أقلام فكرية

أقلام فكرية

‏يقول "ديفيد هيوم "الجمال ليس خاصية في ذات الأشياء بل في العقل الذي يتأملها" وعليه إذا اعتبرنا ان مواضع التفكير مختلفة بدرجات متفاوتة في العرض والتقديم على مدار التاريخ التفكر الفلسفي في سياق نظرية المعرفة لان القدرات تختلف في جوهرها فإنه من الحتمية أن نذكر أن الابداع وهو من أهم عناصر التفكير يختلف فيه الفلاسفة بين من جعل العقل والصدر الأول المعارف وبين من انتصر التجربة على أساس أن الابداع هو ما يعبر عنه باحياء جديد في المعرفة وأن ما نبدعه في المعرفة هو النتاج المشترك بينهما

‏فإن كانت الحسية هي الأصل في تكوين المعارف الإنسانية وهي تضمن إشكاليتين هما الانتباه والأفكار سيتحدد إذا الفرق بينهما في قوة وحيويه الانتباه على الفكرة التي تعد صورة فنعطي للخيال أهمية تتمثل في كونه يشكل وسيطا بين إدراك والشيء المدرك وهو الذي يستدعي المعرفة من خلال دفع النفس للخيال المعرفي انطباعا يستعين بذلك بمبدأ الذاتي وهنا يكون الإبداع أما في ما يخص كانط فقد تناول بدوره قضية أصل المعرفة والتي هي الإبداع من حيث التفكير وكان موقفه بالتالي بين وجهتين نظرة العقلانيين والحسيين حيث يقول " أن كل معرفتنا تبدأ مع التجربة " فهل يحتاج الابداع إلى تحقيقا وتدقيقا وهنا نتحدث عن الإبداع الفكري والذي يجمع بين العلوم الرياضية وبين الميتافيزيقا وهذا هو الشرط لقياه الإبداع ومن هنا برزة مشروع علم الإنسان أو علم الطبيعة البشرية كما أكد عليه فمن الواضح أن لكل العلوم والمعارف والأدبية علاقة تكبر أو تصغر الطبيعة البشرية مثل علم الرياضيات والفلسفة الطبيعية فلا يجوز أن نقيم الإبداع في معرفة الناس فقط ولكن في هذه العلاقة الجبلية بين الموجود ولا موجود يقول كانط "

كل غرض بعقلي تتوحد في الأسئلة التالية

‏ماذا يجب أن أعلم؟

‏وكيف أعمل بما علمت؟

‏ماذا يحب أن أقدم لغيري؟

‏والإبداع هنا هو الاجابة على هذه الأسئلة الثلاث التي تتلخص في البداية وفي النهاية في سؤال واحد ما هو الإنسان؟

‏والجدير بالملاحظة أن كل ما طرح حول العلاقة التأثيرية التي تجمع بين هيمنة الفكر عن الخيال والطبيعة كانت بالتحديد موجبا لفضيلة حسن التلقي وحسن الالقاء الأدبي والمعرفي مع الحفاظ على خصوصية الإتلاف والفراق التي تميز المبدع عن الآخر و في إبستمولوجيا "هيوم "مثلا الابداع يستند إلى علم النفس والإبداع باب من أبواب التميز في الاستقراء وفي الخلق لأفكار جديدة أو البحث في أفكار سائدة ومعرفة العلاقة بينها بطريقة جديدة ومختلفة تعتمد على تفسير الأحداث بواقعية وبما وبأرجع المعارف إلى اصولها.

ولعل نظرية "هيوم" عن العقل تقودنا إلى منهجية وقورة جديدة في التفكير ثورة نحن نحتاجها جدا مع المتغيرات الفكرية في ما هو إبداعي وما هو سائد أو مكرر ففي مقولته هذه "ليس العقل يقود حياتنا بل العادة "تظهر الجوانب المخفيّة في النفس التي تريد التكرار لترى نفسها في الآخر ولا تفسح المجال للعقل

وكما قال جان جاك روسو "الطبيعة هي المعلم الرئيسي، اي أننا نتعلم عن طريق ثلاثة معلمين: الطبيعة و الإنسان والأشياء "ول ولئن استأثر حقل التربية باهتمام فلاسفة عصر الأنوار في القرن الثامن عشر وأفردوا له حيزا مهما من تفكيرهم، والواقع أن هذا الاهتمام ينصب في اتجاه تحليل وتشخيص وضعية المجتمع الأوربي في تلك الفترة

كمحاولة منهم لفلسفة اللحظة التاريخية وتفسيرها تفسيرا علميا، قصد فهم معيقات التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وذلك عبر تصويب سهام النقد إلى شرور الحياة العامة وفساد الأخلاق والمنظومة القيمية من جهة وابراز مفهوم الابداع اذ يرفض روسو الأسلوب الذي يعتمد على الحفظ والاستظهار لأفكار بالية فاسدة، تجعل من الطفل آلة طيعة في مجتمع منحل وتهبط بمستوى قدراته إلى الحضيض في مقابل ذلك يقترح أن يكون التعليم بمثابة تجربة سعيدة في حياة الطفل، تنمي قدراته وتعتني بصحته وخلقه وذكائه وقدرته على الخلق والإبداع والابتكار بمعنى ان الابداع هو تطوير

واهتمام بقدرات معينة عند الاطفال كما أن العواطف الابتدائية والغرائز الطبيعية والانطباعات الأولى يمكن الوثوق بها كقاعدة للعمل أكثر من التأمل والتجربة التي تتكون عن طريق الاتصال بالآخرين: ” إن ما أسميه طبيعتنا هو استعداداتنا قبل أن يطرأ عليها تغيير، عن طريق عادات التفكير والمحاكمة التي نقتبسها من غيرنا .

ولكن إذا اعتبرنا الإبداع صفة أساسية لدى بعض الأشخاص يساعدهم على الوعي وإدراك ما يدور داخل المجتمع، ويُمكن استخدام هذه الصفة في إنتاج كل ما هو جديد يلائم البيئة التي يعيشون فيها، فكيف تكون إذا هوية افكارنا بين الإبداع الذي يتعلق بالإنجازات الحقيقية والمستمدة من الواقع وبين الابداع المبني على تحقيق الذات؟

***

د. آمال بوحرب - تونس

"كل شيء في الكون، كما قال الفيلسوف اليوناني ديمقريطس، هو نتيجة للصدفة والضرورة."

يُعد جاك مونو (9 فبراير 1910 ـ 31 مايو 1976)، الحائز على جائزة نوبل، أحد الشخصيات البارزة بين رواد علم الأحياء الجزيئي، حيث يُظهر مدى ثمار هذه الثنائية في فهم القضايا الرئيسية في علم الأحياء - أصل الحياة أو تطور الأنواع - وفهم تحديات علم الوراثة الحديث. إذا لم يكن الإنسان نتيجة لأي خطة إلهية، وإذا كان تطوره مجرد صدفة وليس خطة مسبقة، فلا شيء يسمح له بالغرق في المادية المتشائمة. في مواجهة تحديات العلم والتكنولوجيا التي تذهب إلى حد تهديد سلامة الإنسان، يدعو جاك مونو إلى اختراع إنسانية جديدة تدمج بيانات العلم. لقد تم كسر العهد القديم؛ وأخيرًا أدرك الإنسان أنه وحيد في هذا الكون الهائل الذي خرج منه بالصدفة. لم يتم كتابة مصيره ولا واجبه في أي مكان. يتعين عليه الاختيار بين المملكة والظلام. كان كتاب جاك مونو "الصدفة والضرورة" الصادر عام 1970 معلمًا بارزًا في الأدبيات العلمية الشعبية، وذلك لبيانه القاطع بأن أصل الحياة وليد الصدفة البحتة. ان الطفرات تُشكل المصدر الوحيد المُحتمل للتعديلات في النص الجيني، وهو في حد ذاته المستودع الوحيد للهياكل الوراثية للكائن الحي، ويترتب على ذلك بالضرورة أن الصدفة وحدها هي مصدر كل ابتكار، وكل خلق في المحيط الحيوي. صدفة بحتة، حرة تمامًا ولكنها عمياء، هي أساس صرح التطور الهائل: لم يعد هذا المفهوم المركزي في علم الأحياء الحديث واحدًا من بين الفرضيات الأخرى الممكنة أو حتى المُتصورة. إنه اليوم الفرضية الوحيدة المُتصورة، الفرضية الوحيدة التي تتوافق مع الحقائق المُشاهدة والمُختبرة. ولا شيء يُبرر الافتراض - أو الأمل - بأن موقفنا في هذا الصدد من المُحتمل أن يُراجع يومًا ما. لذلك ينفي مونو، مُحقًا، وجود أي قوى غائية لازمة لخلق الحياة من مادة جامدة، لكنه يجد أن السلوك الغائي الهادف هو إحدى السمات الأساسية للحياة، إلى جانب ما يُسميه التخلق الذاتي (الحياة "تبني نفسها") والثبات التناسلي (الحياة "تتكاثر ذاتيًا"). تُقر فلسفة المعلومات بأنه مع ظهور الحياة، دخلت هياكل معلوماتية ذات أهداف إلى الكون. ولكن لا بد من وجود عمليات مُولِّدة للمعلومات، وديناميكية، قبل ظهور الحياة الأرضية. فقد خلقت هذه العمليات الركيزة المعلوماتية للحياة، وبالأخص الشمس والبيئة الكوكبية المُلائمة لأصل الحياة على الأرض. يقول مونو إن بعض علماء الأحياء لم يكونوا راضين عن فكرته عن التخلق الذاتي، أي أن الكائنات الحية مُنحت غرضًا أو مشروعًا، لكنه يرى أن هذا أساسي لتعريف الكائنات الحية. معياره التالي هو التخلق الذاتي. يقول:...إن بنية الكائن الحي تنجم عن ... عملية ... لا تكاد تُعزى إلى تأثير قوى خارجية، بل إلى كل شيء، من شكله العام إلى أدق تفاصيله، وإلى تفاعلات "تشكلية" داخل الكائن نفسه. نعلم الآن أن هذا ليس سوى "حتمية كافية". إنها إذن بنية تُثبت حتمية مستقلة: دقيقة، صارمة، تنطوي على "حرية" شبه كاملة تجاه العوامل أو الظروف الخارجية - القادرة، بلا شك، على إعاقة هذا التطور، ولكنها لا تُسيطر عليه أو تُوجهه، ولا تُحدد مخططه التنظيمي للكائن الحي. ومن خلال الطابع المستقل والعفوي للعمليات التشكلية التي تُشكل البنية العيانية للكائنات الحية، فإن هذه الأخيرة تتميز تمامًا عن المصنوعات، كما أنها، علاوة على ذلك، تختلف عن غالبية الكائنات الطبيعية التي ينشأ شكلها العياني إلى حد كبير من تأثير العوامل الخارجية. البلورات من العمليات الفيزيائية البحتة "الإرجودية" القليلة، التي تُقلل الإنتروبيا محليًا. إلا أن هناك استثناءً واحدًا: البلورات، التي تعكس هندستها المميزة تفاعلات مجهرية تحدث داخل الجسم نفسه. لذا، باستخدام هذا المعيار وحده، يجب تصنيف البلورات مع الكائنات الحية، بينما تُصنف القطع الأثرية والأشياء الطبيعية، سواءً المصنّعة بواسطة عوامل خارجية، ضمن فئة أخرى. ان الظواهر الذرية التعاونية الكمومية التي تُشكّل البلورات هي نفسها التي تُشكّل الجزيئات الكبيرة للحياة، كالحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA) والحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (RNA)، إلخ. يعتقد مونو أن هناك "حتمية داخلية مستقلة" "تضمن تكوين الهياكل شديدة التعقيد للكائنات الحية". لا يمكن أن يكون "الضمان" كاملًا نتيجةً للفيزياء الإحصائية. مونو مُدرك تمامًا لعدم التحديد الكمومي. بعد مناقشة الصدفة من حيث الاحتمالات وألعاب الحظ، يقول: على المستوى المجهري، يوجد مصدر آخر لعدم يقين أكثر جذرية، متأصل في البنية الكمومية للمادة. فالطفرة بحد ذاتها حدث مجهري، حدث كمي، ينطبق عليه مبدأ عدم اليقين. حدثٌ بالتالي، وبحكم طبيعته، لا يمكن التنبؤ به أساسًا. ان العملية التطورية الأساسية بأنها انتقال المعلومات من بنية معلومات حية إلى أخرى. تجدر الإشارة إلى أن هذا يتم في ظل وجود مستمر للضوضاء الحرارية والكمية. تمثل هذه البنى كمية كبيرة من المعلومات التي لم يُحدد مصدرها بعد: فكل معلومة مُعبر عنها - وبالتالي مُستلمة - تفترض وجود مصدر. ويقول: "مصدر المعلومات المُعبر عنها في بنية الكائن الحي هو دائمًا كائن آخر مطابق هيكليًا". تمتلك الكائنات الحية القدرة على إنتاج ونقل المعلومات المتعلقة ببنيتها. إنها معلومات غنية جدًا، إذ تصف نظامًا تنظيميًا، بالإضافة إلى تعقيده الشديد، يبقى محفوظًا سليمًا من جيل إلى جيل. المصطلح الذي سنستخدمه لوصف هذه الخاصية هو التكاثر الثابت، أو ببساطة الثبات. مع هذا التكاثر الثابت، نجد الكائنات الحية والهياكل البلورية تشترك مجددًا في خاصية تجعلها مختلفة عن جميع الأجسام الأخرى المعروفة في الكون. بعض المواد الكيميائية في المحاليل فائقة التشبع لا تتبلور إلا بعد تلقيح المحلول ببذور بلورية. كما نعلم أنه في حالة وجود مادة كيميائية قادرة على التبلور في نظامين مختلفين، فإن بنية البلورات التي تظهر في المحلول ستحددها بنية البذرة المستخدمة. كما يزعم مونو أن الفرق الرئيسي بين البلورات والكائنات الحية يكمن في كمية المعلومات المنقولة بين الأجيال. وبالتالي، فهو يهمل الإبداع الكامن في اكتساب ونقل المعرفة من قِبل الكائنات الحية. مع ذلك، تُمثل البُنى البلورية كميةً من المعلومات أقل بكثير من تلك التي تنتقل من جيل إلى آخر في أبسط الكائنات الحية التي نعرفها. وبهذا المعيار - الكمي البحت، مع العلم - يُمكن تمييز الكائنات الحية عن جميع الأجسام الأخرى، بما في ذلك البلورات. في مساهمته الرئيسية في lنهج معلوماتي في علم الأحياء، يُقدم مونو تقديرًا كميًا لما يُسميه "المستوى الغائي" للأنواع، مُرتبًا إياها في تسلسل هرمي قائم على محتوى المعلومات فقط. تُمثل هذه بدايةً مهمةً لعلم الأحياء القائم على المعلومات. ...بما أن درجة ترتيب البنية يُمكن تعريفها بوحدات المعلومات، فسنقول إن "محتوى الثبات" لنوع مُعين يُساوي كمية المعلومات التي، عند نقلها من جيل إلى آخر، تضمن الحفاظ على المعيار الهيكلي المُحدد. وكما سنرى لاحقًا، وبمساعدة بعض الافتراضات، يُمكن التوصل إلى تقدير لهذه الكمية. وهذا بدوره سيُمكّننا من توضيح المفهوم الأكثر مباشرة ووضوحًا من دراسة هياكل وأداء الكائنات الحية، ألا وهو مفهوم الغائية. ومع ذلك، يكشف التحليل أنه مفهومٌ شديد الالتباس، لأنه ينطوي على فكرة ذاتية تُعرف بـ"المشروع". لنأخذ مثال الكاميرا: إذا اتفقنا على أن وجود هذا الشيء وبنيته يُحققان "مشروع" التقاط الصور، فيجب أن نتفق أيضًا، وهذا بديهي، على أن مشروعًا مماثلًا يُنجز مع ظهور عين الفقاريات. ولكن لا يُصبح لكل مشروع، مهما كان، معنى إلا كجزء من مشروع أشمل. جميع التكيفات الوظيفية في الكائنات الحية، مثل جميع المصنوعات التي تُنتجها، تُحقق مشاريع محددة يمكن اعتبارها جوانب أو أجزاءً متعددة من مشروع أساسي فريد، وهو الحفاظ على النوع وتكاثره. بتعبير أدق، سنختار، بشكل عشوائي، تعريف المشروع الغائي الجوهري بأنه يتمثل في نقل محتوى الثبات المميز للنوع من جيل إلى جيل. وبالتالي، ستُسمى جميع البنى، وجميع الأداءات، وجميع الأنشطة التي تُسهم في نجاح المشروع الأساسي "غائيًا". هذا يسمح لنا، على الأقل، بطرح مبدأ تعريف "المستوى الغائي" للنوع. يمكن اعتبار جميع البُنى والأداءات الغائية مُقابلةً لكمية مُعينة من المعلومات التي يجب نقلها لتحقيق هذه البُنى وإنجاز هذه الأداءات. لنُسمِّ هذه الكمية "معلومات غائية". يُمكن القول إن "المستوى الغائي" لنوعٍ مُعين يُقابل كمية المعلومات التي يجب نقلها، في المتوسط، لكل فرد، لضمان انتقال المحتوى المُحدد للثبات التناسلي من جيلٍ إلى آخر.  بالنسبة لفرانسوا جاكوب، الذي تقاسم جائزة نوبل مع جاك مونو، كانت الغائية سمةً أساسيةً لكل خلية. قال جاكوب إن الغرض والرغبة الأساسية لكل خلية هي أن تُصبح خليتين. لكن مونو يرى أن غائية هذه تبدو مُتعارضة مع مبدأ أساسي، وهو حجر الزاوية في العلم الحديث. حجر الزاوية في المنهج العلمي هو فرضية موضوعية الطبيعة. بعبارة أخرى، الإنكار المنهجي لإمكانية الوصول إلى المعرفة "الحقيقية" بتفسير الظواهر من حيث الأسباب الغائية - أي من حيث "الغرض". يمكن تحديد تاريخ دقيق لاكتشاف هذه القاعدة. لقد مهدت صياغة غاليلي وديكارت لمبدأ القصور الذاتي الطريق ليس فقط للميكانيكا، بل لنظرية المعرفة في العلم الحديث أيضًا، بإلغاء الفيزياء الأرسطية وعلم الكونيات. لا شك أن أسلاف ديكارت لم يتجاهلوا العقل، ولا المنطق، ولا الملاحظة، ولا حتى فكرة المواجهة المنهجية بينهما. لكن العلم كما نفهمه اليوم لم يكن ليتطور على هذه الأسس وحدها. لقد تطلب الأمر التقييد الصارم الضمني في فرضية الموضوعية - صارم، نقي، لا يمكن إثباته أبدًا. فمن الواضح أنه من المستحيل تخيل تجربة يمكنها إثبات عدم وجود غرض، أو غاية منشودة، في أي مكان في الطبيعة. لكن مُسلّمة الموضوعية مُشتركة في جوهرها مع العلم؛ فقد قادت تطوره الهائل على مدى ثلاثة قرون. ولا سبيل للتخلص منها، حتى ولو مؤقتًا أو في نطاق محدود، دون الخروج عن نطاق العلم نفسه. مع ذلك، تُلزمنا الموضوعية بإدراك الطابع الغائي للكائنات الحية، والاعتراف بأنها في بنيتها وأدائها تتصرف بشكل إسقاطي - تُحقق غرضًا وتسعى إليه. وهنا، على الأقل ظاهريًا، يكمن تناقض معرفي عميق. في الواقع، تكمن المشكلة المركزية لعلم الأحياء في هذا التناقض نفسه، والذي يجب حله، إن كان ظاهريًا فقط؛ أو إثبات أنه غير قابل للحل تمامًا، إذا تبيّن ذلك بالفعل. كما يُمثّل حل مونو "للتناقض المعرفي العميق" في جعل الغائية ثانوية - ونتيجة - لثبات التكاثر. بما أن الخصائص الغائية للكائنات الحية تبدو وكأنها تتحدى إحدى المسلمات الأساسية لنظرية المعرفة الحديثة، فإن أي رؤية فلسفية أو دينية أو علمية للعالم لا بد أن تقدم، بحكم الواقع، حلاً ضمنيًا، إن لم يكن صريحًا، لهذه المشكلة. الفرضية الوحيدة التي يعتبرها العلم الحديث مقبولة هنا: وهي أن الثبات يسبق بالضرورة الغائية. أو، بتعبير أوضح؛ الفكرة الداروينية القائلة بأن الظهور الأولي، والتطور، والتحسين المستمر لهياكل غائية متزايدة الكثافة، ناتجة عن اضطرابات تحدث في بنية تمتلك بالفعل خاصية الثبات - وبالتالي تكون قادرة على الحفاظ على آثار الصدفة، وبالتالي إخضاعها لتأثير الانتخاب الطبيعي. بتصنيف الغائية كخاصية ثانوية ناتجة عن الثبات - تُعتبر وحدها أساسية - فإن النظرية الانتقائية هي النظرية الوحيدة المقترحة حتى الآن والتي تتوافق مع مسلمة الموضوعية. وهي في الوقت نفسه النظرية الوحيدة التي لا تتوافق مع الفيزياء الحديثة فحسب، بل تستند إليها تمامًا، دون قيود أو إضافات. باختصار، تضمن نظرية التطور الانتقائية التماسك المعرفي لعلم الأحياء، وتضعه في مكانه بين علوم "الطبيعة الموضوعية". لقد كان كولين بيتندرا أول من استخدم مصطلح "الغائية" لتمييز ظهور الغاية في التطور البيولوجي، وتحديدًا الانتقاء الطبيعي الدارويني، عن فكرة "الغائية" القديمة، أو "الغاية" الأرسطوية، وهي غاية كونية سابقة لظهور الحياة. يشهد مفهوم التكيف اليوم رواجًا متزايدًا لعدة أسباب: يُنظر إليه على أنه أقل من مثالي؛ وفهم أفضل للانتقاء الطبيعي؛ وقد كرّس المهندس الفيزيائي، في بناء الآلات الساعية إلى الغاية، استخدام المصطلحات الغائية. يبدو من المؤسف إحياء مصطلح "الغائية"، وإساءة استخدامه، كما أعتقد. سيزول الالتباس الذي طال أمده بين علماء الأحياء لو وُصفت جميع الأنظمة الموجهة نحو الغاية بمصطلح آخر، مثل "الغائية"، للتأكيد على أن إدراك ووصف التوجه نحو الغاية لا يحملان التزامًا بالغائية الأرسطية كمبدأ عرضي فعال. ان التكيف، والانتقاء الطبيعي، والسلوك، في هما اللذان يحددان السلوك والتطور. يلخص مونو تاريخ الفلسفة، تقريبًا كما نفعل نحن (وكما يفعل كارل بوبر)، على غرار الانقسام الكبير، أو الثنائية، بين المثاليين والماديين. نرى هذا التمييز بين من يعتقدون أن المعلومات ثابتة ومن يرونها تتزايد باستمرار. قد يمنعه تركيز مونو على الثبات التكاثري من إدراك أهمية التجديد وخلق معلومات جديدة. منذ نشأتها في جزر البحر الأيوني قبل ما يقرب من ثلاثة آلاف عام، انقسمت الفلسفة الغربية بين موقفين متعارضين ظاهريًا. فوفقًا لأحدهما، لا يمكن لحقيقة العالم الأصيلة والنهائية أن تكمن إلا في أشكال ثابتة تمامًا، جوهرها ثابت. أما بالنسبة للآخرين، فإن الحقيقة الحقيقية الوحيدة تكمن في التغير والتطور. من أفلاطون إلى وايتهيد، ومن هيراقليطس إلى هيجل وماركس، من الواضح أن هذه النظريات المعرفية الميتافيزيقية كانت دائمًا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتحيزات الأخلاقية والسياسية لمؤلفيها. هذه الصروح الأيديولوجية، التي تُصوَّر على أنها بديهية للعقل، كانت في الواقع بناءات لاحقة صُممت لتبرير النظريات الأخلاقية السياسية المسبقة.  لقد طرح مونو مشكل العلاقة بين المعرفة والقيمة: مثل العديد من العلماء، يعتبر مونو البحث المفتوح عن المعرفة والحقيقة ذا قيمة جوهرية. هل يمكنه أن يجعل المعرفة نفسها قيمة في العالم الموضوعي للعلم "الخالي من القيم"؟ يسعى مونو إلى "أخلاقيات المعرفة". هل يجب علينا أن نتبنى بشكل نهائي الموقف القائل بأن الحقيقة الموضوعية ونظرية القيم تُشكلان مجالين منفصلين أبديين، لا يمكن اختراقهما معًا؟ هذا هو الموقف الذي اتخذه عدد كبير من المفكرين المعاصرين، سواء كانوا كُتّابًا أو فلاسفة أو حتى علماء. بالنسبة للغالبية العظمى من البشر، الذين لا يمكن لقلقهم إلا أن يُديمه ويتفاقم، أعتقد أن هذا الموقف لن يُجدي نفعًا؛ كما أعتقد أنه خاطئ تمامًا، وذلك لسببين أساسيين.

أولًا، وبديهيًا، لأن القيم والمعرفة ترتبطان دائمًا وضروريًا بالعمل، كما هو الحال في الخطاب.

ثانيًا، وقبل كل شيء، لأن تعريف المعرفة "الحقيقية" بحد ذاته يرتكز في نهاية المطاف على مُسلَّمة أخلاقية.

تتطلب كل نقطة من هاتين النقطتين توضيحًا موجزًا.

ترتبط الأخلاق والمعرفة حتمًا بالعمل ومن خلاله. فالعمل يُدخل المعرفة والقيم في آن واحد في الاعتبار، أو يُشكك فيهما. كل عمل يدل على أخلاق، أو يخدم قيمًا معينة أو يُسيء إليها؛ أو يُشكِّل خيارًا للقيم، أو يُدَّعي ذلك.

من ناحية أخرى، المعرفة مُضمَرة بالضرورة في كل عمل، بينما العمل، في المقابل، هو أحد المصدرين الضروريين للمعرفة.

انه بمجرد أن نجعل الموضوعية شرطًا أساسيًا للمعرفة الحقيقية، يُنشأ تمييز جذري، لا غنى عنه في البحث عن الحقيقة، بين مجالي الأخلاق والمعرفة. المعرفة في حد ذاتها لا تشمل أي حكم قيمي (باستثناء "القيمة المعرفية")، بينما الأخلاق، غير الموضوعية في جوهرها، مُستبعدة إلى الأبد من نطاق المعرفة. مبدأ الموضوعية يمنع أي خلط بين أحكام القيم والأحكام المُكتسبة من خلال المعرفة. ومع ذلك، تبقى الحقيقة أن هاتين الفئتين تتحدان حتمًا في شكل الفعل، بما في ذلك الخطاب. وللالتزام بمبدئنا، سنتخذ موقفًا مفاده أنه لا يُنظر إلى أي خطاب أو فعل ذي معنى أو أصيل إلا - أو بقدر ما - يُوضح ويُحافظ على التمييز بين الفئتين اللتين يجمعهما. وبهذا التعريف، يُصبح مفهوم الأصالة أرضية مشتركة تلتقي فيها الأخلاق والمعرفة مجددًا؛ حيث تكشف القيم والحقيقة، المترابطتان ولكن غير القابلتين للتبادل، عن أهميتهما الكاملة للإنسان المُنتبه المُدرك لصداها. في نظام موضوعي... أي خلط للمعرفة بالقيم محرم، بل ممنوع. ولكن - وهنا تكمن النقطة الحاسمة، الرابط المنطقي الذي يربط المعرفة بالقيم معًا في جوهره - هذا التحريم، هذه "الوصية الأولى" التي تضمن أساس المعرفة الموضوعية، ليست موضوعية في حد ذاتها. لا يمكن أن تكون موضوعية: إنها مبدأ أخلاقي، قاعدة سلوك. المعرفة الحقيقية تجهل القيم، ولكن لا يمكن أن تُبنى إلا على حكم قيمي، أو بالأحرى على قيمة بديهية. من البديهي أن طرح مبدأ الموضوعية كشرط للمعرفة الحقيقية يُشكل خيارًا أخلاقيًا وليس حكمًا مُستمدًا من المعرفة، لأنه، وفقًا لشروط المسلمة نفسها، لا يمكن أن تكون هناك أي معرفة "حقيقية" قبل هذا الاختيار التحكيمي. ولإرساء معيار المعرفة، يُعرّف مبدأ الموضوعية قيمةً: هذه القيمة هي المعرفة الموضوعية نفسها. وهكذا، فإنّ قبول مبدأ الموضوعية يُعلن التزامًا بالبيان الأساسي لنظام أخلاقي، ويؤكد على أخلاق المعرفة. ولعلّ أخلاق المعرفة، بفضل طموحها النبيل، تُشبع هذه الرغبة في الإنسان للتطلع نحو ما هو أسمى. فهي تُرسي قيمةً سامية، هي المعرفة الحقيقية، وتدعوه إلى عدم استخدامها لأغراضه الشخصية، بل إلى استخدامها من الآن فصاعدًا بدافع اختيارٍ واعٍ ومدروس. وهي في الوقت نفسه إنسانية، إذ تُحترم في الإنسان خالق هذا التعالي ومستودعه. أخلاق المعرفة هي أيضًا، بمعنىً ما، "معرفة الأخلاق"، وهي تقديرٌ ثاقبٌ لدوافع ورغبات الكائن البيولوجي، ومتطلباته وحدوده. إنها قادرة على مواجهة الحيوان في الإنسان، واعتباره ليس عبثيًا، بل غريبًا، ثمينًا في غرابته ذاتها: المخلوق الذي ينتمي إلى عالم الحيوان وعالم الأفكار في آنٍ واحد، ويمزقه ويثريه في آنٍ واحد هذه الثنائية المؤلمة، التي تُعبَّر عنها في الفن والشعر وفي الحب الإنساني. في المقابل، فضّلت الأنظمة الروحانية، بدرجة أو بأخرى، تجاهل الإنسان البيولوجي، أو التقليل من شأنه، أو التنمر عليه، وغرس الاشمئزاز أو الرعب في نفوسه من سمات متأصلة في طبيعته الحيوانية. أما أخلاقيات المعرفة، فتشجعه على تكريم هذا الإرث والتمسك به، عالمةً في الوقت نفسه كيف تُسيطر عليه عند الضرورة. أما بالنسبة لأسمى الصفات الإنسانية، كالشجاعة، والإيثار، والكرم، والطموح الإبداعي، فإن أخلاقيات المعرفة تُقرّ بأصلها الاجتماعي البيولوجي، وتؤكد قيمتها السامية في خدمة المثل الأعلى الذي تُعرّفه. لكن هل وقع جاك مونو في خطأ تاريخي؟

لقد استقى مونود عنوان عمله من مقولة لديموقريطس تخيّلها أو أخطأ في تذكرها. يفتتح كتابه بهذا الاقتباس: كل ما هو موجود في الكون هو ثمرة الصدفة والضرورة. للأسف، لم يُدلِ ديموقريطس بمثل هذه المقولة. بصفته مؤسس الحتمية، عارض هو ومعلمه ليوكيبوس بشدة الصدفة أو العشوائية. أصرّ ليوكيبوس على الضرورة المطلقة التي لا تترك مجالًا للصدفة في الكون."لا شيء يحدث عشوائيًا (ماتين)، بل كل شيء له سبب (لوجوس) وبالضرورة." لا يتم صنع المال من الهواء، بل يتم صنعه دائمًا من العقل والضرورة." فما الذي سيتغير في فلسفة البيولوجيا لو تم تصحيح هذا الخطأ التاريخي؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

....................

المصدر:

Jacques Monod, le hasard et la nécessité, Edition seuil Paris 1973, 244 pages

حين يصبح الزمان عند باشلار موضعة ادراكية للذات معّبرا عن تجلياتها النفسية الرومانسية المحدودة بحدود مواضيعها يكون حينها الزمان أصبح خارج مطلقه الميتافيزيقي ليكون مدركا محدودا يتمثّله العقل، وقتها ايضا لا نجد أدنى غرابة في إعتبار باشلار تأملات النفس حول ما يطلق عليه حتمية إندثار الانسان بالموت، التي عادة ما تنفر النفس من مواجهة هذه الحقيقة البايولوجية المرعبة من هول الصدمة عليها، كما ينفر الجواد من رؤيته جثة حصان فارق الحياة مطروحا ارضا على حد توصيف باشلار.

باشلار يتقبّل فكرة أن ينفصل الانسان عن ذاته خارج وعيه لذاته وموضوعه معا، لكنه من غير المتاح أمامه تقبله تصّور أن الزمن يقوده نحو حتمية الإندثار العدمي بإفنائه البايولوجي بالموت كاملا جسدا ونفسا وعقلا. الزمن لا يفني الانسان بل يلازمه طيلة حياته في مساره نحو الافناء. الذي يفني الانسان هو الموت(العدم) وليس الزمان المحايد للوجود. مقولة باشلار الانسان يمكن ان يكون وجودا خارج وعيه لذاته وموضوعات ادراكه خطأ. وجود الانسان ادراك عقلي وبانتفاء ادراك عقل الانسان لذاتيته وموضوعه عندها لم يعد هناك وجود انسان بابعاد نفسية او خيالية او غيرها.

عبارة باشلار تحمل الكثير من الملابسات في إمكانية الانسان الانفصال عن ذاته، حيث لا يمكن أن تكون حقيقة مقبولة إلا في حال توفر اكثرمن إشتراطين لا يتوفران إلا في حال جعل وعي الذات وعيا ميتافيزيقيا لا تحده انطولوجيا الوجود الادراكي المتعيّن الوجود وهو محال للاستحالات الادراكية التالية:

- أن يتوقف العقل عن وعيه لذاته.

- أن يتوقف العقل عن التفكير التجريدي بموضوع مادي أو خيالي.

- أن يتوقف العقل عبر منظومته الحسيّة الادراكية عن وعي الوجود من حوله..

إن محاولة باشلار نقل الانسان من حتمية زمانية إندثاره بالموت الى واقعية التعامل مع الزمان كمحتوى تذكاري لمخزون رومانسي بالذاكرة إبتهاجي متفائل بالحياة التي لا نجدها في حاضرنا ولا في مستقبلنا بل في ماضينا الاستذكاري الرومانسي فقط. حتى جمالية المكان القديم التي نتذوق استذكاراتها نفسيا بكل نشوة وغبطة وانتعاش رومانسي لذيذ إنما السبب في ذلك هو العودة للماضي كتاريخ وقائعي بدلالة زمنه الماضي المتموضع فيه تجريدا كدلالة وليس العودة الى زمن ماض جديد نتعرف عليه لاول مرة تخلقه الرغبة النفسية في الاستذكار لحوادث الماضي. عبر إستذكارات المخيّلة في عبورها حاجز الحاضرالمقلق المرعب نحو الماضي البهيج المفرح. عقل الانسان او النفس عاجزين عن خلق زمن والاستذكار للماضي يكون مكانيا وليس زمانيا بمعنى الماضي اكتسب زمانيته بدلالة تحقيب وقائعه التاريخية الثابتة. الاستذكار الخيالي لتحقيب إلغائه الزمن الارضي المتعالق بالمكان يجعل من النفس تعيش الخيال في تعويضها الحرمان الذي عاشته بالماضي كوقائع تاريخية. لا وجود لخيال صادق يعيش الزمن بل هو يعيش المكان في الاستذكار.

هنا ربما أستبق الامور القول أن العودة الاستذكارية نحو الماضي هي عودة (تاريخية) استذكارية للمكان كوقائع تاريخية وليست عودة (زمانية) لزمن يدركه العقل.. لاحقا أوضّح هذه الاشكالية الفلسفية.

الانسان أمام هذه الحالة في جعل ماهو مادي يتداخل مع ماهو ميتافيزيقي يدركهما العقل معا في تداخلهما إنما يكون دافعها هو إرادة الهروب الى أمام  في محاولة خروج الانسان من حتمية مسار الزمان الانحداري الهابط به نحو الاندثار النهائي بالموت والفناء، في لجوئه إبتداع زمان إستذكاري تجريدي ليس مطلقا في وحدته الوجودية التي تختلط فيها الالام والاحزان في تذويبها بمصهر التفاؤل والامل بالسعادة الخادعة نفسيا. لذا يطلق باشلار على هذه الحالة النفسية التي تحاول النفس تطويع مسار التاريخ المتّعثر الى ما اسماه "سلسلة من القطوعات الزمانية" حسب تعبيره. التي هي في حقيقتها استذكارات لازمنية.

وفي حقيقتها هي قطوعات استذكارية نفسية لا علاقة إرتجاعية لها في ملازمة الزمن الحاضر لها نحو إستذكار زمنا ماضيا بحوادثه ووقائعه وليس رغبة إكتشاف الزمن الماضي كزمن خالص منفصل عن ملازمة تحقيبه التاريخي. هو غير الزمان الماضي الذي يحتوي تاريخية وقائع وأحداث جرت فيه فاصبحت جزءا من تاريخ ماض ثابت مدوّن زمانيا..

فالزمان لا يعود الى الوراء في مطلق التجريد كماهية غير مدركة بل يعود الى الوراء (الماضي) كتحقيب تاريخي غير تابع لزمن يقوده بل لزمن يسترشد به كتاريخ في وقائع حدثت. من الغريب الاقرار بحقيقة المكان يقود الزمن وليس العكس كما نتصور خطأ. الزمن وجود ملازم ومحايد للمكان.

حين نغادر الزمن كمفهوم ميتافيزيقي مطلق ازلي لا يدرك مجردا إلا بدلالة حركة مكانية لأجسام يحتويها عندها يمكننا التسليم أن الزمان تسوده قطوعات هي في منطق علم الفيزياء عارية عن الصحة تماما. فالزمان التجريدي عن موضوعاته المكانية الادراكية لن يكون سببه محدودية العقل قابلية إدراكه زمنا مجردا عن ملازمة أشيائه والتعريف بها.

الزمن يجهله العقل ماهويا حتى بدلالة ادراكيته للمكان. كما ولا يمكن للعقل جعل الزمن موضوعا تجريديا يدركه. اي العقل لا يدرك الزمن بغير ملازمته مكانيا للاشياء والاجسام. حين نجد رمز الزمن حرفT  في المعادلات الرياضية الفيزيائية والكيميائية انما يكون التعامل معه تنظيرا تجريديا يختلف عن الزمن الواقعي. الشيء الأهم أن الزمان على الارض وفي الكون يمتلك خاصيّة ماهوية واحدة هي أنه وحدة من جوهر أزلي يحكمنا نحن والطبيعة ولا نقوى على إدراكه ومعرفته الا بدلالة غيره من حركة أجسام أو مواد تداخله في انفصالية ماهوية.

 من البديهيات التي نتمنى القفز من فوقها عبثا هي أن الارادة الانسانية ورغائب النفس لا تؤثر بمسار الزمن في مطلقيته الحتمية الحركية المتجهة دوما نحو الامام المستقبلي الذي هو إقتراب لا إرادي نسلكه في السير نحو الفناء وليس الحصول على التجديد في الحياة السعيدة بوفرة المتعة واللذة التي تزودنا بها المخيلة في إستذكار حوادث الماضي ونحن نتجه مرغمين طواعية في اقتناصنا اكبر متعة في طريق مسار حاضرنا مرغمين نحو مستقبل مجهول ليس كما رسمناه ورديا سلفا..

الادراك النفسي العقلي يتوقف تماما أمام استحالة معرفة ماهية الزمن وكيفية إدراكها مجردة عن الحركة المادية للاشياء حتى لو تيّسر لنا ذلك على مستوى الصفات للزمان فقط وهو محال. فصفات الزمان وهم لا تعرف بدلالة غيره في مقدار حركة الاجسام فيه. والزمن وحدة قياس حركة الاجسام المادية داخله لكن الزمن ليس حركة بذاتها مجرّدة نستطيع إدراكها لوحدها... كما لا نستطيع ادراك المكان(الاشياء) من دون ملازمة الزمن لها. الزمن ملازمة مكانية محايدة في دلالة ادراكية لا تعرف صفاتها ولا ماهيتها مجردة.

لذا فالزمان الذي تنتابه القطوعات المتعاقبة وحتى القفزات النوعية فيه إنما هي في حقيقتها تمّثل إنعكاسات قطوعات ادراكنا نتائج حاصل تفاعل تكامل معرفي لا جدلي وجودنا الذاتي مع مدركاتنا المادية في الطبيعة والعالم الخارجي التي نتعايش معها وليست حصيلة فاعلية إرادة إنسانية أو رغبة نفسية ينفذّها الزمان إستجابة لنا. لاتوجد قطوعات زمنية نوعية خارج مسار مطلقية الزمن في ماهيته الموحدة وصفاته الموحدة ايضا. الزمان لايدرك ولا يفهم لا بالماهية ولا بالصفات.

الزمان جوهر ماهوي محايد لا يحكمه الجدل الديالكتيكي بعلاقته بمدركاتنا الموجودية في عالمنا الطبيعي المادي. الزمان جوهر تكاملي مع المدرك المكاني معرفيا وليس جدلا ديالكتيكيا معه. وحين نعتبر الزمان في تعسف خاطيء أنه جدلي ديالكتيكي في تداخله الإدراكي مع الاشياء والنفس والذات وغيرها فهو بالمحصلة هراء لا قيمة له، هذا الخطأ يعني أننا نجعل من الزمان مدركا متموضعا بالذات مجردا يعيه العقل تجريدا حتى من غير تعالقه بالمكان وهو امر مستحيل تحققه. كي تكون علاقة الزمن بادراك المكان جدلية يجب ان يجتمعا الزمن والمكان في تضاد جدلي تجمعهما المجانسة النوعية الواحدة اي ان تكون صفات وجوهر المكان مطابقة لصفات وجوهر الزمان وهو محال ينفي ان تكون علاقة الزمن بالمادة علاقة جدلية وليست علاقة ادراكية معرفية.

كانط والزمكان

إدراكنا المكان لا يكون مجردا عن زمانيته الإدراكية كما نتوهم، لذا إعتبر كانط ما ندركه مكانا هو ما ندركه زمانا بنفس الوقت، ولا إنفكاك يحكم الإدراكين المكاني والزماني. وهو الشيء الصحيح فلا وجود لإدراك مكاني مجردا عن زمانيته، كما لا وجود لإدراك زماني مجردا عن مكانيته في الموجودات والطبيعة من حولنا. ولا اسبقية تفرق بينهما.

الزمان في مساره الذي يبدو لنا مسارا مجرّدا من ماديته هو مسار متّعثر بمحتواه الوجودي المدرك ذاتيا، ما يجعله مستقلا متّحكما بنا لا نتحكم نحن به، رغم إعترافنا المسبق أن الزمان يتعامل مع المادة إدراكا محايدا وليس تداخلا تموضعيا تكوينيا ماديا أو غير مادي جدلي بها وكذا مع العديد من مسارات الحياة.

علاقة الزمن بادراك الاشياء هي علاقة ابستمولوجية معرفية محايدة بالاحتفاظ بخصائصها النوعية. المكان والاشياء لا تفرض على الزمن الذي يلازمها ان يكون جزءا تكوينيا منها. هنا لا اعتقد ياسبرز كان دقيقا في تعبيره (الزمن هو بعد سببي للزمكان). الخطأ بالعبارة ان الزمن هو طرف ملازم لما نقصد به الزمكان اي (زمان + مكان) في تعالقه الادراكي للمكان. لذا من المتعذر ان يكون الزمن بعدا سببيا لوجوده الذاتي في ملازمته المكان.

ولتوضيح هذه النقطة نقول مثلما تموضع إدراك الذات للاشياء لا يفقدها إستقلاليتها عن مدركاتها،كذلك يكون معنا نفس الشيء حينما يتموضع الزمان إدراكيا في العديد من الامكنة فهو أي الزمان يبقى محتفظا بإنفصالية مستقلة عن مدركاته ولا يخسر في موضعته شيئا من تلك الخصائص التي يمتاز بها وحده. التموضع الزماني في الاشياء هو إدراك لها وليس تداخل إندماجي عضوي تكوينيا معها.

لذا تكون إنعكاسات النفس الواعية تماما هي التي تضفي على إستقلالية الزمان المحايدة الكثير من الأحكام التي تشرعنها النفس هي وتحاول فرضها زمنيا. فمثلا الملل من طول وقت إنتظارنا لمجيء شخص ما في وقت محدد، ليست هي خاصّية زمانية سببية بل هي خاصية نفسية نستشعرها لا علاقة للزمان بها. تعبيرات النفس ليس سببها الزمن الذي تمر به ولا علاقة تربطها بالزمن خارج اولوية ارتباطها بالذات.

الزمن الحاضر الوهمي

يذهب معظم فلاسفة اليونان القدماء منهم الرواقيين يتقدمهم هيراقليطس وبارمنيدس انهم يعتبرون الحاضر هو آنية لازمانية غير مدركة ولا وجود لها كتحقيب زماني يتوزعه الزمان الماضي والحاضر والمستقبل.

هذا الفهم قال به بارمنيدس وأيده افلاطون وارسطو أذ نجده يقول" الآن – يقصد لحظة الحاضر -  هو نقطة ابتداء تغييرين متعاكسين، - يقصد بهما شد الماضي للحاضر لموضعته وتذويته به من جهة، وشد المستقبل المعاكس للماضي في محاولته تذويت الحاضر له وأدغامه به من جهة أخرى، علما أن الحاضر لا يحتاج البرهنة على أنه مستقبل حركي سيرورة غير منظورة في حاضرمتحرك يحدس زمانا. – وذلك والكلام لبارمنيدس التغيير لا يصدر عن السكون. كما أن النقلة – يقصد النقلة الزمانية -  لا تبدأ من الحركة التي لا تزال متحركة، وهذه الطبيعة الغريبة للآن (الحاضر) قائمة في الفترة ما بين الحركة والسكون لذا فهي خارجة عن كل زمان . القول لبارمنيدس.

بداية طالما كانت الحركة والتغيير هما سمتا وصفتا كل موجود بالعالم منذ هيراقليطس، فأن حركة الحاضرغير المتعينة كقطوعة زمنية لا ادراكية أنما تنسحب علي كل شيء يحكمه التغيير وعدم السكون وفي المقدمة يكون دلالة الماضي بمقايسته بالحاضر الذي لا وجود زماني له فهو بفهم بارمنيدس الماضي حركة لازمنية يحكمها زمان متحرك وليست سكونا زمانيا مدركا، لأن حركة الماضي تعاكس المستقبل الذي يحاول تذويت الحاضربه.

وطالما النقلة الحركية لا تبدأ من حركة كما في تعبير بارمنيدس، فهذا يلزم عنه أن يكون الحاضر هو سكون يمكن ادراكه وهو أستنتاج لا يقبله العقل قبل الفلسفة بدلالة الزمان مفهوم كلّي لامتناهي ليس له صفات ادراكية مستقلة ثابتة ونسبية به وليس له ماهية يمكن ادراكها. والآنية الحاضرة ادراك زماني بدلالة حركة الاجسام والموجودات في الطبيعة وليس زمانا في معيار الادراك المادي المكاني الساكن لها..

لأن الحاضر قطوعة زمنية تحقيبية ماديا من زمن مطلق لانهائي لا تحده حدود ولا يتقبل التحقيب المحال زمانا في تحديده كمدرك لانهائي سرمدي ازلي. وهذا المعيار لا يستثني الماضي كزمان وليس انثروبولوجية تاريخية في الماضي ولا يستثني المستقبل بدلالة كونهما قطوعات زمنية وتحقيب تاريخي متحرك ايضا لا يمكن ادراكه كونه يتسم بالحركة السيرورية التي لا يمكن رصدها وتعيينها بغير دلالة حركة جسم مادي يتحرك في الحاضرالزماني. هنا يتوجب علينا الانتباه في التفريق بين قولنا الماضي كتاريخ انثروبولوجي عاشه الانسان كزمن انتهى أصبح ثابتا فهو يتسم بالسكون اكثر من الحركة، بخلاف فهم أن يكون التاريخ زمانيا حركة لها تاثير مباشر في كل من الحاضر والمستقبل. زمن تاريخ الماضي هو حركة مكانية وليست حركة زمنية. فالزمن الاسترجاعي للماضي لا يجعله تاريخا متحركا لا تحكمه مكانية ثابتة هي وقائع التاريخ.

الماضي كزمن هو دلالة فهمنا الحاضر وفهمنا الماضي هو بدلالة الحاضر له. التحقيب الزماني ماض وحاضر ومستقبل هو دلالة ادراك الزمن الارضي وليس ادراك الزمان الكوني. الزمان الارضي المرتبط بحركة الاجسام وحركة الارض والقمر، يختلف عن الزمان الكوني باعتباره لا مدرك ازلي سرمدي ولا يقبل التجزئة والتحقيب كما هو الزمان الارضي.

وفي حال ذهبنا مع بارمنيدس أعتباره الحاضر الزماني لحظة تتوسط الحركة والسكون للماضي والمستقبل ولكنه أي الحاضر لا يمتلك حركة ولا سكونا ويتعذر رصده ادراكا زمانيا لذا فهو نقلة وهمية، فهذا يعني أن الحاضر وجود وهمي كلحظة تحقيب زماني زائلة، وأهم ميزة لقطوعات تحقيب الزمان هو أن الزمان كلية ازلية سرمدية جوهرية تحكم كل شيء بالوجود وهو غير مدرك لا بالصفات ولا بالماهية. أي أن زمان الماضي وزمان الحاضر وزمان المستقبل ثلاثتها تعبيرات عن قطوعات زمنية تحقيبية ارضية لا يمكن ادراكها كمفاهيم ولا كمواضيع مستقلة بدلالة عدم امكانية ادراكنا الزمان كمطلق ازلي ليس له حدود ولانهائي.

باستثناء اننا ندرك هذه القطوعات الزمانية الارضية واختلافاتها بدلالة حركة الارض حول نفسها وحول الشمس وحركة القمر والكواكب الاخرى وقبل كل هذا حركة الاجسام والمدركات في الطبيعة وفي الحياة التي نعيشها التي بدلالتها جميعا ندرك الزمان في تحقيبه الزماني لا في تحقيبه الوقائعي تاريخيا كحوادث يلازمها زمن حدوثها الذي يجعل من حضورها الآني ماضيا ... الحقيقة التي تجعل الفلاسفة يعتبرون الحاضر وهم زماني غي موجود هو لانه ماض ومستقبل ولا يمثل نفسه زمانا حاضرا يدرك لوحده مستقلا عن حركة المكان داخله. حركة التاريخ ماض لا يدرك بغير دلالة زمانية، في حين يكون الزمان يدرك من غير دلالة تاريخية تؤطره والسبب ان الزمان مفهوم مطلق والتاريخ مصطلح يدرك بوجوده التحقيبي زمانيا على الارض.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

 

تمهيد: الوعي قضية تناولتها الفلسفة عبر تاريخها الطويل مادة اشكالية جديرة بالاهتمام من بين متراكم فلسفي كمي – نوعي على امتداد عصور طويلة. والوعي أهمل الاهتمام به فترة طويلة بسبب انه موضوع فلسفي شائك متداخل مع جوانب وقضايا فلسفية عديدة. الاهم من كل هذا الاندفاع يتضح لنا حقيقة أن ليس كل فيلسوف كتب عن الوعي كان مصيبا تماما ولا كان غيره مخطئا بمطلق تفكير فلسفي ميتافيزيقي. وكتبت عدة مقالات حول الوعي ضمنتها كتابي تحت الطبع (الوعي في الفلسفة المعاصرة) وتندرج مواضيعه بين تجاذب الصح والخطا لدى مجموعة من فلاسفة اوربيين واميركان في اجرائي مقارنة متداخلة معاصرة بينهم زادت من اشكالية المبحث فلسفيا وتداخله الفيزيائي في منظومة العقل الادراكية البيولوجية. الوعي استقر فلسفيا في مقولة انه جوهر لا يدركه تعبير اللغة والفكر ولا يهتم العقل به موضوعا خارج منظومة العقل الادراكية بيولوجيا التي تبدأ بالحواس وتنتهي بالدماغ. الوعي مضمون إجرائي لمدركات العقل في حين يكون تعبير اللغة والفكر تجريد وصفي حيادي في علاقته بالمدركات. كما ان الوعي بالاشياء لا يرادف معنى الادراك. فإدراك الشيء غير الوعي به.

الوعي الفلسفي

الوعي بالفهم البيولوجي التجريدي المعرفي الملازم للانسان هو قابلية تعبير العقل عن مدركاته معرفيا لا جدليا. بهذا يكون الوعي مرتكزا في التناول الفلسفي الذي نجده اليوم يشكل احد اهم القضايا الفلسفية ليس في جنبة تعالقه بانتاجية تفكير العقل له، وجنبة تعبيره غير الحيادي مع مدركات العقل.

اللغة والزمن والفكر والنفس والعواطف جميعها تجريدات تعبيرية محايدة في علاقة التاثير بمدركات العقل. ماعدا الوعي الذي تحكمه القصدية وتحكمه المداخلة غير الحيادية مع مواضيع الادراك بالتغيير وتبادل التاثير.. وعي الشيء يعني قابلية التاثير به.

لتكن البداية من فلسفة ديكارت فهو عمد في الكوجيتو انا افكر... ربط الوعي بالتفكير التجريدي الانفرادي في اثباته خاصية الوجود الانطولوجي للانسان الذي لا تحده الابعاد المادية ولا يلجمه التوقف خاصية التفكير العقلي..

خاصية الوعي هي خاصية التفكير العقلي الناجز الذي يعبر عنه تجريد اللغة. ترك ديكارت في اهتمامه تثبيت الوجود الواقعي للانسان بوسيلة الاستشعار الفكري اللغوي انا افكر إذن انا موجود. ميزتان اخذهما عليه معظم الفلاسفة الوجودية وهما:

يتوجب ان يكون للوعي موضوعا محددا يفكر به الانسان سواء اكان الموضوع واقعيا مستمدا من عالمنا الخارجي والطبيعة او خياليا مصدره الذاكرة. واولوية هذا التخطيء الفلسفي وجوب ان يكون للوعي قصدية يهدف تحقيقها. الوعي كما هو اللغة والفكر لا يعبران عن اللامعنى.

كان اول من ادان ديكارت في عدم ربطه الوعي بالقصدية او الهدف المنشود هو برينتانو في طرحه مشروطية الوعي بالادراك القصدي الذي يحدده تفكير العقل بعد استلام الحواس الانطباعات الذهنية عن الاشياء المدركة. بعدها انتقلت موضوعة الوعي القصدي الى هوسرل وسارتر وهيدجر وقائمة فلاسفة الوجودية التي تطول لعل ابرزهم اخيرا كان ميرلوبونتي.

الوعي تجريد لغوي تعبيري عن فكرلا يدخل في علاقة جدلية مع الموضوع بل يدخل مع الموضوع بخاصية العقل انه يحاول معرفة الاشياء وليس ادراكها فقط، وثانيا يعطي العقل مقولاته التغييرية لذلك الشيء. إعتبر كانط للعقل 12 مقولة جاهزة بالفطرة اسماها مقولات العقل.

فالعقل لا يعقل الاشياء لاثبات كيف يدركها بل في معرفة لماذا يدركها وما اهمية ذلك الادراك لتطوير كلا من الموضوع من جهة وتطوير تفكير العقل ذاته من جهة اخرى.

هذه العلاقة الترابطية التجريدية المحايدة للعقل لا تدخل الوعي في علاقة جدلية مع موضوعات الادراك. بل يدخل الوعي معها بعلاقة تكامل معرفي في ضمان استقلالية كل واحد الموضوع والوعي به في اختلاف الماهية والصفات بينهما .

اود قبل الدخول في تفاصيل موضوع المقالة (الوعي) التنويه الى مسالة متداخلة لها علاقة في مطاولة المعرفة الفلسفية في وعي الزمن. حيث كان هجوم فلاسفة ما بعد الحداثة وخاصة فلاسفة البنيوية من ليفي شتراوس، الى دي سوسير ، ثم لاكان، فوكو، ريكور ، دريدا، التوسير وغيرهم عديدون ركزوا على مسائل متنوعة لم يحيدوا عنها وكان سبب الاهتمام بهذه التنويعات الفلسفية انبثاق نظرية التحول اللغوي وفلسفة العقل واللغة ونظرية المعنى التي سادت منذ منتصف القرن العشرين مرتبة الفلسفة الاولى في تاريخ الفلسفة المعاصرة. كانت البنيوية بطروحاتها الفلسفية التجديدية هي الفلسفة التي كان لها اسبقية دفن الفلسفة الوجودية المحتضرة في طروحاتها المستهلكة نهاية الستينيات من القرن العشرين.

المحاور الحديثة التي شغلت الفلسفة يتقدمهم اشهر فلاسفة العقل والوعي مثل ريتشارد روروتي وجون سيرل وسيلارز وغيرهم  من الاميركان هم حملة راية تفلسف الوعي المعاصروالعقل بما حشر معظم الفلسفات الاوربية في زاويا التيه الذي فتحته الفلسفة البنيوية نقصد به التحول اللغوي وفلسفة اللغة وتخلت عنه البنيوية لاحقا لانها لم تستطع اضافة تجديد يعتد الاخذ به في فلسفة التحول اللغوي وفلسفة اللغة واللسانيات ونظرية فائض المعنى فيما اطلق عليه تضليل تعبير اللغة  للمعنى السائدة في تاريخ الفلسفة..

آفاق التجديد في فائض معنى اللغة وما يتعالق بها من امور استلم رايته الفلاسفة الاميركان باجتهاد تجديدي يناصرهم فيه بعض فلاسفة الوضعية التجريبية المنطقية التحليلية الانكليزية حلقة اكسفورد. مثل بيرتراند راسل وفينجشتين وجورج مور ووايتهيد وكارناب من الانكليزوالنمساويين. ماجعل فلاسفة قارة اوربا الذين هاجروا الى اميركا بفتحهم مبحث فلسفة اللغة يعودون الاستقرار في فرنسا والمانيا ودول اوربية عديدة في محاولتهم رد الاعتبار لتفلسفهم التي خبا بريقه ومحاولة اعادة تلميع اسمائهم التي غيبّها الطوفان الفلسفي الامريكي التجديدي بعد عصور طويلة كانت فيها الفلسفة الامريكية تعتاش على الفلسفة العملانية التجريبية الوحيدة في تحقيق المنفعة تلك هي الفلسفة البراجماتية او الذرائعية. وجاء ما اكتسحها لدى فلاسفة معاصرين تجديدين اداروا ظهورهم للفلسفات الاوربية التي بقيت تراوح في تنقيبات اركيولوجيا حل مباحث تاريخ الفلسفة بتصحيح تاريخ اوهام اللغة.

لعبة الفلسفة البنيوية وما بعد الحداثة

لا نجانب الصواب ان مقولات فلسفة البنيوية التي تماهت مع ما بعد الحداثة لا تراجع ولا انفكاك بينهما كانت في المرتكزات الفلسفية المتمردة المشتركة التالية:

1.  لا مركزية للانسان بالحياة والفلسفة ولا عصمة للعقل بالادراك.

2.  تاريخ الفلسفة في غالبيته تاريخ وهمي مصطنع زائف سببه مناقشة قضايا فلسفية لا اهمية لها. تقوم على مماحكات تنظيرية لا رصيد واقعي له اهميته.

3.  اللغة وسيلة العقل الادراكية القاصرة التعبيرعن مدركاته الحقيقية. هنا نتجاوز عبور غير مسوّغ لحقيقتين في اتهام الفلسفة  بالقصور اولا تجاوز لا عصمة للعقل فيه أن يخطأ. ثانيا مصنع الحيوية الفكرية هي تضليل مكمّل تضليل الحواس للعقل في تمكينه دوام تداوله الوعي الخطأ.

4.  اللغة والوعي جوهران يخطئآن لكنهما ليسا جوهرين ادراكيين سببيين في تضليل العقل فتفكير قصور العقل يتقدمهما سابقا عليهما جوهري الفكرواللغة..

5.  العقل يخطأ كما تخطأ الحواس وليس من هناك قيمة عقلية تطابق الاحساسات الواصلة للعقل من العالم الخارجي في تعبير اللغة مطابقة حقيقة المعنى في مدركات وموجودات الواقع.. الادراك المعرفي لا يطابق حقيقة الاشياء في استقلاليتها الموجودية. الادراك الاولي يماثل كينونة الشيء في تاكيد وجوده وليس معرفته. الحواس تدرك والعقل يعرف.

6.  جميع السرديات الكبرى التي حكمت تاريخ الانسان في القرن العشرين مثل سرديات الاديان وسرديات الايديولوجيا السياسية وغيرهما كانت عقيمة راح ضحيتها الاف من القتلى في الحربين العالميتين والحروب العبثية الاخرى. وبمقدار ما كانت منجزات العلم عامل تقدم ورخاء نسبي للانسان  كانت تلك المنجزات نفسها من اهم وسائل تدمير الحياة السعيدة لشعوب الارض بلا تفريق وعدم مساواة وعدالة في نيل حقوق الانسان ومضامين حريته المسؤولة ضميريا وقانونيا واخلاقيا الى يومنا هذا..

الوعي والادراك

الى أي مدى يمكننا قبول مقولة كانط  إكتساب المعرفة ينحصر على نطاق حدسي حسّي وبدون الاحساسات تبقى مقولات العقل الصادرة  بضوء انطباعات الحواس فارغة بضوء الأخذ بنظر الإعتبار أن الحواس تضليل للعقل، والحدس يقبل المراوغة التي تفرضها مخاتلة وقصور ملازمة الفكر واللغة في التعبير عما ندركه من الاشياء، هل هو صورة ذلك الشيء المدرك فوتوغرافيا أم هي حقيقته  الكينونية كاملة؟..

الوعي يدخل في ملازمة تداخلية غير جدلية مع كل من الادراك العقلي والزمن على السواء. كما ان الوعي له تداخل عميق بين الوعي والخيال وبين الوعي وتعبير اللغة وبين الوعي والاستذكار النفسي الخيالي. من المهم التذكير بمقولة انشتاين قوله: اسمى خاصية يمتلكها العقل البشري هو الخيال الذي سبق وهاجمها ديفيد هيوم وجون لوك وبرجسون بضراوة قبل مقولة انشتاين في تاكيدهم الوعي القصدي الهادف تجربة وليس تفكيرا مجردا فقط..

متداخلات الوعي الفلسفية

ينكر ديفيد هيوم اية قيمة موضوعية للقوانين العامة والعالم الحقيقي لا يقوم إلا على الاعتقاد في ادراكه المحسوسات. ليس غريبا هذا على هيوم الذي ينكر ثلاثة ثوابت قارّة بالفلسفة لا يمكن القفز من فوقها بسهولة هي بتعبير هيوم:لا يوجد عالم مادي خارج مدركاتنا الحسيّة الذهنية وما ندركه موجود وما لا ندركه غير موجود، ثانيا لا وجود لنظام سببي يحكم ظواهر ووقائع الحياة سببا ونتيجة ، ثالثا لا يوجد ما يعرف بالعقل خارج ماهيته التفكيرية التجريدية فقط العقل هو تصوراتنا عن الاشياء  في عالمنا الخارجي. واخذها عنه الفيلسوف الانكليزي جلبرت رايل 1900- 1976 قائلا ليس هناك ما يطلق عليه عقل ابدا.

الحقيقة الفلسفية بحسب لايبنتيز هي ما يمكننا تحديده بالكامل، ويقصد لايبنتيز بالحقيقة الواقعية المدركة وليس مطلق الحقيقة كمفهوم ميتافيزيقي. لايدرك كيف نمرر مقولة لايبنتيز بضوء نسبية كل شيء بالعالم الطبيعي والكوني وفي العلم ذاته؟

تحديد كامل الحقيقة شيء متعذّر تحققه ادراكيا. عن طريق انطباعات الحواس عن موجودات العالم الخارجي . أما أن يقصد لايبنتيز الحقيقة الكاملة هي تجربة علمية وليست إدراكا عقليا فهو أخذ تعبير الفكر واللغة عنه فقط هي وجهة نظر تفرض مقبوليتها قدرات التجربة العلمية كنظرية وليس قدرات تفكير العقل المجرد بها. ما يحكم العقل التجربة ولا يحكمها العقل في صحة مقولاته الفكرية.

المذهب الثنائي الديكارتي يقوم على وجود جوهرين فقط هما العقل وماهيته التفكير، والمادة وماهيتها الإمتداد والحركة. وهذا تعبير يدخل مجال فيزياء العلم  وفيزياء المعرفة الكونية على السواء. وما يترتب على هذا المعنى أن إحساساتنا الإدراكية ليس بمقدورها الفصل بين حقيقة الشيء في وجوده المادي عن حقيقة الشيء في تصوره التجريدي الذهني.

كل وعي إدراكي بحسب سيلارز شأن بدايته هو اللغة. هنا يقصد سيلارز بالوعي العقلي للمادة تفكيرا إستبطانيا داخل منظومة العقل الإدراكية، واللغة تعبير صوتي عن موجودات المادة خارجيا، وتفكير اللغة وعيا إدراكيا لاصوتيا صامتا داخليا. صحيح جدا الوعي هو تفكير عقلي لكنه في مجال الفلسفة يكون الوعي قريبا من علم النفس السلوكي أكثر منه قربا من تجريد الفلسفة كمنطق لغوي. هذه نظرية الفيلسوف الانكليزي اسكنر بما اسماه نظرية اللغة اللفظية كسلوك نفسي وعارضها جزئيا نعوم جومسكي في الفطرة التوليدية.

ينكر وليم جيمس أنه يوجد شيء حقيقي يسمّى الوعي) على صورة مادة أو جوهر، موضّحا الواقع الوحيد الذي نعتمده هو التجربة في سياقها يكون كل شيء، وكل الذوات العارفة صاحبة الوعي والموضوعات المعروفة.(

الحقيقة الصادقة عند وليم جيمس: أنها ما يمّثل لدينا الأفضل لإعتقادنا، وليس التمثيل الدقيق للواقع" وصاغ وليم جيمس عميد الفلسفة البراجماتية نظريته بالصدق مفادها أن صدق التصورات ليس سكونيا، فالتصّور لا يمتلك صدقه في ذاته. بل صدقه تحدده التجربة التطبيقية في تحقيق المنفعة العملانية، ومعنى ذلك المعرفة ليست جاهزة صحيحة في مقبوليتها بل هي إبنة التجربة التي أنجبتها. كما والصدق عند وليم جيمس هو صدق التصور أو الفكرة التي حمولتها منفعة في التطبيق، فكل نافع حق وصادق وكل ما هو غير صادق وزائف هو الذي لاينفعنا بالحياة.

الفكر والحركة

يتفرّد هوبز فيلسوف عصر النهضة الاوربية بتعريفه الفكر هو حركة الجسم، بمعنى الفكر هو سلوك نفسي عقلي، وليس نتاج عقلي مجردا من واقعه المادي. والفكر هو توليد عقلي في معرفة موجود أو معرفة موضوع. الفكر ربما يكون إمتدادا لفكر سابق عليه، وربما يكون فكر ثالث يليهما وهكذا، لكن العبرة ليست في تناسلية الفكر اللاحق عن السابق بل الأهمية القصوى أن الفكر تكون مرجعيته المادة والوجود المادي حتى قبل إدراك العقل له وتعبير اللغة عنه. وهذا لا ينفي أن خاصّية العقل الجوهرية الاولى هي توليده الافكار التي ليست مجردة عن تفسير الواقع المادي لكنها ليست جزءا ماديا غير تجريدي في التعبير عنه.  الفكر يمتاز بالخصائص التالية:

الفكر تعبير عن إدراك شيء مادي أو تعبير عن شيء خيالي، وسيلة تعبير الفكر عن نفسه خارجيا هو اللغة الصوتية المسموعة حوارا أو المكتوبة  قراءة. ابجدية وتعبير الفكر عن نفسه ذهنيا هو لغة تصوّرية مركوزة بالذاكرة التي تعي موضوع الفكر الذي تختزنه فيها.

الفكر توليد عقلي بمعنى الفكر يعبّر عن وعي قصدي يتمّثل هذا الوعي بسلوك الانسان ضمن مجتمع يحتويه. وميزة الفكر المستمدة من العقل أنه تعبير عن شيء مادي أو موضوع خيالي والفكر لا يخلق تعبيره اللغوي من فراغ ولا يعبّر عن لا معنى له. والفكر شأنه شأن اللغة تعبير عن تجريد لشيء مادي أو موضوع من الذاكرة.. الفكر حلقة مهمة في سلسلة حلقات المنظومة الإدراكية للعقل لكنه لا ينوب في تمثيله عن حلقات أخرى داخل هذه المنظومة الإدراكية العقلية. فالفكر ليس هو الذهن ، كما أن الفكر ليس هو الوعي، كما أن الفكر ليس هو الذاكرة، وأخيرا الفكر هو لغة صامتة غير مفصحة عن نفسها الا بدلالة صوت لغوي قصدي هادف.

الفكر يلازم اللغة الصوتية ولغة أبجدية القراءة إدراكا تصوريّا ولا سبيل للفكر التعبير عن نفسه إلا بواسطة اللغة. إختلاف الفكر عن اللغة رغم تلازمهما الذي لا إنفكاك له هو أن الفكر تفكير عقلي صامت واللغة تفكير عقلي ناطق يلازمه الصوت الذي يفتقده الفكر الذي هو تفكير لغوي بلا صوت حينما لا تعبّر اللغة عنه إفصاحا عن شيء.

تعبير الفكر التواصيلي وسيلته الوحيدة هي اللغة. فالفكر لغة عقلية. وتعبير الفكر عن شيء أو موضوع بلا معنى هو إستحالة إدراكية يرفضها العقل قبل رفض الفكر لها. فأللامعنى بالفكر يعنى اللامعنى في تفكير العقل واللامعنى في تعبير اللغة.

الشيء الموجود المادي أو الموضوع الخيالي يكونان ملزمين بتعبير اللغة عنهما، والإدراك المادي للشيء وإن كان سابقا تعبير اللغة إلا أنه في جوهره تصوّر لغوي أخرس صامت، الإدراك إحساسات لغوية فاقدة لنظام تعبير اللغة التي يصدرها العقل وليس ألتي يستمّدها الإدراك عن الاحساسات. الإدراك من غير مرجعية العقل واللغة لا قيمة حقيقية له.

شرط الفكر الاول هو إمتلاكه معنى وتعبير لغة عن هذا المعنى، وإلا أصبح الفكر هلوسة لامعنى لها ولا تمتلك لغة تواصلية مفهومة. واللغة لا تمتلك حقيقتها المضمونية بدون فكر يلازمها يحمل معه حمولة معناه عن شيء أو موضوع.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

 

بقلم: جوزيف جابل

ترجمة: د. زهير الخويلدي

***

"إن تاريخ الطبيعة، أو ما نسميه "العلوم الطبيعية"، لا يهمنا هنا؛ ولكن "سيتعين علينا أن نتعامل مع تاريخ البشر، لأن الأيديولوجية بأكملها تقريبًا قد تم تقليصها إما إلى مفهوم خاطئ لهذا التاريخ أو إلى تجريد كامل من هذا التاريخ. " (كارل ماركس: الأعمال الفلسفية، المجلد السادس، ص 153-154).

تتعلق مشكلة الوعي الزائف بالتاريخ الألماني الحديث بطريقتين. ومن ناحية أخرى، يعود الفضل في وضع الأسس الفلسفية لهذه المشكلة إلى المنظرين الماركسيين غير التقليديين في ألمانيا في عهد جمهورية فايمار. علاوة على ذلك، فإن العقيدة الاشتراكية الوطنية تمثل بلا شك مثالاً نموذجياً للأيديولوجية بالمعنى الماركسي للمصطلح، أي على وجه التحديد نظام أفكار غريب عن الواقع وحامل لوعي زائف. ومن الواضح أن هذا التفسير للاشتراكية الوطنية باعتبارها وعياً زائفاً له تأثير على مسألة المسؤولية الألمانية التي أثارت الكثير من الجدل، ولكن ليس من شأننا الخوض في تفاصيل هذه المسألة هنا. ومن المؤكد أن النقاد الألمان لكتابنا سوف ينظرون فيه ويناقشونه. إن وضع الماركسية ككل فيما يتصل بمشكلة الوعي الزائف مماثل. إن نظرية الأيديولوجية ونتيجتها، نظرية الوعي الزائف، هي من أصل ماركسي؛ إنها تشكل فصلاً - بالنسبة لنا الفصل الرئيسي - من مجال الاغتراب العظيم. ولكن إذا كانت الماركسية قد قدمت المقدمة لموقف نظري بشأن هذه المسألة، فإنها قدمت أيضاً توضيحها غير الطوعي: فلم يكن اغتراب الروح الإنسانية في أي مكان أكثر عمقاً مما كان عليه في الستالينية، ولم يكن أي شكل من أشكال الوعي السياسي أكثر زيفاً من هذا. لكن النظرية التي أصبحت أيديولوجية سياسية لا تستطيع أن تدين نفسها. وإلى جانب الوعي الزائف، فقد أصبح هذا بمثابة تبلور للطلاق بين الماركسية النظرية والماركسية السياسية؛ نقطة اللاعودة التي قد تتحول عندها الماركسية إلى نظرية مدمرة للذات. إن الماركسية العقائدية كانت متسقة مع نفسها فقط في منع تطور أي نقد أيديولوجي بنيوي بشكل منهجي - وهو نقد لا ينفصل عن صحة مفهوم الوعي الزائف - ليحل محله رفض عالمي وغير متمايز للبنى الفوقية للمعسكر المعارض كما رأينا في روسيا وكما يبدو أنه ينشأ حاليًا في الصين. تنشأ مشكلة أولية لأي نظرية متماسكة للوعي الزائف: كيف نحدد الوعي الأصيل وبالعلاقة معه يمكن تسمية شكل آخر من أشكال الوعي "زائفًا" وما هي الطبقة الاجتماعية التي تشكل مستودعًا للوعي الأصيل. المشكلة فلسفية واجتماعية. تقترح الماركسية الأرثوذكسية حلاً لهذه المشكلة، وهو الحل الذي لا يمنع من التماسك أكثر من التضحية باستقلالية مشكلة الضمير من أجل إنشاء فرع لعلم اجتماع المعرفة. الضمير الضمير هو مجموعة من «النظريات غير الملائمة» التي لا يعتبرها القصور بمثابة مكافأة للمصلحة الطبقية. الضمير الأصيل - خلية البروليتاريا - هو مجموعة من "النظريات المناسبة للواقع" التي تم إعدادها من قبل نظريات الأصل التي ليست بروليتارية، فهي بمثابة مصدر للطبقة العاملة الممثلة من قبل الحزب. لينين وكاوتسكي، اللذان كانا يقاتلان معًا، وجدا اتفاقًا لتقدير أن الضمير الطبقي البروليتاري يجب أن يأتي إلى الخارج. إنها تتزامن مع الحد الأقصى من الوقت مع إيديولوجية حزب غير قابل للفشل ومع الانتصارات القيمة في العلوم الاجتماعية. لقد صممنا مصطلح "المفهوم المعرفي الماني" للضمير السياسي هذا التفسير الذي يميل إلى الظهور اليوم كجزء من مؤسسات النقد الإيديولوجي للماركسية الأرثوذكسية. بدلاً من العمل على إثبات بنية الاتصال بين الضمير والوجود، يتم تحملها للتنصل من خطأ الخصم. هذه النظرية تتوافق بشكل خاص مع الماركسية الأرثوذكسية، وهي لا تتسطح أبدًا مع التوجه العلمي والنزعة المانوية: الحقيقة ضد الخطأ، والروح العلمية ضد اللاعقلانية. ومع ذلك، فإن تبني الماركسية يلتزم باستقلالية مشكلة الضمير: يمكن أن يكون شكل من أشكال جائزة الضمير ثمرة «فورية» للحياة الاجتماعية ؛ يجب أن يتم تطوير نظرية اجتماعية من قبل المتخصصين. إن المفهوم الذي حاولنا الدفاع عنه في سياق العمل الحالي هو "فكر ضد" هذا التفسير. نحن ننتقد مفهوم "الآلة المعرفية" لقيامه بعقلنة مشكلة الوعي السياسي، متجاهلاً العامل غير العقلاني، الذي يظل دوره واضحاً رغم ذلك. ويمكننا أيضًا أن ننتقدها بسبب السذاجة التي تتعامل بها مع فكرة "عدم الكفاية" (الخطأ) باعتبارها حقيقة لا تقبل الجدل وقادرة على أن تكون نقطة انطلاق، في حين أنها تفترض تحقيقًا منطقيًا ومعرفيًا صعبًا بالكامل. هل يمكن أن نعتبر الستالينية، التي قادت روسيا إلى النصر في أعظم الحروب، خطأً سياسياً حقيقياً؟ لا، بالتأكيد لا. فهل نحن ملزمون إذن بالموافقة على استيعابه للتروتسكية والنازية، وهوسه البارانويدي بالمؤامرة خارج الزمن، ورفضه المزمن للتاريخ، باعتبارها حقيقة علمية؟ هل كان الانتصار العسكري الذي حققته ألمانيا النازية، والذي لم يكن مستحيلاً على الإطلاق، من شأنه أن يحول بأثر رجعي أخطاء العنصرية إلى حقيقة علمية؟ ومن ثم يمكننا أن نرى مدى خطورة ادعاء تبرير مشكلة الوعي الزائف من خلال إقامة مفهوم "الكفاية" كفئة مركزية. إن التعريف التقليدي للحقيقة: ملاءمة الشيء مع الفهم هو إطار فارغ يطالب بمحتوى: يمكن أن يأتي هذا المحتوى إما من أبحاث معرفية صعبة من النوع الذي قام به فيكتور بروشارد في الماضي، أو بسهولة أكبر من سلطة خارجية. إن المفهوم العقلاني للوعي السياسي يؤدي بعد ذلك إلى أيديولوجية استبدادية. كنا نعتقد أننا نستطيع الهروب من هذه التناقضات من خلال تأسيس أبحاثنا الخاصة ليس على معيار الكفاية ولكن على المعيار الجدلي، الخالي من رهن أي حكم قيمي معرفي. وعلى النقيض من أنصار الماركسية العقائدية، فإننا لا نعتبر مصطلح "الديالكتيكي" مرادفًا لـ "الحقيقة العلمية". النهج العلمي هو توليفة من المناهج الديالكتيكية وغير الديالكتيكية. لا شك أن الوعي الديالكتيكي الكامل غير ممكن ولا حتى مرغوب فيه. لم تعد مشكلة الوعي الزائف تقع بين مصطلحات معضلة "الحقيقة والخطأ"، حيث تميل إلى أن تصبح غير شخصية، ولكن بين مصطلحات "التفكير الديالكتيكي" و"التفكير غير الديالكتيكي": فئتها المركزية ليست عدم الكفاية للواقع - لا يمكن تعريف مفهوم "الكفاية للواقع" إلا بطريقة استبدادية - ولكن درجة الوظيفة التاريخية والشمولية (الديالكتيكية) للبيانات السياسية. ومن ثم فإن التصور السياسي المعادي للجدلية وغير التاريخي والمتجسد بشكل عنيد من شأنه أن يشكل الفئة الأساسية للوعي الزائف. نقطة البداية لهذا المفهوم هي دراسة خصصناها في عام 1949 لعلم نفس الشيوعية والتي تمكنا من إعادة نشرها مؤخرًا بفضل المساعدة المتميزة من دار نشر فيشر والسيد بيترو دوميتريو. إن "علم نفس الفكر الشيوعي" هذا ينبغي أن يسمى الآن، بكل إنصاف، "الأسس النفسية والمنطقية للأيديولوجية الستالينية". في الواقع، لقد نجحت الشيوعية في التخلص من عزلتها إلى حد كبير منذ ذلك الحين؛ ربما تظل استنتاجاتنا التي توصلنا إليها في عام 1949 صالحة فيما يتصل بمشكلة الوعي الزائف؛ إنها لا تنطبق إلا جزئيا على الوعي الشيوعي لعام 1967، على الأقل على وعي المنظمات الخاضعة للنفوذ الروسي. لقد انطلقنا من الملاحظة التي مفادها أن الفكر الشيوعي، على الرغم من ادعائه بأنه جدلي، إلا أنه في مناهجه الفعلية يقع على النقيض تمامًا من المنهج الجدلي. إلى جانب النزعة المدرسية في العصور الوسطى، فإن الستالينية هي بلا شك المجموعة العقائدية الأكثر ثباتاً في معاداة الجدلية في تاريخ الأفكار بأكمله. إنها فكرة أنانية وهندسية، تهيمن عليها "التعريف الزائف" وتعتمد على الوعي المتجسد. ربما كانت الأيديولوجية الستالينية تمثل الدرجة القصوى التي يمكن أن يصل إليها الوعي الزائف. في ذلك الوقت، عندما كنا نقرأ الصحافة الشيوعية أو نستمع إلى الخطابات الدبلوماسيين السوفييت، كان لدينا انطباع حقيقي بأننا نتعامل مع كائنات ذات دماغ مختلف عن دماغنا. هذا يُلقي نظرةً على هويةٍ بنيويةٍ بين الوعي الزائف والوعي الفصامي. قد يبدو هذا التعريف للوعي الزائف كفكرٍ لا ديالكتيكي تعسفيًا. لنُلاحظ، لمصلحة القراء المُحتملين المُهتمين بالوفاء للنصوص الكلاسيكية، أن التعريف الماركسي للأيديولوجيا مُلهمٌ بشكلٍ وثيقٍ إلى حدٍّ ما، شريطة أن نُعتبر الرؤية التاريخية بُعدًا هامًا في أي جدلية. لكن هذه ليست النقطة الجوهرية في المسألة. جميع العلوم تعمل بمساعدة مُسلَّماتٍ تعسفيةٍ إلى حدٍّ ما، وغالبًا ما تتزامن مع أنظمةٍ بديهيةٍ غير متوافقة. القيمة الأداتيَّه للأنظمة البديهية وحدها هي التي تُتيح لنا قياس قيمتها بأثرٍ رجعي. وسواءً أكان تعريفنا "الديالكتيكي" للوعي الزائف تعسفيًا أم لا، فقد مكّن من تطوير توليفةٍ واسعةٍ تشمل - ولأول مرةٍ على حدِّ علمنا - قطاعًا من الاغتراب السريري. وبقدر ما يُثبت هذا التوليف تماسكه وفائدته، فإنه يُبرِّر بأثرٍ رجعيٍّ التعريف الذي كان بمثابة نقطة انطلاقه. ليس هناك ما يمنعنا من معارضة المفهوم "الإيلي" للتعريف "الجدلي" للوعي الزائف. لقد كشف كتاب آخرون، أكثر تألقاً من كتابنا، عن الصعوبات التي تكتنف نظرية فيلفريدو باريتو حول تداول النخب. ولكن إذا أثبتت هذه النظرية قدرتها على تفسير بعض جوانب الوهم السياسي ـ ونحن نفكر هنا في المكون الطوباوي لبعض البرامج ـ فليس لدينا سبب لرفض هذه المساعدة، حتى ولو كان ذلك يعني الترحيب لاحقاً، دون ندم، بالمفهوم الجدلي لمشاكل مختلفة. الحقيقة لا تتعايش مع الخطأ أبدًا؛ يمكن لنظامين بديهيين مختلفين أن يتعايشا ويتشاركا المهام؛ هناك رياضيات تستخدم هندسة إقليدس وهندسة ريمان بالتناوب. إن المنظورية في العلوم الإنسانية لا تنفصل عن الوضع الديمقراطي للفكر، في حين أن الاستبداد يميل إلى "إطلاق" منظور الفرد واعتبار الآخرين غير شرعيين. ", ومن بين البنيات المضادة للجدلية التي تترك بصماتها على الوعي الزائف، لا بد من الإشارة بشكل خاص إلى التعريف. وتغطي مشكلة تحديد الهوية وإساءة استخدامها مساحة ضخمة. ويتعلق الأمر بتخصصات متنوعة مثل نظرية المعرفة (راجع أعمال إميل مايرسون)، وعلم نفس الطفل، وعلم الأمراض النفسية، والتحليل النفسي، وعلم اجتماع المعرفة والأيديولوجيا، وحتى، إلى حد ما، فلسفة القانون. إن تجميع هذه الجوانب المختلفة يتطلب كتابًا. في المسائل العلمية، يعتبر التعريف تقنية مشروعة تم تسليط الضوء على أهميتها وتدوين استخدامها في الأعمال الكلاسيكية لإميل مايرسون (الهوية والواقع). إن إساءة استخدامها في الأمور السياسية هي نتيجة حتمية للهيكلة الأنانية للفكر. إن النظام الذي يحتل مكانة متميزة في أذهان أنصاره (أي أنه لا يستطيع بحكم التعريف الدخول في علاقة عكسية) يفرض تصوراً مانوياً يرى التاريخ ببساطة باعتباره صداماً بين معسكرين متجانسين. وتميل الدعاية، من جانبها، إلى تعزيز هذا الاتجاه بهدف الاقتصاد في الفكر. ومن هنا ازدهار هذه المفاهيم الأنانية في الأيديولوجيات الشمولية، والتي تترجم على المستوى المنطقي الفرضية اللاواعية حول الوحدة الأساسية للمعسكر المعارض (البلشفية اليهودية). لقد رأى لابرويير بوضوح هذه العلاقة السببية بين الأنانية وشيوع مبدأ التعريف. في أحد فصول كتاب الشخصيات نجد هذه الفقرة المذهلة: "الأمراء، دون أي علم أو قاعدة أخرى، لديهم ذوق للمقارنة: إنهم يولدون وينشؤون في وسط أفضل الأشياء، وكأنها في مركزها، والتي يربطون بها ما يقرؤون، وما يرون، وما يسمعون". إن ريموند آرون، الذي لا يحب كلمة "جدلية" ولكن تحليلاته تشكل في كثير من الأحيان نماذج للنقد الأيديولوجي الجدلي، قد ندد في كثير من الأحيان في كتاباته بتقنية تحديد السلسلة، والتي يعزو أصلها إلى الموقع المتميز للحزب في الكون الذهني الشيوعي، أي باختصار إلى العامل الأناني. وسوف نظهر في سياق هذا العمل أن هذه الظاهرة هي في الأساس جانب جزئي من الانتشار العام للهياكل اللاديالكتيكية - غلبة المكان على الزمن هي جانب آخر - في عالم الاغتراب. خصص الماركسي المجري بيلا فوجارناسي فصلاً من كتابه "الماركسية هي المنطق" لمشكلة التعريف الزائف في السياسة؛ وأمثلته مستمدة من ما يسمى بالأيديولوجيات "اليمينية"؛ لقد أخذنا فكرتها المركزية لاستخدامها في نقد أيديولوجية اليسار المتطرف. وفي نهاية المطاف فإن مجال الاغتراب الفردي ليس غافلاً عن هذه الظاهرة. يمكننا أن نقتصر على ذكر مثال سهل للغاية - ومع ذلك صحيح - للفتيشية الجنسية: إن استبدال شيء ما بمجموع شريك الحب هو تحديد زائف حقيقي تمامًا. من ناحية أخرى، سيكون هناك نقاش مطول لاحقًا حول البحث المثير للاهتمام الذي أجراه سيلفانو أرييتي من نيويورك، والذي أظهر في دراسته لما يسميه "الاركيولوجيا القديمة" للمصابين بالفصام، أن هؤلاء المرضى النفسيين لديهم أيضًا "تحديد سهل". نحن إذن أمام بنية أساسية ـ قاسم مشترك حقيقي ـ لمختلف جوانب الاغتراب، التي يشكل استمرارها على المستوى الفردي والجماعي أحد أسس ما نسميه البنية الانفصامية للوعي الزائف. السؤال الذي يطرح نفسه هو: بعد مرور ثلاثة عشر عامًا على نهاية الستالينية، هل لا يزال لهذا المفهوم للوعي الزائف أي قيمة تفسيرية في السياسة؟ هذا ليس سؤالا بلاغيا. لقد تم الإشارة إلى نهاية العصر الأيديولوجي مراراً وتكراراً في الآونة الأخيرة؛ بالنسبة للماركسيين، الوعي الزائف لا ينفصل عن الأيديولوجية. علاوة على ذلك، فإن موقف المشكلة نفسه ليس خاليا تماما من الغموض. في الواقع، يشير مصطلح الأيديولوجية إما إلى الجهاز العقائدي بأكمله لحزب ما، أو إلى التعبير الأيديولوجي عن رؤية تاريخية متدهورة. في الحالة الأولى، سيكون تراجع الأيديولوجيات ظاهرة من ظواهر الانحطاط الثقافي؛ أما في الحالة الثانية، فعلى العكس من ذلك، فإنها ستعلن عن قدوم عصر الوضوح. يمكن أن تتعايش هاتان العمليتان، بل وتتداخلان؛ أما الثاني فهو وحده مرادف لتراجع الوعي الزائف. ويحدث أيضًا - ويعرف الأطباء النفسيون هذه الظاهرة جيدًا - أن فقر المظاهر الفكرية يخفي وراءه استمرارًا لقاعدة من الإدراك غير الواقعي. بعض أشكال الوعي الزائف، مثل الستالينية، تحيط نفسها بدرع أيديولوجي سميك. والبعض الآخر، مثل أصحاب التوجه العرقي الأميركي، متمردون على أي أيديولوجية. وبالتالي فإن تراجع نفوذ الأيديولوجيات لا يشكل تقدماً في حد ذاته. ولا يمكن أن نصل إلى معلومات صحيحة بشأن هذه المشكلة إلا من خلال دراسة كل حالة على حدة على مختلف القطاعات المعنية. في مقدمة العمل، يكون هذا الفحص بالضرورة ملخصًا. ومن المؤكد أننا نشهد عملية حقيقية لإزالة الاغتراب في القطاع الروسي من العالم الشيوعي. في عمل حظي بتعليقات واسعة النطاق في فرنسا حوالي عام 1954، يشرح السيد إسحاق دويتشر هذه العملية من خلال التأثيرات المسببة للاغتراب للتقدم التقني الذي أدى، من خلال ضمان سيطرة جديدة للإنسان على الطبيعة، إلى دفع السحر البدائي إلى الوراء، وهو إرث من الستالينية. إن هذا التفسير الذي قدمه دويتشر لا يجذبنا إلا إلى حد ما. إن مثال ألمانيا في عهد هتلر يثبت أن التكنولوجيا الأكثر تقدماً يمكن أن تتعايش مع تراجع عميق في الوعي. لا يمكن اعتبار التقدم التقني في حد ذاته عاملاً من عوامل إزالة الاغتراب. وربما لعبت الآلية التي وصفها السيد دويتشر دوراً ثانوياً؛ إن السبب الاجتماعي الحقيقي وراء هذا الذوبان الأيديولوجي يجب أن نبحث عنه في مكان آخر. ربما يكون هذا السبب هو ظهور الاشتراكية متعددة المراكز التي، من خلال كسر المخطط المانويّ للعالم الخاص بالشيوعية، جعلت في الوقت نفسه الأساس الوجودي للأنانية الجماعية يختفي، والتي تشكل "معادلاتها" العامل الأساسي لهندسة (انفصام) الوعي. وفي الوقت نفسه، استعادت نظرية الاغتراب، التي حظرها ستالين بشدة، بعض المصداقية في المعسكر الماركسي، كما يتضح من كتابات ج. نادور في المجر، وآدم شاف في بولندا، وأخيراً روجيه جارودي في فرنسا. وفي الوقت الذي تعالج فيه الماركسية الحكومية نفسها جزئياً من حالة عميقة من الاغتراب والوعي الزائف، فإنها تعيد اكتشاف الأهمية النظرية لمشكلة الاغتراب. لقد شهدنا في الولايات المتحدة مؤخراً ظهور مناخ سياسي بدأ يشبه مناخ ألمانيا في عهد جمهورية فايمار، ولكن من دون البؤس. إن صعود المطابقة، وصعود "التحديد الخارجي" على حساب "التحديد الداخلي" للسلوك، وإزالة الصفة الشخصية عن الإنسان الأمريكي، سجين "التنظيم"، المحاصر في مرمى نيران الدعاية والإعلان، كل هذا يؤدي إلى ظهور اتهامات لا تقل انتقاداً لشكل أمريكي محدد من الاغتراب الاجتماعي. هناك بالفعل رصيد دائم من الوعي الزائف في الولايات المتحدة يتكون في المقام الأول من مقاومة التغيير. إن المكارثية، والغولدووترية الأقرب إلينا، هما في الأساس نتيجة للاستياء المؤقت لهذا الصندوق الدائم لصالح الظروف السياسية. لقد حرصنا أعلاه على تحديد الوعي الزائف بوضوح فيما يتعلق بسلوك الفشل في السياسة: تشكل الستالينية في نفس الوقت "النوع المثالي" التلقائي للوعي الزائف وفي نفس الوقت الحالة النموذجية للأيديولوجية التي، على حد تعبير ماركس، "تصبح قوة مادية من خلال الاستيلاء على الجماهير". ولكن ليست كل أشكال الوعي الزائف أدوات للنجاح، ولم تقدم أي حركة فكرية خدمة أكثر عفوية لخصمها من المكارثية وخلفائها. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن المركزية العرقية الجنوبية، وهو وعي زائف نموذجي لإدراكها المتشدد والمُزيل للطابع الشخصي لأعضاء ما يسمى بالأعراق "الدنيا"، وعدم وعيها بدوافعها الحقيقية، ومانويتها، ورفضها لأي إمكانية للتقدم للمجموعة العرقية "الدنيا"، وهو رفض متبلور في هويات زائفة حقيقية ["الزنجي يظل زنجيًا دائمًا"]. إن المركزية العرقية السوداء تضعنا، حتى قبل مغادرة أمريكا، في وسط أجواء العالم الثالث. لقد كان إنهاء الاستعمار هو الحقيقة العظيمة لإزالة الاغتراب في عصرنا ـ وقد أظهر جاك بيرك ذلك في صفحات مبهرة. لكن كما هو الحال مع كل حركات التحرر في التاريخ، فإنها مهددة بالوعي الزائف، ربما في شكله الطوباوي. إن الفضل الكبير لعمل جان زيجلر: علم اجتماع أفريقيا الجديدة هو أنه طرح هذه المشكلة بوعي شديد. إن زيجلر مطلع على أعمال لوكاش، وهو يدرك أهمية مشكلة الاغتراب. وكان خطأه هو رغبته في تغطية مساحة هائلة في ثلاثمائة وثمانين صفحة، مما اضطره إلى اللجوء إلى أسلوب أخذ العينات التعسفي إلى حد ما. ولا يمكننا أن نفكر هنا في التعامل، ولو بشكل مختصر، مع المشكلة العالمية المتمثلة في الوعي الزائف بالمسيحانية والطوباوية السياسية في العالم الثالث؛ وسنقتصر هنا على الإشارة إلى وجود مشكلة وخطورة هذه المشكلة التي تتطلب المعالجة إما في دراسات أحادية أو في عمل تاريخي عالمي وليس عملاً نظرياً مثل عملنا. إننا سوف نترك جانباً عمداً تحليل بعض الأشكال "الثانوية" للوعي الزائف، ذات البنية المثيرة للاهتمام، ولكن نطاقها التاريخي محدود، مثل البوجادية الفرنسية، التي شكل حنينها إلى الجمعية العامة مثالاً بارزاً على اللاتاريخية الأيديولوجية، أو حركة جون بيرش في الولايات المتحدة. كما أن استخدام مفهوم الوعي الزائف في البحث التاريخي هامشي أيضًا مقارنة بدراستنا التي ركزت على الأحداث الجارية. ولكن يجب أن نشير إلى بعض المشاكل التي يواجهها الباحثون المتخصصون الذين لا يترددون في استخدام اقتراحات غير المتخصصين في عملهم. وهكذا ــ ولنأخذ مثالاً واحداً فقط ــ فإن الفترة المعروفة باسم "إعادة الإعمار" في التاريخ الأميركي (التي تلت الحرب الأهلية مباشرة) تميزت من جانب المنتصرين بشكل غريب من الوعي الزائف الذي لا شك أن وجوده هو أحد الأسباب البعيدة للدراما العنصرية الحالية. إن الرغبة في إسناد المسؤوليات الحكومية فورًا إلى أشخاص بالكاد ابتعدوا عن حالة العبودية ــ بغض النظر عن لون بشرتهم ــ هي علامة على شكل خطير من أشكال التفكير غير التاريخي، وقد تم الانتقام من هذا الخطأ منذ ذلك الحين بوحشية. وهناك مجال آخر حيث يمكن لمفهوم الوعي الزائف أن يساعد المؤرخ بشكل مفيد على فهم موضوعه وهو أصل الأنظمة الفاشية. من المؤكد أننا لا ننوي ـ كما يود أي ناقد سهل أن نصدق ـ أن نختزل المشكلة الاجتماعية المتمثلة في الفاشية في مسألة الوعي الزائف. الفاشية ظاهرة معقدة تتعلق بالاقتصاد وعلم الاجتماع والسياسة؛ علاوة على ذلك، فهي تحمل دائمًا علامة الخصوصية التاريخية وحتى العرقية لمكان نشأتها. لا يستطيع أحد أن يدعي جدياً أن الفاشية هي وعي زائف، ولكن هذه الفئة تلعب مع ذلك دوراً أساسياً في البنية الأيديولوجية للأجواء ما قبل الفاشية وفي أيديولوجية الفاشية القائمة. يخصص أحد فصول هذا الكتاب لدراسة الاشتراكية الوطنية باعتبارها أيديولوجية متجسدة؛ تقول صيغتنا ضمناً أننا لا نرفض مسبقاً أي تفسير اقتصادي أو سياسي (على مستوى ما يسميه الأنجلوساكسونيون "صنع القرار") أو تاريخي. لقد امتنعنا أيضًا عن أي فرضية تتعلق بالأصل. وأخيرًا، دعونا نشير، فيما يتعلق بأصول الفاشية الإيطالية، إلى العمل الرائع لروبرت باريس والذي يشكل، على وجه التحديد في الاستخدام التوضيحي لمفهوم الوعي الزائف، نموذجًا لهذا النوع. وعلى الرغم من التراجع الذي لا يمكن إنكاره للأيديولوجيات، فإن مفهوم الوعي الزائف يبدو أنه يحتفظ ببعض القيمة كفئة تفسيرية للأحداث الجارية. ونحن نشهد أيضاً، على الأقل في فرنسا، النشر المتتالي للأعمال السياسية التي غالباً ما تشكل، تحت عناوين مختلفة، تحليلاً للهياكل غير الواقعية، وغير الجدلية في كثير من الأحيان، أو حتى المنفصلة بوضوح عن التجربة السياسية للمجموعات. نحن لا نفكر هنا في أعمال من نوع "اغتراب..." التي تتكاثر حاليًا والتي غالبًا ما يلعب فيها مفهوم الاغتراب دور الكليشيه، بل نفكر في أعمال جادة من نوع "الوهم السياسي" لجاك إيلول ، و"الانسان المحير" لـ ر. موري، دون أن ننسى العمل الرائع "مداخلات في أمور مختلفة" لجان بولهان. ومرة أخرى، يمنعنا الإطار المحدود لـ"المقدمة" من أن نكون شاملين. لذلك سوف نقتصر - كنوع من الاستنتاج - على وضع عمل ذو نطاق دولي وغير معروف نسبيًا في فرنسا فيما يتعلق بمفهوم الوعي الزائف: إنه عمل ك. مانهايم. وقد وُصف مانهايم بأنه "ماركسي برجوازي"؛ لقد قبل هذا التأهيل إلى حد ما، لكنه لم ينكره أبدًا. أنا أراه بسهولة أكبر باعتباره ماركسيًا ديمقراطيًا لا يكون "برجوازيًا" إلا بقدر ما تكون البرجوازية هي الحامل التاريخي للفكرة الديمقراطية. إن الماركسي البرجوازي الحقيقي، الذي يرغب في اتباع البرجوازية في جميع تجسيداتها وفي جميع مغامراتها، بما في ذلك المغامرة الشمولية، هو في رأينا فيلفريدو باريتو. إن عمل مانهايم، الذي ولد في ظل أزمة، يستجيب لحاجة واضحة للغاية: وضع إنجازات الماركسية، وفي المقام الأول إنجازات النقد الأيديولوجي وتقنية كشف الماركسية، في خدمة الديمقراطية، وليس البرجوازية أو الرأسمالية. إن مسألة إمكانية وجود ماركسية ليست برجوازية بل "ليبرالية" تشكل مسألة حيوية بالنسبة للديمقراطية. إن هذا الانشغال يسيطر بشكل قهري على كتاباته بعد عام 1933 (كتابات الهجرة)، ولكنه موجود مسبقًا بشكل كامن في كل أعماله، بما في ذلك تلك التي كتبها منذ البداية. كان مانهايم يرغب ـ ونحن نعيد صياغة هنا صيغة ماركسية معروفة ـ في "صنع الأسلحة الإيديولوجية للديمقراطية". عمله غير معروف إلى حد كبير ويتم التقليل من شأنه بشكل عام في فرنسا. نقتبس منه دون أن نقرأه كثيراً ونتفق ضمناً على اعتباره كمية ضئيلة. والسبب في ذلك هو وجود ترجمات رديئة، إن لم تكن مشوهة، فضلاً عن سوء الفهم المستمر الذي يحافظ عليه المعارضون، والأصدقاء، وفي نهاية المطاف مانهايم نفسه. كان يُنظر إلى مانهايم على أنه عالم اجتماع المعرفة قبل كل شيء؛ لكن دراساته المعرفية الاجتماعية الصارمة قليلة العدد وذات أهمية متوسطة. ومن ناحية أخرى، فإن مساهمته المهمة في مشكلة الأيديولوجية ـ وضمناً مشكلة الوعي الزائف ـ قد طغت عليها تماماً الترجمة غير الكافية لكتاب "الأيديولوجيا واليوتوبيا". يُعرّف مانهايم الأيديولوجية بأنها نظام من الأفكار يتخلف عن الواقع؛ إنه، باختصار، تبلور رؤية مناهضة للتاريخ. يقدم عصرنا أمثلة أكثر إضاءة من تلك التي استخدمها مانهايم: الوعي الاستعماري الذي يفسر الواقع الحالي من منظور عصر "سياسة الزوارق الحربية" أو حتى الانعزالية الأمريكية التي تفترض "عزلة" الأراضي الأمريكية، التي كانت حقيقية في زمن ماكينلي، وغير موجودة اليوم. في كتابه "الأيديولوجيا واليوتوبيا"، ينتقل مانهايم إلى تقسيم مزدوج لهذا المفهوم. من ناحية أخرى، يعارض المفهوم الخاص للأيديولوجية، وهو بنية جدلية بحتة ("الأيديولوجية هي الفكر السياسي للآخر"!) بمفهومه العام الذي يعترف بأن كل فكر سياسي يحتوي على عنصر أيديولوجي لأن كل سياسة تعكس وجهة نظر معينة. من ناحية أخرى، يميز مانهايم بين المفهوم الخاص للأيديولوجيا، الذي يفترض تضليلًا واضحًا ومهتمًا، ومفهومها الكلي ، الذي يترجم إعادة هيكلة "مرتبطة بالوجود" للأسس المفاهيمية والإدراكية للفكر السياسي، والفكر الطوباوي، وفي النهاية، يكون القاسم المشترك بينهما هو حقيقة أنهما تبلوران مختلفان للوعي الزائف. يبدو أن طموح مانهايم هو تحرير مفهوم الأيديولوجية من كل عبودية حزبية و"جدلية" من أجل جعله عنصرًا من إطار السياسة العلمية. ومن الواضح أن صحة مفهوم الوعي الزائف لا تنفصل عن نجاح هذه المحاولة. في عام 1933 غادرت مانهايم ألمانيا؛ ومن الآن فصاعدا ستظهر كتاباته باللغة الإنجليزية. تشكل هذه الكتابات فصلاً مثيراً للاهتمام في تاريخ الأفكار. غادر لوكاش إلى الاتحاد السوفييتي؛ سوف يظل شيوعيًا بالتأكيد، ولكن شيوعيًا "هامشيًا" مرفوضًا جزئيًا من قبل النظام. أما مانهايم فقد اختار ما سيصبح لاحقا العالم الغربي، وعلى وجه الخصوص العالم الأنجلو ساكسوني الذي شعر تجاهه بالإعجاب التقليدي من جانب الدوائر الليبرالية في المجر في الماضي. ولكن هذا لم يمنعه من تشخيص مبكر للضعف الإيديولوجي للعالم الأنجلوسكسوني، وهو ضعف ناجم عن "مقاومته للتغيير". التقليدية البريطانية، والتوافقية الأمريكية، والميل نحو "الضيق الأفق". في كتاباته باللغة الإنجليزية، يبدو أنه قد تولى مهمة كبرى: وضع إنجازات الماركسية بشكل عام والديالكتيك بشكل خاص في خدمة الديمقراطية المهددة، والقيام بذلك دون إثارة صدمة جمهوره الجديد بشكل كبير من خلال استخدام المصطلحات ذات الأصل الماركسي. وقد وُصِف مانهايم بأنه "ماركسي برجوازي" خلال فترة فايمار، وبالتالي أصبح، في أعماله المكتوبة باللغة الإنجليزية، ماركسيًا حقيقيًا جزئيًا. تشكل هذه الأعمال في الواقع درسًا جدليًا حقيقيًا للجمهور الناطق باللغة الإنجليزية، ولكنه درس تظل فيه كلمة "جدلي" محظورة تمامًا، لتحل محلها مصطلحات غير ضارة: الكمال (= الكلية الجدلية)، والتعليم من أجل التغيير وغيرها من المصطلحات من نفس النوع. تحت عنوان "الوعي الاجتماعي" غير المؤذي، يقدم لنا مانهايم نظرية جدلية كاملة حول الوعي الزائف، والتي أصبحت مقبولة في المجتمع الراقي من خلال التخلص عمداً من أي مفردات تبدو مشبوهة. ويؤكد مانهايم على هذه النقطة قائلاً: "الوعي ليس ظاهرة معرفية بحتة". إنها في الأساس تقنية وظيفية اجتماعية جدلية، أو إذا شئت، نهج شمولي. إن القول بأن "الزنجي يظل زنجيًا دائمًا" يدل على نقص الوعي لسببين: مقاومة التغيير، وعدم فهم دور المكون الاجتماعي في نشأة الدونية الافتراضية الحالية للعرق الأسود. قد يقول القارئ الألماني إن أيديولوجية الاشتراكية الوطنية كانت، باختصار، افتقارًا إلى "الوعي" تم دفعه إلى أقصى حد؛ ونحن لا نعتقد أنه ينبغي لنا أن نناقضه في هذه النقطة. يبدو أن الفكرة المركزية لعمل مانهايم الإنجليزي بأكمله هي هذا: تقديم نظرية أولية للاغتراب والجدلية في متناول الجمهور المقاوم للمصطلحات الماركسية، وفكرة التغيير، والتأمل الفلسفي. في هذه الكتابات، يذكرنا مانهايم بطبيب يريد دون قصد فرض علاج مؤلم على مريض عنيد. ولم يتمكن أحد من تحديد دوره بشكل أفضل من المنظر الماركسي في عصر فايمار، ك.-أ. فيتفوجل، الذي صنفه بين "علماء الاجتماع البرجوازيين الذين ينهبون ترسانة العدو الطبقي ". ومنذ ذلك الحين، فعل فيتفوغل، المؤلف المستقبلي لعمل ضخم عن الاستبداد الشرقي، الشيء نفسه تماماً..." فكيف نتخلص من الوعي الزائف وننظر الى العالم كما هو لكي نتمكن من تغييره نحو الافضل ونحقق عملية الاقلاع المجتمعي والاستقرار السياسي والاسترجاع الحضاري؟

بقلم جوزيف جابل

***

..................

المصدر

Joseph Gabel, La fausse conscience, revue L'Homme et la société, Année 1967  3  pp. 157-168

للاجابة على فك الاشتباك بين المكان والزمان وعلاقة الذاكرة بالخيال وعلاقة الاثنين مع الزمان:

- الذاكرة هي مستودع ما تختزنه الذات من تجارب الحياة على شكل تراكم خبراتي يصيبه النسيان مع مرور الزمن. الذاكرة ليست تموضع تجريدي في الوعي الادراكي فقط بل هي وجود عضوي في بعض خلايا الدماغ. كذلك الخيال وان كان يغلب عليه اللاشعور فهو ايضا يحسب على بعض الخلايا العصبية بالدماغ هي المسؤولة عن تداعيات الخيال.

- الخيال ليس مصدره الذاكرة بل مصدره المخيلة التي تبتدع الخيال بلغة التعبير عنه تجريديا بالفكر واللغة. هنا تكون المخيلة زمانا زائلا بخلاف الذاكرة التي تكون زمانية ثابتة بدلالة مكانها الثابت في تركيبة الدماغ العضوي لبعض الخلايا العصبية. الزمان حركة دائمية حتى حين يلازم كل مدرك وجودي ثابت.

الزمان في علاقته بكل من الذاكرة والخيال اوضحه بالتالي:

الذاكرة هي وسيلة التعامل مع الزمن الماضي كإستذكارات لحقائق تاريخية حدثت فيه، واخذت صفة الثبات كوقائع تاريخية وليست زمنية ملازمة حيادية تجريدية الادراك. اننا حين نقول ان الوقائع التاريخية هي ثبات زماني غير مدرك فاننا بذلك نعتبر ثبات الزمان الوهمي يقاس بدلالة ثبات المكان الواقعي الحقيقي كتاريخ ماضي وليس كزمن ماض.

 رغم استحالة الذاكرة استذكار وقائع التاريخ من دون ملازمة زمنية ادراكية محايدة تجريدية لها. هناك فرق كبير بين زمن الذاكرة الذي هو استمرار تداعيات التذكر لاحداث الماضي، وبين الزمان التاريخي الذي حدثت فيه وقائع ذلك التاريخ الذي تحاول الذاكرة استحضاره من ماضيه التاريخي الى زمانيتها في الحاضر الذي تعيشه الذاكرة. بالحقيقة الاستذكار الخيالي لا زمني.

اذا تساءلنا لماذا يكون استذكار الذاكرة لتاريخ الماضي ناقصا ولا يتطابق تماما مع تداعيات الذاكرة؟ الجواب هو ان الذاكرة مخزن تراكم خبرة زمنية واقعية تتآكل تدريجيا ويطالها النسيان. لذا ليس كافيا الاعتماد على الذاكرة في دراسة وقائع التاريخ زمانيا من غير الاعتماد على الكشوفات الاثرية والتنقيبات الحفرية ومقاربة معرفة زمن حدوث تلك الوقائع تماما.

اصبحت الاركيولوجيا اليوم هي وسيلة معرفة حقائق التاريخ وليس المدونات التي لا تسعفها حقائق اركيلوجيا الحفريات والتنقيب الاركيولوجي. تجري اليوم مراجعة معظم ما يسمى السرديات الكبرى باحدث الوسائل العلمية في الوصول الى حقائق وليس اقرار خرافات واساطير لا تحكمها تجارب العلم وكشوفات المعرفة.

اما عن الخيال فهو زمانية مرتبطة بالمخيلة في استحضاره ولا علاقة موجودة بينه وبين الذاكرة. المخيلة متحررة تماما من سطوة الزمن عليها في تسييرها فعلاقة الزمن بالخيال علاقة محايدة. ومتى ما تموضعت الخيالات في فكر تعبيري تفصح عنه اللغة، تكون فاعلية الزمن عليه محكمة تماما. فالخيال هو تصورات يمتزج احيانا فيها الشعور باللاشعورفي انتاجية يرغبها تفكير العقل. وفي تعبير دقيق لفرويد قوله " اللاشعور لا يحتاج الزمن" لأن خاصية افكار اللاشعور لا يحدها الزمان العقلي. الذي ترتبط به المخيلة لكن ليس على حساب تحررها من سطوة الزمان العقلي عليها في حدّها وتعيين مسارها في تعبير اللغة عما يبتدعه الخيال. ربما تبدو العبارة غير محكمة حين نقول الخيال لا زماني لكن الحقيقة العلمية والفلسفية تؤكد ذلك. الخيال في مقارنته باللاشعور الذي هو تداعيات غياب رقابة العقل عليها. لكن الخيال هو شعور يدرك تداعيات التذكر الذي يحتاج الزمن لانه خاضع الى تداخل الشعور الادراكي في توظيفه تداعيات اللاشعور الذي لا يحتاج الزمن. يعبر احد الفلاسفة الاميركان (ان الوعي هو نوع من التحرر من الواقع والزمن يسبق الوعي الحقيقي).

ارسطو والزمن

المعتقد الذي لم يفارق ارسطو هو أعتباره الزمان مقدار حركة الشيء وليس هو حركة بذاتها. يعود الى برهنة نظريته هذه بمقولته العبقرية (الزمان لا يحد بالزمان)، وهي مقولة صائبة صحيحة مئة بالمئة. ويذهب الى وجوب التفريق بين حركة الجسم وبين زمانية مقدار تلك الحركة، بقوله أن حركة الشيء داخل الزمان، هي سرعة بطيئة وسرعة سريعة وكلتاهما خارج الزمان الذي يحتوي الجسم او الشيء، معتبرا الزمان هو رتابة من الانتظام الثابت الذي لا يتغير ، بينما يكون الجسم او الشيء داخله هو حركة لا منتظمة ولا رتيبة وبذا يرسي ارسطو مفهوم أن الزمن ليس ما يدرك بدلالة حركة الجسم التي سبق وقالها. هو حقيقة الزمان لا تدرك زمانيته بخلاف الاشياء التي ندرك زمانيتها بدلالة حركتها المادية داخل الزمن. بعبارة ثانية اوضح اراد ارسطو القول أن الزمان ازلي سرمدي وهو كلي وحدة واحدة لا يمكن تجزئتها كمفهوم مطلق، ولا حتى كقطوعات زمنية تحقيبية هي صفات زمنية للاشياء المتحركة بلا انتظام وليست صفات ماهوية للزمن الثابت المنّظم. كما سبق لي القول الزمان ليس ثابتا بل متغيرا ملازما تغيرات المكان.

وفي تعبير بدوي لشرح ما اورده ارسطو نقلا عن المصدر الاجنبي يشير الى أن الزمان لا يكون زمانا الا في مجانسته الحركة، عندما يكون الزمن والحركة من جنس زمني واحد يحدهما ويجمعهما معا، وبذلك يعود ارسطو الى اصل مقولته الزمان يقاس بدلالة حركة الاجسام ولا يمتلك الزمان حركة ذاتية مستقلة يمكن ادراكها بغير دلالة حركة الاشياء والاجسام داخله.

ويذهب ارسطو ابعد من هذا في مخالفته الرأي السائد فيزيائيا المكان يرتبط ادراكه بزمن يلازمه، ليستنتج أن الزمان الملازم للمكان، هو الذي يسير بدلالة المكان وحركته وليس العكس الزمان يقود حركة المكان الذي يعرف بدلالة الزمان. عن ذلك يقول احد الفلاسفة (الزمن هو بعد سببي للزمكان).

يشرح ارسطو كيف (يكون الزمان ليس حركة، ولكنه لا يقوم الا بدلالة الحركة التي تتضمن مقدارا او عددا)، وقبل الانتقال لمناقشة العبارة نرى تفسير عبد الرحمن بدوي لها قوله (ثمت نوعين من العدد، عددا موضوعيا وهو للاشياء القابلة للعد، وعددا ذاتيا هو الفكرة التي يكونها العقل وبها يعد الاشياء القابلة للعد وهذا الاختلاف هو ما تقوم عليه الآنية). بمعنى هناك عدد موضوعي والى جانبه ومعه يلازمه عدد تجريدي بالفكر.

نتساءل هنا بدورنا:

- هل الزمان الذي هو مقدار حركة الجسم، والذي هو ليس حركة ذاتية يختص بها يقاس بمقدار " كمي" أم بمقدار عددي ؟ ارسطو نقل عنه بدوي ذهابه نحو الاختيار العددي. ولم يوضح لماذا وكيف يكون تمييز مقدار الحركة بالكم عنها الاختلاف بالعدد؟.

- هل الزمان يمتلك ذاتية عددية خاصة به، تقوم على دلالة عددية منفصلة عن عددية المكان في قياس حركته عدديا داخل الزمان الذي يحتويه. بمعنى الزمن يقاس (كميّا) بدلالة احتواء مادة لفراغ.

- واضح يمكن تمرير الاختلاف بين العدد الموضوعي وبين العدد الذي هو فكرة مكتسبة يختزنها العقل تجريدا لا علاقة زمنية لها معها.، لكن هذا التمايز ما اوجه تعالقه بالزمن الآني الذي استنتجه بدوي؟. كيف يتم ربط العدد كفكرة او كموضوع بالآنية الزمانية؟ الاجابة لمجرد تدعيم نظرية أن الآنية(الزمن الحاضر) لا تنقسم على نفسها لا بالكم ولا بالعدد.

وفي تعبير بدوي لشرح ما اورده ارسطو نقلا عن المصدر الاجنبي يشير الى أن الزمان لا يكون زمانا الا في مجانسته الحركة، عندما يكون الزمن والحركة من جنس زمني واحد يحدهما ويجمعهما معا، وبذلك يعود ارسطو الى اصل مقولته الزمان يقاس بدلالة حركة الاجسام ولا يمتلك الزمان حركة ذاتية مستقلة يمكن ادراكها بغير دلالة حركة الاشياء والاجسام داخله.

ويذهب ارسطو ابعد من هذا في مخالفته الرأي السائد فيزيائيا المكان يرتبط ادراكه بزمن يلازمه، ليستنتج أن الزمان الملازم للمكان، هو الذي يسير بدلالة المكان وحركته وليس العكس الزمان يقود حركة المكان الذي يعرف بدلالة الزمان.

يشرح ارسطو كيف يكون الزمان ليس حركة، ولكنه لا يقوم الا بدلالة الحركة التي تتضمن مقدارا او عددا، وقبل الانتقال لمناقشة العبارة نرى تفسير عبد الرحمن بدوي لها قوله (ثمت نوعين من العدد، عددا موضوعيا وهو للاشياء القابلة للعد، وعددا ذاتيا هو الفكرة التي يكونها العقل وبها يعد الاشياء القابلة للعد وهذا الاختلاف هو ما تقوم عليه الآنية). بمعنى هناك عد موضوعي والى جانبه ومعه يلازمه عد تجريدي بالفكر.

بحسب ارسطو الذي يذهب الى تحديد الآن او الحاضر بالمحددات التالية:

- الآن او الزمن الحاضر ليس جزءا من كل لأن الجزء مقياس للكل، والكل لابد أن يكون مركبا من أجزاء، بخلاف الزمن ليس مركبا من آنات. بل وحدة كلية متجانسة الصفات والماهية في مطلق ازلي لا نهائي ازلي.

- الآن الحاضر لا ينقسم لذا لا يتركب ما ينقسم المادة المدركة زمانيا مما لا ينقسم الزمان غير المدرك بغير ملازمته ما هو حركة ومدرك. .

- الآن الحاضر لا يوجد فيه حركة ولا سكون. هذه العبارة لارسطو جاءت بتاثير من افلاطون وبعض فلاسفة ما قبل سقراط في اعتبارهم الزمن الحاضر وهما افتراضيا لا حقيقي . " ناقشت هذه العبارة في مقالة سابقة منشورة لي بعنوان افلاطون والتحقيب التاريخي للزمان).

 الآن بمعنى الحاضر هي جزء من الكل الزماني في المجانسة الكيفية الواحدة، ولو كانت الآن جزئية مغايرة الكيفية الزمانية فلا يمكنها التوسيط التجسيري بين حدين زمانيين هما الماضي والمستقبل.

صحيح جدا أن الآنية هي زمن جزئي بسيط نقطة زائلة لكنها تحتفظ بماهية زمنية ليست متناقضة مع ماهية كلية الزمان الازلي غير المدرك. ثم لا يوجد ما يدعم أن الزمان كيفية غير قابلة الى تقسيم تحقيبي زماني مدرك ولا الى آنات لا نهائية. مقولة ارسطو الرائعة (الزمان لا يحدد بالزمان) مقولة النقص بها انها تتعامل مع الزمان الكوزمولوجي وليس تعاملها مع الزمان الارضي التاريخي المختلف عن الزمان الكوني. فالزمان السرمدي الكوني الازلي لا يقبل التجزئة لا بالدلالة ولا بالادراك، فهو كلي لا يمكن الاستدلال بدلالة الجزء عليه في وقت لا يمكن تجزئة اي جزء منه. أما ان الزمان الارضي وهو ما لم يكن يقصده ارسطو فهو يقبل دلالة حدوده بتجزئته كتحقيب زماني ارضي وليس كوزمولوتي كوني. والتحقيب الزماني الارضي يبدأ بالثانية والدقيقة والساعة واليوم والاسبوع والليل والنهار والفصول الاربعة وهكذا. لكن اهم ميزة ان هذه التقسيمات التجزيئية افتراضية وهمية زمانيا ما لم تقترن بحركة مكانية.

من غير المقبول تمرير أن الآنية ليست جزءا ماهويا متجانسا مع زمان كلي سرمدي ازلي، مما يترتب على عدم المجانسة أنها ليست زمانا وان تكون ماهية ليست زمانية وزجها ومعالجتها على أنها توسيط لحظة انتقالية غير مدركة زمانيا، هذا غير وارد ولا صحيح. كما ان الانية لا تمتلك مجانسة الزمان خطأ ينسف كلية الوحدة التجانسية المطلقة للزمان. الزمان كمفهوم يعبر عن دلالة مطلقة لا يقبل التجزيء والتقسيم صحيحة جدا كما وردت في تعبير ارسطو العبقري (الزمن لا يحدد بالزمان) هو توكيد ارسطو لحقيقة الزمان كلية موحدة واحدة ازلية كمفهوم مطلق سرمدي وازلي لا يمتلك الانسان معرفة ماهيتها كما لا يعرف آلية اشتغالها. ثم بهذه المقولة ميّز ارسطو بين مفهوم الزمن كمطلق لا يتجزأ، وبين مفهوم الزمن الارضي الذي يقبل القسمة والتحقيب بدلالة حركة الاجسام.

اما تعبير ارسطو نقلا عن بدوي بأن الان لا ينقسم وبذا لا يتركب ما ينقسم مما لا ينقسم، فهو يحمل تساؤل مررنا به اكثر من مرة هو اذا كانت الانية لا يتوزعها التوسيط التجسيري بين تحقيبين زمانيين هما الماضي والمستقبل من دون انقسام تجانسي زمني معهما فكيف يمكننا الاستدلال بان الآنية وهم غير موجود لأنه غير مدرك عقليا، في نفس وقت تجاهل ارسطو ومن بعده بدوي ان الآنية فيزيائيا كتحقيب زمني شغالة دائمية في مهمتها تجسير قطوعات الزمان التحقيبية على الارض حينما لا يكون الزمان مفهوما مطلقا لا يدركه العقل ولا تحد حدوده الازلية السرمدية. الشيء الذي ينهي اشكالية عدم مجانسة الآنية الحاضرة مع الزمان هو في التمييز بين الزمان الارضي بإختلافه عن الزمان كمفهوم كوني مطلق لا يقبل المقايسة الاستدلالية به في قول عبارة ارسطو الزمن لا يحد بالزمان وهو يقصد الزمن كمفهوم مطلق غير مدرك.

ختاما علينا التنبيه أن آنية الحاضر هي استدلال لا ضير أن يكون وهميا بالقياس لمدركات العقل، لكنه موجود كدلالة افتراضية غير وهمية زمانيا بمنطوق علم الفيزياء، بدليل كثير من الظواهر وقوانين الطبيعة والحياة العامة التي تحكم الانسان هي قوانين غير مدركة عقليا لكنها تفعل فعلها خارج رغائب الانسان، لكن عدم ادراكها لا يترتب عليه نزع فيزيائيتها الشغالة الدائمة في تنظيمها حياة الانسان منها باستقلالية عنه. اذ يقول الفيلسوف لي سمولن (اذا كان هناك شيء اساسي انما يكون هو الزمن).

قوانين الفيزياء الطبيعية هي ليست قوانين العقل في ادراكه او في عدم ادراكه نظام العالم الخارجي من حولنا. فمثلا قولنا الآن ليست استدلالا لماضي ولا لمستقبل، ونزع صفتي الحركة والسكون عنها يحتاج اثبات برهاني فلسفي، لكن الفيزياء العلمية وليس الفلسفة تجعلها موضوعا فيزيائيا قائما لا يحتاج البرهنة الفلسفية له.

***

علي محمد اليوسف / الموصل

يعتقد الفيلسوف والمؤرخ الألماني (اوسفالد شبنغلر) إنّ لكل حضارة اسلوبها الخاص الذي يميزها عن غيرها من الحضارات، ولهذا اطلق عليها بـ(الدوائر المغلقة)، والتي تشير إلى ثقافة الاختلاف السائدة بين الحضارات، ولا وجود لشيءٍ قد يؤسس لتقارب ذلك الاختلاف، فقد وجد الاختلاف داخل الحضارات وبني على أساس التأصيل، وكأن الحضارة تتطور بمدى قدرتها على الانغلاق والاختلاف عن الحضارات الأخرى. وليس لواحدةٍ من تلك الحضارات أن تفرض سطوتها الاجتماعية والثقافية والقيمية على غيرها، لأن الحضارات مقفلةٌ على ذاتها، وإن أرادت الانفتاح على غيرها من الحضارات فإن ما تستند عله لا يتجاوز ما يسميه (شبنغلر) بـ (التشكل الحضاري الكاذب)، فتعمد على اختراع صور ملائمة، لا إلى ذاتها، وإنما لتوجهات الحضارة الأخرى، لكن في جميع الأحوال، لا يمكن لنا أن نسمي ذلك انفتاحاً على ثقافات الآخر، وإنما هو تسليك مبدأي يشي بقبول ما يقدمه الآخر من أجل غاية قد تذكر أو لا تذكر، أما الحقيقة، فإن الإرث محفوظ، ولا يسمح للانفتاح أن يؤثر في محيط وعمق الثقافة المتجذرة في حضارة ما.

وإذا كان (شبنغلر) قد استوعب وأورد قوله في وصف تلاقح الحضارات، وانتهى إلى فشل إمكانية التواشج والحوار بين الحضارات، إلا أنه لم يدرك أن الزمن الذي سيليه قد أسس لتعميق فجوة التنافر والتناشز والتأصيل لثقافة الانغلاق، فلم يكن الأمر حكراً على قيام حضارة ما بالانغلاق على نفسها، فبدلاً من الدائرة المغلقة، أصبحنا اليوم أمام دوائر أكثر انغلاقاً، وسواء اتسعت دائرة تلك الدوائر أم انكمشت، فإن الصياغة الحقيقية لها لا تلوح إلا بالانغلاق وقطع الطريق أمام إمكانية التواصل الخلّاق، فالحضارة والدين والأمة والدولة وحتى المجتمع، بات الجميع يعيش تحت ظلِّ الانغلاق على ذاته، لغرض الحماية من المحيط الخارجي من جهة، ولأجل التنمية الذاتية من وجهة نظر أخرى، والحقيقة أن الآخر بات أكثر رعباً من بين جميع الفترات والحقب التاريخية، وحقّ للجماعات أن تفتعل الأروقة في داخر الدوائر المغلقة... لذلك يجب الإقلاع عن وهم ما يسمى بالحوار والتواصل (حوار الحضارات، حوار الأديان، تواصل الثقافات).

والعجب يكمن في أن الأمر قد ألقى بضلاله على الاسرة، فالأخيرة بدأت تأخذ موضع الانغلاق على الأُسر الأخرى، فالمتابع لطبيعة الحياة الأسرية قبل ربع قرن، سيجد إمكانيات التواصل والتلاقح حاضرة وبقوة، أما اليوم فبدأ الناس يعيشون في محيط مغلق، يفتقر هذا المحيط إلى أدنى مظاهر التواصل، حتى صلة الرحم، فإنسان اليوم يخرج بعياله من بيتٍ كان يجمعه مع أسرته الأولى، فيهجر الأخيرة بقطيعة مطلقة، ليؤسس إلى أسرة تنشأ بمعزل عن الاسرة المربية الأولى، بل يذهب البعض إلى ضرورة عدم تواصل الأبناء مع أبناء الأسر القريبة عليه، بغية الأثر والتأثير، لأنه بصدد خلق دائرة مغلقة خاصة، تنشأ وتترعرع في فضاء خاص لا يحيط به سوى الأب، ومن دون أيِّ أثرٍ أو تأثير.

وقد اتسع الموضوع كثيراً إلى جعل الذات الإنسانية دائرة مغلقة على ذاتها، فأصبح الآخر جحيماً حقيقياً، لا كما وصفه الفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر) بأنه جحيمٌ مثمر، لان الذات لا تنكشف إلا بالآخر وإن كان جحيماً، أما الآخر في عصرنا الحالي، فيمثل هلاكاً من وجهة نظر الذات، وكل ما على الأخيرة فعله أن تردم مسافات التلاقح والتواصل مع ذلك الآخر، لنجد أنفسنا اليوم لا نعيش إلا بذاتنا، مع ذاتنا ومن أجل ذاتنا، فاتسعت بذلك دائرة الأنانية وانعزلت الدائرة الاشتراكية التواصلية.

وفي الآونة الأخيرة، يربط صاحب هذا المقال جميع ما يكتب، بألوانه المختلفة، مع ما يمرُّ به مجتمع فلسطين العزيز، ونعتقد أن التأسيس للدوائر المغلقة قد أدى بنا إلى أن نكون مجرد ذوات تستخدم آلات ناقلة للأخبار، نتفرج على ما يحدث، ويكتفي أشرفنا بالتحسر على ما سيحدث، من دون موقف يذكر، لا قولاً ولا فعلاً... وإن وجد ذلك القول أو الفعل، فإن الأصل في ذلك هو (التشكل الكاذب للذوات)، فالأمر كما هو مخطط له، أكتفي بدائرتي وأعمل على إحكام إغلاقها وليحصل ما يريد أن يحصل.

ويمكن لنا بالأخير أن نجد السبب الحقيقي من وراء قصورنا إزاء القضية الفلسطينية، فلقد باتت الدول والمجتمعات والذوات البشرية تختلق لها مناخاً مغلقاً تمارس فيه أنانيتها بمعزلٍ عن جميع ما يحصل أو ما سيحصل في القشرة الخارجية لذلك السور المغلق، فاكتفت الدولة بالدفاع عن حكومتها، والشعب عن مغانمه، وليذهب الآخر إلى الجحيم، لأنه لا يمكن أن تتصوره إلّا بعدّه جحيماً.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

في هذا الكون اللامتناهي تعد التجربة الوجودية في حياة الانسان إشكال ملغز وكبير يبدا من الذات وينتهي في الكون باتجاهات متعددة بوصفها نتاج احداث ميتافيزيقية داخل نسق ميثولوجي، هذا النسق هو زماني ومفارق يبحث عن جوهره غير المتعين من خلال جغرافيا الجسد لكن التجربة التاريخية الواقعية تشير ان من السهل الوقوع في الفخ رغم ان بين الروح والجسد، هناك فضاءات الوعي والمتخيل وذاكرة اللغة وهناك تفاعل منهجي وبنية ذات خصائص وجودية جوهرية، هنا تكمن فعالية الزمن المقدس. يُعتبر الزمن المقدس فترات خاصة تحمل معانٍ روحية ودينية، حيث يتم التركيز على الطقوس التي من خلالها يتعزز الارتباط الروحي بين الأفراد، وهو فرصة للتجديد الروحي والتأمل في القيم والمعاني العميقة، ان وعي الزمن المقدس يُشير إلى القدرة على إدراك اللحظات في المسارات الكونية واعتبارها فرص مركزة للتأمل والتفكير، من خلال هذا الوعي، يُمكن للأفراد أن يعيشوا تجاربهم بشكل أعمق ويعزز الفهم الذاتي بإتاحة فرص الاتصال بالأبعاد الروحية وإدراك التجلي. السرديات التاريخية، الزمن المقدس، ووعي اللحظة كلها مُرتبطة ببعضها البعض تُسهم في فهم التجربة الإنسانية الوجودية غير ان التأمل فيها هو أداة لفهم هذه العلاقات، وتعزيز الوعي الثقافي للطبيعة الوجودية التي من خلالها يمكن تحقيق تجارب روحية غنية تُعزز من الفهم الذاتي وتأكيد الهوية الجماعية وصياغتها في نسق شامل.

وعي الزمن المقدس

فهم الزمن المقدس يعكس كيف تُعتبر الأوقات والمناسبات ذات الأبعاد الروحية جزءًا لا يتجزأ من الهوية الجماعية، من خلال ربط الأفراد بتقاليد وأحداث تاريخية معينة، ما يُساعد في بناء شعور بالانتماء، الزمن المقدس يُعزز من الوعي الجماعي من خلال تجسيد القيم والمعتقدات في سياقات زمنية معينة. هذا الوعي الجماعي يساهم في تشكيل تصورات الأفراد عن ذواتهم ومجتمعاتهم، فهم الزمن المقدس يساعد على تجربة اللحظات بشكل أعمق، مما يُعزز من الوعي الروحي. هذا الوعي يُتيح رؤية المعاني الخفية وراء الأحداث اليومية ويُعزز من الإرسال الثقافي من خلال الطقوس التي تُنقل عبر الأجيال. هذه الطقوس تُعتبر وسائل لنقل القيم والمعاني الروحية، مما يُعزز من التواصل بين الأجيال، عندما يُفهم الزمن المقدس في سياق السرديات التاريخية، يُمكن أن يُعزز من فعالية الخطاب الروحي الذي يعتبر وسيلة لإرسال الرسائل الروحية التي تُعزز من الفهم الذاتي، عندما يتم فهم حدث تاريخي في إطار الزمن المقدس، يمكن أن يُعاد تأطيره بحيث يُعتبر جزءًا من خطة أو غرض أعمق. هذا يساعد على رؤية الأحداث كجزء من مسار زمني أوسع، الأحداث التي جرت في أوقات مقدسة غالبًا ما تُكتسب معاني رمزية أعمق حيث يمكن أن يُنظر إلى المعارك المصيرية أو التغيرات الاجتماعية والاقتصادية كإشارات روحية تعزز من الفهم الجماعي الأحداث، الطقوس تُعيد إحياء الذكريات والتاريخ، مما يُعطي للأحداث بعدًا روحيا. هذا يؤدي إلى تفسير الأحداث بطريقة تعكس القيم المشتركة، فهم الزمن المقدس يُعزز من تجديد المعاني عبر الزمن ويُساعد الأفراد والمجتمعات على رؤية تاريخهم بطريقة تُعزز من الروحانية الثقافية.

الانثروبولوجيا والزمن المقدس

الأنثروبولوجيا تدرس كيفية تداخل الزمن المقدس مع الأحداث التاريخية، مما يُعزز من فهم كيف يتم تفسير الأحداث استنادًا إلى الأبعاد الروحية و كيف تُشكل الأحداث المقدسة الذاكرة الجماعية للمجتمعات، ويعكس كيف تُستخدم الذاكرة لتفسير التاريخ وتقديم معاني مختلفة، الأنثروبولوجي تُساعد في فهم الرموز والمعاني المرتبطة بالزمن المقدس، وكيف تُؤثر هذه الرموز في الأحداث بشكل أعمق و تُظهر مدلى تأثير الزمن المقدس على الهياكل الاجتماعية والسياسية، وكيف تُستخدم الأحداث التاريخية لتبرير أو تحدي السلطة، تعتبر الأنثروبولوجيا أداة فعالة لفهم الزمن المقدس وتأثيره على تفسير التاريخ. من خلال تحليل السياقات الثقافية، ودراسة الذاكرة الجماعية، والرمزية وتقدم رؤية شاملة لكيفية تداخل الزمن المقدس مع الأحداث التاريخية، مما يُعزز من الفهم الإنساني وتفسير التجارب.

الميتافيزيقيا والزمن المقدس

تعتبر الميتافيزيقيا لحظة دائمة التكرار في الزمن المقدس من عدة جوانب روحية، في العديد من الثقافات، يُنظر إلى الزمن المقدس على أنه يعود بشكل دوري، مما يُعطي للأحداث الروحية معنى دائمًا، هذه الدورة تعكس مفاهيم الميتافيزيقيا حول الوجود والتجربة الروحية، الطقوس المرتبطة بالزمن المقدس تُعتبر فرصًا للتأمل والتجديد الروحي رغم ثباتها، كل مرة تُمارَس فيها هذه الطقوس، يُمكن اعتبارها لحظة ميتافيزيقية تُعيد الأفراد إلى جوهرهم الروحي، الزمن المقدس يُعبر عن الوجود كحالة متكررة، حيث تتداخل الأبعاد الروحية مع الزمن، مما يُعطي معنى لتجارب الحياة، يُعتبر الزمن المقدس فرصة للوصول إلى اللحظة الأبدية أو اللحظة الحقيقية، حيث يمكن للأفراد تجاوز حدود الزمن المادي والشعور بالوحدة مع الكون، اللحظات الميتافيزيقية التي تُمارَس في الزمن المقدس يجعلها دائمة التكرار في الوعي الجماعي، لذا يمكن اعتبار الميتافيزيقيا لحظة وجودية دائمة التكرار في الزمن المقدس، هذه اللحظة تُعيد الأفراد إلى جوهرهم الروحي وتُعتبر فرصة للتأمل والتجديد، مما يجعلها جزءًا أساسيًا من تجربة إنسانية محددة عبر زمن المجمعات الاثنية.

مفهوم الخلود والزمن المقدس

تتفاعل اللحظات المتكررة في الزمن المقدس مع مفهوم الخلود بطرق متعددة. في العديد من الثقافات، يُفهم الخلود على أنه دورة مستمرة من الحياة والموت، حيث تُعتبر اللحظات المقدسة جزءًا من هذه الدورة. كل تجربة روحية هي لحظة من الوعي بالوجود، هذه الدورة والطقوس التي تُمارَس خلال الزمن المقدس تُعتبر فرصًة لاتصال المتناهي باللامتناهي . كل مرة تُمارَس فيها الطقوس، يتم تذكير الأفراد بالمعاني الأبدية والروحية للأفراد، مما يُعزز من الوعي بالخلود، اللحظات الروحية التي تُعتبر دائمة التكرار رغم انها لا تُتيح الفرصة للتأمل في الوجود لكنها تؤدي إلى فهم سطحي لمفهوم الخلود من خلال تجاوز الزمن المادي بالانتشاء، في وعي الأبدية، لكنها من ناحية وجودية ايهام مظلل اذ لا يستطيع الباحث عن الخلود تذوق الشهوة الحقيقية بتجريبية أمبريقية حقيقية وجعل الوجود صاعدا نحو الأسمى لذلك تتأجج صحوة ثقافية في الحضور ولا يجد الانسان أي أنماط ملموسة تغير اليات اشتغال الجوهر، لكنها تعطي معنى مشابه للخلود الثقافي، حيث تُعتبر القيم والمعتقدات جزءًا من الوجود المستمر تتفاعل من خلال اللحظات المتكررة في الزمن المقدس او في غيره مع مفهوم الخلود الثقافي وتعزز الوعي بالدورات الحياتية والفقدان وفي تكرار الطقوس وتجارب الأفراد. هذه التفاعلات تُعزز من الفهم الثقافي للوجود وتُساهم في بناء هوية روحية جماعية، مما لا يمنح معنى خاصا للخلود في سياقات ثقافية وهمية ويعزز من تألق الاسطورة.

مفاهيم الزمن المقدس عبر الثقافات

تختلف مفاهيم الزمن المقدس عبر الثقافات بناءً على المعتقدات الدينية، القيم الاجتماعية، والتقاليد التاريخية. كل ثقافة تقدم فهمًا فريدًا للزمن المقدس وكيفية تجسيده في الطقوس، مما يعكس تعقيد التجربة الإنسانية وعلاقتها بالزمان تتداخل العلاقة بين الزمن المقدس وتداعيات الوعي في السرديات التاريخية بشكل معقد وتعيد تفسير التاريخ. عند دراسة الوعي المكاني، وتأثير التجربة الفردية، يُمكن أن يتشكل وعي متقدم حول المعاني الروحية والأخلاقية في التاريخ، ويمكن أن تؤدي هذه المفاهيم الى تجاوز الزمن الخطي وتؤدي إلى تغييرات جذرية في فهم ماهية التاريخ، مما يفتح المجال أمام تفسيرات أكثر تعقيدًا للأحداث. هذه التأملات تدعو إلى إعادة تقييم السرديات التاريخية وفهمها في سياقات جديدة لتجاوز الالتباس.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي   

بعدما جعلت الماركسية من الميراث المادي الهيجلي، فلسفة مثالية ابتذالية في تفسير المادة والتاريخ، وبعد ان اعتمدها ماركس بمنهج مادي جدلي مغاير محسن، اطلق مقولته الشهيرة بانه – ماركس – اوقف التفسير المثالي الهيجلي للتاريخ على قدميه بعد ان كان اوقفه (هيجل) مقلوبا على راسه. مختتما ماركس وصف (هيجل) بعبارة لاذعة، اوردها المفكر المجري جورج لوكاتش في فصل الكتاب الذي نعرض فيه الافكار: (ان تنبيه ماركس كي لانعتبر (هيجل) كلبا فاطسا، ظل حرفا ميتا للكثير من الماركسيين المخلصين)(1)، بهذه العبارة القاسية نعت ماركس الفيلسوف الذي انار له الطريق لاول مرة في التاريخ الفلسفي في تفسيره المادة والتاريخ ماديا جدليا، وساعد هيجل بمهمته الفلسفية الرائدة الخصبة ما اطلق على تسميتهم الشبان الالمان الهيجليين من ابرزهم فويرباخ، الذي لم يخلص هو الاخر من شتائم ماركس.

يمكننا ان نقرر منذ الان وهو ما سيتوضح معنا لاحقا بأن التوسير وما صدر عنه من افكار فلسفية واراء، اعتمدناها من كتاب محمد علي الكبسي/ قراءات في الفكر الفلسفي المعاصر/ الفصل الأول: التوسير ومنطق الاختلاف. متعكزاً مسندا ظهره في الهجوم على مثالية (هيجل) المدانة مع فيلسوفها منذ قرنين تقريبا، مقدما قدما، مرجعا اخرى في الوثوب على كتاب راس المال الذي وصفه (ان راس المال لم يعد شيئا منتجا، بل حاملا لمفعولات العلاقات باعتباره بنية، فهو ابعد من ان يشير إلى الواقع لانه منتج للواقع من خلال قوانينه)(2).

لابد من التنبيه بان مصطلح (بنية) لدى التوسير يعني حامل العلاقات المنفرزة عن واقع معين، أو فاعلية معينة، وليست (البنية) كما نتداولها في ادبيات ثقافاتنا انها تموضع اجتماعي في الواقع، فمرة (البنية) عنده تمثل علاقات الانتاج وفي ثانية كما مر بنا هي مرادف (كتاب راس المال)، وهكذا....

التوسير ليس الوحيد الذي يعتبر فلسفة (هيجل) ابتذالية، وانه كلب ميت، وفخ يتوجب مجاوزته كما ورد في الكتاب على لسانه ص24، في هجومه الاستهدافي اللاذع على فلسفتي هيجل وماركس، والتشنيع بهما، كانت تلك اداته التي اعتمدها في محاولته كسر العمود الفقري للفلسفة الماركسية في ارثها المتبقي كتاب راس المال، والمادية التاريخية. وفي مسعاه هذا اراد ان يبني التوسير لنفسه فلسفة نظرية تعتمد اللحظة العلمية فوقع في مطب الابتذالية هو الاخر، فهو اراد اقامتها على تصفية جدل (هيجل) ومصادرة ارثه الثقافي في التفسير المادي للتاريخ، طالما سبق وان اعطى ماركس الضوء الاخضر لمن يأتي بعده، وينعت هيجل بالكلب الفاطس، كما فعل هو من قبل، وحرف ساقط لدى الماركسيين المخلصين!!.

التوسير كما يذهب المفكر محمد عابد الجابري اعتمد تطبيق (البنيوية) والاستعانة بعلم اللسانيات المعاصر، والانتروبولوجيا البنيوية في كتابيه (مفهوم القراءة )، و(القراءة الجديدة) في دراسة الارث الماركسي الفلسفي والايدولوجي، وهي دعوات – حسب الجابري – لايمكن ان تؤدي الا الى طرق مسدودة، الا الى تكريس الانحطاط والجمود بدعوى اخضاع المتغيرات الى الثوابت التي تحكمها، وذلك لان البنيوية باهتمامها بالكل اكثر من الاجزاء، وبنظرتها الى الاجزاء في اطار الكل الذي تنتمي اليه ضرورية لاكتساب رؤيا اشمل واعمق، لا تكفي وحدها، ويؤكد الجابري انه لا بد من المزاوجة بين البنيوية وبين النظرة التاريخية التي تتبع الصيرورة وتعمل جاهدة على ربطها بالواقع لاكتشاف العوامل الفاعلة فيها الموجهة لها .(3)

اعتبر التوسير: (هيجل حّول المادية التاريخة إلى نظرية لا انسانوية ولا تاريخانية)(4) معتمدا تعبيرا غير موفق ولا متطابق مع سياق تفكيره لماركس قال فيه: (الغاية النهائية لكتابي هذا رأس المال، انما هو الكشف عن القانون الاقتصادي لحركة المجتمع) (5) وفعلا هذا ماحققه ماركس، فما علاقة (هيجل) بذلك!؟ والمادية التاريخية!؟.التي نزع عنها التوسير تاريخيتها وانسانيتها .

السؤال الذي يفرض نفسه، هل بامكان ماركس الاتيان بقانون اقتصادي يكشف به حركة المجتمع، يأتي به من فراغ انساني/ تاريخي، كما يرغب مقاس التوسير وذوقه!! فالتوسير لايعترف بواقع عيني بدليل قوله: (اذا كانت البنية هي الثابت الوحيد القابل للمعرفة باعتبارها علاقات انتاج، واذا كانت لاتتكون الا خارج كل صلة مباشرة مع العيني، فهي اذن ليست ترجمانا للواقع بل انتاجا يتحدد فقط من خلال التصورات والمناهج) (6) ويقول ايضا: (فالواقع ليس موجودا بل يتحول إلى موجود، والعملية الحقيقية، تتمثل في الممارسة النظرية، وهذا يعني ان هذه الاخيرة تعني تطورا لمجمل تاريخ المعارف، هذا التطور لا نبلغه الا بالابتعاد عن الزوج (راس المال/ تناقض) لان التناقض يجب فهمه نظريا على انه فعالية واسلوب تتمظهر فيه البنية ومن هنا جاءت ضرورة مصادرة الارث الهيجلي)(7). ايهما اكثر مثالية ابتذالية التوسير صاحب العبارات الجوفاء المار ذكرها بين قوسين، ام مثالية هيجل في التفسير المادي للتاريخ!!؟ من المعلوم لابسط مثقف ان القوانين الاقتصادية في راس المال الذي ينكره التوسير مزاوجاً معه بالرفض ديالكتيك هيجل، ان ماركس توّصل لها من خلال ابحاثه الفلسفية ووقوفه سنين طويلة على دراسات معمقة موسوعية في الانثروبولوجيا، الاقتصاد، الاجتماع، الفلسفة، الادب، وكان نتيجتها ان بسطت امامه التطور الديالكتيكي البشري منذ العصور الحجرية وصولا إلى العصور الرأسمالية والامبريالية. واذا كان ماركس راى في المادية التاريخية لهيجل لا انسانيتها ولا تاريخيتها، فلماذا اعتمدها ماركس في منهجه المادي واوقفها على قدميها بدلا من راسها!؟ وافاد منها كثيراً... ام ترى ان التوسير اكتشف ان ماركس في كتابه راس المال كان يدرس تطور التاريخ البدائي للحيوان مستفيدا من نظرية النشوء والارتقاء لداروين، بدءا من العصور الحجرية وانتهاءا باقفاص حدائق الحيوان في المدن !؟ كي يستنبط قانونا اقتصاديا للبشر وليس للحيوان!؟. محاولة التوسير بناء مثالية فلسفية هّشة، مستفيدا من الهراء الفلسفي الغربي يلصقه بالماركسية على اعتبار انها عاشت قرونا عديدة في وهم الايدولوجيا، والتقسيم الطبقي المتناقض للمجتمع. كل الدلائل الواقعية التي تعيشها شعوب الارض اليوم تشير الى حقيقة التقسيم الطبقي المتناقض بين الاغنياء والفقراء في المجتمعات عالميا، وفي ضرورة وضع حلول معالجته عالميا.

ينسب د. محمد علي الكبسي معد فصل التوسير ومنطق الاختلاف عبارات الاطراء التي تقول: (رأى التوسير في كتاب راس المال مالم يره غيره – هكذا – وهو انه ليس افراداً متعينين، بل علاقات انتاج تتمظهر في شكل بنية وهذه الاخيرة هي الفعلة الحقيقيون في التحولات الاجتماعية)(8).

الملاحظ الغريب ان يصطدم القارئ مباشرة بتساؤل مشروع، هو كيف يتسنى امكانية فصل علاقات الانتاج (كحامل) متمظهر لبنية طبقية مفروزة عن المجتمع، ؟! اشرنا سابقا بان مفهوم البنية الاجتماعية أو الطبقية لدى التوسير لاوجود حقيقي لها، فجميع هذه المفاهيم ودلالاتها لدى التوسير (محمولات) نظرية لا اكثر يمكن ان نجدها في علوم المعرفة الحديثة. كما ان التوسير يتجنب بشدة ربط أي (بنية) التي هي مجرد (علاقات فقط في فلسفته) بالواقع وعلاقتها بشبكة العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، السائدة في مجتمع ما. فهو يعتبر البنية لاي مدلول واقعي، يتحول إلى علاقات نظرية، وهي الحقائق والمحمولات التي يجب دراستها بمنظومة مفهومية. بتأكيده على (اللحظة العلمية)... كيف يتحقق ذلك، هناك في فلسفة التوسير الجواب!!؟.

كيف يمكننا السير مع نظرية التوسير بوجوب اعتبار (البنية) التي هي في تصديه لكتاب رأس المال، والمادية التاريخية، هي علاقات الانتاج فقط!! وهي وحدها تقوم بخلق راس المال، متجنبا الاشارة لقوى الانتاج وملكية وسائل الانتاج، وسخريته من التناقض في الطبقة والمادة، وينكر أي وحدة ترابط للبنية مع الواقع العيني للمجتمع. كما اشرنا سابقا، التوسير يتعامل مع (البنية) كحامل علاقات يعاملها نظريا ومفهوميا، بضوء معطيات تطور علوم المعرفة، لذا فهو يسخر من التحليل المادي الجدلي. معتبرا اياه من مخلفات الوهم الايديولوجي ولايمكننا ان نجني جديدا من فلسفة التطور الابتذالي الهيجلي والماركسي، مثل قانون نفي النفي، وحدة وتناقض الاضداد في خلق الظاهرة المستحدثة... طبيعي القول التوسير من خلال ارائه الفلسفية لايتطرق للتقسيم الطبقي المادي للمجتمع ويتحاشاه بلغة فلسفية مثالية صرف. كما يتحاشى جدل العلاقة بين البنية التحتانية – بحسب المفهوم المادي الجدلي – للمجتمع مع البنية الفوقانية المفروزة عنها المتواشجة معها ودلالاتها مثل الوعي الفكري، الدين، الايديولوجيا، الثقافة، الادب، الفنون، فمثل هذا التصنيف الميكانيكي اصبح ارثا قديما، الغى الخصوبة التي تحتويها الفلسفة الماركسية على حد زعمه، وهذا التقسيم، غير حقيقي ولا وجود (عيني) له، ولا معنى له بوجود (بنية) التوسرية، هي حوامل نظرية تعوض عن كل ذلك. يؤكد التوسير على لسان المؤلف الكبسي: (ان هدفه – التوسير – تخريج الانتاج النظري في جعل المادية التاريخية، ممارسة نظرية – هكذا – في تاريخ انتاج الممارسات النظرية، وذلك عن طريق تحويل مواضيع المادية التاريخية وفصلها عن جدل الواقع العياني، وتحويلها من مجرد مواضيع عاكسة للواقع إلى تصورات تنفصل عن الواقع لانها تحولت إلى منظومة مفهومية)(9).

واضح اكثر من السابق منهجية التوسير الفلسفية المثالية، في تأكيدها التعامل المعرفي النظري، واسقاط علوم المعرفة الحديثة على موضوعات المادية التاريخية، وفصلها عن جدل الواقع والتاريخ، فقد اصبحت من وجهة نظره الفلسفية مفهومات كلاسيكية مبتذلة، تمثل فقط مجموعة من المعارف القاموسية، لانها جميعها من امراض اوهام اخطاء الايدلوجيا كما اسلفنا، واتحفنا به .

يؤكد التوسير ايضا: (اما الافراد والبشر الواقعيون وكل فعالياتهم، ليسوا سوى مشكلة زائفة تسربت من الارث الهيجلي، وهكذا يتأكد ان (البنية) وحدها تتمكن من العودة إلى (الكلية) بصيغة علمية) (10). فقط البنية التي هي عند التوسير، كما اشرنا سابقا هي علاقات الانتاج، وهي حامل فعالية مستقلة في منهجه وهي كما قال وذكرناه البنية هي الثابت الوحيد القابل للمعرفة باعتبارها علاقات انتاج. ويجهر المؤلف اكثر بهذه الطروحات حين يؤكد: (ان الشكل الأول لفعالية التوسير يتجسد في كونه يريد رفع محتوى الصراع الطبقي إلى المستوى النظري، فالمقصود لديه يتمثل في قطع كل تعامل مألوف وحسي مع نصوص ماركس من خلال انتظام عملي، يدحض اكبر قدر ممكن من المادية التاريخية، سلسلة المفاهيم الهيجلية، لا لكونها لاتكفي، بل لكونها توقعنا في الخطأ)(11).

التوسير في مواربة بائنة يريد استبدال ورفع محتوى الصراع الطبقي من الواقع الاجتماعي إلى مستوى الفلسفة النظرية، المعرفية التجريدية، المعزولة عن المتعارف والسائد والمألوف، وطبيعي هذه الرغبة لا تتاح لألتوسير ولا تتحقق من غير الاجهاز على سلسلة المفاهيم الهيجلية، في الحركة، والجدل، والتناقض، وحدة الاضداد وتطورها. يريد التوسير جعل كل هذه السلسلة وغيرها افكارا معرفية نظرية مجردة غير تطبيقية. لو جاز لنا التعبير عن المفاهيم الانسانية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها على وفق منطوق رياضي تجريدي، فهذا ايضا موصول بالواقع غير مقطوع ومنفصل عنه، ولاثبات صحة اية معادلة في مجال علوم الطبيعة في الفيزياء أو الكيمياء مثلا، يلزمنا العودة إلى مختبر التجريب العلمي. فكيف الحال ونحن نتعامل مع افكار ومفاهيم وقوانين ومعطيات ونظريات كلها تدخل في الحقل الانساني للمجتمع في مجمل مناحي حياته. بشر تسودهم علاقات وضوابط اجتماعية وسلوكية وقوانين تنظيم الحياة، كلها مجتمعة مع غيرها مسرحها الواقع الميداني الحقيقي لوجود الناس .

يبني التوسير على ما مر ذكره، تجريديته الفلسفية المثالية في ما نصه على الصفحة نفسها المذكور في الاقتباس السابق بين قوسين منها قائلا: (الاهمية هي ان تصبح حقيقة اسبقية العلاقة على الكينونة، هذه الاسبقية كان قررها ماركس في اطروحته السادسة حول (فويرباخ) حيث كان قد قال ماركس: (ان الفرد هو جملة علاقاته الاجتماعية ... من هنا يكون واضحا القول ان الطريقة الجديدة لقراءة راس المال تكمن في تسطير الحد الفاصل بغية استبدال موضوعات نظرية المعرفة المتعلقة بالبشر، بموضوعات تهتم بالعلاقات التي يظهرون عليها لان الفاعل الرئيسي والوحيد ليس سوى علاقات الانتاج فهي المولدة لرأس المال وليس التناقض أو تطور التناقض)(12) من هذه العبارات المارة الذكر نود تثبيت:

- الفرد هو جملة علاقاته الاجتماعية، بضمنها بالتأكيد العلاقات الاقتصادية والثقافية وغيرها، وهي عبارة صحيحة سليمة لماركس، اراد التوسير توظيفها في صالح افكاره فأخطأ الاختيار. ماركس لم يقل العلاقات الاجتماعية تسبق الكينونة او الوجود.فالوجود سابق على العلاقات الاجتماعية ومنتج لها.

- لا وجود لعلاقات اجتماعية بدون مجتمع بشري، ولا يمكن الفصل بينهما ولا احلال احدهما محل الاخرى، او عوضا عن الاخرى في تناوب وظيفة استبدالية نظريا، معزولة عن الحياة المادية الواقعية لمجتمع بشري.

- يفهم التوسير ان علاقات الانتاج وحدها فقط هي المولدة لراس المال، وليس التناقض الطبقي، أو تطور هذا التناقض على حد ماورد في عبارته، وفي هذا يرغب التوسير الغاء جدل وحدة الشغيلة الاجتماعية مع علاقات الانتاج وملكية وسائل الانتاج وناتج راس المال، وفي هذا التجزيء الالغائي تنتفي الطموحات الاقتصادية الطبقية المشروعة لأمم وشعوب تكافح من اجل حياة افضل.

- يلغي التوسير ابجدية الجدل الديالكتيكي الهيجلي، وما بني عليه ماركسيا معتبر ان ما بني على خطأ، هو الاخر خطأ ايضا. والعكس المثبوت تاريخيا فلسفيا، هو العكس الصحيح فأن ما انجزه ماركس في فلسفته ماديا، لم يكن ليرى النور لولا اسهامات (هيجل) المثالية، التي اعتمدها ماركس بمنهج مادي محسن.

- معلوم لأي من قرأ شيئا بسيطا عن الفلسفة الماركسية، انه وجد فيها وفي ادبياتها المنوعة الكثيرة مسلمات قوانين طبيعية علمية، فهي تعمل في جدل علاقة الانسان والطبيعة باستقلالية عن ارادة الانسان، ويجد الانسان بعد اكتشافها وتسخيرها لصالحه انه من الصعوبة بمكان فرض دحضها والغائها والعبث بمعطياتها الانسانية التقدمية في مجرد افكار فلسفية صرف لاتعطي بديلا تطبيقياً مقبولا عنها.

- التوسير يريد بكل بساطة الغاء الصراع الطبقي من المجتمعات في العالم فهو لا يقرها، ويعتبر ان علاقات الانتاج، كمحمول نظري هي مولدة رأس المال وهو (بنية) تعويضية لكل مفردات المادية التاريخية يتوجب الاهتمام بها وحدها فقط، بضوء تطورات علم المعرفة.

- واذا نحن جارينا التوسير في تخريجاته المستمرة احداها قوله: علاقات الانتاج تسبق الكينونة. هل يصبح من الممكن الغاء حقيقة ان علاقات الانتاج هي جزء من وجود بشري فاعل سابق عليها، مفروزة عنه، متأثرة ومؤثرة فيه، ببساطة هي كينونة مجتمع انساني طبقي. العلاقات الانتاجية جزء عضوي منه، وتكون وحدة عضوية مع ملكية وسائل الانتاج ومن الرأس المال وبدون هذا التكوين العضوي فلا يوجد علاقات انتاج (بنية).

- من حق التوسير الاجتهاد لبناء فلسفي مثالي ابتذالي، لاينقص ولا يضيف للهيجلية ولا للماركسية اللتين يدينهما، ولم يسعفه تفكيره التوسل السليم بمقولة ماركس الفرد هو مجمل علاقاته الاجتماعية، ليس معقولا ان التوسير لم يلحظ ان ماركس لم يخلط مثله بين علاقات الانتاج التي هي كل شيء عند التوسير وبين العلاقات الاجتماعية التي قصدها ماركس، اذ تدخل علاقات الانتاج جزء عضوي من العلاقات الاجتماعية التي هي حصيلة وضع الفرد اقتصاديا، ثقافيا، سلوكيا، علميا....الخ، كذلك من غير المرجح ان ماركس في مقولته تلك واستعملها التوسير عكازا بيده، ان تصلح استشهادا في سياق حديث التوسير بان العلاقات الانتاجية تسبق الكينونة، وكأنما اراد ان يقول بان ماركس اعتبر العلاقات الاجتماعية تسبق الكينونة فلماذا لاتكون علاقات الانتاج الجزء منها تسبق الكينونة؟ وهو مالم يحصل، ولم يقله ماركس.

وان استشهاد التوسير بعبارة ماركس في تخطئته لفويرباخ زلة فكر فلسفية لاتدين فويرباخ بل التوسير ومن قبله ماركس الذي ربما ناقض نفسه بابجدية مادية. وكلمات التوسير في ابطاله قانون جدل الاشياء والمفاهيم والعلاقات، وتطور التناقض، مختزلا كل تلك الفلسفة، بان علاقات الانتاج هي مولدة راس المال!! محاولة غير سليمة لنسق جدلية التطور المادي التاريخي، وهي قوانين اثبت تاريخ البشرية التطوري الطويل انها لا تسلم نفسها بسهولة، بعد اكتشافها وتفعيلها، في صالح مسيرة التقدم للانسان، ان يعبث بها الانسان بارادته ورغباته، كما لاتستطيع ارادات البشر بسهولة النجاح في مجاوزتها والغائها دونما دفع ثمن فادح وخسارة تصيب امما وشعوبا تشق طريقها نحو بناء مستقبل افضل تسوده الحرية والمساواة وتقليص فجوات التفاوت في مستوى المعيشة بين دول الشمال ودول الجنوب. القوانين التطورية التي يحاول التوسير الغائها من قاموس تاريخ البشرية، لها الباع الاطول والقدرة الاكبر على الاستمرار والبقاء كقوانين ضرورية لتلبية طموحات امم وشعوب ليست مثل فرنسا والولايات المتحدة ودول اوربا اليوم. فارادة الانسان المقهور البائس الفقير حلم عبر قرون طويلة وحلم اليوم وسيبقى يركض وراء حلمه المتحقق منه والذي لم يتحقق.

كما يرى معد فصل التوسير محمد علي الكبسي الذي كان سروره بلا حدود في تسويق افكار التوسير على صفحات كتابه فهو ينقل عبارات المفكر قوله: (ان المساهمة الالتوسرية لانقاذ الخطاب الماركسي من الابتذال والفجاجة، والبعدية، عن التسطيح والكليانية هو في ابراز الخطوط الخفية التي تحرك الصراع على المستوى (النظري) التي تمثل استنطاقا لمشروع ماركس الذي لم ينهه، في انشاء ماوراء الخطاب حيث يتحول الصمت إلى كلام أو بالاحرى يصبح صمتا متكلماً)(13).

اذن اصبح الصراع الطبقي الذي لايقربه التوسير، اسبقيته واهميته (نظريا)، فقط مقتلعا من ارضية الواقع الاجتماعي الاقتصادي السياسي، وكي ينقذ الخطاب الماركسي من الابتذال والفجاجة نستعين بلغة الصمت المتكلم من خلف الكواليس النظرية، ليتحقق ابتذال مفهوم التناقض على الورق وسطور الفلسفة والنظريات التي تنطلق من ابراج عاجية تحرث في بحار بعيدة جداً عن احلام المسحوقين وبؤساء الارض، وغياب الارادات الانسانية الفاعلة الناشدة للتغيير في غد افضل لم يعد بعد اليوم حسب فلسفة التوسير صراع واضح أو خفي بين من يملكون كل شيء ومن لايملكون شيئاً. لذا فان مشروع ماركس لم ينته ولم يكتمل أو يتجدد الا بعد ان نقلب الصمت ونجعله متكلما، وبعد ان نمسك بالخيوط الخفية للتناقض مع الاعتزاز بمقولة عالم اللغات (فنغشتاين) "ما لايمكن توصيله باللغة يمكن توصيله بالصمت".

كلما تقعرت لغة الفلسفة خارج حدود العقلاني المدرك، وساحت تهويماتها في متاهات البحث عن ملاذها الاخير، لاتجدها الا لغة معلقة بين الارض والسماء، وحيثما اصبحت طلاسمها النظرية العصية على التلقي والتوظيف قطع خشب انقاذ يتعلق بها الفيلسوف الغارق وسط امواج الهراء الفلسفي المتلاطمة، الذي لايقدم ولا يؤخر ولا دور حقيقي جاد له في معالجة معضلات العصر بوسائل علمية وحلول حيوية انسانية تعايش هموم العالم بمسؤولية وامانة، يبقى حاضر

في مقابلة مع التوسير اجرتها معه(فيرناندا نافارو) مكسيكية استاذة فلسفة، سالته عن اسباب هجومه الكاسح والفوضوي على الارث الماركس والمادية الجدلية، وهل لا يزال حقا يعتبر وصف

رايموند اردن له بان ما جاء به في جميع مؤلفاته عن الماركسية، انه سعى لانشاء (ماركسية خيالية !!) اجاب التوسير ان رايموند لم يكن مخطئا بذلك التوصيف .

***

علي محمد اليوسف/الموصل

..............................

المصادر والهوامش:

1- محمد علي الكبسي، كتاب قراءات في الفكر الفلسفي المعاصر، دار الفرقد، سوريا، الفصل الأول: التوسير ومنطق الاختلاف، ص20، نقلا عن التوسير .

L. Althusser: Ibid Tom lp، 12.13.21.22.

2- نقلا عن كتاب الكبسي، نقلا عن التوسير

L. Althusser: Ibid Tom lp، 170.

3- نقلا عن د. محمد الشيخ/ محمد عابد الجابري /مسارات مفكر عربي/ مركز دراسات الوحدة العربية/ 2011 ص 18 .

4-عن المصدر السابق، عن كتاب راس المال، مج1، ترجمة محمد عتياني، بيروت، 1982، ص7.

5-عن المصدر السابق، عن كتاب انجلز وفوير باخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الالمانية، دار التقدم، تونس، ترجمة محمد العربي، ص104.

6- نقلا عن كتاب الكبسي، عن التوسير.

L. Althusser: Ibid Tom lp، 236

7- نقلا عن الكبسي، مصدر سابق، عن التوسير.

L. Althusser: Ibid Tom lp، 12.13.21.22.

8- عن كتاب الكبسي، عن كتاب انجلز وفويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الالمانية، مصدر سابق، ذات الصفحة.

9- عن كتاب الكبسي، عن نفس المصدر السابق، ذات الصفحة.

10-     عن كتاب الكبسي، نقلا عن التوسير.

L. Althusser: Ibid Tom lp، 209.

11-     عن كتاب الكبسي، نقلا عن التوسير.

L. Althusser: lvid p10.12.

12-     نفس المصدر السابق، الصفحات ذاتها.

13-     عن كتاب الكبسي، عن التوسير.

L. Althusser: Lire le Capital Tom، p75.

يصف أحد الباحثين، نقلاً عن أحد المؤرخين الغربين، القرن العشرين بـ الطويل، كونه قد شهد حربين كونيتين مدمرتين، وشهد أيضاً أهم الانقلابات الفكرية في الفن والعلم، ونالت الفلسفة فيه أيضاً نصيبها، إذ أتت فلسفة اللغة التي عدت ثورة البحث عن المعنى. وبالتالي توجهت الفلسفة في القرن العشرين نحو اللغة، بل أصبحت فلسفة لغوية. ويشير (عبد الرحمن بدوي) إلى إن أكثر مجالات الدراسة في العلوم الإنسانية نشاطاً في هذه الأعوام الأخيرة علم اللسان العام.

وتعد فلسفة اللغة من الموضوعات الأساسية والمهمة في العصر الحديث، وإلى جانب أهميتها في حقول المعرفة المعاصرة، فلها جانب آخر يترتب على تناولها لأهم انجازات الجنس البشري، أقصد اللغة ذاتها. حيث تعد اللغة من أعظم منجزات الجنس البشري، لأنها تمس فروعاً مختلفة من المعرفة، وتؤدي طوائف عديدة من الأغراض، فهي عمل فسيولوجي لأنها تدفع عدداً من أعضاء الجسم إلى العمل، وهي فعل إنساني لأنها تتطلب نشاطاً إرادياً من العقل، وهي ظاهرة اجتماعية لأنها وسيلة اتصال بين البشر، وهي أخيراً حقيقة تاريخية ثابتة من عصور متباعدة في القدم. واللغة بمثابة البعد الحقيقي الذي تتحرك فيه الحياة الإنسانية، فحيثما تكن اللغة فثمة تجد الإنسانية. فاللغة وجدت بين الناس وللناس، والمجتمع البشري وجوده محال بدونها، فنحن نراها في كل مجتمع، وتستعمل في كل مجال، ولا غنى عنها كوسيلة اتصال أساسية. أو كما يقول بدوي بأنها سبيل الاتصال بين الذوات الوجودية.

ويجب أن نفرق في البدء ما بين اللغة وفلسفة اللغة، فتعرف اللغة على أنها نسق من الإشارات والرموز، تشكل أداة في المعرفة، وفي حفظ واستعادة منتجات الثقافة الروحية والبشرية. ويعرف ابن جني اللغة على أنها أصوات يعبر كل قوم عن أغراضهم. أما فلسفة اللغة، فهي لا تهتم باللغة بشكل رئيسي، بل إنها حديث فلسفي عن اللغة، أو تفلسف حول اللغة. فضلاً عن ذلك يجب أن نفرق ما بين فلسفة اللغة والفلسفة اللغوية، إذ أن الفلسفة اللغوية تكون مرادفة لمصطلح التحليل اللغوي، ولا تقدم سوى منهج لحل مشكلات فلسفية تواجه اللغة العادية، في حين إن فلسفة اللغة تمثل محاولة لتقديم وصف فلسفي لملامح عامة في اللغة من قبيل الإشارة والمعنى والصدق... إلخ. مضافاً إلى أن الفلسفة اللغوية تدرس الميزات العامة لبنية اللغات طبيعياً، وتاريخياً، والذي يسمى بـ (الفيلولوجيا)، من هنا تعالج فلسفة اللغة مسائل تعد كلية بالنسبة إلى جميع اللغات في حين أن علم اللغة يختص بلغة دون أخرى، ومن ثم ففلسفة اللغة تمثل حديث فلسفي عن اللغة وليست دراسة اللغة.

ويطرح (أريك غريلو) مستويين لفهم فلسفة اللغة، أحدهما بالمعنى الواسع ولآخر بالمعنى الضيق للمفهوم، أما المفهوم الواسع لفلسفة اللغة فيشير إلى كل فلسفة تعرضت في أثناء تطورها إلى مسألة اللغة وتناولتها بشكل منفصل، وبهذا المعنى تتحدد فلسفة اللغة مع أفلاطون... أما بالمعنى الضيق للمفهوم فيشير إلى تيار رئيسي في الفلسفة المعاصرة، مهيمن في العالم الأنجلوسكسوني. وإلى ذلك يذهب (الزواوي بغورة) حين يقرر وجود تعريفين لفلسفة اللغة، أحدهما تقليدي أو عام، والآخر حديث أو خاص، أما التعريف العام فهو الذي يرى في فلسفة اللغة مختلف الآراء التي قيلت في طبيعة اللغة، قبل ظهور الأبحاث اللسانية والمنطقية، والتأويلية، أو قبل ظهور الدراسات المنطقية والرياضية والدراسات الوضعية للغة. أما التعريف الآخر وهو الحديث أو الخاص فيشير إلى أنه لم تصبح اللغة موضوعاً مركزياً في الفلسفة الحديثة والمعاصرة إلا بعد تطورات أساسية أهمها ما حصل على مستوى دراسة اللغة كعلم وثانياً ظهور المنطق الرياضي والتحليلات المنطقية والرياضية والممارسات التأويلية الناجمة عن التفسير القديم.

وتذهب الدراسات الفلسفية اللغوية إلى أن اللغة أصبحت موضوع الفلسفة منذ نهاية الفلسفة الحديثة وبداية الفلسفة المعاصرة، وتحديداً منذ (فريدريك نيتشه) والمدرسة التحليلية الانجليزية وما تبعها من اتجاهات وتيارات في الفلسفة الانجلوسكسونية. وتعد اللغة في الفترة المعاصرة بؤرة التفلسف، أي أصبح التفلسف لعبة لغوية لكونها المنعرج الخطير الذي خلص الإنسان من الالتباسات الثيولوجية والتقنية لكونها المنقذ الوحيد للإنسان من تعسف الآلة. وهي مبحث فلسفي حديث، ظهر في بداية القرن العشرين، إلا أن هناك من يعتقد أن فلسفة اللغة قديمة قدم الفلسفة، وترجع إلى مختلف الآراء الفلسفية التي قيلت حول طبيعة اللغة وعلاقتها بالفكر والواقع والتي نقرؤها في نصوص أفلاطون وأرسطو والفارابي و ديكارت ولوك ونيتشه فتجنشتاين وغدامير... وغيره، وبهذا المعنى تعني: مختلف آراء الفلاسفة في اللغة.ولكن هذا الرأي يجعل من فلسفة اللغة عنواناً عائماً ومبثوثاً في جميع تاريخ الفلسفة، أي لا يمكن تناوله بالمعنى الخاص، بل لا يمكن أن يكون له موضوعاً مستقلاً عن المنظومات الفلسفية الأخرى، والأرجح أن فلسفة اللغة تبلورت –مع وجود إرهاصات لها- في مطلع القرن العشرين لتؤسس منظومة فلسفية ومعرفية مستقلة على يد التيارات الفكرية التي انبجست في مطلع القرن العشرين. وبرزت هذه التيارات في فجر القرن العشرين المنصرم من خلال انقلاب في النظر أطلق عليه (المنعطف اللغوي)، والذي كان مطلوباً منه المساهمة في التجديد العميق في مفهوم الفلسفة وفي ممارستها في آن معاً. وأول من استعمل عبارة (المنعطف اللغوي) هو الفيلسوف الوضعي الجديد (غوستاف برغمان) عام 1953م، ثم انتشرت العبارة وذاعت، عندما استعملها الفيلسوف الأمريكي (ريتشارد رورتي)، عنواناً لمجموع النصوص التي جمعها وكت لها مقدمة ونشرت عام 1967م.

ويذهب (أريك غريلو) إلى أن هناك ثلاثة شروط يجب أن تتوفر ليتحقق المنعطف المنشود، وهي:

الشرط الأول: أن يطرح سؤال اللغة والدلالة مجدداً على نحو جذري.

الشرط الثاني: أن يطرح في عبارات جديدة أو حسب متطلبات جديدة.

الشرط الثالث: أن يرتدي طابع الإلحاح المحض بحيث يحشد مفكرين من آفاق مختلفة حول المشكلة نفسها.

وهذه الشروط الثلاث، بحسب غريلو، اجتمعت في منعطف القرن العشرين، وفي أواخر القرن التاسع عشر وقعت سلسلة من التغيرات في حقل المعرفة، بشرت بإعادة تشكيله.

ويشير الباحثين إلى أن (كروتشه) أو من أسس لمصطلح فلسفة اللغة، وإلى هذا يذهب الزواوي بغورة حين يقول: وفي تقديرنا، فإن أول فيلسوف استعمل مصطلح فلسفة اللغة هو الفيلسوف الإيطالي كروتشه. مع ذلك فإن تراكم النقاشات حول مسألة اللغة جعل المعنى العام لها قلق ومتوتر نحتاج فيه إلى مساءلة جادة لتصبح بذاتها ولذاتها منعطفاً شديد الأهمية في الصيرورة الفلسفية انطلاقاً من التأثير الذي ضخته الفلسفة التحليلية. ولعله من المفارقة-كما يقول بغورة- أن يكون هذا الفيلسوف الهيغلي هو أول من طرح هذا المصطلح، إذا علمنا أن الفلسفة اللغوية كما أسسها مور ورسل فتجنشتاين كانت محاولة للقضاء على الفلسفة عموماً، والفلسفة الهيغلية على وجه الخصوص.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

هنا ملخص لواحدة من أبرز المحاولات لنقد العقيدة الدينية. يجادل الفيلسوف انتوني فلو(1) بانه اذا كان المتدينون لا يسمحون بأي شيء كدليل ضد ما يؤمنون به، عندئذ هم في الحقيقة لايؤمنون بأي شيء. هم لا يقدّمون ادّعاءات كاذبة، وانما هم لا يعرضون أي ادّعاء ابداً.

أنتوني فلو ومثل البستاني

بعض نقاد العقيدة الدينية يسعون لبيان ان العقيدة زائفة. الانتقاد الأكثر راديكالية هو ان عبارات مثل "الله موجود" تفشل في الزعم بأي شيء. التصريحات الدينية لا تصل حتى الى الادّعاء بان شيئا ما يمكن ان يكون صحيحا او خاطئا. احد أشهر الانتقادات من هذا النوع عرضه الفيلسوف البريطاني انتوني فلو. يوضح فلو موقفه من خلال استعارة وتبنّي مثالاً يعود لفيلسوف آخر هو جون وزدم John wisdom. صيغة فلو للمثل تسير على الشكل التالي:

افرض ان اثنين من المستكشفين يعثرون في غابة على منطقة خالية من الاعشاب والاشجار. هم ذُهلوا بالعدد الكبير من الزهور والأعشاب الخضراء المحيطة بتلك المساحة الخالية. المستكشف الاول يعتقد بانه يجب ان يكون هناك بستاني يعتني بتلك المساحة الخالية. لكن المستكشف الثاني مقتنع بعدم وجود بستاني هناك. لذا، لكي يريا أي منهما صحيح، هما يقرران اقامة معسكر في المساحة الخالية ويضعوها تحت المراقبة. هما لم يريا أي احد هناك. "يقول المستكشف الثاني، ألا ترى لا يوجد بستاني؟"، لكن المستكشف الاول يرد "لا تستعجل، ربما هو غير مرئي".

لذا، قام المستكشفان بوضع سياج من الأسلاك الكهربائية الشائكة حول المساحة الفارغة. هما ايضا قاما بدوريات حول المساحة ليلا ونهارا باستخدام كلاب الصيد. مع ذلك، لا توجد أية علامة لوجود زائر بستاني. هما لم يسمعا أحدا يصرخ من وراء السياج، لا نباح للكلاب، لا حركة او اهتزاز في السياج حتى بأدنى مقدار.

لازال المستكشف الاول مصرا على عقيدته: "هناك بستاني غير مرئي وغير محسوس. لم يتأثر بالصدمات الكهربائية، لايُطلق أي صوت، ولايترك أي أثر، وليس فيه أي رائحة يمكن ان تلتقطها الكلاب. انه يأتي سرا ليعتني بالحديقة التي يحبها".

أخيرا، يصبح المستكشف الثاني غاضبا ويقول: "لكن ماذا يبقى من ادّعائك الأصلي؟". "بماذا يختلف ما تسميه بالبستاني غير المرئي وغير الملموس والمراوغ الى الأبد عن البستاني الخيالي او الغير موجود ابداً ؟

يقترح فلو بانه اذا قام شخص ما وبشكل دائم بتجاهل وتقليل قيمة ما يُعد دليلا ضد عقيدته بحيث لا يُسمح في النهاية لأي شيء بدحضها، فلن تبقى أية عقيدة.

بالطبع، المستكشف الاول لايزال يعتقد انه ملتزم بحقيقة الادّعاء، لكنه مخطيء في هذا الأمر. وكما يذكر فلو " ربما المرء يبدد زعمه تماما بدون ملاحظة انه قام بذلك". اعتقد فلو ان معارضة مماثلة يمكن طرحها ضد اولئك الذين يقولون انهم يؤمنون بإله خيّر، لكنهم لايسمحون بأي شيء يدحض عقيدتهم. بالطبع هم ربما يقولون "الله خلق العالم"، "الله لديه خطة"، و "الله يحبنا". لكن طبقا لفلو، اذا كان هؤلاء المؤمنون غير مستعدين للسماح بأي شيء يُعد ضد ما يقولون، عندئذ في الحقيقة هم لايقدمون أي ادّعاء.

في الحقيقة، كان فلو حذرا. هو لم يلزم نفسه بالرؤية بان الناس المتدينين لا يسمحون بأي شيء يُعد ضد ما يؤمنون به. بدلا من ذلك، هو يقول انه عادة يبدو لغير المؤمنين ان لا وجود لحدث يمكن تصوره ان يقود المؤمن للاستنتاج بان لا وجود هناك لإله او انه غير محب. اذا كان هذا هو الموقف، يستنتج فلو، عندئذ هم حقا لايؤمنون بأي شيء ابدا.

كيف يمكن للمؤمن الديني ان يدافع عن ايمانه مهما كانت الظروف؟ اذا قيل ان المعاناة الهائلة التي نلاحظها في العالم دليلا ضد الإله المحب، يصر المؤمنون بان حب الله يتجاوز فهمنا البشري. في هذه الحالة، المعاناة التي نلاحظها ليست دليلا جيدا ضد الإله المحب. اذا كان، في كل مرة يُعرض عليهم الدليل ضد وجود الههم، وهم يراوغون و يتجنبون ذلك عبر تجاهل الدليل، او اللجوء الى طرق الله الاسطورية، عندئذ فان عقيدتهم تنتهي بالموت. يتوجه فلو بسؤال للمؤمن: "انا، لذلك أطرح السؤال المركزي البسيط، "ما الذي كان يجب ان يحدث او حدث ليشكل بالنسبة لك دحضا لمحبة الله او وجود الله؟" اذا كان الجواب "لاشيء يمكن ان يُبطل وجود الله" عندئذ " فان القول بـ "الله موجود" لم يعد يزعم بأي شيء".

يعرض فلو هذه الحجة في اجتماع يستلزم حضور اثنين آخرين بالاضافة له وهما، الفيلسوف هير والثيولوجي باسل ميتشل. النقاش نُشر بعنوان "الثيولوجيا والتكذيب: الندوة". دعونا ننظر الآن كيف يرد هير وميتشل على فلو.

هير R.M.Hare

يبدأ هير بالاعتراف ان فلو كان صائبا: التصريحات الدينية مثل "الله موجود" و "الله لديه خطة" يمكن جعلها غير قابلة للتكذيب من جانب المتدين، وكنتيجة لذلك تفشل في ادّعاء أي شيء. لكن ذلك لا يعني ان تلك التصريحات غير هامة.

طبقا لهير، هذه المتبنيات الدينية هي مواقف لا واعية bliks "عقيدة لا يمكن تكذيبها". العقيدة التي لا يمكن تكذيبها هي عقيدة يتمسك بها شخص ما ولا يسمح ابدا بدحضها مهما حدث. يوضح هير ذلك من خلال قصة تتضمن طالب جامعة مصاب بالجنون. هذا الطالب مقتنع ان جميع رفاقه في الكلية يريدون قتله. أصدقاء الطالب يحاولون إقناعه بانه مخطيء، ويحاولون إظهار انه من ألطف واكثر الطلاب احتراما. :" هم يقولون "هذا الطالب محبوب ورقيق، انت حتما تستطيع ان ترى الان انهم لايريدون قتلك؟" لكن الطالب يجيب "ذلك ليس الاّ خبث شيطاني. هم يحاولون الايقاع بي سرا، انا أعرف ذلك".

هذا الطالب لديه عقيدة لا يسمح بتكذيبها. أي دليل ضدها يتم التقليل من أهميته او رفضه. لكن مع ذلك تبقى عقيدته تلك هامة. في الحقيقة، انها تؤثر بعمق على حياة الطالب. يقترح هير ان العقيدة الدينية هي مماثلة لتلك – نعم، انها ربما لايمكن تكذيبها ولذا تفشل في الادّعاء بأي شيء. لكنها لاتزال تحظى باهتمام عميق ويمكنها التأثير جدا في حياتنا.

يرى هير ان عقيدة الطالب حول الطلاب الخطرين هي نوع من الجنون. لكن ليس كل عقيدة جنون. يصر هير اننا دائما لدينا عقائد راسخة. وان الاعتقاد بان كل رفاق الدراسة لا ينوون قتل للطالب هي ايضا عقيدة راسخة. طبقا لهير، انها عقيدة جنونية مختلفة عن جنون الطالب. المعتقدات الراسخة الاخرى تتضمن عقيدته الجنونية بان مقود سيارته سيستمر بالعمل بثقة، او عقيدة شخص مختل الذهن بان آلية الستيرن في السيارة لايمكن الوثوق بها وان عناصر الستيل ستنحني وتنكسر. مرة اخرى، هذه العقيدة الراسخة يمكن ان يكون لها تأثير هام على حياتنا (على سبيل المثال، اذا الشخص المختل يرفض ابدا الدخول الى السيارة، هو ربما يشعر بعدم ارتياح كبير).

لذا، باختصار، جواب هير لفلو هو لكي تعترف بانه اذا الشخص المتدين لا يسمح بأي شيء يبطل عبارة "الله موجود"، عندئذ بالنسبة له، عبارة "الله موجود" هي عقيدة راسخة: انها لا تدّعي شيء ابدا. لكن هير لايزال يصر ان التزام ذلك الشخص المتدين بعقيدته الراسخة لايزال مهما.

رد هك Hick على هير

الثيولوجي جون هك يثير معارضة مهمة لإقتراح هير بان الايمان الديني يستلزم عقيدة راسخة: هير لا يوفر اساسا للتمييز بين العقيدة المجنونة وغير المجنونة. بالطبع، اذا تمكنا من تزويد اساس جيد للاعتقاد بان رفاق الكلية غير مؤذين و ان عقيدة الطالب بمحاولة الرفاق قتله هي كاذبة، عندئذ نحن يمكننا بيان ان عقيدة الطالب هي سخيفة. لكن وفق رؤية هير، نحن لا نستطيع عمل ذلك. لأن هير يقبل بان عقيدة الطالب هي راسخة (لايمكن تكذيبها). لذا، بما اننا في موقع نقول فيه ان عقيدة الطالب هي سخيفة، يبدو ان هير يجب ان يكون مخطئا: عقيدة الطالب المجنون هي ليست لايمكن تكذيبها، وبالتالي ليست عقيدة راسخة.

باسل ميتشل Basil Mitchell

دعونا الان نعود الى المساهم الثالث في الندوة: الثيولوجي باسل ميتشيل. ميتشل يرفض انتقاد فلو للعقيدة الدينية. ليوضح موقفه، هو ايضا يحكي قصة. أحد المقاتلين من أفراد المقاومة يلتقي شخصا غريبا في مساء يوم ما. الاثنين يمضيان وقتا طويلا في المحادثة. الشخص الغريب يوضح بانه حقا القائد السري للمقاومة ويطلب من أنصار حزبه ان يكون لديهم ايمان به، رغم حقيقة ان الغريب ربما يبدو احيانا يتصرف كما لو كان حقا في جانب العدو. الشخص المقاتل معجب بشدة بالغريب ولديه ثقة عميقة فيه.

احيانا الغريب بدا كأنه يساعد المقاومة، والمقاتل يقول لرفاقه "انظروا، هو في جانبنا". احيانا هم يطلبون المساعدة من الغريب ويحصلون عليها. ولكن في أوقات اخرى هم يطلبون المساعدة لكن دون جدوى. في الحقيقة، الغريب يظهر مرتديا لباس العدو ويقوم بتسليم أعضاء المقاومة للقوات المحتلة.

لايزال، المقاتل يستمر بوضع ثقته في الغريب. رفاقه يسألونه، غاضبين، "ماذا يحتاج هذا الغريب عمله لإقناعك بانه ليس في جانبنا؟" المقاتل يرفض الجواب.

المقاتل سوف لن يقول ما سيقوم به لتكذيب عقيدته بان الغريب هو في جانبه. لكن، ميتشل يشير، ذلك لا يعني ان المقاتل ليس ملتزما بحقيقة الادّعاء. وفي الحقيقة، نظرا لإجتماعه الاول مع الغريب، الذي تركه مقتنعا بولاء الغريب، من المعقول للمقاتل الاستمرار بالثقة بالغريب رغم الخيانات الظاهرة.

الاخلاق التي يعرضها ميتشل من هذه القصة هي انه، وبشكل مشابه، فقط بسبب ان الفرد المتدين يستمر بالايمان في إله خيّر رغم الدليل المعاكس، ويرفض القول بما يقنعه بطريقة اخرى، لا يعني انه غير ملتزم بحقيقة الادّعاء. ولا حاجىة لتكون عقيدته بخيرية الله غير معقولة.

بالنسبة للعديد من المؤمنين الدينيين، العقيدة هي "مادة مهمة من الايمان" – شيء استثمروا فيه الكثير. هم سوف لن يتنازلوا عنه بسهولة. لكن، يقول ميتشل، ذلك لايعني القول هم سوف لن يتخلوا عنه ابدا بصرف النظر عن كمية الدليل المتراكم ضده. ميتشل يصف هذه المادة من الايمان اولاً هي، من جهة، مجرد "فرضية مؤقتة" نحن ربما نهملها بسرعة لو وُجد الدليل ضدها، ومن جهة اخرى، هناك ما يسميه ميتشل "صيغة فارغة" التي لا تزعم بشيء لأن لا شيء سوف يُسمح ليُحسب ضدها.

ردود ضد فلو

يوضح الكاتب ستيفن ان فلو كان مخطئا. أنتوني فلو يؤمن بشيء يشبه المبدأ التالي:

"اذا لم يتخلّ شخص ما أبداً عن عقيدته مهما كان الدليل ضدها، عندئذ فان عقيدته فارغة تماما".

ما هي حجة هذا المبدأ؟ استدلال فلو يقوم على انه لو ان أي ادّعاء كان غير قابل للتكذيب، ذلك بسبب فشله باستبعاد أي شيء يتعلق بالواقع. المبدأ منسجم مع أي شيء قد يصبح عليه العالم. لكن عندما يفشل التصريح باستبعاد أي شيء حول الواقع، عندئذ سيفشل بزعم أي شيء ايضا. نحن يمكن ان نرى ما الذي يقصده فلو هنا من خلال النظر في تكرار المعنى او التحصيل حاصل tautologies. تكرار المعنى صحيح بمقتضى شكله المنطقي. هنا مثال:

ليس صحيحا ان: باريس في فرنسا وباريس ليست في فرنسا.

من المؤكد منطقيا ان هذا الافتراض صحيح، كما في أي افتراض للشكل. التوتولوجي لايمكن تكذيبه لأنه منسجم مهما كانت الحقيقة. سواء كانت باريس في فرنسا ام لا، التوتولوجي لايزال صحيحا. انه لا يتطلب شيئا من العالم لأجل صحته. او، بطريقة اخرى، انه لايزعم أي شيء حول الواقع(2).

فلو يبدو يفكر بشكل مشابه، اذا كانت عبارة "الله موجود" و "الله له خطة" لا يمكن تكذيبهما، ذلك يجب ان يكون بسبب انهما ايضا لا يتطلبان أي شيء من العالم لصحتهما. هما يفشلان ايضا بزعم أي شيء.

لكن هل هذا صحيح؟ يقول الكاتب ستيفن انه غير مقتنع بهذا. لاحظ، اولا، ان "الله موجود" و "الله لديه خطة" ليسا تكرار في المعنى. الشكل المنطقي للعبارة لا يضمن صحتها. بل الطريقة التي يدافع بها بعض المتدينين – هم وباستمرار يتجاهلون وينكرون أي دليل مضاد.

هل صحيح لو ان شخص ما لايسمح بتكذيب عقيدته، عندئذ هو لا يطرح حقا أي ادّعاء؟ الكاتب لا يظن هكذا.

انه صحيح حتما عندما يستثمر الناس الكثير في الادّعاء، فهم قد يلتصقون به متجاهلين الدليل ضده. بعض العقائد يسهل التخلي عنها. هو يعتقد ان الانفجار الكبير حدث قبل 13 او 14 بليون سنة، لكن لو يقول العلماء تقديرا جديدا 16 بليون سنة هو حالا سيغير عقيدته. ذلك لا يكلفه شيئا.

لكن ماذا لو استثمر الكثير في العقيدة؟ الاستثمار قد يكون، شخصي، اجتماعي، مالي، استثمار في الوقت والجهد. عامل في احدى شركات التبغ، عُرض عليه دليلا على ان التبغ سبب رئيسي للسرطان، ربما يجد كل انواع الطرق لتجاهل او القاء الشك حول مصداقية ذلك الدليل. زوجة رجل متهمة بجريمة قتل ترفض بشدة دليلا قويا لجريمتها مصرة على ان الجريمة يتم فبركتها. شخص ما ذو عقيدة سياسية قوية يجد من الصعب التخلي عن عقيدته امام الدليل. العالِم الذي استثمر كل حياته المهنية في تطوير نظرية قد يستخدم كل براعته لتجاهل الاكتشافات الجديدة التي تهدد نظريته. الاديان والطوائف عادة تدعو الناس لإستثمار الوقت والنقود في عقيدتهم وان إهمال العقيدة ربما يكلف الشخص اشياءً ثمينة من حيث العلاقات الاجتماعية والعائلية. هم عادة يجدون عقيدتهم مريحة للغاية ومن غير المدهش ان العديد من الاشخاص المتدينين من غير المحتمل ان يتخلوا عن عقيدتهم بسهولة حتى لو انهم واجهوا حججا قوية.

ماذا لو كان التزام المتدينين قوي جدا بحيث لا يسمحون بأي شيء يكذّب عقيدتهم؟ اصحاب نظرية خلق الارض الشابة هم انجيليون حرفيون يعتقدون ان الكون خُلق بالضبط كما ورد في سفر التكوين حوالي ستة الاف سنة. بالطبع هناك دليل هائل ضد هذه النظرية. فمثلا هناك المتحجرات والسجلات الجيولوجية التي تكشف ان عمر الارض يعود لبلايين السنين مع تطور الحياة تدريجيا عبر فترات شاسعة من الزمن. كذلك هناك ضوء من المجرات البعيدة مثل مجرة اندروميدا الذي تستغرق 2 مليون سنة ليصلنا. وهناك ايضا نوى الجليد في القارة القطبية الجنوبية يكشف مواسم تاريخية تعود الى مائة الف سنة. كيف يرد اصحاب فرضة الارض الشابة على هذه الادلة؟

عادة هم يطورون توضيحات بارعة لهذا. فمثلا، بعض اصحاب نظرية الخلق يؤكدون ان معظم سجلات المتحجرات اُنتجت اثناء الطوفان الانجيلي الذي طافت فيه سفينة نوح، حيث اُنتجت كميات هائلة من الطين، ودُفنت اشياء حية في الطبقات. اول ما دُفن هو حياة بحرية بسيطة في قعر البحر. مختلف المناطق الايكولوجية غمرتها المياه في اوقات مختلفة، ادى هذا الى النظام الذي نراه اليوم في الطبقات. بالطبع، الانسان كونه ذكي تجنب الغرق حتى وقت متأخر، والذي يفسر لماذا نرى فقط علامات للحياة البشرية في أعلى الطبقات. أصحاب نظرية الخلق ايضا طوروا توضيحاتهم للضوء القادم من النجوم البعيدة وهكذا.

بالطبع هم يشيرون الى ان جميع النظريات العلمية تواجه تحديات وألغاز، لذا حتى عندما يوجد هناك شذوذ لايستطيع توضيحه اصحاب نظرية الخلق، ذلك ليس سببا للتخلي عن العقيدة.

من الواضح ان بعض اصحاب نظرية الخلق مهما كان الدليل ضد عقيدتهم سوف لن يقودهم لإهمالها. بطريقة او باخرى هم يلتصقون بعقيدتهم. لكن فيما بعد، وفق رؤية فلو، هؤلاء الخلقيون غير ملتزمين باي ادّعاء ابدا. نظريتهم في الخلق ليست نظرية سخيفة تناقض تيار العلم السائد، بل انها لا تزعم أي شيء.

لكن هذا يبدو للكاتب ستيفن زائفا. صحيح هناك شيء خاطيء في الطريقة التي يؤمن بها اصحاب نظرية الخلق ويدافعون عنها. لكن ماهو خاطيء هو ليس انهم غير ملتزمين بأي نظرية. احد الاسباب لماذا يبدو واضحا له ان اصحاب نظرية الخلق ملتزمون بنظرية هو انهم يستعملون النظرية لتوضيح اشياء. فمثلا، هم يستعملونها لتوضيح وجود الكون، أصل الحياة وتعقيدات الاشياء الحية. في الحقيقة، هم يعتقدون ان هذه الاشياء توفر دليلا لنظريتهم، لأنها توضح ما لا يستطيع تيار العلم السائد توضيحه.

ويضيف الكاتب، ان فلو ربما صائبا بان هناك أشياء خاطئة بالطريقة التي يدافع بها بعض المتدينين عن عقيدتهم. لكن تشخيصه لما هو خاطيء يبدو غير صحيح. حتى عندما لايسمح اولئك الذين يقولون "الله موجود" بأي شيء مخالف لدليلهم، يبدو له انهم لايزالون ينجحون في الزعم بشيء.

***

حاتم حميد محسن

......................

المصدر:

Antony Flew on Religious Language،

منشورات جامعة كامبردج في 8 سبتمبر2023

الهوامش

(1) أنتوني فلو فيلسوف بريطاني (1923-2010)، كان ملحدا لسنوات طويلة لكنه في عام 2004 إنتقل فجأة الى الايمان بالله معلناً ان الدليل من العلم أقنعه بوجود الله. للاطلاع على افكار هذا الفيلسوف يمكن الرجوع الى المقال الذي نُشر في صحيفة المثقف بتاريخ 3 حزيران 2021 بعنوان: حوار حول الطاولة بين الدين والفلسفة.

 (2) مثال آخر يستخدمه أصحاب نظرية الخلق ضد نظرية التطور ويعتبرونها نوع من التوتولوجي حيث ان نظرية الاختيار الطبيعي تؤكد ان البقاء للاصلح: منْ الناجون؟ الأصلح. منْ هم الأصلح؟ اولئك الذين نجوا.

 

تمهيد: يُعد كارل ماركس (1818-1883) أحد أكثر الشخصيات التاريخية تأثيرًا وإثارةً للجدل. كرّس معظم وقته لمحاولة فهم الآليات الداخلية للاقتصادات الرأسمالية. وكان أيضًا فيلسوفًا مهتمًا بعزل الأفراد في ظل الرأسمالية عن إمكاناتهم الاجتماعية والإبداعية. على نطاق أوسع، كان ماركس فيلسوفًا تاريخيًا، وضع نظريةً لتطور المجتمعات البشرية وتحولها بشكل عام - وهي نظرية تُعرف باسم المادية التاريخية. تقدّم هذه المقالة هذه النظرية مع البحث في تجلياتها التاريخية وتبحث في الاغتراب والتحرر السياسي والتغيير الاجتماعي. فكيف تساعد الفلسفة الماركسية الشعوب المقهورة والامم المضطهدة من التحرر من الاستعمار الصهيوامبريالي؟

١. ما هي المادية التاريخية؟

طُرحت أطروحاتٌ مختلفة لتفسير مسار التاريخ البشري: على سبيل المثال، أن التاريخ يتشكل أساسًا من خلال أفعال أفراد استثنائيين. أو أنه يُظهر تطوّر وعي الإنسانية بالحرية. أو أن الحضارات تنمو وتتلاشى كالكائنات الحية. أو أن التاريخ ليس له نمط، بل هو "مجرد حدثٍ مُلعونٍ تلو الآخر". يرى ماركس أن العامل الرئيسي المُحدد لشكل أي مجتمع وتطوره هو طريقة تفاعله مع بيئته المادية للحفاظ على وجوده - أي أسلوب إنتاجه. ويشمل ذلك قدراته التكنولوجية ("قوى الإنتاج") والبنية الاقتصادية ("علاقات الإنتاج") المُستخدمة لتسخير هذه القدرات. تشمل قوى الإنتاج وسائل الإنتاج (الأدوات والآلات والمواد الخام) وقوة عمل العمال (القوة والمهارة والمعرفة). علاقات الإنتاج هي علاقات اجتماعية للتحكم في قوى الإنتاج، سواءً وسائل الإنتاج أو قوة العمل. يعكس تقسيم المجتمع إلى طبقات اقتصادية التوزيع غير المتكافئ للسلطة على عملية الإنتاج والثروة المُنتجة. يقول ماركس: "إن نمط إنتاج الحياة المادية يُحدد عملية الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية بشكل عام". وبشكل خاص، يُحدد الهيكل الاقتصادي ("القاعدة") للمجتمع طبيعة "بنيته الفوقية" من المؤسسات القانونية والسياسية والأيديولوجية السائدة. يجادل ماركس بأنه مع مرور الوقت، تُعيق ("تُقيّد") القدرات التكنولوجية المتنامية للمجتمع ببنيته الاقتصادية الثابتة نسبيًا. ويؤدي هذا الخلل المتزايد في النهاية إلى ثورة: إذ يُستبدل الهيكل الاقتصادي للسماح بمزيد من النمو التكنولوجي، وتخضع المؤسسات السياسية والقانونية للمجتمع وأيديولوجيته لتغيير مُقابل. على سبيل المثال، عندما أصبحت الاقتصادات الإقطاعية القائمة على الأراضي في العصور الوسطى الأوروبية عائقًا أمام نمو القوى الإنتاجية للمجتمع، حلت محلها الاقتصادات الرأسمالية القائمة على المنافسة السوقية والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وتوظيف العمال المأجورين. ترسخت هذه الاقتصادات بفعل الهيمنة السياسية للطبقة الرأسمالية، وهيمنة أيديولوجية الفردانية الاستحواذية.

2. الحتمية التكنولوجية؟

ما الذي يُحرك التغيير التاريخي في نهاية المطاف؟ ترى إحدى المدارس الفكرية أن نظرية ماركس شكلٌ من أشكال الحتمية التكنولوجية "حيث التاريخ، في جوهره، هو نمو القوة الإنتاجية البشرية، وأن أشكال المجتمع تزدهر وتنهار وفقًا لما تُمكّنه أو تُعيق هذا النمو". أما آخرون، وإن لم يُنكروا أن التكنولوجيا قد تُمهّد الطريق للتغيير التاريخي، فهم يُصرّون على أن ماركس يُسند الدور الرئيسي للصراعات بين الطبقات الاقتصادية المختلفة. في البيان الشيوعي، يُعلن ماركس وزميله فريدريك إنجلز (1820-1895): "إن تاريخ أي مجتمع قائم حتى الآن هو تاريخ صراعات طبقية".

3. الرأسمالية

تشمل نظرية ماركس العامة للتاريخ المجتمعات من جميع الأنواع، ولكل نوع سمات فريدة. نمط الإنتاج الرأسمالي هو نظامٌ يتوسع ذاتيًا وغير مستقر، يتميز بدورة "ازدهار وكساد". لقد أعطت المنافسة السوقية زخمًا غير مسبوق لتطور التكنولوجيا، بينما قوّضت الروابط والقيم الاجتماعية التقليدية، وركزت رأس المال في أيدي قلة قليلة تسيطر على وسائل الإنتاج. لكنها في الوقت نفسه ولّدت طبقة عاملة تزداد تكاملًا، وتدرك قوتها الكامنة من خلال تطور النظام الذي يستغلها. في البداية، اعتقد ماركس وإنجلز أن النضال لإسقاط الطبقات الرأسمالية الحاكمة يتطلب العنف؛ ولكن بحلول سبعينيات القرن التاسع عشر، أصبحا يعتقدان أنه في بعض البلدان ذات المؤسسات البرلمانية، يمكن للطبقة العاملة الفوز بالسلطة بالوسائل السلمية. سيسمح الانتقال من الرأسمالية بتحقيق مجتمع ديمقراطي حقيقي بلا طبقات ("الشيوعية")، مما يضع حدًا لتاريخ الصراعات الطبقية. لقد أثبتت الرأسمالية أنها أكثر مرونة بكثير مما توقعه ماركس. ومع ذلك، فإن إضافة الأزمات البيئية إلى التحديات التقليدية للرأسمالية تُنذر بعاصفة عاتية، يعتقد الكثيرون أن النظام سيواجه صعوبة في الصمود في شكله الحالي. فهل النظرية متماسكة؟

يرى بعض النقاد أن نظرية ماركس في التاريخ إما خاطئة أو سطحية. فإذا كانت ترى أن "البنية الفوقية" القانونية والسياسية للمجتمع ليست سوى نتيجة لنمط الإنتاج، فهي خاطئة بوضوح لأن السياسة والقانون والأيديولوجيا تؤثر تأثيرًا عميقًا على هذا النمط. على سبيل المثال، لا يمكن للاقتصاد الرأسمالي أن يستمر يومًا واحدًا بدون القوانين والنظام القضائي الذي يحمي الملكية الخاصة ويدعم الأسواق، ويُمكّن التجارة، ويضمن الأمن، إلخ. من ناحية أخرى، إذا فُسِّرت نظرية ماركس على أنها تعني أن كل جانب من جوانب النظام الاجتماعي يؤثر على كل جانب آخر، فهي صحيحة ولكنها سطحية. سعى المدافعون عن ماركس، بدءًا من إنجلز، إلى إيجاد سبل للتوفيق بين فكرة الأسبقية التفسيرية لنمط الإنتاج وحقيقة التأثير المتبادل. وتتضمن أعمال الباحثين في العقود الأخيرة محاولاتٍ مبهرة لإثبات إمكانية تفسير النظرية بطريقة متماسكة وغير سطحية.

مفهوم كارل ماركس للاغتراب

يتميز فكر كارل ماركس بشموليته وتأثيره الكبير، لا سيما في الفلسفة وعلم الاجتماع. يشتهر ماركس بنقده اللاذع للرأسمالية. يؤكد نقده الرئيسي الأول أن الرأسمالية تُغري الناس في جوهرها. أما نقده الرئيسي الثاني، فيؤكد أن الرأسمالية استغلالية في جوهرها. يركز هذا المقال تحديدًا على نظرية ماركس في الاغتراب، والتي ترتكز على ادعاءات ماركس المحددة حول كل من الاقتصاد والطبيعة البشرية.

١. تحليل ماركس للرأسمالية

يعتبر ماركس مفهوم وسائل الإنتاج مفهومًا اقتصاديًا بالغ الأهمية. تشمل وسائل الإنتاج كل ما يلزم تقريبًا لإنتاج السلع، بما في ذلك الموارد الطبيعية والمصانع والآلات. في الاقتصاد الرأسمالي، على عكس الاقتصاد الشيوعي أو الاشتراكي، تكون وسائل الإنتاج مملوكة ملكية خاصة، كما هو الحال عندما يمتلك رجل أعمال مصنعًا. ان العنصر الأساسي الذي لا يُدرج ضمن وسائل الإنتاج هو العمل. ونتيجةً لذلك، يجد أعضاء الاقتصاد الرأسمالي أنفسهم منقسمين إلى طبقتين متمايزتين: أولئك الذين يملكون وسائل الإنتاج (الطبقة الرأسمالية أو البرجوازية) وأولئك الذين لا يملكونها (البروليتاريا).

٢. مفهوم ماركس للوجود النوعي

يرى ماركس أن كون الرأسمالية وتقسيمها الطبقي نظامًا مناسبًا للبشر يعتمد على الطبيعة البشرية. لأن البشر كائنات بيولوجية، وليسوا مجرد عقول غير مادية عائمة، علينا التفاعل مع العالم الطبيعي وتحويله من أجل البقاء. لكن ما يميزنا عن جميع الحيوانات الأخرى، كالنحل والعناكب والقنادس، والتي تُغير العالم غريزيًا، هو أننا نُغيره بوعي وحرية. وهكذا، فإن جوهر الإنسان - ما يُسميه ماركس كينونتنا النوعية - هو تحويل العالم بوعي وحرية لتلبية احتياجاتنا. ومثل العديد من الفلاسفة الآخرين، يعتقد ماركس أن القيام بما يُميزنا كبشر على أكمل وجه هو المصدر الحقيقي للإنجاز.

3. الاغتراب في المجتمع الرأسمالي

يمكننا الآن توضيح ادعاء ماركس بأن الرأسمالية تُغريب. الفكرة العامة للاغتراب بسيطة: يصبح الشيء مُغتربًا عندما يبدو ما هو (أو ينبغي أن يكون) مألوفًا ومتصلًا غريبًا أو منفصلًا. ولأن كينونتنا النوعية هي جوهرنا كبشر، فيجب أن يكون شيئًا مألوفًا. بقدر ما نعجز عن التصرف وفقًا لطبيعة جنسنا، نصبح منفصلين عن طبيعتنا. فإذا كان العمل في المجتمع الرأسمالي يعيق تحقيق طبيعة جنسنا، فإن العمل يُسبب لنا الاغتراب. وبما أننا نُعزل عن طبيعتنا، فإن الاغتراب ليس مجرد شعور ذاتي، بل يتعلق بواقع موضوعي. فكيف يُعزل العمال عن طبيعة جنسهم في ظل الرأسمالية؟

يُميز ماركس بين ثلاث طرق محددة.

أ. يُعزل العمال عن غيرهم من البشر. في الاقتصاد الرأسمالي، يتنافس العمال فيما بينهم على الوظائف والزيادات. ولكن كما تُخفض المنافسة بين الشركات أسعار السلع، تُخفض المنافسة بين العمال الأجور. وبالتالي، ليست البروليتاريا هي المستفيدة من هذه المنافسة، بل الرأسماليون. وهذا لا يُلحق ضررًا ماديًا بالعمال فحسب، بل يُبعدهم عن بعضهم البعض. البشر كائنات حرة، ويمكنهم التعاون من أجل تغيير العالم بطرق أكثر تطورًا وفائدة. لذا، ينبغي أن ينظر العمال إلى بعضهم البعض كحلفاء، لا سيما في مواجهة طبقة رأسمالية تسعى إلى تقويض تضامن العمال لمصلحتها الخاصة. لكن في ظل الرأسمالية، ينظر العمال إلى بعضهم البعض كمنافسين متعارضين.

ب. يُعزل العمال عن منتجات عملهم. لا يحتاج الرأسماليون إلى القيام بأي عمل بأنفسهم - فبمجرد امتلاكهم لوسائل الإنتاج، يسيطرون على ربح الشركة التي يملكونها، ويثرون من ذلك. لكن لا يمكنهم تحقيق الربح إلا من خلال بيع السلع، التي ينتجها العمال بالكامل. وهكذا، فإن منتجات عمل العامل تُعزز الرأسماليين، الذين تتعارض مصالحهم مع مصالح البروليتاريا. يفعل العمال هذا كعمال، ولكن أيضًا كمستهلكين: كلما اشترى العمال سلعًا من الرأسماليين، فإن ذلك يُعزز أيضًا موقف الرأسماليين. وهذا يتعارض مرة أخرى مع وجود العمال كنوع. ينتج البشر استجابةً لاحتياجاتنا؛ ولكن بالنسبة للبروليتاريا على الأقل، فإن تقوية الطبقة الرأسمالية ليست بالتأكيد إحدى تلك الاحتياجات.

ج. يُعزل العمال عن فعل العمل. لأن الرأسماليين يمتلكون الشركات التي توظف العمال، فإنهم، لا العمال، هم من يقررون ماهية السلع التي تُصنع، وكيفية صنعها، وظروف عملها. ونتيجةً لذلك، غالبًا ما يكون العمل مُملًا ومتكررًا، بل وخطيرًا. قد يكون هذا العمل مناسبًا للآلات، أو للكائنات التي لا تملك القدرة على تحديد طريقة عملها بوعي وبحرية، ولكنه غير مناسب للبشر. إن تحمل هذا العمل لفترة طويلة يعني أن المرء لا يمكنه البحث عن الرضا إلا خارج نطاق عمله؛ بينما "نشاط العمل، الذي يُمثل مصدرًا محتملًا لتعريف الإنسان لذاته وحريته، قد تدهور إلى ضرورة للبقاء على قيد الحياة". وكما يقول ماركس في فقرة شهيرة: لذا، في عمله، لا يُؤكد العامل نفسه بل ينكرها، لا يشعر بالرضا بل بالتعاسة، لا يُنمّي طاقته الجسدية والعقلية بحرية، بل يُميت جسده ويُدمر عقله. لذلك، لا يشعر العامل بنفسه إلا خارج العمل، وفي عمله يشعر بأنه خارج ذاته. يشعر بأنه في بيته عندما لا يعمل، وعندما يعمل لا يكون في بيته." إذا كان ماركس مُحقًا في كل هذا، فإن الشكاوى المعاصرة من الطبيعة المُهينة للعمل ليست مُبالغة. بقدر ما تمنعنا الرأسمالية من تحقيق كينونتنا كنوع، فهي، حرفيًا، مُجرّدة من الإنسانية.

- حول شعار كارل ماركس "من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب حاجته"

يُعدّ شعار "من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب حاجته" أحد الأوصاف القليلة الصريحة للشيوعية التي طرحها الفيلسوف الألماني كارل ماركس. يتصور ماركس الشيوعية كنظام اقتصادي يُدير فيه العمال أنفسهم بحرية إنتاج وتوزيع السلع والخدمات. نتناول هنا أصول هذا الشعار ومعناه.

١. التوزيع في ظل الرأسمالية

في المجتمع الرأسمالي، تُوزّع السلع والخدمات من خلال الأفراد والشركات التجارية في سوق تنافسية. نظريًا، تضمن المنافسة عدم امتلاك أيٍّ من الطرفين قوة تفاوضية غير عادلة، كما تسمح الحرية الاقتصادية لكلا الطرفين بالحصول على ما يحتاجانه من خلال التبادل. يجادل الاشتراكيون بأن قوة التفاوض المتساوية مجرد وهم، إذ يُعطي هذا النظام في الواقع امتيازات لمن يملكون وسائل الإنتاج، أو رأس المال: المصانع والأراضي وغيرها من الأشياء التي يستخدمها العمل لإنتاج السلع. عمليًا، يُبرّر هذا النظام استغلال العمال الذين يُحوّلون بشكل متزايد إلى مجرد "تروس" في آلة الربح الرأسمالية.

٢. منتقدو الرأسمالية

طرح الاشتراكي الطوباوي الفرنسي هنري دي سان سيمون (١٧٦٠-١٨٢٥) بديلًا للرأسمالية يتمحور حول قيادة الخبراء لتخطيط الاقتصاد لتلبية احتياجات الجميع. دعا أتباع سان سيمون إلى مبدأ العدالة التوزيعية - أو توزيع السلع والخدمات - الذي ألهم ماركس: "من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب عمله". أي أنه ينبغي على كل فرد أن يُسهم في خدمة المجتمع بأفضل ما لديه من قدرات، وألا يعمل أكثر مما يُناسب صحته العقلية والجسدية والاجتماعية. مع ذلك، يجب أن يُبنى التعويض عن هذا العمل على الجهد المبذول، وليس على أسعار السوق. قام الاشتراكي الفرنسي لويس بلان (1811-1882) بتعديل الشعار ليصبح: "من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب حاجته". وكما هو الحال مع شعار سان سيمون، يتمتع الجميع بحرية السعي وراء مواهبهم وإثراء أنفسهم. لكن عبارة "لكلٍّ حسب حاجته" تعني أن التوزيع سيعكس احتياجات الفرد، وليس مدى اجتهاده في العمل.

٣. التأثير على ماركس

استشهد ماركس بشعاري بلانك وسان سيمون في كتابه "نقد برنامج غوتا"، وهو نقدٌ لبرنامج الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني عام ١٨٧٥. ورغم تأثر البرنامج بأفكار ماركس، إلا أنه انحرف عن تفكيره في جوانب مهمة: إذ ركّز خطأً على التوزيع العادل للسلع والخدمات فقط، دون كيفية إنتاجها. لا ينبغي للعمال أن يحصلوا على تعويضات أفضل فحسب، بل ينبغي أن يمتلكوا وسائل الإنتاج ويتحكموا بها بأنفسهم، لمصلحة البشرية. وبتأكيده على إنتاج السلع، أخذ ماركس على محمل الجدّ جانب الشعار الذي شاركه فيه سان سيمون وبلان، والذي يُركّز على الإنتاج. واعتقد ماركس أن كل شعار سيجد مكانه في رؤيته للمجتمع الاشتراكي.

٤. المرحلة الدنيا من الشيوعية عند ماركس

يقترح ماركس مرحلتين للشيوعية. جادل بأن هاتين المرحلتين ستنشأن حتمًا نتيجةً للأزمات الاقتصادية في الرأسمالية وتنامي الوعي الطبقي لدى الطبقة العاملة. تُنظّم المرحلة الأولى، كما في شعار سان سيمون، حيث يتقاضى العمال أجورًا تتناسب مع طول العمل وصعوبته. تبدو هذه المرحلة مساواتية ظاهريًا، إذ تُمنح أجور متساوية لجهد متساوٍ. لكن ماركس يُشير إلى خلل في صياغة سان سيمون، نظرًا لاختلاف احتياجات الناس :هذا الحق المتساوي هو حق غير متساوٍ لعمل غير متساوٍ. فهو لا يعترف بأي فروق طبقية، لأن كل فرد عاملٌ كغيره؛ ولكنه يعترف ضمنيًا بعدم تكافؤ المواهب الفردية، وبالتالي القدرة الإنتاجية، كميزة طبيعية. لذا، فهو حقٌّ في عدم المساواة، في مضمونه... كما يجادل ماركس بأن هذه "المساواة" الظاهرية تُخفي فرديتنا بطريقة غير مساواتية في جوهرها. الأم لديها فمان لإطعامهما، وقد لا يتمكن الشخص ذو الإعاقة من العمل لفترة طويلة، وهكذا، لذا فإن الأجر المتساوي مقابل الجهد المتساوي سيظل غير متكافئ.

5. المرحلة العليا من الشيوعية

في المرحلة الثانية من الشيوعية، يُنظّم المجتمع وفقًا لمبدأ بلانك: "من كل حسب قدرته، ولكل حسب احتياجاته!". تُحقق هذه المرحلة المساواة الكاملة حيث تُلبى احتياجات الجميع ويمكنهم تطوير مواهبهم بحرية. كما يعمل الناس وفقًا لقدراتهم: فالعمل ليس ضروريًا فقط لاستدامة المجتمع، بل هو جزء مما يجعلنا بشرًا. وبفضل زيادة الإنتاجية وتنظيم العمل وفقًا لأهداف العمال، يمكن تلبية الاحتياجات دون أيام عمل شاقة. وهذا يتيح أيضًا وقت فراغ لتطوير أنفسهم واحتياجاتهم التي تتجاوز مجرد البقاء على قيد الحياة - مثل الرغبة في الموسيقى والفن والفلسفة والعلوم وما إلى ذلك. كما يُعوّض الناس وفقًا لاحتياجاتهم: فالتعويض لا يعتمد على الجهد، بل على ما هو مطلوب منهم للازدهار. يتطلب هذا التغلب على التحيزات حول المهن الأكثر قيمة؛ يجب على المجتمع أن يتغلب على هرمية العمل الذهني على العمل البدني وجميع التسلسلات الهرمية المماثلة الأخرى ضمن تقسيم العمل. قد يقلق البعض بشأن استعداد الناس للعمل فقط من أجل إعادة توزيع ثمار عملهم على أولئك الذين لم يبذلوا جهدًا كبيرًا. يقول ماركس إن الناس سيتحملون طواعيةً بعض المسؤولية الاجتماعية، بالطريقة التي نتشارك بها الأعمال المنزلية والبستنة ورعاية الأطفال. قد يبدو هذا ساذجًا، ولم يحدد ماركس ما إذا كان سيتم فرضه أو تشجيعه أو كيفية تطبيقه. ولكن في النهاية سيعمل الناس طواعيةً لأن العمل هو مصدر تحقيق الذات. اعتقد ماركس أن الطبيعة البشرية تجد أعظم تحقيق لها في العمل الاجتماعي، لكن الرأسمالية حوّلت العمل إلى عبء. وذلك لأن العمل في ظل الرأسمالية منظم حول أهداف الربح، وليس احتياجات العمال أو البشرية بشكل عام. عندما نفخر بتسخير قدراتنا لتلبية احتياجات الناس، يصبح العمل رغبةً من رغباتنا بدلًا من أن يكون مجرد وسيلة للبقاء.

خاتمة

تزعم نظرية ماركس للتاريخ تحديد سمات هيكلية وتنموية مشتركة بين جميع المجتمعات البشرية، تنبع من حاجتها إلى توظيف قدراتها التكنولوجية لانتزاع لقمة العيش من بيئاتها المادية. وبينما ترفض هذه النظرية فكرة أن مسار التاريخ مُحدد مسبقًا، فإنها ترى تطورًا طويل الأمد للأشكال المجتمعية نحو زيادة القدرة التكنولوجية على التحكم في هذا "التفاعل" مع الطبيعة. مهما كانت مزايا تنبؤات ماركس حول الرأسمالية، فإن المادية التاريخية، كنظرية أعم للتاريخ، لا يمكنها أن تتنبأ بمستقبل ما بعد الرأسمالية بأي قدر من اليقين - مع أنها قد تُساعد في فهم كيف وصلنا، على مدار التاريخ الطويل، إلى ما نحن عليه الآن.

قد يجد المرء إلهامًا كبيرًا في فكرة أن الرضا الحقيقي يمكن أن يأتي من العمل الإبداعي والهادف. ومع ذلك، فإن تجربة معظم الناس الفعلية في العمل في الاقتصادات الرأسمالية تتميز بالملل واللامبالاة والإرهاق. وتقدم نظرية ماركس في الاغتراب إطارًا مفاهيميًا لفهم طبيعة هذه التجارب وأسبابها، وتؤكد لنا أن هذه التجارب الذاتية تتعلق بواقع موضوعي - والأهم من ذلك، واقع يمكننا تغييره. يُعدّ شعار ماركس "من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب حاجته" مبدأً من مبادئ التنظيم الاجتماعي، حيث يكون العمل بناءً ومرغوبًا فيه، ونعتبر فيه احتياجات الآخرين احتياجاتنا. وبالتالي، رأى ماركس أن هذا مجتمعٌ مُحرَّرٌ من الاستغلال، واللاإنسانية، والهيمنة. فهل تكفي القوة الاجتماعية للعمال لإحداث التغيير الاجتماعي الأممي؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

مقاربة تداولية

تمهيد: ساهم يورغن هابرماس، من مواليد 18 يونيو 1929 في دوسلدورف، من بين جيل الشباب من الفلاسفة الألمان، بطريقة مبتكرة في تجديد التفكير النقدي. وقد فتح نفوذها الحالي، المهيمن في ألمانيا، نقاشا دوليا واسعا. تغذى على قراءات كانط وهيجل وماركس، التي شكلتها أفكار هوركهايمر وأدورنو وماركوز، ولا يدين بشهرته فقط لإقامته في فرانكفورت (كان مساعدًا في معهد البحوث الاجتماعية من 1955 إلى 1959، وأستاذًا للفلسفة وعلم الاجتماع من 1964 إلى 1971، بعد أن بدأ مسيرته التعليمية في هايدلبرغ في عام 1961). في الواقع، وبفضل تدخلاته النقدية في العلوم الإنسانية الرئيسية، لم يكتف هابرماس بالتشكيك في الروح الوضعية والوعي التكنوقراطي الذي يهيمن عليها، ولكنه أيضًا أثرى فكره بشكل كبير. وبهذه الطريقة وضع "النظرية النقدية" لمدرسة فرانكفورت على مستوى آخر، مواجهًا تحديًا مزدوجًا: عدم التخلي عن الإلهام الماركسي أثناء ممارسة التحريفية المؤكدة؛ وهي تحرير النظرية النقدية من دينها المعرفي مع الاحتفاظ ببعدها التحرري. يعارض هابرماس تفكير أدورنو السلبي حصريًا من خلال التخلي اليوم عن النقد لصالح العمل البناء والمنهجي. لكنه أقرب إلى هوركهايمر وأدورنو إلى الحد الذي تناول فيه بدوره المشكلة التي ميزت النظرية النقدية لمدة أربعين عاما والتي تصل إلى حد التساؤل عن كيفية توضيح العلاقة بين النظرية والممارسة مع الأخذ في الاعتبار الحقائق الجديدة للرأسمالية المتقدمة. وقد خصص سلسلة من الدراسات لهذا السؤال: النظرية والتطبيق (1963)، حيث ينتقد، في الفلسفة الاجتماعية كما تطورت منذ هوبز، إلغاء بُعد التطبيق العملي (بالمعنى الأرسطي) لصالح التفكير التكنولوجي. علاوة على ذلك، يمكننا أن نعتبر عمله بأكمله بمثابة انعكاس لهذه المشكلة، وذلك في ثلاثة جوانب مختلفة. أولاً، يتم فحص "الجانب التجريبي" للعلاقات بين السياسة والعلم والرأي العام في الرأسمالية المتقدمة: 1968 (التكنولوجيا والعلم كأيديولوجية). ثم يتم تحليل "الجانب المعرفي" للروابط الموجودة بين المعرفة والمصالح المهيمنة: "المعرفة والمصلحة" (1968)، وهو عمل تاريخي ومنهجي في نفس الوقت، يطور البرنامج المعرفي للفيلسوف. وأخيرا، يتم تناول "الجانب المنهجي للنظرية الاجتماعية الذي يجب أن يكون قادرا على القيام بدور النقدي". يعتبر هابرماس عمله بأكمله، غنيًا جدًا بالفعل، على أنه يتكون فقط من سلسلة من المقدمات وأعماله العديدة التي تشير إلى العديد من المراحل الأولية لنظرية الفعل التواصلي (1989). ويستمر هذا التفكير في كتابي "الأخلاق والتواصل" (1983) وفي "أخلاقيات المناقشة" (1991). كان في البداية قريبًا من قادة الحركة الطلابية، واعتبر أحد مرشديهم، وأصبح منذ عام 1967 خصمًا سياسيًا لهم من خلال الدعوة إلى "الإصلاحية الراديكالية" (1969). وبشكل ملموس، فهو يناضل من أجل إعادة تأسيس الرأي العام الديمقراطي والنقدي. وبعد تعرضه للانتقادات بدوره، غادر فرانكفورت في عام 1971، وقبل منصب مدير معهد ماكس بلانك في شتارنبرغ في بافاريا. ثم عاد إلى الجامعة الألمانية في فرانكفورت عام 1983. فماهو تقييمه للاتصال التقني المعاصر؟ كيف عمل في مشروعه العقلاني الكوني على نقده؟ وماهي شروط امكان التواصل الانساني في عصر التقدم التكنولوجي المتسارع؟

 التقنية والتكنولوجيا

في عمله الصادر عام 1969 بعنوان "التكنولوجيا والعلم كـ"أيديولوجيا"، تناول يورغن هابرماس الظواهر المتعلقة بالتكنولوجيا والعلوم الحديثة بوضوح أكبر من غيره من الأعمال. وهو معروف بنظريته الاجتماعية، ونظريته القانونية، ونظرياته حول الذاتية والتفاعل بين الذاتية، وكان شخصية بارزة في التاريخ الفكري لأوروبا الحديثة نظرًا للدور المزدوج الذي لعبه كصوت وممثل للحركات السياسية والفلسفية في ألمانيا الغربية ما بعد الحرب وما بعد الهولوكوست. إن استكشاف دور التكنولوجيا في تفكيره يُبرز الوضع الغامض للتكنولوجيا في النظرية الاجتماعية النقدية، بالإضافة إلى العلاقة العامة بين التاريخ الفكري وتاريخ التكنولوجيا. إن السؤال المفتوح والمقلق حول ما إذا كانت التكنولوجيا نعمة أم نقمة على الحداثة قد حشد النقاد والمعلقين على الأقل منذ الثورة الصناعية، وفرقهم على المستويات السياسية والمعرفية والأخلاقية. يقع مشروع هابرماس في قلب هذه التقاليد، ومقاله الصادر عام 1968 يُحدّث المخاوف الراسخة بشأن الحداثة الصناعية بما يتناسب مع الظروف التكنولوجية والفلسفية والسياسية الخاصة ببدايات الحرب الباردة. وتتجلى نقاط التقاطع بين التكنولوجيا ومجالاته المميزة - وهي نقاط تقاطع صاغها وساهم فيها - في النظريات السياسية للتكنولوجيا والديمقراطية (على سبيل المثال، في أشكال التكنوقراطية والحتمية التكنولوجية)، ونظريات المعرفة العلمية وأهميتها لنظريات الذات المعقولة ومجتمعات المعرفة، ونظريات العلمانية وبناء الدولة الحديثة. لكن لا يُنظر عادةً إلى يورغن هابرماس كفيلسوف للتكنولوجيا. بعد عرض نقده المبكر للوعي التكنوقراطي، سنجادل بأن المشكلة الرئيسية في مفهوم هابرماس للتكنولوجيا تكمن في خلطه بين "التكنولوجيا" و"العقلانية التقنية". كما يمكن انتقاد موقف هابرماس لنزعه الطابع السياسي الضمني عن التكنولوجيا. ومن خلال التمييز بين "التكنولوجيا" و"التقنية"، سنجادل بأن موقف هابرماس لا يستبعد نظرية نقدية للتكنولوجيا. ستجمع الصورة الناشئة بين تأكيد هابرماس على أن التكنولوجيا أكثر من مجرد مشروع تاريخي، وتفاؤل فينبرغ بإمكانية إعادة توجيه تحرري للتكنولوجيا. إن تزايد القوى المنتجة التي أصبحت مؤسسية مع التقدم العلمي والتقني يتجاوز كل النسب المعروفة في التاريخ. وهنا يستمد الإطار المؤسسي إمكانياته لإضفاء الشرعية. إن فكرة إمكانية قياس علاقات الإنتاج من خلال إمكانات القوى الإنتاجية المنتشرة يتم رفضها على الفور من خلال حقيقة أن علاقات الإنتاج الحالية يتم تقديمها كأشكال تنظيمية ضرورية تقنيًا لمجتمع رشيد. تُظهر "العقلانية" بمعنى ماكس فيبر هنا وجهها المزدوج: فهي لا تكتفي بكونها مقياسًا نقديًا لحالة تطور القوى المنتجة، إنها أيضًا مقياس دفاعي يسمح بتبرير علاقات الإنتاج نفسها كإطار مؤسساتي مناسب لوظيفتها. علاوة على ذلك، فيما يتعلق بإمكانية استخدامها اعتذاريًا، يتم تخفيف "العقلانية" كمقياس للنقد ويتم تخفيضها إلى مستوى تصحيح بسيط داخل النظام: كل ما لا يزال من الممكن قوله هو أن المجتمع "مبرمج بشكل سيء". عند هذا المستوى من تطورها العلمي والتقني، يبدو أن القوى الإنتاجية تقيم مجموعة من العلاقات الجديدة مع علاقات الإنتاج: من الآن فصاعدًا لم تعد تتحرك في اتجاه إزالة الغموض السياسي للتنوير، حيث تعمل كأساس لنقد عمليات الشرعية القائمة، ولكنها تصبح هي نفسها مبادئ للشرعية.

نظرية الفعل التواصلي

يُعتبر يورغن هابرماس أحد أهم فلاسفة المجتمع عالميًا. وقد أرسى هابرماس مفهوم التواصل، الذي يُسهم في تجديد الوعي الثقافي ونقله لتحقيق التفاهم المتبادل. وفي هذا السياق، يُنشئ الأفراد شخصياتهم، ويشكلون حركةً منسقةً نحو التضامن والتفاعل الاجتماعي. وتتناول النظرية قضايا مُتعددة، منها تطوير إدراك متوازن لا يقتصر على المقدمات الفردية والذاتية للنظرية الاجتماعية والفلسفة الحديثة.

ثانيًا، ابتكر هابرماس مفهومًا مجتمعيًا ثنائي المستوى يدمج نماذج النظام مع مفهوم "عالم الحياة" للتنشئة الاجتماعية. وأخيرًا، تُعدّ نظرية الحداثة هذه نقديةً، إذ تُفسر وتُحلل أمراضها الخاصة بطريقة تُشير إلى إعادة توزيع المعايير في حالات الخلاف.  في هذا الإطار يصرح بما يلي "أسمي التفاعلات التواصلية التي يتفق فيها المشاركون على تنسيق خطط عملهم بذكاء جيد؛ يتم بعد ذلك تحديد الاتفاق الذي تم الحصول عليه على هذا النحو إلى حد الاعتراف الذاتي المتبادل بمتطلبات الصحة. عندما يتعلق الأمر بالعمليات اللغوية الواضحة للتفاهم المتبادل، فإن الممثلين، من خلال الاتفاق على شيء ما، يصدرون متطلبات الصحة أو بشكل أكثر دقة متطلبات الحقيقة أو الدقة أو الإخلاص اعتمادًا على ما إذا كانوا يشيرون إلى شيء يحدث في العالم الموضوعي (كمجموعة من الحالات القائمة)، أو في عالم المجتمع الاجتماعي (كمجموعة من العلاقات الشخصية التي تم تأسيسها بشكل شرعي داخل المجموعة الاجتماعية) أو في العالم الشخصي البيذاتي (كمجموعة من التجارب الحياتية التي يتمتع كل فرد بامتياز الوصول إليها). ولكن بينما في النشاط الاستراتيجي، يؤثر أحدهما على الآخر تجريبيا (سواء عن طريق تهديده بعقوبة أو عن طريق الوعد بالإكراميات) من أجل الحصول على الاستمرار المتوقع للتفاعل، في النشاط التواصلي، يتم تحفيز كل منهما عقلانيا من قبل الآخر للعمل بشكل مشترك، وذلك بفضل آثار الالتزام الإجرائي المتأصلة في حقيقة أن فعل الكلام مقترح." من هذا المنطلق يرتبط مبدأ يورغن هابرماس للفعل التواصلي بتباين فكرتين عن العقلانية، تُوجّهان النشاط من خلال التأثير على المعرفة. هناك ثلاثة مكونات هيكلية لـ"عالم الحياة" تتوافق مع الوظائف، وهي الثقافة، والمجتمع، والشخصية. على المستوى الثقافي، يُمثّل هذا معيارًا للوعي يُدمجه المشاركون في التواصل لأنفسهم أثناء فهمهم لشيء ما في العالم. كما تضمن النظرية ربط المواقف الناشئة حديثًا بالظروف القائمة في هذا المجال. كما تضمن استمرار اتساق وتقاليد المعرفة، وهو ما يكفي للممارسة التوافقية للاحتياجات اليومية. على سبيل المثال، يُشكّل التفاهم المتبادل بين بعضنا البعض في علاقة متبادلة تقليدًا ثقافيًا يُمارس ويُحسّن. فيما يتعلق بالمجتمع، تُطبّق أوجه القصور في التفاعل والتكامل الاجتماعي على انسجام السلوك، بينما يُرسي كلاهما، بشكل ذاتي، المعايير التي تحكم العلاقات الشخصية قانونًا. وهكذا، تُولّد النظرية الوحدة من خلال التحكم في التفاعلات بين الأشخاص من خلال التنشئة الاجتماعية. على سبيل المثال، قد ترتبط الأحداث الأخيرة بالأوضاع الراهنة في العالم. وأخيرًا، على مستوى الشخصية، تضمن النظرية تشكيل الشخصيات ذات الكفاءات التفاعلية من خلال عملية التنشئة الاجتماعية. وتخلق نظرية التواصل هوية شخصية مقبولة من خلال قدرات التواصل ضمن فترة زمنية تاريخية. على سبيل المثال، يكتسب الطفل الناشئ مهارات شاملة للعمل المجتمعي، ويتبنى قيم جماعته الاجتماعية من خلال الانخراط في علاقات مع أفراد ذوي شخصيات مختلفة. فما أهمية نظرية التواصل في المجتمع؟ في المقابل، تُعد النظرية أساسية وفعالة، إذ تلعب دورًا قيّمًا في فهم البشر. يمكن أن يساعد التواصل والتفاعل في بناء العلاقات بين المجتمعات. بالإضافة إلى ذلك، فهو يساعد على فهم الأفراد والمجتمعات والعلاقات مع الزملاء والعائلات. كما أنه يساعد في تعزيز استيعاب من لديهم نفس الهدف. وفي الإنتاج الاجتماعي، شكّلت نظرية التواصل تواصلًا للفهم الاجتماعي في المجال الثقافي، وتساهم في استدامة جميع عناصر "عالم الحياة". إن التواصل الفعال يساهم دائمًا في بناء مجتمع صحي ومثقف. علاوة على ذلك، يُحافظ على المجتمع والشخصية دائمًا من خلال إعادة الإنتاج الثقافي. وقد أدت هذه النظرية أيضًا إلى ترتيبات التنشئة الاجتماعية، والأهداف التعليمية، والارتباطات الاجتماعية، وحتى الهوية الشخصية. وتستطيع النظرية تحديد المسؤوليات، والإنجازات التفسيرية، والمخططات التفسيرية المناسبة للمعرفة القيّمة. كما أدى هذا المفهوم إلى نشوء علاقة القرابة المستقلة نتيجةً لتقدم التمييز الطبقي. وقد يكون هناك صعود في مفاهيم التنظيم الرسمي، مما قد يُسهم بفعالية في تطوير القانون في اتجاه إيجابي. لذلك، قد يكون من السهل التوصل إلى تفاهم متبادل نظرًا لوجود آلية لحل المشكلات تُكمل تفسيرات العالم بين الكائنات التواصلية. فكيف يتصور هابرماس عالم الحياة؟

مفهوم عالم الحياة

يُفسر هابرماس "عالم الحياة" بأنه الخلق الذي يتشارك فيه الأفراد مع بعضهم البعض يوميًا. في هذا السياق، يُشبه العالم تجربةً سابقةً للعمل في الفلسفة الفينومينولوجية أو العلمية. لقد أثّر عالم الحياة على المجتمع الحالي، وقد أُسندت إليه مهمة التنظيم انطلاقًا من أطروحة الاحتلال العالمي للعالم. يُطوّر هابرماس مناقشةً لعملية التشريع في مقرر التاريخ. يشير هذا المفهوم عادةً إلى تكثيف اللوائح الاحتفالية في سياق تطوير لوائح إيجابية، مما يؤدي إلى علاقات اجتماعية خاضعة لرقابة قانونية وتكثيف التشريعات التي تُفصّل المبادئ التوجيهية القانونية. علاوة على ذلك، يدّعي هابرماس أن عالم الحياة يميل إلى نبذ الأعمال المستقلة للاقتصاد والحكومة، ويؤكد أن "المعيار" يبقى القانون، الذي يقتصر على المجال الراسخ للخطاب العملي. على سبيل المثال، يذكر بعض المراسيم العائلية والمدارس التي تُغيّر الإدماج الاجتماعي وتُدار وفقًا للمعيار التوجيهي من حيث الضوابط الإدارية والمالية. لا تتطلب القواعد أي تفكير عملي، بل علاقة ايتيقية وثيقة. تشير المؤسسات القانونية، كالقوانين الجنائية والدستورية، إلى مبادئ توجيهية مُقيّمة معياريًا وخطاب أخلاقي تطبيقي، والذي لا يزال بحاجة إلى التحقق من صحته. ويمكن ملاحظة مثال واضح على تطبيق هذه الإجراءات في الازمات الصحية الحالية، التي انتشرت في كل مكان وفي كل بلد حول العالم. فماهي أشكال حضورالعقلانية التواصلية في الفضاء العمومي العالمي؟

خاتمة

لقد أكد هابرماس في نظريته للتواصل، فإن التفاعل والترابط بين الأطراف أساسيان لتحقيق التفاهم، مما يسمح للمجتمع بالتقدم. لذلك، بمقارنتها بنظرية التواصل، يدّعي هابرماس أنه مع هذا النوع من الترابط والتفاهم والتعاون، لا شيء يصعب تحقيقه. ما نستخلصه هو أن الفعل التواصلي يُعد مبدأً عالميًا لقدرة المجتمع على التعبير، وهو القواعد الأساسية والهياكل الأولية التي يُناقش فيها موضوع التعلم اللغة. كما سلّط هابرماس الضوء على مكونات نظرية التواصل، وهي الثقافة والمجتمع والشخصية. هذه المراكز الهيكلية للعالم الحي مُبسّطة مجازيًا، وتُنشأ من خلال الفعل التواصلي لتحقيق ونقل فهم الثقافة. لقد ساعدت هذه النظرية المجتمعَ لأنها تُعيد إنتاجَ الثقافة، مما ساعد على الحفاظ على جميع مقومات عالم الحياة، أي المجتمع والشخصية. وقد تحقق ذلك من خلال إيجاد شرعياتٍ للتأسيس في المجال الاجتماعي، ونمط التنشئة الاجتماعية، وأهداف التعليم للكفاءات العامة، واكتساب العمل في مجال الشخصية في عالم الحياة. يلفت الانتباه إلى موضوع أُهمل في التناول الأكاديمي لأعمال هابرماس، ألا وهو مفهوم تخفيف التواصل. ففي نظريته الحديثة في المجال العام، يُصنّف أشكالًا إعلامية مختلفة ضرورية لتنسيق مختلف أنواع الفعل الاجتماعي. ويُحدد ثلاثة أشكال إعلامية: التوافق اللغوي، وتوجيه الإعلام، والتواصل المعمم. ورغم اعتراف علماء الاتصال بأفكاره حول التوافق اللغوي، إلا أنهم أغفلوا تلك المتعلقة بتوجيه الإعلام والتواصل المعمم. وعليه، يُركز هذا التحليل بشكل أكبر على هذين الشكلين الإعلاميين الأخيرين، اللذين يندرجان ضمن المفهوم الأوسع لآليات التخفيف. وبتوسيع نطاق نظريات الإعلام لتالكوت بارسونز، يُحدد هابرماس أربعة أنواع من آليات التخفيف: المال، والسلطة، والنفوذ، والالتزام بالقيمة. يؤدي المال والسلطة وظائف توجيه إعلامية تعزز الكفاءة. أما النفوذ والالتزام بالقيمة فيؤديان وظائف تواصل معممة تعزز ليس فقط الكفاءة، بل الفهم أيضًا. وتُناقش الآثار المترتبة على النظريات المعيارية للاتصال الديمقراطي عبر وسائل الإعلام الجماهيرية. فكيف يمكن توظيف الاتصال التكنولوجي في سبيل تحقيق العدالة الكونية والمساواة بين الشعوب دون تمييز بين المجتمعات أو تمركز حضاري غربي؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

....................

المصادر

Jürgen Habermas (1929), La technique et la science comme idéologie, Denoël, 1973, coll. Médiations,

عندما تُرسل فكرة أو معنى تصل بشكل مختلف عما كانت عليه في الأصل "جاك لاكان"

في هذه السطور محاورة نفسية بين ما هو موجود في البيئة الخارجية وما تدركه النفس وتفسره، وهي محاولة علمية إجتهادية على ضوء فكر التحليل النفسي من فرويد إلى جاك لاكان المحلل النفسي الفرنسي. التحليل النفسي هو معرفة النفس بما يجري في داخلها، وما يعكسه من الخارج ليستقر ربما فيها، في عالم اللاشعور – اللاوعي، يستدعي الإنسان أحيانًا بعض ما تم خزنه لاشعوريًا ليشرح أو يفسر للنفس عما أدركه، فيفسر ذلك المدرك من الخارج، فيعود مختلف ومَحور تمامًا ليس كما تم خزنه أو كبته، أو خُزن، فاللاشعور هو اللغة التي تصل إلينا من اعماق النفس وقول "جاك لاكان" المحلل النفسي الفرنسي مجدد التحليل النفسي أن اللغة هي ما يحدد الإنسان. ونقول أن لغة اللاشعور – اللاوعي هي التي تفسر ذلك المُدرك، فيصدق قول لاكان أن اللغة هي ما يحدد الإنسان.

إن الخارج أقصد " البيئة الخارجية" لأي منا هو ما يدركه من صور، أو حديث، أو حوار مع الآخر من زملاءه، أو المحيطين به، لا بل ما يشاهده في معظم الأوقات من علامات تُعبر عن دلالة يعرفها الجميع في المجتمع، هي لغة تنبع من لاشعور – لاوعي الفرد فبعض الصور مثل علامة ممنوع الدخول، أو هذا المكان مخصص للعوائل، أو لا يسمح لبيع هذه المواد من هم أقل من ثمانية عشر عام مثل الادوية، أو المشروبات، أو علب السيكاير، أو يمنع دخول السافرات في هذا الحرم الديني مثل المسجد، فتضطر المرأة حتى الأجنبية منهن أن تضع على رأسها شال " حجاب" لكي يسمح لها بالدخول وغيرها من الرموز التي تواجهنا ونحن في حياتنا اليومية.

نتساءل ما هي دلالاتها فيجيب " جاك لاكان " قوله: النقاط أو الرموز تعكس فكرة " غياب المعنى "، الغياب " أو النقص" في النصوص الرمزية ليس نقصًا عرضيًا بل أساسيًا. ويورد لنا " لاكان" بأن الهيمنة الرمزية هي السائدة في اللاشعور – اللاوعي، فما ندركه من العالم الخارجي ويثير فينا لحظة تأمل، أو وقفة، وربما لم تكن غير التفاتة عابرة لكنها تركت فينا الأثر، هي رسالة ذهبت إلى العالم الخفي وهو اللاوعي، ويضيف " لاكان " الرسالة ليست مجرد نص مكتوب، بل هي رمز في بنية اجتماعية، انتقالها عبر المحطات في المخطط يرمز إلى الدور الذي تلعبه الرموز، أو العلامات ضمن نظام رمزي ومنها اللغة، العلاقات الاجتماعية، السلطة، الدين، التقاليد والاعراف الاجتماعية وغيرها ممن تشكل سلوكنا الذي نتعامل به مع الآخر، أو ممن يعلمنا برضانا ونرضخ لتعاليمه، أو مرغمين على قبوله وهو الأخ الكبير " الأب، الأم، أو بديلهما ".

يعرفنا " لاكان " بأن هناك علاقة بين اللغة والرموز وهي علاقة رمزية فمثلا مواقف الحياة وأسلوب التعامل يحمل العديد من الجوانب التي شكلت هذا السلوك الذي يصدر منا في مواقف مختلفة، أو ما تعنيه الإجابة عن حدث، أو استرجاع معلومات تم خزنها واستعادتها في إمتحان لطالب، أو طالبة، استدعيت للإجابة على هذا السؤال المحدد، فيذهب الطالب لاستخراج تلك المعلومات بشكل ربما أقرب الى المطلوب وليس مثله تمامًا إلا إذا كان خزنه كقصيدة، أو معلومة وقول " لاكان " عندما تمر الرسالة من الذات إلى الآخر، أو العكس، فهي دائمًا تخضع لتحولات، لأنها تعبر عبر بنية رمزية لا يمكن للذات أن تسيطر عليها بالكامل، وهذا ما سماه علماء نفس الجشطلت التشوه الإدراكي، ويتفق تمامًا مع رؤية لاكان الفرويدية، وتختلف عنهم في الآن نفسه " رؤية التحليل النفسي بوجود لاشعور – لاوعي وهو الذي يضم الكثير من المخزونات غير المخزونة آليًا وقول " لاكان " اللاوعي ليس مجرد مستودع للرغبات المكبوتة، بل هو " منظم رمزي " يعمل عبر اللغة، كل معنى يمر عبر اللاوعي يتم إعادة تشكيله على وفق القواعد الرمزية واللغة مما يسبب تحريفًا في الرسالة، أو لنقل المدرك، هذا التحريف أو الانعكاس يحدث لأن اللاوعي لا يعمل على وفق المنطق المباشر، بل عبر الانزلاق بين العلامات والمعاني كما عبر عنه لاكان.

عندما تُرسل فكرة أو معنى تصل بشكل مختلف عما كانت عليه في الأصل " جاك لاكان " ويرى أيضًا لاكان التحريف بأنه يحدث لأن الفرد يقرأ الرسالة بناءً على ما يريد هو قراءتها وكذلك على موقعه في النظام الرمزي " وهو القيم الاجتماعية السائدة، القانون، السلطة، التربية والتنشئة الاجتماعية، الضبط الاجتماعي" مما يعيد تشكيل الرسالة لتناسب غاياته أو تصوراته، ويحق لنا القول بإن دواخلنا تحدد سلوكنا بالقبول أو بالرفض، باللف أو بالدوران فيما نقبله، أو نشك في قبوله، أو تحدد النفس الريبة فيه أو اليقين !! وتؤكد لنا المقولة النفسية التالية نحن نرى ما نراه، لأننا نريد أن نراه، وليس الذي يجب أن نراه، وهو مبدأ نفسي يسمى مبدأ الحساسية الإنتقائية في الإدراك.

لذا عندما نستلم رسالة من الأخر الذي هو نظيرنا في الوجود، أو محدثنا في الكلام، أنا الذي أحدد ماهية هذه الكلمات، أو الذي اسمعه منه، وما هي نوع النبرة الصوتية، كيف أدركها تمامًا، هل هي محببة، أم تحمل شيء من التحدي أو الازدراء فارفضها أما علنًا، أو مع نفسي، والأمر سيان إذا كانت علامة في الشارع وهي تعبر عن خطوط العبور للمارة، أو علامة تحذير لوجود روضة أطفال، وربما يَعبر بعض الأطفال من هذا المكان. ربما يعترض البعض على ماهية العلامة ويصفها بإنها تقليل من قيمة الإنسان، أو احترامه، لأنها تبرمج سلوكه، والبعض الآخر يدركها بأنها تحمل سمات التحضر، فهي رسالة لنا ندركها نحن، بأن فيها معاني متنوعة عند من يسكن المدينة، أو القادم من الارياف، أو الذي يعيش في بيئة خارج هذا المجتمع، كما هو الزائر لبلدان في افريقيا تعيش قيم وعادات واعراف مختلفة عن إطار الفرد المرجعي وما كَونه من بنية اجتماعية. ونقول أن دواخلنا تحدد ما نريد تفسيره، أو معرفته، أو قبوله وهو الأمر الذي تتشابك في اصدار أنفسنا أحكامًا له، بمعنى أدق.. النفس هي التي تحدد ما نريد الاعتراف به، بنقائه، أو تلوثه، ويبقى التساؤل مفتوح بلا إجابات.. ما أصعب النفس في أحسن أحوالها، فكيف هو الحال في أسوأ أوضاعها؟

***

د. اسعد الامارة

يصنف بعض الفلاسفة (هيجل) وجوب تربية الفرد وتنشئته في اعتماد منهج   التفكير الادراكي الجدلي للعقل، وهو مايعزز لدى الفرد والمجتمع تنمية الوعي بالحرية المسؤولة، وتنمية ارادة الاندماج مع الدولة. ويعزز ايضا ضرورة تنمية الوعي الديني والفلسفي.

تربية العقل تربية جدلية منهجية في التفكير وفهم العالم والحياة ليست مسالة سهلة من حيث تباين واختلاف طبيعة الجدل بين الوعي القصدي الانفرادي كسلوك وبين الجدل كفلسفة عقلية لا يمكن تلقينها للفرد تربويا.

كما لا يمكننا اعتبار اكتساب التفكير الجدلي(مدرسيا) يمنح صاحبه ادراك الواقع جدليا. من حيث جدل الواقع يحكمه قانون طبيعي منعزل عن تحقيق رغائب الانسان أو امكانية التداخل معه. والاهم انه لا يوجد عقل ذو طبيعة جدلية بالفطرة ينقاد له تفسير الواقع جدليا.

وسنتناول الجدل في مفهومه الفلسفي الذي هو الاخر يرتبط بالسلوك النفسي للفرد اكثر من كونه فلسفة فهم الحياة. كون الجدل هو وعي ادراكي في فهم الحياة وفق منهج جدلي خاص بفرد لا يمكننا تلقينه تربويا للمجموع. صحيح العقل اعدل قسمة مشتركة بين الناس في التفكير كما يصفه ديكارت لكن خاصية الجدل ليست خاصية عقلية مشتركة تجمع طبيعة تكوين غالبية عقول الناس.

حسب فلسفة هيجل يقول (العقل بطبيعته جدليا) بمعنى ان الجدل خصيصة بيولوجية فطرية طبيعية لا يكتسبها الفرد ولا يتعلمها. من حيث جدل العقل هو الذي يخلق جدل الواقع والموجودات بالطبيعة ولا يكتسبه منها. وفي هذا تضاد جوهري مع مقولة ماركس ان جدل الواقع هو الذي يضفي جدله على تفكير العقل وليس العكس الذي يقول به هيجل.

جوهر فلسفة هيجل هو (المنطق موضوعه العقل) يلاحظ هنا كيف قلب هيجل اولوية المنطق على ثانوية العقل في وقت المنطق هو ماهية ناتجة عن تفكير العقل ولا وصاية لها عليه.. العقل لا يكون موضوعا للمنطق الذي هو ناتج تفكير العقل. ويضيف هيجل ان (المنطق هو علم العقل الموضوعي وعلم العقل الذاتي). من التبرير المسوغ ان يكون المنطق هو علم العقل الموضوعي، اما ان يكون المنطق علم العقل الذاتي عندها يصبح المنطق سلوكا قصديا يقوم على مرجعية علم النفس السلوكي وليس على ادراك العقل لموجودات العالم الخارجي.

فالعقل غير ممكن ان يكون موضوعا لنفسه بل ان يكون العقل ادراكا ذاتيا هو في توكيد ادراك الذات له. عندما يتشبث هيجل وباصرار عنيد على مثالية التفكير في تغليبه المنطق موضوعه العقل، رغم تباين الاسبقية في التقديم والتاخير بين اولوية العقل على المنطق مع اولوية المنطق على العقل.

نعود لمركزية فهم هيجل لجدلية العقل الذي يعتبرها خاصية طبيعية في ادراكه النسق الجدلي الذي يوجده تفكير العقل الجدلي في الطبيعة والاشياء القائم على طبيعة العقل الجدلية التي هي تضفي على مواضيعه الادراكية النسق الجدلي. بمعنى جدلية العقل تسبق جدلية مواضيعه التي تنقاد له. بتوضيح اكثر يفترض هيجل انعدام الجدل في الواقع او حضوره هو الذي يحدده تفكير العقل ذو الخاصية الجدلية الطبيعية التي تملي على مدركاته الواقعية نوع من النسق الجدلي القائم على الحركة الدائمية والتطور.

معادلة اسبقية جدل العقل على جدل الواقع لدى هيجل تنعكس لدى ماركس ان جدلية الواقع الذي تحكمه الحركة الاصطراعية الذاتية المتضادة هي التي تملي على العقل جدليته الفكرية. كلاهما لا يمتلكان تقديم اثبات ادعاءاته. كيف يثبت هيجل ان طبيعة العقل جدلية وليست ليبرالية في فهم الحياة؟ وكيف يثبت ماركس خارج منهج الاستقراء التنبؤي ان الجدل قانون طبيعي يحكم المادة والطبيعة خارج ارادة الانسان التداخل معه؟ الجدل من حيث هو طبيعة عقلية والجدل من حيث هو قانون يحكم المادة والتاريخ بمعزل عن تداخل ارادة الانسان به كلاهما مبني على تصورات افتراضية لا يمكن التحقق الاثباتي منها.

الحقيقة والمنطق

يستعير فلاسفة المنطق عبارة هيجل " الحقيقة هي الكل" بمعنى فهم الحقيقة لا يكون صائبا الا اذا كان ضمن نسق تام من الترابط الحقائقي الذي لا يتقبل التجزئة على حساب تفكيك الهيكل النسقي الكلي الذي يضيع في فك ترابط أجزائه وفصلها عن بعضها البعض.

ويفرق فيلسوف المنطق "بوزانكت" أن الحقيقة لا يفهم معناها ولا تكون صائبة الا ضمن نسق منتظم يحتويها. والحقيقة لا يمكن الاستدلال عليها إلا اذا كانت ضمن نسق كلي ترابطي داخليا يجمعها بغيرها في بنية كلية واحدة.

والحقيقة المنطقية هي ليست الحقيقة في المفهوم الفلسفي الذي يقوم على نسبيتها وحمولة الخطأ والصواب معا بداخلها، وحتمية إندثارها حينما تكون (درجة) في سلم مفهوم البحث الدائب عن مطلق الحقيقة الوهمي الزائف الذي لا يمكن بلوغ أزليته. ترافقها حتمية تطورها النسبي على الدوام عندما تكون حقيقة (نوعية) لا تندثر ولا تموت بل تستحدث نفسها بإستمرار.

منطق الحقيقة النسقي هو غيره مفهوم معنى الحقيقة الفلسفية، فالمنطق لا يعتبر إكتساب الحقيقة المجردة مصداقيتها كما هي في المفهوم الدارج في تطابق الفكر مع الواقع في معرفة حقيقة المادة، بمعنى آخر تطابق تعبير اللغة مع الموجود الشيئي تطابقا تاما يعطيه حقيقته المادية الصادقة.

وتأكيد هذا المنحى لدى فيلسوف منطقي مثل " بوزانكت" الذي لا ينكر وجود الوقائع الانطولوجية الشيئية منفردة مستقلة في العالم الخارجي تعبر عن نفسها في إدراكها الحسي لكنه لا يعتبرها حقائق معرفية. الحقيقة في الشيء المنفرد المادة التي تدرك حسّيا في تطابق وجودها الخارجي مع معنى الفكر المعبّر عنها، والتي لا يحتويها نسق ترابطي من الحقائق داخليا وتكون حقيقة منفردة لوحدها. الحقيقة التي لا تشكل إنتظاما نسقيا متداخلا بغيرها لا معنى لها. لذا تكون الحقيقة التي تدركها الحواس زائفة كونها تعبر عن موجود خارجي منفصل عنها.

يعتبر فلاسفة المنطق ما أشرنا له في تعبيرنا الدارج الذي يعتبره كلا من برادلي وبوزانكت هو في مطابقة الدال مع المدلول مطابقة تامة لا تحتمل غير التاويل الوحيد المتعيّن بحقيقة الشيء. لذا مطابقة أفكارنا مع وقائع موجودية بعينها لا يمنحها حقيقتها الصادقة حسب المناطقة. كذلك حقيقة الشيء المادي المتعيّن هو ليس منطق حقيقة المفهوم الفلسفي. منطق الحقيقة الذي لا يأخذ بمبدأ الترابط في التطابق خارجيا في معناه مطابقة الفكر لما هو واقع عياني في الوجود وهو مايخص المادة كموجودات متناثرة في عالمنا الخارجي، أي هنا تلعب الحواس دورا مهما مركزيا في خلق التطابق الخارجي بين الفكر والاشياء خارجيا الذي نطلق عليه حقيقة ذلك الشيء. أما إدراك الحقيقة كمفهوم تجريدي إنما يكون في ترابطها الداخلي ضمن نسق كلي موحد.

والطعن بمبدأ الترابط الخارجي بين الفكر والمادة في تحقق تطابق المعنى الذي يخص المتعيّن الانطولوجي المادي منطقيا وليس منطق الترابط الداخلي النسقي الذي تختص به الحقيقة كمفهوم تجريدي يعتمده منطق الفلسفة يقوم على أربع ركائزحسب إجتهادنا هي:

- الحواس في جوهرها الحقيقي هي تضليل العقل في معرفة حقائق الوجود النسقي.

- عدم تطابق حقائق الاشياء في نظام نسقي داخلي يجعل منها اجتزاءات فاقدة لجوهر تحققها المنطقي وليس تحققها الحسّي الانفرادي.فمدركات الحواس للاشياء خارجيا زائفة منحلة زائلة قياسا لمدركات الفكرالثابتة بما يخص علاقته التطابقية مع النسق الداخلي للحقيقة.

- تطابق حقائق الاشياء خارجيا لا يكافيء ترابطها الحقيقي المنطقي داخليا عندما يحتويها نسق كلي يعطيها حقيقة معناها ولا يؤخذ بترابطها الخارجي التقليدي في مطابقة الادراك عن الشيء في وجوده الانطولوجي..

- لا مجال لنكران دور العقل في التعبير عن حقائق الظواهر والاشياء في إرتباطها الداخلي مع بعضها البعض كنسق والخارجي في مطابقة معنى الفكر اللغوي مع الشيء على السواء. وكل ما لا يدركه العقل لا يمكن معرفة حقيقته الزائفة ولا الصادقة معا. وسيلتا إدراك العقل للعالم الخارجي هما الحواس والدماغ والمخيلة فقط.

رغم مثالية المناطقة في معرفة الحقيقة إلا أن التفسير المنطقي للحقيقة مستمد من التفكير العقلي الذي لا يقوم على انطولوجيا موجودات الواقع بل في دراسة النظام المنطقي الداخلي الذي يحتوي الحقيقة نسقا ادراكيا تصوريا تجريديا. بهذا يكون تحليل المنطق في إنكاره علاقات الترابط الخارجية بين الوقائع وإدراكها الفكري المطابق لوجودها لا يمنح حقائق الاشياء في ترابطها بمنظومة النسق الكلي داخليا مصداقية وأرجحية على صدقية معرفة الحقيقة. فمعرفة حقيقة المادة حسّيا عقليا لا يعني معرفة حقيقيتها الجوهرية ،كذلك معرفة الحقيقة المجردة في إنتظامها النسقي المترابط داخليا لا يمنح مفهوم الحقيقة المجرد مصداقيته اليقينية. معنى دلالة الحقيقة في الوجودين المادي والمثالي لا يدرك العقل أصالتها من زيفها تماما..

منطق الحكم

يقر برادلي ومعه مناطقة المثالية معرفة الحقيقة لا تكون بإدراكها التصوري، فالتصور لا مكان له في التفكير الفعلي إلا بوصفه جزءا من (حكم) يشترط معرفة الحقيقة أن تكون نسقية مترابطة غير مجزأة الى قطوعات تنهي الهيكلية الكلية الانتظامية للترابط الحقائقي. فقد إعتبر بوزانكت حكم الادراك الحسي الخارجي المألوف تداوله يعد تعبيرا جزئيا عن الواقع في غير حقيقته. أما الحكم المنطقي والكلام لبوزنكارت فهو في تأكيد كلية الواقع في صورة شمولية عامة.

تعقيب:

- الادراك التصوري الحسّي التجريدي لاشياء العالم من حولنا هو الطريقة الوحيدة التي يتوفر عليها العقل. ولا يتوفر العقل على إدراك الحقيقة المجردة حتى لو كانت – إفتراضا – هي حلقة في منظومة نسق داخلي لا يدركه العقل مباشرة لا بالحس ولا بالحدس.

- الادراك التصوري ليس جزءا من (حكم) مثالي يعبرمن فوق الواقع، فالادراك مرحلة بدئية اولى في سلم المعرفة الحقيقية تبدأ بالحواس وتنتهي بالعقل. سواء أكان المدرك ماديا حسيا أو موضوعا متخيلا تجريديا من تداعيات تفكير الذاكرة. منظومة العقل الادراكية التي تبدأ بالحواس وتنتهي بالدماغ هي نسق منتظم بدونه لا يتحقق للعقل أي نوع من الادراك.

- الحكم على الكليّات ليس حكم حقيقة صائبة تماما بل حكم إحتمال.

- الحكم على حقائق العالم الخارجي في كليته يلغي الخصوصية الانفرادية لكل حقيقة جزئية، فمثلما يكون الاهتمام بجزء من النسق الكلي هو إنحلال لوحدته المتكاملة كذلك الحكم الشمولي هو تضييع خصوصيات الاجزاء الحقيقية.

- الحكم على الواقع يأتي من أسبقية وجوده المادي على كل تفكير، والواقع هو ما يحدد نوع الحكم وليس نوع الحكم يخلق حقائق الواقع.

-    في لغة المناطقة الذي ينكر الاستدلال الكلي بدلالة الجزء، فهذا لا يبيح أن يكون الحكم المنطقي الكلي هو في إهمال خصوصيات أجزائه ضمن النسق الذي لا يعير فيه الحكم حقائق الاجزاء أدنى إهتمام في تشكيل النسق الكلي العام.

برادلي ومطلق المثالية

يطرح برادلي في كتابه (المظهر والحقيقة) عدة مفاهيم نجدها متناقضة في بعض منها:

- يعرف برادلي المظهر – ويعني به الصفات الخارجية – ليس هو الظاهري، سواء فهمنا هذا الظاهري على أنه معطى في الوعي أو أنه مقابل الشيء في ذاته، والمظهر ليس مجالا معينا للوجود أو الفكر يتميز عن أي مجال آخر1.

أود في تعقيب بسيط قبل الانتقال الى فقرة أخرى لبرادلي، أن ظواهر الاشياء ليست معطى في الوعي، بل هي معطى في إدراك حسّي قبلي يتبلور لاحقا بالفكر الى وعي عقلي مجرد. إدراك الشيء لا يكافيء معنى الوعي به. الصفات الخارجية للاشياء هي ادراك حسي قبل كل شيء. وطبعا صفات الشيء أو الظاهر منه لا يشابه كما ولا يمثل الشيء بذاته. معلوم الشيء بذاته هو الماهية أو الجوهر الذي لا تدركه الحواس ولا يدركه العقل، فكيف يكون الجوهر أو الماهية معطى للوعي يكافيء وعي الصفات الخارجية لذلك الشيء.؟ ثم ومن المرجح الذي اؤيده أنا أن يكون جوهر الشيء تتقاذفه فرضيتان : الاولى لا يمكن الجزم القاطع أن الاشياء وكائنات الطبيعة الحيّة تمتلك جوهرا هو غير صفاتها الخارجية باستثناء الانسان الذي يمتلك كينونة موجودية تسبق ماهيته الجوهرية. الثانية توجد دلائل يقينية ثابتة أن الحيوان والنبات والجماد جميعها لا تمتلك ماهيات هي غير صفاتها الظاهرية الخارجية التي يدركها العقل الانساني.

- في فقرة لاحقة أخرى يناقض برادلي علاقة ظواهر الاشياء بحقيقتها قوله : المظهر هو الحقيقة المطلقة للشيء، ولا يوجد ما يعقبها، والحقيقة التي يتوزعها تقسيم العالم الى جزئي وكلي، يجعلنا ندرك حقيقة ما هو جزئي في تعميمها على ما هو كلي.. وبذلك لا يكون هناك فرق يذكر بين حقيقة نسبية واخرى مطلقة2.

لا امتلك تعليقا إدحاضيا لما ذكره برادلي من خلط جرى توضيحه سابقا من قبلي في هذه المقالة أكثر مما ينبغي تكرار مناقشته وتوضيحه، فقط اتساءل كيف يكون المظهر (الصفات الخارجية) هو الحقيقة المطلقة للشيء الذي لا يوجد ما يعقبه.؟ ومن قال أن جزئية حقيقة شيء كافية لجعل كليته حقيقة مطلقة بدلالة مطلق الجزء الوهمي؟ المظهر هو صفات الشيء المدركة خارجيا وهي في تغيير مستمر فكيف لا يعقبها حقيقة مطلقة أخرى غيرها؟ مطلق الحقيقة وهم ركض وراءه عشرات الفلاسفة ولم يستطيعوا حتى ولو تعريفه وليس بلوغه.

أختم برأي ورد على لسان هيجل (الحقيقة هي الكل) بمعنى الحقيقة الكلية هي نسق متكامل من الصعب معرفته بدلالة معرفة الجزء. عبارة هيجل تكررت استعارتي لها مرتين في مفتتح هذه المقالة وفي نهايتها لأهميتها..

***

علي محمد اليوسف / الموصل

.................................

الهوامش

1. امل مبروك /الفلسفة الحديثة/ ص54

2. نفسه ص 255

لا غرابة ان نجد جورج ادوارد مور فيلسوف الوضعية المنطقية التحليلية الانجليزية ينحى منحى عداء النزعة الفلسفية المثالية التي اعرض بعضها بهذا المقال. فهو يرى ان ماهو مفهوم واضحا لغويا ادراكيا لا يحتاج الى تعريف. ويضيف ان الكون – يقصد عالمنا الذي نعيشه - روحي في صميمه. بمعنى والكلام له انه يختلف كليا مع ما يبدو لنا فهو ينطوي على عدد كبير من الكيفيات او الصفات التي يبدو انه لا يتمتع بها . كلام مورهذا منسوب للمثالية ورد على لسانه1.

جورج مور فيلسوف معروف بنزعته الشعبية التبسيطية للفلسفة ان تكون مفهومة واضحة تتحدث بلغة الناس العاديين حالها حال لغة الاجناس الادبية والثقافية والسرديات النثرية البعيدة عن لغة التعقيد الابهامي والاستعصاء المتبادل بين المتلقي والنص الذي تنفرد به الفلسفة دون سائر الاجناس الثقافية عامة.

جورج مور كان له دورا اساسيا في الانشقاق عن الوضعية المنطقية التحليلية الانجليزية في شخص رائدها بيرتراند رسل متماهيا مع افكار فنجشتين المتأخر الذي إنقلب على تصحيح افكاره الخاطئة عن اللغة في اطروحة الدكتوراه التي تحصّل عليها تحت اشراف بيرتراند رسل. كما كان كارناب عضو الوضعية المنطقية حلقة فيّنا سابقا متضامنا مع جورج مور في التمرد على النهج الذي وضعه بيرتراند رسل في الوضعية التحليلية الانجليزية حلقة اكسفورد ومحاولته الفاشلة ربط اللغة بالمنطق والرياضيات عملا بتوصية الفيلسوف السويسري جاتلوب فريجة.

جورج مور على لسان الفلاسفة المثاليين اعتبر الكون يقصد الطبيعة والانسان هو في صميمه روحيا انما ينزع نحو مثالية تستبطن ماهو روحاني ديني ميتافيزيقي حين يقر بعبارات غامضة ان هذا العالم يحتوي كيفيات او صفات يبدو ان الكون لا يتمتع بها على حد تعبيره.

من السهل على اي قاريء متلق ان ينكر على مور ان الكيفيات او الصفات في عالمنا هي واقعية لمادة وظواهر طبيعية مدركة وليست روحانية لا يتمتع بها الكون والا لما كنا استطعنا نسبتها ادراكيا او حدسيا او حتى خياليا لعالم روحي في صميمه غير مدرك حسب مور ولا لعالم مادي يفرض نفسه حضوريا وهو امر مشكوك به.

جورج مور ومقولته (الزمن لا واقعي)

ماذا يمكننا القول في التعقيب على عبارة مور الملتبسة فلسفيا لكنها الصحيحة صياغة وليست مثالية بل هي مادية بالتفكير الفلسفي رغم نسبتها للفلسفة المثالية للاسباب التي ندرجها عنها لماذا يكون الزمن لا واقعي؟. لكي نلوي حقيقة الزمن مفهوم مطلق لا يدركه العقل تصبح عبارة مور الزمن لا واقعي سليمة.

1.  تعبير مور الزمن لا واقعي تعني الزمن حيادي يلازم الواقع ولا يتمظهر بمكونات الاشياء التي يلازمها بحيادية مستقلة عنها تماما. فالمدركات من الاشياء والمواضيع واقعية لانها محدودة بابعاد فيزيائية معيّنة.

2.  الزمن مطلق غير محدود غير مدرك كموضوع بخلاف الواقع المحدود المتعيّن بابعاد مادية لا تحتاج البرهان على امكانية ادراكها. فالمطلق الزمني لا واقعي لانه ازلي خالد غير متناهي ولا قابل للادراك الا بدلالة حركة غيره من الاجسام المحتواة داخله.

3.  الزمن لا واقعي لانه لا يتموضع بالاشياء التي يلازمها ويحتويها والتي لا تدرك الا بدلالته المستقلة الحيادية عنها. فالزمن لا يكون جزءا من مدركاتنا العقلية في المواضيع والاشياء. الزمن دلالة ادراكية لحركة الاجسام التي يحتويها لكنه ليس بحركة ولا بموضوع مستقل يدركه العقل.

مور وادراك الوجود

في عبارة فلسفية رشيقة تبدو لاول وهلة صحيحة صائبة يقول مور (وجود الشيء هو قابليته على الادراك). العبارة لا تمت بصلة الى مثالية في التفكير الفلسفي. فهي تشير لواقعة مادية تحمل صدقها البرهاني التجريبي معها. وتحدد كيفية ادراك الوجود واقعيا. فوجود اي شيء في عالمنا هو موضوع لادراكنا الحسي والعقلي لكنه لا يحمل معه قابلية الادراك كما ورد على لسان مور. العبارة قابلة للتفنيد المادي كما سيتوضح معنا لاحقا. قابلية الادراك ليست موجودة تكوينيا بالاشياء بل قابلية الادراك هي من خصائص الحواس والوعي والعقل. الموجود المستقل عنا ما يحدد له قابلية الادراك هو امكانية الحواس والعقل ادراكه. المادة لا تدرك ذاتها فتبقى موضوعا لمن يدركها وليست موضوعا لذاتها. والسبب ان هذه المواضيع لا تمتلك وعيا حسيا عقليا يجعلها تدرك ذاتيتها باستقلالية عنها كما يفعل عقل الانسان.

 مثالية مور هنا بالعبارة تستبطن في احشائها بما لا تفصح عنه اللغة تعبيرا. هو ان ما ليس له قابلية الادراك غير موجود وهو خطأ. والحقيقة التي لا شك بها ان جميع موجودات عالمنا بالحياة والطبيعة وجودها متحقق بالضرورة الواقعية حضوريا لانها تمتلك قابلية ادراكها معها في خصيصة الحواس والعقل الادراكية لها. لكن هذه القابلية الادراكية ليست من خصائص الشيء في وجوده كموضوع يدرك وليس خاصية الشيء في ادراكه.

لا تتمتع كل الموجودات المستقلة قابلية الادراك ذاتيا. لكنها تمتلك وجودها المادي وغير المادي عن الادراك المتاح للعقل وليس للموجودات التي لا تعي من يدركها. اذن سبب ادراكنا الموجودات لان حواسنا وعقولنا لها قابلية الادراك ولا تمتلك مدركاتنا قابلية الادراك جزءا تكوينيا منها.

صحيح الادراك الحسي او العقلي هو الوسيلة الوحيدة في ادراكنا الوجود الانطولوجي المادي. لكن نتساءل اي الموجودات والاشياء قابلة للادراك كي لا نقع بخطا نكران وجودها العالم المستقل عنا؟ الحقيقة أن الادراك الحسي او العقلي لا يستطيع الالمام بكل شيء موجود بالحياة والطبيعة. لكن العقل الادراكي للفرد هو الذي يحدد نوعية الادراك لما هو مرغوب ادراكه ومعرفته . العقل الادراكي الفردي والجمعي لا يفكران في مواضيع لا معنى لها ويعجز العقل ان يتصورها اساسا وقد تكون غير موجودة ينطبق عليها مقولة وليم جيمس قوله الباحث في ميتافيزيقا الفلسفة كمن يبحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة.

الشيء الآخر الذي لا يقل اهمية عن ما ذكرناه هو ان موجودات الوجود موجودة باستقلالية عنا سواء طالها ادراكنا ام لم يطلها. وموجودات الوجود التي لا حصر لها ويعجز الادراك الحسي والعقلي التعرف عليها جميعا أن يحدد وجودها المادي والانطولوجي فهي تكتسب قابلية الادراك لمن يدركها.

لكنما لا تطالها الحواس ولا العقل لاسباب لا يمكن حصرها فليس كل شيء بالوجود يستحق الادراك. الحواس والعقل تحصر اهتمامها الادراكي بما له اهمية يستجيب العقل لها دون غيرها فقط.

نخلص من هذا ان موجودات عالمنا موجودة باستقلالية عنا وتحمل معها صفة امتلاكها قابلية الادراك المكتسبة من الحواس والعقل. وقابلية الادراك لا توجد ذاتيا تكوينيا في المدركات. ولو كانت قابلية الادراك خصيصة ذاتية تكوينية بالموجودات لا صبحت موضوعا مستقلا عنها يدركه العل منفصلا عن اصله. كونها اي قابلية الادراك لم تعد جزءا تكوينيا من موجود تدركه الحواس والعقل. كما لسنا بحاجة ادراكنا لموضوعة افتراضية لا اساس مادي لها تكون موضوعا مستقلا لادراك هذا ما يقوله العقل. الموجود المادي وحتى الموضوع الخيالي يسبق كل فعالية يمتلكها العقل في علاقته الادراكية التخارجية المعرفية معها. ويقر جورج مور(بان الكشف عن بطلان القول بوجود هوية او تكافؤ بين الوجود وقابلية الادراك له سيكون هو الكفيل باضعاف حجة انصار المثالية)2. بتعبير آخر مور يقر ان خاصية قابلية الادراك ترجع لمن يدرك الشيء في كينونته الواحدة الموحدة. وليست خاصية الموجود في وجوده . وهو الصحيح الذي كنت ارغبه.

الوجود الروحاني

 يذكر دكتور زكريا ابراهيم نقلا عن لسان جورج مور ان وجود الموضوع هو وقوعه في خبرة الذات. ولما كانت الذات روحانية كان الوجود كله في رأي أصحاب المذهب المثالي روحانيا3.

الموضوع المقيّد بقابلية الادراك حسب العبارة الفائتة من الوجهة المثالية الساذجة لا تعني الموجود المادي بل تعني ميتافيزيقا التهويم التفكيري الصرف. لكن من ناحية خبرة الذات الروحانية التي تصبغ الوجود يكون اسعاف هذا المنحى ان المقصود هو مواضيع الخيال وهذه العلة ليست كافية ابدا. فالخيال لا يصطبغ بالصبغة الروحانية ولا بالصبغة الميتافيزيقية ولا بالصبغة اللونية منفردة او مجتمعة مع غيرها.

ومن التعسف الربط بين ما يبتدعه المخيال الادراكي لمواضيعه وبين الخبرة الذاتية الروحانية الميتافيزيقية المثالية للادراك. فالمخيال منتج لمواضيعه خارج قيد تكبيله بالروحانية الميتافيزيقية فهو ينتج مواضيع الفن والادب وضروب الثقافة التي لا علاقة لها بالروحانية المثالية الميتافيزيقية التي تصبغ الخبرة الذاتية والتي تقوم لاحقا بصبغة الوجود باكمله بالروحانية المطلقة ميتافيزيقيا. الخبرة الروحانية المثالية للذات غير منتجة وهي المستهلك الميتافيزيقي بلا طائل لكل ما لا يقع في خانة المواضيع التي يدركها العقل ويعالجها معرفيا.

طبعا من السهل الرد المادي في تخطئة ان وجود الموضوع يحدد وقوعه في خبرة الذات باستثناء مواضيع الخيال غير المادية التي يقوم المخيال في تخليقها. ولا علاقة حقيقية يتقبلها العقل انه طالما كانت الذات روحانية فهي تستطيع صبغ الوجود كله بالروحانية. روحانية الكون يمكن اسباغها بدون ادنى حقيقة واقعية يتحفظ المرء عليها كون هذا التعبير مثالي يعالج مفهوم مطلق ميتافيزيقي. عندها يصبح متاحا لكل شخص ان يسبغ ما يراه منسجما مع مزاجه في وصفه الوجود بما يشاء بعيدا عن الواقع والعقل والعلم.

اللون والوجود

يعرض مور مثالية فجّة هي علاقة الوجود او بالاحرى الموجود وقابلية الادراك الملازمة له تكوينيا على انها لون او صفة كيفية ويهاجم المثالية بقوله (انهم يتصورون علاقة اللون الازرق بالوعي هي على غرار علاقة اللون الازرق بالخرزة الزرقاء)4.

ما يهمنا هنا هو خطا جورج مور اباحته امكانية استعارة احلال الادراك محل الوعي وبالعكس. الادراك كما هو معلوم خاصية الحواس في نقلها الانطباعات البدئية الاولية عن موجودات العالم الخارجي الى الذهن عبر شبكة الاعصاب.

اما الوعي فهو حصيلة افكار العقل في التوصيات القطعية الصادرة عن الدماغ في معرفته الاشياء المدركة الواصلة له عبر الانطباعات الاولية الحسية ومعرفته لها ومقولاته عنها.. الوعي والادراك كلاهما حلقتا تجريد في منظومة العقل الادراكية ومن المحال ان ينوب احدهما عن الاخر.

يذكر مور باستهجان يدحض به الافكار المثالية ما معناه ان امتلاك الاشياء والموجودات لخاصية قابلية ادراكها ذاتيا التي تلازمها وجودا انطولوجيا باعتبار قابلية الادراك هذه هي (كيفية) او (صفة) تكوينية متموضعة في الموجودات.

ليس شرطا ضروريا ان تكون علة ادراكنا موجودات العالم الخارجي انها تمتلك تكوينيا كيفيا او صفاتيا علة تلازمها تسمى قابلية الادراك. الحقيقة الاكثر مقبولية ان قابلية الادراك هي صفة تحوزها الحواس ولاحقا يتقبلها العقل وهي وسيلة ادراكهما موجودات الوجود. وليس لان الموجودات والاشياء تمتلك قابلية ادراكها كصفة تكوينية متموضعة بها تلازمها. قابلية الادراك لكل شيء في عالمنا الخارجي والطبيعة ان الحواس والعقل يمتلكان قابلية الادراك اللامحدودة لكل شيء يكون موضوعا ولا تمتلكها الاشياء والموجودات بذاتها في وجودها المستقل ماديا عنا.

بيركلي ومور

من المعروف أن بيركلي هو أحد ابرز ثلاثة فلاسفة مثاليين متطرفين حتى العظم هم جون لوك وديفيد هيوم وبيركلي هو اشدهم مثالية ساذجة. رغم التباين بينهم فلسفيا. جون لوك وديفيد هيوم فيلسوفان تجريبيان بالرغم من تطرفهما المثالي. فقد انكرا وجود ما يسمى العقل. وانكر بيركلي معهما وجود عالم خارجي لا تدركه الحواس يقع خارجها. كما هاجم ديفيد هيوم وجود العقل اوالسببية وانكرهما انكارا تاما. بما جعل من شهرة ومكانة هيوم الفلسفية قامت بفضل تفنيده لمفهوم السببية.

حول موضوعة الادراك يقول بيركلي (ان وجود الشيء يتحدد في قابليته ان يكون موضوعا للادراك)5. بالحقيقة لا غبار على صحة العبارة ليس فقط بالمفهوم المثالي بل بالمادي ايضا. رغم اننا تداركنا سابقا خطأ مقولة ادراك الشيء سببه قابلية الادراك التي يمتلكها الشيء ذاتيا تكوينا موجوديا في وجوده المستقل كومضوع. والصحيح ان الحواس والعقل تضفي على مدركاتها قابلية الادراك. ولو انا نزلنا مرتبة ادنى في توضيحنا لقلنا ان قابلية الادراك هي الموجود المتعين بابعاد فيزيائية يدركها العقل ولا يدركها الموجود او الموضوع بذاته.

مور يفسر عبارة بيركلي هذه في دخوله نفق فلسفي شائك ان كل موجود لا يحمل مضمونا لا يكون موضوعا لادراك. طبعا هذا خطأ فلسفي ويدخلنا في ثنائية ابستمولوجية ادراكية ان كل موجود – هو بديهيا موضوع طالما هو محدد ومتعّين وجودا واقعا - له صفات خارجية مدركة وجوهر او مضمون يحتجب خلف الصفات وهو صحيح.

ادراكات الحواس لا تعمل على وفق هذه الآلية الثنائية التي تفصل بين الصفات الخارجية والمضمون. اذ ان ادراك الحواس للاشياء هو ادراك كليتها باشتمالية الصفات والمضمون بمعنى ادراك الشيء كينونة موحدة. صحيح ادراك الصفات الخارجية حسّيا تأتي تراتيبيا فسلجيا بيولوجيا قبل مهمة العقل التفتيش عما وراء الصفات التي ادركتها الحواس ووصلت الدماغ وغالبا ما تكون تلك الادراكات الحسيّة خادعة مضللة للعقل.

يصادفنا ما لا حصر له من موجودات في حياتنا وعالمنا الخارجي وفي الطبيعة يكون ادراكنا لصفاتها الخارجية يغني او يبطل اهتمام العقل الادراكي التفتيش اذا ما كانت تحمل مضمونا مدّخرا جوّانيا غير صفاتها الخارجية البائنة ام لا.

الادراك الحسي لا يدرك مواضيع ادراكه بدافع معرفة مضامينها بقدر نقله الانطباعات السريعة عنها. فادراك الحواس ينحصر في الصفات الخارجية للاشياء المدركة فقط. وانطباعات الحواس حسب ديفيد هيوم هي ليست افكار العقل لذا تكون الانطباعات قلقة ومشوشة سريعة الزوال عكس الافكار التي مصدرها العقل وينقلها الوعي فهي ثابتة.

ورغم مثالية بيركلي الفجّة الساذجة فهو قال بالواحدية الابستمولوجية الادراكية التي تدرك الاشياء بكليتها الكينونية دونما الفصل بين صفات الشيء المدرك الخارجية وبين مضمونه المدّخر او الجوهر المحتجب خلف الصفات غير البادي البائن للادراك. علما انه ليس كل مدركاتنا تحمل في دواخلها جوهرا او مضمونا هو غير صفاتها الخارجية. وكان بيركلي صائبا في مقولته.

ادراك الشيء حسب نظرية بيركلي الواحدية الابستمولوجية هو ادراك لكينونة موجودية واحدة لا تنفصل بها الصفات عن الجوهر او عن المضمون سواء كان المضمون خلف الصفات الخارجية موجودا ام لا . مثال ذلك الحيوان لا يدّخر مضمونية جوهرية خلف صفاته الخارجية المدركة فما يحمله من صفات خارجية مدركة هي جوهره الحقيقي.

وقد سبق وخالف فلسفة بيركلي في الواحدية الابستمولوجية كلا من ديكارت وكانط على التوالي بما عرف عنهما بنظرية الثنائية الابستمولوجية الادراكية. ديكارت قال ان ادراكاتنا للاشياء ينحصر في ادراكنا لصفاتها الخارجية بمعزل عن الاهتمام بادراك مضمينها الجوهرية غير المدركة مع الصفات. وانكر ديكارت ان يكون هناك ادراك يتناول الكينونة الكلية الشاملة للاشياء. واعترف ديكارت بان الموجود المستقل يتكون من مظهر (شكل) ومضمون (جوهر) لا تدركهما الحواس سوية وقد اخذها عن اسبينوزا. وذهب كانط ابعد من ديكارت بهذا المنحى قوله علينا صرف الاهتمام بالتفتيش العبثي غير المجدي عن الجوهر او المضمون المحتجب خلف الصفات الخارجية لمدركاتنا.

 اصبح لدينا مهما الاشارة الى بطلان مقولتين مثاليتين للادراك بهاتين الحقيقتين اللتين اثبتناهما:

الاولى: وجود الشيء لا تحدده قابليته على الادراك غير الموجودة اصلا فيه بل المكتسبة له عن غيره..

الثانية: وجود الشيء يتحدد ادراكيا حين يكون مادة او موضوع يتكون من وحدة متألفة من شكل ومضمون متلازمان لا انفكاك بينهما .

جورج مور واشكالية الموضوع

 اثار مور اشكالية مثيرة للجدل حول ما هو الموضوع؟ قوله: (لابد للادراك الحسي نفسه من ان يدرك – يقصد يكون موضوعا مستقلا عن مدركه الحسي والعقلي في الموجود - لكي يكون موجودا. ويضيف مور متسائلا لماذا لايكون في إمكان الادراكات الحسية ان توجد دون ان تكون موضوعا لادراك؟ ولماذا لا يكون في إمكانية المضامين الحسية ان توجد دون ان تكون هي الاخرى موضوعا لادراك؟6.

رغم هذا التلفيق الفلسفي المثالي لجورج مور خارج المنطق الواقعي الفلسفي اجد ذلك يلزمني توضيح ما جاء به:

1. جورج مور في عبارته السابقة لا يميز ما بين الادراك الحسي (كوسيلة) وبين موضوع الادراك المستقل وجودا في كليته المتعينة ماديا.

2. من المحال ان تتحول وسيلة الادراك الحسية الى موضوع مستقل بذاته دليل قول ما يحب مور ان يفترض قوله لماذا لا يكون في امكانية الادراكات الحسية ان توجد دون ان تكون موضوعا لادراك؟ الادراكات الحسية بعدية على ادراك موضوع سابق عليها وجودا انطولوجيا مستقلا. والادراكات لا توجد بغير ملازمتها لموضوع تدركه فكيف تكون هي موضوعا مستقلا لادراك؟ ومن يدرك ذلك الموضوع في حال تخليقنا له حسب مور تعسفا فلسفيا؟؟ ما تدرك عقولنا يجب ان يكون موضوعا واقعيا مستقلا بالضرورة وهذا ما لا ينطبق على الادراكات الحسية كوسيلة فقط وليس موضوعا لادراك.

3. الادراكات الحسية هي وسيلة تجريد لموضوع كما اسلفنا ولا وجود لها لا وسيلة ولا موضوع مستقل بذاته من غير موضوع تدركه سابق عليها. وكيف يمكن للادراك ان يتحول الى موضوع مستقل عن موضوع ادراكه المادي؟ موضوع الادراك لايكون موضوعا يدركه العقل الا بوسيلة نقل الاحساسات الخارجية عنه بوسيلة مدركات الحواس. والعقل يعتمد فسلجة الدماغ في النظر بالانطباعات الحسية الواصلة للدماغ ولا يعتبرها موضوعا مستقلا عن موضوع انطباعاتها الحسية الاولى المستمدة من موجود مستقل. تفكير الدماغ لا ينظر في وسيلة الادراكات الواصلة اليه بل يهتم بالمواضيع الواصلة اليه عن طريق وسيلتي الحواس ومنظومة الاعصاب.

4. لا اعرف كيف اباح جورج مور لنفسه ان يطرح مثل هذه الافتراضات الافتعالية تساؤله لماذا لا يكون في امكان المضامين الحسية ان توجد دون ان تكون هي الاخرى موضوعا لادراك؟

المضامين الحسية في الاشياء على افتراض وجودها هي جوهر مدّخر في الكلية الكينونية للموجودات كمواضيع مستقلة وجودا غير قابلة لحظة إدراكها للتقسيم الافتراضي التعسفي المفتعل بين شكل ومضمون لموجود شيئي. كما ليس من الثابت أن لجميع مدركاتنا مضامين حسيّة يتوجب أن تكون موضوعا مستقلا لادراك حسي او عقلي.

مضامين المدركات الحسية والعقلية في الاشياء والموجودات في حال تحقق وجودها في مدركات مادية تكون جزءا جوهريا تكوينيا من تلك الموجودات لا قدرة ذاتية لها عن الانفصال. ولا يمكن ان يكون المضمون منفردا عن الشكل موضوعا لادراك. وذكرنا سابقا ان الحواس بمرجعيتها العقلية تدرك الاشياء والموجودات بكليتها الشاملة كينونة موحدة غير منقسمة الى صفات او شكل ومضمون.

كما ذكرنا انه من غير المؤكد ان جميع مدركات الحواس والعقل تحمل مضامين هي غير صفاتها الخارجية. لذا يكون من المحال ان تغادر المضامين شكل احتوائها المادي التكويني في موجود يدركه العقل لتصبح موضوعات مستقلة تبحث لها عن شكل يحتويها كما وتبحث عمن يدركها كمواضوع مستقلة من غير ادراك الحواس والعقل.

***

علي محمد اليوسف

....................

الهوامش:

1.  دراسات في الفلسفة المعاصرة / دكتور زكريا ابراهيم ص187

2.  نفسه نفس الصفحة

3.  نفسه نفس الصفحة

4.  نفسه نفس الصفحة

5.  نفسه ص 191

6.  نفسه ص 198

"إن الدين يحرر الإنسانية حقا لأنه يحرر الإنسان من الشبهات التي قد تسممه إذا تذكر الأزمة كما حدثت بالفعل"

تم تعريف عمل رينيه جيرار (1923 - 2015) من قبل ناشره بأنه "مقال جريء ومؤثر"، ومن المرجح أن يتم التعامل معه، بعبارات أقل رضا عن الذات، باعتباره طموحًا مفرطًا، لأنه يعلن عن مشروع "إعطاء الدين أصلًا حقيقيًا" وبالتالي إظهار "وحدة جميع الطقوس". مشروع، في هذه المرحلة من الثقافة الأنثروبولوجية، لن يكون له من حيث المبدأ أي شيء غير عملي، لو كانت الجرأة الفكرية للمؤلف متناسبة مع الطموح الذي يعبر عنه. ومع ذلك، على الرغم من مظهره القتالي والمتمرد عن طيب خاطر، لم يجد جيرار الشجاعة الأولية لرفض الأساليب القديمة للأنثروبولوجيا التي يدينها مع ذلك، وصياغة الأدوات المناسبة لإنجاز المهمة، في الحقيقة النبيلة جدًا، التي كلفه بها. وفي الوقت الذي كانت فيه الوظيفية موضع تساؤل في بلده الأصلي من قبل أولئك الذين كانوا يطالبون بها حتى الآن، أسس جيرار نظريته، التي دافع عنها بحماسة غير عادية، على البديهية القائلة بأن مؤسسات الشعوب البدائية هي جميعها آليات تهدف إلى الحفاظ على التوازن والحفاظ على الوضع الراهن. إنه من علم الأعراق المستوحى من "التمني" للمسؤولين الاستعماريين الذين يطاردهم الخوف من رؤية النظام معطلاً، وهو يستمد مفهومه للتضحية كعمل يهدف إلى استعادة الانسجام في المجتمع وتعزيز الوحدة الاجتماعية. يكتب: "كل شيء آخر يتدفق من هناك". بالفعل إن الاستجابة الوظيفية للمشكلة الثقافية التي تطرحها التضحية تترك بالضرورة في الغموض محتوى الفكر الذي يؤسس لتضحية المبعوث وكذلك أي طقس آخر. فماذا سيحدث بعد ذلك لرغبة المؤلف في التفسير؟ بين التضحية التي يُنظر إليها كرد فعل تلقائي على العنف، والعنف الأكثر عمومية الذي يتخذ أي شكل من الأشكال، إلى حد التماهي مع المقدس، فإن خصوصية السياق الثقافي هي التي تضيع، على الرغم من التصريحات المتكررة حول خصوصية الثقافي. ومن ثم فإن هناك فجوة بين الأهداف التي يضعها المؤلف لنفسه والوسائل التي منحها لنفسه. على خلاف منذ البداية - لأنه هل يمكننا أن نهدف إلى مشروع مادي دون الاحتراز من الوقوع في المثالية النموذجية؟ ويجب عليه أن يعوض باستمرار عن أوجه القصور المفاهيمية بحجج تهدف إلى تعزيز فرضية العنف المؤسسي والضحية الهاربة، وباللجوء إلى زخارف جديدة تكون بمثابة أمثلة توضيحية. من هناك، وتيرة الكتاب المتهورة، ولكن المتسرعة، ووفرته، وتألقه، مما يجعل القراءة آسرة دائمًا ولكنها مخيبة للآمال دائمًا. هذا هو نفس نوع "التأمل غير الواقعي" الذي استنكره المؤلف منذ صفحاته الأولى، وهو تأمل "غير واقعي" في المشكلات التي اختار دراستها والتي لا يمكن أن تقوم إلا على تعميق الحقائق القربانية البدئية. ومع ذلك، وعلى الرغم من كثرة الأمثلة على ذلك العرق. كان من الممكن أن يعرض عليه ذلك، فدراستهم تكاد تكون معدومة؛ ومن بين الحالات الكلاسيكية أو العبرية القليلة المذكورة، فإن بعضها يعتبر "تضحيات" فقط من خلال إضافاته، مثل حيل يعقوب وأوليسيس. هذه اللامبالاة تجاه علم الأعراق ليست نتيجة للصدفة، أو الإهمال الشخصي. إنه مرتبط بحالة الأزمة في هذا التخصص، وهي الحالة التي يأسف جيرار، مثل كثيرين آخرين، لآثارها بينما يساعد في إدامة أسبابها. ويرجع ذلك إلى مختلف المنهجيات السائدة، رغم أنها في حالة تراجع، والتي تشترك في أنها تشكل الكثير من الهروب من التناقض الزمني، أي خارج الواقع، وبالتالي تمنع المرء من وضع نفسه داخل محور التفسير. ومهما كانت اعتبارات المؤلف بشأن المأساة اليونانية مثيرة للاهتمام، فإنها لا تعوض عن اللامبالاة بالحقائق التي سبقت ظهورها في التاريخ. إن التأكيد على أن “المأساة توفر طريقًا مميزًا للوصول إلى المشكلات الكبرى للإثنولوجيا الدينية" لا يجد محتوى الحقيقة إلا عندما يتم عكسه: " إن الطريق المميز للوصول إلى فهم المآسي اليونانية يمر عبر حل المشكلات الكبرى للإثنولوجيا الدينية".فالعنف هو القمع المستمر لمجتمعنا، في حين أن كل مجتمع يتأثر بقوة عنف داخلية". لكن ماذا يقول رينيه جيرار في «العنف والمقدس»؟

العنف والمقدس

"لقد قلنا للتو: العنف والمقدس. يمكننا أن نقول أيضًا: العنف أو المقدس. إن مسرحية المقدس ولعبة العنف هما شيء واحد. لا شك أن الفكر الإثنولوجي يميل إلى الاعتراف، داخل المقدس، بوجود كل ما يمكن أن يشمله مصطلح العنف. لكنه سيضيف على الفور أن هناك أيضًا، في المقدس، شيئًا آخر، بل وعكسًا للعنف. هناك نظام وكذلك الفوضى، هناك سلام وكذلك حرب، وخلق كما هو الحال في الدمار. هناك، على ما يبدو، الكثير من الأشياء غير المتجانسة، أشياء متعارضة ومتناقضة تخلى المتخصصون عن محاولة حل الالتباس فيها، وتوقفوا عن محاولة إعطاء تعريف بسيط نسبيا للمقدس، ويؤدي تحديد العنف المؤسس إلى تعريف بسيط للغاية، وهذا التعريف ليس وهميا، فهو يكشف عن الوحدة دون إخفاء التعقيد؛ إن تحديد العنف المؤسس يعني فهم أن المقدس يوحد في ذاته كل الأضداد، ليس لأنه يختلف عن العنف ولكن لأن العنف يبدو مختلفًا عن نفسه: أحيانًا يستعيد الإجماع حوله لإنقاذ البشر وبناء الثقافة، وأحيانًا على العكس من ذلك، فهو يصر على تدمير ما بناه. إن البشر لا يعبدون العنف في حد ذاته: فهم لا يمارسون "عبادة العنف" بالمعنى الذي تعنيه الثقافة المعاصرة، بل يعبدون العنف بقدر ما يمنحهم السلام الوحيد الذي يستمتعون به على الإطلاق. ومن خلال العنف الذي يخيفهم، فإن اللاعنف هو ما تهدف إليه عبادة المؤمنين دائمًا. ويظهر اللاعنف كهبة مجانية للعنف، وهذا الظهور ليس بلا سبب، إذ لا يستطيع الإنسان أن يتصالح إلا على حساب طرف ثالث. إن أفضل ما يمكن أن يفعله الرجال في إطار اللاعنف هو الإجماع مطروحًا منه إجماع الضحية المبعوثة. وإذا كان الفكر الديني البدائي مخطئا عندما يؤله العنف، فإنه لا يخطئ عندما يرفض أن ينسب مبدأ الوحدة الاجتماعية إلى إرادة الإنسان. لقد أفلت العالم الغربي والعالم الحديث حتى الآن من الأشكال الأكثر تقييدًا للعنف الأساسي، أي العنف الذي يمكنه القضاء عليه تمامًا. هذا الامتياز لا علاقة له بواحدة من تلك "التجاوزات" التي يعشقها الفلاسفة المثاليون، لأن الفكر الحديث لا يعترف بطبيعتها ولا بأسبابها: فهو لا يدرك وجودها ذاته؛ ولهذا السبب فهو يحدد دائمًا أصل المجتمع في “العقد الاجتماعي”، صريحًا أو ضمنيًا، المتجذّر في “العقل”، و”الفطرة السليمة”، و”الخير المتبادل”، و”المصلحة المفهومة جيدًا”، وما إلى ذلك. وبالتالي، فإن هذا الفكر غير قادر على تحديد جوهر الدين وإضفاء وظيفة حقيقية عليه. وهذا العجز ذو طبيعة أسطورية. إنه يطيل أمد العجز الديني، أي تجنب العنف البشري، والجهل بالتهديد الذي يشكله على المجتمع البشري بأكمله. إن الديني، حتى الأكثر فظاظة، يحمل حقيقة تفلت من كل تيارات الفكر غير الديني، حتى الأكثر «تشاؤما». إنه يعلم أن أساس المجتمعات البشرية ليس شيئًا بديهيًا يمكن للناس أن ينسبوا إليه الفضل. ولذلك فإن علاقة الفكر الحديث بالدين البدائي تختلف كثيرًا عن تلك التي نتخيلها. هناك سوء فهم أساسي يتعلق بالعنف ونتقاسمه مع الفكر الديني. ومن ناحية أخرى، هناك في الدين عناصر من المعرفة، حول موضوع هذا العنف نفسه، وهي حقيقية تمامًا وتهرب منا تمامًا. يخبر المتدين البشر حقًا بما يجب عليهم فعله وما لا يجب عليهم فعله لتجنب عودة العنف المدمر. عندما يهمل الناس الطقوس وينتهكون المحظورات، فإنهم يثيرون حرفيًا العنف المتعالي لينزل بينهم، ليصبحوا مرة أخرى الفاتنة الشيطانية، القضية الهائلة والباطلة التي سيدمرون بعضهم البعض حولها، جسديًا وروحيًا، حتى الفناء التام، ما لم تأتي آلية الضحية المبعوثة، مرة أخرى، لإنقاذهم، ما لم يتنازل العنف السيادي، بعبارة أخرى، الحكم على "الجناة" "المعاقبين" بما فيه الكفاية، لاستعادة حقه. التعالي، أن ينأى بنفسه بقدر ما هو ضروري لمراقبة الناس من الخارج وإلهامهم بالتبجيل المخيف الذي يجلب لهم الخلاص. وبعيدًا عن كونه وهميًا كما قد يتصوره جهلنا بالأطفال الأغنياء والأشخاص المتميزين المشتتين، فإن الغضب حقيقة هائلة؛ إن عدالتها لا هوادة فيها حقًا، وحيادها إلهي حقًا لأنها تقع بشكل عشوائي على جميع الخصوم: إنها واحدة مع المعاملة بالمثل، مع العودة التلقائية للعنف على أولئك الذين لسوء حظهم يلجأون إليه، ويتخيلون أنفسهم قادرين على السيطرة عليه. وبسبب أبعادها الكبيرة وتنظيمها المتفوق، يبدو أن المجتمعات الغربية والحديثة تفلت من قانون العودة التلقائية للعنف. ولذلك يتصورون أن هذا القانون غير موجود ولم يوجد قط. إنهم يصفون الأفكار التي يعتبر هذا القانون حقيقة هائلة بأنها خيالية ووهمية. ومن المؤكد أن هذه الأفكار أسطورية، لأنها تنسب عمل هذا القانون إلى قوة خارجية عن الإنسان. لكن القانون نفسه حقيقي تمامًا؛ إن العودة التلقائية للعنف إلى نقطة بدايته، في العلاقات الإنسانية، ليست أمرا خياليا. وإذا كنا لا نعرف أي شيء عنه حتى الآن، فربما لا يكون ذلك لأننا أفلتنا بشكل نهائي من هذا القانون، لأننا "تجاوزناه"، ولكن لأن تطبيقه، في العالم الحديث، تأخر طويلاً، لأسباب تغيب عنا. ولعل هذا ما يكتشفه التاريخ المعاصر". ووفقا ل رينيه جيرار ه، يجب علينا اليوم أن نبرز على السطح ما واجهته الأديان بشكل مباشر، أي ذلك الجزء من العنف الذي يقع في قلب مجتمعاتنا، والذي تسعى الأديان إلى توجيهه. العنف هو القمع المستمر لمجتمعنا، في حين أن كل مجتمع تحكمه قوة عنف داخلية، وهو ما سعى رينيه جيرار إلى وصفه وتحليله. قلب العنف، بحسب جيرار، يكمن في قلب العلاقات الأكثر حميمية بين البشر، في قلب الرغبة بين البشر، هذه الرغبة التي تجعلنا نرغب في شخص ما، شيء ما، ولكننا أيضًا ضد شخص ما، شيء ما، ولا يمكننا أن نعيش بدون هذا التنافس المستمر. ومن يقول الحب، يقول أيضًا التنافس والغيرة والحرب. "لماذا يشكل الانتقام الدموي، أينما حدث، تهديدًا لا يطاق؟ الانتقام المرضي الوحيد، في مواجهة سفك الدماء، هو سفك دماء المجرم. ليس هناك فرق واضح بين الفعل الذي يعاقب عليه الانتقام والانتقام نفسه. القصد من الانتقام هو الانتقام وكل انتقام يستدعي أعمال انتقامية جديدة. والجريمة التي يعاقب عليها الانتقام لا تُعتبر أبدًا هي الجريمة الأولى؛ بل هي كان المقصود بالفعل الانتقام من جريمة أصلية أكثر خطورة. وبالتالي فإن الانتقام يشكل عملية لا نهاية لها ولا نهاية لها. وفي كل مرة تنشأ في أي نقطة في المجتمع فإنها تميل إلى الانتشار والوصول إلى الجسم الاجتماعي بأكمله. إنه يخاطر بالتسبب في سلسلة من ردود الفعل الحقيقية ذات العواقب القاتلة السريعة في مجتمع صغير. إن تضاعف الأعمال الانتقامية يعرض وجود المجتمع ذاته للخطر. ولهذا السبب يخضع الانتقام في كل مكان لحظر صارم للغاية. ولكن من الغريب أن هذا الحظر هو الأكثر صرامة حيث يسود الانتقام. حتى عندما تبقى في الظل، عندما يظل دورها غير مهم على ما يبدو، فإنها تحدد أشياء كثيرة في العلاقات بين البشر. وهذا لا يعني أن حظر الانتقام يتم انتهاكه سراً. ولأن القتل أمر مروع، ولأن البشر يجب أن يُمنعوا من القتل، فإن واجب الانتقام يُفرض. إن واجب عدم سفك الدماء لا يختلف حقًا عن واجب الانتقام للدم المسكوب. ومن ثم، فإن إيقاف الانتقام، كما هو الحال مع وقف الحرب، لا يكفي في أيامنا هذه لإقناع البشر بأن العنف بغيض؛ ولأنهم مقتنعون بذلك، فإنهم يجعلون من واجبهم الانتقام لها. هناك حلقة مفرغة من الانتقام ولا نشك في مدى تأثيرها على المجتمعات البدائية. هذه الدائرة غير موجودة بالنسبة لنا. ما هو سبب هذا الامتياز؟

يمكننا أن نقدم إجابة قاطعة على هذا السؤال على المستوى المؤسسي. إن نظام العدالة هو الذي يبعد التهديد بالانتقام. إنه لا يلغي الانتقام: بل يحصره فعلياً في انتقام واحد توكل ممارسته إلى سلطة سيادية متخصصة في مجاله. قرارات السلطة القضائية تؤكد دائما أنها الكلمة الأخيرة للانتقام. بعض التعبيرات هنا كاشفة أكثر من النظريات القانونية. بمجرد استبعاد الانتقام الذي لا نهاية له، يصبح أحيانًا معروفًا باسم الانتقام الخاص. ويعني التعبير الانتقام العام، لكن المصطلح الثاني للمعارضة ليس صريحًا أبدًا. في المجتمعات البدائية، بحكم التعريف، لا يوجد سوى الانتقام الخاص. ولذلك، ليس من بينها ما يجب أن نسعى إلى الانتقام منه، ففي المجتمعات المتحضرة فقط يمكن للنظام القضائي أن يقدم الإجابة المطلوبة. ولا يوجد مبدأ للعدالة في النظام الجزائي يختلف فعلياً عن مبدأ الانتقام. إنه نفس المبدأ الذي يعمل في كلتا الحالتين، مبدأ المعاملة بالمثل العنيفة، والانتقام. فإما أن يكون هذا المبدأ عادلاً والعدالة موجودة بالفعل في الانتقام، أو أنه لا توجد عدالة في أي مكان. ومن ينتقم لنفسه تقول اللغة الإنجليزية: يأخذ القانون بيده. ليس هناك فرق من حيث المبدأ بين الانتقام الخاص والانتقام العام، ولكن هناك فرق هائل على المستوى الاجتماعي: لم يعد الانتقام ينتقم؛ انتهت العملية. لقد انتهى خطر التصعيد". كما "يمكن وصف آلية العنف المتبادل بأنها حلقة مفرغة، بمجرد دخول المجتمع إليها، لا يستطيع الخروج منها. يمكننا تعريف هذه الدائرة من حيث الانتقام والانتقام، ويمكننا أن نعطيها أوصافًا نفسية مختلفة. وطالما يوجد داخل المجتمع رأسمال من الكراهية وعدم الثقة المتراكمة، فإن الرجال يستمرون في الاستفادة منها وجعلها تؤتي ثمارها. كل منهم يستعد ضد العدوان المحتمل من جاره ويفسر استعداداته على أنها تأكيد لميوله العدوانية. وبشكل أعم، نحن يجب أن ندرك أن العنف له طابع محاكاة من الشدة بحيث لا يمكن للعنف أن يموت من تلقاء نفسه بمجرد أن يتجذر في المجتمع. وللخروج من هذه الدائرة، سيكون من الضروري تصفية تراكم العنف الهائل الذي يعرض المستقبل للخطر، وسيكون من الضروري حرمان الناس من جميع نماذج العنف التي تستمر في التكاثر وتولد تقليدًا جديدًا. إذا نجح الناس جميعًا في إقناع أنفسهم بأن واحدًا منهم فقط هو المسؤول عن كل المحاكاة العنيفة، وإذا نجحوا في رؤية "العيب" الذي يلوثهم جميعًا فيه، وإذا كانوا مجمعين حقًا على اعتقادهم، فسيتم التحقق من هذا الاعتقاد لأنه لن يكون هناك بعد الآن في أي مكان، في المجتمع، أي نموذج للعنف يجب اتباعه أو رفضه، أي، لا محالة، المحاكاة والتكاثر. من خلال تدمير الضحية المبعوثة، سيعتقد البشر أنهم يتخلصون من شرهم، وسوف يتخلصون منه بالفعل لأنه لن يكون هناك عنف رائع بينهم." "في اللحظة القصوى من الأزمة، عندما يتحول العنف المتبادل فجأة إلى إجماع هادئ، يبدو وجها العنف متجاورين: يتلامس الطرفان. هذا التحول له الضحية المبعوثة كمحور له. لذلك يبدو أن هذه الضحية تجمع في شخصها أكثر جوانب العنف شرًا وأكثرها فائدة. وليس من غير المنطقي أن نرى فيها تجسيدًا للعبة يريدها البشر ويمكنهم أن يعتقدوا أنهم غرباء تمامًا، اللعبة. عنفهم، وهي لعبة تفلت منهم قاعدتها الرئيسية في الواقع. ولا يكفي أن نقول إن الضحية المبعوث "يرمز" إلى الانتقال من العنف المتبادل والمدمر إلى تأسيس الإجماع؛ هي التي تصنع هذا المقطع وهي واحدة معه. يقود الفكر الديني بالضرورة إلى رؤية الضحية المرسلة، أي ببساطة، في الضحية الأخيرة، ذلك الشخص الذي يعاني من العنف دون إثارة أعمال انتقامية جديدة، مخلوق خارق للطبيعة يزرع العنف ليحصد السلام بعد ذلك، منقذًا هائلًا وغامضًا يجعل الناس مرضى لكي يشفيهم بعد ذلك." بعد ذلك "يستمر القليل من العنف الحقيقي في الطقوس؛ ويجب بالطبع أن تكون التضحية مبهرة قليلاً حتى تحافظ على فعاليتها، ولكنها موجهة بشكل أساسي نحو النظام والسلام. حتى أكثر الطقوس عنفًا تهدف حقًا إلى طرد العنف. ونحن نخطئ بشكل جذري عندما نرى فيها ما هو أكثر مرضًا ومرضًا في الإنسان. إن الطقوس عنيفة بالتأكيد، لكن العنف الأقل دائمًا هو الذي يوفر الحماية ضد العنف الأسوأ؛ إنه يسعى دائمًا إلى إعادة الاتصال بأكبر سلام عرفه المجتمع، والذي ينتج بعد القتل عن الإجماع حول الضحية المبعوثة. إن تبديد رائحة الشر التي تتراكم دائمًا في المجتمع واستعادة نضارة الأصول هما الشيء نفسه. سواء ساد النظام أو كان مضطربًا بالفعل، دائمًا ما يكون نفس النموذج هو الذي يجب الرجوع إليه، وهو دائمًا نفس النمط الذي يجب تكراره، وهو نمط كل أزمة يتم التغلب عليها منتصرًا، والعنف الجماعي ضد مبعوث الضحية." كما "يهدف العنف الطقسي إلى إعادة إنتاج العنف الأصلي. هذا العنف الأصلي ليس أسطوريًا ولكن تقليده الطقسي يشتمل بالضرورة على عناصر أسطورية. العنف الأصلي بالتأكيد لم يكن يعارض مجموعتين متمايزتين بشكل واضح مثل مجموعتي العمين. يمكننا أن نفترض من حيث المبدأ أن العنف يسبق إما تقسيم المجموعة الأصلية إلى نصفين خارجيين، أو ارتباط مجموعتين، غريبتين عن بعضهما البعض، بغرض التبادلات. لقد حدث العنف الأصلي داخل مجموعة واحدة تدخل فيها الآلية. يفرض مبعوث الضحية القاعدة، مما يجبره إما على الانقسام أو الارتباط بمجموعات أخرى، ويحدث العنف الطقسي بين المجموعات التي تم تشكيلها بالفعل. ان العنف الطقسي دائمًا ما يكون أقل داخليًا من العنف الأصلي. عندما يصبح العنف طقسًا أسطوريًا، يتحرك إلى الخارج، وهذه الحركة لها، في حد ذاتها، طابع تضحي: فهي تخفي مكان العنف الأصلي، وتحمي من هذا العنف ومن معرفة هذا العنف المجموعة الأولية التي يجب أن يسود السلام فيها بشكل مطلق."

نقد التمركز العرقي الغربي الذي من خلاله تأتي الفضيحة

1- هذا النقاش مشروع أيضاً. الثقافة الغربية هي أيضًا متمركزة عرقيًا، وهذا أمر واضح تمامًا، فهي متمركزة عرقيًا مثل كل الثقافات الأخرى وبطريقة أكثر قسوة، بالطبع، بسبب قوتها. إنها ليست مسألة إنكار ذلك، ولكن لماذا لا نعترف في الوقت نفسه بالأدلة التاريخية التي لا يمكن دحضها؟ وعلى عكس جميع الثقافات الأخرى، التي كانت دائمًا متمركزة عرقيًا بشكل صريح وبلا خجل، فإننا نحن الغربيين دائمًا ما نكون أنفسنا وأعداء أنفسنا في نفس الوقت. نحن صاحب الجلالة ومعارضة جلالته. نحن ندين ما نحن عليه، أو نعتقد أننا عليه، بحماسة غير فعالة في أغلب الأحيان، ولكننا على الأقل نحاول. وما يحدث اليوم هو مثال آخر على شغف النقد الذاتي، الذي لا يوجد إلا بين الكائنات التي تأثرت بالحضارة اليهودية المسيحية.

2- مع انتهاء الحرب الباردة تضاءلت مخاطر الحرب الكارثية، وابتهج الشعب المسالم، لكن ما كان إلا تأجيلا وكان لدينا نذير شؤم. لقد أُعلن منذ فترة طويلة، ولكن من دون تصديق حقيقي، أن الإرهاب سيحل محل الحرب التقليدية. كان من الصعب أن نرى كيف يمكن أن يجعل نفسه مخيفًا مثل احتمال حدوث تبادل نووي بين القوى العظمى. اليوم نرى. ويبدو أن العنف وقع في إطار عملية تصعيد تذكرنا بانتشار النار أو انتشار الوباء. تعود الصور الأسطورية العظيمة إلى الظهور كما لو أن العنف وجد شكلاً قديمًا وغامضًا إلى حد ما. إنها مثل زوبعة تتجمع فيها أشكال العنف الأكثر عنفًا وتندمج. هناك العنف الأسري والمدرسي، الذي يرتكبه هؤلاء المراهقون الذين يذبحون زملائهم في المدارس الأمريكية، وهناك العنف المرئي في جميع أنحاء العالم، وهو الإرهاب بلا حدود أو حدود. والأخيرة تخوض حرب إبادة حقيقية ضد السكان المدنيين. يبدو أننا نتجه نحو لقاء كوكبي للبشرية جمعاء بعنفها. عندما تأخرت العولمة كثيرا، كان الجميع يأمل في حدوثها. كانت وحدة الكوكب موضوعًا عظيمًا للحداثة المنتصرة. وأقيمت "معارض دولية" على شرفه. والآن بعد أن أصبحت هنا، فهي تثير القلق أكثر من الفخر. ربما لا يكون محو الخلافات هو المصالحة العالمية التي اعتبرناها مؤكدة.

3- من خلال مراقبة البشر من حولنا، ندرك بسرعة أن الرغبة في التقليد، أو الرغبة في التقليد، تهيمن على أصغر إيماءاتنا وعلى أساسيات حياتنا، مثل اختيار الزوجة، واختيار المهنة، والمعنى الذي نعطيه للوجود. إن ما نسميه بالرغبة أو العاطفة ليس تقليدًا أو تقليدًا عرضيًا أو من وقت لآخر، بل في كل وقت. بعيدًا عن كوننا أكثر ما نملكه، فإن رغبتنا تأتي من الآخرين. إنه اجتماعي بشكل بارز... يلعب التقليد دورًا مهمًا في الثدييات العليا، خاصة بين أقرب أقربائنا، القردة العليا؛ ويصبح أكثر قوة عند البشر ، وهذا هو السبب الرئيسي الذي يجعلنا أكثر ذكاءً وأكثر قتالية وعنفًا من جميع الثدييات. المحاكاة هي الذكاء البشري في أكثر حالاته ديناميكية. إنه إذن ما يتجاوز الحيوانية، ولكنه ما يجعلنا نفقد التوازن الحيواني ويمكن أن يجعلنا نقع إلى أدنى بكثير من أولئك الذين كانوا يُطلق عليهم سابقًا "إخواننا الأدنى". وبمجرد أن نرغب فيما يرغب فيه نموذج قريب منا بدرجة كافية في الزمان والمكان، حتى يصبح الشيء الذي يطمع فيه في متناول أيدينا، نسعى جاهدين إلى انتزاع هذا الشيء منه ويصبح التنافس بيننا وبينه أمرًا لا مفر منه. إنه التنافس المحاكاتى. يمكن أن تصل إلى مستوى غير عادي من الشدة. إنها مسؤولة عن تكرار وشدة الصراع البشري، ولكن الغريب أنه لا أحد يتحدث عنها على الإطلاق. إنها تفعل كل شيء لإخفاء نفسها، حتى عن أعين الأشخاص المهتمين، وتنجح بشكل عام.

4- لفهم التاريخ الحالي، يجب علينا أولاً أن ننظر إلى داخل أنفسنا وكذلك إلى ما حولنا. عالمنا مليء بالمنافسة في جميع المجالات والطموح المحموم. كل واحد منا يتأثر بهذه الروح التي ليست سيئة. لقد انتشرت روح المنافسة، التي سادت لفترة طويلة في العلاقات داخل الطبقات الحاكمة، في جميع أنحاء المجتمع، وهي تنتصر اليوم بشكل أو بآخر في جميع أنحاء الأرض. في الدول الغربية، وخاصة في الولايات المتحدة، لا يقتصر دورها على تنشيط الحياة الاقتصادية والمالية فحسب، بل أيضًا البحث العلمي والحياة الفكرية. وعلى الرغم من التوتر والاضطراب الذي يسود في كل مكان، فإن الغربيين في عموم الأمر سعداء بتبنيه، لأن تأثيراته الإيجابية كبيرة، بدءاً بالثروات الباهظة التي يتمتع بها قسم كبير من السكان. ولم يعد أحد يفكر في التخلي عنه بعد الآن، لأنه يتيح لنا أن نحلم بمستقبل أكثر إشراقا وازدهارا من الماضي القريب. يبدو لنا أن عالمنا هو أكثر عالم مرغوب فيه على الإطلاق، خاصة عندما نقارنه بمناطق العالم التي لم تحقق نفس النجاح. على الرغم من كل شيء، هناك شيء سلبي وهائل في الوضع الحالي، حتى بالنسبة لأولئك الذين يستفيدون منه أكثر من غيرهم، وهو الجاذبية، المخفية جيداً ولكن المؤكدة، التي يمارسها "النموذج الغربي" على الحشود البائسة في العالم الثالث.

5- جميع المجتمعات البشرية بلا استثناء تميل إلى الانهيار نتيجة للعنف الداخلي فيها. عندما يحدث هذا، تكون لديهم وسيلة للتعافي بعيدة عنهم ولم تكتشفها الأنثروبولوجيا أبدًا، وهي التقارب التلقائي والمحاكي للمجتمع بأكمله ضد ضحية واحدة، "كبش الفداء" الأصلي الذي تُطلق عليه كل الكراهية دون أن تنتشر بشكل كارثي إلى المحيط، دون تدمير المجتمع."

الرغبة في المحاكاة ومحاكاة الرغبة

"في كل الرغبات التي لاحظناها، لم يكن هناك موضوع وذات فحسب، بل كان هناك حد ثالث، منافس، يمكننا أن نحاول، ولو لمرة واحدة، أن نعطيه الأولوية. الذات ترغب في الشيء لأن المنافس نفسه يرغب فيه. من خلال الرغبة في هذا الشيء أو ذاك، فإن المنافس يعينه للذات على أنه مرغوب فيه. المنافس هو نموذج الذات، ليس على المستوى السطحي لطرق الوجود، والأفكار، وما إلى ذلك، بقدر ما هو على المستوى الأكثر أهمية للرغبة. بمجرد إشباع احتياجاته البدائية، وأحيانًا حتى قبل ذلك، يرغب الإنسان بشدة، لكنه لا يعرف ماذا بالضبط، لأنه الكائن الذي يرغب فيه، الكائن الذي يشعر بأنه محروم منه والذي يبدو له أن شخصًا آخر قد قدمه له. تتوقع الذات من هذا الآخر أن يخبره بما يرغب فيه، ليكتسب هذا الكائن. إذا كان النموذج، الذي وُهِب بالفعل، على ما يبدو، كائنًا أعلى، يرغب في شيء ما، فيمكن أن يكون فقط موضوعًا قادرًا على منح وفرة أكثر شمولاً للوجود. ليس من خلال الكلمات، بل من خلال رغبته الخاصة، يعين النموذج للموضوع الشيء المرغوب فيه للغاية. إننا نعود إلى فكرة قديمة ربما تكون مضامينها غير معروفة؛ الرغبة هي في الأساس محاكاة، وهي مصممة على نموذج الرغبة؛ فهو يختار نفس الكائن مثل هذا النموذج. إن تقليد الرغبة الطفولية معترف به عالميًا. ولا تختلف رغبة البالغين بأي حال من الأحوال، باستثناء أن البالغين، وخاصة في سياقنا الثقافي، يخجلون في أغلب الأحيان من محاكاة الآخرين؛ إنه خائف من الكشف عن افتقاره إلى الوجود. يعلن أنه راضٍ جدًا عن نفسه؛ ويقدم نفسه قدوة للآخرين؛ الجميع يردد: "قلدني" ليخفي تقليده. رغبتان تتلاقى على نفس الشيء تعيق بعضهما البعض. أي تقليد يتعلق بالرغبة يؤدي تلقائيًا إلى الصراع. "

التطهير التضحوي وكبش الفداء

"إذا لم يكن هناك علاج حاسم ضد العنف، في المجتمعات البدائية، ولا يوجد علاج معصوم من الخطأ عندما يختل التوازن، يمكننا أن نفترض أن التدابير الوقائية، بدلاً من التدابير العلاجية، ستلعب دوراً رائداً. وهنا نجد تعريف التضحية الذي يجعلها أداة وقائية في مكافحة العنف. في عالم حيث يمكن لأدنى صراع أن يؤدي إلى كوارث، مثل أدنى نزيف لدى مريض الهيموفيليا، فإن التضحية تستقطب الميول العدوانية نحو ضحايا حقيقيين أو مثاليين، أحياء أو جمادات ولكنهم دائمًا غير قادرين على الانتقام، محايدون وعقيمون بشكل موحد من حيث الانتقام. إنه يوفر شهية للعنف الذي لا تستطيع إرادة الزهد وحدها التغلب عليه بمنفذ جزئي، مؤقت بالتأكيد، ولكنه متجدد إلى ما لا نهاية، والذي يوجد حول فعاليته الكثير من الشهادات المتوافقة التي لا يمكن إهمالها. التضحية تمنع بذور العنف من النمو. إنه يساعد البشر على الانتقام. في المجتمعات المضحية، لا يوجد موقف حرج لا نستجيب له بالتضحية، ولكن هناك أزمات معينة تبدو ذات صلة خاصة به. إن هذه الأزمات تتحدى دائمًا وحدة المجتمع، وتؤدي دائمًا إلى الشقاق والشقاق. وكلما كانت الأزمة أكثر حدة، كلما كانت الضحية "أغلى". "إذا نجح التطهير التضحوي في منع الانتشار المنظم للعنف، فهو في الحقيقة نوع من العدوى التي ينجح في إيقافها. إذا ألقينا نظرة إلى الوراء، فسنرى أن العنف، منذ البداية، قد كشف لنا عن نفسه كشيء قابل للتبديل بشكل بارز. ويمكن وصف ميله للاندفاع نحو جسم بديل، في غياب الهدف الأصلي، بأنه نوع من التلوث. إن العنف الذي تم قمعه لفترة طويلة ينتهي به الأمر دائمًا إلى الانتشار إلى المناطق المحيطة؛ لذلك، الويل لأولئك الذين يصلون إلى متناولها. تهدف الاحتياطات الطقسية من ناحية إلى منع هذا النوع من الانتشار ومن ناحية أخرى إلى الحماية، قدر الإمكان، لأولئك الذين يجدون أنفسهم فجأة متورطين في حالة من النجاسة الطقسية، أي العنف.أدنى قدر من العنف يمكن أن يؤدي إلى تصعيد كارثي. وحتى لو أصبحت هذه الحقيقة، دون أن تكون قديمة بأي حال من الأحوال، صعبة الرؤية، على الأقل في حياتنا اليومية، فإننا نعلم جميعًا أن مشهد العنف فيه شيء "معدي". يكاد يكون من المستحيل، في بعض الأحيان، الهروب من هذه العدوى. وعندما يتعلق الأمر بالعنف، فإن التعصب يمكن أن يكون في نهاية المطاف قاتلا مثل التسامح. عندما يصبح العنف واضحًا، هناك رجال يسلمون أنفسهم له بحرية، وحتى بحماس؛ وهناك آخرون يعارضون تقدمه؛ لكنهم في كثير من الأحيان هم الذين يسمحون له بالانتصار. لا توجد قاعدة صالحة عالميًا، ولا يوجد مبدأ ينتهي بالمقاومة. هناك أوقات تكون فيها جميع العلاجات فعالة، سواء التعنت أو التسوية؛ هناك آخرون، على العكس من ذلك، حيث يذهبون جميعا عبثا؛ ثم يقومون فقط بزيادة الشر الذي يتخيلون أنهم يحبطوهم. يبدو دائمًا أن اللحظة تأتي حيث لم يعد بإمكاننا معارضة العنف إلا بعنف آخر؛ فلا يهم إذن، سواء نجحنا أو فشلنا، فهي الفائزة دائمًا. للعنف تأثيرات محاكاة غير عادية، أحيانًا مباشرة وإيجابية، وأحيانًا غير مباشرة وسلبية. كلما سعى البشر للسيطرة عليه، كلما زادوا تزويده بالطعام؛ فهو يحول إلى وسائل عمل العوائق التي نعتقد أنها تعارضها؛ فهو يشبه اللهب الذي يأكل كل ما يمكن أن يُلقى عليه بقصد خنقه. لقد استخدمنا للتو استعارة النار؛ كان من الممكن أن نلجأ إلى العاصفة، أو الفيضان، أو الزلزال. تمامًا مثل الطاعون، في الحقيقة، لن تكون هذه استعارات، لا شيء سوى استعارات. وهذا لا يعني أننا نعود إلى الأطروحة التي تجعل المقدس مجرد تجلي للظواهر الطبيعية. ان المقدس هو كل ما يسيطر على الإنسان، وكلما اعتقد الإنسان أنه قادر على السيطرة عليه. ولذلك فإن العواصف وحرائق الغابات والأوبئة، من بين أمور أخرى ولكن بشكل ثانوي، هي التي تدمر السكان. ولكنه أيضًا، وفوق كل شيء، وإن كان بطريقة أكثر خفية، هو عنف البشر أنفسهم، عنف يُطرح كخارج عن الإنسان ويختلط منذ ذلك الحين بكل القوى الأخرى التي تثقل كاهل الإنسان من الخارج. إنه العنف الذي يشكل القلب الحقيقي والروح السرية للمقدس." " وكما أن الضحايا المضحين، من حيث المبدأ، يقدمون إلى الألوهية ويقبلونها، فإن النظام القضائي يشير إلى لاهوت يضمن حقيقة عدالته. بل إن هذا اللاهوت يمكن أن يختفي، كما اختفى في عالمنا، ويبقى سمو النظام على حاله. لقد انهار قبل قرون من إدراك الناس أنه لا يوجد فرق بين مبدأ العدالة ومبدأ الانتقام. عندما لا يكون هناك أي تجاوز، ديني، أو إنساني، أو من أي نوع آخر، لتعريف العنف المشروع وضمان خصوصيته في مواجهة كل أشكال العنف غير المشروع، فإن شرعية العنف وعدم شرعيته تُترك بشكل نهائي لرأي كل شخص، أي للتذبذب والمحو المذهلين. هناك قدر من العنف المشروع الآن بقدر ما يوجد من عنف، وهذا يعني أنه لم يعد هناك أي عنف على الإطلاق. فقط بعض التعالي، من خلال جعل الناس يؤمنون بالفرق بين التضحية والانتقام، أو بين النظام القضائي والانتقام، يمكن أن يخدع العنف بشكل مستدام. الدين إذن أبعد ما يكون عن كونه "عديم الفائدة". إنه يجرد العنف من إنسانيته، ويزيل العنف من الإنسان لحمايته منه، مما يجعله تهديدًا متساميًا وموجودًا دائمًا ويتطلب استرضائه بالطقوس المناسبة وكذلك بالسلوك المتواضع والحكيم. إن الدين يحرر الإنسانية حقا لأنه يحرر الإنسان من الشبهات التي قد تسممه إذا تذكر الأزمة كما حدثت بالفعل. إن التفكير دينيًا يعني التفكير في مصير المدينة وفقًا لهذا العنف الذي يسيطر على الإنسان بقوة أكبر عندما يعتقد الإنسان أنه أكثر قدرة على السيطرة عليه. لذلك يجب أن نفكر في هذا العنف باعتباره فوق طاقة البشر، وأن نبقيه بعيدًا، وأن ننبذه. عندما يضعف العشق المرعوب، وعندما تبدأ الاختلافات في الاختفاء، تفقد التضحيات الطقسية فعاليتها: ولا تعد مقبولة. يدعي الجميع تصحيح الوضع بأنفسهم، لكن لا أحد ينجح: إن اختفاء التعالي يعني أنه لم يعد هناك أدنى فرق بين الرغبة في إنقاذ المدينة والطموح المفرط، بين التقوى الصادقة والرغبة في تأليه الذات. من خلال إظهار لنا في الإنسان كائنًا يعرف تمامًا ما يريده، أو الذي، إذا بدا أنه لا يعرف ذلك، لديه دائمًا "لاوعي" يعرف ذلك نيابةً عنه، ربما غاب المنظرون المعاصرون عن المنطقة التي يكون فيها عدم اليقين البشري أكثر وضوحًا. بمجرد إشباع احتياجاته البدائية، وأحيانًا حتى قبل ذلك، يرغب الإنسان بشدة، لكنه لا يعرف ماذا بالضبط، لأنه الكائن الذي يرغب فيه، الكائن الذي يشعر بأنه محروم منه والذي يبدو له أن شخصًا آخر قد وفره له. تتوقع الذات أن يخبره هذا الآخر بما يريده من أجل الحصول على هذا الكائن. إذا كان النموذج، الذي وُهِب بالفعل، على ما يبدو، كائنًا متفوقًا، يرغب في شيء ما، فيمكن أن يكون فقط موضوعًا قادرًا على منح المزيد من الامتلاء الكلي. ليس من خلال الكلمات، بل من خلال رغبته الخاصة، يعين النموذج للموضوع الشيء المرغوب فيه للغاية. نعود إلى فكرة قديمة، لكن آثارها ربما تكون غير معروفة: الرغبة هي في الأساس محاكاة، وهي مصاغة على نموذج الرغبة؛ فهو يختار نفس الكائن مثل النموذج. إن تقليد الرغبة الطفولية معترف به عالميًا. ولا تختلف رغبة البالغين بأي حال من الأحوال، باستثناء أن البالغين، وخاصة في سياقنا الثقافي، يخجلون في أغلب الأحيان من محاكاة الآخرين؛ إنه خائف من الكشف عن افتقاره إلى الوجود. يعلن أنه راضٍ جدًا عن نفسه؛ ويقدم نفسه قدوة للآخرين؛ الجميع يردد: "قلدني" ليخفي تقليده. رغبتان تتقاربان نحو نفس الشيء تعيقان بعضهما البعض. أي تقليد يتعلق بالرغبة يؤدي تلقائيًا إلى الصراع. الرجال دائمًا ما يتعامون جزئيًا عن سبب التنافس هذا. نفس الشيء، نفس الشيء، في العلاقات الإنسانية، يثير فكرة الانسجام: لدينا نفس الأذواق، نحب نفس الأشياء، نحن مخلوقين للتوافق. ماذا سيحدث إذا كان لدينا حقا نفس الرغبات؟

تعقيب

العنف والمقدس، كلمتان مرتبطتان بهذا الشكل، لهما معنى آخر غير المعنى الذي يخصهما عندما يتحرران من هذا الارتباط المفروض. في الواقع، لم يعد هناك حاجة إلى إثبات وجود العنف في كل مكان في جميع مجالات الأنثروبوس، الذي يشكل نموذجًا نموذجيًا مرتبطًا بالمقدس، كما لو كان شكلاً من أشكال دعوة الإنسان. إنها، جنبًا إلى جنب، أو متشابكة، تجليات لعنصرين مكونين للإنسان، أحدهما، العنف، الناتج عن غريزة الدفاع، وبالتالي البقاء، والآخر، المقدس، المولود من الحاجة إلى الأمل في شيء قادر على إدامة مرور الإنسان على الأرض، ويجلب له فكرة الذات، كيان خارجه وداخله في نفس الوقت. حتمًا، ما يخلقه الإنسان يشهد على هذين الحضورين، حضور ما يمكن أن نسميه، للتبسيط ، الإلهي وحضور الغرائز، ظلالًا مرعبة بجانب الضوء اللمح. تمت دراسة هذا التداخل بين العنف والمقدس باستفاضة من قبل عالم الأنثروبولوجيا رينيه جيرار، وخاصة من العهد الجديد والنصوص النبوية اليهودية. هناك عملان، من بين مجموعة كبيرة من الأعمال، يشهدان على هذا الشغف الفكري: العنف والمقدس (1972) وكبش الفداء (1982). تم الاعتراف به مؤخرًا في فرنسا، مثل العديد من الأكاديميين معاصريه العاملين في مجال الأديان، فهو يضع في قلب عمله ما يسميه الرغبة المحاكاتية، تلك الرغبة التي يمتلكها الآخر، والتي تؤدي إلى العنف الذي هو، حسب رأيه، أساس كل تنظيم اجتماعي. وسيركز هذا العنف على الفرد، كبش الفداء، الذي من المفترض أن تجلب تضحيته السلام للمجتمع. لا يمكن الجدال حول الدور الأساسي للعنف في الممارسة الدينية، ولا سيما أثناء الطقوس، سواء كانت بدائية ، حيث يكون حاضرًا للغاية. من الواضح أن طقوس التضحية تصل بهذا العنف إلى ذروته - كما أظهر رينيه جيرار في عمله "العنف والمقدس"، فإنها تصرف العنف عن كائنات معينة، يختار المجتمع حمايتها، من خلال ممارسته على ضحايا يعتبرون أقل أهمية بالنسبة للمجتمع. الكتاب المقدس مليء بالأمثلة على هذا الاستبدال القرباني الذي يتم تنفيذه تحت أنظار الإله الذي نحاول استرضائه - في الواقع، نحن نفضل تهدئة التوترات والعنف المتأصل في أي مجموعة. ولذلك، فقد تم إضفاء طقوس على هذا العنف الأصلي، ليصبح الأساس لعمل المجتمعات والأديان القديمة (تثبت ذلك الأساطير المؤسسة العظيمة، التي تحكي دائمًا عن أزمة عنيفة، مثل تلك التي حدثت بين قابيل وهابيل، والتي وصفها رينيه جيرار بأنها "تنافس محاكاة") - حتى وصول المسيحية، حيث لا يعترف كبش الفداء المضحى بأنه مذنب ويريد تخليص العالم من خلال معاناته. لا نحتاج إلى التذكير بعنف هذه الذبيحة "الضرورية"، واندماجها في مركز الدين المسيحي، وتعايشها النهائي مع الإلهي. كما يسمح الدين المسيحي لهذا العنف القرباني بالبقاء كرمز خلال طقوس القداس. ولا ننسى هنا كلمات الطبيب النفسي بوريس سيرولنيك، الذي قال: “عندما لا يمكن إقامة الطقوس، يندلع العنف”. لأنه، بحسب هذا المؤلف، "تبني الطقوس التواصل بين كائنين حيين". ومن جانبهم، كان الغنوصيون مقتنعين بأن مجيء المخلص سيدق ناقوس الموت للعنف، البشري، ولكن الإلهي أيضًا، كما يظهر في العهد القديم. لقد فصلوا بوضوح شديد الديميورغوس الخلاق، الإله الاستبدادي، عن الإله الحقيقي، المتعالي والقوة الجيدة في الأساس. ولم يكن بوسع آباء الكنيسة أن يقبلوا هذا التمييز الذي أدى، حسب رأيهم، إلى التخلي عن الإيمان الأساسي بإله واحد. صحيح أن المسيح نفسه يقود شكلاً من أشكال الحرب، وكثيرًا ما تكون كلمته مثل السيف. لكنه يرفض الرد على العنف بالعنف، الأمر الذي يؤدي إلى الفشل على المدى القصير، ولكن أيضا إلى النصر الدائم. وبعد عدة قرون، كانت الحروب الصليبية، التي شنت باسمه، حربًا مقدسة أيضًا. في مجتمعاتنا الحديثة، تم تجريد الآلهة إلى حد ما من زخارفها، حيث تم تفسير الأساطير التي دعمتها في كثير من الأحيان على أنها ظواهر نفسية. في العالم الغربي، انتقلت الأماكن المقدسة، حتى لو احتفظت مدينة مثل روما بعاصمة رمزية معينة. في الذاكرة المسيحية، لا يزال ظل "محاكم التفتيش المقدسة" يلوح في الأفق كشكل نموذجي رهيب لتحالف العنف مع مجال المقدس. في أيامنا هذه، يمكن بالتالي إخفاء البحث عن المقدس تحت عنف أشكال الإبداع الفني، لأن الإنسان يخفي هناك آلامه وخوفه وفزعه. ومن هذه الهاوية السوداء يستمد النار باندفاع نحو المجهول. الأمر الأكثر صعوبة هو تحديد مفهوم الأغطية المقدسة لأعضائه، في مجتمع يفتقر إلى القداسة إلى حد كبير. ربما يكون أفضل تعريف للمقدس هو ذلك الذي يمنحنا، في بساطته الرائعة، هذه الوجبة الأخيرة حيث يأخذ المسيح الأطعمة الأكثر ابتذالاً، الخبز والخمر، ويجعلها تخضع للتحويل، وذلك بفضل القوة الرمزية لكلمته، القادرة على جعل هذا الطعام اليومي مقدسًا. سوف تعمل هذه الطقوس على إدامة وجود المقدس في التفاهة اليومية، من خلال إضافة الانعكاس المخفف لآلام المسيح. وهكذا نحاول في العمل الذي نقدمه لكم هنا أن نقدم إجابة ناقصة – ولكن هل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك؟ – إلى الأسئلة التي يطرحها هذا الاتحاد الدائم بين العنف والمقدس. ولهذا السبب، يتم النظر إلى المفاهيم التأسيسية، مثل مفهوم الطقوس، في أضواء متعددة، تمس مجالات واسعة ومعقدة. ويبدو في الواقع أنه إطار ضروري لاحتواء هذا العنف المتأصل في جميع الكائنات الحية والسيطرة عليه، والذي يضمن بقاءه جزئيًا. رغبة أحدهما في فرض نفسه على الآخر، يبدو أن اللفتات "السحرية" فقط هي القادرة على تهدئة الصراع الكامن واحتوائه. ومع ذلك، فإن الطقوس تفترض وجود علاقة تنطوي على مسافة، ولا يمكن أن تكون فعالة في سياقات شديدة القرب، مثل البيئة العائلية، المكان بامتياز لانفجارات كبيرة من العنف. ترتبط الطقوس بالعنف المؤسس، وبالتالي تحتفظ بالقدرة على إلهام الاحترام والخوف. إنها، مثل الأساطير، شهادات على عنف خفي لا يمكن قوله إلا بشكل مجازي. يمنحه المقدس بعدًا متعاليًا، وغالبًا ما تؤدي محاولات إزالته إلى السماح له بالظهور في محايثته الأكثر وحشية. لذلك، نستكشف في هذا العمل هذه العلاقات الحميمة بين العنف والمقدس، بدءًا من سياق تاريخي، حيث تكون هذه العلاقات منتشرة في كل مكان، لسبر جذورها البعيدة. إن التحدي الذي ينشأ عن ذلك كبير بالفعل: الحفاظ على المجتمعات الديمقراطية، فضلاً عن الحريات الفردية، التي لا تستطيع النجاة من الفوضى الناجمة عن إطلاق العنان لعدوان لا يمكن السيطرة عليه. في أيامنا هذه، وفي مجال المقدس تحديدًا، ألا يتخذ العنف الأكثر تطرفًا شكل "تجريد الآلهة"، الذين أصبحوا إما إسقاطات بسيطة للنفس البشرية، أو طغاة متعطشين للظلامية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

...................

المصادر

René Girard, La Violence et le Sacré (1972), Éd. Grasset, 1972,

René Girard, Des choses cachées depuis la fondation du monde, edition Grasset, 1978,

مقدمة: شاع استخدام مصطلح "ما بعد الحداثة" في العقود الأخيرة من القرن العشرين، حيث استُخدم في البداية على ما يبدو في الفنون البصرية، ثم انتشر إلى مجالات أخرى، بما في ذلك الفلسفة واللاهوت. ليس من السهل تقديم تعريف عام لما بعد الحداثة. ولعلّ نهاية القرن العشرين، بما اتسم به من غموض في مسار التقدم والتراجع، قد خلقت عقلية "نهاية القرن"، حيث رفض الماضي ورغبة عارمة في البدء من جديد. ومن المرجح أن تكون الآمال والمخاوف التي تولدت في مثل هذه الفترة مبالغًا فيها. فماهية قيمة الوعي الانساني في زمن اللايقين والهشاشة والانسيابية والوعي؟ وأي دور للفلسفة في حقبة مابعد الحداثة؟

الانتقال من الحداثة الى مابعدها

نعيش حاليًا في فترة تاريخية تُسمى "ما بعد الحداثة". ما نُطلق عليه "ما بعد الحداثة" هو ببساطة ما حدث بعد الفترة التاريخية التي تُسمى "الحداثة". في التطور التاريخي للفلسفة الغربية، يُمكننا أن نشهد تحولات رئيسية مُختلفة. ما يُسمى عادةً بالفلسفة "الحديثة" بدأ مع ديكارت حوالي عام1630. يُمثل ديكارت انحرافًا عن فلسفة العصور الوسطى القديمة التي هيمنت على الفكر الأوروبي. يتميز الفكر القروسطي بتمسكه بالمرجعيات: الكتاب المقدس وأفلاطون/أرسطو. مع تطور الإصلاح البروتستانتي (القرن السادس عشر)، تم تقويض الاعتماد على المرجعيات الدينية. ومع تطور الكنائس البروتستانتية المُختلفة وتنافسها على السلطة مع الكنيسة الكاثوليكية القديمة، أصبح من غير الواضح أي كنيسة قد يكون لديها فهم صحيح للمسيحية. ومع تقدم العلم أيضًا، انهار نموذج أرسطو القديم للعالم. أدت هذه المُشكلة إلى ابتعاد ديكارت والعديد من المُفكرين الأوروبيين الآخرين عن الاعتماد على المرجعيات الدينية والكلاسيكية. ديكارت "حديث" لأنه يرفض الاعتماد على المراجع القديمة، ويبني حججه على العقل البشري. وهكذا، فإن الحداثة هي إدراكٌ لحدود المراجع القديمة والاعتماد، في المقام الأول، على العقل البشري. ومع تطور هذه النظرة "الحديثة" للعالم، فإنها تشمل العصر التاريخي المسمى "عصر التنوير" بتركيزه على القيم "العالمية" لأوروبا وأمريكا الشمالية الليبرالية والعلمانية والديمقراطية. عادةً ما تضم قائمة كبار المفكرين "الحديثين" رجالًا مثل غاليليو وجون لوك وإيمانويل كانط وإسحاق نيوتن. بلغت طريقة التفكير "الحديثة" ذروتها في أواخر القرن التاسع عشر بموجة تفاؤل عارمة؛ إذ اعتقد العالم الغربي أن طريقته في التفكير العقلاني العلمي تُحوّل العالم إلى فردوس من الحرية والتفوق التكنولوجي. لقد انهار هذا التفاؤل في النصف الأول من القرن العشرين. عملت الحرب العالمية الأولى والكساد الكبير والحرب العالمية الثانية مجتمعة كأزمة مستمرة. وبحلول نهاية الحرب العالمية الأولى (1914-1918) كانت فرنسا قد تعرضت للدمار الاقتصادي، وانهارت الإمبراطوريتان العثمانية والنمساوية المجرية، وكانت ألمانيا في حالة خراب، وانهارت الإمبراطورية الروسية، وتوفي حوالي 15 إلى 20 مليون شخص في أوروبا نتيجة للحرب. ثم جاء الكساد الكبير (1929-1940) الذي كان أسوأ انهيار اقتصادي في التاريخ الحديث. لقد ترك عشرات الملايين من الناس بلا عمل أو دخل. ثم انتهت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) بحوالي 60 أو 70 مليون حالة وفاة. بلغت الأساليب العلمية العقلانية للعالم الغربي ذروتها بالقنابل الذرية القادرة على تدمير مدن بأكملها. كان استعداد العالم "الحديث" للانخراط في جنون "عقلاني" وعالي التقنية للتدمير الذاتي واضحًا بشكل مروع. بحلول عام 1945 كان العالم "الحديث" قد أصبح أطلالاً في مختلف أنحاء أوروبا ومعظم بقية أنحاء العالم. بدأ عالم ما بعد الحداثة بالتطور على أنقاض العصر الحديث. رأى بعض مفكري العصر الحديث المتأخر تصدعات في بنية العصر الحديث. رأى سورين كيركيغارد (1813-1855) أن عالمه أصبح بلا شخصية بشكل متزايد. رأى فريدريك نيتشه (1844-1900) أن العالم الحديث قد حوّل معظم أوروبا إلى مجرد "قطيع" فقد روحه المستقلة. على الرغم من هؤلاء المراقبين الأوائل المتحمسين، لم تبدأ ما بعد الحداثة إلا بعد الحرب العالمية الثانية. ترك الإيمان "الحديث" بالقيم العالمية للتقدم والعلم والديمقراطية جزءًا كبيرًا من العالم في حالة خراب. أدت أزمة أخرى إلى انهيار العصر الحديث؛ حيث اكتشف علم القرن العشرين حدوده. طُرح مبدأ اللايقين لهايزنبرغ لأول مرة عام 1927. كان فيرنر هايزنبرغ من أوائل مطوري فيزياء الكم. أثبت أنه كلما زادت دقة تحديد موضع جسيم ذري، قلّت دقة معرفة زخمه، والعكس صحيح. لم يكن هذا العجز عن المعرفة نقصًا في القدرة البشرية؛ فلم تكن العلوم الإنسانية بحاجة إلى تحسين بأي شكل من الأشكال. رأى هايزنبرغ العالم كمكان تكون فيه بعض الأشياء، ببساطة، غير قابلة للمعرفة. تُعدّ مشكلة الفوتونات مثالًا آخر على كيف أن العالم نفسه يتجاوز العقل البشري. فالفوتونات هي في الواقع جسيمات ضوئية عند قياسها بطريقة ما، وفي الواقع موجات عند قياسها بطريقة أخرى. لذا، يبدو أن الهوية "الحقيقية" للضوء تعتمد على كيفية مراقبتنا بدلاً من حقيقة أساسية مستقرة. قوّضت سلسلة كاملة من الاكتشافات في الفيزياء خلال القرن العشرين اليقين العلمي للعالم "الحديث". كانت الفيزياء الأكثر تقدمًا في القرن العشرين تثبت أن طبيعة الواقع المطلق كانت في حد ذاتها غير مؤكدة. أثارت هذه المشكلة حفيظة ألبرت أينشتاين (1879-1955) الذي لم يقبل أبدًا تمامًا أن بعض الأشياء ستظل مجهولة إلى الأبد. بهذا المعنى، حاول أينشتاين الحفاظ على قيم العالم الحديث، لكن اتضح في النهاية أن للعقل البشري حدودًا. فماهي علامات مابعد الحداثة؟ وما صلتها بما سبقها من القوى التحديثية وهل ادت الى النكوص والماضوية ام الى السفر نحو المستقبل دون دليل؟

توجد العديد من العلامات الرئيسية لعالمنا "ما بعد الحداثي وهي: 1) رفض السرديات الكبرى، وما تلاه من إعادة هيكلة للعالم باعتباره 2) "تقليدًا" و"محاكاة" وانفصامًا في الشخصية، و3) تقويض علاقات السلطة التقليدية من خلال التفكيك، و4) ولادة الحركة النسوية.

رفض السرديات الكبرى

كان العالم "الحديث" يُقدّر العقلانية الكونية، إلى حدٍّ كبير، كمفتاحٍ للاكتمال الإنساني، ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح المفهوم الغربي لـ"العقل" نفسه موضع تساؤل. غالبًا ما يرتبط التفكير ما بعد الحداثي برفض السرديات الكبرى مثل "التقدم" و"الحداثة" و"العقل". كان الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار (1924-1998) من أوائل رواد ما بعد الحداثة. ادّعى ليوتار أن الثقافات تترابط، جزئيًا، لأن الناس داخل ثقافةٍ محددة يؤمنون بسرديةٍ سائدة. بالنسبة لمعظم مسيحيي العصور الوسطى، رُويت هذه السردية في الكتاب المقدس. بالنسبة لشعب اليونان القديمة، رُويت سرديتهم السائدة من خلال هوميروس في الإلياذة والأوديسة. بالنسبة لشعوب أوروبا وأمريكا الشمالية التي عاشت في نهاية القرن التاسع عشر، كان سردهم السائد هو العلم والديمقراطية والفكر العقلاني. حتى مُثُل "الشيوعية" الراديكالية في القرن التاسع عشر تُعدّ جزءًا من تلك الثقافة القديمة (الحديثة). كانت رواية كارل ماركس عن عمال العالم الجماعيين الذين أطاحوا بأسيادهم الرأسماليين وأعادوا بناء العالم كـ"جنة العمال" روايةً سائدةً في الاتحاد السوفيتي والصين الشيوعية؛ أما الشيوعية، فتُعتبر الآن مجرد واحدة من قصص قديمة عديدة أثبتت عدم فعاليتها. يُنظر إلى الروايات الكبرى من قِبَل ما بعد الحداثيين على أنها أساطير جماعية لم تكن ذات واقع؛ فقد كانت جذابةً ومُعتَقَدةً على نطاق واسع، لكنها في أحسن الأحوال كانت أوهامًا جماعية، وفي أسوأها فرضًا للسلطة لم يُلاحظ. بمجرد تحطيم الروايات السائدة، يدخل الناس في فترة من عدم اليقين الشديد، يتلمسون المعاني، وربما يُقدّرون "الأيام الخوالي" عندما كان لديهم رواية شاملة واحدة تُضفي على حياتهم معنى. ومع ذلك، فإن نهاية المعنى التقليدي تُتيح أيضًا للناس فرصةً لخلق معانٍ جديدة لأنفسهم.

المحاكاة الساخرة والأفلام

مع ما بعد الحداثة، نتخلى عن يقين السرد الواحد المتكامل والمُعطي معنى، وندخل في حقبة انفصلت عن اليقين، غارقة في معانٍ "متعددة، متضاربة، غير متجانسة، مجزأة، متناقضة، ومتذبذبة". إن فقدان السرد المسيطر يترك الناس منفصلين عن بعضهم البعض، معتمدين على قصص هوية أصغر حجمًا، مثل العرق أو المكانة الاجتماعية أو الهوايات، لا تجمع إلا مجموعات صغيرة من الناس. يرى فريدريك جيمسون (مواليد1934) عالمنا ما بعد الحداثي عالمًا تتفكك فيه الثقافات وتتفتت المجتمعات اللغوية؛ كل مهنة تزداد عزلة عن غيرها بسبب مصطلحاتها الخاصة ورموزها الخاصة للمعنى. نعجز عن رسم خريطة عالمنا وهو ينقسم إلى زمر وقبائل صغيرة لا تُحصى. كلمة "المحاكاة" تُستخدم غالبًا لوصف هذا العالم الجديد، وهي عمل إبداعي (مثل رواية أو فيلم) يُحاكي صراحةً أعمالًا سابقة لمبدعين آخرين. تعتمد هذه المحاكاة على مشاركة قرّائها/مشاهديها للمعرفة الثقافية للمؤلف. يتناول الفيلم الشهير "بليد رانر" (1982) فكرة "المحاكاة" ويوضحها. في الفيلم، تُعرف لغة الشوارع باسم "لغة المدينة"، ويقول بطل الفيلم (ديكارد): "تلك العبارات غير المفهومة التي كان يتحدث بها كانت لغة المدينة، كلامًا سطحيًا، مزيجًا من اليابانية والإسبانية والألمانية وما إلى ذلك". بهذه الطريقة، نشهد تفتت اللغة والمجتمعات إلى محاكاة. مثال آخر على هذه المحاكاة يظهر في بداية فيلم "الماتريكس" (1999). تمتلك بطلة الفيلم (نيو) نسخة من كتاب فلسفي مهم من عصر ما بعد الحداثة: "المحاكاة والمحاكاة" لجان بودريار (1981). يُخفي نيو نسخًا من ملفات حاسوبه غير المشروعة داخل هذا الكتاب. يقتبس مورفيوس من الكتاب عندما يتحدث إلى نيو عن "صحراء الواقع". لا يحتاج المرء إلى معرفة هذا الكتاب لتقدير الفيلم، ولكن بالنسبة للمشاهدين اليقظين، يعمل الكتاب ليس فقط كـ "محاكاة ساخرة" (اقتباس من مجال آخر) ولكن أيضًا كدليل على موضوع ما بعد الحداثة المهم الآخر في الفيلم: كيف نستبدل الواقع والمعنى بالرموز والإشارات بحيث يصبح الواقع محاكاة للواقع. في فيلم "الماتريكس"، يبيع نيو ملفات حاسوب غير مشروعة تعمل على منح الناس تجربة؛ تلك التجارب هي مجرد محاكاة لتجارب "حقيقية". ولكن بمجرد أن تصبح هذه المحاكاة حقيقية لدرجة أنه لا يمكن للمرء التمييز بين الواقع والمحاكاة، لم نعد مجرد "محاكاة"، بل أصبح لدينا "محاكاة". في فيلم "بليد رانر"، يُوظَّف البطل (ديكارد) لمطاردة مجموعة من "النسخ المتماثلة" التي خُلقت للقيام بأعمال خطيرة في الأجزاء الخارجية من نظامنا الشمسي. إلا أن مجموعة من النسخ المتماثلة هربت وعادت إلى لوس أنجلوس (مدينة الملائكة) لمواجهة صانعها: تيريل من شركة تيريل. هؤلاء النسخ المتماثلون قريبون جدًا من الواقع لدرجة أنه يكاد يكون من المستحيل تمييزهم عن البشر الحقيقيين. يُظهرون الذكاء والولاء والغضب والرحمة وجميع الصفات البشرية الأخرى، حتى أنهم يتفلسفون حول معنى حياتهم. وهكذا، فإن النسخ المتماثلة هي محاكاة حقيقية تمامًا كالبشر الذين صُممت لمحاكاتهم؛ إنها مجرد "نسخ متماثلة". في نهاية الفيلم، نجد أنفسنا أمام احتمال مُقلق بأن بطلنا (ديكارد) قد وقع في حب نسخة متماثلة، وربما يكون هو نفسه نسخة متماثلة. "Simulacra" هي كلمة لاتينية تعني التشابه أو الشبه. إنها تعني إعادة إنتاج بعض الأشياء الأصلية. ولكن في عالم ما بعد الحداثة، فإنها تكتسب معنى أكثر إزعاجًا. في مرحلة ما، تصبح نسخنا تشبه الأصول كثيرًا لدرجة أنه لم يعد من المنطقي التمييز بين الأصل ونسخته. يمكن أن تحل المحاكاة محل الأصل. غالبًا ما يشير مفكرو ما بعد الحداثة إلى حدائق ديزني الترفيهية كمثال على وظيفة الاستبدال هذه. يقول الكاتب الإيطالي أومبرتو إيكو عن حدائق ديزني المختلفة "نحن لا نستمتع فقط بتقليد مثالي، بل نستمتع أيضًا بالاقتناع بأن التقليد قد وصل إلى ذروته وبعد ذلك سيكون الواقع دائمًا أدنى منه" (رحلات في الواقع المفرط). وبالتالي، لدينا التعليق في الفقرة السابقة لمورفيوس في الماتريكس (نقلاً عن جان بودريار) - "صحراء الواقع". يصبح الواقع غير مسلي أو جذاب بما فيه الكفاية بالنسبة لنا؛ نبحث عن واقعٍ خارق نقضي فيه أوقاتنا. "الشارع الرئيسي، الولايات المتحدة الأمريكية" من ديزني هو النسخة المثالية التي رسمها السيد والت ديزني لشارع رئيسي في أوائل القرن العشرين في بلدة متوسطة الحجم في الغرب الأوسط. لكن في ديزني لاند الوضع أفضل: لا جريمة، ولا خمور، ولا تشرّد، ولا رجال أعمال غير أمناء أو محتالين. مثال آخر قد يساعدنا على فهم "المحاكاة" هو التفكير في النقود. في الأصل، كانت البنوك تحتفظ بكميات كبيرة من الذهب والفضة لضمان قيمة نقودنا الورقية. وبحلول أواخر القرن العشرين، أصبحت هذه البنوك نفسها تحتفظ في الغالب بسجلات حاسوبية تعمل كبديل للذهب والفضة. عندما يحتاج الشخص إلى شراء شيء ما، كان بإمكانه الذهاب إلى البنك والحصول على نقود ورقية: نقدًا. أما اليوم، فيستخدم الكثيرون بطاقات الائتمان/الخصم (أو هواتفهم الذكية) لدفع ثمن مشترياتهم. غالبًا ما يتم تجاهل النقود الورقية والذهب تمامًا؛ وقد حاولت بعض المتاجر في أوروبا السماح بالمعاملات الإلكترونية فقط. وهكذا، فإن الشيفرة الحاسوبية التي كانت في الأصل "محاكاة" للنقود النقدية (والتي كانت في الأصل "محاكاة" للذهب والفضة) أصبحت اليوم بالنسبة للكثيرين أكثر واقعية من النقود. أصبحت بطاقات الخصم/الائتمان الخاصة بنا الآن نقودًا "حقيقية"؛ وأصبحت بطاقات الائتمان/الخصم الخاصة بنا "محاكاة". في فيلم "هي" (2013)، تعمل الشخصية الرئيسية (ثيودور تومبلي) في كتابة رسائل حب لأشخاص يشعرون بعدم قدرتهم على كتابة مثل هذه الرسائل بأنفسهم. يقع في حب نظام تشغيل حاسوبه (مثل سيري أو أليكسا). وبصفته كاتب رسائل حب يستخدمها أشخاص لا يعرفهم، يُظهر البطل أن غياب العلاقة الشخصية لا يلغي الحاجة إلى الحميمية. حتى رسالة حب يكتبها غريب ويهديها لغريب آخر لها معنى. ثم يتم دفع هذا التباعد في الحميمية إلى أبعد من ذلك في قصة حب بين رجل بشري (ثيودور) ونظام تشغيل حاسوبه. تتمكن مجموعة من أكواد الحاسوب المعقدة من محاكاة علاقة حميمة لدرجة أن علاقة ثيودور بحاسوبه هي علاقته الحميمة؛ بالنسبة لثيودور، فإن محاكاة حاسوبه للحميمية تشبه إلى حد كبير الحميمية الحقيقية لدرجة أنه يقع في حب حاسوبه (المُحاكي).

ما بعد الحديث كشخص مصاب بالفصام

من الأعراض الرئيسية لوجود ما بعد الحداثة (أولها تشكك فرنسوا ليوتار في السرديات الكبرى) تصور فريدريك جيمسون للطبيعة "الفصامية" للحياة المعاصرة. يستعير جيمسون من جاك لاكان (1901-1981) فكرة أن الفصام نوع من اضطراب اللغة. نعتمد على اللغة لفهم أفكار الماضي والحاضر والمستقبل. عندما يفشل الناس في دمج اللغة بشكل كامل في فهمهم للعالم، يُصابون "بالفصام"، فلا يعودون يعيشون في عالم يتميز فيه الماضي والحاضر والمستقبل. بل، كأشخاص "ما بعد حداثيين"، نعيش في عالم يستحيل فيه مثل هذه التمييزات الزمنية. بصفتنا "فصاميين"، نحن معزولون عن بعضنا البعض ومنقطعون عن المستقبل والماضي؛ لا يوجد سوى الحاضر المستمر. بدون إحساس مُصمم بالزمن، تُضعف هوية الإنسان الشخصية، لأن جزءًا كبيرًا من هذا الإحساس بالذات هو "المشروع" الذي تُشارك فيه الحياة البشرية. بافتقار المرء إلى الإحساس بالمستقبل، يعجز عن تحفيز نفسه نحو مستوى أعلى من الإنجاز. حكاية الشخص البالغ من العمر 32 عامًا، الذي التحق ببعض المقررات الجامعية لكنه لم يُكمل دراسته الجامعية، ويعمل في وظيفة بدوام جزئي بأجر زهيد، ويعيش في قبو والديه، تُشير إلى أن هذا "الفصام" ما بعد الحداثي قد يكون أكثر من مجرد مزحة؛ بل قد يكون أكثر واقعية مما نتمناه. فيلم "ميمنتو" (2000) له خطان زمنيان، أحدهما ملون والآخر بالأبيض والأسود. يتناوب الفيلم بينهما. على الرغم من أن الخط الزمني بالأبيض والأسود هو الأول تاريخيًا، بينما يقع الخط الزمني الملون للأحداث لاحقًا، إلا أن الأحداث الملونة مُرتبة بشكل معكوس. هذا يُحطم مفهوم التسلسل الزمني الواقعي. يتفق معظم نقاد السينما على أن مُشاهد الفيلم يُفترض أن يكون مُرتبًا في حيرة. هذا الارتباك الزمني علامة أخرى على عالم ما بعد الحداثة "المُصاب بالفصام".

الرواية ما بعد الحداثية

يُصنف الروائي الأمريكي ويليام س. بوروز (1914-1997) عادةً كأحد أكثر كُتّاب ما بعد الحداثة تأثيرًا. ويمكننا أن نرى أعماله "مُصابة بالفصام". ومن بين تقنيات الكتابة التي استخدمها أسلوب "التقطيع"، حيث كان يُقطع نصوص مكتوبة سابقًا على الورق إلى كلمات وعبارات، ثم يُعاد دمجها في جمل مختلفة تمامًا. في أعمال بوروز اللاحقة (1981-1987)، نرى مجموعة من القراصنة الأناركيين في القرن الثامن عشر يحاولون تحرير بنما، بينما يُحقق مُحقق من أواخر القرن العشرين في اختفاء صبي مراهق. يجد القارئ نفسه مُمزقًا بين قصتين مليئتين برعاة بقر مُثليين جنسيًا، وآلهة مصرية، وحشرات عملاقة متعفنة. في بعض الأحيان، تتغير هوية الشخصيات. الزمان والمكان والهويات مائعة؛ تُتجاهل حقائق الماضي المقبولة عمومًا. تُعدّ رواية ما بعد الحداثة نقدًا مُستمرًا لمفاهيم الواقعية ووجهات النظر الموضوعية. يُقوّض فهم الزمن نفسه كتطور خطي من الماضي إلى الحاضر، ثم إلى المستقبل. في رواية ما بعد الحداثة، تحدث الأشياء وتتصرف الشخصيات، لكن لا توجد علاقة سببية بين ما يحدث، ولا يوجد واقع ثابت أو زمني للشخصيات. في بعض الحالات، يُعلّق مؤلف رواية ما بعد الحداثة مُباشرةً على تلك الأحداث، وقد يُحاكي أفعال شخصياته/شخصياتها بسخرية. في رواية "امرأة المُلازم الفرنسي" لجون فاولز (1969)، غالبًا ما يُقحم المؤلف سرده مُتأثرًا بشعوره الخاص بعدم اليقين. يقول فاولز: "هذه القصة التي أرويها كلها خيال. لم تكن هذه الشخصيات موجودة قط خارج عقلي". لاحقًا، يُقحم المؤلف سرده مرة أخرى قائلًا: "ربما أعيش الآن في أحد المنازل التي أدخلتها إلى الرواية؛ ربما يكون تشارلز مُتنكّرًا. ربما تكون مُجرّد لعبة".

دريدا والتفكيك

يُعد جاك دريدا (1930-2004) أحد أهم مفكري ما بعد الحداثة. وقد وُصف تحليله للغة والسلطة بـ"التفكيك". وتتمثل عملية تحليله في إدراك أن المعاني تميل إلى التركيز على مجموعة من الرموز.

تميل الثقافة الغربية إلى رؤية العالم كمجموعة من الأضداد الثنائية، حيث يُحتل مصطلحٌ مُميزٌّ المركز، ويُجبر المصطلح الآخر على لعب دورٍ هامشي. ويمكن إيجاد أمثلة على هذا النوع من التفكير في مجموعات المصطلحات التالية: الذكر/الأنثى، المسيحي/غير المسيحي، الأبيض/الأسود، العقل/العاطفة. وفي الثقافة الغربية "الحديثة"، يكون المصطلح الأول في كلٍّ من هذه المجموعات هو المصطلح المهيمن، بينما يُفرض المصطلح الثاني على دورٍ ثانوي. ويزعم دريدا أن الفكر الغربي، في أعمق تحليلاته، يتصرف بهذه الطريقة تمامًا. إن طريقة تحديد الامتيازات تُعطي الأفضلية لمجموعة من الناس على حساب أخرى، وقد سعى أصحاب الامتيازات تاريخيًا جاهدين للحفاظ على امتيازاتهم: الرجال على النساء، والمسيحيون على غير المسيحيين، والبيض على غير البيض. كما تسعى عملية دريدا التفكيكية إلى وضع هذه المصطلحات الثنائية في تفاعل مضطرب ومستمر. إنه لا يريد عكس بنية الهيمنة؛ فالتفكيكية عملية تكتيكية لنزع المركزية تُذكرنا بحقيقة الهيمنة، وفي الوقت نفسه تعمل على تقويض هرمية المصطلحات. تفكيك دريدا هو رفض جذري لأنواع التفكير التأسيسية. إحدى مزايا أنواع التفكير التأسيسية هي بنية الفكر الثابتة؛ فالناس "الحديثون" يفضلون العمل والعيش في مجتمع تكون فيه القواعد والأعراف ثابتة. إن زعزعة هذا الثبات قد يكون أمرًا مُقلقًا للغاية. ولكن إذا كان المرء عضوًا في مجموعة من الناس ثابتين في وضع تابع، فهناك ميزة في تقويض النظام الثابت الذي يضطهد المرء. كان دريدا نفسه عضوًا في مجموعتين من هذا القبيل؛ يهوديًا في ثقافة مسيحية، وشمال أفريقيًا في ثقافة تهيمن عليها أوروبا. وهكذا، رأى نفسه مهمّشًا بسبب نظام السلطة الثابت في حياته. لذلك يميل تاريخ الفكر الغربي إلى التأسيسية بشكل كبير: فبعض الأفكار تُوضع في مركزية، ويعتمد التفكير اللاحق عليها. إحدى الأفكار المركزية في هذا النظام هي المنطق نفسه. يُطلق دريدا على هذا الهوس الغربي بأنواع التفكير المنطقي "مركزية المنطق". منذ عهد أفلاطون وأرسطو (القرن الرابع قبل الميلاد) افترضت الفلسفة الغربية وجود الجواهر: شكل من أشكال الحقيقة العميقة التي تُشكّل أساسًا للمعتقدات الإنسانية الأخرى. لذا، يُجادل دريدا بأن الفلسفة الغربية كانت عملية تحديد هذه الجواهر العميقة ثم التحدث عنها مباشرةً. كلمات مثل الفكرة، والمادة، والسلطة، وروح العالم، والله، كانت ولا تزال بمثابة جواهر تأسيسية. كما يريد دريدا، أولًا وقبل كل شيء، أن يُثبت أن أيًا من هذه المصطلحات لا يمكن أن يوجد بمحض إرادته، بل إن كل مصطلح لا يُفهم إلا في سياق يتضمن نقيضه. لا يُفهم "المثالي" إلا في مقابل "الواقعي". ولا يُفهم مصطلح "المادة" إلا باعتباره الوجه الآخر لـ"العقل". ثانيًا، يريد دريدا تقويض أولوية المصطلح المهيمن ووضعه في تفاعل مستمر لا يستقر في علاقة جديدة من الهيمنة والخضوع. لما يكتب دريدا عن التعارض بين مصطلحي "الذكر" و"الأنثى" (الذي يُعطي في الفلسفة الغربية التقليدية امتيازًا للذكر على الأنثى)، فإنه لا يريد ببساطة عكس هذا الامتياز. إنه يُدرك أن الفكر الغربي يعمل إلى حد كبير كمجموعة من الفئات الثنائية التي تُعطي كل منها معنىً للأخرى؛ فالمصطلحات المنعزلة لا يمكن أن يكون لها معنى. حتى لو استخدمنا كلمة "ذكر" فقط في جملة ولم نذكر "أنثى"، فإن مصطلح "ذكر" نفسه يُفهم على أنه نقيض "أنثى"، تمامًا كما يُفهم مصطلح "أنثى" على أنه نقيض "ذكر". لا يعتقد دريدا أن هذه العلاقات الثنائية قابلة للإلغاء. ما يمكن إزالته، من خلال عملية تفكيك دريدا، هو سيطرة أحد المصطلحين على الآخر.

ما بعد الحداثة ونقد السلطة

يُعدّ هذا الاهتمام بالسلطة جزءًا من فلسفة ما بعد الحداثة. ومن بين انتقادات ما بعد الحداثة للفكر "الحديث" أن هذا الفكر خلّف للعالم إرثًا رهيبًا من السلطة من خلال التمييز الجنسي والعنصرية والهيمنة الاستعمارية. ففي ظل العقلية "الحديثة"، كان الرجال متفوقين على النساء، وهم بطبيعة الحال أكثر ملاءمة لأدوار السلطة؛ وكانت الأعراق البيضاء هي الأكثر عقلانية وعلمية، وبالتالي مُنحت سلطة مناسبة على الأعراق غير البيضاء؛ واعتُبرت دول أوروبا والولايات المتحدة، بصفتها المستفيد الرئيسي من النظرة العالمية العقلانية والعلمية، مُبررة في استعمار بقية العالم. يُعد جون لوك (1633-1704) أحد أكثر فلاسفة أوروبا "الحديثة" تأثيرًا. ويُذكر على أفضل وجه لإلهامه الأفكار التي كتبها توماس جيفرسون في إعلان الاستقلال الأمريكي: أن جميع البشر خلقوا متساوين. يقول لوك: "لفهم السلطة السياسية فهمًا صحيحًا... علينا أن نتأمل في الحالة التي يكون فيها جميع البشر بطبيعتهم، وهي حالة من الحرية التامة في تنظيم تصرفاتهم، والتصرف في ممتلكاتهم وأشخاصهم، كما يرون مناسبًا... دون طلب إذن، أو الاعتماد على إرادة أي شخص آخر" (المقالة الثانية، الفصل الثاني، القسم 4). ومع ذلك، كتب لوك أيضًا دستور مستعمرة كارولينا الأمريكية (1669)، الذي يضمن أن "لكل رجل حر في كارولينا سلطة ونفوذ مطلقين على عبيده الزنوج..." (المادة 110). بالإضافة إلى ذلك، امتلك لوك أسهمًا في الشركة الملكية الأفريقية، وبالتالي استفاد منها مباشرةً، وهي الشركة التي كانت تدير تجارة الرقيق في إنجلترا. لم ير لوك أي تعارض بين إصراره على حرية الأوروبيين البيض واستعباد الأفارقة السود. بما أن الأوروبيين البيض (مثله) كانوا، وفقًا لنظرته للعالم، مجتمعًا عقلانيًا وعلميًا للغاية، بينما لم يكن سكان أفريقيا كذلك، فقد رأى لوك أن للأوروبيين الحق في استعباد والسيطرة على من يفتقرون إلى الأدوات العقلانية والعلمية التي كانت جوهر التفوق الأوروبي. أيضًا، عندما يقول لوك "رجالًا"، فإنه يقصد الذكور البيض الأوروبيين مالكي العقارات، وليس الجنس البشري بأكمله، وبالتأكيد ليس النساء. في الواقع، وجد معظم الرجال الأوروبيين أنه من "الطبيعي" أن تكون لهم سلطة على النساء والأفارقة. لوك ليس من أتباع ما بعد الحداثة؛ إنه مفكر "حديث" يساعد الأوروبيين على التخلي عن نماذج السلطة القديمة. إنه يجادل ضد السلطة الأرستقراطية للملوك والدوقات والبارونات. لقد ساعدت حجج لوك السياسية في تحرير فئة من الذكور الأوروبيين مالكي الأراضي من السلطة التعسفية للأرستقراطيين. لكنها أيضًا أضفت الشرعية على سلطة الذكور الأوروبيين البيض بشكل عام. مهما بدت عبارة "جميع البشر خلقوا متساوين" مُرضيةً لأهل القرن الحادي والعشرين، فإن لوك (في القرن السابع عشر) لم يقصد بالتأكيد إشراك النساء أو الأفارقة في مفهومه للحرية. لقد همّشت كلماته النساء وغير الأوروبيين. لا يريد مفكرو ما بعد الحداثة التقليل من شأن أعمال لوك أو توماس جيفرسون؛ فقد عمل هذان الرجلان في الواقع على زيادة عدد الأشخاص الذين يستحقون أن يُؤخذوا على محمل الجد كأحرار وقادرين على تولي السلطة السياسية والاقتصادية. ساهمت كلماته في تحرير رجال الطبقة الوسطى، البيض، الأوروبيين من الهيمنة الأرستقراطية. لكن لا لوك ولا جيفرسون عملا من أجل التحرر الكامل لجميع الشعوب. بل بإصرارهما على شرعية السلطة السياسية للطبقة الوسطى، الذكور، البيض، الأوروبيين، استبعد لوك وجيفرسون النساء وغير الأوروبيين من هذا النوع من السلطة. ومن منظور ما بعد الحداثة، لم تكن الرؤية التحريرية للوك وجيفرسون "خاطئة" بقدر ما كانت غير مكتملة بشكل جذري.

ولادة الحركة النسوية في زمن ما بعد الحداثة

بما أن النسوية تُعدّ من تلك الانتقادات لتأثير السلطة في عالمنا المعاصر، فمن الطبيعي أن ننظر إلى الحركة النسوية كجزء من التحول الأوسع في النظرة إلى العالم، ألا وهو ما بعد الحداثة. ومن بين السرديات الكبرى التي تقوّضها النسوية التمييز الذي يبدو عالميًا بين الذكر والأنثى، والأدوار الجندرية التقليدية التي تعتمد على هذا التمييز. تجادل جوديث بتلر (مواليد 1956) بأنه لا ينبغي التمييز جذريًا بين "الجنس" و"الجندر". غالبًا ما يُنظر إلى الأول على أنه فئة بيولوجية غير قابلة للاختزال، بينما يُعترف على نطاق واسع بأن الثاني مبني اجتماعيًا. لكن الأشياء المادية (مثل جسد الإنسان) تُفهم من خلال استخدام اللغة، وبالتالي فهي (إلى حد ما على الأقل) خاضعة للبناء الاجتماعي. على الرغم من أن بتلر تعتبر كلمة "ما بعد الحداثة" غامضة جدًا بحيث لا تكون مفيدة، إلا أنها تُجادل بأن تبعية المرأة ليس لها سبب أو حل واحد؛ لا توجد سردية رئيسية لـ"المرأة" تحتاج إلى تجاوز. وكما رأينا، ليس من السهل تعريف مصطلح "ما بعد الحداثة". ومع ذلك، هناك مواضيع أو توجهات معينة تُعتبر عمومًا جزءًا من هذا المصطلح. تشترك النسوية وما بعد الحداثة في نقد مصادر السلطة التقليدية، وخاصة السلطة التي تُخضع جنسًا لآخر. لا تتمتع الذكورة والأنوثة بصفات عالمية؛ فهما مفهومان لا يكتسبان واقعًا إلا عندما يُدرَّسان للشباب الذين يتبنون هذه الأدوار ويبدأون في ممارستها. تُفرض هذه الأدوار في المجتمع؛ ويُعاقَب الناس أو يُكافأون بطرق مختلفة إما لفشلهم أو لنجاحهم في عيش الدور الذي منحهم إياه جنسهم البيولوجي على نحو سليم. تُسمي جوديث بتلر هذه الأدوار الجندرية المُعاشة "الأدائية". نحن كممثلين نُكلَّف بأدوار ذكورية أو أنثوية على أساس نوعهم البيولوجي، ويُتوقع منا أداء هذه الأدوار في حياتنا العامة والخاصة. ولكن كـ"أداءات"، لا توجد حقيقة عميقة لهذه الأدوار التي نؤديها. فكيف ادت هذه الملامح الاساسية الى دخول مابعد الحداثة في صراع مع الحداثة بغية احداث قطيعة معها والتخلص منها؟

هجوم مابعد الحداثة على الحداثة

تعرض مفهوم الحداثة لهجوم فكري من قِبل مفكرين ضمن حركة فلسفية تُعرف باسم ما بعد الحداثة، والتي تطورت خلال القرن العشرين، ويمكن ملاحظتها اليوم في العلوم الإنسانية والاجتماعية. هنا يتم تحديد وجهات النظر المختلفة داخل هذه الحركات الفلسفية، وترصد اختلافاتها، وتختتم بانتقادات موجهة إلى فلسفة ما بعد الحداثة. لقد تلقت الحداثة مراجعات جدرية، حيث أصبحت العديد من ادعاءاتها محل شك وريبة. ولكن ما هي الحداثة التي تسعى تيارات ما بعد الحداثة ومفكروها إلى تقويضها؟ من المفيد النظر إلى الفلسفة من خلال ما تنفيه، ورغم أننا تناولناها سابقًا، إلا أنه يكفي الآن النظر إلى الحداثة في ضوء الأفكار الأساسية الخمسة التالية: [1] الإيمان بالحقيقة والمنهج و[2] الإيمان بالحالات النهائية و[3] الإيمان باستراتيجيات الكشف و[4] الإيمان بالتقدم والرفاه و[5] الإيمان بالحرية والاستقلالية.

يرفض ما بعد الحداثيين هذه المفاهيم الأساسية الخمسة للحداثة. على سبيل المثال، يُعدّ ما نعرفه علمًا من أهم مكونات "الإيمان بالحقيقة والمنهج"، ولذلك واجه العلم معارضة شديدة من منظري ما بعد الحداثة. يدّعي العديد من هؤلاء المفكرين أن السياقات التاريخية وعلاقات القوة داخل المجتمعات قد أثرت على العلم (والعلماء) لدرجة أنه لم يعد من الممكن اعتباره نهجًا موضوعيًا ومحايدًا للوصول إلى الحقيقة. لقد قوّضت عوامل مثل اللغة والسلطة والمجتمع والسياق التاريخي وغيرها دور العقل والتجربة كحالات نهائية يُعتقد تقليديًا أنها أساس الحقيقة. يجادل ما بعد الحداثيين بأنه بدون أساس متين، لا يمكننا بالتأكيد أن نثق بالعلم ومناهجه ونماذجه التي تحاول تفسير آلية عمل العالم. وهذا يُشكك في أي ثقة قد يمتلكها المرء في عالم موضوعي موجود خارج نطاق العقل البشري "هناك" ينتظر من يكتشفه. بدلاً من ذلك، ما ندركه عن العالم ليس سوى بناء بشري متأثر باللغة والسلطة والمجتمع، إلخ. أما فيما يتعلق بالتقدم والحرية، فهما مُقوّضتان للغاية في ضوء رؤية ما بعد الحداثيين للذات التي لم تعد تُعتبر كيانات مستقرة وموحدة. فالشخص، من هذا المنظور، مُحدد اجتماعيًا بالكامل. ومما يُعزز هذه الشكوك أيضًا اللغة التي يرى ما بعد الحداثيين أنها تُمثل الواقع بشكل مباشر، بل تُمثل إشكالية. على سبيل المثال، جادل جان بودريار بأن إدراكنا للواقع مُقوّض في ظل عمليات المحاكاة اللانهائية التي تُنتجها وسائل الإعلام والتقنيات وصناعة الترفيه المتنامية. مع وضع هذه الانتقادات الأساسية في الاعتبار، نلجأ إلى عالم الاجتماع جيمس بيكفورد الذي يعرض أربع سمات مشتركة في فكر ما بعد الحداثة:

[1] رفض اعتبار المعايير الوضعية والعقلانية والأدواتية المعايير الوحيدة أو الحصرية للمعرفة القيّمة.

[2] الاستعداد لدمج رموز من قواعد أو أطر معانٍ متباينة، حتى على حساب الانفصال والانتقائية.

[3] الاحتفاء بالعفوية والتجزئة والسطحية والسخرية والمرح.

[4] الاستعداد للتخلي عن البحث عن أساطير أو سرديات أو أطر معرفية شاملة أو منتصرة.

سبق أن أشرنا إلى هجوم ما بعد الحداثة على الحداثة، ولكن من المهم الاعتراف بأن القناعات التي تقوم عليها عقلية التنوير، ولا سيما الإيمان بالعقلانية والعقلانية والتقدم العلمي، تتناقض مع رفض ما بعد الحداثة قبول المعايير العقلانية والأدواتية. ومن الآمن أيضًا القول إن العديد من ما بعد الحداثيين لديهم مواقف سلبية تجاه العقل والمنطق والعلم، والتي يعتقدون أنها مدمرة في جوهرها. يشيرون إلى الفظائع التي ارتُكبت باسم العقل والعلم، مثل تحسين النسل في ألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية، والتي تسببت في معاناة وألم وموت لا يُحصى. في تيارات فكر ما بعد الحداثة، لا سيما في مجال الدين حيث تُفضّل المزاجات الشاملة، بدلاً من المواقف الحصرية في مسائل الحقيقة والوحي، ليس من غير المألوف أن يقوم المؤيدون "بدمج رموز من مدونات أو أطر معانٍ متباينة" في أنظمة انتقائية. إن دمج رموز من مختلف وجهات النظر والتقاليد العالمية الشرقية والغربية لإنتاج "روحانيات" مبتكرة هو شكل من أشكال الانتقائية الدينية الخيالية. إن تناقض بعض هذه الرموز ليس بالأمر ذي الأهمية الكبيرة، لأن ما بعد الحداثيين ينظرون إلى المنطق على أنه مجرد بنى بشرية. ينخرط العديد من ما بعد الحداثيين في السعي إلى "التخلي عن البحث عن الأساطير أو السرديات أو أطر المعرفة الشاملة أو المنتصرة". يُعتقد أن السرديات والأطر الشاملة تُنتج وجهات نظر إقصائية تُبعد وتقمع وتُسكت من لا يقبلون هذه السرديات، التي يراها العديد من ما بعد الحداثيين غير متسامحة وبغيضة. يُنتج الوصول الحصري إلى الحقيقة ديناميكيات قوة يمكن للبعض استغلالها على حساب الآخرين.

نظرة ما بعد الحداثة للأديان

لما بعد الحداثة حضورٌمتجذّر في الدراسات الدينية". ولكن ما هي، وكيف يمكن أن تختلف عن الحداثة؟ إن اسم "ما بعد الحداثة" يوحي بـ"تطور من "الحداثة" إلى ما يليها - "ما بعد"". لقد تناول مُنظّرو الحداثة الكلاسيكيون الأوائل دراسة الدين بموضوعية، ساعيين في كثير من الأحيان إلى التحرر من أي تحيز ديني. اعتبر العديد من هؤلاء المُنظّرين أنفسهم خبراء في الأديان التي يُنظّرون عنها (كما هو الحال مع الطبيب الذي يُعالج المريض). كما كانت المناهج الحداثية خارجية عن دراسة الدين، مما يعني أن الظروف الذاتية للمُنظّر والباحث قد أُهملت من الاستنتاجات التي توصلوا إليها. يرفض علماء ما بعد الحداثة هذه الأفكار، ويُجادلون بأن الموضوعية مستحيلة، أو أنها لا تُمثّل معايير موضوعية للحقيقة والعقلانية والمنطق. كما يُشددون على ضرورة دراسة الدين وتفسيره من خلال ذاتيات المتدينين أنفسهم. وبالتالي، لا يعتبر مُنظّرو ما بعد الحداثة أنفسهم علماء أو مؤرخين، ولا يميلون إلى التمييز بين الانخراط في الدين ودراسته. إنهم يُريدون تجنب الانخراط في فحص علمي، ويعتقدون أن التعمق في وجهات النظر الذاتية للمؤمنين الدينيين سيُحسّن فهمهم للدين نفسه. يجد العديد من الباحثين قيمةً في مجالات انخراط علماء ما بعد الحداثة، وخاصةً في دراسة الدين. وعادةً ما تندرج أعمالهم ضمن ثلاثة مجالات واسعة، وإن كانت مترابطة: العرق، والجندر، وما بعد الاستعمار. ويتحدث المؤرخون بإسهاب عن شعبية ميشيل فوكو (1926-1984) لدى علماء ما بعد الحداثة الذين استلهموا وانجذبوا إلى أطروحته حول السلطة. ويعتقد هؤلاء المفكرون أن السلطة تُشكل خيطًا أساسيًا يربط بين النقاشات حول نظريات الدين، وما بعد الاستعمار، والعرق، والجندر .في دراسة الدين، قد يبدو أن منهج ما بعد الحداثة يُقوّض نظريات وأفكار العديد من المنظرين التاريخيين البارزين. إذا كانت المعرفة الموضوعية مستحيلة، فإنها تُلغي فكرة إميل دوركهايم القائلة بأن الدين واقع اجتماعي موضوعي، وأطروحة ماكس فيبر القائلة بأن البروتستانتية كانت موضوعيًا القوة الدافعة وراء صعود الرأسمالية التي جلبت الثروة إلى الغرب، واعتقاد سيغموند فرويد بأن الدين ينتمي موضوعيًا إلى عالم الوهم والاختلاق الناتج عن رغبة في تحقيق أمنية. وهكذا، فإن ما بعد الحداثة، بإنكارها للمعرفة الموضوعية، تُقوّض أي نظرية تدّعي أنها معرفة موضوعية، وتُلغي جوهريًا أي منهج علمي لدراسة الأديان. وقد وجّه منتقدو هذا النهج ما بعد الحداثي انتقادات هنا، جادلوا فيها بأنه إذا كانت المعرفة الموضوعية غير ممكنة و/أو في غياب معايير موضوعية للحقيقة والعقلانية والمنطق، فإن ذلك يُقوّض ادعاءات ما بعد الحداثة. إذا كان الأمر كذلك، فهذا يُشير إلى أن المنهج ما بعد الحداثي يرتكز على فلسفة تُفنّد ذاتها. على الرغم من هذه الانتقادات، يجد الباحثون قيمةً في منهج ما بعد الحداثة لدراسة الدين، إذ يُشكك في فكرة أن "الخارجين عن المألوف" (الباحثين والمنظرين الذين يُجرون البحث) يعرفون بالضرورة أكثر من "الداخلين" (المؤمنين أنفسهم الذين تُدرس دراساتهم). ولا يخفى على أحد أنه في سياق تطور الدراسات الدينية، وُجد العديد من المنظرين الذين كانت لغتهم وأفكارهم ونظرياتهم وتصنيفاتهم مُسيئةً للغاية، وغالبًا ما يكون ذلك من منظور "الخارجي الأعلم". وتميل مناهج ما بعد الحداثة إلى تحدي هذا التفوق وغرس شعورٍ بالتواضع. لكن لا يرى جميع المنظرين أن الحداثة وما بعد الحداثة متنافيتان تمامًا. فعلى سبيل المثال، يرى ألبريشت ويلمر في كتابه "استمرار الحداثة" (1991) وجود تواصل مستمر بين الحداثة وما بعد الحداثة. ويرى ويلمر أن ما بعد الحداثة شكلٌ من أشكال الحداثة أكثر حكمةً وتواضعًا، يتميز بتجارب الحرب والقومية والحركات الشمولية. إنها استمرارٌ لإرث عصر التنوير، ولكن مع قدرٍ أقل من الطوباوية والإيمان بالعلم. ويرى منظرون آخرون، كما سنشير في انتقادات ما بعد الحداثة، أن المجتمع الغربي ليس ما بعد حداثي، بل حداثي، أو على الأكثر، حداثي متأخر. للفكر ما بعد الحداثي صلةٌ بالدين. فمعظم الأديان والنصوص المقدسة تدّعي وجود حقيقةٍ مطلقةٍ عن الواقع من خلال تقديم سردياتٍ شاملة. تُقدّم هذه السرديات مفاهيم حول طبيعة الواقع، والعالم، والبشر، والمستقبل، والآخرة، والله، وغيرها، يعتقد أتباع هذا التيار أنها صحيحة تمامًا لا تقبل الشك. يرى العديد من أتباع ما بعد الحداثة في ذلك طرحًا لأساطير وسرديات ومعارف حصرية تُنفّر بعض الأشخاص. لذا، لا تُرفض ادعاءات العلماء فحسب، بل تُرفض أيضًا الادعاءات المطلقة العديدة التي تطرحها الأديان والنصوص المقدسة وأتباعها. لذا، فإن الادعاء بأن يسوع المسيح هو المخلص والوسيلة الوحيدة للخلاص من الخطيئة والاغتراب عن الله هو ادعاء عقائدي وغير مقبول، وخاصةً لدى أتباع ما بعد الحداثة الذين يُفضّلون روحانيةً أطلق عليها البعض "لاهوت الكافيتريا"، حيث يختار صاحبها ما يشاء من مختلف الأديان والفلسفات ويدمجها في نظام انتقائي ذاتي الصنع. كلما كان هذا النظام أكثر شمولًا، كان أفضل؛ وكلما كان أكثر حصرية، كان أسوأ. فما العمل في ظل تزعزع اليقينيات وتصدع الذات بسبب موجة مابعد الحداثة؟

تحديد المسؤوليات وعالم ما بعد الحقيقة

نُشرت في القرن الحادي والعشرين مقالاتٌ عديدة تُحمّل ما بعد الحداثة مسؤولية جميع مشاكلنا: الركود الاقتصادي، والنسبية الثقافية، وتراجع الديمقراطية، والتفكك الاجتماعي، وضعف الأسرة، وتدهور الأخلاق، ووجود حقائق بديلة، وانتخاب دونالد ترامب. تطورت ما بعد الحداثة كنقدٍ للسلطة، لا كأداةٍ لتعزيز نفوذ الأقوياء أصلًا. عندما يدّعي صاحب السلطة السياسية أن آرائه الخاصة عن العالم "حقيقة بديلة"، وبالتالي لا تقل شرعيةً عن أي حقيقة أخرى، فإنه يستخدم أداةً قديمةً جدًا للتمسك بالسلطة؛ إنه يستخدم الشك، لا التفكيك ما بعد الحداثي. لطالما استخدم أصحاب السلطة أدوات الشك ضد ادعاءات الآخرين. في أوائل القرن السابع عشر، شككت الكنيسة (الكاثوليكية والبروتستانتية) في ادعاءات غاليليو بأن الأرض كوكبٌ يدور حول الشمس. في أواخر القرن العشرين، كان معظم العلماء متشككين في نموذج داروين التطوري. إن حقيقة أن فيزياء الكم ترى أن الأسس النهائية للعالم المادي غير قابلة للمعرفة في بعض الأحيان، لا تقوض الجدول الدوري لعلم الكيمياء أو أساسيات الرياضيات. ما بعد الحداثة ليس ما بعد الحقيقة. ما يميز النظرة العالمية لما بعد الحداثة عن الأشكال القديمة من الشك هو المحاولة الجذرية لفتح الحوار ليشمل أولئك الذين تم استبعادهم بشكل منهجي: النساء، والأشخاص الملونين، والفقراء، والأشخاص الذين يرفضون الهويات الجنسية القياسية. ومع ذلك، من خلال فتح هذا النقاش، يتم إفساح المجال للأقوياء بالفعل لفرض أجنداتهم الخاصة. عندما يستخدم الأشخاص الأقوياء أدوات متشككة للتقليل من شأن قوى ما بعد الحداثة التي تشكك في شرعيتهم، فإنهم ليسوا ما بعد حداثيين. إنهم يعملون ضمن أطر السلطة التقليدية (المتشككة الحديثة). من خلال محاولة إلقاء اللوم على ما بعد الحداثيين الذين يعملون على تقويض أصحاب السلطة التقليديين (أي الذكور، البيض، الأوروبيين الأميركيين، والمعياريين بين الجنسين)، فإن أصحاب السلطة المعاصرين يعملون على الحفاظ على سلطتهم ويلقون اللوم في المشاكل التي خلقوها بأنفسهم على أولئك الذين يفتقرون إلى السلطة؛ وهذا معروف في الدوائر السياسية باسم "إلقاء اللوم على الضحية". فلماذا يقاوم الكثيرون ما بعد الحداثة؟

دعونا نفهم ما بعد الحداثة على أنها لحظتنا الراهنة التي يسودها تشكيك كبير في السرديات الكبرى (مثل التقدم والمسيحية والرأسمالية)، وهي مزيج من الأساليب الفنية، حيث تكون محاكاتنا واقعية لدرجة أنها غالبًا ما تُقبل كواقع، ومحاولة مستمرة لتفكيك السلطة، وتراجع سلطة الرجال البيض. دعونا نفهم أيضًا أن الكثير من الناس (وخاصة، وليس حصرًا، كبار السن من الرجال البيض ذوي الامتيازات) يشعرون بعدم الارتياح في هذه البيئة، ويفتقدون "الأيام الخوالي" التي كانت فيها سلطتهم بلا منازع، وكان العالم الذي يعيشون فيه منطقيًا. لا ينبغي أن نستغرب أن العديد من هؤلاء الناس يقاومون بنشاط عصر ما بعد الحداثة الذي يعيشون فيه. فالأشخاص الذين كانوا، خلال العصر الحديث، يُعتبرون "عاديين" و"أقوياء بحق"، يُجبرون على العيش مع أشخاص لا يشبهونهم. عندما تُطرح مسألة الامتيازات التقليدية وتنهار الحدود بيننا، يفرض "الآخر" وجوده علينا. على الرجال التعامل مع النساء في السلطة؛ وعلى البيض التكيف مع وجود السود في السلطة؛ وعلى المغايرين جنسياً التعامل مع المتحوليين في أحيائهم وعائلاتهم. لا عجب أن يواجه الكثيرون صعوبات في التكيف مع هذا الواقع المتغير.

انتقادات لما بعد الحداثة

تعرضت ما بعد الحداثة لانتقادات كثيرة، ولم تكن حركة شعبية في الفلسفة وفي معظم مجالات الفكر الأخرى. وقد أشار البعض إلى حدودها الجغرافية والاجتماعية. ويزعم هؤلاء الباحثون أن ما بعد الحداثة ظاهرة نخبوية مقيدة بالطبقة الاجتماعية، وتنتشر بين الفنانين والصحفيين على سبيل المثال أكثر من المزارعين والمتقاعدين. ويرجع ذلك إلى أن منطق ما بعد الحداثة في معظم المجالات يخالف البديهة، ولا فائدة منه عمليًا. ووفقًا لستيف بروس، لا تزال المؤسسات الاجتماعية المهيمنة، مثل الاقتصاد والتكنولوجيا والسياسة، خاضعة لسيطرة العقلانية الحديثة أكثر من منطق ما بعد الحداثة. انه "ليس من قبيل الصدفة أن يكتسب مفهوم ما بعد الحداثة شعبية أكبر بين علماء اجتماع الثقافة والإعلام منه بين علماء الاجتماع الاقتصادي والسياسي". انه من الخطأ الادعاء بأن الغربيين يعيشون في ثقافة ما بعد الحداثة: "معظم الناس لا يعتقدون ولو للحظة أنه لا توجد معايير موضوعية للحقيقة والعقلانية والمنطق". على سبيل المثال، يميل معظم الناس إلى الاتفاق على أنه إذا أطلق شخص ما على شيء معين اسم دائرة، بينما هو في الواقع مربع، فقد أخطأ في استدلاله، وفقًا لقانون الهوية المنطقية. فالمربع دائمًا مربع، ولا يمكن في أي وقت اعتباره دائرة. يذهب البعض الى أن ثقافة ما بعد الحداثة مستحيلة وغير قابلة للعيش لأن فكرة أننا نعيش في ثقافة ما بعد الحداثة هي مجرد خرافة. علاوة على ذلك، فإن معظم الغربيين يتبنون منطق الحداثة في أمور أخرى، مثل تبني هوية ثابتة. "سواء كانت "الأنا" وشخصية الفرد، بالنسبة للبعض، قد "انفصلت" نظريًا أو انحلت، فإنها لا تزال جزءًا من معرفتنا اليومية العملية التي نؤديها كأفراد. وقد يكون الأمر كذلك بالنسبة للعديد من ما بعد الحداثيين عندما يغادرون القاعة أو يعودون إلى منازلهم من المقهى. بشكل عام، لدى الناس علاقة أقل إشكالية باللغة والذات مقارنةً بالعلم الأدبي. لا تزال العديد من المبررات الاجتماعية والتقنية للحداثة مفيدة في الحياة اليومية، بما في ذلك تصور الإنسان كمتحكم وسيد وخالق في علاقته بالطبيعة، وسعيه نحو الثروة والرفاهية. لذلك، إذا اضطررنا إلى استخدام تسميات محددة لعصرنا، فسنفضل الحداثة المتأخرة على ما بعد الحداثة". لقد وجّه الفلاسفة انتقادات لاذعة لما بعد الحداثة في أماكن أخرى، ولعلّ أشدّها فتكًا المواقف المُحبطة التي تبناها العديد من أنصارها. على سبيل المثال، أليس هجوم ما بعد الحداثي على السرديات الشاملة أو المنتصرة للحداثة يُقدّم هو نفسه مجموعة من السرديات المنتصرة؟ إذا كانت الإجابة بنعم (وهو كذلك بالتأكيد لأنه يرى سردياته الخاصة متفوقة على سرديات الآخرين الذين يختلف معهم، وخاصة الحداثيين)، فإنه يُقدّم سردية منتصرة، وبالتالي يفشل في التفكير وفقًا لمعاييره الخاصة. وكما يقول المثل الشهير: "لا يمكنك أن تجمع كعكتك وتأكلها أيضًا". أما إذا أجاب بالنفي، فإنه يفشل في تأكيد أن آراءه ما بعد الحداثية الخاصة متفوقة على آراء أي شخص آخر، بمن فيهم الحداثيون، وبالتالي لا أحد مُجبر عقلانيًا على تبنيها. علاوة على ذلك، أليست العديد من ادعاءات ما بعد الحداثية مُطلقة، وبالتالي حصرية؟ إذا كان ما بعد الحداثي مستعدًا لرفض المعرفة العلمية استنادًا إلى السياقات التاريخية وعلاقات القوة داخل المجتمعات، أفلا يكون ملزمًا أيضًا برفض آرائه ما بعد الحداثية التي تشكلت هي الأخرى في خضم السياق التاريخي وعلاقات القوة؟ إذا كانت اللغة مجرد مرجعية ذاتية وإشكالية لأنها لا تمثل الواقع بشكل مباشر، ألا ينطبق هذا أيضًا على كتابات ما بعد الحداثي نفسه (أي الأعمال المنشورة والكتب والمقالات الصحفية والعروض التقديمية، إلخ) وحججه التي تُنقل جميعها عبر اللغة. إذا لم تُشر اللغة إلى الواقع بشكل مباشر، فإلى ماذا تشير لغة ما بعد الحداثي، ولماذا يجب على أي شخص أن يأخذها على محمل الجد؟

خاتمة

لهذه الأسباب وغيرها الكثير، لم تُقدم ثقافة ما بعد الحداثة بعد حجة مقنعة تجذب معظم الفلاسفة وعلماء الاجتماع. نقطة أخيرة مهمة يجب مراعاتها هي أن مجالات التركيز في زمن ما بعد الحداثة، والتي عادةً ما تدور حول علاقات القوة، والتي تشمل بالتالي موضوعي النوع الاجتماعي والاستعمار، ليست بطبيعتها مُحبطة أو غير عقلانية أو غير عملية كما هو الحال في معظم نظريات المعرفة في ما بعد الحداثة. ويمكن القول بثقة إن الباحثين العاملين في هذه المجالات يُنتجون أعمالًا قيّمة تسعى إلى إدراج وجهات نظر وأصوات مهملة تاريخيًا في النقاش الفكري. هناك محاولات في مجال دراساتي الدينية، على سبيل المثال، لإدراج أصوات مهمشة سابقًا، مثل أصوات النساء، والأفراد غير التقليديين، والعبيد، والأشخاص الذين خضعوا لسيطرة الأنظمة الاستعمارية، وغيرهم من الفئات المهمشة، وما إلى ذلك. فماهو الزمن الذي يأتي بعد مابعد الحداثة؟ هل هو زمن الكوارث الطبيعية والتغيرات المناخية وفق نموذج الأنثربوسين؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

ما هي أفضل طريقة لتربية المواطن الصالح – الشخص الذي يقوم بالشيء الصحيح حتى في أسوأ الظروف؟ هذا المقال يؤكد ان الفلسفة لها الدور الكبير في ذلك. ولهذا فان إشراك الناس في الفلسفة، خاصة في صفوف الدراسة، هو فكرة جيدة.

اثنتان من أشهر المنظمات البريطانية المهتمة بفلسفة الأطفال هما سابيري واود Sapere &Aude. ليس من باب الصدفة ان "سابيري و اود" هو ايضا شعار التنوير. لكن كيف يمكن ان يرتبط التنوير  بفلسفة تعليم الاطفال؟

عرّف المفكران التنويريان ديدرو و دالمبير Diderot&d’Alembert المفكر التنويري بانه هو الذي يرفض التحيز اوالتقاليد اوالقبول العام اوالسلطة، أي، كل ما يستعبد العقول، ولديه الجرأة للتفكير بنفسه. كانط، في مقال قصير له بعنوان "ماهو التنوير؟" قال ان التنوير هو:

انبثاق الانسان من طفولته المفروضة ذاتيا. الطفولة هي عدم القدرة على استعمال المرء لعقله بدون رعاية وإرشاد من الآخرين. انها مفروضة ذاتيا، لأنها تعتمد على العجز، وليس على العقل، وتفتقر للعزم والشجاعة في استعمال العقل بدون توجيه خارجي. وهكذا فان شعار التنوير هو توفر الشجاعة لدى المرء لإستعمال عقله. 

بالنسبة لكانط، المواطنون المتنورون ليسوا فقط مثقفين قادرين على التفكير بأنفسهم، وانما هم ايضا لديهم الشجاعة للقيام بهذا. مقابل هذا هناك الافراد الذين مع انهم قادرين ثقافيا، لكنهم خاضعين ثقافيا: خائفين من عواقب مسائلة ما تأمر به السلطة او التقاليد.

معظم مؤيدو الفلسفة في صفوف الدراسة يفضلون تربية المواطنين الذين طبقا لكانط هم متنورين. انخراط الشباب في الفلسفة هي طريقة واضحة لجعلهم يفكرون نقديا وبشكل مستقل حول معظم المعتقدات الاساسية التي يجلبونها معهم الى غرف الدراسة، بما فيها عقائدهم الأخلاقية والدينية.

لكن لماذا تُعد تربية مفكرين نقديين مستقلين مستعدين للاعتماد على ذكائهم بدلا من السلطة والتقاليد فكرة جيدة؟ في الحقيقة، لا يتفق جميع الناس على انها فكرة جيدة. لا يوجد هناك إجماع باننا يجب ان نسعى لتربية المواطن التنويري. البعض يحذر من نتائج قد تكون رهيبة. هم يجادلون انه لو جرى تشجيع الشباب على الوثوق بقدراتهم العقلية بدلا من البوصلة الأخلاقية الموثوقة التي عرضتها تقليديا السلطة الدينية، فانهم سوف ينتهي بهم الامر بدون دفة أخلاقية، يجدون انفسهم عرضة للأهواء و التأثيرات الخبيثة التي تهب في طريقهم من كل مكان. هم يُحتمل ان يسقطون في اتون كارثة أخلاقية.

بدون الرد على هذه الانتقادات التي ستتطلب وقتا حسب قوله، يطرح الكاتب ثلاثة أسباب تجعل السعي لتربية المواطنين المتنورين هو في المجمل فكرة جيدة.

1- السبب الأول سواء، أحببت ام لم تحب، نحن مسؤولون بشكل لا يمكن تجنبه عن عمل أحكامنا الاخلاقية الخاصة بنا. اذا كانت هناك سلطة في الكيمياء تأمرني ان أمزج بعض الكيمياويات ويؤدي انفجارها لقتل العديد من الناس، انا يمكن ان ألتمس العذر لنفسي بالقول انا كنت اتّبع التعليمات. لكن لو تطلب مني سلطة دينية ان أذهب وأقتل بعض من لا يؤمنون، اذا قمت بذلك، انا هنا لا استطيع أعذر نفسي بنفس الطريقة الاولى. انا اتحمل مسؤولية لا يمكن التهرب منها لعمل أحكامي الأخلاقية الخاصة، مسؤولية لا استطيع القائها على خبير مفترض بنفس الطريقة التي القي بها مسؤوليتي لإصدار أحكام تتعلق بالكيمياء او الفيزياء او السباكة. نظرا الى ان كل واحد منا يمتلك هذه المسؤولية التي لا يمكن تجنبها لعمل أحكامنا الاخلاقية، ألا يجب على نظامنا التعليمي ان يواجهنا بهذه المسؤولية، وايضا يضمن اننا نمتلك النضج العقلي والعاطفي الذي نحتاجه لتجسيدها بشكل صحيح؟ يقول الكاتب ان ذلك هو ما سيحصل عندما تقوم الفلسفة بعملها بشكل جيد.

2- السبب الثاني لتشجيع الجيل القادم على التحقق وفحص ما كنا نعتبره امرا مسلما به أخلاقيا، ولكي نفهم عواقب ذلك على معتقداتنا الاخلاقية الاساسية والتي ربما نحن غير مدركين لها هو انه من خلال هذا التفكير يتم تحقيق التقدم الاخلاقي. تقدم أخلاقي كبير في مواقفنا تجاه المرأة، والأعراق الاخرى شغل حيزاً كبيرا في القرن الماضي كنتيجة لإستعدادنا لمسائلة الرأي الأخلاقي السائد وتفكيرنا بالأشياء بالطريقة التي تتطلبها الفلسفة.

3- هنا اقتراح ثالث حول سبب اعتبار ان تربية مواطنين متنورين هي فكرة جيدة. ان الاتجاهات التقليدية والمرتكزة على السلطة فيما يتعلق بالتعليم الاخلاقي والديني – الذي يشجع مواقف الخضوع والقبول غير النقدي بدرجة ما – يميل لإنتاج أغنام اخلاقية moral sheep. الأغنام الأخلاقية قد تؤدي الشيء بشكل صحيح، لكن فقط اذا كان هذا هو مايفعله بقية قطيعهم.

مجتمع أخلاق الأغنام يمكن ان يكون سارا بما يكفي. مع وجود قطيع يتبع سلطة حميدة، سوف تختفي الجريمة والشوارع تخلو من القمامة. لكن مجتمع الأغنام الأخلاقية هو شيء خطير. عندما تأتي الى المشهد شخصية سلطوية كاريزمية جديدة وأقل تسامحا، فان القطيع سوف يتبعها بكل سرور، وربما في زقاق مظلم للغاية.

كيف نحقق أفضل حماية ضد هذا الخطر؟ البروفيسور جوناثان كلوفر Jonathan Glover، مدير مركز القانون الطبي والأخلاق في كلية كنغ بلندن، أجرى بحثا حول خلفيات كل من اولئك الذين هم أكثر تلهفا للمشاركة في القتل في بلدان مثل المانيا النازية او رواندا او البوسنة، وايضا اولئك الذين عملوا جاهدين لإنقاذ حياة العديد من الناس معرّضين أنفسهم لمخاطر كبيرة. وكما أوضح كلوفر في مقابلة مع الغاردين:

اذا انت تنظر للناس الذين وفروا الحماية لليهود في ظل النازية، انت تجد عدة أشياء حولهم. احداها هو انهم حازوا على نوع من التربية مختلف عما موجود لدى متوسط الاشخاص، هم مالوا ليتربّوا بطريقة غير استبدادية، كان لديهم حماس تجاه الناس الآخرين لمناقشة الاشياء بدلا من تنفيذ ما طُلب اليهم.

أضاف كلوفر: "انا أعتقد ان تعليم الناس ليفكروا عقلانيا ونقديا يؤثر كثيرا في قدرتهم على التصدي للايديولوجيات المزيفة". في كتابه (الشخصية الإيثارية: منقذو اليهود في اوربا النازية)، يشير المؤلف صاموئيل اولينر Samuel oliner الى ان أحد أهم الفروق بين آباء اولئك الذين أنقذوا اليهود وآباء اولئك الذين لم يحركوا ساكنا يكمن في التأكيد الذي وضعوه على التفكير:

"آباء المنقذين اعتمدوا بشكل كبير على التفكير وليس على العقوبة المادية".

آباء المنقذين اختلفوا عن آباء غير المنقذين في اعتمادهم على الاستدلال والتوضيحات وما اقترحوه من طرق لمعالجة الأذى الناجم بالاضافة الى طرق الإقناع والنصائح التي قدموها.

يضيف اولينر ان "التفكير يوصل رسالة الإحترام والثقة في الاطفال بما يسمح لهم للشعور بمعنى الكفاءة الشخصية والدفء تجاه الآخرين". بالمقابل، غير المنقذين مالوا للشعور انهم "مجرد بيادق، عرضة لقوة السلطات الخارجية".

تجدر ملاحظة ان اولنر وجد ان "التديّن كان فقط مرتبط بشكل ضعيف في الإنقاذ".

استنتاج

يعتقد البعض انه اذا أردنا تحصين الجيل القادم ومنعه من الإنزلاق الى نوع من الكارثة الأخلاقية التي طبعت القرن العشرين، فان أحسن رهان هو الدين. الكاتب ستيفن يرى ان الفلسفة هي رهان أفضل من الدين. انت تستطيع ان شئت تربية الاطفال وفق الايمان الديني. لكن يُستحسن ان لايُعلّم الطفل في مدرسة تحبط استقلالية التفكير لديه، وتضع العقائد الدينية خارج نطاق التفكير، او انها تشجع الاطفال للافتراض ان ما يؤمنون به من عقيدة دينية ليس مسألة خيار خاص بهم. يقول، بالطبع نحن جميعا نريد التأثير بما يؤمن به الآخرون وبالذات ما يؤمن به الجيل القادم. نحن لا نريد الجيل القادم من المواطنين ينشأون على أساس جنسي او عنصري. نحن بالتأكيد لا نريدهم يسقطون ضحية لاولئك الذين يلقنونهم العنف والايديولوجيات المتطرفة.

يقترح الكاتب انه اذا اردنا حماية الشباب من ان يُلقّنوا بمثل هذه الانظمة العقائدية المسمومة، فان أفضل دفاع لنا هو ليس تلقين أنفسنا اولاً، وانما هو إعطاء كل واحد من اولئك الشباب بعض الحصانة ضد ذلك النوع من التلقين.

هم سوف يحتاجون القدرة على التشخيص عندما يتعرضون للاستغلال عاطفيا، او عندما يتعرضون لخداع فكري وهكذا.

بالطبع هناك مخاطرة ترتبط بتربية الافراد ليمتلكوا تلك المهارات والشجاعة لتطبيقها. هم ربما ينتهي بهم المطاف فقط باستعمال القدرات الفكرية الجديدة المطلوبة لعقلنة تحيزاتهم، او تهيئة التبريرات لأي شيء يرغبون ان يكون صحيحا. تلك هي المخاطرة. لكن المخاطرة الكبرى تكمن عندما تتم تربية جيل من الأغنام الاخلاقية.

***

حاتم حميد محسن

.............

من منشورات جامعة كامبردج:

Philosophy and Raising Good Citizens, by Stephen Law, online Cambridge University press: 27 March 2024

السرد البدئي يشير إلى الأنماط الأصلية للسرد التي تعتمد على الحكايات والأساطير، يعكس القيم والمعتقدات الثقافية، مما يساعد في فهم السياقات الثقافية للنصوص الأدبية، ويوفر نماذج سردية يمكن أن يستند إليها في تحليل النصوص واستخدام الحكايات كإطار لفهم الأحداث والشخصيات. يحمل السرد البدئي رموزًا ودلالات تسهل في تفسير النصوص من زوايا جديدة وتعزز من فهم المعاني الخفية، يسهم السرد البدائي في إثراء النصوص التكوينية من خلال فتح آفاق لفهم أعمق لدراسة فعاليتها في اللاوعي الجمعي، يساهم السرد البدئي في تسليط الضوء على التراكيب السردية الأساسية، مثل البطل والخصم، المقدس والمدنس، مما يمكن من تحليل كيفية تطور الشخصيات والأحداث وتأثيرها في الخافية الاجتماعية، يوفر السرد البدئي مجموعة من الرموز والأساطير التي يمكن أن تُستخدم لفهم المعاني الرمزية في النصوص، مما يعزز عمق التحليل والتاثير، استخدام السرد البدئي يساعد على تطوير قراءات جديدة للنصوص، مما يمكن من إعادة تقييم الأعمال وفهمها من زوايا مختلفة بذلك يُعتبر السرد البدئي أداة قوية تعزز من منهجية الفهم والتاثير وتفتح آفاقًا جديدة للتحليل والتفسير. التوفيق بين السرد البدئي والمنهجيات النقدية الحديثة ودمج عناصر السرد البدئي مع المنهجيات الحديثة، لخلق تحليلات أكثر شمولية تأخذ في الاعتبار الأبعاد التقليدية والمعاصرة و دراسة النصوص الأدبية من خلال سياقاتها الثقافية والتاريخية، يعزز الفهم العميق للعلاقات بين السرد البدائي والموضوعات المعاصرة و يساعد على إعادة تقييم النصوص البدئية في ضوء التحولات الثقافية ودراسة تأثير السرد البدئي على بناء الهوية الثقافية المعاصرة، النص البدئي يتضمن أشكالًا من السرد والتعبير الفني قد تعزز القدرة على التفكير النقدي من خلال تقديم تجارب جديدة ورؤى مختلفة، تساعد الأفراد في استكشاف موضوعات معقدة من زوايا متعددة وتسهم في إثارة النقاشات حول قضايا اجتماعية وثقافية، مما يفتح المجال لتبادل الأفكار والآراء، هذا التفاعل يعزز من روح النقد والتفكير الجماعي كما قد يعكس النص البدني التنوع الثقافي ويساعد الأفراد على فهم اختلاف الهويات، مما يعزز من تقدير الفروق الثقافية ويشجع على التسامح الذي له أثر عميق على تطور الفكر في مختلف الحضارات.
تأثير السرديات البدئية على الفكر النقدي
تختلف تأثيرات السرديات البدئية على الفكر النقدي بين الحضارات، كل حضارة لها سياقها الثقافي الخاص الذي يؤثر في كيفية تدوين السرديات البدئية. على سبيل المثال، في الحضارة اليونانية، أثرت الأساطير على الفلسفة والنقد الأدبي، بينما في الحضارة الهندية، كانت الأساطير تُستخدم لتفسير الروحانية والفلسفة، تختلف الرموز المستخدمة في السرديات البدئية من حضارة لأخرى، مما يؤدي إلى معانٍ مختلفة. قد يُنظر إلى الماء في أساطير كرمز للحياة، بينما في أخرى يُعتبر رمزًا للتطهير، تتناول بعض السرديات قضايا اجتماعية معينة تعكس التحديات التي تواجهها تلك الحضارة، قد تركز الحكايات في حضارة على قضايا الطبقات الاجتماعية، بينما تركز أخرى على الأساطير التي تتعلق بالآلهة والحياة بعد الموت، تختلف الأساليب في السرديات البدئية، في بعض الحضارات، قد تكون السرديات أكثر تعقيدًا وتفصيلًا، مما يتيح مجالًا أوسع للتفكير النقدي، بينما في حضارات أخرى قد تكون أكثر بساطة، تأثير السرديات البدئية يتنوع حسب تفاعلها مع الفلسفات والنظم الفكرية الأخرى في الحضارة. في اغلب الحضارات، كانت السرديات البدئية تُنقل شفهيًا لفترات طويلة قبل أن تُكتب، مما أدى إلى تغييرات في كيفية فهم النصوص وتفسيرها، بينما في حضارات أخرى، كانت الكتابة مبكرة، مما ساعد على تثبيت الأفكار، في بعض الحضارات استخدمت السرد البدئي كأداة للتعبير عن مقاومة أو انتقاد للسلطات، بينما في حضارات أخرى، قد تكون السرديات قد استخدمت لتبرير الأنظمة القائمة، يتضح أن تأثير النصوص البدئية على الفكر النقدي يختلف باختلاف السياقات الثقافية، الرموز، والموضوعات المعالجة، مما يثري الفهم النقدي في كل حضارة والطريقة الفريدة التي قدمت بها النصوص البدئية، والأسس المعرفية التي ساهمت في تشكيل فهم الإنسان للعالم من حوله.
السرديات البدئية والبحث العلمي
أصبحت المعرفة أساسًا للبحث العلمي اللاحق أثارت السرديات البدئية تساؤلات حول الوجود، الطبيعة، والأخلاق، مما ساهم في تطوير الفكر الفلسفي الذي شكل أساسًا للمنهجيات العلمية. كانت السرديات البدئية تسجل ملاحظات عن الظواهر الطبيعية، مما ساعد على تطوير منهجيات التجريب والملاحظة. على سبيل المثال، استخدمت الحضارات القديمة مثل السومرية،المصرية واليونانية الملاحظات الفلكية لتطوير تقاويم دقيقة، ساهمت السرديات البدئية في توثيق المعرفة والتجارب الإنسانية، مما أتاح للأجيال اللاحقة الاستفادة منها. هذا التوثيق كان خطوة مهمة نحو تطوير منهجيات البحث العلمي. مع مرور الوقت، بدأت الحضارات في نقد الأساطير والسرديات البدئية، مما أدى إلى ظهور منهجيات علمية جديدة تعتمد على العقل والتجربة بدلًا من التقليد الأعمى، كما في حالة النهضة الأوروبية أثرت السرديات البدئية على ظهور تخصصات علمية مختلفة، مثل الطب والفلك، حيث كانت الأساطير والحكايات الشعبية تحمل معلومات طبية أو فلكية،أدت حركة السرديات البدئية بين الحضارات إلى تبادل الأفكار والمعرفة، مما ساهم في تطوير منهجيات بحثية متكاملة، ساهم في تطوير المنهجيات العلمية، ساعدت السرديات البدئية في تعزيز التفكير النقدي والقدرة على الاستنتاج والتأثير في وعي اللاوعي، مما أسهم في تطوير المنهجيات العلمية التي تعتمد على التحليل والتقييم النقدي، باختصار كانت السرديات البدئية بمثابة نقطة انطلاق لتطوير منهجيات البحث العلمي، من خلال تأسيس المعرفة، تحفيز التساؤلات، وتوثيق التجارب الإنسانية، مما أثر بشكل كبير على تطور الفكر العلمي في مختلف الحضارات.
السرد البدئي وتقييد الافكار
السرديات البدئية قد تؤدي إلى تقيد الأفراد بالأفكار والمعتقدات التقليدية، مما يحد من التفكير النقدي المستقل ويسهم في الحفاظ على الأنماط القديمة بحجة المقدس، يمكن أن تساهم بعض السرديات البدئية في نشر الأساطير والمعتقدات التي لا تستند إلى أدلة علمية، مما يعوق التقدم العلمي ويؤثر سلبًا على العقلية النقدية، قد تحتوي السرديات البدئية على صور نمطية سلبية عن بعض الفئات الاجتماعية، مما يعزز التمييز ويحد من القدرة على التفكير النقدي حول القضايا الاجتماعية، يمكن أن تشجع الاعتماد على التفسيرات الروحية أو الغيبية بدلاً من المنهجيات العلمية، مما يعيق تطوير الفكر النقدي القائم على التجربة والملاحظة، قد تؤدي السرديات البدئية إلى مقاومة التغيير والتطور، حيث يتمسك الأفراد بالأفكار القديمة بدلًا من قبول الأفكار الجديدة، التي تعزز من التفكير النقدي، يمكن أن تؤدي السرديات البدئية إلى إغلاق الحوار بين الأجيال أو الثقافات، مما يحد من تبادل الأفكار والنقد البناء، بعض السرديات البدئية قد تثير عواطف قوية، مما يؤدي إلى تحيزات عاطفية تعيق التفكير النقدي الموضوعي على الرغم من أنها تحمل قيمة ثقافية وتاريخية، فإن تأثيرها السلبي يمكن أن يظهر في تشكيل العقلية النقدية المعاصرة ووعي اللاوعي، مما يستدعي الحاجة إلى التفكير المتوازن والمستند إلى الأدلة بتطور الحياة في العصر الحالي.
السردية البدئية وتاثيرها في تحفيز وعي اللاوعي
تعتبر دراسة وعي اللاوعي وحرية الاختيار مهمة لفهم سلوك الإنسان. من خلال الوعي بتأثيرات اللاوعي، يمكن أن تحسين عملية صنع القرار من خلال التعرف على الأفكار والمشاعر اللاواعية، هذا يمكن الأفراد من فهم دوافعهم بشكل أفضل، مما يساعدهم في اتخاذ قرارات أكثر منطقية، يمكن أن يساعد وعي اللاوعي في تحديد الأنماط المتكررة في السلوك، مما يمكن الأفراد من تجنب القرارات التي تستند إلى تجارب سلبية سابقة، الوعي بتأثيرات اللاوعي يمكن أن يساعد الأفراد في التعرف على التحيزات التي تؤثر على قراراتهم، مثل التحيزات الثقافية أو الاجتماعية من خلال فهم هذه التحيزات، يمكن للأفراد اتخاذ قرارات أكثر موضوعية ومنطقية، الوعي بتأثيرات اللاوعي يمكن أن يشجع الأفراد على تحليل خياراتهم بشكل نقدي، بدلاً من الاعتماد على ردود الفعل الفورية، يساعد التفكير النقدي في تقييم العواقب المحتملة للقرارات، مما يؤدي إلى اختيارات أفضل، إدراك التأثيرات اللاواعية يمكن أن يعزز القدرة على التحكم في الانفعالات والرغبات، مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات أكثر حكمة ويمكن أن يساعد الوعي في تطوير استراتيجيات للتعامل مع الضغوط والمغريات التي قد تؤثر على اتخاذ القرار من خلال فهم كيف أثرت الأفكار اللاواعية على قرارات سابقة، يمكن للأفراد التعلم من أخطائهم وتجنب تكرارها الوعي بتأثيرات اللاوعي، هذا يسهل التكيف مع التغييرات الجديدة في الحياة و الوعي بتأثيرات اللاوعي يمكّن الأفراد من تحسين عملية صنع القرار و تعزيز الوعي الذاتي، وتقليل التحيزات، وتعزيز التفكير النقدي، وتطوير مهارات التحكم، وتعزيز التعلم والتكيف.
السرد البدئي وتأثيره على وعي اللاوعي
السرد البدئي يساهم في تشكيل هوية الأفراد والمجتمعات، حيث تنقل القيم والمعتقدات عبر الأجيال. هذه القصص تظل عالقة في اللاوعي وتؤثر على كيفية رؤية الأفراد للعالم من حولهم، السرد البدئي يعبر عن المخاوف والرغبات الإنسانية الأساسية، مثل الخوف من الموت أو الرغبة في الحب. هذه المشاعر تتجلى في اللاوعي وتؤثر على السلوكيات والتفاعلات اليومية، تحتوي الحكايات البدئية على رموز قوية تمثل معاني محددة. هذه الرموز تتجاوز الوعي الظاهر وتؤثر على اللاوعي، مما يجعلها تؤثر على القرارات والمشاعر بطرق غير مباشرة بشكل عام، يمكن القول إن السرد البدئي ليس مجرد وسيلة تأسيسية للفهم، بل هو اداة عميقة لفهم النفس البشرية وتاريخها، وتأثيره على وعي اللاوعي يمتد عبر الزمن والثقافات. حيث ساعد سرد البدايات في تشكيل هوية الأفراد والمجتمعات، ونقل القيم والمعتقدات عبر الأجيال، هذه القصص تظل عالقة في اللاوعي وتؤثر على كيفية رؤية الأفراد للعالم من حولهم.
***
غالب المسعودي – باحث عراقي

(كل شيء غارق بالنسبة لنا في هوّة من الظلمات) باسكال

باسكال الفيلسوف اللاهوتي المؤمن حتى نخاع العظم واضع نظرية الايمان بالله براجماتيا في حالتي وجود الله او نكران وجوده. ربما مرت على الكثيرين مقولته الفلسفية الذرائعية انك لو افترضت الله موجودا وتصرفت اخلاقيا وسلوكيا بضوء هذا الايمان ففي النهاية سوف لن تخسر شيئا. والعكس من ذلك انك لو وجدت ان لا اله موجود بالحياة الاخرى فايضا ستكون لست خاسرا شيئا لانك ربحت الحياة الدنيا على حساب لا وجود الخلود.
باسكال اراد خلق توافق وانسجام بين حقيقة لا معنى وجود الانسان وهو ما اخذت به الفلسفة الوجودية الغربية لاحقا والعديد من مدارس الادب في اللامعقول والعدمية والسريالية وغيرها. مع ربط باسكال الميتافيزيقي وجود الانسان الافتراضي بأن الحياة البشرية تدور فيما اطلق عليه نيتشة العود الابدي. ملخصه هو ان ما يحدث ويندثر استهلاكيا في حياتنا سوف ينبعث لاحقا مجددا في دورة وتكرار لا ينتهي ابدا.
بضوء هذه الخلفية التي هي مختلفة التعبير عنها لدى كل من لا يبنتيز عالم الرياضيات الالماني والفيلسوف اللاهوتي الكبير. التي عّبر عنها باسكال في مقولته كل شيء غارق بالظلمات وهي نظرة فلسفية لا ادرية متشائمة تميل جدا الى ميتافيزيقا التفكير الفلسفي كما في الوجودية والعدمية.. باسكال من منطلق خلفية لاهوتية مؤمنة ليست نيتشوية عبّر عنها باسكال أن الحياة الفانية التي نعيشها لا بد أن تنبعث من جديد لاحقا بالخلود الابدي في الجنان السماوية..
العدمية الوجودية التي عبّر عنها باسكال في عدم قدرتنا ومحدودية تفكيرنا فهم الحياة بشمولية من المعنى الذي لا نجد الوضوح التام بكل شيئ مما ندركه او في كل شيء لا ندركه. باسكال انما كان متصالحا مع ذاته في فهمه الوجود بخلفية ايمانية لاهوتية مؤمنة بالله كما ذكرنا. هذه النزعة اللاهوتية عند باسكال لا تلبث ان تصطدم بجدار التدين البراجماتي عنده في ان للحياة معنى وجديرة ان نعيشها.
فولتير والاخلاق
على خلاف من ديكارت نجد فولتير لا يؤمن بالخلود رغم تأرجحة المتناقض بين ايمانه بالعناية الالهية وبين التراجع عنها. فهو يعتبر الخلود لا فائدة منه في تاسيس الاخلاق. اراد فولتير بذلك القول ليس شرطا ان يكون الايمان بالله كفيل ان يمنحنا السلوك الاخلاقي السليم على صعيدي الفرد والمجتمع. وهي نظرة (اكسيولوجية) قيمية اخلاقية صحيحة يؤيدها التطور الانثروبولوجي للاخلاق عند الانسان. فالنزوع الاخلاقي في حب الخير فطرة غريزية عند الانسان هي اسبق على معرفته الاخلاق في مرجعية وصايا الدين المكتسبة. فقد نجد ملحدا اليوم يحمل من قيم الفضيلة والاخلاق وتمسكه بالضمير لانساني النظيف لايجاريها فيه ولا نجدها عند رجال دين متزمتين يتاجرون بازدواجية الاخلاق في سلوكهم الزائف وليس في عامة الناس العاديين.
فولتير الصدف والطبيعة
كما نجد في مقولة فولتير اعتباره الطبيعة هي (فن صرف) وقوامها صنعة تفكيرية هي عبارة غير موفقة تماما قوله على لسان الطبيعة" انهم يدعونني طبيعة وانا فن صرف" هذا تهويم إنشائي لا معنى له من جنبة التلاعب باللغة، لم يكن يجدر بمفكر مثل فولتير يتفوه به. من الممكن ان نعتبر الاعجاز في قوانين الطبيعة الثابتة تجعلنا ندرك الطبيعة على انها فن اعجازي التنظيم والاتساق.
انه لمن الغريب ايضا ان فولتير رغم افكاره المواربة حول أخذه بالعناية الالهية فهو ينقدها وينكرها لاحقا على حساب الصدف. الجدير بالذكر ان العناية الالهية ليست خاصيتها صنع التاريخ البشري الذي هو مسار انثروبولوجي في تطور الانسان تاريخيا. الا يكفي العناية الالهية انها قامت اعطاءنا الطبيعة كمعطى تحكمه قوانين عامة ثابتة لا تتغير، التاريخ تتخلله الصدف التي يسميها المفكر مطاع الصفدي " مراحل غياب التاريخ" اي بمعنى ان مسار التاريخ يبدو مراوحا في مكانه لا يتحرك ويبدو في حالة سبات عميق. بسبب ما يعتور التاريخ من صدف وحوادث غفل غير متوقعة الحدوث. بديهي الاقرار ان الصدف تلعب دورا هاما جدا في صنع تاريخ الفرد والتاريخ الانساني عموما. والصدف لعبت دورا انثروبولوجيا مضادا للطبيعة في تجلياتها الثابتة، لكنها كان لها دورا فاعلا جدا في تقدم او تغييب مراحل تاريخية في مسار التاريخ الخطي الى امام. كما لعبت الصدف دورا مهما في اكتشاف الانسان لقوانين الطبيعة الثابتة التي تحكم الانسان والطبيعة معا حتى في مجال الطب وعلم الفيزياء والكيمياء والفلك وفي مناحي علمية لا حصر لها كانت بصمة الصدف الغفل حاضرة بواقعية اكثر من تجارب الاختراع. حياة الانسان سلسلة من الصدف في تغييبها الارادة الذاتية المزعومة لتقدم التاريخ.
هل المادة تشعر وتفكر؟
أجد من الغرابة أن فيلسوفا تجريبيا وضعيا مثل جون لوك يسقط في مثالية ليس كما عهدناها عنده في نكرانه وجود العالم الخارجي ما لم يتحقق وجوده في تمّثلات الذهن اولا وأن كل شيء بالذهن لا في واقع العالم الخارجي. بل ذهب ابعد من ذلك قوله (من الممكن للمادة ان تشعر وتفكر) ولم يشرح جون لوك كيف؟ واي منهج يقودنا الى تحقق مثل هذه المقولات الفلسفية وهو الفيلسوف المثالي المؤمن بالتجربة العلمية والمنطقية؟ كما ولا يذكر اي نوع من المادة يمكنها ان تشعر وتفكر.
اذا كانت المادة هي صنيعة الفكر المتحقق في الذهن قبل تحقق وجودها المادي المستقل في الواقع والعالم الخارجي كما يؤمن به جون لوك في مثالية متزمتة، فيكون شعور وتفكير المادة في تمثلات الذهن للمادة وليس في قابلية المادة الشعور والتفكير بوجودها المستقل الذاتي في العالم الخارجي. وهذا التعليل الوحيد لتخريج مقبولية مقولة جون لوك الصادمة للعقل انه لا وجود لشيء مادي خارج تمثلات الذهن له اولا. وان المادة تشعر وتعي وتفكر ووصل بالبعض من مؤيدي لوك مثل جانسكي ان قال من المحتمل ان يكون للمادة (مخا) مثل الانسان.!!
السؤال او التساؤل الذي يفرض نفسه حضوريا هو هل تفكير الذهن وتمثلاته لموجودات الواقع وموضوعات عالمنا الخارجي هو الذي له الاسبقية في تصنيعه وجودها المادي المستقل عنا ؟ وهي افتراضية من نوع المثالية الساذجة التي تحاول بدوغمائية فجّة لوي أعناق الموجودات المادية وتطويعها لمقولات الذهن.
لناخذ الافتراضية المثالية السابقة ونتساءل عكسها هل الصحيح هو ان تمثلات الذهن للاشياء والمادة ثانوية على اسبقية موجوديتها الانطولوجية الواقعية التي يصنع حضورها المادي او الواقعي تفكير الذهن بها اولا؟
طبعا تماشيا مع نظرة وفلسفة جون لوك المثالية ان كل موجودات الواقع والطبيعة يتمثلها الذهن اولا ثم يخلع تلك التمثلات على الموجودات فتكون موضوعات مدركة لتفكير العقل قبل تفكير المادة ذاتيا شعوريا وتفكيريا لكن لا نجد لهذا التمثّل حضورا واقعيا. مثل تفكير الانسان بالعقل.
في المنهج المادي لا يمكن الاقرار باسبقية الفكر على المادة، وليس بمكنة المادة ان تشعر وتفكر مثل الكائن الحي ولو اخذنا مثلا بيولوجيا الموجودات في الطبيعة لاصطدمنا بحقيقة ان الادراك والشعور والتفكير هي خصائص عقلية نفسية لا تمتلكها المادة. المادة موجود مستقل لا يمتلك اية ميزة بيولوجية يمتلكها الكائن الحي. فهي لا تشعر ولا تفكر ولا تعي. نموذج ثان من تعبير فولتير الغرائبي قوله " اعبدوا الله، وكونوا امناء وصدقوا ان اثنين زائدا اثنين يساوي اربعة." كما ويعتبر الاخلاق غرائز شاملة فطرية ولقد تلقى الناس جميعا مع العقل هذا اللجام من العدالة والضمير" ص 48 من المصدر.
لا نحتاج كبير عناء الى:
- اراد فولتير اثبات التسليم بوجود الخالق على انه تسليم بديهي لايحتاج تحقق برهانه فهو مثل صحة المعادلة الرياضية اثنين زائدا اثنين يساوي اربعة. فهي ثابتة صادقة لا تتغير ابدا. وهي وجهة نظر ايمانية تصادر البرهان في حشر معادلة الرياضيات التي لا تحتاج برهنة صدقها مع قضايا ميتافيزيقية من الصعب الاحاطة بها والبرهان عليها.
- اخطأ فولتير في تعبيره الاخلاق غرائز شاملة فطرية. فهي أي الاخلاق ليست معطى وراثيا فطريا ياتي الطفل للحياة مزودا بها لحظة ولادته. بل الاخلاق بمعناها القيمي هي السلوك النفسي الذي يكتسبه الفرد من خلال وجوده ضمن عائلة ومجتمع. من الصحيح ان نقول ان نزعة الخير فطرية عند الانسان لكن ليس كل سلوكيات البشر الشريرة هي خيرا ايضا. ولا يصح تعميم نزعة الخير الانسانية على جميع مناحي ومفردات الاخلاق.
ويمضي فولتير بافكاره اللامنطقية المتناقضة في مثل قوله " المساواة هي اكثر الاشياء طبيعية في العالم وهي في الوقت ذاته خرافة" ص48 من المصدر. العبارة يمكنننا أخذ جنبة صحة بها اذا ما اخذنا ان مبدأ المساواة والعدالة كلام قيمي مقبول لكنه غير متحقق او الاصح لا يمكننا تحقيقه مجتمعيا واقعيا. بدليل فولتير يؤمن بأن البشر غير متساوين ولا يمكن لهم ذلك قوله " الجنس البشري لا يمكنه البقاء إن لم نجد ثمة عدد لا متناه من الناس لا يمتلكون شيئا على الاطلاق " ص 48 من المصدر. هذه النخبوية في التمييز المجتمعي الطبقي على اساس من امتلاك الثروة والمال ليست صحيحة وتجاوزها العصر الحديث. ثم لماذا لا يكون تحقيق العدالة والمساواة الا اذا انقسم المجتمع طبقيا بين من يملك ومن لا يملك.
فولتير خاصة في تعبيراته الفكرية الغرائبية يبدو متناقضا متغيرا على الدوام. فهو يأخذ بالصدف الغفل في حدوث الوقائع غير المتوقع حدوثها سواء في حياة الفرد اليومية او على صعيد مسار التاريخ البشري. وهي صحيحة لا يمكن نكرانها. لنجده ينكرها مثلا في اعقاب حادث زلزال لشبونة الشهير المروّع الذي حدث في عام 1755 وذهب ضحيته ما يقرب من مئة الف قتيل. ليعلن تراجعه عن الدعوة للعناية الالهية ويقول على لسان لامتري " العالم لا يكون سعيدا الا اذا اصبح كل الناس ملاحدة".
ديدرو الجوهر والوجود الانطولوجي
الشيء الغريب في تاريخ الفلسفة الفرنسية تحديدا حين تجد انها انجبت عظماء المفكرين والفلاسفة بنفس وقت انجبت التفكير الضحل والتفلسف المجاني السطحي الفقير لدى بعضهم. صحيح جدا أن ليست كل الافكار معصومة من الخطأ لكنها يجب ان لا تكون بتلك السطحية والتناقض المنطقي بالطرح. فمثلا نجد ديدرو يتحدث عن الاشكالية الفلسفية بين العرض والجوهر التي كان ارساها كانط ومن قبله اسبينوزا في التفريق الادراكي بين الصفات الخارجية المدركة في الاشياء وبين الجوهر المحتجب غير المدرك في باطن تلك الاشياء والموجودات.
يعبر ديدرو بتفكير اللاادرية قائلا " لا توجد في عالمنا سوى الصور – يقصد الاشياء في صورها الخارجية اي بصفاتها البائنة المدركة بالحس - اما الجوهر فلا اعرف عنه شيئا " ص 49 من المصدر. هذه المقولة صحيحة وملزمة الاخذ بها فقد أخذ بها كانط واسبينوزا وعديد من فلاسفة الماركسية والوجودية الفرنسية الحديثة. ان المدرك الاولي في تحقق وجود الشيء هو صفاته الخارجية البائنة فقط واما جوهر ذلك الشيء فهو خارج ادراك الحواس والعقل. ثم هناك اشكالية متعالقة مع اشكالية العرض والجوهر هي ان ليس كل الموجودات التي ندرك صفاتها الخارجية تمتلك خلف تلك الصفات جواهر. مثال ذلك الحيوان والنبات فهي لا تمتلك غير صفاتها الخارجية القابلة للادراك وهي خالية من الجوهر الدفين المحتجب عن الادراك الحسي خلف الصفات الخارجية. من الغريب جدا قول سارتر (الانسان موجود لا يمتلك جوهرا).** وهو القائل ان الجوهر او الماهية تصنيع ذاتي يلازم الفرد مدى الحياة في صناعته لماهيته الشخصية كهوية.
يعقب الفيلسوف الفرنسي المؤرخ لتاريخ الفلسفة الفرنسية جان فال متسائلا هل ان ديدرو استبق النزعة التطورية التي قال بها لامارك ودارون بقوله " اعضاء الجسم تنتج الحاجات، والحاجات تنتج بدورها الاعضاء، وقد استبق ديدرو بذلك لامارك على وجه الخصوص فالتشكل الاصلي عنده يتغير ويكتمل بفعل الحاجة والوظائف المعتادة". ص 49 من المصدر.
لو نحن عدنا الى مقولة " الحاجة هي ام الاختراع " لوجدناها تبدو صحيحة في حساب التكيف البيولوجي للكائن الحي مع الحاجة. وهذا النوع من التكيف الوظائفي بيولوجيا يختلف عن حاجة الانسان لشيء يقوم بتصنيعه لاحقا من المادة او من غيرها. نحاول تفكيك العبارة بما يلي الصحيح والخطأ معا:
- اولا خطأ قول ديدرو "ان اعضاء الجسم تنتج الحاجات". بل الصحيح الحاجات تتطلب التكيّف البيئي والتكيف العضوي البايولوجي مع الحاجات. الحاجات في ضرورة اشباعها لدى الكائن الحي تكون مسؤولة عن التطور العضوي والوظيفي في اعضاء الكائن الحي ليستطيع نيل تلك الحاجات وسد اشباعه لها..
- القول ان الحاجات تنتج الاعضاء صحيحة وسليمة نسبيا. الحاجات لا تنتج اعضاء جديدة بل تنتج تطورات بيولوجية عضوية متكيّفة مع الحاجات. الحاجة لا يمكنها ان تنتج اعضاءا ابدا.
- صحيح يلتقي ديدرو مع لامارك بأن التشكل الاصلي للكائن الحي في تكيفه البايولوجي من اجل حصوله على اشباع حاجته للحاجات وانه يتغير ويكتمل بفعل الحاجة والوظائف المعتادة للجسم هو تعبير سليم.
- الحاجة هي التي تستبق التطور العضوي لدى الكائن الحي والتكيف الوظيفي البيئي وليس العكس.. بمعنى توضيحي الوجود المادي لبعض الحاجات بالعالم الخارجي والاحاسيس الغريزية الفطرية داخل جسم الانسان وحتى عند الحيوان والدافع البيولوجي لاشباعها هي التي تجعل الحاجة سابقة على التطور العضوي لدى الكائن الحي. خطأ ديدرو الذي اشرت له قوله الحاجة تنتج الاعضاء والصحيح ان الحاجة تنتج التكيّف العضوي الوظيفي للاعضاء الموجودة لدى الكائن الحي مع الحاجات التي يرغبها..
- من أمثلة لامارك على أن الحاجة تستبق التطور العضوي البايولوجي لدى الكائن الحي ان الزرافة احتاجت العنق الطويل لسد حاجة الجوع عندها فاصبحت بحاجة الى رقبة وعنق طويل يصل اغصان الاشجار التي تتغذى عليها.
- كما ان الاعضاء لدى الكائن الحي تتطور وتتكيف بتطور الحاجة او انتفائها مثال ذلك نجده لدى النعامة حينما لم تستطع الطيران باجنحة استعاضت عنها بيولوجيا في مقدرة الركض السريع فاحتاجت لسيقان قوية طويلة وسريعة وليس لاجنحة قاصرة على حمل جسمها والطيران بها..وكذلك نجد الانسان عندما ادرك تناول بعض الاطعمة النباتية من غير طبخ انتفت حاجة جسمه للزائدة الدودية.
- في مثال آخر الانسان احتاج الى انتصاب القامة ومغادرته المشي على اربعة في تقليده مشية الحيوان لانه وجد بالانتصاب سد حاجات يحتاجها لا تتوفر له في حال تقليد مشي الحيوان على اربعة. من تلك الحاجات مقدرته على قطف الثمار من الاشجار، وقدرته النظر الى مسافات بعيدة تحيط به.
ويتساءل ديدرو (الا يصح ان نعتبر العالم هو الله؟) فهو يرى على حد وصف جان فال انه اي ديدرو يتصور العالم كانه حيوان هائل او انسان هائل مستشهدا بديدرو قائلا (ما يدريكم ان لهذا العالم مخ كالانسان؟). لا يمكننا الاخذ بهذه التصورات الاعتسافية الغرائبية لسبب ان العالم والطبيعة هما كل غير متجانس في جميع محتوياته ومكوناته فهو حتما يختلف عن جسم الانسان بمحتوياته الكلية الجامعة لكل اعضائه تجانسيا تكامليا وفي امتلاكه الدماغ ايضا بمجانسة انفرادية يحوزها الانسان فقط وتفتقدها الطبيعة بسبب عدم وجود المجانسة العضوية بين مكوناتها ومحتوياتها.
عليه يمكننا القول أن جسم الانسان في مجموع تكامل فاعلية اعضائه بيولوجيا يسيطر عليه (دماغ) مسؤول عن تصريف جميع احتياجات جسم الانسان الغريزية منها او التي هو بحاجة لها في العالم الخارجي والطبيعة. وكذا الحال في جسم الحيوان وجميع الكائنات الحية. نخلص من هذا الى ان المجانسة النوعية لدى الانسان او الحيوان في تكامل جميع مكوناته ومحتوياته العضوية والوظائفية هي مجانسة كليّة تحتاج المخ في السيطرة عليها، لكن اللاتجانس النوعي في مكونات الطبيعة والعالم الخارجي في وجودها المستقل غير الاحتوائي من المحال ان يحتاج الى مخ او دماغ يسيطر على جميع اجزائه ومكوناته ومحتوياته.
***
علي محمد اليوسف
.......................
الهوامش:
* مقتبسات عن المصدر جان فال / الفلسفة الفرنسية من ديكارت الى سارتر/ ترجمة فؤاد كامل/ منشورات دار التنوع الثقافي سوريا.
** في تثبيت عبارة سارتر والتعليق عليها يتبين معنا تناقض سارتر حول الجوهر الانساني . فهو ينفيه ويقر بوجوده في آن واحد.

تمهيد: ميشيل سيريس ولد في 1930/09/01 و توفي في: باريس بتاريخ 2019/06/01 هو فيلسوف ومؤرخ للعلوم ومؤلف فرنسي. تم قبوله في الأكاديمية البحرية في عام 1949، والتي استقال منها بعد فترة وجيزة، للتحضير للامتحان التنافسي لمدرسة المعلمين العليا في باريس في مدرسة ثانوية باريسية، في عام 1952. باعتباره نورماليان، تم قبوله بعد ذلك بالمرتبة الثانية على قدم المساواة في مجمع الفلسفة في عام 1955. من عام 1956 إلى عام 1958، شغل منصب ضابط بحري في سفن مختلفة تابعة للبحرية الفرنسية: سرب الأطلسي، إعادة فتح قناة السويس، الجزائر، سرب البحر الأبيض المتوسط. وفي عام 1968 حصل على الدكتوراه في الآداب ونشر كتابه الأول "نظام لايبنتز ونماذجه الرياضية" . وتبع ذلك العديد من الأعمال المخصصة لهيرميس مما أكسبه النجاح. وتظل سلسلة «هيرميس» المكونة من خمسة مجلدات تمتد من عام 1969 إلى عام 1980 من أعماله العظيمة. وفي عام 1969 تم تعيينه أستاذاً لتاريخ العلوم في جامعة باريس 1 بانتيون-السوربون. كما قام بالتدريس في الولايات المتحدة، حيث أصبح أستاذاً في جامعة ستانفورد في عام 1984. تم انتخاب ميشيل سيريس لعضوية الأكاديمية الفرنسية في 29 مارس 1990. وفي عام 1994، تم تعيينه رئيسًا للمجلس العلمي الذي أطلقه جان ماري كافادا. يشارك كل يوم أحد، من 2004 إلى 2018، في عمود " معنى الاحداث" مع ميشيل بولاكو. كان ميشيل سيريس، مؤلفًا لما يقرب من مائة عمل ومقال، مفكرًا مشهورًا عالميًا، وكانت أعماله متعددة التخصصات تتعلق بنظرية المعرفة في العلوم والبيئة والفن والفلسفة. كان مؤلفًا غزير الإنتاج، وكان ينشر كتابًا واحدًا تقريبًا في السنة وأحيانًا كتابين. من بين مقالاته الأكثر شهرة: "جماليات كارباتشيو" (1975)، "الحواس الخمس" (1985)، "بوسيت الصغيرة" (2012،) و" قوة الفكر" (2015). لقد كان شخصية فكرية مألوفة لدى عامة الناس. يوجد شارع ميشيل سيريس في مسقط رأسه في آجا (لوت وغارون) حيث أقيمت جنازته في يونيو 2019. فكيف نظر ميشيل الى سيرته الذاتية واضافاته العلمية؟ وماهي رؤيته لمستقبل العالم؟
الترجمة
"أحد أعظم الاكتشافات العلمية هو التأريخ، الذي يسمح بالتوفيق بين العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية. بدءًا من تكوين الأنظمة الشمسية وحتى ظهور الإنسان على الأرض، يمكننا تأريخ قصة الأصول وبالتالي سردها. ولكنها ليست قصة عظيمة كما في الماضي، مثل الكتاب المقدس على سبيل المثال، الذي يستحضر تصميمًا ذكيًا ومتعمدًا، وخطة إلهية. إن السرد الكبير، كما يقترحه العلماء اليوم، مكتوب بصيغة المستقبل. إنها مشروطة وعشوائية وفوضوية. كان من الممكن أن يتشعب العالم والأنواع ويتطورا بشكل مختلف. لقد استخدمت أيضًا كلمة "السرد الكبير" لأكون ساخرًا بعض الشيء بشأن هؤلاء الفلاسفة الذين يؤكدون أن عصرنا هو عصر "نهاية السرديات الكبرى" في نفس اللحظة التي يؤسس فيها العلم واحدة من أكثر الرؤى تماسكًا للعالم. أستطيع أن أروي هذه القصة العظيمة للإنسانية لأحفادي في المساء كما لو كنت في وقفة احتجاجية، باللغة العامية أو في مؤتمر علمي دولي، باستخدام أدوات مفاهيمية مثيرة للإعجاب. حتى ذلك الحين، كان للإنسان المثقف تاريخ وراءه، لا سيما تاريخ الكتابة، أي ما بين 7000 إلى 8000 سنة من الإنسانية. نحن نعلم اليوم أننا خلفنا 15 مليار سنة من التقاليد المكتوبة، ليس من قبل البشر، ولكن من الطبيعة. لأننا الآن نقرأ الطبيعة كما نقرأ الكتب. اكتشف العلم وعمم فكرة جاليليو بأن الطبيعة مكتوبة، خاصة باللغة الرياضية. أن نفكر في خصوصية وجودنا في العالم. أن نفهم أن البشر لديهم عالم مشترك. البشر يولدون من نفس السلالة. إذن، أولئك الذين غادروا أفريقيا قبل 100 ألف سنة هم إخوة. وهذه ليست معلومة بسيطة هذه الأيام! عندما بدأت التفلسف، كانت الكلمات الرئيسية للفلسفة والعلوم الإنسانية هي: الآخر والاختلاف. اليوم، لم يعد الآخر، بل هو نفسه؛ لم يعد الأمر فرقًا، بل مجتمعًا. في بداية القرن العشرين، كان عدد المزارعين في فرنسا 75%، واليوم 2.3%. وهذا يعني أن الاختراع الرئيسي للعصر الحجري الحديث أصبح الآن مهمشًا. عندما ولدت عام 1930، كان هناك مليار شخص على وجه الأرض. هناك 6 مليارات ونصف اليوم. في عام 1835، كان متوسط العمر المتوقع للنساء 30 عامًا، ويبلغ حاليًا 84 عامًا. يمكن للبشرية أن تدمر نفسها في غضون أيام قليلة، وتكون الولادة على وشك السيطرة عليها، وتتعطل العلاقة مع المرض والألم بشكل كبير، إلى درجة أن الفرد يمكن أن يصل إلى نهاية أيامه دون أن يعاني... حتى مع معدل طلاق لا مثيل له يبلغ حوالي 55٪، لم يبق الرجال والنساء معًا لفترة طويلة، لسبب بسيط هو أنهم يعيشون لفترة أطول! كل هذه التغييرات تعدل بشكل جذري علاقتنا بالحياة، و"وجودنا في العالم". نحن نشهد انقطاعًا مفاجئًا، لا علاقة له بعصر النهضة أو الثورة الفرنسية أو الثورة الصناعية. إنها علاقة جديدة مع جسم الإنسان، ومع الطبيعة، ومع الوجود، تتأسس وتخترع يوما بعد يوم. ولم تتمكن مؤسساتنا من استيعاب وفهم نقطة التحول هذه. منذ العصور الوسطى، انقسمت الفلسفة الأكاديمية إلى معسكرين: معسكر التقليد ومعسكر العقل. في القرن الثالث عشر، أظهر توما الأكويني في كتابه الخلاصة اللاهوتية أن الأسئلة الكبرى يتم حلها بطريقتين: العقل والتقليد. الجامعة الأمريكية اختارت العقل، والجامعة الأوروبية فضلت التقليد. ولا تزال الجامعات، من وجهة النظر هذه، شبه العصور الوسطى. إن الفصل بين العلوم والإنسانيات هو قطعة أثرية جامعية، تم إنشاؤها من الصفر عن طريق التدريس. واتفق على أن يعرف المرء إما الأدب اللاتيني أو اليوناني أو الحديث، أو علم الأحياء أو الفيزياء. ولكن هذا الانفصال المصطنع لم يكن موجوداً عند اليونانيين أو الرومان، ولا حتى في العصر الكلاسيكي. حاول ديدرو في القرن الثامن عشر أن يفهم ما قاله عالم الرياضيات دالمبرت، وترجم فولتير نيوتن. لقد خلقت الجامعة فئة غريبة من الجهلة المثقفين. في مدرسة المعلمين العليا، حصلت بالفعل على شهادة في الرياضيات، لأنني استقلت من الأكاديمية البحرية بسبب المسالمة والاستنكاف الضميري. في ذلك الوقت، بالطبع، التقيت بالماركسيين، لكن رؤيتهم الأيديولوجية للعلم أثلجت صدري. ماجستير في الفلسفة، قام لويس ألتوسير بتدريس "نظريات" تروفيم ليسينكو (1898-1976): عالم الأحياء الستاليني هذا أدان "علم الوراثة البرجوازي" وادعى أنه قادر على فرض الخصائص الوراثية المرغوبة على النباتات، وحتى تحويل نوع إلى آخر حسب الرغبة. كنا نعيش فترة ظلامية. لقد أثارت الفينومينولوجيا اهتمامي أكثر، وخاصة هوسرل، الذي طور أفكارًا مثيرة للاهتمام حول أصول الهندسة. لم يجذبني هيدجر أبدًا بسبب نزعته المحافظة ورؤيته المبتورة لمسألة التقنية. وكتب: "العلم لا يفكر": هذه الجملة سخيفة ومتعجرفة في نفس الوقت. بل إنني أعتقد أنني أستطيع أن أزعم أننا نفكر بشكل أسرع وأسرع في الرياضيات والفيزياء مقارنة بالأدب. وكنت في ذلك الوقت أول من قال إننا بحاجة إلى تأسيس أخلاقيات العلم في عصر هيروشيما. ولنتذكر: بعد مرور عشرين عامًا على إلقاء القنبلة الذرية الأولى على اليابان، واصل غاستون باشلار تطوير النشاط العقلاني للفيزياء المعاصرة، وكأن شيئًا لم يحدث! حتى أنه واصل الحديث عن الهندسة الإقليدية في نفس الوقت الذي كان يتم فيه الحديث عن بورباكي، أي ما يسمى بالرياضيات "الحديثة". بعد أن تدربت في الرياضيات الكلاسيكية، عندما حدثت الثورة في الرياضيات "الحديثة"، التي استحوذت عليها الثورة في مفردات الكمبيوتر، اضطررت إلى تغيير اللغة. ويتعين علينا أن نضيف إلى هاتين الثورتين الشكليتين النموذج البيولوجي، والشفرة الجينية، والحمض النووي، والأهمية الفلسفية التي فهمها عالم الأحياء جاك مونو بوضوح في كتابه "الحصار والضرورة". في وقت تدريبي، قادتني ثلاث ثورات علمية هائلة إلى تغيير اللغات. وكانت الفلسفة تتأرجح على أسسها الخاصة. مع انتصار الرياضيات الحديثة، على سبيل المثال، بدا أن الحساب قد انتصر على المنطق، أي أنه انتهى الى أساس النشاط الفلسفي. ومن هذا التوتر بين ما يمكن حسابه وما يمكن إثباته، استخلصت فكرة أن الهندسة اليونانية ولدت على وجه التحديد لأنها استنفدت موارد الحساب وأنه كان من الضروري اللجوء إلى البرهان. اليوم، تم إثبات جزء كبير من النظريات مع الآلات الحاسوبية. وبالتالي، تم العثور على حقبة كاملة من وظائف المعرفة على جانب ما يمكن حسابه، والحساب والخوارزميات التي لم تأخذها الفلسفة بعين الاعتبار أبدًا. في نظرية المعرفة، نحن دائمًا متخلفون عن العلم. أعتقد أن التفلسف يعني التوقع. بين عامي 1969 و1980، كتبت خمسة مجلدات بعنوان هيرميس، والتي جادلت فيها بأن البشرية ستعتمد على التواصل أكثر من الإنتاج. ثم اتهمني الفلاسفة الماركسيون بكل الشرور. في عام 1990، كتبت "العقد الطبيعي". أنا أتعرض للهجوم من جميع الجهات، مثل لوك فيري في النظام البيئي الجديد بينما نحتفل اليوم بالإجماع بـ "الميثاق البيئي". وكانت انتقادات "العقد الطبيعي" مثيرة للضحك مثل تلك التي وجهت إلى روسو عندما كتب "العقد الاجتماعي". ولم يعين روسو لحظة تاريخية ستخرج فيها الإنسانية من حالة الطبيعة، تماما كما لا يفترض العقد الطبيعي أن تجلس الطبيعة الأم مع البشر إلى طاولة المفاوضات. أقول اليوم إن أحد التحديات المعرفية الكبرى يكمن في التوازن بين الاستدلال والحساب. العصور الوسطى بأكملها موجودة في أرسطو، والعصر الحديث بأكمله موجود في مبادئ ديكارت. أنا لا أقارن نفسي بهؤلاء الأسلاف اللامعين، لكنني أعتبر النشاط الفلسفي بمثابة مشروع للترقب. ولنستخدم عبارة سبينوزا: «ماذا يستطيع الجسم أن يفعل؟» . الجسد يفكر. "أنا الحمض النووي"، قال لي صديقي جاك مونو، الذي التوى عموده الفقري مثل جزيء الحمض النووي وهو يحاول كشف سر وراثة الكائنات الحية الدقيقة، لتوضيح العلاقة بين الجينوم والبروتينات...الجسد مرآة. ماذا يمكن أن يفعل الجسم؟ خذ على سبيل المثال حارس مرمى فريق كرة قدم في انتظار تنفيذ ركلة الجزاء أو لاعب تنس يصعد إلى الشبكة ليلعب الكرة. انظر كيف تناسبها. يمكن أن تأتي الكرة من أعلى، أو أسفل، أو إلى اليمين، أو إلى اليسار، وما إلى ذلك. ولذلك فهو مضطر إلى وضع جسده في وضع افتراضي، شبه مجرد. إنه في حالة جسدية محتملة. إنه في وضع سأطلق عليه "الأبيض". فهو كل الألوان وغياب اللون. لا يمكننا الحصول على صورة أفضل لما يمكن أن يفعله الجسم. على عكس مخلب السلطعون، الذي يمكن تحديد وظيفته، فإن اليد البشرية "بيضاء"، يمكنها الإمساك بالمطرقة وكذلك العزف على الكمان، أو مداعبة أحد أفراد أسرته أو قتل عدوها. هناك بياض في جسم الإنسان. والمفكر الذي على وشك استيعاب مفهوم يجد نفسه في نفس الموقف. ومن هنا تأتي أهمية عدم جعل الكتب هي أدواتك الوحيدة. وهكذا فإن الفلسفة هي نوع من الساعة "البيضاء". يُعد عمل جول فيرن مثالًا نموذجيًا لسرد القصص على أساس علمي، وهو بمثابة حزام نقل هائل بين الناس والبحث العلمي. ورغم أن العلم اليوم يتمتع بسمعة سيئة ــ وهو أمر غريب لأن الصناعة هي التي لوثت الكوكب، وليس العلم، على عكس ما يقوله الناس ــ فإن جول فيرن يشكل حالة جيدة من حالات انتقال العدوى الناجحة. أما تان تان فهو جول فيرن العلوم الإنسانية. تبدأ رواية "الأذن المكسورة" في المتحف الإثنوغرافي، ولديه أصدقاء صينيون أو أمريكيون جنوبيون... ويتزامن عمله مع بدايات الأنثروبولوجيا وتطوراتها. كل ما يتم انتقاده بسببه، أي العنصرية والتعصب العرقي والاستعمار، ولكن أيضًا العبور من تان تان في الكونغو إلى اللوتس الأزرق يتوافق مع المسار الذي سلكه علماء الأنثروبولوجيا المناهضون للعنصرية الذين، مثل مارسيل موس وجيمس جورج فريزر، على الرغم من كل شيء، بدأوا حياتهم المهنية في متحف المستعمرات. غالبًا ما يكون الأسلوب الفلسفي للاستخدام الداخلي في الجامعة. إذا كان على الفلسفة أن تراقب الزمن الحاضر وتتوقع علم المستقبل، وتتمسك بإيقاعه وتفكر بالجديد، فإن الكتابة بشكل غامض ستكون جريمة تقريبًا. ومع ذلك، في البداية، كتبت إلى لجنة تحكيم أطروحتي. ثم فضلت تعريف برغسون الذي ينص على أن الفلسفة يجب أن تكتب بأوضح لغة، وأقرب ما يمكن من اللغة العامية. همشتني الجامعة التي لم تسمح لي بالتدريس في أقسام الفلسفة، ولكن في التاريخ، رحلت أيضًا بأسلوب. لكن الموقف كان صعباً: لم أكن صحافياً، ولا فيلسوفاً، ولا كاتباً. لم أكن شيئا. بدون المكان، لم أكن بالتأكيد مفكرًا يمكن التنبؤ به. ومن المفارقة أنه في الجامعات الفرنسية، كان هناك العديد من كراسي الفلسفة الألمانية، ولكن لم يكن هناك كراسي للفلسفة الفرنسية. الآن نحن نعزف موزارت فقط لأنه كان هناك كيوشيل، باخ فقط لأن هناك تسمية (باخ فيرك فيرزيتشنيس)،وهو كتالوج لا يملكه كوبران ولا بيرليوز في فرنسا. لقد حاولت إنتاج هذا الكتالوج للفلسفة باللغة الفرنسية حتى نتمكن من تجاوز هذا غيض من فيض من الفلاسفة الكنسيين. إن الحديث عن خصوصية الفكر الفرنسي لا زال سابقاً لأوانه. سوف يتشكل الأفق. ربما من الممكن القول بأن الفلاسفة الفرنسيين عمومًا أقرب إلى المقال على طراز مونتين، بعيدًا عن الأنظمة. من الممكن أن يكون مونتاني هو معلمنا العظيم. سيكون فيلسوف الغد العظيم هو من يعيد التفكير في كل شيء، من المعرفي إلى السياسي، لأن كل شيء جديد. ومن المناسب إعادة السؤال الفلسفي إلى مستجدات اليوم. فكيف لنا أن نتصور أن التمثيل السياسي سيستمر في أداء وظيفته بنفس الطريقة بينما ينتشر التصويت للآراء الفردية في المدونات دون أن تؤخذ بعين الاعتبار؟ ومع وجود مساحة جغرافية وعقلية أخرى أسميتها الطوبولوجيا العامة، فإن عمل الفلسفة قد بدأ للتو. نحن نشهد مثل هذا الانقطاع في الأنسنة، ونحن منغمسون فيها، لدرجة أن العديد من مؤسساتنا تشبه هذه النجوم التي نتلقى منها الضوء والتي يخبرنا علماء الفيزياء الفلكية أنها ماتت منذ زمن طويل. " فماهي التوقعات التي يمكن أن تستشرفها الفلسفة حول مستقبل الكوكب ووجهة العالم في الفترة القادمة؟
***
د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

عبر التاريخ، شهدت المجتمعات أزمات وحروبًا وصراعات، مما أدى إلى شعور بالإحباط وفقدان الأمل، الماضي يشير الى العدم ويعني غياب الوجود، وهو ما يتناقض مع مفهوم الوجود نفسه، لكن العدم يتفاعل مع الوجود ليشكل واقعًا جديدًا حيث اعتبر أن العدم هو ما يمنح الحياة معنى، الإنسان يواجه الفراغ والعدم في بحثه عن المعنى. الماضي هو جزء من الزمن، وبالتالي له وجوده الخاص، على الرغم من أنه لم يعد موجودًا في الحاضر، إلا أنه ترك أثرًا وذكريات ويمكن اعتبار الماضي نوعًا من العدم من حيث إنه لم يعد بالإمكان الوصول إليه أو تجربته، هذا الفقدان يثير تساؤلات حول طبيعة الوجود والمعنى. التجارب والذكريات المرتبطة بالماضي تشكل جزءًا من تجاربنا الحياتية الحالية، ما يجعل الماضي غائبًا، ولكنه حاضرا في وعي الأفراد، على اعتبار أن كل شيء في حالة تدفق مستمر، مما يعني أن الماضي قد يصبح غير ذي أهمية في ظل التغير الدائم. إن نسيان الماضي يكون صعبًا لأنه يشكل جزءًا كبيرًا من هويتنا وتجاربنا، الأحداث والمشاعر التي عشناها تظل عالقة في ذاكرتنا، وتؤثر في كيفية تفاعلنا مع الحاضر، الأحداث المؤلمة أو السعيدة تترك انطباعًا قويًا في النفس، الماضي يُعلمنا كيف نتعامل مع المواقف الجديدة، ما يجعلنا نعيد التفكير في تجاربنا السابقة، الأشياء والأشخاص من حولنا يمكن أن تثير ذكريات الماضي وتجعلها حية مرة أخرى، لذا من الطبيعي أن نبقى مرتبطين بالماضي، ولكننا يجب ان نعمل على العيش في الحاضر من خلال ممارسة وعي اللحظة . الوجود في الحاضر يمكن أن يثير القلق، خاصة عندما نتأمل تأثير الماضي على المستقبل، هذا القلق يمكن أن يكون دافعًا للتحول والنمو، إن العلاقة بين الماضي والحاضر تعكس تعقيد التجربة الإنسانية، بينما تشكل تجارب الماضي جزءًا من هويتنا، فإن الحاضر يوفر الفرصة للتغيير والاختيار، مما يجعل كل لحظة تحمل إمكانيات جديدة للمعنى والنمو.
القلق الوجودي
القلق الوجودي يلعب دورًا مهمًا في دفع الفرد نحو التغيير والنمو الشخصي، يجعل الأفراد يتساءلون عن معني حياتهم وأهدافهم، ما يدفعهم للتفكير بعمق في خياراتهم وتوجهاتهم، يُبرز القلق الوجودي حرية الفرد في اتخاذ القرارات، عندما يدرك الشخص أن لديه القدرة على تغيير مسار حياته، يشعر بالدافع لاتخاذ خطوات جديدة ومختلفة، القلق يُحفز الأفراد على مواجهة التحديات بدلاً من الهروب، القلق الوجودي يمكن أن يُذكر بأهمية العيش في الحاضر، هذا الوعي بالحاضر يدفعهم للتغيير من أجل الاستمتاع بكل لحظة بشكل أكبر، من خلال مواجهة القلق يمكن أن يتعلم الأفراد كيفية تجاوز الخوف من المجهول، ما يعزز شجاعتهم في اتخاذ خطوات جديدة، القلق الوجودي رغم كونه شعورًا غير مريح، يمكن أن يكون دافعًا قويًا للتغيير، القلق الوجودي هو جزء طبيعي من التجربة الإنسانية، ويمكن أن يكون دافعًا قويًا للبحث عن المعنى، من خلال مواجهته يمكن للأفراد أن يجدوا طرقًا جديدة لتحديد معانيهم الشخصية وتحقيق أهدافهم في الحياة، مما يُعزز جودة تجربتهم الوجودية.
الماضي والقلق الوجودي
الأحداث المؤلمة أو الفاشلة من الماضي تثير مشاعر القلق والخوف من تكرارها، ما يجعل الأفراد يشعرون بعدم الأمان في مواجهة المستقبل، مشاعر الندم على اختيارات معينة قد تؤدي إلى التفكير المستمر في ماذا لو...!، مما يزيد من القلق بشأن كيفية تأثير الماضي على الحاضر والمستقبل، التفكير في كيفية تأثير التجارب السابقة على الهوية يمكن أن يؤدي إلى قلق حول من نحن وماذا نريد أن نصبح، يتساءل الأنسان عن معنى تجاربه الماضية وكيف تؤثر على أهدافه الحالية. هذا البحث عن المعنى يمكن أن يثير القلق حول كيفية تجاوز قيود الماضي ويؤثر على قدرة الفرد على التقدم. حتى مع المعرفة بالمصير، يشعر البعض بأن الماضي يقيد حريتهم مع مرور الوقت، هذا التغيير يؤدي إلى صراع بين الماضي والحاضر، مما يسبب القلق والتفكير في الموت والفناء، حتى مع فهم المصير، يمكن أن يعيد الأفراد إلى ذكريات الماضي، فإن التجارب والمشاعر المرتبطة بالماضي يمكن أن تثير القلق الوجودي، هذا القلق هو جزء طبيعي من التجربة الإنسانية، ويمكن أن يكون دافعًا للبحث عن المعنى والتغيير والنمو.
العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل
الشعوب التي تعترف بماضيها وتتعلم منه دون أن تتشبث به بشكل مفرط، تستطيع أن تبني قاعدة قوية للمستقبل. الفهم التاريخي يعزز الهوية ويغذي الثقافة، لكن التمسك بالماضي يعوق الشعوب التي تحاول التركيز على الحاضر وتستفيد من تقنيات العصر الحديث لتكون أكثر قدرة على الابتكار والتكيف مع التغيرات العالمية. البناء على الحاضر يتطلب تطوير قيم جديدة تتماشى مع احتياجات المجتمع المعاصر. الشعوب التي تدعم التعليم، حقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية تكون أكثر استعدادًا لبناء مستقبل مزدهر، التميز غالبًا ما يأتي من القدرة على دمج العناصر الثقافية القديمة مع التوجهات الحديثة. هذا الدمج يمكن أن ينتج عنه ثقافة غنية ومتنوعة تدعم الإبداع والابتكار، الشعوب التي تتميز في بناء مستقبلها هي تلك التي تتخذ من الحاضر نقطة انطلاق، مع الاستفادة من دروس الماضي دون الانغماس فيه، هذا التوازن بين التعلم من التاريخ والابتكار في الحاضر يمكن أن يؤدي إلى تطور مستدام وتميز حقيقي. التشبث بالماضي يمكن أن يُعتبر في بعض السياقات عقدة أيديولوجية، خاصة عندما يؤدي إلى مقاومة التغيير أو التقدم، الأيديولوجيات أنظمة من المعتقدات والقيم التي تؤثر على كيفية رؤية الشعوب للعالم. عندما يتشبث مجتمع بماضيه بشكل مفرط، قد يصبح هذا التشبث جزءًا من أيديولوجيته، الشعوب التي تركز بشكل مفرط على ماضيها تعاني من مقاومة للتغيير والتحديث، مما يعوق النمو والتطور. هذا قد يظهر في مجالات مثل التعليم، الاقتصاد، والسياسة. بعض الأنظمة السياسية تستغل المشاعر المرتبطة بالماضي لتعزيز سلطتها أو لتبرير سياساتها، مما يؤدي إلى تعزيز الأيديولوجيات التقليدية على حساب التقدم، الشعوب التي ترفض التفاعل مع التغيرات العالمية أو تتجنب الانفتاح على الثقافات الأخرى قد تجد نفسها في وضع متخلف مقارنة بالشعوب الأكثر انفتاحًا.
التشبث بالماضي والفشل التاريخي
يمكن أن تكون فكرة التشبث بالماضي قد ساهمت في ظهور فكرة عودة تموز وهي موضوعات عميقة حول الحياة، الموت، والتجدد. على الرغم من اختلاف السياقات الثقافية، إلا أنها تعبر عن الأمل في مستقبل أفضل وعودة العدالة هذا الاعتقاد نابع من فشل وآلام الماضي وعدم تحقيق الأهداف في الحاضر والمستقبل بالإضافة إلى الإحباطات التي يواجهها الأفراد والمجتمعات، يمكن أن يرتبط ذلك عندما تشعر الشعوب بأنها فشلت في مواكبة التطورات الحضارية، ينشأ لديها شعور باليأس والإحباط، هذا يمكن أن يؤدي إلى البحث عن شخصية أو فكرة تمثل الأمل والتغيير في أوقات الأزمات، قد يتجه الأفراد إلى ماضيهم بحثًا عن نموذج يُعتبر مثالياً. فكرة إعادة احياء تموز قد تُعتبر تجسيدًا لهذا النموذج، حيث يعتقد أن الشخص أو الحركة قادرة على إعادة إحياء القيم والتقاليد القديمة، العديد من الحركات السياسية تعتمد على فكرة تموز كوسيلة لجذب الدعم. هذه الشخصية قد تُعتبر قادرة على إنقاذ المجتمع من التحديات التي يواجهها، وهي غالبًا ما ترتبط بقيم ماضية عندما تفشل النخب السياسية أو الاقتصادية في تلبية احتياجات الشعب، يُنظر إلى فكرة المخلص كبديل. يُعتقد أن تموز سيأتي من خارج النظام القائم لتحقيق التغيير المنشود، ظهور تموز المخلص من الجدب يمكن أن يُحفز الحركات الاجتماعية التي تسعى إلى إعادة ترسيخ القيم التقليدية، هذه الظاهرة تعكس حاجة الشعوب إلى الأمل والتغيير، وتعبر عن الرغبة في استعادة الهوية والقيم التي يشعرون بأنها مهددة، فكرة تموزقد تُستخدم كأداة لتعزيز الاستبداد، حيث يستغل القادة الاستبداديون مشاعر الناس ويقدمون أنفسهم كحلول لأزماتهم، مما يعزز من سلطتهم ويقمع المعارضة. من الضروري أن يكون الناس واعين لهذه الديناميكيات وأن يتبنوا التفكير النقدي لتجنب الوقوع في فخ الاستبداد، فكرة تموز المخلص يمكن أن تُعتبر إحدى اليوتوبيات الفلسفية، حيث تمثل رؤية مثالية للتغيير والقيادة، من المهم أن نكون واعين للتحديات وأن نستخدم التفكير النقدي لتجنب الانزلاق إلى الاستبداد أو الفشل في تحقيق الأهداف المرجوة.
أساطير الطين والماء وعودة تموز
تمثل جزءًا من التراث الثقافي والديني في الشرق الأوسط، ولها تأثيرات ملحوظة على الفكرالثقافي. هذه الأساطير تُظهر كيف أن العناصر الطبيعية، مثل الطين والماء، تُعتبر رموزًا للحياة والخصوبة، مفهوم عودة تموز تعكس فكرة التجديد، تموز، في الأساطير السومرية، هو إله الزراعة والخصوبة، ويرمز إلى دورة الحياة والموت. تحكي الأسطورة عن موته في فصل الصيف وعودته في فصل الربيع، مما يعكس فكرة التجدد والخصوبة. هذا التكرار للدورة الحياتية يمثل الأمل في البقاء والتجديد، الأسطورة تحدثت عن موته وعودته، مما يرمز إلى دورة الحياة والموت، تعتبر علاقة أسطورة تموز بالماضي الذهبي والفشل في تحقيق الحلم علاقة عميقة ومعقدة تعكس التوتر بين الأمل والخيبة في التاريخ الإنساني.
***
غالب المسعودي

مقدمة: ولد الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز في باريس في 18 يناير 1925 وتوفي هناك في 4 نوفمبر 1995. بدأ النشر منذ بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وتتكون أعماله من مقالات عن شخصيات بارزة في الفلسفة (هيوم، برجسن، نيتشه، سبينوزا، لايبنتز)، أو الأدب (بروست، كافكا، ملفيل، بيكيت)، ولكن أيضًا حول المفاهيم الأصلية التي تم تطويرها من الصياغة الدقيقة للمشاكل (الاختلاف والتكرار، المعنى والحدث، الرغبة والقوة، الطي والباروك...). كما يتضمن العديد من المقالات، حيث نرى الفيلسوف يعود إلى عمله، أو يتدخل في قضايا تتعلق بممارسة الفكر، أو يدعم الأفلام، أو يشير إلى أهمية الكاتب. مدرس عظيم، موهوب بحس تربوي لا مثيل له (قام بالتدريس في باريس الثامنة من عام 1969 إلى عام 1987)، كما ترك الفصول الدراسية حيث فتحت كلماته المسارات التي أدت إلى ظهور كتبه. في مواجهة طلابه، نسمعه يبني مفاهيمه الرئيسية (الترحيل وإعادة الأقلمة، الترتيب، الطية، الحدث، المحايثة، إلخ)؛ ونحن نتبعه أيضًا في طريقه لعبور المجالين الفكريين الآخرين وهما العلم والفن (فرانسيس بيكون والرسم التخطيطي، والسينما وتصنيف الصور). تتميز هذه الرحلة الفكرية، التي جعلت من دولوز أحد كبار فلاسفة القرن العشرين، والتي تميزت بلقاء شخصيات مثقفة مثل جان هيبوليت وفرانسوا شاتليه وميشيل فوكو وبيير كلوسوفسكي، بحقيقة أنها تم تتبعها في عدة مناسبات بصحبة فيليكس غاتاري. إذا كان اسم جيل دولوز، الفيلسوف البارز في القرن العشرين. يدق جرسًا بالتأكيد، فلست متأكدًا من أننا جميعًا قادرون على التحدث عنه بالتفصيل... فيما يلي ثلاثة مفاتيح لفهم فلسفته بشكل أفضل. كتب ميشيل فوكو: "ربما يومًا ما، سيكون القرن دولوزيًا". مع أخذ هذا الاقتباس في الاعتبار، دعونا ننظر إلى المفاهيم الأساسية لهذا المفكر باعتبارها خلق المفاهيم. في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، هز جيل دولوز المشهد الفلسفي من خلال تحويل هذا التخصص إلى صندوق أدوات حقيقي، في متناول الجميع. تقليديا، تم استخدام الفلسفة للعثور على نوع من الحقيقة الأبدية. على سبيل المثال، من خلال تصنيف الأشياء: الوجود/العدم، الصواب/الخطأ، وما إلى ذلك. لكن بالنسبة لدولوز، عندما تمثل الفلسفة الواقع بهذه الطريقة، فإنها تجمده؛ مما يحد من الفكر عندما ينبغي أن يكون منفتحًا من خلال تفضيل خلق أفكار جديدة. بالنسبة لدولوز، الانفتاح ممكن بفضل المفاهيم: الآلة الراغبة، الصيرورة-الحيوان، الجسد بلا أعضاء، إلخ. وقد ذكر ذلك في كتابه ما الفلسفة؟ (1991): “الفلسفة هي فن تشكيل واختراع وخلق المفاهيم”. هذه المفاهيم هي أدوات تسمح لنا بالتفكير بشكل مختلف، وتحرير أنفسنا من نماذج التفكير السائدة. أو كما يوضح الفيلسوف روبرت ماجيوري: "إن خلق المفاهيم هو محاولة القطع كما تفعل بإزميل، والذي، من خلال النقر على الكل مرة واحدة، سيكشف عن شكل لم تره من قبل، وهو خاص بالفلسفة". تتيح لنا المفاهيم فتح طرق جديدة لفهم العالم والتصرف بناءً عليه، وهو ما يلخصه جيل دولوز على النحو التالي: "المفهوم هو لبنة. يمكننا استخدامه للبناء، ولكن أيضًا لهدم الجدران". فهو لم يفتح إمكانيات جديدة للتفكير فحسب، بل قام أيضًا بدراسة الفلاسفة العظماء وأنتج أعمالًا ألقت ضوءًا جديدًا على تفكيرهم.
مفهوم الرغبة
قبل دولوز، على سبيل المثال، كان إدراك الرغبة سيئًا إلى حد ما. لقد كان نقصًا، أو إحباطًا، أو حتى قوة ضارة تدفع نحو الصراع الداخلي أو العصاب كما وصفها فرويد. كما تعرض المحلل النفسي لانتقادات شديدة من دولوز. صرح في عام 1972 في ورشة عمل الراديو: "لقد وضع فرويد الأمور في مجال الطب النفسي الكلاسيكي، لذلك يبدو لي أنه لا يزال الوقت مناسبًا لوضع الأمور في مجال التحليل النفسي كما هو الآن." في الكتاب الذي شارك في كتابته مع المحلل النفسي فيليكس غاتاري، يجعل دولوز من الرغبة قوة إيجابية. لأنه، كما يقول في التمهيدي L'Abécédaire، مقابلة مصورة مع الفيلسوف، "إذا بحثت عن المصطلح المجرد الذي يتوافق مع الرغبة، فسأقول البنائية. الرغبة هي بناء ترتيب، وهي بناء كل، ومن هنا جاء مفهوم الآلة المرغوبة لأن الرغبة تنتج روابط بين العناصر." وهكذا، فإن رغبتي في الذهاب في إجازة إلى أيسلندا، على سبيل المثال، يتم تفسيرها من خلال عدة روابط: حقيقة أنني أستفيد من إجازة مدفوعة الأجر، وأن الذهاب في رحلة يلقى استحسانًا لدى من حولي، وأنني رأيت بالفعل صورًا لهذا البلد الذي "يواكب الموضة"، وأنني أردت الطبيعة منذ سنوات الجائحة... وبالتالي فإن الرغبة هي آلة ليس لها أي شيء خاص وتعمل بفضل اللاوعي الاجتماعي والمادي والزمني، وما إلى ذلك. هذه الآلة الراغبة تخلق شبكات من العلاقات بين الأشياء والبنيات المختلفة. يرغب. وهذا هو بالضبط ما هو إيجابي بالنسبة لجيل دولوز، لأن الرغبة تخلق، وتفعل، وتحول. إنها تحررية فردية وجماعية. إن الحركات الاجتماعية والثورات والابتكارات الفنية أو العلمية هي رغبات جماعية تسمح بعدد لا نهائي من الإبداعات والتحولات. يمثل نشر كتاب " أوديب مضاد " (1972) مرحلة مهمة في عمل الفيلسوف. في هذا العمل، الذي شارك في كتابته فيليكس غاتاري، يقدم جيل دولوز مفهومًا جديدًا للرغبة. من خلال تبني الفكرة الفرويدية حول الرغبة الجنسية، يفترض أن الرغبة هي الإنتاج. وهذا له نتيجة مزدوجة: لا يمكننا أن نتصوره على أنه نقص؛ إنه استثمار فوري للواقع الاجتماعي. قد تكون النتيجة الأولى مفاجئة، لأنها تتعارض مع المنطق السليم. في الواقع، بشكل عام، الرغبة هي تجربة غياب شيء ما، وهي تنفيذ الوسائل لملء هذا النقص. تم تطوير هذا المفهوم بطريقة مثالية في ندوة أفلاطون، حيث تم تقديم إيروس على أنه ابن بينيا (النقص) وبوروس (المنفعة). في جدل مفتوح مع مفهوم التحليل النفسي للرغبة الذي يفكر فيها من خلال الخصاء، تسمح لنا العلاقة المباشرة بين الرغبة والمجتمع بفهم كيف أن التكوينات الاجتماعية نفسها هي التي تجلب الافتقار إلى الرغبة. ومن أجل دعم أطروحته، يقدم دولوز مفهومين: آلات الرغبة والجسد بلا أعضاء: “إن آلات الرغبة هي الفئة الأساسية لاقتصاد الرغبة، التي تنتج بنفسها جسدًا بلا أعضاء. » المفهومان لا ينفصلان. إنهما متورطان معًا، واقترانهما وحده يسمح لنا بوصف حياة الرغبة. ويترتب على ذلك مباشرة أن هذه الحياة لا يمكن فهمها إلا بشرط البقاء تحت الكيانات المشكلة: الكائن الحي، والناس (بهويتهم) أو الأشياء (بوحدتها). وبهذا الشرط يمكن تجديد نظرية اللاوعي. ولتحقيق هذه الغاية، يوضح دولوز كيف تقوم الآلات الراغبة بتنفيذ ثلاث توليفات: تركيب ضام، وفصل، واتصال. يتكون التوليف الأول من اقتران بين عنصرين مجزأين وغير متجانسين (على سبيل المثال، تدفق الحليب والفم الذي يأخذ عينة من هذا التدفق)؛ والثاني، في ربط العناصر المتباينة التي تدور بينها الرغبة (ما نسميه "سلسلة الدلالة")؛ والثالث، في نشأة مناطق الشدة. هذه التوليفات الثلاثة متزامنة، وتساهم في خلق ما يسميه دولوز بالترتيب. أما الجسد بلا أعضاء فهو الجوهر المحايث الذي تنسج فيه الرغبة باستمرار من خلال روابط جديدة. ومع ذلك، وهذا ما يجعل أطروحة دولوز صعبة، فإن هذا الجسم نفسه بدون أعضاء يجب أيضًا أن يُنظر إليه على أنه ذلك الذي يعارض باستمرار عمل الآلات المرغوبة: فهو يصدها، ويصبح السطح الذي تتدفق فيه الطاقة غير المقيدة وحيث تساوي الشدة الصفر. وهو في هذا نموذج للموت الذي لا يتوقف عن الظهور من داخل الجسد.
تفكر الصيرورة
يعتبر دولوز صاحب نظرية الصيرورة، فهي مفهوم رئيسي آخر عند دولوز: الرغبة، من بين أمور أخرى، تدفع إلى التحول، إلى التغيير، إلى الصيرورة. بالنسبة له، ليس هناك هوية ثابتة. على العكس من ذلك، ليس هناك سوى تبادلات وتحولات، كما كتب في "الفرق والمعاودة" (1968): "كل شيء، كل كائن يجب أن يرى هويته الخاصة مغمورة في الاختلاف، كل منها ليس أكثر من مجرد فرق بين الاختلافات". ولذلك يجب علينا أن نتجاوز التعارضات الثنائية مثل الرجل/المرأة؛ الإنسان/الحيوان - بفضل هذا الأخير، لمفهوم "الصيرورة-الحيوان". هذا لا يعني أن نصبح حيوانًا حقًا، بل أن نستمد الإلهام من الحيوانية، ونترك أنفسنا للتلوث بها للهروب من الهوية المغلقة. يهدف هذا الفكر إلى التحرر لأنه يتحرر من معايير الجنس/الهوية/الأمة/إلخ. يمكننا استكشاف طرق جديدة للوجود، وطرق جديدة للحياة. "إن الصيرورة هي عملية الرغبة"، كما جاء في ألف مسطح (1980). في الاتصالات، يظهر خط. فهو يبدأ من نقطة مفردة ممزقة من كثرة (عنصر مجزأ)، ويؤدي إلى جوار نقطة مفردة أخرى، ومنها يستأنف حركته. يتم تنظيم سلسلة تقودنا إلى ما يسميه دولوز عملية اللاإقليمية. ولتوضيح معنى هذا المفهوم الأخير، فهو يحب أن يطور فكرة الصيرورة الحيوانية التي تحمل الإنسان بعيدا، وتفتح أمامه إمكانية إنتاج شيء جديد في العمل الإبداعي. للقيام بذلك، يلجأ إلى أعمال كافكا (المسخ، جوزفين المغنية، أو شعب الفئران) أو ملفيل. "إن الصيرورة-الحيوانات هي قبل كل شيء ذات قوة أخرى، لأنها لا تملك حقيقتها في الحيوان الذي نحاكيه أو الذي نتوافق معه، ولكن في ذاتها، في ما يجعلنا فجأة ويجعلنا نصبح، جوارًا، لا يمكن تمييزه، يستخرج من الحيوان شيئًا مشتركًا، أكثر بكثير من أي تدجين، أكثر بكثير من أي استخدام، أكثر من أي تقليد" (الف مسطح). لكن الصيرورة لا تستهدف فقط العلاقات التفاضلية القائمة بين النقاط الفردية. كما أنها تتعلق بالمجال الغني للتأثيرات. في الواقع، في حركة اللاإقليمية، يتم إنتاج الشدة. يمر الذات من خلالها، واعتمادًا على الاختلافات في الدرجة التي تظهر فيها، فإنه يشعر بزيادة أو نقصان في قدرته على الفعل. هنا يجد دولوز تحليلات منطق المعنى (1969). في السلسلة الأولى من المفارقات التي تفتتح الكتاب، أشار إلى أن الصيرورة تعني أن يتم حملها بعيدًا في وقت واحد في اتجاهين مختلفين، مما يعني تعايش الماضي والمستقبل في تجنب الحاضر: “هذا هو تزامن الصيرورة التي تتمثل سمتها في تجنب الحاضر. وبما أنها تتجنب الحاضر، فإن الصيرورة لا يمكنها أن تدعم الانفصال أو التمييز بين ما قبل وما بعد، الماضي والمستقبل." لذلك يشكل المستقبل البعد الرمزي للزمن. تتمثل أصالة دولوز في فهم جوهره من فعل الخلق، وجعله زمنًا متميزًا للفكر. وعلى هذا النحو، فإن تطورات "الفرق والمعاودة" (1968) تعتبر أساسية، وسوف تستمر في تحريك بقية العمل. المستقبل هو غير المشروط. وهذا لا يعني أنها تنشأ بشكل اعتباطي ولا علاقة لها بالحاضر والماضي، بل إنها ترفض هذه الشروط بمجرد إنتاجها. هذه الفكرة تعمق تفسير دولوز للعود الأبدي في كتابه نيتشه والفلسفة (1962). وبذلك يتحرر الزمن من محتوياته. لا يتم تحديد هذا التحرر بالخروج خارج الزمن، ولكنه يمثل الاختبار الأكثر جذرية لغيابنا عن الخضوع للبيانات الزمنية، أي للمحتويات التجريبية للزمن. الوقت ينفتح: ليس هناك إعلان عن المستقبل، ولا وعد، ولكن ظهور حدث يدفعنا إلى هذا البعد. الافتتاح يأخذ شكل وميض. إنه تمزيق النفس. لذا فإن أصالة المستقبل تكمن في حقيقة أن الزمن كله منتظم حول حدث يضعه في سلسلة. والنتيجة هي نتيجة ملحوظة للفكر. إنها ليست ممارسة طبيعية في شكل الحس السليم أو الفطرة السليمة، ولكنها تفترض خلقًا حقيقيًا. «التفكير هو الخلق، لا يوجد خلق آخر، ولكن الإبداع هو أولًا توليد «التفكير» في الفكر» في كتاب الفرق والمعاودة. سيعود جيل دولوز إلى مشكلة الزمن هذه في كتابه منطق المعنى، لكي يبين كيف أنها مرتبطة بشكل أساسي بالتفكير في المعنى وفي الحدث. ستكون الأطروحة الناتجة هي أن الزمن الفارغ يجب أن يُفهم على أنه أيون – زمن غير محدود وقابل للتقسيم إلى ما لا نهاية – والذي يكون الحدث مناسبًا له: “كل حدث مناسب للأيون بأكمله، كل حدث يتواصل مع جميع الأحداث الأخرى، كلها تشكل حدثًا واحدًا ونفسه، حدث الأيون حيث لديهم حقيقة أبدية. وهذا هو سر الحدث: أنه على العيون ومع ذلك لا يملأه» (منطق المعنى). لا يمكن إكمال هذا التفكير إلا بشرط تحديد مسطح المحايثة ضمن تجربة الارضنة والتارضن وإعادة الارضنة. فماذا يقصد دولوز بهذه الحركات الأرضية؟
مسطح المحايثة
جيل دولوز. لم تتوقف أبدًا عن الإصرار على أهمية السؤال بالنسبة للفلسفة: "المقايضة بالقانون"؟ وفي دورته حول لايبنتز (1980)، يتذكر كيف تتميز هذه الصيغة (التي تعني: ماذا عن القانون؟) عن سؤال يتعلق بالحقيقة (مقايضة الحقيقة؟ أو ماذا عن الحقيقة؟). كما أنه يؤكد على دورها في كانط، وكيف أنها لا يمكن فصلها عن النهج التجاوزي. ومع ذلك، كما يظهر في أماكن مختلفة من عمل دولوز، فإن أهمية التساؤل المتعالي تتطلب تلبية ثلاثة متطلبات.بادئ ذي بدء، سوف نتجنب أي خلط بين الأحداث والحوادث، بين المفاهيم والحالات. كما يقول في "ما الفلسفة؟ (1991)"، “إن صورة الفكر تنطوي على توزيع شديد للحقيقة والقانون: ما يصل إلى الفكر على هذا النحو يجب فصله عن الحوادث التي تشير إلى الأدمغة، أو إلى الآراء التاريخية”. يفترض هذا التوزيع أن البنى المتعالية ليست منسوخة من الأشكال التجريبية. ومن ثم، سيتم دفع الفكر إلى أقصى حدوده في كل مرة يواجه فيها مشكلة جديدة. على سبيل المثال، هل هناك تجربة لفقدان الذاكرة لا تكون مجرد حادثة دماغية بسيطة، ولكنها قد تشير إلى شيء سحيق؟ فهل هناك سهو يجبر الفكر على التذكر؟ وتسمى هذه التجربة بالتجريبية المتعالية. وأخيرا، مع ظهور الحدث، سوف نبين كيف يواجه الفكر بالضرورة مشكلة السرعة. "مشكلة الفكر هي السرعة اللانهائية. » إذا كان الحدث كافياً للأيون، فذلك لأن السرعة هي الأفق المطلق للتعالي.النص الأخير الذي قدمه لنا دولوز، “اللجوء: حياة…”، والذي نُشر لاحقًا في نظامين مجنونين (2003)، يُظهر بالتالي العلاقة التي ينبغي تأسيسها بين المحايثة والحقل المتعالي غير الشخصي. على هذا المستوى، لا يوجد سوى افتراضيات أو تفردات. من خلالهم وفيهم، تمر الحياة: “حياة محايثة خالصة، محايدة، تتجاوز الخير والشر، لأن الذات التي تجسدها في وسط الأشياء هي وحدها التي جعلتها جيدة أو شريرة. وتُمحى حياة مثل هذه الفردية لصالح الحياة الفريدة المتأصلة في الإنسان الذي لم يعد له اسم، على الرغم من عدم الخلط بينه وبين أي شخص آخر. جوهر فريد، حياة..."، حياة نسجتها الرغبة، تحملها المستقبل، تتأثر بسرعة لا يمكن أن يمنحها إلا المستقبل. حياة لم يتوقف جيل دولوز عن الغناء عنها.
خاتمة
إنه فيلسوف التعددية، وخصم كل الثنائيات. لقد ادعى جيل دولوز وجود نسب فكري ينبغي أن يضاف إليه لايبنتز وهيوم وماركس: "لقد بدأت بكتب عن تاريخ الفلسفة، لكن جميع المؤلفين الذين تعاملت معهم كان لديهم شيء مشترك بالنسبة لي." ما هو القاسم المشترك بينهم؟ الجواب ليس واضحا. فلنترك "العدو"، كانط، جانبًا. ما هي العلاقة بين عقلانية لايبنتز وتجريبية هيوم، والتي بموجبها تعتمد كل معرفتنا على التجربة؟ بين حيوية برغسون ومادية ماركس؟ إن العلاقة بين سبينوزا ونيتشه هي بلا شك أكثر وضوحا: فالثاني، الذي يحتقر التقليد الفلسفي، اعترف بمزايا واضحة في الأول. بل إن دولوز سيذهب إلى أبعد من ذلك ليتحدث عن «هوية سبينوزا-نيتشه العظيمة». يشترك المفكران في نقد حاد للثنائيات – للجسد والعقل، للمعقول والمفهوم، وما إلى ذلك. دولوز، الذي يسعى بلا كلل لوضع كل شيء على نفس المستوى، تحت تقاسم الذات والموضوع الذي كان كانط مفكرًا بارزًا فيه، يبحث في كل مكان عن موارد لنشر أحادية أصيلة، ضد الثنائية. مادة واحدة – مادة عند ماركس، وأجسام عند الرواقيين. لكن من يدعي جيل دولوز؟ ومن الذي ينأى بنفسه عنه؟ الرواقي، السبينوزي، النيتشوي، البرجسوني؟
***
د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي
............................


Principaux ouvrages de philosophie

G. DELEUZE, Nietzsche et la philosophie, P.U.F., Paris, 1962 ; Proust et les signes, ibid., 1964 ; Différence et répétition, ibid., 1968 ; Spinoza et le problème de l'expression, Minuit, Paris, 1968 ; Logique du sens, ibid., 1969 ; L'Anti-Œdipe. Capitalisme et schizophrénie (en collab. avec F. Guattari), ibid., 1972 ; Mille Plateaux. Capitalisme et schizophrénie 2 (en collab. avec F. Guattari), ibid., 1980 ; Francis Bacon : logique de la sensation,Seuil, Paris, 1981 ; L'Image-mouvement. Cinéma 1, Minuit, 1983 ; L'image-temps. Cinéma 2, ibid., 1985 ; Foucault, ibid., 1986 ; Le Pli. Leibniz et le baroque, ibid., 1988 ; Qu'est-ce que la philosophie ? (en collab. avec F. Guattari), ibid., 1991.
Recueils d'articles
G. DELEUZE, Dialogues (avec Claire Parnet), Flammarion, Paris, 1977 ; Pourparlers 1972-1990, éd. de Minuit, 1990 ; Critique et clinique, ibid., 1993 ; L'Île déserte et autres textes. Textes et entretiens 1953-1974, ibid., 2002 ; Deux régimes de fous. Textes et entretiens 1975-1995, ibid., 2003

 

يمثل الانقسام الفلسفي بين افلاطون وارسطو واحداً من أهم اللحظات في التاريخ الفكري الغربي. تأكيد افلاطون على عالم الأشكال المثالية اللامتغيرة يتعارض بشدة مع تركيز ارسطو على الواقع المُشاهد والحكمة التطبيقية. هذا الاختلاف لم يكن اكاديميا فقط، وانما يؤثر على كيفية تفسيرنا للاخلاق والمعرفة وطبيعة الحقيقة الى هذا اليوم. العالم الذي يتصوره افلاطون هو مجرد ظلال لمُثل تامة غير ملموسة .
ارسطو، من ناحيته، يؤسس أفكارة وبشكل راسخ على العالم المُشاهد، داعيا ايانا للنظر في الطبيعة كي نجد الحقيقة. هذان المساران صاغا ليس فقط الخطاب الفلسفي وانما ايضا الكيفية التي نعيش بها حياتنا اليومية.
اعتقد افلاطون ان المعرفة الحقيقية تأتي من فهم تلك الأشكال المثالية التي توجد في ماوراء تجربتنا المادية. في مقارنته الشهيرة (الكهف) هو يصف سجناء يخطئون في فهم الظلال الساقطة على الجدار ويتصورون انها حقيقة لحين هروب احد السجناء ليكتشف المصدر الحقيقي لتلك الظلال.
ارسطو، انتقد هذه الفكرة في كتابه الميتافيزيقا، مجادلا ان فصل الأشكال عن الأشياء يخلق تعقيدات غير ضرورية. هو أصر على ان جوهر الشيء والشيء ذاته لاينفصلان – وهي النظرة التي أثّرت على العلم التجريبي لقرون. عندما ينشغل المرء في هذين المنظورين، فهو لا يغوص فقط في النقاشات القديمة، وانما يتصارع مع أفكار تأسيسية تحدد التفكير المعاصر. السؤال هو ليس فقط "منْ الصحيح؟" وانما "كيف لهاتين الطريقتين المختلفتين في الرؤية للعالم إبلاغنا بكيفية عيشنا؟".
هذا الاختلاف بين الفيلسوفين من التجريد الميتافيزيقي الى المشاهدة التجريبية وضع جر الاساس للتحقيق العلمي. فمثلا، اتجاه ارسطو في البايولوجي يبيّن التزامه بالملاحظة. هو فهرس وصنف بدقة مختلف انواع النباتات والحيوانات، بحيث ساهم في علم التصنيف taxonomy – وهو الانجاز الذي لايزال واضحا في علم البايولوجي الحديث. بالمقابل، تأكيد افلاطون على التفكير المجرد يمكن رؤيته في نقاشه للدولة المثالية في كتاب الجمهورية، حيث ينظر في مسألة العدالة في مجتمع يحكمه الملوك الفلاسفة.
هذان الاتجاهان المختلفان المجرد المثالي، والعملي التجريبي يمثلان طريقتان للمشاركة في هذا العالم. التفكير في فلسفة هذين العملاقين يساعدنا في الإبحار في تعقيدات الحياة الحديثة، وايجاد التوازن بين حاجاتنا للمُثل المجردة والفهم الراسخ للواقع.
عندما نقرأ حوارات افلاطون الى جانب أعمال ارسطو، يصبح التباين في اتجاههما الميتافيزيقي واضحا. لو نظرنا الى افلاطون في حوار فيدو، مثلا، حيث يناقش خلود الروح من خلال اللجوء للاشكال الخالدة. يرى افلاطون ان أرواحنا تُجذب لهذه الأشكال لأنها تمثل الواقع النهائي الغير ملوث بنواقص العالم المادي. ارسطو، يجد هذا الفصل بين المادي والميتافيزيقي مثيرا للإشكال. في الميتافيزيقا (980a-981b)، هو ينتقد أشكال افلاطون لأنها تكرار غير ضروري للأشياء الموجودة سلفا، وهو المفهوم الذي يُعرف بـ "حجة الشخص الثالث"(1).
تركيز ارسطو على المادة – التي تعطي الشيء هويته – يقوده لرفض فكرة الوجود المستقل للأشكال . بالنسبة له، شكل الكرسي مثلا، لاينفصل عن الكرسي المادي ذاته. هذا الاختلاف لم يكن فقط نظريا، بل كانت له مضامين تطبيقية لكل شيء بدءاً من الأخلاق وحتى العلوم. إصرار ارسطو على فهم العالم من خلال الملاحظة التجريبية مهّد الطريق لحقول مثل البايولوجي، الفيزياء والمنطق، بينما تأكيد افلاطون على التفكير المجرد أثّر على الثيولوجي والميتافيزيقا والفلسفات المثالية.
الحظ والقدر، استطلاع الألعاب القديمة
اتجاه ارسطو في الاحتمالات يكشف عن تعارض حاد مع افكار افلاطون الميتافيزيقية. في كتابه الفيزياء، يرى ارسطو ان الحظ ليس مجرد نزوة للالهة او المصير وانما هو ظاهرة طبيعية لها نماذجها واسبابها. هو يصف كيف ان محصلات تبدو عشوائية هي عادة نتيجة لأسباب متقاطعة قد لا نفهمها جيدا. هذا الاتجاه العلمي اثّر لاحقا على مفكرين في فهم العشوائية، السببية، في عالم مليء باللايقين.
في العالم القديم، ألعاب الحظ مثل لعبة knucklebonesعكست هذه الافكار في المصير والاحتمالية. خلافا للحتمية الصارمة للدين او الأشكال الفلسفية، هذه الالعاب أدخلت عنصر المهارة وسط العشوائية، فكانت صدى لوجهة نظر ارسطو حتى في اللايقين، هناك انماط يمكننا تمييزها. بالمقابل، افلاطون اعتبر هذه الألعاب كرموز لعدم التنبؤ في الحياة الانسانية ومحدودية الفهم الانساني للحقائق العليا.
الفضائل: دروس عملية للحاضر
تأكيد ارسطو على الفضيلة كعادة تكونت من خلال أفعال مكررة يعرض تباينا واضحا تجاه تركيز افلاطون على الأشكال المثالية. يرى ارسطو ان تصبح فاضلا ذلك لا يتعلق في تأمل المُثل التامة، وانما يتعلق بعمل قرارات عملية تصوغ شخصية الفرد بمرور الزمن. هو اعتقد ان الفضائل مثل الشجاعة والإعتدال والعدالة تطورت خلال التطبيق، وهو ما يتماشى مع اتجاهه التطبيقي لفهم العالم.
فمثلا، عقيدة ارسطو بالوسط تشجعنا لإيجاد توازن في كل الأشياء – الشجاعة، مثلا، تكمن بين التهور والجبن. هذه الحكمة العملية هي ليست فقط مفهوم قديم، انها ذات مضامين عميقة للحياة الحديثة. في عالم يسوده الاستقطاب والتطرف، تذكّرنا اخلاق ارسطو الفاضلة بالبحث عن توازن واعتدال في الافعال. حين يسعي افلاطون للاشكال المثالية، فهو يدعونا للنظر الى مستوى عالي من التميّز في كل ما نعمل. هاتان الرؤيتان المتكاملتان تدعوان للتفكير في كيفية تربية وغرس الفضائل في الحياة اليومية.
إرث سقراط
عندما نفحص فلسفتي افلاطون وارسطو، نتذكر سقراط، الشخصية التي حفزت تفكير كل منهما. التزام سقراط بالتحقق والاختبار الذاتي وضع الاساس لهذين المسارين المختلفين، حيث سلط الضوء على الأهمية الدائمة للتفكير النقدي. سواء كنت تتوافق كثيرا مع سعي افلاطون نحو المُثل العليا المجردة او مع الاتجاه التجريبي لارسطو، فان كلا المسارين يقودان رجوعا الى رسالة سقراط المبسطة والعميقة: اختبار الحياة والبحث عن الحكمة.
***
حاتم حميد محسن
.....................
الهوامش
(1) هذه الحجة ترفض نظرية الأشكال الافلاطونية وهي تقوم على مبدأ التراجع regress الذي يؤكد بانه اذا كان هناك شكلا حتى لو كان واحدا، عندئذ سيكون هناك عدد لا متناهي من ذلك الشكل، بينما الأشكال يجب ان تكون فريدة من نوعها. والتراجع سيحطم امكانية المعرفة. حجة التراجع تقوم على اساس ان أي مقترح يتطلب تبريرا، وأي تبرير هو بذاته يتطلب دعما. هذا يعني ان أي افتراض يمكن ان يتعرض للتساؤل الى ما لانهاية مما يؤدي الى تراجع لانهائي. يمكن توضيح حجة الشخص الثالث بالنقاط التالية:
1- افرض ان هناك بعض الاشياء الكبيرة (او التي تبدو كبيرة) نسميها: س، ص، ع.
2- نستنتج ان هناك شكل (ضخامة) هو الذي يجعل تلك الاشياء كبيرة، وهذا الشكل نسميه (ضخامة1).
لذا، نحن الان لدينا حالات من الضخامة هي : س، ص، ع، وشكل الضخامة1.
3- نستدل الان ان هناك شكل هو الذي يجعل الحالات س، ص، ع وشكل الضخامة 1 كبيرا. وهذا الشكل نسميه (ضخامة2).
ولذلك لدينا الآن حالات من: س، ص، ع وشكل الضخامة1 وشكل الضخامة2.
4- نستدل حاليا بان هناك شكل هو الذي يجعل س، ص، ع، وشكل الضخامة1 وشكل الضخامة 2 كبيرا، لنسميه (ضخامة3).
هنا أصبح لدينا س، ص، ع، وضخامة1، وضخامة2، وضخامة 3، وهكذا يمكن الاستمرار الى ما لانهاية.

 

الذي يتمّعن بادبيات وتنظيرات فلسفة الظواهر (الفينامينولوجيا) يعثر على العديد من المتناقضات الفلسفية التي تدور في حلقة دائرية مفرغة من المعنى المنطقي الفلسفي الذي نعرض بعضها بهذه المقالة.
اعترف احد فلاسفة الظواهر التي جاء بها هوسرل قائلا " ان الوعي الذي تحلله لنا فلسفة الظواهر ليس بأي حال من الاحوال وعيا منخرطا في الواقع او وعيا متضمنا في التاريخ" نقلا عن دكتور زكريا ابراهيم.
وطبيعي جدا ان يتهم الماركسيون بان الوعي الظاهراتي خرافة لا معنى ولا وجود حقيقي له في الفلسفة الظاهراتية. وفلسفة الظواهر ليس لها قيمة حسب الماركسيين لانها خارج الزمن والواقع والتاريخ.
رغم ان هوسرل اراد الاقتراب فلسفيا جدا من العلم كما فعل من قبله ديكارت واسبينوزا وبيرتراند راسل وجماعة حلقة اكسفورد المنطقية الوضعية التحليلية التجريبية. الا انه سرعان ما يسقط في براثن المثالية الفجّة حين يجد في الوعي الذهني هو الذي تحمل قصديته المعنى التي يسقطها على الواقع والتاريخ والطبيعة.
اي ان الواقع بموجوداته وعالمنا الخارجي بمحتوياته ومواضيعه لا معنى لها مالم يتناولها الوعي القصدي الظاهراتي بمعرفتها هو وليس باستقلالية موجودية تلك الموضوعات ماديا ان يكون لها معنى خارج تناول الوعي القصدي لها. ومن بديهيات التفكير العلمي ان المدركات المادية هي التي تمنح الفكر معنى ما يقوله ويعرفه. ولا يوجد فكر بلا موضوع له معنى. والعقل لا يفكر في اللامعنى. الفكر موضوع يحمل معناه.
يذهب هوسرل في فلسفة الظواهر ان مواضيعها هي التي يحددها الوعي القصدي وليس هناك من موجودات لا في الطبيعة ولا في الانسان ولا في عالمنا الخارجي فهي غائبة وجودا بغياب الوعي القصدي لها.. وهذا خطأ انك لا تعترف بوجود الاشياء قبل التفكير القصدي المراد تحقيقها بموضوعات الادراك. بديهي الموجودات في الطبيعة وفي عالمنا الخارجي وجودها المادي يسبق ادراكها والوعي بها. وكل شيء غير قابل لادراك العقل غير موجود. هذا معنى تعبير احد فلاسفة الظواهر قوله الوعي القصدي غير منخرط لا في الواقع ولا في الطبيعة ولا في التاريخ. سبق للثلاثي ديفيد هيوم وجون لوك وبيركلي اقطاب المثالية المنطقية التجريبية انكارهم وجود عالم خارجي خارج التفكير الذهني. الغريب ان هؤلاء الفلاسفة تجريبيين اي يؤمنون بالعلم ومخرجاته العملانية بالتطبيق.
تعترف فلسفة الظواهر ان مواضيعها هي التي يحدد موجوديتها ومعرفتها هو الوعي القصدي. ولا قدرة لتلك الموضوعات الموجودة مستقلة عن التفكير الذهني الافصاح عن ذاتيتها الموجودية. ويوجد فرق كبير ان تقول مع سيلارز الوجود لغة. وبين ان تقول لا وجود خارج منطق اللغة. عبارة سيلارز الوجود لغة هي في منتهى الواقعية المنطقية الفلسفية من حيث يعتبر العقل عاجزا عن خاصية التفكير بدون تعبيرات اللغة افصاحا او صمتا. خاصية العقل هو تفكير لغوي وخاصية التفكير هي اللغة. لذا يكون كل ادراك ينتجه العقل هو لغة. اما مقولة البنيوية لا شيء خارج اللغة خطأ لم يقع به سيلارز.
وتنكر فلسفة الظواهر المواضيع الصدف وما يصفها هوسرل بالمواضيع الغفل التي تقاطع الادراك بها من دون وعي قصدي سابق عليها يمنحها معنى وجودها. كما تعتبر الوعي القصدي هو الذي يحدد المعنى في الموضوعات وفي الموجودات. وهذا خطأ فادح غير منطقي فلسفيا.
وتعقيبنا على هذا الخطأ اذا ما كانت الموضوعات بلا معنى وجودي بذاتها فما الداعي للوعي القصدي الذي مصدره العقل الاهتمام بها ومحاولة إضفاء المعنى عليها. خاصية العقل انه يدرك الاشياء والموضوعات التي لها معنى وأهمية في وجوب معرفتها. فالوعي القصدي لا يدرك ولا يهتم بموضوعات لا معنى لها. وحين نقول موضوعات لا معنى لها فهذا يعني ابطال فاعلية العقل من جهة وانعدام وجود موضوعات يدركها العقل او الوعي القصدي من جهة اخرى لا معنى لها اي بمعنى ليست موجودة.
كما لا تفرّق فلسفة الظواهر بين الحقيقة والمعرفة وقد تناولت ذلك بتفصيل في مقالة سبقت لي. يوجد فرق كبير بين الحقيقة كمفهوم مطلق وبين المعرفة كمصطلح متفق عليه. تحدده ابعاده العلمية والادراكية العقلية والتجربة المختبرية او التطبيقية. اما المفهوم المطلق الذي تنطبق عليه الحقيقة فهي موضوعات نسبية من السيرورة المتغيّرة باستمرار ومنهج محاولة التحقق منها هو الميتافيزيقا. نستطع القول ان المصطلح يقبل تراكم الخبرة الكميّة. والحقيقة تقبل التراكمات النوعية التي ينفي لاحقها سابقها.
هوسرل اعتبر الانا محورا مركزيا خالقا للتراكم المعرفي عبر التاريخ. حين جعل من كل ما وصلنا كموروث من الماضي هو خبرة مصنوعة قبل علمية . وكانت للانا الفردية بصمة في تركيبتها ودفعها في مسار التقدم بالمتراكم. واشار هوسرل الى اهمية توحيد العقل والجهد الجماعي في تطور العلاقات البشرية فالتاريخ البشري وتطور الموروث الانساني حينما يصلنا ونتاوله بعيون الحاضر الذي نعيشه فقط. ولم يذكر هوسرل هل يعني بهذا الموروث الحضارة ام المعرفة الانثروبولوجية مجردة. بل اكتفى الاهابة بعالم ما قبل العلم وهو ما اهتم به الفيلسوف البنيوي ليفي شتراوس في دراسته اثنولوجيا الاقوام البدائية التي ليس لها تاريخ. اي دراسته حياة الاقوام البدائية قبل اختراع الانسان التدوين الرمزي واللغوي.
وقد كان أحيا هذه الفكرة التي ترجع اصولها للفلسفة اليونانية كلا من ليفي شتراوس وفوكو وفلاسفة البنيوية تحديدا في مقولتهم الانسان هو الانسان منذ الاف السنين والى يومنا هذا من حيث الحاجات الاساسية التي شغلت تفكيره لم تتبدل وتتغير. وكان سبق ان قال هذه الحقيقة انضج مما جاءت به البنيوية برتوروغوراس 540 ق.م " الانسان مقياس كل شيء".
طبعا نسبية صحة مصداقية مقولة الانسان هو الانسان من حيث الطبيعة البايولوجية فقط. سواء اكان ذلك في الاشباعات الغريزية او الاشباعات التي التي يمليها ويفرضها التطور الانثروبولوجي وقضاياه ومشاكله بالنسبة للانسان بما هو كائن مؤنسن بالطبيعة والتجمعات الاقوامية البشرية على ضفاف الانهر واكتشافه الزراعة سبعة الاف وخمسمائة قبل الميلاد. يعتبر المؤرخون وعلماء الانثروبولوجيا ان العصر الزراعي هو عصر بداية صنع الانسان للحضارة البشرية.
طبعا من المعروف جيدا ان الفلسفة البنيوية وليدة فلسفة مابعد الحداثة وادبياتها التي هي اول فلسفة فرنسية تمسكت بادبياتها وطروحاتها التي على راس وقمة الهرم في شنّها الهجوم القاسي ومحاربتها لما اصطلح عليه السرديات الكبرى بخاصة السردية الماركسية ممثلة بعمودها الفقري كتاب راس المال الذي شن عليه هجوما بنيويا كلا من شتراوس والتوسير مع آخرين. والسردية الاخرى التي اصابتها البنيوية باكثر من مقتل واحد هو السردية الدينية التي كانت الارهاصات الاولى لهذا المنحى بدأه سبينوزا وكانط في القرن الثامن عشر ثم تلاهما اقطاب الوجودية بزعامة سارتر الى ان وصلت البنيوية في التركيز على مهمتين الاولى تمثلت في انكار المعجزات الدينية والمهمة الثانية الهجوم على رجال الدين وإبعاد هيمنة الكنيسة على الحياة. المفارقة ان البنيوية باسم مابعد الحداثة حاربت العقل واللغة والانسان وكل معطيات ما جاءت به الحداثة. وانشغلت فترة نصف قرن بفلسفة اللغة ونظرية التحول اللغوي وفائض المعنى. قبل انتقالها بهوس محموم مهاجمة كل شيء قامت عليه الحداثة والانوار.
وتعتبر فلسفة الظواهر العالم الذي نعيشه عالم هجين شاركت بصنعه اجيال متعاقبة وان حركة التاريخ هي نتاج عمل جماعي. لكن التناقض الذي يمر به دكتور زكريا ابراهيم قوله: (الفلسفة الفينومينولوجية تجريد ينأى بنفسه عن الابعاد الخصبة للوجود البشري. ويجعل منها نظرا عقليا خالصا بعيدا كل البعد عن الواقع الانساني).
لكي نكون منصفين لا يوجد فلسفة التزمت قضايا الانسان خارج تجريد الفلسفة اللغوي باسثناءات ثلاث فقط هي:
1. الفلسفة الماركسية حين انتقلت من التجريد الى تطبيقات الاقتصاد السياسي. كي تخلص من تجريد الفلسفة غير القابل للتطبيق حيث اطلق ماركس عبارته الشهيرة وجدت الفلاسفة يفسرون التاريخ في وقت كان مطلوبا منهم تغييره. لو لم يعمد ماركس تحويل مجرى الفلسفة من التجريد المنطقي الفلسفي التنظيري الى مسار الاقتصاد السياسي لما كان وجدت ما يسمى ماركسية. جوهر الماركسية هو انها ايديولوجيا سياسية.
2. الفلسفة البراجماتية الاميريكية حين انتقلت الى تبني المنهج الديمقراطي الليبرالي الراسمالي الذي تتوّج بالامبريالية واخيرا بالعولمة في مقولة نهاية التاريخ التي قال بها فوكوياما العولمة الانسان الاخير.
3. الفلسفة الوجودية حين انتقلت بريادة سارتر الى تطويع التنظيرات الفلسفية في الاجناس الادبية بدءا بالشعر ثم بالقصة والرواية واخيرا بالنصوص المسرحية ونال سارتر عليها جائزة نوبل بالادب وليس بالفلسفة. رغم عدم استجابته لاستلامها كما فعل برجسون تحويله بعض التصورات الفلسفية الى اعمال ادبية ونال جائزة نوبل بالادب واستلمها.
لا يمكننا ادانة فلسفة الفينامينالوجيا فلسفة تجريد بعيدة عن الاهتمام بقضايا الانسان المصيرية. فمثل ما فعله هوسرل فعلت غالبية التيارات الفلسفية التي تفرعت عن التحول اللغوي وفلسفة اللغة مثل الفلسفة البنيوية وفلسفة الهورمنوطيقا لدى بول ريكور وكذلك إستراتيجية التقويض والهدم التفكيكي لدى جاك دريدا. ونجملها بالفلسفة الوضعية المنطقية التحليلية حلقة اكسفورد بزعامة بيرتراندرسل قوله لا يوجد التزام بالفلسفة واعتبر ثيمة المنفعة التطبيقية بالحياة في فلسفة الاميركان الذرائعية (ابراجماتية) بانها فلسفة نذلة وخسيسة.
وفي فهم هوسرل ان (الانسان ذات وموضوع في وقت واحد) التي أخذها عن شوبنهاور ، هو فهم صحيح بالنسبة للانسان وحده كوجود مستقل عن الاخر وعالم الاشياء الخارجية المحيطة به تماما، في ادراك الانسان ذاته ووعيه بها عندما يتأمل وجوده الذاتي كموضوع ، الموضوع المتداخل مع ذاته في كينونة مستقلة واحدة تجمعهما، اما في حال ادراك الانسان للمواضيع والاشياء الخارجية عنه، فهنا تكون الذات والموضوع كلا منهما وجودا مستقلا عن الاخر وبدلالة احدهما ندرك الاخر، وفي استقلالية وجودية احدهما عن الاخر، ولا تبقى الذات والموضوع واحدا في وحدة اندماجية لا يتم التفريق بينهما.او يتعذر ذلك الفصل المطلوب بينهما.
ان في تأكيد هوسرل ان الذات المفكّرة لا تنفصل عن موضوعها، وان كل مالا ندركه ليس له وجودا، خطأ جوهري كبيروسنوضحه لاحقا. عدم انفصال الذات عن الموضوع كما يريده هوسرل يعني استحالة الوعي العقلي والاحساس بالاشياء، وبالتالي يكون استحالة تفكيرية ايضا في محاولة ادراك الشيء حسيا او تخييليا. الموضوع او الشيء المراد ادراكه والتفكير به يحتاج الى مسافة رصد ومعاينة من قبل الذات لتحقيق الوعي به ومن ثم التفكير به. وفي حال اندماج الذات بالموضوع وتلاحمهما من غير مسافة رصد بينهما يكون فقط في استحالة معرفة الشيء ووجوده والتفكير به مستقلا وجودا.
فكيف للذات ان تفكر في وعي ذاتها والتفكير في وعي الاشياء من حولها وهما كليهما في حالة اندماج وتناوب وظيفي في احلال احدهما محل الآخر او في اندماجهما معا في التفكيرالواحد او المتباين باختلاف الموضوع . ان الذات تكون مرة ذاتا تعي وتدرك ذاتها،واخرى تعي وتدرك موضوعاتها في وقت واحد ليس تراتيبيا، بمعنى وعي الذات تتداخل في وعي موضوعاتها معا في وقت ولحظة واحدة، وتختلف الذات عن موضوعها في كيفية الادراك المتبادل بينهما، وهذا يوجب علينا تفريق الذات عن الموضوع وليس كما يرغب هوسرل. (انه لا معنى في تفريق الذات وفصلها عن الموضوع.) هذا الافتراض يعدم حقيقة ان العقل والتفكيروالحس والخيال والذهن واللغة منظومة ادراكية واحدة في انسان واحد.
عزلة الفيلسوف هوسرل
في كتابي (فلسفة الاغتراب) طبع ثلاث طبعات كنت ذكرت فيه ان عزلة الفيلسوف المجتمعية بمعنى الاغتراب Alienation هي ظاهرة ايجابية. تختلف عن الاغتراب المجتمعي السلبي الناقم الكظيم عند بعض الافراد العصابيين او لدى شريحة اجتماعية معينة تسحقها الظروف الاقتصادية كما تناولها ماركس في فلسفته اغتراب العمل واغتراب راس المال واغتراب الطبقة العاملة وهكذا.
ونقل لي احد طلاب الدراسات العليا في جامعة الموصل انهم لاقوا تعنتا وتزمتا في مصادرة الاساتذة المشرفين والمناقشين لاطاريحهم ان يكون الاغتراب ظاهرة ايجابية تخص فقط الفلاسفة والمفكرين وبعض الادباء والفنانين على اختلاف تخصصاتهم في الفنون التشكيلية. (احيل القاريء الى الفصلين الخامس بعنوان الاغتراب والصوفية والفصل السادس الاغتراب في الوجودية الحديثة من كتابي المشار له فلسفة الاغتراب يجد فيه تفصيلا مجزيا مستوفيا لمصطلح الاغتراب الذي نحته بعنوان الاغتراب الايجابي). المهم الطلبة الذين اخذوا ما اسميته الاغتراب الايجابي في تمسكهم الحرفي عما كتب عن الاغتراب بالفلسفة الغربية المعاصرة وقرأوه مترجما اخذوا على الطلبة الذين اخذوا عني ظاهرة الاغتراب انهم مخطؤون.
وكان احد المتابعين لفلسفة هوسرل الفينومينولوجية قال له يبدو انه لم يكن لقضايا العالم الخارجي نصيبا مؤثرا في فلسفته المغرقة في التجريد وهو يحاول ايجاد توليفة فلسفية تضم الفلسفة والعلم. وهو تفلسف منطقي سليم.
ليس دفاعا عن هوسرل في تماديه بالتجريد الفلسفي وانما انسجاما مع ماذهبنا له حول حقيقة الفلسفة تجريد منطقي غير ملتزم قضايا الانسان. عليه لا يمكننا ادانة هوسرل على القطيعة الاغترابية عن المجتمع وتاريخ الفلسفة باكمله هو تاريخ تجريد منطق اللغة الاغترابي عن الحياة اذا جاز لنا التعبير.
العزلة المجتمعية هي عند الفيلسوف اغتراب ايجابي مارسه الفارابي وابن سينا والمتصوف السهروردي وابن طفيل والمعرّي وعديدين غيرهم وما لا حصر لهم من فلاسفة ومتصوفين ومفكرين وفنانين عالميين.
هذا العزلة المجتمعية الاغترابية هي مبدعة ومنتجة بنفس الوقت. العزلة الاغترابية تشبه الى حد بعيد مقولة شبنجلر (التحدي والاستجابة) في نظريته حول نشوء الحضارات تاريخيا ومروها بمرحلة الشيخوخة والاضمحلال تاركة المجال امام الجديد المستحدث حضاريا من اخذ دوره التاريخي.
فالظروف القاسية التي تمر بمجتمع ما حتما تنعكس صورتها بابعاد اكثر مما تستوعبه الشرائح الاجتماعية المستلبة الحرية والحقوق التي ينوب بتمثيلها الفيلسوف او المفكر او السياسي او الفنان كلا باسلوبه الخاص به في التعبير عن هذه العزلة والاغترابية التي يعيشها ليس من اجل تحقيق ذاتيته بل من اجل الدفاع عن قضايا مجتمعه.
وحتى اغتراب بعض الناس العاديين من غير المنفصمين نفسيا بشزروفينيا مرضية هم ايضا يمارسون الاغترابية الايجابية في ادانتهم للحاكم او صاحب وسائل الانتاج الراسمالي الذي يسلبهم حقوقهم المشروعة كبشر يسعون لحياة كريمة هم وعوائلهم.
الماركسية وهوسرل ثانية
في مقالة لي سبقت تناولت الادانات العديدة لفلسفة الظواهر لهوسرل من قبل الماركسية التي اعتبرت الفينامينالوجيا تقليعة فلسفية طارئة مصيرها الزوال والاندثار. منها اتهام هوسرل انه عمد الى فصل الذات عن الوقع الاجتماعي وعن الفاعلية التكنيكية والصراع الطبقي والوضع التاريخي والوجود المادي الشامل في الطبيعة. وهنا اقتبس عبارات دكتور زكريا ابراهيم قوله : يبدو ان تلامذة هوسرل انفسهم قد فطنوا الى هذا الضعف. فقد كتب اوجين فنك يقول "هل باستطاعة الانسان المتفلسف ان يتهرب من السبيل التاريخي الذي انتهجته الفلسفة عامة. حينما لجأ هوسرل الى نهج الابتعاد عن الابعاد الخصبة للوجود البشري . ويجعل من الفينامينالوجيا سذاجة لا تاريخية ولازمنية تمثل الركيزة النهائية لفلسفة هوسرل ".
الحقيقة اننا يمكننا التعميم ليس بتبعية عمياء لفلسفة هوسرل كما اشرت له سابقا ان الفلسفة في مجمل تاريخها عدا الماركسية والذرائيعة الامريكية وتطويع سارتر الادب لفلسفته ماعدا هذه التحولات الانعطافية الفلسفية الثلاث التي اشرت لها في سطور سابقة من هذا المقال. فلا نعثر على تجرد فلسفي ينتصر لالتزام حياة الانسان بما / وكيف يعيشها. اللاتاريخية واللازمنية التي دمغت بها فلسفة هوسرل الفينومينولوجيا لا نعثر على فلسفة هي ليست لاتاريخية ولا زمنية طوال العصور . والسؤال لماذا؟
والاجابة كون خاصية الفلسفة انها فضاء لغوي تجريدي مفتوح يقبل الاضافات التراكمية (النوعية) ولا يلغي حاضرها ماضيها. اننا لو نظرنا بدقة لتاريخ الفلسفة لوجدناه جزرا متناثرة وليست مترابطة بالضرورة النسقية في التفلسف.
لقد حاول ميرلوبونتي وهو تلميذ هوسرل تلافي النقص اللاتاريخي واللازمني في فلسفة الظواهر وفشل بهذا المسعى فشلا ذريعا. ولم يكن العيب في القدرات الفلسفية لميرلي بونتي بل يعود الفشل الى طبيعة الفلسفة وليس قصور تفلسف الفلاسفة. الشيء الاهم ان جميع المشتغلين والمهتمين بالفلسفة انما يكتبون عن تفسيرات تاريخ الفلسفة برؤى جديدة ربما تكون نقدية كما افعل انا بكتاباتي وازوغ عن المنهج الاكاديمي الجامد وعن المنهج الاستعراضي المنذهل بعصمة الفلسفة الغربية المعاصرة ولا يذهله تساؤل لماذا لا امارس النقد والتحليل والاضافة الفلسفية؟
***
علي محمد اليوسف

التمرد... بعدّهِ مرهماً فلسفياً

إن مفهوم الاتصال واستمرار خطوات البحث والمنهج العلمي، وديمومة الفكر والفلسفة، قد يبدو، للوهلة الأولى، عملاً إيجابياً وفاعلاً، كونه يؤسس لمفهوم التفاعل الخلّاق والمُنتِج، كما ويؤسس لإحياء ركام السابق في بناء فلسفة اللاحق، وهذا الأمر قد يبدو مقبولاً من الناحية الاجرائية. أما من الناحية العملية، فإننا نكاد نجزم بأن ذلك الوصل، كان وراء تخلف جميع المباحث الفلسفية وسبات معارفها، والذي أدى بالأخير إلى إفلاسها ونفور المُريدين عنها، فإن من أهم العقبات التي حالت دون أن يٌكتَب لها الابداع والتفرد المعهود، تتمثل في استلاف الآراء والنظريات من منجزات التراث الفلسفي، الأمر الذي جعلها تدور في حلقاتٍ مُفرغة، وهذا ما كان وراء انحسار مباحثها، لأن اللاحق يُعيد النظر فيما طرحه السابق، لا أن يبدأ من حيث انتهى، بل من حيث بدأ.
على إننا لا ننكر التطور الفلسفي عبر العصور، لكنه يبقى تطوراً تراكمياً، يفتقر إلى الأسئلة الحقيقية والمعاصرة؛ يُعيد طرح الإشكالات ذاتها، وينتهي الفيلسوف بين ممرين، فإما مؤيداً مادحاً، أو ناقداً ناقما.
ومن ثم، فالانفصال والتمرد والخروج عن المألوف هو ما يُبشر بديمومة الفلسفة، فمن شأن التمرد أن يخلق فضاءً مختلفاً يقوم على الشكِّ في الأصل، فيولد بذلك الشك مجموعة كبيرة من الأسئلة والإشكالات، وهنا تكمن الفلسفة، فهي، وقبل كل شيء، طريقة للتفكير في الواقع، تعمل على أشكلة حقول المشكلات الواقعية، بغية نقدها وتقويمها، أو هي نشاط تشخيصي، ومدار فعل التشخيص هو الواقع كما يقول ميشيل فوكو.
وعلاوة على ما تقدم، فإنَّ مسألة النظر في طبيعة الحقب التاريخية للفلسفة، وكيفية الانتقال من حقبة إلى أخرى، كثيراً ما أفلتت من أقلام المؤرخين والباحثين في الشأن الفلسفي، فلا زلنا نعيش الترتيب التقليدي الذي وضعه مؤرخو الفلسفة، كالفلسفة اليونانية، والفلسفة الوسيطة، والحديثة فالمعاصرة. لكننا لم نتساءل يوماً عن السبب الرئيس من وراء تلك الحقب، أو الغاية الاساس من ذلك التحول. ولنا أن نقف بشيءٍ من الإيجاز على طبيعة تلك التحولات، لنتعرف في طريقنا على المتصل والمنفصل في تاريخ الفلسفة.
يُعدُّ التراث المعرفي للشرق القديم، من أقدم المنجزات البشرية من حيث الفكر والتدبر، لكن الثوب الذي ارتدته هذه المعارف لا يخرج عن قماش الـ(الخرافة)، مع ذلك فإن الأخيرة تمثل اللبنة الأولى لميلاد الاسطورة في التراث اليوناني على يد (هوميروس) و(هزيود) وملاحمهم الشهيرة؛ وهذه هي الإنتقالة الأولى في تاريخ المعارف البشرية. بعد ذلك جاءت التيارات العقلانية التي قادها (طاليس) (انباذوقليس) (بارمنيدس)... وغيرهم، فتحول البحث من فكر اسطوري إلى فكر عقلاني، ولكن هذه العقلانية لا تخرج عن كونها هامشاً على حروف المرحلتين السابقتين، فقول (طاليس) بأن الماء أصل الوجود، هو قولٌ مطابق لما انتهت إليه الفلسفة الشرقية القديمة، وإن معيار الحقيقة في ثبات (بارمنيدس) والمتجسدة في قصيدته الشهيرة(لما قادتني الأفراس)، هي إحدى صور الملاحم الاسطورية التي جسدتها أدبيات (هزيود وهوميروس)، وهكذا تباعاً مع جميع فلاسفة الطبيعة في صدر الفلسفة اليونانية.
إلى أن نصل إلى إحدى أهم صور التمرد الفلسفي، والتي قادتها الفلسفة (السوفسطائية) على تيارات الفكر الطبيعي، والذي يمثل اللحظة الأولى لميلاد الفلسفة ذات الطابع الإنساني، لكن هذه الرؤية قد طُمست بالشهرة الحافلة لدى جمهور القارئين للفلسفة، والذي تمثل بالثالوث الفلسفي الشهير، (سقراط) (أفلاطون) (أرسطو)، والذين كانوا امتداداً طبيعياً للفلسفة الآيونية والإيلية وغيرها، وأخطأ (شيشرون) خطئاً فادحاً حين قال: سقراط هو أول من أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض. والحقيقية أن هذا الثالوث قد رفعها إلى السماء بالميتافيزيقا، نظرية (المثل الأفلاطونية) من جهة، وإشكالية (الهيولى والصورة) من جهة أخرى، بعدما اجتهد (السوفسطائيون) في انزالها إلى وقائع الوجود الإنساني عن طريق النسبية وإنكار الحقائق الكلية.
وعلى الأصل السوفسطائي، نشأت المباحث الأخلاقية في المدارس المتأخرة، فلو لم تكن المباحث الأخلاقية والقيمية التي شغلها السوفسطائيون، لما كان لسقراطٍ وجود، ولو لم يكن الأخير موجوداً، لما انبثقت الرؤى والفلسفات الأخلاقية لدى (الأبيقوريون) و(الرواقيون)، فالمسألة تمثّل امتداداً طبيعياً للحظة الأولى في التمرد الفلسفي، والذي قاده كبار مثل بروتوغوراس وجورجياس.
إلى ما تقدم تنتهي الفلسفة اليونانية، والتي امتدت قرابة الألف عام، والإشارة المهمة التي نودُّ أن نوردها تتمثل في إنَّ الفلسفة لم تكن أحد أسباب الانتقال من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الوسيطة، وهنا تكمن المفارقة؛ بل يعود السبب الرئيس في ذلك التحول إلى الدين المسيحي واتساع رقعته وقوة شوكته، فعلى إثر ذلك شهدنا ميلاد الفكر الوسيط في الفلسفة، ولكنه كالمعتاد، كان أسيراً لطروحات ما يُسمى بـ(العصر الذهبي) في التراث اليوناني، فلم يجرأ على الخروج عن الخطوط الرئيسة التي خطّها افلاطون وأسطو، وكذا الحال، بصورةٍ أشد، مع ميلاد الفلسفة الإسلامية، حتى قيل عنها: أنها فلسفة يونانية كُتبت بالعربية، بل سُميت الفلسفة الوسيطة عموماً بالفلسفة التوفيقية، والتوفيق على نوعين: بين الدين والفلسفة من جهة، وبين افلاطون وارسطو من جهةٍ أخرى، الأمر الذي جعلها تترنح في مكانها دون تطورٍ منشود.
وقد استمر البحث الوسيط قرابة الألف عام أيضاً، حتى بدأ انهياره المحتوم مع سقوط الحضارة الغربية البيزنطية على يد العثمانيين سنة 1453م، الأمر الذي يجعل العوامل السياسية والحروب العسكرية، المؤذن الحقيقي لميلاد الفلسفة الحديثة، هذا من جهة، وردود الفعل على النظام الديني والمتمثل بالسلطة الكنسية من جهةٍ أخرى. وبالتالي لا نجد سبباً فلسفياً أصيلاً يقودنا إلى التحول عن الفلسفة الوسيطة نحو الفلسفة الحديثة.
لكن، هل يمكن لنا أن نعدَّ الفلسفة الحديثة امتداداً معرفياً لفلسفة القرون الوسطى؟. أكيداً لا، لكنها فلسفة منفصلة عن السابق، لا متمردةٌ عليها، وهناك فرق كبير، فالأولى تحاول أن تؤسس لممارسات فلسفية بعيداً عن المساحة الفلسفية التي رسمتها الفلسفات السابقة، بينما التمرد يستتبع أن تنسف التراث السابق لتشييد صرحاً فلسفياً جديداً على ركام القديم. بالنتيجة، لا نرى أي صورة من صور التمرد في ثنايا الأبحاث الفلسفية في الفترة الحديثة.
ثم يأتي الحديث إلى الفلسفة المعاصرة، وهي من أكثر المراحل التباساً، فإذا كان لنا علماً بطبيعة الشخصيات التي ولدت مع ميلاد الحقبة التاريخية الجديدة، فإن الفلسفة المعاصرة متشابكة إلى الحد الذي يجعلنا نحدد الفترة التاريخية من جهة، والشخصية الفلسفية الرائدة من جهةٍ أخرى. وباعتقادنا أن نشأة الفلسفة المعاصرة لا تخرج بميلادها عن ميلاد شخصيتين بارزتين، الفيلسوف الدنماركي (سورن كيركيجارد)، والفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه)، وسواء الانطلاق من هذا أو من ذاك، فإن الأساس الفلسفي في التحول إلى الفلسفة المعاصرة لا يخرج إلا عن كونه تمرداً حقيقياً على ما هو سائد، وهذه هي اللحظة الثانية في تاريخ التمرد الفلسفي، فهي تتجاوز كل القرون لتلتحق بما انتجته الفلسفة السوفسطائية. ومنذ 1813، أو من 1844 انقطع حبل الامتداد الفلسفي بوصل السابق باللاحق، فتبدلت العلاقة وأصبح المعيار الفلسفي يتحدد بالقطيعة، والأخيرة هي إحدى النتاجات المعاصرة والتي وُلِدت من رحم التمرد.
ويجب أن لا يُفهم التمرد بصورة سلبية، فهو وإن كان خروجاً عن المألوف، إلا أن خروجه يمثل درجة عالية من الإيجابية، فهو بحثٌ عن المعنى المغمور تحت وطأة السلطة، لا يمكن لنا أن نبصره ما دمنا عاكفيت تحت سلطانها، فوجب علينا التحرر أولاً، لنبصر نور الحرية أخيراً، ولا يكون لذلك إلا بالتمرد. وبالأخير نقول: إننا ندين إلى التمرد النيتشوي وانقلاباته القيمية، فقد أسس الأخير إلى اختراق المستقبل، وبعث فيه روحاً فلسفية نقدية نعيش صداها إلى يومنا، وستستمر ما دامت ترتكز على التمرد.
***
د. حيدر عبد السادة جودة

ما ينبغي أن نلتفت له، ونحن بصدد الحديث عن أهم المُنجزات المعرفية في القرن العشرين، إن ما عُرف في ثنايا الحديث عن فلسفة اللغة، أنها نتاج ما يُعرف بـ(الانعطافة اللغوية)؛ وهذا ما هو شائع في كتابات المُتخصصين في ذلك. لكن الحقيقة أن الفلسفة هي من أرادت أن تحقق لنفسها تحولاً في خطابها المعرفي وليس اللغة، فإذا اعتمد الخطاب الفلسفي سابقاً على الميتافيزيقا واللاهوت من جهة، والعقل والعلم من جهةٍ أخرى في إحداث التحول في الخطاب الفلسفي عبر عصوره المعرفية، فإنها هنا تعتمد على اللغة في تحقيق ذلك المنعطف المنشود.
وهذا يسحبنا إلى فرضِ إشكالٍ شائك حول أولوية الفلسفة على اللغة، أم أولوية الأخيرة على الفلسفة؟ تحديداً في إرساء معالم هذا الحقل الجديد. بمعنى، هل عملت الفلسفة على استخدام اللغة للتعبير عن غايتها في التحول الفلسفي، وبالتالي الحديث عن (انعطافة فلسفية)؟ أم اللغة هي من استعملت الفلسفة لتحقيق (الانعطافة اللغوية)؟. والحقيقة إنَّ من جانبنا نعتقد بأولوية الفلسفة على اللغة، لإنَّ الفلسفة هي من أرادت أن تستخدم اللغة في التعبير عن نفسها فلسفياً، ومن ثمَّ فإن مباحث فلسفة اللغة إنما قادتها أقلام فلسفية وليست نحوية أو لغوية، وهذا يؤكد لنا أن اللغة هنا لا تتعدى عن كونها أداة تم استخدامها فلسفياً، لغاية اعادة النصاب إلى الفلسفة، عن طريق إعادة صبّها في الواقع الذي تغرّبت عنه نتيجة الإسراف في الميتافيزيقا. وبالتالي يُجاز لنا أن نقول بأنها أداة تم استخدامها فلسفياً للإفلات من نسقية الفلسفة أو هرميتها. ولكن لهذه الأداة سابقة خطيرة تتمثل في كونها تتحدث عن نفسها، فتحولت من أداة تعبيرية مُنفعلة بفعل الحدث الفلسفي، إلى فاعلة ومُنتجة باعتبارها بؤرة التفلسف. وبالتالي فلم تكن الإنعطافة اللغوية من أجل ذاتها، بل هي مجردُ أداة إنما جاءت لإمكانية ديمومة الفكر الفلسفي وتجديده، ولهذا فنحن إزاء منعطف أو منعرج فلسفي. مع الأخذ بعين الاعتبار أن مسوغ الانطلاق من اللغة هو الطفرة المعرفية التي بدلت العلاقة بين الدال والمدلول، فاللغة لم تعد مجرد ممثل للمعرفة، كما أن المعرفة لم تعد مجرد تمثل للأشياء بكلام آخر لم تعد اللغة ممثلاً للتمثل ذاته. بل أصبحت إمكاناً للوجود بقدر ما تجسد بيئة للفكر أو وسطاً للفهم. يعني أن علاقة الانسان بوجوده هي علاقة لغوية، سواء اتصل الأمر بالعقل أو الحس، بالوعي أو اللاوعي، بالمعرفة أو بالممارسة… من هنا يمكن القول بأن اللغة هي مفتتح الوعي، وبأن الوعي بالأشياء هو نشاط رمزي لغوي.
وتمثلّت أهم المنابت التي أسست لنشأة مباحث فلسفة اللغة، في مبالغة الفلسفة في تعاليها عن الواقع، وانحسار مجمل مباحثها نتيجة الإنهماك في الميتافيزيقا والعلوم المجردة، فمنذ بواكير الفلسفة الأولى، اشتغلت الفلسفة اليونانية على تفكيك النظام الخارجي للعالم بصورة عقلانية، من أجل أن تُحدث منعرجاً جديداً وقطيعة معرفية مع مرحلة الأسطورة في الفكر الشرقي القديم، التي بالغت هي الأخرى في النظر إلى الوجود عن طريق الاسطورة والخرافة؛ انتهاءً بالملاحم الاسطورية لدى شعراء اليونان. لكنها سرعان ما غرقت بالتصورات الميتافيزيقية، والتي تساوي في بعض صورها مضامين الفكر الاسطوري للشرق القديم؛ وإن كانت هناك محاولات جادة في التأصيل للفلسفة العملية (الاجتماع، السياسة، الأخلاق)، إلا أنها بقيت مجرد أبحاث على هامش الفلسفة النظرية (الإلهيات، الطبيعيات، الرياضيات).
ولم يدأب الفكر الفلسفي في العصور الوسطى إلى إحداث قطيعة أو انعطافة فلسفية، بل عمل على نقل التراث اليوناني إلى العالم العربي والأوربي، بإضفاء ثوب الثيولوجيا والفكر اللاهوتي عليه، فبقيت بذلك حبيسة التصورات الميتافيزيقية في البحث عن الله وصفاته، والتأسيس لفلسفة الوجود.
ومن أجل إنقاذ مركزية الإنسان التي تضررت جرّاء البحث في الوجود الخارجي، حملت الفلسفة الحديثة ورائدها الفيلسوف الفرنسي (رينيه ديكارت) همُّ التأسيس لانعطافة فلسفية ومعرفية، تحاول أن تأصّل مركزية الإنسان، وتسلّيط الضوء على ما يتعلق به، فانتصرت للإنسان على حساب الطبيعة، وإخضاع الأخيرة تحت مباحث الفكر الإنساني.
مع ما تقدم من قطيعة حديثة بالفكر (القروسطي)، بقيت المهمة التي أُنيطت بالفلسفة محض تجربة تأملية مجردة، الأمر الذي لم يحررها من كونها فلسفة قوالب وتخوم عالية وفلسفة أنساق، الأمر الذي دعا بعض الفلاسفة لوصفها بـ(فلسفة السرديات الكُبرى)، والتي خُتمت بفلسفة الألماني (فريدريك هيجل). ثم بدأ المنعرج الحاسم في تاريخ الفلسفة، من خلال الثورة التي أشعلها الفيلسوف الدنماركي (سورين كيركيغارد)، على الأفكار الهيجلية، والتي-بحسب كيركيغارد- لا تقيم وزناً للإنسان ولا للحياة الإنسانية، وإنما اتجهت نحو المطلق أو الروح المطلق، في حين ان كيركيغارد قد اراد من الفلسفة ان تكون تعبيراً حيّاً عن الوجود الخاص للإنسان، بمعنى اراد ان يضع نظرية عامة للإنسان، تعبّر عن ما يعانيه من ألم، وعذاب، وقلق، ويأس، ومخاطرة...الخ.
***
حيدر عبد السادة جودة

السؤال عن أفضل فلسفة للانسان هي كالسؤال عن أفضل الأطعمة التي يتناولها المرء، حيث ان كل شخص له مذاقه الخاص. البعض يفضل الفلسفة الرواقية لماركوس ارليوس، آخرون يستمتعون بالاشياء البسيطة لأبيقور. طوال التاريخ قدم المفكرون الكبار مختلف الرؤى لحياة هادفة. ارسطو دافع عن الفضيلة والتميّز، كونفشيوس أكّد على الانسجام الاجتماعي، اما الوجوديون فقد جادلوا لخلق معنى خاص للفرد في كون لا هدف له. ولكن في عصرنا الحالي حيث الإلهاء المستمر واللاّيقين كيف نتعامل مع أسئلة الحياة الكبرى دون ان نضل الطريق وسط هذا الكم من الضوضاء؟
هنا تصبح الفلسفة الشخصية شيء لا يُقدر بثمن، كبوصلة ذهنية تساعدنا في اتخاذ القرارات، ووضع الأولويات، والعثور على الإكتمال. وسواء أدركنا ام لم ندرك، جميعنا نعيش بمجموعة من العقائد التي تحدد خياراتنا. السؤال الواقعي هو ليس ما اذا كنا نمتلك فلسفة وانما هو ان كنا اخترنا تلك الفلسفة بوعي.
سنستطلع هنا الفلسفات الرئيسية التي أرشدت الانسانية منذ آلاف السنين، نختبر حكمتها التطبيقية لكي نساعد أنفسنا في صياغة فلسفة تتماشى مع قيمنا. وبالنهاية، وكما ذكر سقراط "ان الحياة الغير مختبرة لا تستحق العيش" (افلاطون، ابولوجي)(1).
ما الذي يجعل الحياة جيدة؟
ما الذي يميز الحياة الجيدة؟ هل هو الانجاز الشخصي، ام انها تعتمد على الكيفية التي بها يتصورنا الآخرون؟ جدلية الذاتي مقابل الموضوعي أرهقت الفلاسفة لقرون. افرض انت تؤمن انك عشت حياة استثنائية مليئة بالمعنى والهدف، مع ذلك، الناس الذين حولك يعتقدون شيء آخر. فمنْ هو على صواب؟
بالنسبة لسقراط، الجواب يكمن في إختبار الذات. هو أعلن ان الحياة غير المختبرة لا تستحق العيش، مجادلا ان الحياة الجيدة تتطلب تفكيرا عميقا. بدون التحقق من عقائدنا ورغباتنا وخياراتنا سنخاطر بالانحراف من خلال حياة دون فهم حقيقي لها. لكن هل يكفي التأمل الداخلي؟ روبرت نوزك Robert Nozick في تجربته على الماكنة يتحدى فكرة ان المتعة وحدها تجعل الحياة ذات قيمة. لو افترضنا هناك ماكنة تستطيع محاكاة أي شيء ترغبه انت مثل السعادة، النجاح، وحتى الحب وبشكل تام لدرجة انك لا تعرف أبدا انه ليس واقعيا. فهل يحقق ذلك شيئا هاما لحياتك؟ يجادل نوزك ان معظمنا سوف ينكرون ذلك، مؤكداً ان الإنجاز الحقيقي يتعدى المتعة المجردة. نحن نبحث عن الأصالة، النمو، والارتباطات الحقيقية.
ان نصبح أحسن نسخة لأنفسنا، ونكوّن علاقات هادفة ذات معنى، ونواجه تعقيدات الحياة بشجاعة وحكمة كل هذه هي مظاهر الحياة الجيدة. انها أشبة بمغامرة لن يبحر بها شخصان بنفس الطريقة، وانما هناك شيء واحد مؤكد وهو ان: الرحلة ستكون أفضل مع النية والتفكير والهدف.
الحكمة التطبيقية للفلاسفة القدماء
مع انها تعود لقرون مضت، لكن حكمة الفلاسفة القدماء لاتزال تعمل كضوء مرشد لحياة ذات معنى. هذه الافكار ليست فقط حول السعادة، انها تقدم برامج عملية للإبحار في الوجود بهدف ومرونة وانسجام.
أرسطو: الإزدهار من خلال الفضيلة
بالنسبة لارسطو، الحياة الجيدة هي حول انجاز الازدهار او "العيش بشكل ممتاز"(ارسطو، الاخلاق النيقوماخية). خلافا للمتعة العابرة، السعي الدائم للفضيلة Eudaimonia، يخلق سمات مثل الشجاعة والحكمة والعدالة من خلال سلوك محترم. لو نتصور هناك شخص موسيقي يريد ان يصقل مهنته: الإتقان لا يتحقق بين عشية وضحاها، وانما من خلال الجهد المستمر. ونفس الشيء، يجادل ارسطو ان الحياة الجيدة تتطلب تنمية نشطة لإمكاناتنا بدلا من ملاحقة سلبية للراحة. السعادة وفق هذه الرؤية هي نتاج ثانوي للتميّز.
الايبيقورية: فن المتعة البسيطة
يقدم أبيقور منظورا مختلفا: بدلا من الكفاح لأجل الامتياز، هو يدعونا للبحث عن الهدوء عبر تقليل الألم والرغبات غير الضرورية. (أبيقور، رسالة الى مينويسيوس). خلافا لإرتباط الملذات بالحياة اليومية الابيقورية، نجد ان فلسفة ابيقور في الحقيقة هي حول الاعتدال، الصداقة، والرضا.
هو يتصور قطة تستمتع بأشعة الشمس، راضية مطمئنة وتعيش في سلام. اعتقد أبيقور ان أحسن حياة هي ليس حول الافراط وانما حول ايجاد متعة في أبسط لحظات الحياة مثل – محادثة ذات معنى، طعام ساخن، ذهن هادئ.
الرواقية: إتقان الرؤى والتحكم بالعواطف
الحياة لا يمكن التنبؤ بها، لكن الرواقية تعلّمنا انه بينما نحن لا نستطيع التحكم بالاحداث الخارجية، نحن نستطيع السيطرة على ردود فعلنا تجاهها. ماركوس ارليوس وهو احد ابرز الرواقيين كتب:
" انت لديك سلطة على ذهنك – ليس على الاحداث الخارجية. ادركْ هذا سوف تجد القوة" (التأملات).
تصوْر نفسك كملاح سفينة تبحر وسط العواصف والأمواج، لكن تركيزك يبقى على التوجّه بثبات. الرواقية تشجعنا على الانفصال عن الاشياء التي وراء سيطرتنا، وإعادة صياغة المصاعب وترسيخ الهدوء الداخلي. انها ترياق قوي للإجهاد والقلق خاصة في عالمنا الفوضوي الحالي.
البوذية: إنهاء المعاناة من خلال الذهن
اذا كانت الرواقية تعلّمنا التحكم العاطفي، فان البوذية تذهب أبعد من ذلك، ترشدنا نحو السلام الداخلي من خلال اليقظة والانفصال. الحقائق النبيلة الأربع توضح ان المعاناة (dukkha) تبرز من الالتصاق والتوق، لكن عبر احتضان مسار من ثمان شعب، نستطيع زرع الحكمة والحياة الاخلاقية والتأمل.
عندما ننظر الى بحيرة هادئة، نراها تعكس الواقع بوضوح. وبنفس الطريقة، الذهن المتحرر من الالتصاق يرى الحياة بوضوح. البوذية تذكّرنا ان السعادة ليست حول الانجازات الخارجية وانما حول إتقان عالمنا الداخلي.
الكونفوشيوسية: صقل الشخصية والانسجام الاجتماعي
اذا كان ارسطو والرواقيون يركزون على الفضيلة الفردية، فان الكونفوشيوسية تنقل الاهتمام نحو العلاقات والمسؤولية الاجتماعية. كونفوشيوس أكّد على ان الحياة الجيدة ليست فقط حول التحسن الذاتي وانما حول خلق تناغم ضمن العائلة، وفي الجماعات والمجتمعات (تعاليم كونفوشيوس).
لو تصورنا أداء رقصة مصممة بشكل جميل – كل خطوة فيها تُعتبر هامة، لكنها تعمل في تزامن مع الكل. الكونفوشيوسية تعلّمنا ان الشخصية الأخلاقية تتطور من خلال الطقوس والاحترام والعيش الاخلاقي. السعادة الحقيقية ليست فقط فردية وانما بالمشاركة.
اوبونتو Ubuntu: الانسانية نحو الآخر "انا بسبب نحن"
من الفلسفة الافريقية، نجد اوبونتو، وهو مفهوم متجذر في الايمان بان رفاهيتنا مرتبطة برفاهية الاخرين. وكما يقول زولو zulu: "الشخص هو شخص من خلال الاشخاص الاخرين" (راموس، الفلسفة الافريقية من خلال اوبونتو).
لو تصورنا تجمعاً حول موقد نار، حيث يلتقي الجميع، الدفء مشترك، القصص جماعية، والروابط تشكل هوية كل فرد. فلسفة اوبونتو تذكّرنا ان الانجاز ليس فقط حول النمو الذاتي وانما حول الارتقاء باولئك الذين حولنا. نلسون مانديلا و ديزموند توتو كلاهما تبنّيا هذه الفلسفة كمرشد للمصالحة والعدالة والارتباط الانساني.
جمع كل ما تقدّم
كل واحدة من الفلسفات أعلاه تقدم رؤية مختلفة حول معنى ان تعيش جيدا:
ارسطو يجادل في اننا نصبح أحسن الذوات من خلال الفضيلة.
ابيقور يذكرنا ان نستمتع بالمتع البسيطة ونقلل المعاناة.
الرواقية تدربنا على ضبط العواطف وردود الافعال.
البوذية تعلمنا انفصالا واعيا لنحرر انفسنا من المعاناة
الكونفوشيوسية تسلط الضوء على أهمية العلاقات والاخلاق.
يوبونتو تبيّن ان الإنجاز الحقيقي يأتي من الترابط والانسانية المشتركة.
اذاً ما هي أفضل فلسفة للحياة؟ الجواب هو ليس في فلسفة واحدة وانما في التوازن. أحسن اتجاه هو مزج الحكمة من مختلف الافكار، صياغة فلسفة فردية تتماشى مع القيم والتجارب والطموحات، الحياة المُعاشة جيدا لا تُطبق عالميا – انها خاصة بالفرد وحده.
***
حاتم حميد محسن
.....................
الهوامش
(1) وهو من أشهر اقوال سقراط التي وردت اثناء المحاكمة، وقد تعددت الترجمات للعبارة، منهم من ترجمها الى الحياة غير المفحوصة او الحياة بدون تجربة. ومن الواضح ان سقراط يقصد ان الحياة غير المختبرة لا تستحق العيش، الحياة يجب ان تخضع للبحث والتجربة عن طريق التنوير الذاتي، لأن لا أحد يستطيع كشف الحقائق عن ذات الفرد الاّ هو. كل شخص ومنذ الولادة وجد نفسه ضمن معتقدات وافكار وآراء، وهو لايزال يؤمن بها دون نقاش او جدال. فعندما ينضج الفرد ويستمر في آرائه ومعتقداته القديمة دون تمحيص فهو سيبقى كالطفل حين تلقّى افكاره من عائلته او بيئته دون تغيير، لابد له اذا اراد لحياته ان تكون ذات معنى، ان يفحص ما تعلّمه ويخضعه للبحث والتأمل، وفي هذه الحاله ستكون حياته هادفة وتستحق العيش.

 

تحليل ظاهرة الاغتراب في ظل هيمنة الاقتصاد الرأسمالي

سنكون قد ارتكبنا خطأ فادحا إذا أفدنا بأن معضلة الإرادة الحرة والحتمية قد ولى عليها الزمن أو أصبحت بالية. في الواقع، فهي تتجدد مع كل إصلاح اجتماعي وكل طفرة تطور في وضعنا البشري. بعض القضايا في تاريخ الفلسفة تبدو وكأنها لا تُحل بشكل نهائي، بل إنها تتطور، ويعاد اختراع السؤال تحت أشكال جديدة.
وهذا هو الحال بالضبط مع هذه المسألة. القوى المعاصرة التي تحكم عالمنا أصبحت تتخفى خلف الكواليس، هذه القوى كاليدين الغير المرئية التي تحرك الدمى فوق الركح، تسيّر النظام بشكل مستمر، هدفها الوحيد هو استمراريتها الذاتية.
هذا النظام الذي يعزز الاغتراب ويبعد الفرد من فهم صيرورة الأمور بشفافية واضحة في العوض من خلق جسر حيث يمكن أن توجد علاقة صحية بين الفرد والمجتمع والسلطة، على العكس، فالرأسمالية خلقت هوة عميقة، شرخًا بيننا وبين صناعة العالم الحديث. ويبدو كذلك أن التصرفات النابعة من الرغبات البشرية مشروطة بهذه النمطية الجديدة التي تخفي تجليات الحقائق وتستبدلها بحقائق مبتدعة وسطحية لا علاقة لها بالواقع، فتصبح واقعا جديدا يتم من خلاله خلق وهم الإرادة الحرة، ولكن في الواقع ما يفعلونه إعادة تعريف الإرادة الحرة وتحديدها حسب قيود خاصة. ليس هذا هو معنى الحتمية التقليدية كما كانت الفلسفة تعتبرها، بل هذا نظام جديد من الشبكات والتركيبات البنيوية المعقدة، وغالبًا ما يشارك الفرد بنشاط ما في بناء تلك التركيبات في هذا التحديد بطريقة اوتوماتيكية ومن غير وعي بما سيتمر عليه ذلك النشاط، فيصبح الفرد مثل شريك غير طوعي في اغترابه الخاص. وهكذا، تظل الرؤية السبينوزية ملائمة في هذا النحو: نحن نتصرف تحت تأثير أسباب غالبًا ما نكون غير واعين بها. يميز سبينوزا بوضوح بين نوعين من الأسباب: الأسباب الخارجية، غير المرئية وغالبًا ما تكون مخفية بواسطة النظام (مثل تلك التي في الرأسمالية)، والأسباب الداخلية، التي تنبع من طبيعتنا ومن تجربتنا الشخصية.
لكن هذا التحليل يكتسي طابعا متضاربا بين الرغبة الحرة والرغبة في البقاء عند سبينوزا ورؤية العالم الرأسمالي للإنسان كوسيلة مستعملة وليس شيء حر في ذاته، في هذا العالم الجديد حيث تفاقمت التقنيات الحديثة وسهولة الاستهلاك أصبح من الصعب تحديد الحر من الخاضع بشكل مطلق لأنه ما يبدو كحرية في العمل فهو نموذج يتلاعب برغبات الفرد ولا يسعى إلا لاستغلالها من أجل زيادة الاستهلاك والأرباح وبالتالي تعزيز قبضة النظام الذي كما أشرت في السابق يقاوم من أجل البقاء
تعمل هذه الطريقة في السيطرة على شكل "تغييب لمفاهيم الواقع"، كما وصفها الفيلسوف الفرنسي جان بودريار، وهو واقع يتم فيه تحديد الرغبات والتفاعلات وحتى المكانة الاجتماعية بواسطة ثقافة الاستهلاك
على سبيل المثال، إذا دخل شخص إلى مقهى ما ليحتسي الشاي، ووجد شخصًا لا يحبه فانزعج عند رؤيته. هنا من منظور سبينوزا، ردة فعله ليست اختيارا حرا. بل على العكس، هي متأثرة بعدد كبير من العوامل: تاريخه الشخصي مع ذلك الشخص، مشاعره في تلك اللحظة (التعب، الضغط، الإحباط)، وعوامل خارجية مثل جو المقهى وسلوكيات الشخص الآخر. وفقًا لسبينوزا، لا يتصرف هذا الشخص بحرية؛ بل يتفاعل استنادًا إلى الأسباب التي قادته إلى هذه اللحظة من وجوده. إذا كان بإمكانه فهم الأسباب التي تحكم مشاعره بشكل أفضل في تلك اللحظة، لكان بإمكانه اختيار ردا مختلفا. لكن في الوضع الحالي، سلوكه متأثر إلى حد كبير بعوامل لا يتحكم فيها
ومع ذلك، في سياق اجتماعي أوسع، لا تتأثر هذه الاستجابة فقط بالعوامل الشخصية، بل أيضًا بالضغوط الاجتماعية والثقافية. لنتخيل أيضا أن هذا الشخص، في سياق الاغتراب الرأسمالي، يشعر أنه مدفوع للتصرف بطريقة تتوافق مع التوقعات الاجتماعية: إظهار أنه "قوي"، "مسيطر"، أو أن له الحق في التعبير عن رأيه. تعزز ثقافة الاستهلاك صورة للذات قائمة على الاستجابة، والإصرار، والهيمنة، وهي قيم معززة من قبل وسائل الإعلام والثقافة الشعبية. هذه الاستجابة ليست فقط رد فعل شخصي، بل هي أيضًا منتج للبيئة التجارية التي تحث كل فرد على تبني سلوك يتوافق مع توقعات هذا النظام. بل وأكثر من ذلك، فإن مكان كالمقهى، الذي يُنظر إليه غالبًا كمساحة للاسترخاء، هو أيضًا منتوج لهذا النظام. تم تصميم المقاهي لتوفير تجربة ممتعة وفقًا لقواعد السوق. إذا دخل هذا الشخص إلى المقهى بحثًا عن الراحة، فإن أي اضطراب في هذه التجربة مثل وجود شخص لا يحبه يمكن أن يثير رد فعل عاطفي قوي، يتم تضخيمه من خلال ثقافة الاستهلاك التي تؤكد على فكرة أنه يجب الحصول على تجربة مثالية مقابل المال المدفوع لذا النادل.
ما كان من المفترض أن يكون لحظة استرخاء يصبح إذًا ساحة للتلاعب المشاعر والرغبات. يظهر هذا المثال أن أفعالنا وردود أفعالنا ليست فقط محددة بسبب أسبابنا الداخلية، بل هي أيضًا متأثرة بمجموعة معقدة من القوى الاجتماعية والاقتصادية التي تشكل توقعاتنا ورغباتنا وحتى إدراكنا للواقع. ليست المسألة مجرد إرادة فردية، بل هي أيضًا عملية تلاعب جماعي، منسقة من قبل نظام اقتصادي يعيد تعريف احتياجاتنا ورغباتنا. أنهي هذا الفصل باستخدام هذا التأمل حول الاغتراب، لأنه هنا تكمن تعقيدات الحتمية في المجتمع المعاصر وإعادة تقييم الوعي الجديد: نحن محددون بشكل مزدوج، ليس فقط من قبل الطبيعة كما يقترح سبينوزا، بل أيضًا من قبل نظام رأسمالي يشكل رغباتنا، وعواطفنا، وسلوكياتنا. هذه الحتمية المزدوجة لا يمكن فصلها عن المجتمع ولا يمكن للفرد الذي يختار التحرر منها إلا أن يتصور نفسه في طريق الجنون في نظر العموم.
لكن هذا التحرر، رغم أنه ممكن، غالبًا ما يتم تهميشه وتجريمه، لأن النظام ذاته يعيد تعريف المنظومة الفكرية بشكل عميق بتحديد وتخصيص مجالات وسياسة انتقاء النخبة حسب معايير خاصة وغير واضحة للعامة، مما يفرض حدودا خاصة لكل اللاوعي الجماعي. كما يذكر سلافوي جيجيك بشكل دقيق: من السهل تصور نهاية العالم، لكن من الصعب تصور نهاية الرأسمالية، لأن هذا النظام يسيطر حتى على الفئات الفكرية. إنه يشكل رغباتنا، وعواطفنا، ورؤيتنا للعالم، بطريقة عميقة لدرجة أن اختفائه نفسه يصبح شبه مستحيل
وهكذا، ما يبدو وكأنه حرية في الفعل ليس إلا آلية تحكم، والحرية الحقيقية تكمن في القدرة على التحرر الفردي من هذا النظام بخيارات شخصية منفردة حتى في اختيار ما نحسه وحتى في تساؤلاتنا اليومية. الحياة، في جوهرها، تنتمي إلى الفرد، لا إلى أي نظام. الحياة، في قوتها الأصلية، لا يمكن تقليصها إلى أي بنية كانت، مهما كانت قوتها. إنها تتجلى في احترام الأخلاق الوضعية واتخاذ القرارات الصادرة من المنطق والغير الخاضعة لمحاكم السلطة الاجتماعية، حكمة تمكننا من الرؤية ما وراء الحدود المفروضة. لأن العالم ينتمي إلى الطبيعة، ويجب أن نتذكر أنه مكون من خشب، وحديد، ماء وبحر وهواء في تحولات مستمرة وفي حركية غير متناهية وفي ولادة وموت واندثار والأهم من ذلك، الحياة الفردية الحرة ثورة وولادة متجددة. والعالم الجديد إذا أصبح بلاستيكيًا، فذلك قد يكون على حساب وعينا، وهو أمر سيكون مأساويًا
***
حبيب مرگة من المغرب

تدور هذه الثنائية، أقصد ثنائية اللغة المثالية والعادية، حول إمكان تقديم وصف دقيق وملائم للأشياء عن طريق اللغة، أي استعمال أكثر لغة ملائمة لطبيعة المشكل. وكان وجه الحاجة في البحث فيها يعود إلى الوعي، بما في اللغة العادية من غموض وقصور ونقص، فهنالك كلمات ليس لها معنى محدد، وكلمات أخرى معانيها متداخلة، كما أن اللغة العادية بمفرداتها المألوفة قاصرة عما نريد التعبير به... واللغة المثالية هي لغة رمزية، تتجنب كل عيوب اللغة العادية بحيث يكون كل اسم دالاً على مسمى معين أو يكون كل كلمة معنى ومدلول.
وتنطلق هذه اللغة من أن معظم الموارد التعبيرية في اللغات العادية موسومة بأنها غير أهلٍ بالثقة، وذلك بسبب الإبهام الذي تضعه في الخطاب، والتي على اللغة من أجل العلم أن تتخطاها، وثمة مصدران للإبهام: الغنى المعجمي للغات الطبيعية، لكن هذا الغنى مصدر عدم دقة، بسبب تعدد استخدامات العبارة. تضاف إلى هذه الشائبة شائبة أخرى، مرتبطة بالتسامح في المضمر التي تظهرها اللغات الطبيعية، ومن آثار ذلك أن يترك في الظل، وحتى أن تخفي المحركات الحجاجية أو البرهانية التي تحكم تسلسل القضايا، ما يطعن في صدقية النتائج المحققة... ستتميز اللغة المثالية التي ستستخدم في التعبير عن العلم الدقيق بدقة العبارات التي ستكون موضوع تحديد بين واستخدام واضح تحدده بدوره قاعدة بينة، وعليها أيضاً أن تجعل بينة العمليات التي تتشكل بموجبها القضايا وتتولد الواحدة من الأخرى.
فضلاً عن ذلك يقول رسل: ان اللغة الطبيعية غير مهيأة للتعبير عن العديد من المسائل الفلسفية، ومن ثم فإن كثيراً من الفلاسفة الذين اعتمدوا عليها قد ضلوا سواء السبيل. واللغة المثالية عند رسل، تملك ثلاث خصائص رئيسة تميزها عن اللغة العادية:
-كل كلمة في القضية تتناسب مع مكّون واحد في القضية المقابلة، باستثناء العبارات المنطقية (و،أو،إذا... مع إن)، حيث الوظيفة مختلفة.
- هكذا لغة هي تحليلية بالكامل، تظهر بنظرة واحدة البنية المنطقية للواقعة مؤكدة أو منفية.
- إنها لغة نحوية محضة، مثل تلك التي سمحت مبادئ الرياضيات بإنشائها، ما يجعلها جديرة بأن لا تعد لغة، بسبب غياب المفردات، ولكن يكفي، في الواقع، إضافة مفردات إلى هكذا لغة للحصول على لغة منطقية مثالية.
وبالتالي فإن الألفاظ المستخدمة عادة في اللغات الطبيعية غامضة وملتبسة، من هنا فعلى الباحث الفلسفي أن يحدد معانيه، وأن يحرص باستمرار على فهم المعاني الدقيقة التي تستخدم فيها الألفاظ حين ترد على قلم هذا الفيلسوف أو ذاك. ومن ثم فإن اللغة العادية قضايا مركبة، ولذلك يجب تحليلها إلى مكوناتها الذرية كي تتجنب أي غموض أو نقص.
ويرى رسل، لو نظرنا إلى الألفاظ لوجدنا أنها تؤدي وظيفتين، فهي من جهة تقرر وقائع، وهي من جهة أخرى تستثير انفعالات. الفيلسوف في أمس الحاجة إلى الاعتراف بوجود هاتين الوظيفتين، حتى لا يقوم بالخلط بينهما، وقد أضاع الفلاسفة الكثير من وقتهم في الاشتغال بالمسائل الأخلاقية مثلاً، نظراً لتوهمهم بأن ثمة حقائق تنصب عليها العبارات الأخلاقية، في حين أن هذه العبارات لا تزيد عن كونها تعبيرات عن مشاعر ذاتية، أو مجرد توجيهات تقدم للآخرين حتى يستشعروا نحو بعض المسائل أحاسيس أخلاقية مماثلة.
وقد أخذ فتغنشتاين من اطروحات رسل نفسها، وتجلى ذلك في مفهومين شبه متعارضين للممارسة الفلسفية، ففي الواقع، إن تحليل اللغة الذي روج له رسل يسمح بإيضاح اشتغالها، فإن فكرة (ميتافيزيقا) خاضعة للإصلاح بقيت هي الأفق، موكلة للفلسفة مهمتها في آن، تلك المتميزة من العلوم، بيد أن تحليل اللغة والفهم الواضح لاشتغالها قادا فتغنشتاين إلى حل الميتافيزيقا، فبحسبه، وحدها علوم الطبيعة تحمل خطاباً معقولاً عن العلم، وكل محاولة أخرى، ومن ضمنها الميتافيزيقا، تخرق حدود اللغة، وتقع بالضرورة في اللامعنى.
أما المفهوم الجديد للغة، فيتمثل بالتالي:
- الاعتراف بالبعد الفعلاني (من فِعل) للدلالة، فإذا كان فهم ملفوظ ما، هو التحكم ببعض العاب اللغة، فإن التكلم، وقبل كل شيء، هو سلوك ما، مرتبط بجملة من الممارسات المنظمة (شكل من الحياة).
- إيضاح أهمية السياقات ومواقف استخدام اللغة في تحديد المعنى، في حين أن محاولات إنشاء لغة مثالية اهتمت دائماً بنزع سياق الدلالة بمحاولة ايجاد، ضمن الاقتصاد الداخلي للنظام، الشروط الكافية للدلالة. المقاربة الجديدة لا تدرك المعنى إلا في تعلقه بالسياق، باعتباره مكوناً.
***
د. حيدر عبد السادة جودة

الموسوعة البريطانية
ترجمة: د. زهير الخويلدي
***

تمهيد: لعل مصطلح "فلسفة جذرية" يُطلق على مجموعة من المصلحين في أوائل القرن التاسع عشر الذين استندوا في تعاملهم مع الحكومة والمجتمع إلى حد كبير على النظريات النفعية لجيريمي بينثام، وإن كانوا قد تأثروا أيضًا بمالثوس وريكاردو وهارتلي. وكان من أبرز المؤيدين جيمس وجون ستيوارت ميل وجورج جروت وجون رويبوك، بدعم من مورنينج كرونيكل وويستمنستر ريفيو ولندن ريفيو. ولم تنجح جهودهم في بناء حزب راديكالي في البرلمان بعد عام 1832: "لم يفعلوا سوى القليل لتعزيز أي آراء"، كما كتب ج. س. ميل، "كان لديهم القليل من المبادرة والنشاط". لكن التأثير العام للأفكار النفعية تغلغل في السياسة، وخاصة في الفترة من 1820 إلى 1850، أنتج "عصر الإصلاح". في هذه المقدمة الموجزة، نوضح الأهداف والأساليب التحررية المشتركة للعديد من الفلسفات الراديكالية، من الماركسية والنسوية إلى نظرية العرق والمثلية النقدية. تدرس الفلسفة الراديكالية العلاقات بين النظرية والممارسة، والمعرفة والقوة، فضلاً عن وظيفة القانون في خلق أشكال خارجة عن القانون من الهيمنة. من خلال المشاركة النقدية في تاريخ الفلسفة، نعيد بناء التقاليد المضادة المهمة للأشكال التاريخية والجدلية والتفكرية للنقد ذات الصلة بالنضالات الاجتماعية المعاصرة. والنتيجة هي دليل مبتكر ومنهجي للنظرية الراديكالية والمقاومة النقدية. فمتى نشأت الفلسفة الجذرية؟ وماهي خصائصها ومهامها؟ وهل يمكن تحيين للفلسفة الجذرية؟
الترجمة
"كان بينثام من أتباع الفلسفة السياسية النفعية التي نشأت عن الفقيه القانوني الإنجليزي جيريمي بينثام في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبلغت ذروتها في عقيدة الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل في القرن التاسع عشر. كان بينثام يعتقد أن "الطبيعة وضعت البشرية تحت حكم سيدين، الألم والمتعة" وأن الأفعال يجب أن يحكم عليها أخلاقياً بأنها صحيحة أو خاطئة وفقاً لما إذا كانت تميل إلى تعظيم المتعة وتقليل الألم بين المتأثرين بها أم لا. وقد استكشف بينثام آثار هذا المبدأ على المؤسسات القانونية وغيرها من المؤسسات الاجتماعية. وقد طور ميل نظرية بينثام وصقلها، حيث رأى أن الأفعال صحيحة بما يتناسب مع ميلها إلى تعزيز أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس. ومن بين الفلاسفة المتطرفين الآخرين الاقتصاديين جيمس ميل وديفيد ريكاردو، والفقيه القانوني جون أوستن، والمؤرخ جورج جروت. وقد فضلوا الليبرالية الاقتصادية والسياسية، وعلى الرغم من كونهم من المنظرين في المقام الأول، فقد سعوا إلى تحقيق تأثير عملي كبير وحققوا ذلك. التنوير يُعرف أيضًا باسم: عصر العقل، أو التنوير، أو عصر النور. الشخصيات الرئيسية: فرانسيس بيكون، إيمانويل كانط، جون لوك، فريدريش نيكولاي، جان جاك روسو. أهم الأسئلة هي متى وأين حدث التنوير؟ وما الذي أدى إلى التنوير؟ من هم بعض الشخصيات الرئيسية في عصر التنوير؟

التنوير، حركة فكرية أوروبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث تم دمج الأفكار المتعلقة بالله والعقل والطبيعة والإنسانية في نظرة عالمية اكتسبت موافقة واسعة النطاق في الغرب وأثارت تطورات ثورية في الفن والفلسفة والسياسة. كان استخدام العقل والاحتفاء به، القوة التي يفهم بها البشر الكون ويحسنون حالتهم، من العناصر الأساسية لفكر التنوير. اعتُبر أن أهداف الإنسانية العقلانية هي المعرفة والحرية والسعادة. فيما يلي معالجة موجزة لعصر التنوير. للحصول على معالجة كاملة، انظر أوروبا، تاريخ: عصر التنوير.

عصر العقل: الفهم البشري للكون

لقد كان فلاسفة اليونان القديمة أول من استكشفوا قوى العقل واستخداماته. فقد تبنى الرومان وحافظوا على قدر كبير من الثقافة اليونانية، بما في ذلك على وجه الخصوص أفكار النظام الطبيعي العقلاني والقانون الطبيعي. ولكن وسط الاضطرابات التي شهدتها الإمبراطورية، نشأ اهتمام جديد بالخلاص الشخصي، ومهد الطريق لانتصار الدين المسيحي. ووجد المفكرون المسيحيون تدريجياً استخدامات لتراثهم اليوناني الروماني. وقد أدى نظام الفكر المعروف باسم المدرسة المدرسية، والذي بلغ ذروته في أعمال القديس توما الأكويني، إلى إحياء العقل كأداة للفهم. وفي العرض الذي قدمه توما، قدم أرسطو الطريقة للحصول على تلك الحقيقة التي يمكن التحقق منها بالعقل وحده؛ ولأن الوحي المسيحي يحتوي على حقيقة أعلى، فقد وضع توما القانون الطبيعي الواضح للعقل في مرتبة أدنى من القانون الأبدي والقانون الإلهي، ولكن ليس في صراع معهما. وقد سقط الصرح الفكري والسياسي للمسيحية، الذي بدا منيعاً في العصور الوسطى، بدوره تحت وطأة الهجمات التي شنتها عليه الإنسانية، وعصر النهضة، والإصلاح البروتستانتي. ولقد أفرزت الإنسانية العلم التجريبي الذي ابتكره فرانسيس بيكون، ونيكولاس كوبرنيكوس، وجاليليو، والبحوث الرياضية التي أجراها رينيه ديكارت، وجوتفريد فيلهلم لايبنتز، وإسحاق نيوتن. كما أعادت النهضة اكتشاف قدر كبير من الثقافة الكلاسيكية، وأحيت فكرة البشر باعتبارهم كائنات مبدعة، وتحدت حركة الإصلاح الديني، على نحو أكثر مباشرة، ولكن على نحو لا يقل فعالية في الأمد البعيد، السلطة المتجانسة للكنيسة الكاثوليكية الرومانية. وبالنسبة لمارتن لوثر، كما بالنسبة لبيكون أو ديكارت، فإن الطريق إلى الحقيقة يكمن في تطبيق العقل البشري. ولم تكن النهضة والإصلاح الديني حركات من أجل الحرية الفكرية بقدر ما كانت حركات لتغيير السلطة، ولكن لأنهما استندتا إلى سلطات مختلفة، فقد ساهمتا في انهيار مجتمع الفكر. وكان من المقرر أن تخضع السلطة التي استلمتها، سواء سلطة بطليموس في العلوم أو سلطة الكنيسة في الأمور الروحية، لفحص العقول غير المقيدة. إن التطبيق الناجح للعقل في أي مسألة يتوقف على تطبيقه الصحيح ـ على تطوير منهجية للتفكير تعمل كضمانة لصلاحيته. وقد تحققت هذه المنهجية على نحو مذهل في العلوم والرياضيات، حيث مكنت منطق الاستقراء والاستنتاج من خلق علم كوني جديد شامل. ولم يكن التأثير التكويني لعصر التنوير في المحتوى بقدر ما كان في المنهج. فقد أكد العباقرة العظماء في القرن السابع عشر على مفهوم العالم المنتظم القابل للحساب، ولكن الأهم من ذلك أنهم أثبتوا على ما يبدو أن التفكير الرياضي الدقيق يوفر الوسائل، بصرف النظر عن الوحي الإلهي، لإثبات الحقيقة. وكان نجاح نيوتن، على وجه الخصوص، في التقاط القوانين التي تحكم حركة الكواكب في بضع معادلات رياضية، بمثابة حافز كبير للإيمان المتزايد بالقدرة البشرية على اكتساب المعرفة. وفي الوقت نفسه، كان لفكرة الكون باعتباره آلية تحكمها بضعة قوانين بسيطة ــ ويمكن اكتشافها ــ تأثير تخريبي على مفاهيم الإله الشخصي والخلاص الفردي التي كانت تشكل جوهر المسيحية.

العقل والدين

لا مفر من تطبيق منهج العقل على الدين نفسه. وكان نتاج البحث عن دين طبيعي ـ عقلاني ـ هو الديسم، الذي على الرغم من أنه لم يكن قط طائفة أو حركة منظمة، فقد تعارض مع المسيحية لمدة قرنين من الزمان، وخاصة في إنجلترا وفرنسا. وبالنسبة للديسم، فإن القليل جدا من الحقائق الدينية تكفي، وكانت حقائق يشعر بأنها واضحة لكل الكائنات العاقلة: وجود إله واحد، والذي غالبا ما يُنظر إليه على أنه مهندس أو ميكانيكي، ووجود نظام من المكافآت والعقوبات يديره ذلك الإله، وإلزام البشر بالفضيلة والتقوى. وراء الدين الطبيعي للديسم تكمن المنتجات الأكثر تطرفا لتطبيق العقل على الدين: الريبية، والإلحاد، والمادية.

نظريات التنوير في علم النفس والأخلاق والتنظيم الاجتماعي

أنتج التنوير أول نظريات علمانية حديثة في علم النفس والأخلاق. لقد تصور جون لوك العقل البشري على أنه عند الولادة صفحة بيضاء، أي لوحة بيضاء تكتب عليها التجربة بحرية وجرأة، فتخلق الشخصية الفردية وفقاً للتجربة الفردية للعالم. أما الصفات الفطرية المفترضة، مثل الخير أو الخطيئة الأصلية، فلا وجود لها على أرض الواقع. وفي إطار أكثر قتامة، صور توماس هوبز البشر على أنهم يتحركون فقط باعتبارات تتعلق بمتعتهم وألمهم. وقد أدت فكرة أن البشر ليسوا طيبين ولا أشراراً، بل هم مهتمون في المقام الأول بالبقاء وتعظيم متعتهم، إلى ظهور نظريات سياسية جذرية. فبينما كانت الدولة في السابق تُعَد تقريباً أرضياً للنظام الأبدي، حيث كانت مدينة الإنسان نموذجاً لمدينة الله، فقد أصبحت الآن تُعَد ترتيباً متبادل المنفعة بين البشر يهدف إلى حماية الحقوق الطبيعية والمصالح الذاتية لكل منهم. ولكن فكرة المجتمع باعتباره عقداً اجتماعياً كانت تتناقض بشكل حاد مع حقائق المجتمعات الفعلية. وعلى هذا فقد أصبح عصر التنوير نقدياً وإصلاحياً وثورياً في نهاية المطاف. فقد ساهم لوك وجيريمي بينثام في إنجلترا، ومونتسكيو وفولتير وجان جاك روسو ودينيس ديدرو وكوندورسيه في فرنسا، وتوماس باين وتوماس جيفرسون في أميركا الاستعمارية، في نقد متطور للدولة الاستبدادية التعسفية، وفي رسم الخطوط العريضة لشكل أعلى من أشكال التنظيم الاجتماعي، يقوم على الحقوق الطبيعية ويعمل كديمقراطية سياسية. ووجدت مثل هذه الأفكار القوية تعبيراً لها في الإصلاح في إنجلترا وفي الثورة في فرنسا وأميركا. ولقد انتهى عصر التنوير باعتباره ضحية لتجاوزاته. وكلما ازدادت ديانة الديستية ندرة، كلما قل ما تقدمه لأولئك الذين يسعون إلى العزاء أو الخلاص. ولقد استفز الاحتفال بالعقل المجرد الأرواح المعارضة إلى البدء في استكشاف عالم الإحساس والعاطفة في الحركة الثقافية المعروفة بالرومانسية. لقد كان حكم الإرهاب الذي أعقب الثورة الفرنسية بمثابة اختبار قاسٍ للاعتقاد بأن المجتمع القائم على المساواة قادر على حكم نفسه بنفسه. ولكن التفاؤل الشديد الذي ميز الكثير من فكر التنوير ظل باقياً طيلة القرنين التاليين باعتباره أحد أكثر تراث الحركة ديمومة: الاعتقاد بأن التاريخ البشري سجل للتقدم العام الذي سيستمر في المستقبل. وقد تم التشكيك في الإيمان بالتقدم البشري والالتزام به، فضلاً عن قيم التنوير الأخرى، بداية من أواخر القرن العشرين داخل بعض تيارات الفلسفة الأوروبية، وخاصة ما بعد الحداثة."
الموسوعة البريطانية
***
كاتب فلسفي

 

تكاد معظم الاساطير التي وصلتنا عن بداية خلق البشر انها تمت وفق مخطط ومن صلصال مجبول بدم الالهة ومن روحها اعطي النفس-الحياة-، ان التسليم بتنوع الحياة يقتضي ان يكون هناك تطور وخلق وإعادة خلق وعلاقات جديدة وان الفوارق تكون في القدرة العقلية، والتأويل سجل مكتوب منذ الازل وعلينا ان نعيد الوحدة بين اللغة والمجتمع ونحن نعلم ان أكثر الأشياء مراوغة هي اللغة. تتشكل القيم عند المثقف التي تمثل مجموعة من المبادئ التي يستند إليها في تكوين رؤيته للعالم والتي من خلالها يؤطر مفاهيمه الفكرية، ترتكز على تراثه الثقافي والذي يعمل على فهمه وتطويره لصنع هوية ثقافية تمثل جزءًا أساسيًا من قيمة الروحية، القيم الأخرى مثل العدالة، الحرية، والمساواة تلعب دورًا محوريًا في توجيه تفكير المثقف وأبداعه، وتعزز من التزامه بالمبادئ الإنسانية. من الخصائص القيمية للمثقف انه يمتلك القدرة على نقد الأفكار السائدة والممارسات الاجتماعية المتخلفة هذا النقد هو جزء من القيمة العقلية التي تساعده في تطوير أفكاره والانفتاح على الثقافات والأفكار الأخرى وتعزز من قدرة المثقف على التفاعل مع العالم بشكل إيجابي وفعال .السعي المستمر نحو المعرفة والتعلم هو قيمة عقلية مهمة، المثقف يسعى لتوسيع آفاقه الفكرية ويشعر بمسؤولية تجاه مجتمعه، يعمل على الإسهام في تطويره وتحسين ظروفه ،من خلال القيم الروحية وتشمل القدرة على الإبداع وتقديم أفكار جديدة تسهم في حل المشكلات المعاصرة ،يحاول المثقف للحفاظ على توازن داخلي بين القيم الروحية والمتطلبات العقلية، مما يعزز من استقراره النفسي كل هذه القيم تشكل إطارًا يساعد المثقف على التفاعل مع العالم بعمق ووعي، مما يسهم في تطوره الشخصي والمجتمعي.
المفهوم
القيم الروحية تشير إلى المبادئ والأخلاقيات التي تتعلق بالروح والإنسانية، والتي تشكل عماد التفكير والمشاعر لدى المثقف وهي القدرة على قبول الآخر واحترام الاختلافات وتعزيز العلاقات الإنسانية من خلال الحب والدعم المتبادل والسعي لتحقيق العدالة في المجتمع والدفاع عن حقوق الأفراد. القيم الروحية تشمل جوانب من الإيمان الديني أو الفلسفي الذي يعطي معنى للحياة. تساعد القيم الروحية المثقف على التوجه نحو الأهداف النبيلة، وتعزز من شعوره بالانتماء والالتزام تجاه المجتمع. القيم العقلية تشير إلى المبادئ التي تنظم التفكير والتحليل وتساعد المثقف على اتخاذ القرارات بطريقة موضوعية وعقلانية والقدرة على تحليل الأفكار والنقد بطريقة إيجابية، غرضها تطوير استخدام التفكير المنطقي والاستدلال لتحليل المشكلات والسعي المستمر لتوسيع المعرفة والفهم والقدرة على التفكير خارج الصندوق وتقديم أفكار جديدة تساعد المثقف على التعامل مع التحديات بفعالية، وتعزز من قدرته على الإسهام في الحوار الفكري والنقاشات.
العلاقة بين القيم الروحية والعقلية
القيم الروحية والعقلية تتكامل لتشكل شخصية المثقف. فبينما تمنح القيم الروحية معنى وهدفًا، تساعد القيم العقلية على تحقيق هذا الهدف بطريقة منهجية، يسعى المثقف إلى تحقيق توازن بين كلا النوعين من القيم، مما يمكنه من التصرف بحكمة في مواقف الحياة المختلفة، تشكل القيم الروحية والعقلية الأساس الذي يستند إليه المثقف في فكره وسلوكه، مما يعكس تأثيرهما العميق على المجتمع والثقافة.
التناقض بين القيم العقلية والروحية
ان قبول آراء ومعتقدات الآخرين، حتى لو كانت تتعارض مع القيم الشخصية يتطلب القدرة على تحليل وانتقاد تلك الآراء بشكل موضوعي، مما يؤدي إلى صراع داخلي بين الرغبة في التسامح والالتزام بالمبادئ. الثقة في معتقدات معينة دون الحاجة إلى دليل مادي لا يشجع على التفكير النقدي، مما يؤدي إلى صراع مع القيم الروحية المرتبطة بالإيمان وقد تدفع الفرد إلى اتخاذ قرارات تتناقض مع مبادئ العدالة يتطلب التفكير خارج الصندوق وتقديم أفكار فرض الالتزام بالنماذج والقيم الجديدة، مما يعوق الابتكار الارتباط بالقيم الروحية التي تدعو إلى الحفاظ على التقاليد والثوابت. يتطلب التفكير العقلاني في كيفية تحسين الأوضاع، يتعارض مع الرغبة في الحفاظ على الوضع الراهن، التناقض بين القيم الروحية والعقلية يؤدي إلى صراعات داخلية، ولكنه أيضًا يمثل فرصة للنمو والتطور إذا فهم على انه تناقض ديالكتيك مثمر. من خلال التعامل مع هذه التناقضات، يمكن للمثقف أن يطور تفكيره ويعزز من فهمه لنفسه وللعالم من حوله.
دور الثقافة في تشكيل المتناقضات
ان دور الثقافة في تشكيل القيم الروحية والعقلية المتناقضة يعد محوريًا، حيث تؤثر الثقافة على كيفية فهم الأفراد لهذه القيم وتطبيقها في حياتهم. تحدد الثقافة القيم والمعايير الاجتماعية التي يتبناها الأفراد، مما يؤثر على كيفية تفسيرهم للقيم الروحية والعقلية ،يتم تشكيل القيم من خلال التنشئة الاجتماعية، حيث يتعلم الأفراد من الأسرة، المدرسة، والمجتمع ما هو مقبول وما هو غير مقبول ،الثقافات تحمل تاريخًا طويلًا من التقاليد التي يمكن أن تتعارض مع قيم جديدة أو عقلانية، مما يؤدي إلى تأصيل التناقضات مع مرور الوقت، تتغير القيم نتيجة للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، مما يخلق توترًا بين القيم التقليدية والحديثة ،التفاعل مع ثقافات أخرى يمكن أن يؤدي إلى تبني قيم جديدة تتناقض مع القيم المحلية ، يؤدي هذا التفاعل إلى صراعات بين القيم التقليدية والقيم المكتسبة من الثقافات الأخرى. وسائل الإعلام تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل القيم من خلال تقديم نماذج مختلفة من السلوكيات والأفكار، بتسليط الضوء على القيم المتناقضة، مما يسهم في زيادة الوعي بها. التعليم يمكن أن يساعد الأفراد على فهم التناقضات بين القيم المختلفة وكيفية التعامل معها، تؤثر المعتقدات الدينية على القيم الروحية، وقد تتعارض مع القيم العقلية في بعض الأحيان وتؤثر كيفية تأويل النصوص الدينية تؤدي إلى تباين في فهم القيم بين الأفراد والمجتمعات. من خلال فهم التأثيرات الثقافية، يمكن للأفراد والمجتمعات التعامل مع هذه التناقضات بوعي أكبر، مما يسهم في تطوير فهم شامل ومتوازن للقيم الإنسانية.
الثقافة وحل التناقضات القيمية
يمكن للثقافة أن تلعب دورًا حيويًا في حل التناقضات القيمية من خلال تعزيز الحوار، تطوير التعليم، استخدام الفنون، والتركيز على القيم المشتركة. من خلال هذه الأساليب، يمكن للأفراد والمجتمعات أن يحققوا فهمًا أعمق للقيم المتناقضة ويساهموا في بناء بيئة أكثر تسامحًا وتفاهمًا، التناقضات القيمية يمكن أن تكون موجودة في كل من بنية الثقافة وبنية المثقف، وكلٌ منهما يؤثر على الآخر. في المجتمعات المتنوعة ثقافيًا، قد تتواجد قيم مختلفة ومتعارضة نتيجة لتأثيرات ثقافية متعددة، مما يؤدي إلى صراعات حول ما هو "صحيح" أو "خطأ." التحولات الثقافية، مثل التحديث أو العولمة، تخلق توترات بين القيم التقليدية والحديثة، مما يسهم في ظهور تناقضات، بعض التقاليد تعارض القيم الحديثة مثل حقوق الإنسان والمساواة، مما يؤدي إلى تناقض بين ما هو مُمارس وما هو مُعتَقد، المثقف الذي يفتقر إلى تعريف واضح لهويته قد يواجه صعوبات في التوفيق بين القيم المختلفة، مما يؤدي إلى تناقضات داخلية. المثقفون قد يتعرضون لتأثيرات ثقافية متعددة، تجعلهم يتبنون قيمًا مختلفة أحيانًا تتعارض مع مبادئهم الأساسية الروحية والعقلية، خاصة إذا كانت هذه القيم متناقضة، مما يؤدي إلى صراع داخلي. الثقافة التي ينتمي إليها المثقف تساهم بشكل كبير في تشكيل قيمه وأفكاره، إذا كانت الثقافة غنية بالتناقضات، يكون المثقف أكثر عرضة للمعاناة من هذه التناقضات، بالمقابل المثقفون يمكن أن يؤثروا على الثقافة من خلال أفكارهم ونقدهم، مما يمكن أن يسهم في معالجة بعض التناقضات القيمية. التناقضات القيمية الروحية والعقلية كل منهما يلعب دورًا في تشكيل الآخر، مما يستدعي فهمًا عميقًا للتفاعل بينهما، تشكل هذه التناقضات تحديا للمثقفين في معالجة قضاياهم منها تعدد الثقافات، التحولات الاجتماعية، نقص الدعم، الاستقطاب السياسي، تحديات الهوية، والافتقار إلى الوعي. لذا مواجهة هذه التحديات يتطلب استراتيجيات فعالة وتعاونًا بين المثقفين والمجتمع.
صراعات الهوية
المثقفون الذين ينتمون إلى مجتمعات غير تقليدية يواجهون صراعات حول هويتهم ،خاصة إذا كانت ثقافتهم لا تتقبل تلك الهويات، مثقف ينتمي إلى أقلية عرقية أو قومية قد يشعر بالضغط للتكيف مع معايير الأغلبية، مما يؤدي إلى صراع في كيفية التعبير عن هويته الثقافية، مثقف يشعر بالتضارب بين ولائه لبلده ورغبته في الانتماء إلى مجتمع عالمي، خاصة في أوقات الأزمات السياسية أو الحروب ،مثقف ينتمي إلى جيل قديم قد يجد صعوبة في التكيف مع القيم الحديثة، مثل المساواة بين الجنسين أو حقوق الأقليات، مما يخلق صراعات داخلية ،مثقف يعمل في مجال أكاديمي أو ثقافي قد يواجه صراعًا بين الالتزام بمبادئه الشخصية وبين متطلبات العمل أو ضغوطات السوق، تتعدد صراعات الهوية التي تواجه المثقفين، حيث تشمل التوترات بين الهوية الثقافية والعالمية، الانتماء الديني والتوجهات العقلانية، الهوية الجنسية والجنسانية، والتمييز العرقي. هذه الصراعات تتطلب وعيًا ومرونة من المثقفين للتعامل معها بفاعلية وبلورة نمط معرفي يتميز بالخصوبة والفعالية لامتحان التجارب على منصة الواقع.

   *** 

غالب المسعودي - باحث

في مؤلفه “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”، يبدأ ابن رشد بسؤال محوري: هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح في الشرع أم لا؟ هذا السؤال، الظاهري البساطة، يخفي خلفه أزمة شرعية وفكرية امتدت قرونًا، تفاقمت خاصة مع تأثير فكر الغزالي، الذي شنّ حملة فكرية عنيفة ضد الفلاسفة، وصولاً إلى تكفيرهم في بعض المسائل الجوهرية مثل قدم العالم والمعاد. وهنا، يتدخل ابن رشد لا للدفاع فقط، بل لتقويض الأساس الذي قامت عليه هذه الاتهامات، عبر تفكيكها من داخل المنظومة الشرعية ذاتها.
ابن رشد لا يقف موقف الخصم، بل موقف الحليف الحريص على الجمع لا التفريق. منطلقه أن الشرع يدعو إلى النظر العقلي، وإلى التأمل في الوجود كآية دالّة على الخالق. من هنا، يرى أن ممارسة الفلسفة ليست فقط مباحة، بل واجبة، لأن الله أمر باستخدام البصيرة والتفكّر. الآيات القرآنية، مثل: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ﴾ [الحشر : 2]،و ﴿ أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأعراف: 185] ليست تأملات شعرية، بل دعوات للتفكر البرهاني، وهي عنده حجج شرعية تقيم على المسلم مسؤولية عقلية لا تقل أهمية عن الواجبات التعبدية.
ويذهب ابن رشد إلى أبعد من ذلك في الدفاع عن المنطق، معتبرًا إياه الأداة الوحيدة لترتيب الفكر وضبط مسالكه. ولذلك، فإن الاستفادة من علوم الأمم السابقة، حتى ولو كانوا من غير المسلمين، تصبح أمرًا مشروعًا بل ضروريًا إن كانت علومهم توافق الحق. فالحكمة ضالة المؤمن، والحق لا يُناقض الحق. كل منع للفلسفة ناتج عن جهل بها، لا عن فساد فيها. فالفيلسوف لا يخترع الحقيقة، بل يبحث عنها، سواء وجدها في القرآن أو في كتب اليونان.
الخطوة الأعمق التي يقوم بها ابن رشد هي دفاعه عن البرهان العقلي كأداة تأويل شرعي. لا ينكر التفسير الظاهري للنصوص، لكنه يمنح الفيلسوف الحق، بل الأفضلية، في تأويل النصوص الدينية متى تعارضت مع البرهان اليقيني. ليس نزعًا لسلطة الفقيه، بل توسيعًا لأفق الشرع ذاته ليشمل كل من امتلك أدوات البرهان. عنده، الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية تنبعان من مصدر واحد: الله. وإذا بدت متناقضة، فإن المسؤولية تقع على عاتق المفسر، لا على النص.
في قراءته لهذا النص، يؤكد محمد عابد الجابري أن مشروع ابن رشد هو محاولة لإعادة تأسيس العلاقة بين الدين والعقل على أساس من التكامل لا التعارض، وذلك داخل سياق تاريخي شهد محاولات تهميش العقل وإقصاء الفلسفة. يرى الجابري أن “فصل المقال” لا يمثل فقط موقفًا دفاعيًا، بل يمثل أيضًا تأسيسًا لفكر عقلاني عربي-إسلامي، قاعدته أن العقل والوحي ليسا في صراع، بل في تعاون مستمر، حيث يعمل الوحي على هداية الناس، ويعمل العقل على فهم هذه الهداية وتنزيلها في الواقع.
ينتهي ابن رشد إلى أن: “الحق لا يضاد الحق”. لا يمكن أن يتعارض ما جاء به البرهان مع ما جاء به الوحي. وإذا بدا هناك تعارض، فهو تعارض في الظاهر لا في الجوهر، يستدعي التأويل لا التكفير. بهذا، لا يقدم ابن رشد مجرد دفاع عن الفلسفة، بل يفتح بابًا جديدًا في الفكر الإسلامي، يجعل من العقل شريكًا للوحي، لا تابعًا له ولا خصمًا.
وفي زمن يتكرر فيه الصدام بين العقل والنقل، بين الفلسفة والدين، تبقى كلمات ابن رشد حية ومُلهمة: “الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له”. إن إعادة قراءة “فصل المقال” ليست مجرد تمرين فكري، بل ضرورة حضارية، تدعونا إلى تجاوز الثنائيات القاتلة، وإلى بناء مشروع فكري يقف على أرضية العقل والوحي معًا، لا على أنقاض أحدهما.
***
خالد اليماني
.....................
المصادر:
1. ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال.
2. محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1986.

في اطار دلالات الشكل عندما تكون الحقيقة مطروحة كونها السحابة الأولى من المعاني سيكون تعريفها مشاكس وعنيد هناك تجديد وانفتاح ، تنوع تاريخي فردي واجتماعي، هناك تاريخ هائل من التجريد والخيال وهو جوهر عادتنا اللغوية ،الروايات الاسطورية لا تخلق واقعا اركيولوجيا، لكن هناك ابتكارات تساعدنا على بناء عالم مثالي من خلال امتلاك معالم النص ،فهم الحقيقة صيرورة مختلفة والقراءة هي قراءة نصوص محملة بالدلالة ،حتى نشعر بالحبكة وليست جملا مقطوعة، لان هناك احداثا غير منطوقة حتى داخل النص الاركيولوجي ،ما نعرف عنها هو مجرد انطباع شمولي لذا نلجأ الى التقريرية على المستوى الزمني لتكوين رؤية تقويمية من حطام الأزمنة، قد تشتبك مع النسيج الحكائي لإنتاج معرفة ،والمعرفة بداية الشك حتى في البديهيات واختيارا لتجاوز العجز الفيلولوجي الذي يتهم القراءة بالحكائية، في مغامرة الدلالة تصبح القراءة خارج التحليل الاستنباطي وخارج تعريف الحقيقة منحة مجانية ،في الوقت الذي تمر به الحقيقة داخل افق الوعي تبقى تكهنا ،نحن من نضع لها تسميات وليس هناك علاقة موضوعية بين الاسم والشكل، نسبغ عليها وعي الضرورة ،تتحول الاشكال الى مفاهيم وهو ما نطلق عليه حقيقة ،نتصورها كائنا حيا نحاورها وهي لا تكترث ، في فيض الثقافات المتنوعة تتغير اشكال الحقيقة بالأقل نظريا نتيجة شذوذ المدلولات. الحقيقة يمكن أن تُعرَّف ادراكيا على أنها توافق بين الفكرة والواقع مع ذلك، يمكن أن تتأثر الحقيقة بالعديد من العوامل مثل الثقافة، التجربة الشخصية، والمعلومات المتاحة. في العصر الحديث، يمكن أن تكون الحقيقة أيضًا مسألة نسبية، حيث تختلف الآراء والتفسيرات من شخص لآخرحيث تؤثر الروايات الجماعية أو المعلومات المضللة على فهم الأفراد للحقيقة وعلى إعادة تعريفها. خلال الحروب ، تستخدم الدعاية بشكل مكثف لتشكيل آراء العامة حول الأعداء على سبيل المثال، تم تصوير الألمان في الحرب العالمية الأولى على أنهم وحوش، مما ساهم في تشكيل حقيقة جماعية سلبية عنهم، يمكن أن نرى أيضًا كيف تُعيد بعض الثقافات تعريف الحقائق من خلال المناورة في بناء اللا مرئي، مثل الطبقات الاجتماعية أو المعتقدات الدينية التي تُفرض على الأفراد دون مناقشة في العصر الحديث، يمكن أن تؤدي المعلومات المضللة أو الأخبار الزائفة على وسائل التواصل الاجتماعي إلى تشكيل قناعات جماعية حول قضايا معينة، ما يعيد تعريف الحقيقة بالنسبة للعديد من الأفراد هذه تُظهر كيف أن الحاجة الى تأصيل الوعي بالحقيقة وإعادة تعريفها يمكن أن تؤثر على تصورات الأفراد حول دلالتها، مما يؤدي إلى إعادة تعريفها لأنها ترفض الاستسلام بناءً على المعتقدات السائدة .
اغتصاب العقل
هو مفهوم مرتبط مع إعادة تعريف الحقيقة في سياقات معينة. اذ يتم استخدام وسائل الإعلام والدعاية لتشكيل روايات معينة تُعتبر "حقيقة". هذه الروايات يمكن أن تُبنى على معلومات مضللة أو مبالغ فيها، مما يُقنع الأفراد بتبني وجهات نظر معينة دون تفكير نقدي، الأفراد يميلون إلى اتباع الآراء السائدة في مجموعاتهم، مما يؤدي إلى تعزيز تصورات معينة عن الحقيقة. عندما تشير المجموعة إلى فكرة معينة على أنها "حقيقية"، يُمكن أن يتبناها الأفراد بشكل أعمى بسبب الخوف من الانعزال أو الرفض الاجتماعي ويمكن أن يدفع الأفراد إلى تبني أفكار أو معتقدات قد لا يتفقون معها. هذا الضغط يمكن أن يُعيد تعريف ما يُعتبر صحيحًا أو خاطئًا، تُستخدم استراتيجيات مثل الخوف، والقلق، والانتماء لتحقيق السيطرة على عقول الأفراد. هذه الاستراتيجيات يمكن أن تؤدي إلى استجابة عاطفية تتجاوز التفكير العقلاني ويمكن أن تلعب أنظمة التعليم والتنشئة الاجتماعية دورًا في تشكيل الآراء والمعتقدات. عندما تُفرض أفكار معينة كحقائق، يمكن أن يؤدي ذلك إلى اغتصاب القدرة على التفكير النقدي، يُمكن السلطات أو الجماعات من تعزز معتقدات معينة من خلال المكافآت أو العقوبات، مما يُجبر الأفراد على تبني تلك المعتقدات كوسيلة للبقاء ضمن المجموعة. اغتصاب العقل يمكن أن يحدثا من خلال مزيج من الدعاية، والضغط الاجتماعي، واستراتيجيات التلاعب العاطفي. يُظهر هذا كيف يمكن أن تؤثر الديناميات الجماعية على الأفراد، مما يقود إلى تشكيل قناعات قد تكون بعيدة عن الواقع أو الحقيقة الموضوعية.
المؤرخون والتحيزات الشخصية
العديد من المؤرخين يكون لديهم تحيزات شخصية أو سياسية تؤثر في كيفية سرد الأحداث. يمكن أن تؤدي هذه التحزبات إلى روايات غير موضوعية في بعض الفترات التاريخية، قد تكون المصادر المتاحة محدودة أو غير موثوقة، مما يؤثر على دقة الروايات ويجعلها عرضة للتفسير الشخصي، المصادر المختلفة قد تعطي رؤى متباينة حول الأحداث نفسها، مما يجعل من الصعب تحديد "الحقيقة" التاريخية. في كثير من الأحيان، يتم التركيز على الشخصيات البارزة أو الأحداث الكبرى، مما يغيب تجارب الناس العاديين والأصوات المحلية، التي قد تقدم رؤى مختلفة. بعض المؤرخين يفشلون في وضع الأحداث في سياقها الثقافي والاجتماعي الصحيح، مما يؤدي إلى تفسيرات غير دقيقة أو سطحية، هذه تسلط الضوء على أهمية النقد والتحليل عند دراسة المصادر التاريخية، وتؤكد على ضرورة التعامل مع التاريخ بوعي وموضوعية.
التفسير الميتافيزيقي للحقيقة
يمكن أن يلعب دورًا معقدًا في تشكيل الهويات الثقافية والدينية، مما قد يسهم في بناء وعي نكوصي ذاتي التكاثر على مدى العصور. التفسيرات الميتافيزيقية يمكن أن تساعد الأفراد والمجتمعات في تشكيل هويتهم. عندما تُبنى الهويات على أسس ميتافيزيقية، يتم تعزيز الانتماء الجماعي والمشاركة في سرديات مشتركة، من خلال تبني تفسيرات ميتافيزيقية، تظل القيم والمعتقدات متوارثة عبر الأجيال. هذا يمكن أن يؤدي إلى استمرارية في التفكير والسلوك، مما يعزز من حدة الصراع بين المرئي واللامرئي، يمكن أن توفر التفسيرات الميتافيزيقية إجابات عن الأسئلة الوجودية والكونية، يساعد الأفراد في فهم العالم من حولهم ويعزز من إيمانهم بالمعتقدات الجماعية، عندما تتبنى مجموعة معينة تفسيرات ميتافيزيقية مشتركة، يمكن أن يعزز ذلك من التماسك الاجتماعي ويعطي الأفراد شعورًا بالانتماء، ويسهم في بناء مجموعة متماسكة، التفسيرات الميتافيزيقية قد تؤدي إلى مقاومة التغيير أو التفكير النقدي. عندما تكون الحقيقة متجذرة في ميتافيزيقا معينة، يكون من الصعب على الأفراد الخروج عن هذه القواعد أو تحديها ،غالبًا ما تستخدم السلطة التفسيرات الميتافيزيقية لتوجيه السلوكيات وتبرير السياسات، مما يعزز من قوة السلطة ويجعل الأفراد أكثر استعدادًا للامتثال ،يتم نقل المعتقدات الميتافيزيقية عبر الأجيال من خلال التعليم، الأدب، والفنون، مما يسهل تكاثرها واستمرارها، ، يمكن القول إن التفسير الميتافيزيقي للحقيقة يسهم في بناء نكوص معرفي يمتلك فعالية ذاتية التكاثر عبر العصور يؤدي إلى تحديات في التفكير النقدي والتغيير الاجتماعي ،بالرغم من ان نجاح أو فشل الأقوام أو الحركات الاجتماعية المبنية على ميتافيزيقات معينة يعتمد على مجموعة من العوامل الأخرى ،مثل وجود قيم ومعتقدات مشتركة تعزز من التماسك الاجتماعي، كلما كان الأفراد متفقين على مجموعة من المبادئ، زادت فرص الحركة أو القوم على التكيف مع الظروف المتغيرة، مثل التحولات الاجتماعية أو السياسية. لكن المرونة التي تساعد على الاستمرار في مواجهة التحديات ستكون مفجعة إذا كان الموضوع يتحرك اتجاه شكله وهو الحقيقة والمعرفة ضمن حيز المكان الواقعي في ظل إشارات الرعب التي تبدو أكثر التباسا، وبالتالي ينمو خطاب الهيمنة والاستبداد في مسار متأرجح، هذا شلل حضاري ونهاية ملفتة ومفجعة تنشر التشتت تتقدمها رايات تراجيديا الفكر البري لتشيد نموذجا مدجن من التجربة الثقافية في نشر المعرفة من خلال تعليم متردي. نجاح أو فشل الأقوام أو الحركات الاجتماعية يعتمد على توازن العوامل الداخلية والخارجية والتماسك والقدرة على التكيف تعتبر من العوامل الرئيسية للنجاح، في حين أن الانزياح الطائفي يبدو بنية متوحشة ومحددة سلفا، يمكن أن تؤدي إلى الفشل والانغلاق.
***
غالب المسعودي

 

يمكننا الشك في كل شيء. لكن هناك شيئا واحدا مؤكدا وهو اننا الآن نفكر. هذه الفكرة ميّزت التفكير الفلسفي لفيلسوف القرن السابع عشر رينيه ديكارت. بالنسبة لديكارت إمتلاكنا لأفكار هو الشيء الوحيد الذي لا نشك فيه. لكن ماهي بالضبط هذه الافكار؟ هذا هو اللغز الذي حير الفلاسفة لقرون ومنهم سقراط – وهو ايضا الموضوع الذي نال زخما جديدا بظهور الذكاء الاصطناعي حيث يحاول الخبراء معرفة ما اذا كانت الماكنة تستطيع التفكيرحقا.
مدرستان للتفكير
هناك جوابان رئيسيان للسؤال الفلسفي حول ماهية الأفكار. الاول هو ان الافكار هي أشياء مادية. الافكار هي بالضبط تشبه الذرات، الجزيئات، القطط، الغيوم، او قطرات المطر: جزء اومجموعة أجزاء من الكون المادي. هذا الموقف يُعرف بالمادية materialism.
اما الرؤية الثانية هي ان الافكار منفصلة عن العالم المادي. هي ليست كالذرات وانما نوع من الاشياء يختلف كليا. هذه الرؤية تسمى الثنائية dualism لأنها تنظر للعالم وهو في طبيعة مزدوجة: الذهني والمادي.
لكي نفهم بشكل أفضل الفرق بين هاتين الرؤيتين لننظر في تجربة فكرية (افتراضية).
افرض ان الله يبني العالم من نقطة الصفر. اذا كانت المادية صحيحة، عندئذ كل ما يحتاجه الله لإنتاج الافكار هو ان يبني العناصر المادية الاساسية للواقع – الجسيمات الأساسية – ثم يضع قوانين الطبيعة. بعد ذلك يجب على الافكار ان تتبع.
لكن، اذا كانت الثنائية صحيحة، معنى ذلك ان وضع القوانين الاساسية والمكونات المادية للواقع سوف لن ينتج افكارا. ولابد من اضافة بعض المظاهر اللامادية للواقع، لأن الأفكار هي شيء فوق كل العناصر المادية.
لماذا نكون ماديين؟
اذا كانت الافكار مادية،فماهي الاشياء المادية؟ الجواب المعقول هو انها حالات الدماغ brain states او الشبكة العصبية. هذا الجواب يدعم الكثير من علوم الأعصاب وعلم النفس المعاصر. في الحقيقة، ان الربط بين الدماغ والافكار هو الذي يجعل المادية معقولة. هناك عدة ارتباطات بين حالات دماغنا وافكارنا. أجزاء معينة من الدماغ تضيء بشكل متوقع عندما يكون شخص ما في ألم، او عندما يفكر في الماضي او المستقبل. الهيبوكامبس hippocampus وهو ذلك الجزء من الدماغ المسؤول عن التعلم والتذكر، ويقع قرب أسفل الدماغ، يبدو انه مرتبط بالتفكير الخيالي والابداعي، بينما منطقة بروكا Broca، التي تقع في النصف الايسر من الدماغ ترتبط بالكلام واللغة.
ماذا توضح هذه الارتباطات؟ الجواب هو ان أفكارنا هي فقط حالات متغيرة للدماغ. هذا الجواب، ان كان صحيحا، فهو يميل الى المادية.
لماذا نكون ثنائيين؟
يقول الثنائي ان الارتباطات بين حالات الدماغ والافكار هي فقط تلك الارتباطات لا اكثر. ليس لدينا أي توضيح للكيفية التي تؤدي بها حالات الدماغ الى التفكير الواعي. هناك ارتباط معروف جيدا بين إشعال عود الثقاب واشتعال العود. لكن بالاضافة الى الارتباط، نحن ايضا لدينا توضيح عن سبب اشتعال العود عند إشعاله. الاحتكاك يسبب رد فعل كيميائي في رأس عود الثقاب والذي يقود الى إطلاق طاقة.
لا يوجد توضيح مقارن للارتباط بين الافكار وحالات الدماغ. كذلك، هناك عدة أشياء مادية لا تمتلك افكارا. نحن ليس لدينا فكرة عن السبب الذي تؤدي فيه حالات الدماغ الى الافكار بينما لا يؤدي الكرسي الى ذلك.
معرفة الألوان
الشيء الذي نحن متأكدون منه - وهو اننا لدينا افكار- لايزال لم يتم توضيحه تماما بعبارات مادية. ذلك ليس بسبب قلة الجهود المبذولة. علم الاعصاب والفلسفة والعلوم الادراكية وعلم النفس جميعها بذلت جهودا شاقة في محاولة تتبّع هذا اللغز. لكن الامر بقي يزداد سوءاً: نحن لا نستطيع ابدا توضيح كيف تنبثق الافكار من الحالات العصبية. لكي نفهم لماذا، من الأفضل النظر في تجربة فكرية (افتراضية) للفيلسوف الاسترالي فرانك جاكسون.
السيدة مريم تعيش كل حياتها في غرفة غير ملونة (بيضاء وسوداء). هي لم تصادف ان ترى اللون ابدا. مع ذلك، هي تستطيع ايضا استخدام كومبيوتر يحتوي على توضيح تام لكل مظهر من المظاهر المادية للكون بما في ذلك جميع التفاصيل العصبية والمادية لتجربة رؤية اللون. هي تتعلم كل هذا. وفي أحد الايام، تغادر مريم غرفتها وترى لوناً لأول مرة. هل هي تتعلم أي شيء جديد الآن؟
ربما من المحفز جدا الاعتقاد انها تتعلم ذلك: هي تتعلم كأنها تتعامل مع لون. لكن لنتذكّر، ان مريم كانت تعرف سلفا كل الحقائق المادية عن الكون. لذا، اذا كانت تتعلم شيئا ما جديد، فهو يجب ان يكون حقيقة غير مادية. كذلك، اذا كانت الحقيقة التي تتعلمها تأتي من التجربة، فهذا يعني وجوب ان يكون هناك مظهر غير مادي للتجربة.
اذا كنت تعتقد ان مريم تتعلم شيئا جديدا بعد مغادرتها الغرفة، فانت يجب ان تقبل بان الثنائية يجب ان تكون صحيحة. واذا كان هذا هو الموقف، عندئذ نحن لا نستطيع إعطاء توضيح للتفكير من حيث علاقته بوظائف الدماغ، كما جادل الفلاسفة في ذلك.
الذهن والماكنة
الاجابة على السؤال عن مادية التفكير لم تسوي تماما السؤال فيما اذا كانت المكائن تستطيع التفكير ام لا، لكنها ستساعد في ذلك. اذا كان التفكير ماديا، عندئذ لا سبب هناك من حيث المبدأ لعدم قدرة المكائن على التفكير. واذا لم يكن التفكير ماديا، فمن غير الواضح ان كانت المكائن تستطيع التفكير. فهل بالامكان ربط المكائن الى ما هو غير مادي بالطريقة الصحيحة؟ هذا سيعتمد على الكيفية التي يرتبط بها التفكير الغير مادي بالعالم المادي.
في كلتا الحالتين، متابعة السؤال حول ماهية التفكير من المحتمل ان تكون له مضامين هامة حول طريقة تفكيرنا بشأن ذكاء الماكنة ومكاننا في الطبيعة.
***
حاتم حميد محسن
............................
Are our thoughts real? Here’s what philosophy says, March5, 2025, The conversation.

 

مهداة إلى استاذي – التربوي

يوسف التميمي في البصرة - العراق

***
إنها العائلة، إما تصنع إنسانًا، أو كومة عُقد " ليو تولستوي"
الألم الذي يبدأ من العائلة لا ينتهي أبدًا " ديستويفسكي"
***

يبقى سلطان الأب أو الأم، أو بديلهما هو الذي يخلق فينا شخصيتنا، هذا الأب- الأم، أو من ينوب عنهما وسمي بالآخر الكبير هو الذي يرسم ويخط ملامحنا، شخصياتنا تعكس تعاملنا مع الناس، مع أقرب المقربين لنا أيضًا، هو الذي يغرس ما يراه صالحًا فعلا، وهي أمنيته بأن نكون كما يريد، ولكن الحقيقة التي تحملها النفس ليست كذلك!! ربما تكون نقيض ذلك، عكسه في أحسن الأحوال اذا كان بلا خسائر نفسية، وهذا محال. ويرى المحلل النفسي الفرنسي "جاك لاكان" للأب دورًا مؤثرًا في تكوين النفس الإنسانية في كل فرد، إن الأب بما هو كذلك هو الذي يفصل الطفل عن الام ويفتح السبيل لإدخال الطفل في النظام الرمزي " النظام الرمزي عند جاك لاكان هو القانون والأخلاق والاعراف والتقاليد والقيم وممارسة الطقوس والقواعد وما إى ذلك من أمور ثقافية تتشابك بصور عدة مع اللغة.وكل ما يمكن تعلمه من المجتمع الذي يعيش فيه الفرد" ـ فإذن نحن من صناعة أبوينا، الأب والأم، أو من ينوب عنهما وعليه يقودنا قول " ليو تولستوي " إنها العائلة – الأسرة – إما تصنع إنسانًا، أو كومة عُقد. من هذه الحكمة الرائعة سوف نحاول جاهدين أن نسبر أغوار العلاقة من داخل النفس، وما يترسب فيها في اللاشعور – اللاوعي منذ بداية حياة الإنسان في طفولته، منذ الميلاد إلى السنوات الأولى من حياة الإنسان.
التساؤل هل هو سوي؟ أو يقترب من السوية بقدر ما، أو ليس سويًا ؟ فلذلك يؤكد لنا "ديستويفسكي" بأن الألم الذي يبدأ من العائلة – الأسرة لا ينتهي أبدًا. فهي مصنع سعادتنا، وهي مصنع مرضنا وإنحرافاتنا، هي الأسرة – الأب، الأم، الأخ الكبير، أي كان فهو يصنع منك رجل، أو لا رجل!! " المعنى في قلب القارئ الكريم لسنا في حاجة لتوضيحه- لا رجل، بالمعنى الأدق جسد رجل يحمل عقل إمرأة "، والام أما تصنع منك رجل، أو تابع لإمرأة أخرى، ربما الزوجة، ربما العشيقة التي تستنزف الموارد المادية، أو الطاقة النفسية التي تبقى معلقة في أذيال من تتحكم في هذا الرجل، الجانب الخيالي هو السائد والمغروس في عقل الرجل، أو عقل المرأة والامر سيان، ولم استعرض بعد قوة تأثير الام في أيٍ منا، هي الأم أن تبقي هذا الرجل " الطفل " معلقًا في سلطانها وهو كبير، فترك من أحبب، أو من تزوج ثم تطلق بسبب سطوة السلطان الجائر – أعني هنا الأم – فترك هذا الطبيب، أو المهندس، أو المدرس، أو الموظف المرموق كل شيء وفر هاربًا نحو أمه فاصبحت تدير كل مجريات حياته، وكل حيثيات يومه حتى وإن كان بعيد عنها بالاف الكيلومترات، جعلت منه مسخ لا قيمة له، والامر سيان مع الأب أو بديلهما من تبنى تربيته وتشكيله في بنيته النفسية. من يطغي عليه بقوة هذا السلطان.. الأب!! تساءلنا كيف سيكون بعد الهروب من هذا السلطان؟ سوف يفر إلى أقسى من سلطان الأب، لا.. إرضاءً لنفسه، بل نكاية بما صنعه الأب، وهو اللجوء إلى التطرف والتعصب والإنفعالية في أبسط المواقف الحياتية، وأفضلهما أي أحسن ملاذ هو الدين " كل الأديان تتساوى في هذه السمة" فيكون التطرف الديني عنوانٌ وسمة واضحة للشخص، فضلا عن التطرف السياسي وهو لا يقل شأنا عن ذلك التطرف، وربما نلاحظ سلوك البعض التطرف في التعامل مع المقربين بقسوة واضحة مع الزوجة والابناء، وهذا منقول "نقل" ميكانيزم دفاعي يلجأ اليه الفرد ممن تعرض لسطوة هذا السلطان، والمرأة أيضًا تعيش بعباءة هذا السلطان " الأب أو الام، أو بديلهما " فينقل صورة السيد والعبد مجسمة وواضحة. ويدلنا التحليل النفسي بمعرفة دقيقة وهادفة تستهدف عمق النفس قول "سيجموند فرويد" الحق أن الفرد إبتداءً من سن البلوغ، يتعين عليه أن يكرس نفسه لعمل خطير هو تحرير نفسه من والديه، وإن طفولته لا تنتهي في عضوًا في الجماعة التي ينتمي إليها، إلا بعد أن يتم فصاله هذا، فأما الأبن فحتم عليه أن يفطم رغباته الشهوية عن أمه ليتجه بها إلى موضوع حب خارجي في عالم الواقع، كما يتعين عليه أن يعقد الصلح مع أبيه إن كان لايزال على موقفه العدائي منه، أو أن يتحرر من تسلطه عليه إن كانت ثورته على أبيه في عهد الطفولة قد انتهت استسلامه وخضوعه له، هذا ما يتحتم على كل فرد أن يعمله" محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي، م21، ص372 ".
ويضيف " مصطفى صفوان" قوله: الأب هو النقطة التي من خلالها يِحكمُ الشخص على نفسه: كي يُقيمّ الفرد نفسه يجب أن يبتعد عن نفسه حتى يتمكن من رؤية نفسه.
وكذلك إن التوتر بين الأبن والأب لم ينتهِ أبدًا نهاية تامة، وما لم ينتهِ أبدًا، فيما أحسب هو الخلط بين الرغبة والطلب، لأن الرغبة ليست سوى إخفاء الطلب، وما الطلبُ سوى نقص تملؤه موضوعاته الموصوفة بأنها جيدة كما يدون ذلك صفوان في كتابه ما بعد الحضارة الاوديبية، ص 54. وتبقى أسطورة سلطان الأب والأم على تشكيل بنية " بناء" الطفل النفسي والانفعالي والقيمي والمعنوي، وما ترسب في شخصيته من فضلات التربية الخاطئة، أو المشددة، كل تلك تكون مخزونة في اللاشعور – اللاوعي وتعرض لنا البروفيسورة الدكتورة نيفين مصطفى زيور في كتابها القيم " رحلة التحليل النفسي من المهد إلى البعث – فرويد ولاكان، ص 111" لذا يلعب أسم الأب دورًا أساسيًا في إنشطار الأنا وتكون اللاشعور – اللاوعي، وينشأ اللاشعور – اللاوعي لدى الطفل مرتبطًا باللغة التي يتلقاها منذ نشأته عن الأم، والتي لا تدري هي نفسها عن مرجعية تلك اللغة شيئًا، هذه اللغة ترتبط أصلا بالأب سواءً أكان حاضرًا أم غائبُا، ذلك لأن الأم ليست جهازًا متكاملا، لأن كلامها وخطابها يظلان ناقصين في ظل وجود الأب الذي يعد الموضوع المسبب لرغباتها، وتضيف "نيفين زيور" قولها موضوع رغبة الأم هو الأب، والذي يصبح دوره دالًا محوريًا يدخل في طلب تكوين الطفل الذاتي بوصفه جهازًا ينشأ أساسًا على أساس الارتباط عبر السلسلة الدالة في الكبت الأولي المكونة للاشعور – اللاوعي. يقودنا ذلك في حوارنا التحليلي النفسي بأن شخصياتنا هي من صنع من يربينا – تربية – فمن أساء لنا ظهر ذلك جليًا وبكل وضوح في عقدنا، وفي سلوكنا وأسلوب تعاملنا، ومن أحسن تربيتنا وجده الآخرين في سلوكنا وتعاملنا في كل مواقف الحياة العامة والخاصة مع من نحب، ونتزوج ونترك الأثر في ابنائنا رغم ذلك، ليس كل الأثر، ولكنه يعود هذا الأثر بشكل آخر، ليس كما أودعناه في عالم اللاشعور – اللاوعي، لأن الكبت الأولي ربما لا نستطيع استدعاءه رغم التحليل النفسي وجهوده الجبارة في تنظيف الخبيء في نفوسنا، أما الكبت الثانوي فجلسات التحليل النفسي قادرة على تنقيته بما يقدمه طالب التحليل – العلاج بالتحليل النفسي وبمساعدة آلية التحليل النفسي – التداعي الحر - في تنقيته واستعادة الشخص إلى ما كان عليه ولو ليس كما كان في السابق، وقولنا تبقى الأسرة أما تصنع منا إنسانًا، أو كومة عقد، أو لنتفق مع هذا القول: الألم الذي يبدأ من العائلة لا ينتهي أبدًا "ديستويفسكي".
***
د. اسعد الامارة

في فلسفة الاخلاق جرت دراسات ونقاشات كثيرة حول فلسفة الاخلاق والاسس المعرفية للقيم الأخلاقية، في سياق المحاولة نحو تفسير فلسفي ومعرفي محدد عن قيمة الأحكام الأخلاقية، وارتبطت تلك الأبحاث بالأسس الفلسفية والعقلية لأحكام العقل العملي، وتنوعت المداخل واختلفت النتائج بحسب زوايا نظر متباينة من قبل المهتمين بهذا الموضوع.
وبعد أن اطلعت على بعض المدونات في هذا المجال، تساءلت عن مدى إمكان تصور منحى آخر غير العقل وفلسفاته في تفسير وتبرير الحكم والفعل الأخلاقي، وهل يمكن للوجدان الإنساني أن يتكفل في منح الحكم الأخلاقي قيمته وموقعه وأهميته؟ وكيف يمكن الوثوق بالوجدان في مقام تقييم المعايير الأخلاقية؟ يُعدّ هيوم من روّاد التيار الحسي في الفلسفة الأخلاقية، إذ أكد أن المشاعر والوجدان هما الأساس في تقييم الأفعال. ففي أعماله مثل "مقالة عن الطبيعة البشرية" يُظهر كيف يُعتبر الشعور – وليس العقل المجرد – المعيار الأساس لتحديد الخير والشر، وابن سينا أيضا،
في إطاره الفلسفي والطبي، ناقش العلاقة بين العقل والوجدان، معتبرًا أن تقييم الفعل الأخلاقي يرتكز على تفاعل العقل مع الشعور الداخلي. فقد بيَّن أن لتحقيق السعادة والفضيلة يجب أن يكون للفرد وعي داخلي يتكامل مع تجربته الحياتية الواقعية، مما يساهم في تنظيم النفس وتوجيه السلوك (ظ: نفسيات ابن سينا، برنارد كارا دوفو، ابن سينا: ص ١٣٣، هنداوي)
ان التفاعل الوجداني مع القيمة الاخلاقية يمنحها قيمة مضافة الى جانب عقلانيتها وهو ما يدعم فكرة الغائية الاخلاقية للوجود الانساني..
ومن هنا لا بد من التحول بالقيم الاخلاقية من ميدانها المفاهيمي المجرد وبناءها الفلسفي النخبوي، الى ميدان النفس الانسانية وحاجتها المعنوية للقيمة الأخلاقية..
ان هذا التصور يحد من مساحة الجدل حول فلسفة الاخلاق والأساس المعرفي للقيم الأخلاقية..
المرور عبر الواقع من أجل اكتشاف قيمة القيم ومدى حقانيتها، أهم من المرور عبر العقل وهو يتردد بين أولويات متعددة في ميدان تبرير الحكم الأخلاقي..
إن مرحلة الشهود الواقعي المتاح لكل فرد من شأنها أن تحدد القيم الواجبة لدى العقل.
ابعاد الاختبار الوجداني للقيم في عصر التقدم:
من أهم الأبعاد والآثار المتوقعة من تلقي القيم عبر قيمتها لدى الوجدان الانساني، هو فاعليتها في مختلف الظروف الزمانية والمكانية، من خلال توقع الجدوى والاثر الواقعي للقيم، ومما يضمن تلك الفاعلية هو النضج الوجداني للإنسان الذي يساير الظروف والمتغيرات، فرب موقف أخلاقي يعد قيمة عليا في العصر الراهن بسبب تفاعله مع وجدان الانسان المعاصر، ومع التسليم بثبات الموقف الفطري والوجداني للإنسان فإن التفاوت يقع في أولويات التفاعل وتفاوت الحاجة الى القيمة الأخلاقية بحسب طبيعة الحياة وحاجاتها ومتطلباتها، فثبات الأخلاق شيء ونسبية الحاجة اليها شيء آخر، فالأخلاق النظرية ثابتة الى حدما، في حين تتفاوت الأخلاق العملية بتفاوت الحاجة والنقص الانساني في مختلف مراحل الحياة، فرب حاجة الى أخلاقيات العمل في زمن تتوفر فيه عوامل النمو الاقتصادي، أو تنمو الحاجة الى أخلاقيات التضامن والتكافل في ظروف الأزمات والأوبئة..، وهكذا تكون الحاجة الوجودية الى أي من القيم الأخلاقية نسبية بحسب طبيعة المرحلة والظروف التي تحيط بها.
و المشكلة -بالأحرى- مركبة من شقين، الأول أفول القيم وبقاءها في التراث كأجنّة كما يعبر عنها محمد إقبال، والثاني هو الاستدعاء الاعتباطي لبعض منها، من دون الالتفات الى ما يتطلبه الواقع الراهن، لأن مشكلات الإنسان لها تمظهراتها وخصوصياتها عبر الزمن، وهي واحدة من مشاكل القيم عندنا في البيئات الاسلامية عندما يتم استدعاء القيم من التراث على نحو شعارات خطابية، والذي ينبغي إدراكه، هو ضرورة قراءة الواقع وتشخيص طبيعة المشكلات التي تستدعي قيماً خاصة متبلورة بوعي جديد، يجعل منها إطاراً حيّاً وعملياً في توجيه قيم المجتمع ونظمه.
ففي تجربة الغرب في جانبها الايجابي ثمة ما ينبغي ملاحظته من توظيفهم للقيم بما يحتاجون اليه، فنمت عندهم مثلا قيم العمل واخلاقيات المهنة، حتى بدا المجتمع وكأنه اكتسب سلوك الآلة في نشاطه، بأن تجرد عن جوانب انسانية كثيرة تتعلق بالعلاقات الاسرية والاجتماعية في سبيل تحقيق العمل الدؤوب نحو التقدم الصناعي والتقني، في حين لم تتقدم البيئات العربية في هذا الميدان، مع أنها بقيت محافظة على قيم قديمة رسخت فيهم الألفة والعلاقات الاجتماعية على حساب التقدم المهني والصناعي.
التباينات:
الكرم يُعتبر قيمة هامة في معظم الثقافات، ولكن كيفية التعبير عنه يمكن أن تختلف: في الثقافة العربية، الكرم يتجلى في استضافة الضيوف بشكل كبير، وهو قيمة متوارثة، في الثقافات الأخرى، قد يُنظر إلى الكرم بالنحو الذي ورثه العرب نوعاً من البذخ، وتتجلى صورته عندهم ما يكون على نحو تقديم المساعدة والدعم المادي للمحتاجين.
من هذا المثال البسيط يظهر أحد وجوه التفاوت، ومدى افتراض ثبات الاخلاق من تغيرها، على أن مقدار التغير -في حد المثال أعلاه-يكمن في كيفية التطبيق والفعل للكرم كقيمة أخلاقية، وفي كلا النموذجين يتضح محل اختبار الفعل الأخلاقي ومدى تجسيده للقيمة المختزلة فيه.
إن المبالغة في تعقل القيم فلسفياً، قد يفقدها مجالها وفاعليتها في الواقع، ومن هنا تبرز ضرورة منطق التبسيط في عصر تتسارع فيه النماذج الحضارية بين الظهور والأفول.
وفي مقام إدراك أزمة القيم في الواقع الراهن، تتجلى ضرورة انصهار القيم في مجال الفعل والواقع العملي، من خلال تحديد أولوية الصدق والانطباق والفاعلية في عمق السلوك الاجتماعي، بعيدا عن عبء المصطلحات والتنظير المجرد، الذي يحيل بنحو ما الى صراع المنظومات القيمية، في حين لابد من وعي القيم كمعيار لتقييم المجتمعات، وذلك عن طريق ملاحظة الواقع العملي وتجلي القيم في نماذج الممارسة.
***
د. أسعد عبد الرزاق الأسدي

"إن كلام الفيلسوف الذي لا يشفي أي معاناة للإنسان باطل" أبيقور

إن الفلسفة، كما تُمارس اليوم، مجردة ونظرية ومنفصلة عن الحياة، وهي مجرد موضوع أكاديمي واحد من بين موضوعات أخرى. وفي العالم اليوناني الروماني، كانت الفلسفة مختلفة تمامًا، كما يزعم الفيلسوف الفرنسي بيير هادوت. كانت الفلسفة أسلوب حياة. ولم تكن مجرد موضوع للدراسة، بل كانت تُعتبر فنًا للعيش، وممارسة تهدف إلى تخفيف المعاناة وتشكيل الذات وإعادة تشكيلها وفقًا لمثال الحكمة؛ "هذا هو درس الفلسفة القديمة: دعوة لكل إنسان لتحويل نفسه. الفلسفة هي تحول، وتحويل لطريقة وجود المرء وعيشه، وسعي إلى الحكمة." إن ممارسة ما يسميه هادوت "التمارين الروحية" هي التي تؤدي إلى تحول الذات وتجعل الفلسفة أسلوب حياة. فهل فعل التفلسف هو مجرد تأمل ميتافيزيقي أم رعاية بالذات؟ وهل هو جهد نظري أم مسلكية تطبيقية؟
المدارس القديمة
بالنسبة لليونانيين والرومان، كان ممارسة الفلسفة تعني اختيار مدرسة وتبني أسلوب حياتهم. وكان ذلك يشمل ما يمكن أن نطلق عليه اليوم التحول الديني. "المدرسة الفلسفية ... تطلب من الفرد تغييرًا كاملاً في نمط حياته، وتحويل كيانه بالكامل، والرغبة في أن يكون ويعيش بطريقة خاصة". لقد كان لكل مدرسة مجموعة خاصة بها من التمارين الروحية التي تتوافق مع المثل العليا للحكمة الخاصة بها. كانت التمارين التي مارسها الطلاب هي تلك التي لا نزال نربطها بالدراسة الأكاديمية أي القراءة والكتابة والبحث والحوار. لكنهم استخدموا أيضًا تمارين نحددها بالمنظمات الدينية أو الروحية، على سبيل المثال تمارين ضبط النفس، والعلاجات لتهدئة المشاعر، وفحص الذات، والتأمل، وحفظ مبادئ المدرسة. كما يجب أن نلاحظ أن صورة هادو للفلسفة القديمة هي وصف أكثر دقة للفلسفة كما مارسها سقراط والمدارس الهلنستية للرواقية والأبيقورية وليس مدارس أفلاطون وأرسطو.
تاريخ التمارين الروحية
في عام 529 م، أغلق الإمبراطور المسيحي جستنيان الأكاديمية الأثينية، وهي مدرسة أفلاطونية جديدة، وأنهى تعليم الفلسفة الكلاسيكية في الغرب. والآن أصبحت المسيحية وحدها تعتبر أسلوب حياة، وانخفضت الفلسفة إلى كونها خادمة لعلم اللاهوت، وتوفر اللغة والمفاهيم الفلسفية للدفاع عن عقائد الكنيسة. أصبحت التمارين الروحية للفلسفة جزءًا من الروحانية المسيحية. يزعم هادو أن تمارين القديس إغناطيوس لويولا وتوماس كامبيس ليست سوى تبني مسيحي لهذه الممارسات القديمة. وبدلاً من الحكمة، أصبح تقليد المسيح هو المثل الأعلى الذي شكل الممارسة الروحية. "بكلمات بولس "سأهلك حكمة الحكماء... اليونانيون يطلبون الحكمة، أما نحن فنكرز بالمسيح المصلوب...". بالنسبة لهادوت، فإن فقر الفلسفة الحديثة هو نتيجة التخلي عن التمارين الروحية. ومع تراجع المسيحية وصعود العلمانية، كان هناك ظهور جديد للفلسفة التي يُفهَم أنها أسلوب حياة. ويمكن رؤية هذا في أعمال فلاسفة مثل مونتاني، وكيركيجارد، ونيتشه، وهيدجر وفوكو ودولوز وريكور وهادوت.
سقراط
تظهر ممارسة التمارين الروحية في الغرب لأول مرة في سقراط الذي أعلن شهيرًا أن "الحياة غير المدروسة لا تستحق أن تُعاش". عندما وقف أمام المحكمة الأثينية يواجه اتهامات بالفجور وإفساد الشباب، قال سقراط للقضاة: "ليس لدي أي اهتمام على الإطلاق بما يهتم به معظم الناس: الشؤون المالية، وإدارة الممتلكات... والفصائل السياسية. "لم أسلك هذا المسار... بل بدلاً من ذلك حيث أستطيع أن أفعل الخير الأكبر لكل واحد منكم... بإقناعكم بأن تكونوا أقل اهتمامًا بما لديكم من اهتمام بما أنتم عليه...". سقراط، الذي وصف نفسه بأنه ذبابة مزعجة، استمر في مضايقة مواطنيه لسؤالهم عن معتقداتهم وأسلوب حياتهم. يزعم فوكو أنه من "رعاية الذات، التي كرسها سقراط... هناك تطورت ... الإجراءات والممارسات والصيغ..." .
الفلسفة كعلاج
"ما لم تُشفَ الروح، وهو ما لا يمكن القيام به بدون فلسفة، فلن تكون هناك نهاية لبؤسنا". شيشرون
كان أتباع أبيقور والمتشككون والرواقيون يعتقدون جميعًا أن مهمة الفلسفة هي علاج وتخفيف المعاناة. كان يُنظر إلى الفلسفة على أنها مماثلة للطب، وكان يُنظر إلى الفيلسوف على أنه طبيب الروح الذي يشفينا من المعتقدات الزائفة والمخاوف غير العقلانية والرغبات الفارغة. "لقد اعتقدوا أن العواطف أو المشاعر هي المصدر الرئيسي لمعاناتنا وتعاستنا. وأنه بدون الفلسفة، فإن الفوضى والهموم والمخاوف والاضطرابات تحكم روحنا. ""وبالتالي، تبدو الفلسفة... كعلاج للعواطف. ولكل مدرسة طريقتها العلاجية... المرتبطة... بالتحول العميق لطريقة الفرد في الرؤية والوجود""."
العلاج الرواقي
لم يسع الرواقيون إلى التحكم في العواطف أو تعديلها، بل سعوا إلى القضاء عليها. فبالنسبة لهم، الحياة الطيبة هي حياة بلا عاطفة. والحكيم الرواقي هو اللامبالاة، من المعنى اليوناني الذي يعني بلا شعور. يحثنا الرواقيون على عدم إعطاء أهمية للأشياء الخارجية. فعندما نعلق أنفسنا بما ليس تحت سيطرتنا فإننا نعرض أنفسنا للانزعاج والحزن. فالحب، على سبيل المثال، يجلب معه الخوف من فقدانه، والغضب عندما يكون مهددًا، والحسد إذا كان لدى شخص آخر، والحزن على فقدانه. وبالنسبة للرواقيين، فإن العواطف هي مصدر كل حزننا. هناك شيء واحد فقط تحت سيطرتنا بأمان، وهو إرادتنا في فعل الخير أو الشر. وكل شيء آخر ليس متروكًا لنا وليس جيدًا ولا سيئًا، بل غير مبال. وهذا التمييز هو محور اهتمامهم الدائم. "الرواقي لديه دائمًا "في متناول اليد" القاعدة الأساسية للحياة ... التمييز بين ما يعتمد علينا وما لا يعتمد علينا." إن الرواقي لن يفرح إذا ورث ثروة ولن يحزن إذا فقد أحد أحبائه. إن الصحة والثروة، وكذلك الفقر والمرض، لا فرق بينهما. إن الخيرات الخارجية لا تؤثر على ما إذا كنا سعداء أو بائسين. إن اختياراتنا السيئة هي التي تضر بنا، وليس ما يحدث في العالم. إن الشيء الوحيد الضروري للسعادة هو الفضيلة. إن نموذجهم ليس أخيل الذي كان يبكي ويتدحرج في الغبار وينتزع شعره على وفاة صديقه باتروكلوس. بل إنهم نظروا إلى سقراط وكيف واجه الموت بهدوء أو إلى الفيلسوف أنكساغوراس، الذي عندما قيل له إن ابنه قد مات، قال: "كنت أدرك بالفعل أنني أنجبت بشرًا". على الرغم من أن الاعتقاد الرواقي بالاكتفاء الذاتي الكامل خاطئ بشكل واضح، إلا أن هناك شيئًا يجب قوله عن الشخص الذي لا يستعبد لبريق العالم. إذا وضعنا الرواقي في ضوء إيجابي، فيمكن وصفه بأنه "شخص يتحكم في نفسه - شخص، بدلاً من أن يكون عبدًا للثروة، فهو حر حقًا لمجرد أنه لا يهتم بالأشياء التي يتحكم بها الحظ. من خلال التحكم في نفسه، يتحكم في كل ما هو مهم للعيش بشكل جيد ..في عالم حيث يقدر معظم الناس الأشياء - مثل المال التي تبدو وكأنها تقدم القوة ولكنها في الحقيقة تقدم العبودية ... الشخص الحكيم هو الشخص الوحيد الحر حقًا ".
العلاج الأبيقوري
الأبيقورية هي فلسفة تسعى إلى راحة البال قبل كل شيء. وتحقيق هذا السلام يتطلب إزالة مصادر تعاستنا واضطرابنا. يُنظر إلى الألم العقلي على أنه أسوأ بكثير من الألم الجسدي. يلقي أبيقور اللوم على الرغبات الفارغة والمعتقدات الزائفة. "السبب وراء تعاسة الناس هو أنهم يتعذبون برغبات هائلة جوفاء، مثل تلك التي تتعلق بالثراء والرفاهية والهيمنة". يطلق أبيقور على مثل هذه الرغبات "جوفاء" لأنها لا تعرف حدودًا ولا يمكن إشباعها أبدًا. لن تكون أي كمية من المال كافية أبدًا لأولئك الذين يسعون إلى حياة الثراء. هذه الرغبات ليست طبيعية ولكنها نتيجة لمعتقدات خاطئة ومجتمع فاسد. من ناحية أخرى، فإن الرغبات الطبيعية لها حدود ويمكن إشباعها بسهولة. يمكن للطعام البسيط أن يشبع جوعنا وكذلك أغلى الأطعمة. لكن أعظم مصدر للبؤس والتعاسة، أكثر من العيش حياة فارغة، هو خوفنا من الموت. يمكن أن يكون الخوف من الموت شديدًا لدرجة أنه يمكن أن يكون سببًا في إرهاقنا. كما يزعم أبيقور أن الخوف من الموت هو نتيجة لمعتقدات خاطئة، وهو واثق من أنه إذا اتبعنا حججه فسوف نقتنع بأن "الموت لا شيء بالنسبة لنا". وقد شارك المتشككون والرواقيون أبيقور اعتقاده بأن خوفنا من الموت خاطئ وغير عقلاني. على النقيض من ذلك، يعتقد جميع الفلاسفة المعاصرين تقريبًا أنه من العقلاني أن نخاف من الموت. الحجة الرئيسية لأبيقور هي أنه إذا كان الموت سيئًا، فيجب أن يكون سيئًا لشخص ما. لكن الموت لا يمكن أن يكون سيئًا للأحياء لأنهم أحياء، ولا للأموات لأنهم غير موجودين. لا يوجد كائن موجود بعد الموت يمكنه تجربة المتعة أو الألم أو التعرض للأذى بأي شكل من الأشكال. لذلك، فإن الموت لا يعني شيئًا بالنسبة لنا. لم يكن الشاعر فيليب لاركن مقتنعًا. " الأشياء الزائفة التي تقول أنه لا يمكن لأي كائن عاقل أن يخاف من شيء لن يشعر به، دون أن يرى أن هذا هو ما نخافه - لا بصر، لا صوت، لا لمس أو تذوق أو رائحة، لا شيء للتفكير به، لا شيء للحب أو الارتباط به، المخدر الذي لا ينجو منه أحد". أكثر إقناعًا هو ما يسمى "حجة التماثل" التي استخدمها لوكريتيوس. زعم أنه بما أننا لا نخشى عدم وجودنا قبل الولادة، فلا ينبغي لنا أن نخشى عدم وجودنا بعد الموت. أو بلغة سينيكا: "ألا تعتقد أنه أحمق تمامًا من بكى لأنه لم يكن على قيد الحياة قبل ألف عام؟ "وهل هو أحمق مثله مثل من يبكي لأنه لن يكون حياً بعد ألف عام من الآن؟ الأمر سيان؛ لن تكون، ولم تكن كذلك.". منذ العصور القديمة وحتى العصر الحديث، أُدين أبيقور باعتباره من أتباع مذهب اللذة ومخرباً للقيم التقليدية لأنه حدد السعادة باللذة. كان في الواقع زاهداً. فاللذة بالنسبة له ليست شهوانية ورفاهية بل هي التحرر من الألم والهدوء. إذا عشنا حياة بسيطة، وقيدنا رغباتنا، وحررنا أنفسنا من الخوف من الموت، وتعلمنا قبول حالتنا الفانية، يمكننا أن نحظى بحياة هادئة، ونستعيد الفرحة البسيطة للوجود، مع شعور عميق بالامتنان للحياة.
التمارين الروحية
كانت كل المدارس القديمة تمارس "تمارين مصممة لضمان التقدم الروحي نحو الحالة المثالية للحكمة... وتتكون هذه التمارين عمومًا من ضبط النفس والتأمل. وضبط النفس يعني في الأساس الانتباه إلى الذات... وفي كل المدارس ستكون الفلسفة بشكل خاص عبارة عن تأمل في الموت وتركيز انتباه على اللحظة الحالية من أجل العيش بوعي كامل". يصنف هادوت التمارين التي تمارسها المدارس المختلفة تحت ثلاثة عناوين: 1) التركيز على الحاضر، 2) النظر إلى الأشياء من الأعلى و3) التأمل في الموت. وكان تمرين الموت يُمارس دائمًا مع التمرينين الآخرين.
الانتباه إلى اللحظة الحالية
"... يعيش الإنسان في العالم دون أن يدرك العالم". بيير هادوت
لا يمكننا أن نكون في الحاضر إلا إذا حررنا أنفسنا من الماضي والمستقبل. "إن الوقت لابد وأن يُعاش بطريقة مختلفة تمام الاختلاف عن التجربة اليومية التي نتنقل فيها بلا انقطاع بين الذكرى والتوقع، والندم والقلق، وفي هذه العملية نفقد اللحظة الحالية. ""بالنسبة للقدماء... كان تحول رؤية المرء للعالم مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالتمارين التي تتضمن تركيز ذهن المرء على اللحظة الحالية... وتتلخص هذه التمارين في ""فصل الذات عن المستقبل والماضي""، من أجل ""تحديد حدود اللحظة الحالية""." لقد أكد كل من الرواقيين والأبيقوريين على أهمية التواجد في اللحظة الحالية. ولكن ما يعنيه هذا في الممارسة العملية بالنسبة لهم كان مختلفاً تماماً. فبالنسبة للرواقيين فإن التواجد في اللحظة الحالية يتطلب توتراً وجهداً مستمرين. أما بالنسبة للأبيقوريين فإن التواجد في الحاضر يعني تعلم كيفية الاسترخاء وراحة البال. ""الفرق بين الموقفين هو أن الأبيقوري يستمتع باللحظة الحالية، في حين أن الرواقي يريدها بشدة؛ بالنسبة للأول، إنها متعة؛ وبالنسبة للثاني، واجب""." على الرغم من أنهما يبدوان متناقضين، فإن الرواقية والأبيقورية، مثل الشهيق والزفير، يكملان بعضهما البعض.
الموت والحاضر
يعيش أغلبنا وكأننا نملك وقتاً لا نهاية له، ولهذا السبب لا نفكر فيه كثيراً ونقضيه بحرية. إن التأمل في الموت قد يوقظنا من سباتنا، ويجعلنا ندرك أن وقتنا قصير وأن كل لحظة ثمينة. إن النكتة الشهيرة التي أطلقها صمويل جونسون تعبر عن هذه النقطة: "عندما يعلم الإنسان أنه سيُشنق بعد أسبوعين، فإن هذا يركز عقله بشكل رائع". كان الإمبراطور الروماني والرواقي ماركوس أوريليوس يعتقد أننا سنتغير جذرياً إذا عشنا وكأن كل يوم هو آخر يوم لنا. "إن فكرة الموت الوشيك... تحول طريقة تصرفنا بطريقة جذرية، من خلال إجبارنا على إدراك القيمة اللانهائية لكل لحظة: "يجب أن ننجز كل عمل من أعمال الحياة كما لو كان الأخير".لقد واجه دوستويفسكي الموت الوشيك وتغير إلى الأبد. فقد وُضِع هو وأعضاء آخرون في دائرة بتراشيفسكي، وهي مجموعة أدبية، أمام فرقة إعدام، فقط ليتم العفو عنهم في اللحظة الأخيرة من قبل القيصر نيكولاس الأول. وقد تم تنفيذ هذا الإعدام الوهمي بعناية من قبل القيصر. فقد أصيب أحد السجناء بالجنون، بينما أصيب الآخرون بندوب دائمة. ظهرت رواية دوستويفسكي بعد عشرين عامًا في روايته، الأبله. "لكن من الأفضل أن أخبرك عن رجل آخر التقيت به في العام الماضي ... تم إخراج هذا الرجل مع آخرين على سقالة وقرأ عليه حكم الإعدام رمياً بالرصاص، بتهمة ارتكاب جرائم سياسية ... يقول إنه لم يكن هناك شيء أكثر فظاعة في تلك اللحظة من الفكرة المزعجة: "ماذا لو لم يكن علي أن أموت! سأحول كل دقيقة إلى عمر، ولن يضيع أي شيء، وسيتم حساب كل دقيقة ...".
المنظر من الأعلى
تصوير هوميروس للآلهة اليونانية أثناء حرب طروادة إن النظر بهدوء من السماء إلى مشهد الإغريق والطرواديين المتحاربين قد يكون مصدرًا للتمرين الروحي المتمثل في النظر إلى الحياة من أعلى، من وجهة نظر الآلهة. كما يسعى هذا التمرين إلى تعليمنا النظر إلى العالم وأنفسنا بانفصال وموضوعية، من وجهة نظر عالمية. "الهدف هو تحرير الذات من فرديتها، من أجل الارتقاء إلى العالمية من خلال إدراك الذات كجزء من الطبيعة، وجزء من العقل العالمي". من منظور عالمي، تبدو همومنا ومخاوفنا تافهة وغير مهمة. "إن النظرة من أعلى تغير أحكامنا القيمية على الأشياء: الرفاهية، والسلطة، والحرب ... وتصبح هموم الحياة اليومية سخيفة".
الموت والنظرة من الأعلى
"إن النظر إلى الأشياء من الأعلى هو النظر إليها من منظور الموت...." بالنسبة لأفلاطون، يحاول الفيلسوف دائمًا فصل نفسه، قدر الإمكان، عن جسده وحواسه. إن هذا الانفصال الروحي بين الروح والجسد هو تدريب على الموت. "إن التدريب على الموت هو تدريب على الموت لشخصية الفرد وعواطفه، من أجل النظر إلى الأشياء من منظور العالمية والموضوعية." هنا يستعير أفلاطون فكرة أورفية مفادها أن الروح محاصرة في الجسد، وأن الجسد قبر. كما يزعم الوجوديون أن هذا الهروب إلى الكوني هو وهم وإنكار للموت. من وجهة نظر عالمية، قد يبدو الموت مجردًا وغير حقيقي، لكن مثل هذه اللامبالاة تتتلاشى بسرعة عندما نواجه احتمال موتنا. كما لاحظ مونتين، "عندما نظرت إلى الموت باعتباره نهاية حياتي، عالميًا، نظرت إليه بلا مبالاة.
التأمل في الموت
لقد تم استخدام التأمل في الموت في استخدامات مختلفة. فقد استخدمته جميع المدارس لتشجيع التركيز على اللحظة الحالية، ولجعلنا "نغتنم اليوم". وبالنسبة لأبيقورين فإن "التأمل في الموت يهدف إلى جعلنا ندرك القيمة المطلقة للوجود وعدم الموت، ومنحنا حب الحياة وقمع الخوف من الموت". استخدمت الرهبنة المسيحية التأمل في الموت لاستخدام مختلف تمامًا. فقد تم ممارسته ليس لتعزيز حب الحياة ولكن كراهيتها. "الدرس الذي علمه الأباتي إيفاجريوس [أحد آباء الصحراء] للرهبان تحت رعايته، بأن يفكروا باستمرار في الموت وآلام الجحيم ... أصبح هذا هو التعليم المقبول عالميًا طوال القرون المسيحية. "يجب على الإنسان أن يحتقر الحياة الحاضرة باستمرار، وأن يتأمل الموت باعتباره عقابًا للخطيئة، وأن يفكر في لحظة الموت باعتبارها لحظة بالغة الأهمية، وأن يتأمل عذابات العالم الآخر." بالنسبة لأبيقور، فإن الخوف من الموت الذي تروج له الأديان يفسد الروح ويدمر بهجة الوجود. وعلى نحو مماثل، أراد مونتين أن يتعلم مثل القدماء احتقار الموت "علينا أن نتأمل الموت، ليس كما تصر الكنيسة، حتى نخافه، وننظم حياتنا وفقًا لذلك، ولكن حتى نعتاد على وجوده لدرجة أننا لا نتأثر به." باختصار، إما أن نحتقر الحياة أو نحتقر الموت.
المسارات المؤدية إلى الكون
كما صنف هادوت التمارين الروحية تحت ثلاثة عناوين، فقد اختزلها أيضًا إلى اتجاهين. فهي إما تركز على الذات أو على التماهي مع ما هو أبعد من الذات. هناك "قرابة عميقة كانت موجودة بين كل هذه التمارين... يمكن اختزالها في النهاية إلى حركتين، متعارضتين ولكن متكاملتين... واحدة من تركيز الذات، والأخرى من توسيع الذات... كل منهما تسعى إلى تحقيق مثال واحد... الحكيم كنموذج عالمي...". باستثناء الشكوكية، كان هدف جميع المدارس الفلسفية القديمة هو الوصول إلى الكون. التمارين الروحية "التركيز على الحاضر" و"النظر إلى العالم من الأعلى" ليست سوى مسارات مختلفة لنفس الغاية.
التمارين الروحية والزهد
ميز هادوت التمارين الروحية عن الزهد. كانت التمارين الروحية التي مارسها الفلاسفة القدماء فكرية وخيالية في المقام الأول، أي تمارين فكرية فلسفية، في حين تتضمن الزهد "الامتناع التام أو التقييد في استخدام الطعام والشراب والنوم واللباس والممتلكات، وخاصة الامتناع عن ممارسة الجنس". على الرغم من وجود عنصر الزهد بالتأكيد في جميع المدارس القديمة. لقد تعرض هادوت لانتقادات بسبب تقييد التمارين الروحية بالتمارين العقلية. يمكن اعتبار التمارين الجسدية كما تمارس في هاثا يوغا وزن وتاي تشي تشوان تمارين روحية على قدم المساواة.
التمارين الروحية في العالم الحديث
في معظم المدارس الفلسفية كان الاعتقاد في النظام الكوني هو الخلفية والسياق الذي تمارس فيه التمارين الروحية. كان هدف التمارين هو جعل الروح في انسجام مع نظام الكون. يشكل الأبيقوريون الاستثناء الأعظم. إن أتباع مذهب أبيقور لا يرون في العالم سبباً أو نظاماً كونياً، بل ينظرون إلى العالم باعتباره نتاجاً للصدفة، وكوناً واحداً من عدد لا نهائي من الأكوان. وفي كثير من النواحي يبدو أتباع مذهب أبيقور معاصرين. ولكن "أتباع مذهب أبيقور استخدموا تمارين روحية... ولكن هذه الممارسات لا تستند إلى معايير الطبيعة أو العقل الكوني". إن المشكلة في جهود هادو لإحياء التمارين الروحية القديمة هي أننا لم نعد نعيش في كون. ولم نعد نعتقد، كما فعل الرواقيون والأفلاطونيون، أن الكون مشبع بالعقل وأنه شيء يمكن تقليده وتنظيم حياتنا به. فنحن الآن ننظر إلى الكون باعتباره حادثاً، بلا هدف أو اتجاه، وليس كنموذج يمكن محاكاته. ونحن نبحث عن المعنى ليس في نظام خارجي موضوعي، بل داخل أنفسنا. ومع ذلك، كان هادوت ينتقد تقييد فوكو للتمارين الروحية القديمة بتقنيات تشكيل الذات بدلاً من الجهود الرامية إلى الوصول إلى الكون. "من الصعب أن نقبل أن الممارسة الفلسفية للرواقيين والأفلاطونيين لم تكن سوى علاقة مع الذات... إن الشعور بالانتماء إلى كل هو عنصر أساسي... مثل هذا المنظور الكوني يحول الشعور الذي يشعر به المرء تجاه نفسه.". لكن هادوت لديه رأيان. فهو يعتقد أن ممارسة التمارين الروحية لا تزال ذات معنى في العصر الحديث. لست بحاجة إلى أن تصبح هندوسيًا لممارسة هاثا يوغا. ومع ذلك، فقد ضاع شيء ما؛ "أعلى نقطة يمكن أن تصل إليها الذات هي حيث يشعر المرء بأنه يفقد نفسه في شيء يتغلب عليه تمامًا." بالنسبة لنا المعاصرين، فإن العالم ليس من خلق الله ولا إلهيًا ولكنه بلا هدف وبلا معنى. وكما رثى الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل ستيفن وينبرج، "كلما بدا الكون مفهومًا، كلما بدا أيضًا بلا معنى.". كما يسرد نيتشه حكاية خرافية تجسد الحالة الحديثة. "في أحد أركان الكون البعيدة... كان هناك ذات يوم نجم اخترعت عليه حيوانات ذكية المعرفة. كانت تلك أسمى وأكذب دقيقة في "تاريخ العالم" ـ ولكنها دقيقة واحدة فقط. فبعد أن تنفست الطبيعة بضع أنفاس، برد النجم، واضطرت الحيوانات الذكية إلى الموت. قد يخترع المرء مثل هذه الحكاية ولا يزال غير قادر على توضيح مدى بؤس العقل البشري وغموضه وتقلبه وعدم هدفه وتعسفه في الطبيعة. لقد كانت هناك أزليات لم يكن العقل البشري موجوداً فيها؛ وعندما ينتهي مرة أخرى، لن يحدث شيء فقط مالكه ومنتجه يعطيه هذه الأهمية وكأن العالم يدور حوله. ولكن إذا تمكنا من التواصل مع البعوضة، فسوف نتعلم أنها تطير في الهواء بنفس الأهمية الذاتية، وتشعر في داخلها بأنها مركز العالم الطائر". قد نطلق على رؤية نيتشه نظرة مخيبة للآمال من أعلى. يروي برتراند راسل حكاية مماثلة في مقالته الأشهر على الأرجح "عبادة الانسان الحر".
خاتمة
إن إحياء الاهتمام بالتمارين الروحية كجزء حيوي من الفلسفة هو في جزء كبير نتيجة لكتاب هادوت. ومن بين أهم الأعمال التي تأثرت بهادوت كتاب مارثا نوسباوم "علاج الرغبة: النظرية والممارسة في الأخلاق الهلنستية" والمجلدان الثاني والثالث من كتاب ميشيل فوكو "تاريخ الجنسانية". وللتعرف على دور التمارين الروحية عند فريدريك نيتشه، يجدر الرجوع الى كتاب هورست هوتر "تشكيل المستقبل: نظام نيتشه الجديد للروح وممارساته الزهدية" وكتاب مايكل أور "علاج نيتشه: تنمية الذات في الأعمال الوسطى". فاذا كانت الفلسفة أسلوبا لتحويل نمط وجود الانسان فكيف أرادها البعض مجرد تأمل تفكيري؟
***
د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

لا تكتمل ممارسة الخطاب إلا بوجود مكوناته، ما يكتبه الكاتب، وما يقرأه القارئ، على اعتبار أن الخطاب رسالة من الكاتب إلى القارئ، فضلاً عن دور الأخير في عملية انتاج نص آخر يترتب عن قراءته لنص الكاتب. لكن تبقى هذه الممارسة الخطابية، مع اكتمال مكوناتها، بحاجة إلى قصدية المؤلف في كتاباته، فالخطاب لا يأخذ قيمته إلا ضمن العملية التفاعلية بين المتكلم والمُخاطَب، فلا بد أن يكون القصد جلياً وواضحاً، فالمقاصد هي المنطلقات الشخصية للمتحدثين، فهي نوايا القائلين، وبهذه الكيفية نتمكن من وصف الفعل الكلامي بأنه قصدي، متى ما كان قصد المتكلم هو جعل المخاطب يتعرف على شيئين على الأقل:
- قصده التواصلي: قصد أن المخاطَب يعرف قصد المتكلم في بناء فعل تواصلي.
- قصده التكلمي: قصد أن المخَاطب يعرف الهدف من الفعل التكلمي، وأن تعرّفه عليه يتم بالتلفظ بهذا الفعل.
وتتعزز سلطة المتكلم في مقصديته، لأنه الذي يحدد معاني كلامه سلفاً، ويترتب عن هذا منطقياً أن المتلقي ليس له أي دور في مسألة إضفاء المعنى على الألفاظ؛ لأنها وليدة معانٍ مسؤولة عن تمظهرها سابقاً، وما على القارئ إلا أن يبحث عنها من خلال الألفاظ ذاتها، أو أن يجتهد لبلوغها إذا كانت مستترة وراء ألفاظها.
والقصدية كما يعرفها (جون سيرل/ العقل واللغة والمجتمع: ص102) هي سمة العقل التي توجه بها الحالات العقلية، أو تتعلق بها حالات عقلية أو تشير إليها، أو تهدف نحوها في العلم؛ وما يميز هذه السمة أن الشيء لا يحتاج أن يوجد فعلياً لكي تمثله حالتنا الشعورية. وتمثل بشكلٍ عام الأرضية التي تُبنى فوقها الخطابات العادية منها والفنية؛ إذ يقف المقصد وراء كل نظم يُقدم عليه الإنسان، ويلعب القصد دوراً حاسماً في حقلي الدلالة والسيميولوجيا؛ إذ من الضروري ارتباط القصد بالعلامة (الدليل)، عن الاستعمال أو التواصل، لينجح المرسل في خطابه، ويضطلع القصد بدور في تصنيف هذه العلامات، فالباحثون يفرقون بين العلامات ذات الدلالة الطبيعية والعلامات ذات الدلالة المقصودة. ويذهب (بول ريكور) إلى إن الفعل الأول للوعي هو المعنى، والقصدية هي تحديد هذا المعنى بالعلامة، التي تتوسط علاقة الوعي بالأشياء... ولقد ربط (ريكور) بين قصدية الوعي ورمزية الكتاب المقدس، ليصل بهذا الربط إلى معنى أعمق للأشياء على نحو ما هي عليه بالفعل (إديث كريزويل/ عصر البنيوية: 138). ويؤكد (جون سيرل/ العقل واللغة والمجتمع: ص207-208) على أن المعنى هو شكل قصدي، يتحول إلى كلمات وجمل، ورموزٍ إذا ما أحسن النطق بهذه الكلمات والجمل؛ بحيث تكون ذات معنى، فإنها تنطوي على قصدية مشتقة من أفكار المتكلم، فهي لا تنطوي على مجرد معنى لغوي تقليدي فحسب، بل على معنى يقصده المتكلم أيضاً، فالمتكلم حين يؤدي فعلاً كلامياً فإنه يفرض قصديته على هذه العلامات والرموز.
وإن عملية الاتصال اللغوي بين طرفي الخطاب لا تخلو من تعقيد؛ وذلك بغية معرفة القصد، خصوصاً عندما يتمايز قصد المُرسل من المعنى الحرفي للخطاب، وعلى ذلك يصبح اللغز الذي يبرز مباشرة هو كيف يمكن أن يُدرِك المرسَل إليه هذه المقاصد المتعاكسة والمعقدة التي يعنيها المُرسِل؟. ويُرجع أحد المتخصصين (جورج يول/ معرفة اللغة: ص132-133). ذلك التعقيد إلى تعدد معنى الخطاب الواحد، وفي تعدد أفعاله الإنجازية، فإنه قد يُنتج خطاباً يقبل أكثر من تأويل في السياق الواحد. ويبرز دور السياق-من جهة أخرى- في تقليص سوء الفهم حول المحتوى الخبري، ويُفلِح جزئياً في التغلب على مصاعب عدم إمكان نقل التجربة والمقاصد، وهذا ما يشير إليه (بول ريكور/ نظرية التأويل: ص45)، حيث يقول: "تتمثل الوظيفة السياقية للخطاب في حجب تعدد المعاني في الكلمات، وتقليص الاستقطاب في أقل عدد ممكن من التأويلات؛ أي غموض الخطاب الناشئ عن التعدد المُنكشف في معاني الكلمات".
ونتيجة لما تقدم، يتضح لنا أن للقصدية منزلة كبيرة في ميادين فلسفة اللغة، لصلتها المباشرة بالمعنى والدلالة، ولكونها تقوم على تثبيت المكانة الهامة للخطاب والمخاطبة، باعتبارها المحور الرئيس في مطاردة القارئ لقصدية المؤلف.
***
د. حيدر عبد السادة جودة

في المثقف اليوم