أقلام فكرية

أقلام فكرية

مدخل: الانثروبولوجيا تقدم توصيفا للمجتمعات والثقافات والاديان، بحسب أقسامها سواء كانت ثقافية أو اجتماعية، وتختلف في منهجها ومصادر معرفتها عن المجالات التي تتناولها، فمنهج الانثروبولجيا ومصادرها تختلف عن منهج الدين ومصادر المعرفية، والاختلاف في المنهج كان أحد مولدات التحفظ على الدراسات الأنثروبولجية من قبل بعض المختصين في الشأن الديني.

تدرس الأنثروبولوجيا الثقافية كيف يتفاعل الإسلام مع السياقات الثقافية المتنوعة، وكيف تشكل المجتمعات المسلمة هويتها من خلال الممارسات الدينية والعادات والتقاليد، وهو ما يستدعي مراجعات جادة ضمن الحقلين الاسلامي والانثروبولوجي، إذ تُسهم الأنثروبولوجيا في عرض مآلات الخطاب الديني كواقع قائم ومرصود، وقابل للمراجعة والنقد والتصحيح.. 

تسلط الأنثروبولوجيا الضوء على نشأة الإسلام وتطوره عبر الزمن، مع تحليل تأثير السياقات التاريخية على تشكل الفكر الإسلامي، والمؤسسات الدينية، والسلطة السياسية، كما تدرس التفاعل بين الإسلام والثقافات الأخرى عبر التاريخ.

وفي هذه الورقة التي قدمناها ضمن ملتقى الانثروبولوجيا الأول في جامعة الكوفة، نحاول الانطلاق من اشكالية التحفظ أو عدم قبول معطيات الأبحاث الأنثروبولجية حول الإسلام، أو ما يطلق عليها بـ(أنثروبولوجيا الاسلام)، والتي ظهرت على يد كثير من الباحثين أمثال إرنست غلينر، وكليفورد غيرتز، والتي نالت قسطا من النقد من قبل آخرين أمثال طلال أسد في نقده للاستشراق والانثروبولوجيا، معتبرا أنها متأثرة بالإرث الاستعماري والرؤية العلمانية الغربية (المركزية الغربية).

إن الموقف تجاه هذه المسألة يتطلب قدرا من الموضوعية التي تُخضع المجال الأنثروبولجي إلى التحليل المجرد عن الأحكام المسبقة، وكما سيتم بيانه في الفقرات أدناه:

المقصد الأول: عرض للموقف الرافض للأيديولوجيا:

بحسب تتبعي ينطلق الرفض من منطلقات:

أولا: الملاحظة حول أصالة حقل (أنثروبولوجيا الإسلام):

من خلال التشكيك في أصل مجال الانثروبولوجيا من خلال ربطها بالاستشراق، وكونها أحد أبرز أدوات الاستشراق، إذ يتضمن الرفض هنا جدل التأسيس لحقل (انثروبولوجيا الاسلام)، وفي هذا السياق قال ريتشارد أنطوان   إنّ تطوّر أنثروبولوجيا الشرق الأوسط مرّ بأربع مراحل: مرحلة سيطرة المستشرقين، ومرحلة سيطرة الرحّالة والإداريّين السياسيّين في العصر الاستعماريّ، أي الأنثروبولوجيّين الهواة، ومرحلة سيطرة علماء الأنثروبولوجيا  المحترفين، وأخيرًا مرحلة سيطرة الأنثروبولوجيّين المحلّيّين .

وللأنثروبولوجي الأميركيّ ديل إيكلمان رؤية حول مراحل الاستشراق في الشرق الاوسط في مقاله: (الشرق الأوسط: منهج إنثروبولوجيّ)، إذ يرى أنّ أهمّ مراحل دراسة الشرق الأوسط هي مرحلة حملة بونابرت (1798-1801)، ثم مرحلة المغامرين والرحّالة والباحثين من المستشرقين، وعلى وجه الخصوص وليم روبرتسون سمث الذي قدّم في نظره انعطافة مهمّة في دراسات الشرق الأوسط، ثمّ هنالك الدراسات التي وجّهتها المصالح الاستعماريّة، وأخيرًا ما أسماه بالمرحلة الوظيفيّة، وخاصّة ما تعلّق منها بدراسة القرى والمجتمعات المحلّيّة ، وهو ما يقصد فيه الحقل الانثروبولوجي.

إنّ الفهم الدقيق لصلات الغرب بالإسلام عبر منظورات إنثروبولوجيّة يستدعي عزل كلّ مرحلة أو طور واستعيابه تحليلًا ونقدًا، ولكن من دون الاستغراق في التفاصيل من جهة، ومن دون إصدار الأحكام المسبّقة من جهة أخرى، لكن هنالك مسلّمات أساسيّة اتفق عليها كبار الباحثين والمفكّرين الغربيّين من أنّ الأنثروبولوجيا  في بواكيرها الأولى عندما تعرّفت على العالم الإسلاميّ عبر القوى الاستعماريّة المنطوية تحتها (إداريًّا ومعرفيًّا) كانت تدور في دائرة استغلال الفهم الأنثروبولوجيّ للإسلام والمسلمين من أجل الهيمنة وديمومة المدّ الاستعماريّ. (هذا الحقل بديلًا عن الرؤى والبراديغمات التي قدّمتها الأنثروبولوجيا الغربيّة عن الإسلام في عصر الاستعمار من جهة، وبديلًا عن الاستشراق وسائر خطاباته المهيمنة آنذاك.. هنا ظهرت الإشكاليّات ولم تنتهِ؛ إذ إنّ هذا التخصّص الجديد (أنثروبولوجيا الإسلام) لم يستطيع وإلى حدٍّ كبير من التخلّص من أدران الأنثروبولوجيا الاستعماريّة من جهة، ولا من مواريث الاستشراق من جهة أخرى والتي تسلّلت إلى الدراسات الأنثروبولوجيّة عن الإسلام، إذ كان الأمر لا يعدو تبدّل أسماء معرفيّة وحقول دراسيّة لا أكثر، وهذا ما كشفت عنه الكثير من المراجعات النقديّة التي تقدّم بها كبار الباحثين الأنثروبولوجيّين أمثال طلال أسد ودانيل مارتن فاريسكو وآخرون) .

ثانيا: الملاحظة حول منهج المعرفة الأنثروبولجية:

من خلال رفض منهج ومصادر المعرفة في حقل الدراسات الأنثروبولجية، فالمنهج الأنثروبولوجي يعتمد على مصادر مادية وتجريبية، تضمن الملاحظة الميدانية ودراسة المجتمعات البشرية من خلال العيش بينها ومراقبة سلوكياتها، والاستبيانات والدراسات المقارنة بين الثقافات والمجتمعات المختلفة، فضلا عن الأدلة الأثرية والتاريخية، في حين يعتمد المنهج الإسلامي على مصادر معرفية تتمثل بالوحي (القرآن والسنة)، واستخدام العقل في إطار ما يتوافق مع النص الديني الموحى به.

المنهج الأنثروبولوجي يعتمد على المنهج العلمي التجريبي، إذ يتم جمع البيانات وتحليلها بشكل موضوعي، مع التركيز على النسبية الثقافية (فكرة أن كل ثقافة تُفهم في سياقها الخاص)، بينما المنهج الإسلامي يعتمد على منهجية متكاملة تجمع بين الوحي والعقل والتجربة، ويتم تفسير الظواهر الاجتماعية والإنسانية في ضوء المبادئ الإسلامية، مع وجود حدود أخلاقية ودينية لا يمكن تجاوزها.

ثالثا: الملاحظة حول نتائج الدراسات الانثروبولوجية حول الإسلام:

من خلال رفض النتائج والأحكام التي خرجت بها بعض الدراسات الأنثروبولجية عن الاسلام، كما في التأويل الأنثروبولوجي للنصوص الدينية، إذ تُقرأ النصوص الإسلامية – القرآن والسنة – ليس فقط باعتبارها نصوصاً مقدسة، بل كنتاج لبيئة اجتماعية وتاريخية معينة. يرى الأنثروبولوجيون أن فهم الممارسات الدينية لا يكتمل دون دراسة السياق الثقافي الذي يحيط بها، وهذا مما يواجه في الغالب رفضا من قبل المختصين في الشأن الديني.

وقد تم ربط كثير من تلك النتائج بمنطلقات استشراقية أو استعمارية، إذ يذكر(دانيل مارتن فاريسكو) حول هذهِ الدراسات الموضوعة حول الإسلام: «إنّ أكثريّة ما كُتب عن الإسلام، أو ما قيل عنه يتّصف، للأسف بغلبة الطابع الأكاديميّ، والنزعة الإعلاميّة، وأيضًا شيوع جملة من أنصاف الحقائق والأباطيل التي تلتفّ حول الحقائق الأساسيّة، وتروّج لفكرةٍ تفيد أنّ ديناميّات أحد أكثر الأديان نموًّا وانتشارًا هي ديناميّات يلفّها الغموض) ، ويعد الاستشراق مصدرا أساسا لتصوّر الغربيّين عن الإسلام، وحسب الموقف الرافض تم استدماج الاستشراق مع علم الاناسة (الأنثروبولوجيا) والذي يفترض أن يكون خاضعًا لقواعد واشتراطات علميّة موضوعيّة.

وقد تختزل الرؤية الأنثروبولجية الاسلام أو أحد جوانبه في جانب محدد من سلوك مجتمع مسلم ما، وذلك حسب طبيعة البحث في الحقل الانثروبولوجي، وهو ما يثير حفيظة التفكير الديني، الذي يختلف في المنهج المعرفي كما في النقطة السابقة، وهنا لا بد من حسم الإجابة على تساؤل هام حول مدى إمكانية أن تقدم المعرفة الأنثروبولجية تعريفا حاسما عن الاسلام أو أحد عناصره، ومدى ضرورة الاكتفاء بالإسهام في بعض التوصيفات والتحليلات للظواهر الدينية التي تسهم في إثراء المعرفة الدينية بوجه عام، لأن الأنثروبولوجيا تهدف إلى فهم الإنسان وثقافته وسلوكه من خلال الدراسة العلمية، من دون وضع أحكام قيمية أو أخلاقية، إذ ليس من شأنها إصدار الأحكام كما في الدين.

المقصد الثالث: تقييم منطلقات الموقف الرافض:

وانطلاقا مما سبق يمكن إجمال بعض الملاحظات حول تقييم الموقف الرافض لأنثروبولوجيا الاسلام:

أولا: لا شك أن الغرب يفكر بمنحى علماني ويتملكه شعور (المركزية الغربية)، فضلا عن النزعة الاستعمارية في بعض النماذج والخطابات الفكرية والثقافية، لكننا بصدد التعاطي مع حقل وتخصص انساني، له دراساته العلمية لمختلف الأديان والثقافات، وله خصوصيته المعرفية والمنهجية، ولا يمكن أن نفرض مصدرا أو منهجا معرفيا على أي مجال في العلوم الانسانية، لذا فإن ربط الأنثروبولوجيا بالاستشراق والاستعمار من جهة، وبالأنموذج الفكري الغربي من جهة أخرى، غير دقيق مع ملاحظة تقادم التجربة الأنثروبولجية ، وارتباطها بالاستعمار كان منذ بدايات تأسيسها أو انطلاقها. 

ثانيا: بحسب منهج الاستقراء والدراسات الميدانية فإن أنثروبولوجيا الإسلام لا تهدف إلى الحكم على الإسلام كدين، بل إلى فهم كيفية ممارسة المسلمين لدينهم في سياقات اجتماعية وثقافية مختلفة، هذا الفهم لا يقبل الصور النمطية ويعزز التفاهم بين الثقافات والتخصصات العلمية.

الأنثروبولوجيا كعلم ينبغي أن تسعى إلى دراسة الظواهر الإنسانية بموضوعية، دون تحيز أو أحكام مسبقة، والدراسات الأنثروبولجية حول الإسلام يمكن أن تكون محايدة إذا التزمت بالمنهج العلمي الصارم، وفي المقابل إذا أردنا أن نختبر موضوعيتها فمن خلال المنهج العلمي، لا من خلال ربطها بدوافع استعمارية وتخوين الدراسين والباحثين في مختلف ميادينها، وإلا فيمكن استخدام الأنثروبولوجيا كأداة لنقد التراث الاستعماري وإعادة بناء المعرفة حول الإسلام من منظور أكثر إنصافًا.

 ثالثا: دراسات أنثروبولوجيا الإسلام ليست بالضرورة استعمارية، وإن كان الاستعمار قد مهد لها في بواكير عملها، وتمهيد الاستعمار لها لا يضفي عليها سمة استعمارية بقدر ما يشير الى توظيف الاستعمار لها من أجل دراساته الميدانية حول مشاريعه التوسعية، وإذا تمت الانثروبولوجيا بمنهجية علمية وأخلاقية، وتأخذ بعين الاعتبار وجهات نظر المجتمعات المسلمة نفسها، ولا يمكن إغفال دورها في فهم الإسلام كظاهرة اجتماعية وثقافية، وتعزيز الحوار بين الثقافات، وإعادة بناء المعرفة بعيدًا عن الإرث الاستعماري.

رابعا: تفترق الأنثروبولوجيا الدينية والاستشراق في الموضوع، ذلك أن الأنثروبولوجيا الدينية تركز على ظواهر تخص الدين والظواهر الدينية أساساً أو أن ذلك يكون بمثابة بؤرة أو محرق التركيز لدراسة ظواهر وتداخلات وتشكلات اجتماعية وقيمية وسلوكية مختلفة. ولجهة النطاق الجغرافي، إذ تركز على عوالم خارج أوروبا، من دون إيلاء الشرق اعتباراً كبيراً. 

وأما الاستشراق فيركز على "الشرق"، ويتناول جوانب مختلفة من اجتماعه وثقافته ولغاته وأديانه (أو بالأحرى دينه الرئيس وهو الإسلام وتشكلاته المذهبية المختلفة)، وتاريخه، وتفاعلاته مع الغرب والعالم. والواقع أنه أخذ يركز على القيم والعوامل التي تحرك مجتمعات الشرق سياسياً، ومنها دراسات العنف والتطرف والكراهية إلخ أكثر منه على دراسات الثقافة والحضارة واللغات إلخ، وهذا يفسر التراجع النسبي في القيمة المعرفية للاستشراق مقارنة بما كانت عليه قبل عدة سنوات أو عدة عقود. وهذا أيضاً يتطلب المزيد من التقصي والتدقيق .

خامسا: طبيعة العلاقة المعرفية بين الانثروبولوجيا والإسلام، ثمة علاقة جدلية بين الانثروبولوجيا والاسلام على المستوى العلمي من خلال:

1- يسهم الإسلام في تقديم صورة شاملة عن طبيعية المجتمعات المسلمة وعناصر تشكيل هويتها الثقافية، ويأتي ذلك من خلال ملاحظة مجالات دينية متعددة، أبرزها التشريعات والفقه الاسلامي، الذي يتكون من مجموعة القواعد والاحكام التي تخلق نسقا اجتماعيا قابلا للملاحظة والدراسة على المستوى الانثروبولوجي، بما يعزز الدراسات الأنثروبولجية.

2- تسهم الأنثروبولوجيا في فهم طبيعة المجتمعات المسلمة، من أجل تجديد الخطاب الديني الذي ينبغي أن يفي بمتطلبات المجتمع، وتقدم الأنثروبولوجيا توصيفات دقيقة حول طبيعة المجتمعات ومدى تطورها، وكثير من خصوصياتها الثقافية التي يجب أن تكون محل نظر ودراسة من قبل المختصين في الشأن الديني، فضلا عن الحقل الفقهي الذي يُعنى بالفتوى، وتنظيم حياة الناس على المستوى الديني والتعاقدي، والذي يحتاج بدوره إلى معرفة دقيقة بخصائص المجتمع، التي تتضح من خلال تعزيز دور العلوم الانسانية في مختلف التخصصات.

في الختام.. يمكن القول أن منهج المعرفة الاسلامية يفهم الانسان من خلال الدين، وهو في نظري يستدعي وقفات جادة، كذلك بالنسبة لمنهج المعرفة الأنثروبولجية التي غالبا ما تفهم الاديان من خلال الإنسان، وهو ما يستدعي النقد والمراجعة، إذ تتطلب معرفة الأديان الاطلاع على البناءات الداخلية للدين، لا الحكم عليه من خلال واقع تطبيقه الذي يتداخل مع عوامل كثيرة ومختلفة.   

***

ا. م. د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

يُعد فيليب بيتيت أهم وأبرز فيلسوف أخلاقي في الوقت الراهن. وُلد في باليجار بمقاطعة غالواي في ايرلندا عام 1945. درس في كلية ماينوث - جامعة ايرلندا الوطنية وكذلك في جامعة الملكة في بلفاست. هو بدأ عمله المهني في التعليم في كلية دبلن الجامعية عام 1968 وشغل العديد من الوظائف التعليمية قبل وصوله الى جامعة برينستون الامريكية، حيث يعمل حاليا بصفته استاذا في القيم الانسانية بجامعة لورنس روكفلر. هو ايضا عمل كاستاذ فلسفة في جامعة استراليا الوطنية. ورغم عمله في الولايات المتحدة، لكنه حافظ عل علاقته بوطنه الام، حيث أعطى محاضرات في كلية ترنتي بدبلن عام 2007 وشارك في مبادرة الرئيس مايكل دي هينغر في الأخلاق عام 2014.

كتب بيتيت العديد من الكتب في عدة موضوعات. هو كان، متحمسا في الدعوة الى الايديولوجية الجمهورية التي نُظر اليها منذ وقت طويل كبديل للّيبرالية. هذه الايديولوجية السياسية (لاعلاقة لها بحزب سياسي) لا تركز في جوهرها على الهيمنة. طبقا للجمهوريين، المجتمع الحر يحمي كل مواطنيه بمن فيهم الأكثر تأثراً من الآخرين عند التعرض للأهواء الاعتباطية.

طوّر بيتيت كتابه (مولد الاخلاق: إعادة بناء دور وطبيعة الاخلاق،2018) حينما كان يلقي محاضرات فلسفية ثمينة ضمن سلسلة محاضرات تانير في جامعة كاليفورنيا/ باركلي،  وكان بيتيت قد تلقى  ردوداً هامة أحاديثه من عدد من المعلقين المتميزين. (لسوء الحظ، لم يجد طريقه للكتاب الاّ واحدا من هذه الردود الهامة للسايكولوجي ميشيل توماسيلو Michnel Tomasello). يكتب بيتيت "الهدف من المشروع هو تقديم تفسير للاخلاق .. يوضح الكيفية التي تصبح بها المخلوقات أخلاقية" (ص13). لكن التفسير ليس تاريخيا: هو لم يدّعِ تفصيل العملية التاريخية الحقيقية التي نشأت بواسطتها الاخلاق. بدلا من "تاريخ حقيقي"، يقدم بيتيت "دراسة افتراضية لتاريخ العوائل" counterfactual genealogy، هدفه "استكشاف طبيعة الاخلاق عبر النظر الى العوامل التي ادّت الى الطرق الاخلاقية في التفكير والتصرف". ان أحسن طريقة للقيام بهذا هي "تقديم تفسير للظروف التي جعلت الاخلاق حتمية" (ص31).

نشأة الأخلاق

يتصور بيتيت ارضا خيالية تسمى ايريون Erewhon وهي إعادة ترتيب لكلمة (ليس في أي مكان) Nowhere (الاسم كان في الأصل عنوانا في القرن التاسع عشر لرواية للكاتب صاموئيل بيتلر). ايريون تقطنها مخلوقات تشبهنا كثيرا، لكنها تنقصها المفاهيم الاخلاقية. بعد ذلك يتصور بيتيت(كيف يمكن لمجموعة من الافراد لم تستخدم في الاساس مفاهيما أخلاقية تبدأ بتطوير ممارسات مجتمعية الى درجة تصبح فيها هذه المفاهيم متاحة لهم"(ص29). في دراسته الافتراضية لتاريخ الاخلاق، اولى الخطوات تجاه تطوير الاخلاق تحدث عندما يرغب الناس عمل التزامات تجاه شخص آخر. الناس في ايريون يمكنهم الإدلاء بتصريحات لبعضهم البعض: حول الطقس، حول مكان العثور على الطعام، واحيانا يغيّر الناس خططهم او رغباتهم وحاجاتهم الخاصة وكل ما يتعلق بنواياهم . يسمي بيتيت هذه أعذار "العقل المضلل" وأعذار"تغيير الخطط"(ص78). لكن وجود هذين العذرين يجعل من الصعب على الناس الوثوق بما يقوله الآخرون. افرض على سبيل المثال، انت تريد الذهاب للصيد غدا، والصيد يصبح أفضل عندما يشترك به اكثر من شخص واحد. انت تسأل صديق للذهاب معك وهو يوافق على ذلك. لكنه يفشل في الذهاب. صديقك يمكن ان يقدم عذرا مضللا للذهن شيء ما مثل "انا أدركت ان رغبتي بالصيد لم تكن قوية جدا – او عذر تغيير الذهن – مثل، "انا وضعت خطة للصيد، لكني فضلت عمل شيء آخر". في كلتا الحالتين، سيكون من الصعب الوثوق بصديق كهذا. وتلك المشكلة ليست فقط لك وانما ايضا لصديقك الذي سيرغب ان تكون انت قادرا على الوثوق به. من خلال عمل التزام، يمكن للناس منع امكانية مثل هذه الأعذار عبر واحدة من طريقتين: هم يعترفون بان بعض التصريحات المعينة التي يعملونها هي صحيحة، وبذلك ينكرون على أنفسهم تجسيد عذر مضلل للذهن، او انهم يتعهدون بعمل شيء ما، ينكرون به على انفسهم تجسيد عذر تغيير الخطط. لذا فان الالتزامات حتى عندما لا تكون اخلاقية بطبيعتها، هي تساعدنا في الوثوق بآخرين. حسب تعبير بيتيت، التعبير عن الالتزام يدفعنا نحو "شكل الزامي من الاتصال الذاتي الذي به ندعم أنفسنا للارتقاء الى الكلمات التي نتلفظها"(ص121).

ان تطوير الالتزام سوف يقود سكان ايريون لما يعتبره بيتيت المفهومين الاخلاقيين الرئيسيين، وهما الرغبة والمسؤولية. يكتب بيتيت "بينما تختلف المفاهيم الاخلاقية، لكنها كلها تعمل لتجسيد مختلف الاسس التي وفقها تُعد الافعال مرغوبة اخلاقيا من جهة، والافراد يُعتبرون مسؤولين اخلاقيا من جهة اخرى" (ص14). كيف يحدث هذا التطور؟ ان ممارسة الاعتراف يقود بطبيعته الى ممارسة الاعتراف المشترك الذي تعترف بواسطته جماعة من الناس برغبات معينة مشتركة. وان ممارسة الاعتراف المشترك يقود بطبيعته الى فكرة ان الرغبات المشتركة هي في الحقيقة عالمية. وبالتالي، "نحن ملزمون بدرجة ما لنطور مفهوم المرغوب" من وجهة نظر عالمية، كل شخص يمكن ان يتبنّاها بحرية، "وان هذا المفهوم هو مساوي لمفهوم المرغوب أخلاقيا" (ص150) .

كذلك، "نحن الذين طورنا مفهوم المرغوب اخلاقيا او المرغوب من عدة اطراف سنستمر لتحميل شخص آخر المسؤولية عن أحكام معينة وعن المعايير المرغوبة اخلاقيا"(ص197). بكلمة اخرى، بيتيت يعتبر من الطبيعي ان نتوقع من شعب ايرون ان يكونوا مسؤولين اخلاقيا عن "اولئك الذين يسيئون الى معايير الرغبة الروتينية المشتركة"، نظرا لعدم وجود أعذار مقبولة (ص217). ان فعل تحميل المسؤولية كما يراه بيتيت، له ثلاثة عناصر: تأثير الاعتراف، وتأثير التحريض، وتأثير التوبيخ (ص214). عند تحميل شخص ما المسؤولية عن الفشل الاخلاقي، نحن نعترف به ككائن قادر على العمل بشكل أفضل، نحن نحثه للعمل أفضل في المستقبل ونعاقبه عندما لايعمل أفضل .

مساءلة اتجاه بيتيت

يُعتبر اتجاه بيتيت في دراسة تاريخ العائلة ثريا ومعقدا وينطوي على العديد من الأجزاء المتحركة. هنا تبرز فقط نقطة واحدة تتعلق بنقد بيتيت حول مركزية اللغة في جداله .

هو يدّعي – بان اللغة هي "ضرورية للاخلاق"(ص38). قصة ايريون تعتمد على حقيقة ان "الممارسات التي تجعل الاخلاق لا مفر منها للمؤيدين في تلك القصة – والممارسات التي من المفترض ان تجعلها ايضا جزء من مصيرنا – تستلزم استعمالات خاصة للّغة الطبيعية" (ص7). كيف يمكن لأي شخص التصريح الواضح، التعهد او الاعتراف او الحث على أي شيء بدون لغة؟ لكن بينما من الواضح ان الكثير من سلوكنا الاخلاقي يتطلب كلمات، غير ان هذا ليس واضحا بالنسبة للاخلاق ذاتها، ولا واضح ايضا ان الاخلاق جاءت للوجود حالما اكتسب اسلافنا اللغة. أقاربنا الاوائل كانوا يقومون بعدة اشياء بدت وبشكل مؤكد أخلاقية بطبيعتها. طبقا للدليل التجريبي الأخير، قرود الكبوشين، مثلا، تصبح ساخطة جدا لو اُعطيت لقرود اخرى فواكه أكثر منها مقابل نفس الجهد (انظر "القرود ترفض اللامساواة"، سارة بروسنان و فرانس ديواييل، الطبيعة 425، سنة 2003). هذه القرود بالتأكيد تبدو تعترف بعدم الانصاف وتستجيب طبقا لذلك.

يطرح تومسيلو موقفا مشابها في رده على بيتيت جاء في كتاب مولد الاخلاق. طبقا لتوميلسو ان أصل الاخلاق يكمن في التعاون وان التعاون قد يتطلب او لا يتطلب اتصالات لغوية (ص333). "ايماءة رأس بسيطة عادة تكفي" (ص340).

يرد بيتيت على هذه المخاوف بطريقتين، لكن كلا الردين ربما يُضعفان من قوة حججه. من جهة، هو لم ينكر ان المخلوقات غير اللسانية تتصرف بطرق تبدو اخلاقية، لكنه يرفض تسمية هذا السلوك "اخلاقي" اذا لم تلعب الاعتبارات المعبر عنها بعبارات اخلاقية دورا في تعزيز او تنظيم تلك الاستجابات"(ص13). يجب على المرء ان يمتلك لغة لكي يعبر عن أي شيء، وبهذا يبدو ان بيتيت يعرّف الاخلاق بطريقة تجعل اللغة جزءاً ضروريا وهو ما يجعل ادّعائه بان اللغة ضرورية للاخلاق حقيقة عديمة الاهمية. من جهة اخرى، يرد بيتيت على تومسلو بالموافقة بنعم، ايمائة الرأس قد تكون كافية للتعاون لكن "ايماءة ستكون لا فائدة منها على الاطلاق ما عدى بين الافراد الذين أنجزوا وسائل ووسائط للاتصالات – شكل من اللغة، مهما كان بدائيا" (ص350).

هذا ايضا يهدد بجعل ربط بيتيت بين الاخلاق واللغة تافها: هل من الممكن تصوّر أي كائنات تعاونية بدون أي وسيلة اتصال؟

ان مولد الأخلاق يثير بوضوح موقفا شائكا حول موضوع ذو أهمية فلسفية كبيرة. هذا يصح في كتاب بيتيت بشكل عام. يمكن للمهتمين في أي من الموضوعات التي عالجها الكاتب النظر في عمل الفيلسوف الايرلندي.

***

حاتم حميد محسن

......................

Philip Pettit and the birth of ethics, philosophy now,Feb/March,2025

 

تمهيد: نرى العالم جميعًا من خلال عدسة ملونة بتجاربنا ومعتقداتنا ومواقفنا. تؤثر هذه العدسة ليس فقط على كيفية تفسير محيطنا ولكن أيضًا على كيفية خلق المعنى ورواية قصصنا. تعمل وجهات نظرنا كمرشحات، وتشكل واقعنا بطرق عميقة. من خلال فهم هذا، يمكننا اكتساب سيطرة أكبر على تصوراتنا، وبالتالي حياتنا. فماهو في الفرق الدلالي والسياقي بين مشهدية الناس ومنظورية العالم؟ كيف تشكل وجهات نظرنا عالمنا؟ هل يتم ذلك من خلال عدسة الإدراك ام عن طريق المرويات والسرود؟

قوة الإدراك

الإدراك ليس عملية سلبية. تقوم أدمغتنا ببناء تجربتنا للواقع بشكل نشط بناءً على المعلومات التي نتلقاها من حواسنا. يتأثر هذا البناء بالعديد من العوامل، بما في ذلك تجاربنا السابقة وخلفيتنا الثقافية وحالتنا العاطفية الحالية. في الأساس، لا نرى العالم كما هو؛ نراه كما نحن. على سبيل المثال، قد يشهد شخصان نفس الحدث لكنهما يفسرانه بطرق مختلفة تمامًا. قد يرى المرء التحدي كفرصة للنمو، بينما قد يراه آخر كتهديد. يمكن أن تؤدي وجهات النظر المختلفة هذه إلى نتائج وتجارب مختلفة تمامًا.

القصص التي نرويها عن الناس وعن العالم

تشكل وجهات نظرنا القصص التي نرويها لأنفسنا وللآخرين. هذه القصص، بدورها، تعزز تصوراتنا وتؤثر على سلوكنا. على سبيل المثال، إذا كنت تعتقد أن العالم مكان عدائي، فمن المرجح أن تفسر تصرفات الآخرين على أنها تهديد وتستجيب بشكل دفاعي. من ناحية أخرى، إذا كنت تعتقد أن الناس طيبون بشكل عام، فمن المرجح أن تقترب من الآخرين بثقة وانفتاح. القصص التي نرويها لأنفسنا يمكن أن تمكننا أو تحد منا. يمكن أن تؤدي الروايات الإيجابية والبناءة إلى النمو والمرونة والوفاء، في حين أن الروايات السلبية والمدمرة يمكن أن تؤدي إلى الخوف والركود والمعاناة.

دور صنع المعنى

البشر مخلوقات تصنع المعنى. نسعى باستمرار إلى فهم تجاربنا والعالم من حولنا. يتأثر المعنى الذي نخلقه من تجاربنا بشكل كبير بوجهات نظرنا. إن عملية صنع المعنى هذه بالغة الأهمية لأنها تشكل واقعنا وتؤثر على أفعالنا. على سبيل المثال، قد يرى شخص ما يفقد وظيفته ذلك بمثابة ضربة مدمرة لقيمته الذاتية وآفاقه المستقبلية. وقد يرى شخص آخر نفس الحدث كفرصة لاستكشاف مسارات مهنية جديدة وتطوير مهارات جديدة. يكمن الاختلاف في وجهة نظره والمعنى الذي ينسبه إلى التجربة.

تشكيل وجهات نظرنا

الخبر السار هو أننا نمتلك القدرة على تشكيل وجهات نظرنا. من خلال الوعي بمرشحاتنا العقلية وتحديها بنشاط، يمكننا تغيير الطريقة التي نرى بها العالم. فيما يلي بعض الاستراتيجيات لمساعدتك على تغيير وجهة نظرك: تنمية الوعي الذاتي: انتبه لأفكارك ومعتقداتك. لاحظ كيف تؤثر على تصوراتك وسلوكياتك. يمكن أن تكون كتابة اليوميات أداة قوية لزيادة الوعي الذاتي.

ينبغي العمل على تحدى افتراضاتك: شكك في القصص التي ترويها لنفسك. هل تستند إلى حقائق أم افتراضات؟ هل تخدمك أم تعيقك؟

يجب تحدى المعتقدات السلبية أو المقيدة واستبدلها بمعتقدات أكثر بناءً.

ممارسة الامتنان: التركيز على الجوانب الإيجابية في حياتك يمكن أن يحول منظورك من الندرة إلى الوفرة. ممارسة الامتنان بانتظام يمكن أن تساعدك على تطوير نظرة أكثر تفاؤلاً.

البحث عن وجهات نظر متنوعة: عرض نفسك لوجهات نظر وتجارب مختلفة. يمكن أن يوسع هذا من فهمك ويساعدك على رؤية الأشياء من زوايا متعددة. يمكن أن يكون قراءة الكتب والسفر والمشاركة في محادثات مع أشخاص من خلفيات مختلفة أمرًا مثريًا.

اليقظة والتأمل: يمكن أن تساعدك هذه الممارسات على أن تصبح أكثر حضورًا ووعيًا بأفكارك ومشاعرك. يمكن أن تساعدك أيضًا على تطوير مرونة عاطفية أكبر وتقليل ردود الفعل.

التأثير على تجاربنا

لا تشكل وجهات نظرنا كيفية تفسيرنا للأحداث فحسب، بل تؤثر أيضًا على ما نختبره. وذلك لأن توقعاتنا ومعتقداتنا يمكن أن تؤثر على أفعالنا وتفاعلاتنا. على سبيل المثال، إذا كنت تتوقع أن يكون حدثًا اجتماعيًا ممتعًا، فمن المرجح أن تقترب منه بموقف إيجابي، وتتفاعل مع الآخرين، وتخلق تجربة ممتعة. وعلى العكس من ذلك، إذا كنت تتوقع أن يكون مملًا أو غير مريح، فقد تنسحب وتخلق نبوءة تحقق ذاتها. وعلاوة على ذلك، يمكن أن تؤثر وجهات نظرنا على صحتنا الجسدية والعقلية. أظهرت الدراسات أن الأفراد المتفائلين يميلون إلى الحصول على نتائج صحية أفضل وأعمار أطول. ويرجع هذا جزئيًا إلى أن النظرة الإيجابية يمكن أن تقلل من التوتر وتعزز السلوكيات الصحية.

تأثير التموج

لا تشكل وجهات نظرنا تجاربنا الفردية فحسب، بل لها أيضًا تأثير متموج على من حولنا. يمكن أن تؤثر مواقفنا وسلوكياتنا على الأشخاص الذين نتفاعل معهم، مما يخلق حلقة تغذية مرتدة تعزز وجهات نظرنا. على سبيل المثال، من المرجح أن يلهم القائد الذي ينظر إلى فريقه باعتباره قادرًا وجديرًا بالثقة الثقة والدافع، مما يؤدي إلى أداء أفضل وبيئة عمل إيجابية.

احتضان عقلية النمو

إن أحد المنظورات القوية التي يمكن أن تحول حياتنا هي عقلية النمو، وهو مفهوم روجته عالمة النفس كارول دويك. عقلية النمو هي الاعتقاد بأن القدرات والذكاء يمكن تطويرهما من خلال الجهد والتعلم. وهذا يتناقض مع العقلية الثابتة، التي تفترض أن القدرات ثابتة وغير قابلة للتغيير. إن تبني عقلية النمو يمكن أن يؤدي إلى قدر أعظم من المرونة والإبداع والإنجاز. إنه يشجعنا على النظر إلى التحديات باعتبارها فرصًا للنمو بدلاً من التهديدات لقيمتنا الذاتية. من خلال تبني هذا المنظور، يمكننا إطلاق العنان لإمكاناتنا وإلهام الآخرين للقيام بنفس الشيء.

تعزيز الوعي الذاتي من خلال البصيرة العقلية

يقدم كتاب دانيال سيجل "البصيرة العقلية: العلم الجديد للتحول الشخصي" مفهوم "البصيرة العقلية"، القدرة على إدراك عمل عقولنا وعقول الآخرين. إن هذا الوعي الذاتي المتزايد يسمح لنا بالتعرف على أنماط أفكارنا وعواطفنا وإعادة تشكيلها. ومن خلال تطوير البصيرة العقلية، يمكننا اكتساب سيطرة أكبر على ردود أفعالنا وتعزيز العلاقات الصحية. إن وجهات نظرنا هي عدسات قوية تشكل واقعنا. ومن خلال الوعي بمرشحاتنا العقلية والعمل بنشاط على تغيير وجهات نظرنا، يمكننا إنشاء سرديات أكثر تمكينًا، وإثراء تجاربنا، وعيش حياة أكثر إشباعًا. تذكر أن العالم ليس كما هو، بل كما نحن. احتضن رحلة الرؤية المختلفة، وستكتشف عالمًا مليئًا بالإمكانيات.

منظورية الحياة

ملاحظة المؤلف: بدأت هذه القطعة كملاحظة كتبتها لطالبة جامعية كانت تعاني من الاكتئاب والصراع، لتقدم لها طريقة للتفكير فيما كانت تمر به. ثم أعيد صياغتها لاحقًا لجمهور أكثر عمومية، حيث قدمت للقراء الذين يبلغون ضعف عمرها أو أكثر منظورًا للتفكير في تجاربهم الخاصة.

يعتقد معظمنا أن الذكاء شيء يمكن قياسه بالدرجات ومعدل الذكاء. نستوعب المعلومات والمهارات في المدرسة، أو نتلقى التدريب في مكان العمل، ونقبل فكرة الذكاء التي تحددها قدرتنا على استيعاب قاعدة المعرفة الراسخة التي يمكن تدريسها وحفظها والاعتماد عليها.ولكن هناك عنصر آخر للذكاء، وهو عنصر أصعب في القياس من درجة الاختبار. إنه منظورنا للعالم.كل منا لديه طريقته الخاصة في الرؤية، والوصول إلى الحياة وفهمها. المنظور لا يتعلق فقط بجمع الحقائق. إنه يتعلق بكيفية معرفة ما يجب القيام به عندما لا نستطيع العثور على الحقائق لمساعدتنا في اتخاذ القرار. أو عندما تتناقض الحقائق مع بعضها البعض. أو، وهو الأمر الأكثر إيلامًا، عندما يتناقض الآخرون معنا. إن المنظور يخبرنا بالطرق التي نتواصل بها مع العالم والأشخاص من حولنا.

الفضول وحب الاطلاع

إن كل واحد منا يسعى إلى توسيع فضوله بطرق مختلفة. فبعضنا يشعر بالراحة مع المألوف. وبعضنا يستمتع بمعرفة المزيد عن منطقة معينة. والبعض الآخر يوسع نطاق بحثه مثل تموجات المياه في البركة. وهناك آخرون يتجهون إلى زوايا غير متوقعة وغير ذات صلة على ما يبدو للبحث عن ما قد يكون موجودًا الآن، أو ما قد يظهر. تخيل هذا الأمر كأننا نضبط هوائياتنا لالتقاط إشارات مختلفة - بعضها قريب وواضح، وبعضها أبعد وغير واضح، وبعضها خافت، بالكاد يمكن تمييزه.

التعقيد والتنوع

وعندما نصل إلى الهدف، ندرك روابط وإمكانات وروابط ومتغيرات وإمكانيات مختلفة - المادة الخام لفهم العالم. يسعى بعضنا إلى كل زاوية ممكنة لموقف نهتم به، أو مشكلة نحاول حلها، حتى نتمكن من تحديد التقنيات والمعرفة التي تناسبها بشكل أفضل. ويسعى آخرون إلى الروابط والمبادئ التي تربط عددًا من المواقف أو الأحداث معًا. إن البعض منا يتلذذ بالبحث عن أنماط لا تبدو واضحة، والعمل على وضع القواعد التي تحكمها. ويسعى بعضنا عمداً إلى البحث عن عدم اليقين ــ من خلال قراءة مواد غريبة وغير ذات صلة على ما يبدو، أو السير في شوارع غير مألوفة، أو وضع أنفسنا في مواقف جديدة أو صعبة، وقد نرحب بعدم اليقين نفسه كمورد.

الاختلافات والفروق

عندما نتحدث عن ما نسعى إليه ونراه ونفهمه ــ عندما ندمج بين رؤيتنا وبصيرتنا ــ سرعان ما يتضح أن الآخرين قد لا يرون العالم بهذه الطريقة على الإطلاق. فقد يجد الأصدقاء أو الزملاء أو المعلمون أو الرؤساء أو الآباء ما نحاول وصفه، والأسئلة التي نطرحها، غريباً بعض الشيء. وقد يصفوننا بالحرج، بل وحتى بالوقاحة، أو يخبروننا بأننا لا نستطيع أن نرى الأشياء بهذه الطريقة لأننا لم نكتسب الخبرة الكافية. إن رؤية الاحتمالات والارتباطات المحتملة التي لا يدركها الآخرون قد تجعلنا نشعر بالوحدة. وقد نشعر حتى بأن هناك خطأ ما فينا. وفي المدرسة أو الجامعة، قد يتم تجاهل الأسئلة التي نطرحها، أو يُنظَر إليها باعتبارها تحدياً للسلطة. قد يكون من الصعب معرفة كيفية الرد - فنحن نميل إما إلى الإصرار المفرط والمجازفة بأن يُنظر إلينا باعتبارنا متغطرسين، أو التراجع والاحتفاظ بمنظورنا لأنفسنا. وفي كلتا الحالتين، قد يتبع ذلك الإحباط والاغتراب.

التدفق والتالق

إننا نزدهر عندما تستمد تحديات العالم الذي نعمل ونتعلم ونعيش فيه كامل جاذبيتها من المنظور الذي نحمله. ونزدهر عندما تكون هذه التحديات متنوعة بما يكفي لإثارة فضولنا، ومعقدة بما يكفي للاتصالات التي نريد إقامتها، وواسعة بما يكفي للإمكانات التي نريد تخيلها. يصف الناس في جميع أنحاء العالم شعورهم بالثقة والكفاءة والنشاط، وحتى النشوة عند التعامل بنجاح مع التحديات الجديدة. يصف عالم النفس والمؤلف ميهاي تشيكسينتميهالي هذه الظاهرة بأنها "التدفق". فنحن نسير مع التيار، ويبدو أن الأشياء تحدث من تلقاء نفسها. حدسنا موجود من أجلنا، وإذا كانت هناك خيارات يجب اتخاذها، فإننا نتخذها دون أن ندرك ذلك تقريبًا. ومع ذلك، عندما تكون تحدياتنا غير كافية للمنظور الذي نحمله، نشعر بالإحباط والانقطاع. ونصبح قلقين ومترددين وقليلي الثقة. ونفقد الاتصال بحدسنا، وإذا كانت هناك خيارات يجب اتخاذها، فإنها تبدو واضحة وبديهية ومملة ومحبطة. إن "التحدي" الذي لا يتطلب أي حكم لا يشكل تحدياً ـ ولا متعة. ومن ناحية أخرى، إذا كانت التحديات ساحقة، فإننا نختبر نوعاً مختلفاً من القلق. ففي البداية نشعر بالحيرة، ونضطر إلى إقناع حدسنا. وإذا زاد الشعور بالإرهاق، فإن القلق يسيطر علينا. فنفقد قدرتنا على الإبحار عبر التعقيد، ونضطر إلى المقامرة بدلاً من اتخاذ خيارات متماسكة. ونشتاق إلى راحة حدسنا، ولكننا نخشى أن يخيب أملنا.

توسيع آفاقنا

يسعى الناس إلى "التدفق" لأنه مكافأة في حد ذاته. إن الشعور بالتدفق يمنحنا الطاقة والثقة، التي تغذي الإنجاز، والتي بدورها تعزز الطاقة، في دورة من التعزيز الإيجابي. التدفق ليس رفاهية، بل عنصر أساسي في الحياة. إنه يلهمنا للنمو، لأننا نسعى إلى متعة التدفق قدر الإمكان، ولكن مع اتساع منظورنا، لا يمكننا تحقيق ذلك إلا من خلال معالجة تحديات أكبر. غالبًا ما نشعر وكأن منظورنا المتنامي له حياة خاصة به حيث يسعى إلى آفاق أبعد من أي وقت مضى. من خلال البحث عن زملاء وأنشطة تتحدانا بمعنى إيجابي - ليس كثيرًا لدرجة أننا نشعر باليأس، ولا قليلاً لدرجة أننا ننام - فإننا نمهد الطريق لحياة مُرضية وديناميكية، مع فرص كل يوم لتقديم أفضل ما لدينا، والحصول على الأفضل في المقابل.

رؤية العالم من وجهات نظر مختلفة

نرى العالم من خلال عدساتنا الفريدة. إن تجاربنا ومعتقداتنا وثقافتنا تشكل الطريقة التي ندرك بها العالم من حولنا. ولكن ماذا لو كان بوسعنا رؤية العالم من خلال عيون شخص آخر؟ ماذا لو كان بوسعنا توسيع منظورنا واكتساب فهم أعمق للآخرين؟

إن رؤية العالم من وجهات نظر مختلفة يمكن أن تكون أداة قوية للنمو الشخصي والتعاطف. من خلال فتح أنفسنا لأفكار وتجارب جديدة، يمكننا تحدي افتراضاتنا الخاصة وتوسيع فهمنا للعالم. يمكن أن يؤدي هذا إلى تعاطف وفهم أكبر، فضلاً عن القدرة على التواصل مع الآخرين على مستوى أعمق.

إن إحدى الطرق لرؤية العالم من وجهات نظر مختلفة هي السفر. من خلال غمر أنفسنا في ثقافات وتجارب جديدة، يمكننا اكتساب تقدير جديد للعالم والأشخاص فيه. يمكن أن يساعدنا هذا في رؤية ما هو أبعد من تحيزاتنا وافتراضاتنا، واكتساب فهم أعمق للعالم المعقد والمتنوع الذي نعيش فيه.

خاتمة

هناك عدة طرق أخرى لتوسيع منظورنا من خلال التعليم. إن التعرف على الثقافات والتاريخ والوجهات النظر المختلفة يمكن أن يساعدنا في تحدي افتراضاتنا الخاصة وتوسيع فهمنا للعالم. من خلال البحث عن وجهات نظر متنوعة والانخراط في التفكير النقدي، يمكننا توسيع نظرتنا للعالم واكتساب تقدير أعمق لتعقيد وتنوع العالم. في نهاية المطاف، فإن رؤية العالم من وجهات نظر مختلفة تتعلق بالتعاطف والفهم. من خلال فتح أنفسنا لتجارب ووجهات نظر جديدة، يمكننا أن نتعلم كيف نقدر العالم والأشخاص فيه بطريقة جديدة وعميقة. يمكن أن يؤدي هذا إلى مزيد من التعاطف والرحمة والفهم، وفي النهاية يساعدنا في بناء مجتمعات أقوى وأكثر ارتباطًا. في الختام، فإن رؤية العالم من وجهات نظر مختلفة هي أداة قوية للنمو الشخصي والتعاطف. من خلال تحدي افتراضاتنا الخاصة وفتح أنفسنا لتجارب ووجهات نظر جديدة، يمكننا اكتساب فهم أعمق للعالم والأشخاص فيه. يمكن أن يؤدي هذا إلى مزيد من التعاطف والرحمة والفهم، وفي النهاية يساعدنا في بناء عالم أكثر ارتباطًا ورحمة. فكيف يمكننا أن نتعلم رؤية العالم بشكل مختلف من خلال التجريب الفلسفي على تعلم الرؤية بشكل مختلف؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

أحيانا يتحول الخوف من الأماكن المغلقة الى الخوف من الأبواب، الأبواب الدوارة خصوصا، أحدهم فضل ان يقف بالطابور طويلا ولا يدخل إلا من خلال باب المزلاج بالتالي دخل المكان المغلق من باب المزلاج لكنه أمسى في نفس المكان المغلق، هكذا هو التشبث بالحياة هربا من الموت، هروب مؤلم من مصير محتوم ليواجه مصيرا لا يعرف عنه شيء، الحياة ندخلها ونحن نبكي بلا وعي ونتركها ونحن نبكي على وعي الخسارة، هي تراجيديا البدايات وكوميديا النهايات، في الحقيقة هي تراجيديات متعاقبة نتيجة المعاناة، الكوميديا الوحيدة هي قهقهات التاريخ، دون بصيص من امل، تاريخ من التحولات المتعاقبة كأننا كائنات (أوفيد) لكننا بلا تاريخ، تحولاتنا تحدث كلها في آن واحد في هذه الحياة. كل شيء نراه حولنا هو اجتهاد من سبقونا، الحقيقة النهائية للأشياء صعب معرفتها، هذا موضوع عميق ومعقد يعكس الصراع بين الرغبة في الحياة واليأس من المصير المجهول، رغم ذلك يمكن النظر إلى هذه المفاهيم من عدة زوايا:

مواجهة الخوف من الموت والوعي المنهار

مواجهة الخوف والوعي المنهار من منظور فلسفي يمكن أن يتضمن عدة أفكار ومفاهيم، قبول فكرة العدم وعدم اليقين كجزء طبيعي من الحياة، هذا القبول يمكن أن يساعد في تقليل الخوف من المجهول بدلاً من البحث عن معنى محدد، هذا يمكن الانسان من أن يسعى لخلق معاني شخصية من خلال تجاربه وأفعاله ويكون مسؤولا عنها والتحكم في ردود الفعل تجاه الأحداث، سيقلل من تأثير الخوف، ويساعد في التعامل مع المشاعر السلبية بشكل أكثر فعالية، التمييز بين الأشياء التي يمكن تغييرها والأشياء التي لا يمكن تغييرها و التركيز على الأولويات ومقاومة الألم جزء لا يتجزأ من الحياة. بدلاً من الهروب من الخوف من الموت، يمكن مواجهته كجزء من التجربة الإنسانية.

عدمية المعنى والاحتفاء

 عدمية المعنى والاحتفاء بالنهاية يوسع الرؤيا، يساعد الانسان على خلق معانٍ خاصة به عن طريق تحقيق أهداف الذات الشخصية من خلال التشبث بالحياة المنتجة ابداعيا، يمكن أن يكون تعبيرا عن القوة الداخلية والإرادة التي ساعدت مواجهة التحديات الى تقدير التجارب الصعبة الانسان في فهم قيمتها وصقلها، تؤدي الاحتفاء في اللحظات البسيطة جدا فلسفات كثيرة اقرت مفهوم العدمية، وشجعت وإيجاد معنى شخصي في الحياة من خلال وضع استراتيجية قادرة على استيعاب وعلاقتها مع الموت التي يمكن أن تلعب دورًا كبيرًا في تعزيز الرغبة في الحياة، حيث يشعر الأنسان انه جزء أساسي في دورة الكون النهائية. التمسك بالحياة رغم العدمية هي رحلة فريدة لكل انسان تتطلب شجاعة واكتشاف الذات، بناء معنى الشخصية في الحياة، تتطلب لحظات من التأمل التي تساعد على التفكير وتحديد القيم في المعاني الأساسية، الفردية والاجتماعية التي تبنى على فهم عميق للذات من خلال التأمل الذي بدوره يساعد على فهم العوامل التي تؤدي إلى انهيار الانسان امام الموت.

آليات التأمل

يمكن أن تكون الفنون والآداب أدوات قوية للهروب من المعاناة والبحث عن الهدوء الداخلي من خلال التأمل والتفكير العميق، تمكن الانسان أن يستكشف مخاوفه وأسبابها، مما يساعد في مواجهة الوعي المنهار، تعزيز الوعي بالمعرفة كخطوة أولى نحو فهمها والتعامل معها بشكل أفضل والتركيز على تحقيق السعادة من خلال العيش بصدق واتباع القيم الشخصية التي تعزز سعادة الانسان يمكن أن يقلل التأمل من تأثير الخوف وتمكنه من أن يتبنى منظورًا أكثر شمولية ويخوض رحلة مواجهة الخوف والوعي المنهار بطريقة أكثر عمقًا. الاعتراف بأن الألم والخوف جزء من التجربة الإنسانية وليس هناك في الموت الم بل يكمن الألم في الخوف من انتظاره. من خلال هذا القبول، يمكن للإنسان أن يجد السلام الداخلي للهروب من المعاناة وتحقيق الهدوء، تحليل الأفكار والمشاعر المتعلقة بالخوف بموضوعية يمكن أن يساعد في تقليل تأثيرها، تعزيز الوعي بالمشاعر كخطوة أولى لفهمها والتعامل معها بشكل أفضل، مما يقلل من تأثير الخوف بعض المفكرين يدعون الى تعزيز الروابط الاجتماعية يمكن أن يوفر الدعم ويساعد في مواجهة المشاعر السلبية، من خلال استخدام هذه الاستراتيجيات، يمكن للإنسان أن يواجه الخوف من الموت والوعي المنهار بطريقة أكثر عمقًا وفعالية.

دمج الاستراتيجيات

استخدم مبادئ للتحكم في ردود ألفعال، مع تعزيز الوعي الذاتي من خلال التأمل والتفكير في المشاعر والأفكار يساعد في تنمية فهم الذات بشكل منتظم لتحليل المخاوف وفهمها بشكل أفضل واستخدم التأمل كوسيلة لفهم الألم والخوف من الموت، يؤدي إلى قبول أكبر لهذه المشاعر واستخدمها لتحديد ما هو مهم في الحياة، مع تعزيز الوعي الذاتي لفهم كيف تؤثر المشاعر على تلك الأولويات وتساعد في وضع أهدافً قصيرة وطويلة المدى، مع تقييم كيفية تأثير الخوف على تلك الأهداف. بينما يمكن ممارسة التأمل لتعزيز السلام الداخلي ويمكن خلق نهج شامل لمواجهة الخوف والوعي المنهار، مما يعزز من القدرة على التعامل مع تحديات الوعي وتحقيق السلام الداخلي. عند دمج استراتيجيات المواجهة ضد الخوف والوعي المنهار، قد يواجه الانسان بعض التحديات المحتملة، منها التعارض، قد يكون من الصعب الجمع بين التحكم في المشاعر والتعبير عنها بشكل حر، قد تكون بعض الاستراتيجيات صعبة التطبيق في الحياة اليومية لأسباب سياقية واجتماعية وشخصية أحيانا، على سبيل المثال، قد يكون من الصعب مواجهة الألم أو القلق بشكل مباشر، خاصة في أوقات الضغط النفسي والضغط الاجتماعي، قد تؤدي الأهداف المختلفة من استراتيجيات متنوعة إلى صراعات داخلية بين الفرد والمجموعة، كما يمكن أن يتطلب السعي نحو السعادة مع قبول الألم كجزء من الحياة ودمج عدة استراتيجيات وقتًا وجهدًا كبيرين يشعر الشخص بالإرهاق أو الإحباط إذا لم يرَ نتائج بسبب المعاناة الطويلة، من الصعب تطبيق المفاهيم المعقدة وبعض الاستراتيجيات اذ تتطلب مستوى عاليًا من الوعي الذاتي والقدرة على التفكير النقدي، مما قد يكون تحديًا للأشخاص الذين لا يمتلكون هذه المهارات، قد تؤدي محاولة دمج استراتيجيات متعددة إلى تغييرات نفسية مفاجئة، مما يسبب عدم الراحة أو الارتباك. من المهم أن نكون واعيًن لهذه التحديات وأن نتعامل معها بشكل منهجي. يمكنك التغلب على تناقض الأفكار بين الاستراتيجيات المختلفة وتحقيق تكامل أفضل بينها، مما يعزز من القدرة على مواجهة الخوف والوعي المنهار في مواجهة الموت بشكل أكثر فعالية.

استراتيجيات معاصرة لمواجهة الخوف من الموت في الوعي المنهار

تعتبر استراتيجيات الفلاسفة المعاصرين لمواجهة الخوف والوعي المنهار متنوعة وتعكس التحديات النفسية والاجتماعية التي نواجهها في العصر الحديث. تشجع الفلسفة النقدية على تحليل الأفكار والمعتقدات التي تؤدي إلى الخوف من الموت. من خلال التفكير النقدي، يمكن للأفراد تحدي الأفكار السلبية وتحويلها إلى رؤى إيجابية تستخدم بعض الفلسفات، التأمل كوسيلة لمواجهة الخوف. يساعد التأمل على زيادة الوعي الذاتي وفهم المشاعر بشكل أعمق. تشدد النظريات الاجتماعية، مثل تلك التي قدمها الفيلسوف ميشيل فوكو، على أهمية فهم السياقات الاجتماعية والثقافية التي تؤثر على وعينا. من خلال الوعي بالسياقات، يمكن للفرد أن يتصدى للخوف من خلال التركيز على النمو الشخصي والتغيير الإيجابي في الحياة تجمع هذه الاستراتيجيات بين الفهم الفلسفي والعملي، مما يساعد الأفراد على مواجهة مخاوفهم ووعيهم المنهار بطرق بناءة. ان تقبل حقيقة الموت كجزء من نهاية طبيعية ومصير عام سعت البشرية ان تكشف اسراره لم تفلح الا عن اساطير امتدت لآلاف الأعوام.

***

غالب المسعودي

 

اكتسبت الفلسفة وتاريخها أهمية كبير تبعاً لخاصية أساسية فيها، وهي أنها توصف بـ (أم العلوم) وهذه الأمومة الجامعة بالنسبة للمعني بالبحث الفلسفي والانشغالات في تساؤلات الفلسفة، يجد نفسه أمام تنوع معرفي كبير، يشتمل على موضوعات، ومجالات مختلفة، نطلق عليها (المعرفة الموسوعية) أي التي تجمع بين علوم مختلفة، وثقافات مختلفة.

كان هذا سائد في عصر اليونان القديمة، وعصر الهيليني، والهلينستي، والعصور الوسطى المسيحية والاسلامية، وبدايات العصر الحديث تقريباً، وما ان تطورت الأبحاث المعرفية، وأخذت منحى تجريبي في كثير من موضوعاتها، لا سيما الفلك، والفيزياء، والكيمياء، والطب، وغيرها من العلوم الطبيعية التي كانت تبحث تحت عنوان الفلسفة الطبيعية. فبدأت تتطور الإنشغالات المعرفية التجريبية وتأخذ حيز من الإهتمام المعرفي والتساؤلات الفلسفية. وذلك لنتيجة الطروحات العلمية التي اعتمدت منهج تفكير تجريبي يختلف عن التفكير المثالي والعقلي الذي كانت تصطبغ به النظريات الفلسفية.

يُنسب تأريخياً هذا التحول إلى بوادر نقد المنطق الأرسطي الصوري، واعتماد المنطق التجريبي الذي يولي أهمية للاستقراء ويرفض القياس. سواء بدأ مع روجر بيكون أو فرنسيس بيكون الذي قدم لنا بحثاً في المنطق التجريبي وأسماه (الإرغانون الجديد). تعامل هذا المنطق مع الطبيعة بشكل مباشر، ومن دون الخوض في ما بعدياتها. مقتصراً مصادر المعرفة فيها على أدوات الحس.

فالمعرفة الحسية المعتمدة على المدخلات المادية للمعرفة تحليلاً وتركيباً، تعد بداية لتحول علمي واضح يقتصر التوجهات المعرفية صوت مصدر واحد من مصادر المعرفة وهو الحس وما تساعد آفاقه المعرفية من مشاهدة، وتجريب، ولمس، وشم، ونظر، في الإحاطة المعرفية بقدر ما يمنحها تطبيقها على أرض الواقع.

فالتعامل المادي مع نتائج هذه المعارف بدأ يأخذ اتجاهه التجريبي العملي مع أول تطور للآلة الحديثة التي وجهت الإهتمام للمعارف التجريبية على حساب الفلسفة العقلية، والدين، والسياسة.

هذه البدايات مع تحول الشمولية المعرفية التي كانت تتمتع بها الفلسفة، إلى نزعة تخصصية مفترضة على واقعها الجديد حينها. فبداية مغادرة الأوهام شكل نقطة بداية كبيرة للتفتيش من معرفة عقلانية واضحة لا تقبل التأويل ولا اللبس ولا الميتافيزيقا. اتسمت بصرامتها المعرفية والمنهجية التي تشخص مبحث واشكالية محددة تخوض فيها حتى تكتشف حقيقتها. فكانت كل جزئية من عالم الطبيعة محط اهتمام جزئي بما تنطوي عليه من معارف.

وهذا ما شجع ظهور نظريات جزئية وكلية في الطبيعة: مثل الجاذبية، ودوران الأرض، وكرويتها، ومركزيتها، ومركزية الشمس، والسرعة، والزمان، والمكان، والحركة، والنسبية، والحتمية، وتطور البحث في هذه المفاهيم حتى أخذت مجالاها الخاص في البحث الامربيقي. مستقلة نسبياً عن التساؤلات الما بعدية للفلسفة.

كان من نتائج تطور هذا المسار الجديد في تاريخ الفلسفة المعرفي، ظهور تيارات معرفية متماثلة في اهتماماتها، ومتباينة، مثل: الاتجاه العقلي، والاتجاه التجريبي. وهما أبرز اتجاهين فلسفيين ومنهجيين في تاريخ الفلسفة، ومنه تتفرع الاتجاهات الأخرى التي تتسم بالخصوصية المعرفية نسبياً. مثل: الاتجاه الوضعي، والاتجاه المثالي، والاتجاه التأريخي، والاتجاه العلمي، والاتجاه الآلي. والاتجاه الفيزيائي وهو أبز الاتجاهات العلمية التي أخذت من الفلسفة مفاهيم كثيرة واستعارتها وبعضها جيرتها لصالح تجاربها العلمية المبهرة في تاريخ العلم مثل النسبية والحتمية وغيرها.

في تاريخ هذه التوجهات، ظهرت تساؤلات عن مصير الفلسفة، وأهميتها، وقيمتها وجدواها إزاء طغيان النزعة العلمية التجريبية على تخصصات أخرى كانت تحت عباءة الفلسفة.

فكان الحديث عن موت الفلسفة وقلة أهميتها، كما ابتدأه ماركس وكارل، أمام الشموليات الأيديولوجية والارستقراطية التي كانت تجعل من الفلسفة نخبوية بحتة. حديث ذو أهمية كبيرة حتى داخل الجامعات والأروقة العلمية التي صنفت الفلسفة، وقسمت إلى مباحث، وتقسيمات معاصرة وفروع معرفية جديدة، مثل: فلسفة العلم، وفلسفة الدين، وفلسفة العلوم.

وهنا نشير إلى أن الفلسفة تحولت من الموسوعية النخبوية إلى التخصصية العامة. فالنتائج المترتبة من العلم أبحت متداولة مع الجميع وأن كانت بدايتها مقتصرة على الطبقة البرجوازية.

فبدأت تبعا لذلك استقلال العلوم عن الفلسفة، سواء علوم علمية أو علوم إجتماعية. وأخذت تبتعد عن وصاية الفلسفة ومناهجها نسبيا، معتقدة أنها مستقلة بمنهجها من دون الفلسفة، وهو الوهم الذي بقي يرافق التخصصات المعاصرة.

فالتخصصات العلمية أستقلت مبكراً جداً لا سيما علم الفيزياء، والكيمياء، والفلك، أما الطب فقد تأخر حتى الثلاثينيات من القرن الماضي.

فكان علمي الاجتماع وعلم النفس أنشقا مبكرا ًعن الفلسفة واستقلا في منهجيهما نسبياً، وأخذت مباحثهم العلمية تأخذ اتجاه احصائي وتجريبي .

وتوالت الاستقلالية التخصصية لكثير من المعارف والعلم، وبقيت الفلسفة معنية ومحصورة باهتمامات وتساؤلات واشكاليات محدد. لا من هي من حددت لنفسها تلك الاهتمامات، بل هذا ما ابقاه لها العلم والتكنولوجيا .

 وعلى الرغم من تشعب فروع الفلسفة وتخصصاتها واهتماماتها التي نستطيع القول بها أنها قد أعنت نفسها بكل ما يتعلق بالإنسان ونشاطه، الا أن الإنسان هو من أختار لنفسه الابتعاد عنها، وأخذ يتكل على العلم التطبيقي، معتقداً أن القدرة المالية هي الحل الوحيد لجميع مشاكله، وبالتأكيد هذا الاعتقاد واهم لأن الإنسان لا يتقوم بما يملك من قدرات مالية وآلية بل يما يملك من إرادة وحرية ومعرفة في إدارة هذه الطاقة.  ونزعم ان ما تتبناه الفلسفة هي تلك القدرة المعنوية التي تشجن بها الإنسان، بدوافع الأمل، والسعادة، والأمان، والاستقرار، والأخلاق، والعدالة، والحق. وكل ما تقدم هو مسعى بشري عام يتكامل بإرادة الخير.

فالإنسان المعاصر اليوم، أمامه المئات من التخصصات المعرفية والعلمية البحتة في كل ميدان ومجالات الحياة والعلم  وهل يجد الفلسفة في كل منها ؟

هذا الأمر نسبي جدا؛ لأن الغالب على النشاط البشري هو العفوية، والتقليدية، ومن ثم المعرفية، وكل تطور له يمثل وجهة صوب مجال معين قد ينفرد به فرداً، أو مجتمعاً، أو أمة، أو حضارة.  لذلك نجد مثلاً الحضارة الغربية هي المتفوقة علمياً لأنها سبقته بالتفوق المعرفي. وما زال يترافق التطور المعرفي منهجياً مع التطور العلمي صناعياً. وهناك شعوب متراجعه في تفكيرها، يُقابله تراجع في النزعة التخصصية.

وكلما تطور العلم وتعمقت أدواته في البحث عن الأسرار الطبيعية واكتشاف الجديد منها، كلما ثبت عملياً بأن تلك الإمكانيات لا يوفرها العقل المتفلسف؛ لأن عقل إينشتاين لا يتكرر دوماً. وهنا إشارة إلى أهمية العقل الأداتي في توجيه منفعة التخصصات على حساب الفلسفة وقيمتها بين تلك التخصصات.

***

د. رائد عبيس

 

تمهيد: تلعب الفلسفة دورًا حاسمًا في تحليل الخطاب من خلال توفير النظريات الأساسية والمفاهيم والمنظورات النقدية التي تساعد في استجواب طبيعة اللغة والمعنى والتواصل. تساهم المناهج الفلسفية في فهم الآثار العميقة للخطاب، بما في ذلك أبعاده الأخلاقية والمعرفية والوجودية. من خلال دمج الرؤى الفلسفية، يمكن لمحللي الخطاب استكشاف كيفية بناء اللغة للواقع، والتأثير على الفكر، وتشكيل التفاعلات الاجتماعية وديناميكيات القوة. إن الفلسفة تثري تحليل الخطاب بشكل كبير من خلال توفير النظريات الأساسية والمنظورات النقدية التي تعمق فهمنا للغة والمعنى والتواصل. ومن خلال دمج الرؤى الفلسفية من التأويل والنظرية النقدية وما بعد البنيوية والايتيقا وفلسفة اللغة، يمكن لمحللي الخطاب استكشاف آثار الخطاب، بما في ذلك دوره في بناء الحقائق الاجتماعية وديناميكيات القوة. ويعزز هذا المنهج متعدد التخصصات تحليل الخطاب، ويقدم رؤى عميقة حول الطرق التي تشكل بها اللغة الفكر والتفاعل الاجتماعي.

التفكير الفلسفي

كمصطلح متخصص يشير إلى نظام فكري (وهو موضوع التدريس والنشر)، يتم استخدام كلمة الفلسفة إما بصيغة المفرد أو بصيغة الجمع، للإشارة إلى المذاهب أو الأنظمة الفلسفية لأفلاطون وأرسطو وسبينوزا وهيغل، وما إلى ذلك. على أية حال، سنرى أنه لا يمكن تحديد تعريفه بشكل لا لبس فيه. "التعريف" هو تقييد، كلمة"horizein" في اليونانية تعني رسم الحدود. إن تنوع استخدامات المصطلح واتساع الصور الرمزية التاريخية التي يغطيها يكفي لشرح مشكلة تعريفه. وكما يملي المنطق والتفكير الفلسفي، قبل أن نحاول تحديد ماهية المفهوم الفلسفي، يجب علينا أولا أن نعرف أصوله، وحتى نشأته وتاريخه، ثم تحديد خصوصيته بالنسبة لأنظمة الفكر الأخرى في العالم وهي: الأسطورة والدين والعلم، لننتهي في النهاية إلى تحديد قضاياه ومنظوره وهدفه. فماهي رهانات ووجهات نظر ومقاصد الفلسفة؟

إن الحديث عن رهانات ووجهات نظر ومقاصد من التفكير الفلسفي هو بمثابة رؤية فائدته وعدم جدواه.

إن فائدة الفلسفة وعدم جدواها هي قصة قديمة لا تزال محتدمة حتى اليوم. ومع ذلك، في عالم يحتل فيه التقدم في العلوم والتكنولوجيا مكانة مهمة، ألن يتم تأجيل فائدة الفلسفة إلى الموقد الخلفي؟

جدوى الفلسفة

إن التحدي الذي يواجه جميع الأبحاث هو تحقيق أهدافها أو غرضها، ولن تعد الفلسفة من جانبها موجودة إذا حققت أهدافها التي تتمثل فقط في الوصول إلى الحكمة، والحصول على المعرفة الكاملة. لكن الفلسفة، مثل العجب، ليس لها أصول أخرى، فإذا أصبحت هذه المعرفة أو الحكمة الموسوعية، فلن يكون هناك دهشة وستختفي الفلسفة من الوجود. يُظهر طاليس، الذي يتأمل النجوم ويسقط في البئر، أن الفلسفة تفصلنا أحيانًا عن الواقع. "تزعمون أنكم تعلمون ما يحدث في السماء، وتتجاهلون ما يحدث أمام أعينكم". وهذا يعني أن اهتمامات الفيلسوف، حسب الرأي، هي وهم محض، خالية من أي اهتمامات عملية. ولهذا السبب لم يعير اللاتينيون أهمية للفلسفة، لأنهم قالوا: "عش أولاً، ثم تتفلسف". لذلك، بالنسبة للفطرة السليمة، الفلسفة هي هروب، هروب من الواقع. وقال كاليكليس متحدثا عن سقراط. "أمام انسان عجوز يواصل التفلسف دون توقف، لا أقول لسقراط إنه يستحق الجلد". لذلك فالفلسفة بالنسبة له عديمة الفائدة ولا تخدم إلا تعليم الشباب؛ وفي سن معينة، يصبح أي شخص يفعل ذلك محتقرًا. بالنسبة لسيليكليس، الفلسفة هي تسلية خطيرة تلهينا عن الأمور الدنيوية. ويراه السفسطائيون نشاطا عقيما لأنه يبحث عن حقيقة غير موجودة، فما الفيلسوف إلا محير. اتُهم سقراط بإفساد الشباب، وذكر روسو، في خطاب حول العلوم والفنون، أن "الفلاسفة مشعوذون خطرون". ينتقدون المعتقدات والعقائد. الفلسفة هي جزء الشيطان من العالم وأفضل شيء هو حرق أرسطو. من خلال التشكيك في المعرفة الراسخة والدفع نحو البحث عن المعرفة، تثير الفلسفة القلق. وهكذا قال كلود برنارد إن الفلسفة لا فائدة منها، وقالت إن العلم وحده هو الذي يؤدي إلى الحقيقة. وهذا ما يقوله في الفلسفة: "لم يُدخل الفلاسفة أدنى حقيقة على الأرض، وحدهم العلماء هم من يستطيعون فعل ذلك". يرى البعض أن هذا بمثابة موت على حساب العلم؛ لكن بالنسبة للآخرين، تعتبر الفلسفة مفيدة بشكل ملحوظ. إن رفض الفلسفة بسبب افتقارها إلى نتائج عملية ليس إلا تجاهلا لمعناها ودورها الحقيقي. وفقا لسقراط، الفلسفة لا غنى عنها لتعليم المواطنين الذين تطهر أرواحهم. ويعد سقراط تلاميذه بهذا التطهير الفكري عندما يقول لهم "إذا تخلصتم من الأفكار الخالية من القيمة، سيخف وزنكم على من يعاشرونكم وتثقلون عليهم، لأنكم ستمتلكون الحكمة في ألا تتصوروا أنكم تعرفون ما لا تعرفون". في الوقت نفسه، يُظهر أبيقور أنه لا يوجد عمر للفلسفة، فالفلسفة تساعد الشباب على أن يكونوا مستبصرين والكبار على البقاء في الحكمة. ولذلك فإن الفلسفة هي التي تتيح للإنسان أن يكتسب هدوء النفس. لذلك يجب علينا أن نتأمل، لأن أبيقور يقول: "ليست حفلات الخمر، والعربدة، واستمتع الأولاد والبنات، والموائد الفاخرة هي التي تصنع الحياة السعيدة، بل العقل اليقظ الذي يبحث بدقة عن أسباب ما يجب أن يختار وما يجب تجنبه، ويرفض الآراء الباطلة التي بسببها تستحوذ أعظم المشاكل على النفوس". ولذلك فإن الفلسفة عند أبيقور هي العيش وسط الخيرات التي لا تفنى مثل الفضائل والقيم الأخلاقية التي لا تفنى أبدًا، ولكن من يعيش في مثل هذه البيئة يعتبر إلهًا. وبحسب ديكارت، ففي مبادئ الفلسفة "هذه الدراسة ضرورية للغاية لتنظيم أخلاقنا وقيادتنا في هذه الحياة التي لا تستخدم أعيننا لتوجيه خطواتنا". تتيح لنا الفلسفة ضبط غرائزنا من خلال ترشيد سلوكنا. ولهذا السبب قال ديكارت: "هذا وحده هو ما يميز الأكثر وحشية وهمجية"، بالإضافة إلى أن "كل أمة تكون أكثر تحضرا وأدبا كلما كان ناسها أفضل في الفلسفة". الفلسفة هي أيضًا وسيلة لتنظيم المجتمع، لأنه، وفقًا لأفلاطون، لا يمكن إدارة المجتمع إلا على أساس القوانين؛ هناك حاجة إلى أشخاص فاضلين وصادقين، قادرين على العمل كنموذج للناس. بالنسبة لأفلاطون، الفلاسفة فقط هم الذين يجسدون مثل هذا السلوك. ويؤكد في مدينة الجمهورية المثالية أن “الفلاسفة يجب أن يكونوا ملوكًا والملوك فلاسفة”. وعلى المنوال نفسه، يؤكد ديكارت، في مبادئ الفلسفة، أن "الناس الذين الجزء الرئيسي منهم هو العقل يجب أن يكرسون اهتمامهم الرئيسي للبحث عن الحكمة التي هي غذاءها الحقيقي". إن نبذ الفلسفة يعني نبذ صفة الإنسان؛ إنه ضروري كما يقترح بياجيه في كتابه الحكمة ووهم الفلسفة؛ "الفلسفة لها سبب وجودها، ونحن نرى أن الإنسان الذي لا يمر بها هو ناقص بشكل غير قابل للشفاء." ونحن نرى بوضوح أن الفلسفة تسمح للإنسان بإضفاء الطابع الإنساني على نفسه، وأننا لا نستطيع الاستغناء عنها في الحياة.

ما هي منهجية التأويل الفلسفي؟

ليس من السهل أن نقول أي شيء مثير للاهتمام وعامة ومعقول حول المنهجية الفلسفية. حتى لو وضعنا جانبًا تحدياتهم المعرفية سيئة السمعة، فإن محاولات فهم البحث الفلسفي بطريقة فريدة من نوعها تتجاهل حتماً تلك الفروع من الفلسفة التي ينتج ممارسوها أعمالًا لا يمكن تمييزها تقريبًا عن تلك المنتجة في الأقسام الأكاديمية الأخرى - مقارنة العمل الوثيق لفلاسفة اللغة بعمل علماء الدلالة في أقسام اللغويات، أو عمل فلاسفة الفيزياء بعمل علماء الفيزياء النظرية. والمناقشات الأكثر شمولاً لمنهجية الفلسفة تخاطر بتوليد قوائم من الحشو - الاعتقاد وفقًا للأدلة، والتوصل إلى استنتاجات جيدة، وعدم استجداء الأسئلة ضد المعارضين الجدليين، وما إلى ذلك. - بدلاً من المعالجات الإعلامية لكيفية المضي قدمًا في الفلسفة.

الغرض هنا هو تحديد الاستراتيجيات الأساسية لتطبيق منهجية التأويل الفلسفي، والتي تتحقق في حل المهام التالية:

1) تحديد الشروط النظرية لتحول التأويل الفلسفي نحو البحث الاجتماعي التطبيقي؛

2) تحديد المفاهيم والتقنيات الأساسية للتأويل الفلسفي، ذات الصلة بقياس الظواهر الفعلية؛

3) تحديد منطق تطبيق عناصر التأويل الفلسفي .

تتكون منهجية البحث من أساليب النقد الجوهري للخطاب الفلسفي، والتي تتكيف مع الأفق الموضوعي للدراسات الانسانية. يتم التعبير عن الأصالة العلمية للبحث في العبارات التالية:

1) تشمل الشروط النظرية للتحول التطبيقي للتأويل الفلسفي النقد العملي لأنطولوجية الدائرة التأويلية، أي إعادة تفسير التأويل الفلسفي بما يتعارض مع المبادئ التوجيهية الأساسية لمؤسسيها (هيدجر، غادامير وريكور)؛

2) المفاهيم والتقنيات الأساسية للتأويل الفلسفي، ذات الصلة بقياس الظواهر الاجتماعية الفعلية، هي الدائرة التأويلية وفهم الذات، والاختزال والتدمير التأويلي؛

3) يتضمن منطق الاستخدام التطبيقي للعناصر الفلسفية للتأويل في سياق العلوم الاجتماعية ارتباط بنية البحث بالبنية التأويلية لفهم الذات المتأصل في الموضوع قيد البحث. الاستنتاج: أثبتت دراسة شروط التحول التطبيقي للتأويل الفلسفي الأهمية الأساسية لتحديد مشكلة تركيب العلوم الأساسية والتطبيقية.

خاتمة

في الختام نرى أن الفلسفة انتقلت من المنهج التأملي إلى المنهج العملي لتعليم وعقلنة الكون كله. هذا الانسحاب من الوجود إلى نفسه باعتباره كائنًا وفكرًا يفكر في نفسه، في مواجهة ألغاز وجود الكون، يتخذ موقفًا حازمًا من الأدلة وطابع الواقع الذي لا ينضب ولا يمكن قياسه. ويظل أحد أكثر التخصصات إثارة للجدل بسبب رفضه القاطع لجميع أشكال الدوغمائية والامتثال. هذا هو السبب في أنه نظام مقصور على فئة معينة. فكيف يمكن للبحث الفلسفي والتحليل النقدي للخطاب أن يستفيدا بشكل متبادل من بعضهما البعض لإنتاج اتجاهات منهجية وتفكرية جديدة لدراسة "ما الذي يحدث هنا"؟

من خلال هذا الانعطاف المنهجي، نجادل بأن تعزيز التحليل اللغوي بالمنظورات الفلسفية يتطور ويدعم دراسات للتحليل النقدي على نطاق أوسع من خلال استيعاب التعقيد المتغير للمشاكل. في مناقشة القضايا الفلسفية المنهجية، توجد حاجة إلى تكييف التحليل النقدي بشكل مستمر مع بيانات معينة حتى تظل حساسة وتتجنب الميول المهيمنة في التحليل. من خلال اعتماد مبادئ منهجية العمل، نناقش إطار التحليل النقدي للخطابات الجزئية والمتوسطة والكلية التي تعتمد على المفاهيم التحليلية للحركة، والسيولة المجازية الزائدة، وتكثيف المواضيع والحقول، والتجارب التأويلية لتصور منهج بحثي قادر على فحص وفهم الخطابات المتطورة للاقتصادات السياسية. إن الفائدة الأكثر إلحاحاً لهذا الإطار هي قدرته على توضيح كيف أن أشكال التقييمات التي يديمها خطاب السياسة ومن خلاله هي موضع تحفيزي لصنع المعنى. فما هو المفتاح التأويلي الذي يساعد على فهم ما يحدث من الناحية الفلسفية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

تنوعت علاقة الفلسفة بالعلم التجريبي في عصر الحداثة بين القوة والفتور، تبعاً لمتغيرات كبيرة حدثت على مستوى المنهج العلمي، والتزعات المادية الطاغية على التفكير الحداثي، الذي استقل فيما بعد بتوجهات واضحة وصريحة تحت مسميات مدرسية ومنهجية. كانت قد بدأت مرحلة القوة في علاقة الفلسفة بالعلم التجريبي من خلال المنهج التجريبي الذي بداءه فرنسيس بيكون وأسس له أسا فلسفي دقيق تحت عنوان المنطق الجديد، قاصداً المنهج التجريبي والمنطق التجريبي الجديد الذي فرض خصائص معرفية مختلفة عن تلك التي أسس لها أرسطوطاليس. فالترابط القوي في علاقة الفلسفة بالعلم يعتمد على الأسس المنهجية. أما مرحلة الفتور فكان بسبب طغيان النزعة التجريبية على حساب البعد العقلي من الفلسفة، وعدم قدرة الفلسفة على توفير إجابة على الافتراضات العلمية التي كانت تنظر بها للواقع والمادة والطبيعية. محدثة نقلة نوعية في التعامل مع الطبيعة غير تلك السائدة في البعد الأنطلوجي التقليدي في تاريخ الفلسفة المقتصر على التفسير العقلي والتأملي لحقائق الكون. فضلاً عن أعتماده الآله بدل العقل. واطراد النتائج بدل من التأمل.

إذن الفلسفة في علاقتها بالعلم تأخذ بعد فرضي، وآخر عملي. حتى تفرع عن هذه العلاقة ما يعرف ب (فلسفة العلم) الذي يدرس نتائج العلم وأثرها على التفلسف ومشاكله.

ما الذي يجعلنا نفترض هذه الفرضية في عنوان هذا المحور؟ وهو (تراجع الفلسفة في عصر الذكاء الصناعي) هل فعلاً تراجعت الفلسفة في عصر هذا الفرع الجزئي من العلم التجريبي والتطبيقي، وعصر التكنولوجيا الواسع الأنتشار؟ هل فعلا الذكاء الصناعي يمثل المرحلة الأكبر تأثيراً في تراجع الفلسفة عن مهامها لما يمتلكه الذكاء الصناعي من قدرات كبيرة؟

لو رجعنا تأريخياً لوجدنا أن مصطلح الذكاء الأصطناعي،مصطلح ليس بالجديد في عالم التكنولوجيا ولا في تداوله في الأوساط العلمية والأكاديمية وحركة البحث والتأليف. فهو مصطلح تداول منذ 1956وأخذ أبعاد متعددة على مستوى النشاط البشري. ولعله يرجع أيضاً إلى إكتشاف آلة الحاسوب الذي يقوم بعمليات حسابية نيابة عن البشر.

الفكرة الأساسية في الذكاء الاصطناعي لا توحي بتعارض معرفي مع أصل التفكير الفلسفي القائم على حل المشكلات، فهو باختصار جهاز آلي يقوم باستقبال الذكاء البشري وتقبل املاءاته ليقوم بمعالجات متكررة بنفس النتائج بشكل آلي من دون القدرة على تغيير طريقة المعالجة كما يحدث ارتجالياً مع البشر أحيانا.

أصل معرفة الذكاء الاصطناعي ناتجة من حزمة متنوعة ومختلفة ومفترضة وتطبيقات ذكية توحي من عقل ذكي جداً يفترض ما لم يفترضه العقل العادي، ويعتمد على دقة الآلة في تنفيذه، وتحريره من التنفيذ البشري الذي يتعرض في كل مرة لظروف نفسية واجتماعية مختلفة واضطرابات بالمزاح.

بمعنى أن المعرفة بطريقتها الآلية تحولت من معرفة مرنة إلى معرفة جامدة، ومن معرفة تستدعى بالتذكر إلى معرفة تستدعى بالإيعاز، ومن معرفة مرتجلة باللغة إلى معرفة مترجمة رقمياً. ومن معرفة ذاتية إلى معرفة جماعية، ومن معرفة بالاستعمال المحدود ضيقة النطاق إلى معرفة واسعة النطاق بالاستعمال الشائع، ومن معرفة أحادية التحديث إلى معرفة تتيح للجميع المشاركة في تحديثها. كل هذا يساعد على فهم بعد جديد للمعرفة الآلية تحت عنوان الذكاء الاصطناعي الذي يهب للعقول الحلول الجاهزة، ويحصر حل تلك المشكلات على الدوائر المعرفية والاشخاص . 

في عصر الذكاء الاصطناعي، تلعب الفلسفة دورًا محوريًا كوسيط وبوصلة أخلاقية توجه ملاحتنا عبر مشهد يعج بالتعقيدات والتحديات غير المسبوقة. ويتمثل الشاغل الأكثر إلحاحاً في إنشاء أطر أخلاقية ومبادئ توجيهية تشمل تطوير الذكاء الاصطناعي ونشره بشكل مسؤول، مما يضمن أننا نتعامل بجدية مع قضايا خصوصية البيانات، والاستقلالية الشخصية، والتحيز، والعدالة، والشمولية. تسعى هذه الأطر إلى الحفاظ على الانسجام حيث يعمل الذكاء الاصطناعي على تعزيز المجتمع البشري، وليس تقويضه.

في الوقت نفسه، تتصارع الفلسفة مع الاستفسارات المعرفية العميقة التي تظهر عند تقاطع الذكاء الاصطناعي والإدراك البشري. يتعمق الفلاسفة في طبيعة الذكاء والوعي، ويستكشفون القدرات الواعية المحتملة للذكاء الاصطناعي ويبحثون في كيف يمكن لتمثيل المعرفة في أنظمة الذكاء الاصطناعي أن يعيد تعريف التعلم والتفكير في العصر الرقمي. لقد أصبحت هذه الاستفسارات ضرورية في التمييز بين قدرات الذكاء الاصطناعي والبشري والقيود المفروضة عليه، وتشكيل علاقة تكافلية تعزز نقاط القوة في كليهما.

وبينما نتعمق أكثر في هذه الحدود الجديدة، يمتد الخطاب الفلسفي إلى العوالم الوجودية والماورائية الفلسفية، متأملًا تداعيات إنشاء آلات قد تتجاوز القدرات البشرية في يوم من الأيام. ويذهب الخطاب الفلسفي إلى ما هو أبعد من مجرد التفكير في ديناميكيات التفاعل بين الإنسان والذكاء الاصطناعي ليدقق في التغييرات في تصورنا للواقع والحقيقة في مواجهة التلاعبات التي يدعمها الذكاء الاصطناعي مثل التزييف العميق. ويعمل هذا التدقيق على حماية صحة المعلومات وموثوقيتها، وتعزيز مجتمع يظل مرتكزًا على الحقيقة وسط الانتشار الرقمي.

يمتد الحوار إلى عالم فلسفة العقل، ويتعمق في طبيعة الوعي المعقدة وإمكانات وحدود الوعي الآلي. الفلاسفة هم في طليعة تشريح التعقيدات التي تحكم العقل والوعي، ويقدمون رؤى يمكن أن تسد الفجوة بين الإدراك الاصطناعي والطبيعي. من خلال هذه العدسات متعددة الأوجه، تعمل الفلسفة كمنارة وحارس، تضيء طريق التقدم بينما تحرس بيقظة ضد المخاطر المحتملة التي تكمن في الأفق الذي يهيمن عليه الذكاء الاصطناعي. وهكذا، في عصر الذكاء الاصطناعي، تزدهر الفلسفة كمجال للحكمة، وتقدم رؤى وإرشادات حكيمة لتوجيه مسار الذكاء الاصطناعي نحو مستقبل ينسجم مع القيم والتطلعات الإنسانية.

إن تراجع الفلسفة داخل الأوساط الأكاديمية يستلزم التفكير في مسارها المستقبلي. أدى عزل الفلسفة داخل الأقسام الأكاديمية إلى عزلة عن الخطاب العام ومحدودية تعرض الطلاب خارج الدورات التمهيدية.

لعكس هذا الاتجاه، يحتاج الفلاسفة إلى إعادة الانخراط في ما يجعل تخصصهم فريدًا - طرح أسئلة عميقة، واستكشاف الادعاءات الجريئة، ومعالجة التجارب الإنسانية المعقدة. ومن خلال تبني الإبداع، واتساع نطاق موضوعات البحث، والاتصالات متعددة التخصصات، والتواصل الذي يسهل الوصول إليه، يمكن للفلسفة أن تستعيد أهميتها داخل المؤسسات الأكاديمية والمجتمع ككل. إن تراجع الفلسفة في الأوساط الأكاديمية ليس أمرًا حتميًا، بل هو نتيجة للاختيارات التي تم اتخاذها داخل المجال نفسه. إذا كان الفلاسفة على استعداد للتحرر من التخصص المفرط وإعادة التواصل مع جماهير أوسع من خلال أفكار مقنعة يتم توصيلها بطرق يسهل الوصول إليها، فإن لديهم القدرة على تنشيط مكانة الفلسفة في كل من الأوساط الأكاديمية والمجتمع ككل. عندها فقط يمكن للفلسفة أن تستعيد مكانتها باعتبارها نظامًا لا غنى عنه يساهم بشكل هادف في فهمنا لأنفسنا وللعالم الذي نعيش فيه.

***

دكتور رائد عبيس

يذهب نيتشه إلى أن كل ما دبّره الفلاسفة منذ ألفيات، لم يكن سوى موميات أفكار، لا شيء خرج حياً من بين أيديهم. وكل ذلك يتعلق بغياب الحس التاريخي لديهم، وحقدهم على فكرة الصيرورة، وتمسكهم بالمفاهيم المجردة، كل ذلك يعرض كل شيء لخطر الموت. باستثناء هيرقليطس طبعاً، فيكن نيتشه لهذا الفيلسوف كل الاحترام، ففي رأيه، هو الوحيد الذي على صواب، حين قرر بأن الكينونة وهم بلا معنى، وحده عالم الظاهر هو الموجود، وما العالم الحقيقي سوى كذب. وإن الكينونة تمثل، كقدرة للإقناع، الأكثر سذاجة، وحتى خصوم الإيليين أنفسهم قد استسلموا لإغراء مفهومهم عن الكينونة، فذرات ديمقريطس، تمثل في رأي نيتشه: عجوز كريهة مضللة.

وفي كتابه الشهير (أفول الأصنام)، أو (غسق الأوثان) بترجمةٍ أخرى، يناقش نيتشه أربع طروحات في هذا المجال، ويعمل بعد ذلك على دحضها، وهذه الطروحات هي:

1- إن البراهين التي نعتمد عليها لنصف هذا العالم بالظاهر، لا يمكن أن نسوق غيرها لإثبات عكس ذلك، أي لا يمكن الاستدلال على نوع آخر من الحقيقة.

2- إن العلامات المميّزة التي نسندها إلى الوجود الحق للأشياء، إنما هي علامات مميّزة للاوجود أو العدم، لقد تم تأسيس العالم الحقيقي من صلب التناقض مع العالم الواقعي، عالم وهمي في الحقيقة، بما هو مجرد خدعة بصرية وأخلاقية.

3- أن نحرّف عن عالم آخر غير عالمنا مسألة لا معنى لها، إلا إذا افترضنا أن غريزة تحقير الحياة تكون لها الغلبة فينا، وإن الإيمان بحياة خارقة أخرى أفضل من التي نعيشها، إنما هو في الحقيقة انتقاماً للحياة.

4- إن تقسيم العالم إلى عالم حقيقي وعالم ظاهر، لا يمكن أن يصدر إلا بإيعاز من الانحطاط، ولا يمكن أن يكون إلا علامة عن حياة آفلة.

ويستمر نيتشه في حملته النقدية على ثنائية الحقيقة والظاهر، وجاء ذلك تحت موضوعه عن: (حتى نختم، كيف غدا العالم الحقيقي خرافة). وهي كالتالي:

- العالم الحقيقي، الذي يسهل بلوغه على الإنسان الحكيم، الورع، الفاضل، هو هذا العالم. (إن أقدم شكل للفكرة، ساذجة، وقنعة، تفسير العبارة: أنا، أفلاطون هو الحقيقة.).

- العالم الحقيقي لا يدرك الآن، لكنه موعود للحكيم، المتدين، صاحب الفضيلة (المذنب الذي يتوب).3-العالم الحقيقي، لا يدركه أحد، ولا يمكن إقامة الدليل عليه، ولا الوعد به، لكنه يكون مجرد التفكير فيه التزام وفرض وأمراً قطعياً.

- العالم الحقيقي؛ عالم لا يدرك، وبما أنه غير مدرك، فهو مجهول، وبالتالي لا هو ملزِم ولا بمخلص، أي شيء يمكن لشيء مجهول أن يلزمنا.

- العالم الحقيقي، فكرة لم تعد صالحة لأي شيء، لم تعد تدعوا لأي شيء، فكرة غير نافعة وغير مجدية، إذاً فكرة مرفوضة، لنتجاوزها الآن.

- لقد أبطلنا العالم الحقيقي، أيُّ عالم تبقى؟ لعله الظاهري؟ لا! لقد أبطلنا عالم الظاهر مع عالم الحقيقة في الآن ذاته.

***

 د. حيدر عبد السادة جودة

 

الديكولونيالية أو تفكيك الاستعمار كما ترجم في معجم مصطلحات الدراسات ما بعد الكولونيالية هي مفهوم يعبر عن عملية تفكيك العناصر المستترة لتلك القوى المؤًسسية والثقافية التي منحت ديمومة للنفوذ الكولونيالي وظلت كذلك حتى بعد حصول دول الجنوب على استقلالها السياسي. إذ تحاول الديكولونيالية استعادة قيم وهوية الأمم المستعمَرة التي غالبًا ما تتعرض للتهميش في الخطاب الغربي السائد. وتتمثل إحدى أهم مظاهر هذا الفهم في التفكيك الكامل للمفاهيم الغربية التي تعتبر الغرب مركزًا حضاريًا للعالم، والعمل على تجاوز الهيمنة التي فرضتها القوى الاستعمارية من خلال تحطيم المقولات والمعايير الغربية التقليدية والتنميطية.

الديكولونيالية كفكر نقدي وتحليل للسلطة الكولونيالية:

ظهرت الديكولونيالية كضرب جديد من الفلسفة المغايرة لمركزية اللوغوس الغربي، منذ تسعينيات القرن الماضي مع فلاسفة من دول العالم الثالث إذ ميز بادرو بابلو غوماز وهو من أشهر منظري هذا الفكر بين ثلاثة أنماط من إعادة تنضيد النظام العالمي باعتبار أن الديكولونيالية هي واحدة منها. أولا: إعادة التغريب، ثانيا: نزع الطابع الغربي، وثالثا: الديكولونيالية. موضحا مميزات كل منها كالتالي: يسعى النمط الأول إلى الحفاظ على مركزية اللوغوس الغربي وهيمنته على العالم، مع التمسك بالمركزية الأوروبية والنظام الاقتصادي الليبرالي. أما النمط الثاني، فينخرط في صراع مع الغرب حول السيطرة على العالم، ليؤسس عالماً متعدد الأقطاب، غير مركزي وغير أوروبي، لكنه يبقى محكوماً بالرأسمالية. فيما يتعلق بإعادة بناء اليسار، فإن هذا يحدث في إطار نقد للرأسمالية، لكنه لا يتجاوز المركزية الأوروبية. أما الطريق الثالث، الذي هو الديكولونيالية، فيعتمد على نقد المركزية الأوروبية التي تقوم على الرأسمالية والليبرالية الجديدة، وكذلك التمييز العنصري الإبستيمولوجي، وكل ادعاءات الحداثة الكولونيالية. ومن ثم، فإن الديكولونيالية تدعو إلى فتح آفاق جماعية جديدة، غير رأسمالية وغير كولونيالية كما ينادي بها غوماز. بحيث يتم نهج مسلك وسط ليس بالرأسمالي ولا بالشيوعي من أجل رسم منعرج فكريّ مغاير واحداث ضرب من «الانقلاب الراديكالي» الذي تصبح فيه المؤسسات في خدمة الحياة بدلا عن خدمة رأس المال.

التحرر من الاستعمار: سيرورة تاريخية مستمرة

الديكولونيالية ليست مجرد فكرة أو مفهوم يمكن تحقيقها بشكل آني وفوري، بل هي سيرورة تاريخية ممتدة تتطلب جهدًا مستمرًا لفك الارتباط بالسلطات الاستعمارية التي شكلت واقع المستعمرات السابقة. إن تحرير الذات من الاستعمار يتطلب أكثر من مجرد استقلال سياسي؛ فهو عملية معقدة تهدف إلى فك الهيمنة التي فرضها الاستعمار في مختلف المجالات، سواء كانت سياسية، اقتصادية، أو ثقافية أو ابستيمولوجية. كما يرى العديد من المفكرين، لا يمكن النظر إلى الاستقلال على أنه نقطة النهاية، بل هو بداية لرحلة طويلة من إعادة بناء الهويات الثقافية والاجتماعية التي تعرضت للتشويه جراء الاستعمار والرؤى الاستشراقية الامبريالية والوطنيات الأليفة التي نصبتها القوى الاستعمارية بعد منحها الاستقلال السياسي الصوري لمستعمراتها.

وفي هذا السياق يرى فرانس فانون، في تحليلاته لظاهرة الاستعمار، فيُعَرّف التحرر بما هو عملية شاملة تتجاوز مجرد طرد القوى الاستعمارية من الأراضي لتصل إلى مرحلة التخلص من شوائب الاستعمار الفكرية والسياسية. إنه يشمل "التخلص من الاغتراب" الذي زرعته هذه القوى في نفوس الشعوب المستعمَرة، وزرع شعور العجز الثقافي والأنطولوجي داخلهم. إذ كان الاستعمار، بكل مظاهره، يشوه الثقافة الأصلية، ويُقْنِع المستعمَرين بأن لغتهم وثقافتهم ليست سوى عوائق في طريق التقدم. لذا، فإن عملية التحرر تتطلب التخلص من هذا الاغتراب عبر استعادة الفخر بالهوية والثقافة الأصلية، وهو ما يتطلب تمردًا فكريًا ضد الهيمنة الغربية. وفي ذات الإطار يمكن الاستشهاد بماريز كوندي وهي مفكرة نسوية ديكولونيالية حيث تقول بأن هذا الفكر الكولونيالي الحداثوي هو الذي أدّى إلى تعليمنا احتقار لغتنا الأمّ وثقافتنا الأصلية وأصبحنا نفكّر في ذواتنا نسبة إلى الغرب. فالأمر يتعلّق، إذن، بالتّخلّص من الاغتراب الذي ظلّ قائما لأنّ علاقات الهيمنة لا تزول بمجرّد أن يستعيد شعب ما أرضه ويقيم دولته ويبني أمّته. ويضرب فانون مثالا حيا أعتقد أنه لازال قائما إلى الآن على أقل تقدير في مجتمعاتنا العربية والمغاربية على وجه الخصوص فيما يتعلق بالهيمنة الثقافية الكولونيالية فيقول "المشكلة التي نواجهها في هذا السياق هي أن الزنجي أو "النيغرو" في جزر الأنتيل سيصبح أكثر بياضًا – أي سيقترب من أن يكون كائنًا إنسانيًا حقيقيًا – بنسبةٍ مطردةٍ مع إتقانه للغة الفرنسية."

الديكولونيالية الجمالية: مواجهة الاستعمار الثقافي

إن من أحد الأبعاد الأساسية التي تتناولها الديكولونيالية هو النقد الجذري للجماليات الكولونيالية التي فرضها الغرب على الشعوب المستعمَرة. كما يعبر عن ذلك بادرو بابلو غوماز، فإن الجماليات الكولونيالية لا تقتصر على الأفكار والفنون الغربية فحسب، بل تقوم على هيمنة معايير ثقافية تهدف إلى تصنيف ما هو "جميل" وما هو "قبيح" وفقًا لمعايير عنصرية تعكس السيطرة الثقافية الغربية. ومن هنا، يتضح أن تجاوز هذه المعايير يتطلب نهجًا نقديًا يعيد بناء مفهوم الجمال والفن من منطلقات ثقافية محلية، بعيدًا عن تلك التي رسخها الاستعمار.

وبذلك، فإن "الديكولونيالية الجمالية" لا تقتصر على مجرد نقد لهذا التصنيف، بل تسعى أيضًا إلى إعادة اكتشاف الفنون والأشكال الجمالية التي كانت موجودة في الثقافة المحلية قبل أن تفرض عليها النظم الاستعمارية معايير غربية. وفي هذا السياق، تكشف الديكولونيالية الجمالية عن عمق العلاقة بين الثقافة والفكر الاستعماري. فالفن، كما يرى العديد من المفكرين، لم يكن مجرد وسيلة للتعبير، بل كان أيضًا أداة من أدوات الاستعمار الثقافي التي جُعلت لتكريس الهيمنة الأوروبية. إذ كان الاستعمار يسعى إلى تمييز "الفن الأوروبي" عن "الفن غير الأوروبي"، معتبرًا الأول معيارًا للجمال والثقافة الإنسانية، بينما كان يصنف الآخرون كـ "بدائيين" أو "غير حضاريين". وبالتالي، تسعى الجماليات الديكولونيالية إلى إعادة فهم وتقدير الفنون غير الغربية التي تم إقصاؤها بسبب هذا التصنيف الاستعماري.

المعرفة الديكولونيالية: فك الارتباط المعرفي بالغرب

إحدى أعظم التحديات التي تطرحها الديكولونيالية هي إعادة بناء المعرفة بعيدًا عن السياقات الغربية. إذ إن الكثير من الأنظمة المعرفية والتصورات التي يتم تدريسها في الجامعات والمراكز العلمية تأتي محملة بنظرة استشراقية تسعى إلى التأكيد على تفوق الغرب على بقية العالم. كما أشار العديد من المفكرين، بما في ذلك فتحي المسكيني، فإن العالم غير الغربي لا يزال يعاني من الهيمنة الفكرية الغربية، حيث يتم فرض مفاهيم ونظريات مستمدة من المنظور الغربي وتقديمها كمعايير عالمية. وبالتالي، تصبح عملية إعادة بناء المعرفة الديكولونيالية ضرورة ملحة، حيث يتطلب هذا التحدي نقدًا للمفاهيم التي يتم تصديرها من الغرب وتقبلها كحقائق لا يمكن المساس بها.

في هذا السياق، يتعين على الشعوب غير الغربية أن تعيد التفكير في تاريخها، وعلومها، وفنونها بعيدًا عن الصور النمطية التي فرضها الاستعمار. كما يجب أن تكون المعرفة الديكولونيالية عملية فكرية قائمة على نقد الموروث الاستعماري، مع التركيز على الأصوات والمفاهيم التي تم إقصاؤها أو تهميشها عبر التاريخ. وهذه العملية تتطلب رفض المفاهيم المستوردة من الغرب التي تم تقديمها كحقائق مطلقة، والعمل على استعادة الفهم المحلي للنظريات والمفاهيم التي تم تجاهلها سابقًا.

وفي هذا الصدد، يمكننا أن نلاحظ أن العديد من الباحثين العرب والشرقيين لا يملكون خيارًا سوى التفاعل مع الأنظمة الأكاديمية الغربية. إذ وضح ادوارد سعيد ذلك في كتابه الاستشراق فأشار إلى أن الباحث العربي أو الشرقي لا يمكنه أن يتجاهل ما يجري في المجلات العلمية والجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية، أما العكس فليس صحيحًا ومن ثم، يظل الطلاب والأساتذة الشرقيون يتطلعون إلى الجلوس عند أقدام المستشرقين الأمريكيين، ليعودوا إلى بلادهم ويرددوا الكليشيهات التي تم تكرارها في السياقات الأكاديمية الغربية، مثل المعتقدات الاستشراقية التي يتم تبنيها على نطاق واسع.

وبالإضافة إلى ذلك، نجد أن المثقفين في العالم العربي أنفسهم يساهمون في نشر الاتجاهات الفكرية التي يعتبرها الغرب رئيسية، إذ فُرض عليهم هذا الدور بحجة أنه يمثل توجهًا "تحديثيًا". هذا، بدوره، يمنح مشروعية لأفكار حول التحديث والتقدم والثقافة، التي تستمد غالبيتها من الولايات المتحدة. بل إن هذا التأثير يمتد إلى المثقفين الراديكاليين الذين يتبنون الماركسية، حتى من منظور ماركسي ينظر إلى "العالم الثالث" وكأنه كيان متجانس.

وبذلك، تظهر النظرة الشاملة لتوافُق فكري حول التصورات والمذاهب التي شكّلت الاستشراق، وهو توافق مدعوم بتبادل اقتصادي، سياسي، واجتماعي. بحيث يساهم الشرق الحديث في "تشريق" نفسه عبر الانخراط في هذه الأنظمة الأكاديمية والفكرية التي تفرضها القوى الاستعمارية الكولونيالية وذلك وفقا لإدوارد سعيد.

التحديات الراهنة: هل يمكن الاستقلال عن الغرب؟

تطرح الأسئلة التي يثيرها المثقفون مثل فتحي المسكيني تحديًا هامًا: هل يمكن للأمم غير الغربية أن تحقّق استقلالًا حقيقيًا عن الغرب في ظل الهيمنة الفكرية والسياسية التي ما تزال قائمة؟ هل يمكن لهذه الشعوب أن تتجاوز الغرب أخلاقيًا وتحقق تحررًا معرفيًا حقيقيًا؟ في هذا السياق، يشير المسكيني إلى أنه "لا جدوى من التفكير ضدّ الغرب طالما نحن نستعير منه المقولات التي ننقده بها"، معبرًا بذلك عن إشكالية الاستقلال الأخلاقي عن الغرب. إذ يرى أن الغرب قد نجح في تنصيب "أبويّة كولونيالية عالميّة" لن يكون "قتل الأب" فيها ممكنًا إلاّ بشكل "عائلي". وبالتالي، يصبح التحرر من هيمنة الغرب ممكنًا فقط عندما تتجاوز الأمم غير الغربية التأثيرات التي فرضها الاستعمار الفكري والسياسي.

يتطلب ذلك إعادة صياغة مفهوم الإنسانية والحقوق والمساواة في ضوء القيم المحلية التي تجاوزت هيمنة الثقافة الغربية، وفي إطار بناء مجتمعات ديمقراطية عادلة، غير إمبريالية وغير كولونيالية. وفي هذا الإطار، يمكن للديكولونيالية أن تكون بمثابة حجر الزاوية في بناء مجتمعات متحررة، سواء على الصعيد السياسي أو الثقافي أو الفكري. حيث تسعى إلى استعادة الوعي بالذات وتحرير العقل من التصورات الغربية المفروضة، والتأكيد على أن التنوع الثقافي ليس عائقًا بل هو مصدر قوة. وتستمر الديكولونيالية في طرح الأسئلة الكبرى حول كيفية استعادة هذه الذات المفقودة، وكيفية تجاوز ماضي الاستعمار لتحقيق مستقبل جديد.

***

حماس سعيد عبدلي

(نحن لا نقرأ، وإذا قرأنا لا نفهم)... محمد حسنين هيكل

العلم كالفن كلاهما اشراق واشعاع، اشراق يستمد نوره من مشكاة الخيال الخصب المبدع، وبدون قوة الخيال لا وجود لإبداع علمي ولا قيمة للفنون الجميلة وبقدْر جرأة وقوة الخيال تقاس جودة الفنون، وبمقدار ما يكون خيال العالم متجددا تكون جرأة وقوة الفرض العلمي فالفرضية في الغالب نتاج خيال وبصيرة واسعة وبدونها ستكون كل تجربة عقيمة. ومن منطلق ان العلوم التجريبية منظومة؛ أي نسق، يستهدف (الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة.) كان لزاما تحديد خطوات المنهج العلمي الذي تقوم عليه فالمنهج هو سند العلم وهو إبداع إنساني، تحتل فيه الفرضية حجر الاساس انه نسق من الملاحظات والتجارب والفروض الناجحة وهذا ما تعكسه الفيزياء الكلاسيكية في عمومها والمعاصرة على وجه الدقة والتحديد.

حقا لقد لعب الخيال المبدع المرتكز على الملاحظة والتأمل العقلي دورا بارزا في فيزياء نيوتن وانتقاله من تفاحة ساقطة الى قمر ساقط كان كما يقول الفيزيائي تندول كان عملا من اعمال الخيال المتأهب لذلك نقول ان مفتاح باب العلم عند نيوتن يمر عبر إثبات الفرضيات تجريبيا، وليس التظاهر بها وعبارته الشهيرة "أنا لا أتظاهر بالفرضيات" تشكل مسلمة للطبيعة الاستقرائية لمنهجه العلمي منهج يقف في وجه العقلانية المتحررة من قيود التجربة.

فيزياء نيوتن لا تتنكر للفرضية وما قاله عن الفرضية لا يشكل رفضا لها بل هو رفض للتفكير التأملي المجرد ومحاولة جادة لوضع ضوابط للفرضية، لقد اشترط نيوتن أن تكون الفرضية قريبة من الحقائق، ولا ترتبط بها حقائق أخرى تعسفية وغير مجربة. وأن العالم يجب أن يكون مستعدا للاستقالة منها بمجرد أن ترفض الحقائق تأكيد ذلك الفرض. وقد وصف فيلسوف العلوم في القرن التاسع عشر ويليام ويويل هذا البيان، قائلا إنه "من خلال مثل هذا الاستخدام للفرضيات، قام كل من نيوتن نفسه وكبلر ببحوثهما" وقد وضح نيوتن الفرق بينه وبين الفيلسوف الألماني ليبينتز قائلا: " " يجب القول بأنّ هذين السيّدين يختلفان كثيرًا من الناحية الفلسفية؛ فأحدهما ينطلق من الدليل القادم من التجارب والظاهرات ويتوقّف أينما أراد له الدليل ذلك، أمّا الآخر فينشغل بالفرضيات وينظر فيها دون أن يختبرها بالتجارب، بل يعتقد بها دون فحص. إنّ الأوّل يريد للتجارب أن تبتّ في المسألة، ولذلك لا يصرّ على أنّ علّة الجاذبية ميكانيكية أو غير ميكانيكية؛ أمّا الآخر فيرى بأنّها معجزة مستمرّة إن لم تكن ميكانيكية."

ويمكن القول مع الدكتورة يمنى طريف الخولي ان المسألة لا تتعلق برفض الفرضية داخل المنهج التجريبي بل بتحديد الاسبقية ففي كتابها مفهوم المنهج العلمي تقول: "كانت فلسفة العلوم في القرن التاسع عشر، معنية بسؤال المنهج ...، وتحديدًا حول قطبَي المنهج العلمي التجريبي، وهما الفرض والملاحظة والعلاقة بينهما، وأيهما يؤدي إلى الآخر، وعادةً ما يُؤرَّخ لهذا بالمناظرات بين وليم ويول W. Whewell (1794–1866م)، الذي انتصر للفرض، وجون ستيوارت مل J. S. Mill (1806–1872م)، الذي انتصر للملاحظة"

وتضيف انه لابد من التمييز بين مرحلتين فالعلم الحديث مرَّ بمرحلتين جوهريتين: مرحلة العلم الكلاسيكي منذ العام 1600م (تقريبًا) حتى العام 1900م (تحديدًا)؛ حيث كانت نظرية نيوتن بمثاليتها المعرفية والمنهجية هي الإطار السائد. ويواكب هذا نظرة كلاسيكية للمنهج التجريبي، يمثِّلها الاستقراء التقليدي، الذي يبدأ بالملاحظة ويصعد منها إلى الفرض. ومرحلة العلم المعاصر منذ العام 1900م وما تلاه، منذ أن تفجَّرت ثورة النسبية والكوانتم، التي أحدثت انقلابًا في مثاليات المعرفة العلمية، ويحق اعتبارها أعظم ثورة عقلية أنجزها الإنسان، وتصاعدت معها معدلات التقدم العلمي بصورةٍ مبهرة حقًّا. لقد أحدثت انقلابًا جذريًّا في مثاليات المعرفة العلمية وفي إبستمولوجيا العلم، وبالتالي واكبها انقلاب مماثل في نظرية المنهج التجريبي، بحيث اتضح أنه يبدأ من الفرض ويهبط منه إلى الملاحظة والواقع التجريبي.

وفي كتابه المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية، منشورات مجموعة الفيزياء والفلسفة في سانتا كولوما دي جرامينيت، 1987، ص. 46 نقف امام هذا النص الذي يوضح ان نيوتن لا يتنكر للفرضية جملة وتفصيلا بل يهاجم فقط الفرضيات التي لا يكون مصدرها الملاحظة والتجربة: " لقد شرحت حتى الآن من خلال ظواهر قوة الجاذبية في السماء وبحرنا، لكنني لم أحدد بعد سبب الجاذبية. من المؤكد أن هذه القوة تنطلق من سبب ما يخترق مركز الشمس والكواكب، دون أن ينتقص من قوتها. وأنه يعمل، ليس بما يتناسب مع حجم أسطح الجسيمات التي تعمل عليها (كما تفعل الأسباب الميكانيكية عادة)، ولكن بما يتناسب مع كمية المادة الصلبة. والتي يمتد عملها بالتأكيد على مسافات هائلة، ودائما ما يتناقص في النسبة المربعة للمسافات. تتكون الجاذبية نحو الشمس من الجاذبية تجاه كل جزء من جزيئات الشمس، وعندما تغادر الشمس تقل بالضبط في النسبة المربعة المسافات إلى مدار زحل، كما يتضح من حقيقة أن أفيليوس الكواكب، وحتى أبعد أفيليوس المذنبات، في حالة راحة. إذا كانت هذه الأوج في حالة راحة. لكن سبب امتلاك الجاذبية لهذه الخصائص لم أتمكن بعد من استنتاجها من الظواهر، ولا أتخيل فرضيات. لأن كل ما لا يستنبط من الظواهر يجب أن يسمى فرضيات. والفرضيات، سواء كانت ميتافيزيقية أو فيزيائية، أو ذات صفات غامضة أو ميكانيكية، ليس لها مكان في الفلسفة التجريبية. في هذه الفلسفة، يتم استنتاج الافتراضات من الظواهر، ويتم تعميمها بالاستقراء..

ونفس الطرح يفتتح به كتاب نيوتن للبصريات، الذي نشر باللغة الإنجليزية عام 1704، بهذه الجملة، حيث يبدأ بقول: "تصميمي في هذا الكتاب ليس شرح خصائص الضوء بالفرضيات، ولكن اقتراحها وإثباتها بالعقل والتجارب". في طبعته اللاتينية (وبالتالي الدولية) لعام 1706، يضيف رأيه حول ما يجب أن يكون "العمل الرئيسي للفلسفة الطبيعية" (السؤال 28). بكلماته الخاصة: "Ex phaenomeni sine fictis hypothesibus arguamus, et ab effectis ratiocinatione [...] السبب. في عام 1787، اقترح مترجمه الفرنسي مارات: "

لقد تخيل الفلاسفة المعاصرون فرضيات لشرح كل شيء ميكانيكيا. لكن الهدف العظيم الذي يجب اقتراحه في دراسة الطبيعة هو التفكير في الظواهر دون مساعدة أي فرضية، لاستنتاج أسباب الآثار.

مفهوم الفرضية في الفلسفة النيوتنية

في مقالته مفاهيم وتجربة في الفكر العلمي لنيوتن، المنشورة تحت عنوان L'Hipothèse et l'experience chez Newton، يقوم Koyré بتحليل معاني مصطلح الفرضية في عمل نيوتن، وتحديد ثلاثة في إطار المبادئ في طبعاتها الثلاث.

أولها المعنى التقليدي، الذي استخدمه الإغريق القدماء الذين فهموا الفرضية، ليس كحكم، بل كافتراض أو تخمين يجب فحصه لتقييم عواقبها وآثارها من أجل التحقق من البيان أو تزويره. وبالتالي، فإن الفرضية هي اقتراح (أو مجموعة من الافتراضات) التي يتم افتراضها من أجل تقييم عواقبها المنطقية. هذا هو المعنى الذي يستخدم به علماء الرياضيات الفرضيات. يمكن أن تكون هذه العواقب داخلية أو خارجية للنظرية. الفرضيات الداخلية مثل الفرضيات التي تم افتراضها في بارمينيدس لأفلاطون أو التماسات إقليدس وأرخميدس. العواقب الخارجية لها علاقة بالعلاقات بين النظرية والتجربة وهي تلك المستخدمة في العلوم الطبيعية. ومع ذلك، عندما يقوم نيوتن بتحليل الافتراضات، فإنه لا يستخدم مصطلح الفرضية في المبادئ .

المعنيان الثاني والثالث لهما علاقة محددة بالعلاقات بين النظرية والتجربة. تم استخدام المعنى الثاني في علم الفلك من قبل بطليموس وكوبرنيكوس وكبلر وأوزياندر وجاليليو. يشير هذا المعنى إلى أن الفرضية هي افتراض (أو مجموعة من الافتراضات) تستخدم لاستنتاج العواقب من أجل التنبؤ بالظواهر السماوية، دون نية التأكيد أو النفي أن التحقق من هذه الافتراضات، بفضل الملاحظة، يشير إلى أي شيء عن حقيقتها الأنطولوجية أو المادية.

والمعنى الثالث هو الديكارتية، التي تفهم الفرضية على أنها خيال يمكن أن يكون خاطئا ومع ذلك إيجابيا بشكل إرشادي بقدر ما يمكن استنتاج أسئلة معينة منه. يوجه نيوتن هجماته نحو هذا النوع من الفرضيات. في رأي كويري عبارة (أنا لا أتظاهر بالفرضيات)، يعني لنيوتن: أنا لا أستخدم الخيال، ولا أستخدم الافتراضات الخاطئة كمقدمات أو تفسيرات.

أخيرا، يشير Koyré إلى استخدام آخر، لم يعد في إطار المبادئ ولكن في إطار البصريات. بين عامي 1671 و 1672، طور نيوتن تجاربه وملاحظاته على الضوء التي لم يكن المقصود منها تفسير طبيعته، بل شكلت سلسلة من الملاحظات والتجارب لإجراء قياسات للطيف الضوئي. يمكن اشتقاق النظرية الجسدية للضوء منها، ليس كفرضية بالمعنى الديكارتي للمصطلح، ولا بالمعنى الفلكي، ناهيك عن المعنى اليوناني التقليدي، ولكن بالأحرى كتفسير تخميني تماما مشتق من التجريب. يقول كويري في هذا الصدد ما يلي:

"لا ينكر نيوتن أن تجاربه يمكن تفسيرها عن طريق العديد من الفرضيات الميكانيكية. هذا هو السبب في أنه لم يقترح أي فرضيات، لكنه اقتصر على تطوير نظرية تتوافق تماما مع ما يمكن إثباته".

***

علي عمرون

 

التفكير هو النشاط الأساسي الذي يميز الإنسان عن باقي الكائنات فهو ليس مجرد عملية عقلية، بل هو أداة للتفكر في الذات والعالم من حولنا. عبر التفكير، نستطيع أن نطرح الأسئلة الأساسية التي تشكل هويتنا ككائنات واعية. لكن التفكير وحده لا يكفي؛ يحتاج إلى توجيه ومنهجية لضمان الوصول إلى الحقيقة. هذا ما حاول الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت تحقيقه من خلال نهجه النقدي الشهير. فبالشك المنهجي، تحول التفكير من مجرد نشاط عشوائي إلى عملية بناء معرفي متماسكة. في هذا المقال، سنستكشف كيف استخدم ديكارت النقد كأداة لتحقيق اليقين، وكيف يمكن لهذا النهج أن يلهم الفكر الإنساني بشكل عام.

يبدأ ديكارت رحلته المعرفية بالشك المنهجي، حيث يضع كل المعتقدات القائمة على طاولة الشك لاختبار صحتها. هذا الشك ليس سلبيًا بل هو عملية تنظيف ضرورية للوصول إلى أسس اليقين يقول ديكارت في "تأملات فلسفية": "إنني لا أستطيع أن أتصور أي شيء كائن إلا إذا كنتُ أفكر فيه" و هذه العبارة تعكس أهمية النقد الذاتي والتفكيك العقلي للوصول إلى الحقيقة ويمكننا رؤية تطبيق فكرة الشك المنهجي في الأدب من خلال شخصيات مثل هاملت في مسرحية شكسبير "هاملت"، حيث يدخل البطل في حالة من التأمل والنقد الذاتي حول حقيقة الواقع ومصير الإنسان وبهذا الشك المنهجي، ينتقل ديكارت من مجرد قبول المعتقدات التقليدية إلى البحث عن أسس جديدة للمعرفة.

"أنا أفكر، إذن أنا موجود" هذه المقولة هي أساس لنقد اليقين فبعد أن وضع ديكارت كل الأفكار المشكوك فيها جانباً، اكتشف أنه لا يستطيع الشك في حقيقة وجوده ككائن واعٍ هنا يظهر مبدأه الشهير: "أنا أفكر، إذن أنا موجود" هذا المبدأ ليس مجرد إعلان عن وجود الذات، بل هو نقطة انطلاق لنقد شامل لكل الأفكار والمفاهيم التي يتم قبولها بشكل عشوائي. يرى ديكارت أن العقل يجب أن يكون حرًا تمامًا من القيود التقليدية أو العادات الاجتماعية التي قد تحجب الرؤية الواضحة للحقيقة وفي في كتابه "مقال عن المنهج، يقول ديكارت: "لا يمكننا أن نثق بأي فكرة إلا إذا تم اختبارها بناءً على أسس واضحة وصريحة" وهذا الموقف النقدي يجعل منه نموذجًا للعقلانية الحديثة التي تضع العقل في مركز البحث عن الحقيقة. وبهذه الطريقة، يربط ديكارت بين الشك المنهجي واليقين المعرفي، مما يعزز أهمية النقد في بناء المعرفة.

النقد عملية بناء من جانب آخر، فإن النقد عند ديكارت ليس فقط عملية سلبية لإزالة الخرافات والأوهام، بل هو أيضًا عملية بناء. بعد أن يتخلص الفرد من جميع الأفكار المشكوك فيها، يستطيع بناء نظام معرفي جديد يستند إلى اليقين. يشير ديكارت إلى أن المعرفة الصحيحة يجب أن تكون قائمة على "المبادئ الواضحة والضوئية" التي لا تتطلب سوى الإدراك المباشر وهذا النهج النقدي يشبه إلى حد بعيد مناهج العلم الحديث الذي يعتمد على التجربة والعقل وفي رواية "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست، نجد بطل الرواية يقوم بعملية نقدية مشابهة عندما يعيد النظر في ذكرياته ومعتقداته السابقة، مما يؤدي به إلى اكتشاف حقيقة جديدة عن نفسه وعن العالم هذه العملية النقدية تؤكد أن النقد ليس فقط أداة لتدمير الأفكار القديمة، بل هو أيضًا مصدر لبناء أفكار جديدة. ولقد لاقت هذه الرؤية انتقادات كثيرة لنهج ديكارت وعلى الرغم من أهميته فقد  تعرض لانتقادات من فلاسفة آخرين رأى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت، على سبيل المثال أن ديكارت لم يأخذ بالاعتبار دور الحواس في بناء المعرفة. كان يعتقد أن العقل وحده لا يمكنه أن يصل إلى كامل الحقيقة دون تعاون مع الحواس وهذا النقد يعكس التنوع في وجهات النظر حول كيفية بناء المعرفة ومع ذلك، فإن إسهام ديكارت في تطوير النقد الفلسفي لا يزال له تأثير كبير حتى اليوم، حيث يظل نموذجًا للفكر النقدي الذي يجمع بين الشك واليقين.

يمكن القول إن النقد عند ديكارت كان ثورة في الفكر الإنساني لقد حول العقل من مجرد أداة لتلقي المعلومات إلى كيان نشط قادر على التحليل والاختيار. هذا النهج النقدي لا يزال يؤثر على الفلسفة والعلم وحتى الأدب. فالقدرة على التشكيك في المعتقدات السائدة والبحث عن الحقيقة هي واحدة من أعظم الهبات التي قدمها ديكارت للبشرية.

لم يكن لديكارت أنصار فحسب، بل واجه أيضًا انتقادات حادة من معاصريه ومن جاءوا بعده. فبينما أشاد به البعض باعتباره رائد العقلانية الحديثة وأحد مؤسسي الفلسفة الغربية الحديثة، انتقد آخرون تركيزه المفرط على الذات العارفة وتجاهله لأهمية الخبرة الحسية. الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، على سبيل المثال، اعترض على فكرة "الأفكار الفطرية" التي دافع عنها ديكارت، مؤكدًا أن العقل هو صفحة بيضاء يملؤها التجربة. ورأى باروخ سبينوزا أن ديكارت وقع في ثنائية مضللة بين العقل والجسد، مما أدى إلى مشاكل فلسفية لا حل لها وحتى في العصر الحديث، لا تزال فلسفة ديكارت موضوع نقاش وجدل مستمر، مما يدل على عمق تأثيره الدائم على الفكر الغربي والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل يمكننا حقًا أن نصل إلى اليقين المطلق؟ أم أن البحث عن الحقيقة هو العملية المستمرة التي لا نهاية لها؟

***

د. آمال بوحرب - باحثة وناقدة

(عصر المتناقضات الثقافية)

(يجب على المرء أن يذهب إلى الجهة التي يطيب للعقل فيها أن يشعر بالخطر)... غاستون باشلار (موران، 2012: 9).

إن المجتمعات تختلف تبعاً لاختلاف ثقافاتها، فالثقافة هي التي تجعل الشعوب تتمايز فيما بينها وترى هذه النظريات أن الأفكار، والإيديولوجيا، والقيم من مسببات التغير الاجتماعي والثقافي، فعندما يتبنى مجتمع ما قيم معينة فإنها تؤثر في رؤية أفراده نحو طبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة فيما بينهم وفي اتجاهاتهم بشكل عام. على اعتبار أن الثقافة حسب إدوارد تايلور في كتابه " الثقافة البدائية "  1871  " هي ذلك الكل المركب الذي يشتمل على المعارف والمعتقدات والفن والقانون والأخلاق والتقاليد وكل القابليات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في مجتمع ". وفي كتابه الانثروبولوجيا 1881 أضاف تايلور " أن الثقافة بهذا المفهوم، هي شيء لا يملكه الإنسان " (غيرتز، 2009: 8).

ومن الملاحظ أن الثقافة كانت دائماً مفهوماً ديناميكياً ومتلوناً، أي إن معناها يتغير مع الزمن كما أنها تتخذ عدة أشكال. وفي وقتنا المعاصر أصبح ينظر إليها باعتبارها عملية مستمرة أكثر منها كياناً جامداً، وكفعل أكثر منها اسماً وبخاصة داخل الانثروبولوجيا والدراسات الثقافية، ويرى عالِم الانثروبولوجيا روى فاجنر Roy Wagner أن الثقافات دائمة التغير ويُعاد تخلقها كجزء من عملية مستمرة، وعلى نحو خاص فإن الثقافات تغذيها ضغوطاً ومؤثرات داخلية عدة، مما يؤكد أنها ليست جامدة أو ثابتة. كذلك فإنها تتشكل بفعل قوى خارجية مثل: الهجرة الدولية موجات اللجوء. وبالتالي فهي ليست كيانات متجانسة أو متفردة أو محددة، بل إنها بالأحرى تقوم بعملية مراكمة وتأخذ عن تقاليد أخرى) (هوبر، 2024: 56).

تنطوي الحياة الاجتماعية على مُتضمنات تتعلق بالهوية وتكونها، فما دامت الثقافات في حالة تغير وحركة مستمرة، من الطبيعي ألا تكون هناك هويات ثابتة أو مستقرة، على أنه ينبغي ألا نبالغ في أهمية مدى التغير وسرعته في لحظة ما، لأن الثقافات إذا كانت غير ثابتة وفي حال تغير دائم، فسوف يكون من الصعب على الناس أن تتماهى معها أو تسكنها. من هنا لا بد من أن تكون هناك لحظات استقرار، فترات من الزمن تتماهى فيها شبكات أو مجموعات من البشر مع أشياء من قبيل الأفكار والقيم والرموز، وترتبط بمظاهر ثقافية، مثل: الآثار الفنية والنصوص، وتكون قادرة على إضفاء الطابع المحلي عليها. بمعنى آخر، فإنه حتى في عالَم دائم الحركة، ما زال يعاد إنتاج الثقافات داخل عدد وافر من النظريات الاجتماعية بأطر تفسيرية، ونظم قيمة، ومصادر للهوية (هوبر، 2024: 57-58).

إن معظم الصراعات التي نراها حولنا اليوم هي صراع وصدام ثقافات من نوع ما، وقد انتبه لفكرة الصراع الثقافي الممكن مفكرون عرب أمثال: محمود أمين العالم، المهدي المنجرة، عبد الله العروي، حتى قبل صمويل هنتنغتون وكتابه ذائع الصيت " صراع الحضارات " أو فرانسيس فوكوياما في كتابه " نهاية التاريخ ". لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا: ما هي تمظهرات الصراع الثقافي أو صراع الهويات في وقتنا المعاصر؟ في حقيقة الأمر، إن أكثر الانفجارات الصراعية في عالمنا اليوم هولاً وتدميراً، هو ما ينتجه الصدام بين فكرتين ثقافيتين متناقضتين ومتضادتين، من حيث القيم والمشاعر والمعتقدات والأفكار السياسية أو المذهبية أو القومية. هاتان الشحنتان المتناقضتان في حال صدامهما غير المقنن، يفجران الصراع البارد أو الساخن في عالمنا المعاصر (الرميحي، 2018).

يعد الصراع في حياة الإنسان أهم ظاهرة، وهو النتيجة الحتمية لبيئة الاختلاف المتواجدة في الذات البشرية الناتجة عن الاحتكاك في التفاعل بين الجماعات الساعية إلى تحقيق أهدافها. تعود كلمة الصراع إلى العراك نسبة للخلاف أو النزاع الناتج عن تعارض المصالح والأهداف للأفراد والجماعات، والكل يعمل على حسمه لصالحه، وذلك باستعمال كل الوسائل المتاحة، ويظهر في عملية الصراع الأشخاص بشكل واضح من ظهور الهدف المباشر، نظراً لتطور المشاعر العدوانية القوية، فإن تحقيق الهدف في بعض الأوقات يعتبر شيئاً ثانوياً بجانب هزيمة الطرف الآخر. أما الصراع الثقافي هو نوع من الصراع القائم في مجال النسق الثقافي للبناء الاجتماعي ويحدث عندما تتعارض القيم والمعتقدات الثقافية المختلفة، كما توجد تعريفات واسعة وضيقة لهذا المفهوم، وكلاهما استخدم لشرح العنف (بما في ذلك الحرب) والجريمة، سواء على نطاق صغير أو كلي. كما أن الصراع عملية اجتماعية، توجد بأوجه مختلفة في الحياة الاجتماعية، والمتناقضات الثقافية تنبع من داخل المجتمع، وإزالتها يؤدي إلى تغيرات اجتماعية في المجتمع. خلاصة القول يمكن اعتبار الصراع الثقافي إحدى العمليات الاجتماعية التي تحدث عند تعرض الأفراد لموقفين ثقافيين متعارضين ومتناقضين، ويتطلب كل منها سلوكاً مغايراً، ويؤدي إلى وجود نمطين من الدوافع المتناقضة والمتعارضة يؤدي إلى إعاقة الفرد في التوافق ولا يلغي أي من الدافعين المتصارعين الآخر، ولكنهما يعطيان الفرصة لنشوء توتر متزايد وسلوك غير ثابت على الصعيد الفكري والثقافي.

بذلك يعتبر الصراع الثقافي نمطاً من أنماط المعارضة العتية والرافضة للانصياع، ويتسم بشيء من الانفعال وفيه يحاول الشخص أو الجماعة إحباط أو تدمير الخصم من أجل الوصول إلى الهدف المنشود. وبعبارة أخرى، يصبح المجتمع الذي تسوده زيادة مفرطة في الأصوليات والقوميات العرقية التي هي نقيض حقوق الإنسان والديمقراطية والحوار المفتوح، ويطلق باربر على ذلك مصطلح " لبننة العالم " بمعنى أن تصبح هناك حالة في داخل الدول القومية: " الثقافة فيها ضد الثقافة وأناس ضد أناس وقبيلة ضد قبيلة " وتكون القومية العرقية في كل مكان القوى التي سوف تقضي على كل أشكال التعايش والتعاون الاجتماعي والاعتراف بالآخر مما يدمر كل المشاعر والعواطف الإنسانية المتبادلة للهوية (هوبر، 2024: 163).

بعد انتهاء الحرب الباردة، وكانت في شكل منها صراعاً ثقافياً وفكرياً، برزت حروب الهويات والثقافات على المستوى الدولي أو الإقليمي، بل وحتى في البلد الواحد تفجر ذلك الصراع في غياب مسطرة للتوافق بشكل (افتراسي) إن صح التعبير. فالموقف من الهجرة والمهاجرين واللجوء الذي يتجلى لنا اليوم في كل من الولايات المتحدة وأوروبا هو شكل من أشكال صراع الثقافات، فالثقافة الغربية قلقة، على أقل تعبير، من هجمة كبرى للاجئين من دول الجنوب (السوريون، والعراقيون، الصوماليون، ....)، فالغرب يعيد حسابات الهجرة واللجوء، كما يحدث في الولايات المتحدة، وعدد من الدول الأوروبية. كل الضجيج السياسي في الولايات المتحدة جاء من خلال صراع لقوى ترغب بقوة في شيطنة ثقافات بعينها، سواء كانت دينية، أو بسبب لونها، بل إن الكثير من دول أوروبا يتوجه إلى اليمين اليوم، لرفض أو قفل الباب أمام ثقافات، تبدو لهم أنها مختلفة عنهم ومهددة لوجودهم (الرميحي، 2018).

- تمظهرات الصراع الثقافي في الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر:

 تفسر الماركسية عملية الصراع الثقافي بالاستناد إلى المتناقضات المادية داخل المجتمع فكلما زادت المتناقضات أدى إلى زيادة حدة الصراع، بالتالي زادت حدة التغيير. يذهب ماركس إلى الصراع الثقافي يعود بالأصل إلى الصراع التفاوت الطبقي القائم في المجتمع البرجوازي، فلا يمكن لأي صراع إلا أن يكون بين طرفين متناقضين يتجسد باستغلال الإنسان لأخيه الإنسان أبشع الاستغلال (فياض، 2020: 24)، حيث يفرز كل طرف من أطراف الصراع ثقافته الخاصة من خلال الموقع الطبقي الذي يحتله في عملية الصراع، فينجم عن عملية الصراع على ساحة الوعي الاجتماعي صراع مماثل على ساحة الثقافة عندما تعي كل طبقة مصالحها وأهدافها الخاصة وتصبح طبقة لذاتها، فالثقافة بذلك ليست وحدة متكاملة، بل هي متعددة الوجوه والأسباب والأهداف والتمظهرات أي الثقافة والثقافة المضادة. فالفهم الدقيق لواقع الثقافة حسب ماركس هو التعدد الطبقي والعلاقات المتناقضة بينها على ساحة المصالح، فالطبقة البرجوازية لها ثقافتها، وللطبقات الشغيلة والمنتجة ثقافتها، ولا يمكن أن تتناغم ثقافة الثري مع ثقافة الفقير بسبب تناقض المصالح والسعي إلى السيطرة على مفاصل الواقع الاجتماعي ليأخذ الصراع الطبقي في نهاية المطاف شكل الصراع الثقافي بدليل أنه يتم النظر إلى الأفكار والقيم كأسلحة تستخدم من قِبل بعض الطبقات لتحقيق مصالحها الذاتية وليس وسيلة لتوطيد المجتمع، فالقيم انعكاس للمصالح، وأن الأفراد في المجتمع ينقسمون إلى طبقات تبعاً لمصالحهم (فياض، 2021: 230-231).

يعتقد باريتو بأن الصراع الثقافي يكون بين النخبة والعوام فكل منهما ثقافته الخاصة، ويرجع هذا الصراع حسب باريتو إلى رغبة النخبة باحتلال مواقعها القيادية والحفاظ عليها لأطول مدة زمنية ممكنة وعدم أتاحتها المجال للعوام بمشاركتها في القوة والمسؤولية من خلال فرض مصوغاتها الثقافية. بينما تريد طبقة العوام بسبب تراكم لديها ثقافة الخضوع الوثوب إلى مراكز النخبة واحتلالها للسيطرة على زمام القوة والحكم في المجتمع إذاً المنافسة الشديدة بين النخبة والعوام ترجع إلى رغبة كلتا الطبقتين باحتلال مراكز القوة والمسؤولية، فالنخبة تريد الاستمرار بالمحافظة على مراكزها القيادية، بينما العوام تريد انتزاع مراكز القوة والمسؤولية من النخبة بالاستناد إلى مبرراته ثقافية. بذلك نستطيع القول بأن سبب الصراع بين النخبة والعوام يرجع إلى الاختلاف في المشتقات الثقافية التي تفضي إلى الرغبة في الاستئثار بالحكم واحتلال المواقع الحساسة في المجتمع وصياغة مناخ ثقافي بناءً على مشتقاتها يدعم ويبرر سيطرتها على الواقع الاجتماعي (انظر: ليلة، 2014: 328 وما بعدها).

وفي ذات السياق يذهب داهرندورف إلى أن الصراع الاجتماعي يحدث نتيجة لغياب الانسجام والتوازن والنظام والإجماع في محيط اجتماعي معين وبالأخص في مجال الثقافي. ويحدث أيضاً نتيجة لوجود حالات من عدم الرضى حول الموارد المادية مثل السلطة والدخل والملكية أو كليهما معاً. أما المحيط الاجتماعي المعني بالصراع فيشمل كل الجماعات سواء كانت صغيرة كالجماعات البسيطة أو كبيرة كالعشائر والقبائل والعائلات والتجمعات السكنية في المدن وحتى الشعوب والأمم (فياض، 2023: 157).

أي إن فهم داهرندورف لمفهوم الصراع الاجتماعي ينطلق من مفهوم السلطة الذي يعني احتمال طاعة أشخاص معينين لقائد جماعة معينة، وهذا يعني أن المجتمع في الغالب يتألف من جماعتين متضادتين إحداها مسيطرة وأخرى خاضعة يحدث عادةً صراع بينهما نتيجة لوجود حالات من عدم الرضى حول كيفية تقسيم الموارد المادية مثل: السلطة، والدخل، والملكية. وأيضاً لوجود ما يسمى بـ " الرموز الثقافية " وهو نوع من الأسباب التي تؤدي إلى انسجام بين البشر أو إلى خصام، والخصام في هذا السياق قد يتجلى في الاختلاف على مفهوم السلطة المادية ورموزها. فمن له الحق في تنبؤ السلطة وتملكها؟ ولماذا؟ إن مثل هذا التساؤل هو المنطلق الأولي الذي يؤدي إلى نشوب الصراع الاجتماعي الذي يتمظهر في نهاية المطاف بين أفراد المجتمع بصور متعددة أهمها الصراع الثقافي (فياض، 2023: 160).

أما كوزر فقد أرجع مصادر الصراع الثقافي ومنابعه إلى الطموحات الفردية ومحدداته الثقافية بديلاً عن أن يرد منابع الصراع إلى الخواص المميزة للبناء الاجتماعي. حيث أكد على الدور الذي تلعبه عواطف الناس People Emotions في ظهور الصراع الثقافي على اعتبار أن عواطف الناس تتشكل بناءً على المحيط الاجتماعي والثقافي الذي تمارس فيه علاقاتها الاجتماعية. ومعنى ذلك أن مدى تأثير عواطف الناس على ظهور الصراع العدائي وخاصةً بين الأفراد الذين لديهم اختلاف في خصائصهم وقيمهم الثقافية التي تؤطر الأفعال الاجتماعية، حيث تظهر مظاهر الحب والكراهية بصورة واضحة، ضمن إطار هذه الأفعال وبالأخص عند الاختلاف الثقافي حول مواضيع معينة مما يؤثر على طبيعة علاقاتهم الاجتماعية. خلاصة القول إن طبيعة الصراع الثقافي عند كوزر، تتمظهر في سياق العلاقات الاجتماعية بناءً على طبيعة المحددات الثقافية المعنوية وما تفرزه من رؤى ومبادئ أولية لتقييم الواقع والآخر المختلف ومن هنا ينشأ الصراع الثقافي، حيث إن كثافة الصراع يهاجم ويهدد بالتمزيق أساس الإجماع لنسق اجتماعي يرتبط بجمود البناء على الصعيد الثقافي، وما يهدد توازن مثل هذا البناء ليس الصراع في حد ذاته، ولكنه الجمود نفسه الذي يسمح بتراكم العداوات ونقلها عبر خط رئيس واحد للنزاع والتي تنفجر في شكل صراعات تعم كل الواقع الاجتماعي (فياض، مجلة التنويري، 2023).

وأخيراً يرى بورديو أن الصراع الثقافي يأخذ منحاً رمزياً من خلال العنف الرمزي الذي يعتبر العنف الناعم واللا محسوس واللا مرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم، والذي يمارس في جوهره بالطرق الرمزية الصرفة للاتصال والمعرفة، أو أكثر تحديداً بالجهل والاعتراف، أو بالعاطفة كحدٍ أدنى. أي إنه نمط خاص من العنف العام يسمى أحياناً بالعنف المقنع أو المستور أو حتى العنف الخفي، وهو أسلوب موجه إلى عامة الناس خلاف العنف المادي أو المباشر الذي يكون هدفه محدداً، فالعنف الرمزي يتخذ عدة أشكال وأنماط تشكل في مجملها إشارات أو رموزاً للمواجهة غير المباشرة، حيث يعمد فاعلوه على التخفي دون الظهور علانية. ويعتقد بورديو أن العلاقات الاجتماعية، مهما كان حقلها أو مجالها، مرتبطة بآليات بنية التنافس والهيمنة الثقافية والصراع. وقد أصبحت هذه الآليات راسخة ومتجذرة لدى الأفراد عن طريق عملية التنشئة الاجتماعية (التطبيع الثقافي)، فالأفراد ينتجونها بدورهم بطريقة غير واعية بوصفها أعرافاً وقيماً ومعايير. وتعد الأسرة والمدرسة فضاءات لترسيخ وإعادة إنتاج الطبقية واللامساواة الناتجة عن وجود طبقة مسيطرة، وطبقة مسيطر عليها، حيث تساهم مؤسسات الدولة والأسرة والنظام التربوي في ممارسة العنف الرمزي ضد الفاعلين المجتمعين المرتبطين بها. ويلاحظ أن الكثير من آليات التنافس والسيطرة تنتقل من جيل إلى آخر عبر منافذ التربية والإعلام والثقافة بشكل رمزي مستتر. ويذهب بورديو إلى أن العنف الرمزي يتم ممارسته من خلال السلطة الرمزية التي تمثل شكلاً من أشكال السلطات الأخرى، إلا أن لها قوى خارقة تجبر المسيطر عليه من قبلها إلى الخضوع لها والاعتراف بها دون أن تبذل طاقة كبرى في التحكم فيه، بالإضافة إلى أنها تستثمر جموع الرساميل الرمزية في خطاباتها التي تعمل على المحافظة على قوتها داخل الطبقات المسودة، حيث تستند السلطة الرمزية دوماً إلى أسلوب التورية والاختفاء، وهي لا يمكن أن تحقق تأثيرها المنشود من قبلها، إلا من خلال التعاون الذي يجب أن تلقاه من طرف أغلبية الأفراد، والذين تبدو لهم هذه الحقيقة وهمية ولا يعترفون بها(فياض، 2022: 49-51).

ويرى بورديو أن الطبقة المهيمنة في المجتمع تحتاج إلى رأسمال ثقافي حتى تستطيع أن تنتج ما يعني لها من أفكار ومعاني ورموز ثقافية تمكنها من السيطرة على الطبقات الأخرى – الجماهير بالمعنى الواسع التي تستهلك مثل هذه المنتجات الثقافية. وتذهب نظرية رأس المال الثقافي إلى أنه بإمكان الطبقات التي تقع تحت الهيمنة أن تستثمر كذلك في رأس المال الرمزي، وأن تكتسب ما يترتب عليه من رموز ومعان ودلالات ثقافية وقد يعتبرونها جزءاً من تكوينهم الثقافي. ومن الجدير بالذكر أن رأسمال الثقافي لا يكتسب ولا يورث دون جهود شخصية، إنه يتطلب من طرف الفاعل عملاً وطويلاً مستمراً ومعززاً للتعلم والتثاقف بهدف أن يندمج فيه ويجعله ملكاً له، أن يجعله ذاته، بما أنه يحوِّل الوجود الاجتماعي للفاعل. وهذا ما تقوم به مؤسسات التنشئة الاجتماعية ورأسها المدرسة ووسائل الإعلام بمختلف أنواعها ومستوياتها (فياض، 2022: 52-53).

خلاصة القول إن العنف الرمزي يتخذ صيغته السوسيو ثقافية فيما يتعلق بالصراع الثقافي، عندما يمارس دوره وفاعليته الثقافية في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية، لما له من قدرة على التواري في خفايا الحياة الاجتماعية، بشكل متوارٍ عن الأنظار، حيث ينزع إلى توليد حالة من الإذعان والخضوع عند الآخر بفرض نظام من الأفكار والمعتقدات التي غالباً ما تصدر عن قوى اجتماعية وطبقية متمركزة في موقع الهيمنة، والسيادة، والسيطرة، ويهدف هذا النوع من العنف إلى توليد معتقدات وإيديولوجيات محددة وترسيخها في عقول الذين يتعرضون له وأذهانهم، فالعنف الرمزي حسب ما ذهب إليه بورديو ينطلق من نظرية إنتاج المعتقدات، وإنتاج الخطاب الثقافي وإنتاج القيم، ومن ثم إنتاج هيئة من المؤهلين الذين يمتازون بقدرتهم على ممارسة التقييم والتطبيع الثقافي في وضعيات الخطاب التي تمكنهم من السيطرة إيديولوجياً على الآخر وتطبيعه، مع القدرة على بناء المعطيات الفكرية بالإعلان عنها وترسيخها، والقدرة على تغيير الأوضاع الاجتماعية والثقافية عبر التأثير في المعتقدات وتغيير مقاصدها وبناء تصورات إيديولوجية عن العالم تتوافق مع إرادة الهيمنة والسيطرة التي تقررها الحاجات السياسية لطبقة اجتماعية معينة وهذا الوضع هو لب الصراع الثقافي (فياض، 2022: 53).

إن المتتبع لعملية الصراع الثقافي سيدرك أنه يدور في مفهوم قديم بأساليب مستحدثة، أبرزها الصراع الإيديولوجي، حيث تحاول الرأسمالية المعاصرة باسم العولمة أن تجعل خطابها بكل ما يتضمنه من حقائق وأساطير أن يكون هو الخطاب السائد، نافياً بذلك كل الخطابات المنافسة. فالليبرالية هي المذهب السياسي المعتمد، وحرية التجارة ورفع كل القيود أمامها هي المبدأ المقدس، والتنافس العالمي في ظل وهم الندية الكاملة بين جميع الدول، لا فرق بين المتقدمة منها والنامية، هي الفلسفة الجديدة. غير أن هناك مجالات جديدة يدور فيها الصراع الثقافي باسم الخصوصية الثقافية التي تحاول الوقوف ضد موجات العولمة المتدفقة. وبعض هذه المحاولات ينطلق من مبادئ مشروعة تريد تأكيد حق الهويات الثقافية المختلفة أن تعيش وتحيا وتزدهر في عصر العولمة، بدلاً من الدعوات البدائية لتنميط وتوحيد أساليب حياة البشر وفق قيم الحضارة الغربية. غير أن هناك في هذا المجال محاولات تنطلق من رؤية مغلقة للتاريخ، لا تؤمن بالتقدم الإنساني، وتريد إقامة أسس المجتمع المعاصر في ضوء الارتداد إلى مرجعيات الماضي، من خلال اتجاه انعزالي يظن أنه يستطيع أن يحمي الثقافة والمجتمع من مفاسد العولمة المعاصرة (سليم،  ب.ت: 270).

فالحرب الدائرة في يومنا هذا هي حرب ثقافات بامتياز البقاء فيها للفكر الأقوى الذي يملك مفاتيح العلم والمعرفة التكنولوجية. أما عن الكيفية التي يتم من خلالها حسم عملية الصراع الثقافي، فإنها تتحقق عن طريق إنهاء بعض المظاهر الثقافية الأضعف لحساب الثقافات الأخرى، أو استبدالها بعناصر جديدة، أو بتنميط العنصر الغالب في الثقافة الأقوى بواسطة العولمة الثقافية.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

........................

مراجع المقال:

- هوبر، بول. (2024). نحو فهم للعولمة الثقافية ط1. مؤسسة هنداوي. المملكة المتحدة.

- غيرتز، كليفورد. (2009). تأويل الثقافات. ط1. ترجمة: محمد بدوي. المنظمة العربية للترجمة. بيروت.

- ليلة، علي. (2014). النظرية الاجتماعية الحديثة (الأنساق الكلاسيكية). ط1. الكتاب: الثالث. مكتبة الأنجلو المصرية. القاهرة.

- داعوب، السويحلي الهادي. (2006) نقد نظريات الصراع الغربية من منظور النظرية العالمية الثالثة. ط1. المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر.

- فياض، حسام الدين. (نيسان 2023) التحليل النقدي للخطاب بوصفه ممارسة اجتماعية. العدد: 240 (15). مجلة بصرياثا الثقافية الأدبية. العراق.

- سليم، محمد قطب. (ب.ت) المجتمع والثقافة والشخصية – دراسات في علم الاجتماع الثقافي. ط1. السلطان لتشغيل الأوراق. القاهرة.

- فياض، حسام الدين. (2022). مقالات نقدية في علم الاجتماع المعاصر (النقد أعلى درجات المعرفة). ط1. سلسلة نحو علم اجتماع تنويري. الكتاب: الثالث. دار الأكاديمية الحديثة. أنقرة.

- أيزابرجر، أثر. (2003). النقد الثقافي – تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية. ط1. العدد: 603. المجلس الأعلى للثقافة (المشروع القومي للترجمة). القاهرة.

- فياض، حسام الدين. (تموز 2023). نظرية الصراع على السلطة عند رالف داهرندورف (قراءة تحليلية – نقدية). العدد: 245 (1). مجلة بصرياثا الثقافية الأدبية. العراق.

- فياض، حسام الدين. (2020). تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر (دراسة تحليلية - نقدية في النظرية السوسيولوجية المعاصرة). ط1. سلسلة نحو علم اجتماع تنويري. الكتاب: الأول. دار كريتار. إسطنبول.

- فياض، حسام الدين. (2021). المدخل إلى علم الاجتماع – من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأسيس. ط1. سلسلة نحو علم اجتماع تنويري. الكتاب: الثاني. مكتبة الأسرة العربية. إسطنبول.

- موران، إدغار. (2012). المنهج – معرفة المعرفة: انثروبولوجيا المعرفة. ط1. الجزء: الثالث. ترجمة: جمال شحيّد. مراجعة: موريس أبو ناضر. المنظمة العربية للترجمة. بيروت.

- فياض، حسام الدين. (أيار 2023). في النقد الثقافي محاولة للتأصيل، العدد: 242 (15). مجلة بصرياثا الثقافية الأدبية. العراق.

- فياض، حسام الدين. (9 يونيو 2023). نظرية الصراع الاجتماعي الإيجابي عند لويس كوزر. مجلة التنويري. عمان. https://altanweeri.net/10308/

- الرميحي، محمد. (19 يناير 2018) صراع الثقافات وفقر الأمم!. صحيفة الشرق الأوسط..

https://2u.pw/07JqGiQv

د. حسام الدين فياض

 

للعقل عند إقبال مكانة خاصة، وقوة إدراكية مهمة في فهم حقائق الكون، ويستند إقبال في ذلك على القرآن الكريم، وقد أعتبر أن الارتقاء البشري من خصيصة الإنسان، وهو موهوب أيضاً من لدن الله تعالى، وهذه القوة الإدراكية ينفرد بها الإنسان دون الكائنات الأخرى، وبفضلها يدرك الإنسان ما هو قابل للملاحظة من الحقيقة. ويرى إقبال، إن التجربة الدينية يمكن تقسيمها إلى ثلاثة مراحل: مرحلة الإيمان، مرحلة الفكر، ومرحلة الكشف. وقد ظهرت هذه المحاولة في التقسيم لاحقاً، مع الدكتور محمد عابد الجابري، حيث قسم التراث إلى ثلاث دوائر كبرى- مع اختلاف المضمون-، وهي: البيان، والعرفان، والبرهان. ولا نريد أن ندخل في تفاصيل تأثر الجابري بإقبال، واختلاف وتشابه ذلك التقسيم.

ويصف إقبال الحياة الدينية في المرحلة الأولى تبدوا كأنها شكل من أشكال النظام الذي ينبغي على الفرد والأمة بأكملها أن تقبله كأمر غير مشروط، وبدون التكلّف بإعمال العقل في فهم معنى هذا الأمر أو غايته القصوى. أما في المرحلة الثانية فنجد الخضوع الكامل لنظام ما يتبعه تفهّم عقلاني لهذا النظام وللمصدر الأعلى لمرجعيته، وفي هذه المرحلة تبحث الحياة الدينية عن أسسها في نوع من الميتافيزيقا. أما في المرحلة الثالثة فيحل علم النفس محل الميتافيزيقا، وتنمّي التجربة الدينية في الإنسان طموحه إلى الاتصال المباشر بالحقيقة المطلقة. وإذا كان العقل أساس الفلسفة، وكان الدين قائماً على الإيمان، وكان همه- أي إقبال- يكمن في إمكانية استخدام المنهج العقلي في مباحث الدين، يعقد إقبال مقارنة ما بين الدين والفلسفة، فيرى إقبال: إن روح الفلسفة هي التساؤل الحر، إذ تضع كل سلطة موضع الشك، وكذلك من وظائفها تعقب الفروض الواهية في الفكر الإنساني إلى جذورها الخفية، وقد تنتهي في هذا المسعى إلى إنكار العقل الخالص أو الاعتراف صراحة بعجزه عن الوصول إلى الحقيقة المطلقة. وهذا ما لمّح له الفيلسوف الألماني "إيمانؤيل كانت" في مقدمة كتابه "نقد العقل المحض"، حيث يقول الأخير: "للعقل البشري، في نوع من معارفه، ذلك القدر الخاص: أن يكون مرهقاً بأسئلة لا يمكنه ردّها، لأنها مفروضة عليه بطبيعة العقل نفسه؛ ولا يمكنه أيضاً أن يجيب عنها، لأنها تتخطى كلياً قدرة العقل البشري". لكن إقبال يذهب إلى أن الرأي الذي يذهب إلى إن العقل بحكم طبيعته متناه، ومن ثم فإنه غير قادر على إدراك اللامتناهي، هو رأي قائم على فكرة خاطئة عن حركة العقل في تحصيل المعرفة. لان الفكر في طبيعته الأصلية ليس جامداً بل ديناميكي فعّال، يكشف عن اللانهائية في البحث. أما جوهر الدين فهو الإيمان، والإيمان كالطير يعرف طريقه الذي لم يسلكه كائن قبله... وهو أي الإيمان-أكثر من مجرد شعور؛ فبه شيء كالمضمون الإدراكي، وكذلك فإن الفلسفة ترى الحقيقة على ما تظهر عليه من بعيد، بينما يهدف الدين إلى توثيق صلته بالحقيقة عن قرب؛ والفلسفة نظرية، أما الدين فتجربة حيّة، إنها مصاحبة واتصال حميم.

ومع إن مطامح الدين تسمو على ما تطمح إليه الفلسفة، فالدين لا يقنع بمجرد الإدراك، وإنما يبحث عن علم وثيق، كما يبحث عن صلة أكثر التحاماً بالموضوع الذي يبحثه، إلا إن الدين من حيث وظيفته، هو أكثر حاجة لأساس عقلي لمبادئه الجوهرية من حاجة المعتقدات العلمية، فقد يتجاهل العلم الميتافيزيقا العقلية، أما الدين فلا يكاد يحتمل أن يتجنب البحث عن الملائمة بين تناقضات التجربة ومسوّغات البيئة التي تحيط بالإنسانية، وإلى هذا المعنى ألمع (هوايتهد) بقوله: "إن عصور الإيمان هي عصور العقلانية". إلا إن إقبال ينبه من أن عقلنة الإيمان ليس تسليماً بتفوق الفلسفة على الدين، فالفلسفة بلا شك من حقها أن تصدر أحكاماً على الدين، ولكن هذا الذي تحكم عليه الفلسفة له طبيعة لا تخضع لحكم الفلسفة إلا بشروطه الخاصة، كما أن الفلسفة عندما تتصدّى للحكم على الدين لا يمكنها أن تجعل الدين في وضع أقل قيمة من معطياتها الأخرى.

وجاء حرص إقبال على التوفيق ما بين المنهج العقلي والدين، من خلال انطلاقه من منطلقات فلسفية، فيمكن القول إن كتاب (تجديد الفكر الديني في الإسلام) هو كتاب فلسفي بامتياز، والبعد الفلسفي هو أكثر ما يميّز محاولة إقبال في تجديد الفكر الديني، فهو البعد الذي كان ينطلق منه، ويستند إليه كإطار منهجي ومعرفي، كما أنه البعد الذي كان إقبال ضالعاً فيه، وبارعاً في معارفه، وكذلك إيمانه بأن سبيل الإصلاح والتجديد للإنسان المسلم والإنسان المعاصر وحضارته المعاصرة، فالدين هو وحده القادر على إعداد الإنسان العصري إعداداً خلقياً يؤهله لتحمل التبعة العظمى التي لا بد من أن يتمخض عنها تقدّم العلم الحديث.

أما فيما يتعلق بعلاقة الدين بالعلم، فيقول إقبال: إن العملية الدينية والعملية العلمية، على الرغم من إتباعهما مناهج مختلفة إلا أنهما متماثلتان تماماً في غايتهما النهائية. فكل من الدين والعلم يهدف إلى الوصول إلى أقصى درجات الحقيقة، غير إن الدين أكثر حرصاً من العلم على الوصول إلى الحق المطلق... وكلاهما أيضاً متوازيان ومتشابهان بمعنى من المعاني؛ فكليهما في الحقيقة يصفان عالماً واحداً، مع فارق وحيد هو: أننا في العلم نستبعد بالضرورة وجهة نظر الذات، بينما في الدين تؤلف الذات بين ميولها المتصارعة لتنشئ موقفاً واحداً شاملاً يؤدي إلى نوع من التحول التركيبي لتجاربها. وبالتالي فأن بين العلم والدين تناغماً متبادلاً غير مشكوك فيه.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

تطبيقات وانتقادات

مقدمة: سلافوي جيجيك فيلسوف وناقد ثقافي سلوفيني معروف بنهجه الفريد في التعامل مع النظرية الماركسية والتحليل النفسي. وقد ألف العديد من الكتب حول مجموعة من المواضيع بما في ذلك الإيديولوجية والسياسة والثقافة الشعبية. إن عمل جيجيك وثيق الصلة بمجال الفلسفة بسبب نهجه المتعدد التخصصات في التعامل مع النظرية وقدرته على الاستفادة من مجموعة متنوعة من التقاليد الفلسفية. وهو معروف بشكل خاص بمساهماته في النظرية الماركسية والتحليل النفسي، وقدرته على الجمع بين هذين المجالين بطرق مبتكرة. كيف تمكن جيجيك من الجمع بين فلسفة هيجل وعلم التحليل النفسي عند لاكان؟

أهمية الهيجلية واللاكانية في عمل جيجيك

إن الهيجلية مهمة بشكل خاص في عمل جيجيك بسبب تأكيدها على الديالكتيك ودور التناقض في تشكيل التطور الاجتماعي والتاريخي. يستعين جيجيك بالديالكتيك الهيجلي في تحليله للظواهر الاجتماعية والسياسية، ويستخدم هذا الإطار لانتقاد الأيديولوجيات السائدة وبنى السلطة. كما أن اللاكانية تشكل أهمية بالغة لفهم مساهمات جيجيك الفلسفية، حيث يعتمد بشكل كبير على التحليل النفسي اللاكاني في تحليله للذاتية والرغبة. وكان عمل جيجيك على النظرية اللاكانية مؤثرًا في تشكيل المناقشات المعاصرة في الفلسفة وعلم النفس والدراسات الثقافية. فكيف تواجدت الهيجلية في عمل جيجك؟

تفسير جيجك للديالكتيك الهيجلي

في تفسير جيجك للديالكتيك الهيجلي، يؤكد على أهمية نفي النفي في عملية الرفع. وهذا يعني أن التركيب الذي ينشأ عن العملية الديالكتيكية لا يشمل فقط الجوانب الإيجابية للأطروحة والنقيض، بل ينفي أيضًا نفيهما، ويدمج التناقضات والتوترات التي كانت موجودة في المعارضات الأولية. يختلف تفسير جيجيك للديالكتيك الهيجلي عن التفسيرات التقليدية في أنه يضع المزيد من التأكيد على دور السلبية والتناقض في العملية الديالكتيكية. كما يرفض فكرة أن العملية الديالكتيكية تؤدي إلى حل نهائي أو توليف، ويجادل بدلاً من ذلك بأنها عملية رفع مستمرة لا تنتهي أبدًا. إن تفسير جيجيك للديالكتيك الهيجلي أمر بالغ الأهمية لعمله الفلسفي، لأنه يسمح له بالتوفيق بين التناقضات والتوترات التي تنشأ عن المناهج الفلسفية المختلفة. وهو يستخدم هذا النهج لتطوير وجهة نظره الفريدة حول مجموعة من الموضوعات، بما في ذلك السياسة والأيديولوجية والتحليل النفسي.

دور السلبية في الهيجلية وفلسفة جيجيك

في الهيجلية، تلعب السلبية دورًا حاسمًا في العملية الديالكتيكية. ومن خلال نفي الأطروحة الأولية ونقيضها تنشأ توليفة جديدة. تتضمن هذه التوليفة التناقضات والتوترات التي كانت موجودة في المعارضات الأولية، مما يسمح بفهم أكثر شمولاً ودقة للموضوع المطروح. يوسع جيجيك مفهوم السلبية في الهيجلية من خلال التأكيد على دورها في عملية التجاوز الجارية. يزعم أن التناقضات والتوترات التي تنشأ عن نفي النفي لا يتم حلها بالكامل أبدًا، بل تستمر في تشكيل وإبلاغ العمليات الجدلية الجديدة.

السلبية هي مفهوم مركزي في فلسفة جيجيك، لأنها تسمح له باستكشاف التناقضات والتوترات التي تنشأ عن مناهج فلسفية مختلفة. يستخدم هذا النهج لتطوير وجهة نظره الفريدة حول مجموعة من الموضوعات، بما في ذلك السياسة والأيديولوجية والتحليل النفسي.

نقد جيجيك للهيجلية

يتمثل نقد جيجيك الرئيسي للفلسفة الهيجلية في أنها لا تأخذ في الاعتبار بشكل كامل الطبيعة المستمرة للعملية الجدلية. يزعم أن مفهوم هيجل للروح المطلقة، والذي يمثل التوليف النهائي للعملية الجدلية، مجرد ومثالي للغاية بحيث لا يكون ذا معنى في العالم الحقيقي. لتجاوز الفلسفة الهيجلية، يقترح جيجيك نهجًا أكثر مادية وتاريخية يأخذ في الاعتبار التناقضات والتوترات الحقيقية الموجودة في العالم. يزعم جيجيك أن هذا المنهج يمكن أن يؤدي إلى فهم أكثر شمولاً ودقة للعالم، ويمكن أن يساعدنا في تطوير استراتيجيات أكثر فعالية لمعالجة القضايا الاجتماعية والسياسية. إن نقد جيجيك للفلسفة الهيجلية يشكل محورًا لعمله الفلسفي، لأنه يسمح له بتطوير نهج أكثر دقة ومادية لفهم العالم. وهو يستخدم هذا النهج لاستكشاف مجموعة من المواضيع، بما في ذلك السياسة والأيديولوجية والتحليل النفسي. فكيف ظهرت اللاكانية في أعمال جيجيك؟

تفسير جيجيك للتحليل النفسي اللاكاني

لقد أثرت نظرية التحليل النفسي اللاكاني، التي طورها جاك لاكان، بشكل كبير على أعمال جيجيك الفلسفية. وقد سمح تفسير جيجيك لللاكانية له بتوسيع أفكاره الخاصة وتقديم منظور فريد حول طبيعة الذاتية واللغة والرغبة. يؤكد جيجيك على أهمية اللغة في التحليل النفسي اللاكاني، وخاصة في كيفية تشكيلها لإدراكنا للواقع. ويزعم أن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي جانب أساسي من الذاتية البشرية. فمن خلال اللغة، نقوم باستمرار ببناء وإعادة بناء إحساسنا بالذات.

مفهوم رئيسي آخر في التحليل النفسي اللاكاني هو اللاوعي، والذي يراه جيجيك كمكون أساسي للذاتية البشرية. ويزعم أن اللاوعي ليس مجرد مستودع للرغبات المكبوتة، بل هو قوة نشطة تشكل تجربتنا الواعية. إن تفسير جيجيك لللاوعي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمفهومه عن الواقع، والذي سنستكشفه بمزيد من التفصيل.

أهمية الواقع في اللاكانية وفلسفة جيجيك

يُعَد الواقع مفهومًا مركزيًا في نظرية التحليل النفسي اللاكانية، وقد توسع جيجيك في هذه الفكرة في عمله الخاص. يمثل الواقع ما لا يمكن تمثيله، ما يقاوم الرمزية واللغة. إنه النواة المؤلمة في قلب تجربتنا والتي لا يمكن دمجها بالكامل في واقعنا الواعي. يزعم جيجيك أن الواقع مهم لأنه يسلط الضوء على الاستحالة المتأصلة للرمزية أو تمثيل تجربتنا بالكامل. الواقع هو ما يقاوم الرمزية، وعلى هذا النحو فإنه يكشف عن حدود اللغة ومحاولاتنا لفهم الواقع بشكل كامل. وهذا يؤدي إلى الشعور بالنقص أو عدم الاكتمال الذي يشكل جوهر التجربة الإنسانية. يرى جيجيك أن الرغبة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالواقع. تتجه رغباتنا دائمًا نحو ما ينقصنا، ما يغيب عن تجربتنا. إنها محاولة لملء الفجوة التي أحدثها الواقع. ومع ذلك، نظرًا لأن الواقع غير قابل للتمثيل بشكل أساسي، فلا يمكن إشباع رغباتنا بالكامل أبدًا. وهذا يخلق توترًا دائمًا بين الرغبة والواقع الذي يشكل جوهر الذاتية البشرية.

نقد جيجيك للاكانية

في حين تأثر جيجيك بشدة بنظرية التحليل النفسي اللاكانية، إلا أنه ينتقد بشدة جوانب معينة من النظرية. على وجه الخصوص، انتقد جيجيك اللاكانية لتأكيدها على اللغة وإهمالها لمادية الجسد. يزعم جيجيك أن اللاكانية غالبًا ما تندرج في المثالية اللغوية، حيث يُنظر إلى اللغة باعتبارها المحدد الأساسي للواقع. يرى جيجيك هذا باعتباره تبسيطًا مفرطًا إشكاليًا، لأنه يهمل دور المادية والتجسيد في الذاتية البشرية. يؤكد جيجيك على أهمية المادية في الذاتية البشرية، وخاصة في كيفية تشكيل أجسادنا لتجربتنا للعالم. ويرى أن الجسد ليس مجرد وعاء سلبي للعقل، بل هو قوة نشطة تساعد في تشكيل إحساسنا بذاتنا وعلاقتنا بالواقع.

تركيبة جيجيك للهيجلية واللاكانية

يجمع عمل جيجيك الفلسفي بين عناصر الهيجلية واللاكانية، مما يخلق توليفة فريدة من نوعها بين المدرستين الفكريتين. هذه التركيبة ليست مجرد تقابل بين نظريتين منفصلتين، بل هي تقاطع حقيقي بينهما، حيث يتم دمجهما معًا لخلق شيء جديد وأصلي. في تركيب جيجيك، يعد مفهوم الذات أمرًا بالغ الأهمية. يزعم أن الذات ليست كيانًا مُعطى مسبقًا، بل إنها تنشأ من العملية الجدلية لنفي الذات وخلق الذات. هذه العملية هي جوهر الفكر الهيجلي واللاكاني، ويدمج تركيب جيجيك الاثنين معًا لخلق ما يسميه "الذات الجدلية". عنصر رئيسي آخر في تركيب جيجيك هو أهمية اللاوعي. في اللاكانية، يُنظَر إلى اللاوعي باعتباره مصدر رغبات ودوافع الذات، بينما يُنظَر إليه في الهيجلية باعتباره مصدر السلبية والتناقض. يجمع جيجيك بين هاتين النظرتين، فيزعم أن اللاوعي هو موقع الرغبة وموقع نفي الذات، مما يخلق توترًا جدليًا يدفع الذات إلى الأمام.

أهمية الذات في توليفة جيجيك

تضع توليفة جيجيك الذات في مركز الاستقصاء الفلسفي. فهو لا يرى الذات كمراقب سلبي للعالم، بل كعامل نشط يشكل ويخلق الواقع من خلال رغباته وأفعاله. هذه النظرة للذات كعامل حاسمة في فهم وجهات نظر جيجيك السياسية والأخلاقية، والتي تؤكد على الحاجة إلى التغيير الجذري والتحول.

هناك جانب مهم آخر للذات في توليفة جيجيك وهو التناقض المتأصل فيها. فالذات هي موقع الرغبة وموقع السلبية، مما يخلق توترًا وصراعًا مستمرين داخل الذات. يزعم جيجيك أن هذا الصراع منتج، لأنه يدفع الذات إلى الأمام ويسمح بظهور أشكال جديدة من الفكر والعمل.

نقد جيجيك للمناهج الفلسفية الأخرى

ينتقد جيجيك بشدة فلسفة ما بعد الحداثة، التي يرى أنها أعلنت "موت الذات". ويزعم أن هذه النظرة ليست خاطئة فحسب، بل وخطيرة أيضًا، لأنها تؤدي إلى نظرة سلبية وعدمية للعالم. يقدم جيجيك في توليفته بين الهيجلية واللاكانية وجهة نظر بديلة أكثر نشاطًا وانخراطًا للذات. ينتقد جيجيك أيضًا التفكيك، الذي يرى أنه يركز بشكل مفرط على التحليل النصي وليس بما يكفي على السياسة والأخلاق في العالم الحقيقي. ويزعم أن التفكيك مهووس للغاية بإيجاد التناقضات والغموض في النصوص، وليس بما يكفي لإيجاد حلول لمشاكل العالم الحقيقي. من ناحية أخرى، يؤكد توليفة جيجيك على أهمية الذات ودورها في تشكيل الواقع.

التطبيقات الاجتماعية والسياسية

لفلسفة جيجيك آثار مهمة على التغيير الاجتماعي والسياسي. ويمكن لتركيزه على دور الإيديولوجية واللاوعي أن يساعدنا في فهم كيفية عمل السلطة في المجتمع وكيف يمكن تحديها. ويمكن أن يساعد نقد جيجيك للديمقراطية الليبرالية وتأكيده على الحاجة إلى التغيير الجذري في إرشاد الحركات الاجتماعية والنشاط. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لتحليله للرأسمالية العالمية وتأثيراتها على عدم المساواة والاستغلال أن يساهم في المناقشات حول العدالة الاقتصادية. لقد كان عمل جيجيك ذا أهمية خاصة في سياق صعود الشعبوية والقومية في جميع أنحاء العالم. ويمكن أن يساعدنا تحليله للطرق التي تستغل بها هذه الحركات السياسية رغبات الناس ومخاوفهم، وانتقاده لحلولها التبسيطية للمشاكل المعقدة، في فهم المخاطر التي تشكلها على الديمقراطية والتماسك الاجتماعي. إن دعوة جيجيك إلى تجديد النزعة الدولية وتأكيده على الحاجة إلى استجابة عالمية للمشاكل العالمية يمكن أن تفيد أيضًا المناقشات حول كيفية معالجة قضايا مثل تغير المناخ والهجرة. كان انخراط جيجيك في الحركة النسوية وسياسات النوع الاجتماعي مثيرًا للجدل، لكنه أثار أيضًا نقاشًا وجدلًا كبيرين. يمكن أن يساهم نقده للنسوية الليبرالية وتأكيده على الحاجة إلى إعادة التفكير الجذري في الأدوار والهويات الجنسانية في المحادثات الجارية حول المساواة بين الجنسين والعدالة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يساعدنا تحليله للطرق التي يؤثر بها اللاوعي على مواقفنا تجاه الجنس والجنسانية في فهم استمرار المعايير الأبوية والتحديات المتمثلة في تغييرها.

التطبيقات الفنية

كان انخراط جيجيك في النقد السينمائي والثقافي جانبًا رئيسيًا من عمله. كان تحليله للأفلام والتحف الثقافية الأخرى مؤثرًا في تشكيل المناقشات حول دور الثقافة في المجتمع. إن تأكيد جيجيك على الطرق التي تعكس بها الثقافة الشعبية الأيديولوجيات السائدة وتعززها، ودعوته إلى الانخراط النقدي في المنتجات الثقافية، يمكن أن يثري المناقشات حول سياسات التمثيل والأبعاد الثقافية للتغيير الاجتماعي. كما كان انخراط جيجيك في النظرية الأدبية والجماليات مهمًا. ساهمت تحليلاته للنصوص الأدبية وغيرها من الأعمال الفنية في المناقشات الجارية حول طبيعة ووظيفة الفن. إن تأكيد جيجيك على الطرق التي يمكن بها للفن أن يتحدى الأيديولوجيات السائدة ويفتح طرقًا جديدة للتفكير يمكن أن يثري المناقشات حول العلاقة بين الجماليات والسياسة، فضلاً عن إمكانات الفن في المساهمة في التغيير الاجتماعي.

الانتقادات الشائعة

من أكثر الانتقادات شيوعًا لفلسفة جيجيك أنها غالبًا ما تكون غامضة ويصعب فهمها. يزعم النقاد أنه يستخدم لغة معقدة ومتشابكة تجعل أفكاره غير مفهومة للعديد من القراء. فيما يتعلق بقضية الغموض، يزعم بعض النقاد أن فلسفة جيجيك تفتقر إلى الوضوح والدقة. ويزعمون أنه غالبًا ما يستخدم عبارات متناقضة أو مفارقة تجعل من الصعب تحديد موقفه الفعلي. من الانتقادات الشائعة الأخرى لعمل جيجيك أنه يعتمد بشكل مفرط على نظرية التحليل النفسي اللاكاني على حساب المناهج الفلسفية الأخرى. يزعم النقاد أنه غالبًا ما يختزل القضايا الفلسفية المعقدة في مصطلحات التحليل النفسي، مما يبسطها ويشوه معناها.

المناهج البديلة

أحد المناهج البديلة لعمل جيجيك هو الفلسفة التحليلية، التي تؤكد على الوضوح والدقة والصرامة المنطقية. يزعم الفلاسفة التحليليون أن أسلوب جيجيك ومنهجه غامضان للغاية وغير واضحين، وأن أفكاره تفتقر إلى الدقة الفلسفية اللازمة. هناك نهج بديل آخر لعمل جيجيك وهو الفلسفة القارية، التي تؤكد على أهمية السياق والتاريخ والثقافة في التحليل الفلسفي. يزعم الفلاسفة القاريون أن عمل جيجيك تجريدي للغاية ومنفصل عن الحقائق الملموسة للتجربة الإنسانية. وهناك نهج بديل ثالث لعمل جيجيك وهو الفلسفة ما بعد الحداثة، التي تؤكد على عدم استقرار وعدم تحديد المعنى والحقيقة. يزعم الفلاسفة ما بعد الحداثة أن التزام جيجيك بالديالكتيك والتحليل النفسي اللاكاني شامل ومختصر للغاية، وأنه يفشل في تفسير تعقيد وتنوع التجربة الإنسانية.

الخاتمة

يُعَد عمل جيجيك مساهمة كبيرة في الفلسفة، وخاصة في دمج الهيجلية واللاكانية. يقدم تفسيره للديالكتيك الهيجلي ودور السلبية في الفلسفة منظورًا جديدًا للفلسفة الهيجلية التقليدية. وبالمثل، يوفر تأكيده على الواقع في نظرية التحليل النفسي اللاكانية منظورًا فريدًا للذاتية البشرية. يقدم التوليف الذي أجراه جيجيك بين الهيجلية واللاكانية نهجًا جديدًا للفلسفة يأخذ في الاعتبار ذاتية التجربة الإنسانية يتسم بالتأمل والنقد. لقد فتح عمله آفاقًا جديدة للاستقصاء الفلسفي وقدم منظورًا جديدًا للقضايا المعاصرة. إن عمل جيجيك مهم ليس فقط لمساهماته الفلسفية ولكن أيضًا لإمكاناته في التأثير على القضايا الاجتماعية والسياسية المعاصرة. إن رؤيته لطبيعة الذاتية البشرية ودور الإيديولوجية في تشكيل التجربة الإنسانية لها آثار مهمة على الحركات الاجتماعية والسياسية. كما أن لعمله آثار على التعبير الفني والجماليات. وبشكل عام، يقدم عمل جيجيك منظورًا فريدًا وقيمًا للتجربة الإنسانية. فماهي الآثار المترتبة على البحوث المستقبلية؟

يمكن للبحوث المستقبلية أن تستكشف بشكل أكبر التقاطع بين الهيجلية واللاكانية في عمل جيجيك. وعلى وجه التحديد، يمكن للعلماء فحص الآثار المترتبة على توليفة جيجيك للقضايا الاجتماعية والسياسية المعاصرة، فضلاً عن التعبير الفني والجماليات. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للبحوث المستقبلية استكشاف إمكانات عمل جيجيك في الاستقصاء متعدد التخصصات، وخاصة فيما يتعلق بالعلوم الاجتماعية. يمكن للبحوث المستقبلية أيضًا فحص المناهج الفلسفية البديلة لعمل جيجيك، وخاصة تلك التي تأخذ في الاعتبار ذاتية التجربة الإنسانية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للبحوث فحص الآثار المترتبة على عمل جيجيك في مجالات أخرى من الفلسفة، مثل الأخلاق ونظرية المعرفة. فكيف يمكن ان يبرر جيجيك تقصيره عن دعم المظلومين في غزة وفلسطين؟ أليست مقاومة الاستعمار من محاور الفلسفة المعاصرة التي ينتمي اليها؟  ما دلالة مشاركته في كتاب جماعي معنون زمن التقهقر؟ هل الغرب أم الإنسانية جمعاء في تقهقر؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

..........................

المصادر والمراجع

سلافوي جيجيك، مرحبا بكم في صحراء الواقع، فلاماريون، 224 صفحة، 2005،

سلافوي جيجيك، نداء لصالح التعصب، المناخات، 2004، 167 صفحة،

سلافوي جيجيك، ماذا تريد أوروبا؟ تأملات في إعادة التخصيص الضرورية، مجلة المناخات، باريس، مايو 2005، 208 صفحات.

 

كثيراً ما أخذ الباحثون والمؤرخون لتاريخ الفلسفة، على أن الفلسفة التي جاء بها الفيلسوف الألماني (آرثر شوبنهاور) إنما هي فلسفة تشاؤمية غير صالحة لفن العيش تحت سقف السعادة والأمل، وقد جاء ذلك الحكم نتيجة ما أعلنه (شوبنهاور) في فلسفته وحديثه عن الإرادة، فهي الشيء في ذاته، وهي أساس كلُّ الوجود، فهي التي تعطي الفرد وجوده، وتكشف له عن دلالته وتجعله ايضاً يطلع على القوة الداخلية التي يتألف منها وجوده وافعاله وحركته. وهي العنصر الوحيد الدائم الذي لا يتغير في العقل، والتي عن طريق استمرار الغرض تعطي الوحدة للشعور وتجمع بين جميع آرائه وأفكاره، وتؤلف بينها في توافق مستمر، فهي النقطة العضوية في الفكر.

ودائماً ما ارتبط مفهوم التشاؤم في فكرة (شوبنهاور) عن الإرادة، فالإرادة تحمل بذور التشاؤم، لأنها في الحقيقة أصل الشر في العالم. فالصيرورة الأبدية والصراع الذي لا ينتهي، والرغبة التي لا تهدأ، هي صفات تميز الطبيعة الباطنية للإرادة، وهي بالتالي مصدر الالم والمعاناة في العالم. فإذا كان العالم ارادة، وكانت الإرادة هي الحاجة، فلابد ان يكون عالم عناء وآلام. وإشباع هذه الحاجة اكبر دائماً مما تصل اليه، إذ أنه بعد اشباع كل رغبة تبقى عشر رغبات لم تشبع، والرغبة لا تنتهي، والاشباع محدود...وغالباً ما يؤدي اشباع الرغبة الى الشقاء لا السعادة، لان مطالبها دائماً ما تتصارع في عنف مع المصالح الشخصية لذلك الذي اشبعت رغبته حتى تودي بها.

وكلُّ من أخذ هذه التصورات الحرفية، وانتهى إلى ان فلسفة (شوبنهاور) هي من أكثر الفلسفات الفاقدة للأمل، إنما جاءت عن طريق كتابه الشهير (العالم إرادة وتمثلاً)، ففيه أعلن (شوبنهاور) قوله بأن الإرادة هي مصدر الشرور...

إلى أن ظهر كتاب (تهمة اليأس)، وهو كتاب لـ(شوبنهاور) يحاول فيه أن يطرح فكرة الأمل من داخل فكرة الألم، ويخرج عن طريق التشاؤم نحو فكرة التفاؤل، ونجده يقول فيه: "سيُقال لي إنّ فلسفتي عديمة الرحمة، لأني أقول الحقيقة، والناس يفضّلون أن يحصلوا على التطمينات مفادها إنّ كل ما خلقه الرب جيد... اذهبوا إلى القساوسةِ إذاً واتركوا الفلاسفة في سلام". إذن فإن أصل التشاؤم في فلسفة (شوبنهاور) ينبع من كونها فلسفة صارمة في قول الحقيقة، الحقيقة التي لا تبالي في مشاعر الخلق على حساب فكرهم.

والحقيقة الفلسفية عند (شوبنهاور) هي الألم والمعاناة، لكنها ليست جامدة وراكدة على هذا المعنى، فهناك إمكانية كبيرة في تجاوزها نحو مفاهيم النجاح والسعادة وغيرها، لكن الفرق يتمثل في إن الفكرة المؤدية إلى السعادة يجب أن تمرّ في طريق الألم والمعاناة، وإلا لما كُتب لها أن تكون فكرة صادقة في الأساس، لذلك يقول: من المؤكد إنّ العمل والقلق والجهد والمشكلات تشكّل الجزء الأعظم من حياة أغلب البشر، ولكن لو تحققت كل الرغبات فور ظهورها، فكيف يملأ الناس حياتهم؟ ماذا يفعلون بوقتهم؟ لو أصبح العالم فردوساً من الترف والرخاء، أرضاً تفيض بالحليب والعسل، حيث كلُّ روميو يجدُ جولييت فوراً ومن دون أي صعوبة، فإن الرجال إما سيموتون من الضجر  أو يشنقون أنفسهم، أو ستحصل الحروب والمجازر، بحيث تسبّبُ الإنسانية في آخر المطاف لنفسها عذاباً أكبر مما تضطر إلى تقبله على يد الطبيعة حالياً.

من هنا نجد أن (شوبنهاور) لا يريد الانتهاء إلى الألم، بل يشدّدُ على ضرورة أن نمرَّ به؛ فهو ضروري في سبيل تحصيل السعادة، لأن الفكرة التي لا تمر بحجم المعاناة إنما هي فكرة خاوية وفارغة، فالأصل يكمن في كيفية تجاوز الألم والمعاناة ومصادر القلق، للوصول إلى الرغبة المنشودة. فيقول في (تهمة اليأس): إن لم تكن المعاناة هي الهدف المباشر والأساسي للحياة، فإن وجودنا يخفق في تحقيق هدفه... ولا أعرف سخافة أكبر من تلك السخافة التي تُروج لها مُعظم أنظمة الفلسفة، حيث تدعي إنَّ الشر ذو صفة سلبية، ليس الشرَّ إلا ما هو إيجابي، فهو قادرٌ على الإشعار بوجوده، ومن ثمَّ فإن الجيد هو السلبي.

وكما هو معتاد في تاريخ الفلسفة، من أثر بارز للفيلسوف اليوناني (هيرقليطس)، وقولته الشهيرة (إنك لا تنزل في مثل النهر مرتين)، والتي جاء من خلالها بفكرة الصيرورة، هكذا يذهب (شوبنهاور)، حث يعتقد إنَّ كامل الأساس الذي يقوم عليه وجودنا موجودٌ في الحاضر، ذلك الحاضر الذي ما ينفكُّ أن يهرب، ولذلك، فمن صلبِ طبيعة وجودنا أنها تأخذ شكل الحركة المستمرة، ولا تسمح بأي إمكانية للحصول على الاستراحة التي نسعى دوماً من أجلها، فنحن مثل رجلٍ يركض نزولاً، لا يستطيع أن يبقى على رجليه إلا إذا تابع الركض، وسوف يقع بلا شك إذا توقف... إنَّ اللا استقرار صفةُ الوجود.

ومن هنا نجد إن التشاؤم عند (شوبنهاور) ليس مجرد وصف، وإنما هو فكرة، وهذه الفكرة مُنتجة ومثمرة ما دامت ترشدنا إلى السعي، السعي نحو الألم بغية الأمل، والحركة في دائرة المعاناة لقصد التحرر والنجاة، هكذا أجاد (شوبنهاور) سبك فلسفته الهائلة، والتي اتخذت من الإرادةِ موضوعاً لها، باعتبارها أصل الوجود ومصدر الشرور في العالم. وكم كنت أتمنى أن يكون عنوان الكتاب (دفاعاً عن تهمة اليأس)، وليس تهمة اليأس فحسب، لأن هذه التهمة (اليأس) من جواهر الفلسفات التي قيلت في العصر الحديث، والتي تسعى إلى إعادة الإنسان لجحيم المعاناة بشرط الإبداع... لذلك قال (شوبنهاور) لمن يتحاشون الحديث عن العذاب والألم: اذهبوا إلى القساوسة إن لم تفهموا الجحيم والألم، واتركوا الفلاسفة يعيشوا بسلام.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

تجارب الكاتب الشخصية تلعب دورًا في كيفية إنتاج المعنى. إذا كان الكاتب في حالة من الضياع، قد يكون من الصعب عليه توصيل أفكاره بشكل فعال، يمكن أن يؤثر عدم وضوح العناصر البنائية في النص على جودة الكتابة. إذا لم تكن هناك ترابطات واضحة بين العناصر، يشعر الكاتب بالضياع في بنية النص، ان استخدام أساليب سيميائية معينة يمكن ان يسهم في توضيح المعاني، بينما يمكن أن يؤدي استخدامها بشكل غير مناسب إلى ارتباك وضياع الكتابة كما يساعد التحليل السيميائي في استعادة المعاني الضائعة من خلال فهم العلاقة بين العلامات والمعاني، يوفر هذا التحليل رؤى جديدة تساعد الكاتب على إعادة تشكيل نصه. كثيرا ما تتداخل سيميائيات النص مع ظاهرة ضياع الكتابة بشكل عميق من خلال عدم فهم العلامات والمعاني، ولا تساعد الكاتب على تجاوز حالة الضياع واستعادة الوضوح في التعبير عن الأفكار والمشاعر.

التقنيات السيميائية

استخدام الرموز التي ترتبط ثقافيًا أو اجتماعيًا بالموضوع يمكن أن يساعد في تعزيز الفهم والاعتماد على هيكل واضح يساعد القارئ على تتبع الأفكار بسهولة، كذلك تقسيم النص إلى فقرات مع عناوين فرعية يجعل المحتوى أكثر وضوحًا ويسهل قراءته، تكرار النقاط الأساسية تساعد في تعزيز الفهم وخلق ترابط بين الأفكار، مع إضافة عبارات توكيدية لتسليط الضوء على المعاني المهمة. ان التعبير عن الأفكار المعقدة من خلال استعارات ترتبط بتجارب القارئ وتوضيح المفاهيم المجردة من خلال تشبيهات ملموسة يعزز الفهم كذلك تقديم معلومات سياقية تساعد القارئ على فهم النص بشكل أفضل ومترابط والتأكد من أن الشكل لا يطغى على المضمون يمكن ان يحافظ على وضوح الرسالة. استخدام أسئلة تحفيزية للتفاعل مع القارئ وتشجيعه على التفكير في الموضوع وإضافة تجارب أو أمثلة شخصية يمكن أن تعزز الصلة بين الكاتب والقارئ، تطبيق هذه التقنيات السيميائية يمكن أن يسهم بشكل كبير في كتابة نصوص واضحة ومفهومة. من خلال التركيز على العلامات البنيوية، والسياق، تمكن الكاتب تحسين قدرته على التعبير عن أفكاره بشكل فعال.

اللسانيات الجديدة بعد سوسير وضياع الكتابة

تأثرت اللسانيات الجديدة بأفكار فرديناند دي سوسير، الذي أطلق مفهوم "العلامة اللغوية" وعلاقة الدال بالمدلول. قدم سوسير رؤية جديدة للغة كنظام من العلامات، بعد سوسير، تطورت اللسانيات لتحليل النصوص من زوايا متعددة، مما أدى إلى ظهور مدارس جديدة مثل اللسانيات التوليدية واللسانيات الاجتماعية مع التركيز على النظم اللغوية، يمكن أن يؤدي هذا التركيز على العلاقات بين الكلمات إلى تفسيرات متعددة، مما يسبب ضياع المعنى المقصود، تبرز اللسانيات الجديدة أهمية السياق في فهم النصوص، ان عدم التفاعل مع السياق يؤدي إلى صعوبة في استيعاب الرسالة. يشير مفهوم العلامة اللغوية إلى العلاقة بين اللفظ والمعنى، إذا كانت هذه العلاقة غير واضحة، يشعر الكاتب بالضياع والتغيرات في المعاني مع مرور الوقت يمكن أن تؤدي إلى ضياع الكتابة، حيث لا يفهم القارئ المعاني المقصودة. تساهم البنية في فهم النص، إذا كانت البنية غير منظمة، يفقد النص وضوحه وتماسكه .الربط بين النصوص السابقة واللاحقة يمكن أن يساعد في توضيح المعاني، بينما يمكن أن يؤدي إغفال هذه العلاقات إلى شعور بالضياع. تقنيات مثل تحليل الخطاب يمكن أن تكشف عن المعاني الخفية، مما يساعد في تجاوز الضياع، يشدد التحليل النصي على دور القارئ في إنتاج المعنى ما يعني أن فهم النص قد يتغير بناءً على تجارب القارئ. في عصر المعلومات، يمكن أن تؤدي وفرة المعلومات إلى تشويش المعاني، مما يزيد من صعوبة الكتابة الواضحة. التغيرات في الكتابة، مثل استخدام الشبكات الاجتماعية، قد تؤدي إلى فقدان بعض العناصر التقليدية للكتابة، مما يساهم في ضياع الرسالة. تقدم اللسانيات الجديدة أدوات لفهم الكتابة بشكل أعمق، لكنها تساهم أيضًا في ضياع المعاني إذا لم يتم التعامل معها بحذر. من خلال دمج مبادئ سوسير مع التحليل المعاصر، يمكن للكاتب تجاوز هذه التحديات واستعادة وضوحه في الكتابة.

السياق وضياع الكتابة

السياق هو الإطار الذي يُفهم فيه النص، ويشمل العوامل الثقافية، الاجتماعية، التاريخية، والنفسية التي تؤثر في كيفية تلقي الرسالة، يُعتبر السياق عنصرًا أساسيًا في بناء المعنى، حيث يساعد القارئ على فهم النص بشكل أعمق إذا كان الكاتب أو القارئ غير مدرك للسياق الثقافي للنص، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تفسيرات خاطئة أو ضياع المعنى، تغير القيم والمعايير الاجتماعية مع الزمن قد يجعل بعض النصوص غير مفهومة أو بعيدة عن اهتمامات القارئ المعاصر، السياق يؤثر على اختيار الموضوعات، كتابة نص دون اعتبار للسياق تؤدي إلى ضياع الرسالة، استخدام أسلوب غير ملائم للسياق يمكن أن يؤدي إلى عدم التفاعل مع النصوص التي تعكس أحداثًا معينة جرت في سياق تاريخي غابر قد تفقد معناها بمرور الزمن، إذا لم يُفهم السياق التاريخي للحدث فيما اذا كان ذو أهمية في زمنه يصبح غير ذي جدوى في زمن آخر، مما يؤدي إلى ضياع الكتابة، مشاعر الكاتب وتجربته الشخصية تلعب دورًا مهما في الكتابة إذا كان الكاتب في حالة من الضياع النفسي، ينعكس ذلك على جودة الكتابة. تختلف استجابة القراء للنصوص ايضا بناءً على تجربتهم الشخصية، عدم توافق التجارب قد يؤدي إلى فقدان المعنى. على الكاتب أن يوفر خلفية سياقية واضحة في نصوصه، مما يساعد القراء على فهم المعاني المقصودة، السياق له تأثير عميق على الكتابة، ويمكن أن يؤدي فقدانه إلى ضياع المعاني والرسالة. من خلال الوعي بالسياق وتقديمه بشكل فعّال، يمكن للكاتب تحسين فهم نصوصه وضمان تواصل أفضل مع قرائه، في بعض الثقافات، يُعتبر التواصل عبر الزمن من علامات التقديس والاحترام، بينما في ثقافات أخرى يُعتبر غير لائق أو تحديًا، هذا الاختلاف يمكن أن يؤدي إلى سوء الفهم في النصوص التي تتناول موضوعا اشكاليا، على الرغم من التحديات المرتبطة بضياع اللسانيات النصية، يمكن للتواصل الزمني أن يحافظ على المعاني من خلال الانتباه للسياقات الثقافية، باستخدام استراتيجيات فعالة في التفاعل المعرفي مع النصوص بشكل شامل.

الرموز والسياق الثقافي

الرموز والعلامات يمكن أن تحمل معانٍ مختلفة في سياقات ثقافية متنوعة. فهم السياق يساعد على تفسير تلك الرموز بشكل صحيح، بعض التعبيرات قد تكون شائعة في ثقافة معينة، ولكن غير مفهومة في أخرى. معرفة ثقافة الآخر يساعد في تجنب سوء الفهم، استيعاب العادات والتقاليد الثقافية يمكن أن يضيء الطريق في كيفية تفاعل الشخصيات في النص، مما يسهل فهم الدوافع، التعرف على السياق الثقافي يساعد على تجنب التعميمات أو الافتراضات الخاطئة التي قد تؤدي إلى ضياع المعنى، معرفة الأحداث التاريخية التي تشكل سياق النص تعزز من فهم الرسائل والمغزى وراء الكتابة، فهم السياق الثقافي يمكن أن يعزز من تفاعل القارئ مع النص، مما يجعل القراءة أكثر ثراءً وعمقًا، فهم السياق الثقافي هو عنصر أساسي في تجنب ضياع المعنى. من خلال إدراك الخلفيات الثقافية والاجتماعية، يمكن للكتاب والقراء تعزيز الفهم والتواصل الفعال باستخدام أسلوب استدلالي يعتمد على التجارب الشخصية، يكون مقبولاً، مما يؤدي إلى تعزيز فهم النية. من خلال هذا نرى كيف يمكن أن يؤدي تجاهل السياق الثقافي إلى سوء فهم عميق وضياع سيميائيات النص. المهم أن نكون واعين لهذه الفروق لضمان التواصل الفعّال والتفسير الدقيق للمعاني في سياقها الثقافي وبنيتها السيميائية.

***

غالب المسعودي

الوجودية مذهبٌ لا ينتمي إليه أحد، وينتمي له كلّ أحد، فباستثناء الفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر) الذي أعلن وجوديته وبصراحة شديدة، تحديداً في كتابه (الوجودية نزعة إنسانية)، وراح يُفرق ما بين الوجودية الإيمانية التي يُمثلها (كارل ياسبرز وجابريل مارسيل)، والوجودية الملحدة التي يُمثلها هو و(هيدغر)؛ لا نجد فيلسوفاً آخر يجاهر بوجوديته، ولو رجعنا فاحصين هذه الفِرق، سنجد إن كل من ذكرهم سارتر لا ينتمون إليها كمذهب، وإنما قد يندرجون تحتها كنظام معرفي... وكعادتها كالمذاهب الأخرى، تعرضت الفلسفة الوجودية لجملة كبيرة من الانتقادات، عمل سارتر إلى الدفاع عنها وتشذيب الأقوال الخاطئة فيها، تحديداً بعدما أعلن عن تحوّل الوجودية إلى مجرد موضة.

وفي هذا المقال نُحاول أن نتتبع بعض الاعتراضات التي سيقت في سبيل التقزيم من النتاج الوجودي في الفلسفة والقيم، وسنعرض لها كما دافع عنها الفيلسوف الوجودي (جون ماكوري)، ومن جملة ما تقدم للوجودية من انتقادات هو كون الأخيرة ذات اتجاه لا عقلاني.

ويردُّ ماكوري على ذلك فيقول: إنه لو صحت هذه التهمة لامتنعت عن الوجودية صفة الفلسفة، ذلك لأن الفيلسوف لا بد أن يكون، بالتأكيد، رجلاً يصغي إلى صوت العقل ويسمح له بأن يكون مرشداً، فهو محبٌ للحكمة كما يقول التعريف ذاته... لكن ماكوري ينبه على أن عقلانية الفيلسوف لا ينبغي أن تعني عدم انشغاله بأمور البشرية، أو محالته أن يصبح مجرد مشاهد للمسرح البشري بدلاً من أن يشارك فيه.

وإن ما هو صحّي وسليم في معارضة الوجودية للعقلانية ليس هجوماً على المنطق ولا إعلاؤها من شأن العبث، إذ الواقع أن هذه سمات خطرة وسلبية ينبغي أن نقاومها باسم العقل، لكن ما هو صحيح هو إصرارها على أن هناك جوانب غنية كثيرة في الوجود البشري، ينبغي ألّا نتجاهلها أو نحط من شأنها لمجرد كونها لا تتناسب مع مقتضيات منطق الرياضيات أو منطق العلوم التجريبية، ويس في ذلك إدانة للمنطق ولا ترويج لفوضى عقلية، في أفضل الأحوال، محاولة لتطوير منطق للأشخاص يضاف إلى منطق الأشياء الذي نعرفه.

ومن المخالفات التي أُخذت على الوجودية، عدم اهتمامها  بالأخلاق.

يقوم هذا النقد أو الاتهام لما سببه أشخاص من الوجودية باعتناق أو التبشير للأحزاب الراديكالية، تحديداً ما نُسب لهيدغر في ارتباطه بالنازية، والحقيقة إن من الجائز أن يُعزى ارتباط هيدغر بالنازية إلى السذاجة السياسية التي لم يقع فيها هو وحده بالتأكيد، في أول الثلاثينيات، ولكن هل كان في الأمر ما هو أكثر من ذلك؟ هل يمكن أن نجد جذور هذا الارتباط في نفور الوجودية من الاعتراف بمكانة المعايير في الحياة الأخلاقية، وفي أن تأكيدها لضرورة أن يكون المرء صادقاً مع نفسه دون اعتبار لما يمكن أن يؤدي إليه هذا الموقف؟ يقول ماكوري: إن هذه المسائل تنطوي على جوانب عديدة غامضة ومتعارضة، وأعتقد أن سجل هيدغر الشخصي يمكن الدفاع عنه بأكثر مما يريد لنا بعض نقاده أن نصدقه، وفضلاً عن ذلك، فهل يستطيع أحد أن يلوم نيتشه بسبب الظاهرة النازية؟.

من جهةٍ أخرى يؤخذ على إن الفلسفة الوجودية مصابة بداء النزعة الفردية إلى حدٍ غير مرغوب فيه. أو إن الوجودية نزعة ذاتية.

ويحاول ماكوري في ردّه على ذلك أن يبرز مفهوم الهوية الفردية، فيقول: كما كان الحكم الفردي والمسؤولية الفردية يقعان في خطر الاختفاء نتيجة لطغيان ضرب لا شخصي من المذهب الجمعي، فمن الضروري أن نؤيد حقوق الفرد، وفضلاً عن ذلك فما دامت الموضوعية التامة واستقلال الرأي الكامل في الفلسفة يبدوان وهماً وأسطورة، فإن من واجب الفيلسوف أيضاً أن يعترف بأن له وجهة نظره الخاصة وموقفه التاريخي الخاص، ومن ثم أن يعترف بأن هناك عاملاً شخصياً في تفلسفه.

كما إن هناك من يذهب إلى أن نظرة الوجودية للإنسانية بالغة الضيق.

في الوقت الذي ينطبق هذا القول على ما تقدم به سارتر حول نظرته للإنسانية، إلا أنه لا ينطبق، وبنفس الوقت، على الأنطولوجيا والميتافيزيقا الوجودية، فعلى الرغم من أن هيدغر في دراسته (موجز حول النزعة الإنسانية)، يميز تمييزاً قاطعاً بين موقفه وموقف سارتر، ويذهب إلى أن اهتمام فلسفته يتركز في الوجود العام، وليس في الوجود البشري، غير أنه ليس لديه إلا القليل مما يقوله عن الطبيعة والواقع غير البشري بصفة عامة، وإنه لم يبدِ سوى تقدير ضئيل للعلوم الطبيعية.

والخطر من فلسفة تحصر نفسها في التمركز حول الإنسان، لا يمكن في أنها تقدم لنا فهماً أنثروبولوجياً جافاً للواقع فحسب، وإنما في أنها قد تنعكس بشكلٍ ضار على الإنسان ذاته، ذلك لأنه عندما يعزل الإنسان بوصفه مركز الاهتمام، وعندما يفهم الكون على أنه، مسرح الحياة البشرية، وميدان انتصار الإنسان واستغلاله، فإن ذلك يعطي دفعة قوية لتلك الاتجاهات المؤسفة التي أصبحت الآن مشكلة رئيسية، تلوث الماء والهواء، الآثار الجانبية غير المتوقعة للتكنلوجيا.

أما الانتقاد الشائع فيتمثل في كون الوجودية فلسفة متشائمة، بل هي فلسفة مرضية.

وبالحقيقة فإنّ هناك بعض الحق في هذا الاتهام، ولكن على كل الأحوال، أن هذه الانتقادات متأتية من قبل مجموعة من المتفائلين السطحيين الذين انتقدهم الوجوديون لإخفاقهم في تقدير مآسي الحياة... وحتّى لو سلّمنا بأن الوجوديين كانوا سلبيين في تقديرهم لما يجري في عالمنا المعاصر، مع ذلك يظل علينا أن نعترف بأنهم أشاروا إلى شرور وأخطار حقيقية، ولولا انتقادهم لكنا نفتقر إلى الكثير.

وعلاوةً على ما تقدّم فإنَ الوجودية كأية فلسفة أخرى، جوانب ضعفها، وجوانبها السلبية ومبالغاتها، لكن بالأخير فإنَّ حسنات هذا الضرب من الفلسفة يفوق سيئاته، فقد أعطتنا الوجودية الكثير من الاستبصارات الجديدة والعميقة حول سر وجودنا البشري الخاص، وأسهمت بذلك في حماية انسانيتنا وتدعيمها في مواجهة كل ما يتهددها في يومنا هذا، ولقد قدّمت معياراً نستطيع بواسطته أن نفسر أحداث عالمنا المعاصر المحيرة وأن نقومها...

ويقول ماكوري: لا أستطيع القول بأنني أدين بأية صورة من صور الوجودية، بل لقد ظهر بوضوح من مناقشاتنا، أنني أود أن أعدّل أو اوسّع أو اغير، من الطريقة الوجودية في التفلسف في نقاط تبلغ من الكثرة حد قد لا يمكن معه أن تظل النتيجة وجودية بالمعنى المتعارف عليه، ومع ذلك فسوف أظل أقول إننا نستطيع أن نتعلم من الوجودية حقائق لا غنى عنها لوضعنا الإنساني، حقائق قد لا تستغني عنها أية فلسفة إنسانية سليمة في المستقبل.

وفي الختام نقول: نجح الوجوديون في تشخيص العلل التي قد تؤثر سلباً على معالم الظاهرة الوجودية، وقد أفلحوا في تغييره وتبديله لمعالم هذه الفلسفة حينما جعلوها-تحديداً جون ماكوري- أسلوباً في التفلسف رافضاً النزعات الجمعية والمذهبية فيها، محاولاً تقديمها على أسس مشتركة من جهة، ومختلفة من جهة أخرى، وما يحسب لماكوري، فضلاً عما تقدم، تأصيله التاريخي لهذه الطريقة من التفلسف، فد أعزاها إلى مرحلة الأسطورة، بل إلى بزوغ فجر التفكير البشري، مع أن لنا موقفنا من ربطها بالحركة المتمثلة بالمسيح والقديس بولس، وما يبرر ذلك، تبعاً لماكوري، خلفيته الدينية والكنسية المسيحية.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

1.  بعض الفلاسفة واللغة

- يقول نيتشة رغم مقولته الاستفزازية موت الاله (اللغة من ابداع الله).

 - غاديمير (اللغة هي احد الالغاز العظيمة في التاريخ الانساني).

- مارتن هيدجر(الانسان كائن لغوي وليس كائنا عقليا)

- وليفريد سيلارز (الوجود لغة)

- جون سيرل (الله لغة)

- كاتب المقال (تضليل العقل هي العاطفة وليس اللغة)

- فلاسفة البنيوية (كل شيء نجده في اللغة ولا شيء خارجها)

اذا اخذنا عبارة نيتشة اللغة من ابداع الله فلا معنى تبريري يسوغ لنا تمرير العبارة سوى عبارة شيلر كل شيء ندركه نجده مجتمعا بالانسان. بمعنى موجودا باللغة. كخاصية نوعية تعريف المعنى الدلالي لله القادر على الخلق.

سبق لفيورباخ المعنى نفسه قوله: الانسان هو الاله الذي يصنعه من خامة الطبيعة ويؤمن به الها متعاليا يمثل كل شيء ويحتويه لذا اعتبره – اي الانسان -  معبودا خالقا غير مخلوق لا يدركه العقل.

اما اذا اردنا توضيح عبارة غادمير اللغة هي احد الالغاز العظيمة بالتاريخ الانساني فهي ترى اللغة هي تاريخ تطور الانسان انثروبولوجيا. وهذا التطور التاريخي الانثروبولوجي هو الذي قاد تطور اللغة في تخارج متبادل بين الاثنين. اللغة لم تصنع تاريخ الانسان الانثروبولوجي بل التاريخ يصنع اللغة في صيرورتها التطورية.

وهي لغة متمايزة خاصة بنوع من الانواع والاقوام البشرية ومن هنا نجد تعدد الاف اللغات واللهجات الخاصة بكل قوم او امة او شعب. وملازمة انثروبولوجيا التاريخ للغة هي ملازمة وجودية كمعطى تصنيعي من ظواهر الطبيعة وتجلياتها ولا يمكننا تصور علاقة انفكاك انفصالي بينهما. تاريخ انثروبولوجيا الانسان في ملازمة اللغة له كلاهما تصنيع ارادة الانسان في تغيير الحياة نحو الافضل باستمرار.

مقولة هيدجر الانسان كائن لغوي وليس كائنا عقليا. العبارة خاطئة قبل خطا المعنى في التراتيبية الاسبقية فالانسان كائن عقلي قبل ان يكون كائنا لغويا واللغة نتاج تفكير العقل. هذه الاسبقية للعقل على اللغة هي ناتج الانسان كائن انثروبولوجي متطور على الدوام. فالعقل الانساني يسبق خاصية اللغة في حقيقتها انها تفكير تصنيعي للعقل. حيث ان العقل ماهية تمتلك خاصية نوعية انها فاهمة مفكرة لمعرفة الوجود والمعرفة واختراع اللغة.

ارى في عبارة سيلارز الوجود لغة تلخيصا فلسفيا عميقا مكتف المعنى. ومن الخطا الجسيم اضفاء الصفة المثاية عليها بل هي في عمق التعبير المنطقي الكامل. من حيث ان كل مدركات العقل المادية الواقعية منها او المتخيلة كموضوعات انما هي تعبير لغوي في حالتي النطق والكتابة او في حالة الصمت التفكيري الساكن.

لقد ذهبت المنطقية التجريبية في القرن الثامن عشر عند فلاسفتها الثلاثة ديفيد هيوم وجون لوك وبيركلي قولهم ان ما يدركه العقل بالذهن هو الواقعي الموجود في العالم الخارجي وما لا تدركه الحواس هو غير موجود وهذا المنطق الفلسفي مغرق في مثالية واضحة. فموجودات العالم الخارجي موجود باستقلالية انطولوجية تامة سواء قبل الادراك والوعي بها ام بعدها.

سبق لديكارت في القرن السابع عشر انه قال العقل جوهر خالد ماهيته التفكير المعرفي. ديكارت عن علم مسبق او عن عدم اهتمام فهو جمع خاصية العقل كتكوين بيولوجي الذي يتمثل بالدماغ في ادماجه مع التفكير العقلي المجرد الذي تعامل معه ديكارت بانفصالية وهمية قادته الى خطا قوله العقل جوهر خالد هو والنفس نتيجة خلطه وعدم التفريق بين بيولوجيا العقل وخاصية التفكير له..

طبعا يدرك ديكارت ان العقل الذي هو الدماغ الموجود داخل جمجمة الانسان هو ليس عقلا منفصلا عن عقل اخر خاصيته التفكير المجرد في التعبير اللغوي وهو خالد كفكر وليس خالدا كدماغ بيولوجي. بمختصر التعبير الصحيح نجده في قولنا العقل جوهر بيولوجي خاصيته التفكير المجرد وكفى.

اما عبارة الفيلسوف الامريكي جون سيرل (الله لغة) فهي تختلف عن عبارة نيتشة اللغة من ابداع الله . كما وتختلف عن عبارة وليفريد سيلارز (الوجود لغة) خطأ عبارتي سيرل الله لغة وعبارة نيتشة اللغة من ابداع الله انهما كليهما سقطا في مذهب التشييء الوجودي للخالق في صوفية متارجحة بين المادة والروح كما هو سائد في بعض مذاهب وحدة الوجود في الاديان الوثنية المشرقية. وربما كانت خلفية هذا موجودة في كتاب نيتشة هكذا تكلم زرادشت.

يبقى توضيح عبارة كاتب السطور في مقدمة المقال (العاطفة هي تضليل العقل وليس اللغة تضليل له) شاع جدا في فلسفة اللغة ونظرية التحول اللغوي وفائض المعنى وفي اللسانيات ان اللغة في خيانتها المعنى على طول تاريخ الفلسفة جعلت منها مدارات بحثية تدور حول مركزية اللغة بما هي لغة ضمن ضوابطها النحوية بما لا معنى فلسفي او معرفي له ارتباط بحياة الانسان.

ونادى الفلاسفة اننا بتصحيح العلاقة الازدواجية بين تعبير اللغة المضلل للعقل وبين المعنى الغائب وراء قصور تعبير اللغة عنه نستطيع كتابة تاريخ فلسفي جديد خال من المباحث التي لا معنى لها والمغرقة بالتجريد اللغوي. وجاء على لسان فينجشتين اننا في عجزنا التعبير عن المعنى اللغوي بوضوح يتحتم علينا الصمت.

على خلاف هذا الطرح الذي تبنته البنيوية مطلع القرن العشرين وتلقفه كل من بول ريكور في الهورمنطيقا وجاك دريدا بالتفكيكية وفانتمينو بالعدمية بتطرف جعل من فلسفة اللغة مبحثا باللغة خاصا بها كنسق انتظامي منعزل يشتغل على خصائص اللغة بما هي نحو وبلاغة وتركيبات من رصف الكلمات في جمل لا علاقة لها لا بالانسان ولا بغيرها من قضايا الالتزام بالحياة.

لدينا تعقيب بسيط وسريع في توضيح هذه الاشكالية الافتعالية ونقول خطأ العقل بالتفكير يسبق خطأ اللغة بالتعبير. وخيانة اللغة للمعنى يسبقها خيانة تفكير العقل اللغوي التجريدي في التعبير عن مدركاته. تضليل العقل لا يكون في تعبير ازدواجية اللغة عن المعنى. بل تضليل تفكير العقل مصدره قصور الحواس في نقلها الانطباعات الاولية عن المدركات والمواضيع الموزعة في الطبيعة والعالم الخارجي. ما يترتب عليه تشتيت التفكير العقلي في اعطائه ردود افعال انعكاسية صادقة وليست قاصرة مضللة للوعي.

2. هوسرل ولا زمانية الشعور:

بعد إختراع مصطلح الوعي القصدي الذي اصبح شمّاعة من يريد الطعن بعبارة بديكارت انا افكر...  اصبح الوعي الفلسفي كما سبق وذكرته بمقالة سابقة لي ثلاثة انواع من التراتيبية التصنيفية الزائفة الاول عن الوعي بمفهومه الفلسفي العام الذي اعتقد لا يوجد غيره من انواع وعي بيولوجيا التجريد خاصية العقل الانساني . الثاني الرائج فلسفيا هو الوعي القصدي المتميّز في حمولة هدفه القصدي فيه وليس في البحث عن المعرفة في موضوع ادراكه. ثم ثالثا الوعي الخالص الذي هو افتراضية متعالية من الصعب بلوغها في تجليّات خاصة به.

حينما اقول لا يوجد غير مصطلح الوعي البيولوجية في مرجعية العقل فيه ينتفي ان يكون ملزما له ان يحتاز حمولته القصدية ولا ان يكون متعاليا صوفيا يسمى الوعي الخالص المرادف له في علم النفس الفرويدي بمصطلح الانا العليا. الوعي ناتج عقلي بعدي لا وجود له من غير موضوع سابق عليه. الوعي والذات والموضوع دلالة لجوهر واحد هو العقل في تجليّاته لهذه المعاني الثلاث التي ذكرناها في التعبير عن خواص العقل الوظائفية..

عمد هوسرل في فلسفته الظاهراتية (الفينامينالوجيا) الى لعبة ربط القصدية بالشعور واعتبر هذا الربط كافيا لان نردد الخطأ الشعور غير زمني وليس اللاشعور او اللاوعي هو لازماني وهو الصحيح كما ذهب له فرويد.

ماذا فعل بهذا اللامنطق الفلسفي هوسرل قوله الشعور لازمني ؟

- قام بتعطيل الادراك العقلي للاشياء كون العقل يحكمه الشعور الادراكي وليس اللاشعور اي اللاوعي.

- جعل كلا من الشعور واللاشعور لا زمنيان وهي قضية فلسفية خلافية.

- اذا كان وسبق لفرويد ان ادعى ان الفعاليات التي يقوم بها الشعور هي نسبة واحد بالعشرة بالنسبة لفعالية اللاشعور الذي اعطاه نسبة تسعة بالعشرة في تمشية حياتنا الانسانية سلوكا طبيعيا. لو صح انتساب هذا الافتراض التعسفي لفرويد مقبولا لترتب على ذلك اخطر قضيتين بالحياة هما:

1. ان الواقع الذي نعيشه ويتحكم به اللاشعور بنسبة تسعة من عشرة هو واقع خيالي زائف والواقع او الوجود الحقيقي هو غير وجودنا الارضي هذا الذي نعيشه. علما ان افلاطون قال بذلك ونيتشة ردده بتاكيد لا رجعة لنا عنه أو التشكيك به اننا نعيش عالم الزيف غير الحقيقي. الطريف اعتقد جازما انه لم يعد يؤخذ اليوم بصواب هذه الافتراضية الخاطئة المغرقة في تفكير ميتافيزيقي طوباوي.

2. ان ادراكنا الاشياء في حال مساواتنا بين الشعور واللاشعور بخاصية انهما كلاهما لازمنيان عندها يكون معنا ادراك العقل للمكان لا يحتاج ملازمة زمنية. فرضية صحيحة منطقيا رغم ان تاريخ الفلسفة يذهب عكس ذلك اي تخطئتها. أنه لا إدراك للمكان من غير ملازمة زمانيته له.

2. الحاضر وهم زمني:

اذا قلنا الحاضر وهم افتراضي لا زمني فهو لحظة لا زمنية في حالة من الانحلال السيروري المتجه نحو الاندماج بالماضي لانه غير محدد بدلالة غيره من مدركات. والزمن هو الاخر وهم دلالة لا وجود ادراك عقلي لتحديد وجوده غير الدلالي في ملازمته لكل شيء لا نهائي ازلي سرمدي لا يقبل القسمة على نفسه ولا يتجزا ولا يوجد بالكون وعلى الارض زمانان اثنان مختلفان بالماهية والصفات احدهما نسبي على الارض والاخر مطلق كوني في الفضاء بعد اختراع انشتاين النسبية العامة   1915 فانعدم المطلق الزمني الذي اصبح النسبي. الاختلاف اننا على الارض نعيش تحقيبا وقتيا وليس زمانيا كونيا نتيجة محكومية الارض بقوانين فيزيائية ثابتة مثل دوران الارض حول نفسها ودورانها حول الشمس.

افكارنا التي نطلقها شفاهيا في لحظة من الحاضر لا تلبث ان تصبح بعد ثوان ماض بالدلالة الزمنية وليس التاريخية. الزمن الحاضر يختلف عن تاريخية وجود الاشياء في الافكار المعبّرة عنها كوقائع تاريخية ثابتة.

صناعة البنية الفكرية والاجتماعية للحاضر الوهمي غير المتحقق ادراكيا يتوزعها ماض استذكاري تكون فيه الوقائع التاريخية في الماضي قد اكتسبت ثباتها. بتوثيق زمني لا يكتسب دلالته الحقيقية الا بملازمته التعريف بوقائع التاريخ الماضي. الحاضر الزمني في حقيقته هو الماضي الزمني وليس التاريخي في لحظة سيرورته الانتقالية من انحلال الحاضر كلحظة زمنية وهمية في حالة حركة انحلالية في الذهاب الى ماض زمني.

 كما ان الحاضر لا يصنع المستقبل لانه وجود زمني افتراضي غير موجود. لذا يكون المستقبل سيرورة تتشكل من ماض يعبر لحظة الحاضر الوهمية وتكون الوقائع التاريخية بالماضي سابقة على وجود الزمن.

ارسطو ومن قبله افلاطون اكدا ان لحظة الحاضر وهم لا زمني حقيقي اي انه لا يدرك بدلالة شيئية ثابتة زمنيا مثل زمانية الماضي الثابتة تاريخيا كوقائع وليس الثابتة زمانيا.

3. مذهب وحدة الوجود: 

مذهب وحدة الوجود يكون مطلقا ميتافيزيقيا صوفيا يجمع بين الدين والطبيعة والفلسفة. مذهب وحدة الوجود يفقد حقيقة معناه في الصوفية التي يعتبرونها المتصوفة هي وسيلة تلاقي الذات بالحلول الالهي النوراني وهو ما لا يتحقق بسبب عدم توفر مجانسة نوعية واحدة تجمع خصيصة الذات الصوفية الروحانية مع خصيصة الذات الالهية غير المدركة لا بالعقل ولا في ما وراء العقل اي في التجربة الروحية . بهذا المعنى تكون التجربة الصوفية روحانية تدور في فلك ذاتيتها التي تفترض حلولها التواصلي مع الذات الالهية وهي لم تغادر مادية وجودها الارضي.. فالذات الالهية لا تمتلك الروحانية البشرية المدركة صوفيا في مجانستها الروحانية الصوفية التي هي في كل حالات التجربة الصوفية لا تغادر مواقع اقدامها.

الذات الالهية لا تجانس الذات الروحية البشرية لا بالماهية ولا بالصفات لذا تبقى الذات الصوفية روحانية مرتبط بالارض على خلاف الذات الالهية المرتبطة بنفسها بما لا يستطيع العقل ادراكها.

4. الموضعة اللغوية:

الموضعة اللغوية في تعبيرها التجريدي عن الاشياء هي ادخار معرفي بها وليس اضافة تكوينية لها. الموضعة هي تلك القراءات التاويلية التداولية للادرك المتطور تعيد وتضيف وتعدل التي هي في حقيقتها تجريد تعبيري لغوي عن تلك الاشياء المدركة.

تساؤلنا هل الموضعة اللغوية المتعالقة بالفهم تكون معطيات مكتسبة قبلية عن ذلك الشيء ام هي معطيات فطرية موروثة جينيا عنها؟ جون لوك في مقولته الشهيرة يولد الطفل وعقله صفحة بيضاء. اي لا توجد معرفة فطرية موروثة بل معرفة مكتسبة.

لا يوجد افكار فطرية معرفية قبلية غير مكتسبة بالخبرة عن الاشياء. اما بالنسبة للزمكان فهو وعي العقل لفراغ احتوائي للاشياء يوجد باستقلالية. فهو اي الزمكان لا يدخل مع الاشياء التي يحتويها بعلاقة موضعة تعريفية بها. ولا يدخل بعلاقة جدلية ديالكتيكية او تكاملية معرفية معها بل يبقى احتواء الزمكان للاشياء حياديا كما هي علاقة الزمن في ملازمته وجود الاشياء. وتكون افصاحات العقل عن مدركاته الاشياء التي يحتويها الزمكان هو الافصاح عن علاقات تلك الاشياء المادية البينية مع بعضها. وبهذا تكون الموضعة اللغوية تحت وصاية العقل مادية في علاقة تكامل معرفي. الشيء الاهم هو الاقرار بحقيقة ان المادة لا تتموضع مع غيرها من الاشياء بغير علاقة تجريدية لا تعي ذاتها ولا تدرك موضوعها.

5. الرؤية والمعرفة:

نسب احدهم لافلاطون قوله: تكلم كي اراك. ونسب لدوستوفسكي قوله: تكلم كي اعرفك. وتساءل المتكلم ايا من التعبيرين صحيحا وترك الامر غير مكترث بالعثور على جواب فلسفي صحيح من متصفحي موقع التواصل الاجتماعي.

طبعا الاصح قول افلاطون اذا اعتبرنا الرؤية بمعنى المعرفة وليس بمعنى الابصار الحسي بالعينين وهو ما كان يقصده افلاطون. فالابصار هو ادراك الموجود وليس معرفته. اراد دوستوفسكي بعبارته معرفة المتكلم بكلامه قوله (تكلم كي اعرفك) كون كلام المتحدث اليه لا ينقل له صورته الشخصية وانما ينقل له افكاره التي تعرّف به. رؤية الشيء بابصاره النظري هو ادراكه الحسي فقط اي استلام الانطباعات الحسية المنقولة عن الحواس وليس معرفته كماهية وجوهر وصفات وعلاقات بغيره. والادراك الحسي انطباع اولي مؤقت محكوم بالزوال في طريقة داخل المنظومة العقلية وصولا للدماغ. ادراك الشيء بالحواس مرحلة اولى في سلسلة تراتيبية منظومة العقل الادراكية، رؤية الشيء معناه ان تدركه بصفاته الخارجية الحسية ولا تشمل هذه الرؤية الادراكية الاولية معرفة الشيء بالماهية او الجوهر. المعرفة اشمل من الادراك الحسي.

***

علي محمد اليوسف

البورافيدا هي فلسفة تركز على دراسة الواقع من خلال مجموعة من المفاهيم الأساسية التي تتعلق بالوجود والمعرفة. تتميز هذه الفلسفة بالتركيز على العلاقة بين الفكر والواقع، وكيفية تأثير الإدراك على فهمنا للعالم، تستكشف أسئلة حول ما هو موجود وما هو غير موجود، وكيف يمكننا التمييز بينهما، كما تبحث في كيفية اكتساب المعرفة، وماهية المصادر الموثوقة لفهم الواقع وتحلل كيف يؤثر الإدراك الحسي والفكري على فهمنا للواقع. تناقش هذه الفلسفة كيف يتفاعل الزمان والمكان مع وجود الأشياء وتجربتنا لها. تعتبر فلسفة بورافيدا جزءًا من النقاش الأوسع في الفلسفة المعاصرة حول طبيعة الواقع وتتداخل مع مجالات مثل الميتافيزيقا، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، مما يجعلها موضوعًا غنيًا للنقاش والتحليل.

الادراك

الإدراك هو عملية عقلية تتضمن تفسير المعلومات الحسية التي نتلقاها من البيئة. يشمل ذلك الرؤية، السمع، اللمس، الشم، والتذوق. في فلسفة بورافيدا، يُنظر إلى الإدراك على أنه ليس مجرد استقبال سلبي للمعلومات، بل هو عملية نشطة تتعلق بكيفية استجابة الحواس. على سبيل المثال، كيف تتفاعل العين مع الضوء وكيف تؤثر هذه التفاعلات على ما نراه، تعتبر البورافيدا- الإدراك -عملية متعددة الأبعاد وهو ليس الإدراك الفوري للمعلومات الحسية، مثل رؤية شيء أو سماع صوت لكن يتضمن تفسير المعاني والدلالات المرتبطة بالمعلومات الحسية. هذا يمكن أن يتأثر بالثقافة، التعليم، والخبرات الشخصية. تعتبر (بورافيدا) أن الإدراك يعمل كمرشح يحدد كيف نختبر الواقع. يؤدي ذلك إلى تفسيرات مختلفة لنفس الظاهرة بناءً على الخلفيات الثقافية أو الشخصية. تعزز هذه الفلسفة فكرة أن كل شخص قد يدرك الواقع بطريقة مختلفة، مما يعني أن الحقيقة قد تكون نسبية وتعتمد على الإدراك الفردي. تؤكد (البورافيدا)على أن اللغة تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل الإدراك. الكلمات والمفاهيم التي نستخدمها تُحدد كيف نفهم ونفسر تجاربنا. مما يعني أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي عنصر أساسي في كيفية تشكيل إدراكنا للواقع. مفهوم الإدراك في (بورافيدا)هو عملية معقدة تتداخل فيها الحواس والعقل واللغة والثقافة. يتطلب الإدراك دراسة كيفية تأثير هذه العناصر على فهم الواقع في فلسفة البورافيدا. العلاقة بين الإدراك والوعي تعتبر محورًا أساسيًا لفهم كيفية تفاعل الأفراد مع الواقع. الإدراك يعتبر عنصرًا أساسيًا في الوعي. لكي نكون واعين بشيء ما، يجب أن ندركه أولاً. بمعنى آخر، الإدراك يمد الوعي بالمحتوى الذي يمكن التفكير فيه والشعور به وهذه تحدث بشكل تلقائي، حيث يتم استقبال المعلومات الحسية ومعالجتها. هذه العمليات يمكن أن تكون سريعة وغير واعية، ويصبح الإدراك واعيًا عندما نركز على شيء معين أو نعطيه اهتمامًا. في هذه الحالة، يتحول الإدراك إلى تجربة واعية تتطلب الانتباه والتفكير. الإدراك والوعي يتأثران بالثقافة والخلفية الاجتماعية، يمكن أن يؤدي هذا التأثير إلى اختلافات في كيفية إدراك الأفراد للأشياء وكيفية وعيهم بتجاربهم. في (بورافيدا)، يُعتبر هذا الاختلاف جزءًا من التنوع البشري. كما تؤثر العلاقة بين الإدراك والوعي على كيفية اتخاذ القرارات. الإدراك يوفر المعلومات اللازمة، بينما الوعي يساعد في تقييم هذه المعلومات والتفكير في العواقب. تتداخل المدارس الفكرية المختلفة في فلسفة بورافيدا، حيث أن كل مدرسة تقدم رؤى فريدة ولكنها ليست منفصلة تمامًا. يمكن أن تتبنى المدرسة التجريبية فكرة أن الإدراك الحسي هو الأساس، وتستفيد من العقلانية في تفسير تلك الإدراكات. أي أن الأفراد قد يدركون تجاربهم الحسية، ثم يستخدمون العقل لتحليل هذه التجارب. يمكن أن تتفاعل المدرسة الظاهرية مع المدرسة الثقافية من خلال دراسة كيف تؤثر السياقات الثقافية على التجارب الفردية. يمكن أن تتداخل المدرسة النفسية مع المدرسة الروحية في فهم كيف تؤثر الحالة النفسية على التجارب الروحية. فالعواطف والمشاعر قد تلعب دورًا في كيفية إدراك الأفراد للواقع الروحي. يمكن للعقلانية أن تتفاعل مع المدرسة الثقافية من خلال تحليل كيف يمكن أن تختلف طرق التفكير العقلاني من ثقافة إلى أخرى. مثلاً، ما يُعتبر منطقيًا في ثقافة معينة قد لا يُعتبر كذلك في أخرى. جميع المدارس تتعامل مع الإدراك والوعي كعنصر أساسي، مما يعني أن هناك الكثير من النقاط المشتركة. يمكن أن تستند كل مدرسة إلى أفكار خاصة لتعزيز فهمها الخاص.

البورفيدا والفلسفة الوجودية

علاقة بورافيدا بالفلسفة الوجودية مثيرة للاهتمام، حيث تتقاطع الأفكار في عدة نقاط رئيسية. رغم انهما تؤكدان على أهمية التجربة الشخصية والفردية، حيث تُعتبر الوجودية أن الأفراد هم الذين يخلقون معاني حياتهم من خلال تجاربهم الخاصة وتضع الحرية والاختيار في قلب التجربة الإنسانية، حيث يُعتبر الأفراد مسؤولين عن خياراتهم ونتائجها، لكن الوجودية تنتقد كيف يمكن أن يؤدي الإدراك الواضح إلى مشاعر الاغتراب والقلق. ان موضوع القلق والاغتراب جزء من تجربة الوجود، حيث يواجه الأفراد المعنى في عالم تتعارض فيه الفكرة التقليدية ،وهي أن الماهية تسبق الوجود، وتؤكد أن الأفراد يخلقون ماهيتهم من خلال أفعالهم وقراراتهم. بالرغم من تداخل بورافيدا مع الفلسفة الوجودية من خلال التركيز على التجربة الفردية، الحرية، القلق، والبحث عن المعنى، وكلاهما يُظهر كيف أن الإدراك والوعي يلعبان دورًا مركزيًا في تشكيل فهم الأفراد لوجودهم وتجاربهم. هذه العلاقة يجب ان تبرز أهمية التفكير النقدي والتأمل الذاتي في رحلة البحث عن المعنى. يُعتبر هذا المفهوم من أساسيات الوجودية السارترية، حيث يرى أن الأفراد يخلقون ماهيتهم من خلال أفعالهم وقراراتهم (الوجود يخلق الماهية). عكس البورفيدا التي تؤكد ان لا توجد طبيعة إنسانية ثابتة(وجود) تسبق الفرد وتتماشى مع هذا الفكر من خلال تأكيدها على أن الإدراك والتجربة الفردية يساهمان في تشكيل الواقع الشخصي، مما يعني أن الأفراد يحددون معاني حياتهم من خلال خبراتهم وهنا تبرز فكرة الحرية المطلقة، حيث يتحمل الفرد مسؤولية خياراته ونتائج أفعاله. هذه الحرية تأتي مع عبء القلق والاغتراب وتركز على كيف أن الإدراك وتؤثر على خيارات الأفراد، مما يسلط الضوء على أهمية الوعي في اتخاذ القرارات. البورفيدا تعترف أيضًا بأن إدراك الواقع يمكن أن يكون مشوهًا، مما يؤثر على القدرة على الاختيار بحرية وهذا يُشير إلى أن القلق هو نتيجة للحرية المطلقة، حيث يشعر الأفراد بالضغط الناتج عن مسؤولياتهم. الاغتراب يأتي من عدم العثور على معنى في عالم يبدو عشوائيًا. تحاول البورفيدا ان تعالج كيف يمكن أن يؤدي الإدراك غير الواضح أو المشوه إلى مشاعر القلق والاغتراب، مما يُظهر كيف أن الواقع الذي يدركه الفرد يؤثر على حالته النفسية هذا يشير إلى أن الإدراك غير الواضح لا يمكن أن يساعد الأفراد في فهم تجاربهم، مما يُعزز فكرة أن الأفراد يطورون معاني خاصة بناءً على كيف يرون العالم من حولهم. يركز مفهوم "الوعي" كحالة من الانتباه الذاتي، حيث يُعتبر الوعي أداة لفهم الذات والواقع وتدعم هذا من خلال التأكيد على أن الإدراك هو عملية نشطة تتطلب تفاعلًا بين الحواس والعقل، مما يساهم في فهم أعمق للذات والواقع. علاقة بورافيدا بالوجودية السارترية تتجلى في التركيز على الحرية، الاختيار، القلق، والبحث عن المعنى. كلا الفلسفتين تشددان على أهمية التجربة الفردية والإدراك في تشكيل واقع الأفراد ومعانيهم. هذه العلاقة تعكس الفهم العميق للتعقيد الإنساني وتجربة الوجود. العلاقة بين الوعي والإدراك المشوه في بورافيدا والوعي الوجودي في تحقيق المعنى هي موضوع معقد يبرز كيفية تتفاعل هذه المفاهيم في فهم التجربة الإنسانية. توضيحًا لهذه العلاقة يكون الادراك مشوهًا بسبب عوامل متعددة، مثل الثقافة، الخلفية الاجتماعية، أو التجارب الشخصية. هذا التشتت يمكن أن يؤدي إلى فهم غير دقيق للواقع في حين يعتبر الوعي هو الحالة التي نكون فيها مدركين لتجاربنا وأفكارنا ومشاعرنا. في(بورافيدا)، الوعي يتضمن الانتباه إلى كيفية إدراكنا للعالم من حولنا، ويعتبر الأداة التي نستخدمها للتفاعل مع تجاربنا في هذا السياق، الوعي يُعتبر أداة رئيسية، حيث يمنح الأفراد القدرة على التفكير في خياراتهم ونتائجها، اذ يُعتبر البحث عن المعنى جزءًا أساسيًا من الوجود، حيث يسعى الأفراد إلى إيجاد قيم وأهداف في عالم قد يبدو عشوائيًا، إذا كان الإدراك مشوهًا، قد يؤثر ذلك سلبًا على قدرة الفرد على تحقيق المعنى. على سبيل المثال، إذا كان الشخص يدرك العالم بطريقة سلبية أو غير واقعية، قد يواجه صعوبة في رؤية الخيارات المتاحة أمامه. من خلال تعزيز الوعي، يمكن للأفراد التعرف على تشوهات الإدراك وبدء عملية إعادة تقييم تجاربهم. هذا يؤدي إلى فهم أعمق للذات والواقع، مما يساعد في تحقيق المعنى ويُساعد الأفراد في تحدي إدراكاتهم المشوهة. من خلال التفكير النقدي والتأمل الذاتي، يمكنهم تحديد كيف تؤثر تجاربهم على فهمهم للعالم عندما يصبح الأفراد أكثر وعيًا بتجاربهم، يمكنهم البدء في البحث عن معاني جديدة تتجاوز الإدراك المشوه. هذا البحث يمكن أن يؤدي إلى تجارب غنية وذات مغزى. تتفاعل مفاهيم الوعي والإدراك المشوه في (بورافيدا) خلافا للوعي الوجودي في تجاوز المعنى. بينما يمكن أن تؤثر تشوهات الإدراك على قدرة الأفراد على فهم حياتهم، فإن تعزيز الوعي الوجودي يساعدهم في تحدي تلك التشوهات والبحث عن معانٍ أكثر عمقًا. هذه الديناميكية تعكس أهمية التفكير النقدي والتأمل في رحلة البحث عن المعنى. التأمل يلعب دورًا حيويًا في عملية البحث عن المعنى وتجاوز الإدراك المشوه. يمكن أن يكشف التأمل عن الأنماط السلبية في التفكير التي تؤدي إلى إدراك مشوه، مما يساعد الأفراد على التعرف على الأفكار التي تعيق نموهم الشخصي التأمل يمكن أن يساعد في تصفية المعلومات الحسية، مما يتيح للأفراد رؤية الأشياء بشكل أكثر وضوحًا ودقة. هذا يساعد في تقليل المشوهات الناتجة عن التحيزات أو الآراء المسبقة.

***

غالب المسعودي

 

كان رئيس الوزراء البريطاني السابق ريشي سوناك قدم مقترحات في إعادة هيكلة التعليم العالي في المملكة المتحدة، استهدفت خصيصا التخصصات الجامعية ذات المردود المالي المنخفض، تلك المقترحات أشعلت نقاشا وقلقا حول تضاؤل الرؤية للتعليم العالي. سياسة خفض عدد الطلاب المسجلين في كورسات معينة، وخاصة في الانسانيات ومن ضمنها الفلسفة، تفاقم الإنقسام الطبقي الحالي وتقيّد كثيرا الوصول الى تعليم واسع. مثال على ذلك هو غلق أقسام الفلسفة والذي يوضح التحول الواسع في التعليم العالي نحو السياسات الموجهة نحو السوق. قرار جامعة كانت بغلق قسم الفلسفة هو تجسيد لهذه النزعة. ان إلغاء برامج الفلسفة يوضح تزايد التسليع (التعامل مع الشيء كسلعة) في التعليم ويثير اسئلة حول دور التعليم العالي في تعزيز فهم أساسي للوجود الانساني والهياكل المجتمعية. فهل الجامعات هي مجرد قنوات للتوظيف، او انها يجب ان تكافح للحفاظ على التزامها الطويل الأمد بالتنوع الفكري والتطور الشمولي؟
الفلسفة كحقل، كانت أساسية في تطوير المهارات النقدية والتحليلية القابلة للتطبيق على مختلف الحقول. انها تشجع الطلاب على تحليل وفهم المشاكل المعقدة، وهي مقدرة حاسمة في عالم سريع التغيير. ان غلق اقسام الفلسفة معناه تضييق دور الجامعة كمؤسسة تتبنّى بناء مهارات تحليلية بالمعنى الاكثر شمولا. خسارة برامج الفلسفة يمكن ان يُضعف التزام الجامعة في تشجيع المواطن على الانخراط النقدي. الفلسفة تعلّم الطلاب ليس فقط التفكير، وانما التفكير حول التفكير ذاته، التحقيق في مجالات مثل السياسة والمنطق والايبستيمولوجي. هذه المجالات من الدراسة حيوية لتنشئة افراد مفكرين ومطلعين يمكنهم المساهمة القيّمة في المجتمعات الديمقراطية. ان الغلق يمثل ايضا تحولا في القيم المجتمعية، حيث يُنظر باستمرار للعلوم الانسانية باعتبارها أقل قيمة او تطبيقية مقارنة بالحقول الأربع الشائعة (الرياضيات والهندسة والعلوم والتكنلوجيا). هذا الاتجاه يقود الى انخفاض في تنوّع الرؤى والمهارات لدى قوة العمل والمجتمع بشكل عام.
دور التعليم العالي في عالم اليوم
هذا الاتجاه الليبرالي الجديد في التعليم العالي، الذي يركز على قيم السوق والمردود الاقتصادي، يشكّل تحديات هامة للدور التقليدي للجامعات كأماكن للتعلم والانخراط النقدي. انه يرسخ إعادة تقييم لما له قيمة في التعليم ويثير اسئلة هامة حول نوع المعرفة والمهارات الهامة للافراد وللمجتمع ككل. هذا الاتجاه يتجاهل القيمة الجوهرية للتعليم في غرس الفهم الاخلاقي. تاريخيا، فلاسفة مثل كانط وجون ستيوارت مل أكدوا على دور التعليم في تطوير مواطنين أخلاقيين. فكرة كانط عن "الشجاعة في استخدام العقل" تشدد على أهمية استخدام العقل والفهم كوسيلة للتنوير. دعوة مل لحرية الفرد والتنوع الفكري تتماشى مع الفكرة بان مختلف الخيارات التعليمية هي ضرورية لمجتمع تقدمي نابض بالحياة.
هذه الأهمية للمهارات المطورة من خلال دراسة الفلسفة تصبح بشكل متزايد بارزة في معالجة القضايا المعاصرة مثل تقلبات المناخ والاوبئة العالمية والعدالة الاجتماعية. الفلسفة ليست فقط سعي اكاديمي وانما أداة حيوية في فهم تعقيدات عالمنا المعاصر والاستجابة لها. التفكير النقدي، وهو المظهر الاساسي للفلسفة، يجهز الافراد بأدوات لتحليل وتقييم الحجج، وتشخيص الافتراضات الاساسية، والتحقق من صلاحية المعلومات، التي هي بالذات حاسمة في عصر يتسم بالمعلومات المضللة والتطور السريع للروايات. تأكيد الفلسفة على التفكير الاخلاقي يُعد هاما بنفس المقدار. أمام تقلبات المناخ تلعب الاعتبارات الاخلاقية دورا محوريا في صناعة القرار. التدريب الفلسفي يشجع الافراد للتأمل في المضامين الأوسع للافعال، ودراسة ليس فقط التأثيرات المباشرة وانما النتائج الطويلة الأمد على البيئة وأجيال المستقبل. الفلسفة ترعى معنى المسؤولية الاخلاقية والتعامل مع المآزق الاخلاقية التي تفرضها تقلبات المناخ، مثل توزيع الموارد وحقوق مختلف الاطراف بما في ذلك اولئك الأكثر تأثراً بالتغييرات البيئية.
ونفس الشيء، بالنسبة للاوبئة العالمية، توفر الفلسفة أدوات نقدية تجاه اخلاق الصحة العامة، الحريات الفردية مقابل الرفاهية الجماعية، وحقوق متساوية بموارد الرعاية الصحية. الفيلسوف الرواقي ماركوس ايرليوس الذي حكم الامبراطورية الرومانية اثناء وباء مدمر، يذكّرنا بقوله "ما هو غير جيد لخلية النحل، لايمكن ان يكون جيدا للنحل". لابد من التوازن بين رفاهية الفرد وخير الجماعة في مواجهة تحديات اليوم. التفكير الفلسفي يشتق تحليلات اساسية للهياكل المجتمعية ودورها في تفاقم او تخفيف كوارث الصحة العامة. انها تساعد في فهم الأبعاد الاخلاقية لقرارات السياسة مثل تحديد الاولويات في توزيع اللقاحات او فرض اجراءات العزل الصحي، وضمان ان تكون هذه القرارات ليست فقط عملية وانما ايضا اخلاقية وعادلة.
التحقيق الفلسفي يشجع على الفحص النقدي للمعتقدات الاجتماعية والقوانين والمؤسسات، وتطوير فهم عميق لتجارب ورؤى الجماعات المهمشة. في عالم العدالة الاجتماعية، لاغنى عن الفلسفة. انها تشجع الطلاب للنظر الى العدالة والمساواة وحقوق الانسان من وجهات نظر متعددة. فلاسفة مثل جون رولس، ونظريته في العدالة، ومايكل فوكو وتحليله لهياكل السلطة، يوفر اطرا حاسمة لفهم ومعالجة اللامساواة المنهجية .عبر تعزيز التعاطف والتفكير النقدي تساعد الفلسفة في خلق سياسات اجتماعية عادلة واكثر شمولا .
علاوة على ذلك، تعرض الفلسفة منظورا عالميا، ضروريا في عالم اليوم المترابط. انها تجادل الافراد لينظروا في ما وراء بيئتهم المباشرة الى الظروف الانسانية الاوسع. طبقا لكتاب العالمية cosmopolitanism : الاخلاق في عالم الغرباء لـ Kwame Anthony تتبنّى الفلسفة احترام الترابط بين الجاليات العالمية، وتطوير معنى المواطنة العالمية. هذه الرؤية العالمية هي حيوية في معالجة القضايا العابرة للحدود مثل الفقر العالمي، حينما يكون للافعال في جزء من العالم تأثيرا كبيرا في مكان آخر. في أوقات الاستقطاب السياسي الشديد، ومع وجود الروايات المتضادة والايديولوجيات المتصارعة، تصبح الحاجة الى التحقيق الفلسفي اساسية. الفلسفة تعلّمنا ليس فقط شرح وفهم الحجج وانما ايضا الطرح بمنظورات متنوعة، وتعزيز ثقافة الحوار والفهم بدلا من المواجهة. انها تشجع على فحص معتقدات وافتراضات المرء، وهي الممارسة الحاسمة لردم الانقسامات وتعزيز التماسك الاجتماعي.
تسليع التعليم العالي
تثير سياسات الحكومة قلقا حول المساواة في التعليم. عبر تخفيض قيمة الكورسات ذات المردود الاقتصادي المنخفض، تؤثر السياسة بشكل غير ملائم على الطلاب الاقل ثراء الذين ربما يُحبطون من متابعة الدراسة في العلوم الانسانية بسبب المخاوف من عدم التوظيف والديون. هذا يقود الى سيناريو يتمكن فيه فقط القادرين ماليا على الدراسة في موضوعات مثل الفلسفة، وبهذا، تستمر اللامساواة الاجتماعية. هناك مخاطرة في تفاقم اللامساواة الاجتماعية لأن الطلاب من الخلفيات الاجتماعية الاقتصادية المتدنية ربما يتجهون الى كورسات "تطبيقية" بينما الطلاب الاكثر ثراءً يمكنهم استكشاف نطاق واسع من الفرص الاكاديمية الضرورية للحراك الاجتماعي.
سياسة الحكومة في اجبار الجامعات بالحد من عدد الطلاب في تخصصات "منخفضة القيمة" يثير تحديا جوهريا للمفهوم التقليدي للتعليم كسعي للمعرفة ذاتها، وهو المبدأ الذي يتجذر في تقاليد العلوم الليبرالية. ان تخصيص قيمة لكورسات مرتكزة على مردودها الاقتصادي، يجعل السياسة تخاطر في تجاهل القيمة الجوهرية للموضوعات التي تعلّم فهم الثقافة الانسانية والتاريخ. هذه السياسة تعكس النزعة المتزايدة نحو نماذج التعليم الموجّه بالسوق في المملكة المتحدة حيث يتم تقييم الموضوعات الاكاديمية في الغالب حسب منفعتها الاقتصادية المباشرة. مع ذلك، في كتاب (ما لا يمكن شراؤه بالنقود: الحدود الاخلاقية للسوق)، يعبّر الكاتب مايكل ساندل عن قلق ذو صلة: (سؤال السوق هو في الحقيقة سؤال حول كيف نريد ان نعيش مع بعض. هل نريد مجتمعا كل شيء فيه للبيع؟ او هل هناك حاجات أخلاقية ومدنية معينة لا يقدّرها السوق ولا تستطيع النقود شرائها؟". التأكيد على المردود الاقتصادي يتجاهل المنافع المجتمعية الطويلة الاجل للدراية الجيدة في التفكير الفلسفي . هذا الاتجاه قد يهمش الموضوعات التي لا تتماشى مباشرة مع طلبات سوق العمل، فتضيّق نطاق التحقيق الاكاديمي والتنوع الفكري في التعليم العالي. في هذا الاطار، يُنظر الى الجامعات على نحو متزايد كمجهز خدمة، والطلاب يتم التعامل معهم كمستهلكين، في مشهد تعليمي تقرره قوى السوق بدلا من الاعتبارات الفكرية والاكاديمية وحدها. هذا التسليع الاكاديمي يغيّر بشكل اساسي الدور التقليدي للجامعات، مثيراً اسئلة هامة حول مسؤولياتها والتأثيرات المجتمعية الواسعة لمثل هذا التحول.
النظر للتعليم اساسا كسلعة تُشترى وتُباع له عدة مضامين. انه يعني ان قيمة التعليم هي اساسا او حصرا تتقرر بواسطة حركتها السوقية ومستقبل مردودها. هذا الاتجاه يميل لتفضيل موضوعات ذات مسارات واضحة ومباشرة للتوظيف، كما يحصل في الحقول التقنية او المهنية، بينما الموضوعات التي يُنظر لها ذات قيمة متدنية في الانسانيات والعلوم الاجتماعية ربما ليس لها منافع ملموسة مباشرة بالمعنى الاقتصادي.
كذلك، يقود نموذج المستهلك في التعليم الى تضييق التجربة التعليمية حيث يتم تشجيع الطلاب للتركيز على اكتساب مهارات معينة ذات طلب عالي في سوق العمل، على حساب اتجاه تعليمي اوسع واكثر شمولية. هذا يؤدي الى أجيال من الخريجين ذوي كفاءة فنية لكن تنقصهم مهارات التفكير النقدي والاساس الاخلاقي الضروري للمساهمة والمشاركة التامة في المجتمع الديمقراطي. كتاب Derek Bok (الجامعات في السوق) يحذر من ان تسويق التعليم العالي يشكل خطورة في تفضيل الربح على القيم التعليمية، مما يضعف الثقة العامة والاحترام ويتجاهل رسالة الجامعات في تربية مواطنين مطلعين. ومن النتائج الاخرى لهذا الاتجاه الخاضع للسوق هو تآكل الحرية الاكاديمية والتنوع الفكري. عندما تتنافس الجامعات على الطلاب والتمويل، تبرز مخاطرة في ان مجالات البحوث والكورسات الأقل شعبية وسوقية ستُمنع او توضع جانبا. هذا يقود الى نمطية العروض الاكاديمية وخسارة التنوع الفكري الثري الذي هو سمة مميزة للجماعات الاكاديمية النابضة بالحياة.
الدعوة الى اتجاه تعليمي متوازن
ان المهارات المطورة من خلال دراسة الفلسفة هي أكثر ملائمة من أي وقت مضى خاصة في العصر الحالي المتميز بالكوارث العالمية المتزايدة مثل المعلومات الخاطئة والاوبئة وقضايا العدالة الاجتماعية. الفلسفة تعد الافراد للابحار في مشهد المجتمع الحديث المثير للجدل والمتعدد الجوانب. اغلاق اقسام الفلسفة في هكذا سياق يبدو غير حكيم وله نتائج عكسية. عندما نواجه التحديات العالمية التي تتطلب عملا جماعيا وفهما عميقا للمضامين الاخلاقية والمجتمعية، فان حجب الفرص امام الطلاب للانخراط بالتفكير الفلسفي سيضعف القدرات في معالجة تلك القضايا بفاعلية. في عصر فيه وفرة المعلومات والمضللة احيانا، تشحذ الفلسفة المهارات التحليلية التي لا غنى عنها. التدريب الفلسفي يعلمنا الحكم الجيد وتمكين الافراد من التحقيق النقدي في المعلومات، وتحديد التحيزات وفهم الافتراضات الاساسية. هذه المهارة حاسمة للابحار في المشهد الرقمي المشبع بالمعلومات واتخاذ قرارات واعية في كلا المجالين الفردي والعام.
نستنتج، انه بينما تُعد مسايرة التعليم للاهداف الاقتصادية هامة، فان الحفاظ على اتجاه متوازن يقيّم كل الحقول هو ضروري. هذا يضمن ان الجامعات تستمر كمؤسسات تربي التفكير النقدي والواعي وكمواطنين مسؤولين اجتماعيا، وليس فقط كبوابة للعمل. من المهم ان نتذكر ان التعليم في جوهره هو حول توسيع الآفاق وتربية الاذهان النقدية وتشجيع الاحساس بالمسؤولية الاخلاقية، وهي صفات لا غنى عنها لتقدم ورفاهية المجتمع.
***
حاتم حميد محسن
......................
* The philosopher, 3 April, 2024

المجُتمع السائل يُمثل تحديًا، حيثُ يساعد الأفراد والمجتمعات الى التكيف مع التغيرات السريعة، واستكشاف الهويات والعلاقات بطرق جديدة. في المجتمع السائل، تفقد العلاقات التقليدية ثباتها، مما يزيد تعزيز العلاقات العارضة والفردية. الأفراد فيه يكونون أقل استقرارا و قدرة على إعادة تقييم التحولات مما يؤدي إلى صراعات جديدة. الضياع الهوياتي يشير الى إلى قدرة الأفراد على تغيير هوياتهم وتبني هويات جديدة بناءً على الظروف والسياقات المختلفة. الأفراد يمكنهم أن يكونوا جزءًا من عدة مجتمعات وهويات في وقت واحد، وسائل التواصل الاجتماعي تسهل التواصل مع ثقافات متعددة، مما يعزز من إمكانية تبني هويات جديدة وتغييرها بسهولة. الأزمات الاقتصادية، السياسية، والاجتماعية تؤدي إلى تغييرات سريعة في الهويات، حيث يتكيف الأفراد مع الظروف الجديدة. يزداد التركيز على الفردانية، ويسعى الأفراد لبناء هوياتهم الخاصة بعيدًا عن الهويات الجماعية التقليدية. اذ تؤدي الهوية المرنة إلى شعور بالضياع أو عدم الاستقرار، ويصبح من الصعب تحديد "من نحن" في عالم يتغير باستمرار وبسرعة. إن مفهوم الهوية المرنة في المجتمع السائل يعكس التحديات التي تواجه الأفراد في عالم معقد ومتغير. يتطلب ذلك من الأفراد التفكير بعمق في هوياتهم وكيفية تنقلهم بين مختلف الأدوار والبيئات، لكي يعززوا من مرونتهم في مواجهة التغيرات. تتطلب مواجهة عدم الاستقرار الهوياتي استراتيجيات متعددة، منها التوازن بين التكيف والتمسك بالجوهر الشخصي. من خلال تعزيز الوعي الذاتي، ويمكن للأفراد أن يجدوا طرقًا للتنقل بين الهويات المختلفة، حيث تساعد الهوية المرنة بوصفها استجابة للمخرجات الناتجة عن المجتمع السائل، بالرغم من انها ستترافق أيضًا مع مشاعر الانهيار الهوياتي، لكنها توفر فرصة للأفراد لتبني هويات متعددة، هذا يعكس تنوع التجارب الثقافية والاجتماعية. مع تعدد الهويات وتغيرها المستمر، يشعر الأفراد بعدم الاستقرار والضياع، بالتالي يؤدي هذا إلى مشاعر الانهيار الهوياتي. تؤدي الهوية المرنة إلى إعادة تقييم المبادئ التي تربى عليها الأفراد، لتجاوز صراعات داخلية. لكن رغم الانفتاح على هويات جديدة، يشعر البعض بالعزلة أو الفراغ نتيجة فقدان الارتباط بالهويات التقليدية. كون الهوية المرنة تمثل استجابة للأوضاع المعقدة التي يخلقها المجتمع السائل، لكنها تثير أيضًا تحديات تتعلق بالاستقرار الهوياتي. هذا يتطلب من الأفراد التوازن بين الاستفادة من مرونة الهويات وبين الحفاظ على شعور بالاستقرار والانتماء.

الهوية المرنة والضياع الهوياتي

الهوية المرنة والضياع الهوياتي مفهومين مرتبطين بشكل وثيق في سياق المجتمع السائل. الهوية المرنة تشير إلى القدرة على تغيير وتكييف الهوية وفقًا للسياقات المختلفة. تعكس هذه الهوية قدرة الأفراد على الانفتاح على تجارب جديدة وتبني هويات متعددة. يمكن أن تتضمن الهويات الثقافية، المهنية، الاجتماعية، والشخصية. الضياع الهوياتي يشير إلى عدم الانتماء أو فقدان الهوية بسبب التغيرات المستمرة والضغوط الاقتصادية و الاجتماعية. يشعر الأفراد بفقدان القيم والمبادئ الأساسية التي تحدد هويتهم. في بعض الحالات، بالرغم من ان الهوية المرنة تساعد الأفراد على تجاوز الأزمات الهوياتية، تتيح لهم إعادة تشكيل هويتهم بطرق إيجابية لكن في ظل الضغوط المستمرة، يصبح من الصعب الحفاظ على شعور قوي بالهوية، مما يقود إلى صراعات داخلية، الهوية المرنة لا تقدم فرصًا جديدة للنمو والتكيف، لكنها تؤدي إلى شعور بالتوازن مع الضياع الهوياتي إذا تم إدارتها بشكل فعال، يتطلب الأمر من الأفراد الوعي الذاتي والتفكير العميق للتوازن بين الاستفادة من مرونة الهويات والحفاظ على شعور بالاستقرار والانتماء. لكن المشكل سيكون اكثر تاثيراً على مستقبل الجماعات عندما يتحول الى الضياع الهوياتي الى ضياع جماعي. أدت عمليات الاستعمار الأوروبية في القرن التاسع عشر والعشرين إلى فقدان الهويات الثقافية الأصلية للعديد من الشعوب الأفريقية. تم فرض نظم جديدة للسلطة واللغة، مما أدى إلى تآكل الهويات التقليدية. عانت الشعوب الأصلية من فقدان هويتها نتيجة الاستعمار الأوروبي، حيث تم استبدال ثقافاتهم ولغاتهم بعادات المستعمرين. أدت هذه الحروب إلى تغييرات جذرية في الهويات الوطنية. فقدت العديد من الدول إحساسها بالاستقرار والأمان، مما ساهم في شعور جماعي بالضياع والهزيمة. كذلك أدت الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر إلى تحولات كبيرة في الهويات الاجتماعية. انتقل الناس من الريف إلى المدن، مما أدى إلى فقدان الروابط القوية مع الهوية التقليدية. في العصر الحديث، أدت العولمة إلى ضياع الهويات التقليدية في العديد من الثقافات. أصبح من الصعب الحفاظ على الثقافات المحلية في ظل الانفتاح على الثقافات الغربية. هذا يظهر كيف يمكن أن تؤدي التغيرات السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية إلى فقدان الهويات الجماعية، مما يسبب شعورًا بالضياع وعدم الانتماء. يعكس هذا الضياع تحديات كبيرة تواجه المجتمعات في سعيها للحفاظ على هويتها في ظل الظروف المتغيرة.

الشتات والضياع الهوياتي

الشتات هو مفهوم يشير إلى تشتت مجموعة من الناس بسبب النزوح القسري أو الهجرة، وغالبًا ما يكون نتيجة نزاعات سياسية، حروب، أو ظروف اقتصادية. يرتبط الشتات ارتباطًا وثيقًا بمفهوم (الضياع الهوياتي)، حيث يواجه الأفراد في الشتات تحديات كبيرة في الحفاظ على هويتهم الثقافية والاجتماعية. تؤدي النزاعات المسلحة إلى نزوح الأفراد من موطنهم بحثًا عن الأمان. الفقر والبطالة قد يجبران الأفراد على الهجرة إلى مناطق أخرى بحثًا عن فرص أفضل. قد يهاجر الأفراد بسبب الاضطهاد السياسي أو وجود أنظمة قمعية. في الشتات، يجد الأفراد صعوبة في الحفاظ على تقاليدهم وثقافاتهم الأصلية، مما يؤدي إلى تآكل الهوية الثقافية. قد يؤدي فقدان اللغة الأم إلى صعوبة في التواصل مع الأجيال الجديدة، مما يساهم في الضياع الهوياتي. في بعض الأحيان، يسعى الأفراد للاندماج في المجتمعات الجديدة، مما يدفعهم إلى التخلي عن هوياتهم الأصلية. يمثل الشتات تحديًا هائلًا للهوية الفردية والجماعية. بينما يمكن أن يؤدي إلى ضياع بعض جوانب الهوية. من المهم أن تعمل المجتمعات المهاجرة على إيجاد توازن بين الحفاظ على هويتها الأصلية والتكيف مع البيئات الجديدة.

الهوية ضرورة حضارية ام شكلانية لا تحمل اي معنى؟

الهوية تقدم للأفراد إحساسًا بالانتماء، وتساعدهم على فهم مكانتهم في العالم. هي تعبير عن الثقافة، التاريخ، والقيم التي تشكل المجتمعات. من خلال الحفاظ على الهوية، يمكن للمجتمعات المحافظة على تراثها الثقافي وقيمها التقليدية، مما يسهم في استمراريتها. الهوية تعزز من الروابط بين الأفراد، مما يسهم في بناء مجتمعات أكثر تماسكًا وتعاونًا. يعمل نظام التفاهة إلى تهميش القيم العميقة والمعاني الحقيقية، حيث يتم التركيز على الشكلانية الفارغة والمظاهر. في هذا السياق، قد تصبح الهويات شكلانية ومجرد تعبيرات فارغة، حيث تفتقر إلى العمق والمعنى، مما يؤدي إلى شعور بالضياع. تساهم وسائل الإعلام والتكنولوجيا في ترويج الهويات السطحية، مما يجعل الهوية تتحول إلى منتج قابل للاستهلاك بدلاً من كونها جزءًا من التجربة الإنسانية العميقة. في ظل نظام التفاهة، قد يواجه الأفراد صعوبة في تشكيل هوياتهم الحقيقية، مما يؤدي إلى شعور بالفراغ وعدم الانتماء. يمكن أن تتيح الفضاءات الرقمية للأفراد استكشاف هوياتهم بطرق جديدة، مما يرسخ تنوع الهويات الثقافية وفرديتها. بالتالي الهوية ليست مجرد شكلانية، بل هي ضرورة حضارية تعكس التجارب والقيم العميقة للمجتمعات. مع ذلك، في ظل نظام التفاهة، يمكن أن تتعرض هذه الهوية للخطر، مما يتطلب من الأفراد والمجتمعات الوعي بأهمية الحفاظ على المعاني العميقة والجوهرية لهوياتهم. يجب أن يسعى المجتمع إلى تعزيز الهويه الحقيقية ومواجهة التحديات التي تفرضها الثقافة الاستهلاكية. ان فقدان الهوية بسبب التفاهة هو مفهوم يعكس كيف يمكن أن تؤثر القيم السطحية والمظاهر على التجارب الثقافية والمعنوية للأفراد. كثير من الثقافات تم تحويلها إلى منتجات قابلة للاستهلاك، مما أدى إلى فقدان المعاني العميقة التي كانت تحملها. أدى التركيز على الإنتاجية والاستهلاك إلى تهميش القيم الإنسانية والاجتماعية، مما أثر على الهوية الجماعية. العديد من المجتمعات الأصلية تعرضت لمحاولات طمس هويتها الثقافية من قبل القوى الاستعمارية بشكل مباشر او غير مباشر. تم فرض لغات وثقافات جديدة على السكان الأصليين، مما أدى إلى فقدان الهويات التقليدية. في العديد من الحالات، تم اعتبار الثقافات الأصلية "متخلفة"، مما ساهم في فقدان الثقة بالنفس والهوية. مع مرور الوقت، قد تتلاشى اللغات الأصلية، مما يؤدي إلى فقدان جزء كبير من الهوية الثقافية. في بعض المجتمعات، أدت التغيرات في القيم الاجتماعية إلى تآكل الهويات التقليدية. على سبيل المثال، التركيز على الاستهلاك والنجاح الشخصي يمكن أن يساهم في تهميش القيم الجماعية. يظهر هذا كيف يمكن أن تؤدي القيم السطحية والتفاهة إلى فقدان الهويات الثقافية والاجتماعية. من المهم أن تدرك المجتمعات التحديات التي تفرضها هذه الظواهر وأن تسعى للحفاظ على معاني هوياتها العميقة في ظل التغيرات المستمرة.

فقدان الهوية في السياق العربي

بالطبع، هناك العديد من الأمثلة المحددة لفقدان الهوية في السياق العربي، والتي تعكس تأثير الظروف السياسية، الاجتماعية، والاقتصادية. خلال فترة الاستعمار، تم فرض اللغة الفرنسية والثقافة الغربية على الجزائريين، مما أدى إلى تآكل الهوية الثقافية العربية والأمازيغية. وحاول الاستعمار محو التاريخ والتراث الثقافي للشعب الجزائري.الذي أدى إلى تغييرات جذرية في التعليم واللغة، مما أثر على الهوية وصراعات داخلية، في بعض الحالات، تم استغلال هذه الفوضى من قبل الجماعات المتطرفة لترويج هويات بديلة .النزوح الجماعي للسكان بسبب النزاعات، في بعض البلدان العربية، أدى إلى فقدان الهوية الثقافية لأعداد كبيرة من الناس، حيث يعيش الكثيرون في اماكن جديدة بعيدًا عن تراثهم. هذا التحول يعكس فقدان الهوية الثقافية. تزايد تأثير الثقافة الغربية من خلال وسائل الإعلام أدى إلى ترويج قيم ومظاهر تكون متعارضة مع القيم الثقافية العربية، مما ساهم في تآكل الهوية الثقافية. في ظل العولمة، أصبحت العديد من الدول العربية تعتمد على ثقافة الاستهلاك، مما أدى إلى تهميش القيم التقليدية والتراثية. هذا التحول يمكن أن يؤدي إلى فقدان الهوية الثقافية التي كانت قائمة على القيم المجتمعية. بعض الدول العربية تتجه نحو تسويق ثقافتها كمنتج سياحي، مما يؤدي إلى تشويه المعاني الحقيقية للثقافة لصالح سطحية الاستهلاك. يواجه العديد من المهاجرين العرب تحديات في الحفاظ على هويتهم الثقافية في ظل ضغوط الاندماج في المجتمعات الغربية. يؤدي ذلك إلى تآكل بعض جوانب الهوية الأصلية. هذه الأمثلة توضح تأثير العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية على الهوية في السياق العربي. من المهم أن تدرك المجتمعات العربية هذه التحديات وتسعى للحفاظ على هويتها الثقافية في ظل الظروف المتغيرة.

***

غالب المسعودي

يشير الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو إلى وجود مجموعة من الحواجز التي تعمل على ضمان وحراسة الفضاء الخطابي والتقليل من الذوات المتكلمة. وتكمن هذه الإجراءات في مراقبة الخطابات، إلا أن الأمر هذه المرة، لا يتعلق بالتحكم في السلطة التي تحملها الخطابات، ولا بالحد من صدف ظهورها، بل بتحديد شروط استخدامها، وبفرض عدد من القواعد على الأفراد الذين يلقونها، ومن ثمة بعدم السماح لكل الناس بالدخول إليها... في هذه المرة يتعلق الأمر بالقليل من عدد الذوات المتكلمة؛ لن يدخل أحد في نظام الخطاب إذا لم يكن يستجيب لبعض المتطلبات، أو إذا لم يكن مؤهلاً للقيام بذلك، منذ البداية. وتتألف هذه المجموعة من ثلاث إجراءات، وهي:

الأولى جمعيات الخطاب، وتكمن وظيفتها في الحفاظ على الخطابات أو انتاجها، لكنها تفعل ذلك لكي تجعل هذه الخطابات تتداول في مجال مغلق، ولئلا توزعها إلا على وفق قواعد مضبوطة وبدون أن يؤدي هذا التوزيع نفسه إلى تجريد أصحابها منها،وبالتالي فالعمل الذي تقوم به مجمعيات الخطاب في أن هذه الأخيرة تضمن تداول الخطاب داخل مجال مغلق، حسب قواعد مضبوطة.

ويؤكد فوكو على أنه لم يبق هناك بتاتاً ما يماثل جمعيات الخطاب هاته، مع ما يصاحبها من لعب مبهم بين السر والانتشار، لكن يجب ألا يخدعنا ذلك؛ فحتى ضمن نظام الخطاب الحقيقي، وحتى ضمن نظام الخطاب المنشور والمتحرر من كل الطقوس، فإنه ما تزال تمارس أشكال من تملك السر ومن عدم قابلية التبادل الداخلي. ومهمة هذا الإجراء هو الحفاظ على الخطاب، وعلى تداوله في نطاق ضيق، وجعل مجاله مغلقاً قدر الإمكان، كالأسرار التقنية أو التكنولوجية والعسكرية والاقتصادية.

ويقارن فوكو ما بين الخطاب الأوربي والخطاب الشرقي، فيقول: بدل المعرفة المحتكرة والسرية في الاستبداد الشرقي، تقدم أوروبا مثالاً معكوساً، التواصل الشمولي للمعرفة والتبادل اللامحدود والحر للخطابات. وهذا ما لم يفقهه فوكو، خصوصاً في الآونة الأخيرة، لأن منطق الاحتكار والاستبداد ولد من رحم الفكر الكولونيالي الغربي. 

في قبال جمعيات الخطاب، هناك المذاهب الدينية والفلسفية والسياسية، والتي تمثل نقيضاً لجمعيات الخطاب، فإن عدد الأفراد المتكلمين في جمعية الخطاب، حتى ولو لم يكن محدداً بالضبط، فهو يميل إلى أن يكون محصوراً؛ ولا يمكن تداول أو تناقل الخطاب إلا بين هؤلاء، أما المذهب فيميل إلى الانتشار؛ وبواسطة الاستعمال المشترك لنفس المجموعة الواحدة من الخطابات يعرف عدد من الأفراد –مهما تخيلنا عددهم- انتمائهم المتبادل، وهي وإن كانت ميالة للانتشار، إلا أنها تدخل في سياق إجراءات مراقبة الخطاب والتحكم فيه، ما دامت تضبط في آن واحد صيغة الملفوظ والذات المتكلمة انطلاقاً من نظام تعبيري محدد سلفاً، يمنع نشوء أنماط من التعبير ويسمح ببعضها الآخر ضماناً لربط الأفراد فيما بينهم وتمييزهم عن الآخرين غير المنضوين في المذاهب.

ويتعلق الانتماء المذهبي، في نفس الوقت، بالمنطوق وبالذات المتكلمة ويسائل أحدهما الآخر، فهو يسائل الذات المتكلمة من خلال المنطوق وانطلاقاً منه، كما تبرهن على ذلك إجراءات الإبعاد وآليات الرفض التي تأتي لتمارس عملها عندما تصوغ الذات المتكلمة منطوقاً أو عدة منطوقات غير متشابهة.

فالسمة البارزة في المذاهب هي الانتشار، والقاعدة الأساسية هي الاعتراف بنفس الحقائق، وهو ما يحقق الانتماء المذهبي، وأما من يخالف المذهب يعتبر بدعة، لذلك تعتبر المذاهب شروط وحدود لتداول الخطاب وتعميم لوظائفه داخل المذهب الديني والفلسفي أو السياسي، وهدفه إخضاع الذوات والجماعات المنتمية لخطاب المذهب. وبحسب فوكو، يطرح المذهب مسألة المنطوقات انطلاقاً من الذوات المتكلمة، من حيث أنه يصلح دوماً للاستعمال كعلامة وكتجل، وكأداة لانتماء مسبق، سواء كان هذا الانتماء طبقي أو انتماء لثورة أو لمقاومة... المذهب أخيراً، يحقق إخضاعاً مزدوجاً: إخضاع الذوات المتكلمة للخطابات، وإخضاع الخطابات لجماعة الأفراد المتكلمين، ولو كانت جماعة ضمنية على الأقل.

ينتقل فوكو بعد ذلك إلى الإجراء الثالث من هذه المجموعة، وهو التملك الاجتماعي للخطابات، فهي الأداة التي تحقق الاندماج الشرعي للأفراد داخل فضاء الخطاب. ويتحدث فوكو في هذا المجال عن مسألة تقنين الخطاب. فيرى إن للتربية الحق قانونياً في أن تكون هي الأداة التي يمكن بفضلها لكل فرد أن ينخرط في أي نوع من أنواع الخطاب، وتعتبر التربية والتعليم الأداة الأساسية التي تمكن من امتلاك الخطاب، وأي نوع من أنواع الخطاب، إلا أنه وكما هو معروف، فإن المنظومة التربوية لا يمكن فصلها عن الاستراتيجية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمجتمع معين، فكل منظومة تربوية عبارة عن طريقة سياسية للإبقاء على تملك الخطابات أو لتعديل هذا التملك، بجانب ما تحمله هذه الخطابات من معارف وسلط.

وفي كل الأحوال، فإن جماعات الخطاب والمذاهب والتربية أو التملك الاجتماعي للخطابات، تمثل الأشكال الأساسية الكبرى التي تحدد وظيفة الخطاب وتداوله وملكيته، متعاونة مع المنظومة الخارجية والداخلية في مراقبة الخطاب والحد من سلطته. وينتهي ميشيل فوكو إلى القول: أن الحضارة الغربية تبدو أكثر الحضارات احتراماً للخطاب، لكنها في الواقع هي أكثر الحضارات منعاً ومراقبة له، لقد قيدته بافتراض حقائق مثالية تكون قانوناً له، بإقامة أخلاق للمعرفة تبحث عن لذة اليقين، فمنذ طرد شبح السفسطائي أصبح للخطاب أضأل موقع بين الفكر الكلام، ويبدو أن الفكر الغربي قد حرص على أن تظهر ممارسة الخطاب كنوع من التفاعل بين فعل التفكير وفعل الكلام، سيكون الخطاب فكراً مكسواً بعلاماته، فكراً جعلته الكلمات مرئياً، أو على العكس من ذلك ستكون هذه الكلمات هي نفس بنيان اللغة المستعملة والمنتجة لمفعول المعنى.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

في مقالٍ سابق نُشر على صفحات جريدة الصباح، تكلّمنا عن الإجراءات الخارجية في مراقبة الخطاب، فينتهي فوكو من الإجراءات الخارجية التي تمارس الرقابة على الخطاب، ليؤسس بعد ذلك إلى منظومة أخرى ولكنها داخلية، أي تتعلق بالخطاب نفسه، وتمارس المراقبة عليه داخلياً، وتعمل هذه الاجراءات على شكل مبادئ التصنيف والتنظيم والتوزيع كما لو أن الأمر يتعلق هذه المرة بالتحكم في بعد آخر من أبعاد الخطاب: بعد الحدث والصدفة. وهي بحسب فوكو ثلاثة، مبدأ التعليق، والمؤلف، والفروع المعرفية أخيراً.

وأول ما يشير إليه فوكو في هذا المجال، هو التعليق. فيمارس كل مجتمع عملية انتقاء داخل الخطابات التي تكوّن الثقافة، فهناك الخطابات الظرفية التي تذهب وتضيع عندما تنطق، بينما هناك خطابات تتحول إلى نصوص يعاد قولها وإنتاجها، وهذه النصوص هي موضوع التعليق. ويذهب فوكو إلى أنه ليس هناك مجتمع لا توجد فيه محكيات كبرى يتم سردها وترديدها وتنويعها، ومجموعات من الخطابات التي اضيفت عليها ببعض الطقوس بحيث يتم سردها حسب ظروف جد محددة؛ وأشياء قيلت مرة واحدة واحتفظ بها، لأننا نتوقع أن فيها شيئاً هو أشبه ما يكون بسرٍ أو ثروة. وبإيجاز يشير فوكو إلى أنه يمكن أن نخمّن وجود نوع من عدم التسوية بين الخطابات، بصورة جد منتظمة في المجتمعات، الخطابات التي تقال عبر الأيام والمبادلات، والتي تذهب مع الفعل نفسه الذي نطق بها؛ والخطابات التي هي مصدر وأصل عدد معين من الأفعال القولية الجديدة والتي تعيد تناولها وتحولها أو تتحدث عنها، وهي الخطابات التي قيلت، بغض النظر عن صياغتها، وبشكل غير محدد، الخطابات التي تقال إلى الآن، وتظل قابلة لأن تقال. وإننا نعرفها ضمن منظومتنا الثقافية: أنها النصوص الدينية والقانونية، إنها أيضاً هذه النصوص المثيرة للانتباه عندما ننظر إلى هويتها، والتي ندعوها نصوصاً أدبية، وأيضاً النصوص العلمية إلى حد ما.

وبحسب فوكو، فإنَّ للتعليق وظيفتان، إحداهما تتمثل في تشكيل خطابات جديدة من خلال قابلية النص الأصلي لاتخاذ صيغة راهنة، والفجوات التي تفسح المجال لتعددية المعنى وخفاءه، مما يترك إمكانية مفتوحة للكلام. ومن جهة أخرى يلاحظ أن التعليق ليس له دور سوى أن يقول في الأخير ما كان منطوقاً به بصمت هناك. ومثار الإشكال الذي يطرحه فوكو يتمثل في أن هناك الكثير من النصوص الأساسية تتعتم وتختفي، وتأتي التعليقات أحياناً لتحتل المكانة الأولى. وبالتالي يشير فوكو إلى وجود نصوص أساسية ونصوص ثانوية، وإذا كانت العلاقة بينهما غير ثابتة ولا مطلقة، فإن المؤكد هو وجود تفاوت بين التعليق والنص المعلق عليه، مثلما هو الحال عليه في النص الأدبي. وينتهي فوكو إلى أن التعليق، من جهة أخرى، ليس له من دور-مهما كانت التقنيات المستعملة- سوى أن يقول في الأخير ما كان منطوقاً به بصمت هناك، فيتعين على التعليق، وفق مفارقة يغيّر هو موقعها دوماً، وإن كان لا يفلت منها أبداً يتعين عليه أن يقول لأول مرة ما كان قد قيل من قيل، وأن يكرر بلا ملل ما لم يكن قد قيل أبداً.

ينتقل فوكو بعد ذلك لمناقشة موضوع المؤلف، بوصفه مبدأ آخر للتقليل من الخطاب، ويكمل هذا المبدأ الأول؛ على أن المؤلف عند فوكو لا يعني الفرد المتحدث الذي نطق أو كتب نصاً، بل كمبدأ تجميع للخطاب، كوحدة وأصل لدلالات الخطابات، وكبؤرة لتناسقها. ولنا أن نتساءل، أين يكمن الإبداع، فهل جرّد فوكو الفرد من الإبداع، خصوصاً حينما قصد من المؤلف ما سلف ذكره؟. يقول فوكو: سيكون من العبث طبعاً أن ننكر وجود الفرد الكاتب والمبدع، ويذكر الزواوي بغورة أن فكرة إنكار المؤلف عند فوكو تعود إلى كونها تشكل اللحظة القوية للفردنة في تاريخ الفكر والمعارف والآداب، وفي تاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم.

وحين سئل فوكو عن إعلان نيتشه موت الإله، وإعلانه هو بموت قاتله، وتضمن موت الأخير بموت الأول، يجيب فوكو: إن الإنسان يختفي في الفلسفة، لا كموضوع للمعرفة، بل كذات تتمتع بالحرية والوجود.

ويعتقد فوكو أن فن الفرد الذي يشرع في كتابة نص يطوف حول أفقه مؤلف ممكن، فرد يتبنى لحسابه وظيفة المؤلف: فما يكتب وما لا يكتب، وما يرسم ولو على هيئة مسودة مؤقتة، وكمحاولة أولية لإنجاز مؤلف، وكذلك ما يتركه يسقط على شكل أحاديث يومية، فكل لعبة الفوارق هاته قد أملتها وظيفة المؤلف كما يتلقاها الفرد من عصره، أو كما يقوم بتحويرها بدوره، إذ أنه يمكن أن يقلب الصورة التقليدية التي كونّاها لأنفسنا عن المؤلف؛ أنه سيقتطع، انطلاقاً من الوضعية الجديدة للمؤلف، من بين كل ما كان يمكن أن يكون قد قاله، ومن ضمن كل ما يقوله كل يوم، وفي كل لحظة، سيقتطع الجانب الذي ما يزال مرتعشاً من عمله. وتجدر الإشارة إلى أن موقف فوكو من المؤلف، قريب من موقف رولان بارت الذي أعلن موت المؤلف باسم النص، فاللغة عند بارت هي التي تتكلم وليس المؤلف. وعلى أي حال، فإن الموقف من المؤلف سواء عند فوكو أم عند بارت أملته التأثيرات البنيوية ومفهومها للغة، وموقفها من الذات، ذلك الموقف الذي عبر عنه بقوة ليفي ستروس، والذي لقى استحساناً كبيراً عند فوكو في الستينات، إلا أنه عدله في دراسته الأخيرة حول تاريخ الجنسانية حيث بيّن تشكّل الذات وأكد على أهميتها.

وينتهي فوكو في كتابه نظام الخطاب ما قدّم له بالقول: كان التعليق يحد من صدفوية الخطاب بواسطة لعبة هوية ربما اتخذت شكل التكرار ونفس الشيء، أما مبدأ المؤلف فيحدُّ من هذه الصدفة بواسطة لعبة هوية تتخذ شكل الفردية، وشكل الأنا. 

وبالإضافة إلى مبدأي التعليق والمؤلف، هنالك مبدأ ثالث يطرحه فوكو في كتابه نظام الخطاب، وهو: الفروع المعرفية.

ويقرر فوكو أن تنظيم الفروع المعرفية يتعارض مع مبدأ التعليق كما يتعارض مع مبدأ المؤلف كذلك؛ يتعارض مع الأخير لأن فرع المعرفة يتحدد من خلال مجال الموضوعات، ومجموعة من المناهج، ومتن من القضايا التي ينظر إليها على أنها قضايا حقيقية، ومن خلال شبكة القواعد والتعريفات والتقنيات والأدوات. إن هذا كله يشكل إلى حد ما منظومة مجهولة موضوعة تحت تصرف من يريد أو من يستطيع استعمالها، بدون أن يكون معناها أو صلاحيتها مرتبطين بذلك الذي تبين أنه مبتكرها. ومبدأ المعرفة يتعارض كذلك مع مبدأ التعليق، يقول فوكو: بخلاف الأمر في التعليق فإن ما هو مفترض في البداية ضمن فع معرفي ما، ليس هو معنى يجب أن يعاد اكتشافه، ولا هوية يتعين ترديدها، بل هو مطلوب لتكوين منطوقات جديدة؛ يتعين إذن –لكي يكون هناك فرع معرفي- أن تكون هناك إمكانية لصياغة قضايا جديدة، وبشكل غير محدود.

ويعمل هذا الإجراء على الحد من سلطة الخطاب، وذلك بفرضه لمجموعة من المعايير، على انتماء القضايا إلى حقله، أو إبعادها عن مجاله، فهو يعكس بصورة من الصور إرادة الحقيقة. فيشير فوكو إلى أنه لكي تنتمي قضية ما إلى فرع معرفي، فإنه يتعين عليها أن تسجّل نفسها ضمن أفق نظري معي،  وبالتالي فليست الفروع المعرفية مدونة للحقائق التي تصاغ حول موضوع ما أو مجموعة من المواضيع، بل إنه الأفق النظري الذي يحدد مجال الحقيقة ومجال الخطأ، ويعين معايير المعقولية السليمة ويرمي في هامشه ما يعارض تلك المعايير.

ويناقش فوكو هنا مسألة الخطأ والصواب في دلالات الفرع المعرفي، ويسوق مثالاً عن عالم الوراثة الشهير (مندل) فيقول: كيف أمكن ألا يرى علماء النبات وعلماء الحياة في القرن التاسع عشر إن ما كان يقوله (مندل) كان حقيقياً، وعلة ذلك بحسب فوكو لا يرجع إلى أن ما يقوله ليس حقيقياً، بل إن (مندل) كان يتحدث عن موضوعات، وكان يستخدم مناهج، وكان يضع نفسه ضمن أفق نظري، وهذه موضوعات غريبة عن بيولوجيا عصره، وكان (مندل) قد حدد السمة الوراثية كموضوع بيولوجي جديد جدة مطلقة، وبالتالي فهو موضوع جديد يتطلب أدوات مفهومية جديدة، واسساً نظرية جديدة، وبالتالي فـ(مندل) كان يقول ما هو حقيقي، لكنه لم يكن واقعاً ضمن الحقيقي الخاص بالخطاب البيولوجي لعصره.

ويذهب فوكو إلى أن صياغة الموضوعات والمفاهيم البيولوجية لم يكن يتم تبعاً لمثل هذه القواعد؛ كان من اللازم إحداث تغيير كلي للسلم، واستخدام مستوى جديد من الموضوعات في البيولوجيا حتى يستطيع (مندل) أن يدخل ضمن إطار ما هو حقيقي، وحتى تبدو قضاياه صحيحة، فيمكن دوماً أن يقال ما هو حقيقي في مكان خارجي غير ملائم؛ ولكن المرء لا يكون واقعاً ضمن ما هو حقيقي إلا عندما يكون مستجيباً لقواعد فكرية يتعين عليه بعثها في كل خطاب من خطاباته. وبالتالي فلا يكفي قول الحقيقة كما هو الحال عند (مندل)، وإنما لكي يتحقق الخطاب وجب أن يتوفر على إرادة الحقيقة. الفرع المعرفي إذن، مبدأ لمراقبة إنتاج الخطاب، فهو يعين له حدوداً بواسطة لعبة هوية تأخذ شكل عملية بعث دائم للقواعد. ينتهي فوكو إلى أن هذه الثلاث، التعليق، المؤلف، الفرع المعرفي، منابع لا متناهية لإبداع الخطابات، قد يكون صحيحاً، ولكنها أيضاً مبادئ إرغام.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

يشير الفيلسوف الفرنسي (ميشيل فوكو) إلى وجود مجموعة من الإجراءات الداخلية والخارجية في مراقبة الخطاب، وهي تشكّل بعمل جوهري في مراقبة الخطاب، وتحويله من أداة فاعلة إلى أداة مُنفعله، عن طريق تجريده من الرغبة والسلطة، وما نودُّ أن نشير له في هذا المقال، النظر في الممارسات الخارجية في مراقبة الخطاب، وأول تلك الاجراءات هو المنع، وليس المنع بالنسبة لفوكو سوى أكثر إجراءات الإقصاء جلاء وبديهية، لكنه ليس بالقطع الإجراء الوحيد.

 في كتابه نظام الخطاب، يقول فوكو: إننا نعرف جيداً أنه ليس لدينا الحق في أن نقول كل شيء، وأننا لا يمكن أن نتحدث عن كل شيء في كل ظرف، ونعرف أخيراً ألا أحد يمكنه أن يتحدث عن أي شيء كان، فهناك الموضوع الذي لا يجوز الحديث عنه وهناك الطقوس الخاصة بكل ظرف، وحق الامتياز والخصوصية الممنوح للذات المتحدثة. وأن من أكثر المناطق التي أحكم السياج حولها، وتتضاعف حولها الخانات السوداء في أيامنا هذه هي مناطق الجنس والسياسة، وكأن الخطاب، بدل أن يكون هذا العنصر الشفاف أو المحايد الذي يجرد فيه الجنس من سلاحه وتكتسب فيه السياسة طابعاً سلمياً، هو أحد المواقع التي يمارس فيها هذه المناطق بعض سلطتها الرهيبة بشكل أفضل. وبحسبه، يعتبر القرن السابع عشر، بداية لعصر القمع الخاص بمجتمعات تسمى بورجوازية، فمنذ هذه اللحظة، ربما أصبحت تسمية كلمة جنس أكثر صعوبة وأبهظ كلفة، كل شيء يحدث كما لو كان من الضروري إنزاله إلى مستوى اللغة، من أجل مراقبة التداول الحر به عبر الخطاب، وطرده من الأشياء المقولة وإطفاء الكلمات التي تجعله حاضراً حضوراً محسوساً، ويؤكد فوكو على أن الحياء العصر حصل على منع الكلام على الجنس، حتى دون أن يذكر اسمه، وذلك عن طريق أصناف المنع التي تتساند فيما بينها، أنماط من الخرس، تفرض الصمت نتيجة الاستمرار في ممارسة السكوت.

ويبدو أن الخطاب في ظاهره شيء بسيط، لكن أشكال المنع التي تلحقه تكشف باكراً وبسرعة عن ارتباطه بالرغبة والسلطة، وما المستغرب في ذلك ما دام الخطاب ليس فقط هو ما يظهر أو يخفي الرغبة، لكنه أيضاً هو موضوع الرغبة، وما دام الخطاب ليس فقط هو ما يترجم الصراعات أو أنظمة السيطرة، لكنه هو ما نصارع من أجله، وما نصارع به، وهو السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها.

ويفرق فوكو في كتابه (نظام الخطاب) ما بين قول الرغبة وقول المؤسسة، فتقول الرغبة: لم أكن أريد الدخول شخصياً في هذا المستوى المغامر للخطاب؛ لم أكن أريد أن تكون لي به علاقة بخصوص ما له من عناصر الحسم والقطع، كنت أود أن يلتف حولي كشفافية هادئة، وعميقة، ومفتوحة بلا نهاية، هناك حيث يستجيب الآخرون لانتظاري، ومن حيث ترتفع الحقائق الواحدة تلو الأخرى؛ لم يكن أمامي سوى أن أترك نفسي محمولة فيه كحطام سعيد. تجيب المؤسسة: لا تخش أن تبدأ؛ فكلنا هنا لنريك بأن الخطاب خاضع لقوانين؛ وبأننا نسهر، منذ زمن طويل، على ظهوره؛ وإن مكاناً قد أعد له، مكاناً يشرفه لكنه يجرده من سلاحه، وإنه إذا حصل أن كانت له بعض السلطة فإنه يستمدها منا ومنا فقط.

إلى جانب المنع، فهناك مبدأ آخر للإبعاد، ومكمنه التعارض بين العقل والجنون، فلقد انتفى في بداية القرون الوسطى إمكان الحوار مع المجنون أو الإنصات إلى خطابه، باعتباره إما خطاباً فارغاً لا دلالة له، أو خطاباً خارقاً يحيل رمزياً إلى حقيقة عقلية تتجاوز قدرات الخطاب العادي، وفي الحالتين، لا وجود لكلام الجنون بل هو الموقع الذي تمارس فيه عملية القسمة.

ولكن، أين سيقع الجنون إن لم يكن داخل العقل ذاته باعتباره شكلاً أو مصدراً من مصادره، وإن التشابه بالتأكيد يميز بين أشكال العقل وأشكال الجنون، إنه تشابه مقلق أيضاً، فكيف يمكن التمييز داخل فعل بالغ الحكمة قام به مجنون، وبين أبشع أشكال الجنون الصادرة عن رجل ينظر إليه عادة إنه حكيم وسوي؟. وينقل لنا هاشم صالح تساؤلاً لفوكو عن العلاقة ما بين العقل والجنون، فيقول: هل هناك حدود فاصلة ونهائية بين الجنون والعقل أم إن الجنون من جنس العقل والعقل من جنس الجنون؟. ويؤكد فوكو في كتابه (تاريخ الجنون) على إن الحكمة والجنون متجاوران.

وقد اهتم فوكو في مجمل كتبه بتاريخ الجنون، وقد كان المجنون، برأي فوكو، ابتداءً من القرون الوسطى، هو ذلك الذي لا يتداول خطابه كما يتداول خطاب الآخرين، فقد يعتبر حديثه فارغاً ولا قيمة له، حديثاً لا يمتلك أية حقيقة ولا أية أهمية، حديثاً لا يمكن أن يكون محط ثقة من طرف العدالة ولا يمكن أن يؤخذ كشاهد على صدق عقد أو ميثاق، ولا يمكن حتى أن يسمح له بممارسة القربان في القداس، وأن يجعل من الخبز جسداً؛ وقد يحدث أيضاً في مقابل ذلك أن تنسب له قدرات غريبة، بالتعارض مع كل الباقي أي القدرة على الجهر بحقيقة مخفية والقدرة على التعبير عن المستقبل وعلى الرؤية الساذجة لما يمكن أن تدركه حكمة الآخرين.

وقد كان التعرف على جنون المجنون يتم عبر أقواله، وقد كانت أقواله في الحقيقة هي الموقع الذي تمارس فيه عملية القسمة؛ ولكنها لم تكن أبداً أقوالاً متقبلة ولا مستمعاً إليها، فقبل نهاية القرن الثامن عشر، لم يخطر أبداً على بال أي طبيب أن يحاول أن يعرف ما كان يقال في هذا الكلام (كيف قيل، ولماذا قيل)، الذي كان مع ذلك كلاماً يحقق التمايز، كل هذا الخطاب الواسع للمجنون كان يتحول إلى نوع من الضجيج، ولم تكن الكلمة تعطاه إلا بصورة رمزية، على المسرح حيث كان يتقدم مسالماً ومجرداً من سلاحه، لأنه يلعب فيه دور الحقيقة المغطاة بقناع. وقد نبه فوكو إلى أن للجنون تاريخاً، وإنه ليس مقولة متعالية تقع فوق التاريخ والمجتمع. مثلما نبه إلى أن المؤسسة الطبية ليست طبية تماماً، وإنها متواطئة بشكل أو بآخر مع مؤسسات القمع الأخرى في المجتمع ومع الطبقة البرجوازية المهيمنة.

والجنون ظاهرة ظلت في حالة كمون لمدة قرنين تقريباً، وتشكل حالة رعب كتلك التي أحدثها الجذام، وأنه من الغريب أن نلاحظ أن كلام المجنون قد ظل لعدة قرون في أوربا، كلاماً لا يسمع، وفيما إذا استمع إليه، فإنه يستمع إليه ككلام يعبر عن الحقيقة، وأما أنه يسقط في العدم، يرفض حالما يتلفظ به، وإما أن يكشف فيه عن عقل ساذج أو ذي دهاء، عن عقل أكثر معقولية من عقل العقلاء، وعلى كل الأحوال، سواء كان كلام المجنون مبعداً أو مستعملاً بصورة سرية من طرف العقل، في معناه الدقيق، فإنه كلام لم يكن موجوداً.

وفي كتابه تاريخ الجنون، يناقش فوكو الجنون في مراحل ثلاث، وهي: العصور الوسطى، والتي كان يعامل بها المجنون كالمصاب بمرض الجذام كما أسلفنا، إلا أن هذه النظرة ستتغير مع بداية عصر النهضة؛ حيث يرجع فوكو سبب هذا التغير، إلى الزخم الأدبي الذي حفلت به جل المؤلفات الأدبية، التي تمحورت أساساً حول ظاهرة الجنون، وبالتالي ستتحول النظرة إلى الجنون، لتتخذ بعداً مخالفاً لما كانت عليه قبل عصر النهضة. ويرى فوكو إن علة ذلك كان في تحريك الإحساس به، وهو ما يوجد في أساس الصياغات التي تمت حوله في بداية عصر النهضة. وبالتالي أخذ الجنون مكانته في خطاب عصر النهضة، من خلال التناول المفرط للظاهرة في الإصدارات الأدبية على اختلاف توجهاتها، حيث نظر للجنون في ارتباطه مع اللغة بشكل مباشر. وهذا بحسب فوكو امتياز خاص منحه عصر النهضة لعنصر من عناصر النسق ويتعلق الأمر بالعصر الذي يتعاطى مع الجنون ضمن حقل اللغة. هذه هي المرحلة الثانية من المراحل الثلاث التي ناقش فيها فوكو ظاهرة الجنون، وهي المرحلة التي أنصفت هذه الظاهرة، لأنه بحلول العصر الكلاسيكي، لأنه سيأتي ليسكته بقوة غريبة.

وبالأخير، إذا كان المفصل الأساسي في تاريخ الجنون هو البحث في طبيعة وشكل العلاقة بين الجنون والعقل، فذلك يعود لاعتبارين، يتمثل الأول في إن مقارنة فوكو بين الجنون والعقل تمثل نوعاً من النقد لمجمل العقل الغربي، وبالتالي لمشروع الحداثة، التي ارتكزت على تمجيد العقل والإعلاء من شأنه، واعتباره مركزاً تقاس عن طريقه كل الأشياء الأخرى، أما الاعتبار الثاني، فيتمثل في إن مناقشة فوكو لطبيعة العلاقة بين العقل والجنون، انطلقت من مسلكة آمن بها ديكارت مؤسس الفلسفة الحديثة ورائد العقلانية الغربية، تفيد بإقصاء الجنون بالإطلاق من ساحة المعرفي العقلاني، فهي مناقشة وسجال بين تيارين واتجاهين ربما الحداثة وما بعدها.

أما المنظومة الثالثة للإبعاد، فتتمثل في التعارض ما هو حقيقي وما هو خاطئ.  ويعتبر هذا التعارض أكثر منظومات الإقصاء خفاءً، لأنه لا يتخذ طابعاً عنيفاً أو مؤسسياً، ولكن الأمر يبدو، جلياً إذا كشفنا عن إرادة الحقيقة التي توجه وتحكم خطاباتنا.

وتمثل الحقيقة بحد ذاتها، مفهوماً مركزياً وأساسياً في مجمل دراساته، حيث كان لهذا المفهوم حضوراً متميزاً، يتمفصل مع كافة أعماله، إذ يرفض فوكو فكرة التسليم، بكل ما ضل قاراً وثابتاً في تاريخ الفكر، واضعين في أذهاننا تمييزاً مهماً بين مفهوم الحقيقة كما جاء في مجمل تاريخ الفلسفة الغربية، وبين دلالة هذا المفهوم لدى فوكو، حيث إن دلالة الحقيقة لدى الأخير، ليست حصيلة تطابق بين المفهوم ومرجعه في الوجود، ولا نتاج تأمل ذاتي يمارسه الـ أنا أفكر، كما أنها ليست حصيلة نقد للعقل يعين حدود المعرفة الصحيحة والمشروعة.

ويؤكد فوكو على إننا إذا وضعنا أنفسنا في مستوى قضية مصوغة ضمن خطاب ما، فإن الفصل بين ما هو حقيقي وما هو خاطئ ليس فصلاً اعتباطياً، ولا قابل للتعديل، ولا مؤسسياً، ولا عنيفاً، لكن إذا وضعنا أنفسنا في مستوى آخر، وإذا طرحنا السؤال بقصد معرفة ماذا كانت وما هي باستمرار إرادة الحقيقة عبر خطاباتنا، هذه الإرادة التي عبَرت قروناً من تاريخنا، أو ما هو، في شكله العام جداً، نوع القسمة الذي يحكم إرادتنا للمعرفة، فربما كانت بمثابة نسق للإبعاد، نسق تاريخي، قابل للتعديل، ويمارس إكراهاً مؤسسياً، نراه يرتسم أمامنا.

وتكمن الجذور التاريخية لهذا التعارض بالرجوع إلى التراث اليوناني حيث كان الخطاب الحقيقي قبل نشوء الفلسفة هو الخطاب المهيمن ذي الطقوس الخاصة الذي يفضي إلى ممارسة محددة، فيشيد فوكو بالخطاب لدى شعراء الإغريق، فهو الخطاب الحقيقي، الخطاب الذي يحظى من طرفنا –كما يقول فوكو- بالاحترام والهيبة، الخطاب الذي كان يتعين الخضوع له لأنه هو السائد، هو الخطاب الصادر عمّن له الحق في ذلك وحسب الطقوس المطلوبة؛ إنه الخطاب الذي كان يطبق العدالة على مستوى القول ويعطي لكلٍ نصيبه، إنه الخطاب الذي يعلن لا عما سيقع فقط، بل يسهم في تحقيقه، ويحمل معه مساهمة الناس ملتحماً بذلك مع المصير. يلاحظ فوكو إن إرادة الحقيقة قد تعددت أشكالها؛ فإرادة الحقيقة التي تنظم المعارف في القرن التاسع عشر، لا تلتقي من حيث موضوعاتها وتقنياتها مع إرادة الحقيقة التي تؤسس الثقافة الكلاسيكية.

  ويقول: بعد قرون من الزمن، أصبحت الحقيقة الأسمى لا تقوم فيما كانه الخطاب أو فيما كان يفعله، بل تقوم فيما كان يقوله: لقد حل اليوم الذي انتقلت فيه الحقيقة من الفعل الطقوسي الناجع والصائب، أي من فعل النطق إلى المنطوق نفسه، نحو معناه وشكله وموضوعه وعلاقته بمرجعه. ويضيف فوكو: لقد أقيمت قسمة معينة بين هزيود وأفلاطون، قسمة تفصل بين الخطاب الحقيقي والخطاب الخاطئ؛ وهي قسمة جديدة لأن الخطاب الحقيقي بعد الآن لم يعد هو الخطاب القيم والمرغوب فيه، لأنه لم يعد هو الخطاب المرتبط بممارسة السلطة، لقد طرد السفسطائي.

وهنا يرسم فوكو لوحة تاريخية للفكر الغربي، بدءاً من اليونان وحتى العصر لحديث، لوحة يصف فيها مختلف الأشكال التي تظهر فيا إرادة الحقيقة، ومختلف التوزيعات التي تقيمها بين ما هو صحيح وما هو خاطئ، بين خطاب العقل الأفلاطوني، وخطاب السوفسطائيين، بين خطاب عصر النهضة القائم على القياس والتصنيف، وخطاب العصور الوسطى الغيبي. إنها آلية واحدة، آلية إرادة الحقيقة، آلية سلطوية بالأساس، حاول بعض المفكرين مناهضتها، من امثال نيتشه.

وقد شكلت إرادة الحقيقة سلطة قوية تمارس ضغطاً شديداً على الأشكال الخطابية الأخرى مثل تأسيس الأدب الغربي على نموذج الحقيقة، وكذلك تشكل خطابي القانون والاقتصاد على قيم المعقولية العلمية. فهي مدعّمة وموجهة من طرف قدر هائل من الممارسات كعلم التربية، ومثل منظومة الكتب، والنشر والطبع، والخزانات، ومثل الجمعيات العلمية... وبهذا الشكل، فإن إرادة الحقيقة باعتمادها على دعامة وعلى توزيع مؤسسين، تميل إلى أن تمارس نوعاً من الضغط على الخطابات الأخرى وكأنها سلطة.

ومن بين منظومات الإبعاد الثلاثة الكبرى التي تمس الخطاب، أي الممنوع، والجنون، وإرادة الحقيقة، يتحدث فوكو، كما يقول هو، عن إرادة الحقيقة بشكلٍ مطول، وذلك لأن المنظومات الأولى  لم تكف عن الصب في اتجاه منظومة إرادة الحقيقة؛ وذلك أيضاً لأنها تحاول، أكثر فأكثر، أن تأخذ المنظومتين الباقيتين لحسابها لكي تعدلها وتؤسسهما في نفس الوقت، وذلك لأنه إذا كانت المنظومتان الأوليتان تصبحان هشتين أكثر فأكثر، وأقل يقيناً من حيث أننا نشاهد أن إرادة الحقيقة تخترقهما الآن، فإن هذه الأخيرة ما تفتأ مقابل ذلك، وتتدعم، وتتجه إلى أن تصبح أكثر عمقاً وأقل قابلية للإحاطة. أضف إلى ذلك، ما يذهب إليه الدكتور حيد ناظم في تأكيد فوكو على إرادة الحقيقة إلى تبريرين، يتعلق الأول بالمرجعية التي ينضوي فوكو تحت لوائها، وهو تيار ما بعد الحداثة، الذي عمل بشتى الطرق في محاولة تجاوز فلسفة الحداثة وثنائياتها، التي توحي وتفترض وجود حقيقة مفارقة، ثابتة وقارة، أزلية لا تتغير، فظهرت تباشير ما بعد الحداثة بانهيارها، على أن لهذه التباشير إرهاصات نقدية سابقة متمثلة بمواقف الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه. أما المبرر الثاني فيتعلق بفلسفة فوكو نفسها، حيث يشير فوكو في أكثر من مناسبة، إلى أن البحث عن الحقيقة، هو ما جعل منه فيلسوفاً، فيقول: لقد كررت عبثاً أني لست فيلسوفاً، إلا أنني إذا كنت في النهاية أهتم بالحقيقة، باني رغم كل شيء فيلسوف.

ومع ذلك فإرادة الحقيقة هي الشيء الذي قلما يتحدث عنه، كما لو أن إرادة الحقيقة وتعرجاتها كانت بالنسبة لنا محجوبة من طرف الحقيقة نفسها خلال مسارها الضروري، وربما كان السبب في ذلك بما يلي: أنه إذا لم يعد الخطاب الحقيقي منذ الإغريق، وهو ذلك الخطاب الذي يستجيب للرغبة أو ذلك الخطاب الحقيقي، فبم يتعلق الأمر إذن إن لم يكن بالرغبة وبالسلطة؟... إن الخطاب الحقيقي، الذي تخلصه ضرورة شكله من الرغبة وتحرره من السلطة، لا يمكن أن يتعرف على إرادة الحقيقة التي تخترقه؛ ومن صفات إرادة الحقيقة، هذه التي فرضت نفسها علينا منذ مدة طويلة، أنها لا يمكن ألا تقنع الحقيقة التي تريد.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

أثارني قول المحلل النفسي الفرنسي "جاك لاكان" قوله: أنا دائمًا أقول الحقيقة، لكن ليس كل الحقيقة، لأننا وبكل بساطة لا نستطيع أن نقول كل شيء. هناك دائمًا شيء ما يتوارى خلف الكلمات، شيء يختبئ في الصمت، في الفجوات، وفي ما لا يقال. الحقيقة ليست في ما نقوله فقط، بل أيضًا فيما يتعذر علينا قوله، وقد فطن سيجموند فرويد على هذا الموضوع الذي يعيشه الناس بأجمعهم، ولا نغالي إذا قلنا جميع البشر حتى الأطفال منهم ومن لديهم إعاقة، حيث قال " فرويد " مقاومة الكشف عن أعماق النفس لا تأتيه من مرضاه فحسب وإنما يأتيه أيضًا من نفسه،  كما ذكره العلامة " مصطفى زيور في كتابه في النفس، ص 95" ويقودنا على هذا التأكيد هو قول " عدنان حب الله" إذًا دخول الإنسان عالم اللغة هو بمثابة دخول عالم الرمز لأن العالم كله الذي يبدأ الإنسان اكتشافه منذ ولادته مبني على أسس لغوية متقاطعة بالمجاز والكناية والببلاغة والقواعد اللغوية التي تقسم الزمن إلى ماض وحاضر ومستقبل، وتفصل في الفضاء ماهو الأنا، عالم الرمز في تركيبته اللغوية، يؤسس الإنسان ويفصله عن طبيعته الحيوانية " كتاب الصدمة النفسية ص 288" ويقودنا هذا إلى هذه المقولة بإن الإنسان فيما يبدو لنا منه لا ينطبق على نفسه، فهو ليس هو، وهو ليس ما هو، تتشابك فينا الأفكار وتتعمق، نحاول التعبير عنها تارة بكلمات مفهومة تحوي جانب كبير من الرمزية، رغم أنها تقال بطلاقة لفظية منظمة، لا ندري هل حتمت عليها البيئة الخارجية لتبدو مؤدبة ؟ أم هي النفس تبعث هذا الرمز للحفاظ على ما تريد قوله. نحن نقول نصف الحقيقة، والنصف الآخر خفي في عالم اللاوعي العميق، وهو الذي ينظم مخرجات الكلمات بما يتناسب ما نريد قوله، وأفضل دليل هو بَعد ما ننطق ونقول كلماتنا أمام الآخر، أو الآخرين، نراجع أنفسنا بما قلناه، ربما نأسف لقوله !! أو نعارض أنفسنا بأن ما نقوله صحيح تمامًا ونقنع أنفسنا بأنه وجهة نظرنا، ولا أحد يستطيع أن يعارضنا، ولكن في الحقيقة نشعر أحيانًا بنوع من الإمتعاض وعدم الرضا، أو لنقل بتأنيب الضمير والشعور بالندم لما قلناه، وهذا ما يؤكد ما قاله " جاك لاكان" في السطور الأولى من هذه المقالة. ويستدعي ما نحاول أن نعرضه مقولة أخرى لجاك لاكان قوله: الذات مسؤولة عن لا وعيها – لا شعورها. وهو تعبير دقيق عن طاقاتنا التي يدعها اللاوعي – اللاشعور أن يطلقها، أو يقمعها بعد أن كبتت وذهب في عالم عميق أخفى كل ذكرياتنا وطفولتنا، وحينما يتم استدعاء الكلمات والجمل يتم تركيبها لا شعوريًا بما تم خزنه، وإن عاد بشكل آخر فنحن نصارع دون وعي ما نريد قوله بكل أدب، ولباقة ودبلوماسية، ونعود مرة أخرى بأن تلك الحكايات التي رويت لنا عندما كنا صغارًا، أعدنا بناءها في تشكيل لغوي مختلف في المظهر، لكنه متفق في المعنى وإن تحور بعض الشيء، إنها دوامة النفس وما خزن بها وما تم استدعاءه في تلك اللحظة بلغة محكية عبر لسان ربما تظهر منه الهفوة، أو الزلة.

بنيتنا " البنية" هي التي تحدد ما نريد قوله:

البنية كما عرفها عالم النفس " جان بياجيه" بأنها مجموعة تحولات تحتوي على قوانين كمجموعة " تقابل خصائص العناصر"  تبقي أو تغتني بلعبة التحولات نفسها، دون أن تتعدى حدودها، أو تستعين بعناصر خارجية، والبنية تتألف من ميزات ثلاث: الجُملَة، والتحولات، والضبط الذاتي. وهذه البنية لا تنتهي في النفس، أو تتوقف طالما أن النفس في دوامة التغيرات والاضافات فهي متغيرة ومتبدلة من لحظة لإخرى، ومن موقف لأخر، ومن يوم لأخر، ومن مرحلة عمرية لأخرى، إذن هي تأسيس ويقودنا هذا إلى أن الحديث والكلام مرتبط بشكل البنية، وربما يحق لنا أن نقول انها تأخذ شكل هذه البنية لأنها تحمل سماتها في عملية التحولات وفي عملية الضبط الذاتي، لذا يدعم رأينا هذا العديد ممن تخصصوا في اللغة بالقول بأن الشارات الشفهية لا تشكل إلا احدى جوانب الوظيفة الرمزية، ونتساءل هل هذه الوظيفة الرمزية في اللغة المحكية هي تريد أن تبعد ما أخفيناه ؟ أم تريد تأكيد من نريد قوله؟ والامر سيان لأنهما ينطلقان من بنية تشكلت، أما تخفي، أو تعطي الضبابية في الكلمات " اللف والدوان عن الكلمة، أو الفكرة "، ما لا تريد البوح به، فهي أشكال تصويرية، ولكنه في الآن نفسه هو تعبير عن ليس كل الحقيقة، وإن بعد الحقيقة غامض وغير قابل للتفسير، ولا شيء يمكن ضبط ضرورته، لإن الإنسان يتعايش مع عدم الحقيقة كما يقول لاكان.

يمكننا أن ندخل عنصر مهم في حياتنا اليومية تَكونَ منذ عصر فجر حياة الفرد، وأقصد طفولته الأولى حيث يدخل الكبت كعامل قوي في تكوين مختلف البنيات، ومدى استخدامه في حياتنا اللاحقة، ويرى " عدنان حب الله " تدخل عملية الإنكار " النفي"  هذه العملية الفكرية في إطار نسق الكبت، وينبني عليها الحكم بالنفي على أعتبار أنها آتيه من الخارج ولا علاقة له بها. ولا نجانب الحقيقة كثيرًا حينما نقول بأن البنية بسماتها تحدد أسلوب الكلام، والمنطق وطريقة إختيار الكلمات والرموز في الحديث  وهي تعطي الرمز المناسب لمعنى القول، فالإنسان يتحكم في ما يريد قوله، وبنفس الآن لا يستطيع إخفاء ما لا يريد قوله، تفضحه ولو بعد حين إنفعالاته عن موضوع كان لا يريد قوله، أو موضوع خرج متناقض عما قاله، فنجد عند السياسيين تلك  اللغة السائدة لديهم، وكذلك التجار، وكذلك  مرضى الفصام فهؤلاء من الاسوياء واللااسوياء يشتركون تمامًا بما قاله جاك لاكان ونعيده من بداية مقالنا وهو: أنا دائمًا أقول الحقيقة، لكن ليس كل الحقيقة، لأننا وبكل بساطة لا نستطيع أن نقول كل شيء. هناك دائمًا شيء ما يتوارى خلف الكلمات، شيء يختبئ في الصمت، في الفجوات، وفي ما لا يقال.

***

د. اسعد الامارة

نظرية هوية العقل بوصفه مخاُ the mind–brain identity theory هي نظرية تابعة للمدرسة الفيزيائية في فلسفة العقل، وهذه النظرية تؤكد هوية العقل من خلال أنه يمكن تجميع الأحداث العقلية (المخية) وفرزها إلى أنواع types (مقولات أو فئات) من الحالات العقلية، كحقيقة عرضية، متطابقة حرفيًا مع بعض أنواع (مقولات، أو فئات) وذلك من خلال حالات عقلية، وهي في الأصل حالات فيزيائية في المخ، والعقل والمخ شيء واحد. وإن شئت عبارة موجزة تلخّص لك نظرية الهوية، فها هي عبارة "هربرت فايجل" (1902-1998) نقلا عن أستاذنا الدكتور صلاح إسماعيل: “حالات الخبرة المباشرة التي تحيا بها الكائنات البشرية الواعية، والحالات التي ننسبها بثقة إلى بعض الحيوانات العليا، تكون متطابقة مع جوانب معينة من العمليات العصبية في هذه الكائنات".

وفكرة أن الحالات العقلية هي حالات مخ ليس جديدة، حيث يمكن أن نتلمس إرهاصاتها عند فلاسفة اليونان القدماء، من أمثال ديمقريطس، والذي كان يرى أن النفس مادية ومؤلفة من أدق الجواهر (الذرات) وأسرعها حركة، إذ إن النفس امثل مبدأ الحركة في الأجسام الحية، وهذه الجواهر منتشرة في الهواء الذي يدفعها للأجسام فتتغلغل في البدن كله، وتتحدد في النفس في كل آن، وما دام التنفس مستمرا دامت الحياة والحركة والشعور للبدن، وإذا فقد بعضها كان النوم واللاشعور، وإذا فقدت كلها كان الموت الحقيقي فناء البدن، وأمضى ديمقريطس مذهبه ووضعه في الصيغة النهائية التالية " إن كل شيء هو امتداد وحركة ولم يستثن النفس الإنسانية، ولم يستثن الآلهة أيضا، فيرى أنهم مركبون من جواهر كالبشر إلا أن تركيبهم أكثر دقة، ولذلك هم أحكم قدرا وأطول عمرا بكثير، ولكنهم لا يخلدون بل كل شيء خاضع للقانون العام ؛ أي للفساد بعد الكون واستئناف الدور على حساب ضرورة مطلقة ناشئة من المقاومة والحركة والتصادم دون أي غائية أو علة خارجية عن الجواهر.

كذلك نجد إرهاصاتها لدى الفيلسوف اليوناني " أرسطو"، والذي رأى أن النفس هي صورة الكائن الوحيد، وأنه لا يمكن فصل الصورة عن المادة (الهيولى) من الناحية العملية، وإن أمكن ذلك من الناحية النظرية العقلية، وقد فهم أنصار الهوية هنا أن عدم الانفصال هذا إشارة إلى وحدة النفس والجسم.

ومن تجليات هوية العقل بوصفه مخاُ ما نجده في تراثنا العربي الإسلامي، حيث إنه عندما جاء الإسلام بنزول القرآن تبلورت فلسفة عملية ترتكز على جملة مسلمات عقائدية، من بينها، الإيمان بالمعاد الذي يستند بدوره إلى الاعتقاد بلا مادية النفس واستقلالها عن البدن، وأن اتصال النفس بالجسم اتصال زمني، حيث تغادره بعد الموت إلى عالم الخلد، حيث الحساب أو المحاكمة، وهذه هي النقطة الجوهرية المؤثرة في مسيرة الإنسان وتوجيهها.

كذلك نجد إرهاصات هوية العقل بوصفه مخاً تتبلور على يد أكبر فلاسفة الإسلام وهو ابن سينا، فأحد أهم الأدلة التي قدمها ابن سينا على وجود النفس واستقلالها عن الجسم، هو ما أسماه دليل الإنسان المعلق في الفضاء. إذا افترض ابن سينا بتجربة خيالية (مستحيلة عمليا)، أنه إذا تصورنا إنسانا خلق دفعة واحدة في فراغ ليس فيه شيء يلامس جسده، أو أعضاؤه الحسية، فإننا يمكن أن نتصور أنه قادر على إدراك ذاته، على الرغم أنه لم يدرك جسده (أو يحس به) بعد، وهذا لا يريد به ابن سينا وجود النفس وحسب، بل وأنه مستقلة عن الجسم. ويتضمن دليل ابن هذا الانتقال من المعنى التصوري إلى التحقق الوجودي. ويبدو أنه أراد أن يقول إن الاستبطان يصلح دليلا كافيا على إثبات ذواتنا مستقلة، بينما طبقا لنظرية هوية العقل- المخ فإن في ذلك مفارقة كبيرة وواضحة، فإن عمليات الاستبطان ليست مستقلة عن الجسم، ولذلك فهي وإن كانت وعيا بالذات، إلا أنها ليست دليلا على استقلال الذات عن الجسم، أو أن طبيعتيهما مختلفتان جوهريا.

وفي الفلسفة الحديثة ارهاصات لنظرية هوية العقل بوصفه مخاً لدي العديد من الفلاسفة وفي مقدمتهم توماس هوبز (1679) الذي اعتبر الفكر حركة أو انفعلا لجزئيات المخ. ونقدها اسبينوزا (1677) وصرح بأن الفكر والمادة جانبان لشيء واحد، وأنكر التفاعل بينهما معتقدا بوجود موازاة لا التقاء بينهما، فكل حادث عقلي يوازيه حادث فيزيائي، ولكل حدث فيزيائي حدث عقلي مواز، من غير أن تقوم بينهما علاقة سببية فهما وجهان لحقيقة واحدة، أو خاصيتان إلهيتان ولذلك لا توجد بينهما علاقة سببية.

كذلك نجد إرهاصات لنظرية هوية العقل بوصفه مخاً لدي " بيير جاسندي" (1655) والذي رفض الرواية الأبيقورية للنفس البشرية، والتي تقول إنها مادية ولكنها تتكون من ذرات أخف وأكثر دقة من ذرات الأشياء الأخرى.

وفي الوقت الذي كانت توجد فيه إرهاصات لنظرية هوية العقل بوصفه مخاً مؤيدة لها، إلا أنها جاءت معارضة تماما لفكرة الثنائية لأبو الفلسفة الحديثة " رينيه ديكارت" الذي طرح النظرية الثنائية التفاعلية، وأقر الانفصال (وجوديا) بين النفس والجسد. كما أقر أن الحركات التي تحصل في المخ تنتج أفكارا فيما يسميه العقل غير الممتد الذي ظن أنه يعمل عن طريق الغدة الصنوبرية بوصفها نقطة اتصال بين العقل والمخ.

ولذلك يكون ديكارت في نظر المؤيدين لنظرية هوية العقل بوصفه مخاً مؤسسا للفصل الوجودي (الفعلي) على الفصل الابستمولوجي. إذ يرى أنه إذا أمكننا أن نفكر بالنفس، بشكل واضح وتام، من دون أن نفترض الجسم مسبقا، وإذا كنا قادرين على أن نتصور الجسم شيئا متميزا عن النفس، فإن ذلك يثبت لنا أن لدينا شيئن متميزين، أو جوهرين أحدهما مستقل عن الآخر تماما.

ومهما يكن الأمر فإن تأسيس الفصل الوجودي على الفصل الابستمولوجي ليس له ما يبرره في نظر أنصار نظرية هوية العقل بوصفه مخاً، فالانتقال من التصور إلى الوجود لم يُبنى على نسبة بينهما، وهذا ما جعل ديكارت يهرع إلى فكرة خارجة عن الموضوع لتسويغ هذا الانتقال، وهي فكرة اللامتناهي أو الله بوصفها فكرة واضحة بذاتها يقول:"... فإنه بمجرد معرفتنا وجود الله نستطيع القول بأن أي شيء يمكننا إدراكه متمايزا عن الشيء الآخر قد خلق متمايزا عنه، بواسطة الله، ولما كانت لدينا فكرة واضحة ومتمايزة عن النفس بوصفها شيئا منفصلا عن الجسم، فإننا نستطيع القول في هذه الحالة بأن النفس منفصلة بالفعل، لأن الله قد أراد جعلها منفصلة ".

لكن برغم فإن ديكارت في نظر أنصار نظرية هوية العقل- المخ أفاد البحث العلمي في نظرته إلى الجسم باعتباره مجرد آلة، وطن أن الشعور والإدراك آليان أيضا على الرغم من أنه لا يعتقد بآلية الوعي. وقد أثر هذا الاعتقاد على أبحاث البيولوجيا وعلم النفس الإدراكي والمعرفي، إذ سمح للعلماء أن يستقصوا تكوين البشر مندفعين بتأثير الاعتقاد الديكارتي بآلية الجسم، وأنه ليس مقدسا، ولذلك يمكن تشريحه ودراسته كأي نظام فيزيائي آخر.

وفي الوقت الذي كان فيه أنصار لنظرية هوية العقل- المخ يصولون ويجولون في الكشف عن ابستمولوجيا ديكارت في ثنائية النفس والجسم، نراها يجادلون المدرسة السلوكية والذين يؤمنون كما أستاذنا الدكتور صلاح إسماعيل بعامة إن كل ما يعرف أو يقال عن الحالات العقلية للناس يمكن معرفته أو قوله في حدود سلوكهم القابل للملاحظة. ويمكن تحليل فكرتهم هذه إلى ثلاث دعاوي: الأولى إبستمولوجية تتعلق بكيفية الحصول على معرفة بالحالات العقلية. والثانية دلالية تدور حول معاني مصطلحات مثل " اعتقاد " و" رغبة". والثالثة ميتافيزيقية تدور حول الطبيعة النهائية للحالات العقلية والسلوكية اسم لحركتين متميزتين إحداهما في علم النفس. وهي السلوكية النفسية أو المنهجية أو التجريبية أو العلمية، والأخرى في الفلسفة، وهي السلوكية الفلسفية أو المنطقية أو التحليلية.

وفي الوقت الذي كانت فيه السلوكية كما يذكر د. صلاح إسماعيل هي فلسفة العقل المسيطرة في الفترة المبكرة من القرن العشرين، كانت الأدبيات الفلسفية والنفسية تتضمن تعبيرات منعزلة لنوع مختلف من وجهة النظر الفيزيائية، وجهة النظر التي تطابق الحالات العقلية ليس بالاستعدادات السلوكية وإنما تطابقها بالحالات الفيزيائية للمخ.

ولكن هذه الفكرة لم تعرض عرضًا جيدًا كما يذكر د. صلاح إسماعيل إلا في أواخر خمسينيات القرن الماضي. وذلك عندما دافع عنها ثلاثة من الفلاسفة هم أولين بليس (1924-2000) في مقالة له بعنوان “هل الوعي عملية مخ؟” وقد نشرت عام 1956، وهربرت فايجل في مقالة له بعنوان ”العقلي والفيزيائي” وقد نشرها عام 1958، وجون سمارت (1920- 2012) في مقالة له بعنوان “الإحساسات وعمليات المخ” وقد نشرت عام 1959.

واتفق هؤلاء الفلاسفة يذكر د. صلاح إسماعيل على النقاط الأربع التالية

1- الخبرات والإحساسات الخاصة بالفرد تقبل الرد من دون بقية إلى حوادث أو عمليات في المخ (دعوى الهوية).

2- دعوى الهوية قضية ممكنة، أعني أنها ليست حقيقة ضرورية منطقيًا.

3- صدق دعوى الهوية هو في جانب على الأقل مسألة تحديد تجريبي.

4- لا تنطبق دعوى الهوية إلا على جوانب معينة من الحياة العقلية- الوعي، والمشاعر الخام للخبرة، والإحساسات. أما الجوانب المعرفية والإرادية (القصدية) من الحياة العقلية فلا تقبل الرد إلى عمليات أو حالات مخ، وإنما تقبل الرد مفهوميًّا إلى نوع من المقدرة أو الميل الدلالي أو المنطقي أو اللفظي.

وفي الختام أقول مع أستاذنا الدكتور صلاح إسماعيل صحيح أن نظرية الهوية يمكن تتبع أصولها عند فلاسفة قدماء ومحدثين، ولكن النظرية في صورتها المعاصرة تنفصل عن النظريات السابقة بطريقتين أساسيتين. فأما أولاهما فهي أن أصحاب نظرية الهوية عندما ركزوا على عمليات المخ اصطفوا في جانب علم الأعصاب. وإذا أخذنا بعين الاعتبار التقدم الهائل في البحث العلمي العصبي في القرن العشرين، فإن هذا الاصطفاف منح نظريتهم مصداقية. وأما الثانية، وربما الأكثر أهمية، فهي أن أصحاب نظرية الهوية يرون أن المطابقات النفسية الفيزيائية مماثلة مباشرة للاكتشافات العلمية الأخرى.

ومن ثم فإنه إذا كان العلماء في القرن التاسع عشر، ينظرون للمخ بوصفه أداة للعقل فحسب. أما اليوم فإن العلماء يعرفون حقائق عديدة عنه على الرغم من أنهم يؤكدون على أن هذه المعرفة مازالت أولية مقارنة بالتعقيد الهائل الذي يمثله المخ البشري، فهم يعرفون القليل عن تركيب الأعصاب وعملها، ويعرفون بعض الأشياء عن التنظيم البنائي الأساس للمخ، ولديهم مقدار أكبر من المعرفة بالتنظيم الوظيفي للمخ، وتسهم تلك العناصر المختلفة لبنية المخ في خلق المحتوي الكلي لوعي الإنسان وتنظيم سلوكه.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

...........................

المراجع:

1-كرم، يوسف، 2012: تاريخ الفلسفة اليونانية، القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ص 54-57.

2- زهير الخويلدي: نظرية الهوية من وجهة نظر فلسفية، مقال منشور بجريدة الهدف، الأحد 22 اغسطس 2021.

3- د. صلاح إسماعيل: العقل بوصفه سلوكا، مقال منشور بمؤسسة الفكر العربي.

4- د. صلاح إسماعيل: العقل بوصفه مخا، مقال منشور بمؤسسة الفكر العربي.

5- الجابري، صلاح: مشكلة العقل والدماغ بين العلم والفلسفة، مجلة الجامعة الأسمرية الإسلامية، س3، ع 5، 2005، 357-397.

 

ذاعَ صيتُ (مدرسة التحليل النفسي) ورائدها الطبيب النمساوي (سجموند فرويد) في نوعية الموضوعات التي دار حولها البحث والاهتمام، فموضوعات من أمثال: الجنس، الأحلام، تحليل بنية الشخصية الإنسانية، ذات تماس مباشر وقوي وفعّال بالنسبة لطبيعة الجنس البشري. ويُعدُّ (القلق) من أهم الموضوعات الرئيسة التي ناقشها فرويد وأولى له اهتماماً بالغاً.

ففي كتابه عن (الكف والعرض والقلق)، المنشور لأول مرة في فيينا عام (1926)، انهمك فرويد بدراسة ظاهرة القلق التي كان يشاهدها بوضوح في معظم حالات الأمراض العصابية التي كان يعالجها، فحاول أن يعرف سبب هذا القلق. وقد لاحظ فرويد أن القلق الذي يشاهده في مرضاه هو عبارة عن خوف غامض، لكنه يختلف عن الخوف العادي، ولذلك ميز بين نوعين من القلق: القلق الموضوعي والقلق العصابي، فبينما الأول يعود إلى خطرٍ خارجي، كالخوف من حيوان مفترس، أكد فرويد على أن القلق العصابي هو خوفٌ غامضٌ غير مفهوم، ولا يستطيع الشخص الذي يشعر به أن يعرف سببه.

ونتيجةً لما تقدم، ارتبط الاهتمام بظاهرة القلق بوجهة نظر نفسية، كان سيجموند فرويد رائدها، لكن هناك من ناقش ظاهرة القلق كنوع من أنواع الانفعالات، وهي قراءة يمكن أن نعدّها من وجهة نظر فلسفية، وهي القراءة الوجودية لظاهرة القلق، وهي ما نودّ أن نسلّط الضوء عليها.

يختلف الوجوديون في استعمال مفهوم القلق، فكل من كيركيجارد، وهيدغر، وسارتر، يفهم القلق على نحو مختلف، مع ذلك فهناك تقارب وثيق بينهم، وقد اعتراف كل من هيدغر وسارتر بأن الفكرة مستمدة من كيركيجارد، حيث يقول هايدغر: إن من سار إلى أبعد مدى في تحليل مفهوم القلق هو سورن كيركيجارد، ويقابل سارتر بين أوصاف القلق عند كيركيجارد وهيدغر، فيقول: إنها لا تبدو لنا متناقضة، بل على العكس فكل وصف منها يتضمن الآخر. ويتفق هؤلاء الكتاب على أن القلق يكشف بطريقة خاصة عن الوضع الإنساني، فهو عند هيدغر: الطريقة الأساسية التي يجد بها المرء نفسه. ولا شك في أن النظر إلى القلق على أنه مفتاح أساسي لفهم الوجود البشري ينطوي ضمناً على تلك الرؤية الوجودية والفينومينولوجية للوجدان.

وبما أن كيركيجارد هو الرائد الأول في استعمال مفهوم القلق، يتحدث (جون ماكوري) في كتابه الشهير والموسوم بـ(الوجودية) عن ما يعنيه كيركيجارد بالقلق، على أن ماكوري يشير إلى أن الذي يطرحه كيركيجارد عن القلق ليس واضحاً... ويقدم كيركيجارد مفهوم القلق في سياق مناقشته لأصل الخطيئة، فما الذي يجعل الخطيئة ممكنة؟ وهي المداولة في سفر التكوين، إلا أن كيركيجارد يقدم وجهات نظر مخالفة، فيفهم منها على أنها تصف حادثة أو تطوراً في حياة الموجود البشري، وهو الانتقال من البراءة إلى الخطيئة، وحالة القلق هي التي تجعلها ممكنة. ويوصف هذا القلق بثلاثة طرق:

أ-هو ملازم لحالة البراءة، ويوضح كيركيجارد ذلك بمثال، وهو الجنس أو الجانب الجسدي في الفرد، فهناك ضيق يظهر في نشاط الجسد، ومن ثم يفقد المرء البراءة ويتغير وجوده تغيراً كيفياً.

ب-هو ملازم للحرية، والحرية تعني الإمكان، ويقول ماكوري في توضيح ذلك: الحرية بطبيعة ذاتها حبلى بالإمكان، وما يخبره المرء بوصفه القلق الأصلي هو تحرك الإمكان في أحشاء الحرية.

جـ-ملازمة القلق لتكوين الإنسان الخاص بوصفه جسداً ونفساً تجمعهما الروح، فطريقة تكوين الإنسان ذاتها تجعله معرضاً للتوتر، وهذا التوتر هو القلق، ومهمة الإنسان هي إنجاز مركب الجسد والنفس، وهي مهمة مشحونة بالقلق منذ بدايتها، وبهذا فالقلق خاصة تتسم بها الظاهرة البشرية، فالحيوان لا يعرف شيئاً عن القلق، لأن حياته جسدية خالصة، كذلك الملك لا يعرف شيئاً عن القلق لأن حياته عقلية خالصة،  أما الإنسان، فبضوء تركيبه من الثنائية المذكورة، فهو يعيش في ظل القلق.

أما هايدغر، فيذهب إلى أن ظاهرة القلق تقدم لنا واحدة من أبعد الإمكانات أثراً، وأعظمها أصالة في كشف الوجود. وإذا كان كيركيجارد قد ناقش مفهوم القلق من منطلق الخطيئة، فإن المنطلق الهايدغري لفهم مفهوم القلق يكمن في ما يسميه بـ السقوط، فما يحدث في حالة السقوط هو أن الموجود البشري يهرب من ذاته، فهو قد يفقد نفسه في وجود غير أصيل مع الآخر وهو ما يسمى بالـوهم، أو الاهتمام بشؤون عالم الأشياء، ومع ذلك فإن فرار المرء من ذاته يوحي هو نفسه بأن الموجود البشري قد يواجه نفسه بالفعل بطريقة ما.

ويشير هايدغر إلى أن ما يشعر المرء إزاءه بالقلق هو شيء غير متعين تماماً، وعلى ذلك فنحن لا نعرف ما الذي يجعلنا نقلق ولسنا نستطيع أن نشير إلى شيء محدد، فما يجعل القلق ينشأ هو: لا شيء، وهو لا يوجد في مكان، ومع ذلك فهو لصيق بنا إلى حد أنه يطغي علينا ويخنقنا، وهو ليس هذا الشيء الجزئي أو ذاك، وإنما هو العالم أو الوجود في العالم، وبالتالي، فإن حالة القلق تقدم لنا شيئاً يشبه الكشف الكلي للوضع البشري.

ويؤكد هايدغر على أن في حالة القلق، تتلاشى الأشياء الموجودة في العالم، ويدرك الموجود البشري أنه لا يمكن أن يجد نفسه في العالم، فيرتد إلى نفسه في حريته الفريدة وإمكانه، فالقلق إذن، يجعل الإنسان وجهاً لوجه أمام وجوده الحر من أجل إثبات أصالة وجوده. وكما رأى كيركيجارد في القلق مدخلاً للإيمان، فكذلك يرى هايدغر في القلق جانباً إيجابياً، حيث إنه يوقظنا من أوهامنا وأماننا الزائف، ويواجه الفرد بمسؤوليته، ويدعوه لإدراك وجوده الأصيل.

 أن وصف كيركيجارد للقلق في مواجهة ما يفتقر إليه المرء يجعل منه قلقاً إزاء الحرية، أما هايدغر فهو يدرس القلق بدلاً من ذلك على أنه رهبة العدم؛ هكذا يميز سارتر بين تفسيري القلق، ولكن، هل نجح سارتر في الوصول إلى فهم مركب للرأيين السالفين؟ يجيب ماكوري عن ذلك بقوله: إن المركب الذي صاغه سارتر يقع في إطار حركة جدلية دقيقة بين الحرية والعدم، فهو يبدأ بفكرة القلق عند كيركيجارد بوصفه دوار الحرية، وليس ذلك خوفاً يقع لي من شيء يحدث خارجاً عني، بل إن القلق بالأحرى: لأنني لا أثق في نفسي، وفي ردود فعلي الخاصة.

من هذا ينتهي سارتر إلى القول بأن الإنسان محكوماً عليه أن يكون حراً، فليست الحرية، إذن، حرية بسيطة على الإطلاق، وإنما هي حرية يثيرها ويقيدها المسؤولية، وفي ممارستي لهذه الحرية أخبر القلق، وفي استطاعتي أن أتجنب القلق بالالتجاء إلى أنماط الفعل المتعارف عليه، أو المعايير المألوفة للقيمة، لكن الثمن الذي أدفعه هو السقوط في الإيمان السيء، فسارتر مثل كيركيجارد وهايدغر، يرى القلق شيئاً ينبغي تحمله لا الفرار منه.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

تمهيد: ثيودور لودفيج فيزنجروند-أدورنو هو فيلسوف وعالم اجتماع وملحن وعالم موسيقى ألماني. ولد لأب من عائلة يهودية ألمانية، أوسكار ألكسندر فيزنغروند، تاجر، وأم فرنسية كاثوليكية ماريا كالفيلي أدورنو ديلا بيانا، مغنية. كان أدورنو طالبًا في مجال التأليف لدى ألبان بيرج، وهاجر مع ظهور النازية إلى إنجلترا ثم إلى الولايات المتحدة، حيث تعاون بشكل وثيق مع عمل معهد البحوث الاجتماعية الذي أسسه ماكس هوركهايمر، وكتب العديد من الأعمال الفلسفية. ويلعب دور المستشار الموسيقي لتوماس مان في روايته "الدكتور فاوستس". عاد إلى فرانكفورت في عام 1949، وأصبح أستاذًا جامعيًا، ومديرًا لمعهد البحوث الاجتماعية، ومن عام 1963 إلى عام 1967، رئيسًا للجمعية الاجتماعية الألمانية. عضو بارز (مع ماكس هوركهايمر) في مدرسة فرانكفورت، التي تحاول تحت شعار "النظرية النقدية" مواجهة التفكير الفلسفي والتاريخي والاجتماعي الألماني الكلاسيكي بالتعاليم المشتركة للماركسية والتحليل النفسي، وهو يكرس نفسه بشكل كبير لـ علم اجتماع الاستهلاك الثقافي والإبداع الفني، تحت تأثير وسائل الاتصال الجماهيري بشكل خاص، مع التركيز بشكل خاص على الموسيقى.

الترجمة

لقد طور أدورنو وغيره من منظري مدرسة فرانكفورت نظرية الاغتراب في فلسفة كارل ماركس وطبقها على السياقات الاجتماعية الثقافية. لقد انتقد التفسير الميكانيكي للماركسية باعتبارها "نظرية علمية"، والتي قدمها منظرو "المعتمدون" في الاتحاد السوفييتي. لقد زعم أدورنو أن الرأسمالية المتقدمة تختلف عن الرأسمالية المبكرة، وبالتالي فإن النظرية الماركسية القابلة للتطبيق على الرأسمالية المبكرة لا تنطبق على الرأسمالية المتقدمة. وعلاوة على ذلك، فقد أكد أن "تحويل" أو "تسليع" الحياة البشرية يجب أن يكون القضية الأساسية للماركسية. لقد تأثر أدورنو إلى حد كبير بتطبيق والتر بنيامين لفكر كارل ماركس. لقد زعم أدورنو، إلى جانب منظرين آخرين من مدرسة فرانكفورت مثل هوركهايمر وماركوز، أن الرأسمالية المتقدمة كانت قادرة على احتواء أو تصفية القوى التي من شأنها أن تؤدي إلى انهيارها وأن اللحظة الثورية، عندما كان من الممكن تحويلها إلى اشتراكية، قد مرت. لقد زعم أدورنو أن الرأسمالية أصبحت أكثر ترسخًا من خلال هجومها على الأساس الموضوعي للوعي الثوري ومن خلال تصفية الفردية التي كانت تشكل أساس الوعي النقدي. لقد ركزت أعمال أدورنو على الفن والأدب والموسيقى كمجالات رئيسية للنقد الحسي غير المباشر للثقافة الراسخة وأنماط التفكير المتحجرة.

الصناعة الثقافية

تهيمن الحجة، المعقدة والجدلية، على نظريته الجمالية وفلسفة الموسيقى الجديدة والعديد من أعماله الأخرى. إن صناعة الثقافة تُرى كساحة يتم فيها القضاء على الاتجاهات أو الإمكانات النقدية. وقد زعم أن صناعة الثقافة، التي تنتج وتوزع السلع الثقافية من خلال وسائل الإعلام الجماهيرية، تتلاعب بالسكان. وقد تم تحديد الثقافة الشعبية كسبب يجعل الناس سلبيين؛ فالملذات السهلة المتاحة من خلال استهلاك الثقافة الشعبية تجعل الناس مطيعين وراضين، بغض النظر عن مدى فظاعة ظروفهم الاقتصادية. إن الاختلافات بين السلع الثقافية تجعلها تبدو مختلفة، لكنها في الواقع مجرد اختلافات في نفس الموضوع. يتصور أدورنو هذه الظاهرة، الفردية الزائفة والشيء نفسه دائمًا. لقد رأى أدورنو أن هذه الثقافة المنتجة بكميات كبيرة تشكل خطرًا على الفنون الراقية الأكثر صعوبة. كما تزرع الصناعات الثقافية احتياجات زائفة؛ أي الاحتياجات التي تخلقها وتشبعها الرأسمالية. على النقيض من ذلك، فإن الاحتياجات الحقيقية هي الحرية، والإبداع، أو السعادة الحقيقية. ومع ذلك، انتقد البعض تقدير أدورنو العالي للفنون الراقية باعتباره نخبوية ثقافية. قام أدورنو ببعض الأعمال حول الثقافة الجماهيرية بالاشتراك مع هوركهايمر. لقد أثر عمله بشكل كبير على الخطاب الفكري حول الثقافة الشعبية والدراسات العلمية الثقافة الشعبية. في الوقت الذي بدأ فيه أدورنو الكتابة، كان هناك قلق هائل بين العديد من المثقفين فيما يتعلق بنتائج الثقافة الجماهيرية والإنتاج الجماهيري على شخصية الأفراد داخل الأمة. من خلال استكشاف آليات إنشاء الثقافة الجماهيرية، قدم أدورنو إطارًا أعطى مصطلحات محددة لما كان مصدر قلق أكثر عمومية. في ذلك الوقت، كان هذا يعتبر مهمًا بسبب الدور الذي لعبته الدولة في الإنتاج الثقافي؛ سمح تحليل أدورنو بنقد الثقافة الجماهيرية من اليسار والذي حقق التوازن مع نقد الثقافة الشعبية من اليمين. من كلا المنظورين - اليسار واليمين - كان يُنظر إلى طبيعة الإنتاج الثقافي على أنها جذر المشاكل الاجتماعية والأخلاقية الناتجة عن استهلاك الثقافة. ومع ذلك، بينما أكد النقد من اليمين على الانحطاط الأخلاقي المنسوب إلى التأثيرات العاطفية والعرقية داخل الثقافة الشعبية، تناول أدورنو المشكلة من منظور اجتماعي وتاريخي وسياسي واقتصادي.لقد هاجم أدورنو، إلى جانب غيره من المفكرين الرئيسيين في مدرسة فرانكفورت، الفلسفة الوضعية في العلوم الاجتماعية. وكان شديد القسوة بشكل خاص على المناهج التي ادعت أنها علمية وكمية، على الرغم من أن العمل الجماعي لمدرسة فرانكفورت، "الشخصية الاستبدادية"، الذي ظهر تحت اسم أدورنو كان أحد أكثر الدراسات التجريبية تأثيرًا في العلوم الاجتماعية في أمريكا لعقود من الزمان بعد نشره في عام 1950.

جدلية التنوير

في كتاب جدلية التنوير، الذي ألفه بالاشتراك مع ماكس هوركهايمر، قام أدورنو بفحص نقدي لمفاهيم الحداثة والعقلانية والتنوير من خلال توسيع نطاق نقده ليشمل الحضارة الحديثة المتجذرة في العصور القديمة. وكان هذا العمل بمثابة الأطروحة الفلسفية الرئيسية لمدرسة فرانكفورت. وفي هذا الكتاب، زعم أدورنو أن السبب النهائي للاغتراب لا يكمن في التناقض داخل أشكال الاقتصاد الرأسمالية أو الأسطورة المناهضة للتنوير المتمثلة في الشمولية، بل إن السبب النهائي للاغتراب يكمن في فكرة التنوير نفسها. وأكد أن المثل الأعلى للتنوير هو تحرير البشر من عبودية وسيطرة السحر والأسطورة والقوى غير العقلانية الأخرى التي تسببت في الخوف والرعب لدى الناس. بعبارة أخرى، فإن التنوير يعني التحرر من عوامل الهيمنة غير العقلانية هذه. كان يعتقد أن العقلانية، على النقيض من الأساطير غير العقلانية ومفاهيم السحر، هي العنصر الأساسي للسيطرة على العوامل غير العقلانية، وتحفيز التقدم، وعقلنة الحضارة. وبالتالي، تم بناء الحضارة الحديثة نتيجة للسعي إلى تحقيق المثل الأعلى للتنوير. ومع ذلك، فإن الحضارة الغربية الحديثة، التي كان من المفترض أن تكون تجسيدًا لمثل هذه العقلانية، أدت إلى ولادة أعمال إرهابية همجية مثل النازية والقتل الجماعي الذي ارتكبه ستالين. وتساءل أدورنو، وكذلك غيره من المثقفين، كيف يمكن لمثل هذه الدول الهمجية أن تنشأ في سياق الحداثة المبنية على المثل العليا للتنوير.

لم ير أدونو هذه الأعمال الإرهابية الشمولية على أنها تتعارض مع التنوير، أو رجوعًا إلى العقلانية القائمة على الأساطير والسحر. لقد زعم أن هذه العناصر غير العقلانية موجودة داخل أفكار التنوير نفسها. فما هو مفهوم التنوير؟ كان التنوير يعني عمومًا فكرة التقدم في القرن الثامن عشر، والتي حرر بها البرجوازيون أنفسهم من قيود الإقطاع في العصور الوسطى. واستعار أدورنو أفكار ماكس فيبر، وأعاد تعريف فكرة التنوير باعتبارها تحرير العالم من الأساطير، ووسعها كمبدأ عالمي يوجه تطور الحضارة الإنسانية. فما هو مصير التنوير؟ زعم أدورنو أن جوهر التنوير كان رغبة البشرية في السيطرة على الطبيعة. وحدد أنه في هذه العملية، أسست العقلانية الآلية الإنسان كموضوع للهيمنة وحولت الطبيعة إلى مجرد موضوع للهيمنة. ولكن التنوير (الهيمنة على الطبيعة) أدى إلى هيمنة العنصر الطبيعي الموجود داخل الذات في شكل الأخلاق. ولقد أدى هذا بالتالي إلى ولادة المجتمع باعتباره "الطبيعة الثانية"، وأدى إلى إخضاع الإنسان للآخرين، وفي النهاية أدى إلى إخضاع الإنسان للمجتمع الذي تم تأسيسه. كما زعم أدورنو أن التنوير كان يحتوي على عناصر همجية متأصلة فيه، وأوضح هذه النقطة باستخدام الأسطورة اليونانية، الأوديسة. فبالنسبة لأدورنو، كان التنوير يحتوي على عنصر أدى إلى تدميره الذاتي، وبالتالي جلب جنون النازية والستالينية والشمولية والشخصية التسلطية. كان العمل، الذي كتب بنبرة متشائمة، بمثابة نقد ذاتي للعقل والنظرية النقدية. وبعد هذا العمل، التزم هوركهايمر الصمت ووجد أدورنو أثرًا للأمل في الفنون. ثم تأمل لاحقًا في المنهجية الفلسفية لنظريته الثقافية النقدية وقدمها في "الجدلية السلبية".

"الأخلاقيات الدنيا"

كتب أدورنو كتابه "الأخلاقيات الدنيا"، وهو نص مهم في النظرية النقدية، أثناء الحرب العالمية الثانية، بينما كان المؤلف يعيش في المنفى في أميركا. وقد كتب في الأصل بمناسبة الذكرى الخمسين لميلاد ماكس هوركهايمر، المؤلف المشارك لكتاب "جدلية التنوير" لأدورنو. يستمد الكتاب عنوانه من كتاب "الأخلاق العظيمة"، وهو العمل الكلاسيكي لأرسطو في الأخلاق. وكما كتب أدورنو في المقدمة، فإن "المعرفة الحزينة" (وهي تلاعب بالألفاظ على كتاب نيتشه "المعرفة المبهجة") الذي يتناوله الكتاب هي "تعليم الحياة الطيبة"، وهو موضوع مركزي في كل من المصادر اليونانية والعبرية للفلسفة الغربية. واليوم، يؤكد أدورنو أن الحياة الطيبة الصادقة لم تعد ممكنة، لأننا نعيش في مجتمع غير إنساني. "الحياة لا تحيا"، هكذا يعلن الكتاب في افتتاحيته. ويوضح أدورنو هذا الأمر في سلسلة من التأملات القصيرة والأقوال المأثورة التي ينقسم إليها الكتاب، فينتقل من التجارب اليومية إلى رؤى مقلقة حول الاتجاهات العامة للمجتمع الصناعي المتأخر. وتشمل الموضوعات التي تمت مناقشتها الطبيعة التخريبية للألعاب، وخراب الأسرة، وسذاجة الصدق، وتدهور المحادثة، وظهور السحر، وتاريخ اللباقة. ويوضح أدورنو كيف أن أصغر التغييرات في السلوك اليومي تقف في علاقة مع أكثر الأحداث كارثية في القرن العشرين. ويعترف الكتاب بجذوره في "الحياة المدمرة" لمؤلفه، وهو واحد من العديد من المثقفين الذين دفعتهم الفاشية إلى المنفى، والذين، وفقًا لأدورنو، "تم تشويههم دون استثناء". ولكن كما تقول إحدى أقواله المأثورة، "الشظية في عينك هي أفضل عدسة مكبرة". وعلى هذا، وباعتبارها شظايا متبقية من مرآة الفلسفة المحطمة، فإن شظايا الكتاب تحاول تسليط الضوء على أدلة تشير إلى انحدار البشرية إلى اللاإنسانية في محيطها المباشر. إن كتاب "الأخلاق الدنيا" الذي يعتبر نوعاً من الفلسفة ما بعد الفلسفية التي تعمل ضد "الكل غير الحقيقي" للفلسفة ذاتها، يتمسك بقوة بالرؤية اليهودية المسيحية التنويرية للخلاص، والتي يعتبرها وجهة النظر الوحيدة الصالحة للتعامل مع عالم مضطرب للغاية. ومن خلال تسليط "الضوء المسيحي" للنقد على مشهد من السلبية المطلقة، يحاول أدورنو "إسقاط صورة سلبية لليوتوبيا".

الأساليب الاجتماعية لأدورنو

لأن أدورنو كان يعتقد أن علم الاجتماع يحتاج إلى أن يكون تأمليًا ونقديًا ذاتيًا، فقد اعتقد أن اللغة التي يستخدمها عالم الاجتماع، مثل لغة الشخص العادي، هي بناء سياسي إلى حد كبير يستخدم، غالبًا دون تفكير، المفاهيم التي تبنتها الطبقات المهيمنة والهياكل الاجتماعية (مثل مفهومنا عن "الانحراف" الذي يشمل كل من الأفراد المنحرفين حقًا و"المحتالين" الذين يعملون دون المعايير الاجتماعية لأنهم يفتقرون إلى رأس المال للعمل فوقها). وبالتالي، شعر أدورنو أن البشر في قمة المعهد (وكانوا جميعًا بشرًا) يحتاجون إلى أن يكونوا المصدر الأساسي للنظريات للتقييم والاختبار التجريبي، فضلاً عن الأشخاص الذين سيعالجون "الحقائق" المكتشفة... بما في ذلك مراجعة النظريات التي وجد أنها خاطئة. على سبيل المثال، في المقالات المنشورة في ألمانيا عن عودة أدورنو من الولايات المتحدة، والتي أعيد طبعها في مجموعة مقالات النماذج النقدية، أشاد أدورنو بالمساواة والانفتاح في المجتمع الأميركي استناداً إلى إقامته في نيويورك ومنطقة لوس أنجلوس بين عامي 1935 و1955. وقبل ذهابه إلى الولايات المتحدة، وكما يتبين في مقالته سيئة السمعة "عن موسيقى الجاز"، يبدو أن أدورنو كان يعتقد أن الولايات المتحدة كانت أرضاً قاحلة ثقافياً حيث تشكلت عقول الناس واستجاباتهم من خلال ما أسماه بوقاحة "موسيقى العبيد". وأخيراً، تأتي بعض الانتقادات الموجهة إلى أدورنو من أولئك الذين يشعرون بأنهم مجبرون على قراءة أعماله، أو القارئ العادي الذي يتوقع أن يجد معلقاً محايداً، عادة على قضايا الموسيقى. إن المشكلة تكمن إلى حد ما في الخلفية: فقد لاحظ كثيرون أن أدورنو لم يكن يتعاطف كثيراً مع القراء الذين لا يتمتعون بخلفية ثقافية واسعة النطاق، والتي تضمنت معرفة عميقة بالفلسفة الألمانية وتاريخ الأدب والموسيقى، فضلاً عن القدرة على الجدال انطلاقاً من "المبادئ الأولى". ويمكننا أن نجد مثالاً واحداً على الصدام بين الثقافة الفكرية وأساليب أدورنو في بول لازارسفيلد، عالم الاجتماع الأميركي الذي عمل معه أدورنو في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، بعد فراره من هتلر. كما يروي رولف ويجرشاوس في كتابه "مدرسة فرانكفورت وتاريخها ونظرياتها وأهميتها السياسية" (معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا 1995): كان لازارسفيلد مدير مشروع ممول ومستوحى من ديفيد سارنوف (رئيس شركة راديو أمريكا)، وكان الهدف منه اكتشاف نوع الموسيقى التي يحبها مستمعو الراديو والسبل الكفيلة بتحسين "ذوقهم"، حتى تتمكن شركة راديو أمريكا من بث المزيد من الموسيقى الكلاسيكية بشكل مربح... ويبدو أن سارنوف كان مهتماً حقاً بالمستوى المتدني للذوق في عصر "خاصة من أجلك" وغيرها من الأغاني الناجحة المنسية، ولكنه كان بحاجة إلى ضمانات بأن تتمكن شركة راديو أمريكا من بث الأوبرا في فترة ما بعد الظهيرة من أيام السبت. ولكن لازارسفيلد واجه مشاكل مع أسلوب النثر في العمل الذي سلمه أدورنو وما اعتقده لازارسفيلد أنه عادة أدورنو في "الاستنتاجات المتسرعة" دون أن يكون على استعداد للقيام بالعمل الشاق المتمثل في جمع البيانات. ولكن يبدو أن أدورنو لم يكن متعجرفاً، بل كان يتمتع بشخصية كئيبة، ويروي لنا رولف ويجرشاوس حكاية لا تتناسب مع الصورة التي تشكلت عن شخص متغطرس متعصب: فقد لاحظ أن الكتّاب في مشروع أبحاث الراديو أعجبوا بما قاله أدورنو عن التأثير الفعلي لوسائل الإعلام الحديثة وفهموه. وربما استجابوا لتعليقات مماثلة لتلك التي وردت في كتاب "جدلية التنوير"، الذي كتبه أدورنو مع زميله المقرب ماكس هوركهايمر، والتي مفادها أن رواد السينما كانوا أقل انبهاراً بمحتوى حتى "أفلام الإثارة" في ذلك العصر، وهي الأفلام التي يشيد بها الآن خبراء هوليوود باعتبارها "فناً"، من انبهارهم بالراحة المكيفة في دور السينما. وهي الملاحظة التي انعكست في صناعة السينما في ذلك الوقت من خلال التعبير القائل بأن المرء يجد مكاناً جيداً لبيع الفشار ويبني حوله مسرحاً.

الموسيقى والإطار النظري لأدورنو

إن المنهج النظري لأدورنو وثيق الصلة بفهمه للموسيقى وتقنيات أرنولد شونبيرج وغيره من الملحنين المعاصرين غير النغمية (أقل من "الاثني عشر نغمة") (كان أدورنو قد درس التأليف لعدة سنوات مع ألبان بيرج)، والتي تحدت الطبيعة الهرمية للنغمة التقليدية في التأليف. فحتى لو كان "الكل غير صحيح"، فإننا بالنسبة لأدورنو نحتفظ بالقدرة على تكوين تصورات نقدية جزئية وإخضاعها للاختبار مع تقدمنا نحو وعي "أعلى". كان هذا الدور للوعي النقدي شاغلاً مشتركًا في المدرسة الفيينية الثانية قبل الحرب العالمية الثانية، وطالب الملحنين بالتعامل مع التقاليد باعتبارها مجموعة من المحرمات وليس مجموعة من التحف الفنية التي يجب تقليدها. وبالنسبة للملحن (الشاعر والفنان والفيلسوف) في هذا العصر، كان من المرجح أن يكون كل عمل فني أو فكر صادمًا أو صعب الفهم. إن الفن الجديد لم يكن ليتمكن من تحدي الافتراضات الثقافية السائدة إلا من خلال "عدم قبوله بشكل تآكلي" من قِبَل الحساسيات التجارية للطبقة المتوسطة. ويزعم أتباع أدورنو أنه يبدو أنه نجح في تحقيق الفكرة ذاتها التي مفادها أن المرء يستطيع أن يتخلى عن الملكة بينما يظل قادراً على تصنيف الظواهر الفنية والأخلاقية على مقياس مؤقت، ليس لأنه كان عاطفياً بشأن هذه القدرة، بل لأنه رأى أن الدافع نحو الكلية (سواء الكلية الستالينية أو الفاشية في عصره، أو العولمة التي تجتاح السوق اليوم) مشتق من القدرة على إصدار أحكام أخلاقية وفنية، والتي اعتبرها أدورنو، على غرار كانط، جزءاً من الطبيعة البشرية. وعلى هذا فإن طريقته (أو بالأحرى: الطريقة المضادة) كانت استخدام اللغة ومفاهيمها "الكبيرة" على نحو مؤقت وموسيقي، جزئياً لمعرفة ما إذا كانت "تبدو صحيحة" وتتناسب مع البيانات. على سبيل المثال، سؤاله في كتابه "الشخصية الاستبدادية". كان هذا العمل وغيره من الأعمال التي كتبها أثناء إقامته في كاليفورنيا يدور حول ما إذا كان من الممكن الحديث عن الاستبداد الأصولي الأميركي باعتباره مرتبطاً بالفاشية القارية دون أن نبدي تلميحاً زائفاً إلى الشمول الجزئي لـ"نظرية" مفادها أن الاستبداد الأميركي قد يجلب شكلاً مختلفاً من أشكال الفاشية في الولايات المتحدة، ولكنه أشد ضرراً أو أقل ضرراً. كان أدورنو مهتماً بأن يحتفظ علم الاجتماع الحقيقي بالتزامه بالحقيقة بما في ذلك الاستعداد للتطبيق الذاتي. واليوم، يمكن قراءة حياته باعتبارها احتجاجاً على ما أسماه "تحويل" استطلاعات الرأي السياسية إلى شيء مادي، فضلاً عن ثقافة تبدو وكأنها "مناهضة" للثقافة الراقية، وتنتج كل عام المزيد والمزيد من التحف الثقافية ذات الجودة الأقل، والتي يستهلكها "معجبوها" باشمئزاز، ويُنظَر إليها باعتبارها أشياء في حد ذاتها.

أدورنو ومنتقدوه

تشمل الانتقادات الموجهة لنظريات أدورنو ماركسيين آخرين. ومن بين المنتقدين الآخرين رالف داريندورف وكارل بوبر، والفلاسفة الوضعيين، والمحافظين الجدد، والعديد من الطلاب الذين شعروا بالإحباط من أسلوب أدورنو. ويتهم العديد من الماركسيين المنظرين النقديين بالزعم بأنهم يمتلكون التراث الفكري لكارل ماركس دون الشعور بالالتزام بتطبيق النظرية على العمل السياسي.

الانتقادات الماركسية

وفقًا لكتاب هورست مولر "نقد النظرية النقدية"، يفترض أدورنو أن الكلية عبارة عن نظام آلي. وهذا يتفق مع فكرة أدورنو عن المجتمع باعتباره نظامًا منظمًا ذاتيًا، يجب على المرء الهروب منه (ولكن لا يستطيع أحد الهروب منه). بالنسبة له، كان موجودًا، لكنه غير إنساني، بينما يجادل مولر ضد وجود مثل هذا النظام. في حجته، يزعم أن النظرية النقدية لا تقدم أي حل عملي للتغيير المجتمعي. ويخلص إلى أن يورجن هابرماس، على وجه الخصوص، ومدرسة فرانكفورت، على وجه العموم، أساءا فهم ماركس.

وصف الفيلسوف الماركسي جورج لوكاش أدورنو بأنه كان يقيم في "فندق جراند أبيس"، في مقدمة كتابه "نظرية الرواية" عام 1962. وقد فُهم هذا على أنه يعني أن لوكاش (الذي كان في ذلك الوقت يؤيد "الواقعية الاشتراكية" والماركسية في نظام ألمانيا الشرقية بشكل عام) ربط أدورنو بماركسية بدائية قديمة، كانت تستسلم لليأس، على الرغم من أسلوب الحياة البرجوازي المريح. لقد أقام جزء كبير من كبار المثقفين الألمان، ومنهم أدورنو، في "فندق جراند أبيس" الذي وصفته في سياق نقدي لشوبنهاور بأنه "فندق جميل مجهز بكل وسائل الراحة، على حافة الهاوية، العدم، العبث. والتأمل اليومي في الهاوية بين الوجبات الممتازة أو الترفيه الفني، لا يمكن إلا أن يزيد من الاستمتاع بالراحة الدقيقة المقدمة".

الانتقادات الوضعية

يتهم الفلاسفة الوضعيون أدورنو بالتنظير دون إخضاع نظرياته للاختبارات التجريبية، ويستندون في انتقادهم إلى مراجعة كارل بوبر للوضعية المنطقية حيث استبدل بوبر "قابلية التزييف" كمعيار للعلمية بمعيار "قابلية التحقق" الأصلي للمعنى الذي اقترحه  لوكاش آير وغيره من أصحاب المذهب الوضعي المنطقي الأوائل. وعلى وجه الخصوص، يطبق مفسرو كارل بوبر اختبار "قابلية التكذيب" على فكر أدورنو ويجدون أنه كان مراوغًا عندما قُدِّمت له أدلة مخالفة. ويتبع روبرت كورتز، مؤلف كتاب (الكتاب الأسود للرأسمالية)، خط فكر أدورنو.

نقد المحافظين الجدد

بالاعتماد على نقد الوضعيين، يسخر المحافظون الجدد من أدورنو باعتباره منظِّراً غير راغب في الخضوع للتزوير التجريبي، ويرون في تعقيد فكره مورداً لـ"الصواب السياسي" لتقديم مبررات مطولة لمخططات الهندسة الاجتماعية غير الجديرة بالاهتمام وغير الشفافة. ومع ذلك، يقدم أتباع ليو شتراوس نقداً أكثر تعقيداً، والذين يؤمنون أيضاً بتفسير الثقافة، وكثيراً ما يرددون صدى العديد من انتقادات أدورنو لسهولة الوصول نحوالفن. ويستند نقدهم إلى الطبيعة المناهضة للرأسمالية لتوجه أدورنو، حيث يزعمون أنه في حين قد تتكون الثقافة الجماهيرية من "الخبز والسيرك"، فإن هذه الأشياء ضرورية للوظيفة الاجتماعية وأن إزالتها أو تقليص أهميتها باعتبارها "أكاذيب مفيدة"، من شأنه أن يهدد استمرار عمل السوق والمجتمع، فضلاً عن الحقيقة الفلسفية العليا.

خاتمة: ردود أدورنو على منتقديه

يرد المدافعون عن أدورنو على منتقديه من أصحاب المذهب الوضعي والمحافظين الجدد بالإشارة إلى أبحاثه العددية والتجريبية المكثفة، ولا سيما "مقياس F" في عمله حول الميول الفاشية في الشخصيات الفردية في كتابه "الشخصية الاستبدادية". وفي الواقع، كان البحث الكمي باستخدام الاستبيانات وغيرها من أدوات عالم الاجتماع الحديث مستخدمًا بالكامل في معهد أدورنو للبحوث الاجتماعية. كما زعم أدورنو أن الشخصية الاستبدادية سوف تستخدم الثقافة واستهلاكها بطبيعة الحال لممارسة السيطرة الاجتماعية، ولكن مثل هذه السيطرة مهينة بطبيعتها لأولئك الذين يخضعون لها، وبدلاً من ذلك فإن مثل هذه الشخصيات سوف تعكس خوفها من فقدان السيطرة على المجتمع ككل. ولكن باعتباره رائداً في علم الاجتماع التأملي الذاتي الذي سبق قدرة بورديو على وضع تأثير التأمل في الاعتبار على الكائن المجتمعي، أدرك أدورنو أن بعض الانتقادات (بما في ذلك التعطيل المتعمد لفصوله الدراسية في الستينيات) لا يمكن الرد عليها أبداً في حوار بين أنداد إذا كان يعتقد على ما يبدو أن ما يعتقده علماء الإثنوغرافيا أو علماء الاجتماع السذج عن جوهر الإنسان يتغير دوماً بمرور الوقت.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

تعد الهوية من أكثر المفاهيم التي تضخمت بشأنها المقاربات ودراسات البحث عن معانيها، إلى درجة أن يقول المفكر الألماني الفرنسي ألفرد جروسر: " القليل من المفاهيم التي حظيت بالتضخيم الذي عرفه مفهوم الهوية". والسبب في ذلك يعود إلى تناثر هذا المفهوم في عدد من العلوم الإنسانية، وتداخله في سياقات فكرية .

إن الهوية مفهوم مركب ومعقد، ولا يوجد تعريف دقيق وشامل له، وقد تناول العلماء هذا المفهوم كل حسب تخصصه واتجاهه الفكري، وعلى الرغم من التطور الذي عرفه هذا المفهوم وتعدد المقاربات النظرية التي عاجلته، إلا أنه لم يحظى بتعريف شامل ودقيق.

والسؤال الآن: ما إشكالية الهوية في ضوء المعنى والدلالة والتاريخ؟

يتحدد مفهوم الهوية بناء على الدلالة اللغوية والفلسفية والسوسيولوجية والتاريخية لهذا المصطلح، ويقابل مصطلح الهوية بالعربي كلمة " identité" وidentity في الفرنسية والإنجليزية، وهو من أصل لاتيني ويعني: الشيء نفسه، أو الشيء الذي هو ما هو عليه، أي أن الشيء له الطبيعة نفسها التي للشيء الأخر، كما يعين هذا المصطلح في اللغة الفرنسية: مجموع المواصفات التي تجعل من شخص ما هو عينه شخص معروف أو متعين.

إذا بحثنا في معاجمنا العربية القديمة، فيندر تناول معنى الهوية وفق الاستعمال المعاصر، واستعمالاته في تلك المصادر تختلف عن المفهوم الحديث للهوية، فابن فارس يقول " الهوية موضع يهوى من عليه، أي يسقط . فالمعنى مختلف فهوى: جاءت في معنى السقوط من علو، ولا تدل على معناه اليوم، بينما جاء في المعجم الوسيط، ما هو أقرب للمتداول، وهو أن الهوية بضم الهاء، حقيقة الشيء أو الشخص التي تميزه عن غيره .

والهوية في اللغة العربية مصدر صناعي مركب من " هو " ضمير المفرد الغائب المعرف بأداة التعريف "ال" واللاحقة المتمثلة إلي "ي" المشددة وعلامة التأنيث، أي "ة"، وفي الفرنسية والإنجليزية واللاتينية يعين اللفظ iden أو id ضمير الإشارة للغائب بمعنى هو ذاته، ويستعمل هذا الضمبر للدلالة أحيانا على الاختصار وعدم التكرار عند الإشارة إلي شيء محدد. والكلمة المقابلة للفظ "الهوية " في اللغة الفرنسية هي لفظة "Identite "وهي من الأصل اللاتيني "Idem "الذي أنتج الصفة "Identicus"التي تفيد الشبيه والمماثل وتعارض ما هو مختلف ومتنوع.

وإذا كانت الهوية في اللغة العربية مشتقة من ضمير "هو " بإضافة ( الف، لام) التعريف والياء وتاء التأنيث أي الدلالة على ما يكون به الشيء هو نفسه لا غير، ويمتاز به من غيره أو ضده، فإن الفلاسفة يعتبرون أن لفظ الهوية مشتق من الهو كما تشتق الإنسانية من الإنسان، وأن هوية الشيء هو عينه كما قال أرسطو.

وقد نجم عن مركزية مفهوم الهوية تعدد في تجلياتها، لاسيما إذا احتكمنا إلى معيار الفكر الفلسفي حيث تشكل مفهوم الهوية العددية التي تطلق على الشيء من جهة ما هو واحد، ومن جهة كونه هو هو، والهوية الشخصية وتطلق على الشخص باعتباره يبقى هو هو رغم ما قد يطرأ عليه من تغييرات، وفي السياق نفسه يتنزل مفهوم الهوية الكيفية والهوية المنطقية.

وهنا يجب توضيح الفرق الكائن بين الهوية والغيرية، إذ هما متباينان وكلاهما في مقابل الآخر وضد العينية أي الذاتية التي هي من معاني الهوية . فالغيرية مشتقة من الغير وهو كون كل من الشيئين خلاف الآخر .

ومن هذا المنطلق بالذات جاء ذاك التحديد للهوية باعتبارها علامة تميز الفرد والمجموعة، إذ هي ما يتحدد نوعه وجنسه من خلال تعريف كل شخص أو كل مجتمع أو كل حضارة، إنها جملة من المكونات فيما يمكن تسميته لوضع الشخص في ثقافة معينة ومجتمع معين.

وتستعمل كلمة "هوية" في الأدبيات المعاصرة لأداء معنى كلمة "Identity "التي تعبر عن خاصية المطابقة" مطابقة الشيء لنفسه، أو مطابقته لمثيله، وفي المعاجم الحديثة فإن كلمة الهوية لا تخرج عن هذا المضمون، فهي حقيقة الشيء أو الشخص المطلقة، المشتملة على صفاته الجوهرية، والتي تميزه عن غيره، وتسمى أيضا وحدة الذات، أي: خلوها من التناقضات والتشتت، كما نظر إليها البعض من هذه الزاوية على أنها:" مقولة تعبر عن تساوي وتماثل موضوع أو ظاهرة ما مع ذاته، أو تساوي موضوعات عديدة مع بعضها، فالموضوعان "أ" و"ب" يكونان متطابقين من حيث الهوية إذا وفقط، إذا كانت كل الصفات والعلاقات التي تميز (أ) مميزة أيضا للموضوع (ب) والعكس بالعكس.

إن مفهوم الهوية من ناحية الدلالة اللغوية هي كلمة مركبة من ضمير الغائب "هو" مضاف إليها ياء النسبية التي تتعلق بوجود الشيء المعين، كما هو في الواقع بخصائصه ومميزاته التي يعرف بها، وهناك من يستبدل بالهوية كلمة تتكون من ضمير المتكلم "‘أنا" مع ياء النسبة فتصبح "إنية" وهذه ما تكلم عنها ابن سينا، وإن الهوية أو "الإنية" بهذا المعنى هي اسم الكيان أو الوجود على حاله، أي وجود الشخص أو الشعب أو الأمة كما هي بناء على مقومات ومواصفات وخصائص معينة متكن من إدراك ومعرفة صاحب الهوية بعينه دون اشتباه مع أمثاله من الأشياء.

ويتداخل مفهوم الهوية مع ومفهوم الماهية، فالهوية لغويا أن يكون الشيء هو هو وليس غيره، وهو قائم على التطابق والاتساق في المنطق، والماهية أن يكون الشيء " ما هو" بزيادة حف الصلة " ما" على الضمير المنفصل هو، والمعنى واحد، قد يجعل البعض الماهية أكثر عمقا من " الهوية".

وكما يتداخل مفهوم الهوية مع مفهوم الماهية فإنه يتداخل أيضا مع مفهوم الجوهر، وتنتسب المفاهيم الثالثة إلي جذر معنوي واحد، لا إلي جذر لغوي، إلي مفهوم الأصل، وإذا كان مفهوما " الماهية" و" الهوية" مشتقين لغويا من نفس الجذر " هو" فإن الجوهر استعارة من علم المعادن من الجوهر النفيس، فالشيء جوهر أي غال، وهو في نفس الوقت لب الأشياء كالمعدن النفيس بالنسبة إلي باقي الأحجار، ومنها " جوهرة"، وقد استعارها الفلاسفة في تسمية كتبهم مثل " جواهر القرآن" للغزالي.

وفي التراث الفكري العربي تعريفات كثيرة لـ " الهوية" إذ عرفها "الجرجاني" بأنه الأمر المتعقل من حيث امتيازه من الأغيار. و" الهوية" عند "ابن رشد " تقال بالترادف على المعنى الذي يطلق عليه اسم الموجود، وعند "الفارابي" " هوية الشيء: عينه وتشخصه وخصوصيته ووجوده المتفرد له الذي لا يقع فيه إشراك".

إن مفهوم الهوية ينطلق في ثقافتنا العربية من الأخر »هو" وليس من " الأنا: فالإحساس بالذات في الثقافة العربية ينطلق من تحديد هوية الآخر، سواء أكان في الداخل أم في الخارج.

لقد فرضت كلمة الهوية نفسها كمصطلح فلسفي يدل على ما به يكون الشيء نفسه"، وهذا يفيد أن معنى الهوية في الاصطلاح الفلسفي العريب قد استقر ليدل على ما به الشيء هو هو بوصفه وجودا منفردا متميزا من غريه، وتستعمل كلمة هوية في الأدبيات المعاصرة لأداء معين identity-identité التي تعرب عن خاصية مطابقة الشيء لنفسه أو الاشتراك مع شيء أخر الصفات والخصائص عينها.

ويعرف المفكر الفرنسي " ألكيس ميكشيللي " الهوية أنها: منظومة متكاملة من المعطيات المادية والنفسية والمعنوية والاجتماعية تنطوي على نسق من عمليات التكامل المعرفي وتتميز بوحدتها اليت تتجسد في الروح الداخلية اليت تنطي على خاصية الإحساس بالهوية والشعور بها، فالهوية هي وحدة من المشاعر الداخلية التي تتمثل في الشعور بالاستمرارية والتمايز والديمومة والجهد المركزي، وهذا يعين أن الهوية هي وحدة من العناصر المادية والنفسية المتكاملة التي تجعل الشخص يتمايز مما سواه ويشعر بوحدته الذاتية.

هذا ما نجده في تعريف " جريماس " للهوية، بحسبه، فإن مفهوم الهوية هو ضد الغيرية مثل النفس ضد الآخر، الهوية مهمتها تعيين مبدأ الدوام الذي يسمح للفرد بأن يبقى هو نفسه، وأن يواصل في كينونته طوال فترة وجوده ... رغم التغيرات التي يتسبب فيها أو يتعرض لها، رغم تحولات أنماط وجوده والأدوار التي يقوم بها .

كما تعددت المقاربات النظرية في العلوم الاجتماعية حول الهوية فيرى " ماركس" وأتباعه أن وعي الأفراد وهوايتهم حوصلة للعلاقات الاجتماعية المادية، ولا يمكن أن تتغير هذه الهوية إلا بتغيير العلاقات الاجتماعية المادية السائدة ... ويذهب "إميل دوركايم" إلي أنه في داخل كل فرد مكونا ومعطيات جمعية تتمثل الضمير الجمعي، وهذا الضمير الجمعي هو النواة البانية للهوية الجمعية ويرى "ماكس فيبر" أن الأفراد هم من يبنون المجتمع.

كما يعرفها "رشاد عبد الله الشامي" أنها الشفرة التي يمكن للفرد عن طريقها أن يعرف نفسه في علاقته بالجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها، والتي عن طريقها يتعرف عليه الآخرون اعتباره منتميا إلى تلك الجماعة، وهي شفر ة تتجمع عناصرها العرقية على مدار تاريخ الجماعة (التاريخ) من خلال تراثها الإبداعي (الثقافة) وطابع حياتها (الواقع الاجتماعي)، بالإضافة إلى الرموز، الألحان، والعادات التي تنحصر قيمتها في أنها عناصر معلنة تجاه الجماعات الأخرى، وهي أيضا التي تميز أصحاب هوية ما مشتركة عن سائر الهويات."

وقد ورد مفهوم الهوية عند "عبد العزيز بن عثمان التويجري" : على أنها " القدر الثابت والجوهري، والمشترك من السمات والقسمات العامة التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الحضارات، والتي تجعل للشخصية الوطنية أو القومية طابعا تتميز به عن الشخصيات الوطنية والقومية الأخرى.

نعني بالهوية مجموع الخصائص التي تميز مجموعة بشرية عن غيرها، مثل الجمال والتاريخ والثقافة واللغة والقيم والمعتقدات والنظم السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية، وغيرها من الثوابت والمتحركات التي تهيكل الكيان الفردي والجماعي.

إذن لا تتشكل الهويات من العدم أو الفراغ أنها حصيلة ديالكتيك اجتماعي وسيرورة إنبنائية باحثة عن التجانس والاندماج في إطار الجماعة، وهي إذ تنضج وتستكمل تشكلها، تستقر في الوعي الاجتماعي حاملة السمات الأساسية التي تميز الجماعة من غيرها، وهي سمات تتحدد ضمن علاقات التماثل والاختلاف وتعكس ارتباط الإنسان بالآخرين وتميزه منهم في الوقت نفسه، وهي بقدر ما تكون تعريفا للذات، تكون أيضا تعريفا تستدمجه الذات في علاقتها بالأخر حسب "تالكوت بارسونز" واستنادا إلى " إيميل دوركايم" و"جورج ميد".

ومن الناحية التاريخية تعتبر مقولة الهوية موضوعا للتفكير الفلسفي منذ أقدم العصور إلى الآن لأول مرة مع المنطق الأرسطي، وتم توظيفه منذ تلك اللحظة في السياقات العلمية المنطقية والرياضية بصفة خاصة،وفي السياقات الفلسفية بصفة عامة , وتداخلت مقاربتها مع مفاهيم عديدة كالجوهر، الماهية، الشخصية، الإنية، الذات وغيرها.

وفق هذا المنظور كانت بدايات التفكير في " الهوية" التي يرى "أرسطو" أنها تعبر عن شكل من أشكال الثبات المخالف للتغيير، فالهوية بحسب رأيه تعين أن الشيء (هو هو) لم يطرأ عليه أي تغيير وقد عرفت إشكالية الهوية وما يتداخل معها من مقولات حضورا متجددا في الخطاب الفلسفي منذ لحظة الفيلسوف اليوناني "سقراط" ومقولته الشهيرة " أعرف نفسك"، إلى لحظة "ديكارت" وإعلانه لمبدأ الكوجيتو " أنا أفكر إذن أنا موجود"، وصولا إلى الفلسفات الوجودية التي قاربت الإشكالية من منظور أسبقية الوجود على الماهية ونظرت للإنسان كمشروع ينجز بحرية ويكتمل بموته، فبحث "ديكارت" من خلال منهج الشك في حقيقة وجود الشيء قاده إلى مسلمات بخصوص هوية الشيء التي لا تتعلق بالجانب الخارجي أو الشكلي للشيء، والذي يمكن أن يدرك بالحواس، وإنما هوية الشيء بمثابة جوهره، تكمن في روحه التي لا تدرك إلا بالذهن، وفي هذا ينطلق "ديكارت" من عملية التفكري كعنصر أساسي تحدد طبيعة الكائن.

دون أن ننسى إسهامات المفكرين المسلمين في بحث موضوع الهوية لاسيما "ابن سينا"  في مؤلفه " رسالة الطير" الذي ابتكر مفهوما جديدا للدلالة بصورة أدق على مضمون الهوية وهو مفهوم الإنية، فهذا المفهوم الأخير الذي يؤكد الحضور- هنا (أنا)، بدل الغياب الذي يستفاد من الهوية- هناك (هو) .

كما يعرفها "الجرجاني" بقوله" الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق"، يشبه "الجرجاني" من خلال هذا النص الهوية بالنواة، واشتملا هذه الهوية على حقيقة الشيء وخصائصه الجوهرية كاشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق، هذه النواة التي تختزل جميع الخصائص الجوهرية للشجرة، ولا يمكنها إلا أن نتنج شجرة بنفس خصائص الشجرة التي انتزعت منها، وغير بعيد عن المعنى نجد "ابن حزم" يقول:" وحد الهوية هو أن كل ما لم يكن غير الشيء فهو بعينه، إذ ليس بين الهوية والغيرية وسيطة يعقلها أحد، فما خرج عن أحدمها دخل في الآخر.

أما "الفارابي" فيتناول الهوية بقوله" هوية الشيء وعينيته ووحدته وتشخصه وخصوصيته ووجوده المنفرد له كل واحد، وقولنا أنه " هو" إشارة إلى هويته وخصوصيته ووجوده المتفرد له الذي لا يقع فيه اشتراك، وقال الهو هو معناه الوحدة والوجود فإذا قلنا زيد هو كاتب معناه زيد موجود كاتب.

وعرف مفهوم الهوية انتشارا مهولا، حيث اكتسح في بضعة عقود مجمل العلوم الإنسانية، وفرض نفسه في تحليل حقائق جد متنوعة وعلى الرغم من ذلك، فإنه من الصعب أن تجد تعريفا متوافقا عليه لـ " الهوية".

وقد قام عامل النفس، "إ-إريكسون "بدور مركزي في انتشار استخدام هذه الكلمة وتوسع شعبيتها في العلوم الإنسانية، وهو الذي صاغ تعبير" أزمة الهوية" عندما نشر كتابه "الطفولة والمجتمع" سنة 1950، وكذا كتابه الهوية ودورة الحياة في نفس السنة، وعقبها نشر كتاب المراهقة والأزمة. بحث عن الهوية سنة 1958.

في هذه المؤلفات الثلاثة (تحديدا) صاغ "إركسون "نظرية النمو السيكو-اجتماعي التي تقوم على الملاحظات العيادية لمرضى لكن انطلاقا من دراسة سير ذاتية لشخصيات مشهورة، من أمثال "مارتن لوثر، المهاتما غاندي، جورج برنارد شو؛ حيث يحتل مفهوم الهوية موقعا مركزيا، هكذا اكتسب هذا المفهوم مع "إركسون " عبارات وشهرة واسعة في جمال السيكولوجيا الفردية، كما درس " الاجتثاث الثقافي" للهنود الحمر المعرضين لموجة الحدث.

ولكن انتشار كلمة " الهوية" وتوسع استخدامها في علم الاجتماع بالولايات المتحدة كانا بقدر أكبر في الستينيات وخاصة مع بروز أزمة الأقليات، وأهمها الإفريقية، وقد قام مفكرو ما بعد الاستعمار، مثل إدوارد سعيد وجورج جيمس صاحب التراث المسروق، ومارتن برنال في رائعته عن " أثنيا – إفريقية سوادء"، ببحث الهويات الهجينة والمختلطة التي صنعها التاريخ الاستعماري.

ثم إن هذا الاستعمال توسع وانتشر بسرعة كبيرة، حيت صار من المستحيل أن نحدد المعنى الدقيق لكل استخدام خاص لمفهوم الهوية، كما ظهرت تعابير متعددة مثل " أزمة الهويات"، و"تركيب الهويات"، و" الهويات المتعددة".

وقد اكتسب مفهوم الهوية مكانة حاسمة ضمن مفردات علم الاجتماع وقاموسه وذلك بواسطة التفاعلية الرمزية، حيث تحدث الآباء المؤسسون لها وهم " تشارلز هورتون كولي وهيربرت ميد حتي سنوات الستينيات من القرن العشرين ... ولكن يبقى سؤال: كيف اقتحمت الهوية فلسفات العقل؟ وهذا ما نجيب عنه في المقال المقبل يإذن الله تعالى.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

.......................

المراجع:

1- القحطاني، مسفر: الهوية: المعني والدلالة وتأثيرها على نموذج القبيلة، مجلة جيل للعلوم الإنسانية، العدد 108، 2024.

2- مفيدة، خروبي: الهوية: قراءة في المفهوم والإقتراب النظري، مجلة المعيار، العدد الرابع، 2024.

 

يُنقل عن سقراط مقولته الشهيرة عند محاكمته قوله: "الحياة غير المدروسة لا تستحق العيش".

إنَّ التأمل في الذات والسعي لتعميق الوعي الفكري هي أدوات لعملية بناء الذات الإنسانية، ولا شكّ أن البحث عن الحقيقة يمثّل شرطًا أساسيًا في هذه المسيرة التي من أجلها خلق الإنسان. ووعي الذّات يراد منه الوقوف عند الأفكار والمشاعر والسلوكيات وفهم كيفية تأثيرها في ذات الفرد نفسه، أو على الآخرين (Tangney et al. ، 2007)1. فيكون معنى طَلَبُ الحقيقة مرتبط بالوعي الذاتي، فالحقيقة تمكّن الإنسان من فهم وإدراك مستوى القوة والضعف عنده، ومستوى تقبل الأخطاء، وأخذ العِبَر والدروس منها، وبالتالي التَّمكن، وَمِن خلالِ وَعيه الذّاتي المتقدّم، أن يكون بصيرًا بتشخيصه لكل ما حوله، وبالقرارات الصحيحة التي يتخذها، وبنوع ومستوى العلاقات الشخصية التي تربطه بالآخرين (جولمان، 1995)2.

ولا شكَّ أنّ الطريق نحو وَعي الحقيقة يكمن في تأصيل حالة التوافق بين المفاهيم الفكرية والواقع، بينما تشير الحقيقة الزائفة، والمعروفة أيضًا باسم الباطل، إلى المعلومات التي لا تتوافق مع الواقع، لذلك فإن معرفة الحقيقة وامتلاكها والحذر من الوقوع في الحقائق المزيّفة هو أمر بالغ الأهمية في عملية التكامل الإنساني وبناء الوعي الفردي على أسس القِيَم والمبادئ والمُثُل الإنسانية. ويؤكد علماء النفس، فيما يتعلّق بنظرية "التنافر المعرفي"، أن الأفراد يعانون من عدم الراحة النفسية عندما يكون لديهم مُعتقدات مُتشابكة، أو مواقف أو قِيَم مُتناقضة مع بعضها البعض؛ وأما الأفراد الذين يمتلكون أجزاءً من الحقيقة ويعملون على أساسها فهم أقل عرضة للوقوع في مستنقع التنافر المعرفي، وذلك لأنَّ معتقداتهم وأفكارهم وقيمهم وسلوكياتهم ستكون مستندة ومتوافقة مع الأسس والمباني التي تقوم عليها الحقيقة، وهي بالتالي أقرب للواقع.

تُعد معرفة الحقيقة وامتلاكها جانبًا مهمًا من جوانب بناء الذات لأنها تشكل أساس النمو والتطور الشخصي. ولأنَّ الحقيقة تشير إلى ما هو واقعي، بعيدًا عن الظنون والتخيّلات أو الاعتقادات الباطلة، فإنَّ معرفة الحقيقة وامتلاكها يعني الاعتراف أولًا بامتلاك واقعيّة أفكار ومشاعر وسلوكيات وخبرات الإنسان بنفسه، فضلاً عن العالم الخارجي من حوله. وهذا الأمر يتطلّب مستوى عالي من التأمل والجهد في البحث عن الحقيقة وقدرة ومصداقيّة وشجاعةً في المواجهة، خصوصًا عندما يتعلّق الأمر بالقِيَم والمعتقدات ومدى ارتباطها وتأثيرها على الذّاتِ الإنسانية.

ولا يمكن المبالغة في ارتباط معرفة وامتلاك الحقيقة مع مستوى بناء الذات، فبدون الحقيقة قد يسقط الإنسان في فخّ اتخاذ القرارات المصيرية الخاطئة والتي تستند إلى افتراضات خاطئة، وتحيزات وأوهام زائفة، وبالنتيجة عرقلة مسيرة التكامل الفردي والمجتمعي.

والحقيقةُ غالبًا ما تكون مرتبطة بمفهوم الأصالة الإنسانيّة، والأصالة وجهٌ من أوجه الصدق مع النّفس، والصدق لا يكتمل إلا بِحَملِ القِيَم والمبادئ والمُثُل، وترجمة المفاهيم والمعتقدات إلى سلوكيات حميدة، وفيها يتطابق الباطن مع الظاهر؛ فالمستوى الذي يكون فيه الفرد صادقًا مع نفسه فإنّه يكون صادقًا مع الآخرين، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: 19]، وقال كذلك: ﴿ قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ﴾ [الأنعام: 104]. وَ مِنْ كَلاَمٍ وَرَدَ عَن عليّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قد وَصَّى بِهِ شُرَيْحَ بْنَ هَانِئٍ لَمَّا جَعَلَهُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ إِلَى اَلشَّامِ: " اِتَّقِ اَللَّهَ فِي كُلِّ مَسَاءٍ وَ صَبَاحٍ وَ خَفْ عَلَى نَفْسِكَ اَلدُّنْيَا اَلْغَرُورَ وَ لاَ تَأْمَنْهَا عَلَى حَالٍ وَ اِعْلَمْ أَنَّكَ إِنْ لَمْ تَرْدَعْ نَفْسَكَ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا تُحِبُّ مَخَافَةَ مَكْرُوهِهِ سَمَتْ بِكَ اَلْأَهْوَاءُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ اَلضَّرَرِ فَكُنْ لِنَفْسِكَ مَانِعاً رَادِعاً وَ لِنَزْوَتِكَ عِنْدَ اَلْحَفِيظَةِ وَاقِماً قَامِعاً."3

ورُوِيَ فِي بَعْضِ اَلْأَخْبَارِ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ رَجُلٌ اِسْمُهُ مُجَاشِعٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ كَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَةِ اَلْحَقِّ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مَعْرِفَةُ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى مُوَافَقَةِ اَلْحَقِّ قَالَ مُخَالَفَةُ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى رِضَاءِ اَلْحَقِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ سَخَطُ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى وَصْلِ اَلْحَقِّ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ هِجْرَةُ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى طَاعَةِ اَلْحَقِّ قَالَ عِصْيَانُ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى ذِكْرِ اَلْحَقِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ نِسْيَانُ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى قُرْبِ اَلْحَقِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ اَلتَّبَاعُدُ مِنَ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى أُنْسِ اَلْحَقِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ اَلْوَحْشَةُ مِنَ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى ذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ اَلاِسْتِعَانَةُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلنَّفْسِ4 .

لقد أكّد علم النفس على دور الحقيقة في بناء الذات والوعي البشري، وفي هذا السياق أكد عالم النفس ‘كارل روجرز‘ ، وهو أحد مؤسسي علم النفس الإنساني، بأن الوعي الذاتي شرط ضروري لنمو الشخصية وتطورها (روجرز ، 1951)5. وهذه الإشارة تُبيّن أهمية وأثر إدراك الحقيقة في النّفس الإنسانيّة، وهي بالتالي، خطوة ضرورية في عملية بناء الذات. ويجادل عالم النفس الأمريكي ‘أبراهام هارولد ماسلو‘، وهو صاحب اقتباس ماسلو في تحقيق الذات (التسلسل الهرمي للاحتياجات)، بأن تحقيق الذات وهو أعلى مستوى من الاحتياجات البشرية، والذي يتطلب فهماً عميقاً للذات وللعالم الخارجي (ماسلو، 1943)6. وكذلك ما ورد في كتاب "التغلب على معدل الذكاء: العلم الناشئ للذكاء القابل للتعلم" لعالم النفس المعرفي ‘ديفيد بيركنز‘ قوله: "يتطلب تعلم التفكير جيدًا تطوير عادات التفكير والوعي الذاتي والتصحيح الذاتي" (بيركنز، 1995 ، ص 16)7، فمن خلال معرفة وامتلاك بعض مراتب الحقيقة يستطيع الأفراد تعميق وعي الذّات، وبالتالي التمكّن من تطوير وتحسين القدرة على التفكير النقدي واتخاذ قرارات مستنيرة.

إنَّ المجتمعات التي تحمل قِيَمًا ومبادئ معوجّة ترى أفرادها يواجهون صعوبة في إدراك الحقيقة، وهذه الظاهرة يطلق عليها علماء الأعصاب اسم "التحيز التأكيدي"، والتي تحد من قدرة الإنسان على إدراك الحقيقة عن نفسه والعالم الذي يحيط به. ومع ذلك، تؤكد ورقة علمية، قام بها مجموعة من الباحثين، على الأثر والدور الفاعل في ممارسة التأمل واليقظة في التقليل أو الحدّ من ‘الانحياز التأكيدي‘ وتعميق الوعي الذاتي (لانجر وآخرون ، 2000)، وَمن جملة ما خَلُصت إليه هذه الورقة البحثية أن إدراك الحقيقة عن أنفسنا وعن العالم الخارجي يتطلب عملية تهيئة واستعداد وصدق في مواجهة التحيزات النفسيّة والغاء جميع أنواع التصورات المسبقة والتي لا تمتّ إلى الحقيقة بشيء8.

إنَّ لمعرفةِ الحقيقة والتّمسك بها إرتباط وثيق بزيادة ما يُعرف بـــ"الذّكاء العاطفي"، والذي ظهر لأول مرة في عام 1964، إلا أنَّ كتابات الصحفي ‘دانيال غولمان‘ في العام 1995 جَعَلت من هذا المصطلح أكثر شهرة9.

والذّكاء العاطفي يشير إلى قدرة الإنسان في التعرّف على مشاعره الشخصية والسيطرة عليها وامتلاكها وتنظيمها بشكل فاعل، وبالتالي التمكن من بناء علاقات أكثر عاطفية، وإرضائية، وذات أهداف عقلية، مع الآخرين. وفي هذا السياق تؤكد الفيلسوفة ‘مارثا نوسباوم‘ بأن إدراك الحقيقة يتضمن "إحساسًا واسعًا بالتعاطف ، والقدرة على فهم الآخر والتماهي معه" (نوسباوم ، 2010 ، ص 51). ومن هنا يتبين دَور امتلاك الحقيقة وأثره في تطوير الشعور بالرحمة والتفاهم لدى الأفراد، الأمر الذي ينعكس أيجابًا في تعميق العلاقات بين الأفراد وبناء مجتمع أكثر انسجامًا وتماسكًا.

 وهذا الأمر لا يُدرك إلا من خلال تنمية اليقظة الذهنية، والمراقبة الدقيقة للأفكار والسلوكيات والمشاعر، وعدم التعجّل في إصدار القرارت والأحكام، أو الانغماس الأعمى في الظنيّات، وهذا يعتبر أحد أهم المناهج التي تمكّن الإنسان من التعرف على الحقيقة وامتلاكها10.

رُوِيَ عن أمير المؤمنين عليّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنَّه قال: " جَاهِدْ شَهْوَتَكَ وَ غَالِبْ غَضَبَكَ وَ خَالِفْ سُوءَ عَادَتِكَ تُزَكِّ نَفْسَكَ وَ تُكَمِّلْ عَقْلَكَ وَ تَسْتَكْمِلْ ثَوَابَ رَبِّكَ ."11

***

د. أكرم جلال

........................

المصادر

1. Tangney, J. P., Baumeister, R. F., & Boone, A. L. (2007). High self-control predicts good adjustment, less pathology, better grades, and interpersonal success. Journal of Personality, 72(2), 271–324.

2. Goleman, D. (1995). Emotional intelligence: Why it can matter more than IQ. Bantam.

3. نهج البلاغة، ج1، ص447. وبحار الأنوار، ج33، ص461.

4. عوالي اللئالي، ج1، ص246. وبحار الأنوار، ج67، ص72. ومستدرك الوسائل، ج11، ص138.

5. Rogers, C. R. (1951). Client-Centered Therapy: Its Current Practice, Implications and Theory.

6. Maslow, A. H. (1943). A Theory of Human Motivation.

7. Perkins, D. (1995). Outsmarting IQ: The Emerging Science of Learnable Intelligence. The Free Press.

8. Langer, E. J., Blank, A., & Chanowitz, B. (2000). The mindlessness of ostensibly thoughtful action: The role of "placebic" information in interpersonal interaction. Journal of Personality and Social Psychology, 79(5), 753–766.

9. Beldoch, Michael؛ Davitz، Joel Robert (1976). The communication of emotional meaning. Westport, Conn.: Greenwood Press. P 39.

10. Nussbaum, M. (2010). Not for Profit: Why Democracy Needs the Humanities. Princeton University Press.

11. غرر الحکم، ج1، ص338. وعیون الحکم، ج1، ص222.

اكتسبت فكرة اللامحدود أهمية كبيرة في الفلسفة والعلوم والاخلاق، فهي تتحدى فهمنا للواقع والوجود وحدود التفكير البشري. مفهوم اللامحدود او اللامتناهي infinity سحر الفلاسفة والرياضيين والثيولوجيين منذ العصور القديمة. فكرة الشيء اللامحدود واللامتناهي تتحدى الطريقة التي نفهم بها العالم وتثير أسألة عميقة حول الواقع والوجود ذاته. هذه الفكرة حفزت العديد من الفلاسفة على مر السنين وهي مستمرة في تحريض النقاش حول طبيعة الكون ومكاننا فيه. لكن ماذا نعني بالضبط باللامحدود؟

فلاسفة اليونان القدماء واللامحدود

كانت الأفكار اليونانية القديمة حول اللامحدود مثيرة لإهتمام الناس في ذلك الوقت. اليونانيون ناقشوا الفكرة بطرق لازالت تؤثر فينا حتى اليوم. لكن ماذا كانوا يعنون بفكرة الـ"اللامحدود"؟

أحد فلاسفة اليونان القدماء اناكسمندر قال ان الكون ذاته بلا حدود او "لانهائي". كان هناك شيء غير محدود (أطلق عليه اسم Apeiron) يتجاوز ما نستطيع رؤيته. هو اقترح ان الأشياء باستمرار تأتي من هذا العالم اللا محدود الى عالمنا ومن ثم تتحطم او تخرج من الوجود قبل ان تعود مرة اخرى – تشبه نظام تدوير كوني. في تلك الأثناء، كانت لفيثاغوروس رؤية مختلفة. هو فكّر حول اللامحدود في الرياضيات – خاصة عند دراسة الأعداد اللاعقلانية (أعداد لا يمكن كتابتها كنسبة). التفكير بالكسور العشرية اللامتناهية كان له تأثيرا مدهشا جدا على أذهان البعض. لاحقا حلل ارسطو كيفية فهمنا لـ اللامحدود وقسمه الى نوعين: لامحدود محتمل ولامحدود حقيقي. طبقا لارسطو، اللامحدود المحتمل يمكن ان يستمر الى الابد لكنه لم يتم بعد (كما في العد). وفي نفس الوقت، اللامحدود الحقيقي ليس له نهاية فعلية (هو صارع مع هذه الفكرة مفاهيميا).

زينون أحد تلامذة افلاطون جاء ببعض المفارقات التي بيّنت ان الحركة مستحيلة(1). هذه المفارقات كانت ألغازا صادمة للذهن حول الزمان والمكان وتجزئة الأشياء. انها جعلت الناس يتسائلون ان كان اللامحدود شيئا اخترعناه ذهنيا بدلا من ان يكون له وجود في العالم الواقعي. كلا هاتين الفكرتين حفزتا لاحقا على التفكير العميق من جانب الرياضيين والفلاسفة. الفكرتان جعلتا المرء يتسائل عن مقدار ما يستطيع فهمه حول كل شيء – مهما كان.

التفسيرات المدرسية والقرون الوسطى

خلال القرون الوسطى، استطلع الناس الثيولوجي لفهم اللامحدود. العلماء ربطوا هذه الفكرة بالمدرسية scholasticism بما في ذلك المفكرون الكبار مثل توما الاكويني. نظر الاكويني الى اللامحدود من خلال استكشاف الصفات الالهية. هو اعتقد ان الخيرية والقوة والمعرفة هي أجزاء لا محدودة من طبيعة الله. غير ان الأكويني اعتقد ايضا ان هناك اختلافا واضحا بين الاشياء اللامحدودة – مثل الله - وتلك المحدودة التي تشمل كل شيء نستطيع لمسه او رؤيته. طبقا للاكويني، حتى عندما يكون الكون كبيرا ومدهشا، فهو ليس له لا محدودية في جوهره. أفكار الاكويني ساعدت في توضيح كيف يمكن لـ إله لا متناهي خلق عالم محدود. أفكاره بيّنت للمسيحين في القرون الوسطى بان المرء يمكنه الايمان بكلا الشيئين في وقت واحد دون تناقض. حاول المفكرون عبر استعمال التفكير المنطقي المترافق مع نقاش حول الدين (المدرسية)، بذل اقصى الجهود آنذاك ولقرون لاحقة ليس فقط لفهم معنى المسيحية وانما ما يعنيه الوجود ذاته.

الفلاسفة المسلمون مثل الغزالي أغنى وجهات نظر مفكري القرون الوسطى. افكار الغزالي حول الخالق اللامحدود ونقده لما قبل الأبدية كانت محفزة للمفكرين الغربيين وعززت التفكير عميقا. الغزالي كتب بان الناس لا يستطيعون استعمال العقل ليفهموا بالضبط اشياءً لا متناهية. هو قال هذا في كل من الله والكون ذاته. بهذه المحادثات - حتى عندما لم يكن العلماء المسيحيين وجه لوجه مع الكتاب المسلمين، هم كافحوا مع فكرة اللامحدود في المطلق وطوروا سردا وضع تلك الفكرة في قلب الوجود الانساني والتجربة الروحية.

العقلانيون واللامحدود

كان لدى المفكرين العقلانيين اشياء جديدة حول اللامحدود. هم ربطوا اللامحدود بإحكام بكل من الله والكيفية التي تشكّل بها الواقع من خلال التفكير الشاق وباستعمال العقل وحده. الشخصية الأبرز هنا هو ديكارت. حيث صاغ عبارة "الجوهر اللامتناهي" والتي تطبق حسب قوله فقط على الله لأن الله فقط هو اللا محدود حقا. ديكارت جادل ايضا باننا نعرف هذا اوتوماتيكيا لأننا وُلدنا ومعنا فكرة الله سلفا في أذهاننا. من الطبيعي لنا التفكير بان هناك كائن يستمر للابد.

باروخ سبينوزا طور هذه الافكار الى مدى أبعد. هو اقترح بان الله فقط له صفات لامتناهية (كل واحدة منها تعبّر عن مظهر لطبيعته التي سوف لن تتلاشى او تتغير ابدا). في الحقيقة، طبقا لسبينوزا، كل شيء في الوجود يشكل جزءاً من هذا الجوهر اللامتناهي المنفرد. لذا، فان الله والكون متشابهان. هذه الطريقة في النظر للاشياء كانت جديدة تماما. انها كانت تعني رؤية الالوهية في كل مكان بدلا من ان تكون في السماء العليا فقط.

في تلك الأثناء، طرح ليبنز فكرة الـ monads – وهي وحدات اساسية غير قابلة للقسمة. طبقا لليبنز، هذه الوحدات كلها تعكس كامل الكون لكنها تقوم بهذا بانسجام تام لأن الله ذاته هو الذي رتّبها. هو ايضا جاء بالفرق بين اللامحدود الممكن واللامحدود الحقيقي: نحن البشر نتعامل مع الممكنات (كما في حالة استمرارنا بالحساب الى الابد) بينما الله فقط يمكنه تجسيد تام لـ لامحدود حقيقي.

بالنسبة لهؤلاء الفلاسفة، لم يكن اللامحدود مفهوما رياضيا استُطلع من جانب مفكرين أذكياء. هم جعلوا الفكرة جزءاً من تفكيرهم الميتافيزيقي. ومن المهم جدا، انهم ربطوا اللامحدود بشكل لا ينفصم بالكيفية التي يكون بها الله تاما وفي كل مكان.

اللامحدود في عصر التنوير

في عصر التنوير، بدأ الناس التفكير حول اللامحدود بطرق جديدة. بدلا من رؤية اللامحدود فقط كفكرة دينية، هم بدأوا النظر اليها علميا وفلسفيا ايضا. عمانوئيل كانط جاء بشيء ما أسماه تناقضات "antinomies ". هذه التناقضات تحدث عندما نستخدم أذهاننا للذهاب الى ما وراء عمل الحواس (وهو ما يقوم به العقل). كانط قال ان هناك مشاكل منطقية في كل من التفكير بالكون كلامتناهي والتفكير به كمتناهي. فمثلا، لو نقول ان الكون يجب ان ينتهي في مكان ما، عندئذ السؤال هو ماذا يكمن وراء ذلك؟ لكن كيف يمكن لأذهاننا ان تستوعب اللانهائية لو قلنا انها تستمر الى الأبد؟ كانط اعتقد ان هذه الأنواع من الأسئلة تبيّن ان هناك حدودا للمنطق الانساني: نحن لا نستطيع تماما فهم اللامحدود لأنه ليس شيئا تستطيع حواسنا تصوره. لذا، بدلا من ان تكون حقيقة قائمة على التجربة (والتي أسماها كانط الواقع التجريبي)، هو اعتقد باللامحدود كفكرة اخترعناها لمساعدتنا في فهم الكون. هذا العصر ايضا شهد تعديلات مكثفة عندما استخدم المفكرون وبشكل متدرج هياكلا عددية وعلمية لفهم اللامحدود. مثال على هذا هو علم التفاضل والتكامل الذي تم اختراعه بواسطة نيوتن وليبنز. انه يستلزم كميات لا متناهية في الصغر أقرب الى الصفر دون الوصول اليه – لحل مشاكل حول التغيير المستمر.

هذه التطورات، ساعدت التنوير في نقل مفهوم اللامحدود الى ما وراء الميتافيزيقا وحدها. المفكرون يرون المفهوم كشيء حيوي لكل منْ يعمل في الرياضيات والعلوم.

الاستطلاعات الفلسفية الحديثة

في العصر الحديث، ابتعدت الاستطلاعات الفلسفية في اللامحدود عن النقاشات الميتافيزيقية الكلاسيكية، لتحتضن اتجاهات وجودية وفينومينولوجية. مفكرون مثل سارتر وادموند هسرل انتقلوا للتركيز من اللامحدود كمفهوم نظري الى مضامينه في التجربة الانسانية والوعي. جين بول سارتر الوجودي البارز تعامل مع اللامحدود من منظور الحرية الانسانية ولا محدودية الخيار. جادل سارتر ان الانسان كُتب عليه ان يكون حرا، بما يعني ان حجم الإمكانات وغياب الجوهر المقرر سلفا يلقي علينا مسؤولية لا محدودة عن أفعالنا. هذه اللامحدودية الوجودية تسلط الضوء على الإمكانات اللامتناهية التي تشكل وجودنا ومشروعنا الدائم للخلق الذاتي. في العصر الحديث، أصبح التركيز على ما تعنيه اللامتناهية لحياة الافراد (الوجودية) او كيفية التعامل معها (فينومينولوجيا).

سارتر نظر الى فكرة اللامحدود من حيث علاقتها بالحرية: كوننا نستطيع دائما عمل خيارات، ليست مقيدة بأي شيء. قال سارتر ان الناس "محكوم عليهم بالحرية" لأنه عندما يكون كل شيء ممكنا لك، انت عندئذ مسؤول عن كل شيء تقوم به. هذا المظهر اللامحدود ينظر في الكيفية التي تحدد بها الإمكانات اللامحدودة منْ نحن وكيف نخلق أنفسنا باستمرار.

أدموند هسرل، مؤسس الفينومينولوجي، عالج اللامحدود عبر فحص الآفاق اللامتناهية للوعي الانساني. طبقا لهسرل، الوعي دائما له هدف او قصد وهذا التوجيه يستمر الى ما لانهاية لأننا نمتلك تجارب ورؤى جديدة. هذه الفكرة تنطوي على ان الخبرة الذاتية يمكن ان تكون عميقة بلا حدود: هناك دائما الكثير لفهمه والتفكير فيه في كيفية ادراكنا للاشياء. الفيلسوف الفرنسي ايمانويل ليفيناس Emmanuel Levinas أدخل مفهوم المسؤولية اللامحدودة نحو الآخر. بالنسبة له، ان ارتباطنا الأخلاقي مع الآخرين يتطلب منا ان نستجيب بلا محدودية – واجب لا متناهي يذهب وراء الفهم او الحساب. هذا المنظور يتعارض بشكل صارخ مع الميتافيزيقا الكلاسيكية لأنه يتعامل مع اللامحدود ليس في تنظير مجرد وانما في كيفية ارتباطنا أخلاقيا ببعضنا البعض.

الرؤى المعاصرة لـ اللامحدود

في عالم اليوم، لم يعد اللامحدود فقط موضوعا لتأمل الفلاسفة. انه يدخل في الرياضيات والمنطق ايضا حيث الناس مثل الفيلسوف الامريكي هيلاري بوتنام استخدم فكرة الهياكل الرياضية اللامحدودة في دراسة قضايا في فلسفة الرياضيات وفلسفة الذهن. اللامحدود ايضا يلعب دورا في فرعين من الفيزياء الحديثة: الكوزمولوجي الذي يدرس الأسئلة المتعلقة بالكون ومكاننا فيه، وفيزياء الكوانتم التي تستكشف المظاهر الاساسية للواقع.

عندما يدرس علماء الكون مدى اتساع الكون مثلا، فان بعض الافكار التي يعملون بها لها أبعاد لامحدودة – او تقترح ان هناك أكوانا لا محدودة الى جانب كوننا. في فيزياء الكوانتم، اللامحدودات تظهر فوق المكان. انها استُعملت لحساب مدى احتمال تفاعل الجسيمات خلال ردات الفعل او تصف الارتباطات الشبحية بين عدة أجزاء لا محدودة لفضاءً فارغ. التكنلوجيا ايضا تستكشف مفهوم اللامحدود من خلال استكشافها لـ "إمكانات حسابية لامحدودة". مثال على هذا تطوير الحوسبة الكمومية. انها تستعمل مبادئ مثل التراكب والتشابك لتؤدي في نفس الوقت حسابات لامتناهية. لذا انها قد تزيد بشكل دراماتيكي كل من مقدرة الكومبيوتر وكيفية استعماله. هذا التعامل الحديث مع اللامحدودية يعرضها ليس فقط كشيء مجرد او فلسفي وانما كقوة حية تساعد في قيادة التحقيق العلمي والإبتكارات التكنلوجية.

***

حاتم حميد محسن

............................

* للمراجعة: The collector, 24Jan, 2025

الهوامش

(1) طبقا لزينون (430-490ق. م) اذا كان كل شيء في الوجود له مكان، فان هذا المكان هو ايضا له مكان، وهذا الاخير يحتاج ايضا الى مكان وهكذا تستمر السلسلة الى ما لانهاية (الفيزياء، ارسطو قسم 208). عرض زينون سلسلة من الحجج المنطقية في إثبات ان الحركة والتغيير والتعدد هي مستحيلة. من بين 40 حجة نُسبت الى زينون كانت هناك أربع مفارقات هامة تتعلق بموضوع الحركة ومنها مفارقة السهم ومفارقة السباق: في الاولى يرى زينون لكي تحدث الحركة يجب على الشيء ان يغيّر الموقع الذي يشغله، يعطي هنا مثالا عن السهم. في أية لحظة السهم لا يتحرك الى المكان الذي هو فيه، ولا الى المكان الذي هو ليس فيه. هو لا يمكنه التحرك الى المكان الذي هو ليس فيه لأنه لم يمر وقت كافي لكي يصل الى هناك، وهو لا يمكنه الحركة الى المكان الذي هو فيه لأنه موجود فيه سلفا، بكلمة اخرى، لا وجود لأي حركة هناك، فاذا كان كل شيء ساكنا في أي لحظة، والزمن مؤلف من لحظات عندئذ تكون الحركة مستحيلة. وفي مفارقة السباق يؤكد ايضا ان ليس هناك أية حركة لأن منْ يتحرك يجب ان يصل الى المنتصف قبل الوصول الى النهاية، ولكن قبل الوصول الى المنتصف لابد من الوصول الى منتصف نقطة المنتصف، وهذه الاخيرة لا يمكن بلوغها قبل الوصول الى منتصف منتصف النقطة الاولى وهكذا الى ما لانهاية. هو يعتقد بوجود عدد لا متناهي من نقاط الوسط بين أي موقعين ويتسائل كيف لنا عبور كل هذه الأعداد اللامتناهية للمواقع، وبهذا تكون الحركة مستحيلة. بمحاولة زينون نفي الحركة يكون قد أثبت لامحدودية المكان والزمان. لكن ارسطو انتقد مفارقات زينون قائلا بعدم وجوب افتراض ان مسار المتسابق يعتمد على أجزائه، لأن المسار موجود سلفا، والأجزاء تأسست من جانب المراقب، وكذلك أشار الى ان الخط لا يحتوي على نقاط غير قابلة للقسمة. غير ان هذا النقد تعرض بدوره الى نقد مضاد لكونه غير منسجم مع المستويات الحالية للتحليل وفرضياتها في اللامحدود الحقيقي.

 

في فترة من الفترات كان هناك اهتماماً كبيراً في الوصول إلى الحقيقة النهائية، وتبعاً لذلك كانت المباحث الميتافيزيقية تزدهر، كونها تدعي لنفسها إمكان الوصول إلى الحقيقة المطلقة. أما في المرحلة التي لا تهتم بوجود حقيقة نهائية، وهي مرحلة الوضعيين واللاادريين، فإن الميتافيزيقا تخبو وتتراجع، مع ذلك فمن المشكوك فيه أن يكون من الممكن أخذ تحريم الميتافيزيقا مأخذ الجد الكامل، ذلك لأن الذين ينكرون الميتافيزيقا، يمارسون نوعاً خاصاً بهم من الميتافيزيقا. فحتى النقودات التي وجهها (ديفد هيوم وكانت)، لم تكن بقصد القضاء على الميتافيزيقا، وإنما وضعا علامة استفهام كبيرة على هذا البحث الذي أصبح سيئ السمعة عند كثير من الناس. فقد استمر التأمل الميتافيزيقي على أشده في القرن التاسع عشر، فبرزت ما يسميه (جون ماكوري) بـ الميتافيزيقا الأكثر تواضعاً، وهي ميتافيزيقيا وصفية أكثر منها تأملية، كالتي ظهرت مع (وايتهد)، فهي تأخذ على عاتقها وصف أكثر المقولات عمومية التي يفهم عالمنا بواسطتها، كما تكتشف أعم شروط التجربة... ولقد أصبح بعض الفلاسفة الذين ينكرون إمكان قيام الميتافيزيقا النظرية على استعداد للتسليم بمشروعية ما أسماه (ماكوري) بالميتافيزيقا الأكثر تواضعاً.

وإن الفلاسفة الوجوديون يرفضون الميتافيزيقا النظرية التي تريد أن تحلّق في الأفاق البعيدة، على أساس أن الوجودي ينكر قدرة الفكر على إدراك الحقائق الواقعية العينية للوجود البشري وتنظيمها في مذهب عقلي شامل، فنرى وجودية (كيركجورد) ما هي إلا احتجاج على المذهب الميتافيزيقي لـ(هيغل)، وظل الوجوديون المتأخرون ضد الميتافيزيقا بهذا المعنى، ولكن إذا كان الوجوديون قد فقدوا الثقة في الميتافيزيقا العقلية فليس معنى ذلك أنهم يرفضون كل ميتافيزيقا، فبكون الموجود البشري هو الموضوع الرئيسي للوجوديين، فإن ذلك يستتبع إثارة أسئلة من النوع الميتافيزيقي.

ويستخدم بعض الوجوديين تعبير الميتافيزيقا عن عمد، للدلالة على تلك الأجزاء من فلسفاتهم التي تناقش أسئلة عامة حول مكانة الإنسان في العالم، ويتجنب وجوديون آخرون كلمة الميتافيزيقا، ولكننا نجدهم يستبدلون بها كلمة أخرى مثل الأنطولوجيا... ومن بين الذين يستخدمونها عن عمد هو (بردياييف)، ويذهب إلى أن (إيمانؤيل كانت) هو الذي جعل الميتافيزيقا الوجودية ممكنة، والميتافيزيقا التي يستعملها (بردياييف) هي ميتافيزيقا الذات، في مقابل ميتافيزيقا الموضوع، لكن هذا التعبير بحسب (ماكوري) تعبير مضلل، إذ قد يغرينا بأن نفهم الذات بوصفها ذاتاً مفكرة، في حين أن (بردياييف) يريد أن يؤكد على أن الميتافيزيقا عمل للإنسان ككل.

أما هيدغر فقد جعل من الأنطولوجيا مركز اهتمامه، إلا أن (ماكوري) يشير إلى أن هايدغر في كتاباته المبكرة، لا يكاد يميز ما بين الأنطولوجيا والميتافيزيقا، ففي كتابه ما الميتافيزيقا، يتخذ مشكلة العدم مثلاً توضيحياً للمشكلة الميتافيزيقية، ويبين ارتباطها الذي لا ينفصم بمشكلة الوجود، لكن هيدغر أصبح بمضي الوقت يميز بين البحث الأنطولوجي والميتافيزيقا، ويتحدث عن قهر الميتافيزيقا، فقد اهتمت الميتافيزيقا، كما يفهمها، بالموجودات بدلاً من الموجود بما هو كذلك، فعجزت عن بلوغ مستوى التفكير الأنطولوجي الحقيقي.

أما (كارل يسبرز)، فيرفض لفظي الميتافيزيقا والأنطولوجيا، لكن له ضرباً من الميتافيزيقا يسميه بـ (الأنطولوجيا الشاملة)، فموضوعها هو الشامل، أي الذي يشمل الذات والموضوع معاً، وينتهي (ماكوري) في كتابه الشهير (الوجودية) للتأكيد على ما قاله (رولاند جرمسلي): إن الحركة التي بدأت بهجوم عنيف على الميتافيزيقا الهيغلية، هي بصورة أخرى حركة ميتافيزيقية. ولو رجعنا في الزمن كثيراً، عند (ارسطو) تحديداً، سنجده ينبّه إلى ما تحدثنا به في هذا المقال، فالكلُّ -بحسبه- يتفلسف (الميتافيزيقا)، حتى أولئكم الذي يعادونها ويُعاندونها، فإنما يفعلون ذلك بضربٍ من ضروب التفلسف.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

اهداء إلى المحلل النفسي عبد الهادي الفقير مترجم أعمال لاكان

***

يعلمنا التحليل النفسي على لسان مؤسسه "سيجموند فرويد" أن كل شيء نفسي هو في المقام الأول لاشعوري – لاواعي، أما الخاصية الشعورية – الواعية فقد تظهر وقد لا تظهر " فرويد، حياتي والتحليل النفسي، ص 37" وهو بهذا استطاع أن يختلف مع الفلاسفة الذين كانوا لا يفرقون بين ما هو " شعوري – واعي" وما هو " نفسي" كما يقول فرويد. إذن التحليل النفسي أوجد هذا المفهوم وَعدهُ حجر الأساس في مفاهيم وأفكار التحليل النفسي وهو من أكتشافاته الأولى. يعلمنا التحليل النفسي أيضا كما يقول بول ريكور في العام 1949 ثمة في الفرويدية بالنسبة إلى الوجدانات الضعيفة، شيء ساحر يُعبر عنه نجاحها العالمي خير تعبير، فلسفة الإرادة، مستعرضًا على هذه الحتميات الداخلية التي تحكم في الأغلب سلوكنا "بيير داكو"، من هنا عرف بأن التحليل النفسي هو علم نفس الأعماق.

 درس التحليل النفسي الرغبات بأنواعها وبدأها في الرغبة بالعودة إلى رحم الأم، على نحو يسير شكلًا يتصف بأنه في منتهى الوضوح لدى بعض المرضى، وهذا الوضوح يقود من تَعمق في النفس البشرية بأساليب التحليل النفسي وهو أسلوب التداعي الحر – الطليق، وهي الوسيلة القادرة للنزول إلى عالم اللاشعور – اللاوعي، ويتفق معنا من عرف التحليل النفسي وزاول هذه المهنة الإنسانية والتي تعد مهنة من أكثر المهن صعوبة، وأكثرها إنسانية وروعة في نقل الشخص طالب التحليل إلى عالم السوية والتخلص من أدران بقايا التفكير وترسباته التي سببت له الأزمة النفسية، وكما عرفنا عبر هذه السنوات في دراسة التحليل النفسي بأن التحليل النفسي لا يهدف إلى الشفاء فحسب، بقدر ما يهدف إلى أن تمتد لابعاد الشخصية واعادة ترميمها عند الفرد نفسه بعد أو وضعه المُحلل " القائم بالعملية التحليلية " على الطريق في معرفة مواجهة ما سبب معاناته، وينزل به إلى أعماق النفس، إلى الجذور الأولى في تكوين ونشأة الصراع الذي أدى إلى العصاب، أو إلى الذهان.

تصدق المقولة التالية: إن المُحَللّ " طالب التحليل" يصارع دون وعي منه، لأنه تأثر بحكاية رويت له عندما كان صغيرًا " نص منقول" وهو التثبيت بعينه، ويرى العلامة " مصطفى زيور " أن التثبيت يضع علامة وقوف للنكوص، وهو يضعف القسم المتطور من الشخصية " زيور، في النفس، ص 141"

مما لاشك فيه أن المحلل النفسي الفرنسي " جاك لاكان " يعد من المحللين الذين أدخلوا التجديد في الفكر الفرويدي ونظرياته العميقة عن النفس التي عدت بأنها معركة اكتشاف الإنسان نفسه، وربما زادته عمقًا حينما سبر "لاكان" أغوار ما استطاع "سيجموند فرويد" وضع أسسه وترك الباب مفتوحًا لمن بعده في التعمق لذا كانت رؤية "لاكان" وما أحتوت من مداخل متنوعة ومختلفة عن معاصريه من علماء النفس في بداية القرن العشرين، ورغم أن البعض من المحللين النفسيين رفضوا هذا التجديد وما أدخله " لاكان "، وتستمر رؤية " لاكان " في إحداث هذا التجديد مستندًا في ذلك على استخدام اللغة كمؤثر في الجلسة العلاجية، فضلا عن إدخالها في كل رؤى التحليل النفسي عن معرفة عمق النفس، فقوله: وظيفة الكلمة، أو بتعبير أدق، هي وظيفة الدال أو وظيفة ذلك الجزء من السلسلة الصوتية الذي ننطق بها أو نسمعها، لذا فالإنسان نتاج للغة، ومع ذلك لا يمكننا أن نفهم كل هذا فهمًا صحيحًا ما لم نسلم بــ " وجود " رباط اساس بين الرغبة واللغة، وما لم تعرف الذات نفسها باعتبارها كائنًا متكلّما " فيليب شملا، لاكان واللغة".

يرى جاك لاكان بأن الرغبة هي رغبة في الاعتراف بالذات، كما عبرت عنها " بيتي ميلان" المحللة النفسية البرتغالية التي أجرت تحليلها مع لاكان في منتصف العقد السابع من القرن العشرين، حيث أسهم المحلل النفسي " عبد الهادي الفقير " في ترجمة بعض أعمال "جاك لاكان " مشكورًا، وتضيف أيضًا" بيتي ميلان " حادثة عندما كان يتكلم الشخص طالب التحليل مع محلله "لاكان" بأنه تحول أثناء الجلسة من اللغة الفرنسية إلى لغة الأم وهي البرتغالية فتركه "لاكان" يتحدث بكل طلاقة وحينها قال "لاكان" أن أهم شيء بالنسبة لي في تلك اللحظة ليس هو مضمون خطاب المُتحلل وما يتضمنه من مدلولات وإنما انتقال هذا الأخير من لغة إلى أخرى. وهو إن من يعلم قيمة اللغة لدى لاكان، هو الذي كثيرا ما كان يتحدث عن كنز اللغة.

يرى " جاك لاكان " أن لا اهمية من لا يفهم خطابه في المرة الأولى، حيث كان يركز على مفهوم الـ «nachträglich»، وهو مفهوم فرويدي يُترجم إلى الفرنسية بـ «الأثر الرجعي». يشير هذا المفهوم إلى أن بعض الأحداث لا يمكن فهمها إلا بعد وقوعها، وكانت ممارسة لاكان تعتمد على هذه الفكرة في سيميناراته كما في عمله العيادي.

أن اللغة عندما تتكوّن لدى الفرد، تكون وظيفتها هي تمثيل " حمل " الرغبة البشرية " شملا " ويضيف أيضًا إن الرغبات البشرية تتحقق دائمًا عبر موضوعات بديلة، أو عبر اللغة مرة أخرى، لكن الأمر المهم هو أن هذه الرغبات لا تعبر عن نفسها حيث تعتقد الذات ذلك، أي ضمن جُملٍ تصوغ طلبات، فإذا ما عَبّرت الرغبة عن نفسها ضمن اللغة، كان ذلك " بين السطور"، وتكون ممثّلة من طرف دوال تجهل الذات حتى أهميتها. وكما نعرف أن الذات تشكل جزء من النظام الرمزي، والنظام الرمزي عند "لاكان " هو القيم والقانون والسلطة وتقاليد المجتمع والاعراف السائدة فيه، والطقوس وثقافة المجتمع حيث تتشابك بصور عدة مع اللغة.

 كما يقول "لاكان " في تحليله للرسالة المسروقة أن اللغة هي ما يحدد الإنسان. وبامكاننا أن نقول أن نبرة الصوت عند أي منا تعطينا مؤشر ومعرفة عما يدور بداخل المتكلم، من نبرة تعبر عن الحب، أو الحسد، أو الاستهزاء، أو استهداف الفرد المقابل، فهي اللغة المحكية مفتاح لمعرفة ما يدور بداخل المتحدث، ما أعظم التحليل النفسي حينما يضع كشوفاته لمعرفة المتكلم، وما ترسب في داخله من ترسبات حتى شكلت بنيته، وبهذا يؤشر لنا صوته ونبرته تجاهنا أكبر مؤشر مهما حاول أن يصطنع التحكم بما في داخله من شعور تجاه المقابل، لغته ونبرة صوته تفضحه فضلا عن ما يبدو لنا من نميمة جسده بحركات غير مسيطر عليها. هكذا يتعلم الإنسان من نفسه وما يدور بها من عالم خفي مقره الرئيس هو اللاشعور – اللاوعي.

***

د. أسعد الامارة

في مثالية ساذجة يذهب هوسرل الى "ان الموضوع ليس معطى غفلا بل هو حقيقة تستمد معناها من القصد". في العبارة نجد بسهولة اول خطأ مثالي سطحي هو تغليب هوسرل اولوية وقبلية الوعي القصدي على بعدية الموضوع. وثانيا لايمتلك الموضوع المستقل انطولوجيا خاصيّة ان يكون (حقيقة) بل ان يكون الوعي الادراكي له (معرفة) ليست محايدة بل تغييرية. وهذا التفريق بين الحقيقة والمعرفة ليس على صعيد اختلاف المصطلح بين الاثنين فقط بل على صعيد المعنى المحتوى لكليهما.

الثابت في الادبيات الفلسفية ومثله في التفكير العلمي الذي لا يمكن تجاهله هي أن مصطلح (الحقيقة) يلتقي مع مصطلح (المعرفة) في أن كليهما مصطلحان نسبيان بمعنى هما سيرورتان تقبلان الاضافة التراكمية الكميّة والنوعية لكن ايضا باختلاف جوهري بينهما. فالتراكم الذي تتقبله الحقيقة هو قفزة نوعية ناسخة لما قبلها اما التراكم المعرفي فهو خبرة كميّة مضافة تعتمد ماقبلها ولا تلغيه.

كما أن الفرق بين الحقيقة انها مفهوم مطلق مثلما نقول الوجود هو مفهوم مطلق غير متعيّن بابعاد معرفية تجعل منه مصطلحا متفقا عليه فهو ليس موضوعا بل دلالة وكذا الحال مع الزمن. فالوجود يكون مصطلحا بمحتوياته الموجودية فيه فقط في حالات موجوديتها المستقلة انطولولوجيا داخل كليّة الوجود الذي هو مفهوم تبحث فيه الميتافيزيقا منهجا ماجعل نيتشة يسخر سخرية شديدة قوله ليس هناك شيء لاندركه لا بصفاته ولا بماهيته وندعوه الوجود.. وكذا فعل بعده هيدجر أنه لا شيء يدعى وجودا وكان يقصد مطلق الوجود كمفهوم وليس الموجود الانسان.

ليس غريبا أن نجد بالفلسفة مثل هذه المفاهيم التي نعتبرها متناقضة لا يقبلها العقل لكنها ليست بعيدة المصداقية التسليم بها. مثال آخر حينما الغى الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (العقل المعرفي) التجريدي كماهية خاصيتها التفكير وليس العقل البيولوجي. سرعان ما تلقف هذه المقولة الفيلسوف الانجليزي جلبرت رايل 1900- 1976 قائلا من السخرية الفلسفية أن نقر بوجود عقل انساني ابدا.

علما أن ديكارت في القرن السابع عشر سبق وقال العقل جوهر خالد خلود النفس وهو يقصد العقل المجرد الذي ماهيته التفكير وليس العقل البيولوجي عجينة الدماغ بتركيبة ما تحتويه الجمجمة. نفس الشيء تكرر مع التشكيك بوجود الزمن (المفهوم) عدا الدلالة المعرفية لملازمة الزمن للمكان. وابرز من أنكر حتى عدم حاجتنا ملازمة الدلالة الزمانية للمكان هو برجسون واجاز لنفسه الادراك المكاني في عدم تعالقه الافتراضي مع الزمن. ودبّت الحياة بالتشكيك بوجود الزمن على يد ثلاثة فلاسفة اميركان معاصرين ذهبوا نفس المنحى انكارهم وجود الزمن حتى كدلالة ادراكية للمكان. (لي مقالتان منشورتان اؤيد فيه هذه النظرية الفلسفية غير الفيزيائية علميا ان الزمن مفهوم مطلق لا يمكننا البرهنة اليقينية عليه خارج ملازمته الافتراضية الحيادية للمكان).

طبيعي ومهم أن نشير الى أن نظرية نكران الزمكان أي ملازمة الزمن للمكان ادراكيا في توليفة واحدة سوف تصطدم بعقبة كأداء لا يمكن تجاوزها بسهولة هي تاكيد النسبية العامة لانشتاين 1915 حين اكد توليفة الزمكان علميا فيزيائيا باكثر مما سبق لكانط وفلاسفة عديدين القول به.

واكثر من ذلك اضاف انشتاين في النسبية العامة الزمن بعدا رابعا لأبعاد المادة الثلاث الطول, العرض, الارتفاع, الزمن. بمعنى المادة اصبحت باربعة أبعاد ادراكبة بدلا من ثلاث. اذن من الممكن القول اننا بدلالة الابعاد الثلاث للمادة ندرك الزمن ليس مثل ادراكنا المادة بابعاد ثلاثة خالية من الزمن... البعد الرابع الذي اضافه انشتاين ليس تعسفيا بل فيزيائيا علميا على المادة في النسبية العامة التي لا يتوفر الى اليوم بديل تخطئتها او إدحاضها. لكن مشكلة ارتباط الزمن بابعاد المادة التي ندركها يفتح امامنا احتمال ادركنا الزمن موضوعا مستقلا واردا حسب نسبية انشتاين واضافته الزمن بعدا رابعا في تركيبة المادة وهو محال. الزمن ليس موضوعا للعقل.

اما حين تقول الوجود وتعني به الكليّة غير المتحققة وجودا فهو يكون مفهوما وليس مصطلحا متفقا عليه في حين تكون المعرفة (الابستمولوجيا) مصطلحا بحثيا متفقا عليه فهو مبحث علمي - عقلي. والسبب يعود لامكانية حصرنا المعرفة بابعاد فيزيائية او كيميائية او مادية بحثية وغيرها من تجربة علمية ومعادلات رياضية. وهذا لا ينطبق على الوجود الذي نعي تعيّنه الفيزيائي من خلال معرفتنا لمحتوياته الموجودية فقط.

ثم الوعي القصدي للاشياء والمواضيع حسب هوسرل واشياعه هو الوصول لهدف يتوخاه التفكيرالمسبّق قبل ادراك الموضوع او الوعي به حسب فهمنا تعبير هوسرل. أي أن المعنى برأينا على خلاف هوسرل ليس خاصّية معرفية موجودة بالوعي القصدي بل المعنى خاصية الشيء في وجوده المستقل بعالمنا الخارجي. وبغير الاقرار بهذه المسلمة الفلسفية تنتفي حاجتنا ادراك الاشياء والموضوعات لانها مكتفية ذاتيا بالمعنى ولا يضيف وعينا القصدي لها معرفة.

القصد أو القصدية في الوعي لا يحمل معنى قبليا يخلعه هو على موضوعه بل القصد يحمل خاصيّة البحث عن المعنى في مدركه الوجودي (الموضوع). هنا تتبيّن حقيقة الموضوع أنه ليس وسيلة ادراكية هادفة معرفية بل هو هدف بذاته بخلاف الوعي القصدي الذي هو وسيلة البحث عن المعنى في الموجود اي عن المعنى في موضوع تفكيره.. وليس في خلعه المعنى على مدركاته من الموضوعات.

طبعا هوسرل في منهجه الظاهراتي (الفينامينالوجيا) ومعه تلميذيه هيدجر وميرلوبونتي ذهبوا الى تبنّي الوعي القصدي الذي قال به برينتانو في معرض رده على الكوجيتو الديكارتي انا افكر.. وما يخص موضوعنا يعنى الموضوع في التفكير القصدي به قبل أن يكون (غفل) اصطدام الوعي به كموجود مستقل طاريء على التوقع الحدوث فهو موضوع صدفة سابق على التفكير القصدي به فهو بالتأكيد يكون غفلا كموضوع يحتويه عالمنا الخارجي..

اذا نحن سلمنا مع هوسرل بأن بعض الموضوعات ليست معطى غفلا عندها نسقط انفسنا في سذاجة فلسفية مثالية مغلوطة جدا هي أن كل مدركات العقل انما هي موجودات غير مادية ولا وجود لعالم خارجي يحتويها. فالموجودات المادية هي مواضيع (غفل) ليس بمحكومية ادراكنا لها بل بمحكومية وجودها المادي المستقل. والعقل لا يبحث عن مواضيعه الادراكية بنزعة وعيه القصدي. بل يبحث عن المعنى المعرفي بالمواضيع والاشياء المستقلة عنه. كذلك حين نقول مواضيع الخيال هي الاخرى ليست مواضيع غفلا وبذلك نلغي انتفاء مادية مواضيع الخيال اولا وهو اجتهاد يمكننا تمريره في تبرير ان اللاشعور الذي هو مصدر مواضيع المخيّلة ليس هو الاخر غفلا.

فالخيال وإن كان تداعيات انثيالاته الصورية بالذهن تسقطها المخيلة على التفكير العقلي الا أن الخيال لا وجود له بدون تفكير بموضوع حتى لو كان موضوع الخيال لا تنتظمه اللغة المحكومة بضابطي محدودية المعنى ومحدودية انتظام الكلمات في التعبير عن الصوت والمعنى الدال. حتى الصمت هو تفكير لغوي صورة ودلالة صوتية او غير صوتية لا يهم حين نريد الوصول الى حقيقة أن الخيال بلا موضوع هو هذيان من التفكير والاصوات غير المنضبطة بمعنى غير العاقلة في معرفتها اهمية واسلوب تعبير اللغة عن معنى قصدي تبتغي اللغة توصيله للمتلقي..

الوعي القصدي هو الشعور بالاتجاه المعرفي نحو هدف معيّن سبق التفكير به ذهنيا كموضوع. لذا يكون الشعور قرين الموضوع المحدد ماديا وليس قرين الموضوع (الغفل) الذي هو قرين اللاشعور الذي تفصح عنه تداعيات اللغة الحلمية في يقظة الخيال الشعوري. هنا علينا التمييز بين اللاشعور غير المسّيطر عليه في انتظام تداعيات الافصاح اللغوي عنه أي هو حالة من العصاب النفسي وليس اللاشعور المتمثّل في ابداعات لغة الاجناس الادبية التي تكون فيها مساحة المخيال اللاشعوري اكبر من مساحة تداعيات اللاشعور في لغة الكلام التداولي العادية. وهنا يكون المخيال في الاجناس الادبية مسيطرا عليه من قبل المبدع وسائبا في تداعيات الجنون الصوتية العشوائية التي لا معنى لها يؤطرها لا شكلا ولا محتوى.

متى يصح معنا القول الموضوع (غفلا) يحمل يحمل الوعي القصدي له معناه؟ حين يكون ادراكنا المواضيع بمحكومية محض الصدف لوجودها المستقل ولمباغتتها الوعي بالتفكير القصدي بها اي بمعرفتها. وهذه الصدف التي تلازم بعض المواضيع تنفي ان يكون الوعي القصدي التفكيري بالهدف يتم بالذهن قبل وجوده المادي المستقل بالعالم الخارجي كما تذهب له فينامينالوجيا هوسرل. والصدف الملازمة لبعض الموضوعات التي يستهدفها الوعي القصدي بالمعرفة عنها تؤكد (الغفل في حضورها) الذي يجعل من الصدفة اصدق تعبير عن الموضوع من الوعي القصدي الذي يتراجع دوره امام اسبقية الموضوع الغفل الذي يحمل معناه.

ثم هنالك زاوية نظر حول ان الصدف في تناول الادراك للموضوعات الغفل تخرج فاعلية العقل باختياره الموضوعات التي لها معنى. واذا افترضنا ان الوعي القصدي ينوب عن العقل الادراكي في الاختيار فهو يبطل التوجه نحو المواضيع الغفل التي تصبح كل ما يدركه العقل ليس صدفة ولا غفلا وهذه النظرة قاصرة بسبب ان العقل يدرك المواضيع التي تحكمها الصدف اكثر اهمية بكثير من الموضوعات التي تبدأ بالفكر وتنتهي بالموضوع في حكم الوعي القصدي باختياره مواضيع ليست غفلا ولا تحكمها صدفة وهذا غير منطقي. فوجود االموضوعات الغفل واصطدامنا غير المتوقع بها ادراكيا لا يمكننا نفيه ابدا من حياتنا المليئة بمثل تلك الموضوعات الغفل التي ترافقها الصدف وتفرض نفسها الوعي والتفكير بها.

فيورباخ وموضوعات الطبيعة

كان ولع فيورباخ الفيلسوف المادي اليساري المنشق عن هيجل بالطبيعة وصل مرحلة العبادة حد الهوس بها بعد وفاة هيجل فخرج هو ومعه ماركس وانجلز وشيلر وباور وشتراوس تجمعهم ادانة هيجل. وفي رسالة كتبها فيورباخ لابيه مخاطبا إياه اني تركت دراسة اللاهوت ليس ازدراءا به ولكن لأن الفلسفة والطبيعة وفرتا لي ما كنت اجد نفسي به. واصدر اهم كتابين له الاول (اصل الدين) والثني (جوهر المسيحية) ما سبب له تهمة الالحاد. حيث تملكته فكرة وحدة الوجود المادية الصوفية التأملية في تخليق الانسان لمعبوده انما يتم بعلاقة ميتافيزيقية تجمع بين الطبيعة والانسان.

طبعا رغم إعتراف ماركس بجميل فويرباخ الفلسفي انه اي ماركس اخذ من فويرباخ (ماديته) واخذ عن هيجل (ديالكتيكه) الواقف على راسه بالمقلوب بدلا من قدميه واعاده ماركس الى وضعه الطبيعي في صياغته النظرية المادية التاريخية والديالكتيك في المادة.الا ان ماركس هاجم فيورباخ بثلاثة اطروحات مجلدات طبعت ونشرت بعد وفاته. والسبب كان تحفظ ماركس من النزعة الدينية التي تملكت فيورباخ بنوع من صوفية مادية تختلف عن مذهب وحدة الوجود في الاديان ما جعل ماركس ينعته بالصوفي الميتافيزيقي المتأمل بعلاقة الانسان بالطبيعة.

لماذا هاجم ماركس في اطروحاته الثلاث كلا من هيجل وفيورباخ؟

الاسباب التي دعت ماركس الهجوم على ديالكتيك هيجل هي:

1. هيجل اعتبير الديالكتيك يتم يالذهن قبل الواقع. واسبقية الفكر على الواقع ماجعل ماركس يرد عليه ان الوجود سابق على الفكر. والديالكتيك الحاصل في المادة (صراع الاضداد) وفي التاريخ (الصراع الطبقي) هو الذي يقود الديالكتيك في الفكر وليس العكس.

2. الادهى من ذلك قول هيجل أن طبيعة العقل أي تركيبته البايولوجية هي جوهر طبيعي مزروع في الدماغ بالفطرة فيكون تفكير العقل ديالكتيكيا. وهذه الطبيعة الديالكتيكية الفطرية للعقل تنعكس على الواقع المادي وعلى التاريخ فيضفي عليهما حتمية حصول الديالكتيك في ظواهرهما المادية وغير المادية ممثلة بالبنى الفوقية. (تناولت هذا الخطأ لدى هيجل باكثر من مقال منشور لي على مواقع التواصل الاجتماعي كما هو موزع بمؤلفاتي).

ننتقل الان الى الاسباب التي دعت ماركس يكتب ثلاث اطروحات ضد فيورباخ:

1. ابتداع فيورباخ مادية تاريخية صوفية تأملية بنشأة الدين في تطويعه نزعته المادية ايجاد نوع من وحدة الوجود الصوفي.

2. اهتمام فيورباخ بأهمية الدين بحياة الانسان في بحثه الدائب عن اله يجده بالطبيعة او في الانسان ذاته رغم الحاد فيويرباخ الذي انكره بعض الفلاسفة واعتبروه بريء من وصمه به.

3. تطيّر ماركس من تاليف فويرباخ كتابين احدهما (اصل الدين) وكتاب (جوهر المسيحية) مركزا اهتمامه اي فيورباخ على ان علاقة الانسان بالطبيعة هما اللذان اخترعا الاله الذي هو الانسان بذاته.

ويرى فيورباخ بهذا المعنى الانسان هو الاله الذي يصنعه من خامة الطبيعة ويؤمن به معبودا متعاليا يحمل كل الصفات الجيدة التي يتمناها الانسان لنفسه ولا يستطيع ذلك كونها صفات متعالية مطلقة بالقياس لمحدودية الانسان كجوهر مادي كلي متناه. لذا فهو يخلعها على معبوده ليجده اعلى مرتبة في امتلاكه الخصائص التي يرتاح الانسان بعبادته لها ومحاولته تقمصّها . بمعنى مقولة شيلر كل شيء تجده مجتمعا بالانسان ولا تبحث عن شيء خارجه بمعنى هنا لدى شيلر تجد علاقة الانسان بالطبيعة وليس احتواء الطبيعة له كائنا من مجموع كائناتها فقط.

الماهية في الوجودية

انه لمن العبث الذي لا طائل وراءه الحديث عن موجود هو الانسان لا يمتلك ماهية ذاتية متعالقة في / مع وجوده كجوهر. اننا نجد مفارقة خارجة عن الفلسفة الوجودية التي اخرجت الذات وفصلتها عن الانسان كما واخرجت الماهية عن الموجود الانساني واعتبرته موضوعا ادراكيا خارج ضابط تلازم الماهية والوجود بما لا يمكن الفصل بينهما ابدا.

يبدو ان اسبينوزا كان له تاثيرا كبيرا بالفلسفة الوجودية. اكثر من تاثير بعض الفلاسفة المحسوبين عليها. فالوجودية حين نادت بارتياب شديد مقولتها (الوجود يسبق الماهية) نجد هناك من عكس المقولة في تراتيبية اولوية الماهية على الوجود من فلاسفة الوجودية انفسهم.

شن بعض الفلاسفة هجوما تشكيكيا على تلك المقولة لسارتر ان الوجود يسبق الماهية. فقد تردد جبرييل مارسيل الموافقة على تلك المقولة كي لا يخرج نفسه طواعية من الانتساب الى الوجودية والعودة الى مرجعيته اللاهوتية الدينية. وحاول راندال تخطئتها بقوله: (يجب ان ننهض بقوة ضد مقولة سارتر التي تقرر اسبقية الوجود على الماهية). ويعود راندال استعارة نفس المنحى الفلسفي الذي قال به سارتر ويكرره راندال في محاججة سارتر قوله (الانسان ببساطة هو ما يصنعه بنفسه بواسطة فعله وحريته). وهو ما قال به سارتر جوهر الانسان هو تصنيع الذات وخلقها المتسامي باستمرار لماهيته الموجودية الملازمة له.

لعل ابرز واقوى مواجهة لسارتر حول الماهية جاءت على لسان ل.لافيل قوله (لا معنى للوجود فينا الا لكي يسمح لنا بان نحقق "ماهية موضوعة سابقا" بل ان نحددها باختيارنا وبدلا من القول ان الماهية امكانية الوجود علينا القول ان الوجود امكانية الماهية). لتوضيح هذا الارباك المتداخل عن الماهية بالفلسفة الوجودية نقول:

- الماهية ليست معطى غفلا ولا هي موضوعة سابقة في الموجود. وانما هي سيرورة من الانتقالات الخبراتية للذات المستمدة من تجارب الحياة وعلاقة الانسان بالطبيعة والاله.

- حين نسف اسبينوزا الماركسية والفلسفة الوجودية قبل ظهورهما بقرون في مقولته (اننا بدلالة الماهية او الجوهر ندرك الوجود). فهو اي اسبينوزا سقط في الميتافيزيقا حينما إعتبر الجوهر او الماهية في الانسان والموجودات حسب مذهبه في وحدة الوجود يعود لجوهر الهي لانهائي كامل لا يمكنننا ادراكه. في حين صواب الماركسية والفلسفة الوجودية رغم الاختلاف الكبير بينهما فسّرا الماهية تفسيرا ماديا وليس لاهوتيا. وتبقى مقولة اسبينوزا اننا بدلالة الماهية ندرك الوجود غير صحيحة خارج مذهب وحدة الوجود الصوفية التي اقام فلسفته عليها.

- مقولة راندال الماهية موضوعة سابقة أي هي جوهر ذاتي ماهوي مكتف بذاته يصبح معنا من غير المتاح ولا المثير الاهتمام بالماهية انها سيرورة من تصنيع الذات لذاتها ليس بقواها الذاتية بل في تاثير المحيط واكتساب الخبرة من الحياة والطبيعة والعالم الخارجي.

- الاشكالية اللغوية الفلسفية التي ذكرناها وردت على لسان راندال (بدلا من القول الماهية امكانية الوجود علينا القول الوجود امكانية الماهية). العبارة صحيحة تماما من حيث مرجعية الوجود معطى ثابت والماهية سيرورة من التغييرات المتلاحقة. ونكرر قولنا انه من العبث البحث عن ماهية مستقلة عن الموجود الانسان. فالماهية هي الذات في حالة من السيرورة المتطورة باستمرار لذا يكون وعي الوجود سابق على الماهية قيد الانجاز مقولة فلسفية سليمة.

اسبينوزا والماهية في وحدة الوجود

لمن يرغب التمهيد لمصطلح مذهب وحدة الوجود انه مذهب صوفي تعنى به الفلسفة والاديان وخاصة الوثنية منها قبل التوحيدية نلخصه بعبارة قصيرة (كل شيء في الله والله في كل شيء). من المهم الاشارة الى ان الصوفية بالاسلام كانت متحفظة تجاه بعض منطلقات مفاهيم وحدة الوجود لسببين الاول الانزلاق نحو تشييء الله الذي تؤمن به الديانة المسيحية. والسبب الثاني توخي الحذر من الانزلاق نحو الوثنية الدينية التي تنكر وجود الخالق وتؤمن بمذهب وحدة الوجود. معظم فلاسفة الصوفية الاسلامية فقدوا حياتهم حينما انزلقوا من مذهب وحدة الوجود الى التشييء والحلول بالذات الالهية وهو محال واقعيا ولا حتى روحانيا كما جرى مع الحلاج والسهروردي الذين تم اعدامهما بوحشية.

الوجودية كما هو الحال مع الماركسية تطيرتا بشكل مروّع تجاه مقولة اسبينوزا بأن الجوهر الكلي الالهي الموزع في موجودات الوجود والطبيعة والعالم الخارجي هو التجسيد للفكر الالهي الذي يعطي الماهية اسبقية على الوجود. واننا بدلالة الماهية نفهم الوجود.

الوجودية لم تعط الموجود الانسان قيمة انطولوجية كما اراد ذلك هيدجر وكرس كتابه الشهير (الكينونة والزمن) لهذا المسعى. على خلاف سارتر الذي ذهب الى ان الوجود والمقصود به الموجود الانسان هو الحرية المطلقة. ومذهب وحدة الوجود لم تتعامل معه الوجودية كتفسير فلسفي منطقي يعطي الماهية اكثر مما تمتلكه حقيقة.

من أبرز الاشكاليات التي شتت الفكر الفلسفي في الوجودية هو انها لم تعط لا للوجود ولا للماهية استقلالية معرفية فلسفية ليس بمعنى الانفصال بل بمعنى العلاقة الاندماجية بينهما. فهي ترى بالانسان هو الحرية بالمفهوم المطلق المفتوح النهايات على تقديم الاسبقيات في غير تراتيبيتها المعروفة عنها كما حصل في موضوعنا علاقة الموجود بالماهية والاسبقية لمن؟ الحرية في الوجودية تجعل من الوجود بذاته خال من الحتمية الموجودية الواقعية انطولوجيا وكائن في مجتمع. وهذا ممثلا بتعبير سارتر الانسان عالم منغلق على ذاته.

***

علي محمد اليوسف – باحث فلسفي

 

بقلم: ميشيل فوكو

ترجمة: علي حمدان

***

أولاً، أود أن أتحدث عن هذه السلطة الرعوية. لقد قيل في كثير من الأحيان أن المسيحية أوجدت مجموعة من القواعد الأخلاقية تختلف اختلافًا جوهريًا عن تلك التي كانت سائدة في العالم القديم. وعادة ما يتم التركيز بشكل أقل على حقيقة أنها اقترحت ونشرت علاقات سلطة جديدة في جميع أنحاء العالم القديم.

المسيحية هي الدين الوحيد الذي نظم نفسه ككنيسة. وعلى هذا النحو، فإنها تفترض من حيث المبدأ أن بعض الأفراد يمكنهم، من خلال صفتهم الدينية، أن يخدموا الآخرين ليس كأمراء أو قضاة أو أنبياء أو عرافين أو محسنين أو معلمين وما إلى ذلك، بل كقساوسة. ومع ذلك، فإن هذه الكلمة تشير إلى شكل خاص جدًا من أشكال السلطة.

1. إنها شكل من أشكال السلطة التي تهدف في نهاية المطاف إلى ضمان خلاص الفرد في العالم الآخر.

2. السلطة الرعوية ليست مجرد شكل من أشكال السلطة التي تأمر؛ بل يجب أن تكون مستعدة أيضًا للتضحية بنفسها من أجل حياة وخلاص القطيع. وهكذا، فهي تختلف عن السلطة الملكية، التي تطالب رعاياها بالتضحية من أجل إنقاذ العرش.

3. إنها شكل من أشكال السلطة التي لا تهتم فقط بالمجتمع بأكمله، بل بكل فرد على وجه الخصوص، طوال حياته.

4. وأخيرًا، لا يمكن ممارسة هذا الشكل من أشكال السلطة دون معرفة ما يدور في أذهان الناس، واستكشاف أرواحهم، وحملهم على الكشف عن أسرارهم الداخلية. إنها تعني معرفة الضمير والقدرة على توجيهه.

إن هذا الشكل من أشكال السلطة موجه نحو الخلاص (على النقيض من السلطة السياسية). انها تصالحية (على عكس مبدا السيادة)؛ وهي شكل من أشكال الفردانية (على النقيض من السلطة القانونية)؛ وهي متزامنة ومتواصلة مع الحياة؛ وهي مرتبطة بإنتاج الحقيقة - حقيقة الفرد نفسه.

ولكن كل هذا جزء من التاريخ، كما قد تقولون؛ إن السلطة الرعوية، إن لم تكن قد اختفت، فقد فقدت على الأقل الجزء الرئيسي من كفاءتها.

هذا صحيح، ولكنني أعتقد أنه ينبغي لنا أن نميز بين جانبين من جوانب السلطة الرعوية ــ بين المؤسسة الكنسية، التي توقفت أو على الأقل فقدت حيويتها منذ القرن الثامن عشر، ووظيفتها، التي انتشرت وتضاعفت خارج المؤسسة الكنسية.

لقد حدثت ظاهرة مهمة في حوالي القرن الثامن عشر ــ كانت توزيعًا جديدًا، وتنظيمًا جديدًا لهذا النوع من السلطة الفردية.

لا اعتقد انه ينبغي علينا اعتبار "الدولة الحديثة" ككيان تم تطويره فوق الافراد، متجاهلة ما هم عليه وحتى وجودهم ذاته، ولكن علي العكس، كهيكل معقد جدا، يمكن دمج الافراد فيه، بشرط واحد: ان يتم تشكيل هذه الفردية في شكل جديد وتقديمها لمجموعة من الأنماط المحددة.

 وبطريقة ما، يمكننا أن نرى الدولة كمصفوفة حديثة للفردانية أو شكل جديد من أشكال السلطة الرعوية. بضع كلمات أخرى حول هذه السلطة الرعوية الجديدة.

 1. قد نلاحظ تغييرًا في غاياتها. لم يعد الأمر يتعلق بقيادة الناس إلى خلاصهم في العالم الآخر بل بالأحرى بضمانة خلاصهم في هذا العالم. وفي هذا السياق، تأخذ كلمة "الخلاص" معاني مختلفة: الصحة، والرفاهية (أي الثروة الكافية، ومستوى المعيشة)، والأمن، والحماية من الحوادث. لقد حلت سلسلة من الأهداف "الدنيوية" محل الأهداف الدينية للرعاية التقليدية، وخاصة لأن الأخيرة، لأسباب مختلفة، اتبعت بشكل ثانوي عددًا معينًا من هذه الأهداف؛ علينا فقط أن نفكر في دور الطب ووظيفته الرفاهية التي ضمنتها الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية لفترة طويلة

 2. وفي الوقت نفسه، تزايد عدد المسؤولين عن السلطة الرعوية. وفي بعض الأحيان، كان هذا الشكل من السلطة يُمارس بواسطة جهاز الدولة أو، على أية حال، بواسطة مؤسسة عامة مثل الشرطة. (لا ينبغي لنا أن ننسى أنه في القرن الثامن عشر، لم يتم اختراع قوة الشرطة فقط للحفاظ على القانون والنظام، ولا لمساعدة الحكومات في نضالها ضد أعدائها، بل لضمان الإمدادات الحضرية، والنظافة، والصحة، والمعايير التي تعتبر ضرورية للحرف اليدوية والتجارة). وفي بعض الأحيان، كانت السلطة تُمارس من قبل المشاريع الخاصة، وجمعيات الرفاهية، والمحسنين، وبشكل عام من قبل المحسنين. ولكن المؤسسات القديمة، على سبيل المثال الأسرة، تم حشدها أيضًا في هذا الوقت لتولي وظائف رعوية. كما كانت تمارسها هياكل معقدة مثل الطب، والتي تضمنت مبادرات خاصة ببيع الخدمات على مبادئ اقتصاد السوق، ولكنها تضمنت أيضًا مؤسسات عامة مثل المستشفيات.

3. وأخيراً، أدى تكاثر أهداف السلطة الرعوية ووكلاءها إلى تركيز تطوير معرفة الإنسان حول دورين: الأول، عالمي وكمي، يتعلق بالسكان؛ والثاني، تحليلي، يتعلق بالفرد.

وهذا يعني أن السلطة ذات الطابع الرعوي، التي كانت مرتبطة على مدى قرون ـ لأكثر من ألف عام ـ بمؤسسة دينية محددة، انتشرت فجأة في الجسم الاجتماعي بأكمله؛ ووجدت الدعم في العديد من المؤسسات. وبدلاً من وجود سلطة رعوية وسلطة سياسية، مرتبطتين ببعضهما البعض إلى حد ما، والمتنافستين إلى حد ما، كان هناك "تكتيك" فرداني يميز سلسلة من السلطات: سلطات الأسرة، والطب، والطب النفسي، والتعليم، وأصحاب العمل.

في نهاية القرن الثامن عشر، كتب كانط، في إحدى الصحف الألمانية - برلينر موناتسكريفت - نصًا قصيرًا. كان العنوان "هل كان تنويرا؟" وكان لفترة طويلة، ولا يزال، يُعتبر عملاً ذا أهمية صغيرة نسبيًا.

ولكن لا يسعني إلا أن أجده مثيرا للاهتمام ومحيرا للغاية لأنها كانت المرة الأولى التي يقترح فيها فيلسوف كمهمة فلسفية تتبع ليس فقط النظام الميتافيزيقي أو أسس المعرفة العلمية ولكن أيضا في حدث تاريخي بل حدث تاريخي معاصر.

عندما سأل كانط في عام 1784، هل كان هذا هو التنوير؟، كان يعني، ما الذي يحدث الآن؟ ما الذي يحدث لنا؟ ما هو هذا العالم، هذه الفترة، هذه اللحظة المحددة التي نعيش فيها؟ أو بعبارة أخرى: ما نحن؟ كتنوير، كجزء من التنوير؟ قارن هذا بالسؤال الديكارتي: من أنا؟ أنا، باعتباري كائنًا فريدًا ولكنه عالمي وغير تاريخي؟ أنا، بالنسبة لديكارت، هو كل شخص، في أي مكان وفي أي لحظة؟

ولكن كانط يسأل شيئاً آخر: ما نحن؟ في لحظة محددة للغاية من التاريخ. ويبدو سؤال كانط بمثابة تحليل لكل منا ولحاضرنا.

أعتقد أن هذا الجانب من الفلسفة اكتسب أهمية متزايدة. هيجل، نيتشه....

 الجانب الآخر من "الفلسفة العالمية" لم يختف. ولكن مهمة الفلسفة كتحليل نقدي لعالمنا هي شيء يزداد أهمية. ولعل أكثر المشاكل الفلسفية يقيناً هي مشكلة الوقت الحاضر وما نحن عليه في هذه اللحظة بالذات.

ربما الهدف في الوقت الحاضر ليس اكتشاف ما نحن عليه، بل رفض ما نحن عليه. يتعين علينا أن نتخيل ونبني ما يمكن أن نكون عليه للتخلص من هذا النوع من "العقدة المزدوجة" السياسية، والتي تتمثل في الفردانية والشمولية المتزامنة لهياكل السلطة الحديثة

.إن النتيجة التي يمكن أن نخلص إليها هنا هي أن المشكلة السياسية والأخلاقية والاجتماعية والفلسفية التي نواجها اليوم لا تتلخص في محاولة تحرير الفرد من الدولة ومن مؤسساتها، بل في تحريرنا نحن أيضاً من الدولة ومن ذلك النوع من الفردية المرتبطة بالدولة. ويتعين علينا أن نعمل على تعزيز أشكال جديدة من الذاتية من خلال رفض هذا النوع من الفردية الذي فرض علينا منذ قرون عديدة.

***

..................

*هذا المقال كتبه مشيل فوكو كخاتمة لكتاب: ميشيل فوكو : ما وراء البنيوية والتأويلية بقلم هيربرت ال. ديفوس وبول رينبو. اصدار جامعة شيكاجو.

تمهيد: بدءًا من الفلسفة، من الممكن أن نفكر في الإبداع من منظور مختلف، خارج المقولات المعتادة للهندسة والإدارة. فمن خلال الفلسفة يمكننا أن ننظر إلى الإبداع باعتباره أكثر مسؤولية، وأكثر أخلاقية، وأكثر إنسانية، كما يمكن للفلسفة أن تكون علاجية ووقائية، وتطهيرية وعلاجية. هناك ثلاثة محاور مقترحة للتأمل. يهدف الأول إلى تحدي ماهية الإبداع وحتى تعريفه ذاته، باستخدام فلسفة غير قياسية؛ ويستخدم الثاني فينومينولوجيا هوسرلية لتحليل شامل لما ننجزه عندما نبتكر؛ ويؤكد الثالث على التمارين الفلسفية والروحية وضرورة تدريب المبدعين على رعاية الذات والتقنيات اللازمة للنظر في عواقب أفعالهم.

هل يدرك المبدعون أدوارهم؟ هل لا يسحقهم أسلوب التفكير المفرط في الرأسمالية والليبرالية المتطرفة في التعامل مع الإبداع؟ كيف تعيد الفلسفة التفكير في الابتكار والمبتكرين؟ وماهي فينومينولوجيا الإبداع؟

الفلسفة النقدية للابتكار والمبتكر

إن محاولة صياغة فلسفة تنتقد الابتكار والمبتكر ليست بالمهمة الهينة. فالابتكار والمبتكر مفهومان واسعان، ورغم أنهما لا يحملان معاني مختلفة، إلا أنهما يُفهَمان بشكل مختلف في اللغة المشتركة. وربما تكون هذه إحدى المشاكل التي نواجهها مع الابتكار ولماذا نحتاج إلى معالجته. ويبدو من الضروري الآن تحليل الابتكار والمبتكر من خلال النقد. إن النقد بالمعنى اليوناني للكلمة kritikē يعني فن التمييز. وينطبق هذا التمييز على الناس كما ينطبق على الأشياء والمفاهيم، ولهذا السبب فإن هذا الشكل من النقد هو الأنسب لجهودنا، حيث سيتم اختبار المفهوم والنظرية والانضباط. ومن الأهمية بمكان أن نعيد التفكير في الابتكار، ويصبح ذلك التزامًا وليس خيارًا إذا أردنا الحفاظ على حياة أصيلة. ويجب علينا أيضًا أن نسأل أنفسنا السؤال التالي: ماذا نريد لمستقبل البشرية؟ إذا كانت الإجابة هي الحفاظ على الإنسانية أو تقدمها، فلابد من إعادة النظر في الابتكار. وإلا فلن يكون هناك ما يمكن فعله، ولا ما يمكن التفكير فيه، فالابتكارات تسير بالفعل على الطريق الصحيح نحو تدمير الإنسانية والبيئة. وإذا كان لزاماً علينا إعادة التفكير في الابتكار، فذلك لأن الابتكار محصور في نظرية رأسمالية تأويلية، ولابد من استخراجه منها. فعلى مدى عقود من الزمان، تأثر الابتكار بثقافة، ورموز، وبيئة، ونظام بيئي أغرقته في طريقة من الوجود والسلوك جعلته جهازاً مخصصاً للإنتاج الاقتصادي فقط. وهذا التأويل يمنع الابتكار من التفكير: فكل ما يمكنه فعله هو العمل وأن يكون أداة للإنتاج. وإذا أردنا أن نحدد هذا التأويل، فلا تخشوا التأكيد على أنه رأسمالي في جوهره. ولمحاولة إعادة التفكير في الابتكار، نحتاج إلى صياغة أفكار خارج الصندوق. وعلى وجه التحديد، نحتاج إلى التفكير في الابتكار بعيون جديدة. وهذا من شأنه أن يساعدنا في إعادة تصميم الابتكار بهدف نهائي يتمثل في دمج المزيد من المسؤولية والأخلاق والإنسانية. إن التفكير في الابتكار بأساليبه الخاصة ومنهجية التفكيك القياسية لن يكون كافياً. فمن ناحية، تم ذلك بالفعل، ومن ناحية أخرى، هناك خطر يتمثل في أن هذا لا يسمح لنا بالتواجد في الحالة الذهنية اللازمة لإعادة البناء. بعبارة أخرى، إن قيود الابتكار هي من النوع الذي قد يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذا أمر يمكن تصوره (أو إعادة التفكير فيه) بطريقة مستقلة وغير متحيزة، ولكن هذا ليس هو الحال. وبالتالي فمن الضروري (إعادة) التفكير في الابتكار باستخدام أدوات أكثر ملاءمة وتختلف عن الطريقة التي نفكر بها عادة في الابتكار، سواء فيما يتعلق بالهندسة أو الإدارة. ويكمن التحدي في التفكير في الابتكار، أو بالأحرى (إعادة) التفكير في الابتكار، من منظور فلسفي. أولاً، يجب علينا (إعادة) التفكير في استخدام فلسفات معينة، لأنها ليست كلها مناسبة للعمل الذي نرغب في القيام به. ثانياً، يجب مراجعة مصطلح "الفلسفة" نفسه للتأكد من ملاءمته. بعبارة أخرى، سنبقى مع أسئلة أكثر من الإجابات أكثر من مرة. ولهذا السبب فإن (إعادة) التفكير في الابتكار بين قوسين. ويعبر هذان القوسان عن الترقب والشك. فهل يمكننا حقاً إعادة التفكير في الابتكار؟ وهل أدواتنا وأساليبنا قوية بما يكفي لتحقيق ذلك؟ فضلاً عن ذلك، يتعين علينا أن نحمي عالمية الابتكار ومساعديه (الاقتصادات الرأسمالية والليبرالية والشركات والأنظمة السياسية)، الذين لا يريدون (إعادة) التفكير في الابتكار لأغراضهم الخاصة.

(إعادة) التفكير في الابتكار

إن الفرضية التي نطرحها هي أن الفلسفة ربما تكون مفيدة نظراً لخصائصها وأدواتها وتقنياتها وخبراتها. ومع ذلك، فإن "الفلسفة" المفردة عامة للغاية لأغراضنا، وخاصة أن "الفلسفة" تتألف في الواقع من "فلسفات" مختلفة، بنفس الطريقة التي يمكن بها الإشارة إلى "الابتكار" على أنه "ابتكارات" بشكل أكثر دقة. فيما يتعلق بالابتكار، تبدو ثلاث أفكار معينة ذات صلة خاصة بإعادة التفكير في الابتكار، وهي ثلاث فلسفات لا تستند إلى أسسها أو مناهجها وظهرت في أوقات مختلفة. إن التخصصات والتقنيات والأفكار الخاصة بالفلسفة غير القياسية، و الفينومينولوجيا ، والتمارين الروحية سوف تملي هيكل مساعينا. ويبدو أنها ذات صلة خاصة بتحقيق هدفنا المتمثل في "إعادة التفكير". وعلاوة على ذلك، نأمل أن تسمح لنا هذه المقترحات الثلاث "بتفكيك" و"التفكير" و"بناء" الابتكار من أجل مستقبل أفضل. إننا لابد وأن نكون واضحين: إن هذه المناهج لا تهدف إلى "تطوير" الابتكار و"الرضا" عن مبتكر جديد أكثر "فلسفة" أو "أخلاقية" أو حتى أكثر "مسؤولية" عند تنفيذ ابتكاراته والذي لن يشكك في الابتكار بطريقة وجودية. بل إن الهدف هنا هو (إعادة) التفكير في الابتكار نفسه، والتساؤل عن جوهره، ولهذا السبب نحتاج إلى فلسفات مثل تلك التي نقترح طرحها. إن (إعادة) التفكير في الابتكار لابد وأن يكون لها غاية حقيقية وملموسة. ولابد وأن نوجه أنفسنا نحو البراجماتية، أي المبدعين أنفسهم، سواء الحاليين أو المستقبليين.

أسس الابتكار غير القياسي

ما الذي قد تغطيه الفرضية الخاصة بالابتكار غير القياسي حقًا؟ إذا كان هناك تفكير ابتكاري غير قياسي، أي التركيز على تنظيم الأجهزة الحيوية دون تعديلات بسيطة على العمليات الحالية، فإن السحق سيكون غائبًا أو بطيئًا على أقل تقدير. إن هذا الاقتراح قد يبدو وكأنه يسد الفجوة في التفكير ويترك المجال للإبداع وخصائصه الأكثر هيمنة. إن فرضية الإبداع غير القياسي من شأنها أن تتجنب الهيمنة شبه البارمندية، والتي تقول بأن الوجود والتفكير هما نفس الشيء؛ فالإبداع اليوم هو الوجود، لأن التفكير غير موجود. إن الإبداع أكثر من الوجود، فهو الواقع، والتفكير لا يُذكَر على الإطلاق. والواقع أن الإبداع غير القياسي يجعل من الممكن أن ندخل أنفسنا في فجوات تجعل من المستحيل التغلب عليها، ولكن قبل كل شيء، يجعلنا نبدأ في لمحة طريق حيث يمكن للفكر أن يصبح ثقلاً موازناً للإبداع في الواقع. ومن ثم يستطيع نفس الشخص أن يستمر في الوجود والتفكير، ولكن هذه المرة من خلال الجمع بين الفعل والتفكير. وبعبارة أخرى، لا شك أن الفكر لابد وأن يتحد مع الإبداع، الذي أصبح مستبعداً منه اليوم. وهو في الواقع ارتباط بين الفعل والتفكير. فالأمر لا يتعلق بعدم "الفعل" بعد الآن، بل يتعلق بفعل الفكر، أو بالضمير، بعبارة أخرى. وهذا يعني أن الابتكار لا ينبغي أن يكون مجرد إقناع وتأكيد، بل ينبغي أن يتم تصوره وتطويره وتنفيذه وإطلاقه وتجربته بالحجج والتأملات، بالضمير والشكوك، بالأسئلة والفرضيات. إن وجود الابتكار غير القياسي يمكن أن يتخذ أشكالاً مختلفة في أماكن مختلفة. وبالتالي فمن الممكن أن نجعله نشطاً وأن نجعل من الممكن إزالة سلطة الابتكار الحالية. وبالتالي فإن استخدامه مهم بنفس القدر في كليات الطب، على سبيل المثال، كما هو الحال في مراكز البحث والتطوير، ووجوده له نفس القدر من الأهمية في المنظمات التجارية (أو غير التجارية) كما هو الحال في علوم الإدارة. يجب أن نجد أسس الابتكار غير القياسي في المجال الأكاديمي وكذلك في النظام البيئي العملي. يجب أن يجعل هذا الإسهام من الممكن التفكير في الابتكار بطريقة جديدة، والتفكير في كيفية الابتكار دون أن نكون مقيدين بالأساليب القديمة وغير الملائمة في الماضي، حتى نتمكن من الابتكار من أجل الصالح العام. للقيام بذلك، يجب أن ننتج نصوصًا ولغة مشتركة وتعاليم، لأن هذه هي المركبات للتغيير. إن المادة لا تزال في مرحلة الإنتاج والتطوير. وهنا نضع حجر الأساس. ويتعين علينا أن نضع في اعتبارنا ثلاث سمات عند التوصل إلى هذه المادة، وهي السمات التي تؤهل الممارسة غير الفلسفية التي نستولي عليها: الحرية، والصرامة، والعمومية. والحرية هي الركيزة الأساسية الأولى. ولابد أن تتم كل عمليات إعادة التفكير في الإبداع بحرية. وهذا من أجل تجنب التلاعب غير المبرر من جانب المنظمات ذات الدوافع الخفية، وكذلك النجاح في التفكير بشكل مستقل دون التأثر بتاريخ ثقيل للغاية ومشحون للغاية ويجعلنا نشك في إمكانية التشكيك فيه. وهذه الحرية في التعامل مع الإبداع سوف تسمح بظهور مواد جديدة تبشر بالابتكار غير التقليدي. وعلى هذا النحو، نستطيع أن نعيد تعريف الإبداع، ليس فقط من زاوية فلسفية، بل وأيضاً من منظور طبي، ومعماري، وعلمي، وفن، وتذوق الطعام، بدلاً من الجانب "التجاري" من الأمور على وجه الحصر. لقد وقعت الإبداعات في براثن الأنانية المتساهلة، وتعرضت لضغوط المساهمين، الذين لم ينظروا إليها إلا كوسيلة لتوليد الربح. وهذا أمر ضار للغاية لأن العديد من المبدعين حرصوا على تقديم مقترحات وحلول لصالح الصالح العام. ومع ذلك، فإن هذه الأقلية من المبدعين فقط، والنقد الذي نوجهه يتعلق بالأغلبية العظمى من المبدعين. وإذا ما أردنا أن نقارن بين فلسفة لارويل غير التقليدية وفلسفته، فإن توبيخ لارويل للفلسفة هو أنها لم تحقق أهدافها من خلال التفكير في نفسها فقط ومن خلال التظاهر فقط بالتفكير في الأشياء والموضوعات التي يفترض أنها تدرسها. وللخروج من هذا الموقف المشلول، كان عليه أن يطور طريقة للتفكير الجذري تتجاوز الفلسفة، حتى لو كانت الفلسفة هي مادتها الأساسية. وينطبق نفس الشيء على الإبداع، فهناك ضرورة لتجاوز منطقة الراحة بطريقة جذرية ومراقبة إنجازه. ولا يمكن أن يكون هذا عملاً مستقلاً. إن الإبداع لا بد وأن يتخذ شكلاً آخر ـ الإبداع غير التقليدي، ولابد وأن يشمل تخصصات أخرى وأن يحافظ على صرامة هدفه المتمثل في العمل من أجل الصالح العام والعناية بالبيئة المحيطة به.

فينومينولوجيا الإبداع

في تحليل هذه العناصر الأولى، لا يبدو أن الفينومينولوجيا تقدم السمات الضرورية التي تجعلها تعتبر مساراً لإعادة التفكير في الإبداع. فالبحث عن الحقيقة، والوصول إلى "الأشياء ذاتها"، وتحليل الخبرات، لا يبدو أنها عناصر واضحة لوصف الإبداع "الجديد". ولكن عندما ننظر عن كثب إلى عناصر الفينومينولوجيا ، وهي على وجه التحديد التشكيك في فهم المرء للعالم، والطلب على الدهشة، والتساؤل حول محيطنا، والهوس بالمعنى الواسع لفهم العالم، نستطيع أن نرى أن هذه العناصر تبدو أيضاً ذات صلة بإعادة التفكير في الإبداع. وهذا يصبح أكثر منطقية إذا ما تساءلنا أيضاً عن المبتكر، أي الفرد الذي يبتكر. من الذي يفاجأ؟ من الذي يرحب بالعالم؟ من أين يأتي هذا الوعي بالعالم وتحليله للخبرات؟ ان الإبداع بطبيعته عمل الإنسان، ومن خلاله يتم تطبيق الفينومينولوجيا. وربما يعود الأمر إلى المبتكر لكي يتوقف عن الإبداع، بل يركز على التعلم، وليس الإبداع بل العيش: بعبارة أخرى، أن يضع نفسه في موقف لا يقتصر على عقد عمل أو مكان عمل حيث يمكن للنشاط أن يستمر دون توقف أو حدود. إن طرح سؤال الفينومينولوجيا من أجل (إعادة) التفكير في الإبداع يعني أن نسأل ليس فقط أن معرفة الأشياء نفسها هي تمرين يمكن أن يساهم في تحسين الأشياء نفسها، بل وأيضًا أن الوصول إلى هذه المعرفة يتطلب أولاً معرفة كيفية طرح الأسئلة على الذات. بعبارة أخرى، يعني أن نسأل أنفسنا كيف نعرف. وبدلاً من التفكير في التأمل في تأثيرات الإبداع (الأداء أو العواقب أو الربح)، سيكون من الأفضل أن نسأل عن معرفة الإبداع. لماذا يوجد؟ هل يجب أن يوجد؟ ولكن أيضًا من الذي يولده؟ لماذا؟ ونتيجة لذلك، يمكننا التأثير على الظواهر. نقترح التوقف عند منهج الفينومينولوجيا ومراجعة تكوينه ونظرياته وطرق تطبيقه، والتعامل بشكل منهجي مع كل بُعد من أبعاده، لقياس المساهمة الممكنة في (إعادة) التفكير في الابتكار.

تمارين روحية للعالم المعاصر

لقد كانت الفلسفة منذ البداية تمريناً روحياً: ويتلخص التحدي الأساسي الذي تواجهه في تحدي الذات لمواجهة العقبات التي تعترض طريقها في الحياة على نحو أفضل. وعندما نمارس التمارين الروحية، فإنها تسمح لنا بالعناية بأرواحنا، وليس على نحو تحليلي نفسي، والذي، على الرغم من أنه مستوحى من تقنيات القدماء، لا يهتم عملياً إلا بالعصاب وتنشيط اللاوعي، ويرى أن أي اضطراب له أصل جنسي من خلال تقييد الرغبة الجنسية. إن التمارين الروحية تشبه الطب، مثل العلاج، لأنها تسمح لنا بالعيش بأفضل طريقة ممكنة؛ أو ربما بشكل أكثر دقة، بأقل قدر ممكن من الألم. ومن الواضح أن العناية بالذات ليست أنانية، بل إنها تتم بالتعاون مع المجتمع ومن خلاله ومن أجله. وإذا كانت هذه الممارسة مقتصرة في هذه القطعة على المبدعين، فإنها مع ذلك تشكل أهمية أساسية للجميع. إن التمارين الروحية التي مارسها الرواقيون والأبيقوريون والساكنيون تؤكد على الفلسفة الهلنستية والرومانية برمتها، سواء من الناحية النظرية أو العملية، حتى وإن كانت المسيحية قد تبنت هذه التمارين في بعض الأحيان، أو أساءت التعامل معها أو أساءت تفسيرها، كما ذكرنا آنفاً. لقد استمرت هذه التمارين لتطوير الروحانية إلى ما بعد العصور القديمة، ولقد كانت كلمات القدماء ذات انتشار عالمي. ومن السذاجة ألا نضع في الحسبان ضرورة هذه التمارين الروحية في عصرنا. وبصرف النظر عن المدرسة الفكرية (الرواقية، والأبيقورية، والساكنية)، فإن هذه المقترحات تتردد صداها مع الاحتياجات المعاصرة. وقد أبرز بيير هادو هذا الأمر بوضوح: "في رأيي، لا يزال نموذج الفلسفة القديمة سارياً، وهذا يعني أن البحث عن الحكمة قائم دائماً وممكن دائماً. وأود أن أقول فقط إن هناك، على ما يبدو لي، مواقف عالمية وجوهرية للإنسان عندما يسعى إلى الحكمة...". ومن الخطأ أن نقرأ بيير هادو فقط في مجال الفلسفة المحجوز. فالفلسفة ليست مخصصة للفلاسفة فقط. إن التمارين الروحية تحتاج إلى أن تكتسب موطئ قدم في الأحداث المعاصرة، والابتكار، مع عواقبه وتداعياته على الحياة اليومية، يشكل أرضاً خصبة ممتازة لهذا. إن قوة التمارين الروحية القديمة التي تجد نفسها حاضرة في عالمنا الحالي تتطلب منا على الأقل أن نكرمها باستخدامها. ولا توجد طريقة أفضل لاستخدامها من مواجهتها بأرضية معينة تبدو في الوقت الحالي في حاجة إلى بعض الحكمة.

إعادة التفكير في الابتكار باستخدام الفلسفة

إن العلاقة المتبادلة بين الفلسفة والأعمال ليست واضحة تمامًا، ومن المهم أن نتذكر أن الأعمال التجارية يجب أن تخدم الفلسفة، وليس العكس. النقطة الأساسية هي أننا نريد عالمًا أفضل وأكثر حكمة، والأعمال التجارية هي أداة يمكننا استخدامها. لفهم أفضل، انظر إلى الرواقية، وهي نوع من الفلسفة.في حين أن الرواقية هي فلسفة وجودية، إلا أنها مشهورة أيضًا بحكمتها، والتي تلخصت في أحاديث إبيكتيتوس. يستحضر إبيكتيتوس عمل الروح من خلال فصل وظائف الروح إلى ثلاثة مواضيع. الوظيفة الأولى هي انضباط الرغبة: التخلي عن الرغبة في ما لا يعتمد علينا. الوظيفة الثانية تتعلق بالعادات والفعل: عدم السماح للذات بالانجراف وراء الرغبات الفوضوية التي تضر بسلوك المرء، ولكن إظهار ضبط النفس. الوظيفة الثالثة تتوافق مع الاستخدام الصحيح للتمثيلات؛ إنها انضباط الاتفاق، أو أن نكون صادقين في كيفية استخدام أفكارنا وكلامنا في حكمنا.إن عرض الموضوعات الثلاثة يسلط الضوء على أنه يبدو من المستحيل التفكير في الرواقية دون تطبيق عملي. وبالنظر إلى أساتذة الرواقية، نرى أنهم منخرطون بشكل كبير في الحياة اليومية وفي الأعمال التجارية. ورث زينون الإيلي، مؤسس الرواقية، ثروة من والده. وكان سينيكا قاضيًا ومقرضًا ومعلمًا ومعلمًا خاصًا. وكان ماركوس أوريليوس إمبراطورًا. وكان شيشرون رجل دولة ومحاميًا متطوعًا ومالكًا للأراضي ورجل أعمال. في الرواقية، يتحد الفكر والفعل. لقد ربط الفلاسفة الرواقيون بسلاسة بين سعيهم إلى الحكمة والحياة اليومية. لذا، ألا ينبغي لنا أن نفكر بنفس الطريقة، أي أن نضع النظرية في الاعتبار ولكن أقدامنا ثابتة على الأرض؟ يبدو أن الابتكار مجال وثيق الصلة. فبسبب الابتكارات، تختفي أعداد الحيوانات وحتى الأنواع. ويؤدي التطور الشامل للتكنولوجيا والمنتجات إلى عواقب مباشرة على استنزاف الموارد الطبيعية. لا شك أن النشاط البشري أضر بالبيئة، وأن سعينا الدائم إلى النمو الاقتصادي والابتكار هو المسؤول في الغالب، بل وحتى الوحيد.أي نوع من التفكير الفلسفي يسمح لنا بامتلاك وجهة نظر رواقية بشأن هذه الموضوعات؟ ما هي الأفعال الفلسفية والتفكير الرواقي القادر على إحداث تغيير في النموذج البشري في مواجهة هذه التحديات؟ في مواجهة الأزمات التي صنعها الإنسان، ألا ينبغي لنا أن نتعلم أن نرغب في ما لا يعتمد علينا وما لا نعتمد عليه؟ ألا ينبغي لنا أن نتوقف عن السماح لأنفسنا بالانجراف واستعادة ضبط النفس؟ أخيرًا، ألا ينبغي لنا أن نكون أصليين عندما نتخذ القرارات؟ ولا ينبغي بأي حال من الأحوال استخدام الفلسفة لخدمة الأعمال. ومع ذلك، لا ينبغي لنا أيضًا تجاهل الفلسفة عند النظر في الحياة اليومية، وهي حياة مليئة بالاستهلاك، ووسائل الإعلام، والتنمية، والاستثمارات. يبدو العالم مختلفًا تمامًا عن العصور القديمة: إنه عالم الهواتف الذكية، والإنترنت، وألعاب الفيديو، والتكنولوجيا، والابتكار. ماذا يمكن للفلسفة أن تخبرنا عن هذه التحديات التي تؤثر على الجميع؟ تُظهر لنا الفلسفة الرواقية أن التعمق في الواقع، على سبيل المثال في المنظمات، يسمح لنا بفتح أعيننا والتساؤل عن سبب قيامنا بما نقوم به.

الفلسفة، المساعدة النهائية للابتكار

إن العالم الخيري الذي نطمح إليه لم يظهر بعد؛ فالمنظمات السياسية الدولية تواصل عقد القمم والمؤتمرات، لإنتاج الاتفاقيات والمعاهدات، بهدف الحد من العواقب السلبية للأنشطة البشرية في سياق النمو الاقتصادي. ولا يتم فعل أي شيء، لسبب بسيط: إن هذه المنظمات السياسية وحكومات البلدان لا تتمتع إلا بنفوذ نسبي على المنظمات الخاصة الضخمة التي تتمتع بقوة أكبر من قوة العديد من الدول. وعلاوة على ذلك، فإن وسائل الحد من الضرر غير كافية عندما يتعلق الأمر بإقناع الناخبين الذين يرفضون النظر في التغييرات الأساسية اللازمة. ومن وجهة نظر محلية أو قطاعية، فإن السلطات عفا عليها الزمن والقوانين واللوائح يتم اختطافها وإحباطها باستمرار، ناهيك عن حقيقة أن الابتكار يأتي في كثير من الأحيان قبل القانون. والغرامات، التي يمكن إحصاؤها بمليارات اليورو، ليست رادعة للشركات التي تكون إيراداتها أعلى بكثير في الأمد المتوسط أو الطويل. فكيف يمكننا أن نفعل الخير عندما لا يكون للتشريعات والتنظيمات والردع أي تأثير؟ ما هي الأداة التي ينبغي أن توضع في أيدي المبدعين حتى يعملوا من أجل الصالح العام مع الاهتمام بأنفسهم والآخرين؟

خاتمة

إن أساس الأطروحة التي تم تطويرها هنا هو أن الفلسفة يجب أن تلعب هذا الدور الخلاق. إن الفلسفة، التي لا تتحيز، وتسعى إلى الحكمة، وتسعى إلى فهم العالم والعناية به، تبدو وكأنها الملاذ الأخير لعالم أفضل. وفي حين يتم الاستهزاء بها في بعض الأحيان، وعدم الثقة بها، والسخرية منها، واعتبارها نظرية للغاية وعديمة الفائدة، فقد تثبت أنها المفتاح لمستقبلنا. لقد استمرت هذه المادة على مر الزمن وهي ضرورية لفهم التعقيد وأساسية لجعلنا نفكر فيما نقوم به. وسوف تثبت أساليبها ونظرياتها وخبراتها أنها مفيدة لحل المشاكل في عالم لا يستمع فيه أحد أو يُنصت إليه. إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ ننظر فيه إلى العقبات والصعوبات لفهم ما حدث، وما يحدث، وما سيحدث. تعرف الفلسفة كيف تتراجع خطوة إلى الوراء لتطرح الأسئلة، وتحل المشاكل، وتفك رموز التعقيد بحيث تكون مفهومة لأولئك الذين يبذلون الجهد. فأين الفلسفة من الابداع والابتكار والخلق في الفضاء الناطق بلغة الضاد؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.....................

المصدر

Xavier Pavie, Philosophie critique de l’innovation et de l’innovateur, ISTE édition, mars 2020.

بين المبدأ النهائي والتجربة الشاملة

تمهيد: "هناك القليل من الحقائق المطلقة"

***

يبدو معنى هذا المصطلح، منذ البداية، ملتبسًا وجدليًا بالضرورة. والمطلق هو المرتبط بالنسبي وضده، فهو بالتالي منفي. لكن المفهوم الذي تغيب عنه فكرة العلاقة يتم إزالته من القيود، ويتحرر من الاختلافات، وبالتالي يعين، بشكل إيجابي، المكتمل، والكمال. وبالتالي فإن هذا الغموض الدلالي ليس مسألة تردد في المفردات: فهو يشير ضمنا إلى صعوبة تفتتح الجدل الفلسفي الذي أثاره هذا المفهوم. هل المطلق له معنى أم لا، هل هو موجود أم لا؟ وبما أن المطلق يعني غير مشروط، مبدأ بلا مبدأ، فإن المطلق يصبح موضع تساؤل من خلال أي بحث عن الحقيقة، فإن كل نظام فلسفي يعبر عن مفهوم معين لها. في السياق اللاهوتي، فإن مسألة وجود الله أو غيابه، أو إثباته أو نفيه، هي التي تطرحها كلمة "مطلق". لكن في الوقت نفسه، بما أن المطلق يعني ما هو في ذاته، بشكل مستقل عن أي شيء آخر، فإن مشكلة الحرية، سواء كانت ملموسة أو وهمية، تطرح معها. فما دلالة المطلق؟ أين يكمن؟ وماهي تجلياته؟ وما قيمته؟

مفهوم المطلق

أصل الكلمة يردع الى الكلمة الإنجليزية absolute  والتي جاءت من الكلمة الفرنسية "absolut"، والتي نشأت من الكلمة اللاتينية "absolutus"، وهي صيغة الماضي من "absolvo"، وهي فعل، وتعني "التحرير، والإنهاء، والاكتمال"، و"الانفصال، والنقاء". كما يشير مصطلح المطلق إلى غير المشروط و/أو الاستقلال بالمعنى الأقوى. ويمكن أن يشمل أو يتداخل مع المعاني التي تنطوي عليها مفاهيم أخرى مثل اللانهائية، والشمولية، والكمال. وفي اللاهوت المسيحي، يُنظر إلى المطلق على أنه مرادف أو صفة أساسية لله، ويميز طبيعة أخرى لله مثل حبه وحقيقته وحكمته ووجوده (الحضور في كل مكان) ومعرفته (العلم بكل شيء) وقوته (القدرة المطلقة) وغيرها. فالحب المطلق، على سبيل المثال، يشير إلى حب غير مشروط على عكس الحب المشروط والمحدود. وعلى نحو مماثل، يمكن فهم المطلق أيضًا على أنه الكائن المطلق، أو سمة منه، في التقاليد الدينية الأخرى. لم يشرح الفلاسفة اليونانيون صراحةً المطلق، لكن فكرة المبدأ النهائي دفعت استفساراتهم إلى الأمام. بالإضافة إلى ذلك، في حين لم يستخدم الفلاسفة في العصور الوسطى مصطلح المطلق، كانت أفكارهم حول الله هي أول شرح صريح للمطلق. منذ ذلك الحين، كانت هناك العديد من التفسيرات للمطلق. من بين الفلاسفة الرئيسيين الذين تعاملوا مع المطلق المثاليون الألمان مثل شيلينج وكانط وهيجل، والفلاسفة البريطانيون مثل هربرت سبنسر وويليام هاملتون وبرنارد بوسانكيت وفرانسيس برادلي وتوماس هيل جرين، والفيلسوف المثالي الأمريكي جوشيا رويس.

القضايا المفاهيمية

يشير مصطلح absolute إلى كل ما هو خالٍ من أي شرط أو قيد، ومستقل عن أي عنصر أو عامل آخر. وكما هو الحال مع المفاهيم الأخرى مثل اللانهائي، والكمال، والأبدية، وغيرها، لا يمكن التعبير عن absolute إلا من خلال نفي المفاهيم المحدودة. إن الشيء المطلق، في حد ذاته، لا يمكن الوصول إليه بشكل مباشر أو فوري من خلال الإدراك البشري والخبرة والفهم. وبالتالي، فإن مفهوم المطلقية عادة ما يتم تعريفه من خلال نفي ما هو متاح مباشرة للمعرفة البشرية. الإدراك والفهم، بالمعنى المعتاد للمصطلح، هما حدث نسبي يفترض عناصر نسبية مثل موضوع المعرفة وموضوع المعرفة. إذا فُهم المصطلح المطلق بالمعنى الدقيق، فإنه يرفض النسبية المتأصلة في آلية الإدراك البشري والفهم واللغة. ناقش توما الأكويني كل من الصعوبات الوجودية والمعرفية والمنهجية في صياغة والوصول إلى معرفة ما هو مطلق والذي هو بحكم التعريف خارج أي شرط وقيود. شرح كانط، في نقده للعقل الخالص، حدود وشروط المعرفة البشرية والدور الذي تلعبه مفاهيم الحدود في الفهم البشري. كما طور حججًا فلسفية للدور الإيجابي لمفاهيم الحدود في الخطابات الأخلاقية. في اللاهوت والفلسفة المسيحية، يُفهم المطلق بالمعنى الدقيق من خلال استبعاد أي شكل من أشكال النسبية، مما يثير بدوره أسئلة حول شخصية الله. لكي يكون لله شخصية، يجب أن يكون موجودًا في علاقة مع كائنات أخرى؛ ومع ذلك، إذا كان الله مطلقًا، فإن ذلك يشكل مفارقة داخل الله أن يكون مطلقًا ونسبيًا للكائنات الأخرى. على سبيل المثال، أنكر سبينوزا شخصية الله وخلقه. لقد اقترح هيجل بدلاً من ذلك وجود الله في الخلق ووحدة الوجود بين الله والعالم. وكما حدث مع سبينوزا، حاول هيجل تفسير خلق العالم دون فكرة الخلق. طور هيجل مفهومًا وثنيًا للمطلق وعلاقته بالعالم الظاهري. إن مسألة نسبية الله وإطلاقيته تثير أسئلة حول طبيعة الله وعلاقاته بالبشر. لا يقبل معظم الفلاسفة المعاصرين التفسيرات الوثنية التي قدمها سبينوزا أو هيجل. وكما هو الحال في المثالية الألمانية، فإن مسألة المطلق/النسبي متشابكة أيضًا مع أسئلة التسامي والوجود. بعض النظريات المعاصرة مثل التوحيد المفتوح، على سبيل المثال، تقترب من هذه القضايا من منظور العلاقة الديناميكية والشخصية والنسبية لله مع البشر.

الفلسفة اليونانية القديمة

سعى الفلاسفة اليونانيون القدماء إلى الوصول إلى المبدأ العقلاني المطلق الذي يمكنه تفسير الظواهر الطبيعية والكونية والبشرية المتنوعة بشكل متسق وشامل. ورغم أن هؤلاء الفلاسفة الأوائل في تاريخ الفلسفة المعروفين باسم ما قبل سقراط لم يتركوا الكثير من المواد، فإن ما لدينا منهم يشير إلى أن مسألة المطلق، كمبدأ نهائي غير مشروط أو غير محدد، كانت حاضرة في استفساراتهم الفلسفية. على سبيل المثال، عرّف أنكسيماندر المبدأ المطلق بأنه "غير محدد" لأن أي شكل من أشكال التحديد هو مؤشر على التقييد والتكييف. وإذا كان المطلق نهائيًا حقًا، فيجب أن يكون خاليًا من أي تقييد. وبالتالي، فإن "غير المحدد" بالنسبة لأناكسيماندر إلهي وأبدي. حدد بارمنيدس المبدأ المطلق بـ "الوجود" أو حقيقة "الوجود". وزعم أن الحقيقة الوجودية "الوجود" هي أكثر السمات المشتركة عالمية أو أساسية لأي شيء موجود. سواء كان موضوعاً للفكر أو موضوعاً معرفياً أو أي شيء آخر، يجب أن يكون أي كائن "موجوداً" بطريقة ما حتى يكون قابلاً للتفكير. لذا فإن الحقيقة النهائية هي "أن يكون". ورغم أنه لم يستخدم مصطلح المطلق، فقد زعم بارمنيدس أن مفهوم الوجود هو الأسبقية النهائية ووصف الوجود أو "أن يكون" بأنه حقيقة مطلقة بمعنى أنه غير مشروط ومستقل. لقد حدد أفلاطون الخير، الذي وصفه بأنه موجود بشكل دائم بذاته في العالم غير المادي، باعتباره المبدأ النهائي. بالنسبة لأفلاطون، كان الخير مطلقاً. وزعم أن صلاحه قائم بذاته دون اللجوء إلى أي شيء آخر على الإطلاق. الخير هو بالأحرى ما يفترضه أي فكر أو عمل بشري أو أي ظواهر اجتماعية طبيعية. مع أفلاطون، أصبح مفهوم المطلق مفهوماً كمبدأ أخلاقي ومبدأ وجودي. لم يشرح أفلاطون، مثل غيره من الفلاسفة اليونانيين، مفهوم المطلق صراحةً، لكنه قدم ضمناً مفهوم المطلق في علم الوجود الأخلاقي الخاص به. لقد وضع أرسطو دراسة الله (اللاهوت) كأول فلسفة لأنها تتعامل مع "المحرك غير المتحرك" لكل الظواهر. وبالنسبة لأرسطو، كان المبدأ النهائي لابد وأن يكون ما هو غير مشروط ومستقل، أي ما ليس له أي شرط مسبق على الإطلاق.

الفلسفة في العصور الوسطى

على الرغم من أن مصطلح المطلق لم يكن جزءًا من الفلسفة في العصور الوسطى، فقد حددوا الله باعتباره المطلق وأدلوا بخطابات صريحة وفقًا لذلك حول المطلق. وفقًا للفلسفة في العصور الوسطى، فإن المعرفة البشرية والإدراك واللغات نسبية ومحدودة ومشروطة، في حين يتم تعريف المطلق من خلال نفي تلك القيود والشروط. وبالتالي، فإن معرفة المطلق ومناقشته وحتى وصفه أمر صعب بطبيعته. ليس الله غير قابل للوصول إليه من خلال الإدراك الحسي البشري فحسب، بل إن الإدراك في حد ذاته علاقة تفاعلية بين موضوع الإدراك وموضوعه. وبالمثل، فإن التفكير هو عملية تفاعلية بين موضوع التفكير وموضوعات الفكر. يعني المطلق بحكم التعريف نفي النسبية. إذن، كيف يمكن للبشر أن يقتربوا من مثل هذا الكائن المطلق؟

لقد كان توما الأكويني مدركًا تمامًا لهذه الصعوبات في معرفة المطلق ووصفه والاقتراب منه. لقد طور منهجيات للإجابة على هذه الأسئلة، والتي تضمنت الطريق السلبي، والطريق الإيجابي، والقياس. يزعم توما الأكويني أننا نستطيع أن نتنبأ بوجود الله بكلمات مثل الخير والحكمة. وبالتالي، يمكننا أن نقول "الله خير أو حكيم". ومع ذلك، فإن ما يفهمه البشر من "الخير" أو "الحكمة" مأخوذ بالكامل من تجاربهم الخاصة في العالم. المعرفة البشرية محدودة، ونسبية، وغير كاملة. وبالتالي، يجب أن تكون هذه المعرفة البشرية المحدودة مؤهلة أو مرفوضة (الطريق السلبي) من أجل تطبيقها بشكل صحيح على الله. والسؤال هو كيف يمكن تطبيق المعرفة المحدودة التي اكتسبها البشر من العالم على الله، الذي يتجاوز جميع أشكال القيود. يقترح توما الأكويني أنه عن طريق القياس، يمكننا نحن البشر المحدودين تطبيق معرفتنا البشرية المحدودة وغير الكاملة على إله متسام. عندما يتم تطبيق مصطلح المطلق على الوجود، يمكن فهم المطلق على أنه كائن جوهره هو الوجود. إذا كان وجود كائن يعتمد على الآخرين، فلا يمكن أن يكون مطلقًا. وبالتالي، تم وصف الله بأنه كائن فريد جوهره هو الوجود. استخدم أنسيلم كانتربري هذه الحجة في حجته الوجودية لوجود الله.

الفلسفة الحديثة

انتقل السؤال المتعلق بالمطلق إلى الفلسفة الحديثة. أعاد كانط صياغة عدم إمكانية معرفة الله، الذي ناقشه توما الأكويني، في نقده للعقل الخالص، وهو أحد أشهر الأطروحات المعرفية في تاريخ الفلسفة. حاول كانط تقديم شروط المعرفة البشرية والكشف عن حدود ما يمكن معرفته. زعم كانط أن محتوى المعرفة البشرية يتم توفيره من خلال كائن وأشكال أولية (الطريقة التي يتم بها تنظيم المحتويات) في العقل. لقد تحدث الناس دائمًا عن الوجود الضروري المطلق ، وبذلوا قصارى جهدهم، ليس فقط لفهم ما إذا كان من الممكن التفكير في شيء من هذا النوع وكيف، بل لإثبات وجوده... إذا قمت من خلال كلمة غير مشروط برفض جميع الشروط التي يتطلبها الذهن دائمًا من أجل اعتبار شيء ما ضروريًا، فهذا لا يقترب من تمكيني من فهم ما إذا كنت لا أزال أفكر في شيء ما من خلال مفهوم وجود ضروري غير مشروط، أو ربما لا أفكر في أي شيء على الإطلاق من خلاله. "كانط، نقد العقل الخالص، أ593. ومع ذلك، يميل العقل البشري إلى وضع غير المشروط في علاقة بأشياء (مشروطة) للتجارب الإنسانية. وبسبب هذا الميل المتأصل للعقل، فإن البشر يضعون غير المشروط مثل الله والروح والعالم. بالنسبة لكانط، فإن غير المشروط غير قابل للمعرفة من حيث المبدأ. في حين استبعد كانط غير المشروط (الله والروح والعالم) من عالم المعرفة، فقد جادل بضرورة وجود الله، وخلود الروح، والحرية في مجال الأخلاق. لدى البشر سبب عقلاني للاعتقاد بها باعتبارها الافتراض الأساسي للأخلاق، والذي أطلق عليه كانط "الإيمان العقلاني". عاد الفلاسفة الألمان بعد كانط مثل فيشته وشيلينج وهيجل، والمعروفين بالمثاليين الألمان، إلى الميتافيزيقيا المضاربة وطوروا نظريات مختلفة بناءً على فهمهم للمطلق. تم تبني مفهوم المطلق بعد ذلك في المثالية البريطانية الجديدة الهيجلية (على الرغم من عدم وجود جهاز هيجل المنطقي والجدلي المعقد)، حيث تلقى شرحًا شبه صوفي على يد برادلي. لقد تصور برادلي (وتبعه آخرون بما في ذلك تيموثي سبريج) المطلق كتجربة شاملة واحدة، على غرار شانكارا وأدفايتا فيدانتا. وعلى نحو مماثل، تصور جوشيا رويس في الولايات المتحدة المطلق باعتباره عالمًا موحدًا تشكل تجربته ما نعرفه باسم العالم "الخارجي".

القيم المطلقة

في التقاليد الدينية المختلفة، يُنسب مصطلح المطلق أيضًا إلى قيم وطبيعة مختلفة لله، أو الكائن المطلق، وللبشر. يتميز الحب المطلق بأنه حب غير مشروط، والذي يشكل غفرانًا غير مشروط، وعطاء غير مشروط دون توقع مكافأة أو فوائد، وخدمة من أجل الآخرين. تشمل بعض الأمثلة على الحب المطلق في التقاليد الدينية حب أغابي في المسيحية، والرحمة أو الشفقة في البوذية، إلخ. تم بناء الميتافيزيقيا الأفلاطونية على الوجود الأبدي للخير. يتم تأسيس صلاح الخير (الخير المطلق) من تلقاء نفسه دون اللجوء إلى أي شرط آخر. تفترض فلسفة كانط الأخلاقية أيضًا عدم اشتراط الخير. في التقاليد الدينية، يُفهم الحقيقة أيضًا على أنها صفة من صفات الله أو الكائن المطلق. غالبًا ما يتم تمييز الحقيقة المطلقة غير المشروطة عن الحقائق الطبيعية ويقال إن الأولى يمكن الوصول إليها بالإيمان أو الوحي.يمكن أيضًا وصف الإيمان في الدين بأنه غير مشروط. وصف الفيلسوف الدنماركي كيركيجارد الإيمان بأنه فعل يتجاوز التفكير العقلاني. إن الإيمان مطلوب للدخول في المجال الديني على وجه التحديد لأن الإيمان ينطوي على بعض العناصر غير المفهومة عقلانيًا والتزامًا وجوديًا. وإذا كانت الأديان كلها لديها مشروع مشترك، فهو بقدر ما تدعي كل منها الوصول إلى المطلق. ولكن تجدر الإشارة إلى أن الإنسان قد طور مفاهيم مختلفة للغاية عنه، في حين يبدو أن بساطة المفهوم تتطلب تفكيرًا متطابقًا مسبقًا، في إطار منطق أحادي. بالنسبة لأولئك الذين يريدون الحفاظ على نقائه ودقته، يظل المطلق نفيًا جذريًا لجميع العلاقات، ولا يمكن تغييره ومعارضته إلا من قبل دوغمائيين معينين يحاولون إعطائه شخصية محددة. لا يمكن التمييز بين اثنين أو أكثر من المطلقات. بيد أن المطلق يتكون من خلال النفي. هذا الاقتراح الأخير ليس سوى التطبيق المباشر للقاعدة الأولية لكل المعرفة التي لا تكون فعالة إلا إذا كانت متميزة وتتعلق، بالتالي، بما هو محدود ويسمح بتعريف نفسه، ومحدود بالمعارضة. لكن المعارضة الدقيقة هي علاقة محددة. إنكار جميع العلاقات، وبالتالي لا يمكن للمطلق أن يقبل تحديدًا معينًا، من بين أمور أخرى. بالتأكيد، لكن الاستنتاج غير مكتمل: بالضرورة فريد، ومطلق، مجرد من التمثيلات، ومن الصور المتعددة التي توفرها الأديان، وهو في حد ذاته يفلت من أي تعريف، ويستبعد الأسماء الإلهية، ولا يمكن استحضاره إلا من خلال سلسلة النفي غير المحددة. ان المطلق هو غير المشروط، غير المتكون، غير المحدد، الذي لا شكل له. لا يمكن لأي خطاب أن يفسره، ولا يهمه أي تفكير دقيق، إنه العدم الذي تستهلك فيه كل العزيمة. وبعيدًا عن الصيغ والطقوس، التي تشوه نقائه المجهول الوجه وغير المفهوم، فإن الإله الذي تستهدفه كل الأديان هو فقط المجهول الذي لا يمكن معرفته على الإطلاق. يحكم هذا المنطق البسيط والعنيد اللاهوت السلبي للصوفيين الأفلاطونيين المحدثين، المتوافق مع الفكر الهندي، والذي يتم تناوله من عصر إلى عصر. وهو لاهوت نقدي لأي تأكيد خاص على وجود الله، فهو يختزل العقائد والرمزية الدينية في نسبيتهما واحتمالية دعوتهما إلى الصمت، إلى الترحيب الصامت بما لا يوصف. الله ليس شيئًا ولا شخصًا. إن تسمية المطلق يعني ربط لغتنا به بشكل خادع، وإدراج ما هو غير مبال بها، مختلف تمامًا في فئاتنا. يعلمنا أفلوطين أن الواحد، وهو مصطلح يهدف إلى إنكار أي اختلاف داخلي عن المطلق الذي من شأنه أن يمنحه مكانة وطبيعة، لا يزال يؤسس في نظام الكمية ما هو بلا حدود خارج كل نظام.

خاتمة

المطلق هو شيء بلا حدود، صفة ليس لها قيود أو تحفظات. والمرادفات: هي الأساسي والمجموع و دون الفروق الدقيقة وهو ما يوجد بشكل مستقل عن أي شرط أو علاقة بأي شيء آخر ودون مقارنة ودون مراعاة الظروف، الوضعيات. ان المطلق يعني "منفصل" أو "مكتمل"، ومقابل النسبي، يشير هذا المصطلح إلى ما له سبب وجوده في ذاته، وبالتالي لا يحتاج إلى أي شيء آخر ليتم تصوره أو وجوده. في العصور الوسطى، أصبحت صفة "المطلق" اسمًا وكانت تُكتب بحرف كبير للحديث عن الله. المطلق إذن هو ما يعتمد عليه كل شيء. ومن هنا جاء استخدامه في السياسة لتعيين نظام ملكي يتمتع بسلطة غير محدودة. والمشكلة الكبرى التي يطرحها المطلق هي مشكلة معرفته الممكنة، إذ أن الإنسان الذي علمه محدود، لا يستطيع الوصول إليها حقا. وعلى الرغم من جهود الفلاسفة الألمان مثل فيشته أو شيلينج أو هيجل في التفكير فيها ورؤيتها كأساس أو مجمل المعرفة، إلا أنها تعتبر في الفكر العلمي المعاصر مرادفًا لما لا يمكن معرفته أو الحد الذي لا يمكن تجاوزه. لكن الا يجدر ان ننتقل من المطلق الى النسبي؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

كتب ايان بوكانان

ترجمة: علي حمدان

***

ما الذي دفع فوكو إلى القول بأن القرن العشرين سوف يُعرَف بـ"القرن الدولوزي"؟ يتأمل إيان بوكانان في عمل الفيلسوف الفرنسي وإرثه الدائم في مئوية دولوز بداية هذا العام.

إذا كنت لا تعرف الكثير عن الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1925-1995)، فربما تتساءل لماذا كل هذه الضجة حول الذكرى المئوية لميلاده. ونظرًا لأنه يُعَد على نطاق واسع ــ ليس فقط بين ابرز الفلاسفة ــ بل أحد أهم المفكرين في القرن العشرين، فربما تتساءل أيضًا عما إذا كان عدم المعرفة يعني أنك كنت تعيش في الظل. من المؤكد أن هناك الكثير من الأسباب الوجيهة التي تجعلك تعرف من هو دولوز، حتى لو لم تكن مهتمًا بالفلسفة.

هذا القرن الدولوزي

إن السبب الرئيسي الذي يجعلك تضيف كتاباً أو عدة كتب من بين أكثر من عشرين كتاباً له (ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم الآن بعد أن بدأت عملية نسخ محاضراته وترجمتها ونشرها) إلى كومة الكتب على المنضدة الليلية هو حقيقة مفادها أن قِلة من المؤلفين يتحدثون عن القضايا الحاسمة في عصرنا بنفس الوضوح ونفس الإلحاح.

ولهذا السبب قال صديقه ميشيل فوكو، الفيلسوف الأكثر اقتباسا في العالم، إن القرن العشرين سوف يُعرف ذات يوم باسم قرن دولوز.

إرث دولوز اليوم

في ذلك الوقت (أوائل سبعينيات القرن العشرين)، لم يكن من الممكن أن يسمع عن دولوز سوى قِلة من الناس خارج المناطق المنعزلة في الحي اللاتيني، لذا كان الجمهور المستهدف هو "صندوق الرمل"، كما أطلق لويس ألتوسير، معلم فوكو السابق، على الوسط الفكري في باريس. لكن اليوم، بعد مرور قرن من الزمان على ولادته، وثلاثة عقود من وفاته، تُقرأ أعمال دولوز في جميع أنحاء العالم، ويمكن العثور على أعماله حتى في مكتبات المطارات (ربما لأنه، مثل آلان دو بوتون، كتب كتابًا عن بروست، وإن كان دون أن يدعي أنه قادر على إنقاذ حياة أي شخص.) من المفترض أن دولوز كان محقًا في اعتقاده أن فوكو كان يقصد ببساطة إثارة غضب بعض الناس وإضحاك الآخرين. ومع ذلك، بدأت هذه الملاحظة العابرة تبدو على نحو متزايد وكأنها تنبؤ دقيق.

الأيام الأولى: "الفلسفة الشعبية" وطريقة جديدة في الكتابة

برز دولوز إلى الأضواء في عام 1972 بكتابه "ضد أوديب: الرأسمالية والفصام"، وهو كتاب شارك في تأليفه مع صديقه فيليكس جواتاري، وهو ناشط سياسي ومدير في العيادة النفسية الخاصة في وادي لوار المعروفة باسم لا بورد، والتي أسسها جان أوري. ووصف المؤلفان الكتاب بأنه تمرين في "الفلسفة الشعبية"، رغم أنهما لم يشرحا حقًا ما يعنيه ذلك.

في كتابه السابق "الاختلاف والتكرار"، الذي نُشر لأول مرة في عام 1969، توقع دولوز أنه سيصبح من المستحيل قريبًا كتابة كتب فلسفية بالطريقة "القديمة". وفي كتابه "ضد أوديب"، عرض دولوز كيف تبدو الطريقة "الجديدة" في كتابة الفلسفة وأطلق نهجًا جديدًا للتفكير النقدي يسمى "التحليل الفصامي". تبعه تكملة بعنوان "ألف هضبة" في عام 1980. وتم النظر في إصدار مجلد ثالث، لكنه لم يكتمل أبدًا.

دولوز وغواتاري والتحليل الفصامي

يتناول التحليل الفصامي الخيوط التي نجدها عند ماركس وفرويد، ولكن على النقيض من أعمال المنظرين النقديين مثل أدورنو وهوركهايمر وماركوز، لا يمكن اعتباره اندماجًا لنظرياتهم أو عودة إلى أعمالهم. من فرويد يأخذ فكرة اللاوعي المنتج، الذي يولد واقعه الخاص، ولكنه يرفض عقدة أوديب ومعها فكرة الإخصاء باعتبارها الخوف الوجودي الفريد القادر على تفسير طبيعة المجتمع اليوم. من ماركس يأخذ فكرة مفادها أن الرأسمالية في بحثها عن أرباح أكبر على نحو متزايد تسعى باستمرار إلى تحقيق غايتها الخاصة، ولكنها تبدو دائمًا وكأنها تجد طريقة لتأجيل الكارثة. ويصف التحليل الفصامي كلا الاتجاهين - خلق واقع المرء، ومغازلة الكارثة - باعتبارهما انفصامًا في الشخصية، وبالتالي يتطلب شكلًا من أشكال التحليل الفصامي لفهم ما يجري اليوم.

الرأسمالية واللاوعي "كالة"

لقد سُكب الكثير من الحبر في محاولة لتعريف ما يعنيه دولوز وجواتاري بالتحليل الفصامي، سواء للدفاع عنه أو لإدانته، ولكن معظم الروايات حول كتاب "ضد أوديب" لا تقدم حقًا الكثير من الدعم لأنها تميل إلى التركيز على جوانبه غير الأساسية. صحيح أن كتاب "ضد أوديب" يبدو أنه يتحدى الوصف السهل، ولكن مفتاح فهمه واضح تمامًا من الصفحة الأولى .إن ادعاءه المركزي هو هذا: اللاوعي آلة، فهو يصنع الأشياء - الأحلام والأوهام والأعراض وما إلى ذلك - ويستهلكها (مستمدًا من ذلك فائدة معينة أو قيمة زائدة) والرأسمالية تعمل من خلال إدخال نفسها في هذه العملية وتحويلنا إلى مستهلكين لمنتجاتها.

الأفكار الراديكالية

إن ما يجعل عمل دولوز وغواتاري جذرياً إلى هذا الحد هو على وجه التحديد هذا التركيز على "الصنع" ــ باستثناء هايدغر ربما، كان أغلب الفلسفة الغربية في القرن العشرين يميل إلى التركيز على الاستهلاك. وكما زعم جيمسون في كتابه "الماركسية والشكل"، الذي ظهر قبل عام من كتاب "ضد أوديب"، فإن الفلسفة الغربية كثيراً ما تتصرف وكأن علاقتنا الأساسية بالأشياء هي علاقة التحديق بلا حراك وليس الاستخدام النشط، وهي حقيقة تعكس "وضعنا" في ظل الرأسمالية: فنحن نستهلك الأشياء، ولا نصنعها، ولا نفكر إلا قليلاً أو لا نفكر على الإطلاق في الظروف الحقيقية لتصنيعها (ورش العمل الاستغلالية، والتلوث، والاحتباس الحراري العالمي، وما إلى ذلك.) وفي عمل دولوز وغواتاري، تُصنع الأشياء أولاً وقبل كل شيء في العقل ولا يمكن استهلاكها كسلع إلا بقدر ما تستثمر فيها كل قوة الرغبة.

مفهوم جديد للرغبة

إن اللاوعي عبارة عن آلة، وبالتالي فإن الرغبة آلية، فهي تصنع واقعنا. وقد انحرفت هذه الطريقة في التفكير في الرغبة جذريًا عن الطريقتين السائدتين في التفكير في الرغبة في النصف الأخير من القرن العشرين:

1 - لقد انحرفت عن طريقة ألتوسير المذكورة أعلاه في تصور الرغبة باعتبارها شيئًا مخدوعا إلى الأبد، فهي لا تحصل أبدًا على ما تريده حقًا، بل تحصل فقط على ما تعتقد أنها تريده. وعلى النقيض من ذلك، زعموا أن الرغبة لا تُخدع أبدًا، فهي تعرف دائمًا بالضبط ما تريده، حتى عندما يكون ذلك غير مستساغ سياسيًا مثل الفاشية.

2 - لقد انحرفت عن لاكان - المفكر التحليلي النفسي السائد في تلك الفترة ونقطة المرجع التي لا تنضب لسلافوي جيجيك - الذي عرف الرغبة من حيث الافتقار - نريد ما لا نستطيع الحصول عليه بحيث عندما نحصل على ما نعتقد أننا نريده نشعر بالفراغ، وبالتالي لا يمكننا أبدًا تحقيق الرضا. في مواجهة هذه الطريقة السلبية في تصور الرغبة، اقترح دولوز وغواتاري نموذجًا يحدد الرغبة باعتبارها الوفرة.

إلى القرن القادم من دولوز

إن إرث دولوز غني، وما زلنا بعيدين كل البعد عن استغلال أعماقه. إن القراء الجدد يجدون صعوبة دائمًا في قراءة كتب مثل "ضد أوديب"، ولكنها تقدم تأثيرا قويا، وهي تستحق الاستمرار في قراءتها. أقول لهم فقط استمتعوا بالرحلة، ولا تقلقوا بشأن ما قد تعنيه كل هذه الأمور. بمجرد تسلقك لهذا الجبل، سوف تكون حريصًا على تسلق ما يقرب من عشرين قمة أخرى. لقد كنت حريصًا على ذلك!

***

...................

Ian Buchanan. Bloomsbury Academic. January 17, 2025.

 

انشغل الفكر العربي، الحديث والمعاصر، بإمكانية خلق مشروع يحمل على عاتقه الإجابة عن سؤال النهضة، ذلك السؤال الذي اختزله شكيب أرسلان في عنوانٍ لكتابٍ له أسماه: لماذا تقدم الغرب، وتأخر العرب المسلمون؟. على أن هذا السؤال، ليس هو بداية الإشكال، فالإشكال قائم منذ أواخر الدولة العثمانية، لكنه أول من طرحه بصورةٍ مركزة ودقيقة.

وقد اختلفت الإجابة عن هذا التساؤل، تبعاً لاختلاف الحركة المكانية والزمانية للمفكر، فضلاً عن السبب الإيديولوجي المحرك لمسار إجابة المفكر المتصدي للإجابة عن سؤال النهضة. ولا نريد البحث في إمكان الإجابة حول هذا الإشكال في الفكر العربي الحديث ورواد النهضة، بل ما نريده هو: معرفة المشاريع الفكرية في المرحلة النقدية العربية المعاصرة، وإسهاماتها في بلورة النتائج وطرحها من أجل التوصل إلى حلٍ لمثل هذا الإشكال العظيم، ذلك الإشكال الذي ما فتئ مفكرٌ من المفكرين إلا وكان شغله الشاغل، والذي يتمثل بالتالي: ما الحيلولة وراء دخول العرب في عصر الحداثة؟. أو ما هي العلل التي إذا ما عملنا على استيفائها، أن يدخل عرب اليوم لعصر الإزدهار والتقدم الذي يشهده العالم الغربي؟.

ونتيجة لتلك الإشكاليات، تعددت المشاريع الفكرية التي انهمك مؤلفوها في بلورة الأهداف التي من أجلها يمكن للفكر العربي المعاصر أن يشهد بزوغ فجر التنوير الذي بدأت شعلته بالتوهج أبان الفكر العربي الحديث، والذي نضج مع الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده وغيرهم من المفكرين.

فما انفكت هذه المشاريع بالظهور على ساحة الفكر المعاصر، وتعددت معالمها تبعاً لتعدد الرؤية المسبقة لحامل المشروع، على أساس أن الكاتب أو المؤلف ليس متحرراً من التراكمات الفكرية والإيديولوجية، وتتبدى هذه الرؤية أو المتبنيات في درجة الإنتماء إلى تيار معين، أو اختيار منهجٍ محدد، أو حتى إيديولوجيا دينية ومذهبية طائفية.

وما نود طرحه في هذا المقال، هو مناقشة أهم مشروعين في الفكر العربي المعاصر، وأكثرها إلفةً وافتراقاً في آن واحد، وهو مشروع الجابري ونقد العقل العربي، ومحمد أركون ومشروعه الموسوم بـ بنقد العقل الإسلامي.

يعتقد أركون إنّ الضرورة التي تُفرض علينا اليوم هي نقد العقل، وذلك من أجل استكشاف كل ما يتحكم بنشاط العقل ونتاجه من عوامل متفاعلة وقوى متصارعة وأهواء متضادة وتوترات داخل الذات أو خارجية عنها. أما الجابري فقد انطلق في قراءته الإبستمولوجية لواقع عصر النهضة، فانتهى إلى أنهم جميعاً نادوا بـإعداد الفكر القادر على حمل رسالة النهضة وإنجازها... ولكنهم لم يدركوا أو لم يعوا أن سلاح النقد يجب أن يسبقه ويرافقه نقد السلاح، لقد أغفلوا نقد العقل. ومن ثم فإن نقد العقل جزء أساسي وأولي من كل مشروع للنهضة.

يقول لكن أركون أخذ على الجابري بأنَّ الأخير قد تحاشى استخدام مفهوم (نقد العقل الإسلامي) واستبدله بـ (نقد العقل العربي) لكي يريح نفسه ويتجنب المشاكل والمسؤوليات... ومن ثم، فإن المشكلة المطروحة علينا اليوم وغداً هي مشكلة نقد العقل الإسلامي لأن العقل العربي نفسه هو عقل ديني، أو قل لم يتجاوز بعد المرحلة الدينية من الوجود. أما الجابري، فيبرر استعماله للعقل العربي في قوله: أنا أعتقد إن أي شيء يوصف بأنه (إسلامي) إلا ويحيل مباشرة إلى الإسلام كدين، وأنا لم يكن هدفي هو البحث في شيء اسمه (العقل الديني أو الإسلامي)، هناك ما يعرف بـ(الإسلام كحضارة")، أو (المعنى الحضاري لكلمة إسلام)، وهذا توصيف استشراقي... والذين يلاحظون عليّ تجنب عبارة (العقل الإسلامي) هم واقعون تــحــت تأثير هذا الفهم الاستشراقي للإسلام".

ونحن نتفق مع استخدام العقل الإسلامي بدلاً من العقل العربي، لأنه كما يقول الآلوسي، من المكابرة أن يقال إن العقل العربي شقَّ طريقه بنفسه غير متأثر بالدين أو بالنص الديني. وبالتالي فكيف يمكن أن تنتقد العقل العربي دون أن تنقد العقل الديني؟!. فنقد العقل اللاهوتي القروسطي المسيطر علينا منذ مئات السنين يشكل المهمة الكبرى للثقافة العربية بمجملها. وبدون القيام بهذا العمل فلا تحرير ولا خلاص. مع ذلك يقول أركون: هذا لا يعني أن الجابري لم يعمل شيئاً، فمحاولته مفيدة بدون شك، وهي من أهم المحاولات الموجودة في الساحة العربية، ولكنها لا تكفي ولا تشفي الغليل، ينبغي تجاوزها إلى ما هو أعمق منها وأبعد.

على إنّ  أركون لا يعني  بالعقل الإسلامي عقلاً خصوصياً، مميزاً أو قابلاً للفرز والتمييز لدى المسلمين عن غيرهم. وينبغي العلم بأن العقل البشري ليس إسلامياً ولا مسيحياً ولا كاثوليكياً ولا يهودياً، العقل البشري واحد في المطلق، ولكن ما يقصده أركون بالعقل الإسلامي، يتمثل في الكيفية التي ينظر فيها الإسلام إلى العقل، وكيف يستخدمه، فمثلاً العقل نفسه يمكن أن يستخدم للقيام بقراءة مختلفة من نص تأسيسي إلى آخر، وهذه القراءة تعطي نتائج مختلفة. وبالتالي فهو ملكة مشتركة لدى كل البشر، وإن التمييز أو الفرق كامن في النعت: أي إسلامي.

أما الجابري، فيقصد بالعقل العربي: أداة للإنتاج النظري، صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها، هي الثقافة العربية بالذات، الثقافة التي تحمل معها تاريخ العرب الحضاري العام، وتعكس واقعهم أو تعبر عنه وعن طموحاتهم المستقبلية كما تحمل وتعكس وتعبر، في ذات الوقت، عن عوائق تقدمهم وأسباب تخلفهم الراهن.

ويفرق الجابري ما بين العقل المكوِّن الفاعل، والعقل المكوَّن السائد، وهي تفرقة مستلفة من لالاند، يقصد بالأول: النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر حين البحث والدراسة والذي يصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ، أما العقل المكوَّن، فهو مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في استدلالاتنا. وحين يتبنى الجابري هذا التمييز، يقول: إن ما نقصده بالعقل العربي هو العقل المكوَّن، أي جملة القواعد التي تقدمها الثقافة العربية للمنتمين إليها كأساس لاكتساب المعرفة، والتي تفرضها عليهم كنظام معرفي. أما العقل المكوِّن، فسيكون هو تلك الخاصية التي تميز الإنسان عن الحيوان، أي القوة الناطقة باصطلاح القدماء.

أما محمد أركون، فيفرق ما بين العقل الدوغمائي المنغلق، والعقل الاستطلاعي المنبثق. أما العقل الدوغمائي فلا يعتبره أركون من الظواهر الخاصة بتاريخ الفكر الإسلامي، بل هو قوة بنيوية تكوينية. وهو العقل الذي أغلق ما كان مفتوحاً منفتحاً. وحوّل ما كان يمكن التفكير فيه إلى ما لا يمكن التفكير فيه. ويعزو أركون هذا العقل إلى نزعة التقليد للمذاهب الأرثوذوكسية. أما العقل الآخر، وهو العقل الاستطلاعي أو المنبثق فيقصد به العقل الجديد الذي يطمح إلى التعرف على ما منع التفكير به وأقصي عن دائرة الاستطلاع والاكتشاف، ويلح هذا العقل على ما لا يمكن التفكير فيه وما لم يفكر به بعد. ويكافح هذا العقل على جميع الجبهات؛ وإنه لا ينحاز للغرب أو للشرق، إلى الدين أو الدنيا. ويعتمد هذا العقل على نظرية التنازع بين التأويلات، بدلاً من الدفاع عن طريقة واحدة في التأويل.

في الختام لنا أن نقول ، إنَّ أهمية هذين المفكرين تعود إلى أنهما اشتغلا على مفهوم العقل، وتكمن أهمية الاشتغال على العقل في أنه يشتمل على فهمٍ عام، أي إنه يشتغل على جميع ما يفرزه ويؤسسه، من هنا نفهم شمولية المشروعين. إلا أن الجابري يعمل على منطقة العقل العربي، في حين يشتغل أركون على منطقة العقل الإسلامي، ولا يمكن إطلاق سمة الأفضلية لمشروعٍ على مشروع، فلكلِ واحد منهم أدواته الخاصة ومناهجه المتبعة في تحصيل النتائج.

فقد آمن أركون بالعقل الإسلامي، كونه يتيح لنا التعامل مع إشكاليات أكثر، ومن ثم فإن المشكلة العويصة التي يُراد منّا حلها، تتمثل في إشكالية العقل الإسلامي وليس العربي فقط، أما الجابري، فقد استخدم العقل العربي، كونه قد أوضح بأن الاشتغال بالمعنى الإسلامي لا يحيل إلا إلى الدين، ولم يكن هذا ما يريده الجابري، على أن الجابري لم يخرج من منطقة الاشتغال الإسلامي، ولكنه أراد أن يبين القواعد التي تأسس عليها هذا العقل، وما أثر عليه الإسلام، بالوقت الذي أصرَّ في أركون على ضرورة التعرج إلى لحظة الإسلام الأولى، وهي اللحظة المتمثلة بالوحي.

ومن ثمَّ لا يمكن الفصل في الغاية التي يريد المفكران تأسيسها، فكلاهما يحاول أن يخترق بنية العقل، سواء كان هذا العقل عربياً، كما هو الحال مع الجابري، أو كان إسلاميا، كما تعامل معه أركون. على أن البنية تختلف لاختلاف النعتين، فالبنية العربية، هي بنية تشكلت ضمن محددات ثلاث، مرحلة البيان أو التدوين، ومرحلة العرفان الغنوص، والمرحلة البرهانية، والتي تمثل ازدهار العقل العربي. أما محددات العقل الإسلامي، فكما قلنا، يصرُّ أركون على الرجوع إلى لحظة الإسلام الأولى، لذلك اختار المحدد الأول لتلك البنية متمثلاً بالقرآن الكريم ونزول الوحي، لينتقل بعد ذلك إلى مرحلة الازدهار الكلاسيكية، ومن ثم المرحلة السكولائية، لينتهي إلى واقع النهضة في القرن التاسع عشر.

***

حيدر عبد السادة جودة

 

تمهيد: "من المفترض أن تتدخل دولة الرعاية لتصحيح الفوارق الاجتماعية، ومساعدة الأفراد الأكثر حرماناً. ولذلك فإن مهمتها هي استعادة المساواة عندما تكون أوجه عدم المساواة بين المواطنين كبيرة للغاية".

الكثير من الأفراد والناس والفئات والشرائح والطبقات والمجتمعات والجهات والدول والأقليات والأمم تعاني من الازدراء والتهميش والظلم والاستبعاد والسبب وراء تفشي هذه الآفات والرذائل والاختلالات هو غياب العدالة الاجتماعية وانعدام المساواة أمام القانون وفقدان الانتماء الهوياتي وغياب الاعتراف سواء من المركز السياسي الغني او من الجهة الحاكمة ذات النفوذ او من القوة الحضارية المهيمنة.

إذا ثبت أن تطبيق القانون ضروري لتحقيق العدالة داخل الدولة، ولكي يتمتع المواطنون بالمساواة الصورية، فإنه يثبت أنه غير كاف لتحقيق العدالة الحقيقية. إن مجموعة القوانين – مهما كانت ضرورية لجعل الحياة المجتمعية ممكنة – لا تقدم إلا مخططًا غير كامل للعدالة فيما يتعلق عدالة أكثر اكتمالًا تتعلق، بما يتجاوز العام، بمواقف معينة. فكيف يتم تحقيق العدالة؟ وهل يمكن للعدالة أن تتسامح مع اللامساواة؟

تطبيق القانون شرط ضروري لتحقيق المساواة داخل الدولة

العدالة باعتبارها مساواة شكلية

المساواة الرسمية تتوافق مع متطلبات المواطن. وفي الواقع، يرفض هذا الأخير الخضوع لقانون الدولة التي تفضل بعض هؤلاء الأعضاء مع الإفلات من العقاب على حساب الآخرين. ويجب على الدولة أن تضمن توازن الحقوق، وإلا تعرض النظام الاجتماعي للتهديد، إذ لا شيء يبرر أن تكون الدولة لمصلحة فئة قليلة من أعضائها فقط. ولذلك يهدف القانون إلى خلق مساحة من الحرية يتقاسمها الجميع بنفس الطريقة. إنها تضمن بقاء الجميع ضمن الحدود الممنوحة لهم وعدم التعدي على حريات الآخرين.

المساواة كمبدأ ولد من الجهل

إن المطالبة بالمساواة تنبع من حالة الجهل، لأنه من المستحيل تقييم الجدارة الفردية لتأسيس عدالة عادلة توزع الحقوق والواجبات حسب استحقاق كل شخص – وهذا هو معنى عدالة التوزيع الأرسطية – فنحن نختار عدالة توزيعية. مبدأ المساواة. يؤكد أفلاطون في كتابه السياسة (294 أ) على أن القانون يشكل الملاذ الأخير فيما يتعلق بالعدالة العليا التي يجسدها الملك الفيلسوف. بوجود علم حقيقي تحت تصرفه، سيكون قادرًا على تقييم مزايا كل شخص وإقامة عدالة عادلة. وفي غياب مثل هذا الرقم، يجب علينا أن نعقد العزم على اعتماد قوانين المساواة.

فضيلة العدالة

مما ستتكون هذه الميزة التي يحتفل بها الإنصاف؟ ولا شك في الموقف الفاضل. وبهذا نسمي السلوك الأخلاقي الذي يهتم بالقوانين ويحرص على احترامها لا خوفا من أي عقاب بل لأنه يعترف بقيمتها. لا يتعلق الأمر بالقيام بأفعال عادلة، أي تلك التي تتوافق مع القانون، بل يتعلق بكوننا عادلين. وبعبارة أخرى، فإن الفعل - كما يؤكد كانط في أسس ميتافيزيقا الأخلاق - يجب أن يتم من منطلق الواجب وليس وفقا للواجب. النية ليست هي نفسها. فمن ناحية، فإن القانون الأخلاقي هو الذي يملي السلوك الذي ينبغي اتخاذه، ومن ناحية أخرى، فإن المصلحة.

العدالة تتجاوز مجرد تطبيق القانون

عمومية القانون

فالقانون، لأنه ينطبق على أكبر عدد، لا يمكنه أن يشمل اللانهاية لمواقف معينة. في هذا الصدد، يعتبر دور القاضي حاسما لأنه متروك له لتكييف القانون مع موقف معين - يتحدث أرسطو بهذا المعنى عن موقف الحكمة الذي يفضل العدالة. ويجب على القاضي أن يسعى قدر الإمكان إلى قياس القصد الذي صاحب الفعل الإجرامي. ونرى أيضًا ظهور عدة درجات من تطبيق القانون. ويفرق أرسطو في كتابه فن الخطابة (1374 أ) بين الحظ السيئ الذي لا يدل على نية ولا حساب، والخطأ الذي يشير إلى فعل إرادي خال من أي نية ضارة، والجريمة التي تشير إلى نية خبيثة واضحة.

العدالة والحذر اللازم

يجب على القاضي أن يجسد العدالة، هذه الفضيلة التي تقودنا إلى النظر ليس فقط في الفعل نفسه، بل أيضًا في الظروف المحيطة به. وهذه الفضيلة وحدها هي التي يمكن أن تمنح المرونة لقانون لا يشكل إلا الإطار الذي يجب أن يتشكل من خلاله قرار القاضي. يصر جانكلفيتش في كتابه الفضائل والحب على ضرورة تفضيل الروح وليس النص فيما يتعلق بالقانون: «الإنصاف شامل، أي أنه يأخذ في الاعتبار جميع ظروف حالة ملموسة للحصول على أقصى استفادة. الحقيقة العامة والإنسانية حول هذه القضية، حتى لو كان عليها التضحية بالصرامة في سبيل هذه الحقيقة” (المجلد الثاني، الفصل 7).

حقوق الملكية كقيمة

إذا كان من غير الممكن أن يتم إصدار حكم بشكل مستقل عن أي اعتبار ملموس، فذلك لأن العدالة تبدو قيمة أساسية. وبدونها يتم التعرف على المجرم بفعلته، ولا يعود ينظر إليه كشخص بل يتبلور في فعله. إن الإنصاف يسلط الضوء على حرية الإنسان، وهذه الإمكانية غير المحددة للقيام بعمل أفضل. ولكن لماذا تتطلب العدالة أن تصاحب القانون؟ لا شك أن احترام الآخر كشخص واجب أخلاقي. هكذا يقول كانط، تدعونا الضرورة المطلقة إلى اعتبار الآخر دائمًا غاية، لتأكيد حريته، أي كرامته كذات واعية.

دوائر العدالة

العدالة هي أولاً وقبل كل شيء فضيلة التبادل والتوزيع. يتعلق الأمر بإعطاء الجميع ما يستحقون الحصول عليه وفقًا لمزاياهم أو عيوبهم: الحقوق أو الخيرات أو العقوبات. ومن ثم فهي مؤسسة تحكم في الجرائم والجنح. تنظم العدالة التبادلية التبادلات وفقا لنسبة رياضية: فالمصطلحان المتبادلان لهما نفس القيمة.

تنظم عدالة التوزيع عمليات التبادل وفقًا لنسبة هندسية: حيث يذهب أكبر التبرع إلى الأشخاص الأكثر استحقاقًا. فالعدالة الاجتماعية تمنح الجميع الوسائل الأساسية للبقاء والتقدم في المجتمع البشري. ولذلك، يجب عليها أن تعوض عن التفاوتات الأولية من خلال خلق ظروف العدالة. ان العدالة القمعية تتوافق مع النظام القضائي وتحدد العقوبات والمصادرات والحرمان وتطبيق الأحكام.

يمكن أن تكون عدم المساواة عادلة

إذا كانت العدالة هي فضيلة المشاركة العقلانية (التي يتم تنفيذها بشكل عادل)، فيمكننا في البداية أن نعتقد أنها تتكون من تقاسم الخير وفقًا لمبدأ المساواة الصارمة. ومع ذلك، يجب على العدالة أن تتسامح مع عدم المساواة، طالما أنها عادلة: فمن يساهم بأكبر قدر في مهمة ما يستحق الحصول على المزيد، كما يؤكد ميل. ومع ذلك، هل يجب أن تكافئ الجدارة الجهد أم الكفاءة فقط؟ والواقع أن تفضيل الخيار الأول لا يشجع أولئك الذين قد يكونون أكثر فعالية؛ وتفضيل الخيار الثاني يعني إعطاء ميزة اجتماعية لأولئك الذين يتمتعون بالفعل بميزة الموهبة.

يمكن لأوجه عدم المساواة أن تعود بالنفع على الجميع

ولضمان العدالة الاجتماعية، يدعونا راولز مع ذلك إلى الموافقة على بعض أوجه عدم المساواة إلى الحد الذي تكون فيه، على الرغم من كل شيء، ميزة للمجتمع ككل. فإذا كانت ثروة الأقلية تجعل من الممكن إنشاء البنية التحتية العامة (الرياضية أو الطبية، على سبيل المثال)، فإن ثروة القلة تصبح مفيدة للجميع. لكن مبدأ الاختلاف هذا لا ينبغي أن يدخل حيز التطبيق إلا بعد تحقيق مبدأ العدالة الأكبر.

القانون والحالة وشكل العدالة

العدالة هي نهاية التعسف، ووضع نفس القواعد للجميع، والاهتمام بالتناسب في العقوبة. يتزامن القانون مع اللحظة التي يتفق فيها الناس على قواعد مشتركة: سيتم الآن وضع القرارات والأفعال والعلاقات الذاتية تحت هذه القواعد. العدالة لا يمكن فصلها عن القوانين، وهذا ما يخبرنا به أصل مصطلح العدالة ("justus" في اللاتينية يعني "وفقًا للقانون"). يحتوي القانون على ما يسميه روسو "العالمية المزدوجة"، التي وحدها يمكنها ضمان العدالة: كونية الموضوع (القانون لا يشير إلى الناس كأفراد فرديين بل كمواطنين أو أشخاص مجردين)، وكونية الإرادة لأن إنشاء القانون ويجب أن تنبثق القواعد القانونية من الإرادة العامة. ويتميز القانون بحياده: فهو يفترض ويضمن إدخال طرف ثالث في حل النزاعات. وينطبق القانون بنفس الطريقة على الجميع دون استثناء: وهذا ما نسميه بالاستقلالية. تتميز القوانين بإمكانية الوصول إليها من قبل الجمهور، ويجب أن تكون معروفة للجميع ("لا ينبغي لأحد أن يجهل القانون"): هذا هو مبدأ علنية القوانين. ويحظر القانون استخدام القوة من قبل الأفراد. وبالتالي فإن الانتقام ليس عدالة لأنه يخدم العاطفة الفردية ويظل اعتباطيا. عندما يقدم القانون نفسه في شكل انتقام، يعتبر هيجل أنه جريمة جديدة تثير انتقامًا جديدًا ولم تعد تضمن العدالة.

أسس العدالة

1. أساس إلهي:

وفقا لأرسطو، لا يمكن تصور العدالة إلا على أساس الصداقة. هذه الصداقة هي شكل من أشكال الحد الأدنى من الاعتبار الذي يخلق رابطًا، ونقطة مجتمع، بين أولئك الذين يحكمون وأولئك المحكومين. تتضمن العدالة إنشاء نوع من العلاقة مع الآخرين يتجاوز المصلحة البحتة. وبالتالي لا توجد عدالة بين الآلة والحرفي، ولا بين السيد والعبد، العدالة على افتراض وجود مجتمع تجعله الصداقة ممكنًا. والتوحيدية الموجودة في الله أصل العدل والقانون. إن العدالة الإلهية تمثلها الأديان كنموذج وأساس لعدالة البشر الناقصة. حدثت فجوة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث شكك الكتاب والفلاسفة في الأساس الإلهي للعدالة.

2. أساس أخلاقي:

إن تباين القوانين حسب المكان والزمان يمكن أن يؤدي إلى تبني وجهة نظر نسبية. وهذا ما يعبر عنه باسكال بالصيغة: "الحقيقة في هذا الجانب من جبال البرانس، والخطأ وراءها". ومع ذلك، فإننا قادرون على إصدار حكم نقدي فيما يتعلق بالقانون أو بمعايير العدالة الفاشلة. ألا يخبرنا هذا أن العدالة لا يمكن تأسيسها ببساطة من خلال المؤسسات؟

سيسعى المنظرون المعاصرون للقانون الطبيعي إلى إثبات أن الفرد يمتلك عددًا معينًا من الحقوق غير القابلة للتصرف والتي يجب أن تلعب دور أساس القانون الوضعي. وهذه الحقوق متأصلة في كل إنسان كائنًا من كان: حق الحفظ، والحرية، وما إلى ذلك. وتتضمن المادة 2 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر في 26 أغسطس 1789 جميع هذه الحقوق الطبيعية: "وهذه الحقوق هي الحرية والملكية والأمن ومقاومة الظلم".يؤكد المؤلفون المعاصرون، مثل ليو شتراوس، على أهمية القانون الطبيعي حتى نتمكن من الحكم على قيمة قوانيننا المدنية على أساس معيار أعلى.

3. أساس سياسي:

أساس القانون نفسه: ترى الوضعية القانونية أنه لا توجد عدالة قانونية تسبق التعريف الدقيق للحقوق في النصوص القانونية، بل تختزل العدالة في القانون المؤسس بكل ضماناته، وتسمى هذه المدرسة الفكرية بالوضعية القانونية ، ويمثلها كيلسن أو بنثام.

غايات العدالة

1. فضيلة العدالة:

بالنسبة للفلاسفة القدماء، العدالة مرغوبة في حد ذاتها، لأنها تؤدي إلى أعلى خير إنساني (انظر تشبيه أفلاطون في الجمهورية بين انسجام أجزاء الروح وانسجام ما تم ذكره للتو). فالتعرض للظلم خير من ارتكابه، لأن النفس لا تفسد في الحالة الثانية. يوضح أرسطو أن فضيلة العدالة لا تنبع فقط من المؤسسات العادلة: بل إنها تعمل على تحسينها أيضًا. المدينة العادلة تولد العديد من الناس الصالحين: فالانسان الذي نشأ في ظل قوانين جيدة سيطور في النهاية ميلًا إلى الرغبة في التصرفات التي تفرضها القوانين.

2. الأمن والملكية والحرية:

بالنسبة للفكر الحديث، ليس على المؤسسات أن تجعل المواطنين فاضلين، بل أن تجعل التعايش بين الأفراد ممكنًا. وبدونها، سيكون الناس، الذين يسعى كل منهم لتحقيق مصلحته الشخصية، في حالة حرب دائمة (هوبز وليفياثان). ان هدف أي مجتمع مدني وإقامة العدالة، وفق السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، يهدف إلى ضمان حماية الملكية (لوك). ويحدد جون ستيوارت ميل الحرية الفردية باعتبارها الوظيفة الأساسية للعدالة: إذ يجب على الجميع أن يتمتعوا بأكبر قدر ممكن من الحرية، ما داموا لا يرتكبون أي خطأ ضد الآخرين.

3. المساواة:

يبدو أن الهدف النهائي للعدالة هو المساواة، ولكن بأي معنى بالضبط؟

يميز أرسطو بين نوعين من المساواة على أساس التمييز بين العدالة التصحيحية والعدالة التوزيعية. تتعلق المساواة الصارمة في العدالة التصحيحية بجميع المعاملات التي تتم في إطار خاص والعدالة الجنائية، التي تتعلق بإصلاح الأخطاء ومعاقبة المذنبين. تتعلق المساواة النسبية في عدالة التوزيع بمختلف السلع التي سيتم توزيعها داخل المدينة.والمشكلة المتبقية هي كيفية تحديد معايير التوزيع. وبالتالي فإن موقف المساواة يتطلب إعادة توزيع السلع مع الأخذ في الاعتبار الجدارة وعدم المساواة الاجتماعية.

كيفية تطوير بالعدالة

يجب الاعتناء بالسلطة القضائية من جهة الجودة والاستقلالية. يكون الدستور والقوانين قانونية عندما تصدر دون مخالفة للقواعد الشكلية للقانون التشريعي، ولكنها لا تكون مشروعة إلا إذا ضمنت حرية المواطنين وحقوقهم الأساسية: السلامة الجسدية، حرية الرأي، التعبير، الوعي، تكوين الجمعيات. الشرعية هي نوعية الشكل، والشرعية هي نوعية غرض السلطة القضائية. ويجب ألا تتركز السلطة في يد شخص واحد أو مؤسسة واحدة أو مجموعة واحدة. وعلى غرار مونتسكيو في كتابه روح القوانين، يجب تنظيم السلطة وفقا لتقسيم محكم: فالأفراد المسؤولون عن صياغة القوانين (السلطة التشريعية)، وأولئك الذين ينفذونها (السلطة التنفيذية)، وأولئك الذين يقمعون التجاوزات (السلطة القضائية) يجب أن يكونوا مستقلين. كما أن دور القضاة مهم للغاية، بهدف إقامة عدالة حقيقية. الحكم يأتي من نطق الكلام ، الحق الذي أعطى للحكم. ولذلك فهو يقول القانون، وينطق بالقانون. ويعني الحكم أحيانًا أيضًا تفسير القانون بطريقة يمكن من خلالها تطبيقه على الحالات غير المتوقعة بأفضل طريقة (أرسطو).

خاتمة

كيف تتجه الانسانية نحو عدالة اجتماعية أكبر؟ إن المطالبة بالتقدم نحو مجتمع أكثر عدالة تتم من خلال توزيع السلع وفي إطار التنفيذ الملموس للحقوق. ومن وجهة نظر اقتصادية واجتماعية، فإن إفقار جزء من سكان العالم، والتفاوتات الصارخة التي لا تزال تنمو في كل بلد، والتمييز على أساس الجنس أو الأصل العرقي، لم تختف بعد. يصبح السؤال هو معرفة كيف يجب على السلطات العامة والقانون الدولي والعمل الفردي اتخاذ تدابير فعالة يمكن الاعتراف بمشروعيتها من قبل جميع المواطنين. وتطرح العدالة الدولية مسألة نسبية المعايير وفقا للخيارات الأيديولوجية والدينية والسياسية والفلسفية لكل دولة. فهل يمكن تصور العدالة الدولية دون الحد الأدنى من سيادة القانون الذي يوحد الأمم؟.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

في المثقف اليوم