الهو،الانا الأعلى) وقال:" يستمد الآنا طاقته من الهو، وقيوده من الآنا الآعلى وعقباته من العالم الخارجي انه يخدم ثلاثة سادة طغاة " واكد ان الليبدو يلعب دورا محوريا في الحياة النفسية لذلك كتب بول روزن:"فرويد لم يكن جنسياً وانما درس الجنس كي يبرز لنا صغر العقل البشري"
لقد اشتغل فرويد مع المرضى الذين يعانون من الهستيريا، وأدرك أن الأعراض التي كانوا يعانون منها تجسد معنى خفيا وواضحا في الوقت نفسه. واكتشف مع الوقت أن جميع الأعراض العصية كانت تحمل محتويات نفسية مكبوتة وبالتالي لاشعورية. ودفعه ذلك إلى تطوير "العلاج بالكلام"، الذي أحدث ثورة في التفاعل بين المريض والمعالج. فقد كان فرويد يقابل مرضاه ستة أيام في الأسبوع، وكان يصغي اليهم ويتفاعل مع كلامهم بينما كانوا مستلقين على أريكة. وشجعهم على التعبير عن كل ما يفكرون فيه، وبالتالي كان الترابط الكلامي يوصلهم إلى تجارب الطفولة المكبوتة لديهم، فضلا عن الرغبات التي أدت إلى صراعات لاشعورية، حيث أصبح هذا الأسلوب أداة فعالة للعلاج ولدراسة النفس البشرية، مما أدى إلى تطوير نظرية ثورية في التحليل النفسي حول طريقة عمل النفس.
ومع ذلك يمكن القول مع بعض المنتقدين ان أفكار فرويد وتلامذته بدورها لا تعكس الحقيقة الكاملة، ولا تمتلك الصدق المطلق، ونرد أن المبالغة في التأكيد على تأثير اللاشعور يتنافى مع التسلم بمبدأ الحرية والمسؤولية، لذلك قال أحد المفكرين: (سيكولوجية اللاشعور تمثل الإنسان العاطل)، وكان يقصد تهرب الإنسان من مواجهة مشكلاته، ونرد على فرويد أن المبالغة في الحديث عن الليبدو معناه إنزال الإنسان إلى مرتبة الحيوان . تقول سيمون دى بوفوار: ان التحليل النفسي، والمحللين النفسيين، جعلونا نمتلئ بالنفور من أساليبهم الرمزية، واصطلاحاتهم الفكرية، التي تتناول الجنس
وكتخريج عام يمكن العودة الى كتاب "فرويد وأتباعه" لـ بول روزون حيث نجد هذه العبارة:":"فرويد لم يكن جنسياً وانما درس الجنس كي يبرز لنا صغر العقل البشري" وبعيداً عن الهوامش والأساطير المؤسِّسة التي حِيكت حول شخصية فرويد، فإن بول روزن استطاع فى مؤلفه أن يكشف الأوجه المختلفة والمتناقضة ربَّما لشخصية واحدة: فرويد المغامر والجريء، والثورى فى علم النفس، ورجل العلم الحذر والمطوِّر أسلوبه، والفيلسوف الاجتماعي، والمعلم والمعالج المجتهد، والبورجوازى النبيل المثقل كاهله بكثرة أعباء حياته اليومية، والمحاور البارع، والعقلانى واللاعقلانى فى آن معًا.
كما يمكن العودة الى كارل بوبر الذي اكد ان النقد الموجه للتحليل النفسي لا يعني أن فرويد وأدلر غير مُصيبين في بعض الأمور، وأنا شخصيًّا لا أشك في أن كثيرًا مما قاله الاثنان هو ذو أهمية كبيرة، وأنه قد يُسهم ذاتَ يومٍ إسهامًا كبيرًا في تأسيس علم سيكولوجي يكون قابلًا للاختبار … وقد كنت على إدراك بأن مثل هذه الأساطير يمكن تطويرها فتُصبح قابلة للاختبار، وأن كل النظريات العلمية أو جُلها، من الوجهة التاريخية، قد نشأت من أساطير. ورب أسطورة قد اشتملت في داخلها على استباقات هامة لنظريات علمية.
***
علي عمرون – تخصص فلسفة

لا يبدو لي مازقا لا يمكننا تجاوزه والخلاص منه حينما يقول فولتير "الارادة ليست حرة اما افعالنا فهي حرة". هذا التناقض البادي منطقيا يلزمنا القول الارادة هي وعي الذات بموضوعها. والارادة ليست غفلا طارئا يحدده الموجود موضوعا كينونة مستقلة. الارادة هي الوعي القصدي الذي يلازمه هدفه المسبق قبل التوجه الوصول لموضوع ادراكه. هذا ما قال به هوسرل في فلسفة الظواهر حول الوعي القصدي وناقشت هذا الرأي الاحتمالي القابل للدحض في غير هذا المقال..
وهذا يحيلنا الى مفارقة تناقضية اكبر من الاولى حول الارادة تلك هي اذا كان الوعي القصدي يلازمه هدفه المعرفي معه قبل ادراكه لموضوعه الخارجي المستقل عنه. فمعنى هذا ان موضوع الادراك بالنسبة للوعي هو الذي يكتسب خاصيته المعرفية الهادفة التي يتوخى الوعي القصدي أن يجدها في موضوع ادراكه ولا يحملها معه وهو خطا. اي ليس هناك حاجة لادراك موضوع لا يكتسب معرفة مضافة للوعي نتيجة ادراكه لموضوعه. الوعي جوهر عقلي لا يدرك شيئا ليس له قيمة معرفية تضيف له خبرة مكتسبة. فالحواس والعقل لا يشتغلان على شيء هو موضوع يدركانه لا معنى معرفي له. والموضوع قيمة معطى في الطبيعة والعالم الخارجي. أي الوعي لا يخلق موضوع إدراكه بل الموضوع يخلق الوعي به. الوعي غير محايد بل هو يدخل بعلاقة تكامل معرفي مع موضوعه. ثم الموجود كموضوع ليس له حظوظ الحضورالادراكي الذي يلفت اهتمام العقل التفكير به الا اذا كان يحمل خبرة معرفية مدخرّة فيه. الموضوع المجرد عن مضمون يعيه العقل خبرة مضافة لا وجود ولا قيمة له..
خطأ هوسرل في الفينامينالوجيا فلسفة الظواهر هو ان الوعي القصدي يحمل هدفه الادراكي معه لينقب ويبحث عنه في موضوعه. الوعي القصدي الحامل لهدفه لا يحتاج ادراك موضوع يتخارج معه معرفيا. لذا مقولة هوسرل الوعي القصدي يحمل هدفه الادراكي الذي يبحث عن تكامله الوجودي في الموضوعات التي يدركها خطأ. الوعي القصدي على مستوى التفكير الانفرادي المجرد هو لاثبات الوجود الانطولوجي - المعرفي كما جاء به ديكارت في الكوجيتو انا افكر... اما الوعي القصدي على صعيد الادراك التخارجي معرفيا مع موضوعات العالم الخارجي فهو ليس التفكير لاثبات الوجود الانطولوجي للفرد الذي يفكر بل هو التكامل المعرفي في وعي موضوعه. الوعي القصدي اختراع فلسفي بالضد من ديكارت حين اعتبر التفكير مجردا من التعريف بموضوع التفكير هو ضرب ناقص من الوهم.
هنا نصطدم بتساؤل إلتباسي معقد بعض الشيء هو هل الخاصية المعرفية جوهرا يدركه الوعي موجود بموضوعه أم الخاصية المعرفية موجودة بالوعي القصدي الذي يحمل هدفه معه قبل ادراكه لموضوعه كما يعبّر عنه هوسرل !؟ الذي بدوره اي الوعي العقلي يخلع معرفته السابقة على موضوعه المدرك. كلتا الاجابتان عن التساؤل سوف توقعنا بالخطأ. لماذا؟
بداية الوعي بالاشياء والموضوعات هو ليس الانطباعات الاولية التي تنقلها الحواس بل الوعي هو رد فعل تفكير العقل بالموجودات والمواضيع. الوعي حين يختار موضوعه فهو يمتلك خبرة عامة عن موضوعه اي تصورات قبل ادراكه لكن هذا لا يعني الوعي يمتلك هدفا متكاملا يقصده في ادراك موضوعه. فالموضوعات الغفل التي يواجهها الوعي اول مرة ويتعامل معها لا تخضع للمعيار التي سبق اشرنا له. اي تكون الموضوعات مادة خام لا يعرف عنها الوعي شيئا مسبقا قبل مواجهته لها.
قبل الاجابة عن التساؤل هل معرفة الشيء تتم بالادراك ام بالوعي؟ اود تثبيت ان الوعي القصدي الذي اخترعه برينتانو واخذه عنه تلميذه هوسرل في منهج الفلسفة الظاهراتية بدعة خاطئة ابتدعوها فلاسفة الفينامينالوجيا من بينهم سارتر وهيدجر وميرلوبونتي في الرد على الكوجيتو الديكارتي. وسبق لي مناقشة هذه البدعة في اكثر من مقال منشور لي .
بضوء ما ذكرناه الاجابة الصحيحة ستكون علاقة الوعي القصدي بموضوعه علاقة تكاملية تخارجية معرفيا وليس علاقة جدلية ديالكتيكية تقوم على قانون نفي النفي في استحداث المركب الجديد في الظاهرة المستحدثة. فوعي الموضوع لا ينفي وجوده بل يتكامل معرفيا مع الوعي الانفرادي له. بابسط تعبير علاقة الوعي بموضوعه أخذ وعطاء. العقل لا يعي ما ليس له قيمة والوعي العقلي غير محايد الادراك بخلاف ادراكات الحواس التي تكون محايدة..
حين نقول وعي الموضوع هو عملية تخارج معرفي انما نقصد به (التغيير) في كليهما الموضوع والوعي. فالوعي لا يعي مدركاته لمجرد الوعي المحايد لها. الوعي هو تفكير تجريد العقل في تعبيره عن مقولاته في الموضوعات وحين يدخل الوعي في عملية تكامل وتخارج مع موضوعه فكلاهما الوعي والموضوع يتبادلان التغيير المعرفي التخارجي التكاملي بينهما.
من هنا نجد فرق ادراك الحواس لموضوعاتها هو ادراك محايد لا تربطه علاقة تفاعل وتخارج معرفي بين الحواس والمواضيع التي تدركها فهي أي الحواس ناقل الانطباعات الاولية الادراكية التي هي الاحساسات للذهن فقط.. باختلاف ادراك الوعي لموضوعاته ليس ادراكا محايدا بمعنى واسطة نقل الاحساسات التي يكتسبها من موضوعاته بعلاقة محايدة كما هو في دور الحواس غير تخارجية وتكاملية معرفية. بل علاقة الوعي بموضوعه هو عملية تداخل معرفي بينهما. ويكون الوعي مزودا بمقولات العقل الاثنتي عشر مقولة عن الموضوع حسبما اجملها كانط. الوعي بكل شيء لا ياتي من فراغ ولا يحدده الموضوع بل مصدره العقل وهو الذي يحدد وظيفة الوعي ايضا.
الادراك العقلي بمعنى التفكير ليس من اجل اثبات وجود الذات انطولوجيا كما ذهب له ديكارت انا افكر اذن فانا موجود وليس مهما في الكوجيتو كيف تمت عملية معالجة الوعي لمدركات التفكيرالمجرد. بل العقل يهمّه الاصطدام بالحقيقة المباشرة هو لماذا تختار الحواس والذهن والدماغ هذه الموضوعات دون غيرها.؟ صحيح يصادف العقل احيانا الاصطدام بموضوعات طارئة غفل مصادفة عشوائية غير متوقعة ولا مناص للوعي من التعامل معها مع الحذر الشديد الوعي ليس هو العقل بل الوعي وسيلة العقل في معالجة موضوعات ومدركات العقل.. لكن اغلب مدركاتنا الاشياء في اختيار الموضوعات مسبقا يكون مصدرها المحايثة الموجودة في الوعي في أهمية ما تختاره الحواس والعقل من موضوعات للمعالجة التغييرية وماذا يقول العقل او بالاحرى الدماغ بشأنها..
الارادة فلسفيا
عندما يقول فولتير الارادة ليست حرة بل هي مقيّدة بمعيقات وكوابح الاعاقة في الوصاية عليها امر يحمل وجهات نظر مختلفة عديدة متباينة. فالارادة خاصية جوهرية للذات التي تقود الوعي القصدي نحو تحقيق اهدافه. الذات حرة بالفطرة البيولوجية فمثلما يكون الانسان كائنا عقلانيا وكائنا ميتافيزيقيا وكائنا لغويا وكائنا زمنيا فهو كائن حر ايضا بالطبيعة البيولوجية الفطرية لتكوينه (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا؟) يسعى لاسترجاع حريته بكل وسيلة في حالة استلابها منه. لكن هذه الحرية لا تسري على الارادة في اتخاذ قراراتها الانفرادية بسبب كوابح ومعيقات عديدة. الارادة امتلاك فردي غريزي بيولوجي تصبح موضوعا للمجموع متى ماجرى الافصاح عنها بالفكر او في السلوك. بمعنى تحول الارادة الى فكر او سلوك نفسي عملي يفقدها خاصيتها الانفرادية لتصبح ملك المجموع.
شوبنهاور في عنونة كتابه المعروف "العالم ارادة وتمّثل" كان يرى صدقية وحرية الارادة أنها معطى بيولوجي فطري بمعنى ليس هناك من تاثير كبير في الوصاية التي تحد من حرية الارادة اتخاذها القرارات. وأجد في عنوان كتاب شوبنهاور خطا تراتيبي فالتمّثل يسبق الارادة عليه كان الاكثر معقولية ان يعنون شوبنهاور كتابه "العالم تمثل وارادة" فالعالم الموجود يسبق الفكر عنه. من حيث اننا نحتاج تمّثل عالمنا الخارجي استيعابا معرفيا كي يكون كفيلا ان يقودنا الى ارادة حرة باتخاذ قرارات متحررة هي ناتج تراكم خبرة صائبة تقينا الوقوع بالخطأ. خطأ شوبنهاور كان في اعتباره الارادة حرة بالضرورة والحقيقة الارادة غير ذلك ولا يوجد تمثيل تناوبي تكاملي بين الارادة والحرية بل في الغالب يوجد احتدام متقاطع بينهما.
الحرية مسؤولية
الحرية بمفهومها الفلسفي الانفرادي وليس بمعناها الايديولوجي السياسي الجمعي. هي ممارسة الوعي السلوكي المنضبط بوعي الذات ورقابتها الانسانوية الاخلاقية. والحرية جوهر انساني مسؤول وملتزم بالضرورة. كما والحرية بمفهومها الفلسفي تكون انفرادية ولا تشكل ظاهرة عامة الا في المنظور السياسي لها فقط.
سارتر كما طالب ان يكون الادب ملتزما بالضرورة الاجناسية طالب ايضا الحرية الفردية تكون ملتزمة ومسؤولة عن هموم وقضايا الاخرين. الفرد الذي تحكمه الحرية المسؤولة ليست من اختياره الطوعي بل تأتييه مفروضة من المجتمع عليه كفرد ضمن مجتمع. كيف؟ الفرد الذي يمتلك وعيا انفراديا ناضجا متعاليا اكثر من وعي المجموع هو الذي يشعر حريته مرهونة بحرية مجتمعه ولا خلاص انفرادي امامه يلزمه لوحده ولا يلزم غيره. لكنه مع هذا يسعى لرفع مستوى وعي المجتمع لمستوى وعيه الانفرادي المتعالي. واذا ما اخفق ووصل الطريق المسدود فليس امامه اختيار غير الانغماس في الكليّة المجتمعية القطعانية حتى لو فرض عليه الصمت كموقف من المجتمع والحياة.
قلنا ونحن نناقش هنا الحرية بمفهومها الفلسفي وليس الايديولوجي السياسي التي يكون فيها الالتزام يحكمها جمعيا وليس انفراديا كما في الفلسفة. المجتمعات البشرية غالبا ما تكون في وضعية (نسيان الوجود) او الناسيّة الكليّة كما يصفها هيدجر. لذا يمتلك الحرية الانفرادية الحقيقية الشخص الذي يمتلك وعيا اعلى من مستوى الوعي الجمعي الذي يحكم المجتمع فتكون الحياة بمجملها في المجتمع تستنفدها امور واشباع الحاجات الاساسية البيولوجية والغرائزية التي يشترك بها المجتمع مثل الدوام بالوظيفة والعمل ومشاغل الاسرة في اشباع غرائز الجسم البيولوجية بانواعها ومختلف تجلياتها المفروضة على الحياة التي تجعل من المجتمع فردا بصورة مجموع. هنا حين تكون الحرية غائبة او هي استنفدت نفسها في الكليّة الناسية في نسيان الوجود الجمعي الحقيقي المسؤول عن حريته في اتخاذ قراراته الصائبة. تبرز لا اراديا أهمية أن يتمتع الفرد المنفصل اللامنتمي للمجموع بالحرية الانفرادية المسؤولة الملتزمة حتى عندما يجد نفسه منفردا متمردا عن القطعانية الغفل التي تحكم الوجود الجمعي بحكم العادة والاعتياد في الانغماس التام في روتين الحياة الاستهلاكي...
التساؤل ماهي كوابح ومعيقات حرية الفرد المتعالي في وعيه ويمتلك حساسية من نوع خاص خارج القطعانية المجتمعية ومتمرد على الانقيادية الاذعانية في الانغماس الضائع مجتمعيا في كليّة نسيان الوجود الحقيقي. هذا النموذج المتمرد يصطدم بالمعيقات الكابحة لطموحه في التالي:
- يعيش الانكفاء الانعزالي بمعنى الاغتراب المسؤول عن قضاياه وقضايا مجتمعه. بمعنى يختار الحرية الازدواجية التي يرى فيها جوهر حريته الحقيقية هو في تحقيق حرية المجموع كما يتصورها هو لا كما اعتادها المجتمع تحت سلطة وصاية القانون وتخلف الوعي الجمعي.
- الانقلابية على الذات ليس في منظور ان حريته التي يتصورها لا قيمة مجتمعية لها بل هي محاولة الفرد الخلاص من جحيم الاخرين وجحيم الحياة. وهو ما تؤكد عليه الادبيات الفلسفية للوجودية الحديثة كما هي عند سارتر وهيدجر وياسبرز ومارسيل جبريل.
- البحث عن القوانين الوضعية التي ترفع من الوعي الجمعي وتنصاع لما يحقق الصالح العام وإشباع الحقوق الاساسية بالحياة. في حق العمل والتامين الصحي والتعليم والضمان الاقتصادي والتمتع بمعطيات الحرية في سلوك منضبط قانونيا ومجتمعيا. هذا متحقق بما لا يستهان به في النظم الديمقراطية الليبرالية.
فولتير والحرية
"ارادتنا ليست حرة اما افعالنا فهي حرة" فولتير
من المفروض ان تكون عبارة فولتير واضحة لا تحتاج زرع الاشكالية التناقضية بها حيث بدايتها تناقض تكملتها. واذا اردنا البحث عن تخريج منطقي يضفي عليها صواب تمريرها فلا نجد امامنا غير لغة المجاز تسعفنا بهذا المجال. دائما بالفلسفة تكون اللغة غير الواضحة في التعبير كما ارادها فيلسوفا الوضعية المنطقية جورج مور وفينجشتين هي ليس فقط قصور اللغة التعبير الدقيق عن المعنى في الاشياء وفي الموضوعات وانما هي ايضا نوع من المجاز اللغوي الذي يتلاعب باللغة في تمويه الافصاح الواضح عن الفكرة. في ايهام الدلالة العميقة الكاذبة في ما وراء اللغة العصيّة على التلقي.
لا الارادة الانفرادية المتمردة على الواقع المجتمعي المنقاد بطواعية التساؤل الملازم هو كيف يؤمن الانسان ويصنع مستقبلا افضل له ولعائلته.؟ ولا الارادة الجمعية التي استهدفتها العادة الاستهلاكية اليومية وافرغتها من عضوية مصنع الحيوية البشرية فاصبحت سطحية الحضور بحكم الاعتياد في الركض وراء تامين متطلبات المعيش في الاشباع الاستهلاكي المؤقت الخادع. كلا النموذجين من الحرية هو زائف غير حقيقي يعيشهما الفرد والمجموع بنوع من نسيان الوجود الضائع في الكليّة الناسّية والتكيّف الكاذب.
رب قائل يقول هذه هي حقيقة الحياة ولا يستطيع الانسان ان يعيشها باكثر من الابعاد التي تحكمها العادة المترسخة بالتقادم الزمني على انها حياة الاشباع الاستهلاكي تحت رقابة القانون ودرجة وعي المجتمع. ومن المتعذر جدا نمذجة المجتمع بنوع من الحياة هي خارج المالوف المعتاد الذي اتفق عليه المجموع كما جاء به روسو بما أسماه (العقد الاجتماعي). فانت ملزم التنازل عن الكثير من الامنيات التي تطمح لها المحروم منها من اجل تحقيق صالح المجموع الخادع.
طبيعي جدا ان تكون مهمة الفرد المنسلخ عن مجتمعية الناسية بالوجود املا في تحقيق وجوده غير الزائف بالحياة صعبة ومؤلمة له ولامثاله من النخبة المجتمعية لذا تكون معاناة النخبة التي تمتلك وعيا متقدما على الوعي الجمعي المتكيّف استهلاكيا مهمتها غير متحققة لا على صعيد الازدواجية الذاتية الارادية المنقسمة على نفسها ولا على صعيد التخلي عن مسؤوليتها تجاه مجتمعها المضلل المقهور بالنزعة الاستهلاكية التي تجد بالحياة عبئا ابتليت به الناس في روتين قاتل من النمط المعيش..
الارادة والحرية
الارادة ليست هي الحرية باتخاذ القرارات كما فهمها شوبنهاور. فغالبا ماتكون الارادة مثلومة امام قيد الحرية ذاته. اذا ما وضعنا بنظر الاعتبار الكوابح والمعرقلات المعيقة التي تصطدم بها الارادة قسرا وواقعا مفروضا عليها. فالارادة الانفرادية تقاطع ارادة المجموع في جوانب متعددة بضرورة التكيّف الالزامي الجمعي الزائف.. لذا نجد الفرد الذي لا يتمتع بارادة ذاتية حقيقية يسعى بالنهاية الانصياع المتكيّف بالناسّية المجتمعية متنازلا مكرها عن جميع احلامه ورغائبه المشروعة. اما ان تكون افعالنا حرة بخلاف ارادتنا فهو تناقض لا يقوم على سند فلسفي منطقي. من حيث الارادة هي السلوك المعلن والخفي. ومن المتعذر أن نجد ارادات انفرادية تاخذ حيّز التطبيق والتنفيذ في تقاطعها الحتمي مع غالبية ارادة المجموع التي انصهرت اجتهاداتها بفيتو منع القانون الوضعي. الارادات التي نتوهم قراراتها حرة نجد يصادر حريتها القانون الوضعي الذي يرى على الاقل مصالح المجموع اولى من مصالح الفرد وتتقدم عليها. عليه يكون التكيّف والانخراط في المجموع مايعّبر عنه فولتير(بالطاعة الضرورية). لكن غالبا ما نصطدم به عند التطبيق والتنفيذ الذي يجاهر به القانون في حقوق المجتمع تعلو حقوق الفرد انها ادعاءات فارغة باسم الطاعة الضرورية الملزمة.
يطرح فولتيرجملة من عبارات غالبا ما يكون فيها وضعيا متماهيا مع سلطة القانون في مصادرته فوضوية الارادات المشتتة المختلفة تعسفا. وقبل الاستشهاد ببعض من هذه العبارات التي يلبسها فولتير مخاتلة تعبير اللغة الغامض على انها تحمل كنوز مابين الاسطر وهي مغالطة فارغة.
اقول القوانين الوضعية تحكمنا بحجة صحيحة نسبيا انها الضمانة الوحيدة المتاحة في لجم الارادات الفوضوية والرغائب المنحرفة الانفرادية التي تحاول تخريب سلطة القانون والنظام. وفي وضع حد للنزعات المنفلتة التي تجد مصالحها في التخريب والممارسات التي تقاطع حياة المجتمع الطبيعية ولو في حدودها الدنيا المتاحة.
من اقوال فولتير وديدرو" من التناقض ان يكون في استطاعة مايجب ان يكون الا يكون" من هو الذي يقرر ما يجب في استطاعته ان يكون؟ لا يوجد غير الايمان بقدرية لا ادرية الافضل منها ان سبب ما يجب ان يكون لا يكون هو تقاطع بعض امور الحياة بالمصادفات العشوائية وحدوث ما هو غير متوقع حدوثه.
تعبيره الاخر "الحرية هي النتيجة المعروفة لعلة مجهولة" وقوله ايضا"كل شيء غارق بالنسبة لنا في هوة من الظلمات" لا اجد في طلاسم فولتير اللغوية ما يشي ويشير الى مضمون فلسفيي مدّخر فيما وراء اللغة العصّية. يوجد العديد من العبارات مثل هذه لم اتطرق لها فهو مضيعة وقت اجده بعيدة عن معنى التفلسف الجاد الهادف الذي يسير نحو فتح نوافذ رؤية متجددة بالحياة.
***
علي محمد اليوسف
..................
* ملاحظة: الاقتباسات الجملية المحصورة بين مزدوجتين مصدرها كتاب جان فال، الفلسفة الفرنسية من ديكارت الى سارتر، ترجمة فؤاد كامل.

كان الاتجاه المفضل لدى الشكاك عبر العصور هو الاشارة الى ان تعدد الآراء بين الناس يكشف عن عدم وجود حقيقة واحدة. في الحقيقة، قام الشكاك الأصليين بصياغة هذا النهج في واحدة من الطرق التي استخدموها لتجاهل وإضعاف العقيدة الدوغمائية. هم أدخلوا الشك في بعض القضايا مؤكدين ان الناس لم يتفقوا حولها – على سبيل المثال، رغم ان معظم الناس يقولون ان هناك حركة، لكن برمنديس جادل ان الحركة ليست الاّ وهما. هم يرون ان الاعتبارات يمكن تقديمها من كلا الجانبين، وبالنهاية تقود الى مأزق.
في الحقيقة، ان تاريخ الفلسفة يبدو تاريخا للناس غير المتفقين مع بعضهم. ارسطو لم يكن مشككا، لكنه كان مفعما بتنوع الآراء الموجودة سلفا في زمانه (384-322 ق.م)، وايضا ادرك ان هذا وفّر وسيلة فعالة لتفنيد المعارضين. في عمله حول الديالكتيك (تقنيات الجدال)، هو اقترح ان المرء يمكنه إتّباع ما أسماه endoxa "آراء مقبولة" كمادة لبناء حجج في النقاش. جميع الآراء لـ "العديد من الناس والحكماء"ستكون لعبة عادلة، طالما ان مثل هذه الرؤى تكون لها مقبولية مبدئية، حتى عندما تفتقر للإتساق المتبادل.
ولكن في سياقات اخرى لم يكن ارسطو راضيا ببساطة في جمع عقائد متنوعة كنوع من المخزون الجدالي. هو بدلا من ذلك حاول تنظيم آراء المفكرين القدماء، ليس فقط لتلخيص ما اعتقدوا به، وانما ليبيّن أين أصابوا واين اخطأوا.هذا يوضح لماذا العديد من أعماله الهامة مثل الفيزياء و حول الروح، تبدأ باستقصاء لما قبل سقراط وفلسفة افلاطون. انها كانت من بين اولى المحاولات لكتابة تاريخ الفلسفة، لكن ارسطو لم يكتب كمؤرخ وانما هو أراد ان يأخذ دروسا من أسلافه بحيث يستطيع استخدامها في فلسفته الخاصة. فمثلا، هو لاحظ ان بعض المفكرين الاوائل اعتقدوا ان "المتشابه يُدرك من قبل المتشابه"(لهذا فان العين يجب ان تُصنع من عناصر مشابهة للأشياء المرئية)، بينما آخرون يؤمنون ان "المتشابه يُدرك من قبل الغير متشابه (لأن ما يُدرك يجب ان يكون مختلفا الى حد ما عما يدركهُ، بحيث يمكن تغيير الأخير من قبل الأول). هنا ارسطو يفصّل الاختلاف: جهاز الادراك هو في الحقيقة "يشبه" موضوعه، ولكن بإحتمال فقط. ارسطو كان مهتما بالنظريات المبكرة لأنه افترض ان ما يقوم به الانسان من تحقيق لابد ان يصل الى الحقيقة، على الأقل جزئيا. في كتابه الميتافيزيقا، الفصل الاول من الجزء الاول، هو قارن الحقيقة بباب لا يمكنك طرقه بإطلاق النارعليه. حتى الان، لا احد سيكون قادرا على الوصول الى كامل الحقيقة وحده، ولهذا نحن نحتاج للعودة الى أسلافنا . وحتى لو ساهم البعض فقط بالقليل، فان الرؤى عندما تجتمع الى بعضها، ستكون النتيجة جيدة. ومع ان هذه هي مشاعر متفائلة، لكن ارسطو لايذهب بعيدا للقول بحتمية ان تبرز الحقيقة كاملة ، او ان نظامه الخاص كان نوعا من كشف ذلك الانبثاق. لذلك، نحن نحتاج الانتظار لحين مجيء هيجل، لما يقوله، طالما في عصره فقط اصبحت الظروف ناضجة للتعبير الكامل عن الحقيقة في نظام منفرد واع بذاته كليا (نظامه). هيجل رأى التاريخ الكامل للفكر البشري كقيادة لا مفر منها عبر مراحل فكرية تؤتي ثمارها بالكامل وحيث تجد الفلسفة ذاتها "مكتملة سلفا".
لهذا، فان فهم هيجل لتاريخ الفلسفة كان معارضا تماما لفهم الشكاك الذين يشيرون الى عدم الاتفاق بين الفلاسفة ويؤكد ان رد الفعل المعقول هو فقط تعليق الحكم. وكما كتبت انجيلكا نوزو في مساهماتها بـ تاريخ هيجل للفلسفة: تفسيرات جديدة (D.A.Duquette,ed.,2003) سعا هيجل لإزالة الانطباع بان التاريخ نُظر اليه فقط "كتعدد للفلسفات جاءت كل واحدة ضد اخرى، كل واحدة تدّعي حيازتها على الحقيقة المتفردة، وكل منها تجسّد "تفنيدا" للحقيقة المدّعاة من قبل اخرى". بدلا من ذلك، جادل هيجل، اننا نحتاج لفهم كيف ان كل مرحلة من مراحل الفلسفة تشكل خطوة نحو إتمام الفلسفة ذاتها. هذا يفسر لماذا هو لايقل عن ارسطو، في انه كان يتبنّى استكشاف تاريخ الفلسفة. هو حاضر في مواضيع عدة مرات: في جينا ثم في هايدلبيرغ ومن ثم في برلين لمدة عقد كامل حتى وفاته عام 1831. في محاضراته يوضح كيف تطورت الفلسفة "منطقيا"وفق فهمه للعبارة. وكما قال لطلابه في محاضراته عام 1820، "ان تعاقب أنظمة الفلسفة في تاريخها هو نفس التعاقب الذي يحدث في الاستنتاج المنطقي للتحديدات المفاهيمية للفكرة".
هذا يجعلها تبدو مثل فلاسفة كل العصور، غير معروفين لأنفسهم، يتخذون بطريقة ما حركات مقررة سلفا في تطور مفاهيمي اكبر. ولكن في الحقيقة لا شيء هناك اسطوري حول الفلسفة وفق رؤية هيجل. تفسيره يقوم على افتراض معقول بان الفلاسفة يجب دائما ان يتصرفوا تجاه العالم المحيط بهم، وبما ان الواقع ذاته يتغير، فان الفلسفة يجب ان تتغير لكي تتطابق مع ذلك الواقع. هذا هو ما يعنيه هيجل بملاحظته الشهيرة"الفلسفة هي زمانها المدرك في الافكار" (مبادئ فلسفة الحق، 1820). ومع ان تاريخ الفلسفة مرتبط بعمق بتاريخ العالم، لكن البعض لايرى ان تاريخ العالم ذاته يتجه نحو وجهة معينة.
***
حاتم حميد محسن

(المحاكاة لا تُخفي الحقيقة ابداً، إنما الحقيقة هي التي تخفي عدم وجود شيء، والمحاكاة صحيحة – مثل لاهوتي)

إن المعنى الأكيد للعقاب بالسجن الانفرادي هو إسقاط الاختيارات كافة، أي إنحسارها الى حد الانعدام التام. فضياع الإختيارات يمسُّ جوهر مفهوم الحرية، لأن العقاب بالسجن الإنفرادي يُنشأ حالة من الضمور في الاحاسيس الإنسانية تتوافق وإنحسار الإختيارات. أي تدجين الإحساس بضياع الاختيارات، أو بمعنى آخر، تدجين الإحساس بفقدان الحرية. "فالفضاء الذي تتمدد فيه الحرية هو في الواقع مفترق طرق لخيارين أو أكثر. ولكن ماهي هذه القوة الجبرية التي تفرض الإختيار من بين ماهو متاح من خيارات؟ ثم اليس الإختيار بذاته يعادي ويناقض جوهر الحرية؟ أليس الاختيار (هو حرمان نفسك مما هو متاح (، كما يؤكّد "أندرية جيد" في السيمفونية الرعوية؟ أي أن {حرية{ الاختيار، هنا، هي إسقاط الحق في امتلاك الخيارات المهملة، والواسعة، والمتاحة للحرية. لهذا فإن سؤال الحرية هو سؤال مفاهيمي متكامل، ولإنه كذلك، فهو أيضاً سؤالاً ميتافيزيقياً، وتجريبيا، بل وحتى لغوياً. [مقال "الحرية والإبداع"، علي ماجد شبو، منشور في موقع "الحوار المتمدن" عدد 7302  في 7/7/2022  ] ولكن ما لذي تعنيه الحرية؟ وهل للحرية معنى موحد في كل المجتمعات وعلى مدى الأزمنة؟ إن للحرية مفاهيم متعددة، كما سنلاحظ ذلك من خلال فلاسفة ما بعد الحداثة، حيث ان المفهوم العام للحرية يسمح بالنفاذ الى دروب متعاكسة، ومتشعبة، ومعقدة، وثريّة على الرغم من بساطة التعبير وابتذاله في الدهاليز الاجتماعية واللغوية. هذه الدروب تقود الى كشف بنية الثقافة الفردية والاجتماعية، أي الى الانضباط الذاتي والاجتماعي، ثم الى شبكة الاخلاق التي تتحكم بمسارب الحرية، فردية كانت أم جمعية. والحرية لها مسالك في الفكر والفلسفة على مدى التاريخ الإنساني، مسالك فلسفية أساسها توكيد الوجود الذاتي والاجتماعي للفرد. ولذلك فإن للحرية مفاهيم متعددة ومتنوعة ومختلفة، بل ومتناقضة أحياناً. إنما سأجازف بصوغ مفهوم عام، قد يشمل عدد من المفاهيم، فالحرية، كما أفهمها هي " حالة ناضجة من الوعي، الذي يشحذه الإدراك، بحدود الفرد وحدود المجتمع، وهذا الوعي، سيكون دائماً، نتاج معرفة وثقافة تتحسس الوجود وأبعاده المختلفة، وتقترح خيارات لرسم آفاق تلك الحرية على الصعيدين الفردي والمجتمعي". (نفس المصدر)

أما مفهوم الحرية في المسرح فهو حالة لها عدة أوجه، حيوية وديناميكية، تتخلل أو تخترق مختلف جوانب الإبداع في العمل المسرحي. فالحرية في المسرح تسمح بالرؤى النقدية، وبالتعبير عن الأفكار غير الشائعة، او غير التقليدية، فالحرية فضاء يسمح بالتمرد والتحريض ضد السلطات الفردية والسلطات التعسفية، مما يُبيح فضاء واسعاً للمسرح السياسي والى نقد ما يُمكن أن يُؤثر على حركة المجتمع وتنميته. كما تسمح الحرية باستكشاف الموضوعات المعقدة عبر تناولها من خلال سرديّات غير مألوفة، ولكن عميقة ومؤثرة ومشوقة. علاوة على ذلك فإن مفهوم الحرية شفاف وواضح من خلال العناصر المتباينة في فن المسرح، إبتداء من النص المسرحي الى طرق الأداء والتمثيل والى مناهج عرض الرؤى الإخراجية وأخيراً عبر طرق التعامل والتفاعل مع الجمهور. فالتحرر الفني في المسرح والاستقلال الإبداعي والقدرة على تجاوز المألوف، لا يمكن ان تتم بدون حرية واسعة تسمح بتجاوز الأعراف والتقاليد والإنضباط الاجتماعي وتكسر حدود الممنوعات السلطوية. لذلك فإن أهمية الحرية في الإبداع الفني المسرحي تكتسب صفات جوهرية، فبدونها لا يمكن للتعبير الابداعي والابتكاري أن يتحقق بتنفيذ مختلف الأفكار والأساليب التجديدية والتجريبية المتنوعة، والتي تشمل كافة عناصر العرض المسرحي.  

مفهوم الحرية في فلسفة مابعد الحداثة

قبل أن نتفحّص إنعكاس مفهوم الحرية في المسرح، لا بدّ من إستعراض مالذي تعنيه الحرية بالنسبة لفلاسفة ما بعد الحداثة، فالحرية ليست بضاعة قابلة للاستهلاك بحيث يمكن إمتلاكها من قبل الأفراد، بل هي موضوع خاضع، بشكل دائم، للتفاوض والتحدّي ضمن هياكل السلطة ومنظومة العلاقات الاجتماعية. والحرية ليست حالة ثابتة لأنها عملية ديناميكية ومتغيرة باستمرار، ولهذا فإن الحرية خاضعة للسياق الذي تكون فيه، والظروف والأعراف التقليدية التي تتحكم بالمجتمع، وهي، على العموم، نسبية. وبهذا المفهوم فإنه لا يمكن وضع تعريف واحد للحرية مقبول عالميا، فهناك مفاهيم عديدة، كما سنرى ذلك عند فلاسفة ما بعد الحداثة، غير أنهم يتفقون بأن الحرية مشروطة بالبيئة الاجتماعية والثقافية، مما يجعل الخيارات والافعال الفردية متأثرة بعوامل لا يمكن التحكم بها. أي أن الحرية الفردية هي مجرد وهم. إنما في سياق العلاقات الاجتماعية وعلاقات القوة ترتبط الحرية إرتباطا وثيقا بقيم الاخلاق والتنوع والاختلاف. غير أن مفهوم الحرية يُنبأ عن الإحساس بالقدرة على العمل والتفكير وممارسة الإختيارات دون قيود داخلية او خارجية. وهذا ينطوي على إمكانية إتّخاذ القرارات بناء على الظروف العامة والقيم التي تنبثق عنها هذه القرارات. إنما يتخذ مفهوم الحرية في فلسفة ما بعد الحداثة أبعاد، ودلالات، واسعة، ومتعددة، سأستعرض بإختصار الأفكار الرئيسية المؤثرة في مفاهيم الحرية لأهم خمسة مفكّرين، في فلسفة ما بعد الحداثة، وتأثيراتهم بمفهوم الحرية، يلي ذلك حجم التأثير الذي تركته فلسفة مابعد الحداثة عموماً، وبشكل خاص مفاهيمها للحرية، على المسرح، بعمومه، ثم مسرح ما بعد الحداثة والابداع الفني فيه.

فمفهوم الحرية عند الفيلسوف ميشيل فوكو يمثل انعطافاً عميقًا عن المفاهيم التقليدية للمصطلح، بإعتبار أن الحرية غالبًا ما يتم تأطيرها إما في سياقات ميتافيزيقية أو سياسية. فبدلاً من النظر إلى الحرية باعتبارها خاصية فطرية للذات البشرية، أو كمجموعة من الحقوق والحريات السياسية، يضع فوكو الحرية داخل التفاعل المعقد بين السلطة وتشكيل الهوية. ويؤكد تحليله على أن الحرية لا تتعلق فقط بغياب القيود، بل بالأحرى بالقدرة على التحول الذاتي والتأمل النقدي داخل هياكل السلطة التي تشكل الأفراد. فالحرية مفهوم مرتبط بتأثيرات هياكل السلطة المختلفة التي ترسم حدود الحرية. وإن هياكل السلطة لا تقتصر على آليات الحكم، بل تشمل القهر الاجتماعي والإنضباط الإلزامي. فالسلطة، بالنسبة لفوكو، ليست قمعية فقط، بل هي منتجة أساسية للقمع، لذلك فهو يرى ان هناك علاقة جدلية بين الحرية والسلطة والمعرفة والخطاب المسيطر الشائع. فحيثما وجدت القوة والسلطة وجدت إمكانية المقاومة بإعتبارها وسيلة لتحقيق الحرية، علاوة على أن الحرية لا تتوقف عند إشكاليات الحقوق أو المساحات المنقوصة والمختطفة من الحريات المتعددة، بل أن الحرية يجب ان تمارس وتحقق بشكل يومي. يوضّح فوكو في كتابه "المراقبة والمعاقبة" ) (Surveiller et punir أن الحرية الفردية غالبا ما تعوقها المؤسسات التي تحدد ما هو مقبول وما هو غير مقبول. وهكذا فإن الحرية دائما تتعلق بأنظمة السيطرة والمراقبة وآليات العقاب، لذلك فانه لا يمكن فهم الحرية الحقيقية، بالنسبة لفوكو، إلا من خلال تفكيك رموز علاقات القوة التي تحددها. لأن الحرية، تُمثل مفهوماً ديناميكياً مرتبطاً بشكل مباشر بعلاقات القوة، وبالممارسات الفردية والجمعية، وبالإرث التاريخي. وحين تكون الحرية وثيقة الارتباط بسلطات القوة والقهر يصبح التمرد والتحريض ضد هذه السلطات مشروعا مبرراً للمقاومة. هذه القيم انتقلت الى مسرح ما بعد الحداثة، وخاصة كشف مصادر التعسف والقهر الجماعي والتحريض والتمرد ضدها.

أما مفهوم الحرية عند جاك ديريدا فهو مرتبط بالقدرة على التشكيك في المعاني الثابتة وزعزعتها، وهو مفهوم مرتبط بشكل وثيق بمشروعه الأوسع المتمثل في التفكيك، والذي يسعى إلى استجواب وتحدي الافتراضات الأساسية للميتافيزيقيا واللغة. لا يقدم منهج دريدا تعريفًا مباشرًا للحرية، ولكنه يكشف عن التعقيدات والتناقضات المتأصلة في المفهوم. وتتمثل فكرته المركزية في أن الحرية لا يمكن فهمها بمعزل عن هياكل القوة واللغة والمعنى التي تشكل الوجود البشري، فالحرية، كما يراها، مؤجلة دائمًا، فهي موجودة في تفاعل معقد من الدلالات حيث لا يكون المعنى مستقرًا أو حاضرًا تمامًا. إن مفهوم التأجيل هذا يتجسد في مفهوم ديريدا ل "الاختلاف"، وهو المصطلح الذي صاغه لوصف الطريقة التي يتم بها توليد المعنى من خلال الاختلاف وتوصيف الدلالات. ويترتب على ذلك آثار عميقة، فإذا كانت الحرية في حالة تغير دائم وتعتمد على ظروف مختلفة، فإن السعي إلى الحرية المطلقة يصبح إشكالياً. وبدلاً من ذلك، يتعين على الأفراد أن يتنقلوا بين تعقيدات ظروفهم، مع الاعتراف بالقيود والمعوقات التي تشكل هوياتهم وخياراتهم. ويؤكد ديريدا أيضاً على دور اللغة في تشكيل فهمنا للحرية. وهو يرى أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل هي بنية تؤثر على الفكر والفعل. ويؤكد بان الطريقة التي نعبر بها عن الحرية مرتبطة جوهرياً بالأطر اللغوية والثقافية التي تشكل فهمنا. ويؤدي هذا المنظور إلى تفكيك التناقضات الثنائية التي غالباً ما تدعم المناقشات حول الحرية، مثل الحرية مقابل القيد أو الحرية الفردية مقابل الحرية الجماعية. ومن خلال تحدي هذه الثنائيات، يفتح ديريدا إمكانيات جديدة لإعادة التفكير في الحرية باعتبارها ظاهرة نسبية وسياقية. فالحرية لا تمتلك مفهوماً ثابتاً لكنها طاقة نشطة، ومحفزة للتساؤل، ولتحدي المعايير، والأعراف. فاللغة، عند دريدا، لها دور مركزي لفهم الحرية، فهو يرى أن اللغة تتوسط دائما بين تفكيرنا وذاتيتنا، أي أن أفكارنا عن الحرية تكون مشروطة دائماً بالبنية والتركيبات اللغوية ومعانيها. لذلك فإن تفكيك اللغة والمعاني يؤكد بانه لا يمكن تعريف أو وضع فهم ثابت للحرية بشكل كامل ومطلق، لأنها في حالة دائمة من إعادة الصياغة، ولأنها في حالة حركة دائمة. لذلك فإن دريدا لا يتفق مع المناهج التي تسعى الى صوغ تعريف الحرية بمصطلحات مطلقة وشاملة، لأنه يفهم الحرية بتعقيداتها وبتعدديتها، بمعني اخر إنه منفتح على عدم تحديد مفاهيم للحرية أو على ثبات يقينية التعريف. وجدير بالذكر أيضاً، ان دريدا ربط الحرية بالقيم الأخلاقية، حيث إن فكرة الحرية الحقيقية تعني المسؤلية تجاه الآخرين. وهذه المسؤولية لا تتوقف عند الإلتزام الأخلاقي، وإنما بالاعتراف بتفرد الآخرين وفي حقهم بأن يكونوا مختلفين. وعند تأملاته في الديموقراطية، وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والمشاركة السياسية، يتساءل دريدا عن شرعية التعبيرعن الحرية، في عالمنا الذي يتّسم بالظلم وعدم المساواة. فالحرية عند دريدا، كما ذكرنا آنفاً، مرتبطة بتفكيك المعاني وبالمسؤولية الأخلاقية تجاه الآخرين.

اما فيما يختص بالفيلسوف جان بودريار، فإن مفهومه للحرية متشابك، بشكل عميق، مع نقده للمجتمع المعاصر، وخاصة في سياق ما بعد الحداثة ومفهوم ما يسميه "الواقعية المفرطة". تكشف أفكار بودريار عن عالم تهيمن عليه الرموز والدلالات والعلامات والمحاكاة وثقافة الاستهلاك، ليؤكد بأن الحرية، كما يراها، تصبح بعيدة عن التحقق بشكل متزايد. حيث إن مفهوم "الواقعية المفرطة" او الصورية يقع في جوهر أفكاره، والذي يشير إلى الحالة التي ينهار فيها التمييز بين الواقع ومحاكاته. ففي هذا العالم المفرط في واقعيته، تصبح الرموز والعلامات أكثر أهمية من الأشياء أو التجارب الفعلية التي تمثلها. هذه الظاهرة واضحة في مجتمع المستهلك الحديث، حيث يتم تحديد قيمة السلع غالبًا ليس من خلال فائدتها، ولكن من خلال رمزيتها، أي الى ما تشير إليه في السياق الثقافي والاجتماعي. بهذا المعنى، تصبح الحرية إشكالية، حيث يقع الأفراد أسرى للأستهلاك والرغبة التي تمليها الرموز الثقافية المحيطة. ففي مجتمع الواقعية المفرطة، لا يتم قمع الأفراد من قبل قوى خارجية فقط، بل إن الافراد أنفسهم يتواطئون أيضاً في إخضاع أنفسهم. تؤدي الحاجة المستمرة إلى الاستهلاك، والتوافق مع التوقعات المجتمعية، والتفاعل مع الصور والدلالات والرموز إلى شكل من أشكال السيطرة المفروضة على الذات، وبالتالي تقويض مفهوم الحرية ذاته. وبهذا، يصبح الأفراد مستهلكين لهوياتهم الخاصة، التي تشكلها الدلالات والرموز الصورية التي تحاكي الواقع بإفراط. ويؤكد بودريار بإن التمييز بين ماهو واقعي وبين محاكاة الواقع أو الواقع الصوري لم يعد سهلاً وهو غير واضح، وغير متيّسر بالنسبة للمجتمع الحديث. ولهذا فإن الحرية، ضمن هذا السياق، أصبحت مربكة ومقلقة ومثيرة للتساؤل، فالمجتمعات تعيش ضمن عالم متخم بالصور والاشارات والرموز التي لم تعد لها علاقة بالواقع الملموس، ولهذا تتحول الحرية الى وهم، لأن ما نتخذه من اختيارات، نعتقد بأننا قمنا بها "بحرية"، ولكنها، في الحقيقة، نتاج التأثر بالمواد الدعائية المشجعة على الاستهلاك. فالمجتمع الحديث يمتاز بثقافة إستهلاكية تقود سلوكياتنا ورغباتنا، هذه الثقافة جعلت مفهوم الحرية يتقلّص ويرتبط فقط بالاختيار بين ماهو معروض من السلع والخدمات. غير أن الاختيار هنا يخضع لمنطق الحتمية وليس الحرية، لذلك فأن هذه الثقافة الاستهلاكية دفعت "الذات" المستقلة الى التراجع بحيث لم يعد الفرد في هذه المجتمعات فاعلا حرا، بل أصبح نتاجا لثقافة الاستهلاك. وبهذا المفهوم فإن الحرية التي تُرسّخ معانيها ضمن بناء الفرد ثقافيا وإجتماعيا وإقتصاديا هي حرية تحاكي الحرية، أي تتشبه بالحرية التي تتعرض لخطر ثقافة الاستهلاك، أي أنها، في الحقيقة، وهم الحرية.  فضمن رؤى بودريار لم تعد الحرية كحالة متميزة في الوجود، بل تفاعل معقد بين الرغبات والهويات والبنى الاجتماعية، ولذلك فإن بودريار يجادل بأن العمل من أجل تحقيق الحرية، ضمن الأطر التقليدية لسلطات الحكم وسلطات المجتمع، عديم الجدوى ويدعو الى التفكير ببدائل جديدة لمقاومة ما يتحكم بحرية الافراد والمجتمعات والتحرر من القيود المفروضة.

غير أن الفيلسوف جيل دولوز ينسج أفكاره عن الحرية بشكل معقد ضمن اهتماماته الميتافيزيقية وتوسيع المعرفه، مؤكداً على الطبيعة السائلة والديناميكية للوجود. وعلى النقيض من وجهات النظر التقليدية التي تصور الحرية غالبًا على أنها حالة ثابتة أو مجموعة من الحقوق، فإن دولوز يتعامل مع الحرية باعتبارها عملية مستمرة من النشوء أو الصيرورة، تتشكل من خلال تفاعلات معقدة بين الأفراد والقوى العديدة للمجتمع والتاريخ والثقافة. ففي جوهر فلسفة دولوز تكمن فكرة الصيرورة او النشوء، والتي يقارنها بمفاهيم "الوجود". فالواقع، بالنسبة اليه، ليس مجموعة ثابتة من الكيانات، بل تدفق مستمر من الأحداث والتحولات. لهذا، وضمن هذا الإطار، لا تظهر الحرية باعتبارها القدرة على الاختيار من بين مجموعة من الخيارات المحددة مسبقًا، ولكن باعتبارها القدرة على التعامل مع العالم بشكل إبداعي، وشق مسارات جديدة، واحتضان عدم القدرة على التنبؤ بالحياة. فالحرية ترتبط عند دولوز بالرغبة ويعتبرها قوة إنتاجية، ويؤكد بأن الرغبة هي قوة ثورية تناهض هياكل السلطة المختلفة، وتعمل على تحقيق الحرية من خلال تحقيق الذات. وهو يعتبر بأن الحرية تبرز من بين فجوات هياكل السلطة، لذلك فهو يدعو الي أشكال جديدة من المقاومة ضد هذه السلطات من أجل توسيع الفجوات للحصول على حرية أوسع. والحرية بالنسبة لجيل دولوز ليست حالة مستقرة، بل هي في حركة ديالكتيكية مستمرة، ولهذا يتبنّى دولوز فكرة الصيرورة، بإعتبارها حالة مستمرة في الوجود تتجاوز حالة الهويات الثابتة والجامدة. وهكذا فإن الحرية بهذا المعنى مرتبطة بالقدرة على التغيير وإعادة إنتاج الذات في عالم متغيّر، حيث يشدد دولوز على نوعية جديدة من القيم الأخلاقية مبنية على تأكيد الوجود والصيرورة والحياة وإبتداع قيم جديدة لا تتوافق مع المعايير المحددة مسبقا.

وأخيراً مفهوم الحرية عند الفيلسوف جان فرنسوا ليوتار المرتبط بشكل وثيق بنقده للسرديات الكبرى (مثل الأيديولوجيات المهيمنة والماركسية، والليبرالية، والديانات، ونظريات التقدم التنموي او الحضاري.. وغير ذلك) والتي يرى أنها شكلّت الفكر الحديث والإيديولوجيات السياسية الشائعة، لكنه يرى أيضا بأنها فقدت شرعيتها في سياق "ما بعد الحداثة". يسمح هذا التحدي بتعدد السرديات والاصوات، وهو الذي يفتح أبواباً للحرية أقل ارتباطا بالقيم الشائعة والمثل العالمية، وأشد التصاقا بتنوع ووحدانية التجارب الفردية. فالحرية عند ليوتار ترتبط بالقدرة على التشكيك في اليقينيات الراسخة وتحدّيها، حيث ان السرديات الكبرى لم تعد قادرة على تقديم الإجابات المحددة، لذلك فإن الحرية تنطوي على التشكيك والإنغماس التام في طرح الأسئلة، والنقد، والتجريب الفكري، والإبداعي. مما يعني بأن الحرية لا يمكن فهمها على أنها مجرد غياب للقيود، بل على أنها مسؤولية تجاه الآخرين ومراعاة خصوصياتهم. يؤكد ليوتار بهذا على قيم أخلاقية تقوم على الاعتراف بالاختلاف واحترامه، فالحرية الأخلاقية تستوجب الانخراط في علاقات تعترف بالتنوع وتقدره. الحرية بإختصار، بالنسبة لجان فرانسوا ليوتار، هي مفهوم يبرز أساسآً في سياق التعددية واحترام الاختلافات ومعارضة السرديات الكبرى السائدة. وليوتار مفكر رسّخ بأفكاره أخلاقيات التنوع والحوار، ويدعو إلى التفكير والتحليل المستمر في اللغة والمعاني والقيم في عالم ما بعد الحداثة. هذه المفاهيم إنعكست بشكل مؤثر جدا على إشكاليات وجماليات مسرح مابعد الحداثة، حيث انها تدعو إلى استكشاف تعدد وجهات النظر، والتمعّن في غياب الحقيقة الواحدة، والاعتراف بالطبيعة المجزأة للتجربة الإنسانية. تساهم هذه العناصر في إنشاء سرديات مسرحية معقدة ومثيرة للتفكير تتحدى الهياكل التقليدية وتدعو الجمهور إلى الانخراط في تفسيرات مفتوحة. فأصبح من غير المناسب إستخدام السرديات التقليدية الشائعة، بل تجزئة هذه السرديات، وتغيير خطها السردي فلم يعد مستساغاً إستخدام الخط السردي الافقي والمتسلسل في مسرح مابعد الحداثة.

نلاحظ، بعد هذا العرض السريع، والمبتسر، لافكار فلاسفة مابعد الحداثة، أن مفهوم الحرية في الواقع يتشظّى الى عدة مفاهيم، فالحرية في الواقع اليومي فكرة مثالية ومعقدة، لأنها تتأثر بشكل كامل بالحدود والقيود الموضوعة من قبل منظومة السلطات المختلفة وهيكلياتها، مما يفرض التنازل عن جوانب مهمة من الحرية. ومع ذلك، فإن الواقع اليومي للحرية يختلف كثيرًا عن ماذكرناه من المفاهيم المثالية للحرية. ففي الواقع المعاش، يواجه الأفراد حدودًا وقيودًا قد تقلّص من حرية العمل والتفكير. قد تكون هذه الحدود مفروضة بموجب القوانين، أو الأعراف الاجتماعية، أو الضغوط الاقتصادية، أو لأسباب وسلوكيات نفسية وأخلاقية. علاوة على أن التمييز العرقي أو الطبقي، والفقر، والقمع، والظلم الاجتماعي وغير ذلك من عوامل تحدّ، الى مديات بعيدة، من التمتع بالحرية، بل إن الافراد في هذه المواقف يفقدون الكثير من إستقلالهم وحريتهم.

انعكاس المفهوم الفلسفي للحرية على الإبداع في مسرح ما بعد الحداثة

كما لاحظنا مما سبق فإن الحرية تُعتبرأحد المفاهيم الأساسية والأصيلة في فلسفة ما بعد الحداثة، فهي تتعلق بالهوية، والذات، والصيرورة، والسياق الاجتماعي، وهياكل سلطة الحكم والمجتمع. ينعكس هذا المفهوم الفلسفي للحرية بشكل عميق على كافة عمليات الإبداع في مسرح ما بعد الحداثة، مما يؤدي إلى إعادة تشكيل أساليب العرض، واختيار الموضوعات، وأسلوب عرض السرديات، وإبتكار تصورات جديدة في الأداء، والانفتاح على رؤى جديدة ومبتكرة في إخراج السرديات التقليدية. فمن المميزات الجوهرية لمسرح ما بعد الحداثة رفضه للهياكل السردية التقليدية والسرد البياني أو الأفقي. ففي المسرح التقليدي، هناك بنية محددة وصيغ معينة يجب اتباعها، ولكن في مسرح ما بعد الحداثة، ثمة حرية في الانفصال عن هذه الأعراف، وإبتداع، وإبتكار، وتجريب ما يمكن ان يكون متميز وفريد. حيث إن مسرح ما بعد الحداثة يتبنّى فكرة التعبير الفردية والذاتية، وتجاوز الحدود بين الواقع والخيال، ورفض المعايير والأعراف المجتمعية، والتشكيك فيما يُعتبر "طبيعيًا" أو "مقبولًا"، ورفض الإستكانة الى قناعة ثابتة. بالإضافة إلى ذلك، فإن مسرح ما بعد الحداثة، ومن خلال حرية التجريب والإبتكار في الشكل والمضمون، غالباً ما يشتمل على عناصر من العبث، والكوميديا، والسخرية، والهزال، والمرح. أدناه، نستكشف تأثيرات الحرية الفلسفية على عمليات الإبداع المسرحي في سياق ما بعد الحداثة.

نقد السلطة والهيمنة

الحرية، هنا، هي المساحة التي تناهض القوة والتعسف، فمما لا شكّ فيه إن الحرية هي الركيزة الأولى والاساسية لتحدي قوى السلطة والهيمنة في الحكم وفي الأعراف التقليدية الاجتماعية. ويتّضح ذلك في التمرد على القوالب، والاشكال التقليدية بالابتكار والتجريب في مسرح ما بعد الحداثة، حيث تتم إثارة التساؤل والتشكيك في المنظومات الاجتماعية والسياسية والايديولوجية. كما يستخدم المسرح الأساليب الرمزية والكوميديا، والسخرية للتملّص من الرقابة والقيود المفروضة بغرض نقد الهياكل السلطوية، فمن خلال تقديم نصوص تتناول قضايا مثل الظلم، وغياب العدالة، والتمييز، والرقابة يبرز المسرح كأداة جوهرية للتغيير الاجتماعي.

الأشكال والتقنيات الجديدة

لا شك في أن التوسع في الابتكار والتجريب في تقنيات المسرح هما أبرز ثمار الحرية الفلسفية، مثل استخدام الوسائط البصرية المتعددة، والتقنيات الرقمية، والأداء الحيّ، والمسرح التفاعلي والتشاركي مع الجمهور. هذه الأساليب والابتكارات تعكس الحرية في استكشاف طرق جديدة للعرض الفني وأشكال جديدة ومتطورة للتفاعل مع الجمهور. كما تُتيح هذه الحرية التوسع في إنعكاس المفهوم الفلسفي للحرية فيما بعد الحداثة لتأطير أنماط جديدة من مسرح متميز وفريد في موضوعاته ومعالجاته وأساليب العرض، عبر دمج عناصر من الفنون الإبداعية الأخرى، مثل الرقص التعبيري، والموسيقى، والفنون البصرية، مما يُوسّع مساحة الابداع بشكل أكبر، ويُعزز من حرية التعبير في التصدي لما هو قائم من اشكال تقليدية جامدة، وتجاوز الحدود المفروضة، وفتح آفاق جديدة للمخيال والابداع الإنساني.

التحرر من السرديات الكبرى

تتضمن فلسفة ما بعد الحداثة تشكيكاً وتحريضاً وتمرّداً على السرديات الكبرى التي تُحاول تفسير التاريخ والوجود الإنساني بشكل شمولي. أي السرديات التي تبث معاني ثابتة لتوحيد الرؤيا بشكل عالمي واسع حول الموضوعات والايديولوجيات التي تستنكر الحوار والمجادلة. إنما في مسرح ما بعد الحداثة يترجم هذا التحريض والتمرد بتفكيك السرديات التقليدية الشاملة، مما يتيح لكتّاب المسرح والمخرجين الحرية الواسعة في التعبير عن تجارب فردية وجماعية متنوعة، من خلال إلغاء الخط الزمني البياني التقليدي، وعدم الالتزام بسرد أفقي موحد، يُمكّن العرض من أن يستكشف موضوعات إنسانية متعددة ومتنوعة في ذات الوقت، مما يعكس تعقيدات الحياة الحديثة، بالإضافة الى إستحداث صيغة تشاركية وتفاعلية مع الجمهور. كذلك فإن هذا المسرح الذي يستلهم الحرية من فلسفة ما بعد الحداثة سيعزز من أهمية الأصوات المتعددة، والمهمشة، والقصص الفردية في المجتمعات، إضافة الى التصدي للموضوعات الاجتماعية والسياسية التي يتنكر لها المسرح التقليدي، مما يُتيح للعديد من الهويات والثقافات المتنوعة والمختلفة أن تُعبر عن نفسها.

إعادة تشخيص الهوية

يكشف مسرح ما بعد الحداثة بأن الهوية ليست ثابتة، لأنها مرنة وسائلة، وفي حالة تطور ديناميكي وتقلب مستمر. يُسهم هذا الفهم في المسرح في خلق شخصيات معقدة، ومركّبة، ومتعددة الأبعاد تعكس التحديات التي يواجهها الأفراد في عصرنا الحالي الموشّح بالعولمة، وتأثيرات التحول الثقافي السريع، والمفعول المخرّب لأحاسيس الاغتراب الذاتي، والمجتمعي. حيث إن استكشاف الابعاد الملتبسة للهوية يسمح لمسرح ما بعد الحداثة في الخوض بمشاكل تعتبر محرّمة، مثل الهجرات والعرق الانساني، والثقافة المختلفة، والجنس والمحرمات الاجتماعية والأعراف، مما يُتيح للكتاب المسرحيين والمخرجين مساحة واسعة لمناقشة الهويات الثابتة واستكشاف القضايا الموسعة والعناصر الديناميكية المتعلقة بالهوية وإشراك الجمهور بمناقشتها. لا شك في انه من خلال هذا الاستكشاف يُعبّر المسرح المتأثر بمفاهيم الحرية في فلسفة ما بعد الحداثة عن فرادته الإبداعية وعن حريته في مواجهة التحديات الاجتماعية والسياسية. حيث يبرز المسرح كقوة فاعلة ونشطة في تطوير الوعي الاجتماعي، وتحفيز النقاش حول القضايا الملحة في المجتمع والتي تقع دائماً خارج دائرة الضوء.

الحرية كمحرك للابداع المسرحي

إن مفهوم الحرية في فلسفة ما بعد الحداثة ينعكس بشكل عميق على الإبداع في المسرح، حيث يُعزز من تفكيك السرديات المهيمنة، وتفكيك الهويات المعقدة، وإستكشاف الهويات السائلة أو المرنة، ونقد هياكل السلطة، وتبني أشكال جديدة من التعبير الفني. يُعتبر مسرح "ما بعد الحداثة" منصة حيوية تتيح للفنانين والكتّاب الفرصة للتعبير عن تجاربهم الفريدة، والتشكك في اليقينيات الثابتة، والتساؤل عن ماهية الواقع المعاش، والتجريب في تحقيق الحرية في الإبداع من خلال نهج واضح وسلس يعتمد، غالبا، على المرح والسخرية والكوميديا. علاوة على ذلك، فإن توسّع حجم ومساحات الحرية تزيد من قدرة كتّاب المسرح والمخرجين والممثلين وكافة الفنيين على إستيلاد الابداع في المسرح الحديث، والتي تبرز في التعبير عن الأفكار الجديدة، بأساليب إبداعية مختلفة ومبتكرة، إضافة الى التحريض والانتقادات، سواء لسلطة الحكم أو سلطة المجتمع، وعادة ما تكون الحرية متجسدة بالأطر التالية:

الحرية السياسية: إن التطور في حرية التحريض وانتقاد الأيديولوجيات، والسرديات الكبرى الشاملة، والحكومات والأعراف والقيود الاجتماعية أدت الى ظهور حركات ومناهج فنية ذات أبعاد فكرية وفنية مختلفة عما سبقها. مثل أعمال الفريد جاري في سلسلته المسرحية الملك أوبو، وأنتونين آرتو في مجمل أعماله المسرحية، كذلك مسرحيات بيتر فايس التوثيقية، ومجمل أعمال مسرح برتولت بريخت والتي شكلّت أداة حقيقية للنقد والتغيير الاجتماعي. حيث انه من المؤكد ان البعد السياسي للحرية كان بمثابة النابض لانطلاق تطوير المسرح في أن يكون منصة جادة للتمرد، والنقد والفهم السياسي، كما منح الفنانين المبدعين القدرة على التصدي للقضايا الاجتماعية والسياسية المعقدة والمحرمة، والشروع في تحريض الجمهور على التمرد وتبني أفكار نقدية.

الحرية الثقافية: إن تفكيك السرديات في المسرح الى سرديات أصغر، وبشكل غير مترابط، سمح بتطور المسرح الطليعي ممثلاً بمسرحيات صموئيل بيكيت ويوجين أونسكو، حيث يظهر الواقع بإطار كابوسي، ولكن بشكل ساخر، كما تبرز هذه المسرحيات، أفراد المجتمعات الحديثة كمخلوقات فاقدة لبوصلتها، وتائهة في عالم موصد النوافذ والابواب، ضمن إطار من السرديات الشاملة الكبرى.  إنما تفكيك السرديات ودمجها بثقافات أخرى بتأثير من العولمة وتآكل الحدود بين ثقافات مجتمعات العالم سمح بتشكيل مسرح ملحمي مختلف ومن نوع آخر، مسرح عابر للثقافات والمجتمعات والحدود، ولكنه مبنيّ على الاهتمام بالقضايا الإنسانية الملّحة مثل الهجرات البشرية وغياب العدالة، والتعسف والتفرد في الحكم.  لعل أبرز الأمثلة على ذلك هو مجمل اعمال المخرجين القديرين بيتر بروك وآريان منوشكين.

الحرية الإبداعية: تتبلور هذه الحرية بإلقاء الضوء على المواضيع المحرّمة والمحظورة، وعلى استكشاف الحقائق البديلة، والاصوات المهمشة التي تم إسكاتها تاريخيا. ويشكل تيّار المسرح الطليعي مثالاً بارزاً في تناول موضوعات صادمة في كشف ومعالجة القضايا الاجتماعية المختلفة، بما في ذلك قضايا الإحساس بالوحدة والاغتراب في المجتمع الحديث، وإشكاليات الاندماج الاجتماعي وقضايا الهوية. كذلك فإن من بين أهم منجزات ما تسمح به الحرية الإبداعية هو إعادة النظر بالنصوص الكلاسيكية المعروفة برؤى تعكس وجهة نظر حداثية، ومختلفة، وجديدة، ومبتكرة تحرّر تلك النصوص من إرث التاريخ ومن أسر الحدود الجامدة والمغلقة. هناك أمثلة عديدة تلقي الضوء على ذلك، ولعل عمل المخرج الفرنسي فانسان ماكين خير مثال على ذلك في إعداده الهجين ومسرحة وإخراج رواية الأبله لدويستوفسكي، ومن قبله المخرج الفرنسي روبرت حسين الذي قدم رؤيا جريئة ومبتكرة للمدرعة بوتمكين.

الإبداع: كعملية لإستيلاد الأفكار في المسرح

لقد أدى التقاطع بين الإبداع المسرحي والمفاهيم الاساسية لفلسفة ما بعد الحداثة، وخاصة مفهوم الحرية، إلى تطوير الممارسات المسرحية بشكل عميق، ولا سيما مشهد الأداء التمثيلي المعاصر، وتحدي الأساليب والسرديات التقليدية، وتغيير الهياكل، وتفكيك تركيبات ومفاهيم المعاني، والتشكيك في السرديات الكبرى وتبنّي تجزئتها، والترويج الى التعددية الثقافية والتنوع الاجتماعي، وتعظيم مفهوم الهوية المتحركة والسائلة. يتّضح هذا التقاطع بالأساليب والطرق التالية: 

دمج مختلف التخصصات: تشكل مختلف فنون الرقص والفنون البصرية والرقمية تقاطعا إبداعيا وتجديديا في فضاءات المسرح، مما يسمح للمسرحيين المبدعين بتلّمس تجارب وأشكال وتقنيات جديدة. حيث ان حرية دمج عناصر ووسائط فنية مختلفة تدعم بشكل قوي المفهوم المتطور للابداع ضمن تعقيدات المجتمع المعاصر.

الإبداع التعاوني: إن ضرورات التعاون في المسرح تتجاوز الحدود الفاصلة بين النص والرؤيا الاخراجية والأداء والتقنيات المختلفة. فالكتّاب المسرحيون والمخرجون والممثلون والفنيون يتكاملون فيما بينهم من اجل إبتكار وإبداع عمل مسرحي يشرك الجمهور بالقضايا المجتعية والسياسية الملّحة.  

الارتجال والابتكار: ان حرية الابداع تسمح بالعفوية والارتجال في المسرح، ففي المسرح الحديث والتجريبي يشترك الجمهور بشكل فاعل مع العرض المسرحي، مما يُلزم الممثلين على الابتكار والارتجال الآني في المسرح، وخاصة في المسرح الغامر حيث يتحول الجمهور من حالة التفرّج السلبي الى حالة الانغماس التام بالمسرح وبموضوعات العرض المسرحي، مما يُحيل كل ليلة من العرض المسرحي الى حالة عرض فريدة بسبب تغيّر الجمهور. 

التجريب في المسرح: الابداع في الخروج عن المألوف والتقليدي في المسرح بتجريب أنماط جديدة ومبتكرة في فنون الأداء وتقنيات الإخراج. والتجريب يشمل استخدام عناصر جديدة ومشوقة سواء في مشهدية المسرح، او السينوغرافيا، أو آليات العرض المسرحي بشموليته. فالحرية في المسرح تسمح ببناء "المسرح النموذج" من خلال التجريب المستمر في البنية والشكل والأسلوب لتجاوز الأعراف التقليدية في المسرح، بما في ذلك تجاوز أو تهديم الحدود الفاصلة بين الممثل والجمهور.  

استخدام التقنيات الحديثة: إدماج عناصر جديدة من التقنيات الحديثة ولا سيما التقنيات الرقمية الحديثة في مجمل وسائط العرض المسرحي. مما يسمح بتوسيع إمكانيات المسرح بإستخدام المنصات الرقمية من قبل الفنانين عبر الانترنيت بهدف الوصول الى جمهور أوسع. كذلك عرض المحتوى الذي قد لا يتناسب مع أبعاد ومساحات المسرح التقليدية.

المسرح التفاعلي والتشاركي: يُؤكد ظهور هذا النوع المتجدد من المسرح حرية إشراك الجمهور بطرق جديدة. بحيث ان هذا النهج يمكّن المشاهدين من أن يصبحوا جزءًا من السرد الدرامي، حيث يتجاوز هذا المسرح حواجز الأداء التقليدي، ويُلغي الفواصل بين خشبة المسرح والجمهور وينمّي الإحساس المجتمعي بالمشاركة. فمن خلال مسرح ما بعد الحداثة تتم، بشكل أساسي، إعادة تعريف العلاقة بين الجمهور والأداء الفني المسرحي. حيث يتجاوز الجمهور فكرة الاستهلاك السلبي للعرض المسرحي، أي تجاوز والغاء المفهوم الشائع للجمهور بوصفه "متلقي"، ويدخل الجمهور كشريك في النشاط السردي للمسرح. وهو ما يغيّر من وظيفة الجمهور وجذبه كفاعل وشريك، بشكل مباشر، مما يحوّل المشاهدين الى جمهور مغمور بالعملية المسرحية، حيث تكسر وتُلغى الحواجز بين الممثل الجمهور.  

تبنّي رؤى مبتكرة: يتم التعامل مع النصوص الكلاسيكية المعروفة برؤى جديدة، وبأساليب إبداعية مبتكرة وذلك بتكيّيف تلك النصوص بشكل حداثي لتعكس القضايا الاجتماعية والسياسية المعاصرة، وتضمينها سياقات ثقافية مختلفة، بحيث ترتبط باهتمامات الجمهور والقضايا الاجتماعية الهامة مما يجعلها أكثر صلة بالجمهور المعاصر. إن دمج موضوعات كلاسيكية متباعدة زمنياً مع العصر الحديث، وعبور أزمنة مختلفة جذرياً يسمح بالقاء الضوء على حالة الادراك المعاصرة لهذه الموضوعات، وحقن شحنات من التمرد والتحريض ضد ما يحدّ من مساحات الحرية والوعي بهدف الانغماس في مشاكل العصر الحديث.

التناص: إن مفهوم التناص في مسرح ما بعد الحداثة يُشكّل عنصرًا حيويًا لإثراء التجربة المسرحية. فالتناص يسمح بدمج النصوص والأفكار المتعددة، مما يعزز من قدرة المسرح على التعبير عن تعقيدات الحياة المعاصرة. والتناص يعكس التداخل بين أزمنة التاريخ والعصر الراهن، ويسمح كذلك بالتداخل بين الثقافات والتنوع الاجتماعي، حيث لا توجد حقيقة واحدة ثابتة، بل العديد من السرديات التي تتفاعل وتتشابك مع بعضها، مما يُثري الفهم الإنساني. فقد أدى تركيز ما بعد الحداثة على آليات التناص إلى ازدهار مسرح من نوع آخر يضّم، في كثير من الأحيان، عناصر من مختلف الأنواع والأساليب والوسائط. حيث إن عدم وضوح الحدود بين النصوص يسمح بإجراء تغييرات مبتكرة وإعادة تفسير للأعمال الكلاسيكية المعروفة.

الجماليات الانتقائية: يحتضن مسرح ما بعد الحداثة أساليب متنوعة، ويمزج بين الفن الرفيع ونقيضه، ويدمج عناصر من الثقافة الشعبية والوسائط المتعددة الحديثة والتقنيات الرقمية المتقدمة. هذا الاندماج المرن بين الجماليات المسرحية الانتقائية يتيح تقديم تجارب متعددة ومتنوعة، بما في ذلك استخدام الآليات السمعية البصرية، والمشهديات المبتكرة والتي تعكس تعقيدات الحياة المعاصرة، وتسعى الى إعادة صياغة النموذج الدرامي في مسرح مابعد الحداثة.

السخرية والمحاكاة الهزلية: حيث إنها تغلب على نمط وسرديات مسرح ما بعد الحداثة، وتعمل كتضاريس رئيسية للنقد السياسي والمجتمعي، يتم ذلك من خلال إسقاط الآمال في التوقعات الشائعة، وتسليط الضوء على الحماقات والسخافات العديدة التي تتصف بها الحياة المعاصرة.  عبر تلك التضاريس النقدية يوفر الكتّاب والمخرجون المسرحيون فضاء مفتوحا للتأمل والتفكير، وذلك باستخدام الكوميديا لمعالجة قضايا خطيرة مثل العولمة، والرأسمالية والتدهور البيئي، والتغيّر المناخي.. وما شابه ذالك.

الختام 

وفي الختام، عند النظر اليوم الى المسرح بصورة عامة، والى مسرح مابعد الحداثة، نجد بأن التبنّي الفردي أو الجماعي لمفاهيم الحرية يُشكّل المحرك الأساس والفعّال في رفض الاشكال والهياكل والأساليب التقليدية، بما في ذلك الجماليات المعتادة أو الشائعة، وإنتهاج التعبير الفردي والتوسع به، وإتّباع منهج التجريب في مختلف أشكال الإبداع المسرحي. حيث إن الحرية في المسرح هي الطاقة الكامنة والمفجّر الأساسي لإيقاظ محفزات الابداع، وإيقاد شرارات المخيال والابتكار والتحول المجتمعي. والحرية أيضاً هي القوة الأساسية التي تمكن المبدعين من صياغة سرديات مقنعة، وتدعو الجماهير للمشاركة في تجارب عميقة، وتبث الحياة في المخيال الجماعي. على أن الإبداع في المسرح لا يتعلق فقط بتوليد الأفكار الجديدة، بل يشمل الطيف الكامل لتنفيذ الأفكار، والعمليات المرافقة من لحظات إنبثاقها إلى مراحل التنفيذ النهائية المتنوعة. لذلك، فإن الجوهر الحقيقي للإبداع يكمن في التنفيذ القادر على التأثير، وإحداث تقبّل وصدى عميق لدى الجمهور وإثارة التأمل، وبالتالي طرح الأسئلة الحرجة.

يسمح هذا النهج الفلسفي لمفاهيم الحرية في أن يصبح المسرح انعكاسًا لحالة ما بعد الحداثة، وفي ان يتمسّك بإشكاليات غياب الحقائق العالمية وبالاحتفاء بالتنوع الثقافي والاجتماعي، وبتعقيد التجربة الإنسانية. لعل هذا التحول المفاهيمي يُعيد تعريف دور المسرح في تشكيل السرد وتقديمه، مما يوفر تجربة مبتكرة وبألوان مختلفة ومتعددة للابداع بكل أشكاله بحيث يمتد ذلك ليشمل الجمهور على تنوعه. لا يمكن المبالغة في أهمية الحرية في فنون الإبداع المسرحي، فمن خلال التمسّك بحرية التعبير وتشجيع التجريب، وتحدي الوضع الراهن، وتمكين الأصوات المهمشة، وتفجير الاحاسيس العاطفية، يبقى المسرح قوة هائلة للتغيير وجزءًا حيويًا من الثقافة التي تؤثر بشكل دائم على حركة وقيم المجتمع.

وأخيراً ان مفاهيم الحرية والإبداع في المسرح الحديث مرتبطان بشكل معقد، حيث يتداخلان بصورة عميقة، لذلك يمكن النظر الى الحرية مثلاً، بإعتبارها سطح اللوحة الفنية أو الكمفاس الذي ينتظر ان يُرسم عليه، في حين ان الابداع هو مجموع الادوات التي ترسم موضوعات اللوحة والوانها واسلوبها، أي ترجمة تعقيدات التجربة الإنسانية فنياً. فالحرية والابداع يتضافران معًا من أجل خلق عرض مسرحي جمالي نابض بالحياة، ومعبأ بالتحديات التي تتعلق بهموم المجتمع، ويعكس العصر الذي نعيش فيه، وإشكاليات العالم من حولنا.

***

علي ماجد شبو

............................

استفاد هذا البحث من المراجع التالية في فلسفة ما بعد الحداثة:

- الصورة – الحركة، أو فلسفة الصورة، جيل دولوز. ترجمة حسن عودة، منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما، دمشق 1977

- الصوت والظاهرة، مدخل الي مسألة العلامة في فينومينولوجيا هوسرل، جاك دريدا، ترجمة د. فتحي انقزو، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب.

- أوهام الهوية، جان فرنسوا بايار. منشورات هنداوي، 

 - الوضع ما بعد الحداثي، جان فرانسوا ليوتار، ترجمة أحمد حسان، دار شرقيات للنشر والتوزيع. القاهرة.

- لماذا نتفلسف؟ جان فرنسوا ليوتار، ترجمة يوسف السهيلي، دار التنوير للطباعة والنشر، تونس

- المراقبة والمعاقبة، ولادة السجن، ميشيل فوكو، ترجمة د. علي مقلد، منشورات مركز الانماء القومي، بيروت

- حفريات المعرفة، ميشيل فوكو، ترجمة سالم يفوت، الناشر المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء   

- Simulacre et Simulation, Jean Baudrillard, Edition Gallimard, Paris, Format Kindle     

- La dissémination, Jacques Derrida, Aux Éditions Du Seuil 1972. Paris, Format Kindle

- The Consumer Society, Jean Baudrillard, London, Format Kindle

- L’Anti OEDIP, Capitalisme et Schizophrénie, Gilles Deleuze, Félix Guattari, Edition de Minuit, Paris, Format Kindle

- Le Postmodernisme, une utopie moderne, Thomas Seguin, Edition l’Harmattan, Paris, Format Kindle

- Les mots et les choses, Une archéologie des sciences humaines, Michel Foucault, Format Kindle

مهداة للاخ الطبيب النفسي الدكتور صباح عقراوي " في الدنمارك والسويد"

تعلمنا من علم النفس عبر عدة عقود من الدراسة والمهنة في العمل النفسي المتخصص بأن كل سلوك لابد وان يكون وراءه دافع، وإن الإنسان في سعيه وراء هدف معين يكون مدفوعًا بدافع معين، ولكل دافع تسبقه فكرة، والفكرة ربما حضرت معها إدراكات متنوعة حتى تحولت إلى تكوين فرضي رمزي، ومن ثم أعلنت رغم أن التذكر والنسيان لفها بعدة صور ومواقف، لا أعتقد تكون مسرة ومفرحة بقدر ما تكون مؤلمة، حملت معها ما ليس هو حقيقي، أو تشوه في إدراك التعايش مع الواقع، حتى بات الضغط النفسي مقبولًا رغم ما يحمله من ذكريات مؤلمة، وهذا الافتراض ينطبق على شريحة بعينها، عاشت وتعيش هذا الاحساس في الواقع وربما لعدة قرون وهي الشخصية الكردية.
كان الأب الرمزي هو السلطان الذي أسس في دواخل الكل القانون، أو الأب المقتول "الميت" لا يمكن أن يحل مكانه إلا في حالات الأنظمة الدكتاتورية، حيث يصبح الحاكم هو القانون، والقانون " هو " الذي يشرع القوانين على هواه كما عبر عنه المحلل النفسي الفرنسي "جاك لاكان "، لذلك فالقضية الاساسية للتحرر عند الإنسان هو خلع هذا الأب – السلطان من رقاب هذه الأمة، أو تلك، هذا الأب الرمزي – الواقعي القاسي على أمة أشعرها بالدونية، وعدم المساواة والعدالة وصادر أبسط حقوق تواجدها الوجودي – أعني كينونتها، هي اللغة وبذلك يقول " جاك لاكان " دخول الإنسان عالم اللغة هو بمثابة دخول عالم الرمز، لأن العالم كله الذي يبدأ الإنسان اكتشافه منذ ولادته مبني على أسس لغوية متقاطعة بالمجاز والكناية والبلاغة والقواعد اللغوية التي تقسم الزمن إلى ماضِ وحاضر ومستقبل، وتفصل في الفضاء ما هو للآخر وما هو للأنا، عالم الرمزي في تركيبته اللغوية، يؤسس الإنسان ويفصله عن طبيعته الحيوانية، فكيف إذن حكم السلطان على لغة أمة مثل الأمة الكردية بإلغاء وجودها، أي إلغاء كينونتها، ويعرف المشتغلين في علوم النفس بأن اللغة ليست التحدث فحسب، وإنما هي القيم والتقاليد والاعراف والطقوس والتراث والشعر والأدب وكل ما ينتج عن الإنسان ويشكل شخصيته المتفردة به، والمختلفة عن أمم آخرى قريبة منه، أو بعيدة عنه، وهكذا كان أساس موضوعنا بتساءل منطقي: ما هو الدافع للتحرر عند الإنسان الكردي؟
تظهر لنا الدراسات النفسية والاجتماعية بأن تحليل الطقوس، وتحليل التراث، وتحليل اللغة، فضلا عن تحليل أنساق التفكير الحضارية لها تأثير فعال في دوافع البحث عن أساليب التحرر والتي أستمرت لعدة قرون معتمدين في ذلك على فكرة مؤداها ليس من شك في أن الكلمة المنطوقة في النهاية نتاج متراكم تاريخيًا لدى الأكراد المنتشرين في كل بقاع العالم، وهم الذين أختاروا العيش في بلدان متعددة إختيارًا قسريًا، ولذلك لم يكن غريبًا أن ترتبط اللغة ارتباطًا وثيقًا بمفهوم القومية رغم تباين الأشكال التي يمكن أن تتخذها هذه الرابطة " كما عبر عنها أستاذنا العلامة قدري حفني".
ما الذي يدفع الإنسان الكردي للتحرر:
إن ما يهمنا في هذه الدراسة المختصرة هي ملامح عابرة عن دوافع بعينها للتحرر لدى الإنسان الكردي، ولنستعرض بعضها، تحليل الإنتاج الفكري المكتوب، حيث تؤكد الأدبيات في مجال الشعر والقصة والأدب الروائي الكردي هو تنوع الإنتاج الفكري المكتوب لإفراد من هذا الشعب، ويمكن الاستدلال عنه بتعبير الشخصية الكردية، ولا ننسى دور الألحان والاغاني كتعبير عن الثقافة واللغة والفنون بمختلف أنواعها، وهذا يعطينا مؤشر لقوة الدوافع لدى الفرد الكردي للتخلص من السطوة والسيطرة السياسية والإجتماعية فضلا عن قيود اللغة والقيم المرتبطة بها والتراث الخاص بالشعب الكردي.
تعد بعض المؤشرات العلمية النفسية والاجتماعية، دافع قوي لخلق بنية تخص التكوين النفسي للإنسان الكردي، الرجل والمرأة والطفل، منها:
- القيم الاجتماعية.
- سيكولوجية اللغة والأدب والفن.
- المعايير الاجتماعية.
- البناء النفسي والاجتماعي.
سنحاول تعريف بعض مما تقدم ونربطها رمزيًا بدوافع التحرر عند الإنسان الكردي، وكذلك بالسلوك الجمعي لهذا الشعب. فالقيم هي موجه للسلوك، وهي معتقدات، وهي معيار إجتماعي، هي دافع من دوافع السلوك، إذن القيم مفهوم يدل على مجموعة الاتجاهات المعيارية المركزية التي تتكون لدى الفرد في المواقف الاجتماعية المختلفة، فتحدد أهدافه العامة في الحياة والتي تتضح من خلال سلوكه اللفظي " اللغة والكلام واللسان" أو العملي " التراث والمهنة وما نقله من الاجداد"، وأزاء ذلك تصبح القيم ذات خلفية اجتماعية وثقافية، لا تظهر إلا في مواقف الحياة المحددة التي يتعرض لها الإنسان الكردي لمواقف الصراع المختلفة في بيئته، أو حينما ينتقل إلى بيئة أخرى، أو مجتمع آخر.
تعد اللغة هي الملكة المشتركة بين كل الأمة الكردية، فهي منتوج اجتماعي لملكة اللغة التي يتقنها جميع هذا الشعب، لكن اللسان هو منتوج اجتماعي بالمعنى الذي يقصده حيث يسجله الفرد ويتعلمه من أهله والقرية التي يعيش بها، والمدينة الأوسع، ويمكننا القول انه الجزء الاجتماعي من اللغة، الخارج عن الفرد الذي لا يستطيع لوحده أن يبتكره أو يغيره وهو ما عبر عنه " الفريد دي سوسير "، واللسان عند الانسان الكردي الذي يتحدث به هو مخزون، مستودع، مجموع آثار القيم والاعراف والتقاليد والثقافة المنقولة المتداولة شفهيًا، والمكتوبة شعرًا وقصصًا وروايات مدونة، كل تلك تعطي ملامح بنية التكوين الفكري والنفسي عند الفرد الكردي.
أما المعايير الاجتماعية فهي التشابه بين أبناء الثقافة الواحدة في السلوك يعكسه مجموعة من المظاهر التي نطلق عليها العادات والتقاليد والمبادئ والقيم ومعايير السلوك، أو مانسميه بالمعايير الاجتماعية. ويرى علماء النفس الاجتماعي أن مفهوم المعايير الاجتماعية يدل على ما يقبله المجتمع من قواعد وعادات واتجاهات وقيم.
أما البناء النفسي فنوجزه ببعض هذه الرؤى التي سبق وإن دوناها في مقالة سابقة
بأن البناء النفسي هو ديالكتيك يقود الإنسان إلى كشف ذاته، كشف في الإنسان يقود إلى فهم ما هو؟ وبتعبير آخر من أنا؟ وهو معرفة تقود أما إلى الشفاء أو إلى عكسه؟ ففي معرفة البناء النفسي عند الإنسان يضع الفرد أولى بصماته على نقاط قوته، أو ضعفه فهو شفاء في ضعفه يتحقق من خلال معرفة، وهو ايضًا كشف لما فيه من قوة بنفس الوقت فيكون استمرار البناء وبه يصون الإنسان السليم نفسه ضد متغيرات الحياة لأنه في مواجهة كاملة مع نفسه أولا ومع البيئة الخارجية عند الشعب الكردي رغم الاستهداف المتعمد بتفتيت هذه البناء النفسي والاجتماعي.
ترى موسوعة علم النفس والتحليل النفسي إن البناء هي عملية تنظيم ودمج الأجزاء في وحدة كلية، أو في كيان معقد، وهذا ما استخدمه علماء نفس الجشطالت في طرحهم لهذا المفهوم أو المصطلح في حديثهم عن الكليات المنظمة وهي التي تتكون من انتظام وحدات الخبرة نتيجة للاعتماد المتبادل بين أجزاء الخبرة الكلية سواء في الوظيفة أو في طبيعة التكوين، أي أن التكوين البنائي أو التنظيمي يتم في شكل وحدات كلية، وان ذلك يعكس معنى جديداً ومتميزاً لجزئيات وحدات الخبرة يختلف عما تمثله معنى كل وحدة جزئية على حدة.
في البناء النفسي يخبر الفرد رؤية ذاته وانعكاساتها وتصور ذاته على نحو مختلف عن حقيقتها احيانا وربما مطابق لما هو واقعي كما يراه هو نفسه وهو منظور اساس للإنسان الذي يمكن أن يُشيدْ حياته بالبدء على مستوى تخيليا داخليا ومن ثم أما تترسخ التخيلات فتكون واقعية حتى وان كانت غير صحيحة فيكون الدفاع عنها من الناحية السيكولوجية هو الاحتفاظ بالبناء الراهن للشخصية مهما كان فيه من عوج ومهما كلف ذلك من الشقاء أو المعاناة. حقا ان البناء النفسي ديالكتيك من البدء – المبنى - إلى النمو- بروز المعنى - مرورا بالنشوء والتكوين
إن البناء النفسي الذي يشكل الشخصية عبر مراحل حياتية منذ فجر ولادة الإنسان تتكون معه أولى بزوع المشاعر الانسانية واولى بزوغ الرغبة بأنواعها من المحبة إلى التعاون، إلى الإنتماء، إلى السعي في الامتلاك إلى الانانية.. إلى العدوان ولذلك نرى أن شدة الاستجابة العدوانية تتناسب تناسبًا طرديًا مع شدة الاحباط، أو التهديد، ففي بعض الأحيان تتحول إلى الابتكار وخلق الجديد المميز، ولا نغفل في هذا الموضع الجانب البيولوجي الذي يشكل جزءا كبيرا في البناء الانساني ويعكس صداه على البناء النفسي وهذا هو اختلاف الانسان عن الكائنات الحية الاخرى ويتجسد هذا الاختلاف الكيفي في ميلاد القشرة المخية والوظائف العقلية العليا أعني النشاط الرمزي المتمثل في التفكير واستخدام اللغة والادراك المتقدم والتذكر والخبرات التي تكتسب وتشكل السلوك من القيم التي يؤمن بها ويحافظ عليها مهما تعرضت من تزييف وتشويه متعمد من الانظمة الدكتاتورية المتعاقبة ضد هذه الامة والشعب في عدة بلدان متفرقة، رغم إنها أمة يجمعها تراث متشابه، وقيم متشابهة، ولغة مشتركة ولسان متعدد اللهجات، وبذلك تكون دوافع التحرر يجمعها المناخ والاطار السيكولوجي الاجتماعي الأمثل، ولا ننسى أن الإنسان الكردي استمرت حياته كلها في الشعور بالاغتراب وهو في أرضه وبين الجبال التي ولد ونشأ فيها، وما يستشعره من غربة أو جفاء من السلطة في الدولة، ولا نغالي إذا قلنا أيضًا في العالم، وفي علاقته بالآخرين من أبناء الشعب الذي يشكل الدولة السياسية من العرب في بعض الدول العربية، أو الشعب التركي في تركيا، أو في إيران من السلطة الحاكمة وما تظهره من ازدراء لطموحات هذه الشريحة الواسعة من مواطنيها فيكون الإغتراب واقع وفكر وإنتماء.
***
د. اسعد شريف الامارة

مدارات فلسفية

إنسجاماً مع نظريته في التغير والحركة فإن النفس عند هيراقليطس أقل الأشياء جسدية، وهي في حالة سيلان مستمر، وحجته في ذلك أن العالَم المتحرك لا يتمكن من ادراكه إلَّا ما كان متحركاً، ويكمن مبدأ النفس في النمو، وهي بذلك تخضع لنظريته في الوجود والعدم، إذ أن موت النفوس هو أن تصير ماءً، وموت الماء أن يصير أرضاً، وعلى العكس من ذلك، يأتي الماء من الأرض، وتأتي النفوس من الماء، وعلى هذا الأساس، ومن أجل أن يربط النفس بمشكلة الوجود ككل، فإنها لابد أن ترتبط بالعالَم المتحرك المتغير أبداً. ومن أجل ذلك ذهب هيراقليطس إلى القول بأن أصل النفوس رطبٌ، وإنها تتبخر من الرطوبة، وذلك يعني أن النفس بالأساس عملية تبخر، ولما كانت عملية الجدل الصاعد عنده أشبه بعملية الخلق والإبداع والتكوين، فإن ذلك يتحقق حين يكون الصعود من الماء إلى الهواء، ثم التحول من الهواء إلى النار. ومن دون شك فإن البخار يوحي بالنار كماء جاء في " كتاب النفس " لأرسطو بترجمة أحمد فؤاد الأهواني، وذلك يشير إلى الطريق الصاعد، وعلى العكس من ذلك فإن البخار على قدر ما يكون رطباً فإنه يكشف عن ميله المضاد بأن يتحرك على طول الطريق الهابط، محولاً نفسه إلى ماء، وإذا استمر الميل، يحوّل نفسه إلى وحلٍ وإلى أرضٍ، وفي هذه الحالة يصبح مكان النفس الطبيعي في المسافة بين النار والماء، كما تحمل في داخلها على إمكانيات التحول الذاتي في كلا الإتجاهين، وإن هذه الحالة التي هي بينَ بين، تسمح لها أن تغير نفسها، أو تخضع للتغيير ضمن حركة الطبيعة الصاعدة والنازلة. والنفس وفق ذلك ذات قوة متحركة متحولة ذاتياً، وهي تجنح دائماً إلى أن تصير شيئاً آخر أكثر مما كانت ومما تكون، فإذا كانت حكيمة فإنها تحاول أن تسير في طريق الصعود، لتصير أكثر جفافاً ووضوحاً وناريةً، أما إذا استسلمت للتحلل، فإنها قد تنحدر في طريق الهبوط لتكون أكثر رطوبة، أي أنها تستطيع أن تحقق نفسها في أي من الإتجاهين الصاعد والنازل، فضلاً عن امتلاكها خاصية معينة هي خاصية الوجود وخاصية معرفة وجودها، وهي بذلك تحرك نفسها من الداخل، كما تعيد النار نفسها من شرارة صغيرة، والإنسان نفسه يستطيع أن يعرف ماهية النفس بطريقة واحدة، وهي أن يعيش مثل هذه العملية من إعادة إشعال النفس، والحقيقة التي لا فكاك منها بالنسبة لفيلسوف الصيرورة، إن كل الأشياء من دون إستثناء، تحقق وجودها بالحركة، وذلك ينطبق بدرجة عالية على النفوس الإنسانية، فهذه النفوس تواجه الحياة، وينبغي عليها أن تتحرك، شأنها في ذلك شأن ماء الشعير الذي يتحلل إن لم يتحرك، وهكذا هي النفوس فإن حركتها تعني الحياة، وفي حركتها هذه صعوداً وهبوطاً، يفترض أن تدرك الفرق بين الصعود والإنحدار، ذلك لأن طريق الصعود يمثل كمالها، وطريق الهبوط يمثل هزيمتها، والنفس في كل الأحوال هوائية وتتعلق وجودياً بين النار والماء. وتتجلى نظرية هيراقليطس في الصراع والتغير بوضوح في تأكيده على أن الناس مرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالكلمة " اللوغوس " وهم يبقون أنفسهم في قيدها، وذلك يعني أن النفوس الإنسانية لا توجد فقط في علاقة مع الأساس المادي الذي تتبخر منه، بل لها علاقة وثيقة مع " اللوغوس " وهي الكلمة الإلهية التي تتخلل كل الأشياء، وكل القوى، وإننا نصبح عقلاء بأن نستنشق الإلهية حسب مذهب هيراقليطس، أما أثناء النوم فيصيبنا النسيان، ولكننا نعود للوعي مرة أخرى عند الاستيقاظ، لأن منافذ الحواس تكون مغلقة عند النوم، حتى أن العقل ينعزل عما هو قريب منه في العالم المحيط به، وحين يكون منعزلاً هكذا فإنه يفقد القوة التصويرية للذاكرة، ولكن حين نستيقظ مجدداً فإنه يرتفع من خلال منافذ الحواس التي تخدمه كأنها نوافذ صغيرة، وهكذا يدخل في علاقة مع ما يحيط به، ويسترد قوة العقل. ولابد من التوضيح بأن مشاركة النفوس الإنسانية في الكلمة" اللوغوس" لا تعني عزلة ذاتية، ولا تعني تجاهلاً للعقل، بل إنها على العكس من ذلك، فهي أساس الحركة والتغير المستمرين اللذين يُرمز لهما أيضاً بالنار الإلهية، فالمشاركة فيها خلال التيقظ العقلي للعالم المتغير، هي التي تمدنا بمعيار الحقيقة. وفي ما يخص العقل فإن هيراقليطس يمجده، لأن العقل في رأيه يوجه الأشياء كلها، وقد أدرك الفيلسوف أن كل نفس تميل إلى الإسراف والإفراط، ولهذا قال إن على الإنسان أن يحارب الإفراط كما يحارب النار، وذلك لأن الإفراط يضر الإنسان أكثر مما تضره النار، وهو ضد التطرف والإسراف، ورأيه ثابت على نظريته في التغير والصراع، حتى أنه يذهب إلى القول بأن كل شيء في هذا الوجود هو نسبي ومتناقض، فالتخالف يجلب الائتلاف، ومن التخالف يأتي أجمل الائتلاف، وذلك يعني إنه لا ثبات لشيء على الاطلاق، إنما الأشياء تأتلف مرة وتختلف مرة أخرى، وهكذا هو قانون الحياة الذي يجعل الصحة ممتعة بالمرض، وبالشر يكون الخير مجلبة للسرور، وكذلك بالجوع يكون الشبع، وبالتعب تكون الراحة. والمتأمل لهذه المقولات الهيراقليطية يدرك أن الشيء لا يبقى على حاله مطلقاً، وإن الانسان الطبيعي لا يشعر بأي تبدل في حياته الخاصة، ولكن حين يمرض يذوق مرارة الألم، وإذا ما تماثل للشفاء فإنه يتمتع بلذة الصحة، وفي الوقت نفسه إن لم يمسه الشر، فقد لا يدرك معنى الخير، أما إذا مسه الشر، فأنه بعد ذلك يعرف جيداً كيف أن الخير يجلب السرور، والأمر نفسه ينطبق على الشبع، فالإنسان يلتَّذُ به بعد أن يشعر بالجوع، ويتذوق الراحة جيداً بعد مدة من التعب، كما أن هناك أشياء نسبية في الحياة، فإن ماء البحر يميت الإنسان إذا شربه، والأسماك تحيى فيه حياة طبيعية، والحمير تفضل التبن على الذهب لأن فيه حياتها الطبيعية، والذهب بالنسبة لها ما هو إلا حجر لا أكثر، وفي هذا النسبية يطرح هيراقليطس حكمة جميلة تقول إن أجمل القرود هو قبيح بالنسبة للإنسان، وإن أحكم الناس يبدو قرداً إذا ما قورن بالإله. كلما تعمقنا في فلسفة هيراقليطس، نكتشف أن نظرته للأشياء قائمة على التناقض الذي يوجد في قلب الحقيقة ذاتها، وربما تكون هذه النظرة مضافاً إليها غموض عباراته وعمقها هي السبب وراء شهرته العريضة بين الفلاسفة، إنه أيضاً لا يتحدث عن مادة طبيعية محسوسة، أو وجود ميتافيزيقي مستديم، على أنه الكينونة الكلية للوجود، وحتى النار التي يتحدث عنها على أنها أصل الكون، ليست ناراً طبيعية ولا ميتافيزيقية، بل هي اللهب المغذي، وهي محسوسة الرؤية الخارجية، لكنها في الوقت نفسه هي الحقيقة الكلية للتغير المستمر، فالتنوع والتغير حقيقتان أساسيتان لا يمكن ابعادهما عن الطبيعة الحقيقية للأشياء، والزمن كما يقول طفل يلعب بالنرد، والعالَم الأكمل ليس إلَّا كومة من النفايات تكونت بطريقة عشوائية، وهو يعني بذلك إن العالَم متقلب، متغير، غير واعٍ، وطفولي في التغير أيضاً، مثل طفل يلعب بالنرد!. وحتى وحدة الأشياء التي يقول بها في فلسفته، هي نوع من الوحدة المخادعة الخفية، لأن وحدة الأشياء، وانتظامها المتبادل، لا يمكن أن توجد، ولا يمكن تصورها بعيداً عن التعدد والتنافر. وكثيراً ما يستعمل هيراقليطس اللغة المجازية على الرغم من غموض مقولاته، وقصر حكمه، كما يستعمل الاستعارة والرمز في أغلب كتاباته وعباراته الفلسفية العميقة، إنه يراوغ ويخادع في الجملة نفسها التي يخيل للقارىء العادي إنه يقصد شيئاً سهلاً وقريباً للتصور، فيما هو يقصد ما هو أعمق من ظاهر العبارة وشكلها اللغوي الخارجي، ولهذا السبب يشكو الكثيرون من صعوبة فهم فلسفته، ومن صعوبة إدراك معانيها لمعرفة مقاصده الحقيقية. أما عباراته الشائعة التي أراد فيها أن يعبر عن فكرة التغير والصيرورة " إنك لا تنزل النهر مرتين لأن مياهاً جديدة تجري حولك أبداً " فيقصد بها أن نظام الكون في تغير دائم، وأن اللحظة التي أنت فيها لن تعود أبداً، وحين تعبر النهر لأول مرة فإنك لن تعبره ثانية، لأن قطرات المياه قد مضت بعيداً، وخلايا جسدك التي لا مست المياه هي غير الخلايا التي ستلامسها في المرة الثانية . وفي عبارته " إن الكلاب تنبح على الذي لا تعرفه " لا يقصد المعنى البسيط الدارج والمتعارف عليه عن طبيعة الكلاب في تصرفها مع الغرباء، بل يقصد إن العامة الجهلاء قد لا يتقبلون نظريات ومكتشفات وتوجيهات الفلاسفة والمصلحين، وقد يثورون عليهم ويقتلوهم ويحرقون كتبهم. أما عبارته التي أثارت جدلاً كبيراً بين المفسرين فهي التي يقول فيها " إن شخصاً واحداً أفضل عندي من عشرة آلاف، إذا كان من الطبقة الأولى "، ذلك أن كثيراً من المفسرين اعتقدوا أنه فيلسوف متعجرف متكبر وطبقي، غير أن المتعمق لهذه العبارة قد لا يتوافق معهم، فهي لا تحمل أي إشارة طبقية، أو تصنيف للمجتمع إلى طبقات مثلما فعل أفلاطون وأرسطو صراحة، إنما تعني تفضيله للشخص العبقري النابه على غيره من الجهلاء حتى لو كان عددهم عشرة آلاف شخص، ولا تحتمل العبارة أبعد من هذا التفسير. ولا ينسى هيراقليطس أن ينصح الإنسان بالقول " من الأفضل أن تكون إنساناً ذا كلمة هادئة، من أن تكون أبلهاً مضطرباً، ومن الأفضل لعقل الإنسان أن يكون جافاً وواضحاً، من أن يكون ضحية للعواطف "، ثم يضيف " ومع ذلك فإن البُله والفاسقين لهم أدوارهم التي يلعبونها في العالَم المتغير أبداً".
***
د. طه جزاع
......................
* اعتمدنا في قراءة نصوص هيراقليطس على كتاب علي سامي النشار وجماعته: هيراقليطس، الإسكندرية 1965.
نشر المقال في مراصد ايضا

في القرن الثامن عشر تسيّد الابحاث الفلسفية كل من جون لوك وينسب دالمبير الى ان لوك خلق الميتافيزيقا ونيوتن خلق الفيزياء. اهتم جون لوك بعرض تاريخ العقل الانساني اما نيوتن فجعلنا ندرك الكون على انه مجموعة من القوانين1.
في البدء لم يكن القرن الثامن عشر حكرا على الابحاث الفلسفية على حساب تنحية ابحاث ومخترعات العلم جانبا. فلم يكن ميراث فرانسيس بيكون ولا لايبنتيز ولا جوردان برونو ولا غاليلو ولا ادلر ولا كوبرنيكوس واشهرهم كان ليونهارد اويلر ولم يكن علم الرياضيات مثلا مخليا طريقه لتسّيد الابحاث الفلسفية.
لم يشر لنا تاريخ الفلسفة العشوائي الذي تغلب عليه الجزر المتناثرة والقفزات الكنغرية أنه مسار خطي انتظامي محكوم بحتمية الضرورة التقدم الى امام. تاريخ الفلسفة لم يحتو ويستوعب التنوع ضمن وحدة تجانس الامتداد التاريخي للفلسفة. تاريخ الفلسفة حكمته القطوعات والوثبات الاعتباطية غير المنضبطة خارج المسار الخطي الذي حكم انثروبولوجيا التاريخ البشري ايضا بتعثرات حكمتها الصدف والعشوائية في حدوث غير المتوقع.. ميزة القفزات الانعطافية النوعية في مسار انثروبولوجيا التاريخ الانساني كانت اغناءا لمسار ذلك التاريخ وتقدمه الى امام رغم العثرات التي جعلته يمر بمراحل ما اطلق عليه المفكر مطاع صفدي مراحل غياب التاريخ بمعنى الانقطاع عن مسيرة التاريخ المتجهة بحتمية التقدم الى امام. القطوعات في تغييب المراحل التاريخية هي التي مهدّت لانبثاق الصدف غير المتوقعة في صنع التاريخ.( للمزيد من التفصيل ينظر كتابنا العولمة بضوء نهاية التاريخ وصدام الحضارات طبعة الاردن). من جهة أخرى لم تكن الفلسفة طيلة تاريخها منذ بدء نشوئها والى اليوم انها كانت تقود العلم وراءها. ومقولة الفلسفة هي أم كل العلوم تحتاج الى ركنها بالظل خاصة بعد خروج العالم من القرون الوسطى ودخوله عصور العلم والنهضة والانوار والحداثة. وتقدم علوم الفيزياء والرياضيات وعلوم الطبيعة بشكل مذهل.
من الاقرار به حقيقة لا تقبل الدحض ان مسار العلم كان يقود الفلسفة وراءه اغلب الاحيان وفي توازي مساره معها احيانا اخرى حيث يقاطعها وهي منقادة مستسلمة له. ويسايرها من حيث تحتاجه ويحتاجها بتكامل معرفي أو تخارجي.
جون لوك التجريبي اللاميتافيزيقي
ثم بأي منطق دوغمائي ننعت جون لوك فيلسوف العقلانية التجريبية الوضعية بأنه خلق لنا الميتافيزيقا؟ لوك في إعلائه قيمة الادراك الحسي والعقلي أنكر وجود العالم الخارجي. فبأي معيار يكون جون لوك ميتافيزيقيا وهو الذي كان مهتما إهتماما استثنائيا بتاريخ تطور العقل الانساني انثروبولوجيا كما ورد في نص عبارة الاقتباس لجان فال.
جون لوك في انكاره وجود العالم الخارجي في تعطيل الادراك الحسي. لم يقل علينا اثبات وجود العالم الخارجي ميتافيزيقيا بدلا من اعمال الحس التجريبي ومنطق العقل في ادراكهما وتعاملهما معرفيا مع مكونات وموجودات العالم الخارجي .
بيركلي معاصر لوك ذهب نفس المنحى حيث وصل به التطرف قوله لجلسائه اني لو أغمضت عيوني فليس لكم وجود داخل الغرفة التي تجمعنا. وحين سألوه اذن من هو الذي يؤكد وجودنا في تعطيلنا الحواس اجابهم الله يدركنا وهذا كاف للوقوف على سذاجة تعليل فيلسوف مثل بيركلي.. لا غبار ولا انتقاص ان يكون الفيلسوف مؤمنا لكن المعيب ان يحاول البرهنة على ايمانه بسذاجة تنسف تفكير الفلسفة قبل تفكير العقل. ما حدا بأحد جلسائه ان يلكزه بقدمه على ساقه قائلا لبيركلي الا يكفي هذا ان يتاكد لك وجودي جالسا الى جانبك؟
لماذا لا ننعت ديفيد هيوم الفيلسوف الاسكتلندي وهو ايضا من فلاسفة القرن الثامن عشر باختراعه تجذير التفكير الميتافيزيقي بالفلسفة حين انكر وجود العقل كما انكر السببية والعليّة وانكر الوجود المادي خارج تفكير الذهن به قائلا مع لوك ماليس موضوعا متعيّنا في تفكير الذهن فليس له وجود مادي خارجه.. وبالعودة لنص العبارة المقتبسة عن جان فال نجد حقيقة نيوتن عالم فيزياء ورياضيات ولم يكن فيلسوفا. وكرسي الاستاذية الذي يشغله علماء الفيزياء سابق والى اليوم باسم كرسي نيوتن في الفيزياء وليس كرسي نيوتن بالفلسفة في جامعة كامبريدج.
نيوتن عالم الفيزياء وليس الفلسفة
طرح نيوتن عدة قضايا فيزيائية علمية فلكية كانت في بعضها امتدادا لافكار ارسطو التي حكمت اوربا القرون الوسطى. نيوتن طرح عدة قضايا فيزيائية علمية كان بعضها امتدادا لما سبق وتناوله ارسطو طروحات ادخلت اوربا في العصور الوسطى لالفي عام مثل قوله الزمن مطلق واخذها عنه نيوتن بتسليم خاطيء. وبعضها الاخر من طروحات نيوتن العلمية مثل اكتشافه قانون الجاذبية وأن العالم الارضي الكوني تحكمه مجموعة من القوانين الفيزيائية الطبيعية العامة الثابتة التي لا قدرة ولا امكانية للانسان التلاعب بها او تغييرها. واكتشافها ازلي خالد لا يحتاج برهان صحته على مر العصور.
1. طرح اسحق نيوتن الارض ليست مركز الكون وانها ليست ثابتة تدور حولها الشمس بدلا من دورانها هي حول الشمس . وهذا تاكيد لما كان ذهب له كوبرنيكوس في عام 1543. كما ردد نيوتن مقولة جوردان برونو الذي اعدم بوحشية قوله الشمس والارض جرمان سماويان من جملة الاف من الكوكب والاجرام السماوية المنتشرة بالكون. كما سبق لغاليلو ان قال به ايضا وتراجع عنه بالمحكمة غصبا وخوفا من الاعدام كمثل مصير جوردان برونو .
2. بتاثير افكار ارسطو قال نيوتن الزمن مطلق ازلي سرمدي غير نهائي خالد. فجاءت نسبية انشتاين الاولى عام 1910 والنسبية الثانية العامة عام 1915 لتنسف افكار كلا من ارسطو ونيوتن حول مطلق الزمن على انه نسبي.
3. اهم واعظم انجاز لنيوتن علميا في الفيزياء انه اكتشف قانون الجاذبية الذي لا تقل اهميته العلمية عن نسبية انشتاين. وانطلق نيوتن من قانون الجاذبية ليقول ان عالمنا والكوني تحكمه مجموعة من القوانين الفيزيائية المعجزة للعقل الانساني ومن غير تلك القوانين كنا وجدنا انفسنا نتطاير ومعنا كل الاشياء في فضاء سرمدي يبتلعنا كما هو حال جاذبية الثقوب السوداء ابتلاعها نفايات الكون الفضائي بنوع من جاذبية شديدة لا يدركها ولا تتصورها عقولنا المحدودة.
الطبيعة والميتافيزيقا
الايمان بالله ضرورة حياتية دنيوية لراحة الانسان قبل أن تكون ضرورة أخروية لمرضاة الخالق فقط. الانسان مخلوق ميتافيزيقي ايضا قبل وبعد ان يصبح مخلوقا عاقلا. النزعة الايمانية لدى الانسان هي اشباع حاجته الروحانية اكثر اهمية من حاجته إعمال عقله بكل شيء بالحياة. الجفاف الروحي لا يسده ويرويه صرامة العقل. حاجة الانسان للتوازن الروحي بالحياة لا تقل اهمية ان ينال الخلود السماوي.
الايمان هو التجلي السلوكي والاخلاقي ولا يعني هذا ان الشخص غير المؤمن لا اخلاق تحكم سلوكه بالحياة. فنزعة الخير عرفها الانسان ومارسها قبل وصول تطوره الميتافيزيقي مرحلة معرفته الاديان التي تقوم على تهذيب السلوك اخلاقيا.
فقد انطلق توما الاكويني من الطبيعة وصولا الى الله. ومثله فعل فويرباخ اذ انطلق من علاقة الانسان بالطبيعة ميتافيزيقيا جعله يخترع الهه الارضي. وضمّن ذلك في كتابه الفريد (اصل الدين). وقال فيورباخ انك لتجد الايمان الارضي في اعجاز الطبيعة وليس خارجها. وانطلق كلا من الدنماركي ابو الوجودية سورين كيركجورد وتبعه بذلك باسكال مقولتهما من القلب تكون معرفة الله بالايمان القلبي بعيدا عن اعمال العقل بالوصول الى الاله السماوي. سورين كيركجورد الذي توفي في الثلاثينيات من عمره هو اول من اخترع القفزة النوعية الايمانية في المطلق بدافع من القلب وليس العقل.
باسكال عنده نظرية براجماتية خاصة بالايمان مفادها انك باستطاعتك الرهان على وجود الله وتتصرف بحياتك وفق هذا المنظور واذا خسرت الرهان الاخروي بالخلود فانت تكون ربحت الهك الارضي في جعل حياتك نوع من الامتلاء الروحي في السلوك الايماني الاخلاقي.
اسبينوزا في مذهب وحدة الوجود انطلق من منطلق الله جوهر مطلق ازلي لانهائي غير متعين لا بالوجود الصفاتي ولا بالجوهرالماهوي. بل الله حسب مذهب اسبيتوزا الفلسفي هو ذلك الجوهرالكلي الكامل التام الموزع في موجودات الطبيعة وكائناتها في جواهرها.
كل الصفات التي يخلعها البشر على معبودهم ليس بالاديان التوحيدية فقط بل في جميع الاديان والمذاهب الوثنية الشرقية هي الصفات التي يتمناها الفرد في معبوده ويرغب تقليدها صوفيا ميتافيزيقيا بحياته. وأي منظور يرى في الصفات اللاهوتية هي الصفات الحقيقية للخالق يكون سقط في براثن تشييء الخالق اخلاقيا غيبيا وهو ما ينكره الايمان الديني قبل إنكارالعقل الوضعي.
برأيي أن اسبينوزا اقترب جدا من الصوفية البوذية والهندوسية والزرادشتية وهي ديانات ومذاهب وثنية. وهيجل اعتبر مطلق الفكرة هي العقل الذي يهيمن على العالم. وفي منحى تجريدي لافت جدا قال الفيلسوف الامريكي سيلارز الله لغة وتبعه فيلسوف آخر الوجود لغة. وهي تعابير صحيحة صادقة من حيث العقل هو جوهر لغوي منتج لفهم الوجود كاملا.
الطبيعة أجبرت في عظمتها النظامية وقوانينها الاعجازية الثابتة العقل تسليمه في طرح امكانية الايمان الارضي بالخالق قبل الايمان الميتافيزيقي به بالسماء.
حينما عجز العقل البشري ايجاد صفات الطبيعة بالذات الالهية قام بخلعها عليه بما يتمناه الانسان وليس بما يرغبه الخالق ان تكون الصفات المخلوعة عليه ايمانيا انسانويا هي صفاته. كل مدرك انساني حسي او عقلي لا يمت للاله المعبود بصلة.
كما اني سبق وذكرت في احدى مقالاتي المنشورة ان مبدأ الحلول الصوفي الانساني بالذات الالهية خرافة ميتافيزيقية. الانسان مخلوق ارضي ومهما تسامى بماهيته او جوهره الصوفي عن باقي البشر فهو يبقى انسانا لا يمت بصلة تجانسية مع صفة واحدة مع صفات الخالق غير المدركة وغير المتعّينة حتى بالمنظور الميتافيزيقي..
مذهب مبدأ وحدة الوجود التصوفي اكثر متبنيه هم من الاديان الملحدة الوثنية التي ترى في اعجاز نظام الطبيعة في الكائنات من موجودات الحيوان والنبات والجماد والانسان وليس في قوانينها الفيزيائية العامة الثابتة يقودك الى الايمان ببوذا وبراهما وزرادشت كآلهة وليسوا بشرا. كما تذهب الديانة الشنتوية اليابانية البوذية وطائفة الراستفارية في جامايكا وأثيوبيا أن امبراطور اليابان وامبراطور اثيوبيا هيلا سيلاسي الهة تعبد وليس حاكما ديكتاتوريا يعظّمّ.
قبل نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 بعد ضرب الرئيس الامريكي ترومان مدينتي هيروشيما وناكازاكي بالقنبلة الذرية النووية لم يكن الشعب الياباني يرغب انهاء الحرب والاقرار بالهزيمة لولا كلمة صدرت وسبقت من امبراطور اليابان لا يحضرني اسمه انه خاطب الجيش الياباني والشعب التسليم بالهزيمة الحربية لامريكا والحلفاء.
مذهب وحدة الوجود جعل من الطبيعة مرتكز الايمان الديني في علاقة الانسان بها. وجعل من اهمية الاعجاز النظامي الجمال بالاشياء والموجودات في الطبيعة إغناء يفي ان تكرس حياتك ووجودك الارضي في الايمان بخالق هذا الاعجاز وهو ما ألغى نهائيا دور العقل في التفتيش الميتافيزيقي غير المجدي بالبحث عن إله السماء.
الطبيعة في كل تجلياتها النظامية وجمالية موجوداتها التكوينية الاعجازية لها, وقوانينها الطبيعية الفيزيائية الثابتة لها. ليست وسيلة الخالق في اثبات وجوده والاستدلال عليه باعجاز الطبيعة. فهو موجود في كل شيء كجوهر لكنه عصي على ادراكه بشيء من الطبيعة. الايمان بتشييء صفات الطبيعة الاعجازية بصبغة الخالق يقود الى تشييء الصفات الالهية التي لا يدركها العقل الانساني المحدود ولا يصلها بادراك ميتافيزيقي وهمي.
***
علي محمد اليوسف
............................
هامش
1. جان فال/ الفلسفة الفرنسية من ديكارت الى سارتر /ترجمة فؤاد كامل ص 43

المصطلح أبستمولوجيّاً (معرفيّاً):
قبل الدخول في تعريف "المصطلح" ودلالاته اللغويّة والمجازيّة، ومجالات نشاطه النظريّة والعمليّة، لا بد لنا هنا من الوقوف عند دلالاته المعرفيّة. "فالمصطلح" ليس "مفردة" لغويّة عابرة نلقيها جزافاً في متن النص الذي نشتغل عليه، أدبيّاً كان أو فنيّاً أو فلسفيّاً أو دينيّا... أو غير ذلك من العلوم التي نتداولها، على اعتبار أن لكل علم من العلوم التي نتداولها له قاموسه "المصطلحي" بالضرورة. فـ "المصطلح" في الحقيقة له دلالاته المعرفيّة والوظيفيّة داخل بنية النص، أي نص من النصوص التي جئنا عليها أعلاه. (قال ابن حزم الأندلسي:" لا بد لأهل كل علم و أهل كل صناعة من ألفاظ يختصون بها للتعبير عن مراداتهم و ليختصروا بها معاني كثيرة.).(1). ففي المصطلح تتحدد توجهات النص الذي نتداول الحديث عنه، أو البحث فيه وأهدافه، مثلما تتحدد مساراته السرديّة والمعرفيّة، فعلى سلطة "المصطلح الواحد وبنيته المعرفيّة قد يتحدد السياق العام للنص المتداول أو الحديث حوله أو عنه بالكامل. فعندما نطرح مثلاً مصطلح "الأركيلوجيا" وهو دراسة علميّة لمخلّفات الحضارة الإنسانيّة الماضية. فهذا المصطلح قابل ان يدخل عالم الأدب أو الفن أو الفلسفة أو الدين أو أيّة قضية من قضايا الحضارة الإنسانيّة لأي شعب من الشعوب. فعندما نريد أن ندرس تاريخ فن القصة القصيرة في سورية مثلاً، فسنعتمد "مصطلح الأركيلوجيا كمصطلح رئيس أو مصطلحاً أساس في دراستنا هذه، وكذا الحال عند دراستنا لتاريخ الفن أو الفلسفة أو الدين وغيرها عند أي مجتمع من المجتمعات أو حضارة من الحضارات، "فمصطلح الأركيلوجيا" سيحدد لنا بالضرورة مسار تتبعنا للقضية التي نشتغل عليها، وبالتالي سيشكل هذا المصطلح بالضرورة موقفاً منهجيّا على اعتباره يحدد لنا مسار عملنا، وبالتالي إبعادنا عن الخلط والتداخل المجانيّ بين العلم الذي نشتغل عليه وبقية العلوم. وهذا الموقف المنهجي نجده بكل وضوح مثلاً في مصطلح " الفقه" أو "علم الكلام" أو الفن التشكيلي" .. الخ. فكل مصطلح من هذه المصطلحات يشتغل على علم محدد نستنتج من خلاله طبيعة العلم المراد من هذا "المصطلح الأساس" دون أن نغفل بأن كل مصطلح من هذه المصطلحات الرئيسة أو الأساسيّة يرافقها مصطلحات ثانويّة كثيرة تكمل هذا المصطلح وتغنيه. فعندما نتداول مصطلح "الفلسفة المثاليّة" مثلاً، فسيرافق هذا المصطلح مصطلحات متعددة من هذه الفلسفة، كالفلسفة الوجوديّة والحدسيّة والمثاليّة الذاتيّة وكذلك الموضوعيّة وغيرها. وختاماً نقول في هذا الاتجاه كثيراً ما يضطر الباحث أن ينحت مصطلحاً محدداً للموضوع الذي يشتغل عليه، وهذا أمر ليس حديثاً بل قديما قدم الاشتغال على المعرفة. (قال قدامة بن جعفر: " و مع ما قدمته فإني لما كنت آخذا في استنباط معنى لم يسبق إليه من يضع لمعانيه و فنونه المستنبطة أسماء تدل عليها، احتجت أن أضع لما يظهر من ذلك أسماء اخترعها.). (2).
المفهوم اللغوي للمصطلح:
لفظ "مصطلح" مصدر ميمي من الفعل المزيد "اصطلح" الذي مجرده "صلح". وقد استُعمل الفعل الثلاثي "صلَح" في المعاجم اللغوية بمعان واشتقاقات تكاد تكون متقاربة.
ففي الصيغة الاشتقاقيّة ذاتها أورد "ابن منظور" أن:» الصالح: ضد الفساد ... والصلح: السلم، وقد اصطلحوا وصالحوا واصلحوا وتصالحوا وأصّالحوا مشدّدة الصاد، قلبوا التاء صادًا وأدغموها في الصاد بمعنى واحد « صلح صالحاً.
وجاء في المعجم الوسيط: اصطلح القوم أي زال ما بينهم من خلاف وعلى الأمر تعارفوا عليه واتفقوا... والاصطلاح: مصدر أصطلح ... أي اتفاق طائفة على شيء. (3).
المصطلح مجازاً:
المصطلح هو لفظ يطلق على مفهوم معين للدلالة عليه عن طريق الاصطلاح (الاتفاق) بين الجماعة اللغويّة على تلك الدلالة المرادة، والتي تربط بين اللفظ (الدال) والمفهوم (المدلول) لمناسبة بينهما. وأطلق المتخصصون في علم المصطلح تعريفا دقيقا له وهو: (الرمز اللغوي والمفهوم).
بينما أطلق عليه «فيلبر» إنه عبارة عن بناء عقليّ فكريّ مشتق من شيء معين، فهو- بإيجاز - الصورة الذهنيّة لشيء معين موجود في العالم الداخليّ أو الخارجي، وأضاف: «لكي نبلغ هذا البناء العقلي - المفهوم - في اتصالاتنا يتم تعيين رمز له ليدل عليه». (4) .
تعريف المصطلح النقدي:
يمكننا القول إذاً بالنسبة للمصطلح موضوع بحثنا، بأنه أداة من أدوات التفكير العلميّ، ووسيلة من وسائل التقدم العلميّ و الأدبيّ، و هو قبل ذلك لغة مشتركة، بها يتم التفاهم و التواصل بين الناس عامة، أو على الأقل بين طبقة أو فئة خاصة، في مجال محدد من مجالات المعرفة و نشاطات الحياة. وإذا لم يتوفر للعلم مصطلحه العلميّ الذي يعد مفتاحه، فقد هذا العلم مسوغه، و تعطلت وظيفته.
المصطلح في الثقافة العربية:
لم يكن " المصطلح في كل دلالاته وأهدافه بعيداً في الحقيقة عن الثقافة العربيّة، لقد "عرف العرب مع عصر التدوين المصطلح، وخبروا خفاياه وجوانبه المختلفة، كما لمسوا أهميته وفوائده في بناء النهضة العلميّة التي سعوا إليها، ووقفوا على طرائق وضعه بما أفادوه من الترجمات عن اللغات الأخرى، أو ما نحته الأدباء والفلاسفة والفقهاء العرب من مصطلحات خاصة بهم. هذا وقد بلغت اللغة العربيّة قمة التطور والمرونة في التعبير عن كل المستجدات من النظريات العلميّة والآراء الفلسفيّة في العصور الوسطى وخاصة مع عصر الترجمة والانفتاح على الحضارات الأخرى، حتى أصبحت الواسطة الكافية للتعبير عن كل مناحي الفكر العلميّ والتقنيّ في ذلك العصر، بل والجسر الذي عبرت عليه الثقافة العربيّة الإسلاميّة بكل مكوناتها ومصادرها إلى الغرب. يقول الجاحظ في البيان والتبيين : (و قد أفاد النقد الأدبيّ من هذا التلاقح الفكريّ مع الشعوب: كالفرس و اليونان والهند والرومان، حتى تسربت بعض هذه المصطلحات الفكريّة و الفلسفيّة إلى النقد العربي والأدب عامة، ويدل على ذلك تلك المصطلحات التي عُرفت في العلوم العقليّة، و النقليّة، و الدخيلة، جميعا. ويؤكد الجاحظ هذا بقوله: "هم تخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني. وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، و هم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا بذلك سلفا لكل خلف و قدوة لكل تابع.). (5).
وهكذا أشرع العلماء و النقاد و المفكرون العرب في وضع اصطلاحات نقديّة و بلاغيّة في الأدب وغيره من الفنون والعلوم في ذلك العصر. و لاحظوا اختلاف هذه المصطلحات بين عالم و آخر، فقال "ابن المعتز" مثالاً في مقدمة كتابه " البديع" : ( و لعل بعض من قصر عن السبق إلى تأليف هذا الكتاب ستحدثه نفسه وتمنيه مشاركتنا في فضيلته فيسمى فناً من فنون البديع بغير ما سميناه). و عندما يأتي "قدامة بن جعفر" يعيد طرح المشكل من جديد، فيعزو لنفسه فضل الريادة في وضع بعض المصطلحات النقديّة والأدبيّة قائلاً: ( و لما كنت آخذاً في استنباط معنى لم يسبق إليه من يضع لمعانيه و فنونه المستنبطة أسماء تدل عليه احتجت أن أضع لما يظهر من ذلك أسماء اخترعتها). (6).
نعم ... مع انتشار الإسلام وبدء التدوين والاشتغال على المعرفة، بدأت الحاجة إلى ثقافة المفاهيم اللغويّة تظهر، و بدا من المهم العمل على إيجاد تحديدات دقيقة لما تعنيه ألفاظ المشتغلين بتلك العلوم، وهو ما دفع بعلماء المسلمين إلى وضع مصطلح "علوم الحديث" مثلاً الذي يختص بدرجات الحديث وأنواعه وطرق إسناده. وكذلك علوم اللغة وبديعها ونحوها.. وغير ذلك من علوم، وهكذا انتقلت عبر اللغة ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخرى، بزيادات زيدت. و شرائط شرطت، و لقد صار لكل جماعة تشتغل بعلم واحد ألفاظهم و مصطلحاتهم الخاصة بهم. و قد شرع أصحاب تلك العلوم والصناعات يحددون معاني ألفاظهم وحدودها ورسومها، و نشأت إثر ذلك حركة تأليف مصطلحيّ تمثلت في كتب خاصة باصطلاحات العلوم المختلفة، ومنها:
- الحدود "لجابر بن حيان" ت 200 هـ.
- مفاتيح العلوم لـ "محمد بن أحمد بن يوسف الكاتب الخوارزمي" ت 387 هـ.
- رسالة الحدود، "لأبي حامد الغزالي" ت 505 هـ.
- السامي في الأسامي. "محمد أبي الفضل الميداني النيسابوري" 531 هـ.
- التعريفات، "للشريف علي بن محمد الجرجاني". ت 816هـ.
- كشف اصطلاحات الفنون "للتهانوي". ت 1108هـ. (7).
تأثر الكتاب والأدباء والمفكرون العرب بالمصطلح الغربي:
لا شك أن المسألة الثقافيّة والفكريّة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة قد أصابها الكثير من الجمود والتكلس في عصر الانحطاط، حيث توقف الاجتهاد على مستوى العلوم الدينيّة وساد النقل على حساب العقل، كما أخذت تتعطل شيئاً فشيئاً بقية العلوم الأخرى ويتوقف العمل بالكثير منها، أو تتجه باتجاهات أخرى كعلوم الأدب وخاصة الشعر منه. ولكن مع حلول عصر النهضة الحديثة، التي أعقبت الحملة الفرنسيّة على مصر، بداية القرن التاسع عشر، بدأ الأدب العربي يخرج من دائرة جموده والضعف الذي عاشه خلال الحقب الماضية، فهذا الجمود والضعف اللذان يرجعان بمجملهما إلى المحسنات البديعيّة، وغيرها من وسائل التلاعب بالألفاظ والأحاجي والألغاز، ولذلك فقدت الألفاظ الشعريّة على سبيل المثال دلالاتها، فلم يعد شعراء هذا العصر يهتمون بدور الكلمة الشعريّة المعبرة والموحية والمؤثرة في الإحساس والوجدان، بل كان اهتمامهم منصب على أنواع البديع والتفنن فيه، فزينوا ألفاظهم وزخرفوا أشعارهم بالسجع والجناس ونحوهما، من فنون البديع، حتى كثرت المؤلفات فيه. فأطلق عليها البديعيات كبديعة "عز الدين الموصلي"، المتوفى 122هـ، و"صفى الدين الحلي"، المتوفى723هـ، و("صالح الدين الصفدي"، المتوفى 711هـ، وغيرهم كثيرون، (8). فمع عصر النهضة في تاريخنا الحديث اتجه الأدب والنقد الحديثين اتجاهات شعريّة متنوعة، حددت مذاهب الشعر الحديث، ورصدت اتجاهاته، بأن أطلق عليها النقاد المحدثين (المدارس الأدبيّة الحديثة). وكان لهذه الاتجاهات الأثر الكبير في بلورة تلك المدارس، التي أسهمت في رد الشعر إلى طبيعته، وعملت على تحديد، مناهجه ومقاييسه النقديّة الحديثة، مطبقة بعض نظرياته بما يوافق طبيعة الأدب العربي، وقيمه وتقاليده. هذا وتعد مدرسة "الأحياء والبعث"، أولى المدارس ظهوراً، والتي يعزى إليها هذا التجديد والتطور. (9). وبالتالي فالقارئ للأدب العربي الحديث، يلحظ تحولات أدبيّة هائلة في جميع جوانب الحياة الأدبيّة والفكريّة والثقافيّة، نتيجة الوعي الحضاريّ والثقافيّ لدى كثير من أدباء ونقاد هذا العصر، حين أنكبوا على دراسة التراث بشكل واع وجرئ، فأظهروا ما فيه من سلبيات وايجابيات، وحاولوا تخليصه من شوائبه التي أدت إلى ضعفه، ودعوا إلى التخلي عن الوجه المسيء للأدب، وإحلال الوجه المشرق والمضيء له، وجعله جسر عبور بينه وبين الحضارة الإنسانيّة. ومن أوائل من نادى بهذا، (محمود سامي البارودي، وعباس محمود العقاد، وعبد الرحمن شكري، والمازني، وطه حسين، وأحمد شوقي)، وغيرهم ممن سار على نهجهم وخطا خطاهم، مكونين مدارس أدبيّة جديدة في الأدب والنقد، تأخذ بمقاييس ومصطلحات ومناهج عالميّة.) .(10). ومع ظهور هذه المدارس، بدأ النقد العربي، في عصر النهضة يستمد قواعده وأصوله من المذاهب النقديّة، ومن جميع المدارس التي نشأت نشأة حديثة عربيّة كانت أم أجنبية وبأكثر انفتاحاً، وكان المذهب "الغربي" ومصطلحاته ذا أثر بالغ في التأثير، وفي تطور النقد العربي، وخير دليل على هذا هو تكوين المدارس الأدبيّة ونشؤ المذاهب النقديّة. كما أن الفلسفة الحديثة في الغرب كانت أشد تأثيراً في حركة النقد العربي الحديث، من حيث ظهور الاتجاهات الجديدة الواضحة في النقد، علاوة على تأثر بعض النقاد العرب المحدثين، بآراء النقاد والفلاسفة الغربيين.
ومن المدارس الأدبية المتعددة التي تركت بصمات في نهضة الأدب العربي والنقد في تاريخنا الحديث والمعاصر، والتي لا شك بأن شعراؤها ونقادها كانوا متأثرين باتجاهات المدارس الغربيّة، كالمدرسة "الرومانسيّة" التي برزت ابتداء من نهاية القرن الثامن عشر، ونادت بتفوق العاطفة على العقل، و نادت بالحريّة والتعبير، وتقديم الخيال على العقل وتفضيله في التحليل النقدي، والميل إلى الغموض والأساطير وغيرها، وكان من أبرز مؤسسي هذا التيار في الوطن العربي، الناقد والأديب "خليل مطران" المتأثر بالثقافة الفرنسيّة، ومعه مجموعة من النقاد والأدباء، أمثال: (عباس محمود العقاد، إبراهيم عبد القادر المازني، عبد الرحمن شكري)، وهؤلاء الثلاثة كانوا مطلعين على الثقافة الغربيّة ومتأثرين بها. ( 11 ).
وكان في هذه المرحلة تيار جماعة (أبولو)، بزعامة "أحمد زكي أبو شادي" الذي ظهر بمصر عام 1933م. و أبولو نسبة إلى (أبولون)، إله الفكر والجمال وهو رب الشعر والموسيقى عند الإغريق، لقد أخذ هذا التيار أساطيرهم التي كانوا يؤمنون بها. ومنه أطلق هذا الاسم على هذا التيار، وقد أصدرت هذه المدرسة مجلة أدبيّة، خُصصت للشعر وبنشر الإنتاج الأدبيّ لهذه الجماعة ونشر أفكارهم وآرائهم، وهي أول حركة أدبيّة لتجديد الشعر العربي، والدعوة لنقده في تاريخ الأدب العربي الحديث. وفيها قالت خالدة سعيد: (" لما نشأت مدرسة أبولو، كانت الفكرة الموحدة الجامعة هي الشعر الحق الرفيع، وهو ما عبر عن الشعور تعبيراً فنيّا أصيلاً، ولم يكن ابتذالاً ولاً احترازاً لما سبقه من الشعر ". ). (12).
كما يخرج تيار ثالث يحمل مبادئ ومصطلحات جديدة للأدب العالمي، هو تيار (الواقعيّة)، الذي يعني، نقد الحياة والكشف عما فيها من شرور وآثام، وهذا الكشف هو الذي يظهر الواقع للحياة وحقيقتها الجوهريّة الأصيلة الدفينة.). وقد نادى أصحابه إلى البحث عن الذاتيّة والمثاليّة، وأول ما نشأ هذا التيار وظهر في أوروبا، وهو رد على الرومانسيّة، حاملاً آراء ومصطلحات وأفكار نقديّة للأدب، هدفه ترسيم واقع الحياة كما هو عليه دون التدخل الذاتي، ومشاركة الأدب والشعر للمجتمع مشاركة صحيحة وفعالة، وأن لا يجنح إلى عالم الخيال والأوهام، متخذين من القصة المحور الأساس لهذا التيار، وقد انخرط تحت لواء هذا التيار (نازك الملائكة، وبدر الدين شاكر السياب، ومحمود حسن حامد)، ولفيف آخر من الشعراء، متخذين من الشعر الحر هدفاً وطريقاً لرسم معالم هذا الاتجاه في الوطن العربي، جاعلين أدبهم ملازماً للمجتمع وحياته في مشاكلهما و أحداثهما، كما جاء في قصيدة (الكوليرا) "لنازك الملائكة" و(وهل كان حباً) "لبدر الدين شاكر السياب"، وشعر "محمود حسن في ديوانيه" (لابد و إصرار). (13).
هذا وقد ظهر تأثير معظم المدارس الغربيّة في النقد والمصطلح لدى النقاد العرب والحركة النقديّة العربيّة في تاريخنا الحديث والمعاصر، كالرمزيّة، والبرناسيّة، والسرياليّة والوجوديّة.
ملاك القول هنا:
إن النقد الأدبيّ العربيّ الحديث والمعاصر بدأ، يصدر أحكاماً نقديّة نظريّة، على النص الأدبي، مبدياً رأيه وفق مقاييس أوليّة توافق الطبيعة الإنسانيّة والفطرة والحس والتذوق الجماليّ الذاتيّ والحدسيّ، وتدور في معظمها حول ما تراه العين، وتسمعه الأذن، ويتذوقه اللسان، أو يشمه الأنف، أي بما يمكن إدراكه عموماً بالحس. (14). وفي كتب النقد أمثلة مليئة بمثل هذه الأحكام، نقف عند واحد منها كتحاكم "الزبرقان بن بدر"، و"عمر بن الأهتم" و"عبده بن الطبيب"، و"المخبل ربيعة بن عوف"، إلى "ربيعة بن حذار الأسدي". ففي الشعر أيهم أشعر، قال للزبرقان ( أما أنت فشعرك كلحم أسخن لهو أنضج فأكل، ولا ترك نيئاً فينتفع به، وأما أنت يا "عمرو" فإن شعرك كبر ودجر، فيتلألآ فيها البصر، وإما أنت يا "مخبل"، فان شعرك قصر عن شعرهم، وإما أنت يا "عبده" فان شعرك كمزادة أحكم خوزها، فليس تقصر ولا تمطر) .(15).
وهكذا كانت معظم الأحكام النقديّة تصدر من هذا القبيل، أي لا تخرج عن الذوق الفطريّ والملاحظة البسيطة والنظريّة الجزئيّة، وهي مطبوعة بطابع الارتجال. بيد أن هذا النقد لم يدم على حالته هذه عندما نظر النقاد فيما بعد بالنظرة الشاملة والمتكاملة إلى النصوص والأساليب، ودراستها دراسة تحليليّة قائمة على المناهج والمقاييس والمصطلحات النقديّة، عمادها الذوق والمنهج والتركيب الثقافيّ والفكريّ واللغويّ، وبعد أن اتسع النقد وتشعبت مباحثه، وتنوعت اتجاهات النقاد لتشمل النقد اللغوي، ونقد الألفاظ الشعريّة ومعانيها، ونقد الأخطاء النحويّة والصرفيّة والنقد البلاغيّ، والنقد الدينيّ والفنيّ والفلسفيّ والفكري الذي تناول البعد الطبقيّ والاجتماعيّ بشكل عام وغير ذلك.
***
د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة
.......................
الهوامش:
1- المصطلح النقدي. univ-tlemcen.dz
https://elearn.univ-tlemcen.dz › resource › view
PDF .
2- المرجع نفسه.
3- في مفهوم المصطلح وعالقته بعلم المصطلح (المصطلحية).
The concept of the term and its relation to Terminology
الدكتور: عبد الحميد بوفاس، جامعة عبد الحفيظ بو الصوف، ميلة، الجزائر - فوزية سعيود، طالبة دكتوراه، جامعة الإخوة منتوري قسنطينة1مجلة القارئ للدراسات الأدبية والنقدية واللغوية. 18/8/ 2020
4- الويكيبيديا.
5- البيان و التبيين ج1 ص139. تحقيق حسن السندوبي. مكتبة هنداوي.
6- المصطلح النقدي - مرجع سابق.
7- المرجع نفسه.
8- تطور النقد الأدبي العربي بين النظرية والتطبيق - د/ الهادي امحمد محمد السلوقي / جامعة الزاوية ليبيا- https://drive.uqu.edu.sa/_/mabagazi/files.
9- المرجع نفسه.
10- رامز الحوراني-1992م، نشؤ النقد والأدب وتطوره ج1 ص211.).
11- ). جبور عبد النور، 1981م، المعجم الأدبي، ص232.).
12- خالدة سعيد، 2979م، حركة الإبداع، ص13،
13- طور النقد الأدبي العربي بين النظرية والتطبيق - د/ الهادي امحمد محمد السلوقي / جامعة الزاوية ليبيا- المرجع نفسه.
14- محمد زغلول سالم، تاريخ النقد العربي ج1 ص33.
15- بدوي طبانة، 1972م، دراسات في نقد الأدب العربي، ص 13.

"جميع الظواهر النفسية تحتوي على حركة تبدأ من الشعور بالنقص وتمتد إلى الأعلى. تنص نظرية علم النفس الفردي للتعويض النفسي على أنه كلما كان الشعور بالنقص أقوى، كلما كان الهدف من قوة الشخصية أعلى." ألفريد أدلر
في السابع من فيفري سنة 1870 ولد الطبيب النفسي وطبيب العيون النمساوي ألفريد أدلر ، وهو معروف بكونه مؤسس مدرسة علم النفس الفردي ، حيث اعتبر ألفريد أدلر الإنسان كيانًا فرديًا متكاملًا، ولذلك أطلق على علم النفس الذي ابتكره اسم " علم النفس الفردي "، كما كان أدلر أول من أكد على أهمية العنصر الاجتماعي في عملية إعادة تكيف الفرد.
السنوات الأولى
وُلِد ألفريد أدلر في رودولفسهايم ، في ضواحي فيينا ، ليكون الثالث من بين سبعة أطفال لتاجر حبوب يهودي من أصل مجري. وفي سن الرابعة، أصيب ألفريد بالالتهاب الرئوي وسمع طبيبًا يقول لوالده: " لقد ضاع ابنك ". في تلك المرحلة ، قرر أن يصبح طبيبًا. كان مهتمًا جدًا بموضوعات علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة. بعد الدراسة في جامعة فيينا ، حصل على شهادة طبيب عام 1895. تخصص أولاً كطبيب عيون ، ثم في علم الأعصاب والطب النفسي. أسس عيادته مقابل براتر ، مدينة الملاهي الشهيرة والسيرك في الجزء الأدنى من فيينا. كان معظم عملائه من لاعبي السيرك. درس نقاط القوة والضعف غير العادية لديهم، وهذا أعطاه رؤى حول نظريته حول نقص الأعضاء.
جمعية الاربعاء
في عام 1902 تلقى أدلر دعوة من سيجموند فرويد للانضمام إلى مجموعة " جمعية الأربعاء " (Mittwochsgesellschaft)، والتي كانت تجتمع بانتظام في أمسيات الأربعاء في منزل فرويد وكانت بداية الحركة التحليلية النفسية. في عام 1910، أصبح أدلر، وهو عضو مخضرم في المجموعة، رئيسًا لجمعية فيينا للتحليل النفسي. وظل عضوًا في الجمعية حتى عام 1911 ، عندما انفصل هو ومجموعة من مؤيديه رسميًا عن دائرة فرويد ، أول المنشقين الكبار عن التحليل النفسي الأرثوذكسي ، قبل انقسام كارل يونج في عام 1914. وبذلك بدأت القطيعة بين فرويد وأدلر ، حيث أصبحا يكرهان بعضهما البعض.
فرويد – ألفريد أدلر علاقة متوترة
ووصف فرويد تلميذه أدلر بأنه "كومة من النفايات مليئة بالسم والشر"، وأنه "صَنع مِن قزم عملاقًا".فردَّ أدلر " حتى القزم، إذا ما احتل مكانه على كتفَيْ عملاق ضخم، فإنه يستطيع أن يرى أبعد ممن يحمله". و يُشار إلى أدلر غالبًا باسم "تلميذ فرويد"، إلا أن هذا لم يكن صحيحًا أبدًا؛ فقد كانا زميلين. أسس أدلر جمعية علم النفس الفردي في عام 1912 بعد انفصاله عن الحركة التحليلية النفسية. وبصرف النظر عن عداوتهما ، احتفظ أدلر بإعجاب مدى الحياة بأفكار فرويد حول الأحلام ونسب إليه الفضل في إنشاء نهج علمي لاستخدامها السريري. ومع ذلك، حتى فيما يتعلق بتفسير الأحلام ، كان لأدلر نهجه النظري والسريري الخاص به. تركزت الاختلافات الأساسية بين أدلر وفرويد على ادعاء أدلر بأن المجال الاجتماعي (الخارجي) مهم لعلم النفس مثل المجال الداخلي (الداخلي). تمتد ديناميكيات القوة والتعويض إلى ما هو أبعد من الجنسانية ، ويمكن أن يكون الجنس والسياسة بنفس أهمية الرغبة الجنسية. كما لم يشارك فرويد معتقدات أدلر الاشتراكية.
علم النفس الفردي لأدلر
في عام 1926 كتب ألفريد أدلر: "إن علم النفس الفردي يرى مهمته في حقيقة مفادها أن تعاليمه (...) تتجاوز حدود العلاج والتعليم الفردي، بحيث تصبح وقاية ورؤية للعالم. وتحت تأثير سحر الكون، المسجون على قشرة الأرض غير المكتظة، والمرتبطة بضعف كائنها الحي، بل وأكثر من ذلك بانتمائها إلى المجتمع في اللغة والعقل والأخلاق والجماليات والإثارة الجنسية، تجبر الحياة الإنسان على الإجابة عن أسئلة تتطور حتمًا. (...) إن شجاعته وتفاؤله وكفاءته المدربة هي إجابات ضرورية لحاجة حقيقية، والتي تحافظ أيضًا على شعور دائم بالنقص باعتباره المحتوى الأساسي لحياة روحه".
مدرسة مستقلة للعلاج النفسي
تمتع أدلر بنجاح كبير وشهرة في بناء مدرسة مستقلة للعلاج النفسي ونظرية شخصية فريدة من نوعها. سافر وألقى محاضرات لمدة 25 عامًا للترويج لنهجه الموجه اجتماعيًا. كان هدفه بناء حركة من شأنها أن تنافس، بل وتحل محل، الآخرين في علم النفس من خلال الدفاع عن النزاهة الشاملة للرفاهية النفسية مع المساواة الاجتماعية. توقفت جهود أدلر بسبب الحرب العالمية الأولى، والتي خدم خلالها كطبيب في الجيش النمساوي. من عام 1921 فصاعدًا، كان أدلر محاضرًا كثير الاسفار في أوروبا والولايات المتحدة ، وأصبح أستاذًا زائرًا في جامعة كولومبيا في عام 1927.
يتشكل النمط الاجتماعي الخاطئ في السنوات الأربع أو الخمس الأولى غالبًا ما نجد أسبابًا لذلك: أعضاء غير كاملة أو أن الطفل قد تم تدليله أو أننا نجد أطفالًا مكروهين - بين الأيتام وأحيانًا الأطفال غير الشرعيين والأطفال القبيحين والأطفال غير المرغوب فيهم وما إلى ذلك.
وكتب ادلر وهو يتحدث عن عقدة النقص عند الطفل ان هذا النمط ثابت ولا يمكن تغييره إلا إذا تمكنا من إقناع هذا الطفل بالأخطاء في وقت لاحق من الحياة. لذلك يمكننا القضاء على الأخطاء في هذا النمط إما بالوقاية وذلك بتثقيف الأسرة حول كيفية تربية الأطفال بشكل صحيح أو يمكننا جعل المدرسة أداة للتقدم الاجتماعي للتعرف على الأخطاء في بدايتها وتحقيق المزيد من الاهتمام الاجتماعي بين التلاميذ.
في وقت لاحق من الحياة يكون الأمر أكثر صعوبة ويجب أن يكون العلاج فرديًا ؛وذلك بالتفكير في كيفية إقناع مثل هذا الشخص وكيفية تغييره. وبهذه الطريقة نتأكد من أن مفتاح علم النفس الفردي هو المفتاح الأكثر أهمية وجدارة بالاهتمام، ويمكننا أن نخمن بشكل أفضل بكثير من الطرق الأخرى ما هو الخطأ الذي ارتكب في مرحلة الطفولة وكيفية تصحيحه. وهكذا، سيداتي وسادتي، توصلت إلى النتيجة التالية: لقد اكتشفت منذ عشرين عامًا عقدة النقص التي أثبتت أنها مفتاح مفيد للغاية لفهم الطبيعة البشرية والشخصيات. وكما أوضحت، فإن الفرد هو وحدة منذ بداية الحياة ولا يمكن تغيير أسلوب حياته دون فهم الأخطاء التي ارتكبت في الجذور، وهذه الجذور تكمن في الحياة الأسرية التي يتشكل فيها كل فرد ويصاغ. وبالتالي يمكننا أن نجد أن هذا السعي العظيم للتغلب على صعوبات الحياة ينطلق من شعور بالنقص ويؤدي إلى هدف التفوق، وهو دائمًا ما يقترن بدرجة معينة من الاهتمام الاجتماعي الفردي. نجد في كل تعبير، وفي كل حركة يقوم بها كل فرد كيف استخدم تدريبه من أجل المصلحة الاجتماعية، وبالتالي عندما يواجه في وقت لاحق من حياته المشاكل التي لا يمكن حلها بشكل صحيح إلا إذا تم حلها حقًا في شعور اجتماعي عظيم، فسوف يتقرر ما إذا كان قد تكيف بشكل صحيح أم لا. لذلك نجد في النهاية أن جميع الإخفاقات في الحياة: الأطفال المشاغبون، والأشخاص العصابيون والذهانيون، والمنحرفون، والمنتحرون، والسُكارى، وما إلى ذلك، يفتقرون دائمًا إلى المصلحة الاجتماعية. وليس هذا الاهتمام فحسب، بل إنهم يفتقرون أيضًا إلى الشجاعة والفهم والتدريب الصحيح لحل المشاكل الاجتماعية.
الكراسي مقابل الأريكة
كان أدلر مهتمًا بالتغلب على ديناميكية التفوق / النقص وكان أحد أوائل المعالجين النفسيين الذين تخلصوا من الأريكة التحليلية لصالح كرسيين. يسمح هذا للطبيب والمريض بالجلوس معًا على قدم المساواة إلى حد ما. جادل أدلر لصالح الكلية ، ورؤية الفرد بشكل كلي بدلاً من الاختزال، حيث يكون الأخير هو العدسة السائدة لعرض علم النفس البشري. كان أدلر أيضًا من بين أوائل علماء النفس الذين جادلوا لصالح النسوية والمحللة الأنثوية ، حيث جادلوا بأن ديناميكيات القوة بين الرجال والنساء ضرورية لفهم علم النفس البشري.
الهجرة والموت
في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين ، وبعد إغلاق معظم عيادات أدلر النمساوية بسبب تراثه اليهودي ، غادر أدلر النمسا للعمل كأستاذ في كلية طب لونغ آيلاند في الولايات المتحدة الأمريكية. وكان قد شغل منصب أستاذ زائر في جامعة كولومبيا منذ عام 1926 وفي كلية لونغ آيلاند منذ عام 1932. وفي عام 1937 ، ذهب أدلر في جولة محاضرات وعانى من نوبة قلبية قاتلة في أبردين، اسكتلندا في سن 67 عامًا. وجه الموت المفاجئ لألفريد أدلر ضربة شديدة لعلم النفس الفردي، وخاصة في ألمانيا والنمسا في ثلاثينيات القرن العشرين. تعرض طلاب أدلر للاضطهاد من قبل الحكام الجدد. كان على علم النفس العميق المزدهر أن يترك مركزه في أوروبا الناطقة بالألمانية ويواصل عمله في التنوير النفسي في أجزاء أخرى من العالم. كما كان للديكتاتوريات والحرب العالمية الثانية تأثير دائم على تطور علم النفس ككل.
الصحة العقلية والاجتماعية
باعتباره طبيبًا ممارسًا ومشاركًا نشطًا في مجموعات المناقشة التحليلية النفسية الجديدة لسيجموند فرويد، اكتشف أدلر أنه في كل تعبير عن الحياة البشرية، تكون العمليات الجسدية والعقلية دائمًا فعالة بشكل مشترك وتشكل وحدة غير قابلة للتجزئة (فرد). يشكل هذا الاكتشاف أساس علم النفس الجسدي اليوم. في ملاحظة نقص الأعضاء، وجد أدلر أن الجسم والنفسية لديهما ميل للتعويض عن ذلك بطريقة ما. وجد أدلر هذا الوضع من النقص أو الدونية في المجال النفسي وخاصة في مهام الحياة الثلاث: العمل - الحب - المجتمع (الطفل، صف الأخوة، المدرسة، العمل، الزواج، مواقف الامتحانات وما إلى ذلك). إنه يثير في البشر حالة عاطفية أطلق عليها أدلر الدونية. وعلى غرار تعويض نقص الأعضاء، تسعى النفس البشرية إلى التغلب على حالة الدونية هذه من خلال ما أسماه أدلر السعي للحصول على الاعتراف. وفقًا لأدلر، فإن مدى قدرة الإنسان على التغلب على مثل هذه التحديات في الحياة يعتمد في المقام الأول على كيفية تمكنه من التغلب على موقف النقص الأول، وعجزه عندما كان طفلاً. وأشار أدلر إلى أن هذا الدافع الإيجابي في عملية النمو والتطور يشكل الأساس لقابلية الإنسان للتعليم، لأنه في هذه الحالة يعتمد بشكل مطلق على مساعدة الأشخاص الذين تربطه بهم علاقة.
إرث
توجد في جميع أنحاء العالم منظمات مختلفة تعمل على تعزيز توجهات أدلر نحو الرفاهية العقلية والاجتماعية. وتشمل هذه المنظمات اللجنة الدولية للمدارس والمعاهد الصيفية الأدلرية (ICASSI)، وجمعية أمريكا الشمالية لعلم النفس الأدلري (NASAP) والرابطة الدولية لعلم النفس الفردي. توجد معاهد وبرامج تعليمية في النمسا وكندا وإنجلترا وألمانيا واليونان وإسرائيل وإيطاليا واليابان ولاتفيا وسويسرا والولايات المتحدة وجامايكا وبيرو وويلز. ترك أدلر وراءه العديد من النظريات والممارسات التي أثرت بشكل كبير على عالم الطب النفسي. تُعرف هذه المفاهيم اليوم باسم علم النفس الأدلري.
***
علي عمرون – اختصاص فلسفة

 

ملخص أطروحة ميشيل فوكو [1]
ترجمة: محمد فرَّاح
***

عند محاولة الوصول إلى الخاتمة، يجب أن يكون من الممكن تلخيص ما تم استخلاصه من خلال التحليلات النصية المتعددة في شكل تركيب وثوقي. هذا الجهد لتقييم البحث الذي أجريناه لن يكون مجرد ملخص، لأن الدائرة التي وقعنا فيها في البداية قد التزمت بعدم إمكانية تبرير أصل تفكيرنا إلا من خلال نجاح وصوله؛ لذا يجب أن يكون هذا التقييم بمثابة تبرير، "دفاع"، وبالتالي فإن تماسكه يضع كل ما قلناه سابقاً موضع تساؤل.
1. "فينومينولوجيا الروح" ليست مقدمة ولا جزءًا من نظام هيجل؛ إنها البحث عما يجعل إجمال نظام فكري يريد أن يقدم نفسه كعلم ممكنًا. إنها النهج الذي يسمح للفكر بأن يكون منهجيًا دون تناقض.
2. هذا الأساس للمعرفة المنهجية، تكتشفه "فينومينولوجيا الروح" في "علم مطلق"، ليس هذا العلم امتلاءً للمحتوى، بل هو "وسط أُفْهُومِيٌّ" غير محدد، مناسب لوعي (الأنا) الذي تتجلى كل أنشطته في "أنا أعرف". هذا الوعي، كوسط أساسي، أطلقنا عليه اسم الذات الترنسندنتالية.
3. هذا الوعي الذي هو معرفة، هو معرفة بذاته في تطوره التجريبي، وبنفس الطريقة تشكيل هذا التطور في معناه الحقيقي. معرفة الذات وتشكيل الذات هذان هما الصفتان للعلم المطلق، ولا يعترف عمومًا إلا بالجانب الأول.
4. العلم المطلق يشكل نفسه: بدءًا من الأساسي وصولاً إلى الإجمالي (الجزء الأول من "فينومينولوجيا الروح")، ومن الإجمال المباشر إلى الإجمال المتحقق بالكامل (الجزء الثاني)؛ هذه الحركة الثانية هي حركة التاريخ، بينما الدافع الأول هو ما قبل التاريخي.
5. إذن، التاريخ هو لحظة من لحظات الذات المتعالية في نشاطها التأسيسي: فهو ليس أول هذه اللحظات ولا آخرها، لكنه ربما يكون الدعامة الأساسية لها لأنه يشمل هذه الكلية من التجربة التي سيعرفها العلم المطلق ككلية.
6. التاريخ هو حركة وساطة تحمل الوعي التجريبي إلى معرفته الترنسندنتالية، فهو الذي يثير الوعي الذي يعرف ذاته في كلية كيانه التجريبي، هذا "النحن" الفيلسوف الذي يناسب الذات الترنسندنتالية.
كلما زادت الأطروحات التي حاولت التعبير عن حقيقة نظام هيجل، زادت الأفكار التي انغمست في التناقض الغريب المتمثل في الرغبة في التفكير في فينومينولوجيا الروح لهيجل، مع احتقار ما كان يفكر به هو نفسه. إذا كان من الصحيح أن معنى الهيجلية يكمن في عالم غير هيجيلي، وإذا كان التفلسف لا يستطيع أن يدرك حقيقته داخل النظام نفسه، فإن هيجل كان، من بين الجميع، الأكثر جهلاً بفكره الخاص: وسعادته بالعثور على المصالحة مع العالم في هدوء العلم المطلق، تحولت بالنسبة إليه إلى أسوأ المصائب، لأنه لم يعرف معناها الحقيقي. كان مصيره أن ينفصل عن فكره الخاص، وأن يعرفها كغريب، في اللحظة نفسها التي كان يهدف فيها إلى تأسيس المساواة بين يقينه وحقيقة العالم. اليقين المباشر يسقط خارج الحقيقة، فهو يصطدم بغربة مؤلمة ولا يجد نفسه فيها. بعد كل الخدع المظلمة للعقل التي قام هيجل بتبديدها واحدة تلو الأخرى، يجب علينا، التفكير ضد هيجل، أن نشجب كخدعة عليا هذا الجهل بالعلم المطلق الذي كان يعرف حقيقة كل الأشياء، باستثناء حقيقة نفسه. سيكون هيجل آخر الوعي البائس، ذلك الوعي الذي تلخص فيه كل الأوعية الأخرى وتحتويه.
ومع ذلك، فإن التحليلات السابقة لا تسعى إلى توسيع الهيجلية في مثل هذا التناقض. نحن لا نهدف إلى وضع النظام في موقف محرج؛ بل إننا على مستوى أكثر شمولية، حيث يحاول النظام العثور على أساسه، وخارج نفسه، يبرر كل محتواه.
ما هي إذن، في ضوء بحثنا التاريخي، هذه الطريقة الجديدة للتفكير وهذا المجال غير المستكشف الذي يجب على كل تفكير منهجي أن يبرر فيه نقطة انطلاقه؟
تمنحنا الخلفية التاريخية لعام 1806م فهمًا مباشرًا لمحاولة "فينومينولوجيا الروح": فقد ورث هيجل عن كانط وفخته، وخاصة الأخير، القلق حيال إيجاد أساس قانوني لكل نظام فلسفي محتمل، لكنه كان حريصًا على ألا يستهلك هذا القلق المسبق كل القوى الكامنة للنظام في البحث المجرد عن وضع قانوني؛ فلم يكن يريد أن يستنفد محتوى الوجود في هذا البحث التمهيدي عن الحق في الوجود. ومع ذلك، في عمق تفكيره، وفي عالم عمله الخاص، رأى هيجل ضرورة اتباع نهج مشابه: فقد قفزت فلسفة يِنَّا فجأة إلى هذا المطلق حيث يمكن لأي نظام أن يتوسع، وعبرت عن حماس فكر لم يفكر بعد في حقه في أن يكون حماسيًا. وبحجب أي سلطة قانونية عنها، فإن مجانية نقطة انطلاقها لم تؤد إلا إلى طارئ وجودها.
إن عمل عام 1806م هو إعادة صياغة، ومساءلة للأسس نفسها لهذا البناء. جوهره قانوني؛ وهدفه هو التأسيس؛ وقد أنشأت "فينومينولوجيا الروح" في هذه "أزمة الأسس" التي ربما يكون كانت وفخته قد استنفدا فيها إمكانيات نظاميهما، فهي بمثابة وضع "الفلسفة الحقيقية" [1]؛ إنها ندم عليها وهي تحاول أن "تجعل ما تم فعله لم يتم". لا شك أن هذه هي دلالة المقدمة التي أضيفت إلى "فينومينولوجيا الروح" عندما أصبح معنى العمل واضحًا للمؤلف؛ فهنا لا يهاجم هيجل فخته وشيلينغ وفلسفات التجريد والحماس فحسب، بل إنه يصارع نفسه أيضًا، الفيلسوف الذي كان سيكون عليه، والذي كان بالفعل في محاضراته العقائدية في ينا [2] لولا أنه أخذ على عاتقه كتابة "فينومينولوجيا الروح". إنه النظام الأول بأكمله الذي يتشتت فيها ويسقط في غبار هدوء صدى الاضطرابات المعاصرة في تاريخ ألمانيا.
بصعوده إلى منابع الفكر النسقي، كان هيجل يعد لنفسه أكثر المصائر تناقضًا؛ فقد وضعت "فينومينولوجيا الروح" الكون الهيجلي بين قوسين للحظة، لكن هذا الكون سرعان ما استعادها. في النظام اللاحق، لم يكتمل معنى العمل، ولم تعد تظهر كـ هذا البحث عن الأساس الذي يمثل لحظة حاسمة في تطور أي نظام موسوعي [3]. قد يبدو الأمر متناقضًا، فكيف يمكن لنظام أن يبحث خارج نفسه عن ما يبرره ويمنحه الشرعية؟ لكن الحقيقة هي أن هذا البحث ضروري لوجود أي فكر شامل، فمعناه لا يمكن أن يكون غريبًا عليه. المستوى الذي نصل إليه هنا هو مستوى تجاوز الفكر لحدوده، ليتمكن في لحظاته المتعاقبة من الكشف عن العالم ككل. المشكلة إذن تتغير، فبدلًا من البحث عن تبرير للفكر في عالم خارجي، أصبح الأمر يتعلق بتجاوز هذا الفكر نفسه. لقد أصبح هذا التجاوز فعلًا فكريًا متأصلًا فيه، ولكنه لا يبحث عنه في نهاية النظام كدليل على صحته، بل في أصوله كإثبات لحقه في الوجود.
وبالتالي، فإن هذا البحث عن الأساس، هذه العملية الترنسندنتالية المتأصلة في الفكر، هي جوهر الفعل الفلسفي. وما يأسس هذا الفعل هو مجموعة من المبادئ الأساسية التي تشكل أساس كل تفكير فلسفي.
إذا كان صحيحًا أن النشاط التأملي للفيلسوف يكمن في وضع هذه الترنسندنتالية التي تعيد القبض على التجربة من جذورها، وتسيطر على الأشياء من خلفها [4]، أي عند نقطة أصلها البحتة، فإن الميتافيزيقيا يمكن تسميتها، بعبارة تعارض بشدة برونشوفيتش، بحركة نزول في المكان نفسه. ولكن ما هي طبيعة هذه الحركة، وما هو الكون الذي تكشفه عندما تصل رحلتها الطويلة أخيرًا إلى نهايتها؟
إن ما تسعى إليه مجموعة المبادئ الأساسية للفكر [أو أكسيوماتيك الفكر] هو هذه المجال الشامل الذي تكتسب فيه كل التجربة معنى شرعيًا ككل، حيث تتجمع شتات التعددية والتشرذم والبؤس في وحدة مبدأ واحد، حيث تكتشف العوالم الصغيرة المتعددة لتجربة متشعبة، وراء وجودها، سبب وجودها في خصوصية كون واحد. من خلال أماكن الألم حيث يتصالح الوعي الضائع مع ذاته، فإن مسيرتها الطويلة لا تتوقف إلا عند الانتشار أمامها لهذا الحقل الشامل من التجارب الذي يمثل الأرض الموعودة للفيلسوف. هذا الواحد الأصلي، هذا الواحد الذي سبق الخلق [5]، ليس ذلك الواحد العاري المجرد كذرة بلا داخل، ولا هو الواحد المطلق المستبد كمبدأ بلا خارج. الواحد الذي يمثل المبدأ الأول للفكر الفلسفي يحمل في طياته التناقض بين كونه عنصرًا ومبدأً في آن واحد، مبدأ التكوين وقانون هذا التكوين؛ إنه الواحد والأول معًا، في تحول مستمر بين الكلي والجزئي؛ فهو يجمع في هذه الازدواجية الغامضة بين التقاطع في القياس والاستمرارية في القيم. وفي هذا التناقض يكمن، مختفيًا، الثنائية، ومعها النظرية اللانهائية للتجارب.
لكن الأهم من ذلك أن هذا الواحد ليس هو وحدة الموجودات؛ فهو لا يمر تحت الكائنات، يربطها سرًا برابطة وحدة مفهومية؛ ولا ينيرها أيضًا، مانحًا إياها، مع الحياة، نور الحياة. الواحد الذي تتجاوزه الفكرة هو متأصل في هذه الفكرة نفسها؛ فهو وحدة معرفتها، وكليتها من تجاربها، والتي أصبحت تجربة كونها كلية، وحقها أيضًا في أن تكون هذه الكلية. الواحد هو معرفة؛ بعبارة هيجلية، هو المعرفة المطلقة. إذن، فإن الفعل الفلسفي للتجاوز ليس جهدًا من الداخل نحو الخارج يبرره ويغفر له كونه خارجًا؛ ولا هو تعبير عن ضمير فلسفي مأكول الضمير يبحث خارج نفسه عن حقه في الوجود؛ بل هو تأكيد على النشوة الفلسفية لفكرة تعرف قدرتها على تبرير نفسها. هذا التجاوز في الداخل هو وسيلة الانتقال من معرفة إلى معرفة أخرى، ومن معرفة في التجربة إلى معرفة للتجربة.
هذه المعرفة من التجربة، هي المعرفة المطلقة، ليست محتوى منتشرًا في لحظات متفرقة، وليست خريطة جغرافية لكون مستكشف بالكامل؛ بل هي مجرد إمكانية مفتوحة لمحتويات في القدرة [6] . وإذا كانت مطلقة، فإن ذلك يعود إلى أنها تشمل في حدودها المتلاشية كل العلاقات، بعيدًا عن كونها، في أقصى حدود التحديد، جهلًا بكل نسبية. ومعها تتشكل وتتحقق طريقة تفكير هي تفكير شامل، تفكير قادر على التفكير في كل شيء. إنها منطقة كل المناطق، وأفق كل الآفاق، والمنظور الشامل الذي تتشكل فيه كل مناظر المعرفة: هكذا يظهر لنا كون غير مكتشف بعد، كون بلا توضيحات موضوعية، حيث تعمل، في الظلام، نظرية شاملة للتجربة. وعلى هذا المستوى، يشكل كل توضيح لحظة من هذه النظامية الشاملة. والموضوع لهذه المعرفة – وهو نفس الموضوع الذي قرر، في لحظة قابلة للاستبدال من تاريخه التجريبي، أن يقوم بالفعل الفلسفي للتجاوز، هذا الموضوع الذي يعرف تجربته ككل، أصبح موضوع هذه المعرفة المطلقة؛ وقد كشف لنفسه أنه موضوع فلسفي، أو بالأحرى موضوع الفلسفة؛ وبواسطته انتقلت التجربة إلى المعرفة في كليتها؛ وهذه الكلية هي التي تكشف عنه كموضوع متعالٍ. وكلاهما قد ولدا من عالم التجربة، ومن تفاعلهما ولدت هذه المنطقة الجديدة من التجربة وهي الفضاء الفلسفي.
يكفي أن نشير إلى الاتجاه الذي يجب أن يتطور فيه محتوى هذه الفضاء: ففيها، يعتبر الفيلسوف فكره كذات متعالية، وبهذا يدرك نفسه كذات لكل تجربة ممكنة؛ ويتجلى ذلك في نشاطه التأسيسي الذي يثير في الوعي كل مناطق التجربة. أي أن الفيلسوف الذي يدرك أنه أصل كل هذه المناطق، يمكنه أن يفهم المبدأ الذي يجعلها موجودة، وكيف تتولد تباعًا في موضوعيتها. يعرف الفيلسوف ترتيبها، وبالتالي يفهم ظاهرة هذا الترتيب، أي الزمن؛ وهو يعرف، مع نشأتها التي هو مؤلفها، الطريقة التي تظهر بها هذه النشأة على الوعي الساذج؛ ولهذا السبب، ستكون كل فلسفة علمًا بالتاريخ وبعكس التاريخ. ستكون علمًا بالتاريخ الذي يشكله نشاط الذات في نشأة مناطق التجربة. أما الفينومينولوجي، الذي لا يزال غارقًا في تشتت التجارب وفي التسلسل الهرمي لمستوياتها، فيكشف عما يؤسس كل تجربة من هذه التجارب. ولكن يجب أن تنطلق من ذاتها قريبًا حالة الانغماس في البحث، وأن تتضاعف، وتتخلى بشجاعة عن حتمية التجارب، لتخطو الخطوة الفلسفية نحو كليتها. عندئذ ستكشف، ككل لكل المناطق، المنطقة الشاملة، حيث نرى التشكلات والتكوينات تتطور؛ عندئذ تفتح الفلسفة أبوابها كعلم بكليّة التجربة، في نشأة مناطقها المختلفة تباعًا.
إذن، فإن الدرس الذي استخلصناه من "فينومينولوجيا الروح" هو أن الفلسفة يجب أن تحتفظ باستقلاليتها، رغم كل الظواهر الفلسفية المحتملة؛ وأن الانتقال من ظاهرة إلى أخرى يفرض نفسه، بل ويُعتبر ضرورة في منظور يسعى إلى الشمولية؛ وأن هذا الانتقال، على الرغم من أنه يبدو حاسمًا، فهو ضروري لا مفر منه. وفي ضرورة هذا الانتقال يكمن الفارق الجوهري بين هوسرل وهيجل، حيث تسعى "الأفكار" [7] لدى هوسرل إلى تبديد المجال الفلسفي كمنطقة مستقلة، بينما يؤكد هيجل في "العلم المطلق" شرعية هذا المستوى الفكري. ويمكن تفسير "فينومينولوجيا الروح" بأكملها على أنها ظواهر للوعي الفلسفي [8]، أي وصف لهذه المسيرة نحو المعرفة الشاملة، إذا ما قبلنا على الأقل التفسير الذي قدمناه للعلم المطلق.
لا يجوز لهذا التأويل أن يلف نسق هيجل من الخارج كقضاء محتوم؛ فالتاريخ بالنسبة له ليس قصة عاطفية يغرق فيها هو نفسه دون أمل في المصالحة مع العالم، ودون أن يفدى موت الله يوميًا بآلام البشر. بل تكمن حقيقة النسق في تتبع ما كان فيه أقل تاريخية، أي في نوع التفكير الذي مكنه من تأسيس الفلسفة كـنسق للتاريخ، متجاوزًا حدود التاريخ.
-إنتهى-
***
............................
المرجع المعتمد:
[1]- Michel Foucault / La constitution d'un transcendantal historique dans la Phénoménologie de l'Esprit de Hegel / Vrin, 2024, p-p: 203-197
[1] – تجذر الإشارة هنا إلى أن هذا العنوان، هو نفسه عنوان أطروحة دكتوراه ميشيل فوكو لنيل دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة سنة 1947م، أعد التحرير والتقديم: كريستوف بوتون، المتخصص في فلسفة ميشيل فوكو، نشرت في باريس، مكتبة فلسفية تابعة لـ ج. فَرَن، تقع في الرقم 6 من ساحة السوربون في الدائرة الخامسة، سنة النشر: 2024، في هذا النص الذي تقدمه هذه الطبعة للجمهور لأول مرة، نكتشف فوكو الشاب وهو قارئ متعمق للفلسفة الألمانية الكلاسيكية، يستخدم هيجل ضد كانط من أجل إعادة التفكير في السؤال "ما الذي أستطيع أن أعرفه؟". يتم تفسير "فينومينولوجيا الروح" على أنها تاريخية الترنسندنتالي والتي تبلغ ذروتها في شخصية "العلم المطلق" الغامضة. وبالتالي، يتم رسم برنامج فلسفي "كل فلسفة ستكون علم التاريخ وعكس التاريخ". والذي أعده تحت إشراف جان هيپوليت.
هوامش الترجمة:
[1] - الفلسفة الحقيقية التي تجمع بين فلسفة الطبيعة وفلسفة الروح والتي بدأ هيجل في صياغتها في شكل محاضرات عندما كان أستاذاً في جامعة ينا (1801-1807).
[2] – أي تلك المحاضرات التي ألقاها هيجل حول نظامه الناشئ قبل صدور "ظاهرة الروح". وقد نشرت هذه "مشاريع النظام" لأول مرة بواسطة لاسون (المجلدات الثامن عشر والتاسع عشر والعشرون) ثم في النسخة النقدية (انظر Jenaer Systementwürfe, GIK 6, 7 و 8)
[3] - تستعيد فلسفة الروح في الموسوعة، في القسم الثاني المعنون "الروح الذاتية"، نسخة مختصرة وموجزة من "ظاهرة الروح"، مقسمة إلى ثلاثة أقسام: الوعي، ووعي الذات، والعقل (باستثناء الجزء التاريخي من الفصول السادس والسابع والثامن).
[4] - إشارة إلى "لأجلنا" عند الفيلسوف: "لكن هذه الضرورة ذاتها، أو ولادة موضوع جديد، يظهر للوعي دون أن يدري كيف جاءه، هي ما يحدث، بعبارة أخرى، خلف ظهورنا" (P.E.I, ص 76، PhE، ص 171، GIF9، ص 61).
[5] – ربما استُلهمت هذه الصفة للمعرفة المطلقة من مقدمة "علم المنطق" حيث يكتب هيجل أن محتواها هو "عرض لله كما هو في ذاته الأزلي قبل خلق الطبيعة والروح المحدودة" (SLI، ص 57، GH'21، ص 21).
[6] – إن المعرفة المطلقة ليست "امتلاءً بالمحتوى"، بل هي "وسط أفهومي" يجعل وحده "نظام العلم" ممكنًا، وهو نظام لا يزال، في نهاية "المشروع الإنكليزي"، "كونًا غير مستكشف"، يتعين على "الموسوعة" أن ترسم خريطته.
[7] - الأفكار الموجهة نحو فينومينولوجيا وفلسفة فينومينولوجية خالصتين (الأفكار الأولى)، والتي سيصدر ترجمتها الفرنسية بول ريكور في عام 1950.
[8] - هذا هو ما يراه فوكو مفقودًا في الفينومينولوجيا الهوسرلية.

 

مدارات فلسفية

يُعدُّ هيراقليطس " 540 – 475 ق. م " فيلسوف النار من كبار فلاسفة اليونان  في المدرسة الطبيعية الأولى " الطبيعيون الأوائل" التي ضمته إلى جانب الثلاثة الكبار طاليس وأنكسيمندريس وأنكسيمانس إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق.

ووفق عبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود ويوسف كرم، فإنه اشتهر بنظريته في التغير والصيرورة التي امتد تأثيرها إلى العصور اللاحقة الوسطى والحديثة، وإن المتأمل لنظرية كارل ماركس في الصراع، يجد أن جذورها تعود إلى فلسفة هيراقليطس الذي كان يحب الانفراد بنفسه واعتزال الناس كما يؤكد علي سامي النشار في كتابه عن الفيلسوف الصادر في الإسكندرية عام 1969 وهو أمرُ طبيعي لفيلسوف مفكر، يتناول شؤون الكون والإنسان، ويقال أيضاً أنه ورث وظيفة دينية، لكنه تنازل عنها لأخيه الأكبر، لكي يتفرغ لشؤون الفلسفة . ويذهب عدد من مؤرخي الفلسفة إلى القول بأنه كان حزيناً متغطرساً، لا يحب العامّة، ويستشهدون على ذلك بمقولته " إن رجلاً واحداً من الطبقة الأولى يساوي عندي عشرة آلاف رجل من العامّة " وتفسيرها لا يعني بالضرورة أنه يريد الحط من شأنهم إذا ما نظرنا لها نظرة إيجابية موضوعية، فهو  سليل عائلة أرستقراطية، وقد يكون تأثر بهذا الأصل، لكن يمكن أن نفسر مقولته هذه على أن رجلاً عالماً، أو أديباً كبيراً، أو فناناً مبدعاً، أو فيلسوفاً عميقاً، لاشك أنه يساوي عشرة آلاف رجل أو أكثر، فالقضية تتعلق بالإمكانية العقلية التي تميز الرجل الحكيم عن العامّة، وليست قضية طبقية، أو أنه أراد الحط من قدر الناس العاديين. فهو يؤمن بأن لكل فرد عقله الخاص به، ولكنه مع ذلك يقول أن كلمة " اللوغوس " عامة للجميع، وهذه الكلمة كما يفسرها جعفر آل ياسين في كتابه " فلاسفة يونانيون " قد تعني العالم، أو الوجود الكلي، أو المبدأ الكوني، ولكنه مع ذلك يؤكد أن لكل إنسان عالمه الخاص الذي يتحرك وفق معطياته. كما يشير هيراقليطس إلى وجود تناسق خفي بين ما هو فردي وما هو كلي، فكل إنسان هو عالم متغير، إلى جانب الطبيعة الجوهرية للحقيقة الكبيرة، فكل شيء إذن متجانس مع كل شيء، ولا شيء يبقى ثابتاً، لأن كل شيء في حركة وتغير دائمين، وكل شيء في لحظة معينة يُرى في مواقف متعددة، فالعالَم متغير وغير ساكن، والطبيعة متقلبة على الدوام وفق تفسير علي سامي النشار. ولعل عبارة " إنك لا تستطيع النزول مرتين إلى النهر، لأن مياهاً جديدة تنساب فيه باستمرار " هي أشهر مقولة تعبر عن رأي هيراقليطس في التغير خير تعبير، وهو يريد أن يشير بها إلى أن الذرة أو القطرة التي مسَّت جسدك حين نزلتَ إلى النهر، لن تمسها ثانية أبداً، لأن القطرة قد سارت في طريقها مبتعدة عنك، وإن مياهاً جديدة تجري من حولك أبداً. وفي كتابه " تاريخ الفكر الفلسفي " يوضح محمد علي أبو ريان أن الفيلسوف أتخذ من الحركة الدائمة، والتغير المستمر، والصيرورة المتطورة، والسيلان العام، مدخلاً للصراع، فالصراع قانون يحكم الجميع، ولا راحة، ولا هوادة لأي شيء، بل أن كل شيء في حالة صراع، والصراع ما هو إلَّا حالة جبريّة بين البشر كما يرى هيراقليطس، بل أن كل فرد هو في حالة صراع مع نفسه في كل لحظة من لحظات حياته، وهو في الوقت نفسه في صراع مستمر مع الآخرين، ولولا هذا الصراع لما كانت الحياة، لأن السكون عدم وموت. والمهم في نظريته عن الحركة والتغير والصراع، أنها جاءت معاكسة لرأي بارمنيدس في الثَّبات، فالأخير يرى أن كل شيء ثابت ولا وجود للحركة، كما أن أفلاطون سيستعمل لاحقاً النظريتين في فلسفته، حين يتوصل إلى أن كل ما هو حسي فهو متغير، وأن الثَّبات لعالم المُثُل وحده "عالَم الصور العقلية المُجرَدة". ويمكن القول بهذا الشأن أن نظرية هيراقليطس تمثل نصف الحقيقة، فإذا كنا نرى الأمواج في ظاهر البحر وهي في حركة دائمة، فالبحر في هيكله الكبير ثابت الأركان، وإذا كان الناس يموتون فرادى فإن الجنس البشري باقٍ مع توالي العصور، وإذا كانت أوراق الشجرة تتساقط في شهور الخريف، فإن الشجرة نفسها شاخصة ثابتة، فنظريته إذن نسبية ولا تمثل الحقيقة كلها، وهو حين يقول أن كل شيء ينساب ثم يذوي، فإنه لا يقصد أن ذلك يتم بالسرعة نفسها والدرجة ذاتها، فالبشر مثلاً يشعرون في حياتهم أن شيئاً ينمو ويتلاشى سريعاً في دقائق معدودة، ولكن هناك أشياء لا يحدث التغير فيها إلَّا بعد آلاف وربما ملايين السنين، وهو حين يقول أن كل شيء يخضع لدرجة من التغير في كل لحظة، فإن ذلك يمكن أن يكون صادقاً وفق مفهومه الفلسفي، أما نحن فلو تأملنا المنضدة التي نكتب فوقها، فإننا نراها صلبة ثابتة، والفيزيائي وحده هو الذي يستطيع أن يقرر بحساب ذهني رياضي، كم تتألف المنضدة من جزيئات، وكيفية حركتها وسرعتها. ولا شك أن هيراقليطس يشير إلى الظواهر الخاضعة للتجربة أكثر من معرفته الدقيقة بالمبدأ العلمي لحركة الجزيء الدقيقة، لأنه كان يعتمد الحس بالدرجة الأولى وملاحظة الأشياء المتحركة، ومن ثم الحدس بالتأمل العقلي والتواصل لبناء نظريته هذه، أكثر مما كان يعتمد النظرة العلمية لتفسير حركة الطبيعة.

عدا عن نظريته في التغير والصيرورة، فإن هيراقليطس وانسجاماً مع نظريته هذه، يعتقد بأن النار هي أصل الكون والعالم، وبذلك فهو يختلف مع طاليس الذي قال بأن الأصل هو الماء، ومع انكسيمندريس الذي قال بالهواء أصلاً للكون والعالم، وكانت حجة طاليس أن الماء يكون الجزء الأكبر من الكون، كما أن الماء يمثل الجزء الأكبر من الإنسان ذاته وأي كائن حي، والإنسان وكل الكائنات الحيّة من حيوان ونبات لا تستطيع أن تستمر على قيد الحياة من دون ماء، فالماء هو سبب الحياة، وقد خالف انكسيمندريس طاليس، وذهب إلى أن الهواء هو أصل الوجود، فالكائن الحي لا يستطيع الاستغناء لدقائق معدودة عن الهواء، فضلاً عن أن الهواء أخف وزناً من الماء. غير أن هيراقليطس يرى أن النار هي المحرك الحقيقي للكون، وإن كل كائن حي لا يستطيع الحياة من دون حرارة، والنار أخف من الهواء، وانطلاقاً من ذلك توصل إلى نظريته في الجدل الصاعد والجدل النازل، ومفادها أن التراب أثقل العناصر الأربعة، فإذا تفككت ذرات التراب خفَّت وتحولت إلى ماء، وإذا خفَّت ذرات الماء تحولت إلى بخار – هواء -، وإن الهواء إذا رقَّ تحول إلى نار، وهذا ما يُعرف بالجدل الصاعد، أما الجدل النازل، فإن النار إذا تكثَّفت تحولت إلى هواء، والهواء إذا تكثَّف تحول إلى ماء، والماء إذا تكثَّف تحول إلى تراب. وقد استفاد أفلاطون أيضاً من هذه النظرية، واستعملها في محاورة " الجمهورية " فقد أراد للإنسان أن يرتقي صاعداً، وضرب مثلاً باسطورة الكهف التي تُظهر الناس مكبلين في كهف عميق، وتأتيهم ظلال معتمة من كوة صغيرة من الضوء الحقيقي الخارجي، والمفكر منهم والفيلسوف هو الذي يستطيع أن يصعد إلى خارج الكهف ويتمكن من مشاهدة الضوء الحقيقي ليعود نازلاً ليخبر الآخرين ويبشرهم بما شاهده من نور الحقيقة، وتلك هي نظرية المُثُل التي صاغها أفلاطون للفيلسوف الذي يستطيع أن يترك عالم الحواس، مروراً بعالم العقل، حتى يدرك عالم المُثُل . وبالعودة إلى نار هيراقليطس فإن العالم عنده نارٌ أبدية، تُشعل نفسها بمقاييس مُنتظمة، وتخبو بمقاييس مُنتظمة، وأن هناك تبادلاً بين كل الأشياء والنار، وبين النار وكل الأشياء، أشبه بالتبادل بين السُلَع والذهب، وبين الذهب والسُلَع، فالأهمية الأولى هي للنار جوهر الوجود، ومحرك الكون، وأصل الحياة. والنار تحيا بموت الأرض، لأنها أخف العناصر، والأرض هي أثقل العناصر، والهواء يحيا بموت النار، لأن النار أرّق العناصر، وحين تتكاثف تتحول إلى بخار، كما أن الماء يحيى بموت الهواء، لأن ذلك البخار الرقيق يتكثف على هيئة قطرات ماء، أما الأرض فإنها تحيا بموت الماء، لأن الماء حين يتبخر يثقل فتبقى منه الذرات الجامدة التي هي الأرض، فعالم هيراقليطس هو عالمٌ متغير على الدوام، تغير مستمر لا توقف فيه ولا ثبات ولا سكون، ولما كان هذا الفيلسوف الكبير مولعاً بالرمز والأسلوب الغامض، فإنه يعبر عن نظريته هذه بالنهر الجاري الذي لا ينزل الإنسان إليه مرتين، وهو يشَّبه العالَم بالطفل الذي يلعب النرد، لكن تبقى النار الرمز الأكبر الذي أقام عليه مجمل فلسفته، وهو أكثر الرموز عنده دلالة على فكرة الصيرورة والتغير، كما أن النار تمثل رمزاً مهماً في نظريته عن الكون لأنها تمتلك عناصر فريدة في إحداث التغير، مثل سرعتها الذاتية الفريدة، وتوهجها وضوئها ، وحرارتها المستمرة التي هي سبب مهم في الحركة، والنار في الوقت نفسه هي الضوء الداخلي للعقل والمعرفة الروحية.

***

د. طه جزاع

.........................

* نشرت في مراصد أيضاً

تمهيد: مالبرانش فيلسوف فرنسي قسيس 1638- 1715 اراد الجمع بين فكر القديس اوغسطين مثله الفلسفي الاعلى وافكار ديكارت الفلسفية العقلية الايمانية. له فلسفة خاصة حول الرؤية في الله، وينكر السببية، تاثر بكتاب ديكارت حين وجد ديكارت الديني يجمع بين الله وخلود النفس الروحانية. (عن ويكيبيديا بتصرف).

قبل مغادرة هذا التمهيد ديكارت لم يقل النفس روحانية خالدة هي والعقل(اللوغوس) وليس العقل البايولوجي والخلط بين الروح والنفس خطأ لا يحتاج الى شرح تفصيلي بل باختصار النفس هي من خصائص بيولوجيا الانسان وعلم النفس بكل تفرعاته. والروح مصطلح ميتافيزيقي ديني غيبي تتناوشه الشكوك على صعيدي الوجود والماهيّة من كل حدب وصوب حتى العجز عن اعطاء جواب علمي.

مالبرانش في مذهب وحدة الوجود

يذهب مالبرانش ان الوجود لا يتحقق في تجارب القوانين الفيزيائية المشكوك بها بل الوجود يتحقق بالايمان بالله.مالبرانش عن علم مسبق اقتباسي او توارد خواطر فلسفية فهو يكرر ما كان ذهب له سورين كيركجورد انه في تعطيل الاستدلال العقلي والغاء السببية والعليّة التي قال بها ديفيد هيوم نصل الى حقيقة التسليم ان تحقيق الوجود الايماني انما يتم بقفزة ايمانية في المطلق الالهي الغيبي يقررها القلب وليس العقل.

التساؤل اذا اعتبرنا القوانين الفيزيائية العامة التي تحكم الطبيعة هي قوانين موجودة في الله جزءا فيه!! كما يذهب له مالبرانش فهل نستطيع بدلالة القوانين العامة للطبيعة الموجودة بالله تاكيد وحدة الوجود مابين قوانين الطبيعة الفيزيائية العامة وبين الذات الالهية كما تفعل المذاهب الصوفية؟ اجابتي عن تساؤلي من المحال لسببين :

- الله وجود مفهومي ميتافيزيقي غيبي غير مدرك ولا محدود بصفات ولا جوهر. والحلول الصوفي بالذات الالهية امر مشكوك به من الالف الى الياء.

- القوانين الفيزيائية الطبيعية يمكن التحكم بها ماديا ولكن لا يمكنها المجانسة النوعية باي شكل او تدخل في علاقة مع الخالق الذي كما ذكرنا مفهوم ميتافيزيقي مصدره الايمان  القلبي وليس العقل.

من الصعب جدا التسليم غير المشكوك به ان القوانين الطبيعية العامة والله جوهر واحد في ماهية نوعية واحدة المجانسة. من حيث اننا نستطيع ادراك القوانين الطبيعية العامة بعلاقتها التحكم بالطبيعة بالعقل وليس بعلاقة الاستدلال الايماني القلبي الميتافيزيقي بالله. هذا اذا جاز لنا فصل القوانين الطبيعية الفيزيائية عن الوجود والانسان فصلا كاملا. والا دخلنا في نمط من الاعتباط التشييئي الخاطيء جدا حين نذهب ان ماهية الانسان او جوهره موجود بالله كما هي حال القوانين الطبيعة الفيزيائية انها جزء موجود في الخالق قبل ارادة الله خلق وجودها الظائفي في التحكم الثابت بالطبيعة وتمنحها تماسك موجادتها الذي يجعلها اي الطبيعة غير مفككة بانقسامات موجوداتها الموحدة استقلاليا احتوائيا داخل الطبيعة غير المتناثرة اعتباطيا. موجودات الطبيعة المستقلة داخل علاقاتها مع الطبيعة التي تحتويها وداخل العلاقات البينية فيما بينها ايضا محكومة الوجود داخل احتواء الطبيعة لها.. طبعا هنا علينا التفريق ان الطبيعة وجود مستقل كوكب متماسك بقوانين فيزيائية عامة ثابتة تحكمها. رغم العلاقات البينية بين موجوداتها التي تحتويها الطبيعة باستقلالية عنها داخل احتوائها لها فقط. الا ان تلك الموجودات المستقلة داخل الطبيعة الاحتوائية لها متناثرة الموجودية كما ولا يجمعها التجانس النوعي مع بعضها البعض فالجمادات غيرها النباتات وكلاهما غير الحيوان. رغم التعايش المتبادل بينهما وبين الانسان معا.

استقلالية الموجودات المحتواة داخل الطبيعة لا يمنحها الخروج والانفلات عن كوكب الارض المحكوم بقانون الجاذبية والا لما كنا وجدنا كوكبا نعيش فيه مستقلا بنفسه يسمى الارض.. وموجودات الطبيعة المستقلة في الطبيعة هي موضوعات الادراك الحسي والعقلي عند الانسان. فالانسان موجود جزئي من الطبيعة متمايز ومنفصل عنها وهو يعي علاقة وجوده الارتباطية النسبية بالطبيعة. بخلاف الطبيعة غير العاقلة. الانسان يؤنسن بوجود جزءا من الطبيعة لكن لا تقدر الطبيعة طبعنة الانسان في علاقتهما المتبادلة سواء بالمنفعة التي تؤديها الطبيعة للانسان او بعلاقة التكيّف الالزامي المفروض على الانسان.

فالانسان يقود الطبيعة في نفس وقت الاعتياش عليها متمايزا بالعقل عنها منفصلا بالتبعية والانقياد لها ليس كما هي علاقة الحيوان الانقيادية للطبيعة. الانسان لا ينقاد للطبيعة بل يتكّيف انتفاعيا منها. تكيّف الحيوان مع الطبيعة لا يحكمه تفكير العقل كما هو تكيّف الانسان العقلاني معها. بخلاف الطبيعة التي لا تمتلك وعيا ادراكيا بعلاقتها مع الانسان وباقي موجوداتها من كائنات حيوان ونبات وجماد والعلاقات البينية بينهم.

هل من المتاح لنا ان نعتبر القوانين الطبيعية الثابتة التي تحكمنا ككائنات حيّة وكائنات اخرى غير حيّة هي جزء من الطبيعة منفصلين وجودا عنها متكاملين معرفيا متعايشين معها.؟ القوانين الفيزيائية الطبيعية العامة هي معجزات لا دينية بمقدار ما هي معجزات علمية فيزيائية. بمعنى ليس في خرقها من قبل الانببياء والرسل نتوصل الى الايمان الديني لاهوتيا. فخرق القوانين الطبيعية العامة هو خرق لقوانين فيزيائية تحكم الطبيعة ولا تحكم الدين.

لو نحن اخذنا المنهج الصوفي في تحليل هذه العلاقة بين معجزات القوانين الطبيعية فيزيائيا وليس لاهوتيا في الوصول الى الايمان الديني التوحيدي لوجدنا انفسنا نسقط في امكانية (استثماراتنا ) العلمية لتلك القوانين التي تقودنا  الوصول الى تشييء الوجود الالهي ماديا غير الغيبي الايماني وهو محال. تشييء الخالق او احدى صفاته هو تعجيز عقلي بمعنى تعطيل العقل عن التفكير بابعد مما يدركه ماديا.

سبينوزا والايمان

سبينوزا في بحثنا العلاقة رباعية الابعاد ذات الاضلاع الاربعة الانسان/ الطبيعة/ والذات الالهية/ وقوانين فيزياء الطبيعة/ في تعالقاتها البينية عبّر عنها سبينوزا اننا بدلالة الجوهر ندرك الوجود على خلاف الماركسية والوجودية اللتان تغلبّان الوجود على الفكر والجوهر.. رغم ما يحيط هذا التعبير من مقاطعة تتشبث بالمثالية بالضد من المادية.

الجوهر ماهيّة لوجود مادي سابق عليه وبدلالة الوجود المادي نحاول ادراك الجواهر بالاشياء والموجودات التي ليست جميعها تمتلك جوهرا. فتوجد كائنات حيوانية ونباتية لا جوهر ولا ماهيّة لها بل صفاتها الخارجية هي جوهرها. بإستثناء الانسان الذي يمتلك الصفات الخارجية المتفردة نوعيا عن غيرها في صفات الافراد الاخرين. ويمتلك قدرة تصنيع ماهيته او جوهره الخاص به. اي يصنع هويته الانفرادية الماهوية المميزة عن الهويات الماهوية في النوع من جنسه.

وذهب سبينوزا اكثر من قوله بدلالة الجوهر ندرك الوجود في استجلابه المرجعية الايمانية الغيبية خارج المعجزات المنسوبة للايمان التي هي معجزات القوانين الفيزيائية العامة التي يكتشف الانسان اعجاز الطبيعة فيها وليس اعجاز الايمان الديني فيها.. لذا نجد سبينوزا ابطلها لانها منافية للعقل وليست منافية للايمان الديني. ونجد سبينوزا ذهب اننا بدلالة الجوهر الالهي الكلي المطلق الازلي الله ندرك الوجود وندرك الطبيعة في مجمل كائناتها كما وندرك الجواهر الموزعة في موجودات الطبيعة..

اول الامور التي يتوجب نشير لها ان سبينوزا اعتبر الخالق الالهي جوهرا موزعا في الطبيعة على شكل جواهرلانهائية موزعة متناثرة بكل شيء يدركه العقل وليس على اشكال من الموجودات تتوزعها الطبيعة والكون كما هو الحال الذي يماشي تفكير العقل.

كما وليس الخالق موجودا متعيّنا يمكن ادراكه ماديا بصفات خارجية وجوهر. وهذه مسالة التباسية يقف العقل الانساني المحدود الاجابة الحاسمة عنها من حيث تلغي الوجود الالهي على اي شكل كان متصورا ماديا او لامتصورخياليا.

سبينوزا اعتمد الطبيعة مرتكزا اساسيا في جعلها الام التي انجبت تفكير الانسان بصنع الهه وهو ماذهب له نصا فيورباخ في وحدة وجود صوفية لا دينية مادية تاملية مصدرها علاقة الانسان بالطبيعة كانت هي اصل الدين.

سبينوزا حين جعل الخالق جوهرا كليّا لا يمكن ادراكه موزعا على جميع الاشياء والمدركات في مذهب وحدة الوجود الصوفية يكون بذلك اعفى مهمة العقل التفتيش عن اثبات وجود الخالق حتى على مستوى المعجزات التي ينسب لها صفة الايمان الديني وهي في حقيقتها معجزات ذات طبيعية فيزيائية قابلة للادراك العقلي وليست معجزات غيبية جيّرها اللاهوت لحسابه دينيا وانكرها سبينوزا على انها قوانين فيزيائية تخص الطبيعة فقط وليس اللاهوت فأتهم بالزندقة واباح الكنيست اليهودي اهدار دمه..

صوفية الزن والرستفارية

صوفية الزن في الديانة البوذية  تنكر وجود الخالق خارج علاقة موجودات الطبيعة بالانسان وبهذا تقترب من فلسفة فيورباخ التي سبق لنا الاشارة لها التي تتلخص بان اصل الدين هو علاقة الانسان بالطبيعة حصرا وليس علاقة الانسان فيما وراء الطبيعة خارجيا ميتافيزيقيا. الايمان الديني اختراع ارضي وليس معطى سماوي حسب فيورباخ الذي اتهم بالالحاد.

كما نجد في الديانة البوذية مذهب (الشنتوية) انها ترى في الامبراطور تجسيدا للاله على الارض وهي نسخة مشابهة للديانة (الرستفارية ) الجامايكية – الاثيوبية الاصل والمنشأ المشتقة من اسم الامبراطور الاله الاثيوبي  هيلا سلاسي. الذي حكم اثيوبيا حيث كان اسمه قبل تنصيبه (تفاري ماكوان ). ويبلغ تعداد هذه الطائفة الرستفارية اليوم نحو مليون نسمة يؤمنون بأن الامبراطور هيلاسلاسي (الها) لم يمت ولا زال حيا وربما رفع جسده الى السماء. نفس هذا المنحى نجده في الديانة الهندوسية في تأليه (براهما) وفي الديانة البوذية في تأليه (بوذا).صوفية الزن ايضا اتخذت من بوذا الها تعبده وانكرت وجود اله توحيدي يدير العالم من السماء كما وتذهب صوفية الزن الى ان وحدة الوجود التي نجدها بالاشياء والموجودات الطبيعية كافية للايمان الروحاني وتغني عن البحث عن وجود اله في السماء وليس على الارض يمنحنا وجوده الغيبي الايماني. تعاليم بوذا الروحانية هي التي تجعل منه الها ارضيا يعبد. منكرين البعث وحياة يوم القيامة والحساب كما هو متعارف ومستنسخ في الاديان التوحيدية الثلاث.

انت حسب الايمان الصوفي الزن البوذي في وحدة الوجود لكي تدرك العلاقة الروحانية التي تربطك بالزهرة مثلا عليك ان تدرك ذاتك هي الزهرة تارة وتارة اخرى تدرك ذاتك التي تملكها انت كجسم روحاني يجد ان ذاته الروحانية لها علاقة ترابطية  نفسية قوية حميمية مع الزهرة تصل الى حد ان يجد ذاته الروحية فيها..

مالبرانش والاعتباطية بالخلق

يذهب مالبرانش والعهدة على جان فال الى ان العالم المادي بوصفه من خلق ارادة الله الاعتباطية – وهذا التعبير من اكثر الجوانب دهشة في تعبير مالبرانش -  فإن العالم المادي لم يكن ليوجد الا لان الله طاب له ان يخلقه. ونحن لا نعرف هذا العالم الا عن طريق الوحي. ولا يمكنننا البرهان الحقيقي للعالم المادي الا في الكتاب المقدس، ولا شيء سوى الايمان يكشف لنا عن وجود الاجسام بحق. 1 ص37

يعقب جان فال على ما سبق لمالبرانش قائلا : " اننا نستنتج من كلام مالبرانش وجود نوعين من العلوم، علوم تبحث في العلاقات القائمة بين الافكار المجردة، وعلوم اخرى تبحث في العلاقات القائمة بين الاشياء (بتوسط افكارها). 2 ص37

لو نحن اخذنا العلوم القائمة بين الاشياء بتوسط افكارها لوجدنا انفسنا امام حقيقة عدم وجود علم يقوم على افكار نظرية مجردة عن التجربة والتطبيق. فالعلوم الطبيعية قاطبة تقوم على فكرة نظرية وتجربة برهان. العلوم تختلف بالاختصاصات لكنها لا تختلف بثوابت المنهج العلمي. الافكار المجردة التي تبحث نظريا في منحى علمي لا تخلق علما بلا تجربة وتطبيق اختباري.

سمة الفكر التجريد وسمة العلم التجربة والتطبيق. افضل مثل يمكننا الاستشهاد به فلسفيا وليس علميا هو نموذج الفلسفة البراجماتية الامريكية او الذرائعية التي تذهب الى ان صواب وصحة قبول اية افكار نظرية يتوقف على مدى نجاحها عبور الفلترة التجريبية العملانية في تحقيقها المنفعة. والافكار النسقية المنضبطة منطقيا عقليا غير كافية لان تكون علما او نظرية صائبة. هذا على صعيد الفلسفة فما بالك لو طبقنا هذا المعيار على العلوم؟

مالبرانش والدوغمائية الايمانية

يذهب التطرف الايماني اللاهوتي لدى مالبرانش ابعد الحدود قوله مثلا : العلوم الطبيعية هذه المرة وليست القوانين الفيزيائية العامة تعتمد حسب مالبرانش في كثير من الاحيان على تجارب وظواهر مشكوك بها الى حد ما. ويصفها مالبرانش انها اعظم قيمة بالنسبة لنا من العلوم الرياضية، هذه العلوم خاضعة للنظام الموجود في الله. 3ص37

على ماذا اعتمد مالبرانش في استدلاله ان نظام الرياضيات وباقي العلوم الطبيعية خاضعة ومستمدة من النظام الموجود في الله.؟ نظام الرياضيات مخلوق بشريا وهو نظام ازلي ثابت لا يمكن تغييره ولا التلاعب بثوابته (المعادلات والرموز) فانت حين تتعامل ايوم مع معادلة حسابية بسيطة مثل 2+3=5 فهذه الحقيقة الرياضية لا تحتاج البرهنة المتكررة عليها بعد ان اصبحت حقيقة بديهية ثابتة اليوم وبعد الاف من السنين. بخلاف ثوابت العلوم الطبيعية فهي نسبية قابلة للدحض والتغيير والاضافة والتبديا احيانا.

النظام الذي نجده ليس في قوانين الطبيعة والعلوم وفي بيولوجيا وظائف جسم الانسان ولا في غيرها من ظواهر فيزيائية وكيماوية وفي مختلف مناحي الحياة التي تعتمد منطق ثوابت علم ارياضيات والهندسة والجبر لا يمكن القطع بان نظامها الدقيق مستمد من النظام الموجود في الله.

نحن حين نقول سواء بمنطق علمي او بمعنى ايمان غيبي بان العالم مخلوق تعجز عقولنا الالمام التام به ما يعني ان نظامه الاعجازي مستمد من الله. باستثناء القوانين الطبيعية العامة الثابتة فان الاعجاز الموجود في العلوم الطبيعية انما هي اختراع بشري لا علاقة له بالايمان الديني .

***

علي محمد اليوسف

...........................

الهوامش:

1. جان فال/ الفلسفة الفرنسية من ديكارت الى سارتر/ ترجمة فؤاد كامل ص37

2. نفسه اعلاه نفس الصفحة

3. نفسه اعلاه نفس الصفحة

تنصب أبحاث مدرسة فينا على دراسة الفلسفة في مجموعها أو مختلف فروعها، فأقطاب الوضعية المنطقية يقومون بتحليل التصورات والقضايا والآراء والنظريات الفلسفية بعيدا عن التطورات التاريخية وبمنأى عن الأفكار المجردة والتصورات المثالية، وعهود التفلسف التأملي الذي يحجب كل معرفة عن أعين الذين لم يتدربوا على أساليب التحليل المنطقي؛ فالمتأمل لتاريخ الفكر الفلسفي عبر تعاقب الحضارات الإنسانية يجد الاختلاف الشديد بين الفلاسفة والحكماء إلى درجة الجدل حول حقيقة الفلسفة من حيث المفهوم والوظيفية والقيمة وأغراضها في الحياة البشرية، بين المهاجم المنكر للفلسفات التقليدية ولغز ذلك الحكيم العاشق للوغوس، المتفرد بالحكمة والمؤيد المدافع عنها لما قدمته من نظريات ساهمت في رقي الفكر وتبديد الغشاوة ومخاوف الريب والظنون.وفي رحلة البحث عن لغز الفيلسوف ومُنقِذ العالِم من مزالق الخطأ وجب علينا طرح السؤال:

ما هو موقف هانز من النظريات الفلسفية ولغزها التي ظلَّت مُستغلِقة عن الأفهام؟

هل يرفض الفلسفات التقليدية أم يحاول تقديم تصورا جديدا لها؟

يعالج الفيلسوف الألماني هانز ريشنبارخ، المتخصص في فلسفة العلوم ( 1891- 1953 ) مشكلة الفلسفة التقليدية المغرقة في التجريد، البعيدة عن التجريب، المعتمدة على النزعة التاريخية، معتمدا فلسفة متميزة حقا بالموضوعية والواقعية، والوضوح المنطقي في طرح المشكلة ثم حلها، والدفاع عن رأيه اتجاه الخصوم، دعاة التفلسف، حيث وضح هانز أن الفلسفات المجردة من مثالية وعقلانية عبارة عن آراء لا طائل منها، لا تنصب على الواقع. :« فالفيلسوف يتحدث لغةً غير علمية؛ لأنه يحاول الإجابة على الأسئلة في الوقت الذي تُعوِزه فيه الإجابة العلمية. ومع ذلك فإن صحة التفسير التاريخي محدودة النطاق؛ فهناك فلاسفة يظلُّون يتحدثون بلغة مجازية في الوقت الذي تتوافر فيه بالفعل وسائل الوصول إلى حل علمي. وعلى حين أن التفسير التاريخي ينطبق على أفلاطون.»[1]، كما يرى الفيلسوف هانز عدم تمجيد الفلسفات الماضية لأنه تمجيد لتاريخها الذي يعتبر جمعا عرضيا لأفكار وآراء مختلفة، فإنه يكون عديم النفع، لا قيمة له إلا في جمع المعلومات وتكديسها، ماذا نصنع بهذه الأكداس من الفلسفة القديمة؟

إن الاهتمام بآراء الآخرين لا يمكن أن يعود على فكرنا بفائدة، مادامت الفلسفة التقليدية متعددة المذاهب والآراء جعلها نسبية ليست يقينية، عاجزة لا تقدم الحلول الفعلية، أدى إلى إضعاف المقدرة ورح التفلسف لدى فلاسفة عصره، ونظر الطلاب للحكمة الفلسفية على أساس أنها نسبية خالية من كل نفع حقيقي، تضع لنا مذاهب وآراء في هذا وذاك. « وعرض مختلف المذاهب كما لو كانت صيغا مختلفة للحكمة، لكل منها الحق في أن يوصف بهذه الصفة، فإنه أدى إلى إضعاف المقدرة الفلسفية لدى الجيل الحالي وهو قد شجع الطالب على أن يأخذ بالنسبية الفلسفية.»[2]

ولكي يقنع القارئ بذنب الفيلسوف ولغزه في تقديم الإجابات المتخمة باستجابةً إغراء الكلام المجازي، استدل بأدلة واقعية تبين حقيقة رفض الفلسفة التقليدية المتعددة المذاهب والآراء، فضرب لنا مثلا بإضعاف المقدرة على التفلسف بالنسبة لفلاسفة عصره، كما تشجع الطلاب بالأخذ بالنسبية في الفلسفة.

اعتمد الفيلسوف هانز حجة البرهان المنطقي، إذ انتقل من مقدمات حول الفلسفة التقليدية وعرض قضايا هذه الأخيرة وما تعتمده من نزعة تاريخية، ومدى تنوع مذاهبها، ليصل إلى نتيجة مفادها التأسيس للفلسفة العلمية «فالعالم يعرف الصعوبات التي كان عليه أن يذلِّلها قبل أن يُثبِت نظرياته، وهو يعلَم أن الحظ قد حالفه في كشف النظريات التي تُلائم ما لديه من ملاحظات، وفي جعل الملاحظات التالية تُلائم نظرياته، وهو يدرك أنه قد تظهر في أية لحظة ملاحظات متعارضة أو صعوبات جديدة، ولا يزعم أبدًا أنه قد اهتدى إلى الحقيقة النهائية. »[3]

كذلك فإن هذا الأصل يعلل موقفه من تصور فلسفة علمية، على شاكلة العلم رافضة للفلسفة التقليدية ونزعتها التاريخية، معناه تأسيس الأرضية الصلبة على متن الأبحاث العلمية، وتطهير الفلسفة من التفسيرات الميتافيزيقية التي أفسدت الفلسفة الماضية، ثم بعده الفكري وأهميته القيمية لما فتحه من أفاق فكرية واسعة حول الفلسفة العلمية مثل التفكير المنتج للمفكر المصري الوضعي المنطقي زكي نجيب محمود الذي حاول وضع فلسفة علمية تتبع مناهج العلماء.

***

رحموني عبد الكريم باحث من الجزائر.

................................

قائمة المراجع:

[1]  هانز ريشنبارخ: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة: فؤاد زكريا، ص:38.

[2]  المرجع السابق، ص: 282.

[3]  هانز ريشنبارخ: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة فؤاد زكريا،ص:51.

 

في عام 2020 صدر كتاب ريبيكا بكستن و ليزا وتنك يحتوي على 20 لوحة لنساء فيلسوفات، وكان قد نُشر تحت عنوان (الملكات الفيلسوفات). الكتاب من بين العديد من الكتب الجديدة حول مشكلة التنوع الواسع في الفلسفة، حيث يتضمن قضايا النوع (gender) والجسد واللغة والثقافة والطبقة والاثنية. هنا سنركز جزئيا على موضوع النوع. يعمل عنوان الكتاب على مفهوم "الملوك الفلاسفة" الذي استعمله افلاطون في الجمهورية (375 ق.م).

طبقا لسقراط (المتحدث نيابة عن افلاطون) ،يُعتبر الملوك الفلاسفة هم مدراء المجتمع المثالي المرتكز على فهمهم الفلسفي والذي يقود الناس بطريقة صحيحة وعادلة. في وصفه لهؤلاء الملوك، لاحظ سقراط انهم يمكن ان يكونوا نساء جيدات لأن المجتمع المثالي تتحقق فيه المساواة بين الجنسين. هو يضيف بان فكرة مساواة الجنسين تبدو أقل اشكالية لجمهوره قياسا بفكرة طبقة الحكام الفلاسفة . الإشكالية اذاً هي حول الفلاسفة وليس حول النساء. لكن منْ الذي يمكن اعتباره فيلسوفا شرعيا؟

منْ الفيلسوف؟

اولاً، ان صفة فيلسوف هي هوية مرتكزة على الفعالية. خلافا للملوك الواقعيين والملكات، انت لم تولد فيلسوفا، ولم تتقلد اللقب رسميا مثل لقب نبيل و عمدة و دكتور. انت فيلسوف لأنك تعمل فلسفة. التحدي هنا، هو ان طبيعة الفلسفة ذاتها هي سؤال فلسفي، ولذلك فهي موضوع نقاش فلسفي ثري. العديد من الفلاسفة يتفقون بان الفلسفة يصعب تعريفها، لكن ربما يقولون، "نحن نعرفها عندما نراها". وهكذا تبرز هنا عقدة متداخلة، حيث ان اولئك الذين يستطيعون سلفا الادّعاء بكونهم فلاسفة انما هم "يعرفون ذلك عندما يرونه" وبالتالي يرسمون الحدود لماهية الفلسفة. بالمقابل، ما يسمونه فلسفة يفيد في إضفاء الشرعية على هوية "فيلسوفهم".

بينما معظم الناس حاليا يتفقون مع افلاطون بان دور الفيلسوف يجب ان ينال التقدير وفقا للمقدرة وليس وفقا للجنس، هناك لا تزال هيمنة للرجال بين الفلاسفة. نستطيع رؤية هذا في المنهاج الدراسي للفلسفة وفي المؤتمرات والصحافة. هناك عدة أسباب لهذا. فمثلا، الكثير من النساء ينسحبن من الفلسفة اثناء دراستهن ومن عملهن المبكر لمختلف الأسباب المتعلقة بالجنس. في الماضي، التزامات الزواج كانت تعني ان العديد من النساء المتعلمات كان عليهن التخلي عن الحياة الاكاديمية. اليوم، لاتزال مسؤوليات الرعاية عقبة امام عمل المرأة وبدرجة أكبر من الرجال. اضافة لهذا، لوحظ مرارا وتكرارا ان التحيّز العام في التقييم جعل من الصعب للمرأة الحصول على عمل في الفلسفة. هذه العزلة المستمرة يمكن ان تسبب إسكات للذات وأداء متدني. جزء من التفسير يكمن ايضا في الكيفية التي نرى بها المرأة التي تنجح حقا في متابعة مهنة التفكير.

المثال الشهير تاريخيا عن المرأة هي اليزابيث بوهيميا (1618- 1680)، التي كانت محاورا فلسفيا بارزا لديكارت (1596-1650). في مراسلة جرت بينهما، هي تحدّت ثنائية ديكارت وجادلته ان يأخذ على محمل الجد المظاهر العاطفية للحياة الانسانية – وهو الموضوع الذي عملت به وناقشته مع العديد من المحاورين. وبالرغم من كونها شخصية هامة في فلسفة زمانها وتطويرها لفكرة مضادة وملفتة لرؤية ديكارت حول طبيعة الانسان، لكنها خلقت فوضى وعدم ارتياح بين الطلاب في جامعة كوبنهاغن عندما اضيفت نصوصها لمنهاج تاريخ الفلسفة عام 2018. الطلاب خشوا من ان دراستها ستأخذ حيزا من الفلاسفة "الحقيقيين"، وبهذا احتجوا ضد هذا المنهاج. وهكذا نحن نعود الى سؤال  ماهو الفيلسوف الواقعي.

أول الاشياء التي يدركها طلاب الفلسفة عند بدء دراستهم هو ان الشخص لن يصبح فيلسوفا عبر دراسة الفلسفة، بل سيصبح (مهني فلسفة) . هذا اللقب قُصد به حماية الاكاديميين الجادّين من لقب "الفيلسوف" الذي يمكن لأي شخص الادّعاء به. ومن جهة اخرى، انه يؤشر بان هناك فرقا بين خريجي الفلسفة والفلاسفة "الواقعيين" مثل افلاطون وكانط وهيجل. مرة اخرى، الفلسفة تتميز بالتفكير الارثودكسي (ذو القبول العام) canonical thinking القائم على الهوية والانخراط مع الفلاسفة "الواقعيين". ان بناء او تركيب هذه القواعد المبدئية canons والانخراط بمفاوضات حول الإنتماء المرافق لها هو مسألة معقدة، وحساسة تاريخيا وثقافيا. في القرن الاخير، أسماء مثل لوفيدج فيجنشتاين و حنا ارندت و توماس كن او مايكل فوكو اضيفت الى النمط الارثودكسي. مفكرون آخرون مثل دونا هاروي Dona Haraway، عُرفت بعملها "بيان سايبورغ،1985" والفيلسوف الفرنسي برونو لاتور المعروف بعمله "نظرية شبكة الفاعل" Actor network theory و جوليا كرستيف بعملها الشهير حول مفهوم "الدونية"، جميعهم وُضعوا في منزلة "متاخمة للنمط الارثودكسي". السؤال حول لماذا هذا المفكر او ذاك يوضع او يُستبعد يقودنا الى مستنقع، لأن المعيار يلفه الغموض . مع ذلك، يمكننا تحديد بعض العناصر التي تلعب دورا عندما تم قبول مفكر مثل فوكو المهتم بالنظرية الاجتماعية والذي تجنب عمدا لقب "فيلسوف" – وفق القواعد الارثودكسية بينما استُبعد مفكرون آخرون مثل هاروي وكرستيفا – اللتان عُرفتا على نطاق واسع بتحليلاتهما المفاهيمية الأصلية.483 queen

تحديد حدود الموضوعات

اللعبة المعقدة في تحديد منْ هو الفيلسوف الواقعي، والحجج المؤيدة والمعارضة لإنتمائه تُعرف بحدود عمل الموضوعات Disciplinary Boundary work وهو المصطلح الذي صاغه السوسيولوجي توماس جيرين Thomas.F.Gieryn. الدوافع لأجل المحافظة على حدود الموضوعات متعددة ومتنوعة. يمكنها ان تكون حول علاقات السلطة والصراع لأجل الوظائف الفاخرة او التمويل، لكنها يمكن ان تكون ايضا حول هوية المتحدث الشرعي كخبير في موضوع معين في النقاشات العامة او في الإعلام. او قد تكون سؤال برجماتي حول تحديد زملاء ملائمين لنظام "تقييم الزملاء" الذي هو حجر الاساس في الاكاديمية. انه يستلزم تعريفات ايجابية صريحة حول أي الموضوع هو فلسفة، وتعريفات سلبية حول أي الموضوع ليس فلسفة. وبنفس المقدار، انها تتأثر بالأمثلة السابقة للتضمين والإقصاء. فمثلا، عندما يقول شخص ما "ان عمل ريتشارد دكنز حول الإلحاد المرتكز على البايولوجي هو ليس فلسفة" او في الحقيقة العكس، عندئذ هم يضعون حدودا لعمل الفلسفة . لتبرير هذا، ربما يقارن المرء دكنز بالامثلة السابقة عن الاشخاص الذين اعتُرف بهم سلفا كفلاسفة ضمن القواعد العامة، او يشير الى ان اسئلة دكنز حول الدين هي ضمن او ليس ضمن نطاق الموضوعات الكلاسيكية للفلسفة.

الموضوعات الاكاديمية هي متميزة لعدة أسباب. ربما لأن عدد من الموضوعات تشترك بحقل معين من الدراسة (كما في الفيزياء الفلكية)، او منهجية (كما في الانثروبولوجي)، او ان الموضوع موحد بكونه يتجذر في تقليد تاريخي (كما في الفينومينولوجي). على سبيل المثال، الفيلسوف دان زاهافي Dan ahavi جادل بان الكثير ممن يسمي نفسه "فينومينولوجي" هو ليس بالضبط كذلك لأنه لايتصل بنصوص فرانز برينتانو وادموند هسرل اللذان أسسا الفينومينولوجي، وبهذا لايتبع الميراث التاريخي الذي يعرّف الحقل حسب زاهيف.

ما اذا كان احد ينتمي لحقل معين ذلك يعتمد على الكيفية التي يرتبط بها بأي مظهر يوحّد ذلك الخلاف، وبهذا فان التبرير يجب ان يعتمد على المقارنة مع الانتماءات المقبولة سلفا بدلا من المقارنة بالتعريفات الواضحة.

القواعد العامة والهرطقة

لكي نعرف حقلا، نحتاج للاطلاع على قواعده. هذا بدوره يوفر اساسا مفيدا للنقاشات المهنية طالما نحن نشير الى نصوص مألوفة عموما بدلا من توضيح كل شيء من الصفر. انت تستطيع ايضا ان تجعل مثل هذه النقاشات اكثر ايجازا عبر الإشارة الى أفكار او تفسيرات محددة جدا . في الفلسفة، على سبيل المثال، انت ربما تجعل من الواضح ما اذا كنت تستعمل مفردة "وجود" بالمعنى الهايدجري. او ربما انت تشير الى تجارب فكرية كلاسيكية معروفة على نطاق واسع وسيناريوهات جرت مناقشتها تتحدى وتنير المشاكل التي تصارع فيها الفلسفة. في الاخلاق، مثلا، هناك مشكلة العربة، وفي الابستيمولوجي هناك مشكلة جيتر Gettier problem.

 ان هذا النوع من عمل الحدود،وحيث تقوم جماعة معينة بتطوير فهما مشتركا من خلال ادوات مفاهيمية مشتركة ومصطلحات، هو احيانا يشار له بـ "تكوين رطانة" creating jargon.

هذا خصيصا ينطوي على استعمال اللغة كمؤشر لإنتماء الحقل، او كعلامة للانتماء. الرطانة يمكن ان تكون طريقة سريعة وفعالة لإيصال افكار معقدة بشكل دقيق، لكنها ايضا تجعل من الصعب الدخول في المحادثات، وفي الحقيقة، هي طريقة فعالة في استبعاد منْ ليس لديهم المعرفة، او عند النقاش مع الزملاء المبتدئين وغير الخبراء او الاكاديميين  من الحقول الاخرى.

وهناك وراء المظهر الايجابي للكفاءة، وسلبية الاستبعاد، تحدي آخر في رسم حدود الحقل من خلال رطانه مقبولة. ذلك يعني ان الاختلاف يمكن فهمه اما كونه غير ملائم او هرطقة. وهكذا، عندما نجد مفكرات مثل هاروي و كرستيفا تعتمدان على خلفيتهم المتعددة الاختصاصات (هاروي في الاصل متخصصة في البايولوجي) و(كرستيفا في اللغويات) وعلى مراجع الادب ونظريات غير معروفة للفلاسفة، او استعمال امثلة نموذجية، فان انتمائهن الحقلي سيكون عرضة للسؤال. الفلاسفة ذوي التدريب الكلاسيكي العالي ربما يندهشون بغياب "الرطانة الفلسفية "الكلاسيكية"، ويتخذونها كاشارة بان المؤلف يفتقر الى التجربة في الفلسفة. او ربما هم لا يفهمون الامثلة المعطاة من اول وهلة – او هم بحاجة الى قراءة البايولوجي – ولذلك يعتبرون النص كـشيء "غريب". وبدلا من ان تكون فرصة للفلاسفة المدرين كلاسيكيا لتعلّم شيء جديد، فان "الحداثة" في النصوص تصبح فرصة للفلاسفة المدربين كلاسيكيا  لنبذها. هذا بالطبع، لا يتصل بالجنس وانما يمتد لأي شخص يعمل على حافة القواعد الارثودكسية.

عندما تمتلك الملكة جسدا

طبقا للبعض، الفلسفة هي ميتافيزيقا، تستطلع كيف يمكن لعلم ان يعطينا معرفة. في هذا الدور، يقال ان الفلسفة هي "ملكة العلوم". هذه العبارة تأتي من مقدمة كانط لنقد العقل المحض (1781) – كان هناك وقت كانت فيه ملكة لكل العلوم" – لكنها اعيد انتاجها في عدة نصوص فلسفية. الفلسفة هي ملكة او ملك بسبب نظرتها الملكية، مثل نظرة الاله، هي فوق الحياة الدنيوية. في الحقيقة، بالنسبة لافلاطون، الملك الفيلسوف يجب ان يتحرر من الصفات المادية ويعيش لأجل المثل الفلسفية وخير المجتمع. الفلسفة، كملكة للعلوم، بنفس الطريقة لا يمكنها التورط في التعقيدات الدنيوية. وكما يدّعي ديكارت في تأملاته (1641)، ان الفلسفة يجب ان تبدأ بنقاء مطلق – أي،فكرة معينة لكي تكون أساس كل شيء آخر.

هذا النوع من الرؤية الفلسفية الذاتية تنتج فلسفة تسعى لتحرير نفسها من العالم ومن الظروف التجريبية. انها تتجسد في كوجيتو ديكارت، وهوس كانط بالافكار القبلية، وفي طريقة هسرل Husserl,s epoche في عدم الحكم (محاولة للبدء بتحليلات فلسفية عبر وضع كل التصورات المسبقة "بين قوسين"). هنا، يجب ان تقف النظريات الفلسفية فوق الزمن والثقافة. اذا سقطنا في تحديد تاريخي او ثقافي، نحن نترك الفلسفة خلفنا ونتحرك الى العلوم التجريبية مثل الانثروبولوجي، التاريخ وما شابه. حتى الفلاسفة الذين يعتمدون على امثلة تاريخية، مثل كون kuhn او فوكو، يسعون لهياكل فوق أمثلتهم (تتعلق بالنموذج النظري او المعارف paradigms).

لابد من التنبيه  ان النسخة الأقل غرورا لهذا يمكن العثور عليها في عمل الفيلسوفة البريطانية ماري ميدجلي Mary Midgley (1919-2018) التي تعتبر الفلسفة ليس كعرش ملكي وانما كرسام خرائط للافكار، لا تحكم لكنها لاتزال تعلو فوق الحقول الاخرى، محافظة على رؤية كلية. مع ذلك، ان فوق الزمن وفوق اللفظي والاهتمام المتحرر روحيا يتم افتراضها مسبقا في اية استعارة.

لكي يتم تتويج الفيلسوف يجب ان يكون فوق التاريخ وفوق الثقافة، وفوق تهوّر الجسد. ملكات الفلسفة "الواقعيات" لا يطغى عليهن الحزن، وليس لديهن آلام دورة شهرية خارجة عن السيطرة (او على الاقل لا يتحدثن عنها). غير ان مفكرات مثل هاروي وكرستيفا يكون – العلائقي، العاطفي، الجسدي، المشاكس –  هو الحاسم. هذا ليس بسبب انهن لا يستطعن التفكير بما ورائها وانما بالضبط كنقطة فلسفية: المعرفة توضع في محل. الناس هم أجساد – وليس فقط اجسام "جميلة" وانما يصرخون، ينزفون، يموتون، يتعرقون، وعلى الاقل اجسام تولد وتتوالد. ولسوء الحظ، ان محاولة كسر غفلة الفلسفة بالجسد والحياة العاطفية تُخرج الاشخاص الذين يفكرون بهذه الطريقة من الموقع الفلسفي "الملكي".

الشرعية، السلطة والتغيير

كيف يرتبط هذا بعدم توازن النوع في الفلسفة؟ في (المرأة في الفلسفة: ما الشيء الذي يجب ان يتغير؟ 2013) تكتب كاترينا هوتشيسون Katrina Hutchison بان ندرة النساء الفيلسوفات في الادب والمؤتمرات وفي الميديا هو ناتج جزئيا عن الطريقة التي نحكم بها على مصداقية الخبراء. الدراسات من علم النفس والسوسيولوجي تبيّن اننا في السياقات التي لا نمتلك بها خبرة مهنية فان رغبتنا بالسلطة تتأتثر جدا بالتحيز . جزئيا، هناك تحيز الدرجة الثانية حيث يلعب التحيز دائما دورا في تخصيص مصداقية هيكلية من خلال الوظائف الاكاديمية والمطبوعات، لكن هناك ايضا تحيز اساسي في اللعبة، لأن التقييم الذي نضعه سوف لا يعتمد فقط على المؤشرات المؤسسية وانما ايضا على ما اذا كان الفرد يقع ضمن المجموعة التي نعتبرها ذات صدقية. فمثلا، نحن نرى احيانا رجال في قمصان زرقاء كشهود موثوقين لكن عندما نأتي للاقتصاد نحن ننسب مصداقية أقل لرجل في قميص هاواوي (لماذا هو يرتدي ذلك القميص؟ هل هو لا يعرف التقاليد؟ هل هو يعرف الحقل؟). نفس الشيء ينطبق على جنس معين، لون جلد معين، لهجة معينة (هل يمكن لشخص ذو لهجة كوكنية "من سكان شرق لندن الأصليين" ان يخبرني عن الطبيعة؟). في مثل هذه المواقف نحن من المحتمل جدا ان نطلب دليلا على الخبرة: "ارني ان تحيزاتي خاطئة لكي أثق بادّعاءاتك". هذا يولّد "ثقافة التبرير"، فيها تجد الاقليات نفسها مطلوب منها تبرير سبب توصيفها  لفلاسفة او حتى اكاديميين – من خلال، على سبيل المثال القواعد، الرطانة،او "النظرة الملكية".

في الغرب، معيار الفيلسوف هو الأبيض، المتحدث الانجليزية او ربما الالمانية او الفرنسية – قد لا يكون في قميص ازرق وانما جاكيت ويُفضل بشعر اشيب او ابيض لذا نعرف لديه عدة سنين من التجربة المتراكمة. هذه من بين الصفات التي نبحث عنها كمؤشرات مباشرة لشرعية الخبير. لكن ايضا الابيض الانجليزي او الالماني او متحدث الفرنسية وبشعر رمادي صاغوا الحقل الفلسفي الغربي لقرون. هذا يفسر لماذا موضوعات ليست واضحة جدا لهم – من ضمنها الحيض، ولادة الطفل، القمع، الفلسفة الهندية، الصينية ،العربية، الاستعمار – لم تصبح بعد جزءا من النمط الارثودكسي ولا تمتلك نصوصا وتجارب فكرية او طرق تساعدنا في فهم تلك الموضوعات. غير ان الحركة خارج تلك المنظومة تجعل من الصعب الدفاع عن الشرعية. كأقلية – كفيلسوف غير نمطي – انت محشور في ارتباط مزدوج. شرعيتك عرضة للسؤال، لذا فان المدرسية تصبح سلاحك الرئيسي: "انظر، انا اعرف الرطانة، انا ابعد نفسي من الجسد، من ثقافتي من تاريخي". لكن في تلك الاثناء، تفيد المدرسية في ادامة الفلسفة غير التامة والمحافظة والصارمة والتي لا تشجع الانخراط في مواضيع جديدة. المعركة لأجل الهوية كفيلسوف تصبح معركة لأجل المصداقية وضد التحيز. انه الفيلسوف النمطي هو الذي يقرر مبادرات جديدة – ربما فقط بسبب شرعيته لا يُحتمل ان يتعرض للمسائلة. توماس كن الذي لديه العديد من صفات فيلسوف التيار الرئيسي (هو كان رجل امريكي ابيض) واجه القليل من الاسئلة حول الشرعية رغم خلفيته الفيزيائية ومنهجيته التاريخية.

الشرعية في التحدث بالموضوعات الفلسفية تصبح معتمدة بعمق على ما اذا كان الشخص الجدير بالثقة يبدو كـ "فيلسوف". هاروي و كرستيفا من غير المحتمل ان تكونا مرشحتين لفلاسفة نمطيين لأنهما تجمعان بين تحديات الرؤى المعيارية و الفشل ليكونا فيلسوفتين نمطيتين. مكانتهما كفيلسوفتين ملكتين هي شائكة لأن شرعيتهن في الموضوعات تتطلب تبريرا : يجب اثبات انهن يعملن فلسفة. لكن هذا التبرير يجب ان يتأسس على إظهار علاقة بالحقل الذي ليس له شكل معرّف جيدا. جهودهما ستكون للسعي نحو وسط محافظ.

لو أخذنا مثالا ساخرا من كتاب فيليب كيتشر Philip Kitcher لعام 2023 حول ما الفائدة من الفلسفة. هو يحكي قصة عن الموسيقيين الموهوبين الذين يتدربون في الاكاديميات ليصبحوا متخصصين في موزارت. اساسا، هناك حماس كبير لدى كل من الموسيقيين والجمهور لحضور عروضهم، لكن التحسّن في أداء موزارت أصبح تدريجيا أقل وأقل، والجمهور العام فقد الرغبة في الاختلافات الدقيقة التي يمكن ان تتم فقط بواسطة خبراء مدربين. بعض الموسيقيين ايضا شعروا بالضجر. الخبراء اصيبوا بالرعب وقاموا باستبعاد هؤلاء العابثين من الدراسة الاكاديمية. وبمرور الزمن، اصبحت قاعة حفل الاكاديمية فارغة. فقط الخبراء العنيدين ذوي الحاسة الموسيقية الخاصة للاختلافات في موزارت استمروا يقيمون حفلات لبعضهم بينما بقية الناس يعيشون حياتهم في مكان آخر.

المدرسيون يتفقون بان الناس يفتقرون للذوق، وان أي نقد يصدر عنهم هو ببساطة ناتج عن حكمهم الفقير ونقص الفهم. بهذه الطريقة، ما بدا كإهتمام حقيقي في التطور الموسيقي اصبح نظام صارم للموضوعات يستبعد أي شيء يمكنه تحدي او ابتكار او ازالة الحدود الموسيقية. تماما مثل التقديس، الرطانة والخلافة المدروسة لعرش الفلسفة ربما تكون مفيدة في رعاية التخصص وضمان النوعية، لكنها ايضا استبعادية، وعندما تُتبع بصرامة، فهي تعرّف فلسفة ميتة يؤمل ان ترضي عدد قليل من الفلاسفة.

العبرة من المثال ومن هذا المقال هو ان هناك شيء يُكتسب عندما نعامل الفلاسفة بأقل من الملوك ونعرض فضولاً بدلاً من موقف مشبوه في مسائلة الشرعية الفلسفية.

***

حاتم حميد محسن

...........................................

من مقال للكاتبة هيلين سكوت الباحثة في جامعة كامبردج بعنوان "الملوك الفلاسفة والملكات"، نُشر في Philosophy Now عدد اكتوبر/نوفمبر 2024.

بقلم: لويس ألتوسير

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

"هل من الصدفة حقّا أن تكون الفلسفة فعلا، مرتبطة إلى هذا الحدّ بتدريسها، وبأولئك الذين يدرّسونها؟ وهل من الصدفة أن لا تصلح الفلسفة سوى لتعليمها الخاص فحسب، ولا لشيء آخر؟ وإذا كانت لا تصلح فقط إلا لتعليمها الخاص، فما يعني ذلك يا ترى؟"( ل. ألتوسير)

"في أي معنى يستقيم القول بأنّ: كل إنسان فيلسوف"؟

" ماذا يصنع إذن أستاذ الفلسفة؟ إنه يعلّم تلاميذه التفلسف، بتأويل النصوص الكبرى أمامهم أو المؤلفين الكبار للفلسفة، بان يلهمهم الرغبة في التفلسف . وإذا ما التمس في نفسه قوّة، أمكنه أن يتقدّم درجة ويمرّ إلى التأمّل الشخصي، أي إلى مخطّط فلسفة أصيلة."(ل. ألتوسير)

***

ما ذا يقول "غير الفلاسفة"؟

يتوجه هذا الكتاب إلى كلّ القرّاء الذين يعتبرون أنفسهم، أصابوا أم أخطئوا، من " غير الفلاسفة"، والذين يريدون مع ذلك أن يكوّنوا فكرة عن الفلسفة. ماذا يقول " غير الفلاسفة"؟ العامل والفلاح والأجير: " لا نعرف شيئا من الفلسفة، لم تخلق لأجلنا. إنما هي لمثقفين مختصين. إنها جدّ صعبة . ولا أحد حدّثنا عنها قط: لقد غادرنا المدرسة قبل أن نتعلمها." بينما يقول الإطار والموظّف والطبيب، الخ:" نعم تابعنا درس الفلسفة. لكنه مفرط في التجريد. والأستاذ عارف بصنعته، لكنه كان غامضا. فلم نحتفظ بشيء منها. وبالمناسبة، فيم تصلح الفلسفة ؟ " ويقول آخر:" عفوا! لقد اهتممت بالفلسفة كثيرا. يجب أن نقول بأنه كان لنا أستاذ أخّاذ. وكنا نفهم الفلسفة بصحبته. لكن، انصرفت منذ ذلك الحين إلى تحصيل لقمة العيش ماذا نفعل إذن، ليس لليوم سوى 24 ساعة: لقد فقدت صلتي بها. مع الأسف. " وإذا ما سألتهم جميعا:" لكن عندئذ، بما أنكم لا تعتبرون أنفسكم فلاسفة، فمن من الناس في نظركم من يستحقّ اسم فيلسوف؟"، فسيجيبون، بصوت واحد:" إنما هم أساتذة الفلسفة!". وهذا عين الصواب: فبخلاف الناس الذين، لأسباب شخصية، أي من أجل متعتهم أو لنفع ما، يستمرّون في القراءة لكتّاب فلسفة، في" ممارسة الفلسفة"، فإنّ من يستحقّ اسم فيلسوف هم فعلا أساتذة الفلسفة. يطرح هذا الأمر بالطبع سؤالا أول، أو بالأحرى أثنين.

1. هل حقّا من الصدفة أن تكون الفلسفة فعلا، مرتبطة إلى هذا الحدّ بتدريسها، وبأولئك الذين يدرّسونها؟ يجب أن نعتقد أن الأمر ليس كذلك، إذ في النهاية،لا يعود هذا الزواج فلسفة - تعليم إلى أقسام الفلسفة عندنا، لا يعود إلى الأمس: فمنذ بدايات الفلسفة، كان أفلاطون يدرّس الفلسفة، وأرسطو يدرس الفلسفة ... وإذا كانت هذه الزيجة فلسفة - تعليم ( تدريس) ليست نتاج الصدفة، فهي تعبّر عن.ضرورة خفيّة. وسنحاول اكتشافها.

2. لنذهب إلى أبعد من ذلك. بما أن الفلسفة في الظاهر لا تصلح لشيء مهمّ في الحياة العملية، وبما أنها لا تنتج لا معارف ولا تطبيقات، فيمكننا التساؤل؛ لكن لم تصلح الفلسفة؟ ويمكننا حتى أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال: هل من الصدفة أن لا تصلح الفلسفة سوى لتعليمها الخاص فحسب، ولا لشيء آخر؟ وإذا كانت لا تصلح فقط إلا لتعليمها الخاص، فما يعني ذلك يا ترى؟ سنحاول الإجابة عن هذا السؤال الصعب. ترون كيف تسير الأمور مع الفلسفة . فيكفي أن نفكّر في أقلّ وجوهها( وهنا كون الفلاسفة هم جميعهم تقريبا أساتذة فلسفة)، حتى تنبجس، دون أن تترك لنا الفرصة لاستعادة أنفاسنا، أسئلة غير منتظرة ومدهشة. وقد قدّت هذه الأسئلة على نحوٍ يُلزمنا بطرحها دون أن نمتلك وسائل الإجابة عنها: فحتى نجيب عنها علينا القيام بمنعطف طويل. وهذا المنعطف ليس شيئا آخر سوى الفلسفة ذاتها. على القارئ إذن أن يتحلّى بالصبر . فالصبر فضيلة فلسفية. لنلق نظرة خاطفة، حتى نتقدّم، على هؤلاء البشر: أساتذة الفلسفة. لهم أزواج وزوجات مثلي ومثلك، وأطفال إذا ما رغبوا في ذلك. يأكلون وينامون يتنفسون ويموتون مثل الجميع. يمكن أن يحبوّا الموسيقى والرياضة وممارسة الفلسفة أو لا. اتفقنا: فليس هذا ما يجعلهم فلاسفة. إنّ ما يجعلهم كذلك، هو أنهم يعيشون في عالم لوحده، في عالم مغلق: مكوّن من أعمال كبرى في تاريخ الفلسفة. ويبدو أن ليس لهذا العالم من خارج. فهم يحيون مع أفلاطون وديكارت وكانط وهيجل وهوسرل ومع هيدجر، الخ. ماذا يصنعون؟ أتحدّث عن أفضلهم بالطبع: يقرؤون ويعيدون قراءة مؤلفات كبار الكتاب، ويعيدون قراءتها باستمرار، بمقارنتها فيما بينها، وبتمييزها عن بعضها البعض عبر التاريخ، لفهمها جيّدا. إنه لأمرٌ مدهش مع ذلك، هذه الإعادة الدائمة للقراءة . فما من أستاذ رياضيات أو فيزياء الخ قطّ، سيعيد باستمرار قراءة كتاب في الرياضيات أو الفيزياء، فلن " يجترّوها" على هذا النحو. إنهم يقدمون المعارف، ويفسرون أو يبرهنون، نقطة وانتهى الأمر، ولن نعود إلى ذلك. ومع ذلك فإنّ ممارسة الفلسفة هي العود اللانهائي إلى النصوص. يعرف الفيلسوف ذلك جيدا، و فوق هذا يفسّر لك لماذا! هو أن الأثر فلسفي لا يفصح عن معناه، عن رسالته، في قراءة واحدة؛ وهو مفعم بالمعنى، وبالطبيعة نبع لا ينفد ولانهائي، وله دوما قول جديد بالنسبة إلى من يعرف كيف يؤوّله. ليست ممارسة الفلسفة مجرد قراءة، وليست برهنة. إنما هي تأويل، تساؤل وتأمل: إنها تريد أن تقوّل الأعمال الكبرى ما تريد قوله، أو تقدر على قوله، وفي الحقيقة الإشكالية التي تحملها أو بالأحرى التي تشير، بصمت، صوبها. وبالنتيجة: هذا العالم بلا خارج هو عالم بلا تاريخ. مكوّن من مجموع الأعمال الكبرى التي كرّسها التاريخ، رغم كونه عالم بلا تاريخ. وذلك بدليل أن: الفيلسوف يستدعي، لتأويل فقرة من كانط، أفلاطون كما هوسرل، كما لو لم يكن هناك 23 قرنا بين الأوّلَين وقرنا ونصف بين الأول والأخير، كما لو من غير المهمّ وجود السابق واللاحق. فجميع الفلاسفة، بالنسبة إلى الفيلسوف هم معاصرين. يلبّون نداء بعضهم بعضا من خلال الصدى، لأنهم لا يجيبون في الأصل إلاّ عن نفس الأسئلة، التي تصنع الفلسفة. من هنا كانت الأطروحة المشهورة " الفلسفة أبدية". ومثلما نرى، فحتى يكون من الممكن إعادة القراءة الدائمة، وفعل التأمل غير المنقطع، يجب على الفلسفة أن تكون في نفس الوقت لامتناهية ( أي ما "تقوله" لا ينضب) وأبدية ( كل الفلسفة كامنة في كلّ فلسفة). تلك هي قاعدة ممارسة الفلاسفة، أريد آن أقول أساتذة الفلسفة. وإذا ما قلتم لهم، في هذه الظروف، إنهم يعلمون الفلسفة، فخذوا حذركم! إذ سيلفتون النظر إلى أنهم لا يعلمونها مثل الأساتذة الآخرين، الذين يحملون لتلاميذهم معارف للحفظ، أي نتائج علمية ( مؤقتا) نهائية. فالفلسفة لا تُتعلّم بالنسبة إلى أستاذ الفلسفة الذي فهم جيّدا كانط . ولكن ماذا يصنع إذن أستاذ الفلسفة؟ إنه يعلّم تلاميذه التفلسف، بتأويل النصوص الكبرى أمامهم أو المؤلفين الكبار للفلسفة، بان يلهمهم الرغبة في التفلسف (يمكننا أن نترجم تقريبا هكذا الكلمة الإغريقية فيلو- صوفيا philo-sophia). وإذا ما التمس في نفسه قوّة أكثر، أمكنه أن يتقدّم درجة ويمرّ إلى التأمّل الشخصي، أي إلى مخطّط فلسفة أصيلة. وهذا دليل حيّ على أن الفلسفة تنتج ماذا؟ الفلسفة، ولا شيء آخر، وأنّ كل هذا يجري في عالم مغلق. لا شيء يثير الدهشة إذا كان عالم الفلاسفة مغلقا: طالما كانوا لا يفعلون شيئا للخروج منه، وطالما كانوا، على العكس، ينفذون شيئا فشيئا إلى باطن المؤلفات، ويحفرون هوّة واسعة بين عالمهم وعالم البشر، الذين ينظرون إليهم من بعيد مثلما ينظرون إلى حيوانات غريبة.. ليكن، ولكن سيقول القارئ بأننّا وصفنا وضعية قصوى، وميلا أقصى يوجد بالتأكيد، ولكن الأمور لا تسير دوما على هذا النحو. وبالفعل، فالقارئ معه الحقّ: فما وقع وصفه، هو شكل خالص نسبيا، هو النزعة المثالية، والممارسة المثالية للفلسفة. لكن يمكن أن نتفلسف على نحو آخر تماما. والدليل قائم في التاريخ، فبعض الفلاسفة، لنقل المادّيين، تفلسفوا على نحو آخر تماما، وأن أساتذة الفلسفة يحاولون أيضا الاقتداء بهم. فهم لا يريدون أن يكونوا جزءا من عالم مغلق على ذاته. هم يخرجون منه لسكنى العالم الخارجي: فيريدون أن يقوم بين عالم الفلسفة (الذي يوجد) وبين العالم الواقعي، تبادل مثمر. يتنزّل هذا بالنسبة إليهم في مبدآ الفلسفة ذاتها: بينما يعتبر المثاليون أنّ الفلسفة هي قبل كلّ شيء نظرية، يرى الماديون بأن الفلسفة هي قبل كل شيء تطبيقيّة، تتأتّى من العالم الواقعي وتُنتج، دون معرفة بذلك، آثارا ملموسة في العالم الواقعي. لاحظوا أن الفلاسفة الماديون يمكن لهم وبالرغم من معارضتهم العميقة للمثاليين، أن يكونوا لنقل " على اتفاق" مع خصومهم في عدّة نقاط . مثلا في أطروحة:" الفلسفة لا نتعلّمها". لكن لا يعطون لذلك نفس المعنى. إنّ التقليد المثالي يدافع عن هذه الأطروحة بإعلاء الفلسفة على المعارف، وبدعوة كلّ واحد إلى أن يوقظ في نفسه الإلهام الفلسفي. أما التقليد المادّي فلا يسمو بالفلسفة على المعارف، إنما يدعو البشر إلى البحث في خارج ذواتهم، في الممارسات، عن المعارف والصراعات الطبقية،- ولكن دون الإعراض عن الأعمال الفلسفية- لتعلّم التفلسف. لنضرب مثالا آخر، يتمسّك به المثاليون تمسكّهم بأبصارهم: وهو السمة الذي تميز الأعمال الفلسفية، كونها معين لا ينضب، والذي يميّز بالطبع فلسفة العلوم...يوافق الماديون على الإقرار بأنه لا يمكن ردّ أثر فلسفي إلى حرفيّته المباشرة، ولنقل لسطحه، إذ هو مفعم بالمعنى. بل يذهب المادّي أبعد من ذلك: فيعترف، وهو في ذلك كالمِثالي بأنّ هذا الامتلاء بالمعنى يعود إلى " طبيعة الفلسفة"! ولكن لما كانت المادية تحمل فكرة مغايرة للفلسفة عن المثالية، فإن هذا الامتلاء بالمعنى لأثر فلسفي لا يعبّر لديها عن الطابع اللانهائي للتأويل، بل عن التعقيد الأقصى للوظيفة الفلسفية. وإذا كان أثرا فلسفيا ما هو بالنسبة إليها ممتلئا معنى، فذاك لأنه يجب عليها، حتى توجد كفلسفة، توحيد عدد كبير من المعاني. هناك فارق: لكن نتائجه ثقيلة. لنضرب مثلا أخيرا: الأطروحة المثالية الشهيرة بأنّ كل الفلسفات هي كما لو كانت معاصرة لبعضها بعضا، وأنّ الفلسفة " أبدية"، أو أنه ليس للفلسفة تاريخ. يمكن للمادية، بالرغم من مفارقية هذا الإقرار الشديدة، أن " توافق " بتحفّظ. وبتحفّظ، إذ أنها تعتقد أنّه ثمّة تاريخ يحدث في الفلسفة وانه تقع حوادث ونزاعات وثورات واقعية تغيّر " مشهد" الفلسفة. غير أنّ الماديّة تقول بطريقتها، ردّا تقريبا على هذا التحفّظ، بأنّه " ليس للفلسفة تاريخ "، من حيث أن تاريخ الفلسفة هو معاودة لنفس النزاع الجوهري، ذلك الذي يقابل النزعة المادية بالنزعة المثالية في كلّ فلسفة. يوجد فارق: لكن تبعاته جسيمة. نحتفظ من هذه الأمثلة السريعة بأنّه إذا كانت الفلسفة واحدة، فإنه يوجد، على أقصى حد، نوعين مختلفين متقابلين من التفلسف، وممارستين متناقضتين من الفلسفة: الممارسة المثالية، والممارسة الماديّة. لكننا نحتفظ بالرغم من الوجه المفارقي لهذا الواقع، بأنّ المواقف المثالية تطفو على المواقف المادية والعكس بالعكس. كيف يمكن للفلسفة أن تكون واحدة، وتسلّم نفسها لتوجّهين متناقضين، التوجّه المثالي والتوجّه المادّي؟ كيف يمكن لخصوم فلسفية أن يكون لهم شيء ما مشترك، بما أننا نرى أن بعضهم يتعدّى على بعض؟ ومرّة أخرى، نحن نطرح أسئلة دون القدرة على أن نقدم لها أجوبة مباشرة. يجب أن نمرّ بالمنعطف الكبير. فالصَّبْرَ إذن، صَبْرٌ ولكن سرعان ما تحصل المفاجأة. إذ ماذا لو وُجدت "طريقة أخرى في التفلسف" غير التي للأساتذة المثاليين، أي ممارسة للفلسفة، هي أبعد عن أن تسحب الفيلسوف من العالم، تضعه في العالم، وتجعله أخا للجميع البشر- وماذا لو وجدت ممارسة، هي أبعد من أن تجلب الحقيقة للبشر من أعلى، في لغة غير قابلة للفهم بالنسبة إلى العمّال، ممارسة تعرف كيف تصمت وتتعلم من البشر، ومن ممارساتهم ومن آلامهم وصراعاتهم، أفلا يمكن أن تقلب الفرضية التي تبنّيناها رأسا على عقب؟ لا. فقد سألنا بالفعل أناسا مختلفين في العمل والموقع الاجتماعي. فحدّثونا جميعهم عن أساتذة الفلسفة. هذا طبيعي: الفلسفة تدرّس في الثانوي والتعليم العالي. إنهم أي هؤلاء المُسْتَجوبين، يطابقون في تواضعهم واختلافهم الفلسفة مع تعليمها. ماذا يفعلون، غير إعادة القول على طريقتهم بما تصرّح به المؤسسات الموجودة في مجتمعنا، من أنّ الفلسفة هي ملكية أساتذة الفلسفة؟ إنهم لم يتجرؤوا، وهم متخوفون من هذا الأمر الواقع للنظام الاجتماعي، ومبهورون بصعوبة فلسفة الفلاسفة، على المساس بهذا الحكم المسبق الفلسفي. إنّ تقسيم العمل اليدوي والعمل الفكري ونتائجه العملية، وهيمنة الفلسفة المثالية ولغتها بالنسبة إلى العارفين، قد أبهرتهم أو أحبطتهم. فلم يتجرّؤوا على قول: لا، ليست الفلسفة خصّيصة أساتذة الفلسفة. لم يتجرّؤوا على القول، مع الماديّين (مثل ديدرو ولينين وقرامشي): "كلّ إنسان فيلسوف". يتحدّث الفلاسفة المثاليون للجميع وباسم الجميع. يعتقدون أنهم يمسكون بحقيقة كل الأشياء . أما الفلاسفة الماديون فهم على خلاف ذلك صامتون: يعرفون كيف يسكتون، للاستماع إلى البشر. هم لا يعتقدون في ملكية حقيقة كل الأشياء. ويعرفون أنهم لا يمكن أن يصيروا فلاسفة إلا تدريجيا، بتواضع، وأنّ فلسفتهم تأتيهم من خارج: فيصمتون حينئذ ويستمعون. وأنه ما من حاجة للذهاب بعيدا لمعرفة ما يسمعون، حتى نلاحظ أنه يوجد لدى الشعب، والعمال الذين لم يتلقّوا تعليما فلسفيا، ولم يكن لهم قطّ " معلمّا " يتبّعونه في فنّ التفلسف، يوجد ضرب من الفكرة عن الفلسفة، دقيقة جدّا حتى نقدر على إثارتها والحديث عنها. وهو ما يعني، مثلما يؤكّد ذلك المادّيون بأنّ " كل إنسان فيلسوف"، حتى لو كانت الفلسفة التي يتمثّلها غير دقيقة، نشكّ في ذلك! فلسفة كبار الفلاسفة والأساتذة. ما عساها تكون هذه الفلسفة " الطبيعية" (العفوية) لدى كلّ إنسان؟ لو طرحتم السؤال على من تعرفون، على الناس "العاديين"، فقد يستغربون، بتواضع، لكن سينتهون إلى الاعتراف:" نعم، لديّ فلسفة خاصّة بي". ماذا؟ أي طريقة في " النظر إلى الأشياء". ولو دفعتم بالسؤال قدما، فسيقولون:" يوجد في الحياة أشياء أعرفها جيّدا، عن تجربة مباشرة: مثلا، عملي والناس الذين أعاشرهم والبلدان التي زرتها أو التي حصّلت عنها معلومات في المدرسة أو في الكتب. لنسمّي ذلك كله معارف. لكن توجد في العالم أشياء كثيرة لم أرها ولا أعرفها. وهذا لا يمنعني من أن أكوّن عنها فكرة. وفي هذه الحالة، فأنا أملك أفكارا تتجاوز معارفي: مثلا عن أصل العالم، وعن الموت والألم والسياسة وعن الفنّ وعن الدين . بل أكثر من ذلك: لم تأت هذه الأفكار من فوضى مبعثرة يمينا وشمالا ومنفصلة عن بعضها البعض وغير متماسكة . لكن لا أعرف لماذا، تتوحّد هذه الأفكار شيئا فشيئا، بل يحدث شيء غريب: هو أننّي جمعت كل معارفي، أو هكذا تقريبا، تحت غطاء هذه الأفكار العامّة، وتحت وحدتها. فأكون عندئذ قد صنعت ضربا من الفلسفة، رؤية لمُجْمل الأشياء، لتلك التي أعرفها، كما للتي لا أعرفها. إنّ فلسفتي هي معارفي موحّدة تحت غطاء أفكاري ". وإذا ما تساءلتَ: فيم تصلح هذه الفلسفة؟ أجابك: " الأمر بسيط، لتوجيهي في الحياة. إنما بمثابة بوصلة: تشير إليّ بجهة الشمال . لكن أنت تعرف، أن كل منّا يصنع فلسفته الخاصّة." هذا ما سيقوله إنسان عاديّ. لكن سيضيف مُلاحظ ما النقاط التالية. سيقول بأنّ كلّ فرد يصنع فعلا" فلسفته الخاصّة"، لكن يجتمع،على صعيد التجربة، أغلب هؤلاء الفلاسفة، فلا تكون بينهم سوى فوارق شخصية حول أساس فلسفي مشترك، انطلاقا منه ينقسم الناس في" أفكارهم". سيقول بأنه يمكننا أن نصنع ضريا من الفكرة عن الأساس المشترك لهذه الفلسفة " الطبيعية/ العفوية" لكل إنسان، حينما نقول مثلا عن أحدهم، بحسب الطريقة التي يتحمّل بها المعاناة أو المحن التي تؤلمه كثيرا، وأنه يأخذ كلّ مناحي الوجود " بفلسفة" بمنحى فلسفي؛ أو إذا ما استقامت حياته، أن يعرف كيف يستفيد من خيراتها دون إسراف. وفي هذه الحالة، فهو يُقيم مع الأشياء، سواء كانت سيئة أم حسنة، علاقات مقدَّرَة متبصّرة ومتحكّم فيها وحكيمة: فنقول عنه حينئذ بأنّه " فيلسوف". ماذا نجد في عمق هذه " الفلسفة"؟ لقد فسّر قرامشي ذلك جيدا حينما تحدّث عن: فكرة معينة عن ضرورة الأشياء (علينا الاضطلاع بها)، وبالتالي معرفة معينة، من جهة، وطريقة معينة في استخدام هذه المعرفة في المحن أو أفراح الحياة، وبالتالي، حكمة معينة من جهة أخرى. إنه إذن اجتماع سلوك نظري معين وسلوك عملي معا: أي حكمة معينة. نجد إذن في هذه الفلسفة "العفوية" للبشر العاديين، مبحثين كبيرين يخترقان كامل تاريخ فلسفة الفلاسفة: تصوّر معيّن لضرورة الأشياء، لنظام العالم وتصوّر معيّن للحكمة الإنسانية تجاه سيرورة العالم. من سيقول بأنّ هذه الأفكار ليست بعدُ فلسفية؟ غير أنّ ما هو ملفت للانتباه فعلا هو أن في هذه التصوّر طابعه المتناقض والمفارقي. إذ، هو في الأصل، جدّ فعّال"active: يفترض بأنّ الإنسان يستطيع شيئا ما قبالة هذه الضرورة للطبيعة والمجتمع، ويفترض تفكيرا عميقا وتركيزا على الذات، وتحكّما كبيرا في الذات في الحالات القصوى للألم أو في الحالات اليسيرة للسعادة. لكن، في الواقع، حينما لا يكون هذا السلوك " مهذّبا" ومتحوّلا، بواسطة الصراع السياسي مثلا، فإنّه يعبّر غالبا عن اللجوء إلى الانفعال passivité . إنه جيّد، لو أردنا، نشاطا للإنسان، لكن قد يكون انفعاليا بعمق ومحافظا. إذ لا يتعلّق الأمر، في هذا التصوّر الفلسفي " العفوي" بالتصرّف موضوعيا في العالم، مثلما يريد ذلك بعض الفلاسفة المثاليين، أو " تغييره" كما يريد ماركس، بل بقبوله، بتجنّب كلّ إفراط فيه. إنه أحد معاني كلمة التقطت من فم " إنسان عادي": " لكلّ فلسفته الخاصّة"، في عزلته (" كلّ في ذاته"). من أجل ماذا؟ كي يتحمّل عالما يدمّره أو يمكن أن يدمّره. وإذا ما تعلّق الأمر فعلا بالتحكّم في مسار الأشياء، فليس بالخضوع له أو بقبوله " بفلسفة"، بل للخروج منه في حال أفضل من الحرص على تغييره . وباختصار، إذا ما تعلّق الأمر بالتلاؤم مع ضرورة تتجاوز قوى الإنسان، و أنه يجب عليه العثور على وسيلة للقبول بها، بما انه لا يستطيع فعل شيء لتغييرها. هو نشاط إذن، لكنه انفعالي؛ نشاط إذن لكنه خاضع . لا أفعل شيئا هنا سوى تلخيص فكر فيلسوف ماركسي إيطالي هو غرامشي عن هذه المسألة. ويمكنكم النظر، على أساس هذا المثال، إلى كيفية تفكير فيلسوف ماديّ. فهو لا "يروي لنفسه حكايات"، ويتمسّك بخطاب حماسيّ، ولا يقول " كلّ البشر ثوريون"، بل يترك الناس يتكلّمون، ويقولون الأشياء كما تكون. نعم، يوجد أساس للخضوع للاستسلام لدى الحشود الكبيرة التي لم يحصل لها وعي بالصراع أو حتى لدى من كانوا مقهورين، لكنهم عرفوا الفشل. يتأتى هذا الاستسلام من أقاصي التاريخ الذي كان دوما تاريخ المجتمعات الطبقية، وبالتالي من الاستغلال والقمع. لأفراد الشعب، وهم صنيعة هذا التاريخ، أن يثورا؛ ولما كانت الثورات منهزمة دوما، فليس لهم سوى الاستسلام والقبول " فلسفيا" بضرب من " الفلسفة"، بالضرورة التي يتقبّلونها. وهنا سيظهر الدين."

***

...........................

* لويس التوسير "الطريق إلى الفلسفة لغير الفلاسفة"، نص أعده جورج م.غوشكاريان، وتمهيد لغيوم سيبارتان - بلان. سلسلة " بيف".puf 2014 سلسلة " آفاق نقدية".

تطرقنا في مقال سابق لعرض شامل وخاص بفلسفة هوسرل، تحديدا بوصفها علم نفس، ولكن في هذا المقال سنسلط الضوء على أحد المعرفين بفلسفة الظاهراتية لهوسرل ومنتقديها وهو إيمانويل ليفيناس ([1](Emmanuel Levinas، صاحب «إيتيقا الغيريّة» ساهم في التّعريف بفينومينولوجيا هوسّرل في فرنسا. درّس الفلسفة بجامعة بواتياي سنة 1964 ثمّ انتقل بعد ذلك إلى جامعة نانتار "1967 " وأخيرا إلى السّوربون عام 1973. إيمانويل ليفيناس كان له اهتمام خاص بفلسفة هوسرل الظاهراتية، وقد استخدمها كأساس لتطوير أفكاره الخاصة حول الأخلاق والوجود، وهو واحد من أبرز الفلاسفة الذين انتقدوا فلسفة هوسرل، لكنه ليس الوحيد. هناك عدد من الفلاسفة الذين قدموا نقدًا مهمًا لأفكار هوسرل في الزمن المعاصر، ويعتبر هايدغر، الذي كان في البداية تلميذًا لهوسرل، من أهم النقاد. لقد أظهر كيف أن التركيز على الوعي في فلسفة هوسرل يتجاهل الكينونة والوجود في العالم. ثم جون بول سارتر، الذي تأثر بفلسفة هوسرل، ثم انتقد بعض جوانب الظاهراتية وركز على حرية الإرادة ووجود الفرد. وكذلك جورج باتاي(George bataille) يعتبر باتاي أيضًا من النقاد الذين استلهموا من أفكار هوسرل ولكنهم أخذوا فلسفتهم في اتجاهات مختلفة، مع التركيز على قضايا مثل الرغبة والجسد. وهناك أعمال لأكاديميين فرنسيين تناولت التأثير الهوسرلي في مجالات متعددة مثل علم النفس وعلم الاجتماع. بينما يعد ليفيناس واحدًا من الأهم في نقده وفي طليعة الفرنسيين المهتمين بفلسفة هوسرل، كما هناك تيارات فلسفية مختلفة تتناول وتعيد التفكير في أفكار هوسرل، مما أثرى الحوار الفلسفي حول الظاهراتية.

ومن أهم وأبرز النقاط التي تناولها ليفيناس حول فلسفة هوسرل:

- أن الظاهراتية توفر إطارًا لفهم تجربة الوعي. حيث كان هوسرل مهتمًا بكيفية ظهور الأشياء في الوعي، وهو ما أثر على ليفيناس في تحديد كيفية ظهور الآخر.

- انتقاده لتركيز هوسرل على الذات واعتبر أن فهم الآخر هو مركز الوجود. بالنسبة له، العلاقة مع الآخر ليست مجرد تجربة بل هي أساس الأخلاق.

- رؤيته أن الأخلاق تبدأ من مواجهة الآخر، وهذا يتعارض مع التركيز الهوسرلي على المعرفة الذاتية. في أعماله، مثل " الكلية واللامتناهي"، يتحدث عن كيفية أن الآخر يحمل مسؤولية أخلاقية.

أضاف لوفيناس بُعدًا زمنيًا لفهمه للوجود، حيث اعتبر أن الزمن يتشكل من خلال العلاقات مع الآخرين، عوضًا عن كونه مجرد تسلسل منطقي كما في تفكير هوسرل.

كما أن لوفيناس تناول تقريبا كل نتاجه الفلسفي الظاهراتية وأفكار هوسرل خصوصا في مؤلفاته:

إيمانويل ليفيناس قدم نقدًا لفلسفة هوسرل في عدة أعمال رئيسية. على الوجه التحديد:

الكلية واللامتناهي.

"Totality and Infinity"

بخلاف الوجود أو ما وراء الجوهر .

Otherwise than Being or beyond the essence

الأخلاق واللامتناهي.

"Ethics and Infinity»

الزمن والآخر.

"The Time of the Other"

من خلال هذه الأعمال، يمكن فهم كيف قام ليفيناس بإعادة التفكير في القضايا الفلسفية المطروحة من قبل هوسرل، وأهمية العلاقة مع الآخر في تشكيل الفهم الأخلاقي والوجودي.

كما لا نغفل على أن إيمانويل ليفيناس تأثر بفلسفة هايدغر الوجودية، وقد اعتمد على نقد هايدغر لفلسفة هوسرل في تطوير أفكاره الخاصة. من بين الأفكار التي توضح العلاقة بين الثلاثة:

انتقاد الوعي: هايدغر انتقد التركيز الهوسرلي على الوعي كمرجع وحيد للفهم، واعتبر أن الوجود يكتسب معناه من الكينونة في العالم. ليفيناس أخذ هذا النقد كمحفز لتوسيع رؤيته، مؤكدًا على أهمية الآخر والعلاقات الأخلاقية.

الوجود والآخر: بينما ركز هايدغر على الكينونة كموضوع أساسي، قام ليفيناس بتوجيه انتباهه نحو الآخر، معتبرًا أن مواجهة الآخر هي التي تشكل جوهر الأخلاق والوجود، وهو ما يتجاوز التركيز على الذات.

الزمان والوجود: ليفيناس انتقد المفهوم التقليدي للزمان كما صوره هوسرل، وبدلاً من ذلك، قدم رؤية للزمان تتشكل من خلال العلاقات مع الآخرين، مستفيدًا من النقد الوجودي الذي طرحه هايدغر.

بذلك، يمكن القول إن ليفيناس كان يستند إلى نقد هايدغر لفلسفة هوسرل في تشكيل أفكاره، مما أضاف بعدًا جديدًا للأخلاق والوجود.

التقاطع الفلسفي بين ليفيناس وهوسرل:

إيمانويل ليفيناس وإدموند هوسرل لديهما بعض النقاط المشتركة، رغم اختلافهما في العديد من الجوانب. هناك بعض الأفكار التي يتفقان فيها:

التركيز على الخبرة: كلاهما يؤكدان أهمية الخبرة كوسيلة لفهم العالم. هوسرل يركز على كيف تظهر الأشياء في الوعي، بينما ليفيناس يعترف بأهمية التجربة الذاتية في فهم العلاقات مع الآخرين.

الظاهراتية: ليفيناس يستند إلى أسس الظاهراتية الهوسرلية، حيث يعتبرها إطارًا لفهم الوجود. هو يستفيد من الطريقة التي يحقق بها هوسرل فهم الوعي وتجلياته.

التحليل التفصيلي: يتبنى كلاهما منهجية تحليلية تستند إلى دراسة الظواهر كما تظهر في الوعي، مما يتيح لهما تقصي تجارب الإنسان بشكل دقيق.

نقد العقلانية التقليدية: كلاهما ينتقدان العقلانية التقليدية التي تتجاهل التجربة الفردية والعلاقات الإنسانية، مما يفتح المجال لفهم أعمق للأخلاق والوجود.

الاهتمام بالزمان: رغم أن ليفيناس يطور فكرة الزمن بطريقة مختلفة، إلا أنه يتفق مع هوسرل في أن الزمن يلعب دورًا محوريًا في فهم الوجود والتجربة.

بذلك، يمكن القول إن ليفيناس، رغم انتقاداته، يستند إلى الكثير من المفاهيم الأساسية التي وضعها هوسرل، مما يعكس تأثير الظاهراتية في فكره.

أهم محطات نقد ليفيناس لهوسرل:

إيمانويل ليفيناس في أهم جميع أعماله ناقش إشكاليات التاريخ وعلم النفس والمستقبل في سياق فلسفة هوسرل، مع إبداء آرائه النقدية الخاصة. مع خصوصية كيفية تناوله لهذه المواضيع:

التاريخ: ليفيناس انتقد الفهم الهوسرلي للتاريخ كعملية عقلانية أو تجريبية، حيث اعتبر أن التاريخ يجب أن يُفهم من منظور العلاقات مع الآخرين. بالنسبة له، التاريخ ليس مجرد سلسلة من الأحداث، بل هو يتشكل من خلال الالتزامات الأخلاقية والتفاعلات الإنسانية[2].

علم النفس: ليفيناس أبدى اهتمامًا بكيفية تأثير الوعي على فهم النفس، لكنه انتقد التركيز الهوسرلي على الوعي الفردي كمرجع وحيد. اعتبر أن علم النفس يجب أن يأخذ في اعتباره العلاقات مع الآخر، وليس فقط تجربة الذات.

المستقبل: في نقده لمفهوم الزمن لدى هوسرل، أشار ليفيناس إلى أن المستقبل يتجاوز مجرد كونه تسلسلًا زمنيًا. بل إنه يتضمن الأمل والتوقعات التي تنبثق من علاقاتنا مع الآخرين، مما يضيف بُعدًا أخلاقيًا لهذا المفهوم[3].

بشكل عام، ليفيناس يستخدم الإشكاليات التاريخية والنفسية والمستقبلية ليقدم رؤية أكثر تعقيدًا وإنسانية تتجاوز الفهم الهوسرلي التقليدي.

نقد مفهوم الأفق عند هوسرل:

نعم، انتقد إيمانويل ليفيناس مفهوم الأفق الذي وضعه هوسرل، حيث حدد هذا الأخير أربعة أنواع من الآفاق: الأفق الداخلي، الأفق الخارجي، الأفق الزماني، والأفق البينذاتي. إليك كيفية تناول ليفيناس لهذه النقطة:

الأفق الداخلي: يتعلق بالخبرة الذاتية للفرد. ليفيناس اعتبر أن هذا التركيز على الذات يغفل أهمية الآخر، حيث أن وجود الآخر هو الذي يفتح الأفق ويشكل تجربتنا.

الأفق الخارجي: يتحدث عن العلاقات مع العالم الخارجي. ليفيناس انتقد هذا المفهوم لأنه يظل محصورًا في تجربة الذات، متجاهلًا كيف أن الآخر يساهم في تشكيل فهمنا للعالم.

الأفق الزماني: في هذا الأفق، يدرس هوسرل كيف يتشكل الزمن في الوعي. ليفيناس رأى أن هذا الفهم للزمان ينبغي أن يتضمن العلاقة مع الآخر، حيث أن المستقبل والأمل يتشكلان من خلال التفاعل مع الآخرين، وليس فقط من خلال الوعي الفردي.

الأفق البينذاتي: يتعلق بالتفاعل بين الأفراد. ليفيناس انتقد فكرة أن هذا الأفق يمكن أن يُفهم فقط من خلال وجهة نظر عقلانية، حيث يرى أن العلاقات الإنسانية تحمل بُعدًا أخلاقيًا يتجاوز الفهم البينذاتي.

عموما ليفيناس اعتبر أن هوسرل لم يعطِ الأهمية الكافية للآخر، مما يحرم الفلسفة من البُعد الأخلاقي الضروري لفهم التجربة الإنسانية. ومن خلال انتقاده، يسعى ليفيناس إلى إعادة تشكيل المفاهيم بحيث تكون العلاقات مع الآخرين مركزية، وليس فقط تجربة الفرد. بهذا الشكل، يُظهر ليفيناس كيف أن فهم الأفق يجب أن يتجاوز الفهم الفردي ليشمل البُعد الأخلاقي والوجودي للعلاقات الإنسانية.[4]

نقد وعي الإدراك عند هوسرل:

تناول ليفيناس وعي الإدراك عند هوسرل من منظور نقدي، مع التركيز على أهمية العلاقات الإنسانية والأخلاق. حيث ركز على المحاور الأربعة التي حددها هوسرل:

القصدية: هوسرل يرى أن الوعي دائمًا موجه نحو شيء ما، أي أن كل فعل إدراكي يكون له هدف أو غرض. ليفيناس انتقد هذا الفهم، معتبرًا أن القصدية تركز كثيرًا على الذات ووعيها، مما يتجاهل كيفية أن الآخر يلعب دورًا أساسيًا في تشكيل إدراكنا. بالنسبة له، فإن القصدية ليست فقط في الفهم الفردي بل تتضمن التفاعل مع الآخرين.

العيان المقولي: يشير هوسرل إلى الطريقة التي يظهر بها المعنى من خلال اللغة والتعبير. ليفيناس أضاف بعدًا أخلاقيًا إلى هذا المفهوم، حيث رأى أن العيان المقولي يتطلب وجود الآخر كمصدر للمعنى. الكلمات لا تعبر فقط عن الأفكار، بل تتطلب استجابة الآخر لتشكيل المعنى بشكل كامل.

القبلية: تتعلق القبلية بكيفية وجود الخبرات السابقة في تشكيل الإدراك الحالي. ليفيناس أشار إلى أن هذه الفكرة تعزز من الفردية، ويفترض أن هذه الخبرات لا تكفي لفهم العلاقة مع الآخر. بدلاً من ذلك، يجب أن تتضمن الخبرة أيضًا التفاعل المستمر مع الآخرين.

وعليه يكون ليفيناس قد ساهم  في إعادة تشكيل الفهم الإدراكي، مضيفًا بعدًا إنسانيًا وأخلاقيًا يتجاوز المفاهيم التقليدية التي وضعها هوسرل، عبر بعدين:

نقد التركيز على الذات: انتقد ليفيناس تركيز هوسرل على الوعي الفردي، مؤكداً أن الإدراك لا يمكن أن يُفهم بشكل كامل دون إدراك وجود الآخر وتأثيره.

الأبعاد الأخلاقية: ليفيناس قدم فكرة أن الإدراك يحمل بعدًا أخلاقيًا، حيث أن فهمنا للعالم وللآخرين يرتبط بالالتزامات والمسؤوليات تجاههم.

أزمة العلوم عند هوسرل كأزمة حياة في نقد ليفيناس للظاهراتية

إيمانويل ليفيناس ناقش "أزمة العلوم" كما طرحها هوسرل في سياق نقده للظاهراتية، حيث اعتبر أن هذا المفهوم يتجاوز حدود الفهم التقليدي للعلم ليشير إلى أزمة أعمق في حياة الإنسان ومعانيه.

أزمة العلوم عند هوسرل:

هوسرل اعتبر أن العلوم الحديثة، بما فيها العلوم الطبيعية والاجتماعية، تفصل بين المعرفة الحقيقية ومعنى الحياة. وبهذا، فإنها تعاني من أزمة لأنهما لا يلتقيان في فهم شامل للتجربة الإنسانية.

نقد ليفيناس:

فصل الذات عن الآخر: انتقد ليفيناس تركيز هوسرل على الذات كمرجع وحيد للمعرفة. بالنسبة له، فإن هذا يساهم في تفكيك العلاقات الإنسانية، ويؤدي إلى غياب البُعد الأخلاقي الذي يمثل جوهر الحياة.

الأبعاد الأخلاقية والوجودية: ليفيناس رأى أن أزمة العلوم ليست فقط مسألة معرفية، بل تتعلق بالمعاني الأخلاقية والوجودية. إذ يجب أن تشمل المعرفة العلاقات مع الآخرين والالتزامات تجاههم.

الوجود كعلاقة: بدلاً من اعتبار العلم كعملية معرفية منفصلة، دعا ليفيناس إلى فهم الوجود كعلاقة حية ومتفاعلة. وهذا يعكس كيف أن العلوم، لتكون ذات معنى، يجب أن تستند إلى التجارب الإنسانية والأخلاقية.

التجاوز نحو الظاهراتية:

إعادة التفكير في الظاهراتية: ليفيناس استخدم نقده لأزمة العلوم لإعادة التفكير في الظاهراتية. بدلاً من التركيز على الوعي الفردي فقط، دعا إلى أهمية الآخر وعلاقته بالذات في تشكيل المعرفة. بإختصار، يعتبر نقد ليفيناس لأزمة العلوم عند هوسرل بمثابة دعوة لإعادة التركيز على الأبعاد الأخلاقية والوجودية في الفلسفة، مؤكدًا أن المعرفة الحقيقية يجب أن تشمل العلاقات الإنسانية والتجارب المشتركة.

وهنا يمكن التساؤل أن: إعادة التفكير في الظاهراتية نفسه تناوله هوسرل تحت عنوان الظاهراتية التقومية، أين الجديد في فلسفة ليفيناس؟

كل من هوسرل وليفيناس تناولوا مفهوم الظاهراتية من زوايا مختلفة، وكل منهما قدم رؤى جديدة تتعلق بها. هوسرل في إطار الظاهراتية التقومية ( أو "الظاهراتية التاريخية") يعبر عن كيفية فهم التجربة الإنسانية من خلال السياقات الاجتماعية والثقافية والتاريخية. ويؤكد على أن كل تجربة لها أفق معين يتشكل من خلال تاريخ الفرد وعلاقاته بالآخرين.[5]

في حين ليفيناس تناول الظاهراتية من منظور أخلاقي ووجودي، حيث قدم مفهوم "الظاهراتية المتعالية". عبر محددات الأساسية حول هذا المفهوم:

التجاوز إلى الآخر: بالنسبة لليفيناس، فإن الوعي لا يقتصر على الذات فقط، بل يتجاوز ذلك ليشمل الآخر. وهو يرى أن فهم الوجود لا يمكن أن يكتمل بدون اعتبار العلاقات مع الآخرين.

الأخلاق كأولوية: يعتبر ليفيناس أن الظاهراتية المتعالية تنطوي على بعد أخلاقي يتجاوز المعرفة الذاتية، حيث إن التفاعل مع الآخر يستدعي مسؤوليات أخلاقية.

الإفصاح عن المعنى: في الظاهراتية المتعالية، يُفهم المعنى من خلال العلاقة مع الآخر، وليس فقط من خلال الوعي الفردي. لذا، يشكل الآخر الأفق الذي يفتح معنى الحياة والتجربة.[6]

بينما ركز هوسرل على كيفية تشكيل التجربة الإنسانية من خلال الأفق الثقافي والاجتماعي، استخدم ليفيناس الظاهراتية كأداة لإبراز البعد الأخلاقي وضرورة وجود الآخر في فهم الوجود. هذا التحول يعكس كيف يمكن أن تكون الفلسفة أداة لفهم العلاقات الإنسانية في سياق أعمق من المعرفة التقليدية.

كيف ينظر  ليفيناس إلى الظاهراتية التقومية والظااهراتية المتعالية ؟

إيمانويل ليفيناس يرى أن الظاهراتية المتعالية هي الأقدر على التصدي للتحديات المعاصرة، بينما يعتبر الظاهراتية التقومية أقل قدرة على معالجة قضايا مثل الأخلاق والعلاقات الإنسانية.

فالظاهراتية المتعالية الأفضل لسببين:

الأخلاق والآخر: ليفيناس يؤكد أن الظاهراتية المتعالية تركز على العلاقات مع الآخرين، وتعتبر الأخلاق هي مركز الفهم. هذه الرؤية تتيح استكشاف القضايا المعاصرة المتعلقة بالعدالة، الهوية، والوجود، مما يجعلها أكثر صمودًا في مواجهة التحديات الحديثة.

التجاوز للذات: من خلال التركيز على الآخر، تقدم الظاهراتية المتعالية بُعدًا وجوديًا وأخلاقيًا يتجاوز التجربة الفردية، مما يجعلها قادرة على معالجة أزمات مثل الاغتراب وفقدان المعنى[7].

لكن الظاهراتية التقومية لا تصمد أمام التحديات المعاصرة لكونها تستند على:

التركيز على السياق التاريخي: بينما تعالج الظاهراتية التقومية قضايا مرتبطة بالتاريخ والثقافة، إلا أن ليفيناس يعتبر أن هذه المقاربة قد تظل محصورة في الأبعاد الاجتماعية والسياسية، مما يجعلها غير كافية لمواجهة الإشكاليات الأخلاقية.

نقص البعد الأخلاقي: برأيه، الظاهراتية التقومية لا تعطي الأهمية الكافية للبعد الأخلاقي والإنساني، وهذا يجعلها غير قادرة على استيعاب تعقيدات العلاقات المعاصرة.

باختصار، ليفيناس يرى أن الظاهراتية المتعالية، بما تقدمه من أبعاد أخلاقية وإنسانية، هي الأكثر قدرة على مواجهة تحديات العصر الحالي، بينما الظاهراتية التقومية قد تكون محدودة في تناول القضايا العميقة المرتبطة بالوجود والعلاقات الإنسانية.

التذاوت عند ليفيناس:

إيمانويل ليفيناس تناول مفهوم التذاوت (الآخرية أو الآخر) في عدة كتب، حيث يعتبر هذا المفهوم محورًا أساسيًا في فلسفته. نذكر أهمها:

"Totality and Infinity"

التذاوت كشرط للوجود: في هذا الكتاب، يبرز ليفيناس كيف أن وجود الآخر هو ما يتيح للذات أن تتجاوز نفسها. لا يمكن فهم الذات بشكل كامل إلا من خلال العلاقة مع الآخر. ويناقش كيف أن التذاوت هو ما يفتح الأفق للمعنى والتجربة.[8]

"Otherwise than Being"

التذاوت كفكرة أخلاقية: هنا، يقدم ليفيناس مفهوم التذاوت بوصفه شرطًا أخلاقيًا، حيث إن الآخر ليس مجرد موضوع للإدراك بل هو من يفرض على الذات مسؤوليات أخلاقية. ويبين كيفية تشكيل التذاوت في فهم ليفيناس للعلاقات الإنسانية والأخلاق[9].

"Ethics and Infinity"

التركيز على الأخلاق والعلاقة مع الآخر: في محاضراته، يركز ليفيناس على أهمية الآخر وكيف يشكل وجوده أساسًا للأخلاق. ويعتبر أن التذاوت هو الذي يخلق التحدي الأخلاقي أمام الذات، ويناقش كيف يشكل الآخر الأفق الأخلاقي للتجربة الإنسانية[10].

"The Time of the Other"

فهم الزمن من خلال الآخر: يتناول ليفيناس كيف أن تجربة الزمن تتشكل من خلال العلاقات مع الآخرين، مما يجعل التذاوت ضروريًا لفهم الوجود. وكيفية تأثير الآخر على فهمنا للزمن.[11]

في فلسفة ليفيناس، يعتبر التذاوت محورًا مركزيًا لفهم العلاقات الإنسانية والأخلاق. من خلال التركيز على الآخر، يفتح ليفيناس أفقًا جديدًا لفهم الوجود، مما يتجاوز التجربة الفردية الضيقة.

التذاوت عند هوسرل في فكر ليفيناس

إيمانويل ليفيناس ناقش مفهوم التذاوت في سياق أفكار إدموند هوسرل، حيث اعتبر أن هوسرل لم يعطِ الأهمية الكافية للآخر في فلسفته.

"Totality and Infinity" نقد هوسرل: في هذا الكتاب، يشير ليفيناس إلى أن هوسرل، رغم تركيزه على القصدية والتجربة، قد أهمل العلاقة مع الآخر كعنصر أساسي لفهم الذات. يعتبر التذاوت عند ليفيناس تجسيدًا لتجربة أخلاقية ضرورية لفهم الهوية. حيث ناقش الفجوة بين الوعي الذاتي والعلاقة مع الآخر[12].

"Otherwise than Being"

التجاوز للذات: يتناول ليفيناس مفهوم التذاوت كوسيلة لتجاوز الذات، مؤكدًا أن الوجود يتشكل من خلال التفاعل مع الآخرين. ينتقد ليفيناس عدم قدرة هوسرل على رؤية هذا البعد بشكل كامل وأيضا كيف يشكل التذاوت الهوية والمعنى[13].

"Ethics and Infinity"

التذاوت بوصفه شرطًا أخلاقيًا:  يوضح ليفيناس كيف أن الوجود مع الآخر يفرض مسؤوليات أخلاقية. ويعتبر أن هوسرل قد غفل عن هذا البعد في تركيزه على الوعي.[14]

"The Time of the Other"

الزمن والتذاوت: يناقش ليفيناس كيف يتشكل مفهوم الزمن من خلال العلاقات مع الآخرين، مما يعكس أهمية التذاوت في فهم الوجود. كما يطرح رؤى حول العلاقة بين الزمن والتذاوت.[15]

بشكل عام، يعتبر ليفيناس أن مفهوم التذاوت لدى هوسرل يحتاج إلى إعادة تقييم، حيث أن العلاقة مع الآخر تشكل أساسًا لفهم الهوية والأخلاق، مما يتجاوز الفهم الفردي.

ظاهرية التمثيل والتذاوت

إيمانويل ليفيناس تناول ظاهراتية هوسرل من زاوية نقدية، معتبرًا أنها تتعلق بشكل كبير بموضوع التمثيل، وهذا ينعكس على مفهوم التذاوت.

ظاهراتية التمثيل:

هوسرل يركز على كيف يمثل الوعي الأشياء ويعبر عنها. وهو يستخدم الظاهراتية كوسيلة لفهم كيف تظهر الأشياء في الوعي. ويعتبر ليفيناس أن هذا التركيز على التمثيل يغفل الجانب الأخلاقي والوجودي، حيث يتجاهل تأثير العلاقات الإنسانية. لذلك نجد لا فيناس في فلسفته يدعو  إلى[16]:

التجاوز للتمثيل: ليفيناس يؤكد أن الوجود مع الآخر يتجاوز مجرد التمثيل الذاتي. فالتذاوت لا يُفهم فقط كموضوع يُمثل في الوعي، بل هو علاقة تتطلب مسؤولية والتزام تجاه الآخر.

الجانب الأخلاقي: يؤكد ليفيناس أن التذاوت هو أساس الأخلاق، حيث أن كل تجربة تُشكل من خلال العلاقة مع الآخر.

بالتالي، يرى ليفيناس أن ظاهراتية هوسرل، بالرغم من أهميتها، تظل محصورة في نطاق التمثيل، مما يغفل جوانب التذاوت والأخلاق التي تعتبر مركزية لفهم التجربة الإنسانية.

مقارنة بين العلاقة الأنطولوجية بين الذات والآخر عند كل من هوسرل وليفيناس:

العلاقة الأنطولوجية بين الذات والآخر كما تناولها كل من هوسرل وليفيناس كالآتي:

إدموند هوسرل:

الأنطولوجيا القصدية: يرى هوسرل أن الوعي دائمًا موجه نحو موضوعات، وبالتالي، فإن العلاقة بين الذات والآخر تتشكل من خلال هذه القصدية. الآخر يُفهم كموضوع يُمكن تمثيله في الوعي.

التمثيل والتجربة: الآخر يتواجد كموضوع تجريبي، مما يعني أن الوعي يمكن أن يدرك الآخر، ولكن دون الاعتراف بوجوده ككيان مستقل بالكامل. هذه العلاقة تُعبر عن وجود "الآخر" في إطار القصدية فقط.

الأفق المشترك:  رغم أن هوسرل يعترف بوجود الآخر، إلا أن فهمه يظل محصورًا ضمن إطار القصدية وتجربة الذات، مما يعكس علاقة تتسم بالتحليل الموضوعي.

إيمانويل ليفيناس:

الأخلاقية الأنطولوجية:

يذهب ليفيناس إلى أبعد من ذلك، حيث يعتبر أن الآخر ليس مجرد موضوع للتمثيل، بل هو شرط أساسي لفهم الذات. العلاقة مع الآخر هي ما يخلق هوية الذات.

التذاوت كعلاقة:

الآخر يُعتبر مصدرًا للأخلاق، وليس فقط موضوعًا للمعرفة. يرى ليفيناس أن التذاوت هو مسؤولية تجاه الآخر، حيث تُشكل العلاقة مع الآخر أساس الوجود الأخلاقي.

الحدود الفلسفية:

ينقد ليفيناس الفهم الهوسرلي للذات لأنه يتجاهل الأبعاد الأخلاقية. العلاقة مع الآخر تكون دائمًا ذات طبيعة إنسانية ووجودية، تتجاوز الوعي الفردي.

و عليه نجد أنه عند هوسرل الآخر كموضوع يُمثل في الوعي، حيث يعتمد على القصدية، بينما عند ليفيناس الآخر كشرط وجودي، يتحكم في الهوية ويُشكل العلاقة الأخلاقية. وفلسفيا، الأنطولوجيا  عند هوسرل تميل إلى التحليل الموضوعي، التركيز على المعرفة والتجربة.و  ليفيناس تأخذ طابعًا أخلاقيًا، حيث العلاقة مع الآخر هي مركز الفهم.

وعليه بينما يعالج هوسرل العلاقة بين الذات والآخر من منظور علمي وتجريبي، يذهب ليفيناس إلى أبعد من ذلك ليعالجها من منظور أخلاقي وجودي، مما يعكس فارقًا جوهريًا في الفهم الفلسفي لكل منهما.

ملاحظة مهمة:

في جميع كتبه يركز ليفيناس في نقده لظاهراتية التذاوت الأنطولوجية عند هوسرل وأنها تفتقر للتواصل التذاوتي كما عبر عنها هايدغر، بينما هوسرل يتعامل مع أشكال متنوعة من العلاقات وليس العلاقة بين الأنا والآخر فقط في مستوى التمثيل، هنا نلاحظ تحيزا غير موضوعي لهايدغر من قبل ليفيناس على حساب ظاهراتية هوسرل، لقد قدم إيمانويل ليفيناس نقدًا دقيقًا لظاهراتية التذاوت الأنطولوجية عند هوسرل، مشيرًا إلى افتقارها للتواصل التذاوتي، خاصة بالمقارنة مع فلسفة هايدغر. حيث نجده يعتبر أن هوسرل يركز على الذات كمرجع وحيد للمعرفة، مما يجعل العلاقة مع الآخر تقتصر على التمثيل والتجربة الفردية. هذا يعني أن الفهم الأنطولوجي لدى هوسرل لا يعكس التفاعل الإنساني الحقيقة.

وفقًا لليفيناس، فإن هذا التركيز يُغفل الأبعاد الأخلاقية التي تتطلب وجود الآخر كشرط أساسي لفهم الهوية. الملاحظ أن  ليفيناس يظهر ميلًا إلى فكر هايدغر الذي يركز على العلاقة بين الأنا والآخر، مشيرًا إلى ضرورة التواصل التذاوتي. حيث يعتبر ليفيناس أن هايدغر قد أدرك أهمية الآخر في تشكيل تجربة الوجود، بينما فشل هوسرل في ذلك. كما ينظر ليفيناس إلى هايدغر كمنحى أكثر عمقًا في فهم العلاقات الإنسانية، حيث تكون العلاقة مع الآخر هي التي تمنح المعنى للوجود.

يمكن القول إن ليفيناس يعبر عن تحيز تجاه فلسفة هايدغر بسبب تركيزه على التواصل والتذاوت، مما يجعله يعتبر أن هوسرل لا يقدم فهمًا كافيًا للعلاقات الإنسانية. هذا النقد يبرز الفرق في كيفية تناول كل من الفلاسفة لمفهوم الوجود والعلاقة مع الآخر.

الفلسفة علما دقيقا

ليفيناس كان لديه رأي نقدي بخصوص دعوة هوسرل لجعل الفلسفة علمًا دقيقًا توزع عبر ثلاث نقاط:

نقد الشمولية العلمية:

ليفيناس يرى أن هوسرل يسعى إلى تأسيس فلسفة تعتمد على الدقة العلمية والموضوعية، وهذا يتجاهل البعد الإنساني والأخلاقي الذي يعتبره جوهريًا. بالنسبة له، فإن الفلسفة يجب أن تتجاوز الطرق العلمية التقليدية لتشمل التجربة الإنسانية والتواصل مع الآخر.

الإفراط في التجريد:

يعتبر ليفيناس أن دعوة هوسرل لتكون الفلسفة علمًا دقيقًا تؤدي إلى الإفراط في التجريد، مما يفقد الفلسفة قدرتها على فهم التفاعلات الإنسانية والعواطف والتجارب الخاصة.

الأبعاد الأخلاقية والوجودية:

في نظر ليفيناس، الفلسفة يجب أن تركز على العلاقات الإنسانية والأبعاد الأخلاقية، وهو ما يفتقر إليه نهج هوسرل الذي يركز بشكل أكبر على القصدية والتمثيل.

بشكل عام، يرى ليفيناس أن دعوة هوسرل لجعل الفلسفة علمًا دقيقًا تفتقر إلى الأبعاد الأخلاقية والوجودية، مما يجعل الفلسفة قاصرة عن فهم التجربة الإنسانية بشكل كامل[17].

الظاهراتية عند هوسرل:علم الذات أو الفلسفة الذاتية:

أولا: ماذا عن الظاهراتية في فلسفة ليفيناس:

هناك قبول مبدئي أو ما يعبر عنه الاعتراف بالنطاق، فليفيناس يعترف بأن هناك عناصر من الظاهراتية في عمله، خاصة تلك المتعلقة بفهم التجربة والوجود. ومع ذلك، يعتبر أن فلسفته تتجاوز الظاهراتية التقليدية التي طورها هوسرل، كما يؤكد على الاختلاف الجوهري بنقده للقصدية، ليفيناس ينتقد التركيز الهوسرلي على القصدية والتمثيل، حيث يرى أن هذه الرؤية لا تأخذ في الاعتبار البعد الأخلاقي الذي يتضمن الآخر. بالنسبة له، العلاقة مع الآخر ليست مجرد تجربة موضوعية بل هي أساس الوجود. وعن  الظاهراتية المتعالية، ليفيناس يقدم مفهوم "الظاهراتية المتعالية"، حيث يركز على الآخر كشرط للوجود والعلاقات الإنسانية. هذا المفهوم يختلف عن الظاهراتية التقليدية في أنه يؤكد على الأبعاد الأخلاقية وضرورة التواصل مع الآخر أي هناك تطوير للفكرة. يعني إن ليفيناس يقبل ببعض عناصر الظاهراتية، إلا أنه يرفض الانحصار في التعريف التقليدي لها. يعتبر أن فلسفته تتطلب انفتاحًا على الأبعاد الأخلاقية والوجودية، مما يجعله يبتعد عن التصورات التقليدية للظاهراتية.

ثانيا: ليفيناس وملاحظات نقدية حول استخدام مصطلحات مثل "علم الذات" أو "الفلسفة الذاتية":

نقد الفلسفة الذاتية:

التركيز على الذات: يرى ليفيناس أن هوسرل يركز بشكل مفرط على الذات كمرجع للمعرفة والتجربة، مما يجعله يعتبر فلسفة هوسرل نوعًا من "علم الذات". هذه الرؤية تؤدي إلى إغفال البعد الأخلاقي والعلاقات مع الآخرين.

الافتقار للبعد الأخلاقي:

رفض الاختزالية: يعتبر ليفيناس أن الظاهراتية الهوسرلية لا تأخذ في اعتبارها الآخر ككائن مستقل، مما يعني أنها لا تستطيع أن تعكس التجربة الإنسانية بشكل كامل. ولذلك، فهو لا يقبل تسمية الظاهراتية عند هوسرل كفلسفة شاملة.

ليفيناس وتأملات ديكارتية لهوسرل:

رغم كل المفارقات إلا أنه هناك نقاط التقاء بين إيمانويل ليفيناس وإدموند هوسرل من خلال تأملات ديكارتية  والتي يمكن أن تبرز هذا الالتقاء:

التركيز على الذات والتأملات الديكارتية:

الذاتية: هوسرل، في تأملاته، يستمد الكثير من أفكاره من ديكارت، حيث يركز على الذات كمرجع للمعرفة. هذا التركيز يفتح المجال لتأملات في الوعي والتجربة.[18]

ليفيناس: رغم انتقاده لفلسفة هوسرل، إلا أنه يقر بأهمية التفكيك الديكارتي للذات كموضوع للمعرفة. ولكن ليفيناس يعتبر أن هذه الذاتية تفتقر إلى الأبعاد الأخلاقية والوجودية التي تعكس العلاقات مع الآخر

الوعي كشرط للمعرفة:

هوسرل: يرى أن الوعي هو القاعدة الأساسية التي تُبنى عليها كل المعرفة، ويُعتبر هذا جزءًا من التأملات الديكارتية حول الوجود والمعرفة.

ليفيناس: يوافق على أن الوعي يلعب دورًا في المعرفة، ولكنه ينتقد تركيز هوسرل على الوعي الفردي ويؤكد أن وجود الآخر هو ما يحدد هذا الوعي بشكل حقيقي.[19]

بينما يلتقي ليفيناس وهوسرل في بعض جوانب التأملات الديكارتية، يظل ليفيناس ناقدًا لمدى تركيز هوسرل على الذاتية دون الاعتراف بالأبعاد الأخلاقية والوجودية للعلاقات مع الآخر.

خاتمة:

كان يمكن للمرء أن يحسب على أصابع يد واحدة أولئك الذين- في نهاية عشرينيات القرن الماضي، في فرنسا- قد سمعوا بالفعل عن مؤسس الظاهراتية، إدموند هوسرل. من بينهم، يجب أن نذكر: ألكسندر كويري (Alexandre Koyré)، آبي بودان (abbé Baudin)، غابرييل بيفر ( Gabrielle Peiffer)، جان هيرينج (Jean Héring) ،، وإيمانويل ليفيناس (Emmanuel Lévinas) .

في عام 1911، كتب فيكتور ديلبوس (Victor Delbos) مراجعة ل Prolegomena to Pure Logic في مجلة الميتافزيقا والأخلاق، ولكن دون استيعاب كامل لحداثة ما كان يظهر في سماء الفلسفة. سارتر (jean paul sartre)، من جانبه، لم يسمع عن هوسرل لأول مرة حتى عام 1933، في حانة باريسية تسمى Le bec à gaz، من ريمون آرون  (Raymond Aron)، الذي كان آنذاك مقيما في المعهد الفرنسي في برلين حيث كان يعد أطروحته. وبدأ ميرلو بونتي (Merleau-Ponty) أيضا في قراءة هوسرل، على ما يبدو، فقط خلال ثلاثينيات القرن العشرين، ولا سيما في ترجمة تأملات هوسرل الديكارتية من قبل ليفيناس وبيفر.

أخيرا، أشاد بول ريكور(Paul Ricœur) بليفيناس، في مقال جيد نشر في عام 1980، باعتباره "مؤسس دراسات هوسرل في فرنسا"، معلنا أنه مدين بأول لقاء متعمق له مع هوسرل لقراءة أطروحة الدكتوراه التي دافع عنها ليفيناس في عام 1930 حول نظرية الحدس في فينومينولوجيا هوسرل. وهكذا لعب ليفيناس دورا رائدا في استقبال ظاهراتية هوسرل في فرنسا. منذ بداية ثلاثينيات القرن العشرين، في سن الخامسة والعشرين، كان يعمل بالفعل على تحليل الظاهراتية، وتفضيل مفهوم القصدية، في منظور متحمس يرحب بولادة نهج فلسفي جديد، " لفلسفة حية في منتصفها يجب على المرء أن يرمي نفسه ويتفلسف ". كما عبر ذات يوم ليفيناس في إظهار أنه لم ينقطع أبدا عن مواكبة الظاهراتية، وأنها تشكل أدق خيط مشترك يتم تداوله في عمله الفلسفي المعقد والمشتت.

وعلى عكس الاتجاهات التفسيرية العامة للتيارات الفلسفية وما أكثرها في عالمنا العربي والترويج لها  إلى حد ما في العشريات الأخيرة، إلا أن ظاهراتية هوسرل لا تتوقف حيث تبدأ أخلاقيات ليفيناس، ولكن مواجهتهما تؤدي إلى امتداد أخلاقي غير متوقع للمسار الظاهراتي الكلاسيكي.

ما لم يستطع ليفيناس تقبله من ظاهراتية هوسرل في وقت مبكر جدا هو تحيزها الفكري، أي الخيار الذي تم اتخاذه بحزم لصالح فهم الذات من الناحية الفكرية البحتة لفهم العالم. في لفتة يمكن من خلالها بالتأكيد قراءة تأثير هايدغر، حيث يجادل ليفيناس بأن أول اتصال للإنسان بعناصر العالم ليس نظريا بل عمليا، وحتى عاديا، فإن علاقتنا الأولى بكيان الوجود ليست علاقة المعرفة بل علاقة التلاعب والاستخدام. وبعيدا عن رؤية التطرف الهايدغري للظاهراتية على أنها إلهاء، رأى ليفيناس الشاب فيها منذ البداية، وسيرى فيها طوال حياته، إنجازه المتماسك. بالنظر إلى ذكرياته الأولى عن فرايبورغ، حيث ذهب للقاء هوسرل في نهاية عشرينيات القرن العشرين، قال ليفيناس  بأحد تصريحاته في عام 1992: "الشيء العظيم الذي وجدته هو الطريقة التي تم بها تمديد مسار هوسرل وتحويله من قبل هايدغر. للتحدث بلغة سائح، كان لدي انطباع بأنني ذهبت إلى هوسرل وأنني وجدت هايدجر "[20].

تكمن أهمية دراسة هذه العلاقة بين فلسفتين متعاقبتين، في إظهار كيف أن ما يبدو لنا اليوم، بعد فوات الأوان، كوهم بصري فلسفي، قد تم تبريره بالنسبة لليفيناس في سياق القراءة الأصلية لهوسرل، ولا سيما عقيدة المعنى الضمني، حيث يجد ليفيناس فكرة أن الحضور مع الأشياء يعني وجودا آخر معها، ممن هو غير مدرك للآفاق المترابطة الأخرى لهذه التأملات الضمنية التي لا يمكن اختزالها في التشييئ.

إن ما هو غير متوقع، والذي يضعنا أمامه أي تمثيل لكائن ما، يوضح أن الحياة تخفي في داخلها بعدا يفلت من التمثيل، بعدا خارجيا غير موضوعي. فإن الدور الذي ينسبه كل من الفيلسوفين [أي هوسرل وليفيناس] إلى فكرة الأفق يجعل من الممكن إلقاء الضوء على تفردهما الفلسفي فيما يتعلق بعلاقة الموضوع بالعالم. ينبع هذا الاختلاف من اختيار كل فيلسوف للتأكيد على الجوانب المعاكسة: عدم القدرة على التنبؤ بنظرية الأفق في حالة ليفيناس والتتبع المسبق في القصدية في حالة هوسرل.

على نطاق ضيق، هذا رفض لسيادة الوعي الحالي في الظاهراتية، ولكن على نطاق واسع يشهد هذا الاختلاف على اختلاف محتمل سينشأ لاحقا بين منظور ليفيناس الأخلاقي والموقف الظاهراتي. لذلك يجب فهم الاختلاف، ليس بقدر ما هو فاصل بين الفلسفتين، ولكن كامتداد لإحداهما بالأخرى، بقدر ما يعمل هذا المجال الكامن الجديد كاقتران بين المجال ما قبل الانعكاسي (الذي ينشأ بشكل غير متوقع في الحدث الأخلاقي) والمجال الانعكاسي للوعي المتعمد.

بمجرد الحصول على هذه المراجعة لنظرية المعنى الظاهراتية، والتي تميل إلى جعلنا منطقيين قبل وقت طويل من ساعة الحقيقة، تبدأ مغامرة فلسفية جديدة تسعى إلى تجاهل نظرية هوسرل المفرطة. من خلال الاقتراب من ثلاثة مستويات من ما قبل الانعكاسية:

(1) الفعالية مع التمتع الحساس بتواصل مع الآخر وهذا العالم  ككل وبالتالي  تُسبق الذاتية التأسيسية،

(2) الأخلاقية مع الآخر التي تشل الأنا كوجيتو،

وأخيرا (3) التسامي أو الألوهية اللانهائية التي تسبق عصرنا وكياننا.

هنا يسعى ليفيناس بالتالي إلى التدقيق في المعنى الأصلي للحياة وأولوية الآخر الذي لا يمكن اختزاله في الفكر.

كان ليفيناس قادرا على التفكير "من هوسرل ولكن أيضا ما بعده"، وفقا -مرة أخرى - للقول المأثور الهايدغري الشهير الذي بموجبه "فهم الظاهراتية يكمن فقط في فهمها كإحتمال".

ومن المفارقات أن هوسرل كان سيوفر مفتاح المشكلة الأنانية من خلال فضح البنية الواسعة لللانهاية الدلالية والزمنية التي تمر عبر الوعي المتعمد، ولكن دون اغتنام الفرصة لفتح الباب أمام الذات الخارجية الحقيقية. كانت هذه الفرصة التي لم يتركها ليفيناس، من خلال استغلال جميع الإمكانات غير المحققة لظاهراتية هوسرل، والتي لم يتوقف عن جمع تراثها على طول مسيرته الفكرية والفلسفية.

***

ا. مراد غريبي

.............................

المراجع:

Méditations cartésiennes: Introduction à la phénoménologie, 2000, bibliothéque textes philosophiques, Emanuel Levinas.

"Totality and Infinity" Springer Editions (4éme Edition, 2012)

« Otherwise than Being» Springer Editions (Edition 1981)

"Ethics and Infinity" XanEdu Publishing (First Edition,1995)

"The Time of the Other" Duquesne ,1987

"Ideas Pertaining to a Pure Phénomenology and to a Phénomenological Philosophy» 1st ed. 1982

The Crisis of European Sciences and Transcendental Phenomenology, Northwestern University Press ,1970.

-F. Lavigne, «Lévinas avant Lévinas. L’introducteur et le traducteur de Husserl», dans E. Lévinas, Positivité et transcendance, Paris, PUF, 2000

[1] ولد في  12  يناير 1906  وتوفي 25 ديسمبر، 1995، هو  فيلسوف فرنسي من أصل يهودي لتواني.

[2]  "Totality and Infinity"  في الفصل الأول، يتحدث ليفيناس عن الآخر وكيف أن العلاقات تحدد فهمنا للتاريخ. حيث صفحات 19-30 مثيرة للاهتمام. أيضا كتابه "Ethics and Infinity" الصفحات 40-55

[3]  "The Time of the Other"، يتناول في هذا الكتاب كيف يشكل الآخر تجربتنا للزمان، مع توضيح كيف يؤثر ذلك على فهمنا للمستقبل. الصفحات 10-30 تعتبر جدا مفيدة.

[4]  يمكن العودة إلى كتب ليفيناس التالية: "Totality and Infinity": ص  78-90، "Otherwise than Being" ص 47-60، "Ethics and Infinity" ص 34-45، "The Time of the Other" ص 12-25.

[5] "The Crisis of European Sciences and Transcendental Phenomenology"  في هذا الكتاب، يتناول هوسرل أزمة العلوم من منظور الظاهراتية التقومية. يمكنك الاطلاع على الصفحات 54-68 حيث يناقش العلاقة بين العلم والتاريخ.

[6]  "Totality and Infinity" في هذا الكتاب، يطرح ليفيناس رؤيته للظاهراتية المتعالية، حيث يركز على الآخر كشرط أساسي لفهم الوجود. يمكنك مراجعة الصفحات 83-100 للحصول على تفاصيل حول هذه الأفكار. و"Otherwise than Being"  هنا يستكمل ليفيناس تطوير أفكاره حول الظاهراتية المتعالية، خاصة في الفصل الثالث. يمكنك الرجوع إلى الصفحات 47-65. "Ethics and Infinity"  يتناول ليفيناس البعد الأخلاقي في الظاهراتية المتعالية، خاصة في المحاضرات التي تتعلق بالآخر. الصفحات 45-60 تحتوي على نقاشات مفيدة.

[7]:"Totality and Infinity" اقش ليفيناس فكرة الظاهراتية المتعالية ودورها في الأخلاق والعلاقات الإنسانية. يمكنك مراجعة الصفحات 83-100 للحصول على تفاصيل حول رؤيته. وفي كتاب   "Otherwise than Being" يتناول فيه تطور الأفكار حول الظاهراتية المتعالية وأبعادها الأخلاقية. الصفحات 47-65 تحتوي على نقاشات مهمة حول هذا الموضوع. كذلك كتابه "Ethics and Infinity" يتناول فيه ليفيناس أخلاقيات الظاهراتية المتعالية وتطبيقاتها. الصفحات 45-60

[8]  ص 83-100

[9]  ص 47-65

[10]  ص 34-45

[11]  ص 12-25

[12]  ص85-90

[13]  ص 49-50

[14]  ص 44-50

[15]  ص 15-22

[16]  "Totality and Infinity" يتناول ليفيناس نقده لفكرة التمثيل وكيف أنها تساهم في إغفال التذاوت كعنصر أساسي ص 90-100، وفي كتاب  "Otherwise than Being"  يناقش فيه ليفيناس كيف أن التذاوت يتجاوز فكرة التمثيل الذاتي، مركزًا على العلاقات الإنسانية ص56-65، وأيضا بكتابه  "Ethics and Infinity"، يتحدث عن الأخلاق والتذاوت ويشرح كيف تشكل العلاقة مع الآخر أساسًا لفهم الوجود، مما يتجاوز التمثيل ص42-50.  في حين في كتابه"The Time of the Other" يتناول كيف أن فهم الزمن والعلاقة مع الآخر يتجاوز مفهوم التمثيل. ص 15-25 .

[17]  Totality and Infinity يناقش ليفيناس في هذا الكتاب نقده لفلسفة هوسرل ودعواته للعلمية في الفلسفة. ص25-40، حيث يتناول الفرق بين الفلسفة كعلم وتجربة الحياة الإنسانية، وفي كتاب "Otherwise than Being"  يتناول فيه الأبعاد الأخلاقية والفلسفية ودعوة هوسرل للموضوعية العلمية. ص 40-55، وفي كتابه  "Ethics and Infinity"  يتحدث عن أهمية الأخلاق في الفلسفة وكيف تتجاوز الفلسفة العلمية التقليدية. ص 25-35.

[18] "Ideas Pertaining to a Pure Phenomenology and to a Phenomenological Philosophy"  1st ed. 1982 يناقش فيه هوسرل كيفية فهم الذات والوعي، ص 18-30.

[19]  "Totality and Infinity"  ليفيناس يتحدث عن تأثير الفلسفة الديكارتية على فهم الذات والوعي، ص 50-70 .

[20]  كما لاحظ ج.ف. لافيني، “ليفيناس قبل ليفيناس. مقدم ومترجم هوسرل”، في إ. ليفيناس، الإيجابية والتعالي، باريس، PUF، 2000، ص. 53

حين لا يوجد ركاب في التاكسي الذاتية الحركة، يمكنها ان تتوقف كثيرا لتقليل الزحام وتلوث الهواء. ولكن بعد ان تتحرك لإلتقاط ركاب قد تقوم بسحق احد المارة في احدى ممرات المشاة فتسبب له جروح خطيرة. السؤال هنا منْ يستحق الإشادة والثناء على أفعال السيارة في تقليل الزحام والتلوث؟ وعلى منْ يقع اللوم في الإضرار بالمارة؟

أحد الاحتمالات هو مصمم سيارة التاكسي الذاتية الحركة. لكن في عدة حالات، لم يكن مصممو السيارة قادرين على التنبؤ الدقيق بسلوك التاكسي. في الحقيقة، الناس عادة يريدون من الذكاء الصناعي ان يكتشف افكارا او خططا جديدة وغير متوقعة. اذا كنا نعرف بالضبط ما يجب ان يقوم به النظام، عندئذ نحن لا نحتاج للقلق من الذكاء الصناعي. اما الخيار الآخر هو ابداء الإعجاب بالتاكسي ذاتها او لومها. لكن هذه الانواع من انظمة الذكاء الصناعي هي بالأساس مقررة سلفا: سلوكها يتقرر بشفرتها الخاصة وببيانات الاستشعار الآتية حتى لو كان المراقبون يصارعون للتنبؤ بذلك السلوك. من غير المألوف الحكم أخلاقيا على ماكنة ليس لديها خيار.

طبقا للعديد من الفلاسفة المعاصرين، الافراد العقلانيون يمكن ان يكونوا مسؤولين أخلاقيا عن أفعالهم حتى لو كانت تلك الافعال مصممة سلفا بالكامل – سواء بعلوم الاعصاب او بالشفرة. لكن الكثيرين يتفقون بان الفرد الاخلاقي يجب ان تكون لديه قدرات معينة لا تتوفر لدى سائق التاكسي الذاتية الحركة. هذه القدرات تصوغ وتحدد مبادئه الخاصة. أنظمة الذكاء الصناعي تقع في منطقة وسطى غير مريحة بين الافراد الأخلاقيين والوسائل غير الأخلاقية.

كمجتمع، نحن نواجه لغزا: يبدو ان لا أحد ، او لا شيء مسؤول عن أفعال الذكاء الصناعي – وهي ما يسميها الفلاسفة فجوة المسؤولية. النظريات الحالية في المسؤولية الأخلاقية لا تبدو ملائمة لفهم المواقف التي تستلزم الاستقلالية او شبه الاستقلالية في أنظمة الذكاء الصناعي.

اذا كانت النظريات الحالية لا تعمل، فربما يجب النظر في افكار القرون الماضية التي نجد لها صدى لافتا اليوم.

الله والانسان

سؤال مشابه حيّر رجال اللاهوت المسيحيين في القرن الرابع عشر بدءا من توما الاكويني حتى دونز سكوتس ووليم اوكهام. كيف يمكن ان يكون الناس مسؤولين عن أفعالهم وعن النتائج اذا كان الإله القدير هو الذي صممها – ومن المفترض انه عرف ما سينتج عنها؟ فلاسفة القرون الوسطى آمنوا بان قرارات المرء تنتج عن ارادته التي  تعمل وفق نتاجات عقله. بعبارة اخرى، هم فهموا عقل الانسان كـمجموعة من القدرات الذهنية التي تسمح بالتفكير العقلاني والتعلم. العقل هو الجزء العقلاني، والمنطقي من اذهان الناس او ارواحهم. عندما يواجه شخصان موقفان متشابهان ويتوصلان الى نفس "الاستنتاج العقلاني" حول كيفية التعامل مع الاشياء، فهما يستعملان العقل. العقل هنا يشبه كود الكومبيوتر.

لكن العقل لايعطي دائما جوابا فريدا. احيانا، العقل يعطي فقط امكانات، والرغبة ستختار من بينها سواء بوعي او بدون وعي. الرغبة هي فعل الاختيار الحر من بين الإمكانات.

كمثال بسيط، في يوم ممطر، العقل يأمر باني يجب ان استخرج مظلة من خزانتي للحماية من المطر، لكنه لم يحدد أي واحدة. الرغبة تختار المظلة الحمراء بدلا من الزرقاء. مفكرو القرون الوسطى، يرون ان المسؤولية الاخلاقية تعتمد على ما يساهم به كل من الرغبة والعقل. اذا كان العقل يقرر ان هناك فقط فعل واحد ممكن،  فانا لن استطيع عمل اي شيء آخر. وبذلك انا لا أكون مسؤول أخلاقيا. قد يستنتج احد ان الله مسؤول اخلاقيا طالما عقلي يأتي من الله – مع ان اللاهوتيين في القرون الوسطى يتحفظون على نسبة المسؤولية لله. من جهة اخرى، اذا كان العقل لا يضع مطلقا اية قيود على أفعالي، عندئذ انا مسؤول اخلاقيا بالكامل. وطالما الرغبة تقوم بكل العمل، فان معظم الافعال تستلزم مساهمات من كل من العقل والرغبة .

بعض الناس عادة يقيّدون عملنا: من الوالدين والمعلمين الى القضاة والامراء، خاصة في ايام فلاسفة القرون الوسطى، بما يجعل من الصعب تحديد المسؤولية الأخلاقية.

الانسان والذكاء الصناعي

من الواضح، ان العلاقة بين مطوري الذكاء الصناعي ونتاجهم ليس بالضبط نفس الشيء كما هو بين الله والانسان. لكن اساتذة الفلسفة والكومبيوتر يرون شيئا موازيا مثيرا للاهتمام. وهو ان تلك الافكار القديمة قد تساعدنا اليوم في التفكير بالكيفية التي يساهم بها نظام الذكاء الصناعي ومطوروه في المسؤولية الاخلاقية. مطورو الذكاء الصناعي ليسو ذوي قدرة كالالهة وانما هم يوفرون "العقل" لنظام الذكاء الصناعي عبر اختيار وتنفيذ طرقه في التعليم وقدرات الاستجابة. من وجهة نظر المصمم، هذا "العقل" يقيّد سلوك الذكاء الصناعي ولكن لا يقرر ابدا سلوكه بالكامل.

معظم أنظمة الذكاء الصناعي الحديثة تُصمم لتتعلم من البيانات ويمكنها الاستجابة ديناميكيا لبيئتها. الذكاء الصناعي لديه "ارادة" تختار كيفية الاستجابة ضمن قيود "عقله". المستخدمون، المدراء، المنظمون، الاطراف الاخرى يمكنهم ايضا تقييد انظمة الذكاء الصناعي – مثلما الطريقة التي تقيّد بها سلطات الملوك الناس ايام فلاسفة القرون الوسطى.

منْ المسؤول؟

من الملفت ان هذه الافكار القديمة تتعامل جيدا مع المشاكل الاخلاقية المتعلقة بانظمة الذكاء الصناعي. فلو عدنا للسؤال الانف الذكر: منْ المسؤول عن فوائد وأخطار التاكسي الذاتية الحركة؟ هنا التفاصيل تكتسب اهمية. فمثلا، اذا كان مطور التاكسي يكتب بشكل صريح الكيفية التي يجب تتصرف بها التاكسي عند نقاط عبور المشاة، عندئذ سلوكها سيكون ناتج كليا عن "عقلها" وبهذا سيكون المطورون مسؤولين.

لكن لنفترض ان التاكسي واجهت مواقف لم تُبرمج بوضوح – مثل لو ان نقاط المشاة صُبغت بطريقة غير عادية او ان التاكسي تلقّت ارشادات مختلفة عن البيانات في بيئتها قياسا بما وضعه المطور في ذهنه. في حالات كهذه، ستكون افعال التاكسي ناتجة كليا عن "رغبتها" لأن التاكسي اختارت خيارا غير متوقع – وبهذا فان التاكسي مسؤولة.

اذا كانت التاكسي مسؤولة اخلاقيا، فكيف نصف الموقف؟ هل شركة التاكسي مسؤولة؟ هل كان من الواجب ان يتم تحديث كود التكسي؟ لم يتفق اثنان على جواب كامل. لكننا نعتقد ان الفهم الجيد للمسؤولية الاخلاقية هو الخطوة الاولى الهامة. افكار القرون الوسطى ليست فقط حول اشياء ذلك العصر. اولئك الثيولوجيون يمكنهم مساعدة الاخلاقيين اليوم في فهم التحديات الحالية لأنظمة الذكاء الصناعي حتى وان لم يكن التوغل فيها الآن عميقا.   

***

حاتم حميد محسن

The conversation,Sep 2024

 

تمهيد: يتعرض العالم هذه السنوات الى هزات كبيرة على الصعيد السياسي والمناخي ويشهد مخاضا كبيرا في اتجاه التخلص من النمط الامبراطوري الأحادي في الهيمنة الغربية الى النمط التعددي في تقاسم النفوذ. وفي المقابل تعيش الفلسفة المعاصرة نوعا من السجال الأكاديمي القوي محالة الخرج عن باراديغم اللغة والتوجه نحو باراديغم الفعل وتفكيك النزعات التحليلية البراغماتية والتوجه الجدي نحو النزعات الايتيقية والمقامات الحقوقية مصغية للنداءات المتكررة من الشعوب المضطهدة واستغاثات المقموعين في الكوكب ولقد ساهم التوجه الثوري الموروث منذ الأزمنة الحديثة وعصر الأنوار في ذلك. بيد ان العزم على انهاء الاستعمار المتفشي بألوان جديدة في الدول الضعيفة واتخاذ قرار فك الارتباط مع سياسة التبعية من طرف الحركات التحررية دفع الفاعلون في المشهد الفلسفي الى تبني خيارات جذرية واستخدام لغة المقاومة والتحرير والانكباب على اعداد الاستراتيجية الثورية الضرورية للانعتاق والتنمية والتدبير والتعمير.

جدلية العبودية والسيادة على الصعيد الدولي

في مقالة نشرت عام 1986 بعنوان "أدب العالم الثالث في عصر الرأسمالية المتعددة الجنسيات"، يختتم فريدريك جيمسون دراسته بمقارنة "الوعي الظرفي" للعالمين الأول والثالث من حيث جدلية السيد/العبد عند هيجل. ووفقاً لنظرية هيجل، فإن العبد "هو ما يمثله الواقع ومقاومة المادة حقاً" بينما السيد "محكوم عليه بالمثالية". وفي شرحه لهذا التحليل، يكتب جيمسون: "لقد لفت انتباهي أننا نحن الأميركيين، نحن سادة العالم، في نفس الموقف تماماً. إن النظرة من الأعلى مشلولة معرفياً، وتختزل موضوعاتها في أوهام مجموعة من الذاتيات المجزأة... إن هذه الفردية التي لا مكان لها، هذه المثالية البنيوية التي تمنحنا ترف الوميض السارتري، تقدم لنا مخرجاً مرحباً به من "كابوس التاريخ"، ولكنها في الوقت نفسه تحكم على ثقافتنا بالنزعة النفسية و"إسقاطات" الذاتية الخاصة. "إن كل هذا محروم منه ثقافة العالم الثالث، التي لابد وأن تكون ظرفية ومادية". إن هذا المقطع يبدو لي بمثابة مدخل مفيد لمناقشة العلاقة بين الفلسفة الغربية الحديثة وفلسفة التحرير الجديدة التي نشأت في المقام الأول من أميركا اللاتينية مع دوسيل. إن إحدى رؤى فلسفة التحرير هي أن الفلسفة الغربية هي فلسفة المركز، وفلسفة المدن الكبرى، وفلسفة الذكور الأوروبيين البيض. إن مفاهيمها ومشاكلها وإشكالياتها مرتبطة بالفلسفة نفسها، بينما تُحكَم وجهات النظر الأخرى والمواقف الأخرى على الهامش. ومن هذا المنظور، فإن الفلسفة الغربية هي فلسفة سادة العالم، والبلدان والثقافات والطبقات المهيمنة. فهل فلسفة التحرير إذن ـ وفقاً لاستعارة السيد والعبد التي ابتكرها هيجل ـ هي فلسفة العبيد، والمهيمن عليهم، والمضطهدين، وإذا كان الأمر كذلك، فما هي الرؤى الخاصة التي يكشف عنها هذا المنظور والتي فقدت في الفلسفة الغربية؟

إن المنظورية ذاتها تظهر كنظرة ثاقبة خاصة مفتوحة للمضطهدين، ولفلسفة التحرير. فالمضطهدون لديهم على الأقل إمكانية الوصول إلى معرفة أن آراء السادة تعمل على تبرير مصالحهم في الهيمنة وتخدمها، وأن المواقف الفلسفية المهيمنة هي مواقف طبقة معينة لها مصالحها، ومنظوراتها المحددة، وحدودها. باختصار، يعرف المضطهدون أن الأفكار المهيمنة، وأفكار الطبقة الحاكمة، والأفكار المهيمنة لثقافة ما، والفلسفة الغربية، هي أيديولوجية. وعلى هذا النحو، يكتسب المضطهدون وفلسفة التحرير وجهات نظر نقدية حول فكر المركز، وخطابات السادة في الغرب، والتي قد لا تكون في متناول أولئك الذين ينتمون إلى المركز ـ أو التي لا يمكن الوصول إليها إلا بصعوبة بالغة (أي أن ماركس جاء لصياغة مفهوم الأيديولوجية وطور نيتشه فلسفة منظورية). ثانياً، تزعم فلسفة التحرير أن الفلسفة الغربية مثالية وذاتية، وهي عبارة عن تجسيد لمنطقة وطبقة تريد أن تجعل من نظامها للهيمنة نظاماً مثالياً، وتريد أن تحط من قدر الاحتياجات المادية والمعاناة والقمع وإخفاءها، وبالتالي فهي ليست مادية بالقدر الكافي أو الصحيح. تقترح فلسفة التحرير أن الفلسفة الغربية هي فلسفة ذاتية مهيمنة، ذاتية تريد أن تهيمن على الطبيعة، والناس الآخرين، وفي نسخها الأكثر تطرفاً على مجموع الوجود نفسه. مرة أخرى، تسمح وجهات النظر الظرفية لفلسفة التحرير لها باكتساب رؤى قوية في المثالية والذاتية لفلسفة التحرير. عندما يختبر المرء القمع والحرمان المادي، فإنه يدرك بسهولة أكبر أهمية الاحتياجات المادية، والبعد المادي، ويمكنه بسهولة أكبر اكتشاف الوظائف المنطقية والمثالية والأيديولوجية للخطاب المثالي. عندما يتم اختزال المرء في موضوع ، فإنه يستطيع بسهولة أكبر فهم جدلية الخضوع وإدراك ديناميكيات الهيمنة الذاتية التي قد تساعد في إنتاج معارضة نقدية للذاتية نفسها باعتبارها محاولة إمبريالية من قبل الذات للسيطرة على العالم.

النظرية النقدية والفلسفة الشعبية

والآن، في هذه المرحلة، أود أن أقترح أن هناك أوجه تشابه واختلاف مثيرة للاهتمام بين تيار محدد من الفلسفة الغربية المعاصرة وفلسفة التحرير. وعلى وجه الخصوص، أريد أن أسلط الضوء على بعض أوجه التشابه والاختلاف بين النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت وفلسفة التحرير التي طورها إنريكي دوسل وآخرون في أميركا اللاتينية. وأنا أزعم أن التقليدين يركزان على جدلية الهيمنة والتحرير. وكلاهما ينتقد الفلسفة السائدة والنظرية الاجتماعية وكلاهما يقدم بدائل تقدمية لأنماط التفكير والخطاب الراسخة. ومع ذلك، تميل النظرية النقدية إلى أن تكون مركزية على العرق إلى حد ما وتعكس وجهات نظر الذكور الأوروبيين البيض. وعلى النقيض من ذلك، تركز فلسفة التحرير بشكل صريح على وجهات نظر المضطهدين وتعطي صوتًا للمجموعات والأفراد المستبعدين عادة من الفلسفة الغربية. ومع ذلك، فهم يضحون بالبعد العالمي الذي تضمنه النظرية النقدية والذي يمكن القول إنه ضروري لمشروع التحرير. أختتم ببعض التأملات فيما يتعلق بالتركيب المحتمل بين النظرية النقدية وفلسفة التحرير.

جدلية الهيمنة والتحرير

تعمل كل من النظرية النقدية وفلسفة التحرير وفقًا لجدل الهيمنة والتحرير. وكلاهما يحدد قوى الهيمنة واستراتيجيات التحرير. وأود أن أزعم أن الاختلافات في وجهات نظرهما الخاصة هي في المقام الأول نتاج للاختلافات في وضعهما التاريخي وقوى الهيمنة المختلفة التي واجهتها، في حين أن أوجه التشابه تنجم عن تهديدات مماثلة لرفاهة الإنسان تواجهها كلتا النزعتين. تناضل النظرية النقدية بغية التحرر من رأسمالية الدولة والاحتكار؛ من الفاشية؛ من رأسمالية المستهلك. اما فلسفة التحرير فهي تسعى الى التحرر من الإمبريالية؛ من هيمنة المركز؛ في كثير من الأحيان من الفاشية والرأسمالية ولكن الرأسمالية الإمبريالية أكثر، رأس المال كقوة استعمارية من الرأسمالية الاستهلاكية - على الرغم من أن هذه أيضًا يمكن القول إنها قوة هيمنة أيضًا تركيز مختلف من حيث نقد الهيمنة: الإمبريالية / الرأسمالية الاستهلاكية. أوجه التشابه: كلاهما يهاجم هيمنة الطبيعة؛ كلاهما يهاجم العقلانية الآلية وأنماط التفكير الآلية كأدوات للهيمنة؛ كلاهما يهاجم للذاتية؛ كلاهما يضع تأكيدًا رئيسيًا على الاحتياجات والمعاناة؛ كلاهما باختصار، كلاهما نظريات مادية ونقدية وتحررية تهاجم الفلسفة الغربية كجزء من جهاز الهيمنة. هذا يقودني إلى تقديم بعض الملاحظات النقدية على نقد الفلسفة الغربية التي طورتها فلسفة التحرير. مقتطف من مراجعتي لكتاب دوسل "فلسفة التحرير" إن إحدى السمات الأكثر استفزازاً وإشكالية في مراجعة كتاب "فلسفة التحرير" هي إعطائها الأولوية لتجارب وتصورات ونضالات الأطراف والمضطهدين داخل المركز. على سبيل المثال، يكتب دوسل: "في الأطراف فقط ـ في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية ـ يمكن أن يبدأ تجديد العلاقة بين الإنسان والطبيعة ـ إذا لم يكن الأوان قد فات بالفعل". أو يزعم طوال الوقت أن الأخلاق والجماليات والثقافة الشعبية للمضطهدين يجب أن تُعتَبر الأساس ونقطة الانطلاق لفلسفة التحرير. وهذا يثير مسألة نطاق وعالمية فلسفة التحرير. إن فلسفة التحرير إذا كانت مجرد تعبير عن منطقة معينة من العالم وفئة معينة من الناس، فإنها بكل تأكيد فلسفة جزئية ومحدودة ومقيدة، وبالتالي تتخلى عن محاولة الفلسفة تقديم وجهات نظر عالمية حول البشر واحتياجاتهم وموقفهم، والتحرير المحتمل. لا شك أن عالمية الفلسفة الغربية هي في معظمها عالمية زائفة تأخذ الخبرة الثقافية والفئات والنظريات الخاصة بجزء واحد من العالم والتي يتم تعميمها وإسقاطها على حقيقة عالمية، وجمال، وخير، وألوهية، وما إلى ذلك. ولكن أليس مشروع التحرير مرتبطًا بشكل أساسي بالعالمية؟ أليست السمات الأساسية لليوتوبيا المتمثلة في العدالة والمساواة والحرية والرفاهة وما إلى ذلك، والتي تنطبق على جميع البشر بغض النظر عن العرق أو الجنس أو الجنسية وما إلى ذلك؟ من المؤكد أن الحقوق الليبرالية كانت في كثير من الأحيان بمثابة أيديولوجيات لمجتمعات قمعية (في الواقع: أين لم تكن هذه هي الحال؟)، أو أقنعة لعدم المساواة والظلم القائم، ولكن ألا تشير على الأقل إلى المثل العليا العالمية للمجتمع الصالح والتحرر الإنساني؟

إن دوسيل يستخدم مصطلحات مثل العدالة والحرية في هذا الخطاب الأكثر عالمية، وقد يزعم أن فلسفة التحرير تتمتع بعالمية محتملة. والواقع أن فلسفة دوسل عالمية وتستمد قوتها من الفلسفة الأوروبية. ويثبت عمله الخاص أن التوليفات الإبداعية بين فكر المركز والمحيط ممكنة. ولكن ليس من الواضح ما إذا كانت فلسفة التحرير تسعى إلى اكتساب مكانة الفلسفة العالمية أم أنها تكتفي بالبقاء تعبيراً عن ثقافة وطبقة محددة من المضطهدين. وربما يزعم دوسيل الآن أن من السابق لأوانه أن ندعو إلى العالمية أو الفلسفة العالمية، وأن الوجود القمعي للمجتمعات والخطابات المهيمنة حالياً والحاجة إلى الإطاحة بها لا يسمحان بعد بمثل هذا المشروع. ولكن يبدو لي أن إحدى مهام فلسفة التحرير تتلخص على وجه التحديد في التوسط بين المطالب المشروعة بأن تكون الخطابات محددة تاريخياً وذات أهمية سياسية فورية والمطالب الأكثر تقليدية بالعالمية. يبدو لي أن دوسيل، على الأقل في الكتاب قيد المراجعة، لم يول هذه المعضلة اهتمامًا كافيًا. وفي هذا الصدد، أود أن أقترح أن الادعاءات بأن الفلسفة يجب أن تكون خطابًا عالميًا للحقيقة في مقابل الادعاءات بأنها لا يمكن أن تكون إلا تعبيرًا عن شعب معين، أو طبقة، داخل ثقافة معينة يمكن ويجب تفكيكها. أي أنه في بعض السياقات ولبعض المهام يجب على الفلسفة أن تسعى إلى العالمية، بينما في سياقات أخرى من المناسب تمامًا أن تكون الفلسفة مستنيرة بخصوصية (جزئية سياسياً وتقدمية مثاليًا). ولعل من الأهمية بمكان في السياق التاريخي العالمي الحالي أن تعمل مناطق مثل أمريكا اللاتينية على تطوير فلسفات تعبر عن تجاربها واحتياجاتها وإدراكاتها ونضالاتها من أجل التحرير ضد الهيمنة الإمبريالية والإمبريالية الجديدة التي كانت مصيرها لقرون. في هذا السياق، يتردد المرء في انتقاد فلسفة التحرير من منظور المركز، لأن الفلسفة في أجزاء أخرى من العالم قد تكون لها مهام ووظائف اجتماعية وأهداف مختلفة تمامًا عن تلك الموجودة في الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية. في الواقع، تبدو لي بعض الاعتراضات التي أثارها الفلاسفة في الولايات المتحدة على نظرية دوسل، وعلى مشروع فلسفة التحرير، أيديولوجية بحتة. على سبيل المثال، يشير تقرير عن ندوة الجمعية الفلسفية الأمريكية حول فلسفة دوسل للتحرير نُشر في نشرة صادرة عن جمعية الفلسفة والتحرير إلى أن الفلاسفة في الولايات المتحدة زعموا أن طريقة دوسل في استنباط الفئات كانت دائرية، واشتكوا من أنه جمع بين الميتافيزيقا والأخلاق بطريقة مرفوضة. ولقد أثارت هذه الانتقادات تساؤلات أخرى، مثل ما إذا كان صوت المضطهدين ينبغي أن يتمتع بسلطة خاصة في الميتافيزيقا، واستشهد أحد المشاركين بـ "التحيز ضد "الوجوه الشقراء"" وتساءل لماذا أهمل مناقشة القمع في أماكن مثل أيرلندا الشمالية أو الشرق الأوسط. إن مثل هذه الانتقادات تبدو لي مشكوك فيها على أسس فلسفية وسياسية. فالبنية المفاهيمية لفكر دوسيل منهجية وهجيلية إلى حد ما، وبالتالي فمن الطبيعي أن تترابط مفاهيمه وتتداخل مع بعضها البعض (وهذا الفكر "دائري" فقط بالنسبة لمن لا يعرف شيئاً عن الديالكتيك). ومن الأهمية بمكان في فلسفة التحرير أن يتم تحطيم الحدود بين الميتافيزيقا والأخلاق والسياسة. فهل رغبة الفلاسفة الغربيين في الاحتفاظ بهذه الحدود التقليدية مرتبطة برغبات الشركات المتعددة الجنسيات والسياسيين الإمبرياليين في الحفاظ على حدود أسواقهم ومجالات نفوذهم السياسية سليمة؟ وهل منطق الهيمنة الذي يميز الكثير من الفكر الغربي مرتبط بهياكل واحتياجات أنظمة الهيمنة في الغرب؟ هذه هي نوعية الأسئلة التي تحاول فلسفة التحرير أن تطرحها، والتي من المستحسن أن نفكر فيها بأنفسنا. إن الانتقادات التي توجه إلى دوسيل بأنه متحيز ضد "الوجوه الشقراء" تفشل في إدراك رغبته في إعادة تقييم فئات الأخلاق والجماليات والسياسة التي ينتمي إليها المضطهدون. ولكن في الدفاع عن دوسل هنا ضد منتقديه، لا أقصد تأكيد أطروحات دوسيل أو أفكاره دون نقد. فكل فلسفة هي تعبير عن تجربة وتاريخ شخص معين، وهي محدودة بتجارب وتاريخ ذلك الشخص. إن هذه الآراء تبدو لي وكأنها تعبير عن تجارب في ثقافة معينة وليست حقائق عالمية ـ ولو أن هجمات دوسل على النظام الأبوي، والثقافة الذكورية، والالتزام بتحرير المرأة تشكل بلا شك موقفاً مستنيراً للغاية في الثقافات الذكورية في أميركا اللاتينية. وقد يجد آخرون داخل الوسط أن ادعائه بأولوية السياسة داخل الفلسفة أمر غير مقبول أو قد يعترضون على استخدامه لفئات ماركسية مثل الكلية، والجدلية، والأيديولوجية، والطبقة، وأولوية الاقتصاد. ولكنني شخصياً أجد أن الترابط والوساطة بين النظرية والممارسة هي الجزء الأكثر إحباطاً في فلسفة التحرير. وهنا يحمل كتاب دوسل سمات فلسفة المنفى، المنفصلة عن حركة سياسية فعلية يشارك فيها بنشاط. إن حقيقة أن الفيلسوف يعيش في المنفى، منقطعاً عن الحركات السياسية في بلاده، غالباً ما تجبره على الكتابة على مستوى أكثر تجريداً ونظرية، وتجنب متعة ربط أفكاره بالصراعات السياسية المباشرة التي يشارك فيها. وعلى هذا فإن كتاب دوسل "فلسفة التحرير" يتسم بالشمولية والتدريسية، والمنهجية الشديدة ـ وإن كان أيضاً مستنيراً بالعاطفة ومليئاً بالرؤى الحادة والأفكار الصعبة. ولكنه ليس في الحقيقة كتاباً سياسياً أو كتاباً تمهيدياً عن التحرير. ولعلنا لا ينبغي لنا أن نتوقع من الفيلسوف أن يكتب مثل هذه الكتب. ولعل ممارسة التحرير لابد وأن تكون نتاجاً لنضال المضطهدين من أجل حريتهم وكرامتهم. ولعل كل ما يستطيع فيلسوف التحرير أن يفعله، بل وينبغي له أن يفعله، هو النضال مع أولئك الذين يكافحون، ودعمهم، والدفاع عنهم، فضلاً عن مهاجمة أعدائهم ونظام العبودية والهيمنة الذي لابد من استئصاله إذا كان للإنسانية أن تعيش حياة من الحرية والكرامة. ولكن الفلسفة الثورية كثيراً ما فعلت أكثر من ذلك. إن دوسيل يهاجم إرنست بلوخ وهربرت ماركوزه، على نحو غير صحيح في نظري، باعتبارهما فيلسوفين سلبيين يعتمدان في المقام الأول على جدلية نقدية. والواقع أن هذين الفيلسوفين لم يكتفا بتطوير فئات الأمل والتحرر والثورة، بل إنهما قدما تصورات ومخططات لما أسماه بلوخ "اليوتوبيا الملموسة" ووصفه ماركوزه بأنه "بدائل". ألا ينبغي لفلسفة التحرير أن تهتم أكثر بالبديل، المجتمع الجديد، أي المجتمع الآخر للمجتمع القائم على الهيمنة؟ أم أن هذه هي مهمة الناس في النضال، والممارسة الثورية، وليس الفيلسوف الذي ربما ينبغي له أن يكتفي بالمهمة الأكثر تواضعاً المتمثلة في التعبير عن أهداف الناس في النضال والدفاع عن هذه النضالات ضد النقد والهجوم. فما هو الدور الذي تلعبه الفلسفة في ممارسة التحرير؟ وأعتقد أن أولئك منا الذين يعيشون في المدن الرأسمالية المتقدمة يجب أن يعترفوا بأننا لا نملك إجابات جيدة على هذه الأسئلة، وأن المحاولات التي تبذل في المركز والأطراف لمعالجة هذه الأسئلة تشير إلى أهمية وضرورة نوع فلسفة التحرير التي يحاول دوسيل وآخرون تطويرها.

فلسفة التحرير والنظرية النقدية: هل هي تركيبة جديدة؟

في هذه المرحلة، وفي الختام، أعتقد أن إمكانيات التركيب المثمر بين النظرية النقدية وفلسفة التحرير قد بدأت تظهر. إن النظرية النقدية وفلسفة التحرير تتقاسمان وجهات نظر نقدية حول أنظمة الهيمنة القائمة، كما تتقاسمان شغف التحرير، ورسم البدائل التحررية للمجتمعات القائمة. وكما ذكرت في وقت سابق، فإن انتقاداتهما للهيمنة تكمل بعضها البعض، وتجلب تركيزات تكميلية: تقدم فلسفة التحرير نقدًا أكثر شمولية للإمبريالية، وأنظمة الهيمنة على العالم ــ وهو غائب بشكل لا يمكن تفسيره عن معظم النظرية النقدية باستثناء التعليقات العرضية لماركوز في الستينيات ــ في حين تقدم النظرية النقدية تركيزًا أكثر شمولية على الطرق التي تنتج بها الصناعات الثقافية، والتنشئة الاجتماعية الأبوية، وهيمنة رأس المال، السلع، والتشييد، ونهاية الفرد. ولكنهم يقدمون أيضاً وجهات نظر تكميلية حول التحرير. إن فلسفة التحرير تعبر عن بُعد من أبعاد التحرير أهملته النظرية النقدية إلى حد كبير: التحرير من القمع العنصري، من القمع والهيمنة من نظام الهيمنة الغربي ـ الرأسمالي، الأبوي، العنصري، والإمبريالي. ورغم أن النظرية النقدية تعارض مثل هذه الظواهر أيضاً، فإنها تميل إلى أن تكون إلى حد ما متمركزة حول الذات وتركز على التحرير داخل المجتمعات الرأسمالية الغربية، والتحرر من أشكال الهيمنة المحددة داخل هذه المجتمعات الرأسمالية، ورغم أن المنظرين النقديين الأكثر تطرفاً، مثل أدورنو وماركوز، دعوا إلى إلغاء النظام الرأسمالي وأرادوا إعادة الهيكلة الاجتماعية الشاملة، إلا أنهم نادراً ما ركزوا عليها وأتموا تقويضها.

خاتمة

إن إحدى الطرق الواضحة للتعبير عن الاختلافات في المنظور بين النظرية النقدية وفلسفة التحرير هي الإشارة إلى أن النظرية النقدية، تفترض منظور "العالم الأول" بينما تفترض فلسفة التحرير منظور "العالم الثالث". ولكن هذا التمييز ليس مرغوباً فيه تماماً، لأن مثل هذه التعميمات تحجب حقيقة مفادها أن هناك العديد من الاختلافات المتضاربة في وجهات النظر في كل من الفلسفة الغربية والعالم الثالث، وأن هناك اختلافات داخل الفلسفة الغربية والعالم الثالث قد تكون جوهرية بقدر الاختلافات بين المجالين بشكل عام. وعلاوة على ذلك، بمعنى آخر، نحن نعيش جميعاً في عالم واحد، وبينما نريد بالتأكيد التعبير عن الاختلافات، فإننا نريد أيضاً استكشاف القواسم المشتركة، وهذا يبدو لي بمثابة مساهمة مفيدة محتملة لمشروع الفلسفة الغربية العالمي. وهذا يقودني إلى استنتاجي. أود أن أزعم أن كلاً من فلسفة التحرير والنظرية النقدية لديها وجهات نظر تحررية قوية وخطاب تحرير يمكن تلخيصه بسهولة. أود بالتأكيد أن أناقش المزيد من الاختلافات في وجهات النظر حول التحرير وأن أستمع إلى انتقادات زملائي للنظرية النقدية، ولكنني أميل إلى الاعتقاد بأن وجهات نظر النظرية النقدية وفلسفة التحرير متوافقة وقد تؤدي إلى تركيبة جديدة يمكن أن تعزز قضية التحرير في كل من المركز والمحيط، في العالم الأول والثاني والثالث وقد تساعد في إنتاج عالم واحد حيث يمكننا أن نعيش معًا في سلام واحترام متبادل وتفاهم. فكيف تساعد النظرية النقدية وفلسفة التحرير على الاسناد الفكري العملي لمشروع المقاومة والصمود عند الشعوب التي تتعرض للابادة والتطهير والتهجير القسري والاستعمار الاستيطاني من طرف العدو الصهيوامبريالي؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

تمهيد: في الفلسفة، تقوم الواقعية على الاقتناع بأن الواقع موجود خارج الفكر ومستقل عنه. ولذلك فإن المصطلح يتعارض مع المذهب المعاكس: المثالية. ومع ذلك، فإن التمييز بين هذين الاتجاهين دقيق. يؤكد أفلاطون أن الأفكار المعقولة التي نسخها العالم المحسوس هي أفكار حقيقية، في حين أن أرسطو، الواقعي، يجعل فئات الفكر خصائص للوجود. أثناء النزاع حول الكليات في العصور الوسطى، أكد الواقعيون (غيوم دي شامبو، وإلى حد ما توماس الأكويني وجون دونز سكوت) على أن المفاهيم تأتي بعد الأشياء (ما بعد الكياناتالعينية) وليس قبلها (ما قبل العينية)، كما يؤكد الاسمانيون (وليام أوكهام) أو في نفس الوقت (في العينية) كما يعتقد المفاهيميون (بيير أبيلارد). يجعل نقد كانط من الممكن الجمع بين كل من الواقعية التجريبية والمثالية المتعالية، حيث يتم تأسيس الظواهر علميًا بينما يظل الشيء في حد ذاته بعيد المنال عن المعرفة. لكن بعد تحررها من الميتافيزيقا، تؤكد الواقعية العلمية للقرن العشرين، التي تطالب بها دائرة فيينا، حقيقة العالم وإمكانية تمثيله بأمانة من خلال اللغة. وفي السياسة، تهدف الواقعية، وخاصة سياسة الواقعية الألمانية التي افتتحها بسمارك، إلى أن تكون مناهضة للطوباوية والمثالية. في علم الجمال، تشير الواقعية إلى حركة تصويرية (يهيمن عليها كوربيه) وخاصة الأدبية، التي ظهرت في فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر كرد فعل ضد الرومانسية. وحرصًا على تمجيد الواقع، يعتمد الكتاب المصنفون في هذه الحركة (بلزاك، وفلوبير، وزولا) بشكل خاص على حاسة الملاحظة القوية والتوثيق القوي لإنتاج أعمالهم. وفي القرن العشرين، عارضت السريالية هذه الجمالية الواقعية من خلال جعل عالم الأحلام ينتصر على الواقع. لكن الواقعية هي موقف، وليست فقط عقيدة فلسفية. هل تستمر الأشياء من حولنا في الوجود عندما ندير ظهورنا لها؟ وهذا ما نفكر فيه بشكل عفوي. لكن ما هو أصل هذا الاعتقاد الذي يبني إنسانيتنا، بحسب إتيان بيمبنيت؟

دلالة الواقعية

الواقعية هي، من بين أمور أخرى، الإيمان بوجود العالم. واقعيًا، أعتقد أن العالم موجود بشكل مستقل عني. إذا لم أعد أنظر إلى التفاحة، فلا أعتقد أن التفاحة لم تعد موجودة. وعندما أنظر إلى التفاحة، أحكم أن كل ما أراه هو بالفعل هكذا لأن التفاحة لها هذه الخصائص، وهذه الطرق في الوجود أو الظهور بشكل مستقل عما قد أؤمن به أو أفكر فيه. كما أنني أعتبر أن البشر الآخرين لديهم أفكار مماثلة لي، ويشكلون أفكارًا عني. إنهم قادرون على أن ينسبوا لي المعتقدات والرغبات والنوايا، وأنا أتصرف معهم بالمثل. يعتبر بيمبنيت من المسلمات الأطروحتين اللتين طورهما في كتابه "الحيوان الذي لم أعده". أولا وقبل كل شيء، كان البشر حيوانات، ولم يعودوا حيوانات. وهذا يعني أن الدخول إلى الإنسانية يتكون من إعفاء الإنسان من القوانين التطورية والسلوكية التي تحكم المملكة الحيوانية. وهذا لا يعني أن البشر لا يخضعون لقوانين داروين، مثل جميع الكائنات الحية، ولكن يجب فحص هذه الشرعية فيما يتعلق ببعد أكثر جوهرية للإنسان، وهو الدنيوية، التي تسمح بها وساطة اللغة. فالبشر في الواقع، لأنهم يعيشون في اللغة، يتشاركون في عالم واحد، وهذا هو البعد الأساسي للوجود الإنساني. وبهذا المعنى، يمكن للبشر أن يتأملوا ماضيهم الحيواني من العالم الفريد بالنسبة لهم. لذلك أستطيع، كإنسان، أن أتحدث عن نفسي على أنني "الحيوان الذي لم أعد أنا عليه". ثم ينسب بيمبنيت الظاهرة إلى الحيوانات. وهذا نتيجة للأطروحة الأولى. محرومة من العالم، أو "فقيرة العالم" حسب تعبير مارتن هيدجر، يتم توجيه الحيوانات بأحاسيس محددة في بيئات محددة. إنهم مثاليون، بمعنى أنه إذا كان لديهم عالم، فإنه سيتم اختزاله إلى بيئة تحددها لعبة الدوافع والاحتياجات. إنهم يفتقرون إلى وساطة اللغة ليتمكنوا من تعيين العالم على أنه آخر، وموجود، بشكل مستقل عن دائرة الاحتياجات والدوافع. ثم يطرح السؤال كيف أصبحنا واقعيين. لأننا كنا حيوانات قبل اختراع العالم. ولكن كيف يمكننا أن نخترع العالم من حرمانه؟

لقد طرح بيمبنيت هذه المشكلة في كتابه "الحيوان الذي لم أعد أنا عليه" بهذه الشروط: الواقعية هي مشكلة وتظهر كضربة قوة ميتافيزيقية حقيقية – ضربة قوية للشيء في حد ذاته في تاريخ الحياة. كيف يمكن للحيوانية أن تنفتح على ما ليس هو ذاته؟ كيف تكون الواقعية ممكنة من المثالية الحيوانية الظاهرية؟

الواقعية كتجاوز للعالم الاجتماعي

إن المشكلة تكمن في تحديد أصل الاعتقاد الذي يميزنا عن الحيوانات، وهو الإيمان بوجود العالم. لذلك يركز البحث على الموقف الذي يجب، وفقًا لمنهج هوسرل الفينومينولوجي، "وضعه بين قوسين" من أجل وصف التجارب الواعية بشكل صحيح. ووفقا لهذه الطريقة، على سبيل المثال، إذا كنت أرغب في وصف الظواهر الإدراكية بشكل صحيح، فيجب أولا أن أهتم بالطريقة التي تظهر بها بالنسبة لي. ومن ثم فمن الملائم أن ننحي جانبًا فكرة أنها تفاحة أراها، لوصف الظواهر، أي الطرق التي تظهر بها التفاحة لي. إنها طريقة لتوجيه الانتباه، والتي تتكون من إلغاء تحديد مربع "وجود العالم" في وحدة المعتقدات، إذا جاز التعبير. ان الأطروحة التي تم الدفاع عنها في هذا العمل هي كما يلي: إن الإيمان بوجود العالم ينبع من التمسك بقيم مجموعة من البشر. يتم تمكين هذا الالتصاق باللغة. تعلم الإيمان بالعالم هو تعلم كيفية التعامل مع الوظيفة المرجعية للكلمات. ولكن للتعامل مع الكلمات بطريقة تعطيها مرجعًا، يجب أن يتأكد المرء من امتلاكه السلطة الكافية لذلك. ومع ذلك، فإن المجموعة فقط هي التي تسمح لأحد أعضائها بالحصول على هذه السلطة. لأنه في عالم مشترك واجتماعي تأخذ الكلمات معنى (يمكن أن يكون لها مرجع). تتجلى سلطة المجموعة على الفرد في مؤسسة اللغة. أنا لا أقرر معنى الكلمات، ولا حتى مرجعيتها. ولذلك يتم تجاوز الفرد بطريقتين. لقد تجاوزه العالم الذي يجب أن يتعرف على مثاليته. لقد تجاوزته المجموعة.

الواقع يأتي من السلطة فينا

تكمن سلطة اللغة في حقيقة أن الكلمات لها قوة. وهذا ما يسمى بالبعد الإدلائي للغة. على سبيل المثال، يمكننا أن نعد، وأن نأمر. ويتم بناء العالم الاجتماعي، إذا اتبعنا سيرل وكريبك، من خلال الالتزام بعدد معين من القواعد التي ليست سوى إدامة فعالية الأفعال الإجرائية. ويأتي المرجع في وقت لاحق. ولأن الفرد مدعوم بالعالم الاجتماعي وسلطته، فهو يملك السلطة لتسمية أشياء العالم، والاعتقاد بأنه على علاقة بعالم قائم كما هو. الواقعية هي “لعبة لغوية” أو “خيال متعالي”. إن آلية الاهتمام المشترك، التي تناولها المؤلف في الفصل التاسع، توضح بشكل كافٍ هذا البعد الذي من خلاله نتعلم المرجعية في الوجود مع الآخرين. إن الواقعية والجوهرانية (الاعتقاد بأن الكلمات تشير إلى جواهر تتجاوز الأشياء التي تواجهها فعليًا) هي “مواقف طبيعية”، بمعنى أنه يكفي الانتماء إلى مجموعة بشرية لتطويرها. نحن لا نتعلم أن نكون واقعيين أو جوهرانيين، بهذا المعنى، بالطريقة التي نتعلم بها أن نكون هوسرليين. هذا لا يتطلب أي التنشئة الاجتماعية الخاصة. لكن تظل الحقيقة أنه سيكون من الخطأ، بحسب المؤلف، الاعتقاد بأن المواقف الطبيعية بديهية. إن الموقف الطبيعي “ليس شيئًا طبيعيًا بمعنى أنه ليس شيئًا معطى: فهو يتلقى كل قوة تم فرضها من المؤسسات البشرية ومعياريتها الخاصة”.

العالم الاجتماعي والعالم المادي

يعتمد المؤلف على تعليق الببليوغرافيا، والتي على الرغم من عدم تضمينها بشكل منهجي في نهاية العمل، إلا أنها وفيرة. تمامًا كما يمكننا أن نرى في كتاب «الحيوان الذي لم أعد أنا»، إذا كانت موطن أفكاره هو بالتأكيد الفينولوجيا (ميرلو بونتي) والفلسفة الاجتماعية (دوركهايم)، يعرف بيمبنيت بشكل خاص كيفية الاستفادة من التعليقات المتعمقة والدقيقة للمؤلفين في التقليد التحليلي. سوف نقدر الاستخدام الجيد جدًا لكتاب العقل والعالم من تأليف جون ماكدويل، بالإضافة إلى أهمية الإشارة إلى تايلر بيرج، وهو مؤلف نادرًا ما يستشهد به الفلاسفة الفرنسيون ذوو الإقناع غير التحليلي. وقد خصص جزء كبير من الكتاب لاتخاذ موقف فيما يتعلق بالفلسفات الأخرى، مثل المذهب الطبيعي، أو البراغماتية المتعالية، أو فلسفة هيدجر. ومن هذا المنطلق، فهي قراءة غنية وموحية للغاية. على سبيل المثال، فإن إحياء النقاش حول القواعد في الفصل العاشر من خلال قراءة كريبك لفيتجنشتاين، والذي قدمه جاك بوفيريس في فرنسا في كتابه قوة القاعدة عام 1987، هو أمر محفز للغاية. يبدو بيمبنيت حريصًا على أن يكون جزءًا من تقاليد الفلسفة الفرنسية من خلال تمييز نفسه عن الخيارات الفلسفية التي لها أهمية تتجاوز الإطار الفرنسي. التعليق هو بلا شك الطريقة المركزية للمؤلف. لكن طموح العمل هو اعتبار الواقعية “كموقف أو شكل من أشكال الحياة، وليس كمذهب أو نظرية فلسفية”. صحيح أن المؤلف يعتمد أيضًا على العمل في علم السلوك وعلم النفس التنموي لتعريف الواقعية باعتبارها موقفًا طبيعيًا، من خلال إظهار أنها غير موجودة عند الحيوانات، وأنها نشأت عند الأطفال. وبالتالي فإن الإيمان بالعالم الاجتماعي سوف يسبق، وفقًا لبيمبنيت، الإيمان بالعالم المادي. بمعنى آخر، لا يمكن الإيمان بعالم الأشياء، بخصائصها الفيزيائية البسيطة، إلا إذا آمنا بالعالم الاجتماعي (هكذا، من حيث المعتقدات، أعيد ترجمة أفكار السلطة والتمسك بالقوة الاجتماعية). بمعنى آخر، يعتمد الإيمان بعالم الأشياء وجوديًا، وليس فقط تجريبيًا أو نفسيًا، على الإيمان بالعالم الاجتماعي. لكن مثل هذه الأطروحة لها عواقب تجريبية. على وجه الخصوص، يترتب على ذلك أنه من المستحيل فهم أشياء العالم المادي دون الالتزام بالعالم الاجتماعي، وعلى وجه الخصوص، دون القدرة على تعلم التحدث، في إطار التنشئة الاجتماعية ووفقًا للطرائق الذاتية المتبادلة. كما تدرس العلوم المعرفية، من بين أمور أخرى، قدراتنا على تفسير سلوك الآخرين (علم النفس العادي) وفهم الأحداث في العالم المادي، وخاصة من خلال تحديد الروابط السببية (الفيزياء البسيطة). في مقال نشر عام 1997 بعنوان "هل الأطفال المصابون بالتوحد متفوقون في الفيزياء الشعبية؟"، يشير بارون كوهين إلى أنه إذا تطور علم النفس العادي تقريبًا في نهاية السنة الأولى من نمو الطفل، فإن الفيزياء الساذجة، أي القدرة على إسقاط العلاقات السببية على الأشياء وتوقع الحركات و تظهر ردود أفعال الأشياء في العالم في وقت أبكر بكثير في تكوين الطفل الصغير. علاوة على ذلك، فإن الأطفال الذين يعانون من اضطرابات النمو الشاملة يكون أداؤهم أفضل في الفيزياء الساذجة من الأطفال الآخرين، على الرغم من أنهم يعانون من نقص حاد في علم النفس الساذج، مما يؤدي إلى إعاقات لغوية غير محددة (عسر القراءة، وعسر الكلام، وما إلى ذلك). ماذا يجب أن نستنتج من هذا، إذا أردنا مع ذلك أن يظل كل هذا متوافقًا مع إحدى الأطروحات المركزية لكتاب بيمبنيت ، الذي بموجبه تجاوز العالم بشكل عام، وبالتالي تجاوز العالم المادي، يفترض تجاوز العالم الاجتماعي، أو استعادته بأسلوب الكتاب، الذي بموجبه يبرز عالم الأشياء والأشياء ضده خلفية تجاوز العالم الاجتماعي؟

علينا أن نستنتج الأمور التالية: أولاً، إن معتقدات الأطفال الذين يعانون من اضطرابات النمو الشاملة حول العالم المادي هي معتقدات أولية، تختلف عن معتقدات الأطفال الذين لا يعانون من هذه الاضطرابات. هناك نوعان من المعتقدات حول الأشياء في العالم المادي. من ناحية، المعتقدات الواقعية، التي يضمنها بنية دماغية سليمة ونمو عصبي مناسب (ما نسميه البنية العصبية النموذجية)، ومن ناحية أخرى، معتقدات غير واقعية، خاصة بالأطفال المصابين باضطرابات النمو العصبي المنتشرة في اضطرابات النمو. ومن ثم، فإن الأطفال الذين يعانون من اضطرابات النمو الشاملة سيكونون قادرين على توقع الأحداث في العالم المادي بشكل مثالي، ولكن دون أن يكون موقفهم ترجمة لموقف واقعي. إن قدرتهم على تحديد الروابط السببية في العالم ستكون مختلفة عن قدرة الأطفال ذوي الطبيعة العصبية. وأخيرا، فإن الفيزياء الساذجة التي تتطور، سواء كنا نعاني من اضطرابات النمو الشاملة أم لا، ليس لها أي علاقة بإيماننا بوجود العالم المادي، لأنه من خلال التفاعل الاجتماعي وتعلم اللغة نتعلم أن نؤمن ب العالم المادي.

الحضور الكامل في العالم

المشكلة في كل هذه العواقب هي أنها تقودنا إلى طريق مسدود. إن المؤلف، من خلال اختزال كل المعتقدات في العالم المادي إلى الاعتقاد في العالم الاجتماعي، لا يترك لنا أي خيار آخر سوى اختزال الفيزياء الساذجة للأطفال الذين يعانون من اضطرابات النمو في مجموعة من الميول للتفاعل مع الأحداث، كما يمكن العثور عليه في غير ذلك. - الكائنات البشرية، بما في ذلك الكائنات البدئية للغاية. ولكن، في هذه الحالة، كيف يمكننا أن نفسر أننا في التجارب، مثل تلك التي ذكرها بارون كوهين في المقال المذكور، نحدد المهارات الفيزيائية الساذجة لدى الأطفال الذين يعانون من اضطرابات النمو الشاملة من خلال الاعتماد على قدرتهم على التعبير اللفظي المتوقع لتسلسل الأحداث، على أساس حسابات حركة الأشياء على سبيل المثال؟

علاوة على ذلك، ترتبط الفيزياء الساذجة بشكل صحيح باللغة لدى الأطفال الذين يجدون صعوبة كبيرة في استخدام هذه اللغة نفسها للاستجابة بشكل صحيح لاختبارات قياس المهارات في علم النفس العادي. يصعب تفسير هذا الاختلاف إذا افترضنا، كما يفترض المؤلف، أن إتقان اللغة، بما في ذلك عندما يتعلق الأمر بالحديث عن الأشياء المادية، يفترض اندماجًا طبيعيًا في العالم الاجتماعي. وبالتالي فإن الأطفال ذوي النمط العصبي والأطفال غير الطبيعيين يتشاركون في نفس الفيزياء الساذجة، لكن الأطفال الذين يعانون من اضطرابات النمو المنتشرة ينشرون هذه المهارة في وقت مبكر وأفضل. وليس هناك سبب للافتراض، خاصة إلى الحد الذي لا يشكل فيه التعبير اللفظي عن الأحداث المادية مشكلة، أن مواقفهم لا يمكن أن تتمسك بالواقعية، على الرغم من أن إيمانهم بالعالم الاجتماعي لا يؤمن بأنفسهم على الإطلاق.

ولكن بالنسبة للأطفال الذين يعانون من اضطرابات النمو الشاملة، فإن الأمر يتعلق بالفعل بحضور كامل في العالم، حتى لو لم يسمح لهم ذلك بتبني مواقف خاصة بالحياة في المجتمع بشكل عفوي. هؤلاء الأطفال قادرون على الانخراط بشكل كامل في العالم المادي، وأن يصبحوا مفتونين بالآلات، والهياكل المادية، على سبيل المثال. ومع ذلك، فإن هذا الوجود في عالم الطفل الذي يعاني من اضطرابات نمو شاملة يظل في النقطة العمياء للفلسفة التي يقترحها بيمبنيت. وهذا احتمال نظري لا يؤخذ في الاعتبار أبدا.

خاتمة

من خلال "الواقعية" يمكننا أن نفهم رؤية عملية للإنسان والعالم. تيار يركز على إظهار حدودهم وغرورهم وبؤسهم أكثر من إمكانات الجليل التي يحملونه. يتعلق الأمر بشيء مختلف تمامًا. "الواقعية" هي ببساطة فعل ثقة في الطريقة التي نفهم بها ما هو حولنا. إنه يمنح العقل خطاباته النبيلة، إلى جانب الخطب الرسمية المفرطة والمتجولة، وسحر الصورة.  لكن مما يتكون هذا النظام الواقعي بالضبط؟

تمتع الواقعية الفلسفية بالثقة في الخبرة ومن المثير للدهشة أن هناك بالفعل بعض الواقعية عند أفلاطون. الأفكار بالنسبة له هي في الواقع ملء الوجود، الشيء الوحيد الموجود. لذلك فإن "واقعية الأفكار" هي، على نحو متناقض، مثالية راديكالية. ان الفيلسوف القديم لا يخلي المادة والمعقولية الحسية. ومع ذلك، سيكون من الخطورة الاستسلام لها تمامًا، كما يخبرنا. عليك أن تثق به كما تثق بظلك. النقطة المركزية في التعاليم الأفلاطونية هي قبل كل شيء الإغلاق المحكم الذي يقيمه بين العالم المحسوس – عالم النباتات والأشخاص والأحجار التي يمكننا لمسها – والعالم المعقول – عالم الأفكار. أرسطو، التلميذ الأمين منذ البداية، لم يستغرق وقتا طويلا لينفصل عنه. هذا المفكر الأخير يرفض الاعتراف بالوجود المنفصل للأفكار. جاء ورثة أفلاطون ليقولوا إن الجسد سجن للروح، وأن الحواس لا تقدم إلا معلومات مضللة. مثل هذه العصا التي تبدو مكسورة عندما تُغمس في الماء، وهو ما لن يفشل ديكارت في الإشارة إليه. أما بالنسبة لأرسطو، على العكس من ذلك، فإن تجربة البصر واللمس والذاكرة والخيال تحتل مكانة مركزية. ومن خلال "الحواس" نصل إلى معرفة الحقيقة. كما تحرص الواقعية الفلسفية على تجريد الأفكار ولذلك فإننا نعتبر شخصًا "واقعيًا" يؤسس للاستمرارية بين المعرفة الحسية والمعرفة الفكرية. إنه التجريد الذي يسمح بهذا الارتباط. عندما تداعب ظهر كلبك، عندما يكون لديك فكرة عامة عن "الكلب" في ذهنك، فإنك في الواقع تفكر في نفس الواقع. الفكرة المجردة، في حد ذاتها، غير موجودة. فهي لا تنتج إلا من مجموع تجارب الماضي. وبالتالي فإن مبادئ الكون وأسس الوجود متاحة للجميع. يبدأ أرسطو من ملاحظة الطبيعة ليفترض أن كل الأشياء تحكمها فكرة النهاية. لا شيء عبثا. الزهرة عازمة على ثمارها، الإنسان يرغب في السعادة، الحيوان يعمل فقط من أجل بقاء النوع، الذكاء مخلوق من أجل الحقيقة...لكن الواقعية تقوض النسبية. إن ذكائي يكون صحيحًا عندما يتفق مع واقع العالم. فهو لا يسعى أولاً إلى معرفة المفهوم، الفكرة، بل الواقع الذي له معنى في ذاته. قال مايكل أنجلو، أثناء النحت، إنه يطلق من الحجر التمثال الموجود هناك بالفعل. تقدم "الواقعية" طريقًا مماثلًا: السماح لأنفسنا بأن نتفاجأ بحقيقة داخلية فيما يحيط بنا، ليتم اكتشافها وليس بناؤها. لكن كيف تحدد أن الشيء جميل؟ أو يجب أن نتفق على ما نعتبره جميلاً، ويختلف باختلاف العصور والحضارات. أو ما هو جميل هو ما يسبب لي متعة معينة.

"الواقعية" تختار طريقًا ثالثًا: الخصائص الجمالية هي الخصائص الحقيقية للأشياء. يأخذ توماس الأكويني من أرسطو الثقة التي يمكن أن نمتلكها في "حواسنا": ذاكرتنا، وخيالنا، ولمساتنا... وقبل كل شيء، الثقة بما يحيط بنا. بعيدًا عن الاستقلالية الوجودية التي سيطرحها سارتر، وعن عدم الثقة في قدرات العقل عند كانط، وعن وضع وجود العالم بين قوسين عند هوسرل، فإن "الواقعية" تؤمن بالواقع وبوضوحه. في نهاية المطاف، فإن رفض أخذ خصوصية البنية المعرفية للعقل وارتباطها بالهياكل العصبية، لأسباب لم يتم ذكرها أبدًا، يقود بيمبنيت لاستبعاد قسم كامل من البشرية من هذا العالم البشري. هذا الجزء الذي لا يعتبر تجاوز العالم الاجتماعي أمرًا بديهيًا، ولكنه موجود بالفعل في العالم. فمتى نرى الواقعية تغزو فكرنا المعاصر؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.......................

المصدر

Étienne Bimbenet, L’invention du réalisme, Paris, Éditions du Cerf, 2015, 317 p

لا تخلو الجوانب الاجتماعية للمدن المثالية أو الفاضلة التي تخيلها الفلاسفة، من مساوئ وعثرات ومثالب لا تتسق والفطرة البشرية، ولا تنسجم مع المفاهيم الحديثة للديمقراطية وحقوق الإنسان، والطفل وحرية المرأة، بل أنها تتنافى معها تماماً لأنها وليدة عصرها الذي كتبت فيه قبل أكثر من 2400 عام وتحت ظروف اجتماعية وسياسية تركت أثرها فيها، ونقصد بذلك تحديداً محاورة الجمهورية " السياسة"، أو ما تُعرف على نطاق شعبي واسع بإسم "جمهورية أفلاطون" الفاضلة.

والحق يقال فإن للجوانب الاجتماعية والتربية والتعليم والتخصص في العمل مكانة بارزة في هذه الجمهورية، غير أن بعض المفاهيم حول العبودية وشيوعية المجتمع والأولاد والنساء تثير الاشمئزاز في النفس البشريَّة السويَّة، فكيف وهي تصدر من فيلسوف عُرف بأفكاره المثالية السامية، وتوجهه نحو عالم المُثُل الأعلى حيث مفاهيم الحق والخير والجمال ؟ .

الحقيقة أنه ليس بوسع المرء المعاصر ان يلوم أفلاطون كثيراً على موقفه من قضية العبودية ، إذا ما راعى أن الرقَ كان من الأمور المشاعة التي لا غنى للمجتمعات القديمة عنها، فضلاً عن وجودها وإقرارها من الكثير من الفلاسفة والمفكرين حتى عصور متأخرة . ومع ذلك فان أفلاطون ليس بريئاً تماماً من تهمة التطرف في نظرته إلى العبيد، وقد كانت واحدة من الأسباب التي دعته الى مهاجمة الديمقراطية الأثينية مساواتها في الحرية بين العبيد الذين يُشتَروْن بالمال ومُلَّاكهم الذين اشتروهم، علماً أن ديمقراطية أثينا نفسها قد حرمت العبيد من أي حقوق سياسية، وقد جعلها ذلك هدفاً للانتقاد والإدانة التي وجهت الى عموم الفكر السياسي اليوناني الذي نظر الى هذه المسألة وكأنها إحدى أعطيات الطبيعة، وبذلك فان الديمقراطية الإغريقية كانت مشوبة كما يرى برتراند رسل مثلاً ببعض النقائص مثل عدم السماح للنساء والعبيد بالاشتراك في الحياة العامة، مع انها عملت على حماية العبيد من المعاملة شديدة القسوة، ووضعت تشريعات إنسانية متقدمة في ذلك العصر من أهمها منع الأسياد من قتل عبيدهم، فقد كان ذلك حقاً من حقوقهم !. كان أفلاطون الذي لم يرق له ما قامت به ديمقراطية أثينا تجاه العبيد ينطلق في موقفه هذا من إيمانه بالتفاوت الطبيعي بين الناس، وكان يؤكد هذا التفاوت كلما حانت له الفرصة المناسبة، بل هو يحاول ان يضع تشريعات لحفظ ذلك التفاوت ويقترح عقوبات قاسية للعبيد، ومنعهم من المشاركة في الحياة السياسية. وفي محاورة " السياسي" على سبيل المثال يتحدث  "الغريب" عن الأقسام التي لا تُنسب الى العلم السياسي،  ومع انه يستثني العبيد من الحيوانات الداجنة فانه يتوصل الى ان هؤلاء لا شأن لهم بالعلم السياسي، كما ان العمـال والإجراء الذين يعملـون مقابل أجرة يوميـة والذين يظهرون استعدادهم الدائم لخدمـة أي مستأجر، لا يدَّعون ان لهم نصيبـاً من العلم السيــاسي. وفي محاورة   "القوانيـن" فإن العبيـد كما يـرى "الأثيني" ينبغي أن يخضعوا لأسيادهم ذوي الحق في ان يحكموهم، واذا قَتل عبدٌ مالكه وهو غاضب فان أقارب المقتول سيعاملون العبد كما يشاؤون من دون أن يُدانوا، وعليهم فقط ألاَّ يُبقوا على حياته، وإذا قُتل رجلٌ حرٌ على يد عبد غاضب ليس من عبيده، فإنه سيُسلم بوساطة صاحبه لأقارب الميت أولئك الذين سيكونون مُلزمين بقتله، على أن يكون لهم الخيار في طريقة إعدامه !. إن كثيراً من النقد يوجه الى أفلاطون بسبب موقفه هذا من العبيد الذي يتنافى مع أفكاره الإنسانية والأخلاقية، وكان يمكنه أن يهاجم بجرأته المعهودة هذا النظام المتوارث مثلما فعل في قضايا أخرى مهمة في المجتمع الأثيني، لكنه بقي مخلصاً لتلك القصة الفينيقية التي رواها بلغة ميثولوجية في نهاية الكتاب الثالث من " الجمهورية " ، قصة معادن الناس والإله الذي وضع في طينة بعض الناس ذهباً ليكونوا حكاماً، وهم الأكثر احتراماً، وفي الآخرين وضع فضة أو نحاساً أو حديداً، إنه يكرس التفاوت الطبيعي بين الناس، ويدعو كل فرد لأن يعمل على وفق قدراته الطبيعية، وبذلك يصبح نظام الرق أمراً طبيعياً في ضوء هذا المنظور الأفلاطوني الميثولوجي. كما ينادي أفلاطون في بدء الكتاب الخامس من " الجمهورية " بشيوعية النساء والأولاد، ثم يشرح سقراط تفاصيل ذلك بعد أن يوافق على قول أديمنتس بإمكانية تطبيق قاعـدة " كل شيء مشاع بين الأصحاب" على النسـاء والأولاد. ويرى صاحب الجمهورية في هذا الشأن أيضاً، أن المرأة مساوية للرجل لذلك يجب تهذيب النساء وتدريبهن كالرجال تماماً، والمساواة هنا مساواة في العقل والقوى البدنية، وفي الحقوق والواجبات والعمل. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أفلاطون لم يكن أول من نادى بمساواة المرأة بالرجل، إذ كانت المرأة في القرن الخامس قبل الميلاد في اسبرطة تتمتع بحريتها، وكذلك كانت المرأة في أثينا تطالب بمساواتها مع الرجل، وكان أرسطوفان يسخر في رواياته الهزلية من هذه المطالب، مما يدل على أن المرأة في أثينا، وفي عهد أفلاطون كانت قد قطعت شوطاً ممتازاً في سبيل حريتها ومساواتها بالرجل، وقد حدث تطور في نظرة المجتمع الأثيني الى المرأة، كما تشير إلى ذلك نازلي إسماعيل حسين في كتابها الشعب والتاريخ - هيجل. وبموجب هذه المساواة التي يؤكد عليها أفلاطون فانه يرى أن الفرق بين الجنسين هو فرق بالدرجة وليس بالنوع " فلا فرق بين طبائع الرجال وطبائع النساء باعتبار حكم الدولة إنما هو تفاوت بينهمـا في الدرجة قوة وضعفـاً "، وبذلك فان النساء اللائي يبدين ميلاً الى الفلسفة والى الحرب ينبغي أن يصبحن الحُكام، أو مساعديهم، ويصرن ازواجاً لهم، ويجب أن تكون علاقات الجنسين المتبادلة تحت مراقبة القضاة كما قرر في جمهوريته، " ويُفصل الأولاد عن والديهم ويربون في معاهد خاصة تنشئها الحكومة، وتكون أولئك النساء بلا استثناء أزواجا مشاعاً لأولئك الحكام فلا يخص أحدهم نفسه بإحداهن، وكذلك أولادهم يكونون مشاعاً فلا يَعرف والدٌ ولده ولا ولدٌ والده، وبهذه الوسيلة وحدها يمكن للحكام ومساعديهم أن يتحرروا من كل ميل للملكية"!!. ويمضي أفلاطون في بيان فوائد شيوعية النساء والأولاد على الرغم من توقعه وجود مقاومة عظيمـة تمنع تطبيقهـا بالفعل على أرض الواقـع، وأولى " الفوائد " - حسب رأيه - إستيلاد الأفضل وتحسين النوع الإنساني على غرار تحسين نسل الحيوانات الأصيلة. ثم يمضي قدماً لشرح طريقة تزويج أفضل الرجال بأفضل النساء، وإقامة الولائم التي يتخللها زفاف العرسان مع تقديم الذبائح وإنشاد الأناشيد. ولا ينسى أن يذكر بوجوب مراعاة أن يخص الشبان المُبَّرزون في الحرب وغيرها بحرية الاختلاط بالنساء الحسان لكي تكثر مواليد والدين كهؤلاء، وحال ولادة الأطفال يتسلمهم موظفون مختصون ليحملوا الأطفال الممتازين الى المراضع الحكومية تحت عناية مرضعات يَسكُنَّ أحياء خاصة بمعزل عن الناس، أما أطفال الوالدين المُنحَّطين، وكل الأطفال المشوهين فيخفوهم قاطبة في مواضع مستترة مجهولة تلائمهم. إن من أكثر الأفكار الأفلاطونية التي وجدت معارضة ونبذاً هي فكرة الشيوعية في المجتمع  وقد كان أفلاطون نفسه يعي ذلك، ويدرك صعوبة تطبيق فكرته هذه التي دفعه اليها حرصه الشديد على وحدة الدولة وتماسكها وارتقاء نوعيتها. ولكي يخفف من وطأة منافاة الشيوعية للجوانب الإنسانية، فإنه يتيح للرجال، متى بلغوا السن القانونية، أن يتخذوا من يشاؤوا من النساء إلَّا بناتهم وامهاتهم وجداتهم وحفيداتهم، كذلك يُباح للمرأة كل رجل إلاَّ الأب والأولاد والخلف والسلف. لكن، كيف يمكن معرفة صلة القرابة في هذا الخليط الشيوعي؟ يَحّل أفلاطون هذه المعضلة على وفق النحو الآتي: 

غلوكون: ولكن أنى تعرف بناتهم آباءهن والأقارب الآخرين الذين ذكرتهم؟

سقراط : " لا يعرفونهم بتاتاً. لكنهم يدعون جميع الأطفال الذين يولدون بين الشهر السابع والعاشر من قرانهم، أبناءهم وبناتهم، وهؤلاء أيضاً يدعون الذكور آباءهم والإناث أمهاتهم، وأولاد المواليد أحفاداً، ووالدي الوالدين أجداداً وجدات، والمواليد الذين ولدوا في دور التوليد المضروب لوالديهم يدعون بعضهم بعضاً إخوة وأخوات. ويُحظر على الإخوة والأخوات مس بعضهم بعضاً. ولكن الشريعة تبيحه اذا إصابتهم القرعة ووافقت كاهنة دلفى على ذلك!، ومن البديهي القول أن هذا الحل المُعقَّد لا يمكنه أن يقدم سبباً مقنعاً لضرورة المجتمع الشيوعي كما تصوره أفلاطون، وهو تصور يتنافى مع القيم الاخلاقية والسماوية والاعراف الاجتماعية والفطرة السليمة، بخلاف شيوعية التملك عنده فإنها تبدو أكثر قبولاً من شيوعية النساء والأولاد، لأن هدفها جعل الحياة اشتراكية لطبقة الحكام لكي لا تحدثهم النفس بتوفير الثروة وتوسيع المُلك، " فلا ينبغي أن يمتلك أحدهم عقاراً خاصاً أو مخزناً، ويجب أن يتقاضوا من المواطنين دفعات قانونية أجرة خدمتهم حتى لا يحتاجوا في آخر العام ولا يستفضلون. ولتكن لهم موائد مشتركة كما في ثكنات الجنود. وأن يُخبروا أن الآلهة ذخرت في نفوسهم ذهباً وفضة سماويين فلا حاجة بهم الى الركاز الترابي، وأن نقود العامة فيها دخل كثير وهي مجلبة لكثير من الشرور ولكن ذهب الحاكم السماوي عديم الفساد، فهم وحدهم من بين كل رجال المدينة مستثنون من مس الذهب والفضة، فلا يدخلونها تحت سقفهم ولا يحملونهما ولا يشربون بكؤوس صيغت منهما، وبذلك يصونون أنفسهم ودولتهم. ولكنهم اذا امتلكوا أراضٍ وبيوتاً ومالاً ومُلكاً خاصاً صاروا مالكين وزراعاً فضلاً عن  كونهم حكاماً، فيصبحون سادة مكروهين لا حلفاء محبوبين".

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

...................

* نشرت الدراسة في موقع مراصد أيضا.

 

عندما يشعر الناس ان حياتهم غير أصيلة، فهم سيدركون ان هذه الحياة لا تستحق العيش. هذا الموقف يتجسد في قصة هاروكي موراكامي القصيرة بعنوان "عضو مستقل". يخبرنا القاص ان بعض الناس يعيشون حياة اصطناعية، مبتعدين كليا عن الواقع، "ولكن صدفة، يشرق ضوء خاص نحوهم" ويكتشفون الآن عدم واقعية آلية عمل حياتهم الداخلية" (رجال بدون نساء، 2017).

بطل الرواية يعيش حياة تبدو قوية ومتوازنة وممتلئة بالرضا. غير ان الحب من جانب واحد يعكر توازنه، ومع انبثاق فكرة جديدة هو يكتشف ان الحياة التي بناها لنفسه بعناية هي فارغة وغير أصيلة. بعد ذلك هو يعاني من الجوع حتى الموت، كعقوبة ذاتية لكونه غير أصيل.

في (أخلاق الأصالة، 1992)، شخّص الفيلسوف الكندي تشارلس تايلور إنغماسنا المفرط في اللااصالة كجواب لثلاث مشكلات حديثة غير مريحة.

1- هناك قلق من ان فردانية الديمقراطية الليبرالية الغربية ربما ذهبت بعيدا.

2- رأسمالية الليبرالية الجديدة أنتجت عقيدة على نطاق واسع بان سيكون هناك حلا تكنلوجيا لكل مشكلة.

3- مجتمعنا التكنلوجي الصناعي يقيّد خياراتنا الفردية، بحيث جعل من الصعب الحفاظ على اسلوب حياة الفرد الحقيقية، مثل ( حياة بعيدة عن وسائل الراحة الحديثة). ان رد الفعل على هذه المخاوف أنتج المبدأ المعاصر في ان تكون "صادق لذاتك" كي تحقق حالة الإنجاز الذاتي الأصيل.

أشار والتر بنيامين الى ان احدى خصائص الحداثة هي ان "الغموض يستبدل الأصالة" (شارع باتجاه واحد، 1928). الغموض يأتي لأننا غير متأكدين من كيفية التمييز بين الزائف والحقيقي. هذا يصبح انطباعا عاما بان الصورة تشوه الواقع وان التمثيل حل محل الواقعي. نحن نبحث مكرهين عن الأصالة لأننا نشك بان تجربتنا ليست واقعية تماما، وانما هي في الحقيقة زائفة. هذا الشك، في حدّه الأقصى يقود الى الإنغماس بالأخبار المزيفة ونظريات المؤامرة، وكذلك الايمان باننا نعيش بنوع من المحاكاة، وبهذا لا شيء واقعي. المأزق هو ان المجتمع الذي يبحث مجبرا عن الأصالة هو مجتمع منفصل عن الواقع.

أصل الأصالة

لكي نجد الأصل الفلسفي للأصالة علينا الذهاب الى الفيلسوف جان جاك روسو (1712-1778). خلافا لمعظم أقرانه، جادل روسو بان التأكيد الأحادي على العقل يعزلنا عن الواقع ويجعلنا غرباء عن ذواتنا الأساسية، ويقود الى الخداع والنفاق. الرجل الطبيعي لدى روسو يتمثل عبر الوحشية النبيلة وامتلاك الخيرية الأصيلة. نحن المخلوقات المتحضرة يمكنا فقط الأمل باستعادة الأصالة عبر الابتعاد عن النخب المتعلمة والإنغماس في الطبيعة، على سبيل المثال، الذهاب في سفرة طويلة بين الغابات والجبال.

العديد من رومانسيي القرن التاسع عشر، مثل غوتو و بيرون و شيليس، اقتفوا أثر روسو، في الذهاب الى سويسرا حيث الغابات والإرتعاش في رهبة الجبال. هذه الحاسية الجديدة قادت الى كل انواع الموضات الإبتكارية بين النخب الثرية: إرضاع الطفل بدلا من استخدام مرضعة اخرى، وارتداء ملابس تقليدية، رسم مشاهد عاطفية لحياة القرية، وتأليف موسيقى مرتكزة على أنغام الفلكلور. هذه الأصالة وجدت أفضل تعبير لها في عمل الشعراء الرومانسيين مثل الشاعر وردسورث. هذا السعي للأصالة يسعى خصيصا الى ربط التطور الفردي مع الخيرية الطبيعية، لكنه يبقى عملا صعبا.

رأسمالية الأصالة

في بداية الستينات، جادل الفيلسوف الألماني ثيودور ادرنو بان رطانة "الأصالة" تساهم بـ "نرجسية جماعية" "موحدة في تبجيل الايجابية" (رطانة الأصالة، 1964). وفي مقال في نيويورك تايمز لكل من سيمون كرشلي و جامسن ويبستر بعنوان "الانجيل طبقا لي، 2013" جادلا بان "انجيل الاصالة"هو ايديولوجية "صناعة ازدهار الذات"التي تغذيها الروحانية الجديدة المربحة. اليوغا الحارة، دورات في الذهنية والتأمل، العلاج الطبيعي، المساج والمنتجعات الصحية، التخلص من السموم، حلقات التدريب، ومتطوعو السياحة، هذه كلها تجسيدات لطبقة وسطى تسعى لحياة أصيلة. انظر لشاب مهني يسافر الى تايلند لكي يتخلص من الإجهاد ويعمل على تركيز الذات، يدفع الالاف اسبوعيا في مكان ديني لممارسة الصمت وتناول الرز الابيض وصحنين من الشوربة الخفيفة يوميا. من وجهة نظره، هذا يبدو أصيلا. لكن النظر اليه من الخارج قد يبدو للمرء سخيفا.

كرشلي و ويبستر critchley&webster يحذران بان رأسمالية الشركات اختطفت البحث الحقيقي عن الأصالة والى حد ان "الفرق بين العمل و اللاعمل يصعب تحديده". في مكاتب بحث غوغل في زيورخ تجد العمل والمتعة ممتزجين بفعاليات مثل اليوغا والتأمل المتوفرين مجانا (بالاضافة الى طعام عضوي من النبات والبسكويت). العاملون يُشجعون للتوقيع على فعاليات التسلية. غير ان هذا يخلق ضبابية في التمييز بين العمل واللاعمل والذي بالنهاية يقود الى ارتفاع كبير في القلق. الفيلسوف باينج هان Byung chul Han أطلق على هذا بـ "عنف الإيجابية". هنا "المشاريع والمبادرات والمحفزات تستنزف موضوع الإنجاز الموجّه، بما يقود الى استنزاف ذهني وبدني كامل (مجتمع الاستنزاف، 2015).

في عام 1849، جادل ابو الوجودية (سورن كيركيجارد) بان الذات "هي في عملية صيرورة، لأن الذات في الحقيقة هي ليست حاضرة، انها فقط ما يأتي الى الوجود". أتباعه من الوجوديين في القرن العشرين، مثل سيمون ديبوفير وجين بول سارتر رأوا ان الذات هي مشروع يتم العمل به. لكن المشروع اختُطف الآن من ثقافة الشركات. يرى هان ان الاقتصاد الليبرالي الجديد يجبرنا على قبول الأداء المرتكز على الثقافة. وكما تنبأ ادورنو، هذا يساهم في النرجسية وبالنهاية الى الاستنزاف المعنوي Burnout.

الفنانة البلجيكية ناتاشا ماليو، في معرضها لعام 2022 (مسرح اثينا) أظهرت كيف ان متابعة التفرد تحت ستار الأصالة يقود الى السخافة. مع نصب الكاميرات بعناية في مواقع مشهورة في الانستجرام، وباستعمال فاصل زمني لمدة 60 دقيقة، هي أنتجت فنا تصويريا كشف عن ان العشرات من الناس يقومون بالضبط بنفس الأشياء: يتخذون مواقف مشابهة لتسجيل تجاربهم الأصيلة لمتابيعهم على الانستجرام. والدراسات كشفت بفضل الإلتقاء بين الانستجرام وعمليات التجميل، ان الوجه الغربي اصبح قريبا لمنظر واحد. وفي السعي نحو الاصالة، ومع مزيد من الوقت سوف نبدو جميعا كثيرا مثل النجمة الاعلامية كم كارديشين.

الأصالة والتعليم

لوحظ ذات مرة ان متحدثا امام مجموعة من الطلبة الخريجين يقول لهم "انتم جميعا مدراء تنفيذيين لمستقبلكم الخاص بكم". لم يعترض احد على الافتراضات الايديولوجية الكامنة في هذا الإعلان. المدير التنفيذي كإله، يجلب المستقبل للحاضر، الحرية المطلقة للافراد في التحكم وتحديد مصيرهم، امكانية تحقيق الأصالة ضمن فضاء الشركات. يجادل هان بان "الاستغلال التلقائي" لـ "مبادرة الذات" يقود الى ان يصبح "انجاز الفرد" مجرم وضحية و "سيد وعبد" في وقت واحد. (عذاب الحب، 2017).(1)

السعي الكاذب للأصالة يبدأ في مدارسنا، حيث الهدف هو ان تعد الشاب لعبودية الشركات. وكما يصف ذلك الفيلسوف سلافج زيزيك Slavoj Zizek "الشاب يباشر عملية تعليمية لكي يندمج ضمن النظام الاجتماعي المهيمن، وهو ما يفسر لماذا تعليم الشباب يلعب دورا محوريا في إعادة انتاج الايديولوجية الحاكمة" (أشبه بلص في وضح النهار، 2018). الدراسات في الانسانيات، مثل الفلسفة والفنون هي دائما ما يجري تجاهلها، حيث يتم تشجيع مواضيع العلوم والتكنلوجيا والهندسة والرياضيات STEM لأن المدراء التربويين يعتقدون ان هذا هو ما يطلبه أرباب العمل. المدرسون يدّعون تنفيذ "تعليم أصيل" عبر بناء سيناريوهات يحل فيها الطلاب ما يسمى قضايا "العالم الواقعي" (بافتراض اننا نعرف كيفية التمييز بين العالم الواقعي وغير الواقعي).

هذا يستلزم حل المشكلة باسلوب يجري اعتماده في مدارس الأعمال. الطلاب يوضعون في مجموعات تعاونية، منخرطون في محاكاة لـ "العالم الواقعي" ويقدمون حلولا. لكن البعض يشعر ان تشجيع المراهقين للتصرف مثل قادة الشركات لعرض حلول لقضايا مثل، ارتفاع اسعار الطاقة او كوارث المناخ، هو أقرب الى الخيال السخيف، ويشبه الفيلم الامريكي بيت غوتشي. هذه هي "الصيغة التكنوقراطية المنتجة" للتعليم، التي هدفها الوحيد جعل الناس جاهزين لسوق العمل. اثنان من بين العديد من التأثيرات لهذا هما اولا، ان الطلاب سيرون العالم كخزان او كمصدر للنهب لكي يطوروا عملهم المهني و ثانيا، ان الحياة الأصيلة هي مشروع لا نهاية له يعتمد على النجاح في عالم الاعمال. هذا السعي الإجباري اللامحدود يساهم بما يسميه زكزك "عهد الانتهازية الساخرة االمصحوبة بقلق دائم".

سارتر جادل بان "الوجود يسبق الماهية"، بما يعني ان حياتنا مشاريع لا تنتهي نستطيع صياغتها من خلال أفعال الرغبة. لكن السعي الحديث لحياة أصيلة يبدو اصبح مشروع أعمال لمدى الحياة يوضع في السيرة الذاتية.

نحن ربما نقول ان الأصالة المعاصرة هي اسطورة مبنية على وعد بان التكنلوجيا تستطيع حل جميع المشاكل. ثقافتنا التكنلوجية تقودنا لإعتبار الطبيعة مجرد مستودع تخزين، او موارد تنتظر الاستغلال. الغابة تصبح مصدرا للخشب، قطعة الارض تصبح مصدرا ممكنا للغاز او البترول او لتربية الماشية او لبناء منازل. الطلاب نظروا للتدهور البيئي او الفقر الواسع كمصدر- فرصة لأداء بعض الاعمال الطوعية لتعبئة السيرة الذاتية. هذا الاستغلال للطبيعة يدعونا لإعتبار الانسانية كمصدر ايضا، وان هيمنة الليبرالية الجديدة يعني ان الشركات لم تعد بحاجة لإخفاء حقيقة ان الانسان عُلّم كمصدر(ولهذا نجد في كل مكان قسم الموارد الانسانية). من المفارقة، ان هذا النظام الذي يسحق الفردية اختار السعي نحو الاصالة، يخلق وهما بان المرء يمكنه العثور على الاصالة عبر الخضوع لها – عبر التحول البهيج لمورد انساني، أداء حياة تعكس السيرة الذاتية. هذه الايديولوجية غير مرئية لكنها في كل مكان تؤثر وتحدد رغباتنا. وكما يرى تايلور، هناك دائما اناس يرغبون بالتضحية بأقرب علاقاتهم لكي يطوروا امكاناتهم المهنية، لكن "حاليا يشعر العديد من الناس انهم ينبغي عليهم القيام بهذا، يشعرون ان حياتهم ستكون تافهة او غير منجزة ان لم يقوموا بهذا". (أخلاق الاصالة).

الوجود نحو الموت Being-Towards-Death

احدى افكار مارتن هايدجر هي ان كونك انسان يعني كونك في العالم. الثقافة توفر وسائل للراحة في العالم وادراك بان شيء ما اكثر قيمة من الاخر. هنا يبرز مأزق، لأن بناء حياة فرد أصيلة يبرز ضمن افق الأهمية التي وضعها المجتمع. وجود هايدجر في العالم يتميز بـ "سقوط" معين دون اختيار. مصيرنا هو اننا اُلقي بنا نحو زمن محدد وضمن جغرافيا مجتمعية وفي جنس وأثنية وطبقة وما شاكل. لا شيء من هذه من اختيارنا. في محاضرته عام 1947 "رسالة حول الانسانية" جادل هايدجر باننا كثيرا ما نقع في حالة يسميها "السقوط" او "الوقوع في شرك": نحن نسقط في ثرثرة الحياة اليومية بقلقها المستمر وهمومها، لكن هذا يقودنا الى الإبتعاد عن جوهر ما يعنيه حقا ان تكون انسانا أصيلا. بدلا من ذلك، في حالة السقوط هذه، الذات هي "ذاتهم"، تعيش ضمن وباتجاه أفكار الآخرين. الشخص الساقط ربما هو متحدث ممتاز، او يحتفظ بمجموعة كبيرة من الاتصالات، او ربما هو شبكي جيد. في هذه الايام، الشخص الساقط هو الذي يؤسس حضورا مصمما بعناية في الاون لاين. هو ما اُعتبر من جانب الكثرة "كنجاح". لكن سقوط الفرد استسلم لما اسماه هايدجر بـ "التشرد الذي يرتعش فيه بلا هدف ليس فقط الانسان وانما جوهره " (رسالة حول الانسانية).

يتفق هايدجر مع ماركس بان المجتمع الصناعي ينتج الإغتراب، لكن اغترابه له جذوره في التشرد الذي "سيصبح مصير العالم". يرى هايدجر ان هناك قلق واحد نحاول ان نتجنبه بأي كلفة – نحن وحدنا بين الحيوانات نمتلك المعرفة باننا سنموت. الموت ربما بعيد لكنه لايزال افقا حاضرا الى الابد يستثمر العيش بأهمية حتى عندما ننكره.موتي هو الإمكانية التي مقابلها أعيش – حتمية سوف تنهي كل الاحتمالات. وبهذا المقدار، معرفة فنائي يعني ان موتي هو سلفا هناك. الموت حاضر حتى وهو غائب. انا لايمكن ابدا ممارسة موت شخص آخر. الموت غير علائقي – موتك خاص بك وموتي هو لي وحدي. كذلك، موتي هو يقين. لذا بالنسبة لهايدجر، توقّع موت المرء يعني ان تكون أصيلا: لتكون مطّلع تماما بان الموت هو حتمي، يمكن ان يحدث في أي وقت، ولذلك هو دائما أمامي – هذا الوعي المكثف يكشف ذاتي الأصيلة. وفي غير ذلك انا أعيش في انكار، لذا انا غيرأصيل. وبكلام عام، نحن نفر من القلق الناتج عن فكرة موتنا، وهذا يقودنا الى فقدان الأصالة.

الصحة والصناعة المضادة للشيخوخة، الانغماس بالصحة البدنية والنضارة، كله ينكر الموت ويهرب من الاصالة حتى عندما يكيّف لغة الاصالة. اليوم، نحن نشعر بالموت عبر إغراق انفسنا في عالم الثرثرة بدلا من راحة الدين. مع ذلك، بالنسبة لهايدجر، فقط عبر جعل موت المرء حاضرا في حياته من خلال احتضان الوجود – نحو الموت – يمكن للمرء ان يعيش حياة اصيلة. اذاً، عبر الاستماع لقلق النهائي الناتج عن المعرفة باني سوف اكون في لحظة ما غير موجود، انا اعيش حياة اصيلة. افلاطون يتفق في ذلك. في حوار فودو، سقراط يشير الى ان هدف الفلسفة هو "ممارسة الموت". اما الفيلسوف مونتاغن Montaigne فقد صاغ عبارة "لكي تتفلسف يعني ان تتعلم كيف تموت".

فن الأصالة

العديد من الفلاسفة مثل هايدجر، يرون ان أعمال الفن وسيلة للاقتراب من تجربة الأصالة. الكثير من ثقافة البوب الحديثة تمجّد الشباب وتنكر الموت. كلمات ديفد باو David Bowie "النسيان سيمتلك والموت وحده سيحبك" تُعد استثناءً. في اوبرا ريتشارد واغنر (1876) يحذرنا من انه حتى اولئك الذين يبدون كأنهم لا يُقهرون هم جميعهم عرضة للفناء. بدءاً من (الموت والشر، 1513) مرورا بالفن الهولندي في قرن السابع عشر، وحتى فن نشطاء الايدز في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، كان الفن دائما يواجهنا بحقيقة الموت غير المريحة. هناك جناح في متحف زيورخ يدعونا لاحتضان وجودنا نحو الموت.

التأمل في الفن العظيم يجعلنا نرتعش بسعادة غامرة حتى عندما يواجهنا بحضور موتنا القادم. يجعلنا نشعر بحياة اصيلة، او ربما هناك من يعارض ويقول انه سيجعلنا نبدو سخفاء. تاثير هايدجر في الفلسفة القارية كان هائلا. مع ذلك، هناك شيء غير مقبول في فكرته عن الوجود نحو الموت كأصالة، وذلك لسببين:

1- هناك نقد ادرنو بان هذه العقيدة تقود الى "العودة لعبادة الموت"(رطانة الأصالة).

2- بينما صحيح ان المرء لايمكنه ابدا اختبار موت شخص آخر، لكن هل يمكن للمرء اختبار موته هو؟ عندما يقترب الموت لايزال الشخص حيا، لم يمت بعد. حالما يموت لم يعد موجودا، وسوف لن يكون قادرا على أي تجربة. لذا، هل بامكان انا التي توجد بالأصالة تتأمل انا الغير موجودة؟ في التأمل البوذي، الهدف هو تحقيق الانفصال عن وهم الوجود المستمر. لكن الممارس لا يتأمل في اللاوجود. مع ذلك يبدو ان هايدجر مقتنعا باننا نستطيع الوعي بعدم وجودنا المستقبلي وهو ما لا يبدو صحيحا.

استنتاج

في "رسالة حول الانسانية" يرى هايدجر ان الأحاديث الكسولة تقود الى "تحطيم اللغة" (البعض بلاشك سوف يتهم هايدجر المحب للتعابير الغامضة، في انه ساهم بهذا التحطيم). ذكر الفيلسوف الروماني E.M.cioran ان الكلمات تصبح "تافهة عبر الاستعمال"، وعندما تتكرر كثيرا، "ستضعف وتموت". من خلال الاستعمال المفرط، يتحرر الدال (الكلمة المكتوبة او الملفوظة) من المعنى او الفكرة المتعلقة به، وسيحصل اللامعنى. هذه هي المشكلة في الكثير من الضوضاء المحيطة بنا. نحن سقطنا في الاحاديث التافهة، وسقطنا عميقا لدرجة اننا لا نعي مأزقنا.

مفردة "أصالة" تبرز في كل مكان. انها تعني عدة أشياء. فيها تُباع البيرة وعمليات التجميل. هي تبرر التعليم الابتكاري. تقترح ان نكون مشككين بكيفية ان نعيش. انها تتحدانا لنغيّر ما نحن فيه. لكن "عبادة الأصالة" كما سماها ادرنو، تجعل من غير المرئي كيفية تشكيل وإعادة تشكيل الفرد بواسطة الظروف التاريخية والمؤسسات. اذا كنت تشعر بالقلق او إرهاق العمل، ذلك عيبك لأنك لاتقود حياة أصيلة. الحل هو ان تعمل جاداً في النمو الشخصي والمهني وفي نفس الوقت تعالج نفسك بممارسة اليوغا او العلاج المعرفي، بدلا من نبذ المؤسسات التي تستغلك. وهكذا، فان مفردة "أصالة" التي غُلّفت في اللغة الليبرالية الجديدة كإيجابية وتحرر، اصبحت ذاتها بلا معنى ومدمرة وسخيفة.

***

حاتم حميد محسن

......................

الهوامش

(1) في كتاب عذاب الحب (The Agony of Eros) ينظر المؤلف هان في مخاطر الحب والرغبة في مجتمع اليوم. هو يرى ان الحب يتطلب الشجاعة لقبول انكار الذات لأجل اكتشاف الآخر. تتمحور الافكار الرئيسية في الكتاب حول التالي:

تآكل الآخر: حيث ان المجتمع الحديث أضعف الآخر وهو ما يقود الى خسارة الحب.

إنقاذ الجمال: يرى هان ان الجمال اصبح قيمة استهلاكية يجري استغلاله وتشويهه في العالم الحديث. إنقاذ الجمال يمكن ان يتم بالعودة الى سمو الجمال وسلبيته، والالتزام بالجمالية التوليدية والصادقة.

الإخلاص: يحتضن الكاتب فلسفة ألان باديو الذي يؤمن بان مهمة الفلسفة هي ان تكون مخلصة لما يشدنا الى بعضنا. هان يرى اننا يجب ان نحاول مسايرة كل أجزاء الحياة وليس فقط عندما تكون ممتعة.

 

تمهيد إشكالي: تشكل المُحاجَّة أو المُحَاجَجَةُ قدرةً من القدرات الأساسية الكبرى في للدرس الفلسفي، لأنها تأتي في الترتيب -حسب ميشيل طوزي ومن معه- بعد كل من المفهمة والأشكلة، سنحاول التعرف في هذا المقال على هذه القدرة الحجاجية ومدى قيمتها في الدرس الفلسفي خصوصاً والفلسفة عموماً، لأنه لا أحد ينكر أن البناء الحجاجي يشكل خصيصة التفكير الفلسفي عبر تاريخه، أقصد هنا المُحاجَّة، خاصة وأنه يمكن تعريف الفلسفة بكونها ذلك المجال النشيط والخصب بالحجاج، فلا وجود لفيلسوف قدم رؤيته للعالم بدون إستخدام إستدلالات منطقية تحكم متنه الفلسفي ولا يمكن أن يوجد، وهذا ما نلحظه عندما نغمر أنفسنا في قراءة الأفكار الفلسفية، لدرجة أن هذه المحاجة أخذت إستقلالها في تاريخ الفكر، وبدأنا نتحدث عن نظرية الحجاج، ونظرية المنطق وآليات الإستدلال، ثم المنطق الرمزي المعاصر، وأيضاً فلسفة الحجاج المتمثلة في نظريات وأنماط الخطاب ونظريات البلاغة، وفلسفة اللغة، ثم الفلسفة وأنماط التعبير وإمتدادات ذلك إلى النظرية التداولية وأنماط التواصل، والإتجاهات الأسلوبية في اللسانيات المعاصرة، كما أصبحنا نتحدث أيضاً عن الإتجاهات السيميائية في تحليل الخطاب، وهناك من يدعي من رواد العلوم المعرفية وعلوم الأعصاب البعد السيكولوجي للحجاج، ودليلهم على ذلك أن الوظائف الدماغية والعصبية للحجاج لم تخضع بعد للتحليل العلمي الدقيق، ويصرون على تأكيد البعد الحجاجي للوظائف الدماغية موضوعاً لعلوم الأعصاب والعلوم المعرفية عموماً، ما يعني حسبهم أنه يجب تقويض الخطابات الأدبية والفلسفية عن موضوع الحجاج، كل ذلك في حقيقته ناتج عن النظرية الحجاجية وإنفتاحها على كل الميادين البحثية الأخرى، لذلك سنحاول الإنطلاق من مجموعة من الأسئلة الموجهة للتحليل والمناقشة بغرض التعرف على قدرة المحاجة في الدرس الفلسفي، وهي كالآتي:

ماذا نقصد بالمحاجة؟ والدلالات المتداخلة معها؟

ما هي منزلة قدرة المحاجة في الدرس الفلسفي؟

ما الذي جعل من المحاجة قدرة أساسية في الفلسفة من خلال تاريخ

الفلسفة؟

ننطلق في مقدمة عرضنا، للإجابة على السؤال الأول المتعلق بالمعنى المراد من المُحاجة، يخبرنا أندري لالاند في المعجم النقدي والتقني للفلسفة بأن «الحجة argument  هي عبارة عن إستدلال يرمي إلى برهان قضية معينة أو دحضها» [1]، إذن هذا التعريف الأولي يخبرنا بأن الحجة هي عبارة عن ذلك الإستدلال الذي غرضه البرهان على قضية معينة أو حتى دحضها وتفنيدها، ما يجعل من الإستدلال خصيصة من الحجة، وبالفعل فالنظرية الحجاجية تستند كثيراً إلى نظريات الإستدلال وآليات البرهان، خاصة وأن الحجاج argumentation  هو عبارة عن «جملة من الحجج التي يؤتى بها للبرهنة على رأي أو إبطاله، أو هو طريق تقديم الحجج أو الإستفادة منها» [2]، إذن يعبر الحجاج عن مجموعة منظمة بدقة ومتنوعة من الحجج والبراهين والإستدلالات التي الغرض منها المحاجة على أي تصور أو محاولة دحضه وتكذيبه وتفنيده وذلك من خلال عرض الحجاج أو إستعمالها أثناء عملية عرض الأفكار، وبالتالي تصبح عملية المحاجة جزءاً لا يتجزأ من عمل الفيلسوف، أما البرهان فيختلف إختلافا قاطعا عن الحجة، يقول عنه لالاند أنه «إستنتاج يهدف إلى إثبات لزومه أو نتيجته إستنادا إلى مقدمات معترف بها أو مسلم بها على أنها صحيحة» [3]، إذن ما يميز البرهان هو أنه إستنتاج في الحقيقة، ينطلق من تلك المقدمات التي تكون مثبتة أو من مسلمات على أنها صائبة، لذلك سيعتبره جميل صليبا على أنه «حجة قاطعة» [4]، إذن من هنا يجب علينا التمييز جيداً بين البرهان والإستدلال والحجة والمحاجة، وذلك من خلال فهم الحجاج ورصد العمليات الحجاجية عن طريق إستكشاف الإستدلالات منتبهين إلى الروابط المنطقية، كما يجب التفريق بين ما هو دعوى وما هو دليل، خاصة من خلال التمفصلات المنطقية Les articulations logiques inhérentes à tout discours philosophique الموجودة دائماً في أي خطاب حجاجي، وبالتالي الكامنة داخل كل خطابي يدعي أنه فلسفي، وترتيب الإستدلالات المتجلية في الأفكار سواء كانت كلية أو جزئية "L'enchaînement des arguments dans un discours philosophique"، كما لا يجب علينا الفصل بين ما هو منطقي إستدلالي صوري وبين روح الأفكار التي تتجلى وظيفتها في الخطاب على شكل مفاهيم أو عبارات مربوطة ربطا منطقيا منظما دائما ومستدلا عنه، هذا ما يميز نظرية الحجاج.

لننتقل مباشرة إلى منزلة الحجاج في الدرس الفلسفي، بعد تعرفنا على المحاجة والدلالات المترتبة عنها من برهان وإستدلال، حيث تتجلى مرتبة الحجج في الدرس الفلسفي من خلال حث التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي على إعتباره «كفايات منهجية تمثل في إكتساب آليات التفكير الفلسفي الأساسية: المفهمة، الأشكلة، والحجاج، وأدوات التفكير الأخرى كالملاحظة، المقارنة، الإستدلال، التحليل، التركيب، النقد،... إلخ ؛  تحقيق التماسك المنطقي في التعبير والكتابة عن طريق التحكم في أدوات الربط المنطقي (إذن، فإن، سيلزم، لكن... إلخ).» [5]، كما أكد أيضاً على إعتبار أن الحجاج «يفترض دائماً نوعاً من الإستدلال والعرض المنطقي، بغرض الدفاع عن أطروحة معينة وكسب الإجماع عليها، كما يرتبط الحجاج بكل العمليات التي يوظفها خطاب ما لأجل التأثير على المتلقي وإقناعه وإثارة إنتباهه، وكسب موافقته على الأطروحات والمواقف التي يتضمنها ذلك الخطاب، ورغم إختلاف الحجاج، المعتمد في الفلسفة عن البرهان العلمي، فإن الخطاب الفلسفي يتميز بتنوع وكثرة العمليات الحجاجية، التي تساهم في جعله خطابا معقولا ومنظما، يستعمل تقنيات إقناعية منطقية أو شبه منطقية أو بلاغية » [6]، تجذر الإشارة هنا إلى أن الحجاج ليس خصيصة التفكير الفلسفي لوحده وفقط، بل يمكن إعتبار جميع أنواع التفكير الأخرى سواء العلمي [في شقه البرهاني] والديني والسياسي والقانوني،... إلى آخره، لها ما يميزها من الجانب الحجاجي إلا أن الفلسفة تتميز بغزارتها وتنوع وكثرة العمليات والطرق الحجاجية، التي تساهم في جعلها خطابا عقليا منظما متماسكا ومتراصا وقلعة حصينة بالحجاج تستعمل العديد من التقنيات الإستدلالية التي هدفها هو الإقناع والدفاع عن أطروحة صاحبها أو التفنيد في بعض الأحيان.

ننتقل الآن مباشرة للإجابة عن السؤال الأخير، ذلك المتعلق بالمحاجة ونظرية الحجاج عبر تاريخ الفلسفة، لتبيان أن المحاجة خصيصة التفكير الفلسفي بإمتياز، ذلك أن جميع الفلاسفة على مر العصور إستعملوا أثناء التعبير عن أفكارهم حججا وإستدلالات متراصة، بدءا من لحظة الميلاد مع الحركة السوفسطائية التي يحسب لها التأسيس لطريقة معقلنة للكلام مع كوراكاس Corax  إلى نظرية الحجاج مع أفلاطون التي تشكل لحظة الهدم والتقويض والنقد والدحض، خاصة النقد اللاذغ الذي وجهه للخطابة ولحجاج السوفسطائيين، إلى لحظة التأسيس الفعلي لنظرية الحجاج مع الأب الروحي أرسطوطاليس من خلال كتابه الشهير "الريطوريقا"، هذه اللحظة التأسيسية الأخيرة التي ستمتد كثيراً في تاريخ الفلسفة من القرن الرابع قبل الميلاد، -رغم ظهور نظريات حجاج جديدة مع شيشرون وكانتيليان إلا أنها نهلت الكثير من محاجة أرسطو مع حضور جوانب إبداعية- إلى حدود القرن العشرين الميلادي والذي سيعرف عصر نهضة الحجاج البلاغي مع بيرلمان وتيتيكا وإعادة إحياء الخطابة مع إستعمالات الحجة لتولمين، إذن كان غرضنا هنا، ليس التفصيل في كل نظريات الحجاج عبر التاريخ الفلسفي لها، بل إنما الإشارة إلى أن تاريخ الفلسفة لهو تاريخ نظرية الحجاج بإمتياز، كما أن نظرية الحجاج جزء لا يتجزأ من هذا التاريخ المديد.

على سبيل الختم، كان الغرض الأول من هذا المقال هو أولا التعرف على المحاجة بإعتبارها قدرة بنائية من القدرات الأساسية في مادة الفلسفة، وذلك من خلال تقديم تعريف محدد لها، بل وللدلالات المترتبة عنها، أقصد هنا البرهان والإستدلال والحجة، كما حاولنا الإشارة إلى أهمية ومرتبة ومنزلة هذه القدرة في درس الفلسفة، إضافة إلى إحالتنا وفقط على أشهر النظريات الحجاجية عبر تاريخ الفلسفة، التي أكدنا فيها على أن هذا التاريخ لهو تاريخ حجاج بإمتياز، بل ما يميز المتن الفلسفي هو كونه متنا حجاجيا، فكل فيلسوف إستعمل عُدَّةً متراصَّة من الحجاج أثناء عرضه لأفكاره، مما جعل المحاجة تنفتح على عدة مجالات أخرى وتمتد إلى المنطق وآليات الإستدلال، والفلسفة وأنماط التعبير، ونظريات الخطاب، والخطابة والبلاغة والجدل، وفلسفة الحجاج، ولها رهانات مع فلسفة اللغة، واللسانيات المعاصرة، بل حتى التداوليات، والأسلوبية، لتصل إلى السيميائيات.

لذلك نحث بضرورة الإنفتاح على الدراسات الحجاجية والبلاغية الجديدة، من أجل التعمق في معرفة النظريات الحجاجية ومذاهب الفكر اللغوي والحجاجي، وذلك للتمكن من آليات تحليل الخطاب كيفما كان نوعه، إن التمكن من المحاجة الفلسفية سيمكن من تجاوز الخطابات التافهة بل كشف وتشخيص المتناقضات والمغالطات المضمرة فيه، من خداعات لفظية نكتشفها كامنة في كل خطاب.

"Les pièges du langage inhérents à toute communication nous obligent à être vigilants dans notre choix des mots"

وكان غرضنا من هذا المقال المقتضب -في الحقيقة- هو التنويه بهذا التاريخ المخفي من الحجاج، وذلك بالإنطلاق من مشهورات الحجاج القديم إلى الحديث والمعاصر، من حيث أن هذا التاريخ نجده مليئا بالقطائع، خاصة مع البلاغة الجديدة مع كل من بيرلمان وتيتيكا، وعليه يكون هذا المقال بمثابة أرضية خصبة للإنتقال إلى الأساس الصلب لهذه النظريات، ويمكن عده مدخلاً للتعرف على الفلسفة كبناء حجاجي بغرض التوسع أكثر في دراسة نظرية الحجاج والخطابة والبلاغة.

***

محمد فراح – تخصص فلسفة

....................

المراجع والمصادر المعتمد عليها:

[1] – أندري لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، المجلد الأول A-G، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت -باريس، الطبعة الثانية، 2001، ص 93-94.

[2] – جميل صليبا، المعجم الفلسفي، المجلد الأول، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1982، ص 446.

[3] – أندري لالاند، المرجع نفسه، ص 260.

[4] – جميل صليبا، المرجع نفسه، ص 206.

[5] – وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، كتابة الدولة المكلفة بالتعليم المدرسي، التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، مديرية المناهج، نونبر 2007، ص 7

[6] – نفس المرجع، ص 10.

 

كان الدكتور عرفان عبد الحميد " 1937 – 2007 " - خريج جامعة كمبردج على يد المستشرق الشهير أرثر جون آربري-، متأثراً بأستاذه الانكليزي من ناحية اهتمامه بالتصوف الإسلامي وتاريخه ورجاله وآثاره، ومع أن اطروحته للدكتوراه كانت عن أثر الفكر الإعتزالي في فكر الشيخ المفيد إلَّا أنه قدم الكثير من البحوث الصوفية ومنها كتابه " نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها ".

ومن محاضراته المهمة التي كان يؤكد على طلبته لتدوينها بدقة، تلك المحاضرة التي تحدث فيها عن الخصائص العامة المشتركة للتجربة الصوفية، فهذه التجربة هي تجربة إنسانية عالمية في خصائصها، وتسقط فيها من الاعتبار عوامل الزمن والمكان والجنس والعنصر. وقد وردت تلك الخصائص متفرقة في مدونات صوفية عالمية لعدد من كبار الفلاسفة الغربيين، أمثال وليم جيمس في كتابه "إرادة الاعتقاد"، وهنري برغسون في مؤلَّفَيْهِ المعروفين "منبعا الدين والأخلاق" و" التطور الخَلّاق"، وبرتراند رسل في كتابه "المنطق والتصوف"، كما ذكر بعضها المستشرق الإنجليزي نيكلسون في كتابه الشهير عن التصوف الإسلامي وتاريخه. ومن تلك الخصائص قيام التجربة الصوفية على اعتقاد أولي مفاده أن ثمة منهجًا للمعرفة قوامه الكشف والإلهام والحدس والبصيرة النافذة، وهذه المعرفة حكمة خالصة تتميز بالإطلاق والمباشرة، وأنها قائمة على صدقٍ يقينيٍّ يتجاوز كل معاني الشك والريبة، وهي بهذا تتجاوز فتتسامى عن المعرفة العلمية التي طريقها العقل والحواس. ولكون هذه المعرفة هي وليدة الاستدلال والانطباعات الحسية، فهي معرفة غير يقينية، وبطيئة ومتدرجة وقابلة للتحول والتغيُّر فلا ثقة بها. والتجربة الصوفية ترفض كل تناقض أو تعارض أو تعدد أو كثرة في الوجود الطبيعي المادي، وترى أن الكثرة والتعدد والاختلاف والتناقض، إنما هي مظاهر خادعة، ووهم لا صحة فيه، ومن ثم فإن هذه التجربة تنظر إلى الوجود كونه وجوداً واحداً، أزلياً أبدياً، لا قسمة فيه ولا تعارُض، وإن هذا الوجود الواحد هو الوجود الحقيقي الكلي، أما التعدد والكثرة والتناقض والتعارض فليست سوى تجليات ومظاهر لهذا الواحد الكلي والحقيقي. ومن هنا ترفض المعرفة الصوفية عالم الظاهر والمظاهر، وتعدَّهُ مجرد أوهام وخيالات لا تنبئ عن حقيقة ثابتة. ويترتب على هذا الرفض للقسمة والتعارض رفض الاعتراف بالزمن، فيغدو الزمان أيضاً غير قابل للقسمة، فتتساوى أطراف الماضي والحاضر والمستقبل، بلا تفاوت بينها. ولأن التجربة الصوفية تجربة ذاتية تعبر عن فردانية خالصة، ولأنها أسقطت من الاعتبار العقل والحس كأدوات ووسائط إلى المعرفة، ولأنها تنتهي في دعوى أهلها إلى معرفة كشفية ذوقية مفاجئة ومباشرة، فقد أصبح من المتعذر على صاحب هذه التجربة أن يُعبر عما كُشف له وذاقهُ ذوقاً مباشراً، تعبيراً باللغة العادية، ولهذا قيل عن التجربة الصوفية، أنها غير قابلة للنقل إلى الآخرين. ومن هنا يجهد الصوفي نفسه من أجل تعريف الآخرين قدر الممكن والمستطاع بمضمون التجربة الروحية هذه، التي لا يمكن التعبير عنها مباشرة، ومن ثم اللجوء إلى التعبير الغارق في الرمزية، محاولة من الصوفي للتعبير عما يستعصي على التعبير. مثلما وصف أئمة التصوف الإسلامي تجربتهم على أنها تؤدي بصاحبها إلى الخَرَس. ثم إن التجربة الصوفية أو الروحية أو الجوّانية، تَسوق عادة إلى عدمية، تتفاوت في درجاتها من دائرة إلى أخرى، وتتشخص هذه النزعة العدمية عادة في صور شتى، منها إسقاط التكاليف الدينية وتجاوز المحرَّمات، ونزعات الاستباحة، والخروج عن قواعد الدين والنواميس والعادات المألوفة المُتَبعة، باعتبار أن هذه التكاليف، وتلك النواميس ، قيودٌ لا تربط العارفين – كما يقولون – فأسقطوا بذلك تناقضات العالَم المادي كلها باعتبارها أوهاماً لا تنبئ عن حقيقة. ومن صورها أيضاً، التسوية بين العقاب والثواب، والجنة والنار، والخير والشر، والصدور عموماً عن نزعة جبرية صارمة، جبرية إلهية كانت أم طبيعية – بحسب وحدة الوجود، هل هي وحدة وجود مؤلَهة أو طبيعية – كما جاء عن ابن عربي وغيره، الذين قالوا بالتفرقة والتمييز بين الأمر التكويني الذي قُدر بموجبه الإنسان منذ الأزل ما هو، وبين الأمر التكليفي، بمعنى الانصياع لأوامر الأمر والنهي في التكاليف. وبهذا الاعتبار تصحيح إيمان إبليس وفرعون، من حيث امتثالهما للأمر الإلهي التكويني - هكذا خلقهما الله - مع أنهما عصيا الأمر التكليفي أسجد، إذ يقول إبليس، لا أسجد:  " وَإذ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلَّا إبْلِيسَ" . وتَظهر في دائرة التجربة الصوفية عادةً نزعة ثابتة – وإن اختلفت وتفاوتت في درجاتها – تدعو إلى إسقاط الفوارق بين الأديان، باعتبارها طرقاً مختلفة تؤدي إلى غاية معينة، لا اختلاف فيها، هي محبة الله، وإسقاط الفواصل والحواجز والموانع بين الإنسان وربه. ومن هنا دعوى الصوفية إلى عدم التقيُّد بمراسم الأديان باعتبارها قيوداً لا تربط العارفين بالله، وإن على الصوفي أن ينظر إلى الأديان على أنها تمثل حقائق نسبية، هي أدنى من الحقيقة الكلية التي يجهد الصوفي من أجل الوصول إليها والتحقق بها . ونجد صدى هذه النزعة عند الكثير من أكابر المتصوفة المسلمين، أمثال ابن عربي، وجلال الدين الرومي، بل وعند جميع فلاسفة الصوفية المُبَشِّرين بنظرية وحدة الوجود، أو الوحدة المُطلقة، من حيث إنهم ينظرون إلى الأديان المختلفة على كونها مظاهر وتجليات للذات الإلهية الواحدة التي تسمو – بحكم طبيعتها – على التعدد والاختلاف. وأخيراً، فإن التحليل الجواني للتجربة الصوفية، يشير إلى أن سالكي طريق التطهر الروحي، والسمو الأخلاقي، لابد وأن يمرُّوا بحالات من القلق، وعدم الراحة، وذهاب الطمأنينة، وفقدان الثقة بمعارفهم العقلية والحسية، وهي الحالة التي أسماها الباحثون " الليالي المظلمة "، والتي عندما تبلغ ذروتها وشدتها وتوترها النفسي الحاد، تغدو تمهيداً واستباقاً لحالة " الصحوة " التي تليها. وتشير الدلائل إلى أن هذا التحول والانتقال من القلق إلى الطمأنينة – وهو ما أسماه برغسون التحول السكوني إلى الحركي – يكون عادة فجائياً وسريعاً، بحيث يتحول الصوفي من القلق إلى الراحة، ومن الشك إلى اليقين، وهذه الحالة هي ما يسميه الباحثون أيضاً بـ " التصوف الكامل"، بمعنى: إن النفس الإنسانية، وقد خاضت تجربة التوحد مع المطلق، وما تسبق هذه التجربة من حالات التوتر والقلق، يعود الصوفي بعدها إلى صحوة، بعد أن اختصه الله بنوع صلةٍ مميزة مخصوصة، يحاول من خلالها ضرب المثل للبشرية، وتقديم خلاصة تجربته لها، تطويراً داخلياً جوانياً للذات الإنسانية. " يُستزاد في هذا الموضوع من: نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها، الدكتور عرفان عبد الحميد فتاح، المكتَبُ الإسلامي، بيروت 1974، والمعرفة الصوفية – دراسة فلسفية في مشكلات المعرفة ، ناجي حسين جودة، دار عمار، عمّان، دار الجيل، بيروت 1992 .

 إن إسقاط الفوارق بين الأديان، وغيرها من الخصائص المشتركة للتجربة الصوفية، يمكن أن تنطبق على أية تجربة صوفية داخل أي دين من الأديان، سماوية كانت، أم وضعية، ولا تقتصر على الدين الإسلامي مطلقاً. مثلما نجدها في التاويَّة الصينية على سبيل المثال، ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن البحث في الفلسفة الشرقية عموماً، والأديان والنِحَل والفِرق والجماعات الروحية الآسيوية الشرقية، ليس بالأمر الجديد، ذلك أن الكثير من الباحثين الغربيين المحدثين، انتبهوا في وقت مبكر إلى هذا الأمر. ومن أوائل الباحثين العرب الذين بحثوا فيها الدكتور محمد غلاب، أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر المصرية، وخصَّص لها كتابه الشهير " الفلسفة الشرقية "، الذي صدرت طبعته الأولى في القاهرة سنة 1938، وفيه مبحث عن الفلسفة الصينية يشير فيه إلى فضل العالِم زانكير وأمثاله الذين " كشفوا للعقل الحديث عن ناحية مهمة من نواحي الفكر البشري كانت مجهولة لدى العامة، ومعروفة معرفة مشوهة عند الخاصة. ولهذا الجهل أو التشويه ثلاثة أسباب، الأول صعوبة اللغة الصينية إلى حد يتعذر معه إتقانها واكتشاف أسرارها، والثاني فقدان الثقة نهائياً من جميع الترجمات التي نَقلت النصوص الصينية إلى اللغات الأوروبية، والثالث هو ذلك الغرور الأوروبي المتعجرف الذي ظل إلى ما قبل هذه السنوات الأخيرة يجزم في طفولة بأن أول فلاسفة الدنيا هو طاليس، وأن العقلية الشرقية – ولاسيما الجنس الأصفر – غير قادرة البتَّة على أن تنتج آراء فلسفية ذات قيمة عالية، إلى غير ذلك من الدعاوى السطحية التي أنزلتها البحوث الأخيرة عن الفلسفة الصينية منزلة الخجل والسخرية". كما يشير الدكتور غلاب في مبحثه هذا إلى الفيلسوف الصيني لاو تسه، واضع فلسفة وكتاب " تاو تي تشنغ " الذي يعد بمثابة إنجيل للتاويِّين، ويذكر رأي بعض الباحثين في أن كلمة " التاو" غير مفهومة، ولذلك فإن مذهب التاويَّة النظري غير مفهوم، مستذكراً في الوقت نفسه الشروحات التي توصل إليها " زانكير" لهذه الكلمة، والتي من معانيها : الروح الأزلي الأبدي المشتمل على جميع القوى الحيوية، والكائن النقي، والجوهر الأساس لكل موجود، والمدبر العام للكون كله، والحياة الحَقَّة لكل كائن. غير أن خلاصة ما يقوله " زانكير هو أن التاو تحمل من المعاني ما لا يمكن أن تؤديه أية لفظة أوروبية. ولهذا يكون خاطئاً كل من حاول ترجمتها بكلمة واحدة من لغاتنا الحديثة، بل الواجب ترجمتها بجملة طويلة، أو بعدَّة كلمات، وهذا الرأي، فيه شيء من التزمُّت، فإن كلمة " اللوغوس" الإغريقية على غموضها، أقرب ما تكون إلى كلمة وفكرة " التاو"، وبمعنى العقل الكلي، أو القانون الكلي وأساس العالَم، وهذا ما يؤيده على سبيل المثال لا الحصر روزنتال في موسوعته، إذ يشير إلى أن المفاهيم المماثلة للوغوس هي التاو في الفلسفة الصينية. أما عن علاقة التاو بالتصوف فقد ورد في بحث مهم ومُبتكَر للباحث عبد الحسين شعبان أن التاوية انقسمت لاحقاً إلى تاويَّة فلسفية أو ثقافية وتاويَّة دينية، والتاويَّة تعني الصِّراط، مثلما استخدمت في الفلسفة أو الثقافة أو المبدأ والمآل الذي تأتي منه وتعود إليه كل الأشياء، والتاو هو القانون الطبيعي أو الكيان الذاتي للأشياء، لكن الأساس في التاو هو الإطلاق. ويتضمن هذ البحث إشارات إلى بداية اهتمامه بالفلسفة التاوية والفلسفة منذ الثمانينيات. ثم ينظر بإيجاز في ثلاث عقائد أساسية لابد أن يتناولها من يبحث في الفلسفة الصينيَّة، وهي الفلسفة الكونفوشيوسيَّة، والفلسفة البوذيَّة، والفلسفة التاويَّة. والأخيرة تمثل في رأيه روحَ الصينيين، فيما تمثل الكونفوشيوسيَّة مظهرَهم الخارجي، منبهاً إلى استفادة التاوية من فلسفة الزن البوذية، فضلاً عن الطقوس الكونفوشيوسيَّة بهدف تحضير العقل الباطن الذي يساعد على الفهم والإدراك. وفي بحثه عن وحدة الوجود في الفلسفة التاوية، يشير شعبان إلى: إنها تدمج الإنسان بالعالم المطلق، فالتاو يقوم على القوة المادية في الموجودات، وهو ما ذهب إليه صدر الدين الشيرازي الذي جعل الله حضوراً فعلياً في الموجودات، انطلاقاً من مذهبه "الحلوليَّة". ثم يشير إلى عدة نقاط مهمة يمكن اختصارها بالآتي: التاويَّة تؤمن بوحدة الوجود، أي أن الخالق والمخلوق متحدان في شيء واحد، ولا يمكن فصلهما، وإلّا سيحدث الفناء، مستنتجاً في ثنايا البحث، تطابُقَ مبدأ وحدة الوجود لدى ابن عربي مع الفلسفة التاويَّة تقريباً. وفي هذه النقطة يذكر مواصفات الصوفي التي تقوم على - التخلّي والتحلّي والتجلّي - والتجلّي يأتي نتيجة للتخلّي والتحلّي، ليكون الإنسان هو المثال للعالم الأكبر. كذلك تؤمن التاويَّة بمبدأ دورية الزمن، فليس هناك نقطة بداية ولا نقطة نهاية للأشياء والتاريخ والوجود. وهذه كلها خصائص مشتركة للتجربة الصوفية كان يؤكد عليها الدكتور عرفان عبد الحميد في كتبه ومجمل محاضراته عن التصوف التي كان يلقيها على طلبة قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة بغداد في حقبة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.

***

د. طه جزاع

.....................

* البحث منشور في موقع مراصد ايضا.

 

يخبرنا كل من جيل دولوز وفليكس غواتاري أن «الفلسفة هي قبل كل شيء إبداع للمفاهيم» [1]، لذلك سنحاول الإنطلاق من هذه الخصيصة التي تميز التفكير الفلسفي بوصفه تفكيرا مفاهيمياً أي يتميز بهذا الإبداع المفاهيمي، من خلال إقحام هذا الأخير وجعله قدرة من القدرات الأساسية الأولى لدرس الفلسفة، نعني هنا إلى أن الدرس الفلسفي بالنسبة لميشيل طوزي هو درس يتضمن ثلاث قدرات أساسية الأولى هي القدرة على الأشكلة، ثم القدرة على المفهمة، وأخيراً القدرة على المُحاجَّة، هذا ما يظهر جليا في تاريخ الفلسفة بشكل عام، حيث نجد أن كل فيلسوف قام بصياغة وإبداع مفهوم خاص به، يتميز به عن سواه، وسنقدم أمثلة لذلك أثناء مرحلة العرض، أما الآن فسنعمل على صياغة مجموعة من الأسئلة الإشكالية الموجهة للتحليل والمناقشة وهي كالآتي:

أولاً: ماذا نقصد بالمفهمة ؟ والدلالات المترتبة عنها ؟

ثانياً: ما هي مرتبة هذه القدرة ومنزلتها في درس الفلسفة؟

ثالثاً: هل توجد أمثلة لقدرة المفهمة في تاريخ الفلسفة عموماً، الذي جعلها خصيصة هذا الفكر ؟

رابعاً: هل تتحدد مهمة الفلسفة في خلق وإبداع المفاهيم كما دعى إلى ذلك كل من دولوز وغواتاري؟

سننتقل الآن، للإجابة عن الأسئلة أعلاه، التي قلنا أن الغرض منها هو أنها تؤطرنا من أجل التوجيه والإرشاد الحسن لقيادة التحليل والمناقشة، وأن الغرض في النهاية، هو الوصول إلى بيان هذه القدرة، أقصد قدرة المفهمة وأهميتها في درس الفلسفة .

أولاً: تحديد عملية المفهمة والدلالات المترتبة عنها:

في حقيقة الأمر، ليس من السهل الإنطلاق من بيان مفهوم «المفهمة»، دون الإنطلاق من تلك الدلالات المترتبة عنها، قد يقول قائل، لماذا ننطلق من المترتب عنها ولا نعود إليها هي في ذاتها ؟ نجيب أنه من الصعب تحديد جوهر هذا المفهوم دون الإنطلاق من تلك الدلالات التي نتجت عنه، أو التي يتم الإدعاء بأنها تمثله، غير أنها عكس ذلك، تجعل منه يتعرض للكثير من اللبس والغموض وعدم فهم كنهه، إن لم نقل أنها تزيد من ضبابيته، لعل من بين هذه التعريفات، أن المفهمة تشير إلى عملية الفهم أو هي عبارة عن تصور أولي، هذا الأخير الذي يجعل منه مشابها للتمثلات بإعتبارها تصورات أولية، أو عندما نقول عنها أنها تصور عقلي أو عبارة عن فكرة، خاصة أنه إذا قلنا عن المفهوم أنه تصور أولي يحيل في اللغة الفرنسية إلى  Notion والذي قد يدل بشكل عام على المصوغة أو الموضوعة، هذه الأخيرة تحتاج بدورها إلى تحديد، لأنه هناك فرق بين الموضوعة والمفهوم، لذلك يخبرنا أندري لالاند في موسوعته بأن المفهوم «يعبر عن آراء خاصة قد تكون أحيانا شديدة التداول ومستعملة بأشكال شتى.» [2]، عكس المفهوم الدقيقConcept  الذي يشير حسب لالاند دائماً إلى «المؤسس علميا أو فلسفيا مما يجعله فكرة مجردة وعامة أو على الأقل قابلة للتعميم» [3]، إذن ما يميز المفهوم أولاً هو ذلك التجريد، أو الفكرة المجردة الشمولية والكونية والعامة والمتعالية، بمعنى أنه ينطلق من دلالات متداولة وسائدة، ويعمل على تجاوزها من أجل أن يصير أكثر تجريدا وعمومية ويصل لتلك الدقة والتقنية، إن لم نقل الموضوعية والصرامة، والضبط الإبستيمي، لذلك يؤكد مشيل طوزي أن المفهمة La conceptualisation  هي «عملية ترتبط بتحويل مدلول ما من مستوى التصور الأولي La notion  إلى المستوى الدقيق le concept » [4]، هكذا نكون قد وصلنا إلى تعريف دقيق جداً لعملية المفهمة مع ميشيل طوزي، المهم فيه هو ذلك الإنتقال من التصور الأولي الذي هناك من يعتبره مفهوما، وهو في الحقيقة مجرد مفهوم أولي، بمعنى بدئي، لم يصل بعد إلى مرتبة الدقة والتقنية أو مرحلة الضبط الإبستيمي، وبالتالي من الضروري جداً الإنطلاق من ذلك التداول العمومي للمفهوم إلى مرحلة ضبطه جيداً وجعله يأخذ صبغة دقيقة منظمة، كما يجب توضيح أن المفهمة ليست لها علاقة بتلك الفكرة الأولية أو حتى بالأفكار، أو التصورات الذهنية، أو حتى العقل، أو التصور العقلي، عملية المفهمة هي عملية إنتقالية بالأساس، تنتقل بنا من تصور أولي إلى تصور أكثر دقة، ومن حقل إلى حقول وميادين معرفية أخرى، فما يميز المفهوم الفلسفي هو أنه كائن مترحل أو رَحَّالٌ.

ثانياً: قدرة المفهمة ومنزلتها في درس الفلسفة:

إذن يمكن إعتبار أن الدرس الفلسفي -كما قلنا سابقاً- درس في الحقيقة يقوم على عملية المفهمة، ويتجلى ذلك من خلال حث وتأكيد التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي بالمغرب، «على إعتماد المفاهيم Les notions  كمرتكزات أساسية في الدرس الفلسفي [...]، وذلك بحكم إرتباطها الوطيد بالإنتاج الفلسفي، [...]، وهي تبعا لذلك ليست عناوين لدروس بالمعنى التقليدي، وإنما هي موضوعات ومواد للتفكير الفلسفي على نحو إشكالي (لما يمكن أن تحمله من إلتباسات ومفارقات)، ومسالك لإنشاء فضاء فلسفي تتقاطع فيه الأنساق والخطابات الفلسفية على نحو وظيفي (غير كرونولوجي أو تعاقبي) .» [5]، هنا ندرك مدى أهمية ومرتبة قدرة المفهمة ومنزلتها في درس الفلسفة، حيث أن هذا الأخير يظل دائماً ما يضفي عليه الطابع الفلسفي هو المفاهيم، وهذا ما نلحظه في الكتاب المدرسي الخاص بالتلميذ والتلميذة، منذ السنة الأولى باكالوريا الذي يشهد تنوعا وتعددا في المفاهيم بدءا بمفهوم الوعي واللاوعي والرغبة واللغة والتقنية والعلم والشغل والتبادل والفن ...إلخ، إذن هذه كلها مفاهيم فلسفية متداخلة مع باقي المواد الأخرى، حتى السنة الثانية بكالوريا التي تعرف أيضاً تعددا وتنوعا مفاهيميا من الشخص والغير والتاريخ والنظرية والتجربة والحقيقة والدولة والعنف والحق والعدالة والواجب والسعادة والحرية ...إلخ، التي تفصل بينهما مجزوءات، ومن هنا يتضح لنا جَلِياً مدى منزلة وقيمة هذه القدرة وكيف تشكل الخيط الناظم للدرس الفلسفي أو إن لم نقل للتفكير الفلسفي عموماً.

ثالثاً: أمثلة من تاريخ الفلسفة على قدرة المفهمة:

سبق وأن أشرنا في مقدمتنا أن تاريخ الفلسفة لهو تاريخ مفاهيمي بإمتياز، والآن سنعمل على تقديم أمثلة على ذلك، خاصة وأن التاريخ الضخم جداً والممتد للفلسفة، والذي يتحول إلى تراث "مقدس" في بعض الأحيان للمتخصص في الفلسفة أو بمثابة الكتاب المقدس بالنسبة للفيلسوف الذي يعمل على فحصه وتمحيصه ونقده دائماً أو إنتقاء الأفضل والملائم منه، يجعل من الفلسفة كيانا يحمل في طياته موروثا أصيلا في الحقيقة، إن لم نقل إرثا حقيقيا من المفاهيم، فعند عودتنا إلى الحكماء الطبيعيون الأوائل، نجد أنهم أول من بحثوا في إشكالية الأصل أو الآرخي، وقدموا مفاهيم أو عناصر أثناء الإجابة عنها، رغم أن هذه المفاهيم ذي صبغة طبيعية مستمدة من الطبيعة، لكن إستعمالهم لها كان فلسفيا، وحتى عند إنتقالنا إلى أفلاطون الذي يذكرنا بنظرية/مفهوم المثل، وسقراط الذي يذكرنا بنظرية الحد الماهوي والذي أثار العديد من الإشكالات بخصوص العديد من المفاهيم المبثوثة في المحاورات الأفلاطونية على سبيل المثال لا الحصر مفهوم العدالة نموذجاً خاصة في الكتب الأربعة الأولى من محاورة الجمهورية التي كانت متداولة بطريقة خاطئة لدى عوام الناس، وكذلك أرسطو ونظريته في العلل الأربعة، أضف إلى ذلك أفلوطين ونظرية الفيض، ديكارت ومفهوم كوجيطو، المونادات لدى لايبنتز، إسبينوزا وإبداعه لمفهوم الله في كتابه "الإتيقا"، إضافة إلى مفهوم العقد الإجتماعي مع جون جاك روسو وطوماس هوبز وجون لوك، كانط ومفهوم المقولات القبلية، غاستون باشلار والقطيعة الإبستيمولوجية، كارل بوبر والقابلية للتكذيب، ...إلى آخره، إذا قمنا بجرد وإحصاء كل المفاهيم عبر تاريخ الفلسفة وإستعمالها من قبل الفلاسفة، فلن تكفينا هذه المقالة، ولا حتى كتاب، بل يجب تخصيص مجلد لها وهذا ما سبق وأن قام به أندري لالاند في موسوعته الفلسفية المعنونة ب "المعجم التقني والنقدي للفلسفة"، لكن ما أردت إثارته هنا هو أن الفلسفة عبر تاريخها عبارة عن سرداب من المفاهيم، وبالتالي يجب دائماً قراءة هذا التاريخ وإعادة قراءته عبر المفاهيم المثارة فيه، بل حتى الإشكالات، وإعتماد المفهوم مدخلا لقراءة الفيلسوف، ذلك أن كل فيلسوف أبدع مفهوما خاصا به هو، لنعد مثلاً إلى كتاب علم الإتيقا لسبينوزا لا يمكن قراءته بدون معرفة المفاهيم التي إستعملها إسبينوزا، المتخصصين في إسبينوزا عملوا على إبداع "معجم إسبينوزا" لصاحبه  "راموند شارلي" Charles Ramond خاصة مفهوم الجوهر والعرض، ...إلى أخره من المفاهيم،  لذلك عمد إسبينوزا على تحديد المفاهيم أولاً، بل تبيان ما يقصده بها ليشرع فيما بعد في إستعمالها، لذلك يعمل الفيلسوف على  تحديد معجم مفاهيمي خاص به، إذن الفلسفة فكر مفهومي، لكنها لا تحتكر المفهوم الذي نجده في حقول معرفية أخرى مثل العلوم بكل أصنافها، كما أنه يجب الإنتباه إلى خصوصية المفهوم الفلسفي ومصدره .

هذا التصور الذي يركز كثيراً على أن مهمة الفلسفة الأولى تتمثل في إبداع وخلق المفاهيم هو ما نجده عند كل من جيل دولوز وفيلكس غواتاري [6]، اللذان كان ينتقدان كثيراً النظر إلى الفلسفة على أنها تاريخ صياغة وتحديد الكليات العامة أو الأنساق الشمولية، أي أن الفلسفة ليست عبارة عن ركام من المعارف أو ذلك التأمل الخالص، بل هي خلق وإعادة خلق وإبداع للمعرفة بواسطة المفاهيم، فكل فلسفة هي رؤية جديدة إلى العالم من خلال الإبداعية المفاهيمية، حيث أن عملية نحت المفاهيم و صناعتها هي ما تساعد الفيلسوف على إبداع الإشكالات، فيصبح الفيلسوف مثل الفنان المبدع الذي يبتكر مفهوما خاصا به، إذن يمكن تحديد مهمة الفلسفة الجوهرية في خلق وإبداع المفاهيم، وهذا ما يجسده الدرس الفلسفي.

على سبيل الختم، إذن نخلص إلى أن عملية المفهمة ما يميزها بشكل خاص هو ذلك النقلة النوعية أو الطفرة من التصور الأولي أو التمثل البدائي إلى التمثل الذهني المجرد للموضوع، يجعل منها أكثر ضبطا وصرامة، كما عملنا على تمييز المفهمة عن المفاهيم القريبة والمترابطة بها من تصور أولي، وفكرة و تمثل، كما حاولنا بيان مدى قيمة وأهمية ومرتبة قدرة المفهمة في الدرس الفلسفي، بل أكثر من ذلك رأينا أن هذه المفهمة خصيصة التفكير الفلسفي، أي هي ما يميز تاريخ الفلسفة، فهو تاريخ مفاهيمي بإمتياز، وهذا ما يجعل من الفيلسوف يتمكن من خلق الإشكالات أيضاً، وذلك من خلال، مقاربته ونحته للمفهوم جيداً يعثر على العديد من الإشكالات يقوم بطرحها، كأن الفيلسوف يحفر سردابا فإذا به يكتشف الكثير من الإشكالات ويعمل على إخراجها للوجود، لذلك يجب التركيز أثناء تأريخنا للفلسفة على المفاهيم والإشكالات المثارة وليس على الأنساق الفلسفية والنظم الفكرية الكبرى، ولهذا موضوع خاص في الحقيقة، وذلك من أجل مجاوزة تلك الرؤية التي تركز على الأنساق والنظم الفكرية والتصورات والأطاريح التي إشتغل عليها الفلاسفة، دون النظر في المفاهيم التي أبدعها والإشكالات التي أثاراها، لهذا يشكل المفهوم إنشاءاً أو تركيباً ذهنياً وتمثلاً يحاول الفيلسوف من خلاله تمثل العالم أمامه وعنصراً ضرورياً في سيرورة التفلسف، لهذا يجب تمييزه، أي المفهوم، عن كل تصور أولي عام ومجرد، أو عن كل فكرة خالية من المعنى والفائدة، وتمييزه أيضاً عن المقولات أو الاقتباسات المسكوكة التي تلصق بالفيلسوف، فالمفهوم بناء ضمن نسق ومتن الفيلسوف من خلال تعديل حمولته وسقلها جيداً لتلائم الشكل الجديد والغير المسبوق للمتن الفلسفي، فالفلسفة في نهاية المطاف نمط من التفكير المفهومي، لكنها لا تدعي أنها الوحيدة التي تختص بإبداع المفاهيم، فقد يظهر مفهوم في حقل فلسفي معين، لينتقل إلى حقل الفلسفة فيتخذ شكلاً جديداً، عن طريق خلقه وإحيائه من جديد وذلك عبر بث روح التفلسف داخله، والتفكير من خلال المفهوم بأطر وخلفيات فلسفية.

يتخذ المفهوم في الحقيقة صبغة التركيب والشمولية والكونية والامتداد والسيولة والإنجراف لفائدة حقول معرفية أخرى، لدرجة يصعب حده في بعض الأحيان، إنه يشكل رؤية نقدية فاحصة وتمحيصية جديدة للعالم، من خلاله يرى الفيلسوف العالم، ويرغم اللغة على نطق ما لا تنطقه، وكأن الفيلسوف نحات ينحت أعمال فلسفية ثلاثية الأبعاد باستخدام مجموعة متنوعة من الأدوات والأساليب، واستخدام المواد مثله في ذلك مثل أي نحات يستعمل الحجر والخشب والجص والمعادن. المهام الرئيسية للفيلسوف إذن هي: نحت التماثيل/المفاهيم من اللغة والكلمات والخطابات والمصطلحات ومن المواد الأخرى المتاحة له، باستخدام أدوات مثل الأزاميل ومعدات التظفير الخاصة بالنحت الفلسفي كما قلنا بغرض تمثيل ظواهر العالم الواقعي، عبر خلق تمفصل حيوي مع الواقع الفعلي من خلال تكييف المفهوم مع الرؤية الجديدة للعالم.

***

محمد فراح – تخصص فلسفة

........................

مسرد المراجع والمصادر:

[1] – Gilles Deleuze et Félix Guattari: Qu'est-ce que la philosophie? Les éditions de minuit 1991 , p 8 .

[2] – أندري لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، المجلد الأول A-G، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت -باريس، الطبعة الثانية، 2001 .ص 883.

[3] – المرجع نفسه، ص 194 .

[4] – Michel tozzi: Apprendre à philosopher au cours de morale , dossiers pédagogique entre – vues 1999 , p 39 .

[5] – وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي، مديرية المناهج، نونبر 2007، ص 5 .

[6] – Gilles Deleuze et Félix Guattari, Ibid , pp 12-13-22.

تمهيد: يوضح ليفي - برول أن المجتمعات البدائية كانت يقظة للعلامات التي تعلن عن الكوارث، على الرغم من عدم القدرة على التنبؤ بها. وهذا ينبغي أن يلهمنا، نحن الذين يجب أن نكون في حالة تأهب اليوم. فماهي العلامات الدالة على قدوم الكوارث؟ وكيف يمكن التوقي منها والاستعداد لتجنب المخاطر والأضرار؟ والى أي مدى يجوز لنا أن نتفق مع أطروحة فريديريك كيك حول الاستعداد لما لا يمكن التنبؤ به؟ وهل يجوز لنا أن نتحدث عن علوم اليقظة عند حدوث الظواهر غير الاعتيادية والاحتراس من المخاطر؟

زمن الكوارث فرصة لإعادة اكتشاف البدائي فينا

يمكننا أن نتوقع وقوع كارثة ـ فمن الصعب التنبؤ بها: فنحن نتوقع كارثة مناخية أو أوبئة، ولكننا لا نستطيع التنبؤ بالتاريخ، أو الحجم، أو المدة، ولا كل العواقب. ومن ثم، يجب على الغرب أن يبتعد عن المفهوم الغربي المحدد للطبيعة باعتبارها مجموعة من الظواهر التي يمكن التنبؤ بها والتحكم فيها ومعرفة البشر بدقة. من خلال التخلي عن اليقينيات التي لديه حول الطبيعة، يتخلى الغرب بالضرورة عن تلك التي لديه حول العقل. ثم يجد بعد ذلك تصورًا للطبيعة و"عقلية" ليستا - أو لم تعدا - خاصته، ولكنها تنتمي إلى المجتمعات التي وصفها علماء الأنثروبولوجيا في القرن الماضي بأنها "بدائية". في الواقع، أكد ليفي بروهل (1857-1939) أن “العقلية البدائية” تتجاهل الروابط السببية، فكل الأحداث لها أصل باطني. بالنسبة لهذه العقلية، ليس هناك مجال لمحاولة التنبؤ بالأحداث: على الأكثر يمكننا أن نتوقعها، وأن نكون يقظين للعلامات التي تعلن عنها - يقظة تختلف عن "الحصافة" القديمة التي لا تعد فيها فضيلة فكرية. العقلية البدائية تفسر ولا تحسب (ص130). ويجد الغرب هذه العقلية في نفسه عندما يتحدى مسار الأحداث قدرات التنبؤ العقلانية. إن القرن العشرين مليء بهذه الأحداث، أو الكوارث، التي لا يمكن التنبؤ بحجمها وفظاعتها؛ أقصى ما يمكننا فعله هو أن نكون يقظين للعلامات التي تعلن عنها. ومع ذلك، فإن المدرسة الفرنسية للأنثروبولوجيا - من دوركهايم إلى ليفي برول، مرورا بموس وهيرتز - معاصرة لهذه الكوارث (الحربين العالميتين، وتفشي معاداة السامية، وما إلى ذلك). من خلال دراسة حياة ليفي-برول وعمله، يحاول ف. كيك إثبات أن هذه المعاصرة ليست محض صدفة: فوفقًا له، تصور ليفي-برول الأنثروبولوجيا على أنها "علم اليقظة" (ص 9) - وهذا يعني كعلم يدرس الطريقة التي تفهم بها المجتمعات البدائية ما لا يمكن التنبؤ به - وباعتباره "علمًا يقظًا" (ص 9)، والذي يوضح بالقدوة كيفية الاستعداد لما لا يمكن التنبؤ به. كان عمل ليفي برول السياسي متسقًا مع تفكيره: فقد شارك عام 1934 في تأسيس لجنة اليقظة للمثقفين المناهضين للفاشية، وسعى إلى التحضير لوصول المثقفين اليهود الذين أُجبروا على الذهاب إلى المنفى في الولايات المتحدة (ص)..203). في هذا الكتاب، الذي يعتمد على أرشيفات العائلة وعلى مناقشات مع أحفاد ليفي-بريل - مما يجعله مجموعة قيمة للغاية من المعلومات المفيدة لفهم أفضل لعمله - يساهم ف. كيك في "سلسلة نسب الاستعداد للكوارث". (ص221).

(إعادة) ولادة عقليتنا البدائية: قضية دريفوس والحرب العظمى

أعاد كيك قراءة جميع أعمال ليفي-بريل، وسعى بشكل منهجي إلى إقامة صلة بين الأحداث التاريخية التي شهدها والمفاهيم التي طورها. يتمتع نهجه بميزة إظهار أن مفاهيم أنثروبولوجيا ليفي-بريل لا تخدم فقط لوصف عقلية غير متجانسة مع عقليتنا: بل "نحن" على المحك، وتستفيد أنثروبولوجيا ليفي-برول من قراءتها باعتبارها عقلية الأنثروبولوجيا الانعكاسية. بالنسبة لليفي برول، العقلية البدائية لا تمثل الأشياء كما نفعل: إنها تتخيل علاقات المشاركة بين الأشياء، التي تشكل كيانها. إذا تمكن البورورو من التأكيد على أنهم أراراس ، فذلك لأنهم لا يملكون تمثيلًا مفاهيميًا للأول متميزًا عن تمثيل الأخير، ولكن لديهم تجربة صوفية للمشاركة بينهم وبين الأراراس. يُظهر إف كيك الآن أن معاصري ليفي-بريل لم يكونوا غرباء على هذه العقلية، والتي كان من الممكن أن تكون مصدر إلهام ليفي-بريل: هل الرسوم الكاريكاتورية لطيور جوريس أو دريفوس لا تعتمد على آلية نفسية مشابهة لتلك الخاصة بآل بورورو الذين يتماثلون مع الأراراس (ص 96 وما يليها)؟ وبالمثل، ألا تعني أسئلة الاشتراكيين حول مشاركتهم في الحكومة، مثل العقلية البدائية، ما هي المشاركة التي تحدد وجود الأشياء (ص 94 وما يليها)؟

يولي فريديريك كيك اهتمامًا خاصًا لقضية دريفوس والحرب العظمى. يتساءل في البداية إلى أي مدى "إن التعارض الذي سيقيمه ليفي-بريل بين "العقلية البدائية" و"العقلية المتحضرة" يستمد مصدره من قضية دريفوس" (ص 59)، والتي تنفصل خلالها عقليتان بشكل جذري المتعارضة: أتباع درايفوسارد، مدفوعين بالبحث العقلاني عن الحقيقة، وأتباع مناهضي درايفوسارد، غير المبالين بالدليل الموضوعي. وتشترك العقلية المضادة لدريفوس مع العقلية البدائية في أنها لا تبالي بمبدأ عدم التناقض ومبدأ السببية. برتيلون، على سبيل المثال، الذي ينوي بعناد إثبات ذنب دريفوس، "يفكر كالهمجي" (ص 76)، لأن ذنب دريفوس بالنسبة له هو حقيقة لا يهمها كثيرًا سواء كانت جسدية أو منطقية مستحيلة. أما دريفوس، فهو يختبر التناقض بين الشعور والعقل، أي بين العقليتين اللتين سينظرهما ليفي-برول (ص 64 وما بعدها).يشرع كيك بعد ذلك في إثبات أن الانخراط في الحرب العظمى قاد ليفي-بريل إلى تطوير مفهوم جديد للعقلية البدائية: لم يعد الأمر محل تساؤل، كما كان الحال في وقت قضية دريفوس والعقليات الوظيفية في المجتمعات الدنيا ( 1910)، لوصف عقلية لا تبالي بالتناقض، ولكنها عقلية يسكنها الشعور بعدم القدرة على التنبؤ، ومستعدة لمواجهته (ص 114). يؤكد إف كيك أن الحرب والحوادث، بحكم تعريفها التي لا يمكن التنبؤ بها، والتي سببتها المجهود الحربي، هي التي دفعت ليفي برول إلى تعديل مفهومه الأول عن العقلية البدائية. تؤدي أطروحته إلى وجهات نظر أصلية للغاية: بالنسبة له، "العقلية البدائية" (1922) "هي انعكاس للحرب، التي ضاعفت الحوادث وأنتجت تمثيلات جماعية جديدة توحد الجسد الاجتماعي" (ص 117). هكذا فإن قضية دريفوس والحرب العظمى قد مكنت معاصري ليفي بروهل من إعادة اكتشاف سمات معينة للعقلية البدائية. ومن خلال مراقبتهم كان هذا الأخير قد صاغ مفاهيمه.

بعض التحفظات حول الارتباط المفترض بين المفاهيم والأحداث التاريخية

إن تفسير ظهور مفاهيم ليفي برول من خلال أحداث عصره يثير بعض الصعوبات. بادئ ذي بدء، فإن التعارض بين عقليات دريفوسارد ومناهضة دريفوسارد من ناحية، وبين الشعور والعقل من ناحية أخرى، أعطى بلا شك ليفي برول الفرصة لملاحظة الاختلافات غير القابلة للاختزال بين طرق التفكير، أو بين "العقلية". وظائف "؛ ومع ذلك، هل سنذهب إلى حد الإشارة إلى أن وصفه الأنثروبولوجي للتعارض بين هذه الأنواع العقلية "يأخذ مصدره" هناك (ص 59)؟ لقد شغل تفسير هذا التعارض، أو هذا "الانقسام الكبير"، علماء الأنثروبولوجيا لفترة طويلة، بل وشكل الموضوع الرئيسي لاعتباراتهم - أي قبل وقت طويل من اندلاع قضية دريفوس. يمكننا، بالمثل، التعبير عن بعض التحفظات، عندما يؤكد كيك أن قضية دريفوس هي التي “تقود (…) موس إلى تصور الانتقال من السحر إلى العلم  باعتباره توترًا بنيويًا” (ص 76-77)، وبشكل أعم، أن المقالات التي خصصها هيوبرت وموس للتضحية والسحر يجب أن تُقرأ “كردود فعل على قضية دريفوس” (ص 238، الحاشية 120). فمن ناحية، في الواقع، يعد البعد السياسي للتضحية وفائدتها الاجتماعية موضوعات هامشية نسبيًا في «مقالة عن طبيعة التضحية ووظيفتها» (1899): تمت مناقشتها فقط في الخاتمة؛ ومن ناحية أخرى، فإن "مخطط نظرية السحر" (1902) لا يشبه كثيرًا نصًا عرضيًا. يمكن للأنثروبولوجيا أن تفسر الأحداث الجارية، لكن الأحداث الجارية لا يمكنها أن تفسر بشكل كامل ظهور مفاهيم الأنثروبولوجيا. فيما يتعلق بتأثير الحرب العالمية الأولى على إعادة توجيه مفهوم ليفي-بروهليان للعقلية البدائية، يبدو أن ف. كيك يؤكد أن مفهوم العقلية البدائية التي يسكنها الشعور بعدم القدرة على التنبؤ يحل محل عقلية غير مبالية بالتناقض. ومع ذلك، استمر ليفي برول، حتى في دفاتر ملاحظاته، في اعتبار أن العقلية البدائية تستوعب التناقضات. علاوة على ذلك، إذا لم يكن هذان المفهومان للعقلية البدائية متنافيين، وحتى إذا كان الشعور بعدم القدرة على التنبؤ يمكن اعتباره نتيجة لعدم الاكتراث بالتناقض، فإن علاقة السبب والنتيجة المفترضة بين المشاركة في الحرب العظمى والحرب العالمية الثانية هي علاقة السبب والنتيجة المفترضة. إن مراجعة مفهوم العقلية البدائية يصبح موضع شك.

راهنية ليفي بريل والحراس والمبلغين وسياسة اليقظة

تكمن إحدى أصالة عمل ف. كيك في استخدام مفاهيم معاصرة للغاية لفهم أنثروبولوجيا وفلسفة القرن الماضي: بالنسبة له، تتنبأ نظرية دوركايم في الاجتماعي بمناقشاتنا حول موضوع المبدأ الاحترازي؛ يحتوي كتاب بيرجسون على وصف للمبلغين عن المخالفات؛ ووصف ليفي برول للحراس. يمكن اختبار أهمية ليفي برول بشكل أكبر من خلال قراءة الصفحات المخصصة للعدوى (ص 144 وما يليها)، والتي يمكن أن تكون ذات أهمية كبيرة للتفكير في الوباء الذي بالكاد خرجنا منه. وهكذا يهدف عمل ف. كيك إلى "إظهار أهمية الفكر السياسي للوسيان ليفي بروهل" (ص 8). ولكن ما الذي يمكن أن يكون حاضرًا وذو صلة في خطاب عالم الأنثروبولوجيا، إن لم يكن مؤيدًا للاستعمار، أو على الأقل “أبويًا” جدًا (ص 169)؟

يوضح فريديريك كيك أن الرحلة التي قام بها ليفي برول إلى الفلبين عام 1920 عطلت مخططه للانتقال من العقلية ما قبل المنطقية إلى العقلية المنطقية (ص 158). والثاني ليس أكثر تطوراً ولا أفضل من الأول: فهما مختلفان جذرياً. وهذا الآخر يطالب به الرعايا الاستعماريون داخل حركات الاستقلال، وهو ما يشجعه ليفي-بريل – لدرجة أنه يمكن فهم عمله، على سبيل المثال من قبل ب. نيزان، على أنه “نقد قاس للاستعمار” (مقتبس ص 182). إذا لم يحتفظ تاريخ الأنثروبولوجيا بهذه النسخة، فذلك بلا شك لأنه، حتى عندما ينظر إلى مجتمعات مثل الفلبين، لا ينحرف ليفي-برول عن وجهة النظر العرقية والأبوية: فهو يدافع، على سبيل المثال، خلال المؤتمرات المنعقدة في بكين، عن: "الحاجة إلى جلب مبادئ التنوير الأوروبي والعقلانية الفرنسية" إلى العالم الشرقي (ص 164). إن خطاب ليفي-بريل حول المستعمرات يتناغم مع خطاب جوريس (ص152). إن قرب ليفي-برول من الاشتراكية، ومن جوريس على وجه الخصوص، هو موضوع أساسي في كتاب ف. كيك: "جينيالوجيا الاستعداد للكوارث" مصنوعة "من الاشتراكية الفرنسية وتعبيرها في العلوم الاجتماعية" (ص 221). وهذه، بالنسبة للمؤلف، طريقة لاقتراح تفسير آخر لجينالوجيا الإعداد أكثر من التفسير الفردي الأساسي لليبرالية الجديدة. إنها، بالتالي، طريقة لتحديث الاشتراكية (اشتراكية جوريس وليفي برول)، التي وقفت إلى جانب دريفوس، ومن أجل التحرر، دون أخطاء أو تحيزات.

خاتمة

سنتذكر في النهاية من كتاب إف كيك أنه يقدم إجابات قوية على أسئلة عصرنا، وأنه، مثل أطروحة ليفي-برول حول فكرة المسؤولية (1884)، يستفيد من قراءته على أنه "مساهمة في "النقاش العام" (ص 33)، وليس فقط على تاريخ الأفكار. كيف نستعد للكوارث؟ بفضل سياسة اليقظة الحقيقية؛ وهذا هو تعريف "الاشتراكية" الذي يقود إليه هذا الكتاب. ثم يصف كيك جوريس، بسبب تصرفاته خلال قضية دريفوس، بأنه "المبلغ عن المخالفات" (ص 69)، ودريفوس، مثل كل أولئك الذين يناضلون من أجل العدالة والتحرر والحقيقة، من "الحارس". الحراس يدركون إشارات التحذير قبل الآخرين؛ إنهم يقفون على الحدود بين العالم الآخر، والعالم الحالي، الذي يعانون من ظلمه. إن المثال الاجتماعي لا يمكن إدراكه وتوقعه إلا من قِبَل أولئك الذين لم تنقرض تماما هذه العقلية التي ينظّرها العلم الاجتماعي ــ وبالتالي علم اليقظة ــ. فما قيمة علوم اليقظة أمام أهوال الحروب المفاجئة والكوارث الطبيعية والأعاصير المدمرة؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

..........................

المصدر

Frédéric Keck, Préparer l’imprévisible. Lévy-Bruhl et les sciences de la vigilance, Paris, Puf, 2023, 286 p.

يبني أفلاطون نظريته في المعرفة على أساس منهج محدد، يتمثل في الجدل الذي يعني فن المناقشة الهادفة للوصول الى الحقيقة، لأن المناقشة التي لا تهدف الى ذلك لا تعني الجدل مطلقاً، فالوصول الى الحقيقة هو الجدل الذي أراد أفلاطون تثبيته، وعلى الرغم من أن هنالك تراثاً فلسفياً سبق أفلاطون، احتوى على مناقشات جادة بشأن الجدل، تمثلت بهيراقليطس فيلسوف الصيرورة، والمدرسة الإيلية لاسيما عند زينون الإيلي الذي استخدم الجدل في الدفاع عن أفكار استاذه بارمنيدس في نفي الحركة، حتى عدَّهُ أرسطو مؤسساً لعلم الجدل، فضلاً عن استخدامه الجدل ايضاً لغرض تمويه الحقيقة عند السفسطائيين، الى أن جاء سقراط بطريقتيه، التوليد والتهكم.

 نقول على الرغم من كل هذه المحاولات استطاع أفلاطون أن يضع للجدل منهجاً ويقسمه الى شقين هما الطريق الصاعد والطريق النازل، وعد ذلك الطريق العلمي السليم الذي يتبعه طالب المعرفة للوصول الى الحقيقة التي تكمن في التدرج صعوداً من أولى مراحل المعرفة وصولاً الى معرفة مثال الخير في المعرفة العقلية. وبعد أن حدد منهجاً لطالب المعرفة، قسَّم المعرفة الى مراتب أربع هي المعرفة الحسية. المعرفة الظنية. المعرفة الاستدلالية. المعرفة العقلية. وقد ناقش أفلاطون موضوع المعرفة الحسية المتمثل في الظواهر المحسوسة، من لون وطعم ورائحة، وجميع عوارض الأجسام المتغيرة في محاوراته "مينون" و" فيدون" و" الجمهورية " و" ثياتيتوس" و" فايدروس"، متخذاً من التمييز بين الجسد والنفس، أساساً لنقد المعرفة الحسية، فكل ما يطرأ عليه تغيير في حالة وجوده، يضعه الى صف الجسم لأن نهاية الجسم التفسخ والانحلال، أما ما يبقى ثابتاً فهو ينتمي الى النفس، لأنها ثابتة، وقدم أدلة عديدة على خلودها. عليه فاِن الموجودات الطبيعية التي تمتلك صفات مشابهة لصفات الجسم فانها تنتمي إليه، والتي ليس لها مثل هذه الصفات فأنها تنتمي الى النفس . والمعرفة الحسية ترتبط بالموجودات الطبيعية ولا ترتبط مطلقاً بالنفس، والحس يرتبط بأدواته التي هي الحواس الخمس، المختلفة الوظيفة والنتيجة، وكل ما ندركه بحاسة لا نستطيع إدراكه بالحاسة الأخرى، وحتى الحاسة الواحدة هي الأخرى تتعرض للتغير، فالمريض يتذوق طعم النبيذ على نحو مغاير لتذوقه له في حالة كونه معافى كما جاء في محاورة ثياتيتوس. ثم ان عملية حدوث الإحساس تتم على وفق التفاعل الذي يجري بين حواس الإنسان وموجودات العالم الخارجي، أي أن هناك عنصرين يؤلفان العملية الحسية هما الفاعل والمنفعل، المُدرِك والمُدرَك، ولما كان الإحساس يقوم على هذا التفاعل، إذاً فإن أفلاطون لا يثق بتلك المعرفة التي نحصل عليها عن طريق الحس لإختلاف وظائف الحواس بعضها عن البعض الآخر ولقصور الحاسة الواحدة أحياناً، ولكون موجودات العالم الخارجي هي الأخرى متغيرة، لكنه وعلى الرغم من ذلك لا ينكر مطلقاً وجود هذه المعرفة، بل يعدُّها ضرورية، ولا بد أن يمر بها طالب المعرفة، ولا يمكن إلغاؤها، لأنها موجودة أصلاً  بل أن ما يريد قوله، هو عدم الاعتماد عليها وسيلة للمعرفة. وتأتي المعرفة الظَّنية بالمرتبة الثانية من مراتب المعرفة، وموضوعها الصور، وعالم الطبيعة والفن، وترتبط المعرفة الظَّنية بالوجـود المحسوس، ويوضح أفلاطون طبيعـة هذه المعرفـة في محـاورة " الجمهورية "، بل ينقدها أيضاً واصفاً الرجل الذي يقتصر عليهـا فقط انه يعيش " في حلم وهو بعيد أن يكون مستيقظاً، ذلك أن الحُكم كما يُعَّرفه هو أخذ ما يشبه الشيء، ليس على أنه مجرد شبيـه، بل على انه الشيء نفسه " مثلما يقول عزت قرني في كتابه " الحكمة الأفلاطونية ". والمعرفة الظَّنية هي تنظيم للمدركات الحسية في نظام يحدد القَبلُ والبَعدُ، ولما كانت هي تنظيم للمدركات الحسية، فانها ترتبط بالإدراك الحسي ولا ترتبط بالعقل، والإدراك الحسي معناه عملية ملء الإحساس بكلمات، وهذه الكلمات تصبح جزءاً من الذاكرة، والحس حادثة وصفت بكلمات، وهذا الوصف احتفظت به، والاحتفاظ يسهل عملية الحُكم، والحُكم ما هو إلَّا حُكمٌ من الإدراك الحسي، وهو أما صادق أو كاذب، ولتوضيح ذلك فان سقراط يؤكد في فايدروس: " يجب أن يفهم الإنسان بطريقة الإدراك الكامل بالكلمات نتائج أفعال الحواس والتي تمثل كلاً متكاملاً، وذلك عن طريق انعكاس الحواس وتذكر الأشياء، والتي تكون للروح البشرية وحدها القدرة أو القابلية على ذلك". أما في محاورة " ثياتيتوس " فيوضحه أفلاطون بمثال الشَمع، حيث يفرض انه يوجد في نفوسنا طبقة من الشمع متفاوتة النسب، فهي عند أحدنا مثلاً أغزر أو أخف منها عند الآخر، أو أكثف أو أنقى أو أصلب أو أكثر ليونة، ووظيفة هذه الطبقة الشمعية الاحتفاظ بما قد رأيناه أو سمعناه أو تصورناه عن طريق الإحساسات، وهذا الاحتفاظ يحفر بالشمع ببروز علامات ينقشها عليها "وما ينطبع فيه يكون لنا عنه ذاكرة وعلم طالما ظلت صورته موجودة، وما ينمحي ولم ينجح في الانطباع ننساه ولا نعرفه على الإطلاق". ويناقش حالات الحُكم الصادق والكاذب، والهدف من ذلك عدم الاعتماد على هذه المعرفة لأنها تعتمد على المحسوسات والمحسوسات متغيرة متبدلة، لذا فالأحكام المرتبطة بها هي الأخرى متغيرة ومتبدلة، والمعرفة الظَّنية ليست علماً لأن العلم صادق، بينما الظَّنُ يحتمل الصدق والكذب، والظَّنُ لا يُنقل الى الغير، لأن موضوعه متغير، وعلى الرغم من ذلك تبقى المعرفة الظَّنية هي الدرجة الثانية في سلم المعرفة، وعلى طالب المعرفة المرور عبرها الى ما هو أرقى منها. وتأتي بعدها المعرفة الاستدلالية التي يوضحها أفلاطون في محاورة الجمهورية عند نهاية الكتاب السادس معتمداً في توضيحها على مثال الخيط، الذي عدَّ فيه الجزء الأول من القسم الثاني يشمل حقائق الرياضيات، في الوقت الذي عدَّ فيه القسم الأول بجزأيه يشمل المعرفة الحسية والظَّنية، وهذا القسم لا بد من أن تعتمد عليه النفس كي تستطيع الرقي الى المعرفة الاستدلالية، لذا نجد أن عالم الهندسة والحساب يتكون من الأعداد الفردية والزوجية، ومن الإشكال والزوايا لأنهم يعدونها أموراً بينة في ذاتها، فهي معروفة لهم وللآخرين، ويحاولون من خلالها الوصول الى المربع المطلق والقطر المطلق والعدد المطلق، لكنهم لا يصلون اليه بحسب اعتقاد افلاطون لأن طريقة برهانهم او منهجهم مختلفة عن منهج الفيلسوف الذي يصل الى هذا اليقين عن طريق استخدامه طريقتي الجمع والقسمة لغرض التحديد والتصنيف، وبهذه الطريقة وبمعونـة الادراك للصور يصل الى معرفة المُثُل ونظامهـا الكلي وكما جاء في محـاورة " طيماوس". فضلاً عن ذلك فان أفلاطون أناط للرياضيات أهمية خاصة ودليل ذلك ما كتبه على باب الأكاديمية، وعدَّ العلوم الرياضية مواداً أساسية في تعليم تلامذته ومناقشته لتلك العلوم وتصنيفها على وفق اهميتها، اذ يبدأ بالحساب المقسوم على نوعين الحساب العملي والحساب الفلسفي، والهندسة بشقيها الهندسة الثنائية الأبعاد، المُسطحة أو البسيطة، والهندسة الثلاثية الأبعاد " المُجسمة " وعلم الفلك، وأخيراً الموسيقى. ويمكن القول أن أفلاطون عدَّ المعرفة الاستدلالية مرحلة وسطى بين الظَّن والعلم الحقيقي،  ولكنها أرقى من الظَّن لأنها كلية، مفيدة في الصناعات والفنون والعلوم، وموضوعاتها ليست المحسوسات ولا المُثُل، وإنما لها طبيعة متوسطة بينهما فهي أعلى من المحسوسات وأدنى من المُثُل، ثم أنه عدَّ كل ما كانت طبيعته غير حسية أكثر صدقاً مما هو حسيَّ، والطبيعة غير الحسية للأشياء هي وجودها الحقيقي، وهذه الطبيعة غير الحسية هي التي توصل الفيلسوف للانتقال الى المعرفة النهائية التي هي المعرفة العقلية. أما المرتبة النهائية التي يهدف إليها طالب المعرفة فهي المعرفة العقلية لأن موضوعها الوجود الخالد الأبدي غير المتغير، والعقل هو الأداة التي يستخدمها الفيلسوف في سبيل الوصول اليها  معتمداً على الجدل الصاعد الذي يمثل القسم الاول من اقسام الديالكتيك، وهذه المعرفة هي ركيزة العلم والفلسفة،  لذا كانت كل تحليلات أفلاطون وتشبيهاته في مثال الكهف والخيط وتدرج الجمال وتقسيمات المعرفة السابقة ونقده لها، تهدف للوصول الى هذه المعرفة، ويمكن بيان رأيه في طبيعة هذه المعرفة من خلال النصوص الآتية التي يوردها عزت قرني في " الحكمة الأفلاطونية: " فهي – أي المعرفة العقلية – أن يستطيع الفيلسوف الارتفاع الى الأشياء في ذاتها، وأن يراها في جوهرهـا " ،" وهي معرفة الوجود المطلق الثابت الخالد الواحد" ، و" حالة النفس فيها تكون تأملاً لتلك الموضوعات العقلية الثابتة الإلهية بحيث يصير الفكر هو نفسه إلهياً مُنَظماً على نسق الموضوعات التي يتأملها "، " فالنفس حينما تتجه الى ما يتغير ويخضع للكون والفساد ويتصف بالغموض، فإنها تضطرب وتنتقل بلا توقف من شيء الى آخر بين المتعددات ويبدو وكأنها غير قادرة على التفكير، أما حينما تُثَبت انظارها على ما ينيره ضوء الحقيقة والوجود فإنها عند ذلك تفهم وتعرف". وعلى هذا الأساس فان المعرفة العقلية هي معرفة الماهيات الثابتة غير المتصلة أبداً بالعالم الحسي، ونظراً لكونها غير متصلة بالعالم الحسي فهي صادقة صدقاً يقينياً لا يقبل اي نقاش  وصدقها قائم على موضوعها، وموضوعها هو الوجود الحقيقي الكائن من طبعه على حال واحدة في ذاته، والذي لا يتغير بل يبقى دائماً كما هو وتستمد منه الموجودات كافة التي تقع في رتبة أدنى منه وجودها .

- علاقة السياسة بمراتب المعرفة

تكمن العلاقة بين السياسة والمعرفة، في بيان غاية أفلاطون وهدفه من تقسيمات المعرفة الى هذه المرتبات الاربع بهدف تثبيت كون المعرفة الحقة الصادقة اليقينية هي المعرفة العقلية، وعندما يصل الى هذه الغاية، ينتقل الى السياسة لأنه يجعل من الفيلسوف الشخص الوحيد القادر على ادراك الكمال، أي الذي يدرك حقيقة الاشياء، أي المُثُل، فالفلاسفة هم وحدهم القادرون على ادراك الأبدي غير المتغير، ولما كان العاجزون عن إدراكه تائهين في بيداء التغير وتعدد الصور، فهم ليسوا فلاسفة، والتائهون هم الناس الذين تغريهم طبيعة المعرفة الحسية أو الظنية أو الاستدلالية، ويعتقدون بأنها المعرفة الحقة، وهم واهمـون ومختلفـون عن الفيلسوف الذي " يسوق كل عرق نابض في جسمه لإدراك الوجود الحقيقي " . وهدف الفيلسوف هو ادراك طبائع الاشياء، وعندما يدركها تتفجر في نفسه ينابيع الحكمة، ويحصل على الغذاء الحق، ويعرف معنى الحياة، عليه فهو افضل الناس جميعاً في الحكم، ولا يحكم غيره، لأن الفلاسفة يمثلون في رأى أفلاطون الصفوة المختارة من بين الناس. ونقتبس هنا بعض النصوص التي تؤكد ذلك، اذ يقول: " لا دولة، ولا نظام، ولا فرد، يمكن أن يبلغ، أو تبلغ الكمال، مالم تلق مقاليد الاحكام فيها الى ايدي الفلاسفة القلائل". " لا نهاية لتعاسة الدول، وشقاء سكانها ما لم تُقلد طبقة الفلاسفة مقاليد الادارة العليا في الدولة ويتعذر تحقيق النظام الخيالي الذي وصفناه". " أما الآن فأخاطر بهذا البيان قائلاً أنه يجب تنصيب اكمل الفلاسفـة حكـاماً ". وفي الكتاب الثاني عشر من القوانين، يبين أفلاطون ضرورة تدريب الحكام بالرياضيات، لأن هؤلاء الحكام الذين يتمتعون بتعليم رياضي فائق واطلعوا على العلوم الرياضية، هم القادرون فقط على تفسير الظواهر الطبيعية على انها جزء من الطبيعة، وليست من قوة خارج الطبيعة، عكس ما يراه الجاهل الذي لم يتعلم الرياضيات ويخاف هذه الظواهر، ويفسرها على أنها من قوى خارج الطبيعة، فضلاً عن إفهامهم الطبقات الاجتماعية الأخرى  بضرورة إطاعة الطبقة العليا وعدم التدخل في شؤون أي طبقة. واذا كان موقع الفلاسفة هو هذا، فهم اذاً وحدهم فقط الذين يستطيعون رعاية قوانين الدولة لأنهم " هائمون بكل انواع المعارف لتتجلى لهم حقيقة هذا الوجود الخالد الذي لا يغيره الزمن، ولا تسطوا عليه عوادي المحن". لاشك أن لفلسفة أفلاطون جذوراً وأصولاً تمتد الى بواكير الفكر الإغريقي ومدارسه اللاحقة، والأخلاق بوصفها جزءاً من أجزاء فلسفته هي الأخرى لها جذور فلسفية سابقة تمثلت في أقوال الحكماء السبعة الذين كانوا يهدفون الى إصلاح أخلاق مجتمعهم، وكذلك فكرة التناسخ عند المدرسة الأورفية التي تأثرت بها قبل أفلاطون المدرسة الفيثاغورية والتي أسهمت هي الأخرى في بلورة الجانب الأخلاقي في فلسفة صاحب الجمهورية. فضلاً عن ذلك فقد تأثر أفلاطون بالمدرسة السوفسطائية، وكان أعظم الأثر يتمثل بأفكار أستاذه سقراط مؤسس الفلسفة الأخلاقية في مسيرة تطور الفكر اليوناني، وكان أفلاطون في بدء حياته سقراطي النزعة في النظرة الأخلاقية، على الرغم من أفادته من صيرورة هيراقليطس وثبات بارمنيدس، وعناصر أمباذوقليس والعقل عند انكساغوراس. وقد افرد محاورات مستقلة للحديث عن الأخلاق، منها  "خارميدس" و" لاخيس" ، و" ليسيس"، وعليه يمكن القول أن أغلب محاوراته تتحدث عن الجانب الأخلاقي على الرغم من انه يجمع في كل محاورة موضوعات شتى، غير ان هناك طابعـاً عاماً او موضوعاً عاماً يمثل جوهر المحاورة. ذلك أن الدافعين السياسي والأخلاقي هما المنبعان الرئيسان للأفلاطونية من منشئها حتى نهايتها وكان أفلاطون منكباً على كتابة " القوانين" منهاجه الأخير لإصلاح المجتمع حين وافته المنية. لقد أصبحت أسس سقراط الأخلاقية جزءاً من ديانة لا يدرك حقائقها الجوهرية إلَّا فيلسوف على جانب كبير من الخبرة. لذلك فان أفلاطون في تعامله مع الإرث الأخلاقي السقراطي لم يكتشف السياسة فقط بل اكتشف الفكر الإنساني، ذلك الاكتشاف الذي مكَّن الحضارة الغربية عندما اندفعت في تطوراتها اللاحقة أن تخلق ما يسمى الآن المنطق العلمي كما يؤكد حامد ربيع في كتابه " أبحاث في النظرية السياسية ". 

***

د. طه جزاع

.....................

* الدراسة منشورة في موقع مراصد أيضا

 

تمهيد إشكالي: يخبرنا كارل ياسبرز في كتابه «مدخل إلى الفلسفة» قائلاً: «إن جوهر الفلسفة هو في البحث عن الحقيقة لا في إمتلاكها... إن الإشتغال بالفلسفة معناه المضي في الطريق، والأسئلة في الفلسفة أكثر أهمية من الأجوبة، فكل جواب يصبح بدوره سؤالا جديداً.» [1]، ويضيف أرسطو أيضاً أن الدهشة هي التي دفعت الناس إلى التفلسف، وبالتالي يصبح لا أصل للفلسفة غير الدهشة، لذلك تلعب هذه الأخيرة دوراً مهماً في ميلاد الفلسفة، إن لم نقل تفلسف أول فيلسوف (بتحفظ) هو طاليس الملطي، بهكذا تصبح الأسئلة في الفلسفة أكثر أهمية من الأجوبة، لذلك فإندهاش الفكر يتجلى عن طريق التعبير عن نفسه بالسؤال كما عبر عنها هايدغر، هذا السؤال الفلسفي الإشكالي دائماً هو الحافز الذي يسير بالفلسفة للبحث عن الحقيقة، أو حقيقة الحقيقة، لدرجة يمكن ملاحظة أن تاريخ الفلسفة هو تاريخ إشكالات، أو كما قال برانشفيك الفلسفة هي علم المشكلات غير المفتوحة، وبهذا فإن الفلسفة لا يمكن أن تكون سوى إبداعاً للإشكال، لعل هذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الدرس الفلسفي بطبعه درس إشكالي من الدرجة الأولى، أي أن الأشكلة هي ما تحده وتثبت هويته، لذلك يمكن الإنطلاق من مجموعة من الأسئلة المترابطة فيما بينها، والمتولدة عن بعضها البعض من أجل بناء وإعادة بناء هذا الإشكال ودوره في الدرس الفلسفي، وهي كالآتي:

ماذا نقصد بالأشكلة؟ ودلالاتها التي تختلط معها من إشكالية وإشكال ومشكلة؟

وما الذي تثيره الأشكلة من مفارقات وتقابلات وإحراجات؟

ثم ما مرتبة الأشكلة في الدرس الفلسفي؟

ننطلق في البداية من ماذا نقصد بالأشكلة؟ يمكن الإجابة عن هذا السؤال بأنه لا جواب نهائياً له، فهو حمَّال لعدة أجوبة، عندما تنظر إليها تعتقد أنها كلها تعبر عن حقيقته وماهيته أو هويته، لكنها لم تصل بعد إلى الجواب القطعي له، فيمكن إعتبارها جميع الأجوبة معناً واحدا من معانيه وليس إجابة أخيرة عنه، حيث كما قلنا سابقاً أثناء طرحنا للسؤال يحمل بالضرورة الأشكلة في ذاته ويختلط بدلالات أخرى كثيرة، مثل الإشكالية والإشكال والمشكلة والدهشة والشك والتساؤل الفلسفي أو السؤال الفلسفي والمساءلة والنقد والدحض، كما تختص أي الإشكالية بالمفارقات والتقابلات والإحراجات وتثير بدورها المشكل، أو يتحول تعريفها في كثير من الأحيان إلى مشكلة ليس لها حل !

أولاً: عندما نعود إلى الجذر الإشتقاقي لكلمة أشكلة، نجدها متمثلة في شَكَلَ، الذي يفيد بالدرجة الأولى «الإلتباس» [2]، بمعنى أن الأشكلة هي ما تحمل في جوهرها لبوسا وغموضا يستدعي طرح المشكلة، هذه المشكلة هي تلك المسألة التي «تحتاج إلى معالجة» [3]، بمعنى أن كل مشكلة إذا أردنا حلها ستحتاج في جوهرها إلى معالجة هذه المشكلة، وهو ما نجده في درس الرياضيات حيث تُثَارُ المسألة المقصود بها المشكلة من أجل إيجاد حل لها، بعد العديد من العمليات والطرق والتقنيات البسيطة، لكن هل نفس الأمر ينطبق على درس الفلسفة الذي هو درس إشكالي بإمتياز؟، هذا الإشكالي هو ما يجعل من الدرس الفلسفي في حد ذاته ليس له حل كما في مسألة مادة الرياضيات، أي أن الإشكالية دائماً ما توجب الإلتباس في الفهم، مما يجعل المعالجة أو المَحْلَلة صعبة نوعاً ما، فلا يمكن لأستاذ مادة الفلسفة أن يطرق وضعية مشكلة أو مسألة فلسفية ويعمل على حلها ومعالجتها،ذلك أنه سيناقض نفسه ويناقض الدرس الفلسفي الذي هو درس إشكالي بإمتياز، ذلك أن الإشكالية هي «مجموع المسائل التي تتناسب عن المشكلة الأساسية داخل حقل معرفي معين» [4]، ما يعني أن الإشكالية في حقيقة الأمر أكثر تعقيدا من سابقاتها، أي أشكلة ومشكلة، فالإشكالية تمتد بدورها إلى مجموعة من المسائل، وبالتالي لم تعد مسألة واحدة ووحيدة، بل هذه المسائل تصدر عن مشكلة أساسية متأصلة في حقل معرفي بأكمله، وبهذا عندما نجيب عنها نكون قد حللنا ذلك المشكل في ذلك الحقل المعرفي.

ما يجعلنا نلاحظ هنا مدى عمق الإشكالية التي تمتد لحقول معرفية بعينها، وتجدر الإشارة إلى أن هذه المصطلحات (مشكلة Le Problème ) و (الإشكالية La Problématique) و الإشكال أيضاً الذي يأخذ نفس ترجمة (La Problématique ) هي في الحقيقة عبارة عن مشكلات وقع فيها المترجمون أثناء عملية الترجمة، عندما نقلوها ووجدوا مشكلة في دلالتها ومعانيها ومرادفاتها، فهناك إختلاف شديد في معانيها باللغة الفرنسية ومعانيها إن لم نقل مرادفاتها باللغة العربية، حتى عندما نعود إلى المعاجم الفلسفية المشهورة كمعجم لالاند، نجد أنهم يجعلون من «المشكلة معضلة ومسألة يستحيل الخروج فيها بجواب نهائي، وإنما فقط حلول مرجحة» [4]، وبالتالي إذا كانت الرياضيات تحل المسألة وتصل إلى جواب وحيد ممكن، فإن الفلسفة يستحيل عليها ذلك، بل تصل إلى العديد من الإجابات الممكنة المحتملة فقط، أي مرجحة، يمكن أن تكون حلا، أو عند إعادة مساءلتها نجدها أصبحت هي بدورها مشكلة جديدة، فكل جواب في الفلسفة يصبح بدوره سؤالا جديداً -حسب كارل ياسبرز-، إذن الإشكال كما قلنا هو الذي يفيد اللبس والغموض وعدم الفهم والإدراك أو ما يصعب حده بماهيته.

إذن يمكن القول أن الإشكال هو مجموعة من المشكلات التي تندرج ضمن قضايا فلسفية أو حقول معرفية أخرى، تطرح اللبس والغموض هذا ما يتصف به الإشكال، «والذي تنبثق عنه مجموعة من الأسئلة المنطقية، المنظمة والمترابطة، فتقيم حقلا إستفهاميا يدعى الإشكالية» [5]، وذلك من خلال «أن العنصر الأول منها هو الأسئلة المنظمة، والعنصر الثاني هو المشكلة نفسها بما هي سؤال السؤال، المعبر عن إحراج فلسفي يشكك في كل البديهيات» [6]، هذا ما نجده في العديد من الإشكالات التي أثيرت حول تاريخ الفلسفة، من بينها الفلسفة ذاتها بإعتبار أن سؤال ما هي الفلسفة؟ سؤال تحول إلى إشكال تقليدي في تاريخ الفلسفة، إشتهر بإشكالية تعريف الفلسفة، وباقي الإشكاليات الأخرى التي بدأت مع المحاورات الأفلاطونية مثل إشكالية العدالة في محاورة الجمهورية وإشكالية أصل اللغة في محاورة كراتيليوس، وإشكالية العلم أو في الفضيلة في محاورة مينون، أو إشكالية الجميل في محاورة هيبياس الكبرى،... إلى آخره من الإشكاليات المطروحة في تاريخ الفلسفة من أفلاطون إلى اللحظة الراهنة، بل يمكن إعتبار أن الفلسفة كصناعة إشكالية عنوان /موضوع مقالنا تحولت بدورها إلى إشكالية في الفلسفة وتدريسها !

ننتقل الآن مباشرة للإجابة عن السؤال الثاني المتعلق بما تثيره الأشكلة من مفارقات وتقابلات وإحراجات في درس الفلسفة، فالمفارقة الفلسفية مهمة جداً في قدرة الأشكلة والتي تعني «الآراء المخالفة للمعتقدات المعهودة» [7]، وذلك من خلال إحالتها على «الرأي المخالف لطريقة التفكير الإعتيادية» [8]، هذا ما تعبر عنه في حقيقة الأمر باللغة الفرنسية (La paradox )، خاصة أن لها أصول إغريقية Pradoxos، التي تفيد ضد الرأي أو الرأي الضد بمعنى أنها التفكير ضد الرأي الذي يكون سائدا، لذلك نجد أن الفلاسفة يفكرون بشكل مخالف جداً للرأي السائد في المجتمع، كنوع من خلق المفارقة أو يمكن القول أن التفكير الفلسفي تفكير مُفَارِقِيٌ، أما التقابلات Oppositions

فهي ما تشكل حسب أندري لالاند «المفاهيم التي توجد في أزواج تمثل الضدين، فلا نكاد نجد واقعا عينيا لا ننظر إليه نظرتين متعارضتين، ولا يحيط به الفكر في مفهومين متعارضين» [9]، إذن هذه التقابلات أو التقابل هو الموجه للفكر الفلسفي والمميز له، ولذلك من الضروري جداً أن يتميز الدرس الفلسفي كذلك بنوع من التقابل بين المفاهيم المتعارضة، مثل الشخص والغير، الخير والشر و الطبيعة والثقافة والحرية والضرورة... إلى آخره، هذا ما سيدفع شايم بيرلمان إلى أن يطلق على التقابلات إسم «الأزواج الفلسفية» [10]، لذلك نجد أن المتن الفلسفي يبنى على هذه التقابلات.

أما فيما يتعلق بالإحراج الذي يشير في اللغة الإغريقية «الشك والحيرة المصاحبة للبحث أو بالأخص للنقاش» فهو دائماً ما يثير الحيرة والشك والتساؤل والدهشة الفلسفية، لذلك أورده لالاند في موسوعته النقدية على أنه «إستدلال تشتمل مقدمته على خيار بين طرفين، وتبين مقدماته الأخرى أن حالتي البديل تتضمن اللزوم ذاته» [11]، لذلك فالإحراج في الدرس الفلسفي عادة ما نجده يتمثل في ذلك الرأيين الفلسفيين المتناقضين ما يجعلنا نشعر بالإحراج أثناء تغليب رأي على آخر، بل يمتد لنجده كذلك في تاريخ الفلسفة الذي هو تاريخ إحراج، يحرج فيه فيلسوف فيلسوفا آخر وذلك من خلال بيان حدود تصوره.

الإحراج في بعض الأحيان قد يقودنا إلى الدهشة، لكن لا يمكن إعتباره دهشة، فالدهشة الفلسفية بالخصوص هي عكس ذلك افترض أولاً أن تكون على درجة عالية جداً من التعقل والفهم فهي تحيل باللغة الفرنسية Étonnement أي «مشاعر شخص [...] متفاجئ من شيء خارق للعادة» [12]، لذلك سيقول شوبنهاور عنها «إنها أشبه بدهشة طفل أو رجل بدائي» [13]، لذلك دائماً ما تكون الدهشة الفلسفية ناتجة عن عدم إقتناع المرء بكل الأجوبة المألوفة والسائدة والمتداولة بين عوام الناس، إنها كنوع من الإنبهار والتيقظ من كل شيء، ويجب تمييزها دائماً عن تلك الدهشة العادية الساذجة الغبية من أمور بسيطة جداً وتافهة.

إذن بعد التعرف على الأشكلة وتمييزها عن كل ما سواها من إشكال وإشكالية ومشكلة ومقابلة وإحراج ومفارقة ودهشة وتساؤل، ننتقل الآن إلى منزلتها في الدرس الفلسفي وذلك من خلال منهاج مادة الفلسفة أو التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة في سلك الثانوي التأهيلي الصادر عن مديرية المناهج في نونبر 2007 حيث نصت على «نقل المتعلمين من مستوى التفكير العلمي إلى مستوى التفكير الفلسفي عبر إكسابهم مجموعة من القدرات من بينها الأشكلة» [14]، تجدر الإشارة إلى أن قدرة الأشكلة ليست هي الوحيدة التي تختص بها الفلسفة بل هناك قدرات أخرى من مفهمة ومحاجة وسنفرد لها مقالات أخرى توضحها كما فعلنا مع الأشكلة، كما أن المهم في قدرة الأشكلة هي الأشكلة ذاتها بما هي جوهر وروح التفلسف أو العمل الفلسفي بشكل عام، الفيلسوف من أعماله الرئيسية التي يقوم بها تستند على أشكلة كل الموضوعات القابلة للتفكير، وذلك من خلال تحويل السؤال أو القضية أو الموضوع المطروح أو حتى بعض الألفاظ والمصطلحات السائدة والمتداولة بين غوغاء الناس ودهمائهم إلى إشكالات، أي الكشف عن ذلك التوتر والتناقض أو المفارقة أو الغموض واللبس الذي ينطوي عليه كلام العامة ومن أهم الإستراتيجيات المساعدة على أشكلة أي قضية كيفما كانت نوعها هي الإنتباه إلى:

الغموض واللبس الذي ينطوي في معنى المفهوم.

الثنائيات والأزواج المفاهيمية التي تكتمن في القضايا.

التعارض والتناقض المتأصل في الخطابات كيفما كان نوعها.

يجب على المتعلم أن يصوغ الإشكال الفلسفي على شكل سؤال أو أسئلة يضمر أو يصرح بالغموض أو التناقض أو التعارض الذي يحيل إليه.

أما الإشكالية أو التساؤل فهي سلسلة من الأسئلة المنتظمة والمتراصة فيما بينها البَيْن التي تتفرع عن إشكال فلسفي تسهم في بناء وإعادة بناء الخطاب وتعمل على تماسكه وتناظمه وتناسقه، أو تعمل في بعض الأحيان على هدمه.

على سبيل الختم، نلحظ أن مفهوم الأشكلة في جوهره مفهوم بدوره يثير إشكال، خاصة أنه يتداخل مع الكثير من المفاهيم القريبة جداً منه والتي صدرت عنه بالعرض لا بالذات، من إشكالية وإشكال ومشكلة وسؤال وتساؤل ومساءلة، مع أننا نجد إمتدادات لها في الدهشة الفلسفية خاصة، والشك في بعض الأحيان، ثم النقد والدحض والتفنيذ والسؤال الفلسفي، ثم المفارقة والتقابل والإحراج، كل هذه المرادفات يمكن إعتبارها جزيئات تدل على هذا المفهوم الكلي الشامل، أي الأشكلة، فكل تلك المفاهيم تشكل شبكة لهذا الأخير،(هنا تحضر فكرة التشابك المفاهيمي)، "لا يمكن بتاتا فهم الأشكلة بدون ردها إلى هاته الدلالات المترتبة عنها" [15]، والتي تجعل منها عملية مركبة تبدأ أولاً بذلك التحديد للمشكلة التي تفرض نفسها والتي لا ينتبه إليها أحد، هذه المشكلة تطرح اللبس والغموض الذي يدفع إلى الإندهاش، فتحديد المشكل ينبع عن الدهشة، ويجوز أخذ موقف عقلي منها من خلال الشك وعدم الإطمئنان لها أي المشكلة، وذلك ما يطرح الصعوبة الكبيرة في إيجاد حل لها، كما أن الإشكال يعبر عن نفسه من خلال المفارقات والمقابلات والإحراجات، بل عن طريق مجموعة من الأسئلة المنتظمة والمتراصة كما قلنا سابقاً، إضافة إلى أن الدرس الفلسفي أصبح درسا مؤشكلا بالفطرة، بمعنى يركز كثيراً على هاته القدرة على صياغة وإبداع الإشكالية التي هي خصيصة له، ونعلن في النهاية أن الدرس الفلسفي درس يتوخى التربية على الأشكلة.

***

محمد فراح – تخصص فلسفة

.........................

مسرد المراجع والمصادر المعتمد عليها:

[1] – Karl Jaspers , Introduction à la philosophie, traduit de l'allemande par jeanne hersch , Paris librairie plon 10/18 sans date , pp.5 et s.

[2] – أحمد مختار عمر، بمساعدة فريق عمل: معجم اللغة العربية المعاصر، المجلد الأول، عالم الكتب، الطبعة الأولى 2008، ص 1227.

[3] – المصدر السابق، نفسه، ص 1229.

[4] – عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة، الجزء الثاني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1984، ص 446.

[5] – Jacqueline Russ: Les méthodes en philosophie, Armand colin éditeur, Paris, 1992 , pp 27-28.

[6] – Ibid , p 24.

[7] –جميل صليبا: المعجم الفلسفي، المجلد الثاني، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، 1982، ص 402.

[8] – Jean Dubois et des autres, la rousse Dictionnaire du français d'aujourd'hui, édition 2000 , p 933.

[9] – الطاهر وعزيز، طرائق التفلسف، تقديم محمد مصطفى قباج، مراجعة محمد وهبي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، جامعة محمد الخامس، سلسلة الكتاب الجامعي رقم 10، ص 57.

[10] – المصدر نفسه، نفس الصفحة.

[11] – أندري لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، المجلد الأول A-G، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت -باريس، الطبعة الثانية، 2001، ص 284.

[12] – Jean Dubois, Ibid , p 518.

[13] – آرثور شوبنهاور: العالم إرادة وتمثل، المجلد الأول، ترجمة وتقديم وشرح، سعيد توفيق، مراجعة على النص الأصلي الألماني فاطمة مسعود، المشروع القومي للترجمة، العدد 1075، الطبعة الأولى 2006، ص 424.

[14] – وزارة التربية الوطنية، التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي بالمغرب، مديرية المناهج، نونبر 2007، ص 6-9.

[15] – محمد الحنتيتي، منهج التربية على التفلسف، تقديم: د. نور الدين لشكر، مطبعة دار القلم، الطبعة الأولى: 2023، ص ص 13 – 25.

 

توطئة: نجد في تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة على السواء أفكارا فجّة إبتذالية تم تسويقها للعالم قاطبة قبل تسويقها في منشئها الاول دول الغرب (اوربا) تحديدا على أنها أفكار لعظماء الفلاسفة وعباقرتها في التاريخ الانساني، ولو لم تكن مباحث الفلسفة الغربية نشأتها القديمة العظيمة في اليونان وغيرها من بلدان العالم القديم في العراق ومصر وبلاد المغرب العربي وبلاد الشام والاندلس وبلاد فارس والهند والصين، لكانت الفلسفة الاوربية الحديثة مهزلة من مهازل العبث بالتفكيرالفلسفي والعلمي الهادف الذي دفع الانسانية نحو مراحل علمية نهضوية تقدمية لم تكن إسهامات الفلسفة مقارنة بمنجزات العلم شيئا يستحق حتى الاشارة له.

والمتابع لمقالاتي الفلسفية ومؤلفاتي يجدها نقدا متداخلا في مراجعة قطوعات من تاريخ الفلسفة الغربية هي أمثلة لما ذكرناه. ولا أتوخّى من وراء هذه الممارسة الفكرية النقدية المنهجية المسؤولة مجرد الإنتقاص والتشهير بفلسفة غربية نحن اليوم وقبل اليوم ننتلمذ على أفكارها تلاميذا نجباء لم يتعوّد أحدنا أن يقول عن بعض الافكار الفلسفية الغربية أنها تافهة لامعنى لها، وإنما كان هدفي ولايزال الإسهام على قدر المستطاع إشاعة روحية النقد البنّاء لدينا إذا ما أردنا الخروج من شرنقة الدوران وراء عروض فلسفية أغلبها مترجمة لما أعتاده المشهد الثقافي والادبي والفلسفي الركض بلا روّية وتأن وراء أفكار فلسفية أصابها البلى الغربي في وجوب مغادرة تقديسها والإنبهار المبالغ بها .

الارادة والادراك

كان ميراث الفلسفة المثالية الغزير الذي ورثه شوبنهاورعن العديد من الفلاسفة الذين سبقوه كافيا أن يجعل منه فيلسوفا مثاليا في تطرف لا يجاريه فيه سوى بيركلي في مثاليته. حيث وصلت مثالية شوبنهور المتطرفة نكرانه وجود العالم الخارجي بدون وجود ذات تدركه، معتبرا لا وجود لعالم خارجي لا تدركه الذات.

ليس بمعنى الإتاحة المشتركة لوجودهما البيني معا، بل في التفاوت الزمني في وجودهما الانطولوجي. بمعنى حين يكون العالم الخارجي وجودا أزليا محدودا ومحكوما بالبقاء في وجوده الطبيعي بقوانين طبيعية مادية ثابتة لا تستطيع الغاء وجود ما هو مادي (العالم الخارجي) المتجانس معها، فلا يبقى هناك معنى أن لا يكون هذا العالم الخارجي غير موجود بغياب ذات انسانية تدركه.

والاكثر إستهجانا لا معنى لوجود عالم في غير مزامنته لذات تدركه. لا أعتقد من السهولة إستحضار الذات كوجود يستبق أولوية حضور العالم الخارجي كوجود طبيعي مادي تحكمه قوانين في إشتراط ساذج أنه لا وجود لعالم خارجي من دون محايثة وجود ذات تزامنه الحضورإدراكيا.

وإستمّد شوبنهور من كانط مقولته المثالية "إن تنظيم الإحساسات في موضوعات الإدراك ترجع الى الصور القبلية التي يفرضها الذهن على تلك الإحساسات"1.

هذا الإقتباس القصير يحيلنا الى تعقيب ونقد الخطوط العريضة في المنهج المثالي الفلسفي عموما:

- هناك مسلمّة يعتمدها المنهج المادي أن وجود العالم الخارجي يسبق الإدراك الحسّي والعقلي له بكل حلقاته بدءا بالحواس وإنتهاءا بالدماغ في تركيبته العضوية. وجود العالم الخارجي لا ينفي وجوده عدم إدراكه ولا ينفيه عدم التعبير الفكري اللغوي عنه كما لا تنفيه الذات في عدم إدراكها له في تحقيق وجودها المغاير في حضور ذلك الوجود كما في غيابه الحسّي.

صحيح جدا الوعي الذاتي لا يتحقق بدون موضوع يلازمه الإدراك لكن تحقق الوجود المادي في العالم الخارجي لا يشترط توفر إدراك الذات له كي يحقق وجوده الموجود سلفا في الطبيعة بقوانينها الثابتة. الوجود لا يحتاج من يدركه بل الانسان في وجوده المغاير النوعي لموجودات الطبيعة له يحتاج إدراك الوجود وتفسيره ومعرفته ذلك الوجود.

- الصور القبلية المفترضة كخزين معرفي بالذهن لا صحة لها لسببين الاول لا يوجد خزين معرفي بالذهن لم تسبقه موجودات عالم مادي واقعي كانت مصدرا لتلك التصورات المعرفية الخزين بالذاكرة وليس بالذهن، والثاني أن الذهن لا ينوب عن الذاكرة في تخزين المعارف المكتسبة، كما ولا ينوب الذهن عن العقل بالتفكير.

- الصور القبلية لإدراك الاشياء لا تعمل في فراغ، بمعنى مصدر كل إدراك صوري تجريدي قبلي هو خبرة مكتسبة عن موجودات وأشياء خارجية. صحيح لا يتم الإدراك العقلي - الذهني عن شيء لا يسبقه معرفة قبلية عنه، وهذه المعرفة القبلية هي خزين فكري لغوي لم يتح له الإفصاح عن مدركاته. لكن معرفة الشيء بتصورات قبلية عنه لا يجعل من ذلك الشيء موضوعا معرفيا جديدا تخلعه لغة الادراك العقلية والتعبيرية الجديدة عليه.

- ألفكر والإدراك التجريدي لا يخلق الوجود المادي لتلك الاشياء. كل مدرك مادي مستمد من الواقع الخارجي أو موضوعا مستمدا من الذاكرة - المخيلة يستحث منظومة العقل الادراكية التفكير به بما هو يحمله من خواص وليس بما تعرفه عنه الذات المدركة من تصورات قبلية ومعرفة مخزّنة بالذاكرة عنه. وجود الشيء في حاضر إدراكه لا يطابق وجوده في ماضي إدراكه. .

- وسيلة الذهن إفصاحه عن مدركاته لا تجعله يتقدّم العالم الخارجي بألأسبقية لا بالوجود ولا بالإدراك بل الذهن يتلقى الإنطباعات عن الإحساسات العابرة له من خلاله دونما أسبقية العقل التعامل مع تلك الإنطباعات،.

من المسائل التي يجري الخلط بها هو إعتبار الذهن مستودع تخزين (الافكار) التي هي في حقيقتها حلقة عبور إنطباعات إدراكية لإحساسات مصدرها الواقع المادي، وهي عابرة للذهن وليست أفكارا يختزنها الذهن بالتفكير بها، والخطأ الثاني إعتبار الذهن مستودع التفكيرلمدركات العالم الخارجي وله خاصّية إعطاء مقولاته الإرتدادية في أن ينوب عن العقل في تمّثلات التعبير عن تلك الاشياء ألمدركة بردود الافعال الصادرة عنه.

ولتوضيح هذا الإرباك يمكننا ألعودة الى آراء جورج بيركلي المثالية الذي يرى إحساسات مدركات العالم الخارجي التي تنطبع بالذهن تخرج من الذهن بنفس بساطة دخولها ومغادرتها له بلا تغيير. لذا يعتبر خزين الأفكار بعد فقدانها لقيمتها الزمانية يتم تخزينها بالمخيّلة وفي الذاكرة وليس تخزينها في الذهن بإعتباره حلقة مرور الإنطباعات الحسّية.

الذهن يمكننا معرفة بعض الإنطباعات على لوحته التي تكون مادة خام فيه، لكن عندما نريد معرفة افكار إدراكية نهائية عن شيء نجدها بتعبيرات العقل كمقولات إدراكية فكرية حاسمة وليست إنطباعات ذهنية ومن العبث التفتيش عن الافكار بالذهن قبل صدورها عن العقل.

- وسائل حلقات المنظومة الادراكية للعقل مثل الذهن، الوعي، المخيلة، الذاكرة، في التعبير عن المدركات العقلية يكون بوسيلة تلازم الفكرواللغة الصادرة عن مقولات العقل. أي التصورات والتمّثلات التجريدية اللغوية، كون حقيقة الإدراك هو لغة، كما هي حقيقة الوعي هو لغة، وحقيقة الذاكرة لغة والعقل بكليّته الموجودية هو جوهر ماهيته التفكير اللغوي المجرد حسب تعريف ديكارت.. لا يمكن إدراك شيء موجود بدون لغة تحتويه وتتمّثله حتى الإدراك العقلي للوجود كما ذكرنا هو تعبير لغوي تمّثلي صوري تجريدي لعالم الموجودات.

الارادة والوجود بذاته

من الأمور الاخرى التي أراد شوبنهاور عبور كانط بها هي موضوعة (الوجود بذاته) النومين الذي إدّعى يمكنه عبور مقولة كانط التي أراد بها ما معناه أن الوجود بذاته لا يمكننا القول أو التعبير عن حقيقته بأفكار هي لم تدركه أصلا، لكننا نجد شوبنهاور يقول " الوعي بذاته هو الإرادة، فالحقيقة الثابتة الواقعية هي الأرادة "2، بخلاف هذا التعبير المنكفيء ذاتيا جوّانيا في تحقيق الإرادة على مستوى الفهم الخارجي للوجود، نجد بول ريكور يذهب أبعد من ذلك في تصويره المثالي قوله الإرادة ليست حدودها عالمنا الإدراكي وإنما هي رغبة فهم ميتافيزيقا الوجود في تعبيره "الارادة ذات سعة ومجال بلا نهاية".

ولا نعرف مدى تطابق الإرادتين الفلسفيتين الاولى لشوبنهاور والثانية لبول ريكور في مثالية فلسفية لا تقدم ولا تؤخر..كون الإرادة لا هي منهج عملي محدود الأمد في التطبيق كما في تواضع عنونة شوبنهاور أو كانت الارادة ذات سعة بلا نهاية كما يعبّر عنها ريكور.

ملاحظات حول عدم صحة تعبير شوبنهاور الوعي بذاته حقيقته الثابتة هو الإرادة:

- الشيء بذاته وجود غير مدرك لا بالماهية ولا بالصفات هذا ماذهب له كانط وهوسرل في الفينامينالوجيا وفلاسفة الوجودية بلا إستثناء، لذا يكون بالحتمية الواقعية المنطقية الشيء بذاته لا ينتج عنه ما هو حقيقي يدركه العقل يسمى "الارادة " التي هي سلوك قصدي غير متحقق لا بالفعل ولا بالتعبير عنه بوسيلة الفكر واللغة.

الإرادة مصطلح غائم يمكننا تفسيره بمرجعية علم النفس، أما أن تكون الإرادة وسيلة معرفتنا وإدراكنا العالم من حولنا بموجوداته وظواهره تحت عنوان العالم إرادة وتمّثّل فهو أمر مشكوك به.

إلارادة ليست ما ترغبه أن يكون عليه العالم بل الإرادة الحقيقية هي إمكانية ما تستطيع تحقيقه إرادة التنفيذ في تغيير ذلك العالم وليس في تسطيح تفسيره..ألإرادة الفاعلة هي تلك الإرادة التي تهتدي بمنهج فكري تقوم بتنفيذه، وهذا ما نجده واضحا في أدبيات الماركسية وفي أدبيات البراجماتية الامريكية على حد سواء رغم البون الاختلافي الشاسع بينهما.

- الشيء بذاته هو وجود قاصر ذاتيا في الإفصاح عن نفسه تحكمه طبيعته الموجودية الانطولوجية، أي هو وجود بذاته مشكوك به لعدم توافر إمكانية إدراكه عقليا، وكونه موجود إفتراضي مغلق في عدم معرفة ماهيته.

لذا تكون الإرادة هي خاصيّة سلوكية نفسية غير متحققة في الواقع، وليست لها قدرة وإمكانية تمكنها إدراك الوجود بها كحقيقة عابرة لكل موانع العقل والإدراك السوي الحقيقي، فالإرادة ألمثالية لا تحتمل أكثر من تفسير علم النفس السلوكي لها، أنها رغبة مكبوتة مجردة من قابليتها الادراكية بالفعل (براكسيس) في إثبات وجودها قبل أن تكون وسيلة معرفية لفهمنا العالم من حولنا وإثبات وجودها بالتصور الذي جاء به شوبنهاورعنها.

- الإرادة خاصيّة انسانية مقعدة عن إمكانية التنفيذ لما ترغب التعبير عنه وتحققه، الإرادة هي رغبة تحقيق ذاتها بتموضعها الإدراكي بموجودات وظواهر العالم الخارجي. وهي إرادة القيام بفعل شعوري نفسي لا يتحقق بدلالة غيره.. والارادة فعل قصدي فاقد إمكانية تحوله الى سلوك معرفي حقيقي، حتى في حال تكون قصدية الإرادة تحتكم لأحكام العقل بتوجيهها. والإرادة تصّور قصدي لا يتّخذ صفة الإفصاح عن موضوعه قبل تحقق فعل الإرادة في الواقع المادي للاشياء.

- وحينما نقول العالم محكوم بإرادة الادراك والتغيير الذاتيتين فهذا ليس كافيا، إختزال كل المعارف العلمية والفكرية وتراجعها أمام مقولة شوبنهاور أن وسيلة فهم وإدراك العالم هو إرادة وتمّثل موجودات ذلك العالم الذي يكون تمّثله اللغوي التجريدي من بديهيات مباحث الفلسفة التي لا تقوم على الإرادة فقط التي هي نزعة مثالية طوباوية لا أكثر. الإرادة ليست وسيلة إدراك العالم من حولنا، بل هي رغبة نفسية لإدراك ذلك العالم تفتقد وسائل التنفيذ.

الارادة وتموضع الطبيعة

في كتابه (العالم ارادة وتمّثل) بعد إعادة الاعتبار له بعد إهماله بشكل مزري لفترة زمنية طويلة أراد شوبنهور تطوير مذهب الإرادة من حيث أن الإرادة تعني تموضع الذات الانسانية في الطبيعة، وعن طريق التمّثلات يعي الانسان جسمه، من حيث أنه موضوع طبيعي في عالم متموضع فيه جزء منه. يقول شوبنهور" الإرادة متموضعة في الطبيعة، وعن طريق التمّثلات يعي الانسان جسمه من حيث أنه موضوع طبيعي في عالم تلك الموضوعات"3.

لنا التعقيب التالي:

- الإرادة بالفهم الفلسفي وعلم النفس ليست (ادراكا) عقلانيا تسبق موضوعها المادي في تمّثلاتها أشياءا متموضعة بالطبيعة منها الانسان على حد تعبير شوبنهاور. ويكون تموضع الإدراك من خلال التعبير عن مدركاته هو تعبير لغوي وتمّثل تصوّري تجريدي صرف لا علاقة له بالتموضع العضوي في الطبيعة من حيث الادراك هو إلزام وعي الاشياء في وجودها المادي بالطبيعة، وهذا الإلزام هو خصيصة ألانسان في وجوده كائنا عقليا. حقيقة التموضع في الطبيعة هو وجود أنطولوجي وليس وسيلة إدراك تجريدي.

- كل تموضع في الطبيعة لأشياء وموجودات يدركها العقل بوسيلة تجريد اللغة في التعبير عنها. والانسان بإعتباره أحد مواضيع الطبيعة كما وصفه شوبنهاور. وأن إدراكه المتموضع كموضوع في الطبيعة لا يتم بغير تمّثلات الإرادة كسلوك معرفي عقلي يجد فيه الانسان حقيقته الوجودية.

الانسان الوجود المادي، أو الكائن المتموضع بالطبيعة كما يرغب شوبنهاور لا يلزم بالضرورة أن يكون إدراكه بوسيلة الإرادة التي هي وعي نفسي يعي ذاته والمحيط. إرادة الانسان في وعيه ذاته لا تحتاج إرادة إختيار ولا إرادة نفسية قصدية ولا إرادة غريزية متموضعة بالطبيعة، وعي الانسان لذاته وعي إدراكي قبلي ومعرفي وخاصّية فطرية يدركها الانسان بمجرد أن يمتلك قابلية التفكير وتعبير اللغة عن قلقه الوجودي بالحياة. وهذا الإدراك للانسان لا معنى ولا علاقة تربطه في تموضعه بالطبيعة.

- لم أجد معنى فلسفي أفهمه يتوقف عنده المتلقي مثل تعبيرات شوبنهاور الفلسفية المتهالكة التالية:

" عن طريق الحدس المباشر يعي الانسان إرادته، وجسمه ناتج الإرادة وأداتها، وقدماه تموضع لرغبة الحركة، وأعضاؤه الهضمية تموضع لرغبة الجوع، ومخّه تموضع للرغبة في المعرفة، وإذا لم يكن كل هذا من أجل الإرادة لن يكون له جسم على الاطلاق"4.

لا تعليق تهضمه هذه التعبيرات الفارغة التي لا معنى لها، ولا تمّت بأدنى صلة لفهم التموضع الانساني بالطبيعة، ولا لتشريح جسم الانسان بايولوجيا حسب الوظيفة العضوية، لتأكيد أن كل شيء خاضع للارادة كما يرغب شوبنهاور تسويقه. الإرادة ليست منهجا في معرفة حقيقة العالم بتمّثلات الذهن... الإرادة الانسانية بلا منهج نظري يتقدمها ويقودها تبقى وعيا قاصرا في محاولة فهم موجودات الطبيعة والعالم والحياة.

الإرادة وفلسفة من هنا وهناك

كي لا نغادر إنشائية شوبنهاور الفلسفية كمثال لما ذكرناه نأخذ نموذجين من الهراء الفلسفي له الاول الإرادة والطبيعة والانسان إذ يقول " هل يستطيع شخص ما أن ينظر الى كل الموضوعات الموجودة مثل الاشخاص الآخرين والحيوانات والنباتات والاشياء العضوية من حيث أنها تمّثلات لا توجد إلا بالنسبة له، أي بوصفها أدوات لإرادته الفردية بدون أساس آخر للوجود سوى وعيه بها"5.

من الواضح الخاطيء معا هو إعتبار وإختزال شوبنهاور الأنا الفردية حتى في حال إفتراضنا أنها تمّثل وعيا جمعيا تنوب الذاتية الفردية عنه، أن تكون الأنا هي مجمل معرفتنا حقيقة الوجود في وعينا له بالإرادة الخّلاقة التي يقترحها فيلسوفنا. ومن دونها لا يتبقى وسيلة أخرى ندرك بها العالم على حقيقته.

وعي الذات في إدراك العالم ليس مقتصرا على تحقيق حلم الإرادة كما يرغب شوبنهاور، جميع كائنات العالم الخارجي والطبيعة إنما هي وسائل ليست لمعرفته ومعرفة مصير الانسان فيه، وإنما هي لجعل كل مدركات الوعي الفردي أدوات تنفيذ رغبة الإرادة إشباع الحاجات الانسانية الاساسية للفرد. إرادة الانسان ليست وسيلة إثبات وجود العالم الطبيعي ولا وسيلة إثبات وعي الذات المتموضع بالطبيعة كموضوع من موضوعاتها.

والعالم لا يستمّد وجوده إلا بإرادة الوعي به كما يرى شوبنهاور، وبإنتفاء الوعي الذي تحكمه الارادة لا يبقى هناك معنى لوجود. كي لا نطيل بكلمات لا معنى لها بتفسيركلمات لامعنى لها نقول الطبيعة لم يكن وجودها متوقف على إدراك الانسان لها وتموضعه بها كإرادة يتحسس جسمه بدلالتها، ولا على تلبية حاجاته لها، ولا لأهمية الارادة في تموضعه بها.

الانسان لم يخلق جزءا ملحقا بالطبيعة غير العاقلة بأي شكل من الاشكال، بل لا تزال مسيرة البشرية الانثروبولوجية تشير الى أهمية وعي الانسان مهادنة الطبيعة والتكيّف معها في محاولة معرفة قوانينها الثابتة ومدى تأثيرها على الوجود الانساني. الانسان كموجود محايث لوجود الطبيعة هو في حقيقته الانطولوجية وجود طاريء على الطبيعة جزء منفصل عنها بقدرات لا تمتلكها الطبيعة، وعي الانسان لا يقتصر على كيفية أن يكون كل شيء بالوجود هو من أجل خدمة الانسان وما لم تتحقق مثل هذه الفاعلية فلامعنى لوجود عالم مستقل عنّا تحكمه قوانين لا إمكانية للانسان العبث بها من غير التكيّف العلمي معها في محاولة إكتشاف نظامها لوضعها في خدمته.

في مثال إبتذالي سطحي ثان يعّبر شوبنهاور" العلم لم ولا يخبرنا بشيء على الإطلاق عن الطبيعة الداخلية للظواهر التي تصّنفها، ولا عن نظام الظواهر المنتظم الذي تصفه، العلم لا يكشف شيئا عن الطبيعة الحقيقية لأي شيء، فلا نستطيع معرفة كيف يكشف العلم القوة التي بناءا عليها يسقط حجر الى الارض. ولا كيف يدفع جسما لجسم آخر، أو ما الذي يسبب نمو النباتات أو حركات الحيوان، لا يستطيع العلم إكتشاف هذه وغيرها."6.

هل من المعقول عند أبسط انسان يعيش منجزات العلم الهائلة تصديق أن يتراجع العلم الى الوراء فقط كي نعتبر كلام شوبنهاور السطحي في إدانته وتشكيكه بتقصير العلم مقارنة بما تعرفه الفلسفة من علوم يعرفها بعض الفلاسفة دون غيرهم؟ هل إكتشافات علوم الفيزياء والفلك منذ كوبرنيكوس 1543 والى قوانين نيوتن في الجاذبية والرياضيات التي سبقه بها كلا من برونو وغاليليو وكبلر وصولا الى نسبيتي انشتاين الخاصة والعامة جميعها كانت العاب أطفال تتقاذفها ارادة شوبنهاور الفلسفية ؟ هل حقا لم يعرف العلم كيف يصنع النبات غذائه ذاتيا في إدامة حياته، هل علوم الحيوان لم تتوصل معرفة دوافع حركات الحيوان وسلوكه في الطبيعة؟ هل العلم الذي وصل فك شفرات كروموسومات الحمض النووي، والإستنساخ من خلية حيّة كائنا نوعيا آخر منها؟ كل منجزات العلم بالذرة والتكنولوجيا وغيرها من مجالات كان العلم يهتدي الوصول لها بإرادة شوبنهاور الفلسفية التي تبعث أسئلة ساذجة عن العلم ؟؟ شيء من العبث مناقشته.

بقي الفلاسفة المحترمون في نطاق تخصصاتهم الفلسفية لا يقربون التدخل في مجال اشتغالات العلم الطبيعي التخصصية لأنهم بذلك يعمدون عن جهل تخريب وتعويق مسيرة العلوم الى أمام. ولم تكن الفلسفة متقدمة على العلم في أيّ مجال من مجالات الحياة على إمتداد عصور طويلة من تاريخ العلم والفلسفة عدا الاسهامات البسيطة التي حاولت الفلسفة إفادة العلم بها.

الفلسفة علما طبيعيا قائما بذاته يلازم الانسان في البحث عن اجابات لتساؤلاته، ولم تكن ولن تكون الفلسفة إرادة تجريدية تحاول خلق العلوم الطبيعية. العلم منجزات محدودة بالزمان والمكان في إجتراحاته التجريبية، بينما تكون الفلسفة نهجا غير نهائي ولا محدود بفضاء تفكيري مجرد لأنها ليست محدداتها التجربة وميدان التطبيق كما هي خاصية العلوم الطبيعية.( هذا لا ينطبق على كل من الفلسفتين الماركسية، والذرائعية "البراجماتية" الامريكية كونهما منهجين فلسفيين يصنعان الحياة ويغيّرانها بالتطبيق العملاني كما العلم الطبيعي تماما).

الادراك والارادة

يمكننا القول بخلاف شوبنهاور أن الإرادة لا تقود الإدراك كغريزة فطرية تحكم الانسان كموجود متعالق بالطبيعة بالتمايز النوعي عنها. الإرادة سلوك نفسي مبعثه معرفة الاشياء في وجودها الطبيعي، بينما يكون الإدراك فعل حيوي عقلي يتوفر على الوعي القصدي في تساؤله لماذا يجب معرفة العالم وليس معرفة كيفية إدراكه فقط؟. الانسان لا يتمّثل موجودات العالم من حوله لمجرد إمتلاكه التمايز النوعي عليها في إدراكه لها وعدم إدراكها هي له.

موجودات العالم حول الانسان لا تلزمه وجوب إدراكها، كونها لا تعقل وجودها ولا وجود الانسان المحايث لها. الوعي القصدي هو الذي يتمّثل ارادة الانسان لأهمية إدراكه العالم المادي الطبيعي من حوله.

نعود أيضا لإقتباس من كتاب شوبنهاور "العالم ارادة وتمثل" قوله " العالم هو تمّثلي وهي حقيقة لا يعيها تماما سوى الانسان الذي يستطيع أن يقررها بصورة مجردة على الرغم من أنها تصدق بالنسبة لكل شيء يعيش ويعرف، أن العالم الموجود أمام الانسان لا يوجد إلا من حيث تمّثل بالنسبة لذهنه"7.

تحليل وتعقيب نقدي

- تمّثل موجودات العالم والطبيعة تجريديا لغويا إدراكيا هي خاصّية انسانية عقلية نوعية لا يمتلكها سوى الانسان، ولا تصدق على كل شيء يعيش ويعرف كما ورد في عبارة شوبنهور. فالحيوان يعيش ويعرف أنه يعيش لكنه لا يستطيع تمّثل وجوده ولا العالم من حوله، كما يفعل الانسان في إمتلاكه خاصّية العقل الذكي بوسيلة التعبير الفكر واللغة.

- موجودات العالم لا يتوقف وجودها على تمّثل الانسان لها كنوع لا يجاريه فيه كائنا غيره. العالم وجود متحقق قبل ارادة الانسان تمّثله للعالم، وإختلاف موجودات العالم أنها لا تكافيء مساواة الانسان بوجوده ووعيه المتفرد للطبيعة. وخاصيّة الانسان المتاحة له فقط في إدراكه العالم من حوله هي فطرة بيولوجية قبل أن تكون إرادة تحكم كل شيء كما يزعم فيلسوفنا شوبنهاور.

- إدعاء شوبنهور إرادة الانسان معرفة العالم، ليست سببا كافيا لإثبات وجود العالم الموجود بفعل إرادة الانسان، كما وليست إثبات تحصيل حاصل أن الانسان موجود يتوّجب عليه إدراك وجوده الذاتي والموضوعي وسط عالم متنوّع تصعب على إرادة الانسان تطويع كل شيء لتمّثلاته كما في إعتباره عنونة كتابه "العالم ارادة وتمثل". بمعنى من غير الارادة والتمّثل لشوبنهور لا وجود لمنهج علمي ولا فلسفي يفهم به الانسان العالم من حوله ووجوده بالحياة.

- ليس من الصحيح لإرادة شوبنهاور أن تمثلات الانسان للعالم والوعي الادراكي له متاحة لغيره و يمكن تكرارها أو استنساخها لإعتبارات خاصّية إنفراد الانسان بإدراك العالم بذكائه العقلي قبل إرادته النفسية العزلاء التي تقوم على تمّثلات العالم تجريديا بالارادة، وخاصّية العالم من حوله المحكوم بقوانين تحكمه من غير وعيه بها ومن غير وعيه صنعها غير تكبيله بمحددات ثابتة. لذا يكون إدراك الانسان للعالم هو ضرورة حياتية قبل أن تكون ضرورة معرفية. بمعنى وجود الانسان وسط العالم والطبيعة ليس لإثبات وجوده فيها بمغايرته الجوهرية عنها في تنوّع موجوداتها وكائناتها الحيّة وغير الحيّة، بل لإثبات كيف ولماذا يدركها؟ وأين يكون وجوده بين هذه العوالم والمدركات التي لا تحد لكثرة تنوّعها وتعالقاتها وتشعبّاتها في ظواهرها وغيرها ..

***

علي محمد اليوسف - الموصل

................................

هوامش

1. وليم رايت /تاريخ الفلسفة الحديثة /ت: محمود سيد احمد/مراجعة وتقديم امام عبد الفتاح امام/ ص 351

2. نفسه ص 357

3. نفسه ص 357

4. نفسه ص 358

5. نفسه نفس الصفحة

6. نفسه نفس الصفحة

7. نفسه ص 356

مقدمة تمهيدية: يعتبر أوليڤيي روبول فيلسوفا تربويا معاصرا بإمتياز، إضافة إلى أنه تخصص في فلسفة آلان، ويعد كتابه «فلسفة التربية»، الذي نشر في السلسلة الشهيرة «ماذا أعرف؟» التي تصدر عن المطابع الجامعية لفرنسا، سنة 1974، وأعيد نشر هذا الكتاب من جديد، عن نفس السلسلة، ونفس المطبعة، سنة 1989، لكن الجديد في هذه المرة، هو أن الكتاب ثم تنقيحه وتعديله والإزادة فيه، خاصة وأن حقل التربية في فرنسا شهد مستجدات فريدة من نوعها، بل نلحظ معه في هذا الكتاب، إمتدادات جديدة للتربية مع حقول أخرى مغايرة لها مثل السلطة والقيم أيضاً، هذه الأخيرة التي سيعيد إفراد كتاب خاص بها عنونه ب «قيم التربية»، نشره سنة 1992، على أي، ما يهمنا هنا، هو أننا سنعمل على وضع ملخص عبارة عن وجيز مركب وشمولي جداً أو مدخل إلى فلسفة التربية لدى أوليڤيي روبول، إعتمادا على مؤلفه العمدة «فلسفة التربية»، وسنثير إشكالات فلسفية من داخل الكتاب، عبارة عن أسئلة موجهة للتحليل والمناقشة تعرض الموقف من التربية عند روبول، نصوغها كالشكل الآتي:

ما ذا نقصد بفلسفة التربية لدى أوليڤيي روبول؟

التربية في الأصل، ما هي؟

وما هي أهم المؤسسات التربوية؟

ما هي البيداغوجيا؟ هل يمكن معرفتها من خلال تناقضاتها؟

التربية والسلطة، أية علاقة؟

هل منهج التربية يتمثل في صرامتها؟ ثم الغاية والتربية أية علاقة؟

سنحاول إذن الإجابة بشكل مباشر على السؤال الأول، ذلك المتعلق ب فلسفة التربية لدى أوليڤيي روبول الذي أفرد له عنوانا خاصا به في الفصل الأول من الكتاب «مدخل إلى فلسفة التربية»، حين يقول أن الفلسفة تبدأ «هناك حيث لا تسير الأمور من تلقاء ذاتها، هناك حيث ما كان واضحا بالنسبة للجميع يكف عن كونه كذلك. إنها تبدأ من السخرية السقراطية» [1]، أي إن الفلسفة تبدأ بالحوار، وهي تلتقي في هذا الجانب مع التربية ؛ أي أن ما يميز الفلسفة هو السؤال، ثم الراديكالية، وأنها تفكير في غايات التربية، أي لها طابع معياري، خلافا لباقي العلوم التي تتميز بالموضوعية والمنهج التجريبي وصياغة نظريات علمية دقيقة جداً وصارمة، لذلك يعود بنا روبول إلى تاريخ الفلسفة، من أجل ممارسة الفلسفة، بل والتعرف على فلاسفة التربية الأصيلين الذين فكروا في التربية كمشكلة، نجد منهم أفلاطون و أرسطو و الرواقيون والقديس أوغسطين و توماس الأكويني و إيراسموس وهوبز وجون لوك وداڤيد هيوم وهيلفيتيوس وروسو وكانط وفيشته وهيغل ونيتشه... «حيث شكلت التربية الموضوع المركزي في فكرهم» [2]، لذلك سيقدم روبول تصورا عن العلوم التي تهتم بالتربية مثل علوم التربية من خلال الإثنولوجيا والسوسيولوجيا والسيكولوجيا والسوسيو-لسانيات والإقتصاد ثم تاريخ التربية، هذه العلوم التي تتميز بالصرامة والموضوعية، أما فيما يتعلق بالتحليل المنطقي فهذا هو المنهج المفضل كثيراً عند الأنجلو-سكسونية في تحليل الخطاب ومن عيوبه وحدوده أنه خال من التركيب هذا ما سيتميز به المنهج الدياليكتيكي لدى أفلاطون.

ننتقل الآن للإجابة على السؤال الثاني المتعلق بماهية التربية، لكن أولا حاول تمييزها عن الكثير من الإصطلاحات التي تتداخل معها مثل التعليم والتكوين والنضوج الطبيعي والترويض السلوكي، وذلك من خلال الإختلاف الذي يوجد بين المصطلح وإستعمالاته في اللغتين الفرنسية والإنجليزية، ففي الأولى يحيل إلى «آداب السلوك ما يعني الإنضباط والتكيف مع قواعد الطبقة العليا ورموزها وقيمها وألفاظها المتداولة ولكنها تعني الضبط الحقيقي للذات» [3]، أما في الثانية «تعني التعليم كمؤسسة أي كنظام مدرسي وجامعي » [4]، وما يميز التربية المدرسية هي البرنامج والمنهج الدراسي. لذلك يجب علينا التمييز في التربية بين الطبيعة والثقافة، ذلك أن العلوم الإنسانية تعتبر أن الإنسان يصبح إنسانا بواسطة الثقافة، عكس النظرية الطبيعية التي تعتبر أن الإنسان يولد إنسانا بالفطرة أي بالطبيعة، هنا ما سيجعله ينتقل إلى غاية التربية، هل هي في صالح المجتمع أم في صالح الطفل؟ وهناك من النظريات الإمبريقية والثقافوية من تعتبر أن غاية التربية هو تكوين إنسان مندمج داخل المجتمع، عكس النظرية الطبيعية دائماً التي تدافع عن الطفل لأجل ذاته ولذاته وفقط، وبالتالي غاية التربية هي الطفل ولا شيء غيره، لكن روبول يركز على الجانب الإنساني في التربية التي يجب ترسيخها للطفل، أما فيما يتعلق بالتعريف الذي قدمه للتربية بإعتبارها «مجموع العمليات والطرق التي تسمح للطفل الإنساني بأن يقترب بشكل تدريجي إلى الثقافة تلك الثقافة هي ما يميز الإنسان عن الحيوان» [5].

أما فيما يتعلق بالمؤسسات التربوية، يعرف المؤسسة بكونها حقيقة إنسانية وبالخصوص إجتماعية ثابتة ومنظمة ملزمة تبعا لقواعد ولها وظائف إجتماعية، لذلك سيؤكد أن لا يمكن التركيز فقط على الطابع الوظيفي للمؤسسة، هذا ما نجده مع دوركهايم الذي أراد تعويض مفهوم الوظيفة بمفهوم الغائية، إذن الغائية هي ما تجعل من أي مؤسسة، مؤسسة فعلاً، سيتطرق لثلاث نماذج من المؤسسات التربوية.

أولها مؤسسة الأسرة، الذي تتجلى وظيفتها في تلك التربية الأولية والتحضيرية والإستعدادية للطفل، أي تهيئه للإندماج داخل المجتمع، لذلك يجب عليها التركيز على «قيم الخير والجمال على قيم الشر قبل أن يصير قادرا على التعقل والفهم» [6].كما سيعمل في نقد هذه المؤسسة التي أصبحت تعمل على تقييد الطفل، وتسييج حريته والجانب الإبداعي فيه.

ثانياً مؤسسة المدرسة، والتي اعتبرها منشأة هدفها التعليم للعموم، فهي تعمل على تقديم التعليم الأساسي للأطفال بدون غايات مهنية، أما فيما يتعلق بسؤال لماذا المدرسة؟ ينتقل فيه من النقود الموجهة للمدرسة، خاصة نقد إيڤان إليتش لها، من خلال إلزامية المدرسة وإحتكارياتها، لدرجة أنه يرفض رفضا كليا المدرسة من خلال كتابه «مجتمع بلا مدارس»، يرد عليه روبول المعرفة المدرسية لها ما يميزها وذلك كالآتي:

أولاً: معرفة طويلة الأمد.

ثانياً: معرفة منظمة.

ثالثاً: معرفة مضبوطة من الناحية الديداكتيكية.

رابعا: معرفة برهانية قابلة للفحص والنقد والمراجعة.

خامسا: معرفة نزيهة محايدة بغير غاية مهنية.

لينتقل في الأخير إلى التأكيد أن المدرسة تقدم تكوينا خاصا ولها وظيفة أخلاقية متجدسة في التربية على القيم.

ثالثاً مؤسسة الجامعة، حيث إعتبرها مؤسسة للتعليم العالي والبحث العلمي لها بدورها ثلاث وظائف.

أولاً: الوظيفة التعليمية.

ثانياً: الوظيفة التثقيفية.

ثالثاً: الوظيفة المهنية.

التعليم العالي إذن هو تعليم غرضه المساهمة في بناء وإعادة بناء المعارف الأساسية ويركز على هذه الأخيرة جيداً، كما أنه يهتم بجانب البحث العلمي المعمق الأساسي بصفة عامة، غرضه الإختراع والإبتكار والمساهمة في إنتاج وإعادة إنتاج معارف جديدة أساسية ومبتكرة، كما أن له بعد قيمي أيضاً، وبعد معرفي وبعد فلسفي.

لذلك فالمؤسسة الجامعية تحاول إنتاج المعارف والعلوم والبحوث العلمية المبتكرة من أجل الإستفادة من هذه الخبرات والمهارات لنفسها بغرض الإنفتاح على المجتمع.

ننتقل الآن للإجابة على السؤال المتعلق بالبيداغوجيا حيث أن أوليڤيي روبول يحملها في معنيين ؛ فهي فن بما أنها تدل «أولا على كون الشخص بيداغوجيا، على إكتساب فن التعليم والتربية، وهي مهارة تتعلم بالممارسة» [7]، «وهي نظرية كما يقول دوركهايم، بما أنها تهتم بتطبيق العلوم الإنسانية على فن التربية» [8]، وهو يعرفها، بدمج المعنيين معا، بقوله «البيداغوجيا هي هذا الفن المعقلن الذي يعطي لأولئك الذين نربيهم الوسائل والرغبة في تعلم ما لا يعرفونه» [9].

كما إعتبر روبول أن أول من مارس مهمة البيداغوجي هم السوفسطائيون الإغريق الذي عرفوا بتوجيه الشباب، وجعلوا التعليم فنا منهجيا لهم، كما أن النظريات البيداغوجية مرت من ثلاث مراحل أساسية:

الأولى: التيار الكلاسيكي الذي إعتمد على المضمون والمحتوى التربوي.

الثانية: التيار الوظيفي والتقني الذي ركز على تحديد الأهداف الإجرائية/ الوظيفية.

الثالثة: التيار الإبداعي الذي يركز على الإبداع الذاتي والحر للمتعلم.

يرى روبول أن البيداغوجيا تتيح لنا مجموعة الوسائل تساعدنا في التعلم، ومن الوسائل المميزة للبيداغوجيا نجد الرغبة والحافزية والدافعية والهاجسية ومركز على مشاركة المتعلم لبناء معارفه الأساسية.

لينتقل فيما بعد للحديث عن التلقين والتلقائية، وذلك من خلال تأكيده على أن التلقين عملية سلبية جداً تذكرنا بالبيداغوجيا الكلاسيكية، والتي تجعل من الطفل متلقيا سلبيا، عكس التلقائية التي هي مرادف لكلمة الحرية والتعبير عن الذات، إنها مشاركة المتعلم في بناء وإكتشاف المعارف لذاته وبذاته، لذلك يخبرنا بأنه يجب «التركيز على بيداغوجيا الكفايات» [10]، كما أن ما يميز البيداغوجيا هو الأساليب التقنية التي توفرها للمدرس، ومع تنامي الإبتكارات التقنية من تعليم مبرمج، وتعليم بواسطة الحاسوب أو الذكاء الإصطناعي، أصبح دور المدرس جوهريا متمثلا في التوجيه والإرشاد وتوعية وتثقيف المتعلمين وتشجيعهم على إستعمال هاته التقنيات، لينتقل فيما بعد، إلى البيداغوجيا بين القطيعة والإتصالية، وهنا نجده يؤكد على تصورين:

الأول: الداعي للقطيعة متمثلا في التيار الكلاسيكي أي أن الطفل يقطع مراحل مختلفة أثناء نمائه من طفل إلى مراهق أو راشد تم باقي المراحل، والتربية تحدث قفزات نوعية مع الطفل.

الثاني: الذي يدعو إلى الإتصالية المتمثل في التيار المجدد /الوظيفي والذي يؤكد على ضرورة الإستفادة من ما سبق والإنفتاح عليه دون القطع معه، والتعامل مع المراحل النمائية للمتعلم في كليتها دون تجزيئ.

لذلك سيركز روبول على التصورين معا، لتكوين تصور واحد ووحيد مركب وشمولي من خلال الفصل والوصل، وذلك لأن القطع قد يؤدي إلى الفشل الدراسي أما الوصل «لا يركز على القيمة الإيجابية للتربية» [11]، سنلاحظ هنا أن روبول ميز في هذا المحور أو أثناء إجابته على سؤال البيداغوجيا إنطلاقا من مفردات متناقضة، أي التركيز على تناقضاتها، الإكراه والرغبة، والتلقين والتلقائية، والشك والتقنية ثم أخيراً القطيعة والإتصالية، لينقل فيما بعد للسلطة والتربية أية علاقة؟

يجيب روبول على هذا الإشكال من خلال أن التربية تشكل علاقة عمودية مع المتعلم/ الطفل، هذه العلاقة هي ما تحدثنا على مفهوم السلطة خاصة أن التيار الليبرالي يرفض كل ما له علاقة بالسلطة.

«هل سلطة النظام التربوي شرعية؟ إذا أجبنا بنعم، كيف نفرض هذه السلطة؟ وإذا أجبنا بلا، بماذا نعوض...التربية؟»  [12].

لذلك سينتقل روبول للحديث عن أشكال السلط بعد تعريف السلطة لكونها تلك القدرة التي يمتلكها شخص ما ويدفع بواسطتها الآخرين إلى عمل ما يريد هو بدون اللجوء إلى العنف، هذه القدرة تعود لوضعيته الإجتماعية وكفائته وبالتالي فكل سلطة تتأسس -حسبه- على الشرعية، هناك العديد من أنواع السلط، مثل سلطة العقد القائمة على أساس تعاقدي توافقي وهي عقلانية، ثم سلطة الخبير تعود لخبرته، ثم سلطة الحكم وهي أقل عقلانية نجدها في الميدان الرياضي، وسلطة النموذج من خلال ذلك الشخص النموذج الذي يفرض علينا سلطة أيضاً، وسلطة الزعيم الذي هو القائد، ثم سلطة الملك – الأب وهي سلطة مطلقة تمارس على الطفل، تحت غطاء حمايته والدفاع عنه.

ما يهمنا في الحقيقة هو سلطة المدرس أو السلطة التي تمارس في التربية، لذلك أفردنا لها فقرة مميزة بها، حيث أن هناك نقاش حامي الوطيس أو سجال حول سلطة التربية، بين التربية الكلاسيكية والمدافعين على التربية الجديدة.

تركز التربية الكلاسيكية على ممارسة السلطة المعرفية على الطفل أثناء عملية التربية، عكس ذلك تدعوا التربية الجديدة، التي تتيح المتعلم الحرية وتحاول تخليصه من كل إكراه سواء كان داخلي أو خارجي، يجب على المتعلم أن يشعر بحريته وترك المجال للإبداع الشخصي الحر والذاتي بغرض إنجاز مشروع خاص به. بل تهدف كذلك إلى توسيع مجال الحرية فهي ضد البرامج الدراسية، ومع ترك الإمكانية للطفل في إختيار المقرر المناسب له، وإتاحة إمكانية الإستقلالية في العمل والتعاون فيما بينهم البين (العمل الجماعي)، لذلك تحث على تجنب ذلك الإكراه، وترك مجال للتعلم الذاتي الذي هو تعلم إبداعي.

لذلك سيعتبر روبول أن هذا التصور الذي يدافع عنه رواد التربية الجديدة تصور مشروع، لكن يشير إلى أن التربية تحتاج كثيراً إلى السلطة، لكن بغاية التخلي عنها، إن غاية التربية هو «أن تسمح لكل واحد بأن يتعلم بنفسه مع الإستغناء عن المعلم وأن ينتقل من الإكراه إلى التعلم الذاتي» [13].

لينتقل فيما بعد للحديث عن التربية والديمقراطية أية علاقة؟ بطبيعة الحال يؤكد روبول أنه توجد علاقة بين النظام التعليمي والنظام السياسي السائد في المجتمع، هو يحيل هنا إلى المجتمعات الديمقراطية التي تقوم على هذا النظام، وبالتالي تعيد تصريفه وإنتاجه عن طريق التربية والتعليم، لذلك سيتحدث عن كيف ينتقل هذا المصطلح للتعليم، بل كيف ستصبح دمقرطة التعليم ضرورة إجتماعية ملحة، «عن طريق توسيع نطاق الحرية والإستقلالية والمسؤولية على التلاميذ أنفسهم» [14].

لذلك يجب على المدرسة أن تعمل على تلقين التلاميذ تعاليم الديمقراطية، والتخلص بقدر ما أمكن من البيداغوجيا التسلطية، إضافة إلى توسيع مجال التعليم الإلزامي الأساسي، كما يلح على ترك المجال للمتعلم من أجل تثقيف وتوعية نفسه بنفسه، ويجب على التعليم الديمقراطي أن يتميز بالحيادية والموضوعية، هذا ما كان يميز المجتمع الفرنسي، الذي يشيد به روبول لأنه يعمل على ترسيخ قيم الديمقراطية، ودرء كل أشكال التسلط الذي قد يتحول إلى مذهبية، ويركز كثيراً على هذه المسألة، ويدعو إلى محاربتها خاصة أن المذهبية لها أثر خطير جداً على التربية بل والمجتمع بشكل عام، لذلك سيفرد كتابا خاصا بها عنوانه ب «المذهبية» أو يمكن ترجمتها ب"التلقين" نشره أي الكتاب سنة 1977.

بعدها يذهب روبول للحديث عن الصرامة في التربية التي لا تنفصل عن التربية بتاتا، لذلك فالصرامة هي عبارة عن منهج يوجد في التربية لذاتها وبذاته، فالنظام التربوي خاصة منهجه صارم جداً، لأنه يعلمنا كيف نكبر ونصبح راشدين، ويعلمنا مبدأ الإلزام والإلتزامية، والطريقة الصحيحة للتعلم، كما ميز بين الصرامة والفاشية، وأن الصرامة ضد الفاشية التي تستدعي القساوة التي يمكن إعتبارها عنفا ووحشية، إن الصرامة عكس ذلك هي التي تجعلنا نصبح أكثر معقولية، لذلك على المربي من خلال عبقريته أن يعلم الطفل كيف يصبح صارما، لذلك يصبح مفهوم الصرامة ملازما لكل نوع من البيداغوجيا.

ننتقل هنا إلى آخر سؤال كنا قد طرحناه في المقدمة، وهو المتعلق بالقيم والتربية، أية علاقة؟ لكن في الفصل الأخير السابع من كتابه هذا والذي عنونه ب «القيم والتربية» [15]، من هنا ينطلق من أنه لا وجود لتربية بدون قيم، حيث أن القيم هي ما تشكل غاية كل نظام يدعي أنه تربوي، بل من وظائف المدرسة هي التربية على القيم، ليجعل من القيم خصيصة النظام التربوي، كما ميز بين أحكام القيمة التي نطلقها على النتائج المدرسية، والقيمة كغاية في ذاتها، ليميز بين العلوم التي ليس غرضها التفكير في القيم، بل تستند على الموضوعية والحيادية والتجريبية، كما جعل من غاية المدرسة هو تقديم التعليم الأساسي، بشكل مطابق لجميع الأطفال بدون أي غاية مهنية، فالتربية الأسرية والمدرسية ليس هدفهما الطفل وإنما الإنسان الذي سيكون بعد عشرين سنة ! إذن القيم التي يتم تربيتها للطفل هي قيم إنسانية، تجعل منه إنسانا على التربية إستهدافها، هناك من يعتبر أن ما يستحق أن يدرس هو ما يتطلبه الإنتاج الإقتصادي والمناقشة الدولية، ربما يكون ذلك مهما، لكن ليس أساسيا، لأنه سيجعل الإنسان عبدا للآلة الإقتصادية، عوضا من جعل الإنسان إنسانا حرا، ومسؤولا «يمكننا ملاحظة مفارقة تتجلى في أن الدول الإشتراكية تضع هذا المعيار (أي العمل الإنتاجي) في المرتبة الأولى، إلا أن النجاح الإقتصادي ليس هو دليل قوتها بينما فيما يخص الثقافة الإنسانية (إبتداءا من قراءة الروايات إلى الموسيقى) فيمكنها التفوق علينا» [16].

إذن كان هذا هو الغرض من كتابه «فلسفة التربية»، وذلك أننا نلحظ في هذا الفصل الأخير منه تركيزه على مسألة القيم من خلال التوجهات الأساسية التي كل منها تنظر إلى موضوعة القيم منظورا خاصا بها، سواء عندما يتعلق الأمر بالوضعية أو حتى النسبوية، لكن ما يهمنا هنا هو الإشكال الذي تثيره مسألة القيم في التربية، حيث تشكل القيم الموضوع المركزي في فلسفة التربية، وكل الفلاسفة التربويين وضعوا تصورا فلسفيا حول القيم، خاصة في الفترة الحديثة مع روسو وإسبينوزا وكانط وفيشته، بل حتى مع كونت ودوركهايم وآلان، فنجد أن هناك نمطين كبيران من القيم، القيم التي غرضها الإندماج الإجتماعي، وتنطلق من المجتمع لتحديد القيم، وبالتالي تصبح القيم هي نفسها السائدة في المجتمع، والقيم الليبرالية التي تدعوا إلى التحرر الذاتي والإستقلالية والمسؤولية والإبداع الحر والذاتي، وبالتالي تجعل من الإنسان المبدأ الأول الكامن في ذاته، تحترم كثيراً توجهاته وإختياراته وتحرره من كل الإكراهات الخارجية، المجتمعية خاصة أنها تحرره من هيمنة الجماعة وتنظر له كإنسان، هذه النزعة الإنسانية هي التي يدافع عنها روبول ويشعر بالفخر بإنتمائه لها لأنها تحرر الفرد من قيوده وتدعوا للإستقلال، هذا بالضبط ما يدعوا له في نهاية هذا الفصل، يدعوا للنظر إلى الإنسانية في الإنسان، والتعامل مع المتعلم كإنسان وليس كشيء، يجب إحترامه وتقديسه، والإخلاص له وتحرير عقله من كل دوغمائية ووثوقية.

على سبيل الختم، إن كتاب «فلسفة التربية» لصاحبه أوليفيي روبول لهو كتاب ممتاز جداً، وشيق أيضاً، بل يمكن إعتباره الكتاب المؤسس لفلسفة التربية في اللحظة المعاصرة، علما أنه سبقه العديد من الفلاسفة للتفكير في التربية كمشكلة، بدءا من أفلاطون وأرسطو إلى جون لوك وداڤيد هيوم وهيلفيتيوس وروسو وإسبينوزا وكانط وفيشته وهيغل ونيتشه وآلان، لكنهم كما قلنا طرحوا التربية كإشكال وقدموا تأملات ميتافيزيقية (نحتفظ  كثيراً على هذا المصطلح) حولها، وذلك لأن غرضهم لم يكن التأسيس لفلسفة التربية، فمثلا السوفسطائيون الإغريق أول من مارسوا البيداغوجيا كمنهج التدريس، لكن لم يؤسسوا البيداغوجيا كعلم مستقل بذاته ولذاته، وكذلك أفلاطون يمكن إعتباره كأول مربي وضع منهجا لتربية المحاربين في جمهوريته، لكنه لم يؤسس لفلسفة التربية وكذلك كانط تأملات حول التربية وليس تأسيس لفلسفة التربية، روسو إيميل أو في التربية وليس التأسيس،...إلى آخره من الفلاسفة، لذلك ننسب لروبول التأسيس الفعلي، كما أن كتابه هذا كان عبارة عن ملخصات مكثفة ومركزة لفلاسفة التربية عبر تاريخ الفلسفة، نجد هنا وهناك إقتباسات وإشارات لفلاسفة التربية الكلاسكيين، لكن في حقيقة الأمر أوليڤيي روبول عندما كان أستاذا بجامعة ستراسبورغ بفرنسا، لم يكن يعتبر نفسه فيلسوف تربية، بل هذا الإسم سيأتي فيما بعد عندما حوَّل إهتماماته وركزها حول التربية، في عدة أعمال مثل «التربية حسب آلان» و «المذهبية» و «ما معنى التعلم؟» و «لغة التربية» و «فلسفة التربية» وأخيراً «قيم التربية»، كما أننا نجد تحولات مثيرة شهده فكره التربوي، خاصة عندما ختم أعماله الفلسفية في التربية بتركيزه على مسألة القيم، ولهذا أصبح فيلسوف تربية معاصر بإمتياز مهتم بالقيم في التربية والتعليم، نلحظ هذا في الفصل السابع والأخير من كتابه هذا الذي عنوانه ب «القيم والتربية» تشعر أثناء قراءته أنه ليس كاملاً بل هو تمهيد لكتاب آخر، وفعلا جعله تمهيدا لكتابه الذي ختم به فكره التربوي «قيم التربية».

كملاحظة أخيرة، أقول أنه من الضروري جداً لمن أراد التعرف أكثر على فيلسوفنا أن يعود إلى محراب الكتاب، الذي يحتوي فقط على 125 صفحة، ولغته سهلة جداً وبسيطة، في متناول الجميع، فالكتاب في الحقيقة يلخص نفسه بنفسه، لا يدعو إلى أي تلخيص آخر، وكل تلخيص أو موجز هو خيانة للكتاب، كانت هذه محاولة متواضعة جداً، للتنويه فقط إلى هذا الفيلسوف يمكن اعتبارها مدخلا تمهيديا وموجزاً لقراءة الفيلسوف ولا تعبر حقيقة عن متن الكتاب، بل هي قراءة تأويلية مختزلة ومركزة لفلسفة التربية عموماً ولموقفه منها خصوصاً الذي نجده في مؤلفاته الأخرى وليس في هذا الكتاب.

***

محمد فراح – تخصص فلسفة

............................

المصدر المعتمد:

[1] – LA PHILOSOPHIE DE L'ÉDUCATION , Olivier Reboul, puf Dépôt légal 1 re édition: 1989, 11 e édition: 2016 , juin Éditions CHAARAOUI, 2017 , P3

[2] - Ibid , p 6

[3] – Ibid , p 17

[4] – Ibid , p17

[5] – Ibid , p27

[6] – Ibid , p34

[7] – Ibid , p 51

[8] – Ibid ,  La même page

[9] – Ibid , p 53

[10] – Ibid , p 57

[11] – Ibid , p 65

[12] – Ibid , p 69

[13] – Ibid , p 77

[14] – Ibid , La même page

[15] – Ibid , p 96

[16] – Ibid , p 106

تصدير مقتضب: قرأت عبارة جدا مختصرة تنم عن عبقرية فيلسوف اللغة الامريكي وليفريد سيلارز 1912- 1989 قوله (الوجود لغة) وارجو ان لا يفهم منها انها تفكير مثالي يعني ما ليس له وجود ادراكي بالذهن لا وجود له بعالمنا الخارجي.. فالعقل في تجريدنا له من تعبيراته اللغوية الصورية عن موضوعاته يصبح عجينة بايولوجية وظائفية تزن كيلو غراما وربع تحتويها جمجمة الانسان تسمى الدماغ. الذي في حال نزعنا عنه خاصية التفكير وتعبير اللغة يصبح عندها اننا بذلك نحصر فاعلية العقل انه جوهر بايالوجي فسلجي مهمته اشباع حاجات الجسد الفطرية الغريزية منها والبيولوجية التي تديم حياة الانسان في صمت تفكيري لغوي غير صوتي. طبعا لا يفهم من هذا أن الصمت ليس لغة أبجدية صورية.

الوجود في الكوجيتو

ورد في كتاب جان فال (الفلسفة الفرنسية من ديكارت الى سارتر) ترجمة فؤاد كامل مسالة تحقق الوجود في عبارة ديكارت "انا افكر اذن انا موجود" التي اشبعت تفسيرا وتقويلا ومترادفات وتحويرات على امتداد اربعة قرون من تاريخ الفلسفة.

كما اشرنا والعهدة على جان فال ان تحقيق الوجود ويقصد به وجود الانسان انطولوجيا كينونة قائمة مستقلة بذاتها من خلال تفسيره للكوجيتو الديكارتي انه جعل من التفكير (وسيلة وموضوع) معا وبذلك تنتفي المطالبة السفسطائية بماذا كان يفكر ديكارت. فقال لنقل – الكلام لجان فال – ان ديكارت كان يفكر بالتفكيركموضوع. يعني التفكير بالتفكير. وبهذا التخريج السفسطائي قضى جان فال على مصطلح الوعي القصدي لبرينتانو الذي اعتمدته فينامينالوجيا هوسرل وكذلك الفلسفة الوجودية.

حسب جان فال فقد جعل من الذات وعيا تفكيريا تجريديا ففي الوقت الذي تحقق الانا ذاتيتها تفكيريا تجريديا فانها تحقق بذلك الوجود الانطولوجي للجسد كاملا حينما تجعل التفكير موضوعا منفصلا عن ماهية الذات او الانا.

من التلاعب العبثي ان تكون الانا منقسمة على نفسها في خاصية التفكير الى انا ذاتا منفصلة عن موضوعها مفكّرة به بغية تحقيق وجودها الانطولوجي، والى موضوع منفصل عن الانا المدركة هو خاصية التفكير ايضا. بدليل توفر إعتراض وجيه هو بديهة فلسفية تقول الانا هو موضوعها والموضوع هو الانا التي تدركه.

طبعا هذا يختلف عن درجات الانا حسب تصنيف فرويد الانا ذاتا واعيا والانا العليا والانا الهو.

حسب ماكنت ذكرته في احدى مقالاتي أن ديكارت لم يكن مخطئا في الكوجيتو من حيث طبيعة العقل البيولوجية وخاصيته التفكير، العقل لا يفكر بغياب موضوعه من جهة. كما ولا يفكر بما لامعنى له من جهة اخرى فهو محال تعجيزي للعقل يدركه تفكيرا تجريديا. مثل باقي تفكيرات العقل بمدركاته من اشياء وموجودات وموضوعات مادية او خيالية على السواء. اعتقد اني بهذه التخريجة كنت اكثر واقعية منطقية فلسفية من تخريجة مقولة جان فال التفكير بالتفكير يتحقق الوجود الفردي التي تدخلنا بمتاهات من طرق مسدودة للبرهان على ما لا حاجة تستوجب صرف جهودا سفسطائية لا نهاية لها من اجله.

رب تساؤل يوجه لي اذن على ماذا انت تعترض اذا كان كوجيتو ديكارت صحيحا من حيث الصياغة اللغوية الفلسفية وحمولته التفسيرية منطق المعنى؟ الاعتراض المشروع هو على التفسير والتاويل والحمولة التي لم يعد يستطيعها حمار ديكارت السير بها في عبارته الثقيلة التي اصبحت منذ القرن السابع عشر زاد من لازاد له في رحلته الفلسفية الشاقة عبئا لا تخلص منه الفلسفة.

حسب رأيي المثبت في احدى مقالاتي ديكارت لم يكن جاهلا بمضمون عبارته في الكوجيتو لكنه كان متغافلا عما يتوقع ما سوف تثيره من تاويلات متناقضة موزعة بين القدح والمدح وهو ماحصل. في اسقاطنا تهمة بماذا كان يفكر ديكارت لاثبات وجوده الانطولوجي نكون الغينا أهم ثيمة فلسفية تداوالها تاريخ الفلسفة منذ بداية القرن العشرين هي " الوعي القصدي" الذي كان اخترعه برينتانو الفيلسوف السويسري في تضاده مع كانط.

الوعي القصدي استعاره هوسرل وفلاسفة الظاهراتية (الفينامينالوجيا) مثل سارتر وهيدجر وميرلوبونتي وجيل ديلوز وغيرهم في ادانتهم المزدوجة لكل من كانط وديكارت. معتبرين تفكير العقل بلا موضوع محدد هو إخلال بوظيفة العقل الادراكية وهو منطق فلسفي سليم. ومقولة ديكارت كانت ناقصة لا معنى لها في انعدام موضوع تفكير ديكارت بماذا كان يفكر لتحقيق كينونته الانطولوجية.

سورين كيركجورد الفيلسوف الدنماركي الذي توفي في الثلاثينيات من عمره تداخل مع عبارة ديكارت قائلا " انا افكر فاذن انا غير موجود" هنا تناقض صياغة عبارة كيركجورد الذي تنسب له بذرة الوجودية الحديثة لا يمكن انزلاقه بهذا التعبير العبثي في تغليبه التفكير على نفي الوجود الذي هو خطأ من زاوية الوجود سابق على التفكير او عدم التفكير بشيء ولو ان عدم تفكير العقل بشيء يكن تعجيزله وتعطيل فاعلية العقل البشري الذي يكون شغّالا حتى اثناء النوم.

 التساؤل المنطقي المشروع كيف يمكننا التوفيق بين التفكير ناتجه اثبات الوجود الانطولوجي لدى ديكارت. وبين التفكير الذي يلغي تحقق الوجود كما ذهب له سورين كيركجورد.؟

 لا فرق بينهما في اثباتهما الوجود فهما في كلا التعبيرين كان يرومان تاكيد الوجود (النوع) – لا يصح القول تاكيد الوجود الانطولوجي كما هي في عبارة ديكارت ولاغبار عليها لكن غياب الوجود الانطولوجي لدى كيركجورد لم يكن يهمّه التفكير يلغي الوجود الانطولوجي وهو مخترع الوجودية بالفلسفة في ثيمته الوجود يسبق الفكر وهو اول فيلسوف  تمرّد على ديالكتيك هيجل - .

اعود لتوضيح اكثر فكلاهما ديكارت وكيركجورد انطلقا من التسليم التفكير هدف قصدي ووسيلة معرفية معا. التاكيد الوجودي الانطولوجي عند ديكارت جاء نتيجة لتفكير تجريدي في حضور موضوع تفكيره المعلن او الخفي. بمعنى علائقي ارتباطي مع مقولة ديكارت يعطي لعبارة جان فال ارجحية صادقة حتى لو افترضنا ديكارت كان يفكر بموضوعه غير المعلن هو التفكير نفسه كما ذكر جان فال. ديكارت واضح ان تحقيق وجوده انطولوجيا يأتي نتيجة تعالق التفكير مع العقل وليس تعالق التفكير مع انطولوجيا الوجود كما يرغبه كيركجورد.

توضيح الحال مع سورين كيركجورد فنفي الوجود (الانطولوجي) لوجوده هو من اعتباره موضوع التفكير يلغي الوجود المادي كينونة مستقلة ويحققه تفكيرا صوفيا مؤكدا روحانية الوجود الارضي اذا جاز التعبير اثناء القيام بالتجربة الصوفية التي تصب كامل موجوديتها من عقل وجسد ومشاعر روحية نفسية في التفكير بالذات الالهية والانجذاب النوراني لها. التفكير الصوفي هو الغاء الوجود الانطولوجي.

هذا التحليل الذي ذهبنا له يتأتى من الخلفية الدينية الصوفية لسورين كيركجورد فهو اول من اطلق تجنّب عدم الايمان بالعقل وسيلة ادراك الخالق وان الايمان القلبي الغيبي يقي المؤمن الديني الانزلاق في براثن تيه الميتافيزيقا. واختصر كيركجورد ذلك بقوله الانسان يحتاج الى قفزة ايمانية نوعية في المطلق الروحي. وقد جيّرت الماركسية هذه المقولة في تطور حركة التاريخ في المسار الخطّي له الذي تتخلله قطوعات تحتاج معالجتها الى نوع من القفزات النوعية التي ترجع مسار التاريخ لوضعه الطبيعي.

سورين كيركجورد ونفي انطولوجيا الوجود الفردي

عود على بدء فان سورين كيركجورد قصد ان مجرد التفكير تجريدا يلغي انطولوجيا الوجود وإن لم يفصح عنها هي صحيحة. حسب تفسيري هنا كيركجورد ينطلق من مسلمة بديهية في منطق الفلسفة ان التفكير الذي لا يلازمه موضوعه غير موجود وتعّطل خاصية العقل التفكيرية. كما هو يذهب اعتباره موضوع التفكير يلغي الوجود المادي للفرد الذي يعي موضوعه. بمعنى الوجود تحققه فاعلية التفكير حتى لو جاء التفكير بموضوع التفكير نفسه حسب ما ذهب له جان فال. لكني ارجح ان تغييب الوجود الانطولوجي لدى سورين كيركجورد هو نتيجة التفكير إيمانا دينيا (صوفيا) ترانسدتاليا متعاليا على موضوعة التفكير ذاتها.

كما اشرت له سابقا كيركجورد تحكمه الخلفية الايمانية الدينية بأن تحقق اليقين من الوجود الالهي يكون الاستدلال له بالقفزة النوعية في المطلق الايماني. القفزة التي يمليها القلب وليس العقل. بناءا عليه كيركجورد يميز بين الوجود المادي للانسان كينونة انطولوجية باختلاف عن تاكيد وجود ثاني لا مادي الذي هو الوجود الصوفي المفكر روحيا الذي هو يفّكر ابعد من موضوع التفكير القائم على الانا المفكرة في موضوع كما يمارس عامة الناس.

وهذا هو غير الوجود الانطولوجي المادي للانسان المبني على تجريد اللغة التصوريّة لموضوعها. أجد من غير التوفيق المنطقي الفلسفي قولي أن الوجود المفكر هو وجود إعتباري معنوي روحاني غير واقعي كما يحتمله تعبير كيركجورد انا افكر فاذن انا غير موجود..

الوعي القصدي دوره في تحقق الوجود

يذهب هوسرل مع تلامذته فلاسفة الظواهر ان الوعي القصدي يحمل هدفه المسبق بالذهن قبل وصوله لمدركاته. ويؤكدون ليس هناك وعي قصدي لا يحمل الهدف من وعيه لموضوعه الذي يختزنه مسبقا بالذهن قبل وصول الوعي معرفة مدركاته وليس ادراكها فقط الذي هو خاصية الحواس وليس خاصية الوعي (المعرفة).

الادراك خاصية الحواس والوعي تجريد عقلي معرفي. الفرق بين الادراك والوعي هو الادراك خاصية حسية وخيالية معا. ما تنقله الحواس من مؤثرات موجودات العالم الخارجي هو ما يسميه ديفيد هيوم الانطباعات الاولية الزائلة اي التي لا يختزنها الذهن بل ينقلها عبر منظومة الاعصاب الى الدماغ للنظر والبت بها. بينما الوعي هو وسيلة العقل في معالجة المدركات المنقولة له.

الوعي القصدي لا يحدد هدفه المعرفي مسبقا بالذهن كما يذهب له اصحاب الفينامينالوجيا. صحيح جدا ان الوعي القصدي يحمل مقولات العقل تجاه مواضيعه ومدركاته ليس لادراكها بل لمعرفتها واخذ المعاني الدفينة منها. وليس شرطا أن الوعي الذي خاصيته معرفة الشيء وليس ادراكه فقط كما تفعل الحواس يستطيع بلوغ ماهية الشيء او جوهره.

ولو نسّلم خطأ أن وظيفة الوعي هو إضفاء حمولته على مدركاته أي على مواضيعه وقتها لا يبقى معنا معنى حقيقي ولا حاجة للوعي أن يكون وسيلة العقل معرفة الاشياء بعلاقة معرفية تخارجية. الوعي لا يدخل بعلاقة جدلية مع موضوعه تحتاج التضاد والنفي واستحداث الظاهرة الجديدة. بل الوعي يدخل بعلاقة تخارجية تكاملية معرفية مع موضوعه.(أخذ وعطاء).

 الوعي لاتجمعه علاقة تضاد جدلي ديالكتيكي مع موضوعاته بل يحتاج الوعي علاقة تخارجية معرفية مع الاشياء بما يرغبه العقل معرفته في مقولاته عن موضوع إدراكه. اشرت بسرعة سابقا ان وعي العقل هو التفكير بالاشياء المادية، وايضا التفكير في التفكير المجرد بالموضوعات الخيالية التي تبدعها المخيلة. كما والوعي هو الناقل للاستشعارات التي ترسلها موجودات العالم الداخلي الذي هو حاجة الجسم لاشباع حاجاته الضرورية لبقائه حيا سواء اكانت غريزية مثل الاكل والعطش والالم والحزن والفرح والجماع الجنسي بمعنى اشباع حاجات الجسد البيولوجية مثل سلامة عمل اجهزة الجسم الباطنية داخله.

 التفكير بالتفكير

حين إعتبر جان فال الانا هي موجود تفكيري قائم بذاته. واعتبر التفكير بالتفكير هي فاعلية الانا في اثباتها لوجودها الانطولوجي. ويضيف " لكن ماهو الوجود الذي يعنيه بعبارة (انا موجود) انه كائن مفكر، وحتى هذه اللحظة لا نعرف وجودا سواه. ولهذا كان ديكارت ابا المثالية الحديثة يبدا من الفكر وينتهي الى الفكر كما يقول هاملان" 1ص10 المصدر المشار له بداية المقال.

لنا الملاحظات التالية:

- مثالية ديكارت لا خلاف عليها ومحاولة توظيف الفكر لاثبات الوجود الجسدي هو ايغال خاطيء بالتجريد الفلسفي المثالي. الفكر لا يخلق الموجودات ولا المواضيع في وجودها المادي او الخيالي.

- التفكير يخلق التفكير في مجانسة نوعية تجريدية هو الانفصال التام عن التداخل مع الواقع. المتواليات التفكيرية التي يكون موضوعها التفكير لا تخرج ولا يترتب عليها نتيجة اثبات لوجود مادي.

- التفكير يصنع المادة بالفكر صوريا لكنه يعجز عن خلقها في العالم الخارجي باستقلالية موجودية. التفكير يصنع موضوعات الخيال لكنه لا يلزم منه أي من التفكير بجعلها موضوعات يمكنها التعايش في عالم الموجودات.

- الاجناس الادبية من شعر وقصة ورواية وفنون تشكيلية تقوم على ملكة التفكير الخيالي لكنها تعجز ان تجعل تلك الموضوعات التي ابتدعتها المخيّلة ان تكون جزءا من موجودات الحياة.

- التفكير هو سمة عقلية لغوية تجريدية. والتفكير هو وسيلة العقل الادراكية وليس هدفا ولا موضوعا مستقلا بذاته. التفكير مطلق مفهومي وليس مصطلحا نسبيا محصورا في فهم موضوعا بعينه فقط. لذا يكون مطلق التفكير لا ينبجس ولا يتخلق عنه تحديد وجود مادي جسدي كاملا يدعى الانسان كينونة موجودية. كما ان التفكيير الذي يكون موضوعه التفكير من نوعه عاجز عن تاكيد حضور الانا سوى على الصعيد الفردي.

- التفكير وسيلة اثبات وجود انطولوجي فردي لا تربطه علاقة تواصل مع منهج الشك عند ديكارت. الشك المنهجي هو نسف اليقينيات القبلية من التحكم والهيمنة على التفكير العقلي الخاطيء المضلل في تعبير اللغة ومتراكم الخبرة خارج منهجية الشك الديكارتي.

للمقال صلة

***

علي محمد اليوسف

التفكير الفلسفي المعطيات والعلامات

للتفكير الفلسفي علامات يقفوها الفطن ويهتدي إليها الذكي، يحوكها العالم وينسج على منوالها، يعشقها الفيلسوف، ويتشبث بها كل محب للحكمة الفلسفية والباحث عن الحقيقة المعرفية.

هذه العلامات صفاء في الفكر، واستقامة في التأمل، وإثارة للسؤال المنقب في حيثيات الموضوع بغية إشباع الفضول، وخلخلة للمفاهيم الجاهزة بغية إصلاح الذات المفكرة.

تلك وظيفة الفلسفة التي أتى عليها حين من الدهر لم تكن مذكورة، أو كما أرادها الدهماء ألا تذكر أبدا، لأنها قطعت ردحا من الزمن تبهرهم بإشكالاتها وتقلقهم بتساؤلاتها، وتجعلهم في مرية وحيرة.

ألم يتجرع سقراط كأس المنون في سبيل إثارته السؤال؟

ألم ينقلب الخليفة العباسي المتوكل بالله سنة (232 م) على المعتزلة وهم كالطود الشامخ في سبيل طرح سؤالهم الفلسفي الجريء: هل كلام الله قديم أم مخلوق؟

ألم يبعد الوليد بن رشد وتؤلب العامة عليه ويكفر بسبب تساؤله الفلسفي؟

وفي عصرنا وأد الفكر واغتيال الرأي وتحريم التفلسف، قتل فرج فودة سنة 1992 بسب كتابه " الحقيقة الغائبة " الذي طرح فيه سؤال فلسفي لماذا المسلم يقتل المسلم؟

متتبعا كرنولوجيا محنة القتل بين المسلمين منذ سقيفة بني ساعدة إلى غاية عصره، يقول فرج فودة: « ما حدث لعثمان عند مقتله، فقد قتل على يد المسلمين الثائرين المحاصرين لمنزله وبإجماع منهم، وقد تتصور أن قتلتة عثمان قد أشفوا غليلهم بمصرعه على أيديهم، وانتهت عداوتهم له بموته....»1

يضف فرج فودة قائلا وهذا الكلام سبب اغتياله:« تقبل منهم دعوتهم للدولة الدينية وهم لا يتمسكون من الدين إلا بالقشور، ولا يعرفون من العقيدة إلا مظهرها الذي لا أصل له في كتاب الله، ولا سند له إلا التأسى بالرسول في مسايرته لعصر غير عصرنا، ولمجتمع يختلف جملة وتفصيلا عن المجتمع الذي نعيش فيه، وليتهم تأسوا به وهو يدعو للرحمة، ويستنكر قتل المسلم للمسلم، ويدعو لطلب العلم ولو في الصين، ويستنكر اعتزال العمل للعبادة...هؤلاء قوم كرهوا المجتمع فحق للمجتمع أن يبادلهم كرها بكره، ولفظوه فحق له أن يلفظهم، وأدانوه بالجاهلية فحق له أن يدينهم بالتعصب وانغلاق الذهن...»2

كذلك لم يخلو عصرنا من محنة التكفير فتخطف شبح الإرهاب الشهيد سعيد حسين مروة سنة 1989 نتيجة سؤاله حول التراث الإسلامي في مشروعه الضخم " النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"، وتراثنا كيف نعرفه؟

كما اعتبر ناصر حامد أبو زيد زنديقا مرتدا ومحمد أركون كافرا، نتيجة تساؤلهما حول الخطاب الديني وطرح سؤال النقد الابستيمي لهذا الخطاب.

الدور اليوم على يوسف الصديق صاحب مؤلف " هل قرأنا القرآن؟ أم على قلوب أقفالها " وفي القراءة الواعية من طرف المفكر يوسف الصديق التدبر؛ وفي التدبر إثارة السؤال وفي السؤال خلخلة الخطاب الديني المحاط بترسانة دغمائية فقهية، بعيدة عن سبر الأغوار.

من هنا وجب العقل المؤول في الفكر الإسلامي، لا عقل مفسر محكوم بمرجعية سطحية تقدم تفسيرات لا تتماشى والعصر، وعليه ما هو هذا العقل الذي يضفي على تفسيراتنا وتأويلاتنا طابع اليقين؟

رشيد أيلال السؤال الفلسفي، الشك بغية اليقين:

رشيد أيلال صاحب كتاب " صحيح البخاري نهاية أسطورة " يطرح سؤالا فلسفيا نقديا في علم الحديث، فبقدر ما كان التساؤل الفلسفي قويا، كان البحث أيضا قويا في الحديث الصحيح من الحديث المعتل؛ سؤال البحث عن المقدس من المدنس فلا غرابة أن يكفر اليوم رشيد ويهدر دمه.

كثيرا ما يكون لصوق الكفر بالذي طرح السؤال حول الخطاب الديني في سياق المساءلة النقدية، مساءلة القراءة الواعية في فك معاني الخطاب، وفهم فحواه وتفسير دلائله، وحول الأساس المعرفي لتلك القراءة المتعدية إلى خلخلة الخطاب الفقهي، وجعل منه خطابا يبتعد عن النمطية المتكلسة في التفسير، ويتعدى ذلك إلى تأويل المعاني البعيدة التي تختفي وراء دلالات الخطاب، فكان طرح الكاتب رشيد نموذجا للبرهان العقلي الفلسفي اليقيني يقول الوليد بن رشد :« إنما يحمل على الإيمان الذي يكون من قبل البرهان، وهذا لا يكون إلا مع العلم بالتأويل.»3

والتأويل من سيمة الحكمة الفلسفية؛ والحكمة الفلسفية من سيمة الفيلسوف، فلا غرابة أن يكون التكفير لصوق بالفلسفة التي تقلق الفقيه القابع على سطحية التفكير دون سبر الأغوار، تاركا النظر في الأمور الجليلة الدقيقة، لا يغوص في بحر الفكر يستخرج درره المغمورة ونفائسه الدفينة يلمعها، يصقلها لتسر الناظرين يقول إسحاق بن وهب:« فإذا تفكر الإنسان وتدبر ونطر واعتبر وقاس ما يدله عليه فكره بما جربه هو ومن قبله، تبين له ما يريد أن يتبينه وظهر له معناه وحقيقته.»4

وعليه ليست الفلسفة مجرد أفكار ونظريات جاهزة، بل هي قبل كل شئ نشاط وفعالية يقوم بها عقل له أسسه وقواعده ومعاييره في التفكير؛ يمارسها العقل المفكر بناء على مناهج واستدلالات، تستنطق الفلسفة وتمدها بالتربة الصالحة لإنتاج مدلولات جديدة هي أصل التفكير، إذن الفلسفة فريضة للتفكير لا محنة التكفير.

***

رحموني عبد الكريم - باحث من الجزائر

.................

فرج فودة: الحقيقة الغائبة، ص 27.

فرج فودة: الحقيقة الغائبة، ص 34-35 .

ابن رشد: فصل المقال، ص 13 .

إسحاق بن وهب: نقد النثر، ص 9.

قائمة المصادر والمراجع:

1- إسحاق بن وهب: نقد النثر، مطبعة المكتبة العلمية، طبعة أولى سنة 1980، بيروت، لبنان.

2- الوليد بن رشد: فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال، مطبعة دار الآفاق الجديدة، طبعة أولى سنة 1978، بيروت، لبنان.

3- فرج فودة: الحقيقة الغائبة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة سنة 1988،  القاهرة، مصر.

تستطيع عين الانسان تمييز ثلاثة أنواع من الضوء: الأحمر والأخضر والأزرق، لكن طائر الحمام والعديد من الحيوانات الاخرى يمكنها ايضا رؤية لون رابع فوق بنفسجي. الفضاء اللوني الرباعي الأبعاد الذي يراه طائر الحمام  قد يحتوي على ملايين الألوان اكثر من الألوان التي نراها نحن. الحمام يرى العديد من الزهور التي هي غير مرئية لنا.

وعلى الرغم من التاريخ الطويل للارتباط الوثيق بين الكائنات الحية، لكننا نستطيع القول ان الانسان وطير الحمام يعيشان في عالمين مختلفين جدا. اذا كانت مختلف الحيوانات تعيش في عوالم مختلفة، فهل هذا يعني ان البايولوجي هو الذي يشكل الواقع؟ السؤال حول ما اذا كان الواقع موجود خارج رؤوسنا ام في داخلها أرهق الفلاسفة لمئات او آلاف السنين. وفي ورقة حديثة، اقترح كل من كاثرين ليج استاذة الفلسفة في جامعة ديكين الاسترالية واندريه سانت طريقة برجماتية لحل هذه المعظلة بالإرتكاز على التحقيق والفعل (1).

كم عدد العوالم الموجودة ؟

هناك تفكير قديم في الفلسفة يسمى "الواقعية". وفق الرؤية الواقعية، هناك فقط عالم واحد بسمات محددة سلفا مستقلة عن ذهن المراقب – وان اكتشاف هذه السمات هو واجب العلم. لكن اذا كان هناك شيء  مستقل تماما عن أذهاننا، كيف نستطيع معرفته بالذهن؟ أليس هذا تناقضا؟

وبنفس المقدار هناك تاريخ طويل من الجدال الفلسفي يؤكد بان سمات الواقع تعتمد بشكل ما على التجربة. هؤلاء المفكرون يدّعون ان الواقع لم يُنحت مسبقا كما وصفه افلاطون  قي حوار فيدون (2). 

توجد هناك عدة عوالم مثلما هناك أعداد من التجارب، وكل مجموعة من التجارب تخلق منظورا فريدا او ما يسميه ادموند هسرل "عالم – حياة".

هذا الخلاف العميق حول طبيعة الواقع والعوالم برز لدى كل جيل من الفلاسفة.

كيف تحدد أجسامنا تجاربنا في العالم؟

هناك بديل هام جدا للواقعية التقليدية يسمى "النشاط" enactivism (3) الذي يستلهم من علوم الادراك. اول ما ظهر مصطلح النشاط عام 1990 في كتاب من تأليف كل من فرنسيس جي فاريلا واليانور روس وايفان ثومبسن سمي (العقل المتجسد). المؤلفون الثلاثة جمعوا بين البايولوجيا العلمية وعوالم الحياة لهسرل والفلسفة البوذية وتوصلوا الى انه عندما ينمو الكائن الحي ويصلح جسمه فهو "ينشط" بيئته الخاصة لتكون ذات سمات هامة بالنسبة له مثل الطعام او الخطر.

وكما كتب ثوبسن لاحقا:

"عالم الحيوان الإدراكي – مهما كان ذلك الكائن في قدرته على التعامل والمعرفة والمعالجة العملية  –  هو مشروط بشكل ذلك الكائن وهيكله".

حدود عالم الحياة

أمام نظرية النشاط تبقى هناك عدة اسئلة بحاجة الى جواب.

1- كيف تتمكن الكائنات الحية من التفاعل مع بعضها عندما تضعها قدراتها التصورية في عوالم حياة مختلفة جدا؟ فمثلا، اثناء الحرب العالمية الاولى، حمل طائر حمام اسمه cher Ami  رسالة أنقذت حياة 200 جندي بريطاني رغم اطلاق النار عليه من جانب العدو، وهو العمل الذي كوفئ لأجله بمدالية ذهبية.

2- العلماء يجب ان يكونوا قادرين على التحقيق في الكيفية التي تخلق بها مختلف أجسام الحيوانات  انواع مختلفة من التجارب الادراكية، لكن اذا كانت جميع المخلوقات بما فيها نحن "مغلقة" في عوالم حياتها الخاصة، فان هذا التحقيق سيكون مستحيلا.

هل التجارب المشتركة والأفعال تخلق الواقع؟

هنا نفترض حلا جديدا لمعضلة فهم الواقع باعتباره اما معطى سلفا او يقع ضمن تجارب فردية ذاتية، معتمدين على أفكار الفيلسوف البرجماتي تشارلس بيرس Charles peirce. الجدال هنا لأجل واقعية مرتكزة على التحقيق، يعتمد فيها الواقع على أذهاننا لكنه لايزال عاما وموضوعيا. وكما يتضح، الواقع يُفهم من خلال اتفاق برجماتي. هذا يعني ان الافراد يتفقون في توقعاتهم حول ما سيفعله الآخرون في مواقف حياتية مشابهة.

وهكذا، على سبيل المثال، رغم ان الجنود في الحرب العالمية الاولى وطير الحمام لهم تراكيب عيون مختلفة تفهم نيران العدو بطريقة مختلفة، لكنهم يتفقون برجماتيا بان الامر  يصبح خطيرا عندما يبتعد كلاهما. وكما لاحظنا في طائر الـ  شير امي، الناس والحمام يمكنهم ايضا الاتفاق على الأهمية العظمى للوصول الى "المكان المقصود " مع التسليم.

هذا يسلط الضوء على خاصية هامة للفلسفة البرجماتية. انها لا تعرّف الادراك كنوع من الوعي، وهي الفكرة التي قادت الى مشاكل فلسفية عويصة غير قابلة للحل. بدلا من ذلك، ينظر البرجماتيون لمعرفة الواقع كشيء متضمن في ما نستطيع فعله، وخاصة ما نستطيع فعله مع الآخرين.

الاتفاق البرجماتي مع الكائنات الحية الاخرى

بالطبع، ستكون هناك عدة مسائل الان لا يحصل فيها اتفاق برجماتي بين مختلف الكائنات الحية. على سبيل المثال، بينما كل من الانسان والحمامة يفهمان مدى خطورة اطلاق النار من بندقية العدو، لكنه ادراك غير متوفر للخنفساء التي  تتغذى بسعادة على فضلات الحيوان في نفس خنادق الحرب العالمية الاولى. نحن يجب ان لا نستعجل الاستنتاج  بان الواقع يجب ان يكون دائما جمعيا. وصفْ بيرس للواقع المبني على التحقيق يعبّر عن أمل متفائل بانه بمرور الزمن سنستطيع ايجاد طرق لجلب الكائنات الحية الى اتفاق برجماتي أكبر. ما مطلوب هو اننا نضع أنفسنا في نفس البيئة، نقوم بأشياء مشابهة ونطور أهدافا مشتركة. وهكذا، يعرّف بيرس الحقيقة "رأي سيتفق عليه حتما جميع المحققين في النهاية".

هذا التفسير يمكن ان يوفر رؤية دقيقة وأصلية لواقع النشاط. انه يسمح بدور للقوة الادراكية الفريدة للكائنات في صياغة واقعها الخاص بها، لكنه يسمح ايضا بان الواقع هو موضوعي بطريقة مختلفة عن الواقعية التقليدية. نحن نفترض فقط بداية لفهم كيفية فهمنا للواقع الذي تعيش فيه كائنات غير انسانية. فلسفة بيرس تبيّن لنا كيف يمكن انجاز هذا الفهم بمرور الزمن. واذا استطعنا زيادة اتفاقاتنا البرجماتية مع كائنات اخرى،سنتمكن من توسيع الواقع الذي نعيش به نحن بالذات.

***

حاتم حميد محسن

..................................

الهوامش

(1) The conversation, July24,2024

(2) فكرة "نقش الطبيعة على مفاصلها"استخدمها افلاطون لوصف عالم الأشكال. هو جادل بان الانواع الحية يمكن تمييزها من خلال نحت الطبيعة على ارتباطاتها، بمعنى مجموعة من السمات المجتمعة الى بعضها تخلق حدودا للصنف، اي، ان الاصناف الطبيعية يمكن اكتشافها عبر العثور على نماذج من السمات المشتركة، والتي تشير الى اكثر الاختلافات البارزة بين الاشياء. النقاشات المعاصرة حول نجاح العلم تستوحي مقارنة افلاطون، وتؤكد ان النظريات الناجحة يجب ان تنحت الطبيعة في مفاصلها. ولكن هل الطبيعة مترابطة حقا؟ هل هناك انواع طبيعية للاشياء تدور حولها النظريات؟ البعض ينكر وجود هذه المفاصل ويؤكد اننا قد ننحت الاشياء كما نشاء.

(3) النشاط هو نظرية في علم الادراك تصف كيف تتفاعل المخلوقات مع بيئتها لبناء ادراكها وتجاربها. انها ترتكز على فكرة ان الادراك عملية نابضة بالحياة تبرز من العلاقات الديناميكية بين الكائن وبيئته. ظهرت فكرة النشاط في التسعينات من القرن الماضي، وكانت رد فعل للنظريات السابقة التي ركزت على التجسيدات الذهنية والعمليات الحسابية والثنائية الديكارتية. مفردة فعل enact تعني ان الفعل يجلب المعنى. كان للنظرية  تأثيراً هاما على العلم والطبيعة، ونتائجها كانت مؤثرة جدا على الكيفية التي نفكر بها حول العلم والطبيعة.

 

في المثقف اليوم