تطرقنا في مقال سابق لعرض شامل وخاص بفلسفة هوسرل، تحديدا بوصفها علم نفس، ولكن في هذا المقال سنسلط الضوء على أحد المعرفين بفلسفة الظاهراتية لهوسرل ومنتقديها وهو إيمانويل ليفيناس ([1](Emmanuel Levinas، صاحب «إيتيقا الغيريّة» ساهم في التّعريف بفينومينولوجيا هوسّرل في فرنسا. درّس الفلسفة بجامعة بواتياي سنة 1964 ثمّ انتقل بعد ذلك إلى جامعة نانتار "1967 " وأخيرا إلى السّوربون عام 1973. إيمانويل ليفيناس كان له اهتمام خاص بفلسفة هوسرل الظاهراتية، وقد استخدمها كأساس لتطوير أفكاره الخاصة حول الأخلاق والوجود، وهو واحد من أبرز الفلاسفة الذين انتقدوا فلسفة هوسرل، لكنه ليس الوحيد. هناك عدد من الفلاسفة الذين قدموا نقدًا مهمًا لأفكار هوسرل في الزمن المعاصر، ويعتبر هايدغر، الذي كان في البداية تلميذًا لهوسرل، من أهم النقاد. لقد أظهر كيف أن التركيز على الوعي في فلسفة هوسرل يتجاهل الكينونة والوجود في العالم. ثم جون بول سارتر، الذي تأثر بفلسفة هوسرل، ثم انتقد بعض جوانب الظاهراتية وركز على حرية الإرادة ووجود الفرد. وكذلك جورج باتاي(George bataille) يعتبر باتاي أيضًا من النقاد الذين استلهموا من أفكار هوسرل ولكنهم أخذوا فلسفتهم في اتجاهات مختلفة، مع التركيز على قضايا مثل الرغبة والجسد. وهناك أعمال لأكاديميين فرنسيين تناولت التأثير الهوسرلي في مجالات متعددة مثل علم النفس وعلم الاجتماع. بينما يعد ليفيناس واحدًا من الأهم في نقده وفي طليعة الفرنسيين المهتمين بفلسفة هوسرل، كما هناك تيارات فلسفية مختلفة تتناول وتعيد التفكير في أفكار هوسرل، مما أثرى الحوار الفلسفي حول الظاهراتية.
ومن أهم وأبرز النقاط التي تناولها ليفيناس حول فلسفة هوسرل:
- أن الظاهراتية توفر إطارًا لفهم تجربة الوعي. حيث كان هوسرل مهتمًا بكيفية ظهور الأشياء في الوعي، وهو ما أثر على ليفيناس في تحديد كيفية ظهور الآخر.
- انتقاده لتركيز هوسرل على الذات واعتبر أن فهم الآخر هو مركز الوجود. بالنسبة له، العلاقة مع الآخر ليست مجرد تجربة بل هي أساس الأخلاق.
- رؤيته أن الأخلاق تبدأ من مواجهة الآخر، وهذا يتعارض مع التركيز الهوسرلي على المعرفة الذاتية. في أعماله، مثل " الكلية واللامتناهي"، يتحدث عن كيفية أن الآخر يحمل مسؤولية أخلاقية.
أضاف لوفيناس بُعدًا زمنيًا لفهمه للوجود، حيث اعتبر أن الزمن يتشكل من خلال العلاقات مع الآخرين، عوضًا عن كونه مجرد تسلسل منطقي كما في تفكير هوسرل.
كما أن لوفيناس تناول تقريبا كل نتاجه الفلسفي الظاهراتية وأفكار هوسرل خصوصا في مؤلفاته:
إيمانويل ليفيناس قدم نقدًا لفلسفة هوسرل في عدة أعمال رئيسية. على الوجه التحديد:
الكلية واللامتناهي.
"Totality and Infinity"
بخلاف الوجود أو ما وراء الجوهر .
Otherwise than Being or beyond the essence
الأخلاق واللامتناهي.
"Ethics and Infinity»
الزمن والآخر.
"The Time of the Other"
من خلال هذه الأعمال، يمكن فهم كيف قام ليفيناس بإعادة التفكير في القضايا الفلسفية المطروحة من قبل هوسرل، وأهمية العلاقة مع الآخر في تشكيل الفهم الأخلاقي والوجودي.
كما لا نغفل على أن إيمانويل ليفيناس تأثر بفلسفة هايدغر الوجودية، وقد اعتمد على نقد هايدغر لفلسفة هوسرل في تطوير أفكاره الخاصة. من بين الأفكار التي توضح العلاقة بين الثلاثة:
انتقاد الوعي: هايدغر انتقد التركيز الهوسرلي على الوعي كمرجع وحيد للفهم، واعتبر أن الوجود يكتسب معناه من الكينونة في العالم. ليفيناس أخذ هذا النقد كمحفز لتوسيع رؤيته، مؤكدًا على أهمية الآخر والعلاقات الأخلاقية.
الوجود والآخر: بينما ركز هايدغر على الكينونة كموضوع أساسي، قام ليفيناس بتوجيه انتباهه نحو الآخر، معتبرًا أن مواجهة الآخر هي التي تشكل جوهر الأخلاق والوجود، وهو ما يتجاوز التركيز على الذات.
الزمان والوجود: ليفيناس انتقد المفهوم التقليدي للزمان كما صوره هوسرل، وبدلاً من ذلك، قدم رؤية للزمان تتشكل من خلال العلاقات مع الآخرين، مستفيدًا من النقد الوجودي الذي طرحه هايدغر.
بذلك، يمكن القول إن ليفيناس كان يستند إلى نقد هايدغر لفلسفة هوسرل في تشكيل أفكاره، مما أضاف بعدًا جديدًا للأخلاق والوجود.
التقاطع الفلسفي بين ليفيناس وهوسرل:
إيمانويل ليفيناس وإدموند هوسرل لديهما بعض النقاط المشتركة، رغم اختلافهما في العديد من الجوانب. هناك بعض الأفكار التي يتفقان فيها:
التركيز على الخبرة: كلاهما يؤكدان أهمية الخبرة كوسيلة لفهم العالم. هوسرل يركز على كيف تظهر الأشياء في الوعي، بينما ليفيناس يعترف بأهمية التجربة الذاتية في فهم العلاقات مع الآخرين.
الظاهراتية: ليفيناس يستند إلى أسس الظاهراتية الهوسرلية، حيث يعتبرها إطارًا لفهم الوجود. هو يستفيد من الطريقة التي يحقق بها هوسرل فهم الوعي وتجلياته.
التحليل التفصيلي: يتبنى كلاهما منهجية تحليلية تستند إلى دراسة الظواهر كما تظهر في الوعي، مما يتيح لهما تقصي تجارب الإنسان بشكل دقيق.
نقد العقلانية التقليدية: كلاهما ينتقدان العقلانية التقليدية التي تتجاهل التجربة الفردية والعلاقات الإنسانية، مما يفتح المجال لفهم أعمق للأخلاق والوجود.
الاهتمام بالزمان: رغم أن ليفيناس يطور فكرة الزمن بطريقة مختلفة، إلا أنه يتفق مع هوسرل في أن الزمن يلعب دورًا محوريًا في فهم الوجود والتجربة.
بذلك، يمكن القول إن ليفيناس، رغم انتقاداته، يستند إلى الكثير من المفاهيم الأساسية التي وضعها هوسرل، مما يعكس تأثير الظاهراتية في فكره.
أهم محطات نقد ليفيناس لهوسرل:
إيمانويل ليفيناس في أهم جميع أعماله ناقش إشكاليات التاريخ وعلم النفس والمستقبل في سياق فلسفة هوسرل، مع إبداء آرائه النقدية الخاصة. مع خصوصية كيفية تناوله لهذه المواضيع:
التاريخ: ليفيناس انتقد الفهم الهوسرلي للتاريخ كعملية عقلانية أو تجريبية، حيث اعتبر أن التاريخ يجب أن يُفهم من منظور العلاقات مع الآخرين. بالنسبة له، التاريخ ليس مجرد سلسلة من الأحداث، بل هو يتشكل من خلال الالتزامات الأخلاقية والتفاعلات الإنسانية[2].
علم النفس: ليفيناس أبدى اهتمامًا بكيفية تأثير الوعي على فهم النفس، لكنه انتقد التركيز الهوسرلي على الوعي الفردي كمرجع وحيد. اعتبر أن علم النفس يجب أن يأخذ في اعتباره العلاقات مع الآخر، وليس فقط تجربة الذات.
المستقبل: في نقده لمفهوم الزمن لدى هوسرل، أشار ليفيناس إلى أن المستقبل يتجاوز مجرد كونه تسلسلًا زمنيًا. بل إنه يتضمن الأمل والتوقعات التي تنبثق من علاقاتنا مع الآخرين، مما يضيف بُعدًا أخلاقيًا لهذا المفهوم[3].
بشكل عام، ليفيناس يستخدم الإشكاليات التاريخية والنفسية والمستقبلية ليقدم رؤية أكثر تعقيدًا وإنسانية تتجاوز الفهم الهوسرلي التقليدي.
نقد مفهوم الأفق عند هوسرل:
نعم، انتقد إيمانويل ليفيناس مفهوم الأفق الذي وضعه هوسرل، حيث حدد هذا الأخير أربعة أنواع من الآفاق: الأفق الداخلي، الأفق الخارجي، الأفق الزماني، والأفق البينذاتي. إليك كيفية تناول ليفيناس لهذه النقطة:
الأفق الداخلي: يتعلق بالخبرة الذاتية للفرد. ليفيناس اعتبر أن هذا التركيز على الذات يغفل أهمية الآخر، حيث أن وجود الآخر هو الذي يفتح الأفق ويشكل تجربتنا.
الأفق الخارجي: يتحدث عن العلاقات مع العالم الخارجي. ليفيناس انتقد هذا المفهوم لأنه يظل محصورًا في تجربة الذات، متجاهلًا كيف أن الآخر يساهم في تشكيل فهمنا للعالم.
الأفق الزماني: في هذا الأفق، يدرس هوسرل كيف يتشكل الزمن في الوعي. ليفيناس رأى أن هذا الفهم للزمان ينبغي أن يتضمن العلاقة مع الآخر، حيث أن المستقبل والأمل يتشكلان من خلال التفاعل مع الآخرين، وليس فقط من خلال الوعي الفردي.
الأفق البينذاتي: يتعلق بالتفاعل بين الأفراد. ليفيناس انتقد فكرة أن هذا الأفق يمكن أن يُفهم فقط من خلال وجهة نظر عقلانية، حيث يرى أن العلاقات الإنسانية تحمل بُعدًا أخلاقيًا يتجاوز الفهم البينذاتي.
عموما ليفيناس اعتبر أن هوسرل لم يعطِ الأهمية الكافية للآخر، مما يحرم الفلسفة من البُعد الأخلاقي الضروري لفهم التجربة الإنسانية. ومن خلال انتقاده، يسعى ليفيناس إلى إعادة تشكيل المفاهيم بحيث تكون العلاقات مع الآخرين مركزية، وليس فقط تجربة الفرد. بهذا الشكل، يُظهر ليفيناس كيف أن فهم الأفق يجب أن يتجاوز الفهم الفردي ليشمل البُعد الأخلاقي والوجودي للعلاقات الإنسانية.[4]
نقد وعي الإدراك عند هوسرل:
تناول ليفيناس وعي الإدراك عند هوسرل من منظور نقدي، مع التركيز على أهمية العلاقات الإنسانية والأخلاق. حيث ركز على المحاور الأربعة التي حددها هوسرل:
القصدية: هوسرل يرى أن الوعي دائمًا موجه نحو شيء ما، أي أن كل فعل إدراكي يكون له هدف أو غرض. ليفيناس انتقد هذا الفهم، معتبرًا أن القصدية تركز كثيرًا على الذات ووعيها، مما يتجاهل كيفية أن الآخر يلعب دورًا أساسيًا في تشكيل إدراكنا. بالنسبة له، فإن القصدية ليست فقط في الفهم الفردي بل تتضمن التفاعل مع الآخرين.
العيان المقولي: يشير هوسرل إلى الطريقة التي يظهر بها المعنى من خلال اللغة والتعبير. ليفيناس أضاف بعدًا أخلاقيًا إلى هذا المفهوم، حيث رأى أن العيان المقولي يتطلب وجود الآخر كمصدر للمعنى. الكلمات لا تعبر فقط عن الأفكار، بل تتطلب استجابة الآخر لتشكيل المعنى بشكل كامل.
القبلية: تتعلق القبلية بكيفية وجود الخبرات السابقة في تشكيل الإدراك الحالي. ليفيناس أشار إلى أن هذه الفكرة تعزز من الفردية، ويفترض أن هذه الخبرات لا تكفي لفهم العلاقة مع الآخر. بدلاً من ذلك، يجب أن تتضمن الخبرة أيضًا التفاعل المستمر مع الآخرين.
وعليه يكون ليفيناس قد ساهم في إعادة تشكيل الفهم الإدراكي، مضيفًا بعدًا إنسانيًا وأخلاقيًا يتجاوز المفاهيم التقليدية التي وضعها هوسرل، عبر بعدين:
نقد التركيز على الذات: انتقد ليفيناس تركيز هوسرل على الوعي الفردي، مؤكداً أن الإدراك لا يمكن أن يُفهم بشكل كامل دون إدراك وجود الآخر وتأثيره.
الأبعاد الأخلاقية: ليفيناس قدم فكرة أن الإدراك يحمل بعدًا أخلاقيًا، حيث أن فهمنا للعالم وللآخرين يرتبط بالالتزامات والمسؤوليات تجاههم.
أزمة العلوم عند هوسرل كأزمة حياة في نقد ليفيناس للظاهراتية
إيمانويل ليفيناس ناقش "أزمة العلوم" كما طرحها هوسرل في سياق نقده للظاهراتية، حيث اعتبر أن هذا المفهوم يتجاوز حدود الفهم التقليدي للعلم ليشير إلى أزمة أعمق في حياة الإنسان ومعانيه.
أزمة العلوم عند هوسرل:
هوسرل اعتبر أن العلوم الحديثة، بما فيها العلوم الطبيعية والاجتماعية، تفصل بين المعرفة الحقيقية ومعنى الحياة. وبهذا، فإنها تعاني من أزمة لأنهما لا يلتقيان في فهم شامل للتجربة الإنسانية.
نقد ليفيناس:
فصل الذات عن الآخر: انتقد ليفيناس تركيز هوسرل على الذات كمرجع وحيد للمعرفة. بالنسبة له، فإن هذا يساهم في تفكيك العلاقات الإنسانية، ويؤدي إلى غياب البُعد الأخلاقي الذي يمثل جوهر الحياة.
الأبعاد الأخلاقية والوجودية: ليفيناس رأى أن أزمة العلوم ليست فقط مسألة معرفية، بل تتعلق بالمعاني الأخلاقية والوجودية. إذ يجب أن تشمل المعرفة العلاقات مع الآخرين والالتزامات تجاههم.
الوجود كعلاقة: بدلاً من اعتبار العلم كعملية معرفية منفصلة، دعا ليفيناس إلى فهم الوجود كعلاقة حية ومتفاعلة. وهذا يعكس كيف أن العلوم، لتكون ذات معنى، يجب أن تستند إلى التجارب الإنسانية والأخلاقية.
التجاوز نحو الظاهراتية:
إعادة التفكير في الظاهراتية: ليفيناس استخدم نقده لأزمة العلوم لإعادة التفكير في الظاهراتية. بدلاً من التركيز على الوعي الفردي فقط، دعا إلى أهمية الآخر وعلاقته بالذات في تشكيل المعرفة. بإختصار، يعتبر نقد ليفيناس لأزمة العلوم عند هوسرل بمثابة دعوة لإعادة التركيز على الأبعاد الأخلاقية والوجودية في الفلسفة، مؤكدًا أن المعرفة الحقيقية يجب أن تشمل العلاقات الإنسانية والتجارب المشتركة.
وهنا يمكن التساؤل أن: إعادة التفكير في الظاهراتية نفسه تناوله هوسرل تحت عنوان الظاهراتية التقومية، أين الجديد في فلسفة ليفيناس؟
كل من هوسرل وليفيناس تناولوا مفهوم الظاهراتية من زوايا مختلفة، وكل منهما قدم رؤى جديدة تتعلق بها. هوسرل في إطار الظاهراتية التقومية ( أو "الظاهراتية التاريخية") يعبر عن كيفية فهم التجربة الإنسانية من خلال السياقات الاجتماعية والثقافية والتاريخية. ويؤكد على أن كل تجربة لها أفق معين يتشكل من خلال تاريخ الفرد وعلاقاته بالآخرين.[5]
في حين ليفيناس تناول الظاهراتية من منظور أخلاقي ووجودي، حيث قدم مفهوم "الظاهراتية المتعالية". عبر محددات الأساسية حول هذا المفهوم:
التجاوز إلى الآخر: بالنسبة لليفيناس، فإن الوعي لا يقتصر على الذات فقط، بل يتجاوز ذلك ليشمل الآخر. وهو يرى أن فهم الوجود لا يمكن أن يكتمل بدون اعتبار العلاقات مع الآخرين.
الأخلاق كأولوية: يعتبر ليفيناس أن الظاهراتية المتعالية تنطوي على بعد أخلاقي يتجاوز المعرفة الذاتية، حيث إن التفاعل مع الآخر يستدعي مسؤوليات أخلاقية.
الإفصاح عن المعنى: في الظاهراتية المتعالية، يُفهم المعنى من خلال العلاقة مع الآخر، وليس فقط من خلال الوعي الفردي. لذا، يشكل الآخر الأفق الذي يفتح معنى الحياة والتجربة.[6]
بينما ركز هوسرل على كيفية تشكيل التجربة الإنسانية من خلال الأفق الثقافي والاجتماعي، استخدم ليفيناس الظاهراتية كأداة لإبراز البعد الأخلاقي وضرورة وجود الآخر في فهم الوجود. هذا التحول يعكس كيف يمكن أن تكون الفلسفة أداة لفهم العلاقات الإنسانية في سياق أعمق من المعرفة التقليدية.
كيف ينظر ليفيناس إلى الظاهراتية التقومية والظااهراتية المتعالية ؟
إيمانويل ليفيناس يرى أن الظاهراتية المتعالية هي الأقدر على التصدي للتحديات المعاصرة، بينما يعتبر الظاهراتية التقومية أقل قدرة على معالجة قضايا مثل الأخلاق والعلاقات الإنسانية.
فالظاهراتية المتعالية الأفضل لسببين:
الأخلاق والآخر: ليفيناس يؤكد أن الظاهراتية المتعالية تركز على العلاقات مع الآخرين، وتعتبر الأخلاق هي مركز الفهم. هذه الرؤية تتيح استكشاف القضايا المعاصرة المتعلقة بالعدالة، الهوية، والوجود، مما يجعلها أكثر صمودًا في مواجهة التحديات الحديثة.
التجاوز للذات: من خلال التركيز على الآخر، تقدم الظاهراتية المتعالية بُعدًا وجوديًا وأخلاقيًا يتجاوز التجربة الفردية، مما يجعلها قادرة على معالجة أزمات مثل الاغتراب وفقدان المعنى[7].
لكن الظاهراتية التقومية لا تصمد أمام التحديات المعاصرة لكونها تستند على:
التركيز على السياق التاريخي: بينما تعالج الظاهراتية التقومية قضايا مرتبطة بالتاريخ والثقافة، إلا أن ليفيناس يعتبر أن هذه المقاربة قد تظل محصورة في الأبعاد الاجتماعية والسياسية، مما يجعلها غير كافية لمواجهة الإشكاليات الأخلاقية.
نقص البعد الأخلاقي: برأيه، الظاهراتية التقومية لا تعطي الأهمية الكافية للبعد الأخلاقي والإنساني، وهذا يجعلها غير قادرة على استيعاب تعقيدات العلاقات المعاصرة.
باختصار، ليفيناس يرى أن الظاهراتية المتعالية، بما تقدمه من أبعاد أخلاقية وإنسانية، هي الأكثر قدرة على مواجهة تحديات العصر الحالي، بينما الظاهراتية التقومية قد تكون محدودة في تناول القضايا العميقة المرتبطة بالوجود والعلاقات الإنسانية.
التذاوت عند ليفيناس:
إيمانويل ليفيناس تناول مفهوم التذاوت (الآخرية أو الآخر) في عدة كتب، حيث يعتبر هذا المفهوم محورًا أساسيًا في فلسفته. نذكر أهمها:
"Totality and Infinity"
التذاوت كشرط للوجود: في هذا الكتاب، يبرز ليفيناس كيف أن وجود الآخر هو ما يتيح للذات أن تتجاوز نفسها. لا يمكن فهم الذات بشكل كامل إلا من خلال العلاقة مع الآخر. ويناقش كيف أن التذاوت هو ما يفتح الأفق للمعنى والتجربة.[8]
"Otherwise than Being"
التذاوت كفكرة أخلاقية: هنا، يقدم ليفيناس مفهوم التذاوت بوصفه شرطًا أخلاقيًا، حيث إن الآخر ليس مجرد موضوع للإدراك بل هو من يفرض على الذات مسؤوليات أخلاقية. ويبين كيفية تشكيل التذاوت في فهم ليفيناس للعلاقات الإنسانية والأخلاق[9].
"Ethics and Infinity"
التركيز على الأخلاق والعلاقة مع الآخر: في محاضراته، يركز ليفيناس على أهمية الآخر وكيف يشكل وجوده أساسًا للأخلاق. ويعتبر أن التذاوت هو الذي يخلق التحدي الأخلاقي أمام الذات، ويناقش كيف يشكل الآخر الأفق الأخلاقي للتجربة الإنسانية[10].
"The Time of the Other"
فهم الزمن من خلال الآخر: يتناول ليفيناس كيف أن تجربة الزمن تتشكل من خلال العلاقات مع الآخرين، مما يجعل التذاوت ضروريًا لفهم الوجود. وكيفية تأثير الآخر على فهمنا للزمن.[11]
في فلسفة ليفيناس، يعتبر التذاوت محورًا مركزيًا لفهم العلاقات الإنسانية والأخلاق. من خلال التركيز على الآخر، يفتح ليفيناس أفقًا جديدًا لفهم الوجود، مما يتجاوز التجربة الفردية الضيقة.
التذاوت عند هوسرل في فكر ليفيناس
إيمانويل ليفيناس ناقش مفهوم التذاوت في سياق أفكار إدموند هوسرل، حيث اعتبر أن هوسرل لم يعطِ الأهمية الكافية للآخر في فلسفته.
"Totality and Infinity" نقد هوسرل: في هذا الكتاب، يشير ليفيناس إلى أن هوسرل، رغم تركيزه على القصدية والتجربة، قد أهمل العلاقة مع الآخر كعنصر أساسي لفهم الذات. يعتبر التذاوت عند ليفيناس تجسيدًا لتجربة أخلاقية ضرورية لفهم الهوية. حيث ناقش الفجوة بين الوعي الذاتي والعلاقة مع الآخر[12].
"Otherwise than Being"
التجاوز للذات: يتناول ليفيناس مفهوم التذاوت كوسيلة لتجاوز الذات، مؤكدًا أن الوجود يتشكل من خلال التفاعل مع الآخرين. ينتقد ليفيناس عدم قدرة هوسرل على رؤية هذا البعد بشكل كامل وأيضا كيف يشكل التذاوت الهوية والمعنى[13].
"Ethics and Infinity"
التذاوت بوصفه شرطًا أخلاقيًا: يوضح ليفيناس كيف أن الوجود مع الآخر يفرض مسؤوليات أخلاقية. ويعتبر أن هوسرل قد غفل عن هذا البعد في تركيزه على الوعي.[14]
"The Time of the Other"
الزمن والتذاوت: يناقش ليفيناس كيف يتشكل مفهوم الزمن من خلال العلاقات مع الآخرين، مما يعكس أهمية التذاوت في فهم الوجود. كما يطرح رؤى حول العلاقة بين الزمن والتذاوت.[15]
بشكل عام، يعتبر ليفيناس أن مفهوم التذاوت لدى هوسرل يحتاج إلى إعادة تقييم، حيث أن العلاقة مع الآخر تشكل أساسًا لفهم الهوية والأخلاق، مما يتجاوز الفهم الفردي.
ظاهرية التمثيل والتذاوت
إيمانويل ليفيناس تناول ظاهراتية هوسرل من زاوية نقدية، معتبرًا أنها تتعلق بشكل كبير بموضوع التمثيل، وهذا ينعكس على مفهوم التذاوت.
ظاهراتية التمثيل:
هوسرل يركز على كيف يمثل الوعي الأشياء ويعبر عنها. وهو يستخدم الظاهراتية كوسيلة لفهم كيف تظهر الأشياء في الوعي. ويعتبر ليفيناس أن هذا التركيز على التمثيل يغفل الجانب الأخلاقي والوجودي، حيث يتجاهل تأثير العلاقات الإنسانية. لذلك نجد لا فيناس في فلسفته يدعو إلى[16]:
التجاوز للتمثيل: ليفيناس يؤكد أن الوجود مع الآخر يتجاوز مجرد التمثيل الذاتي. فالتذاوت لا يُفهم فقط كموضوع يُمثل في الوعي، بل هو علاقة تتطلب مسؤولية والتزام تجاه الآخر.
الجانب الأخلاقي: يؤكد ليفيناس أن التذاوت هو أساس الأخلاق، حيث أن كل تجربة تُشكل من خلال العلاقة مع الآخر.
بالتالي، يرى ليفيناس أن ظاهراتية هوسرل، بالرغم من أهميتها، تظل محصورة في نطاق التمثيل، مما يغفل جوانب التذاوت والأخلاق التي تعتبر مركزية لفهم التجربة الإنسانية.
مقارنة بين العلاقة الأنطولوجية بين الذات والآخر عند كل من هوسرل وليفيناس:
العلاقة الأنطولوجية بين الذات والآخر كما تناولها كل من هوسرل وليفيناس كالآتي:
إدموند هوسرل:
الأنطولوجيا القصدية: يرى هوسرل أن الوعي دائمًا موجه نحو موضوعات، وبالتالي، فإن العلاقة بين الذات والآخر تتشكل من خلال هذه القصدية. الآخر يُفهم كموضوع يُمكن تمثيله في الوعي.
التمثيل والتجربة: الآخر يتواجد كموضوع تجريبي، مما يعني أن الوعي يمكن أن يدرك الآخر، ولكن دون الاعتراف بوجوده ككيان مستقل بالكامل. هذه العلاقة تُعبر عن وجود "الآخر" في إطار القصدية فقط.
الأفق المشترك: رغم أن هوسرل يعترف بوجود الآخر، إلا أن فهمه يظل محصورًا ضمن إطار القصدية وتجربة الذات، مما يعكس علاقة تتسم بالتحليل الموضوعي.
إيمانويل ليفيناس:
الأخلاقية الأنطولوجية:
يذهب ليفيناس إلى أبعد من ذلك، حيث يعتبر أن الآخر ليس مجرد موضوع للتمثيل، بل هو شرط أساسي لفهم الذات. العلاقة مع الآخر هي ما يخلق هوية الذات.
التذاوت كعلاقة:
الآخر يُعتبر مصدرًا للأخلاق، وليس فقط موضوعًا للمعرفة. يرى ليفيناس أن التذاوت هو مسؤولية تجاه الآخر، حيث تُشكل العلاقة مع الآخر أساس الوجود الأخلاقي.
الحدود الفلسفية:
ينقد ليفيناس الفهم الهوسرلي للذات لأنه يتجاهل الأبعاد الأخلاقية. العلاقة مع الآخر تكون دائمًا ذات طبيعة إنسانية ووجودية، تتجاوز الوعي الفردي.
و عليه نجد أنه عند هوسرل الآخر كموضوع يُمثل في الوعي، حيث يعتمد على القصدية، بينما عند ليفيناس الآخر كشرط وجودي، يتحكم في الهوية ويُشكل العلاقة الأخلاقية. وفلسفيا، الأنطولوجيا عند هوسرل تميل إلى التحليل الموضوعي، التركيز على المعرفة والتجربة.و ليفيناس تأخذ طابعًا أخلاقيًا، حيث العلاقة مع الآخر هي مركز الفهم.
وعليه بينما يعالج هوسرل العلاقة بين الذات والآخر من منظور علمي وتجريبي، يذهب ليفيناس إلى أبعد من ذلك ليعالجها من منظور أخلاقي وجودي، مما يعكس فارقًا جوهريًا في الفهم الفلسفي لكل منهما.
ملاحظة مهمة:
في جميع كتبه يركز ليفيناس في نقده لظاهراتية التذاوت الأنطولوجية عند هوسرل وأنها تفتقر للتواصل التذاوتي كما عبر عنها هايدغر، بينما هوسرل يتعامل مع أشكال متنوعة من العلاقات وليس العلاقة بين الأنا والآخر فقط في مستوى التمثيل، هنا نلاحظ تحيزا غير موضوعي لهايدغر من قبل ليفيناس على حساب ظاهراتية هوسرل، لقد قدم إيمانويل ليفيناس نقدًا دقيقًا لظاهراتية التذاوت الأنطولوجية عند هوسرل، مشيرًا إلى افتقارها للتواصل التذاوتي، خاصة بالمقارنة مع فلسفة هايدغر. حيث نجده يعتبر أن هوسرل يركز على الذات كمرجع وحيد للمعرفة، مما يجعل العلاقة مع الآخر تقتصر على التمثيل والتجربة الفردية. هذا يعني أن الفهم الأنطولوجي لدى هوسرل لا يعكس التفاعل الإنساني الحقيقة.
وفقًا لليفيناس، فإن هذا التركيز يُغفل الأبعاد الأخلاقية التي تتطلب وجود الآخر كشرط أساسي لفهم الهوية. الملاحظ أن ليفيناس يظهر ميلًا إلى فكر هايدغر الذي يركز على العلاقة بين الأنا والآخر، مشيرًا إلى ضرورة التواصل التذاوتي. حيث يعتبر ليفيناس أن هايدغر قد أدرك أهمية الآخر في تشكيل تجربة الوجود، بينما فشل هوسرل في ذلك. كما ينظر ليفيناس إلى هايدغر كمنحى أكثر عمقًا في فهم العلاقات الإنسانية، حيث تكون العلاقة مع الآخر هي التي تمنح المعنى للوجود.
يمكن القول إن ليفيناس يعبر عن تحيز تجاه فلسفة هايدغر بسبب تركيزه على التواصل والتذاوت، مما يجعله يعتبر أن هوسرل لا يقدم فهمًا كافيًا للعلاقات الإنسانية. هذا النقد يبرز الفرق في كيفية تناول كل من الفلاسفة لمفهوم الوجود والعلاقة مع الآخر.
الفلسفة علما دقيقا
ليفيناس كان لديه رأي نقدي بخصوص دعوة هوسرل لجعل الفلسفة علمًا دقيقًا توزع عبر ثلاث نقاط:
نقد الشمولية العلمية:
ليفيناس يرى أن هوسرل يسعى إلى تأسيس فلسفة تعتمد على الدقة العلمية والموضوعية، وهذا يتجاهل البعد الإنساني والأخلاقي الذي يعتبره جوهريًا. بالنسبة له، فإن الفلسفة يجب أن تتجاوز الطرق العلمية التقليدية لتشمل التجربة الإنسانية والتواصل مع الآخر.
الإفراط في التجريد:
يعتبر ليفيناس أن دعوة هوسرل لتكون الفلسفة علمًا دقيقًا تؤدي إلى الإفراط في التجريد، مما يفقد الفلسفة قدرتها على فهم التفاعلات الإنسانية والعواطف والتجارب الخاصة.
الأبعاد الأخلاقية والوجودية:
في نظر ليفيناس، الفلسفة يجب أن تركز على العلاقات الإنسانية والأبعاد الأخلاقية، وهو ما يفتقر إليه نهج هوسرل الذي يركز بشكل أكبر على القصدية والتمثيل.
بشكل عام، يرى ليفيناس أن دعوة هوسرل لجعل الفلسفة علمًا دقيقًا تفتقر إلى الأبعاد الأخلاقية والوجودية، مما يجعل الفلسفة قاصرة عن فهم التجربة الإنسانية بشكل كامل[17].
الظاهراتية عند هوسرل:علم الذات أو الفلسفة الذاتية:
أولا: ماذا عن الظاهراتية في فلسفة ليفيناس:
هناك قبول مبدئي أو ما يعبر عنه الاعتراف بالنطاق، فليفيناس يعترف بأن هناك عناصر من الظاهراتية في عمله، خاصة تلك المتعلقة بفهم التجربة والوجود. ومع ذلك، يعتبر أن فلسفته تتجاوز الظاهراتية التقليدية التي طورها هوسرل، كما يؤكد على الاختلاف الجوهري بنقده للقصدية، ليفيناس ينتقد التركيز الهوسرلي على القصدية والتمثيل، حيث يرى أن هذه الرؤية لا تأخذ في الاعتبار البعد الأخلاقي الذي يتضمن الآخر. بالنسبة له، العلاقة مع الآخر ليست مجرد تجربة موضوعية بل هي أساس الوجود. وعن الظاهراتية المتعالية، ليفيناس يقدم مفهوم "الظاهراتية المتعالية"، حيث يركز على الآخر كشرط للوجود والعلاقات الإنسانية. هذا المفهوم يختلف عن الظاهراتية التقليدية في أنه يؤكد على الأبعاد الأخلاقية وضرورة التواصل مع الآخر أي هناك تطوير للفكرة. يعني إن ليفيناس يقبل ببعض عناصر الظاهراتية، إلا أنه يرفض الانحصار في التعريف التقليدي لها. يعتبر أن فلسفته تتطلب انفتاحًا على الأبعاد الأخلاقية والوجودية، مما يجعله يبتعد عن التصورات التقليدية للظاهراتية.
ثانيا: ليفيناس وملاحظات نقدية حول استخدام مصطلحات مثل "علم الذات" أو "الفلسفة الذاتية":
نقد الفلسفة الذاتية:
التركيز على الذات: يرى ليفيناس أن هوسرل يركز بشكل مفرط على الذات كمرجع للمعرفة والتجربة، مما يجعله يعتبر فلسفة هوسرل نوعًا من "علم الذات". هذه الرؤية تؤدي إلى إغفال البعد الأخلاقي والعلاقات مع الآخرين.
الافتقار للبعد الأخلاقي:
رفض الاختزالية: يعتبر ليفيناس أن الظاهراتية الهوسرلية لا تأخذ في اعتبارها الآخر ككائن مستقل، مما يعني أنها لا تستطيع أن تعكس التجربة الإنسانية بشكل كامل. ولذلك، فهو لا يقبل تسمية الظاهراتية عند هوسرل كفلسفة شاملة.
ليفيناس وتأملات ديكارتية لهوسرل:
رغم كل المفارقات إلا أنه هناك نقاط التقاء بين إيمانويل ليفيناس وإدموند هوسرل من خلال تأملات ديكارتية والتي يمكن أن تبرز هذا الالتقاء:
التركيز على الذات والتأملات الديكارتية:
الذاتية: هوسرل، في تأملاته، يستمد الكثير من أفكاره من ديكارت، حيث يركز على الذات كمرجع للمعرفة. هذا التركيز يفتح المجال لتأملات في الوعي والتجربة.[18]
ليفيناس: رغم انتقاده لفلسفة هوسرل، إلا أنه يقر بأهمية التفكيك الديكارتي للذات كموضوع للمعرفة. ولكن ليفيناس يعتبر أن هذه الذاتية تفتقر إلى الأبعاد الأخلاقية والوجودية التي تعكس العلاقات مع الآخر
الوعي كشرط للمعرفة:
هوسرل: يرى أن الوعي هو القاعدة الأساسية التي تُبنى عليها كل المعرفة، ويُعتبر هذا جزءًا من التأملات الديكارتية حول الوجود والمعرفة.
ليفيناس: يوافق على أن الوعي يلعب دورًا في المعرفة، ولكنه ينتقد تركيز هوسرل على الوعي الفردي ويؤكد أن وجود الآخر هو ما يحدد هذا الوعي بشكل حقيقي.[19]
بينما يلتقي ليفيناس وهوسرل في بعض جوانب التأملات الديكارتية، يظل ليفيناس ناقدًا لمدى تركيز هوسرل على الذاتية دون الاعتراف بالأبعاد الأخلاقية والوجودية للعلاقات مع الآخر.
خاتمة:
كان يمكن للمرء أن يحسب على أصابع يد واحدة أولئك الذين- في نهاية عشرينيات القرن الماضي، في فرنسا- قد سمعوا بالفعل عن مؤسس الظاهراتية، إدموند هوسرل. من بينهم، يجب أن نذكر: ألكسندر كويري (Alexandre Koyré)، آبي بودان (abbé Baudin)، غابرييل بيفر ( Gabrielle Peiffer)، جان هيرينج (Jean Héring) ،، وإيمانويل ليفيناس (Emmanuel Lévinas) .
في عام 1911، كتب فيكتور ديلبوس (Victor Delbos) مراجعة ل Prolegomena to Pure Logic في مجلة الميتافزيقا والأخلاق، ولكن دون استيعاب كامل لحداثة ما كان يظهر في سماء الفلسفة. سارتر (jean paul sartre)، من جانبه، لم يسمع عن هوسرل لأول مرة حتى عام 1933، في حانة باريسية تسمى Le bec à gaz، من ريمون آرون (Raymond Aron)، الذي كان آنذاك مقيما في المعهد الفرنسي في برلين حيث كان يعد أطروحته. وبدأ ميرلو بونتي (Merleau-Ponty) أيضا في قراءة هوسرل، على ما يبدو، فقط خلال ثلاثينيات القرن العشرين، ولا سيما في ترجمة تأملات هوسرل الديكارتية من قبل ليفيناس وبيفر.
أخيرا، أشاد بول ريكور(Paul Ricœur) بليفيناس، في مقال جيد نشر في عام 1980، باعتباره "مؤسس دراسات هوسرل في فرنسا"، معلنا أنه مدين بأول لقاء متعمق له مع هوسرل لقراءة أطروحة الدكتوراه التي دافع عنها ليفيناس في عام 1930 حول نظرية الحدس في فينومينولوجيا هوسرل. وهكذا لعب ليفيناس دورا رائدا في استقبال ظاهراتية هوسرل في فرنسا. منذ بداية ثلاثينيات القرن العشرين، في سن الخامسة والعشرين، كان يعمل بالفعل على تحليل الظاهراتية، وتفضيل مفهوم القصدية، في منظور متحمس يرحب بولادة نهج فلسفي جديد، " لفلسفة حية في منتصفها يجب على المرء أن يرمي نفسه ويتفلسف ". كما عبر ذات يوم ليفيناس في إظهار أنه لم ينقطع أبدا عن مواكبة الظاهراتية، وأنها تشكل أدق خيط مشترك يتم تداوله في عمله الفلسفي المعقد والمشتت.
وعلى عكس الاتجاهات التفسيرية العامة للتيارات الفلسفية وما أكثرها في عالمنا العربي والترويج لها إلى حد ما في العشريات الأخيرة، إلا أن ظاهراتية هوسرل لا تتوقف حيث تبدأ أخلاقيات ليفيناس، ولكن مواجهتهما تؤدي إلى امتداد أخلاقي غير متوقع للمسار الظاهراتي الكلاسيكي.
ما لم يستطع ليفيناس تقبله من ظاهراتية هوسرل في وقت مبكر جدا هو تحيزها الفكري، أي الخيار الذي تم اتخاذه بحزم لصالح فهم الذات من الناحية الفكرية البحتة لفهم العالم. في لفتة يمكن من خلالها بالتأكيد قراءة تأثير هايدغر، حيث يجادل ليفيناس بأن أول اتصال للإنسان بعناصر العالم ليس نظريا بل عمليا، وحتى عاديا، فإن علاقتنا الأولى بكيان الوجود ليست علاقة المعرفة بل علاقة التلاعب والاستخدام. وبعيدا عن رؤية التطرف الهايدغري للظاهراتية على أنها إلهاء، رأى ليفيناس الشاب فيها منذ البداية، وسيرى فيها طوال حياته، إنجازه المتماسك. بالنظر إلى ذكرياته الأولى عن فرايبورغ، حيث ذهب للقاء هوسرل في نهاية عشرينيات القرن العشرين، قال ليفيناس بأحد تصريحاته في عام 1992: "الشيء العظيم الذي وجدته هو الطريقة التي تم بها تمديد مسار هوسرل وتحويله من قبل هايدغر. للتحدث بلغة سائح، كان لدي انطباع بأنني ذهبت إلى هوسرل وأنني وجدت هايدجر "[20].
تكمن أهمية دراسة هذه العلاقة بين فلسفتين متعاقبتين، في إظهار كيف أن ما يبدو لنا اليوم، بعد فوات الأوان، كوهم بصري فلسفي، قد تم تبريره بالنسبة لليفيناس في سياق القراءة الأصلية لهوسرل، ولا سيما عقيدة المعنى الضمني، حيث يجد ليفيناس فكرة أن الحضور مع الأشياء يعني وجودا آخر معها، ممن هو غير مدرك للآفاق المترابطة الأخرى لهذه التأملات الضمنية التي لا يمكن اختزالها في التشييئ.
إن ما هو غير متوقع، والذي يضعنا أمامه أي تمثيل لكائن ما، يوضح أن الحياة تخفي في داخلها بعدا يفلت من التمثيل، بعدا خارجيا غير موضوعي. فإن الدور الذي ينسبه كل من الفيلسوفين [أي هوسرل وليفيناس] إلى فكرة الأفق يجعل من الممكن إلقاء الضوء على تفردهما الفلسفي فيما يتعلق بعلاقة الموضوع بالعالم. ينبع هذا الاختلاف من اختيار كل فيلسوف للتأكيد على الجوانب المعاكسة: عدم القدرة على التنبؤ بنظرية الأفق في حالة ليفيناس والتتبع المسبق في القصدية في حالة هوسرل.
على نطاق ضيق، هذا رفض لسيادة الوعي الحالي في الظاهراتية، ولكن على نطاق واسع يشهد هذا الاختلاف على اختلاف محتمل سينشأ لاحقا بين منظور ليفيناس الأخلاقي والموقف الظاهراتي. لذلك يجب فهم الاختلاف، ليس بقدر ما هو فاصل بين الفلسفتين، ولكن كامتداد لإحداهما بالأخرى، بقدر ما يعمل هذا المجال الكامن الجديد كاقتران بين المجال ما قبل الانعكاسي (الذي ينشأ بشكل غير متوقع في الحدث الأخلاقي) والمجال الانعكاسي للوعي المتعمد.
بمجرد الحصول على هذه المراجعة لنظرية المعنى الظاهراتية، والتي تميل إلى جعلنا منطقيين قبل وقت طويل من ساعة الحقيقة، تبدأ مغامرة فلسفية جديدة تسعى إلى تجاهل نظرية هوسرل المفرطة. من خلال الاقتراب من ثلاثة مستويات من ما قبل الانعكاسية:
(1) الفعالية مع التمتع الحساس بتواصل مع الآخر وهذا العالم ككل وبالتالي تُسبق الذاتية التأسيسية،
(2) الأخلاقية مع الآخر التي تشل الأنا كوجيتو،
وأخيرا (3) التسامي أو الألوهية اللانهائية التي تسبق عصرنا وكياننا.
هنا يسعى ليفيناس بالتالي إلى التدقيق في المعنى الأصلي للحياة وأولوية الآخر الذي لا يمكن اختزاله في الفكر.
كان ليفيناس قادرا على التفكير "من هوسرل ولكن أيضا ما بعده"، وفقا -مرة أخرى - للقول المأثور الهايدغري الشهير الذي بموجبه "فهم الظاهراتية يكمن فقط في فهمها كإحتمال".
ومن المفارقات أن هوسرل كان سيوفر مفتاح المشكلة الأنانية من خلال فضح البنية الواسعة لللانهاية الدلالية والزمنية التي تمر عبر الوعي المتعمد، ولكن دون اغتنام الفرصة لفتح الباب أمام الذات الخارجية الحقيقية. كانت هذه الفرصة التي لم يتركها ليفيناس، من خلال استغلال جميع الإمكانات غير المحققة لظاهراتية هوسرل، والتي لم يتوقف عن جمع تراثها على طول مسيرته الفكرية والفلسفية.
***
ا. مراد غريبي
.............................
المراجع:
Méditations cartésiennes: Introduction à la phénoménologie, 2000, bibliothéque textes philosophiques, Emanuel Levinas.
"Totality and Infinity" Springer Editions (4éme Edition, 2012)
« Otherwise than Being» Springer Editions (Edition 1981)
"Ethics and Infinity" XanEdu Publishing (First Edition,1995)
"The Time of the Other" Duquesne ,1987
"Ideas Pertaining to a Pure Phénomenology and to a Phénomenological Philosophy» 1st ed. 1982
The Crisis of European Sciences and Transcendental Phenomenology, Northwestern University Press ,1970.
-F. Lavigne, «Lévinas avant Lévinas. L’introducteur et le traducteur de Husserl», dans E. Lévinas, Positivité et transcendance, Paris, PUF, 2000
[1] ولد في 12 يناير 1906 وتوفي 25 ديسمبر، 1995، هو فيلسوف فرنسي من أصل يهودي لتواني.
[2] "Totality and Infinity" في الفصل الأول، يتحدث ليفيناس عن الآخر وكيف أن العلاقات تحدد فهمنا للتاريخ. حيث صفحات 19-30 مثيرة للاهتمام. أيضا كتابه "Ethics and Infinity" الصفحات 40-55
[3] "The Time of the Other"، يتناول في هذا الكتاب كيف يشكل الآخر تجربتنا للزمان، مع توضيح كيف يؤثر ذلك على فهمنا للمستقبل. الصفحات 10-30 تعتبر جدا مفيدة.
[4] يمكن العودة إلى كتب ليفيناس التالية: "Totality and Infinity": ص 78-90، "Otherwise than Being" ص 47-60، "Ethics and Infinity" ص 34-45، "The Time of the Other" ص 12-25.
[5] "The Crisis of European Sciences and Transcendental Phenomenology" في هذا الكتاب، يتناول هوسرل أزمة العلوم من منظور الظاهراتية التقومية. يمكنك الاطلاع على الصفحات 54-68 حيث يناقش العلاقة بين العلم والتاريخ.
[6] "Totality and Infinity" في هذا الكتاب، يطرح ليفيناس رؤيته للظاهراتية المتعالية، حيث يركز على الآخر كشرط أساسي لفهم الوجود. يمكنك مراجعة الصفحات 83-100 للحصول على تفاصيل حول هذه الأفكار. و"Otherwise than Being" هنا يستكمل ليفيناس تطوير أفكاره حول الظاهراتية المتعالية، خاصة في الفصل الثالث. يمكنك الرجوع إلى الصفحات 47-65. "Ethics and Infinity" يتناول ليفيناس البعد الأخلاقي في الظاهراتية المتعالية، خاصة في المحاضرات التي تتعلق بالآخر. الصفحات 45-60 تحتوي على نقاشات مفيدة.
[7]:"Totality and Infinity" اقش ليفيناس فكرة الظاهراتية المتعالية ودورها في الأخلاق والعلاقات الإنسانية. يمكنك مراجعة الصفحات 83-100 للحصول على تفاصيل حول رؤيته. وفي كتاب "Otherwise than Being" يتناول فيه تطور الأفكار حول الظاهراتية المتعالية وأبعادها الأخلاقية. الصفحات 47-65 تحتوي على نقاشات مهمة حول هذا الموضوع. كذلك كتابه "Ethics and Infinity" يتناول فيه ليفيناس أخلاقيات الظاهراتية المتعالية وتطبيقاتها. الصفحات 45-60
[8] ص 83-100
[9] ص 47-65
[10] ص 34-45
[11] ص 12-25
[12] ص85-90
[13] ص 49-50
[14] ص 44-50
[15] ص 15-22
[16] "Totality and Infinity" يتناول ليفيناس نقده لفكرة التمثيل وكيف أنها تساهم في إغفال التذاوت كعنصر أساسي ص 90-100، وفي كتاب "Otherwise than Being" يناقش فيه ليفيناس كيف أن التذاوت يتجاوز فكرة التمثيل الذاتي، مركزًا على العلاقات الإنسانية ص56-65، وأيضا بكتابه "Ethics and Infinity"، يتحدث عن الأخلاق والتذاوت ويشرح كيف تشكل العلاقة مع الآخر أساسًا لفهم الوجود، مما يتجاوز التمثيل ص42-50. في حين في كتابه"The Time of the Other" يتناول كيف أن فهم الزمن والعلاقة مع الآخر يتجاوز مفهوم التمثيل. ص 15-25 .
[17] Totality and Infinity يناقش ليفيناس في هذا الكتاب نقده لفلسفة هوسرل ودعواته للعلمية في الفلسفة. ص25-40، حيث يتناول الفرق بين الفلسفة كعلم وتجربة الحياة الإنسانية، وفي كتاب "Otherwise than Being" يتناول فيه الأبعاد الأخلاقية والفلسفية ودعوة هوسرل للموضوعية العلمية. ص 40-55، وفي كتابه "Ethics and Infinity" يتحدث عن أهمية الأخلاق في الفلسفة وكيف تتجاوز الفلسفة العلمية التقليدية. ص 25-35.
[18] "Ideas Pertaining to a Pure Phenomenology and to a Phenomenological Philosophy" 1st ed. 1982 يناقش فيه هوسرل كيفية فهم الذات والوعي، ص 18-30.
[19] "Totality and Infinity" ليفيناس يتحدث عن تأثير الفلسفة الديكارتية على فهم الذات والوعي، ص 50-70 .
[20] كما لاحظ ج.ف. لافيني، “ليفيناس قبل ليفيناس. مقدم ومترجم هوسرل”، في إ. ليفيناس، الإيجابية والتعالي، باريس، PUF، 2000، ص. 53