أقلام فكرية

أقلام فكرية

القلق الوجودي، والأسس البيولوجية للنزعة السلطوية

التناقض الأساسي للوجود البشري

يمثّل التطور المعرفي البشري، أو ما يُعرف بـ "القفزة المعرفية"، قوة مزدوجة في تاريخ الوجود الإنساني. فبينما وفّر هذا التطور آليات متقدمة للتحرر والاستدلال، فقد أنتج في الوقت ذاته شروط العبودية الوجودية. وهذه القفزة، التي مكّنت من العمليات المعرفية العليا كالتفكير المجرد واللغة، حملت معها إدراكاً لا مفر منه لحتمية الفناء الذاتي، وهو ما يشكّل مصدر "الإرهاب الوجودي" الكامن في صميم التجربة البشرية.

يكمن التناقض المركزي للوجود الإنساني في الصدام بين الدافع الغريزي القوي والساحق للاستمرار في الحياة، وبين الوعي المعرفي اليقيني والمفاجئ بضرورة وحتمية الموت الكوني، ما يُعرف بـ "مبدأ الفناء المتناقض". وهذا الصدام ينتج خزانًا من القلق يمكن أن يؤدي الى تعطيل الحركة إن لم تتم إدارته. ولأن هذا الإرهاب الكامن لا يمكن مواجهته بشكل مستمر وواعٍ، فقد تطورت آليات نفسية واجتماعية معقدة، تعمل في ميكانيزمات اللاوعي الدقيقة، بهدف إدارته وقمع وعيه المباشر.

 القفزة المعرفية والقطيعة الفلسفية

تُعرّف القفزة المعرفية بأنها تجاوز نوعي في القدرات العقلية، يسمح بالانتقال إلى التفكير النظري في القضايا الفلسفية والأخلاقية. وتُشبّه هذه القفزة بـ "القطيعة المعرفية" التي تحدث عند قلب المفاهيم السابقة، كما حدث مع نظريات كوبرنيكوس وداروين، مما يُوهم بكسر قانون التراكم. ومع ذلك، فإن هذه القفزة، في سياق التطور المعرفي البشري، هي "تجاوز إيجابي" يمتص ويتمثّل ما في القديم من إيجابيات، ممهِّدة بذلك للوعي بالفناء كظاهرة وجودية وليست بيولوجية بحتة.

 آلية اللاوعي الدقيقة

يشير هذا المفهوم إلى الآليات العصبية والنفسية الدقيقة التي تعالج إرهاب الموت قبل أن يتمكن من شل حركة الفرد. هذه الآليات تهدف إلى منع الإرهاب من الدخول إلى الوعي اليومي، وتشمل عمليات القمع البيولوجي، وتوجيه الغرائز، وتفعيل الآليات الدفاعية المعرفية المعقدة.

 الجذور الفلسفية للوعي القاتل

القفزة المعرفية تُنتج ما يُسمى "الوعي القاتل" لأنها هي التي تمكّن قدرة التنبؤ والتفكير في المستقبل البعيد. هذه القدرة تنمو مع تطور آليات التفكير المجرد والاستنباط التي تظهر في مرحلة المراهقة النضيجة. هذا الإدراك المعرفي يسمح للوعي ببناء تمثّلات تشمل المعارف والاعتقادات المبرهنة وغير المبرهنة.

هذا التجاوز المعرفي هو الذي سمح للإنسان بإدراك حدود وجوده الفاني. وعندما نقضت النظريات العلمية الأصول الفلسفية القديمة، انفتح المجال أمام الوعي الذاتي لاستكشاف الوجود بمعزل عن الماهيات المسبقة، ما دفع فلاسفة الوجودية لوضع الموت في صميم التجربة البشرية.

 الموت بنية أساسية للوجود لدى هايدغر

قدّم مارتن هايدغر تحليلاً أساسياً لدور الموت في الوجود البشري، مؤكداً أنه إذا كان هناك شيء يشكّل جوهر وجود الإنسان، فهو الموت.

يفرّق هايدغر جوهرياً بين موت الإنسان وموت الحيوان؛ فالإنسان يعي يقينًا بأنه سيموت، بينما الحيوان يفتقر إلى هذا الوعي. الحيوان يدرك الموت كحادثة أو خطر خارجي يمكن الفرار منه. أما الإنسان، فيدركه كوجهة نهائية لا مفر منها تحدث في أي وقت. هذا الوعي يشكّل الهيكل الجوهري للوجود الإنساني، ولكنه يولد قلقاً مستمراً ومفزعاً، يدفع الإنسان نحو "هروب ضخم، فردي وجماعي، من أمام هذا القلق."

إن هذا الوعي المعرفي المتقدم هو أصل الإرهاب الوجودي، إذ يضع القدرة على التنبؤ (الناتجة عن القفزة المعرفية) في صدام مع الدافع الغريزي للبقاء. وهذا الصدام هو الشرط الذي يجعل الوجود يتأثر بشكل أساسي بهذا الوعي الصادم.

التحليل النفسي الفرويدي: صراع إيروس وثاناتوس

قدّم سيغموند فرويد نموذجاً لآليات اللاوعي، مؤكداً أن السلوك البشري كما تشير عبارة التحليل النفسي الفرويدي: صراع إيروس وثاناتوس إلى نظرية أساسية في علم النفس طورها سيغموند فرويد، والتي تفترض وجود صراع دائم داخل النفس البشرية بين قوتين متعارضتين،

إيروس يمثل غريزة الحياة، الحب، والترابط. يُعرف أيضًا باسم "الليبيدو"، وهو يشمل الرغبة في البقاء، والتكاثر، والإبداع، والاتصال بالآخرين وهو القوة الدافعة وراء العلاقات الاجتماعية الإيجابية، والتنمية الشخصية، وثاناتوس يمثل غريزة الموت، التدمير، والعدوان.

يمثّل ثاناتوس الدافع الكامن للعودة إلى حالة اللاعضوية، متوافقاً مع مبدأ الإنتروبيا و"مبدأ النيرفانا". هذا الدافع هو القوة التدميرية الكامنة. يشير فرويد إلى أن الصراع المستمر بين القوتين يوجّه طاقة الموت (التي تسعى للتدمير الذاتي والرجوع إلى حالة العدم) نحو الخارج في شكل عدوان.

إن قلق الموت يغذّي هذا الصراع. بالتالي، فإن توجيه طاقة ثاناتوس إلى الخارج في شكل عدوان ودفاع عن الذات هو ميكانزيم أساسي يغذّي العنف بين المجموعات والدفاع القسري عن الحدود الثقافية، وهي الأرضية النفسية التي تتأسس عليها النزعة السلطوية.

القمع الاجتماعي للوعي الفردي

تُستخدم "الجمعنة" كآلية دفاع وجودي تفرض التجانس الثقافي على الأفراد. إن الأنظمة السلطوية تدرك أن الوعي الفردي، الذي هو أقرب للصدق، يولد القلق الوجودي الذي تسعى الأيديولوجية لإدارته.

لذلك، يتم طمس معالم الشخصية الفردية وتأجيل تطوير الوعي الفردي لصالح "الأنا الجمعي المجبول على فرض التجانس". هذا التحول ضروري للسلطة لأن الوعي الجمعي يدمج الفرد في بنية خلود رمزي أكبر منه (الدولة، الأمة، الأيديولوجيا). النزعة السلطوية، من هذا المنطلق، لا توفّر القوة فحسب، بل تبيع الغياب المنظَّم للقلق، عبر إعادة الفرد إلى حالة "الغفلة والتسطّح" (ما قبل الوعي)، ولكن ضمن إطار اجتماعي مقبول.

يُفسّر هذا على أساس الدوافع التطورية والجينية، حيث يُعد نقل الجينات والشعور بالذات إلى النسل آلية لـ "الخلود الرمزي". هذا يربط بين الدافع الجيني للنجاة وبين دعم الأيديولوجيات الثقافية. تستغل النزعة السلطوية هذا الأساس البيولوجي بتوفير نظام اجتماعي قوي يُفترض أن يضمن استمرار النسل والمجموعة، وبالتالي يُستخدم الدافع الجيني غير الواعي لتعزيز التماسك الأيديولوجي والسلطوي.

***

غالب المسعودي

.....................

المراجع

بيكر، إرنست. إنكار الموت (The Denial of Death). (مصدر أساسي لفهم الإرهاب الوجودي والخلود الرمزي)

بياجيه، جان. نشأة الذكاء عند الطفل. (لتعزيز الجزء المتعلق بالقفزة المعرفية والتفكير المجرد في المراهقة)

هايدغر، مارتن. الكينونة والزمان (Being and Time). (لتعميق تحليل دور الموت كبنية للوجود)

فروم، إريك. الهروب من الحرية. (لتحليل الجانب الاجتماعي والنزعة السلطوية كهروب من الوعي الفردي)

طرح المشكلة: تشكل مسألة الإدراك وعلاقته بالوعي واللاشعور، إشكالية فلسفية ونفسية مركزية، تعود إلى الجذور الأولى للتفكير الفلسفي وتمتد الى عصرنا هذا. فمنذ الفلسفة القديمة، اعتُبر الوعي أساس كل العمليات الفكرية والمحدد لمدركاتنا في العالم الخارجي ولأنفسنا. لكن في المقابل، تلف الغموض بعض سلوكاتنا وتصرفاتنا أثناء حالات الخوف والانفعال والقلق، وفي بعض المواقف لا يمكن تفسير الاحكام والأفعال الصادرة عنا، كما في حالات اليقظة ولحظات الأحلام المرتبطة بالنوم. هذه المفارقة تثير جدلاً بين الموقف الكلاسيكي الذي يؤكد مركزية الوعي في عملية الإدراك، والموقف التحليلي النفسي الذي يكشف عن الدور الحاسم للاشعور. هذا التناقض يثير ولا شك تساؤلاً جوهرياً:

 هل حقاً يمكن رد مدركاتنا الى فاعلية الشعور فحسب، أم أنه لا يمكن فهم العملية الادراكية إلا بردها إلى اللاشعور؟

وهل إدراكنا للعالم الخارجي وأنفسنا انعكاس للوعي، أم هو بناء نفسي تخترقه عوامل لا واعية؟

الأطروحة الأولى: الوعي كمصدر أساسي للإدراك (المذهب الظاهراتي والاتجاه الكلاسيكي)

يؤكد أنصار هذه الأطروحة، وهم أصحاب التفسير الكلاسيكي للحياة النفسية وكذا المذهب الظواهري، أن الحياة النفسية قائمة على فاعلية الوعي الذي يحدد ادراكنا لأنفسنا وللعالم الخارجي، وينطلق هذا الموقف من عدة مبادئ: ففي التقليد الفلسفي الكلاسيكي، عند ديكارت، إدراك العالم الخارجي يمر عبر الشك المنهجي واليقين العقلي. فالحكم على الأشياء في العالم الخارجي قد يكون خداعاً، لكن عملية التفكير في هذا الاحتمال هي وعي يقيني. ذلك ان الإدراك الحسي يحتاج إلى تأكيد عقلي: "أنا أرى الشمع، لكن ما يدركه عقلي من طبيعة الشمع أهم مما تدركه حواسي". ويؤكد ديكارت - مؤسس العقلانية - مركزية الوعي الذي تتجلى قيمته في سيادة الذات المفكرة بما تمتلكه من حرية اختيار وانفراد بالمسؤولية قائلا: "تستطيع الروح تأمل أفكارها كلما أرادت ومن ثمة الشعور بكل واحدة منها". وهذا ما توضحه قاعدة "أنا أفكر إذن أنا موجود" حيث يتم اثبات الوجود عبر الشعور بالتفكير الذي لا ينقطع إلا بانقطاع الوجود.

ويتطور هذا الموقف مع كانط الذي في فلسفته أكد ان إدراك العالم الخارجي ينظمه وعي قبلي عبر مقولات الزمان والمكان والسببية. هذه المقولات ليست لا شعورية، بل هي شروط إمكانية كل تجربة واعية. العالم كما ندركه هو بناء واعي ينظم الظواهر الحسية.

ويرى هوسرل أنه لفهم جوهر الإدراك، يجب تعليق الأحكام المسبقة والافتراضات الطبيعية عن العالم، والرجوع إلى "الأشياء ذاتها" كما تظهر للوعي الخالص. قائلا:" الوعي دائمًا وعي بشيء" فهو موجه نحو الموضوعات الخارجية. مما يعني أن العلاقة بين الذات والعالم علاقة واعية وقصدية. وعند ميرلوبونتي، إدراك العالم يتم عبر "الجسد الحي" الذي هو وعي مجسد. الجسد ليس موضوعاً بين المواضيع، بل هو وسيط واعي لإدراك العالم. "الجسد هو نقطة الارتكاز التي منها أستطيع إدراك العالم". وعند سارتر، الذي أسس تحليله الوجودي على فكرة الوعي، فإن "السلوك يجري دائما في مجرى الشعور". ذلك ان ميزة الإنسان هي الوعي وهو ضروري لممارسة الحرية وتحمل المسؤولية في بناء المشروع المستقبلي.

كما يمكن العودة أيضا في هذا الموقف الى مالبرانش الذي كتب: "الشعور يكسب صاحبه فضلية النظام ويبلغ به مقام الاكتمال". ويؤكد مين دوبيران أنه يستحيل أن يكون للإنسان وجود بدون الشعور. حتى في فلسفة ابن سينا، الإنسان قد يتجرد من جسده كما في الأحلام، ولكن محال أن يتجرد من شعوره.

الأطروحة الثانية: اللاشعور كمحرك خفي للإدراك (التحليل النفسي)

تقف هذه الأطروحة على النقيض من السابقة، مؤكدة أن إدراكنا محكوم بعوامل لا شعورية، وأن التفسير الكلاسيكي للحياة النفسية القائم على الشعور فقط غير مقبول يمكن الارتكاز هنا على:

1.  ثورة التحليل النفسي والبراهين التجريبية: عند فرويد، نُسقط على العالم الخارجي رغباتنا المكبوتة. ما نراه في الآخرين قد يكون انعكاساً لرغباتنا اللاشعورية. فالواقع كما ندركه هو "واقع نفسي" مشكل بالرغبات المكبوتة. مثالا: من يكبت عدوانيته قد يرى العالم مكاناً عدائياً بشكل مبالغ في، ومع فرويد، تم قلب الصورة التقليدية عن الوعي، حيث أصبح اللاشعور هو الأساس الحقيقي للحياة النفسية. استند فرويد في تبرير أطروحته إلى حجج متعددة منها: الأفكار التي لا نعرف مصدرها كالحب والكره من أول نظرة، زلات القلم وفلتات اللسان، إضاعة الأشياء، النسيان المؤقت، والأحلام. يقول فرويد: "فرضية اللاشعور لازمة ومشروعة".

2.  التشويه المرضي وآليات الدفاع: كشفت تجارب التنويم المغناطيسي للطبيب شاركو (الذي التقى به فرويد سنة 1885) عن جانب خفي لا شعوري يؤثر في أفعال الإنسان، خاصة في السلوكيات المرضية كالهستيريا. عند علاج المريضة آنا أو (بيرثا بابنهايم) التي كانت تعاني من أعراض عصابية، لاحظ بروير أن "كلما وجدنا أنفسنا أمام أحد الأعراض العصابية وجب علينا أن نستنتج لدى المريض بعض النشاطات اللاشعورية".

3.  البنية النفسية والطاقة الغريزية: قسم فرويد الجهاز النفسي إلى ثلاثة أقسام (الأنا، الهو، الأنا الأعلى) وقال: "يستمد الأنا طاقته من الهو، وقيوده من الأنا الأعلى وعقباته من العالم الخارجي". أكد دور الليبيدو المحوري في الحياة النفسية وتشكيل ادراكنا للعالم الخارجي.

4.  المعالجة المسبقة اللاواعية للمعلومات الحسية: تظهر دراسات علم الأعصاب أن 90% من المعالجة البصرية تتم قبل أن تصل إلى الوعي. العين تستقبل 10 ملايين بت في الثانية، لكن الوعي يستقبل فقط 40-50 بت. الباقي يُعالج لا شعورياً.

5.  التأثير اللاشعوري للإشارات الخفية: دراسات بارغ تظهر أن إشارات خفية (سابقة إدراكية) تغير إدراكنا وسلوكنا دون وعي. مثال: عرض صور مرتبطة بالشيخوخة يجعل الناس يمشون ببطء أكبر دون أن يدركوا السبب.

6.  الذاكرة وإعادة بناء الأحداث: إدراكنا للحوادث الماضية ليس تسجيلاً أميناً، بل إعادة بناء تحت تأثير الحالة النفسية الحالية والتوقعات الاجتماعية. دراسة لوفتس تظهر كيف يمكن زراعة ذكريات كاذبة عبر إيحاءات لا شعورية.

التوليف: تجاوز الثنائية والتكامل البنيوي

يقدم بياجي حلاً توفيقياً: "ليست الحوادث النفسية شعورية فحسب بل الحياة النفسية تكامل بين الشعور واللاشعور". فالحياة النفسية كيان معقد يتداخل فيه ما هو شعوري بما هو لاشعوري. الوعي يمكننا من فهم الجانب الواعي من الحياة النفسية، واللاشعور يمكننا من فهم الجانب اللاواعي منها.

 وذلك من خلال تأثير ارادتنا الواعية و البعد الاجتماعي والثقافي حيث يؤكد علم النفس الاجتماعي أن اللاوعي ليس فردياً فقط، بل هو جماعي أيضاً. فالأيديولوجيا والثقافة تشكلان إدراكنا دون أن نكون واعين بذلك. كما يظهر الوعي في علم النفس الجشطالتي، حيث تعمل قوانين التنظيم الإدراكي (التشابه، القرب، الاستمرارية) على مستوى واعي يمكن ملاحظته وتحليله ويؤكد أنطونيو داماسيو أن المشاعر اللاواعية توجه انتباهنا الواعي وتؤثر في قراراتنا الإدراكية.

حل المشكلة

كتخريج عام يمكن القول أن العالم كما ندركه هو "عالم مشترك البناء" بين الوعي واللاشعور. الوعي يمنحنا الإحساس بالاتصال المباشر مع الواقع والقدرة على التفكير النقدي في إدراكنا، بينما اللاشعور يوفر السرعة والكفاءة في المعالجة الأولى ويكشف عن تأثيرات تاريخنا النفسي والثقافي.

إن إدراكنا للعالم ولأنفسنا هو نتاج معقد لتفاعل ديناميكي بين الوعي واللاوعي. فإذا كان الوعي يمنحنا الإمكانية للقصدية والتفكير التأملي والحرية المسؤولة، فإن اللاشعور يظل يشكل الخلفية الخفية لهذا الوعي وحدوده. من خلال هذا التحليل الجدلي، نصل إلى حل المشكلة المطروحة: الإدراك الإنساني هو عملية مركبة حيث يتجادل ما نعرفه عن أنفسنا مع ما نجهله فيها، وما نراه في العالم مع ما نتحاشى رؤيته. الحكمة تكمن في الاعتراف بأننا ندرك العالم ليس فقط عبر ما نعيه، ولكن أيضاً عبر ما نخفيه عن أنفسنا، وأن المعرفة الحقة تتطلب جهداً مستمراً لكشف هذه الطبقات المتداخلة من الشعور واللاشعور.

***

عمرون علي - أستاذ مادة الفلسفة

مقدمة: يشكّل الوعي الذاتي ركيزة محورية في الممارسة الطبية المعاصرة، خاصة في ظل ما يشهده الحقل الطبي من تطورات متسارعة على المستويين المعرفي والتقني. وقد بات واضحًا أنّ الطبيب لا يكتفي بامتلاك المهارات التشخيصية والعلاجية فحسب، بل يحتاج كذلك إلى قدرة عميقة على فهم ذاته، وضبط انفعالاته، وتقييم أحكامه، بما يعزّز جودة قراراته الإكلينيكية ويضمن مستوى أعلى من الرعاية الصحية. ومن هنا تبرز ضرورة الفلسفة بوصفها إطارًا معرفيًّا وثقافيًّا قادرًا على صقل شخصية الطبيب وتنمية مهاراته الذهنية والأخلاقية، نظرًا لما تقدّمه من أدوات للتفكير النقدي والتحليل المنطقي، وما تثيره من أسئلة تتعلق بالقيم، والمسؤولية، وحدود المعرفة، وطبيعة الوجود الإنساني.

وتتأسس إشكالية هذا البحث على التساؤل الرئيس الآتي: كيف تسهم الفلسفة في تعزيز الوعي الذاتي لدى الأطباء، وما أثر ذلك في الممارسة الطبية من حيث جودة القرارات، والأداء المهني، والتكوين الأخلاقي؟ ويتفرع عن هذا التساؤل جملة من الأسئلة الفرعية، تتعلق بمفهوم الوعي الذاتي وأهميته للطبيب، ودور الفلسفة في تنمية التفكير النقدي وتحسين جودة المعرفة الطبية، والعلاقة بين الفلسفة والأخلاق المهنية، فضلًا عن أثر فلسفة الوعي في الحدّ من المخاطر الطبية وتعزيز التناغم الوجودي والانسجام النفسي للطبيب أثناء عمله. كما تمتد الإشكالية إلى مناقشة موقع الفلسفة والمنطق في التعليم الطبي، ومدى ضرورتها في إعداد جيل جديد من الأطباء القادرين على الربط بين العلم والقيم، وبين التقنية والمسؤولية الإنسانية.

يرتبط هذا البحث بمحاور خمسة تكمل بعضها بعضًا في رسم صورة شاملة لدور الفلسفة في تعزيز الوعي الذاتي لدى الأطباء. فالمحور الأول يركّز على فهم طبيعة الوعي الذاتي وأهميته للطبيب، باعتباره قاعدة صلبة لاتخاذ قرارات طبية رشيدة وتحقيق جودة الرعاية الصحية. ومن هذا الأساس، يتصل المحور الثاني بدور الفلسفة في تطوير مهارات التفكير النقدي والتحليلي وبناء المعرفة الطبية، بما يعزز قدرة الطبيب على معالجة المواقف المعقدة والمستجدات المهنية بوعي وحكمة. وينبثق عن ذلك المحور الثالث الذي يعالج البعد الأخلاقي للطب، حيث تساعد الفلسفة على تحديد القيم والمعايير الأخلاقية، وتنظيم العلاقة بين المعرفة الطبية والتكنولوجيا، بما يضمن ممارسة مهنية مسؤولة. أما المحور الرابع فيسلّط الضوء على أثر فلسفة الوعي في تحقيق الانسجام النفسي والتوازن الكوني للطبيب، وتقليل المخاطر في الأداء الطبي، مما ينعكس إيجابًا على جودة الحياة المهنية والشخصية. وأخيرًا، يربط المحور الخامس بين التعليم الطبي والفلسفة، من خلال دمج التفكير الفلسفي والمنطق في المناهج الأكاديمية، بما يسهم في تكوين جيل جديد من الأطباء الواعيين بذاتهم، القادرين على المزج بين المعرفة العلمية والحس الإنساني الأخلاقي. هكذا تشكّل المحاور الخمسة شبكة مترابطة من الأفكار، تنبني عليها رؤية البحث الشاملة حول ضرورة الفلسفة لتعزيز الوعي الذاتي في المجال الطبي.

وانسجامًا مع طبيعة هذه المحاور، يعتمد البحث على المنهج التحليلي–الوصفي في دراسة المفاهيم والممارسات المرتبطة بالوعي الذاتي والفلسفة الطبية، وعلى المنهج الفلسفي–الأخلاقي في تحليل القيم والمعايير المهنية، إضافة إلى المنهج المقارن عند الحاجة، خاصة في مواضع المقارنة بين التصورات الفلسفية والواقع العملي للممارسة الطبية. ومن خلال هذه الأدوات المنهجية، يسعى البحث إلى الكشف عن الدور الجوهري الذي تؤديه الفلسفة في دعم البعد الإنساني للطب، وفي تكوين طبيب أكثر وعيًا بذاته، وأكثر قدرة على اتخاذ قرارات رشيدة ومسؤولة.

المحور الأول: مفهوم الوعي الذاتي وأهميته للطبيب

1- تعريف الوعي الذاتي في السياق الفلسفي والنفسي.

يُعرَّف الوعي بالذات، في السياقين الفلسفي والنفسي، بأنه قدرة الفرد على جعل ذاته موضوعًا لاهتمامه من خلال نشاطٍ مقصود يهدف إلى التعرّف على المعلومات المتعلقة بالذات ومعالجتها وتخزينها. ويتميّز هذا الوعي عن الوعي العام في أن الإنسان لا يكتفي بإدراك المثيرات الخارجية ـ كاللون أو الطعم ـ بل يتأمل خبرة إدراكه لهذه المثيرات وكيفية معالجتها، كقوله: "أرى جسمًا أزرق" أو "أتناول طعامًا لذيذًا". ويمثل الوعي بالذات ظاهرة متعددة الأبعاد، تشمل مجالات مختلفة من كيان الفرد؛ إذ يستطيع الإنسان التفكير في ماضيه (السيرة الذاتية) أو استشراف مستقبله، كما ينتبه إلى انفعالاته وأفكاره وسماته وتفضيلاته وأهدافه ومواقفه وإدراكاته ونواياه. وتُميَّز الانفعالات والسمات الخاصة بالفرد عن الأبعاد العامة أو الظاهرة للذات، مثل المظهر الخارجي والسلوكيات (1).

كما يتضمن الوعي بالذات إحساسًا بالفاعلية ونظرية العقل (أي القدرة على استنتاج الحالات الذهنية لدى الآخرين)، والوصف الذاتي، والتقييم الذاتي، والتنظيم الذاتي، والوعي بالموت، والانفعالات المصاحبة للوعي بالذات، والحديث الداخلي، فضلاً عن شعور بالاستمرارية الشخصية عبر الزمن وإدراك الذات ككيان متميز عن البيئة. ويختلف مستوى الوعي بالذات بين الأفراد؛ إذ تشير مصطلحات مثل "فوق- معرفي"، و"انعكاسي"، و"تمثيلي فوق- معرفي تكراري"، و"الوعي الممدّد" إلى مستويات متفاوتة من إدراك الذات. ويمكن التمييز بين "الوعي الذاتي المفهومي"، الذي يمكّن الفرد من تمثيل ذاته وحالاته الذهنية تمثيلاً مفهوميًا، و"الوعي الذاتي فوق- التمثيلي"، الذي يشمل بناء نموذج ذهني عن الذات وعن الآخرين، وبالتالي الوصول إلى المعرفة السير- ذاتية. أما المستوى الأقصى للوعي فهو "الوعي بالوعي الذاتي"، أي إدراك المرء أنه واعٍ بذاته (2).

ويرتبط مفهوم الوعي بالذات بتجربة الاتصال الداخلي، التي تتكون من ثلاثة مكونات رئيسية: أولها الوعي بالذات، ثانيها القبول الذاتي، وثالثها توافق السلوكيات مع هذا الوعي (3). المكوّن الأول، الوعي بالذات، يُعرّف بمعرفة الفرد بحالاته الداخلية وتفضيلاته وموارده وحدسه. ويعتبر الكثيرون أن لديهم ذاتًا جوهرية خاصة لا يمكن معرفتها إلا لهم وحدهم، بينما ترى بعض النظريات النفسية، مثل نظرية تحديد الذات، أن الذات ليست ثابتة، وإنما ينبغي أن تكون ذات معنى للفرد نفسه. وبالتالي، التركيز يكون على الفهم المدرك لجوانب من الذات التي تشبه مفهوم الذات، مثل القيم المهمة، مع مساهمة اليقظة الذهنية في توضيح تصورنا للوعي بالذات، إذ تشمل ملاحظة الأحاسيس والأفكار والمشاعر في اللحظة الراهنة وإحضارها إلى دائرة الوعي، ما يؤدي إلى وضوح أكبر لتلك التجارب المتعلقة بالذات (4).

المكوّن الثاني، القبول الذاتي، يشير إلى الاستعداد الكامل لتلقي الذات كما هي، دون إنكار أو تجنب، ويوازي الموقف المتقبّل للتجارب في ممارسة اليقظة الذهنية. ويعني هذا الاعتراف بمشاعر الفرد وقيمه وجوانب ذاته الأخرى، دون الحكم عليها بأنها جيدة أو سيئة، مع التركيز على القبول الذاتي للذات كما هي، وليس بالضرورة على محبة الذات أو تقديرها (5).

أما المكوّن الثالث، توافق السلوكيات مع الذات، فيعني التصرف بما يتوافق مع الحالات الداخلية للفرد وتفضيلاته وموارده، مستفيدًا من الوعي والقبول بالذات المُدركة لتسهيل اتخاذ قرارات سلوكية أصيلة ومتوافقة مع الذات. ويعكس هذا المفهوم المفاهيم المتعلقة باتخاذ القرارات وفقًا لنظرية تحديد الذات، والسلوك الأصيل، ويعد تطوير هذا التوافق أمرًا حيويًا لتجربة الارتباط بالذات بشكل ملموس (6).

وقد تم تعريف الوعي بالذات في قاموس علم النفس التابع لجمعية علم النفس الأمريكية بأنه "انتباه موجه للذات أو معرفة بالذات"، مع التركيز على الذات كصفة شخصية تمثل القدرة على التأمل الذاتي، والوعي الذاتي كحالة ضرورية للتنظيم الذاتي، حيث يمكّن الشخص من تقييم ذاته والسعي إلى الاتساق في معتقداته وسلوكياته (7). ومن منظور علم النفس الاجتماعي، وصف ميد Mead الوعي الذاتي بأنه إدراك الشخص لنفسه ككائن، بينما اعتبر باس Buss وإيدلمان Edelmann أن الوعي بالذات له جانبان: خاص داخلي وعام يمكن ملاحظته خارجيًا، كما أكد ويكنز Wiekens أن الوعي بالذات والوعي الذاتي يُستخدمان بمعنى متقارب، مع التأكيد على أن الوعي حالة يمتلكها ويختبرها كل فرد، بينما يُنظر إلى الوعي بالذات على أنه صفة شخصية (8).

2- أهمية الوعي الذاتي في اتخاذ القرارات الطبية:

إن أهمية الوعي بالذات تتجاوز الإدراك الشخصي الداخلي لتشمل القدرة على اتخاذ القرارات العملية، لا سيما في المجال الطبي، حيث يمثل الوعي بالذات مكوّنًا أساسيًا للمهارات الاجتماعية والتواصلية. فالوعي بالذات يرتبط بالقدرة على الانخراط في نظرية العقل، أي استنتاج الحالات الذهنية للآخرين، مثل الأهداف والنوايا والمعتقدات والرغبات والأفكار والمشاعر، مما يمكّن الطبيب من التنبؤ بسلوك المرضى، وتقديم المساعدة لهم أو تجنبهم أو تعديل استراتيجيات التعامل وفقًا للظرف (9).

وقد وصف نوفاك في أواخر سبعينيات القرن الماضي الوعي الشخصي على أنه التأمل في مدى تأثير الأحاسيس، والحياة العاطفية، والأفكار، والمعتقدات، والمواقف، والقيم على تجربة الفرد الحياتية، بما في ذلك التفاعلات مع المرضى والعائلات والزملاء. وينقسم هذا الوعي إلى ثلاثة أبعاد رئيسية: الوعي بالذات، والوعي بالآخرين، والوعي بالبيئة المحيطة. فالأول يشمل إدراك المشاعر والمعتقدات والقيم الخاصة بالفرد، وهو أساس عملية بناء التساؤل الذاتي، بينما الثاني يركّز على فهم الأحاسيس والمعتقدات والقيم الخاصة بالآخرين، أي المرضى، بما يعزز العلاقة العلاجية ويضمن إدراك تجربة المريض ضمن سياقها الكامل (10).

ويُعدّ الوعي الذاتي لدى الأطباء أساسًا لتطوير القدرة على اتخاذ القرارات المناسبة التي تحافظ على صحة المرضى، باعتبار أن الصحة والرعاية الصحية حق أساسي من حقوق الإنسان، وتشمل حقوق المرضى ومنها الرعاية، والدعم، والخدمات الضرورية خلال مسار العلاج (11). ولتحقيق هذا الهدف، يُنصح الأطباء باستخدام نموذج FIFE، وهو إطار يساعد على فهم تجربة المريض بشكل متكامل وتحسين التواصل معه، إذ يتألف من أربعة عناصر رئيسية:

1- F – Feelings (المشاعر): الانتباه إلى المشاعر التي يختبرها المريض مثل الخوف أو الأمل، وفهم تأثيرها على سلوكه واستجابته للعلاج.

2- I – Ideas (الأفكار): معرفة تصورات المريض الخاصة بالمرض أو الحالة، والمعاني التي ينسبها لها.

3- F – Function (الوظيفة): تقييم تأثير المرض على قدرة المريض على أداء الأنشطة اليومية ووظائفه الأساسية.

4- E – Expectations (التوقعات): فهم توقعات المريض وعائلته ومقدمي الرعاية والأطباء الآخرين، بما في ذلك توقعات الطبيب نفسه، وإدارتها بشكل واقعي.

وباستخدام هذا النموذج، يصبح الطبيب أكثر وعيًا وشمولية في التعامل مع المريض، ليس فقط من الناحية الطبية، بل أيضًا من الناحية النفسية والاجتماعية، مما يعزز العلاقة العلاجية وجودة الرعاية الصحية (12).

3- العلاقة بين الوعي الذاتي وجودة الرعاية الصحية:

يمثّل التأمل الذاتي لدى الأطباء فضولًا حقيقيًا نحو الذات، إذ يكون الفرد منشغلًا بالتعرّف على انفعالاته وقيمه وعمليات تفكيره ومواقفه، ما يؤدي غالبًا إلى نتائج إيجابية ترتبط بالصحة النفسية مثل معرفة الذات والتنظيم الذاتي. على النقيض من ذلك، يُشير اجترار الذات إلى الانتباه القلق الموجَّه نحو الذات، حيث يسيطر الخوف من الفشل والتساؤل المستمر عن قيمة الفرد على التفكير، ما يؤدي عادةً إلى اضطرابات نفسية مثل القلق والاكتئاب، إلى جانب الذنب والخجل والغيرة والأرق، ويسهم في القلق الاجتماعي والاكتئاب، وهو شائع بين الأفراد غير الأصحاء نفسيًا (13).

ويُعدّ الارتباط بالذات أسلوبًا للتفاعل مع الذات يدعم الوظائف الإيجابية والرفاهية، إذ يُفترض أن تجربة الاتصال بالذات تعزز المعنى والهدف في الحياة وتساعد على تحقيق أهداف شخصية أكبر. كما يمكن أن ينعكس هذا الارتباط في زيادة الرضا عن الحياة وتعزيز الرفاهية الإوديمونية، بالإضافة إلى تحسين الاتصال الاجتماعي، إذ يصبح الفرد قادرًا على التعبير بوضوح عن قيمه وتفضيلاته ومساعدة الآخرين على القيام بالمثل. ومن هذا المنطلق، قد يسير الاتصال بالذات والآخرين جنبًا إلى جنب، بما يعزز جودة التفاعل الاجتماعي والمهني (14).

تشير الأدلة إلى أن عدم تطوير استراتيجيات الوعي الشخصي يؤثر سلبًا على الطبيب وعلى رعاية المريض، مع انعكاسات واضحة على الممارسة السريرية وإدارة الخدمات الصحية. فقد يؤدي ذلك إلى فقدان الحكم السريري، أو الشعور بفقدان الشخصية، أو الاحتراق النفسي، أو الإحباط، أو التجرد من الإنسانية، أو فقدان التقدير المهني، وحتى الاكتئاب. أما على مستوى الرعاية، فقد ينتج عن ذلك تحديد أهداف علاجية غير واقعية، أو الاستخدام غير المناسب للموارد، أو انهيار العلاقة بين الطبيب والمريض والأسرة، مما يفضي إلى رعاية ضعيفة وزيادة عدم الكفاءة (15).

ولتلافي هذه المخاطر، يجب التعرف على عوامل الخطر التي تؤثر في موقف الطبيب أثناء تقديم الرعاية، وتشمل:

1- عوامل متعلقة بالطبيب: العمر، المظهر، الشخصية، أو تشابه حالة المريض مع أحد أقاربه أو أصدقائه، التأمل في مشاعر المريض أو الأسرة، الخوف من الخطأ، مواجهة الموت والجوانب الروحية.

2- عوامل متعلقة بالمريض: مشاعر المريض أو الأسرة مثل الاكتئاب أو الحزن أو الغضب، خلفية المريض الاجتماعية والمهنية، أو عدم اليقين بشأن التشخيص أو المستقبل الطبي.

3- العوامل الخارجية: العوامل الاقتصادية، قيود الوقت، طول فترة الاستشفاء والعلاقة الوثيقة بين الطبيب والمريض، انفجار الإنتاج الطبي والأدبيات العلمية، وظروف العمل في خدمات الطوارئ (16).

تتأسس الصلة بين الوعي الذاتي لدى الأطباء وجودة الرعاية الصحية على مفهوم "التحميل الزائد" أو "التحفيز المفرط"، وهو مفهوم لا يُعد عامل خطر بذاته، لكنه كثيرًا ما يُطلق عمليات تؤثر سلبًا في رعاية المريض. ويُقصد بالتحميل الزائد الحالة التي تتجاوز فيها المطالب المفروضة على الطبيب – سواء كانت شخصية أم مهنية – حدود قدرته على الاستجابة، نتيجة تراكم الضغوط الزمنية، وكثرة المسؤوليات، ونقص الدعم، وتوقعات مبالغ فيها يفرضها على نفسه أو يفرضها عليه الآخرون. وغالبًا ما تفضي هذه الحالة إلى الاكتئاب أو الأعراض الاكتئابية، مع صعوبة التعرّف إلى مسبباتها بسبب تكرارها واعتيادية حضورها في بيئة العمل الطبي. وعند غياب هذا التعرف، تتعطل عملية الوعي الشخصي – أي التأمل في سبب تأثير تلك العوامل في سلوك الطبيب – لتبرز علامات تحذيرية داخل العلاقة بين الطبيب والمريض، من قبيل الشعور بالضيق تجاه المريض أو أسرته (17).

تشمل العلامات التحذيرية: رفض المريض أو العائلة والتوتر عند وجودهم، الفشل في التواصل مع المهنيين الآخرين، عدم التعامل الجاد مع تفاصيل الرعاية، والمطالبة بإجراءات تشخيصية أو علاجات مفرطة أو غير مجدية (الطب الدفاعي). أما الأعراض فتتمثل في الغضب تجاه المريض أو الأسرة، الأفكار أو الأحكام المتطفلة، مشاعر الذنب والفشل والشعور بالضحية، والازدراء أو الالتزام القسري بإنقاذ المريض، أو الاعتقاد بأن شكاوى المريض تصرفات تلاعبية لجذب الانتباه (18).

ولتجنب هذه الآثار السلبية، يطوّر الأطباء وطلاب الطب آليات للتنمية الشخصية والتكيف مع المواقف الصعبة في أربعة مجالات رئيسية: الوعي بالذات، الرعاية الذاتية، مشاركة المشاعر والمسؤوليات، وتطوير فلسفة شخصية للحياة (19). ومن منظور شامل، يشمل الوعي بالذات استكشاف الطبيب لنقاط ضعفه ومشاعره وقيوده، ليس كنظرة هزيمة، بل كنقطة انطلاق لتطوير قدراته. ويتطلب هذا التأمل الشخصي الانفصال النفسي، وغالبًا ما يثير مشاعر الخجل، التي قد تؤدي على المدى الطويل إلى العزلة، الإنكار، الإحباط، الرفض، والاكتئاب. ومن استراتيجيات تعزيز الوعي بالذات: قراءة كتب محفزة، الممارسات الدينية، التعليم خارج المجال الطبي، العلاج النفسي، التأمل واليوجا، وتحليل المشاعر والأفكار التلقائية للذات (20).

كما يُعد تطوير فلسفة شخصية للحياة أمرًا مهمًا للتطور الشخصي والمهني للطبيب. فمع تسارع نمو المعرفة الطبية، قد ينسى الطبيب بسهولة هدفه من المهنة. وعادةً ما يُجادل الأطباء بأن فترة الإقامة تتطلب أولوية للتدريب على حساب الحياة الشخصية مقابل الإنجازات المستقبلية، لكن بدون فلسفة شخصية متكاملة بين الأهداف المهنية والشخصية، تصبح المهنة عرضة للتحول إلى ملاذ أو إدمان أو مجرد آلية تفاعلية بين المعرفة والسلطة والاستثمار، مع ما يترتب على ذلك من فقدان الإنسانية في الرعاية. وتشير الأدلة إلى أن الأطباء الذين طوروا فلسفة شخصية، حتى وإن كانت القرارات صعبة وخارجة عن التوقعات التقليدية، تمكنوا من اختبار معنى الحياة وزادت ثقتهم في ممارسة مهنتهم (21).

المحور الثاني: الفلسفة كأداة لتعزيز التفكير النقدي والتحليلي عند الأطباء

1- دور الفلسفة في تنمية مهارات التفكير النقدي للطبيب.

تلعب الفلسفة، إلى جانب تنمية الوعي الذاتي لدى الأطباء، دورًا محوريًا في ترسيخ مهارات التفكير النقدي التي تُعد أساسية لمواجهة تحديات الممارسة الطبية الحديثة. فمع أن التطور المتسارع في التكنولوجيا الطبية قد جلب فوائد كبيرة لصحة الإنسان، فإن توظيف هذه التقنيات بفعالية في السياق السريري يتطلب قدرًا عاليًا من التفكير الفلسفي النقدي، الذي يمكّن الأطباء من تقييم المعطيات العلمية دون التسليم بها تسليمًا غير مدروس، وبذلك يوجّه الطب الحديث نحو مسار أكثر تطورًا وفاعلية. ولا تقتصر المهارات الفلسفية على مجاراة التكنولوجيا السائدة، بل تقوم على فحصها وتمحيصها بدقة، سعياً إلى تحسين جودة الممارسة الطبية، وهو توجّه يتصدر مناهج تعليم الطب في القرن الحادي والعشرين (22).

يُعرف التفكير الناقد بأنه مهارة معرفية يمكن تعليمها وتعلمها، ويُفترض أن المفكرين الناقدين يتخذون قرارات أفضل، ويكونون أكثر كفاءة في حل المشكلات ومهنيًا. وببساطة، يعرفه باير Beyer بأنه إصدار أحكام مستندة إلى العقل والمنطق، أي أسلوب منظم لتقييم صحة المعلومات أو الحجج أو البحوث (23).

ويُعد التفكير الناقد أساسًا للكفاءة المهنية، إذ يساهم غيابه في ظهور تحيزات معرفية تؤدي إلى الأخطاء التشخيصية والعلاجية. وقد طوّرت الأدبيات في تعليم المهن الصحية مفاهيم مشابهة مثل الحكم السريري، والتفكير التشخيصي، وحل المشكلات، والتفكير من النمط الثاني، والتي تبرز العمليات الذهنية اللازمة للتفكير في المشكلات واتخاذ القرارات. ويُعرَّف التفكير الناقد أيضًا على أنه القدرة على تطبيق مهارات معرفية عليا (التصوّر، والتحليل، والتقويم) والميل إلى التفكير المتعمّد، بما يؤدي إلى سلوك منطقي وملائم، وهو ما يجعله كفاءة مستقلة بذاتها (24).

تزداد أهمية التفكير الناقد مع تسارع التقدم في العلوم الطبية، حيث لم يعد اكتساب المعرفة وحده كافيًا لتمكين الأطباء من العمل بكفاءة في البيئات السريرية المعقدة. فالخبرة الطبية التقليدية، المبنية على "المعرفة مضافًا إليها الخبرة"، لم تعد كافية، بل يتطلب الوضع معالجات ديناميكية للتفكير، تسمح بالإبداع وتوليد حلول لمشكلات جديدة، مع الاحتفاظ بالفهم المتين للمبادئ العلمية الأساسية (25).

وتؤكد "منظمة الصحة العالمية" أن التفكير الناقد والإبداع من المهارات الحياتية الأساسية، وأن الأطباء بحاجة إليه لاتخاذ قرارات دقيقة في المواقف الحرجة، ولضمان الاستدلال الصحيح وحل مشكلات المرضى، وهو ما يجعل تدريس التفكير الناقد جزءًا أساسيًا في مناهج التعليم الطبي (26).وتشمل خصائص التفكير الناقد بحسب ويد Wade طرح الأسئلة، تعريف المشكلة، فحص الأدلة، تحليل الافتراضات والتحيزات، تجنب التفكير العاطفي، تجنب التبسيط المفرط، النظر في تفسيرات أخرى، والتسامح مع الغموض، إذ يُعد الغموض والشك جزءًا ضروريًا ومثمرًا من عملية التفكير الناقد (27).

ويوضح باير (1995) الجوانب الأساسية للتفكير الناقد كما يلي:

1- المواقف الذهنية: الشك، الانفتاح الذهني، النزاهة العقلية، احترام الأدلة والمنطق، والقدرة على تغيير المواقف استنادًا إلى الأدلة.

2- المعايير: تطبيق معايير محددة لتقييم مصداقية المعلومات.

3- الحجة: تحديد الحجج، تقييمها، وبناؤها استنادًا إلى الأدلة.

4- الاستدلال: القدرة على استنتاج النتائج من مقدمات متعددة وفحص العلاقات المنطقية.

5- وجهة النظر: النظر إلى الظواهر من زوايا مختلفة لفهم المعنى بعمق.

6- إجراءات تطبيق المعايير: استخدام إجراءات متعددة تشمل طرح الأسئلة، إصدار الأحكام، وتحديد الافتراضات (28).

تعتبر مراحل التفكير الناقد امتدادًا طبيعيًا لتطوير مهارات الوعي الذاتي والفلسفة العملية لدى الأطباء، إذ يتيح هذا التطور مواجهة التعقيدات السريرية بطريقة أكثر نضجًا ووعيًا. تتوافق المحطات التطورية لتطوير الكفاءة في التفكير الناقد مع ست مراحل:

المرحلة الأولى: المفكر غير التأملي

1- القدرات فوق المعرفية: يفتقر إلى القدرة على فحص أفعاله وعملياته المعرفية، ولا يدرك طرق التفكير المختلفة.

2- الاتجاهات: يظهر الجمود في المعتقدات، ولا يتقبل الغموض أو دمج المعرفة الجديدة.

3- المهارات: يعتمد على أساليب بدائية لجمع المعلومات، مثل الحفظ عن ظهر قلب.

المرحلة الثانية: المفكر الناقد المبتدئ

1- القدرات فوق المعرفية: يبدأ بالوعي بطرق التفكير المختلفة لكنه يحتاج إلى تحفيز خارجي للحفاظ على التأمل.

2- الاتجاهات: يتقبل التغذية الراجعة لكنه نادرًا ما يسعى إليها بنفسه.

3- المهارات: يستخدم أساليب تفكير متقطعة، وقد يكتفي بالتفسيرات الأكثر احتمالًا، مع إدراك المبادئ الأساسية دون تطبيق عملي (29).

المرحلة الثالثة: المفكر الناقد الممارس

1- القدرات فوق المعرفية: يطبق نظريات التفكير فوق المعرفي بوعي.

2- الاتجاهات: منفتح على التحديات ويقبل الأساليب الجديدة.

3- المهارات: قادر على التعبير عن عدة أساليب لحل المشكلات وتوجيه القرارات بناءً على المبادئ المعمول بها.

المرحلة الرابعة: المفكر الناقد المتقدم

1- القدرات فوق المعرفية: يمتلك أساليب متعددة للتفكير ويطبقها بوعي كامل مع التنظيم الذاتي.

2- الاتجاهات: يطلب التغذية الراجعة ويظهر فضولًا تجاه الأساليب البديلة.

3- المهارات: يكيف تفكيره بحسب السياق، ويتجنب التحيزات المعرفية، ويعتمد على المبادئ الأساسية في حل المشكلات.

المرحلة الخامسة: المفكر الناقد المتمكّن

1- القدرات فوق المعرفية: يراقب ويطور أساليبه بشكل مستمر، ويستخدم التفكير لتطوير الآخرين أيضًا.

2- الاتجاهات: يعترف بانحيازاته، ويحتضن حالة عدم اليقين لتعميق الفهم، ويبتكر حلولًا جديدة.

3- المهارات: يجمع بين التحليل والحدس، ويستنتج فرضيات تفسر الظواهر، وينتج معرفة جديدة باستدلال استقرائي (29).

مرحلة متراجعة: المفكر المتحدَّى

1- قد تتسبب القوى الخارجية أو المواقف العاطفية المرهقة في تراجع التفكير الناقد. يختلف المفكر المتحدَّى عن الناقد المبتدئ بأنه يقاوم المعرفة والتفكير النقدي عن وعي أو دون وعي، لكنه يعود إلى المستوى المعتاد عند زوال الضغوط.

2- القدرات فوق المعرفية: مقاومة وجهات نظر الآخرين وتجاهل المعرفة السابقة.

3- الاتجاهات: عدم التأمل في الأفكار والأساليب، مع تكبّر فكري.

4- المهارات: التمسك بأسلوب واحد في التفكير دون تعديل (30).

وفقًا لـ (باربرا ك. شيفر Barbara K. Scheffer وم. جاي روبنفيلد M. Gaie Rubenfeld)، يُعد التفكير الناقد جسرًا بين المعلومات والفعل، ويشكل أساس اتخاذ القرارات السريرية في التمريض. يشمل التفكير الناقد عادات عقلية ومهارات معرفية، حيث تم تحديد عشر مكونات وجدانية وسبع مهارات معرفية:

1- المكونات الوجدانية: الثقة، منظور السياق، الإبداع، المرونة، الفضول، النزاهة الفكرية، الحدس، الانفتاح الذهني، المثابرة، والتأمل.

2- المهارات المعرفية: التحليل، تطبيق المعايير، التمييز، البحث عن المعلومات، الاستدلال المنطقي، التنبؤ، وتحويل المعرفة (33).

تُستخدم هذه المكونات في توضيح استخدام التفكير الناقد في العملية التشخيصية وتحديد التشخيص التمريضي الدقيق، إذ يحتاج الممرضون إلى تطبيقها جميعًا لضمان اتخاذ قرارات مهنية دقيقة.

يدعم التفكير الناقد النشاط الإبداعي والفني للعقل، مما يمكّن الممرضين من ابتكار حلول فريدة لمشكلات صحية جديدة أو غير تقليدية. فالإبداع في حل المشكلات واتخاذ القرارات يُعد القدرة على تطوير وتنفيذ حلول جديدة تحقق نتائج صحية محسّنة. ويصبح ضرورياً عند مواجهة مواقف سريرية غير مألوفة، حيث يحتاج المبدع إلى تقييم المشكلة وفهم الحقائق والمبادئ الأساسية المطبقة عليها (34).

يسهم استخدام الممرضين للتفكير الناقد في:

1- توليد العديد من الأفكار بسرعة.

2- المرونة الطبيعية في تغيير وجهات النظر أو أساليب التفكير.

3- ابتكار حلول أصلية للمشكلات.

4- الاستقلالية والثقة بالنفس تحت الضغط.

5- إظهار التفرد والشخصية (35).

يخضع المفكر النقدي في الرعاية الصحية لعدة خطوات معرفية منظمة، تهدف إلى تحليل المعلومات وتقييمها بشكل دقيق، مما يسهم في اتخاذ قرارات مدروسة وتحسين جودة الرعاية الصحية:

1- جمع المعلومات من جميع الحواس والمصادر المتاحة.

2- طرح أسئلة ومشكلات واضحة ومحددة.

3- جمع المعلومات ذات الصلة وتقييمها.

4- استخدام الأفكار المجردة بطريقة مفهومة وفعّالة.

5- التوصل إلى استنتاجات وحلول مدروسة جيدًا.

6- اختبار النتائج وفق المعايير والمقاييس ذات الصلة.

7- استخدام استراتيجيات تفكير بديلة حسب طبيعة المهمة.

8- تقييم جميع الفرضيات والنتائج العملية.

9- التواصل الفعال مع الآخرين لإيجاد حلول للمشكلات المعقدة (36).

يساعد التفكير الناقد المتخصصين في الرعاية الصحية على:

1- تجنب الأخطاء الطبية.

2- تحديد خيارات بديلة أفضل للتشخيص والعلاج.

3- زيادة الإنتاجية واتخاذ قرارات سريرية محسّنة.

4- العمل بكفاءة في بيئات محدودة الموارد.

5- إدخال الابتكار من خلال الإبداع.

6- تطوير الثقة بالنفس وفهم المواد الدراسية بشكل أفضل.

7- التدرج في سلم القيادة وتحقيق نجاح مستدام في الحياة المهنية والتعلم المستمر (37).

2- أهمية الفلسفة فى بناء المعرفة الطبية:

أ- الفلسفة والطب:

حيثما وُجد البشر، سعى الإنسان دائمًا لاستكشاف العلاقة الجوهرية بينه وبين الطبيعة. قبل اكتمال التفكير العقلاني، حاول البشر تفسير الظواهر الطبيعية وتأثيرها عليهم من خلال الأساطير والأديان البدائية، فتحوّل الخوف من الولادة والموت إلى الخوف من الأشباح، وتحول الشك من الألم إلى السعي وراء السحر. في هذا الإطار، وُلد الطب كاستجابة أولية لمعاناة الإنسان ورغبته في تخفيف الألم. ومن أجل تفسير الظواهر المختلفة، أصبح الاستكشاف المستمر أساس الفلسفة، باعتبارها وحدة نظرية ومنهجية للعرض الكوني والمنهجي، وانعكاسًا للعلاقة بين التفكير والوجود، والعقل والمادة، والتي نشأت بطريقة ما في الطب.

كان "الأطباء"، في مراحل مبكرة من تاريخ البشرية، يمارسون دورهم ضمن إطار السحر والدين، حيث كان يُعتقد أنهم يمتلكون قوى سحرية لمعالجة الأمراض. ومع مرور الزمن وتطور الفلسفة، تحرر الطب تدريجيًا من أوهام السحر والآلهة. فقد تولّى الفلاسفة دور الأطباء، مثل فيثاغورس وإمبيدوكليس، اللذين جمعا بين الطب والفلسفة في آن واحد. في الوقت ذاته، كان يُعبَّر عن لغة الطب من خلال لغة الفلسفة، كما يظهر في قول لاو تزو: "كل الأشياء تترك وراءها الغموض وتتقدم لتحتضن النور". وقد اعتمد مفهوم التوازن بين اليين (Yin) واليانج (Yang) في الطب الصيني القديم، حيث يرمز اليين إلى الجانب السلبي والداخلي والبارد، بينما يرمز اليانج إلى الجانب الإيجابي والخارجي والحار. ويُعتبر التوازن بينهما أساسًا للصحة، كما ورد في "القانون الداخلي لهوانغدي" (38).

الطب والفلسفة متشابهان ومتداخلان. فقد أشار أرسطو إلى أوجه التشابه بين عمل الفيلسوف وعمل الطبيب، وذكر أبقراط أن "الطب لا يمكن أن يوجد بدون الحقيقة الطبية، والفلسفة لا يمكن أن توجد بدون الحقائق الطبية أيضًا". وشدّد تشوانج تزو Chuang Tzu على الانسجام بين الإنسان والطبيعة، والجسد والعقل، وهو المكوّن الأساسي للطب الصيني القديم، حيث يُنظر إلى الشكل والروح كوحدة عضوية متكاملة. وفي الفلسفة اليونانية، استُلهم أبقراط من فرضية طاليس القائلة بأن المبدأ الأصلي للطبيعة هو الماء ليقترح أن "سوائل الجسم" تشكّل أساس جسم الإنسان (39).

يوفر الطب أساسًا واقعيًا للفلسفة؛ فقد اقترح إمبيدوكليس مفهوم "العناصر الأربعة" استنادًا إلى الممارسة الطبية، وتأثر به أبقراط فابتكر فكرة "الأخلاط الأربعة" (الدم، البلغم، الصفراء الصفراء، والصفراء السوداء)، التي شكّلت أساس علم الأمراض لقرون طويلة (40).

يُعدّ الطب،في إطار العلوم الحديثة،مجالا متكاملا يجمع بين المعرفة النظرية والتطبيقية، فهو "علم عملي" يدمج المعرفة بالمهارات العملية، ويتضمن القدرة على تمييز حالة الكائن الحي وتحديد ما هو الصالح لصحته. وتبرز الأسئلة الفلسفية في سياق اللقاء السريري بين الطبيب والمريض، مما يجعل تحليل هذا اللقاء أساسًا لفهم الطب وفلسفته (41).

على الرغم من اختلاف التخصصات، نشأت علاقة عميقة بين الطب والفلسفة منذ اليونان القديمة. ويُعرف اليوم حقل "فلسفة الطب" كفرع مستقل ظهر في أواخر القرن التاسع عشر، وبرز في القرن العشرين، حيث أصبح مجالًا يدرس الأبعاد الإنسانية الدقيقة في الممارسة السريرية، وما يرتبط بها من جوانب معرفية وأخلاقية ومنهجية (42).

ويمكن توجيه التأملات الفلسفية بمنهج ظاهراتي يبدأ من تحليل التفاعل السريري، للكشف عن أعمق المعاني والبُنى المكوِّنة لعلاقة الطبيب بالمريض، مع التركيز على تجربة المرض واستجابة الطبيب لطلب المساعدة. إذ يتعلّم الأطباء المستقبليون الجسد البشري قبل مواجهة المرضى، وهو ما يؤهلهم للتعامل مع اللقاءات السريرية وإدارة الرعاية، وهو الهدف النهائي للطب (43).

كما تهدف المعرفة الطبية أو التثقيف الصحي إلى تعزيز الوعي الصحي من خلال أنشطة تعليمية مخططة تساهم في تنمية المعرفة وصقل مهارات الحياة المفيدة للفرد والمجتمع، بما يشمل المشاركة، والإصلاح الطوعي، وتمكين المرضى، وصحة الإنسان. وتعتبر الفلسفة رؤية شمولية تُسهم في فهم الصحة وتوضيح المفاهيم، خصوصًا في المجال الطبي الحيوي (44).

ب- الأسس الفلسفية للمعرفة الطبية:

يمثّل السؤال المعرفي مسألة مركزية في العلوم الطبية الحيوية: "كيف يمكن تبرير الادعاءات العلاجية؟ وما الوسائل اللازمة لترسيخ الثقة بهذه الادعاءات؟" وينسحب هذا الاهتمام أيضًا على المعرفة التشخيصية: كيف يمكن للأخصائي التأكد من أن المريض يعاني من مرض معين دون غيره؟ تقليديًا، يُنظر إلى تبرير المعرفة الطبية من خلال نهجين أساسيين: العقلانية والتجريبية.يرى العقلانيون أن المعرفة مسألة عقلية ومنطقية بحتة، إذ تُعتبر الحقيقة فطرية في طبيعة الإنسان، بينما يرى التجريبيون أن المعرفة تُكتسب عبر الخبرة الحسية، فالعقل يولد كصفحة بيضاء تُكتب عليها المعرفة بالتجربة (45).

للنزاع بين العقلانيين والتجريبيين جذور طويلة في تاريخ الطب. فقد أثار النقاش بين النظرية الحديثة (العقلانية) والممارسة التقليدية (التجريبية) جدلاً واسعًا في القرن السابع عشر، كما يظهر في دعوة جورجيو باجليفي لاعتماد الطب التجريبي، قائلاً: "الركيزتان الرئيسيتان للطب هما العقل والملاحظة، لكن الملاحظة هي الخيط الذي يجب أن يشير إليه العقل. لكل مرض طبيعة خاصة، وليس خيالية، مع مبادئه ونموّه وحالته وتراجعه. ولا حاجة لأسلوب دقيق للجدل، بل تكفي الملاحظة الدقيقة والمتكررة لما يحدث للمرضى المختلفين" (46).

استغرق الأمر عدة قرون حتى أصبح الطب التجريبي هو المعيار السائد في الممارسة الطبية. ومع ذلك، تظل العقلانية مكونًا إبستيمولوجيًا مهمًا في النموذج البيوميديكالي، إذ "لا يمكن للعلاج العقلاني أن يدّعي صحته إلا إذا شملت النظرية جميع العناصر ذات الصلة بالمرض". وبناءً على ذلك، فإن الكثير من الإبستيمولوجيا الطبية الحديثة يقودها التجريب وتقنياته المصاحبة. ويعتمد اكتساب المعرفة الطبية وممارستها ضمن النموذج البيوميديكالي على التطورات التكنولوجية في العلوم الطبيعية، خاصة الفيزيائية، كما أن التجارب السريرية وإجراءات الاختبار الأخرى أصبحت أساسًا للطب القائم على البراهين (47).

ورغم التطور التجريبي، لم تحل المناقشات بين العقلانيين والتجريبيين كل الإشكالات المتعلقة بتبرير المعرفة البيوميديكالية. فقد أشار باجليفي منذ قرون إلى ضرورة الجمع بين النهجين: "أولئك الذين يعارضون العقل بالتجربة… يبدو أنهم جميعًا مجانين: فكيف يمكن للعقل أن يتحكم في جميع أجزاء العلم، الذي يُكتسب بالتجربة والاستخدام المستمر على مدى فترة طويلة؟ ومن ناحية أخرى، لماذا الاكتفاء بالتجربة وحدها وطرد العقل؟… الملكة العقل، الموضوعة فوق كل شيء، هي التي ينظر من خلالها الطبيب إلى مبادئ وأسباب الأمراض، ويتنبأ بتقدمها ونتائجها" (48).

يمكن التعبير عن التركيب بين العقلانية والتجريبية عبر الربط بين النشاط الحسي والخبراتي من جهة، والنشاط النظري من جهة أخرى، باستخدام عمليات معرفية تربط بينهما. فالمعطيات الحسية والملاحظات تُعدّ بداية المعرفة، إلا أنها لا تشكّل معرفة في حد ذاتها، بل أدلة يجب تفسيرها معرفيًا لتشكيل النظرية التي تفسر الظاهرة. ومن هذا المنطلق، تظل جميع الأدلة مشبعة بالنظرية بدرجات متفاوتة، من الدليل الشاذ إلى الدليل الموضوع لاختبار التنبؤ.

وعلى الرغم من أن النموذج الطبي- البيولوجي يوفر أدوات منهجية مهمة لاكتساب المعرفة الطبية وتطبيقها، يبقى الكثير من العمل المطلوب تجريبيًا وعقليًا وفلسفيًا لحل الإشكالات الإبستمولوجية. كما يؤكد ليبيراتي Liberati وفينيس Vineis، "لا يزال هناك الكثير لتعزيز فهم طبيعة البرهان والدليل واللايقين، ووضع أجندة بحثية أكثر توازنًا، وآليات أكثر تماسكًا لتحسين جودة الرعاية الصحية، وجهود ثقافية أعمق لتمكين المرضى والمستهلكين"، وهو ما يرتبط أيضًا بـ "منطق الطب" logic of medicine الذي ذكره إدْمُند مورفي (49).

ت- مصادر المعرفة الطبية وعلاقتها بالممارسة

يرتكز عمل الطبيب على تقديم أفضل رعاية ممكنة للمرضى، وهو ما يتطلب الجمع بين التقنيات الطبية المتقدمة، والقدرات الفكرية، والمعرفة النظرية المتينة، والمهارات السريرية العالية، إلى جانب حسن اتخاذ القرار والتفاني في الممارسة اليومية. وتسعى هذه الممارسة إلى إحداث تأثير فعلي ونافع في حياة المريض ومجتمعه، الأمر الذي يتطلب تخطيطًا واعيًا للأفعال الطبية وتنفيذها، من الفحص والتشخيص إلى العلاج والتدخل الجراحي. ويؤكد ماركس في أطروحته الشهيرة عن فويرباخ أن المهم ليس تفسير العالم بل تغييره، وأن التدخل البشري يؤثر في حركة المادة دون أن يضيف إليها أو ينقص منها.

تُكتسَب المعرفة الطبية أساسًا عبر الممارسة العملية ومواجهة المشكلات الواقعية، بينما تُصاغ الحلول النظرية اعتمادًا على الخبرة الاجتماعية والمعرفة المتراكمة، مع معالجة المعطيات الجديدة بطريقة عقلية منظمة. وهكذا، تصبح المعرفة الطبية نتاجًا اجتماعيًا مرتبطًا بمستوى التطور العلمي والمرحلة التاريخية التي تُنتَج فيها (50).

كما أن إنتاج المعرفة يتم عبر أفراد—كالطبيب والباحث الطبي—يعملون ضمن بيئة اجتماعية تشكّل خبراتهم وتتيح لهم التعاون وتبادل الأفكار والاستفادة من الأدوات والمعارف المتاحة. ومن خلال هذا التفاعل، تتوسع المعرفة وتتعمق استجابة للحاجات المستجدة، مستندة دائمًا إلى الإمكانات التي توفرها الممارسة العملية. وتُختبر المعرفة المستمدة من التجربة داخل التجربة نفسها، انسجامًا مع أطروحة ماركس الثانية عن فويرباخ، التي تؤكد أن الحقيقة لا تُبرهَن نظريًا بل عمليًا، وأن الفكر المعزول عن الممارسة يظل سؤالًا نظريًا فارغًا. ومن ثم، لا تُكتسَب المعرفة اللازمة لحل مشكلة طبية إلا عندما تتحول إلى قضية عملية واقعية؛ فالتشخيص يتم عبر الفحص والفحوص المخبرية، والدواء لا يُعتمد إلا بعد اختباره سريريًا فعليًا (51).

يعتمد الطبيب في اكتساب المعرفة على حواسه، مستقبلاً المعلومات التي تتحول لاحقًا إلى معرفة متكاملة. ويتفاعل مع المرضى والأشياء المرتبطة بعمله، لتصبح موضوعات لتدخله العملي ومعرفته. ومن خلال الملاحظة والتفاعل، يصدر الطبيب أحكامًا واستنتاجات تؤدي إلى اتخاذ قرارات علاجية أو إجراء فحوص إضافية للكشف عن عناصر غير واضحة للوهلة الأولى، مثل الفحوص السريرية أو المخبرية، ما يؤدي إلى استنتاجات جديدة. وتتميز هذه الملاحظات بكونها نشطة وليست مجرد مشاهدة سلبية، إذ تنشأ من أفعال الطبيب وتفاعله مع الموضوعات. ويتدرج الطبيب من معرفة سطحية إلى معرفة أعمق وفق مستوى التطور العلمي في بيئته العملية، كما أظهرت العلوم الطبية الحديثة العلاقة بين الأعراض الظاهرة والعمليات البيولوجية الخفية، ما أدى إلى تصنيف الأمراض وتطوير علاجات تستهدف السبب الكامن وليس المظاهر فقط. ويتطلب هذا التطور المعرفي تقدمًا موازياً في الممارسة العملية؛ فبدون المعرفة الجينية والأدوات التقنية لتطوير تقنيات التشخيص الجزيئي، لما كان بالإمكان اكتشاف العوامل المعدية في حالات الإنتان وتطبيق العلاج المناسب (52).

وتواجه المعرفة الطبية حدودًا محددة بالخبرة والأدوات المتاحة، فهي ناقصة ومؤقتة، إلا أن الجهد البشري المستمر يتجاوز هذه الحدود لتنشأ حدود جديدة، وهكذا تستمر عملية اكتساب المعرفة بلا نهاية، كما يشير إنجلز. ويعمل الطبيب مع واقع موضوعي موجود خارج وعيه، ويشترك مع زملائه في نفس الواقع—المريض وأعراضه ونتائج الفحوص—ليبنى على البيانات الموضوعية استنتاجاته. وبهذا تصبح معرفة الطبيب موضوعية لأنها ترتبط بالواقع المادي، لكنها في الوقت نفسه نسبية لأنها في حركة مستمرة، كما قال هيراقليطس: "كل شيء يتغير ويتدفق". ويؤكد الالتزام بالتشخيص الصحيح والعلاج المبني على بروتوكولات دقيقة قبول مبدأ السببية في الظواهر الطبية، ما يمكّن الطبيب من توقع تقدم المرض، والتعرف على عوامل الخطر، والتنبؤ بنتائج العلاج (53).

تنبع المعرفة الطبية من ظهور التناقضات أو الصراع بين المتضادات، مثل المرض والصحة، الطبيب والمريض، أو الحاجة إلى معرفة إضافية والجهل، والتي تتجلى في علاقة الطبيب بمريضه. يكتسب الطبيب المعرفة تدريجيًا من خلال جمع البيانات والملاحظات، وصولًا إلى نقطة حاسمة تؤدي إلى تغيّر نوعي في فهمه، أي الوصول إلى التشخيص الصحيح وإدارة علاجية أكثر فعالية. ويتكرر هذا النهج مع فهم مسببات الأمراض، حيث تتراكم المعرفة تدريجيًا حتى تؤدي إلى تغييرات نوعية في الفهم والعلاج، مثل الانتقال من معالجة الأعراض إلى معالجة السبب الأساسي للمرض. ومع حل هذه التناقضات، قد يتوقف لقب "الطبيب" مؤقتًا بالنسبة لمريض محدد، ليظهر لاحقًا مع مريض آخر أو مع نفس المريض إذا عاد للمرض، لكن مع خبرة أعلى وتطبيق أفضل للعلاج. ويستفيد الطبيب من كل تجربة سابقة لتحسين فعالية أفعاله، بما يعكس اتجاه وطبيعة تطور المعرفة، وفق القوانين الجدلية لحركة المادة عند إنجلز: وحدة وتصارع المتضادات، وتحول الكمي إلى نوعي، ونفي النفي (54).

ث- دور الفلسفة في تحسين ممارسة الأطباء

تشير تحليلات الحكم الخبير لدى الأطباء إلى أن الأداء الأمثل والنتائج الأفضل للمرضى يعتمدان على قدرة الطبيب على التعرف إلى «المناطق الملتبسة في الممارسة»، وعلى ضرورة «الإبطاء» للانتباه إلى الوضع القائم، وإعادة تأطير المشكلة المطروحة، واتخاذ الإجراء المناسب وفق ذلك. ففي حالة الجرّاحين، تظهر علامات الإبطاء في إيقاف الموسيقى الخلفية داخل غرفة العمليات، وإسكات الأحاديث الجانبية، والتوقف لالتقاط الأنفاس وإعادة تنظيم الخطوات. كما يمكن أن يكون الإبطاء مخططًا له مسبقًا، بناءً على توقع الجرّاح لخصوصيات الإجراء الجراحي وتعقيداته وما يكتنفه من درجات عدم اليقين المتعلّقة بالمريض (55).

تأتي الفلسفة هنا لتُمكّن الطبيب من أداء مهامه بجدية، فهي بوصفها المنهج الأساسي تتيح التوقف عند لحظات التعقيد وعدم اليقين، وطرح أسئلة جوهرية حول ممارسات تبدو بديهية، بما يمكّن من رؤية الأمور والقيام بها بطرق جديدة. المفاهيم الأساسية التي تُستخدم في التعليم الطبي تعود جذورها إلى الفلسفة؛ فعلى سبيل المثال، فكرة أن ما نقوم به ينبغي أن يستند إلى بحث تجريبي منهجي يُحدد فيه «الأسباب» و«النتائج» يمكن ردّها إلى هيوم ولوك، أما التفكير في المتعلمين من حيث المعرفة والمهارات والاتجاهات فيرجع إلى أفلاطون وأرسطو. كذلك، نماذج التأمل، مثل نموذج دورة التعلّم التجريبي لكولب، تستند إلى فلسفة جون ديوي، الذي استلهم بدوره من فلسفة هيجل (56).

ويمكن للأطباء مواجهة الغموض في الممارسة العملية من خلال ثلاث ممارسات فلسفية رئيسية:

1- اعتماد عقلية المبتدئ والانتباه للحظة الراهنة: تهدف هذه الممارسة إلى الاستجابة للحاجة إلى "التأنّي" عند مواجهة التعقيد أو عدم اليقين، وهي سمة من سمات الخبرة. ويتجسّد ذلك في القول الشهير المنسوب غالبًا إلى سقراط: «كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئًا» (حتى لو كان الشخص ذو خبرة)، مما يتيح النظر إلى الممارسة من منظور مفتوح.

2- إعادة المشكلة إلى جوهرها وتحليل الافتراضات: تُعيد هذه الممارسة طرح الأسئلة الأساسية لتوضيح معنى المفاهيم المستخدمة، كما يوضح ديلوز وغوتاري: «العموميات لا تفسر شيئًا، لكنها يجب أن تُفسر نفسها». على سبيل المثال، إذا كان سبب التدخل الطبي هو أنه "جيد" أو "مبني على الأدلة"، فإن الفلسفة تدفع لطرح سؤال: ماذا يعني بـ"الجيد"، و"الأدلة"، أو "التعلم"؟ ويمكن صياغة السؤال بطريقة فلسفية لتوضيح دور الطبيب أو المعلّم: من «كيف يمكنني جعل متدربيّ يتعلمون؟» إلى «كيف أرى نفسي كمربٍ، وما هي تداعيات منظوري على معنى التعلم؟».

3- تعطيل أطر المرجعية واستكشاف وجهات نظر مختلفة: النظر إلى الممارسة من منظور مختلف، سواء بتخيل كيف تبدو المشكلة عبر عيون شخص آخر أو بالتحدث مع شخص لديه رؤية مختلفة، يكشف عن الافتراضات الضمنية. مثال ذلك ما وصفه أفلاطون في محاورة سقراط مع إيوثيبرو، حيث أجبر سقراط إيوثيبرو على شرح قناعته بشأن العدالة، مما عطّل الإطار المرجعي الروتيني له (57).

يوجد اليوم إجماع متزايد على الدور الذي ينبغي أن تلعبه الفلسفة في العلوم الطبية الحيوية، لا سيما في تدريب الباحثين والممارسين المستقبليين. وتستهدف حركة العلوم الإنسانية الطبية التأمل الفلسفي في الطب البيولوجي بمعناه الأوسع، بما يشمل التفكير النقدي المطبق على العلم، والأساليب العلمية، والتأملات الأخلاقية، لتزويد الممارسين بمجموعة أدوات تساعدهم على فهم مكانة الطب، ومهامه، وتأثيراته، ونتائجه العملية. وقد ازدادت أهمية فلسفة العلوم الطبية على مدى العقود الأربعة الماضية، مع تعزيز التفاعلات المباشرة بين الفلاسفة والأطباء. وتشدد هذه التفاعلات على أهمية أن يكون الأطباء على دراية بالفلسفة، وأن يكون الفلاسفة على اطلاع على العلوم الطبية الحيوية، بما يتيح تبادل المعرفة بطريقة تعود بالفائدة على كلا المجالين. ومن هذا المنطلق، قد يتساءل الطبيب: "كيف تجعلني الفلسفة طبيبًا أفضل؟"، بينما يخوض الفلاسفة ما يشبه "تدريبًا عمليًا فكريًا في الطب". ويُعَدّ التأمل النقدي في الجوانب المفاهيمية والنظرية للطب، وليس مجرد نقل مفاهيم فلسفية جاهزة، هو جوهر فلسفة الطب، كما أكد جالينوس: «أفضل طبيب هو أيضًا فيلسوف» (58).

1- «تعامل الفيلسوف مع السؤال يشبه علاج المرض»:

تبدأ الفلسفة من الرغبة في فهم قضية مهمة للفرد، وغالبًا مع شعور بعدم الرضا أو إحباط من طرق التفكير الحالية. ومن هذا المنطلق، تُعد الفلسفة امتدادًا للصفات الإنسانية الأساسية نفسها التي تقف وراء التقدم العلمي والتقني. ورغم هذا، تحتفظ الفلسفة بقربها من الأسئلة، محافظةً على حيويتها من خلال فضول يشبه فضول الأطفال ورغبة صادقة في الفهم. على سبيل المثال، عند معالجة سؤال مثل: «ما هو التعليم الجيد؟»، قد يستعين الفيلسوف بمناظير تربوية أو نفسية أو عصبية لدراسة استراتيجيات التدريس، لكنه سرعان ما يتوسع لدراسة مصطلحي "الجيد" و"التعليمي" من مناظير سياسية وتاريخية ولغوية ومنطقية وروحية. يمكن اعتبار الفلسفة شكلًا من البحث الذي لا يلتزم بعدسة واحدة أو مجال محدد، فهي تعمل كوسيط بين المناظير المختلفة، موجهة التفكير نحو الافتراضات الأساسية وموفرة أرضية مشتركة بدلًا من تأجيج الخلاف بين وجهات النظر المتعارضة (59).

2- أسطورة الكهف لأفلاطون:

توضح أسطورة الكهف كيف يمكن للتحرر من قيود الافتراضات أن يكون مفيدًا للغاية. ففي الأسطورة، يُقيَّد السجناء داخل كهف طوال حياتهم، وهم يشاهدون الأشكال الدنيوية ترقص على جدار الكهف، معتقدين أن هذه الظلال هي الواقع نفسه. يتعلم السجناء أن عالم الظلال مجرد وهم فقط عندما يتحررون، ويستديرون لاكتشاف النار ورؤية الأشياء الحقيقية التي كانت ظلالها أمامهم. بالنسبة للمربّين الطبيين والفلاسفة، تدفعنا هذه الأسطورة إلى التوقف، والاستدارة، ورؤية أهداف التعليم الطبي بطريقة جديدة تتجاوز المظاهر الأولية (60).

3- أن تكون فلسفيًا:

الهدف من أن يكون المرء فلسفيًا ليس التوصل إلى فلسفة محددة أو نظام أخلاقي معين، بل استخدام الفلسفة كمنهج لإيجاد المشكلات وتحليلها باستمرار، وتحويل العدسات التي نرى من خلالها العالم إلى موضوعات تحليلية. أن تكون فلسفيًا يعني طرح أسئلة لا تُجاب واستكشاف طرق محتملة للإجابة عليها، وفي اللحظة التي تصل فيها العملية إلى "إجابة"، يصبح المشروع من اختصاص مجال آخر. على سبيل المثال، يمكن النظر إلى حركة الطب المبني على الأدلة على أنها إجابة علمية لسؤال إبستمولوجي: ما نوع المعرفة التي يمكن الاعتماد عليها لتوجيه أفعالنا في رعاية المرضى؟ وقد كرّس العديد من المفكرين حياتهم لتصور الفلسفة كمسار تفكير مستمر «لا يتوقف» ضمن إطار نظري أو مفاهيمي (61).

4- الأساس الأخلاقي للطب والفلسفة:

تستند ممارسة الطب اليوم إلى مبادئ أخلاقية متجذرة في مفاهيم فلسفية، مثل: «عدم إلحاق الضرر» و«فعل الخير للمريض». وتشير النصوص الطبية الكلاسيكية إلى حدود لأهداف الطب، وأوقات لا يجوز فيها استخدام الخبرة الطبية، مثل القتل الرحيم، والإجهاض، والتعذيب، أو ممارسة السلطة عبر التدخل الطبي، باعتبارها تجاوزًا للسلوك المهني. تقليديًا، ترتبط الأخلاق الطبية بالخبرة ارتباطًا وثيقًا؛ إذ لا يمكن للأخلاق أن تكون فعّالة دون خبرة، كما أن الخبرة من دون أخلاق لن تخدم غالبًا مصلحة المريض (62).

5- التحديات الحديثة والمسؤوليات الأخلاقية:

توفر إمكانات الطب الحديث القدرة على إطالة حياة بعض المرضى في وحدات الرعاية المركّزة، مما يثير تساؤلات حول مدى وجوب هذه الإطالة وفق الروح الأخلاقية للطب وتقاليده العريقة. ومن الأمثلة على المسؤوليات الأخلاقية المتزايدة الناتجة عن القدرات التقنية المتصاعدة: زرع الأعضاء، الإخصاب خارج الرحم، العناية المركّزة، الإنعاش، والصيدلة النفسية. وفي المقابل، تشير تغيّرات تنظيمية مثل العمل الجماعي، الاختصاصيون الطبيون، نظام الورديات، التأمين الصحي، وأنظمة الرعاية الصحية إلى تغيرات في جوهر العلاقة التقليدية بين الطبيب والمريض. وقد برزت مفاهيم مثل «استقلالية المريض» و«الموافقة المستنيرة» نتيجة هذه التحولات، متأثرة بنزعات نحو نمط حياة أكثر تحررًا وفهمًا ذاتيًا أوسع لدى المواطن المتعلم (63).

6- أهمية الفلسفة للممارسة التمريضية:

يشكّل التمريض أحد أكثر مجالات الممارسة الصحية التصاقًا بالتفكير الفلسفي؛ فالسؤال عن ماهية التمريض، وماهية المعرفة التمريضية، وما الذي يجعل التمريض جيدًا أو رديئًا، يمثل امتدادًا طبيعيًا للأسئلة الفلسفية الجوهرية التي تبحث في طبيعة الفعل الإنساني ومعاييره. ولهذا، فإن الممرضين يتعاملون بشكل واعٍ أو غير واعٍ مع هذه الأسئلة الفلسفية عند اتخاذ القرارات الإكلينيكية اليومية بدرجات متفاوتة (64).

ويتّسق هذا مع ما سبق طرحه حول دور الفلسفة في الطب؛ إذ تُعين الفلسفة على كشف الافتراضات الضمنية، وتوسيع مجال الرؤية، وتوفير أدوات التفكير النقدي اللازمة لفهم الممارسة ضمن سياقاتها الأخلاقية والإنسانية.

أ- الفلسفة كمحتوى في التمريض

تؤدي الفلسفة—بوصفها محتوى معرفيًا—دورًا محوريًا لكل من الممرضات والممارسين والمربين والباحثين؛ إذ تتيح لهم فهم الهدف الجوهري من الرعاية التمريضية، وتوضيح طبيعتها داخل مؤسسات الرعاية الصحية. ويستعين بعض الكتّاب بالمفاهيم الفلسفية لتحديد «غاية» الرعاية التمريضية، مما يساعد الممرضات على إدراك دورهن الحقيقي ورفض الأدوار الاختزالية التي تحوّل التمريض إلى مهمة ميكانيكية تابعة للنموذج الطبي بدل أن تكون ممارسة إنسانية متكاملة الأبعاد.

ويمكن لهذا الفهم الفلسفي أن يمكّن الممرضات من تحدي النموذج الطبي التجزيئي وتأكيد أهمية الرعاية الشمولية، مما يعزز من قدرتهن على استخدام التفكير النقدي والانعكاسي في تقييم ممارساتهن السريرية، وبالتالي دعم تطور الممارسة التمريضية نحو مستويات أعلى من الاتساق المعرفي والأخلاقي (65).

ب- الفلسفة كمنهج في التمريض

أما حين تُستخدم الفلسفة كمنهج، فإنها تتحول إلى أداة تحليلية تسمح للممرضات بفحص المواقف السريرية نقديًا، خصوصًا تلك التي قد تهدد سلامة المريض أو تضع الممرضة أمام تحديات أخلاقية حساسة. ويشير الباحثون إلى أن الفلسفة تزوّد الممرضات بالأدوات الأخلاقية واللغوية اللازمة ليكنّ «وكلاءً أخلاقيين» قادرين على التعرف على المسؤوليات الأخلاقية والتأمل فيها والعمل وفقها.

وبفضل هذه الأدوات، تستطيع الممرضات كشف الافتراضات التي تحرك الممارسات اليومية، وتوجيه النقاشات المهنية نحو إعادة النظر في المبادئ الأخلاقية للتمريض. وقد لخّصت إحدى الممرضات هذا الدور بقولها: «معرفة فلسفتي الإنسانية تمنحني القوة في ممارستي، لأنني أستطيع الجدال بشكل أقوى من أجل الرعاية المرتكزة على المريض».وهكذا، تمنح الفلسفة الممرضات قدرة أقوى على التأثير في القرارات المتعلقة بميزانيات الرعاية، وسياسات الصحة، وإجراءات تنظيم المؤسسات الصحية (66).

ت- استكشاف الأسئلة الأساسية في التمريض

ولا يقتصر دور الفلسفة على الجوانب الأخلاقية والمنهجية فحسب؛ بل تتيح أيضًا للممرضات دراسة الأسئلة غير العلمية التي تُعد مركزية لهوية التمريض نفسه، مثل:

1- ما المبادئ التي تُوجّه ممارسة التمريض؟

2- ما حدود المعرفة التمريضية؟

3- هل تتيح ظروف العمل الحالية بناء علاقة ممرضة–مريض قائمة على القرب الإنساني؟

ومن خلال التأمل النقدي والمنطق الفلسفي، تستطيع الممرضات تحديد ملامح تخصص التمريض وتطويره، والحفاظ على هويته باعتباره ممارسة إنسانية تتجاوز الإطار التقني الصرف (67).

ث- الفلسفة كأسلوب حياة وممارسة

يشكّل توظيف الفلسفة كأسلوب حياة الامتداد الطبيعي لما سبق عرضه عن دورها كمحتوى وكمنهج في الممارسة التمريضية؛ فإذا كانت الفلسفة تقدّم للممرضات أدوات تحليلية وتصورات معرفية حول طبيعة التمريض ومبادئه، فإنها—بوصفها أسلوبًا للعيش—تنتقل من مستوى الفهم النظري إلى مستوى التشكيل العملي للشخصية المهنية. فالممرضات يمارسن يوميًا نسقًا من المعتقدات الفلسفية، حتى وإن لم يسمينه كذلك، من خلال تبني موقف مهني قوامه الامتناع عن الأحكام الشخصية، وتقديم الرعاية لكل محتاج، وجعل أولوية الرعاية القيمة المركزية التي ترتكز عليها الممارسة التمريضية.

وبهذا المعنى، تتجسد الفلسفة في الممارسة اليومية باعتبارها رؤية توجه القرارات لا تنظيرًا مجردًا، وهو ما ينسجم مع تصور بيير هادوت Pierre Hadot للفلسفة بوصفها «ممارسة» تتجاوز حدود النظرية وتعيد تشكيل نمط وجود الإنسان نفسه؛ إذ تصبح الحكمة ليست مجرد معرفة، بل تحولًا في طريقة الوجود (68).

ويمثّل هذا المنظور امتدادًا لما طوّره كلٌّ من بيلينكي وكلينتشي وجولدبرجر وتارول من أن الحقيقة، والواقع، وأصول المعرفة، هي عناصر تُعيد تشكيل رؤيتنا للعالم، وعلاقتنا بذواتنا وبالآخرين، وتؤثر في إحساسنا بالتحكّم، وتصوراتنا للتعلم والأخلاق. ومن ثمّ، فإن الفلسفة—بما تتضمنه من أنطولوجيا وإبستمولوجيا وأخلاق—توفّر إطارًا لفهم أعمق للعوامل التي تؤثر في الممارسة التمريضية الفردية، وفي توجيه السلوك المهني نحو وعي نقدي بالذات وبالرسالة المهنية (69).

ولا يقف دور الفلسفة عند حدود تشكيل الرؤية، بل يمتد ليظهر عمليًا في الأفعال اليومية للممرضات والممرضين، حين يترجمون معارفهم وقيمهم إلى ممارسات ملموسة تُجسّد العناية والاحترام والالتزام الأخلاقي. وقد عبّرت إحدى الممرضات عن هذا البعد العملي بقولها: «فلسفتي الشخصية تقوم على الرعاية والاحترام للآخرين... وهذه الفلسفة تقود قراراتي المهنية والشخصية».

ويكشف هذا المثال عن عدم قابلية الفصل بين النظرية والممارسة، وبين الشخصي والمهني، مما يجعل الفلسفة مدخلًا طبيعيًا لتعميق البعد العلائقي في التمريض، وتعزيز قدرة الممرضات على تجاوز الأطر التقنية الضيقة لصالح رؤية إنسانية واسعة للمهنة (70).

وتبرز الفلسفة كأسلوب حياة أيضًا في مواقف عملية تتصل بصلب العمل التمريضي، مثل:

1- الاستجابة للامساواة النظامية عبر دعم الوصول العادل للرعاية الصحية.

2- الدفاع عن العدالة والإنصاف في مختلف مستويات تقديم الرعاية.

3- تقديم رعاية مرتكزة على الشخص تُستمد من قيم العدالة الاجتماعية والاحترام الإنساني (71).

ج- الفلسفة والتفكير الناقد في التمريض

ويمتد هذا البعد الفلسفي ليشكّل الأساس الذي تُبنى عليه مهارات التفكير الناقد، التي تُعدّ عنصرًا جوهريًا في الممارسة التمريضية اليومية. ويستخدم الممرضون التفكير الناقد من خلال الاستفادة من المعرفة المستقاة من مجالات متعددة، والتأمل في هذه المعرفة، وتطوير خصائص شخصية مثل الصدق والإنصاف والإبداع والصبر والثقة بالنفس. كما يتطلب الأمر تحمل المسؤولية، والسعي المستمر نحو تجارب تعلم جديدة، وتطوير المهارات الشخصية من عمل جماعي، وحل للنزاعات، وتلقي وإعطاء التغذية الراجعة.ويترافق ذلك مع إتقان المهارات التقنية—كالتعامل مع الأجهزة الطبية وإدارة القساطر—لتجنب الإرهاق المعرفي الذي قد يحدّ من قدرة الممرض على التركيز في مراقبة استجابات المرضى (72).

كما يستند التفكير الناقد إلى دمج المعرفة البيوفيزيائية والسلوكية والإنسانية، خصوصًا في مواقف حساسة مثل رعاية المرضى في نهاية الحياة، حيث يتطلب الأمر فهمًا ثقافيًا وروحيًا عميقًا لضمان رعاية حساسة وإنسانية.ويظهر التفكير الناقد أيضًا في قدرة الممرضين على الاستجابة للتغيرات الحادة في حالة المريض، وتعديل التدخلات وفق احتياجاته، واتخاذ قرارات فورية تتعلق بالأولويات العلاجية—مثل تقديم دواء لإنقاذ حياة مريض يعاني من أزمة ربو قبل التعامل مع قلقه العاطفي (73).

المحور الثالث: الفلسفة والأخلاق الطبية

1- العلاقة بين الفلسفة والأخلاق في ممارسة الطب.

تشكّل العلاقة بين الفلسفة والأخلاق في ممارسة الطب محورًا أساسيًا لفهم طبيعة هذا الحقل المعرفي، إذ لا يوجد تصور موحّد للطب في الوسط الأكاديمي والطبي، فهو يشمل الشفاء، والأمراض، والأدوية، وصحة الإنسان، والأخلاقيات، والكفاءات الطبية، وغيرها. ومع ذلك، يمكن النظر إلى الطب بوصفه مجموعة من ممارسات الرعاية الصحية المتطورة عبر الزمن، هدفها الوقاية من الأمراض والحفاظ على الصحة في المجتمعات الماضية والحاضرة. وتمثل ممارسة الطب كفن منظومةً من المهارات والقيم الإنسانية التي تتجلى في علاقة الطبيب بالمريض، مثل العناية والرحمة ووضع الخطط العلاجية المشتركة، وهي قيم تجعل مصلحة المريض في المقام الأول، مما يبرز دور الأخلاق بوصفها عنصرًا تأسيسيًا في العمل الطبي (74).

وقد رافقت ممارسات الطب والشفاءُ الإنسانَ منذ أقدم العصور، وشكّلت مرآةً لتطور المجتمعات في فهمها للمرض ووسائل مواجهته. ويكشف تاريخ الطب عن جذور المصطلحات الطبية في اليونانية واللاتينية، اللتين كانتا أساس الكتابة العلمية لقرون طويلة. ففي المجتمعات القديمة، فُسّرت مظاهر المرض تفسيرًا روحياً مرتبطًا بالمعتقدات السائدة، كما في الطب المصري والبابلي والصيني واليوناني والروماني. فكان الشامان والكهنة يقومون بأدوار علاجية تستند إلى مزيج من الأعشاب والطقوس التي تحمل طابعًا سحريًا، انطلاقًا من اعتقادهم بامتلاك معرفة تتجاوز الطبيعة البشرية (75).

ومع حلول القرن الخامس قبل الميلاد، جاء التحول الجذري على يد أبقراط، الذي قدّم نظرية الأخلاط وحرّر الطب من الخرافة، مؤكِّدًا ضرورة الاعتماد على الملاحظة السريرية والتفسير العقلاني. وأرجع أبقراط الأمراض الجسدية والنفسية إلى اختلال توازن الأخلاط الأربعة، واضعًا أساسًا معرفياً جديدًا يقوم على دراسة الأسباب الطبيعية للمرض. كما قدّم تصنيفات ما تزال مستخدمة حتى اليوم، مثل التمييز بين الأمراض الحادة والمزمنة والمتوطنة والوبائية، وصاغ ما يُعدّ أهم وثيقة أخلاقية في تاريخ الطب، وهو قسم أبقراط. وقد أثّرت هذه التطورات في الطب الروماني أيضًا، الذي استثمر التراث الأبقراطي وأضاف إليه ممارسات جراحية وعلاجية جديدة (76).

ومع ذلك، لم تقف العلاقة بين الفلسفة والطب عند حدود الأخلاط؛ إذ كانت الفلسفة دائمًا هي التي تضع معيار القيمة للممارسة الطبية. وقد عبّر عن ذلك التراثُ الصيني القديم الذي شدّد على الرحمة والمساواة في العناية بالمرضى. وكذلك قال أبقراط عبارته الشهيرة: «حيثما وُجد حب الإنسانية، يجب أن يوجد حب الطب»، مؤكدًا أن الطبيب لا بد أن يتحلى بصفات الفلاسفة كاللطف والتواضع والإيثار (77).

ولم يكن قسم أبقراط مجرّد وثيقة مهنية، بل كان تعبيرًا عن رؤية فلسفية للطب باعتباره ممارسة أخلاقية قبل كل شيء. فقد أكّد القسم احترام المعلّم، ومنع القتل الرحيم، والحفاظ على أسرار المرضى، وهي مبادئ تُعد حتى اليوم الركائزَ الأخلاقية للمهن الطبية (78).

ومع توسع مفاهيم الرعاية الصحية، توسّعت الفلسفة بدورها، فأصبحت العلاقة بينهما أكثر عمقًا، وهو ما يتجلّى في محاورة أفلاطون «بروتاجوراس»، حيث يربط بين «الجسم الصحي والإنسان الصالح». ويرى أفلاطون الفردَ طبيبًا لنفسه، مسؤولًا عن عناية عقله وروحه كما يعتني بجسده، مؤكدًا أن علاج الجسد لا ينفصل عن صفاء الروح، وأن الحكمة جزء من الصحة الإنسانية الشاملة. فالجسد يُعالَج بالروح، ولا يمكن لروح فاسدة أن تعالج شيئًا على نحو صحيح (79).

ومع بداية عصر النهضة، عاد الاهتمام بالتراث الطبي القديم، واستُثمر اختراع الطباعة في نشر المعارف الطبية. كما أدى صعود البحث التجريبي إلى تقدّم كبير في التشريح، والفسيولوجيا، والجراحة، والأحياء الدقيقة. وقد أسهم عمل فيزاليوس في إعادة تصور بنية الجسم البشري، وشرح هارفي للدورة الدموية في إعادة فهم وظائف القلب. ومن خلال الملاحظة والتجريب، تبنّى أطباء عصر التنوير منهجًا تجريبيًا سمح بتطبيق المعرفة العلمية على علاج المرضى (80).

أما القرن التاسع عشر، فقد شهد انفجارًا علميًا أحدث نقلة نوعية في تكوين المعرفة الطبية. فقد تطورت مجالات الأنسجة، والأمراض، والبكتيريا، والفيروسات، مما سمح بفهم الجراثيم بوصفها سببًا مباشرًا للأمراض المعدية. كما ظهرت تقنيات جديدة للتعقيم والتخدير، وتقدمت الطب الوقائي والصحة العامة. وأدى نمو الطب النفسي مع فرويد وتطور الأنظمة الصحية الوطنية إلى تنظيم المهنة الطبية ووضع معايير للتدريب والممارسة، مما جعل الطب أكثر ارتباطًا بالعلم والتقنية، دون أن يفقد جذوره الأخلاقية والفلسفية (81).

أما القرن العشرون، فقد شهد قفزة غير مسبوقة في التطورات الطبية بفضل التخصص المتزايد، واكتشاف المضادات الحيوية، والتقدّم الهائل في مجالات الكيمياء الحيوية والغدد الوراثية والمناعة، وصولًا إلى زراعة الأعضاء. كما أتاح اختراع وسائل التشخيص غير الجراحية — مثل الأشعة السينية، والتصوير المقطعي، والرنين المغناطيسي — نظرة أعمق داخل الجسد دون تدخّل. وقد أدى ذلك إلى نشوء «الطب المبني على الأدلة» الذي يجمع بين الخبرة العلمية والقيم الإنسانية في اتخاذ القرارات السريرية (82).

ومع تزايد الاعتماد على النظم الصحية الحديثة، برزت الحاجة إلى الفلسفة الطبية لتحديد الأطر الأخلاقية التي تنظّم علاقة الطبيب بالمريض وقرارات العلاج. فالمعرفة العلمية وحدها لا تكفي، ما لم تُفسَّر وتطبَّق في ضوء مبادئ فلسفية موجِّهة. ولهذا، يعدّ الطب اليوم مزيجًا بين العلم والفن، يستهدف تخفيف معاناة الإنسان من خلال موازنة الحقائق العلمية بالقيم الأخلاقية (83). ومن هنا، اكتسب تعليم الفلسفة الطبية أهمية قصوى، لأنها تساعد المتخصصين على تحويل المبادئ النظرية إلى ممارسات سريرية مسؤولة تستجيب لحاجات المرضى والمجتمع (84).

وتعتمد النظرية الأخلاقية في جذورها على أربعة مصادر أساسية: الدين، والعلم، والثقافة، والفلسفة، ويتفاعل كل منها في تشكيل معايير السلوك الأخلاقي داخل المجتمعات. فالدين قدّم نماذج للسلوك الصالح، والعلم قدّم معرفة جديدة تتحدّى التصورات التقليدية، والثقافة تحمل بقايا الخبرات الجماعية، بينما توفر الفلسفة التحليل التجريدي والمبادئ العامة التي تتجاوز الإطار الديني والثقافي (85).

وانطلاقًا من هذا الأساس، تتفرّع الأخلاقيات الطبية الحديثة إلى ثلاثة مستويات: أخلاقيات السياسات العامة (Macro)، والأخلاقيات التطبيقية (Meso)، والأخلاقيات السريرية (Micro)، وكلها تتعامل مع قضايا حساسة مثل الإجهاض، والقتل الرحيم، واختيار المرضى عند نقص الموارد، والتلقيح الصناعي، والتلاعب الجيني، وقرارات إنهاء العلاج، وغيرها من المسائل التي توازن بين قيم الفرد والمجتمع والمهنة (86). كما تتناول الأخلاقيات الحيوية موضوعات جوهرية مثل تعريف الصحة والمرض، وعلاقة الطبيب بالمريض، ومفهوم التطبيب بوصفه طريقة حياة (87).

ولمواجهة تنوع المجتمعات وتعارض الرؤى الأخلاقية، طورت الأخلاقيات الحيوية عددًا من المبادئ العملية، من أهمها: احترام أولويات الفرد، تشجيع اللامركزية الأخلاقية، تقديم احتياجات المريض الفرد على الاعتبارات العامة، تعزيز التضامن الإنساني، وتطبيق مبادئ الموافقة المستنيرة والخير وعدم الإضرار وفقًا لتعقيد كل حالة. وتستلزم بعض الحالات مزيجًا من أكثر من مبدأ، مثل محاولة التوفيق بين استقلالية المريض وبين الرعاية الأبوية في آن واحد (88).

2- القيم والمعرفة الطبية

بعد أن اتّضح أنّ الممارسة الطبية عبر تاريخها لم تكن نشاطًا تقنيًا فحسب، بل ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالمعايير الأخلاقية والإنسانية التي توجه فعل العلاج، يعود مفهوم القيم في الرعاية الصحية ليحتل موقعًا مركزيًا في النقاشات المعاصرة حول إصلاح نظم الصحة. ومع أنّ الحديث المكثّف عن «القيمة» في الرعاية الصحية يبدو حديثًا، إلا أنّ جذوره قديمة؛ فقد عبّر ويليام مايوWilliam Mayo عام 1908 عن هذا المبدأ بقوله: «المصلحة الفضلى للمريض هي المصلحة الوحيدة التي يجب أخذها في الاعتبار…»، مؤكدًا أن قيمة الرعاية تنبع من فهم مشترك وجهد تعاوني بين جميع العاملين في القطاع الصحي (89). وهكذا يتّضح أنّ القيمة ليست عنصرًا طارئًا على الممارسة الطبية، بل هي معيار توجيهي يحدّد غاياتها ويضبط آلياتها.

وانطلاقًا من هذا الفهم، يقدّم كاسيلCassell خريطة مفاهيمية للقيم التي تُعدّ ضرورية للمعرفة الطبية والممارسة السريرية. فهو يحدّد خمسة مصادر أساسية للقيم:

1- القيم التي يمنحها المجتمع لمفهومي الصحة والمرض،

2- الأهداف العامة للرعاية الطبية،

3- القيم الشخصية والمهنية للأطباء،

4- القيم الفردية للمرضى،

5- والقيم المنظمة لعمل النظام الصحي بوصفه بنية معقّدة.

ويرى كاسيل أن القيم، تمامًا كالحقائق العلمية، جزء لا يتجزأ من المعرفة الإكلينيكية؛ فلا يمكن للطبيب أن يفهم المريض فهمًا صحيحًا دون إطار قيمي ينظم عملية الإدراك الإكلينيكي. ويشارك تاوبر Tauberهذا التصور، إذ يؤكد أنّ «القيم تُشكِّل جميع الوقائع»، لأنها تمنحها المعنى والدلالة عبر عملية الفرز والترتيب ومنح الأولوية التي يقوم عليها اتخاذ القرار العلاجي (90). وبهذا يصبح الفصل التقليدي بين «الوقائع» و«القيم» ثنائية مضلّلة، لأن الوقائع ذاتها لا تُفهم إلا داخل بنية من القيم التي تعطيها غايتها.

وفي ضوء هذا الفهم، يقدّم تاوبر إطارًا إبستمولوجيًا جديدًا يقوم على دمج الوقائع بالقيم ضمن ما يسميه الإبستمولوجيا الأخلاقية. ولتفسير ذلك، يميّز بين نوعين من القيم:

1- القيم الوضعية: وهي موضوعية ومحايدة، تمنح المعرفة الطبية صفتها العلمية،

2- والقيم غير الوضعية: وهي قيم ذاتية وإنسانية تعبّر عن الأهداف الشخصية للمريض والطبيب على حدّ سواء.

وعلى الرغم من أن القيم الوضعية ضرورية لضبط المعرفة الطبية وإكسابها طابعها العلمي، إلا أنّ الاعتماد عليها وحدها يؤدي إلى تجريد الممارسة الطبية من جوهرها الإنساني؛ ذلك أن ما «يلحم مختلف الخيوط الإبستمولوجية للطب المعاصر» هو البعد الأخلاقي الشخصي الذي تتيحه القيم غير الوضعية. ومن هنا، يصبح هذا البعد الأخلاقي هو الذي يمنح الطب معناه الحقيقي بوصفه ممارسة إنسانية وليست مجرد تقنية تطبيقية (91).

3- أخلاقيات الطب والتكنولوجيا

بعد بيان مركزية القيم في المعرفة الطبية، يتّضح أن التحوّلات التكنولوجية المعاصرة قد أصبحت عاملاً حاسمًا في إعادة تشكيل الممارسة الإكلينيكية. ففي عصرنا الراهن، لم تعد التكنولوجيا مجرّد أداة مساعدة، بل غدت جزءًا لا ينفصل عن بنية الطب والرعاية الصحية؛ إذ تتوزّع تطبيقاتها بين الأجهزة المتطوّرة والبرمجيات المتقدّمة التي تدير العيادات والمستشفيات. وقد أحدث هذا التطوّر ثورة حقيقية في طرائق التشخيص والعلاج، غير أنّ هذه الثورة، على الرغم من فوائدها الهائلة، حملت معها أيضًا مخاطر وثغرات تستدعي وعيًا أخلاقيًا يقظًا؛ فالتكنولوجيا قادرة على أن تكون بنّاءة ومدمّرة في آن واحد داخل المجال الطبي (92).

ومن هنا أخذ التقدّم التقني يطرح تحدّيًا متزايدًا للعديد من جوانب الحياة الإنسانية، بما في ذلك المبادئ الطبية الراسخة المتعلقة بقيمة الإنسان وقدسية الحياة. ومع توسّع التكنولوجيا الطبية بين الحربين العالميتين، برزت مشكلات أخلاقية هددت البنية الهيبقراطية التقليدية التي تطورت عبر قرون، وظهر ما يُسمّى بـ"الغرباء عند السرير"، أي دخول أطراف مؤسسية وقانونية وتقنية إلى صميم العلاقة الثنائية بين الطبيب والمريض. وقد دفع ذلك الكثير من المرضى والأطباء إلى اللجوء إلى الأخلاقيين والمحامين والمحاكم لتحديد حدود الواجبات الطبية. وإزاء هذا التعقيد، شاع الاعتقاد بأنّ كثيرًا من المعضلات الأخلاقية لا حلّ لها أو أنّه «لا يوجد صواب أو خطأ» في مثل هذه القضايا (93).

وعلى الرغم من هذا المشهد المربك، فإنّ التكنولوجيا تظلّ تحمل جوانب إيجابية وسلبية معًا، إذ تفوق فوائدها—وفق التحليل العملي—ما قد تسبّبه من أضرار. فالابتكارات الطبية الحديثة قادرة على إنقاذ الأرواح، وتخفيف الألم، وتقديم حلول علاجية لملايين البشر حول العالم. ولذلك يبقى السعي إلى تطوير التكنولوجيا ضرورة إنسانية، بشرط أن يُضبط بقيم الرعاية والتضامن والالتزام الأخلاقي تجاه الإنسان. فطالما كانت التكنولوجيا وسيلةً لخدمة المحتاجين ودعم كرامة الإنسان، أمكن التعامل مع سلبياتها وتجاوزها بصورة مسؤولة (94).

وفي هذا السياق، يتّجه مستقبل الرعاية الصحية سريعًا نحو الاعتماد على تكنولوجيا المعلومات، حيث تَعِد الابتكارات الصحية—من الذكاء الاصطناعي إلى الحوسبة السحابية—بتحقيق معرفة أوسع وقدرة أكبر على مواجهة التحديات الصحية. وتتجه الأنظمة الصحية الحديثة إلى توظيف الأدوات الرقمية لتحسين جودة الرعاية، وإدارة الموارد، وتقليل التكلفة، وتخفيف ضغط العمل على الطواقم الطبية. وتشمل الاتجاهات الراهنة الذكاء الاصطناعي، الرعاية الافتراضية، الطبّ عن بُعد، الصحة المتنقّلة، والاجتماعات الافتراضية، إضافة إلى إنترنت الأشياء الطبية، بما يمهّد لدمجٍ أوسع لتقنيات التعلّم الآلي والحوسبة المتقدّمة في مختلف جوانب العمل الإكلينيكي والإداري خلال العقد القادم، بشرط تعزيز ثقافة مؤسسية داعمة لهذا التحوّل (95).

ويُعَدّ الذكاء الاصطناعي أحد أهم محركات هذا التحوّل؛ إذ بدأ منذ سبعينيات القرن الماضي بتطوير خوارزميات للتشخيص، كما حدث في تطبيقه عام 1976 لتحديد أسباب آلام البطن. واليوم أصبح عنصرًا مركزيًا في الروبوتات الطبية وفي مختلف مراحل التشخيص والعلاج (96). ويضم الذكاء الاصطناعي فرعين رئيسين: الأول «افتراضي» يقوم على التحليل المعلوماتي المتقدّم—وخاصة التعلّم الآلي والتعلّم العميق—الذي يعتمد على معالجة البيانات السريرية والمخبرية والنسجية وبيانات شركات الدواء وغيرها، بهدف صياغة خوارزميات دقيقة للتشخيص والعلاج. ويعمل هذا الفرع عبر ثلاثة أنماط من الخوارزميات: النمط غير المُراقَب، والنمط المُراقَب، ونظام التعلّم التعزيزي. أمّا الفرع الثاني فهو «فيزيائي» يشمل الروبوتات المستخدمة في إعادة التأهيل ورعاية المُسنّين والجراحة الدقيقة (97).

وما يمنح الذكاء الاصطناعي قوّته هو قدرته على معالجة كمّ هائل من البيانات يعجز الإنسان عن إدارتها بفاعلية مماثلة؛ فالجمع بين السجلات السريرية والبيانات المخبرية والمراجع العلمية والسياقات الاجتماعية والبيئية يشكّل مهمة مرهقة للعقل البشري. ومع ذلك يظلّ الطب ممارسة إنسانية في جوهره، لا يمكن اختزالها في تحليل البيانات وحده؛ إذ يبقى فهم المعاناة فعلًا إنسانيًا يتطلب التعاطف والحضور الأخلاقي. ولا يمكن للتعلّم الآلي أو التعلّم العميق استنساخ الوعي أو الإحساس الإنساني، ما يجعل الحديث عن «آلة بشرية» أمرًا سابقًا لأوانه (98).

وتتفق الأدبيات الحديثة على أن الذكاء الاصطناعي يمثّل فرصة واعدة للطب، كما يشير خان إلى أنّ ظهوره يعيد تعريف حدود الممارسة الطبية ويوفّر مسارات جديدة لتحسين نتائج المرضى. ويذهب أورتيجا Ortega وآخرون إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يشكّل «لحظة جوتنبرج» جديدة للطب، نظرًا لقدراته على دعم استقلالية الطبيب وتقليل الأعباء الإدارية والمساعدة في تقديم رعاية مراقبة في المناطق النائية (99).

ولا يقتصر تأثير الذكاء الاصطناعي على المجالات التقليدية، بل يمتد إلى الطب التكميلي والبيولوجي والوراثي والطب الأورثوموليكولي. كما تعدّد الدراسات مجموعة من الفوائد المحتملة، من بينها: التشخيص الدقيق، المتابعة الدقيقة للأورام والأمراض القلبية، مراقبة الأعراض النفسية، الجراحات الروبوتية عالية الدقة، زراعة الرقائق الإلكترونية لمتابعة الأمراض، تجديد الخلايا، الشبكات العصبية الاصطناعية وربطها بالخوارزميات الجينية، إلى جانب برمجيات متقدّمة لإدارة الرعاية الطبية (100).

وتشير التحليلات المستقبلية إلى أنّ الذكاء الاصطناعي سيواصل التأثير العميق في الطب الوقائي والعلاجي، وسيوسّع نطاق استخدامه في مراقبة الأمراض، والوقاية من النوبات القلبية، والكشف المبكر عن السرطان، وإدارة العمليات الجراحية بدقة متناهية، مع تسريع خدمات الإمداد وتحسين كفاءة الأنظمة الصحية (101).

المحور الرابع: أثر فلسفة الوعى فى تحقيق التناغم الكونى لدى الأطباء

1- فلسفة الوعي وتقليل المخاطر في الأداء الطبي

يبدو أنّ الموضوع الأكثر جوهرية في العلاقة بين الفلسفة والطب هو الفناء؛ إذ إن الأسئلة التي تتقاطع مع مفاهيم الحياة والموت والمعنى—وهي أسئلة يُضطر كل إنسان لمواجهتها يومًا ما—تنشأ في الغالب داخل سياق طبي. ويُنظر إلى الفناء بوصفه «التربة» التي يقوم عليها التعليم الطبي؛ فلو لم نكن معرضين للفناء، لما احتجنا إلى الرعاية الصحية أصلًا. ومن هذا الإدراك الوجودي ينبثق التساؤل الجوهري: كيف يمكن دعم المتدرّبين الطبيين في التوفيق بين طرائق التفكير التقنية/المهنية، وطرائق التفكير التعاطفية/الإنسانية؟

وقد عبّر كالانيثي Kalanithi، جرّاح الأعصاب والكاتب المعروف، عن هذا المأزق تعبيرًا مؤثرًا عند حديثه عن تشريح الجثث؛ فالممارسة الطبية—في رأيه—تتضمّن دائمًا انتهاكًا لـ«عوالم مقدّسة»، إذ يرى الأطباءُ البشرَ في أشد لحظاتهم ضعفًا وخوفًا وخصوصية. والنظر إلى الجسد على أنّه مادة وآلية يشكّل وجهًا آخر لمهمة الطب النبيلة في التخفيف من أعظم المعاناة البشرية؛ غير أنّ هذه المعاناة نفسها تتحوّل أحيانًا إلى «أداة تعليمية». وهنا يبرز السؤال الفلسفي: كيف يمكن للفلسفة أن تساعد المتدرّبين (ومدرِّبيهم) على صون إنسانيتهم في مواجهة الأسئلة الوجودية والرموز والمحرمات الطبية؟ (102)

وتكشف هذه الإشكالات أن الطب والفلسفة لم يكونا يومًا مجالين غريبين عن بعضهما؛ فالقضايا المرتبطة بالميلاد والحياة والمعاناة والألم والسعادة والموت هي قضايا جوهرية في الوجود الإنساني، وتتقاطع فيها المقاربات الطبية والفلسفية بعمق. فالفلسفة الطبية الكلاسيكية تدرس مفاهيم ميتافيزيقية تتعلق بموقع الإنسان في الطبيعة، وعلاقته بالمقدّس، وطبيعة الصحة والمرض، إضافةً إلى الأسس الإبستمولوجية والمنهجية للتشخيص والتصنيف وتقدير المخاطر والعلاج. أما الأخلاقيات الطبية التقليدية فتركّز على علاقة الطبيب بالمريض، ومبدأ «المصلحة الفضلى»، والفضائل المهنية التي يجب أن يتحلّى بها الطبيب الجيّد (103).

وكانت مفاهيم الانسجام والتوازن حاضرة في معظم النُّظُم الطبية القديمة؛ إذ فُهِمت الصحة والسعادة بوصفهما حالة من التوازن الكوني أو انسجام الحياة، بينما ينشأ المرض من اختلال هذا التوازن. وهكذا تمثّلت مهمة الطبيب في إعادة هذا الانسجام، والتعامل مع مظاهر فقدانه، مع الاعتراف في الوقت نفسه بحدود الخبرة الطبية باعتبارها حدودًا طبيعية لقدرة الإنسان. وقد شددت مدرسة أبقراط، وكذلك التقاليد الطبية الآسيوية المبكرة مثل سون سِيمياؤو في الصين، على ضرورة الدراسة الفلسفية لتحقيق الإتقان الطبي (104).

ورغم أنّ الطب والفلسفة قد يظهران كحقلين مستقلين، إلا أنّهما في الواقع متداخلان عبر «تقسيمات متشابكة للعمل». فالفلسفة تقدم أدوات تحليلية ومنهجية تساعد على فحص القضايا الطبية، بينما يوفر الطب مادةً خصبة للتأمل الفلسفي. وتظهر أسئلة الميتافيزيقا والإبستمولوجيا والمنطق والأخلاق بشكل مباشر في الممارسة السريرية اليومية، سواء في التشخيص أو العلاج. كما يشترك المجالان في السعي إلى تحقيق رفاه الإنسان؛ فالمفاهيم الخاطئة أو المتحيزة حول الصحة والمرض يمكن أن تُحدث اضطرابات ذهنية تؤثر في الرعاية الصحية، بينما يهدف الطب إلى مكافحة الاضطرابات الجسدية. وإذا كانت الفلسفة تبحث عن الحقيقة والطمأنينة—أي عن «شفاء الروح»—فإن الطب يسعى إلى تحقيق السعادة من خلال «شفاء الجسد»، ومن هنا يملك المجالان غايةً علاجية مشتركة (105).

وفي هذا الإطار، يرى بيلجرينو Pellegrino وتوماسما Thomasma أنّ «الفلسفة في الطب» تعني توظيف الأدوات الفلسفية التقليدية—مثل التأمل النقدي، والحجاج الجدلي، وكشف القيم، وطرح الأسئلة الأساسية—في معالجة المشكلات الطبية المحددة. وقد تكون هذه المشكلات منطقية أو معرفية، لكن معظمها يتعلق بالأسئلة الأخلاقية. وهنا يعمل الفلاسفة «داخل المجال الطبي» بوصفهم معلمين ومفكرين مهنيين يوضّحون كيف يمكن للفلسفة تحليل الممارسة الطبية ونقدها وتطويرها. ويشير بيلجرينو إلى أنّ الفينومينولوجيا والوجودية تُعدّ من أكثر المقاربات الفلسفية ثراءً في تحليل الطب وفهمه (106).

2- دور فلسفة الطب في تحقيق جودة الحياة

بدأ استخدام مصطلح جودة الحياة (Quality of Life – QoL) في أوائل الستينيات، تزامنًا مع التحولات التي طرأت على الصحة والبنية الديموغرافية في المجتمعات الحديثة المتأخرة. فقد كانت الصحة العامة تركز تقليديًا على الوفيات، وتم تطوير الأطر الصحية في النصف الأول من القرن العشرين لمواجهة الأنماط المعقدة للوفيات المبكرة، وبدرجة أقل لمتابعة انتشار الأمراض ومعدلاتها، أي ركّز الطب اهتمامه على كمية الحياة. وقد ذكر إلكينجتون (Elkington) مصطلح "جودة الحياة" لأول مرة في المجال الطبي عام 1966، مشيرًا إلى أن التقنيات الجديدة، وخصوصًا الغسيل الكلوي المزمن وزراعة الأعضاء، أثارت تساؤلات جديدة: كيف يحافظ الطبيب على جودة حياة المريض الفرد؟ وكيف يمكن تحسين جودة حياة مرضى آخرين دون المساس بجودة حياة المريض الحالي؟ وإلى أي برامج وقائية أو علاجية ينبغي توجيه موارد المجتمع لتحقيق أكبر قدر من الصحة وجودة الحياة لجميع أعضائه.(107)

وفي السبعينيات، أصبح مصطلح "جودة الحياة" كلمة مفتاحية ضمن موضوعات البحث الطبية في مكتبة الولايات المتحدة الوطنية للطب، وقد تم تعريفه بأنه «مفهوم عام يعكس الاهتمام بتعديل وتعزيز خصائص الحياة، مثل البيئة الفيزيائية والسياسية والأخلاقية والاجتماعية، والحالة العامة للحياة البشرية» (108).

دخل مصطلح جودة الحياة النقاش الفلسفي في الثمانينيات عبر الفلاسفة الذين يقيمون الأفعال الأخلاقية بالاعتماد على نتائجها، مع التركيز على بعدي اللذة (Hedonism) والرفاهية (Welfarism)، وربطوا ذلك بمسائل الصحة ورفاهية الإنسان والحيوان، في مقابل التركيز على الفلسفة السياسية التقليدية. وقد أثارت هيلجا كوز (Helga Kuhse) جدلاً حول عقيدة قدسية الحياة، ورفضها الفارق الأخلاقي بين وقف العلاج الطبي العادي وغير العادي عمدًا، معتبرة أن القرارات الطبية يجب أن تستند إلى جودة الحياة، إذ أن التمييز بين الوسائل العادية وغير العادية لا يزيل التناقضات الأخلاقية المرتبطة بها (109).

كما ناقش كل من هيلجا كوز وبيتر سينجر (Peter Singer) مسألة إنهاء حياة الأطفال ذوي الإعاقات الشديدة، مؤكدين أنه في بعض الحالات يمكن تبرير إنهاء الحياة على أساس جودة الحياة. ويشير هذا إلى أن تجاهل اعتبارات جودة الحياة يقلل من أهمية التعاطف، ويختزل دور الطبيب إلى مجرد تقني يُعنى بتنفيذ العلاج الحديث دون مراعاة العواقب الإنسانية المحتملة، ويُعدّ اختيار الموت مبرّرًا في الحالات التي تكون فيها الحياة مليئة بالألم والمعاناة، باعتباره يحقق مصلحة المريض الفضلى (110).

في منتصف الثمانينيات، اهتم هوجو تريسترام إنجلهاردت الابن (Hugo Tristram Engelhardt Jr.) بمفهوم جودة الحياة بوصفه أداة لتقييم حقوق الفرد والحرية في اتخاذ قراراته، مثل السماح بالولادة أو استخدام وحدات الرعاية الحرجة، بهدف وضع خوارزمية لتقييم الواجبات العلمانية تجاه الأفراد المحتاجين للرعاية بطريقة موضوعية. ومع دخول التسعينيات، استخدم أصحاب مذهب اللذة هذا المفهوم لتبرير القرارات المتعلقة بالقتل الرحيم أو إيقاف العلاجات الداعمة للحياة، في ظل انتشار الموت في المستشفيات ودور الرعاية، واعتماد التكنولوجيا على تأخير الموت حتى في الحالات الحرجة جدًا (111).

اعتمدت هذه النقاشات على مفهوم سنوات الحياة المعدلة حسب الجودة لتحديد ما إذا كان تقديم العلاج أو التوقف عنه يصبّ في مصلحة الشخص الفضلى، مع التركيز على نوعية الحياة المستقبلية التي يريدها الفرد. وفي هذا السياق، ربط الفلاسفة الرفاهيون جودة الحياة بمفهومي الصحة والسعادة، إذ يرى نوردنفلت (Nordenfelt) أن السعادة تتحقق بتحقيق أهداف الفرد الحيوية، وأن جودة الحياة الجيدة تتحقق عندما يتمكن الشخص من متابعة هذه الأهداف في الظروف الطبيعية، ما يعادل الصحة الكاملة عند القدرة على تحقيق جميع الأهداف الحيوية الضرورية (112).

الخلاصة: خلال العقود الأربعة الماضية، أصبح استخدام مفهوم جودة الحياة متزايدًا في البحوث الطبية والتمريضية، رغم عدم وجود توافق حول تعريفه وطرائق قياسه. فقد استخدم الأطباء والممرضون جودة الحياة كأساس لاتخاذ القرارات الصحية، فيما استند الفلاسفة إلى هذا المفهوم لتشكيل الأحكام الأخلاقية المتعلقة بالقتل الرحيم أو إنهاء العلاجات الداعمة للحياة. ومع تطور أدوات قياس جودة الحياة، ظهرت تحديات مفهومية ومنهجية في التطبيق العملي، لكنها أسهمت في إدخال منظور المريض في الممارسة السريرية، وتعزيز الربط بين الصحة والسعادة، وتأكيد جودة الحياة بوصفها مفهومًا ذاتيًا مركزيًا في الطب والفلسفة (113).

المحور الخامس: تعزيز الوعي الذاتي بالفلسفة والمنطق في التعليم الطبي

1- دمج التفكير الفلسفي في مناهج كليات الطب

تُبرز الحكاية المنسوبة إلى فولتير أن "الأطباء هم رجال يصفون أدوية لا يعرفون عنها الكثير ، لعلاج أمراض يعرفون عنها أقل، في بشر لا يعرفون عنهم شيئًا"، الدور الأساسي للتعليم الطبي في إعداد الأطباء المستقبليين من خلال نهج شامل، قابل للتكيف، ومستشرف للمستقبل (114). ومع توسع المعرفة الطبية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، بدأ التعليم الطبي بالاعتراف بالطابع متعدد الأبعاد للصحة، حيث أعاد تطوير المبادئ الأخلاقية، ومهارات التواصل، والتعاطف، والرعاية المتمحورة حول المريض، مؤكدًا على ضرورة اعتماد منظور شامل في الممارسة السريرية (115).

بالرغم من الطابع العملي للطب، إلا أنه مشبع بالتزامات مفهومية وافتراضات نظرية؛ فالأدوات الطبية الأساسية تعتمد على فرضيات سببية واستدلالات استقرائية، كما أن البحث الطبي يتأثر بالسياقات السياسية والاقتصادية. ومن ثم، أصبح الطب مجالًا بارزًا للتحليل الفلسفي ودمجه ضمن مناهج كليات الطب (116). ويظل توسيع التعليم في العلوم الإنسانية والأخلاقيات ضرورة لتعزيز التعاطف، والإبداع، والتفكير الأخلاقي لدى المهنيين الطبيين، حيث يشكّل الدمج المتوازن بين الخبرة التقنية والقيم الإنسانية أساسًا لتدريب أطباء متكاملين قادرين على تقديم رعاية رحيمة ومتمحورة حول المريض (117).

يهدف تعليم العلوم الإنسانية الطبية إلى تشكيل أطباء يرون المرضى أكثر من مجرد مجموعة من الأعراض، إذ تسهم تخصصات مثل الأنثروبولوجيا، والفنون، والفلسفة، والأدب في تعزيز مفاهيم الغموض والدقة وعدم اليقين، بما يعكس طبيعة الإنسان ويشجع على التفكير النقدي في تفاعلاتهم مع نظام الرعاية الصحية، ويعزز تطويرهم المهني والشخصي (118). ولعل هناك طريقين لمعالجة المشكلات الصحية المتعلقة بالفلسفة: الطريقة الأولى تطبيق الميتافيزيقا أو المنطق أو نظرية المعرفة أو الجماليات على الطب، أما الثانية فهي دمج فروع الفلسفة المختلفة وفق طبيعة المشكلات المراد حلها والمراحل المعرفية التي تتقاطع مع الرعاية العلاجية والوقائية (119).

لطالما ارتبط التعليم الطبي بالفلسفة، إذ يساهم النهج الفلسفي في تطوير التعليم الطبي من خلال التأنّي عند مواجهة التعقيدات وعدم اليقين، ورؤية المشكلات القديمة بطرق جديدة، واتخاذ إجراءات منتجة. فالفلسفة ليست مجرد إنشاء إطار مفاهيمي، بل هي "مسار" للتفكير المستمر، يهدف إلى التحرر من طرق التفكير الاعتيادية والافتراضات المسبقة، وإثارة الفضول والبحث داخل النفس (120).

يلعب التعليم الطبي دورًا محوريًا في إعداد الأطباء لمواجهة تحديات الممارسة المعقدة والمتنوعة، ومع زيادة التركيز على المعرفة العلمية والتقنية، يظهر الحاجة الملحة لإدماج الفلسفة، بما في ذلك الأخلاقيات والفكر النقدي، في المناهج الطبية. فالطب ليس مجرد إجراءات تشخيصية وعلاجية، بل ممارسة إنسانية تتطلب فهم المرضى كأفراد كاملين، والتفاعل معهم بمسؤولية، وتعاطف، ووعي بالقيم الأخلاقية والاجتماعية (121).

تشير الدراسات إلى أن إدخال الفلسفة في التعليم الطبي ينمي التفكير النقدي لدى الطلاب ويحفزهم على التساؤل والتحليل بدل الاكتفاء بالحفظ الصم للمعرفة العلمية، إذ أظهرت دراسة بعنوان "الفلسفة والتعليم الطبي" أن الطلاب الذين تعرضوا لمناهج فلسفية وأخلاقية طوروا قدرة أكبر على التعامل مع المعضلات السريرية المعقدة (122). ويمكن دمج الفلسفة عمليًا في مناهج الطب عبر دراسة الأخلاقيات الطبية، التفكير النقدي، فلسفة المعرفة الطبية، وأسس العدالة الصحية، كما يُبرز نموذج "الفضيلة والتعليم في أخلاقيات الطب" تعزيز الفضائل المهنية مثل الرحمة، التعاطف، والمسؤولية (123).

تشير التجارب الدولية إلى أن إدماج الأخلاقيات والفلسفة يمتد ليشمل تطبيقات عملية عبر مناقشات الحالات الواقعية، المحاكاة، والتقييم المستمر لمواقف الطلاب، إذ أظهرت دراسة في نيبال أن الطلاب الذين تلقوا تدريبًا أخلاقيًا كانوا أكثر استعدادًا لمواجهة المعضلات السريرية وأكثر التزامًا بخدمة المجتمعات الضعيفة (124). إضافةً إلى ذلك، تعزز الفلسفة الوعي بالقيم الإنسانية والاجتماعية والثقافية المؤثرة في الصحة، وهو أمر بالغ الأهمية في ظل العولمة وتنوع خلفيات المرضى، مما يتيح للطلاب القدرة على التعامل مع تحديات الصحة العالمية مثل الأمراض المعدية وصحة الأم والتغيرات البيئية (125).

وهكذا يظهر بوضوح أن إدراج الفلسفة ضمن مناهج كليات الطب يعزز قدرة الطبيب على اتخاذ قرارات مدروسة ومتوازنة وإنسانية، ويُعدّ الطلاب لممارسة الطب ليس فقط كعلم، بل كفن قائم على القيم الأخلاقية والإنسانية. ويجب أن تكون هذه المواد جزءًا من المنهج الدراسي المستمر، متدرجة من المفاهيم الأساسية إلى التطبيقات العملية، لضمان تطوير أطباء يمتلكون المعرفة التقنية والفكر النقدي، وقادرين على مواجهة تحديات العصر الحديث بكفاءة ومسؤولية.

2- الأسس المنطقية للطب

أ- الطب والمنطق: علاقة جوهرية

الطب يُعدّ من الحقول التي تتقاطع فيها المعرفة النظرية والممارسة العملية. فالطبيب ليس مجرد خبير في وظائف الأعضاء والأنسجة، بل هو مستدل منطقي قادر على المقارنة والترجيح بين الفروض واتخاذ القرار الأمثل في ظروف غامضة وغير مؤكدة. ومن ثمّ، فإن المنطق ليس علمًا منفصلًا عن الطب، بل يشكّل الهيكل البنيوي الذي ينظم عمليات التشخيص والعلاج ويضمن اتساقها وسلامة نتائجها (126).

ب- أهمية التفكير المنطقي في التشخيص الطبي

يلعب المنطق دورًا أساسيًا في تحقيق تشخيص دقيق وموثوق. فزيادة المعلومات الطبية المعقدة تستلزم قدرة الطبيب على معالجة هذه البيانات بشكل منطقي، بحيث يكون التشخيص دقيقًا وواضحًا. ويؤكد التاريخ الطبي على هذا الدور: أبقراط أشاد بالاستنتاجات المنهجية، وجالين انتقد من لا يعرفون مبادئ التفكير المنطقي، وابن سينا درس المنطق وطور منهجه بما يخدم الممارسة الطبية (127).

ت- المنهج العلمي والتفكير النقدي في الطب الحديث

الطب الحديث لا يقتصر على الخبرة والأدلة، بل يعتمد على المنهج العلمي، والمنطق، والتفكير النقدي لفهم المشكلات الصحية والتعامل معها بفعالية. تطور التفكير الطبي عبر القرون من خلال فلسفة اليونان القديمة وفلسفات أخرى، وأصبح اليوم عملية معرفية أكثر وضوحًا ودقة، مدعومة بعلم الأوبئة الإكلينيكي والطب المبني على الأدلة ودراسات الحالات (128).

ث- مشكلات المصطلحات الطبية والحاجة للتصنيف المنطقي

تواجه الممارسة الطبية مشكلة غموض المصطلحات؛ فمصطلحات مثل "اعتلال القلب"، أو "متلازمة اللوزة والقلب" قد تشمل أمراضًا متعددة ذات أسباب ومسارات مختلفة. هذا يفرض على الطبيب فهمًا دقيقًا للقواعد المنطقية في تصنيف وتفسير الأمراض، لضمان تشخيص موثوق وفعّال (129).

ج- المنطق كأساس للفهم السليم واتخاذ القرارات

الالتزام بقوانين المنطق يمكّن الطبيب من التفكير الصحيح في جميع مراحل التشخيص والعلاج. فهم المفاهيم الطبية واستيعاب معاني المصطلحات الحديثة يضمن اتساق المعرفة الطبية مع إنجازات الطب الحديث، ويعزز القدرة على اتخاذ قرارات دقيقة وعلاجية سليمة (130).

ح- منطق الطب وتحليل البيانات التجريبية

النموذج الطبي- البيولوجي يعتمد على العلاقة المنطقية بين القضايا المستخلصة من التجارب والدراسات السريرية. فالاستدلال المنطقي يمكّن الطبيب من سد الثغرات التي تتركها التجارب المختبرية، وتحليل الملاحظات الطبية بشكل منهجي. وفقًا لمورفي، "منطق الطب" يعنى بعلاقات البيانات والملاحظات وليس مجرد القضايا المنطقية، ويضع قواعد الدليل كأساس للتفسير وإضفاء المعنى على الوقائع (131).

توجد أمثلة كثيرة تؤكد عمق العلاقة بين المنطق والطب منها:

أولًا: فلسفة الطب والمنطق

1- تتداخل "فلسفة الطب" و"فلسفة في الطب" مع النماذج الأساسية للطب والتجريبية والمنهج العلمي والهرمنوطيقا والأخلاقيات، ويُدمج معها مفاهيم علم الأوبئة والإحصاء الحيوي مثل الاحتمالية، وعدم اليقين، والسببية.

2- ساهم الفلاسفة المتميزون بإثراء هذه الحقول بخبرات ومعارف تتجاوز العلوم الصحية.

3- تظل مجالات الجراحة النظرية والطب النظري منفصلة إلى حد الآن عن التطبيق العملي، ما يبرز طبيعة الطب كعلم قائم على أساس فلسفي ومنطقي، وليس مجرد ممارسة تقنية (132).

ثانيًا: المنطق والتفكير النقدي في الطب

1- بدأ استخدام التفكير النقدي والمنطق في الطب بالارتباط مع علم الأوبئة الحديث والإحصاء الحيوي، ثم أصبحا عناصر أساسية لفهم واتخاذ القرارات في علوم الصحة وتحليل المعلومات الطبية.

2- يشمل الاستدلال السريري الآن التشخيص، واتخاذ القرارات العلاجية، وحل المشكلات السريرية، ومعالجة الأخطاء المعرفية.

3- الإدراك وعلوم المعرفة تساعد على تطوير فهم طبيب أفضل للعمليات العقلية التي تقود إلى التفكير والعمل، وتكشف عن مصادر الأخطاء الطبية التي قد لا تنتج عن النشاط الحسي وحده.

4- الحكم السريري يعتمد على "ملاءمة المريض/الأدلة/السياق"، ويستند إلى التفكير الاحتمالي، وتقييم القيم، والفلسفة العامة، ويغطي البحث، والصحة العامة، والإدارة، والتواصل المهني (133).

ثالثًا: منطق التشخيص الطبي

1- يقوم التشخيص على عمليات استدلالية متسلسلة: من ملاحظة الأعراض، جمع البيانات، إلى تكوين الفرضيات الأولية.

2- الاستدلالات الاستبعادية تعتمد على استبعاد الفروض غير المتسقة مع المعطيات للوصول إلى الفرض الأكثر ترجيحًا، وهو مشابه للقياس الأرسطي، لكن مع إدخال الاحتمالية المتعلقة بتواتر المرض وشدة الأعراض (134).

3- يعتمد التشخيص الحديث على المنطق البايزي Bayesian Logic ( وهو نسبة الى العالم الرياضي توماس بايز Thomas Bayes ) لتحديث الاحتمالات عند ظهور معطيات جديدة، مثل نتائج التحاليل أو استجابة العلاج، وهو أساس التفكير الطبي الحديث، خصوصًا مع الذكاء الاصطناعي والخوارزميات (135).

رابعًا: العلاقة بين البرهان العلمي والممارسة السريرية

1- الممارسة الطبية تجمع بين المعرفة النظرية والخبرة العملية؛ التجارب العيادية تساعد على قراءة الأعراض واقعيًا، بينما يضمن البرهان العلمي التناسق مع المبادئ البيولوجية والدوائية.

2- المنطق يربط بين هذين المستويين ويمنع الانخداع بالقرائن الجزئية أو الانطباعات الشخصية غير المبنية على دليل (136).

3- الطب القائم على الدليل (Evidence- Based Medicine) يضمن التمييز بين قوة الأدلة المختلفة، ويستلزم فهم مبادئ مثل العشوائية، المقارنة، والتعمية لضمان الصدق المنهجي ومنع التحيز (137).

خامسًا: منطق اتخاذ القرار الطبي

1- القرار الطبي مزيج من الاستدلال العلمي والحكم القيمي، ويوازن الطبيب بين منافع العلاج ومخاطره واحتمالات النجاح والفشل.

2- المنطق يلعب دورًا مزدوجًا:

- منطق تجريبي: تحديد ما إذا كان التدخل مدعومًا بالأدلة ويحقق الهدف.

- منطق معياري: توجيه القرار وفق مبادئ الأخلاق الطبية (احترام المريض، عدم الإضرار، تحقيق أكبر منفعة) (138).

سادسًا: المنطق في تصميم البحوث الطبية

1- البحث الطبي عملية منظمة منطقيًا تبدأ بمشكلة، ثم فرضيات، تصميم منهجي، اختبار، وتفسير النتائج.

2- المبادئ المنطقية تشمل:

- الاتساق الداخلي: التأكد أن النتائج ناتجة عن المتغيرات المدروسة فقط.

 - الاستدلال السببي: إثبات العلاقة الزمنية، الترابط الإحصائي، والاتساق.

 - قابلية التكرار: ضمان تجريد النتائج من الصدفة.

3- المنطق الإحصائي ضروري لتحليل البيانات، حساب الدلالة، تقييم قوة الارتباط، وتحديد حجم العينة المناس(139).

سابعًا: دور المنطق في التواصل الطبي واتخاذ القرار الجماعي

1- المنطق أساسي في التواصل بين الأطباء وبناء الإرشادات الطبية، التي تعتمد على مراجعة منهجية للأدلة وتصنيف قوتها.

2- الحوار الاستدلالي بين أعضاء الفريق الطبي يتيح اتخاذ القرار الأمثل، خاصة في الحالات المعقدة متعددة التخصصات.

3- المنطق يدخل أيضًا في الممارسة العملية للتمريض، وتحليل الدراسات، وقراءة المجلات الطبية بشكل نقدي (140).

الخاتمة

خلال هذا البحث، اتضح أن الفلسفة تشكّل أداة أساسية لتعزيز الوعي الذاتي لدى الأطباء، وذلك من خلال تطوير التفكير النقدي والتحليلي، وتنمية الحس الأخلاقي، وبناء القدرة على اتخاذ قرارات طبية مسؤولة ومستنيرة. فقد بيّن البحث أن فهم الوعي الذاتي في السياق الفلسفي والنفسي يسهم في تحسين جودة الرعاية الصحية، ويحد من الأخطاء المهنية، بينما يتيح دمج الفلسفة في التعليم الطبي للطلاب فرصة لتكوين عقلية نقدية، ومهارات تحليلية دقيقة، وفهم أعمق لأبعاد الممارسة الطبية الإنسانية. كما أظهر البحث أن الفلسفة لا تقتصر على تعزيز المعرفة النظرية، بل تتعداها إلى التأثير على السلوك المهني والأخلاقي، وإرساء أسس للتناغم النفسي وتقليل المخاطر في الأداء الطبي، بما يضمن توازنًا بين التقنية والإنسانية، وبين العلم والقيم.

إن النتيجة الرئيسة التي يمكن استخلاصها من هذا البحث هي أن تعزيز الوعي الذاتي لدى الأطباء لا يتحقق من خلال التدريب المهني والتقني وحده، بل يحتاج إلى منهج معرفي يربط بين الفلسفة، والمنطق، والأخلاق، والطب. ومن هنا تنبع أهمية إدراج الفلسفة والمنطق في المناهج الأكاديمية الطبية، ليس فقط لتعميق المعرفة، بل لتشكيل طبيب واعٍ بذاته، قادر على الموازنة بين المهارات التقنية والمسؤولية الإنسانية، وبالتالي تحقيق ممارسة طبية أكثر فعالية وإنسانية.ويمكن فهم ضرورة الفلسفة للأطباء فى ضوء النتائج التالية:

1- الوعي الذاتي ضرورة أساسية للطبيب: يتضح أن فهم الطبيب لذاته ولانفعالاته وقدراته العقلية يسهم في تحسين جودة القرارات الطبية والحد من الأخطاء المهنية.

2- الفلسفة أداة لتعزيز التفكير النقدي والتحليلي: تساعد الفلسفة الأطباء على تطوير مهارات التحليل والتفكير النقدي، بما يمكنهم من التعامل مع الحالات الطبية المعقدة بطريقة واعية ومنهجية.

3- الفلسفة والبعد الأخلاقي في الطب: تُمكّن الفلسفة الأطباء من فهم القيم والمعايير الأخلاقية، وتنظيم العلاقة بين المعرفة الطبية والتكنولوجيا، ما يعزز الممارسة الطبية المسؤولة والإنسانية.

4- فلسفة الوعي والتناغم النفسي: تؤدي الفلسفة إلى تعزيز التوازن النفسي للطبيب وتقليل المخاطر المهنية، مما يسهم في جودة الحياة المهنية والشخصية للطبيب.

5- أهمية دمج الفلسفة والمنطق في التعليم الطبي: يشير البحث إلى ضرورة إدراج التفكير الفلسفي والمنطق في المناهج الأكاديمية، لتكوين جيل من الأطباء الواعيين بذاتهم، القادرين على مزج المعرفة العلمية مع الحس الإنساني والأخلاقي.

6- التكامل بين المعرفة والفلسفة: تُظهر النتائج أن تعزيز الوعي الذاتي لا يقتصر على المعرفة التقنية أو التدريب العملي، بل يتطلب منهجًا فلسفيًا متكاملًا يجمع بين التفكير النقدي، الأخلاق، والفهم الذاتي.

***

دكتور ابراهيم طلبه سلكها

2025

.........................

الهوامش

1.  Morin, Alain. “Self- Awareness Part 1: Definition, Measures, Effects, Functions, and Antecedents.” Social and Personality Psychology Compass, vol. 5, no. 10, 2011, pp. 807–823. DOI: 10.1111/j.1751- 9004.2011.00387.x, p. 808.

2.  Loc- Cit.

3.  Klussman, Kristine and others. "The Importance of Awareness, Acceptance, and Alignment with the Self: A Framework for Understanding Self- Connection." Europe's Journal of Psychology 18, no. 1 (2022): 120–131. https://doi.org/10.5964/ejop.3707, p. 121.

4.  Ibid, pp. 121–122.

5.  Ibid, p. 122.

6.  Loc- Cit.

7.  Yılmaz, Hanzade Aslan. "Self- Awareness and Self- Consciousness: A Review from a Social Psychology Perspective." Psikiyatride Güncel Yaklaşımlar – Current Approaches in Psychiatry 14, no. 4 (2022): 437–445, p. 438.

8.  Loc- Cit.

9.  Morin, Alain. “Self- Awareness Part 1: Definition, Measures, Effects, Functions, and Antecedents.” Social and Personality Psychology Compass, vol. 5, no. 10, 2011, pp. 807–823. DOI: 10.1111/j.1751- 9004.2011.00387.x, p. 814.

10.   Jorge Manuel Castro and others. Self Awareness among Doctors: The Importance of Reflecting on Medical Practice / Self- Awareness nos Médicos: A Importância da Reflexão na Prática Médica. Pontos de Vista / Points of View, 24(1), 56–65, pp. 56–57.

11.   Roth- Cohen, O., Levy, S., and Zigdon, A. (2021). “The mediated role of credibility on information sources and patient awareness toward patient rights.” International Journal of Environmental Research and Public Health, 18(16), p. 8628. doi: 10.3390/ijerph18168628, p. 1.

12.   Jorge Manuel Castro and others, Op- Cit, p. 57.

13.   Morin, Alain, Op- Cit, p. 809.

14.   Klussman, Kristine and others. "The Importance of Awareness, Acceptance, and Alignment with the Self: A Framework for Understanding Self- Connection." Europe's Journal of Psychology 18, no. 1 (2022): 120–131. https://doi.org/10.5964/ejop.3707, p. 124.

15.   Jorge Manuel Castro and others, Op- Cit, p. 57.

16.   Loc- Cit.

17.   Loc- Cit.

18.   Loc- Cit.

19.   Ibid, p. 58.

20.   Loc- Cit.

21.   Ibid, p. 59.

22.   Du, Y., X. Zhang, J. Zhang, and G. Wang. 2021. "The Application of the Philosophical Thinking of 'Three' From I Ching to Medical Education." Frontiers in Medicine 8: 759282. https://doi.org/10.3389/fmed.2021.759282, p. 3.

23.   Zayabalaradjane, Zayapragassarazan, and others. “Understanding Critical Thinking to Create Better Doctors.” Journal of Advances in Medical Education and Research 1, no. 3 (April–December 2016), p. 10.

24.   Papp, Klara K., and others. “Milestones of Critical Thinking: A Developmental Model for Medicine and Nursing.” Academic Medicine 89, no. 5 (May 2014), p. 1.

25.   Loc- Cit.

26.   Sharifinia, Reza, and Abdolhussein Shakurnia. “Critical Thinking of Medical Students: Does It Change during the Study in Medical School?” Journal of Medical Education Development 15, no. 45 (2022): 26–33, p. 26.

27.   Zayabalaradjane, Zayapragassarazan, and others, Op- Cit, p. 10.

28.   Loc- Cit.

29.   Papp, Klara K., and others, Op- Cit, pp. 2–3.

30.   Ibid, p. 3.

31.   Ibid, p. 4.

32.   Alfaro LeFevre, Rosalinda. “Critical Thinking and Clinical Reasoning.” In Critical Thinking, Clinical Reasoning, and Clinical Judgment: A Practical Approach, 7th ed., pp. 144–153. St. Louis, MO: Elsevier, 2019, p. 144.

33.   Loc- Cit.

34.   Ibid, p. 145.

35.   Loc- Cit.

36.   Zayabalaradjane, Zayapragassarazan, and others, Op- Cit, pp. 10–11.

37.   Ibid, p. 11.

38.   He, Z.- X., & Lang, J.- H. (2017). “Our thoughts on medicine and philosophy.” Chinese Medical Journal, 130(3), p. 253.

39.   Loc- Cit.

40.   Ibid, p. 254.

41.   Karaboue, M., and G. V. Lacasella. 2025. “Philosophy and Medicine: An Aristotelian Reflection.” Clin Ter 176, no. 1: 114–117. https://doi.org/10.7417/CT.2025.5174, p. 114.

42.   Loc- Cit.

43.   Ibid, pp. 114–115.

44.   G. C., K. B., & Rajbhandari, E. (2024). Philosophical perspective on health: A review paper. (Received March 18, 2024; Reviewed June 25, 2024; Revised July 15, 2024; Accepted August 26, 2024), pp. 14–20.

45.   Marcum, James A. 2012. An Introductory Philosophy of Medicine: Humanizing Modern Medicine. New York: Springer, pp. 101–102.

46.   Loc- Cit.

47.   Loc- Cit.

48.   Ibid, p. 103.

49.   Vasileiadis, Ioannis. Medicine, Epistemology and Constructional Paradoxes. Princeton University Press, 1995, p. 2.

50.   Ibid, pp. 2–3.

51.   Ibid, p. 3.

52.   Ibid, pp. 3–4.

53.   Ibid, p. 4.

54.   Boniolo, Giovanni, and Raffaella Campaner. "What Philosophy for Medical Education? Theoretical Issues in Practice." Journal of History of Medicine and Medical Humanities 35, no. 1 (2023): 17–32, p. 1.

55.   Ibid, p. 2.

56.   Ibid, pp. 4–5.

57.   Ibid, p. 18.

58.   Veen, Mario, and Anna T. Cianciolo. 2020. "Problems No One Looked For: Philosophical Expeditions into Medical Education." Teaching and Learning in Medicine. https://doi.org/10.1080/10401334.2020.1748634, p. 5.

59.   Loc- Cit.

60.   Loc- Cit.

61.   Hans- Martin Sass. “Bioethics: Its Philosophical Basis and Application.” Bulletin of PAHO 24(4), 1990, pp. 372–373.

62.   Loc- Cit.

63.   Anne Bruce and others. Understanding Philosophy in a Nurse’s World: What, Where and Why? Horizon Research Publishing, 2014, p. 68.

64.   Ibid, p. 69.

65.   Ibid, pp. 68–69.

66.   Ibid, p. 69.

67.   Loc- Cit.

68.   Loc- Cit.

69.   Loc- Cit.

70.   Ibid, pp. 69–70.

71.   Alfaro LeFevre, Rosalinda. “Critical Thinking and Clinical Reasoning.” In Critical Thinking, Clinical Reasoning, and Clinical Judgment: A Practical Approach, 7th ed., pp. 144–153. St. Louis, MO: Elsevier, 2019, p. 145.

72.   Loc- Cit

73.   Tessuto, Girolamo. English for Medicine: A Toolkit for Discourse and Genre- Based Approaches to ESP. Language, 2021, pp. 1–3.

74.   Ibid, pp. 3–4.

75.   Ibid, p. 5.

76.   He, Z.- X., & Lang, J.- H. (2017). “Our thoughts on medicine and philosophy.” Chinese Medical Journal 130(3), 253, p. 254.

77.   Chrousos, George P., et al. “The Role of Philosophy in Medical Practice.” Received July 22, 2019; Accepted August 26, 2019, p. 3215.

78.   Borchers, Hannah. 2019. The Role of Compassion in Medical Ethics and Its Reintegration in Modern Practice. Liberty University, Spring 2019, p. 6.

79.   Tessuto, Girolamo. English for Medicine: A Toolkit for Discourse and Genre- Based Approaches to ESP. Language, 2021, p. 6.

80.   Loc- Cit.

81.   Ibid, pp. 6–7.

82.   Chrousos, George P., et al. “The Role of Philosophy in Medical Practice.” Received July 22, 2019; Accepted August 26, 2019, p. 3215.

83.   Loc- Cit.

84.   Thomasma, David C. 2003. “Theories of Medical Ethics: The Philosophical Structure.” In Military Medical Ethics, vol. 1, edited by Thomas E. Beam and Linette R. Sparacino, pp. 23–53. Washington, DC: Office of the Surgeon General; Borden Institute; Uniformed Services University of the Health Sciences, pp. 27–28.

85.   Ibid, p. 34.

86.   Hans- Martin Sass. “Bioethics: Its Philosophical Basis and Application.” Bulletin of PAHO 24(4), 1990, p. 373.

87.   Ibid, pp. 375–376.

88.   Sturmberg, Joachim P., and Sara Taher. “What We Mean By ‘Values in Healthcare’: The Importance of Reaching a Consensus.” Cureus 17, no. 2 (February 15, 2025): e79034, p. 2.

89- Marcum, James A. 2012. An Introductory Philosophy of Medicine: Humanizing Modern Medicine. New York: Springer, p. 114.

90- Ibid, p. 115.

91- Anthony Velladao. Technology from a Medical Perspective. Oxford Scholars, March 27, 2023, p. 1.

92- Thomasma, David C., Op- Cit, p. 4.

93- Anthony Velladao, Op- Cit, p. 3.

94- Mhatre, Saujanya Pradeep. “The Importance of Medical Technology in Next Few Years.” International Journal of Advanced Research in Science, Communication and Technology (IJARSCT) 3, no. 5 (June 2023), p. 679.

95- Jiménez- Ponce, Fiacro. "Artificial Intelligence in Medicine." Revista Médica del Hospital General de México, 2024, p. 39.

96- Jiménez- Ponce, Fiacro. "Artificial Intelligence in Medicine." Revista Médica del Hospital General de México, 2024, p. 39.

97- Jiménez- Ponce, Fiacro. "Artificial Intelligence in Medicine." Revista Médica del Hospital General de México, 2024, p. 40.

98- Quissanga, Fernando Cassinda, and Ataúlfo Malé Arsénio de Fontes Pereira. "The Future of Artificial Intelligence (AI) in Medicine." Biomedical Journal of Scientific & Technical Research, August 20, 2025, p. 161.

99- Ibid, p. 163.

100- Loc- Cit.

101- Veen, Mario, and Anna T. Cianciolo. 2020. "Problems No One Looked For: Philosophical Expeditions into Medical Education." Teaching and Learning in Medicine. https://doi.org/10.1080/10401334.2020.1748634, p. 6.

102- Hans- Martin Sass. “Bioethics: Its Philosophical Basis and Application.” Bulletin of PAHO 24(4), 1990, p. 372.

103- Loc- Cit.

104- Loc- Cit.

105- Chib, S., & Chib, S. “Metaphysics and its relation with medicines: A descriptive review.” International Journal of Innovative Science and Research Technology. ISSN 2456- 2165, p. 75.

106- Marcum, James A., Op- Cit, p. 2.

107- Pennacchin, M., and others. "A Brief History of the Quality of Life: Its Use in Medicine and in Philosophy." Medical Humanities Clin Ter 162, no. 3 (2011): e99–e103, p. 99.

108- Loc- Cit.

109- Ibid, p. 100.

110- Loc- Cit

111- Loc- Cit

112- Ibid, p. 101.

113- Loc- Cit.

114- Miguez- Pinto, João P., and others. "The Medical Student of the Future: Redefining Competencies in a Transformative Era." Frontiers in Medicine, June 16, 2025. https://doi.org/10.3389/fmed.2025.1593685, p. 2.

115- Ibid, p. 3.

116- Stegenga, Jacob. Philosophy of Medicine: Lower- Level Undergraduate Course, Sample Syllabus. Oxford University Press, 2011, p. 1.

117- Loc- Cit.

118- Melhem M., et al. “Teaching and learning medical humanities in medical school: a student’s perspective on Professional Practice curriculum in Australia.” Monash Bioethics Review, 2025. https://doi.org/10.1007/s40592- 025- 00258- x, p. 1.

119- Jenicek, Milos. How to Think in Medicine: Reasoning, Decision Making, and Communication in Health Sciences and Professions. London: Taylor & Francis, 2018, p. xiii.

120- Veen, Mario, and Anna T. Cianciolo. 2020. "Problems No One Looked For: Philosophical Expeditions into Medical Education." Teaching and Learning in Medicine. https://doi.org/10.1080/10401334.2020.1748634, pp. 6–7.

121- Miguez- Pinto, J. P., and others. “The Medical Student of the Future: Redefining Competencies in a Transformative Era.” Frontiers in Medicine, 16 June 2025. https://doi.org/10.3389/fmed.2025.1593685.

122- Kopelman, L. M. (1995). “Philosophy and medical education.” Academic Medicine, 70(9), 795–805. https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/7669156/, pp. 798–800.

123- Lyon, W. (2021). “Virtue and medical ethics education.” Philosophy, Ethics, and Humanities in Medicine, 16, 12. https://peh- med.biomedcentral.com/articles/10.1186/s13010- 021- 00100- 2

124- Loc- Cit.

125- Loc- Cit.

126- Norman, Geoffrey. “Research in Clinical Reasoning: Past History and Current Trends.” Medical Education, 2005, p. 280.

127- Abilov, O`rol. "Logic and Its Significance for Medical Field." Web of Journals, Volume 1, Issue 8, November 2023, pp. 54–56.

128- Jenicek, Milos. How to Think in Medicine: Reasoning, Decision Making, and Communication in Health Sciences and Professions. London: Taylor & Francis, 2018, pp. 3–4.

129- Abilov, O`rol, Op- Cit, pp. 56–57.

130- Ibid, pp. 57–58.

131- Marcum, James A. 2012. An Introductory Philosophy of Medicine: Humanizing Modern Medicine. New York: Springer, pp. 103–104

132- Jenicek, Milos, Op- Cit, pp. 11–12.

133- Eva, Kevin W., & Norman, Geoffrey. “Advances in Clinical Reasoning.” Academic Medicine, 2007, p. 100.

134- Elstein, Arthur. “Clinical Reasoning in Medicine.” In Clinical Reasoning in the Health Professions, 3rd ed., 2007, pp. 99–101.

135- Kassirer, Jerome. “Teaching Clinical Reasoning: Bayesian Logic and Diagnostic Errors.” New England Journal of Medicine, 2010, p. 185.

136- Gigerenzer, Gerd. Calculated Risks: How to Know When Numbers Deceive You. Penguin, 2003, pp. 70–75.

137- Sackett, David, et al. Evidence- Based Medicine: How to Practice and Teach It. Churchill Livingstone, 2000, p. 21.

See Also:

- Guyatt, Gordon, et al. User’s Guide to the Medical Literature. JAMA Press, 2015, pp. 3–4.

138- Friedman, Charles, et al. Fundamentals of Clinical Data Science. Springer, 2019, pp. 40–42.

See Also:

- Rothman, Kenneth. Epidemiology: An Introduction. Oxford University Press, 2012, pp. 18–19.

139- Hill, A. Bradford. “The Environment and Disease: Association or Causation?” Proceedings of the Royal Society of Medicine, 1965, p. 299.

140- Berner, Eta. Clinical Decision Support Systems: Theory and Practice. Springer, 2016.

يمثل توسع "اقتصاد القرافة" في المدن العربية الكبرى إحدى أبرز المعضلات الاجتماعية والاقتصادية. تتطلب هذه الظاهرة مقاربة تحليلية تتجاوز الوصف السطحي للفقر. إن دراسة هذه الظاهرة، بوصفها "تقنية" إدارية اضطرارية، تمثل أداة نقدية جذرية للفكر الاقتصادي السائد وللسياسات الكلية المعتمدة في الإدارة الحضرية والاجتماعية. نسعى هنا لتقديم تشريح هيكلي ومقاربة فلسفية لاقتصاديات الهامش الأقصى، بهدف استخلاص الدروس حول آليات البقاء والإنتاج في ظل الإقصاء المؤسساتي.

المفهوم التأسيسي: المقبرة كـ "هامش أقصى"

لطالما تم التعامل مع المجالات المخصصة لدفن الأموات ضمن إطار الثاناتولوجيا (علم دراسة الموت) أو العلوم الاجتماعية التقليدية (كعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ). إلا أن الجغرافيا، بوصفها علماً يركز على العلاقة التفاعلية بين المجتمع والمجال، لم تُعطِ هذه الظاهرة ما تستحقه من اهتمام، على الرغم من حضورها القوي في المشهد الجغرافي، سواء في الأرياف أو المدن.

إن المقبرة، خاصةً في السياق الحضري المكتظ، ليست مجرد مشكلة اجتماعية ناتجة عن الفقر، بل هي تعبير مكاني لفشل إدارة الندرة:

 ندرة السكن الرسمي وندرة القيمة القانونية للوجود. يمثل هذا المجال "الهامش الأقصى"، لكونه منطقة مُستبعدة قانونياً (مخصصة للأموات) ولكنه مأهول بأجيال متعاقبة من الأحياء. هذا التناقض يولد صراعاً حاداً بسبب الازدواجية في القيمة؛ فالمقبرة لها قيمة ودلالات روحانية في مختلف المجتمعات، لكنها تخضع أيضاً لرهانات عقارية متسارعة في محيطها.

تُبرز هذه الظاهرة قصور فكرة مركزية الدولة والسلطة التي تتخذ من العاصمة مقراً لها، لتصبح البيئات المحيطة بمثابة أطراف أو "هوامش" مُهملة. عندما يتحول هذا الهامش إلى مكان مأهول بشكل دائم، يدفعنا ذلك إلى التساؤل الفلسفي الذي طرحه جاك دريدا: "هل يمكن لهذا النصّ الذي بين أيدينا أن يصبح هامشاً لهامش؟". أي، هل يمكن لهذا المجال المستبعد (المقبرة) أن يصبح مستودعاً لا ينضب للنقد الوجودي والفلسفي، بدلاً من كونه مجرد أمر ثانوي؟ هذا التحول من "اللامكان" إلى "مكان البقاء" يمثل أول تقنية إدارية اضطرارية؛ فالسكان "يغزون" مجال الموت لحل مشكلة الندرة الوجودية للحياة.

التشريح الهيكلي لـ "تقنيات سكان المقابر" الاقتصادية

تُعرّف "تقنيات سكان المقابر" بأنها مجموعة من الاستراتيجيات اللامركزية والأنشطة الاقتصادية غير الرسمية التي يتبناها السكان للبقاء على قيد الحياة. تتحول هذه التقنيات مع الوقت إلى نظم إدارية موازية تدير شؤون الأمن والخدمات والعقار في منطقة المقابر.

يمثل اقتصاد الظل مجموعة الأنشطة الاقتصادية التي تتم خارج الإطار القانوني والتنظيمي للدولة، ويكون الهدف الأساسي منها غالباً هو تجنب الالتزامات القانونية والضريبية والبيروقراطية. بالنسبة لسكان المقابر، يمثل هذا الاقتصاد ملاذاً اضطرارياً ناتجاً عن الاستبعاد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي من الأطر والسياسات الرسمية.

نقد مركزية الدولة ورأسمالية النخبة

إن المقاربة الفلسفية تتطلب هنا تحويل تقنية البقاء إلى أداة نقدية ضد المركزية الفكرية. فالاقتصاد الكلي يرى الفقر كعجز في الأرقام، لكن اقتصاديات المقابر تكشف أن الفقر المدقع هو نتاج إدارة سياسية للمجال؛ حيث يُسمح للمتنفذين بالاستيلاء على الأراضي، ويقتصر دور الدولة على الإدارة الأمنية/البوليسية لتنظيم الحياة في الشقين الرسمي وغير الرسمي. هذه الإدارة تغذي أسباب الاستبعاد الاجتماعي والاقتصادي وتثبت أن النماذج الاقتصادية السائدة تنتج الهامش.

يعد مفهوم الملكية الخاصة حجر الزاوية في النظام الرأسمالي، ويُنظر إليه على أنه أساس وجود القوانين لاحتواء الصراع الناتج عن الندرة. إلا أن تقنية "وضع اليد" في "القرافة" تقلب هذا المفهوم رأساً على عقب. ففي هذا الهامش، لم تعد القوانين موجودة لتنظيم الندرة بين الجميع، بل لحماية التراكم الرأسمالي الذي أدى إلى طرد الفقراء من الأراضي.

عندما يضطر الفقير للعيش في مكان مخصص للأموات، ويجد أن "أرض الله الواسعة" مملوكة، ويقوم المنفذون بإزالة بيته إذا أقامه عليها، فإن هذا يمثل إخفاقاً جذرياً للقانون كنظام عادل لتوزيع الموارد. إن الصراع الذي ينشأ في "القرافة" ليس صراعاً تقليدياً على موارد محدودة، بل هو صراع هيكلي بين الدولة والنخبة المالكة والأفراد المستبعدين الذين يمارسون "وضع اليد" كشكل من أشكال المقاومة الاقتصادية والحق في الوجود.

بالتوازي مع النقد القانوني، هناك نقد أخلاقي وديني لظاهرة السكن في المقابر، حيث يرى الفقهاء أن سكن الحارس أو العمال داخل المقبرة "منكر وإهانة للقبور" لما يترتب عليه من استيحاء وبطلان للصلاة. إلا أن هذا النقد الشرعي، على أهميته، يجب موازنته بالتبرير الوجودي للسكن؛ وهو الحق في الحياة الذي أُغلق أمامه الباب القانوني والاجتماعي.

 اقتصاد الوجود والقيمة غير المكتسبة

تفرض المقاربة الفلسفية لـ "اقتصاديات المقابر" إعادة التفكير في قيمة الإنسان. يمكن تطبيق المفهوم الفلسفي للقيمة، حيث يواجه الإنسان صراعاً بين قيمته الوجودية المجرّدة وقيمته المكتسبة (الاقتصادية). العيش في المقبرة هو الدليل القاطع على تجاهل النظام الاقتصادي للقيمة الوجودية المجرّدة للإنسان، إذ يُنظر إليهم على أنهم "أحياء بدرجة أموات".

إن "تقنيات سكان المقابر" (البقاء والتكيف والتكافل غير الرسمي) تشكل مقاومة عملية لنبوءة فوكو حول "موت الإنسان". على الرغم من الظروف القاسية التي تزيد من معدلات الوفيات والأمراض، فإن استمرارهم في الحياة وتشكيل شبكات تكافل داخلية هو إعلان لقيمة البقاء والكرامة الإنسانية ورفض للاستبعاد القصري. هذه المقاربة النقدية تستلزم تحليلاً مقارناً لمرتكزات الفكر الاقتصادي السائد في مواجهة واقع الهامش.

استخلاص المبادئ الجديدة للإدارة الاقتصادية النقدية

تستوجب "اقتصاديات المقابر" تبني مبادئ جديدة للإدارة الاقتصادية النقدية، خارجة عن التيار الرئيسي، ترتكز على ما يلي:

مبدأ الاعتراف الوجودي أولاً: يجب أن تبدأ أي سياسة اقتصادية للحد من الفقر بالاعتراف بالقيمة الوجودية المجرّدة للإنسان. يجب التوقف عن التعامل مع الفقراء كأرقام أو كـ "مستبعدين طوعياً أو قصرياً"، بل ككيانات اقتصادية تحتاج إلى إطار قانوني وخدمي يسمح لها بالإنتاج والعيش بكرامة.

مبدأ الجغرافيا الاقتصادية الشاملة: يجب دمج قضايا الرهان العقاري حول مناطق الدفن ضمن التخطيط الاقتصادي الكلي للمدن. هذا يضمن عدم إهمال أي مجال جغرافي، ويعالج التناقض القائم بين القيمة الروحانية للمقابر والضغط الاستثماري العقاري المتزايد عليها. يجب أن يُنظر إلى المساحات العمرانية من منظور التنمية الشاملة بدلاً من مجرد التركيز على المناطق المُدِرّة للربح.

إن تحليل "اقتصاديات سكان المقابر" يكشف أن الظاهرة ليست فقط نتيجة لارتفاع معدلات الفقر، بل هي انعكاس جذري لفشل الإدارة الاقتصادية المركزية في تحقيق العدالة التوزيعية والاجتماعية.

"اقتصاديات المقابر" كمرآة للفساد المؤسساتي

تُعد "تقنيات سكان المقابر" (المرونة في إدارة الموارد) أنظمة اقتصادية اضطرارية. هذه الأنظمة أنتجها الظلم، وتستمد شرعيتها الوجودية من إهمال الدولة وتجاهل الفكر الاقتصادي السائد لمعيار القيمة الوجودية للإنسان. إن استمرار هذه الظاهرة على مدى عقود، مع تعاقب الأجيال داخلها، ليس دليلاً على مجرد فقر عابر، بل هو مرآة تعكس الفشل الهيكلي العميق في تطبيق العدالة في الإدارة الاقتصادية الكلية، وفشل الدولة في حماية مواطنيها من الرأسمالية المتوحشة والاستيلاء على الموارد. لا يمكن علاج هذه الظاهرة إلا بتبني مقاربة نقدية تضع قيمة الإنسان الوجودية قبل قيمة الناتج المكتسب.

***

كتابة غالب المسعودي

..........................

المراجع

اﻟﻣﻘﺎﺑر اﻟﻣﺟﺎﻻت اﻟﻣﺧﺻﺻﺔ ﻣن ﻣﻧظور ﺟﻐراﻓﻲ دراﺳﺔ ﺑﺑﻟﯾوﻏ revues.imist.ma)

عياد، هاني جرجس. "في عالم خارج نطاق الحياة: سكان القبور أحياء بدرجة أموات" ahewar.org

أرشيف مجلة القافلة. "الهامش" (متاح على: qafilaharchive.com)

منصة المستثمر. "اقتصاد الظل: مدخل شامل" investor.com)

شبكة الألوكة. "سكن حارس وعمال المقبرة" (متاح على: alukah.net)

ويكيبيديا. "مدارس الفكر الاقتصادي" (متاح على: ar.wikipedia.org)

منظمة الأمم المتحدة (UN). "سياسات الاقتصاد الكلى والنمو في المنطقة العربية" un.org

 

في عالمنا اليوم، يبدو أن ظواهر مثل الحقيقة والواقع تغمرنا باستمرار في سياق الحياة اليومية. لكن لا بأس إذا تداخلا، تماماً، في بعضهما بعضاً. يبدو أنه لا يوجد تعارض أو التباس أو أي سوء فهم بينهما. فما نسمعه ونراه ليس أكثر ولا أقل مما هو موجود. ولا يوجد شيء سوى ما ندركه. لكن هل كل ما نلاحظه، هو فعلاً واقع أو حقيقة أو كليهما؟ حسب الفيلسوفة الألمانية حنه آرندت، لا حقيقة ولا واقع، وأن كليهما لم يظهرا كما هما. إن الفكر، حسبها، يدعو إلى عدم اللجوء للتأمل فقط، بل إلى العمل على تغيير الحياة العامة والأحداث، مؤكدة على ضرورة أن يكون الفكر حراً ومسؤولاً في الوقت نفسه. وبهذا فهي تحث الفلاسفة على العمل. وتثمن مقولة كارل ماركس الشهيرة، التي جاءت في الأطروحات الإحدى عشرة، رداً على فيورباخ، والتي تقول: «لقد اكتفى الفلاسفة حتى الآن بتفسير العالم بطرق مختلفة، لكن المهم هو تغييره».

اليوم، ونحن نعيش في عالم الخوارزميات، نتساءل؛ هل تسونامي المعلومات الذي يتجاوزنا وبشكل وفير ومباشر، يغنينا عن التفكير والتفكر؟ يبدو أن كتاب حنّه آرندت «حياة العقل» (1978)، مازال آنياً. وفيه تتناول «ماذا يحدث عندما نفكر؟» وهو السؤال الذي ركزت عليه في كتابها المنشور بعد ثلاث سنوات من وفاتها، والذي نستكشف فيه ماهية التفكير، وأين ومتى بالفعل، يحدث ذلك.

بدايةً، فالتفكير يختلف عن المعرفة، إذ تُركز المعرفة على الحقائق أو الظواهر التي سبقت مواجهتها في الواقع، بينما يُركز التفكير على ما لم يُكتشف أو يُبرهن عليه بعد. في اللوحة الشهيرة لرودان المسماة «المفكر»، يبدو لنا فيها، في وضعية نموذجية، يده تحت ذقنه، وهو يحدق في المشهد الضبابي غير المحدد بعد، إذ يبدو لنا أن المشهد المُفكَّر به مغطى، دائماً، بطبقة من الثلج. ونلاحظ أن شيئاً يبرز هنا وهناك؛ تماماً كما بعض الكلمات أو بعض الذكريات التي تقفز إلى الذاكرة على شكل شظايا.

يوحي هذا التمثال أنه من دون التحلي بالصبر وسعة الخيال والمسح البديهي لأفق الفكر، لا يمكن القبض على أي فكرة، وإن التفكير يتطلب عقلاً ترابطياً منفتحاً وحيوياً.

ثم تطرح آرندت السؤال المحير حول «أين» و«متى» نكون عندما نفكر. ولكن هل للتفكير زمن محدد؟

تلاحظ آرندت أن التفكير «يبقى دائماً مشوشاً، خارج النظام. وذلك، لأنه يقاطع جميع الأنشطة العادية». التفكير ينقلنا إلى مكان آخر، يمكن فهمه كنوع من «العالم الوسيط» - بين العالَم والشخص المُفكر - حيث تتوقف عقارب الساعة، التي تعدّ تحسب الزمن وترتب الأحداث ترتيباً زمنياً.

بينما ونحن نفكر، نجد أنفسنا في «زمنٍ بيْني»، كما كتبت آرندت، «يُنشئ فجوةً بين الماضي والمستقبل». هذه الفجوة، كما في زرادشت نيتشه، تُخلق تحت البوابة التي كُتبت عليها «اللحظة»، والتي تتصادم تحتها مسارات المستقبل والماضي. من هذا التصادم تنشأ «اللحظة الدائمة»، أو الآن الدائم، الذي كان يُطلق عليه في فلسفة أواخر العصور الوسطى اسم «nunc stans نونك ستانس».

من الناحية اللغوية، يُعدّ المصطلح اللاتيني «نونك ستانس» تناقضاً لفظياً لأنه يجمع بين مفهومين متعارضين - طبيعة اللحظة العابرة وديمومة الوقوف - مما يخلق معنى جديداً. ويشير هذا «الوقوف الآن» - من بين أمور أخرى - إلى مصطلح «nunc aeternitates نونك أتيرنيتيس» أي (الآن وإلى الأبد)، الذي كان يُعتبر «استعارة للزمن المقدس أو الإلهي والأبدي» في فلسفة العصور الوسطى. ويمكن فهمه على أنه التقاء محورين زمنيين متعارضين في لحظة «أبدية». تصف آرندت الخرق الذي يُحدثه الفكر في الزمن الكرونولوجي بأنه «الأثر الصغير غير الملحوظ للَّازمن». وتتابع: «فقط في خرق (نونك ستانس) يمكن للوجود الإنساني المراوغ أن يكشف عن نفسه كاستمرارية خالصة لـ(أنا)».

كما أنها توضح حالة غامضة إلى حد ما، من خلال مثل معروف عن كافكا: يدخل شخص مفكر في معركة مع خصمين خائفين، أحدهما «يدفعه من الخلف والثاني يمنعه من التقدم إلى الأمام». وكان على المفكر أن يقاتل مع كليهما مراراً وتكراراً، لكن حلمه هو أن «يتمكن، في يوم من الأيام، وفي لحظة غفلة، من القفز من خط المعركة، لكي يصبح حكَما على خصميه المتقاتلين مع بعضهما البعض».

التفكير ينقلنا إلى مكان آخر، يمكن فهمه كنوع من «العالم الوسيط»

بمعنى آخر، من يقف في «اللحظة» يواجه كلا الزمنين في آنٍ واحد. وهكذا، من خلال الوقوف بانتباه في «المنتصف»، يمكن لـ«الجديد»، الجديد غير المتوقع، أن يأتي إلينا من الماضي. لذا، لا يمكن لأي شخص يقف في اللحظة الراهنة أن يتجنب أي شيء أو يختبئ وراء أي عذر. لهذا السبب، يرى نيتشه أن الإنسان الشجاع المُتشبث بالحياة هو وحده من يُدرك الخلود في هذه اللحظة. إنها مقولة رائعة، خلدها العديد من الفلاسفة، ويدركها كل من فكر أو أبدع في تلك الأثناء. نقول إن الزمن توقف للحظة، لأننا لا نملك كلمات لوصف هذه اللحظة، لكن الزمن، بالطبع، استمر ببساطة. لقد حررنا أنفسنا إلى أجل غير مسمى من التجربة التي، عادة، يسجننا فيها الزمن - تجربة المحدودية والاضطراب والزوال - ودخلنا في اتصال مع بُعد زمني أغنى وأوسع وأكثر خصوبة بكثير.

ولهذا السبب فإن «الذات المفكرة لا عمر لها»، كما لاحظت آرندت، وهي في سن السبعين تقريباً؛ لأنه كم يجب أن يكون عمرك إذا كنت خارج الزمن أثناء اللحظة غير المحروسة؟

ليس للتفكير مكان إقامة ثابت

الآن بعد أن تعرفنا على الإجابة التي تخص «متى» نفكر، تحاول آرندت أيضاً الإجابة على سؤال «أين». حسب قولها، فإن مساحة الفكر هي في الواقع «لا مكان» أو «يتوبيا». وذلك «لأن التفكير لا يملك وطناً؛ فهو يتمثل على شكل غياب وينسحب من وجود الأشياء».

وفقاً لمبدأ «المايوتك maieutic» السقراطي، ينشأ التفكير هنا. هذا المصطلح اليوناني الذي يشير إلى «قابلة - مولدة» - وصف به سقراط طريقته، التي كانت تهدف إلى مساعدة العقل على «ولادة» الأفكار.

إنه حوار يجري بين الناس وداخل الموضوع نفسه، ويحرك كل ما هو ثابت في داخلنا. إن الذات المفكرة هي متجولة أو «بدوية»، لا تتجه نحو معتقدات أو أفكار ثابتة، بل «تتجه نحو ما لم يتم التفكير فيه بعد».

ليس للتفكير مسكن ثابت؛ ولأنه بلا مأوى، يمكنك ممارسته في أي مكان في العالم، ويُفضل أن تكون متجولاً مغترباً. هذا ما كتبته آرندت عندما كانت تعيش في باريس: «طوبى لأولئك الذين ليس لديهم وطن، لأنهم ما زالوا يرونه في أحلامهم».

إنها نسختها لمقولة بول فاليري الشهيرة: «Je pense donc je ne suis pas» «أنا أفكر، إذن أنا لستُ موجوداً». في التفكير، لا بدّ من اختراق حضور الأشياء والذات من أجل إلقاء الضوء على شيء ما، في طي الغياب. فمن دون ساعة على معصمه وسقف دائم فوق رأسه، يحاول المُفكِّر مراراً وتكراراً الدخول في حوار داخلي مع نفسه ومع العالم.

***

نجاة تميم

 

مقدمة: تشكل السفسطة، كمذهب فلسفي يعود إلى العصر اليوناني الكلاسيكي، محورًا أساسيًا في تاريخ الفكر الغربي. السوفسطائيون، مثل بروتاغوراس وغورجياس وأنتيفون، كانوا معلمين جوالين يركزون على فن الخطابة (الريطوريقا)، والنسبية في الحقيقة، والتعليم العملي للنجاح في الحياة العامة. إلا أن صورتهم التاريخية غالبًا ما تُشوه بفعل نقد أفلاطون وسقراط، الذين وصفوهم بالمحتالين الذين يبيعون الحكمة مقابل المال، ويستخدمون الجدل للخداع بدلاً من البحث عن الحقيقة المطلقة. في هذه الدراسة، سنستعرض وجاهة العودة إلى السفسطة في الفلسفة المعاصرة، أي ما إذا كانت هذه العودة مبررة فلسفيًا وأخلاقيًا في سياق التحديات الحديثة مثل ما بعد الحداثة، النسبوية الثقافية، والسياسة الرقمية. سنعتمد على تحليل تاريخي وفلسفي، مع الاستناد إلى أفكار مفكرين معاصرين، لنقيم الحجج المؤيدة والمعارضة، مستخلصين أن العودة إلى السفسطة ليست مجرد إحياء تاريخي، بل استجابة ضرورية لعالم يغلب فيه الخطاب على الحقيقة الموضوعية. فماهي القيمة التي تم منحها للسفسطة في المقاربات الفلسفية المعاصرة؟

الخلفية التاريخية للسفسطة ونقدها الأفلاطون

بدأت السفسطة في القرن الخامس قبل الميلاد في أثينا، حيث كان السوفسطائيون يُعتبرون "حكماء" يدرسون فنون الإقناع والجدل. بروتاغوراس، على سبيل المثال، أعلن أن "الإنسان مقياس كل شيء"، مما يعني أن الحقيقة نسبية وتعتمد على الإدراك البشري والسياق الاجتماعي. أما غورجياس، فقد ذهب إلى أبعد من ذلك في رسالته "عن اللاوجود"، محاججًا بأن الوجود غير موجود، وإن وُجد فهو غير قابل للمعرفة، وإن عُرف فهو غير قابل للتواصل. هذه الأفكار كانت تهدف إلى تعزيز الديمقراطية من خلال تدريب المواطنين على المناظرة والإقناع، لكنها أثارت غضب أفلاطون الذي رآها تهديدًا للفلسفة كبحث عن الحقيقة الأبدية.في حوارات أفلاطون مثل "غورغياس" و"السوفسطائي"، يُصور السوفسطائيون كمحتالين يستخدمون الريطوريقا للإغراء بدلاً من الوصول إلى العدل والحق. يقارن أفلاطون الريطوريقا بالطبخ أو التجميل، أي فنون سطحية تخدع الحواس دون فائدة حقيقية. هذا النقد شكل النظرة السائدة للسفسطة كـ"سوفسطائية" بمعنى الجدل الخادع، واستمر حتى القرن التاسع عشر حين بدأ إعادة تقييمها من قبل هيغل وجورج غروت، اللذين رأيا فيها دفعة للتعليم العالي والحراك الاجتماعي. في الفلسفة المعاصرة، يُعاد اكتشاف هذا التراث كأداة لنقد الأنطولوجيا التقليدية، كما يظهر في أعمال باربارا كاسين التي تتحدث عن "تأثير السوفسطائي" كعنصر هيكلي في الفلسفة.

العودة إلى السفسطة في الفلسفة المعاصرة: السياقات والمفكرون

في القرن العشرين والحادي والعشرين، شهدت الفلسفة عودة ملحوظة إلى الأفكار السوفسطائية، خاصة في سياق ما بعد الحداثة والبراغماتية. يُرى هذا في رفض الحقيقة المطلقة لصالح النسبية والخطاب. نيتشه، على سبيل المثال، أشاد بالسوفسطائيين كحاملي "طاقة فلسفية"، معتبرًا اللغة مفاوضة للمعنى بدلاً من كشف الحقيقة. هيدغر، رغم تأثره بالبريسقراطيين مثل بارمينيدس، يتردد صدى نسبيته في الأعمال اللاحقة، حيث يُنقد الأنطولوجيا ككشف للوجود. أما ريتشارد رورتي، البراغماتي، فيعيد صياغة السفسطة كنقد للفلسفة كعلم، مفضلاً الإقناع الاجتماعي على البحث عن أساسات مطلقة.

في النسوية، تستعيد باحثات مثل شارون كراولي وسوزان جارات السفسطة لتحدي المنطق الأبوي، مستخدمات "مديح هيلين" لغورغياس كأداة لقلب الروايات الذكورية. كذلك، يرتبط فوكو وليوتار ودريدا بالنسبية السوفسطائية، حيث يركزون على القوة والخطاب كبناة للواقع. في مقالة "العودة إلى السوفسطائيين"، يُبرز الكاتب كيف تساعد السفسطة في مواجهة الفوضى المعلوماتية الحديثة، من خلال تدريب على الجدل المضاد لكسر الغرف الصدى وفك الخرافات الثقافية.

 كما في "تراث السوفسطائيين القدماء والثقافة الحديثة"، يُظهر التأثير في الإنسانيات الحديثة، مثل التربية التفاعلية والعقد الاجتماعي، الذي يعود إلى أنتيفون ويظهر في حقوق الإنسان المعاصرة. في السياسة، تظهر "السفسطة الجديدة" في عصر ما بعد الحقيقة، كما في مقالة "السوفسطائي قد سجل الدخول"، حيث ترتبط الريطوريقا بالإعلام الاجتماعي والسياسة، محذرة من سوء الاستخدام الأخلاقي.

هذا الاتجاه يعكس تحولاً من الفلسفة كعلم إلى أداة عملية، كما يناقش ريتشارد شوت في "السوفسطة الحديثة"، مستلهماً هانا أرندت في ربطها بالتوتاليتارية.

حجج وجاهة العودة إلى السفسطة

تكمن وجاهة العودة في قدرتها على مواجهة تحديات العصر.

 أولاً، في عالم ما بعد الحداثة، حيث تُفقد الحقيقة موضوعيتها، توفر السفسطة أدوات لفهم الخطاب كبناء اجتماعي. كما يقول غورجياس، اللغة ليست مجرد نقل للحقيقة، بل قوة إقناعية تشكل الواقع، مما يساعد في نقد السلطة كما عند فوكو.

 ثانيًا، تعزز الديمقراطية من خلال التربية على المناظرة، كما في "الجدل المضاد" الذي يرفض اليقين الأحادي ويشجع على التسامح. في "إذا الأنطولوجيا، فالسياسة"، يُظهر أندرو غوفي كيف تنقد السفسطة الأنطولوجيا كعنف خطابي، مفضلة "اللوغولوجيا" كممارسة لغوية تؤسس السياسة كتوافق أدائي دون أساس متعالي.   هذا يتناسب مع هابرماس في التواصل التبادلي، ومع لكلاو وموف في الخصومة الديمقراطية.

ثالثًا، في التربية الحديثة، كما في "فلسفة التربية السوفسطائية الجديدة"، تُعزز السفسطة الضوء المعرفي والحكمة كضوء لا يريد الجميع رؤيته، محفزة على التنافس والتكيف.  كذلك، في "دعوة لإحياء السفسطة"، يُدافع عن استعادتها في الخطاب العام والأدبي لاستعادة فلسفة الحكمة.  هذه الحجج تجعل العودة وجيهة لأنها تحول الفلسفة من تأمل مجرد إلى أداة عملية في عصر الرقمنة والتعددية.

حجج ضد وجاهة العودة إلى السفسطة

مع ذلك، توجد حجج قوية ضد العودة، تركز على مخاطر الخداع والفقدان الأخلاقي. أفلاطون حذر من أن السفسطة تحول الفلسفة إلى تجارة، وفي العصر الحديث، ترتبط بـ"السفسطة الحديثة" كما في السياسيين والكتب الذاتية، حيث يُستخدم العقل للمصلحة الشخصية بدلاً من المعرفة.

 في "تسييس الحقيقة: السفسطة الجديدة"، يرى آر. سي. سبرول أنها تحول الحقيقة إلى إقناع سياسي، مما يفقد الأخلاق.

كذلك، في عصر ما بعد الحقيقة، كما عند دونالد ترامب، تُرى السفسطة كأداة لـ"الحقائق البديلة"، مما يهدد الديمقراطية بدلاً من تعزيزها.

 في مناقشات على منصات رقمية، يُنقد البعض السفسطة كتبرير للتناقضات، كما عند أرسطو الذي حد منها بمبدأ عدم التناقض.

 هذه الحجج ترى العودة غير وجيهة لأنها قد تؤدي إلى نيتشوية سلبية أو توتاليتارية، كما عند أرندت.

خاتمة:

في الختام، تبدو العودة إلى السفسطة في الفلسفة المعاصرة وجيهة إلى حد كبير، لأنها توفر أدوات لنقد اليقينيات الزائفة وتعزيز الديمقراطية في عالم متعدد. ومع ذلك، يجب أن تكون مدعومة بأخلاقيات لتجنب الخداع. كما يقول نيتشه، السوفسطائيون يحملون طاقة فلسفية، وفي عصرنا، يمكن أن تكون هذه العودة خطوة نحو فلسفة عملية تتجاوز الأنطولوجيا التقليدية نحو سياسة أدائية. إن التوازن بين الإقناع والحقيقة هو مفتاح الوجاهة، مما يجعل السفسطة ليست نهاية الفلسفة، بل بداية جديدة لها. فهل تمثل السفسطة المعاصرة انطلاقة ثانية للفلسفة على نحو مختلف؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

بين الانغلاق الضروري والكشف القسري

 إن العبارة الفلسفية "الذات هي جسد عارٍ في عصر النسبية التكنولوجية للخصوصية" لا تمثل مجرد وصف عابر لتناقص الخصوصية، بل تشير إلى تحول وجودي عميق أعاد تعريف الذات في العصر الرقمي. لقد أصبحت الهوية الفردية، بجوهرها النفسي والسلوكي، خاضعة لعقد اجتماعي رقمي ضمني يفرض الانكشاف كشرط للمشاركة الفعالة.

يجب تفكيك مجاز "الذات العارية"؛ فهو لا يشير إلى التعرّي المادي، بل يرمز إلى فقدان الحصانة والحدود الشخصية، والتعرض الدائم لآليات المعاينة والتصنيف والحكم. تؤدي هذه الحالة إلى هشاشة قصوى. فالهشاشة، في هذا السياق، تنشأ من التفاعل بين الخصائص الفردية والظروف الخارجية، داخل سياق يتم فيه إعاقة الأهداف الشخصية وتتأثر فيه التصورات الذاتية والاجتماعية للهوية. تكمن الخطورة في أن الظروف الخارجية، ممثلة في البنى التحتية التكنولوجية واقتصاديات المراقبة، مصممة بطريقة هيكلية لتعظيم استخراج البيانات، مما يجعل "التعرية" حالة سياسية واقتصادية مفروضة، حيث يصبح ثمن عدم المشاركة في المجال الرقمي باهظاً.

أما الجزء الثاني من المقولة، "النسبية التكنولوجية للخصوصية"، فيشير إلى كيف أدت التكنولوجيا إلى إزاحة القيمة الثابتة والمطلقة للخصوصية، لتحل محلها قيمة متغيرة تحددها سياقات الاستخدام والتفاعل. لقد أصبح مفهوم الخصوصية، تماماً كما في الفيزياء الحديثة حيث تعتمد القياسات على الإطار المرجعي للمراقب، بات يعتمد على متغيرات تتجاوز إرادة الفرد. هذا التحول الفلسفي يفرض دراسة متعمقة لـجذور قياس الذات المستمدة من علم الجريمة والطب النفسي، وتحليل القوى الاقتصادية الدافعة للانكشاف (رأسمالية المراقبة لشوشانا زوبوف)، ونظام السيطرة النفسية الذي يصفه بيونغ تشول هان.

الجذور المعرفية للانكشاف الذاتي

إن تمثيل الذات في العصر الرقمي، كما يحلله الكاتب الألماني أندرياس برنارد في كتابه "نهاية عصر الخصوصية: انكشاف الذات في الثقافة الرقمية"، يقوم على بنية تحتية معرفية مظلمة. إن "الملف الشخصي" على وسائل التواصل الاجتماعي هو الشكل السائد لعرض الهوية الشخصية على الإنترنت، وهو مركز تتجمع فيه البيانات الشخصية والنصوص والصور ومقاطع الفيديو.

إن أساليب تمثيل الذات في أيامنا، سواء في الملفات الشخصية، أو وظائف تحديد المواقع في الهواتف الذكية، أو قياسات الجسم (القياس الكمي للذات)، ترجع في أصلها جميعاً إلى طرق اُبتُكرت وطُوِّرت في علم البحث الجنائي وعلم النفس والطب النفسي منذ نهاية القرن التاسع عشر. هذه الأوصاف الشخصية المتعلقة بالمظهر الخارجي والمرتبطة ببيانات السيرة الذاتية تُستخدم اليوم بمفهوم تواصلي ويتم استلهامها اقتصادياً أو عاطفياً.

يُفهم من هذا التأصيل التاريخي أن جوهر بناء الهوية الرقمية الحديثة ليس التواصل أو التعبير عن الذات بالمعنى الوجودي الحر، بل التصنيف والمعايرة الجنائية. أي أن البنية التحتية للذات الرقمية تستند إلى أنظمة مصممة في الأصل لـتشخيص الانحرافات، وتحديد المخاطر، وإثبات الهوية لأغراض المراقبة والسيطرة. بالتالي، فإن الوظيفة الجوهرية للذات الرقمية ليست الوكالة الحرة، بل التقييم المسبق للمخاطر. المستخدم يعتقد أنه يبني هويته، بينما التكنولوجيا تبني نموذجاً احتماليًا لسلوكه ونقاط ضعفه المحتملة. الذات المنكشفة هي بالضرورة "دليل إدانة" محتمل، تخضع باستمرار للتصنيف من قبل أنظمة بُنيت أساساً لمنطق التدخل أو العقوبة.

التحدي الاقتصادي: رأسمالية المراقبة واستغلال النسبية

تُستغل هذه النسبية التكنولوجية بطريقة منهجية من قبل رأسمالية المراقبة. إذا كانت قيمة الخصوصية نسبية وتعتمد على سياق-الزمن، فإن الجهة التي تتحكم في السياق الذي تُحلل فيه البيانات وتُتداول، تمتلك قوة هائلة. يتم تعمية هذا السياق عن المستخدم (كما لاحظت زوبوف بخصوص غياب الوعي الكامل أو الموافقة)، مما يسمح للنظام الاقتصادي بتقليل القيمة المتصورة للخصوصية لدى المستخدم (جعله يرى بياناته رخيصة أو بلا قيمة) بينما يزيد قيمتها التنبؤية القصوى للشركات. إن الذات العارية ليست فقط مكشوفة، بل إن قيمتها الحقيقية مخفية ضمن تحول سياقي نسبي يتم التحكم فيه خارج إطار وعي الفرد.

 اقتصاد استخراج الفائض السلوكي

تقدم شوشانا زوبوف تحليلاً مفصلاً لكيفية تحويل العصر الرقمي إلى نظام قائم على اقتصاد استخدام التجربة الشخصية كـ "مادة خام" للتحويل إلى سلع ذات قيمة يمكن التداول فيها.

الآلية الرئيسية التي تفرض "التعري القسري" هي استخراج ما يسمى "الفائض السلوكي". وهو البيانات التي تتخطى الحدود المطلوبة للخدمة ويتم جمعها وتجميعها في ملفات شاملة، مثل سرعة الكتابة وحركة الماوس والأماكن التي نقرأ عنها. يتم هذا الاستخراج دون وعي كامل أو موافقة من الجمهور، وتتخطى تداعياته مجرد استهداف الإعلانات، بل تؤثر على مفاهيم الاستقلالية والخصوصية في ظل الديمقراطية.

تكتمل قسرية هذا الاقتصاد بما تسميه زوبوف "التبعية والاستئثار بالبدائل". حيث أصبح من المستحيل تقريباً المشاركة بفعالية في الحياة اليومية (مثل التوظيف، التعليم، الرعاية الصحية) دون استخدام قنوات الإنترنت التي هي في الأساس سلاسل التوريد لرأسمالية المراقبة. هذا الاعتماد الضروري يُنشئ حالة لا يمكن فيها "تسجيل الخروج"، مما يرسخ حالة "الجسد العاري" كشرط لا مفر منه للمشاركة الاجتماعية.

في هذا النموذج، يصبح التعري الذاتي عملية يطلبها الفرد للحصول على مكافأة. فمن ينشئون ملفات شخصية مبتكرة يتمتعون بقدر كبير من الاستقلالية في عرض ذواتهم على الملأ، وكلما زاد الابتكار في بناء شكل الملف، زادت قوة ردود أفعال المستخدمين الآخرين. يصبح الكشف الذاتي استثماراً في الهوية الرقمية يسعى للقبول الاجتماعي، ولكنه يخدم بالضرورة منطق النظام الاستغلالي.

إن التهديد الأعمق للذات العارية، سواء من منظور زوبوف أو هان، هو تآكل الاستقلالية الديمقراطية. إذا كانت سلوكياتنا وتفضيلاتنا تخضع باستمرار للتنبؤ والتعديل لأغراض اقتصادية أو سياسية (عبر التخصيص أو الاستهداف)، فإن قدرتنا على اتخاذ قرار سياسي أو اجتماعي حقيقي وغير مشروط تتضاءل. يتم تحريك الذات الرقمية نحو استهلاك أو تصرف يخدم منطق المنصة الاقتصادي، مما يحوّل البيانات المكشوفة إلى آلية للسيطرة الاجتماعية، حتى في سياق الحركات الاحتجاجية، حيث تُعرّى من التنظيم المستدام وتوضع تحت رحمة الخوارزميات.

 الحماية القانونية للجسد العاري

إن الذات العارية التي تعيش حالة الهشاشة الهيكلية تضع النظم القانونية التقليدية أمام تحدٍ يتمثل في موازنة الكشف التكنولوجي الضروري لحركة الاقتصاد مع حق الحماية.

يعد مبدأ الطرف الثالث (Third-Party Doctrine) في القانون الأمريكي أحد أبرز الأمثلة على قصور الأطر التقليدية. ينص هذا المبدأ، الذي أُرسيت قواعده في سبعينيات القرن الماضي، على أنه عندما يسلم شخص معلومات طواعية لطرف ثالث (كشركة اتصالات أو مزود خدمة)، فإنه يخاطر بفقدان الحماية الدستورية لتلك المعلومات، وبموجبه يُسمح للحكومة بالوصول إلى هذه البيانات دون الحاجة إلى مذكرة تفتيش في حالات معينة.

في عالم الحوسبة الشبكية اليوم، التي تنتج كميات هائلة من البيانات المخزنة والمدارة بواسطة مزودي خدمات طرف ثالث، فإن هذا المبدأ يحمل آثاراً كارثية. القراءة الصريحة للمبدأ تعني أن الغالبية العظمى من بيانات الذات العارية، مهما كانت حساسة وكاشفة (الفائض السلوكي)، لا تحصل على الحماية الكافية بموجب التعديل الرابع للدستور. هذا المبدأ يشرعن حالة التعري القانوني للذات أمام سلطة الدولة والشركات.

 الهشاشة ذاتية المنشأ وتحديات المسؤولية

غالباً ما تعزز السردية القانونية فكرة "التنازل الطوعي" أو "الوكالة الفردية المطلقة"، حيث ترى أن الفرد ليس لديه "توقع مشروع للخصوصية في المعلومات التي يسلمها طواعية لأطراف ثالثة". هذا يضع عبء حماية الخصوصية بالكامل على الفرد المكره على المشاركة الرقمية، ويهمل الدور الهيكلي للنظام الاقتصادي في إجبار هذا الكشف.

إن مقولة "الذات هي جسد عارٍ" تصف تحولاً بنيوياً حيث تم تجريد الذات من حدودها التقليدية ومن استقلاليتها الكاملة. إن انكشاف الذات المستمر، المدعوم بالأساليب التي تعود في أصلها إلى علم الجريمة، وإخضاعها لمنطق رأسمالية المراقبة (استخراج الفائض السلوكي)، وتحويلها إلى الأداء السطحي الذي يفتقر إلى العمق، يؤدي إلى تآكل الهوية الوجودية.

 المجتمعات والتحديات الخطيرة:

فقدان العمق: تصبح الذات "أكثر واقعية وحيوية لكنها فارغة من المحتوى"، حيث تركز على المظهر والقياس على حساب التجربة العاطفية والحياة الواقعية.

السيطرة الخوارزمية: حتى الحركات الاجتماعية والاحتجاجات، التي يمكن أن تكتسب زخماً وانتشاراً في البيئة الرقمية، تُعرّى من التنظيم المستدام وتُخضع للخوارزميات وأدوات الرقابة، مما يحد من قدرتها على التحول إلى قوة تغييرية فعلية.

***

غالب المسعودي

.........................

المراجع

جودت شاكر محمود. رأسمالية المراقبة وآفاق حضارة رقيق المعلومات. الحوار المتمدن.

برنارد، أندرياس. عصر نهاية الخصوصية: انكشاف الذات في الثقافة الرقمية. ترجمة غير مذكورة. مكتبة بنيان (binyanbooks.com).

"Choice Architectures in the Digital Economy: Towards a New Understanding of Digital Vulnerability." (“Behavioral Economics in The Era of Digital Subscriptions: Choice or ...”) PMC - PubMed Central (pmc.ncbi.nlm.nih.gov).

THE GENERAL RELATIVITY OF PRIVACY. (idw-online.de).

The Case for Logging Off (And Back on Again). Transdisciplinary Design (sds.parsons.edu).

ورﻗﺔ ﺗﺄﻣﻠﯾﺔ ﺣول ﻣﻔﮭوم ﺷوﺷﺎﻧﺎ زوﺑوف ﻟرأﺳﻣﺎﻟﯾﺔ اﻟﻣراﻗﺑﺔ. ResearchGate (researchgate.net).

يتساءل البعض ان كان سي اس لويس C.S.Lewis صائبا في قوله ان العقل يثبت ما فوق الطبيعة supernatural . الكاتب والثيولوجي البريطاني C.S.Lewis(1898-1963) كان من ابرز الكتاب المفكرين في عصره، وكما قيل عنه كـ "مفكر عملاق". كان ولايزال لديه مشاهدين لروايته حول الأطفال (سجلات نارنيا) وللعديد من كتبه التي كتبها لمواجهة معارضات العقيدة الدينية (كتاب المسيحية المجردة) Mere Christianity. درّس لويس الادب في جامعتي أكسفورد وكامبردج في الشطر الأكبر من حياته، واصبح بروفيسور في كامبردج عام 1954. هو كان أيضا فيلسوفا عميقا وواضحا يتضح ذلك في كتابه (المعجزات،1947). هنا هو يبني اول حجة سليمة ومقنعة منطقيا على وجود شيء ما بالإضافة للطبيعة، "والتي يسميها الكثيرون بـ فوق الطبيعة" supernatural. سنحلل حجته في هذا المقال. هل ستقنعنا؟ اذا كانت مقنعة، عندئذ ستكون لها مضامين خطيرة لأولئك المعارضين مثل ريتشارد ديكنز الذي ينكر بشدة أي شيء مضاف للطبيعة.

التفكير في ما وراء الطبيعة

هل يمكن توضيح الظاهرة الطبيعية بواسطة العلم – وتوضيح الضرورة المادية التي نلاحظها تتحكم بسلوك كل الأشياء الطبيعية في كل مكان؟ هل سيكتشف العلم في يوم ما لماذا الجاذبية وسرعة الضوء وغيرها من الثوابت الفيزيائية الأساسية (1) ثابتة، وهي أيضا مصممة بدقة لأجل حياة ذكية؟ لا أحد يعرف حتى الان كيف جاءت الثوابت الاساسية الى الوجود او لماذا هي كما هي عليه، ولهذا فان قوانين الطبيعة تبدو تفتقر الى أساس يمكن الوصول اليه. لو كانت قيم تلك الثوابت مختلفة، فسوف لن يكون ممكنا وجود لا عالمنا ولا الحياة التي نعرفها. لذا فان الثوابت الأساسية هي معطيات "givens" وضعت اطارا للطبيعة تبدو فيه كل الأحداث تمتلك أسبابا طبيعية، وحيث يتم عمل العلم. هذا هو الميدان الذي تسود فيه الطبيعية.

عرّف لويس الطبيعية naturalism " بـ العقيدة بانه لا يوجد شيء غير الطبيعة – نظام متشابك بالكامل – . واذا كان ذلك صحيحا، فان كل شيء وكل حدث، لو عرفنا ما يكفي، سيكون قابلا للتوضيح بالكامل .. كنتاج ضروري للنظام" ص18. كتب لويس هذه الكلمات في كتابه (المعجزات،1947). هنا هو يعترف بانه يمكن ان لا تكون هناك معجزات لو لم يوجد شيء آخر إضافي للطبيعة “نسميه فوق الطبيعة". هذا التمييز كما يوضح، ليس بين الذهن والمادة، ولا بين الروح والجسم، وانما بين الطبيعة و "شيء آخر" – شيء حسب لويس يجب ان يوجد بالإضافة للطبيعة وهو ما يسعى لتحديده. يرى لويس ان المعجزة ستكون "تدخلا في الطبيعة من قبل قوة خارقة للطبيعة"ص5. يختلف تعريف لويس جذريا عن تعريف ديفيد هيوم الذي استخدمه في عمله (مقال في المعجزة،1777) الذي اعتبر فيه المعجزة ستكون "انتهاكا لقوانين الطبيعة". هذه لاتزال الفكرة الشائعة عن المعجزة: في انها حدوث تتوقف فيه قوانين الفيزياء والبايولوجي.

لويس ينكر بوضوح هذا في (المعجزات ص93). "نحن معتادون على الحديث كما لو ان قوانين الطبيعة هي التي تقف وراء حدوث الاحداث، لكنها لم تسبب ابدا أي حدث .. انها تحدد الشكل الذي يجب ان يمتثل له كل حدث. لذا فان المعجزة سوف لن تخالف او توقف قوانين الطبيعة بل هي تغذي احداثا جديدة في الطبيعة. المعجزة تحدث عندما يتم ادخال سبب فوق طبيعي ودمجه في الطبيعة بطريقة ما – تماما مثل أي سبب آخر – بواسطة قانون طبيعي – كنظام.

يرى لويس ان الطبيعية سوف تتضمن الحتمية determinism. رؤيته للطبيعة هي كنظام كل شيء يحدث فيه معتمدا على شيء آخر يحدث ضمن النظام، وفي النهاية في كامل النظام من الاحداث المتشابكة. لكي يبيّن ان المعجزات ممكنة، يحتاج لويس اثبات ان شيئا ما موجود لا يعتمد على النظام المتشابك للطبيعة ولايمكن توضيحه كنتاج ضروري له. هذا الشيء المنفرد الاستثنائي هو تفكير عقلاني "ليس جزءا من نظام الطبيعة":

(أفعال التفكير هي ليست متشابكة بإحكام مع النظام الكلي المتشابك للطبيعة كما تتشابك جميع عناصره الأخرى مع بعضها. هي مرتبطة معه بطريقة مختلفة، لأن فهم الماكنة مرتبط حتما بماكنة، لكن ليس بالطريقة التي تترابط بها أجزاء الماكنة مع بعضها. المعرفة بالشيء ليست من أجزائه.) ص37،38.

وبهذا هو يقرر ان الفرق بين ما فوق الطبيعي والطبيعي هو في الحقيقة بين العقل والطبيعة، "الحد الفاصل يأتي ليس من المكان الذي ينتهي به "العالم الخارجي" و ما تبدأ به "ذاتي"، وانما بين العقل وكامل كتلة الأحداث غير العقلانية سواء كانت مادية او نفسية (ص38).

لكي يبرر هذا الاستنتاج، يحتاج لويس إثبات انه اذا كانت كل الاحداث، بما فيها الاحداث الذهنية (أفعال التفكير) هي في الحقيقة كانت مقررة سببيا (محكومة بقوانين الطبيعة)، عندئذ نحن لا نستطيع ابدا ان نقرر أي شيء عبر التفكير المنطقي. نحن لا نستطيع ذلك ابدا لأن الأحكام العقلانية لا تعتمد على علاقة سببية بين الأسباب ونتائجها وانما على علاقة منطقية بين المقدمات والاستنتاجات التي نستنبطها منها. سيحتاج لويس الى حجة أخرى لإثبات ان التفكير المنطقي هو ذاته ليس قدرة طبيعية بنفس الطريقة التي تكون فيها الرؤية البصرية والسمع طبيعيان، لأنه لو كان الاستدلال طبيعيا بنفس الطريقة، فانه سيكون خاضعا للأسباب الطبيعية بنفس الطريقة التي تخضع بها حواسنا للأسباب الطبيعية. هو يعتقد ان قوتنا في التفكير لا تحدث بنفس الطريقة كما في حواسنا الخمس: انها لم تتطور فينا بواسطة عملية الاختيار الطبيعي. لكن لماذا يجب على كل شخص ان يعتقد بان قوة العقل ليست نتاجا للاختيار الطبيعي؟

التفكير الخارق للطبيعة

يبدأ لويس جداله بالادّعاء ان كل المعرفة الممكنة بما هو صحيح تعتمد على صلاحية التفكير: "مالم يكن التفكير الإنساني صالحا سوف لن يكون هناك علم صحيح" كما يقول في المعجزات ص21. الان لدينا سلسلة صالحة من التفكير، أي، لها قيمة كوسيلة للعثور على الحقيقة فقط عندما تكون كل خطوة مرتبطة بما حصل من قبل في علاقة سبب – نتيجة ground-consequent relation. يقترح لويس ان أسهل طريقة لتوضيح هذه العلاقة، هي ان نلاحظ معنيين اثنين متميزين عن العالم. نحن نستطيع القول "جدّي مريض اليوم لأنه تناول سرطان البحر يوم امس". نستطيع أيضا القول “جدي يجب ان يكون مريضا اليوم لأنه لم يستيقظ بعد (ونحن نعرف انه عادة يستيقظ مبكرا عندما تكون صحته جيدة)". في العبارة الأولى تشير (لأن) الى علاقة سببية من سبب ونتيجة: تناول الطعام جعله مريضا. في الجملة الثانية، تشير (لأن) الى علاقة منطقية من سبب ونتيجة: تأخير الرجل الكبير في الاستيقاظ هو السبب الذي يجعلنا نعتقد انه مريض. الحالة الاولى تشير الى ارتباط بين أحداث، اما الثانية تشير الى علاقة منطقية بين العقائد او الادّعاءات. مالم يكن الاستنتاج نتيجة منطقية من السبب، سيكون بلا قيمة وربما يكون صحيحا فقط بالحظ. وهكذا، الاستنتاجات تعتمد على أسباب منطقية لصلاحيتها بدلا من أسباب مادية حتى عندما تكون تلك الأسباب المادية،مثلا، حالات سابقة للدماغ.

ورغم ان لويس لم يشر ابدا له، طور عمانويل كانط بالضبط هذه الحجة قبل 160 عاما في كتابه (تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق،1785). هناك كتب كانط "نحن لا نستطيع ان نتصور عقلا يتم توجيهه من الخارج بشأن أحكامه. اذا كان الكائن العقلاني واعيا بأي تأثير خارجي، هو سوف يعتبر أحكامه مقررة ليس بواسطة العقل وانما بواسطة الحافز impulse. العقل يجب – اذا كان عليه ان يفكر – بان يعتبر ذاته كمؤلف لمبادئه الخاصة به بشكل مستقل عن المؤثرات الخارجية"(ص448). اذا كان كل حكم والذي هو استنتاج لحجة نتج فقط بواسطة احداث ذهنية سابقة و لم يكن رؤية عقلانية للارتباط بين المقدمات والاستنتاج، عندئذ سوف لن يكون هناك فرقا بين استدلال صالح وغير صالح، وبالنهاية سوف لن تكون هناك حقيقة. في تلك الحالة سوف لن تُقبل صلاحية العقيدة بالطبيعية والتي تتضمن حتمية سببية. ومن هنا يأتي ادّعاء لويس بانه "مالم يكن التفكير الإنساني صالحا فلا علم صحيح". لكنه اعتبر الامر واضحا بذاته (كما يُفترض ان نعمل جميعنا) بان الكائن البشري قادر على عمل استدلالات عقلانية صالحة ويشكل عقائد صحيحة.

تسير حجة لويس على النحو التالي:

1-  الطبيعية (تُعرّف كعقيدة بان الطبيعة وحدها موجودة ) تتضمن الحتمية.

2-  اذا كانت الطبيعية صحيحة فان عقائدنا تقوم على أساس من اسباب غير عقلانية (مقررة)، وسوف لن نكون قادرين لعمل استدلال.

3-  في تلك الحالة نحن غير قادرين على ذكر الأسباب لتبرير التمسك بعقائدنا.

4-  لكن مما لا شك فيه اننا في الحقيقة نتوصل الى الحقائق عبر الاستدلالات المنطقية.

5-  لذلك نحن يجب اما ان نرفض الطبيعية كزائفة او نتوقف عن التسليم باننا نصل الى عقائد صحيحة عبر الاستدلال المنطقي.

6-  نحن لا نستطيع التوقف عن التسليم بان عقائدنا هي صحيحة حقا .

7-  لذلك يجب ان نستنتج بان الطبيعية زائفة وان هناك شيء آخر يوجد الى جانب الطبيعة.

تطوّر غير سليم

اعتقد لويس ان هذه الحجة نفت الطبيعية وأثبتت حقيقة ما فوق الطبيعة. لكن، وكما ادرك كانط، انه رغم ان هذه الحجة صالحة منطقيا، هي مع ذلك ربما غير سليمة. المقدمة الثانية هي زائفة. ذلك انه حتى لو كانت الطبيعية صحيحة، وكل افكارنا ومعتقداتنا مقررة سببيا بأحداث سابقة، نحن لانزال قادرين على عمل استدلالات. التفكير العقلاني بالتأكيد فتح الطريق لبقاء اسلافنا على قيد الحياة وتكاثرهم، وهي ممارسة مُلزم الاختيار الطبيعي بالحفاظ عليها وصقلها. اذا لم يكن هناك شيء سوى الطبيعة، سيتوقع المرء عقلا يأتي للوجود عبر عملية تاريخية. لذا، رأى لويس ان عليه دحض الادّعاء بان "نوع السلوك الذهني الذي نسميه الان التفكير العقلاني او استدلال يجب ان يكون "تطور " عبر الاختيار الطبيعي، عبر إزالة تدريجية للأنواع الأقل لياقة للبقاء"(ص28).

الاختيار الطبيعي يعمل من خلال إزالة الاستجابات البيولوجية المؤذية والحفاظ على الاستجابات التي تميل للمساعدة على البقاء. لكن كيف يمكن لأي تحسين بايولوجي في الاستجابة ان يحوّلها الى أفعال لرؤية منطقية – الى قوة في رؤية الكيفية التي يجب ان يتبع بها إستنتاج حجة صالحة من مقدمتها؟ العلاقة بين الاستجابة والمحفز stimulus تختلف في الصنف عن العلاقة بين المعرفة والحقيقة المعروفة: "رؤيتنا الجسدية هي استجابة للضوء اكثر فائدة من رؤية الكائنات البدائية التي فيها فقط نقطة حساسة للضوء. لكن لا هذا التحسين ولا أي تحسينات ممكنة مفترضة ان تجعلها أقرب بمقدار بوصة واحدة لتكون معرفة بالضوء. انه من المؤكد هناك شيء ما بدونه لا نستطيع امتلاك تلك المعرفة. لكن المعرفة تتحقق عبر التجارب والاستدلال منها وليس من خلال تحسين الاستجابة. انه ليس الناس ذوي العيون الجيدة يستطيعون المعرفة حول الضوء وانما الناس الذين درسوا العلوم ذات الصلة"(المعجزات ص29).

الرؤية هي استجابة جسدية او مادية، لكن استجاباتنا السايكولوجية لبيئتنا – فضولنا، نفورنا، فرحنا، توقعاتنا – قد يتم تحسينها أيضا الى فترات غير محددة بدون ان تصبح أي شيء عدى استجابات. اذا كانت استجاباتنا السايكولوجية (مقابل رؤيتنا المنطقية) تم تحسينها ببطء عبر الاختيار الطبيعي، عندئذ ذلك ربما تعد كطريقة مختلفة لتحقيق البقاء – كـ "بديل للعقل": "عملية التعلم وتغيير السلوك تبعا للبيئة التي ضمنت اننا لن نشعر ابدا بالفرح عدى في المفيد او النفور من الخطر، وان درجات كل منهما كانت متناسبة بشكل رائع مع درجة المنفعة الواقعية او الخطر الواقعي في الشيء، ربما يخدمنا بالإضافة للعقل او افضل في بعض الظروف"(ص29). لكن حتى لو حدثت فعلا هذه التحسينات في استجاباتنا السايكولوجية غير العقلانية، انها لن تحوّلها ابدا من كونها مجرد ردود أفعال الى سبب لتكون استدلالات صالحة.

أخيرا ينظر لويس في إمكانية ان العقل بالرغم من كونه لم يتطور من خلال الاختيار الطبيعي، هو ربما كان اُنتج بشكل طبيعي من خلال التجربة – تجربة فردية اصلية، لكن النتائج انتقلت عبر التقاليد والتعليمات. فمثلا، لو من خلال تجربتنا نجد نارا (او بقايا نار) حيثما نشاهد دخانا، هذا من شأنه ان يجعلنا نتوقع نارا متى ما شاهدنا دخانا. هذا التوقع، المعبر عنه "اذا كان هناك دخان، هناك نار" اصبح ما نسميه استدلال. "هذا الاقتران في التجارب على مدى الاف السنين، يمكن ان يخلق السلوك الذهني الذي نسميه تفكير او عقل – بكلمة أخرى، ممارسة الاستدلال – من سلوك ذهني لم يكن في الأصل عقلانيا" (لويس،ص29). وهكذا فان التجربة تنتج التوقعات: تحفزنا لنتوقع النار عندما نرى الدخان تماما مثلما تحفزنا لنتوقع كل البجع سيكون ابيض (الى ان شاهدنا واحدة سوداء)، او ان الماء سيسخن دائما في درجة حرارة 100 مئوية (الى ان خرجنا في نزهة على جبل). مع ذلك، هذه التوقعات لم تكن استدلالات صالحة لأنها اتضح انها زائفة:

"الافتراض بان الأشياء التي كانت مترابطة في الماضي سوف تكون مترابطة دائما في المستقبل هو المبدأ المرشد ليس للسلوك العقلاني وانما للحيواني. العقل يأتي بالضبط عندما انت تعمل استدلالا. عندما تكتشف ما هو الدخان، انت ستكون قادرا على استبدال التوقع باستدلال حقيقي. وحتى يتم هذا، يعترف العقل ان التوقعات مجرد توقعات"(المعجزات، ص30).

استنتاج

 لاحظنا مبكرا ان حجة لويس الرئيسية هي صالحة منطقيا، لكن شككنا بصحة مقدمته الثانية. نحن سألنا هل من الممكن، حتى لو كانت الطبيعية صحيحة، تكون القدرة على التفكير العقلاني نتاج اختيار طبيعي، او حتى تجربة؟ جواب لويس هو بالنفي الحازم. التطور او التجربة سهّلا لنا التنبؤ بالارتباطات السببية بين الاحداث، لكن ليس لنرى كيف "يجب" منطقيا ان تكون الأشياء التي خارج أذهاننا. لذلك فان قوة العقل ليست جزءا من نظام الطبيعة.

هل نجح لويس في انتاج اول برهان صالح منطقيا لمافوق الطبيعة – "شيء وراء الطبيعة" والذي يعمل متى ما نفكر؟ حسب التعريف، الحجة السليمة هي تلك التي تقنعك للأيمان بان استنتاجها صحيح. فهل اقتنعنا؟ الامر بالنهاية يعود الى حكم شخصي.

اذا كان لويس صائبا في رؤيته بان العقل البشري لم يُصنع بواسطة الاختيار الطبيعي او التجربة، عندئذ هل هو "معطى"، كما في الثوابت الفيزيائية الأساسية التي هي معطيات؟ كل من الثوابت والعقل يبدوان متميزان عن الطبيعة. وكما في حالة الثوابت، العقل هو شرط أساسي للعلوم: انه اداتها الأساسية – لأنه بدون الاستدلال العقلاني سوف لن تكون هناك حقائق، وبالتالي لا علم صحيح، والعقل ليس فقط ضروريا مثل الثوابت الفيزيائية، انه أيضا مثلها – عالمي وثابت. بالتأكيد صحيح انه بدون الجمع بين الثوابت الفيزيائية والعقل البشري، لا يمكن ان تظهر الحياة التي نعرفها الى الوجود.

***

حاتم حميد محسن

.................................

الهوامش

(1) الثوابت الفيزيائية هي كميات بقيم عددية ثابتة لا تتغير عبر الزمان والمكان وتُستعمل في معادلات الفيزياء والكيمياء. هي تُكتشف من خلال المشاهدة والتجربة وجرى اعتبارها من الخواص الأساسية للطبيعة. مثال على ذلك، سرعة الضوء في الفراغ وثابت الجاذبية وثابت بلانك. هذه الثوابت هامة جدا في فحص مدى صحة النظريات والتطبيقات العملية المرتكزة عليها.

 

من الإخضاع البيولوجي إلى الترويض الاجتماعي

مفهوم التدجين، الذي يتضمن العملية البيولوجية التي تزامن تاريخياً مع الثورة النيوليثية، نُقِل لاحقاً في الفكر النقدي والفلسفي ليصف آليات السيطرة الاجتماعية والسياسية. في هذا السياق، يُعرَّف التدجين بأنه عملية سياسية واجتماعية تهدف إلى تدجين الشعوب. يسعى هذا التدجين الاجتماعي والفكري إلى تركيع إرادة الشعوب وسلب حريتهم وقهر إرادتهم ضمن إطار الإذلال والاستضعاف، لخدمة مصالح الحاكم وحاشيته.

الهدف من هذا التحليل هو تتبع هذه السيرورة التاريخية والفلسفية، وكشف كيف تحوَّل التدجين من تقنية بيولوجية لاستخراج المنفعة المادية، إلى تقنية سلطوية لاستخراج المنفعة الإدارية والخضوع السياسي.

الأبولوجيا: الخطاب التبريري للسلطة

تعمل الأبولوجيا (أي الخطاب التبريري) كآلية فكرية تُشرعن الهيمنة وتُغلِّفها بقيم عليا، سواء كانت إنسانية، دينية، أو وطنية. جوهر هذه الآلية هو تحويل فعل الإخضاع القسري إلى "قيمة أخلاقية وضرورة إيديولوجية" في علاقة الإنسان بالنظام السياسي وبالسلطة.

في المجتمعات التي تتبنى هذا الخطاب، يتم تبجيل الطاعة واعتبارها الحالة المثالية والحل الصالح لنجاح هذه العلاقات، بينما يُنظر إلى الفكر النقدي على أنه "فكراً هدّاماً". يضمن هذا التشويه للمفاهيم أن أي مطلب تغييري يصبح موصوماً بـ "روح سلبية وأهداف مشبوهة". هذه الاستراتيجية التبريرية هي الركيزة المعرفية التي تقوم عليها السلطة التدجينية، حيث تتولى الأيديولوجيا صناعة، أو إعادة صناعة، الواقع المعاش لسلوكيات الجماعات الخاضعة.

أهمية الاشتباك النقدي

يعتمد هذا التحليل على المنهج النقدي، المستمد من مقاربات فلسفية مثل مدرسة فرانكفورت والفلسفة الفوكوية، لتفكيك بنية هذه الأبولوجيا وكشف خطاباتها المتسترة. إن تبجيل الطاعة وغياب الحرية النقدية يؤديان حتماً إلى ازدياد التشدد والتطرف والانحياز لشخص أو فكرة، نتيجة غياب الحرية النقدية والرقابة الاجتماعية.

يشير التحليل النقدي إلى أن بناء مجتمع سليم يستحيل إذا حارب هذا المجتمع الحرية والفكر النقدي وقدَّس الطاعة. فالحرية والديمقراطية شرطان أساسيان لبناء الإنسان السليم عقلاً وجسداً، ولا مجتمع أخلاقي بدون حرية. لقد تجاوزت المجتمعات الإنسانية المتحضرة مفهوم الطاعة بهذا الشكل المَرَضي منذ عقود طويلة، واعتمدت النقد كقيمة فكرية وإنسانية وحاجة للتقدم والارتقاء بالبشرية. لذلك، فإن الاشتباك النقدي ضروري ليس فقط لفهم آليات التدجين، بل لإعادة تأسيس القيم الإنسانية للتحرر.

الجذور التاريخية للتدجين والسلطة

إن فهم آليات التدجين الاجتماعي يبدأ بالثورة النيوليثية، التي لم تكن مجرد ثورة زراعية، بل تحولاً عميقاً في التنظيم البشري. فالتدجين البيولوجي تزامن مع تغييرات في التنظيم الاجتماعي. وقد تميزت عملية التدجين البيولوجي بدور الإنسان كعامل تشتيت وإدارة لتكاثر الكائنات، وعامل اختيار (واعٍ أو لاواعٍ) لصفات معينة، ومُعدِّل للنظام البيئي. أنتج هذا التحكم في الطبيعة نموذجاً للهيمنة، يقوم على اختيار الصفات التي ستؤدي إلى إنتاج أفضل.

في هذه الحقبة، بدأت تظهر أقدم أشكال التنظيم الاجتماعي والسلطة. المكتشفات تشير إلى أن القرى المبكرة، مثل مرمدة بني سلامة، عرفت تخطيطاً معيناً للمساكن، حيث التزمت صفوفاً شبه مستقيمة يفصل بينها طريق ضيق. يمثل هذا التخطيط المُنظَّم أقدم دليل على نشأة نوع من التفاهم الاجتماعي ووجود سلطة في القرية استلزمت التنظيم وعملت على تنفيذه.

هنا يتضح أن التدجين، في جوهره، هو تقنية لاستخراج المنفعة والسيطرة. تاريخياً، كانت المنفعة اقتصادية (غذاء، عمل)، ونشأة السلطة كانت في البداية ضرورة لوجستية وتنسيقية لخدمة هذه المنفعة. إلا أن هذا النموذج الأولي للتحكم في التكاثر والصفات سيتم استعارته لاحقاً وتطبيقه على الأفراد لإنتاج مجتمع منظم ومفيد.

السلطة الميكروفيزيائية والتدجين الانضباطي

يمثل ميشيل فوكو مرجعية أساسية في تحليل آليات التدجين الحديثة، مركزاً على تفكيك شبكة العلاقات الدقيقة للقوة التي تخترق الجسد والوعي. أكد فوكو على أن تاريخ المجتمعات الإنسانية يتأسس على علاقات القوة وإرادة الإخضاع. لكنه رفض اختزال مفهوم السلطة في جهاز الدولة. ويرى فوكو أن الفلسفات التقليدية وقعت في السؤال الماهوي "ما هي السلطة؟". ولذلك، قام بنقلة نوعية ليسأل: "كيف نُمارس السلطة"؟

يكشف هذا التحول أن السلطة ليست "ماهية" يمكن امتلاكها، بل هي "ممارسة" وعلاقات قوى متمددة. يصفها فوكو بالسلطة الميكروفيزيائية، وهي شبيهة بالذرات التي لا نراها إلا بالمجهر، وهي نتيجة لعلاقات قوى تأبى إلا أن تنفذ على الواقع الفعلي وتتستر وتختبئ في انثناءاته. يوضح هذا الفهم أن التدجين ليس عملية قمع كبرى، بل شبكة دقيقة من الإخضاع تتغلغل في الخطاب والمعرفة.

الطاعة كتقنية للسيطرة الأيديولوجية

في المجتمعات التي يتم تدجينها، يتم تبجيل الطاعة على أنها "قيمة أخلاقية وضرورة إيديولوجية". يعمل هذا التقديس للطاعة على تحويل الإخضاع السياسي إلى قناعة ذاتية، حيث يُعتبر الفكر النقدي في موضع الفكر الهدّام. هذه الاستراتيجية الأيديولوجية خطيرة لأنها تمنع أي تحول مجتمعي حقيقي، حيث يصبح أي مطلب تغييري موصوماً بالروح السلبية والأهداف المشبوهة.

هذا هو الجوهر الفلسفي للأبولوجيا: قلب الموازين الأخلاقية. إن المجتمعات التي تحارب الحرية والفكر النقدي وتقدس الطاعة لا يمكن أن تنجح في بناء إنسان سليم أو مجتمع أخلاقي. إن غياب الحرية النقدية والحرية الفكرية، والتي تُعتبر شرطاً للإنسانية، يؤدي إلى زيادة الرقابة الاجتماعية والسياسية والدينية، مما يزيد من التشدد.

التدجين في العصر الحديث والمجتمع أحادي البعد

شهد العصر الحديث تحولاً في آليات التدجين، حيث أصبحت أكثر تغلغلاً ونعومة، مستفيدة من التقنية المتقدمة وشمولية النظام الرأسمالي.

قدم هربرت ماركيوز نقداً جذرياً للهيمنة التقنية والعقل المنغلق، معتبراً أن هذا العقل يستلب الإنسان ويحوله إلى آلة إنتاجية، مما يؤدي إلى "التشيؤ". يُشكِّل التدجين في هذه المرحلة تدجيناً اقتصادياً يفقِد الإنسان كينونته ووجوده، وهي نزعة تشاؤمية نابعة من اغتراب الإنسان في المجتمع الصناعي الحديث الذي تغلب عليه التقنية، أو ما أسماه ماركيوز "المجتمع أحادي البعد".

يُعد هذا التشيؤ أبولوجيا اقتصادية قوية تبرر النظام بكونه فعالاً ومنتجاً. لقد سعى ماركيوز إلى نظرية اجتماعية جدلية مناقضة للعلم الاجتماعي الوضعي الذي كان يماثل بين دراسة المجتمع ودراسة الطبيعة. ومنظوره يؤكد أن التدجين ليس مجرد قمع سياسي، بل هو فقدان للذاتية في خضم الإغراءات التقنية والإنتاجية.

فلسفة المقاومة ونزع التدجين

إن مقاومة التدجين تتطلب رفض الانصهار في نظام اجتماعي واحد (التجانس القسري) والمساهمة في خلق فضاءات اجتماعية مستقلة وحرة. يجب أن يتجه هذا النضال نحو تحرير الحياة الروحية للبشر من كل الإكراهات والالزامات الأيديولوجية باسم "الهوية".

نزع التدجين هو عملية تفكيك معرفية (أركيولوجية/جينيالوجية) لخطاب السلطة. يجب كشف الخطاب الإيديولوجي الذي يحاول تدجين المواطنين ضمن إطار سياسي وفكري واحد، ورفض الأفكار التي تحول الإخضاع إلى جعل الطاعة كقيمة دوغمائية ورفض النقد.

إن المقاومة لا يجب أن تقتصر على معارضة السلطة السياسية المباشرة، بل يجب أن تمتد إلى تفكيك "السلطة المعنوية" أو غيرها من أشكال السلطة التي تمثل ارتداداً في الوعي الجمعي نحو انتماءات ما قبل الدولة، خاصة في حالة فراغ الدولة الوطنية. إن التدجين ليس مجرد ظاهرة سياسية عابرة، بل هو عملية تاريخية متطورة، تسعى فيها السلطة بشكل متزايد إلى تحقيق سيطرة أكثر عمقاً وشمولاً على الكينونة الإنسانية.

لقد تطور التدجين من الإخضاع المادي (النيوليث) إلى الإخضاع الاجتماعي والإداري (الدولة الحديثة)، ثم إلى الإخضاع الانضباطي (فوكو). وتكمن الأبولوجيا في تحويل هذه الممارسات إلى مبررات عقلانية وأخلاقية، مثل تقديس الطاعة أو تبرير السيطرة باسم التنمية. تستثمر هذه الأبولوجيا في "التدجين النفسي" عبر بث الخوف والأزمات لانتزاع التنازلات الطوعية عن الحريات.

إن الصراع النقدي ضد هذه الأبولوجيا المتجددة هو صراع من أجل استعادة جوهر الأنسنة. فالحرية هي شرط للإنسانية، و"لا يوجد خَلْق حيث لا توجد حرية". تتطلب مقاومة التدجين نزع الشرعية عن الخطابات التبريرية، وتفكيك الأجهزة الناعمة للسلطة، والنضال من أجل بناء فضاءات حرة ومستقلة تتجاوز حدود النظام السائد. إن مستقبل الكينونة البشرية مرهون بقدرتها على التحرر من أغلال التدجين، بجميع أشكاله، عبر استعادة الفكر النقدي كمبدأ مرشد للعمل والتحرر.

***

غالب المسعودي

...................

المراجع

PMC.ncbi.nlm.nih.gov. (Current perspectives and the future of domestication studies - PMC - PubMed Central - NIH).

ronahi.net. (سياسة تدجين الشعوب وأثرها بين تعزيز السلام والتعايش السلمي - صحيفة روناهي).

elaph.com. (سياسة التدجين في المجتمعات الشرقية - Elaph).

meijournals.com. (الانثروبولوجيا السياسية للجماعات الدينية العراقية – صناعة الأيديولوجيا).

mail.arab-ency.com.sy.

تحليل العلاقة التعاضدية في بناء الهيكل الأنطولوجي للوجود وتقويض البيوسياسة المعاصرة

إشكالية الهيكل الأنطولوجي للوجود

يسعى الفكر الفلسفي المعاصر إلى فهم الوجود من خلال تجاوز الأطر الميتافيزيقية التقليدية التي تفصل بين الجوهر والوجود، أو بين الذات والموضوع. يتطلب بناء "الهيكل الأنطولوجي للوجود" الانتقال من الفهم السكوني للوجود كـ "ماهية مسبقة" إلى الوجود كـ "كينونة منفتحة ومؤوّلة."لقد تأسس هذا التحول على المبدأ الوجودي المحوري: "الوجود يسبق الماهية" ومن بعده التعاضد الانطولوجي بين الوجود والماهية، الذي يفرض أن الذات تبني هويتها من خلال الأفعال والقرارات التي تتخذها. يشكّل التعاضد محور هذا التحليل، وهو علاقة وجودية ثلاثية الأبعاد لا يمكن فيها عزل الذات أو المكان أو الكلمة دون انهيار المعنى الأنطولوجي الكلي. إن الذات، في سياق كينونتها المنفتحة، هي نقطة التماس والاشتباك بين المكان (كعالم دلالي) واللغة (كأفق للفهم). هذا التضافر يؤكد أن العلاقة بين العناصر الثلاثة هي علاقة تأسيس أنطولوجي نشط، وليست مجرد وصف لعناصر منفصلة. إن هذا الهيكل الأنطولوجي هو في جوهره هيكل للحرية، يقاوم محاولات التشييء التي تسعى لتقييد الذات داخل ماهية محددة أو "تنميط".

 اللغة كشرط للوجود: الكلمة بوصفها بيت الكينونة

تتصدّر الكلمة (اللغة) الثالوث الأنطولوجي بوصفها "بيت الكينونة"، وهي ليست مجرد أداة للتعبير أو التواصل، بل هي الشرط الأساسي لإمكانية الفهم والوجود. يرى هايدغر أن اللغة هي الملكة المتميزة التي يستطيع الكائن من خلالها أن يفكر في الوجود، مما يجعل العلاقة بين اللغة والكينونة علاقة جوهرية وليست عرضية.

تتمتع الكلمة بقوة كشف أنطولوجية؛ فهي التي تُجلّي الموجود أمام الناس، وتُمكّن الأسماء من الاحتفاظ بالرؤى والخبرات الوجودية وتنميتها. إذا كانت الكلمة مفقودة فلا جدوى للخبرة ولا قيمة لها، وربما لا يكون لها "وجود على الإطلاق". وهذا يرفع اللغة إلى مستوى وسيط للبقاء الأنطولوجي في مواجهة الفناء. إن النضال للحفاظ على الكلمة هو في جوهره نضال لضمان بقاء الخبرة الوجودية قابلة للفهم والتواصل. وقد أكّد غادامير، من خلال الهرمنيوطيقا، هذا الدور الأنطولوجي عبر مقولته الشهيرة: "الوجود الذي يمكن فهمه هو اللغة".

بناء الدائرة التأويلية والانتقال إلى أنطولوجيا الفعل

يتطلب الفهم وجود الكلمة كوسيط لتأسيس الدائرة الهرمنيوطيقية. فـ لا يوجد فهم بدون تفسير توقعي، ولا تفسير بدون فهم. إن الفهم المسبق، وهو جزء لا يتجزأ من تكوين المعنى، يعتمد على الافتراض المسبق للمعنى وينطلق في الوقت ذاته من توقعه. وهذا يثبت أن الكلمة هي جوهر عملية الفهم التي تمكّن الذات من تأويل العالم والمكان.

إن الأحكام المسبقة تشكّل عناصر أساسية في الفهم، وهي مرهونة ومتوقفة بشكل وثيق على أفقنا وسياقنا التاريخي. هذا الارتباط التاريخي يؤكد أن اللغة متجذرة في العالم المعيش، كما تلعب دوراً حاسماً في تشكيل الفضاء الأخلاقي والاجتماعي. على سبيل المثال، كانت الفلسفة القديمة شفاهية في الصميم، ترتكز على الكلمة المنطوقة، وكان هدفها ليس مجرد إيصال المعلومة، بل يهدف إلى "إحداث أثر وتحوّل " (التكوين لا التلقين). هذا الدور العملي للكلمة المنطوقة يبرزها كفعل وجودي وممارسة علاجية، مما يؤكد تعاضدها مع الذات في بناء فن العيش.

من هرمينيوطيقا النص إلى أنطولوجيا الفعل (ريكور)

وسّع بول ريكور نطاق التأويل من حصرية النص إلى مجال أوسع يشمل الفعل والممارسة، ليؤسس بذلك "أنطولوجيا الفعل". يؤكد ريكور على جدلية مزدوجة: يمكن فهم الفعل بوصفه نصاً، وفي المقابل يمكن للنص أن يُفهم بوصفه فعلاً وممارسة. هذا التحول يعني أن الذات لا تكتشف وجودها فقط من خلال تأويل النصوص، بل أيضاً من خلال تأويل أفعالها وممارساتها في العالم.

تظهر أهمية الكلمة من خلال هذا التوسع بوصفها أداة لا غنى عنها، ليس فقط للتعبير عن الوجود، بل كذلك لتشكيل الوجود نفسه عبر الممارسة العملية.

المكان والعالم المعيش

بالنسبة لهايدغر، المكان ليس مجرد إحداثيات هندسية فارغة، بل هو "العالم".

أو "الوجود في العالم". إنّ العالم شبكة من العلاقات والأدوات التي يتم اكتشافها في الراهن، وهو شرط مُقدَّم على وجود الذات والموضوع. هذا العالم هو فضاء دلالي أولاً، إذ ينفتح الوعي عليه عبر القصدية.

في الفينومينولوجيا، تتأصّل الذات في المكان، والمكان يكتسب معناه من خلال ممارسة الذات لحياتها فيه. وهذا المكان المعيش هو الذي يحدد أفق الدلالة للذات.

حروب المناعة وتفكيك الرابطة الأخلاقية

تتضاعف زعزعة الهيكل الأنطولوجي عندما تفقد الكلمة دورها الكاشف. في هذا السياق، تظهر العلاقة العكسية بين الخوف وفاعلية الكلمة الأنطولوجية؛ فالخوف يُستخدَم "كأداة حكم مركزية" لترويض الشعوب. هذا الخضوع يتعارض بشكل مباشر مع دور الكلمة كشرط للحوار والتكوين الفلسفي (الذي يهدف إلى إحداث تحول في الشخصية). عندما يسيطر الخوف، تفقد الكلمة قوّتها.

دعوة للهرمنيوطيقا النقدية كطريق للبناء الوجودي

إن الهيكل الأنطولوجي ليس بنية ثابتة، بل هو عملية بناء مستمرة قائمة على التعاضد الحيوي بين الذات المتفهمة، والكلمة الكاشفة، والمكان الآمن الذي يسمح بالعيش الحر. الهرمنيوطيقا النقدية هي الطريق لإعادة بناء هذا الهيكل، إذ إنها تمنح الذات الأدوات الفلسفية اللازمة لتأويل أزماتها، والتمييز بين ما "هو في نطاق سلطتنا" (أفكارنا وقراراتنا) وما "ليس في نطاق سلطتنا" وذلك لتأكيد الحرية الإنسانية في وجه السيطرة البيوسياسية الشاملة.

***

غالب المسعودي

.........................

المراجع

مؤمنون بلا حدود. "فيورباخ في الفلسفة العربية المعاصرة: مشكلة الإنسان". (رابط إلكتروني: mominoun.com)

هنداوي. "هيدجر | فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر". (رابط إلكتروني: hindawi.org)

ASJP. "ألاساس الأنطولوجي لهرمينوطيقا الوجود عند مارتن هيدغر: ملخص". (رابط إلكتروني: asjp.cerist.dz)

الجابري، عابد. "الفينومينولوجيا وفن التأويل". (رابط إلكتروني aljabriabed.net)

مصطفى، عادل. "كيف طوّر هيدجر منهجاً تأويلياً فينومينولوجيا Hermeneutic Phenomenology في سياق بحثه الأوسع عن أنطولوجيا أكثر أساسية". (مدونة modernitysite.wordpress.com)

بريمي، عبد الله. "السيرورة التأويلية في هرمينوسيا هانز جورج غادامير وبول ريكور". (رابط إلكتروني: abdellahberrimi.com)

الخويلدي، زهير. "فلسفة الفهم عند غادامير والقراءة الهرمينوطيقية للتراث". (رابط إلكتروني: anfasse.org)

مجلة "بحوث". "Biopolitics of Michel Foucault and Giorgio Agamben". مجلد 3، عدد 5 (2023). (رابط إلكتروني: buhuth.journals.ekb.eg)

هايدغر، مارتن. الوجود والزمان. (لأن النص يستند بشكل كبير إلى مفهوم الكينونة/الوجود في العالم).

غادامير، هانز جورج. الحقيقة والمنهج. (المصدر الأساسي لمفهوم الهرمنيوطيقا والأفق التاريخي).

ريكور، بول. صراع التأويلات أو الذات عينها كآخر. (لأن النص يتناول الانتقال من تأويل النص إلى أنطولوجيا الفعل).

أغامبين، جورجيو. الإنسان السيرة. (كمرجع أساسي لمفهوم البيوسياسة الذي تم تقويضه في النص)

 

يمثّل الوعي النسوي في المجتمع العراقي أحد أكثر التحولات الاجتماعية والثقافية عمقًا وتعقيدًا في العقود الأخيرة. فالتحليل السوسيولوجي للوعي النسوي لا يقتصر على رصد مظاهر التغيير في أدوار النساء، بل يتجاوز ذلك إلى فحص آليات تشكّل الوعي نفسه، وكيف يتحول من إدراك فردي إلى وعي جمعي قادر على إعادة إنتاج الواقع وإحداث التحول فيه. تأتي أهمية تناول هذا الموضوع من خصوصية السياق العراقي الذي واجه تراكمات من الحروب، والهيمنة التقليدية، والتقلبات السياسية، مما جعل مسألة الوعي النسوي ليست مجرد قضية عدالة بين الجنسين، بل قضية وجود اجتماعي ومعرفي تسعى المرأة من خلالها إلى استعادة ذاتها وموقعها في التاريخ والمجتمع. ومن هنا تنطلق التساؤولات الجوهرية: كيف يمكن للوعي النسوي العراقي أن يعبّر عن ذاته في ظل هذه التناقضات البنيوية دون أن يتحول إلى وعي زائف أو استنساخ للخطابات الغربية؟ هل الوعي الثائر يظل محدودًا بالأطر القانونية والمجتمعية، أم أنه قادر على إحداث تغييرات أعمق في تصور المجتمع للمرأة ودورها؟ إلى أي مدى يمكن للوعي النسوي العراقي أن يتجاوز حدود التقليد الاجتماعي والثقافي ليصبح قوة فاعلة في إعادة تشكيل البنى المجتمعية؟ كيف يمكن للمرأة أن تعيد تعريف موقعها في المجتمع دون أن تصطدم بالقيود الاجتماعية والثقافية المتجذرة؟ إلى أي مدى يمكن للخطاب المدني الذي يستند إلى مبادئ حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية أن يمثل المرأة بشكل شامل؟ هل يمكن للفضاء الرقمي أن يكون ساحة حقيقية للتحرر، أم أنه يظل محصورًا في الرمزية الافتراضية؟

يمثل الوعي النسوي في المجتمع العراقي ظاهرة ديناميكية تتشكل من تفاعل المرأة مع القمع الاجتماعي والثقافي والسياسي، ومن مواجهتها للهيمنة الرمزية والعنف الرمزي كما يسميها عالم الاجتماع "بورديو"، الذي غالبًا ما يتخذ أشكالًا غير جسدية، مثل اللغة والخطاب والمؤسسات الاجتماعية والدينية. فالوعي النسوي لا يقتصر على إدراك الذات، بل يتجاوز ذلك ليصبح فعلًا معرفيًا تحويليًا يسعى إلى إعادة إنتاج الواقع الاجتماعي والثقافي بطريقة أكثر عدالة وشمولًا.

لتبدأ عملية تكوين الوعي النسوي لدى المرأة العراقية بالتحول من الخضوع إلى المقاومة، أي من الاستجابة السلبية للهيمنة إلى وعي نقدي قادر على مواجهة القمع بالمعرفة والفعل. هذا التحول ليس مجرد تمرد عاطفي أو فردي، بل هو بناء مستمر للذات، حيث تصبح الممارسة الفعلية انعكاسًا للأفكار، دون الإساءة للآخر، مع السعي لتغيير الواقع عبر آليات قانونية واجتماعية.  فيمتد الوعي النسوي ليشمل بعدين متكاملين: البعد النفسي/ الإدراكي، المتعلق بفهم الذات وقدرتها على التعامل مع الواقع، والبعد الاجتماعي/ الثقافي، المرتبط بالبنى التقليدية للسلطة والمعرفة وكيفية تحديد المجتمع لأدوار المرأة.

إن هذا البعد النفسي والاجتماعي لا ينفصل عن التجارب المعاشة والتفاعل اليومي، فهو عملية مستمرة لصياغة أدوات معرفية وممارسات عملية تستطيع المرأة من خلالها مواجهة الهيمنة المستبدة وتحويلها إلى فعل تحرري.

لاسيما ان المجتمع العراقي شهد حروبًا متتالية وأزمات سياسية واجتماعية واقتصادية أثرت على البنى التقليدية، مما فرض على المرأة أدوارًا جديدة في المجالين العام والخاص. بعد عام 2003، وفي ظل التحولات السياسية والدعوات للحرية والديمقراطية الظاهرية، بدأ الوعي النسوي يظهر في صورة وعي نقدي متأرجح بين الإرث التقليدي والمطالب الحديثة.

إن هذا الانقسام بين الخطاب المدني والديني يعكس جدلية أعمق حول تمثيل المرأة: من يمتلك الحق في ذلك، وما هي المرجعية الفكرية التي تحدد موقفها وممارساتها؟ وهل يمكن للمرأة أن تحدد سياساتها الخاصة في الحياة العامة دون أن تُقيّدها القيم الاجتماعية والدينية؟ تتفاعل المرأة مع هذه الأسئلة عبر التعليم والعمل البحثي والمشاركة المجتمعية، فتتحول من متلقية للواقع إلى منتجة للممارسات الواعية التي تعيد صياغة صورها في الفضاء العام.

يمكن تصنيف الوعي النسوي العراقي إلى عدة مستويات، منها الوعي التقليدي المحافظ المستمد من البنية الأبوية والعشائرية، والوعي الانتقالي الذي يجمع بين المحافظة والرغبة في التغيير التدريجي، والوعي النقدي الحديث الذي يسعى لإعادة بناء المفاهيم المرتبطة بالجسد والحرية والعدالة الاجتماعية، وصولًا إلى الوعي الرقمي الجديد الذي يتشكل عبر الفضاء الافتراضي ويتيح للمرأة أن تكون فاعلة في إنتاج الخطاب الثقافي والاجتماعي.

يمثل الوعي النسوي مقاومة نقدية متعددة الأبعاد ضد السلطات السياسية والاجتماعية والدينية والأكاديمية التي تهمش دور المرأة وتحد من مشاركتها. فالوعي النسوي هو فعل معرفي يواجه التمييز والتهميش ويعيد الاعتبار للمرأة كفاعل تاريخي ومعرفي.

اذ إن تحولات الوعي النسوي في العراق لا تعكس فقط مقاومة الفرد للهيمنة، بل تعكس مشروعًا تحرريًا مستمرًا يسعى لإعادة تعريف الذات والمكانة الاجتماعية للمرأة. وفي ظل التحديات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، يصبح الوعي النقدي النسوي أداة لإنتاج معرفة أكثر عدالة وشمولًا، وكشف آليات العنف الرمزي التي تمارسها الثقافة الذكورية، وإعادة صياغة صورة المرأة من مجرد موضوع صامت إلى ذات ناطقة وفاعلة.

فإن تحولات الوعي النسوي اليوم تعكس صراعًا مستمرًا بين الموروث التقليدي الذي يعيد إنتاج التبعية، وبين واقع جديد يسعى نحو التحرر وإعادة تعريف الذات. فالوعي النسوي ليس حالة ثابتة، بل هو عملية مستمرة من النقد الذاتي والاجتماعي، والتفاعل مع البنى الثقافية والسياسية، بهدف إعادة توزيع القوة والمعرفة والسلطة لصالح المرأة كفاعل معرفي واجتماعي.

لقد شهدت المرأة العراقية في السنوات الأخيرة تحولًا نوعيًا في وعيها الاجتماعي ودورها العملي، إذ لم تعد تكتفي بالأدوار التقليدية التي حُصرت فيها لقرون، بل اتجهت نحو التعليم والعمل بوصفهما مسارين للتحرر الذاتي وتحقيق الكينونة الاجتماعية. لقد أصبحت العديد من النساء اليوم فاعلات في المجال الاقتصادي والاجتماعي، يسعين لتأسيس مشاريع خاصة بهن تعكس استقلاليتهن وإصرارهن على كسر البنى التقليدية التي طالما قيدت إمكاناتهن.

ومع ذلك، فإن هذا الوعي المتقدم لا يشمل جميع النساء؛ فثمة فئة ما زالت أسيرة الوعي الشكلي، الذي يُختزل في المظهر الخارجي والاهتمام بالمظاهر الاستهلاكية من لباس وزينة، وهو ما يعكس سطحية في إدراك الذات ومحدودية في الوعي النقدي بالواقع. فهنا يبدو الفعل الاجتماعي للمرأة محكومًا بمعايير رمزية تفرضها الثقافة الاستهلاكية لا بمعايير الوعي التحرري.

من جهة أخرى، تواجه المرأة العاملة تحديًا مزدوجًا بين إثبات الكفاءة المهنية وبين مواجهة البنى السلطوية التي تشكك في قدراتها. فحين تتولى منصبًا إداريًا أو موقعًا قياديًا، غالبًا ما يرافق ذلك خوف داخلي من خسارته أو من نظرة المجتمع المشككة. وهذا الخوف يعكس استمرار أثر الهيمنة الرمزية، والتي تجعل المرأة في موقع الدفاع المستمر عن شرعيتها داخل المجال المؤسسي.

إن التحرر الحقيقي للمرأة لا يتحقق فقط بالوصول إلى مواقع القوة، بل في إعادة بناء الوعي النسوي ذاته على أسس نقدية وتضامنية، تُعيد للمرأة ثقتها بذاتها وبقدرة جنسها على التغيير الجماعي. فالوعي المقاوم يبدأ من الداخل، من تفكيك الصور النمطية المزروعة في اللاوعي الجمعي، ومن تحويل التجربة الفردية إلى فعل اجتماعي مشترك يسهم في إنتاج ثقافة مساواة وعدالة حقيقية

وعلى الرغم من هذا التحول في الوعي النسوي، فإن المرأة لا تُعنى بتقويض هوية الرجل أو منازعته موقعه في الفضاء الاجتماعي، بل تسعى إلى ترسيخ وعي متوازن يحقق إنسانيتها دون أن يتنكر لجوهر أنوثتها. فالحفاظ على الذات لا يعني نفي الصفات الأنثوية أو التنصل من الخصوصية الانثوية، بل هو تأكيد على كينونة المرأة بوصفها ذاتًا فاعلة ومتحررة، قادرة على الجمع بين الوعي النقدي والسمات الإنسانية والوجدانية التي تشكل جوهر الأنوثة.

إن الوعي النسوي الواعي لا يقوم على الصراع بين الجنسين، بل على التكامل والتساند، إذ يبقى الرجل شريكًا في الفعل الاجتماعي وداعمًا لعملية تحرر المرأة من القيود الثقافية والاجتماعية. فالرجل الذي يمتلك وعيًا إنسانيًا نقديًا يسهم في إعادة بناء العلاقة بين الجنسين على أسس المشاركة والاحترام المتبادل، لا على مبدأ السيطرة أو الخضوع. بذلك يصبح الوعي المقاوم لدى المرأة مشروعًا اجتماعيًا مشتركًا، لا ينغلق على ذاته، بل ينفتح على الآخر بوصفه عنصر دعم لا تهديد.

وفي هذا السياق، ليس كل تحرر يُعد وعيًا، ولا كل تمردٍ يمثل إدراكًا ذاتيًا ناضجًا، فثمة نساء ينجرفن وراء تقليدٍ سطحيٍ لصورٍ نمطية تُروَّج عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ظنًّا منهن أن ذلك تعبير عن الحرية أو الاستقلالية، بينما هو في الحقيقة شكل من أشكال العبثية الثقافية أو الاغتراب.

إن المرأة الواعية هي التي تصنع وعيها بعقلها وحكمتها، لا بانفعالها أو تقليدها للآخرين. فهي تدرك أن مشروعها الذاتي لا يقوم على الصدام، بل على التوازن بين الوعي الفردي والمسؤولية الاجتماعية، لتصبح نموذجًا في النضج والتبصر، لا في الانقياد وراء الشعارات والمظاهر

إنّ الوعي النسوي الحقيقي هو وعي مسؤول، يسعى إلى تحقيق العدالة ضمن إطار من العقلانية والتفاهم الأسري، لا إلى القطيعة أو الصدام. فالمرأة الواعية لا تستخدم مثلا الطلاق كأداة للانتقام أو لإثبات الذات، بل كخيار أخير حين تستنفد سبل الإصلاح، وبوعيٍ ناضجٍ يهدف إلى حماية كرامتها دون تدمير كيان الأسرة. وهنا يتبدّى الفرق الجوهري بين التحرر الواعي والتهديد الاجتماعي المقنّع بشعارات الحرية.  فالوعي التحويلي لا يُنتج الفوضى بل يُعيد ترتيب منظومة القيم لتكون الحرية وسيلة للبناء لا للهدم.

في هذا السياق، يبدو أن بعض النساء يتبنّين شعارات التحرر والمساواة بوصفها ردود فعل انفعالية على التسلط الذكوري، دون أن يدركن أن هذا التمرد غير المؤطر بالوعي النقدي قد يقود إلى نتائج معاكسة لمقاصده، مثل تفكك الروابط الأسرية وفقدان الاستقرار النفسي والاجتماعي.

وهنا تتحول الحرية إلى قناع للاغتراب، وتُختزل النسوية إلى ممارسات رمزية أو إعلامية لا تمتّ بصلة إلى الوعي النقدي التحويلي الذي يُعيد بناء العلاقة بين المرأة والرجل على أسس معرفية وإنسانية متوازنة

إنّ الوعي النسوي الناضج، بخلاف ذلك، يقاوم الوعي الزائف بالتحليل والنقد لا بالقطيعة والانفصال، فهو يسعى إلى إعادة ترتيب القيم الاجتماعية بحيث لا تكون الحرية أداة هدم بل وسيلة بناء. ومن هذا المنطلق، لا يُقاس تحرر المرأة بقدرتها على الانفصال، بل بقدرتها على الوعي بحدود حريتها ومسؤوليتها في آن واحد، وهذا هو الوعي الحقيقي.

وبذلك، يتجلى الوعي النسوي الناضج بوصفه مشروعًا إنسانيًا يسعى لإعادة التوازن إلى العلاقة بين الرجل والمرأة على أسس معرفية وأخلاقية واجتماعية متكاملة، قوامها الاحترام والمشاركة لا السيطرة أو التبعية. هذا الوعي لا يقف عند حدود المطالبة بالحقوق، بل يتجاوزها إلى بناء ثقافة جديدة للعدالة ، تُعيد تعريف الحرية في بعدها الإنساني والاجتماعي، وتجعل من المرأة ذاتًا فاعلة وشريكة في صناعة الوعي الجمعي وتوجيه التحولات الثقافية القادمة.

***

د. نور خالد علي - باحثة وأكاديمية

مفكرو التنوير كانوا متفائلين. هم اعتقدوا ان تطبيق الطريقة العلمية على مظاهر الحياة سوف لن تحرر الإنسانية فقط من عبودية الطبيعة، وانما أيضا افتتحت عصرا جديدا من السعادة والعدالة والانعتاق. صرح جين دي كوندرسيه، "في يوم ما، ستشرق الشمس على البشر الذين يعترفون بعدم وجود سّيد سوى عقلهم الخاص بهم".

وبعد اكثر من قرنين من ذلك التصريح لكوندرسيه لازال الفلاسفة يتأملون بقيمة مشروع التنوير، او ما سمي بـ "مشروع الحداثة" – في جعل كل شيء خاضع للعقل البشري. من الواضح، ان المعرفة العلمية جلبت الكثير من المنافع مثل التطور الصناعي والاقتصادي، وتحسين التعليم، الصحة، الاتصالات وغيرها. لكن من المفارقة، طبقا لنقاد الحداثة، ان التعاسة التي يُفترض ان يضع التنوير حدا لها لم تستمر فقط وانما تكثفت بطرق عديدة: بدلا من الحرية، انتج التنوير الاغتراب، والعجز وإخضاع كل مظاهر الحياة للمتطلبات الاقتصادية والبيروقراطية للتحكم والفاعلية. الانسان الحديث لا يبدو لديه أي مرشد ثابت وقوي حول كيفية التصرف نحو الآخرين. هو يشعر منفصلا عن العالم الذي يعيش به، ولديه انطباع بان حياته تُدار بقوى غير شخصية لا يستطيع التحكم فيها. بالنسبة لنقاد الحداثة، بدا كأن محاولة تطبيق مشروع التنوير أدت الى كابوس.

هل ان المشاكل متأصلة في الحداثة ذاتها، بحيث ان مشروع التنوير يجب التخلي عنه، ام انها فقط حالات شاذة وان المشروع يستحق الاستمرار فيه؟ هذا هو السؤال الذي في اول وهلة يعارضه هابرمس وريث مدرسة فرانكفورت للنظرية النقدية، و جين يوتار Jean Francois Lyotard، احد الممثلين الكبار لمابعد الحداثة. اذا كان يوتار (1924-1998) يؤكد ان مشروع الحداثة والفلسفة التي تؤطره معيبان في الأساس ويجب رفضهما، فان هابرمس (1929) يؤكد ان "امراض الحداثة" ليست بسبب مشروع الحداثة ذاته وانما بسبب انه لم يُنفذ بالشكل الصحيح. بالنسبة له، الحداثة لم تفشل وانما فقط لم تنته ولم تبلغ بعد طاقتها التحررية. هابرمس ويوتار لديهما ما يتفقان عليه أيضا. هما كلاهما حزنا على حقيقة ان الهياكل التجارية والإدارية استحوذت على كل مظاهر الحياة. هما أيضا يتفقان على ان الفلسفات التأسيسية – فلسفات بُنيت على مبادئ ميتافيزيقية عالمية مطلقة ومتجاوزة ولازمنية – فقدت مصداقيتها. وأخيرا، هما كلاهما اهتما بالعدالة وكلاهما أرادا إعطاء صوت لكل شخص.

الغرض من هذه المقالة هو وصف فلسفتي هابرمس ويوتار وتقييم قابليتهما لتوليد تصورات وتطبيقات للسياسة تكون تقدمية ومنسجمة مع رفضهما للفلسفات التأسيسية. بعد طرح افكارهما، والتركيز على رؤاهما حول ازمة الحداثة وكيف افترضا علاجا لها، سوف نفحص هنا الى أي مدى نجحا في هذا الهدف. سوف نجادل بانه بينما فلسفة يوتار كانت ملائمة لإعطاء صوت للجماعات المهمشة والافراد، ومنسجمة مع رفضه للتفكير التأسيسي، فان فلسفة هابرمس ناقضت هدفها في تجنب التأسيسية و فشلت في تحرير المهمشين .

العالم الحي Lifeworld والنظام (1)

لكي يبيّن كيف اصبح المجتمع الحديث على ما هو عليه، يعتمد هابرمس على فلسفة المفكرين الأوائل في مدرسة فرانكفورت ثيودور ادرنو وماكس هوركهايمر. مثلهما، هابرمس يوضح الوضع الحالي للعالم بالنسبة لمحاولة توسيع العقلانية العلمية والتقنية لكل مظاهر الحياة.

لكن هابرمس يجادل ان تصوراتهما للعقلانية هي أحادية الجانب ومتشائمة. التوجّه الرئيسي لفلسفته هو الايمان بانه بالإضافة الى العقل الأداتي instrumental reason، الذي يتألف من إيجاد وسائل لغايات، والعقل الاستراتيجي الذي يسعى الى نجاحات تطبيقية، هناك أيضا عقل تواصلي communicative reason (2) يسعى للوصول الى اتفاق من خلال عرض حجج صالحة. بالنسبة لهابرمس، حالما يُفهم ان العقل التواصلي لازال يعمل في التاريخ، سيصبح واضحا ان امراض العالم المعاصر ليست ضرورية، وان التشويه الحاصل في الحداثة لا يمثل التطور الطبيعي لها.

لكي يوضح كيف منع تطور العقل الاداتي بلوغ العقل لطاقته التحررية، يبني هابرمس نظرية اجتماعية بمستويين: المستوى الأول، المجتمع يشترك بمجموعة من العقائد المشتركة والأفكار والتوقعات المسلّم بها والتي على أساسها يفهم الافراد العالم، وينسقون افعالهم ويحددون هوياتهم. وعلى المستوى الثاني، المجتمع أيضا مؤلف من منظمات غير شخصية مثل الحكومة والاقتصاد. هذه لها ديناميكية ومنطق خاص بها وتسترشد باعتبارات الفاعلية.

هابرمس يسمي القيم والعقائد المفروغ منها بـ (العالم الحي)، ويسمي الحكومة والاقتصاد بـ (النظام). هو يرى ان المجتمع الحديث لا يستطيع ان يعمل بشكل صحيح بدونهما. مع ذلك، يختلف العالم الحي عن النظام جوهريا. أولا، بينما العالم الحي يُحافظ عليه ويعاد انتاجه من خلال الاتصالات، نجد النظام يعمل من خلال استخدام النقود والسلطة. ثانيا، بينما في العالم الحي هناك إحساس مشترك بان الأفعال الإنسانية والتجارب هي ذات معنى، نجد النظام يعمل طبقا لنماذج ليس لها عمق انساني طبيعي. أخيرا، خلافا للنظام، الذي فيه الافراد "موجهين أساسا لنجاحاتهم الفردية الخاصة" في عالم الحياة، "هم يتابعون أهدافهم الفردية في ظل ظروف يستطيعون فيها تنسيق خططهم في العمل على أساس تعريفات مشتركة".(نظرية الفعل الاتصالي، مجلد 1،ص 286، 1984). باختصار، بينما النظام هو مجال السيطرة والكفاءة، عالم الحياة هو مجال الفهم المتبادل.

مع استيعاب هاتين الفكرتين يرسم هابرمس تاريخ الحداثة. هو يقول انه في القرن السابع عشر بدأ المجتمع يتغير دراماتيكيا. أولا، "كان هناك فصل بين النظام وعالم الحياة" – أي، ان الأنظمة السياسية والاقتصادية انفصلت عن الثقافة العامة التي اعتادوا فيها ليكونوا موحدين، يتخذون حياتهم الخاصة واصبحوا باستمرار لاتهمهم المعتقدات والقيم والمعاني والانشغالات اليومية للأفراد. حالما لم يعد النظام مرتبطا بعالم الحياة، فهو تميّز الى أنظمة فرعية – الدولة والاقتصاد – جرى تنظيمها وفق مبادئ الحساب والتنبؤ.

تغيرات هامة حدثت ايضا في مجال الاخلاق التطبيقية، بدأت في القرن السابع عشر. أولا، الدين فقد الهيبة والسلطة والقوة. ثانيا، هناك تطور في الوعي يتعلق بعدد من التصورات المتنافسة للخير، لا احد منها متفوق بشكل لا جدال فيه. وبالتالي كان هناك تحولا من اعتبارات الحياة الجيدة الى اعتبارات الشيء الأفضل للعمل وكيفية تخفيف الاختلافات والتنوع. ثالثا، مجالات الحياة الفكرية والأخلاقية والفنية التي كانت مرتبطة مع بعضها في رؤية شمولية تحت هيمنة الدين والمبادئ الميتافيزيقية الأخرى، أصبحت مستقلة كل واحدة تطور معيارها الخاص بها للصلاحية. بالنهاية اصبح كل واحد مجالا خاصا للخبراء . ربما التطور الأكثر أهمية في الاخلاق الحديثة والسياسة، طبقا لهابرمس، هو تبنّي الموقف النقدي نحو الدين والتقاليد، والقناعة بان القاعدة هي مشروعة فقط اذا كانت نتيجة النقاش العقلاني الحر من الهيمنة والاستغلال. وكما يقول هو، "عندما تتهشم قوة التقاليد .. يجب على العقل الحديث ان يخلق معيارية من ذاته عبر الاعتماد على قوة الحجة الأفضل لا غير". (نفس المصدر، مجلد 2 ص 40). ينظر هابرمس في هذه التطورات المحددة بمجملها كتحسينات. الحداثة حررت الإنسانية من الدين والتقاليد الخانقة، انها زادت الاستقلالية الفردية وجعلت بالإمكان ظهور كامل للديمقراطية.

خصص هابرمس كتابه الأول (التحول الهيكلي للمجال العام،1962) الى اختبار نمو وانحدار المجال العام بشكل مستقل عن الدولة والاقتصاد.

هذا المجال العام، كما يقول، ازدهر في المانيا وفرنسا وبريطانيا في القرن الثامن عشر، بيوت القهوة، الصالونات، النوادي، والصحف في تلك الفترة كانت منتديات ديمقراطية ناقش فيها المواطنون علنا وبشكل حر قضايا ذات مصلحة عامة وطبقا لمعايير العقل النقدي. مع ذلك، هو يجادل بان تطور الرأسمالية قضى تماما على المجال العام والديمقراطية الصحيحة. وعلى خطى ماكس ويبر والجيل الأول من مفكري مدرسة فرانكفورت ادرنو وهوركهايمر. يدّعي هابرمس ان طلبات السوق والإنتاج الصناعي والبيروقراطية – الكفاءة والأداء – استحوذت على كل مظاهر الحياة. هو يوضح ان الأسئلة الأخلاقية أصبحت أسئلة تكاليف وربح، والاسئلة السياسية التي ينبغي ان تُحل من خلال جدال عقلاني عام، أصبحت مسائل تقنية وبيروقراطية تُعالج بواسطة الخبراء. هذا التعدي للنظام على عالم الحياة، الذي يصفه هابرمس بالاستعمار، أدى الى استغلال اغلبية السكان والسيطرة عليهم من جانب النخب التقنية والبيروقراطية. يقول هابرمس انها جعلت "المجتمعات المتقدمة صناعيا تبدو تقترب من نموذج التحكّم السلوكي الذي يتم توجيهه بمحفزات خارجية بدلا من الاسترشاد بالقيم". (نحو مجتمع عقلاني، ص107، 1970).

طبقا لهابرمس، استعمار عالم الحياة من جانب النظام أيضا يوضح امراض الحداثة مثل الاغتراب، كراهية الأجانب والادمان على المخدرات. لايزال، هابرمس يعتقد انه بالإمكان انقاذ العالم الحي من النظام وبلوغ المُثل التحررية للحداثة. هو يجادل ان هذا يتطلب استبدال العقل الأداتي بعقل تواصلي في المجالين الأخلاقي والسياسي.

اذن كيف يمكن حل الاختلافات السياسية والأخلاقية بشكل منصف بواسطة قوة الحجة الأفضل؟ يجادل هابارمس ان هذا يتطلب ظروفا معينة او قواعد يسميها أخلاق الخطاب discourse ethics. متّبعاً روبرت الكسي Robert Alexy، يحدد هابرمس ثلاثة أنواع من هذه القواعد:

القواعد الدلالية المنطقية، والقواعد الإجرائية، والقواعد المتبادلة. القواعد الدلالية المنطقية تتطلب من المتحدث ان لا يناقض ذاته، ومنسجم باستعماله للكلمات، وان يستعمل جميع اطراف النقاش نفس الكلمات لتعني نفس الشيء.

القواعد الإجرائية تتطلب من الناس المنخرطين في الجدال ان يكونوا صادقين، وكل منْ يجلب قضية خارجة عن النقاش يجب ان يعطي أسبابا تبرر هذا.

أخيرا، القواعد المتبادلة تتطلب التالي:

1-  كل منْ يستطيع المساهمة يُسمح له بالمشاركة في النقاش.

2-  كل شخص يُسمح له بمسائلة أي ادّعاء يطرحه الآخرون، وإدخال أي زعم او اقتراح الى النقاش، ويُسمح له في التعبير عن رغباته وحاجاته.

3-  لا احد يُجبر على التخلي عن حقوقه التواصلية المضمونة بموجب الشرطين الآخرين.

من هذه القواعد، يستنتج هابرمس مبدأين اثنين: مبدأ العالمية universalization،الذي يقول "كل المتأثرين يمكنهم قبول النتائج وتوقّع الآثار الجانبية عند الالتزام بها بشكل عام ."، ومبدأ اخلاق الخطاب الذي يقول "لا يمكن الزعم بصحة الادعاءات الاّ تلك التي تلبّي او يمكن ان تلبّي موافقة جميع الأطراف المتأثرة بصفتهم مشاركين في خطاب عملي "

هابرمس، لكي يبطل استعمار العالم الحي بواسطة العقل التواصلي نظر أولا الى الحركات الاجتماعية الجديدة في ذلك الوقت – النسوية، البيئية، الطالب، حركات السلام والمضادة للسلاح النووي. هذه، كما يعتقد، تحفزت بمُثل أخلاقية وهي أساليب للاتصالات غير المشوهة. في هذه الكتابة المبكرة هو لم يتعامل مع آلية إنهاء الاستعمار. ولاحقا، في (بين الحقائق والقواعد،1996)، يدّعي هابرمس ان عملية النقاش والمحاججة بواسطة أعضاء مجتمع مدني احرار ومتساوون "تحولت الى سلطة قابلة للاستخدام إداريا" من خلال التشريع. هو يعتقد ان المشاورات في كل من هيئات صنع القرار الرسمية والمنظمات غير الرسمية كتلك التي أعلاه سوف تؤدي الى قوانين تكبح سلطة البيروقراطية والسوق.

محدوديات فلسفة هابرمس

تواجه فلسفة هابرمس على الأقل اثنين من المعارضات الرئيسية. واحدة تتمثل في صعوبة تنفيذ اخلاق الخطاب لخلق إجماع حول المسائل الأخلاقية والسياسية بهدف توسيع عدد المشاركين في عمل القرار الجمعي. الاخرى تتعلق بفشله في انجاز هدف تجنب المؤسسية.

المعارضة الأولى واضحة جدا. اخلاق الخطاب لهابرمس تفترض انه اذا كان الناس مخلصين ويرغبون بالتسوية، كل الصراعات ستُحل. وبينما هذه الرغبة هي بالتأكيد مقنعة عندما يكون المشاركون في النقاش من نفس الخلفية السوشيواقتصادية، ويشتركون بنفس القيم بدرجة اقل او اكثر، والمخاطر ليست عالية، لكن لا يمكن افتراضها في معظم حالات الصراع. لكي نبدأ، من المستحيل امتلاك نوع خطاب متساوي ولا لبس فيه يصفه هابرمس خارج الوحدات الصغرى للمنظمات السياسية والاجتماعية، وحيث الناس يمكنهم الاتصال مباشرة. حتى ضمن تلك الوحدات، مفهوم موقف لكلام مثالي امر مدهش لكن يصعب تطبيقه. أولا، ليس كل شخص قادر بنفس المقدار في النقاش بفاعلية، بعض الناس اكثر معرفة ومهارة من الاخرين، وربما لهذا السبب يحولون النقاش لمصلحتهم. إضافة الى ذلك، الناس لا يرغبون دائما بإعادة النظر بادعاءاتهم وبدلا من ذلك يناقشون لكي يدافعوا عن مصالحهم بدلا من الوصول الى اتفاق، كما يرغب هابرمس. وهكذا، النقاشات في قضايا مثل الإجهاض والقتل الرحيم هي عادة ليست اكثر من سباق بين رؤى متنافسة، ودون أمل في الاتفاق. في (بين الحقائق والقواعد،1996)، يمدد هابرمس الفعل التواصلي (أي، فعل مرتكز على عقل تواصلي) لهيئات تشريعية وقضائية، ولكن بعمل كهذا هو فقط ينقل مشكلة نقص الاتصال من اللارسمي الى الهياكل الرسمية للمجتمع: ما يبدو كنتيجة للمشاورات الاتصالية في تلك المؤسسات هو في اغلب الاحيان محصلة لتحالفات انتهازية. مشكلة واضحة أخرى في هذا التحول الى هياكل رسمية للمجتمع هي انه حتى لو كان متوقعا ان يدافع المندوبون عن مصالح جماعاتهم، هم لديهم القوة للتصرف بطرق لم تُفوّض من جانب أولئك الذين يمثلونهم. علاوة على ذلك، الصراعات تبرز ليس فقط من نزاعات واقعية وانما أيضا من اختلافات مفاهيمية حول ما تعنيه القواعد الأخلاقية – على سبيل المثال، ما اذا كان القتل الرحيم شكلا من الجريمة. هذه الأنواع من عدم الاتفاق لا يمكن حلها نهائيا .

فيما يتعلق بهدف تجنب التأسيسية foundationalism، ينوي هابرمس ان تكون فلسفته إجرائية خالصة، بمعنى ان القواعد المقبولة هي فقط تلك التي يتم التوصل اليها من خلال المشاورات عبر مواطنين متساوين في ظروف حرة من الهيمنة. مع ذلك حتى عند تأسيس هذه الظروف هابرمس كان يفضل الديمقراطية الليبرالية – مجموعة من الأفكار تؤكد على حقوق الفرد وحرية الاختيار والتحرر من التدخل وحرية الانتماء - ليس فقط في الكيفية التي يبني بها القواعد ومبادئ اخلاق الخطاب وانما أيضا في الطريقة التي هو يعتقد ان القرارات التي يتم التوصل اليها في مستوى المجال العام تُترجم الى سياسات. في الحقيقة، في صياغة موقف الحديث المثالي، هابرمس، مثل المفكرين الليبراليين، يضع جانبا اللامساواة في السلطة والثروة التي تنتج صراعا اجتماعيا مزمنا وتديم الترتيبات الاجتماعية الغير عادلة. كذلك، في كتاباته اللاحقة، يرى هابرمس ان نوع القواعد التي يجب ان تتأسس لحماية المجتمع المدني هي الأنواع المألوفة للديمقراطية الليبرالية - قوانين جرى تبنيها لمنع الأغلبية من إساءة استعمال السلطة تجاه الأقليات: 1- حقوق بأعظم حرية ممكنة منسجمة مع حقوق متساوية للآخرين 2- حقوق بالانتماء لدولة تُحكم مؤسساتها بحكم القانون 3- حقوق الحماية في ظل القانون 4 - حقوق للمشاركة في تشكيل إرادة جماعية 5- حقوق رفاهية بمستوى معاشي يجعل تقرير الحقوق الأخرى ممكنا. أخيرا، مثل الليبراليين، يعتقد هابرمس ان تأثير الجماعات الاجتماعية اللارسمية ومبادرات المواطنين تتحول الى قوة إدارية قانونية من خلال الانتخابات وصنع القوانين. باختصار، هابرمس ينتهي بإعادة صياغة لديمقراطية ليبرالية وفلسفة تحافظ عليها بكل ما فيها من مشاكل.

الدعاوي القضائية والخلافات differends

يوتار وفي شبه كثير لهابرمس، الذي ينتقد هيمنة عالم الحياة عبر العقل الاداتي على حساب الاتصالات الحقيقية، يحذر من اختزال العقل ولغة التعبير الى استخدامات أداتيه. أيضا كما هابرمس، يوتار يهمل الأيديولوجيات الكبرى والتوضيحات التي تجعل السياسات تعتمد على امتثال المجتمع لأهداف قبلية او فكرة معينة عن الحياة الجيدة. يوتار لايزال مثل هابرمس، يرفض الايمان بان المعنى والحقيقة اما ظاهرة ذاتية او كذب في عالم موضوعي يُفترض ان تعكس لغته ذلك. أخيرا، مثل هابرمس، يوتار مهتم بالعدالة وإعطاء صوت للجماعات المهمشة ووجهات النظر. مع ذلك، فحصْ يوتار لهذه الأسئلة هو مختلف جدا عن هابرمس لدرجة يتعارض معه. من المفارقة ان القضايا التي ينقسمان حولها تتعلق بإمكانية حل الصراعات وهدف التأمل السياسي والأخلاقي. بينما يعتقد هابرمس بإمكانية الفصل بين المنظورات المتنافسة من خلال الحوار المفتوح، يجادل يوتار بان لا وجود لوجهة نظر محايدة بواسطتها يقوم المرء بهذا، وبينما هابرمس مهتم بحل الصراعات، يوتار مهتم في الإشارة الى حالات مختبئة وصراعات لا يمكن حلها.

لكي نبدأ بقضية المقاضاة بين المنظورات، في (Le Differend،1984) يميز يوتار بين نوعين من الصراع: الدعاوي القضائية والخلافات الشاذة (ان صح التعبير) differends(3). هناك دعاوي قضائية فيها يتفق الخصوم على نوع الخطاب – لغة، قواعد، إجراءات وقضاء – يستخدمونها لحل خلافهم (هنا النوع genre طريقة متميزة من التفكير والكلام). وكنتيجة لهذا الاتفاق الأساسي، يمكن للمرء اثبات انه عانى ضررا وربما يعوض لقاء ذلك الضرر. فمثلا، لو كانت هناك دعوة يبحث فيها الشخص الضحية بسبب حادث عن تعويض من صاحب العمل بسبب الإهمال ويحصل عليه، تكون هي دعوة قضائية: المدّعي يمكن ان يثبت انه عانى ضرا ويوجد هناك اجراء متفق عليه لحل الخلاف. المدّعي والمدافع يقبلان بسلطة المحكمة للفصل في الصراع وهما يتفقان على ما يعنيه "الإهمال" حتى عندما لا يتفقان على ان الحدث نتج عن اهمال. هما أيضا يتفقان على ان الشخص المذنب في الإهمال، يجب ان يدفع مقدارا معينا من النقود نتيجة الضرر.

مقابل الدعاوي القضائية، هناك حالة من الخلافات الشاذة تقع بين طرفين فيها تخدم الإجراءات القضائية احد الطرفين وتهمل الاخر، وبالتالي يُختزل الطرف المظلوم الى صمت ويُحرم من وسائل الجدال. هذا يمكن ان يحدث بعدة طرق: 1- الفرد الذي عانى من الضرر غير مفوض بالكلام، او انه يُعتبر لا يستحق الاستماع اليه 2- الأذى الذي يشتكي منه لا يمكن تمثيله كأذى ضمن النظام السائد للخطاب، ولذلك يُعتبر غير موجود، او اذا كان ممثلا والتمثيل لا يكفي للتعامل مع القضية 3- قواعد الخطاب المهيمن لا تسمح بنوع الادّعاء المعلن لأن شهادته تُرفض كهراء 4 - لا احد هناك لديه سلطة او رغبة للاستماع للشكوى. يصف يوتار هذه الطرق المختلفة من اختزال المرء الى صمت بـ "صمت الشهود، صمم القضاة، وجنون الشهادة". هو يسمي الشخص الذي يُختزل الى صمت بـ "ضحية" ويسمي الأذى الذي تعاني منه الضحية بـ "ظلم" – وهو "ضرر مصحوب بخسارة وسائل اثبات الضرر".

لتوضيح ما يعنيه بالخلافات الشاذة، يصف يوتار الخلاف بين روبرت فوريسون Robert Faurisson والناجون من الهليكوست. يوضح يوتار ان البرهان الوحيد المقبول حسب فورسيون هو الشهادة من شهود عيان رأوا غرف الغاز تعمل. لكن يوتار يعارض بان لا أولئك الذين ماتوا في الغاز ولا المبعدين الذين نجوا يمكنهم اثبات عملية أفران الغاز لأن فوريسون يرى: الأول لا يمكن لأنهم ماتوا والأخير لا يمكن ان يكونوا احياء، ومع ذلك فان رؤية غرف الغاز اثناء عملها يعني الموت فيها. بالنسبة ليوتار، المبعدين هم ضحايا ظلم: هم اختزلوا الى صمت جُردوا من وسائل الجدال.

مثال آخر يُستعمل عادة لتوضيح فكرة يوتار للخلاف الشاذ غير القابل للحل، هو المواجهة بين مجموعة من الاستراليين الأصليين وشركة تعدين يورانيوم في فيلم فيرنر هرتزوغ (اين يحلم النمل الأخضر،1984). السكان الاصليون يدّعون ان الأرض التي تريد الشركة الحفر فيها هي مقدسة لأنها فيها يحلم النمل الأخضر، واذا حصل ازعاج لبيت النمل لم يعد يحلمون، كل العالم سوف ينتهي. أولا، شركة التعدين تحاول رشوة رجال القبيلة لكنهم لن يتزحزحوا. مدير الشركة المنزعج يقود المجموعة الى المحكمة. من غير المدهش، المحكمة تحكم ضد السكان الأصليين، رافضة قصة النمل الأخضر باعتبارها هراء تام. من وجهة نظر يوتار، اذا بقي السكان الأصليون صامتون سيصبحون ضحايا – لكن اذا هم يعودون للمحكمة سيصبحون مدّعين في خلاف يُختزل الى دعوة قضائية بسيطة. في كلتا الحالتين، عقيدتهم، الألم، الاحباطات، التوقعات تبقى غير معترف بها. في مواجهة قضايا خلافية يصعب حلها، يكون الميل لتنظيمها وتحويلها الى دعاوي قضائية، اما عبر تبنّي معيار احد اطراف النزاع او عبر فرض لغة متعالية عليهم metalanguage (لغة حصرية عالية) .

بالنسبة ليوتار، لكي تمارس سياسة بالمعنى التقليدي هو ان تضع إجراءات لحل الصراعات وتنسيق المصالح التي تؤدي الى إخفاء الصراعات الشاذة عبر تحويلها الى دعاوي قضائية – وبهذا تديم اللاعدالة. لكن، لكي تمارس الفلسفة هو ان تكتشف الخلافات الشاذة: لعرضها، وكشف عدم إمكانية حلها، وإزالة النزعة بإبقائها مختفية. لكي تعرض الخلافات المستعصية يتطلب أيضا تصوّر تعبيرات جديدة.

أفضلية يوتار

يعترف يوتار بانتشار الصراعات اكثر من هابرمس، وهو أيضا يجلب المزيد من مجالات الحياة ومشاكلها تحت الدراسة. بالنسبة ليوتار، بقدر ما يتعلق الامر بالممارسات الاجتماعية هي بالنهاية تجليات لأنواع من الخطاب تسعى لفرض نفسها على الاخرين، وأيضا بمقدار ما تكون اللغة قاطرة للسلطة وموقع للصراع، تسبب العنف، وتفرض استبعادا وتحافظ على علاقات اللاعدالة، يتبع ذلك ان الخلافات المستعصية ولا عدالتها يمكن ان تحدث متى ما أعلن شخص ما عن ادّعاء بالمعرفة، او يطرح أسئلة او وصفا ما . لذا اللاعدالة لا تتألف فقط من حرمان حق التصويت السياسي او أفعال صارخة للاضطهاد والعنف – انها أيضا تتضمن الأفعال الحياتية اليومية للتمييز والإساءة والقهر الاقتصادي الذي يقع خارج القانون والسياسة. وفق تصور يوتار لعدم العدالة، ليس بالتحديد ذلك المُمارس علنا من جانب الافراد والجماعات، رغم انه يتضمن هذا. بدلا من ذلك انه نوع من اللاعدالة التي تنتج من آراء سلبية ومواقف وايديولوجيات مختفية لكنها منتشرة .

يوتار أيضا نجح اكثر من هابرمس عندما نأتي الى تجنب التأسيسية. بالنسبة له، مسألة التأمل الفلسفي ليس ان نبني مخططات او إجراءات لحل الصراعات وتنسيق المصالح وانما لتحدّي ادّعاءات أي أيديولوجية او برنامج نظري يكون طريقة شاملة في التفكير، وإعطاء دليل على وجود لاعدالة غير معترف بها، وشن الحرب على الكلية، وصقل حساسيتنا للاختلاف. في الحقيقة، يوتار يزعم ان البحث عن سلطة يمكنها السيطرة على الأنواع ليس فقط خاطئا ولكن غير مرغوب فيه ايضا. ويستمر في القول في كتابه حالة ما بعد الحداثة (La condition postmoderne,1979) – ان النظريات الكبرى والايديولوجيات - لم تعد ذات مصداقية، ويكتب ياتوار في (مجرد لعب،1985) ان "لا وجود هناك لمابعد اللغة metalanguage الخطاب النظري الشهير الذي يُفترض ان يكون أساسا للقرارات السياسية والأخلاقية". هو يجادل ان فكرة شمولية التفكير هي متناقضة: اما ان يكون النوع الذي يزعم احد انه فوق النوع metagenre هو جزء من مجموعة أنواع، وبهذا ليس شموليا، او انه ليس عضوا في المجموعة وبهذا لن يكون نوعا. يوتار يكتب انه لكي تدّعي ان أي نوع للخطاب يمكن ان يكون شموليا سيكون مثل القول: اللعبة الهامة الوحيدة، الصحيحة، هي شطرنج. هذا سخيف. وكذلك بالنسبة ليوتار، العالم مثير للجدل ومكان متنازع عليه ليس فيه نوع او عبارة او منظور يمتلك مكانة متميزة. بدلا من ذلك، أساليب الخطاب تكافح لأجل الهيمنة، ولا توجد وجهة نظر محايدة يمكن من خلالها الحكم على الاخرين. كذلك، يجادل يوتار ان السعي الى ميتا اللغة للسيطرة على القضايا الشائكة هو غير مرغوب لأن أية معايير يتبناها المرء للتحكيم بين مختلف المنظورات، ستقابلها معايير أخرى مستبعدة ويُترك شخص ما بالتأكيد ضحية. هو يقول ان "لا وجود هناك لشكل من الاتصالات تكون هيمنته على الاخرين عادلة". في الحقيقة، يدّعي يوتار انه "بالضبط في محاولة وضع نهاية للمشاكل المستعصية، وتحويل الحرب الى دعاوي قضائية والتصريح بحكم لتسوية الخلافات، تكون المشاكل المستعصية قد جسدت ذاتها"، وان "ما كُبح سيعود دائما ويعود حقا". مثال على ذلك هو التصور الليبرالي غير الدقيق للعدالة الذي يخفي صراعا طبقيا ولامساواة في السلطة بين الغني والفقير وهكذا يشرعن ضمنا الهيمنة واستغلال الأخير من قبل الأول. حالة مقابلة هي التركيز الماركسي على صراع طبقة حصرا على حساب تجاهل الصراعات الجندرية، العرقية، الدينية، القومية، او اثنية الامر الذي يضفي الشرعية على هذه الاشكال الأخرى للقمع.

وهكذا بالنسبة ليوتار، كل نظريات العدالة وكل المشاريع السياسية هي طارئة، قابلة للطعن وهي حتما غير عادلة. لذا هو لا يطرح نظرية سياسية إيجابية. لايزال، هو يعتقد ان ممارسته للشهادة في المشاكل المستعصية ينبع من شعور بالعدالة. مع ذلك هذا لا يجعل فلسفته غير متسقة لأن فكرة العدالة التي تشكل اساس هذه الممارسة المتمثلة في الشهادة في المشاكل الشاذة عادة لا توجد في كتب الفلسفة السياسية، وانما،هي ما اسماه كانط بفكرة العقل – مثل فكرة الله وفكرة العالم ككلية – ويجب النظر اليها كمعنى تنظيمي وليس تأسيسي، الفكرة تضيف وحدة وتماسكا لتجربتنا وترشد تفكيرنا، لكنها لا ترمز ولا تستطيع ان ترمز لشيء حقيقي. في الحقيقة، يوتار يعتقد ان أي محاولة لإعطاء العدالة معنى محددا ليست فقط متناقضة وانما هي ستفترض ان هناك سردا رئيسيا، نظام معين للخطاب مفضل على الآخرين. لكن هذه الأفضلية ستجعله ايضا غير عادل بالضرورة.

باعتراف الجميع، يوتار وهابرمس منخرطان في مشروعين مختلفين: بينما هابرمس يعتقد ان هدف التفكير السياسي هو لحل الصراعات، يرى يوتار انه لإكتشاف المشاكل المستعصية. لايزال، يوتار ينجز بنجاح أكبر هدف إعطاء صوت للمزيد من الناس في غياب الأسس الفلسفية قياسا بما يفعل هابرمس. مع ذلك، كلاهما أثريا فهمنا للحداثة وعظمتها وانحطاطها.

***

حاتم حميد محسن

...........................

Political philosophy after metaphysics: Habermas&Lyotard, Philosophy Now,2010

الهوامش

(1) عالم الحياة، طبقا لهابرمس هو فهم ثقافي مشترك، او الخلفية اليومية للمعرفة الثقافية المشتركة والمعتقدات الاجتماعية والهوية الشخصية التي تجعل الفهم المتبادل ممكنا من خلال الاتصالات.

(2) هو نظرية ترى عقلانية الانسان تبرز من اتصالات ناجحة حيث الفهم والاجماع يتم الوصول اليهما من خلال حوار مفتوح غير قسري. هذا يختلف عن العقل الاداتي الذي هو موجّه خصيصا للهدف. العقل التواصلي يؤكد على الفهم المتبادل لتبرير الادّعاءات من خلال نقاش عقلاني.

(3) Differend مصطلح صاغه يوتار وهو مفهوم فلسفي وقانوني يشير الى ظلم او لاعدالة تبرز بسبب عدم وجود لغة او خطاب يعبّر عنه. انه موقف لا يستطيع فيه الضحية اثبات الضرر او الأذى الذي وقع عليه لأن النظام السائد او الخطاب المهيمن يمنع تسمية الظلم او اثباته.

تأطير تحديات الهيمنة في القرن الحادي والعشرين

يشهد النظام السياسي العالمي في الألفية الثالثة تحولات عميقة، تبرز فيها أنماط جديدة من السيطرة والهيمنة تتجذر في آليات بنيوية وفلسفية معقدة، متجاوزة الاعتماد الضروري على الاحتلال العسكري المباشر. الهدف هو تحليل العلاقة الجدلية بين ظاهرة أنوقراطيات الزومبي (الأنظمة السياسية التي فقدت فعاليتها الحيوية) وفلسفة النيوكولونيالية التي توفر الغطاء الأيديولوجي والأدوات العملية لاستدامة الهيمنة العالمية. يقوم التحليل على دمج المفاهيم النظرية في علم الأنظمة السياسية المقارن (كالأنظمة الهجينة واختطاف الدولة) مع النقد الفلسفي للأيديولوجيات الحديثة.

 تشريح أنوقراطيات الزومبي

ينبع مصطلح "أنوقراطيات الزومبي" من المفهوم الأوسع لـ "أفكار الزومبي"؛ وهي السياسات أو الأفكار غير الفعالة التي تستمر في البقاء في النظم السياسية بالرغم من إثبات فشلها الواضح في الواقع. هذا الاستمرار يمثل إشكالية عميقة في صنع القرار.

إن الدافع وراء بقاء هذه الأفكار لا يقتصر على "مكائد النخب السياسية" أو الدعاة السياسيين فحسب، بل هو نتاج للعبة معقدة يشارك فيها عدد كبير من الفاعلين، بمن فيهم "المواطنون العاديون".

عند تطبيق هذا المفهوم على النظم السياسية نفسها، فإن أنوقراطية الزومبي هي النظام الذي يحتفظ بالشكل الخارجي والمظاهر الإجرائية للديمقراطية، ولكنه فقد قدرته الجوهرية على إنتاج سياسات ناجعة تخدم المصلحة العامة، وأصبح مجرد جسد سياسي متحرك، ولكنه فاقد للروح.

الأنظمة الهجينة: الإطار المفاهيمي للأنوقراطية

الأدبيات المفاهيمية التي تدرس الأنظمة الهجينة لا تزال حديثة نسبياً، وتشير الدراسات إلى أن البحوث لم تأخذ اهتماماً كافياً بعد لبناء مفهوم مشترك ناضج بين مختلف الباحثين. على الرغم من ذلك، فإن الأنظمة الهجينة، التي تمثل حوالي 22.2% من بلدان العالم، تتميز بوجود درجات متفاوتة من الاستبداد الانتخابي.

الاستبداد الانتخابي: يتسم هذا النمط بوجود انتخابات غير تنافسية أو مُحددة سلفاً، حيث تضمن النخبة الحاكمة بقاءها عبر التحكم في العملية الديمقراطية.

الأنوقراطية: تُوصف بأنها أنظمة مختلطة وغير مستقرة، تجمع صفات استبدادية وديمقراطية، حيث قد توجد هيئات تشريعية تُنتخب عبر تصويت شعبي، لكن انتخابات المناصب فيها تكون غير تنافسية ومحددة سلفاً.

إن الأنظمة الهجينة ليست مجرد أنظمة غير مكتملة ديمقراطياً، بل إن بنيتها المفككة (الأنوقراطية) تجعلها عرضة للاختراق والفساد. يفتقر هذا النوع من الأنظمة إلى الاستقرار الذي يوفره الاستبداد الكلاسيكي وإلى الشرعية والمساءلة التي توفرها الديمقراطية الكاملة، مما يخلق بيئة من الفوضى المدارة والمستدامة التي يتم استغلالها من قبل القوى النيوكولونيالية والشركاء الداخليين.

الأصول الأيديولوجية للنيوكولونيالية

تعتمد النيوكولونيالية في الألفية الثالثة على إطار فلسفي وأيديولوجي معقد يوفر الشرعنة اللازمة للسيطرة غير المباشرة.

تقوم الكولونيالية ورديفتها النيوكولونيالية على مفارقات تنبع من التناقضات الداخلية في الأيديولوجيا الحداثية نفسها. فبينما تؤسس الحداثة مرجعياتها على المفاهيم الإنسانية النبيلة كالحرية والتنوير وحقوق الإنسان والديمقراطية، يشير واقع الحال إلى مجموعة من التناقضات التي أدت إلى صياغة شمولية للوعي الإنساني.

ان القراءة المتعمقة لمشروع الكولونيالية وما بعدياتها تجد أن الغاية الكامنة هي "الحفاظ على الأفق الاستهلاكي". تمحور هذا التحول الفلسفي حول انزلاق "كوجيتو الاستهلاك" ليحل محل "كوجيتو العقل المجرد". هذا التحول يحصر الإنسان في دروب المنفعة والمصلحة البحتة، مقدماً تبريراً هوبزياً للصراع، حيث تتربص الذوات ببعضها البعض تربصاً ذئبياً. وعليه، تجد النيوكولونيالية مبررات وجودها في هذا التركيز المفرط على المنفعة، حيث تعمل على تعديل حركة الإنسان على "عبادة التقدم"، وهو مقصد ضبابي يُستخدم لتبرير الهيمنة.وان التبعية ليست مجرد نتيجة ثانوية للاستغلال، بل هي هدف أيديولوجي محدد. يهدف "كوجيتو الاستهلاك" إلى تحويل المواطنين في أنوقراطيات الزومبي إلى مجرد مستهلكين، لضمان استمرار الطلب على التقدم الغربي ، مما يضمن التبعية المضمونة والهيمنة الثقافية والاقتصادية المستمرة.

 العولمة في الألفية الثالثة وتشرِيع السيطرة

تعتبر العولمة أبرز سمات الألفية الثالثة، وتُصوَّر كـ "قرية كونية". لكن هذا التحدي يحمل عواقب خطيرة، حيث وُصفت العولمة بأنها "حافلة دون سائق"، مما يهدد بآثار سلبية أبرزها فقدان السيادة الوطنية، وعدم الاستقرار، وعدم المساواة. إن العالم الثالث كان وما يزال يعلق الآمال على الدولة كراعٍ لمصالحه، لكن آليات العولمة عملت على تقويض الدور الاقتصادي للدولة، على الرغم من أن دعاة العولمة يبشرون بأنها ستحمل بذور التقدم.

في سياق هذه الهيمنة، تغيرت استراتيجيات السيطرة بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، حيث تم "إعادة تدوير" مناطق العالم التي خرجت منها فلول الكولونيالية عبر توحيد القانون الدولي تحت مظلة المنظمات الأممية. هذا التوحيد، الذي يسمح بهيمنة القوى الكبرى على المشهد الإنساني والاقتصادي والسياسي، هو في الواقع "ضرب من الكولونيالية الجديدة". هذا يؤكد أن النيوكولونيالية لم تعد مجرد ممارسات غير قانونية، بل هي نظام حكم عالمي مؤسس ومشرعن عبر الهياكل الدولية التي تضمن مصالح القوى المهيمنة على حساب سيادة الدول الأضعف.

يرى الكثير من المراقبين أن الفجر الذي وعدت به السوق الحرة الأمريكية دول العالم هو في النهاية فجر كاذب، وإذا استمرت العولمة في مسارها الحالي، فستكون وبالاً ليس على الأقطار النامية وحدها، بل على كامل المنظومة الاقتصادية العالمية. إن الفشل المتوقع لهذا المشروع يمثل آلية لتجريد الدول الضعيفة من قدرتها على المقاومة، مما يمهد الطريق للتدخل النيوكولونيالي باسم إنقاذ الاقتصاد أو إدارة الأزمة.

 الفكر الفلسفي في مواجهة الهيمنة

إن الفلسفة التي تتجاهل الحركة العلمية ولا تتفاعل مع التحولات الكبرى في عصرها محكوم عليها بالجمود التدريجي وبالتالي بالتلاشي. لذا، يفرض القرن الحادي والعشرون على الفلسفة أن تكون "حكمة مؤسسة على المعرفة" تستلهم وتستند إلى علوم ومعارف عصرها.

لمواجهة الهيمنة الأيديولوجية للنيوكولونيالية، يجب أن تتبنى الفلسفة دوراً نقدياً وفعالاً. هذا يتطلب الخروج من الموقف الهيغلي السلبي (بومة منيرفا) الذي يرى أن الفلسفة لا تفرد جناحيها إلا بعد أن يرخي الليل سدوله، مما يمنحها دوراً نظرياً يكتفي بفهم الواقع الذي يسبقها. هذا الموقف هو انصياع للجمود السياسي.

في المقابل، يجب التحول إلى الموقف النقدي الماركسي/الغرامشي، حيث يرى ماركس أن الفلاسفة قصروا دورهم على تفسير العالم بطرق عدة، بينما المهم هو تغييره. يتطلب هذا الموقف خروج الفلسفة من برجها العاجي لـ "تغيير ما هو كائن نحو عالم أقل ظلماً وأكثر عدالة إنسانية". في هذا التحول، ترتدي الفلسفة وجه الأيديولوجيا وتتنكر اليوتوبيا بأقنعة العلم.

 الفساد كجسر للهيمنة

تتجلى العلاقة بين أنوقراطيات الزومبي والنيوكولونيالية في آلية الفساد وهشاشة النظام. الفساد في الأنظمة الهجينة هو سمة هيكلية تضمن تضارب المصالح وإعطاء الأولوية للمصلحة الخاصة على حساب المصلحة الجماعية.

إن اختطاف الدولة يمثل عملية هادفة لإنتاج الهشاشة. هذه البيئة المثالية من الفساد المرتفع وضعف النظم القضائية ووسائل الإعلام الحرة، توفر للنخبة التابعة مساحة للاستثمار في اختطاف الدولة (الفساد المبرمج)، وفي الوقت نفسه، توفر للقوى النيوكولونيالية شريكاً موثوقاً (وإن كان فاسداً) يضمن مصالحها التجارية والسياسية طويلة الأمد. لا يوجد انفصال بين الضعف الداخلي والسيطرة الخارجية؛ بل الفساد هو الجسر البنيوي الذي يربط بينهما، مما يضمن أن الدولة الـ "زومبي" ستظل موالية للمركز العالمي.

 الخلاصة

يُظهر التحليل أن ظاهرة "أنوقراطيات الزومبي" ليست مجرد فشل داخلي في الحكم، بل هي حالة بنيوية ناتجة عن التلاقي المقصود بين الضعف المؤسسي وفلسفة النيوكولونيالية. هذه الفلسفة، المدعومة بأيديولوجيا "كوجيتو الاستهلاك" وتشرعنها المؤسسات الدولية والديون الخارجية، تستغل نقاط الضعف الداخلية لترسيخ السيطرة الاقتصادية والسياسية غير المباشرة.

***

غالب المسعودي

.......................

المصادر

بوحناش، نورة. (2020). في مداخلة للباحثة نورة بوحناش. جريدة النصر

الدواي، عبد الرزاق. (2007). عن ملامح الفكر الفلسفي في مطالع القرن 21. مجلة حكمة

الزبيدي، حسن لطيف كاظم. (2018). العولمة ومستقبل الدور الاقتصادي للدولة في العالم الثالث. شبكة الألوكة

(2023). الفيلسوف والسياسة.. بين اللفياثان والروح الجميلة. مجلة الفيصل، العدد 568

(2023). الأنظمة السياسية الهجينة: مقاربة مفهومية نظري. المجلة الجزائرية للأمن والتنمية

(2024). منظمة أوكسفام تكشف أن النخب الاقتصادية والسياسية. عربي بوست (arabicpost.net)

(2022). النخبة وتأثيرها في تكوين واستقرار المجتمعات وتشكيل نسق الحكم والفكر. (“النخبة وتأثيرها في تكوين واستقرار المجتمعات وتشكيل نسق الحكم والفكر”) ديمقراطيك أكاديمي (democraticac.de)

المصادر الأجنبية/المنظمات الدولية

ASEESTANT. (n.d.). State Capture, Hybrid Regimes, and Security Sector Reform. [المصدر: aseestant.ceon.rs]

IPPA Public Policy. (2019). Zombie Ideas: Why Failed Policy Ideas Persist. [المصدر: ippapublicpolicy.org].

UNODC. (n.d.). Anti-Corruption Module 3 Key Issues. [المصدر: unodc.org].

 

مقدمة: في ظلّ التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتسارعة، تواجه الوظائف العامة تحدياتٍ متزايدة تتعلّق بمستوى النزاهة، والالتزام بالقيم الأخلاقية، وتحقيق الصالح العام. فمع ازدياد الاعتماد على المؤسسات الحكومية لتنظيم شؤون الحياة العامة وتقديم الخدمات الأساسية، تتجلّى أحيانًا مظاهر الفساد الإداري وتعارض المصالح وضعف الأداء الوظيفي، الأمر الذي يُضعف الثقة بين المواطن والدولة، ويؤثر سلبًا في فعالية الخدمات العامة. ومن هنا تنبع مشكلة البحث، والمتمثلة في غياب إطارٍ فلسفي شامل يربط بين أخلاقيات المهنة والقيم الإنسانية من جهة، وبين الضوابط القانونية والإدارية التي تحكم سلوك الموظف العام من جهة أخرى.

وتتطلب معالجة هذه المشكلة دراسة العلاقة بين الأخلاق الفردية والأخلاق المؤسسية، وتحليل الأسس الفلسفية التي تحدد مفاهيم الواجب والمسؤولية والعدالة والشفافية في ممارسة الوظائف العامة. كما يقتضي الأمر التعرف على القيم المهنية الأساسية، مثل الصدق والنزاهة والكفاءة والخدمة العامة، وبيان كيفية ترجمتها إلى ممارساتٍ عملية ضمن بيئةٍ وظيفية تتسم بالتعقيد والمساءلة.

تكمن أهمية البحث في سعيه إلى تقديم رؤيةٍ متكاملة لفلسفة أخلاقيات المهنة في الوظائف العامة، تجمع بين التحليل الفلسفي العميق والتطبيق العملي، وتوفر إطارًا نظريًا يمكن من خلاله تطوير سلوك الموظف العام وتعزيز النزاهة والمسؤولية في القطاع الحكومي. كما يسهم البحث في بناء قاعدة معرفية تساعد على صياغة السياسات العامة ووضع الأطر التنظيمية التي تراعي البعد الأخلاقي والإنساني في العمل الإداري، بما يحقق الصالح العام ويرسّخ الثقة بين المواطن والمؤسسات العامة.

أما منهج البحث، فقد اعتمد على المنهج الوصفي التحليلي في دراسة المفاهيم الفلسفية والقيم الأخلاقية المرتبطة بالوظائف العامة، إلى جانب المنهج الفلسفي النقدي لتحليل الأفكار والتصورات المتصلة بأخلاقيات المهنة عبر تاريخ الفكر الغربي والحديث، بالاستناد إلى المراجع النظرية والفلسفية، ودراسة النماذج التطبيقية للوظيفة العامة في السياق المعاصر. كما تم توظيف المنهج المقارن لمقارنة المبادئ والقيم الأخلاقية في الفلسفة الكلاسيكية والمعاصرة، وربطها بالممارسات الواقعية في الخدمة العامة، بهدف تقديم توصياتٍ عملية لتطوير أخلاقيات الوظائف العامة.

وانطلاقًا من ذلك، يسعى البحث إلى الإجابة عن التساؤلات الآتية:

1- ما الأسس الفلسفية التي تحدد أخلاقيات المهنة في الوظائف العامة؟

2- كيف يمكن ترجمة القيم الأخلاقية إلى ممارساتٍ عملية في الإدارة العامة؟

3- ما الفرق بين الوظيفة العامة كمهنةٍ والوظيفة العامة كرسالةٍ أخلاقية؟

4- كيف يمكن بناء ميثاقٍ فلسفي لأخلاقيات المهنة يوازن بين المسؤولية الفردية والمؤسسية؟

تمثل هذه التساؤلات محورًا أساسيًا لفهم طبيعة الوظائف العامة، وتطوير إطارٍ أخلاقي وعملي يرسخ قيم النزاهة والكفاءة والعدالة، ويعزز الالتزام بالقيم العليا في العمل الإداري.

المحور الأول: مفهوم أخلاقيات المهنة بين الفلسفة والتطبيق

لقد لوحِظ السلوك الأخلاقي الإنساني منذ أقدم العصور المسجَّلة، وتشير الدراسات الأنثروبولوجية والأثرية إلى أن جميع القبائل البدائية امتلكت قواعد محددة وواضحة للسلوك. ويفترض كريستوفر بوهِم (Christopher Boehm) أن التطور التدريجي في بنية الأخلاق وتعقيدها على امتداد مسار تطوّر الإنسان العاقل كان نتيجة لازدياد الحاجة إلى تجنّب النزاعات والإصابات مع الانتقال إلى بيئة السافانا المفتوحة، وتزامن ذلك مع تطوّر استخدام الأدوات الحجرية كأسلحة. وعلى الرغم مما تتّسم به الأخلاق الإنسانية من تعقيد ورُقيّ يفوق ما لدى سائر الكائنات، فإنها في جوهرها ظاهرة طبيعية نشأت للحدّ من النزعة الفردية المفرطة وتعزيز روح التعاون بين البشر. أما الأخلاق الجماعية، فتنشأ من المفاهيم والمعتقدات المشتركة، وغالبًا ما يجري تقنينها لتنظيم السلوك داخل الثقافة أو الجماعة الاجتماعية.(1)

وإذا كان هذا التطوّر الطبيعي قد وضع الأساس الأولي للقواعد الأخلاقية، فإن انتقال الإنسان إلى أنماط اجتماعية أكثر تعقيدًا مهّد لمرحلة جديدة في التفكير الأخلاقي، وهي المرحلة التي برزت بوضوح في اليونان القديمة.

كانت اليونان القديمة مهد الأخلاق الفلسفية الغربية، إذ تعود أصول المبادئ الأخلاقية فيها إلى القرنين السابع والسادس قبل الميلاد. وقد أصبحت أسماء مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو رموزًا خالدة في تاريخ الفكر الإنساني. فقد انتقلت اليونان من كونها مجموعة من القبائل المتناحرة إلى مجتمع من الناس يعيشون في دولة المدينة، حيث بدأ الأفراد يقضون أوقاتهم في التأمل في مفاهيم مثل السعادة، والحياة الفاضلة، وقيمة التنظيم الاجتماعي. لقد غدت المبادئ والممارسات الأخلاقية بمثابة الإسمنت الذي يربط المجتمع ويمنحه تماسكه، بحيث يتمكّن المواطنون من السعي وراء رغباتهم وتحقيق أهدافهم ضمن إطار من التوازن والاحترام المتبادل. ويشير جرايلنج (Grayling) إلى أن:

«الآداب هي جوهر الأخلاق الحقيقية؛ فهي التي تُهذّب العلاقات الاجتماعية، وتُضفي على التفاعل الإنساني مسحة من اللطف والرقي، وتخفّف من حدّة الصراع. فبدونها يستحيل قيام المجتمع ذاته أو ضبطه. والإجابة عن سؤال: كيف يمكن لمجتمع معقّد وتعددي أن يتعامل مع ضغوط الاختلاف والتنافس الداخلي؟ يجب أن تضع التهذيب واللياقة في مركزها، إذ لا شيء آخر — ولا حتى الأداة الحادة المتمثلة في القانون — يمكنه أن يحقق ذلك بالكفاءة نفسها».(٢)

ومن الطبيعي بعد هذا التحوّل الفلسفي أن تتكامل الصورة التاريخية للأخلاق، بحيث تتّضح الصلة بين نشأتها الطبيعية الأولى وبين تطورها النظري، وهو ما يقود مباشرة إلى إدراك الوظيفة الاجتماعية التي أدّتها القواعد الأخلاقية في تنظيم الحياة البشرية عبر العصور.

ومن ثمّ، فمنذ اللحظات الأولى لتكوّن البنية الاجتماعية في المجتمعات البدائية، مرورًا بوضع القوانين الأولى التي نظّمت الحياة في المدن، وصولًا إلى انبثاق الفلسفة الأكاديمية في مراحلها المبكرة، بلغ الإنسان طورًا أدرك فيه أن المجتمع لا يقوم إلا على قواعد للسلوك تُجسّد القيم المشتركة، وتُعبَّر عنها بطرائق بسيطة ومباشرة في صورة آداب عامة وسلوك قويم، لتكون الإطار الذي تنتظم في نطاقه «الحياة الفاضلة» التي يتحقق بها خير الفرد وصلاح الجماعة معًا.(٣)

وعلى هذا الأساس، يصبح واضحًا أن المفاهيم الحديثة للمهنيّة والأخلاق المهنية ليست معزولة عن هذا الامتداد التاريخي، بل هي تطوّر طبيعي لمبدأ قديم مفاده أن السلوك المنظم هو شرط لاستقامة المجتمع وتحقيق الصالح العام.

1- تعريف المهنة من منظور فلسفي

عند البحث عن تعريفٍ لمفهوم «المهنة»، يُمكن العثور – في الغالب – على أربعة اتجاهات رئيسة في تحديدها. فالاتجاه الأول يرى أن السمة المميِّزة للمهنة هي نزعة ذهنية أو موقف نفسي، إذ إن الدافع الإيثاري قادر على أن يرقى بأي نداءٍ شريف إلى مصافّ المهن. أما الاتجاه الثاني فيعتبر المهنة نوعًا من العمل يتطلّب مهارةً خاصة تقوم على مستوى عالٍ من النشاط الفكري. ويذهب الاتجاه الثالث إلى أن المهنة مرتبة اجتماعية متميّزة، مثل مهنة القضاء أو المحاماة أو رجال الدين. بينما يؤكد الاتجاه الرابع أن أي عمل لا يُعدّ مهنةً حقيقية ما لم تتأسس فيه علاقة سرّية قوامها الثقة بين العميل ووكيله، كما هو الحال في العلاقة بين المريض وطبيبه، أو بين المتقاضي ومحاميه.(٤) وهنا يمكن ملاحظة أن الثقة المتبادلة بين الأطراف تعتبر جزءًا من التطور الأخلاقي الذي ناقشناه في الفقرات السابقة، إذ تشكّل أحد أهم عناصر الاستقرار الاجتماعي والممارسة المهنية المسؤولة.

ومن خلال هذه الاتجاهات يمكن القول إن المهنة ليست مفهومًا أحادي البعد، بل تتأسس على تداخلٍ بين البعد الأخلاقي والاجتماعي والمعرفي. ومن هنا تأتي الحاجة إلى تتبّع التعريفات الحديثة للمهنة كما وردت في القواميس والمراجع الفكرية المعاصرة.

ولا يُعَدّ أيٌّ من هذه التعريفات كافيًا بمفرده، غير أنّها جميعًا، إذا نُظِر إليها مجتمعةً — كما أرجل الطاولة — تُشكّل أساسًا متينًا تستند إليه المهنة وتستمدّ منه توازنها واستقرارها. ومع ذلك، يمكن صياغة عددٍ من التعريفات التي تُسهم في تحديد مفهوم المهنة بدقّة أكبر. يُوضّح قاموس أوكسفورد الإنجليزي (٢٠١٤) أن المهنة تشمل العمل أو الوظيفة، سواء أكانت مسارًا مهنيًا أم دعوةً رسالية، وتقوم على عناصر أساسية هي: المعرفة، والتطبيق، والتدريب، والمؤهلات الرسمية، مع الإشارة إلى أن العنصرين الأخيرين يُعدّان أمرين مألوفين، لكن غير جوهريين. أما قاموس ميريام- ويبستر (٢٠١٤) فيعرّف المهنة بأنها «دعوة أو رسالة تتطلّب معرفة متخصّصة، وغالبًا إعدادًا أكاديميًا طويلًا ومكثّفًا».(٥) ويُظهر هذا أن المهنة ليست مجرد وظيفة، بل رسالة أخلاقية واجتماعية تتطلب مستوى عالٍ من المعرفة والتدريب.

وإذا كانت القواميس الحديثة قد ركّزت على الجانب المعرفي والرسالي للمهنة، فإن بعض المفكرين المعاصرين قد وسّعوا هذا الإطار ليشمل بعدها الخدمي والاجتماعي، كما نجد عند سيدني وبياتريس ويب، اللذين شدّدا على أن المهنة لا تُمارس من أجل الربح، بل من أجل خدمة الآخرين في ضوء رسالة أخلاقية واضحة. فقد قدَّم مؤسِّسا مدرسة لندن للاقتصاد، سيدني (Sidney) وبياتريس ويب (Beatrice Webb)، تعريفًا للمهنة يُعدّ معاصرًا لتعريف فلكسنر، إذ اعتبرا أن المهنة هي: «دعوة تقوم على تدريبٍ تعليميٍّ متخصّص، غايتها تقديم النصح والخدمة الموضوعية للآخرين مقابل عِوَضٍ مباشرٍ ومحدّد، من غير توقّعٍ لأي مكسبٍ تجاريٍّ آخر».(٦) ويؤكد هذا التعريف على الطابع الخدمي للأخلاق المهنية، وهو امتداد طبيعي للفلسفة الأخلاقية التي ناقشناها في اليونان القديمة، حيث تم وضع المبادئ التنظيمية للمجتمع.

وفي الاتجاه ذاته، يضيف العالِم القانوني الأمريكي روزكو باوند (Roscoe Pound) بُعدًا جديدًا يربط بين الممارسة المهنية والالتزام بالخدمة العامة، مؤكدًا أن القيمة الأخلاقية للمهنة لا تنفصل عن قيمتها العلمية أو التقنية. فهو يرى أن المهنة هي: «جماعة تمارس فنًّا علميًّا بوصفه نداءً مشتركًا، في روحٍ من الخدمة العامة — وهي ليست أقلَّ خدمةً عامةً لمجرد أنها قد تكون في الوقت ذاته وسيلةً للعيش».(٧) ويؤكد هذا التعريف أن الالتزام الأخلاقي لا يقل أهمية عن الخبرة العلمية أو التقنية، وأن الخدمة العامة جزء لا يتجزأ من الهوية المهنية.

ومع تطوّر الفكر المهني في القرن العشرين، أخذ التعريف يزداد دقةً وشمولًا، كما في طرح كروس (Cruess) وآخرين (٢٠٠٤) الذين أبرزوا فكرة «العقد الاجتماعي» بين المهنة والمجتمع، باعتبارها الأساس الأخلاقي الذي يُبرّر استقلال المهنة وامتيازها بالثقة والتنظيم الذاتي. فقد عرّف كروس وآخرون المهنة بأنها: «عملٌ يقوم جوهره على إتقان مجموعة معقّدة من المعارف والمهارات. وهي رسالة تُوظَّف فيها المعرفة في أحد فروع العلم أو الفنون المشتقة منه لخدمة الآخرين. ويُقيَّم أعضاؤها وفق مواثيق أخلاقية يُعلِنون من خلالها التزامهم بالكفاءة، والنزاهة، والأخلاق، والإيثار، والسعي إلى تحقيق الخير العام ضمن مجالهم. وتشكل هذه الالتزامات الأساسَ لعقدٍ اجتماعيٍّ بين المهنة والمجتمع، يمنح المهنة احتكارَ استخدام معرفتها المتخصّصة، وحقَّ الاستقلالية الواسعة في الممارسة، وامتيازَ التنظيم الذاتي. وتبقى المهنة، ومن ينتمون إليها، مسؤولين أمام من يخدمونهم وأمام المجتمع بأسره».(٨)

ويُعمّق إليوت فريدسون (Eliot Freidson) هذا التصوّر من خلال تحليله للمهنة بوصفها بنيةً مؤسسية تستمد شرعيتها من الثقة العامة، ومن افتراضٍ جوهريٍّ بأن العاملين فيها يغلّبون الصالح العام على المصلحة الذاتية، ويمارسون الرقابة الذاتية بوصفها ضمانةً أخلاقية للمجتمع. فهو يرى أن المهنة «ممارسةٌ يشغلها أفراد يتمتّعون بامتيازاتٍ خاصة، من قبيل الترخيص الحصري، وهي امتيازاتٌ مبرَّرة بعدة افتراضات؛ أولها أن ممارستها تتطلّب تدريبًا فكريًا عميقًا وقدرةً على إصدار أحكامٍ معقّدة؛ وثانيها أن العملاء عاجزون عن تقييم جودة الخدمة تقييـمًا كافيًا، الأمر الذي يقتضي منهم الثقة بمن يستشيرونهم؛ وثالثها أن هذه الثقة تقوم على افتراضٍ بأن المصلحة الذاتية للممارس متوازنة — بل خاضعة — لالتزامه بخدمة مصلحة العميل والصالح العام؛ وأخيرًا أن المهنة تُنظِّم نفسها ذاتيًا، أي إنها مؤسَّسة على نحوٍ يضمن للمجتمع وللقضاء معًا أن أعضاءها أكفاء، وأمناء في ثقة عملائهم، ومتجاوزون لمصالحهم الشخصية».(٩)

ولتحديد السمات التي تجعل من أي ممارسة «مهنة» بالمعنى الدقيق، صاغ فريدسون وأرجيريس وشون (Argyris & Schön، ١٩٧٤) مجموعةً من الخصائص التي تُميّز العمل المهني عن غيره من صور الكسب أو الحرفة، ويمكن إجمالها في عشر خصائص رئيسة:

١- تدريبٌ متخصص طويل الأمد يقوم على منظومة من المعارف المجرّدة.

2- توجّهٌ خدمي يقوم على تقديم النفع للآخرين.

٣- أيديولوجيا مهنية تستند إلى عقيدة أو إيمان أصيل يعبّر عنه أعضاء المهنة.

4- منظومة أخلاقية مُلزمة لجميع الممارسين.

٥- جسم معرفي خاص يميّز أعضاء المهنة عن سواهم.

٦- مجموعة مهارات تقنية تشكّل الجانب العملي للممارسة المهنية.

7- نقابة أو هيئة مهنية تضمّ أولئك الذين يملكون حقّ ممارسة المهنة.

٨- سلطة تُمنَح من المجتمع في صورة ترخيص أو اعتماد رسمي.

٩- بيئة معترف بها تُمارَس فيها المهنة على نحوٍ رسمي ومنظّم.

١٠- نظرية في المنافع الاجتماعية تُستمدّ من الأيديولوجيا التي تقوم عليها المهنة.(١٠)

وقد لاقت هذه الخصائص صدى واسعًا في المؤسسات المهنية الحديثة، إذ تبنّاها عددٌ من المجالس والمنظمات التي تسعى إلى وضع معايير موحدة للمهن، مثل المجلس الأسترالي للمهن الذي قدّم تعريفًا مؤسسيًا أكثر شمولًا للمهنة. فقد عرّف المجلس الأسترالي للمهن المهنة على النحو الآتي: «المهنة هي جماعة منظَّمة من الأفراد يلتزمون بالمعايير الأخلاقية، ويقدّمون أنفسهم — ويُعترف بهم من قبل الجمهور — بوصفهم أشخاصًا يمتلكون معرفةً ومهاراتٍ متخصّصة ضمن مجالٍ علمي معترف به على نطاقٍ واسع، مشتقٍّ من البحث والتعليم والتدريب على مستوى عالٍ، وهم مستعدّون لتوظيف هذه المعرفة وممارسة تلك المهارات بما يخدم مصلحة الآخرين. ومن جوهر تعريف المهنة وجودُ مدوّنةٍ أخلاقية تحكم أنشطة كل مهنة، وتتطلّب من أعضائها سلوكًا وممارساتٍ تتجاوز الالتزامات الأخلاقية الفردية. فهي تُحدِّد وتُفرض من خلالها معاييرُ عاليةٌ للسلوك، سواء في تقديم الخدمات للجمهور أو في التعامل بين الزملاء المهنيين. وغالبًا ما تُطبَّق هذه المدوّنات من قِبَل المهنة نفسها، ويحظى بها المجتمع اعترافًا وقبولًا».(١١)

وإلى جانب هذا التصور المؤسسي، قدّم عدد من الباحثين تعريفات تكميلية تُبرز الجوانب التنظيمية والعملية في الممارسة المهنية، كما فعل بهرمان (Behrman, J) الذي ركّز على التعليم النظامي، والرقابة الذاتية، والالتزام بخدمة المجتمع. فقد رأى أن للمهنة خصائص أساسية أخرى، من أهمها: وجود مجال محدّد بوضوح من الخبرة، واشتراط مرحلة من التعليم أو التدريب النظامي قبل الانضمام إلى المهنة، مع قصر العضوية على المؤهَّلين وفق معايير دقيقة. وتشمل المهنة كذلك آليات للفحص والترخيص، والتزامًا بخدمة المجتمع يستند إلى توجّهٍ خدميٍّ يُقدَّم على السعي إلى الكسب المادي. كما تتضمن ممارسة العمل نشاطًا تطوّعيًا (pro bono) ورسومًا متباينة تراعي قدرة المستفيدين على الدفع، إلى جانب نظامٍ تنظيميٍّ ذاتي يقوم على مدوّنة أخلاقية تُلزم الأعضاء بمستويات عالية من الكفاءة، وتوفّر آليات للرقابة الذاتية تفرض العقوبات المناسبة في حالات سوء السلوك أو الإهمال.(١٢)

وتتفق رؤية «الجمعية الأمريكية لإداريي شؤون الأفراد» (ASPA) مع هذه الاتجاهات، غير أنها تُحدّد المهنة من زاوية عملية تنظيمية، فتجعل من التعليم النظامي، والجمعية المهنية، ومدوّنة السلوك الأخلاقي ركائز لا غنى عنها لأي ممارسة مهنية حقيقية. فهي ترى أن المهنة الحقيقية يجب أن تتّسم بالخصائص الخمس الآتية:

1- أن تكون ممارسةً بدوامٍ كامل؛

2- أن تكون هناك مدارس ومناهج تعليمية مخصّصة لتدريس المبادئ الأساسية للمهنة، وأن يتوافر جسم معرفي مشترك ومحدّد؛

3- أن تمتلك المهنة جمعية مهنية وطنية؛

4- أن يكون لها برنامج اعتماد مهني معتمد ومعروف؛

٥- وأن تتبنّى مدوّنة أخلاقية تُنظّم سلوك الممارسين وتوجّههم.(١٣)

ويُعدّ المجال الطبي نموذجًا متميّزًا لتجسيد هذه القيم في الممارسة الواقعية، إذ تتكامل فيه الكفاءة مع الإيثار والاستقلالية والمسؤولية الاجتماعية. ويذكر كروس وآخرون (1997) أن المهنيين في المجال الطبي يتميّزون بالسمات الآتية:

١- الكفاءة: القدرة على إتقان المعارف والمهارات المرتبطة بالممارسة الطبية والمحافظة على حداثتها؛

٢- الالتزام: الشعور بالواجب والدافع الداخلي للعمل بما يحقق أفضل مصلحة للمريض؛

٣- الاستقلالية: الحرية في اتخاذ القرارات المستقلة بما يخدم مصلحة المرضى والصالح العام للمجتمع؛

٤- الإيثار: الإخلاص غير الأناني في رعاية الآخرين، وتقديم احتياجات المريض على المصلحة الشخصية؛

٥- النزاهة والصدق: التمسك الثابت بمدوّنة القيم الأخلاقية، والتحلي بالاستقامة ومقاومة الفساد؛

٦- الأخلاق والمبادئ: السعي إلى الخير العام، والالتزام بالمُثُل العليا للسلوك الإنساني القويم في التعامل مع المرضى والزملاء والمجتمع؛

٧- التنظيم الذاتي: امتلاك امتياز وضع المعايير المهنية، وتحمل المسؤولية عن الأفعال والسلوكيات في الممارسة الطبية؛

٨- المسؤولية تجاه المجتمع: الالتزام بتسخير الخبرة والمعرفة لخدمة المجتمع، وتحمل المساءلة أمامه عن الأفعال الفردية أو المهنية ذات الصلة بالخير العام؛

٩- المسؤولية تجاه المهنة: الالتزام بصون نزاهة المهنة والحفاظ على طابعها الأخلاقي والتعاوني، وتحمل المسؤولية عن السلوك المهني أمام الزملاء؛

١٠- العمل الجماعي: القدرة على تقدير خبرات الآخرين واحترامها، والتعاون معهم بما يخدم المصلحة الفضلى للمريض. (14)

ومن هذا العرض تتضح الصلة الوثيقة بين المهنة والصفات التي يتحلّى بها من يمارسها، الأمر الذي يقود إلى التساؤل الجوهري: من هو المهني؟ وما المقصود بالفلسفة المهنية؟

ويُعرَّف المهني بأنه عضوٌ في مهنةٍ ما، يتميّز بامتلاكه مجموعةً من الصفات التي تُجسِّد جوهر الممارسة المهنية الرفيعة، وتتمثل في الآتي:

1- امتلاك المعرفة والمهارات الخاصة بمجال المهنة.

2- الالتزام المستمر بتطوير الذات علميًّا ومهاريًّا.

3- اتّباع نزعةٍ خدمية في أداء العمل تهدف إلى نفع الآخرين.

4- الاعتزاز بالمهنة والشعور بالانتماء إليها.

5- إقامة علاقةٍ ميثاقية قائمة على الثقة والالتزام تجاه العملاء.

6- الإبداع والابتكار في الأداء والممارسة المهنية.

7- التحلّي بالضمير المهني والجدارة بالثقة.

8- تحمّل المسؤولية الكاملة عن العمل ونتائجه.

9- اتخاذ القرارات الأخلاقية السليمة في المواقف المهنية.

10- امتلاك روح القيادة والقدرة على توجيه الآخرين مهنيًّا وأخلاقيًّا.(١٥)

وإذا كان تعريف «المهني» يُبرز البعد الشخصي في ممارسة المهنة، فإن «الفلسفة المهنية» تمثّل الإطار الفكري الذي يوجّه هذا السلوك، ويُحدّد العلاقة بين المعرفة والأخلاق والسياسة المهنية، بما يضمن اتساق الممارسة مع القيم العليا للمجتمع. فهي مجموعة من المعتقدات والمواقف تجاه الحياة تُوجِّه سلوك الأفراد الذين يمارسون مهنةً معينة، ويمكن النظر إليها بوصفها نتاجَ تفاعلٍ بين ثلاثة عناصر مترابطة، هي: معايير الممارسة المهنية، والمبادئ الأخلاقية، والسياسة المهنية التي تتضمّن عقائد المهنة. تشكل معايير الممارسة الإطار الذي يُنظّم من خلاله المهنيون أداءهم لأعمالهم، بينما تُقدِّم الأخلاق المبادئ المقبولة التي تُميِّز بين الصواب والخطأ كما يفهمها ويقبلها أعضاء المهنة، وتوضّح كيفية تطبيق هذه المبادئ في تعامل المهنة مع المجتمع وفي خدمتها له.(١٦)

2- مفهوم "الأخلاق المهنية":

وإذا كانت المهنة تقوم على منظومة من المعارف والمهارات والسلوكيات التي تخدم الصالح العام وتعبّر عن رسالة اجتماعية، فإن الأخلاق المهنية تمثّل الجانب المعياري الذي يوجّه هذه الممارسة، ويضمن اتساقها مع المبادئ الإنسانية العليا. ويأتي مفهوم "الأخلاق المهنية" ليكمل هذه الصورة، إذ إن الأخلاق هي مجموعة من المبادئ التي وُضعت للصالح العام، صاغها الحكماء استنادًا إلى خبراتهم وحكمتهم. وقد خضعت هذه المبادئ عبر العصور لعمليات تنقيح وتعديل وتطوير، لتتوافق مع خصوصية الأقاليم، وطبيعة الحُكّام أو السلالات الحاكمة، ومع التطورات التي شهدها العلم والتكنولوجيا، وتغيّر الأزمنة والظروف.

وتهتم الأخلاق المهنية بتطبيق المبادئ والممارسات الأخلاقية على واقع العمل والمهنة، فتتناول أسئلة من قبيل:

(أ) ما الذي ينبغي أو لا ينبغي فعله في موقفٍ معيَّن؟

(ب) ما الصواب أو الخطأ في طريقة التعامل مع موقفٍ ما؟

(ج) ما الخير أو الشر في الأشخاص أو السياسات أو المبادئ المتصلة بذلك الموقف؟ (١٧)

ومن المهم التمييز بين الأخلاق العملية (السلوك العملي) (Morality) وعلم الأخلاق (الدراسة النظرية) (Ethics)، إذ تختلف الأولى عن الثانية في أن الأولى تُعنى بما يفعله الإنسان فعليًا في حياته اليومية، بينما تهتم الثانية بتحليل وتفسير وتقييم تلك الأفعال من منظورٍ فلسفي معياري.ويمكن ابراز ذلك كما يلى: (١٨)2155 talba

تُسهم دراسة الأخلاق في التعرّف إلى معتقدات الناس وقيمهم ومبادئهم الأخلاقية، وفي تعلّم ما هو خير أو شرّ فيها، ثم ممارستها على نحوٍ يعزّز رفاه الإنسان وسعادته. كما تنطوي على البحث في الأوضاع القائمة، وتكوين الأحكام، ومعالجة الإشكالات الأخلاقية. وإلى جانب ذلك، تُعلِّمنا الأخلاق كيف نحيا وكيف نتعامل مع القضايا المختلفة من منظور الواجبات والحقوق والمسؤوليات والالتزامات. (١٩)

ومن هذا المنطلق، يتّضح لنا بجلاء مدى أهمية الأخلاق بوجهٍ عام، ودورها في تأطير السلوك الإنساني وتوجيهه نحو التطبيق العملي في الحياة المهنية. فالأخلاق المهنية والقيم الإنسانية تُعَدّان من أكثر الموضوعات اتصالًا بواقعنا المعاصر المفعم بالصراعات والضغوط التي تشهدها المهن المختلفة، حيث يُطالَب الفرد بأداء واجباتٍ متعدّدة في اتجاهاتٍ متنوّعة. ومن المؤكّد أن دراسة هذا الموضوع دراسةً منهجية تسهم في تنمية قدرات الفرد وصقل حُسن حكمه، وفي تهذيب سلوكه وقراراته وأفعاله أثناء قيامه بواجباته تجاه أسرته ومؤسسته ومجتمعه. (٢٠)

وبناءً على ما تقدّم، تهدف دراسة الأخلاق المهنية والقيم الإنسانية إلى ما يلي:

(أ) فهم القيم الأخلاقية التي ينبغي أن تُوجِّه الممارسة المهنية؛

(ب) معالجة القضايا الأخلاقية التي تنشأ داخل المهنة؛

(ج) تبرير الأحكام الأخلاقية المرتبطة بالممارسة المهنية. (٢١)

ويمكن النظر إلى الأخلاق المهنية بوصفها فرعًا من الأخلاقيات التطبيقية يهدف إلى تحديد العمل المهني، وتوضيحه، وانتقاده، وفهم القيم النموذجية المرتبطة به. وتتميّز المهن، من الناحية الاجتماعية، بخبرة أعضائها القائمة على أسسٍ علمية، وبمثُلهم الأعلى في الخدمة، وهو ما ينطبق على ما يُعرف بالمهن الكلاسيكية. ويمكن فهم هذا المثل الأعلى للخدمة من خلال القيم التي تحدّد أهداف العمل المهني؛ فعلى سبيل المثال، يتمثّل الهدف الأساسي للطبيب في تعزيز الصحة. فكلّ مهنةٍ كلاسيكيةٍ لها مثلها الأعلى في الخدمة، المرتبط بالقيمة النموذجية لعمل أعضائها. (٢٢)

ومن منظور فلسفي أعمق، يمكن القول إنّ العمل المهني يُجسّد الحقوق والواجبات الخاصة بكل مهنة، كما يتطلّب توافر الفضيلة الشخصية لدى الممارس ذاته. ويمكن تناول أخلاقيات الهندسة، على سبيل المثال، من خلال الإشارة إلى النظام التكنولوجي، الذي يتميّز باستقلالية قيمه، وبمفهومي وجوب التكنولوجيا وحتميّتها. ومن خلال هذه المفاهيم يمكن تحليل سياق تعليم المهندسين، وعملهم، وأهدافهم، ونقدها. وترى النظرة التقليدية أنّ قيم الهندسة تتمثّل في سلامة الجمهور وصحّته ورفاهيته، غير أنّه يمكن — من منظورٍ نقدي — الطعن في هذا التصوّر. وتختلف مهنة الهندسة عن المهن الكلاسيكية في بعض الجوانب الجوهرية، حيث يلعب مفهوم الولاءات المزدوجة دورًا محوريًا في هذا الاختلاف. (٢٣)

وبذلك يمكن القول إنّ الأخلاق المهنية تتجلّى في ثلاثة أشكال رئيسة:

أولًا، تُفهم الأخلاق المهنية بوصفها مجموعة من القيم والمعايير التي تُوجّه عمليًا القرارات عند اتخاذها من قبل المهنيين، وبذلك تكون محدِّدًا للفعل بدرجات متفاوتة من الوضوح والوعي، ويُعزى تناول هذا الجانب من الأخلاق المهنية إلى علم النفس الاجتماعي.

ثانيًا، تُدرَك الأخلاق المهنية باعتبارها منظومة مثالية من القيم، تهدف إلى توضيح أفضل عالم ممكن تمارس فيه المهنة دورها على نحوٍ مثالي. وقد وضعت مختلف المهن في الوقت الحاضر مدوّنات سلوك تعبّر عن أفضل القيم والسلوكيات والنتائج المرجوّة. ويمكن وصف هذا النمط من الأخلاق المهنية بأنه تعبيري واستعراضي، ومن ثمّ يمكن دراسته من خلال أدوات البلاغة. غير أنّ هذا الافتراض يحتاج إلى توضيح، إذ لا ينبغي فهم مصطلح البلاغة بمعناه السلبي، بل بوصفه وسيلة لإعلان وتجسيد النوايا الحسنة التي يُفترض أن تميّز المهنة.

ثالثًا، تُعدّ الأخلاق المهنية فرعًا فلسفيًا نقديًا ينتمي إلى ميدان الأخلاق التطبيقية، حيث تُطبّق المناهج الفلسفية العامة على القرارات المهنية والتخطيط والعمل بغية تقييمها ونقدها وتطويرها. وتعتمد هذه المقالة النهج الفلسفي في دراسة الأخلاق المهنية. (٢٤)

ومن ثمّ، يمكن تمييز عدة اتجاهات رئيسة في ميدان الأخلاق المهنية الفلسفية:

أولًا، يُعرف الاتجاه الأول باسم «أخلاق المعضلات» (Quandary Ethics)، وهو مصطلح استخدمه للمرة الأولى — على ما يبدو — الفيلسوف إي. بينكوفز (E. Pincoffs). وعند تطبيق هذا المنظور على الأخلاق المهنية، تُدرَس الحياة المهنية من خلال مشكلاتها الدرامية ومعضلاتها الأخلاقية. فمثلًا، قد يجد محامي الدفاع نفسه ممثلًا لشخص خطر يعلم أن تبرئته قد تسبّب ضررًا جسيمًا للمجتمع. فهل يلتزم بالدفاع عنه رغم ذلك؟ إنّ حقّ الإنسان في الدفاع عن نفسه حقٌّ أساسي، لكنه لا يمكن ممارسته دون مساعدة مختص قانوني، وهو ما يجعل هذه الحالة نموذجًا لمعضلة أخلاقية في مجال القانون.

ثانيًا، يتناول اتجاه آخر تحليل المفاهيم الأساسية للعمل المهني والمهنية بوجه عام، وذلك عبر التحليل الفلسفي المفاهيمي. ويرى كثير من الفلاسفة أنّ هذا هو النهج الفلسفي الرئيس في دراسة الأخلاق المهنية، لما يتّسم به من شرعية منهجية وفائدة تحليلية. ومن أبرز المفاهيم التي تخضع لهذا التحليل مفهوما الاستقلالية (Autonomy) والسلطة (Authority)، بوصفهما من المفاهيم النموذجية في بنية الحياة المهنية.

ثالثًا، يركّز الاتجاه الفلسفي الأخير على العالم التاريخي للحياة المهنية، باعتباره الإطار الذي تتشكّل فيه جميع الأنشطة المهنية. وقد كان ميشيل فوكو (Foucault) من الروّاد في هذا النهج، الذي يُعَدّ — في كثير من الجوانب — الأكثر خصوبة وإنتاجًا؛ لأنه يتيح تكوين صورة شاملة عن الحياة المهنية، ويسمح بوضع الاتجاهات الأخرى في سياقٍ فلسفي وتاريخي متكامل. (٢٥)

٣- العلاقة بين الأخلاق الفردية والأخلاق المؤسسية:

وبعد تناول الأسس النظرية والفلسفية للأخلاق المهنية، تنتقل الدراسة إلى مستوى أكثر تطبيقًا، يتمثل في العلاقة بين الأخلاق الفردية والأخلاق المؤسسية، إذ لا يمكن فهم السلوك الأخلاقي المهني بمعزلٍ عن البيئة التنظيمية التي يعمل فيها الفرد. فكما أنّ الأخلاق المهنية تعبّر عن التزام الفرد بقيم عامة تحكم ممارسته، فإن المؤسسات بدورها تمتلك منظومات قيمية تحدّد الإطار العام للسلوك داخلها.

وتُكمِّل هذه الرؤية أهمية الأخلاق الفردية بمفهوم الأخلاق المؤسسية، إذ تُعَدّ القيم الأساس الجوهري للسلوك الأخلاقي، ويمكن تقييمها على مستويين: الفردي والتنظيمي. ويُطلق على التوافق بين قيم الفرد وقيم المؤسسة مصطلح «الانسجام بين الفرد والمنظمة» أو «التوافق القيمي»، وهو ما يشكّل محور العلاقة الأخلاقية بين الفرد ومؤسسته.

وفي هذا السياق، أجرت ليدتكا (Liedtka) في أطروحتها مقابلات مع عدد من المديرين في منظمتين، وطلبت منهم تحديد كلٍّ من قيمهم الشخصية وقيم مؤسساتهم التنظيمية، ثم شرح كيفية توظيفهم لهذه القيم في حلّ المعضلات الأخلاقية التي واجهوها. واستخدمت الباحثة مصطلح «التوافق القيمي» للدلالة على مدى الاتساق الداخلي الذي أبداه المشاركون في توصيف منظوماتهم القيمية الشخصية، وكذلك مدى إدراكهم لقيم مؤسساتهم بوصفها منظومات متسقة داخليًا أيضًا.

وقد ركّزت ليدتكا في دراستها على حلّ صراعات القيم، سواء أكانت صراعات داخلية يعيشها المدير ذاته، أم صراعات خارجية بينه وبين المؤسسة. وتبيّن من نتائج الدراسة أن المديرين ذوي التوافق القيمي العالي كانوا أكثر قدرة على حلّ النزاعات الأخلاقية على مستوى أخلاقي أرفع مقارنةً بأولئك الذين عبّروا عن توافق أقل أو قيم أقل اتساقًا داخليًا. كما لاحظت الباحثة أن المؤسسات، من منظور هؤلاء المديرين أنفسهم، تُظهر أنساقًا قيمية تتفاوت في درجة الاتساق الداخلي. فقد كان المديرون العاملون في مؤسسات ذات منظومات قيمية عالية الاتساق أكثر ميلًا إلى اتخاذ قرارات أخلاقية متقدّمة مقارنةً بنظرائهم في مؤسسات أقلّ اتساقًا قيميًا. (٢٦)

وفي مقالٍ لاحق مستمدٍّ من أطروحتها، أكدت ليدتكا أن النظام القيمي للمؤسسة يلعب دورًا حاسمًا في تشكيل الإطار الذي تُعرض عليه المعضلات الأخلاقية التي يواجهها المديرون. وقد قارنت بين مؤسستين: إحداهما تتسم بـ «نظام قيمي غني ومتعدد الأبعاد»، والأخرى وصفتها بأنها «نفعية بحتة».

وقد قامت ليدتكا بتحليل مصادر متعددة لصراع القيم، شملت ما يلي:

1- الصراع داخل منظومة القيم الخاصة بالمؤسسة،

2- الصراع داخل منظومة القيم الخاصة بالفرد،

3- الصراع بين قيم الفرد وقيم المؤسسة،

4- وأخيرًا الصراع المزدوج الذي ينشأ داخل القيم الفردية والتنظيمية وبينهما معًا. (٢٧)

واستخدمت ليدتكا مصطلح «التوافق القيمي» للإشارة إلى الانسجام الداخلي للقيم داخل المؤسسة، وكذلك إلى الاتساق الداخلي للقيم التي يتبنّاها الفرد. وكان من أبرز ما طرحته في حجّتها أنّه كلما ارتفع مستوى التوافق القيمي داخل المؤسسة، ازدادت قدرة قيمها على التأثير في استجابات الأفراد تجاه المعضلات الأخلاقية. وبالمثل، كلما اتسقت قيم الفرد داخليًا بدرجة أكبر، ازدادت قوة تأثيرها في تشكيل استجاباته لتلك المعضلات ذاتها. وبعبارة أخرى، حين تكون قيم المؤسسة متناقضة أو غير محدَّدة بوضوح، أو حين تكون قيم الفرد متضاربة أو غامضة، فإن هذه القيم تفقد فعاليتها النسبيّة في توجيه عملية اتخاذ القرار الأخلاقي. (٢٨)

كما استخدم بوسنر وشميت (Posner & Schmidt) أيضًا مفهوم التوافق القيمي لقياس مدى ما تتّسم به القيم من انسجام سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى المؤسسات — وفقًا لتقارير الأفراد أنفسهم — غير أنهما لم يركّزا على العلاقة بين قيم الأفراد وقيم مؤسساتهم. وقد خلص الباحثان إلى أنّ التوافق القيمي لدى الأفراد والتوافق القيمي لدى المؤسسات يرتبطان ارتباطًا إيجابيًا بعملية اتخاذ القرار الأخلاقي، غير أنّ التأثير الأبرز كان للتوافق القيمي على المستوى الفردي. أما أدكنز (Adkins) وآخرون، فقد درسوا التوافق القيمي بين الزملاء في بيئة العمل، وخلصوا إلى أنّ النتائج الإيجابية في العمل — مثل الرضا الوظيفي والالتزام بالحضور — كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتوافق القيمي، ولا سيّما بين الموظفين ذوي الرتب الأدنى، وفي الوظائف التي تتطلّب تعاونًا مباشرًا بين الأفراد. (٢٩)

ويشير كوينزي وشمينكه (Kuenzi & Schminke) في مراجعتهما للأدبيات الخاصة بمناخ العمل التنظيمي إلى أنّ هناك تعددًا كبيرًا في التعريفات وتداخلًا ملحوظًا بين العديد من المفاهيم ذات الصلة، مثل: المناخ التنظيمي، ومناخ العمل، والمناخ النفسي، والسياق التنظيمي. وقد حاولا التمييز بين المناخ التنظيمي والثقافة التنظيمية، مشيرين إلى أنّ الأول يتعلّق أكثر بـ «كيفية إنجاز الأمور»، في حين ترتبط الثانية بـ «الافتراضات الكامنة» أو «المستوى الأعلى من التجريد».

ويُعدّ هذا التمييز ذا أهمية خاصة في دراسة مناخ الأخلاق داخل المنظمات، إذ يركّز هذا الحقل بدوره على «كيفية إنجاز الأمور» في سياق اتخاذ القرارات الأخلاقية، بخلاف مفهوم الثقافة الأخلاقية الذي يرتبط بالافتراضات العميقة التي تحكم السلوك. وتكتمل الصورة عند النظر إلى الأخلاقيات الفردية والمؤسسية معًا، حيث أشار أحد الاتجاهات المؤثرة في هذا المجال — كما طرحه فيكتور وكالن (Victor & Cullen) — إلى أنّ المنظمات يمكن أن تُظهر أبعادًا أخلاقية تماثل مراحل النمو الأخلاقي التي اقترحها كولبرج (Kohlberg) لتطور الأخلاق عند الأفراد.

كما أشارت دراسات متعدّدة إلى وجود علاقة وثيقة بين الأخلاقيات الفردية والمناخ التنظيمي، حيث أظهرت النتائج أنّ الأفراد يفضّلون مستويات أعلى من التوافق بينهما، وأنّ هذا التوافق يرتبط إيجابيًا بارتفاع مستويات الرضا الوظيفي والالتزام بالعمل، وبانخفاض نية ترك الوظيفة. (٣٠)

المحور الثاني: الأسس الفلسفية لأخلاقيات الوظيفة العامة

١- الفضيلة العملية عند أرسطو في سياق العمل العام

تُعَدّ الفلسفة الأخلاقية لأرسطو، كما عرضها في كتابه الأخلاق النيقوماخية، من أبرز النظريات التي أولت عناية خاصة بمفهومي الفضيلة والفهم الأخلاقي بوصفهما الأساس الجوهري للحياة المُرضية والمثالية. وتتناول هذه الدراسة تصوّر أرسطو للفضيلة والمعرفة الأخلاقية، وتبحث في العلاقة التفاعلية بينهما ضمن الإطار الكلي لنظريته الأخلاقية. (٣١)

وتؤسس هذه الرؤية لفهم الدور المركزي الذي تؤديه الفضيلة والمعرفة الأخلاقية في تحقيق الحياة المزدهرة، وهو ما يقودنا مباشرة إلى شرح مفهوم السعادة (اليوذيمونيا) باعتباره الهدف الأسمى للفكر الأرسطي. ويرتكز هذا الفكر على أن السعادة تمثّل اكتمال الازدهار الإنساني، ولا تتحقق إلا من خلال تنمية الخصال الفاضلة في النفس البشرية. فالفضيلة، في نظر أرسطو، ليست مجرد التزام بالقوانين أو اتباعٍ للمبادئ، بل هي ثمرة تكوين العادات الفاضلة واكتساب الحكمة العملية عبر الخبرة والتأمل. أما المعرفة الأخلاقية، فهي إدراك المبادئ التي توجه السلوك القويم، والقدرة على تطبيقها في المواقف العملية المحددة. ومن هنا يتضح أن تحقيق السعادة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بممارسة الفضائل، وهو ما يمهد للانتقال إلى تعريف الفضيلة وأنواعها.

تُعرِّف فلسفة أرسطو الفضيلة بأنها حالة من التميّز والصلاح الأخلاقي، وهي هيئة راسخة في النفس تمكّن الإنسان من التصرّف وفقًا للعقل وتحقيق أقصى قدراته بوصفه كائنًا عاقلًا. وتتضمّن الفضيلة، عنده، ميلاً ثابتًا لاختيار الوسط بين الإفراط والتفريط في الأفعال والانفعالات، ويوجَّه هذا الاختيار بواسطة الحكمة العملية (الفرونيسيس). أما الوسط أو ما يُعرف بـ«الوسط الذهبي»، فليس قاعدة جامدة، بل يتغيّر تبعًا للظروف والملابسات الخاصة بكل موقف. ويقسّم أرسطو الفضائل إلى نوعين رئيسيين:

1- الفضائل العقلية، مثل الحكمة والفهم، وتنشأ من التعلّم والبحث العقلي.

2- الفضائل الأخلاقية، مثل الشجاعة والاعتدال والعدالة، وتُكتسَب من خلال الممارسة العملية المستمرة والالتزام بالمبادئ الأخلاقية. (٣٢)

ويرتبط الفهم النظري للفضيلة بتطبيقها العملي في حياة الفرد، وهو ما يقود إلى الحديث عن تدرّج الفهم الأخلاقي بين الأشخاص المختلفين. فوفقًا لأرسطو، يشترك الفاضل والمعتدل (المالك لزمام نفسه – إنكراتيك) وغير المعتدل (العاجز عن ضبط نفسه – أكراتيك) في امتلاك معرفة بالخير، لأن العقل الإنساني موجَّه من حيث المبدأ نحو الصواب. ومع ذلك، فإن المعرفة الأخلاقية التي يمتلكها الإنسان الفاضل أكمل وأرقى، لأن من يعجز عن ضبط نفسه يفشل في ترجمة معرفته إلى فعل، فيظل فهمه الأخلاقي ناقصًا. وهكذا يعكس التدرّج بين الشخصيات الثلاث درجات متفاوتة من الفهم الأخلاقي والمعرفة العملية بالخير. (٣٣)

ويتبيّن من ذلك أن تحقيق السعادة عند أرسطو يرتبط بممارسة الفضيلة في أبعادها النظرية والعملية معًا، مما يكشف عن الطابع الاجتماعي والسياسي للأخلاق في فلسفته. فالسعادة، في تصوره، لا تُنال إلا عبر الاعتياد والممارسة العملية، إذ تمتزج الفضيلة في جوهرها بين البعد المعرفي الذي يهتم بإدراك الخير، والبعد الأخلاقي الذي يتمثل في ممارسة هذا الخير واقعًا. وتقوم الأخلاق الأرسطية، في جوهرها، على تنمية العادات الفاضلة والسعي المستمر نحو التميّز والاعتدال، فيتحقق الاتساق الداخلي والاستقامة الأخلاقية. (٣٤)

وترتبط الفضائل الأخلاقية (Moral Virtues) بالصفات الشخصية وأنماط السلوك التي توجه أفعال الإنسان في المواقف الاجتماعية والأخلاقية. وتُكتسب هذه الفضائل من خلال الممارسة الواعية والتعوّد التدريجي على السلوك القويم، وهي تقوم على تحقيق توازن منسجم بين طرفي الإفراط والتفريط في مختلف الميول والانفعالات. ومن أبرز أمثلتها:

- الشجاعة: الوسط بين الجبن (نقص) والتهور (إفراط).

- الاعتدال: الوسط بين الإفراط في المتع (إسراف) والبلادة أو انعدام الإحساس (نقص).

- الكرم: الوسط بين التبذير (إفراط) والبخل (نقص).

- العدالة: الوسط بين الظلم أو التقصير (نقص) والإفراط في التعويض أو تجاوز الحدّ (إفراط). (٣٥)

وتوضّح هذه الأمثلة كيف يمكن للفرد أن يُجسّد التحليل النظري للفضيلة في سلوكه العملي اليومي، لتتحقق بذلك وحدة النظر والفعل. ومن ثمّ، فإن الفضيلة عند أرسطو لا تنحصر في المجال الفردي، بل تمتد إلى الحياة الاجتماعية والسياسية، إذ يرى أن الغاية القصوى من الوجود الإنساني هي الازدهار الإنساني الذي يتحقق من خلال المشاركة في الحياة العامة وممارسة الفضائل في المجال السياسي. فالفضيلة ليست مجرد خلق فردي، بل هي ممارسة مدنية تشارك في تحقيق الصالح العام. (٣٦)

ومن هذا المنطلق، لا يفصل أرسطو بين الحكمة العملية (الفرونيسيس) والحرفة (التكني) أو العلم (الإبيستيمي)، لاسيما عند تأسيسه لنظريته السياسية. فكما يرى بعض الباحثين، ومنهم راشيل بارني، فإن أرسطو يصوغ مفهوم الفضيلة في إطار الحرفة، أي بوصفها مهارة تُمارس وتتقن بالتجربة والخبرة. وقد ارتبط هذا التصور في أصله بالسفسطائيين الذين زعموا أنهم قادرون على تعليم الفضيلة السياسية بوصفها فنًا يمكن اكتسابه. (٣٧)

وفي الكتاب السادس من الأخلاق النيقوماخية، يميّز أرسطو بين الحكمة العملية والحرفة. فهو يُعرّف الحِرَف بأنها «حالة عقلية تشمل العقل الصحيح وتتعلق بالإنتاج»، بينما الحكمة العملية تتعلق بالفعل الذي غايته الخير ذاته. ويصف الشخص الحكيم عمليًا بأنه «قادر على المداولة الدقيقة حول الأمور التي هي خير ونفع له»، لا في شأنٍ جزئي كالصحة أو القوة، بل في ما يعزّز الحياة الجيدة عمومًا. وهنا يتضح أن الحكمة العملية، بخلاف الحرفة، تنتمي إلى مجال الفعل لا الإنتاج، لأنها تسعى إلى الفعل الجيد ذاته. (٣٨)

وبوجهٍ عام، تُعرَّف الحرفة بأنها «تنظيم وتوحيد للممارسة يؤدي إلى القدرة على تقديم تفسيرات وفهمٍ منظّم»، وهي بذلك تقلّل من الصدفة وعدم اليقين في الحياة الاجتماعية. ويستخدم أرسطو هذا المفهوم في تطوير نظريته السياسية التي تقوم على معرفةٍ منهجية بكيفية تحقيق الغايات المرغوبة. ومن هنا يؤكد أن «الإنتاج ينتهي إلى شيءٍ آخر غير ذاته، أما الفعل فلا، لأن غايته هي الفعل الجيد ذاته»، وأن «العلم السياسي والحكمة العملية هما نفس الحالة». (٣٩)

وهكذا يتضح أن الفضيلة العملية والحكمة العملية ليستا مجرد معرفة نظرية، بل مهارة مكتسبة تتجسد بالفعل الواعي في الحياة العامة، سواء في السياسة أو في المجال الاجتماعي، حيث يتحقق التوازن بين النظرية والممارسة، وبين المعرفة والفعل، في صورة وحدة أخلاقية متكاملة تمثل جوهر الفكر الأرسطي في الأخلاق والسياسة.

٢- الواجب عند كانط ومفهوم المسؤولية الأخلاقية:

تنصّ إحدى الركائز المركزية في فلسفة كانط الأخلاقية على أنّه لكي يكون للفعل قيمةٌ أخلاقية، فلا بدّ له من أن يكون مطابقًا للواجب فحسب، بل يجب أيضًا أن يُؤدَّى بدافع الواجب. وتُطرح هنا مسألة ما إذا كان الفعل بدافع الواجب نفسه واجبًا أخلاقيًا، أي ما إذا كان كانط يرى أنّ علينا واجبًا في أن نؤدي أفعالنا بدافع الواجب ذاته. وقد ذهب عددٌ من العلماء البارزين، ومنهم هنري أليسون، وهـ. ج. باتون، وروبرت پپين، وو. د. روس، إلى أنّ كانط يرى بالفعل وجود مثل هذا الواجب (٤٠).

يُفهم دافع الواجب تقليديًا على أنه دافع أوّلي، حيث تُستخدم صفة الأوّلي لتمييز الدوافع الأوّلية عن الثانوية. وتتميّز الدوافع الأوّلية بثلاث خصائص أساسية:

١. الدوافع الأوّلية تعبّر عن نوع الاعتبارات التي يستند إليها الفاعل نفسه عادةً لتفسير سبب قيامه بالفعل الذي أتى به.

٢. الدوافع الأوّلية تمتلك قوة تحفيزية فعلية؛ فهي تُسهم في التسبّب بالفعل وتُقدّم «الدافع الرئيس للفعل، أي ما يُحرّك المرء إلى العمل».

٣. الدوافع الأوّلية هي من نوع الاعتبارات التي تظهر عادةً ضمن عملية التأمل أو المداولة العقلية، وتشكل جزءًا من أساس الاختيار لدى الفاعل؛ فهي تعبّر عن «الاهتمام أو القصد الذي حدّد سلوكه كما فعل»، أي «الدافع الذي تصرّف على أساسه» (٤١).

وفيما يخصّ تقسيم الواجبات، يُلاحظ آلن و. وود في كتابه "الأخلاق الكانطية" أنّ التقسيم الجوهري للواجبات عند إيمانويل كانط يقوم على التمييز بين الواجبات القانونية (الحقوقية) والواجبات الأخلاقية. ويشكّل هذا التقسيم الأساس البنيوي لكتاب "ميتافيزيقا الأخلاق" ، الذي ينقسم إلى قسمين رئيسيين: مذهب الحق ومذهب الفضيلة، وهو ما يسميه كانط بـ«الأخلاق».

ويمثل هذان المجالان إطارين تشريعيين متميّزين، لكلٍّ منهما مبدؤه الأساسي الخاص، ويعبّران عن القيمة الجوهرية للإنسان بطرقٍ مختلفة. يُقدّم مذهب الحق الأساس للدولة السياسية وتشريعاتها الخارجية، ويتضمّن الواجبات الحقوقية التي تُكوِّن بنية قانونية عقلانية، كثيرٌ منها قابلٌ للتطبيق القسري من خلال القوانين المدنية أو الجنائية. ومع ذلك، لا يصنّف كانط جميع الواجبات الحقوقية بوصفها قابلةً للإكراه؛ إذ يرى أنّ بعضها، مثل واجبات العدالة المستندة إلى الإنصاف، غير قابلٍ للإنفاذ القسري.

ويوضّح وود أنّ سوء الفهم لمفهوم «الحق» عند كانط يحدث حين يُختزل إلى مجرّد فلسفة قانونٍ أو سياسة دولة، بينما ينبغي فهمه باعتباره نسقًا من القواعد الأخلاقية العقلانية الهادفة إلى ضمان معاملة الإنسانية كغايةٍ في ذاتها، من خلال صون الحرية الخارجية للأشخاص وفقًا لقوانين كلية.

أمّا مجال الأخلاق، فيتناول الواجبات التي تحثّ الإنسان على معاملة الإنسانية — في ذاته وفي الآخرين — كغايةٍ في ذاتها بطرقٍ تتجاوز مجرد حماية الحرية الخارجية. وتتحقّق هذه الواجبات من خلال الانضباط الذاتي العقلاني الذي يهدف إلى تهذيب الطبيعة الإنسانية وتعزيز ازدهارها (٤٢).

وعلى خلاف الواجبات الحقوقية، لا يجوز فرض الواجبات الأخلاقية بالإكراه الخارجي، لأنّ ذلك يُخلّ بالاستقلال الذاتي للفرد وينتهك حقوقه. لذا، يجب أن تُؤدَّى الواجبات الأخلاقية بدافع الشعور الداخلي بالواجب والالتزام العقلي الأخلاقي. ويرى كانط أنّ جميع الواجبات الحقوقية هي أيضًا واجبات أخلاقية بمعناها الأوسع، لأنّ احترام القانون وحقوق الآخرين ينبع من القيمة الجوهرية للإنسانية ذاتها. ومن ثمّ، يجب أداء الواجبات الحقوقية لا لمجرّد الالتزام القانوني، بل بدافع الاحترام الأخلاقي للواجب (٤٣).

وفي نطاق الواجبات الأخلاقية، يُفرّق كانط بين الواجبات تجاه الذات والواجبات تجاه الآخرين، وتنقسم كل فئة بدورها إلى نوعين:

١. واجبات تامة: إلزامية تمامًا، وانتهاكها يستوجب اللوم الأخلاقي.

٢. واجبات غير تامة: غير إلزامية على نحو صارم، لكنها تُعدّ فاضلة ومستحقة للثناء الأخلاقي.

وفي كتابه "المبادئ الأساسية لمتافيزيقا الأخلاق" ، يصرّح كانط بأنّ الواجب هو ضرورة الفعل انطلاقًا من الاحترام للقانون الأخلاقي. ويرى أنّ القيمة الأخلاقية للفعل لا تكمن في النتائج التي يحققها، ولا في أيّ مبدأٍ يستمدّ دافعه من التوقعات المرتبطة بالعواقب، فآثار مثل الرضا الشخصي أو حتى سعادة الآخرين لا تُكوِّن في ذاتها قيمةً أخلاقية. بل إنّ الخير الأسمى — أو ما يسمّيه كانط الخير الأعلى غير المشروط — يكمن في المفهوم ذاته للقانون الأخلاقي، وهو ما لا يقدر على تصوّره إلا الكائنات العاقلة. لذلك، لا تكون للفعل قيمةٌ أخلاقية إلا عندما تكون الإرادة محدَّدة بالقانون ذاته، لا بأيّ نتائج متوقعة عنه (٤٤) وتنقسم الواجبات عند كانط كما يلي:

١. الواجبات الضرورية نحو الذات:

يؤكّد كانط أن الإنسان ليس مجرّد شيء يُستعمل كوسيلة، بل يجب دائمًا أن يُعامَل كغاية في ذاته. ويوضّح هذه الفكرة من خلال مثال الانتحار؛ إذ يرى أنّ من يُفكّر في إنهاء حياته هربًا من الألم إنما يستخدم نفسه كوسيلة لتجنّب المعاناة، وهو ما يتعارض مع المبدأ الأخلاقي القائل بوجوب معاملة الإنسانية كغاية لا كوسيلة. ومن ثمّ، لا يجوز أخلاقيًا للإنسان أن يتخلّص من ذاته بالتشويه أو التدمير الذاتي.

٢. الواجبات الضرورية نحو الآخرين:

فيما يتعلّق بالآخرين، يشرح كانط أنّ تقديم وعدٍ خادعٍ لشخصٍ ما هو نوع من معاملة ذلك الشخص كوسيلة فحسب لتحقيق غايةٍ خاصة، فالمخدوع لا يمكنه أن يوافق عقلانيًا على أن يُستغل بهذه الطريقة، وبالتالي يُخفق الفاعل الأخلاقي في احترام الآخر كغاية في ذاته. إنّ انتهاك حقوق الآخرين على هذا النحو يُعدّ إخفاقًا في الاعتراف بطبيعتهم العاقلة وكرامتهم الجوهرية.

٣. الواجبات الجديرة بالاستحقاق نحو الذات:

يرى كانط أنّه لا يكفي مجرد الامتناع عن انتهاك مبدأ الإنسانية كغاية في ذاتها، بل يجب كذلك العمل على تعزيز هذا المبدأ. فالإنسان يمتلك استعداداتٍ طبيعية نحو التطوّر الأخلاقي والفكري، وإهمال هذه الاستعدادات لا يُعتبر خرقًا مباشرًا للواجب، لكنه يُقصّر في تحقيق الغاية الأخلاقية الكاملة للإنسانية.

٤. الواجبات الجديرة بالاستحقاق نحو الآخرين:

يعتقد كانط أنّ الإنسانية يمكن أن تستمر من حيث المبدأ حتى لو لم يسعَ الأفراد إلى تعزيز سعادة الآخرين، إلا أنّ ذلك يعكس التزامًا سلبيًا فحسب بمبدأ الإنسانية. أما الالتزام الإيجابي فيقتضي أن يسعى الإنسان بقدر الإمكان إلى دعم الغايات المشروعة للآخرين. إنّ المبدأ القائل بوجوب معاملة الإنسانية كغاية في ذاتها لا يُستمد من التجربة، بل من العقل الخالص، وهو يعمل كقانونٍ أخلاقي موضوعي يضع حدودًا للأهداف الذاتية، ويدعم التشريع العملي الكوني.

٥. الضرورة العملية للعمل من منطلق الواجب:

يؤكد كانط أن ضرورة العمل من منطلق الواجب لا تنشأ عن المشاعر الذاتية أو الميول الشخصية، بل عن العلاقة العقلانية بين الفاعلين الأخلاقيين. ويجب اعتبار الإرادة العقلانية إرادة تشريعٍ ذاتي، تُلزم نفسها بالقوانين الكونية احترامًا للقانون الأخلاقي. ويتضمّن مفهوم الواجب ليس فقط الامتثال الموضوعي للقانون (الشرعية)، وإنما أيضًا الالتزام الذاتي بالقانون كدافع (الأخلاق). فالأفعال التي تُؤدّى من منطلق الواجب، لا لمجرّد الامتثال له، هي التي تمتلك قيمةً أخلاقية حقيقية.

وقد تُوصَف الأفعال التي تُنجَز بتضحياتٍ كبيرة باسم الواجب بأنها نبيلة أو سامية، غير أنّ هذا الوصف لا يصحّ إلا إذا نشأت عن شعورٍ حقيقي بالالتزام الأخلاقي، لا عن العاطفة. ويؤكد كانط أنّ كرامة الواجب مستقلة عن الإشباع الشخصي، مشددًا على أنّ الحياة الأخلاقية يجب أن تُحكم بالتشريع الذاتي العقلاني. فأيّ محاولة لدمج الواجب الأخلاقي مع السعي وراء الإشباع الشخصي تُقوِّض في النهاية الحياة الأخلاقية ذاتها (٤٥).

في ضوء هذا التحليل، يمكن القول إنّ انتشار الجريمة في المجتمع يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالفشل في العمل من منطلق الواجب، وهو، في نظر كانط، المعيار الوحيد للقيمة الأخلاقية. ومن ثمّ، فإنّ الوقاية من الجريمة لا تقوم على مجرد الامتثال للقوانين أو الأعراف الاجتماعية، بل على الأفعال التي تُؤدَّى بدافع الواجب الخالص.

ويتعين على القادة السياسيين، على وجه الخصوص، أن يدركوا أنّ مناصبهم ليست وسائل لتحقيق المكاسب الشخصية، بل هي مسؤوليات أخلاقية تُسهم في خدمة الصالح العام. وتؤدّي نزاهتهم الأخلاقية دورًا حاسمًا في الحفاظ على الثقة العامة وترسيخ النظام المجتمعي.

علاوة على ذلك، يجب أن يكون ضباط الاستخبارات وأجهزة إنفاذ القانون، بصفتهم كائناتٍ عقلانية، موجهين دومًا بالقانون الأخلاقي، وأن يستخدموا قدراتهم في جمع المعلومات والوقاية من الجريمة والكشف عنها في إطار منضبط بالعقل العملي. كما ينبغي أن يعمل المخبرون الذين يساهمون في هذه العمليات من منطلق الواجب الخالص، مختارين الخير بفضل إرادتهم العقلانية. وينبغي أن تتوافق أفعالهم مع قواعد يمكن تعميمها عالميًا، انسجامًا مع المبدأ الأخلاقي المطلق الذي صاغه كانط (٤٦).

ويجب أن تكون الإرادة، بوصفها قدرةً عقلانيةً تشريعيةً، هي القوة الموجِّهة لضباط الشرطة، تبعدهم عن المصالح الذاتية وتدفعهم نحو الواجب الأساسي المتمثل في الوقاية من الجريمة وخدمة العدالة. وعندما يلتزم العاملون في هذه المؤسسات بالمبدأ العقلاني للواجب، فإنهم لا يؤدّون التزاماتهم المهنية فحسب، بل يُسهمون أيضًا في تعزيز النسيج الأخلاقي للأمة.

وعلاوة على ذلك، فإنّ الانضباط الأخلاقي داخل أجهزة الشرطة والاستخبارات يُعدّ شرطًا ضروريًا لمكافحة الفساد وسائر الجرائم التي تهدّد الاستقرار الوطني. إنّ الحالة الأخلاقية الراهنة للأمة يمكن معالجتها بفاعلية من خلال عقيدة الواجب عند كانط، إذ تُعيد الاعتبار لمفهوم الاحترام العقلي للقانون الأخلاقي بوصفه أساس السلوك الإنساني الراشد. وفي النهاية، يجب أن يكون السعي نحو الأفعال النبيلة والمحمودة أخلاقيًا مستندًا لا إلى الدوافع العاطفية، بل إلى الاحترام العقلاني للواجب وحده. وعلى كل مواطنٍ أن يُدرك أنّ الفعل الأخلاقي الحقّ إنما ينبع من الواجب وحده، تأكيدًا لكرامة الكائنات العاقلة ورفعًا للقانون الأخلاقي بوصفه قوة تشريعية كونية شاملة (٤٧).

3- العدالة والمسئولية الاجتماعية عند جون رولز وهبرماس

يرى جون رولز أن أسمى مثال يمكن أن تسعى إليه الإنسانية هو العدالة، وهي تقتضي النظر إلى الإنسان بوصفه غايةً في ذاته لا وسيلةً لغيره. ورغم إقراره بأهمية مفاهيم مثل الاستقرار والإنتاج والكفاءة في المجتمع، فإن رولز يؤكد أن التركيز على العدالة، وعلى العلاقة بين المؤسسات والأسباب العادلة، يفوق كل تلك الاعتبارات أهمية. فوفقًا له، إن تحديد القيم التي تختارها البنى الاجتماعية المختلفة، وتوزيع الخيرات الأساسية بين أفراد المجتمع تبعًا لهذه القيم، هو ما يُشكّل العدالة.

ويرى رولز أن العدالة هي تقليد أخلاقي يتناول مسألة التوزيع المنصف للحاجات بين أفراد الجماعة. فالمجتمع، في نظره، يتكوّن من أفراد يعملون معًا لتكوينه، ويخضع كل عضو في المجتمع المنظم للمبادئ الأخلاقية نفسها، ويدرك أن المؤسسات الاجتماعية الكبرى عادةً ما تتمسك بهذه المبادئ. ويعتقد رولز أن العامل الأهم في إقامة العدالة هو البنية الأساسية للمجتمع، أي الكيفية التي تتفاعل بها مؤسساته الكبرى — كالأسرة والنظام السياسي والنظام الاقتصادي — لتؤثر في الفرص المتاحة للأفراد في حياتهم (٤٨).

ومن ثَمّ، تُصاغ مبادئ العدالة لتنظيم الأساس الذي يقوم عليه المجتمع. فالعدالة الاجتماعية تفرض التزامات تبعية على الأفراد: فإذا وُجدت مؤسسات عادلة، وجب عليهم الالتزام بقواعدها؛ وإن لم توجد، وجب عليهم السعي لإقامة مؤسسات عادلة، بقدر ما يكون ذلك ممكنًا ومن دون أن يفرض عبئًا مفرطًا على الفرد الساعي. ومن هنا، رأى رولز أن العدالة هي الإنصاف، لأن أي مجموعة من المبادئ التي يتفق عليها الجميع لا بد أن تكون منصفة للجميع أيضًا، إذ لا أحد سيقبل بها لو كانت جائرة عليه (٤٩).

تُعَدّ العدالة، وفقًا لجون رولز، الفضيلة الأساسية للمؤسسات الاجتماعية، والأساس الذي يقوم عليه البناء الاجتماعي. ويرى رولز أن جميع القرارات التشريعية والسياسية يجب أن تبقى ضمن الحدود التي تضعها قواعد العدالة. ويؤكد أن المجال الرئيس الذي تعمل فيه العدالة هو توزيع الخيرات، إذ يرى أن «الخيرات» هي ما يمتلكه الإنسان بعقله وإرادته، وتشمل كل ما يطمح إليه من الثروة والمكانة الاجتماعية والفرص والمواهب والاستقلال والاحترام الذاتي.

ويُعدّ رولز أبرز ممثلي الأخلاق التعاقدية المعاصرة، إذ «بحث في كيفية بناء النظام السياسي والمؤسسات على وفق مبادئ العدالة، التي اعتبرها في الأصل قيمةً أخلاقية». كما اختار رولز جانب الإيثار على حساب الأنانية، لأن مبدأه — بحسب هوفر، وهنت، وأوكهولم — يقوم على «عدم الانحياز في جانب الإيثار، إذ تُعتبر خيرية كل إنسان مساوية لغيره»، وهو المبدأ الذي طوّره رولز في كتابه نظرية في العدالة، حيث دافع عن فكرة أن العدالة هي الحقيقة (٥٠).

تندرج الأخلاق التعاقدية المعاصرة في إطار فئتين رئيسيتين. ورغم أن كلا الاتجاهين يتبنى الرؤية الكلاسيكية التي تقرّ بأن جميع البشر خُلقوا متساوين، فإنهما يتفقان أيضًا على أنه إذا اتُّفق على مبادئ معينة من الجميع، فلا يجوز التضحية بمصلحة أحد لصالح آخر. وتنطلق هذه الفكرة من أن مبادئ العدالة يجب أن تُبنى على عقدٍ افتراضي، غير أن الاتجاهين يختلفان في تفسيرهما لطبيعة المساواة الفطرية بين البشر.

فالتيار الأول، المستند إلى هوبز، يفسّر المساواة الطبيعية بأنها تفاوت في القوة الجسدية، ويرى أن هذا التفاوت يقود إلى إدراكٍ مشترك بضرورة اعتماد قواعد تحفظ حقوق الجميع. وقد تبنّى هذا التفسير فلاسفةٌ مثل ديفيد جوطييه وراسل، وهو يتعارض مع المفهوم التقليدي للعقد الاجتماعي الذي يرى أن البشر متساوون أخلاقيًا بطبيعتهم، وأن أهدافهم تخضع لاعتبارات موضوعية ومشتركة.

أما جون رولز، فهو من أنصار النظرية التعاقدية الأخلاقية التي يستند فيها إلى التصور الكانطي للمساواة الأخلاقية، لا إلى التصور الهوبزي (٥١).

يُحدِّد جون رولز مفهومين أساسيين للعدالة، يُشكِّلان جوهر نظريته في العدالة باعتبارها إنصافًا:

١- لكل فرد حقٌّ متساوٍ في أوسع نطاق ممكن من الحريات الأساسية، على أن تكون هذه الحريات متوافقة مع الحريات المماثلة للآخرين.

٢- يجب تنظيم أوجه التفاوت الاجتماعي والاقتصادي وفق مبدأين فرعيين:

(أ) مبدأ الإنصاف في الحماية، بحيث تُوجَّه التفاوتات لخدمة مصلحة الأقل حظًّا في المجتمع بأكبر قدر ممكن.

(ب) مبدأ تكافؤ الفرص العادل، بحيث تُتاح المناصب والوظائف والمراكز للجميع على قدم المساواة.

ويُطلق رولز على هذه المبادئ أسماء محددة:

الأول هو مبدأ الحرية،

والثاني هو مبدأ الاختلاف،

والثالث هو مبدأ تكافؤ الفرص العادل.

ويُبيّن رولز أن هناك ترتيبًا هرميًا صارمًا بين هذه المبادئ، إذ إن المبدأ الأول، أي مبدأ الحرية، يتقدّم على المبدأ الثاني في الأهمية، كما أن البند (ب) من المبدأ الثاني — أي تكافؤ الفرص — يتقدّم على البند (أ)، وهو مبدأ الاختلاف. وهذا يعني أن تحقيق تكافؤ الفرص شرطٌ سابق لتحقيق العدالة في توزيع الاختلافات الاجتماعية والاقتصادية. ويؤكد رولز أن الالتزام بالمبدأ الأول ضروري لتأسيس البنية الاجتماعية والأفعال العادلة؛ إذ لا يمكن تطبيق المبدأ الثاني دون ضمان الحقوق والحريات الأساسية التي يحميها المبدأ الأول. ومع ذلك، يسمح المبدأ الثاني بتنظيم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية ما دامت تلك التنظيمات تُسهم في تحسين أوضاع الفئات الأقل حظًّا في المجتمع (٥٢).

قدّم جون رولز أيضًا مفهوم واجب المساعدة (Duty of Assistance)، الذي يرى من خلاله أنّ الدول المتقدمة تتحمّل التزامًا أخلاقيًا تجاه الدول النامية أو المجتمعات المثقلة بالأعباء، يتمثل في مساعدتها على بناء مؤسسات عادلة وكافية من دون فرض قيمٍ أو نماذج محددة عليها، وذلك تمكينًا لها من بلوغ استقلالٍ مؤسسيٍّ حقيقي يضمن العدالة والرفاه لمواطنيها.

وفي المقابل، يتعيّن على الدول المتلقّية للمساعدة أن تُظهر التزامًا جادًّا بتطوير مؤسساتٍ تتوافق مع المبادئ الأساسية للعدالة. ومن خلال طرحه لمفاهيم مثل مجتمع الشعوب وواجب المساعدة، وضع رولز إطارًا نظريًا يوازن بين العدالة والسيادة والتضامن الدولي، ويهدف إلى بناء مجتمعٍ دولي أكثر عدالةً وانسجامًا من دون إغفال التنوّع الثقافي والسياسي بين الأمم.

وفي السياق المعاصر، أصبحت مفاهيم مثل التوافق المتداخل والعقل العمومي ذات أهمية خاصة في صياغة سياساتٍ شاملةٍ قائمةٍ على الحوار والتفاهم. أما على المستوى العالمي، فإن مبدأ واجب المساعدة يشكّل الأساس لتصميم سياسات المساعدات الدولية التي تركز ليس فقط على الرفاه الاقتصادي، بل أيضًا على بناء مؤسسات عادلة ومستدامة (٥٣).

تُعدّ العدالة الهدف الرئيس للنظام القانوني والسياسات العامة، والتي تلعب دورًا مهمًا في تحقيق المساواة والتوزيع العادل في ظل ديناميات المجتمع. وفي سياق القانون الحديث، يتمثل التحدي الأساسي في ضمان أن يكون القانون ليس مجرد أداة لتنظيم العلاقات الاجتماعية فحسب، بل قادرًا أيضًا على التكيف مع الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية المتطورة. وأحد المناهج الفلسفية التي يمكن استخدامها لمواجهة هذا التحدي هو كتاب "نظرية العدالة" لجون رولز، الذي قدّم من خلاله مفهوم العدالة باعتبارها عدالة إنصاف، وهو ما يوفر إطارًا مفاهيميًا لتقييم الهياكل الاجتماعية والمؤسسات القانونية استنادًا إلى العدالة التوزيعية. (٥٤)

وفي عالم الأعمال، وخصوصًا في عملية دمج الشركات والاستحواذ عليها، تُعتبر العدالة أحد العناصر الحاسمة، إذ تهدف عملية الدمج والاستحواذ غالبًا إلى خلق قيمة مضافة، مثل تحسين الكفاءة التشغيلية، وزيادة الحصة السوقية، أو تحقيق وفورات في التكاليف. ومع ذلك، تثير هذه العملية تحديات تتعلق بتوزيع المنافع والأعباء بين المساهمين وغيرهم من أصحاب المصلحة. وفي سياق الشركات الحديثة، أصبحت مبادئ رولز ذات صلة خاصة، ولا سيما في عملية دمج الشركات بعد الاستحواذ، التي غالبًا ما تؤثر على حقوق ومصالح المساهمين الأقلية. كما أن مبدأ رولز في العدالة التوزيعية ذو أهمية لضمان توزيع المنافع الناتجة عن إجراءات الشركات بطريقة متناسبة وعادلة. (٥٥)

ويرى جون رولز في نظريته الشهيرة "نظرية العدالة" أن الإنسان كائن أخلاقي يسعى إلى بناء مشروع حياته ضمن نظام من التعاون الاجتماعي العادل. ومن ثمّ، فإن المجتمع العادل هو الذي يوفّر للأفراد ما يُسميه «السلع الأساسية»، التي تشمل الحريات والفرص والدخل والثروة والاحترام الذاتي. (٥٦) ويُعدّ الاحترام الذاتي حجر الأساس في هذه السلع، لأنه يُعبّر عن شعور الفرد بقيمته كمواطن متكافئ داخل المجتمع. فالعمل أو المهنة التي يختارها الإنسان ليست مجرّد وسيلة للعيش، بل هي مجال لتحقيق الكرامة والمشاركة في الحياة العامة. لذلك يجب أن تكفل العدالة توزيع الفرص المهنية توزيعًا متكافئًا حتى لا تُهدر كرامة الإنسان أو يُقصى من دائرة التعاون الاجتماعي. (٥٧)

ولم يتناول رولز البطالة القسرية مباشرة، لكنه أشار إلى أن النظام الاقتصادي العادل ينبغي أن يضمن تكافؤ الفرص ويُحقق المنفعة المشتركة. فحرمان الأفراد من العمل لا يعني فقط حرمانهم من الدخل، بل من المشاركة الفعلية في الحياة العامة. ولهذا يرى عدد من الباحثين المعاصرين أن منسوب العدالة في المجتمع يُقاس بقدر ما يُوفّر من فرص عمل حقيقية لكل من يرغب في العمل. (٥٨) وتذهب بعض الدراسات إلى ضرورة إدراج مبدأ التوظيف الكامل ضمن قائمة السلع الأساسية التي يفاضل فيها الأفراد في «الموقف الأصلي»، بحيث لا يكون العمل حقًّا اختياريًا، بل مكوّنًا جوهريًا من العدالة الاجتماعية. (٥٩)

وقد أشار رولز في موضع من كتاباته إلى أن الدولة يمكن أن تؤدي دور «صاحب العمل الأخير» لضمان عدم وجود بطالة قسرية. (٦٠) إلا أن هذه الفكرة لم تُدمج رسميًا في بنية نظريته، وهو ما دفع بعض الباحثين — مثل باربرا فريد — إلى القول إن «الرد الرولزي على الليبرتارية يمثل فصلاً غير مكتوب من نظرية العدالة». (٦١) فلو تم إدراج العمل ضمن السلع الأساسية، لأصبحت العدالة ملزمة بتوفير نظام اقتصادي يضمن التوظيف الكامل لكل المواطنين القادرين والراغبين في العمل. وهذه الإضافة ستمنح النظرية بُعدًا مؤسسيًا جديدًا يربط بين العدالة الاجتماعية وسياسات التشغيل، وهي خطوة نحو دمج فلسفة رولز مع الاقتصاد العملي وقانون العمل. (٦٢)

أما يورجن هبرماس فيُعدّ أحد أبرز المفكرين الألمان في القرن العشرين، وقد قدم إسهامات مهمة في الفلسفة الاجتماعية والسياسية. وتتركز أعماله على الفعل التواصلي (Communicative Action) كأساس لفهم العدالة والمسؤولية الاجتماعية في المجتمعات الحديثة. (٦٣) ويرى هبرماس أن العدالة لا تُفهم فقط عبر توزيع الموارد، بل من خلال عملية تواصلية تشاركية تُفضي إلى توافقات معقولة بين الأفراد. ففي كتابه "نظرية الفعل التواصلي"، يشير إلى أن العدالة تتحقق عندما يتفق الأفراد على قواعد سلوكية تُحترم عالميًا وتُستند إلى التفاهم المتبادل. (٦٤)

ويربط هبرماس المسؤولية الاجتماعية بالحياة المشتركة، التي تُشكّل السياق الثقافي والاجتماعي للأفراد، إذ يتحمل الأفراد مسؤولية تجاه بعضهم البعض عبر التفاعل التواصلي الذي يؤدي إلى فهم مشترك وتوافقات أخلاقية. (٦٥) وتقوم نظرية الفعل التواصلي عنده أساسًا على تمييزٍ بين مفهومين للعقلانية يوجِّهان المعرفة ويحددان كيفية توجيه الفعل:

أولًا: العقلانية المعرفية–الأداتية، وهي التي تقوم على توجيه الفعل نحو تحقيق أهداف خاصة يحددها الفاعل مسبقًا، وتنقسم هذه الأفعال إلى نوعين:

١. الفعل الأداتي: عندما يكون الهدف هو التأثير الفعّال في حالة من حالات الواقع (كما في العمل والإنتاج).

٢. الفعل الاستراتيجي: عندما يسعى الفاعل إلى التأثير في قرارات الآخرين لتحقيق غاياته الخاصة (كما في علاقات السيطرة أو الهيمنة).

ثانيًا: العقلانية التواصلية، التي تقوم على أفعال موجَّهة نحو التفاهم المتبادل، أي تلك التي تهدف إلى تحقيق اتفاق بين الذوات المتخاطبة من أجل توحيد تفسيراتهم للعالم وتناغم رؤاهم المشتركة حوله. (٦٦)

ووفقًا لهبرماس، ترتبط عملية الشرعية بتقييمات ادعاءات الصلاحية مثل الصحة، والعدالة، والكفاية، والصدق، وقابلية الفهم المدمجة ضمن عملية الاتصال نفسها. ويشير هذا إلى مفهوم "الفعل التواصلي"، الذي يرى هبرماس أنه محوري في عملية الشرعية. فالفعل التواصلي يرتبط بكيفية تقييم الأفراد لشرعية الأفعال الكلامية باعتبارها مسألة تشكيل مواقفهم الأخلاقية، وكذلك المجتمع الأوسع الذي ينتمون إليه. وتشمل هذه التقييمات تطوير "الكفاءة التواصليّة" كأساس للتعلم الأخلاقي، ولقدرة الأفراد على التوسط بين الاهتمامات الجوهرية والداخلية في أحكامهم حول ادعاءات الصلاحية. (٦٧)

ويُبرز هبرماس مركزية الحركات الاجتماعية في عملية الشرعية، إذ يرى أن الحركات الاجتماعية: «تحاول طرح القضايا التي تهم المجتمع بأسره، وتحديد طرق جديدة لمعالجة المشكلات، واقتراح حلول ممكنة، وتوفير معلومات جديدة، وتفسير القيم بشكل مختلف، وتحفيز الأسباب الصالحة وانتقاد الأسباب السيئة». ويجادل هبرماس بأن صراع الشرعية الذي تسهم فيه الحركات الاجتماعية يُخاض عبر الفعل التواصلي في المجال العام. كما يرى أن: «التأثير المحوَّل إلى قوة تواصليّة يُشرّع القرارات السياسية». (٦٨)

٤- البعد الإنساني في الوظيفة العامة بين العقلانية والمنفعة:

إن استخدام مبدأ العقلانية في علم الاقتصاد يسبق ظهور النفعية التي كثيرًا ما يُخلَط بينهما. ففي حديث آدم سميث عن تقسيم العمل، يصف قبيلة من الصيادين يكون أحد أفرادها ماهرًا على نحوٍ خاص في صناعة الأقواس والسهام. يقول سميث: «كان هذا الرجل كثيرًا ما يُبادِل ما يصنعه من أقواس وسهامٍ بلحوم الغزلان أو الماشية مع رفاقه، ثم أدرك في نهاية الأمر أنه يستطيع بهذه الطريقة أن يحصل على كميةٍ أكبر من الغزلان والماشية مما لو خرج بنفسه إلى الحقول للصيد. ومن منطلق عنايته بمصلحته الخاصة، أصبحت صناعة الأقواس والسهام عمله الرئيسى». غير أن الانتقال من الحدس إلى التحليل يتطلّب فهمًا دقيقًا لما يعنيه «الاهتمام بالمصلحة الخاصة»، وهو ما أصبح مصدرًا لنقاشٍ لا ينتهي بين علماء الاجتماع والاقتصاد القائمين على نموذج الفاعل العقلاني. (٦٩)

ويُستمد مفهوم العقلانية القائمة على تعظيم المنفعة من النفعية التي وضع أسسها بنتام وجون ستيوارت مل، إذ يقول بنتام: «لقد وضعت الطبيعةُ البشرَ تحت سيادة سيّدين اثنين: الألم واللذة. فهما وحدهما من يُحدّدان ما ينبغي علينا فعله، كما يُحدّدان ما سنفعله بالفعل...». ورغم أنّ عددًا من المفكّرين — مثل جيفنز ومنجر وفالراس — قد جرّبوا مقاربات نفعية في التحليل الاقتصادي، فإنّ المنفعة لم تبدأ في احتلال موقعها المحوري في التحليل الاقتصادي إلا في سبعينيات القرن التاسع عشر بفضل أعمال هؤلاء الثلاثة. فقد كانت المنفعة لديهم اختصارًا نظريًّا لمفهوم القيمة، وهو ما جعلهم لا يُولون اهتمامًا كبيرًا لمسائل مثل قابليّة قياس المنفعة أو إمكان المقارنة بين منافع الأفراد. (٧٠)

ومن هذا التطور النظري، برزت الافتراضات المكوِّنة للمفهوم النيوكلاسيكي للسلوك العقلاني للفاعل الاقتصادي، والتي يمكن تلخيصها فيما يلي:

١- الفاعل الاقتصادي يختار من مجموعة مغلقة من البدائل المعطاة والمعلومة مسبقًا (المجموعة المسموح بها).

٢- يمتلك الفاعل جميع المعلومات ذات الصلة بكل بديل من البدائل المتاحة.

٣- تكون تفضيلات الفاعل محددة خارجيًا، وهي كاملة وانتقالية ومستقرة.

٤- تكون دالة المنفعة الخاصة بالفاعل محددة بوضوح، وتعكس بالأساس تفضيلاته.

٥- يسعى الفاعل إلى تعظيم المنفعة المتوقعة وتقليل التكاليف في ظلّ قيودٍ معيّنة (كما لو كان يحلّ مسألة رياضية للبحث عن القيمة القصوى المقيّدة لدالة المنفعة المتوقعة ضمن المجموعة المسموح بها).

٦- لا يتأثر اختيار الفاعل الاقتصادي بطريقة عرض المشكلة أو صياغتها (بما في ذلك التحيّزات أو الخرافات أو غيرها من المؤثرات).

٧- مبدأ الفردانية المنهجية: الفرد هو الوحدة الوحيدة لاتخاذ القرار.

٨- مبدأ الوضعية المنهجية: إن قدرة النموذج على إنتاج تنبؤات دقيقة هي المعيار الوحيد لصحته. (٧١)

والافتراض الرئيس في هذا النموذج هو أن الفاعل الاقتصادي يتخذ قراراته وهو على علمٍ تام بجميع البدائل الممكنة، ويدرك حدود قدراته، ويسعى — في ضوء تلك الحدود — إلى اختيار أفضل الوسائل الممكنة لتحقيق أهدافه.

أما الشروط المسبقة لاتخاذ القرار في نظرية المنفعة المتوقعة، فيمكن تلخيصها على النحو الآتي:

١- تحديد دالة المنفعة الكلية للفاعل الاقتصادي الذي يتخذ القرار تحديدًا صحيحًا.

٢- إمكانية التعبير عن مستوى المنفعة الكلية في المواقف أو الحالات المستقبلية أيضًا.

٣- معرفة الفاعل للتوزيع الذاتي (الذاتي التقدير) لاحتمالات نتائج كل بديل من البدائل الممكنة.

٤- اتخاذ القرار ضمن مجموعة مغلقة من البدائل المعطاة والمعروفة.

والغاية من الاختيار هي تعظيم القيم المتوقعة لدالة المنفعة الكلية المحددة. (٧٢)

كما أن النموذج البشري الذي هيمن على التوجه التقليدي الجديد في الاقتصاد يتألف من افتراضين جوهريين منفصلين: العقلانية والمصلحة الذاتية. يُفترض أن الفاعلين يتصرفون بعقلانية في سبيل تحقيق ما يرغبون في تحقيقه، وأن ما يرغبون في تحقيقه يُفترض أن يُحدّد بمصطلحات رفاههم الشخصي. من الناحية التقنية، تم تحديد هذا المفهوم للسلوك العقلاني والمصلحة الذاتية باعتباره افتراضًا بأن الفاعلين يعظمون دالة المنفعة مع مراعاة القيود التي يواجهونها. في هذا البناء، يتم تحديد عنصر العقلانية في النموذج الاقتصادي للإنسان من خلال افتراض التعظيم، بينما يتم تحديد عنصر المصلحة الذاتية من خلال المكونات المدرجة في دوال المنفعة. في الواقع، يُختزل الفاعلون الذين يشغلون النماذج الاقتصادية القياسية أساسًا إلى تلك الدوال. وبمجرد تحديدها للفاعلين، لا يحتاج الاقتصادي المحلل إلى معرفة المزيد عنهم من أجل التنبؤ بما سيختارونه، بالنظر إلى خيارات الاختيار والقيود التي يواجهونها. (٧٣)

أما المبادئ الأخلاقية ومعايير العدالة والإنصاف، فعادةً ما تتعلق بالأفعال نفسها لا بالنتائج. فهي تمثل قواعد للسلوك توجب على الأفراد التصرف بعدل ونزاهة وأخلاقية، مثل عدم السرقة، وعدم الكذب، والوفاء بالوعود. وهذه المبادئ تركز أكثر على الطريقة التي يسعى بها الشخص لتحقيق ما يريد، وليس فقط على ما يريد تحقيقه. وإذا كان لمفهوم "التفضيل الأخلاقي" أن يكون له معنى، فهذا يعني تفضيل التصرف وفقًا للقواعد الأخلاقية. وبمعنى آخر، فإن التفضيلات الأخلاقية هي تفضيلات على الأفعال نفسها، وليس على النتائج التي قد تنتج عنها. (٧٤)

ويمكن حساب التعاطف بسهولة ضمن إطار الاختيار العقلاني، ببساطة عن طريق توسيع مفهوم المصلحة الذاتية. «إن كون المرء مهتمًا بمصلحته لا يتطلب أن يكون أنانيًا بأي شكل، إذ يمكن للمرء أن يشعر بالمتعة والألم نتيجة التعاطف مع الآخرين، وهذه المتع والآلام هي جوهرًا ملك له». وليس فقط أن الاهتمام بالآخرين يمكن استيعابه بسهولة ضمن دالة المنفعة للأشخاص المعنيين، بل إن الاهتمام بأي نوع من الأهداف أو القيم التي قد يُفترض أن يسعى الشخص لتحقيقها يمكن أن يُؤخذ في الحسبان ضمن إطار الاختيار العقلاني، إذا عُرّف «الاختيار العقلاني» بالحد الأدنى باعتباره تعظيم مقياس قابل للتحديد. (٧٥)

إنّ ما يميز السلوك البشري في الواقع هو أن الناس يتصرفون كأتباعٍ للقواعد، لا كمنظِّمين لتحقيق الأهداف وفقًا لما تفترضه نظرية الاختيار العقلاني المعيارية. وهو ما يمكّنهم من تحقيق العديد من المنافع المتبادلة الناتجة عن التعاون، تلك التي تبدو مستحيلة المنال بالنسبة للفاعلين الاستراتيجيين الذين يسعون إلى أقصى درجات التعظيم العقلاني لمنافعهم. فالمواقف القائمة على التبعية المتبادلة في القرارات، كما يُمثَّل لها نموذجيًا في «لعبة السجين»، هي النوع الدقيق من الحالات التي لطالما أدّت فيها القواعد الأخلاقية للسلوك دورًا أساسيًا. فالمواقف المشابهة للّعبة السجينة تتكرر كثيرًا في حياتنا اليومية، وبعض القواعد التقليدية للسلوك الحسن تتخذ شكل الدعوة إلى تعليق الحسابات القائمة على العقلانية الفردية.

فالسلوك القائم على اتباع القواعد يرتبط بتفضيلاتٍ تتعلق بالأفعال ذاتها، لا بالتفضيلات العادية المرتبطة بالنتائج. وتقترب هذه المسألة من الفكرة العامة لآدم سميث، ومفادها أنّ العديد من الأنماط السلوكية يمكن تفسيرها على نحوٍ أفضل إذا فهمنا موقف الناس من الأفعال ذاتها، لا من تقييمهم للنتائج النهائية. وبالمثل، منح إيمانويل كانط مكانةً مركزية في الأخلاق الاجتماعية لمفهومه عن «الأمر المطلق». ومع أن تركيز كلٍّ من سميث وكانط هو معياريّ أكثر منه وصفيّ، فإن تحليلهما مرتبط ارتباطًا وثيقًا، إذ كلاهما رأى أنّ السلوك الفعلي للبشر يقوم جزئيًا على معايير أخلاقية. وقد تضمّنت تحليلاتهما السلوكية النظر إلى عملية الاختيار الواقعية من خلال مجموعة القواعد، لا فقط من خلال تفضيلٍ شاملٍ يأخذ كلّ شيء في الحسبان. (٧٦)

5- البعد الأخلاقي في ممارسة الوظائف العامة:

نسعى هنا إلى توضيح دور الأخلاق في الخدمة العامة بوصفها جزءًا من مفهوم الحوكمة الرشيدة، وذلك من منظور الإدارة العامة، بهدف تحديد القيم الأخلاقية التي تُتَّخذ كإرشادات معيارية، ويلتزم القائمون على الإدارة الحكومية بها من أجل تحقيق الصالح العام. إنّ الأخلاق في ممارسة الإدارة العامة يجب أن تمثّل الضوابط والمعايير التي تنظّم أنماط السلوك المؤسسي، إذ تُعَدّ المنظمات العامة مؤسساتٍ تتعامل مباشرة مع المجتمع، ولذلك ينبغي أن يتحلّى القائمون على الشأن العام فيها بالمواقف والسلوكيات التي تعكس النموذج الأخلاقي القويم. (٧٧)

وفي التطبيق العملي، إذا تمكّن المسؤولون الإداريون من تطبيق القيم والمبادئ الكامنة في أخلاقيات الإدارة العامة، أمكن لأعمالهم أن تسير بسلاسة، وأن تُسهم في تحقيق الحوكمة الرشيدة، كما يسهم ذلك في تشكيل شخصية الأفراد بحيث يتّصفون بالانضباط، واللباقة، والمسؤولية، والمهنية العالية. فالأخلاق تُعَدّ أحد العوامل الأساسية التي تحدد نجاح أهداف أنشطة منظمات الإدارة العامة، وبالتالي دعم تحقيق التحوّل نحو الحوكمة الرشيدة. (٧٨)

ومن هذا المنطلق، فإنّ المؤسسات، بوصفها فاعلين في الإدارة العامة، تسعى إلى تحقيق الحوكمة الرشيدة، ومن ثَمَّ ينبغي عليها أن تولي اهتمامًا كبيرًا بتطبيق القيم الأخلاقية للإدارة العامة، لأنّ هذه القيم ترتبط بجميع مراحل العملية الإدارية العامة، بدءًا من صياغة السياسات مرورًا بتنفيذها ووصولًا إلى تقييمها بهدف تقديم خدمات عامة جيدة ومتكاملة. ومن الضروري العمل على رفع جودة الخدمات العامة المقدَّمة للمجتمع، وهو ما يستلزم تحسين نظام الخدمة العامة ذاته لضمان تقديم أفضل خدمة ممكنة للمواطنين. إنّ التنفيذ الفعّال والكفء للخدمات العامة يُعدّ واجبًا أساسيًا على المسؤولين القائمين على الشأن العام، من أجل ضمان حقوق المواطنين في الحصول على مختلف أشكال الخدمات العامة، سواء كانت سلعًا أو خدمات، على أن يتم ذلك وفقًا للأنظمة والقوانين السارية، وبما يتوافق مع حاجات المجتمع ومصالحه العامة. وتتطلّب الحوكمة الرشيدة أن تُعطى الأولوية للقيم والمبادئ الأخلاقية التي توجه السلوك الإداري لتحقيق أفضل أداء ممكن في الخدمة العامة. (٧٩)

لقد أصبح الموظفون العموميون أكثر وعيًا أخلاقيًا مما كانوا عليه في السابق، خصوصًا في مجالات مثل مكافحة التمييز، والتنمر الإداري، وتلقّي الهدايا، والمحسوبية السياسية، والشفافية، والمساءلة. وخلال العقود الأخيرة، خصّصت الدول الأعضاء في المنظمات الدولية موارد كبيرة لوضع معايير أخلاقية واضحة. وتتفق جميع الدول الأعضاء على أنّ الأخلاقيات العامة تمثّل عنصرًا أساسيًا لعدة أسباب:

١- المؤسسات العامة تحمي الدول من التهديدات الخارجية والداخلية.

٢- الحكومات تستخدم وسائل – كالقوة أو التهديد بها – تؤثر في مصير الجميع.

٣- تتدخل السلطات العامة وبعض فئات الموظفين العموميين (مثل القضاة ورجال الشرطة والعسكريين) في الحقوق الشخصية للأفراد.

٤- يوفر الموظفون العموميون سلعًا وخدماتٍ ذات قيمة كبيرة للمواطنين، مثل الرعاية الصحية وفرص العمل.

٥- يشرف الموظفون العموميون على الأموال العامة التي يمنحها البرلمان المنتخب من قبل المواطنين، ويصبح هذا الأمر أكثر أهمية في أوقات القيود المالية، إذ تتحمّل الخدمة العامة مسؤولية إدارة تلك الأموال بكفاءة وفاعلية ونزاهة. (٨٠)

ومن ثمّ، فإنّ الموظفين العموميين والمؤسسات العامة يمتلكون تأثيرًا كبيرًا في رفاهية المجتمعات، ولهذا السبب ينبغي أن تُوجَّه أعمالهم وفقًا لقواعد وسياسات تمنعهم من التصرف بطرق غير أخلاقية. وقد سادت لفترةٍ طويلةٍ آراء مفادها أن الموظفين المدنيين مرتبطون بسلطة الدولة ولا يمكن مقارنتهم بغيرهم من الموظفين العموميين أو العاملين في القطاع الخاص، إذ مُنحوا صفةً قانونيةً عامة – على الأقل في معظم الدول – من أجل ربطهم بالدولة وبسيادة القانون، لا بمصالح الأفراد. ويعود أصل هذه الصفة القانونية العامة إلى الثورة الفرنسية التي هدفت إلى إقامة وضمان مجتمع ديمقراطي يستند إلى مبادئ الثورة.

وفي ألمانيا، استُلهم إدخال هذه الصفة القانونية العامة من الفيلسوف فريدريك هيجل، إذ تصوّر الموظف المدني والدولة ككيانٍ واحد أشبه بـ«الوحش ليفياثان» الذي يقف فوق المجتمع والمواطنين، وكان دوره الرئيس يتمثل في حماية المجتمع من خلال فرض القوانين لتحقيق العدالة وموازنة المصالح الأنانية المتعارضة داخل المجتمع. أما التعريف الأكثر تأثيرًا للبيروقراطية فيعود إلى ماكس فيبر، الذي قدّمه في محاضرته الشهيرة «السياسة بوصفها حرفة» عام ١٩١٩، حيث عرّف دور الموظفين العموميين على النحو التالي:

«يتجلّى شرف الموظف المدني في قدرته على تنفيذ أوامر السلطات العليا بضمير حيّ، تمامًا كما لو أن هذه الأوامر تتفق مع قناعته الشخصية. وينطبق ذلك حتى لو بدا له أن الأمر خاطئ، وإذا ما أصرت السلطة على تنفيذه رغم اعتراض الموظف. فبدون هذا الانضباط الأخلاقي وهذا التفاني الذاتي بأسمى معانيه، سينهار الجهاز الإداري بأكمله». (٨١)

اليوم، يتزايد الوعي بأن العمل في المجال العام أصبح أكثر تعقيدًا، ولم يعد محكومًا بمبدأ العقلانية كما تنبأ به فيبر. ففي الواقع، يرى الخبراء المعاصرون أن الموظفين المدنيين لا ينبغي النظر إليهم كعجلات في آلة ضخمة، إذ أصبح العمل في القطاع العام أكثر طابعًا فرديًا، ومحملًا بالقيم، وعاطفيًا، وتعدديًا، وغير متوقع أكثر من أي وقت مضى. فعلى سبيل المثال، يمتلك الموظفون العموميون المعاصرون قدرةً أكبر على اتخاذ القرارات الفردية مما كان يتوقعه فيبر. وقد أوضح العديد من الباحثين أن التمسك المفرط بالقواعد يمكن أن يكون مشكلة في حد ذاته. ومع ذلك، لا تزال سيادة القانون والقانون الإداري تشكلان المبادئ الجوهرية لجميع الأنظمة الإدارية في أوروبا. ومن المثير للدهشة أن النقاشات حول أهمية القانون، وخاصة القانون الإداري، والمبادئ الإدارية، لم تحظَ بدور رئيسي خلال الفترة الذهبية للإدارة العامة الجديدة، وربما يعود ذلك إلى أن القانون الإداري كان يُنظر إليه غالبًا كقيد يعرقل الخيارات السياسية وإصلاح السياسات، كما اعتُبر الإفراط في استخدامه سببًا في ضعف كفاءة القطاع العام. ونتيجة لذلك، وُصِف السلوك الإداري التقليدي بأنه جامد، ومقيّد بالقواعد، ومركزي، ومهووس بتحديد كيفية إنجاز الأمور، أي أنه يركّز على تنظيم الإجراءات والتحكم في المدخلات، بينما يتجاهل النتائج النهائية تمامًا. وهكذا، أصبحت نظريات الإدارة العامة الجديدة مهيمنة على النقاشات الاقتصادية والسياسية والتنظيمية. (٨٢)

إنّ النقاشات حول الأخلاق والنزاهة تمتلك تاريخًا طويلًا داخل شبكة الإدارة العامة الأوروبية. ففي عام ٢٠٠٤، قامت الرئاسة الأيرلندية والهولندية للاتحاد الأوروبي بتكليف دراستين حول الأخلاق والنزاهة في دول الاتحاد الأوروبي الأعضاء، تلاها في عام ٢٠٠٦ عمل الرئاسة الفنلندية على متابعة هذا الموضوع. وفي عام ٢٠٠٧، كلّفت المفوضية الأوروبية بإجراء دراسة تجريبية حول تنظيم تضارب المصالح لدى شاغلي المناصب العامة في دول الاتحاد الأوروبي، بدعم من شبكة الإدارة العامة الأوروبية. كما دعمت الرئاسة السلوفينية للاتحاد الأوروبي عام ٢٠٠٨ دراسةً حول النجاحات والإخفاقات في مجال إدارة الموارد البشرية، تضمنت فصلًا خاصًا عن الأخلاق والثقة العامة، وأعقبتها في عام ٢٠٠٩ دراسة حول تعزيز الثقة في الحكومة في إطار الحوار الاجتماعي الأوروبي غير الرسمي الخاص بالإدارات العامة المركزية. (٨٣)

نظرًا لأن مهنة التدريس تُعدّ من أسمى المهن في هذا العالم، فإنه ينبغي، من أجل بناء مهنة تعليمية قوية وفعّالة، أن يتحلى المعلم بالالتزام تجاه طلابه، وأن يضمن تحقيقهم للتعلّم المنشود. وكما هو الحال في سائر المهن الرفيعة، توجد معايير أخلاقية ضرورية لمهنة التعليم أيضًا. فوظيفة المعلم في العصر الحاضر تختلف كثيرًا عن وظيفة المعلمين في العصور القديمة الذين كانوا يعيشون حياة بسيطة ويولون أهمية كبرى لمستوى الممارسة الرفيع والتفكير السليم. أما اليوم، فيُتوقَّع من المعلمين أداء أدوار متعددة ومتنوعة لجعل المدرسة مؤسسة فعّالة ومنتجة. ولتحقيق هذه الأدوار، يحتاج المعلمون المعاصرون إلى قدر عالٍ من المهارة والكفاءة والتأهيل لتلبية متطلبات العصر الراهن، لذا ينبغي للمعلم أن يطوّر قدراته في جميع مجالات مهنته، سواء على مستوى التعلم المهني أو في خضمّ طموحاته الحياتية كافة. (٨٤)

وبما أنّ مهنة التدريس تُعدّ من أنبل المهن، فإن بناء مهنة تعليمية قوية وفعّالة يستلزم التزام المعلم تجاه طلابه وضمان تحصيلهم العلمي. وكما هو الحال في سائر المهن المرموقة، هناك قواعد وأنظمة ومعايير أخلاقية تحكم كل مهنة، سواء كانت مفروضة ذاتيًا أم من قِبل جهات مختصة. وعلى هذا النحو، تقوم مهنة التعليم على مجموعة من المعايير الأخلاقية الأساسية، وهي كما يلي:

1- الرعاية: تشمل التعاطف مع المهنة، والاهتمام بالتدريس، والبصيرة اللازمة لتطوير قدرات الطلاب. يجب على المعلمين التعبير عن التزامهم المهني تجاه طلابهم بالسعي لرفاههم وضمان تعلّمهم، من خلال أساليب التأثير الإيجابي، والقدرة المهنية، والتعاطف الإنساني في الممارسة التربوية.

2- الاحترام: يشمل شعور المعلم الداخلي بالقيمة والتقدير، الضروري لتحقيق المعايير الأخلاقية المرتبطة بالتقدير والكرامة الإنسانية، ويسهم في الحفاظ على التوازن العاطفي وتعزيز النمو المعرفي المستمر.

3- النزاهة: تقوم على الصدق، الأمانة، الشعور بالمسؤولية، والممارسات الأخلاقية السليمة، وهي عناصر جوهرية للحفاظ على النزاهة المهنية.

4- المساءلة: تهدف إلى توجيه السلوك المهني نحو الالتزام بالقيم، ومعالجة الانحرافات الأخلاقية أو التهاون في الالتزام بالمعايير المهنية.

5- الرضا الذاتي: يُعدّ شرطًا ضروريًا لحياة سعيدة وناجحة، إذ يعكس شعور المعلم بالرضا الداخلي المبني على الكرامة والاحترام الذاتي، ويُمكّنه من إسعاد الآخرين بفعالية.

6- الثقة: تعتبر الثقة أساس العلاقة بين المعلم وطلابه، وكذلك مع الزملاء وأولياء الأمور، وتشمل قيم العدالة، الانفتاح، والصدق.

7- توجيه السلوك والتصرف: يُسهم مستوى الأخلاق المهنية لدى المعلم في غرس القيم الأخلاقية في طلابه وتنمية شخصياتهم المتكاملة.

8- الشخصية المتوازنة: يُتوقع من المعلمين إظهار سلوك قويم يُعتبر نموذجًا يُحتذى به للمعلمين الآخرين والطلاب، ما يسهم في ترسيخ القيم الأخلاقية في المجتمع بأكمله.

9- أن يكون المعلم قدوة: يميل الطلاب إلى تقليد سلوك معلميهم وأعمالهم الحسنة، لذا فإن المعلم الذي يتصرف بطريقة إيجابية ومُلهمة يُحفّز طلابه على تبني نفس السلوكيات.

1- - تطوير المجتمع: يتفاعل المجتمع مع العملية التعليمية، لذلك فإن بناء مجتمع أخلاقي يتطلب معلمين قادرين على غرس المبادئ والقيم الأخلاقية في نفوس الطلاب، لمواجهة التدهور القيمي الراهن.

11- الالتزام بالمعايير والمبادئ المهنية: تُعد القواعد والمبادئ الأخلاقية ضرورية لتوجيه الرؤية والمسار المهني في أي مهنة، ويجب أن تُبنى هذه القواعد على أساس مفهوم الأخلاق المهنية لضمان تحقيق أهداف التعليم على جميع المستويات. (٨٥)

المحور الثالث: الوظيفة العامة كواجب أخلاقي

1- الالتزام بالقوانين والقيم العامة:

وفقًا لمجلس كيبيك، إحدى المقاطعات الكندية، عند النظر في تنظيم أي مهنة والإشراف عليها من قبل هيئة مهنية، يجب أخذ عدة جوانب في الاعتبار لتحديد ما إذا كانت الحاجة للتنظيم قائمة. هذه الجوانب تتعلق بطبيعة الأنشطة المهنية وخصائص الأفراد الذين يمارسونها، وتشمل ما يلي:

١- المعرفة المطلوبة لممارسة المهنة: مدى تعقيد المعلومات والخبرات الضرورية لممارسة الأنشطة المهنية بشكل كفء وفعّال.

٢- درجة الاستقلالية للممارسين: مدى قدرة الممارسين على اتخاذ قرارات مهنية مستقلة، والصعوبة التي قد يواجهها الأشخاص غير المؤهلين أو غير المدربين في تقييم هذه الأنشطة.

٣- الطابع الشخصي للعلاقات المهنية: الطبيعة التفاعلية بين الممارسين والأشخاص الذين يلجأون إلى خدماتهم، مع الأخذ في الاعتبار الثقة الخاصة التي يجب أن يضعها العملاء في الممارسين.

٤- خطورة الضرر المحتمل: مدى تأثير الإهمال أو نقص الكفاءة على الأفراد الذين يتلقون الخدمات، ومدى أهمية الإشراف لضمان حماية المستفيدين.

٥- الطبيعة السرية للمعلومات: نوعية وحساسية المعلومات التي يطلع عليها الممارسون أثناء ممارسة مهنتهم، والتي تتطلب الحفاظ على السرية المهنية. (٨٦)

تُظهر هذه المعايير مدى الترابط بين الجانب المهني والأخلاقي، إذ تمثّل الأخلاق عنصرًا حاضرًا في كل نشاط إنساني منظم. فالأخلاق موجودة في كل مكان، ولا تقتصر أهميتها على تزايد توقعات الجمهور بشأن جودة الخدمات العامة أو مصداقية الموظفين العموميين، بل تمتد إلى قضايا حديثة تشمل المسؤولية الاجتماعية للشركات العالمية، ورواتب كبار المديرين التنفيذيين، والفوائد الطبية للهندسة الوراثية، وقضايا القتل الرحيم، وأخلاقيات الاستثمار الأخضر، والتأثيرات الاجتماعية والثقافية للإعلام الجديد، والمسؤولية عن تغيّر المناخ، ومتطلبات الغذاء الصحي، وسياسات مكافحة التدخين، ومبادئ الشفافية والمساءلة، وغيرها من الموضوعات التي تعكس أهمية القيم والمبادئ في الحياة العامة. وفي مجال أخلاقيات الخدمة العامة، أصبح تحقيق روح الصدق والشفافية بمثابة "الكأس المقدسة" التي يسعى الجميع إلى بلوغها. كما يقوم مفهوما الحوكمة الرشيدة والأخلاق على فرضية أنه يمكن تحديد معنى "الإدارة الجيدة" والسلوك الأخلاقي، ويتطلّب ذلك نقاشًا حول القيم والمبادئ وما ينبغي تحقيقه ولماذا. (٨٧)

وفي هذا السياق، لا يزال مفهوم الأخلاق والسلوك الأخلاقي متأثرًا بتمييز أرسطو بين الفضائل والرذائل؛ فالفضائل تمثل الجوانب الإيجابية للسلوك الإنساني، والرذائل تمثل الجوانب السلبية منه. وتعرّف الفضيلة بأنها سلوك يعكس معيارًا أخلاقيًا رفيعًا ونمطًا من التفكير والسلوك المبني على أسس أخلاقية سامية. واليوم، تكاد لا توجد منظمة عامة تعمل دون مبادئ دستورية ومدونات أخلاقية تحدّد مجموعة الفضائل والمبادئ التي ينبغي على الموظفين العموميين الالتزام بها. وقد عرّف أرسطو الفضيلة في كتابه الأخلاق النيقوماخية بأنها نقطة الوسط بين الإفراط والتفريط في صفة معينة؛ فالشجاعة هي الحدّ الوسط بين الجبن والتهوّر، والتسامح هو التوازن بين ضيق الأفق والمبالغة في القبول، بينما الرذائل هي النقيض المباشر للفضائل. (٨٨)

وفيما بعد، شكّك الفيلسوف كانط في جدوى هذا التمييز البسيط بين الفضائل الحسنة والرذائل السيئة، مؤكدًا أن معظم الفضائل والرذائل تتسم بالغموض والالتباس، ويجب الحكم عليها ضمن سياق محدّد، وبالنظر إلى ما إذا كانت تخدم مبدأً أخلاقيًا أم لا. وفي كتابه ميتافيزيقا الأخلاق، ذهب إلى أبعد من ذلك حين قال: "لا يمكن تصوّر أي شيء في العالم، أو حتى خارجه، يمكن أن يُسمّى خيرًا على وجه الإطلاق، سوى الإرادة الخيّرة." ومع ذلك، يستمر العديد من المفكرين اليوم في إعادة اكتشاف أهمية الأخلاق القائمة على الفضيلة، مستلهمين قول أرسطو: "فالفضائل لا تنشأ فينا لا بطبيعتنا ولا بخلاف طبيعتنا، بل نحن مهيّأون بطبيعتنا لتقبّلها، وتُستكمَل فينا بالممارسة. فالأشياء التي ينبغي أن نتعلّمها قبل أن نفعلها، لا نتعلّمها إلا بفعلها." وعليه، فإن تعلم الفضائل قد يكون صعبًا في البداية، لكنه يصبح أسهل مع مرور الوقت من خلال الممارسة المستمرة حتى يتحوّل إلى عادة راسخة. (٨٩)

ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن لكل عصر مجموعة من الكلمات التي تجسّد رؤيته للعالم وتشكل نقاطًا مرجعية يمكن قياس كل شيء آخر في ضوئها. ففي العصور القديمة كانت الكلمات المفتاحية هي الفضائل مثل العدالة والشجاعة، وفي العصور الوسطى كانت القيم الدينية مثل الإيمان والنعمة والإله، أما في القرن الثامن عشر فقد هيمنت مفاهيم عقلانية مثل العقل والطبيعة والحقوق، بينما أصبحت اليوم هذه المفاهيم تتجسد في كلمات أكثر تعقيدًا مثل الكفاءة، والاستحقاق، والمساءلة، والمرونة، والحكم الرشيد. وبالمثل، تغيّر معنى قيم الخدمة العامة مثل الحياد، والاستقرار، والتدرج الهرمي، والسرية، والولاء، بما يعكس التحولات الاجتماعية والثقافية في العصر الحاضر. وفي الحقيقة، القيم لا تزول، بل تتغير، ولا يوجد تصور ثابت أو فهم موحّد للأخلاق العامة. واليوم، أصبح الناس أكثر تطلبًا ونقدًا تجاه القادة والسلطات، وأيضًا أكثر وعيًا بتطلعاتهم الحياتية، بينما تتزايد الشكوك حول وجود قيم عالمية ثابتة، بحيث يُطبق المواطنون معايير أكثر صرامة على أنفسهم وعلى تصوراتهم للدين والإيمان والحظ وتحقيق الذات. (٩٠)

2- الطاعة الإدارية والضمير الأخلاقي:

تُعَدّ الطاعة عنصرًا أساسيًّا في بنية الحياة الاجتماعية، ولا يمكن الإشارة إلى ما هو أعمق منها في هذا الصدد، فوجود نظام من السلطة شرطٌ لازم لكل حياة جماعية، ولا يُستثنى من ذلك سوى الإنسان الذي يعيش في عزلة تامة، إذ هو وحده الذي لا يُضطر إلى الاستجابة — سواء بالتحدّي أو بالخضوع — لأوامر الآخرين. وبالنسبة لكثير من الناس، تُعَدّ الطاعة نزعةً سلوكيةً متجذّرة بعمق، بل هي دافع قويّ أحيانًا يتغلب على ما يتلقاه الفرد من تربية أخلاقية وتعاطف وسلوك قويم.

إنّ المعضلة الكامنة في الخضوع للسلطة قديمة قِدَم قصة إبراهيم، كما أنّ السؤال عمّا إذا كان نيبغي للمرء أن يُطيع حين تتعارض الأوامر مع صوت الضمير قد نوقش في فلسفة أفلاطون، وجُسّد في مأساة أنتيجونه، إحدى أعظم المسرحيات التراجيدية في الأدب الإغريقي التي كتبها سوفوكليس (Sophocles) في القرن الخامس قبل الميلاد، وتعرّض له الفلاسفة بالتحليل في كل عصر تقريبًا. ويرى الفلاسفة المحافظون أنّ العصيان يُهدّد نسيج المجتمع ذاته، في حين يؤكد الإنسانيون على أولوية الضمير الفردي. وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة للجوانب القانونية والفلسفية للطاعة، فإنها تقول القليل عن سلوك معظم الناس في المواقف الملموسة. (٩١)

ومن أبرز المشكلات الأخلاقية المتكرّرة في تاريخ الإنسانية مسألة الطاعة للسلطة، فالطاعة عنصرٌ ضروري لبقاء المجتمعات؛ إذ يجب على المواطنين طاعة القوانين، وعلى الجنود تنفيذ الأوامر، وعلى العمّال الامتثال لتوجيهات رؤسائهم. أمّا العصيان فيهدّد البنية السلطوية التي يقوم عليها تماسك المجتمعات. غير أنّ الطاعة نفسها محفوفة بالالتباس والمآزق الأخلاقية، فعندما يتعارض صوت الضمير مع صوت السلطة، أيهما ينبغي أن يوجّه سلوكنا؟

كممرّضة، هل تلتزمين بأمر الطبيب بأن تكذبي على المريضة بشأن حالتها؟ كممثل لمصرف، هل ينفذ موظف أوامر مديره بحجز مزرعة أفلست بسبب ظروف جوية خارجة عن إرادة صاحبها؟ وكجندي في خضم المعركة، هل يطيع أوامر قائده بإطلاق النار على نساء وأطفال أبرياء؟ إنّ الوجه المظلم للطاعة يكمن في أنّها قد تُخفي وراءها الضمير الأخلاقي للفرد، وتتحوّل إلى الدعامة التي تستند إليها شبكات كاملة من القهر والسيطرة والقتل — كما حدث في ألمانيا النازية. (٩٢)

ومن هنا، يظلّ الضمير أداةً أخلاقية نافعة، إذ يقدّم إرشادًا سريعًا للفعل في المواقف التي يعجز فيها الفاعل عن التفكّر أو المداولة الواعية. وفوق ذلك، يمكن للضمير أن ينبّهنا إلى وجود قيمة أخلاقية مهدَّدة أو موضوعة على المحك، مما يحفّز مزيدًا من التأمل حين تسمح الظروف بذلك. وعليه، عند اتخاذ القرار بشأن كيفية التصرف، ينبغي للفاعل دائمًا أن ينظر في أوامر ضميره ويوازنها على نحو صحيح قبل الإقدام على الفعل.ويمكن تمييز ثلاثة مجالات مترابطة لحرية الضمير:

1- حرية تبنّي المرء لآرائه الأخلاقية الخاصة.

٢- حرية التعبير عن ضميره.

3- حرية التصرف وفقًا لضميره. (٩٣)

3- مفهوم الأمانة والنزاهة والمسؤولية:

تتعلق هذه المفاهيم (الأمانة – النزاهة – المسؤولية) بالصدق، لذا يجب أن نتّخذ من الصدق، كما يُستعمل في الحياة اليومية، استعارةً ونقطة انطلاق. فنحن نتوقّع من الآخرين أن يكونوا منفتحين إزاء ما يفكّرون فيه وما يفعلونه، وألّا يُخفوا عنا أمورًا ينبغي أن نعرفها؛ ومن ثمّ يبدو أنّ الانفتاح أحد أوجه الصدق. ومع ذلك، لا ينبغي أن يكون الناس منفتحين إزاء أي شيء يفكرون فيه أو يفعلونه فحسب، بل يجب أن تكون أفكارهم وأفعالهم صادقة كذلك. وثالثًا، عادةً لا نعدّ الآخرين صادقين إلا بشرط ألا يخدعونا أو يُلحقوا بنا ضررًا؛ أي أن يكونوا مستقيمين في أفعالهم. وباختصار، يبدو أنّ الصدق يتكوّن من ثلاثة عناصر أساسية: الانفتاح، وصدق القول (قول الحقيقة)، والإنصاف. (٩٤)

وتُعنى هذه العناصر الثلاثة، بالنسبة إلى العلماء والباحثين، بضرورة الشفافية المبدئية في كل ما يقومون به وكل ما يتوصلون إليه خلال البحث العلمي. ويمكن التمييز هنا بين انفتاح العملية (أي وضوح الخطوات والمنهجيات المتّبعة) وانفتاح النتائج (أي إعلان ما تم التوصّل إليه من بيانات واستنتاجات). أما الصدق فهو جوهر العمل العلمي، لأنّ البحث عن الحقيقة يُعدّ من الاهتمامات الأساسية للعلم، ويعني التمسّك بالحقائق في الأفعال والأقوال على حد سواء. وهنا يمكن التمييز بين البحث عن الحقيقة وقول الحقيقة بوصفهما جانبين متكاملين من الصدق. أما الإنصاف، فيعني منح كل ذي حقّ حقّه، وألا يتصرّف الباحثون على نحوٍ يُلحق الضرر بأصحاب المصلحة في البحث أو ينتقص من مكانتهم. (٩٥)

ووفقًا لقاموس ويبستر، يُعرَّف الصدق بأنه التحلّي بالإنصاف والحق، وأن يكون الإنسان خاليًا من الخداع، صادقًا وأصيلًا وحقيقيًّا. ويشمل ذلك تجنّب التلاعب أو إصدار بيانات أو أفعال مضللة يقصد منها الخداع. فالصدق ليس مجرد قول الحقيقة، بل هو التحلّي بروح الصدق، أي النية الكامنة وراء الحقيقة ذاتها. إنه أكثر من مجرد مطابقة القول للواقع؛ إذ يرتبط بالدوافع والمقاصد. فعندما نحلف اليمين نقول: «أقول الحق، والحق كله، ولا شيء غير الحق». ويُعدّ الصدق، على الأرجح، أعظم القيم الإنسانية جميعًا، إذ يمنحنا فوائد شخصية عظيمة ومكاسب مجتمعية ووطنية أكبر. فهو يُقيم أساسًا متينًا للفرد والمجتمع، إذ لا يمكن فصل الحقيقة عن الصدق، لأنّ الحقيقة هي المضمون الجوهري للصدق. ومجتمعنا اليوم يتوق إلى رؤية قادة ومسؤولين يتحلّون بالصدق، لأن الصدق هو دائمًا الفعل الصائب. (٩٦)

أما النزاهة، فتشير إلى الاتساق بين الأفعال والقيم والمبادئ والأساليب، وإلى التوافق بين التوقّعات والنتائج. وفي السياق الأخلاقي، تُعدّ النزاهة صفة جوهرية تتجلّى في الفهم الفطري للصدق والإخلاص في دوافع الإنسان لأفعاله. وتستخدم الشركات والمؤسسات هذا المفهوم للدلالة على السلوك المؤسسي المسؤول المتوافق مع القواعد الأخلاقية المتعارف عليها. وبصورة أكثر تحديدًا، تُلزم الشركة نفسها بالنزاهة باعتبارها التزامًا ذاتيًا يوجّه أنشطتها وقراراتها وإجراءاتها، بحيث تُراعى القيم الأخلاقية الأساسية في جميع ممارساتها.

وتنبثق الالتزامات الأخلاقية لهذا المعيار الأدنى من الامتثال للقوانين السارية، أي أنّ النزاهة تتضمّن الخضوع الصريح للتشريعات واللوائح. لكنها في الوقت ذاته تشمل أيضًا القيم والمعايير الأساسية المعترف بها عالميًا، والتي تتجاوز حدود التشريعات الوطنية، مثل: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومبادئ الاتفاق العالمي للأمم المتحدة، والمعايير الأساسية لمنظمة العمل الدولية، وإرشادات المسؤولية الاجتماعية، وميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي، والمبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان، ومبادئ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية للشركات متعددة الجنسيات، وغيرها من المواثيق والمبادئ الدولية ذات الصلة. (٩٧)

ويُستخدم مصطلح النزاهة المؤسسية (Corporate Integrity) للدلالة على مجموعة من المبادئ والسلوكيات التي تضمن أن تعمل المؤسسة وفق القيم الأخلاقية والقوانين والمعايير المهنية المعترف بها. ويهدف دليل الممارسات المؤسسية إلى توضيح السياسات والإجراءات التي تعزز النزاهة في بيئة العمل، وتشمل عادةً ما يلي:

1- الامتثال للقوانين والتشريعات المحلية والدولية.

2- الشفافية في اتخاذ القرارات والإفصاح عن المعلومات.

3- المساءلة في جميع المستويات الإدارية.

4- منع تضارب المصالح والتعامل معه عند حدوثه.

5- احترام حقوق الإنسان والمعايير الاجتماعية العادلة.

6- مكافحة الفساد والرشوة بجميع أشكالها.

7- تشجيع ثقافة الإبلاغ عن المخالفات وحماية المبلّغين.

٨- الالتزام بالاستدامة والمسؤولية الاجتماعية في ممارسات العمل. (٩٨)

وباختصار، تمثّل النزاهة المؤسسية الإطار الأخلاقي الذي يوجّه الشركة نحو تحقيق أهدافها بطريقة مسؤولة، شفافة، ومتسقة مع القيم الإنسانية العامة.

المحور الرابع: التحديات الأخلاقية في الواقع الإداري

1- الفساد الإداري وتعارض المصلحة:

وبالانتقال إلى أحد أخطر التحديات التي تواجه النزاهة المؤسسية، يأتي الفساد بوصفه نقيضًا مباشرًا للقيم الأخلاقية التي تقوم عليها المؤسسات. فكلمة "الفساد" مشتقة من الكلمة اللاتينية corruptus، التي تعني "الفاسد". وفي السياق القانوني، يشير هذا المصطلح إلى إساءة استخدام المنصب الموثوق به في أحد فروع السلطة (التنفيذية، التشريعية، القضائية) أو في المنظمات السياسية أو غيرها، بغرض تحقيق مكاسب مادية غير مشروعة للفرد أو للآخرين. ويُعدّ الفساد الإداري أحد أكثر أشكال الفساد شيوعًا في مختلف فروع الحكومة، وهو نوع من الفساد يحدث في معظم المؤسسات، وبخاصة مؤسسات الدولة، حيث يواجهه الأفراد والشركات وغيرها من الكيانات أثناء تعاملاتها. وغالبًا ما يُفهم مصطلح الفساد الإداري على أنه يتجسد أساسًا في رشوة الموظفين الأدنى رتبة بهدف التهرب من الالتزامات أو "تجاوز الدور" لإنجاز بعض المعاملات (٩٩).

ومن ناحية أخرى، يُعرَّف الفساد الإداري أحيانًا بشكل واسع جدًا، مما يؤدي إلى الخلط بينه وبين الفساد السياسي أو إلى اعتبار هذين الشكلين من الفساد مظهرًا واحدًا موحدًا. إلا أنّ مفهوم الفساد الإداري أوسع بلا شك، فهو لا يقتصر على الموظفين ذوي الرتب الدنيا، كما لا يقتصر على الرشوة التقليدية، إذ تشمل مظاهره أيضًا أشكالًا أخرى من القبول أو التسهيل أو منح الامتيازات غير المستحقة. ويُبرز الفساد الإداري جانبين أساسيين من الفساد:

١- الرشوة (أو أي شكل آخر من المنفعة غير المبرَّرة) لتقديم خدمات قانونية، حيث يقع الفساد لجعل الأعمال تسير بسلاسة أو لتسريع الإجراءات وما إلى ذلك، وفي هذه الحالة لا يحدث انتهاك خطير للقانون، بل يُعاد توظيفه بطريقة غير طبيعية وإن كانت الإجراءات ظاهريًا قانونية.

٢- الرشوة (أو أي شكل آخر من المنفعة غير المبرَّرة) لتقديم خدمات أو أفعال غير قانونية تنطوي على انتهاك للوائح والقوانين (١٠٠).

ويرى فيلب (Philip) أنّ حالة الفساد تتحقّق عندما تتوافر الشروط الأربعة التالية:

1- قيام موظف عام (أ) بفعلٍ لتحقيق مصلحة شخصية،

٢- انتهاكه بذلك قواعد الوظيفة العامة،

3- إلحاق الضرر بالمصلحة العامة (ب)،

٤- استفادة طرف ثالث (ج) من هذا الفعل، ومكافأة الموظف (أ) لقاء تمكينه من الحصول على سلع أو خدمات لم يكن ليتمكن من الحصول عليها بطريقة أخرى (١٠١).

ويضيف فيلب أنّ الفعل يُعدّ فاسدًا بشكل مؤكد عندما تجتمع هذه المعايير الأربعة كلها في واقعة واحدة، غير أنّ العديد من حالات الفساد لا تتضمن سوى ثلاثة معايير منها. ويمكن الإشارة إلى أنّ الموظف العام لا يضرّ بالمصلحة العامة فحسب، بل قد يُلحق الأذى أيضًا بطرفٍ رابع (د)، مثل شخصٍ يُستبعد من صفقةٍ تجارية أو يُحرم من استخدام خدماتٍ أو الحصول على سلعٍ تمكّن منها شخص آخر (ج) بوسائل غير مشروعة. فالفساد يُعدّ مرادفًا للرشوة، ويرتبط أساسًا بالمخالفات أو الأفعال غير القانونية في القطاع العام. لذلك يرى داردن (Darden) أنّ مصطلح "الفساد" ينبغي أن يُحصر في الممارسات السيئة للموظفين العموميين التي تنحرف عن التسلسل القيادي أو تُضعف نزاهته، وبالتالي تُقوّض القواعد القانونية التي تحكم عمل المنظمة، وذلك في سبيل تحقيق أهداف شخصية (وخاصة المكاسب الذاتية) (١٠٢).

ومع ذلك، فإنّ الفساد مفهوم أوسع بكثير، إذ يشمل أيضًا الأفعال المثيرة للجدل أخلاقيًا أو المنحرفة، والتي قد لا تُعدّ جرائم قانونية لكنها تستحق الإدانة على الأقل، بالإضافة إلى انتهاك المعايير الأخلاقية والسلوكية في كلٍّ من القطاعين العام والخاص. ويأخذ الفساد الإداري، ارتباطًا بالفساد السياسي، أشكالًا متعددة، ولا يكون من الطبيعي أن تكون كلّ أنماط الممارسات الفاسدة متساوية الأثر في الأداء الاقتصادي. وتشير الدراسات التجريبية الحديثة إلى أنّ كثيرًا من الدول شهدت تراجعًا في النمو الاقتصادي كنتيجة مباشرة للفساد، بينما حققت دول أخرى نموًا اقتصاديًا مرتفعًا في بعض الحالات على الرغم من وجود الفساد. ويُعزى ذلك إلى مدى تنسيق الموظفين – مرتكبي الممارسات الفاسدة – لسلوكهم. ففي غياب شبكة فساد منظمة، يجمع كل موظف الرشاوى لحسابه الخاص دون الاكتراث بتأثيرها على الأداء العام، أما عند وجود شبكة فساد منظمة، فإنّ الجهاز البيروقراطي يقلل من القيمة الإجمالية للرشوة، ما يؤدي إلى انخفاض المدفوعات غير المشروعة وزيادة الابتكار، وبالتالي تحقيق نمو اقتصادي أعلى. ويُستخدم في هذا السياق التعبير الإنجليزي "تزييت العجلات" (to oil the wheels)، في إشارة إلى الرشوة التي تُقدَّم لتسهيل الإجراءات أو تسريع المعاملات (١٠٣).

ويتضح من تحليل هذه العوامل أنّ الفساد الإداري لا ينشأ بمعزل عن البنية السياسية والمؤسسية والاقتصادية للدولة، بل يتغذّى على اختلالات متشابكة في النظام الإداري والسياسي والأخلاقي، ويمكن تلخيصها فيما يلي:

١- الخلل في القيادة السياسية والحوكمة العليا: يبدأ الفساد من القمة، حين تتحول مواقع صنع القرار إلى أدوات لمصالح شخصية أو حزبية، ويُستغل النفوذ لتوجيه المشاريع الحكومية أو منح العقود لتحقيق مكاسب خاصة. وتنتج هذه الممارسات ثقافة مؤسسية تُشرعن الفساد من الأعلى إلى الأسفل، فتفقد الإدارة العامة مصداقيتها.

٢- غياب استراتيجية شاملة لمكافحة الفساد: يُظهر تضارب السياسات الحكومية ضعف الإرادة السياسية في المواجهة، إذ تعمل بعض الهيئات على تطبيق معايير النزاهة، بينما تُضعف هيئات أخرى هذه الجهود عبر تشريعات متساهلة أو تبريرات اقتصادية، مما يؤدي إلى ازدواجية تنظيمية تقلّص فعالية أي إصلاح.

٣- ضعف منظومة المساءلة والشفافية: تؤدي قلة الإبلاغ عن الفساد وقصور الملاحقة القضائية إلى توليد بيئة آمنة للفساد، حيث يشعر الفاعلون بانعدام الخطر من العقاب. كما أن غياب السجلات الوطنية للإدانات وعدم نشر البيانات الخاصة بالقضايا يسهم في طمس الأدلة وغياب الرادع العام.

٤- الضغوط الاقتصادية وضعف الحوافز الأخلاقية: تؤدي الأجور المنخفضة وغياب الحوافز المهنية وتردّي بيئة العمل إلى جعل الموظف أكثر قابلية للانحراف الأخلاقي، خصوصًا عندما يرى نماذج فاسدة في المستويات العليا لا تُحاسَب. وبالتالي، يتحول الفساد إلى وسيلة للبقاء الاقتصادي لدى الأفراد، وليس مجرد انحراف فردي.

٥- الثغرات الإدارية والمؤسسية في إدارة المشاريع العامة: في ظل غياب آليات رقابة فعّالة على مشاريع البنية التحتية، تتزايد احتمالات الرشوة والاحتيال أثناء التخطيط أو الترسية أو التنفيذ. كما أنّ نقص البيانات الدقيقة حول الأسعار المقارنة والتكلفة الحقيقية للمشاريع يصعّب تقييم النزاهة الاقتصادية للصفقات الحكومية.

٦- ضعف تكامل المعلومات والحوكمة الرقمية: يشير نقص البيانات الوطنية حول البنى التحتية والمشروعات العامة إلى هشاشة نظم المعلومات الإدارية، وهو ما يتيح للمسؤولين التلاعب بالمشاريع أو تمرير قرارات غير مبرّرة بحجة نقص البيانات أو تعقيد الإجراءات.

٧- العدوى الهيكلية للفساد: ينتشر الفساد عبر آلية "القدوة السلبية"، إذ تُظهر الممارسات العليا في النظام الإداري أنّ النفوذ يحمي صاحبه من العقوبة، مما يدفع المستويات الأدنى إلى محاكاة السلوك نفسه. وهكذا يتحول الفساد إلى نمط إداري مستقر وهيكلي يصعب اجتثاثه دون إصلاح شامل (١٠٤).

الفساد الإداري ليس مجرد انحراف فردي عن القواعد، بل هو تعبير عن خلل متجذر في منظومة القيم والإدارة معًا. فعندما تتراجع العدالة المؤسسية والشفافية وتغيب المحاسبة، يتحوّل القانون نفسه إلى أداة للمناورة بدلًا من أن يكون أداةً للضبط، ويصبح الفساد وسيلة خفية لإعادة توزيع السلطة والثروة داخل الجهاز الإداري.

وقد تطوّرت دراسة الفساد منذ تسعينيات القرن العشرين لتصبح حقلًا علميًا متعدد التخصصات، نال اعترافًا متزايدًا باعتباره عنصرًا أساسيًا في تحقيق الحوكمة الرشيدة. وتظهر الآثار السلبية للفساد بشكل خاص في مجالات الإدارة العامة والسياسات والحوكمة، حيث يُعدّ ممارسة السلطة بعدالة وشفافية أمرًا حيويًا لضمان عمل الأنظمة الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان. وفي عام ٢٠٠٣، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (UNCAC)، والتي تُعدّ الأداة الدولية الرئيسية في هذا المجال. وتتضمن الاتفاقية العديد من الأحكام التي تؤكد أهمية إنشاء مؤسسات لمكافحة الفساد كوسائل فعّالة لتحقيق هذا الهدف. ومنذ ذلك الحين، أنشأت العديد من الدول الأعضاء في الاتفاقية مؤسسات مختلفة تحت مسميات متعددة لمكافحة الفساد. ومن منظور القانون الدولي، يزداد الاعتراف بأنّ التصدي للفساد يتطلب جهدًا جماعيًا من الدول، مستندًا إلى إطار قانوني قوي يتجاوز الحدود الوطنية (١٠٥).

وتُعدّ المعايير الأخلاقية أساسية في الممارسات الإدارية العامة واليومية، إذ إن النغمة الأخلاقية السائدة داخل المؤسسة تؤثر مباشرة على كفاءتها وفعاليتها، وعلى عمليات اتخاذ القرار، ودرجة التزام الموظفين ورضاهم الوظيفي، وكذلك على مستويات الضغوط النفسية ودوران العمالة. إن جعل الممارسات الأخلاقية أولوية لا يقتصر على العمل بنزاهة أو الحفاظ على المصداقية، بل هو أيضًا وسيلة لتحقيق الكفاءة المثلى في أداء المؤسسات العامة. والمؤسسات العامة الناجحة عادةً ما تتميّز بمعايير أخلاقية عالية، سواء في علاقاتها الخارجية مع أصحاب المصلحة أو في علاقاتها الداخلية بين الموظفين. وفي مختلف الدول الأوروبية، تختلف الأنظمة والثقافات السياسية تبعًا لعدة عوامل، مثل قوة البرلمان وحقوقه في الرقابة، ودرجة اختراق الأحزاب السياسية للأجهزة البيروقراطية، وحرية الصحافة، وحجم الإدارات العامة، وتصميم الهياكل التنظيمية وأنظمة الموارد البشرية، وغيرها من العوامل (١٠٦)

2- اللامبالاة والمسؤولية الجزئية:

يتبيّن مما سبق أنّ الفساد الإداري ليس ظاهرة معزولة، بل هو نتاج تفاعل معقّد بين خلل القيم الأخلاقية وضعف القيادة المؤسسية وغياب المساءلة الفعالة، وهو ما يُنتج بيئة عمل تتآكل فيها روح الالتزام والضمير المهني. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إنّ أحد المظاهر الخطيرة التي تُسهم في ترسيخ هذا الواقع هو تفشّي اللامبالاة والمسؤولية الجزئية داخل المؤسسات العامة والخاصة على السواء.

تُعدّ اللامبالاة في بيئة العمل من أخطر الظواهر التي تهدد الأداء المؤسسي وجودة القيادة، إذ لا تعبّر فقط عن ضعف الالتزام أو فتور الدافع، بل تكشف عن حالة أعمق من الانفصال الأخلاقي والوجداني عن الهدف المهني، مما يؤدي تدريجيًا إلى تفكك روح الفريق وتراجع معايير التميّز.

في هذا السياق، يقدّم جو روبرت ثورنتون (Joe Robert Thornton) معالجة دقيقة لهذه الظاهرة في كتابه المهم «أعماق الركاكة: القضاء على اللامبالاة» الصادر عام ٢٠٢١، حيث يربط بين مفهومي الركاكة (Mediocrity) واللامبالاة (Indifference) باعتبارهما علتين مركزيتين لانهيار فعالية القيادة وانطفاء روح المبادرة في المؤسسات. ويرى ثورنتون أن نقيض التميّز في العمل ليس الفشل كما يُظن، بل هو الركاكة، أي أداء الحد الأدنى الذي يضمن البقاء دون طموح أو إبداع. ويؤكد أن الركاكة ليست دائمًا نتيجة لضعف الكفاءة الفردية، بل غالبًا ما تكون نتاج قيادة غير فعّالة تفتقر إلى الرؤية والحافز (١٠٧).

ثم ينتقل إلى ما يعتبره الخطر الأكبر: اللامبالاة، التي يعرفها بأنها القدرة الأخلاقية والإنسانية على التغاضي عن الخطأ أو التقصير أو الظلم دون اتخاذ موقف، والاكتفاء بالصمت والرضا عن الوضع القائم. وهذه الحالة، كما يوضح، تشكّل بيئة خصبة لترسيخ الفساد الإداري وتآكل قيم العدالة والمساءلة داخل العمل (١٠٨).

ويشير ثورنتون أيضًا إلى أنّ القيادة اللامبالية تُعدّ أحد أخطر أشكال الفشل المؤسسي، فهي ليست بالضرورة قيادة ظالمة أو قاسية، بل قيادة غافلة تكتفي بفعل ما يكفي للبقاء دون السعي إلى التغيير أو التحسين. ويسميها "القيادة التي تفعل فقط ما يكفي لتستمر"، والتي تنشر عدوى اللامبالاة في جميع مستويات العمل، حيث يفقد الموظفون الشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الجودة والخدمة العامة (١٠٩).

ويطرح ثورنتون مجموعة من المبادئ العملية لمواجهة ظاهرة اللامبالاة في بيئة العمل، من أبرزها:

١- إحياء الشعور الأخلاقي في العمل، من خلال ربط الأداء اليومي بالقيم الإنسانية والمجتمعية.

٢- تحفيز الشجاعة القيادية في مواجهة التقصير، بدلًا من سياسة "النظر إلى الجانب الآخر".

٣- بناء ثقافة المساءلة، حيث يُكافأ الالتزام الحقيقي وتُدان اللامبالاة.

٤- تحويل السلبية إلى دافع إيجابي للتغيير عبر الحوار والمشاركة (١١٠).

ويؤكد ثورنتون في خلاصة تحليله أنّ اللامبالاة ليست مجرد سلوك وظيفي، بل مشكلة ثقافية شاملة تمتد إلى المجتمع بأسره. فهي تنشأ عندما تفقد الجماعات والمؤسسات حسّها الأخلاقي الجمعي، فتفقد القدرة على الغضب من الخطأ أو الدفاع عن الصواب. ويرى أن المجتمعات التي تتسامح مع اللامبالاة "تتآكل من الداخل قبل أن تنهار من الخارج" (١١١).

ويخلص جو روبرت ثورنتون إلى أن اللامبالاة هي نقيض الحياة المهنية والأخلاقية، وأن مكافحتها تبدأ من إعادة إحياء الضمير القيادي في المؤسسات. فالعمل، في جوهره، ليس مجرد وسيلة للرزق، بل فضاء أخلاقي تُختبر فيه قيم الإنسان واستعداده لتحمّل المسؤولية تجاه الآخرين والمجتمع.

3- أخلاقيات التعامل مع المواطنين والزملاء والرؤساء:

وإذا كانت اللامبالاة تمثّل تهديدًا داخليًا لقيم الالتزام والمسؤولية داخل المؤسسة، فإنّ الأخلاقيات المهنية تمثل الوجه المقابل الذي يضبط العلاقات ويعيد بناء الثقة بين العاملين والمجتمع. ومن هنا تبرز أهمية أخلاقيات التعامل مع المواطنين والزملاء والرؤساء بوصفها الإطار السلوكي الذي يضمن انسجام الأداء الإداري مع المبادئ الإنسانية والقيم العامة.

لقد عُرفت مواثيق الأخلاقيات منذ زمن بعيد، ومن بين أقدمها وأكثرها شهرةً قسم أبقراط الذي وُضع في القرن الخامس قبل الميلاد، ولا يزال حتى اليوم يؤدي دورًا بارزًا في مهنة الرعاية الصحية. ومن الشائع أيضًا أن تمتلك المهن الأخرى مواثيق أخلاقية خاصة بها، إذ يُعد الالتزام بميثاقٍ أخلاقي وسلوكي أحد السمات الجوهرية التي تُميّز المهنة عن غيرها من الأنشطة. ورغم انتشار مواثيق الأخلاقيات في المهن التقليدية، إلا أنّ ظهورها داخل المؤسسات غير المهنية يعد ظاهرة حديثة نسبيًا. ويُعزى هذا الانتشار المتزايد إلى عوامل عدة، منها نمو حجم المؤسسات، وارتفاع توقعات المجتمع من أدائها، إضافةً إلى الطابع العالمي المتزايد لأنشطتها، ما ساهم مجتمعةً في انتشار واسع لمواثيق الأخلاقيات عبر مختلف المؤسسات (١١٢).

وتشمل فروع الأخلاقيات التطبيقية: الأخلاقيات التجارية، الأخلاقيات البيولوجية، الأخلاقيات المهنية، الأخلاقيات الاجتماعية، أخلاقيات التكنولوجيا، أخلاقيات المعلومات، وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي. وتكتسب هذه الفروع أهمية كبيرة في مجال الاتصال في البحث والممارسة، لعدة أسباب تتعلق أساسًا بطبيعة الاتصال ذاته والقضايا المرتبطة به، مثل تكنولوجيا الاتصال والوساطة، بالإضافة إلى القضايا التي يتعامل معها الاتصال، بما في ذلك وساطة الرسائل. ويؤثر هذا في طبيعة ما يُنقل، وكيفية نقله، ومن يقوم بالنقل، ومن هم المستلمون—سواء كانوا المقصودين أو غير المقصودين (١١٣).

وقد أصبح الاتصال بين الأفراد ذا أهمية متزايدة، لا سيما في ظل العولمة، حيث يُعد الاتصال الشخصي ضرورةً للبقاء على تواصل مع الآخرين، بما في ذلك الأحبة والمجتمع الأوسع. عبر التاريخ، كان الانتماء إلى المجتمع وقبول الفرد فيه أمرًا بالغ الأهمية للبشر، وقد اكتسب هذا الأمر أهميةً أكبر مع التطور التقني وابتكارات الاتصال الحديثة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك الاتصال اللاسلكي والإنترنت غير المحدود، بدءًا من أجهزة الكمبيوتر المكتبية وصولًا إلى الهواتف الذكية الحديثة.

ولا يقتصر البقاء على تواصل على تبادل الرسائل فحسب، بل يشمل أيضًا مراعاة طبيعة العلاقات مع من نتواصل معهم. فإرسال الرسائل يتيح تلبية الحاجة الإنسانية للانتماء، ويسهم في التخفيف من الشعور بالوحدة، ويعزز رفاهية الفرد من خلال تعزيز شعوره بالاستقلالية والرضا عن ذاته. وهكذا، أضاف القرن الحادي والعشرون بُعدًا جديدًا للاتصال بين الأفراد، لا سيما لدى الأجيال الشابة، من خلال وسائل الإعلام الرقمية الجديدة التي أصبحت جزءًا لا غنى عنه من حياتهم (١١٤).

ويُعدّ مجال الأخلاق، أو الفلسفة الأخلاقية، أي الدراسة الأكاديمية للمبادئ والقواعد الأخلاقية، مجالًا مستمرًا طوال تاريخ البشرية. وكما هو الحال مع أي مجال مرتبط بالفلسفة، لا يوجد تعريف دقيق لمفهوم "الأخلاق"، إلا أنّ الفهم العام يمكن تبسيطه باعتبار الأخلاق دراسةً لما هو "حسن وقبيح". وأكثر صلةً بالخطابات المجتمعية المعاصرة هو الفهم السلوكي للأخلاق والممارسة الأخلاقية.

وعند العودة إلى الفهم الأساسي للأخلاق على المستوى السلوكي، يمكن الإشارة إلى "القاعدة الذهبية": «في كل شيء، عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك». ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار قاعدة عامة للسلوك الأخلاقي توجيه الفرد لسلوكه بما يتوافق مع الطريقة التي يحب أن يُعامل بها. وعلى الصعيد المهني والأكاديمي، قد يكون التفكير في القضايا الأخلاقية، وتفسيرها، والالتزام بالمعايير الأخلاقية أكثر تعقيدًا مما يبدو، ما يجعل من الضروري للأفراد العاملين في مجالات الاتصال أن يفهموا طبيعة الأخلاق، وكيفية تطبيقها في سياقات محددة، والتعرف على أوجه التشابه والفروق بين هذه السياقات (١١٥).

وقد وضع سقراط ثلاثة ركائز أساسية للحوار: العقل، الضمير، والفعل الأخلاقي. وبعد محاكمته بتهمة التجديف وإفساد شباب أثينا، أُدين سقراط أمام هيئة من أقرانه وحُكم عليه بالموت، كما روى أفلاطون هذه الواقعة في محاورة الدفاع (Apology). وفي بداية محاورة كريتو، نكتشف أن صديقه المقرّب كريتو جاء إليه في السجن عارضًا عليه فرصة الهرب والنفي إلى خارج أثينا، مطمئنًا إياه إلى سهولة العملية وعدم تعريض أي طرف لمخاطرة. وبعدما كان سقراط قد رفض هذا العرض سابقًا، يقدّم كريتو هذه المرة سلسلةً من الحجج لإقناع سقراط بالموافقة على الهرب.

وفي رده على كريتو، يقدّم سقراط ملاحظات واضحة حول طريقة تعامله مع العرض، تكشف عن طبيعة مشروعه الفلسفي، أي مشروع الأخلاق العملية، حيث:

1- يؤكد أنه لن يسمح لأي محاولة تستهدف التأثير في عواطفه بأن تُؤثّر على حكمه، فهو بحاجة إلى صفاء الذهن وهدوء النفس، ولن يُصغي إلا إلى حجّة قائمة على الوقائع وتبدو الأفضل بعد التأمل.

2- على الرغم من ترحيبه بالحوار، فإنه يرفض أن يُقاد بآراء الآخرين، ويؤكد على اتباع ضميره الشخصي وحده.

3- يصرّ على أنه ما إن يتبيّن له ما هو الصواب أو الأفضل، فعليه أن يفعله دون تردّد، مختتمًا مبدأه باتفاقه مع كريتو على أنّ "الأمر المهم حقًا ليس أن نعيش، بل أن نعيش عيشًا حسنًا"، أي أن نحيا حياة شريفة وعادلة (١١٦).

4- نحو فلسفة عملية لأخلاقيات الوظيفة العامة:

في ضوء ما تقدّم من الحديث عن الأخلاق المهنية، تتجلّى الحاجة إلى بناء فلسفة عملية تُوجِّه أخلاقيات الوظيفة العامة نحو غاية عليا، هي تحقيق المصلحة العامة وصيانة كرامة الإنسان داخل بيئة العمل. ويبرز ذلك بوضوح في ميدان الخدمة العامة، حيث يُنتظر من الموظف العام أن يكون نموذجًا للالتزام والمسؤولية والقدوة في السلوك. فلكي تكون الخدمة العامة فعّالة وتتمتع بالاحترام والثقة، لا بد أن يلتزم العاملون فيها بمجموعة من السلوكيات والمعايير الأخلاقية التي تضمن الانضباط المهني، وتحفظ للمؤسسات هيبتها وفاعليتها. ومن أبرز هذه المعايير ما يلي:

1- احترام جميع حقوق الإنسان والتعامل بروح من اللياقة والاحترام مع الجميع.

2- أداء العمل بجدٍّ وانضباط، مع الالتزام بالمواعيد ومعايير الجودة في الإنجاز.

3- تعزيز روح العمل الجماعي والتعاون مع الزملاء لتحقيق أهداف المؤسسة.

4- السعي إلى التميز في تقديم الخدمة، والتطوير المستمر للأداء لتحقيق نتائج ملموسة.

5- ممارسة المسؤولية وحسن الإدارة، بما يشمل التنظيم الفعّال للموارد واتخاذ القرارات الرشيدة.

6- تعزيز الشفافية والمساءلة في جميع مستويات العمل، لضمان الثقة والمصداقية.

7- أداء الواجبات بنزاهة واستقامة، وتجنّب أي سلوك قد يضر بالمصلحة العامة.

8- الحفاظ على الحياد السياسي، وعدم السماح للتوجهات السياسية الشخصية بالتأثير على الأداء المهني أو القرارات الإدارية (١١٧).

تتواصل هنا الرؤية المتكاملة لفلسفة أخلاقيات الوظيفة العامة، حيث يتعمق التحليل من مستوى السلوكيات المهنية إلى مستوى القيم الجوهرية التي تُشكّل الأساس الأخلاقي للسلوك العام. فبعد أن تناولنا في المحور السابق المبادئ التي تضمن فعالية الخدمة العامة وثقة المجتمع بها، ننتقل الآن إلى فلسفة القيم المهنية التي تمثل الركيزة الأخلاقية لكل ممارسة في ميدان الخدمة العامة.

المحور الخامس: فلسفة القيم المهنية في الخدمة العامة

1- الصدق، العدالة، الكفاءة، الشفافية، الخدمة العامة:

تتأسس هذه الفلسفة على منظومة من القيم المركزية مثل الصدق، العدالة، الكفاءة، الشفافية، والخدمة العامة. فالقيم ليست مجرد مبادئ نظرية، بل هي موجهات عملية تضمن أن تكون المهنة أداة لخدمة الإنسان والمجتمع، لا وسيلة لمصلحة شخصية أو غاية نفعية ضيقة.

ومن ثم، تبرز الكفاءة والمهارة كشرطين أساسيين لأداء الأعمال والوظائف المختلفة بكفاءة ومسؤولية. وتُعدّ هذه المعايير المشتركة العناصر الجوهرية في تعريف الشخص "المحترف" أو ذي الكفاءة العالية، وهو الذي:

1- يتقن منظومة معقّدة من المعارف والمهارات تُستخدم في خدمة الآخرين، أي أنه بلغ مستوى متقدّمًا من الكفاءة في مجاله ويحافظ عليه باستمرار.

2- يُظهر قدرًا من المساءلة تجاه الجمهور والمهنة على حدٍّ سواء، ملتزمًا بمقاييس الأداء المهنية مثل التعليم المستمر الفعّال والحد الأدنى من معايير الكفاءة والأخلاق. وفي هذا السياق، قد تتولى الدولة ضمان الكفاءة من خلال تكليف أعضاء مهنيين بإجراء اختبارات ومنح تراخيص علنية للناجحين، أو قد تمنح المؤسسات المهنية حرية إصدار اعتمادها الخاص، ومع ذلك تبقى المهنة مسؤولة عن جدارة وثقة ممارسيها أمام المجتمع.

3- يخضع لميثاق أخلاقي يوجّه سلوكه المهني وينظّم ممارساته.

4- يُظهر التزامًا بالكفاءة والنزاهة والاستقامة الأخلاقية، ويحافظ على الطابع الأخلاقي والتعاوني للمهنة، ويتحمّل المسؤولية تجاهها عن كل سلوكه. كما يتصف بروح الإيثار، مقدمًا مصلحة الآخرين والصالح العام على مصالحه الذاتية.

5- يمارس استقلالية في الحكم والممارسة المهنية، ويتحمّل المسؤولية المترتبة على امتيازه في التنظيم الذاتي، وغالبًا ما ينضمّ إلى مؤسسات مهنية تُعنى بحماية استقلال المهنة من خلال أنظمة الاعتماد والترخيص والتصديق المهني.

6- يُظهر روحًا مهنية متجذّرة في الانتماء إلى جماعة تشترك في مثلٍ عليا مشتركة تضع الخدمة فوق المكسب، والإتقان فوق الكثرة، والتعبير الذاتي فوق الدوافع المادية، والولاء فوق المصلحة الفردية. ويعبّر هذا الالتزام عن مساهمة المهني في تطوير المهنة والنهوض بجماعته المهنية من خلال عمله ومشاركته الفعّالة في تعزيز قيمها وممارساتها (١١٨).

2- التوفيق بين الواجب الشخصي والمصلحة العامة:

يُعد هذا المحور امتدادًا طبيعيًا لما سبقه من بحثٍ في فلسفة القيم المهنية، حيث ينتقل من تحديد القيم العامة مثل الصدق والعدالة والكفاءة إلى تناول إشكالية التوفيق بين الواجب الشخصي والمصلحة العامة، وهي من أعقد المسائل الأخلاقية في ميادين العمل المهني، ولا سيّما في القطاعات الحساسة كالرعاية الصحية.

يتطلب هذا التوازن تحقيق الانسجام بين المهنية والالتزام الأخلاقي في جميع المهن، ويظهر هذا بوضوح في المجال الصحي، حيث تتقاطع القيم الإنسانية مع الضغوط الاقتصادية والتقنية.

أولاً، يشهد العالم اليوم تحولًا متزايدًا في الرعاية الصحية نحو منطق السوق؛ إذ صار المرضى يُعاملون كمستهلكين والعاملون في المجال الطبي كمزودين للخدمة، في إطار يخضع لمبدأ “ليحذر المشتري” (caveat emptor) الذي يُفترض أنه يحمي الجميع. غير أنّ هذا التحول أوجد ضغوطًا جديدة على الخريجين الطبيين الذين يرزحون تحت وطأة الديون الناتجة عن تكاليف التعليم المرتفعة، فيسعون لزيادة دخلهم ولو على حساب البعد الإنساني للمهنة، مما يُهدد بتحويل الرعاية إلى سلعة لا رسالة. ومع انتشار الإنترنت وتنامي معرفة المرضى، باتوا أكثر تشككًا في كفاية العلاج أو النصيحة الطبية، ومع تطور التكنولوجيا الطبية تزايدت مطالبهم بالعلاج، الأمر الذي أفرز تحديات أخلاقية جديدة في موازنة الواجب المهني مع الاعتبارات الاقتصادية (١١٩).

ثانيًا، رغم هذه التحولات، ثمة مكاسب أخلاقية مهمة، أبرزها تراجع نموذج “الأبوة الطبية” الذي كان يقوم على خضوع المريض الكامل لسلطة الطبيب، ليحلّ محله نموذج المشاركة واتخاذ القرار المشترك. غير أنّ هذا المكسب ترافق مع خطر تآكل المهنية، إذ صار بعض الأطباء يمارسون الطب بوصفه نشاطًا تجاريًا قائمًا على تلبية الطلب مقابل العائد المالي، بينما يسعى الأطباء الملتزمون بالضمير المهني إلى التوفيق بين رغبات المرضى ومسؤولياتهم تجاه الصالح العام وحماية الموارد الصحية (١٢٠).

ومن ثمّ، فإن المهنية لا تتحقق إلا عبر التأمل الذاتي والإصلاح المؤسسي. فلا بد أولًا من إصلاح بيئة العمل الطبي بما يضمن إزالة الحوافز المنحرفة التي تشجع السلوك غير الأخلاقي، كالإفراط في وصف الأدوية أو الفحوص غير الضرورية بهدف الربح. وثانيًا، تعتمد المهنية على القدوة والنموذج العملي، إذ لا تكفي المعرفة النظرية ما لم يجد المتدرب أمامه أمثلة حيّة تجسد الالتزام والضمير (١٢١).

في الإطار الفلسفي، ترتبط المهنية بـ أخلاقيات الفضيلة، أي بنمط الشخصية الذي يجمع بين المعرفة والعادات الأخلاقية الراسخة، أو ما يسميه أرسطو “عادات القلب”. فالمهنية ليست دهاءً تقنيًا، بل التزامًا وجدانيًا مستمرًا تجاه الإنسان. لذلك، فإن بقاء المهنة وازدهارها يعتمد على نظام صحي عادل يضمن تكافؤ الفرص وعلى وجود قدوات ملهمة تغرس في الأجيال الجديدة روح المسؤولية والفضيلة (١٢٢).

وتتسع دائرة الالتزام الأخلاقي لتشمل الاحتياجات الإنسانية العامة كما يصنفها ماسلو، بدءًا من:

1- الاحتياجات الفسيولوجية كالطعام والمأوى والراحة،

2- - مرورًا باحتياجات الأمان والحماية،

3- فالاحتياجات الاجتماعية من انتماء ومودة وقبول،

4- ثم احتياجات الأنا كالاحترام والثقة بالنفس،

5- وصولًا إلى احتياجات تحقيق الذات، أي السعي إلى تحقيق أفضل ما في الإنسان من قدرات (١٢٣).

وفي هذا الإطار، يتجلى الدور الأخلاقي للدين في ترسيخ القيم التي تحفظ توازن الفرد والمجتمع. فالأديان تحثّ على الخير وتنهى عن الكبائر، وتؤكد قاعدة أخلاقية كونية هي «عامل الآخرين كما تحب أن يُعاملوك»، أو كما عبّر جوستينيان: «أن نعيش بصدق، وألا نؤذي أحدًا، وأن نُعطي كل إنسان حقه». ويشير ليونارد سويدلر (Leonard Swidler) إلى ثلاث نتائج لهذه القاعدة:

1- معاملة البشر كغايات لا كوسائل،

2- حماية الضعفاء والعاجزين،

3- معاملة الكائنات غير البشرية باحترام لأنها جزء من خلق الله (١٢٤).

وتُبرز هذه المبادئ أساس العلاقة بين المسؤول العام والبيئة المحيطة؛ إذ يتجسد الواجب الأخلاقي في خدمة الإنسان أولًا، وضمان أمنه وسلامته ثانيًا، وصون البيئة الطبيعية ثالثًا. كما تستدعي الحاجة إلى الدين في المجتمع أن يحترم المسؤول العام حرية المعتقد ويتبنى سياسة التسامح الديني، مع التزامه بمبادئ أخلاقية عامة مستمدة من التعاليم الدينية لتكون دليلًا لسلوكه المهني. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الحاجة الدينية تُعد من الاحتياجات الاجتماعية في المستوى الثاني من هرم ماسلو (١٢٥).

3- الوعي الأخلاقي كأساس للإصلاح الإداري:

يمثل هذا العنصر استكمالًا منطقيًا لما سبقه من حديثٍ عن التوفيق بين الواجب الشخصي والمصلحة العامة، إذ ينتقل إلى تناول الوعي الأخلاقي بوصفه الركيزة الأساسية لأي إصلاح إداري فعّال، وشرطًا لاستمرار القيم المهنية في الخدمة العامة.

في ظل التحولات الاجتماعية والثقافية المتسارعة، باتت أخلاقيات موظفي الخدمة العامة أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى، نتيجة لتعدد القيم وتضاربها في البيئات الحديثة. فالأخلاق الكلاسيكية التي كانت تقوم على الانضباط، والإخلاص، والولاء، والالتزام المؤسسي، تواجه اليوم تحديات جديدة تتطلب من الموظف العمومي إعادة النظر في علاقته بالقيم التقليدية، واستيعاب منظومة أوسع من المبادئ التي تعكس التنوع والتعدد في القيم المعاصرة.

وقد تناول ماكس فيبر في عمله الشهير «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» (19- 4) نموذجًا للمجتمعات التي جعلت من العمل قيمة أخلاقية مطلقة، فصار الإنسان يعمل لا لمجرد الكسب، بل لأن العمل ذاته يُعد غاية أخلاقية. وهكذا، أصبح العمل هو الإطار الذي تُعرض فيه الفضائل العملية مثل الاجتهاد، والانضباط، والمسؤولية. أما في عصرنا الحاضر، فقد تحوّل هذا الفهم إلى نظرةٍ مهنية أكثر براغماتية، إذ يرى كثير من موظفي الخدمة العامة وظائفهم كمسارات مهنية لا كدعوات أخلاقية أو رسالات معنوية. ومع ذلك، يظل للعمل مكانته المركزية، إذ أُضيفت إليه قيم حديثة مثل الأداء الفردي، والتعلم المستمر، وتطوير الكفاءات، وهي تحولات إيجابية تعبّر عن نضج الوعي المهني واتساع مفهوم الخدمة العامة (١٢٦).

وترافق هذا التحول مع تغيّر نموذج العمل المؤسسي ذاته؛ فبعد أن كان العمل بدوام كامل والوظيفة المستقرة حتى التقاعد هما القاعدة، صارت الحدود بين الحياة المهنية والخاصة أكثر مرونة، وظهرت أنماط جديدة من العمل الجزئي والزمن المرن. ولم تعد ساعات العمل مفهومًا جامدًا، إذ أصبح الوصول إلى الموظف ممكنًا في كل وقت عبر الوسائل الرقمية. ورغم هذه التغيّرات، لا يزال العمل الجادّ يُنظر إليه كفضيلة أخلاقية، حتى مع تزايد الضغط المهني وامتداد ساعات العمل في معظم القطاعات العامة (١٢٧).

أما من حيث تطوير المهارات والتعلّم مدى الحياة، فقد تغيّرت النظرة جذريًا؛ إذ لم يعد الموظف خبيرًا تقليديًا يعتمد على شهادة جامعية فحسب، بل أصبح مطالبًا بتجديد معارفه وصقل كفاءاته بصورة مستمرة. إنّ هذا التسارع في وتيرة التطوير الذاتي يعكس روح الأخلاق الحديثة في العمل، القائمة على المرونة والمسؤولية الفردية، والتي حلّت محل الأخلاقيات الجامدة التي كانت تهيمن في الماضي.

كذلك، صارت الخدمة العامة أكثر انفتاحًا على الثقافات التنظيمية والقيم الوافدة من القطاعين الخاص والمجتمع المدني، دون أن تفقد جوهرها القيمي الأصيل المتمثل في الاستقلالية، والاستحقاق، والاحترافية، والإنصاف، والمسؤولية. ومن ثمّ، أصبحت الحاجة ملحّة إلى تحديد القيم الأخلاقية المشتركة التي تجمع القطاع العام بسواه، حفاظًا على وحدة المعايير واستمرار الثقة المجتمعية في المؤسسات العامة (١٢٨).

ومع بروز التقنيات الحديثة ووسائل الاتصال الرقمية، برزت تحديات جديدة تتصل بالاستخدام الأخلاقي للمعلومة. إذ باتت المدونات، ومنصات التواصل الاجتماعي، والمواقع الحكومية، أدواتٍ رئيسية في التواصل مع الجمهور وصياغة السياسات، لكنها في الوقت نفسه فتحت المجال أمام مخاطر الخلط بين الرأي الشخصي والموقف المؤسسي، وبين التواصل المهني والاستخدام الحزبي أو الترويجي للمعلومات. كما أتاحت هذه الوسائل للعاملين في الخدمة العامة فضاءً واسعًا للتعبير عن الذات خارج إطار العمل الرسمي، وهو ما يثير إشكالات تتعلق بحدود الحرية والمسؤولية المهنية.

ومن هنا، فإن القضايا الأخلاقية المرتبطة بالاتصال العام أصبحت أكثر تعقيدًا، تتطلب من الإدارات الحكومية صياغة أطر واضحة للسلوك الرقمي والمسؤولية الاتصالية، بما يضمن الحفاظ على الثقة العامة وحماية الحياد المؤسسي، ويحول دون استغلال الموارد العامة لأغراض شخصية أو سياسية (١٢٩).

المحور السادس: بناء ميثاق فلسفي لأخلاقيات الوظائف العامة

لقد أظهرت التحولات في أخلاقيات العمل العام أنَّ الإصلاح الإداري لا يتحقق بمجرد تطوير الأنظمة أو تحديث الإجراءات، بل يقوم أساسًا على الوعي الأخلاقي لدى العاملين في الخدمة العامة. ومن ثمّ، يصبح بناء هذا الوعي شرطًا ضروريًا لأي إصلاح إداري فعّال. فكلّ إصلاح يفتقر إلى الأساس الأخلاقي مصيره الفشل، لأن الأخلاق هي التي تمنح الفعل الإداري معناه الإنساني، وتحدّد مساره الصحيح في ضوء قيم العدالة والمسؤولية والنزاهة.

وفي هذا السياق، يتعيّن أن يُستكمَل الوعي الأخلاقي ببناء إطارٍ فلسفيٍّ مؤسَّسٍ لأخلاقيات الوظائف العامة، يقوم على التخطيط الواعي والتنظيم الرشيد. فمن خلال السير في مسار تطوّرهم ونموّهم العقلي، أدرك الإنسان تدريجيًا ضرورة التخطيط في الحياة، وبدأ ينظر إليه بوصفه أداةً تخدم إدارة النظم الاجتماعية وقيادتها. وفي عصرنا الحالي، أصبحت المنظمات والمؤسسات الإدارية بالغة التعقيد إلى حدٍّ يجعلها غير قادرة على البقاء دون تخطيطٍ تفصيلي. ويتطلّب التخطيط الوعي بالفرص والتهديدات المستقبلية، والتنبؤ بكيفية التعامل معها. ويُعدّ التخطيط – الذي يُنجز دائمًا في الإدارة قبل عملية التنظيم – عمليةً تشمل تحديد الرؤية والرسالة والأهداف، وتقدير الموارد والافتراضات البيئية، فضلًا عن وضع السياسات والإجراءات والأساليب. وتُعَدّ السياسات والإجراءات أدواتٍ لتنفيذ الرؤية التنظيمية، سواء أكانت مكتوبةً ومُعلَنة رسميًا أم ضمنيةً يتعرّف عليها المديرون والموظفون تدريجيًا مع مرور الوقت؛ ومن ثمّ، فإن غياب السياسات الموثّقة أو المكتوبة لبعض المهام لا يعني بالضرورة غياب السياسة الخاصة بها. كما تحتاج الحكومات إلى صياغة السياسات وتنفيذها تنفيذًا فعّالًا من أجل الاضطلاع بواجباتها، وتُعرف هذه السياسات عادةً باسم السياسات العامة، وإذا تم تنفيذها بشكل سليم فإنها ترفع مستوى الرفاهية والرضا العام للمواطنين، وتُسهم في تعزيز قوة الدولة (١٣٠).

إن تنفيذ السياسات يعني فعليًا تحويل الالتزامات إلى أفعال. ومن المؤكد أن فشل تنفيذ السياسات لا يعود دائمًا إلى ضعف الحكومة أو المؤسسات المنفذة، بل قد يكون نتيجة للخلل في مرحلة صياغة السياسات ذاتها. وتحدث مشكلات التنفيذ عندما لا تتحقق النتائج المرجوّة أو المصالح المطلوبة، وهذه المشكلات ليست حكرًا على الدول النامية؛ فحيثما تُفتقد العوامل الأساسية والحيوية لتنفيذ السياسات العامة – سواء في الدول النامية أو المتقدمة – تظهر صعوبات في التنفيذ. وقد أشارت دراسات متعدّدة إلى عدد من العوائق التي تؤدي إلى عدم تنفيذ السياسات أو تنفيذها بشكل غير مكتمل؛ غير أن ما هو مؤكّد هو أن السياسات لا تُنفَّذ إلا بواسطة الأفراد العاملين داخل المنظمات. لذلك، وبجانب العوامل البيئية والظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ونقائص عملية صياغة السياسات، لا يمكن تجاهل دور الموارد البشرية في المنظمات. وخاصةً مع التوسع المتزايد للمنظمات وتعقّد بيئاتها، أصبح دور الموارد البشرية في تنفيذ السياسات وتحقيق النجاح أكثر أهميةً وحسمًا.

وتتجلّى هنا أهمية حوكمة الشركات بوصفها الإطار التنظيمي الذي يُدار من خلاله العمل المؤسسي، إذ تشير إلى «النظام الذي تُدار وتُوجَّه من خلاله الشركات». ويُعدّ أحد أهداف حوكمة الشركات إنشاء مجموعة من الآليات الداخلية التي تضمن اتخاذ قرارات إدارية سليمة، مع مراعاة حقوق ومسؤوليات مختلف أصحاب المصلحة، إضافةً إلى الأعراف والمعايير الأخلاقية التي تلتزم بها الشركة. وقد جرى الاعتراف بأهمية خلق مناخ أخلاقي إيجابي والحفاظ عليه بوصفه جانبًا أساسيًا من جوانب حوكمة الشركات، إذ يُسهم في تقليل التكاليف المترتبة على وسائل الرقابة الاجتماعية الرسمية الأكثر تدخلًا وربما الأقل فاعلية، وكذلك في الحدّ من الخسائر الناجمة عن تضرر السمعة وانخفاض قيمة الأصول عند انكشاف مخالفات أخلاقية. كما أن الإخفاق في الحفاظ على ثقافة أخلاقية مناسبة، وفي تقديم نماذج سلوكية أخلاقية للموظفين، يمكن أن يُكبِّد الشركة خسائر جسيمة (١٣١).

ويكون المناخ الأخلاقي أكثر فاعلية عندما يكون أعضاء المنظمة مدفوعين داخليًا للتصرف بشكل أخلاقي. وبما أن فاعلية حوكمة الشركات تتعزّز من خلال التوافق بين الأخلاقيات التنظيمية والأخلاقيات الفردية، فإن فهم العوامل التي تُنتج هذا التوافق يُعدّ أمرًا مهمًا. ونظرًا لأن متغيرات المستوى التنظيمي ومتغيرات المستوى الفردي كليهما تؤثر في عملية اتخاذ القرار الأخلاقي، فإن نتائج البحوث التي تركز على أحد المستويين دون الآخر يجب أن تُستكمل بدراسات تتناول النوعين معًا (١٣٢).

إنّ بناء ميثاق فلسفي لأخلاقيات الوظائف العامة لا يكتمل من دون تحديد الأساس القيمي الذي يوجّه السلوك الإنساني داخل المؤسسات، وهو ما يجعل المسؤولية الأخلاقية محورًا جوهريًا في هذا البناء. فالأخلاق لا تُفهم هنا باعتبارها مجرد مجموعة من القواعد السلوكية، بل بوصفها منظومة من الفضائل الإنسانية التي تمنح الفعل الإداري روحه ومعناه.

١- المسؤولية الأخلاقية (أخلاقيات الفضيلة في السياق المعاصر):

تُعَدّ أخلاقيات الفضيلة إطارًا أخلاقيًا يركّز على تنمية الطابع الأخلاقي والفضائل بوصفها الأساس للحكم الأخلاقي والسلوك القويم. وقد جرى توظيف هذا الإطار في عصورنا الحديثة في مجالات متعددة مثل الأعمال، والرعاية الصحية، والسياسة، والتكنولوجيا. وفيما يلي عرض موجز لتجليات أخلاقيات الفضيلة في هذه المجالات:

١- أخلاقيات الأعمال:

في مجال الأعمال، تركز أخلاقيات الفضيلة على تنمية القيادة الأخلاقية وبناء ثقافة مؤسسية تقوم على القيم والمبادئ الأخلاقية. ويُطلب من القادة أن يتحلّوا بصفات مثل الصدق، والنزاهة، والعدالة، والتعاطف، لما لهذه الفضائل من أثر في اتخاذ القرارات وبناء الثقة مع الموظفين والعملاء وأصحاب المصلحة. وتُعدّ الشركة التي تتبنى هذا النهج الأخلاقي هي تلك التي تُوازن بين الربحية من جهة، ورفاه الموظفين، والاستدامة البيئية، والمسؤولية الاجتماعية من جهة أخرى.

2- أخلاقيات الرعاية الصحية:

تلعب أخلاقيات الفضيلة دورًا محوريًا في توجيه سلوك العاملين في القطاع الصحي. إذ يُشجَّع الأطباء والممرضون على تنمية فضائل مثل الرحمة، والتعاطف، والنزاهة، واحترام استقلالية المريض. ويُبرز هذا النهج أهمية العلاقة الإنسانية القائمة على الثقة والرعاية بين مقدم الخدمة والمريض، بوصفها شرطًا جوهريًا لتقديم علاج أخلاقي وفعّال.

3- الأخلاقيات السياسية:

تُقدّم أخلاقيات الفضيلة منظورًا مميزًا للقيادة السياسية ولعملية الحكم، من خلال إبراز فضائل مثل العدالة، والصدق، والحكمة العملية، والشجاعة. ويُحثّ السياسيون على تقديم الصالح العام على المصلحة الشخصية، وعلى التزام النزاهة الأخلاقية في أداء مسؤولياتهم تجاه الشعب. ويركّز هذا المنهج على أهمية الطابع الأخلاقي للسياسي ودوره في توجيه القرارات والسياسات العامة.

4- الأخلاقيات التكنولوجية:

مع التطور المتسارع للتكنولوجيا، أصبحت أخلاقيات الفضيلة ذات أهمية متزايدة في معالجة القضايا الأخلاقية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، والخصوصية، وأمن البيانات، والرفاه الرقمي. ويدعو الفلاسفة إلى تطوير التكنولوجيا واستخدامها بطريقة تعزز الكرامة الإنسانية والسلوك الأخلاقي. ويُشجَّع المصممون والمبرمجون على التفكير في العواقب الأخلاقية لابتكاراتهم، والسعي لدمج قيم مثل الشفافية، والمسؤولية، واحترام الإنسان في منتجاتهم التقنية (١٣٣).

وفي الظروف المعاصرة، تُعدّ أخلاقيات الفضيلة منهجًا شاملًا يتمحور حول الطابع الأخلاقي للفرد في عملية اتخاذ القرارات الأخلاقية. فهي تركّز على تنمية الفضائل الأخلاقية وتكوين العادات السلوكية الفاضلة التي تُوجّه الأفراد والمؤسسات نحو حياة الخير والازدهار المجتمعي. ومع ذلك، من الضروري الإقرار بأن تطبيق أخلاقيات الفضيلة قد يواجه تحديات معقدة وعوامل دقيقة تتطلّب حوارًا مستمرًا وتأملًا عميقًا من أجل التعامل السليم مع القضايا الأخلاقية المعاصرة (١٣٤).

وفي ضوء ما تقدّم عن أخلاقيات الفضيلة بوصفها الإطار القيمي للمسؤولية الأخلاقية، يبرز العقل العملي باعتباره الأداة التي تُترجِم القيم إلى أفعال، والفضائل إلى ممارسات مهنية ملموسة. فالأخلاق ليست مجرد مبادئ نظرية، بل مهارة مكتسبة تُمارَس ضمن سياق عملي واقعي يقتضي حكمًا رشيدًا وقدرة على الموازنة بين القيم المتعارضة. ومن ثمّ، فإنّ الفضيلة لا تكتمل إلا حين تتجلّى في العمل الحِرفي أو المهني المتقن الذي يجمع بين الكفاءة التقنية والحكمة الأخلاقية.

٢- العقل العملي والمهارة:

في وقتنا الحالي، عندما نلتقي بما يُسمّى «السبّاكين المحترفين» أو «مندوبي التأمين على الحياة المحترفين» وغيرهم ممن يدّعون الاحتراف، يصبح من الصعب تحديد معنى كلمة "محترف" بدقة. عمومًا، يقدم العديد من الباحثين والكتّاب ثلاثة تعريفات بسيطة لهذا المفهوم:

1- ما يتعلق بعمل يتطلب تعليمًا أو تدريبًا أو مهارة خاصة.

2- ما يُنجز أو يُقدَّم من قِبل شخص يعمل في مهنة محددة.

٣- ما يُمارس مقابل أجر في مجال رياضي أو نشاط معين (١٣٥).

وباختصار، يُعرف المحترف بأنه الشخص الذي يلتزم بالمعايير التقنية والأخلاقية لمهنته. غير أن مجرد الإعلان عن الذات بوصفها "محترفة" دون تقديم أداء فعلي متميّز يؤدي إلى تغير نظرة الجمهور وتآكل الثقة الممنوحة عادة لهذه الفئة المهنية. لقد كان جوهر الأخلاق في مجال الرعاية الصحية دائمًا وضع مصلحة المريض أو الصالح العام في المقام الأول، بينما وضعت الأخلاق في عالم الأعمال تاريخيًا تحقيق الربح في المرتبة الأولى. وحتى الملاحظات العابرة تكشف عن محاولات لتبرير دمج أخلاقيات الرعاية الصحية مع أخلاقيات الأعمال، أي السعي للتوفيق بين منطق المنفعة العامة ومنطق الربح الخاص (١٣٦).

وبعد تناول دور العقل العملي في توجيه السلوك المهني الفردي، تتسع دائرة النقاش لتشمل المستوى المؤسسي، حيث تصبح العدالة المؤسسية شرطًا أساسيًا لترسيخ الأخلاق في بيئة العمل وضمان اتساق القيم بين الفرد والمنظمة.

٣- العدالة المؤسسية:

في الغالب، يفضّل أصحاب العمل توظيف الأشخاص الذين يتحلّون بأخلاقيات مهنية راسخة، كما يميلون إلى الاحتفاظ بهم وترقيتهم. وتشير الدراسات إلى أن الأخلاقيات المهنية تُعدّ عنصرًا أساسيًا في عالم الأعمال. يرى هويفيك أن على المديرين التعامل مع ازدواجية الولاء لدى الموظفين الذين يعتبرون أنفسهم أعضاءً في المهنة وفي المنظمة في الوقت نفسه، مؤكدًا أن بناء قاعدة أخلاقية مستدامة أمر حاسم لاتخاذ قرارات تجارية رشيدة في المستقبل.

وقد وجد سروكا أن الشركات العاملة في مجالات الأدوية والتبغ والكحول في بولندا وجمهورية التشيك تُضمّن مبادئ الأخلاقيات في أنشطتها التشغيلية، معتبرةً الأخلاق عنصرًا جوهريًا في نجاح الشركات الحديثة وربحيتها. كما لاحظ أن معظم مديري المشاريع والمهندسين المعماريين والمقاولين في قطاع البناء يلتزمون بميثاق مهني للأخلاقيات، ويعتبرون الممارسة الأخلاقية السليمة هدفًا تنظيميًا رئيسيًا.

ويشير شفاب إلى أن الالتزام بالأخلاق قد يكون مكلفًا أحيانًا، إلا أن الحاجة إلى وجود قوانين وأنظمة واسعة النطاق لضبط السلوك تدلّ على أن السعي نحو الالتزام بالأخلاق يظلّ جديرًا بالاهتمام. وفي هذا السياق، يقدّم موراهان توجيهات للشباب المهنيين لمساعدتهم على تطوير عادات سلوكية أخلاقية مثالية، والتعامل مع السلوك غير الأخلاقي عند مواجهته في بيئة العمل. ويُعدّ الفهم العميق لمفاهيم الأخلاق وتبعات السلوك غير الأخلاقي في مجال الأعمال أمرًا ضروريًا للمهنيين الشباب في أماكن العمل الحديثة.

كما أشار مارجيريتا وبراكّيني إلى أن المؤسسات يمكنها تحقيق بيئة عمل أخلاقية متوازنة بين رأس المال ورفاه العاملين من خلال توظيف تقنيات الثورة الصناعية الرابعة بمنهج يتمحور حول الإنسان، حيث تعمل خطوط التجميع في هذا السياق على أساس تفاعل اجتماعي- تقني يجمع بين التكنولوجيا والعاملين (١٣٧).

إنّ منطق العدالة المؤسسية يقود بطبيعته إلى البحث في الأسس الفلسفية للقوانين التي تنظم العمل، إذ لا يمكن ترسيخ الممارسات الأخلاقية داخل المؤسسات من دون إطار قانوني يستند إلى قيم فلسفية واضحة. فالقانون، في هذا السياق، لا يعبّر فقط عن قواعد إلزامية للسلوك، بل عن تصوّر معياري للعدالة يحدّد علاقة الفرد بالمجتمع ويضمن كرامته داخل بيئة العمل.

٤- الأسس الفلسفية لقانون العمل:

تُعدّ الأسس الفلسفية لقانون العمل مجالًا ناشئًا ضمن البحث الأكاديمي. فقد تناولت بعض الدراسات المنعزلة، التي انخرطت في الفكر الفلسفي، جوانب متفرّقة من قانون العمل، مثل الفصل من العمل، والحدّ الأدنى القانوني للأجور، وحرية تكوين الجمعيات، والاعتراف بالنقابات العمالية لأغراض المفاوضة الجماعية، وحقّ العمل. وتهدف هذه الدراسات إلى بلورة منظور فلسفي شامل يغطي موضوع قانون العمل برمّته، إذ يقوم جوهر هذا المنظور على تحليل الأفكار والقيم والمبادئ الأخلاقية والسياسية التي تشكّل أساس التصورات المتعلقة بأغراض ونطاق هذا الفرع القانوني. ويشتمل ذلك على إضاءة هذه الأفكار والقيم والمبادئ التأسيسية وتحليلها نقديًا من حيث معناها وتطبيقها وترابطها، والكشف عن المبادئ والمثل الأخلاقية التي تمثّل الأساس أو الافتراضات التي تستند إليها الرؤى المختلفة حول أهداف قانون العمل وغاياته، ما يمنح فرصة لبناء رؤية فلسفية واسعة النطاق ومتعدّدة الاتجاهات حول أسس هذا القانون (١٣٨).

ينطوي قانون العمل على مجموعة واسعة من المفاهيم غير المحددة، والتي غالبًا ما تكون موضع نزاع. ويتجلى ذلك عند دراسة حقوق العمل المصنّفة كحقوق إنسان، بما في ذلك قانون حقوق الإنسان بشكل عام. على سبيل المثال، الحق في العمل؛ إذ تنص المادة "24" من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه: "يحق لكل شخص العمل، والاختيار الحر للعمل، وظروف عمل عادلة ومناسبة، والحماية من البطالة." فهل يعني هذا أن لكل شخص الحق في العمل الذي يختاره؟ أم أن لكل شخص الحق في العمل غير الاستغلالي؟ وقد حاولت بعض الدراسات استكشاف معنى هذا الحق، أحيانًا بالاستعانة بأفكار فلسفية مثل تحقيق الذات من خلال العمل. كما نوقشت قضية الحق في الراحة والفراغ، بما في ذلك العطلات المدفوعة، حيث يرى بعض الباحثين أنه لا ينتمي إلى قائمة حقوق الإنسان، بينما يعتقد آخرون أن إنكار هذا الحق يشكّل انتهاكًا لكرامة الإنسان (١٣٩).

أما الحق في "الأجر العادل والمناسب"، فقد ورد في المادة "33" من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "يحق لكل من يعمل الحصول على أجر عادل ومناسب يضمن له ولأسرته حياة كريمة، ويُستكمل، إذا لزم الأمر، بوسائل أخرى للحماية الاجتماعية." فكيف نفهم مفهوم الأجر العادل والمناسب هذا؟ هل يعني فقط أن يتقاضى العمال الأجر السائد في السوق مقابل عملهم؟ أم أن الإشارة إلى "حياة كريمة" توجب أن يحصلوا على أجر معيشي يغطي الحد الأدنى للاحتياجات، حتى لو تجاوز الأجر السائد في السوق للوظيفة؟ أم أن المبدأ يقتصر على أن تكمل الدولة الدخل المكتسب عندما ينخفض عن خط الفقر للأسرة؟ كان فريدريك إنجلز يرى أن المطالبة بأجر عادل ليست سوى هراء، وأنها لا تعدو كونها أجر فقر يحدده السوق. ومع ذلك، يمكن إعطاء معنى أكثر تحديدًا ومبدئيًا لفكرة الأجر العادل، من خلال تطوير مفهوم متماسك يميز بين الأجر العادل والاستغلال، وهو ما يثير بالضرورة نقاشًا حول تعريف الاستغلال نفسه (١٤٠).

ومن هذا المنطلق، يمكن اقتراح مجموعة من التوصيات العملية التي تُسهم في تعزيز الممارسات المهنية وتطويرها، من أبرزها:

١- تعزيز برامج التعليم والتدريب المستمر لضمان اطلاع المهنيين الدائم على أحدث المعارف والتقنيات في مجالاتهم.

٢- إرساء معايير واضحة للكفاءة والأخلاق المهنية، والعمل على تحديثها بانتظام بما يتوافق مع التطورات العلمية والمجتمعية.

٣- تفعيل آليات الترخيص والاعتماد المهني لضمان جودة الأداء ومصداقية الممارسين أمام الجمهور.

٤- تشجيع البحث العلمي والتعاون المهني بوصفهما وسيلتين لتطوير المهنة وإغناء المعرفة المشتركة.

٥- ترسيخ روح الخدمة العامة والمسؤولية الاجتماعية باعتبارها جوهر الاحتراف وأساس الثقة بين المهنة والمجتمع.

٦- دعم الهيئات المهنية والمؤسسات التنظيمية للقيام بدورها في الإشراف والمساءلة، ونشر ثقافة النزاهة والالتزام.

٧- تعزيز الوعي المهني لدى الممارسين الجدد بما يتعلق بقيم المهنة وأخلاقياتها وأهميتها في خدمة الصالح العام (١٤١).

تمثل هذه التوصيات إطارًا توجيهيًا يهدف إلى تطوير بيئة مهنية تقوم على الكفاءة والنزاهة والتعلم المستمر، بما يضمن تقدّم المهنة وتعزيز دورها المؤثر في المجتمع. وإنّ تطوير الممارسات المهنية وتعزيز بيئة عمل قائمة على الكفاءة والنزاهة لا يكتمل من دون بنية مؤسسية تضمن المشاركة والمساءلة، إذ تمثل هذه الأخيرة الركيزة الأساسية لاستدامة الأخلاق في العمل العام. فالأخلاق لا تُترجم إلى سلوك واقعي إلا حين توجد منظومة تُمكّن من محاسبة المسؤولين ومشاركة المواطنين في مراقبة أداء المؤسسات.

٥- المشاركة والمساءلة:

يُعَدّ إنشاء سلطة قضائية مستقلة، تتمتّع بمؤسسات فعّالة للمساءلة مثل نظام التدقيق الداخلي، ولجان التحقيق، ومؤسسة أمين المظالم، من العوامل الأساسية لتهيئة بيئة مواتية لقطاع عام أخلاقي. وتشمل الاستقلالية في هذا السياق أن يخضع رؤساء هذه المؤسسات لإجراءات تعيين وعزل خاصة، بعيدًا عن أي تأثيرات سياسية، وأن تتمتّع إدارتها للموارد البشرية والمالية بدرجة كافية من الاستقلال.

ومع ذلك، تشير الأدبيات إلى نقطة ضعف رئيسية في عمل هذه المؤسسات، تتمثّل في تركيزها المفرط على التدقيق المالي وتقييم الأداء، مقارنة بالاهتمام المحدود بدورها في التحقيق في انتهاكات النزاهة. ومن بين المتطلبات الأساسية التي يجب أن يضمّها الإطار القانوني في هذا المجال ما يلي:

1- سلطة قضائية مستقلة وفعّالة؛

2- نيابة عامة مستقلة؛

3- هيئات رقابة وتنفيذ فعّالة، مثل الشرطة؛

4- آليات سليمة لتلقّي الشكاوى وسبل الطعن (١٤٢).

٦- تفعيل الأخلاق في السياسات العامة من منظور فلسفي

في عالمنا المعقّد والمتشابك اليوم، لا يمكن المبالغة في أهمية الأخلاقيات المهنية، فهي تُعدّ الأساس الذي يوجّه المهنيين للتصرّف بمسؤولية وأمانة، بما يخدم مصالح عملائهم والجمهور على حدّ سواء. كما تشكّل هذه الأخلاقيات قاعدة لبيئة مهنية وإدارية سليمة تقوم على الثقة، ما يعود بالنفع على الأفراد والمؤسسات والمجتمع ككل. وتظلّ الأخلاقيات المهنية ذات أهمية جوهرية في عصرنا الحالي للأسباب التالية:

١- الثقة والمصداقية: تساهم الأخلاقيات المهنية في بناء الثقة بين المهنيين وعملائهم أو الجمهور، والحفاظ عليها. فعندما يثق الناس بأن المهنيين يتصرفون بنزاهة وكفاءة، يكونون أكثر استعدادًا للتعامل معهم في الخدمات أو المعاملات المهنية.

٢- حماية المصلحة العامة: تؤثر العديد من المهن مباشرةً في رفاه الأفراد وسلامة المجتمع. وتُسهم المعايير الأخلاقية في حماية المصلحة العامة، فعلى سبيل المثال، يلتزم الأطباء بالمعايير الأخلاقية لضمان سلامة المرضى، كما يتعين على المهندسين الالتزام بالإرشادات الأخلاقية لضمان أمان البنية التحتية.

٣- المساءلة: توفّر الأخلاقيات المهنية إطارًا يُلزم المهنيين بالمساءلة عن أفعالهم وقراراتهم، ما يضمن محاسبتهم على أي سوء سلوك أو إهمال، ويعزّز الانضباط والالتزام في العمل المهني.

٤- تجنّب تضارب المصالح: تُوجّه المبادئ الأخلاقية المهنيين في إدارة تضارب المصالح والإفصاح عنها، وهو أمر بالغ الأهمية في المهن التي قد تؤدي فيها المصالح الشخصية إلى الإخلال بواجب المهني تجاه عملائه أو الصالح العام.

٥- الامتثال القانوني والتنظيمي: يساعد الالتزام بالأخلاقيات المهنية المهنيين على الامتثال للقوانين واللوائح التنظيمية، ما يقلّل من خطر التعرض للمساءلة القانونية أو التأديبية.

٦- السمعة المهنية: الحفاظ على معايير أخلاقية عالية ضروري لبناء سمعة مهنية طيبة والحفاظ عليها، إذ إن السمعة المتضرّرة قد تخلّف آثارًا طويلة الأمد على فرص العمل والثقة المهنية.

٧- القدرة على التكيّف مع المتغيرات: مع تطوّر المجتمع وتقدّم التكنولوجيا، تظهر قضايا أخلاقية جديدة. وتوفّر الأخلاقيات المهنية إطارًا لمعالجة هذه المسائل بمرونة مع الحفاظ على المبادئ الجوهرية.

٨- المسؤولية الاجتماعية: تؤثر المهن في المجتمع والبيئة على نطاق واسع، وتسهم الاعتبارات الأخلاقية في مساعدة المهنيين على اتخاذ قرارات تراعي الصالح الاجتماعي والبيئي العام.

٩- الإشباع الشخصي والرفاه: يحقّق الالتزام بالأخلاقيات المهنية شعورًا بالرضا والمعنى، إذ يجد المهني في سلوكه الأخلاقي مصدرًا للرضا الذاتي والمساهمة الإيجابية في خدمة المجتمع (١٤٣).

القيم هي المعتقدات الضمنية التي تشكّل الأساس للسلوك الأخلاقي، أي للممارسات التي يُنظر إليها في المجتمع على أنها تصرفات صحيحة وسليمة. ومن هذا المنطلق، ينبغي إدراك الأهمية الجوهرية للقيم التالية، سواء على الصعيد الشخصي أو المهني، إذ تمثل الركيزة الأساسية لأخلاقيات المهنة وممارستها بمسؤولية ونزاهة:

١- جودة الحياة: أن يشعر الأفراد بالرضا عن تجاربهم الحياتية.

٢- الصحة، والقدرات الإنسانية، والتمكين، والنمو، والتميّز: أن يتمتع الأفراد بالصحة والوعي بقدراتهم الكامنة، وأن يسعوا إلى تحقيقها وتفعيلها في حياتهم الفردية والجماعية.

٣- الحرية والمسؤولية: أن يتمتع الأفراد بالحرية في الاختيار، مقترنة بالمسؤولية في ممارسة هذه الحرية.

٤- العدالة: أن يعيش الأفراد في مجتمع تتحقق فيه نتائج عادلة وصحيحة للجميع دون تمييز.

٥- الكرامة والنزاهة والحقوق الأساسية: الاعتراف بالقيمة الجوهرية والكرامة الإنسانية والحقوق الأصيلة لكل فرد ومؤسسة ومجتمع.

٦- روح التعاون والمصلحة المشتركة: أن يعمل الأفراد بروح المشاركة لتحقيق نتائج إيجابية تعود بالنفع العام.

٧- الأصالة والانفتاح في العلاقات: التحلّي بالصدق والشفافية في التعامل الإنساني.

٨- الفاعلية والكفاءة والاتساق: السعي لتحقيق أفضل النتائج بأقل الموارد، ضمن تناغم بين الأهداف الفردية والعامة.

٩- النظرة الشمولية والنظامية: فهم السلوك الإنساني في إطار النظم الكلية المتداخلة، وتقدير المصالح المتنوعة للأطراف المختلفة بإنصاف.

١٠- المشاركة الديمقراطية واتخاذ القرار الجماعي: تشجيع المشاركة الواسعة في إدارة شؤون المجتمع واتخاذ القرارات على نحوٍ يضمن العدالة والتمثيل المتوازن (١٤٤).

لذلك، يجب الالتزام بما يلي:

أ- احترام حقوق الإنسان والتعامل بلُطفٍ ولباقة:

1- الحقوق الديمقراطية: يحق لموظف الخدمة العامة أن يكون عضوًا في أي حزب سياسي، وأن يُدلي بصوته وفقًا لمعتقداته، سواء في الانتخابات الحزبية أو العامة.

٢- الدين: يجوز لموظف الخدمة العامة الانتماء لأي طائفة دينية، شريطة ألا يخالف القوانين النافذة. ومع ذلك، وبما أن الحكومة لا تتبنّى دينًا رسميًا، يُمنع الترويج للمعتقدات الدينية داخل مكاتب الخدمة العامة.

٣- عدم التمييز: يجب على موظف الخدمة العامة عدم ممارسة أي شكل من أشكال التمييز أو المضايقة تجاه أي فرد من الجمهور أو زميل في العمل، على أساس النوع، أو القبيلة، أو الدين، أو الجنسية، أو الأصل العرقي، أو الحالة الاجتماعية، أو الإعاقة.

٤- اللباقة في التعامل: ينبغي على موظف الخدمة العامة التعامل بلباقة واحترام مع الرؤساء والزملاء، ومع جميع المواطنين، وخصوصًا العملاء المتلقين للخدمة. وإذا طُلِب منه توضيح مسألة أو تقديم توجيه يتعلق بالقوانين أو اللوائح أو الإجراءات، فعليه أن يفعل ذلك بوضوح وسرعة.

٥- احترام الآخرين وخصوصيتهم: يجب على موظف الخدمة العامة احترام حقوق زملائه وصون خصوصيتهم، لا سيما عند التعامل مع المعلومات الشخصية أو الحساسة.(145)

٦- التحرش الجنسي: يجب على موظف الخدمة العامة الامتناع عن إقامة أي علاقات جنسية داخل مكان العمل، وتجنّب جميع أشكال السلوك التي قد تُعدّ تحرشًا جنسيًا.(146)

ب- الانضباط والاجتهاد:

لضمان أداء فعّال، يجب على الموظف العام أداء واجباته باجتهاد وانضباط عالٍ، واستثمار وقته ومهاراته وخبراته لتحقيق الأهداف المنشودة. ومن المتوقع من الموظفين العموميين الالتزام بما يلي:

الانضباط:

١- الالتزام بالقانون، وعدم السماح لأي اعتبارات دينية أو عرقية أو جنسية أو مصالح شخصية أو علاقات خاصة بالتأثير على القرارات.

2- طاعة التعليمات القانونية وتنفيذها بدقة.

٣- أداء المهام المكلّف بها بكفاءة. وإذا رأى الموظف أنه يُطلب منه أداء عمل غير لائق، فعليه إبلاغ رؤسائه بالأمر وفق الإجراءات المعتمدة.

4- الاستعداد للعمل في أي موقع يُكلّف به.

5- الامتناع عن أي سلوك قد يضعف أدائه الوظيفي.

٦- الالتزام بالمواعيد فيما يخص الحضور إلى العمل أو الاجتماعات الرسمية، وعدم التغيب عن العمل دون إذن أو سبب وجيه.

7- تجنّب استخدام الألفاظ الجارحة أو المسيئة في بيئة العمل.

٨- إنجاز المهام الموكلة ضمن المدة الزمنية المحددة وبالمستوى المطلوب من الجودة.(147)

المظهر العام والنظافة الشخصية:

يجب على الموظف الحفاظ على نظافته الشخصية وارتداء لباسٍ لائق ومحترم يتوافق مع الأعراف المعمول بها في مكان العمل، وفق ما تحدده النشرات والتعليمات الإدارية الخاصة بالموظفين.

الحياة الخاصة:

يتعيّن على الموظف، أثناء تواجده خارج مقر العمل، التصرف في حياته الخاصة بما لا يؤثر سلبًا على أدائه الوظيفي أو يضر بسمعة الخدمة العامة. لذا يُحظر عليه الإفراط في تعاطي الخمور أو استخدام المواد المخدّرة، أو القيام بأي سلوك يُعد غير مقبول اجتماعيًا أو مهنيًا.

السرية والخصوصية:

يجب على الموظف العام عدم إفشاء أي معلومات سرّية أو رسمية اطلع عليها أثناء أداء مهامه، إلا بعد الحصول على الإذن اللازم. كما يُطلب الحفاظ على سرية المعلومات الرسمية حتى بعد مغادرة الخدمة العامة.

الإفصاح عن المعلومات:

١- لا يجوز للموظف العام استخدام أي وثيقة رسمية أو نسخها (سواء كانت رسالة أو مستندًا أو معلومات تم الحصول عليها أثناء أداء المهام) لأغراض شخصية.

٢- لا يجوز للموظفين العموميين التواصل مع وسائل الإعلام بشأن القضايا المتعلقة بالعمل أو سياسات الدولة الرسمية دون إذن مسبق.

٣- تُنشر المعلومات الرسمية لوسائل الإعلام فقط من قبل الموظفين المخوّلين بذلك، ووفق الإجراءات المعتمدة.(148)

ج- تضارب المصالح والنزاهة الشخصية

يُعدّ تجنّب تضارب المصالح من الركائز الجوهرية في بناء الثقة العامة والمحافظة على نزاهة الخدمة العامة. ويتطلّب ذلك من الموظف العام أن يتصرّف دائمًا بما يضمن المصلحة العامة، دون أن يسمح لأي مصالح شخصية أو مالية أو عائلية بأن تؤثّر على قراراته أو أدائه المهني. ويُعدّ تضارب المصالح قائمًا عندما تتداخل المصلحة الخاصة للموظف مع واجباته الرسمية بما قد يؤثر على حياده أو يُضعف من ثقة الجمهور في عدالة القرار.

ومن أبرز القواعد الواجبة في هذا الصدد:

١- على الموظف العام الإفصاح عن أي مصلحة مالية أو تجارية أو ارتباط عائلي قد يُحتمل أن يؤثر على نزاهة قراراته.

٢- يُمنع على الموظف قبول أي هدايا أو مكافآت أو امتيازات أو تبرعات أو خدمات من أي جهة قد تكون لها مصلحة في قراراته أو تعاملاته الرسمية.

٣- يُحظر استخدام المعلومات أو الموارد العامة لتحقيق مكاسب شخصية أو لخدمة أطراف خارجية.

٤- يتوجّب على الموظف الامتناع عن المشاركة في أي قرار أو معاملة يكون له فيها مصلحة مباشرة أو غير مباشرة.

٥- في حال وجود شك في تضارب المصالح، يجب على الموظف إحالة المسألة إلى جهة الإشراف أو لجنة الأخلاقيات للنظر فيها واتخاذ القرار المناسب.

إن الالتزام بهذه القواعد لا يحمي فقط سمعة الموظف ونزاهته الشخصية، بل يعزّز كذلك ثقة المواطنين في حياد المؤسسات العامة وعدالة أدائها.(149)

ج- العمل الجماعي

وإدراكًا لأهمية التعاون في تعزيز كفاءة الأداء داخل مؤسسات الخدمة العامة، يسعى موظفو الخدمة العامة إلى ترسيخ روح العمل الجماعي من خلال تقديم الدعم والمساندة لزملائهم كلما دعت الحاجة. فالعمل الجماعي لا يتحقق إلا في ظلّ بيئة يسودها الاحترام المتبادل، والتنسيق الفعّال، والإدراك المشترك للأهداف العامة. ويُحقَّق العمل الجماعي عندما يلتزم الموظفون بما يلي:

1- تقديم تعليمات واضحة وغير مشوّهة.

٢- إعطاء الاهتمام الواجب والاعتبار المناسب للآراء الرسمية المقدمة من الزملاء أو المرؤوسين.

٣- التأكد من أن المرؤوسين يفهمون بوضوح نطاق عملهم وتشجيعهم على تطوير مهاراتهم وكفاءتهم.

٤- منح التقدير للموظف صاحب الأداء المتميز وعدم السعي لأخذ الفضل الشخصي على حسابه.

٥- تجنّب الأفعال أو الكلمات الخبيثة التي تهدف إلى السخرية من المرؤوسين أو الرؤساء.

٦- تقديم تقارير عن المرؤوسين بعدل وموضوعية وبدون أي خوف أو تحيّز.(149)

د- السعي نحو التميّز في الخدمة

ولأن الخدمة العامة تمثل واجهة الدولة ومظهر التزامها تجاه مواطنيها، فإنها تتطلّب من موظفيها السعي الدائم نحو التميّز في الأداء، والإخلاص في تقديم الخدمات بأعلى معايير الجودة والمهنية. ومن ثم، يجب على موظفي الخدمة العامة الالتزام بما يلي:

1- السعي لتحقيق أعلى معايير الأداء.

٢- إذا كان الموظف عضوًا في هيئة مهنية (مثل الأطباء، المعلمون، الصيادلة، المهندسون، المحامون، إلخ)، فعليه الالتزام بمدوّنة السلوك المهني الخاصة بتلك الهيئة.

٣- السعي لاكتساب المعرفة والمهارات الجديدة بشكل مستمر واستخدامها بفعالية في أداء المهام.

٤- إدراك الحاجة إلى التدريب والسعي للحصول على الدورات التدريبية المناسبة لتعزيز الكفاءة.(15- )

إن هذه المبادئ لا تقتصر على تنظيم سلوك الموظف داخل بيئة العمل فحسب، بل تمتد لتشكّل إطارًا عامًا لترسيخ المسؤولية المؤسسية وحسن الإدارة، وتعزيز الشفافية والمساءلة في جميع المستويات. فالسعي نحو النزاهة والتميّز في الخدمة العامة لا ينفصل عن أداء الواجبات بروح العدالة والحياد السياسي، وبما يضمن ترسيخ الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، وتحقيق المصلحة العامة في أسمى صورها.

المحور السابع: الفلسفة بوصفها مهنة، وبوصفها رسالة

1- هل الفلسفة مهنة أم تخصص؟

لم تكن الفلسفة، في نشأتها الأولى، مهنةً بالمعنى الأكاديمي أو الوظيفي الحديث، بل كانت سعيًا حرًّا نحو الحكمة، يزاوله المفكرون خارج جدران المؤسسات. فالفيلسوف لم يكن دائمًا أستاذًا جامعيًا أو صاحب كرسي أكاديمي، بل كان مفكرًا حرًّا يتحرك بين مجالات العلم والأدب والسياسة والدين.

وقد شهد التاريخ الحديث للفكر الغربي أمثلة بارزة على فلاسفة لم يتخذوا الفلسفة مهنة رسمية، بل عاشوا فلسفتهم ضمن مهن أخرى أو خارج الإطار المؤسسي تمامًا. فـ ديكارت درس القانون وخدم في الجيش قبل أن يتفرغ للتأمل العقلي، وسبينوزا رفض المناصب الأكاديمية ليكسب رزقه من صقل العدسات، وجون لوك عمل طبيبًا ومستشارًا سياسيًا، وبركلي وريد كانا رجلَي دين قبل أن يصيرا فلاسفة، وهيوم اشتغل موظفًا ومربّيًا ثم دبلوماسيًا، وجون ستيوارت ميل كان إداريًا في شركة الهند الشرقية قبل أن يصبح نائبًا في البرلمان، ونيتشه درّس فقه اللغة لا الفلسفة، وفريجه كان رياضيًا قبل أن يؤسس المنطق الحديث، أما بيرس فاشتغل بالعلوم التطبيقية في هيئة المسح الساحلي الأمريكية.لقد كان الفلاسفة هؤلاء يزاولون الفكر كحياة لا كمهنة، ويبرهنون أن الفلسفة ليست مقصورة على قاعات الجامعات، بل هي أسلوب وجود وبحث عن الحقيقة.(151)

أما في العصر الحديث، فقد اتخذت الفلسفة شكلًا مهنيًا مؤسسيًا واضحًا، فأغلب من يُسمَّون "فلاسفة" اليوم هم أساتذة جامعيون أو باحثون أكاديميون يتقاضون رواتبهم لقاء التدريس والبحث. ولم يَعُد من الشائع أن نجد فلاسفة يعيشون خارج الإطار الأكاديمي إلا في حالات نادرة، مثل روجر سكروتن الذي انسحب من الجامعة ليعمل مستقلًا في مراكز الأبحاث والاستشارات الفكرية. وهكذا أصبحت الفلسفة، في الغالب، مهنة أكاديمية أكثر منها نداءً فكريًا أو رسالة وجودية.(152)

2- التمييز بين الفلسفة بوصفها مهنة والفلسفة بوصفها رسالة:

تُشير سوزان هاك (Susan Haack) إلى هذا التحول الجوهري في طبيعة الفلسفة من كونها رسالة إنسانية إلى كونها مهنة أكاديمية، محاولةً أن تميّز بين الموقفين تمييزًا دقيقًا. تقول هاك:

"يتحدد موضوعي في هذا المقام في الفرق بين الفلسفة بوصفها مهنة أكاديمية، والفلسفة بوصفها نداءً أو دعوةً أو رسالة، لا بمعناها الديني، بل بالمعنى الذي نصف به مهنة التمريض مثلًا على أنها رسالة. وهذا التمييز يتجاوز الفارق التقليدي بين المحترف والهاوي، فصاحب الرسالة الفلسفية يواصل التفلسف حتى لو لم يُدفع له أجر لقاء ذلك..."(153)

فالفلسفة، بهذا المعنى، ليست مجرد حرفة فكرية أو نشاط بحثي يُكافأ عليه ماديًا، بل هي استجابة داخلية لنداء الحقيقة. والهاك هنا لا تحتقر "الهاوي"، بل تعيد الاعتبار لفكرة التفلسف الحر الذي لا يُحدَّد بالعائد المهني، بل بالإخلاص للحقيقة والسعي وراء الفهم الأعمق. ومن أبرز من جسّد هذا النموذج، كما تقول، تشارلز ساندرز بيرس، الذي واصل إنتاجه الفلسفي الكبير رغم فقره وتهميشه الأكاديمي.

غير أن هاك تلفت النظر إلى أن الفيلسوف قد يكون، في حالات نادرة، جامعًا بين الأمرين: أن يكون الفلسفة بالنسبة إليه مهنةً ورسالةً في آنٍ واحد. غير أن هذا الوضع يولّد، كما تقول، توترًا بين قيمٍ متعارضة؛ فالتقدّم الفلسفي الحقيقي يتطلب شجاعة فكرية وصبرًا وجوديًا على الخطأ والصواب، بينما النجاح المهني الأكاديمي يعتمد على الامتثال للمعايير المؤسسية والقياسات الشكلية للإنجاز. تقول هاك:

"الطموح الجوهري للفيلسوف هو اقتحام حصن المعرفة، أو على الأقل أن يكون أحد الجثث التي تتسلّق فوقها الأجيال اللاحقة في طريقها إلى الحقيقة... أما النجاح في المهنة الأكاديمية فله طموحات أخرى مختلفة تمامًا."(154)

إن الفيلسوف المهني قد ينجح في حقل التدريس والنشر والترقي الوظيفي، لكنه ليس بالضرورة ساعيًا وراء الحقيقة بالمعنى العميق الذي قصدته الفلسفة الكلاسيكية. أما من يرى الفلسفة رسالةً، فهو يخاطر أحيانًا بأن يُهمَّش أو يُخطئ الطريق، لكنه يظل أمينًا لجوهر التفلسف بوصفه بحثًا وجوديًا لا وظيفةً مؤسسية.

وتوضح هاك أن هذا التمييز لا يعني أن أصحاب الرسالة أكثر نفعًا للفكر من أصحاب المهنة، ولا العكس، إذ قد يُنتج الفيلسوف الأكاديمي فكرةً عظيمة بفضل انضباطه المنهجي، في حين قد يضيع الفيلسوف الحر في متاهة التأملات غير المثمرة. تقول:"حتى أكثر الفلاسفة إخلاصًا قد يُضيعون وقتهم في طرقٍ مسدودة، في حين قد يُصيب أكثر المحترفين برودًا فكرةً بالغة الأهمية."(155)

غير أن المعنى الأعمق الذي تقترحه هاك هو أن قيم التفلسف الأصيلة — البحث عن الحقيقة، الصدق الفكري، الجرأة في التساؤل — قد تُصاب بالوهن حين تُختزل الفلسفة إلى مجرد مهنة أكاديمية. فـ"الطبيعة الفلسفية"، كما قال أفلاطون، قابلة للفساد إذا وجدت نفسها في بيئة رديئة، أي في بيئة لا تكرّم الحقيقة لذاتها، بل للمنافع والمكانة.

خاتمة

خلال هذا البحث، تمّ استكشاف فلسفة أخلاقيات المهنة في الوظائف العامة من خلال تحليل الأسس الفلسفية، والقيم المهنية، والواجبات الأخلاقية، والعلاقات بين الفرد والمؤسسة، وذلك بهدف تقديم رؤية شاملة تربط النظرية الفلسفية بالتطبيق العملي في السياق الإداري المعاصر. وقد أظهرت الدراسة أن الوظيفة العامة ليست مجرد وظيفة تنظيمية أو دور بيروقراطي، بل هي مسؤولية أخلاقية وإنسانية تتطلب النزاهة، والعدالة، والكفاءة، والشفافية، والالتزام بالقيم التي تضمن حماية الصالح العام.

وأظهرت الفصول المختلفة أن أخلاقيات المهنة ترتكز على ثلاثة مستويات مترابطة: الأخلاق الفردية للموظف، والأخلاق المؤسسية للهيئة العامة، والقيم المجتمعية التي تحكم التفاعل بينهما. كما بيّن البحث أن الفلاسفة الكلاسيكيين والمعاصرِين قدّموا نماذج مهمة لفهم الواجب، والفضيلة العملية، والمسؤولية الاجتماعية، والتي يمكن توظيفها لتوجيه سلوك الموظف العام وتحقيق بيئة عمل مهنية أخلاقية ومتوازنة.

من خلال دراسة القيم المهنية الأساسية مثل الصدق، والأمانة، والعدالة، والخدمة العامة، وتفعيل العقل العملي، والمسؤولية، والمساءلة، تبيّن أن بناء ميثاق فلسفي لأخلاقيات الوظائف العامة يُعتبر خطوة ضرورية لضمان استمرار النزاهة، وتعزيز الثقة بين المواطن والدولة، وتحقيق التوازن بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة. كما أوضحت الدراسة أن الفلسفة بوصفها رسالة تتجاوز كونها مجرد مهنة، فهي تحفّز الموظف على التعامل مع عمله بروح المسؤولية العميقة والالتزام الأخلاقي المستمر، بما يجعل الوظيفة العامة أداة لتحقيق الخير العام وليس مجرد وسيلة للتقاضي أو السلطة.

وفي ضوء ما سبق، يمكن الاستنتاج بأن تعزيز أخلاقيات المهنة في الوظائف العامة يتطلب دمج القيم الفلسفية مع السياسات والإجراءات العملية، وتدريب الموظفين على الالتزام بالقيم المهنية، وبناء نظم مؤسسية داعمة للمساءلة والشفافية، وتشجيع ثقافة العمل الجماعي والسعي نحو التميز. وتشكّل هذه العناصر معًا أساسًا لإرساء بيئة إدارية متوازنة، تسهم في خدمة المجتمع بفعالية، وتضمن حماية الحقوق والمصالح العامة، وتحقق الغاية الجوهرية للوظيفة العامة كرسالة أخلاقية وإنسانية.

***

دكتور ابراهيم طلبه سلكها – أستاذ فلسفة

2- 25

......................

الهوامش

1.  Candidate Guide. CCAANNDDIIDDAATTEE GGUUIIDDEE: Professional Ethics, p. 13.

2.  Ibid., p. 14.

3.  Ibid., p. 15.

4.  Rice, Valerie J., and Jerry R. Duncan. “What Does It Mean to Be a ‘Professional’ ... and What Does It Mean to Be an Ergonomics Professional?” FPE Position Paper: Professionalism, June 2- , 2- - 6, p. 5.

5.  Tapper, Alan, and Stephan Millett. 2- 15. “Revisiting the Concept of a Profession.” Research in Ethical Issues in Organizations 13: 1–18. Emerald Group Publishing Limited, p. 3.

6.  Ibid., pp. 4–5.

7.  Ibid., p. 5.

8.  Rice, Valerie J., and Jerry R. Duncan. Op. cit., p. 3.

9.  Tapper, Alan, and Stephan Millett. Op. cit., p. 3.

1-         Rice, Valerie J., and Jerry R. Duncan. Op. cit., p. 4.

11.   Australian Council of Professions. 2- - 3. “What is a Profession,” [email protected]. Accessed 14/1- /2- 25.

12.   Tapper, Alan, and Stephan Millett. Op. cit., p. 7.

13.   Rice, Valerie J., and Jerry R. Duncan. “What Does It Mean to Be a ‘Professional’ ... and What Does It Mean to Be an Ergonomics Professional?” FPE Position Paper: Professionalism, June 2- , 2- - 6, p. 1.

14.   Ibid., p. 3.

15.   Rice, Valerie J., and Jerry R. Duncan. “What Does It Mean to Be a ‘Professional’ ... and What Does It Mean to Be an Ergonomics Professional?” FPE Position Paper: Professionalism, June 2- , 2- - 6, p. 4.

16.   Joel F. Montezinos. “On a Professional Philosophy of Polygraph,” Polygraph 45, no. 1 (2- 16), pp. 44–46.

17.   Naagarazan, R. S. Professional Ethics and Human Values. New Delhi: New Age International Publishers, 2- - 6, p. 1.

18.   Ibid., p. 2.

19.   Ibid., p. 5.

20 .   Ibid., Preface.

21.   Ibid., 1.

22.   Airaksinen, Timo. The Philosophy of Professional Ethics. In Institutional Issues Involving Ethics and Justice, Vol. I. The Philosophy of Professional Ethics, Encyclopedia of Life Support Systems (EOLSS), p. 1.

23.   Lo- Cit.

24.   Lo- Cit.

25.   Ibid., p. 2.

26.   Elango, B., et al. “Organizational Ethics, Individual Ethics, and Ethical Intentions in International Decision- Making.” Journal of Business Ethics 97, no. 4 (2- 1- ): 543–561. https://doi.org/1- .1- - 7/s1- 551- - 1- - - 524- z, p. 543.

27.   Ibid., p. 454.

28.   Lo- Cit.

29.   Ibid., pp. 454–455.

3- .   Ibid., p. 455.

31.   “An Ethical Study.” International Journal of Creative Research Thoughts (IJCRT) 12, no. 4 (April 2- 24). https://www.ijcrt.org, p. 17- .

32.   Lo- Cit.

33.   Ibid., pp. 17- –171.

34.   Ibid., p. 172.

35.   Ibid., pp. 172–173.

36.   Halper, Edward. “Aristotle’s Political Virtues.” In Proceedings of the Twentieth World Congress of Philosophy, vol. 3, 154–161. The Paideia Archive, 1998. https://doi.org/1- .584- /wcp2- - paideia1998356.

37.   Inamura, K. (2- 23). “Aristotle's political theory as a craft and science in Politics 4–6.” Polis: The Journal for Ancient Greek and Roman Political Thought, 39(3), 553–575. https://doi.org/1- .1163/2- 512996- 1234- 381, p. 4.

38.   Lo- Cit.

39.   Lo- Cit.

4- .   Walschots, Michael. “Kant and the Duty to Act from Duty.” History of Philosophy Quarterly 39, no. 1 (2- 22): 59–75. https://doi.org/1- .54- 6/21521- 26.39.1.- 4, p. 1.

41.   Isserow, Jessica (2- 22). “Doubts about Duty as a Secondary Motive.” Philosophy and Phenomenological Research, 1- 5 (2): 276–298. https://doi.org/1- .1111/phpr.12821, p. 3.

42.   Kasony, Amos Julius, and Thomas Marwa Monchena. “Ethics of Duty and Crime Prevention: Practical Applications of Kantian Philosophy in Tanzania.” International Journal of Social Science and Human Research 8, no. 7 (July 2- 25): [pages if available]. ISSN (print): 2644- - 679. ISSN (online): 2644- - 695, p. 55- 6.

43.   Lo- Cit.

44.   Lo- Cit.

45.   Ibid., p. 55- 7.

46.   Lo- Cit.

47.   Lo- Cit.

48.   Orji, Chidi Paul. "The Ethical Principles of John Rawls as a Tool for Social Justice and Peace in Contemporary Society." Socialscientia Journal 1- , no. 1 (March 2- 25). ISSN 2636- 5979, p. 64.

49.   Lo- Cit.

5- .   Ibid., p. 65.

51.   Lo- Cit.

52.   Ibid., p. 7- .

53.   Putri, Audrey Adyuta, and Elisatris Gultom. “John Rawls' Theory of Justice in the Perspective of Shareholder Rights Protection.” Inovasi: Jurnal Sosial Humaniora dan Pendidikan 4, no. 1 (January 2- 25), p. 295.

54.   Ibid., p. 289.

55.   Lo- Cit.

56.   John Rawls. A Theory of Justice, Revised Edition. Harvard University Press, 1999, p. 54.

57.   Rawls. A Theory of Justice, Revised Edition. Harvard University Press, 1999, pp. 384–386.

58.   Udell, L. “Rawls, Libertarianism, and the Employment Problem.” Philosophy & Public Affairs, Vol. 43, No. 2, 2- 15, p. 173.

59.   Ibid., pp. 176–178.

6- .   Rawls. Justice as Fairness: A Restatement. Harvard University Press, 2- - 1, p. 13- .

61.   Barbara Fried. “The Unwritten Theory of Justice.” Philosophy & Public Affairs, Vol. 41, No. 1, 2- 13, p. 46.

62.   Ibid., pp. 47–49.

63.   Habermas, J. The Theory of Communicative Action, Volume 1: Reason and the Rationalization of Society. Beacon Press, 1984, p. 45.

64.   Ibid., p. 95.

65.   Ibid., pp. 13- –132.

66.   Deflem, Mathieu. “Law in Habermas’s Theory of Communicative Action.” Vniversitas, no. 116, July–Dec. 2- - 8, pp. 267–285. Pontificia Universidad Javeriana, Bogotá, Colombia, p. 17- .

67.   Desmond, E. 2- 18. "Critical Theory and Communicative Action: The Challenge of Legitimation in a World at Risk." In Social Theory and Asian Dialogues: Cultivating Planetary Conversations, edited by A. K. Giri, 399–422. Singapore: Palgrave Macmillan, p. 8.

68.   Ibid., p. 12.

69.   Lawrence E. Blume and David Easley. Rationality, June 2- - 7, p. 1.

7- .   Ibid., pp. 1–2.

71.   Alexandr Soukup et al. “The Concept of Rationality in Neoclassical and Behavioural Economic Theory.” Modern Applied Science; Vol. 9, No. 3; 2- 15, p. 2.

72.   Ibid., p. 3.

73.   Vanberg, Viktor J. 2- - 6. Rationality, Rule- Following and Emotions: On the Economics of Moral Preferences. Papers on Economics and Evolution, No. - 621. Jena: Max Planck Institute of Economics, pp. 1–2.

74.   Ibid., p. 5.

75.   Ibid., p. 9.

76.   Ibid., p. 11.

77.   Sudrajat, A. R. (2- 23, January). “Implementation of Ethics in Public Services Towards Good Governance in the Perspective of Public Administration.” Journal of Social Science, 4(1), 4- –44, p. 4- .

78.   Ibid., p. 41.

79.   Lo- Cit.

8- .   Christoph Demmke & SNE Timo Moilanen. “Effectiveness of Good Governance and Ethics in Central Administration: Evaluating Reform Outcomes in the Context of the Financial Crisis.” European Institute of Public Administration, December 2- 11, p. 5.

81.   Ibid., pp. 5–6.

82.   Ibid., pp. 6–7.

83.   Ibid., p. 1- .

84.   Kumar, Anil. "Importance of Professional Ethics for a Teacher." International Journal of Literacy and Education 2, no. 1 (2- 22): 158–161, p. 158.

85.   Ibid., pp. 158–159.

86.   Victoria, Artur. "Characteristics of a Profession." July 2- 18. https://doi.org/1- .1314- /RG.2.2.36676.32643, p. 1.

87.   Christoph Demmke & SNE Timo Moilanen. Effectiveness of Good Governance and Ethics in Central Administration: Evaluating Reform Outcomes in the Context of the Financial Crisis. European Institute of Public Administration, December 2- 11, p. 23.

88.   Lo- Cit.

89.   Ibid., pp. 23–24.

9- .   Ibid., p. 27.

91.   Milgram, Stanley. “The Perils of Obedience.” Harper’s Magazine 248, no. 1483 (December 1973): 62–77. Abridged and adapted from Obedience to Authority by Stanley Milgram. Copyright 1974 by Stanley Milgram, p. 64.

92.   Freeman, R. Edward, and Andrew C. Wicks. A Note on Obedience to Authority. Darden Case No. UVA- E- - - 7- . Charlottesville, VA: University of Virginia Darden School of Business, 2- - 8, p. 3.

93.   Brassfield, Elizabeth R. Conscience and Its Role in Moral Life. Chapel Hill, 2- 2- , p. iii.

94.   Piet J. M. Verschuren. “The Meaning of Honesty for Research.” Quality & Quantity 37, no. 3 (2- - 3): 257–276. https://doi.org/1- .1- 23/A:1- 2447291- 729, p. 33.

95.   Ibid., pp. 33–34.

96.   La Red Business Network. The Management Principle of Honesty. Revised July 2- 13. https://lared.org/PDF/ENG/Honesty, p. 1.

97.   UN Global Compact Network Germany and Alliance for Integrity. Corporate Integrity: Catalogue of Practices. Berlin: UN Global Compact Network Germany, 2- 2- . https://www.globalcompact.de/fileadmin/user_upload/AfIn_Corporate_Integrity.pdf, p. 6.

98.   Ibid., p. 11.

99.   Šumah, Štefan, et al. “Administrative Corruption.” American Journal of Humanities and Social Sciences Research (AJHSSR) 4, no. 12: 143–149. e- ISSN 2378- 7- 3X, p. 143.

1- - . Lo- Cit.

1- 1.   Šumah, Štefan, et al. “Administrative Corruption.” American Journal of Humanities and Social Sciences Research (AJHSSR) 4, no. 12: 143–149. e- ISSN 2378- 7- 3X, p. 143.

1- 2.   Ibid., p. 144.

1- 3.   Lo- Cit.

1- 4.   Lo- Cit.

1- 5.   Ibid., p. 147.

1- 6.   Ruhollah Akrami and Mehrad Momen. “Combating Corruption in Public Administration, Policy and Governance: a Perspective on Iranian Law.” Iranian Journal of International and Comparative Law, Volume 1, Issue 2, 2- 23, p. 227.

See Also:

  • Christoph Demmke & SNE Timo Moilanen. Effectiveness of Good Governance and Ethics in Central Administration: Evaluating Reform Outcomes in the Context of the Financial Crisis. European Institute of Public Administration, December 2- 11, p. 41.

1- 7.   Thornton, Joe Robert. The Depths of Mediocrity: Eliminating Indifference. Joe Robert Thornton Publishing, 2- 21, p. 12.

1- 8.   Ibid., p. 115.

1- 9.   Ibid., p. 122.

11- .   Ibid., pp. 45–47.

111.   Ibid., p. 63.

112.   Rossouw, Deon, and Leon van Vuuren. Codes of Ethics Handbook. Pretoria: The Ethics Institute, 2- 2- , p. 2.

113.   Rebekah Rousi and Ville Vakkuri. Introduction to Ethics in the Age of Digital Communication. 2- 23, p. 4.

114.   Jorge Ferreira. Interpersonal Relationships in the Contemporary 21st Century Society. London, United Kingdom, p. 1.

115.   Rebekah Rousi and Ville Vakkuri. Introduction to Ethics in the Age of Digital Communication. 2- 23, p. 1.

116.   The United Republic of Tanzania. Code of Ethics and Conduct for the Public Service. Dar es Salaam: The Public Service Office, Government of the United Republic of Tanzania, [n.d.], p. 4.

117.   Rice, Valerie J., and Jerry R. Duncan. “What Does It Mean to Be a ‘Professional’ ... and What Does It Mean to Be an Ergonomics Professional?” FPE Position Paper: Professionalism, June 2- , 2- - 6, p. 1.

118.   Alastair Vincent Campbell and A/Prof Anita Ho. The Philosophy of Professionalism and Professional Ethics. CMEP — 15th Anniversary, SMA News June 2- 15, p. 24.

119.   Ibid., p. 25.

12- .   Loc- Cit.

121.   Loc- Cit.

122.   Gildenhuys, J. S. H. The Philosophy of Public Administration: A Holistic Approach, an Introduction for Undergraduate Students. Stellenbosch: Sun Press, a division of African Sun Media, 2- - 4, pp. 57–58.

123.   Ibid., pp. 67–68.

124.   Ibid., p. 68.

125.   Christoph Demmke & SNE Timo Moilanen. Effectiveness of Good Governance and Ethics in Central Administration: Evaluating Reform Outcomes in the Context of the Financial Crisis. European Institute of Public Administration, December 2- 11, p. 39.

126.   Loc- Cit.

127.   Loc- Cit.

128.   Ibid., p. 4- .

129.   Pourkiani, Masoud. “Evaluation of Professional Ethics Relations and the Level of Implementation of the Policies of the Organization of Natural Resources, Forests, Ranges and Watershed Management of the Country.” Ethics & Society: International Journal of Ethics & Society 4, no. 4 (2- 23): 45–52, pp. 44–45.

13- .   Elango, B., et al. “Organizational Ethics, Individual Ethics, and Ethical Intentions in International Decision- Making.” Journal of Business Ethics 97, no. 4 (2- 1- ): 543–561. https://doi.org/1- .1- - 7/s1- 551- - 1- - - 524- z, p. 543.

131.   Lo- Cit.

132.   “An Ethical Study.” International Journal of Creative Research Thoughts (IJCRT) 12, no. 4 (April 2- 24). https://www.ijcrt.org, pp. 174–175.

133.   Ibid., p. 175.

134.   Charles, M. Arockia, and Dr. Imkumnaro. “Ethics in Professional Life: Implications for Learning, Teaching and Studying.” Journal of Emerging Technologies and Innovative Research (JETIR) 9, no. 9 (September 2- 22). https://www.jetir.org, pp. 133–134.

135.   Ibid., p. 134.

136.   Chen, Che- Fei. “Importance of Professional Ethics for Learning.” International Journal of Application on Economics and Business (IJAEB) 2, no. 2 (2- 24). ISSN 2987- 1972, p. 3725.

137.   Philosophical Foundations of Labour Law, edited by Hugh Collins, Gillian Lester, and Virginia Mantouvalou. Oxford University Press, 2- 18, p. 1.

138.   Ibid., p. 21.

139.   Ibid., p. 12.

14- .   Rice, Valerie J., and Jerry R. Duncan. Op. Cit., p. 8.

141.   Christoph Demmke & SNE Timo Moilanen. Effectiveness of Good Governance and Ethics in Central Administration: Evaluating Reform Outcomes in the Context of the Financial Crisis. European Institute of Public Administration, December 2- 11, pp. 41–42.

142.   Chen, Che- Fei. “Importance of Professional Ethics for Learning.” International Journal of Application on Economics and Business (IJAEB) 2, no. 2 (2- 24). ISSN 2987- 1972, pp. 3724–3725.

143.   Candidate Guide. CCAANNDDIIDDAATTEE GGUUIIDDEE: Professional Ethics, p. 12.

144.   The United Republic of Tanzania. Code of Ethics and Conduct for the Public Service. Dar es Salaam: The Public Service Office, Government of the United Republic of Tanzania, [n.d.], pp. 4–5.

145.   Loc- Cit.

146.   Ibid., pp. 6–7.

147.   Ibid., p. 7.

148.   Ibid., pp. 8–9.

149.   Ibid., p. 9.

15- .   Loc- Cit

151.   Susan Haack. "Philosophy as a Profession, and as a Calling." Syzetesis 8 (2- 21): 33–51, pp. 34–36.

152.   Ibid., pp. 36–37.

153.   Ibid., p. 38.

154.   Lo- Cit.

155.   Ibid., pp. 38–39.

من أجْلِ الوقوف على جديد الاتِّجاهات الأساسيَّة لفلسفة العصر الحديث الأخلاقيَّة لا مَفَرَّ للباحث من التَّعرُّف إلى أبرز ما نطقت به فلسفة الأخلاق ethics السَّابقة لها في العصرين القديم والوسيط باعتبار أنَّ لا رؤية مبتكَرة إلَّا وَلَهَا سياقها الثَّقافيُّ ومقدِّماتها الفكريَّة، ولا تجديد بالقفز فوق التَّاريخ وبالقطيعة التَّامَّة مع الماضي. تتمتَّع الإطيقا القديمة، ومع كُلِّ التَّنوُّع الموسوعيِّ في محتواها والتَّغيُّرات المُهمَّة الَّتِي تعرَّضت لها على امتداد تاريخها الطَّويل، بقدر مُعَيَّن من الوحدة الدَّاخليَّة يجعلها باراديمًا paradigm أخلاقيًّا خاصًّا قُطْبُ رحاه هو الإنسان. ويمكن، على الأقَلِّ، فَرْزُ أفكار أربع تؤلِّف أساسها المشترَك والرَّاسخ: أولها هو القول بأنَّ الأخلاق عمومًا والفضائل خصوصًا هي سمة يمتاز بها الوجود الإنسانيُّ وحده؛ ثانيها- الاعتقاد الثَّابت بقدرة الإنسان الذَّاتيَّة على بلوغ كماله الأخلاقيّ وسعادته القصوى في هذا العالم الفعليِّ؛ ثالثها- القول بوحدة العقل والأخلاق، السَّعادة والفضيلة، الخير والحقيقة، وبوجود علاقة جوهريَّة عميقة بين خاصِّيَّة (مزيَّة) الإنسان وكماله وخيره الأسمى وسعادته القصوى على اعتبار أنَّ الأخلاق هي جملة فضائل الفرد والتَّطوير الأقصى لِمَلَكَاته الذَّاتيَّة وخاصِّيَّته العقليَّة الَّتِي تُمَيِّزَهُ من غيره من الكائنات؛ رابعها- القول بوحدة الإنسان والمدينة-الدَّولة. فالفرد، من وجهة نظر، الوعي القديم هو كائنٌ اجتماعيٌّ (سياسيٌّ، مدنيٌّ) يكتسب هُوِيَتَه الأخلاقيَّة بصفته، وفقط بصفته،  ممثِّلًا لِبِنْيَةٍ سياسيَّة-اجتماعيَّة مُعَيَّنة. هذا فضلًا عن أنَّ الخير الأسمى واحدٌ بالنِّسبة إلى الفرد وإلى المدينة-الدَّولة على حدٍّ سواء، وصلاح كُلِّ واحد منهما شرط صلاح الآخر. فالإنسان الفاضل هو الإنسان المُتَّزِن والمنسجم مع نفسه ومع المدينة والعالم، والمدينة الفاضلة هي المدينة الَّتِي تقوم على أساس أخلاقيّ وتصبو إلى تحقيق غاية أخلاقيَّة، وتوفر لمواطنيها كُلَّ الشُّروط الضَّروريَّة لنيل سعادتهم القصوى. فالدَّولة والسِّياسة وسيلة لا غاية، والأخلاق غاية لا وسيلة. بَيْدَ أنَّ الاعتراف بقيمة التُّراث الإطيقيِّ الإغريقيِّ الثَّمينة وتأثيره الحيويّ المستمر إلى يومنا هذا في جميع المذاهب الأخلاقيَّة ينبغي ألَّا يحجب ما استبطنه من شُبهات. ولَعَلَّ إحدى أخطر هذه الشُّبهات هي شُبهة نفي الأُسُس والمعايير الموضوعيَّة العامَّة للأخلاق. فالمقاربة الَّتِي تَرِدُّ الأخلاق إلى الفضائل وترى فيها هيئةً داخليًّة للنَّفْسِ الإنسانيَّة وظاهرة شخصيَّة-ذاتيَّة، يمكن أنْ تقع بسهولة في أحضان العدميَّة الأخلاقيَّة ethical nihilism إذا ما التبس عليها الحدُّ الدَّقيق الفاصل بين النِّسبيَّة والعدميَّة. وبخلاف الإطيقا القديمة مثَّلت الإطيقا الدِّينيَّة القروسطيَّة التَّطرُّف الآخر باندفاعها بعيدًا في النَّظر إلى الأخلاق وإلزاماتها من منظور المُفَارِق والمتعالي والثَّابت والمطلق. فالتَّصَوُّر اللاهوتيُّ للأخلاق، من جهة التَّأسيس ومن جهة الاستنتاجات المعياريَّة، يتمحوَّر حول فكرة الله، وتتسيَّدَهُ رُوح المركزيَّة-الإلهيَّة، على ما يتجلَّى ذلك في أطروحاته الرَّئيسة الآتية: ا- إنَّ الله هو القُوَّة الخلَّاقة الوحيدة، ومبدأ العالم وغايته. وهو الكائن الكُلِّيُّ القدرة والعلم والخير؛ ب- إنَّ العالم بما فيه الإنسان مجرَّد موضوعٍ للتَّقييم الأخلاقيِّ، وليس مصدرًا للأخلاق؛ ج- إنَّ ما هو خير وحسن، أو شَرٌّ وقبيح هو كذلك، لأنَّ الله وفقط، لأنَّ الله يأمر به أو ينهى عنه، وليس العكس. إذ إنَّ افتراض خلاف ذلك يضعنا أمام بديلين: إمَّا تزويد مفهوم الله بمضامين ومحمولات أخلاقيَّة أو إعطاء فكرة الخير مقامًا إلهيًّا. وفي كلتا الحالتين يبدو اللهُ مُقَيَّدًا بالخير وبالقانون الأخلاقيِّ، ومُلْزَمًا بهما، ما قد يعني، بالتَّالي، وجود معايير أخلاقيَّة خارجيَّة أعلى منه ومستقلَّة عن إرادته الحُرَّة. وَكِلا البديلين، وَفْقًا لهذا التَّصَوُّر، مرفوض لانتقاصهما من الذَّات الإلهيَّة وتَعَارُضهما الفاضح مع النَّظرة إلى الله ككائن مطلق الحُرِّيَّة وخالق لِكُلِّ شيء لا نظير يساميه ولا قريب يدانيه. فالوصايا والأوامر الإلهيَّة ينبغي قبولها والالتزام بها لا لكونها حسنة وصحيحة وإنسانويَّة بذاتها، بَلْ لأنَّها إلهيَّة. فأصلها الإلهيُّ بحدِّ ذاته هو ضمانة مصداقيَّتها ونزاهتها وحُسْنها؛ د- إنَّ فصل الأخلاق عن الله والدِّين، وتجذيرها في الإنسان يفضيان، لا محالة، إلى النِّسبيَّة والذَّاتيَّة والعدميَّة الأخلاقيَّة، ويُشَكِّلان، بالتَّالي، إيذانًا صريحًا بنفي الأخلاق ونَعْيها. ويفترض هذا الموقف أنَّ معنى المفاهيم الأخيرة ومآلها الفعليّ واحد باعتبار أنَّ تربُّع الإنسان على عرش التَّشريع الأخلاقيّ لا بدَّ أنْ يؤدِّي إلى تجريد القيم والأخلاق من كُلِّ أساس ومعيار موضوعيّ وعقلانيّ وثابت وموثوق، لأنَّ ما يحلِّله أو يحرِّمه، يستحسنه أو يستقبحه إنسان ما أو جماعة ما ليس يلزم بالضَّرورة أنْ يحلِّله أو يحرِّمه إنسان أو جماعة أُخرى. فحيث يأمر كُلُّ إنسان وينهى، يحلِّل ويحرِّم ما يشاء ووقتما يشاء وكيفما يشاء طِبْقًا لمقتضيات المصلحة والهوى والانفعال يصير كُلُّ شيء خيرًا وحلالًا وكُلُّ شيء شرًّا وحرامًا، وفي الوقت عينه، لا شيء خير وحلال ولا شيء شرٌّ وحرام. لذا، فإنَّ كُلَّ ما لا يجد أساسه الأنطولوجيّ والإبستيمولوجيّ في الله لا أمان معه ولا مصداقيَّة له ولا يُعَوَّل البتَّة عليه؛ ه- إنَّ المعرفة الأخلاقيَّة الصَّحيحة مستحيلة من دون المعرفة الدِّينيَّة، ما يعني أنَّ للأخيرة أسبقيَّة منطقيَّة ومفهوميَّة على الأُولَى؛ و- إنَّ الوصايا الإلهيَّة مطلقة، أيْ إنَّها صالحة لِكُلِّ زمان ومكان ولِكُلِّ مجتمع وظرف وإنسان؛ ز- إنَّ الإنسان عاجز عجزًا مبدئيًّا عن التَّغَلُّبِ على الخطيئة الأصليَّة والخلاص من الشُّرور والرَّذائل بقواه الذَّاتيَّة الخاصَّة. فليس ذلك متاحًا له من دون تَدَخُّلِ العناية واللُّطْف الإلهيَّين؛ ح- إنَّ بلوغ الإنسان لسعادته الحقيقيَّة القصوى ليس ممكنًا إلَّا في الحياة الأخرويَّة. وعلى الرَّغْمِ من الإسهام الإيجابيِّ للإطيقا اللاهوتيَّة القروسطيَّة في إغناء مفاهيمنا وتصوُّراتنا الأخلاقيَّة بفعل إثارتها لمسائل مهمَّة تتعلَّق بالمعايير الموضوعيَّة للتَّمييز بين الخير والشَّرِّ، وبالمقام الموضوعيِّ للأخلاق، فإنَّها لم تَسْلَم هي الأُخرى من الوقوع في شُبهات شَتَّى، ومن أهَمِّها شُبْهة تجريد الأخلاق من أخصِّ صفاتها المميِّزة لها ألَّا وهي فعاليتها العمليَّة وقابليتها التَّطبيقيَّة. زِدْ على ذلك أنَّ المبدأ الَّذِي يرى في الأخلاق ظاهرةً خارج وفوق شخصيَّة، ويضفي على معاييرها وقواعدها طابَعًا مطلقًا وبُعْدًا غيبيًّا، ويضع مصادر السُّلوك الأخلاقيِّ خارج حدود الوجود الاجتماعيِّ للإنسان هو مبدأ أحاديُّ الجانب كَمَثَلِ المبدأ الَّذِي يحصرها في الهيئة النَّفْسِيَّة للشَّخصيَّة الإنسانيَّة. وبُغْيَة الخروج من تِيه هاتين الشُّبْهتين المتطرِّفتين تسعى إطيقا العصر الحديث إلى فهم الأخلاق كناموس موضوعيّ وكظاهرة ذاتيَّة-شخصيَّة معًا، وذلك عَبْرَ إعادة قراءة تلك الجوانب الَّتِي عولجت في كُلٍّ من فلسفة الأخلاق القديمة والوسيطة، على نحوٍ أحاديٍّ ومنفصل، وصَهْرها في نسقٍ نظريٍّ واحد.

 ومع إطلالة العصر الحديث انعكست فكرة موضوعيَّة الأخلاق كظاهرة وكمعرفة في نظريات العقد الاجتماعيِّ الَّتِي يعود الفضل في صياغة أكثر نُسَخها أصالةً إلى الفيلسوف الإنجليزيّ توماس هوبز (1588 - 1679). لكن شَتَّانَ ما بين موضوعيَّة ترتكز على أساس ماورائيّ سماويّ وموضوعيَّة ترتكز على أساس طبيعيٍّ أرضيٍّ. وإذا كان الفكر الإطيقيّ اللاهوتيّ قد ربط، كما أوضحنا أعلاه، موضوعيَّة المعايير الأخلاقيَّة بالله وحده، ورَدَّ المعرفة الأخلاقيَّة الصَّحيحة إلى المعرفة الدِّينيَّة لا إلى المعرفة النَّظريَّة-العقليَّة، فإنَّ فلاسفة العصر الحديث عمومًا، وفرنسيس بيكون ورينيه ديكارت وغوتفريد لايبنتز خصوصًا، ينظرون إلى المسألة على نحوٍ مغاير جذريًّا. فقد عُرِف عنهم سعيهم إلى تطبيق تلك الرُّؤية الموضوعيَّة ذاتها إلى الأشياء الَّتِي ترسَّخت في العلوم الطَّبيعيَّة على ميدان الأخلاق. وفي ضوء هذه الرُّؤية تسقط مزاعم التَّأسيس الدِّينيّ للأخلاق، ويستعاض عنه بالتَّأسيس العقلانيّ-العلميّ الصَّارم. إذ إنَّ المسألة بالنِّسبة إليهم لم تَعُدْ تكمن في إدراج العالم تحت مفاهيم الخير والشَّرِّ، بَلْ في اشتقاق المفاهيم والتَّصَورات الأخلاقيَّة من العالم الواقعيِّ. لذا، لا يمكن للإطيقا، في رأيهم، أنْ تنفصل عن العلم والفلسفة النَّظريَّة. فهي نفسها تخضع للدِّراسة والبحث بواسطة المناهج العلميَّة وتعتمد على التَّأصيل الفلسفيِّ-النَّظريِّ. وفي هذا السِّياق تسترعي الإنتباه وجهة نظر ديكارت الَّذِي يُشَبِّه العلوم بشجرةٍ جذورها الميتافيزيقا (الفلسفة)، وجذعها الفيزياء، وأغصانها الطِّبّ والميكانيكا والإطيقا الصَّحيحة. وهذه الأخيرة هي رأس الحكمة ودرَّة تاجها وأطيب ثمارها بما تفترضه من معرفة كاملة بالعلوم الأُخرى(1). ومن مِثْلِ هذه النَّظرة الجديدة إلى العلوم وإلى مكانة الإطيقا بينها ينطلق هوبز. فهو يرى أنَّ في مقدور الإطيقا أنْ تكتسب الدِّقَّة والموضوعيَّة العلميَّين بقدر ما تَتَبنَّى المناهج المعتمَدة في الهندسة والفيزياء. وهذا يعني، طبعًا، أنَّ ما ينطبق على العلوم، الطَّبيعيَّة منها والصُّوريَّة، هو تمامًا ما ينطبق على المعرفة الأخلاقيَّة. وما لم تحذو الإطيقا حذو العلوم المذكورة، فإنَّها تحكم على نفسها بالمراوحة في دائرة الوعي السَّاذَج، والمجادلات العقيمة الَّتِي لا تَمُتُّ إلى الحقيقة بأيِّ صِلَةٍ. قصارى القول، إنَّ ميدان الأخلاق قابل للتَّفسير الطَّبيعيِّ والعلميِّ شأنه في ذلك شأن أيِّ مجال آخر من مجالات العالم الواقعيِّ. ومن الواضح أنَّ هوبز مؤمن بقدرة العقل الإنسانيِّ، وباستقلال عن الدِّين، على معرفة النُّظم السِّياسيَّة-الحقوقيَّة الصَّالحة لحياة البشر، وعلى تمييز الحقِّ من الباطل، الخطأ من الصَّواب، وكذلك هو المرجع الأعلى في مسائل الأخلاق. لكن ما هي الأخلاق؟

  تتطابق الأخلاق عند هوبز مع المعايير ذات الأهَمِّيَّة العامَّة. فلا هي ماهيَّة ميتافيزيقيَّة ثابتة ومطلقة، ولا هي ماهيَّة طبيعيَّة، بَلْ تقوم على العقل وتؤلِّف إلى جانب الحقِّ والقانون الشَّرط الضَّروريَّ لانتقال الإنسان من الحالة الطَّبيعيَّة إلى الحالة الاجتماعيَّة، من التَّوحُّش إلى المدنيَّة. وبيان ذلك أنَّ حياة البشر، وَفْقًا لهوبز، في الحالة الطَّبيعيَّة هي امتداد لفطرتهم العدوانيَّة ومرآة تعكس حقيقة ماهيَّتهم الأنانيَّة. وبسبب هذين المَيلين المتجذِّرَين في أعماق طبيعة الإنسان ما كان للحالة الطَّبيعيَّة إلَّا أن تكون شريعة غابٍ قوامها: "الحقُّ الحصريُّ لكُلِّ واحد في امتلاك الأشياء كُلِّها"؛ و"حرب الكُلِّ ضِدُّ الكُلِّ"؛ و"الإنسان ذئب على أخيه الإنسان". ويعزو هوبز ذلك إلى الطَّبيعة الَّتِي غرست الأنانيَّة في جبلة البشر، وخلقتهم، في الوقت نفسه، متساوين في قدراتهم ومَلَكَاتهم النَّفْسِيَّة والجسمانيَّة. وهو الأمر الَّذِي يجعلهم متساوين أيضًا في غاياتهم ومطامحهم(2). لكن هذا الواحد المشترك بين جميع أفراد النَّوع الإنسانيّ هو نَفْسُهُ الَّذِي يُفَرِّق جَمْعَهُم ويُشَتِّت شَمْلَهُمْ. ومعنى ذلك أنَّ هذه الأنانيَّة المقرونة بالمساواة في المَلَكَات والغايات ستدفع، حتمًا، كُلَّ واحد منهم إلى الاستئثار الحصريِّ بِكُلِّ ما يشتهيه وتطاله يداه وتطأه أخامص قدميه، ما يؤدِّي إلى شيوع المنافسة التَّناحريَّة الحادَّة وانعدام الثِّقة في ما بينهم والاحتراب. فالغايات المحكومة برُوح الأنانيَّة الفرديَّة لا تتَّسع ولا يمكن أنْ تتَّسع للجميع. فإذا ما أراد شخصان الشَّيء الواحد عينه ولم يكن في الإمكان إلَّا أنْ ينفرد أحدهما في امتلاكه، فإنَّ النَّتيجة المحتومة المترتبة على ذلك هي استحكام رُوح العداوة بينهما. وإذا كانت الأنانيَّة الفرديَّة المتفلِّتة من كُلِّ قيد ورادع، في رأي هوبز، هي الدَّافع الرَّئيس لسلوك الأفراد ومُحَرِّك الحالة الطَّبيعيَّة وعلَّة وجودها، فإنَّ الحرب الدَّائمة والشَّاملة هي خاصِّيَّتها الجوهريَّة ومَرْجِعُهَا المحتوم. وليست أنانيَّة الطَّبيعة الإنسانيَّة هرطقة فلسفيًّة، بَلْ هي واقعة وحقيقة مُعَاشَة أكيدة، حسبما يرى هوبز. فالحياة اليوميَّة مترعة بالأنانيَّة. وأينما ولَّى الإنسان وجهه فَثَمَّ أنانيَّة تنضح بها علاقات البشر وتتنفَّسها أفعالهم كافَّةً. فنحن، على ما يقول هوبز، نتسلَّح عندما ننطلق في طريق ما، ونوصد الأبواب حين نخلد إلى النَّوم حَتَّى أنَّنا نغلق الخزائن في منازلنا، ألا تعني هذه الأفعال اعترافًا ملموسًا بالأنانيَّة الحيوانيَّة لطبيعة الإنسان؟(3). وتجدر الإشارة إلى أنَّ الاعتراف بالتَّوجُّه الأنانيِّ للسُّلوك الإنسانيِّ كان بالنِّسبة إلى الفكر الأخلاقيِّ البرجوازيِّ التَّقليديِّ بمنزلة البديهة الَّتِي لا يرقى إليها أيُّ شَكٍّ. فَحَتَّى أولئك الفلاسفة الَّذِينَ أحسنوا الظَّنَّ بالإنسان وعَدُّوه كائنًا خيِّرًا ونبيلًا بالفطرة والسَّليقة نعتوا وجوده الواقعيّ بالوجود المشوب والمُلَطَّخ بِلُوثة الأنانيَّة. وبالفعل، قلَّما نجد فيلسوفًا من فلاسفة العصر الحديث، مهما كان موقفه القيميّ من الأنانيَّة، ينكر هذه الواقعة. فقد اعتقد لاروشفوكو أنَّ المصلحة الخاصَّة والأنانيَّة يتكلَّمان كُلَّ اللُّغات ويتقمَّصان أدوار جميع الشَّخصيَّات، بما فيها الشَّخصيَّة العصاميَّة والغيريَّة. فنحن لا نتقرَّب إلى النَّاس حبًّا بالخير لهم، بَلْ طمعًا بالخير الَّذِي نبتغيه لأنفسنا منهم. في حين عدَّ روسو الأنانيَّة مَسْخًا وتشويهًا لطبيعة الفرد الأصليَّة الطَّيِّبة، ونتاجًا لِتَطَوَّرِ العلوم والفنون ولظهور المِلْكِيَّة الخاصَّة واللامساواة. ورأى فيها هلفيتيوس وهولباخ أساس التَّجديد الاجتماعيِّ وقلبه النَّابض. واللافت في هذا السِّياق  أنَّ كانط أيضًا لم يستطع إنكار قُوَّة حضور الدَّوافع الأنانيَّة وتأثيرها في السُّلوك الإنسانيِّ رغم مجاهرته بنقده الجذريِّ ومعاداته لكُلِّ المذاهب الأخلاقيَّة الَّتِي تؤسِّس مُثُل الإنسان وقيمه على المنفعة واللَّذَّة والمصلحة. وقد لا نبالغ إنْ قلنا إنَّ التَّعرية القاسية لأُسُس المجتمع البرجوازيِّ الأخلاقيَّة الَّتِي نجدها في مؤلَّف ماركس وإنجلز "بيان الحزب الشُّيوعيِّ" وغيره من المؤلَّفات، في كثير من جوانبها، ما هي إلَّا استئناف وتطوير لذلك الخطِّ النَّقديّ السَّليم في وصف وتقييم سلوك الأفراد البرجوازيّين الَّذِي أرسى بداياته الأُولَى توماس هوبز.

واستكمالًا للكلام على شِرْعَةِ الحالة الطَّبيعيَّة ومآلاتها يخلص هوبز إلى التَّأكيد أنَّ العمل بها لا يعيق التَّعاون المشترك والتَّكامل المتبادل فحسب، وإنَّمَا يفضي أيضًا إلى هَرْجٍ ومَرْجٍ يطيحان بِكُلِّ الحقوق وفي مقدَّمها الحقُّ في الحياة. إذ إنَّ حالةً كهذه هي حالة لا مَنَاصَ من أنْ يواجه فيها كُلُّ فرد ما صار يُعرَف في الأدبيَّات الأخلاقيَّة بمعضلة السُّجناء Prisoner's dilemma. ومغزى هذه المعضلة هو أنَّه لو فكَّر وعمل كُلُّ فرد على تحقيق خيره الخاصِّ فقط، وبأيِّ وسيلة ممكنة، غير آبه البتَّة بمصالح الآخرين، لارتدَّ ذلك عليه وعليهم وبالًا ونكالًا مُحَقَّقَين، ولحصدوا جميعًا الخسران المُبِين. وكما أنَّ الشَّرَّ المطلق مُمْتَنَع، فكذلك الأنانيَّة المطلقة مُمْتَنَعة بدورها. وكُلٌّ منهما ينفي ذاته بذاته. فالأنانيَّة نفسها وعند أقصى درجات استفحالها تنقلب من قُوَّةٍ جامحة إلى قُوَّةٍ كابحة. فليس بعد التَّناهي في الزِّيادة سوى النُّقصان، وليس بعد القِمَّة سوى الهاوية والانحدار. فالإنسان وإنْ كان يروم التَّملُّك والمجد والغلبة والجاه، إلَّا أنَّه يرغب أيضًا في العيش والبقاء ويخشى الموت والفناء. ولا يستقيم الحَلُّ والمخرَج من هذا المأزق الوجوديِّ القاتل إلَّا بالانصياع للنَّاموس الأساسيِّ للطَّبيعة، والاقتداء بالقانون الكُلِّيِّ لقاعدة السُّلوك الَّذِي اهتدى إليه العقل. ويدعو هذا النَّاموس النَّاسَ إلى السَّعي بِكُلِّ وعي وعزم وصدق في طلب السَّلام والاستقرار، وإلى التَّخلِّي من أجْلهما عن مطمع الحقِّ الأوَّليِّ في كُلِّ الأشياء. فالأخلاق بما هي ارتقاءٌ على الحيوانيَّة وتَجَاوُزٌ للحالة الطَّبيعيَّة لا تُعقل من دون ضبط للسُّلوك وخضوع للقواعد وتقييد للحُرِّيَّات وتهذيب للأهواء والشَّهوات. وهي بهذا المعنى، كما القوانين الحقوقيَّة، تؤلِّف الصِّيغة أو الشَّكل الَّذِي يتنازل الأفراد فيه بموجب عقدٍ اجتماعيٍّ وتَوَافُقٍ عقلانيٍّ عن بعض حقوقهم الأوَّليَّة بغية خلق مقدِّمات السَّلام وتوطيد أواصر الاتِّحاد الاجتماعيِّ والحفاظ عليهما. إذ إنَّه لولا الوفاق والوِئامُ في العِشْرة والعيش لَهلَك الأنامُ. وفي حال التَّوافق العامِّ على ذلك، فإنَّه ينبغي لِكُلِّ واحد أنْ يرضى ويقتنع في علاقته مع الآخرين بالقدر نفسه من الحُرِّيَّةِ الَّذِي يسمح به للآخرين في علاقتهم معه عملًا بالقاعدة الذَّهبيَّة للأخلاق: "لا تفعل بالآخر ما لا تريد منه أنْ يفعله بك"(4). وهذه القاعدة هي المعيار الَّذِي يجيز تحديد ما إذا كان الفعل موافقًا لقانون الطَّبيعة البديهي أم لا. وإذا حصل الاتِّفاق للبشر فلا بدَّ، عندئذ، من تكوين مؤسَّسَة (جهاز، هيئة) عامَّة مستقلَّة ومحايدة تسهر على حمايته وترعى تنفيذه من مُنْطَلَقٍ مفاده أنَّه لا قيمة لعقد ولا ديمومة لحقٍّ لا تعضدهما قُوَّةٌ ولا يحرسهما وازع. وهذه المؤسَّسَة العامَّة هي الدَّولة ويرمز إليها هوبز بالوحش أو التِّنِّين. وهي السُّلْطَة الَّتِي يتنازل لها الأفراد عن جزء من أطماعهم وحُرِّيَّاتهم، ويفوضونها صلاحيات فضِّ النِّزاعات في ما بينهم والدِّفاع عنهم بما لها من بأس شديد يَفُوق قُوَّةَ المتعاقدين فرادى ومجتمعين. ناهيك بكونها صاحبة الحقِّ الحصريِّ في استخدام العنف والمبادرة إلى الحرب كلَّمَا دعت الضَّرورة إلى ذلك. وهكذا، بفضل القانون الأخلاقيِّ والعقد التَّوافقيِّ ونشوء الدَّولة يتمُّ انتقال البشر من الحالة الطَّبيعيَّة إلى الحالة الاجتماعيَّة، ومن الأنانيَّة الفرديَّة المفرطة إلى الأنانيَّة العقلانيَّة المعتدلة، ومن حقِّ القُوَّةِ إلى قُوَّةِ الحقِّ. ويتَّضح مِمَّا سبق أنَّ الأخلاق عند هوبز ترتبط ارتباطًا جدليًّا بالحقِّ والدَّولة والاجتماع. فكُلُّ واحد منهم يستدعي الآخر ويحيل إليه ويؤثِّر فيه. ومع أنَّ الأخلاق، وَفْقًا لفيلسوفنا، هي أصل الدَّولة والاجتماع وشرط إمكانهما، إلَّا أنَّها من جهة وظائفها الأساسيَّة لا تُعقل خارجهما وبمعزل عنهما. فهذان النِّصابان هُمَا، تحديدًا، من يزوِّدنا بمعيار التَّمييز بين الفضيلة والرَّذيلة، بين العدل والظُّلم. وفي الحقيقة، فقد أحدثت هذه المقولة البالغة الأهَمِّيَّة قطيعةً حادًّة مع التَّقاليد السِّياسيَّة والأخلاقيَّة الدِّينيَّة القروسطيَّة. فما عادت الدَّولة والحاكم يستمدان شرعيَّتهما من قوانين الكنيسة والحقِّ الإلهيِّ، بَلْ من الحقِّ الوضعيِّ والعقد التَّوافقيِّ-الاجتماعيِّ. وما عادت مفاهيم الخير والشَّرِّ ماهيَّات كُلِّيَّة فوق إنسانيَّة، بَلْ ضرورة مُلِحَّة محايثة للاجتماع الإنسانيِّ. وعلى وجه العموم، ينظر هوبز إلى الخير والشَّرِّ بعيون أداتيَّة رافضًا القول باستقلاليَّتهما. فَمُسَوِّغ الخير إنَّمَا يكمن في ضرورته لقيام الوحدة الاجتماعيَّة وبقائها. وبالفعل، لقد كان التَّعليلُ العقديُّ-الاجتماعيُّ للأخلاق، المأخوذ في سياق التَّطَوُّر التَّاريخيِّ الملموس، الَّذِي نزع عن المفاهيم الأخلاقيَّة رداء المُطْلَقيَّة ضربًا من ضروب التَّحرُّر من الاضطهاد الرُّوحيِّ الدِّينيّ-الكَنيسيّ، من جهة، وخطوةً متقدِّمًة على درب الانعتاق من أسر الفهم الطَّبيعانيِّ للأخلاق، من جهة أُخرى.

وعلى الرَّغْمِ من اعتراض هوبز على الادِّعاءات القائلة بمطلقيَّة الأخلاق، فإنًّه يعدُّها شرطًا أوَّليًّا وعتبةً مطلقة absolute threshold لوجود المجتمع والدَّولة. وتُشَكِّلُ القوانين الأخلاقيَّة إلى جانب القوانين الحقوقيَّة بالنِّسبة إلى الأفراد الواقعيّين ورغباتهم الحيَّة اليد الخارجيَّة القاهرة والقُوَّة الموحِّدة لهم والمُهَذِّبَة لأهوائهم والكابحة لميولهم العدوانيَّة-الأنانيَّة. وتبرز الأخلاق كمجموعة من المعايير المَدْعُوَّة إلى وضع أفعال الأفراد تحت قاسم مشترَك. وينبغي التَّأكيد أنَّ الوظيفة القمعيَّة للأخلاق لا تندثر بإنجاز سيرورة الخروج من الحالة الطَّبيعيَّة. والأصل في ذلك إنَّمَا مردُّه إلى كون الأخيرة ليست مجرَّد مرحلة عابرة سادت ثُمَّ بادت من مراحل التَّاريخ الإنسانيِّ السَّحيق، بَلْ هي سِمَة جوهريَّة من سِمَات الطَّبيعة الإنسانيَّة مستمرة عَبْرَ الأجيال. ولما كانت طبيعة الإنسان، على ما يرى هوبز، لا تتغيَّر ولا تتبدَّل جوهريًّا، بَلْ تبقى أبد الآبدين طبيعةً أنانيًّة وشريرة، كان مُقَدَّرًا للأخلاق أنْ تبقى، على الدَّوام، قُوَّةً خارجيًّة مُقَيِّدة لِحُرِّيَّةِ الأفراد.

ومع أنَّ القوانين الأخلاقيَّة تملك أساسًا عقلانيًّا ويُقْرُّها العقل، إلَّا أنَّه ينبغي لها لكي تصبح فعَّالة أنْ تترسَّخ في وجدان البشر ومشاعرهم وسلوكهم أيضًا. لذا، فإنَّ البِنْيَة الحقوقيَّة مدعُوَّة عَبْرَ نظام الثَّواب والعقاب إلى تأمين مثل هذا التَّرسيخ، وترجمة القناعات الفكريَّة والأحاسيس الأخلاقيَّة إلى نهج سلوكيٍّ وخُطَّة عمل للأفراد. ذلك أنَّ "سَنَّ القانون يعني تهيئة سبب العدل وفرض الالتزام به"(5). وكذلك "ليس الثَّناء والإدانة عديمَيِ الجدوى، بَلْ إنَّهما كالثَّواب والعقاب يكوِّنان بواسطة القدوة الحسنة وقُوَّة المثال إرادة النَّاس ويوجِّهانها إمَّا إلى الخير وإمَّا إلى الشَّرِّ"(6). فالاعتراف بالمقام الأخلاقيِّ للآليَّة الحكوميَّة-الحقوقيَّة هو الوجه الآخر للسُّمو الأخلاقيِّ عند الفرد الأنانيِّ، وبالعكس. وعلى وجه الإجمال، إنَّ التَّطلُّعات المعياريَّة لهذه النَّظريَّة تصبو إلى ربط الحُرِّيَّة الفرديَّة بالضَّرورة الاجتماعيَّة، وردم الهُوَّةِ الفاصلة بين المصالح الخاصَّة والمصالح الاجتماعيَّة على قاعدة تطوير النِّظام السِّياسيِّ-الحكوميِّ، وإيجاد المبادئ والقوانين العقلانيَّة الَّتِي يمكنها أنْ تشيع التَّناغم والانسجام في عالم الأفراد الأنانيّين الفوضويّ.

  بالطَّبع، يمكن للإجراءات الحقوقيَّة والآليَّات الحكوميَّة، وفي حدود معيَّنة، ضمان مراعاة المعايير الأخلاقيَّة، لكن يستحيل عليها تحويل هذه المعايير إلى حقيقة للطَّبيعة الإنسانيَّة. إذ إنَّ المقاربة الهوبزيَّة الَّتِي تحصر الأخلاق في الأفعال الظَّاهريَّة فقط، لا تلغي خصوصيَّة الأخلاق فحسب، وإنَّمَا تتناقض أيضًا مع حقائق السُّلوك الإنسانيِّ الواقعيَّة والَّتِي تشهد على أنَّ الأخلاق هي حالة حميمة تبحث عن مُسَوِّغها في صميم الوجدان الإنسانيِّ. والحال أنَّه لم يكن في وسع هوبز تجاهُل هذه الحقيقة الأخلاقيَّة الواضحة والسُّكوت عنها. لذا تراه يعترف بأهَمِّيَّة الفضائل الأخلاقيَّة، في معناها التَّقليديِّ، من مِثْلِ التَّواضع والوفاء والإنسانويَّة والرَّأفة والمودَّة وما شابه. غير أنَّ ذلك لم يعصمه البتَّة من الوقوع في حبائل التَّهافت النَّظريِّ: فكيف يُمْكِنُ تَجَاوُزُ التَّعارض الأصليِّ بين الفضائل المذكورة وطبيعة الإنسان الأنانيَّة، لا سِيَّمَا، وأنَّ التَّعويل على تبديل الأخيرة واستئصالها من جذورها هو رهان خاسر سلفًا مآله الفشل الذَّريع؟ وأنَّى يمكن الجمع والتَّوفيق بين شموليَّة المبادئ الأخلاقيَّة وطابعها الإنسانيّ العامِّ وبين الأنانيَّة الَّتِي لا هَمَّ لها سوى المصلحة الخاصَّة لهذا الفرد أو ذاك حَتَّى لو اقتضى ذلك فساد الكون بأسره؟!!! والحال أنَّه بالإضافة إلى هذه المعضلة الَّتِي تواجهها نظريَّة هوبز العقديَّة-الاجتماعيَّة ثَمَّةَ صعوبات أُخرى لا تَقِلُّ عنها خطورةً على غير مستوى وصعيد.

  وللإضاءة على بعض هذه الصُّعوبات سينْصَبُّ اهتمامنا على مسألتين: الأولى تتعلَّق بمفهوم الأنانيَّة الَّذِي استحال على يد هوبز مفهومًا مركزيًّا بنى عليه صَرْحَ مذهبه في السِّياسة والاجتماع والأخلاق؛ والمسألة الثَّانية تتَّصل بمزعمه القائل بوجود حالة ما قبل اجتماعيَّة pre-social للبشر. وبما أنَّ مفهوم الأنانيَّة هو مفهوم متعدِّد الدَّلالات، ومرَّ تاريخيًّا ولم يزل يمرُّ بسلسلة من الاستثمارات الإيديولوجيَّة لخدمة مآرب فئويَّة ضَيِّقة وخبيثة، فإنَّه من المناسب إبداء خمس ملاحظات تقويميَّة. الملاحظة الأُولى- ينبغي عدم مماهاة الأنانيَّة مع حبِّ الإنسان لنفسه ونزوعه إلى تحقيق مصالحه ورغبته في تأكيد سيادته ومهر العالم من حوله بختم فرادته. فهذا ما ينبغي اعتباره شأنًا طبيعيًّا ومشروعًا وحَتَّى واجبًا. لذا كان من الضَّروريِّ التَّميِيز بين الأنانيَّة وحبِّ الذَّات. وليس هذان المفهومان مترادفين ولا هُمَا الشَّيء نفسه. فالأنانيَّة، بخلاف حبِّ الذَّات، هي تحقيق الفرد لذاته وثروته وسعادته على حساب الآخرين ومقابل تعاستهم وإفقارهم وقهرهم. فالفرد الأنانيُّ هو كائن طفيليٌّ عَيال على غيره مركزيُّ التَّوجُّه واصطفائيُّ النَّزعة ونرجسيُّ الرُّؤية يعدُّ نَفْسَهُ المبتدأ والخبر، البداية والنِّهاية، وبؤرة المعنى وغاية الْخَلْقِ. وكُلُّ ما في الوجود هو له وحده ولا شيء لغيره. فهو لا يَحِبُّ موضوعات ميوله بذاتها ولذاتها، بَلْ لذاته. وهو إذ يعشق، إنَّمَا يعشق ذاته أوَّلًا وأخيرًا. أمَّا حبُّ الذَّات أو النَّفْسِ فليس فيه ما يلزم المرء بالتَّعدِّي على حقوق الآخرين وإلحاق الأذى والضَّررِ بهم. الملاحظة الثَّانية- إنَّ مقولة الأنانيَّة الفرديَّة قد تفسِّر لنا بنجاح واجبات الإنسان تجاه نفسه، لكنَّها أعجز من أنْ تفسِّر حقوق الآخرين وواجبات الإنسان تجاههم، فضلًا عن صَمْتِهَا المُطْبِق وإخفاقها التَّامِّ في تفسير وقائع حياتيَّة من مثل حالات التَّضحية والإيثار ونكران الذَّات والممارسات الغيريَّة altruism الَّتِي لا يخلو مجتمع وعصر من نماذجها المُلْهِمَة. الملاحظة الثَّالثة- لم تقتصر تجلِّيات الأنانيَّة تاريخيًّا على صورتها الفرديَّة فقط، وإنَّمَا اتَّخذت أيضًا صورًا جماعيَّة متنوِّعة (عائليَّة، عشيريَّة-قبيليَّة، طبقيَّة وقوميَّة وإلخ). الملاحظة الرَّابعة- إنَّ الإنسان لم يوجد ولا يمكن أنْ يوجد إلَّا في حالة اجتماعيَّة. ولا حالة للإنسان سابقة ومتقدِّمة تاريخيًّا على حالته الاجتماعيَّة. وهذه حقيقة أدركها الفلاسفة الإغريق قديمًا، وأسهب ابن خلدون لاحقًا، على نحوٍ خلَّاق، في تطوير رؤيتنا لها ولأنماط العمران (الاجتماع) البشريِّ وأطواره وطبائعه. فقد كان له قَصَب السَّبْقِ في التَّفريق بين طورين متميِّزَين نوعيًّا ومتعاقبين تاريخيًّا من العمران البشريِّ: العمران البدويُّ؛ والعمران الحضريُّ. والاختلاف بين هذين الشَّكلين من الاجتماع الإنسانيِّ وما يلازم أهلهما من عادات وأخلاق وطباع ومواهب إنَّمَا هو باختلاف نحلتهم من المعاش، أيْ بجملة الأساليب والصَّنائع الَّتِي يُحَصِّلُ بها النَّاس رِزْقَهُمْ وعيشهم. وقد عنى ذلك وجود قوانين اجتماعيَّة وعوامل اقتصاديَّة وطبيعيَّة موضوعيَّة تحدِّد وعيهم وتتحكَّم بِتَغَيُّرِ أنماط حياتهم. والحقُّ أنَّ تَصَوُّرَ هوبز للحالة الطَّبيعيَّة كحقبة تاريخيَّة ما قبل اجتماعيَّة يُعَدُّ خطوةً إلى الوراء بالمقارنة ليس فقط مع ما أتحفنا به ابن خلدون، وإنَّمَا مع ما فتحه الفلاسفة الإغريق القدامى أيضًا. ولكي لا نبخس هوبز حقَّه لا بدَّ من القول إنَّ فيلسوفنا كان مصيبًا تمامًا في الشِّقِّ المتعلِّق بوصف الحالة الطَّبيعيَّة كحالة ما قبل دَوْليَّة pre-state، ولكنَّه حَادَ عن الصَّواب وخانه حدسه في الشِّقِّ الآخر المتعلِّق بوصفه لها كحالة لا ترقى إلى مرتبة الاجتماع. ويُحسب له أيضًا ربطه رُوح الأنانيَّة بالنَّزعة التَّمَلُّكِيَّة الخاصَّة، لكن يؤخذ عليه، في الوقت عينه، تَوَهُّمَه وجود الأنانيَّة الفرديَّة وهيمنتها على جميع العلاقات والدَّوافع السُّلوكيَّة للبشر في عصر الحالة الطَّبيعيَّة. ففي تلك المرحلة والحالة انتفت واقعيًّا شروط إمكان "تألُّق نجم" الأنانيَّة الفرديَّة. فقد كان على الأنانيَّة الفرديَّة بصفتها استعدادًا وقابليَّة للطَّبيعة البشريَّة أنْ تخوض معارك تصاعديَّة مريرة وطويلة قبل أنْ تتمكَّن من إحكام قبضتها على الإنسان وفرض سلطان منطقها عليه. هذا ناهيك بكون وجود الأنانيَّة نفسه مرهون في الأصل بوجود إطار اجتماعيٍّ ورابطة اجتماعيَّة ما. فمن الخطأ الاعتقاد أنَّ البدائيين يعيشون في حالة ما قبل اجتماعيَّة حدَّدتها أنانيَّتهم الشَّخصيَّة المزعومة، وأنَّ استيقاظ وعيهم الأخلاقيّ من سُبَاته العميق هو من أملى ضرورة انتقالهم إلى الحالة الاجتماعيَّة. فالعامل الحاسم (ولا نقول الوحيد) في تحديد الانتقال النَّوعيِّ من النِّظام المشاعيِّ-البدائيِّ إلى الحضارة هو مستوى تطوُّر قوى المجتمع المُنْتِجَة. فالعلاقات الاجتماعيَّة للنِّظام البدائيِّ هي علاقات قائمة على صِلَةِ الرَّحم وقرابة الدَّم حيث يتأطَّر الأفراد في جماعات (بطن، عشيرة، قبيلة) يعود أصل كُلِّ واحدة منها إلى سَلَفٍ واحد. وتؤلِّف العشيرة أساس الحياة الاجتماعيَّة كُلِّها. وتنشأ هذه البِنْيَة العشيريَّة-القبيليَّة بصورة طبيعيَّة تلقائيَّة. وهي مشروطة من البداية بحالة القوى المُنْتِجَة، وتُشَكِّلُ امتدادًا لوضع هذه القوى المتدنِّي للغاية. فقد كانت الرَّابطة العشيريَّة هي الشَّكل الوحيد الممكن للعمليَّة الإنتاجيَّة في تلك المرحلة التَّاريخيَّة القاسية من مراحل تَطَوَّرِ الاجتماع الإنسانيِّ. ففي ظِلِّ وسائل العيش الشَّحيحة، وتَخَلُّف أدوات العمل، وتدنِّي الإنتاج، وافتقار البشر إلى الخبرات العمليَّة والعلميَّة الضَّروريَّة، وعجز واحدهم عن الدِّفاع الذَّاتيِّ ودرء المخاطر الطَّبيعيَّة لم يكن أمامهم بديل آخر غير التَّنظيم الشُّيوعيِّ-البدائيِّ للحياة والعمل والتَّوزيع. وبفضل هذا التَّنظيم- الَّذِي سمح بأقوى أشكال التَّعاضد والدَّعم المتبادل بين أفراد القبيلة الواحدة- استحال ضعف الأفراد المبعثَرين قُوًّةً جماعيًّة. إذ إنَّه ما كان في الإمكان تعويض عجز الفرد إلَّا بالقُوَّةِ الموحَدة والعمل التَّعاونيّ للجماعة. ففي ذلك الزَّمن الغابر لم يكن ثَمَّةَ انفكاكٌ بين جانبَيِ الإنتاج: إنتاج الإنسان؛ وإنتاج وسائل العيش. وقد كان كُلُّ ما يؤلِّف الحياة العائليَّة والشَّخصيَّة المباشرة للأفراد هو ما يُشَكِّلُ، في الوقت عينه، حياتهم الإنتاجيَّة والاجتماعيَّة العامَّة. وبالفعل، تَطَابَقََ أنذاك فضاء الشَّأن الشَّخصيّ، مضمونًا وماصدقًا، مع فضاء الشَّأن الاجتماعيِّ العامِّ. لقد كان الفرد بفكره ومشاعره وتصرُّفاته بصمةً من بصمات العشيرة ونُسْخةً مصغَّرة عنها مطابِقة لها. وكانت سلوكياته واستجاباته مُبَرْمَجة بصورة تامَّة ومحاطة بشبكة من المعايير والنَّواهي المُفَصَّلة الَّتِي تطال مناحي الحياة كافَّةً. بَيْدَ أنَّ هذه الرُّوح الجماعيَّة الَّتِي شكَّلت عصبيَّة القبيلة ومصدر قُوَّتِها الرَّئيس اتَّسمت بطابع ضروريٍّ ومَحَلِّيٍّ داخليٍّ ضَيِّق، وذلك لاقتصارها على العلاقة بين أفراد القبيلة الواحدة وعلى من تحالَف معها من القبائل الأُخرى فقط. في حين اتَّسمت العلاقة بين القبائل الَّتِي لا وشائج قرابة ولا مواثيق وتفاهمات مستقرة بينها بالعدائيَّة والنَّفي المتبادل. ولا واحدة منها حسبت أبناء القبائل الأُخرى بشرًا ونظراء في الْخَلْقِ. فالرُّوح التَّشاركيَّة-الجماعيَّة الموجَّهة نحو الدَّاخل قابلها نفيٌ موجَّهٌ نحو الخارج تُرْجِمَ فصلًا حادًّا بين ال "نحن" وال "هُم"، بين "الأقرباء" و"الغرباء"، وتمييزًا في المعاملة أسقط عن الغرباء جميع المحرَّمات والنَّواهي المعمول بها داخل القبيلة، فَجَازَ، بالتَّالي، غَزْوُهُم وسَبْيهُم وأسْرُهُم وقَتْلُهُم وحَتَّى أكْلُهُم. الملاحظة الخامسة- ليست الأنانيَّة صفةً طبيعيًّة بقدر ما هي صفة اجتماعيَّة للفرد تُعَبِّر عن نمط سلوكيٍّ نوعيّ معيَّن من أنماط علاقته بذاته وبالآخرين. بعبارة أُخرى، ليست الأنانيَّة صفةً فرديًّة فقط، وإنَّمَا هي سِمَة المجتمع القائم على المِلْكِيَّة الخاصَّة. وأيًّا تكن النَّتائج الَّتِي تسفر عنها البُحُوث العلميَّة لطبيعة الإنسان البيولوجيَّة وخريطته الجينيَّة، فإنَّها لا تستطيع إنكار الحقيقة القائلة بأنَّ المِلْكِيَّة الخاصَّة والعلاقات الاستغلاليَّة تمنحان نشاطه كيفيًّة محدَّدة تمامًا، وأنَّ الحضارة الطَّبقيَّة تولِّد حتمًا نمطًا سلوكيًّا أنانيًّا. فجوهر المسألة، على ما يقول كارل ماركس، إنَّمَا يكمن في أنَّ المصلحة الخاصَّة هي نفسها عبارة عن مصلحة محدَّدة اجتماعيًّا ويمكن تحقيقها فقط في ظروف مُعَيَّنة يخلقها المجتمع وبمساعدة وسائل يهيئها ويوفرها المجتمع، أيْ أنَّها مرتبطة بإعادة إنتاج هذه الشُّروط والوسائل. هذه المصلحة هي مصلحة أفراد جزئيّين، لكن مضمونها وصورتها ووسائل تحقيقها معطاة من قِبَلِ الشُّروط الاجتماعيَّة المستقلَّة عن الأفراد"(7). فالأنانيَّة هي نمط من السُّلوك الموجَّه نحو إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعيَّة التَّمَلُّكِيَّة الخاصَّة يُشَكِّلُ فيه السَّعي إلى الثَّروة نواته الصَّلبة وغايته القصوى. فالأساس الشَّيئيُّ للأنانيَّة هو الثَّروة. وتتجلَّى الأنانيَّة في صورتها الخالصة كشغف بالتَّمَلُّكِ والمال والهَوَس بهما. وإلى هذا المعنى يذهب فريدريك إنجلز بقوله في ختام مؤلَّفه أصل العائلة والمِلْكِيَّة الخاصَّة والدَّولة: "لقد كان الجشع الدَّنيئ هو القُوَّة المحرِّكة للحضارة منذ يومها الأوَّل إلى يومنا هذا، الثَّروة ثُمَّ الثَّروة وثالثًا الثَّروة؛ فقد كانت ثروة هذا الفرد الجزئيّ المثير للشَّفقة هي هدفه الوحيد والحاسم لا ثروة المجتمع"(8).

إضافةً إلى كُلِّ ما تقدَّم يمكن القول إنَّه حَتَّى لو افترضنا وسلَّمنا مع هوبز أنَّنا أنانيّون عقلانيّون rational egoists، فإنَّه يبقى من الواضح أنَّ المحاججة الأنانيَّة-العقلانيَّة تبدو غير مجدية في حَلِّ "معضلة السُّجناء" في مختلف بدائلها الضَّيِّقة منها أو الواسعة. فالتَّوجُّه السُّلوكيُّ الأنانيّ-العقلانيّ وإنْ كان لا يُشَكِّل عائقًا معرفيًّا في التَّمييز بين الحسن والقبيح، الصَّحيح وغير الصَّحيح من الوجهة الأخلاقيَّة إلَّا أنَّه لا يمكن أنْ يكون متحقِّقًا عمليًّا بصورة متماسكة ودائمة وشاملة ومضمونة. فهو يبدو معدوم الفائدة ولا مكان له في المواقف الَّتِي يغلب عليها تَضارب المصالح والمنافسة التَّناحريَّة. ففي أوضاع كهذه لا شيء يضمن إمكانيَّة تَجَاهُل الإنسان للمبادئ الصَّحيحة من المنظارين الأخلاقيِّ والعقليِّ، وعدم العمل بها، خصوصًا، إذا ما تيقَّن عدم افتضاح أمْرِ مخالفته لها وانتهاك حُرْمَتِها. ولا شيء، أيضًا، يردع أو يمكن أنْ يردع الإنسان الأنانيَّ عن فعل أيِّ شيء لتحقيق أكثر ما أمكن من النَّفع لذاته ما دَامَ قادرًا على ذلك، وما دَامَ اقتناص الفرصة "الذَّهبيَّة" متاحًا له.

خلاصة القول، إنَّ الأنانيَّة هي شكلٌ حتميٌّ لتأكيد الذَّات لدى الأفراد في المجتمعات القائمة على تقديس المِلْكِيَّة الخاصَّة عمومًا، وفي المجتمعات الرَّأسماليَّة المعاصرة خصوصًا الَّتِي أوصلت النَّزعةَ الأنانيَّة إلى ذروتها وأقصى مدياتها الممكنة، وقدَّمت كُلَّ قيم الإنسان ومقدَّساته قربانًا لصنم معبود واحد وهو المال. لذا، فإنَّ التَّذمُّر الأخلاقيَّ من الأنانيَّة، على أهَمِّيَّته، يبقى قليل الجدوى كالشَّكوى من سوء الأحوال الجويَّة والتَّبَرُّمِ من الكوارث الطَّبيعيَّة ما لم يصاحبه بحث في أسبابها وطُرُقِ تجاوُزها يفضي إلى بناء نمط نوعيٍّ جديد من العلاقات الاجتماعيَّة لا يضطر الأفراد فيها لتأكيد ذواتهم إلى أنْ يكونوا أنانيّين مسبقًا، ويكون التَّطَوُّرُ الحُرُّ للفرد شرطًا لِتَطَوُّرِ الآخرين، وبالعكس.

***

د. علي صغير – لبنان

...............................

المراجع:

1- اُنْظُر: رينيه ديكارت. مبادئ الفلسفة. ترجمه وقدَّم له وعلَّق عليه الدُّكتور عثمان أمين. مكتبة النَّهضة المصريَّة. 1960. ص ص 70-71.

2- توماس هوبز: مؤلَّفات مختارة في مجلَّدين. موسكو. المجلَّد الثَّاني. 1965. ص 149. (باللُّغة الرُّوسيَّة).

3- المصدر نفسه. ص 153.

4- المصدر نفسه. ص 157.

5- المصدر نفسه. الجزء الأوَّل. ص 536.

6- المصدر نفسه. ص 539.

7- كارل ماركس وفريدريك إنجلز: المؤلَّفات الكاملة. المجلَّد 46، الجزء الأوَّل. ص 99. (باللُّغة الرُّوسيَّة).

8- كارل ماركس وفريدريك إنجلز: المؤلَّفات الكاملة. المجلَّد 21. ص 176. (باللُّغة الرُّوسيَّة).

 

تأطير المعضلة الفلسفية والمقاربة الجنيالوجية

إن الأطروحة القائلة بأن "المعضلة الأصلية للحداثة تكمن في ربط المعرفة بالقوة القهرية على الآخر" تمثل تشخيصاً فلسفياً عميقاً للتحولات الإبستمولوجية التي شهدها الفكر الغربي. هذه الأطروحة ليست مجرد نقد سياسي للسلطة، بل هي إدانة للمسار المعرفي الذي جرّد المعرفة من غايتها القيمية وحوّلها إلى أداة تكنولوجية للسيطرة والهيمنة. 

المعرفة بوصفها تكنولوجيا للسيطرة والقهر

تؤكد المقاربة النقدية أن المعضلة الأصلية للحداثة تكمن في الربط المعرفي بين المعرفة والقوة القهرية على الآخر [1]. لقد أدى هذا الارتباط إلى تجريد المجال المعرفي من القيمة الأخلاقية الذاتية، فظهرت المعرفة الحديثة مرتبطة بالسيطرة والهيمنة بدلاً من الأخلاق [1]. يوضح هذا المسار تحولاً جذرياً في وظيفة المعرفة: من كونها ضامناً للعدالة والخير (في الفكر الكلاسيكي) إلى كونها أداة لإنتاج القوة والسيطرة (في العصر الحديث).

يُعد المشروع الحداثي الغربي مسؤولاً حضارياً عن إرساء إبستمولوجيا الفصل بين نظام القيم الأخلاقية ودوائر المعرفة الأخرى. هذا الفصل سمح للعلم بالنمو في نطاق ما يسمى بـ "الموضوعية العلمية" المتفاخرة بحيادها. لكن هذا "الحياد" كان في جوهره إفراغاً للقيمة، مما جعل المعرفة وعاءً مثالياً لأي قوة خارجية تسعى لتوظيفها لخدمة مصالحها الخاصة، أي السلطة.

القوة القهرية مقابل السلطة الإنتاجية

لتحليل آليات القهر في الحداثة، يجب التمييز بين مفهومي القوة والسلطة. فـ القوة القهرية هي الآلية التي تمارس بها السلطة الفعل المادي أو الرمزي المباشر.

أما في الفلسفة المعاصرة، وخاصة عند ميشيل فوكو، فلا تُفهم السلطة بوصفها قوة قمعية عليا تفرض القانون فحسب، بل هي شبكة علاقات منتشرة تُنتج الأفراد والمعرفة والحقيقة [1, 2, 3]. وهذا يعني أن المعرفة لا يمكن أن تنفصل عن علاقات القوة التي تمنحها الشرعية وتجعلها ممكنة. 

الأساس القيمي للمعرفة في الأطر الكلاسيكية

كانت النظرة الكلاسيكية للعلاقة بين المعرفة والأخلاق مختلفة جذرياً عن النظرة الحداثية. فلطالما نظرت الأطر الفلسفية القديمة إلى المعرفة بوصفها أساساً جوهرياً للأخلاق.

 المعرفة كنظام قيمي لا أداة وظيفية:

في الفلسفة الأفلاطونية، يقوم التوجه الأخلاقي بشكل أساسي على إدراك الإنسان لجوهر الخير والشر [1]. هذا التصور يؤكد أن القضايا الأخلاقية هي قضايا كلية، عامة وشاملة لجميع الظروف والشرائط، مما يجعل المعرفة هي المنشأ الأساسي للأخلاق.

المنطق الكلاسيكي يفترض اقتراناً ضرورياً بين الفعل والإدراك:

إذا أدرك إنسان الخير والشر كما هما، فإن فعله يكون دائماً متوافقاً مع الأخلاق ولا يخرج عن إطارها [1]. في هذا السياق، فإن رأس الفضيلة هو الحكمة والمعرفة [4]. فجميع الفضائل الأخرى، كالشجاعة، هي في حقيقتها أنواع من الحكمة. على سبيل المثال، تُعرّف الشجاعة بأنها "معرفة ما يجب أن يُخاف منه وما لا يُخاف"، أما العدالة فتُعرّف بأنها العلم بالأصول والضوابط التي يجب أن تراعى في تنظيم الرابطة الإنسانية.

كانت الغاية الكلاسيكية للمعرفة ضمان العدالة والخير [1, 4]. وقد تركزت المعرفة حول التأمل والتجريد وتأويل العالم توصيفاً أخلاقياً وجمالياً، ولم تكن مجرد أداة للتحكم في الطبيعة [5]. وفي هذا النموذج، كانت الأخلاق أمراً واقعياً (وجودياً)، والإنسان الأخلاقي هو من يدرك هذه الأمور الواقعية، وكان يُكتفى في التحلي بها بمعرفة الخير من الشر.

كانت المعرفة (الحكمة) تعمل كقيد داخلي. وكان القهر الوحيد الذي يُمارس هنا هو الجهل، ومن ثم فإن مكافحة الفساد الأخلاقي تتم بالقضاء عليه [4]. هذا يوضح تمايزاً جذرياً بين المعرفة الكلاسيكية التي كانت قوة تأملية تعمل على تنظيم الذات من الداخل (العدالة الباطنية)، والحداثة التي تحولت إلى قوة أداتية تعمل على تنظيم الآخر من الخارج (السيطرة القهرية).

رغم ان، هذا النموذج الكلاسيكي احتوى على نقطة ضعف تاريخية. فافتراض أفلاطون بأن "معرفة الخير تضمن فعله" فشل في تفسير سبب اختيار الإنسان الواعي للشر. هذا الفشل سمح بظهور نقد الحداثة الذي طرح بديلاً عملياً: مادامت المعرفة لا تضمن الفضيلة، فلنجعلها تضمن النجاح والسيطرة. بالتالي، لم يكن الانتقال من "المعرفة لأجل الفضيلة" إلى "المعرفة لأجل المنفعة والقوة" مجرد طفرة، بل كانت استجابة نقدية مُدمرة لعدم فعالية النموذج الكلاسيكي في السيطرة على الواقع الاجتماعي والسياسي. 

الانزياح الإبستمولوجي وآليات القوة

شهد العصر الحديث قطيعة معرفية هائلة، أدت إلى إرساء نظام إبستمولوجي يبرر القهر والسيطرة تحت ستار التقدم العلمي.

تكمن المعضلة الأصلية للحداثة في هذا الفصل الذي ربط المعرفة بالقوة القهرية على الآخر. لقد ظهرت المعرفة الحديثة مرتبطة بالسيطرة والهيمنة بدلاً من الأخلاق. هذا التجرد من القيمة الأخلاقية هو ما سمح لاحقاً لنظام القوة بملء الفراغ بـ "معرفة-قوة" وظيفية تخدم مصالحه الخاصة.

 التكميم والتشيؤ كآليات للقوة الإبستمولوجية

لقد كانت النتيجة المروّعة لهذا الارتباط بين المعرفة والقوة هي الانتهاء إلى الانتقال من مركزية الإنسان إلى مركزية التقنية. وقد تم هذا التحول عبر آليتين رئيسيتين:

التكميم (يشير الى عملية تحويل الخصائص والصفات النوعية (الكيفية) أو الظواهر المعقدة إلى مقادير رقمية أو كمّية قابلة للقياس والتحليل الإحصائي): بجعل الرياضيات قوام المعرفة، أصبح كل شيء قابلاً للـ "تكميم" والتحويل إلى رقم وقياس.

التشيؤ: أدى هذا التكميم إلى تشيؤ الكائن البشري وجعله مجرد كائن مطيع لوثن الآلة، أو موضوع يُدار كمياً.

تستند القوة القهرية الحديثة إلى "الموضوعية الزائفة" التي تفصل المنهج عن الغاية، جاعلة أي نتيجة (مهما كانت لا أخلاقية) مقبولة ما دامت مستخلصة بمنهج سليم كمّي. هذا العقل الأداتي يبرر السيطرة عبر إخفاء غاية السيطرة تحت ستار "المنفعة" و"التقدم". وقد أدركت النظرية النقدية أن العقلانية التكنولوجية، التي وُلدت للسيطرة على الطبيعة، تم نقلها وتوظيفها لاحقاً للسيطرة على الإنسان نفسه.

هذا يربط المعضلة الحداثية ليس فقط بالسيطرة التقنية، بل بالهيمنة الجغرافية والتاريخية، حيث صنعت المعقولية الاستعمارية "التوحش" نقيضاً للحالة المدنية لتبرير الغزو والاحتلال.

تحليل ميشيل فوكو لشبكة المعرفة والسلطة

قدم الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو تحليلاً جينيالوجياً معمقاً لآليات القهر الحديثة، مؤكداً على أن المعرفة والسلطة مترابطتان بشكل لا ينفصل. [2]

يرفض فوكو النموذج القانوني التقليدي للسلطة التي تُفهم كقوة قمعية عليا. فالسلطة، من منظوره، هي شبكة علاقات منتشرة تُنتج الأفراد والمعرفة والحقيقة [1, 8]. لا تُمارس السلطة من الأعلى إلى الأسفل فحسب، بل تتوزع عبر العلاقات الاجتماعية. [2]

من خلال "حفريات المعرفة"، أوضح فوكو كيف تتكوّن الذاتية في خطابات وممارسات واسعة النطاق ضمن حقل السلطة والمعرفة والحقيقة. على سبيل المثال، كانت الخطابات العلمية حول الجنون أو الجنسانية آليات انضباطية تهدف إلى فرض التطبيع على الجسد والسلوك، ولم تكن خطابات محايدة. ويُبرز هذا التحليل التواطؤ العميق بين السلطة و"الحقيقة" التي تُنشر، خصوصاً في مسألة الرغبات، حيث تُجعل موضوعاً لتدخل السلطة والمصلحة العامة، مما يفرض على الفرد الكشف عن ممارساته.

إن القوة القهرية الحديثة لا تحتاج إلى العنف الدائم، بل إلى إنتاج الحقيقة التي بموجبها يرى الفرد نفسه ككائن منحرف أو غير طبيعي، فيقوم بتصحيح ذاته. تعمل شبكة المعرفة-القوة كآلية انضباطية تُخضع الأجساد عن طريق العقول. [10]

في سياق الأنظمة المستبدة، تُظهر الممارسات السياسية آليات متطورة لفرض المعايير، أو بالأحرى، لتوزيع مسؤولية انعدام الأخلاق. فالأنظمة التي تقوم على القهر تعمل على نشر الفساد (كالرشوة) في تفاصيل الحياة العامة، بهدف تحويله إلى "أخلاق شعب" بدلاً من أن يبقى أخلاق مسؤول. وهذا تكتيك إبستمولوجي يسمح للسلطة برفع المسؤولية الأخلاقية والقانونية عن الفساد الهيكلي، وتوجيه اللوم نحو الذات الجمعية. القهر هنا يكمن في فرض رواية زائفة للواقع الأخلاقي. 

الحاجة المستمرة لتعزيز الاستقلالية الذاتية

في ضوء هذا التحالف المتنامي بين المعرفة التقنية والسلطة الحيوية، تكمن أهمية الفلسفة النقدية اليوم في الحفاظ على اليقظة الفكرية.

بدلاً من البحث عن قوانين أخلاقية موضوعية تُفرض خارجياً، يصبح العمل الأخلاقي هو فن الوجود وممارسة الحرية من خلال "تقنيات الذات" والعناية بها. هذا يسمح للذات بإعادة تشكيل نفسها في مواجهة الإكراه.

إن تعزيز الاستقلالية الذاتية يمثل الفعل المقاوم الأساسي ضد التشيؤ والتطبيع الذي تفرضه المعرفة القهرية. يجب أن تستمر مهمة الفلسفة النقدية في فضح الأيديولوجيات التي تتستر خلف العقل الأداتي، وتذكير المجتمع بأن هدف المعرفة يجب أن يعود إلى كونه ضامناً للعدالة والخير، وليس أداة للسيطرة والتمكين القهري على الآخر.

***

غالب المسعودي

...........................

المصادر والمراجع

1: [tanwair.com] فؤاد هراجة - مفاهيم أساسية في الفلسفة الأخلاقية - مجلة نقد وتنوير.

2: [siasur.com] ميشيل فوكو: بين السلطة والمعرفة – تحليل فلسفي لتطور المفاهيم الاجتماعية والسياسية.

3: [ahewar.org] مصطفى الحسناوي - السلطة عند فوكو - الحوار المتمدن.

4: [hekmah.org] محمد سبيلا - التحولات الفكرية الكبرى للحداثة: مساراتها الإبستيمولوجية ودلالتها الفلسفية.

5: [lakome2.com] المعرفة أفقا للسيطرة: أو العلم في خدمة القوة والهيمنة! - لكم-lakome2.

6: [cp.alukah.net] النظرية النقدية أو مدرسة فرانكفورت - شبكة الألوكة.

7: [babelwad.com] الحداثة وسياسات المعرفة: جغرافيّات النقد وتخومه - باب الواد.

8: [alantologia.com] د. زهير الخويلدي - دراسة مقارنة بين أركيولوجيا المعرفة عند ميشيل فوكو وفكر الاختلاف عند جيل جولوز وغراماتولوجيا جاك دريدا | الأنطولوجيا. (“د. زهير الخويلدي - دراسة مقارنة بين أركيولوجيا المعرفة عند ميشيل فوكو ...”)

9: [nohoudh-center.com] المأزق الحداثي وفقدان البوصلة الأخلاقية في الحاجة إلى أخلاق إحسانية.

10: [marefa.org] المعرفة والسلطة.

  

خصائص النسق الفلسفي

تعريف ومعنى نسق في اللغة: نسَقَ يَنسُق، نَسْقًا، والمفعول مَنْسوق.. نَسَقَ الكُتُبَ: رَتَّبَهَا، نَظَّمَهَا

مطَّرِد النَّسْق: منتظم ومتَّسق

نسَق الكلامَ: عطَف بعضَه على بعضٍ ورتَّبه. (معجم المعاني الجامع).

"النسق" يعني النظام والترتيب والتتابع ويستخدم لوصف الأشياء المتناغمة أو المنظمة معاً مثل "نَسَق الكلام" أي نظمه ورتبه ليؤدي غرضا للمتكلم.

و"نسق الأشجار" أي زرعها ورتبها في خط واحد.

خصائص النسق الفلسفي:

يتميز النسق الفلسفي بعدة خصائص أساسية تجعله بناءً فكريا متكاملا ومتماسكا وهي على وجه الأجمال:

أولا: الكلية:

النسق الفلسفي يسعى للإحاطة بالوجود بأسره بمعنى أنه يقدم رؤية شاملة تشمل مختلف جوانب الواقع والوجود لا رؤية جزئية فتلك من خصائص العلوم التجريبية.

ثانيا: الترابط والانسجام:

المكونات المفاهيمية داخل النسق الفلسفي مترابطة ومتسقة منطقيا حيث تتفاعل الفروض والقضايا والتصورات والمفاهيم لتشكل منظومة متماسكة متناسقة يعمها الصدق والصواب.

ثالثا: الإبداع والتجديد:

النسق الفلسفي يعبر عن رؤية أو موقف فكري مميز ينتقد القديم والراكد ويطرح فرضيات وأفكارا جديدة تسهم في فهم الواقع والوجود بشكل عميق وواضح.

رابعا: خصوصية الجهاز المفاهيمي:

كل نسق فلسفي يمتلك جهازا مفاهيمياً خاصا به يستخدم في تأطير النظريات وشرح الظواهر.

خامسا: التطور:

النسق الفلسفي لا يكون ثابتا وإلا تحول إلى إيديولوجيا بل هو يتطور وينمو جدليا عبر مراحل التطور التاريخي حيث تتبلور الأفكار وتتوسع وتتشعب مما يثري البناء العقلي المتكامل.

مكونات النسق الفلسفي الأساسية:

كما أن النسق الفلسفي له خصائص كذلك له مكونات أساسية تشكل بنيته الفكرية العامة وهذه المكونات هي:

1. وحدات معرفية: تشمل الفروض والقضايا والتصورات والمفاهيم والنظريات التي تشكل الإطار التفكيري للنسق.

2. إطار تصوري مترابط: تعامل هذه الوحدات بطريقة منطقية ومتماسكة بحيث تشكل منظومة فلسفية واحدة متكاملة.

3. جهاز مفاهيمي خاص: يحتوي على مفاهيم وأفكار تميز النسق وتوفر أدوات لتفسير الظواهر.

4. نظام قيمي ومنهجي: يشتمل على قواعد عامة أو قوانين فلسفية توجه فهم الترابط والتفسير في النسق.

5. مرحلة النمو والتطور: يتطور النسق عبر مراحل ترتكز على فكرة أولية تتعمق وتتوسع بفعل التأمل والتفكير المنهجي.

بالتالي النسق الفلسفي هو بناء عقلي يضم مجموعة مترابطة من المفاهيم والمبادئ التي تسمح بفهم وتفسير الوجود والواقع بطريقة شمولية ومنظمة.

ما هو الفرق بين النسق الفلسفي والإطار النظري؟

النسق الفلسفي والإطار النظري مفهومان مترابطان ولكنهما يختلفان في المستوى والشمولية.

النسق الفلسفي هو بناء فكري شامل ومتناسق يضم مجموعة متكاملة من المفاهيم والمبادئ التي تفسر الواقع بشكل كلي ويشير إلى رؤية فلسفية كاملة أو منحى فكري معين يتميز بهيكلية مترابطة وأصول منهجية تعطيه كثافة فكرية خاصة.

أما الإطار النظري فهو مجموعة من النظريات والمفاهيم التي تستخدم لتفسير ظاهرة أو موضوع معين ضمن نطاق معرفي معين وهو أكثر تحديداً وانتقائية مقارنة بالنسق.

ويركز الإطار النظري على بناء تفسيرات قابلة للاختبار والتطبيق في مجال معين من البحث أو الدراسة.

وعليه يكون النسق الفلسفي أوسع وأشمل حيث يشمل إطارات نظرية متعددة بينما الإطار النظري هو جزء من النسق أو أداة منه ضمن سياق معرفي محدود ومحدد.

النسق الفلسفي إذن يوفر الرؤية الفلسفية الكلية والإطار النظري ويوفر البناء المنهجي التفصيلي للمسائل البحثية داخل تلك الرؤية.

ومن الأمثلة المشهورة للأنساق الفلسفية نسق أفلاطون الذي يقوم على فكرة "مثال الخير" أو "الخير الأقصى" ويتضمن ثلاثة مفاهيم أساسية هي عالم المثل (العالم المعقول) والعالم المحسوس واللاوجود (المعدوم). نسقه يربط بين عالم المثل الثابت وبين العالم الحسي المتغير مع تفسير وجودي وأخلاقي وسياسي متكامل.

ونسق أرسطو: الذي يركز على مفهوم الغاية (التيلوس) كأساس لفهم الطبيعة والإنسان ويربط بين المنطق والطبيعة والميتافيزيقا والسياسة والأخلاق ضمن رؤية شمولية مترابطة.

حيث يشير إلى الغاية الجوهرية أو الغرض الكامن في كل شيء سواء كان طبيعيا أو من صنع الإنسان. استخدمه أرسطو بشكل أساسي لوصف السبب النهائي لأي شيء معتقدا أن تحقيق هذه الغاية هو ما يحدد خيرية الشيء ووظيفته الحقيقية

على سبيل المثال: غاية العين هي الرؤية وغايتها في تحقيق هذه الوظيفة هي خيرها الخاص أما غاية الإنسان فهي العيش حياة فاضلة مزدهرة.

ثم نسق هيجل: وهو نسق جدلي كلي تاريخي يشمل العقل والطبيعة والروح في حركة جدلية نحو الكمال المطلق ويتميز بالتطور الجدلي للأفكار والتاريخ.

وهناك أيضا النسق البنيوي: الذي يهتم بتحليل اللغة والمعاني من منظور هيكلي تحليلي حيث يتم فهم الظواهر عبر علاقاتها الداخلية والأنظمة البنائية.

ثم نسق التفكيكية: وهو نسق مرن ديناميكي يكشف التوترات والتناقضات في النصوص والمعاني يركز على التعددية وعدم الثبات في التأويل.

كل من هذه الأنساق تتكون من مكونات معرفية هي الفروض والقضايا والتصورات والمفاهيم والحجج التي تتشابك داخل إطار فكري مترابط ومتسق منطقيا.

وتشترك هذه الأنساق في كونها تعبر عن رؤى كونية وفلسفية شاملة حول الواقع والوجود والإنسان.

أثر هيجل في تشكيل أنساق الفلسفة الحديثة:

لم يأثر فيلسوف كما أثر هيجل في تشكيل أنساق الفلسفة الحديثة والمعاصرة فقد كان عميقا وشاملا حيث يعتبر نسقه الفلسفي أعلى قمة بلغتها الفلسفة الحديثة ويجمع بين تراث الفلسفة العقلانية ليقدم رؤية كلية شاملة تقوم على أن العقل هو جوهر الوجود والتاريخ وهو مسار تحقق الروح والحرية.

هيجل طور مفهوم الجدل (الديالكتيك) كمحرك للتطور الفكري والتاريخي حيث تتفاعل التناقضات لتؤدي إلى تقدم الفكر والواقع وهذا الجدل شكل قاعدة لأنساق فلسفية معاصرة متعددة.

كما دمج بين الفكر والطبيعة والروح في منظومة فلسفية متكاملة اعتبرها تعبيرا عن تحرك العقل المطلق في الواقع.

تأثير هيجل امتد إلى تيارات فلسفية عدة أولها الماركسية التي اقتبست منه الجدل المادي فضلا عن تأثيره على الفينومينولوجيا والفلسفة النقدية والوجودية.

نعم هيجل أسس بحق نسقا فلسفيا شاملا جسد فيه فكرة أن الكينونة معقولة وأن العقل هو المحرك الأساسي للتاريخ والحياة ما جعله مرجعية لا غنى عنها في الفلسفة الحديثة والمعاصرة.

***

سليم جواد الفهد

....................

المصادر المستفاد منها:

1.النسق مفهومه واقسامه، جمعة برجوح بلقاسم.

2.مفهوم النسق في الفلسفة، د. سليمان أحمد الظاهر.

3. حول النسق الهيغلي، سليمان السلطان.

4. الإنسان وأنساقه المعرفية والأخلاقية والجمالية، معاذ بن عامر.

5. نهاية الفلسفة النسقية، عرض لوجهة نظر ريتشارد رورتي، عبد المنعم البري.

 

مقدمة: الإبستمولوجيا، أو نظرية المعرفة، هي الفرع الأساسي في الفلسفة الحديثة الذي يتناول أسئلة: ما هي المعرفة؟ كيف نحصل عليها؟ وما حدودها وشروطها؟ منذ بدايات الحداثة مع ديكارت في القرن السابع عشر، شهدت الإبستمولوجيا تحولات جذرية، من البحث عن اليقين الداخلي إلى نقد الحداثة نفسها في القرن العشرين، مروراً بالتجريبية البريطانية، والمثالية الألمانية، والوضعية المنطقية، والبراغماتية الأمريكية، وصولاً إلى الإبستمولوجيا الاجتماعية والنسوية وما بعد البنيوية. هذه التحولات لم تكن مجرد تطورات نظرية، بل استجابات لأزمات معرفية ناتجة عن الثورة العلمية، والتنوير، والحداثة الصناعية، والحروب العالمية، والثورة الرقمية. يهدف هذا البحث إلى تتبع مسار الإبستمولوجيا في الفلسفة الحديثة من خلال تحليل المحطات الرئيسية، مع التركيز على التحول من الذاتية اليقينية إلى التعددية النسبية، مستنداً إلى أعمال ديكارت، لوك، هيوم، كانط، هيغل، نيتشه، هوسرل، راسل، فتغنشتاين، كواين، كون، فوكو، دريدا، وروتي، لنصل إلى تقييم معاصر يربط بين الإبستمولوجيا والذكاء الاصطناعي والمعرفة الجماعية. ما نسعى اليه هو دراسة في التحولات المفهومية والمنهجية من ديكارت إلى ما بعد الحداثة. فماهي خصائص الابستيمولوجيا الحديثة؟ بماذا تميزت الابستيمولوجيا الديكارتية؟ وماذا كان مصيرها مع مابعد الحداثة؟ والى أي مدى يجوز لنا القول بوجود ابستيمولوجيا للأزمنة مابعد الحديثة؟

الإبستمولوجيا اليقينية: من ديكارت إلى كانط

تبدأ الإبستمولوجيا الحديثة مع رينيه ديكارت (1596–1650)، الذي أسس "المنهج الشكي" في تأملات في الفلسفة الأولى (1641)، محاولاً بناء معرفة يقينية على أساس "الكوجيتو" (أنا أفكر إذن أنا موجود). هنا، تكون المعرفة ذاتية أولاً، ويقينية من خلال الأفكار الواضحة والمتميزة، معتمداً على الاستدلال الرياضي ك نموذج. يُمثل ديكارت الانتقال من الإبستمولوجيا السكولاستية إلى الحداثة، حيث يصبح العقل الفردي مصدر اليقين، لكن هذا يفتح باب الشك المنهجي حول العالم الخارجي، مما أدى إلى المشكلة الشهيرة "الجسر بين الذات والموضوع". رداً على ذلك، طورت التجريبية البريطانية (لوك، بيركلي، هيوم) إبستمولوجيا حسية. جون لوك في مقالة في الفهم الإنساني (1689) يرى العقل "لوحاً أبيض"، والمعرفة تنشأ من التجربة الحسية والتأمل. أما ديفيد هيوم في بحث في الفهم الإنساني (1748)، فيصل إلى الشكوكية من خلال نقد فكرة السببية كمجرد عادة نفسية، لا علاقة ضرورية. هذه التجريبية تهز أسس اليقين الديكارتي، محولة الإبستمولوجيا من البحث عن اليقين المطلق إلى الاحتمالية. بعد ذلك يأتي عمانويل كانط (1724–1804) في نقد العقل الخالص (1781) ليوفق بين العقلانية والتجريبية في "الثورة الكوبرنيكية": المعرفة ليست انعكاساً للعالم، بل تشكيلاً له من خلال الفئات العقلية (الزمان، المكان، السببية). هنا، تكون المعرفة محدودة بالظواهر، لا الشيء في ذاته، مما يضع حداً للإبستمولوجيا المطلقة ويفتح الباب للمثالية.

الإبستمولوجيا المثالية والتاريخانية: من هيغل إلى نيتشه

مع يوهان غوتليب فيخته وفريدريش شيلينغ، ثم جورج فيلهلم فريدريش هيغل (1770–1831)، تتحول الإبستمولوجيا إلى ديناميكية تاريخية. في فينومينولوجيا الروح (1807)، تكون المعرفة عملية ديالكتيكية (أطروحة – نقيض – تركيب)، والروح المطلقة تدرك نفسها عبر التاريخ. هنا، ليست المعرفة فردية، بل جماعية وتاريخية، مما يمهد للإبستمولوجيا الاجتماعية.لكن فريدريش نيتشه (1844–1900) يهدم هذا في ما وراء الخير والشر (1886) وأصل الأخلاق، معتبراً المعرفة "تفسيراً" مشروطاً بإرادة القوة، لا حقيقة مطلقة. شعاره "لا توجد حقائق، فقط تفسيرات" يُنهي الإبستمولوجيا التقليدية، محولاً إياها إلى نسبية قيمية.

الإبستمولوجيا العلمية والتحليلية: من الوضعية إلى فتغنشتاين المتأخر

في القرن العشرين، تسعى الوضعية المنطقية (كارناب، شليك، راسل) إلى إبستمولوجيا علمية صلبة. بيرتراند راسل في مشكلات الفلسفة (1912) يقترح أن المعرفة تنبني من "بيانات حسية"، والمنطق هو لغة المعرفة. أما الدائرة الفيينية، فترفض الميتافيزيقا وتقصر المعرفة على القابل للتحقق. لكن لودفيغ فتغنشتاين يُقلب الطاولة: في الرسالة المنطقية الفلسفية (1921) يرى العالم "مجموع الحقائق"، لكن في تحقيقات فلسفية (1953) ينتقل إلى "ألعاب اللغة": المعنى هو الاستعمال، والمعرفة ممارسة اجتماعية، لا تمثيل. هذا يُنهي الإبستمولوجيا التأسيسية ويفتح الباب للبراغماتية.

الإبستمولوجيا النقدية وما بعد الحداثة: من كون إلى دريدا

توماس كون في بنية الثورات العلمية (1962) يُظهر أن العلم لا يتقدم تراكمياً، بل عبر "تحولات نموذجية"، مشروطة بمجتمعات علمية، لا بموضوعية مطلقة. هذا يجعل الإبستمولوجيا تاريخية واجتماعية. بول فيورابند في ضد المنهج (1975) يذهب أبعد: "كل شيء يجوز" ، رافضاً المنهج الواحد. أما ميشيل فوكو في الكلمات والأشياء (1966) وترتيب الأشياء، فيُظهر أن المعرفة "إبستمي" تاريخي، مشروط بسلطة وخطاب. جاك دريدا في عن الغراماتولوجيا (1967) يفكك الثنائيات (ذات/موضوع، حضور/غياب)، معتبراً المعرفة "تأجيلاً" (différance). ريتشارد روتي في فلسفة ومرآة الطبيعة (1979) يُعلن نهاية الإبستمولوجيا كتأسيس، مقترحاً "محادثة" براغماتية بدلاً من "تمثيل".

الإبستمولوجيا المعاصرة: النقد الاجتماعي، النسوية، والرقمية

في العقود الأخيرة، تبرز الإبستمولوجيا الاجتماعية (غولدمان، فولر) التي ترى المعرفة نتاج تفاعل جماعي، مع "شهادة" وروائز كمصدر أساسي. الإبستمولوجيا النسوية (هاردينغ، لونغينو) تنتقد الحياد المزعوم، مقترحة "معرفة موقفية" تبدأ من تجارب المهمشين.مع الذكاء الاصطناعي، تظهر إبستمولوجيا آلية: كيف "تعرف" الشبكات العصبية؟ هل المعرفة الخوارزمية موضوعية؟ (مثل نقاشات في تعلم الآلة والتحيز الآلي).

الخاتمة

في الختام، شهدت الإبستمولوجيا في الفلسفة الحديثة تحولاً من اليقين الديكارتي إلى الشك الهيومي، ثم التركيب الكانطي، فالديالكتيك الهيغلي، والنسبية النيتشوية، والتحليل اللغوي، والنقد ما بعد البنيوي، وصولاً إلى التعددية المعاصرة. لم تعد المعرفة "تمثيلاً" للواقع، بل ممارسة، خطاباً، وبناءً اجتماعياً. هذا التطور لم يُنهِ الإبستمولوجيا، بل جددها، مما يدعو إلى إبستمولوجيا هجينة تواجه تحديات العصر: كيف نبني معرفة موثوقة في زمن المعلومات المضللة، والذكاء الاصطناعي، والأزمات العالمية؟ الجواب يكمن في توازن بين النقد والتعددية، مع الحفاظ على المسؤولية المعرفية تجاه الحقيقة المشتركة. هكذا، تظل الإبستمولوجيا قلب الفلسفة الحديثة، ليس كتأسيس، بل كسؤال دائم. فهل يمكن عقلنة التعدد المنهجي والفوضى الرقمية والتضخم المعلوماتي؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

تؤكد الفلسفة الوجودية على وجود وحرية ومسؤولية وخيار كل شخص، وجميعها تُعاش وتُطبق في الحاضر فقط. الماضي مضى، انه ذكرى. كل ذكرى، وحتى الحدث ذاته هو متفرد لكل شخص. بالطبع، الذكريات يمكن ان تتغير، لكن هل هذا يعني ان التاريخ يمكن ان يتغير؟ كذكرى، نعم. ولكن كحدث، هل هو يتغير أيضا؟ اذا كانت ذكرى شخص او الافتراضات المشتركة لجماعة معينة تختلف عن تلك التي لدى شخص آخر او جماعة أخرى بشأن الاحداث الماضية، ماذا ستكون النتيجة؟

بالنسبة للمستقبل فهو ليس اكثر من تفكير مستمر، حيث يتم استخدام كلمة المستقبل كواصف. فقط الأجزاء الوحيدة من الزمن، المكان، والحياة حيث يُمارس الوجود والماهية هي التي تقع في الحاضر. ماذا يعني كل هذا؟ هل هو يهم حقا؟ منْ يقوم بالاختيار؟

المكان الوحيد الذي يمكننا العيش فيه هو في اللحظة الحاضرة. كيف نعرف اننا نعيش في الحاضر، او حتى اننا موجودون؟ هذا السؤال طُرح امام ديكارت الذي صرح : "انا افكر، لذلك انا موجود"، كما تُرجمت من الفرنسية واللاتينية. طبقا لديكارت، هذا التصريح الذي يبدأ بـ "انا افكر"، أثبت انه لديه القابلية للاعتراف بوجوده. "انا افكر، لذا انا اتأمل ذاتي". " انا افكر، لذا انا أتصور ذاتي بالإضافة للعالم الخارجي". هذا التصريح الوجودي من جانب ديكارت نال القبول من البعض ورُفض من البعض الآخر. وبهذا، يصرح الادب الوجودي بان هذه اللحظة الحاضرة هي الموقع الوحيد الذي توجد فيه الحياة والخيارات والفهم من حيث الزمان والمكان والتي هي متفردة لكل شخص. هذا يعني بعبارات وجودية هو ان "انا" مرتبطة بالحياة كـما "انا" اتصورها. و "انت" مرتبطة بالحياة كما "انت" تتصور. وباجتماعهما معا يتم التقدم الى ما يُعرف بـ "الافتراضات المشتركة" shared assumptions.

هذه الافتراضات المشتركة بمجملها هي التي زودتنا بوسائل لتحقيق ما أنجزه العالم، وهي تستمر للقيام بهذا. ذلك يتضمن التعليم بكل أشكاله وحقوله، وهو يمكن ان يحدث فقط في الحاضر.

الوجود يسبق الماهية

عندما طرح سارتر تصريحه "الوجود يسبق الماهية" هو جادل من البداية بان الافراد وُلدوا بدون أي هدف مقرر سلفا. ما يتبع ذلك، ونتيجة للوعي، هو الذي يوفر الوسائل المعرفية والفكرية لخلق الهدف. الهدف، مهما كان، يمكن ان يحدث فقط، مبتدئاً بالفكرة، يتبعها الإختيار والفعل. طبقا لسارتر، هذه العملية (من التفكير والاختيار والفعل) هي التي تقوم بصياغة وتشكيل جوهر الفرد. هذه الحقيقة الوجودية طبقا لسارتر، التي تؤكد على الخيارات والحرية والمسؤولية كل واحد منها يستمر بخلق الحياة التي نعيشها، وهكذا فان الجوهر تتم إعادة تشكيله باستمرار.

الوجود، الحرية، التعلم، التعليم، والجوهر

 في نهاية المطاف، ومن المنظور التربوي والتعليمي، المعلمون لديهم الحرية والمسؤولية في تقديم دروسهم، وبهذا، هم أيضا مسؤولون عنها ولديهم الحرية في طرح او عدم طرح الأسئلة والاجابة عليها . هذه الطريقة الوجودية في العيش يشترك بها الطلاب ايضا. الطلاب لديهم الحرية وهم مسؤولون عنها في الاختيار والاستماع لمعلم ام عدمه. عندما يختار الطالب ان لا يستمع او يتعلم فلا شيء هناك يمكن عمله سوى الاستمرار بتقديم الدعم والنصيحة.

وكما أشار سارتر، "نحن محكوم علينا لنكون احرارا". هذا التصريح ليس عقوبة بالسجن. فكما لوحظ أعلاه، التصريح يؤكد بان "الافراد وُلدوا بدون أي غرض مقرر سلفا". والذي يعني ان الفرد حر. هذه الحرية تتعلق بامتلاك قدرة واعية لإختيار أفكار المرء ومواقفه وأفعاله. وبهذا، الحرية ليست ادانة، انها تحرير. انها الذات الواعية التي تعترف بان الذات الموجودة هي حرة بعمل خيارات يكون الفرد مسؤولا عنها.

هذا يمتد فيما بعد الى التربية الوجودية existential pedagogy. كلاسر Glasser،مثلا يسلط الضوء على ان التحفيز الباطني للأفراد والمشاعر الشخصية لهما التأثير الأعظم بما سنقوم به من عمل او قول او انجاز، بما في ذلك ما اذا كنا نختار التعليم والعمل ام لا. اذا لم يختر الطلاب العمل، فهم سوف لن يصلوا الى معايير التمييز الى ان يتخذوا قرارا بالعمل الذي بموجبه سيكونون احرار ومسؤولين عن النتائج المترتبة على ذلك.

نفس المبدأ الأساسي في الحرية والاختيار والمسؤوليات ينطبق على المدارس والمنظمات التعليمية. فمثلا اذا كان جميع الطلاب يعملون بجدية ويجهدون أنفسهم بنجاح، ويكملون برغبة كل العمل المطلوب عبر مراحلهم الدراسية (سواء كانت ابتدائية او متوسطة او جامعية)، عندئذ سوف تعكس درجاتهم هذا الجهد المحفز ذاتيا بما يؤدي الى انجاز اكاديمي عالي.

لكن، بالرغم من كل انضباطهم الذاتي والتفاني والتصميم والاجتهاد (الذي تجسد في اجتياز كل الاختبارات في المستويات الابتدائية والمتوسطة والجامعية)، اذا لم يكن هؤلاء الطلاب يتقدمون ويحصلون على اعتراف دولي (في انسجام مع المعايير الاكاديمية الدولية المقبولة)، هذا سيشير بوضوح الى وجود قضايا اكاديمية وتعليمية خطيرة .

فمثلا، فيما يتعلق بالمعايير المعترف بها دوليا في التميّز الاكاديمي، يقول اريسون Ericsson ان جميع معايير التميز يجب ان تُفهم ويُعترف بها عالميا وتجسد مبادئ مقبولة. مثال دولي على هذا هو جائزة نوبل. حقول هي الفيزياء والكيمياء والفسيولوجي والطب. كل الحقول يتم تطبيقها، والمرشحون يلبون كل المعايير الدولية المعترف بها للتميز الاكاديمي لنيل الجائزة.

لكن اذا لم يصل هؤلاء الطلاب المجتهدون والمتحفزون ذاتيا الى هذه المعايير الدولية للتميز كالأخرين، رغم التزامهم واصرارهم ورغبتهم في انجاز أعلى مستوى ممكن لتميز الدولي، فكيف ستكون النتيجة؟

***

حاتم حميد محسن

..............................

Psychology today, 9 oct,2025

الهوامش:

1-  كويل Coyle. (2009). دليل الموهبة. العظمة لا تولد، بل تنمو، اليك كيف. دار نشر بانتام راندوم هاوس.

2-  داكوورث . بيترسون واخرون (2007). الشجاعة، المثابرة والشغف لتحقيق الأهداف الطويلة المدى، مجلة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي.

تُعد الحاضرية الوجودية الشاملة إطاراً فلسفياً متقدماً، يجمع بين المفاهيم الأنطولوجية والفينومينولوجية الأكثر تعقيداً، ويرتكز بشكل أساسي على محاور الوعي، والماهية، والغيرية. يهدف هذا الإطار إلى تقديم رؤية ديناميكية وروابطية للوجود الإنساني، من خلال تجاوز الأطر الثنائية التقليدية. لا يمكن فهم ماهية الوعي في هذا السياق الشمولي دون نقد جذري لمفهوم الجوهر الثابت والمطلق.

إن الغاية الرئيسية من هذا التحليل الأنطولوجي تكمن في الكشف عن العلاقة الجدلية بين الوعي والإطار نفسه. وهذا يقتضي تجاوز "الانغلاق المعرفي" الذي يفرضه الوعي المحدود، إلى استكشاف "فضاء معرفي لا نهائي" يسمح بتحقيق المعنى الكوني. هذا التأسيس يؤكد أن الوعي ليس كياناً باطنياً معزولاً، بل هو فعل أنطولوجي يتم اكتسابه من خلال الانخراط المستمر في العالم.

نقد الكوجيتو ومأزق الوعي المثالي

ينطلق التحليل الوجودي والفينومينولوجي للوعي ضمن الحاضرية الشاملة من رفض مبدئي وقطعي للمفهوم الكلاسيكي لـ "الكوجيتو الديكارتي" أو "الوعي الخالص". لقد نظر ديكارت إلى الوعي كفكر مجرد، مفاده "أنا أفكر إذن أنا موجود"، مركّزاً على التفكير المثالي الذي لا يتطلب تموضعاً مادياً أو تعلقاً بالواقع.

تعرضت هذه الرؤية المثالية لنقد واسع من قبل مؤسسي الفلسفة الوجودية والظاهراتية، بما في ذلك هوسرل وهايدغر وسارتر. ويتمثل جوهر النقد في أن هذا الوعي الخالص يمثل تفسيراً مثالياً مغلقاً لا يعترف بضرورة تعلق الذات بجدلية الموضوع. بالنسبة لهؤلاء الفلاسفة، فإن الوعي المجرد هو "وهم" لا يمكن إدراكه كوجود فاعل أو متحقق، بل يبقى وجوداً افتراضياً. يشير هذا النقد إلى تحول مركزي في الإطار الأنطولوجي: بما أن الوعي النقي غير قابل للتحقق كوجود، فإن الوجودية الشاملة تقرر أن الوجود الفعلي (الانخراط) يسبق نقاء الوعي، وهذا الوجود الفعلي هو الذي يمنح الوعي حقيقته.

الوعي الحقيقي كـ "انخراط"

يشير هذا الإطار الفلسفي إلى أن ماهية الوعي الحقيقية تكمن في ديناميكية العلاقة والتعلق بالوجود الفعلي. وبما أن الوعي المجرد (النومين) مستحيل إدراكه كوجود فاعل، فإن الوعي الوجودي لا يمكن أن يكون إلا وعياً متعلقاً ومنخرطاً، وهذا الانخراط هو ما يمنحه حقيقته الأنطولوجية.

يُفهم الوعي الحقيقي، في هذا المنظور، على أنه النشاط المبدع الفاعل الذي يمنح المعنى للموجودات. هذه الموجودات كانت مجردة وغير ذات قيمة قبل التفاعل البشري معها. بالتالي، فإن الوعي في الحاضرية الشاملة يُنظر إليه كـ "فعل أنطولوجي" وليس كـ "جوهر داخلي"؛ وهو لا يكتسب صدقه وحقيقته إلا من خارج ذاته، عبر انخراطه المباشر والمقصود في العالم. وهذا التعلق يمثل شرطاً لا غنى عنه لتحويل الوعي من مجرد حالة نظرية إلى قوة فاعلة تحقق المعنى.

الماهية كـ "صَيرورة مُتجددة"

تستند الحاضرية الوجودية الشاملة إلى الأسس الظاهراتية التي وضعها إدموند هوسرل، حيث تُعتبر فلسفة القصدية أساسية. القصدية هي المبدأ الذي يقلب فكرة الوعي المغلق الديكارتي، مؤكداً أن الوعي دائماً "وعي بشيء". هذا يعني أن الوعي لا يمكن أن يوجد في فراغ أو ككيان مجرد، بل هو فعل "التعلق" بشيء ما، وهذا الفعل هو جزء أساسي من طبيعته الأنطولوجية.

إن هذا الفهم للقصدية كـ "ماهية متحركة" ينسجم مع تأكيد هايدغر على أن وعي الذات يجب أن يتسم بالحيوية الديناميكية. القصدية هنا تتجاوز التفكير المجرد لتصبح السعي لتحقيق هدف مُقرر، وهذا السعي هو ما يمنح الوجود معناه الحقيقي. إن هذا التوليف المنهجي يمثل محاولة لتجاوز مأزق الوعي المثالي الديكارتي من خلال الجمع بين حيوية هايدغر الوجودية ووضوح قصدية هوسرل المعرفي.

الروح كمشروع لا كجوهر ثابت

في إطار الحاضرية الوجودية الشاملة، يتم نفي الماهية التقليدية كجوهر ثابت ومطلق، لصالح مفهوم "الروح كـ صيرورة متجددة". لا يُنظر إلى الروح هنا ككيان ميتافيزيقي ثابت، بل كمشروع مستمر للوجود الإنساني يتحقق بشكل متواصل من خلال اختيارات الفرد وتصرفاته الحرة.

هذا المفهوم للماهية يعكس بوضوح مبدأ التزامن الأنطولوجي الوجودي للمعنى، وهو المبدأ الأساسي في هذه الفلسفة. الوعي هنا يصبح مرتبطاً بشكل وثيق بالحرية الإنسانية والتجربة المعاشة.

مستويات الوعي

تفرق الحاضرية الوجودية الشاملة بين مستويين من الوعي لتحقيق التوازن المطلوب:

الوعي الوظيفي: وهو الوعي الضروري لأداء المهام اليومية بكفاءة، ولكنه يمثل وعياً محدوداً ومحصوراً في ذاته، يركز على إدراك الذات المحدودة والمحل المكاني والزماني المباشر فقط.

إن التوقف عند هذا المستوى من الوعي يُعد "انغلاقاً معرفياً". لا يستطيع الوعي الوظيفي، بطبيعته المقتصرة على الضرورات العملية، أن يشمل ما يتجاوز الإطار العملي الضيق، وبالتالي فإنه يعجز عن إدراك المعنى الوجودي الكوني الكامل.

الوعي كـ "نشاط مبدع" لخلق المعنى

الوعي الحقيقي ليس حالة تأمل سلبية، بل هو "نشاط مبدع". هذا النشاط هو الذي يخلق العالم ويمنح المعنى للموجودات التي كانت مجردة قبل التفاعل البشري معها.

إن هذا الدور الإبداعي يفرض الالتزام بالفعل والتدخل، ويتطلب مقاومة "الكسل الفلسفي" و"اللامبالاة الوجودية". التفلسف اليومي والفضول يُعتبران محركاً ضرورياً للوعي والبحث عن الحقائق الجوهرية. وهذا يربط الوعي بالمسؤولية، حيث يجب أن يكون الوجود المبدع موجهاً نحو الالتزام الأخلاقي والعمل الكوني.

الموجود الإنساني مقابل الموجودات الأخرى

يستند هذا التفريق على التمييز الوجودي الذي قدمه سارتر بين "الوجود لذاته" (الإنساني) و"الوجود في ذاته" (غير الإنساني)، والذي يُعتبر أساسياً لفهم ماهية الإنسان كـ "مشروع" حر ومسؤول.

الموجود الإنساني (الوجود لذاته)

يُعرّف الموجود الإنساني بصفته "الوجود لذاته". إن الحرية هي ما يميز الإنسان عن الجماد، وهي مفارقة (الهدية والعبء )في آن واحد، لأنها تفرض المسؤولية الكلية. الإنسان محكوم بالحرية وعليه أن يعيشها قولاً وفعلاً.

يتمثل الفرق الجوهري في "النقص". فالإنسان كائن ناقص وغير مكتمل أنطولوجياً؛ هذا النقص هو المسافة الفاصلة بين "ما هو عليه" و "ما يريد أن يكون". هذا الدافع المستمر للتجاوز، والقلق من الغد، هو ما يمنع الإنسان من التحول إلى مجرد وجود في ذاته. إن هذا النقص هو ما يبرر تزامن الماهية التي تُفهم كـ "صيرورة متجددة" ومشروع مستمر.

الموجودات الأخرى وثبات الماهية

تندرج الموجودات الأخرى (المادية وغير الإنسانية) ضمن تصنيف "الوجود في ذاته". هذه الموجودات تتميز بالثبات والكمال الداخلي؛ فهي "ما هي عليه". حدها النهائي هو وجودها الفعلي، وماهيتها محددة ومكتملة سلفاً، وهي لا تسعى لتجاوز ذاتها ولا يقلقها الغد.

تفتقر هذه الموجودات إلى الوعي القاصد أو الذاتي، وبالتالي فهي غير قادرة على الاختيار أو تحمل المسؤولية. لا يمكنها أن تعي معنى الوجود. وفقاً لهايدغر، غالبًا ما تظهر الموجودات غير الإنسانية كـ "موجودات في متناول اليد" (أدوات)، وتكتسب أهميتها الأنطولوجية من خلال علاقتها بالوجود الإنساني واحتياجه إليها.

الإنسان ككائن مانح للمعنى

في سياق الحاضرية الوجودية الشاملة، يكمن التفريق الحاسم في القدرة على منح المعنى. الوعي الإنساني، وهو النشاط المبدع الذي يخلق العالم ويمنح المعنى للموجودات التي كانت مجردة قبل التفاعل البشري معها.

الموجودات غير الإنسانية تظل في حالة "وجود مجرد" حتى تقع تحت قصدية الوعي الإنساني. هذا يضع مسؤولية أنطولوجية مضاعفة على الإنسان: فهو ليس مسؤولاً عن بناء ماهيته الذاتية (الصيرورة) فحسب، بل هو مسؤول أيضاً عن "تأنسن" العالم المادي ومنحه قيمة ومعنى. إن هذا التمايز الجذري يفسر لماذا تتحدد الماهية الإنسانية في كونها صيرورة متجددة مرتبطة بالحرية، على عكس ثبات الماهية المادية التقليدية.

المسؤولية الوجودية الكلية والالتزام الأخلاقي

في ضوء الوعي، تتحول الحرية، التي هي شرط وجودي وعبء ثقيل في الوجودية، إلى التزام أخلاقي كوني. إن هذا الالتزام يضمن أن يكون الوعي متجهاً نحو الفعل الأخلاقي (القصدية الأخلاقية).

يفرض الوعي تحمل المسؤولية الكاملة عن الاختيارات والتصرفات، ويتسع نطاق هذه المسؤولية ليشمل مصير الآخرين و"الوضع الإنساني ككل". هذا الالتزام الوجودي هو ما يمنع الروح كصيرورة متجددة من الانهيار.

مواجهة الوعي المفرط والاغتراب

على الرغم من أهميته، إلا أن الوعي العميق الناتج عن التفكير المفرط يكشف تناقضات العالم، مما يسبب شعوراً بالاغتراب والعزلة والقلق الوجودي. العقلانية المفرطة هي حالة مرضية من التفكير والتحليل المبالغ فيه، تضع حاجزاً بين الإنسان ومشاعره وتمنعه من التفاعل بعمق مع التجارب الوجودية، مما يؤدي إلى فقدان المعنى الوجودي نتيجة السعي غير الواقعي للكمال.

لهذا السبب، فإن الوعي ليس دعوة للتفكير الزائد، بل هو دعوة لحالة من "السكينة الداخلية المتكاملة" التي تتقبل عدم الكمال الوجودي. لمواجهة هذا، يجب إضافة عنصر "الحكمة أو التوازن الوجودي".

الماهية ووعي الوجود كشرط للمعنى

إن ماهية الوعي في هذا الإطار ليست جوهراً ثابتاً، بل هي "القدرة القصدية المتحررة والمسؤولة" التي تتجسد في الوعي. هذا الوعي يمثل نشاطاً مبدعاً يمنح الوجود معناه الحقيقي. إن تحديد الماهية أخلاقياً (الوعي المسؤول والملزم) هو ما يضمن أن يكون المعنى المتحقق كونياً وشاملاً، وليس فردياً ضيقاً. لذا يجب مقاومة الجمود الفكري واللامبالاة الوجودية واستبدالها بالتفلسف اليومي، ليكون الوعي محركاً دائماً للبحث عن الحقائق وجوهرياً للتدخل الإبداعي في العالم. وعلى الفرد أن يطور وعياً شاملاً يسمح له بتحمل المسؤولية الكاملة.

***

غالب المسعودي

..........................

مراجع

سارتر، جان بول. الوجود والعدم: محاولة في الأنطولوجيا الظاهراتية.

هايدغر، مارتن. الكينونة والزمان (الوجود والزمان).

هوسرل، إدموند. تأملات ديكارتية.

ديكارت، رينيه. تأملات في الفلسفة الأولى.

ميرلوبونتي، موريس. فينومينولوجيا الإدراك.

بقلم: رويفيرا

ترجمة: حاتم حميد محسن

 ***

ماهي بالضبط الاشياء الرياضية؟ وكيف تتصل معرفتنا بها؟ منذ افلاطون (427-347ق.م) كانت هذه الأسئلة أساسية لفلسفة الرياضيات. افلاطون ادرك ان الرياضيات تتضمن دوائر تامة، مثلثات، وما شابه. لكن كما لاحظ افلاطون، ان لا وجود في العالم لدوائر تامة او مثلثات، ما يوجد فقط تقريبات غير تامة. لو تصوّرنا مضلّعا بأعداد متزايدة من أضلاع متساوية. عندما يقترب عدد الاضلاع من اللانهاية، سيصبح المضلع دائرة. وهكذا، الدائرة التامة يمكن تصورها كمضلع بعدد لا متناهي من الأضلاع اللامتناهية في الصغر. لذا، لا يهم كم هو دقيق الكومبيوتر في عمل الدائرة، سوف يكون فقط تقريب غير تام. الانسان المتناهي وما لديه من كومبيوتر لا يستطيع خلق أشياء بخصائص رياضية لا متناهية، مثل الاضلاع اللامتناهية للدائرة المثالية. افلاطون استنتج طالما لا وجود هناك لأشياء رياضية تامة في العالم، فان أشياء الرياضيات (الدوائر التامة والمثلثات والأعداد ذاتها) يجب ان توجد كأشياء مجردة أبدية وراء الزمان والمكان في عالم افلاطوني آخر يسمى عالم الأشكال (الأفكار). نوع افلاطون الخاص للواقعية الرياضية (أي إضفاء الواقع الموضوعي على لأشياء الرياضية) كان من اكثر وجهات النظر السائدة حول الرياضيات بين كل من الفلاسفة والرياضيين منذ ذلك الحين.

لكن العديد من الفلاسفة بعد افلاطون – خاصة التجريبيين الذين ينظرون الى كل المعرفة باعتبارها تُكتسب من خلال التجربة – كانت هذه الرؤية المتجاوزة للرياضيات غير معقولة. وهكذا، منذ زمن افلاطون، كان تاريخ فلسفة الرياضيات مليء بالتفسيرات المناهضة للأفلاطونية محاولا اسقاطها من برجها السماوي واعادتها الى الارض. احد التفسيرات في بداية القرن العشرين سمي بـ التقليدية conventionalism، نظر الى الادّعاءات الرياضية كـ "تحليلية" او صحيحة بحكم الاتفاق. الادّعاء التحليلي هو أي ادّعاء صحيح فقط بسبب المعنى التقليدي لعبارته – مثل "كل العزاب غير متزوجين". ونفس الشيء، الادعاءات الرياضية كان يجب ان يُنظر اليها صحيحة فقط بسبب التعريف التقليدي لعباراتها. أيضا في بداية القرن العشرين، كان الرياضي ديفد هلبرت من البارزين جدا في تطوير الشكلانية formalism، وهي الرؤية بان الرياضيات ليست اكثر من الاستخدام المرتكز على القاعدة لرموز لا أهمية كبيرة لمعانيها. وتقريبا في نفس الفترة، طور الرياضي L.E.J.Brouwer الحدسية intuitionism، التي اعتبرت الادعاءات الرياضية تُبنى من خلال حدسنا الذاتي. هذه التوضيحات للرياضيات جميعها رفضت الافلاطونية من خلال تجنب أي إشارة لذهن – او أشياء رياضية خارجية اسطورية مجردة.

مع ذلك، في ورقة هامة "الحقيقة الرياضية" في مجلة الفلسفة، عدد70،1973، يرى الفيلسوف بول بيناسيراف  Paul Benacerraf ان التفسير الافلاطوني للرياضيات يجرّد الادعاءات الرياضية من حقيقتها الموضوعية بالمعنى الشعبي اليومي، أي، من فكرة ان الحقائق الرياضية صحيحة سواء اعتقد بها المرء ام لا. الحقيقة الموضوعية هي خاصية للرياضيات وهي واضحة لمعظم الناس، لكن التوضيح المناهض للأفلاطونية يجعل الرياضيات ذاتية (رغم ان حجة بيناسيراف موجهة نحو التقليدية والشكلانية، ولن تكون الحدسية أفضل حالا).

في ورقته، يبيّن بيناسيراف ان الادعاءات الرياضية مثل "ان هناك على الأقل ثلاثة أعداد زوجية اكبر من 17" لها نفس الشكل النحوي والمنطقي كما في الادعاءات غير الرياضية مثل "ان هناك على الأقل ثلاث مدن كبرى أقدم من نيويورك". وهكذا، يزعم بيناسيراف بانه لو كانت الادعاءات الرياضية صحيحة بنفس الطريقة الموضوعية التي تكون بها الادعاءات صحيحة لكل الأشياء اليومية او حقائق، عندئذ يجب ان تكون أشياء الادعاءات الرياضية موجودة ايضا بشكل مستقل عن أشكالنا وتقاليدنا الذاتية. بعبارة أخرى، مثلما تصح الادعاءات حول المدن الواقعية التي يجب ان تكون مدن موجودة موضوعيا، كذلك يجب ان تكون ادعاءاتنا الرياضية حول الأعداد والدوائر التامة وما شابه، تكون صحيحة في أعداد ودوائر تامة موجودة موضوعيا. لذلك، سيبدو ان الافلاطونية هي التفسير الرياضي الوحيد الذي يسمح بالحقائق الموضوعية للرياضيات.

كيف نعرف الحقائق الرياضية؟

هناك مشكلة أثيرت امام الافلاطونية عرضها بيناسيراف. اذا كانت الأشياء الرياضية مثل الأعداد والدوائر التامة توجد كأشياء مجردة وراء الزمان والمكان، ولا تتأثر او تؤثر في أي شيء في عالمنا اليومي، كما تزعم الافلاطونية، عندئذ كيف نتوصل الى معرفتها؟ اذا كان يجب علينا ان نفترض وجود الأشياء الرياضية الافلاطونية لعمل ادعاءات رياضية صحيحة موضوعيا، عندئذ نحن تُركنا في مأزق: اما نقول ان الرياضيات ذاتية، او نوضح كيف يمكن ان نمتلك معرفة بالأشياء غير الزمكانية التي لا يمكن الوصول اليها. نعتقد بان التفسير المضاد للأفلاطونية والتجريبي بالكامل للرياضيات هو وحده يستطيع الاستجابة   بشكل مثمر لهذا المأزق الايبستيمولوجي. الفيلسوف فيليب كيتشر Philip Kitcher في كتابه (طبيعة المعرفة الرياضية،1984) يفترض بالضبط مثل هذا التوضيح عبر تحديث التجريبية الرياضية لجون ستيوارت مل.

كيتشر يرى ان الرياضيات تتألف ليس من كينونات افلاطونية مجردة وانما من عمليات تجريبية إنسانية عامة تُجرى في أشياء مادية: مثل جمع وربط وفصل الحصى مثلا. فمثلا، القول الرياضي ان 2+3=5 طبقا لكيتشر سوف يشير أولا الى عملية تجميع تجري في الأشياء تسمى (يساوي 2)، ثم الى عملية تجميع لـ (يساوي 3)، وأخيرا الى العملية النهائية المركبة لـ (يساوي 5). الرياضيات المتقدمة سوف يتم تطويرها من هذه البدايات الادراكية البدائية والتي في النهاية تسمح لنا لتصوّر الهياكل التجريبية للعالم من خلال الرياضيات. وكما يجادل كيتشر، نحن لم نعد نحتاج لتأدية عمليات تجريبية ماديا، نحن نستطيع ان نؤديها في اذهاننا. وحتى مع هذا، العمليات الذهنية التي جُسدت من خلال رموزنا الرياضية لاتزال يتم تعقّبها في النهاية الى التجريبي، أي، للعمليات المادية.

وبالنظر لهذا التوضيح التجريبي، سيتم الاحتفاظ بـ "الحقيقة الرياضية" في المعنى الموضوعي الشعبي . الأقوال الرياضية ستكون صحيحة بمقتضى الواقع الموضوعي للعمليات التجريبية التي تشير اليها الادعاءات الرياضية. كذلك، هذه العمليات تقع كثيرا في الزمان والمكان، وبهذا تتجنب  صعوبات بينساريف الايبستيمولوجية. ستكون لدينا معرفة في الرياضيات ليست من المعرفة حول الأشياء المجردة وانما من المعرفة حول العمليات التجريبية التي ترتكز عليها الرياضيات في النهاية.

درس الرياضيات اللامحدودة

النقد الشائع للتوضيح التجريبي هو ان الرياضيات هي بلاشك حول اللانهائية مثل المجموعات اللامتناهية infinite sets. ربما لنا الحق التساؤل كيف تطورت رياضيات اللامتناهي في ظل التفسير التجريبي طالما انه من غير الممكن للإنسان المحدود ان يؤدي عمليات تجريبية لامحدودة حول أشياء مادية. احد الحلول الممكنة اقترحه كيشر Kitcher، سيكون من الأفضل لنا ان ننظر الى المجالات اللانهائية للرياضيات باعتبارها عمليات تجريبية مثالية لانهائية. علينا ان نتصور نوعا من وكيل مثالي بقدرات لا حصر لها يستكمل بطريقة ما عمليات تجريبية لامحدودة، وبهذا يزودنا بتوضيح تجريبي للانهائيات. يرى كيتشر ان هذه الوسيلة المفاهيمية ستكون قريبة من المثالية المفيدة في الفيزياء مثل غازات مثالية وسطوح خالية من الاحتكاك. البعض اجابوا بان الأشخاص المثاليين هم ذاتهم مشابهين جدا للمجردات الافلاطونية التي نحاول تجنبها. آخرون جادلوا بان المثالية المثيرة للإشكال بشأن اللانهائيات لا داعي للاستعانة بها اذا كانت موافقتنا التجريبية تشير فقط الى لانهائية محتملة وليست لانهائية حقيقية (التمييز الذي اول من وضعه ارسطو). اللانهائية الحقيقية كلية لانهائية مكتملة، مثل مجموعة مكتملة من الاعداد الطبيعية او توسعات عشرية مكتملة لأعداد غيرعقلانية مثل (pi)(1)

بالمقابل، اللانهائية الاحتمالية لا نهاية لها، دائما عملية غير تامة مثل حساب الأرقام الطبيعية او حساب التوسع العشري اللانهائي المحتمل. ان اللانهائية الحقيقية، لو نُظر اليها كعمليات تجريبية سوف تتطلب اشخاصا مثاليين كما افترض كيتشر بسبب اكتمالهم. لكن التجريبي بدلا من ذلك يفسر لانهائية الرياضيات باعتبارها دائما غير تامة – فقط تستلزم عمليات لامتناهية محتملة. فمثلا، التجريبي يمكن ان يفسر الاعداد غير العقلانية مفاهيميا – عملية او حساب مرتكز على تجريب لامتناهي، موّلداً لانهائي محتمل لكن ليس توسع عشري تام. لذا بالرغم من ان التوسع العشري للأعداد غير العقلانية سيكون لامحدود محتمل، سيبقى دائما محدود في أي لحظة من الزمن نتيجة لمحدودية الانسان. هذه الفكرة تتجنب الحاجة لأشخاص مثاليين. بالنسبة للتجريبي، لا وجود هناك الى لانهائي حقيقي ولا أي عمليات لانهائية حقيقية نوعا ما "تامة" من جانب وكلاء مثاليين. هناك فقط لامحدوديات محتملة.

كمثال اخر، دعونا نعود الى الدائرة الافلاطونية التامة التي ذكرناها سابقا والتي جرى تصورها كمضلع لامتناهي الاضلاع.هذا يمكن أيضا ان يُفسر من جانب التجريبي ليس كلامتناهي حقيقي وانما فقط لامتناهي محتمل – كلامتناهي مفاهيميا، دائما كعملية تجريبية غير تامة. وبالضد من الافلاطونية، بالنسبة للتجريبي لا وجود هناك لأعداد افلاطونية ابدية ومجردة، الدوائر التامة والمثلثات وماشابه لا توجد على الأرض ولا في السماء الافلاطوني: هناك فقط عمليات وتقريبات متناهية غير تامة.

هل يمكن ان تكون الحقيقة الرياضية عرضية؟

آخِر مخاوف التجريبية الرياضية هي انه لو كانت الرياضيات حقا تُختزل في النهاية الى عمليات مُلاحظة، ذلك يجعل حقيقة الادعاءات الرياضية عرضية contingent (2) طالما ان الادعاءات المشتقة تجريبيا هي في معظمها صحيحة عرضيا. لكن يبدو لمعظمنا العكس هو الصحيح، الرياضيات صحيحة بالضرورة وغير معتمدة على أي طارئ. الرد التجريبي السريع سيكون ان الرياضيات فقط لأنها تبدو صحيحة بالضرورة، ذلك لا يعني انها كذلك. وكما بالنسبة لجون ستيوارت مل، التجريبي سيكون سعيد جدا في قبول ان الرياضيات فقط صحيحة عرضيا.

وبلا شك، تفسير التجريبي للرياضيات يجعل فهم الرياضيات العالية اكثر صعوبة وبالتالي أقل جاذبية للعديد من الناس. مع ذلك، تفسيرات التجريبية على الأقل تمنع التضخم غير الضروري لما لدينا من ميتافيزيقا طالما هي تتجنب الحاجة لإفتراض وجود أشياء رياضية افلاطونية مجردة.

***

........................

المصدر:

Mathematical knowledge: A Dilemma, Philosophy Now, Oct/Nov 2010

* الكاتب: رويفيرا مصمم غرافيك في مدينة ميسي سوجا، اونتاريو

الهوامش:

(1) العدد غير العقلاني هو ثابت رياضي يساوي 3.14159،أي نسبة محيط الدائرة الى قطرها. قيمة الرقم هو ذاته في كل دائرة بصرف النظر عن حجمها.

(2) الحقائق العرضية يكون فيها الادّعاء صحيح الآن لكن يمكن ان يكون كاذبا في ظروف مختلفة. الحقيقة العرضية غير مضمونة بالمنطق او الضرورة، فهي تعتمد على حقائق العالم الحقيقي وقد تختلف تبعا له.

تأطير الإشكالية الأنطولوجية الكبرى

تُعد إشكالية العلاقة بين الماهية والوجود المحور الأكثر تعقيداً وأساسيةً في تاريخ الفلسفة الغربية، إذ مثّلت سؤالاً جوهرياً للتفكير الميتافيزيقي منذ العصور الكلاسيكية وحتى الفلسفة المعاصرة. إن هذا الجدل الأنطولوجي لا يقتصر على تحديد مفهوميهما فحسب، بل يتمحور حول إشكالية الأولوية: هل الجوهر يسبق التحقق، أم أن التحقق يخلق الجوهر؟

يتطلب فهم هذا الصراع توضيح الحدود المنهجية لكل من المفهومين، ثم تتبع الانقلابات الفلسفية التي أدت إلى تقويض الماهوية التقليدية، وصولاً إلى صياغة نموذج تركيبي جديد هو "الحاضرية الوجودية الشاملة". ويهدف هذا البحث إلى تقديم تعريف منهجي ومفصّل للماهية والوجود، ثم تقديم تعريف مُحدّث لهما من خلال هذا المفهوم الحاضري الذي يسعى لتجاوز ثنائية الأولوية التاريخية.

الإطار المنهجي للجدل الأنطولوجي

التمييز المنهجي للماهية والوجود كبنية للسؤال الفلسفي

يُشكّل كل من الماهية والوجود قُطبي الوجود، إذ يقدم كل منهما إجابة على سؤال وجودي مغاير.

من الناحية الأنطولوجية، تشير الماهية إلى الجوهر الأساسي أو الطبيعة الكامنة لشيء ما، أي ما يجعله ما هو عليه. وهي تمثل الإجابة عن سؤال "ماذا". يمكن استخدام مصطلح الماهية للإشارة إلى الأشياء التي لها وجود حقيقي ملموس أو تلك التي هي مجرد تصورات ذهنية خالصة، فهي تحدد الصفة الأساسية والجوهر الحقيقي للشيء.

الوجود أما الوجود، فهو مفهوم يشير إلى تحقق الأشياء والكائنات في الواقع، وهو الإجابة عن سؤال "أنَّ". ويشمل كل ما هو متجسد، من أشخاص وجمادات، وصولاً إلى الأفكار والمشاعر التي تتحقق في الواقع الذهني أو الخارجي، مشيراً إلى فعل التحقق بحد ذاته.

دلالة الصراع الأنطولوجي: نزاع حول مصدر المعنى

إن النقطة المركزية في الصراع الفلسفي ليست مجرد التعريف النظري، بل تكمن في إشكالية الأولوية الأنطولوجية: هل تحدد الماهية الوجود وتسبقه (الماهوية)، أم أن الوجود هو الأولي ويشترط خلق الماهية (الوجودية).

يتجاوز هذا الصراع مجرد ترتيب زمني ليصبح نزاعاً حول مصدر المعنى والقيمة. فمن جهة، تفترض الماهوية وجود معنى جوهري وموضوعي يجب اكتشافه، الأمر الذي يؤدي إلى تبني فكرة الثبات والتحديد المسبق. ومن جهة أخرى، تصر الوجودية على أن المعنى يُخلق ذاتياً، وهو ما يتبنى فكرة الحركة والحرية المطلقة.

إن الهيمنة الطويلة للتصور الماهوي، التي استمرت لقرون، لم تكن مجرد اختيار فلسفي، بل وظيفة سيكولوجية واجتماعية. لقد وفرت الماهوية "اطمئناناً للعقل بفكرة النظام والثبات"، إذ أزالت عبء خلق المعنى من الفرد وحولته إلى مصدر خارجي أو مبدأ ثابت (سواء كان إلهاً أو طبيعة).

الماهوية الكلاسيكية: سلطة الجوهر والنظام الثابت

لقد ساد التصور الماهوي، الذي يرى أن الماهية تسبق الوجود وتحدده، لقرون طويلة، بدءًا من أفلاطون والفلسفة الكلاسيكية مروراً بالفكر المدرسي الوسيط.

أفلاطون: "الماهية كنموذج مفارق والأصل الأزلي" أرسى أفلاطون الأساس لمفهوم أسبقية الماهية من خلال "نظرية المثل". لقد افترض أن لكل موجود في عالمنا الحسي مثالاً ثابتاً وخالداً يقع في "عالم المثل" المفارق. هذه تمثل الماهيات الحقيقية والكاملة، وهي سابقة على الوجود الحسي المتغير وغير المستقر. في هذا التصور، تُعتبر الموجودات التي ندركها بحواسنا مجرد نسخ أو ظلال ناقصة للمثال الأصلي. وبالتالي، تكون الماهية هي الأصل (النموذج الأزلي)، بينما الوجود الحسي هو التابع.

أرسطو: "الماهية كجوهر كامن وثنائية الكمون والتحقق" شكّل أرسطو تحولاً نحو الواقعية، إذ أعاد الماهية من عالم المثل المفارق إلى الموجودات الحسية ذاتها، ليجعلها جوهراً كامناً فيها. بالنسبة لأرسطو، لا ينفصل الجوهر عن الكيان؛ فالماهية (الصورة أو الجوهر) تشير إلى طبيعة الكيان وخصائصه الجوهرية، بينما الوجود يتعلق بالكيان نفسه كحقيقة متحققة.

ربط أرسطو الوجود بتحقيق الماهية من خلال ثنائية "القوة والفعل" (الكمون والتحقق). الماهية هي "القوة" أو الإمكان الكامن في المادة، بينما الوجود هو "الفعل" الذي يحقق هذا الإمكان. إن الوجود هو كمال القوة ومن أجله وُجدت. وعلى الرغم من اختلاف نزعة أرسطو الفلسفية عن مثالية أفلاطون، فقد أكد موقفه أن الوجود هو عملية تحقيق لجوهر سابق يحدد مسبقاً الغاية والحدود، مما رسخ استمرارية الماهوية كنموذج مهيمن في الفلسفة الغربية.

لقد أثبتت هيمنة هذا النموذج الماهوي لقرون قدرتها على تلبية الحاجة الفطرية للاستقرار المعرفي. لكن هذا الاستقرار الفلسفي هو السبب الجذري الذي أدى لاحقاً إلى ظهور الفراغ العدمي عندما بدأت أسس هذا النظام الثابت بالانهيار، بفعل التحولات الفلسفية الحديثة (مثل كانط وديكارت) والتحولات الاجتماعية المرافقة للعلمانية والثورة الصناعية.

الثورة الوجودية: الوجود يسبق الماهية وسلطة الحرية

شهدت الفلسفة الحديثة تحولاً حاسماً بدءاً من ديكارت وكانط، حيث انتقل مركز الاهتمام من الوجود الخارجي الثابت إلى الذات العارفة. مهد هذا التحول النظري لتقويض الأسبقية الماهوية، خاصة مع كانط الذي اعتبر الوجود "مجرد رابطة لا تضيف صفة حقيقية" إلى المفهوم.

بلغ هذا التحول ذروته في القرن العشرين مع الفلسفة الوجودية التي قادها جان بول سارتر، بإعلانه الانقلاب الفلسفي الكامل على التقليد الذي استمر لأكثر من ألفي عام. صاغ سارتر مقولته المركزية: "الوجود يسبق الماهية".

يُفهم هذا الانقلاب بالقول إن الإنسان كائن أولاً (يُقذف به إلى الوجود)، ثم يتحول فيصير هذا الإنسان أو ذاك؛ وعليه أن يخلق ماهيته الخاصة من خلال أفعاله وخياراته. في هذا السياق، تؤكد الوجودية أن الماهية بالنسبة للإنسان هي "غائبة وتُبتَكر"، أي أن الجوهر غير موجود سلفاً، بل يُخلق ذاتياً. إن العملية الفلسفية هنا هي انتقال في اتجاه مضاد، يفضي من الوجود إلى الماهية، حيث لا يمكن الظفر بالماهية إلا بفعل حر.

الدلالات الأخلاقية الجذرية

إن قلب المعادلة الأنطولوجية عند سارتر يترتب عليه نتائج أخلاقية جذرية. فإذا كان الإنسان غير محدد بـ "طبيعة إنسانية" مسبقة، فهو يمتلك حرية مطلقة، بل يُجبر على أن يكون حرّاً. هذه الحرية هي الأداة التي تمكنه من تشكيل ماهيته الفردية.

إن محاولة الهروب من هذه المسؤولية، سواء بوضع الفرد لنفسه تحت قوانين صارمة أو الاقتناع بأن ماهيته تصنع وجوده، يمثل ما أسماه سارتر سوء النية ومحاولة لإنكار الحرية الأصيلة. سارتر بذلك يحول الوجودية إلى مذهب إنساني يركز على الوعي والاختيار والمسؤولية كخصائص أصيلة للوجود البشري.

فبينما حلّت الوجودية مشكلة التحديد المسبق (بالقضاء على الماهوية)، أدت إلى مشكلة جديدة: يأس العدمية الناتج عن الحرية غير المؤطرة. يتطلب هذا اللا استقرار المتأصل في الوجود الإنساني (في مرحلة ما بعد اللاهوت) آلية زمنية لتثبيت المعنى الذاتي الذي حرره سارتر، وهذا يمهد لظهور الحاضرية الوجودية الشاملة.

الحاضرية الوجودية الشاملة: الأسس ونقد العدمية

في أعقاب الثورة الوجودية، ومع غياب معيار أخلاقي مطلق موجه، وجد الفرد الحديث نفسه في حالة من العدمية.

نشأة الحاضرية الوجودية في مواجهة العدمية

نشأت أفكار العدمية في سياق انهيار الإطار الديني التقليدي وصعود العلمانية، مما أدى إلى ظروف العدمية. وتنطوي حالة العدمية على الاعتراف المروع بأنه لا يوجد سبب عام أو ترتيب أو هدف لوجودنا، وأن كل شيء في الأساس لا معنى له ولا جدوى.

تُعد الحاضرية الوجودية الشاملة، التي ظهرت كتيار فلسفي مستقل، محاولة لمعالجة هذا القلق الناجم عن غياب المعنى الثابت، وذلك من خلال تغيير الإطار الزمني للالتزام.

 تحديد الأسس الفلسفية للحاضرية

ترفض الحاضرية الوجودية الشاملة النظرة التقليدية للفلسفة التي كانت تركز على الأبدية والقواعد العامة. وبدلاً من ذلك، تشدد على:

مركزية الحاضر والتجربة الفردية: تركز على الواقعية والتجربة الفردية ودور الحاضر في تشكيل التفكير والتحليل الفلسفي. هذا التضييق للتركيز الزمني يهدف إلى إيجاد معنى عملي للحياة الوجودية.

مفهوم التورط مقابل الانفصال: ترفض الحاضرية محاولة النظر إلى الحالة الإنسانية من منظور مستقل ومحايد (الانفصال). وبدلاً من ذلك، تؤكد على أننا مشاركون بالفعل في "حدث أو نشاط الوجود"، وهو نشاط متجسد دائمًا ومشعور ومتواجد في سياق تاريخي، وهذا هو مفهوم التورط.

إن التركيز الحاضري على التورط يمثل دحراً حاسماً لحالة الانفصال والضياع التي نتجت عن الحرية السارترية غير المؤطرة. فالعلة وراء الاغتراب الحديث والعدمية هي الانفصال وإحالة المسؤولية بيروقراطياً إلى ماضٍ قاهر أو مستقبل مبهم. لذا، فإن الأثر الناتج عن التركيز الحاضري هو فرض إلزامي في اللحظة الراهنة، مما يؤدي إلى تأصيل المعنى الذاتي في الواقع الملموس، بدلاً من البحث عن أساس ثابت. بهذا، تنجح الحاضرية في ترسيخ المعنى الوجودي في الآنية، وهو ما فشلت الوجودية النقية في استقراره بسبب طبيعتها المؤجلة (الوجود كمشروع مستمر).

إعادة تعريف الماهية والوجود من منظور الحاضرية

إن الإشكالية الأنطولوجية الكلاسيكية كانت محكومة بالانحصار في الثنائية المألوفة: إما أن يكون الشيء وجوداً أو ماهية. سعت الحاضرية الوجودية الشاملة إلى تجاوز هذه المفارقة التاريخية، من خلال تأسيس مفهوم التزامن الأنطولوجي، حيث لا يسبق أحدهما الآخر زمنياً أو منطقياً، بل يتشكلان معاً ويتلازمان في فعل "الآنية" المطلق.

تجاوز مفارقة الثنائية الأنطولوجية

تاريخياً، سعت تيارات فلسفية متأخرة، خاصة في الفكر الإسلامي (حاول صدر المتألهين الشيرازي -الملا صدرا، ت 1050هـ/1640م)، إلى تأصيل الوجود (أصالة الوجود) وتجاوز المفارقة التي تفرق بين طبيعة العالم العلوي (حقيقته الوجود) والسفلي (حقيقته الماهية). هذا التوجه يمهد لقبول التركيب الذي لا يفاضل بين الطرفين، بل يدمجهما في نظام كلي.

في الإطار الحاضري الشامل، لا يُنظر إلى الوجود كشيء يتحقق من أجل ماهية سابقة، ولا يُنظر إلى الماهية كشيء يُخلق في المستقبل على أساس وجود حالي (سارتر). بل إن الوجود والماهية يتشكلان بصورة متزامنة داخل إطار اللحظة الملتزمة.

الوجود كصَيرورة ملتزمة: الوجود في الحاضرية الوجودية الشاملة هو الصيرورة والتحقق المستمر المتجسد في الآنية الوجودية الملتزمة. إن الدلالة الأنطولوجية لهذا التعريف هي رفض حالة الانفصال والانتظار، حيث يصبح الوجود ليس مجرد حقيقة ثابتة أو تحقق انتهى، بل هو فعل "التورط" المباشر والملموس في اللحظة الراهنة. يتم هنا تضييق الأفق الزمني للوجود: فبدلاً من الوجود كـ "مشروع" ممتد على المستقبل (سارتر) أو كـ "قدر محتوم" مصدره الماضي (أرسطو)، يصبح الوجود هو اللحظة المركزة من الفعل الحر المنجز حالياً.

الماهية كانبثاق هيكلي: الماهية في الحاضرية هي النموذج المُصاغ والقيمة المُتكوِّنة نتيجة مجموع الاختيارات الحاضرية الملتزمة (التكثيف الهيكلي). من منظور الحاضرية، ليست الماهية غائبة تماماً كما ذهب سارتر، ولا هي مسبقة كما ذهب أفلاطون. بل هي انبثاق هيكلي فوري يتشكل في اللحظة الراهنة نتيجة المسؤولية والفعل المنجز. إنها الإجابة عن سؤال "ماذا أصبح هذا الكائن في هذه اللحظة؟" نتيجة انخراطه الملتزم. تُشكل الماهية لحظياً وتتجدد وتُنقض في كل "آن" من الوجود. هي بمثابة التكثيف الهيكلي لأفعال الذات في الحاضر.

التداعيات الأخلاقية والاجتماعية للنموذج الحاضري

إن التداعيات الأخلاقية للنموذج الحاضري هي تضييق نطاق المسؤولية وتكثيفها. إذا كان سارتر قد ألقى على الإنسان مسؤولية كونية مطلقة في كل خيار، فإن الحاضرية تؤطر هذه المسؤولية في اللحظة الآنية، مما يجعلها أكثر قابلية للتعامل.

الالتزام والسعادة: يركز النموذج الحاضري على الوجود والحياة في الحاضر، مقدماً إطاراً أخلاقياً يركز على الالتزام الآني كطريق لتعزيز المعنى والسعادة، مما يوفر أملاً عملياً في مواجهة يأس العدمية.

إعادة تعريف سوء النية: في الإطار الحاضري، يتحول سوء النية إلى محاولة للانفصال عن اللحظة الراهنة (الآنية) أو إحالة المسؤولية إلى قوى الماضي أو توقعات المستقبل، بدلاً من التورط الآني والقبول بمسؤولية الفعل الحالي.

مسارات البحث المستقبلية

لتعميق فهم الحاضرية الوجودية الشاملة، يمكن للأبحاث المستقبلية أن تتجه في عدة مسارات:

الموت والزمن في الحاضرية: تحليل كيف يتعامل هذا الإطار مع تناهي الوجود البشري دون تقديم إجابات نهائية بشأن ما يحدث بعد الموت، بل بالتأكيد على أن المصير النهائي لا يقلل من أهمية الالتزام في الحاضر

التفاعل مع تيارات النقد المعاصر: دراسة تفاعل الحاضرية مع تيارات الفلسفة النقدية الحديثة، مثل اللاهوت السياسي وما بعد الحداثة، التي تشترك معها في نقد المفاهيم التقليدية للحقيقة، والهوية، والقوة، والمعرفة.

الهوية والماهية المُنبثقة: بحث التداعيات الهوياتية للماهية الحاضرية في ضوء التشكيل المستمر للهوية الفردية والجماعية، وكيف يمكن لهذه الماهية المتجددة لحظياً أن توفر أساساً للهوية المتماسكة في وجه الاغتراب.

***

غالب المسعودي

..........................

مصادر

أفلاطون (Plato):

الجمهورية (The Republic): لفهم نظرية المُثل وأسبقية الماهية.

أرسطو (Aristotle):

الميتافيزيقا (Metaphysics): لفهم العلاقة بين الصورة والمادة، وثنائية القوة والفعل (الكمون والتحقق).

جان بول سارتر (Jean-Paul Sartre):

الوجود والعدم (Being and Nothingness): المصدر الأساسي لفهم مقولة "الوجود يسبق الماهية" ومفهوم سوء النية (Bad Faith).

الوجودية مذهب إنساني (Existentialism is a Humanism): لبيان النتائج الأخلاقية الجذرية لمذهبه.

فريدريك نيتشه (Friedrich Nietzsche):

إرادة القوة (The Will to Power) / العلم المرح (The Gay Science): لفهم أصول مفهوم العدمية (Nihilism) وتحليله لانهيار الأساس الثابت.

جواب الفلسفة هو ان الاتصال المفرط Hyperconnectivity يمكنه ان يعيد تعريف الذات عبر مزج الهويتين الفردية والجماعية، لكنه أيضا يثير تحديات في تجزئة الأصالة وفقدان الهوية.

في عالمنا السريع التغيير، يتغير معنى الهوية. كل ما تحتاج اليه هو نقرة واحدة لتجعل الناس يعرفون بماذا تفكر وتعمل. وبسبب التواصل الاجتماعي والذكاء الصناعي وحقيقة ان مختلف الدول تترابط اكثر من أي وقت مضى، فان الأشياء التي اعتُبرت خاصة أصبحت عامة.

لكن هل ان بقاءنا المستمر على الاونلاين يعني اننا لانزال نفس ذواتنا؟ ام اننا نتحول الى نسخ من ذاتنا نعتقد ان الآخرين يحبونها؟

منْ نحن لا يعني ببساطة افكارنا الخاصة وانما التفكير حول ما نرى في أولئك الذين حولنا. الفيلسوف جورج هربرت افترض نظرية "مظهر الزجاج الذاتي" Looking – glass self. هويتنا تشكّل عبر التفاعلات وتصورات الآخرين – مفهوما انطلق بسرعة كبيرة في العصر الرقمي. منصات التواصل الاجتماعي تعمل كمرايا لامتناهية. انها تبيّن لنا كيف يرى الآخرون الأشياء وكيف يمكنهم تضخيم بعض الصفات والاعجابات والسلوكيات في الخوارزميات. وكمثال يمكننا ان نأخذ انستجرام.

هنا، شخص ما ربما يصنع حسابا يبدو انه واثق ومغامر: صور من رحلات خلابة او نزهات ليلية او ابتسامة عريضة للكاميرا دون الاتصال بالإنترنيت، مع ذلك، الحياة قد تكون مختلفة جدا - مليئة بالقلق والوحدة. هذا الاختلاف يخلق ما يسميه الفلاسفة "الذات المجزأة" fragmented self - إحساس بالتوتر بين عالم الاشخاص الواقعي وهويات الاون لاين.

ان المنصات الرقمية تقوّي أيضا ردود الفعل الخارجية. متى ما نحصل على اعجاب او مشاركة او تعليق سنقيّم ما اذا كانت الصورة التي نبعثها حول أنفسنا لازالت كما هي. هذا يمكن ان يعزز ثقتنا لكن أيضا يجعلنا قلقين حول مسألة كوننا "واقعيين". هل نعيش لأنفسنا ام للناس الاخرين؟

الترابط المفرط يهز بقوة احساسنا بالذات. نحن باستمرار علينا ان نجلب مختلف النسخ مع بعضها عن انفسنا. اذا كانت هناك عدة مرايا، أي منها يبيّن منْ نحن حقا؟ هل نحن نعرف ما هو الواقعي بعد الان؟

الفردية مقابل الجماعية: فعل متوازن

هل الفرد يحدد مصيره، ام ان الجماعة التي ينتمي اليها تحدد ذلك؟ الفلاسفة الغربيون وضعوا الحرية في جوهر الهوية لقرون بدءا من دفاع جون لوك عن الحرية الفردية الى احتفال نيتشه "بالسوبرمان". بالمقابل، المدارس الشرقية للكونفوشيوسية والطاوية اكدت على الواجب والتناغم وعدم التميز عن أي شيء أعظم. مع ذلك، في العالم الحديث المترابط، هذه الحدود تتراخى. لنأخذ السوشيال ميديا على سبيل المثال. الناس يمكنهم ان يكون لهم قولهم الخاص وينسجمون مع الحركات العالمية. أحيانا، شخص واحد يقول شيئا ما سيطلق حملات عالمية واسعة، يثبت ان من الممكن ان يكون كلا الوجهين – فرد وجزء من الجماعي. حركة me too وهي حركة اجتماعية ضد التحرش الجنسي مثال جيد على هذا الدور المزدوج. نحن يُطلب منا التحقق من الترابط المفرط. في عالم تقودنا به الخوارزميات نحو غرف الصدى، هل نخاطر بفقدان هويتنا؟ ام اننا نمزج هوية هجينة تعتز بالتعبير الشخصي وتحصل على مدخل للوعي الجمعي العالمي؟

بعض الفلاسفة يجادلون باننا في وسط التحول. بفضل كوننا اكثر ترابطا من قبل، المجتمع لديه وسائل جديدة لتسوية الأمور. يمكن ان يخلق مجالات تعزز كل من الجماعية والفردية. الان، المهمة هي الحفاظ على التوازن في هذه الفضاءات لكي يستطيع كل شخص استعمالها بشكل جيد خاصة بدون فقدان المقدرة على الاتصال بالأخرين او الإحساس بما هو جميل حول البشر ككل.

في عالم تطمس فيه التكنلوجيا الحدود بين أجسامنا وادمغتنا، ماذا يعني ان تكون انسانا؟ ما بعد الإنسانية تقترح ان ذواتنا ليست ثابتة وانما طيعة ودائما مرتبطة بالماكنة.

فمثلا، مقالة دونا هيراوي Dona Heraway عام 1985 بعنوان بيان سايبورغ A cyborg Manifesto تنظر في وجود لم يعد فيه الناس ينظرون لأنفسهم تماما ككائنات عضوية. هذه الأفكار ربما تبدو نظرية خالصة، لكن الأشياء تتغير بسرعة بمقتضى الاتصالات الرقمية الحالية. مفاهيم مثل الربط العصبي تسعى الى دمج الذكاء الصناعي بالوعي البشري بكفاءة عالية لدرجة يستطيع الشخص ان يكون واحدا وهو نفسه (ذات سايبورغ) قادر على معالجة المعلومات اسرع من أي وقت مضى و"الاتصال" بطرق جديدة كليا.

ان الواقع الافتراضي يذهب أبعد من هذا. بيئته تقدم تجارب لا تحتاج فيها الهوية للارتباط بالجسد الفيزيقي للشخص. المشكلة الوحيدة هي ان هذا التقدم يثير أسئلة أخلاقية عميقة. اذا كنا نستطيع تحميل أدمغتنا الى كومبيوتر ونعيش الى الابد رقميا، هل هذا يعني اننا نفقد ما نعنيه بان نكون بشر؟ ماهي هويتنا اذا لم تعتمد على اجسادنا؟ جان بول سارتر يختلف في الرأي هنا. هو يرى ان الذوات توجد فقط بمقدار ما تفعل افعالا حرة تشعر فيها بالمسؤولية. – وهو امر يصعب محاكاته لو كان الشخص برنامج سوفتوير لما بعد الانسان. عندما نصارع بعمق مع عصر تدير فيه التكنلوجيا الحياة، فان إعادة اختراع الذات هي قيد العمل. ولكن يبقى ان نرى هل سيكون ذلك لفائدة الإنسانية ام لضررها وهو السؤال الذي له مضامين عميقة جدا لدرجة انها تمس جوهرنا مباشرة.

وفي عالم مترابط للغاية، كيف سنكون أحرارا حقا؟ الفلاسفة الوجوديون جان بول سارتر ومارتن هايدجر اعتقدا ان الجواب واضح: فقط من خلال الحرية يستطيع الفرد ان يعرّف ذاته. لخّص سارتر هذه الرؤية بالقول "الانسان محكوم عليه ان يكون حرا". هو اعتقد ان الناس يجب ان يقبلوا مسؤولية صنع حياة ذات معنى. هايدجر أيضا اعتقد ان الناس يجب ان يحذروا من جعل الآخرين يقررون ما يجب ان يقوموا به. اذا لم يكن ذلك، ستكون هناك مخاطرة في "السقوط" في حالة من التصرف كما لو ان المرء لم يكن حقا فرد.

اليوم، يثير الاتصال المفرط (كونك متصل بشكل فائق) الكثير من الأسئلة لكن أيضا يوفر طرقا جديدة للتفكير حولها لأن التكنلوجيا الرقمية تربط بلايين الناس مع بعضهم في كل ثانية. كونك فائق الاتصال يثير بعض الأسئلة الجوهرية حول وجودنا. فمن جهة، التكنلوجيا تعطينا المزيد من الحرية، نحن نستطيع ان نغيّر منْ نحن تجاه أصدقائنا وكيف نعمل وحتى ذواتنا ذاتها عندما نريد ذلك. لكن هذا أيضا يجعل من السهل للناس الاخرين (عبر التواصل الاجتماعي) الحكم على ما اذا كان عملنا رائعا ام لا وهو الامر الذي يهدد هذه الحرية. بعض الفلاسفة سيقولون انه لكي تكون حرا حقا، انت لا حاجة لك للاهتمام بهذه الموافقة من الاخرين، لأنك سينتهي بك الامر محاصرا بواسطة أفكارهم.

في عالم فيه الكثير من الارتباطات (الافتراضية او غيرها) عليك ان تعمل بصعوبة طوال الوقت اذا كنت تريد البقاء "صادقا مع نفسك". لا تأخذ على عاتقك فقط الأشياء التي تجعل الحياة أسهل لكنها أقل أصالة. كيف نستطيع الحفاظ على إحساس قوي بمنْ نحن عندما تتنافس على اهتمامنا الكثير جدا من الوسائط الرقمية في كل ثانية؟ بعض النظريات السيكولوجية ترى اننا يجب ان تكون لدينا هوية مستقرة تتكون من خلال تجارب مشابهة. لكن هذا بالضبط ما لا تسمح به تكنلوجياتنا الحالية. في الحقيقة، كوننا دائما في الاون لاين ربما يمنعنا من تطوير إحساس متماسك بالذات. تخيلّ ما يحدث عندما تحاول مشاهدة التلفاز وانت تتصفح السوشيال ميديا وترسل الرسائل للأصدقاء. كل واحدة من هذه النشاطات تجبرك ان تكون نسخة مختلفة قليلا عن نفسك. انها تقريبا كما لو ان دماغك ينقسم الى أجزاء صغيرة كل واحد يفكر في شيء آخر في نفس الوقت.

ومع مرور الوقت، يؤدي الانتقال المستمر بين شخصيات العالم الرقمي والواقعي الى جعل الناس يشعرون وكأن جوهرهم يفتقر الى شيء ما، وهي رؤية جرى توسيعها بشكل مخيف من جانب منظّر الميديا مارشال ام لوهان Marshall M. Luhan في قوله "الوسيط هو الرسالة"، أجهزتنا في التواصل قد تؤدي الى عزلنا.

ليس من الصعب رؤية التأثير النفسي لذلك. البحوث ربطت الاستخدام الثقيل للانترنيت بالغربة والقلق والشعور بعدم القدرة على الاحساس بالذات في أي مكان منفرد. ومع تراكم الاستنتاجات عبر العقود، برزت المخاوف حول عدم وجود هويات متماسكة حتى الان.

ان الاتصال المفرط يتطلب بعض التوازن. تعزيز العلاقات من خلال التكنلوجيا هو دائما جيد. ولكن ليس عندما تترك النتيجة النهائية المستخدمين مجزأين جدا لدرجة يكافحون من اجل التوقف والاستماع الى شيء أعمق، الى ذات اكثر توحدا خارج الانترنيت وسط كل تلك الضوضاء الاجتماعية. لكن ماذا لو لم تؤد الاتصالات المفرطة الى تجزئتنا لأجزاء لكنها حقا تغيّر طبيعتنا – تجعلنا اكثر ديناميكية وارتباطا؟ الفيلسوف مانويل كاستل Manuel Castells يناقش ظاهرة يسميها "الفردية الشبكية" networked individualism : كيف تسمح لنا التكنلوجيا الجديدة لنكون ذواتنا وفي نفس الوقت جزءا من الشبكة العالمية.

ان العالم الافتراضي والتواصل الاجتماعي ليس لهما حدود. هذا يسمح للناس من مختلف الاصقاع في العالم للالتقاء والتسكع بسهولة وحتى الوقوع في الحب، حتى عندما هم يأتون من مختلف الدول او يؤمنون بعقائد تتعارض مع بعضها. الفلسفة البوذية تلقي ضوءا على هذه الاقتراحات. المفكرون الدينيون يعلموننا باننا ليس لدينا ذات انفرادية. ربما انت تظن بنفسك كشيء ثابت لكن في الواقع انت تتغير بسبب علاقاتك مع أشياء أخرى وبسبب ما يحدث لك. تخيّل فنانا من باريس يتعاون مع مبرمج من طوكيو في مسعى رقمي. كلاهما يجلب مهارة متميزة للمشروع، يخلقان شيئا اكبر من ذاتهما. هذه هي إمكانية الهوية المتميزة الفائقة الاتصال، تجمع بين الاصالة والابتكارية المشتركة. لكن هناك مشكلة: كيف نستطيع البقاء واقعيين بينما نكون في حالة من السيولة المفرطة؟ بدلا من النظر الى الامر على انه خسارة لنفسك، ربما عليك ان تفكر في الترقية. تحتضن التغيير كفرصة لصنع معنى جديد خارج حياتك، معنى لا يمكن ان يوجد بدون كل هذه الاتصالات.

اذن، ما مستقبل الذات في عالم فائق الاتصال؟

ان مستقبل الذات في عالم مفرط في الاتصال هو فرصة وتحدّي في آن واحد. مع تسلل التكنلوجيا لكل مظهر من مظاهر الحياة، تتغير الأفكار التقليدية حول الهوية. اذا كانت الاتصالية المفرطة تضخّم التأثيرات الخارجية، وتقود الى شخصيات مختارة وذوات مجزأة، فهي أيضا تسمح بحرية غير مسبوقة لعرض المرء الى العالم. بعيدا عن كونها ثابتة، المفاهيم الفلسفية للذات – من فكرة سارتر عن الاصالة ومعتقدات البوذية حول الهويات الدائمة التغيير الى أفكار ما بعد الحداثة حول سيبورغ – تقترح انها تتحول باستمرار. هذا التحول المستمر يثير أسئلة عميقة، وسط قاعة من المرايا تخبرنا نحن جيدين بما يكفي، هل سنبقى على هذا الحال؟ وهل ان مزج الفردية مع الجماعية عبر جسر التكنلوجيا يعطي ذاتا فائقة؟

الجواب ربما يكمن في التوازن، الاستعمال المفرط ليس لكي يُضعف وانما ليقوّي منْ نحن. لا سؤال عن التخلي عن الهوية – انه حول إعادة تصورها. في عصر تكون فيه الذات دائما سائلة – هيكل مرن مستعد للتكيف والنجاح وسط إمكانات لا متناهية.

***

حاتم حميد محسن

 

بين مواجهة العجز الفكري ومعالجة الاخفاق العملي

مقدمة: الوعي بزمانية الوجود البشري – أي إدراك الإنسان لكونه كائنًا محدودًا بالزمن، مولودًا في لحظة وميتًا في أخرى – هو من أعمق الخبرات الإنسانية وأكثرها إثارة للقلق. هذا الوعي ليس مجرد معرفة نظرية بمرور الزمن، بل هو تجربة وجودية تُلقي بالإنسان في مواجهة مباشرة مع عجزه الفكري عن استيعاب الزمن كاملاً، ومع إخفاقاته العملية في استغلال اللحظة المحدودة. في هذه الدراسة، نستكشف هذا الوعي كمحور مزدوج: من جهة، كاشف للعجز الفكري الذي يتجلى في محاولة العقل فهم الزمن خارج حدوده، ومن جهة أخرى، كمعالج للإخفاق العملي من خلال تحويله إلى دافع للعيش الأصيل. نعتمد في تحليلنا على أعمال مارتن هيدجر في الوجود والزمن، جان بول سارتر في الوجود والعدم، ألبير كامو في أسطورة سيزيف، فيكتور فرانكل في الإنسان يبحث عن المعنى، بالإضافة إلى إشارات إلى الفكر الإسلامي الصوفي (الغزالي وابن عربي) والفكر البوذي حول اللحظة الحاضرة. نهدف إلى إظهار كيف يتحول الوعي بالزمن من مصدر قلق إلى أداة للتحرر، متجاوزًا الانقسام بين التأمل الفكري والفعل العملي.

الوعي بزمانية الوجود: الأساس الوجودي

يبدأ الوعي بزمانية الوجود البشري من اللحظة التي يدرك فيها الإنسان أنه "مرمي" في الزمن، كما يعبر سارتر. ليس الإنسان كائنًا أزليًا، بل هو كائن يبدأ وينتهي، يولد دون اختيار ويموت دون سيطرة. هذا الوعي ليس معرفة بيولوجية فحسب، بل هو تجربة أنطولوجية تكشف عن هشاشة الوجود. في الوجود والزمن، يصف هايدجر هذا الوعي بـ"الوجود-نحو-الموت" ، حيث يصبح الموت ليس حدثًا مستقبليًا، بل هو الإمكان الأكثر يقينًا وشخصية في حياة الإنسان. هذا الوعي يُخرج الإنسان من الغفلة اليومية – ما يسميه هيدجر "السقوط في الـهم On" – ويُلقيه في مواجهة ذاته الأصيلة. لكن هذا الوعي لا يأتي دائمًا كإشراق، بل غالبًا كقلق. الزمن هنا ليس ساعة موضوعية، بل هو "الأفق الذي يُفهم من خلاله الوجود"، كما يقول هيدجر. الإنسان يعيش في ثلاثة أبعاد زمنية مترابطة: الماضي (الذي يُلقي به)، الحاضر (الذي يُرمى فيه)، والمستقبل (الذي يُرمى نحوه). هذا الوعي يكشف عن عجز فكري أساسي: العقل لا يستطيع استيعاب الزمن ككل، لأنه جزء منه. كما يشير كانط في نقد العقل الخالص، الزمن هو شكل حدسي للحس الداخلي، لا يمكن تجاوزه. ومع ذلك، فإن محاولة فهم الزمن تُولد إحساسًا بالعجز، حيث يصطدم العقل بحدوده.

مواجهة العجز الفكري: الزمن كلغز لا يُحل

العجز الفكري الناتج عن الوعي بالزمن يتجلى في عدة أشكال.

 أولاً، في محاولة العقل فهم "الأبدية" مقابل "الزمنية". الإنسان يتوق إلى الخلود، لكنه محكوم بالفناء. هذا التوتر يُولد ما يسميه كيركغورد "اليأس"، حيث يحاول الإنسان أن يكون أزليًا داخل زمنيته. في الفكر الصوفي الإسلامي، يعبر الغزالي عن هذا العجز في إحياء علوم الدين بقوله إن العقل محدود، ولا يدرك إلا الظلال، بينما الحقيقة في القلب. محاولة العقل استيعاب الزمن تؤدي إلى تناقضات: كيف نفهم "قبل الولادة" أو "بعد الموت"؟ العقل يصطدم بجدار اللامتناهي.

ثانيًا، العجز يظهر في فشل الفلسفة التقليدية في حل لغز الزمن. أرسطو يعرفه كـ"عدد الحركة حسب القبل والبعد"، لكنه لا يفسر لماذا نشعر بالزمن كضياع. أوغسطينوس في الاعترافات يتساءل: "ما هو الزمن؟ إذا لم يسألني أحد، أعرف؛ إذا أردت أن أشرح، لا أعرف". هذا العجز ليس فشلاً، بل هو دعوة لتجاوز العقل نحو الوجود. كامو في أسطورة سيزيف يرى أن الوعي بالعبث – الذي ينبع من الزمن المحدود – هو بداية التمرد. العجز الفكري إذن ليس نهاية، بل هو البوابة للعيش الأصيل.

معالجة الإخفاق العملي: الزمن كفرصة للمعنى

إذا كان الوعي بالزمن يكشف العجز الفكري، فإنه في الوقت نفسه يُعالج الإخفاق العملي. الإنسان يعيش في روتين يومي يُنكر فيه زمانيته: العمل الرتيب، الاستهلاك، الهروب إلى الترفيه. هذا الإخفاق العملي هو "السقوط" عند هيدجر، حيث يعيش الإنسان كـ"الكل"، غير مدرك لفرديته. الوعي بالموت يُخرجه من هذا السقوط، ويُلزمه بالاختيار الأصيل.

فيكتور فرانكل، الناجي من المعتقلات النازية، يُظهر في الإنسان يبحث عن المعنى كيف تحول الوعي بالزمن المحدود المعاناة إلى معنى. في المعتقل، حيث كان الموت يوميًا، لم يكن السؤال "كم سأعيش؟" بل "كيف أعيش اللحظة؟". الوعي بالزمن يُحول الإخفاق العملي – الفشل في العمل، العلاقات، الأهداف – إلى فرصة. كل إخفاق يصبح درسًا، لأن الزمن محدود. سارتر يعبر عن هذا بـ"المشروع"، حيث يُعيد الإنسان تعريف نفسه في كل لحظة.

في الفكر البوذي، يُعرف الوعي بالزمن كـ"الانتباه إلى اللحظة الحاضرة". الإخفاق العملي – الندم على الماضي أو القلق من المستقبل – يُعالج بالتركيز على "الآن". هذا التركيز ليس هروبًا، بل هو مواجهة: اللحظة هي المكان الوحيد للفعل.

 كامو يُكمل هذا بـ"التمرد"، حيث يدحرج سيزيف الصخرة يوميًا، مدركًا عبثيتها، لكنه يجد في الفعل نفسه الانتصار.

التوازن بين العجز والمعالجة: نحو العيش الأصيل

الوعي بزمانية الوجود لا يُقسم بين عجز فكري ومعالجة عملية، بل يجمعهما في ديناميكية واحدة.

العجز الفكري – عدم القدرة على فهم الزمن – يُحرر الإنسان من الوهم، ويُلزمه بالفعل. كما يقول هيدجر، "القلق يكشف الوجود". هذا القلق ليس مرضًا، بل هو الدعوة للأصالة. في المقابل، المعالجة العملية للإخفاق لا تكون بإنكار الزمن، بل باحتضانه. الإنسان الذي يدرك أن وقته محدود يتوقف عن التأجيل، يختار بحرية، ويُعطي معنى لكل لحظة.

في السياق الحضاري، يعبر ابن عربي في فصوص الحكم عن هذا التوازن بـ"الفناء في اللحظة"، حيث يصبح الإنسان شاهدًا على الله في كل آن. الوعي بالزمن هنا ليس خوفًا من الموت، بل شكرًا للحياة.

 هذا التوازن يظهر أيضًا في الرواقية، حيث يقول ماركوس أوريليوس: "فكر في كل يوم كأنه آخر يوم، وستعيش بسلام".

خاتمة

الوعي بزمانية الوجود البشري هو تجربة مزدوجة: كاشفة للعجز الفكري، ومعالجة للإخفاق العملي. العجز ليس نهاية، بل هو البداية؛ فشل العقل في استيعاب الزمن يُحرر الإنسان من الأوهام، ويُلزمه بالعيش في اللحظة. أما الإخفاق العملي، فيُصبح مادة للمعنى عندما يُواجه بوعي. الإنسان ليس ضحية زمنه، بل هو صانع معناه داخل حدوده. كما يقول كامو: "يجب أن نتخيل سيزيف سعيدًا"، لأن سعادته في الفعل المستمر رغم العبث. في النهاية، الوعي بالزمن ليس لعنة، بل هو النعمة التي تُذكرنا بأن كل لحظة هي فرصة لنكون أكثر إنسانية، أكثر حرية، أكثر أصالة.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

تشكيل الوعي بين المتخيل والمحظور

يمثل التماهي الفلسفي بين الوعي الفردي والذاكرة الجمعية إشكالية تأسيسية في سوسيولوجيا المعرفة، لا سيما عند النظر إليه بوصفه عملية إلزامية وليست اختيارية. إنّ هذا التماهي ليس مجرد انخراط اجتماعي سطحي، بل هو تحول بنيوي يفرض على الوعي الفردي أن يتخذ طابعاً منظورياً يحدده الإطار الجمعي. تبدأ التكلفة اللغوية هنا بتحويل الذات الواعية من كيان مستقل إلى جزء متماهٍ ضمن كائن رمزي أكبر.

تفكيك مفهوم التماهي الفلسفي

يُعرَّف التماهي ضمن هذا السياق بوصفه الاندماج العميق الذي يوجّه الوعي نحو منظور الجماعة. كما يُنظر إلى الوعي كمسألة راهنية، لأنَّ الماضي لا يظهر في الحاضر بصورته المتكاملة والحرفية، بل يُعاد بناؤه ويُهَيَّأ ليتلاءم مع متطلبات اللحظة الراهنة للجماعة. ويتبين من هذا أن التماهي هو عملية تكييف دائمة ومستمرة، تضمن بقاء الذات ضمن النسق الاجتماعي.

إنّ الإطار الاجتماعي، بحسب المفهوم الكلاسيكي الذي أسسه موريس هالبواكس، يُعد شرطاً وجودياً لا محيد عنه لأي إمكانية للتذكر. هذا يعني أن التذكّر الفردي لا يمكن أن ينشأ أو يتم إلا ضمن إطار ثقافي معين يوفّر نسقاً جمعياً يجعل الخبرات الفردية قابلة للتذكر والتفسير. يترتب على هذا الشرط الوجودي تكلفة فورية:

يفقد الوعي الفردي استقلاليته في التعبير عن الذكرى؛ إذ يجب أن تُصاغ لغوياً ضمن الأطر المرجعية للجماعة لكي يُعترف بها وتُفسّر. هذا التقييد على صياغة التجربة الداخلية يشكل التكلفة اللغوية الأولية للتماهي.

نظرية الذاكرة الجمعية عند موريس هالبواكس

يُعد هالبواكس المؤسس الأول لعلم اجتماع الذاكرة، متأثراً بأساتذته إميل دوركهايم وهنري برغسون. لقد تبلورت نظريته في كتاب "الأطر الاجتماعية للذاكرة" (1925)، حيث شدد على أن الذكريات الشخصية مرتبطة بالمجتمع الذي ينتمي إليه الفرد، فهي تملك مكانتها ضمن المنظومة الاجتماعية كنتاج لتفاعل الفرد مع محيطه.

آليات البناء السردي والتكلفة الإبستمولوجية

يُعتبر المتخيل، أو المخيال الجمعي، المجال الذي تتحقق فيه الوظيفة البنائية للذاكرة، حيث يتم تشكيل الماضي لغوياً لخدمة أغراض الهوية الحالية. إن دور المتخيل يتجاوز التخيل البسيط ليصبح وسيلة معرفية تستجلب الابتكارات الجديدة والمعطيات المتنوعة إلى الفعل البشري.

النظرية ما بعد البنيوية

في إطار التماهي الفلسفي، تفرض الذاكرة الجمعية أساساً أو مركزاً ثابتاً للمعنى، مما يتعارض مع الطبيعة المتغيرة للغة التي يراها دريدا. إن التكلفة اللغوية التفكيكية تكمن في أن التماهي يقمع "تلاعب" الدلالات، ويجعل المعنى ثابتاً قسراً. في مواجهة هذا القمع، قد يصبح الصمت هو المساحة الوحيدة التي يتحرر فيها الوعي، لأن اللغة المنطوقة، في سياق التماهي، قد تكون في موقع "السجّان للمعنى" الذي يضل طريق الفكرة الحقيقية. لذلك، يصبح فهم التكلفة اللغوية متوقفاً على تحليل البنى الصامتة والمحذوفة بنفس قدر تحليل الخطاب المعلن.

المحظور الثقافي واللاوعي الجمعي

إن المحظور يجد جذوره في اللاوعي الجمعي والثقافي. يؤكد التحليل النفسي الثقافي أن اللاوعي الثقافي متحكِّم في اللاوعي الفردي. المحظور هو التجسيد السياسي والاجتماعي لهذا الكبت، الذي تفرضه الأنا العليا الثقافية.

إن الصمت، في مواجهة المحظور، قد يتخذ شكلين: إما أن يكون اختياراً واعياً وشكلاً من أشكال التحرر السارتري من تأثير الآخرين والضغوط الاجتماعية، أو أن يكون علامة على العجز اللغوي، حيث تكون التجربة عميقة ومعقدة بحيث لا تستطيع اللغة البشرية احتواء كل أبعادها. في كلتا الحالتين، هي تكلفة لغوية تُدفع، إما إرادياً لغرض المقاومة، أو قسرياً بسبب القيود المفروضة على إنتاج المعنى.

يظهر من التداخل بين المتخيل والمحظور أنهما وجهان لآلية واحدة للضبط الثقافي. فالمتخيل (السرد البنّاء) يحدد ضمنياً ما هو محظور قوله. التكلفة اللغوية تقع في المساحة الضيقة بين الإفراط في القول غير الهادف (التعميم الفائض) والإنهاء القسري للقول (الصمت). إن حظر دلالات معينة يمنع تكوين أنماط محددة من الوعي النقدي، مما يجعل المحظور قيداً مفروضاً على الوعي نفسه.

التأصيل الفلسفي للتكلفة اللغوية

يمكن تأصيل التكلفة اللغوية في الإبستمولوجيا الحديثة عبر استعارة مشكلة القيمة المعرفية كما ناقشها دنكان بريتشارد. التكلفة الإبستمولوجية هنا هي الفرق في القيمة بين المعرفة التي تتوافق مع الأطر الجمعية (الاعتقاد الحقيقي المبرر جمعياً) والمعرفة الفردية أو عملية الفهم العميقة التي قد تظل حبيسة الجوانية.

إن التماهي يفرض أن تكون المعرفة ذات قيمة أعلى فقط إذا كانت ذات "تبرير جمعي"، مما يقلل من القيمة المعرفية للتجربة الفردية غير المُمَأسَسة أو غير المُنَظَّمة لغوياً. هذا يمثل التكلفة المعيارية (Normative Cost)، حيث تُستخدم اللغة لتثبيت مفهوم "السوي" في مقابل "الشاذ"، مما يقنن الوعي الجمعي ويرفض الانزياح اللغوي، وبالتالي يقتل الإبداع اللغوي الفردي.

نموذج الكلفة القصوى

تظهر التكلفة اللغوية في أقصى صورها عندما تُستخدم اللغة كأداة للهيمنة والقمع الثقافي، بهدف محو الذاكرة الجمعية لمجتمع آخر. هذا يعكس أن التماهي يمكن أن يكون قسرياً وتاريخياً.

في سياقات الاحتلال، يصل التخطيط اللغوي إلى حد "إنشاء ذاكرة مزيفة" من خلال حذف الذاكرة الأصيلة. آليات التكلفة القسرية تشمل التغيير المنهجي للهوية، المكان (البنية والصورة والتفاعلات)، مما يجعل اللغة الأصلية غير قادرة على التعبير عن الواقع الجديد المُحتَل. هذه التكلفة تفرض ازدواجية لغوية قسرية حيث يضطر الوعي إلى استخدام اللغة المهيمنة اجتماعياً أو لغة مزدوجة، مما يؤدي إلى تهميش اللغة الأصيلة وانحدار استخدامها في التفكير النقدي والعلمي.

النتائج النقدية والمآلات المستقبلية

يؤكد التحليل النقدي أن التماهي الفلسفي بين الوعي والذاكرة الجمعية ليس تحولاً سلساً، بل هو عملية معقدة يتم فيها دفع "تكلفة لغوية" متعددة الأبعاد. هذه التكلفة تفرض قيوداً وجودية إبستمولوجية على الذات الواعية، وتتراوح بين التقييد الدلالي وصولاً إلى محو الهوية القسري.

الوعي النقدي بين متطلبات الذاكرة والصدق الفردي

تكمن الإشكالية المركزية في تحدي استعادة الوكالة اللغوية للفرد في نظام تكون فيه اللغة مشبعة بأنظمة السلطة والمحظور. إن الذاكرة الجمعية، التي يراها ريكور دافعاً للعدالة، تطالب الفرد بالتماهي مع متطلبات التضحية، مما يجعل التكلفة ضرورية لضمان الأخلاق الجمعية. ولكن إذا أدت هذه العملية إلى طمس التعبير الفردي الصادق، فإنها تخلق "توازناً مستحيلاً" بين متطلبات البقاء الجمعي ومتطلبات الصدق الوجودي للذات.

للتخفيف من هذه التكلفة، ينبغي على الوعي النقدي أن يدرك أن الفكر يمكن أن يذهب إلى ما وراء حدود العلم والسلطة، عبر استلهام النماذج الجمالية (الإستيطاقية) التي تقاوم هيمنة المعرفة المؤسسية.

البحث عن مساحات لغوية مغايرة

تتطلب مقاومة التكلفة اللغوية نقداً جذرياً للغة السوق والثقافة الاستهلاكية، لا سيما في مجتمع الألفية الثالثة الذي يحول كل شيء إلى "ثقافة تسلية مدفوعة الثمن". هذا النقد يجب أن يحيي الجدلية اللغوية التي تُعري استخدام الأشكال الهلامية والتقنيات المبهرة التي تهدف إلى نمطية التجارب الحياتية.

يجب استعادة الخيال التاريخي القادر على التفريق اللغوي بين التاريخ بمفهومه الهرمنيوطيقي (الذي يُظهر الماضي ويُعيده) وبين "مجرد نسخ المعطى". اللغة النقدية هي الأداة التي تستطيع التمييز بين المعطى (ما هو كائن) والمبني (ما هو مُشكَّل بواسطة السرد الجمعي).

التحرر من التبعية النقدية

في الثقافة العربية، لوحظ أن نقد الذاكرة الجمعية بدأ في كثير من الأحيان من الخارج (تحت تأثير التنوير الغربي)، مما أدى إلى تكلفة نقدية تتمثل في عدم قدرة اللغة النقدية المستعارة على اختراق الأطر الجمعية الراسخة (كالمحافظة الدينية وأحادية النظرة)، وبالتالي بقي الوعي الجمعي كموروث دون تغيير جذري.

للخروج من هذه الدائرة، يُقترح استكشاف المناهج الفلسفية التي تقدم إطاراً يتجاوز ثنائية الوعي/الذاكرة في سياقها الغربي. هذا الإطار الفلسفي، الذي يتمأسس على مسلمة "تعدية الوجود الإنساني"، قد يوفر للغة وسيلة لتجاوز حدود المحظور المعرفي والاجتماعي المفروض، مستعيناً بـالاعتراف كفعل أخلاقي يتصل بالسلوك الإحساني. هذا التحول المنهجي ضروري لاستعادة وكالة لغوية نقدية ذات فاعلية حقيقية في الواقع الاجتماعي.

***

غالب المسعودي

.......................

المراجع

academia-arabia.com حقـل "دراسـات الذاكـرة" في العلـوم الإنسـانية والاجتماعية: حضـور - Academia Arabia

ahewar.org زهير سوكاح - مفهوم الذاكرة الجمعية عند موريس هالبواكس - الحوار المتمدن

rjnsq.ir Collective Memory and Identification Process; Some Policy Reflections

iasj.rdd.edu.iq الذاكرة الجمعية وبناء الهوية في المجتمع العراقي ما بعد عام 2003 م

old.sharjah.ac.ae ﺗﻔﺎﻋل اﻟﻧﻘد اﻟﺛﻘﺎﻓﻲ ﻣﻊ اﻟﻣﻧﺎھﺞ اﻟﻧﻘدﯾﺔ واﻟﻣﻌﺎرف اﻟﻣﺗﻌددة: ﻗراءة ﻷھم اﻟﻣﻔﺎھﯾم اﻟرﺋﯾﺳﺔ

humaninstitute.co Memory, History, Forgetting - Human institutealmothaqaf.com قائد عباس حمودي: الصمت وجهة نظر فلسفية - صحيفة المثقف.

annabaa.org الأدوار الاجتماعية للمخيال في الفلسفة السردية - شبكة النبأ المعلوماتية

ebsco.com Collective Memory | Research Starters - EBSCO

syrian-researchers.com ما بعد البنيوية، Poststructuralism

medium.com Memory, History, Forgetting — Paul Ricoeur | by Rosalind Kingsley - Medium

en.wikipedia.org The Social Construction of Reality - Wikipedia

simplypsychology.org Social Construction of Reality - Simply Psychology

مقدمة: أسلوب المقاربات المنهجية في دراسة المعنى هو من أبرز المداخل الأكاديمية التي تجمع بين اللسانيات والفلسفة والعلوم المعرفية، إذ يتيح فحص الكلمة أو العبارة عبر طبقات دلالية متداخلة ومتمايزة في آن. ينطلق هذا الأسلوب من فرضية أساسية تقول إن المعنى ليس كياناً واحداً متجانساً، بل هو بنية متعددة الأبعاد تتشكل عبر تفاعل ثلاثة مستويات رئيسية: المعنى اللغوي (الدلالة الداخلية للنظام اللغوي)، الدلالة الاصطلاحية (المعنى المتخصص في سياق مهني أو علمي)، والمفهوم الفلسفي (البناء النظري الذي يتجاوز اللغة إلى جوهر الوجود والمعرفة). تهدف هذه الدراسة إلى تقديم تحليل موسع يتجاوز الوصف السطحي ليغوص في الآليات التكوينية والتاريخية والمعرفية التي تربط هذه المستويات، مع الاستناد إلى مراجع لسانية وفلسفية كلاسيكية وحديثة، وتقديم أمثلة تحليلية من اللغة العربية واللغات الأوروبية لإثراء المقارنة. كما تسعى إلى كشف التوترات الداخلية بين هذه المستويات، وكيف يمكن للمقاربة الديناميكية أن تُسهم في تطوير نظريات جديدة حول طبيعة اللغة كأداة للتفكير والتواصل. فماهي أسس التمييز بين المقاربات المنهجية؟ وأين تكمن أهمية المقاربة المتعددة المستويات؟ وكيف يمكن استثمارها بنجاعة؟

المستوى الأول: المعنى اللغوي – البنية الداخلية والشبكة الدلالية

يُشكل المعنى اللغوي الطبقة الأولية والأكثر عمومية في سلم الدلالة، إذ ينبع من البنية الداخلية للغة كنظام من الرموز المترابطة. في إطار البنيوية السوسورية، يُميز فرديناند دي سوسور بين الدال (الصورة الصوتية) والمدلول (الصورة الذهنية)، مؤكداً أن العلاقة بينهما تعسفية وتتحدد بالفرق عن غيرها داخل النظام. هذا يعني أن معنى كلمة مثل "شجرة" لا يُستمد من ارتباطها بالواقع المادي مباشرة، بل من تمييزها عن "نبات" أو "غابة" أو "حجر" داخل الشبكة اللغوية. في اللغة العربية، يتجلى هذا المبدأ بوضوح في نظام الاشتقاق والتضاد. فكلمة "عدل" تكتسب معناها اللغوي الأساسي (الاستقامة والتوازن) من خلال اشتقاقاتها مثل "معدل" و"عديل"، وتضادها مع "جور" و"انحراف". هذا المعنى ليس ثابتاً تماماً، إذ يخضع لتأثيرات تاريخية وثقافية. على سبيل المثال، كلمة "دولة" في العربية الفصحى القديمة كانت تشير إلى التناوب والدوران (من الفعل "دال يدول")، ثم تحولت في العصور الوسطى لتعني الكيان السياسي، مما يعكس كيف يتطور المعنى اللغوي عبر الاستخدام الجماعي دون أن يفقد جذوره البنيوية. في اللسانيات التوليدية لنعوم تشومسكي، يُعاد تعريف المعنى اللغوي كجزء من "الكفاءة اللغوية" البيولوجية، حيث تُولد الدلالات الأساسية من قواعد عميقة مشتركة بين البشر. هذا المنظور يوسع المقاربة ليشمل البعد النفسي-العصبي، إذ تُظهر دراسات التصوير الدماغي أن معالجة المعاني اللغوية الأساسية تتم في مناطق محددة من القشرة الجبهية، مما يدعم فكرة أن هذا المستوى ليس مجرد اتفاق اجتماعي، بل له أساس بيولوجي.

المستوى الثاني: الدلالة الاصطلاحية – التهذيب الوظيفي والدقة المتخصصة

تمثل الدلالة الاصطلاحية مرحلة تطورية للمعنى اللغوي، حيث تُقيد الكلمة بسياق معرفي محدد، مما يُقلل من الغموض ويُعزز الوظيفية. هذا المستوى ينشأ عبر عمليات اجتماعية ومؤسساتية، إذ يتفق أعضاء مجتمع معرفي (علماء، قانونيون، تقنيون) على تعريف دقيق للمصطلح لضمان التواصل الفعال. في نظرية المصطلحات ليوجين ووستر، تُعتبر الدلالة الاصطلاحية نظاماً فرعياً داخل اللغة، تخضع لمبادئ الواحدية (كل مفهوم مصطلح واحد) والثنائية (كل مصطلح مفهوم واحد). خذ مثلاً كلمة "طاقة" في اللغة العامة تعني القوة أو النشاط، لكن في الفيزياء، تُعرف اصطلاحياً كالقدرة على بذل شغل، وتُقاس بالجول، وتخضع لقانون حفظ الطاقة. هذا التهذيب ليس عشوائياً، بل يعكس حاجة العلم إلى الدقة القابلة للقياس. في المجال القانوني، كلمة "عقد" في المعنى اللغوي تشير إلى الربط أو الالتزام، لكن اصطلاحياً في القانون المدني، يُعرف كاتفاق يُنشئ التزامات قانونية قابلة للتنفيذ قضائياً، مع شروط محددة كالأهلية والسبب المشروع. في اللغة العربية، نجد أمثلة غنية في المصطلحات الطبية المعربة. فكلمة "جرثومة" كانت في الأصل تعني الجسم الصغير، ثم أصبحت اصطلاحياً تعني الكائن الحي الدقيق القادر على التكاثر والتسبب في الأمراض. هذا التطور يعكس تأثير الترجمة والتخصص العلمي، حيث أُعيد توظيف المعنى اللغوي ليخدم الدقة الطبية. ومع ذلك، قد يؤدي التركيز المفرط على الاصطلاحية إلى "الجفاف الدلالي"، إذ تفقد الكلمة ارتباطها بالتجربة الحسية، مما يُصعب على غير المتخصصين فهمها.

المستوى الثالث: المفهوم الفلسفي – التجريد النظري والتأويل الميتافيزيقي

يتجاوز المفهوم الفلسفي المستويين السابقين ليصل إلى بناء نظري يهدف إلى تفسير الواقع بشكل جذري. هذا المستوى لا يقتصر على وصف اللغة أو تنظيم المعرفة، بل يسعى إلى كشف الجوهر والعلاقات الضرورية. في فلسفة أفلاطون، يُميز بين المثال (الماهية الأزلية) والظل (الظهور الحسي)، مما يجعل المفهوم الفلسفي لـ"الجمال" ليس مجرد صفة حسية، بل كمالاً مثالياً يتجاوز الزمن.

في الفلسفة الحديثة، يُقدم عمانويل كانط تمييزاً حاسماً بين الظاهر والشيء في ذاته ، مما يجعل المفهوم الفلسفي لـ"الحرية" ليس مجرد غياب القيود (كما في المعنى اللغوي) أو حق قانوني (كما في الدلالة الاصطلاحية)، بل قدرة العقل على التشريع الذاتي وفق القانون الأخلاقي. أما مارتن هيدجر في "الوجود والزمان"، فيُعيد تعريف "الوجود" فلسفياً كـ"دازاين" ، أي الوجود المُلقى في العالم، متجاوزاً الدلالات اللغوية والاصطلاحية ليصل إلى البعد الأنطولوجي. في السياق العربي الإسلامي، يُقدم ابن سينا مفهوم "الوجود" كمقولة أولية تسبق الماهية، مستنداً إلى اللغة العربية لكنه يتجاوزها إلى بناء ميتافيزيقي. فكلمة "وجود" في المعنى اللغوي تشير إلى الحضور، وفي الدلالة الاصطلاحية الفقهية تعني الثبوت الشرعي، لكن فلسفياً عند ابن سينا، تصبح الوجود عَرَضاً يُضاف إلى الماهية، مما يُشكل أساساً للتمييز بين الواجب والممكن.

ديناميكية المقاربة: التداخل، التوتر، والتحول

تكمن قوة أسلوب المقاربات في كشفه للديناميكية بين هذه المستويات. فالمعنى اللغوي يُشكل المادة الخام، تُهذبها الدلالة الاصطلاحية لتصبح أداة وظيفية، ثم يُعاد صياغتها فلسفياً لتصبح مفهوماً نظرياً. ومع ذلك، توجد توترات جوهرية: فقد تُفرغ الاصطلاحية المعنى من حيويته الثقافية، كما في حالة المصطلحات التقنية التي تُصبح غريبة عن المتحدث العادي. كذلك، قد يُبعد المفهوم الفلسفي عن الواقع اليومي، مما يُثير نقد الفلسفة التحليلية للميتافيزيقا التقليدية. في أعمال لودفيغ فيتغنشتاين المتأخرة، يُقدم مفهوم "ألعاب اللغة" إطاراً لفهم هذه الديناميكية، إذ يرى أن المعنى يتحدد بالاستخدام داخل سياق حياتي. هذا يعني أن الانتقال بين المستويات ليس خطياً، بل دائرياً وتفاعلياً. فالمفهوم الفلسفي قد يُعيد التأثير على الدلالة الاصطلاحية، كما حدث عندما أثرت فلسفة الحقوق الطبيعية على صياغة الإعلانات الحقوقية الحديثة.

تطبيقات عملية وآفاق مستقبلية

في الترجمة، تُبرز المقاربة تحديات نقل المفاهيم بين اللغات. فمفهوم "ديمقراطية" اليوناني يحمل أبعاداً فلسفية (حكم الشعب نفسه بنفسه) تختلف عن دلالته الاصطلاحية في النظم الحديثة (نظام انتخابي). في الذكاء الاصطناعي، تُستخدم نماذج اللغة الكبيرة لمحاكاة هذه المستويات، لكنها تواجه صعوبة في التقاط الأبعاد الفلسفية العميقة، مما يفتح مجالاً لدراسات هجينة بين اللسانيات الحاسوبية والفلسفة الذهنية.

خاتمة:

في المجمل، يُشكل أسلوب المقاربات بين المعنى اللغوي والدلالة الاصطلاحية والمفهوم الفلسفي مدخلاً شاملاً لفهم اللغة كمرآة للعقل البشري. من خلال تتبع التحولات بين هذه المستويات، نكتشف ليس فقط كيف نتحدث، بل كيف نفكر ونبني عوالمنا. هذا المنهج يدعو إلى بحث متعدد التخصصات يجمع اللسانيات والفلسفة وعلم النفس المعرفي، ليُسهم في تطوير نظريات جديدة حول طبيعة المعرفة والتواصل في عصر الذكاء الاصطناعي والعولمة الثقافية. فكيف يحرص أسلوب المقاربات على التأليف بين الفلسفي والعلمي؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

يمثل التنازع على مرجعية النص محوراً مركزياً في العملية التأويلية والفلسفة المعاصرة. على الرغم من الحضور المكثف للنص في حياتنا اليومية وفي علوم شتى، يظل تحديد ماهيته وتعريفه عصياً على الإجماع، حتى عند المتخصصين في لسانيات النص. ويُعزى هذا الإشكال إلى الحدود المفتوحة للنص، وإلى طبيعته المزدوجة التي تثير التساؤل حول ما إذا كان مجرد أقوال أم خطاباً شفهياً، وهل يخضع النص الفلسفي لشروط النص الأدبي نفسها في التأويل؟

لقد كان النقل المفاهيمي لسلطة النص عملية تدريجية ومعقدة. بدأت بقطيعة فكرية مع الميتافيزيقا الغربية التي تبحث عن الأصل والمركز الثابت (القصد)، مروراً بتأسيس سلطة النص الداخلية والمحايثة (البنيوية)، وانتهاءً بتشريع فاعلية الذات القارئة (الهرمنيوطيقا). هذا التحول يمثل في جوهره مشروعاً تحررياً وفلسفياً جذرياً يسعى لفك ارتباط المعنى بالمرجعية الخارجية المطلقة، سواء تجسدت في ذات المؤلف أو في السلطة التقليدية الحاكمة.

 القطيعة الإبستمولوجية: إعلان موت المؤلف

شكلت النظريات النقدية والفلسفية في أواسط القرن الماضي، وخصوصاً في عصر الحداثة وما بعد الحداثة، منعطفاً حاسماً في التعامل مع النصوص. كان التحدي الأول والأكثر جذرية يتمثل في إقصاء المؤلف كمرجع نهائي. لطالما اعتُبر المؤلف في الحقب النقدية التقليدية والفكر الرومانسي بمثابة "حجر الزاوية في العملية الإبداعية، وصاحب الصوت والسوط أيضاً". لقد وصلت الأمور في وقت ما إلى حد اعتبار المؤلف كياناً مقدساً، مما دفع النقاد الرومانسيين إلى التركيز عليه وعلى ظروفه (التاريخية، الاجتماعية، والنفسية) لتفسير النص، متجاهلين بذلك دور القارئ أو اللغة في إنتاج الدلالة. كان المعنى يُفترض أنه كامن في قصد المؤلف أو إرادته.

جاءت نظرية "موت المؤلف" للناقد والمنظر الفرنسي رولان بارت، التي نُشرت في مقال عام 1967، لتشكل القطيعة الإبستمولوجية الأولى. جادلت هذه النظرية بقوة ضد الممارسة التقليدية للنقد الأدبي التي تعتمد على نيات المؤلف وسيرته لتحديد "المعنى المطلق" للنص.

إن الآلية الإجرائية التي اعتمدها بارت لنقل مركز الثقل الدلالي تتمثل في تركيزه المطلق على دراسة النص ولا شيء غير النص، من خلال تفاعلاته البنيوية الداخلية. عندما يُعلن "موت المؤلف من أجل حياة النص"، يتم تحرير النص بشكل جذري من "أبوته السحرية". هذا الإعلان لم يكن مجرد صرخة أدبية، بل كان ضرورة فلسفية لتحويل مركز الثقل الدلالي من الذات المنتجة (المؤلف الغائب) إلى البنية المنجزة (النص الحاضر).

تأسيس سلطة البنية: التحول الإيديولوجي والفلسفي

إن إعلان موت المؤلف يمثل مشروعاً تحررياً أوسع يهدف إلى مكافحة الهيمنة الرمزية التي يكرسها الفكر السائد والسلطة التقليدية. التخلي عن قصد المؤلف ينسف حجة السلطة المرتكزة على مرجعية ثابتة ومقدسة. النقل لم يكن فورياً إلى القارئ، بل مر عبر تأسيس سلطة النص ككيان مستقل أولاً.

هذا يمثل تحولاً منهجياً، حيث لم يعد القارئ يقرأ النص ليفهم ما أراد الكاتب قوله، بل ليكتشف "كيف يعمل النص من الداخل" (الآلية البنيوية). هذا الاكتشاف المنهجي لآليات البناء الداخلي للنص هو أول خطوة لاستحواذ القارئ على سلطة التحليل والإنتاج؛ مما مهد الطريق للمراحل التالية في نقل السلطة.

السلطة اللغوية والاجتماعية

فلسفياً، يُنظر إلى اللغة كجهاز رمزي يتم بواسطته بناء العالم وإدراك الواقع والتحكم فيه. رولان بارت، حتى بعد إعلان موت المؤلف، ظل يركز على العلاقة بين السلطة واللغة. إن النظام الاجتماعي يفرض قواعده وتوابعه عبر سُنن اللغة، مما يؤثر على التوازن الداخلي للفرد والمجتمع. لذا، فإن تحليل سلطة النص هو بالضرورة نقد للسلطة وأنساقها الإيديولوجية التي تُبث عبر "اللغة المقنّعة".

إن هذا الربط بين السلطة النصية (اللغوية) والسلطة الثقافية والسياسية يوضح أن النزاع على سلطة التأويل يتجاوز مجرد النقد الأدبي ليطال تفكيك الهيمنة الرمزية للمنظومة الفكرية السائدة.

الهرمنيوطيقا وتفعيل دور القارئ

تُعرَّف الهرمنيوطيقا بأنها علم التأويل والفهم. تاريخياً، ارتبطت بتأويل النصوص المقدسة ونقل مقاصدها اللاهوتية إلى مستوى البشرية (كما هو شأن الإله هرمس). مع فريدريش شلايرماخر، تحولت الهرمنيوطيقا إلى منهج عام لتفسير كافة النصوص، وكان هدفها فهم النص كما فهمه مؤلفه، بل أفضل مما فهمه. لاحقاً، قام فلاسفة مثل مارتن هيدغر وهانز جورج غادامير بتوسيع النظرية لتشمل "الفهم البشري الكامل للعالم"، حيث أصبح التأويل ضرورة وجودية، و"حدث إفصاح" للحقيقة يحدث في اللغة، مرتبطاً بعملية فهم الذات والتحول.

غادامير يرفض بشكل قاطع محاولات الفهم الكلاسيكية التي تسعى للدخول إلى قصد المؤلف. بل يؤكد أن القارئ لا يمكنه "أبداً الدخول في عقل المؤلف ليكتشف نواياه الحقيقية"، وعوضاً عن ذلك، يمكن للقارئ فقط "مقابلة المؤلف في الموضوع الذي تتم مناقشته". وبهذا، يتم نقل السلطة التأويلية من البحث عن قصد المؤلف الغائب إلى فهم الموضوع من وجهة نظر القارئ الذاتية (المشروطة تاريخياً)، بمساعدة المؤلف. هذا التحول يعني أن الاستحواذ على السلطة التأويلية يتطلب من القارئ استخدام تاريخه الخاص ووعيه المتأثر تاريخياً كجزء لا يتجزأ من الإنتاج الدلالي.

تبادل مراكز القدسية ونتائج النسبية

يظهر الخطر الفلسفي عندما تعلو سلطة القارئ على سلطة النص. في هذه الحالة، يصبح القارئ موجِّه النص بألفاظه وقواعده، وينزاح مركز القدسية من النص إلى القارئ. هذا الاستحواذ يعني أن القارئ يعمل على "تكسير" بنية التعبير اللغوي للنص لتتوافق مع ما يدركه لسانياً، مما يؤدي إلى توسيع مساحة الاختلاف والخلاف في التأويل. إن هذا التحليل يربط نقل السلطة بتبادل مراكز القدسية، ويسلط الضوء على تأثير ذلك في "ثقافة الاختلاف". إن النزاع بين سلطة النص وسلطة القارئ هو الذي يشكل "محور وعماد عملية التأويل"، وأي توازن بينهما يؤدي إلى توازن في التأويل نفسه.

لقد كان الاستحواذ على سلطة النص من المؤلف إلى التابع نتيجة لثلاثة تحولات إبستمولوجية متكاملة: التحرير من القصد (موت المؤلف)، تأسيس النسق اللغوي كسلطة بديلة (البنيوية)، وتفعيل دور القارئ التاريخي والوجودي في عملية الإنتاج الدلالي (الهرمنيوطيقا والتلقي).

مع ذلك، فإن هذا الاستحواذ يطرح تحدياً مستمراً يتعلق بضبط النسبية التأويلية. إن الإصرار على وجود حدود للتأويل، كما دعا إيكو، يمثل محاولة لإبقاء الحوار مفتوحاً ومثمراً، بحيث لا يصبح النص مجرد مرآة تنعكس عليها أهواء القارئ. يجب على الدراسات الأكاديمية والفلسفية في السياق العربي أن تستمر في "الكشف عن تنازع السلطتين" في سياقاتها النصية الخاصة، خصوصاً في التعامل مع النصوص التي تحمل قدسية، وذلك لضمان التوازن بين الحرية المكتسبة للقارئ والضرورة اللغوية الموضوعية للنص. إن الاستحواذ الأمثل هو الذي يدرك قيوده ليتحول إلى عملية إبداعية مشتركة بدلاً من كونه هيمنة ذاتية مطلقة.

***

غالب المسعودي

.....................

المراجع

آل زعير، وضحاء بنت سعيد. البنيوية وسلطة النص الأدبي

تأويل القرآن سلطة القارئ أم سلطة النص (almutadaber.com).

عودة، ناظم. الفكر السائد يكرّس السلطة ويعزز الاستحواذ والهيمنة (Al Akhbar).

جماليات التلقي من أجل تأويل النص الأدبي (صحيفة المثقف).

هرمينوطيقا انصهار الآفاق عند هانز جورج غادامير (ديوان العرب).

(PDF) إشكالية المعنى بين سلطة المؤلف والقارئ (ResearchGate).

نحو نظرية أدبية ونقدية جديدة: نظرية الأنساق المتعددة | مجلد 1 | صفحة 86 | الفصل الرابع مرجعيات نظرية (جامع الكتب الإسلامية).

 

(حتى لنكاد نمسي غرباء عن أنفسنا)... مصطفى زيور

 ما يحرك النفس في يومها وليلها هي طاقة متجددة، لا تستقر ولا تستكين، هي النفس في هدوئها وفي غليانها، هي هي، في حالة الصحو – وهي واعية، وفي حالة النوم وهي في عالم خارج منظومة الوعي، فقول سيجموند فرويد فننتظر حتى يسترخي الكبت أثناء النوم كي تجد لنفسها منصرفًا كيفما كان، فنقول يظهر ما لا يراد قوله في حالة التعامل مع الناس بشكل واضح، وتساؤلنا ماذا يحدث إن لم تجد شحنات النفس منصرفًا لتلك الطاقة في ذلك الخزان العميق وهو اللاوعي – اللاشعور؟

 أن التفكير يمتلك القدرة على جلب شيء ما تم إدراكه ذات مرة واستحضاره أمام العقل مرة أخرى، هذا الكلام صحيح تمامًا كما يراه فرويد، ربما أعيد إنتاجه من جديد في حالة الوعي الكامل، وأمام الناس في اسلوب التعامل، لكن الطاقة التي لم تجد لها منفذًا للتصريف وقد تكونت من دمج أفكار وعناصر واقعية فضلا عن العناصر الذاتية الداخلية وضاع حينها التمييز بين ما هو ذاتي – داخلي بتكوينه مع متغيرات أخرى من بنية الإنسان، وبين ما هو موضوعي – خارجي من عالمنا البيئي المحيط بنا، هنا قد لا يكون التصريف مقبول اجتماعيًا بقدر ما تتدخل عوامل في إعادة عوامل في إنتاج تلك الخلطة من الأفكار التي لا تكون دائمًا خلطة نقية مخلصة في اهدافها، ربما تشوبها الكثير من القاذورات المترسخة في النفس " أعني أفكار كراهية وحقد" تجاه الآخر أيَنٌ كان، قريب جدًا " دائرة الأبوين والأخوة أو الزوجة في بعض الأحيان أو الزوج"، أو بعيدٌ جدًا – الأصدقاء أو زملاء العمل، وهنا ربما يميل الاختيار بغلبة ذاتية الفرد وتحدث التشوهات، ومع ذلك تجلب كلا الحالتين إشباعًا ولو مبتسرًا ناقصًا، غير كافي لإشباع ولو جزء من الرغبة لا يرقى إلى التفريغ وتنفيس الشحنات الداخلية، إلا بعملية عسيرة جدًا .

هل يساعدنا النتاج الفكري في التفريغ المقبول اجتماعيًا لمنصرف الطاقة النفسية الداخلية، أم بعرض الجميل من النتاج العقلي والفكري لكي يكون هروبًا من العمليات الأولية مثل التكثيف والرمزية والاسقاط والازاحة وغيرها إلى العمليات النفسية الثانوية؟ حينها تكون وسائلنا المنطقية وهي تهذيبًا للعمليات الأولية كما يقول " مصطفى زيور" . أم .. ربما يؤدي إلى اختيار الفعل الحركي بالألعاب والرياضات العنيفة أو من المحتمل الإدمان الأليكتروني على وسائله غير البريئة وبرامجه الخيالية، والأمر سيان حيث يؤدي الانتقال من التفكير إلى الفعل بشقيه المهني والحرفي، أو العنيف . ويقول " فرويد" هو انفاق قليل للتفريغ " في الطاقة". ونقول لا يكفي لتفريغ حجم الشحنات، فكلما كانت الشحنات ثقيلة بالهموم غير المرصودة، كلما كان الفعل الفكري والفني والتشكيلي عميق في رمزيته ونتاجه . فضلا عن الحركي والفكري العقائدي والإيمان بالأفكار المتعصبة المتشددة حتى يبدو الفرد إنفعاليًا واندفاعيًا .

من يدرس التحليل النفسي يتعلم كيف يعرف نفسه، بمعنى أدق يعرف بين ثنايا نفسه الخبيئة، يحاول أن يدرك ما كان يوما لا يراه، فهو كشف لحنايا النفس وما تخبئه وهو فيهِ !! وأزاء ذلك فالمشتغلين بالتحليل النفسي وعمقه يبدأ بمعرفة نفسه أولًا ولمعرفة الآخر ثانيًا، ليس لأن الآخر شبيه له، أو نضير له، أو قرين له، اطلاقًا بل لأن النفس البشرية تحمل عدة بنيات متنوعه ومختلفة، وحتى في البينة الواحدة نجد فروق في البنية والتكوين من حيث الكم، لا من حيث النوع، فلذا فإن الذين يعملون في تخصص علم نفس الأعماق – التحليل النفسي الفرويدي – اللاكاني هم أكثر من يستطيع سبر أغوار نفسه ومن ثم يرى في الآخر ما لا يراه الآخر في نفسه، فربما أحتاج لأن يكون دليله في رحلة معرفة النفس، ويبصره بتقنيات المعرفة التي أكتسبها، والحقيقة عرفها بعد إن كانت خافية عليه، ومن هنا يبدأ الصراع من داخل النفس لا بسبب الهروب بقدر ما تبديه المقاومة من الداخل، بل ترفض لأنها ألفت القديم وهو خطأ، وتعودت عليه وهو خطأ أيضًا، ويأخذ هذا الرفض مختلف أنواع الدفاعات اللاواعية – اللاشعورية التي تفرض نفسه، وحينما تشتد في حالة الوعي يكون تفريغها عبر النوم العميق، والنوم والحلم هو رحلة الاستمتاع في إبداء الرأي بلا قيود، وبلا رقيب، فيكون التفريغ ليس علاجًا بل هو هروب من مواجهة شيء غير مقبول من النفس أولًا، ومن الحياة الاجتماعية والقيم الوالدية ثانيًا . فلم يعد تفريغًا ناجحًا بقدر ما هو تنفيس مؤقت لرغبةٍ.. من المحتمل أن تكون قذرة.

الأحلام منفذ مشروع للتفريغ في حالتها الخفيفة، أما إذا كانت شديدة فكان الكابوس وأحلام الهيلة بشدتها لها الحضور الواضح، حتى ليتعكر مزاج الفرد بعد الاستيقاظ في كل صباح، إذا ما رافقه تعرق، لهاث، أو وهن وهو كان نائمًا، ولا ننسى أن ميكانيزمي " حيلتي – حيلة – آلية الاحلام الرئيسة هي التكثيف والازاحة عند " فرويد" وعند "لاكان" الاستعارة والكناية.

يعلمنا التحليل النفسي كيف يستطيع الفرد أن يجد التفريغ – التنفيس المقبول لتلك الشحنات قبل أن تستفحل وتصبح عبأً على النفس . يعلمنا التحليل النفسي أيضًا بكل اتجاهاته ان أحد محاور العمل هو معرفة التفريغ عبر اللغة، واستنادًا لرؤية " ارسطو" الذي يعد اللغة هي في الأساس نظام من العلامات المستخدمة للتواصل مع الأفكار.

 يعتقد " جاك لاكان" ان الذات المتكلمة إنما هي ذات نقصان، والدخول في عالم اللغة الرمزي، فإنها تخبره على أنه عملية مؤلمة للفقد، ونقول أن الهروب إلى الحلم هو رغبة في التعبير عن شيء عميق لا يمكن قوله، ويرى " لاكان " أيضًا بأن الحلم هو الحدث الذي بفضله تمر المتعة إلى اللاشعور – اللاوعي. ونقول لكي يعبر عن ما لا يمكن التعبير عنه في العلن والبوح عنه ايضًا.

 كان تساؤلنا في بدء المقالة ماذا يحدث عندما لا يستطيع الإنسان أن يجد التفريغ المناسب نفسيًا وإجتماعيًا لما يعتمل في داخل النفس؟ نقول إن النفس تتجه للأعراض المرضية وهو مؤشر للدخول في حالات الاضطرابات النفسية والعقلية حينما تشتد، وعلمتنا الخبرة في التحليل النفسي على مدى سنوات العمر، إن ما لا يستطيع أن يعبر عنه الإنسان في الوقت المناسب قبل أن تكون الحياة مظلمة يظهر في أعراض الإكتئاب بشقيه النفسي أو العقلي، وكلاهما يشكل عبأ لا يطاق على النفس، أو غيرها من الاضطرابات.

***

د. أسعد الاماراة

 

تُعَدّ الهيمنة الاستعمارية الجديدة ظاهرة معقدة تتجاوز السيطرة الاقتصادية والعسكرية التقليدية، لتتغلغل في أعماق البنية المعرفية والثقافية للمجتمعات المستهدفة. إنّ استقرار هذا الشكل من الهيمنة يقوم على شرطين أساسيين ومترابطين: التدمير المنهجي للأساس المعرفي للطرف المستعمَر، وتواطؤ النخب المحلية في تنفيذ الأجندات الفلسفية والأيديولوجية للقوة المهيمنة. هذه العملية تخلق نظام "قبول" داخلي يُلغي المقاومة ويُكرس التبعية.

من الاستعمار العسكري إلى النفوذ الأيديولوجي

ترتبط الهيمنة الإمبريالية ارتباطاً وجودياً بتطور الرأسمالية العالمية. مع اتساع مصالح الرأسمالية وتجاوزها حدودها الوطنية، تطلبت حماية هذه المصالح آليات سيطرة جديدة. في أعقاب الحرب العالمية الثانية وتصاعد حركات التحرر، تراجع الاستعمار العسكري القديم، وصعدت القوى الاستعمارية الجديدة، فانتقلت السيطرة من الاحتلال العسكري المباشر إلى نفوذ يُمارَس عبر آليات غير مباشرة. هذه الآليات تشمل دعم أنظمة حليفة لحماية المصالح الاقتصادية، وتأمين الموارد، والطاقة، والأسواق، وطرق التجارة، والقوى العاملة الرخيصة.

لا يعني هذا التحول غياب القوة، إذ استمرت القوى الإمبريالية في استخدام العمل العسكري المباشر وغير المباشر لتدعيم نفوذها وحماية الأنظمة المتحالفة معها. لكن، يكمن العنصر الأهم في هذا الاستقرار، هو خلق بنية هيكلية للتبعية. توفر نظرية التبعية الإطار الذي تُبنى عليه الهيمنة الجديدة، إذ تُبقي هذه الآليات الدول الطرفية في "فخ استخراجي جديد"، يخنُق استقلالها الذاتي ويقيّد دورها على المستوى الدولي، مما يضمن بقاءها مزوداً للمواد الخام ومستهلكاً للمنتجات المركزية. إنّ اتساع المصالح الرأسمالية هو القوة الدافعة المستمرة للسيطرة؛ تؤدي هذه السلسلة السببية إلى إدامة الهيمنة.

غرامشي ونظام الموافقة

إن الابتعاد عن العنف الصريح قدر الإمكان، والاعتماد على الأنظمة الحليفة، يعني أن استقرار الهيمنة يتطلب خلق شكل من أشكال الموافقة أو القبول الداخلي. وهنا يبرز دور الهيمنة الفلسفية والثقافية، كما حللها أنطونيو غرامشي. وفقاً لغرامشي، لا تقتصر الهيمنة على السيطرة القسرية (المجتمع السياسي)، بل تتجسد بعمق في المجتمع المدني، بما في ذلك المؤسسات الثقافية مثل التعليم والدين ووسائل الإعلام.

يتم هندَسة الموافقة في هذا الإطار بحيث لا تكون بالضرورة تأكيداً طوعياً لحالة الفرد، بل تتحقق في صورة انعدام المقاومة للسلطة التي تفرض خطابها عبر مؤسسات المجتمع المدني. هذه هي المساحة التي تُنفذ فيها الأجندات الفلسفية. لقد شيَّد مفكرون مثل إدوارد سعيد وفرانز فانون نظرية ما بعد الاستعمار بهدف تفكيك خطاب الهيمنة والمركزية الأوروبية، مركزين على نقد المركزية العقلية وخطاب الحضور الميتافيزيقي الغربي. يهدف هذا التفكيك إلى "خلخلة الذات" وإعادة صياغة العلاقة بين الذات المستعمَرة والآخر المهيمن. لكن حتى محاولات التفكيك الفلسفية يمكن أن تتحول إلى فخ، حيث يمكن أن تخدم في نهاية المطاف مركزية العقل الغربي وتكريس "ميتافيزيقا الحضور" الغربية إذا لم يتم الانطلاق من أساس معرفي مستقل. إن الإنسان الذي يُدمَّر أساسه المعرفي الصلب، لن يستطيع بناء مقاومة ثقافية أو سياسية مستقلة، ويصبح تحقيق "انعدام المقاومة" أمراً يسيراً.

 الإبادة المعرفية واستراتيجيتها الشاملة

الإبادة المعرفية هي تدمير المعرفة وتشويهها وإلغاء صلاحية وجودها في الذاكرة الجمعية والتاريخية، وهي معركة مستدامة وممنهجة. وهي تتجسد في الاستعمار الثقافي الذي يفرض ثقافة ونسقاً معرفياً معيناً من قِبل قوى خارجية على المجتمعات المستعمَرة، مما يؤدي إلى تهميش المناهج التعليمية التي تعكس هوية المجتمع وثقافته وتدمير مصادره الثقافية التاريخية.

تعتمد استراتيجية الإبادة المعرفية على وجهين متضادين، ولكنهما متكاملان في الحرب المعرفية:

حصر المعرفة (التسييج): حيث يتم تضييق المجال المعرفي وتسييجه ليصبح حكراً على "نخبة مختارة" تابعة، وتحويل المعرفة إلى مجرد "مقولات أيديولوجية" لا يمكن تجاوزها.

إغراق الذاكرة (الفوضى): حيث يتم تضخيم المعارف وإغراق الذاكرة بالمعرفة الزائفة والمختلة، مما يؤدي إلى تشتيت الإدراك وإرباكه، وبالتالي يمنع العامة من بناء قاعدة معرفية صلبة للمقاومة.

يسعى هذا التكتيك المزدوج إلى ضمان العجز عن "الاستناد إلى أي قاعدة معرفية صلبة" أو الإفلات من المرجعية الأيديولوجية القسرية.

الآليات التفصيلية لتدمير البنية المعرفية

تُنفذ الإبادة المعرفية عبر آليات تفصيلية منظمة تستهدف تدمير البنية التحتية الفكرية:

تدمير آليات إنتاج المعرفة وتداولها: يتضمن ذلك تجريف المكتبات والمدارس، أو تجهيل الأفراد وإعاقة تفكيرهم النقدي، مما يؤدي إلى فقدان القدرة على التمييز بين المعرفة الصحيحة والباطلة، وغياب القوانين المُنظِمة لعملية الصدق المعرفي.

عزل المعرفة عن الواقع الحي (التفريغ): يتم فصل المعرفة عن السياق الاجتماعي، مما ينتج "معرفة مُغترِبة ومُجرَّدة" لا يستطيع المجتمع استخدامها في فهم واقعه أو التأثير فيه، فتفقد قيمتها المعرفية.

تسيس المعرفة وعسكرتها: تتحول المعرفة إلى "أداة سياسية" للسيطرة على الأفراد وتوجيه سلوكهم، أو تُستخدَم في الصناعات العسكرية لخدمة أهداف أمنية ولتبرير الحروب والصراعات.

تشريح النخبة التابعة ونقد فانون

لم تكن النخبة في الدول المتحررة كتلة متجانسة تحافظ على ذاكرة الشعوب وهويتها، بل كانت غالباً "مُفكَّكة" وتتبادل الأدوار مع المجال الإعلامي والثقافي لخدمة الأجندات العليا. وجَّه فرانز فانون نقداً جوهرياً لهذه النخبة، محذراً من "انحراف البرجوازية الوطنية ومهادنتها للاستعمار الجديد" بعد نيل الاستقلال الشكلي. ويرى فانون أن هذه النخبة تخدع نفسها بظن إمكانية تطبيق المثل والمبادئ التي علَّمها إياها الغرب، بدلاً من البحث عن "مسالك جديدة أوجدتها ظروفها الخاصة". هذا الانحراف الوجودي يمنع خلق "إنسان جديد".

يتمثل الخطر الأكبر في ظهور نخب ذات ولاء خارجي، مثل النخب الفرنكوفونية أو الأمريكوفونية، التي قد يكون ولاؤها لثقافة ومصالح المستعمِر "أكبر، أوسع وأهول من ولائها للشعب والوطن". إن ما يُغري هذه النخب بالتخلي عن مجتمع ديمقراطي منتج والانغماس في نظام طغياني واستبدادي فاشل هو الانتفاع المادي والفساد والانتهازية. هذا الانتفاع المادي هو الثمن المدفوع لولائها الثقافي والفلسفي، مما يضمن استمرار النظام التبعي والفخ الاستخراجي.

النخبة كمنفذ للأجندات الفلسفية تحت رايات نبيلة

تضطلع النخب المتواطئة بدور حيوي في تسويق الأجندات الفلسفية الاستعمارية تحت غطاء "نبيل" (الذرائع النبيلة). فقد تواطأت هذه النخب والحكام على الشعوب بذريعة حماية المدنيين أو نشر الديمقراطية، بينما كانت المصالح الحقيقية هي النفط والغاز وضمان ازدهار الأوليكارجيات المالية الغربية.

تتحكم النخبة المتواطئة في التنظيم الإداري والنشاط الأكاديمي والجامعات، مما يمكنها من تحويل المعرفة إلى "أداة سياسية" لترسيخ مفاهيم وأيديولوجيات تخدم برامج القوى المهيمنة. وبفعل ولائها الخارجي، تتولى النخبة مهمة "تعقيم وتطهير" المعرفة من أي أفكار نقدية أو ثورية، مما يضمن أن الخطاب المحلي لا يتجاوز الحدود التي رسمتها البرنامج الفلسفي الغربي. إن نقد فانون للبرجوازية الوطنية يفسر كيف يتم تحقيق "انعدام المقاومة" (مفهوم غرامشي)، حيث تستغل النخبة الهيمنة الخارجية بدلاً من مقاومتها، مما يمنح الشرعية الداخلية للنظام التبعي. كما تلعب النخبة دوراً في المجال الإعلامي، مما يمكنها من تشكيل إدراك الآخرين وتوجيه الفهم (كما بيَّن إدوارد سعيد)، وهذا يغذي فوضى المعرفة الزائفة ويضمن نجاح تسويق الروايات المضللة.

الذات والهيمنة الفلسفية

الهدف النهائي للهيمنة الفلسفية هو السيطرة على العقول وتشكيل الإدراك، ويتم ذلك عبر تقنين المعرفة المعيارية في الذاكرة الجمعية لتغدو "المعرفة الوحيدة والمُسلَّم بها". هذا التقنين يستند إلى "مركزية العقل" الغربي و"ميتافيزيقا الحضور" المرتبطة به، حيث يتم توظيف الخطاب (الكلام والصوت) لتكريس حضور الذات الغربية وإقصاء الذات المستعمَرة.

يضمن هذا تدمير الأساس المعرفي تجريد المقاومة من أساسها الفلسفي والمنطقي. عندما تكون الهوية ممزقة ثقافياً وغارقة في الفوضى، يصبح التحرر مجرد "شعارات طوباوية" لا يمكن ترجمتها إلى عمل سياسي منظم. لذا، شدد غرامشي على أن الثورة تخاطر بتقويض نفسها دون "التحول الواعي"، وأن الطريق إلى التحرر يتطلب "مشاركة فعالة ضد نظام الهيمنة". إن استقرار الهيمنة الاستعمارية الجديدة هو نتاج التقاء عاملين: الجريمة المعرفية (تدمير القاعدة الفكرية) والجريمة الأخلاقية (تواطؤ النخبة التي تتولى التنفيذ والتعقيم).

يستنتج من هذا أن الهيمنة الاستعمارية الجديدة هي منظومة قسرية ثقافياً ومعرفياً، لا يمكنها أن تستقر بالسيطرة الاقتصادية (نظرية التبعية) وحدها. إن التدمير الممنهج للأساس المعرفي يخلق الفراغ اللازم لزرع الأيديولوجيا المستوردة والمُعقَّمة، بينما يضمن تواطؤ النخبة (البرجوازية الوطنية) الوسيط المحلي اللازم لتوفير الغطاء الشرعي لهذا النظام التبعي وتأبيد الفخ الاستخراجي.

الطريق إلى التحرر يتطلب "تبادلاً حراً للأفكار" و"ديمقراطية تشاركية" لمواجهة نظام الهيمنة القائم على التلقين والنمطية. كما يتطلب ذلك الابتعاد عن النخب الانتهازية والاعتماد على النخب المحلية الحقيقية التي تنطلق من الذات، مستلهمة نماذج الكتلة الشعبية التي نجحت في قهر الاستعمار واستعادة السيادة الحضارية والاقتصادية والسياسية.

***

غالب المسعودي

.......................

المراجع

revsoc.me - الهيمنة الاستعمارية والعولمة المسلحة - بوابة الاشتراكي

alsifr.org - نظرية تبعية جديدة؟ | صفر - موقع 0

tadween.alhadath.ps - أنطونيو غرامشي حول الهيمنة الثقافية... ما هي وكيف تعمل؟ - تدوين - صحيفة الحدث

sufirfan.org - فلسفة ما بعد الاستعمار بين التفكيك وإعادة إنتاج السيطرة - Sufirfan

ahewar.org - حمدي سيد محمد محمود - الإبادة المعرفية في العالم العربي: معركة الذاكرة (“الإبادة المعرفية في العالم العربي: معركة الذاكرة والهوية في وجه محاولات ...”)

المقدمة: تُعد الفلسفة من أقدم صور الوعي الإنساني وأكثرها عمقًا في البحث عن الحقيقة والمعنى، فهي التي صاغت منذ بدايات التفكير البشري أسسَ السؤال، ومهّدت لولادة العلم، وأرست قواعد الأخلاق والعقل النقدي. غير أنّ السؤال عن جدوى الفلسفة يظل يتجدّد في كل عصر، ويتخذ صيغًا جديدة تبعًا لتحولات الفكر والمجتمع. ومن هنا تبرز أهمية هذا البحث الذي يسعى إلى الإجابة عن سؤال مزدوج: لماذا الفلسفة؟ ولماذا الآن؟، وهو سؤال يعكس الحاجة الملحّة إلى استعادة دور الفلسفة في زمن يتسم بتسارع المعرفة وتفكك القيم الإنسانية.

تكمن أهمية الموضوع في كونه يتناول جوهر العلاقة بين الإنسان والفكر، ويعيد طرح الفلسفة باعتبارها أداة للفهم والتوجيه في عالمٍ تسيطر عليه التقنية، وتضعف فيه القدرة على التأمل والمعنى. فالعالم المعاصر يعيش أزمة عقلية وأخلاقية تتجلّى في هيمنة النفعية، وتراجع التفكير النقدي، وانفصال التقدم العلمي عن البعد الإنساني؛ مما يجعل العودة إلى الفلسفة ضرورةً لا ترفًا، لأنها تمنح الفكر الإنساني توازنه بين المعرفة والقيمة، وبين الفعل والتأمل.

أما مشكلة البحث فتتمثل في التساؤل عن موقع الفلسفة في عالم اليوم: هل ما زالت قادرة على الإسهام في معالجة أزمات الإنسان الفكرية والروحية، أم أصبحت نشاطًا نظريًا منقطع الصلة بالواقع؟ وهل يستطيع التفكير الفلسفي أن يقدم حلولًا عملية للتحديات الراهنة، كأزمة القيم، وضياع الغايات، وتشيؤ الإنسان في ظل التقدم المادي؟ هذه الإشكالية تمثل محور البحث وتساؤله المركزي.

ويعتمد البحث في معالجة هذه الإشكالية على منهج تحليلي– نقدى مقارن؛ إذ يتناول المفاهيم الأساسية للفلسفة ووظيفتها عبر تحليل نصوص فلسفية ودلالات فكرية، مع استنباط القيم التي يمكن أن تُعيد للفلسفة دورها التوجيهي في الحياة المعاصرة. كما يوظّف المنهج المقارن لإبراز تباين المواقف الفلسفية القديمة والحديثة من دور الفلسفة في المجتمع، وصولًا إلى رؤية متكاملة تُبرز أن الفلسفة ليست مجرد تراث فكري، بل حاجة إنسانية متجددة توجه العقل نحو الحقيقة والخير والجمال.

وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، سيتناول البحث المحاور الآتية: معنى الفلسفة ووظيفتها، والفلسفة كطريق للفهم والمعرفة، ودورها في توليد الطموح والإخلاص، وأزمة العالم المعاصر وحاجته إليها، إضافةً إلى مناهج التفكير الفلسفي وأهميتها، ثم الفلسفة بوصفها نورًا يهدي مسيرة الإنسان، وأساسًا للأخلاق والتقدم الإنساني.

المحور الأول: معنى الفلسفة ووظيفتها

1- تعريف الفلسفة

ما هي الفلسفة؟ سؤال يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه من أعقد الأسئلة التي يمكن أن تُطرح، لأن الفلسفة لا تخضع لتعريف واحد أو نهائي. فهي، بحكم طبيعتها النقدية والتأملية، تظل مفتوحة أمام تفسيرات متعددة. ولهذا لا يمكن لأي فيلسوف أن يقدم تعريفًا يحظى بإجماع جميع الفلاسفة، بخلاف ما نجده في العلوم الأخرى مثل الاقتصاد أو التاريخ أو الأحياء، حيث يمكن تحديد موضوع الدراسة بدقة ووضوح.(1)

فمنذ البدايات الأولى للفكر الفلسفي، لم يكن هناك اتفاق على تعريف محدد للفلسفة؛ إذ نجد أن كل فيلسوف ينطلق في تعريفه لها من زاوية نظره الخاصة، تبعًا للمشكلات التي يراها محورية أو متعلقة بجوهر التفكير الفلسفي. ومن هنا تنوّعت التعريفات بتنوع القضايا التي تتناولها الفلسفة، حتى صار من الصعب الإحاطة بجميع أبعادها في تعريف واحد جامع. ومع ذلك، فإن طرح سؤال "ما هي الفلسفة؟" في ذاته يُعدّ خطوة أولى في عملية التفلسف، لأن التفكير في ماهية الفلسفة هو ممارسة فلسفية بحدّ ذاتها، تنبع من التساؤل حول الحياة والوجود الإنساني وأبعادهما العميقة.(2)

ومن زاوية أخرى، يمكن استخدام كلمة "فلسفة" للإشارة إلى الموقف العام الذي يتبناه الفرد أو الجماعة تجاه الحياة. هذا الموقف يمثل النهج أو الطريقة التي يستجيب بها الإنسان لمختلف الأحداث، ويعكس رؤيته للعالم كما تتجلى في معتقداته وأفكاره، وهي حصيلة ما ورثه وما اكتسبه عبر تجاربه الحياتية. وبناءً على هذا الفهم، يمكن القول إن كل إنسان يمتلك فلسفة ما، تتجسد في نظرته الخاصة إلى الحياة وموقفه منها. ولذلك، حين يتحدث الناس عن "فلسفتي في الحياة" أو "فلسفته"، فإنهم يقصدون بذلك مجموع المبادئ والقناعات التي تحدد أسلوبهم في العيش والتعامل مع الآخرين. إن امتلاك فلسفة شخصية ليس ترفًا، بل هو ضرورة إنسانية، لأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش حياة ذات مغزى دون منظومة من القيم والمعتقدات التي توجه سلوكه وتمنحه معنى وغاية.(3)

نتوقف مع عدة تعريفات للفلسفة كما هي، دون الإشارة إلى الانتقادات والملاحظات التي أُثيرت حولها:

أولًا، الفلسفة هي تاريخ الفلسفة.

"الفلسفة هي في حقيقتها دراسة الشخصيات التاريخية التي يُعَدّ أصحابها فلاسفة. قد يصادف المرء أسماء مثل سقراط، أفلاطون، أرسطو، أوغسطين، طاليس، فيلو، أفلوطين، توما الأكويني، كانط، إريجينا، هيوم، ماركس، هيجل، راسل، فيتجنشتين، وغيرهم كثيرون".(4)

يعتمد هذا التعريف على أن الفلسفة لا يمكن أن تُفهم فهمًا حقيقيًا ما لم يُفهم الماضي. وستكون الفلسفة فقيرة إذا فقدت أيًّا من الأسماء المذكورة أعلاه. ويذهب بعضهم إلى أن معرفة تاريخ الفلسفة شرط أساسي لتقدير الفلسفة تقديرًا إيجابيًا، وضرورة إذا أراد المرء أن يُقدّم إسهامات إبداعية في تطوير الفلسفة. وتكمن قيمة المدخل التاريخي في أنه يقدّم للطالب العقول العظيمة في الماضي ويضعه في مواجهة المشكلات الفلسفية التي أثارها المفكّرون في جميع العصور. وهذا أمر مرغوب فيه في حد ذاته، حتى وإن لم يكن أفضل تعريف للفلسفة.(5)

ثانيًا، الفلسفة هي تحليل اللغة

إن تعريف الفلسفة على أنها تحليل للغة يُحوِّل الفلسفة من كونها موضوعًا قائمًا بذاته إلى مجرد أداة للتعامل مع موضوعات أخرى. فهي تصبح منهجًا بلا مضمون. وهذا التعريف أحادي الجانب. لقد كان تحليل اللغة جزءًا مهمًا من الفلسفة منذ زمن سقراط وغيرِه وصولًا إلى الحاضر. لكن ربط اللغة بمبدأ التحقق وتقييدها به يفرض حدودًا صارمة على مجالات اعتُبرت دائمًا جوهرية في الفلسفة. يظهر هذا القيد بوضوح في مجالي الأخلاق والقيم، إذ إن الأخلاق لا يمكن التحقق منها بطريقة علمية، ومع ذلك يبدو من الواضح أننا نستطيع مناقشة الأفعال واعتماد بعض وسائل التقييم الموضوعي من خلال العقل.(6)

ثالثًا، الفلسفة برنامج للتغيير.

صرّح كارل ماركس بأن دور الفلسفة ليس التفكير في العالم، بل تغييره. فالفلسفة ليست مشروعًا برجوازيًا في برجٍ عاجي بعيدًا عن واقع الشروط الإنسانية. فما الفائدة من تحقيقات إبستمولوجية دقيقة، بينما العلم والتكنولوجيا – من دون أن يشغلا أنفسهما كثيرًا بأسس معرفتهما – يزدادان يوميًا تمكنًا من الطبيعة والإنسان؟ وما الفائدة من تحليل لغوي يتجنب الحديث عن تحوّل اللغة (اللغة العادية!) إلى أداة للسيطرة السياسية؟ وما الفائدة من التأملات الفلسفية في معنى الخير والشر، في حين أن أوشفيتز، والمجازر في إندونيسيا، وحرب فيتنام قد قدمت تعريفًا يخنق كل نقاش حول الأخلاق؟ وما الفائدة من انشغال فلسفي إضافي بالعقل والحرية بينما موارد وملامح المجتمع العقلاني، والحاجة إلى التحرر، كلها واضحة تمامًا، والمشكلة ليست في تصورها، بل في الممارسة السياسية لتحقيقها؟

لكن مسألة التغيير ليست بالضرورة من صميم الفلسفة نفسها، فالفلسفة لا تحمل مطلبًا جوهريًا بأن يكون التغيير هو المنتج النهائي للتفكير. يبدو أمرًا طبيعيًا أن يسعى من يفكر بجدية في مشكلات الإنسان إلى حلول جيدة، ويبدو طبيعيًا أيضًا أن يحاول من يمتلك حلولًا جيدة أن ينفذها. ومع ذلك، فمن الممكن أيضًا أن يكتفي المرء بالتأمل في حلول جيدة من غير أن يباشر أي عمل. فلا يوجد تكليف أصيل في الفلسفة يفرض برنامجًا عمليًا للتغيير، وإن كان من الممكن افتراض أن بعض الأعمال الجيدة قد تخرج ضمنيًا من ذلك.(7)

رابعًا، الفلسفة رؤية كونية.

إن الرؤية الكونية – أو Weltanschauung كما يسميها الألمان – تتجاوز مجرد التساؤل عن الكون، فهي محاولة لصياغة تصور شامل عن العالم في علاقته بتكوين المادة، والإنسان، والإله، والخير، وطبيعة السياسة، والقيم، والجماليات، وكل عنصر آخر في الكون له أهمية. وقد تبنّى هذا التعريف ويليام جيمس الذي قال:"إن المبادئ التفسيرية التي تكمن وراء كل الأشياء دون استثناء، والعناصر المشتركة بين الآلهة والإنسان والحيوان والحجر، والبداية الأولى والنهاية الأخيرة لمسيرة الكون بأسره، وشروط كل معرفة، وأعمّ القواعد التي تحكم الفعل الإنساني – هذه كلّها هي المشكلات التي تُعَدّ فلسفية بامتياز؛ والفيلسوف هو ذاك الذي يجد أكثر ما يُقال عنها."

إن الرؤية الكونية تشمل نظرةً إلى الإنسان، وإلى المسؤوليات الاجتماعية والسياسية المترتبة على هذه النظرة. فأيُّ علم أو دراسة تتعلق بمعنى الإنسان ستكون ذات صلة بالرؤية الكونية، بما في ذلك علم الأحياء، والأنثروبولوجيا، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، واللاهوت، وغيرها من التخصصات المرتبطة. فالرؤية الكونية هي محاولة للتفكير بشكل مترابط عن العالم في شموليته وكماله.(8)

خامسًا، الفلسفة هي النقد.

النقد هو محاولة إزالة التفكير الرديء وترسيخ المفاهيم بمزيد من الدقة والمعنى. يُعد سقراط من أوائل من انخرطوا في النقد الفلسفي، وكان النقد عند سقراط يشير إلى التفكير النقدي القائم على الجدل في إطار المحاورة. ويجب أن نتذكّر أن الجدل (Dialectic) هو نقاش متواصل يتضمن ادّعاءات، وادّعاءات مضادّة، وتوضيحات، وتصحيحات، وتنازلات، على أمل صادق في الوصول إلى فهمٍ لمفهوم ما. وفي هذا السياق، لاحظ جون ديوي أن:"الفلسفة هي في جوهرها نقد، وتمتاز بموقعها المميز بين أنماط النقد المختلفة بعموميتها؛ فهي نقد للنقد إن صحّ القول. النقد هو حكم تمييزي، وتقدير متأنٍ، ويُطلق على الحكم اسم نقد على نحو ملائم حين يكون موضوع التمييز متعلقًا بالخير أو القيم".(9)

وقد كان تعريف الفلسفة باعتبارها نشاطًا نقديًا شائعًا نسبيًا في المشهد الفلسفي المعاصر، إذ يُنظر إليها كعملية تفكير مستمر تهدف إلى توضيح المفاهيم وتصحيح الأخطاء وتوسيع آفاق الفهم. فقد وصف روبرت بول وولف (Robert Paul Wolff) الفلسفة بأنها نشاط يقوم على التفكير المتأني، تحكمه الدقة المنطقية والوضوح. مثل هذا النشاط يقوم على إيمان راسخ بقوة العقل، وهو نشاط يقود فيه العقل إلى الحقيقة.(10)

ومثال آخر على البعد النقدي في الفلسفة هو الحركة الفلسفية المرتبطة باسم إدموند هوسرل، الذي يُعدّ مؤسس الفينومينولوجيا (Phenomenology). والفينومينولوجيا هي منهج نقدي يهدف إلى فحص جوهر أي شيء؛ فجوهر الحب، أو العدالة، أو الشجاعة، أو أي فكرة أخرى يمكن التعامل معها نقديًا للوصول إلى استنتاجات مبدئية بشأنها. مثل هذا النقد يُعدّ حيويًا للفلسفة كما هو ضروري في سائر الحقول المعرفية، إذ يضع الأسس المنهجية للتفكير في المعاني والحقائق دون افتراضات مسبقة.

وانطلاقًا من هذا البعد النقدي والمنهجي، يمكن القول إن الفلسفة هي محاولة منسقة ومنهجية لتقييم الحياة والكون ككل، بالرجوع إلى المبادئ الأولى التي تقوم عليها جميع الأشياء، والتي تنطوي عليها كل تجربة. إنها منهج غير متحيّز في مقاربة جميع مشكلات الحياة وأبعاد الوجود، ولا تقتصر دراستها على العالم التجريبي كما هو الحال في العلوم الفيزيائية والبيولوجية، ولا تُقيَّد بمجالات الإيمان والسلطة أو قضايا العالم الآخر كما في البحوث اللاهوتية، ولا تنحصر في دراسة العقل وسلوكه كما في علم النفس، ولا تُعنى بمجرد الجدل الأخلاقي أو سلوك الإنسان كما في علوم الأخلاق، ولا تقتصر على الواجبات المدنية أو مشكلات الإدارة والدساتير كما في السياسة، ولا تنشغل فقط بحلول تقنية لتنظيم المجتمع أو البحث في أصله وتطوره كما في الاقتصاد وعلم الاجتماع.

بل تُكيِّف الفلسفة نفسها لمعالجة شاملة للمسلمات الأساسية الكامنة في كلٍّ من هذه المجالات، ولِما هو أبعد من ذلك كلّه، لما يُعدّ أساسًا تقوم عليه جميع العلوم، وما يُشكّل أصلًا لكل معرفة وتجربة. وهكذا، تُعدّ الفلسفة أشمل فروع المعرفة قاطبة، وتعمل كمعيار تقيس به سائر أوجه المعرفة البشرية.(11)

2- موضوعات الفلسفة:

تشمل الفلسفة موضوعات ومحاور متعددة، وتُعَدُّ التقسيمات التالية أساسية عند النظر إلى الفلسفة من منظور عام وشامل(12):

أ‌. نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا)

ب‌. الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة)

ج. المنطق

د. علم القِيَم: وهو مجال واسع يضمّ فرعين أساسيين:

- الأخلاق

- علم الجمال

هـ. مجالات فلسفية متخصصة:

- فلسفة الفن

- فلسفة علم الأحياء

- فلسفة التاريخ

- فلسفة القانون

- فلسفة الفلسفة

- فلسفة الفيزياء

- فلسفة العلوم الطبيعية

- فلسفة الدين

- فلسفة الاجتماع

- فلسفة العلم

وتدرس الفلسفة أربعة أنواع من العلاقات، وهي:

(1) العلاقة بين الإنسان والطبيعة،

(2) العلاقة بين الفرد والمجتمع،

(3) علاقة الإنسان بنفسه،

(4) علاقة الإنسان بأي كائن يتجاوز العالم المحسوس، إن وُجد.

وبمعنًى ما، يحتل "الإنسان" موقعًا مركزيًا في الفلسفة. فما إمكانياتنا كبشر؟ وما حدودنا؟ وكيف يمكننا أن نُحقق كامل طاقتنا ونعيش حياة مليئة بالرضا والسعادة؟ تُعدّ هذه الأسئلة ذات أهمية كبرى في الفلسفة(13).

وانطلاقًا من هذا البعد الإنساني، تتغلغل الفلسفة في شتى التخصصات، لأنها تعالج المعرفة الأساسية، وتنطوي على نشاط عقلي، وتستعمل أدواتها الفلسفية للتحقيق في أصل ومصدر وصلاحية التخصصات التي تُعَدّ مكتفية بذاتها. وبصورة عامة، فإن الفلسفة – بوصفها تخصصًا – تطرح أسئلة عن كل ما يمكن أن يُسأل عنه.

وتُعَدّ الفلسفة أمًّا لسائر التخصصات الأخرى، لأنها أنجبتها جميعًا، والعلاقة القائمة بين الفلسفة وسائر العلوم تشبه العلاقة بين الأم وأبنائها؛ إذ تواصل القيام بدور الأم من خلال مساءلة افتراضاتهم الأساسية، وصقل مبادئهم الجوهرية، وتوجيه أنشطتهم.

وتخدم الفلسفة باقي التخصصات لأنها توفر الأساس الذي انبثقت منه، ومن ثَمّ تُعَدّ علم العلوم وأمّ الفنون كلّها(14).

3- وظائف الفلسفة

بعد استعراض موضوعات الفلسفة ومجالاتها، تبرز الحاجة إلى فهم وظائفها في الحياة الإنسانية والمجتمعية، إذ لا تقف عند حدود التنظير، بل تمتد إلى التطبيق العملي والتأثير الأخلاقي والعقلي في سلوك الإنسان ومصيره.

كان سقراط يؤمن بأن الفلسفة ينبغي أن تحقق نتائج عملية من أجل الصالح العام للمجتمع، وسعى إلى تأسيس منظومة أخلاقية تستند إلى العقل البشري بدلًا من العقيدة الدينية. وأوضح أن الاختيار الإنساني تحركه الرغبة في السعادة، وأن أسمى مراتب الحكمة تتحقق من خلال معرفة المرء بنفسه. وكلما ازداد الإنسان معرفة، ازدادت قدرته على التفكير العقلاني واتخاذ القرارات التي تجلب السعادة الحقيقية. ورأى سقراط أن هذا المبدأ ينعكس على السياسة أيضًا، حيث اعتبر أن أفضل أشكال الحكم ليست الاستبداد ولا الديمقراطية، بل الحكم الذي يتولاه أفراد يمتلكون أعلى درجات القدرة والمعرفة والفضيلة، إلى جانب وعي كامل بذواتهم(15).

وتحرّرنا الفلسفة من ضيق الأفق في التفكير التقليدي، وتفتح عقولنا على إمكانيات جديدة. وغالبًا ما تُقدِّم الفلسفة علاجًا ضد الأحكام المسبقة، لا عن طريق حسم الأسئلة الكبرى، بل من خلال إظهار مدى صعوبة حسمها حقًا. ويمكن أن تقودنا إلى مساءلة آرائنا التقليدية التي نتمسّك بها بارتياح واطمئنان(16).

ويقول راسل: "إنّ الإنسان الذي لم يمسّه شيء من الفلسفة يمضي في حياته أسيرًا للأحكام المسبقة الموروثة من الحسّ المشترك، ومن المعتقدات السائدة في عصره أو أمّته، ومن القناعات التي ترسّخت في ذهنه دون مشاركةٍ واعية من عقله المتعمّد أو رضاه. … إنّ حياة الإنسان الغريزي منحصرة داخل دائرة اهتماماته الخاصة. … وفي مثل هذه الحياة يوجد شيء من الحمى والضيق، إذا ما قورنت بالحياة الفلسفية التي تتّسم بالهدوء والحرية. فالعالم الخاص بالاهتمامات الغريزية ضيّق، وهو قائم في وسط عالمٍ واسعٍ وقوي، لا بدّ أن يدمّر عاجلًا أو آجلًا عالمنا الخاص"(17).

إنّ القيمة الأساسية للفلسفة، بحسب راسل، تكمن في أنّها تفكّ قبضة الآراء الممسوكة دون تمحيص، وتفتح العقل على فضاءٍ محرِّر من الإمكانات الجديدة للاستكشاف. "إنّ قيمة الفلسفة تُلتمس، في الواقع، إلى حدٍّ كبير في لايقينها نفسه. … فالفلسفة، وإن كانت عاجزة عن أن تخبرنا بيقينٍ ما هو الجواب الصحيح عن الشكوك التي تثيرها، فإنّها قادرة على أن تقترح إمكانات عديدة توسّع آفاق تفكيرنا وتحرّره من طغيان العادة. وهكذا، وبينما تقلّل من شعورنا باليقين بماهية الأشياء، فإنها تزيد كثيرًا من معرفتنا بما يمكن أن تكون عليه؛ فهي تزيل شيئًا من ذاك الدوغمائية المتعجرفة التي يتسم بها أولئك الذين لم يرحلوا قطّ إلى منطقة الشكّ المحرِّر، كما أنّها تُبقي فينا حيًّا شعور الدهشة من خلال إظهار الأشياء المألوفة في وجهٍ غير مألوف"(18).

المحور الثانى: الفلسفة كطريق للفهم والمعرفة

1- الفلسفة أداة لتوسيع المدارك وتحرير الفكر.

يؤكد ويلفريد سيلارز (Wilfrid Sellars) أن هدف الفلسفة هو فهم نطاق واسع جدًا من الموضوعات—بل أوسع نطاق ممكن. أي أن الفلاسفة ملتزمون بمحاولة فهم كلّ شيء بقدر ما يمكن فهمه. ويختار الفيلسوف أن يدرس الأمور التي تُعدُّ غنية بالمعلومات ومثيرة للاهتمام—تلك التي تمنحنا فهمًا أعمق للعالم ولمكانتنا فيه.

ولكي يتمكن الفلاسفة من إصدار أحكام بشأن أيّ المجالات تستحق الدراسة أو تُثير الفضول، فإنهم بحاجة إلى تنمية مهارة خاصة. يصف سيلارز هذه المهارة الفلسفية بأنها نوعٌ من المعرفة العملية أو الدراية. فالمعرفة الفلسفية لا تعني مجرد معرفة الحقائق، بل تعني معرفة كيفية التنقل في عالم المفاهيم، والقدرة على فهم كيفية ارتباط المفاهيم ببعضها، وكيف تتكامل وتدعم وتتطلب بعضها بعضًا—بعبارة موجزة، تعني الفلسفة معرفة "كيف تتماسك الأمور معًا".(19)

وانطلاقًا من هذا التصور، يمكن القول إنّ ممارسة الفلسفة لا تنفصل عن تاريخها، إذ إنّ قراءة أعمال الفلاسفة السابقين تُسهم في تعميق فهمنا للقضايا الفلسفية المعاصرة. فالحوار مع الماضي يمنحنا أدوات فكرية لفهم الحاضر بشكل أفضل، ويضيء لنا دروبًا جديدة للتفكير والنقاش.(20) ومن هنا، تصبح الفلسفة نشاطًا متجددًا يربط بين الأجيال، ويفتح آفاقًا رحبة أمام العقل الإنساني لمساءلة ذاته والعالم من حوله.

كما أنّ ممارسة الفلسفة تزودنا بمجموعة من المهارات الأساسية التي تعزز التفكير النقدي والمستقل، وتدعم انخراطنا الواعي في المجتمع. يمكن تلخيص هذه المهارات على النحو التالي:

1- مهارات التفكير المنطقي: تتضمن تحليل الأفكار واختبارها، التدريب على استخدام المنطق والحجج بشكل فعّال، وطرح الأسئلة الجوهرية مثل: "هل هذا صحيح؟" و"كيف نعرف ذلك؟"

2- مهارات الاستقصاء: تشمل تنمية الفضول والملاحظة الدقيقة، البحث العميق عن المعاني، وطرح تساؤلات مثل: "ماذا يعني هذا؟" و"كيف يمكننا اكتشاف ذلك؟".

3- مهارات تكوين المفاهيم: تتجسد في القدرة على التعريف والتصنيف، رسم العلاقات بين الأجزاء والكل، استخدام أدوات مثل الخرائط الذهنية والمفاهيمية، مع طرح أسئلة من قبيل: "ما الذي نعرفه؟"، "ما الذي لا نعرفه؟" و"ما نوع المشكلة التي نُواجهها؟".

4- مهارات التواصل والترجمة: تشمل التعبير الواضح والدقيق عن الأفكار، فهم المعاني المختلفة، حل المشكلات واتخاذ القرارات الصائبة، وطرح أسئلة مثل: "كيف يمكننا تفسير ذلك؟" و"ما هي الاستنتاجات التي توصلنا إليها؟".(21)

5- مهارات التحليل المفاهيمى: وإذا كانت هذه المهارات تمثل الركائز الأساسية للتفكير الفلسفي، فإنّ مهارة التحليل المفاهيمي تظل في مقدمتها، إذ تعد من أهم التقنيات التي يستخدمها الفلاسفة لتوضيح وفهم العبارات الفلسفية — سواء أكانت مقدمات أم نتائج. ويُقصد بـالتحليل المفاهيمي تحليلُ المفاهيم أو التصورات أو الأفكار كما تَرِد في العبارات أو الجمل. ويُعد مصطلح "التحليل" جزءًا أساسيًا من مصطلحات ومناهج الفلسفة منذ نشأتها. وفي أبسط معانيه، يشير التحليل إلى عملية تفكيك الأفكار المعقّدة إلى أفكار أبسط منها. كما يتضمن التحليل مجموعة من الاستراتيجيات المتقاربة التي يعتمدها الفلاسفة في سعيهم لاكتشاف الحقيقة، وتهدف كل تقنية من هذه التقنيات إلى الوصول إلى تعريف أوضح وأكثر دقة وقابلية للتطبيق للمفاهيم المطروحة.(22)

وإذا كانت المهارات الفلسفية تمثل الأساس العملي لممارسة التفكير النقدي والتحليلي، فإنها لا تكتمل دون التوجهات العقلية التي تمنحها الحيوية والفاعلية. وإلى جانب المهارات، هناك توجهات عقلية أساسية يجب أن تُنمَّى وتُشجَّع، مثل الفضول والرغبة في الاستكشاف، والقابلية لإعادة تقييم الأفكار والمرونة في التفكير، إلى جانب تقدير أهمية الحوار والإصغاء إلى وجهات نظر الآخرين.

وتتجلى قيمة هذه التوجهات في قدرتها على توجيه المتعلم نحو البحث المستمر، والتمسك بالانفتاح الذهني، وتوسيع آفاق الفهم والنقاش. كما تساعد على طرح أسئلة تعمّق الوعي بالمواقف والأفكار، مثل: هل أتفق مع هذه الفكرة؟ ما هو رأيي فيها؟ وكيف يرى الآخرون هذا الأمر؟(23)

2- دور الفلسفة في بناء الوعي النقدي

يُعد التفكير النقدي مفهومًا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالفلسفة، حيث يمثل رحلة دائمة في حياة الإنسان تهدف إلى تعزيز الانضباط والمسؤولية الفكرية في الأنشطة البشرية. من خلال الاعتماد على العقل والتأمل العميق، يمكن لأي شخص اتخاذ قرارات مدروسة وذكية. وهنا قد يتساءل البعض: "ما معنى التفكير النقدي؟".(24)

يمكن العثور على العديد من التعريفات المتعلقة بمفهوم التفكير النقدي، حيث تختلف هذه التعريفات وفقًا للسياقات الفكرية والفلسفية التي تُستخدم فيها. ومن بين هذه التعريفات:

1- يُعد التفكير النقدي التزامًا واعيًا باستخدام العقل في تشكيل معتقداتنا وصياغتها بطريقة منطقية ومدروسة. كما يمكن اعتباره وسيلة لتوجيه الأفكار والأنشطة نحو تحقيق فهم عميق واتخاذ قرارات مستنيرة.

2- يُعرف التفكير النقدي بأنه عملية تفكير تتميز بالمهارة والوضوح والمعقولية. يعتمد هذا النوع من التفكير على مزيج من الملاحظة الدقيقة والمتشككة، والخبرة المتراكمة، والعقل المنطقي، والتحليل الدقيق، بالإضافة إلى الحكم الرشيد، وتحمل المسؤولية الفكرية، والعقلانية، والتأمل العميق في الأفكار والمواقف.(25)

3- النقد لا يقتصر على الاعتراف بأن الأمور ليست كما ينبغي، بل هو عملية تحليلية تهدف إلى تفكيك الافتراضات الراسخة وأنماط التفكير التقليدية التي غالبًا ما تُعتبر غير قابلة للتحدي. إنه يتطلب منا مواجهة الممارسات التي نقبلها دون تدقيق، وطرح تساؤلات عميقة تكشف أن ما نعتبره بديهيًا أو طبيعيًا قد لا يكون كذلك. لذا، فإن ممارسة النقد ليست مجرد تحليل أو تفكيك، بل هي أيضًا فن إعادة تقييم الأمور التي تبدو واضحة، وتحويل المسلمات السهلة إلى قضايا تتطلب تفكيرًا عميقًا.(26)

وانطلاقًا من هذا التصور، فإن الشخص الذي يُعرف بلقب المفكر الناقد يجب أن يتمتع بعدة صفات أساسية، منها: أن يكون باحثًا متمكنًا في مجاله، وأن يسترشد بالوضوح والدقة والملاءمة والعمق في تحليل القضايا. كما ينبغي له أن يسعى دائمًا نحو الحقيقة، وأن يكون منفتحًا لتبني وجهات نظر جديدة ومتكاملة تضيف إلى فهمه وتوسع آفاقه. ويمكن توضيح ذلك كما يلي:

1- الوضوح: يُعتبر عنصرًا أساسيًا في أي كتابة أو محادثة فعالة، حيث يلعب دورًا حيويًا في إيصال الأفكار بدقة وسلاسة. إنه الأداة التي تعيد تعريف مفهوم التحليل، مما يضمن فهمًا أعمق وتواصلًا أكثر فعالية بين الأطراف.

2- الحقيقة أو الدقة: تُعد أساسًا لا غنى عنه في مجالات العلم والفلسفة، حيث تُدعم بالمبررات المنطقية وتُوثق بالشواهد والأدلة الموثوقة. يجب علينا أن نعبر فقط عما ندركه بوضوح ونتحقق من دقته، لضمان النزاهة الفكرية وتجنب الالتباس أو التضليل.

3- الشعور بالقلق والبحث عن العمق: عند ممارسة التفكير، يجب أن نكون حريصين على عدم إيلاء أهمية للمشكلات غير ذات الصلة. فقط المفكر الناقد يمتلك القدرة على مراجعة مسار تفكيره لتمييز الجوانب ذات الصلة بالقضية المطروحة. العمق، باعتباره معيارًا أساسيًا، يلعب دورًا مهمًا في تطوير التفكير النقدي. فعند تحليل مشكلة ما، ينبغي علينا تجاوز السطحيات والغوص في الجوانب العميقة لفهم طبيعة المشكلة بشكل شامل ومدروس.(27)

4- احترام آراء الآخرين: في عمله الرائع "في ما يهم"، أشار ديريك بارفيت إلى أنه "بعد أن نستفيد من أفكار الفلاسفة العظماء، ينبغي علينا السعي لتحقيق مزيد من التقدم. من خلال الاستناد إلى إنجازات هؤلاء العمالقة، يمكننا أن نرى آفاقًا أوسع مما رأوه." ويؤكد بارفيت على أهمية تشجيع الآخرين، سواء كانوا زملاء أو جمهورًا، على استكشاف وجهات نظر بديلة. كما يبرز ضرورة احترام آراء الآخرين، حيث يسهم هذا النهج في تمكين المفكر النقدي من فهم الحجج المعاكسة لأفكاره، مما يعزز من قوة حججه وعمق تفكيره.(28)

تساهم جميع هذه المعايير في تشكيل المفكر الناقد كشخص يتحلى بالمسؤولية الفكرية، ويكون موجهًا نحو تحقيق الأهداف، وقادرًا على التفكير بعمق وفعالية. لذا، تعتمد الفلسفة على المنهجية التحليلية والمفاهيمية في التفكير النقدي، حيث تُعتبر هذه المنهجية أداة أساسية لفهم وتحليل الأفكار والمواقف بشكل منهجي ومنطقي.(29)

ولا شك أن التصحيح للأخطاء يُعتبر من الوظائف الأساسية والمهمة للنقد. فالنقد لا يقتصر فقط على تحليل الأفكار أو تقييمها، بل يتجاوز ذلك ليصبح وسيلة فعّالة لتصحيح الأخطاء وتوجيه الفكر نحو مزيد من الدقة والعمق.(30)

3- النقد كأداة للتصحيح والتطور الفلسفي

يُعدّ النقد أداة أساسية في تصحيح الأخطاء الفكرية والتوجهات المعرفية، إذ إنه لا يقتصر على تفكيك المقولات أو كشف الثغرات المنهجية، بل يمتد إلى إعادة بناء الأفكار على نحوٍ أكثر قوة ووضوحًا. ومن خلال هذه العملية، يصبح النقد وسيلة فاعلة في دفع التفكير الإنساني نحو النضج والعمق. ويمكن توضيح ذلك في ضوء العناصر التالية:

1- تشخيص الأخطاء بدقة: يساعد النقد في تحديد نقاط الضعف والقصور في الأفكار أو الممارسات، سواء كانت ناتجة عن سوء فهم، أو تعميم مفرط، أو افتراضات غير صحيحة.

2- إعادة بناء الأفكار: لا يقتصر النقد على تفكيك الأفكار الخاطئة، بل يسعى إلى إعادة صياغتها على أسس أكثر متانة وتماسكًا.

3- التعلّم من الأخطاء: يوفر النقد فرصة للتفكير في الأخطاء واستخدامها كوسيلة للنمو الفكري والإبداع.

4- تحفيز النقاش: من خلال معالجة الأخطاء، يفتح النقد المجال لحوارات مثمرة، مما يسهم في إثراء الفكر الجماعي وتعزيز الفهم العميق للقضايا المطروحة.

5- تعزيز الحقيقة: يساعد النقد في تصفية المعرفة من الشوائب، مما يقربنا من رؤية أوضح للحقيقة.

6- تحفيز التطور: من خلال مواجهة الأخطاء، يمكننا التقدّم نحو تحسين الأفكار وتطوير المناهج.

7- تعزيز الاستقلالية الفكرية: يعلمنا النقد كيفية التفكير بشكل مستقل وتجنّب القبول الأعمى لما يُعرض علينا.

يتضح من ذلك أن الفلسفة والنقد مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، لدرجة يمكن القول معها إن الفلسفة ليست سوى شكلٍ من أشكال النقد المنهجي. ولكن يبقى السؤال الجوهري: هل الفلسفة هي جوهر النقد، أم أن النقد هو مجرد أداة من أدواتها؟. لفهم هذه العلاقة يمكن تتبّع التطوّر التاريخي للفكر الفلسفي:

1- منذ سقراط، كانت الفلسفة تمارس النقد الذاتي للفكر عبر التساؤل والتفنيد، إذ كان يدفع محاوريه إلى الاعتراف بجهلهم كخطوة أولى نحو البحث عن الحقيقة.

2- أما كانط، فقد جعل من النقد أساسًا للفلسفة، معتبرًا أن مهمتها هي تحليل حدود العقل وإمكاناته، كما يظهر في مؤلفيه نقد العقل الخالص ونقد العقل العملي.

3- هيجل بدوره رأى أن الفلسفة بطبيعتها جدلية نقدية تتجاوز الفكر الأحادي عبر التناقضات والتطور الديالكتيكي.

4- ماركس استخدم النقد أداة لتحليل البنى الاجتماعية وكشف الأيديولوجيات التي تخفي علاقات السلطة.

5- مدرسة فرانكفورت (مثل أدورنو وهوركهايمر) أكدت أن الفلسفة يجب أن تكون نقدًا للمجتمع الحديث، يكشف كيف يتم التلاعب بالوعي عبر الثقافة والإعلام.

6- فوكوه استخدم الفلسفة لتحليل ونقد آليات السلطة والمعرفة في المجتمعات الحديثة.

7- الفلسفة التحليلية، خاصة عند فيتجنشتين، ركزت على نقد استخدام اللغة، معتبرة أن كثيرًا من المشكلات الفلسفية ترجع إلى سوء فهم لغوي.

8- أما دريدا، فقد مارس نقدًا تفكيكيًا للنصوص الفلسفية نفسها، مؤكدًا أن المعاني ليست ثابتة بل تتشكل عبر الاختلاف والتأجيل.

من هنا، يتضح أن النقد هو عنصر جوهري في الفلسفة، لكنه ليس كلّها. فالفلسفة تبدأ بالنقد، لكنها لا تتوقف عنده، بل تتجاوزه إلى التأمل والبناء وابتكار المفاهيم والسعي نحو الحكمة. فإذا اقتصر الأمر على النقد دون تقديم بدائل، فإنها تتحوّل إلى عدمية فكرية، وهو ما حرص كبار الفلاسفة عبر العصور على تجنّبه.

المحور الثالث: الفلسفة كمولدة للطموح والإخلاص

بعد أن تبيّن أن الفلسفة تمثل ممارسة نقدية مستمرة، تتجاوز حدود التصحيح إلى إعادة بناء الفكر وصياغة المفاهيم، يمكن القول إنها لا تقتصر على تحليل الأخطاء أو مواجهة الانحرافات الفكرية، بل تمتد لتكون قوة إيجابية تُلهم الإنسان نحو التقدّم الأخلاقي والروحي. فالفلسفة، بطبيعتها التأملية والعقلانية، لا تُعنى فقط بتقويم الفكر، بل تُغذّي الإرادة وتُنمّي في الإنسان نزعةً نحو الكمال والسعي لتحقيق الأفضل. ومن هنا يظهر وجهها الإنساني الخلّاق الذي يجعلها مولدة للطموح ومربية على الإخلاص

الطموح هو القوة الدافعة التي تحفّز الإنسان على تجاوز حدوده، والسير بثقة نحو تحقيق الأفضل في حياته. إنه النور الذي يضيء دروب الفرد، مانحًا إياه رؤية لمستقبل أكثر إشراقًا واتساعًا. وامتلاك الطموح يعني التحلّي بعظمة الفكر ونبل الروح، والرغبة في تحقيق أهداف تستحق الجهد والسعي. فالشخص الطموح لا يلتفت إلى الماضي إلا للتعلّم منه، بل يوجّه بصره دائمًا نحو الغايات الأسمى التي تُرضي الله وتخدم الإنسان والمجتمع. الطموح بهذا المعنى هو نزعة فلسفية في جوهرها، لأنه يقوم على الإيمان بإمكان التغيير والتحسّن الدائم، وهو ما تشجّع عليه الفلسفة من خلال دعوتها إلى التفكير المستمر في الغاية من الوجود والسعي نحو الحكمة.(31)

أما الإخلاص، فهو الوجه الآخر للطموح؛ إنه الاستقرار الداخلي الذي يجعل الإنسان صادقًا مع نفسه ومع مبادئه. الإخلاص لا ينشأ إلا عن توازن بين العقل والقلب، وعن قناعة راسخة بالحق الذي يسعى المرء لتحقيقه. فالفرد لا يكون مخلصًا حقًّا لقضية أو هدف ما إلا إذا ثبت قلبه وعقله على هذا الإيمان دون أن يتزعزع أمام الشكوك أو المغريات. وعندما يتبدّل الموقف أو يتغيّر السلوك تجاه هذه القضية، فإن الإخلاص يكون قد فُقد أو تزعزع.

الإخلاص هو إيمان مطلق يغلب على كل مظاهر التردد والريبة، إذ يدفع الإنسان إلى العمل في صمتٍ وإصرار، دون انتظار مقابلٍ أو اعترافٍ، بل بدافع من القناعة الداخلية بضرورة الوفاء بالواجب وأداء الأمانة. إنه التزام روحي وأخلاقي يجعل صاحبه وفيًّا لعقيدته، مخلصًا لوعده، ومثابرًا على أداء رسالته بأفضل ما يستطيع. ومع ذلك، فإن العثور على أفراد يتحلّون بهذا القدر من الثبات والصدق أصبح أمرًا نادرًا في عصرنا الحاضر.(32)

بهذا المعنى، تُسهم الفلسفة في ترسيخ الطموح باعتباره نزعة نحو الكمال، وفي غرس الإخلاص باعتباره فضيلة تضمن صدق التوجّه نحو الغايات العليا. فهي لا تكتفي بتعليم الإنسان كيف يفكّر، بل تُعلّمه أيضًا كيف يعيش بفكرٍ سامٍ وإرادة مخلصة.

بعد أن أبرزنا كيف تُسهم الفلسفة في تنمية الطموح والإخلاص باعتبارهما فضيلتين ترتبطان بجوهر الإرادة الإنسانية وسعيها نحو الكمال، يمكن القول إن هذين البُعدين يشكّلان الأساس الداخلي الذي يهيئ الإنسان لممارسة حريته الفكرية على نحو مسؤول وواعٍ. فالفكر المخلص والطموح لا يمكن أن يزدهرا إلا في مناخٍ من الحرية يسمح للعقل بأن يتأمل، وينقد، ويبدع دون قيد أو خوف. ومن هنا تنتقل الفلسفة من كونها مُوجِّهةً للأخلاق الفردية إلى كونها ركيزة أساسية في بناء الحرية الفكرية، التي تُعد بدورها الشرط الأسمى لكل تفكير فلسفي.

علاقة الفلسفة بتشكيل الحرية الفكرية

في العصر الرقمي الراهن، يبرز توتّر بين ما تنص عليه القوانين الدولية من حقوقٍ للإنسان، وبين كيفية تجسيدها في الأنظمة الدستورية الوطنية، ويتجلّى ذلك خصوصًا في النقاش حول الخصوصية وحرية التعبير. وقد أسهم انتشار التكنولوجيا وهيمنة المنصّات الكبرى على المجال العام في تعزيز هذه الثنائية. غير أنّ الآثار الحقوقية للتقنيات الحديثة أعمق من هذا الجدل، إذ تقتضي مواجهة المخاطر المستقبلية التركيز على الحقوق المهمَّشة، وفي مقدّمتها ما سماه الفقيه يان كريستوف بوبلتس Jan Christoph Bublitz (2014) «الحق المنسي»، أي حق الإنسان في حرية التفكير. ومع صعود الذكاء الاصطناعي، يصبح ضمان هذا الحق ضرورةً أساسية، فهو من القواعد القانونية الآمرة التي لا يجوز المساس بها تحت أي ظرف، شأنه شأن حظر التعذيب أو العبودية، لأنّ أيّ تدخل في حرية الفكر يُعدّ انتهاكًا أخلاقيًا مطلق الرفض.(33)

ويقوم هذا الحق على ثلاثة مرتكزات أساسية:

1- الحق في الحفاظ على أفكارنا خاصّة.

2- الحق في أن تبقى أفكارنا بمنأى عن التلاعب.

3- الحق في ألّا نتعرّض للعقاب بسبب أفكارنا وحدها.(34)

الحق في حرية التفكير حقّ مطلق، غير أنّ ذلك لا يعني أنّ أيّ تدخّل في أفكارنا أو أيّ تأثير عليها يُعدّ انتهاكًا لهذا الحق. فالواقع أنّ حرية التفكير والرأي الحقيقية تقوم على حرية التعبير وحرية الحصول على المعلومات، بما يتيح تطوّر الأفكار ويعزّز فاعلية الإرادة. غير أنّ تحديد النطاق الدقيق لهذا الحق عمليًا أمر معقّد، إذ إنّ مسار التاريخ البشري مشوب باستخدام الدعاية، وحملات التأثير، والإعلانات، والمعلومات المضلّلة والمغلوطة، بل والأساليب العلمية التي تسعى إلى "اختراق عقولنا" والسيطرة على أفكارنا. وتثير المرتكزات الثلاثة لهذا الحق أسئلة جوهرية تساعد على تحديد ما قد يُشكّل انتهاكًا لحرية التفكير وما لا يُشكّله، ومن أبرزها:

1- أين يقع الحدّ الفاصل بين أفكارنا الداخلية وبين التعبير عنها؟

2- ما هي الأفكار أو المعلومات عن أنفسنا التي نشاركها طوعًا، وما الذي نفصح عنه قسرًا عبر استنتاجات الآخرين؟

3- ما معنى "الموافقة" في سياق استخدام التطبيقات التكنولوجية أو وظائفها حين تتقاطع مع العقل البشري؟

4- كيف تُستخدم الاستنتاجات المتعلّقة بحياتنا الباطنية ضدّنا؟

5- وأخيرًا، ما هو الحدّ الفاصل بين التأثير المشروع والتلاعب غير المشروع؟(35)

على مدى السنوات العشر الماضية، أخذ الاعتراف المتنامي يتزايد بأن الحق في حرية الفكر يشكّل عنصرًا أساسيًا في مستقبل علاقتنا بالتكنولوجيا. ففي عام 2012، ألقى إيبن موجلن Eben Moglen خطابًا في أكبر مهرجان أوروبي للمجتمع الرقمي حول الترابط بين حرية الفكر، وحرية الإعلام، وحرية التكنولوجيا. وبعد عامين، نشر بوبليتز Bublitz مقالًا بعنوان: «مرافعة واقتراح لنهضة حق أساسي منسي»، سلّط فيه الضوء على الأهمية البالغة لحرية الفكر في سياق التقنيات العصبية الناشئة. أما سوزي أليجري Susie Alegre) ) فقد كتبت لأول مرة عن الكيفية التي ينخرط بها التوجيه السلوكي السياسي الدقيق مع حقنا في حرية الفكر بطريقة تهدد أسس الديمقراطية. ومنذ ذلك الحين، انعكس هذا الاعتراف الرسمي بأهمية الحق في وثائق أممية، مثل: التعليق العام للجنة حقوق الطفل بشأن حقوق الطفل في البيئة الرقمية (لجنة حقوق الطفل بالأمم المتحدة، 2021)؛ وكذلك في أول تقرير موضوعي لمقرر خاص بالأمم المتحدة خُصص لتحليل الحق في حرية الفكر في السياق المعاصر. كما ركّز المقررون الخاصون بالأمم المتحدة المعنيون بحرية الرأي والتعبير، ومن بينهم ديفيد كاي David Kaye وخليفته إيرين خان Irene Khan، بشكل متزايد على حق الرأي في المجال الرقمي.(36)

تعود فكرة أن التفكير محصَّن بطبيعته ضد السيطرة الخارجية إلى جذورٍ قديمة، تجلّت في القاعدة الرومانية: «لا عقوبة على مجرد الفكر». وقد عبّرت عنها أيضًا الثقافة الشعبية، كما في الأغنية الألمانية التي تقول: «قد يُسجَن الجسد، لكن الأفكار تبقى حرّة»، مؤكدّة أن الفكر لا يُطال ولا يُقيد. فمهما أمكن معرفة بعض ما يدور في عقولنا، يبقى التفكير جوهرًا عصيًا على الإخضاع. وهذا ما أشار إليه جون لوك بقوله إن «الفهم البشري لا يُكرَه على الإيمان بقوة خارجية». والأمر نفسه ينسحب على العواطف، إذ لا يمكن إجبار الإنسان على حبّ ما يكره أو الاستمتاع بما ينفر منه، لأن الحرية الداخلية تبقى من صميم الطبيعة الإنسانية.(37)

غير أنّ هذا التحصين المزعوم للإدراك والعاطفة لا يُعفينا من الحاجة إلى فهم ما الذي يمكن أن يشمله مفهوم «حرية التفكير»، وما إذا كان القانون ينبغي أن يحميه وكيف. فحتى لو كان القاضي ميرفي Murphy محقًّا حين قال إنّ «الحكومة عاجزة عن السيطرة على الآليات الباطنية للعقل»، فإنّ عمل العقل ليس دائمًا «باطنيًّا». وقد أقرّ القاضي نفسه بأنّ الفكر يمكن أن يُعاقَب عليه من قِبل الدولة عندما يُعبَّر عنه بالكلام أو يتجلّى في سلوك آخر. وعلاوة على ذلك، يقدّم لنا التاريخ أمثلة كثيرة على حكّام وحكومات قاموا بتغيير الأفكار والمعتقدات بالقوّة أو بالترغيب، بدءًا من محاكم التفتيش وصولًا إلى معسكرات «إصلاح الفكر». إنّ القسر يُمارَس من الخارج، عبر الحبس أو الإقصاء الاجتماعي، لكنّه يستهدف في النهاية التأثير على الفكر، بل وقد ينجح أحيانًا في ذلك.(38)

تخذ محاولات التأثير في الفكر الإنساني أشكالًا متجددة، وقد حذّر عدد من المفكرين من أن المجتمعات الحديثة تمنح السلطات ـ الحكومية وغيرها ـ نفوذًا متزايدًا يهدّد التفكير النقدي والاستقلال العقلي. وفي هذا السياق، نبّه برتراند رَسِل في محاضرته أمام جماعة التفكير الحر بلندن إلى أن حرية التفكير تواجه «مخاطر جديدة» تتمثل في التعليم الموجّه، والدعاية الرسمية، والضغوط الاقتصادية التي تفرض على الأفراد آراء مقبولة اجتماعيًا. ودعا رَسِل إلى تنمية «إرادة الشك» باعتبارها السلاح الأهم في مواجهة هذه الأخطار، مذكّرًا بأنّ كل معتقدٍ بشري يظلّ ناقصًا ومحاطًا بشيء من الخطأ والالتباس.(39)

علاوة على ذلك، ففي حين كان برتراند رَسِل قد أعرب عام 1922 عن قلقه من أنّ التحوّلات في المجتمع والسياسة والتعليم ستُفضي إلى أشكال جديدة وأكثر قوة من التلاعب بالأفكار – وربما أيضًا إلى أساليب مبتكرة لضمان الاستقلال الذهني – فإنّ لنا سببًا وجيهًا لنسأل ما إذا كانت التغيّرات التكنولوجية المذهلة في عصرنا الراهن ستعيد تشكيل ليس فقط طبيعة التهديدات التي تواجه حرية التفكير، بل أيضًا طرائق حمايتها، ومدى إمكانية إرسائها حيث تكون غائبة، وربما كذلك الكيفية التي ينبغي للمحاكم والباحثين القانونيين والفلاسفة وغيرهم أن يعرّفوا بها مفهوم «حرية التفكير». وهذا التحوّل العلمي والتقني في كيفية فهمنا للتفكير، وما يعنيه امتلاك حرية التفكير، هو ما سيتناوله هذا المجلّد، وما ستستكشفه الأبحاث اللاحقة في سلسلتنا. فهذا التحوّل يطرح تحدّيات جديدة أمام الافتراض القائل بأنّ أفكارنا غير المعبَّر عنها لا تحتاج إلى حماية قانونية، لأنّ أقوى مسؤول، مهما بلغ سلطانه، يظلّ «عاجزًا عن السيطرة على الآليات الباطنية للعقل».(40)

إن مفهوم الحرية يعد أحد أهم نقاط الالتقاء بين الفروع التقليدية للفلسفة النظرية والفلسفة العملية، فالعلاقة بين الحرية والفلسفة عميقة. فالتفكير في الحرية يكشف أن شروط تحققها تشمل ليس فقط بعض التطورات الاجتماعية والسياسية، بل أيضًا ممارسة الفلسفة ذاتها. وبعبارة أخرى، الفلسفة محررة بشكل مباشر وغير مباشر: فهي تسهم بشكل غير مباشر في الحرية من خلال صياغتها للشروط الاجتماعية والسياسية لتحقيقها، كما تسهم مباشرة في الحرية لأن الحرية ليست فقط موضوعًا يفكر فيه الفلاسفة، بل هي أيضًا شيء يُنتج من خلال التفكير الفلسفي.(41)

الحرية هي قدرة الإنسان على التصرف دون قيود، وفق شهواته، ومصالحه، وأهدافه، مع قدرته على تقرير الذات في اختياره للعمل دون الإضرار بالآخرين. يُعد مفهوم الحرية مصطلحًا واسع الاستخدام في مجالات مختلفة. فقد اكتسبت الحرية كفكرة معنى واسعًا في الأدبيات الفلسفية، واللغة الاجتماعية واليومية. وقد تناول هذا المصطلح فلاسفة متنوعون.(42)

شغلت حرية الفكر موقعًا محوريًا في التاريخ الغربي منذ محاكمة سقراط ومعاقبته بسبب آرائه، مرورًا بقيود الفكر التي فرضتها العقائد الدينية والممارسات التفتيشية في العصور الوسطى. وفي العصور الحديثة، تناول مفكرون مثل جون لوك وبيير بايل وبنجامين كونستان وجيفرسون وجون ستيوارت مل هذا الحق مؤكدين أنّ الفكر بطبيعته لا يخضع لسلطة الدولة، لأنها لا تملك الوسائل لقهره حتى إن أرادت. وقد واجهت هذه الرؤية اعتراضات من بعض الفلاسفة، لكنها ظلت حجر الزاوية في الدفاع عن حرية الضمير. ومع التطور التقني المعاصر، خصوصًا في تقنيات مسح الدماغ والإجراءات القانونية التي تمسّ خصوصية الوعي، تجددت الإشكالية حول حدود هذه الحرية في مواجهة أدوات المراقبة الحديثة.(43)

والحقيقة أنه لا تكاد توجد سوى قلة من المفاهيم السياسية والفلسفية تضاهي عظمة حرية التفكير. فجذورها تمتد على الأقل إلى العصر الروماني، وهي تُعَدُّ ربما الشعار الأبرز لعصر التنوير؛ ذلك الشعار الذي صاغه كانط بعبارته الشهيرة "لتكن لديك الشجاعة في أن تفكر بنفسك" بدلًا من التسليم الأعمى للسلطات. وبارتباطها الوثيق بحرية التعبير، فإن حرية التفكير تمهّد السبيل للنظم القانونية الليبرالية وللمنهج العلمي، كما تمهّد للديمقراطية ولعملية نزع القداسة عن العالم. وبهذا المعنى، فقد غيّرت حرية التفكير على نحو عميق شرط الإنسان. ومن هنا يمكن القول إن حرية التفكير تشكّل الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات الحديثة.(44)

مقالة كانط بعنوان "الإجابة على سؤال: ما هو التنوير؟"، التي نُشرت في مجلة برلين الشهرية عام 1784، تقدّم صياغة نموذجية وكلاسيكية الآن لمشكلة وأهمية "الحرية الفكرية". العائق أمام الحرية الفكرية هو "القصور الذاتي المفروض على النفس تقريبًا". هذه الحالة المتمثلة في "العيش تحت سنّ الرشد (الفكري)"، أي البقاء في حالة تبعية دائمة، تعود إلى "نقص الشجاعة" في التفكير لأنفسنا، وهو نقص يغذّيه الخوف من القيام بذلك ويعزّزه أولئك الذين يعملون كـ"موجّهينا". فالحرية الفكرية هي "الاستخدام العام الحر للعقل في كل الأوقات"، وهو ما وحده "يمكن أن يجلب التنوير للبشرية".(45)

2- الفلسفة كمصدر لتحفيز الذات نحو الكمال.

ترى الليدي آيريس مردوخ (1919–1999) أن الأخلاق مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتحسين الذات والسعي نحو الكمال، وأنّ دراسة الأدب الخيالي تؤدي دورًا مهمًا في مسعانا المستمر والدائم نحو التطور الأخلاقي.(46)

فمن منظورها، لا يُعدّ الفعل الأخلاقي مجرد تطبيق لمبدأ نظري أو استجابة لواجب خارجي، بل هو حركة داخلية للوعي تتّجه نحو "الرؤية الصافية" للخير. وبهذا تصبح الفلسفة والأدب معًا وسيلتين لتطهير النفس من الأوهام، وصقل الإرادة في طريقها نحو السمو والكمال.

وبوصفها ثمرة مباشرة لتأملات الحضارة وإدراكها، والتي تبلورت عبر قرون طويلة من التفكير في مختلف أبعاد الكينونة الإنسانية ومظاهر الوجود، سعت الفلسفة المسيحية المتجسّدة في الحكمة الكتابية إلى فكّ شيفرة التعدّد الكامن في ظاهرة التحوّل الأخلاقي الذاتي، تلك الظاهرة التي كُتبت في صميم الطبيعة البشرية وقدَرها. وفي هذا السياق، فإن السعي نحو المطلق، من خلال التأمل الديني في الأفكار والمفاهيم والرموز، يُجسّد توجّهًا استباقيًا نحو الفهم، إذ يحاول الإنسان عبره استكشاف معنى اكتماله الأخلاقي وإدراك أبعاده المتشابكة التي تجمع بين الروحي والعقلي والوجودي.(47)

إنّ التوجيهات الأخلاقية الواردة في القصص الكتابية، التي تتناول الترابط بين الخطيئة والعار والندم والغفران بوصفها مبادئ توجيهية لأفعال الإنسان اليومية، تُسهم على نحو حاسم في صياغة غايته الجوهرية المتمثلة في الكمال الأخلاقي. إذ تتداخل هذه الغاية مع الأسئلة الأصلية للأخلاق حول العلاقة بين الكينونة والحاجة، والوعي الأخلاقي والضمير، والحرية والاختيار، والفضائل والفعل والحكم الأخلاقي. فالنصّ الكتابيّ يتضمّن استبصارات ثمينة حول كمال الإنسان الأخلاقي المهيأ له نوعيًّا، وهو ما تسعى الأخلاق الفلسفية إلى النظر فيه وتفسيره من خلال إقامة صلات بين هذا الكمال وبين الخصائص المحورية في الطبيعة الإنسانية.(48)

ويمكن للمرء أن يجد تعدّدًا في مفاهيم الكمال عند كانط. ففي مقاله ما قبل النقدي عن التفاؤل، يميّز كانط بين نوعين من الكمال:

الأول هو الكمال المطلق، بوصفه درجة من درجات الواقع من دون علاقة بأي شيء آخر؛ والثاني هو الكمال النسبي، وهو الكمال في علاقة بقاعدة أو مبدأ محدّد. وهنا ينصبّ اهتمامه على فكرة «أفضل العوالم الممكنة». وفي نقد العقل الخالص، يتحدث كانط عن الكمال بوصفه الوحدة الغائية الكاملة للطبيعة. أما في أساس ميتافيزيقا الأخلاق، فيشير إلى ما يسميه «المفهوم الأنطولوجي للكمال»، ويخلص إلى أنه غير صالح كأساس للأخلاق. وفي نقد العقل العملي، يميّز بين الكمال النظري والكمال العملي، أي الملاءمة لتحقيق الغايات. ويُفهم الكمال هنا باعتباره تنميةً للمواهب، غير أنّ كانط يرى أنّ هذا المفهوم غير كافٍ لتأسيس الأخلاق. أما في نقد ملكة الحكم، فيقارن بين الحكم الذوقي وفكرة الكمال، حيث يرتبط الثاني بالغايات دون الأول.(49)

ويقدّم كانط تمييزًا آخر بين نوعين من الكمال:الأول هو الكمال النوعي، الذي تُحدّد الغاية ما ينبغي أن يكون عليه الشيء؛ والثاني هو الكمال الكمي، المتعلق بماهية الشيء في ذاته. وفي الدين في حدود العقل وحده، يتحدث كانط عن الكمال الطبيعي ويفسّره على أنه المهارة في الفنون والعلوم والذوق ورشاقة الجسد، لكنه يرى أن هذا النوع من الكمال لا يمكن أن يسهم في تأسيس الأخلاق. كما نجد في الأنثروبولوجيا من منظور براغماتي فكرة شبه أفلاطونية عن الكمال الداخلي تتمثل في سيطرة الفهم على الحساسية. أما في المنطق، فيتحدث كانط عن كمال المعرفة مميّزًا بين الكمال المنطقي والجمالي المرتبط بالجمال.(50)

وعلى وجه العموم، هناك تلاقي بين مشروعي التنوير والكمال عند كانط، فكلاهما يشترك في تنمية قدرات الإنسان النظرية والعملية. وفوق ذلك، فإنّ الكرامة الإنسانية تُذكَر كسبب جامع للحالتين معًا. فحديث كانط عن التنوير وحديثه عن الكمال يشيران إلى مشروع فلسفي واحد يسعى إلى تحقيق الارتقاء العقلي والأخلاقي للإنسان، ولا يمكن فهم أيٍّ منهما بمعزل عن الآخر. فالتنوير والكمال ليسا متطابقين، ولكنهما مترابطان ترابطًا وثيقًا، إذ لا وجود لأحدهما دون الآخر. وهذا هو مجمل موقف كانط، كما عرضه في ميتافيزيقا الأخلاق.(51)

المحور الرابع: أزمة العالم المعاصر وحاجته إلى الفلسفة

في عام 399 ق.م، اتُّهم سقراط من قبل ثلاثة مواطنين أثينيين بإدخال أفكار دينية جديدة وإفساد الشباب، ومخالفته لعبادة آلهة المدينة، وطُلبت له عقوبة الإعدام. واجه سقراط التهم بثبات نادر، متمسكًا بمبادئه الفلسفية رغم منحه فرصة للتراجع. وفي محاكمة أفلاطونية شهيرة، أعلن أنه لن يتوقف عن ممارسة الفلسفة أو البحث عن الحقيقة ما دام حيًّا، مؤكّدًا أن الموت لا يغيّر من قناعاته. وهكذا اختار طريق الشجاعة الفكرية حتى النهاية، فكان موته لحظةً فارقة في تاريخ الفلسفة ورمزًا خالدًا لحرية الفكر والضمي.(52)

صرّح أفلاطون بأن الفلسفة هي عطية من الآلهة وُهِبت للبشر. وقد يعكس هذا قدرة الإنسان على التفكّر في العالم وكذلك في حياته ضمنه ، وفي ضوء هذا، قد يكون من المفيد تهديد القارئ بهذا التحذير: إذا لم تأخذ الفلسفة بجدية، فسوف تتحوّل إلى يقطينة!.(53)

لا شك أن دراسة الفلسفة تلهم الفرد لتطبيق رؤاها في حياته اليومية، من خلال ممارسة التفكير النقدي والتأمل في المعتقدات والدوافع والأبعاد الأخلاقية للأفعال. كما تدعو إلى التواضع الفكري والانفتاح الذهني، أي تقبّل الآراء المخالفة والاستعداد لتغيير المواقف عند ظهور أدلة جديدة. وبذلك يسهم التفكير الفلسفي في تنمية النضج العقلي والاتزان، والابتعاد عن التعصب والجمود الفكري.(54)

يمكنك تعزيز حضور الفلسفة في حياتك من خلال المشاركة في حوارات فلسفية تتناول قضايا أخلاقية أو وجودية، مما يوسّع أفقك الفكري ويصقل رؤيتك. كما يساعدك تخصيص وقت لقراءة النصوص الفلسفية، سواء الكلاسيكية أو الحديثة، على تعميق فهمك للمفاهيم الفكرية وتنمية الحس النقدي والتأملي تجاه العالم. وبممارسة التفكير الفلسفي والتحلي بالتواضع الذهني والانفتاح على النقاش، تغدو الفلسفة وسيلة لتقوية قدراتك العقلية وتوسيع مداركك.(55)

في عالمنا اليوم، نجد أنفسنا محاطين ببيئات أشد خطورة من تلك التي واجهتها أمم أخرى عبر التاريخ. نحن نعيش في ظل حضارة بلغت أعلى مستويات التطور، لكنها تبدو وكأنها تسابق ذاتها نحو الدمار. حضارة تفتقر إلى أسس روحانية راسخة، وتنغمس في الشر والخداع، مبتعدة عن النزاهة والأخلاق، خالية من القيم الدينية، ومثقلة بالفساد.(56)

العالم ما يزال بعيدًا عن الكمال، فهو يعيش في حالة من الفوضى والارتباك. وهذه الفوضى لن تتوقف عند هذا الحد، بل ستتبعها اضطرابات أخرى قد تؤدي إلى زعزعة أسسه بشكل أكبر. لا تظنوا أن المؤتمرات التي انعقدت أو تلك التي ستُعقد لاحقًا قادرة على تهدئة حالة التوتر والاستياء المنتشرة في العالم، أو معالجة الشعور العام بعدم الرضا الذي يعاني منه البشر.(57)

طالما أن الظلم مستمر، والقوي يستغل الضعيف، والدول الكبرى تتآمر فيما بينها لقمع الأضعف، مع إبقاء الأكثر بؤسًا في دائرة الاستعباد ونهب الموارد واستغلالهم، فإن عوامل الحرب ستظل تتصاعد بفعل الانتقام والكراهية والغضب. المستقبل القريب قد يحمل لنا أشد الصراعات دموية على الإطلاق، حيث إن الحضارة الحديثة تسير بخطى ثابتة نحو انهيارها.(58)

في الوقت الحاضر، يتردد كثيرًا الحديث حول تحقيق السلام العالمي. بالرغم من أن العديد من قادة العالم قد أبدوا التزامهم بخطط تهدف إلى إحلال السلام، إلا أن المؤتمرات المختلفة، سواء كانت سياسية أو صناعية، التي انعقدت لتناول هذه القضية لم تنجح حتى الآن في وضع أساس قوي لسلام حقيقي ودائم. من الواضح أن السلام العالمي لا يمكن الوصول إليه عبر الاجتماعات السياسية أو الصناعية فقط. إذا كنا نطمح إلى تحقيق سلام شامل، فإن ذلك يتطلب تنظيم مؤتمر عالمي يجمع بين مختلف الأعراق والجنسيات للتفاهم والتعاون المشترك.(59)

1- التحديات الأخلاقية والإنسانية في زمن التقنية

لقد شكّلت التطورات التكنولوجية المتواصلة في العصر الرقمي حياتنا بطرق لا حصر لها، محوّلةً أساليب الاتصال والتسوق وفهمنا للعالم من حولنا. وبينما مهّدت هذه الابتكارات لعصر من الاتصال غير المسبوق والتواصل الوثيق، فإنها في الوقت نفسه كشفت عن متاهة من المعضلات الأخلاقية، مما يتطلب فحصًا دقيقًا للتداعيات الاجتماعية لقراراتنا الرقمية. فالمشهد الأخلاقي للعصر الرقمي يتعلّق بتحليل التحديات المتعددة الأبعاد التي تفرضها التكنولوجيا، والسعي إلى تقديم إطار عمل موحد للابتكار المسؤول.

في صلب هذه القضايا نجد التكنولوجيا التي قد تزيد من عدم المساواة الاجتماعية القائمة؛ فالانحياز الخوارزمي، وهو قضية مستمرة في العالم الرقمي، يحمل في طياته التمييز والتحامل ويعزز ديناميات القوة الاجتماعية، مما يحدّ من الفرص المتاحة للفئات المهمّشة. كما أثارت التقنيات الرقمية الكبرى مخاوف متزايدة بشأن الخصوصية وأمن البيانات، حيث أدى جمع وتحليل كميات هائلة من المعلومات الشخصية إلى خلق فرص غير مسبوقة للمراقبة والتلاعب، مما يُلقي بظلاله على حرية الفرد والموافقة المستنيرة والتحكم بالمعلومات الشخصية.(60)

وتنبع الأخلاقيات من كونها مدوّنة سلوك تُحدَّد من قبل الجماعة التي ينتمي إليها الفرد. وهي تتغير مع مرور الزمن تبعًا لاحتياجات المجتمع وقيمه المتطورة، إذ تمكّن الأفراد من العمل بتناغم من أجل تحقيق منافع متبادلة كالأمن والعدالة والوصول إلى الموارد. أما المبادئ الأخلاقية الشخصية فهي المعتقدات الجوهرية التي يستند إليها الإنسان في قراراته، مثل احترام الآخرين والصدق والأمانة، وهي التي تشكّل البوصلة الداخلية لتوجيه أفعاله.(61)

وفي الحياة اليومية، يُختبر هذا البعد الأخلاقي في قرارات بسيطة لكنها حاسمة:هل يجوز الكذب لحماية مشاعر شخص ما؟ هل يجب التدخل لمساعدة زميل يعاني من مشكلة اعتماد كيميائي؟ هل يُسمح بالمبالغة في السيرة الذاتية؟ وهل يمكن التهاون في العمل لتلبية موعدٍ ضيق؟ هذه الأسئلة الأخلاقية الصغيرة تُشكّل في مجموعها البنية الأخلاقية للفرد والمجتمع معًا.(62)

وقد نبّهت تحليلات حديثة إلى أن التقنيات محمّلة بالقيم والتحيّزات التي يعكسها مطوّروها، سواء كان ذلك مقصودًا أو غير مقصود. فحين يُدرَّب الذكاء الاصطناعي على بيانات منحازة، تنتقل تلك الانحيازات إلى مخرجاته. ومن ثم، تقع على عاتق صانعي القرار والمشرّعين مسؤولية تحديد التحيّزات المضمّنة في التكنولوجيا، والتفريق بين ما يتعارض مع القيم الإنسانية وما يمكن تقبّله، إلى جانب ضرورة وضع معايير أخلاقية دنيا لتطوير التكنولوجيا وتطبيقاتها.(63)

إن أخلاقيات التكنولوجيا تمثل تطبيق التفكير الأخلاقي على القضايا العملية التي تثيرها التطورات التقنية. ومع التوسع الهائل في قدراتنا التقنية، لم تعد الأفعال مقيدة بضعف الإنسان بل بحكمته، أي بأخلاقياته. وقد أفرزت هذه التطورات تساؤلات جديدة لم تكن مطروحة من قبل، مثل معيار الوفاة الدماغية الذي لم يكن مطروحًا قبل تطور الأجهزة الطبية الحديثة، أو مشكلات التواصل الاجتماعي التي تتعلق بالأخبار الكاذبة، والخصوصية الرقمية، والمساءلة القانونية في الفضاء الافتراضي.(64)

ولذلك برزت في السنوات الأخيرة تفسيرات فلسفية جديدة للتكنولوجيا، لا تراها محايدة، بل تعتبرها محملة بالقيم. فهناك قيم داخلية ترتبط بأهداف التكنولوجيا وعملياتها ونتائجها، مثل الكفاءة والموثوقية والعقلانية، وهناك قيم خارجية تتعلق بتأثير التكنولوجيا على الإنسان والمجتمع والطبيعة. هذا التمييز يوضح أن التكنولوجيا ليست مجرد أدوات، بل هي أيضًا حاملة لغايات وقيم إنسانية تتداخل في تشكيلها.(65)

ومن زاوية أوسع، يمكن القول إن التحولات التكنولوجية المعاصرة أحدثت تأثيرات جذرية وعميقة طالت الفلسفة والمجتمع والاقتصاد والرؤية الكونية ذاتها. لقد دخل العالم في ثورة علمية وتكنولوجية تفوق الثورة الصناعية من حيث عمقها وتأثيرها، إذ غيّرت التكنولوجيا الإلكترونية طرائق التفكير الإنساني ونظرته إلى ذاته وإلى الكون. حتى مفهوم "العالم" ذاته أعيد تعريفه في ظل هذه التحولات، التي أعادت صياغة العلاقة بين الإنسان والمعرفة والوجود.(66)

ومن هذا المنطلق، تُعد الفلسفة عنصرًا نقديًا ضروريًا لتطوير الأخلاق السليمة، إذ إن غيابها يؤدي إلى إفلاسٍ أخلاقيٍ للمجتمع، يترتب عليه فسادٌ عامٌّ وتفككٌ في المسؤولية. ومن ثمّ، تسهم الأخلاقيات الفلسفية في إعادة توجيه المجتمع نحو الانضباط الذاتي والوحدة، وتوفّر الإطار اللازم لاتخاذ القرارات الرشيدة التي تُسهم في بناء الأمة. كما تساعد الفلسفة الاجتماعية والسياسية على معالجة قضايا العدالة والمسؤولية الأخلاقية من خلال مناهج متنوعة كالعواقبية وأخلاق الواجب والفضيلة، التي تمنح الأفراد والمجتمعات أفقًا أوسع للفهم والمساءلة.(67)

وفي النهاية، فإن التكنولوجيا الحديثة تمسّ كل ما هو جوهري في الوجود الإنساني — ماديًا وعقليًا وروحيًا. فهي تؤثر في أنماط الحياة، وطريقة التفكير، وتشكيل الأهداف، وصوغ السياسات، بل وتمتد إلى معنى الحياة ومصير الإنسان ذاته. ومن هنا تبرز الحاجة إلى فلسفة للتكنولوجيا تكون قادرة على احتواء هذه التحولات، وتربط بين العلم والأخلاق والسياسة، لتقدّم رؤية متكاملة للإنسان في عصر التقنية. إنها ليست فرعًا فلسفيًا جزئيًا، بل مشروع شامل يسعى إلى فهم حقيقة الإنسان في عالمٍ بات يُعاد تشكيله باستمرار بفعل الآلة والعقل.(68)

2- الفلسفة كصوت نقدي لمواجهة أزمات العصر

إنّ الحياة الاجتماعية إنجازٌ دقيق ومعقّد. ففي العادة، يجعلنا السطح اليومي للمؤسسات والممارسات الاجتماعية ننسى أن ما يبدو عليه العالم الاجتماعي من وحدةٍ وثباتٍ واستقرارٍ ظاهري، إنما هو في جوهره هشٌّ، خالٍ من الأسس النهائية الثابتة. تتحرك هذه الهشاشة في صمتٍ خفيٍّ لا يكاد يُرى، إلى أن ينكسر شيءٌ ما، وحينها — كما في زلزالٍ اجتماعيٍّ — يضطرب الإحساس العام بالنظام. وهنا تنشأ الأزمة: اللحظة التي يغدو فيها العالم من حولنا إشكاليًا ويفقد طابعه كظاهرةٍ موحّدةٍ وطبيعية. عندئذٍ تتضافر مشاعر الضيق والانقطاع واللايقين، لتجعل من الأزمة لحظةً ناضجة للتساؤل حول الطابع المألوف للمعايير الاجتماعية وقابلية الوقائع الاجتماعية للفهم.

تمثّل الأزمة لحظة يتوقف فيها استقرار الواقع الظاهري، إذ تُثير التساؤل حول ما نعدّه ثابتًا ومبررًا. فهي تدفعنا إلى طرح أسئلة جوهرية مثل: أين نحن؟ وما الذي اختلّ؟ وكيف يمكن تجاوزه؟ ومن خلال هذا التساؤل، ينكسر وهم الاكتمال ويُكشف عن حدود أنماط حياتنا ومعاييرنا الراسخة. فالتساؤل فعل نقديّ يحرّرنا من وهم الصلابة والسيطرة، ويتيح لنا مساءلة المعايير السائدة وكشف التناقضات الكامنة في بنية المجتمع.(69)

تضطلع الفلسفة بدور نقدي بنّاء في حياة الأمم، إذ تمثل مصدرًا للمبادئ الأخلاقية التي تُوجّه مسار البناء والتطور. ومن خلال التفكير النقدي والانفتاح الذهني، تتيح إعادة النظر في النماذج والسياسات القائمة بصورة أكثر عقلانية وعدلاً. وبدون هذا الدور، يفقد البناء الوطني مضمونه، إذ تُصبح المؤسسات فارغة من المعنى ما لم يُدعَمها وعيٌ فلسفي قادر على توجيهها أخلاقيًا. وهكذا، تُسهم الفلسفة في إرساء وعي نقدي يُمكّن القادة والمواطنين من مراجعة معتقداتهم وصياغة مشروع وطني يقوم على التكامل والمسؤولية المشتركة.(70)

يقوم المشروع النقدي للفلسفة على إيمانٍ بأن بناء الأمة يبدأ ببناء الإنسان ذاته، لأن تقدم المجتمعات مرهون بوعي أفرادها بذواتهم ومشكلاتهم المشتركة. فتعزيز الوعي الأخلاقي والمعنوي هو الخطوة الأولى نحو تحقيق الانسجام الاجتماعي والعدالة والمساواة والرفاه العام. ويؤكد أوموريجب Omoregbe أن الطابع الأخلاقي للمجتمع نابع من طبيعة الإنسان بوصفه كائنًا اجتماعيًا وعاقلًا، فيما يرى أودويديم Udoidem أن المجتمع والأخلاق متلازمان، إذ تمثل القيم الأخلاقية الأساس الذي يُبنى عليه كيان الأمة واستقرارها.(71)

تُعد التربية والتعليم الفلسفي من أهم الوسائل لبناء الوعي النقدي، إذ يحرران الإنسان من الجهل، ويمنحانه القدرة على مراجعة المعتقدات السائدة وتوسيع آفاق التفكير. فبترسيخ مهارات النقد والتحليل، يصبح المتعلم مواطنًا فاعلًا يسعى للتغيير الواعي والبنّاء، لا مجرد متلقٍّ للتنمية. ويرى ليوتار Lyotard أن الفلسفة يجب أن توحّد مجالات التعلم المتفرقة عبر "سردٍ عقلاني" يربط العلوم المختلفة بوصفها مراحل في تطور الوعي الإنساني.(72)

وفي الختام، يمكن القول إنّ التفكير الفلسفي هو أداة الإنسان لمواجهة الاضطراب واللايقين في عالمٍ متسارع التحولات. فالتفلسف الحقيقي يقوم على التواضع الفكري، وتنمية روح الفضول، والبحث الصادق عن الحقيقة. ومن خلال تبنّي هذه المبادئ، يستطيع الأفراد أن يكوّنوا ذهنية نقدية ومنفتحة تُعينهم على التعامل مع تعقيدات الحياة. وهكذا تُصبح الفلسفة صوتًا نقديًا وإنسانيًا في مواجهة أزمات العصر، تُعيد للإنسان وعيه بذاته وبالعالم، وتمنحه القدرة على تحويل التساؤل إلى بصيرة، والوعي إلى فعلٍ أخلاقيٍّ بناء.(73)

المحور الخامس: مناهج التفكير الفلسفي وأهميتها

1- مناهج التفكير الفلسفى

إنّ دراسة مناهج التفكير الفلسفي تمثل المدخل الأعمق لفهم طبيعة الفلسفة نفسها، إذ تقوم هذه المناهج على أدوات التحليل والنقد والتأمل والجدال بوصفها وسائل فاعلة لاكتشاف الحقيقة وإدراك المعنى. ومن هذا المنطلق، يمكن تتبّع أبرز هذه المناهج كما تبلورت في التاريخ الفلسفي، بدءًا من المنهج السقراطي وصولًا إلى المنهج الشكي.

أ- المنهج السقراطي

يقوم المنهج السقراطي على حوارٍ تحليلي يهدف إلى تفكيك الآراء السائدة وكشف تناقضاتها، سعيًا للوصول إلى الحقيقة عبر النقاش لا عبر التلقين. ويتظاهر المعلم بالجهل ليحفّز المتحاور على التفكير الذاتي، مستعينًا بالاستجواب والفحص العميق للمفاهيم. وتقوم هذه الطريقة على إدراكٍ دقيق للعلاقات بين عناصر المسألة المطروحة وطريقة تفكير المحاوَر، ويمكن تلخيصها في سلسلة من الخطوات الجدلية المنظمة التي تهدف إلى إيضاح الحقيقة عبر العقل والحوار.

1- افتراض المعلم جهله بالحقيقة، المعروف بالسخرية السقراطية، يمثل نهجًا قائمًا على التواضع الفكري والتركيز على القضايا الجوهرية في بناء الحجة. كما هو الحال مع ديكارت، يُعد هذا النهج ضروريًا لاستكشاف أعماق الحقيقة وفهمها بشكل أعم.

2- أسلوب الحوار أو المحادثة يُعد تقنية فعّالة تهدف إلى الكشف عن الحقيقة من خلال إدراك أن هناك معرفة جوهرية بالحق والخير تكمن في أعماق كل إنسان. ويأتي ذلك رغم أن الشخص قد يصل أحيانًا إلى استنتاجات متسرعة بناءً على ملاحظات غير ناضجة أو تحيزات شخصية. يمكن تسليط الضوء على هذه الحقيقة المشتركة بين البشر بواسطة التحليل الدقيق والتفكير الجدلي والتحقيق القائم على السؤال والجواب. تُعرف هذه الطريقة في كثير من الأحيان بـ "فن التوليد الفلسفي".

3- إرساء المفاهيم والتعريفات الدقيقة يمثل خطوة أساسية تُسبق محاولة فهم كيفية تطبيقها عمليًا في جوانب الحياة المختلفة.

4- فن الانتقال من الحقائق الملاحظة إلى حقائق أكثر شمولية يعتمد على اتباع المنهج الاستقرائي في التفكير. كما أن منهج سقراط يتسم بكونه استنتاجيًا، حيث يقوم باستخلاص النتائج والتداعيات المرتبطة بمفاهيم محددة ومن ثم الحكم على مدى صحتها. (74)

ومن المنهج السقراطي الذي يجعل من الحوار وسيلة لاكتشاف الحقيقة، ينتقل التفكير الفلسفي إلى المنهج الأفلاطوني، الذي وسّع نطاق الحوار إلى رؤية جدلية متكاملة.

ب- المنهج الأفلاطوني

المنهج الجدلي التركيبي عند أفلاطون ركز بشكل أساسي على استكشاف العلاقة السببية بين الفكر والوجود. وقد ارتكز هذا المنهج على تجميع العناصر المتناثرة لتحقيق تشكيل فكرة أو مفهوم واحد شامل، تليها عملية تحليل دقيقة لهذا المفهوم عبر تصنيفه وترتيبه ضمن فئات محددة. الهدف الأساسي كان الوصول إلى الحقيقة عن طريق تأسيس مفهوم أو مبدأ صحيح يمكن البناء عليه. على سبيل المثال، إدراك طبيعة الحق والخير هو شرط أساسي لفهم معنى الحق أو تحديد صفات الرجل الصالح. (75)

وإذا كان أفلاطون قد ربط الفكر بالوجود في وحدة جدلية، فإن الفلسفة النقدية عند كانط تمثل تطورًا جديدًا في تحليل شروط المعرفة وحدودها.

ت- المنهج الكانطي

يقدّم المنهج النقدي أو الترانسندنتالى عند كانط رؤية جديدة لتقييم المذاهب الفلسفية السابقة، إذ يسعى إلى الموازنة بين التجريبية والعقلانية من خلال تحليل شروط المعرفة وحدودها. فالمعرفة، عنده، تُستمد مادتها من الحواس، لكنها تكتسب طابعها الكلي والضروري من الفهم الذي ينظمها وفق مقولاته. غير أن ما ندركه ليس الواقع في ذاته، بل بناء ذهني ناتج عن تفاعل الحواس مع مقولات الفهم. ولأن الإنسان يفتقر إلى حدسٍ عقلي مباشر، تبقى معرفته مقصورة على الظواهر دون جوهر الأشياء. ومن ثم، فإن تصورات العقل عن الواقع ليست حقائق نهائية، بل صيغٌ فكرية يفرضها العقل لتنظيم التجربة الإنسانية وتوجيهها.(76)

ومن هذا الأساس النقدي الذي وضعه كانط، انطلق هيجل ليؤسس منهجه الجدلي الذي يجمع بين النفي والتوليف في حركة فكرية متصاعدة.

ث- المنهج الهيجلي

تجاوز هيجل المنهج النقدي لكانط بتشييد نظامٍ فلسفي مثالي يقوم على المنهج الجدلي، الذي يرى أن تطور الفكر والوجود يتم عبر صراعٍ وتجاوز مستمرين. تقوم الجدلية عنده على ثلاث مراحل: الأطروحة، النقيض، ثم التوليف الذي يوحّد بينهما في مستوى أرقى. هذا التوليف لا يُلغي التناقض، بل يدمجه في وحدة أشمل تتضمنه وتسمو عليه. وتستمر العملية في حركة تصاعدية متواصلة نحو توليفات أوسع وأكمل، تنتهي في المطلق الذي تتلاشى فيه التناقضات داخل وحدة كلية متكاملة. وبهذا، يغدو المنهج الجدلي عند هيجل مسارًا لتطور الوعي والحقيقة في آنٍ واحد.(77)

وإذا كان هيجل قد جعل الجدل طريقًا إلى المطلق، فإن البراجماتيين جعلوا من العمل والمصلحة الإنسانية معيارًا للحقيقة.

ج- المنهج البراجماتي

وفقًا للمنهج البراجماتي، يتحول كل ما هو حقيقي إلى واقع حي عندما يسير نحو نشاط يحمل في طياته نتائج مثمرة تتجاوز السطح. ينبغي أن يكون تحقيق المصالح الأساسية للإنسان هو البوصلة التي توجه خطواتنا في فضاء الفلسفة. فالمصلحة الإنسانية، في عمقها، هي حجر الزاوية الذي يُبنى عليه كل جهد فلسفي، سواء كان ذلك على صعيد الأنشطة الجسدية، أو العقلية، أو حتى الأخلاقية والروحية. إن القيم هنا لا تُقاس بمجرد أقوال أو مفاهيم، بل تُحكم بمدى تأثيرها ونتائجها. ومقياس الحقيقة في هذا السياق هو قدرتها على التطبيق الفعلي والتفعيل في الحياة اليومية. (78)

ومن خلال هذا المنظور العملي، يصبح التحليل أداة ضرورية لتنقية الفكر وتوضيح المفاهيم، وهو ما يمثل جوهر المنهج التحليلي.

ح- المنهج التحليلي

اعتمدت الفلسفة منذ القدم على التحليل العقلي والمنطقي للأفكار والمفاهيم لفهم مكوناتها وعلاقاتها. غير أنها، بخلاف العلوم التجريبية، لا تحتاج إلى مختبر مادي، لأن موضوعها مفاهيم مجردة تُحلَّل داخل العقل نفسه، الذي يُعدّ مختبرًا دائم العمل. ويهدف المنهج التحليلي إلى توضيح الأفكار وتنقيتها من الغموض والتشابك. ومع مرور الوقت، نشأ في القرن العشرين اتجاهٌ فلسفي يُعرف بـ الفلسفة التحليلية، يرى أن وظيفة الفلسفة الأساسية – بل الوحيدة – هي التحليل ذاته.(79)

ومن التحليل الفردي للذهن تنتقل الفلسفة إلى الحوار الجماعي، باعتباره وسيلة لتكامل العقول وتوسيع الأفق المعرفي.

خ- منهج الحوار

يمتلك جميع البشر قدرات عقلية طبيعية، لكنها تختلف في حدودها ومجالات تميزها؛ فبينما يتفوّق بعضهم في الرياضيات أو اللغات، يبرز آخرون في الفنون أو الرياضة. وتتأثر هذه القدرات بالبيئة الاجتماعية والثقافية. ولأن الفرد قد يعجز عن الإحاطة بكل موضوع بمفرده، فإن التفكير الجماعي يتيح دراسة القضايا من زوايا متعددة، مما يمنح التفكير طابعًا أكثر شمولًا وتوازنًا. وتزداد أهمية هذا الأسلوب في الفلسفة، التي لا تعتمد على التجربة والاختبار، بل على الحوار وتبادل الأفكار، فيصبح النقاش الجماعي وسيلة للحد من التحيزات الشخصية وتعميق الفهم.(81)

استخدمت الفلسفة الهندية والغربية منهج الحوار منذ العصور القديمة وسيلةً رئيسة لاكتساب المعرفة. ففي الهند، كان التلاميذ يتلقّون الحكمة من معلميهم الـ«غورو»(المعلم) عبر حواراتٍ تعليمية تهدف إلى إرشادهم في طريق الفهم من خلال الأسئلة والإجابات المتبادلة. وقد تجسّد هذا الأسلوب في نصوص الأوبانيشاد، مثل حوار شفيتاكيتو وأودالكا في شاندوجيا أوبانيشاد، وحوار مايتريي ويادنيافالكيا في بريهد آرانيكا أوبانيشاد. كما ظهر الشكل الحواري في النصوص البوذية مثل ميليندابانا (أسئلة ميليندا)، وفي بهاجافاد جيتا التي تُقدَّم أيضًا في صورة حوار بين كريشنا وأرجونا.(82)

استخدم سقراط منهج الحوار بفعالية لافتة. كان يطرح على المشاركين من المستمعين أسئلة متنوعة في موضوعات متعددة، مثل: "ما الفضيلة؟" و"ما العدالة؟". وكان الناس يتقدمون بثقة للإجابة عن هذه الأسئلة التي تبدو بسيطة في ظاهرها. لكن سقراط كان يفحص إجاباتهم بدقة، ويُشير إلى الثغرات فيها، ويحثّهم على التفكير بصورة أعمق.وفي نهاية هذا الحوار، كان الناس يدركون جهلهم أو قصورهم الفكري. وبدرجة أو بأخرى، كانوا ينتقلون من حالة الالتباس إلى حالة من الوضوح.وقد سار أفلاطون، تلميذ سقراط، على نفس المنهج؛ فبدلًا من كتابة رسائل أو مقالات فلسفية، دوَّن تأملاته على شكل حوارات.(83)

ومن خلال الحوار الذي يسعى إلى التفاهم، يتشكل الجدل الذي يروم بلوغ الحقيقة عبر التفاعل النقدي المتبادل.

د- المنهج الجدلي

إلى جانب الحوار، استخدمت الفلسفة الهندية القديمة منهج الجدل (الفادا) Vada بوصفه أداة أساسية للبحث عن الحقيقة، لا مجرد مناقشة لفظية. فقد كانت تُعقد مناظرات فكرية منظمة يُناقش فيها طرفان قضية معينة من منظورين متعارضين. يبدأ الفادي بطرح رأيه (باكشا)، ثم يرد عليه البراتيفادي بحجج مضادة ويعرض موقفه الخاص. ويتم تبادل النقد والفحص المتبادل للحجج بروح عقلية بنّاءة، بمشاركة الحاضرين الذين يطرحون أسئلة، تحت إشراف ساباباتي، أي رئيس الجلسة الذي ينظم الحوار. وفي الختام، يُعلن الطرف الفائز وفقًا لقوة منطقه وإقناعه، مما جعل من الفادا مدرسة حقيقية للتفكير النقدي والمنطقي.(84)

اعترفت التقاليد الهندية القديمة بحقيقة أن الانفتاح الذهني وجوّ الحرية أمران لا غنى عنهما لاكتساب المعرفة. ومع ذلك، كان بعض الأشخاص يشاركون في الجدل بدافع التنافس والرغبة في التفوّق على الخصم. وكانت هذه المناظرات التنافسية تُعرف باسم جلبا (jalpa).وكان هناك آخرون يُجادلون لمجرد الجدل، حيث كانوا يستمتعون بالردّ على حجج خصومهم دون تقديم أي رأي خاص بهم. وكان هذا النوع من الجدل يُسمى فيتاندا (vitanda).لكن، وعلى الرغم من ذلك، ظلّ البحث عن الحقيقة هو الهدف المحوري في أي فادا (vada) حقيقي وصادق.(85)

وأخيرًا، يظهر منهج الشك كذروة التفكير النقدي، حيث يُستخدم الشك لا كغاية بل كوسيلة لبلوغ اليقين.

ذ- منهج الشك

استخدم رينيه ديكارت، الفيلسوف الفرنسي، ما عُرف بـ "منهج الشك" في تأسيس الفلسفة الغربية الحديثة. ورغم أن الشك يُنظر إليه عادةً بسلبية، فإنه عند ديكارت كان وسيلة عقلية لاكتشاف الحقيقة، لا طعنًا في الأشخاص أو نياتهم. ففي عصر ساد فيه تيار الشكّية الذي أنكر إمكانية الوصول إلى معرفة يقينية، أراد ديكارت أن يثبت العكس. فبدأ يشك في كل ما تعلمه أو آمن به، حتى وصل إلى الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن إنكارها: "أنا أفكر، إذًا أنا موجود". ومن هنا، جعل من الوعي بالذات أساسًا لكل معرفة ممكنة، مؤكدًا أن الشك المنهجي ليس غاية، بل طريق إلى اليقين وبناء العقل الفاعل.(86)

تسعى الفلسفة بمناهجها المختلفة إلى توسيع معرفتنا وتعميق فهمنا للعالم ولمكاننا فيه.(87) وفي سياق المحادثة الفلسفية، يتعلم المرء من الآخرين الذين قد يمتلكون فهمًا أعمق أو منظورًا مغايرًا للمسألة المطروحة. فالتفاعل الفكري لا يهدف إلى فرض الآراء، بل إلى إعادة تقييم المعتقدات وفحصها في ضوء ما يطرحه الآخرون من أفكار وحجج. ومن خلال هذا التبادل، يكتسب الفرد قدرة أعمق على مراقبة عملياته الذهنية، فيتحسن استخدامه لمهارات الاستدلال وتقييم الأدلة، ويصبح أكثر وعيًا بأسس تفكيره. كما أن صياغة الفهم الشخصي للنصوص أو تقديم الاعتراضات المبررة يفتح المجال أمام تصحيح المفاهيم الناقصة وتوسيع أفق النظر.

ويُعد هذا النوع من التفاعل جوهر الحوار السقراطي، الذي صاغه أفلاطون في محاوراته. ففيه يستجوب سقراط محاوريه، الذين يظنون أنهم يمتلكون معرفة يقينية، بأسئلة تكشف عن الافتراضات الضمنية التي تستند إليها آراؤهم. وعلى الرغم من ادعاء سقراط جهله، فإن منهجه الجدلي يقودهم، عبر سلسلة من الأسئلة والأجوبة، إلى إدراك تناقضاتهم الداخلية، ومن ثم إلى الطريق المؤدي إلى الحكمة الحقيقية. وهكذا تتوالى مراحل الحوار بين نقض الفرضيات غير المتماسكة واقتراح فرضيات جديدة أكثر اتساقًا، في مسار عقلاني يعبّر عن روح الفلسفة ذاتها.(88)

ما يُعد ذا أهمية تعليمية في الحوار السقراطي هو نهج القابلة الذي يستخدمه، حيث يُستخرج المعرفة من المتحاورين بدلاً من نقلها إليهم من مصدر خارجي. من خلال طرح أسئلة متزايدة العمق والتحري، يتم تحفيز المتحاورين على التفكير النقدي في أفكارهم الخاصة، وبناءً على ذلك، يصلون إلى الإجابات الصحيحة بأنفسهم. وهكذا، تصبح هذه التبادلات مشروعًا مشتركًا له الهدف العام المتمثل في تعزيز فهمهم.(89)

حتى إن لم تتخذ المحادثات الفلسفية الشكل المثالي للحوار السقراطي، فإنها ينبغي أن تظلّ مثمرة وبنّاءة، لا صراعية أو خصامية؛ إذ إن غايتها الأساسية ليست الانتصار في الجدل، بل تحقيق التنوير والفهم الأعمق. فالحوار الفلسفي الأصيل يسعى إلى الوصول إلى الحقيقة عبر تعاون العقول لا تنازعها.ومن هذا المنطلق، أكّد الفيلسوف هربرت بول جرايس (H. P. Grice) على ضرورة أن يكون المشاركون في الحوار متعاونين إن أرادوا بلوغ فهم متبادل. وقد صاغ ما يُعرف بـ مبدأ التعاون (Cooperative Principle)، الذي يلخصه بقوله:قدّم مساهمتك في المحادثة على النحو المطلوب في المرحلة التي أنت فيها، وفقًا للغرض أو الاتجاه المتفق عليه للحوار الذي تشارك فيه."ولتفعيل هذا المبدأ، أشار جرايس إلى مجموعة من القواعد الأساسية التي ينبغي مراعاتها في أي محادثة فلسفية جادة، وهي القواعد التي تنظّم طريقة تبادل المعلومات وتوجيه الحوار نحو هدفه المعرفي.

1- الجودة (Quality): حاول أن تكون مساهمتك صادقة، أي قل ما تعتقد أنه صحيح وما لديك من أدلة تدعمه.

2- الكمية (Quantity): اجعل مساهمتك معلوماتية بالقدر المطلوب، أي لا تقل ولا تزيد عما هو ضروري لتحقيق الغرض من الحوار.

3- العلاقة (Relation): اجعل مساهمتك ذات صلة بما يهم الطرفين أو بالموضوع المطروح.

4- الأسلوب (Manner): كن واضحًا ومرتبًا، وتجنب الغموض، أو اللبس، أو الإطناب غير الضروري.(90).

تقوم المحادثة الفلسفية على النقد البنّاء لا الجدال الشخصي، إذ يُفحَص الرأي لا صاحبه. ويجب أن يكون الهدف كشف نقاط الضعف في الحجج وتوضيحها بموضوعية واحترام، بعيدًا عن الإحراج أو التقليل من الآخرين. فالهجوم على الأشخاص أو استخدام الأساليب المراوغة والبلاغة الخادعة يُفقد الحوار قيمته الفكرية. لذا، ينبغي أن يكون المتحدث مدروسًا في كلامه، منصتًا بعناية، ساعيًا إلى توسيع الفهم لا إلى فرض رأيه، لأن الغاية ليست الانتصار، بل الوصول إلى رأي أقرب إلى الحقيقة عبر الحجج والأدلة.(91)

المحور السادس: الفلسفة نورٌ يهدي مسيرة الإنسان

الفلسفة باعتبارها شمعةً تنير طريق الحرية والوعي

تُعدّ الفلسفة الدرع الذي يقي الإنسان من سطوة طبيعته الحيوانية، والشمعة التي تضيء ظلمات العقل حين يثقل بالجهل والاضطراب، وهي الترياق الشافي من العلل التي نصنعها بأيدينا. وقد عبّر إبيقور Epicurus عن هذا المعنى بقوله: "عبثًا يكون كلام الفيلسوف إن لم يشفِ معاناة الإنسان." فالفلسفة، في جوهرها، فنّ العيش الجيد، إذ تقوم على استراتيجيات حياتية تتجسّد في الحكم أو الشعارات القصيرة المصمّمة لتحفيز الذاكرة واستدعاء الخبرة المكتسبة من التجربة والتأمل. وتكمن قوتها في ترابط هذه الحكم وتكاملها، حيث لا تُعدّ الخلافات والجدالات بين الفلاسفة عقبة أمام الفهم، بل سبيلًا لتنوّع الخيارات أمام الإنسان، إذ تقدم له طرائق شتى لمواجهة صعوبات الحياة ومشكلاتها الوجودية، بعضها أنفع من غيره بحسب طبيعة الفرد وميوله. إن حجج الفلاسفة هي عدّة الإنسان ووسيلته في فهم ذاته والعالم من حوله. (92)

ومن هنا، يتضح أن الفلسفة لا تكتفي بوضع تصوّراتٍ نظرية أو مفاهيم عامة، بل تمنح الإنسان أدوات عملية للحياة، فهي تُقدّم له استراتيجيات لا حصر لها تُعينه على اجتياز مراحل المعاناة والخذلان والموت، أي الجوانب الأصعب في التجربة الإنسانية. ولا ينبغي أن تظل الفلسفة حبيسة المدارس أو الأحاديث العابرة في المناسبات الفكرية، لأنها في أصلها ممارسة حيّة، تُختبر في واقع الحياة اليومية. فمن خلال استبطان مفاهيمها وتطبيقها عمليًا، يستطيع المرء أن يبلور نمطًا من الممارسة الفعلية للتحوّل الذاتي. وقد عبّر الباحث الفرنسي بيير هادو Pierre Hadot عن هذه الرؤية حين اعتبر أن أعظم الفلسفات ليست تأملاتٍ عقليةً مجردة، بل تمارين روحية تهدف إلى تحويل النفس والروح إلى كيان جميلٍ ونابض بالحياة. (93)

وهكذا، تُصبح الفلسفة ليست تمريناتٍ ذهنيةً فحسب، بل حكمة حياة تُنال عبر التأمل العميق والبحث الدؤوب عن المعنى. فبدونها، تصبح الحياة إخفاقًا كئيبًا يفتقر إلى البوصلة الروحية والعقلية. وقد شدّد سقراط على أن الذين يفتقرون إلى المعرفة الحقة إنما يستحقون أن يُوصموا بالعبودية الفكرية. أما أفلاطون، فقد حسم الأمر حين أعلن أن الخلاص لن يتحقق للبشرية ما لم يصبح الفلاسفة ملوكًا، أو يكتسب الملوكُ الحكمة الحقيقية للفلسفة، بحيث تجتمع السلطة السياسية والعقل الفلسفي في شخص واحد. إنها حقيقة خالدة عبّر عنها أفلاطون، تظل صالحة لكل زمان ومكان، ومفادها أن الحاكم العادل ينبغي أن يكون فيلسوفًا في جوهره، لا مجرد محبٍّ للحكمة، بل حائزًا لها بحق. (94)

2- قدرة الفلسفة على مواجهة التحديات المختلفة

وإذا كانت الفلسفة نورًا يهدي الإنسان إلى الحرية والوعي، فإنّها أيضًا قدرة عقلية فريدة تمكّنه من مواجهة التحديات الأخلاقية والمعرفية التي تعترض طريقه في الحياة. تخيّل أنك تواجه معضلة أخلاقية صعبة: أحد أحبّائك بحاجة ماسّة إلى علاج طبي ينقذ حياته، لكنك لا تستطيع تحمّل تكلفته إلا إذا سرقت المال اللازم. من جهة، أنت تؤمن بالأمانة والنزاهة، ومن جهة أخرى، فإنّ فكرة فقدان شخصٍ عزيزٍ عليك لا تُحتمل. فكيف يمكن التوفيق بين هاتين القيمتين المتعارضتين؟

هنا تحديدًا يأتي دور الفلسفة وأدواتها. فالفلسفة ليست حكرًا على الأكاديميين في أبراجهم العاجية، بل هي طريقة عملية وقيّمة في التفكير تساعدنا على خوض التحديات الأخلاقية والعقلية المعقّدة التي نواجهها في حياتنا اليومية. (95)

في كتابه «كيف تفكر مثل فيلسوف»، يقدّم جوليان باجيني (Julian Baggini) خريطة طريق لتطوير مهارات التفكير النقدي الضرورية للتعامل مع مثل هذه المعضلات. ومن خلال أمثلة مشوّقة وتجارب فكرية، يُظهر باجيني كيف يمكن للفلسفة أن تساعدنا على توضيح قيمنا وتحليل الحجج واتخاذ قرارات أكثر وعيًا وتبصّرًا. ومن خلال تبنّي عقلية فلسفية، يمكننا أن نُنمّي قدرًا أكبر من الوضوح والاتساق والترابط في معتقداتنا وأفعالنا. ومع تعمّقنا في مبادئ المنطق والأخلاق والميتافيزيقا ونظرية المعرفة، سنكتسب فهمًا أعمق لأنفسنا وللعالم من حولنا. (96)

يدفعنا التفكير الفلسفي إلى مراجعة الافتراضات التي توجّه سلوكنا دون وعي، إذ يكشف أن كثيرًا منها يفتقر إلى المنطق أو الدليل. فبدلًا من قبول الأحكام الجاهزة، كاعتقاد أن جميع السياسيين غير أمناء، يسعى الفيلسوف إلى تحليل جذور هذه الأفكار وأسسها. ومن هنا تبرز أهمية تحليل الحجج، أي تفكيكها وتقييم تماسكها المنطقي، لاختبار صدق مقدماتها ونتائجها، واكتشاف المغالطات والثغرات التي تضعفها.

ولا يقف التفكير الفلسفي عند حدود التحليل، بل يمتد إلى النظر في وجهات نظر متعددة حول القضايا المعقدة. فعند مناقشة مثلًا أخلاقيات التجارب على الحيوانات، يسعى الفيلسوف إلى فهم متوازن يجمع بين آراء المدافعين عن حقوق الحيوان والباحثين العلميين، بما يتيح تكوين رؤية أكثر عمقًا وإنصافًا. (97)

وخلاصة القول، إن التشكيك في الافتراضات وتحليل الحجج والنظر في وجهات نظر متعددة هي مكونات أساسية في التفكير الفلسفي تُسهم في تنمية التفكير النقدي والتأمل العقلي. ومن خلال تبنّي هذه المبادئ الجوهرية، يستطيع الأفراد تكوين عقلية فلسفية تُقاوم المعتقدات الراسخة، وتُنمّي مهارات التحليل، وتُثري فهمهم للعالم من حولهم. فالسعي وراء التفكير الفلسفي يمتلك القدرة على كشف آفاق جديدة للفهم، وتوسيع وجهات النظر، وإلهام الفضول الفكري الذي يدفع الإنسان إلى البحث الدائم عن الحقيقة والمعرفة. (98)

ولا يكتمل هذا المسار إلا بالتحلّي بـ التواضع الفكري والفضول والإخلاص للحقيقة، وهي القيم التي تُجسّد روح الفلسفة الحقيقية. فالتواضع الفكري حجر الأساس الذي يمكّننا من الانفتاح على الأفكار الجديدة، ويحمينا من الغرور والتعصّب العقائدي، فيما يُغذّي الفضول الرغبة في التساؤل حول جوهر الوجود والوعي والأخلاق. أما السعي الصادق نحو الحقيقة، فهو ما يجعل الفيلسوف مستعدًّا لمراجعة قناعاته وتقبّل الأدلة الجديدة مهما كانت مزعجة. ومن خلال تجسيد هذه الصفات، يستطيع الإنسان أن يتبنّى منهجًا فلسفيًا راقيًا يُنمّي فيه التفكير النقدي والانفتاح الذهني والنزاهة الفكرية، ويمنحه قدرةً أكبر على فهم العالم والتفاعل معه بوعيٍ وبصيرةٍ نافذة. (99)

المحور السابع: الفلسفة تؤسس للأخلاق والتقدم الإنساني

تُعدّ الفلسفة من أبرز الركائز التي تسهم في تأسيس القيم الأخلاقية وتنمية الوعي الإنساني، إذ تُمدّ الإنسان بالأدوات الفكرية التي تمكّنه من التمييز بين الخير والشر، والحق والباطل، بما يجعلها منبعًا دائمًا للتهذيب الروحي والعقلي.

1- تكوين الأسس الأخلاقية

بالإضافة إلى ذلك، تؤدّي الفلسفة دورًا محوريًا في تكوين الأسس الأخلاقية وأنماط التفكير الأخلاقي. فالمبادئ والنظريات الفلسفية تساعد الأفراد والمجتمعات على اتخاذ قرارات أخلاقية وحلّ المعضلات القيمية. ومن خلال النظر في وجهات النظر الأخلاقية المختلفة والانخراط في نقاشات أخلاقية، تساهم الفلسفة في تطوير فهم أعمق لما هو خير وما هو شر، وتدفع الناس إلى العمل بما يتوافق مع المبادئ الأخلاقية. ويُعدّ هذا الإطار القيمي ضروريًا لمعالجة القضايا المعاصرة مثل العدالة الاجتماعية، والاستدامة البيئية، والتقدّم التكنولوجي، والصراعات العالمية.(100)

2- تعزيز التقدّم الاجتماعي

ولا يتوقف دور الفلسفة عند حدود الأخلاق الفردية، بل يمتد ليشمل البنية الاجتماعية ذاتها، إذ تتحدى الفلسفة الأوضاع القائمة وتعزّز التقدّم الاجتماعي. فعلى مرّ التاريخ، كانت الأفكار الفلسفية شرارةً للثورات، والحركات الاجتماعية، والتطوّرات في مجال حقوق الإنسان. ومن خلال مساءلة المعتقدات والقيم والممارسات السائدة، تُسائل الفلسفة الأنظمة والهياكل غير العادلة، وتمهّد الطريق نحو التغيير المجتمعي. وسواء كانت تدافع عن المساواة أو العدالة أو الحرية أو السعي وراء المعرفة، فإنّ الفلسفة تُمثّل محرّكًا للتقدّم وقوّة دافعة نحو التغيير الاجتماعي.(101)

3- دعم التقدّم العلمي

ويمتد تأثير الفلسفة إلى العلم، إذ كانت منذ القدم مصدر إلهامٍ للبحث والنظر العقلي. فرغم أنّ الفلسفة غالبًا ما تُعتبر مجالًا تجريديًا منفصلًا عن المسعى العلمي، فإنها تاريخيًا كانت مصدرًا وداعمًا للتقدّم العلمي. فقد تساءل أوائل المفكّرين في اليونان القديمة، مثل طاليس، وديموقريطس، وفيثاغورس، عن جوهر الواقع، وطبيعة المادة، والمبادئ الرياضية، وأسّسوا بذلك دعائم التفكير العلمي. أما اليوم، فتتعاون الفلسفة مع العلوم في تشجيع البحث النقدي، والتطوّر النظري، والتقدّم المعرفي. وتُبرِز أمثلةٌ مثل إسهام فلسفة العقل في علم الأعصاب، والمداولات الأخلاقية في البحوث الطبية الحيوية، ودور الميتافيزيقا في ميكانيكا الكمّ، مدى ثراء هذا التحالف المثمر بين الفلسفة والعلوم.(102)

4- تنمية التفكير الأخلاقي والتماسك الاجتماعي

ولا شك أن التأثير العميق للفلسفة يشكّل بوصلة للسلوك الأخلاقي، ويمتدّ إلى ميدان الأخلاق والوحدة الاجتماعية. فمن خلال دراسة الأطر الأخلاقية مثل النفعية، وعلم الأخلاق، وأخلاق الفضيلة، يستطيع الأفراد تنمية قدرة عميقة على التفكير الأخلاقي، والتعامل مع المعضلات القيمية من منظور واعٍ ومستنير. وعلاوة على ذلك، تُسهِم الفلسفة في تعزيز الحوار حول قضايا مثل العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، وتُمكّن المجتمعات من ترسيخ بوصلة أخلاقية خاصة بها وتقييمها باستمرار. فالقوانين، والسياسات الأخلاقية، والمعايير المجتمعية التي تنبثق عن التأمل الفلسفي، تُفضي إلى بناء هيكل اجتماعي عادل ومتماسك.(103)

5- اكتشاف الذات واكتساب الحكمة

وتتجاوز أهمية الفلسفة مجرّد تأثيرها في المجتمع، إذ إنها تمثّل سبيلًا لاكتشاف الذات، والنمو الشخصي، واكتساب الحكمة. فمن خلال التأمّل الذاتي والتفكّر الفلسفي، يستطيع الإنسان أن يُراجع معتقداته، ويفهم وجوده، ويتقبّل التغيّر الشخصي. وقد ساعد فلاسفة الوجودية مثل سارتر، وكامو، وكيركجارد، الناس على مواجهة أسئلة المعنى، والحرية، والموقع في الكون. وتُتيح ممارسة الفلسفة تنمية مهارات التفكير النقدي، وتوسيع الآفاق الذهنية، وتطوير القدرة على حلّ المشكلات. وتسهم هذه التطورات الشخصية في تكوين أفراد متكاملين، وهم أساس لا غنى عنه لمجتمع مستنير.(104)

6- استشراف المستقبل

وفي ظلّ التحوّلات المتسارعة في عالمنا المعاصر، تزداد أهمية الفلسفة كمرشدٍ أخلاقيٍّ وإنسانيٍّ في مواجهة تعقيدات الحياة الحديثة. ففي عصر يتّسم بالتقدّم التكنولوجي وتعقيد الحياة الاجتماعية، تزداد أهمية الفلسفة يومًا بعد يوم. فمع تشكيل الذكاء الاصطناعي والأتمتة لمستقبل البشرية، تظهر تباعًا تساؤلات أخلاقية واعتبارات فلسفية ملحّة. وتُتيح الفلسفة للناس التعامل مع قضايا مثل أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، والتأثيرات الاجتماعية للأتمتة، وتبعات الهندسة الوراثية، وهي قضايا تستوجب معايير أخلاقية وأسسًا قيمية راسخة. علاوة على ذلك، تتناول الفلسفة قضايا وجودية مثل التنوع الثقافي، وأخلاقيات التعدّدية، والالتزامات الأخلاقية العالمية الناشئة عن التسارع الكبير في وتيرة العولمة.(105)

7- الفلسفة كغطاءٍ للأمان الداخلي

غير أنّ الإنسان، رغم كل تقدّمه، يظلّ يبحث عن الأمان في عالمٍ يملؤه القلق واللايقين. في حياتنا، نعلم أن العالم ليس دائمًا آمنًا. لذلك، عندما نشعر بالخوف أو القلق، نبحث عن شيء يجعلنا نشعر بالأمان. ربما نتمسك بشخص نثق به، أو بفكرة نحبها، أو حتى بشيء نملكه. مثل ركّاب سفينة غارقة، نبحث عن أي شيء نتمسك به لنشعر بأننا بخير. الفيلسوف الأمريكي "تشارلز ساندرز بيرس" يقول إن الشكّ وعدم التأكد يسببان القلق، لذلك نحاول الهروب منهما بأي طريقة. لكن هنا تحدث المفارقة: الشيء الذي يجعلنا نشعر بالأمان، قد يصبح مصدر قلق جديد. لماذا؟ لأننا نخاف أن نفقده. فنصبح مشغولين بحمايته، ونقلق أكثر. وهكذا، بدلًا من أن يساعدنا هذا "الغطاء الآمن"، يُصبح عبئًا علينا. ولهذا علينا أن نسأل أنفسنا: هل التمسك الشديد هو الحل؟ أم يجب أن نتعلم كيف نواجه الخوف بطريقة مختلفة؟ (106)

8- الفلسفة وتحرير العقل الإنساني

وفي هذا السياق، يبرز قول "برتراند راسل" الذي يرى أن الإنسان الذي لا يعرف شيئًا عن الفلسفة يعيش حياته سجينًا لتحيّزاته المستقاة من الحسّ المشترك، ومن المعتقدات الشائعة في عصره أو وطنه، ومن قناعات ترسّخت في ذهنه دون أن يمرّرها على عقلٍ متأمّل أو نقدٍ واعٍ. حياة هذا الإنسان الغريزية محصورة داخل دائرة اهتماماته الشخصية. وفي مثل هذه الحياة شيء من الحُمّى والضيق، إذا قورنت بالحياة الفلسفية الهادئة والحرّة. إنّ العالم الخاص الذي يعيش فيه من ينقاد للغريزة عالمٌ ضيّق، مُحاطٌ بعالم كبير قوي، لا بدّ أن يُحطِّم يومًا ما هذا العالم الخاص ويُطيح به.(107)

تتمثّل القيمة الأساسية للفلسفة، كما يرى راسل، في قدرتها على تحرير العقل من سطوة الآراء التي تُعتنق دون تمحيص، وفتح الأذهان أمام آفاق رحبة من الإمكانيات الجديدة. فالفلسفة تكتسب قيمتها - في جانب كبير منها - من كونها لا تقدّم يقينًا ثابتًا، بل تُثري الفكر عبر الشكّ المنهجي. وإن كانت الفلسفة لا تستطيع أن تمنحنا أجوبة قاطعة على التساؤلات التي تُثيرها، فإنها تطرح أمامنا احتمالات متعددة توسّع مداركنا وتُحرّرنا من سلطة العُرف والتقليد. إنها، إذ تقلّل من شعورنا باليقين إزاء ما نظنه ثابتًا، تزيد من وعينا بإمكانات ما يمكن أن يكون عليه الواقع. وبذلك، تُبدّد التصلّب الفكري الذي يلازم من لم يخوضوا تجربة الشكّ المحرّر، وتحفظ في النفس شعور الدهشة والانفتاح، حين تُقدّم المألوف في صورة غير مألوفة.(108)

وفي النهاية، يمكن القول إن الفلسفة لا تُعطينا إجابات نهائية، لكنها تُعطينا القدرة على طرح الأسئلة الصحيحة، وتوسيع أفقنا الفكري، وتحريرنا من طغيان المألوف. وهذا بحد ذاته فضيلة كبرى، تجعل من الفلسفة تمرينًا دائمًا على الحرية العقلية والتأمل النقدي.

2- الفلسفة كدعامة للتنمية والتطور الحضاري

للفلسفة دورٌ جوهري في مسار الحضارة الإنسانية:

أولا: تكشف لنا دراسة التاريخ أن الفلسفات لا تنشأ في فراغ، بل تستجيب لأسئلةٍ يفرضها واقعٌ علميٌّ أو اجتماعيٌّ معيَّن. فلا يمكن، مثلًا، فهم فكر القديس توما الأكويني دون النظر إلى التأثيرات المتشابكة لكلٍّ من أرسطو، والقديس أوغسطينوس، والعقيدة الكاثوليكية في تكوينه الفكري. وبالمثل، تأثّر ديكارت بالفيزياء الرياضية في عصره، وبالفلسفة الجسيمية في القرن السادس عشر، وكذلك بأفكار القديس أوغسطين. غير أن الفلسفة لا تقتصر على استلهام عناصر من حضارتها، بل تتجاوزها إلى إعادة صياغة هذه العناصر في منظومات فكرية شاملة تُوحِّدها وتمنحها تماسكًا داخليًا يجعلها تعبّر عن روح عصرها تعبيرًا عميقًا ومتماسكًا (109).

ثانيا: لا تنشأ التيارات الفكرية بمعزل عن صراع الاتجاهات السائدة، إذ لا تترسّخ مدرسة فكرية إلا بإقصاء غيرها. وهكذا تصبح العقول ميدانًا لتصارع الأفكار المتعارضة التي قد تتعايش دون حسم. ويجد الفكر نفسه أمام خيارين: إمّا السقوط في الشكّ المدمّر، أو انتظار فيلسوف يوحّد المتناقضات، كما فعل توما الأكويني حين جمع بين اللاهوت الأوغسطيني وتعاليم أرسطو، وديكارت حين وفّق بين الفيزياء الرياضية والميتافيزيقا. فالفلسفة بهذا المعنى هي سعي الفكر إلى الوحدة التي تمنح النظام والسلام، إذ يطمح الإنسان إلى انسجام أفكاره ومشاعره وأفعاله، وهو ما اعتبره جيلسون أساس الحضارة وشرط الانسجام مع الذات والآخر. فالفيلسوف، حين يفكر، يفعل ذلك باسم الإنسانية جمعاء، ساعيًا إلى توازن العقول وارتقاء القيم الروحية.(110)

ثالثًا: تبقى الفلسفة حية بعد أفول الحضارات التي نشأت في كنفها، لأنها تحمل حقائق خالدة تتجاوز حدود الزمان والمكان. ففلاسفة كأفلاطون وأرسطو وتوما الأكويني وديكارت وكانط يظلون معاصرين لكل عقل إنساني، إذ تتضمن فلسفاتهم عناصر تمسّ جوهر الإنسان ذاته. ولا تقوم الفلسفات الكبرى على التلفيق، بل على التوفيق العميق بين المتعارضات سعيًا إلى تحرير الفكرة في أنقاها. فبفكر أفلاطون تتكامل الكينونة عند بارمنيدس والصيرورة عند هيراقليطس، وبتوما الأكويني يلتئم الإلهي بالبشري في نظرية التناظر في الوجود، فيما رأى ديكارت أن فيزياء أرسطو روحانية زائفة والذرّية الأبيقورية مادية بلا أساس. وهكذا تستمد الفلسفة قيمتها من انشغالها الدائم بأسئلة الإنسان بوصفه كائنًا عاقلًا، لا من مشكلات عصرٍ محدد، لتظل حدثًا فكريًا خالدًا في حاضرٍ أبدي.(111)

وعليه، فإذا كانت الحضارة ليست مجرد أسلوب حياةٍ لأمةٍ في زمنٍ محدّد، بل هي أيضًا رصيدٌ من القيم والحقائق المتراكمة التي توحّد الإنسانية، فإن الفلسفة لا تنتج النظام في الفكر إلا لأنها تنتج الحقيقة ذاتها. فهي في الوقت نفسه ثمرة التاريخ وصانعته، إذ يقوم فعلها الإبداعي على خضوعٍ صادقٍ للحقيقة يتجاوز حدود الزمان (112).

تناول عدد من فلاسفة الحداثة مفهوم التقدّم بالتحليل والتأمل، من أبرزهم كانط في كتابه «فكرة من أجل تاريخ كوني من منظور مدني»، حيث دعا إلى تحقيق «الغاية الكوزموبوليتية» بإقامة نظام عالمي تنظم فيه العلاقات بين الأمم كما تُنظم بين الأفراد في الدولة. وقد رأى هيجل في «فينومينولوجيا الروح» و«محاضرات في فلسفة التاريخ»أن التقدّم التاريخي هو حركة تصاعدية للروح عبر صراعاتها، بينما اعتبر ماركس وإنجلز أن التقدّم يتحقق من خلال الصراع الطبقي. وعبّر أوجست كونت عن رؤيته لمسار التطوّر الإنساني في «قانون المراحل الثلاث»: اللاهوتية، الميتافيزيقية، ثم الوضعية، مؤكدًا أن النظام شرط للتقدّم. ويرى بعض الباحثين، مثل فوكوياما، أن جذور هذه الفكرة تعود إلى مكيافيلّي، الذي فصل بين السياسة والأخلاق.(113)

3- الفلسفة ودورها في التنمية الوطنية

اهتمَّ المفكر نناميدو بارثولوميو (Nnaemedo Bartholomew) بدراسة أهمية الفلسفة في تحقيق التنمية الوطنية في كتابه «تحليل الدور الخماسي للفلسفة في التنمية الوطنية»، حيث رأى أنَّه «لفهم عصرٍ أو أمة، يجب أن نفهم فلسفتها» كما قال برتراند راسل. وبناءً على ذلك، فإنَّ فهم مفهوم التنمية الوطنية يستلزم فهم فلسفتها التي تجسِّد رؤيتها ورسالتها وأهدافها. فالفلسفة — بحسب بارثولوميو — ضرورية لصياغة التنمية الوطنية وتنفيذها واستكمالها، وقد حدد لذلك خمسة أدوار أساسية للفلسفة في هذا المجال (114).

أولًا: الفلسفة كأساسٍ عقلانيٍّ للتنمية الوطنية

لكل مجالٍ من مجالات التنمية الوطنية فلسفته الخاصة التي تمثِّل الأساس العقلاني الذي يقوم عليه صرح التنمية. وتؤدِّي الفلسفة في هذا السياق ثلاث وظائف رئيسة:

1- توفير رابطٍ يربط بين التنمية الوطنية والبنى الفرعية الأخرى،

2- تخفيف الاحتكاك بين وكلاء المشاريع التنموية وبيئاتهم المباشرة،

3- ضمان تدفّقٍ مستمرٍّ للموارد من البيئات المحيطة.

فالفلسفة هنا تُعدّ الركيزة الفكرية التي تضمن سلامة البناء التنموي من حيث الاتساق الداخلي والترابط المنهجي بين عناصره (115).

ثانيًا: الفلسفة كخريطة طريقٍ للتنمية الوطنية

لا تقتصر وظيفة فلسفة التنمية الوطنية على وضع الأسس النظرية للبنية التحتية فحسب، بل تمتد لتشمل توجيه مسار التنفيذ وضبط حركته لضمان عدم انحراف التنمية عن أهدافها الكبرى. فهي بمثابة بوصلة فكرية تُرشد خطط التنمية لتجنُّب مظاهر الانكسار أو الانفجار أو الركود أو النموّ المفرط، مما يحافظ على توازنها واستدامتها في مواجهة التحولات السياسية والاجتماعية (116).

ثالثًا: الفلسفة كسقفٍ أعلى يحمي التنمية الوطنية

كما أنّ الفلسفة تخدم التنمية الوطنية في مستواها التحتي (البنية التحتية)، فإنّها تواكبها أيضًا في المستوى الفوقي (البنية العليا). فهي توفّر سقفًا رمزيًا يحمي المشاريع التنموية من التأثيرات السلبية الناتجة عن السياسات أو الممارسات الرائجة التي قد تُعيق تحقيق الأهداف. وتشبه هذه الظواهر — في استعارة بارثولوميو — الشمس الحارقة أو العواصف أو الثلوج التي قد تُضعف نموّ المشروع التنموي. ومن ثَمّ، تعمل الفلسفة كقوة تنظيمية تقي التنمية من التشويه أو الانحلال أو التآكل، وتضمن استمرارها في تحقيق أهدافها (117).

رابعًا: الفلسفة كعدسةٍ أخلاقيةٍ للتنمية الوطنية

ينبغي أن تقوم كل عملية تنموية على أساسٍ أخلاقيٍّ متين، إذ تتمثّل الغاية القصوى للتنمية في تحقيق السعادة الإنسانية. فكل منتج من منتجات التنمية الوطنية يجب أن يضع الإنسان في صميم اهتمامه، وإلا فقد قيمته. ومن هنا، تمثّل الأخلاق — بوصفها فرعًا من فروع الفلسفة — العدسة التي تُقيِّم من خلالها التنمية مدى انسجامها مع القيم الإنسانية. فقبل الشروع في أي مشروع، يجب النظر في مدى خدمته للإنسان وكرامته. وهذا ما يجعل الفعل الأخلاقي مميزًا عن الفعل الآلي أو الميكانيكي، لأنّ الأول يصدر عن وعيٍ وإرادةٍ حرة، ويمكن مساءلة الإنسان عنه، بينما الثاني فعلٌ غير إراديٍّ لا مسؤولية فيه (118)

خامسًا: الفلسفة كمحفِّزٍ للتنمية الوطنية

يشبِّه بارثولوميو دور الفلسفة في التنمية بدور المحفّز الكيميائي الذي يُسرّع التفاعل دون أن يتأثّر به. فالفلسفة تُسهم في تسريع وتيرة التنمية الوطنية من خلال إذكاء الوعي النقدي وتوسيع الأفق الفكري، لكنها تظل محتفظة باستقلالها عن نتائج هذه التنمية. ويتجلّى هذا الدور التحفيزي في نظرياتٍ فلسفية عديدة أحدثت تحوّلات عميقة في التاريخ، مثل: الثورة الأخلاقية التي أحدثها سقراط في شباب عصره، والدعوة إلى الزهد التي أكّدها أفلاطون والرواقيون، والمبادئ السياسية والاجتماعية التي قدّمها جون لوك، وهيغل، وكارل ماركس، ومونتسكيو، وجان جاك روسو.

وقد كانت فلسفة سقراط — التي دعت إلى مساءلة الذات وإصلاح الأخلاق — من أبرز الأمثلة على أثر الفلسفة في التغيير الاجتماعي، إذ أحدثت ثورة فكرية بين الشباب دفعت السلطات إلى اتهامه بإفساد عقولهم، فحُكم عليه بالموت وتناول نبات الشوكران تنفيذًا للحكم (119).

الخاتمة

يمكن تلخيص أهم النتائج والاستنتاجات التي توصل إليها البحث حول سؤال: «لماذا الفلسفة؟ ولماذا الآن؟» في النقاط الآتية:

1- الفلسفة ضرورة إنسانية وليست ترفًا فكريًا؛ فهي حاجة وجودية تُلازم الإنسان في سعيه الدائم نحو الفهم والمعنى، وتساعده على إدراك ذاته وموقعه في العالم.

2- وظيفة الفلسفة الأساسية تتمثل في توجيه العقل نحو التساؤل والفهم، وتحرير الفكر من الجمود والاتباع الأعمى، مما يجعلها أداة لتجديد الوعي الإنساني.

3- العالم المعاصر يعيش أزمة قيمية وأخلاقية نتيجة هيمنة النزعة المادية والانغماس في التقدم التقني على حساب البعد الإنساني، وهو ما يجعل العودة إلى الفلسفة ضرورة ملحّة لاستعادة التوازن بين العلم والأخلاق.

4- مناهج التفكير الفلسفي تُعدّ وسيلة فعّالة لتنمية مهارات التحليل والنقد، وتعليم الإنسان كيف يفكر لا ماذا يفكر، وبذلك تُحصّنه ضد الاستسلام للأفكار الجاهزة والمضلّلة.

5- الفلسفة مصدر للطموح والإخلاص، لأنها تغذي في الإنسان الرغبة في البحث عن الحقيقة، وتدفعه إلى العمل المخلص الهادف الذي يتجاوز المصالح الضيقة نحو الخير العام.

6- الفلسفة نور يهدي مسيرة الإنسان، إذ تمكّنه من مواجهة تحديات الحياة المعاصرة بثقة ووعي، وتمنحه القدرة على المواءمة بين التقدم المادي والنمو الروحي.

7- الحاجة إلى الفلسفة الآن أشد من أي وقت مضى؛ لأنها القادرة على إعادة بناء الوعي الإنساني المفقود، وترميم العلاقة بين الفكر والضمير، وبين الإنسان والعالم.

8- الخلاصة النهائية: الفلسفة ليست ماضيًا يُستعاد، بل مشروعًا دائمًا لتجديد الفكر الإنساني وإضفاء المعنى على الوجود، وهي الطريق الذي به يحافظ الإنسان على كرامته ويصون إنسانيته في وجه تحولات العصر.

***

دكتور ابراهيم طلبه سلكها

2025

..................

الهوامش

1- Dr. Oyekunle O. Adegboyega: Introduction to Philosophy and Logic, National Open University of Nigeria, Printed 2018, p. 10.

2- Loc- Cit.

3- Ibid, p. 11.

4- Roark, Dallas M.: Introduction to Philosophy, Emporia, KS: Dalmor Publishing, 1982 (revised 2011), p. 1.

5- Ibid, pp. 1–2.

6- Ibid, pp. 2–3.

7- Ibid, pp. 3–4.

8- Ibid, p. 5.

9- Ibid, p. 7.

See also: John Dewey, Experience and Nature, p. 398.

10- Scherer, Donald, Peter Facione, Thomas Attig, and Frank Miller: Introductory Philosophy, Englewood Cliffs, N.J.: Prentice- Hall, 1979.

11- Swami Krishnananda: The Philosophy of Life, The Divine Life Society, P.O. Shivanandanagar, India, pp. 17–18.

12- Roark, Dallas M., Op- Cit, pp. 8–9.

13- Standard Eleven: Philosophy, Maharashtra State Bureau of Textbook Production and Curriculum Research, Pune, 2020, p. 5.

14- Nweke, Charles C., and Vera A. Uyanwune: “Relevance of Philosophy to Any Discipline.” International Journal of Research and Innovation in Social Science (IJRISS), 4(8), August 2020, ISSN 2454- 6186, p. 784.

15- Meenakshi Mawi: Socrates v/s Plato – Philosophy and Knowledge, International Journal of Humanities and Social Science Research, www.socialsciencejournal.in, ISSN: 2455- 2070, Volume 9, Issue 4, 2023, p. 27.

16- Payne, W. Russ: Introduction to Philosophy, Bellevue College, 2015, Creative Commons Attribution- NonCommercial 4.0 International. http://creativecommons.org/licenses/by- nc/4.0/, p. 7.

17- Ibid, p. 8.

18- Loc- Cit.

19- Nathan Smith: Introduction to Philosophy, OpenStax, Rice University, 2022, p. 36.

20- Loc- Cit.

21- Robert Fisher: Philosophy for Children: Fostering Communities of Philosophical Enquiry and Reflection in Primary and Secondary Schools, A thesis submitted to Brunel University for the degree of Doctor of Philosophy (Published Work) in the School of Education, Brunel University, January 1996, Theme 2, Part 2, p. 3.

22- Nathan Smith: Introduction to Philosophy, OpenStax, Rice University, 2022, p. 37.

23- Robert Fisher, Op- Cit, p. 3.

24- Sanjit Chakraborty: Critical Thinking: An Approach that Synthesizes Analytic Philosophy, India Philosophical Quarterly, University of Pune, Vol. 44, No. 1, December 2017, p. 1.

25- Ibid, p. 2.

26- Daniela Dover: Criticism as Conversation, Philosophical Perspectives, Harvard University Press, 2020, p. 1.

27- Sanjit Chakraborty: Op- Cit, p. 1.

28- Ibid, pp. 1–2.

29- Loc- Cit.

30- Daniela Dover: Op- Cit, p. 2.

31- Amy Jacques- Garvey: Philosophy and Opinions of Marcus Garvey, The Journal of Pan African Studies, 2009, eBook, p. 5.

32- Loc- Cit.

33- Alegre, Susie, and Aaron Shull: Freedom of Thought: Reviving and Protecting a Forgotten Human Right, Waterloo, ON: Centre for International Governance Innovation (CIGI), September 4, 2024, p. 1.

34- Loc- Cit.

35- Ibid, pp. 1–2.

36- Ibid, p. 4.

37- Marc Jonathan Blitz and Jan Christoph Bublitz (eds.): The Law and Ethics of Freedom of Thought, Volume 1: Neuroscience, Autonomy, and Individual Rights, Cham: Palgrave Macmillan, 2021, p. vi.

38- Loc- Cit.

39- Ibid, pp. vi–vii.

40- Ibid, p. vii.

41- Dudley, Will: Hegel, Nietzsche, and Philosophy: Thinking Freedom, Cambridge: Cambridge University Press, 2002, ISBN 052181250X, p. 2.

42- Hoxha, Ermela: “Concept of Freedom in the Philosophy of Fichte.” European Journal of Social Sciences Education and Research, Vol. 2, No. 1, 2014, pp. 131–135, doi:10.26417/ejser.v2i1.p131- 135, p. 131.

43- Marc Jonathan Blitz and Jan Christoph Bublitz (eds.): The Law and Ethics of Freedom of Thought, Volume 1: Neuroscience, Autonomy, and Individual Rights, Cham: Palgrave Macmillan, 2021, p. xi.

44- Ibid, p. 49.

45- Morris, Paul: “Intellectual Freedom Today.” Continental Thought & Theory (CT&T): A Journal of Intellectual Freedom, Vol. 1, No. 1, 2016, pp. 132–136, ISSN 2463- 333X, p. 132.

46- Elisabeth Schelleken: Perfection and Fiction: A Study in Iris Murdoch’s Moral Philosophy, [Frits Gåvertsson, Unpublished manuscript], Date of issue: 17 September 2018, p. ix.

47- Milan Petričković: The Communicational Biblical Motive of Self- Perfection in an Ethical Reflection on Sin, Shame, Remorse and Forgiveness, Informatol., Vol. 47, 2014, No. 1, pp. 20–28, p. 20.

48- Ibid, p. 21.

49- Peter Baumann: Enlightenment as Perfection, Perfection as Enlightenment? Kant on Thinking for Oneself and Perfecting Oneself, College, 500 College Avenue, Swarthmore, PA 19081, USA, p. 284.

50- Loc- Cit.

51- Ibid, p. 285.

52- Alain de Botton: The Consolations of Philosophy, Vintage Books, a Division of Random House Inc., New York, 2001, p. 1.

53- Roark, Dallas M.: Introduction to Philosophy, Emporia, KS: Dalmor Publishing, 1982 (revised 2011), p. 1.

54- Baggini, Julian: How to Think like a Philosopher: Twelve Key Principles for More Humane, Balanced, and Rational Thinking, Chicago: University of Chicago Press, 2023, Chapter 5.

55- Loc- Cit.

56- Amy Jacques- Garvey: Philosophy and Opinions of Marcus Garvey, The Journal of Pan African Studies, 2009, eBook, p. 22.

57- Ibid, p. 23.

58- Ibid, p. 24.

59- Ibid, p. 27.

60- Neha Jain and Ratan Raigar: Ethical Implications of Technology in the Digital Era: A Call for Responsible Innovation, Turkish Journal of Computer and Mathematics Education, Vol. 10, No. 2 (2019), pp. 1145–1147.

61- George W. Reynolds: Ethics in Information Technology, Cengage Learning, Sixth Edition, 2019, ISBN 978- 1337405874, p. 3.

62- Loc- Cit.

63- Karaganis, Milana: “Ethics of Technology.” In Report of the UNECE Workshop on Ethics in Modern Statistical Organizations, Geneva: United Nations Economic Commission for Europe, March 26–28, 2024, pp. 12–14.

64- Rashid, Muhammad Mustafa: Technology Ethics, Online at https://mpra.ub.uni- muenchen.de/105731, 2020, p. 3.

65- Juan Enriquez: Right/Wrong: How Technology Transforms Our Ethics, Routledge, New York, 2020, p. 12.

66- Anil Rajimwale: The Particle and Philosophy in Crisis: Towards Mode of Information, Routledge, New York, First published 2023, p. x.

67- Ihejirika, C. I., & Asike, J.: “Exploring the Power of Philosophy in Nation Building.” [Journal/Publisher if available], [Year not specified], p. 1201.

68- Jonas, Hans: “Toward a Philosophy of Technology.” The Hastings Center Report, Vol. 9, No. 1 (1979), p. 34. https://www.jstor.org/stable/3561700.

69- Rodrigo Cordero: Crisis and Critique: On the Fragile Foundations of Social Life, Routledge, New York, p. 1.

70- Ihejirika, C. I., & Asike, J., Op- Cit, p. 1199.

71- Ibid, p. 1201.

72- Ibid, pp. 1201–1202.

73- Baggini, Julian: How to Think like a Philosopher: Twelve Key Principles for More Humane, Balanced, and Rational Thinking, Chicago: University of Chicago Press, 2023, Chapter 4.

74- Alain de Botton: The Consolations of Philosophy, Vintage Books, a division of Random House Inc., New York, 2001, pp. 16–17.

75- Loc- Cit.

76- Ibid, pp. 18–19.

77- Ibid, p. 19.

78- Dr. Oyekunle O. Adegboyega: Introduction to Philosophy and Logic, National Open University of Nigeria, Printed 2018, p. 17.

79- Ibid, p. 19.

80- Standard Eleven: Philosophy, Maharashtra State Bureau of Textbook Production and Curriculum Research, Pune, 2020, p. 7.

81- Loc- Cit.

82- Ibid, pp. 8–9.

83- Ibid, p. 9.

84- Ibid, p. 10.

85- Loc- Cit.

86- Ibid, p. 12.

87- Jesper Kallestrup: Methods and Skills for Philosophy, Routledge, London and New York, First published 2025, p. x.

88- Ibid, p. 6.

89- Ibid, p. 7.

90- Loc- Cit.

91- Ibid, p. 8.

92- Zachary G. Augustine: Philosophy for Any Life, an open- source self- help book, First edition published 29 September 2015, pp. 3–4.

93- Ibid, p. 4.

94- Swami Krishnananda: The Philosophy of Life, The Divine Life Society, P.O. Shivanandanagar, India, pp. 41–42.

95- Baggini, Julian: How to Think like a Philosopher: Twelve Key Principles for More Humane, Balanced, and Rational Thinking, Chicago: University of Chicago Press, 2023, Chapter 1.

96- Loc- Cit.

97- Ibid, Chapter 2.

98- Loc- Cit.

99- Loc- Cit.

100- American Journal of Interdisciplinary Research and Development: “Philosophy and Its Role in Society,” A. Navoi, Volume 25, February 2024, p. 89.

101- Loc- Cit.

102- Loc- Cit.

103- Ibid, p. 90.

104- Loc- Cit.

105- Loc- Cit.

106- Yoni Porat: A Brief Introduction to Philosophy, Southern Alberta Institute of Technology, Calgary, Alberta, Canada, 2021, p. 11.

107- Ibid, pp. 11–12.

108- Ibid, p. 12.

109- Richard Fafara: Philosophy and Civilization, Rocznik Tomistyczny, Vol. 7 (2018), ISSN 2300- 1976, p. 55.

110- Loc- Cit.

111- Loc- Cit.

112- Ibid, pp. 55–56.

113- Zbigniew Orbik: “On the Evolution of the Concept of Sustainable Development,” Scientific Papers of Silesian University of Technology: Organization and Management Series, No. 223 (2023), p. 388.

114- Nnaemedo Bartholomew: “Analysis of the Five- Fold Role of Philosophy in National Development,” International Journal of Research and Review, Vol. 10, Issue 5, May 2023, p. 348.

115- Ibid, pp. 348–349.

116- Ibid, p. 350.

117- Loc- Cit.

118- Ibid, pp. 350–351.

119- Loc- Cit

الإطار المفهومي: يمثل الخطاب المدني الأخلاقي فضاءً معقداً تتشابك فيه متطلبات النظام السياسي مع القيم الإنسانية الجوهرية. يُعرّف الخطاب المدني على أنه المجال المشاع المشترك لجميع الأفراد في كيان سياسي ما، حيث تتجلى السياسة كشأن جمهوري. ضمن هذا الإطار، تتحول القضايا الأخلاقية من مجرد أحكام شخصية إلى متطلبات جماعية تحمل صفة الوجوب وتخضع للمساءلة القانونية والاجتماعية. إن هذا التفاعل المعقد بين الشأن العام والقيمة ينتج عنه الجدلية الأساسية التي تتمحور حول التسييس والتأنيس.

التفكيك المفهومي

أ. التسييس

يُفهم التسييس على أنه العملية الديناميكية لتحويل القضايا من الدائرة الخاصة إلى الدائرة العامة، جاعلاً إياها ملكًا للجميع وقابلة للحل السياسي. يستكشف التسييس أفقين رئيسيين:

أفق الحرب والنزاع: حيث يسعى التسييس نحو إحلال السلام.

أفق الطبائع والثوابت: حيث يسعى إلى التحرر الاجتماعي والثقافي.

جوهر السياسة يكمن في عملية التسييس ذاتها.

ب. التأنيس

يشير التأنيس إلى مركزية القيمة البشرية. يمكن تمييز نوعين أساسيين من التأنيس في سياق الخطاب الفلسفي:

التأنيس الجوهري: الذي يعتمد على ماهية ثابتة للإنسان (كالعقل أو الروح كما في الفلسفة الكلاسيكية والدينية).

التأنيس الإجرائي: الذي يركز على الإرادة والتعاقد والسياق (كما في الفلسفات الحداثية التي تسعى لنقل الأحكام من الإطار الإلهي إلى الإطار البشري).

طبيعة العلاقة التاريخية

تطورت العلاقة بين التسييس والتأنيس عبر التاريخ الفلسفي، من مرحلة التوحيد الكلاسيكي، مروراً بالانفصال الحداثي والواقعية السياسية، وصولاً إلى مرحلة التفكيك والنقد المعاصر. ويكشف هذا التطور أن التسييس في العصر الحديث لم يكن دائماً فعلاً راشداً، بل في كثير من الأحيان، هو استجابة لأزمة أعمق.

فالخواء الذي خلفته الإيديولوجيات المنسحبة وغياب المرجعية الأخلاقية قد أدى إلى ما يمكن تسميته "تسيس الخواء": كي تحل محل المعاني والقيم دوافع ومحفزات قائمة على عصبيات فردية أو جماعية فارغة. هذا يشير إلى أن التسييس قد يصبح عرضاً مرضياً لفشل التأنيس الجوهري، مما يؤدي إلى تشويه جوهر الإنسان بسبب تراكم صراع المصالح وغياب القيمة.

أفلاطون: العدالة كبنية موحدة

تعتبر الفلسفة الكلاسيكية اليونانية، لاسيما عند سقراط وأفلاطون، نقطة الانطلاق لتأصيل العلاقة الجدلية بين الأخلاق والسياسة. لقد رأى أفلاطون أن السياسة والأخلاق متجذرتان في مفهوم العدالة، وأن العلاقة بينهما جدلية لدرجة أنه "لا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى." نشأة الدولة في المنظور الأفلاطوني هي استجابة لحاجة الفرد للجماعة وعدم استغنائه بنفسه، ويتم ذلك عبر إقامة النظام وتوحيد الجهود. ومن ثم، فإن الدولة في جوهرها ما هي إلا "فرد إنساني متكامل".

هذا التسييس للحياة المدنية يعكس التأنيس الوجودي، حيث تتسرب القوى النفسية الثلاث للإنسان (العقل، العاطفة، الشهوة) لتكوّن طبقات الدولة الثلاث (الحكام/الفلاسفة، الجنود/الحرس، العمال/المنتجون). إن التسييس الأفلاطوني هو في حقيقته آلية ضامنة لنظام أخلاقي داخلي. عبر ربط الحاكم بالفيلسوف الذي يتغلب فيه العقل، وتوجيه "سفينة الدولة" نحو الخير، يصبح التسييس هو الأداة التي تضمن خضوع القوى النفسية الدنيا للفرد للقوة العليا. وبالتالي، فإن التسييس يحمي التأنيس الجوهري من الانحراف.

أرسطو: المدينة كشرط لتحقيق الفضيلة

سار أرسطو على ذات المنهج في ربط الأخلاق بالسياسة، حيث رأى أن مبدأ الغاية هو قوام السياسة والأخلاق على حد سواء، والغاية القصوى هي السعادة التي لا تتحقق إلا في المدينة. ولذلك، فإن التسييس يهدف إلى إتمام التأنيس عبر تحقيق هذه الغاية. رغم هذا التوحيد، فإن أرسطو وضع بذور الانفصال الحداثي عبر إدراكه الفرق بين الدولة والحكومة. هذا التمييز المؤسسي يمثل تسيسا للقانون المدني يمنحه استقلالية نسبية عن الفضيلة المطلقة، لكنه يظل ضمن إطار السعي نحو الخير الأقصى والفضيلة.

الواقعية السياسية وأزمة التأنيس الأخلاقي

شهدت فترة الحداثة انفصالاً جذرياً في العلاقة العضوية بين التسييس والتأنيس، حيث أصبحت السياسة علماً مستقلاً بذاته يهدف إلى الفاعلية والنظام، بدلاً من أن يكون تطبيقاً للفضيلة المطلقة.

مكيافيلي: يمثل نقطة تحول نحو التسييس النفعي. فابتعاده عن القيم الدينية كان بمثابة تحرر؛ وانطلاق نحو نهضة أمته. هنا، يخدم التسييس غاية الدولة النفعية، بغض النظر عن القيود الأخلاقية الصارمة.

ابن خلدون: قدم رؤية مختلفة حيث نظر إلى القيم الدينية باعتبارها "المخرج الأساسي لأمته من أزمتها السياسية". التسييس الفعال في هذا النموذج يظل رهيناً بالتعزيز الأخلاقي القائم على المرجعية الدينية، بعكس النظرة الغربية.

فلسفة التنوير: روسو

حاول فلاسفة التنوير إعادة تأسيس الخطاب المدني الأخلاقي على أسس عقلانية وإنسانية. أدرك روسو ضرورة تسيس المعتقدات الأخلاقية لخدمة الدولة. في "العقد الاجتماعي"، شرح عقيدته حول الدين المدني، الذي يهدف إلى تعزيز "روح الوطنية والتضامن الاجتماعي" الضروريين للدولة المزدهرة.

لكن محاولة التنوير لإعادة دمج التسييس والتأنيس أدت إلى مفارقة؛ حيث كشف فرضه للعقائد تحت التهديد بالعقاب الأقصى عن أداتيه الضمير الأخلاقي لصالح الأمن المدني، والتضحية بالحرية الأخلاقية الفردية من أجل استقرار الدولة.

كانط: التأسيس العقلاني الأخلاقي للخطاب المدني

قدم إيمانويل كانط، عبر أخلاقه الواجبية، أقوى محاولة حداثية لتأسيس الخطاب المدني الأخلاقي على العقل المحض.

الواجب القاطع كنواة للأخلاق المدنية: عملية التسييس المثالية هي تعميم القانون الأخلاقي العقلاني ليصبح قوانينًا عالمية لا يمكن أن تتغير حسب الظروف، وهو ما يمثل التسييس العقلاني للقانون المدني.

الإنسان كغاية في ذاته: تُعلي صيغة الاستقلالية من شأن التأنيس العقلاني إلى أقصى حد، حيث يرى كانط أن الفرد العاقل هو المشرّع للقانون الأخلاقي، وملزم به فقط لأنه نابع من إرادته العقلانية. هذا المبدأ يضمن أن يُعامل الإنسان كغاية في ذاته، وليس مجرد وسيلة لتحقيق أهداف أخرى.

نحو خطاب مدني أخلاقي مرشد

إن المسوغ الجوهري للثورة هو السياسة، حيث تُفهم السياسة كشأن مشاع يسعى للتحرر. يتطلب ذلك أن تكون القضايا الأخلاقية المدنية (مثل حقوق الإنسان والعدالة) قابلة للتسييس في أفق التحرر، بعيدًا عن السيطرة والقمع.

لمواجهة "تسيس الحياة الإنسانية" الذي يؤدي إلى خواء المعنى، يجب ترسيخ منظومات قيمية حقيقية تقوم على مكارم الأخلاق لتربط سلوكيات الأفراد في كل مناحي حياتهم بهذه القيم. هذا الترسيخ هو الضمان ضد الخواء الأيديولوجي الذي يملأ الفراغ بالعصبيات الفارغة.

***

غالب المسعودي

.......................

المراجع:

aljazeera.net. "الضمير الأخلاقي والدين المدني عند جان جاك روسو

aljumhuriya.net. "تسيس: وجها السياسة ومعنياها"

mandumah.com. "الوصف: جدلية العلاقة بين الأخلاق والسياسة"

raya.com. "عندما يموت المعنى!"

tafahom.mara.gov.om. "book tafahom 45.indb"

...

مقاربة فينومينولوجية

"لا يوجد سوى طريقة واحدة لوجود الوعي، وهي أن يكون واعيًا لوجوده الخاص." - جان بول سارتر

مقدمة:

يُشكّل الوعي الإنساني – كما يُعرّفه الفينومينولوجيا – الشرط الأول لكل تجربة، إذ لا يوجد عالم إلا من خلال ظهوره للذات الواعية. لكن هذا الوعي ليس مرآة محايدة، بل حقلًا مليئًا بالأدوات المضللة (اللغة، الثقافة، التكنولوجيا، الأيديولوجيا) والطرق الوعرة (القلق، الغموض، الجسدية، الموت). المشكلة ليست في الوعي نفسه، بل في كيفية توجيهه بين هذين القطبين: الأدوات التي تُبسّط الوجود وتُخفيه، والطرق التي تُعيدنا إلى أصالة التجربة لكن بثمن باهظ.  تهدف هذه الدراسة إلى تحليل هذه الثنائية من منظور فينومينولوجي، مستندة إلى أعمال هوسرل، هيدجر، ميرلو-بونتي، وسارتر، مع التركيز على الوعي كعملية ديناميكية تتأرجح بين الإغواء بالتبسيط والمواجهة بالتعقيد. المقاربة ليست تحليلية مجردة، بل وصفية-تأويلية تسعى لكشف كيف يُعاش الوعي في هذا التوتر.

الإطار الفينومينولوجي: الوعي كقصدية وكشف

تبدأ الفينومينولوجيا مع هوسرل بمبدأ القصدية: الوعي دائمًا وعي بشيء. لكن هذه القصدية ليست آلية، بل عملية كشف تُعلّق فيها الأحكام الطبيعية للوصول إلى الظواهر كما تُعطى. المشكلة تبدأ هنا: الأدوات المضللة تُدخل طبقات من التأويل المسبق (اللغة، العادات، العلم) تُحجب الظاهرة الأصلية. أما الطرق الوعرة فهي اللحظات التي يُجبر فيها الوعي على مواجهة الغموض الأنطولوجي (هيدجر) أو الجسدية الحية (ميرلو-بونتي).  الوعي، إذن، ليس ملكية، بل حدث مستمر يتأرجح بين الإغلاق (بالأدوات) والانفتاح (بالطرق الوعرة). المشكلة ليست في وجود هذين القطبين، بل في التوازن بينهما.

الأدوات المضللة: الوعي المُغلق في التبسيط

الأدوات المضللة ليست أدوات بالمعنى التقني فقط، بل كل بنية تُحوّل الوعي من كشف إلى إسقاط.

أولاً، اللغة: كما يُظهر هيدجر في الوجود والزمن، اللغة هي "بيت الوجود"، لكنها أيضًا سجن. عندما نُسمّي الشيء، نُختزله إلى مفهوم، فنفقد الوجود الحي. الوعي يُصبح أسير المعاني الجاهزة، فيُرى العالم كـ"موضوع" لا كـ"حدث".

ثانيًا، الثقافة والأيديولوجيا: سارتر في الوجود والعدم يتحدث عن سوء النية أو الفكر الجاد- الوعي الذي يُخدع نفسه بقبول الأدوار الاجتماعية كحقيقة. الأيديولوجيا تُقدّم رواية جاهزة عن "الأنا" و"الآخر"، فتُغلق الوعي عن التساؤل.

ثالثًا، التكنولوجيا: ميرلو-بونتي

في فينومينولوجيا الإدراك يُحذّر من أن الأدوات التقنية تُمدّد الجسد، لكنها قد تُحجبه. في العصر الرقمي، الوعي يُعاش عبر الشاشات، فيُفقد الإحساس بالحضور الجسدي. الخوارزميات تُقدّم عالمًا مُبسّطًا، مُفرغًا من الغموض، فتُضلّل الوعي عن الوجود كمخاطرة.

هذه الأدوات لا تُضلّل بالكذب، بل بالتبسيط المُغري: تُعطي إجابات فورية، فتُعفي الوعي من المواجهة.

الطرق الوعرة: الوعي المُفتتح على الغموض

في المقابل، الطرق الوعرة هي اللحظات التي يُجبر فيها الوعي على مواجهة حدوده.

أولاً، القلق:

هيدجر يُصفه كـ"مزاج أساسي" يكشف عن اللا-شيء. في القلق، تُنهار الأدوات المضللة، ويُدرك الإنسان أن وجوده مُلقى في عالم بلا معنى مُعطى. هذا الكشف مؤلم، لكنه أصيل.

ثانيًا، الجسدية:

ميرلو-بونتي يُظهر أن الوعي ليس فكرًا مجردًا، بل جسدًا حيًا. الطريق الوعر هنا هو الإحساس بالجسد كحدّ: المرض، الإرهاق، الشيخوخة. هذه التجارب تُعيد الوعي إلى الوجود قبل اللغة، حيث لا توجد إجابات جاهزة.

ثالثًا، الموت:

هيدجر يُسميه "الإمكان الأكثر خصوصية". الموت ليس حدثًا مستقبليًا، بل هيكل وجودي يُعطي الوعي إلحاحه. في مواجهة الموت، تُفقد الأدوات المضللة فعاليتها، ويُصبح الوعي مُلزمًا بالاختيار الأصيل.

رابعًا، الآخر:

ليفيناس يُضيف بُعدًا أخلاقيًا: وجه الآخر هو طريق وعر يُقاطع الوعي الذاتي، ويُطالبه بالمسؤولية. ليس الآخر موضوعًا للمعرفة، بل حدثًا يُحطّم الاطمئنان.  هذه الطرق ليست عقابًا، بل دعوة لليقظة: تُعيد الوعي إلى أصالته بكشف الوهم الذي تُنتجه الأدوات.

التوتر الديناميكي: الوعي كتأرجح مستمر

الوعي الإنساني لا يختار بين الأدوات والطرق، بل يُعاش في توترهما.

هوسرل يُسمي هذا التذبذب: الوعي يُغلق بالأدوات ليُبسّط العالم، ثم يُفتتح بالطرق الوعرة ليُعيد اكتشافه.  هذا التوتر ليس عيبًا، بل شرط الوجود الأصيل.

سارتر يُقدّم مثالًا: الإنسان مُحكوم عليه بالحرية، أي أن عليه أن يختار دائمًا بين الفكر الجاد (الأدوات) والاختيار الأصيل (الطرق). لا يوجد وعي "خالص"، بل وعي مُتوتّر يُعيد بناء نفسه في كل لحظة.

نحو فينومينولوجيا اليقظة

المشكلة ليست في الأدوات أو الطرق، بل في النسيان: نسيان أن الأدوات تُضلّل، ونسيان أن الطرق الوعرة هي الطريق إلى الذات. الفينومينولوجيا لا تُقدّم حلًا، بل ممارسة:

تعليق الحكم (epoche): رفض الروايات الجاهزة، سواء كانت لغوية أو تكنولوجية.

الانفتاح على الطرق: قبول القلق، الجسد، الموت، الآخر كـمُعلّمين.

الوصف المستمر: كتابة التجربة كما تُعاش، لا كما تُفسّر.

هذه الممارسة ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية: في عالم يُغرقنا بالأدوات، الطريق الوعر هو الطريق الوحيد للبقاء إنسانًا.

الخاتمة

"الوعي هو الأنا الفينومينولوجي كحزمة أو تشابك للتجارب النفسية" إدموند هوسرل، "تأملات ديكارتية".

مشكلة الوعي الإنساني ليست في نقصه، بل في وفرة إغواءاته. الأدوات المضللة تُعطي راحة زائفة، والطرق الوعرة تُعطي ألمًا حقيقيًا. لكن الفينومينولوجيا تُعلّمنا أن الوعي لا يُكتمل إلا في التوتر بينهما.  في النهاية، الوعي ليس ملكية، بل مسؤولية: مسؤولية أن نُبقي الطرق الوعرة مفتوحة، حتى لو كانت تُؤلمنا. لأن في هذا الألم، فقط، نجد أنفسنا. فبأي معنى نقر بأن "كل وعي هو وعي بشيء ما"؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

...........................

المصادر والمراجع

Husserl, Edmund. Ideen zu einer reinen Phänomenologie.

Heidegger, Martin. Sein und Zeit.

Merleau-Ponty, Maurice. Phénoménologie de la perception.

Sartre, Jean-Paul. L’être et le néant.

Levinas, Emmanuel. Totalité et infini.

يُعيد ماكس شيلر ترتيب خريطة الوعي الفلسفي حين يحرر مجال القيم من قبضة العقل، ويعيده إلى موطنه الأصيل: الوجدان. فالعقل — في تصوره — عاجز عن لمس الجوهر القيمي للأشياء، لأنه بطبيعته أداة تحليل، لا أداة كشف. أمّا الوجدان، فهو البصيرة التي ترى ما وراء الظاهر، إنه “العين الباطنة” التي تبصر القيم كما يُبصر البصر الألوان.

بهذا يطبق شيلر منهج هوسرل الظاهراتي، لا على المعرفة أو المنطق كما فعل أستاذه، بل على الحياة الانفعالية ذاتها، حيث الحدس الوجداني يصبح طريقاً إلى إدراك الماهيات القيمية، إدراكاً مباشراً سابقاً للتجربة، قبليًّا ولكنه ليس عقلياً، بل انفعالياً قبلياً، ينبثق من أعماق الكيان الإنساني لا من سطح الفكر. ولهذا يثور شيلر على الإرث الكانطي الذي جرد العاطفة من معناها، وعدّها امتداداً للنظام السيكو-فيزيائي للإنسان، ففي نظره، هذه الرؤية تجهل البنية القصدية للعاطفة؛ إذ إن الوجدان ليس اضطراباً عارضاً في النفس، بل فعل قصديّ متجه نحو قيمة، لانّ القيمة ليست وليدة العاطفة، بل هي سابقة عليها وجوداً ومنزلة، والعاطفة لا تخلق القيمة، وإنما تكشف عنها كما يكشف الضوء عن شكل الشيء، إن القيم موجودة على نحو مستقل عن وعينا بها، والعاطفة ما هي إلا الوسيلة التي تزيح الغطاء عنها.

ويميز شيلر بدقة بين القيمة والواجب، فالواجب المثالي يستند إلى القيمة، لا العكس، ومن هنا يرفض إقامة الأخلاق على أساس الواجب المعياري الذي يفتقر إلى الجذر القيمي الأصيل، فالقيمة هي الأصل، والواجب فرع عنها، كما أن الوجود القيمي سابق على كل فعل أو أمر أخلاقي، فهو أفق تتجلى فيه إمكانات الفعل الإنساني.

ويرى شيلر أن القيم ليست نسبية، لأن معناها لا يقوم على علاقة أو مقارنة، بل تنتمي إلى فئة “الكيفيات المطلقة” التي لا تتبدل، والذي يتغير هو وعينا بها لا هي نفسها، ونسبيتنا المعرفية لا تمس إطلاقها الوجودي، لانها ثابتة، لكنها تتجلى بدرجات مختلفة في الوعي الإنساني والتاريخي. ومن هنا، يشن شيلر حربًا فكرية على كل نزعة تنسبية، سواء أكانت أخلاقية أم تاريخية، مؤكداً أن القيمة ليست اختراعًا بشريًا ولا نتاجًا للتطور الاجتماعي، بل كيانٌ قبليّ متعالٍ على الزمان.

ويُظهر شيلر حسًّا أنثروبولوجيًا عميقًا حين يطبق الظاهراتية على الإنسان ذاته، فيجعله كائنًا قيمياً قبل أن يكون عقلانياً. فالإنسان — في جوهره — ليس “حيواناً عاقلاً” كما وصفه أرسطو، بل كائن يعي القيم ويعيشها وجدانياً، يستمد منها معنى وجوده ومغزى أفعاله، فكل تغير في الحس القيمي، في الأحكام الأخلاقية، في النظم والعادات، هو تغير في الأفق الإنساني ذاته، لا في طبيعة القيمة، فالقيم خالدة، أما طرائق عيشها فتتبدل بتبدل التاريخ.

وهكذا، حرّر ماكس شيلر الفلسفة من أسر المفاهيم العقلانية الجامدة، وأعاد للوجدان مكانته كمصدر أصيل للمعرفة الأخلاقية، فالقيمة عنده ليست فكرة ولا مبدأ، بل حقيقة تُدرك بالحدس الانفعالي، وكأنها إشراقة تكشف للإنسان عن ما يجب أن يكون، لا بما يُفرض عليه من الخارج، بل بما يستدعيه من عمق ذاته الحرة والواعية.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

تعريف الشر الكامل: المفهوم المحوري هنا هو "الشر الكامل الذي لا يملك دوافع تجميلية". هذا الشر لا يمكن تبريره أو "تجميله" بأي غطاء أيديولوجي، أو منفعة ذاتية حقيقية، أو ضرورة تاريخية مزعومة، تجعله مقبولاً ضمن أي نظام قيمي. هذا التحليل يطرح سؤالاً عميقاً: هل تتسم المنظومات الهيكلية الحديثة للاستغلال بالصراحة التدميرية التي تقاوم أي تفسير عقلاني أو أخلاقي؟

الشر الأداتي والأناني

يُعرّف هذا الشر بأنه فعل يُرتكب كوسيلة لتحقيق منفعة ذاتية خالصة، مثل كسب المال أو السلطة أو النجاة. الضرر الذي يلحق بالآخرين في هذه الحالة يكون عرضياً أو ثانوياً بالنسبة للفاعل، وليس هو الغاية المقصودة. الفرد الأناني يعمل وفقاً لمبدأ: "لا تساعد أحداً؛ بل أضرّ بالجميع إذا كان ذلك يحقق لك ميزة". في هذا السياق، يتم "تجميل" الاستغلال بوصفه كفاءة اقتصادية أو ضرورة للتنافس العالمي.

الشر الجذري

يُفهم "الشر الجذري"، وفقاً لإيمانويل كانط، على أنه انحراف فطري داخل الكيان الإنساني، حيث يتم تبني مبادئ تضع المصلحة الذاتية فوق القانون الأخلاقي. قد ينبع هذا الشر مما سماه كانط "اللا مجتمع الاجتماعي"، أي الصراع النابع من التفاعل الاجتماعي البشري. يظل هذا الشر متجذراً في الإنسانية وقابلاً للفهم ضمن إطار عقلاني، ولكنه يمثل تقويضاً ذاتياً للأساس الأخلاقي.

الشر الخالص

يمثل هذا المفهوم، خاصة لدى شوبنهاور، أعلى درجات الفساد الأخلاقي، حيث يُعرّف بأنه الرغبة في تعاسة الآخرين، وتُعتبر معاناة الآخرين "غاية في ذاتها". يوصف الشخص الخبيث بأنه يسعى إلى إلحاق الضرر بالآخرين دون مصلحة ذاتية مباشرة. هذه اللامبالاة بالذات مقابل هدف إيذاء الآخر تجعل "الشر الخالص" أسوأ أخلاقياً من الأنانية.

الشر الكامل والمجاني

يوصف الشر المطلق غالباً بأنه غير عقلاني أو جنوني، مما يجعل الحكم عليه صعباً وفقاً للمعايير الأخلاقية المنطقية. يمكن قياس تأثيره في الألم والمعاناة البشرية والاضطراب الاجتماعي.

أما "الشر المجاني"، وهو مصطلح لاهوتي مطبّق سياسياً، فيُعرّف بأنه أي شكل من الشر كان يمكن منعه بطريقة تجعل العالم أفضل بكثير. هذا التركيز على غياب الضرورة الأخلاقية الكافية هو ما يربط "الشر المجاني" بـ "الشر الكامل"؛ إذ يفتقر كلاهما إلى التبرير الجوهري أو الهدف الأسمى.

غياب "الغطاء التجميلي"

الغطاء التجميلي في هذا السياق لا يعني بالضرورة الجمال الفني، بل يشير إلى الغطاء الأيديولوجي الذي يُستخدم لتزيين الفعل الشرير. يمكن للفن العظيم أن ينتج عن أناس أشرار، ولا تحمل الجماليات بحد ذاتها أيديولوجيا متأصلة.

الغطاء التجميلي هو استخدام خطاب "التنوير" أو "التقدم" لتبرير الاستغلال الاستعماري القديم، أو استخدام خطاب "الكفاءة" و"المنافسة" لتبرير الجشع الرأسمالي الحديث.

إن تطبيق مفهوم "الشر المجاني" على الأنظمة البشرية هو تحويل للنقد من لاهوتي إلى سياسي. فإذا كان النظام النيوكولونيالي ينتج شراً "كان يمكن منعه وجعل العالم أفضل" (أي أن الديون والفقر المفروضين لا يحققان غاية كبرى، بل يعيقان الخير الأعظم)، فإن هذا الشر يفقد صفة "الأداتي العقلاني" ويصبح مجانياً بالنسبة للإنسانية ككل، رغم أنه يظل أداتياً بالنسبة للطبقة المستفيدة من رأس المال.

النيوكولونيالية كمنظومة للشر الهيكلي

النيوكولونيالية هي السيطرة التي تمارسها دولة (عادةً القوة الاستعمارية السابقة) على دولة أخرى مستقلة اسمياً (المستعمرة السابقة) من خلال وسائل غير مباشرة. هذه الظاهرة، التي صاغها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1956)، واستخدمها كوامي نكروما في الستينيات، تستبدل السيطرة العسكرية المباشرة بآليات الإمبريالية الاقتصادية، والعولمة، والإمبريالية الثقافية، والمعونة المشروطة. جوهر هذه العلاقة هو أن الدولة الخاضعة لها، على الرغم من امتلاكها لجميع مظاهر السيادة الدولية، تُوجّه سياستها الاقتصادية والسياسية فعلياً من الخارج.

المال كـ "شر كامل"

لتحقيق "الشر الكامل" الخالي من التجميل، يجب ربط النيوكولونيالية بالطبيعة الميتافيزيقية للمال الحديث. الشر المطلق قد يوصف بأنه "تسامٍ قائم بذاته خالٍ من الحب أو المعنى أو الهدف، إله بلا إله". النظام المالي النيوكولونيالي يتطابق مع هذا الوصف؛ فهو لا يقدم حكماً أخلاقياً (باستثناء الوعد الزائف بالتنمية)، بل هو "كائن، ضخم وغير مبالٍ، يولد نفسه بلا نهاية" عبر آليات الديون والنمو المتفشي.

لا يتبع هذا النظام منطقاً عقلانياً في المدى الطويل. إن عبادة النظام النقدي - التي تقتل الحياة، وتُدمّر الأنظمة الحيوية، وتقلب الأخلاق - هي الأقرب إلى التعريف الفلسفي للشر الكامل الذي يفتقر إلى المنطق الجوهري. هذا التدمير هو مجاني لأنه يهدد استدامة النظام البيئي العالمي ككل، مما يجعل الفوائد المتحققة قصيرة الأجل وغير عقلانية. النيوكولونيالية هي التعبير الهيكلي لهذا الشر، حيث يُنفّذ الشر الأناني (الجشع) بآليات مبتذلة (البيروقراطية)، ولكنه يستند إلى منطق نظامي خبيث يسعى إلى التدمير المجاني لضمان التسامي المقلوب لرأس المال.

الشر الكامل هيكلية هدفها منع الخير الأكبر

يُظهر التحليل أن "الشر الكامل" في النيوكولونيالية هو شر لامركزي. إنه ليس شراً شخصياً محدداً، بل شراً نظامياً يعمل بالتعاون بين الخباثة الهيكلية (التي تصمم القواعد العالمية لتفضيل الشركات على الشعوب) والابتذال البيروقراطي (الذي يضمن التنفيذ).

استراتيجيات فلسفة الأخلاق للمقاومة والتحرر

بما أن "الشر المجاني" هو الشر الذي كان يمكن منعه، وبما أن النيوكولونيالية هي نظام مصمم بشرياً (قواعد تجارية، مؤسسات مالية)، فإن المقاومة الأخلاقية لديها قوة التحويل السياسي:

الإصرار على التفكير النقدي

الإصرار على "التفكير" هو الحصن الوحيد ضد "التمسك بالقواعد السلوكية المقررة". التفكير النقدي ضروري لمواجهة الشر المبتذل في التنفيذ والشر الكامل في التصميم الهيكلي.

إعادة تعريف السيادة والتبعية

تتطلب المقاومة استعادة السيطرة على الاقتصادات والموارد الوطنية والمحلية، وضمان اتخاذ القرارات على المستوى المحلي الأنسب. هذا التفكيك للتبعية النيوكولونيالية يسمح للشعوب ببناء مفاهيمها الخاصة عن الحُسن والعدالة.

نقض الخطاب التجميلي

يتم تجميل الاستغلال بخطاب "التنمية" النيوليبرالي، لكن النتائج الملموسة هي تدمير الأنظمة الحيوية والانقلاب الأخلاقي (تحويل الرذائل إلى فضائل)، مما يثبت أن الغطاء التجميلي زائف ومُهدِّم للحياة.

محاربة الخباثة النظامية

على الرغم من أن التنفيذ يتم عبر أفراد يمارسون الشر المبتذل، فإن قواعد اللعبة العالمية مصممة بنية خبيثة تهدف إلى منع التحرر السياسي والاقتصادي للدول المستقلة.

إن التحدي الأخلاقي ليس مجرد إدانة الأفعال، بل الاعتراف بأن الشر النظامي للنيوكولونيالية هو شر نظامي، وليس مجرد سوء تقدير. هذا الاعتراف يتطلب تحويل النقد الفلسفي إلى جدول أعمال سياسية تهدف إلى استبدال المؤسسات الفاشلة بنظام عالمي يعتمد على الديمقراطية والمساءلة، ويُعلي من قيمة الحياة والعدالة فوق متطلبات النمو النقدي المجرد.

***

غالب المسعودي

.....................

المراجع

beigemoth. blog. Aesthetics and Evil - The Beige Moth

cambridge.org. Gratuitous evil and divine providence | Religious Studies | Cambridge Core

fount.aucegypt.edu. “The Principles of Islamic Moral Philosophy and the Possibility of Re-C” by Muhammad Feteha - AUC Knowledge Fountain - The American University in Cairo

iep.utm.edu. Kant, Immanuel: Radical Evil | Internet Encyclopedia of Philosophy

orca.cardiff.ac.uk. “The poison in the snake's fang”: Schopenhauer on malice

peped.org. Absolute Evil - Philosophical Investigations - PEPED

trendsettercase.wordpress.com. God, Gratuitous Evil, and The Murderous Goose - Parker's Pensées

 

الفرق الدلالي والاجرائي

"الوضع البشري هو المصطلح الوحيد الذي يجب أن ننطلق منه، وإليه يجب أن نعود بكل شيء"

الوضع البشري هو مفهوم فلسفي وعلمي مركزي يُعنى بدراسة طبيعة الوجود البشري، بما يشمل تجاربه، سلوكياته، وتفاعلاته. يتناول كل من علم الاجتماع (السوسيولوجيا) وعلم النفس (البسيكولوجيا) هذا المفهوم من زوايا مختلفة، مما يولد اختلافات دلالية (في المعنى والمفاهيم) وإجرائية (في المنهجيات والتطبيقات). تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الفرق بين التناول السوسيولوجي والتناول البسيكولوجي للوضع البشري من خلال مقارنة دلالية وإجرائية، مع التركيز على الإطار النظري، المنهجيات المستخدمة، والتطبيقات العملية. فماهي احوال الوضع البشري؟ كيف يتم تناول الوضع البشري من جهة السوسيولوجيا والبسيكولوجيا؟ مادا يترتب عن هذا التناول؟ وماهو الفرق الدلالي والاجرائي بينهما؟

الفرق الدلالي

التناول السوسيولوجي

علم الاجتماع يركز على الوضع البشري من منظور جماعي، حيث يُنظر إلى الفرد كجزء من نسيج اجتماعي أوسع. يُعرّف الوضع البشري في هذا السياق من خلال التفاعلات الاجتماعية، الهياكل الاجتماعية (مثل الطبقات، المؤسسات، والثقافات)، والسياقات التاريخية والثقافية التي تشكل سلوك الفرد وهويته. على سبيل المثال: المفاهيم الأساسية: التنشئة الاجتماعية، السلطة، الثقافة، والدور الاجتماعي.

المنظور: يرى السوسيولوجيون أن الوضع البشري مشروط بالبيئة الاجتماعية، حيث تؤثر العوامل الخارجية مثل القوانين، الأعراف، والمؤسسات في تشكيل السلوك البشري.

مثال تطبيقي: دراسة تأثير العولمة على الهوية الثقافية لمجتمع معين.

التناول البسيكولوجي

على النقيض، يركز علم النفس على الفرد كوحدة تحليل أساسية، مع التركيز على العمليات الذهنية الداخلية مثل الإدراك، العواطف، والدوافع. يُعرّف الوضع البشري هنا من خلال التجربة الفردية، الوعي الذاتي، والعوامل النفسية التي تؤثر على السلوك. على سبيل المثال:

المفاهيم الأساسية: الشخصية، الدافعية، الإدراك، والصحة النفسية.

المنظور: يرى علماء النفس أن الوضع البشري يتشكل من خلال التجارب الشخصية، العمليات العقلية، والاستجابات الفردية للمحفزات الخارجية.

مثال تطبيقي: دراسة تأثير القلق على اتخاذ القرار لدى الأفراد.

مقارنة دلالية

التركيز: السوسيولوجيا تركز على "الجماعة" وتأثيرها على الفرد، بينما البسيكولوجيا تركز على "الفرد" وتجربته الداخلية.

السياق: التناول السوسيولوجي يعتمد على السياق الاجتماعي والثقافي، بينما التناول البسيكولوجي يعتمد على العوامل الداخلية والفردية.

المفاهيم: المفاهيم السوسيولوجية تتعلق بالهياكل والعلاقات الاجتماعية (مثل السلطة والطبقة)، بينما المفاهيم البسيكولوجية تتعلق بالعمليات الذهنية (مثل الإدراك والعاطفة).

الفرق الإجرائي

المنهجيات السوسيولوجية

تعتمد السوسيولوجيا على منهجيات تهدف إلى فهم الظواهر الاجتماعية على مستوى الجماعة، وتشمل: الدراسات النوعية: مثل الإثنوغرافيا، المقابلات المتعمقة، وتحليل الخطاب لفهم ديناميكيات المجتمع.

الدراسات الكمية: مثل الاستبيانات، تحليل البيانات الإحصائية، ودراسات الحالة لقياس الظواهر الاجتماعية.

المنهج النظري: الاعتماد على نظريات مثل الوظيفية البنائية (بارسونز)، الصراعية (ماركس)، أو التفاعلية الرمزية (ميد).

مثال إجرائي: تحليل تأثير الفقر على التعليم من خلال دراسة إحصائية لمعدلات التسرب المدرسي في مجتمع معين.

المنهجيات البسيكولوجية

تعتمد البسيكولوجيا على منهجيات تركز على الفرد وعملياته النفسية، وتشمل:

الدراسات التجريبية: مثل التجارب المعملية لقياس الاستجابات النفسية أو السلوكية.

الدراسات السريرية: مثل تحليل الحالات الفردية لفهم اضطرابات الصحة النفسية.

المنهج النظري: الاعتماد على نظريات مثل التحليل النفسي (فرويد)، السلوكية (سكينر)، أو الإنسانية (روجرز).

مثال إجرائي: دراسة تأثير الضغط النفسي على الأداء الأكاديمي باستخدام تجربة معملية تقيس مستويات الكورتيزول.

مقارنة إجرائية

وحدة التحليل: السوسيولوجيا تدرس الجماعات أو المؤسسات، بينما البسيكولوجيا تدرس الفرد.

الأدوات: السوسيولوجيا تستخدم أدوات مثل الاستبيانات الواسعة النطاق والتحليل الإحصائي، بينما البسيكولوجيا قد تستخدم التجارب المعملية أو الاختبارات النفسية.

النتائج: النتائج السوسيولوجية غالبًا ما تكون تعميمات على مستوى المجتمع، بينما النتائج البسيكولوجية تكون خاصة بالفرد أو مجموعات صغيرة.

التطبيقات العملية

التناول السوسيولوجي

" إن تقبُّل مخاطر الحياة الحتمية هو ما يجعل الحالة الإنسانية نبيلة."

تُستخدم الدراسات السوسيولوجية في تصميم السياسات العامة، تحليل التغيرات الاجتماعية، وفهم ديناميكيات السلطة. على سبيل المثال، دراسة تأثير الهجرة على التكامل الاجتماعي.

الأثر: تساهم في تغيير الهياكل الاجتماعية أو تحسين العلاقات بين الجماعات.

التناول البسيكولوجي

تُستخدم في العلاج النفسي، تحسين الأداء الفردي، وفهم الاضطرابات النفسية. على سبيل المثال، تطوير برامج علاجية للقلق أو الاكتئاب.

الأثر: تساهم في تحسين الصحة النفسية الفردية ورفاهية الأفراد.

التكامل بين التناولين

رغم الاختلافات، هناك إمكانية للتكامل بين التناول السوسيولوجي والبسيكولوجي. على سبيل المثال: علم النفس الاجتماعي: يجمع بين المنظورين لدراسة كيفية تأثير البيئة الاجتماعية على العمليات النفسية الفردية.

الدراسات متعددة التخصصات: مثل دراسة تأثير الفقر (سوسيولوجي) على الصحة النفسية (بسيكولوجي).

مثال تطبيقي: تحليل تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الشعور بالوحدة، حيث يُدرس السياق الاجتماعي (مثل ثقافة التواصل) والعمليات النفسية (مثل الشعور بالانتماء).

خاتمة

" إن الوضع البشري يمكّننا من مشاركة أفضل ما فينا فقط، لأننا نسعى دائمًا إلى الحب والقبول."

الفرق بين التناول السوسيولوجي والتناول البسيكولوجي للوضع البشري يكمن في التركيز الدلالي والإجرائي. السوسيولوجيا تركز على الجماعة والهياكل الاجتماعية باستخدام منهجيات واسعة النطاق، بينما البسيكولوجيا تركز على الفرد والعمليات النفسية باستخدام منهجيات دقيقة وتجريبية. مع ذلك، يمكن للتكامل بين المنهجين أن يوفر فهمًا أعمق للوضع البشري، مما يعزز التطبيقات العملية في مجالات مثل السياسات العامة والعلاج النفسي. كيف يمكن تطوير الوضع البشري من التشتت والتأزم الى التألق والاشعاع؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

بقلم: سوزان هاك

ترجمة: د. ابراهيم طلبه سلكها - 2025م

العنوان الأصلى للمقال

Philosophy as a Profession, and as a Calling

Susan Haack

***

الملخص:

لم تكن الفلسفة دائمًا، كما هي اليوم، تخصصًا أكاديميًا يُمارس في الجامعات والكليات. وقد يظن المرء — كما تشير هاك — أن مأسسة الفلسفة واحترافها يعني أن إنتاجها أصبح أكثر وأفضل؛ لكنها تواصل قائلةً، للأسف، إن الأمر ليس كذلك. في هذا المقال، تستكشف هاك الاختلاف بين ممارسة الفلسفة بوصفها مهنةً أو وظيفة، وبين ممارستها بوصفها دعوةً أو رسالة، وتوضح الأسباب التي تجعل أولئك الذين يرون في الفلسفة أكثر من مجرد عملٍ مهني يجدون أنفسهم على خلافٍ مع القيم “الإدارية” التي تهيمن على المهنة الأكاديمية.

الكلمات المفتاحية: الفلسفة، المهنة، الرسالة، الهاوي، العمل، القيم.

الملخّص بالايطالية:

لم تكن الفلسفة دائمًا، كما هي اليوم، مجالًا أكاديميًا يُمارس أساسًا في الجامعات والكليات. قد يُظن — كما تقول هاك — أن احتراف الفلسفة يعني ليس فقط إنتاجًا أكثر، بل أيضًا إنتاجًا أفضل؛ غير أنّها تتابع قائلةً: للأسف، ليس الأمر كذلك. في هذا المقال، تتناول هاك الاختلاف بين التفلسف بوصفه مهنةً أو عملًا، والتفلسف بوصفه دعوةً أو رسالة، وتبيّن الأسباب التي تجعل أولئك الذين يرون في الفلسفة أكثر من مجرد عملٍ مهني يميلون إلى الاصطدام بـ القيم “الإدارية” السائدة في المهنة.

الكلمات المفتاحية: الفلسفة، المهنة، الرسالة، الهاوي، العمل، القيم.

«إن الطبيعة الفلسفية […] ستنمو لا محالة لتتحلّى بكل فضيلة إذا ما تلقت التعليم الملائم؛ أمّا إذا زُرعت وغُرست ونَمَت في بيئة غير مناسبة، فإنها ستتطور على النقيض تمامًا…»(1)

لكن، لِيستسلِم من يشاء لفصل هذين الأمرين،أمّا غايتي في الحياة فهي أن أوحّد مهنتي وهوايتي،كما تتّحد عيناي لتُبصِرا معًا رؤيةً واحدة.فحيثما يلتقي الحبّ بالحاجة،ويغدو العمل لعبًا من أجل رهانٍ بشريّ،حينها فقط يُنجَز الفعل حقًّا،من أجل السماء ومن أجل المستقبل.(2)

المقدمة

بالطبع، لم تكن الفلسفة دائمًا مهنةً أو تخصّصًا أكاديميًا يُمارَس أساسًا في الجامعات والكليات. فقد نال رينيه ديكارت(1596- 1650) –  درجةً في القانون المدني والكنسي، غير أنّه بدلًا من ممارسة المحاماة التحق عام 1618 متطوّعًا بجيش موريس ناساو، ثم لاحقًا بجيش ماكسيميليان البافاري. وفي أواخر عام 1646 بدأت الملكة كريستينا السويدية مراسلاتٍ معه أدّت في النهاية إلى انتقاله إلى السويد عام 1649 برعايتها الملكية.(3) أما بندكت باروخ  سبينوزا(1632-1677) , فقد رفض مناصب تدريس مرموقة، واختار بدلًا من ذلك أن يقتات من عمله في صقل العدسات للأدوات البصرية، متعاونًا في تصميماتها مع كريستيان هويغنس. وقد أدّت أفكاره الفلسفية إلى نبذه من قِبل طائفته اليهودية، ووُضع كتابه الأخلاق (4) على فهرس الكتب الممنوعة التابع للكنيسة الكاثوليكية.(5)

أما جون لوك(1632-1704) ، فقد تلقّى تدريبًا في الطب، ثم عُيّن لاحقًا طبيبًا خاصًا لكفيله أنتوني آشلي كوبر، أوّل إيرل لشافتسبري.(6) في حين كان جورج باركلي(1685-1753)  الابن الأكبر لـ ويليام باركلي، وهو نبيل أنجلو-إيرلندي من الدرجة الصغرى. بعد أن ألقى محاضراتٍ في اللاهوت واللغة العبرية في كلية ترينيتي بدبلن، نال في عام 1721 الرتبة الكنسية، ثم عُيّن عميدًا على درومور(1721-1722)، وبعدها على ديري (1724).   وفي عام 1723 تلقّى ميراثًا من إيستر فان هويمريخ، وتزوّج عام 1728 وسافر إلى أمريكا، قبل أن يعود عام 1732. وفي عام 1735 عُيّن أسقفًا أنجليكانيًا على كلون.(7)

كان ديفيد هيوم) ١٧١١–١٧٧٦ (الابن الثاني في عائلته، وكانت وراثته ضئيلة؛ لذلك انتقل إلى فرنسا حيث كان يمكنه العيش بتكلفة أقل، وهناك بدأ – في سن الثالثة والعشرين – في كتابة مؤلفه الشهير مبحث في الطبيعة البشرية.وفي عام ١٧٤٥ قبل وظيفة مُربيٍ لشابٍ من النبلاء، غير أنّ هذا الأخير تبيّن أنه مجنون؛ فترك العمل بعد عامٍ واحد ليصبح في ١٧٤٦ سكرتيرًا لابن عمه، الفريق جيمس سانت كلير، ورافقه لاحقًا في بعثة دبلوماسية إلى النمسا وإيطاليا.وبين عامي ١٧٥٤ و١٧٦٢ عمل أمين مكتبة في جمعية المحامين في إدنبرة، ثم أصبح سكرتيرًا للسفارة البريطانية في باريس، قبل أن يتقاعد في إدنبرة عام ١٧٦٩.(8) أما توماس ريد (١٧١٠–١٧٩٦) فقد كان قسًّا في الكنيسة الأسكتلندية حتى عام ١٧٥٢، حين أصبح أستاذًا في كلية كينغز بأبردين. وبعد نشر كتابه الأول بوقت قصير، عُيِّن أستاذًا للفلسفة الأخلاقية في جامعة غلاسكو، وهو المنصب الذي كان يشغله من قبل آدم سميث.(9)

كان جون ستيوارت مل (١٨٠٦–١٨٧٣) إداريًّا استعماريًّا في شركة الهند الشرقية منذ عام ١٨٢٣ حتى عام ١٨٥٨، كما شغل عضوية البرلمان عن منطقتي سيتي ووستمنستر من عام ١٨٦٥ إلى ١٨٦٨، وهي الفترة التي كان فيها أيضًا المدير الأعلى (اللورد ريكتور) لجامعة سانت أندروز.(10) أمّا تشارلز ساندرز بيرس (١٨٣٩–١٩١٤)، فباستثناء بضع سنوات عمل فيها محاضرًا في جامعة جونز هوبكنز، فقد أمضى معظم حياته المهنية عالِمًا في هيئة المسح الساحلي الأمريكية، إلى أن استقال عام ١٨٩١ وانتقل للعيش من إرثٍ تركه له والده، عالم الرياضيات بنجامين بيرس.(11)أما فريدريش نيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠)، فقد كان يُدرّس – لا الفلسفة – بل فقه اللغة الكلاسيكي في جامعة بازل من عام ١٨٦٩ إلى ١٨٧٩، واضطر إلى الاستقالة من مهامه الأكاديمية بعدما اكتشف أنه لا يستطيع استعمال عينيه لأكثر من عشرين دقيقة يوميًّا. غير أنه، وبفضل معاشٍ تقاعدي من الجامعة ودعم من الجمعية الأكاديمية التطوعية في مدينة بازل، بدأ بكتابة أهم أعماله الفلسفية. وفي عام ١٨٨٩ أصيب بانهيارٍ جسديٍّ تام، لكنه عاش حتى وفاته بسكتة دماغية عام ١٩٠٠ .(12)

أما جوتلوب فريجه (١٨٤٨–١٩٢٥)، فقد كان يُدرّس – لا الفلسفة – بل الرياضيات في جامعة يينا، وقد عاش في بدايات حياته المهنية على منحٍ دراسية غير مدفوعة الأجر أو زهيدة الأجر، واضطر إلى الاعتماد على إعالة والدته.(13) في حين عاش جيريمي بنتام على إرثٍ تركه له والده، جيرماياه بنثام، الذي كان محاميًا ناجحًا للغاية.(14) في الأزمنة الأحدث، طُرِد برتراند راسل (١٨٧٩–١٩٧٠) من منصبه في كلية ترينيتي بجامعة كامبريدج بعد أن أُدين وحُكم عليه بالسجن بموجب قانون الدفاع عن المملكة بسبب موقفه السلمي المعارض للحرب العالمية الأولى. وبعد ذلك، وفّر له كتابه الشهير تاريخ الفلسفة الغربية (١٩٤٥)(15) دخلًا ثابتًا ومضمونًا مدى الحياة.(16) أما لودفيغ فيتجنشتين (١٨٨٩–١٩٥١) – الذي كان جنديًّا متطوعًا في الجيش النمساوي-المجري أثناء الحرب العالمية الأولى – فقد عمل بستانيًّا ومعلّمًا في المدارس قبل أن يعود إلى جامعة كامبريدج عام ١٩٢٩ .(17)

ومع ذلك، في الوقت الحاضر، فإن الغالبية العظمى من الفلاسفة هم أساتذة أو محاضرون في مؤسسات أكاديمية. نعم، هناك أيضًا فئة من «الباحثين المستقلين»، ولكن كثيرين منهم، على الأقل، هم أشخاص لم ينجحوا في الحصول على وظيفة أكاديمية. ونعم، هناك عدد غير قليل ممن يشغلون مناصب في أقسام الفلسفة ربما لا يرون أنفسهم فلاسفة بالمعنى الحقيقي، بل مجرد معلّمين للفلسفة، دون ادّعاء أو طموح لأن يكونوا فلاسفة بحق.

ومع ذلك، توجد استثناءات نادرة — مثل الفيلسوف الراحل روجر سكروتون، الذي غادر الوسط الأكاديمي بعد عدة عقود، وبدأ يعتمد على نفسه في المعيشة، على ما يبدو، من خلال العمل في الاستشارات لصالح عدد من الشركات في دول الكتلة السوفيتية السابقة، ثم لصالح شركات التبغ، وكذلك من خلال عمله مع مراكز الأبحاث الفكرية، وغير ذلك(18) — لكن، باستثناء هذه الحالات القليلة، يمكن القول إن الفيلسوف في أيامنا هذه هو في الغالب أستاذٌ للفلسفة.

***

قد يخطر ببالك أن هذا يعني أن إنتاج الفلسفة اليوم أكثر، وأن بعضه — على الأقل — أفضل مما كان عليه في الأزمنة السابقة؛ فها نحن الآن أمام آلاف الأشخاص الذين يعملون في هذا المجال، لا بضع مئات فقط، ودون خوفٍ من عقوباتٍ رسمية بسبب الهرطقة أو المعارضة السياسية(19)، ومعظمهم لا يثقلهم كثير من الواجبات الأخرى، بل ويتقاضون أجورًا معقولة.لكن الواقع ليس كذلك؛ بل هو على العكس تمامًا. (وأحيانًا أتساءل إن كان جزءٌ من المشكلة يكمن ببساطة في أن المهنة قد أصبحت واسعةً أكثر مما ينبغي(20) — فشملت، لا محالة، عددًا كبيرًا من أولئك الذين لا يعنيهم من عملهم سوى قضاء الوقت).

وعلى أيّ حال، فإنّ ما نراه في الواقع هو كميات هائلة من الكتابات المنشورة، وأعداد لا تُحصى من الأوراق البحثية المقدَّمة، إلى جانب مهنةٍ باتت مفرطة التخصّص، وحقلٍ فكريٍّ متشظٍ إلى جماعاتٍ صغيرة وإقطاعياتٍ فكرية؛ وسلسلةٍ من النزعات العابرة والاتجاهات المؤقتة؛ وجبالٍ من الدوريات، تصدر كثيرٌ منها عن عددٍ قليل من الشركات التجارية العملاقة — بينما تُزاح الأعمال الجيّدة أو تُغمر وسط الضجيج.وبدل أن نرى أشخاصًا سعداء، شاكرين لكونهم يمارسون عملًا شيّقًا ومليئًا بالتحديات، نرى عددًا كبيرًا منهم يعانون القلق والاكتئاب أو الإرهاق وفقدان الطاقة بعد حصولهم أخيرًا على التثبيت الأكاديمي (التنّور)، أو نراهم في حالٍ من النشاط المحموم، كأنهم عاجزون عن التوقف عن إنتاج المواد الهزيلة التي أوصلتهم إلى تلك المرحلة.

ومن هنا يتحدد موضوعي في هذا المقام: الفرق بين الفلسفة بوصفها مهنةً أكاديمية، والفلسفة بوصفها نداءً أو رسالة — لا بمعناها الديني، بل بالمعنى الذي نصف به مثلًا مهنة التمريض على أنها (بالنسبة لبعضهم) رسالةً أو دعوةً.وهذا التمييز يتجاوز الفارق التقليدي بين "المحترف" و"الهاوي". فكلٌّ من الهاوي وصاحب الرسالة الفلسفية سيواصل الاشتغال بالفلسفة حتى لو لم يُدفَع له أجر لقاء ذلك. غير أنّ مصطلح «الرسالة» كما أستخدمه هنا لا يحمل أيًّا من الدلالات السلبية التي اكتسبها لفظ «هاوٍ» — أي الإيحاء بمرتبةٍ أدنى، كمن يلعب في «دوريٍّ ثانويٍّ» لا في «الدوريّ الممتاز».وحين أتحدث عن أولئك الذين يملكون رسالةً فلسفية، أعني الذين يمارسون الفلسفة بجدٍّ وصدق، ويسعون حقًا إلى فهم الأمور على نحوٍ عميق، حتى لو لم يتقاضَوا أجرًا على ذلك. ومثالٌ واضحٌ على ذلك هو تشارلز ساندرز بيرس، الذي واصل عمله الدؤوب والمنتج في الفلسفة والمنطق والسيميائيات وتاريخ العلوم، قبل أن تطرده جامعة هوبكنز بزمنٍ طويل، واستمر على ذلك المنهج عقودًا بعدها.

وبطبيعة الحال، فإن الفلسفة بالنسبة إلى قلةٍ منّا تُعد في آنٍ واحد مهنةً ورسالة. غير أنّ هذا، كما سأبيّن، يتركنا في كثيرٍ من الأحيان ممزقين بين قيمٍ متعارضة وطموحاتٍ متباينة. ذلك أنّ ممارسة الفلسفة بنجاح — وأعني بها إحراز تقدمٍ في مسألةٍ أو أكثر، أو حتى الوقوع في خطأ صادقٍ يمكن أن يتيح للآخرين فيما بعد أن يُحسنوا التقدّم — تتطلّب مهاراتٍ مختلفة اختلافًا جوهريًا، ومزاجًا مختلفًا، ومواقف مغايرة عمّا يتطلّبه النجاح في مهنة الفلسفة ذاتها، أو في وظيفة أستاذٍ جامعيّ.فإن الطموح الجوهري للفيلسوف هو اقتحام حصن المعرفة، أو على الأقل — كما يقول بيرس — أن يكون أحد الجثث التي تتسلّق فوقها الأجيال اللاحقة في طريقها إلى الحقيقة.(21) ومن الجليّ أن هذا ليس هو الطموح الأساسي لمن يسعى إلى النجاح في المهنة الفلسفية اليوم. إن «الطبيعة الفلسفية» التي يتحدث عنها أفلاطون تُصغي إلى النداء، غير أنها يسهل فسادها إذا وُجدت في بيئةٍ رديئة.

لا تفهمني على نحوٍ خاطئ: لست أقول إنّ أولئك الذين يعدّون الفلسفة نداءً أو رسالةً يؤدّون دائمًا، أو بالضرورة، عملًا أفضل في تطوير الفهم الفلسفي من أولئك الذين يتعاملون معها كمهنةٍ فحسب — فليس الأمر كذلك. فحتى أكثر المخلصين تفانيًا قد يُضيعون وقتهم في طرقٍ مسدودة، كما أن أكثر "المحترفين" تشككًا أو برودًا قد يصيبون أحيانًا شيئًا بالغ القيمة.ولست أقول أيضًا إنّ من يتخذ الفلسفة مجرد وظيفة لا يمكنه أن يكون جادًا تمامًا في عمله، أي أن يسعى بصدقٍ إلى معرفة حقيقة المسائل التي تشغله. غير أنه سيتوقف عن العمل على تلك المسائل متى كُفّ عن دفع الأجر له لقاء ذلك، ولن يُعنى كثيرًا عمّا إذا كانت تلك المسائل لا تتعدّى كونها إشكالاتٍ ثانويةً أو جزئية.

ولست أقول أيضًا إنّ من المستحيل البقاء — فضلًا عن الازدهار — في مهنتنا مع الاستمرار في القيام بعملٍ فلسفيٍّ جادٍّ وأصيل؛ غير أنّ ما أقوله هو أنّ ذلك بالغ الصعوبة — أشدُّ صعوبةً مما ينبغي، أو مما كان سيكون عليه الحال لو كانت مهنتنا، وجامعاتنا عمومًا، أكثر توجّهًا نحو حياة الفكر مما هي عليه الآن.

وسأبيّن أنّ هناك توترًا حقيقيًا بين ما يمكن أن أسمّيه، في غياب مصطلحٍ أفضل، «القيم والأهداف الإدارية» لتلك المؤسسات، وبين القيم الفكرية أو المعرفية للباحث الحقيقي عن الحقيقة.

سيبدأ هذا البحث ببيان تلك القيم والأهداف المتعارضة، ثم يتابع ببعض التأملات حول السبب الذي يجعل — كما رأى أفلاطون — المزاج الفلسفي قابلًا للفساد بسهولةٍ في بيئةٍ غير ملائمة.(22)

أولا: أبدأ بمخططٍ تمهيدي — وأخشى أن يكون أشبه بمرثيةٍ نقدية — عن الحالة الراهنة لمهنتنا.

حدث انفجار في عدد المنشورات، وتكوُّن الشِلَل والاتحادات الاحتكارية، وتراجع في الجودة: فكتالوجات الكتب لدى الناشرين تزداد سُمكًا عامًا بعد عام، ولكن دون أن يعود ذلك بالنفع على التقدُّم الفلسفي. فالكثير من هذه الكتب لا تُباع منها سوى بضع مئات من النسخ في أحسن الأحوال – وربما أقل من ذلك في حالة الكتب المنشورة بطريقة "الطباعة عند الطلب"(23) – وغالبًا ما تُطرح بأسعار مرتفعة إلى حدٍّ لا تستطيع سوى قلّة من المكتبات تحمّله.

وقد حدث كذلك انفجارٌ هائل في عدد المجلات – بعضها، ولحسن الحظ، ما يزال مستقلًّا – لكن كثيرًا منها بات الآن مملوكًا لتلك الدور التجارية العملاقة: سبرينجر (Springer)، إلسيفيير (Elsevier)، دي جرويتر (de Gruyter)، تايلور وفرانسيس (Taylor & Francis)، وغيرها، بل وحتى أوكسفورد وكامبريدج. تصدر هذه الدور آلاف المقالات، غير أن معظمها لا يُقرأ (وبحقٍّ)، أو لا يقرؤه إلا الأعضاء أنفسهم من الدائرة الضيقة ذاتها من المتخصصين الذين يكتبونها ويقيّمونها، في حين يدور عدد كبير منها حول موضوعات عابرة وهزيلة مثل نقد (X) لتفسير (Y) لتعليق (Z) على   . (W)(24)

تُباع اشتراكات هذه المجلات للمكتبات بأسعار باهظة للغاية، ويُبرَّر هذا الثمن بأن محتواها قد خضع لمراجعة من قِبل الأقران؛ غير أنّ ما إذا كانت هذه المراجعة تُعَدّ ضمانًا حقيقيًا للجودة، أو حتى لمستوىٍ أدنى من الكفاءة، فهو أمر مشكوك فيه للغاية(25).والواقع أنّ الطوفان المتزايد من المقالات المقدَّمة للنشر، ولا سيما من طلبة الدراسات العليا الذين يأملون أن يساعدهم ذلك في الحصول على عمل، قد أصبح طاغيًا إلى درجةٍ تفوق قدرة المجلات على الاستيعاب؛ ونتيجةً لذلك يُضطر المحررون إلى الاعتماد على محكّمين قد لا يعرفونهم أصلًا، وغالبًا ما يكونون بعيدين عن الكفاءة المطلوبة. بل لقد أُخبِرتُ أنّ بعض المحررين يكلّفون طلابهم الخريجين بتقرير أيّ الأوراق تُحال إلى التحكيم وأيّها تُرفَض مباشرةً – وهو أمر، في رأيي، غير لائق البتّة.والنتيجة الحتمية لذلك هي نشوء اتحادات احتكارية بين المحكّمين والمراجعين، وهو ما يعزّزه بدوره مظهرٌ مقلق آخر في مهنتنا: فرطُ التخصص والتجزؤ.

حتى أسلوب الكتابة الفلسفية نفسه أصبح أكثر توحّدًا، وأكثر تشابهًا ورتابة، وأقلّ انخراطًا في الفكر الحي. فمعظم ما يُنشر اليوم مكتوبٌ، على الأرجح، بلغةٍ إنجليزية أو ألمانية دوليةٍ صحيحةٍ إلى حدٍّ ما — أو يُعاد تحريره لتوحيد الأسلوب إن لزم الأمر (وغالبًا ما يتولى ذلك موظفون لا يملكون أدنى فهمٍ للموضوعات المطروحة). وقد بلغ الأمر حدًّا صار فيه الأسلوب الجاف الخالي من الحيوية هو القاعدة السائدة، حتى إنّ من يكتب بأسلوبٍ حيٍّ فعلاً، أو بإحساسٍ إيقاعي بلغةٍ إنجليزيةٍ راقية(26)، يُربك بعض القرّاء تمامًا.فعلى سبيل المثال، أصبحت الاختصارات اللغوية من المحظورات الكبرى، وصار يُفرض نمطٌ أسلوبيّ قاتم — وغالبًا ما يكون مضلِّلًا فلسفيًا وتاريخيًا — يعتمد على أسلوب الإحالات الاجتماعية-العلمية بالأسماء والتواريخ وأرقام الصفحات بين قوسين. ومع ذلك، نادرًا ما يشكو أحد، إذ يبدو أن النشر قد أصبح في الغالب مجرّد إجراءٍ شكلي؛ فمعظم الكتّاب اضطروا للتنازل عن جميع حقوقهم في أعمالهم إلى دار أكسفورد، أو سبرينغر، أو غيرها، دون أن تكون لهم أي وسيلةٍ لمعرفة ما سيؤول إليه مصير كتبهم بعد النشر.

هل هناك أعمال جيدة بين هذا الركام من الرداءة؟ على الأرجح نعم. وهل هناك أعمال مهمة فعلًا؟ ربما. لكن من المؤكّد أن بعض الأعمال الجيدة تُرفض لأنها لا تواكب الأدبيات الرائجة المعاصرة بما فيه الكفاية، وأن بعض الأعمال المهمة تُرفض لأنها غير تقليدية أكثر مما ينبغي. واحتمال أن يعثر أحدٌ على أفضل الأعمال ضئيلٌ بطبيعة الحال، لأن الطوفان الهائل من المقالات القابلة للنسيان يغمر كل شيء.وبدلًا من البحث الحقيقي، يعتمد كثيرون على متابعة أعمال من ينتمون إلى دائرتهم الضيقة، أو من «الأسماء الكبيرة» — أي أولئك المنتمين إلى أقسام أكاديمية ذات تصنيف عالٍ، أو الذين اشتهروا بحصولهم على منحٍ ضخمة، أو من يثيرون ضجةً كبيرة على الإنترنت. وهكذا نعتمد، في نهاية المطاف، على مقاييس بديلةٍ زائفة لتقدير الجودة.

الاختصاص المفرط والتشظّي: حين بدأتُ قبل عقود، كانت الأقسام الأكاديمية تضمّ بلا شكّ متخصصين في الفلسفة القديمة، وتاريخ الفلسفة، والمنطق، ونظرية المعرفة، والميتافيزيقا، وفلسفة العلوم، وما إلى ذلك؛ غير أنّ هذه كانت مجالات واسعة لا زوايا ضيّقة، وكان جميع العاملين فيها يبدون اهتمامًا مطّلعًا ومعقولًا بمجالات أخرى أيضًا.أما اليوم، فنرى عددًا متزايدًا من الباحثين المتخصصين في موضوعاتٍ دقيقة للغاية مثل فلسفة أرسطو في الذهن، أو فكرة “التحليل القبلي–البَعدي” لدى كانط وكريبكه، وعددًا أقل من المهتمين بفتراتٍ تاريخيةٍ واسعة من تاريخ الفلسفة. ونرى كذلك تزايدًا في عدد المتخصصين في فروعٍ جزئية مثل نظرية المعرفة الاجتماعية، أو النسوية، أو الصورية، أو فضائل المعرفة، أو نظرية المعرفة التطورية، أكثر مما في نظرية المعرفة العامة نفسها؛ كما نرى تخصصاتٍ أدقّ في فلسفة الفيزياء، أو فيزياء الكم، أو فلسفة الأحياء، أو الأحياء التطورية، أو حتى في الفلسفة النسوية للعلم، أكثر مما في فلسفة العلم بوجهٍ عام — ليغدو لدينا مزيدٌ من المتخصصين في مجالاتٍ تزداد ضيقًا يومًا بعد يوم(27).

هناك وفرة من الشِلَل والتحالفات والاتجاهات العابرة والموضات الفكرية المؤقتة. وإضافةً إلى ذلك، فإنّ النقاشات الدائرة في هذه الزوايا الضيقة باتت أقصر عمرًا من أي وقتٍ مضى، إذ إنّ الأسئلة التي كانت يومًا ما رائجة تختفي ببساطة من المشهد حين يسأم الناس منها. ونادرًا، كما يبدو، ما تُحلّ هذه الإشكالات العابرة فعليًا؛ بل يموت صاحب النظرية التي انبثقت عنها، أو يتقاعد، أو يختفي من الساحة الفكرية، فينتقل الناس ببساطة إلى موضةٍ فكريةٍ عابرةٍ أخرى.

ونتيجةً لذلك، أصبحت الفلسفة نفسها مجزّأة، وأصبح عددٌ أقل من أيّ وقتٍ مضى من الفلاسفة مستعدّين لرؤية الروابط العابرة بين الحقول، حتى بين مجالاتٍ قريبةٍ مثل نظرية المعرفة والميتافيزيقا، أو نظرية المعرفة وفلسفة العلم. وفوق ذلك، فإنّ جانبًا كبيرًا من الفلسفة المعاصرة بات معزولًا عن تاريخها الخاص، مفضِّلًا التركيز على الحديث والجديد فقط. أمّا القلّة الذين ما زالوا يحتفظون بنظرةٍ شموليةٍ، فإنهم غالبًا ما يكونون أصحاب أجنداتٍ فكريةٍ مسبقة، يسعون إلى الترويج لاتجاهٍ أو نزعةٍ معينة، كالمناهج «التجريبية»، أو الإلحاد، أو غير ذلك.

وهكذا نرى اليوم ما يعادل السفسطائيين الذين حذّر أفلاطون منهم — أولئك الذين يسعون لشقّ طريقهم المهني، أو لتحقيق الشهرة في أوساطٍ أوسع، عبر وعودٍ تفوق كثيرًا ما يمكنهم تحقيقه فعليًا. لقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين عددًا من السفسطائيين البارزين (28)، من بينهم كارل بوبر، الذي روّج لفلسفته العلمية ذات الطابع الشكّي المستتر، واليائسة تمامًا من حيث الجوهر، ليس فقط للفلاسفة بل أيضًا للعلماء والقضاة وغيرهم، على أنها مجرّد «لايقينٍ متواضعٍ وواقعي» (29)؛ وريتشارد رورتي، الذي روّج لمزيجه الفوضوي من الالتباسات ما بعد الحداثية تحت شعار «البراجماتية» (30).

واليوم، نرى السفسطائيين الجدد الذين يرفضون كلّ الأسئلة المتعلّقة بالقيم استنادًا إلى الشعار غير المبرهَن القائل بأنّ «الفيزياء تحدد جميع الحقائق» (31)، أو الذين يعدون بأنّ علم الأعصاب سيحلّ لنا جميع المشكلات الفلسفية، أو غير ذلك من الوعود الزائفة المشابهة.

ثانيا: ما الذي يفسّر كل هذا؟ أعتقد أن جزءًا كبيرًا من هذه الكارثة ينشأ عن اختلالٍ جوهري بين ما تتطلّبه الفلسفة الجادّة من شروطٍ للبحث والعمل، وبين ما تتطلّبه البيئة الجامعية المعاصرة المهووسة بمفهوم "الإنتاجية".بل إنّي، بعد التأمّل، أميل إلى القول إنّ انشغال الجامعات المستمرّ بتحفيز الإنتاجية خطأٌ في حدّ ذاته، وأنّ الأفضل كان أن تكتفي هذه المؤسسات باختيار الأشخاص المناسبين ثم تترك لهم حرية العمل دون تدخل. فالمشكلة الحقيقية ليست في نقص الحوافز للعمل الجيّد، بل في فيض الحوافز المشوَّهة التي تدفع إلى إنتاج "أي شيء" بغضّ النظر عن جودته أو قيمته الحقيقية.

ومع ذلك، لا يمكن، بطبيعة الحال، إلقاء اللوم كله على الإداريين؛ إذ علينا أن نواجه الحقيقة المتمثّلة في أننا أسهمنا نحن أنفسنا، إلى حدٍّ ما، في جلب هذه الكارثة، عندما خضعنا بخنوعٍ لتلك القيم الإدارية المشوَّهة.

فما الذي يُحتاج إليه حقًا من أجل ممارسة فلسفة جيّدة؟إنه الاهتمام، والوقت، والقدرة العقلية، والحكم السليم، والواقعية، والخيال، والصبر، والثبات الفكري، والمثابرة. وبصورة أكثر تفصيلًا:

- أولًا، ومن البديهي أن يكون لديك اهتمام حقيقي بالإجابة عن مسألة أو مسائل فلسفية معينة. وليس من الضروري أن يكون هذا الاهتمام ذاتي النشأة أو عفويًّا؛ فقد ينشأ مثلًا من دعوةٍ للكتابة حول موضوع محدد، أو من استفزازٍ أثاره ادعاءٌ خاطئ لشخصٍ آخر. غير أنّ المهم هو أن يكون هذا الاهتمام صادقًا وموجهًا نحو البحث عن إجابة حقيقية للسؤال، لا مجرد رغبة في الجدال العقيم حوله، أو في ابتكار إجابةٍ تبدو مقنعة ومريحة فحسب.

- ثانيًا، ومن الوضوح بمكان، أنك تحتاج إلى الوقت الكافي للتفكير المتأني في الأمور.

- ثالثًا، تحتاج إلى نوعٍ مناسب من القدرة العقلية، وإلى قدرٍ كافٍ من المعرفة الخلفية يمكّنك من أن تبدأ بتلمّس طريقك نحو الإجابات التي تبحث عنها. وهذه “القدرة العقلية الضرورية” لا تعني أنك بحاجة إلى أن تكون سريع البديهة أو لامعًا أو «ذكيًّا» بالمعنى السطحي للكلمة؛ بل إنَّ من يكون أبطأ ولكن أكثر صبرًا ومثابرة قد يكون أفضل بكثير. وكذلك، فإن “المعرفة الخلفية الضرورية” لا تعني وجوب قراءة كل ما كُتب حول الموضوع؛ بل إنَّ الاستفزاز الفكري الذي يبعثه فيك أفلاطون قد يكون أنفع بكثير من قراءة مئة مقالة حديثة في الدوريات الأكاديمية.

- وستحتاج أيضًا إلى إحساس واقعي بما يمكن أن يكون في حدود طاقتك من الأسئلة، حتى لا تهدر وقتك وجهدك في مسائل تتجاوز قدراتك، أو تنفقه في مسائل يسيرة لا تستحق هذا العناء.

- وأبعد من ذلك، تحتاج إلى الخيال الذي يمكّنك من تصور حلولٍ ممكنة، وإلى الصبر اللازم لتفصيلها وتطويرها — إذ ستكون محظوظًا إن أصبتَ الحقيقة، ولو تقريبًا، من المحاولة الأولى.

- وفوق هذا كله، تحتاج إلى صلابة فكرية تمكّنك من البدء من جديد إذا تبيّن فشل أفكارك، وإلى الشجاعة للاعتراف بالخطأ وبأنك ربما أضعت أسابيع وربما سنواتٍ طويلة في تتبّع مساراتٍ زائفة — أو، وهو الأسوأ، في محاولة الإجابة عن سؤالٍ كان من الأصل مغلوط التصوّر أو مضلِّلًا.

- وهذا يعني أنك ستحتاج أحيانًا إلى المثابرة على اكتشاف موضع الخلل في سؤالك نفسه: ربما افتراضٌ خاطئ في بدايات تفكيرك، أو غموضٌ لم تدركه من قبل.

- وكل ذلك يتطلب قدرًا من العناد والاستقلال الذهني؛ إذ من المستحيل أن تنجز عملًا فلسفيًا حقيقيًا إذا كنت منشغلًا بمحاولة إرضاء الآخرين أو نيل قبولهم لأفكارك.

لا أحد يمتلك جميع هذه الصفات مجتمعة وبالقدر نفسه؛ فهي خصال تتكوّن مع الزمن، إن حالف الإنسانَ الحظ. فكثيرون، للأسف، يبدؤون مسيرتهم مفعمين بالحماسة، ثم لا يلبثون أن يستسلموا للملل والفتور؛ أمّا القلّة المحظوظة، فتكتشف أنّها تمارس العمل الذي خُلقت من أجله، وتواصل أداءه بشغف وسعادة — ما دامت البيئة المحيطة تتيح لها ذلك.

لكن كل ذلك يتطلّب، ليس فقط أن تمتلك أو تطوّر الطبع المناسب وجميع الصفات الضرورية الأخرى، بل أيضًا أن توفر لك البيئة المحيطة الوقت وراحة البال لممارسة هذه الصفات، وأن لا تشجّع، خصوصًا، على التسرّع أو الإهمال أو نفاد الصبر أو المراوغة، وما إلى ذلك من السلوكيات الضارّة. في أحسن الأحوال، كان ينبغي للجامعات أن تجتذب الأشخاص القادرين على إنتاج أعمال فلسفية حقيقية وجيدة، وأن توفر لهم الحوافز للاستمرار في العمل رغم الصعوبات، وللإبقاء على إنتاج أفضل ما لديهم. ولكن، للأسف، فإن البيئة الجامعية اليوم بالكاد تصلح لإنجاز عمل حقيقي. فهي، بدلاً من ذلك، تجتذب وتشجّع الكثير من الطامحين ليصبحوا أسماءً كبيرة أو سوفيستيين محتملين، فضلاً عن عدد أكبر يسعى فقط إلى حياة سهلة وهادئة.

ثالثا: بالطبع، طريقة إدارة الجامعات ليست واحدة في كل مكان. سأركّز هنا على الولايات المتحدة وأجزاء أخرى من العالم الناطق بالإنجليزية؛ لكنني سأتناول لاحقًا الاختلافات والقواسم المشتركة، وأهمها من بين القواسم المشتركة الازدياد المستمر للبيروقراطية في الجامعات في أماكن أخرى.

في زمنٍ ما (على الأقل في العالم الناطق بالإنجليزية)، كانت الجامعات تُدار في الغالب بواسطة أعضاء هيئة التدريس، أي أساتذة يعملون فعليًا ويتولّون مهام الرئاسة أو العمادة لمدّة محدودة من السنوات، مع نية صادقة في العودة إلى أعمالهم الفعلية بعد ذلك. وكان يُطلق على ذلك اسم «الخدمة»، وكان يُنظر إليه على أنّه تضحية مؤقتة بالعمل الفكري الجاد من أجل الصالح العام.حتى رؤساء الجامعات كانوا عادةً أكاديميين، وإن كان غالبًا في مرحلة متأخرة من مسيرتهم المهنية. أما باقي الإدارة — مثل الشؤون المالية، والقبول، وتسجيل الطلاب، وتوثيق نتائج الامتحانات، وما إلى ذلك — فكان من اختصاص الإداريين المحترفين، الذين كان يُنظر إليهم (وأعتقد أنهم أنفسهم كانوا يرون كذلك) على أنّهم مكلفون بضمان سير العمل الحقيقي للجامعة بسلاسة.

لكن الأمور الآن مختلفة تمامًا. فـ الجامعات الأمريكية تُدار اليوم في الغالب بواسطة إداريين محترفين — يا لها من كلمة موحية! — الذين ينظرون إلى أعضاء هيئة التدريس على أنّهم «موظفون»، ويقومون بتنظيم ومراقبة «إنتاجيتهم»(32).في الواقع، أصبحت الجامعات الآن بيروقراطيات ضخمة، بعضها يضم أحيانًا عدد إداريين يفوق عدد أعضاء هيئة التدريس. (يلاحظ بعضنا أنّه بطريقة ما، كلما زاد عدد البيروقراطيين، زاد أيضًا العمل البيروقراطي المطلوب من أعضاء هيئة التدريس — فالإداريون، بعد كل شيء، يهتمون بعدد الأشخاص الذين «يعملون تحت إشرافهم»، وهم بارعون جدًا في ابتكار مهام جديدة لتفويضها للمرؤوسين، بمن فيهم نحن «الموظفون الأكاديميون»).

غالبًا ما يكون رؤساء الجامعات من السياسيين السابقين، والعمادات من رؤساء الأقسام السابقين؛ أما الإداريون من المستويات الأدنى فقد يكون لديهم الآن شهادات في الإدارة الأكاديمية تُقدَّم في أقسام التربية.بالطبع، كان العميد غالبًا رئيس قسم سابقًا؛ لكن في الوقت الحاضر أصبح منصب رئيس القسم نفسه في جوهره منصبًا إداريًا؛ ومن يدخل الإدارة قادمًا من الفصل الدراسي أو المختبر أو غيره نادراً ما يعود إلى عمله الأصلي؛ فغالبًا ما يكون هدفه التقدم في الرتب الإدارية، من مساعد عميد إلى عميد مشارك، ومن عميد مشارك إلى عميد، ومن عميد إلى مدير أكاديمي، وربما من المدير الأكاديمي إلى رئيس الجامعة.

معظم هؤلاء «المديرين» لم يعودوا يحتفظون باهتمامات عقلية جدية مستمرة، حتى لو كانت موجودة لديهم سابقًا؛ وبينما يتمتع العديد منهم بالذكاء الكافي على الصعيد السياسي والعملي والبيروقراطي، فإنهم لن يتمكنوا من حل أي مسائل فكرية صعبة. علاوة على ذلك، فإنهم ببساطة غير مجهزين لتقييم قيمة العمل الأكاديمي إلا من خلال مقاييس خارجية وبديلة.وطبيعي أن تكون قيمهم مختلفة تمامًا عن قيم الأكاديميين العاملين التقليديين. سأركّز هنا على رؤساء الأقسام والعمادات — وهم المديرون الوسيطون الذين يحتاجون إلى كسب موافقة كل من أعضاء هيئة التدريس في قسمهم أو كليتهم وكذلك المستويات الإدارية العليا — لأنهم يتخذون الأحكام الأكثر حسمًا بشأن أعمال أعضاء هيئة التدريس، ويقرّرون من يُمنح التثبيت الوظيفي، ومن يُرقّى، ومن يحصل على أي نوع من الزيادة، وما إلى ذلك.

تذكّروا: نحن الأساتذة أصبحنا الآن «موظفين» يُفترض أن نكون، قبل كل شيء، «منتجين». لكن، ماذا يُنتج أعضاء هيئة التدريس؟.طلاب متعلمون جيدًا، نأمل ذلك؛ لكن هذا ليس ما يهم هنا؛ فالمهارة والنجاح في التدريس أصبح يُنظر إليهما بتقدير أقل فأقل، ربما لأن العديد من مهام التدريس أصبحت الآن مخصصة لطلبة الدراسات العليا والمعيدين. لا، الأمر المهم هو البحث العلمي؛ ومن هنا جاء التعبير «نشط في البحث» (وهو مصطلح لم أسمع به في عقودي الأولى من التدريس)، وظهور الرفض والازدراء لما يُسمّى بـ«الأعشاب الميتة»، أي أعضاء هيئة التدريس غير المنتجين.في الماضي، كان الأكاديمي يكتب كتابًا أو مقالًا حين تتكوّن لديه فكرة يرغب في طرحها ومشاركتها؛ أما الآن، فعلينا جميعًا أن نكون منتجين طوال الوقت، ويجب على الإداريين تحديد قيمة ما ننتجه.

ربما لا يزال هناك بعض رؤساء الأقسام الذين يبذلون جهدًا ضميرياً لمتابعة أعمال أعضاء قسمهم؛ لكن خبرتي تشير إلى أنهم باتوا الآن استثناءً لا قاعدة.فالرؤساء مشغولون للغاية، على سبيل المثال؛ ففي أقسام الدراسات العليا، عليهم إدارة فرق من مساعدي التدريس والمعيدين، فضلاً عن ضمان تدريس المقررات الأساسية (نأمل ذلك)، والمشاركة في اجتماعات لا نهاية لها، والتنقّل مستهلكين ميزانيات السفر السخية المخصصة لهم، وما إلى ذلك.وبالاضافة إلى ذلك، بينما كان أن تكون فيلسوفًا يعني في الماضي أن تكون عامًا، ملمًا بعدة مجالات، أصبح الموضوع الآن متخصصًا للغاية لدرجة قد تمنعهم من الحكم على أعمال زملائهم. لا عجب أن الصداقات والأحقاد تلعب دورًا كبيرًا، ولا عجب أن الرؤساء يعتمدون على مكان نشر العمل أكثر من محتواه.

العمادات أقل تأهيلاً بعد لإجراء مثل هذه التقييمات. فكيف يمكن لهم ذلك؟ هناك كم هائل من المواد للقراءة، وحتى لو لم يكن هناك، فإن معظمها سيكون أبعد ما يكون عن قدرتهم على الفهم.لذلك، يعتمدون على حكم رؤساء الأقسام — الذين غالبًا ما يكونون متحيّزين، وكما ذكرت، نادرًا ما يكون تقييمهم مبنيًا على قراءة جدية لأعمال أي شخص — وكذلك على مقاييس بديلة مثل السمعة المفترضة لهذه أو تلك المجلة، أو هذا أو ذلك الناشر، والمراجعين الأقران، ومقدار الأموال البحثية المحصّلة، وبالطبع، على «التصنيفات» .

يميل أعضاء هيئة التدريس الذين يطمحون للحصول على التثبيت الوظيفي، أو زيادة الراتب، أو الترقية إلى استيعاب هذه القيم الإدارية المشوّهة. والنتيجة، حتمًا، تآكل الصفات الشخصية والعادات اللازمة للقيام بعمل جاد.نرى ذلك دائمًا في الفلسفة، حيث يركز الناس على الموضوعات الرائجة التي يعتقدون أنّه من الأسهل نشر أبحاثهم فيها، بدلًا من الموضوعات التي يأملون حقًا في تحقيق تقدم فيها؛ ويركزون على إنتاج شيء قابل للنشر بسرعة بما يكفي للتقرير السنوي التالي، وليس على شيء متين ومدروس بعناية.إنهم يسرعون في إنجاز العمل ويقتصدون في التفاصيل؛ ولا يقبلون بالاعتراف عندما يكونون مخطئين ويحتاجون إلى البدء من جديد. كما أنهم مهتمون أكثر بمكانة المجلات أو دور النشر التي ينشرون فيها، وأحيانًا يهتمون بشكل مفرط بتصنيف قسمهم في تقرير "تصنيف الأقسام الفلسفية" (33)

وعلاوة على ذلك، عندما يتم توظيف أساتذة جدد، يُختار أولئك الذين يُعتقد أنهم من المرجح أن ينجحوا في هذا البيئة، أي السريعون والقابلون للإقناع، وليس أصحاب العقول البطيئة لكنها أعمق وأكثر اجتهادًا.وعندما يقوم الأساتذة بتدريب طلبة الدراسات العليا (وهو تعبير آخر يكشف الكثير! — قبل سنوات كنا نفكر بمصطلحات التدريس وتعليم طلاب الدراسات العليا، لا مجرد "تدريبهم")، فمن الطبيعي أنهم يسعون لجعلهم قابلين للتوظيف(34)، مما يعني… حسنًا، يمكنكم استكمال هذه الجملة بأنفسكم.

هذا هو الحال في الولايات المتحدة. أما في أماكن أخرى، فالأمور تختلف بعض الشيء. ففي أوروبا، على سبيل المثال، قد تأتي الضغوط البيروقراطية ليس من المستوى المحلي، بل بالأساس من الحكومات المركزية؛ وغالبًا ما يكون التركيز جزئيًا على التصنيفات، خاصة تصنيفات المجلات، ولكن قبل كل شيء على المنح البحثية — في الواقع، لقد رأيت بعض السير الذاتية الأوروبية التي تحدد باليورو بالضبط مقدار الأموال التي حصل عليها عضو هيئة التدريس، لكنها تقدم تفاصيل قليلة جدًا عن العمل الذي أنجزوه فعليًا بهذه الأموال!(بالطبع، ستساعد المنح البحثية أيضًا في مسيرتك الفلسفية في الولايات المتحدة؛ لكنها لا تملك — على الأقل حتى الآن — نفس التأثير كما هو الحال في كثير من أنحاء أوروبا).ولكن، عواقب ثقافة المنح والمشاريع البحثية التي تنشأ بسرعة في مثل هذه الظروف كارثية(35).

مع اعتماد التعليم في مرحلة الدراسات العليا على تلك المنح الخارجية، فإن جودته تتأثر حتمًا: فكونك مساعدًا باحثًا لدى X ليس بديلًا عن العمل الفعلي على مشروعك الخاص.وينقسم أعضاء هيئة التدريس تدريجيًا إلى فئتين شديدتي الاختلاف: النخبة الذين يمتلكون منحًا كبيرة وواجبات تدريسية خفيفة، والفلاحون الأكاديميون الذين يتحملون عبء التدريس الأكبر.وبالطبع، فإن كل نظام المنح هذا يحرّف الموضوعات التي يعمل عليها الناس؛ إذ يفعلون ما يعتقدون أنهم سيتمكنون من الحصول على تمويل له. كما أنه يشجع الناس على المبالغة في ما سيحققونه عند حصولهم على المنحة، والأسوأ من ذلك، على المبالغة في ما أنجزوه فعليًا باستخدامها. ومع مرور الوقت، يبدؤون حتمًا بتصديق دعايتهم الخاصة، ويفقدون كل إحساس بالجودة الحقيقية لأعمالهم.

إلى أي مدى يمتد كل هذا في بقية أنحاء العالم، لست متأكدًا تمامًا. لكن كانت هناك مؤشرات أولية: يكتب لي مراسل من المكسيك عن القلق الذي يشعر به بسبب الضغط الممارس عليه ليكون منتجًا؛ ويخبرني زائر صيني أن جامعته تدفع له مكافأة إذا نشر ورقة في مجلة مفهرسة في مكان "معتمد"؛ ويكتب لي مراسل إيراني أن جامعته تضغط على أعضاء هيئة التدريس للنشر في الخارج.لكنني علمت أنني قد لمست نوعًا من الأعصاب الدولية عندما أعيد طبع مقالي "هل يمكن إنقاذ الفلسفة؟"(36)مؤخرًا، وعندما نشرت النسخة المعاد طباعتها على academia.edu، أُبلغت أنه خلال يومين فقط، تم الاطلاع عليها من قبل أشخاص في 39 دولة: الولايات المتحدة، الصين، المجر، البرازيل، بولندا، المملكة المتحدة، أوروغواي، سلوفاكيا، إسبانيا، الأرجنتين، أيرلندا، إيطاليا، أستراليا، المكسيك، ألمانيا، أوكرانيا، كندا، تشيلي، تركيا، كولومبيا، كوستاريكا، البرتغال، بيرو، الإكوادور، إسرائيل، الهند، فرنسا، بلغاريا، الاتحاد الروسي، الجمهورية الإسلامية الإيرانية، جنوب إفريقيا، جمهورية كوريا، اليونان، النرويج، النمسا، فنلندا، ليتوانيا، موزمبيق، والسلفادور. يا إلهي.

رابعا: ربما تأملون أن أخبركم كيفية إصلاح كل هذا. يؤسفني أن أخيب ظنكم، لكن لا أستطيع فعل ذلك – فالأسباب معقدة للغاية، ومؤسسة بعمق، وبصراحة، لا أعرف حقًا من أين أبدأ.علاوة على ذلك، في الوقت الحالي، مع الأزمة الصحية العالمية، تعطّل عمل الجامعات في كثير من أنحاء العالم بشكل كبير لدرجة أنه من المستحيل التنبؤ بالشكل الذي ستبدو عليه بعد عام، أو حتى بعد عدة أعوام – وأظن أنه سيكون مختلفًا تمامًا.أو ربما تأملون أن أخبركم بما يجب عليكم فعله إذا كانت الفلسفة بالنسبة لكم حقًا هي دعوة ومهنة حقيقية. مرة أخرى، يؤسفني أن أخيب ظنكم، لكن لا يمكنني تقديم نصائح عامة هنا أيضًا – فظروف كل شخص ستكون مختلفة للغاية: بعضهم خارج الأوساط الأكاديمية تمامًا، بعضهم يبحث عن وظيفة أكاديمية، بعضهم يأمل في الحصول على التثبيت الوظيفي، وبعضهم يأمل في زيادة راتب أو ترقية، وهكذا. كل واحد منا يمكنه فقط أن يفعل ما بوسعه.

إذا كنت خارج الأوساط الأكاديمية وتعمل كسائق تاكسي، أو مستشار حاسوب، أو مقدم خدمات تموين، أو أي عمل آخر، فستكون المشكلة الأولى هي إيجاد وقت للتفكير والقراءة، وإذا ما خطرت لك فكرة جيدة، للكتابة؛ والمشكلة التالية هي إيجاد وسيلة لتُسمع إذا أنتجت شيئًا يستحق المشاركة.لقد جعل الإنترنت الجزء الأخير أسهل إلى حد ما؛ لكن لا ينبغي أن تتوقع رد فعل حماسي من "المهنة" – مثل الرجلين السابقين من شعر فروست، الذين استاءوا من قيامه بقطع الحطب من أجل حبه للعمل – كان يجب عليهم القيام بذلك من أجل المال! – من المرجح أن يمنحك الفلاسفة المحترفون رد فعل بارد أو تجاهلاً.

إذا كنت داخل الأوساط الأكاديمية، فقد تكتشف أن الفلسفة بالنسبة لك هي دعوة أو نداء بالذات بفضل التوتر الذي تشعر به تجاه تلك القيم "المهنية". إذا كان الأمر كذلك، فسيكون عليك أن «تحافظ على هدوءك، بينما يفقد كل من حولك أعصابهم ويلقون اللوم عليك»(37).وإذا كنت حاصلًا على درجة الدكتوراه حديثًا وتبحث عن وظيفة (بافتراض أنك لم تُفسد بعد بواسطة أحد برامج الدكتوراه "المرموقة"!)، فإن أفضل نصيحة يمكنني تقديمها هي: لا تظن أنه أمر سيئ أن تجد نفسك في قسم لا يحتوي على برنامج دراسات عليا. ليس الأمر كذلك: التدريس الجامعي يمكن أن يكون مجزياً جدًا38 – خصوصًا إذا لم تكن تحت ضغط لإدخال الطلاب المتخرجين في برامج الدراسات العليا المزعومة "النخبوية".

إذا كنت على مسار التثبيت الأكاديمي، فموقعك يكون صعبًا بشكل خاص. حتى حدٍ معيّن، سيتعين عليك أن تكون حيوانًا سياسيًا – حذرًا، ولكن دون أن تنخرط بالكامل، محافظة على تلك القيم الإدارية على مسافة آمنة. يجب عليك، بالطبع، أن تحدد بوضوح ما هو مطلوب منك، وأن تظل يقظًا لأي تغييرات في قسمك أو كليتك قد تؤثر على ذلك، وأن تعرف متى يتجاوز ما هو مطلوب منك الحد الذي لا تستطيع تحمله. من المحتمل أن تضطر لأن تكون أكثر اجتماعية مما ترغب في المثالي. ومع ذلك، ما دامت مؤسستك لا تصر على أن تكون المنشورات محكّمة لتُحتسب، فكن منفتحًا على الدعوات للكتابة في مجلات أقل شهرة، ومستعدًا للمقاومة إذا قدم الحكام مطالب غير معقولة.

وأستطيع أن أقدّم نصيحة صغيرة، من تجربتي الشخصية، للأكاديميين ذوي الخبرة النسبية الذين لديهم دعوة حقيقية للفلسفة ويجدون أنفسهم محبطين بسبب تلك القيم المشوّهة. كن مفيدًا كلما استطعت. لكن تعلّم أن تقول بلباقة: «لا، آسف، لا أستطيع فعل ذلك» – سواء لدعوات الغداء، أو لطلبات تحكيم ورقة تبدو ضعيفة جدًا ويأمل المؤلف أن يقوم الحكم بإعادة كتابتها له، أو لمقترحات الخدمة في هذا أو ذاك من اللجان الجامعية “الهامة” لتصفية نشارة الخشب…(39)، أو غيرها. قرّر أي الاجتماعات ضرورية، لكن لا تحضر الأخرى؛ فهي تضيع وقتك، والأهم من ذلك، تهدر روحك؛ وتعلّم أن تقول بهدوء، عندما يكون الأمر صحيحًا: «لا، أختلف؛ هذه فكرة سيئة، وسيكون من الأفضل القيام بهذا…(40)». (من المحتمل ألا يغيّر هذا النتيجة؛ لكن على الأقل ستشعر على الأرجح بتحسن قليل مقارنةً لو تركت الفكرة السيئة تمر دون اعتراض).

وأواصل قائلاً: انشر فقط عندما يكون لديك ما تقول، لا وفق جدول زمني يحدده أحد المسؤولين؛ ولا تنفّذ بِخضوع كل ما يطلبه المحكّمون في مجلة ما – فإذا كانت مطالبهم غير معقولة، أو واضحة كمحاولة لجعلك تذكر أعمالهم أو أعمال أصدقائهم، حاول أن تقول بلطف: «لا، لا أظن أن ذلك سيحسّن الورقة». حاول بكل الوسائل تجنّب أن تتحوّل إلى شخص غريب يدافع عن فكرته الكبرى أو إلى معلم يجمع أتباعًا؛ واحذر مما أسماه بيرس «غطرسة الذكاء»(41)، أي الاعتقاد المفرط بعظمتك الخاصة. فنحن جميعًا قابلون للخطأ.

لكن الآن أشتّت نفسي عن الموضوع الرئيسي: وهو أنه، رغم أن الجمع بين الهواية المهنية والدعوة الفلسفية مرغوب فيه، إلا أن الواقع اليوم يشهد توتّرات كبيرة جدًا بين القيم والطموحات المهنية والفلسفية – توتّرات لا يمكن لأي منا، ممن تعتبر الفلسفة دعوة كما هي مهنة، تجنّبها، ويجب على جميعنا التعامل معها بطريقة أو بأخرى.

لا أحد يعبّر عن هذا أفضل من ماكس غوتليب، المرشد والبطل لمارتن أروزمايث في رواية آروزمايث لـ سينكلير لويس. هو يتحدث إلى مارتن عن دعوة إلى العلم، وليس الفلسفة، لكنه يعبّر عن الفكرة الأساسية ببراعة(42):

أن تكون عالِمًا – ليس مجرد وظيفة مختلفة، بحيث يختار الإنسان بين أن يكون عالمًا أو مستكشفًا أو تاجر سندات […]. إنه مزيج من المشاعر الغامضة جدًا، مثل التصوف، أو الرغبة في كتابة الشعر؛ يجعل ضحيته مختلفًا تمامًا عن الإنسان العادي الجيد […].

ولكن مرة أخرى، تذكّر دائمًا أن ليس كل من يعمل في العلم علماء. القليل جدًا منهم! الباقون – سكرتارية، وكلاء صحفيون، ورفاق المخيم! […]. إذا كان لديك شيء من دعوة العلم، […] هناك شيئين يجب عليك فعلهما: العمل بجد مضاعف، ومنع الآخرين من استغلالك.

استبدل كلمة “عالِم” بـ “فيلسوف”، وستجد نفسك أمام المعادلة نفسها. ليس كل من يعمل في الفلسفة فيلسوفًا، وأولئك “الضحايا” الذين تعتبر الفلسفة بالنسبة لهم دعوة حقيقية قد يدفعون ثمنًا مهنيًا باهظًا.لكن، وفق تجربتي على الأقل(43)، كان هذا ثمنًا يستحق الدفع(44).

جامعة ميامي

[email protected]

***

.....................

الهوامش

* يختلف هذا المقال عن جميع المقالات الأخرى المنشورة في هذه المجلة، لأن الكاتبة اشترطت كشرطٍ أساسي لنشر مساهمتها أن تُتّبع معاييرها التحريرية الخاصة في كتابة الحواشي السفلية، وهي معايير تختلف عن تلك المعتمدة في المجلة. [ملاحظة المحرر].

سيزيتيس، المجلد الثامن (2021)، ص ص 33–51 / مقالات

الرقم الدولي الموحّد للدوريات (ISSN): 1974-5044 – http://www.syzetesis.it

معرّف الكائن الرقمي (DOI): 10.53242/syzetesis/2

1- أفلاطون، الجمهورية، ترجمة ج. م. أ. غرووب، منقّحة على يد س. د. س. ريف (نحو 380 ق.م)، إنديانابوليس: هاكيت للنشر، 1992، فقرة 492أ (ترقيم ستيفانوس).

2- روبرت فروست، «رجلان من المشردين في زمن الطين»، ضمن كتاب مدًى أبعد (نيويورك: شركة هنري هولت، 1936)، ص. 15. وقد عرفتُ هذه القصيدة – بالمناسبة – من خلال رواية روبرت ب. باركر، رهانات مميتة (نيويورك: دار ديل، 1973)، ثم اكتشفتُ لاحقًا مدى تأثر باركر بفروست. انظر بخاصة روبرت ب. باركر، خريف باكر (نيويورك: دار ديل، 1981)، إذ تتخلل فصوله أفكار فروست عن العمل والاستقلالية وما إليها.

3- انظر: جستن سكيرّي، «رينيه ديكارت (1596–1650)»، موسوعة الفلسفة على الإنترنت (IEP)، تمت زيارة الصفحة في 12 أكتوبر 2020، على الرابط: https://iep.utm.edu/descarte/. وللأسف، أُصيب بالتهاب رئوي وتُوفي عام 1650.

4-بندكت دي سبينوزا، «الأخلاق»، ضمن الأعمال المنشورة بعد وفاته، تحرير ياريغ ييلس ويان ريويرتس (أمستردام: ريويرتس، 1677).

5-تُوفّي سبينوزا عن عمرٍ يناهز الرابعة والأربعين، بسبب مرضٍ في الرئة يُرجَّح – وفقًا لبعض التخمينات – أنّه كان نتيجة استنشاقه لجسيمات زجاجية دقيقة أثناء عمله في صقل العدسات.

٦- «جون لوك»، الموسوعة التاريخية (History)، تحديث بتاريخ ٢٠ سبتمبر ٢٠١٩،

https://www.history.com/topics/british-history/john-locke.

٧ - للمراجعة العامة: هـ. ب. أكتون، «جورج بيركلي»، موسوعة الفلسفة، تحرير بول إدواردز (نيويورك: دار ماكميلان للنشر، ١٩٦٧، المجلد الأول)، ص ٢٩٥–٣٠٤.

٨ - للمراجعة العامة: د. ج. ك. ماكناب، «ديفيد هيوم»، موسوعة الفلسفة، تحرير بول إدواردز (نيويورك: دار ماكميلان للنشر، ١٩٦٧، المجلد الرابع)، ص ٧٨–٨٠.

٩ - للمراجعة العامة: س. أ. غريف، «توماس ريد»، موسوعة الفلسفة، تحرير بول إدواردز (نيويورك: دار ماكميلان للنشر، ١٩٦٧، المجلد السابع)، ص ١١٨–١٢١.

١٠ - للمراجعة العامة: ج. ب. شنيويند، «جون ستيوارت مل»، موسوعة الفلسفة، تحرير بول إدواردز (نيويورك: دار ماكميلان للنشر، ١٩٦٧، المجلد الخامس)، ص ٣١٤–٣١٥.

11- جوزيف برنت، تشارلز ساندرز بيرس: سيرة حياة (بلومنجتون: مطبعة جامعة إنديانا، ١٩٩٣)، ص ص ١٣٩ -٢٠٣.

12- آر. لانيير أندرسون، "فريدريك نيتشه"، موسوعة ستانفورد للفلسفة، تحرير إدوارد ن. زالتا، نُشرت لأول مرة في ١٧ مارس ٢٠١٧،

https://plato.stanford.edu/entries/nietzsche/

(إحدى الفرضيات، على ما يبدو، هي أنه كان يعاني من ورم بطيء النمو في الدماغ خلف عينه اليمنى).الجزء المتعلق بالمعاش مستند إلى: جوليان يونغ، فريدريك نيتشه: سيرة فلسفية (نيويورك: مطبعة جامعة كامبريدج، ٢٠١٠)، ص ص ٢٧٦–٢٧٧.

13- فلسفة فريجه في سياقها، تحرير مايكل بيـني وإريش هـ. ريك (نيويورك: روتليدج، ٢٠٠٥)، ص ص ٢٥–٢٧.

14- تشارلز ميلنر أتكينسون، جيريمي بنتام: حياته وأعماله (لندن: ميثوين وشركاه، ١٩٠٥)، الصفحة ٢٦.

15- برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية (نيويورك: سايمون وشوستر، ١٩٤٥).

16- "سيرة برتراند راسل"، بيوغرافيا أونلاين، تم الدخول في ١٢ أكتوبر ٢٠٢٠،

https://www.biographyonline.net/writers/bertrand-russell.html

17- "لودفيج فتجنشتين: ١٨٨٩–١٩٥١"، في لودفيج فتجنشتين: تقييمات نقدية، تحرير ستيوارت شانكر (لندن: كروم هيلم، ١٩٨٦، المجلد الأول)، الصفحات ٩–١١.

18-روجر سكروتون، "السيرة الذاتية"، السير روجر سكروتون: كاتب وفيلسوف، تم الدخول في ٢١ أبريل ٢٠٢٠،

https://www.roger-scruton.com/homepage/about/curriculum-vitae. ومن المفارقات أن سكروتون توفي بسبب سرطان الرئة.

19-على الرغم من ذلك، أعتقد أن هناك قدرًا كبيرًا من الرقابة الذاتية من قبل أولئك الذين يخشون التعبير عن أفكار غير شائعة.

20-كما اقترح عليّ أوزوالدو شاتوبريان في نقاش بعد أن قدمتُ محاضرة بعنوان تجزئة الفلسفة في جامعة الجمهورية، مونتفيدو، أوروغواي.

٢١ ـ تشارلز ساندرز بيرس، الأوراق المجمَّعة، تحرير: تشارلز هارتشورن، وبول فايس، و(في المجلّدين السابع والثامن) آرثر بوركس، (كامبريدج، ماساتشوستس: مطبعة جامعة هارفارد، ١٩٣١–١٩٥٨)، المجلد السادس، الفقرة الثالثة (١٨٩٨).(تشير الإحالات إلى الأوراق المجمَّعة بحسب رقم المجلد ورقم الفقرة، يليهما التاريخ الأصلي).

٢٢ ـ فكرةٌ بدأت مع سوزان هاك، «خارج الصف»، ضمن كتاب تسخير الفلسفة للعمل: البحث ومكانته في الثقافة، الطبعة الموسَّعة (٢٠٠٨؛ أمهرست، نيويورك: دار بروميثيوس، ٢٠١٣)، الصفحات ٢٥١–٢٦٨ (المتن) و٣١٣–٣١٧ (الهوامش).

٢٣ ـ لا يعني هذا، كما قد تتخيّل، أنّهم سيطبعون الكتاب فور طلبك له؛ بل يعني فقط أنّهم سيطبعون بعض النسخ إذا، ومتى ما رأوا أنّ لديهم عددًا «كافيًا» من الطلبات.

٢٤ ـ سوزان هاك، «خدعة النشر الأكاديمي: ماذا حلّ بحقوق المؤلفين؟»، الفلسفة بلا حدود، المجلد ٢ (٢٠١٩): الصفحات ١–٢١.

٢٥ ـ انظر أيضًا: سوزان هاك، «المراجعة النظيرة والنشر: دروس للمحامين» (٢٠٠٧)، ضمن كتاب أهمية الأدلة: العلم، والحقيقة، والإثبات في القانون (نيويورك: مطبعة جامعة كامبريدج، ٢٠١٤)، ص ص ١٥٦–١٧٩.

٢٦ ـ أو، على ما أظن، الإسبانية أو الإيطالية أو الصينية أو غيرها.

٢٧ ـ انظر: سوزان هاك، «تجزئة الفلسفة والطريق إلى إعادة توحيدها»، ضمن كتاب سوزان هاك: إعادة دمج الفلسفة، تحرير: جوليا غونر وإيفا-ماريا يونغ (برلين: دار سبرينغر، ٢٠١٦)، ص ص ٣–٣٢.

٢٨ ـ يراودني الميل إلى إضافة و. ف. و. كواين إلى هذه القائمة، لأنّ نثره الواضح ظاهريًا يُخفي وراءه العديد من الغموضات القاتلة. انظر على سبيل المثال: سوزان هاك، الأدلة والبحث (١٩٩٣؛ أمهرست، نيويورك: دار بروميثيوس، ٢٠٠٩)، الفصل السادس، حول الغموضات في تصوره لـ«نظرية المعرفة المؤمْوَلة»  (naturalized epistemology). كما تُعَدّ ساندرا هاردينغ، بادعاءاتها المبالغ فيها حول ما يمكن للنسوية أن تقدمه للفلسفة، مرشحة قوية أخرى.

٢٩ ـ سوزان هاك، «قل لا للّاإيجابية المنطقية»، ضمن تسخير الفلسفة للعمل: البحث ومكانته في الثقافة، الصفحات ١٧٩–١٩٤ (المتن) و٢٩٨–٣٠٥ (الهوامش).

٣٠ ـ انظر مثلًا: سوزان هاك، الأدلة والبحث، الفصل التاسع؛ وسوزان هاك، «الذبول وسط الوفرة: مفارقة فلسفة رورتي الثنائية»، مراجعة القنفذ: تأملات نقدية في الثقافة المعاصرة، صيف ٢٠١٦، الصفحات ٧٦–٨٠.

٣١ ـ أليكس روزنبرغ، رؤية الملحد للواقع: عيش الحياة دون أوهام (نيويورك: دار و. و. نورتون، ٢٠١١).

٣٢ ـ بنجامين غينسبرغ، سقوط هيئة التدريس وصعود الجامعة الإدارية (نيويورك: مطبعة جامعة أكسفورد، ٢٠١١).

٣٣ ـ تقرير الذوّاقة الفلسفي (The Philosophical Gourmet Report)، تحرير: بريت بروغارد وكريستوفر أ. باينز، آخر دخول في ١٢ أكتوبر ٢٠٢٠، https://www.philosophicalgourmet.com/

وربما تظنّ أن شكوكي بشأن هذه التصنيفات سببها أن قسمي الأكاديمي ليس مصنّفًا بدرجة أعلى، والواقع عكس ذلك تمامًا؛ فلو كنت أعتقد أن لهذه التصنيفات قيمة (وأنا لا أعتقد ذلك)، لقلت إنّ قسمي مصنَّف بأعلى مما يستحق!

٣٤ ـ وليس المقصود، بالطبع، أن جميع طلاب الدراسات العليا يجدون أنفسهم في وظائف فعلية؛ فقد ظلّ عدد الحاصلين على الدكتوراه أعلى بكثير منذ زمنٍ طويل من عدد الوظائف المتاحة.

٣٥ ـ تسلسلٌ فكري بدأ في مقالة سوزان هاك «اللامعقولية وعواقبها» (Preposterism and Its Consequences)، (١٩٩٦)، ضمن كتاب بيان معتدلة متحمّسة (Manifesto of a Passionate Moderate)، (شيكاغو: مطبعة جامعة شيكاغو، ١٩٩٨)، ص ص ١٨٨–٢٠٤.

٣٦ ـ سوزان هاك، «السؤال الحقيقي: هل يمكن إنقاذ الفلسفة؟ (The Real Question: Can Philosophy be Saved?)، مجلة التحرر الفكري (Free Inquiry)، المجلد ٣٧، العدد ٦ (٢٠١٧): ص ص ٤٠–٤٣.

٣٧ ـ روديارد كبلنج، «إذا——»، في كتاب المكافآت والجنيات (جاردن سيتي، نيويورك: شركة دبلداي، بايج وشركاه، ١٩١٠)، ص. ١٨١.

٣٨ ـ والآن أتذكّر الأستاذ الشاب الذي كان يُدرِّس في قسم يضم طلاب مرحلة البكالوريوس فقط (جامعة أوكلاند)، وقد قال لي: «إنها أفضل وظيفة لم تسمع عنها قط».

٣٩ ـ العبارة مأخوذة من ثورستين فبلن، التعليم العالي في أمريكا: مذكرة حول إدارة الجامعات بواسطة رجال الأعمال (نيويورك: ب. و. هوبش، ١٩١٨)، ص. ٢٥٣. وكما قال فبلن (عام ١٩١٨!)، فإن هذه اللجان «تُنشأ في الأساس لإبقاء أعضاء هيئة التدريس منشغلين بالكلام، بينما تواصل الآلة البيروقراطية عملها تحت إشراف المدير ومستشاريه ومساعديه الشخصيين». المرجع نفسه، ص. ٢٥٣.

وبالفعل، فهذه اللجان تمثل بنسبة ٩٨٪ استشاراتٍ زائفة.

٤٠ ـ أعترف بأنني أجد هذا صعبًا للغاية، إن لم يكن مستحيلًا؛ فمن العسير جدًا أن يحافظ المرء على هدوئه عندما يتصرف الزملاء بسوء. أجد نفسي أتلوّى بصمت كي لا أصرخ، لكنني أكره نفسي بعد ذلك لأنني لم أتحدث!

٤١ ـ بيرس، الأوراق المجمعة، ١.٣١ (١٨٦٩).

٤٢ ـ سنكلير لويس، أروسمِث (١٩٢٥؛ نيويورك: سِجنت كلاسيكس، ١٩٦١)، ص. ٢٧٨–٢٧٩.

٤٣ ـ انظري: سوزان هاك، «لستُ واحدة من الفتيان: مذكرات أكاديمية غير منسجمة»، كوزموس + تاكْسِس، المجلد ٨، العدد ٦ (٢٠٢٠): ص. ٩٢–١٠٦.

٤٤ ـ شكري لمارك ميجوتي على ملاحظاته المفيدة على المسودة، ولنيكولاس ميغانيلي على مساعدته في العثور على المراجع.

خلافا للمطارحات والسجالات التي تقترحها بعض نخبنا العربيّة فيما لا ينفع النّاس في راهنهم، على نحو يسهم في التجهيل ويكرّس التقوقع والتقهقر والرجوع إلى الخلف، بل والعودة إلى الجهالة. كأن تناقش وتتجادل حول القيمة الحضاريّة للزوايا والأضرحة ومقامات الأولياء "الصالحين" وإبراز دورها التاريخي في دعم المسلم روحانيّا أو السعي إلى المحافظة على التصوّف- في وجهه الطرقي الهيستيري التخديري- كظاهرة نفسيّة واجتماعيّة، رغم تماهيها مع الشعوذة. فإنّ طروحات النخب الغربيّة واهتماماتها تسعى غالبا لتنوير العقول وتثويرها وبثّ الوعي في شعوبها للنهوض بها وبلوغ أعلى المراتب. لذلك نلمس الرغبة الجامحة عندهم في خدمة الإنسان من خلال بحث قضاياه الحارقة ذات العلاقة براهنه ومستقبله أكثر ممّا هي مشدودة إلى الماضي السحيق، على أهمّيته. وهو ما ذهب إليه واستبسل في الدفاع عنه، كلّ من المفكّر الفرنسي مونتسكيو (Montesquieux)، في كتابه عن روح القوانين، وعالم الرياضيات والمنظّر السياسي الماركيز نيكولا دي كوندورسيه ((Nicolas de Condorcet، في كتاباته المطوّلة عن موضوع التقدّم وخاصة في كتاب"نشرة تمهيدية لجدول تاريخي بمراحل تقدم العقل البشري"، وأرنولد جوزيف توينبي (Arnold Joseph Toynbee)، في كتابه البشر وأمّهم الأرض . فضلا عن فولتير( (Voltaire في كتابه "مقالات عن السلوك"، وهو عمل فلسفىّ عن الحضارة الحديثة أعتبر في وقته، محاولة جادة لتفسير حركة التاريخ عن طريق التقدّم الحضارى للشعوب، تبرز قدرة الإنسان المطلقة على تحقيق التقدّم على مرّ العصور. فقد أكّد هؤلاء جميعا على وجوب انصراف الذهن إلى التفكير في القضايا الجديرة بالتأمّل والبحث " خدمة للإنسان ودفاعا عن إنسانيته في أي ظرف زمكاني كان.

ولعلّ قضايا فلسفة التاريخ التي دشّن طرحها الفيلسوف الألماني هيغل Hegel)) تندرج بيسر وسلاسة في سياق هذه القضايا التي تتنزّل فكرة نهاية التاريخ ضمنها. وهي ليست اليوم مجرّد موضوع مساءلة فلسفيّة فحسب، بل هي كذلك-وهو الأهمّ- أحد موضوعات الإقتصاد السياسي والثقافة السياسيّة التي ميّزت الفكر المعاصر. وذلك كإفراز لما جدّ من أحداث عظيمة غيّرت وجه التاريخ. لعلّ أهمّها-إذا صرفنا النظر عن الثورة الكوبرنيكيّة_ Revolution Copernicienne في مجال علم الفلك- الثورات السياسيّة والاجتماعيّة التي عرفها العالم، بدءا من الثورة الأمريكيّة(1775-1777) ضد بريطانيا بقيادة الضابط جورج واشنطن، مرورا بالثورة الفرنسيّة (1789– 1799) بقيادة البرجوازيّة المثقّفة والمحامي ماكسميليان دي روبسبير (Maximilien de Robespierre) المتعصّب للأفكار الإجتماعيّة للفيلسوف جان جاك روسوRousseau) Jacques Jean )، والثورة البولشيفيّة(1917) بقيادة المحامي الماركسي فلاديمير لينين (Vladimir Lénine) ومنظّرها ليون تروتسكي(Léon Trotsky) وكذلك الثورة الإيرانيّة(1979) بقيادة الفقيه آية الله الخميني، ووصولا إلى ثورات ما بات يعرف اليوم ببلدان الربيع العربي التي  كان يعوزها القواد، وتتماهى أوضاعها راهنا بأحداث رواية "الآلهة عطشى", (Les dieux ont soif)للكاتب الفرنسي المبدع أناتول فرانس(Anatole France ).وهي التى حاز بفضلها على جائزة نوبل في الآداب لسنة 1919باعتبارها تعدّ من الأدب الرفيع. وهي فعلا كذلك. فهي تصف بدقّة متناهية جو الإرهاب الذي ساد بعد الثورة الفرنسية، ضرورة أنّ رجال الثورة الذين كانوا عطشى للدم، إعتقدوا أنّهم يملكون الحقيقة المطلقة، وأن سواهم من المواطنين متهمين، لا بل مدانين من أجل اللاثوريّة، واللاوطنيّة، والعداء للجمهوريّة. وصنّفوا لذلك بالخونة، وكان جزاؤهم "المستحقّ" هو القتل العشوائي في غير ما رحمة، أو الاستئصال في أقلّ الأحوال. وهو ما حصل إبّان حدوث الثورات العربية الأخيرة، مع اختلافات جوهرية، في كل من تونس ومصر وسوريا وليبيا، وهي البلدان التي أطاحت برؤسائها ولفظتهم كما تلفظ النواة مع إحاطتهم بما يستحقّون من الإهانة وقبرهم في مزبلة التاريخ التي تزكم الأنوف.

ورغم أنّ التاريخ، عند هيغل (Hegel)، وهو فيلسوف التاريخ، صيرورة للعقل المطلق ولحريّة الروح، وفلسفته فلسفة ديناميّة (حركيّة )، تدرس الواقع في تدفّقه وفق نظريّته المعروفة باسم: "Historicism"، فإنّه قال عندي ينتهي التاريخ . فيما ذكر كارل ماركس(Karl Marx) في نظريته الشهيرة "الماديّة التاريخيّة" بأنّ التاريخ الحقيقي للبشر لم يبدأ بعد حتّى يقال أنّه إنتهي . وهو بالقطع يلمّح بذلك إلى أنّ بداية التاريخ إنّما هي عند انتقال القوّة الموجّهة للتاريخ من أيدي طبقة السياسيين الإنتهازيين والرأسماليين المستكرشين إلى طبقة العمّال الكادحين الذين يصنعون التاريخ كما الجغرافيا بأيديهم المنتجة للخيرات. ما يعني أنّ نهاية تاريخ الإضهاد الإنساني تتزامن مع زوال الفروق بين الطبقات الإجتماعيّة. وهي الفروق التي يسعى إلى تقليصها الفعل النقابي المتجذّر بصفة مخصوصة في ذهنيّة وثقافة المجتمع الديمقراطي الغربي راهنا.

والواقع أنّ كلا الفيلسوفين قد تجنّى وتعسّف على التاريخ على نحو شبيه بإهانة للمستقبل أو شتم له كما يقول الفرنسيون (insulter l’avenir). بهذا المعنى إعتبر لاحقا أحد أقطاب المحافظين الجدد المفكّر الأمريكي فرانسيس فوكوياما (Francis Fukuyama) في كتابة "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" أنّ نهاية الحرب الباردة، مع هدم سور برلين (1989)، هي بمثابة النهاية للتاريخ لأنّها وضعت حدّا للفكر الإيديولوجي في التاريخ الإنساني، وأنهت تاريخ الاضطهاد والنظم الشمولية لتحل محلّها الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية، مع استقرار نظام السوق الحرة. وذلك كتتويج مستحق كرّسته الانتصارات المتتالية على بعض الأيديولوجيات كالملكيّة الوراثيّة، والفاشيّة، والنازيّة والشيوعيّة التي كان الإستبداد قاسمها المشترك. ما يعني بالضرورة أنّ المستقبل سيشهد سيادة أو زعامة الرأسماليّة أو الاشتراكيّة الديمقراطيّة.

أمّا صأمويل فلبس هنتنغتون Samuel Phillips Huntingtonفإنّه يرى في كتابه " صراع الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي" أنّ الحضارات هي من سيحلّ مستقبلا محلّ الدول في لعب الأدوار السياسيّة الأساسيّة حيث أنّ صراعات ما بعد الحرب الباردة ستكون كثيرة جدّا وشديدة العنف. كما أنّ محرّكها الأساس سيكون حتما العامل الثقافي والحضاري الذي سيحلّ محلّ العامل العقدي الذي كان سائدا في خضمّ الحرب الباردة. حتّى أنّ المؤرّخ البريطاني جون أرنولد توينبي أقام عليه نظريّته التاريخية الشهيرة المعروفة ب"التحدِّي والاستجابة"، والتي اعتمدت بالأساس على الدين.

إلّا أنّه قد تبدّى اليوم وعلى نحو لا يعتريه الشكّ، أنّ التاريخ الحديث تصنعه الشعوب بجميع مكوّناتها. فلم يعد اليوم للمفكّر والفيلسوف الدور المحوري في النقلات التاريخيّة الهامّة، مثلما كان الشأن قبل وخلال الثورة الأمريكيّة ولا سيما الفرنسيّة. حيث كان دور فلاسفة عصر الأنوار فولتير وروسو وديدرو والماركيز كوندورسيه ثمّ مونتسكيو فيما بعد، حاسما وفعّالا في تنوير العقول وبثّ الوعي وثقافة النقد وروح الثورة لدى الجماهير الشعبيّة. كما لم يعد ممكنا اليوم للعمّال بمفردهم تحقيق ثورة على الراهن تكون في زخم الثورة الروسيّة، التي لم يكن يتوقّعها المنظرون للفكر الماركسي، لا بل حتّى كارل ماركس نفسه، ولا في زخم الثورة الصينيّة بقيادة ماو تسي تونق( (Mao Tsé-toung. مثلما لم يعد للإيديولوجيا أو العقيدة، الدور الحاسم في قيام الثورات كما كان الشأن خلال القرن العشرين.

لقد بات من المؤكّد اليوم أنّ الشعوب وحدها هي من يصنع التاريخ الراهن. على نحو ما قام به الشعب التونسي عند قيام ثورته التي أنجزها، بفضل تلاحم مختلف طبقاته وأطياف مجتمعه المدني بعزيمة قويّة وشكيمة شديدة ضمن وحدة صمّاء غيّرت المفاهيم الثوريّة السائدة التي عرّجنا على البعض منها، وقلبت رأسا على عقب النظريّات التي كانت تعتبر في الماضي من المسلّمات التي لا تقبل الجدل في الفكر الثوري القديم والمعاصر. لذلك كانت نموذجا للثورة المصريّة والثورات االتي أعقبتها. انطلاقا من توظيف الشبكات الإجتماعيّة للتحشيد مرورا برفع الشعارات من مثل شعار "إرحل"Dégage)) و"الشعب يريد إسقاط النظام"، وصولا إلى الطبيعة السلميّة للثورة( التي انحرفت بها كل من الثورة الليبيّة والثورة السوريّة لتصبحا معسكرتين فيما يشبه الحروب الأهليّة نتيجة لتعنّت حكّام الدولتين وجهلهما بقراءة التاريخ واستيعاب أحداثه وعبره). ويضاف إلى ذلك اعتماد طول النفس الثوري والإصرار على إسقاط النظام حتّى خلع الطاغية بالهروب أو بالتنحّي أو بالقتل الفظيع والتمثيل بالجثّة كما كان حال القذّافي.

وخلاصة القول في نهاية التحليل، أنّ التاريخ سيرورة لا نهاية لها وله، وهو لا يعيد نفسه كما يشاع. لأنّ مساره يتشكّل وفق خطّ مستقيم وليس وفق خطّ دائري يسمح بالعودة إلى نقطة البداية. إنّه يتوقّف عند محطّات مهمّة دون المكوث فيها طويلا، ثمّ يرنو على عجل إلى المحطّة القادمة التي تختلف جوهريّا عن سابقاتها. بهذا المعنى لم ينته التاريخ عند هيغل ولم ينته بنهاية تاريخ الاضهاد الإنساني ولا بنهاية الحرب الباردة وغياب تأثير الفكر الإيديولوجي وانتشار الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية، ولا بحلول الحضارات محلّ الدول في لعب الأدوار السياسيّة الأساسيّة. كما أنّه سوف لن يتوقّف بالتأكيد عند زعامة الشعوب للثورات بدلا من الزعامات الفكريّة والميدانيّة التي كانت سائدة في الماضي كما أسلفنا. لأنّ حقيقة نهاية التاريخ ينطبق عليها أيضا ما ذهب إليه هيغل في كتابه "تجسّد الروح" من أنّ التاريخ شيء حيّ وطبيعة كل شيء حيّ، هي دوام التغيّر والتبدّل. بما يتماهى مع مفهوم الحداثة الزئبقي والمراوغ الذي يعسر القبض عليه رغم تكرار المحاولة.

***

المهندس فتحي الحبّوبي

 

الرجلان أحدهما نبي التقدم، والآخر فيلسوف الواقع، يكشفان عن السياسة خلف الأفكار وعن الرغبة الكامنة تحت العقل.

فيلسوفان عملاقان – هيجل وشوبنهاور – يجسّدان التوتر بين وعود العقل وقوة الإرادة. هما كانا معاصرين لبعضهما. وبقيا شخصيتين شاهقتين في الفلسفة، لكن قصتهما أيضا تكشف حقيقة النظام الاكاديمي حيث النجاح في الغالب لا يعتمد كثيرا على قوة الحجة بقدر ما يعتمد على الارتباطات والسياسات وروح العصر. كان هيجل نجم عصره. العديد سُحروا بتعقيديته ورؤيته للتقدم الإنساني. ديالكتيكيته وتاريخيته حفزت المفكرين بعيدا الى ما وراء عصره. حتى اليوم، العديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع لايزالون يتكئون على هيجل. سلافوي جيجيك Slavoj Zizek،مثلا، يصر على انه هيجلي اكثر من كونه ماركسيا. لذا، دعونا نرى منْ هو هيجل.

في سنواته الأخيرة اصبح هيجل أستاذا للفلسفة في برلين، تحت علم ورعاية ملك بروسيا فردريك وليم الثالث. تعيينه في الوظيفة عام 1818 استلزم موافقة الدولة. الملك ووزرائه أرادوا من الجامعة الجديدة ان تجسد القيم البروتستانتية وسلطة الدولة. فلسفة هيجل في الدولة الرشيدة نُظر اليها كداعم قوي للملكية وهي آمنة سياسيا بما يكفي لإعتناقها. العديد من المعجبين به يفضلون تجاهل هذا. وبالنظر الى كل ذلك، كيف يمكن تفسير الفلسفة كمحررة وأيضا تعمل كتبرير للسلطة؟ البعض رأوا هيجل مرة كفيلسوف للحرية والعقلانية والتقدم. مع ذلك وبمرور الزمن، اتضح ان هذا خطير وساذج، شيء اوضحه كارل بوبر في كتابه المجتمع المنفتح واعداؤه. جادل بوبر بان رؤية هيجل تؤدي الى إضفاء الشرعية على السلطة تحت ستار العقل.

وبالنظر الى عالم اليوم، من الصعب انكار ذلك. العملية الديالكتيكية تبدو تتضمن خللا. العقل لا يحكمنا. معظم الأفكار لا تباشر عملية التفكير النقدي. نحن نعيش في عالم يمجد "التفكير النقدي"، ولكن في الغالب بدون تفكير حقيقي – بدون وسائل لإنجاز المركب synthesis . كل ما تبقى هو "النقدي"، صفة ملائمة لعصرنا. مُثل التنوير في الحرية والعقل والعطف حل محلها الانانية ومذهب المتعة والحوافز المدمرة. هذا يحدث في الحياة اليومية وبنفس القدر في قرارات القادة السياسيين.

لذا، نظرية هيجل، مهما كانت براقة، لا تصمد في العالم التجريبي. انها تفكير رغبي، بل ضباب خطير يخفي حقيقة ان العقل نادرا ما يقودنا. تعقيدية هيجل في الغالب تحميه من النقد. عندما يعارضه شخص ما، يكون الجواب انه لا يفهم. ولكن ربما هيجل كان يتعمد الخطأ، نبي التقدم العقلي اعطانا لعبة جميلة نستطيع من خلالها النظر بعيدا عن الاهوال التي يسببها العقل بالتحالف مع السلطة. انظر الى القرن العشرين: الحرب العالمية الأولى، الحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة، او في القرن الواحد والعشرين حيث أزمات المناخ والحروب وعدم الاستقرار الاقتصادي. هل كان هيجل مخطئا، ام ببساطة انه مثالي جدا؟ هل كانت فلسفته تعطي الشرعية لما موجود سلفا؟ نيتشه ادرك ان عظمة الفلسفة تكمن في النظر ما وراء الزمن الحاضر. وفق هذا المقياس يكون هيجل قد فشل. احد معاصريه، نجح فعلا رغم ما تعرّض له من تهميش بسبب هيمنة هيجل. آرثر شوبنهاور احتقر هيجل. اتهمه بالغموض المتمثل بتغليف الأفكار الفارغة بلغة معقدة لإقناع الطلاب وإرضاء الدولة البروسية. لهذا، لم يكن نظام هيجل مسارا للحقيقة وانما لسفسطة مدعومة من الدولة. هو أيضا رتّب محاضراته بنفس وقت محاضرات هيجل بأمل المنافسة لكن قاعات المحاضرة بقيت فارغة. فشله في قاعة المحاضرة يذكّرنا بانه في الفلسفة كما في العلم، الحجة الأقوى لاتربح دائما.

مع ذلك، وبالرغم من تهميشه، استوعب شوبنهاور شيئا أساسيا حول زمانه والناس. بينما هيجل مجّد العقل، التقدم، والدولة الرشيدة، أصر شوبنهاور بان تحت كل ما لدينا من مُثل تكمن قوة عمياء غير رشيدة وهي الإرادة. هو رأى ان الكائنات البشرية لم تُحكم بالعقل وانما بالرغبات والخوف والكفاح اللامتناهي الذي لا يمكن لأي نظام ديالكتيكي تنظيمه. هو جادل ان الحياة هي صراع عبثي لا معنى له. العقل يلعب دورا لكن في الاغلب كخادم للرغبة.

التاريخ أثبت ان شوبنهاور صحيح اكثر من هيجل. الناس نادرا ما يتصرفون بدافع من العقلانية الخالصة، انهم يلوون عنق العقل لتبرير السلطة، الرغبة، او البقاء. اليوم، يتضح ذلك اكثر. مجتمعاتنا تتشكل بواسطة الاستهلاكية: رغبات لا متناهية للسلع، توق مستمر من شيء الى آخر، وبحث لا متناهي عن المعنى في السلع. هذا فقط على الصعيد الشخصي. على المسرح العالمي، السياسة تخضع لهيمنة الانانيين وليس العقل. القادة يندفعون بحوافز باطنية وبالرغبة للهيمنة. السياسة تصبح غاية بذاتها ومسرح للرغبة وليس سعي عقلاني للصالح العام. هذه القوى مجتمعة تشكل الأساس للعالم الذي يصنع رغبات جديدة وبلا نهاية، يدفعنا نحو التدمير الذاتي.

شوبنهاور كشف مالم يستطع هيجل كشفه: العقل ليس المبدأ المرشد للإنسانية. انه مثال، ليس واقعا. ومع ذلك، شوبنهاور لم يتركنا في يأس. هو قدم طرقا لإرخاء قبضة الرغبة.

الأولى هي الفن. في التأمل الجمالي نحن نوقف الرغبة ونخطوا خارج الكفاح اللامتناهي للحياة. بالنسبة لشوبنهاور، الموسيقى هي أعلى درجات الفن: انها عبّرت عن الرغبة ذاتها دون ربطنا بأي شيء للرغبة. للحظة، نحن نوقف الرغبة ونفكر فقط، متحررين من استبداد الكفاح.

الثانية هي العطف. عبر الاعتراف بمعاناة الاخرين كأقرباء لنا، نحن ننتقل الى ما وراء الايغو ونرتبط بإنسانيه مشتركة. العطف يكسر حلقة الرغبة المنعزلة.

والثالثة هي الزهد، إنكار متعمد للرغبة من خلال رفض الالتصاق الدنيوي. هذا الخط من التفكير لشوبنهاور اثّر على أعظم مفكري الحداثة، أمثال كامو وسارتر وحتى فرويد.

بالمقابل، ميراث هيجل بقي أملا تاريخيا بعالم أفضل، أمل ثبت انه فارغ، أقرب الى اللاهوت منه الى الفلسفة. لذا، فان المقارنة بين هيجل وشوبنهاور تعلّمنا درسا أوسع. نحن في الغالب اكثر اعجابا بالأنظمة المثالية مقارنة بالرؤى الواقعية. هذه النزعة تستمر اليوم ليس فقط في الفلسفة وانما أيضا في العلوم خاصة العلوم الاجتماعية حيث السرديات الكبرى والوعود في التقدم لاتزال تهيمن على التحليلات الرصينة للقوى التي تشكّل الحياة حقا. ربما حان الوقت للإعجاب بشخصية مثل شوبنهاور اكثر من هيجل. لأن شوبنهاور واجه الواقع مباشرة بدون تنكّر. وفي النهاية يُترك الامر للقراء: منْ هو زرادشت الحقيقي هيجل فيلسوف التقدم، ام شوبنهاور فيلسوف الواقع؟

***

حاتم حميد محسن

 

تميز العلامة اللغوي العراقي مهدي المخزومي "1917 – 1993" بدعوته الى التحرر من تسلط التفلسف والرؤى العقلية المفروضة على اللغة من خارج سياقاتها الحية، وبدفاعه عن ضرورة دراسة اللغة دراسة وصفية تنصت الى لغة المتحدثين وأساليبهم، وتكشف عن أنماط التعبير كما تتجلى في الاستعمال، لا كما يفترضها العقل. ينطلق المخزومي من موقف يرى الاستعمال هو المعيار الأساسي في اللغة وقواعدها، لذلك دعا الى إعادة فهم اللغة في ضوء سياقات استعمالها، بغية تيسير قواعد النطق فيها، وتجديد معجمها، والنظر اليها بوصفها كائنًا اجتماعيًا حيًا، يتغير ويتحول كما يتغير الإنسان وتتحول الظواهر المجتمعية. لم يتعامل المخزومي مع اللغة كجسد جامد، بل ككائن يتفاعل مع الواقع المجتمعي للناطقين بها، ويتأثر ويعيد تشكيل ذاته في فضاء ما يطرأ على الحياة من متغيرات.

الاستعمال هو الأساس

يرى المخزومي أن مهمة النحوي لا تنبع من رغبة في فرض القواعد وإكراه الناطقين باللغة عليها، ولا من ميل الى تصحيح أساليبهم أو تخطئتها، بل تنبع مهمة النحوي من الوعي بوظيفة اللغة في الحياة، ومن فهمها كما تتجلى في الاستعمال الحي، وملاحظة واقع اللغة وكيفية تداول أهلها في سياقات أحاديثهم اليومية. النحو ليس سلطة تملى على المتحدثين باللغة، ولا منظومة مغلقة تفرض على الكلام، بل هو فهم لكيفية حضور اللغة في الاستعمال، وكيف تتشكل أساليب التعبير في بيئة اجتماعية متغيرة. النحوي الذي يعي مهمته لا يسبق اللغة، ولا يضع لها خارطة طريق مرسومة قبل أن تسير، بل يسير خلف استعمالات أهلها. يرصد النحوي تحولاتها، ويصغي الى كيفية حضورها في الاستعمال، ويستخلص من ملاحظاته ما يمكن أن يصاغ في هيئة قواعد، لا بوصفها أوامر، بل بوصفها فهمًا لما هو كائن، فإذا قال إن الفاعل مرفوع، لم يكن ذلك حكمًا سابقًا، بل نتيجة رصد ومراقبة وملاحظة وتأمل طويل لكيفية الاستعمال، واستقراء دقيق لما يتكرر في أحاديث أهل اللغة. ليست مهمة النحوي أن يخلع على اللغة قوالب المنطق وآراء الفلاسفة ومقولات علماء الكلام، أو أن يخضعها لأحكام عقلية مجردة. اللغة ليست بناءً عقليًا صرفًا، بل ظاهرة اجتماعية تنمو في رحم الجماعة، وتستجيب لحاجاتها، وتتشكل على وفق منطقها الداخلي، الذي قد لا يتطابق مع ما يراه العقل النظري منسجمًا أو منطقيًا. وذلك ما أوضحه المخزومي بقوله: "حاولت في هذه الفصول أن أخلّص الدرس النحوي من سيطرة المنهج الفلسفي عليه، وأن أسلب العامل النحوي قدرته على العمل، وقد كان النحاة رحمهم الله قد جعلوا من هذا العامل منطلقًا لأعمالهم"[1].

لم يتوقف المخزومي عند النقد، بل اقترح أفقًا بديلًا، يحرر اللغة من أسر القوالب الجاهزة، ويعيدها الى فضائها، لمواكبة متغيرات الحياة، والاستجابة لحاجات الإنسان في التعبير والفهم والتواصل، إذ يقول: "ليس من وظيفة النحوي الذي يريد أن يعالج نحوًا للغة من اللغات أن يفرض على المتكلمين قاعدة، أو يخطئ لهم أسلوبًا؛ لأن النحو دراسة وصفية تطبيقية، لا تتعدى ذلك بحال. النحو عارضة لغوية تخضع لما تخضع له اللغة من عوامل الحياة والتطور، فالنحو متطور أبدًا؛ لأن اللغة متطورة أبدًا، والنحوي الحق هو ذلك الذي يجري وراء اللغة يتتبع مسيرتها، ويفقه أساليبها، ووظيفة النحوي أن يسجل لنا ملاحظاته، ونتائج اختباراته في صورة أصول وقواعد تمليها عليه طبيعة هذه اللغة واستعمالات أصحابها، وأن يصف لنا مثلًا ما يطرأ على الكلمة، أو الجملة وأوضاعها المختلفة، فإذا قال النحوي مثلاً: إن الفاعل مرفوع، كان يستند في استنباط هذا الأصل إلى استقراء واع وملاحظة دقيقة، ونظر صائب في الأساليب وليس له أن يفلسف ذلك، أو يبنيه على حكم من أحكام العقل؛ لأن اللغة ظاهرة اجتماعية تخضع لما يخضع له المجتمع من أحكام تستند إلى عقل المجتمع نفسه، وقد لا يتفق مع ما يعرفه"[2].

هكذا يرشد مهدي المخزومي دارسي النحو الى المنهج الذي يجب توظيفه بدراسة العربية ونحوها، وهو منهج يتأسس على كيفية حضور اللغة كما تتجلى في الاستعمال، وينطلق من تتبع ما يقوله أهلها فعلًا، لا ما ينبغي أن يقولوه تبعا لقوانين المنطق الأرسطي وآراء الفلاسفة وتأويلات المتكلمين. لا يرى المخزومي في اللغة كيانًا منطقيًا أو فلسفيًا، بل يتعامل معها بوصفها ظاهرة مجتمعية حيّة، تنشأ وتنمو في أحضان المجتمع، وتتشكل على وفق معتقداته ورؤيته للعالم وأعرافه وقيمه واعتباراته وثقافته، فما يفرضه المجتمع من أساليب التعبير، وما تقتضيه ظروفه من تحولات في المعنى، لا تحكمه في أغلب الأحيان معايير المناطقة، ولا تفسره براهين الفلاسفة، ولا تضبطه محاججات المتكلمين. من هنا جاء تأكيده على أن يكون السلطان المطلق في فهم اللغة صادرًا عن هذه الرؤية التي تنصت الى كيفية استعمال المجتمع للغة، وتصغي الى ما يجرى على لسان الناس، لا ما يفرض عليهم من خارج تجربتهم الحية، إذ يقول: "ألا أن هذه الفكرة التي كانت ينبغي أن يكون لها السلطان المطلق على الدراسات اللغوية في تفسير كثير من ظواهرها، لم يتح لها النمو، فسرعان ما طغى سلطان الفلسفة على عقول الدارسين، فأوصد دونهم الباب الذي ينفذون منه إلى دراسة لغوية، أو نحوية حية"[3].2075 makhzomi

تنبه المخزومي الى خطورة الارتهان للمنهج المعياري في دراسة النحو، سواء استند هذا المعيار الى المنطق أو الفلسفة أو علم الكلام أو أية تصورات عقلية مجردة. لم يرَ في هذه المناهج ما ينير فهم اللغة، بل ما يبعدها عن كونها تنشأ وتتطور في فضاء المجتمع، ويقحم عليها ما لا ينتمي الى بنيتها. حين تُدرَس اللغة بوصفها نظامًا يجب أن يطابق معايير عقلية سابقة، تتجمد في قوالب مغلقة لا تعكس واقع الاستعمال. لذلك، دعا المخزومي الى التحرر من هذه الرؤية المعيارية، والإنصات لما تقوله اللغة في سياقات استعمالها، لا لما يراد لها أن تقوله على وفق أحكام سابقة عليها. النحو، في نظره، لا يبنى على ما ينبغي أن يكون، بل على ما هو كائن فعلًا في كلام الناس، وما يتجلى في أساليبهم المتنوعة في التعبير. وهذا ما دعاه للتحذير من اعتماد المنهج المعياري في دراسة النحو، سواء أكان المعيار منطقيًا أو فلسفيًا أو كلاميًا، بقوله: "كان النحاة قد اجتهدوا فنهجوا في دراسة النحو منهجًا معياريًا ثقيلًا، فأساءوا إلى الدرس من حيث أرادوا الإحسان بإخضاعهم موضوعات النحو للاعتبارات الكلامية والمنطقية، وأساءوا إلى الجملة العربية وأصالتها وصفاتها وحيويتها، وما تتميز به عناصرها من حرية في التقدم والتأخر والذكر والإضمار، وحدوا بغلوّهم في تحكيم الاعتبارات العقلية في الدرس من حرية الكلمة في أثناء الجملة، مع أنها تحمل معها ما يدل على موقعها في الجملة أو ما يدل على معناها الإعرابي"[4].

لم يكتف مهدي المخزومي بنقد المنهج المعياري في دراسة النحو، بل تجاوز ذلك الى مساءلة البنية العميقة التي رسخت أبدية القواعد، وتعاملت معها بوصفها أحكامًا نهائية لا تقبل المراجعة. كان يرى أن هذا الموقف المتصلب عطّل النحو عن التفاعل مع تحولات اللغة، وجمّد حيويته وقدرته على مواكبة تحولات اللسان العربي، وحوّله الى منظومة مغلقة لا تصغي الى ما يتغير في لغة المتحدثين. حرص المخزومي على أن يستعيد النحو وظيفته، وتعامل معه بوصفه مرآة لتحولات الواقع والوعي والثقافة واللغة، لذلك دعا إلى أن يتحرر النحو من تسلط التفلسف، وأن يعاد بناؤه في ضوء ما تقوله اللغة فعلًا. النحو، كما فهمه، ممارسة تتجدد بتجدد الحياة، وتصاغ من جديد كلما تغيرت سياقات الاستعمال، وتغيرت الحاجات اللغوية والثقافية، وتبدلت أساليب التعبير. في ضوء هذه الرؤية، يصبح النحو تأملًا في: كيف يتكلم العربي، وكيف يُعيد تشكيل لغته، وكيف تنبثق المعاني من صميم الواقع الذي يعيشه الإنسان، وليس من قوالب جاهزة.

النحو الحي يستخلص من الفضاء الذي تنبثق فيه اللغة، ومن الأصوات التي تعبّر عنها في استعمالها، ومن الواقع المتجدّد، والحاجات التي تفرض على اللسان أن يتغير كي يظل قادرًا على التعبير. لا يصح أن نفهم النحو إلا بوصفه مرآة للواقع وللوعي، وفضاءً للتأمل في كيفية تكلم الانسان حين يصغي الى ذاته، وحين ينصت الى الواقع، وحين يعيد بناء لغته كي تواكب ما يشعر به، وتعلن عما يريد أن يقوله. لا يستجيب النحو إلى ما يريد الإنسان أن يقوله إلا حين يتحول من قيد يكبل المتكلم الى أداة لتيسير النطق باللغة. رفض المخزومي مفهوم العامل بالمعنى المنطقي والفلسفي، الذي لم ينبثق من طبيعة اللغة الحية، ولم يكن وصفًا لظاهرة لغوية واقعية، بل محاولة لإخضاع اللغة لمنطق العلة والمعلول، وفرض نظام سببي ذهني عليها، بحيث صارت اللغة والنحو تفسر بأدوات خارجية عنها، لا تنتمي إلى بنيتها ولا إلى سياقها الاستعمالي. اللغة لا نفهمها بالعلل العقلية ولا بالقوانين المنطقية، لأنها تتجدد في الاستعمال الإنساني، لكن حين سادت نظرية العامل تحول النحو إلى قواعد منطقية تطلب العلل في العقل لا في اللسان، وابتعدت هذه القواعد عن واقع اللغة في استعمالات أهلها. فقد دعا المخزومي إلى ما أسماه "العامل اللغوي"، لتحرير اللغة من القوالب المنطقية والفلسفية، واستعادة طاقتها في التعبير عن الحياة والمعنى، بقوله: "فإذا تبينا أن أقوال الدارسين في تلك العصور المختلفة، في العوامل، كانت قد تذبذبت بين عامل فلسفي محض، وعامل توفيقي محض، وأن العامل اللغوي لم يكن له سلطان بيّن في دراستهم، وإنما كانوا يتشبثون به إذا واجهتهم قضايا استعصت على فلسفاتهم وأصولهم العقلية، وإذا اقتضى الدرس اللغوي أن نبعد عن مجال البحث النحوي ما لا يتفق مع طبيعته، فينبغي أن ندعو إلى ما سميناه العامل اللغوي"[5].

تساءل المخزومي بإنكار عن سطوة التراث النحوي على عقول الباحثين من المحدثين، وركونهم في الفهم إلى القدماء، وعملهم على استئناف ما كان كما كان، وولعهم بتكرار ما كتبه الأسلاف في القواعد والمسائل النحوية المتنوعة، وكأن اللغة مدونة أحكام أبدية مفروضة على أهلها، إذ يقول: "ولا أدري كيف يؤثر باحث محدث أن يكون النحو أقوى عقلاً، وطريقة القياس فيه أكثر تنظيماً، وأقوى سلطاناً على اللغة؟ وأي نحو هذا الذي يستخلص من القواعد الموضوعة، ولا تستفتي فيه اللغة كل اللغة، مع أن الاستعمال هو صاحب السلطان على اللغة لا عقل الفرد ولا منطقه، ولا قاعدته الموضوعة والمفروضة على الدارسين؟ أليس هذا تقليداً - في غير وعي لأفكار عتيقة كانت تفهم النحو على أنه منطق وفلسفة وتعليل وتقدير، ثم أليس هذا ترديدًا لمزاعم المتعصبين الذين كانوا يرون في منافسيهم الذين كانوا يحترمون ما ورد عن العرب ويحرصون على الفصيح المستعمل - دارسين أفسدوا اللغة والنحو، ويعرضون بالكسائي الذي اجتمع لديه النحو والقراءة، فيتهمونه بإفساد النحو، ويزعمون أنه (كان يسمع الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلًا)"[6].

في دعوته لتجديد اللغة والنحو تأثر مهدي المخزومي بعدد من أعلام النحو، مثل الخليل بن أحمد الفراهيدي ت "170ه"ـ، وأبي زكريا الفراء ت "207هـ"، أحد أبرز رواد مدرسة الكوفة، وابن مضاء القرطبي ت "592هـ"، صاحب "الرد على النحاة".كما تأثر بأستاذه في جامعة القاهرة إبراهيم مصطفى "1888 – 1962"، مؤلف "إحياء النحو"، الذي دعا إلى تجديد النحو وتيسيره. غير أن دعوة المخزومي لم تجد صدى لدى معظم اللغويين في جيله، ولم ينهض تلامذته بالبناء عليها. وقد أُجهِضت هذه الدعوة بفعل السلطات الشمولية، إذ يثير ذعر تلك السلطات كل ما يهدد صلابة بنيتها ورسوخها، فتقاوم التجديد في المعرفة الدينية واللغوية بضراوة، وتطارد من يدعو إليه، لأنه يفضح هشاشة الأسس التي تقوم عليها. إن التجديد في فهم الدين وقراءة نصوصه لا يتحقق من دون تجديد علوم اللغة وإعادة النظر في النحو، لأن اللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير وأداة للتواصل، بل هي الفضاء الذي تتشكل فيه الرؤية إلى العالم.

وعود الجيل الجديد من اللغويين العراقيين

في ضوء التحولات المعرفية والعلمية الحديثة، لم تعد اللغة تدرَس بوصفها منظومة قواعدية مغلقة، بل بوصفها ظاهرة متعددة الأبعاد، تتداخل في دراستها العلوم الإنسانية والطبيعية، وتوظف في مجالات تتجاوز حدود اللسانيات التقليدية. تحولت اللغة الى حقل تفاعلي، تسهم في فهمه علوم ومعارف متداخلة، كل منها يضيء جانبًا من جوانبها، ويكشف عن طاقتها في التعبير والتفكير والتواصل والتأثير. في مقدمة هذه العلوم يأتي علم النفس اللغوي، الذي يدرس كيف يكتسب الإنسان اللغة، وكيف يفهمها وينتجها، وما الذي يحدث في ذهنه حين يتكلم أو يصغي، يوظف هذا العلم في تطوير مناهج تعليم اللغات، وفي علاج اضطرابات النطق، وفي فهم العلاقة بين اللغة والذاكرة والانتباه. ويجاوره علم الأعصاب اللغوي، الذي يستخدم أدوات التصوير الدماغي لتحديد المناطق المسؤولة عن اللغة في الدماغ، ويسهم في فهم الاضطرابات العصبية التي تؤثر في القدرة على الكلام أو الفهم، مثل الحبسة أو التأتأة أو فقدان اللغة بعد السكتات الدماغية. أما علم اللغة الاجتماعي، فيسلط الضوء على كيفية تداخل اللغة مع البنية الاجتماعية، ويكشف عن دورها في تشكيل الهوية، والتعبير عن الانتماء، وإنتاج الفوارق الطبقية والثقافية والدينية، والتمييز بين الرجال والنساء. ويستخدم هذا العلم في تحليل الخطاب السياسي، وفهم الديناميات اللغوية في المجتمعات المتعددة، وتفسير التحولات في اللهجات واللغات الهامشية.كما تدرس الأنثروبولوجيا اللغوية اللغةَ بوصفها ممارسة اجتماعية وثقافية تنتج المعنى وتشكل الهوية، ولا تنظر إلى اللغة على أنها نسق مجرد، بل فعل يومي يعيد تشكيل الحياة والعلاقات والثقافة والهوية. اللغة في هذا الحقل وسيط رمزي يجسد أنماط التفكير، ويمارس من خلالها الإنسان الانتماء والسلطة، وتنعكس فيها التوترات والصراعات الكامنة في الممارسات اليومية.  يضاف الى ذلك علم اللغة الإدراكي، الذي يربط اللغة بالتصورات الذهنية، ويبحث في كيفية بناء المعنى داخل الذهن، ويسهم في تطوير نماذج معرفية لفهم اللغة بوصفها أداة للفكر، لا مجرد وسيلة للتواصل. وتعمل اللسانيات التطبيقية على تحويل هذه الرؤى النظرية الى أدوات عملية، تستخدم في تعليم اللغات، وتصميم المناهج، وتطوير الترجمة، وتحليل الخطاب في الإعلام والتعليم والقانون. كما توظف الفيزياء الصوتية في دراسة الخصائص الفيزيائية للأصوات اللغوية، وتستخدم في تطوير تقنيات النطق الآلي، وتحسين جودة الصوت في وسائل الاتصال، وتشخيص اضطرابات النطق.كذلك يسهم علم البيولوجيا التطورية للغة في فهم أصل اللغة وتطورها، ويطرح أسئلة حول كيف نشأت القدرة اللغوية لدى الإنسان، وما الذي يميزها عن أشكال التواصل الأخرى في الطبيعة، ويستخدم هذا العلم في المقارنة بين اللغات البشرية وأنظمة التواصل الحيوانية، وفي دراسة تطور الدماغ البشري من منظور لغوي. ولا يمكننا إغفال دور الذكاء الاصطناعي، الذي يعد من أكثر الحقول الواعدة اليوم، إذ تستخدم خوارزميات التعلم الآلي لفهم اللغة البشرية، وترجمتها، وتحليلها، وتوليدها آليًا، وتوظف هذه التقنيات في تحليل المشاعر، وتوليد النصوص، وتطوير الحوار بين الإنسان والآلة.

هذه العلوم تعيد تعريف اللغة بوصفها كائنًا حيًا، يتجلى في الوعي، ويتشكل في المجتمع، ويتحول في الزمن. وفي ضوئها لم تعد علوم اللغة حكرًا على المتخصصين التراثيين، بل أصبحت ميدانًا مشتركًا بين علماء النفس والأعصاب والاجتماع والأنثروبولوجيا والإدراك والبيولوجيا والفلسفة والذكاء الاصطناعي. هذا التداخل لا يضعف اللغة، بل يغنيها، ويعيد وصلها بالحياة، ويجعل منها مرآة لتحولات الإنسان في ذاته وعالمه.

حجب طغيان الرؤية التراثية للغة الأفق المضيء الذي غامر بالدعوة إليه مهدي المخزومي، ولم يجرؤ علماء العربية من تلامذته على اختراق حجاب تلك الرؤية. غير أني متفائل بمغامرة جيل جديد من الأكاديميين في العراق، تجرؤوا على تدريس علوم اللغة الحديثة في بعض أقسام اللغة العربية في جامعاتنا، ووجهوا تلامذتهم إلى كتابة أطروحاتهم ورسائلهم في الدراسات العليا لدراسة اللغة وتمثلاتها في الحياة في ضوء المعطيات العلمية الجديدة. استجاب لمتطلبات العصر الرقمي هؤلاء الأكاديميون الأحرار، وانتقلوا بدراسات علوم اللغة والنحو إلى آفاق مضيئة تتخطى الرؤية التراثية للغة والنحو. علوم اللغة الحديثة تعيد للغة دورها بوصفها ظاهرة إنسانية مركبة، تتداخل فيها البنية مع المعنى، والسياق مع الهوية، والتاريخ مع الوعي. هذا الاستئناف النقدي لا يكتفي بتجاوز الرؤية التراثية، بل يعيد تشكيل علاقة اللغة بالوجود، ويمنحها طاقة جديدة لفهم الإنسان في تنوع أنماط وجوده وتحولاته المتواصلة ومواكبته للواقع الذي يعيش فيه. هذا التحول يمثل يقظة لغوية عراقية تستفيق فيها دعوة المخزومي، وتبعث الحياة بمشروعه الذي سعى إلى تحرير اللغة والنحو من تسلط الرؤية التراثية، وربطها بسياقات استعمالها المتغيرة.

تحية للعزيز مؤيد آل صوينت، الذي أخرج للقراء طبعة جديدة للأعمال اللغوية الكاملة لمهدي المخزومي، وللأعزاء اللغويين من جيله، الذين يتطلعون ويعملون على تجديد الدرس اللغوي في الجامعات العراقية. منجزات مؤيد وزملائه تعدنا بعبور الرؤية التراثية للغة، والخلاص من تسلط الفصاحة والنحو.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

.........................

[1] المخزومي، مهدي، في النحو العربي: نقد وتوجيه، ص 16، 1964، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت.

[2] المخزومي، مهدي، الأعمال اللغوية الكاملة، اعتنى بها وقدمها: مؤيد آل صوينت، ج1: ص 15، 2024، دار الشؤون الثقافية، بغداد.

[3] المرجع السابق، ص 15.

[4] المرجع السابق، ص 16 – 17.

[5] المرجع السابق، ص 18.

[6] المرجع السابق، ص 17.

 

دور الفلسفة الحيوي في معالجة أزمات الإنسان والمجتمع المعاصر

مقدمة: الفلسفة اليوم.. ضرورة لا ترف فكري

في عصرٍ تتسارع فيه وتيرة التغيرات التكنولوجية، وتستعر فيه الانقسامات الأيديولوجية، وتتعقد فيه القضايا الأخلاقية، يبدو السؤال عن جدوى الفلسفة، ذلك الحقل المعرفي العتيق، أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. غالبًا ما يُنظر إلى الفلسفة على أنها مجموعة من التساؤلات المجردة التي لا تلامس أرض الواقع، حبيسة الأروقة الأكاديمية وبروجها العاجية. لكن هذا التصور يغفل عن جوهر الفلسفة الحقيقي؛ فهي ليست مجرد ترفٍ فكري، بل هي ضرورة منهجية وأخلاقية لفهم واقعنا وتفكيك مشكلاته.

إن الفلسفة، في جوهرها، هي فن "التساؤل المنضبط" و "التفكير النقدي العميق" حول المبادئ الأولى والأسس التي يقوم عليها وجودنا، ومعرفتنا، وقيمنا. وفي عالمنا المعاصر، المشبع بالمعلومات المتضاربة، واليقين الزائف، والتحديات الوجودية، تقدم الفلسفة الأدوات المنهجية اللازمة ليس فقط لتشخيص المشكلات، بل لاقتراح مسارات لمعالجتها على المستويين الفردي والاجتماعي.

أولًا: الفلسفة كأداة لتفكيك الواقع (المشكلة المنهجية)

قبل الخوض في المشكلات المحددة، لا بد من الإشارة إلى أن الأزمة الأولى التي يعالجها الفكر الفلسفي هي "أزمة التفكير" ذاتها. نعيش اليوم في "مجتمع ما بعد الحقيقة" (Post-truth Society)، حيث تُطمس الحدود بين الحقيقة والرأي، وبين الخبر والبروباغندا.

1. مواجهة السطحية وغسيل الأدمغة: تُعد الفلسفة، وتحديدًا "نظرية المعرفة" (Epistemology) و"المنطق"، خط الدفاع الأول ضد التضليل المعلوماتي. هي لا تعلمنا ماذا نفكر، بل كيف نفكر. تدربنا الفلسفة على:

أ‌- تفكيك المغالطات المنطقية: التي تعج بها الخطابات السياسية والإعلامية.

ب‌- تقييم مصادر المعرفة: التمييز بين المعرفة الموثوقة والادعاءات الزائفة.

ت‌- تحليل الافتراضات المضمرة: كشف ما يكمن خلف الشعارات البرّاقة والأيديولوجيات المتطرّفة.

في زمن الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI) وتقنيات "التزييف العميق" (Deepfakes)، يصبح التفكير النقدي الذي تبنيه الفلسفة ليس مجرد مهارة أكاديمية، بل أداة بقاء ديمقراطي واجتماعي.

2. أنسنة التكنولوجيا (المشكلة التكنو-أخلاقية): لقد وضعتنا الثورة التكنولوجية أمام معضلات لم يسبق للبشرية أن واجهتها. هنا، يبرز دور "فلسفة التكنولوجيا" و "الأخلاقيات التطبيقية" (Applied Ethics) بقوة.

أ‌- أخلاقيات الذكاء الاصطناعي: تطرح الفلسفة الأسئلة الحاسمة: كيف نضمن ألا تكون الخوارزميات متحيّزة؟ من المسؤول أخلاقيًا عن أخطاء الذكاء الاصطناعي؟ هل يمكن للآلة أن تمتلك وعيًا؟ وما هي حدود العلاقة بين الإنسان والآلة؟

ب‌- البيوإيتيقا (الأخلاق الحيوية): مع تطور تقنيات التعديل الجيني (مثل كريسبر)، تتصدى الفلسفة لسؤال "ما معنى أن تكون إنسانًا؟". هل يحق لنا "تصميم" أطفالنا؟ وما هي الخطوط الحمراء في التدخل البيولوجي؟

ت‌- الخصوصية والمراقبة: في عصر "رأسمالية المراقبة"، يعيد الفلاسفة فتح نقاشات عميقة حول مفهوم "الذات"، و "الحرية"، و "الحق في الخصوصية" في الفضاء الرقمي.

ثانيًا: الفلسفة كمرشد للعيش (المشكلات الفردية)

على المستوى الفردي، يعاني إنسان العصر الحديث من أزمات وجودية عميقة: الاغتراب، القلق، وفقدان المعنى.

1. البحث عن المعنى في عالم متغير: في مواجهة تراجع السرديات الكبرى التقليدية وصعود النزعة الاستهلاكية، تقدم الفلسفات الوجودية (مثل أعمال سارتر، كامو، وسيمون دي بوفوار) أدوات لفهم "القلق الوجودي". هي تدعونا لتحمل مسؤولية حريتنا وخلق المعنى الخاص بنا، بدلًا من استهلاكه جاهزًا.

2. العودة إلى "فن العيش": نشهد اليوم عودة قوية للفلسفات القديمة كـ "الرواقية" (Stoicism) كأدوات علاجية. في عالم لا يمكن التنبؤ به، تعلمنا الرواقية التمييز بين ما يمكننا التحكم به وما لا يمكننا، وتدربنا على "الصلابة العقلية" وقبول الواقع كخطوة أولى لتغييره. لم تعد الفلسفة مجرد تأمل، بل أصبحت "ممارسة يومية" لإدارة القلق وتحقيق السكينة (Ataraxia).

ثالثًا: الفلسفة كعقد اجتماعي (المشكلات المجتمعية والسياسية)

لا تنفصل أزمات الفرد عن أزمات المجتمع. وهنا تلعب "الفلسفة السياسية" و"الأخلاق الاجتماعية" دورًا محوريًا.

1. أزمة العدالة والديمقراطية: إن اتساع فجوة اللامساواة الاقتصادية، وصعود الشعبوية، وتآكل المؤسسات الديمقراطية، كلها قضايا تقع في صلب الفلسفة السياسية.

أ‌- نظريات العدالة: تستمر أعمال جون راولز (John Rawls) حول "العدالة كإنصاف" في إلهام النقاشات حول كيفية بناء مجتمع يوازن بين الحرية والمساواة، وكيفية توزيع الثروة والموارد بشكل عادل.

ب‌- التسامح والعيش المشترك: في مواجهة الاستقطاب السياسي والطائفي، تعيد الفلسفة طرح أسئلة التعددية الثقافية، وحدود حرية التعبير، وأسس "العقد الاجتماعي" الذي يجمعنا على الرغم من اختلافاتنا.

2. الأزمة البيئية (أخلاقيات الكوكب): يشكّل تغير المناخ التحدي الأكبر لوجودنا. "الأخلاقيات البيئية" (Environmental Ethics) هي فرع فلسفي يتساءل عن علاقتنا بالعالم الطبيعي.

أ‌- هل البشر هم "أسياد" الطبيعة أم جزء منها؟

ب‌- ما هي مسؤولياتنا الأخلاقية تجاه الأجيال القادمة؟

ت‌- هل للحيوانات والنظم البيئية حقوق؟ تدفعنا الفلسفة هنا لإعادة التفكير جذريًا في نماذجنا الاقتصادية القائمة على النمو اللامحدود، وتدعونا لتبني "أخلاقيات المسؤولية" تجاه الكوكب.

خاتمة: الفلسفة.. ضرورة لإعادة بناء المستقبل

إن المشكلات التي تواجه الإنسان والمجتمع اليوم ليست مجرد مشكلات تقنية أو اقتصادية يمكن حلها بـ "تطبيقات" أو "سياسات" معزولة. إنها في جذورها أزمات "معنى" و "قيمة" و "تفكير".

دور الفلسفة الحالي ليس تقديم إجابات جاهزة، بل هو "إبقاء السؤال حيًّا". إنها المنهج الذي يمنعنا من التكيّف السلبي مع الواقع، ويدفعنا لتخيّل "عوالم ممكنة" أخرى. هي التي تسلّحنا بالشجاعة لنطرح الأسئلة الأكثر إزعاجًا: لماذا الأمور على ما هي عليه؟ وهل يمكن أن تكون أفضل؟

في عالم يقدّس السرعة واليقين، تبدو الفلسفة، بتمهلها وشكها المنهجي، فعلًا راديكاليًا. إنها البوصلة التي نحتاجها لنبحر في تعقيدات القرن الحادي والعشرين، ليس فقط لننجو، بل لنعيش حياة إنسانية أكثر وعيًا، وعدالة، واكتمالًا. فالمجتمع الذي يتوقف عن التفلسف، هو مجتمع يتوقف عن التفكير في مستقبله.

***

أ.د. إحسان علي الحيدري - أستاذ فلسفة الدين والأخلاق

كلية الآداب / جامعة بغداد

في المثقف اليوم