أقلام فكرية

أقلام فكرية

الدهشة بصيرة الفلاسفة، يندهش الفيلسوفُ بالأشياء التي تحسّها هامشيةً وبسيطة وعابرة، ليغوص فيها ولا يخرج منها إلا بأسئلةٍ مجهولة وإجابات ذكية. تنبعث الفلسفةُ لحظةَ إيقاظ العقل وانبعاثِ الأسئلةِ العميقة في الوعي. ‏الإنسان الذي يندهش، وينقد، ويتأمل، ويتساءل أسئلةً كبرى، لديه استعداد لأن يكون فيلسوفًا. لا معنى للفلسفة من دون النقد العميق، والأسئلة الكبرى. الفيلسوف يمارس النقد العقلي بلا قيود وحدود، تتوالد أسئلتُه في سياق النقد، كما يتوالد نقدُه في سياق أسئلته. يلبث الفيلسوفُ يفكّر في جواب لا ينتهي إليه إلا بعد تأمل، وتمحيص، ونقض الإجابات المتهافتة المختلفة. النقد بوابةُ الدخول للتفكير الفلسفي، نشر فيلسوفُ الأنوار كانط أعمالَه الأساسية، وهو يصدّرها بكلمة نقد: "نقد العقل الخالص" 1781، و"نقد العقل العملي" 1788، و"نقد ملكة الحكم" 1790 ، على التوالي، وخلص من هذه الأسفار العقلية الصبورة إلى نشر كتابه الثمين: "الدين في حدود العقل" 1793.

الفلسفةُ إيقاظٌ متواصل للعقل، وتحريرٌ له من تسلط المعتقدات، والأيديولوجيات، والهويات، والخرافات، والأوهام، والسلطات بأنماطها المتنوعة. التفكير الفلسفي يبدأ لحظة يتحرّر العقلُ من أنماط الوصايات المتنوعة، والبداهات غير البديهية. تتجلى قوةُ العقل في معرفته لحدوده، وقدرته على التفكير داخلَ فضائه، والخلاص من أوهامه، ومما هو زائف من أحكامه. التفكيرُ الفلسفي على الضدّ من الاعتقاد النهائي المغلق، التفكيرُ الفلسفي متحرّر من الحدود والقيود والشروط والأسوار المغلقة.

كلُّ شيء يخضع لمُساءَلة العقل ونقده وتمحيصه، العقل نفسه يخضع لمساءلةِ العقل، وتمحيصِ مفاهيمه، وغربلةِ أحكامه، وطريقة تعريفه لنفسه، وتفسيره لحقيقة معرفته، ومصادرها، وقيمتها. لا يضع الحدودَ للعقل إلا العقلُ، العقل يرسم حدودَه وما هو داخلٌ في فضائه، ويتدخل ببيان حقيقةِ ما هو خارج حدوده. لا يصدق التفكيرُ فلسفيًّا إلا لحظةَ يكتفي العقلُ في تصديقاتِه وحججِه وأحكامِه بذاته، فيكون هو مرجعية تمحيصِ تفكيره، ومرجعية ما سواه، والحكم عليه إثباتًا أو نفيًا. عندما يصمت العقلُ ويكفُّ عن وظيفته، تدخلُ الروحُ والعاطفةُ في متاهات. العقل يريد ألا نستمع منه إلا إلى صوته الخاص، من دون أن تشوّش عليه وتربكه وتنهكه أصواتٌ خارجَ حدوده. العقل يحكم بعدم إمكان أن يتخلصَ الإنسانُ من تأثيرٍ خفيّ لذاته وعواطفه ومشاعره والمحيط الذي يعيش فيه بشكلٍ تام. العقل يحكم بوجود الدين في الحياة ويحدّد مجالاته، ووجود المتخيّل ويحدّد مجالاته، والمثيولوجيات والأساطير ويحدّد مجالاتها، ويعلن بأنها من الثوابت الأبديَّة في الثقافات البشرية. العقل هو الذي يتولى تصنيفَ وتوصيفَ هذه الموضوعات ويحكم عليها إثباتًا أو نفيًا، ويرسم خرائطَها ويضع حدودَها.

الإنسانُ واحدٌ بالرغم من أنه متعدّد، متعدّدٌ بالرغم من أنه واحد. طبيعة الإنسان تتَّسع للوحدة والتفاعل الحيوي للعاطفة والروح والعقل. ‏هذه الوحدة أحيانًا يتغلب فيها أحدُ العناصر ويتراجع دورُ العناصر الأخرى. في الفلسفة يتغلب العقلُ ليصير هو المرجعية في الحكم والقرار، وبتغلُّبه يتحقق التفاعلُ الخلّاق بين العقل والروح والعاطفة. يضع العقلُ الروحَ والعاطفةَ في حدودهما، وهو الذي يصحّح المسارَ لهما على الدوام. تنحسر مرجعيةُ العقل في مجتمعاتٍ غير متعلمة تتفشى فيها العبوديةُ الطوعية، واستعبادُ الوعي، والانقيادُ الأعمى، وتخديرُ الضمير الأخلاقي. العاطفة والروح تعملان بخفاءٍ للتأثير في العقل، والتحكّم بتفسيراته وصناعة أحكامه وقراراته. يعود سوءُ الفهم بين الفلاسفة وطرائق فهمهم إلى تأثير الذات والعاطفة والروح في تفسيرات العقل وأحكامه، على الرغم من أن الفلاسفة هم الأكثر صرامةً في اعتمادِ العقل والعملِ على توظيفه في كلِّ شيء. لا خلاف في الفلسفة حول كون العقل هو الذي يرسم حدودَه، ويحدّد وظيفتَه، ويكتشف مصادرَ معرفته. الخلاف بين الفلاسفة أنفسهم حول حدود العقل، وماهية هذا العقل وتعريفه، ومجالاته، وكيفية إدراكه، ونوع مدركاته.

العقلُ الفلسفي هو الذي أولدَ العقلَ الحديث، تَوالدَ هذا العقلُ وتشكّل في فلسفة فرنسيس بيكون وديكارت وكانط وغيرهم من الفلاسفة، فكان العقلُ الفلسفي الحديث باعثًا أساسيًّا على وضع التاريخ البشري في مسارٍ جديد، غادر فيه حالتَه الرتيبة التكرارية الطويلة، بعد أن لبثت البشريةُ آلاف السنين لم تحقّق المكاسبَ العلمية من الاكتشافات والاختراعات والتكنولوجيات المنجزَة في القرون الثلاثة الأخيرة، وتحول عبرها الإنسانُ من الآلات اليدوية إلى المحرِّكات الحديثة، ومن وسائل النقل البدائية إلى القطار والسيارة والطائرة ووسائل النقل المتطورة. وهكذا تواصلت هذه المكاسبُ بقفزات على شكل منعطفات، إلى أن وصلنا إلى هندسة الجينات، وتكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي والروبوتات.

كانت الفلسفةُ وستبقى تتفاعل مع النظريات العلمية والاكتشافات، تؤثر وتتأثر بها، تستجيبُ لما يستجدّ من اكتشافات في الفلك والفيزياء والأحياء وغيرهما من العلوم. لعلم الفلك الحديث، الذي بدأ مع كوبرنيكوس (1473 – 1543) ونظريتِه في مركزية الشمس ودوران الأرض والأجرام الأخرى في المجموعة الشمسية حولها، أثرٌ مباشرٌ على التفكير الفلسفي والميتافيزيقي في أوروبا من بعده، وهكذا تأثر هذا التفكيرُ بقوانين الحركة والجاذبية العامة في فيزياء نيوتن (1642 – 1727)، كما تأثر لاحقًا بفيزياء الكوانتم لماكس بلانك (1858 – 1947)، والنظرية النسبية لأينشتاين (1879 – 1955)، وقبل ذلك تأثر بنظرية التطور لتشارلز داروين (1809 – 1882).

الفلسفة لا تنتهي ولن تتوقفَ مادام الإنسانُ يندهش، ويفكّر، ويتساءل، ويشكّك، ‏ ويناقش، ويتحاور، ويختلف. لا تمثل الفلسفةُ مرحلةً من مراحل تطور الوعي، الفلسفةُ تواكبُ الوعيَ ولا تتخلّف عنه، حتى لو سادَ العلمُ الحياةَ. العلمُ يطرح على الفلسفة أسئلتَه ومشكلاتِه العويصة، وما يعجزُ عن اكتشافِ طرق الخلاص منه في فضاء المادة والمحسوس والتجربة، الفلسفةُ لا سواها مَنْ يجيب عن ذلك. لم يولد العلمُ إلا ‏في أحضان الفلسفة، تظلّ الفلسفةُ تواكبُ العلم، تتغذّى بأسئلته الحائرة، ومشكلاتِه وأزماته خارجَ حدود المادة والتجربة، وترفده وتغذّيه بالأجوبة والحلول والرؤية لما تنتجه تطوراتُه من تساؤلات، ومشاكلَ معقدة، وأزماتٍ روحية وأخلاقية ونفسية ومعرفية، سواء أكانت هذه المشكلات والأزمات فرديةً أم مجتمعية. لن يكتفي العلمُ بذاته ويستغني عن الفلسفة، مهما بلغ تقدُّمُه وتنوعت وتراكمت نتائجُه. حين يفكر الفيلسوفُ يقدّم تفسيرًا يتجاوز سطحَ الأشياء والظواهر، يحاول أن يفسّر حقيقةَ العلم وماهيته، ويقدم إجابات لمشكلات العلم وأسئلته العميقة خارجَ حدوده. الفيزياء والكيمياء والعلوم المختلفة تنشغل باكتشافِ قوانين الطبيعة ومعادلاتِها، ولا تعرف حقيقةَ ذاتها، ولا تعرف حقيقةَ العلم وماهيته. الفيلسوف يحاول أن يفسّر حقيقةَ الوجود والظواهر والأشياء والعلوم وماهيتَها، مما هو خارج حدود العلم.

الفلسفةُ تتطلب مَن يمتلكُ موهبةَ التفلسف، التفلسفُ وعيٌ عقلي تأملي عميق، لا يجيده كلُّ عقل، يحتاج التفلسفُ عقلًا ذكيًّا فطنًا مندهشًا متسائلًا. الموهبةُ لا تكفي وحدَها، يتطلب التفلسفُ إنفاقَ سنوات طويلة في التعلُّمِ، وترويضِ الذهن وتدريبه على التفكير الصبور، والشكِّ، ومساءلةِ المسلّمات وغربلتها، وتمحيصِ ما تَسَالم الناسُ على أنه من البداهات،كما يحتاج كلُّ علم ومعرفة وفنّ إلى التعلّم، والتفكير، والمران المتواصل. مَنْ يريد تعلّمَ التفلسف عليه أن يصغي لأحد المعلّمين الماهرين للفلسفة.

تعليم الفلسفة تعليم التفكير الفلسفي، لا يتفلسفُ الإنسانُ بتعلم تاريخ الفلسفة. التفلسف يتطلب التعرفَ إلى مفاهيم وآراء الفلاسفة الكبار في العصور المتوالية، بغضّ النظر عن اتجاهاتهم، ومواطنهم، ومسائلتها، والحوار معها. تراكم المعلومات وتكديس الإجابات لا يوقظ بالضرورة العقل، غير أن سؤالًا عميقًا واحدًا يمكن أن يوقظه، إن كان العقلُ نابهًا. تدريب التلميذ على النقد والتساؤل ضروري لبناء مَلَكة النقد والتفكير الإبداعي. تَعلُّمُ التلميذِ التفلسفَ هو تعلُّمُ التساؤل والتفكير النقدي، وليس استِظهار النصوص، والمزيد من حفظ آراء الفلاسفة وتكرار أسمائهم. طريقة تعليم التفلسف تعني تدريبَ الذهن على التأمل العميق والتريث في التفكير، والتوقفَ عن إصدار الأحكام المتعجّلة قبل الفهم والتفسير والتحليل والتمحيص، والنظرَ للفلسفة بوصفها إيقاظًا للعقل بالتساؤل والنقد، وغربلةً للوثوقيات والجزميات.

العقلُ الفلسفي ينبغي أن تكون آفاقُه رحبة، يفكّر خارجَ المعتقدات والهويات والأيديولوجيات المغلقة. الأُطر المقيِّدة للتفكير العقلي الحرّ تمارس تَمْويهًا بعنوانات مراوغة عبر الأدب والفن والدين، وأخطر أشكال التمويه عندما تتخفى المعتقداتُ والأيديولوجيات والهويات وتفرض أحكامَها وراء قناع الفلسفة والعلم والمعرفة. العقلُ الفلسفي قلَّما يتوطن في بيئة الثقافة الشعرية، الفلسفة تعكس أعمقَ تجليات العقل البرهاني، الشعر يتوالد ويزدهر في فضاء المخيّلة، ويعاند العقلَ البرهاني. إن كانت البيئةُ فلسفيةً بالأصل، كما في ألمانيا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، تصبح بيئةً خصبة لظهور شعراء يبدعون شعرًا مشبعًا برؤيا فلسفية، على غرار هولدرلين (1770 - 1843) في ألمانيا. وإن كانت بيئةُ الثقافة شعريةً بالأصل فنادرًا ما نرى فيها ولادةَ فيلسوف، كما في تمركز الثقافة العربية على الشعر قبل الإسلام. الإنتاج الثقافي للبيئة يشبهها، في البيئة الفقيرة عقليًّا تسود ثقافةٌ تخيّلية، في البيئة الخصبة عقليًّا، تزدهر المعرفةُ المركبة العميقة. بعد عصر البعثة توالد التساؤل والنقد والتفلسف في التفكير الديني لدى المسلمين في سياق تأويلهم لآيات القرآن الكريم الاعتقادية، وما ولد في آفاقها من أسئلةٍ حول القضاء والقدر، وغير ذلك من المعتقدات. إثر ذلك ظهرت المدارس الكلامية المعروفة في القرون الأولى، وظهرت الفلسفة، فكان الكندي (185 هـ/805 - 256 هـ/873)، والفارابي (260 هـ/874 - 339 هـ/950)، وابن سينا (370 هـ /980 - 427 هـ /1037)، وغيرهم من الفلاسفة في الإسلام.

‏‏ ما ينقل الذهنَ للتفكير الحرّ خارجَ الأسوار المغلقة هي الكتابةُ الفلسفية التي تدعو للتفكير ضدّ المألوف والسائد بلا دليل. لا تظهر قيمةُ الكتابةِ الفلسفية بمقدار ما تنتجُه من إجاباتٍ مكرّرة، قيمة هذه الكتابة بقدرتها على تحريض العقل على توليد أسئلةٍ عميقة، يتطلب الخوضُ فيها الكثيرَ من التأمل والتفكير غير المتعجِّل. لم تشهد المكتبةُ الفلسفية العربية غزارةً في الإصدارات كما يحدثُ في السنوات الأخيرة نتيجةَ تعدّدِ المؤسسات الراعية للترجمة، والمبادراتِ الفردية والجماعية في التأليف، واتساعِ التعليم العالي وكثافةِ وتنوع رسائل الماجستير والدكتوراه في الدراسات العليا للفلسفة، والنشرِ الورقي والإلكتروني.

غزارةُ المطبوعات الفلسفية وتنوّعُها بقدر ما يثري المكتبةَ الفلسفية كميًّا، إلا أنه قلّما يكشف عن عمق التفكير الفلسفي والخروجِ من تكرار الشروح، وشروح الشروح، والتعليقات الانطباعية، وأحيانًا العبثية، على أقوال الفلاسفة. لا يدلّنا رواجُ سوق كتابٍ على فرادته وقوة مضمونه، ولا تعني غزارةُ الكتابة وكثافةُ الإصدارات القدرةَ على التأملِ والتفكيرِ المتمهل، وامتلاكِ البصيرة الثاقبة. أعرفُ مَنْ يتحدث ويكتب بغزارة في الفلسفة من دون أن يدرسَ أو يقرأ أيَّ نصٍّ فلسفي، وكأن الكتابةَ والحديثَ في الفلسفة أمست مهنةَ مَنْ لا مهنةَ له. يتفلسف بعضُ هواة الفلسفة بحفظ النصوص، وهو لا يدري أن الحفظَ شيءٌ والتساؤلَ والتفكير النقدي والإبداع شيءُ آخر. الكتابةُ والحديث في الفلسفة يمارسها مثل هؤلاء من دون أيّ تأهيل أكاديمي، ولا قراءات معمّقة لتراثنا الفلسفي والفلسفة الحديثة. لستُ ضدّ تبسيط الفلسفة وتيسيرها للقراء، غير أن لغةَ الكتابة يفرضها نوعُ مفاهيمها، وغايةُ تفهيمها. تبسيطُ المعارف والعلوم الذي يتولاه خبراء في كلِّ حقل ضرورةٌ لفهمها وتنمية الوعي المجتمعي. ‏التدريس مثلًا ضربٌ من التبسيط، إشاعةُ المعرفة تتطلب تبسيطًا يتولاه المتخصِّصُ في كلِّ حقل معرفي، تبسيطُ غير المتخصِّص لأيّ علم ومعرفة يزيّفها.

إصداراتُ الكتب والدوريات التي تحملُ عنوانات فلسفية لا أقرأ فيها غالبًا رؤيةً فلسفية، ولا أرى أكثرَها يتحدث لغةَ الفلسفة. عندما يصادفني كتابٌ أو مقال فلسفي يتحدث لغةَ الفلسفة وينقد ويتساءل أشعر كأني عثرتُ على كنز مفقود. يبهرني العقلُ اليقظ البارع بمحاكمته لآراء فلاسفة كبار وتقويضه لها، مثلما تبهرني براعتُه ببناء رؤىً فلسفية ينفرد بها، وإن كنتُ لا أتفق مع كلِّ نقاشاته وأدلته ورؤاه وآرائه ونتائجه. ليس المهمّ أن نتفق أو نختلف مع طريقة تفكير مَنْ يتفلسف ومحاججاته وتقويضاته ونتائجه، المهم أن نقرأ عقلًا يفكِّر فلسفيًّا بطريقته الخاصة، ويكتب الفلسفةَ بلغة الفلسفة. الفيلسوف يفرض على قارئ الفلسفة المتمرّس الاعترافَ بعبقريته الفلسفية. عبقريته يعكسها خروجُه على طريقة التفكير المتداولة، ولأكثر مَنْ نقرأ لهم من كتّاب اليوم.

بعض مَن يكتبون تحت عنوانات فلسفية يراكمون عنواناتٍ بلا مضمون فلسفي، يكتبون موضوعاتٍ عويصة، وهم عاجزون عن التفلسف وخلق الأسئلة الفلسفية. تتكدّسُ في كتاباتهم كلماتٌ تتخبّط في دلالتها ولا تفصح عن وجهتها، لا تقرأ فيها ما يشي بشيءٍ يصنَّف على الفلسفة. في أقسام الفلسفة بجامعاتنا قلّما نجد أستاذًا يتفلسف خارج النصِّ الذي يقرّره لتلامذته، مَنْ يعجز عن التفلسف يعجز عن تعلّم الفلسفة وتعليمها، التفلسفُ غايةُ تعليم كلّ فلسفةٍ تنشد لنفسها إيقاظَ العقل.

كتابُ: "الدرس الفلسفي في المدارس الدينية" وُلد في سياق مخاضٍ طويل لكاتبه في دراسة الفلسفة وتدريسها لمدة طويلة تجاوزت الأربعة عقود من حياته. تمخَّضت هذه الممارسةُ بتعليم الفلسفة عن رؤيةٍ تقدم للقارئ تقويمًا لواقع الدرس الفلسفي في الحوزة وآفاق انتظاره، وقراءةً تواكب الدورَ الذي اضطلع به العلامة محمد حسين الطباطبائي ببعث الفلسفة في معاهد التعليم الديني، وتنمية نطاق تدريسها والكتابة فيها، وحضورها اللافت عبر مؤلفاته، وما نسجه تلامذتُه من تعليقات وشروح لتلك المؤلفات، وأثرهم في تعليم الفلسفة داخل معاهد التعليم الديني والجامعات.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

....................

* مقدمة كتابي الجديد الصادر أخيرًا عن منشورات تكوين الكويتية، ودار الرافدين العراقية، بعنوان: "الدرس الفلسفي في المدارس الدينية".

"الإنسان كائن إنفعالات"

 يعيش الإنسان في هذا العالم وهو عُرْضَةٌ للانفعالات، لهذا يمكن عَدُّ الانفعالات جزءاً لا يتجزأ من الإنسان، ويمكن تقسيمه [أي الإنسان] إلى قسمين، قسم خاص بالعقل وقسم خاص بالانفعالات.

لهذا نقول أن الإنسان يعي إنفعالاته التي تظل في حركة ومُقَاوَمَةٍ وجريانٍ وسيولة لا يمكن إشباعها البتة، إنه يشعر في أعماقه بجاذبية الانفعالات وما تخلق لديه من سعادة أو قلق وتوتر وهذيان.

الانفعالات بهذا المعنى مجرد رغبات وشهوات ونزوات وأفعال وأفكار ولذات نعي بها، لكنها تخرج عن سيطرتنا وذواتنا وتظل مع ذلك جزء منا، كما تشكل هويتنا أو حقيقتنا الثابتة، رغم كل حالات الاضطرابات التي يعيشها الإنسان بسببها، لدرجة أنها تكبح جماح فكره، الانفعالات إقصاء لكل تفكير ولكل عقل.

لا وجود في حقيقة الأمر لأي فرق بين الرغبة أو الشهوة أو اللذة أو مختلف النزوات والمثيرات والانفعالات خاصة لدى الإنسان، وما يميز الانفعالات أنها متغيرة بإستمرار لأنها تكون موجهة نحو القيام بفعل لحظي عرضي ما.

ورغم كل ذلك تظل الانفعالات على صلة وثيقة بالحياة الإنسانية ومحدداتها، كما تتأطر ضمن الوعي بالذات الذي بدوره له علاقة وطيدة بالإدراك الحسي والشعور، أي ما نشعر به، وما نحس به كأشخاص.

إن لفظة الانفعالات إذا ما أخذت على ما في ظاهرها، نعتقد أنها عبارة عن ردود فعل حسية شعورية نابعة من داخل ذات الفرد، في حين أن هناك علاقات وثيقة بين كل من انفعالات الذات وتجليات الغير.

وهذه العلاقة المزدوجة بين الذات والآخر والانفعالات والنزوات والميولات والدوافع هي التي تتحكم في هذه العلاقات دون أن نكون على علم بهذه الصلة الجدلية.

توجد في دواخل كل واحد منا انفعالات وأهواء تنفلت من كل عقل وتعقيل، إنها بمثابة توترات يشعر بها المرء أو عقد نفسية ووجدانية وذهنية من صميم اللاشعور ناتجة عن الشعور بالافتقار والفقدان واللا معنى أو غياب الغاية ... هذا هو ما نسميه الانفعالات.

سأقف قليلا عند الشعور بالذنب أو الشعور المستمر بالحرمان والنقص والضعف والبساطة وافتقاد الكمال، أو حتى السعي الوهمي وراء الكمال وتحقيق اللذات والسعادة، كل هذه وتلك، تعبيرات قوية عن الانفعالات، كما قد تكون هذه الأخيرة ناتجة عن الشعور بالتملك أو إرادة العالم إليَّ ورَدُّه إلى الذات وفي بعض الأحيان نشارك انفعالاتنا مع الغير.

تبدو الانفعالات إذن كما لو أنها غير مرتبطة بالسعادة، أي وكما لو أننا نضيع وقتنا في السعي وراء السعادة وطلب تحقيقها بواسطة الانفعالات؛ في حين أن الانفعالات ناتجة عن الشعور بالذنب، وهو الذنب الذي نعمل على إخفائه.

كل انفعال إذن هو إنتاج وإعادة إنتاج للوهم عن طريق ملكة التخيل التي يمتلكها كل إنسان، كما أن هذه التخيلات تجد الواقع كمرآة تنعكس عليه، ومعنى هذا أن الانفعالات أوهام توجد في مجال الواقع وتثبت فيه، فالانفعالات والاستيهامات لا تشكلان سوى شيئاً واحداً.

يؤدي كل حرمان من تلبية هذه الانفعالات في الحقيقة إلى سلب واستلاب وتشييء واغتراب أو فقدان للانفعال الذي ينعكس بشكل سلبي على كل فرد، لهذا تشكل هذه الانفعالات كيمياء الواقع الإجتماعي.

إن الفرد مخترق من طرف الانفعالات بشكل مباشر، ولهذا تشكل هذه الانفعالات استيهامات التي بدورها عبارة عن سيناريوهات ومتخيلات تشرط الأفراد، وتنبع من أعماقهم ودواخلهم، ثم تنعكس على واقعهم الإجتماعي، برغم كونها تتجلى بشكل فعلي في الأحلام وفق نظريات التحليل النفسي، لكننا هنا، نؤكد على كون هذه الاستيهامات تجد مختلف أبعادها وتجلياتها وتمظهراتها في الواقع، لهذا تركن إليه أو تستند إليه، أو نقول باختصار أن الواقع الإجتماعي هو الأساس الأول لهذه الاستيهامات وبالتالي الانفعالات.

"المنبع الديني للانفعالات"

هناك في الحقيقة صعوبة في تحديد منبع أو مصدر الانفعالات، رغم قولنا أعلاه أن أساسها الأول إجتماعي إنطلاقا من تحديدنا للاستيهامات، إلا أن هذه الأخيرة بدورها قد يكون لها أساس سيكولوجي في الحقيقة، كما لا يمكن إنكار الأساس الأنثروبولوجي الثقافي للانفعالات، بل لا يمكننا أن ننفي أيضاً أي أساس محتمل أو مفترض لها، مثلاً: التاريخي، أو الأخلاقي-قيمي، أو حتى القانوني-السياسي، ... إلى آخره، أو حتى الديني، قد يكون للانفعالات أساس ديني، لماذا؟ لأن الدين وبكل بساطة كابح قوي لكل الانفعالات!

يشكل الدين إذن، أو كل معتقد ديني إيماني الشكل الأكثر قمعاً وقتلاً للإنتاج الانفعالي، لهذا يتم قمعها بواسطة الانفعال-المضاد نفسه، وفي الحقيقة فإن الإنتاج الانفعالي هو وحده الإنتاج المقموع من طرف الدين، ويتم تحريره وفق شروط محددة، مثل شرط عقد-ميثاق الزواج لممارسة الجنس بكل حرية مع المرأة التي تصبح زوجة.

لا توجد أية حدود للانفعالات، كما لا يمكن تحقيق الإشباع التام أو حالة الإرضاء المطلقة، تبدو الانفعالات إذن غير قابلة للكبح والمقاومة إلا بواسطة الدين.

كما أن الانفعالات مدفوعة من طرف مشاريع مخيبة للظن وتتجلى بشكل ظاهر في الثقافة والمجتمع والقانون والسياسة والجنس والرياضة والدين والفن والحياة ... إلخ، إن الانفعالات لا يمكنها من الآن فصاعداً إلا أن تتجاوز ذاتها، من خلال التقليص منها أو الحد عنها.

إن إخضاع الانفعالات لسلطة الدين أو لشبكة القوانين لكي تصبح مقموعة، لا يعبر إلا على نزعة مكبوتة ساذجة، لأن الانفعالات وبكل بساطة لا تقاس على الإيمان، بل العكس إن درجات الإيمان هو الذي تشتق منه الانفعالات.

"إستحالة تحقيق الانفعالات"

وأخيراً الانفعالات غير قابلة للكبح والمقاومة، لأنها تنبني في الأساس على خيبة الأمل، فإذا كنت تطمح لتحقيق كل الانفعالات دائماً، فأنت مجنون، لأنك تريد أن تحقق أهواء ورغبات وغرائز ونزوات وأفعال وتخيلات يصعب تحقيقها، لأن الانفعالات محدودة بحدود ما هو موجود، وهناك انفعالات وأهواء تنفلت من كل وجود!!

كل إنفعالات هي في الحقيقة متضادات أو توليفة من التناقضات (حاجة، انفعال، رغبة، إرادة، عزيمة، حرمان، تعاسة، معاناة، فعل، اختيارات، ميولات، دوافع جنسية، قمع، أهواء، غرائز، نزوات، مقاومة، تخيلات، مكبوتات، ...إلخ.) هذه المتناقضات تظل دائماً بلا إشباع، أو في كل محاولة إشباع تتعرض للقمع، ولا يحدث لها الإرضاء التام، وتقترن دائماً بخيبات الأمل المتواصلة التي تخلقها.

كل الانفعالات إذن، "هي في الواقع شيء واحد: عدم ارتياح على مستوى الإرادة المتميزة. عدم تحقيق السكينة، فالسعادة الحقيقية تصبح مستحيلة."[1].

تَنْتُجُ الانفعالات إذن، عن التوترات التي يشعر بها المرء في حالة الافتقار إلى الكمال، أو الشعور بحالة إنقباض تام أو ألم خفيف، وفي بعض الأحيان قد يكون الألم عميقاً يبقى لصيقاً في ذهن المرء إلى المستقبل.

***

محمد فراح – استاذ فلسفة

.........................

مصدر الإحالة:

[1]- Arthur Schopenhauer, Le Monde comme volonté et représentation, traduit de l'allemand vers le français : Bordeaux, M.J.F., troisième édition 3, année de publication : 1966, p. 101. (Adapté).

الإستشراق وعوائقه المعرفية

في ذكرى وفاة محمد أركون: هذا النص إهداء بروحه

 ***

توطئة: اعتمد محمد أركون (1938 – 2010) في تحليل المنهجية الاستشراقية ونقدها على مادة " قرآن " الموجودة بدائرة المعارف الإسلامية – الطبعة الثانية – والتي كتبها أحد المستشرقين: أ.ت.ويلش A.T.Welch و نظرا إلى أن تعليقه على ما كتبه هذا المستشرق كان مقتضبا إلى حد ما، فإننا سنلجأ إلى ما كتبه أركون في مواضع أخرى حول الاستشراق ومنهجيته في تعامله مع التراث الإسلامي. ومسألة الاستشراق خاض فيها العديد من الدارسين وقيلت بشأنها أقوال وآراء متضاربة أحيانا ومتفقة في أحيان كثيرة ومن أهم القضايا التي أثيرت نجد خلفيات الاستشراق، مدى موضوعية المستشرقين في تناولهم لمسائل تاريخية ووحضارية من تراثنا، ثم مدى ملائمة مناهج المستشرقين لموضوع بحثهم وما ترتب عن استعمال هذه المناهج من نتائج سلبا وإيجابا. هذا بصفة عامة، أما محمد أركون فإنه يتساءل منذ البداية عن مدى صحة ما يروجه الكلاسيكيون العرب في خصوص الاستشراق والمستشرقين: هل هناك معاداة مبالغ فيها التقاليد من قبل الاستشراق أم بالعكس هناك تجن لا مبرر له من قبل الكلاسيكيين تجاه المستشرقين؟ وهنا يحاول أركون أن ينحو منحى موضوعيا في تقييم كتابات المستشرقين ومن هنا تأتي مشروعية التساؤل الموالي: هل كسر الاستشراق بعض القيود القيود والاقفال نعني بذلك أدواته المنهجية أم أنه اكتفى بتطبيق المباىء والمناهج والتساؤلات المشتركة التي استخدمها البحث الجامعي في الغرب ما بين عامي 1850-1960 تقريبا على القرآن؟ (1). وأعتقد أن تميز أركون في تناوله لمسألة الاستشراق يكمن في مضمون هذا التساؤل الذي ينأى بالإشكالية عن الحساسية المفرطة وعن التشنج المبالغ فيه ليتناولها بهدوء الباحث ورصانة المفكر، فتغيب تبعا لذلك ملامح الطرح الإيديولوجي للمسألة وتظهر أبعادها المعرفية جلية.

1 – عرض المنهجية الاستشراقية وخصائصها:

المنهجية الاستشراقية أو كما يسميها أركون بالإسلاميات الكلاسيكية (2) هي خطاب غربي حول الإسلام ومصطلح الإسلاميات – بمعنى الخطاب الذي يهدف إلى العقلانية في دراسة الإسلام – هي اختراع غربي. ففي الواقع لا يمكن أن ننكر أن " الإستشراق " كان قد ساهم بشكل واسع في إعادة تنشيط الفكر العربي الإسلامي، لكن ينبغي مع ذلك القول أنه إذا كان هناك معلمين كبارا من أمثال دوسلان، سنوكا، غرونج، نولدكه، ما سينيون، مارسيه قد سحبوا نصوصا ذات أهمية كبرى من نسيان طويل وشقوا طرقا جديدة وأساسية للبحث مثل اللهجات المهملة وغيرها، فإن إسهاماتهم بقيت لوقت طويل إما متجاهلة وإما منظورا إليها سلبيا من قبل الجمهور العربي والإسلامي.

لقد اعتمد المستشرقون في تعاملهم مع التراث العربي الإسلامي مناهج فقه اللغة الكلاسيكية التي ظهرت منذ القرن الرابع عشر وتواصل العمل بها إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث عدت المناهج اللغوية الأداة العلمية الوحيدة القادرة على إخراج نصوص قديمة ونشرها محققة بدقة عالية. ربما تعود بدايات الإستشراق إلى العصر الوسيط حيث اهتم الغربيون بترجمة مؤلفات علمية عربية إلى اللاتينية. وابتداء من القرن السادس عشر بدأ الفكر الغربي يزدهر ويتسع ويصبح أكثر إشعاعا، وعلى النقيض من ذلك كان الفكر العربي والإسلامي قد بدأ بالتراجع والانحسار ليصبح فكرا تابعا وهنا ينبغي علينا أن ننظر إلى مسألة العلاقة بين المشرق العربي الإسلامي والغرب ضمن هذا الأفق التاريخي لموازين القوى التي انقلبت لصالح الغرب وأصبح المشارقة سواحا مسافرين يأتون لمشاهدة هذه المجتمعات (3) بعين عجائبية.

منذ القرن التاسع عشر، الذي تميز بظاهرة الاستعمار على المستوى الإقتصادي والسياسي وبنشوء علم التاريخ وتطوره على مستوى العلوم الإنسانية تضاعف إحساس الغرب بتفوقه إزاء بقية شعوب العالم ولاسيما إزاء المجتعات العربية الإسلامية، فكان الالتقاء الموضوعي بين الإستشراق والاستعمار وأصبح نتاج المستشرقين الفكري والحضاري مشحونا بالبعد الإيديولوجي وأصبح المستشرقون السند المعرفي والتبريري للاستعمار وهذا ما ولد نفورا لدى الجمهور العربي والإسلامي من كتابات المستشرقين. إن التداخل بين البعد المعرفي في المنهجية الاستشراقية والبعد السياسي الاستعماري يعود بالأساس إلى التزامن بين بروز منهجية فقه اللغة وعلومها أو ما عرف بالمنهجية الفللوجية ونشوء علم التاريخ وتطوره في القرن التاسع عشر من ناحية وبين انقضاض الغرب الرأسمالي على البلدان العربية والإسلامية وسيطرته عليها. ولعل في ما قلناه دفاع عن الاستشراق ولكن ينبغي أن لا ننسى أن السياسي الاستعماري قد وظف المنتوج المعرفي لعصره لتبرير ممارساته وخططه وأهدافه وما يعاب على بعض المستشرقين هو انسياقهم في مخططات لا تليق بمكانتهم المعرفية ولا بدورهم العلمي. وقد يكون هذا من الأسباب التي جعلت المفكرين العرب يهملون الإنتاج المعرفي للمستشرقين أو يتعاملون معه باحتراز شديد، وذالك رغم ما أتاحته منهجيتهم من تحقيق لنصوص كبرى من التراث العربي الإسلامي وانتشالها من غياهب النسيان، مع العلم أن هذه المنهجية مازالت مستمرة إلى الآن في دوائر الاستشراق ومعاهده وجامعاته (4).إن حاجتنا اليوم إلى فقه اللغة لا تزال أكيدة لأن تراثنا لايزال في قسمه الأعظم مخطوطات لم تحقق بعد علميا. إن المنهجية الفللوجية لا تزال تفرض نفسها على الباحثين بصفتها المرحلة الأولى من مراحل البحث وخاصة المدرسة الألمانية لعراقتها في البحث ودقتها العلمية.

2 – الاستشراق والنص القرآني:

مما يلاحظ في مقالة أ . ت. ويلش A.T.Welch  في دائرة المعارف الإسلامية أنها تلتقي مع ما كتبه السيوطي (849 هج./ 912 هج.) في كتابه " الإتقان في علوم القرآن " فنجد عند كليهما اهتماما كبيرا بجرد المعارف ووصف المشاكل المتعلقة بالصيغ التي اتخذها الوحي في المصحف أو في النص النهائي، فنبقى بذلك خارج النص نفسه، على السطح عندما نكتفي بتقص يخص فقط المفردات والشكل والبنية النحوية والأسلوب. وتبدو المقاربة الشكلية أكثر وضوحا عندما يطرح المؤلف تساؤلات بخصوص الحروف الغامضة المجهولة مثل:آلم ، كهيعص،...و تقطيع الآيات ونظام السور وطولها وأسمائها وكذلك بخصوص وجود البسملة من عدمها. ومما يلاحظ أيضا أن المؤلف قد تعرض للصيغ الأدبية والموضوعات الأساسية في الفقرة ذاتها ومما يؤسف له أنه تطرق لهذا الموضوع ضمن تصور للنقد الأدبي التقليدي (5) وهو التصور الذي يفصل اللغة عن الأسلوب ويفصل الأشكال الأدبية عن الموضوعات، في المقابل ينبغي الإعتراف بأهمية معطيات المنهج الفللوجي ومكتسباته الإيجابية التي لا ريب فيها. هناك أمر لا بد من الإشارة إليه ،قبل أن تتطرق إلى علاقة الاستشراق بالنص القرأني ،هذا الأمر يتصل بفارق أساسي بين المنهجية الإسلامبة التقليدية والمنهجية الاستشراقية فبقدر ما ينزع التفسير الإسلامي الصفة التاريخية عن كيفية تشكل المصحف (6)، ويطمس المشاكل المتعلقة بذلك ويسبغ علي مضامين النص القرآني نوعا من التعالي، يهتم البحث الإستشراقي كليا بالمعطيات الإيجاببة والواقعية لتاريخ القرأن فيما بعد سنة 11هج / 632 م وينشغل بمسألة السياق اللغوي والتاريخي للآيات، فالتعارض بين هاتين النظرتين جذري وحاد ولا يمكن إقامة أي جسر أو صلة وصل بينهما.

لنولدكه Noldeke فضل كبير في أنه أدخل للمرة الأولى منذ القرن 4هج / 10 م السؤال الذي لا مفر منه والخاص بالتاريخ النقدي للنص القرأني، وذلك في مؤلفه الضخم " تأريخ القرأن " Geschishte des Qorans  الذي طبع ونقح من قبل ف.شوالي F.Schawaly سنة 1919 تحت عنوان (........) ثم نشره مرة أخرى كل من ج. بواجستراسير J. Bregstasser وس.بريتزل S.Bretzel سنة 1938. لم يلق هذا الكتاب زمن إنجاز هذه الدراسة مترجما ينقله إلى العربية على أهميته مما يعطي فكرة عن وجود مجال من المستحيل التفكير فيه والمفروض من قبل العقل الأرثوذكسي . هناك من المستشرقين من تندرج أعماله ضمن الخط الفللوجي- التاريخاني الذي رسمته المدرسة الألمانية نذكر منهم: أ. جيفري A.Gifrey ور.باريه  R.Paret وريجيس بلاشير R. Blachere  وكذلك ج.بيرتون J.Burton  في كتابه "جمع القرأن " collection of the Coran ( Cambridge, 1919 ) وج.وانزيروف  J.Wansbrowgh في كتابه " دراسات قرآنية: مصادر ومناهج تفسير الكتابات المقدسة "( أوكسفورد، 1977). (7) وهناك من زاوج بين التحليلات الفللوجية والتحليل الخاص بالنقد الإجتماعي socio-critique مثل ه. بيركلاند H. Birkland الذي نجد عنده أن مشاكل صحة النصوص تصبح وقائع إجتماعية – ثقافية ذات دلالة ومغزى، تعرفنا على كيفية اشتغال الذات على نفسها فتحول الظرفي والنسبي إلى حقيقة لا تاريخية ومتعالية.

إن المشكلتين الأكثر أهمية واللتين تناولتهما القراءة الفللوجية، هما التسلسل الزمني للسور والآيات ثم ترتيب مجموع الوحي ونصوصه وتنظيمها. كان الفقهاء قد اشتغلوا كثيرا بالمشكلة الأولى وذلك بسبب احتياجهم لآستنباط الأحكام الشرعية، إلى التحديد الدقيق للترتيب الزمني للآيات التي تعالج الموضوع ذاته مثل موضوع الخمر مثلا. إن الأمر هنا لا يتعلق بوجهة نظر تاريخية محضة أو اعترافا بالتاريخ .كان ج.بيرتون J.Burton قد حاول تبيان كيف أن الفقهاء يستطيعون أن يشوشوا الحقيقة التاريخية وذالك بتلاعبهم بالأحاديث وتوجيهها الاتجاه الذي يريدونه أو يبحثون فيه. هذا يبين إلى أي حد يبدو ضروريا استعادة أدبيات أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والأحاديث التي استشهدوا بها دعما للتفاسير المختلفة من أجل أن ندرسها من جديد ونعيد كتابة التاريخ الحقيقي للنص القرأني.

إن التحري الإستشراقي الفللولوجي، وبعيدا عن المجادلات العقيمة وغير اللائقة التي يوجهها المسلمون للمستشرقين الفللولوجيين، قادر على فتح الرهانات المعرفية وإثارتها دون أن يتعدى ذالك، فهو يتوقف في منتصف الطريق ولا يستطيع التقدم إلى الأمام وتحليل مختلف المشاكل المرتبطة بآية قرآنية مثلا (8)، أو بمجموع التراث الإسلامي عموما. إلا أن ما يفعله التحري الإستشراقي هام ولا يمكن تجاهله، لأن الرهانات التي يمكن أن تثار عديدة ومتنوعة:لغوية وتاريخية وأنتروبولوجية وتيولوجية وفلسفية، وهذا ما يمكن البرهنة عليه عن طريق الآية رقم 12 من سورة النساء والآية 176 من السورة نفسها (9). ويؤكد أركون في تحليله للآيتين على الأهمية الإستكشافية لكل دراسة تحليلية توازن بين القصص والحكايات التي أوردها الطبري (.224 هج/ 310 هج) في تفسيره:" جامع البيان عن تأويل آي القرآن " خصوصا، وتقارع بعضها بالبعض الآخر لآستخراج الحقيقة عن طريق المقارنة.

الآية رقم 12 من سورة النساء: يقول تعالى: " ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصي بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو إمرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حكيم "

الآية رقم 176 من سورة النساء، يقول تعالى: " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم "

تعالج هاتان الآيتان المذكورتان مسألة الفرائض أو الميراث. إن الجزء من الآية12 الذي يبتدىء بقوله " وإن كان رجل " وينتهي في آخر الآية، كان قد أحدث انقساما بين المفسرين إلى حد أن الطبري قد كرس له سبع صفحات في تفسيره، كما كان قد استحضر سبعا وعشرين شاهدا من أجل أن يضيء معنى كلمة " كلالة "المستخدمة مرتين فقط في القرآن (الآيتان 12 و176 من سورة النساء).( 10). هاتان الآيتان تطرحان العديد من الرهانات التي تتجاوز المنهجية الاستشراقية وتفتح آفاقا جديدة في قراءة النصوص الدينية:

أ – الرهان اللغوي:

إن المسألة المطروحة منذ البداية مسألة لغوية ومعنوية- سيمانتية تخص كلمة " كلالة " ،ثم هي مسألة نحوية – تركيبية تخص الجملة التالية:" وإن كان رجل يورث كلالة أو إمرأة.." هنا نصطدم بمشكلة عويصة جدا (11) ، لم يستطع التفسير الإسلامي الكلاسيكي أن يحلها والصعوبة متأتية من الكلمة الغريبة " كلالة " التي لم يتوصل أحد إلى معرفة معناها. أما عن التركيب النحوي فما ورد في الآية الكريمة: " وإن كان رجل يورث كلالة..." الفعل ورد بصيغة المجهول، وهذا ما يزعج المفسرين لأننا لا نعرف العلة في أستخدام صيغة المبني للمجهول هنا .ثم يردف قائلا: " وله أخ أو أخت " هنا أيضا نواجه مشكلة نحوية ذالك أننا كنا ننتظر أن يقول: "و لهما أخ أو أخت " بصيغة المثنى، لأن هناك فاعلين لا فاعلا واحدا ولكنه استخدم صيغة المفرد وهكذا نجد أنفسنا في مأزق صعب.

أما الطبري، من جهته فيقول بأن هناك قراءة أخرى للآية ولكنه ينقلها خفية للتقليل من أهميتها، وهذه القراءة ظظمختلفة كليا عن الأولى تقول: "و إن كان رجل يورث كلالة أو إمرأة وله أخ أو أخت.." نجد أن الأمر مختلف جدا، فإذا " يورث " بصيغة المبني للمجهول كما في القراءة الأولى فإننا لا نعلم ما إذا كان قد ترك إرثا بواسطة وصية أم أنه لم يترك وصية. وإذا كان لم يترك وصية فإنه ينبغي تطبيق قواعد الإرث المنصوص عليها في مكان آخر من القرآن، أما إذا استخدمنا القراءة الثانية التي يكون فيها الفعل " يورث " بصيغة المبني للمعلوم، فإن الأمر يختلف تماما وهذا يعني أن المحتضر قد ترك وصية وحدد وارثه أو ورثته، إذن التركيبان اللغويان يورث، امرأة، يوصي/ يورث، امرأة يوصى متعارضان وهنا يبين د.س. باورز )D.S.Powers  12) أن الطبري يقوي القراءة الأرثوذكسية ويدعمها وذلك حين يتناسى أن يورد أثناء شرحه للآية 12 من سورة النساء حكايات مهمة ذكرها فقط في معرض شرحه للآية 176 من نفس السورة ثم يعمد إلى إحالة القارىء إلى الحلول التي أعطاها سابقا أثناء تفسيره للآية 12.

ب – الرهان التاريخي:

ينبغي طرح السؤال التالي:كيف وضمن أي وسط اجتماعي راحت القراءة المتبناة تتغلب على " يورث ويوصي "اللتين هما من ضمن فرضيات وحلول أخرى ممكنة ؟ تتخذ هذه المسألة أهمية قصوى بسبب أنها تخص قضية الميراث وانتقاله إلى خارج النسل الذكوري. لقد كانت القراءة المرفوضة تتيح للميراث أن ينتقل إلى نسل النساء وخصوصا إذآ ما أعطينا لكلمة " كلالة " معنى الكنة كما ذهب إلى ذالك أحد المستشرقين المعاصرين (....) (13) الذي أمضى وقتا طويلا في البحث عن أصول كلمة " كلالة " التي وجدها في اللغة الأكادية وبالتحديد في اللغة القانونية الأكادية وتعني الكنة، لذا نجد من الضروري أن نرجع إلى نظام الإرث السائد في الجزيرة العربية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لكي نقارنه بالأنظمة الموجودة في الأوساط العراقية والسورية في القرن الأول للهجرة.، لأنه إذا كان القرآن يروم توريث الكنة، فإن ذلك يعني أن كل نظام القرابة والضبط الخاص بآنتقال الأملاك والثروات في المجتمع القبلي قد انهد وانهار. هذا يعني أن الآية التي وردت فيها كلمة " الكلالة " آية ثورية بالقياس إلى كل النظام الإجتماعي السائد والى نظام القرابة المتعارف عليه في شبه الجزيرة العربية آنذاك. إن ما ذهب إليه الفقهاء أنهم فسروا الآيات ونظروا إليها بشكل تستطيع معه المحافظة على النظام السائد قبل الإسلام وبطريقة تحافظ على الموجود خشية حصول انقلاب كامل في المجتمع يهدد تماسكه، لذلك قرئت الآية ضمن المعنى الذي ينسجم مع نظام النسب الأبوي الصارم .(14)

ج – الرهان التيولوجي:

إن الرهان التاريخي يثير بدوره تلك المناقشة الخطيرة المتعلقة بخلق القرآن والتي كانت قد طمست أبعادها من قبل الأرثوذكسية الكلاسيكية ، فالتلاعب بمعاني الألفاظ وحذفها أو إخفاؤها وانتقاء ما يلائم الخلفية الإيديولوجية التي تتحكم بالمفسرين والفقهاء والتي قد تكون مناقضة للقصد الأولي، كل ذلك يظل دائما ممكن الحصول لأن لغة القرآن الكريم - العربية - يستخدمها الناس العاديون في المجتمع وعملية الإستخدام هذه تخضع لاعتبارات عدة وتوظيفات مختلفة.

د – الرهان الفلسفي:

إن ضغط الحاجيات الملحة للوجود الإجتماعي – التاريخي قادرة على تشويه هدف التعالي المكرر بآستمرار في الوحي. تنقلب تبعا لذلك وظيفة الدين من كونه الدينامو الروحي المغذي للطموح إلى المطلق والبحث عن الكمال، إلى وظيفة الضبط والتنظيم والتسويغ. وهنا ينبغي أن لا يغيب عن بالنا أن كل التصورات وعمليات التحريف للواقع وتنكيره تحدد ملامح المخيال الإجتماعي إلى درجة أنها تلعب دورا في إنتاج المعنى والتلاعب به واستهلاكه، هي أكثر خطرا وأهمية من اليقينيات المزعومة التي ينجزها العقل بواسطة فعالياته التحليلية المنطقية. (15)

هكذا نجد أنفسنا بفضل هذه الرهانات قد ابتعدنا عن المناقشات الشكلية والأكاديمية الباردة التي يقدمها أ.ت.ويلش A.T.Welch  في مقالته التي تهمل إبراز المنهج الفللوجي كمرحلة أولى لازمة وضرورية، لا التوقف عندها، من أجل التوصل إلى أفق أكثر انفتاحا (16) ، وغنى بآستمرار وليس كمرحلة أولى وأخيرة.

3 - الإستشراق وعوائقه المعرفية:

إن الإسلاميات الكلاسيكية – أي الإستشراق – الممارسة في الفترة الكولونيالية خضعت قليلا أو كثيرا للنموذج الديكارتي الذي يقوم على المعادلة التالية: " أن تفهم أو أن تعرف يعني أن تتأهب للشيء من أجل السيطرة عليه " لكن " من أجل أن تسيطر فإنه ينبغي البدء بالمعرفة أولا، لكنك لن تستطيع أن تعرف أو تفهم الشيء إلا بشرط أساسي هو أن تتحرر ولو للحظة واحدة من هاجس السيطرة "(17). لقد راح الهدف العملي للمعرفة الإستشراقية يضمحل شيئا فشيئا بنهاية الأستعمار وأصبح معظم المختصين في الشرق يميلون إلى تكديس المعارف والمعلومات الدقيقة دون أن يهتموا بالتنظير أو بالتأمل الإبستيمولوجي والمنهجي أو بالإستخدامات التي يمكن للمسلمين وغيرهم استغلالها من خلال المعرفة المتجمعة هذه، وهنا تكمن حدود المنهجية الاستشراقية ولاسيما المدرسة الفرنسية التي تفضل دراسة الماضي أكثر من دراسة الحاضر بعكس المدرسة الأمريكية المشهورة بذرائعيتها وبالتركيز على الحاضر.

سئل أركون مرة عن مآخذه على الإستشراق، فأجاب بأن من بين مآخذه عليه هو أنه لم يطرح التساؤلات اللازمة حول المناهج كإشكالية علمية مطروحة ولم يهتم بمسألة النقد الإبستيمولوجي، إضافة إلى أن المستشرقين خاضعون بدورهم للثقافة التي تكونوا داخلها فكريا وإيديولوجيا، هذا إلى جانب تأثرهم بالمناهج السائدة والتي لها روافدها اليونانية واللاتينية وعلاقتها بالمنطق والبلاغة الأرسطيين، مع ما يستتبع ذلك من أحكام مسبقة على ثقافة الآخرين. (18). لقد بقي الإستشراق أسير مناهجه وعجز عن التأقلم مع المستجدات الحديثة في مجال العلوم الإنسانية والمناهج المستحدثة، لقد تجاهل الإستشراق كل تلك المكتسبات ولم يثق بها بحجة أنها موضة عابرة. إن رفض المستشرقين فتح مناقشة ابستيمولوجية بخصوص مناهجهم وممارستهم العلمية أمر غير مفهوم، رغم أن نقل المناهج والمفاهيم المتبلورة انطلاقا من الثقافة الغربية وتطبيقها على ثقافة أخرى من شأنه أن يستفزهم بشكل مزدوج لفتح مثل هذا النقاش، لأن من يمارس هذا العمل أي نقل المناهج، يعرف أنه مضطر في كل مرة إلى التحقق حمن إمكانية هذا النقل ومن مدى صلاحيته ثم يعرج أركون إلى مسألة خطيرة فيرى أن المستشرق إذ يكتفي بالسرد الأمين للغات الشائعة والظواهر وبالنقل البارد لمعتقدات المسلمين وممارساتهم، إنما هو في الحقيقة يرفض أن ينظر إلى الواقع الحقيقي أو المقنع أو المستبعد من قبل الناس الذين يدعي التحدث بآسمهم ، فيؤبد بالتالي الوهم الخادع بأنه يقدم معرفة مطابقة وصحيحة من وجهة نظر المسلمين أنفسهم ومن وجهة نظر المؤرخ الحديث الذي يتحدث عنهم في آن واحد. إننا لا نلمس أي تضامن un engagement تجاه الثقافات المدروسة بل سعي لتكريس نظرة جوهرانية لا تتغير إزاء شعوب وثقافات.

إن الشيء الخطير الناجم عن هذه العملية التمويهية هو أننا نحرم أنفسنا من القبض على الآليات الإجتماعية والنفسية والثقافية واللغوية التي أتاحت تقنيع الواقع وإخفاء وجهه الحقيقي. هكذا يساهم المستشرقون في حرمان الفكر العربي الإسلامي المعاصر من الوسائل المنهجية الحديثة التي تمكنه من تفكيك التصورات القديمة التي خلفها الماضي ومن تحليل المناخ السيميائي الذي نشأت فيه هذه التصورات، كما تهمل الطريقة الإستشراقية دور المخيال الإجتماعي وتفقر بالتالي كل المضامين الحقيقية لكل وجود اجتماعي وتاريخي، متأثرة في ذالك بالعقل الوضعي وبطريقته في التعامل مع الأحداث التاريخية بالخصوص (19).

جانب آخر يتصل بالمستشرقين، قد لا تكون له علاقة بمناهجهم، ولكنه يمس أخلاقيات الباحث والروح العلمية لديه وهو غياب الإحساس بالتضامن عندهم مع الثقافة التي يتعاملون معها يقول أركون: " إني أندد وبقوة بنوع من الأدبيات التي تواصل أخذ صيغ الإسلاميات الكلاسيكية بالقول مثلا بما يقوله المسلمون، أو لأنهم يقولون ذلك:" الإسلام دين ودولة " إنها عملية نسخية وكتبرير يقولون لك إن المسلمين يقولون هذا وبما أنني علمي، موضوعي فأنا أقول ما يقولونه " ،إنه توقف ابستيمولوجي من قبل من يكتب هذا الكلام، إنه رفض للتضامن التاريخي ومادام المستشرقون غائبين عن هذا الإحساس بالتضامن ، إني لا أطالبهم بتضامن معنوي، انتحابي أو ترضوي، أرفض هذا النوع من التضامن وبالمقابل أطلب منهم تضامنا في المشاكل "،و يبلغ بأركون الغضب والتشنج مبلغه وهو يتحدث عن هذه النقطة فيقول: " في هذا المشكل الذي أعني به " الإسلام دين ودولة " توجد العديد من المشاكل الأخرى، إننا الآن بصدد نزاع حاد في بلداننا حول هيكل الدين ووظيفته في تنظيم الحكم في المجتمع الإسلامي. هذا هو الرهان وهؤلاء السادة المستشرقون يرفضون النظر إلى هذا الوضع الذي يسيل فيه دمنا يوميا وإذن فأنا أدين كلية من يكتب هذا الكلام، ليس لأنه مستشرق وحسب ولكن لأنه لا يعرف كيف ينجز تحليلا انتروبولوجيا وسوسيولوجيا، أقول له إنك لا تمت إلى العلم بصلة إنك جاهل " (20) . هكذا يصل الأمر بمحمد أركون وهو يدافع عن قضايا الفكر الإسلامي ، إدراكا منه لخطورة عمل المستشرقين الذين قد يتعللون بكل شيء في سبيل عدم التخلي عن مناهجهم وتصوراتهم وهو لا يتوانى في نعتهم بالجهل عندما يلاحظ جمودهم وعدم جرأتهم في تجديد آليات الفهم والتحليل لديهم، إضافة إلى اجترارهم لأخطاء المجتمع بدعوى الموضوعية الموهومة التي تترك الأوضاع على ما هي عليه، بل تزيدها تعفنا وتنأى بنا عن طرح الأسئلة المناسبة وتصدنا في الآن نفسه عن أفضل سبل البحث والتحليل.

إن المستشرقين بحكم منهجيتهم البالية يحتلون في الفكر الغربي مكانة هامشية بالقياس إلى المفكرين الآخرين، فلا نسمع لهم أي صوت في مجتمعاتهم فهم ليسوا مشهورين إلا في بلادنا حيث نعتقد أنهم قادرون على حل مشاكلنا.

***

رمضان بن رمضان - باحث من تونس

........................

الهوامش والمراجع:

1 – Mohamed Arkoun ,Lectures du Coran , ed, maisonneuve, Paris, 1982, l,introduction, p xxi.

2 – محمد أركون ، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1986، الطبعة الأولى، ص 51.

3 – محمد أركون، " التأمل الإبستيمولوجي غائب عند العرب "، مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت ، العدد 20/ 21/22، صيف ،1982،صص 80 – 81.

4 – محمد أركون، " الإسلام، التاريخ، الحداثة " مجلة الوحدة، باريس، عدد 52 ،جانفي، 1989، ص18 .

5 – Mohamed arkoun, Lectures du Coran,…op.cit, p xxi.

6 – Ibid, p xxi.

7 – Ibid, p xxiii .

8 – محمد أركون، " الإسلام، التاريخ، الحداثة " مجلة الوحدة، باريس، عدد 52، جانفي 1989، ص 24.

9 – اعتمد أركون في تحليل هاتين الآيتين على مقال د.س.باورز D.S.Powers ,: " the Islamic Law of inheritance reconsidered: a new reading of Couran,s in Studie islamic iv,pop 61-94.

10 - Mohamed arkoun Lectures du Coran, op cit , p xxiv.

11 – محمد أركون، مجلة الوحدة، عدد 52، 1989، صص 21-22.

12 -  Mohamed arkoun, Lectures du Coran, op cit, p xxiv .

13 – محمد أركون، مجلة الوحدة، باريس، عدد 52، جانفي 1989، ص 23.

14 – Mohamed arkoun, Lectures du Coran, op cit, p xxiv.

15 - Ibid, p xxv

16 – Ibid, p xxv

17 – Roger Bastide, Anthropologie appliquée, ed Payot, Paris, 1971, p35

18 – حوار مع محمد أركون ، مجلة الفكر العربي ، بيروت، عدد 32، أفريل – جوان ، 1983،صص 220 – 221.

19 – محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ص 259.

20- حوار مع محمد أركون، مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت، الأعداد 20/21/22 ،صيف، 1982، ص84.

"إِنَّ ما يشكل نَوَاةَ وُجُودِنا، (...)، والتي لا تعرف في قَرارَتِها غير شَيْئَيْنِ: أَنْ تُرِيدَ أَوْ أَلاَّ تُرِيدَ."[1]

يوجد الإنسان، إذن، وبصفة عامة ككل كائن عاقل، بوصفه إرادة في ذاته، وليس مجرد شيئاً نعبث به أو نلعب بواسطته، فالإنسان ليس شيئاً، إنه إرادة قوية تفكر ذاتها بذاتها لذاتها.

ولهذا وقع اختيارنا هذه المرة على الإرادة الإنسانية التي تخص الإنسان ذاته دون غيره.

لهذا وجب علينا أن نضع الإنسان كإرادة أولاً، ثم تأتي ماهيته ثانياً، فالإرادة تسبق الماهية، وهذه الإرادة تمنحنا الحق لأن نعتبرها قيمة في ذاتها، وبمجرد النطق بها نكون قد نطقنا بقدرة الإنسان على الفعل والتصرف وفق ما يريده هو دون تدخل الآخرين فيه أو في اختياراته.

وتشكل الإرادة بهذا المعنى تحقيقاً لما يرغب فيه الإنسان، أو لما يريده هو ويتوجه إليه بجهده الخاص، أي من خلال جهده المبذول من أجل تحقيق الذات أو تحقيق الاستقلالية، فالكل يرغب في الاستقلال، لا أحد يرغب في سجن نفسه داخل قوقعة معزولة عن العالم والآخرين، والإرادة تحقيق لكمال الإنسان في انفتاحه على الآخرين واستقلاله عنهم في نفس الوقت!

إن فكرة إرادة الإنسان تسبق ماهيته، فكرة منافحة لأطروحة سارتر بخصوص وجود الإنسان يسبق ماهيته، لكنها تختلف عنها في أسبقية الإرادة حتى على الوجود!

ومعنى ذلك أن ماهية وحقيقة الإنسان لا تتحدد من خلال وجوده كما عبر عن ذلك سارتر، بل تتحقق من خلال قوة إرادته، واختياراته، وقدرته على الفعل، ونمط علاقاته بالآخرين من خلال الانفتاح عليهم والاستقلال عنهم في نفس الوقت.

لهذا فالإرادة هي ما تشكل حقيقة الإنسان الثابتة في ضوء ما يختاره من أفعال وتصرفات وسلوكات وممارسات وأفعال وتخيلات وآراء ذاتية وموضوعية، أي نابعة عن ذاته ومستقلة عن الأغيار.

يوجد الإنسان في هذا العالم كما أريد له أو كما أراد هو لنفسه أن يكون، بوصفه إرادة، وإذا لم يكن الإنسان إرادة فهو لن ولم يكون هوى أو رغبة عمياء وجوفاء في يد الآخرين.

ويمكن التعبير عن الإرادة بالقدرة على الفعل، أو القدرة على الاختيار أو القدرة على فعل وتفعل الحرية، أو القدرة على تموضع الذات داخل العالم، ويصبح الإنسان فاعلاً وفعالية وليس منفعلاً وسالباً، أي متلقياً لأفعاله من عالم خارجي.

وكل إنسان هو وعي حر يملك في طياته مبادرة خلاقة وواعية وفاعلة أو فعالية، إن كل إرادة هي إرادة لشيء ما، وتنبثق الإرادة أو تتدفق من داخل أي سكون وثبات، لقد وجدناها الآن، الإرادة حَرَكَةٌ مُقَاوِمَةٌ ومَسْؤولَةٌ.

لا ننفي هنا الشروط الإنسانية ومحدداتها التي تشرط الإنسان، أقصد الشروط الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية والقانونية والدينية والفكرية والإيديولوجية والثقافية والبيولوجية، ... إلى آخره من الشروط، لكن رغم كل ذلك هناك حركة مقاومة ومزعجة تقاوم كل هذه الشروط أسميتها الإرادة.

إذن ثمة مسافة من الإرادة المنبثقة من الذات الإنسانية إلى الحرية والحركة والمقاومة الحيوية، أي إرادة سائرة وصائرة باستمرار، ما يعني أنها سيالة ومتغيرة ومتحولة وسائرة ومتدفقة، بل هي منظمة، لا يمكن تقييدها أو تقويضها، إنها تنفلت من كل سكون وثبات.

تشكل التجربة الذاتية للأفراد أيضاً إرادة ذاتية وحرة ومبدعة تخصهم لوحدهم، فمن خلالها يتعلم الفرد معنى القدرة على الفعل أو السلوك الإيجابي الحسن، ويعي القصد منها.

إن محاولتنا التفكير في سؤال معنى الإرادة، لا يجعل منا نحصر الإرادة في القدرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة بل يجعلنا نفكر في الإرادة في ضوء الوجود الإنساني الحالي بجميع تفصيلاته وأشكال تجلياته، فننتهي إلى كون الإرادة ضرورية في فهم وتحليل العالم وعلاقتنا بالآخرين.

ذلك أن الإرادة الخاصة بنا توجد بمعية الإرادات الأخرى، ما يدل على أن الإرادة تنتمي إلى مجال الغير، وتختلف عنه في نفس الآن، يمكن القول إذن: هذا ما أريده، أو هذا ما لا أريده أثناء مخاطبة الغير، أو هذا ما أرغب في أن يحدث أو أصبح عليه فيما بعد، أو العكس هذا ما لا أريد أن يحدث البتة، وتظل الحرية شرط الإرادة الإنسانية ومحدداتها.

يتملك الإنسان إرادته في صميم قدرته على الفعل، والمقاومة الحيوية أو حتى القدرة على الحركة، التي تشكل الشرط الأساسي في وجودي، ومن هنا تأتي دعوتنا إلى الخروج من العزلة، والانفتاح الخلاق على العالم، بوصفه شرطا ضروريا لبناء إرادة مجاوزة للواقع والبحث عن أفق أو آفاق كونية.

لهذا فالمشكلة تعرض في البداية كمشكلة خاصة، إنها تُطرَحُ بصدد حضور الإرادة في الذات وعلاقتنا بالآخرين التي قد تكون علاقة استلاب واغتراب وتشييء، إنها خاصية تسلب إرادة الإنسان وتختزله عبر سجنه في عالم يشعر بالاغتراب والعزلة عنه.

إن غياب الإرادة، بمثابة عائق نهائي أمام كل تواصل مع الآخرين ومناقشة القضايا المختلفة بكل حرية، فالإرادة الذاتية وحدها الإرادة الحقيقية، وهي إرادة تظل غير قابلة، اعتبارا لخصوصيتها، أن تكون موضوع فعل تشاركي مع الآخرين، لكن رغم كل هذا يجب على الإنسان أن يحيا من أجل الآخر، بمعنى، أن يعيش حياة أو إرادة تراعي الغير وتنظر إليه نظرة غاية لا نظرة اختزال وتهميش.

إن إرادتنا إما أن تكون إرادة كاملة، وإما أنها لا تكون على الإطلاق. ذلك أن مصادر الإرادة مختلفة قد ينبغي أن تأتي بالضرورة من الخارج. كما قد نقر بأن إرادتنا إنما تنبع من الداخل. لكن ما يجب وضعه في عين الاعتبار هو أننا مندمجون مع العالم الخارجي اندماجا وثيقاً لا ينفصل. وبناء عليه، فإن كل أفعالنا وتصرفاتنا وسلوكاتنا وممارساتنا يمكنها أن تغير توجهات حياتنا.

تشكل الإرادة من هذا المنحى ملكة إحكام الذات عن طريق القدرة على الفعل والاختيار، لكن الإرادة على صلة وثيقة بالتفكير، والاستقلالية تجاه ضرورات الطبيعة، كما تتعارض مع كل النوازع والميولات والدوافع.

لكن لا يعني كل هذا، أن إرادتنا نفي للحياة المعيشة ذاتها، بل بالعكس إنها تنبثق من رحم الحياة والإنسان، إلا أن إرادتنا لا تقوم على فعل كل ما نريد، بل هي إرادة بشروط، لا يمكن للإرادة أن تقوم إلا على القدرة على فعل ما يجب أن نفعله، وأن لا نُجْبَرَ على فعل ما لا يجب فعله.

ويجب أن نحتفظ في ذهننا، أن الإرادة هي الحق في القيام بكل ما تسمح به القوانين، وألا نفعل بإرادتنا ما تمنعه القوانين، لأن إرادتنا ستتحول إلى فوضى تمس الشأن العام، مما قد يؤدي إلى إلغاء الإرادات وتضاربها، لهذا لا توجد أبداً إرادة بدون قوانين ولا يمكن أن توجد.

وعلاوة على ذلك، لا يكون للإرادة تحقيق فعلي في العالم إلا في حالة تحقيق ممارسة الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة الخاصة بالمرء، لا يمكن للإرادة أن تتجلى، إذن، إلا في إطار تجليها في السياق العام والحياة اليومية، أي خارج الذات، وفي العلاقات بين الأفراد، لأن ذات  ودواخل المرء لا يمكن معرفته والاحاطة به، وهو ممتنع عن كل معرفة.

إن الإرادة، بوصفها واقعاً قابلاً للتحقيق، ترتبط ارتباطا وثيقاً بالحرية، وتشكلان معاً وجهان لعملة واحدة.

الإرادة قوة مبادرة واختيار، عبر الاستقلال الذاتي والحرية والقدرة على الفعل والسلوك، فكون المرء مريداً لا يعني أن يفعل ما يريد، بل تعني أن يصمم على ما يريد، بالمعنى الواسع للإرادة، بواسطة ذاته وفقط، مع الانفتاح على الآخرين، والإرادة هنا تدل على قدرة المرء على تحصيل غايات وأهداف مختارة بدقة، لهذا فالإرادة هي الاستقلال الذاتي والحر للاختيار-الفعل، من هنا تكون بداية تحقق الإرادة.

***

محمد فراح – أستاذ فلسفة

..........................

مصدر الإحالة:

[1]- Arthur Schopenhauer, Le Monde comme volonté et représentation, traduit de l'allemand vers le français : Bordeaux, M.J.F., troisième édition 3, année de parution : 1966, p.943, (Adapté).

* ملاحظة هامة: مقالنا هذا هو مجرد تعليق هامشي على هذه القولة التي تعبر عن نواة الوجود الإنساني حسب فيلسوفنا الألماني أرثور شوبنهاور الذي أُشتهر بالتشاؤم، لكن قولته هذه كانت مُفْعَمَةٌ بالحَياةِ والإرادة الإنْسَانِيَتَيْنِ.

شَغلت النفس وقضاياها المتعلقة بطبيعتها وجوهرها وبراهين وجودها ومصيرها بعد مفارقتها البدن، الفلاسفة منذ أقدم العصور، واحتلت حيزاً مهماً من مؤلفاتهم ورسائلهم ومصنفاتهم المتنوعة في الفلسفة والادب، وكانت لهم فيها اَراء ونظريات مختلفة، فمنهم كما يصنفهم إبراهيم مدكور الماديون الذين اعتبروا النفس مجرد جسم لا ميزة له ولا اختصاص، والروحيون الذين الهّوها وابعدوها عن عالم المادة، ورأوا فيها قوة الهية روحية تهبط الى البدن من العالم العلوي، ومنهم من وقف موقفاً وسطاً، فجعلها مزاجاً بين الجسم والروح، أو بخاراً حاراً كما قال الرواقيون، أو صورة للجسم كما ارتأى ذلك أرسطو واتباعه.

ووقف فلاسفة المسلمين على هذه الآراء وتباينت مواقفهم منها، ففرقة منهم تتكلم عن هبوط النفس، واخرى عن روحانيتها، وثالثة تفضل العقل عليها، ورابعة تعتنق التناسخ مبينة كيفيته وغايته. علماً ان القراَن الكريم وردت فيه كلمة "روح " بمعنى الهي وكلمة "نفس" بمعنى انساني خالص. فقد استعملت كلمة روح بمعناها الإلهي كما في الآيات  بسم الله الرحمن الرحيم:

"وأيّدناهُ برُوحِ القُدُسِ"  البقرة : 87، 253 . " وكلمتُهُ القاها الى مريمَ ورُوحٌ منهُ " النساء: 171. "يُنَزِّلُ الملائكةَ بالرُّوحِ مِن أَمرِهِ " النحل : 2 . "وَيَسئلُونَكَ عنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِن أَمرِ رَبّي "الاسراء : 85 . " يُلقي الرُّوحَ من أَمرِهِ على من يشاءُ من عبادِهِ ليُنذِرَ يومَ التَلَاقِ " غافر: 15. " تَعْرُجُ الملائكةُ والرُّوحُ إِليهِ " المعارج : 4. "يومَ يقُومُ الرُّوحُ والملائكَةُ صَفًا" النبأ : 38. ففي كل هذه الآيات فأن الروح لا تدل على الروح أو النفس الإنسانية، بل على كيان إلهي يتنزل من الله. وفي مقابل ذلك نجد كلمة " نفس" تدل على معنى انساني خالص، وغالباً بمعنى ذات الانسان، ومبدأ الحياة فيه كما في الآيات بسم الله الرحمن الرحيم: " ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ " البقرة :281. " لا تُكَلَّفُ نَفسٌ إلَّا وُسْعَهَا " البقرة : 233. " وَكَتَبنَا عَلَيهِم فيها أَنَّ النَّفسَ بِالنَّفسِ " المائدة : 45. "ولا تَكسِبُ كُلُّ نَفسٍ إلَّا عَلَيهَا " الانعام : 164. " يومَ تَأتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَن نَّفْسِها" النحل : 111 . ولهذا فأن كل نفس مائتة كما في الآيات: " وما تَدْرِي نَفْسٌ بأيّ أرْضٍ تَمُوتُ "  لقمان: 34 . و "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقةُ المَوتِ ثُم إلينَا تُرجَعُونَ "العنكبوت: 57. والواقع ان الفلاسفة والمتكلمين المسلمين قد اختلفوا في قضية النفس، مثلما اختلف فيها فلاسفة اليونان، فمنهم من قال بروحانية النفس، ومنهم من يقدم الأدلة والبراهين على ماديتها وهناك من يقف موقفاً وسطاً بين هاتين النزعتين المتناقضتين. ومثل بقية الموضوعات الفلسفية  فأن ابن سينا في قضية النفس يغلب على أرائه طابع التوفيق بين الحكمة والشريعة، وبين تعاليم وفلسفة ارسطو الممتزجة بتعاليم افلاطون والافلاطونية المحدثة، وتعاليم الدين الاسلامي مع توسع في فهم النصوص القرآنية والابتعاد عن التزمت وعن التزام الحرفية شأنه في ذلك شأن أستاذه الفارابي واغلب الفلاسفة المسلمين، وإن مال ابن سينا في فلسفته، وقضية النفس، أحياناً الى ارسطو الذي يرى ان الوحدة بين النفس والجسم شبيهة بالعلاقة بين " الشمع والطابع المطبوع فيه " وفي هذه الحالة، لا توجد نفس منفصلة عن جسم، مادامت هي صورته، وبالتالي فأنها تفنى بفنائه، فأننا نجده يميل في مواقف اخرى الى رأي افلاطون في أن النفس جوهر لامادي، قادر على الوجود بنفسه مستقلاً عن البدن، وفي هذه الحالة توجد النفس قبل الجسم الذي تحل فيه، وبعد انفكاك صلتها به، وهي خالدة لا تفنى بفنائه، وسنجد هذا الموقف من الوهية النفس، واختلاف طبيعتها عن طبيعة الجسد، وخلودها، واضحاً في ابيات قصيدته العينية التي يقول فيها:

هَبَطَتْ إِليكَ منَ المَحَلِّ الأَرفَعِ

وَرْقاءُ ذاتُ تَعَزُّزٍ وتَمنُّعِ

*

محجوبةٌ عَن مُقلةِ كُلِّ ناظـــرٍ

وهي التي سَفَرَتْ ولم تتبرقعِ

*

وَصَلَتْ على كُرهٍ إليكَ، ورُبَّما

كَرِهَتْ فِراقَكَ وهي ذاتُ تَفَجُّعِ

*

أَنِفتْ وما أنِسَتْ، فلما واصلت

ألفِت مُجاورةَ الخراب البَلقَعِ

*

وأظُنُّها نَسِيَتْ عُهُوداً بِالحِمَى

ومَنازِلاً بفراقِها لم تَقْنَعِ

*

حَتَّى إذا اتَّصَلَتْ بِهاءِ هُبُوطِهَا

عَنْ مِيمِ مركزها بِذاتِ الأَجْرَعِ

*

عَلِقَتْ بِها ثّاءُ الثَّقِيل فَأصْبَحَتْ

بَيْنَ المَعالِمِ والطُّلُولِ الخُضَّعِ

*

تَبْكِي، وقد نَسِيتْ عُهوداً بالحِمى

بمدامعٍ تَهمي وَلَما تُقْطعِ

*

وتَظَلُّ ساجعةً على الدِّمْنِ الَّتِي

دَرَسَتْ بِتِكرارِ الرِّياحِ الأَرْبعِ

*

إذ عاقَهَا الشِّرْكُ الكَثِيفُ وَصَدَّهَا

قَفَصٌ عَن الأَوْجِ الفَسيحِ المُرْبِعِ

*

حتى إذا قَرُبَ المسير الى الحِمى

ودَنا الرحيلُ الى الفضاءِ الأوسعِ

*

سَجَعَتْ، وقَد كُشِفَ الغِطاءُ، فأبْصَرَتْ

ما لَيس يُدرَكُ بالعُيونِ الهُجَّعِ

*

وغَدَتْ مُفارقَةً لِكُلَّ مُخْلِفٍ

عَنهَا حَلِيفِ التُّرْبِ غَيْرِ مُشَيِّعِ

*

وبَدَت تغرَّدُ فوق ذَروة شاهقٍ

والعلمُ يرفَعُ كلَّ من لم يُرفَعِ

*

فَلأيِّ شَيْءٍ أُهْبِطَتْ من شامِخٍ

سامٍ الى قَعْرِ الحَضِيضَ الأوضَعِ؟

*

إنْ كانَ أهبَطَها الإِلهُ لحِكْمَةٍ

طُوِيَتْ عن الفَطِنِ اللَّبِيبِ الأرْوَعِ

*

فهبوطُها إِنْ كان ضَربةَ لا

لتكونَ سامعةً بما لم تسمعِ

*

وتعود عالمةً بكل خف

في العالَمَيْنِ، فخِرْقُها لم يُرقعِ

*

وهيَ الَّتِي قَطَعَ الزَّمَانُ طَرِيقَهَا

حَتَّى لَقَدْ غَربتْ بِعَيْنِ المَطْلَعِ

*

فَكأَنَّهَا بَرْقٌ تألَّقَ بالحِمَى

ثُمَّ انْطوى فكأنَّهُ لَمْ يَلْمَعِ

في هذه القصيدة يُشَّبه ابن سينا المعروف في تاريخ الفلسفة الإسلامية بالشيخ الرئيس، أو المعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، النفس بالورقاء" الحمامة البيضاء" التي هَبَطت أو " أُهبطت" دون ارادتها من المحل الأرفعِ ِ اي العالم الإلهي، أو عالم المعقولات، عالم المُثُل " الصورة العقلية المُجرَدة" – وفق التسمية الافلاطونية – وهي في حالة تعزز وتمنع بسبب شوقها للبقاء في عالمها العلوي، وكرهها للهبوط الى العالم الارضي المادي المحسوس، الذي هو بمثابة الشَرك أو القفص، وفي النفس جزء إلهي، وسر محجوب عن المعرفة والعارفين على الرغم من وضوح وجودها، ودلالاته، واشاراته " وهي التي سفرت ولم تتبرقع "، واذا كانت النفس قد حلَّت في الجسد على كره منها، ألا ان اعتيادها عليه والفتها معه يجعلها تكره فراقه، وتحزن وتتفجع لهذا الفراق، مثل اعتياد الحمامة على القفص، ومثل اعتياد السجين على زنزانته وسجنه، ولطول المدة التي تقضيها النفس في الجسد، فأنها تألف شيئاً فشيئاً مجاورة المادة الفانية مع انها في البدء كانت تأنف من ذلك، ولم تستأنس اليه إلا بعد ان نسيت منازلها وعهودها في عالمها العُلوي، وما تلبث ان تُثقل وتعلق بأدران المادة واطلالها وخرابها لكنها تبكي، وتسجع – سجع الحمام – طول الفصول والأيام، وهي تشتاق لمنزلها الأول، الذي يصده عنه "الشَرَكُ الكثيف" والقفص الذي وجدت نفسها بداخله، حتى إذا " كُشفَ الغطاءُ " أبصرت ما ليس يُدرك أو يُبصر بالعيون, فارتفعت الى" ذروةِ شاهقٍ" مغردةً سعيدة بعودتها وخلاصها من الجسد الذي بقي على الارض غير مُشَيع " غير مودع " وهي تغادرهُ الى العالم الإلهي، عالم العقول والانفس الصافية من علائق المادة الفانية. وبعد هذه الرحلة المضنية للنفس، وهبوطها الى الأرض، ودخولها الجسد، ثم اعتيادها عليه واشتياقها لاحقاً لعالمها الأول، وتوقها للخلاص من الجسد – القفص - يتساءل ابن سينا عن السبب والحكمة التي تقف وراء ذلك كله : فلأي شيء أُهبطت من شامخٍ   سامٍ الى قعر الحضيض الأوضع ؟ . فأن كان هبوطها من أجل ان تكون سامعة بما لا تسمع، أو تعلم بما لا تعلم، وتطلع على كل خفية أو سر في العالمين العلوي والارضي، فأن ذلك كله لم يرقع خرقها، وها هي قد غابت وغربت وغادرت بعد انقضاء تجربتها المريرة مع الجسد وعالم الخراب والفناء و: كأنها برقٌ تألق بالحمى  ثم أنطوى، فكأنه لم يلمع !!، وكأن وجودها في الجسد كان وجوداً عابراً وطارئاً، وسريعاً في بريقه وإنطفائه، سرعان ما انطوى وكأنه لم يلمع. وهنا يقف الشيخ الرئيس موقفاً صريحاً من الذين انكروا وجود النفس، أو الذين عدَّوها عَرَضاً من أعراض الجسد، لذلك نجده يعيد ويكرر البراهين لأثبات حقيقة كون النفس جوهراً روحانياً لا يفنى بفناء الجسد في الكثير من مؤلفاته، وكان لابد له من هذا الموقف تجاه روحانية النفس مخالفاً بذلك فلسفته الأرسطية المادية لكونه أحد الأثنين الكبار إلى جانب الفارابي الذين يُحسبون على المشّائيين اتباع أرسطو في الفلسفة الإسلامية، لكنه خرج من هيمنة أرسطو في موضوع النفس لكي لا يخرج عن مفهومها في القرآن الكريم والشريعة الإسلامية .

***

د. طه جزاع – كاتب أكاديمي

المقال منشور في موقع مراصد أيضا

 

 

(ثمة صوت لا يستخدم الكلمات .. أنصت إليه)... جلال الدين الرومي

هو ما نحمله في دواخلنا من تكوينات فرضية، ربما تتحول إلى سلوك وربما تذهب إلى عوالم القارة الواسعه الخفية وهي اللاشعور – اللاوعي، تستدرجنا هذه الأفكار، وهذا الصوت إلى مختلف التأويلات، جميلة كانت أم غير جميلة، ترجع تلك إلى تأويلنا لها، أو لنقل تفسيراتنا وربما نؤسس لها بناءًا جديدًا كلما فكرنا بها فتكون متباينة ومتنوعة تأخذ سياقات الفكرة التي كونها الفرد، وبالتأكيد تأخذ التبدل الوضعي وهي في عالم اللاشعور – اللاوعي، تفكيرنا يترك ترسبات حتى وإن بدا أنه ذهب ورحل عنا، وهربنا منه، ولنقل عالجناه . بقايا التفكير لها فعل التفكير وقوته، أتحدث لكم عن بقايا التفكير، الفضلات التي يتركها التفكير فينا ونحن لا ندرك ماذا ترك فينا، أنه مدخل للاضطراب النفسي والعقلي وحتى الانحرافات مثل النرجسية والسيكوباثية وإنحرافات الشخصية والإنحرافات الجنسية، إذا ما أشتد وأصبح حينئذ التفكير هويتنا المعلنة، سمات شخصيتنا. ومن السمات التي تلازم وجودنا ونحن أسوياء مثل البخل والكرم، الأنانية والتسامح، العصاب الوسواسي، المخاوف وتوهم المرض، هو المدرك الذي لا يتغير، وإن لبس ثوب آخر مثل اكتساب العلم، أو التدين المفرط، ويمكننا القول هو يقودنا في كل سلوكنا في حالة الوعي. ومثل ما يحدث في حالة الأعصبة ومنها الإفراط في التذكر، فعودة التفكير النتن المؤثر في النفس هو مثل حالة الصدمة حينما تترك أثارها في البعض ويرى " عدنان حب الله" إن كلمة فرط تذكري تحيل على واقعة مؤقته هي تثبيث الحدث في الذاكرة التي تظل الذات متعلقة بها، والتي يتبين أن دورها يكون حاسمًا في متتالية الإضطرابات النفسية المرضية، وميزة هذا العصاب هي تثبيت الذاكرة وتعلقها، فالأفكار التي نتحث عنها وتركت ترسباتها ستؤدي حتمًا للعصاب، وهذا العصاب منشأه يعود إلى الطفولة الأولى من حياة الإنسان . فترسبات التفكير وما يتركه من بقايا تؤثر وقول "سيجموند فرويد : تحل الخيالات محله في كل مرة، يكتسب فيها القوة اللازمة لتحطيم مقاومة الأنا، كل أعراض ومظاهر الحصر - القلق – الفوبيا – الرهاب، تنبثق عن التخييلات .

يقول " فرويد" عن التخييل في خطاب فليس أنه بناء دفاعي هو أعلاء وتجميل الواقع، وهو يقوم أيضًا بدور تبرير الذات كما دونته " نيفين زيور " في كتابها المهم التخييل دراسة في التحليل النفسي" وتضيف " نيفين زيور" وظيفة التخييل إنما هي خلق موقف يشبع الرغبة، وبما أننا نتحدث في هذه السطور عن الترسبات التي يتركها التفكير في دواخلنا، فإن التأكيد يدلنا على أن التنازل عن اللذات كان على الدوام أمرًا شاقًا، تألمت له نفس الإنسان، فهو لا يقدر على الحقيقة دون أن يعوضه على وجه من الوجوه، لذا أخرج الإنسان لنفسه لونًا من النشاط النفسي يتيح لمصادر اللذة المهجورة ولوسائل طلبها أن تبقى، وأن تحتفظ بوجودها في صورة تجعلها بمنجاة من مطالب الواقع، وتعفيها من اختيار الواقع " نيفين زيور، التخييل، ص17"، ولكن هذه الأفكار التي دفنت في عالم اللاشعور – اللاوعي لا تلبث كل رغبة أن تلبس اللبوس التي تبدو فيه راضية مشبعة، وهذا هو عودة إلى الترسبات من الأفكار غير المرغوب فيها، أو حتى المرغوب فيها تعود عن طريق الإعلاء– التسامي . هذه الترسبات لا تنتهي لأنها فضلات التفكير ورواسبه، ويعلم الجميع أن رواسب الأكل التي تطرحها المعدة إلى القولون وتخرج كبراز لكي يتخلص منها الإنسان فهي تحمل مختلف الروائح، ومختلف الأشكال الصلبة أحيانًا، والسلسة اللينة أحيانًا أخرى، ومرات تكون عسيرة ومزعجة، كذلك هو الحال في ترسبات التفكير وما تحمله من أشكال ربما تكون قوية على قدرتنا في التحمل فتذهب بنا إلى شيءٍ من اللاسوية.

يقول " سيجموند فرويد" مؤسس التحليل النفسي في كتابه ما فوق مبدأ اللذة في الفصل الرابع أن الشعور لا يمكن أن يكون أعم خصائص العمليات النفسية، بل أنه لا يعدو أن يكون وظيفة خاصة لهذه العمليات، ويضيف " فرويد" بأن كل عمليات الاستثارة التي تقع في المنظمات الأخرى تخلَّف وراءها آثارًا باقية تكون أساسًا تقوم عليه الذاكرة، وليس لمثل هذه البقايا في الذاكرة أية صلة بالشعور، أما إذا كانت هذه الآثار لاشعورية فلسوف تواجهنا، من الناحية الأخرى. وبناء على ذلك فإن مرض التفكير ليس لَهُ علاج حتى لو أستطعت أن تنام، ستحلم بما تُفكر به كما دون ذلك " آل باتشينو" وهو كلام صحيح تمامًا، ليس فيما نفكر به، بقدر ما يترك هذا التفكير فينا نزعات لا ندري مدى تأثيرها، رغم أن التفكير هرب إلى الحلم ليعبر عن ما يريد، طالما أن الحلم تحقيق مُقنع عن رغبة مكبوتة كما قال سيجموند فرويد، وهو أيضًا رغبة عند جاك لاكان، ونقول إنها رغبة غير متحققة في الواقع، فظهرت لاشعوريًا في مسارات أخرى ومنها الحلم، أو ربما الهفوات، أو زلة لسان، أو خاطرة " عَنتْ – مخيلتنا " عند البعض منا، هذا الخاطرة لن ولم تكون بلا معنى، أو صدرت عشوائيًا، إنها من بقايا التفكير وترسباته في لاشعورنا – لاوعينا، ويقول جاك لاكان نحن مسؤولون عن لاوعينا – لاشعورنا، ويضيف أيضًا قوله : الذات مسؤولة عن لاوعيها – لاشعورها، فهذه الترسبات في التفكير هي التي تنطلق من اللاشعور – اللاوعي فينا دون إستئذان، أو تَحكم منا، هي دواخلنا التي تحرك سلوكنا، هي مدركاتنا في الشعور – الوعي وتركت الأثر فينا، وحاولنا محو بعضها بوعينا، وإن نجحنا عادت مرة أخرى في ترسبات تفكيرنا حتى وإن استخدمنا محو المحو معها، لابد أن تعود وتشغل بالنا ووجودنا وحياتنا اليومية المعاشة . سؤالنا هي لغة غير معبر عنها بالكلمات ؟ أم هي أفكار لا يمكن السيطرة عليها؟ وربما نتفق مع جلال الدين الرومي بقوله: ثمة صوت لا يستخدم الكلمات .. أنصت إليه" .  

ونعيد تساؤلنا كيف يستطيع الإنسان أن يتخلص من رواسب التفكير التي علقت في لاشعورنا – لاوعينا ؟ هذا السؤال يقودنا إلى إجابة واحدة وهي نحن بحاجة إلى تداخل نفسي ليس جراحي بقدر ما هو علاج مرهون بما يبذله الفرد من جهد وبما يبديه من استبصار ومثابرة وقدرة على التكيف كما يقول "فرويد " في كتابه محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي، ص 1" ويضيف " فرويد" ففي وسع المرء أن يتعلمه أولا بتطبيقه على نفسه إذ يقوم بدراسة شخصيته، إذن نتفق مع "فرويد" بأننا يمكن معرفة تلك الترسبات إذا استطعنا أن ندخل في جهاد مع أنفسنا لمعرفة ما لايمكن معرفته، وهي طريقة فرويد في التخلص من هذا الذي نعاني منه في بعض الأحيان حيث يقول : نريد من الشخص أن يكلمنا عما لا يعرف " فرويد، معالم التحليل النفسي، ص 110- 111". وتبقى هذه الكلمات والأصوات والأفكار، وما عنَّ لنا من خاطرة، في دواخلنا مخزونة، محفوظة في هذا الأرشيف غير المنته بالسعة، وهو اللاشعور – اللاوعي، يداهمنا في أية لحظة ولو كانت في أفكار مترسبة في أعماقنا.

***

د. اسعد شريف الامارة

الادراك والوعي

في البدء الادراك هو ليس الوعي بالشيء. ان تدرك الشيء بالحواس هو احساسك الانطباعي لموجوديته كموضوع مستقل له خواص خارجية وتسمى هذه العملية بالانطباعات الاولية.

اما وعي الشيء او الموضوع فهو معرفة حقيقته عقليا وليس حسيّا فقط. دأب فلاسفة عديدون الى تقسيم الموجود المدرك كموضوع الى مظهر هو الصفات الخارجية له والى محتوى دفين يدعى الجوهر او الماهيّة لا تدركه الحواس. وهي تشبيه مرادف لقولنا شكل الشيء ومضمونه.

وخلاصة القول ان مقولة لماذا لا يكون مضمون الشيء منفصلا عن قابلية ادراكه التي يمتلكها الموجود المادي الشيئي كينونة موحدة شكلا ومحتوى مستقلة؟ هذه مقولة خاطئة وفرضية تعسفية تحاول وضع العربة امام الحصان لاسباب اوجزها بكلمات:

اولا: قابلية الادراك هي كيفية وسيرورة تجمع بين المادة وادراكها كما هي وسيلة معرفية لا تمتلكها المدركات لاتموضعا ماديا فيها ولا تجريدا تعبيريا يصدر عنها. بل يمتلكها الحس والوعي العقلي لها فقط. ويرتبط الادراك والوعي برابطة تكاملية كونهما حلقتين في منظومة العقل الادراكية .

ثانيا: مضمون الشيء لا يكون موضوعا لادراك قائم لوحده منفصلا عن موجوديته المادية الموحدة شكلا ومحتوى. المضمون يحتاج دائما لشكل يحتويه وبغير هذه الملازمة لا يمكننا تصور مضمون بلا شكل يحتويه. كما ولا يمكننا تصور شكلا خاليا من مضمون او محتوى دلالي عليه له معنى كما في مثال الرسوم الهندسية المجردة فالخطوط التي يتشكل منها الشكل الهندسي تحدد مضمونه الهندسي الاستيعابي الذي ندركه للوهلة الاولى فارغا ما عدا محدداته المستقيمة في الخطوط. في أن يكون دلالة على مثلث او مستطيل او دائرة او مربّع وهكذا. أي أن أبعاد اشكال الخطوط الهندسية المرسومة غير المنفذّة واقعيا المجردة أعطت للحيّز المكاني الذي احتوته مضمونا تصوّريا فقط متفردا هندسيا غير موجود بالواقع بل هو مرسوم على ورق او سلايد او لوحة وسيلة ايضاح وهكذا...

ثالثا: الادراك لا يجزيء موضوع ادراكه الى شكل هو الصفات الخارجية والى مضمون او محتوى هو جوهره وماهيته. فالادراك هو وعي كينونة الشيء الموحد في كليته الموجودية البائنة للادراك الخارجي. اما الوعي المعرفي للشيء المدرك انطباعيا حسيّا فهو يستطيع ادراك ماوراء الصفات الخارجية اذا ما اتيحت له وجودا كموضوع مستقل.

ويكون معنا اعجاز عقلي ادراكي ان نتصور مضمونا لا يحتويه شكل يدركه العقل. وبالعكس ايضا تكون استحالة ادراكية ان تجد شكلا مجردا بلا مضمون يحتويه يمكن للعقل ادراكه كموضوع. بمعنى الادراك الحسّي للشيء هو ادراك لموجود في كليّته البائنة المتاحة لادراكها. الادراك كما مرّ بنا هو ادراك انطباعي يختلف عن الوعي انه ادراك معرفي.

رب معترض يقول أن بامكاننا رسم شكل مربع هندسي او مثلث على ورقة خال من المضمون. الاشكال الهندسية ورموز المعادلات في الرياضيات والجبر والهندسة والفيزياء والكيمياء انما هي تجريدات للدلالة على (إمكانية) معرفية ان تقودنا تلك الاشكال والمعادلات الرمزية الى تطبيقات واقعية بالحياة ذات مضامين سواء في العلوم او في المعمار.. ان من المهم ان ندرك التجريدات المرموزية بإختلاف غير ادراكك الاشياء في موجوديتها.

رابعا: الصفات الخارجية هي كينونة موجودية موحدة وليس من خاصية الادراك الحسي البحث عن احتوائها على جوهر او مضمون يستقر خلفها. وعندما نقول امكانية ان يكون المضمون (موضوعا) لادراك فهي فرضية خاطئة فالمضمون لا يكون موضوعا لادراك لا يحتويه اي يؤطره (شكل) الذي هو الصفات الخارجية للشيء.

بيركلي والادراك

من مقولات بيركلي المثالية (وجود الشيء هو قابليته ان يكون موضوعا لادراك) وهي مقولة خاطئة كما نوضحه لاحقا..وجود الشيء لا تحدده صفة ذاتية ان يكون موضوعا لادراك. بل وجود الشيء موضوعا ندركه من خاصية موجوديته الانطولوجية التي يدركها الحس والعقل. وليس كما ذهب له بيركلي وجود الشيء هو قابليته ان يكون موضوعا لادراك. كل موجود شيئي مادي هو قابل للادراك بارادة عقلية من خارجه عليه وليست فيه.

كما ان خاصية ان يمتلك وجود الشيء قابلية ادراكه ذاتيا ليست صحيحة .فقابلية الادراك يحددها الحس والوعي الخارجي عنه ولا تمتلكه الاشياء المدركة بذاتها. ولا يفرض الشيء قابلية ادراكه الزائفة على الحواس والعقل لتكون صفة به كموجود.

النقطة الاخيرة من يحدد ان يكون الموجود موضوعا للادراك؟ هل يحدد ذلك مضمونه (جوهره)؟ ام يحدده الشكل الخارجي الصفات المدركة له؟. الحقيقة ان الشكل الخارجي او الصفات الخارجية للموجودات تجعل منها موضوعا ماديا تدركه الحواس ويدركه العقل. اما جوهر او ماهية اي شيء لا يكون موضوعا لا للحواس ولا للعقل الا في ظروف استثنائية كونه لا يدرك معرفيا بينما صفات الشيء الخارجية تكون موضوعا لادراكات حسيّة انطباعية.

الادراك الحسي لا يدرك مواضيعه لمعرفة مضامينها الجوهرية. بل إدراك الحواس ينحصر بالصفات الخارجية للشيء فقط. وادراك الشيء حسب بيركلي هو ادراك كينونة موجودية موحدة شكلا اي صفات خارجية وماهية أي جوهر. وهما كينونة موحدة غير قابلة للانفصال لانها بالانفصال تفقد وجودها الانطولوجي. خلاصة ماذكرناه بالضد من بيركلي يمكننا تلخيصه بنقطتين:

الاولى وجود الشيء تحدد قابلية ادراكه ليس كونه موجودا لا تحدد ادراكه الحواس والعقل.الثانية وجود الشيء الحقيقي هو عندما يكون موضوعا يحتوي شكل ومضمون له معنى. فالحواس والعقل لا يدركان موضوعا لا وجود حقيقي له لا على صعيد المادة ولا على صعيد الخيال... انعدام التفكير مصدره القبلي انك لا تمتلك موضوعا تفّكر به.

كيف نفهم الادراك؟

يصادفنا احيانا ما لا حصر له من موجودات واشياء مادية وهي ليست من صنع الخيال يكون ادراكنا لصفاتها الخارجية كاف ويغني او يبطل اهمية البحث  عن الجوهر بما وراء الصفات الخارجية لذلك الشيء. اي هل يحمل الشيء مضمونا لا تدركه الحواس مدّخرا هو غير صفاتها الخارجية؟

الادراك الحسي لا يدرك مواضيعه في معرفة مضامينها بل يكتفي بادركها كلية موجودية مستقلة موحدة الصفات والمضمون. ورغم مثالية بيركلي الساذجة فهو قال بالواحدية الادراكية الصحيحة. اي ان ادراك الشيء حسب نظرية بيركلي هو ادراك لكينونة موجودية تدرك بصفاتها الخارجية تغني البحث عما وراء تلك الصفات من ماهية او جوهر.. اي ان الادراك الواحدي لا يهتم بوجود جوهر خلف الصفات الخارجية ام لا.

وسبق لديكارت ان قال بخلاف بيركلي بما اطلق عليه الثنائية الادراكية قوله انه لا وجود لادراك يدرك الكينونة الموجودية بصفاتها مع ادراكه لجوهرها. هذه النظرية اخذت بها الوجودية والماركسية على السواء. بمعنى ادراك صفات الشيء الخارجية يغنيك عن البحث فيما وراء تلك الصفات.

جورج مور والادراك

جورج مور طرح اشكالية بحثية حول الادراك قوله ان الاشياء في وجودها الانطولوجي المستقل تحمل معها قابلية الادراك لها. وهي عبارة ليست صحيحة ولا دقيقة للاسباب:

- وجود الشيء تحدد قابليته الادراكية الحواس والعقل. ولا تمتلك الموجودات قابلية ادراكها ذاتيا معها في حمولة موجوديتها.

- وجود الشيء حين يكون موضوعا للادراك الحسي والعقلي اي الانطباعي والمعرفي لا يكون مخلوقا ناتج التفكير به وادراكه. بمعنى ادراك الشيء ليست صفة ذاتية يمتلكها وانما هو اي الادراك او سمها ما شئت قابلية الادراك هي انطباع حسي ومعرفي تخلعه الحواس والعقل على مدركاتهما.

- لا اعرف كيف يطرح جورج مور سؤاله المعقد الجدالي هو لماذا لا يكون في امكانية المضامين الحسية ان توجد دون ان تكون هي الاخرى موضوعا لادراك؟

انه لمن المهم الاقرار بعدم امكانية الادراك ذاتيا اي يقوم بنفسه فصل مدركاته الى صفات خارجية تكون موضوعا منفصلا مستقلا لوحده ومضامين وصفها مور (حسية) ولو كانت حسية لاصبحت موضوعا لادراك ولا مشكلة بذلك حينها. اي ان ادراك الشيء والوعي به لا فرق بينهما وهو خطأ جسيم جرى توضيحنا له.

المضامين هي جواهر مدّخرة في الكليّة الكينونية للموجود في استقلاليته الانطولوجية غير قابلة الاندماج مع الصفات الخارجية له ولا يقبل مضمون الشيء التجزئة الى شكل ومحتوى حينها يكون كلاهما موضوعين لادراك. المضمون بلا شكل يؤطره ويحتويه لا يمكن ان يكتسب صفة الموضوع المستقل الوجود.

كما وليس من الثابت ان لكل شيء او موجود ماديا في عالمنا الخارجي يحتوي مضامين حسيّة هي الماهية او الجوهر الذي لا يكون موضوعا لادراك. المضامين الحسية اي المحتويات هي جزء جوهري تكويني من موضوع مدرك في كليته وليس منقسما على نفسه كصفات خارجية وجوهر محجوب خلفها. لذا من المحال ادراك الجواهر او الماهيّات بالاشياء بنفس آلية ادرك الصفات.

***

علي محمد اليوسف

 

حين أصدر عالم الاجتماع الإيطالي سابينو أكوافيفا كتاب "أفول المقدّس في الحضارة الصناعية" (1961)، بدا حينها بمثابة النعي للدّين في مجتمعات أوروبية تحثّ الخطى نحو "اللاتدين" و"العلمنة". ولكن تداعيات العولمة على أوروبا في الزمن الراهن أملت إعادة نظر في صيغة العلاقة ومضامينها بين دائرة الإيمان الخصوصية ودائرة السياسة العمومية. لتلوح بوادر رهان على وظائف مغايرة للدين في مجتمعات تشرّبت العلمانية، وتعيش في أجواء مناخات ما بعد العلمانية. وهو جوهر ما تطرّق إليه كلّ من شارل تايلور ويورغن هابرماس في حقبتنا الحالية، عن شيوع نمط جديدٍ من التعايش بين الدين والعلمنة يتغاير مع ما ساد سلفًا. بما يحثّ على تجاوز النظر "العلمانوي" للحداثة، جرّاء حضور الدين في الفضاء العمومي الذي أضحى واضحا وجليّا.

ولربما لإحاطة أشمل بالموضوع، ينبغي تناول العلاقة المستجدّة بين الديني والسياسي ضمن إطار التحول الجاري داخل مرحلة تاريخية. فقد قيل إن الإنسان هو "كائن متديّن"، وقيل أيضا هو "كائن سياسي" أو "مدني"، والواقع أن الإنسان هو تلك العناصر وغيرها مجتمعة، بما يجعل المحدّدات القابعة خلف السلوك البشري لا تعرف الانحباس تحت لون واحد. وضمن السياق المسيحي، الغربي تحديدا، عاد في العقود الأخير مصطلح اللاهوت السياسي للتداول، وإن كان المفهوم يرمي بجذوره بعيدا في طروحات القديس أوغسطين الإفريقي. اُستعيدت الأطروحة في نطاق البحث عن إضفاء شرعية على الممارسة السياسية مع كارل شميت، وكذلك في نطاق التوظيف اليساري للدين مع لاهوت التحرر، وبالمثل في نطاق التوظيف اليميني المكثّف مع السياسات الأمريكية المتعاقبة منذ عهد الرئيس كارتر. لكن الملاحظ أن اللاهوت السياسي العائد يتّسم بطابعين: لاهوت سياسي عمودي على غرار ما يدعو إليه شميت، بحثا عن بثّ حيوية في النظام الليبرالي؛ ولاهوت سياسي أفقي، يمكن إدراج هابرماس وتايلور وتوكفيل ضمن أنصاره، يسعى إلى بناء توازنات مستجدّة داخل الفضاء العمومي.

والسؤال الذي يعنينا بالأساس هو ما معنى أن يطلّ الدين على السياسة في أوروبا اليوم؟ ليست المسألة أَنْجَلة للسياسة أو تسييسا للمسيحية بطريقة اقتحامية فجّة، وإنما تأتي العملية سياقية، يتعايش فيها أحد المكوّنَين مع الآخر بطريقة متداخلة وبطيئة، ويغدو الدين مخزونا أنثروبولوجيا معبّرا عن خصوصيات هوية وليس تعاليم عقدية أو منظورات لاهوتية صارمة.

إذ منذ محاوَرة البابا المستقيل راتسينغر الفيلسوف هابرماس في موناكو (2004)، تحت شعار "حوار العقل والإيمان"، طفت على سطح الفكر الأوروبي إرهاصات لافتة في علاقة الدين بالسياسة. وغدا الخطاب السياسي مستعيرا جملة من المفاهيم والمقولات الدينية، بعد أن كان حضورها ضئيلا أو منعدما. وفي الجوهر بدا سؤال إلى أين تجرّ العلمانية أوروبا حاضرا بقوة؟ لا سيما وأن مصائر العلمانية المتشدّدة، خصوصا في شكلها اللائكي اليعقوبي، جرّت فئات واسعة إلى العدمية وحكمت على مسارات ديمقراطية بالتميّع أو الخواء. فالغرب "البراغماتي" بدا متشكّكا من مؤدى خياراته طيلة العقود الفائتة. لا سيما وأن الجسم السياسي الأوروبي يتحرك داخل خارطة سياسية ذات مشارب إيديولوجية متنوعة، ويعبّر عن روافد شتى وتوجهات عدة تبلغ حدّ التنافر. كما أنه يشتغل داخل ضوابط سياسية يُطلَق عليها تجوزا العلمانية أو اللائكية، وهي في واقع الأمر نظام اشتغال ارتضاه الجميع، وبات متقاسَما بين سائر المكوَّنات بمختلف خلفياتها اليمينية واليسارية والدينية واللادينية.

وليس المقصودُ بإدخال تحويرات في علاقة الدين بالسياسة، في زمن وَهَن الديمقراطية، ثأرَ الدين أو اندحارَ العَلْمَنة، كما قد يُصوَّر الأمر أحيانا، وإنما تجري الأمور ضمن ما تقتضيه مصلحةُ الدولة المعاصرة من دمج الفاعلين الاجتماعيّين الناطقين باسم الخيارات الدينية في المجال العموميّ -وإن واصلت الدولة تكريسَ التمايزِ بين مجالي السياسة والدين-. مقدّرةً ما يمكن أن تسهم به الأطراف الدينية في إرساء وفاقٍ أخلاقيٍّ قوامه المبادئ الديمقراطية. وبشكل لا يعبّر عن تنصّل الدولة من الدين، أو تكريس الخصومة معه، وإنما ضمن إقرارٍ بدوره وفاعليته وإسهامه. وليَقبل العلمانيُّ التحاورَ مع حمَلة الرؤى الدينيّة، والعكس أيضا، شَرْط ألاّ يدّعي أيّ من الطرفين أنّه الأوحد، أو يُمْلي على الجميع رؤيتَه بوساطة الغَلبة. ويأتي تعزّز دور الدين في أوروبا المعاصرة بعد فتور في النسيج المجتمعي، في المجمل، جراء أزمة الديمقراطيات الغربية والبحث عن نوع من الصلابة الغائبة في القيم التي يتطلّع المجتمع إلى ترسيخها.

غدا هذا المفتقَد متداوَلا ومتكرّرا في خطابات رأس الكنيسة الكبرى في الغرب. فمع قداسة البابا فرنسيس تحضر السياسة جلية في مفردات قاموسه، حتى باتت جملة من المفاهيم متواترة في رسائله وعظاته بشأن معالجة قضايا السياسة، على غرار مقولات الاهتداء الإيكولوجي، واقتصاد العزل، وتعولم اللامبالاة، ووثنية الدينار، والتطبيع مع البؤس، وهامش العالم، والحرب العالمية المجزَّأة، وهي تمظهرات وعي يصنع البابا من خلالها نظرته إلى السياسة في العالم.

إذ تبدو أوروبا في الزمن الحالي مدعوة إلى مراجعات عميقة، فالصيغة الدينية السياسية التي سادت في "الزمن العلماني" أمام مراجعات منشودة للحيلولة دون تفاقم ترهّل السياسة من جانب، وتقليص العبء على الدولة من جانب آخر، لا سيما وأن حضور الدين في أوروبا أضحى جليا في تحسين أوضاع الناس المعيشية بعد الاستهانة بذلك الدور على مدى عقود. فعلى أساس إسهام الأديان في المشروع الأوروبي الاجتماعي والتربوي والتعليمي والخدماتي، يمكن الحديث عن دور ملحوظ، فرّطت فيه الدولة تحت مبرر لائكية الدولة وحيادها. وأن عودة الدين ليست نفيا للحداثة، من خلال إبراز مخاطر التشدد، إذ الملاحظ أنّ هذا المظهر هو مجرد انحراف داخل إطار عام يمكن إصلاحه وتفاديه.

وفي ظلّ التبدّل الذي يشوب علاقة الديني بالسياسي في أوروبا المعاصرة، يتبادر إلى الذهن التساؤل عن الأرضية التي تقف عليها القارة في الراهن، حتى وإن ظلّت الأزمات الاجتماعية المتراكمة والمعالجات السياسية المرتبكة سرعان ما تُحوّل الإجابة إلى ملفّ أمني يدفع ضريبتها الدخيل الوافد. هل ما زالت أرضية التراث اليهودي المسيحي المهيمنة والطاغية أمْ جرت في النهر مياه مغايرة؟ المسلمون بمفردهم في أوروبا سيناهزون بحلول العام 2030 أربعين مليون مواطن، بحسب تقديرات مركز “The Pew Forum on Religion and Public Life” الأمريكي، ناهيك عن انحشار تقاليد دينية أخرى في أوروبا، وظهور أشكال جديدة من التديّن، ومن هذا الباب هل يجوز تواصل التنكر أو النفي للهويات المتحولة؟

في كتاب أصدره عالم الاجتماع الأمريكي رودناي ستارك بعنوان "انتصار الإيمان" (2017)، وهو للذكر من أبرز دعاة "تحرير السوق الدينية"، أبرز فيه أن حالة "اللاتدين" في أوروبا، أي الوجه الرائج والمروَّج، لا تعبّر عن الواقع الحقيقي، أوّلًا في ظلّ اعتماد معايير لا تتلاءم بدقة مع توصيف الظواهر ورصدها، وثانيًا في ظلّ مونوبول الدين واحتكاره من قِبل مؤسسات دينية متحالفة ضمنيا مع السياسات الدينية التقليدية في تلك المجتمعات، تضيّق على التقاليد الحاضرة في أحضان القارة، سواء المتأتية منها جراء الهجرة أو بموجب التولدات الحاصلة من داخل البنية الدينية المسيحية.

وعلى هذا الأساس، فالدين في المجتمعات الأوروبية المعاصرة ما عاد حديثا عن موروث مسيحي مطعَّم بنكهة يهودية، ومدجَّن وفق ضوابط العلمنة؛ بل أضحى الإسلام مع تحولات الهجرة عنصرا إضافيا، ناهيك عن تقاليد دينية أخرى وافدة من العالم الصيني الهندي. هذه العناصر الأصيلة والدخيلة التي بات جميعها مستوطنا في أوروبا المعاصرة، ما فتئت تطرح نقاشات وجدالات وتساؤلات متنوعة بشأن مفهوم السياسة، ومدلول الفعل السياسي، وتكريس التعددية في القارة، بما يذكي الحديث عن مقتضيات مراجعة العلاقة بين الديني والدنيوي التي سادت في عقود سالفة، وإعادة تعريف الحداثة بدلالات مغايرة.

ولإحاطة رصينة بما يجري من تبدّل في أوروبا، والغرب عامة، حريّ أن يكون المنظور مواكبا لا ثابتا ومنفتحا لا منغلقا. لأن علاقة الدين بالسياسة في أوروبا متفاوتة وليست متماثلة، فالعلمانية علمانيات، ومستويات الفصل والمزج بين الدين والسياسة متغايرة من مجتمع إلى آخر. ويمكن إلقاء نظرة خاطفة على الدساتير الأوروبية، في مسألة الدين، لتبيّن الفوارق الجمة بين المجتمعات في حضور الدين ودوره، ومن ثَمّ ليست هناك معيارية واحدة في العلاقة تنسحب على الجميع. فعلى سبيل الذكر تتجذر في السياسة الفرنسية علاقة عصابية مع الدين/ الأديان، في حين تسود في إيطاليا علاقة وفاقية، وأما في بريطانيا وألمانيا وسائر الدول الأسكندنافية فتعرف العلاقة صبغة تعايشية. والإشكال أن الدولة الخصامية مع الدين، تتطلّع إلى تصدير نموذجها، وتعرض سياساتها على أساس أنها المثال والترجمة للمجتمع الحداثي المنشود. وقد يعرف الناس في فرنسا -بالكاد- اسم رئيس الأساقفة في منطقة معينة، ولكن الأساقفة والكرادلة في إيطاليا أو إسبانيا لا يزالون شخصيات عمومية حاضرة بتأثيرها الجلي في الساحة الاجتماعية. ناهيك عن دولة كفرنسا تحضر فيها صورة الدين في الزمن الحالي في "قضية الإسلام" التي ما إن تسوّى من جانب حتى تطلّ من جانب آخر، ولم ينفع فيها مستشارو الإسلام الوظيفيون وخبراؤه في التهدئة أو التسوية.

وفي ظل تسرّب الوهن الجلي للديمقراطيات الأوروبية في العقود الأخيرة، وجد الدين حضورا في حضن الساحة السياسية، وربما توظيفا من أطراف بهدف البحث عن سند ودعم. وتبدو مصالحات العلمانية الأوروبية مع الدين براغماتية أحيانا، نظرًا لزخم حضور المؤسسات الدينية في المجتمع مثل مؤسسات "الكاريتاس" و"فوكولاري" و"سانت إيجيديو" و"كومونيون وليبيراسيون". فأمام إسهام الكنائس القوي في الفضاءات الاجتماعية والتربوية والتعليمية، أضحى التوجه الديني بالغ الأثر وجليا. وهو ما جعل الأحزاب المأزومة والهشّة تبحث عن دعامات خارج قواعدها المألوفة، الشعبية والعمالية، في أرضية كنسية أكثر صلابة. فأوروبا المعاصرة المرتبكة، كأنها تجد في تقريب الدين الحائل دون تميّع أكثر واهتراء داهم. إذ تبدو الروابط المتأسّسة على السياسي والاقتصادي عرضة للاهتزاز والخلاف، وهو ما يدفع إلى العودة نحو بنية أكثر إيغالا للخروج من المأزق.

فما من شك أن الدين يمثّل دعامة كبرى، وإن طمَس النزوع العلماني ذلك الدور وأخفاه، وهو الأمر الذي جعل الدولة تفتّش عن مصادر قوة في المؤسسات الدينية وفي ممثّليها وناشطيها وقياداتها. في إيطاليا في الفترة الأخيرة جرى تكليف رجل الدين "العلماني" أندريا ريكاردي، الزعيم التاريخي لمؤسسة "سانت إيجيديو"، بمهام مؤسسة "دانتي أليغييري" المعنية بترويج اللغة والثقافة الإيطالية في العالم، وكأن الدولة تستنجد بالسّند الديني في نشر مخزونها الحضاري بعد تقاعس المثقف العلماني عن المهمة المنوطة بعهدته.

مع هذا التحول في أوروبا، تبرز مقارنة بسيطة بين أمريكا وأوروبا أنّ حضور الدين في السياسة في أوروبا لا يزال محتشما قياسا بالمستويات المتقدّمة التي يعيشها واقع "الدين المدني" في أمريكا. وقد كان الأستاذ مختار بن بركة، المدرّس في جامعة فالنسيان في فرنسا، قد تناول الأمر بالتفصيل في العديد من المؤلفات مبيّنا المستويات المتفاوتة، لكن الأمر في أوروبا يبدو وكأنّه يسير بخطى متسارعة مقلدا النموذج الأمريكي.

***

د. عزالدّين عناية

أستاذ تونسي بجامعة روما، إيطاليا

 

مقدمة: إن دخولنا في المنهج الفلسفي الحقيقي يعود تاريخه إلى اليوم الذي رفضنا فيه الحلول اللفظية، بعد أن وجدنا في الحياة الداخلية مجالًا أولًا للتجربة. هكذا تحدث هنري برجسن في الفكر والمتحرك. وإذا أردنا تعريف الاختصاص الفلسفي بطرح الأسئلة الجدية المحيرة وترك الأجوبة العادية الفارغة فإننا نذكر الحادثة التالية: " أحد المارة يسير في الشارع ويسأل أحدهم عن الوقت. فيجيب الآخر، الفيلسوف: “ولكن ما هو الزمن؟ ". ولتحديد طبيعة كل شيء نحتاج الى معرفة خصائص الفلسفة والبحث عماهي؟

أولا: طبيعة الفلسفة

1- لكل إنسان فلسفة عفوية:

الفلسفة هي نظام جديد بالنسبة لك. ربما لاحظت أنه يثير فيك أو في من حولك الفضول والخوف معًا، ولكنه أيضًا يثير سخرية متنوعة (راجع الشخصية الكاريكاتورية لبانغلوس في "كانديد" لفولتير الذي يدعي أنه يعلم "علم الميتافيزيقيا واللاهوت وعلم الكونيات"). الفضول لأن الكثير من الناس يشعرون أنه يتطرق إلى أسئلة أساسية دون معرفة أي منها بالضبط. السخرية، لأن الفيلسوف معروف بكونه شخصًا، يغذي نفسه بالتجريد، وغالبًا ما يكون غير مناسب للحياة العادية، ويطرح أسئلة بعيدة كل البعد عن هموم الحياة اليومية ويقترح إجابات معقدة وغير مفهومة للبشر العاديين. لتوضيح أي سوء فهم، لنبدأ بملاحظة بسيطة: أنت وكل شخص تعرفه لديك آراء في مجموعة واسعة من المجالات. يشير كل واحد منا إلى القيم الأخلاقية، على سبيل المثال عندما نعجب بهذا السلوك أو ذاك أو نشعر بالفزع منه، أو عندما نتحدث علنًا عن قضايا حساسة مثل عقوبة الإعدام، والقتل الرحيم، وحماية البيئة، والأخلاق، وما إلى ذلك. كل هذه الآراء تسترشد بفكرة معينة عن الخير والشر، بقناعات حميمة، ورثناها بالتأكيد من تعليمنا، من بيئتنا، لكننا صنعناها بأنفسنا. إن مجموعة هذه الآراء، التي نعتبرها مبررة بصدق، والتي توجه حياتنا وتنظمها، تشكل فلسفة. على هذا النحو، كل إنسان هو فيلسوف ويمارس الفلسفة كما نثر السيد جوردان، أي دون أن يعرف ذلك، بل والأكثر من ذلك: الجميع يسألون أنفسهم أسئلة فلسفية، سواء حول الموت أو السعادة أو الوقت أو حتى أصل الأشياء.

2- الفلسفة العفوية والفلسفة النقدية:

كل هذه الآراء تشكل فلسفة عفوية. هذا لا يعني أن الأشخاص المعنيين لا يفكرون، لكن آرائهم تعتمد في معظم الأحيان على التقاليد والتعليم الذي تلقوه والخبرة الحياتية والتأثيرات التي مروا بها وليس على تفكير منهجي وشخصي من شأنه أن يربط بين هذه الآراء المختلفة ويربطها. وربطها بمبادئ مشتركة ومدروسة بعناية والتي اعتدنا أن نسميها بأسماء الأسس. ليست هذه الآراء مجزأة ومستقلة عن بعضها البعض فحسب، بل إنها لا تجد مبررها وتماسكها ووحدتها بالنسبة إلى المبادئ الأولى التي ندركها، والتي تنتج عن تفكيرنا الشخصي والتي نلتزم بها بشكل عام. مدروس ومعقول. ومن ناحية أخرى، إذا اتخذنا هذه الخطوة لإعادة اكتشاف الجذور المشتركة لجميع آرائنا من خلال طرح السؤال النقدي على أنفسنا: "من أين يأتي ما أفكر فيه وما أؤمن به؟ "، ثم انتقلنا إلى فلسفة صريحة واعية بذاتها (ولم تعد عفوية)، باختصار إلى موقف فكري ونقدي نحتفظ له عادة باسم الفلسفة. لقد صاغ الفيلسوف الإيطالي غرامشي هذا السؤال بشكل مشهور: هل من الأفضل أن "نفكر" دون أن يكون لدينا وعي نقدي به، بطريقة مفصلة وعرضية، أي "المشاركة" في تصور للعالم "المفروض" ميكانيكيا من قبل العالم الخارجي، في بعبارة أخرى من قبل إحدى المجموعات الاجتماعية العديدة التي يرى كل فرد نفسه منخرطًا فيها تلقائيًا منذ دخوله إلى العالم الواعي ... أم أنه من الأفضل تطوير تصوره الخاص عن العالم بطريقة واعية ونقدية وبالتالي فيما يتعلق بـ هذا العمل الذي يدين به المرء لعقله... للمشاركة بنشاط في إنتاج تاريخ العالم، ليكون مرشدًا لنفسه بدلاً من القبول السلبي والجبان بوضع الختم خارج شخصيتنا؟ ".  مقتطف من غرامشي من “الكتاب 11” في دفاتر السجون، المجلد الثالث.

3- ولادة الفلسفة ودور العقل:

أ. الفلسفة كمقاربة ومطلب عقلاني:

نحن نفهم بشكل أفضل قليلاً ما هي الفلسفة. إن أصل الكلمة من ناحية وأصولها التاريخية من ناحية أخرى سوف يوضح معناها. الفلسفة تعني اشتقاقيًا "الحب أو البحث (فيلو) عن الحكمة (صوفيا)". تقليديا، الحكمة هي مجموعة من المعرفة، غالبا ما تعتبر مملوكة لكبار السن أو للأجيال السابقة، أولئك الذين لديهم خبرة في الحياة والتي تهدف إلى إرشادنا في وجودنا، لمعرفة كيفية التصرف من أجل افتراض ذلك في العالم. أفضل طريقة وتجلب لنا أكبر قدر ممكن من الرضا. لقد طورت جميع الحضارات حكمة مفهومة، وغالبًا ما تكون مستوحاة بشكل أساسي من المعتقدات الدينية السائدة، ومع ذلك، تعتبر الفلسفة تقليديًا من اختراع اليونانيين في القرن الخامس قبل الميلاد. ومن أين يأتي هذا التكريم المخصص لليونانيين في هذا العصر؟ لقد اخترعوا الرياضيات إلى حد أن القضية تعتبر كذلك إذا كان من الممكن إثباتها. لقد اخترع اليونانيون المظاهرة. حتى ذلك الحين، كانت المعرفة الرياضية تعتمد على الخبرة والملاحظة؛ وباختصار، كانت ذات طبيعة تجريبية. الشيء نفسه ينطبق على الفلسفة. لم تعد الحكمة المدروسة مبنية على التقاليد، أو على المعتقدات الدينية، أو على تجربة الحياة، بل على التفكير العقلاني حصريًا. هل هذا يعني أن العقل يمنحنا معرفة بالموضوع أم مجرد معتقدات عقلانية؟ وقد اختلفت الاستنتاجات حول هذه النقطة. لكن ما يبقى مشتركًا بين جميع الفلاسفة، سواء كانوا يثقون بالعقل من أجل تطوير الحكمة أو سواء كانوا ينتقدون إمكانياته أو يشككون فيه بشكل جذري، فإنهم جميعًا يستخدمونه للوصول إلى استنتاجاتهم. ومن هنا نفهم أصالة الخطاب الفلسفي. وظيفة الأخير هي شرح وتبرير هذه المبادئ الأولى الشهيرة، هذه الجذور، هذه الأسس التي تؤدي إلى ترتيب جميع استنتاجاتنا في أي مجال، ومنحها التماسك والدقة، وربطها معًا، وبالتالي إعطائها طابعًا منظمًا. وهكذا تتميز الفلسفة عن الأدب البسيط، ومنها ما هو ملتزم، والذي يعبر عن قناعات دينية وسياسية وأخلاقية بمناسبة رواية أو مسرحية أو سيرة ذاتية أو حتى قصة تاريخية. لأن جميع الأفكار المعبر عنها عبر الصفحات لا تتمتع بهذا الطابع المنهجي والمنظم والحصري لأي اعتبار آخر، وخاصة الجمالي أو الرومانسي. يجب شرح الفلسفة الواردة فيه وتوليفها ووضعها في منظورها الصحيح. ومن باب أولى، تتميز الفلسفة المعرفة على هذا النحو عن الآراء البسيطة الموروثة من تعليمنا أو تجربتنا الشخصية، لأنه لا توجد فلسفة حقيقية دون تفكير يتم على أسس آرائنا ويسترشد بالعقل. عندها لم تعد آراؤنا تعتبر كذلك، بل كشكل من أشكال المعرفة، وهي بالتأكيد قابلة للنقاش ولكنها بداية للمعرفة.

ب. الأسئلة الأساسية للفلسفة:

 في القرن الثامن عشر، اقترح كانط في كتابه المنطق تجميع الأسئلة الفلسفية حول ثلاثة أقطاب:

 1. “ماذا يمكنني أن أعرف؟" سؤال يتعلق بقدرات الفكر الإنساني للإجابة على الأسئلة التي يطرحها حول أسرار الطبيعة وخاصة حول إمكانيات العلم وحدوده، حول معنى مصير الإنسان، وخاصة الموت، حول وجود أو عدم وجود إله أو أكثر، عن أصل الكون، عن الكائنات الحية، عن طبيعة العقل، الخ.)

2. "ماذا عليّ أن أفعل؟" سؤال يتعلق بالسعادة الفردية، والقيم الأخلاقية، والأهداف السياسية، والمشاكل الاجتماعية مثل الاستنساخ، والقتل الرحيم، والأبوة المشابهة، وعقوبة الإعدام، واستخدام التقنيات الجديدة، وما إلى ذلك.)

3. "ما الذي يمكنني أن آمله؟ " سؤال يتعلق بمعنى الوجود، والقيم الأخلاقية العليا، والجمال، والمتع الحسية، وأفراح المعرفة، وسعادة المحبة والمحبة والاعتراف الخ، كل هذا يشير إلى هل له معنى يتجاوزنا، التعالي، والأمل، والمحدودية وما إلى ذلك.

وأضاف أن هذه الأسئلة الأساسية الثلاثة يمكن تلخيصها فيما يلي: “ما هو الإنسان؟ "

هذه الأسئلة هي الأكثر جذرية، ويمكن تصنيفها لأنها تلك التي تذهب إلى أبعد من التساؤل، والتي تثير مشكلة "لماذا"، وسبب وجود كل الأشياء، وطبيعتها الحميمة، وقيمتها، وسبب وجودها. معناها بالنسبة للمغامرة الإنسانية. وفي هذا الصدد، فإن أي سؤال فلسفي يصل إلى نهاية مشروعه، ولا يتوقف على طول الطريق، يؤدي بالضرورة إلى أسئلة ميتافيزيقية تتجاوز التجربة البسيطة والبساطة كيف لصالح لماذا. غوسدورف، فيلسوف فرنسي من القرن العشرين، يعرّف التساؤل الميتافيزيقي على النحو التالي:

"في كل مرة نفسر طبيعة الإنسان ومصيره، في كل مرة طرحنا فرضية حول حقيقة الكون، في كل مرة راهننا فيها على الله أو عليه، استقراءنا، نطقنا على الغايات النهائية للإنسان. إننا نعطي معنى للوجود من خلال طرح سؤال "لماذا" وليس سؤال "كيف". لا يبدو أنه يمكن التغلب على هذا السؤال حول السبب..."مقتطف من كتاب غوسدورف، الأسطورة والميتافيزيقا، مقدمة

ومن هنا يمكن أن ندرك أن العديد من المجالات (السياسة والجماليات والأخلاق وغيرها) تروى بالميتافيزيقا ولكن أيضًا العلوم دون معارفها وأديانها، وهو ما يشير إلى الطابع الشمولي لما سمي منذ أرسطو الأول بالفلسفة أو الميتافيزيقا.

ثانيا: فائدة الفلسفة

1- فائدة الفلسفة في البحث عن خيرنا

 "ما الفائدة؟" ". الجواب: من أجل العيش بأفضل ما يمكن. نحن نميل إلى الاعتقاد بأنه من المهم معرفة تجربة الأجيال السابقة، للاندماج الجيد في المجتمع الذي نعيش فيه، وبالتالي معرفة عاداته وقوانينه، بل ووسائل التحايل عليه عند ذلك يناسبنا، أن نضع أنفسنا في أعلى مكان ممكن في التسلسل الهرمي الاجتماعي، للحصول على أكبر عدد ممكن من الملذات دون الانزعاج من المبادئ المقيدة، والاستعداد لكل هذا لتلقي تعليم جيد حيث يمكن للفلسفة أن تأخذ مكانها إذا روجت. خفة العقل لدينا. وهذا أيضًا هو وجهة النظر التي يدعمها كاليكلاس، وهو شخصية في حوار غورجياس الأفلاطوني، سطر 484ب-485ج، والذي يعبر عن أطروحة الرأي العام حول فائدة الفلسفة من خلال معارضة سقراط، الذي يجسد الفلسفة، وهو هيرالد: "من الجيد معرفة الفلسفة بقدر ما تخدم التعليم، وليس هناك عيب في التفلسف عندما تكون شابًا. لكن الشخص الناضج الذي يستمر في الفلسفة يفعل شيئًا سخيفًا، يا سقراط، ومن جهتي، لدي نفس الشعور تجاه هؤلاء الناس مثل الشخص الناضج الذي يتلعثم ويلعب مثل الطفل. الشخص الراشد الذي يتلعثم ويلعب هو أمر مثير للسخرية؛ إنه ليس انساناً، نريد أن نجلده." يحتوي هذا التحليل، الذي يبدو منطقيًا وبسيطًا، على العديد من أوجه القصور الرئيسية عند التفكير فيه. وهي في الواقع تركز على أفضل الوسائل لتحقيق أهدافها. والآن، ما هي الغاية النهائية التي يسعى كل إنسان إلى تحقيقها، إن لم تكن السعادة، أو خيره، أو على الأقل أعلى أنواع الرضا التي يمكن أن يحققها له الوجود؟

2. ليس عالمة ولا جاهلة: الفلسفة رغبة

دعونا نتذكر أن كل الرغبة تولد من النقص. والآن، الرغبة الأولى، الرغبة الأسمى: هي أن تكون سعيدًا.

"جميعنا، ما دامنا كذلك، نريد أن نكون سعداء" هذا ما أعلنه أفلاطون في محاورة الجمهورية، الكتاب الثاني، 365 د. وللقيام بذلك، علينا أن نفكر في الأهداف التي يجب أن نضعها لأنفسنا وكذلك أفضل الوسائل لتحقيقها. الغايات والوسائل ليست واضحة. وعلى هذا النحو، فإن هذا التأمل لا يقتصر على فترة الشباب. من منا لا يرى أن كل فترة من الحياة تثير مشاكل معينة؟ أولئك الذين يعيشون في مرحلة المراهقة (فترة حياتكم ذات طبيعة برية وبالتالي خصبة فلسفيًا)، أولئك الذين يتمتعون بالأصالة، أولئك الذين يهربون من العمل والتفكير العاديين، الذين تحتكرهم الاهتمامات العملية والحدود التي يقدمها الإدراك والحس السليم. كما تؤكد التحليلات السابقة أن التفكير الفلسفي غير قادر على تقديم إجابات (على الأقل نهائية)، ولكن من ناحية أخرى، فإن مهمته هي الوعي، وبالتالي طرح الأسئلة ذات الصلة التي يطرحها مصير الإنسان والكون في داخله حيث يتم إدراج هذا المصير (مسألة انعكاسية الوعي). وقد حدد أفلاطون في محاورة المادبة من سطر204 أ المشكلة بوضوح من خلال شخصية ديوتيما في تحديد طبيعة الفلسفة وأهدافها: “لا أحد من الآلهة يتفلسف ولا يرغب في أن يصبح متعلمًا، لأنه كذلك: وبشكل عام، إذا كان الإنسان متعلمًا، فهو لا يتفلسف؛ والجاهل أيضًا لا يتفلسف ولا يرغب في أن يصبح متعلمًا؛ لأن الجهل على وجه التحديد لديه الشيء المؤسف، وهو أننا، ليس لدينا الجمال ولا الخير ولا المعرفة، نعتقد أننا قد وهبنا ذلك بما فيه الكفاية. والآن، عندما لا نعتقد أننا نفتقر إلى شيء ما، فإننا لا نرغب فيه. سألت (سقراط): “فمن هم إذن يا ديوتيما المتفلسفون، إذا لم يكونوا عالمين ولا جاهلين؟ » فأجابت: "حتى الطفل سيفهم على الفور أن هؤلاء الذين هم بين الاثنين ...". مقتطف من  أفلاطون، محاورة المأدبة، ترجمة إي. شامبري، طبعة غارنييه، 1988، 204أ.

خاتمة

"لا يمكن للفلسفة إلا أن تكون محاولة للاندماج مرة أخرى في الكل" هنري برجسن، التطور المبدع.

كان بإمكان معلم الفلسفة الخاص بك أن يقنعك بأن الفلسفة ضرورية لتكون سعيدًا، أو أنها تسمح بتنمية المعرفة والمهارات، أو أنها توفر مصدرًا أقوى وأدوم للمتعة من المتعة الجسدية البسيطة. ومع ذلك، فإن التأمل الجدلي لشوبنهاور الذي أعلن أنه "كلما كان الإنسان أقل ذكاءً، قل غموض الوجود بالنسبة له" يبدو مناسبًا لأنه يحتوي على شكل من أشكال الحتمية النبيلة للفلسفة. لذلك يمكننا أن نضيف بطريقة أكثر مباشرة أن هدف الفلسفة يتمثل في محاربة الغباء، وهذا الغياب للتفكير الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى شكل مزعج وغير مبرر من الأهمية الذاتية. فهنا برنامج واسع هو منبع التميز والرفعة والكرم في كلمة واحدة: السعادة. ولكن ما هي السعادة؟ وماذا عن جوهرها؟ ماهي معاييره؟

إذن بالنسبة لمفاهيمك: هكذا يذهب الطفل ذو القلب النبيل إلى النجوم! لاستخدام كلمات الشاعر فرجيل. فكن لطيفًا معها جميعًا!

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

أو كيف يمكن تحرير "الذات العالمة" من سلطة العقل السياسي؟

بينما كنت أطوف شوارع الجلفة، المدينة التي أقيم بها الواقعة جنوب الجزائر العاصمة بنحو ثلاث مائة كلم ومتاجرها المختصة في بيع الأحذية بحثا عن حذاء يليق بمقاسي تحسبا لفصل الشتاء حيث برد الجلفة القاسي.

تذكرت العنوان الصادم لإحدى نصوص القاص والأكاديمي الجزائري السعيد بوطاجين القصصية (حذائي وجواربي وأنتم)، مثلما تذكرت عنوان رواية مهمة للروائي الجزائري الأعرج واسيني وهي (وقع الأحذية الخشنة).

وأتصور بأنه لم يكن قرار عنونة المجموعة القصصية للسعيد بوطاجين بذلك العنوان الصادم للذائقة الثقافية العربية (حذائي وجواربي وأنتم) قرارا عفويا، أو هو غيرمدروس بعناية من طرف سارد وعقل سيميائي هو على علاقة كبيرة بخطاب العتبات النصية مثلما هو مكرس في المتن النقدي لأحد أعلام النقد الحديث وهو جيرار جينيت.

وهو أقل ما يمكن أن يصدر من قاص وناقد من نقد سياسي صاغه في فن إبداعي هو القصة القصيرة، مرر من خلاله بعض رسائله الضمنية المعبأة بالكثير من الغضب والشكوى لمن يهمهم الأمر.

والأمر نفسه ينطبق على الروائي الجزائري الأعرج واسيني، فلا أعتقد بأن وضعه لهذا العنوان (وقع الأحذية الخشنة) كان من قبيل الصدفة أو العفوية الإبداعية.

 طالما أن الأعرج واسيني وهو ناقد وأستاذ جامعي قبل أن يكون روائيا، لا يمكن أن يكون على غير علم أو إطلاع على خطاب العتبات النصية، مثلما هو مكرس في المتن النقدي لأحد أعلام النقد الحديث وهو جيرار جينيت.

مثلما تذكرت أيضا اللوحة الفنية الشهيرة التي تحمل عنوان (أحذية فان غوغ)

اللوحة التي خصها الفيلسوف الفرنسي الجزائري المولد جاك ديريدا بمقاربة فلسفية تفكيكية ضمن كتابه (الحقيقة في الرسم).

ثم تساؤل الروائية والباحثة التونسية المتخصصة في فلسفة الجمال أم الزين بن شيخة المسكيني.

التساؤل الذي تصدر دراسة قيمة خصت بها أم الزين بن شيخة المسكيني فصلا من كتاب ديريدا (الحقيقة في الرسم)، الفصل المتعلق بأحذية فان غوغ.

الدراسة الموسومة (ديريدا تفكيك اللوحة..هل ثمت أشباح في أحذية فان غوغ.. ؟).

يقول مضمون هذا السؤال الصادر عن أم الزين بن شيخة المسكيني.

 " لمن تصلح الأحذية ؟.

لحماية أقدامنا من صلف أحجار الطريق أم لدعس أحلام الحفاة العراة حيث لا بنيان لهم ولاهم يتطاولون.. ؟

أم لرجم الطغاة والحكام حيثما طغوا وتجبروا ؟ " (01).

لكن لماذا استدعاء تيمة الحذاء في سياق التفكير المعاصر لإنسان ما بعد الحداثة الذي أدركه الوعي بحسب تحليل أم الزين بن شيخة المسكيني بأن الحذاء هو هامش الجسد أو تحته ولذلك افترضت أم الزين بن شيخة المسكيني أن " أحذيتنا هي واجهة كل المهمشين عن الواجهة وكل الذين لا يشاركون في اقتسام خيرات العالم " (02).

وعلى هذا الأساس ترى أم الزبن بن شيخة المسكيني بأن هذا الاستدعاء لتيمة الحذاء وللوحة فان غوغ، هو" الذي أصبح يؤجج التفكير الفلسفي وأن يكون موضع خصومة شديدة اللهجة مع أقطاب الفكر الإنساني " (03).

كما حدث لفيلسوف الهوامش جاك ديريدا مع لوحة أحذية فان غوغ، الذي لم يكن اختياره لها محض صدفة، وهو الذي عني في قراءته الفلسفية للوحة أحذية فان غوغ " بخلخلة إطار مركزية اللوغوس الحديث منذ أول نص مؤسس لبراديغم الإستيطيقا الذي نصب نفسه منذ كانط إلى أدورنو وصيا على ميدان الجمال والفن والإبداع " (04).

الأمر الذي حتم على أم الزين بن شيخة المسكيني الدخول إلى مناخات علبة التحليل التفكيكي الدريدي للوحة فان غوغ عبر فلسفة التفكيك، كما تشكلت في المخيال الفلسفي لديريدا

بما يعني " إزاحة اللوحة من من غطرسة براديغم الإستيطيقا القائم على غطرسة ميتافيزيقا الذات " (05).

حيث يهدف دريدا والكلام لأم الزين بن شيخة المسكيني " للدخول في مهمة جديدة للفلسفة مدعوة إلى تفكيك العالم الحديث عبر خلخلة النصوص التي تدعمه وتضمن له كل صلاحيات غطرسة الإطار والأجهزة من إطار لوحة الرسم إلى جهاز الدولة ومن غطرسة العقول إلى استبداد الطغاة " (06).

الغطرسة التي قادت صحفيا عربيا هو منتظر الزيدي للخروج عن غطرسة الاطار في بعده السياسي الإمبريالي خروجا علنيا، عندما تجرأ على رجم الرئيس الأمريكي جورج بوش بفردة حذائه أمام رئيس الحكومة العراقي نور المالكي، وهو فعل حي من أفعال الحياة التي لا تنسى رغم إدراكنا بأن فعل الرجم وحده لا يكفي.

ولابد من القيام بفعل آخر هو فعل (عقل الشهوة) بمفهوم فتحي المسكيني أو لجمها للحد منها، ونعني بذلك شهوة ممارسة السلطة كنوع من المقاومة الثقافية لفعل الوطء

 والاستبداد السياسي الذي يمارسه العقل السياسي العربي على الرعية، التي يمارس عليها فعل الهيمنة أو الوطء السياسي بوصفها من (المهيمن عليهم من طرف الهيمنة نفسها) بحسب العبارة الشهيرة لفيلسوف العدالة الاجتماعية كارل ماركس.

والعقل السياسي المعنى بهذا النوع من النقد وهو نقد ثقافي هو العقل السياسي الذي خصص له المفكر المعروف محمد عابد الجابري الكتاب الثالث من ثلاثيته الشهيرة المتكونة من الكتب التالية :

تكوين العقل العربي

بنية العقل العربي

 العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته.

عندما يقدمه بوصفه العقل الذي " يمارس سلطة الحكم ومحددات الفعل السياسي بوصفه سلطة تشكل في مجموعها العقل السياسي " (07).

على أننا سوف لن نتقيد بما يخص العقل السياسي من دور، ولن نجعل هذا النقد حكرا عليه وفي الأفق أن كل ممارسة من ممارسات "العنف الرمزي" أو الاحتواء الثقافي مصدرها العقل السياسي، حتى ولو كان الفاعل هو العقل الثقافي عندما يتخلى عن ممارسة حقه في النقد العقلاني أو حتى "النقد الذاتي " الذي بشرت به التجرية الماركسية، وهي تعيد النظر في كل ممارساتها الحزبية والإيديولوجية ناقدة ذاتها.

لأن العقل السياسي ذاته ليس حكرا على من يمارس السياسة فقط.

بل هو على ما ينبه لذلك محمد عابد الجابري، عندما أراد الرد على أولئك الذين ناقشوا بعض أعماله النقدية السابقة وأخذوا عليه مثلما يعترف بذلك علنا، أنه أهمل في تحليل (الخطاب العربي) و(نقد العقل العربي) ربط الفكر بالواقع الاجتماعي والتاريخي أن العقل السياسي " يقع بين من يمارس السلطة السياسية أو يشرع لكيفية ممارستها وبين من تمارس عليهم هذه السلطة " (08).

وسنشدد على أهمية " سياسة الأدب " أو السياسات الأدبية بالمعنى الذي يقترحه جاك رانسيير في كتابه (سياسة الأدب) وينبغي عدم الخلط بين سياسة الأدب.

وهي ممارسة فكرية من صميم عمل الكتاب والمفكرين وبين الممارسة السياسية المنجزة من طرف السياسي ضمن عمل العقل السياسي، أو حتى تلك التي تمارس من طرف الكائن الثقافي عندما يتحول إلى أداة من أدوات العقل السياسي.

من دون أن يغيب عن أذهاننا " أن السياسة مجال خاص من الخبرة يفترض وجود أغراض عامة وينظر فيه إلى البعض على أنهم قادرون على تحديد هذه الأغراض " (09)

ولعل هذا ما جعل الناقد والفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير يحرص على القول بأن السياسة بوصفها تأسيسا لهذا المجال الخاص " ليست معطى محددا يرتكز على ثابت أنتروبولوجي فالمعطى الذي تستند إليه السياسة متنازع عليه دوما " (10).

يتجلى ذلك في المنظور النقدي للفيلسوف جاك رانسيير، عندما يحاول الاستئناس بعبارة شهيرة لأرسطو متخذا منها متكأ يقول مضمون هذه العبارة " أن البشر مخلوقات سياسية لأنهم يتمتعون بميزة الكلام الذي يسمح بالحديث عن العدل وعن الظلم بينما لا تملك الحيوانات سوى الصوت الذي بعبر عن اللذة وعن الألم " (11).

وقد يمارس الأديب السياسة بوصفها أدبا بالمعنى الذي يخصص له جاك رانسيير فصلا من كتابه (سياسة الأدب) الفصل الذي يحمل العنوان ذاته (سياسة الأدب)، من حيث أنه يفترض " وجود صلة جوهرية بين السياسة بوصفها شكلا خاصا من أشكال الفعل الاجتماعي والأدب بوصفه ممارسة محددة للكتابة " (12).

ولم يخطئ تماما المفكر التونسي فتحي المسكيني عندما اعتبر بأن أعلى " مراتب القوة والتسلط على البشر هو نكاح العقل " (13).

ولهذا النوع من التسلط على البشر تجليات تجد لها ردود فعل فلسفية، كالذي أبداه المفكر والفيلسوف اللبناني علي حرب، الذي لم يتردد في اعتبار الإنسان مهما كان وضعه " ذاتا راغبة ولكل رغبة آلياتها السلطوية الملموسة او المجردة " (14).

وهذه الآليات يحصرها فتحي المسكيني في الخطاب سواء كان هذا الخطاب دعويا أو سياسيا كمقدمة أولى لممارسة حقه في المقاومة الثقافية يتجلى ذلك من خلال اعتبار المسكيني أن " كل خطاب دعوي أو عدمي أو استلابي هو نكاح للعقل " (15).

وهو في منظور المسكيني " خبث إبستمولوجي موجود في كل الخطابات الماضوية منها أو المستقبلية (16).

وليس حكرا على الخطاب العربي، هكذا يؤدي فعل عقل شهوة السلطة دوره المقاوم للاستبداد العقلي بالتساوق مع النتيجة التي ينتهي إليها فتحي المسكيني لدور العقل المستقل، حتى ولوكان عقل الأنثى المفكرة في قدرته على " عقل الشهوة التي لا تفكر أي على حقن دماء الناس من أي إرادة تريد تحويلهم إلى موضوع شهوة أي إلى جسد للنكاح " (17).

ودع عنك أن يكون هذا النكاح سياسيا أو نكاحا ثقافيا كالذي حذر منه ومن نتائجه الوخيمة ناقدا ثقافيا هو محمد عبد الله الغذامي في أطروحته عن النقد الثقافي، ونعني بذلك الزواج النسقي " بتعبير الغذامي، وفي كل زواج كما هو معروف عقد وهذا العقد هو " العقد الثقافي القائم على المصلحة المتبادلة بين الطرفين مع تسليم المؤسسة الثقافية الرسمية بذلك (18).

مما يعني الاقتراب من المعنى الذي يتواتر في شعار الأنوار كما ورد في نص شهير للفيلسوف إيمانويل كانط عن ماهي الأنوار ؟

إذ ما أردنا حقا أن ننتصر لذواتنا، وأن نمارس حقنا المشروع في النقد وفي استعمال عقولنا.

لفد لفت انتباهي قول كانط " تجرأ على استعمال عقلك أنت ذلك هو شعار الأنوار " (19).

ومن الأهمية بمكان العمل بضرورة استخدام عقولنا لا عقول الآخرين مع عدم التنكر لإنجازات الآخر أو التطلع لها ومن دون الذوبان في لغة الآخر للتخلص مما يسميه كانط " أدوات استعمال العقل الميكانيكية وأدوات سوء استعمال المواهب الطبيعية " (20).

وعنما تنجز ذلك ستكون أنت بخصائصك العقلية والذهنية، ولا يهم أبدا إن كنت تغرد خارج السرب.

فالذين غردوا خارج السرب وخارج إجماع القطيع هم الذين انتصروا لذواتهم ولقيم العقل المستقل.

وهنا أيضا يستوجب على الذات المفكرة أو (الذات العالمة) بمفهوم الجابري الحذر من الوقوع حتى داخل سجن سلطة العقل نفسه على النحو الذي يتصدى لسلطة العقل سوسيولوجيا من حجم بيار بورديو، الذي كان يرى أن الدفاع عن العقل يعني محاربة أولئك الذين لا يترددون في التصدي لمن يسيئون استخدام سلطة العقل.

بل ويخفون على مايرى بورديو تحت مظهر العقل تجاوزات السلطة، أو يتخذون من أسلحة العقل مبررا لإرساء أو تبرير إمبراطورية تعسفية.

مع الحرص على عدم الانحياز إلى منطق ربط الحقيقة بالسلطة باعتماد فلسفة النسيان متكأ لذلك الربط الميكانيكي.

بما في ذلك سلطة المثقف الشمولي الابن البار للنظام السياسي الشمولي المولع باحتكار الحقيقة و التاريخ وجعلهما في متناول جهازه الثقافي المهيمن عليه هيمنة كلية

ولأن الحقيقة أنثى فالكل يحاول احتكارها وادعاء ملكيته له بل وإخفائها عن الأنظار.

وحتى عبارة الكشف عن الحقيقة المتداولة كثيرا في الخطابات الإعلامية والسياسية والقضائية،.

فهي ليست سوى الوجه الآخر للكشف عن الأنثى، وليس غريبا أبدا أن يدعي المفكر السوري هاشم صالح أن الحقيقة كالجوهرة مخبوءة في الأعماق، بعد أن تراكمت عليها الشوائب والرواسب سائلا عمن يكون عاشقها الأول ومن سيضحي بعمرها من أجلها.. ؟

خاصة عندما يتعلق الأمر بالحقيقة الدينية.

طالما أن مرجعياتنا الدينية والتراثية في الفقه والتفسير والبلاغة وعلوم اللغة تهيمن عليها سلطة النص بوصفنا أمة النص كما يقال.

وقد أضفنا إليها سلطا أخرى، هي تاويل الطائفة والقبيلة والمذهب والحزب والمؤسسة في أشكالها الأكثرتقليدية، لدرجة أن هناك تيارات حزبية وفكرية حتى التقدمية منها على وجه الخصوص لازالت تحتفظ بقراءتها الخاصة للتراث العربي الإسلامي، كما هو الشأن مثلا في القراءة الماركسية لهذه المرجعية مثلما تتجلى في أعمال حسين مروة والطيب تيزيني ومحمود أمين العالم وغيرهم.

حدث هذا قبل أن يشرع المفكر العربي محمد عابد الجابري عبر كتابه (نحن والتراث قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي) في نقد ثلاثة أشكال من القراءة المعاصرة للتراث وهذه القراءات هي على التوالي :

القراءة السلفية للتراث

 القراءة الاستشراقية للتراث

القراءة الإيديولوجية للتراث

ويطلق الجابري على هذه القراءة الأخيرة القراءة الإيديولوجية للتراث تعبير السلفية أيضا فهي في نظره سلفية ماركسية لا تختلف في نتائجها عن السلفية الدينية.

 ولتجاوز عقم هذه القراءات الثلاث التي يرى أنها عجزت عن تفكيك التراث وإعادة بنائه بناء عقلانيا يقترح في النهاية قراءة بديلة هي القراءة الإبستمولوجية للتراث.

وليس يخفى على أحد أن الجابري يستثمر هنا بعض إنتاجية النقد الإبستمولوجي، الذي يعود بأصوله ومحدداته المفاهيمية إلى النصوص الفلسفية للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو

وهذه الإشكالية لم يتناولها بعد بالجدية المنتجة النقد الثقافي المعني بها أكثر من غيره من مناهج القراءة والتحليل بالنسبية الممكنة بالطبع.

حتى ولوكان عبر مذهب المثولية كما مارسه الفيلسوف الفرنسي آلان باديو عندما قدم قراءة فلسفية مارس فيها نوعا من النقد الثقاقي المقارن بين شاعر عربي هو لبيد بن ربيعة وشاعر من الفضاء الثقافي الإمبراطوري هو مالارميه، المثولية التي تمثلها على ما يذكر ذلك ناقد فرنسي هو جاك رانسيير قصيدة (رمية النرد).

رغم أن جاك رانسيير لا يكلف نفسه عناء ذكر القصيدة أو القصائد التي يمثلها مذهب المثولية عند الشاعر العربي لبيد بن ربيعة أو العودة إليها في الوقت الذي لا يتردد فيه في التمثيل لمذهب التعالي عند مالارميه بقصيدة " رمية النرد ".

 ولست أدري إن كان هذا النسيان يتحمله ألان باديو كاتب القراءة التي خص بها مالارميه أم أنه يخص جاك رانسيير الذي ذكر هذه الواقعة المقارناتية في سياق نقدي هو سياق (سياسة الآدب) لمؤلفه الناقد الفرنسي جاك رانسيير

وهو عنوان الكتاب الذي ضم فصلا خاصا أعطاه جاك رانسيير عنوانا لافتا هو (الشاعر عند الفيلسوف مالارميه وباديو).

ومن هذا المنطلق قد يكون هذا النسيان، إن كان متعمدا ملحقا ببعض مثالب المركزية. الأوربية الغربية أمر وارد وغير مستبعد لكنه ليس مؤكدا.

وهو حق من حقوق القاريء العربي عندما يتوكأ على منهج الشك الديكارتي، الذي كان أول من مارسه هو عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في كتابه الشهير (في الأدب الجاهلي) الذي اثار جدلا نقديا واسعا أثناء صدوره سنة 1926 بالقاهرة.

ويواجه بعض متعاليات النقد الغربي المعياري في سياق قراءته لنصوص الآخر العربية ضمن أفق هو أفق النقد الثقافي المقارن بين نموذجين هما نص الهامش ونص المركز.

أقول هذا وفي ذهني مابقي عالقا بذاكرتي القرائية من معطيات نقدية صاغها مترجم كتاب (سياسة الآدب) للفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير الدكتور رضوان طاطا عن جاك رانسيير الرافض للتمييز بين العالم والجاهل وبين من يشرحون النصوص والحشود الذين تستمع لهم وهو يدعم بشدة مشاركة جميع الناس في ممارسة الفكر و لا يكف عن تكرار عبارة " أن غير القادرين هم القادرون " (21).

وهذا بحد ذاته سببا كافيا لتبرئة جاك رانسيير من عقدة التمركز الغربي أو اللوغوس الهيمني. أو من (إقصاء اللاحق) بمفهوم إدوارد سعيد.

ولا غرابة في ذلك فنحن لا نصدر حكما نقديا، و لا أعتقد أن هناك علاقة بين النقد الأدبي وبين الأحكام المجانية الجاهزة، الناقد لا يصدر أحكاما لأنها ليست من اختصاصه.

الأحكام مجالها المحاكم ولا علاقة للنقد الأدبي بها، النقد يثير أسئلة فقط في أبعاد النص المختلفة الجمالية والبنائية والموضوعاتية والشكلية والنسقية.

 فيما هو يحاول إضاءة الجوانب الداجية في النص الإبداعي ويتجنب الإجابات القطعية والوثوقية العمياء والأحكام المجانية الأخلاقية إلى حد الخروج عن الإملاءات المرجعية.

فاللجوء إلى الأحكام القيمية المسبقة في المفاضلة بين النصوص الإبداعية، أو الآراء النقدية مفاضلة معيارية، تستقي أهميتها من المتعاليات التربوية ومن ثقافة الرقيب السياسية والبوليسية والأخلاقية والأكاديمية ذات الوقع الردعي، لم تشكل أبدا في يوم ما قيمة إبداعية أو منطلقا نظريا أو مفهوميا.

طالما أنها لا تتجاوز ثنائيتي الاستحسان أو الاستهجان والذم أو المدح التي لا ترضي سوى غرور قارئ نمطي، لا يريد أن يذهب بعيدا في الكشف عن الأسئلة العميقة التي يختزنها النص في باطنه وفي بنياته المتعددة، وليس العامل القيمي سوى بعد واحد أو مكون واحد من مكونات النص الكثيرة.

ولا علاقة لذلك بما يسمى الاصطفاء الثقافي بين كاتب من الشرق أو من العالم الثالث وآخر من الفضاء الغربي الإمبراطوري.

فلسنا من المؤمنين بالاصطفاء أو التمييز بين البشر على أساس اللون أو البشرة أو الجنس أو الانتماء الجيلي والفئوي والأثني والقبلي أو المهني والشعري والديني والهووي أو الغيري، الذي هو في نظرنا انزلاقا خطيرا في التفكير شبيها بذلك الانزلاق الذي عرفته الكولونيالية الغربية في تعاليها على الشعوب الضعيفة والأثنيات المختلفة عنها مثلما أدانها مفكر بارز بحجم فرانز فانون وكشف عن جذورها وعن ميتافيزيقا الهيمنة التي تحاول الإختباء وراء وهم العقلانية الغربية ومركزية الجنس الأوربي الأبيض في استعلائيته المريضة بوهم التفوق والاصطفاء النرجسي في كتابه الشهير (بشرة سوداء... أقنعة بيضاء).

 لكننا نؤمن بضرورة التمييز بين الصوت والصدى وبين التابع والمتبوع وبين الأصل والفرع، وفي ذلك إلغاء لوظائف العقل أو هو نوع من الاستهانة بالقدرات العقلية للبشر وإهدار للكرامة الإنسانية وما أدراك..

فهل في وسع الذات المفكرة ان تتحرر من سلطة العقل السياسي قبل أن يقع الفأس على الرأس إن لم يكن قد وقع فعلا.

 وعندئذ لا نملك سوى أن نردد مع تيودورأدورنو بأنه " على المشتغلين بالفلسفة التنازل عن مطلب نيل الحقيقة في صورتها الكلية فقد تبين أن ذلك مجرد وهم وأنه لا يمكن لأي تفكير تبريري أن يجد نفسه في حقيقة يقوم فيها كل من النظام والصورة على خنق كل مقتضيات العقل الحر (22).

وما ادراك...

***

قلولي بن ساعد / ناقد وكاتب من الجزائر

.......................

إحالات

01) دبريدا تفكيك اللوحة..هل ثمت أشباح في أحذية فان غوغ.. ؟ أم الزين بن شيخة المسكيني ضمن كتاب جماعي بعنوان مؤانسات في الجماليات نظريات تجارب رهانات ص 199 إعداد أم الزين بن شيخة المسكيني منشورات الإختلاف وضفاف الطبعة الأولى 2015 والمقال نفسه نشرته كاتبته ضمن فصول كتابها تحرير المحسوس لمسات في الجمتاليات المعاصرة

02) نفس المصدر ص 199

03 نفس المصدر ص 200

04) نفس المصدر ص 204

05) نفس المصدر ص 201

06) نفس المصدر ص 201

07) العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته – محمد عابد الجابري ص 07 مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة بيروت الطبعة الرابعة 2000

08) العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته ص 09

09) سياسة الأدب جاك رانسيير ترجمة رضوان طاطا ص 15 / منشورات المنظمة العربية للترجمة بيروت الطبعة الاولى 2010

10) سياسة الأدب جاك رانسيير ترجمة رضوان طاطا ص 16

11) نفس المصدر ص 16

12) نفس المصدر ص 15

13) أنظر مقال نكاح العقل للمفكر التونسي فتحي المسكيني ضمن كتابه الهجرة إلى الإنسانية ص 51 منشورات الإختلاف وضفاف الجزائر / بيروت الطبعة الأولى 2016

 14) أصنام النظرية وأطياف الحرية نقد بورديو وتشومسكي علي حرب ص 66 المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى 2001

15) أنظر مقال نكاح العقل للمفكر التونسي فتحي المسكيني ضمن كتابه الهجرة إلى الإنسانية مرجع مذكور ص 51

16) نفس المرجع ص 51

17) نفس المرجع ص 52

18) النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية – عبد الله محمد الغذامي – ص 194 – المركز الثقافي العربي الدر البيضاء – الطبعة الثالثة 2005

19) إمانويل كانت ثلاثة نصوص تأملات في التربية / ماهي الأنوار / ما التوجه في التفكير/ تعريب محمود بن جماعة ص 85 دار محمد علي للنشر صفاقس / تونس الطبعة الأولى

20) إمانويل كانت ثلاثة نصوص تأملات في التربية / ماهي الأنوار / ما التوجه في التفكير/ تعريب محمود بن جماعة ص 86/ 87 مرجع مذكور

21) أنظر المقدمة التي كتبها مترجم كتاب سياسة الأدب للفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير الدكتور رضوان طاطا ص 08 منشورات المنظمة العربية للترجمة 2010

22) راهنية الفلسفة - تيودور أدورنو ترجمة خيرة عماري ضمن كتاب جماعي بعنوان تيودور أدورنو من النقد إلى الإستيطيقا ص 161 إشراف وتقديم كمال بومنير منشورات الإختلاف ودار الأمان - الجزائر الرباط الطبعة الأولى 2011

- تفكير العقل في اشياء العالم الخارجي ومواضيع العالم الداخلي هو ابجدية لغوية صورية وليست فكرا مجردا متحررا من الابجدية اللغوية في تعبيرها الخارجي الصوتي او في صمتها التعبيري الخيالي فكرا بلا صوت.

هناك تعريف مصطلحي متفق عليه ان اللغة في ابسط تعريف لها هي ابجدية حروفية يمتلك كل حرف فيها صوتا ومعنى. واجد هذا التعريف ناقصا لانه يقتصر على تعبير اللغة عن اشياء وموجودات العالم الخارجي فقط. فأين يكون تفكير الصمت الداخلي المستمدة موضوعاته من عالم الخيال وأحاسيس إشباع الغرائز الجسدية الداخلية؟ الجواب هو تفكير الصمت ايضا تعبير لغوي في ابجدية حروفية لها معنى صوري وتفتقد الافصاح الصوتي خارجيا.

خطأ آخر أجده في تعبير اللغة ابجدية حروفية (صوت ومعنى) يعني في حال انعدام الصوت لا يبقى معنى, وفي انعدام المعنى لا يبقى لغة وهذا ما ينكره تفكير الصمت الداخلي بانه لغة تفكيرية صورية تمتلك المعنى والصوت المدّخر في الصمت اللغوي وفي الحركات الايحائية لاعضاء جسم الانسان كما في ممارسة الطقوس الدينية واليوغا ورقص الباليه والمسرح الصامت. وفي حاجة الجسم الغريزية التي تطلقها الاحاسيس داخل اجهزته.

-  تذهب غالبية الفلسفات المثالية الى أن ما لا يدركه العقل لا وجود مستقل له. والحقيقة ان ملايين الموجودات التي نعايشها بعالمنا الخارجي والطبيعة لها وجود مستقل قد يدركه بعضنا او لا يدركه. الوجود الانطولوجي للاشياء المادية لا يتوقف على ادراكنا له ولا على عدم ادراكنا له. انطولوجيا الموجودات في استقلاليتها كينونة لا تاثير للانسان عليها قبل ادراكها العقلي لها.

- الوعي مرحلة ادراكية عقلية متقدمة على ما تنقله الحواس من احساسات. كما ان الوعي تجريد معرفي يتكامل مع مدركات العقل الانطولوجية ولا تربطه علاقة جدلية بها.التكامل المعرفي في وعي الاشياء هو من اجل تغييرها والاستفادة منها على خلاف الجدل فهو تضاد سلبي طارد لكلا النقيضين في تشكيل الظاهرة المستحدثة الجديدة. معرفة الاشياء في عالمنا الخارجي ليست وعيا جدليا معها بل تعريفا عقليا بها من اجل تغييرها. وكل ارادة انسانية يحكمها الوعي القصدي تكون المرتكز الاساس في احراز تقدم افضل في فهم الوجود وتقدم الحياة. ليس هناك وعيا ادراكيا لا يحمل موضوعه معه ولا يحمل هدفه القصدي الذي يسير نحو تحقيقه.

- ما فوق اللغة مصطلح فلسفي له ثلاثة تشعبات:

الاول يطلق عليه الميتالغة بمعنى الفهم السبراناتيكي للغة الذي يعتمد الذكاء الصناعي في الريبوت وغير ذلك من تكنولوجيا متطورة. ويطلقون على هذه الميتالغة اللغة المافوق المتقدمة المتعالية ترانسدتاليا التي تتحدث عن لغة اخرى ادنى منها. مشتركات اللغات في غير صفات النحو والقواعد الذي يشكل هوية لغوية خاصة بكل لغة لا تمكننا من دمج تلك اللغات مع بعضها في وضع قواعد نحوية مشتركة تجمعها. هذا ما حاوله هيرمان سكينر في نظريته السلوك اللفظي ونعوم جومسكي في التوليدية اللغوية.

الثاني ان مافوق اللغة هو اللغة التواصلية التي لا تحكمها ضوابط النحو والقواعد والصرف وغيرها. فهي لهجة فطرية خاصة بجماعة او قوم اكتسبت صفة هوية يتكلمها ويتواصل بها قوم من الاقوام., ولم تكتسب اللهجة ضوابط المصطلح المتفق عليه على انها لغة خاصة تمتلك كل ضوابط وقواعد اللغة الخاصة بقوم من الاقوام او امة من الامم. شرط اللغة هو المصطلح المتفق عليه في تثبيت نحوها وقواعدها الخاصة بها كي تمتلك هوية لغوية لقوم من الاقوام او مجتمع من المجتمعات. اما اللهجة او الكلام الشفاهي فهو وسيلة تواصل مجتمعية لا تمتلك قواعد ونحو لغة مدوّنة كما نجده عند الاقوام البدائية التي لم تكن تعرف التدوين والكتابة الصورية او الحروفية المتقدمة.

الثالث ان ما فوق اللغة هي اللهجات التواصلية لدى اقوام بدائية لم تكن تعرف التدوين. هذه اللهجات من الممكن ان تكون ما فوق لغة لكنها لا تمتلك الابجدية الحروفية المصطلحية المتفق عليها لتكون بعدها لغة تمتلك هوية خاصة بها.(تراجع مقالتنا ما فوق اللغة في العربية).

- الانسان يتكيف مع الطبيعة عندما يجد تفكيره لا يتعدى عالم ما يدركه حسيا. هل يعي الانسان تكيفه مع الطبيعة بارادة ووعي منها ام ان تكيّف الانسان مع تقلبات بعض ظواهر الطبيعة هي استجابة فطرية غريزية لديه.

الاحتمال الذي اميل اليه ان تطور ذكاء الانسان هو الذي اعطاه معنى التكيّف مع تقلبات ظواهر الطبيعة الذي رافقه انقراض انواع عديدة من الكائنات الحية من حيوان ونبات وبعض من سلالات بشرية تعود الى مراحل عصور تطور الانسان انثروبولوجيا. من حيث ان منهج دارون في اصل الانواع والبقاء للاصلح يعتمد تطور انثربولوجيا تاريخ الانسان وليس تطور الغرائز والفطرة البايولوجية للانواع فقط. نظرية داروين تقاطع في بعض حلقاتها حقائق العلم كما تقاطع ميتافيزيقا السرديات الدينية الكبرى. كما تقاطع الماركسية الحاضنة الاولى لافكار داروين. القوى الذاتية لتطور الانواع وبقاء الاصلح هو ناتج املاءات الطبيعة على الكائنات الحية. الطبيعة وبيولوجيا الانواع المرتكز الاساس في الداروينية.

- افضل الكتابات الفلسفية هي غير الزوبعة التي تثيرها بل هي النبيذ المعتق الذي خمّرته الاعوام الطويلة ليصبح بعدها تذوقا نخبويا فريدا.

- اعجاز العقل يكمن في تفكيره اللغوي الصوري. بمعنى آخر العقل لا يفكر بالفكر المجرد الانفصالي عن الابجدية اللغوية فهذا محال. تفكير العقل ابجدية لغوية صورية صامتة وليس فكرا تجريديا متحررا من ابجدية اللغة. الفكر داخليا في (الجسم) وخارجيا في ادراكه العالم وموجودات الطبيعة والحياة هو لغة لها معنى محدد لموضوع. وهنا اعيد عبارة منسوبة للفيلسوف الاميركي سيلارزهي قمة ما توصلته فلسفة اللغة قوله ( الوجود لغة). وهي تاكيد اننا لا ندرك اي شيء بالفكر وحده مجردا عن ملازمة الابجدية اللغوية له. وجود المادة ادراك لغوي للانسان وحضور مستقل في الطبيعة لا يمتلك التفكير ولا ملكة التعبير عن نفسه.

- تفكير العقل صمتا لا يلغي ابجدية اللغة الصورية صوتا ومعنى كما هي في تعبير اللغة الصائتة عن مدركات العقل من الاشياء والمواضيع في العالم الخارجي. والفكر الذي يعمل على تطوير واقع الاشياء إنما هو الآخر يتطور في مجاراته تطورات الواقع ومجاوزته لتلك التطورات في تعاليه عليها بإستمرار... وفي الفرضية الخاطئة التي تقود الى نتيجة خطأ أيضا هي في إعتبار عملية إدراك الانسان للاشياء هو في سعيه مطابقة قوانينه المستحدثة لديه مع قوانين الاشياء في وجودها المادي المستقل قبل إدراكها وهو إفتراض وهمي غير حقيقي ولا يمكن الانسان فهم وتنظيم عوالمه الحياتية بهذا التنميط من التفكيرالسلبي مع إدراكاته لعوالم الاشياء في وجودها الطبيعي.. بل الادراك الحقيقي أن تدخل الاشياء المدركة مع الفكر في تكامل معرفي ثنائي متبادل يكسبهما كلاهما التغيير والتطور وبغير هذا الفهم معناه نفي أن يكون هناك فائدة من وعي الانسان لموجودات الطبيعة وإستحداث رؤيته وقوانينه لها..ألنتيجة التي يحرزها الفكر بالنهاية من هذه العملية هو أن تكون قوانين الفكر هي قوانين الاشياء في الواقع... بمعنى أصبح ما نمتلكه عن الاشياء من أفكار نتيجة مدركاتنا لها هو وحده الذي يعطي وجودها الحضوري الواقعي في حياتنا. مطابقة تفكيرنا للواقع لا يلغي حيازة الفكر خاصية تغيير ذلك الواقع.

تفكير العقل في وعيه القصدي لا يسعى مطابقة صحة افكاره مع مدركاته الواقعية بل في محاولته وضع تنظيرات تغييرها. العقل الانساني يبحث عن الاجابة لماذا ندرك الاشياء؟ وليس كيف ندركها.؟

- إن العقل وحده له الأسبقية في تحديد الوجود والفكرالمتعالق معه أن يكون ماديا أم مثاليا. واللغة تكون في هذه الحالة وعاء الفكر في تحديد نوع الوجود المادي أو المثالي المفصح عنه بتعبير اللغة. في عالم صنع الانسان لحياته في كل مناحيها بعلاقته بظواهرالطبيعة ومواضيعها, بمعنى أن وجود عالم الاشياء سابق على أدراك الانسان لها انطولوجيا, وتنظيم الانسان لوجود عالم الاشياء هو الحافز الاساس لأدراكه تلك الموجودات, والعامل الأهم أنه ينّظم مدركاته للاشياء التي هي بالنتيجة تنظيم حياته ووجوده, والفكر الانساني لا يعمل في فراغ وجودي مادي أوفي فراغ غير موضوعي متخيّل من الذاكرة ولا في تجريد ذهني يلغي مؤثرات علمية ومعرفية عديدة في فهم وبناء الحياة الانسانية...

-  اللغة والفكر لا يحضران سوّية الا في محاولة تنفيذ ايعازات مصنع الحيوية العقلية بالاخبار الادراكي العقلي عن موضوع جرى التفكيربه ذهنيا واكتملت مهمة اعادة الوعي من العقل الى عالم الاشياء كفكرجديد بلغة جديدة وليس كوجود سابق مستقل في عالم الاشياء قبل ادراك العقل له.العقل لا يخلق موجودات الحياة القبلية بالفكر بل يخلق وسائل فهم وتفسير وعي تلك الحياة في إعطائها قيمة منظمة تخدم الانسان وتقدمه .

- ايعازات العقل الارتدادية الانعكاسية الصادرة عنه والواردة اليه بواسطة منظومة الجهاز العصبي المرتبطة بالدماغ في تخليقه لمواضيع جرى تفكيره بها انما تتم  في تنفيذ اللغة او غير اللغة ايعازات العقل في اعادة الموضوع المفكّر به من العقل الى امكانية ادراكه في العالم الخارجي بفهم جديد عما كان عليه قبل ادراك العقل له, في توّسله اللغة التي هي الفكر ولا فرق بينهما في التعريف المادي او التجريدي بالموضوع في وجوده المستقل في عالم الموجودات الخارجي بعد تخليقه عقليا.الوجود الادراكي الحسي او العقلي المستقل هو وجود فكري لغوي كما هو وجود مادي مستقل في عالم الاشياء ايضا.

- كل خارق لقوانين الطبيعة معجزة لا يستطيعها كل البشر ولا يتم ادراكها عقليا لتصبح وجودا بذاته. يمكن التسليم بها ايمانا قلبيا فقط.

- المنفعة او مبدا اللذة الابيقورية وفي الفلسفة البراجماتية الاميريكية هي جوهر انساني فطري غريزي .اي انها لا تحتاج اشتراط فلترتها التجريبية العملانية في تاكيد نفعها من عدمه كما تذهب له الذرائعية الامريكية.

المنفعة غريزة انفرادية يعزز انتشارها انها تعيش ضمن مجتمع. والمنفعة معرفة وسلوك تلازم الانسان كمثل تقاسيم وجهه. اعمال الانسان طيلة حياته هي سعي محموم مرتكزه برمجة الانسان لعقله من اجل تحقيق منفعة انفرادية من حيث طبيعة الانسان كائن نفعي. والتضحية من اجل الاخرين ضرورة ملزمة وليس ارادة ذاتية متحررة. وحين يحب رجلا امراة على سبيل المثال انما يحبها بدافع اشباع لذته ومنفعته الغريزية وليس تلبية رغائب المرأة في العملية الجنسية..

-  عالمنا المعاصر اصبح مفهوما متفقا عليه يقوم على ثلاثة ركائز هي :اولا الشعور الواقعي هو عالمنا الحقيقي الذي نحياه ولا يشترط ان يكون افضل العوالم كما ذهب له لايبنتيز في القرن الثامن عشر. كا لا يوجد عالما مثاليا لا ندركه هو الاسمى من عالمنا الذي نعيشه كما ذهب له افلاطون ونيتشة وبعض فلاسفة الوجودية. الركيزة الثانية لم يعد امام العالم التراجع عن منجزات العلم الواجبة التكيف معها لذا يكون العقل البوصلة الحقيقية الوحيدة في محاولة معرفتنا موضع اقدامنا. الركيزة الثالثة التفكير الصارم بعدم جنوح النزعات التدميرية والحربية بدل ترسيم مستقبل متعايش بسلام يحتضن الجميع.

- لم يعد امام عالمنا اليوم التعويض عن تازمات الحياة المتوالية في سلسلة متناسلة من الكوارث سوى دخول واقعنا الحقيقي بخطاب نافذ جريء. الخطابات الانانية الضيقة التي تلهث وراء الاستهلاك النخبوي لم تعد صالحة لعالمنا اليوم فقد انتهى زمن القضم من حافات تجسير العلاقات الانسانية وتراجع تاثيرها. اعتقد مقولة بروتاغوراس "الانسان مقياس كل شيء" صالحة الاستعمال.

- من جملة فلاسفة عديدين انكروا العقل الانساني يبرز في الفلسفة الغربية المعاصرة الاسكتلندي ديفيد هيوم ليتبعه زميله الانجليزي جلبرت رايل 1900- 1976 الذي قال باصرار عنيد ليس هناك عقلا ولن يكون مستقبلا ابدا.

- الوعي هو الوسيلة الادراكية العقلية لفهم الواقع وتغييره.

- لا علاقة جدلية بين الوعي والواقع, الوعي تجريد عقلي تصوري لا ينتجه الواقع. بل هو توسيط نقل مقولات العقل عن مدركاته الواقعية.

- من تعابير هيدجر التي لا معنى لها قوله الديزاين هو ركض الموت الى العدم.

- مذهب وحدة الوجود مطلق ميتافيزيقي صوفي يجمع بين الدين والفلسفة والطبيعة.

-  يقول ياسبرز في عبارة فلسفية رشيقة صحيحة " حقيقة الاخفاق هي التي تؤسس حقيقة الانسان.".

- استوقفني التساؤل التالي : هل اصوات الابجدية الحروفية في اللغة خاصية معنى ام خاصية نحو؟ برايي انها تجمع الخاصيتين معا فهي دلالة عن معنى كما هي خاصية نحوية للغة بعينها.

- ماذا اراد الفيلسوف الاندلسي ابن طفيل في روايته الخالدة حي بن يقظان التاكيد عليه من اهداف؟

1. الانسان بمفرده بالطبيعة قادر عن طريق اعمال العقل المجرد الوصول الى مستوى الانسان الكامل بمجرد ملاحظة الطبيعة والتفكير بها من غير تعليم.

2.  الدين والفلسفة والعلم اقانيم ثلاثة تتكامل معرفيا ولا تناقض بينها يلغي معايشة الضرورة للاخر. ولا يعني هذا ان هذه الاقانيم الثلاثة الدين والفلسفة والعلم تدخل في توليفة اندماجية تفقد كل واحدة خواصها الاستقلالية.

3. الوصول الى المعلومات الميتافيزيقية امر فردي بين الخالق والمخلوق.

- محاربة الفلسفة جهلا بها هو مشكلة الجهل وليس مشكلة الفلسفة.

- الوعي هو نوع من تحرر العقل من الواقع وردت على لسان احد الفلاسفة وكانت صحيحة. ويتعالق مع هذا المعنى الزمن يسبق الوعي الحقيقي والزمن ايضا بعد سببي للزمكان وليس المكان منفردا.

- القانون الفيزيائي المادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم سبق وصاغه بارمنيدس قبل اكثر من خمسة الاف سنة بقوله " لا شيء يمكن ان يتحول الى لا شيء ولا شيء يمكن ان ياتي من لا شيء".

***

علي محمد اليوسف

 

- تمهيد: ينظر علماء الاجتماع للعلاقات والروابط الإنسانية بين البشر بوصفها مورداً اجتماعياً هاماً قادراً على لعب أدوراً أكثر أهمية في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية لأي مجتمع معاصر، وأن المجتمعات التي تملك رأس مال اجتماعي قوي لديها القدرة على ترسيخ دعائم التعاون البنّاء بين أفرادها كما يكون لديها أيضاً القدرة على التطور والنمو بشكل أفضل في المستقبل.

كما يشكل رأس المال الاجتماعي حجم الحياة اليومية والمعايير الرابطة لها وجودتها، وهو مصدر ووسط ديناميكي منتج بسبب خليطه المتنوع من الثقة الاجتماعية المرنة، وقواعد السلوك التبادلية، وصور الالتزام المتعددة، وغالباً ما ينعكس رأس المال الاجتماعي في مقدار الثقة والتعاون والنيات الطيبة التي يعتمد عليها أعضاء الشبكة التي يسهمون في صنعها بشكل مباشر أو غير مباشر. وتتطور بناءً على هذا المفهوم عمليات الاتصال الناجح والتفاهم المتناغم بين جميع أفراد المجتمع، بهدف تحقيق الأمان والرفاهية وإقامة الروابط والعلاقات الاجتماعية الهادفة، والمتينة، والواعية بأهدافها ومصالحها.

بالمقابل سعت بعض الدراسات المعاصرة إلى التوسّع في توظيف مفهوم رأس المال الاجتماعي كأداة منهجية، بحيث بات يستخدم في تحليل مستويات مختلفة من الحياة الاجتماعية. بل إن نظرية رأس المال الاجتماعي تحولت إلى نظرية للبناء الاجتماعي والفعل الاجتماعي. حيث يعني ذلك أن رأس المال الاجتماعي هو رصيد لصيق بحركة الفاعل سواءً أكان فرداً أم جماعةً أم تنظيماً اجتماعياً. وهناك اتفاق بين من يستخدمون مفهوم رأس المال الاجتماعي على أنه يكمن في الاتصالات الشخصية والعلاقات والتفاعلات بين الأشخاص. فهو يتعلق بمن يعرف ويتعامل مع من؟ فأقارب الشخص، وأصدقائه ورفاق العمل، وجيرانه، يمثلون مصادر معلومات وعوناً ودعماً حين يحتاج الشخص إلى شيء منها.

بناءً على ما تقدم يمكننا تعريف رأس المال الاجتماعي بأنه: " هو انضمام الأفراد لشبكة العلاقات الاجتماعية الرسمية وغير الرسمية، التي يستطيعون من خلالها استثمار بعض الموارد الاجتماعية كالدعم الاجتماعي، المادي، المكانة الاجتماعية، لتحقيق منافع ومكاسب تؤدي بدورها إلى خلق قيم ومفاهيم مشتركة بين أعضاء المجتمع". أو هو " البناء المجتمعي القائم بمجتمع ما والمتمثل في جملة العلاقات الإنسانية ومستويات الثقة والتعاون بين الناس وبعضهم البعض، كما يعبر عن جملة الشبكات الاجتماعية القائمة بالمجتمع ".

- مصادر تكوين رأس المال الاجتماعي: إن نجاح أي بناء اجتماعي في تكوين رصيد من رأس المال الاجتماعي يتوقف على قدرة هذا البناء على الاستفادة من شبكات الروابط والعلاقات الاجتماعية والقيم المتوفرة بين أعضائه، وتوسيع وتنمية هذه الروابط والعلاقات بما يمكّن البناء الاجتماعي من تحقيق أهدافه. وبذلك ثمة مصادر عديدة تمتد من الجماعات الاجتماعية الأولية كالأسرة وجماعة الجيرة، لتشمل المؤسسات غير الرسمية بما فيها جمعيات تنمية المجتمع وجماعات المساعدة الذاتية، بل إن رأس المال الاجتماعي يتولد في المؤسسات الحكومية منها وغير الحكومية، بما في ذلك الجمعيات الأهلية والنقابات والأحزاب.

ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد أن فوكوياما قام بتصنيف المجتمعات وفقاً لشكل الروابط الاجتماعية السائدة فيها إلى مجتمعات أسرية تكون فيها العائلة وصلات القرابة بشكلها الأوسع كالقبيلة والعشيرة النواة الأساسية لأي تفاعلات اجتماعية. وحسب الدراسات التي قامت في هذا السياق تتخلص هذه المصادر في نوعين هما:

أ‌. علاقات وشبكات يقيمها الأفراد مثل النقابات والأحزاب وجمعيات النفع العام.

ب‌. منظومة قيم تأتي على رأسها قيم الثقة، والشفافية وتحمل الآخر والرغبة في التعاون والعقلانية.

وفي هذا السياق، قدم البنك الدولي مشروعاً لدراسة رأس المال الاجتماعي في البلدان النامية (والمعرف برأس المال الاجتماعي من أجل التنمية الاجتماعية Social Capital For Development) رصداً لمصادر رأس المال الاجتماعي، وتمثلت هذه المصادر، فيما يلي:

1- الأسرة: من المعروف أن الأسرة في الخلية الأولى في المجتمع والركيزة الأساسية لبنائه. تُعرف الأسرة بأنها جماعة اجتماعية أساسية ودائمة، ونظام اجتماعي رئيسي، وهي أساس وجود المجتمع، ومصدر الأخلاق والدعامة الأولى لضبط السلوك، والإطار الذي يتلقى فيه الإنسان أول دروس الحياة الاجتماعية. لذا تمثل الأسرة المصدر الأساسي والأولي لرأس المال الاجتماعي لأنها وحدة المجتمع الأساسية التي تشكل نسيجه الاجتماعي وتمثل حجر الزاوية فيه، وهي المصدر الأول للمعرفة وإعداد أعضائها وتكوين هويتهم الثقافية، وهي المؤسسة الاجتماعية الأولى لتفاعل الفرد مع محيطه الاجتماعي وإقامة الحوار وبناء الصلات المتميزة مع من هم من غير جيله أو نوعيه الاجتماعي. كما تلعب الأسرة دوراً في توفير الآليات اللازمة لتحقيق الرفاهية الاقتصادية وذلك عن طريق تنمية الروابط والعلاقات غير الرسمية - خصوصاً في إطار الأسرة الممتدة Extended Family – للمساعدة والتعاون داخلها بما يجعلها بمثابة شبكة للضمان الاجتماعي تقدم الخدمات والمساعدات لأعضائها في فترات الأزمات الاقتصادية أو الاجتماعية.

وهكذا نجد أن الأسرة تلعب الدور الأكبر في تنشئة رأس المال الاجتماعي وتطويره وذلك عن طريق تنمية الروابط والعلاقات ونقل الأولياء لأبنائهم وأفراد عائلتهم التصرفات العقلانية، التي تنتج عنها انطباع وشعور بالثقة القوية اتجاه أفراد العائلة، بالإضافة إلى تبادل المساعدات المادية بين أعضاء الأسرة. كما للعائلة الأثر الإيجابي باستخدام رأس المال الاجتماعي على مستوى التعليم عند أبناء العمل وبطريقة غير مباشرة هو مصدر تراكم رأس المال الاجتماعي.

وبالمقابل نجد أن المشاكل الأسرية على المدى الطويل والمدى القصير تؤثر على نشأة الأطفال فمثلاً زيادة المشاكل العائلية وحالات الانفصال داخل الأسرة لها أثر على الأبناء لتعرضهم لأزمات نفسية وبدنية وهذا على المدى القصير، أما في المدى الطويل هو إتباع هؤلاء الأبناء طريق الإجرام والسلوك السيئ. مما يؤثر سلباً على نمو رأس المال الاجتماعي.

2- المدرسة: تُعرف المدرسة بأنها مؤسسة اجتماعية أساسية هدفها ضمان عملية التواصل بين مؤسسة العائلة والدولة قصد إعداد الأجيال اللاحقة وتأهيلها للاندماج في إطار الحياة الاجتماعية. أي أن المدرسة شبكة من المراكز والأدوار يشغلها المعلمون والتلاميذ يتم من خلالها اكتساب المعايير التي تحدد أدوراهم في الحياة الاجتماعية مستقبلاً. بذلك تعتبر المدرسة مصدراً هاماً لنشأة رأس المال الاجتماعي وتراكمه وتطويره، فدور المدرسة هو تحقيق رفاهية الطفل بإدراج المشاركة والحضور الكبير لأولياء التلاميذ ذلك للاستفادة من الخدمات الاجتماعية والعناية بالجيل الجديد.

فالمنشآت العلمية لها دور في زرع مبادئ العمل الجماعي التعاوني وتنوع في المعلومات والثقافات المكتسبة وذلك عن طريق اللقاءات التي تجمع بين مختلف القطاعات سواء تكوينية أو تعليمية أو منظمات مهنية وبالتالي ينتج لنا رأس المال الاجتماعي الذي يربط بين كل هذه القطاعات ليس بالضرورة أن يجمع نفس العطاء في نفس الفوج. كما أن هدف الاستثمار في التعليم العام إثراء المجتمع ككل، عبر تعزيز مقومات النمو وأمنه وقيمه وقدرته على تجاوز المخاطر، ومواجهة التحديات.

خلاصة القول، إن الأفراد في المدرسة على سبيل المثال معلمين وطلاب وإدارة وعاملين يتفاعلون مع بعضهم البعض بعلاقات رسمية أو غير رسمية بغرض تحقيق الأهداف التعليمية. هذه العلاقات الاجتماعية هي لب ما يسمى برأس المال الاجتماعي. والذي يؤثر وجوده على تحقيق الأهداف التعليمية.

3- الروابط الدينية أو الأثنية: اعتبر الباحثون الرابطة الأثنية أحد مصادر رأس المال الاجتماعي، إذ تؤثر على طريقة تنشئة الأفراد وتساهم في تشكيل وعيهم وأفكارهم تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين، وهي بذلك تساهم في ربط مجموعة من الأفراد معاً، ومن ثم ربطهم أو عزلهم عن المجتمع المحيط، كما تستطيع أن تحشد للموارد وتعبئها لخدمة أهداف محددة، وتساهم الروابط الاثنية أيضاً في إتاحة المزيد من الفرص أمام أعضائها لتحقيق أهداف مشتركة. ومع ذلك فهذه الروابط ذاتها، قد تؤدي إلى التعصب ضد من يقعون خارج نطاق الجماعة الأثنية بما يقود- في كثير من الأحيان - إلى زيادة درجة التطرف في المجتمع، وتدهور قيم التسامح فيه.

ويرى بعض الباحثين بالنسبة لعلاقة الدين الإسلامي برأس المال الاجتماعي أن " الدين الإسلامي " يلعب دوراً كبيراً في تشكيل رأس المال الاجتماعي. والنظر إلى البعد الإيجابي للدين على رأس المال الاجتماعي ومساهمة المعتقد الديني في تأصيل قيم الجماعة والجماعية وترسيخ فضيلة فعل الخير والتكافل الاجتماعي.

4- المجتمع المدني: يُعرف المجتمع المدني بأنه مجموعة المؤسسات المدنية التي لا تمارس السلطة، ولا تستهدف أرباحاً اقتصادية، بل تساهم في صياغة القرارات من خارج المؤسسات السياسية، ولها غاية نقابية كالدفاع عن مصالحها الاقتصادية والارتفاع بمستوى المهنة والتعبير عن مصالح أعضائها، كما لها أغراض ثقافية كما في اتحادات الكتاب والمثقفين والجمعيات الثقافية والأندية الاجتماعية التي تهدف إلى نشر الوعي. كما يمكننا القول بأنه يتشكل من مجموعة من التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف. معنى ذلك أن المجتمع المدني هو مجتمع التعدد والاختلاف والتعارض والتناقض، ومؤسساته من أحزاب سياسية ونقابات، ومجالس نيابية، وصحافة، ووسائل إعلام قائمة على ركيزة التعدد والاختلاف والتعارض والتناقض. يشكل هذا المجتمع ركيزة من ركائز المجتمع الديموقراطي التعددي القائم على مفهوم الوحدة من خلال الاختلاف بين مكونات المجتمع المختلفة، ولذلك فمن أهم وظائف المجتمع المدني، إشاعة ثقافة مدنية ترسي في المجتمع احترام قيم النزوع للعمل التطوعي، والعمل الجماعي، وقبول الاختلاف والتنوع بين الذات والآخر وإدارة الخلاف بوسائل سلمية في ضوء قيم الاحترام والتسامح والتعاون والتنافس والصراع السلمي.

يتكون المجتمع المدني وفقاً للتعاريف السابقة من الجمعيات والتنظيمات الرسمية وغير الرسمية، التي تعمل بشكل مستقل عن الدولة وآليات السوق من أجل تحقيق مصالح المجتمع المستهدف، ولا يعني تمييزها عن الدولة والسوق أنها منفصلة عنهما وإنما يعني استقلالها عن أي منهما، فهي تتعاون معهما، ولكنها –في نفس الوقت-غير تابعة لأي منهما.

يلعب المجتمع المدني دوراً محورياً في مساعدة أفراد المجتمع على تكوين الثقة التي تربط الأفراد ببعضهم من أجل القيام بنشاط معين، وهو أمر ضروري لنجاح أي مؤسسة لأنها بذلك تمنح من لم تتح له الفرصة من قبل للمشاركة، فرصة الاندماج مع الآخرين في أنشطة هامة. بذلك يعتبر المجتمع المدني أحد المصادر الهامة والأساسية لتكوين رأس المال الاجتماعي، خاصةً في المجتمعات المتقدمة التي تتميز بارتفاع مستوى الوعي العام لدى مواطنيها، وارتفاع معدلات المشاركة في الحياة المدنية.

وفي النهاية، نجد أن المجتمع المدني يتألف من مجموعة من المنظمات والشبكات الرسمية وغير الرسمية المستقلة تسيير مستقلة عن الحكومة والسوق والتي تسعى لتحقيق أهدافها الخاصة، فإن تركيب هذه الشبكات ينتج عنه رأس المال الاجتماعي. وهذا ما ذهب إليه روبرت بوتنام، حيث وجد أن اجتماع الناس وقضاءهم وقت مع بعضهم البعض يقومون بتطوير مجموعة من العلاقات التي تخلق الثقة والتماسك فيما بينهم، وهذا ما يسمى برأس المال الاجتماعي، الذي يكون سبباً رئيسياً في دفع عملية التنمية الاقتصادية.  

5- القطاع العام: يشمل القطاع العام المؤسسات التابعة لإشراف الدولة وإداراتها، حيث تقوم هذه المؤسسات من خلال إدارتها للعلاقة بين موظفيها بتدعيم ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة وهيئاتها، الأمر الذي يمكن ملاحظته بوضوح في المجتمعات التي انضوت في السابق تحت راية المعسكر الشرقي.

6- المجموعات الاجتماعية الناشطة: إن العلاقات والتفاعل الموجود بين الجيران والأصدقاء والأعضاء في مجموعة واحدة يشكل شبكات كثيفة، فالعلاقات الاجتماعية بين هؤلاء، والتي هي في الأصل علاقات غير رسمية التشكيل تدعم العمل الجماعي، كما أن فعالية الثقة والأمان الموجود بين هؤلاء يقلل من مشاكل العنف والعدوانية، ويؤدي إلى تراكم رأس المال الاجتماعي، وهذا لا يكون بعزل كل وحدة عن الأخرى بل على العكس تكون المسؤولية موزعة بين كل الأطراف، لأن هدفها هو تحقيق الرفاهية الاجتماعية للمجتمع وهذا لا يكتمل ولا يتحقق إلا بشرط التبادل المادي والرمزي بين الأعضاء والمجموعات. ففي دراسة قام  j. colman حول فاعلية المجموعات الاجتماعية لتكوين رأس المال الاجتماعي ذكر أربعة أمثلة:

أ- سوق تجار بائعي الألماس: الثقة العالية بين التجار وعدم فرض تكاليف بين العمال من أجل الأمان والضمان.

ب- الطلبة: مجموعات دراسية إما تكون من نفس المدرسة أو المدينة أو القرية.

ج- الأم في العائلة: تسعى لأخذ التدابير اللازمة لعدم احتكاك أولادها أي احتكاك سلبي.

د- التبادل داخل الأسواق: ذات الخصائص المتميزة التي تساعد بنشر الثقة والتعاون والتبادل المشترك داخل المساق الاجتماعي.

وثمة مصادر أخرى لرأس المال الاجتماعي غير تلك التي تم ذكرها آنفا ومنها: جماعات الجيرة، وجماعات الأصدقاء، وغيرها، وتتساوى هذه المصادر في أهميتها، وما يميز إحداها عن الآخر هو السياق التي تعمل فيه، ففي بعض المجتمعات يكون لمؤسسات الدولة، والمجتمع المدني أهمية كبيرة في تكوين رأس المال الاجتماعي، وهذا ينطبق على نظم الحكم الديموقراطي التي يتمتع فيها المجتمع المدني بقوة حقيقية في التأثير على عملية صنع القرار، إذ تتمتع الجمعيات غير الرسمية بقوة ونفوذ كبيرين، لأنها الأكثر قدرة على استيعاب الأفراد، وهي بذلك تساهم في تكوين رأس المال الاجتماعي.

خلاصة القول: لقد أدرك الإنسان أن التنمية الحقيقية هي التي تبدأ بتنمية الإنسان لنفسه ولا تستديم هذه التنمية إلا إذا كانت تنمية شاملة وعادلة. وبعد عقود طويلة من الزمن اعتقد فيها الإنسان أن تطوره وارتقاء حياته مرهون فقط بالأمور المادية، وبما يستطيع تراكمه من أموال وثروات، جعله يغتر بما حققه، فأصبحت عقيدته أنه يمكن النمو بلا حدود، وأن فهمه المادي لرأس المال هو سر ما يحققه في وجوده.

فلا يمكن تصور حدوث تنمية حقيقة في مجتمـع يعـاني مـن ضـعف الاندماج الاجتماعي بين جماعاته المختلفة دينية كانت أو عرقية، أو حتـى قبليـة أو عـشائرية وعائلية. ويزخر العالم العربي والإسلامي بنماذج عدة لدول رغم مواردها الواعدة إلا أن ضعف التواصـل بين الجماعات المختلفة داخلها والتناحر بينها، والذي بلغ الحرب الأهلية في العديد مـن الحـالات ألقى بظلاله على مستوى التنمية في هذه الدول مما أدى إلى فشلها.

والعبرة ليست في التعدد بحد ذاته، فكل المجتمعات بلا استثناء تشهد تنوعـاً واختلافـاً بين جماعات عدة، ولكن المهم هو مدى شعور هذه الجماعـات أو إحـداها بـالاختلاف وعـدم الرضا، ومن ثم ضعف روابطها واندماجها مع الجماعات الأخرى. حينئذ تبرز ما يعرف بأزمـة التكامل القومي، وهي أقصى درجات التراجع لرأس المال الاجتماعي للمجتمع.

ويعتبر التماسك والترابط الاجتماعي الذي يعبّر عن مجمل العلاقات والإجراءات التي تسمح بوصل الأفراد والمجموعات بعضهم ببعض من أجل البقاء والعيش المشترك تحقيقاً للاندماج الاجتماعي عاملاً أساسياً لتحديد مدى قوة الدولـة وقـدرتها على تجاوز الأزمات المختلفة التي تواجهها، ورد العدوان الخارجي حال حدوثـه. فبقـدر وحـدة المجتمع ومتانة الروابط والعلاقات بين أفراده بقدر قوة الدولة وقدرتها على مقاومـة أي محاولـة خارجية للنيل منها. فالعامل الخارجي لا يمكن أن يحقق أهدافه ويؤتي أثره إلا في مجتمع تـسوده الفرقة والعداء بين أفراده.

وهكذا يشكل رأس المال الاجتماعي مصدراً من المصادر المجتمعية التي تربط المواطنين وتوحدهم، وتمكنهم من مسايرة أهدافهم بصورة أكثر فعالية، إذ تتحكم في إرادة المواطنين وتدعوهم للتعاون مع بعضهم البعض للاشتراك في مناحي الحياة بأسلوب جماعي. كما يساهم رأسمال الاجتماعي في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتعميق الاندماج الاجتماعي وتعزيز اللحمة الوطنية والاجتماعية التي يكون فيها كافة شرائح المجتمع والأمة متماسكين ومتلاحمين كالجسد الواحد فضلاً عن اصطفافهم والتفافهم خلف القيادة الوطنية والشرعية تحت مظلة المبادئ والأخلاق والقيم الدارجة إضافة إلى رفض أي شكل من أشكال العنصرية أو التفرقة أو التشرذم الانقسام الاجتماعي أو السياسي وتحمل المسؤوليات وإتمام الواجبات على أكمل وجه. وهذا هو الدور الجوهري الذي يرنو إلى تحقيقه رأسمال الاجتماعي في المجتمعات التي تطمح إلى بناء مستقبل واعد ومشرق لأفرادها.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

.........................

- المراجع المعتمدة:

- حسام الدين فياض: سوسيولوجيا العلاقات الاجتماعية، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب: الرابع، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2023.

- شادية أحمد مصطفى عمران: دور المرأة في صعيد مصر في تراكم وإهدار رأس المال الاجتماعي - دراسة ميدانية على عينة من السيدات العاملات بجامعة سوهاج، أعمال مؤتمر المرأة في مجتمعاتنا على ساحة أطر حضارية، بالتعاون مع جامعة عين شمس، كلية الآداب، قسم علم الاجتماع، مركز الدراسات المعرفية، القاهرة، 2006.

- خالد كاظم أبو دوح: عرض كتاب (رأس المال الاجتماعي لدي الشرائح المهنية من الطبقة الوسطى)، الحوار المتمدن، العدد:1755، 2006.12.05.  https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=82595

- سناء الخولي: الأسرة والحياة الأسرية، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ط1، 2002.

- بلحنافي أمينة ومختاري فيصل: إشكالية رأس المال الاجتماعي بين المفهوم والقياس، مجلة الحكمة للدراسات الاقتصادية، الجزائر، المجلد: 5، العدد: 9، الصفحة: 121-148، 2017.

- انجي محمد عبد الحميد: دور المجتمع المدني في تكوين رأس المال الاجتماعي (دراسة حالة للجمعيات الأهلية في مصر)، المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، القاهرة، سلسلة أبحاث ودراسات، الإصدار الأول، 2010.

- عبد المالك لخضر وسعيدي عامر برزوق: أثر رأس المال الاجتماعي على النمو الاقتصادي، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة الطاهر مولاي سعيدة، كلية العلوم الاقتصادية والتجارية وعلوم التسيير، قسم العلوم الاقتصادية، الجزائر، 2016-2017.

- عبد العزيز خواجة: مبادئ التنشئة الاجتماعية، دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران، ط1، 2005.

- جميل هلال وآخرون: المدرسة الأساسية ورأس المال الاجتماعي: دراسة حالات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، معهد أبحاث السياسيات الاقتصادية الفلسطيني (ماس)، 2010.

- سهير محمد حواله، هند سيد أحمد الشوربجي: رأس المال الاجتماعي بالتعليم: مقوماته ومعوقاته، مجلة العلوم التربوية، جامعة القاهرة، العدد: الثالث، ج2، يوليو 2014.

- نادية أبو زاهر: دور النخبة السياسية الفلسطينية في تكوين رأس المال الاجتماعي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، تموز 2013.

- علي ليلة: المجتمع المدني العربي – قضايا المواطنة وحقوق الإنسان، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، ط2، 2013.

- توفيق المديني: المدني والدولة السياسية في الوطن العربي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1997.

- محمد مفتي: مفهوم المجتمع المدني والدولة المدنية (دراسة تحليلية- نقدية)، مركز البحوث والدراسات، البيان 182، الرياض، 1435/ 2013.

- Francis Fukuyama: Social capital, civil society and Development, Third World Quarterly, Volume 22, No: 1, 2001.

 -Christiaan Grootaert: Social Capital: The Missing Link? , Washington, D.C, World Bank, Social Capital Initiative Working Paper No:3, April 1998, p.(3-6). https://silo.tips/download/social-capital-the-missing-link

هابرماس ناقدا لراولز

لقد أعاد جون راولز، في كتابه نظرية العدالة الذي نشر في عام 1971، تقديم مسألة المجتمع والمؤسسات العادلة في قلب الاهتمامات المعاصرة[1]. كما ميز المفهوم الليبرالي للحقوق الأساسية، الليبرالية، حريات المعاصرين، من خلال جعل هذه الحقوق أساس الدولة. ومن ناحية أخرى، تبنى الجمهوريون الحقوق السياسية للمشاركة، وحريات السابقين، من خلال الإصرار على ممارسة تقرير المصير للمواطنين.

راولز في الواقع، منذ أوائل ثمانينيات القرن العشرين، وخاصة من عام 1985 فصاعدا، تخلى تدريجيا عن نظريته الأخلاقية الأولية وكذلك نظريته في العقل العملي[2]. بحيث انفرد بنسبية إرث التنوير، ووصف الإجرائية في هذه الفترة بأنها "تمييزية"، كما فتح الباب أمام "التمييز"، وقلل من جدوائية أي مشروع للعالمية  حتى لو كان مرتكزا على الحجج الجيدة ولجأ راولز إلى المحافظة التي تهدف أولا وقبل كل شيء إلى الاستقرار.

المعلوم أنه على مدى العقود الأربعة الفائتة، كان لجون راولز منافسا شرسا، وكان لكلاهما تأثير بالغ وبعمق على الفلسفة المعاصرة أقصد الألماني يورغن هابرماس، حيث اشتغل هابرماس على مشكلة إرث الحداثة فيما يتعلق بالحكم الذاتي (الفردي والسياسي) كصراع بين المفهوم الليبرالي والمفهوم الجمهوري[3].

و من وجهة نظره، حاول الفلاسفة الأكثر إدراكا، مثل كانط وروسو، تجنب الإفراط في استثمار أحد جانبي الحداثة هذا أو الآخر لصالح تحكيم معقول بين الاثنين. ومن جانبه، أسس هابرماس، مع نظريته في العمل التواصلي، فلسفة أصلية تسعى، عند التقاء اهتمامات مختلفة، إلى إعادة التفكير في معنى الحداثة[4] .

ومع  الاستخدام العملي لراولز من قبل هابرماس، تغير كل شيء مع مشروع جون راولز J. Rawls، حول "الليبرالية السياسية" التي تكرس المسافة الحقيقية القائمة بين هذين المشروعين الفلسفيين[5] .

و لعل نقد هابرماس لراولز لا يقيس فقط المسافة التي تفصل بين فلسفة كل منهما، بل له أيضا قيمة رمزية، وهي كسر السحر الذي مارسه راولز منذ فترة طويلة على الفلسفة القانونية والسياسية المعاصرة في أمريكا وأوروبا أي الغرب ككل[*].

على هذا الأساس نهدف الى مقاربة التحليل والتفكير في نقد هابرماس لراولز[6].

حيث سنرى كيف يرفض هابرماس ليبرالية راولز السياسية، وكيف يوضح حرج النظرية.

لأنه وفق هابرماس، فإن مشروع راولز لليبرالية السياسية هو نظرية لا علاقة لها بالقضايا البدائية للحداثة. هذا النقد يهمنا بقدر ما يسمح لنا بإلقاء نظرة جديدة على الانتقال من فلسفة "العقد الاجتماعي" إلى فلسفة الاتصال الجماهيري.

في ظل هذا النهج، من نافلة القول أننا نختار نموذج فلسفة الاتصال على حساب فلسفة راولز[7] . نحن نعتقد، في الواقع، أن الفلسفة التواصلية من خلال اهتمامها بالعالم الملموس لممثليها ورهاناتها الثقافية والاجتماعية والسياسية الحقيقية، لها ميزة كبيرة على فلسفة راولز الافتراضية المنطقية. ولكن دعونا لا نتسرع في الخطوات التي لا يزال يتعين اتخاذها.

في مقالتنا التحليلية هذه، سنركز على بعض الموضوعات الرئيسية المتعلقة بفلسفة القانون. نريد أولا أن نفحص نقد هابرماس لنموذج الحكم الذاتي السياسي والفردي عند راولز،  ثم نفحص كيف ينتقد هابرماس خطاب راولز حول تشكيل المعايير. وضمن هذه التحليلات، فإن التباين التفسيري هو الذي يشكل إطار التفكير.

نقد الإستقلال الفردي والسياسي في فلسفة روالز:

عند نقد نموذج راولز للاستقلال السياسي والفردي من المناسب أولا أن نقول بضع كلمات عن الهدف الذي سعى إليه هابرماس في نقده لراولز حول هذا الموضوع:

في نظر هابرماس، واصل راولز العمل التحكيمي، ولكن بناءا على أساس فلسفي ناقص، أي فلسفة الوعي التي سيتفاقم عدم كفايتها بسبب مشروعه الجديد لليبرالية السياسية. وبالتالي فإن التحدي الذي يمثله نقد هابرماس لنموذج راولز ليس فقط تصحيح أي تحيز فلسفي، ولكن بشكل أعمق، لإدراج الذاتية التواصلية ضد نداءات الوعي الليبرالي.

الاستقلال الذاتي الفردي:

يعتبر راولز أن مصدر نظام الحقوق والحريات يشير إلى فكرة المجتمع الذي يُنظر إليه على أنه نظام عادل للتعاون. ويضطلع ممثلو المواطنين بمهمة الاتفاق على شروط التعاون رهنا بشروط معقولة. كمشاركين في مثل هذا التعاون، يمتلك المواطنون، كما يقول راولز، ملكتين أخلاقيتين تسمحان لهم بالمساهمة في هذا المشروع[8]:

أولا، القدرة على الإشارة إلى الشعور بالعدالة.

ثانيا، القدرة على اختيار مفهوم للممتلكات.

يشير أحدهما إلى "معقول"، والآخر إلى "عقلاني"[9]. معنى هذه الرؤية للاستقلالية الفردية هو، كما يؤكد راولز، أن الليبرالية السياسية تأمل في تلبية المطلب الليبرالي التقليدي لتبرير العالم الاجتماعي بطريقة مقبولة "وفقا لمحكمة الفهم المناسبة لكل فرد"[10]. هذه الطريقة في النظر إلى الاستقلالية الفردية هي في الأساس مونولوج، بحسب هابرماس. إذ يتم إضفاء الطابع الموضوعي على الاستقلالية الفردية من منظور "أنا" فقط. هذا التصور للاستقلالية الشخصية الذي ينظر إلى الوكيل فقط من زاوية نموذج افتراضي ينتقده هابرماس، لتجاهل نموذج راولز بشكل منهجي الفهم الذي يمكن للوكيل المعقول تحقيقه بشكل جماعي. يتجاهل هذا النموذج عمدا الفهم الانعكاسي الذي يمكن لكل فرد اكتسابه في الفضاء العام.  كون منطق نموذج راولز هو الذي يحول في النهاية العديد من "أنا" إلى "نحن" سياسي.

مثل هذا المفهوم، في نظر هابرماس، لا يزال يعتمد على أسس فلسفة الوعي، أي أنه ينصب على نموذج الذات الانفرادية. هذا النموذج لا يحتاج إلى الجدل بين المواطنين، ولكنه يحتاج فقط إلى نماذج منطقية سياسية تؤكد قانونيا وسياسيا أن الأفراد يتمتعون بالحكم الذاتي.

ثم إن اعتراض هابرماس على مفهوم راولز للاستقلالية الفردية ذو شقين. من ناحية، ينتقدها على أنها مونولوج، ومن ناحية أخرى، لا يوافق على المفهوم الضيق للفرد الذي قدمه راولز.

في الواقع، ينتقد هابرماس الحكم الذاتي السياسي أو السيادة، أو بعبارة أخرى فيما يتعلق بمفهوم راولز للسيادة، وأخيرا، بشكل اصطناعي، فيما يتعلق بالقضية الأساسية للمعنى الديمقراطي.

الاستقلال السياسي:

فيما يتعلق بالاستقلال السياسي، ما هو على المحك هو مسألة الحس الديمقراطي وكيف يصبح ناقصا في نظام راولز لصالح حزمة من "المبادئ" التي لا يمكن تصنيفها بحسب هابرماس. لكن حتى لو كان كلاهما يشتركان في فكرة سيادة الشعب كأساس للسياسة، فليس لها نفس المعنى لكل منهما. بالنسبة لراولز، يمكن تلخيص سيادة الشعب، في منطق الاختيار العقلاني المحدد مسبقا والمتحيز مؤسسيا. هذا المنطق يحمي المؤسسات إلى حد كبير من القضايا السياسية والديمقراطية. يمكننا التعامل مع موضوع الحكم الذاتي السياسي لراولز من خلال الاعتماد على نقد هابرماس لاستعارة الموقف الأصلي. حيث يستخدم راولز هذه الصورة لتقديم نموذج الاستقلال السياسي المرغوب فيه[11].

بينما واقعا، يعتقد روالز أن الموقف الأصلي يمكن أن يكون وسيلة ديمقراطية لضمان وقيادة اتفاق عادل. كما تفترض نظريته في التمثيل أن الشخص، الذي يدرك التنافس بين المذاهب الشاملة وفي اهتمام بالحياد فيما يتعلق بها، يحتاج إلى طريقة "محايدة" أو، كما يقول راولز، طريقة "قائمة بذاتها" للوساطة السياسية[12] لتأسيس المعايير والمؤسسات المناسبة.

بالطبع، يمكن لأي شخص في النهاية استخدام هذه الطريقة، لكن راولز يؤكد أنها طريقة يمكن استخدامها، بشكل مميز، من قبل الأشخاص الذين لديهم "تفويض" سياسي وقانوني عام من جانب المجتمع[13]. وبالتالي فهي طريقة يمكن أن تستخدمها الهيئات القانونية والسياسية لفهم السياسات المناسبة وتفسيرها وتنفيذها. لذلك يفترض راولز أن حقيقة أطروحته، بأن أي شخص عاقل يمكنه التحقق من استخدام هذه الطريقة، وأحيانا الطعن فيها، يوفر أساسا ديمقراطيا لهذه الهيئات القانونية والسياسية.

هابرماس انتقد القول: إن هذه النظرية تحمي المؤسسات من التفكير الديمقراطي الأوسع. متسائلا: لماذا يجب على الأفراد المستقلين تماما أن يحتاجوا إلى نظرية تمثيل (افتراضيا غير مستقلين تماما)؟

بالنسبة لهابرماس، لا يحتاج الأفراد إلى مثل هذا التمثيل طالما يتم تصور المواطنين كأشخاص أخلاقيين لديهم شعور بالعدالة والقدرة على الرجوع إلى مفهومهم الخاص للخير. إذا كان هذا هو الحال، كما يدعي هابرماس، فإن راولز يقوم فقط بتحويل خصائص الشخص الاعتباري، تحت قيود نموذج محدد ومجرد للعقلانية، إلى هذا النموذج نفسه. ببساطة، إنه يقدم تفكيرا دائريا للتبرير الذاتي الذي لا يعمل إلا على توفير "الأصول" للفقهاء الدستوريين، في التقاليد القانونية للبلدان الغربية، من خلال تأسيسهم على أنهم "الأصول" النهائية و"القضاة" النهائيون.

في مقابل هذه الطريقة في تصور الاستقلال السياسي، يقدم هابرماس المثل الأعلى الذي بموجبه "لا يتمتع المواطنون بالاستقلال السياسي إلا إذا استطاعوا أن يروا أنفسهم بشكل متبادل كمؤلفين للقوانين التي يخضعون لها كمخاطبين فرديين"[14]، مشيرا ضمن سياق نقده لمواقف راولز إلى أن هذه ليست رؤية راولز.  كما يجادل بأنه إذا كان المواطنون فقط هم الذين يمكن تعيينهم عقلانيا كأساس وقاعدة، فيجب أن يكون الاستقلال السياسي كاملا ولا يمكن دفعه إلى نموذج افتراضي منطقي يفترض مسبقا أن يتولى بعقلانية مسؤولية الاستقلال السياسي للمواطنين.

بالنسبة لهابرماس إن حس الحداثة القانونية والسياسية هو الذي على المحك. وهو يعتبر أنه في نظر راولز، الإنسان الحديث "غير مناسب" باعتباره مسؤولا عن بناء الحياة المشتركة.

في الواقع، يعرف هابرماس مشروع الحداثة بأنه "الحاجة إلى أن يستمد المرء من نفسه كل ما يتعلق بالمعايير"[15]. أي منذ تلك اللحظة، يحتاج الإنسان إلى كل موارده، وجميع قدراته، وجميع خبراته. وإدخال نموذج افتراضي مثل نموذج راولز والتسلسل الهرمي للقيم والمعايير التي ينطوي عليها يصبح غير متوافق مع هذا المشروع. الإنسان لا يستمد من نفسه عند راولز، إنه يستمد من النموذج الافتراضي للفيلسوف (راولز).

يكشف هذا النقد ما لا تمثله نظرية راولز: فالاستقلال السياسي لا يشير إلى التحدث في الفضاء العام. إنه لا يعني وجود مساحة عامة تسمح للمواطنين "برؤية أنفسهم، بالمثل"، كمؤسسين ومخاطبين للقوانين. يمكن تلخيص المعنى الديمقراطي لنقد هابرماس للاستقلال الفردي والسياسي عند راولز في مسألة دور الديمقراطية فيما يتعلق بالمؤسسات.  إذا كان الحكم الذاتي، الفردي والسياسي، لا يمكن أن يكون له معنى إلا في مجتمع سياسي، فإن مفهوم الديمقراطية الذي تنقله نظرية راولز، وفقا لهابرماس، ناقص. لأن هابرماس أصلا لديه القليل من التعاطف مع هذا المفهوم للديمقراطية[16].

الذي يعتبر غير مقبول سياسيا وغير ذي صلة تجريبيا. لا يمكن للنموذج الذي اقترحه راولز الحصول على موافقة فعلية من المواطنين ولا يمكن تجديده للحفاظ على ثقافة ديمقراطية. في نظر هابرماس، هذا النموذج البارد لا يدعو إلى الالتزام الديمقراطي. إنه نموذج لا يثير المشاركة. وفقا لهابرماس، كونه يقدم راولز مفهوما محدودا للديمقراطية. وهابرماس ينتقده باعتباره مفهوما يتمثل دوره الرئيسي في حماية المؤسسات الديمقراطية من المخاطر السياسية والديمقراطية الموجودة بالفعل.

في الأساس، فإن الموقف الأصلي ليس سوى بناء منطقي رسمي يقدم، وفقا لهابرماس، قيودا غير مبررة ديمقراطيا. إنه بناء يقدم تحفظات يقع تعريفها ضمن اختصاص الفيلسوف (راولز)، أو على الأرجح من اختصاص الفقيه الليبرالي الدستوري. ومن ثم فإن الأمر متروك لهم لوضع الحدود التي تمارس فيها المصالح الخاصة والسياسية. هذه القيود، مثل القضية الديمقراطية، بعيدة عن متناول المواطنين.

في النهاية، يواصل راولز فقط الاتجاه الذي افتتحه ج. ستيوارت ميل، الذي يحصر القيادة السياسية والقانونية في "طبقة سياسية" مختصة[17]، "طبقة سياسية" مستنيرة يتمثل دورها النهائي في الاستقرار "الاجتماعي" و"التسامح" الأيديولوجي.

هكذا في نقده لراولز، يقترح هابرماس مفهومه الخاص للديمقراطية. ووفقا له، فإن الديمقراطية تعرف بالمشاركة الكاملة والفعالة لجميع المواطنين[18]. الديمقراطية هي الفضاء العام الذي يضمن تبادلا واسعا بشكل متزايد للحجج والأسباب التي يمكن أن تنير الأفراد وتخدم عملية تشكيل إرادة مشتركة وتواصلية متبادلة. يجب أن تضمن الديمقراطية أن يعرف الأفراد أنفسهم من خلال خطاباتهم. إنهم يحشدون خبراتهم، ويستحضرون خزانهم الرمزي  واستخدام الأشكال المختلفة لعقلانية الحداثة. باختصار، وفقا لهابرماس، تقوم الديمقراطية على الحق الكامل وغير المتحيز في المشاركة.

بهذا المعنى، نلاحظ أنه إذا بنى هابرماس معارضته لراولز وفقا لمخطط حرية المعاصرين مقابل حرية السابقين، مؤكدا على الاختلاف كاختلاف الحقوق المعنوية وحقوق المشاركة، فإن راولز من جانبه يعرف هذا المخطط نفسه على أنه فرق بين الحقوق المعنوية والحق في المساواة،  أو "قيم الحرية والمساواة"[19]. حيث يقدم راولز تفسيرا تاريخيا وفلسفيا خاطئا، لأن السابقين لم يكونوا مهتمين بالمساواة، بل بحقوق المشاركة الديمقراطية. ومع ذلك، فإن هذا التفسير الخاطئ الفلسفي يضعنا على درب مسدود، المكون لمشروع روالز لليبرالية السياسية. لا يمكن لهذا الأخير إلا أن يجسد جوهر الحق الديمقراطي الكامل في المشاركة مع المخاطرة برؤية انهيار رافعات فلسفية مبنية بعناية.

نقد هابرماس خطاب راولز حول تأسيس المعايير:

يسمح لنا نقد هابرماس لراولز حول مسألة أساس المعايير بملاحظة التناقض بين هذين الخطابين المتنافسين حول أساس المعايير من خلال إشكالية تعاقدية راولز لصالح أساس تواصلي للمعايير.

حيث  يبني هابرماس نقده على ثلاثة محاور[20]:

1) هل يمكن للأطراف فهم المصالح العليا للآخرين فقط على أساس الأنانية العقلانية في مفهوم الموقف الأصلي؟

2) هل يمكن استيعاب الحقوق الأساسية في السلع الأولية؟

3) هل يمكن أن يضمن حجاب الجهل حياد الحكم؟

في العرض التالي، سنحترم هذا الترتيب ونضيف

4) توليفة وبعض الانعكاسات. حول الموقف الأصلي، ومما لا يثير الدهشة، أن هابرماس يوجه اللوم التالي إلى راولز: الموقف الأصلي ينفذ فقط الأنانية العقلانية[21].

دعونا نقترب من هذا البيان من خلال تعميق نقد يورغن هابرماس لعقلانية السعي نحو تحقيق الغايات، أو الاستراتيجية المتأصلة في نموذج راولز.

موقف راولز الأصلي هو في الواقع استعارة، صورة، يقصد بها أن تكون مماثلة لنظريات العقد الاجتماعي الحديث[22]. وهكذا، يفترض راولز أن العدالة يمكن تعريفها فكريا، ومرغوبة سياسيا، في نهاية حساب الفوائد / التكاليف، والتي، بالنظر إلى الذات، تهدف فقط إلى "الخير" أو "العدل" للأنا. يناشد الموقف الأصلي مفهوم راولز للاستقلالية الفردية الذي قمنا بتحليله سابقا: "أنا" هي التي تختار. الأفراد، تحت ستار الجهل، لا يسعون حتى، بالمعنى الدقيق للكلمة، إلى وضع أنفسهم في مكان الآخرين. بالطبع، يمكنهم تخيل جميع أنواع المواقف الاجتماعية والسياسية المحتملة، لكن هذه مناصب لا يشغلونها ولا يعرفونها أيضا. يؤسس الموقف الأصلي أنانية عقلانية في نظر هابرماس من خلال استبعاد لحظة "أخلاقية" حقيقية بمعنى الفلسفة العملية، أي "وجدت" المعايير على أنها مشتركة ومثبتة بين الذات. كما يلاحظ جان مارك فيري بحق، أن موقف راولز ينفذ بدلا من ذلك تركيزا "متناقضا" بطريقة يجعل "الاعتبار الأناني كافيا لتحفيز: يمكنني أن أكون الآخر"[23].

إنه يطبق منطقا حيث يجب أن تضع "أنا" نفسها في مكان الآخر. في نظر هابرماس، فإن حجاب الجهل يعمل على تقديم حساب أناني دون مراعاة المخاطر الملموسة. وفي الواقع، يستخدم هذا الحساب الأناني فرضية العواقب على الأنا، دون تحديد هذه العواقب تجريبيا. بالنسبة لهابرماس، فإن النتيجة هي حساب أناني لا يمكن أن يفسر ما هو صحيح للجميع على قدم المساواة. يجيب هابرماس كيف يمكن لأتباع موقف راولز الأصلي أن "يفهموا حقيقة أن المواطنين المستقلين يحترمون مصالح الآخرين على أساس مبادئ عادلة وليس فقط لأسباب تتعلق بمصالحهم الخاصة، وأنه قد يكون عليهم واجب الولاء، وأنهم يرغبون في الاقتناع بشرعية الترتيبات القائمة والسياسة المناسبة من خلال الاستخدام العام لعقلهم،  إلخ.»[24]

لا يمكنهم ذلك، وفقا لهابرماس. لا يمكنهم القيام بذلك إلا من خلال تطوير "وجهة النظر الأخلاقية" بطريقة يمكن أن ترضي مصالح الجميع ويمكن أن تلبي موافقة جميع المشاركين في مناقشة حقيقية. لكن مثل هذا الموقف بعيد كل البعد عن موقف راولز. الحقوق الأساسية انتقاد هابرماس الثاني لخطاب راولز حول أساس المعايير يتعلق بمفهومه للحقوق الأساسية[25]:

هل يمكن استيعاب الحقوق الأساسية في "السلع الأولية"، كما يؤكد راولز؟ هل القانون "جيد"؟ يحدد راولز "الحقوق الأساسية" بسلعة أولية بالمعنى الدقيق للكلمة بأنها سلعة يحتاجها المواطنون كأشخاص متساوين وأحرارا. في القائمة التي يضعها للسلع الأولية، يتم تسليط الضوء على الحقوق الأساسية[26].

يعبر أساس الفكر الراولزي عن أن السلع الأولية تستند إلى أساس عام من المقارنات الموضوعية التي تجعل من الممكن حساب الظروف الاجتماعية للمواطنين: حقيقة كونهم أحرارا. وهكذا، يشير مصطلح "جيد" إلى مفهوم ما، هو في رأينا، حياة بشرية تستحق العيش، والحقوق هي "خيرات" لأنها تؤكد لنا وتوفر لنا هذه الإمكانية للحياة البشرية[27]. إنه مفهوم لا يتم فيه تقاسم الحقوق بشكل ذاتي، ولكنها تنتمي إلى كل فرد في شكل امتلاك.

و عليه يتكون نقد هابرماس من القول إن الحقوق الأساسية يتم اختزالها في منظور فعال عند راولز. إنه شرط ضروري للناس ليكونوا قادرين على تنفيذ خطط الحياة التي يعتقدون، عن حق أو خطأ، أنها كافية. ويعتبر هابرماس أن هذا المفهوم للحقوق الأساسية هو البديل من التمثيل الذي يمكن أن يرتبط بكل من الأرسطية والنفعية[28] .

للأسف هابرماس لا يعمق هذا الارتباط الخفي لراولز بالنفعية. ومع ذلك، يشير إلى أن جذر المشكلة هو أن راولز يربط عملية تأسيس المعايير بعملية غائية، منظمة وفقا لمنطق الشخص وعمله. وبعبارة أخرى، فإن القيمة "النفعية" للحقوق هي التي تبرر وجودها. يقارن هابرماس بين المعنى الحديث للقانون وهذا المفهوم: حق مستمد من المعرفة الأخلاقية والعملية للأفراد الذين جعلوا القانون أفق حياتهم المشتركة. لماذا يريد راولز إزالة الحقوق الأساسية من هذه المعرفة الأخلاقية والعملية؟ لماذا يريد أن يؤسس الحقوق الأساسية بطريقة فردية، عندما يتعلق معناها بالعيش معا؟

والمسألة ليست مسألة أي تنازع بين القانون الذاتي والقانون الجماعي، بل بالأحرى دور الاستقلال السياسي في صياغة الحقوق. تؤدي العملية المقيدة التي استخدمها راولز في بناء الاستقلال الفردي والسياسي إلى تحيز الوساطة بين المفهوم الليبرالي للحقوق الأساسية والمفهوم الجمهوري. يتطلب نموذجه أن تكتب الحقوق الأساسية في شكل سلع فردية، حيث تكون المخاطر بين الذات. الفئة الأولى من الحقوق الأساسية التي سيتم استبعادها هي الحق في المشاركة السياسية، والتي لا يمكن كتابتها بهذه الطريقة. <في مفهوم راولز ل "حقوق الملكية" ..[29]

لا يرى هنا هابرماس سوى علامة على رفض الاعتراف بدور "الاستخدام العام للعقل" فيما يتعلق بالحقوق الأساسية.

في حين يبني راولز لنفسه مأوى آمنا ضد المناقشات والمنطق والحجج التي يمكن أن تحدث في الفضاء العام عندما يتعلق الأمر بمنح نفسه حقوقا أساسية.

حجاب الجهل يتحدى انتقاد هابرماس الثالث لراولز، وكذلك خطابه حول أساس المعايير الصحيحة، الأطروحة القائلة بأن حجاب الجهل يمكن أن يضمن حياد الحكم. عند راولز، يعطي حجاب الجهل مثل هذا الضمان من خلال إجبارنا على "نسيان>" من نحن، ومن أين أتينا وما اختبرناه. إن حجاب الجهل الذي نضعه أمام أعيننا لجعل عملية تأسيس المعايير عملية، يخدم، كما يقول راولز، التفكير المحايد[30]. يمثل الموقف الأصلي في نظام راولز  فكرة تنظيمية يتم من خلالها الاتفاق على جميع الاعتبارات المدروسة جيدا. يرتبط مفهوم الحياد، بالنسبة لهابرماس، بفكرة إعلام المشاركين30[31] . إذا لم يتمكن المشاركون من الوصول إلى جميع المعلومات الممكنة عن أنفسهم والمجتمع، فكيف يمكننا، كما يرد هابرماس، الادعاء بأن حكمهم "محايد"؟ هل يمكن القول إن حكما غير مستنير "محايد"؟ لا يرى هابرماس هنا سوى نوع من العمى المتعمد، وتقييد المعلومات المقبولة وإدخال الإفراط في التحديد الأيديولوجي المبرمج مسبقا.

في الواقع، قدم راولز أساسا معياريا، من الخارج، كما قال هابرماس[32]، يجب أن يتحكم في تدفق المعلومات التي تأتي من مجتمع الحداثة المنقسم بشدة.

ويعمل حجاب الجهل كمرشح يمنع النظر في التجارب ذات الأهمية الأخلاقية وأشكال التعلم المختلفة. في الواقع، وفقا لهابرماس، يخنق راولز تدفق المعلومات الاجتماعية والسياسية والثقافية، بحيث يجب أن يوائم حجاب الجهل فقط المعلومات المقبولة وفقا للمبادئ الأولية. البديل، بالنسبة لهابرماس، ليس الانغلاق على تجارب الحداثة ذات الأهمية الأخلاقية، بل الانفتاح على أخذها في الاعتبار. على المستوى التجريبي، ليس لدى هابرماس مشكلة في إظهار كيف تمكنت حداثتهم القانونية بشكل فعال ومخجل من الانغلاق على مثل هذه التجارب. لقد دفعت الحركة العمالية تاريخيا ثمن هذا الإغلاق. لم تعتبر التجربة الأخلاقية للعمال ببساطة ذات صلة بقانون القرن.

اليوم، النسوية هي التي تحاول إضفاء الطابع الموضوعي على التجربة الأخلاقية للمرأة. هل يجب أن نغلق أنفسنا، كما يقترح راولز، على هذه التجارب ونرفض المعلومات التي يمكن أن تجلبها لنا؟ إذا كان الأمر كذلك، فهل يمكننا أن نصدق أن هذه الحركات وغيرها سترغب في وضع ثقتها في حداثتنا القانونية؟ أليس الشخص الذي لم يتم الاستماع إليه يعامل بالفعل كعدو؟ لذلك فإن إصرار هابرماس على الدور الأساسي للمعلومات يشير إلى الاستخدام العام للعقل. ويتطلب الاستخدام العام للعقل المتأصل في منظور هابرماس تدفقا للمعلومات، على عكس مفهوم راولز.

ضد راولز، يقدم هابرماس طريقة مختلفة تماما للنظر في الحياد. ويعرفها على النحو التالي: "إن وجهة النظر التي يتم من خلالها تعميم القواعد ذاتها هي وحدها وجهة النظر المحايدة، لأنها تجسد بوضوح مصلحة مشتركة لجميع الأشخاص المعنيين، يمكن أن تتوقع التزاما عاما وتكتسب، إلى هذا الحد، اعترافا بين الذات"[33]. إنه مفهوم للحياد، على عكس راولز، يقبل ويتطلب أي معلومات أو خبرة ذات صلة أخلاقية.

و تثير بعض التأملات نقد هابرماس لخطاب راولز حول أساس الأعراف الاجتماعية مسألة معنى "وجهة النظر الأخلاقية".

يؤكد النقد الذي قمنا بتحليله للتو أن راولز فشل في تلبية المتطلبات من "وجهة نظر أخلاقية". وفقا لهابرماس، ويجد راولز نفسه في طريق مسدود، لأنه يحول هذا المطلب إلى وجهة نظر واحدة، وجهة نظر "أنا"، كما هو الحال مع حتمية كانط القاطعة. بالنسبة لهابرماس، لا يكفي أن يشرع كل فرد، بطريقة خاصة، في مداولات تسعى إلى تبرير المعايير الأساسية. والمطلوب هو أن يوافق الأفراد المعنيون على صحة القواعد المقترحة وأن يعترفوا بها فيما بينهم. وهكذا يريد هابرماس وضع "وجهة النظر الأخلاقية" على محور التداخل.

و عليه لم يعد كافيا أن نعرف أن الشخص مستعد للخضوع لمنطق راولز الافتراضي، يجب أن نسأل أنفسنا بشكل أكثر واقعية ما يريده الجميع معا.

يجسد هابرماس "وجهة نظر أخلاقية" تشير ذاتيتها إلى أفق "الإرادة المشتركة" المشتركة في التواصل. لذلك من المهم أن مسألة صحة المعايير الاجتماعية لم تعد نتيجة لإنتاج منطقي افتراضي داخلي كما هو الحال عند راولز. بالنسبة لهابرماس، فإن إنتاج المعايير هو مسؤولية القوى الديمقراطية وسيتم تقديم المصادقة عليها لتقدير الجميع.

نختتم مقالتنا بتقييم وتقديم بعض المسارات للتفكير:

معنى النقد الهابرماسي هو أن فلسفة راولز لها جذورها في القرن التاسع عشر. مشروع راولز ليس سوى نسخة حديثة من تقليد فلسفة الوعي. إنها فلسفة تستمر كما لو أن نقطة التحول اللغوية لم تحدث أبدا. ما يظهر باستمرار هو غياب الذاتية الحقيقية والديمقراطية عند راولز.

إن معنى مشروع راولز يخاطر باختزاله في إعلان إيمان بالمؤسسات السياسية والقانونية في البلدان الحرة والتعددية والديمقراطية. في الواقع، فإن مهنة الإيمان بالمعنى الدقيق لها أن خطابه عن تأسيس المعايير يؤدي إلى "محكمة المبادئ"، أي الدستور وتفسيره،، والذي لا يحق إلا للمحاكم العليا تفسيره عمليا. إن غياب حوار مفتوح وديمقراطي، سواء من حيث أساس المؤسسات أو من حيث التفسير ومخطط التفاهم، سيعرض مشروع راولز للخطر.

بحسب هابرماس، بنى راولز "روحا فلسفية" وحاول تحريك المشروع "الدستوري" الحديث. لكن هذه "الروح الفلسفية" لا يمكن إدارتها بشكل ملموس إلا من قبل مؤسسة من المفترض أن تتشكل من خلال الاختيار السياسي للرجال والنساء الفاضلين. ومرة أخرى، كما يشير هابرماس: إنها مسألة "روح" تهرب منا، وتحل محلنا، والتي، على طريقة تراث التنوير، تعمل كعقل منطقي. هل يمثل مشروع راولز نظرية نحتاجها؟

من الواضح أن كل ما يقوله هابرماس يثبت العكس، وأنه يشكل عقيدة التراجع الآمن، إن لم يكن التنازل عن السلطة في أيدي "طبقة سياسية" يفترض أنها مستنيرة ومختصة. أليس البديل هو تعميق فهمنا لما تتطلبه الديمقراطية؟ خلاف ذلك، المراهنة على مفهوم راديكالي للديمقراطية، كما يفعل هابرماس. والمرجح، أنه يجب التصدي لهذا الرهان..

***

ا. مراد غريبي – كاتب وباحث

...........................

* تم الإعتماد على دراسات وكتب بالفرنسية حول فلسفتي جون راولز ويورغن هابرماس خاصة لأنها جد غنية بالمراجع والمقاربات  وذات ترجمات دقيقة وقريبة للغات الأصلية للكتب.

المراجع:

1. جون رولز، نظرية العدالة، دار الكتاب الجديدة، 2019م/

2. ي. هابرماس، نظرية الفعل التواصلي، مركز  العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، ترجمة فتحي المسكيني، 2020

3. ج. راولز، الليبرالية السياسية  دار حكمة للنشر وجداول، ترجمة نوفل الحاج لطيف، سنة 2022.

4. J.RAWLS   Justice et démocratie، باريس، Seuil، 2000.

5. راولز. نظرية العدالة ونقادها. ستانفورد، مطبعة جامعة ستانفورد، 1990.

6. ي. هابرماس، «المصالحة من خلال الاستخدام العام للعقل: ملاحظات حول الليبرالية السياسية لجون راولز» مجلة الفلسفة، المجلد. 92، العدد 03، مارس 1995،

7. ج. راولز، "الرد على هابرماس"، في مجلة الفلسفة، المجلد. 92، العدد 3، مارس 1995 .

8. ي. هابرماس، الخطاب الفلسفي للحداثة، ترجمة حسن صقر، دار الحوار للنشر والتوزيع، 2019.

9. ج. ستيوارت ميل، النفعية، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، 2012،.

10.  ب. ملكيفيك، “هابرماس وسيادة القانون. النموذج التواصلي للقانون وإعادة البناء الانعكاسي لسيادة القانون المعاصرة، ورقة مقدمة لمؤتمر حب القوانين: أزمة القانون الحديث في المجتمعات الديمقراطية، بكيبك كندا

B. Melkevik, « Habermas et l'État de droit. Le modèle communicationnel du droit et la reconstruction réflexive de l'État de droit contemporaine »

11.  جان هامبتون، «العقود والاختيارات: هل لدى راولز نظرية العقد الاجتماعي؟»  مجلة الفلسفة، المجلد77، 1980.

12. Jean-Marc Ferry, Philosophie de la communication 2. Justice politique et démocratie procédurale, Paris, Cerf, 1994

13. Insight and Solidarity: The Discourse Ethics of Jürgen Habermas (Philosophy, Social Theory, and the Rule of Law Book 1) William Rehg.2023.

14. ي. هابرماس، الأخلاق والتواصل، ترجمة أبو النور حمدي أبو النور حسن. التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2012. وكتاب

J. Habermas, Morale et communication   Champs essais1999

15. De l'éthique de la discussion, Champs essais 2023 Traduction (Allemand) : Mark Hunyadi

16. Droit et Agir Communicationnel : Penser avec Habermas ; Bjarne Melkevik, bohenos books inter, 2013

هوامش

[1] جون رولز، نظرية العدالة، باريس، سويل، 1987.

[2]أنظر شاندرا كوكاءس وفيليب بيتيت، راولز. نظرية العدالة ونقادها. ستانفورد، مطبعة جامعة ستانفورد، 1990.

[3] ي. هابرماس «المصالحة من خلال الاستخدام العام للعقل: ملاحظات حول الليبرالية السياسية لجون راولز»، مجلة الفلسفة، المجلد. 92، العدد 03، مارس 1995، ص. 127.

[4] . Droit et Agir Communicationnel : Penser avec Habermas ; Bjarne Melkevik, bohenos books inter, 2013

[5]  أنظر ج. راولز، الليبرالية السياسية، دار حكمة للنشر وجداول، ترجمة نوفل الحاج لطيف، سنة 2022

[6]  ي. هابرماس، «المصالحة من خلال الاستخدام العام للعقل: ملاحظات حول الليبرالية السياسية لجون راولز» ص. 109-131.

[7] ج. راولز، "الرد على هابرماس"، مجلة الفلسفة، المجلد. 92، العدد 3، مارس 1995، ص. 132-180.

[8]  ج. راولز، الليبرالية السياسية، ص. 43, 114 وما يليها

[9]  المرجع نفسه، ص. 76 وما يليها.

[10]  ج. راولز، «الرد على هابرماس» في مجلة الفلسفة، المجلد. 92، عدد 3، مارس 1995، ص. 146، الحاشية 28. راولز يشير ويؤيد رأي جيريمي والدون، الحقوق الليبرالية، نيويورك، كامبريدج، 1993، ص. 61.

[11]  ج. راولز، الليبرالية السياسية، ص. 47 وما يليها.

[12]  المرجع نفسه، ص 35.

[13]  المرجع نفسه، ص 280 وما يليها وكتاب العدالة والديمقراطية، ص 189.

[14]  ي. هابرماس، «المصالحة من خلال الاستخدام العام للعقل: ملاحظات حول الليبرالية السياسية لجون راولز»، ص 130. ترجمتنا: «المواطنون مستقلون سياسيًا فقط إذا تمكنوا من رؤية أنفسهم بشكل مشترك كمؤلفين للقوانين التي يخضعون لها. الموضوع كمخاطبين فرديين.»

[15]  ي. هابرماس، الخطاب الفلسفي للحداثة، ص. 23.

[16]  ج. راولز، الليبرالية السياسية، ص. 47

[17]  ج. ستيوارت ميل، النفعية، ص. 51-53.

[18]  ب. ملكيفيك، “هابرماس وسيادة القانون. النموذج التواصلي للقانون وإعادة البناء الانعكاسي لسيادة القانون المعاصرة، ورقة مقدمة لمؤتمر حب القوانين: أزمة القانون الحديث في المجتمعات الديمقراطية،  بكندا سنة 1996.

[19]  ج. راولز، الليبرالية السياسية، ص. 29.

[20]  ي. هابرماس، المصالحة من خلال الاستخدام العام للعقل: ملاحظات على الليبرالية السياسية لجون راولز، ص. 112.

[21]  ي. هابرماس، المصالحة من خلال الاستخدام العام للعقل: ملاحظات على الليبرالية السياسية لجون راولز، ص. 111-113، أنظر أيضا كتاب الأخلاق والتواصل ص. 87-89، 100، وكتاب أخلاقيات المناقشة، 131 و137.

[22] ج. راولز، السياسة الليبرالية. للنقد، رأي: جان هامبتون، «العقود والاختيارات: هل لدى راولز نظرية العقد الاجتماعي؟»  مجلة الفلسفة، المجلد. 77، 1980، ص. 315-338.

[23] جان مارك فيري، فلسفة الاتصال عند يورغن هابرماس ج2. العدالة السياسية والديمقراطية الإجرائية، ص. 54.

[24] ي. هابرماس، «المصالحة من خلال الاستخدام العام للعقل: ملاحظات على الليبرالية السياسية لجون راولز». ص. 112.

[25]  المرجع نفسه، ص. 113-116.

[26]  ج. راولز، الليبرالية السياسية، ص. 224.

[27]  انظر ويليام ريهج، البصيرة والتضامن. أخلاقيات الخطاب عند يورغن هابرماس، بيركلي، مطبعة جامعة كاليفورنيا، 1994، ص. 124-125؛ انظر أيضًا ص. 125-134. (Insight and Solidarity. The Discourse Ethics of Jûrgen Habermas)

[28]  ي. هابرماس: المصالحة من خلال الاستخدام العام للعقل: ملاحظات حول الليبرالية السياسية لجون راولز، ص. 114.

[29]المرجع نفسه، ص. 116-119.

[30]ج. راولز، السياسة الليبرالية، ص. 8. 78 و82.

[31]  ي. هابرماس، المصالحة من خلال الاستخدام العام للعقل: ملاحظات حول الليبرالية السياسية لجون راولز، ص. 116.

[32]  المرجع نفسه، ص. 119.

[33]  ي. هابرماس، الأخلاق والتواصل، ص. 86

 

يشكل تاريخ الفكر والخطاب الإنسانيين تاريخاً أساسه الكذب والخطأ والخداع والمخاتلة، لهذا يمكن القول أن الكذب هو بمثابة حدودٍ لكل تفكير وكل خطاب.

ذلك أن الإنسان بطبيعته كائن كاذب وخاطئ ومتوهم، لهذا يفكر في تَقَوُّلِ الكذب وتبليغه مما يشترط وجود نماذج ومعايير للفكر الكاذب والقول المخاتل.

هناك أيضاً اختلاف وتنوع في الكذب، تبعاً لاختلاف وتنوع ميادين الفكر والوجدان والقول وحدودهما، فالكذب في حقل التفكير والخطاب الإنسانيين يختلف كثيراً في مجال الحس المشترك، بمعنى هناك اختلاف في الكذب بين الحس العام وبين الكذب في الحقول الفلسفية والفكرية والعلمية والسياسية والاجتماعية والقانونية والدينية ... إلى آخره.

يدل الكذب في بادئ الرأي على معاني مثل: الخيال والتهيؤ والافتراء والخداع والمخاتلة والغش وخيانة الأمانة.

كل كذب بهذا المعنى هو الشيء المتخيل، الغير كائن في عالم الواقع، وغير قابل للتحقق أو الإدراك والفهم والاستيعاب من طرف جميع الناس.

لكن لا يفهم من هذا أن الكذب غير موجود في الواقع، بل هو المؤسس للواقع، إنه كيمياء الواقع الذي يخترق جسم المجتمع.

إن الكذب هو ما ليس كذلك، هو الذي يثير الظنون والشكوك والتساؤلات ويخلق التوتر والحيرة في العقول، فالكذب تعبير عن اللا حقيقي واللا صادق، أي ما لا نلمحه في الواقع، أو يوجد على نحو آخر غير واقعي: يوجد وجودا وهميا، ومتخيلا، وكاذبا، وزائفاً... إلى آخره.

لكن هذا اللا حقيقي هو الذي يخترق الواقع في الحقيقة، إن الواقع مليءٌ بالتناقضات، والكذب والخطأ حدثان توأمان يحصلان في الواقع، ولهما آثار ملموسة في العلاقات البشرية، ما دام التوأمان الكذب والخطأ نقيضان، أي عدوان لذودان للصدق والحق.

كما أن هناك عديد المظاهر الخادعة والمخاتلة والمزيفة التي تخفي لِحاءَ الحق والجوهر.

ويمكن القول كذلك أن كل ما ليس حقيقياً يجثم في الواقع جثوم العادة، ما دام أن كل كذبة لا تستمد أساسها من الواقع أو من مطابقته.

هكذا إذن يتضح تلبس دلالة مفهوم الواقع الذي يتحدد من خلاله الكذب، في مستوى الحس المشترك، وهكذا يحاول الكاذب كتمان الجوهر والتضليل عنه تارة، وعلى المظهر تارة أخرى.

ينضاف إلى هذا أن اللا واقعي قابل بالضرورة في التواجد والتساوق ضمن الواقع ذاته.

ويصبح من الضروري بالنسبة لنا التفكير الفلسفي النقدي في الكذب، نحن في حاجة ماسة لفلسفة الكذب، تاريخ الكذب لجاك دريدا غير كافي، فنحن لا نريد التأريخ لمفهوم الكذب عبر التاريخ، نريد بناء مفهوم فلسفي دقيق جداً للكذب، من خلال تحديد حقيقته الثاوية خلفه، وكشف دلالته المتداولة واللغوية والفلسفية التي هي دلالات ومعاني تعكس مطاطيته وتعقيده.

فالكذب اسم منقول من صفة مذمومة، وهي من صفات المنافقين اللذين خصهم الكتاب المقدس "القرآن الكريم" سورة من سوره، أقصد "سورة المنافقين"، لما لهم من حس مخاتل وحركي ومتغير، فجاء حكم المنافقين حكم تحت التضاد للواقع.

ويقابل كل كذب الباطل، وهو الشائع في الأقوال، فمعنى كذب الحُكْمِ هو تضاده مع الواقع.

هنا يصبح الكذب صفة للحكم المضاد للواقع الثابت والمستقر، ويأخذ إسم الكاذب حين يكون الحكم متعارضا مع الواقع، واسم الخطأ حين يكون الواقع هو الذي يختلف مع الحُكْمِ.

الكذب هو خاصية ما هو خاطئٌ. فكل قضية كاذبة، هي قضية لا نستطيع البرهنة عليها أو حتى تبريرها والتعليل عليها، وبالتالي تكون عبارة عن شهادة كاذبة، أي شهادة الزور التي تكون عبارة عن حكاية من وحي الخيال، لا تعكس ما رآه فعلاً صاحبها. والكذب بمعنى أعم هو اللاواقع.

Le mensonge est intrinsèquement erroné. Toute proposition mensongère est, par définition, une proposition qu'il est impossible de justifier ou de prouver, et constitue ainsi un faux témoignage, c'est-à-dire un récit fictif qui ne reflète pas la réalité telle qu'elle a été perçue par celui qui l'énonce. Dans un sens plus large, le mensonge équivaut à l'irréel.

والكذب بهذا المعنى هو كل حكم نسبي لا نتفق عليه البتة، لأنه ليس واقعاً، وبالتالي ليس أصيلاً، إنه نسخة النسخة أو نسخة الحقيقة.

ومجال الكذب هو مجال الفكر، أي حكم كاذب، وبالتالي فهو لصيق باللغة والخطاب، فلا وجود لفكر لا يحكم على الواقع، كما لا وجود لِلُغَةٍ لا تعبر عن الفكر الذي هو قد يقول كذباً كما قد يتحفظ عن قول الحق.

ما دام الكذب موجوداً في الواقع، فإن هذا الأخير يظل مرجعاً ومصدراً قويا للكاذب، لأنه يحاول تزييف هذا الواقع الحاصل والثابت، الذي ينتمي إلى الشيء الماثل أمامنا، لكن هذا الواقع مضاد للوهمي، والخيالي، والممكن.

فالواقع موجود لدينا في التجربة، لكن الكذب يأخذ معاني التغير والتحرك والجريان والسيولة والظلالة، إنه في تضاد مع ذاته.

والكذب هنا سيرورة وصيرورة سيالة ومتغيرة ومتحولة نسبيا، لأن تجربتنا الحسية متغيرة، لهذا يظل يفارقها ويحملها خارجه.

ولا يمكن نفي الكذب عن الواقع أي وضعه خارج سياق الفكر وبمعزل عنه.

هناك أخطاءٌ مغلوطة مجردة ومتحركة يحملها الإنسان في ذاته، توجد داخله في عالمه الداخلي وبشكل محايث، ذلك لأن السكون ليس ساكنا إلا ضمن الحركة، وعلى قاعدتها.

لهذا وجب خوض تجربة الشك الديكارتية ولو مرة في حياتنا، أي أن نشك في كل شيء، الشك في معرفتنا التي اكتسبناها بواسطة الحواس، أو أن نشك في كل معارفنا التي ورثناها عن آبائنا وأمهاتنا وأساتذتنا، وعن طريق الشك في كل شيء يمكننا تمييز الكاذب على الأقل عن غير الكاذب.

ونعترف أن الواقع الحسي واقع مشكوك فيه، مليء بالتناقضات الذاتية، لهذا قلنا سابقاً أن الكذب معيار في ذاته، وقد يكون العقل محظوظاً في إدراك الأكاذيب التي يتعرض إليها، أو قد يحدث العكس، فيتيه في الأغاليط، ويبقى في حدود الجاهز، يبنيها ويشيدها الفكر انطلاقا من معطيات التجربة الحسية التي هي بمثابة مادة خام تضفي عليها الذات العارفة شكلاً أو صورة أو مثالاً.

يوجد تناقض في الواقع ينعكس على بنية الفكر ونظامه القبلي الترنسندنتالي، ويظل الكذب لصيقاً بين الفكر والواقع، ويجب الكشف عن هذا التناقض المتأصل في الطبيعة الإنسانية.

كل كلام كاذب هو كلام "فارغ من المعنى والفائدة"، رغم أنه مفيد في بعض الأحيان، لكن بمجرد ما تفكر فيه تفكيراً عقلياً تكتشف أنه غير مفيد البتة، إنه ليس سوى مظهر، ولهذا السبب فهو ليس واقعياً.

فاللاواقعي هو ضد الواقعي، ويكون منطوق ما كاذباً عندما يكون منطوقاً لا تدلة عليه، ولا يعبر عن الشيء تعبيراً فعلياً، ليتعارض مع كل حكم.

يوجد الكذب إذن في عالمنا، إنه تعبير عن هذا العالم، ويؤثر فيه بشكل منتظم، لكل مجتمع إذن نظام خاص به لإنتاج وإعادة إنتاج الكذب، كما أن هناك سياسة خاصة بالكذب، هذه السياسة على صلة بأنظمة الخطاب، هذا الخطاب الكاذب بمثابة مرآة تعكس واجهة ذلك المجتمع أو ذاك.

كما أن الكذب هو خاصية الخطاب العلمي، فكل نظرية علمية حسب كارل بوبر يجب أن تكون لها قابلية للتكذيب والتفنيد والدحض والاختبار.

وهذا لا ينسينا أن الخطابات السياسي والاقتصادي والاجتماعي عموماً خطابات كاذبة أو تضمر الحقيقة، هناك دائما نوعاً من التحريض السياسي على الكذب من أجل الحفاظ على السلطة السياسية للدولة وأجهزتها الإيديولوجية، ويذاع الكذب وينتشر عبر مؤسسات الإعلام والاتصال وعبر مواقع التواصل الاجتماعي التي هي مواقع الكذب والوهم الاجتماعي.

ويتم نشر الكذب من خلال الأجهزة الأيديولوجية للدولة سواء المدرسة أو المؤسسات التربوية أو حتى المؤسسات الثقافية ودور الشباب والتنشيط، ويمتد ذلك امتداداً واسعا نسبيا في الجسم الإجتماعي وينتشر كما تنتشر النار على الهشيم، وليس هناك أي محاولة من طرف السلطة السياسية للحد من الكذب، بل انتشاره واستهلاك الناس له على كونه حقيقة وغاية في ذاته يحافظ على السلطة السياسية.

والكذب ينتج ويعاد إنتاجه ونقله من خلال المراقبة المستمرة له على يد مؤسسات الدولة والأجهزة الكبرى سواء السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الدينية أو الإيديولوجية أو التربوية (البنوك، الإدارات، الجامعات، المدارس، مواقع التواصل الاجتماعي، ...إلى آخره.) ويصبح الكذب هو موضوع الساعة أي ما يجادل على حقيقته سياسيا واجتماعيا وتربويا.

هناك سجال ونقاش حادم حول الكذب داخل الدولة، إن هذا النقاش متأصل في الدولة ويعتقد أنه حقيقة، هناك إذن من يتحكم في الكذب ليؤثر على ما هو حقيقي، كل هذا من أجل تبرير سلطة سياسية ما وتبديد القائم والظفر بسلطة أبدية ومطلقة.

لا يمكن عزل الكذب عن السلطة السياسية للدولة وأجهزتها الإيديولوجية التي يشتغل ضمنها لحد الساعة.

ما أشد أن نتعسف في رسم حدود الصفات والكلمات والأسماء، فصانع الكذب يكتفي بتحديد علاقات الأشياء مع البشر، ويعبر عن الأشياء في شكل استعارات في منتهى الإبداع والشجاعة، ففي كل مرة يقفز الكاذب من موضوع إلى آخر جديد ...، فيعتقد أنه يعرف كل شيء عن كل شيء! لكن في الحقيقة لا يعرف شيئاً عن الكيانات الأصلية للأشياء.

ويبدو الكذب بمثابة حشو سيال من الكلمات والمفردات والمصطلحات والألفاظ والصفات والكنايات والاستعارات والتشبيهات الفضفاضة التي يتم إنتاجها حول الإنسان والغاية منها تظليل العلاقات الإنسانية، هذا الحشو يتم تزيينه وينقل به من مجال إلى آخر.

لازلنا لم نفهم بعد سبب تأكيدات المجتمع وإلزامهم الذي يفرض علينا عبثاً، وفقا لمواضعة صارمة، ويكون هذا التفكير الجماعي تفكيراً لا شعورياً محددا بدقة مسبقا، وفقاً للأعراف التقليدية القديمة، والإنسان يعيش حالات كذب أكثر من الشعور بالحقيقة.

لكن التجربة الذاتية للأفراد هي تجربة متدفقة من الظواهر التي نعيشها، إن تجربة الكذب إذن تجربة ممتدة، إنها تساعدنا على الانتقال من تجربة قديمة إلى تجارب جديدة، وهذا الواقع السيال والمتحرك والمتدفق، والكذب يتدفق معنا ويؤثر فينا.

وفي الواقع يمكن إعتبار الكذب أو يمكن معرفته من خلال معرفة علاقته بما لم يوجد بعد، ولن يوجد أبداً، فالكذب لا يستنسخ شيئاً كان أو هو كائن، إنه يعلن عن شيء لن يكون، ويؤثر سلبا فيما سوف يكون.

إن الحكم الذي يقرر نفسه على أنه كاذب، هو الذي يقرر نفسه أيضاً على أنه لا يستند على أي برهان، وبالتالي لا وجود لمؤكدات عليه ولا يمكن أن توجد، كما أن الظلالة والغواية تتأسس على البهتان ... والواقع أن ما لا يراه شخص معين غواية وظلالة، قد يراه شخص آخر حقيقيا تماما، والكذب يقودنا إلى الجدال في مسائل معينة، لا نخلص فيها إلى أية نتيجة. ومع ذلك تفرض نفسها، هنا والآن، تفرض نفسها بما هي غواية تغوينا عن كل حقيقة.

الكذب في علوم الطبيعة والإنسان مسألة طبيعية لأننا لا نستطيع البرهنة بشكل قطعي على النتائج المتوصل إليها.

إنه في الكذب، لا يستلزم شيئاً على الإطلاق، ما دام لا يبدأ من قبل، بوضع نفسه، بلا جذور صلبة يقوم عليها، لهذا يكتفي المرء بأن يكذب بدلا من أن يبرهن على كذبه، يريد أن يُرِي غيره ما لم يراه هو، والحال أن ما رآه هو مخالف تماما ومتعارض مع ما يرويه، لأنه وبكل بساطة لا يبرهن على ما يقوله.

فكل محاولة تفنيدية، هي محاولة غرضها درء النتائج الضرورية عن المقدمات التي سلم بها سابقاً، وبالتالي هناك تناقض دائماً بين مقدمات الكاذب ومؤخرات مقوله، لأنه يستند على حقائق مزيفة، لكن في سياق التفكير والتأمل والوعي النقدي يحق لنا وضع كل النتائج المتوصل إليها في علوم الطبيعة والإنسان بين قوسين، ولن نحسم في كل قضاياها. وهذا لسبب بسيط، هو أن الحكم الميتافيزيقي هو حكم يحتمل الكذب، بأي ثمن، لأن هناك نواقص ذاتية وموضوعية تكتنفه، لهذا لا وجود لتوكيد حقيقي وأصيل في هذه العلوم ولا يمكن أن يوجد.

كل الأفكار والتصورات والآراء والمنظورات والمعتقدات والقيم والمعايير والسنن والأعراف والممارسات والدوافع والمقترحات الكاذبة هي مقترحات لا تصلح للعمل لهذا فهي جوفاء وليس لها أهمية في الحياة، وكل اعتقاد خاطئ هو اعتقاد مضاد للواقع، لأننا قد نحمل وقائع وأفعال وأفكار مضرة بالنسبة إلينا، ونعيش ونحن نعتقد أنها مفيدة لنا !!!

وعليه يجب علينا النظر إلى القول الكاذب بكل بساطة إلى أنه قول لا فائدة ترجى منه لفكرنا وغير مفيد لسلوكنا العملي (خاصة الأخلاقي).

إن الكذب في التصريحات سواء الأخلاقية أو السياسية لا يمكن التملص منه، مهما تكن ضخامة الضرر الذي يمكن أن يترتب عنه بالنسبة إلى المُحاور، والإدلاء بتصريحات مزيفة يسمى كذباً، لأنه يفتقد إلى المصداقية وباطل وظالم في حق الإنسانية.

والكذب بهذا المعنى هو كل تصريح زائف يضر بالإنسانية، ومجاوز في نفس الوقت للقانون، لكن الكذب قد يحدث أن يتحول إلى مِلْكِيَّةً ومَلَكَةً شريرةً تسري في جميع الظروف والملابسات.

وبهذا يصبح لكل واحد كذبه الخاص به الذي هو عبارة عن آراء مشتتة وجزئية كافية لتبديد جميع الأخطاء والأوهام، وهنا تكمن خطورة الكذب لأنه يهدم التواصل والحوار بين الناس، وعن طريق الكذب نهدم الأساس المشترك الذي تبنى عليه قيم المجتمع.

***

محمد فرَّاح – أستاذ فلسفة / المغرب

خلق العالم المعاصر شعورا متزايدا بالعجز. العولمة التي وُصفت يوما ما كوعد بمستقبل زاهر هي الان سبب للاضطراب الاقتصادي وخضوع السياسة المتزايد للاقتصاد . الديمقراطية حول العالم هي في ازمة، وان عدد المواطنين الذين يشعرون بالحرمان يتزايد باستمرار، يحكمون على النظام السياسي الذي يعيشون في ظله اما فاسدا او هو غير قادر على معالجة الأشكال الجديدة للعنف والتفكك الاجتماعي والكساد الاقتصادي والتحديات الاخرى.

المعلقون عادة يلقون باللوم في هذا الموقف على مجموعة من الايديولوجيات والنزعات بما فيها الميديا الالكترونية وتكنلوجيات التحول العالمي والليبرالية الجديدة. هنا نرى ان ويلات الناس المعاصرة على الاقل جزئيا تعود الى السعي المشروع والمفهوم للحرية والذي لسوء الحظ وكما كان متوقعا جاء بنتائج عكسية تماما.

وجهان للحداثة

لعدة قرون اتسم التاريخ الاوربي بالحروب الطويلة والدموية حول الدين والسلطة، وهذه الحروب اصطبغت بالوحشية والكراهية. بعد ذلك، بدأ مشروع الحداثة بتأسيس ارتباط  بين تجربة الفرد والمؤسسات الحديثة. المؤسسون الفلسفيون للعالم الحديث بدأوا عملهم بنظريات عن المشاعر الانسانية. هذا اتضح تماما في لفياثان لتوماس هوبز (1651) ونظرية العواطف الاخلاقية لآدم سمث عام 1759. الهدف من الدولة بالنسبة لهوبز او الهدف من السوق بالنسبة لآدم سمث هو بناء نظام اجتماعي عقلاني يقوم على فهم علمي للطبيعة الداخلية للكائن البشري.

ونفس الشيء، بناء الدولة القومية الحديثة كان منذ البداية متشابكا مع مشروع التعليم. هذا يتضح عندما ينظر المرء لتاريخ التعليم بعد الثورة الفرنسية. الثورة أعقبتها مباشرة مشاريع لتحوّل التعليم اما من جانب الثوريين او من معارضيهم. في كلتا الحالتين، الهدف كان الفوز بعقول الشباب اما في الثورة او الارتداد المعاكس . هذا يتجسد خصيصا في الكتاب الهام جدا لـ جوهان جوتليب فيشتي Johann Gottlieb Fichte (مذهب الدولة،1813). فيشتي فيلسوفا مثاليا كان لميتافيزيقاه تأثيرا كبيرا على الفلسفة الالمانية اللاحقة، بينما نظريته في الدولة كان لها تأثيرا قويا على الحركة الاشتراكية. وكما اعتُبر مؤسسا للقومية الحديثة، هو كان ايضا صديقا ليوهان بيستالوزي Johan Pestalozzi  الاصلاحي التعليمي السويسري. يصر فيتشي في (مذهب الدولة) على ان بناء الدولة القومية يجب ان يبدأ بالتعليم. الأفراد يجب ان يتعلموا، ويُجبرون عند الضرورة لإعتناق الجديد من الحرية القومية. وكما تبيّن من الثورة الفرنسية، حسب قوله، الافراد يمكن استعبادهم بالتقاليد واللاعقلانية، وحتى يقاتلون من اجل الملك ضد حريتهم. لذلك، فان القمع المناسب والتعليم هما اول خطوة لبناء دولة قومية ليبرالية. هذا الإكراه يمكن ازالته فقط عندما يتعلم الناس كيف يصبحوا مواطنين يرغبون بحل صراعاتهم واختلافاتهم عقلانيا، فقط من خلال مؤسسات قانونية. بكلمة اخرى، مشروع الحداثة وتحوّلاتها يمكن فهمه فقط بالنظر بشكل متزامن الى التحولات الذاتية من خلال التعليم، والتغييرات المماثلة التي تحدث في رؤية الدولة.

صدمة الحرب العالمية الاولى

من توماس هوبز فصاعدا، حتى القرن التاسع عشر، زادت الحداثة تركيزها بشكل متصاعد على تعظيم حرية الفرد. سنترك انتقادات الاشتراكيين والفوضويين، بدلا من ذلك سنركز على التحولات العميقة التي أعقبت الحرب العالمية الاولى.

 فهمنا لتأثيرات ذلك الصراع، سيكون حاسما لفهم انهيار الحداثة من الداخل. الصدمة السايكولوجية التي تجسدت لاولئك الافراد تجسدت تماما في سلسلة من الروائع الادبية في السنوات اللاحقة، على سبيل المثال، رحلة لويس فرديناند سيلين ثم (نهاية الليل،1932) او مذكرات (عالم الامس) للكاتب النمساوي ستيفان زفايج Stefan Zweig، 1942. وما هو اكثر أهمية لنا،هو عام 1918 الذي شكّل بداية رحلة التحول في كل من الدولة ومُثل التعليم. التحولات في النظام التعليمي كانت مثيرة للاهتمام. منذ القرن التاسع عشر وحتى عام 1918، كان نقاد أنظمة المدارس التقليدية مثل اوغستين فرينيت او بيستالوزي يدعون الى تطبيق "طرق فعالة" يجب ان يوضع فيها الطالب في المركز ويصبح مشاركا فعالا في عملية التعليم. لكن الصراع العالمي تخلّى عن مثل هذا التأثير لدرجة ان الداعين الى اصلاح التعليم لم يعودوا مقتنعين بمثل هذه الأهداف المتواضعة. بدلا من ذلك، هم بدأوا بتنظيم أنفسهم في مختلف المنظمات الدولية للدعوة الى خلق فرد جديد من خلال طرق تعليمية جديدة.

أحد أهم هذه المؤسسات الشهيرة كانت جمعية التعليم الجديد The new education fellowship(1). معظم الاسماء البارزة في الاتجاهات التربوية كانت  منها، مثلا، ماريا مونتيسوري و اوغستين فرينيت. أحد الاصلاحيين في ذلك الوقت وهو هنري والون Henri wallon كتب حول اول مؤتمر للمنظمة قائلا:

"هذا المؤتمر كان نتيجة للحركة السلمية التي جاءت بعد الحرب العالمية الاولى. وبدا منذ ذلك الوقت انه من أجل ضمان مستقبل ينعم فيه العالم بسلام، لا شيء اكثر فعالية من تطوير معنى احترام الفرد بفضل التعليم المناسب، ثم اشاعة مُثل التكافل والاخوة الانسانية التي هي في تضاد مع الحرب والعنف". (هنري والون،جمعية التعليم الجديد ،1952). الرؤية الثورية المبكرة للتعليم كانت صدى لمُثل هوبز وفيتشي لخلق مواطنين جدد: الاطفال نُظر اليهم كهمج ذوي عواطف وهم بحاجة للتمدين . هذا كان يُفترض ان يخلق افراد بالغين "مستقلين" قادرين على التحكم بأسوأ الحوافز ويصبحوا مثقفين. لكن بسبب صدمة الحرب العالمية الاولى، اصبحت "إعادة البرمجة" هذه كما نُظر اليها من جانب العديد هي المشكلة: كمصدر للاحباط والاغتراب.

هدف التعليم يجب ان يكون تحرير الفرد لبناء نفسه صعودا ولتمكينه من الاستماع لذاته الداخلية. (بالطبع، هذا الوصف المختصر لا يمكن ان يحقق عدالة لنظريات ومبادئ التعليم الجديد. انه من الواضح ايضا انه حتى لو كان التعليم العام قد اُصلح باستمرار منذ بداية القرن العشرين، فان مثل هذا الاتجاه الجديد في التعليم لم يُنفذ بالكامل ابدا).

هذا التحول في مُثل التعليم لم يحدث في عزلة وانما على خلفية الاضطرابات السياسية.

المنظّر الالماني القانوني كارل شميت Carl Schmitt (1888-1985) اشار الى ان معاهدة فرساي في نهاية الحرب العالمية الاولى انفصلت عن قانون الامم الاوربي jusgentium الذي يشمل جميع الشعوب. كان هذا مفهوم القانون الدولي الذي ظهر اولا في القرن السابع عشر من اقلام الكتاب الكلاسيكيين مثل فاتيل و جروتيوس. وعلى نفس الخط مع اهداف الحداثة، أسس قانون الامم الاوربي قواعدا للحرب لتنظيم الصراعات بين القوى الاوربية. الحرب والعنف لا يمكن تجنبهما ولكن يجب على الاقل تنظيمهما  وتوجيههما نحو صراعات بين الدول – فقط عندئذ يمكن منع انحدار العنف الى بربرية تامة. لكن هذا الوهم قد تحطم نتيجة الحرب العالمية الاولى . هذا العنف بدلا من ان يكون منظّما بصرامة ، نراه جلب الفضائع وعلى نطاق لم يسبق له مثيل. لذا، فان فكرة امكانية ان تقوم الدولة  بادارة صراعات محدودة خاضعة للقواعد استُبدلت بملاحظة مفادها ان القومية تؤدي الى المذابح.  علاوة على ذلك، معاهدة فرساي للسلام ايضا خرقت مبدأ الحياد. بدلا من ذلك، الخاسرون جُرّموا وحُكم عليهم، واُجبروا على الاعتراف بالذنب في بدء الحرب واضطروا لدفع تعويضات هائلة. الاخلاق والأحكام الاخلاقية عادت كمبدأ حاكم في الصراعات الدولية.

لهذا فان مشروع الحداثة فقد مصداقيته تماما عندما تعرّض الفرد المتحضر المُعاد بناؤه للنار. رؤية التعليم الحضاري التي وُصفت ببراعة من جانب فيتشي منحها مؤيدو التعليم الجديد طابعا قمعيا خطيرا.   وبشكل متماثل، وتحت تأثير كل من الحركات الاشتراكية والسلمية، بدأت الحدود القومية يُنظر اليها كسبب للحروب.

نشوة ما بعد الحرب

كانت التحولات التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية معقدة. انتصار الاقتصاد الكنزي في الغرب والشيوعية في الشرق رافقهما صعود الاقتصاديات الموجهة بالدولة. وفي النهاية تحوّل المد، حيث انهار القطب الشيوعي ومع صعود الليبرالية الجديدة، بدأت الحكومات القومية تفكك بشكل تدريجي سيطرتها على اقتصادياتها.

يعرّف شميت فترة ما بعد الحرب بالزوال االتدريجي لإحتكار الدولة للسياسة. مع الحرب الباردة وتطور المنظمات الدولية، جرى إلغاء قانون كل الامم الكلاسيكي. بدلا من ذلك، تجسدت الحروب كشرطي سلوك ضد الدول المارقة (اما عبر احد العمالقة للتحكم بتحالفاته، او ضد الدول "السيئة"، او كواجب أخلاقي لأجل الانسانية (مثل التدخلات الانسانية التي قادتها الامم المتحدة).

باستمرار، دخلت المنظمات الدولية واللاعبين الجدد الاخرين الى المسرح واستحوذوا على دور الدولة في "تعريف الصديق والعدو". هذا هو التعريف للسياسات الذي ارتبط عادة بشميت. لكنه كاريكاتير. طبقا لشميت، ليس للسياسات طبيعة، انها لا يمكن اعطائها جوهرا. لذلك، يجب ان يُنظر الى هذا  كمبدأ ترسيم: أي شيء يمكن ان يصبح سياسة، لكن أحسن طريقة لمعرفة ما اذا كان الامر هو كذلك هو عبر التحقق مما اذا كان قد تم تنظيمه حول فئات معينة .

ولكن مع ذلك ، في تعريف السياسة، كانت خسارة الدولة للاحتكار في السياسة تطابقت مع ظهور لاعبين جدد بما فيهم منظمات قارية مثل الاتحاد الاوربي ونافتا و اسيان. وبشكل متماثل، برزت المنظمات الكنزية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي جرى تحويلها لتنفيذ البرامج الليبرالية الجديدة في تفكيك احتكار الدولة للقواعد الاقتصادية وتأسيس حرية الحركة للبضائع والنقود والافكار. وفي نفس الوقت، كان السعي لشكل جديد من الذاتية أخذ منعطفا آخرا.

في اوربا، شهدت الستينات حركة شهيرة سميت حركة الـ 68 ايار المتنوعة لإنعتاق الذات. وكما اشار ميشيل اورس Michel Oris ، الانثروبولوجي في جامعة جنيف، الى ان الهدف المركزي لهذه الحركات كان "لتفجير" الغطاء المتين للاخلاق البرجوازية التي ورثتها من القرن التاسع عشر. هذا المثال لُخص بشكل رائع  بعمل وليم ريتش Wilhelm Reich الذي اعجب بنظرياته العديد من حركات مايو، بدءا من جيل ديلوز وحتى التحرريين و الشيوعيين.

بهدف مصارعة الفاشية، جمع ريتش بين الماركسية والتحليلات النفسية ليربط القمع بهيكل قوة الدولة. هو انتقد عدم قدرة الماركسي توضيح  سبب اتّباع الجماهير لقائد يسير بالضد من غرائزها بشكل صارخ،كما على سبيل المثال، في الفاشية. طبقا لريتش، الافراد لا يؤيدون الفاشية بسبب افكارها او برنامجها وانما بسبب انها تمكنهم من اطلاق توتراتهم الداخلية عبر التعبير عنها خارجيا. الفاشية تستغل اللاعقلانية والجنسية المكبوتة لأتباعها عبر اللجوء الى غرائز غير واعية.

بكلمة اخرى: شعبية الفاشية تنمو مع الاحباط الجنسي. في كتابه (سايكولوجية الجماهير الفاشية،1933)، يدعو ريتش لما يسميه "عدم البراعة للحرية". الافراد المدربون بواسطة المجتمع ومؤسساته القديمة مثل العائلة التقليدية، اصبحوا غير قادرين على ادارة عواطفهم الشخصية، وبالذات،ميولهم الجنسية. هذا ادى الى توتر بين الطموح للحرية والخوف منها.

يقدم ريتش تعبيرا واضحا للنموذج على اساس جميع الحركات الاجتماعية التي انتشرت بدءا من الستينات فصاعدا. هذا يتضمن الرؤية الى الاقليات الجنسية التي كانت قريبة جدا من حركة الانعتاق. اما النسوية الراديكالية ربطت القمع الجنسي للمرأة بالفاشية والأشكال الاخرى للسلطوية مثل البطراركية. يكشف ريتش المنطق وراء كل هذه الحركات الراديكالية: فكرة انه، لكي نخلق عالما سلميا ومتحررا، فان جميع المؤسسات التقليدية مثل العائلة والدولة يجب تفكيكها لتحرير الفرد. هذه الذاتية الراديكالية الجديدة كمصدر شرعي وحيد للاخلاق والقانون اصبحت غاية بذاتها، وايضا الجواب الوحيد للحرب والبربرية والفاشية.

العولمة

الانثروبولوجي في جامعة شيكاغو ارجون ابادوراي Arjun Apadurai، يعطي تفسيرا هاما لنهاية الحرب الباردة وظهور العولمة. اثنان من كتبه (الحداثة بشكل عام،1996) و (الخوف من الأعداد القليلة: مقالة حول جغرافية الغضب،2006) لهما أهمية خاصة هنا، لأنهما يهدفان لإعطاء نظرية للنتائج الثقافية والفردية لعالم معولم. تميّز العالم المعولم الجديد، بعد الحرب الباردة بسلسلة من الانشقاقات: بين الدولة والمالية، بين الإقليم والهويات القومية، وهكذا. حتى "المحلي" فقد مكانته، والان اصبح متجسدا في سلسلة من التدفقات التي تتحدى بعمق قدرة المؤسسات التقليدية والمحلية على نقل الهوية والقيم، وصياغة السلوكيات.

في كتاب الحداثة بشكل عام، يربط ابادوراي بقوة بين ظهور الذات المعولمة وقضية الحدود الدولية.هو يرى ان الاعلام الالكتروني والهجرة هما المحرك الاساسي في تحويل العالم الى شبكة مترابطة داخليا، وكان تأثيرهما الثقافي الرئيسي هو في زيادة دور الخيال في بناء الهويات.هذا قاد الى زيادة الحرية للافراد ليعرّفوا انفسهم حتى لو خلق هذا توترات لدى المجاورين لهم مباشرة. دور وحدة العائلة اصبح اقل من مجرد مؤسسة تنقل تصورا للعالم، بقدر ما اصبحت ساحة يطور فيها الافراد هوياتهم الخاصة بناءً على مصادر إلهام متضاربة . وهكذا،الافراد هم الان يُحتمل جدا ان يكونوا في تضاد مع أقاربهم او جاليتهم. في هذه الاثناء، تأخذ الجاليات المحلية باستمرار شكل الأقليات مندغمة في شتات ضمن شبكة عالمية.

هذه الرؤية المتفائلة نوعا ما للعولمة، مع تأكيدها على الحرية الفردية، انتُقدت في كثير من الاحيان . ابادوراي كان يركز في (الخوف من الاعداد الصغيره) على الاجابة على اكبر اعتراف له بالضعف الذاتي: "تفسيري الخاص يصاب بالعجز عندما نأتي الى العنف الدموي للحروب الأثنية الحالية" (الحداثة بشكل عام، ص224).

يشير ابادوراي الى التسعينات كـ "عقد العنف" عندما تغيّر العنف الاثني في طبيعته. الاشكال الجديدة للعنف اصبحت أقل تركيزا على محو "الاخر" وتوجهت نحو إذلال الاخرين والحط منهم. طبقا للانثروبولوجي ابادوراي، العولمة هي المسؤولة عن هذا التغيير كونها زادت من اللاّيقين وهددت في ان تصبح الدولة أقلية. الخوف من الأغلبية، اللايقين وعدم السيطرة على الظاهرة العولمية، والتهديد الذي تمثله الأقليات "الحقيقية" للسيطرة القومية، هي سبب العنف في العالم المعولم. هذا لأنه في هذا العالم الجديد، لم يعد العدو عضوا في امة اخرى، وانما جار، مشكوك في خيانته.

ابادوراي كان عنيفا جدا في هجومه على الدولة القومية، التي يعتبرها السبب الرئيسي للعنف هنا: "الأقليات هي فقط كبش فداء، بكلمة واحدة هي استعارات وتذكير بخيانة الفترة الكلاسيكية القومية" (الخوف من الارقام الصغيرة،ص68). لكن ابادوراي يرتكب خطأ كلاسيكيا في إلقاء مسؤولية العنف على الدولة القومية. الدولة القومية في الحقيقة، منذ البدء ارتبطت بالعنف لأنه كما يشير ماكس ويبر في تعريفه للدولة انها تمتلك"احتكار العنف الشرعي" – ولكن الأكثر أهمية، وكما يرى شميت، بسبب ان الدولة القومية هي نظام اختُرع لتأطير العنف  بقواعد لتحجيم غضبه وليس لوقفه. بكلمة اخرى، ابادوراي ودون قصد يؤكد التحليل الذي تبنّاه شميت، لأنه في هذا النظام الجديد الذي يتحرك بعيدا عن سيطرة الدولة، يتخذ العنف شكل الاصولية، كراهة الاجانب، انفجارات شعبوية تسعى لإذلال الخصم.

وكما في تحليل ابادوراي، الحركة المزدوجة التي بدأت بها الحداثة – لخلق ذاتا جديدة متحضرة بحدود ثابتة، ونظام صارم لفصل الحدود القومية – قد اُلغيت. وبعيدا عن هدف مضاعفة الحرية، هذا خلق ظهور مجتمع اصبح فيه العنف "نظام دائم"،حسب تعبير ابادوراي. في النظام العالمي الجديد، "لم يعد ممكنا  معارضة الطبيعة والحرب من جانب، والحياة الاجتماعية والسلام من جانب آخر... يبرز مشهدا اكثر رعبا حيث النظام يُنظّم حول الحقيقة او في منظور العنف" (الخوف من الأعداد الصغيرة،ص53).

لعنة كارل شميت

كان شميت وحشا داعما للنظام النازي، هو فعل كل شيء ليصبح المحامي الرسمي للرايخ الثالث. لسوء الحظ، هو يبقى منظّرا قانونيا كلاسيكيا، ومفاهيمه الاساسية وتنبؤاته ضرورية في تحليل عالم ما بعد الحداثة. الفرد الجديد الذي رغبته ما بعد الحداثة ووُصف من جانب ابادوراي يُفترض ان يكون اكثر حرية، مع اعطاء اكبر حرية لخياله لتطوير ذاته. لكن، يمكن للمرء مسائلة هذا. اكبر فشل لمفكري ما بعد الحداثة وما بعد الكولنيالية هو انهم يفتقرون لفهم النظام القانوني – وهو خطأ بالتأكيد لم يرتكبه شميت ذاته. هذا النوع الجديد من الحرية الفردية لكي يُنفذ يتطلب دولة فضولية بشكل مفرط. ابادوراي يرفض رؤية ويبر في "القفص الحديدي" للعقلانية الذرائعية، حيث العلاقات المتبادلة استُبدلت بقواعد قانونية ومبادئ. بدلا من ذلك، يصر ابادوراي على اهمية جديدة للخيال في بناء هوية المرء. ما لم ينتبه اليه هو ان هذه الذات الجديدة تتطلب قواعد جديدة واشكال اخرى جديدة من تدخل الدولة لحماية حريتها. مثال نموذجي سيكون القواعد الجديدة الفضيعة التي نُفذت لادارة التنوع. هذه القواعد سميت "صحيحة سياسيا" وهي منذ بدايتها في الستينات زادت من الاستحواذ على المجتمع الغربي – كما حُللت وانتُقدت من جانب سوسيولوجيو جناح اليسار الفرنسي  مثل فردريك لوردن و فنسيت دي غولا و نيكولاي اوبرت.

ان انتشار هذه الأشكال الجديدة يعني ان العلاقات الداخلية المرتكزة على مبادئ تبرز من ميدان القوانين. يجب على المرء باستمرار ان يقيّم  وبعناية ما اذا كانت افعال المرء ومعتقداته تؤثر على حرية الآخرين بالانعتاق ، وان القواعد الجديدة والقوانين تُنفذ لضمان احترامنا لهذا المبدأ في "الحرية المفروضة". هذا قاد،مثلا، الى خلق وزراء في عدة دول لمساواة الجنسين. أنظمة التعليم والقوانين جرى اصلاحها لتعزيز وحماية هذا الانعتاق للذات الحديثة. لكي يتم تنظيم العلاقات الداخلية ،يجب ان تصبح اللغة والجنس والهويات الجنسية، والقوانين اكثر فضولية.

هندسة الدولة التي تأسست للسيطرة على العنف لم تختف. بل، طالما العنف لم يعد يُنظم خارج الحدود القومية، وانما ينفجر من الداخل، فان نظام السيطرة اعيد توجيهه ضمن الحدود القومية. فرنسا مثلا، غيّرت قوانينها لتدمج معظم مقاطعات "دولة الطوارئ" في تشريعاتها النظامية – نظام سيطرة تأسس سلفا في الولايات المتحدة بقانون باتريوت.

نظام تنظيم العنف وراء الحدود لم ينجح في الغاء الجريمة ولن ينجح ايضا نظام السيطرة الداخلي. وكما يكتب الفرنسي الخبير في الجرائم الن بير، السيطرة الواسعة والمراقبة يمكن ان يمنعا بعض الهجمات المخططة لكنها سوف لن توقف الإرهاب ذاته.

الحداثة السياسية كانت حركة مزدوجة: الدين والاخلاق ازيلتا من النظام الداخلي ليحل محلهما نظام من القوانين والمواطنة لادارة العلاقات الاجتماعية. وفي نفس الوقت، الدولة ستخلق حدودا مسيطر عليها بصرامة مع توجيه العنف الى صراعات الدولة – ليس لإلغاء العنف وانما لإشاعة السلام في المجتمع ضمن حدوده، وربما لمنع الافعال البربرية الأكثر سوءا في الحرب. لكن بعد الحرب العالمية الاولى، نحن عرّفنا الدولة القومية – كسبب للحروب الوحشية في الخارج  والقمع في الداخل . لكي نحرر الذات ونحقق السلام، جرى تفكيك الآلية المزدوجة التي اعتمدت عليها الدولة القومية والحداثة، وهما اعادة التعليم وسيطرة الدولة على الافراد. ومن غير المدهش، ان هذا قاد الى عودة فضيعة لهاتين الآليتين للهندسة الاجتماعية اللتان صُممتا للسيطرة. وهكذا نحن ألغينا الحداثة باسم الحرية والسلام العالمي، ولم نحصل لا على السلام ولا على الحرية.

الاستنتاج

تفكيك الحداثة السياسية حدث تحت عناوين واسباب جيدة. لكن النتائج التي نجمت عن هذه التغييرات هي في انسجام مع ما تنبأ به شميت : عودة اشكال العنف لما قبل الحداثة. هذا بسبب ان العديد من النقاد نسوا ان الدولة والحداثة السياسية كانا سلفا وسيلة لتهدئة المجتمعات والعلاقات الدولية. وهذا ما تعنيه لعنة شميت: العنف لا يمكن ازالته او ترويضه وانما فقط ادارته من خلال الهندسة الاجتماعية والسياسية.

ان تطور أنظمتنا السياسية أخذ شكل البندول او رقاص الساعة:  ذهبنا للأشكال المتطرفة لعنف الحروب الدينية، ثم دخلنا في أشكال اخرى متطرفة للعنف نتجت عن الحداثة خلال الحرب العالمية الاولى، ونحن الآن نعود رجوعا لأشكال العنف السائدة ماقبل الحداثة. ولا يهم لو قررنا ان نسميها أشكال عنف  "ما بعد الحداثة" كما فعل ابادوراي. انها نفس الشيء. تلك هي اللعنة: البندول يتأرجح ليعيدنا من حد متطرف الى آخر، مع عدم وجود حل للهروب او وقف هذه التراجيديا.

***

حاتم حميد محسن

..........................

الهوامش

للمراجعة:

The Politics of freedom: freedom &Intervention, philosophy Now,Aug/Sep 2024

(1) تأسست هذه المنظمة عام 1921 من مجموعة من التربويين الذين اعتقدوا ان اصلاح التعليم يساعد في خلق مجتمع اكثر تسامحا وسلمية. تكونت المنظمة من مجموعة متنوعة من الافراد ضمت بين صفوفها المعلمين والمفتشين وعلماء النفس والاطباء والآباء ومديري المدارس اعتقدوا ان العلم يمكن استخدامه لتجديد التعليم عالميا.  

 

ما يميز عبد الجبّار الرفاعي عن غيره من المثقفين والباحثين والمفكرين انه يؤمن  بتطور وتقدم العقل والوعي وارتقائه في السلّم المعرفي والاجتماعي والثقافي، هذا من جانب ومن جانب أخر انه يؤمن بنسبية المعرفة وانها قائمة على الممارسة والخطأ، فهو يؤمن بأن الحقيقة واحدة إلا أن الطرق إليها طالما أخطأتها، لذلك تكون المعرفة نسبية. وهو يقلب أفكاره ويمحصها ذات اليمين وذات الشمال، ويعترف دائماً في كتاباته ولقائاته بخطأه وتغيرات فكره، وما توصل اليه من أفكار ونتائج رهن ظروفه وأسبابه التاريخية والنفسية والاجتماعية والزمكانية، وهذه هي محركات التاريخ والمجتمع والانسان في كل مكان، ولا يمكن التجرد والانفصال عن تلك المحركات، وعن تلك الثلاثية التي تهيمن بعضها على البعض الآخر. لذلك نجد في فكر الرفاعي ثلاثيات وجدليات مستمرة لا تهدأ أبداً، فهو مفكر (نيتروسوفي) يقف على التخوم، ويقدّر قيمة الاشياء ويغوص في جوهرها، ويحمل من القلق الوجودي الشيء الكثير، بحثاً عن عوالم جديدة تدفعه لمعرفة قيمة الحياة والوجود والمعرفة، وهذا ما يذكرنا بالفلسفة الوجودية الدينية عند بول تيليش (1886 ـ 1965م)، الذي حاول بناء فلسفة تجمع ما بين الديني والدنيوي والوقوف من المشكلات النفسية والاجتماعية والحضارية موقفاً نقدياً معاصراً ينسجم ومتغيرات العصر، وفق نظرة تأويلية للدين وللكتاب المقدس، تنسجم وحاجة الانسان الى دين روحي أخلاقي إنساني وجودي يعالج مشكلاته بحلول واقعية معاصرة، وتهدف فلسفة تيليش الأنطولوجية الى هزّ وزعزعة أساسيات التراث المعرفي والديني الشائع والمتوارث من الآباء دون نقد أو تمحيص، وبناء لاهوت جديد يحرر الانسان ويكرمه في آن واحد، وهو ما عمل عليه الرفاعي في فكره أيضاً.

يذكرنا الرفاعي أيضاً بالتفكير والفلسفة النيتروسوفية، (Neutrosophic philosophy)، وهي نمط معرفي وعلمي وفلسفي جديد، له خصوصيته وفاعليته وخصائصه، وهي تعني الفكر المحايد، والنيوتروسوفيا (Neutrosophy) كلمة مؤلفة من مقطعين Neutro الأول بمعنى محايد، والثاني Sophia  بمعنى حكمة، ومن ثم اصبح معنى الكلمة معرفة الفكر المحايد، وهو فرع جديد للفلسفة التي تدرس أصل وطبيعة ومجال الحياد، بالإضافة إلى تفاعلاته بالأطياف التصورية المختلفة. وهي فلسفة جديدة تم طرحها من قبل فلورنتن سمايرنديكي (Florentin Smarandache)، العالم والمفكر والفيلسوف الروماني الامريكي (1954ـ )  وتتبنى هذه الفلسفة المواقف المحايدة دائماً، وترفض الثنائيات، وتؤمن بالابعاد المتعددة والمتنوعة للافكار والآراء والمواقف وقضايا العلم والفكر والفلسفة والحياة والمجتمع، والاختلاف في الاختلاف، ليعطي لنا رأياً جديداً، قد لا يكون موافقاً ولا رافضاً وانما رأياً ثالثاً ورابعاً وخامساً، وهي ايضاً كما يعبر عنها مؤسسها بأنها فلسفة في الفلسفة وفكر في الفكر، يحاكم جميع الآراء والأفكار المطروحة، أبيضها وأسودها، وكذلك رماديها، ليقدم رؤية جديدة، وأحتمالاً آخراً يضاف الى سلسلة الحقائق، ويوسّع من الحقيقة نفسها، ولا يقرنها ولا يحصرها بحدين فقط، بين حق وباطل، وخير وشر، وجمال وقبح، وصادق وكاذب، بل يوسّع كل الدوائر ويبحث حتى في المستحيلات، فلا شيء يقف أمامه، ولا يوجد مطلق في الفلسفة النيتروسوفية، حتى المطلق نفسه، فكل شيء يخضع لمنطق المعالجة والاحتمال والتعدد، فهي فلسفة ومنهج وطريقة جديدة في التفكير تضاف الى المناهج والفلسفات المتعددة.

الرفاعي لا يخلو من تنويعات في فكره وتغييرات مستمرة، وهذا خاضع لقراءته المستمرة وتجاربه الثرية، وسعة إطلاعه في مجالات العلوم المختلفة وتوظيف ذلك في رؤاه الفكرية، فهو يفلسف الأشياء ويصوّفها في آن واحد، تجده يخضع الاشياء لثقافته الخاصة، ذات الأبعاد المختلفة (قرآصوفي فلسفي). ولعل قائل يقول أن هذا ليس بغريب وعجيب في الثقافة الاسلامية، ولم نعدم من وجود باحثين ومفكرين وفلاسفة وفقهاء سبقوا الرفاعي في طروحاته ومنهجه وطريقته تلك، وهذا ما وجدناه مع أبي حامد الغزالي وفخر الدين الرازي وصدر الدين الشيرازي وآخرين.

كنت قد أعددت هذه الورقة قبل أن أقرأ شهادة المفكر العربي حسن حنفي بحق الرفاعي ومجلته (قضايا اسلامية معاصرة)، التي أعاد الرفاعي نشرها مجدداً في الصحف والمواقع الالكترونية في شهر تموز 2024، ووجدت في هذه الشهادة الشيء الكثير وأضافت لي الكثير، فهي تحمل عنوان (عبد الجبار الرفاعي، الطريق الثالث) وهو خير دليل على فكر وطريق الرفاعي الذي لخصه حنفي في تلك الشهادة المهمة وما تحمله من خط جديد ومفيد مختلف تماماً عن الطرق الفكرية الأخرى ذات البعد الواحد الذي يدعو له بعض المثقفين والمفكرين، ولكن الرفاعي ـ من وجهة نظر حنفي ـ أرتأى طريقاً ثالثاً، ليس طريقاً توفيقياً جامعاً بين الأثنين، وإنما طريق مختلف ينحو منحى ما يسمى بـ (اليسار الاسلامي)، وبعيداً عن هذا التوصيف الذي يراه حنفي والذي يدعو له في فكره ودراساته، والذي لا يحبذه الرفاعي مطلقاً، ولا يرغب أن يوصف به، لأنه يؤمن أنه مسلم وكفى، إلا أنني وجدت في الرفاعي إنه يسير بثلاثيات دائمة في فكره وديالكتيك مستمر، ومراحل ثقافية ومعرفية متنوعة مرت به، فهو في كل مرحلة عمرية يمر بها يتمثل نمطاً معرفياً ينجذب له، في الفقه وعلم الكلام والعرفان والفلسفة، وهناك شواهد ودلائل على تلك المراحل، ومؤلفاته وكتاباته ومحاضراته خير دليل على ذلك. ولا أحسب أن في ذلك تناقضاً أو أزدواجية، كما يحلو للبعض أن يسميه، وإنما هو النضج المعرفي والقراءة المستمرة والوعي النقدي الذي يضاف للرفاعي من كل تجربة يمر بها في حياته وفكره، وهذا ما نلمسه عند الكثير من الفلاسفة والفقهاء والمفكرين في مراحل حياتهم، ونشهد تحولاتهم الفكرية والمعرفية في سلوكهم وفكرهم وتجاربهم، وهو حالة صحية ودليل عافية فكرية لدى المثقف والمفكر والعالم، ما لم تفسده المصلحة الشخصية وضرورات السلطة ومنطقها المتغير.

أتذكر رأي لأحد الفلاسفة، وأظنه لأبن سينا، مفاده: إن الفلاسفة والمفكرين كلما تقدم بهم العمر إتسعت رؤاهم ونضجت ذاكرتهم وثقافتهم، على العكس من البشر العاديين، عامة الناس، الذين تضعف قواهم ورؤاهم وذاكرتهم بتقدم العمر. وهذا الرأي السينوي لعله يصيب مع جماعة ويخيب مع جماعة آخرين، وقد يضيع ويضل بعض الفقهاء والعلماء ويهدي البعض الآخر بحسب توجهات كل منهم، ولكن الذي يعنينا في هذا المجال، مع الرفاعي، إنه قد أرتقى سلماً معرفياً وسلوكاً عرفانياً ساهم مساهمة كبيرة في سعة أفقه وتنور رؤاه، بطريق جديد خطه بنفسه لنفسه يمثل قناعته، ولم يجبر الآخرين على السير عليه، ولكنه سجل تجاربه تلك ودونها في مؤلفاته وكتاباته، وهي تمثل بالنسبة له خطاً بيانياً صاعداً لا هابطاً، كما يحلو للبعض وصفه، وتلك أحسبها شجاعة من الرفاعي في خوض ذلك الغمار الفكري والمعرفي والسياحة الروحية الدائمة، ويخرج بعدها منتصراً قانعاً بما ربح وما خسر من تلك التجارب، المهم أنه جربها وادرك مضمونها وذاق طعمها ليرتقي بعد ذلك سلماً أو طريقاً جديداً عاينه وكُشف له من تلك التجارب والمسالك، وتلك هي سمات العالم الجاد الذي لم يقف عند حد معين وطريق ينتهي له يقول ها أنا وصلت الى تلك الحقيقة فأتبعوني يرحمكم الله، بل إن للرفاعي مسالك ومدارك، وصولات وجولات، ومقامات وأحوال لا تهدأ أبداً، ولا يغلق الباب بعده بل يبقيه مفتوحاً على مصراعيه على حقيقة عرضها السموات والأرض، ومن ألطف الأمور في الرفاعي الشيخ والمجتهد والمعلم والأستاذ، إنه يبقى مريداً الى نهاية العمر، وقد يتبع شخصاً أو تلميذاً أو عارفاً أو إنساناً أو صديقاً، مهما كان عمره ولونه ومعتقده، نحو المعرفة والحقيقة والانسانية، طالما كان الرفاعي يحمل أخلاقاً في يد وفانوساً في يد أخرى، فهو ديوجيني لا يمل ولا يكل عن البحث والقراءة والكتابة وحب المعرفة، ما دام فيه قلب ينبض، وعين تقرأ ويد تكتب.

قرأ الرفاعي تجارب وأفكار فلسفية وعرفانية كثيرة من مختلف الهويات والتوجهات الفكرية، وشخص مثله متفاعل أشد التفاعل مع الأفكار ذات البعد الروحي والوجداني والميتافيزيقي والديني، ولذلك كانت أفكاره تحمل هويته الفكرية، أنها هوية بـ (أربعين وجه) إستعارة من المفكر الأيراني داريوش شايغان (1935ـ 2018م)، لكنها هوية ليست متشظية ضائعة، وإنما هوية متقبلة للآخر بمختلف تنوعاتها، وقد يحلو للبعض وصف هذا النوع بـ (التلون) والتكيف مع الأفكار بإختلاف الأزمنة والأمكنة، لكن الرفاعي ناقد للأفكار والفلسفات، وأول ما ينتقد من الأفكار أفكاره الشخصية التي تبناها في حياته الفكرية والثقافية، والتي رأى تناقض بعضها وخطأها وأضطرابها بعد سنوات طويلة من القراءة والكتابة والتفكير والتراكم العلمي والمعرفي، وهي حالة صحية يمر بها كثير من المفكرين بعد تقدم وعيهم ونضجهم الفكري وكشفهم العلمي الذي يتعرضون له في مسيرتهم المعرفية. لا بأس بهذا التحول والنضوج المعرفي إن كان إيجابياً وكاشفاً لآفاق علمية جديدة، لكن الخشية كل الخشية على الفكر والمفكر من أن يكون متعدد المناهج والطرق والمسالك، وفي كل مرة يرى حقيقة غير التي رآها سابقاً وبالتالي تتعدد الحقائق بتعدد التجارب الذاتية فتضيع عنده حقائق الامور والعلوم هذا من جانب، ومن جانب آخر نخشى من عملية التلفيق الفكري والثقافي، فيكون المفكر فقيهاً ومتكلماً ومتصوفاً وعارفاً ولغوياً وفيلسوفاً ...ألخ من حقول العلم والمعرفة، وهذا ما حذر منه المفكر العربي محمد عابد الجابري (1935 ـ 2010م) في مشروعه الفكري (نقد العقل العربي)، من وجود مفكرين ومثقفين يعملون على تلفيق الطرق والمناهج والعلوم، وهو ما أسماه بـ (التداخل التلفيقي)، فالجابري لا يخشى من البياني لبيانه، ولا من العرفاني لعرفانه، ولا من البرهاني لبرهانه، فكل هذه طرق وقطاعات معرفية مستقلة التكوين والتأسيس، ولكنه يخشى من التداخل الذي يحدثه البعض في الطرق والمناهج والقطاعات المعرفية وتفكيك هذه الطرق في طريق واحدة، فيكون البياني عرفاني، والعرفاني بياني، والبياني والعرفاني برهاني، والبرهاني بياني وعرفاني، فنجد الفقيه متكلماً، والمتكلم متصوفاً، والمتصوف فيلسوفاً، والفيلسوف متكلماً ومتصوفاً، ...الخ من التوصيفات والتصنيفات، فتضيع عملية التخصص في حقل العلوم والمعارف، وهذا (التداخل التلفيقي) في رأي الجابري هو ما فكك الثقافة العربية الاسلامية وأضاع هيبتها وجعلها في مرحلة أزمة وأنحطاط لم نخرج منها أبداً، منذ لحظة الغزالي الى يومنا هذا، على العكس من لحظة التدوين في الثقافة العربية الاسلامية التي أسست لطرق ومناهج وحقول معرفية علمية مستقلة البناء والبنية والتكوين، أسست لهيأة وهيبة مستقلة عرفت بأسم الحضارة العربية الاسلامية، لها وجودها وحضورها بين الثقافات والحضارات العالمية العالمة.

كنت في سنوات سابقة أنتقد كل من يمر بسلسلة من التحولات الفكرية والثقافية في حياته، وأعده نوعاً من التناقض والأزدواجية الشخصية والتلون الفكري، لكنني بعد ذلك أدركت إنه قد يقع البعض في ذلك الفخ، وقد يلعب البعض من المثقفين على الحبال، ولكن الأمر لا يسري على الجميع، فهناك تحولات فكرية لها ظروفها وسياقها التاريخي والنفسي والاجتماعي والفكري، ومراجعة الأفكار وتمحيصها أمر لا بد منه لكل مثقف وباحث ومفكر واعٍ ولا ينغلق على إطار فكري محدد يموت في سبيله. الأفكار مثل الأزياء والملابس والموظة، تناسب البعض ولا تناسب البعض الآخر، كما أن لها بيئة وبنية ونسق وسياق خاص لكل مرحلة ولكل شخص، وهي شبيهة بما طرحه علي الوردي في الطبيعة البشرية وما يخص الأطر الفكرية التي تحيط بالإنسان (الإطار النفسي والإطار الإجتماعي والإطار الحضاري)، وتختلف طبيعة هذه الأطر من إنسان الى آخر، ومن مجتمع الى آخر، وتتعرض هذه الأطر الى سلسلة من الصعوط والهبوط والإنفتاح والانغلاق، حسب مستوى إدراك ووعي ونضوج الشخص وتطوره الثقافي والمعرفي، وأضيف الى ذلك إن الأمر لا يخلو من حالة الكشف والتجربة الصوفية، فلكل إنسان تجربته الفكرية والحياتية التي يمر بها، ولهذه التجارب مقامات وأحوال فكرية كما هي عند الصوفي والعارف. هذه ليست من سمات التناقض والازدواجية بل من سمات الوعي والثقافة والنضوج، وهذا ما مرّ به الرفاعي أيضاً في حياته الفكرية والروحية، ولم يغلق الباب عند حد ما وصل اليه، بل هو سالك وعارف ومثقف منفتح على أوجه الحقيقة ومصادرها المختلفة. لذلك نجد تنوع وتعدد منابع الرفاعي الثقافية والفكرية والفلسفية، من علوم الدين في الفقه وعلم كلام والتصوف والفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة، فضلاً عن إطلاعه على علم أديان ومناهج فكرية وفلسفية جديدة غربية وشرقية وعربية وإسلامية، شكلت وكونت شخصية الرفاعي الثقافية والعلمية وهويته الفكرية وتنوع طروحاته المعرفية، وهو الخبير والعارف والأستاذ والمجتهد في تلك المسالك والمعارف لسنين طوال. الرفاعي الآن في السبعين من عمره، وما يدرينا لعل سنوات عمره القادمة ستشرق لنا أفكاراً جديدة وفقاً لما يحمله من أفكار وتجارب وكشف معرفي جديد يظهر له، لكنه مهما أختلفت تلك التجارب والكشف المعرفي لدى الرفاعي وإختلافها وفقاً لمرحلته العمرية التي يمر بها، يبقى الرفاعي بهوية اخلاقية واحدة متفق عليها بين الجميع، فهو إنسان يؤمن بالآخر ومحب للتسامح والسلام ومتعايش مع الآخرين ومتصالح مع ذاته، ومن دعاة النزعة الإنسانية والتوجه الديني الرحب بمختلف تنوعاته، وهو ما نشهده في سلوكه وخلقه وفكره ومؤلفاته ومعايشته للناس والمجتمع. الرفاعي إنسانٌ ومفكرٌ نيتروسوفيٌ إنسانيٌ إنسانيٌ جداً.     

***

د. رائد جبار كاظم

استاذ الفلسفة في الجامعة المستنصرية / بغداد ـ العراق

20/7/ 2024

..........................

المشاركة رقم: (18) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

تصر "الانسايوانيه" من بين مظاهر قصوريتها المرضية على اطلاق صفة "الانسان" كبداهة مفروغ منها على "الانسايوان"، مغلبة بالمطلق الاحادوية الحيوانية الجسدية على العقلية، جاعلة من العقل  عضوا من اعضاء الجسد، مثله مثل العين او الانف، مع اختلاف الوظيفة والدور، فالعقل برأيها هو اكتمال الكائن البشري وبلوغه ذروة تصيّرة وارتقائه، مع اسقاط كلي لاحتمالية حصول ماهو حاصل من انبثاق العقل بعد مليارات السنين، من الاختفاء تحت الغلبة الجسدية الحيوانيه، فالعقل الانسايواني يعود ليعتبر العقل  المنبثق اليوم ظاهرة نازلة من مكان مجهول، لامن الجسد الحيواني، ذلك لان العقل القاصر المنوه عنه، يبدا بالاساس عاجزا كليا عن رؤية الازدواج الحاكم للوجود الحياتي العضوي، وللتصير الحيواني والانسايواني، وهو ما يظل يحكم النظرة الانسايوانيه بناء عليه للمجتمعية ونمطيتها.

لماذا لا تكون الوثبة العقلية وثبة اولى ابتدائية، بانتظار اخرى تكون متخلصة كليا من رواسب واثر الحيوانيه ومفاعيلها الطويلة،ومتبقياتها الحاجاتيه المستمرة والباقية فاعلة تحد من عمل العقل وفعاليته الصافية التي من طبيعته ونوعه،  بما يمكن ان ينبه الى احتمالية  فعل الحافز الرئيسي  الذي اسقط بداية الهيمنه الكلية شبه المطلقة الجسدية الحيوانيه، ليستكمل العملية العظمى التحولية التحررية من متبقيات الجسدية الحاجاتيه، اي الحافز التحولي الشامل للوجود الحي والكوني، غير المتروك على عواهنه بلا قانون ومستهدف اعلى،  وان يكن مايزال خارج الطاقة الادراكية المتاحة للكائن البشري بصيغته  العقلية الافتتاحية غير المكتمله، وحتى حين تتردد تعريفات من نوع "الحيوان العاقل"، فانها لاتطلق استدلالا على المؤقتيه، بقدر ماتثبت كصفة نهائية ترى لاعلى مايمكن للكائن الحي البشري ان يبلغه.

والحال فان عملية النشوء والترقي تتوقف مع ظهور الكائن "الانسايوان"، واذ يقرر دارون كمثال بان العضو البشري بلغ منتهى واعلى اشكال تطوره الذي لاتطور بعده، فانه يعجز عن ان يتبين مفرقا بين العضو الجسدي من متبقيات الحيوانيه والمكون الاخر العقلي  ضمن الازدواج العضوي الحي، مع ان كل القرائن التي بالامكان ملاحظتها تقول بان العقل البشري حين يثب وثبته الاولى، يصبح هو مادة وعنصر الترقي الرئيسي وان تطوره يغدو هو الناظم الفعلي للوجود البشري، اي اننا نكون امام عنصر من عناصر الازدواج قد انتهى وشارف على الانتهاء والجمود قبل الموت، واخر وثب وثبته الكبرى الاولى وهو ذاهب من دون توقف تصيرا  وترقيا نحو منتهى وثوبي اخر، في الوقت الذي يكون فيه العنصر الجسدي قد صار بوضوح عامل فعالية ترقوية تتعداه الى ماهو مختص ومتعلق بالعنصر الاخر المستمر تشكلا ونموا، بغض النظر، لابل  وبسبب جموديته  وعدم خضوعه خلال هذا الطور من الانتقالية التصيرية لاية دالات على استمرار النمو والتشكل.

يعيش الكائن البشري "الانسايوان" شروط الانتقالية الكبرى من الازدواج العقلي بالغلبة الجسدية/ الحيوان، الى "الانسان/ العقل" شكل الكينونه الوجودية المتطابقه مع اشتراطات الاستمرارية التحولية ضمن الكون الاعلى، خارج "الكون المرئي" الحالي وطبعا خارج الكوكب الارضي بعد انتهاء مهمته الكبرى التاسيسية، وهو يمر بطورين من الترقي العضوي، الاول مزدوج جوهره التحولي الترقوي عقلي، والثاني  الذي يبدا مع وثبة العقل والانتصاب على قائمتين، "عقلي" صرف، الجسدية  غير مشموله به الابصفتها عنصرا مساعدا على اكتمال عناصر الترقي العقلي الذاهب الى مابعد جسدية ارضوية ومتبقياتها.

ان ابرز واخطر مناحي الترقي العقلي المنفرد،  خضوعه ادراكا وتعرفا لمنطق القصورية الادراكية "الانسايوانيه"، وهو مايشمل اجمالي مقومات الوجود واليات الحركة التاريخيه ابان الطور المذكور بما يضع اجمالي الحركة المجتمعية والوجودية خارج الادراكية، بغض النظر عن حقيقتها او ماقد تنطوي عليه من احتماليات من نوعها، موافقه لطبيعتها بما في ذلك احتماليات التناقض الاقصى الخطر، الناجم عن التفارقية  القصوى بين "الواقع" و "الرؤية" المواكبه، ومن ذلك  موضوع المجتمعية المستجده مع الالة والعقل، ومساراتهما، ونوع فعلهما المستجد المضاف الانقلابي.

الامر المفضي الى اختلال بغاية الخطورة ناجم عن تراكمات التناقضية المستمرة، بين حركة الاليات المستجده وفعلها المتفق مع كينونتها، وحدود ومحدودية نطاق الوعي بها، علما بان مايشار اليه لايكون غائبا او خافيا عن مايعد ادراكية حداثية متطورة ومقاربة للمعتبر "علميا"، وبالذات بما خص جانب الظاهرة المجتمعية و "علم الاجتماع" الانسايواني "اخر العلوم" التوهمية الغربية الحداثية، مع اغفال الجانب الجوهر في النمطية الاجتماعية، "الازدواج" المناظر لازدواجية الكائن البشري بنية، مع العجز عن مقاربة ثنائية( المجتمعية اللاارضوية/ المجتمعية الارضوية)  اساس وقاعدة الوجود المجتمعي، ونوع نمطيته التفاعلية الموافقة لمسارات الترقوية العقلية، واغراضها ومقصدها النهائي.

ومع التفاصيل التي يمر بها العالم والمجتمعت تحت طائلة التناقص والغفله عن المسارات المستجدة،  يضيع في السياق اهم عنصر في الرؤية الواجبه اليوم للعملية المجتمعية وتفاعليتها بعد دخل العنصر الالي على البنية المجتمعية البيئية البشرية الاولى اليدوية، ودخول المجتمعات عصر العوامل الفاعلة الثلاث بدل الاثنين، ومايولدنه بتفاعليتهن من احتمالية حضور العنصر الرابع مع الصحوة العقلية الكبرى "اللاارضوية" التي تبقى طيله الطور اليدوي غائبة ومن غير الممكن الاقتراب من عالمها، فضلا عن ادراكها، والمهم هنا هو مايعود الى التسارعات الطارئة على عملية التفاعل المجتمعي الارضوي الانسايواني، مع تعدد عناصر التفاعلية  ضمن الكينونه المجتمعية، مايجعل من وتائر الديناميات المجتمعية الارتقائية التطورية،  فوق مامتاح ومامتوفر من اسباب المقاربة والتعرف.

ومع الايمان الراسخ الكلي الارضوي ومفاهيمه وتصوراته، لن يظهر مايمكن ان يلفت النظر الى انتهاء الامد الارضوي، والى تسارع آليات انتهاء الدولة والكيانيه والوطنيه الارضوية اوربيا ابتداء، ومع حضور الكيانيه الامبراطورية  المفقسه خارج الرحم التاريخي الامريكية الايله اليوم الى الانهيار، مع كل متبقيات المنظور المنتهي الصلاحية الارضوي الباقي معتمدا  باصرار، تمهيدا للدخول في الطور الاضطرابي المتسارع الاكبر الذي يخيم من هنا فصاعدا على المعمورة، ليدخلها في الفوضى والتناقضية العملية بين الوعي والواقع المستجد الذي صارمطلوبا حكما، والذي كان ويظل غائبا عن قدرة الانسايوان العقلية على المقاربة والادراك.

***

عبد الامير الركابي 

"يجب اعتبار الإنسان كائنًا حرًا، وجديرًا بالاحترام"... عمانويل كانط

تمهيد: إذا كان بوسعنا أن نتحدث عن البشر والأشياء، فذلك لأن لديهم واقعًا ملموسًا لا جدال فيه، على الرغم من أنه من المحتمل جدًا ألا يكونوا موجودين. ولكننا لا نفهم أن نساوي الإنسان بالشيء، أو أن ننسب إليه نفس القيمة. فحتى أقسى المجرمين لا يمكن تجريدهم من مكانتهم كإنسان. لذلك هناك فرق جوهري بين الأشياء والبشر. لكن على أي أساس هذا الاختلاف؟ لماذا يبدو من المشروع إعطاء قيمة أكبر للأشخاص من الأشياء؟ هل يوجد البشر بنفس طريقة وجود الأشياء؟

إن مجرد حقيقة الوجود، وحقيقة الموجود، لا يعطي الأشياء في الواقع بُعدًا استثنائيًا.

1. ما هو الشيء المشترك بين الأشياء والأشخاص؟

اولا.: هذه هي الحقائق القائمة

كلمة "شيء" لها معنى واسع جدًا، وفي اللغة اليومية، تُستخدم للإشارة إلى جميع أنواع الكائنات. ولكن مهما كانت طبيعة هذه الأشياء، فإن كلاً منها يتوافق مع واقع ملموس ومحدد. كلمة "شيء" تأتي من الدقة اللاتينية التي أدت إلى ظهور كلمة "واقع" باللغة الفرنسية. ومن ثم فإن الشيء ينتمي إلى الوجود: الشيء هو، في مقابل العدم الذي، بحكم التعريف، ليس موجودا. ولذلك فإننا نفهم هنا من مصطلح "الوجود" الحقيقة البسيطة المتمثلة في معارضة كل ما هو غير موجود. وبهذا المعنى الواسع للغاية، يمكننا أن نؤكد أن الأشياء والناس موجودون: إنهم موجودون، لأننا نستطيع أن ندرك حقيقتهم عن طريق حواسنا.

ب. وجود محدود ومؤقت

لا شيء في العالم يمكن الحكم عليه بأنه أبدي – إن لم يكن الله، فلا يزال يتعين علينا أن نؤمن بوجوده. كل شيء قابل للتغيير والمرور. ومع ذلك، يمكن لأشياء معينة أن يكون لها وجود طويل جدًا (الجبال موجودة منذ ملايين السنين) وهو ما يتجاوز بكثير عمر الإنسان. لكن الطبيعة تخضع لإيقاع الصيرورة والتغيير الدائم. وهكذا، يرى أفلاطون أن كل شيء في الطبيعة له نمط وجود متقلب وعابر. بالنسبة له، الأفكار وحدها هي التي لها كائن دائم يفلت من الحركة. والإنسان ليس استثناءً: فهو بطبيعته كائن سريع الزوال وعابر. تميزه المحدودية: وجوده محدود، محدود بالولادة والموت. فالإنسان، على الأرض، لا يمر إلا عبر الأشياء تمامًا. حتى لو أراد ذلك، فلن يتمكن أبدًا من الهروب من هشاشة الوجود والوصول إلى الأبدية. ولكن إذا كان الإنسان محدداً بالواقع والمحدود، فلا يمكن أن نقول إنه اختزل إلى هاتين الصفتين.

2. الناس يميزون أنفسهم عن الأشياء

اولا: طريقة وجود الشيء: الواقعية والفورية

الشيء موجود دون أن يعي وجوده: فهو موجود، لكنه لا يعرف أنه موجود. يولد النبات ويتغذى وينمو ويموت، لكنه لا يعلم أنه يمر بهذه العملية الحياتية. وينطبق الشيء نفسه على الأشياء المادية التي صنعها الإنسان. وهكذا يقول هيجل أن “أشياء الطبيعة لا توجد إلا على الفور وبطريقة واحدة، في حين أن الإنسان، لأنه روح، له وجود مزدوج؛ فمن ناحية يوجد بنفس الطريقة التي توجد بها الأشياء في الطبيعة، ولكن من ناحية أخرى فهي موجود لذاته، فهي يتأمل نفسها، وتمثل نفسه لذاتها، وتفكر ولا تكون إلا روحًا من خلال هذا النشاط الذي يشكل كائنًا من أجل ذاته بحد ذاتها." (دروس في علم الجمال ، 1832). سنتحدث بعد ذلك عن "الواقعية" للإشارة إلى حقيقة وجود الأشياء.

ب. طريقة وجود الإنسان: الوعي والعلاقات الذاتية

أما بالنسبة للإنسان، فالأمر مختلف تمامًا، كما عبر عن ذلك هيغل: فالإنسان لا يكتفي بوجوده في وضع معين، فهو واعي به وله علاقة به. يتيح له هذا الوعي تمثيل نفسه والتفكير فيما هو عليه وما يريد أن يكون. لتعيين هذا النمط من وجود الإنسان، يتحدث هيجل عن “الوجود لذاته”: فهو بذلك يعين حقيقة كائن يرتبط بذاته ويعود، في نوع من الدائرية، إلى نفسه. أن تكون واعيًا يعني أن تعرف أنه موجود. يغطي مفهوم "الوعي" عدة وجهات نظر. في الواقع، يمكن تعريف الوعي الإنساني وفق أربع طرق:

* هو الوعي الذاتي: أن يعرف الإنسان وجوده ويعتبر نفسه فرداً متميزاً عن الآخرين، سيداً لقراراته وأفعاله.

* إنه الوعي بالآخرين: لا يستطيع الإنسان أن يعيش منغلقاً على نفسه، والوجود الإنساني كله يتطلب إقامة علاقات مع الآخرين. وتشكل هذه العلاقات إمكانية وجود مجتمع تنتظم فيه الحياة وفق القوانين.

* إنه الوعي بالعالم الخارجي: الإنسان منفتح على العالم من حوله وهو، بحسب تعبير هيدجر، "ملقى في العالم". وهكذا فإن الإنسان يتميز عن الحقائق الأخرى لأنه يعي انتمائه إلى العالم من ناحية، ولأنه يعلم أنه فانٍ من ناحية أخرى.

* هو الوعي بالزمن: فالإنسان لا يعيش في الحاضر، بل يرتبط بالماضي (من خلال الذاكرة) وبالمستقبل (من خلال المشاريع التي يشكلها). إنه دائمًا يتجاوز الحاضر ويتجه باستمرار نحو ما لم يعد أو نحو ما لم يعد موجودًا بعد.

ولذلك فإن الإنسان موجود بطريقة أكثر تعقيدًا ومتعددة الأوجه من الأشياء. ألا يمكننا أن نضيف أنه الوحيد الموجود؟

3. الشيء هو ما دام الإنسان موجودا

اولا: الوجود هو فكرة إنسانية حقا

لقد اعتبرنا حتى الآن أن مصطلح "يوجد" يعادل "أن يكون". ومع ذلك، فإن فكرة الوجود يتجاوز بشكل جذري فكرة الماهية. الأخت السابقة، إذا أشرنا إلى أصل الكلمة، تعني "أن تكون بالخارج" (ex باللاتينية)، وليس أن تتزامن مع نفسك. لا يوجد الإنسان أبدًا في المكان الذي يُتوقع منه ولا يتطابق أبدًا مع نفسه تمامًا. هذا الكلام ذكره سارتر، في الوجودية مذهب إنساني، من خلال فحصه لمفهوم الطبيعة البشرية، يؤكد أن "الوجود يسبق الماهية" في الإنسان. الإنسان موجود أولا، ثم يحدد ما هو عليه. ولذلك لا يمكننا، بحسب سارتر، أن نعطي تعريفًا للطبيعة، أو الماهية الإنسانية: فالإنسان، في الأصل، ليس شيئًا. هو ما يفعله بحياته (وجوده) سيحدد من هو. ولأن الإنسان ليس شيئًا عند ولادته، فإنه "محكوم عليه بأن يكون حرًا": فخياراته وأفعاله ستجعله ما سيصبح عليه.

ب. الإنسان حر، أما الشيء فهو محدد

ليس للشيء القدرة على اختيار اتجاه أفعاله. ليس لديه إمكانية تغيير اتجاه الحركة التي فرضتها عليه قوة خارجية. الحجر الذي يتدحرج على منحدر يخضع للقوانين الفيزيائية؛ فلا يمكنه أن يختار الاستمرار في الحركة أو إيقاف الحركة. وعلى العكس من ذلك، فإن الإنسان لديه القدرة على أن يكون أصل أفعاله. إنه حر، أي أنه يستطيع أن يختار ويفعل وفقًا لما قرر القيام به. يُظهر سارتر أنه لا توجد حتمية للإنسان. لدى الإنسان القدرة على أن يقرر ما يريد أن يفعله بوجوده. ان الحرية هي أساس الأخلاق، كما يوضح كانط: فقط الكائن الحر في اختيار أفعاله هو الذي يمكن مدحه أو معاقبته لأنه تصرف بشكل جيد أو سيئ. ولذلك، فإننا ندين بالاحترام للأشخاص وليس للأشياء. وحده الإنسان، لأنه حر، هو في الوقت نفسه "مسؤول": فهو في الواقع يجب أن "يجيب" على أفعاله. الإنسان وحده هو الذي يفتح إمكانية وجود عالم يتسم بالقيم الأخلاقية. ألا تشكل الأشياء الطبيعية والمصنوعة النافع في الكون؟ ألا يكون البشر هم الأجدر بالكينونة؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

..........................

المصادر

Kant Emmanuel, Fondements de la métaphysique des mœurs (1785)

Sartre Jean Paul, L’existentialisme est un humanisme (1946)

 

تقف البشرية على حافة الانتقالية العظمى الاعظم  غير المدركة، من "الانسايوانيه" وقد غدت منتهية الصلاحية والضرورة، الى "الانسان"اتفاقا مع المسار التصيري الترقوي للكائن الحي من " الحيوان" الى "الانسايوان" كمحطة وسطى، ذهابا الى المحطة الاخيرة، والغاية الوجودية العظمى، "الانسان"، وبعد الازدواج الطويل الحيواني والانسايواني (عقل/ جسد)، مع مراحل الغلبة الحيوانيه شبه المطلقة الاولى، ثم الحضور العقلي في الثانيه، تسير آليات الارتقائية من هنا فصاعدا باتجاه الوحدانية العقلية المستقلة، حيث ياخذ العقل بالتحرر من الجسدية ومتبقياتها، والعالق الحيواني المترسب منها.

فلنتخيل هول وفداحة، ومافوق استثنائية مانحن مقبلون عليه، مما لاسابق ولا شبيه له من قريب او بعيد، الامر البديهي بحكم اشتراطات "الطور الزمني والوجودي"، حيث الغلبة المطلقة للمنظور والرؤية والمعتقد الساري على مدى القرون، مع مايوافقه من زوايا نظر لمفهوم "الحقيقة" و "الواقع" وال"عقلاني"، نتاج ومايوافق الكينونة الحاكمه للوجود البشري الحالي على مدى الزمن اليدوي، وماقد تعزز بقوة  مع التوهمية الاوربية مابعد اليدوية كافتتاح نكوصي لابد منه، مواكب لبداية الانقلابيه الالية.

وليس واردا ولاممكنا مقارنه مانحن بصدد لفت الانتباه له، مع اي من حالات التغيير او التحولات و ماعرف بالثورات المعاشة كتاريخ تصيري حاكم لمسار المجتمعيات البشرية ابان الطورذاته الموشك اليوم على الانقضاء، فما مقصود هنا نمط ونوع انقلابيه تحولية غير مدركة، متجاوزه للمتاح من حدود الادراكية العقلية حتى حينه،لايمكن ان تخطر على بال الكائن البشري الحالي الانتقالي، وهي تقتضي كمبدا ومنطلق لاغنى عنه مطلقا، النظر عند المقارنه بحالات ومحطات التحول والانقلابيه التصيرية الفاصلة والعظمى الاسبق،  وبالذات تلك التي من نوع على سبيل المثال الوثبة العقلية الاولى، مع انتصاب الكائن البشري على قائمتين واستعماله اليدين، وماترتب على ذلك من متغيرات كينونه وبنية، من الحيوانيه الى "الانسايوانيه" كعتبة لازمة قبل الانتقال الى "الانسانيه"، المعتبرة قصورا وجهلا متحققه في حينه عند ساعة انبلاج العقل بصيغته الاولى الانسايوانيه، الباقية محكومة لاشتراطات الحاجاتية والارضوية الجسدية، ولنتخيل بناء عليه عظم العملية المشار اليها وفرادتها النوعية، انما من دون ان نفترض ـ كما يذهب العقل الانسايواني التكراري عادة ـ الى افتراض المرور بطبعه اخرى مما سبق، حيث يكون اللازم حكما وضرورة، التفريق بين ماض من التصيرية المنتهية مع تشخيص العنصر الحاسم فيها، وحاضر تبدل وغدت عناصره الفاعله مختلفة بحكم السيرورة والتراكم ونوع المتغيرات في عناصر التفاعليه المجتمعية، مع حصيلة التبدل وتفاعليته التاريخيه، فالكائن البشري ظل يستند في وجوده وانتقالاته قبل الوثبه العقلية  الحالية المعاشة، وواصل التغير متصيّرا، مستندا لقوة  وشمولية مفعول الطبيعة / البيئة، كعنصر حيوي اساس وحي، هو الافعل حصرا في  التصير الارتقائي العضوي، الامر الذي لم يعد هو نفسه مع حضور العقل وممكناته، وماهو مهيأ لبلوغه كحصيلة.

هذا يعني ان التصير الترقوي الحيوي هو عملية لم يكن للعقل او الارادة فيها مكان، وكانت تحدث خارج وعي الكائن الحي وتدخليته، مع انه هو موضوعها، بينما تغير الامر لاحقا وبعد حضور الالة وقبلها العقل، ليصبح عملية واعية، الادراك حاضر اساس  وضرورة لامعدى عنها فيها، الامر الذي لايمكن اطلاقا مشابهته بما قد سبقه من تحولية تصيرية بمحطاتها الترقوية ماقبل العقلية، فالانقلاب الراهن التحولي  مرتكزه اداة ووسيلة مادية هي ماتتمخض عنه الالة تكنولوجيا اولا، لاتكتمل فعالية الا بالقفزة الادراكية على مستوى الرؤية والنظر للوجود  فيلتقيان .

ومع اننا نتحدث عن استكمال للوثبة العقلية الاولى القصورية الناقصة، الاان المقارنه بين المحطتين التحولتين غير واردة، لان الثانيه هي الاكتمال الضروري للاسباب، مع نتائجه ومترتباته التي ينطوي عليها، ومن نوعه ومستواه، بعد ان يوفرها الزمن والتفاعل، وحضور عنصر اساس نوعي فعال مستجد، هو الالة، والى وقته فان  المحدودية الاعقالية تظل هي السائدة، بانتظار توفر الاشتراطات المناسبة نوعا، والنهائية اللازمه للانتقال الاكبر،مالايمكن تحققه وقتها خلال الطور الانتقالي الحالي "الانسايواني"،  ليبقى السؤال: ترى مالذي يهيء لابل يكمل الاسباب او المستلزمات الضرورية للعقل البشري، كي يبلغ لحظة ومنعطف تجاوز قصوريته "الانسايوانيه" العقلية الى مابعدها.

تلعب الضرورة الشاملة  والديناميات التحولية العليا هنا دورا اساسيا كقانون، وهي تهيء الاسباب والموجبات الضرورية لضمان سير عملية التفاعل التصيري المجتمعي والبيئي  وصولا الى الالي، وقت تصبح المجتمعات على مستوى الديناميات ( كائن بشري/ بيئة/ الة / عقل) بعدما كانت عند الابتداء وحدة (الكائن الحي / البيئة) فقط ثم ( الكائن البشري / البيئة/ العقل بصيغته الاولى القاصرة الابتداء) طالمااستمر الطور اليدوي هو الغالب، الى ان حدث الانقلاب الالي بصيغته المصنعية كبداية، قبل ان ينتقل الى الطور التكنولوجي الاول الانتاجي الراهن، وقبل ان نصير على مشارف الطور التحولي النهائي، حيث ( الكائن البشري/ البيئة/ العقل/ والتكنولوجيا العليا العقلية)  والتي صار انبجاسها من هنا فصاعدا لازما ووشيكا، منهية وطاة الجسدية وحضورها وما متبق من وطاة حاجيتها.

ان منظورات الانسايوانية الاحادية التبسيطية التابيدية، لاترى في المجتمعات الا صيغة وحيدة واحدة مفردة، متغافلة عن التحورات وتبدل عناصر التفاعل داخلها، وبالاخص تلك التي تفرض عليها الذهاب من المجتمعية الارضوية الحاجاتية، الى اللامجتمعية المقترنه بحضور الوسيلة الانتاجية العليا، نتيجه التحول الالي الذي لايمكن للاحاديون ان يروا فيه الا شكلا وحيدا هو الاخر، يجدونه ثابتا مثلما يكون عند الابتداء،  تلك الفترة الافتتاحية المصنعية الاقرب الى اليدوية التي سبقتها.

من ناحية اخرى يعجز العقل الانسايواني عن ترسم مواطن وممكنات الانقلاب العقلي المتجاوز للقصورية الاولى الارضوية التابيديه، وهنا يقع العقل "الانسايوان" باخطر واكبر مناحي  غفلته الطويلة والتي تظل مستمرة لمابعد الانقلاب الالي، ولان العقل الارضوي ادنى طاقة من ان يتعرف على "الازدواج" المجتمعي الملازم ابتداء للتبلور المجتمعي، فان ظاهرة المجتمعية "اللاارضوية" الذاهبة بنية وكينونة الى مافوق ارضوية، لاتتبينها الارضوية، وتعجز عن رؤيتها على امتداد الزمن اليدوي، وتستمرعلى مثل هذه الحال الى مابعد التحول الالي الى التكنولوجيا الانتاجية الراهنه، مايعزز ميلها الحرج  شديد الخطورة، ويحول بينها وبين ان تعي احتمالية تتزايد الحاحا، متناسبة مع مقتضيات وشروط الضرورة الانقلابية المجتمعية المتعدية للارضوية وللانسايوانيه، ذلك علما بان اللاارضوية ليست بالظاهرة العرضية، ولا المستجده، وانها بالاحرى تنشا بالاصل كينونه مستقله ومباينه للارضوية، وتظل تخترق البنى الارضوية الاحادية من بدايات التبلور المجتمعي، مايكرس على مستوى المجتمعات البشرية ظاهرة الازدواج على مستوى المعمورة، الامر الذي تظل الارضوية تجهله  فتطرده الى عالم "الدين"، نازعة عنه خلفيته المجتمعية النوعيه، عجزا مكررا عن مقاربتها من ضمن عجزهاالقصوري عن ادراك الحقيقة المجتمعية  والانسانية الكونية، واليات تصيرها، ونوع منتهياتها واهدافها.

***

عبد الامير الركابي

رواسب الايكولوجيا الريفية في سيكولوجيا الشخصية العراقية

حين نتحدث عن أنثروبولوجيا المكان، فننا نقصد بذلك تلك الشبكة المعقدة والمتداخلة من الترسبات الأسطورية والخرافية، والانتماءات القبلية والعشائرية، والتضامنيات الأسرية والقرابية، والتواضعات العرفية والأخلاقية، والاعتقادات الدينية والمذهبية، والمرجعيات التاريخية والرمزية، والأرومات اللغوية واللهجية . وهو الأمر الذي قلما انتبه الى مراعاة أهميته وتقدير ضرورته في البحوث والدراسات من لدن الكتاب والباحثين في الشأن السوسيولوجي العراقي، لاسيما بعد تداعيات الأحداث الدراماتيكية الناجمة عن الغزو الأمريكي واحتلال العراق عام 2003، وما تمخض عنها من إشكاليات بنيوية وأزمات سياسية وصراعات سياسية وانقسامات ثقافية واستقطابات مناطقية .

ورغم كثرة التآليف – الثقافية والأكاديمية – التي تصاعدت كمياتها وتضاعفت نوعياتها في الآونة الأخيرة، والتي منحت للعوامل الايكولوجية والجغرافية والطوبوغرافية الأهمية التي تستحقها في إطار دراسة التأثيرات التي تمارسها على كينونة الشخصية الاجتماعية، لجهة تأطير وعيها وتنميط سلوكها وتأثيث مخيالها . إلاّ انه من النادر – رغم ذلك - العثور على بحث أو دراسة استطاع كاتبها التوغل بعيدا"في شعاب الذاكرة التاريخية ومتاهات اللاوعي الجمعي والجماعاتي، بغية الوصول الى الرواسب القارة والطمى المتراكمة التي خلفتها تلك العوامل، ليس فقط على تكوين التصورات وتشكيل العلاقات للأجيال التي عاصرتها واندرجت في سياقاتها فحسب، بل وكذلك للأجيال اللاحقة التي ورّثتها بدورها لمن يأتي بعدها وفقا"لأواليات وديناميات عمليات (المجايلة) بين السابقين واللاحقين .

وربما تجاسر البعض من الباحثين الجدد على الخوض في غمار مثل هذه المغامرات السوسيولوجية والانثروبولوجية والسيكولوجية، من باب إشباع الفضول المعرفي وتحدي الذات في القدرة على تحليل الظواهر وتأويل مآلاتها، بيد أنه مع ذلك لم يكن بوسع هؤلاء الوصول الى نتائج مرضية أو الحصول على إجابات شافية، تضيف للقارئ حصيلة ثقافية – معرفية الى ما يتوفر عليه من معلومات جزئية وتصورات مبتسرة حول سيرورات وديناميات الظواهر الاجتماعية المتناقضة والمتصارعة . ذلك لأن المديات المعرفية والمنهجية المتاحة أمام مساعيهم غالبا"ما اقتصرت على احتمالين لا ثالث لهما ؛ أما تناول الظاهرة قيد البحث والدراسة بمعزل عن بيئتها الحاضنة أو بعيدا"عن محيطها المؤثر، بحيث تبدو كما لو أنها خرجت من رحم العدم بلا تراكمات أو مقدمات من جهة، وأما لجوئهم الى تقطيع السيرورة التاريخية الى أجزاء متنافرة وأقسام متناثرة، ليصار من ثم حصر تركيزهم على (مرحلة) تاريخية ما أو صبّ اهتمامهم على (لحظة) زمنية ما، كان حضور / وجود الظاهرة المعنية ضمن سياقاتها المتحولة والمتبدلة طاغ أو بيّن .

وعلى إيقاع مثل هذه الضروب من البحوث والدراسات المبتسرة، فقد أضاع الكثير من الكتاب والباحثين العراقيين على أنفسهم العديد من الفرص الذهبية التي كان من المفترض اهتبالها للحصول على نتائج ابستمولوجية ومنهجية قيمة، لاسيما وان دراماتيكية الانقلابات والتحولات والانزياحات التي شهد وقائعها وتداعياتها المجتمع العراقي بعيد زمن السقوط، قدمت من وفرة المعطيات السوسيولوجية وغنى الانثيالات الانثروبولوجية، فيما لو تم الاعتماد على المنهجيات الجدلية والمقاربات التركيبية والمنظورات التفاعلية، التي من شأنها جعل الباحثين أقرب الى ماهية الظاهرة المقصودة، وأقدر على استيعاب سيرورتها وتتبع مساراتها وتوقع مآلاتها .

وفي هذا الإطار، فقد تحيّر الكثير من الكتاب والباحثين في الشأن العراقي إزاء تواتر وشيوع ظاهرة القيم والسلوكيات (القبيلة والعشائرية) في المجتمع العراقي، الذي اعتقد أن معظم جماعاته السوسيولوجية ومكوناته الانثروبولوجية قطعت شوطا"بعيدا"في مضمار التمدن العمراني والتحضر الإنساني، على خلفية التوهم أنها قد تجاوزت أصولها الريفية وتخطت مواريثها القروية منذ عدة أجيال . بحيث وقف أولئك (الكتاب والباحثين) عاجزين عن إيجاد تعليل منطقي وتفسير مقنع لاستمرار تلك القيم والسلوكيات فاعلة، ليس فقط على صعيد مظاهر (الأريفة) العمرانية التي باتت تجتاح المدن الرئيسية ومنها العاصمة بغداد، كما لو أنها تستعيد حوادث دمارها وخرابها على يد هولاكو وجنكيزخان فحسب، وإنما على صعيد استشراء مظاهر (البدونة) الحضارية التي استمرأ الانخراط في أتونها أفراد المجتمع وجماعته على حدّ سواء .

ومن هذا المنطلق، يتبين لنا ان رواسب الايكولوجيا (الريفية) في سيكولوجية الشخصية العراقية من الرسوخ والثبات، بحيث عجزت كل أنماط الميول (المدنية) والدوافع (الحضرية) اللاحقة – رغم محاولات المجاميع السكانية في المدن العراقية - عن محوها من الذاكرة التاريخية واجتثاثها من السيكولوجيا الجمعية . وبدلا"من أن يتراجع مدّ تلك الرواسب والمخلفات أمام عنفوان المدّ المديني والحضري الذي اجتاح المكونات الديموغرافية للمدن، فإذا بها تتحول الى ما يشبه الحواضن التي لم تبرح تتناسل في بيئتها كل ما له صلة بالقيم (البدوية) و(الريفية) و(القروية)، التي توهمنا – كما توهمنا في معظم توقعاتنا وتصوراتنا - في يوم ما أن مظاهر التوسع العمراني الكاسح تكفلت باندثارها وتلاشيها الى الأبد .

وهكذا، فما أن تحل نازلة – وما أكثرها - على أرض الواقع الاجتماعي، بحيث تحرك الرواكد وتثير السواكن القارة في قيعان السيكولوجيا وبين طيات المخيال، حتى تتصدر الأصول (البدوية) و(الريفية) التي كانت مضمرة شتى مجالات الفضاء العمومي للمكونات السوسيولوجية بمختلف مواقعها ومستوياتها، مقابل تراجع وانحسار الميول (المدينية) و(الحضرية) لهذه الأخيرة، والتي كانت على الدوام تعاني الهشاشة في بنيتها من جهة، والرثاثة في قيمها من جهة أخرى . ذلك لأن مواريث الايكولوجيا الريفية / القروية التي عاشت في كنفها وتغذت على قيمها أجيال متوالية من الجماعات العراقية، حفرت لها أخاديد غائرة داخل بطانة اللاوعي الجمعي وبين تلافيف الذاكرة التاريخية، بحيث ان الموقف الذي يتبناه والتصرف الذي يمارسه الإنسان العراقي المعاصر حيال الأحداث والوقائع التي تستفزّ حياته وتستثير تفكيره، لا ينبع فقط من مجرد إدراكه الآني والمباشر المبني على حيثيات المعطى المعيش فحسب، وإنما هو تمتح من معين لا ينضب من تصورات وتمثلات ورمزيات أنتجتها شبكة واسعة ومعقدة من الانتماءات الجغرافية - المكانية، التضمانيات القبلية – العشائرية، والتراكمات الاسطورية – التاريخية، والتفاعلات القيمية – العرفية، والولاءات المذهبية – الطائفية .

***

ثامر عباس

ترجمة وتعليق: عبد الوهاب البراهمي

(فالفلسفة؟ قال: كلام مترجم، وعلم مرجم، بعيد مداه، قليل جدواه، مخوف على صاحبه سطوة الملوك وعداوة العامة)... الجاحظ (أورده الثعالبي في اللطائف والظرائف)

"إن مثل من منع النظر في كتب الحكمة من هو أهل لها، من أجل أن قوماً من أراذل الناس قد يظن بهم أنهم ضلوا من قبل نظرهم فيها، مثل من منع العطشان شرب الماء البارد العذب حتى مات من العطش، لأن قوماً غرقوا به فماتوا" ابن رشد " فصل المقال .."

مدرسة أثينا - رافائييل

"لا ينحت الخطاب الفلسفي تماثيل جامدة، بل يريد أن يجعل ممّا يلامسه، شيئا نشطا فعّالا وحيّا ؛ إنّه يستثير زخما حركيا، وأحكاما لأفعال نافعة واختيارات لصالح الخير ".

بليتارخوس (Plutarque).

"جاء (ماندرات دي بريين) احد تلاميذ طاليس يوما إلى معلّمه وسأله:" أي مكافأة تريد، معلمّي، كي أعبّر لك بها عن امتناني لكل التعاليم الحسنة التي أدين لك بها؟" فأجابه:" حينما تتاح لك الفرصة لتعليم تلاميذ آخرين، عرّفهم بأنّي أنا صاحب هذا المذهب؛ فسيكون ذلك بالنسبة إليك تواضعا جديرا بالثناء، وبالنسبة إليّ، مكافأة ثمينة".

***

"ما هي المنزلة التي يحتلها الفيلسوف في المدينة؟ ستكون منزلة نحات، ينحت البشر، منزلة صانع يصنع مواطنين صالحين ومحترمين . لن يكون له إذن من مهنة، سوى تطهير نفسه وتطهير الآخرين كي يحيوا الحياة المتوافقة مع الطبيعة، تلك التي تلاؤم الإنسان. سيكون أبا مشتركا وبيداغوجيا لكل المواطنين، مُصلحهم ومرشدهم وحاميهم، يهب نفسه للجميع حتى يشارك في استكمال كل خير، فرحا مع أولئك الذين تغمرهم السعادة، متعاطفا مع أولئك الذين أصابهم الحزن ومواسيا لهم ".

" إيبكتات " الدليل المختصر" 32- سطر 154 نشر " هادو"، لايد، بريل 1996.

***

" ليس الفيلسوف وحيدا، فهو لا ينفصل عن تلاميذه وعن أتباعه وخصومه. وهو لا يتوصّل إلى الأشكال المكتوبة والقارّة لعمله إلاّ في نهاية السّباق. نحن في النهاية إزاء مسرح أكثر منه مقالة، وإزاء حوارات أكثر منه مناجاة وإلى درس أكثر منه كتابا. إنّ النموذج البدهي هو سقراط وأفلاطون، اللذان استطاعا أن يضمنا للفلسفة، بتأسيسها كحقل معرفيّ، وجوب أن تشيّد في أيّ مكان، في المتعدّد من العالم. نعم، تقريظ الفلسفة بوصفها إبداعا عموميّا لفكرٍ، بابتكاره نفسه وانتقاله إلى أيّ مكان، متحدّثا إلى أيّ كان عنّ أيّ شيء مشتغل عليه من جديد، يبتكر مَسْرَحَةَ الكائن، بما هو كائن." آلان باديو (تمهيد كتاب" تقريظ الفلسفة ") .

***

* لن يكون للفلسفة من شرعية ولا نفع ولا حتّى وجود خارج مجرّد المحافظة على شبه البقاء

الجامعي الأكاديمي، إن هي اكتفت بأن تكون محض تمرين لا طائل من وراءه للتفكير النرجسي

في ذاتها، تطرح استنادا إلى ذاتها المواضيع التابعة لتراثها الخاص، تلوكها وتجترّها بكيفيّة

غير محدودة". هابرماس "لم تصلح الفلسفة ؟" ملامح فلسفية وسياسية.

مقدّمة المترجم:

يقول برتراند رسّل بأنّ " الفلسفة لا تستطيع أن تبرّر مشروعية وجودها وقيمتها بالنسبة إلى الآخرين، وفق منطق النفع والمصلحة "، فليس لها من مشروعية سوى ما يخصّها كقول، كمعقولية مخصوصة، مشروعية داخلية بوصفها تفكيرا أو بالأحرى "استخداما شخصيا للعقل" أي حرّا يستخدم الشك والنقد والتساؤل ... في مواجهة ما يوجد. ولأنه كذلك، فمن العسير أن يقنع " الآخرين" بقيمته، بالرغم من انشغاله بوضع البشر أساسا، بالإنسان موضوعه المميّز والممتاز. من هنا فليس من الغريب أن يكون للفلسفة أعداءها وخصومها وهي التي لا تكفّ عن أن تكون " تفكيرا نقديا" في مواجهة واقع " اضطهاد البشر واستعبادهم "، تسعى إلى فضحه وكشف آلياته وصور إمكان التحرر منه . الأمر الذي يجعلها في خصومة دائمة مع " النظام القائم"، مع كلّ أشكال الهيمنة على البشر تدافع عنهم وتدافع عن وجودها من أجلها و أجلهم باعتبارها " أفقا " لخلاصهم بالرغم من علاقتهم الصعبة بينها وبينهم. ولعلّ ما تعيشه الفلسفة اليوم داخل " المؤسسة التعليمية" وخارجها وما تتعرّض له من تبخيس لبضاعتها، وسعي إلى إقصائها بدعوى " لاجدواها"... شاهد على ذلك. ولأنّ هذا" الوضع الصعب"كان دوما من قبل وإلى يوم الناس هذا من صنع " أعدائها" وهم كثير ومن كل صوب، ولأنه في جانب منه ناتج عن سوء فهم " للفلسفة لمعناها ودورها ومهمة تعليمها للناشئة ..."(والمرء عدوّ ما يجهل)، نسوق هذه النصوص إلى القارئ، نصوصا لفلاسفة يشهدوا على حقيقة قيمة الفلسفة، وهم منتحلوها وصناعها، وعلى ضرورة وجودها وضرورة تعليمها مقوما من مقومات التمدّن. ذلك وانه مثلما قال ديكارت " يقاس تمدن شعب بمقدار شيوع التفلسف فيه" .قاصدين بذلك المساهمة في تصويب آراء الناس عنها وإدراك منزلتها الحقيقية وحاجتهم الملحّة إليها.

" تقريظ الفلسفة"

شيشرون

" الفلسفة، هي وحدها القادرة على أن توجّهنا! أنتِ من يعلّمنا الفضيلة ويُخضع الشرّ ! ماذا سنفعل، وكيف سنَضْحَى من دون مساعدتك؟ أنت من يُنْشأ المدن، كي يعيش الناس في مجتمع، بعد أن كانوا شتاتا. أنت من يوحّدهم، أوّلا بقرب المُقَام، ثمّ بروابط الزواج، وأخيرا بالخضوع للغة والكتابة. اخترعتِ القوانين، وكوّنت الآداب وأسّست الشرطة. ستكونين ملاذنا؛ ولعونك سوف نلجأ؛ وإذا ما كنّا قد اكتفينا في أوقات أخرى بإتباع بعض دروسك، فنحن اليوم ننقاد لك كلك ودون تحفّظ..

إنّ يوما واحدا ننقاد فيه لتعاليمك هو أفضل من الخلود لأيّ شخص يبتعد عنها. أيّ قوّة أخرى نناشد غير قوّتك، تلك التي وهبتنا سكينة الحياة، وطمأنَتْنَا بشأن الخوف من الموت؟ ومع ذلك، فنحن أبعد عن أن نعطي للفلسفة التقدير الذي تستحقّ. لا يأبه لها كلّ الناس تقريبا: وكثير منهم يهاجمها حتّى. نُهاجم من نَدِين له بالحياة، من ذا الذي يتجرّأ على أن يلوّث يديه بجريمة قتل الآباء؟ هل بلغنا من النكران للجميل حدّا نُهِين فيه معلّمًا، وَجَبَ علينا على الأقلّ احترامه، حتى لو لم نكن قادرين على فهم دروسه؟ أعزو هذه العداوة إلى عدم استطاعة الجهلة، من خلال الظلمات التي تعمي أبصارهم، الرجوع إلى أقدم الأزمنة، كي يروا فيها أن أوّل من شيّد المجتمعات البشرية كانوا فلاسفة. أمّا عن الاسم، فهو حديث، لكن بالنسبة إلى الشيء نفسه، فنحن نرى أنّه قديم جدّا".   شيشرون "الأعمال الكاملة، الكتاب الخامس "عن الفضيلة".

- ابن رشد: ضرورة النظر العقلي

" إذا تقرّر أنّ الشّرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه، وهذا هو القياس أو بالقياس، فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي.

وبيّن أن هذا النحو من النظر الذي دعا إليه الشرع وحثّ عليه، هو أتمّ أنواع النظر بأتمّ أنواع القياس، وهو المسمّى برهانا...

وإذا كان هذا هكذا، فقد وجب علينا إن ألفينا لمن تقدّم من الأمم السالفة نظرا في الموجودات واعتبارا لها، بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك، وما أثبتوه في كتبهم. فما كان منها موافقا للحقّ قبلناه منهم، وسررنا به، وشكرناهم عليه . وما كان غير موافق للحقّ نبهنا عليه وحذّرنا منه وعذرناهم .

... فنقول إن كان فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أعني من جهة ما هي مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها. وأنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم، وكأن الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات، وحث على ذلك فبين أن ما يدل عليه هذا الاسم إما واجب بالشرع، وإما مندوب إليه....

....إن مثل من منع النظر في كتب الحكمة من هو أهل لها، من أجل أن قوماً من أراذل الناس قد يظن بهم أنهم ضلوا من قبل نظرهم فيها، مثل من منع العطشان شرب الماء البارد العذب حتى مات من العطش، لأن قوماً غرقوا به فماتوا. فإن الموت عن الماء بالغرق أمر عارض، وعن العطش أمر ذاتي وضروري." ابن رشد " فصل المقال فيما بين الحكمة و الشريعة من اتصال". ص23-24-25-26 دار المعارف مصر دراسة وتحقيق محمد عمارة - الطبعة الثالثة.

- كانط: وفق أيّ منهج يجب أن تدرّس الفلسفة؟

" بما أنها (أي الفلسفة) ليست في الحقيقة انشغالا للراشد، فليس من الغريب أن َتقوم صعوبات حينما نريد مواجهتها بالكفاءة الأقلّ ممارسة للشباب. فالطالب الذي قد فارق التعليم المدرسي كان معتادا على التعلّم . و يعتقد الآن بأنه سيتعلّم الفلسفة، وهو ما يستحيل مع ذلك إذ عليه من الآن فصاعدا أن يتعلّم التفلسف. وسأوضّح ما أقول أكثر: يمكن لكل العلوم التي بإمكاننا تعلّمها حرفيا أن تردّ إلى جنسين: العلوم التاريخية والرياضية . تنتمي إلى الأولى (التاريخية) بخلاف التاريخ تحديدا، وصف الطبيعة والفلسفة والحق الوضعي الخ. بيد ان التجربة الشخصية أو الشهادة الخارجية تمثّل، في كل ما تاريخي،، - وفي كل ما هو رياضي، شيئا معطى في الواقع والذي هو بالتالي كسب وليس له إذن إلاّ أن يقع استيعابه: فهو إذن ممكن حال تعلّم هذا أو تلك، أي أن يرسّخ إمّا في الذاكرة أو الفهم، ما يمكن أن يقدّم بوصفه تخصّصا مكتملا بعدُ. إذن ولكي يمكننا تعلّم الفلسفة، وجب أوّلا أن تكون موجودة فعلا بما هي كذلك. يمكننا تقديم كتاب، والقول:" انظروا، هذا من العلم و المعارف الموثوقة ؛ تعلمّوا فهمه وحفظه، وابنوا فيما بعد عليه وستكونوا فلاسفة": حتى يُقدّم لي كتاب ما لفيلسوف، أستطيع أن أعتمد عليه تقريبا مثل بوليب، لعرض حدث تاريخي، أو اوقليدس لتفسير قضية هندسية، وان يسمح لي بالقول بأننا نسيء لثقة الجمهور حينما، بدل توسيع كفاءة الذهنية للشباب الذين هم في أمانتنا، وتكوينها بغرض إكسابهم معرفة شخصية مستقبلية، في نضجها، فنحن نخدعهم بفلسفة يزعم أنها مكتملة، والتي قد وقع تخيلها لهم من آخرين، والتي يخلص منها علم وهمي، ليس له قيمة إلاّ في مواضع معينة ولدى بعض الناس، لكنها لا تتداول في مواضع أخرى لفقدانها أي قيمة.

إنّ المنهج المخصوص للتعليم في الفلسفة هوبحثي zététique، مثلما يسميه بعض القدماء (من zétein أي بحث)، بمعنى هو منهج البحث، وربما لا يكون دغمائيا في بعض المجالات إلا في استخدام عمومي، أي منهجا تقريريا . فلا يجب على المُؤلِّف الفلسفي الذي يُستند إليه في التعليم أن يعتبر بالمرة نموذجا للحكم، بل بوصفه فحسب مناسبة للحكم على الذات استنادا إليه، ويكون منهج التفكير والاستدلال الشخصي هو المنهج الذي يسعى الطالب بالأساس إلى اكتسابه".

(كانط، إعلان عن برنامج دروس منتصف الفصل الدراسي شتاء 1765-1766 ترجمة ميشيل فيشان، فران، 1973ن ص 69-70).

- هيجل: بيداغوجيا تعلّم الفلسفة

" إنّ التمشي المجسّد في الاستئناس بفلسفة غنيّة في محتواها ليس شيئا آخر سوى التعلّم. يجب على الفلسفة بالضرورة أن تدرّس وتُتعلّم، إضافة إلى كلّ علم آخر. إنّ البائس المتأكّل الذي يدعو إلى التربية بغرض التفكير بأنفسنا وبإنتاج الخاص، يكون قد قذف بهذه الحقيقة إلى الظلمة- كما لو، حينما أتعلم ما هو الجوهر، والعلّة أو أي شيء آخر، لا أفكّر بنفسي، كما لو لا أنتج بنفسي هذه التحديدات في فكري، كما لو قذف بها فيه مثل حجر!- كما لو، أيضا حينما أحدّد حقيقتها، لا اكتسب بنفسي هذا التحديد، ولا أقنع نفسي بنفسي بهذه الحقائق!- كما لو، إذا ما عرفت جيدا يوما ما نظرية فيثاغورس وبرهانها، فلن أعرف بنفسي هذه القضية ولا أبرهن بنفسي حتّى على حقيقتها!، وبالمثل فإن الدراسة الفلسفية هي في ذاتها نشاطا شخصيا، في نفس الوقت الذي هي فيه تعلّم- تعلّم علم موجود بعدُ، مُكوّن. إنّ هذا العلم هو كنز يتضمن محتوى مكتسب، مبنيّ تماما، مشكّل؛ يجب على هذه المادة الموروثة الموجودة بعدُ أن تكتسب من الفرد، أي أن تُتعلّم. المعلّم يملك هذا المحتوى، ويفكّر فيه أوّلا والتلاميذ بعد ذلك . تتضمن العلوم الفلسفية، في موضوعاتها، الأفكار الكونية الحقيقيّة ؛ وهي ثمرة إنتاج عمل العباقرة المفكّرين لكلّ الأزمنة. و تتخطّى هذه الأفكار الحقيقيّة ما يتوصّل إلى إنتاجه بفكره شاب غير مثقف، بقدر ما يتجاوز هذا الكم من الجهد العبقريّ جهد مثل هذا الشابّ . إنّ التمثّل الأصلي، والخاص الذي يملكه الشباب عن موضوعات جوهرية هو من جهة، ما يزال فقيرا وفارغا، ومن جهة أخرى ليس في جانب كبير منه، سوى رأيا ووهما، ونصف فكرة وفكر أعرج غير محدّد. وبفضل التعلّم تحلّ الحقيقة محلّ هذا الفكر الذي يتوهّم".

هيجل . رسالة إلى نيثامر بتاريخ 23 أكتوبر1812، ضمن نصوص بيداغوجية، فران 1990 ص142-143.

- نيتشه: منزلة مدرّس الفلسفة في المجال العمومي

(...) تختار الدولة بنفسها من يخدمها من الفلاسفة وتنتدب منهم قدر ما تحتاج لمؤسساتها: فتعطي الانطباع إذن بأنّها تعرف التفريق بين الحسن والسيئ من الفلاسفة، بل أكثر من ذلك إنها تفترض أنّه يجب أن يوجد ما يكفي من الفلاسفة الجيّدين كي تشغل كَراسي التدريس. (...) وتلزم أولئك الذين اختاروا الإقامة في مكان محدّد، وفي بيئة محدّدة، بأن يمارسوا فيه نشاطا محدّدا: أن يدرّسوا، كلّ يوم، في وقت محدّد، كل الطلبة الذين يرغبون في سماعهم . وإني لأسأل: هل يمكن لفيلسوف أن يلتزم عن طيبة خاطر بأن يكون له شيئا ما يدرّسه كلّ يوم ؟ وأن يدرّسه لكلّ من يريد سماعه ؟ ألا يكون مكرها على الكلام أمام حضور مجهول عن أشياء لا يمكن له الحديث عنها دون مخاطر إلاّ أمام أكثر أصدقاءه حميميّة ؟ ثمّ، ألا يتخلّى، في النهاية هكذا، عن حريّته مصدر فخره، حريّة الانقياد لعبقريته حينما تدعوه، وإتباعها إلى حيث ما تريد؟- وذلك بموجب أنّه مدعوّ إلى أن يفكّر عموميا، في ساعات محدّدة مسبقا في أشياء مقرّرة مسبقا ؟ وإذا ما شعر يوما ما بأنّه لا يمكن له يومها أن يفكّر في شيء، وأنّه لا يستحضر أيّ فكرة في ذهنه- و كان عليه مع ذلك، أن يسجّل حضوره ويتظاهر بالتفكير؟

ولكن، قد يعترض عليّ، بأنّ المدرّس ليس محمولا على التفكير، وبخاصة على التفكير في فكر إنسان آخر، أو إثراءه؛ عليه أن يكون قبل كل شيء راسخ المعرفة بكل المفكّرين السابقين، فسيحسن القول فيهم بشيء يجهله تلاميذه.(...) غير أنّ المعرفة الراسخة بماضي التاريخ لم يكن أبدا شأن الفيلسوف الحقيقيّ، لا في الهند ولا في اليونان؛ ولو اضطلع أستاذ فلسفة بهذا العمل، فهو ملزم بتحمّل ما يقال عنه بأنّه " فيلولوجي جيّد، وعالم آثار جيد وألسني جيّد ومؤرّخ جيد "، ولكنّه ليس " فيلسوفا جيّدا" بالمرّة. (...) وفي النهاية أيّ شيء في تاريخ الفلسفة قد يعني شبابنا؟ هل نريد أن نثنيهم عن أن يكون لهم رأي شخصي بأن نظهر لهم التكدّس الغامض لكلّ الآراء؟ هل نريد أن نعلّمهم أن ينضمّوا إلى جوقة المهللّين على شرف الأشياء الجميلة التي صنعناها؟ هل نريد أن يتعلمّوا كره الفلسفة وازدراءها ؟ (...) فنحن لم ندرس يوما نفس المنهج النقدي، و الشيء الوحيد الثابت، والذي يمكن أن نطبّقه على فلسفة، يتمثّل في التساؤل إذا ما كان بإمكاننا أن نعيش وفق مبادئها؛ نحن لا ندرس سوى نقد الكلمات بالكلمات. والآن ونحن نتمثّل روحا يافعة، دون خبرة كبيرة في الحياة، قد حُبس فيها خليط جنبا إلى جنب من خمسين نقد لنفس هذه الأنساق- أيّ فوضى، وأي ّ بربرية، وأيّ سخرية بالنسبة إلى أيّ تربية فلسفية! " (نيتشه، شوبنهاور مربّيا) .

- ميشيل فوكو: واقع تدريس الفلسفة ودور مدرّسيها*

"إنّ الفلسفة هي هنا في نهاية التعليم الثانوي من أجل أن تحقّق لمن استفادوا منها، الوعي بأنّ لهم الحقّ من هنا فصاعدا في رؤية الأشياء في مجموعها . نقول لهم:” لا، أنا (بوصفي مدرسا للفلسفة) لا أعلمك شيئا: ليست الفلسفة علما إنما هي تفكير، طريقة في التفكير، تسمح بوضع كل شيء موضع السؤال ومجابهته. لقد آمنتم طيلة خمس أو ستّ سنوات بجمال “إيفيجينيا” وبانقسام الخلايا الجنسية و” الإقلاع الاقتصادي économique take off ” لأنقلترا البورجوازية . كل هذه المعرفة ها أنتم أمام حقّ فحصها من جديد – لا في دقتها، بل في حدودها، وفي أسسها وأصولها. وما ستحصلونه من معرفة، حينما تصبحون أطباء ومديري تسويق أو كيميائيين، فلابدّ أن تخضعوه لنفس المَحْكمة . أنتم تتجهون إلى أن تكونوا مواطنين أحرار في جمهورية المعرفة ؛ لكم أن تمارسوا حقوقكم. ولكن بشرط: أن تستخدموا فكركم وفكركم فقط. أن تفكّروا أي أن يكون لكم حسّ سليم مؤيّد قليلا، وحكم نزيه يستمع إلى المع والضدّ، وفي النهاية حريّة. لأجل ذلك، يواصل الأستاذ، قائلا، وبغضّ النظر عن حَرْفِية برنامج لا يلزمنا تماما، سأحاول أن أعلّمكم الحكم بحريّة . الحرية والحكم- ذاك ما سيكون شكل خطابنا ؛ وهو إذن ما سيكون عليه بالطبع محتواه: فزميلي في القسم المحاذي، وهو الستيني، سيؤكّد على الحكم بالرجوع إلى آلان. بينما أريد أن أتكلّم عن الحرية خاصّة – وعن سارتر لأنّني أربعيني . لكن لا أنتم ولا رفاقكم خارجا سيخسرون في المشاركة . فسارتر و آلان، هما قسم الفلسفة وقد أصبح فكرا.”

* تعرفون أنه لا توجد الفلسفة. وما يوجد هم " فلاسفة"، أي صنف من البشر أنشطتهم وخطاباتهم تغيّرت كثيرا من مرحلة إلى أخرى. وما يميّزهم مثل جيرانهم الشعراء والمجانين هو أن التقاسم هو الذي يعزلهم وليست وحدة الجنس أو استمرارية المرض.

فهم لم يصيروا فلاسفة إلاّ منذ وقت وقصير، ربّما هي مرحلة، وربّما لن نظلّ طويلا. وعلى أيّ حال فإنّ اندماج الفيلسوف في الجامعة لم يحدث بنفس الطريقة في فرنسا و في ألمانيا. ففي ألمانيا كان الفيلسوف مرتبطا، منذ عصر فيخته وهيجل بمؤسّسة الدولة: من هنا كان معنى هذه المهمّة العميقة، ومن هنا، هذه " الجدية لـ" موظّفي التاريخ" fonctionnaires de l'histoire، ومن هنا، هذا الدور الذي لعبوه من هيجل إلى نيتشه، للناطق باسم، القادح للدولة invectiveur de l'état.

أما في فرنسا، فقد كان أستاذ الفلسفة مرتبطا بأكثر احتشام (بصورة مباشرة في المعاهد، وبصورة غير مباشرة في الكليات) بالتعليم العمومي، بالوعي الاجتماعي بشكل محسوب بدقّة من " حرية التفكير"، ولنقل، حتى نكون صرحاء: بالمؤسسة التقدمية للاقتراع المباشر. من هنا، كان هذا الأسلوب للمدير، أو الرقيب، ومن هنا دور المدافع عن الحريات الفردية وتقييد الأفكار، الذين يفضلون لعبه؛ ومن هنا كان ميلهم إلى الصحافة، وانشغالهم بالتعريف بأفكارهم وحرصهم الشديد على الإجابة في المحادثات.

....على أيّ حال، نفهم أنّه، مع الدور الذي أرادوه (أي أساتذة الفلسفة)، فإنّه يجب أن يكون ما يدرسونه فلسفة للوعي، و الحكم والحرية. ويجب أن تكون فلسفة تحافظ على حقوق الذات أمام كلّ معرفة ـ وتفوّق كل ّ وعي فردي على كلّ سياسة. بيد انّه، وتحت تأثير التطوّرات الأخيرة، ظهرت مشكلات جديدة: ليست بالمرّة ما هي حدود المعرفة (أو أسسها)، بل من هم العارفون؟ كيف يحدث تملك المعرفة وتوزيعها؟ كيف تحتلّ معرفة ما موقعها في المجتمع، وتتطوّر داخله، وتحشد مصادرها وتكون في خدمة اقتصاد؟ كيف تتكوّن المعرفة في مجتمع وكيف تتحوّل داخله؟ من هنا كانت سلسلتان من الأسئلة: بعضها نظري حول العلاقات بين المعرفة والسياسة، وبعضها الآخر، أكثر نقدية، حول ما هي الجامعة (الكليات والمعاهد)من حيث فضاء في الظاهر محايد حيث يفترض توزيع معرفة موضوعية بإنصاف .وإذا ما كانت هذه الأسئلة قد طرحت في قسم الفلسفة، فمن الواضح أن وظيفتها التقليدية لابد أن تتغيّر جذريّا. لقد تصنع السيد قيشار الدفاع عن الفلسفة ضدّ اندساس طلبة لم يكونوا قد كوّنوا للتعليم، وفي الواقع فهو يحمي شغل قسم الفلسفة القديم ضدّ طريقة في طرح الأسئلة تجعلها مستحيلة.

من محادثة مع ميشيل فوكو (حَاَدَثُه باتريك لوريو ” نوفال ابسارفاتور” فيفري 1970).

* نص من محادثة جاءت في سياق قرار وزاري (فيفري 1970) بحذف قسم الفلسفة من جامعة " فانسان" حيث يشغل فوكور ئيس خطة رئيس قسم الفلسفة فيها. (المترجم).

- فوكو: معنى الفلسفة اليوم

"ماذا تعني إذن الفلسفة اليوم- أعني النشاط الفلسفي - إذا لم يكن فعل نقد الذات لذاتها؟ وإذا لم يتمثّل، بدل تشريع ما نعرف بعدُ، في الانصراف إلى معرفة كيف وإلى أي حدّ يكون ممكنا التفكير على نحو آخر؟ يوجد دوما في الخطاب الفلسفي شيء ما سخيف، حينما يريد هذا الخطاب، من خارج، أن يملي القانون على الخطابات الأخرى، وأن يقول لها أين تكمن حقيقتها، وكيف تعثر عليها، أو حينما يظهر بمظهر الحازم في دراسة قضيتها في وضعية ساذجة ؛ غير أنّ هذا حقّه في استكشاف ما يمكن أن يتغيّر، في فكره بالذات، بالتمرين الذي يجريه على معرفة غريبة عنه. إنّ " المحاولة" التي يجب أن تُفهم بوصفها دليلَ تغيير الذات لذاتها في لعبة الحقيقة لا بوصفها تملّكا تبسيطيا للآخرين، لغايات تواصلية - هو الجسد الحيّ للفلسفة، لو ظلّت هذه على الأقلّ إلى الآن على ما كانت عليه من قبل، أي " تزهّدا" ascèse، تمرينا للذات في الفكر. "

فوكو" تاريخ الجنسانية ج 2 - استخدام المتع -غاليمار 1984 ص14-15

- جيل دولوز: صورة الفيلسوف

" إنّ صورة الفيلسوف هي أيضا أقدم الصور . إنّها صورة المفكّر الماقبل -سقراطي،" الفيزيولوجي" والفنان والمؤّول والمقيّم للعالم.. كيف نفهم التقارب بين المستقبل والماضي؟ إنّ فيلسوف المستقبل هو المستكشف للعوالم القديمة، للقمم والكهوف، والذي لا يَخْلُقُ إلاّ من حيث يتذكّر شيئا قد نُسي بالأساس.

ليكن هذا الشيء، حسب نيتشه، هو وحدة الحياة والفكر. هي وحدة مركّبة: خطوة من أجل الحياة، وخطوة من أجل التفكير . تُلْهِمُ أنماط الحياة طرائق التفكير. و تَخْلُقُ أنماطُ التفكير أنماطَ الحياة. وتُنَشِّط الحياةُ الفكرَ و يؤكّد الفكرُ بدوره الحياةَ. ليس لدينا أدنى فكرة عن هذه الوحدة الماقبل- سقراطية. فليس لنا الآن سوى حالات حيث يُلْجِمُ الفِكْرُ ويبْتُرُ الحياةَ، بجعلها بلا معنى، وحيث تنتقم الحياة لنفسها وتجعل الفكرَ مجنونا، يضلّ الطريق.

ليس لنا الآن سوى أن نختار ما بين حيوات تافهة وبين مفكّرين مجانين . حيوات منصاعة كثيرا للمفكّرين و أفكارٍ كثيرة الجنون للأحياء: إيمانيول كانط وفريديريك هولدرلين.

لكن تظلّ الوحدة الدقيقة التي يكف الجنون فيها عن أن يكون كذلك، شيئا علينا اكتشافه- وحدة تحوّل قصّة الحياة إلى قول مأثور للفكر، وتقييمَ الفكرِ إلى منظورٍ جديد للحياة".

" جيل دولوز "محض محايثة" 2002 " 66ف. Pure Immanence (2002) p. 66f)

- أندريه كونت سبونفيل: معنى التفلسف.

التفلسف هو التفكير أبعد ممّا نعرف؛ هو أن نطرح على أنفسنا أسئلة لا يمكن لأيّ علم أن يجيب عنها. مثلا:" لماذا يوجد شيء بدل لاشيء؟"، "هل يوجد الإله؟"، " ماذا يمكنني أن أعرف؟"، " ماذا يجب عليّ أن أفعل؟"، " ما العدالة؟"، " ما السعادة؟"، " كيف ندركها؟"...أو أن نطرح أيضا هذا السؤال الذي يلخّص كل الأسئلة الأخرى:" كيف نحيا؟" ولكن ما الفائدة من أن نطرح على أنفسنا أسئلة، إذا لم يكن إلا من أجل أن لا نجيب عنها؟ وعلى خلاف ما نعتقد أحيانا، يجيب الفلاسفة عن الأسئلة التي يطرحونها، و هذه الأجوبة هي التي تكوّن فلسفتهم. من هنا تظهر الحاجة إلى الثقافة بأكثر وضوح. يمكن لطفل مثلا أن يطرح أسئلة فلسفية، تقريبا مثلما يكتب السيد جوردان نثرا. لكن أجوبته، إذا ما وجدت، ستكون تقريبا لا محالة ساذجة، بالمعنى السلبي للكلمة، لا بل فعلا حمقاء، سطحيّة أو غير متناسقة. التفلسف، نتعلّمه! كيف؟ بالاحتكاك بالفلاسفة الكبار السابقين. يقول مالرو:" في المتاحف نتعلّم الرّسم" . وفي كتب الفلسفة نتعلّم التفلسف.

...والتفلسف هو البحث عن أجوبة عن الأسئلة الجوهرية التي نطرحها على أنفسنا. نحن في حاجة إذن إلى التفلسف بقدر ما يقلّ إيماننا بالأجوبة الجاهزة . وهذا ما يفسّر ما نسمّيه، منذ عدّة سنوات،" عودة الفلسفة" . أمام انهيار الأجوبة الجاهزة التي تحملها الأديان الكبرى (وبالخصوص المسيحية في بلدنا) و الايديولوجيات الكبرى (لنُفَكِّر في ثقل الماركسية، في فرنسا في السنوات 50أو 60)، يحسّ معاصرونا بشيء من الضياع. وبما أنهم قد انتهوا إلى فهم أنّ العلوم الإنسانية، مهما كانت جدارتها، لا تجيب عن السؤال:" كيف نحيا؟" (لا تقوم مقام الميتافيزيقا ولا الإيتيقا)، فهم يبحثون عن أجوبتهم الخاصّة عن الأسئلة التي يطرحونها على أنفسهم. وهذا ما يسمّى تفلسفا، وسرعان ما يكتشفون، على هذا الطريق، عددا معينا من الكتاب يمكن أن يرشدوهم وينيرون سبيلهم ويرافقوهم..   من حوار مع: أندري كونت سبونفيل- حاورته: كارولين راكابي

مجلة "لوبوان:LePointعدد2 جويلية-سبتمبر2010ص6--13

- ميشيل أونفري: نحو فلسفة خارج التقليد

" وجب على الفلسفة أن تعود إلى الشارع وتخرج إلى الناس حيث تنتمي، وحيث كانت تنتمي في العصور القديمة. لاحظ كيف تزدحم أعمال افلاطون بالناس، السمّاكين، الاسكافيين، المومسات المارات الخ. الفلسفة لا تخص مشرعين يقرأون الكتب المعينة ويتفلسفون خلال وقت دوامهم. أن تكون فيلسوفا يعني أن تتفلسف طوال الوقت: هذا هو التقليد الأنتيكي الذي أود العودة إليه والذي للأسف أخذ في التلاشي بعد صعود المسيحية. يجب القول إنني لا أعتبر أن المسيح كان شخصية تاريخية على الاطلاق- المسيح هو شخصية تبلورت في خيال الإنجيليين الذين لم يعرف كتّابها يوما المسيح، وبهذا خنق آباء الكنيسة الفلسفة التي دارت حول لحم هذا الشخص ودمه فصارت تمرينا وبحثا مجنونا في تفاصيل عجيبة، حيث تأتى عليهم إثبات تلك العجائب مثل الثالوث، القيامة والولادات العذرية. هكذا نحصل على ما يزيد عن عشرة قرون من الفلسفة رُسمت انطلاقا من الرغبة في إضفاء الشرعية على شيء لا يمكن إقراره. فلسفة الجامعات التي نعرفها هي تطوير لتقليد علم المسيحية لذا عندما تتحدث عن فيلسوف فرنسي- النظرية الفرنسية كما يقول الأمريكيون، وأعني فلاسفة مثل دولوز، غاتاري، ديريدا وليوتار الخ – فذلك له علاقة بأصحاب التنويم المغناطيسي تماما. مازلت أبحث عن زميل لي في الفلسفة او أي شخص آخر يمكنه أن يشرح لي مؤلف دولوز «آنتي أوديبوس/أوديب المضاد/الضد أوديب» . كتب فوكو عن الجنون انطلاقا من قراءاته في الأرشيف فهو لم يعرف حقيقة المجانين وواقعهم. وفي عودة أبعد إلى الوراء لدينا سارتر الذي أراد أن يحشد عمال السيارات في بيلانكور، لكن لا أحد منهم فهم ما قال هذا «المثقف الذكي صاحب النظارات» الذي لم يختلط يوما في حياته بعمال حقيقيين. إنه ليس التفكير، بل تمارين التكرار المستغلقة التي تعيد استخدام ذات الطروحات القديمة. أريد عوضا عن ذلك توفير هذه المدرسية، والتقليل من شأن النقاش بأجمله المليء بالمصطلحات الضمنية والثقيلة. لهذا أسعى في فلسفتي التاريخية القبض على التفكير الفلسفي الذي قام خارج هذا التقليد وعاداه."

ميشال أونفري ترجمة: دنى غالي (نظرات فلسفية).

***

 

مقدمة: ماكس فيبر (1864-1920) هو المؤسس الرئيسي لعلم الاجتماع الألماني، وهو مؤلف عمل كبير لا يزال يدرس في جميع أنحاء العالم اليوم (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، الاقتصاد والمجتمع، "العالم والسياسي"...). هذا الكتاب الأخير:"العالم والسياسي" عبارة عن مجموعة من محاضرتين ألقاهما عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، ألقيا على التوالي في عامي 1917 و1919. تتعلق الأولى بـ "مهنة الباحث ودعوته". والثاني، حول "مهنة السياسي ورسالته": يستخدم فيبر مصطلح بيروف، والذي يعني المهنة والحرفة معًا. تحدد "مهنة السياسي ودعوته" ماهية السياسي الجيد في ظروف السياسة الحديثة. يتم تعريفها على أنها النضال من أجل الحصول على سلطة الدولة أو الإطاحة بها أو تحويلها: وفي هذا السياق يقدم فيبر تعريفا للدولة التي أصبحت مشهورة الدولة هي سلطة احتكار العنف المشروع وتعيد توزيعه في شكل قوانين. وفي نهاية المداخلة، يركز على العلاقات المختلفة التي يمكن أن يقيمها السياسيون مع الأخلاق. وعلى هذا فإن الساسة والناشطين يواجهون معضلات أخلاقية، وهناك العديد من الإجابات المحتملة لها: هل ينبغي للسياسي الجيد أن يتبع قناعاته دون أن ينحني على الإطلاق؟ ماذا يفعل عندما تبدو العواقب أسوأ مما لو تنازل عن مبادئه؟  ألقى فيبر هذا المؤتمر في عام 1919، في سياق دولي بالغ الصعوبة: في فترة أزمة كهذه، ما هي الصفات التي يجب أن يتمتع بها السياسي لكي يرقى إلى مستوى الحدث؟

الصفات الحاسمة للسياسي الجيد

بالنسبة لماكس فيبر، يتميز السياسي الجيد بثلاث صفات "أساسية وحاسمة": وهي "العاطفة، والشعور بالمسؤولية، والبصيرة".

العاطفة والمسؤولية

من خلال العاطفة، يجب أن نفهم "الارتباط لسبب ما"، والذي يميزه فيبر عن "الإثارة العقيمة" البسيطة. إن الارتباط الحقيقي بقضية ما لا يعني أن تكون شغوفًا بها للحظة واحدة: بل بالأحرى أن تخدمها، وتشعر بمسؤوليتك تجاهها. لأن الشغف وحده، مهما كان أصيلاً، لا يكفي. إنها لا تجعل من الفرد سياسيا عندما لا تجعل من خدمة "القضية"، وبالتالي المسؤولية أيضا فيما يتعلق بهذه القضية على وجه التحديد، النجم الذي يوجه العمل بطريقة حاسمة. وبالتالي فإن العاطفة الحقيقية لا تنفصل عن الشعور بالمسؤولية. إنه ارتباط دائم بقضية ما، وهو ما لا يتضمن بالضرورة أفعالًا مذهلة، ولكنه يتضمن تحمل الفرد مسؤولياته فيما يتعلق به.

النظرة- البصيرة- الاستبصار

النظرة مرتبطة بالمسؤولية. إنه على وشك القدرة على ترك الحقائق تؤثر على النفس، في التأمل الداخلي والهدوء، وبالتالي: المسافة فيما يتعلق بالأشياء والأشخاص . المشكلة بالتحديد هي كيف يمكن أن تجتمع حرارة العاطفة وبرودة النظرة في نفس النفس. إن فكرة أن السياسة تفترض "البعد عن الأشياء والناس" تنطوي على مفارقة. على العكس من ذلك، قد يعتقد المرء أن السياسي في خضم الحدث، وأن هذا لا يسمح بمسافة حقيقية. ومع ذلك، بالنسبة لفيبر، يجب علينا أن نسعى لقطع هذه المسافة من أجل اتخاذ الخيارات الصحيحة. إن منظور السياسي الحقيقي يسمح له باتخاذ الخيارات الصحيحة وعدم الانجراف وراء الأحداث. ولذلك فإن هناك تناقضًا مع العاطفة، حيث يجب إجبارهما على التعايش: لكن هاتين الصفتين يجب أن تتواجدا معًا في السياسي. وهكذا ينتقد فيبر، من ناحية، السياسات الساخرة لأولئك الذين لا يكرسون أنفسهم لقضية ما، ومن ناحية أخرى، العاطفة العقيمة لأولئك الذين يكرسون أنفسهم لقضية دون الابتعاد عن الأحداث.

خياران ممكنان

بمجرد تحديد هذه الصفات، يحدد فيبر خيارين محتملين للسياسي فيما يتعلق بالأخلاق. بمعنى آخر، من بين طرق التفكير المختلفة حول العلاقة بين الأخلاق والسياسة، يبرز خياران رئيسيان: إن أي عمل ملهم أخلاقيا (...) يمكن توجيهه وفق "أخلاق الاقتناع" أو وفق "أخلاق المسؤولية". ليس أن أخلاق الاقتناع مطابقة لغياب المسؤولية، وأخلاق المسؤولية مطابقة لغياب الاقتناع. بالطبع ليس هناك شك في ذلك. ولكن هناك تعارضًا عميقًا بين العمل الذي تحكمه أخلاق القناعة (باللغة الدينية: "المسيحي يتصرف وفقًا للعدل، ويعتمد على الله في النتيجة")، وبين العمل الذي ينظم وفقًا لمبدأ "العدالة". أخلاقيات المسؤولية التي بموجبها يجب على المرء أن يتحمل العواقب (المتوقعة) لأفعاله. يوضح فيبر أن الخيارين لا يستبعد أحدهما الآخر: في حالات ملموسة، من الممكن أن الشخص لم يختار بوضوح بين أخلاقيات الإقتناع وأخلاقيات المسؤولية. لكن هذه المعارضة تحدد نوعين من العمل السياسي، ووفقا لفيبر، يجب على كل سياسي أن يختار بين الاثنين.

أخلاقيات القناعة

يعرّف فيبر أخلاقيات القناعة بناءً على عبارة لوثر، مؤسس البروتستانتية: "يجب على المسيحي أن يتصرف وفقًا للعدالة، ويعتمد على الله في النتيجة". بالنسبة لأخلاقيات القناعة، فإن الشيء المهم هو التصرف بطريقة تتفق مع المبادئ التي تم وضعها في البداية. ومهما كانت العواقب، يجب ألا نحيد عن مبادئنا. لذا، يشعر مؤيد أخلاقيات القناعة بأنه "مسؤول" عن شيء واحد فقط: منع شعلة القناعة الخالصة من الانطفاء، على سبيل المثال، شعلة الاحتجاج ضد ظلم النظام الاجتماعي. ولذلك فإن أخلاقيات القناعة تتطلب إبقاء المبادئ السياسية حية للتقدم نحو العدالة. ومن ناحية أخرى، يواصل أنصاره أفعالهم، حتى لو كانوا يخاطرون بحدوث عواقب كارثية: وبالتالي، فإنهم يتعارضون مع الأخلاق التي تأخذ في الاعتبار عواقب أفعالهم.

أخلاقيات المسؤولية

يتم تعريف أخلاقيات المسؤولية على أنها تتعارض مع أخلاقيات القناعة: حيث يتصرف أنصارها وفقًا للعواقب المتوقعة لأفعالهم. لا يتعلق الأمر بالتخلي عن كل قناعة - لأنه في هذه الحالة، لن تعد هذه أخلاقًا على الإطلاق - بل يتعلق الأمر بالدفاع عن مبادئ المرء مع الأخذ في الاعتبار العواقب المتوقعة للفعل: لا يمكن لأي أخلاقيات في العالم أن تتجنب حقيقة أنه من أجل تحقيق غايات "جيدة"، فإننا ملزمون، في كثير من الحالات، بقبول وسائل مشكوك فيها أو على الأقل خطيرة من وجهة نظر أخلاقية، وكذلك من وجهة نظر أخلاقية، وحتى احتمال حدوث عواقب عرضية سيئة. إن مؤيد أخلاقيات المسؤولية يدرك هذه المشكلة. ولذلك فهو يسعى إلى التأكد من أن أفعاله لها أفضل العواقب الممكنة، وأنها أقرب ما يمكن إلى ما يريد أن يراه يحدث. ومن ناحية أخرى، للقيام بذلك، يمكنه استخدام الوسائل التي تبتعد عن الغاية المطلوبة. ومع ذلك، فإنه على جانب أخلاقيات القناعة، وليس اخلاقيات المسؤولية، يشخص فيبر الفشل.

فشل أخلاقيات القناعة

إن أخلاقيات القناعة في الواقع تفشل، عند فيبر، في نقطتين، أولهما أنها تفترض أن البشر أفضل من بعضهم البعض. لذلك يدعو فيبر الى مواجهة عيوب البشر. عندما يفشل صاحب هذه الأخلاق فهو يعزو المسؤولية إلى العالم، أو إلى غباء الآخرين، أو إلى إرادة الله الذي جعلهم كما هم.  والحقيقة أن أخلاقيات القناعة توصي بالتصرف وفقاً للمبادئ: فبمجرد أن يتصرف على هذا النحو، فإن مؤيده لن يشعر بالمسؤولية عن العواقب الوخيمة المحتملة. لكن أخلاقيات المسؤولية، على العكس من ذلك، "تتناسب على وجه التحديد مع هذه العيوب المتوسطة لدى البشر"، ومؤيدها "لا يشعر بأنه في وضع يسمح له بلوم الآخرين على عواقب أفعاله، إلى الحد الذي يمكنه توقعها". ".لكن ليس هذا هو الخطر الأكبر لأخلاقيات القناعة، التي تكمن في الإشكالية الثانية التي تطرحها: "تقديس الوسيلة بالغاية".

"تقديس الوسيلة بالغاية"

هنا في الواقع يبدو أن أخلاقيات القناعة "تبدو فاشلة تمامًا": فالشخص الذي ينظم تصرفاته على هذه الأخلاقيات يجب عليه، منطقيًا، أن يمتنع عن كل الوسائل غير الأخلاقية. ومع ذلك، ليس هذا ما يحدث دائمًا: في عالم الواقع، نختبر باستمرار أن مؤيد أخلاقيات الإدانة يتحول فجأة إلى نبي ألفي وأن أولئك الذين بشروا للتو بـ "الحب ضد العنف" يدعون إلى العنف في اللحظة التالية - من أجل العنف النهائي، والذي من شأنه أن ينشئ دولة يتم فيها القضاء على كل أعمال العنف. بمعنى آخر، تفشل أخلاقيات القناعة في مواجهة لاعقلانية العالم، أي عدم تنظيمه وفق نموذج العدالة الذي يرغب فيه صاحبه. وفي مواجهة ذلك، غالبًا ما يتحول إلى مؤيد للعنف المفرط لتحقيق هذه العدالة. يشير فيبر هنا إلى دعاة السلام الثوريين، الذين يريدون إنهاء الحرب من خلال ثورة عنيفة. وهو معادٍ لهذا الخيار، إذ إن أخلاقيات قناعة من يريد رفض الحرب بأي ثمن تصبح، حسب رأيه، قبولاً لكل الوسائل العنيفة لتحقيق الهدف. ومع ذلك، يكن فيبر احترامًا أكبر لمؤيد أخلاقيات الإدانة التي تظل متماسكة تمامًا: وهكذا يمتدح تولستوي، معارض الحرب ومؤيد اللاعنف، لأنه طبق مبادئه بطريقة متماسكة تمامًا، دون أن يقبل أبدًا. أي وسيلة عنيفة. ولكن عندما لا تكون أخلاقيات الإدانة مبنية على مثل هذا المطلب الجذري للاتساق، فإن أخلاقيات الإدانة تظل خطيرة.

خاتمة

ومن خلال التمييز بين أخلاقيات القناعة وأخلاقيات المسؤولية، يساهم فيبر في مناقشة أخلاقية حول العلاقة بين الوسائل المستخدمة والغايات المطلوبة: هل من الممكن التصرف دائمًا بشكل عادل، مع الأخذ في الاعتبار أنه لا يمكن أن يأتي أي شيء سيئ من العمل الجيد؟ هل ينبغي لنا في بعض الأحيان أن نقوم بأفعال تستحق التوبيخ الأخلاقي عندما تكون العواقب المباشرة جيدة؟

من الواضح أن فيبر يقف إلى جانب أخلاقيات المسؤولية: فالسياسي الحقيقي، في نظره، يعرف كيف يواجه مسؤولياته، حتى وخاصة في عالم غير كامل، في حين أن مؤيد أخلاقيات القناعة، على العكس من ذلك، لا يستطيع أن يتحمل عدم تحمل المسؤولية تجاه اللاعقلانية في العالم. فكيف يمكن التأليف بين السياسة والأخلاق وبين القوة والحق من خلال ايجاد التوازن بين القناعات والمسؤوليات؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.........................

المصدر:

Max Weber, Le Savant et le Politique,1919

عندما نذكر لفظ الإختيار، تتبادر مباشرة إلى الذهن فكرة الحرية والتي تعبر عن إحساس المرء إزاء ما يقوم به من فعل، لكن في الغالب ما نطرح سؤال حدود هذا الفعل الحر أو الإختيار الحر الذي يملكه الفرد إزاء ذاته وإزاء المجتمع الذي ينتمي إليه، لهذا في كثير من الأحايين ما نفكر في ماضينا ونتأمل في حاضرنا من أجل محاولة استشفاف مستقبلنا، وهل فعلاً حينما كنا صغاراً كنا نختار ما نريده أو فُرِضَ علينا الطريق الذي نحن متوقفين عنده نتأمله؟

هل أنا المسؤول عن إختياري فعلاً أم هناك مجتمع إختار لي ما سأفعله مسبقاً ؟ هل كل الأوامر التي تلقيتها حينما كنت صغيراً هي أوامر شقت طريقي أم عرقلت مساري وقوضته؟

كل هذه الأسئلة الساذجة، هي أسئلة تستحق أن تطرح، لا بهدف سبر أغوار الماضي، بل لمساءلته وإعادة التفكير في الحاضر كما هو ماثل أمامنا، وبالتالي مساءلة المجتمع والأسرة والآباء والأمهات وأولياء الأمور وأساتذتنا ... إلى آخره،  بل يجب مساءلة حتى سبب توقفي لهذه اللحظة لأسأل عن اختياراتي هل هي من صنعي أم من فرائض المجتمع عليَّ؟ وهل دراستي للفلسفة هي من أتاحت لي ذلك؟ أم حتى من لا يدرس الفلسفة يطرح مثل هذا السؤال؟

وتبدأ هذه الأسئلة في الإنبثاق من خلال تحديد جملة من الإختيارات التي سبق وأن إخترتها، بدءا من إختياري الدراسي، وإختياري إحترام الوالدين، وإختياري إحترام كل من يكبر عني سنَّا، وتتطور إختياراتنا بتطور ومرور الزمن، كما تتطور بتطور حياة المرء وحسب مدارج الحياة، فتبرز في كل لحظة من لحظات الحياة المريرة إختيارات جديدة كل الجدة: إختيار الإستقلال عن الأسرة، إختيار العمل/ المهنة، إختيار الزواج وتكوين أسرة، إختياراتنا الوطنية والقيمية والإنسانية.

قد نشعر في حقيقة الأمر بضغط الإختيارات وإكراهاتها، كما نقوم بإختياراتنا ونخضع لها بدون مقاومة، إنها خصيصة تنبع من صميم الطبيعة البشرية.

لهذا يجب علينا أداء هذه الإختيارات بصدق، ونية خالصة، أو إرادة خيرة، بل وأحياناً من خلال التضحية من أجل إختياراتنا، مادامت كل إختياراتنا تتأسس، في نهاية المطاف، على ضمير أخلاقي يحركها، هذا الضمير يتعالى على كل الأهواء والغرائز والشهوات والأفعال والانفعالات والنزوات والميولات والممارسات والدوافع الذاتية.

شكلت فلسفة "شوبنهاور" لحظة حاسمة في تأسيس مفهوم الإختيار، حينما اعتبر أن "نَوَاةَ وُجُودِنَا، هِيَ تِلْكَ الَّتِي لاَ تَعْرِفُ فِي قَرَارَاتِهَا غَيْرَ شَيْئَيْنِ: أَنْ تُرِيدَ أَوْ أَلاَّ تُرِيدَ." [1].

في كتابه الشهير "العالم بوصفه إرادة وتمثلاً" الذي نشر لأول مرة سنة 1813م، ينظر فيلسوفنا الألماني أرثور شوبنهاور إلى الإنسان وككل كائن عاقل بوصفه إرادةً أي إختيار في الحياة، فهو المسؤول عن كل إختياراته، وهو الموقف الذي سيتطور مع الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر صاحب "الوجودية نزعة إنسانية" حينا سيرى أن الإنسان مشروط بالحرية، كما مشروط بالوجود، والحياة والإختيارات والعلاقات. ومعنى كل هذا في حقيقة الأمر، أن الإنسان هو من يشكل ذاته بذاته ولذاته ويحقق هويته في ضوء ما يختاره لنفسه، لكونه مشروعاً، إن الإنسان إرادة حرة، يختار ما يريد أو ما لا يريد.

إن هذه الفلسفات، تتفق في تصورها للفعل الإختياري الإرادي، وتدافع على أنه فعل له غاية هي التي تحدد قيمته انطلاقا من الآثار المترتبة عنه.

إن إرجاع الفعل الإختياري إلى المجتمع والمصلحة والفائدة، لهو أمر قد يؤدي إلى هدم الإختيار ما دمنا سنجعله قيمة نسبيةً، ذاتية أو غيرية، وننفي عنه كل طابع كوني ومطلق.

إن الإنسان وككل كائن عاقل، في غير حاجة إلى مصنف في الفلسفة والعلم ليتعلم ما يريد أو ما لا يريد، أو ما يختار أو ما لا يختار، لكونه يصارع بين ضميره والأهواء، وفي الأخير ينبثق المبدأ العقلي للإختيار الذي يتعارض مع كل ميولاته.

الإختيار مرجعه الوحيد والأوحد هو العقل بوصفه ملكة الحكم والإختيار، وغايته إحترام ما أختار، لأن ما أختاره يجب أن ينبع عن الإختيار الخير، أو الإرادة الخيرة، يجب على كل إختياراتنا أن تكون فاضلة.

لا قيمة لإختياراتنا بدون فضائل وبدون إرادة خيرة، وما الذي يجعلها خيرة ؟ تكون خيرة في حالة كان مصدر تشريعها هو العقل والعقل وحده.

لكن كل إختياراتنا تحاول الخروج من قبضة العقل، وتنبثق عن الأهواء وتتمسك بخصوبة الحياة، فكل إختياراتنا هي عبارة عن قدرات فطرية يملكها كل شخص، ولهذا يجب إعادة الاعتبار للميولات الفطرية التي تجثم في كل فرد جثوم العادة.

فالحدس الذي يحمله الفكر تجاه حالاته وانفعالاته، ومن خلاله يدرك ذاته والعالم الخارجي المحيط به، لا يمكن نفيه البتة، لأنه [أي الحدس] يقدر بقدرة قادر على إصدار أحكام معيارية على كل الأفعال الإنسانية.

إن الحدس يفتح أمامنا أبواب الإمكانات للإختيار بين مختلف الأفعال الممكنة، وحتى الغير ممكنة، لهذا يضع الحدس معايير للإختيار، فيصبح بمثابة ملكة المَيْزِ أو الحكم، يحكم بين الخير والشر، بين الفضيلة والرذيلة وبين الممنوع والمباح.

والحدس هنا بمثابة وعي محايث للذات ومعطى طبيعي، إنه إحساس يدفعنا بإتجاه الخير، لكونه غريزي وتلقائي.

والإختيار الخير هو كل إختيار قصدي يحمل في طياته نية صادقة، مصدرها العقل، لكن الكائن البشري، كائن يعيش داخل المجتمع، يتأثر به ويؤثر فيه، وتقوم التربية هنا بدور ترسيخ قيم المجتمع وتشكيل إختيارات الأفراد.

ومهما يبدو من اختلاف في مسألة الإختيار، إلا أن هذه الاختلافات تعبير عن إنسانية الإنسان، وبفضل الاختلافات نتميز عن كل حيوان، وتُدْخِلُنَا الاختلافات إلى عالم القيم والحرية والإرادة.

كما تدمج الاختلافات الأفراد داخل الجماعة وتتيح لهم الاستفادة من خيرها، لهذا من أجل فهم كيفية تشكل ملكة الإختيار لدى الأفراد، لا بد من العودة إلى الشروط التاريخية والسيكولوجية والاجتماعية والثقافية والدينية والفكرية والإيديولوجية والقانونية التي ساهمت في تشكيل اختيارات الأفراد في قمة حياتهم عبر التاريخ البشري، ونحيل هنا إلى هتلر ودعواه في الاعلان لحرب عالمية ثانية، أو حتى إختيار الطالب الصربي إغتيال ولي عهد النمسا والتمهيد لحرب عالمية أولى، أو إختيار أوروبا سياسة الإمبريالية واستعمار دول شمال إفريقيا ...إلى آخره.

هناك صراعات دموية عبر التاريخ البشري من أجل إختيار فرد أو جماعة خياراً على وتفضيله على إختيار آخر، ويجب فهم الأسباب الكامنة وراء كل تلك الاختيارات.

ولا ينسينا هذا كلا من ماركس وإنجلز واهتمامها بمفهوم الصراع الطبقي، في فهم كيفية تشكل الإختيار، وكيف اختارت الطبقة البورجوازية تملك وسائل الإنتاج، وكيف فرض على البروليتاري بيع قوة عمله.

ما يعني أن إختياراتنا هي مجرد نتاج لما يعيشه الإنسان من صراع طبقي قد يدركه الفرد، أو قد يسقط فريسة الإيديولوجيا التي تجعل القيم التي نختارها بمثابة قيم زائفة وآلية من آليات التزييف والتبرير والاندماج.

لهذا نؤكد على أهمية العوامل النفسية اللاشعورية والمرتبطة بالطابوهات التي رسختها الثقافة فينا، ودورها في تشكل إختياراتنا، فالعوامل الثقافية أيضاً تشكل تهديداً للإنسان والمجتمع.

لقد عملت الحضارة الإنسانية على تدجين وتهذيب الإنسان من خلال سيرورتي الجزاء والعقاب، مما أدى إلى ممارسة الرقابة الصارمة على كل إختياراتنا الجنسية، فالجنس لا نختاره كما نريد ومع من نريد بكل حرية !!!

ولهذا ذهبت التيارات الفلسفية المعاصرة، كالوجودية، إلى القول بأن المهم أو ما ينبغي النظر إليه، هو الإنسان كمشروع أو كتجربة شخصية وفردية سيالة، تعيش التوتر والتناقض والصراع والصدام بين ما يجب عليَّ أن أفعل وما يفترضه هذا التوتر من ما نريد أن نختاره نحن نفسنا بأنفسنا ولأنفسنا، وبكل حرية ومسؤولية تجاه الذات والأغيار والمجتمع بشكل عام.

يشكل الإختيار، بوصفه إكراها إجتماعياً، تجاوزاً لكل ما يريده الأفراد، وفي نفس الوقت شرطاً لوجودهم، ومن المفيد التفكير هنا بضرورة خضوع كل كائن حي للموت، فكل نفس ذائقة الموت، لكن الإختيار لا يستقيم إلا في إطار ذات تعي وجودها كما تعي حريتها وإرادتها.

إن المجتمع إذن هو المصدر الوحيد للإختيار، لأنه وبكل بساطة يمارس سلطة على الأفراد تُرَسِّخُ في وجدانهم ما يجب القيام به من إختيارات، ويقتضي هذا التصور التقليص من هامش حرية الأفراد أمام سلطة المجتمع، باعتبارها السلطة الوحيدة المُحَدِّدَةَ لكل إختياراتنا.

غير أنه، في الحقيقة، لابد من الانفتاح على الاختيارات والارادات الكونية التي تتجاوز انغلاق المجتمع لتتجه نحو إختيارات إنسانية شمولية، أي كونية، ذلك أن الاقتصار، على ما يمليه المجتمع المحلي من اختيارات قد يؤدي إلى ممارسة محلية مغلقة تتسم بالصراع والحرب والعنف، في حين أن تركيزنا على القيم الإنسانية والكونية من شأنه أن يساهم في توطيد الأمن والأمان والاستقرار والطمأنينة والسلم بين المجتمعات، ومن هنا ضرورة انفتاح إختياراتنا الاجتماعية النسبية المحلية والخصوصية على إختياراتنا الإنسانية المطلقة والكونية والعمومية.

إن رهاننا الأساسي هو رهان المواطنة العالمية، ورهان القيم الإنسانية الذي هو رهان الكونية، ذلك أن نسبية القيم المجتمعية تطرح تساؤلات حول كيفية تجاوز محدوديتها وجعل المجتمع يفتح آفاقه الواعدة على قيم كونية إنسانية.

والغرض من كل هذا هو تعزيز قيم السلم الكوني والتسامح العالمي والتعايش بين الدول، على الفرد ألا يبقى سجين إختيارات مجتمعه، بل هناك إختيارات أخلاقية تتجاوز المحلي.

إن الإختيار الأخلاقي يفترض الإرادة والاحترام والتقدير. ويحتاج القانون والأخلاق ذاتها إلى أساس قيمي يستمد منه مشروعيته بغرض تخليق الحياة العامة، وترسيخ قيم المواطنة العالمية، هذه الأخيرة التي لا تقوم لها قائمة بدون إختيار عقلاني مسؤول.

ونقول أخيراً، أن أصعب ما في الإختيار هو القيام به، ولهذا يجب عليك أن تَخْتَارَ وَتُنَفِّذْ.

***

محمد فرَّاح – أستاذ فلسفة / المغرب

..............................

Source du dicton :

[1] - Arthur Schopenhauer, Le Monde comme volonté et représentation, traduit en français : Bordeaux, M.  C.  F., Édition 3. Date de publication : 1966, p. 943. (Adapté).

"العصاب القهري إنموذجًا"

هل يستطيع الإنسان أن يتغلب على ماضيه؟ هل يستطيع أي منا أن يكف عن استدعاء أفكاره التي تعكر مزاجه؟ هل نحن أسوياء إلى الحد الأدنى من أن نطرد الفكرة المكروهة – غير المرغوب فيها لكي لا تكبلنا في محتواها الوسواسي؟ هو حديثنا من خلال هذه السطور عن حالة الوساوس – الطقوس الحوازية - الأفعال الحوازية لدى البعض منا. وسؤالنا هل نستطيع أن نناضل ضد أفكارنا إذا ما داهمتنا هذه الأفكار الحوازية وأفعالها المزعجة؟

الحواز Compulsion هو دافع لا يمكن مقاومته مستقل عن إرادة الشخص، أو مضاد له وعندما يكون في حالة عصاب الفعل الحوازي فهو يتسم بدافع لا يستطيع التحكم فيه، أو هو لا يستطيع ذلك تماما، ومعظمنا يعرف بأن هذا الفعل تافه أو غير مقبول وحتى الفكرة التي تسيطر عليه لا يستطيع ابعادها، بل تداهمه في كل لحظة وتقول " هيلين دويتش" أن التغيير في الشخصية يمثل طورًا نموذجيًا في حياة العصابي الحوازي، أنه يمثل تكوينًا للشخصية ينشأ نتيجة ردود الأفعال نحو الدفعات الشرجية – السادية المكبوتة. وتضيف قد يحدث احيانًا أن يتوقف العصاب عند هذا الحد دون الانتقال إلى تكوين الاعراض ويظل الشخص سليمًا. ويحق لنا القول أن تلك الشخصية هي شخصية وسواسية لكنها لم تنحدر بعد نحو الاضطراب العصابي الحوازي، إلا في حالات حينما تشتد الأعراض وتتحول إلى اضطراب عصابي، وفي ذلك يرى " مخيمر" أن الأعصبة تشكيلة تباينات لنمط كيفي واحد قوامه التجنب أو العزل، ويعرض " مخيمر" فكرة هندرسون وبانكيلور " حيث يعرض هندرسون لحالة مريض " بدأت الأعراض لديه في صورة عصاب قلق، ثم تطورت إلى أعراض عصاب قهري، ثم أنتهى به الأمر إلى أعراض البرانويا.

أما " سيجموند فرويد" مؤسس التحليل النفسي يؤكد على أهمية هاتين الوسيلتين الناشئتين عن الكبت وهما إلغاء الفعل الذي حدث والعزل، وتنشأ هاتين الوسيلتين في مرحلة مبكرة جدًا من طفولة الشخص وهي عبارة عن سحر سلبي يحاول باستخدام الرمزية الحركية، أن " يقضي" لا على نتيجة واقعة معينة فقط، أو على خبرة أو إدراك فحسب، وإنما يحاول القضاء على هذه الحوادث ذاتها. ونحن ما زلنا فيما يطرحه فرويد قوله : نحن نشاهد وسيلة إلغاء الفعل في أول الأمر في العصاب القهري في الأعراض التي تظهر على مرحلتين – الأعراض ذات الوجهين – التي يقوم فيها الفعل الثاني بإلغاء الفعل الأول بحيث تصبح النتيجة كأنهما لم يحدثا، بينما هما قد حدثا في الواقع، وهذا الإلغاء هو الدافع الأساس الثاني للطقوس القهرية. أما الدافع الأول فهو عمل الاحتياطات لمنع حدوث حادث معين أو منع تكراره. ثم يبين لنا فرويد قوله: يحاول الشخص العصابي أن يلغي الماضي ذاته، كما يحاول أن يكبته بوسائل حركية، ولعل هذا الغرض بالذات يفسر الإجبار على " التكرار" الذي يشاهد كثيرًا جدًا في العصاب القهري، والذي يقوم بخدمة عدة أغراض متناقضة في وقت واحد، فإذا لم يحدث أي شيء بالطريقة المرغوبة كان من الممكن إلغاءه بتكراره بطريقة مختلفة. ويضيف " صلاح مخيمر" نقلا عن "فرويد": أنه في كل عصاب قهري توجد نواة من هستيريا التبدين. ويرى " مخيمر" في حالة العصاب القهري " أفكار وأفعال قهرية" يتم التجنب بنوع جديد من العزل، فالفكرة الحصارية " المتسلطة القهرية يتم عزلها عن الجهاز الحركي، أي التنفيذ في نفس الوقت الذي يتم عزلها عن شحنتها الانفعالية الدافعة، هذا " قص لريش" الحفزة كما سماها " صلاح مخيمر" يجعلها مجرد فكرة عاجزة ولا سبيل أمامها إلى التنفيذ الفعلي. على هذه الصورة يتحقق العزل والتجنب، وعندما يستفحل الأمر، تظهر الأفعال القهرية، والتي تشكل أساسًا تحويل "عربة التلقائية" إلى قطار يستحيل أن يخرج عن خطه المرسوم سبقًا بالقضبان، مما يعد مزيدًا من ضمانات العزل، والتجنب، وليس العد والتكرار، غير تعبير من الشك، والتردد من ثم مما يعمل في خدمة العزل والتجنب لكل تلقائية، ولكل فعل، مما يحبس الفرد على وجه الجملة داخل نفسه، وبعيدًا عن كل فعل، ويصبح معزول " محبوس داخل نفسه وضمن اطار سابق التحدد" صلاح مخيمر، تناول جديد في تصنيف الأعصبة والعلاجات النفسية، ص 19".

يعلمنا التحليل النفسي بأن القلق هو المادة الخام لكل الإضطرابات العصابية، وإن القلق هو الذي يحدث الكبت – وترى " أنا فرويد" ان الكبت ليس فقط أكثر الميكانيزمات – الحيل الدفاعية فاعلية، بل أيضًا أكثرها خطورة ، ولما كان الكبت يلعب دورًا رئيسًا في تكوين الاضطرابات العصابية استنادًا لرؤية فرويد، فالقلق إشارة تنذر بتوقع حدوث خطر، ويقوم الإنسان أمام الخطر الحقيقي ببعض المحاولات لتجنبه ووقاية نفسه منه، فهو أما يهرب من موقف الخطر، وإما يقوم بالدفاع أو الهجوم، ويؤكد " برج Berg " قوله: القلق هو المادة الخام التي تصنع منها جميع الأعراض العصابية. وعليه فالأفعال والحركات القهرية التي تشاهد في العصاب القهري هي عبارة عن أعراض الغرض منها القيام بدور الوقاية والاحتياط ضد رغبة غريزية غير مرغوب فيها. وللمزيد يمكن الرجوع لكتاب سيجموند فرويد القلق "

يبين لنا فرويد أن العزل خاصية يتميز بها العصاب القهري وهي تحدث أيضًا في المجال الحركي – القيام بالفعل فنرى الشخص إذا ما فعل شيئًا كان له مغزى بالنسبة لعصابه، أو عقب حدوث شيء بغيض غير مرغوب فيه، يمر بفترة من الوقت لا يحب أن يحدث خلالها أي شيء آخر، فهو لا يحب أن يدرك خلالها أي شيء، أو أن يفعل أي شيء وسرعان ما يتضح أن لهذا السلوك الذي يبدو غريبًا جدًا لأول وهلة، علاقة بالكبت. وعلمنا التحليل النفسي بأن العصابي – الشخص الذي يعاني من أعراض نفسية فكثير منهم لايزالون قادرين على الاحتفاظ بمراكزهم في الحياة الواقعية بالرغم من متاعبهم وما ينشأ عنها من فقدان الكفاءة، ويبدو أن هؤلاء العصابيين مستعدون لقبول مساعدتنا، فهو " الشخص العصابي" يطلب العون والمساعدة في التخلص مما يعانيه من وساوس، وحواز لسيطرة أفكار وأفعال على ما يقوم به، وتعرض " أنا فرويد" فكرة مهمة وهي أن وجود الاعراض العصابية في حد ذاته يدل على أن الأنا قد أندحرت، وكل عودة للحفزات المكبوتة تكشف بما يترتب عليها من تكوين مصالح، عن خطة الدفاع قد أخفقت، وعن أن الأنا قد اندحرت، وقول فرويد أننا لا نريد من الشخص الذي يعاني يأتي إلينا أن يكلمنا فقط عما يعرفه وعما يخفي عن الناس الآخرين، بل إننا نريد منه أن يكلمنا أيضًا عما لا يعرف، وبهذا فإن طريقة مساعدته في التخلص من هذه المعاناة هي طريقة التحليل النفسي، فإذا أستطاع أن ينجح في الامتناع عن نقد نفسه لأمكنه أن يمد هذه الأفكار لمن يقوم بمساعدته، أي بكمية من الأفكار والآراء والذكريات الموجودة في اللاشعور – اللاوعي، أو التي تكون في الغالب من مشتقاته المباشرة، ونستطيع بهذه المادة أن نستنتج طبيعة المادة اللاشعورية – اللاواعية المكبوتة في اللاشعور – اللاوعي. وهي في الحقيقة مواجهة النفس بما تحمل مواجهة تصل إلى جهاد النفس ضد ما تخبأه نفس الإنسان، ليست عملية سهلة، أو روتين، عملية عابرة، بل أنها تتناول أعماق النفس ومواجهة من خلق هذه الحالة المزعجة لمعظم الناس الذين يعانون من الحواز – سيطرة أفعال وأفكار وسواسية، فالشخص حينما يريد التخلص من هذه المعاناة ولديه الرغبة الصادقة فلابد أن يتحمل فوق طاقته حتى تتلاشى هذه الاعراض ويبدو عليه الشفاء، وإن كانت سهلة بالحديث والكلام كما تبدو، إلا إنها تحمل صعوبة جدًا ولابد من وجود شخص متخصص في فنيات العلاج بالتحليل النفسي.

***

د. اسعد شريف الامارة

بقلم: رامي جبرائيل

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

يغذي علم النفس، المشبع بالطقوس والرموز، حاجة إنسانية عميقة كانت تغذيها الأساطير في السابق

ليس علم النفس مجرد علم للعقل. إنه شكل من أشكال المعرفة المتشابكة مع فهمنا الأسطوري للأسئلة العميقة حول المعنى. في عصرنا العلماني، لم يعد الكثير من الناس يلجأون إلى الكتب المقدسة لفهم من هم وما هم عليه. في علم النفس، يجد العديدون معنى لحياتهم. بالفعل، القصص التي نرويها لأنفسنا من خلال علم النفس تؤدي العديد من الوظائف نفسها التي كانت تؤديها الممارسات الدينية التقليدية في الأساطير. يقع علم النفس في مكان ما بين العلوم الاجتماعية، والعلوم الطبيعية، والعلوم الإنسانية، ومن الصعب تحديد نوع المعرفة الذي يجب أن يسعى إليه دراسة العقل. يسعى علم النفس للوصول إلى مكانة العلوم الفيزيائية، لكنه يحاول تفسير أكثر بكثير، وينتهي به المطاف بالكشف عن أقل.

اليوم، يرتبط مصطلح "الأساطير" بالأساطير غير المؤكدة. ولكن هذا ليس دقيقاً تماماً. الأساطير هي في الواقع مجموعة من المعتقدات المدعومة بممارسات، أو طقوس، تواسي رغبتنا في التفسير. كما كتب المنظّر الروماني ميرسيا إلياد في عام 1957: "الأسطورة لا تختفي تماماً من العالم الحاضر للنفس ... بل تغير شكلها فقط." وفي عصرنا، يظهر شكلها في علم النفس.

تظل الأساطير مهمة في الثقافة الغربية. خذ مثلاً نموذج البطل، مثل هرقل وأينياس، والثوار المعاصرين والشهداء والديكتاتوريين. تجسد هذه الشخصيات المثالية نماذج للإنجاز البشري. وبالمثل، فإن مفاهيم الخلاص والتقدم والأخلاق تشكل جزءاً أساسياً من مفاهيمنا للواقع، وغالباً ما يتم التواصل عنها من خلال شكل الأساطير. هناك فائض من المنتجات الثقافية التي تؤدي وظيفة الأسطورة، حيث تمنحنا الشخصيات والقصص وسائل لفهم العالم الذي نعيش فيه. من العالم الخيالي الذي ندخله من خلال الروايات، إلى تجربة الرغبة غير الملموسة التي يمثلها الاستهلاك، نعيش في مساحات واسعة من بناء المعنى. من كتب القصص المصورة للبطل الخارق، إلى الغموض الكامن في الفن الحديث، من رؤى العطلات الجنة، إلى ألعاب الكمبيوتر وإعادة أسطرة الذات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، نسعى إلى ارتفاع أعلى يتجاوز العادي والدنيوي. لقد استبدلنا حتى تجربة الطقوس المقدسة المتألقة، ليس بالتضحيات الدموية أو رحلات الرؤية، ولكن في تعاملنا مع الفن، والمخدرات، والسينما، وموسيقى الروك، والحفلات الليلية. وأخيراً، طور الأفراد طرقهم الخاصة لخلق روايات ذاتية تشمل الانتقالات الأسطورية في الحج أو الرحلات الشخصية إلى أراضي أسلافهم. وبالمثل، يسعى البعض إلى مساحات داخلية يمكن فيها تحويل الإيمان والمعنى إلى تجربة.

للاستعداد لاستكشاف الأساطير المعاصرة، يمكننا النظر إلى الحضارات السابقة والنظر في وظيفة القصص التي روتها. قصة الطوفان، على سبيل المثال، تتكرر في المجتمعات الحضرية المبكرة، مشيرة إلى أزمة في العلاقات بين الإنسان والإله وتجربة الإنسان للاعتماد الذاتي التدريجي والانفصال عن الطبيعة. بينما خلال العصر المحوري (800-200 قبل الميلاد)، تطور الإيمان في بيئة من اقتصاديات التجارة المبكرة، حيث نلاحظ اهتماماً بالضمير الفردي والأخلاق والرحمة، وميلاً للنظر إلى الداخل. وفقاً لكارين أرمسترونغ في كتابها "تاريخ موجز للأسطورة" (2005)، تشير هذه الأساطير المحورية إلى أن الناس شعروا أنهم لم يعودوا يشاركون نفس الطبيعة مع الآلهة، وأن الحقيقة العليا أصبحت من المستحيل الوصول إليها. كانت هذه الأساطير استجابة لفقدان المفاهيم السابقة للنظام الاجتماعي، وعلم الكون، والخير البشري، ويمثل طرقاً لتصوير هذه التحولات الاجتماعية في قصص كونية. تماماً كما نعتبر كيف كانت أسطورة الطوفان أو الأساطير الداخلية انعكاسات لكيفية محاولة الناس لفهم عالمهم المتغير بسرعة، يمكن فهم اعتمادنا على علم النفس كنتيجة للتغيرات في أنماط الحياة وممارسات المعرفة في القرنين التاسع عشر والعشرين.

ما الذي يشكل الأسطورة؟ إنها قانون منظم من المعتقدات يفسر حالة العالم. كما أنها تقدم قصة أصلية - مثل قوانين مانو الهندوسية أو قصة الخلق التوراتية - التي تخلق إطاراً لكيفية تجربة العالم. في الواقع، بالنسبة لإلياد، كل الأساطير توفر تفسيراً للعالم من خلال تقديم حساب لما جاءت منه الأشياء. إذا كانت جميع الأساطير هي قصص أصلية بهذا المعنى، فما هي القصص الأصلية التي تقترحها علم النفس؟ تفسر رواياته عنصرين أصليين من الطبيعة البشرية: قصة الشخصنة - أي، ما يعني أن تكون فرداً ولديك هوية - وثانياً، قصة تكويننا الجسدي في الدماغ. الرؤية الإنسانية للفردية، وكرامة الشخص كموضوع سياسي، تعبر عن المفهوم السابق لما يعنيه أن تكون شخصاً. من ناحية أخرى، توفر علوم الأعصاب الأساس الوجودي لماديتنا.

إن علم النفس المعاصر يشكل شكلاً من أشكال الأساطير بقدر ما يشكل محاولة لإشباع حاجتنا إلى الإيمان بالقصص التي توفر إحساساً بالقيمة والدلالة في سياق الحداثة العلمانية. الطرق التي يُستخدم بها علم النفس - على سبيل المثال في التجارب أو أدب المساعدة الذاتية أو اختبارات الشخصية أو مسح الدماغ - تشكل وسائل لتوفير الطقوس اللازمة لتجسيد أساطير الشخصية والمادية.

فحص دقيق لطبيعة الإيمان ضروري لفهم لماذا نحتاج إلى الأسطورة. الإيمان هو نجمنا الهادي. أن تؤمن بشيء ما هو فعل التزام توجهه العواطف وتعززه العادة والتكرار. في عصرنا العلماني، يجب على الفرد أن يتنقل عبر مشهد ضبابي من العلم والخرافات. عندما لا توجد تقاليد مهيمنة وتتوفر العديد من التفسيرات المحتملة، كيف يتجاوز الفرد الشك ويتخذ قراره بالالتزام؟

أفعالنا مدفوعة بمجموعة من المعتقدات، من غير التأملية والغريزية إلى المعتقدات العليا المدروسة التي نصقلها باستمرار. الإيمان مبني حول المشاعر، فهو يخفف من تجربة الشك، الذي يولد مشاعر القلق وانعدام الأمان. هذا يتجلى بوضوح في فعل تعليق الاستنتاج، التوازن الشكي للشك الذي يشرع البحث عن التحقق أو دحض الإيمان. الحالة الذاتية من الارتباك التي تتحدى وتقطع هي مشبعة بالعاطفة حيث أن جوهر العقلانية هو السعي للحصول على مبرر للإيمان. واجب المفكر تجاه الحقيقة وتجنب الخطأ هو نفسه نوع من الدفع العاطفي. من خلال مطالبة بالحل من خلال تأمين تفسير، يعتبر عملية الشك عاملاً ثابتاً ومرشداً للتفكير. كما كتب الفيلسوف الأمريكي جون ديوي في عام 1910: "المشكلة تحدد نهاية الفكر، والنهاية تتحكم في عملية التفكير."

في هذه الحالة، الدقة ليست هدف الإيمان. كما يجادل الفيلسوف الأمريكي وليام جيمس في كتابه "إرادة الإيمان" (1897)، هناك ضعف بشري في ترك الإيمان على عوامل عاطفية مثل "التصور الحي" و"الإعجاب الغريزي". كما تعلمنا من علوم الأعصاب المتعلقة بالقرار، والتسويق، وعلم الاقتصاد السلوكي، فإن اتخاذ القرار نفسه يتأثر بعوامل عاطفية مثل الخوف، والأمل، والتحيز، والتقليد، ناهيك عن الضغوط الاجتماعية. كل من الإيمان التأملي وغير التأملي يخضع للتأثيرات العاطفية.

نحن نعيش في نظام شامل من الرموز، حيث نواجه باستمرار تحديات للعثور على أنماط نؤمن بها.

النهج البراجماتي تجاه الاعتقاد مناسب بشكل خاص للعلوم الإنسانية مثل علم النفس، لأن دراسة طبيعتنا الخاصة – كما أشار فريدريك نيتشه وفيلهلم ديلتاي وميشيل فوكو – ليست مجرد مغامرة غير متحيزة. في المجتمع المعاصر، حيث تكثر الحقائق والخبراء ووفرة المعلومات، يتضح تأكيد جيمس على أنه عندما يصعب اتخاذ قرار بين الخيارات بناءً على أسس فكرية، فإن مشاعرنا هي التي تقرر. الشك هو أساس كل اعتقاد، والاعتقاد بأننا قد توصلنا إلى الحقيقة هو تأكيد عاطفي يعطينا الراحة من خلال التفسير. ما يجعل التفسير مقنعًا هو توافقه مع النظام الاجتماعي الذي نعيش فيه. على سبيل المثال، في المجتمع الهندوسي، هناك علاقة تكاملية بين السمسارا (دورة الحياة) والكارما والطائفة، حيث يُفسر موقع الفرد في المجتمع بناءً على حيواته السابقة. وقد أوضح عمل عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم الرائع حول الأصول الاجتماعية للدين أن المجتمع هو الذي يمنح المعتقدات معناها.

القدرة على الاعتقاد جزء من مجموعة قدرات الرئيسيات على التعاون والالتزام والتخيل وتطوير الحس الجمالي الذي يسمح بالشعور بالرهبة والتجاوز. تعتمد الهياكل التي تشكل عالمنا الاجتماعي المدجن على تبني معتقدات معينة تمكن الفهم الأساسي والطرق العملية. الأساطير هي مجموعة من الرموز التي تشرح العالم من خلال تجارب الناس. نحن نعيش في نظام شامل من الرموز، حيث نتحدى باستمرار للعثور على الأنماط التي نؤمن بها. الرموز المشتركة التي نستخدمها لإنشاء التفسيرات تأتي لتشكل تاريخنا الاجتماعي. مجتمعة، تؤدي هذه العناصر إلى التزامات أيديولوجية. معتقدات الفرد مستمدة من هذا التخيل التعاوني للمجتمع ومشبعة بالاستثمار العاطفي الذاتي.

الإيمان هو الالتزام بمجموعة من الرموز التي تخفف الشك. الإيمان هو الالتزام العاطفي بطريقة معينة لتجربة العالم. أي مجموعة معينة من المعتقدات هي حقيقية لأي شخص يشاركها. وكما قال دوركهايم، لا توجد أديان كاذبة؛ كلها صحيحة بطريقتها الخاصة.

في عصر علماني، لا يمكن تأكيد معتقداتنا حول طبيعة العقل من قبل أي سلطة أعلى من دافعنا العاطفي نحو الإيمان. التجربة القديمة للامتلاك من قبل الآلهة، أو الضرورة الخارقة للطبيعة، تشبه النغمة العاطفية غير العقلانية للإلهام الإبداعي وتشارك بالتأكيد في كيفية تبنينا المعتقدات الميتافيزيقية. تجارب التحول واللحظات الذروة تعتمد على عناصر عاطفية مشابهة. الشعور بالرهبة تجاه العلم والتكنولوجيا في عصرنا يولد اعتقادًا عاطفيًا في علم النفس المعاصر يشبه كيف كان الناس في الماضي يتمسكون بأساطيرهم.

يبقي الدافع العاطفي للتفسير قلق الشك بعيدًا لأن الإيمان يهدف إلى إفادة المؤمن. إنه فعل تعبير واختراع فردي، حيث يكون الخيال ضروريًا لتصور المستقبل. الاعتقاد في الخيالات المؤسسة جيدًا، أو الأوهام الإيجابية، شائع. في الواقع، يتم إنتاج بعض الحقائق من خلال فعل الإيمان، أو جعلها حقيقية، مثل الحكايات الخيالية ونظريات المؤامرة والخدع. المعتقدات حول العقل، سواء كانت مصنوعة في المختبر أو في علم النفس الشعبي، تعتمد على هذه الخيالات الحسنة النية.

كيف أصبح العلم مصدرًا للمعنى والأهمية؟ كان عصر التنوير تحولًا نحو حرية الحكم من خلال تحرير الأفراد من العقيدة. أوجد هذا التحول عالمًا حيث أصبحت المساحة المخصصة للاعتقاد الديني مساحة للرأي والانتماء السياسي والاستهلاكية. أخذ الاعتقاد دورًا تأسيسيًا في تأكيد استقلالية الفرد. كما كتب الفيلسوف الأمريكي روبرت بيبين في عام 1991، أن تكون حديثًا هو أن 'تطالب بالاستقلال... حرية من... التقليد التاريخي والقدرة على التحكم في معتقداتك الخاصة'. بهذه الطريقة، تأخذ الحداثة طاقة الاعتقاد الديني وتنتج بدائل مثل الرياضة الاحترافية، الماركسية-اللينينية، العدالة الاجتماعية وعبادة المشاهير.

في وقت سابق، خفف الإصلاح البروتستانتي الفاصل بين الاعتقاد المسيحي وأساليب المعرفة العلمانية بحيث أصبح الاعتقاد الحديث قبل كل شيء شكلاً من أشكال الاستقلالية. وبالتالي، أصبح البديل الإنساني للإيمان ممكنا.. في الواقع، لا يقبل الإنسانيون المستنيرون بأي هدف يتجاوز ازدهار الإنسان. كان عصر التنوير حاسمًا في هذا الابتكار الحديث لنظام قائم بذاته في الطبيعة، حيث يمكن فهم العالم بمصطلحاته الخاصة دون اللجوء إلى وجود الآلهة. يشير العلمانية إلى هذا التفريغ من الله والمعتقدات الدينية من الفضاء العام، والانخفاض العام في المعتقدات والممارسات الدينية.

ومع ذلك، تتميز الحداثة بتكاثر المعتقدات. أن تؤمن الآن في ديمقراطية ليبرالية رأسمالية يعني أن تلتزم بإحساس استقلاليتك من خلال تشكيل الذات، أي من خلال اتخاذ قرارات واعية بين خيارات المعتقدات. الاعتقاد هو خيار، اختيار بين مجموعة من النظريات أو تفسيرات الواقع. من الشك الجذري  لميشيل دي مونتين إلى منهج الشك لرينيه ديكارت وكتاب سورين كيركيجارد "في كل شيء هناك شك" (1843) ــ الذي يروي قصة طالب فلسفة أخذ الشك إلى مستويات غير مألوفة – نلاحظ الأهمية الكبرى للإيمان في تأسيس المعرفة بشكل مستقل في إطار الحداثة.

على مدى أكثر من 100 عام من البحث، لم يكن لدى علم النفس الكثير ليظهره كما تفعل العلوم الفيزيائية

جادل ماكس فيبر بأن تراجع السحر عن الكون وما تلاه من عصر القلق جزء لا يتجزأ من هذه التغييرات. عنصر أساسي في هذا التصور للعلمانية هو أنه استبدل عالماً مسحوراً حيث لم يكن الاعتقاد في الكائنات المتعالية والقوى الأخلاقية وقوة الطقوس محل شك. في الوقت الحاضر، كما يكتب الفيلسوف تشارلز تايلور في كتابه "عصر علماني" (2007)، "المكان الوحيد للأفكار والمشاعر والدوافع الروحية هو ما نسميه العقول... والعقول محدودة، بحيث تكون هذه الأفكار والمشاعر وما إلى ذلك موجودة 'داخلها'". الآن، عالم علم النفس يجسد المجالات التي كانت مخصصة للأرواح والشياطين والآلهة. ما فقده العالم من تراجع السحر، كسبته العقول في المكانة المعرفية. ليس الأمر أننا لم نعد نؤمن بالتعالي، بل أن الكثير منا يمكنه تخيل تأثير وقوة العمليات المسحورة (وبالتالي المعنى نفسه) تحدث فقط في العقل.

لكن أليس علم النفس مختلفًا عن الأساطير من حيث أنه يمكن دحضه؟ لا شك في ذلك، فمنذ عام 1879، ابتكر علماء النفس طرقًا للتحقيق التجريبي في العقل، بدءًا من الاستبطانية إلى السلوكية، ونمذجة المعرفة، والاتصالية، وأكثر من ذلك. على سبيل المثال، كعالم نفسي معرفي، تدربت على نظرية كيفية عمل العقل واستخدام الأدوات الإحصائية لمتابعة التحقيقات في السلوك. ومع ذلك، فإن مجالنا يواجه حاليًا أزمة بسبب مشاكل التكرار، وصلاحية بيئية، والحدود الثقافية للسكان الموضوعين في التجارب، وبعض الزلات الأخلاقية. بصراحة، لأكثر من 100 عام من البحث، ليس لدينا الكثير لنقدمه كما تفعل العلوم الفيزيائية؛ حتى الآن، علم النفس ليس فعالًا جدًا في تتبع القوانين العامة. كانت نظريات سيغموند فرويد غير قابلة للدحض إلى حد كبير، والوعد بأن العقل هو الدماغ لم يتحقق بعد. قد يكون من الأفضل تصور علم النفس كمجموعة من الأساليب البراغماتية لتطوير الاستعارات المفيدة للعقل والتمسك بالأمل في أننا ببطء نؤمن مجموعة من الارتباطات الموثوقة بين علم التشريح العصبي والوظيفة.

إن تصور علم النفس كأسطورة يمكننا من إدراك أن علم النفس هو تصوير صريح لما نريد فهمه عن الواقع والأشكال البراجماتية التي اتخذتها هذه المعرفة في النهاية. الحاجة العاطفية لامتلاك تفسيرات تستحق الالتزام بالاعتقاد أكبر مما يمكننا معرفته في أي وقت مضى.

أصبح علم النفس يستخدم بلاغة التنوير الشخصي في ممارساته العلاجية وبالتالي يحاول أن يكون وسيلة للخلاص. يتجلى هذا في أدبيات المساعدة الذاتية. اكتسب مجال علم النفس شعبية من خلال الاستفادة من الاستعارات الشائعة التي شكلت الموطن البشري في المشهد الصناعي. على وجه الخصوص، أكد علم النفس على ضغط المجتمع لتحقيق الكفاءة من خلال الهدف والتكامل والإنتاجية. اجتمع الهوية والاستقلالية كخصائص رئيسية للشخصية لتدعيم الرأسمالية من خلال تمديد مفهوم قيمة التبادل على جميع العلاقات والاندماج بسلاسة مع الفتنة التكنولوجية. كانت الأساطير تقليديًا تعبيرًا عن عالم مسحور، والآن علم النفس هو محاولة لملء الفراغ المفكك بوصف غني للداخلية.

تشبع أسطورة علم النفس الاحتياجات العاطفية والمعرفية للاعتقاد. بالنسبة للاعتقاد التأملي، توفر التفسير والطريق إلى الخلاص من خلال المبادئ السببية-التنبؤية وقصص الأصل. بالنسبة للاعتقاد غير التأملي، يتم تنفيذ الأسطورة واحتضانها في مجموعة من الطقوس. على سبيل المثال، يمكن للمرء أن يعتقد أن الشخصية ناجمة عن التوازن الكيميائي (أو عدم التوازن) للناقلات العصبية، ويمكن تنفيذ هذا من خلال طقوس تناول الدواء. معًا، توفر الأسطورة وممارساتها في الطقوس المنصة لإنشاء المعنى من خلال تقديم الالتزامات في فعل الاعتقاد. تقوم بذلك من خلال التعبير عن الاعتقاد وتعزيزه وتدوينه بطريقة تعزز الأخلاق وتشهد على الأنشطة الاجتماعية المشتركة. تعزز الأسطورة الاعتقاد من خلال إحياء مفاهيمنا عن القدر والمصير، وبالتالي توفير الرموز والطرق التعبيرية للتعامل مع مخاطر الحياة. تحتاج الكائنات الباحثة عن المعنى إلى قصص للتعامل مع المجهول وتوفير التوجيه حول من أين جئنا وإلى أين نحن ذاهبون. الأساطير هي ذلك المنتج الثانوي المستمر للإيمان الحي الذي يحفز الإبداع في أعمال التفسير والتخيل. وبالتالي، فإن الأساطير هي حل مبكر للحقائق المأساوية في الحياة التي تتجاوز المعرفة العملية والمنطقية والعلمية.

في حين أن النار مقدسة عند البراهمة، فإن المنهج العلمي مقدس في الحداثة العلمانية

تقدم المخططات الأسطورية - بما في ذلك علم النفس - قصصاً عن أصول الفناء، والجنس، والمجتمع، والقواعد، والعمل. توفر هذه القصص دافعاً لفهم كيفية حدوث الأمور كما هي. يُحافظ على عالمنا المشترك من خلال ممارسة الطقوس والشعائر كما كتب الفيلسوف الفرنسي جورج باتاي، فإن الطقوس تمثل قواعد السلوك في حضور المقدس، وبالتالي تحميه وتعزله عن المدنس في الأساطير والطقوس التي تدعمه، نبحث عن إحساس مفقود بالحميمية مع المصادر المتعالية. من خلال تقديم مبادئ تفسيرية، يُعد علم النفس وسيلة لتمكين البشر من الحفاظ على ممارساتهم المتعلقة بالذات والمادية، بحيث يمكننا مواجهة العالم بثقة أكبر وطاقة كبرى.

تشتق الطبيعة المقدسة لرمز أو قصة قوتها من قوة المجتمع، التي، كما جادل دوركهايم، هي الشرط الأساسي للحضارة. بينما يُعد النار مقدسة بالنسبة للبرهمان، فإن النهج العلمي وفكرة الفرد الليبرالي يُعتبران مقدسين في الحداثة العلمانية. يُنظم هذا الواقع بشكل أخلاقي شامل. يُعرّف المنطق للمجموعة لأن القوة الأخلاقية هي المجتمع نفسه، ذلك النظام من الأفكار الذي يفهم الأفراد من خلاله أنفسهم ووجودهم نسبةً إلى شروط الحضارة التي يتجسد في المجتمع. جادل جيمس بأن المجتمع يدعم التأكيد العاطفي لرغباتنا عندما نتبنى المعتقدات السائدة. في الواقع، كما يشير الأنثروبولوجي ويليام مازاريللا في كتابه" قوة مانا في المجتمع الجماهيري (2017)،إلى  المجتمع هو كل من الخارجي والحميمي. استخدم الأنثروبولوجيون الأوائل مصطلح مانا، المشتق من الروحانية البولينيزية، لتحديد هذه القوة التي تضمن النظام الأخلاقي والرمزي والثقافي. تدير مانا، على شكل قصة أصلنا المتعلقة بالذات والمادية الميتافيزيقية، قلق الشك للحداثيين العلمانيين.

يؤسس علم النفس كأسطورة القصة الأصلية المادية والتاريخية للبشرية في علوم الأعصاب وعلم النفس التجريبي. يُجسد كونية إنسانيات عصر التنوير في طقوس الذات التي يتم تطويرها في علم النفس السريري، والأكثر غموضًا، في علم النفس الشعبي.

في حين أن المنطق والعلم أثبتا كفاءتهما بشكل أكبر في السيطرة على البيئة، فإن جانب الأسطورة الذي يحدد الأخلاقيات تم التقليل من شأنه. الإنسان العصري، كما زعم إلياد، في حالة قلق في وسط طقس ابتدائي للموت. لإيمان بأهمية الهوية والمادية، يجب عليه مواجهة فراغ من اللاشيء الذي سيجعل طقوس الحياة بلا معنى. قد تكون الحقيقة هي أنه لا توجد حقيقة لا يمكن دحضها عن طبيعة الإنسان. يقدم علم النفس كأسطورة في نفس الوقت الكثير والقليل جداً.

(تمت)

***

................................

المؤلف: رامي جبرائيل/ Rami Gabriel: أستاذ مشارك في علم النفس، كلية كولومبيا في شيكاجو. رامي جابرييل هو أستاذ مشارك في علم النفس في كلية كولومبيا في شيكاجو. وهو مؤلف كتاب "علم مشبوه: استخدامات علم النفس" (2023)، و"لماذا أشتري: الذات والذوق والمجتمع الاستهلاكي في أمريكا" (2013)، كما شارك مع ستيفن أسماء في تأليف كتاب "العقل العاطفي: العاطفي". جذور الثقافة والإدراك (2019).

الفلاسفة واللغة

يقول نيتشة رغم مقولته الجدالية الفلسفية الاستفزازية (موت الاله) ان (اللغة من ابداع الله). كما يقول غاديمير (اللغة هي احد الالغاز العظيمة في التاريخ الانساني). ويقول هيدجر(الانسان كائن لغوي وليس كائنا عاقلا). ويقول سيلارز (الوجود لغة). كما يقول فيلسوف اميركي اخر (الله لغة).

اذا اخذنا تفسير عبارة نيتشة اللغة من ابداع الله فلا معنى تسويغي تفسيري في تمرير العبارة سوى استشهادنا بعبارة شيلر قوله ان كل شيء ندركه ميتافيزيقيا كصفات مثالية يخلعها الانسان على معبوده الذي يؤلهه انما نجدها اي تلك الصفات المثالية مجتمعة بالانسان كموجود يلازم الطبيعة يتفاعل معا ويستفيد منها في تخارج انفصالي مستقل عنها.

وهي بطبيعتها الفيزيائية كموجود معطى مخلوق مستقلة انطولوجيا عن الانسان من ناحية التموضع الذاتي فيها او التجانس التكاملي تكوينيا معها.. أنسنة الطبيعة يتمثّل بالاعتياش الاحادي الجانب في علاقة الانسان بالطبيعة فهي الام المرضعة له وهي المصدر في توفير غذائه ومقوّمات حياته.

وقد سبق لفيورباخ الفيلسوف المادي التأملي الصوفي تعبيره أن الانسان بعلاقته مع ذاته ومع موجودات العالم الخارجي والطبيعة هي الاله المتكامل الذي يدركه الانسان بالموجودات التي يحتويها الوجود. الانسان بعد إختراع صناعته لالهه في تأمله الطبيعة وكائناتها وتنوعها البيئي وظواهرها الدائمية منها والمؤقتة وصل لنتيجة ربما لم يكن يدركها لكنه كان يمارسها انه هو إله ذاته كموجود ضمن وجود اكبريحتويه.. بفارق انه يؤمن ايمانا قطعيا انه الاله الانساني في داخله المجتمعة فيه كل الصفات الانسانية وليس الصفات الالهية التي لا يدركها بل تلك التي يرغبها الانسان في معبوده كخصائص نوعية يحاول الاقتداء بها سلوكا موزعا على طقوس دينية يمارسها في محاولته كسب رضى الخالق في تقليده لصفاته التي هي انسانية والتي بدورها تلعب دورا مهما في تهذيب اخلاق العبد في سلوكه المجتمعي. الصفات الالهية هي مفردات يدركها الانسان في ذاته فقط. ولا يدركها بمعبوده لأنه خالق كل شيء المدرك منه وغير المدرك. وادراك الصفات الالهية من قبل الانسان يعني ان الله اصبح موضوعا يدركه العقل بصفاته.

 اما اذا عدنا لتوضيح عبارة غادمير اللغة هي أحد الالغاز العظيمة بالتاريخ. فهي عبارة صحيحة لم تولد من فراغ ولا هي استحدثت نفسها بخصائصها الذاتية التطورية. فاللغة وإن وصفها غادمير انها لغز تاريخي فهي معطى طبيعي اخترعه الانسان كون اللغة تاريخ تطوره انثروبولوجيا عبر العصور الطويلة من عمر البشرية.

وهذا التطور الانثروبواوجي هو الذي اخترع اللغة وليس العكس فالتاريخ كوقائع انثروبولوجية قبلي على اختراع اللغة وتطورها الانثروبولوجي البعدي. الانتقالات التقدمية التاريخية التي قطعتها البشرية هي التي قادت خلفها عبر العصور اللغة في تطوراتها وتنوعاتها واختلافاتها حسب اختلاف وتنوعات الامم والشعوب.

يمكننا القول أن اللغة نتاج تاريخي انثروبولوجي لم يكن للفطرة أي دور في اختراع الانسان لغته. اننا حين نقول الانسان حيوان ناطق ليس فقط انه يمتلك عقلا مفكرا يتحسس اهمية ايجاد وسيلة تواصل مع غيره من بني جنسه. حين قام الانسان البدائي تقليد اصوات الحيوانات لم يكن يدري أن هذه الاصوات غريزية لدى الحيوان وهي محدودة الاستعمالالات الغرضية منها ابرزها تنبيه الحيوانات الاخرى من نوعه لخطر محدق يتهددهم والاصوات الاخرى تمثل الحاجة للجماع الجنسي او توافر طعام يحتاجه الافراد الذين يعيش معهم من نوعه.

عليه ليس من الغريب ان نقول اللغة خاصية بيولوجية حينما اراد الانسان ان تكون اصواته معبّرة عن اشياء أبعد من الحاجات التي تلبيها اصوات الحيوانات نجد وهذا ثابت علميا انه خلال ملايين السنين تطور تركيب حنجرة الانسان ولسانه لاطلاق اصوات ليس فقط لا تشبه اصوات الحيوانات وحاجاتها الغريزية المحدودة بل لخلق وسيلة هي اللغة طابعها ومخترعها الانسان تحاول التقليل من الاشارات واطلاق اصوات تلبي حاجات انسانية كانت تشغل تفكير الانسان بعيدة عن تفكير الحيوان بها. الانسان البدائي لا يصرخ مثل الحيوان حين تستثار عنده الغريزة الجنسية ولا يصرخ حين يجوع بل كان يشغله كيف يستطيع تكوين جماعات من نوعه يتواصلون بالصوت الذي له معنى قصدي.. الانسان كان يشعر بتقلبات الطقس وتغييرات المناخ والبيئة. وكان يعي الزمن بتاثيراته لكنه لا يدركه لا كصفات ولا ماهية وهي نفس النظرة التي يتعامل الانسان بها اليوم وهو في اوج حضارته وتقدمه العلمي.

يحضرني هنا مقولة فيلسوف رائد البنيوية الذي كرّس فلسفته بعد هجومه الكاسح على كتاب راس المال في توجهه دراسة تاريخ الاقوام البدائية التي ليس لها تاريخ. اي الاقوام البدائية التي لم تكن تعرف اللغة بمعناها التدويني لذا بقيت تلك الاقوام بلا موروث يؤرخ لها عاداتها وطبائعها وكيف كانت تعيش. اركيولوجيا التنقيبات الاثارية كانت تعتمد على ما تركته تلك الاقوام من بقايا اواني حجرية ومصنوعات بدائية من الحجر حتى الالواح الطينية لم يكن يعرف الانسان البدائي قيمتها. عصر التدوين كما يؤرخه العلماء الاختصاصيين بدأ تقريبا بين الاعوام 2500- 3000 سنة قبل الميلاد مع ظهور اللغة المكتوبة والمنطوقة عند السومريين في اختراعهم الكتابة المسمارية تلتها بفارق زمني قصير الكتابة الهيروغليفية الفرعونية بمصر وتلتها اللغات الهندية والفارسية والصينية.

ذكر ليفي شتراوس الذي كان هو ايضا يهتم باهمية اللغة بحياة الانسان مثل زملائه فلاسفة البنيوية في مقدمتهم كان دي سوسيرالذي اصدر بيان التحول اللغوي عام 1905 فقد ذهب ومعه فوكو الى مقولة (الانسان هو الانسان منذ العصور الحجرية والجليدية والى يومنا هذا وحاجاته الاساسية بالحياة هي نفسها حاجات اليوم ولم تتغير.). عبارة صحيحة تحقيبا تاريخيا لوجود الانسان لكنها ليست صحيحة في عالم اليوم الذي يتسيده العلم وتنوع الحضارات البشرية.

اللغة لا تصنع التاريخ ولا تصنع الزمن. بل التاريخ يصنع لغته الخاصة به. وبالتحديد الخاصة بتاريخ قوم من الاقوام. اما عن الملازمة الطبيعية التي تجمع انثروبولوجيا التطور التاريخي وتطور اللغة كحروف واصوات لها معنى دال معيّن فهي متلازمة لا انفكاك بينها.

هيدجر والكائن اللغوي

مقولة هيدجر الانسان كائن لغوي وليس كائنا عقليا. مقولة خاطئة من حيث التراتيبية التاريخية الانثروبولوجية- اللغوية. فالانسان كائن عقلي قبل ان يخترع اللغة. ليس بمعيارية تاريخية انثروبولوجية بل بمعيارية انثروبولوجية تطورية للانسان. فالعقل سابق على اختراع الانسان لغته ليس من واقع حقيقة علمية انه جوهر بيولوجي تحتويه الجمجمة(الدماغ) ولا يستطيع الانسان يعيش عالمه وحياته الطبيعية التفكيرية السوّية من دونه. فالعقل بخاصيته الفكرية فهم وجوده وسط عالم وطبيعة تحتويه.

ارى في عبارة سيلارز الوجود لغة هي عبارة تلخيصية اختزالية لجوهر العقل بعلاقته بالوجود. هنا من الخطأ ان نتصور الوجود لغة مثالية غير مادي. سيلارز ينطلق في مقولته الوجود لغة من حقيقة علمية ثابتة اننا لا ندرك عالمنا الخارجي وحتى عالمنا الخيالي من دون التعبير التجريدي في تمثله كل الموجودات والمدركات على انها وعي لغوي مجرّد.

سيلارز في مقولته لم يكن ينتسب الى فلاسفة القرن الثامن عشر هيوم، بيركلي، جون لوك، فهؤلاء رغم نزعتهم التجريبية الا انهم كانوا يعتقدون ان كل شيء ندركه يكون  وجوده بالفكر وليس الواقع. وينكرون هناك عالم مستقل في وجوده المادي لا يدركه العقل. وما لا يدركه العقل حسب زعمهم فهو غير موجود. والحقيقة ان الوجود المادي يسبق تفكير العقل وادراكه لموجوداته. وان العالم الخارجي لا يتوقف وجوده او عدمه في ادراك العقل له من عدمه او على رغائب الانسان وحاجاته. فالوجود عالم من الموجودات المستقلة انطولوجيا عن وجود الانسان.

فلاسفة القرن الثامن عشر هيوم ولوك وبيركلي اعتبروا كل موجود يدركه العقل بالفكر التجريبي موجود بالضرورة الادراكية عقليا. بمعنى تمثّله تجريدا لغويا.

ديكارت قبلهم في القرن السابع عشر كان اشار الى معنى جوهر العقل باعتباره تعبير لغوي وليس الدماغ البيولوجي الذي تكون خصائصه الادراكية عابرة لخاصية التفكير اللغوي المجرد حين يتعلق الامر بحاجات الجسد. وبهذا المعنى فالعقل علاقته بالجسد لا تقل اهمية عن علاقته بموجودات العالم الخارجي. ديكارت لم يكن يجهل ان طبيعة العقل البيولوجية هي خاصية لا يمكننا فصلها عن خاصية العقل جوهر ماهيته التفكيرالمعرفي المجرد.

بمعنى اكثر وضوحا ديكارت حين يقول العقل جوهر خالد خلود النفس ماهيته التفكير لم يكن يلغي ما هو اكثر واقعية علمية من ذلك ان العقل جوهر بيولوجي خاصيته التفكير ايضا.

بضوء هذا المعنى ان العقل جوهر لغوي بيولوجي نستطيع تفسير عبارة فيلسوف امريكي غير سيلارز قوله (الله لغة) بمعنى ان خاصية العقل في عجزه الادراكي للخالق لا ماهية ولا صفات جعلته الضرورة يلتجيء الى ان يجعل تفكيره بمعرفة الله هو ميتافيزيقا لغوية. وهذا التعبير يختلف تماما عن تعبير نيتشة اللغة من ابداع الله. خطأ نيتشة بعبارته هذه انه اعتبر تشييء الله حقيقة ومرجعية ثابته. عليه ليس من خصائص الخالق انه يخترع اللغات بالعالم. اختراع اللغة من عمل الانسان في خاصيته الانثروبولوجية الوجودية تاريخيا. حتى في حال ذهبنا الى ان عبارة نيتشة هي من قبيل المجاز التعبيري على ان اللغة الهام فطري غريزي بالانسان فهي ايضا خاطئة فاللغة ليست خاصية وراثية فطرية بل هي خاصية حياتية انسانية مكتسبة عن العائلة والمدرسة والمجتمع. القاسم المشترك بين العبارتين الوجود لغة وعبارة الله لغة هو الفاعلية المنتجة لتفكير العقل. كتجريد لغوي سواء في معرفة الوجود او محاولة معرفة الخصائص الالهية غير الانسانية.

الفكر والمادة

تفكير العقل صمتا لا يلغي ابجدية اللغة الصورية صوتا ومعنى كما هي في تعبير اللغة الصائتة (الصوتية) عن مدركات العقل من الاشياء والمواضيع في العالم الخارجي.

إذا كان هناك خاصية ينفرد بها الفكر تراسندتاليا (متعاليا) على الواقع فهي أنه يتطور ويتغير أسرع من التغييرات ألحادثة في واقع الحياة المادية وعالم الاشياء من حولنا في الطبيعة، بمعنى الفكر يدرك الموجودات بالوصاية العقلية عليها بما يجعل من هذا الاخير(الواقع بموجوداته) تابعا للفكر الذي يتقدمه في نفس الوقت الذي لا يمكن القفز من فوق حقيقة أن الواقع المادي للاشياء هو مصدر إلهام الفكر وسابق عليه وليس العكس.

فالفكر لا يصدر من فراغ أي بلا موضوع يدركه حسيّا او خياليا سابقا عليه .تبدو مفارقة متناقضة حين نقول الفكر يتقدم الواقع المادي في التقاطع مع/ والخروج على النظرة المادية ونسقط في تعبير مثالي حين نجد الافكار تجر الواقع وراءها على الدوام، في حين الحقيقة أن الواقع في موجوداته المستقلة أنطولوجيا هو محرك الفكر المحايث له ماديا جدليا السابق على الفكرالمنتج لاستثارة ادراكه العقلي.

والأفكار في الوقت الذي تدخل جدليا(تكامليا معرفيا) مع موجودات الاشياء فهي تسابقها من أجل تغييرها وتطويرها بعد معرفتها وإدراكها عقليا، وتتطور هي ذاتيا أيضا بعلاقتها الجدلية مع تلك الموجودات. العلاقة بين المادة والفكر علاقة تكامل معرفي لكليهما في التقدم والتطور.

والافكار التي تحاول تغيير الواقع جدليا متخارجا مع موجوداته تتطور هي الأخرى في جدليتها المتعالقة بها.فوجود الشيء أو الموضوع المستقل ماديا أو خياليا يعالج من قبل الذهن فكريا في العقل البايولوجي قبل الأفصاح عن وجوده المادي في عالم الاشياء بواسطة تعبير اللغة عنه كموجود في العالم الخارجي او موضوعا متخيّلا. الموجود يسبق الفكر لكنه لا يلزم العقل إدراكه.

الموجودات في العالم الخارجي لا قدرة لها الإفصاح عن نفسها دونما الإدراك العقلي لها والتعبير الفكري لغويا عنها. وكذا نفس الحال مع المواضيع المصنّعة خياليا. فنحن نفهم الصمت تفكيرا إستبطانيا داخليا ذاتيا ولا نفهمه تعبيرا لغويا تواصليا صوت ومعنى دلالي. صمت اللغة في ضروب الفنون والادب تواصل إيحائي تكون فيه لغة التعبير في حالة كمون بمعزل عن خاصية ملازمة الصوت للغة.

وهذا يختلف عن صمت الانسان وإمتناعه التعبير عن تفكيره باللغة المكتوبة أو بالكلام في حال إدراكه أن لا فائدة من التعبير اللغوي . وتاكيد ذلك في تعبير لوفيدج فينجشتاين قوله حين نعجز التعبير بوضوح يكون الصمت أجدى.

ليس الواقع الوجودي للاشياء هو الإنعكاس الميكانيكي في تعبير الفكر واللغة عنه، وأنما الموجود بعد إدراكه حسّيا وعقليا يتم تخليقه ثانية بالعقل بما يطلق عليه كانط مقولات العقل. والاشياء التي يعمل العقل على تطويرها ينعكس هذا التطور الواقعي على الافكارالتعبيرية عنها فتتطور هي ايضا. بمعنى أن الواقع الذي يتطور بفاعلية الفكر يقوم هو الآخر بتطوير (ذاته) واقعيا ماديا ليبقى الفكر يتقدم الواقع في تخليقه له على الدوام ولا يتقدم عليه في أسبقية وجوده على الفكر..

***

علي محمد اليوسف

في تشكل الوعي، والأيديولوجيا، والدولة، والملكية الفردية.

تشكل قراءة ماركس اليوم، قراءة ضرورية مُلِحَّةً، لماذا؟ من أجل إعادة فهم نظريته للوعي ومدى علاقتها بالمجتمع، والطبقات الاجتماعية، وكيفية تشكيل الأيديولوجيا للوعي الزائف للأفراد داخل المجتمع، وفهم كل هذا داخل سياق القرن الثامن عشر 18م، الذي حاول ماركس قراءته وفق منهجه التحليلي-التاريخي-الاقتصادي-الاجتماعي، وأكثر من ذلك فهم كيفية انصهارنا داخل النظم الرأسمالية المتوحشة، كل هذا يعيدنا إلى نظرية الدولة والسلطة وفق كل من ماركس وإنجلز، والنقاش أو السجال الحادم الذي دخلا فيه مع هيجل، لننتهي في الأخير إلى تصورهما لحرية الملكية الفردية لوسائل الإنتاج التي تشكل روح النظام الرأسمالي الخبيث.

من هو كارل ماركس؟

كارل ماركس Karl Marx  (1883-1818) : فيلسوف ألماني، وعالم اقتصاد، أو منظر اقتصادي ألماني، بدأ مشواره الفلسفي أو كارل ماركس الشاب بانتقاد وقلب تصور هيجل المثالي، ويعد عمله: "المخطوطات 1844" بمثابة دليل على انتمائه إلى "اليسار الهيجلي"، خاصة أنه كان متأثراً ووفياً لأفكار وتصورات فويرباخ والذي يعد أحد أبرز رواد "الشباب اليساريين الهيجليين"، لكن كارل ماركس سرعان ما سينقلب ويقطع بالمرة مع "اليساريين الهيجليين الشباب"، بل وسيتخلى أو يقطع مع معظم أفكار فويرباخ، خاصة بعد لقائه مع صديقه الذي تحول إلى توأمه الروحي، فريدريك أنجلز، والذي يحتاج بدوره إلى تعريف خاص به، ووقفة عند مجمل أفكاره، لأنه لا يمكن فهم ماركس بدون إنجلز، كما لا يمكن فهم هذا الأخير، بدون أفكار كارل ماركس، إنهما توأمان فلسفيان وفكريان، أي فكرَّا هما معا، بنفس الكيفية، ووفق نفس المنهج والغاية، ولهذا سيؤلف معه عملاً أو أعمالاً مشتركة، لعل أبرزها: "الأيديولوجية الألمانية" 1846م، تمحورت فلسفة كارل ماركس في الحقيقة، حول الديالكتيك (الجدل) والذي استعاره من الفيلسوف الألماني "هيجل"، لكن "كارل ماركس" استعمله كمنهج أو كطريقة عمل من أجل فهم الواقع الحقيقي للأفراد داخل المجتمع، والوعي، والمعرفة، والتاريخ، والإقتصاد، والدين، ... إلى آخره، لكن ذلك بعدما قام بتأسيسه وتأصيله على تصور مادي-جدلي، وذلك من أجل اسقاطه على جميع الميادين، ذلك أن التاريخ البشري تَشْرِطُهُ عوامل مادية صِرفَةٌ ذي طابع إنتاجي، أي اقتصادي-مالي-سياسي-اجتماعي، فالإنسان في حقيقته الثابتة، بغض النظر عن كونه كائنا عاقلا، إلا أنه كائن منتج، أي ينتج عملاً-شغلاً، هذا العمل-الشغل هو الذي ينتج شروطه المادية لواقعه وحياته المعيشة، لكن يعيش هذا الإنسان في كومة من التناقضات الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية والدينية والتاريخية، ... إلى آخره، تجعل هذا الإنسان-العامل-المنتج يعيش حالة "استيلاب" و "اغتراب" في ما ينتجه ويعمله من عمل، كل هذه الأفكار الماركسية وأخرى، جعلت من ماركس أفيون المفكرين، وألهمت أفكاره الحركة الشيوعية والثورة الروسية الأولى سنة 1905م، بل حتى الثورة البلشفية لسنة 1917م، ونقول مع كثير من التحوط والتأفف، أن كارل ماركس أصبح ملهم الثورات وأبوها الروحي، فلا نجد ثورة إلا وتحمل في طياتها أبرز أفكاره، لن نطيل الكلام عن حياته، لأننا قد نكتب كتاب دون أن ننتهي منها البتة، أما عن أبرز مؤلفاته نجد: "مساهمة في نقد فلسفة القانون عند هيجل" (1844)، "الأيديولوجية الألمانية" (عمل مشترك مع فريدريك إنجلز 1846)، "رأس المال بجميع أجزائه" (1867-1894 الأجزاء الأخيرة كتبها وعدلها ونقحها ونشرها فريدريك إنجلز)، "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" (1859).

1- نظرية الوعي عند ماركس:

بادئ ذي بدء، يشهد كل مجتمع كيفما كان نوعه علاقات مادية وواقعية وظاهرة بين جميع الأفراد الذين ينتمون إليه، هذه العلاقات المادية بين الأفراد داخل المجتمع سرعان ما تتحول إلى شروط ومحددات وموجهات وقيود تُكَبِّلُ وتَأْسِرُ فِكْرَ الأفراد داخل المجتمع، وبالتالي تحدد وتشرط أيضاً تصورات وتوجهات وآراء وأفكار ونزوات ورغبات وغرائز ومعتقدات وسلوكات وممارسات وتصرفات وأفعال وتخيلات الناس.

ولهذا لا يمكننا إنكار البتة مدى قوة هذه العلاقات الثاوية بين الأفراد، والتي كما قلنا تَشْرِطُهم، بمعنى تَدِلَّةٌ على وجودهم الإجتماعي، ولهذا نلح ونؤكد كثيراً على حياة الناس الحقيقية والواقعية والفعلية والتطبيقية، لأنها سبب كل تلك الآراء السائدة داخل المجتمع، لهذا ننطلق من فرضية أن الوعي لوح مَسْقُولٌ وصفحة بيضاء بلغة جون لوك، وأن واقع حياة الناس المادية هي التي تخطط للوعي ما يجب أن يحيط به ويدركه ويستوعبه.

ولهذا فإن الوعي لا يعي بذاته، إنه يفتقد كل مظاهر الحرية والإستقلال الذاتي، إن الوَعْيَ لا يُفَكِّرُ، أي لا يعي ذاته بذاته، لكونه غير مستقل، بل أثناء سيرورة الإنتاج المادي، ومن خلال العلاقات المادية بين الأفراد داخل المجتمع، يكتسب الوَعْيُ عن طريق الخَارِجِ [المجتمع] وَعْيَهُ وتفْكِيرَهُ واستقلاله وحَقيقَتَهُ وهُوِيَّتَهُ الحقيقية.

"ليس وعي الناس هو الذي يحدد حياتهم الاجتماعية، بل إن الحياة الاجتماعية هي التي تحدد الوعي." [1]

وخلافاً للتصور المثالي الذي يدعي تحديد الوعي من خلال الكوجيطو الديكارتي، أو ما يعرف ب الأنا أفكر، ... إلى آخره، فالوعي الصريح والجلي هو وعي من خلال عملية الإنتاج المادي، أو حتى العلاقات المادية التي تنشأ بين أعضاء المجتمع شرط ضروري في تحديد الوعي، وبمقدورنا التفكير في استكشاف أعماق المحددات-الشروط الاجتماعية السحيقة للفكر.

لا يمكننا إنكار الصلة الوثيقة بين الوعي والوجود الحياتي-الاجتماعي للأفراد، ولهذا قلنا مع ماركس أن الوعي مجرد نتاج للشروط-المحددات الاجتماعية والتاريخية، ومن هنا يصبح للوعي الاجتماعي ذلك البعد الإيديولوجي، خاصة وأن الأيديولوجيا مفهوم أساسي في الفكر الماركسي، ذلك أنها بمثابة الكل المركب من المعارف والأفكار والنظريات والمقاربات والتصورات والآراء والمنظورات والمعتقدات والقيم والمعايير والسنن والأعراف والممارسات والمقترحات والرؤى التي تشكلها وتنشؤها الذات الإنسانية لكن من خلال وعي زائف ومقلوب ومغاير تجهل مكامنه ومضمراته ودوافعه وخباياه الفعلية وقواها المادية التي تحركها. لهذا تعني الأيديولوجيا عند ماركس، وبكل بساطة، الوعي الزائف، والمغلوط، والمقلوب، الوهمي الكاذب لكن عن غير قصد.

ولهذا توجد تمفصلات حقيقية بين مفاهيم الوعي والمجتمع والأيديولوجيا في المتن الماركسي، لهذا على القارئ الراغب في التعرف على هذا المتن، أن يحدد المفاهيم الماركسية أولاً ويدرك تمفصلاتها، كي لا يتوه داخل المتن.

ولهذا لم نعد نتحدث مع ماركس عن الوعي بوصفه مجموع المعتقدات والأحاسيس والدواخل المشتركة بين أعضاء نفس المجتمع ويشكل [أي الوعي] نسقاً محدداً له كيانه الخاص به، لا، مع ماركس، أصبح الوعي أسير وسجين الحياة الاجتماعية للأفراد داخل نفس المجتمع، بل وكما قلنا سابقاً الوعي لا يفكر، الحياة الاجتماعية هي التي تحدد للوعي في ماذا يفكر وكيف يفكر أو تعلمه الحياة الاجتماعية ألا يفكر البتة!

وأطروحة ماركس الأساسية هي أنه لا يمكن تحليل ومناقشة مسألة الوعي لدى الإنسان بغض النظر عن العلاقات المادية الجاثمة في وجودهم الإجتماعي وتجاربهم الاجتماعية.

2- الأيديولوجية وَعْيٌ زَائِفٌ:

تقوم الأيديولوجيا، إذن، بوصفها مظهراً من مظاهر الوعي الزائف، بوظيفة تشويه الحياة الواقعية للأفراد، وإدماج الأفراد داخل هذه الحياة الاجتماعية والعمل على تبديدهم وتذويبهم داخلها، لهذا يعترف ماركس أن الوعي مجرد تشويه لواقع الإنسان.

لهذا اعتبر ماركس أن الطبقة البورجوازية المسيطرة المالكة لوسائل الإنتاج هي التي تحمل شعار الأيديولوجيا، وغرضها منه حماية مصالحها الطبقية وممتلاكاتها. [2]

3- إيديولوجية القرن الثامن عشر 18م:

حاول كارل ماركس من خلال منهجه التحليل التاريخي-الاجتماعي-السياسي أن يكشف عن أيديولوجيا القرن الثامن عشر، والذي شهد عدة ثورات وتحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية وإيديولوجية وفنية وثقافية ودينية وفكرية وفلسفية (عرف القرن 18م بعصر الأنوار والثورات والنقد)، هذه الثورات والتحولات والأوضاع التي عرفتها أوروبا القرن 18م، أدت إلى بروز "الطبقة البورجوازية" المالكة لوسائل الإنتاج، والتي كانت طبقة تجارية واقتصادية ومالية آنذاك، وكل هذا أدى بحسب كارل ماركس، إلى بروز ما يسميها ب"الأشكال المختلفة للارتباط الاجتماعي"، ومن بين هذه الأشكال، "المال الذي أصبح هو الرابطة التي تربط الأفراد بالحياة الإنسانية؛ وتربطه بالمجتمع، بل أيضاً تربط الأفراد بالطبيعة وبالإنسان." ومن هنا استنتج كارل ماركس قائلاً: "ألا يمكن القول: إن المال هو القوة الكيميائية للمجتمع؟" [3]

يشكل المال، إذن، رابطة أساسية من روابط المجتمع، لدرجة قول ماركس: أن المال قوة كيميائية تخترق جسم المجتمع في كليته وتهشم منه!

وسيبدو المال، إذن، هو الوسيلة الضرورية لتحقيق غايات وأهداف وطموحات وأحلام وآمال الأفراد داخل المجتمع، لكن نسي هذا الفرد أن المال مجرد ضرورة أَمْلَهَا عنا الخارج، أي ضرورة خارجية لا ذاتية وداخلية، ضرورة أملها علينا الوجود الاجتماعي، وفرض علينا العمل بها، بل لدرجة تقديسها وعبادتها.

لهذا شكلت فترة القرن الثامن عشر 18م، فترة خطيرة جدا، فترة حرجة، شملت ثورات وتحولات جذرية وانقلابا للأوضاع داخل المجتمع، لهذا اعتبرها كارل ماركس بمثابة فترة التطور الكبير والعميق للعلاقات الاجتماعية داخل طبقات المجتمع، بل شكلت هذه الفترة بروز وتوسع الطبقات الاجتماعية.

ولهذا أصبحنا نتحدث مع ماركس، عن ضرورة الحياة الاجتماعية للأفراد، فمن خلالها، كما توصلنا سابقاً، يتحقق وعيهم، وتبرز هويتهم وحقيقتهم وماهيتهم الاجتماعية.

وخلال نفس الفترة، أي القرن الثامن عشر 18م، ذاب الأفراد داخل المجتمع، وعملوا جاهدا على التأقلم داخله، والذوبان الاجتماعي فيه.

4- انصهار الأفراد داخل المجتمع الرأسمالي المتوحش:

ونتج عن كل هذا، انصهار الأفراد داخل مستنقع المجتمع، ولم نعد نتحدث عن الفرد كذات واعية حرة ومسؤولة ومستقلة، بل أصبحنا نتحدث عن "كائنات اجتماعية" تقدس وتعبد المجتمع، ولا تستطيع التحرر الذهني منه.

"داخل المجتمع، أصبحت فكرة إمكانية وجود إنتاج ملموس وواقعي صادر عن فرد معزول، يعيش خارج المجتمع، فكرةٌ واهيةٌ." [4]

إن المجتمع عبارة عن بنى خاصة تشتغل بكيفية مختلفة عن عناصرها الأولية، وذلك من خلال صهر الأفراد داخله والقضاء على فرديتهم وحريتهم واستقلالهم الذاتي.

وكما لاحظنا فالفرد مفهوم تاريخي تشكل في القرن الثامن عشر 18م، وثم توهيم الأفراد بأن فردانيتهم لا تتحقق إلا داخل المجتمع، لهذا قُضِيَ على الفرد نتيجة تطور الجماعات، واعتبر مجرد فاعل متفرد لكن داخل المجتمع.

أدى كل هذا إلى انصهار الأفراد داخل البنيات الاجتماعية المشكلة له.

5- مفهوم الدولة لدى ماركس وإنجلز:

من هنا يمكننا الانطلاق بكل اطمئنان لمقاربة مفهوم الدولة لدى كارل ماركس، لكن هذه المرة من خلاله توأمه الروحي فريدريك إنجلز، والذي طور ووسع تصور كارل ماركس، واعتبر الدولة نتاجا اجتماعيا، وبالتالي نتاجا للثورات والتحولات والأوضاع الذي شهدتها أوروبا القرن الثامن عشر، في جميع المجالات والميادين، كما أن الدولة هي بمثابة حاضنة وحاملة وحافظة التخبطات والنواقض أو التناقضات التي تهشم جسد المجتمع، ولا تنفك حتى تقضي عليه، ذلك أن المجتمع كما أشرنا سلفا، منقسم إلى تعارضات وطبقات اجتماعية، أي هناك فئوية داخل نفس المجتمع، هناك انتماءات طبقية داخل نفس المجتمع، تعود إلى المستوى الاقتصادي والمالي للأفراد، لهذا بحسب ماركس دائما، المجتمع الرأسمالي المتوحش ينقسم إلى طبقتين متواجهتين-متناقضتين-متعارضتين، هناك الطبقة البورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج، وهناك الطبقة البروليتاريا البائعة لقوى عملها.

لهذا لا يمكننا البتة المصالحة أو التوفيق بين هاتين الطبقتين، كما أن المجتمع لا يستطيع احتوائهما معا واستيعابهما معا، أي في وحدة كلية، بل لا بد من الصراع الطبقي الذي يفيد المواجهات الدائمة التي تحدث بين طبقة العمال والطبقة البورجوازية المحتكرة لوسائل الإنتاج، ولكي لا يتفاقم هذا الصراع بين هذين الطرفين المتناقضين، خاصة الطبقة البورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج والتي تخاف على نفسها وممتلكاتها، وتهاب تبدد المجتمع من خلال صراع عقيم بين الطرفين، فإنها تختلق سلطة عليها وعلى الطبقة البروليتاريا، هذه السلطة تدعي أنها مستقلة، أو فوق كلتا الطبقتين، بل وتقول أنها صنعت من أجل تقليل حدة الصراعات الطبقية، هذه السلطة هي الدولة، بالنسبة لماركس وصديقه إنجلز دائما.

إن نشأة الدولة، نشأة متولدة عن خوف الطبقة البورجوازية، من مصالحها الاقتصادية والمالية، وخوفها من التعارض القائم بينها وبين الطبقة البروليتاريا، إنها أي الدولة وليدة الصراع الطبقي.

لكن الدولة تخدم، حسب كل من ماركس وإنجلز، الطبقة البورجوازية، والتي كما نعلم جميعاً، طبقة قوية سائدة ومسيطرة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً ...إلى آخره، كما تفعل ما في جهدها من وسائل لاستغلال الطبقة البروليتاريا خاصة من الناحية القانونية والتشريعية.

"أصبحت الدولة ضرورية في مرحلة معينة من التطور الاقتصادي الذي كان مرتبطاً، ضرورة، بانقسام المجتمع إلى طبقات." [5].

بقي فريدريك إنجلز وفياً للتصور الذي دشنه بمعية كارل ماركس، وعمل على تطويره، من خلاله دعوته المستديمة إلى إعادة النظر في بنى المجتمع، وذلك بإعادة تنظيمه من جديد، أي إعادة موضعة تنظيم الإنتاج الاقتصادي على أساس المشاركة الحرة لجميع الأفراد داخل المجتمع، والتقسيم العادل والمتساوي للثروات بين المنتجين.

كل هذا يساهم بشكل إيجابي من أجل تقويض وتقييد وحدة ماكينة الدولة وسلطتها القاهرة على الأفراد، من هنا يدشن فريدريك إنجلز بمعية ماركس التيار الداعي إلى نهاية وموت الدولة والتخلص منها لأنها مجرد أداة ووسيلة تجسد الصراع الطبقي وتحاول تقويضه والتخلص منه، اللهم نستبقها نحن الأفراد ونطبق مكرها وخداعها من أجل التخلص منها.

لهذا كان طموح كل من ماركس وإنجلز هو اعتبار الدولة مجرد حكم يخدم مصلحة الطبقة البورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج، كما أن غاية الدولة هو تبديد القائم والظفر بسلطة أبدية ومطلقة.

6- ماركس وإنجلز مناقشان لهيجل:

نعلم جميعاً أن ماركس وإنجلز ينتقدان من خلال المنهج التحليلي التاريخي-الاجتماعي-السياسي ويدحضان بشدة تصور هيجل ونظريته في الدولة والتي عرضها في كتابه "مبادئ فلسفة الحق" (1821)، وهو بحث فلسفي متكامل حول دولة عقلية، باعتبارها تجسد الفكرة الأخلاقية الموضوعية أو المبدأ الروحي الذي يتحقق في العالم الموضوعي والاجتماعي في صيغة: العائلة والمجتمع والدولة.

إن الدولة -حسب هيجل- هي المجال الذي تصبح فيه الحرية الفردية حرية عمومية وكونية، إنها غاية في ذاتها لأنها نظام وفكرة عقلية متجسدة في التاريخ.

لهذا صدرت طروحات ماركس وإنجلز عن خلفية ومرجعية مادية تاريخية، وتسعى إلى هدم طروحة هيجل المثالية التي ترى الدولة فكرة مثالية مجردة مجسدة للتاريخ.

وتكمن قيمة كل من ماركس وإنجلز في كونهما يتناولان فكرة الدولة بمنظار التحليل التاريخي المادي، لكن حدود فكرة كل من ماركس وإنجلز هو نسيانهما أن الدولة حالياً واقع قائم متأصل في الوجود الإنساني، وأنها زوالها مجرد وهم وتوهم وهذيان وبهتان، لكن لا أحد ينكر أن الدولة واقعة تاريخية بل وضرورة لا يمكن مجاوزتها أو حتى التفكير في ذلك حالياً.

ولا يمكن إنكار حدة التناقضات الاجتماعية المتواجدة داخل الدولة، وتعمل هذه الأخيرة ما أمكن على احتوائها واستيعابها.

7- ماركس ومسألة حرية الملكية الفردية:

ولكي لا ننسى مسألة في غاية الأهمية بالنسبة لكارل ماركس، فهو من خلال منهجه التحليلي النقدي الاقتصادي-الاجتماعي-السياسي، عمل على استقراء التاريخ واستنطاقه ما يخفيه فيما يتعلق بمفهوم الحرية وكيفية تشكلها داخل المجتمعات الغربية، خاصة في العصور الحديثة والأنوارية، ونقصد هنا القرن 18م، والتي يرى ماركس أنها مجرد حرية وهمية، خاصة وأنها تدافع عن حرية الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، والتي كما نعرف جميعاً أن الطبقة البورجوازية وحدها من تمتلك وسائل الإنتاج وبالتالي فهي من تفكر بمنطق حماية وضمان وسائل الإنتاج، وهي صاحبة فكرة "حرية الملكية الفردية" لأنها تخدم مصالحها وفصلت على مقاسها، لهذا يعترف ماركس أن ما نطلق عليه بالحريات الفردية والحقوق الفردية أو حتى حقوق الإنسان هي حقوق وهمية وضعت لتخدم مصلحة الطبقة البورجوازية وبالتالي فهي ليست حقوقاً كونية كما يدعون، إنها حقوق عينية تتعلق بأفراد وطبقة معينة.

لهذا يتساءل ماركس وبسخرية في أين تكمن حقوق الإنسان في حرية الملكية الفردية؟ خاصة المادة 16 من دستور 1839م الألماني، والذي ينص على الحق في حرية الملكية الفردية، يعلق ماركس ساخراً من هذه المادة القانونية البورجوازية:

"إن حق الإنسان في الملكية الفردية [لوسائل الإنتاج] معناه إذن الحق في التمتع والتملك للثروة بواسطة الإرادة الحرة، بدون العودة إلى الناس الآخرين وباستقلال عن المجتمع: إنه الحق في الأنانية. فهذه الحرية الفردية وكذا تطبيقها هي أساس المجتمع البورجوازي ..." [6]

إن كل حديث عن الحق في حرية الملكية الفردية لوسائل الإنتاج هو حديث وتشريع للحق في أن يكون المرء أنانيا، ويفكر في مصالحه الشخصية والذاتية والفردية بغض النظر عن الأفراد الآخرين-الأغيار، بل وباستقلال عن المجتمع الذي ينتمي إليه، إنه حق أناني في التمتع بالأموال وتملك الثروات وتكديسها تحت غطاء الإرادة الحرة، هذه ليست إرادة حرة بل استغلالا حرا للآخرين، ولهذا يصبح الحق الإنساني حقا يضمن حرية الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، ومن خلال هذا الحق نكون قد أقمنا تمييزاً شارخاً بين البورجوازي المالك لوسائل الإنتاج والبروليتاري المالك لقوى العمل، وهذا تدليل على أنانية الطبقة البورجوازية وتفكيرها في نفسها وفقط وضمان حقوقها الشخصية من خلال سن مجموعة من النصوص القانونية والتشريعية والإعلانات والمعاهدات والبروتوكولات، وتريد تطبيقها على كل كائن بشري يهدد مصالحها الخاصة ولذاتها المتميزة عن الجماعة.

وسيغالي كل من ماركس وإنجلز في مسألة الحق في الملكية أو الحرية الفردية لوسائل الإنتاج وردها إلى التشريع الأخلاقي الكانطي أو القانون الأخلاقي الكانطي الذي يقول : "يجب عليك ألا تكذب" و "يجب عليك ألا تسرق"، وما هذا النظام الأخلاقي الدوغمائي إلا انعكاس لهذه الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، ويريد هذا القانون الأخلاقي أن يكون بمثابة قانون خالد ونهائي وثابت ومطلق وكوني، يدعي أنه يُجَاوِزُ التاريخ ويشرع للمستقبل، ويعلوا على مختلف الأفراد، في حين أنه يخدم مصالح فئوية.

"فبما أن المجتمع تطور عبر [مر] الزمن من خلال تناقضات طبقية لحد الآن، فقد كانت الأخلاق على الدوام أخلاقاً طبقية، أو أنها عملت على تبرير الهيمنة ومصالح الطبقة المُسَيْطِرَةِ، أو أنها كانت تمثل مصالح الطبقة المُضْطَهَدَةُ الصَّاعِدَةُ وثورتها ضد تلك الهيمنة. وهكذا يظهر أن الأخلاق بدورها تخضع بدون شك لفكرة التقدُّم، مثلها في ذلك مثل سائر المعارف البشرية." [7].

ومن هنا نستنتج مع إنجلز أن حرية الملكية الفردية لوسائل الإنتاج أنتجت لنا مجتمعاً طبقياً متناقضاً ومتصارعاً إلى الآن، والذي أدى بالضرورة إلى أخلاق طبقية متناقضةً ومتصارعةً ومتغيرة إلى الآن بتغير المصالح الفردية، ولا حل لهذا سوى ثورة الطبقة المُضْطَهَدَةُ على الطبقة المُضْطَهِدَةِ، لأن الأخلاق كالتاريخ تصدق عليها فكرة التاريخ كما تصدق على سائر المعارف والعلوم والفنون البشرية، ويمكن أن تتغير بتغير البنى الاجتماعية.

إن العلاقة بين الحرية والضرورة علاقة جدلية بإمتياز في الفكر الماركسي، إذ لا يمكن الحديث عن الحرية إلا حينما ينتهي العمل الذي تفرضه الحاجة والضرورة الخارجية، كما يفرضه الإنتاج المادي ذاته، وهنا يبدأ الصراع بين الحرية ومضاداتها ليس فقط على مستوى السلوكات والتصرفات والأفعال والانفعالات والنزوات والميولات والممارسات والدوافع، بل أيضاً على مستوى الأفكار والعواطف، إن الحرية تناقض العمل ولا يمكن الجمع بين نقيضين من المفروض -بلغة أهل المنطق- ألا يجتمعا معاً وألا يرتفعا معاً.

ولكي لا ننسى أن مملكة الحرية لا توجد باستقلال تام عن قوانين الطبيعة.

لهذا دعى ديكارت إلى معرفة قوانين الطبيعة قصد التحكم فيها وتسخيرها من أجل غاية حفظ الصحة.

كما أن حرية الإرادة الإنسانية تدل على أن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي هبته الطبيعة ملكة اتخاذ القرار، لهذا يجب استخدام هذه الملكة على أحسن وجه من أجل معرفة علل جميع الأشياء بغرض التحكم فيها وتسخيرها من أجل غايات محددة.

لكن هذا لا ينسينا الارتياب والشك الذي يحيط ملكة اتخاذ القرار حينما يكون المرء جاهلاً، مما يؤدي به إلى الخضوع لأي موضوع يأتي في طريقه، أو يختار بشكل اعتباطي بين العديد من الامكانات المتعارضة والمتناقضة مما يوقعه ضحية الاعتقاد بأنه يسلك طريقاً صائباً.

وخاتمتنا لماركس وصديقه إنجلز، أنهما أيقظانا اليوم من سباتنا الدوغمائي، خاصة عندما عرفانا على أن الأيديولوجيا ما هي سوى شكل من أشكال الوعي الزائف، تعمل من خلالها الطبقة المسيطرة على إدماجنا داخل المجتمع، وأن الفرد مفهوم تاريخي، وفردانيته لا تتحقق إلا داخل المجتمع، وأن الحرية الفردية لوسائل الإنتاج أكبر وهم يعيشه الأفراد لأنها تخلق لهم نظاما أخلاقيا على مقاس نظامنا الطبقي، مما يعني أن الأخلاق والقيم أصبحا نسبيين، أي يتغيران بتغير المصالح الاجتماعية، وكل هذا يحتاج إعادة نظر عميقة من البداية!

***

محمد فرَّاح – أستاذ فلسفة / الرباط

.........................

Bibliographie:

[1] - Karl Marx, L'idéologie allemande, édition. Sociales, Paris, 1982, p. 7.

[2]- ينصح بالعودة إلى كتاب "مفهوم الأدلوجة" للمفكر المغربي عبد الله العروي، الصادر عن دار: المركز الثقافي العربي، المغرب 1980، ص: 40 وما بعدها، نظراً لأهمية هذا المرجع في التأريخ لمفهوم الأيديولوجيا، واعتبر في كتابه هذا أن كارل ماركس، وفريدريك نيتشه، وفرويد فلاسفة ومؤسسي مذهب الأيديولوجيا بإمتياز.

[3] - Voir : Karl Marx, Manuscrits de 1844, Presses Universitaires de France, 1972, p.

[4] - Karl Marx, Introduction générale à la critique de l'économie politique, 1857, Première partie, Gallimard 1965, p. 236

[5]  - Friedrich Engels, L'origine de la famille, traduction française. J. Stern, édition. Sociales, Paris, 1983, p. 286.

[6]  - Karl Marx, La question juive, Traduction française. M. Simon, Édition. Bilingue Aubier, p. 107-108.

[7]  - Friedrich Engels, Anti-Dühring, édition. Sociales, 1973, p. 124.

 

سيرا على العادة نتاج المصادرة التغلبية الاحادية الارضوية، فان العقل البشري هو "واحد"، اخر اشكاله وتجليه الاكثر سطوعا مايسمى بالعقل "العقلاني" و "العلمي"، النافي للحيز الماورائي الميتافيزيقي، لاباعتباره منفصلا عن الاول بل بماهو حالة عقلية لعقل واحد مكتوب له المرور بمحطات ومراحل، راها هيغل متسلسه في ثلاث كبرى متتالية (اسطورية/ دينيه/ فلسفية) ومثلما هو الحال اجمالا، فان الكائن البشري هو "واحد"، العقل احد اجزائة، ان لم يكن بموضع العضو من بين اعضائه، هذا على مستوى التبلور الادراكي، عدا عن الرؤية المباشرة اليومياتيه.

ولاشك اننا نجازف هنا بالتعرض لمسالة لاشبيه لها ولاسابق، متحسبين لمايترتب على انقلابيتها المفهومية المتاخرة كثيرا، بعد رسوخ نمطية التفكيرالاوربية الحداثوية المتسيده اليوم، ووقتها كان من المستحيل التلبث امام احتمالية ان يكون العقل عقلان، ومسارات الرؤية والادراكية للوجود والعالم رؤيتان مستقلتان داخل العقل نفسه بناء للخلفية النوعية المنطلق، الامر الذي يجد تفسيره ومحفزاته "الواقعية" في المصدرين والخلفيتين الواقعيتين بصيغتهما الاكمل والاعلى المتباينتين المغيبتين، كل بحسب منطلقه الوجودي النوعي، هما مجتمعيتي: الارضوية الاعلى الاوربية، تقابلها اللاارضويه السومرية مابين النهرينيه، بمعنى الاقرار ب"الازدواج" المجتمعي كما الذاتي البشري، كشرط مخالف كليا للاحادية كما هي شائعه ومعتمدة، وهكذا نكون امام انقلاب يصل من حيث دلالته وحضورة مستوى النوع البدئي التاريخي، بما يبيح القول بان تاريخ البشرية ومجتمعاتها وجد محكوما لبدئيتين اولى احادية ناقصة هي حصيلة انتكاس نموذجيتها الاولى حالة مصر ووادي النيل، تظل مستمرة وغالبةعلى مدى الطور اليدوي المديد، قبل ان تحل البدئية الفعلية المجتمعية الاخرى المغيبه واقعا وادراكا.

ولايحدث الانتقال الى الادراكية الازدواجيه بداهة وفورا، من دون تمخضات ضرورية يتعاظم تحت وطاتها ثقل الاحادية بقوة فعالية وتحفيز الانقلابية الالية، بما يتيح تكريس وتوطيد موقع الاحادية والمصادرة التاريخيه المعتادة الى الحد الاقصى، مولدا شروطا تتعداه وتذهب الى توفير الاسباب لانطلاق الادراكية الاخرى المؤجله، ما يجعل من الانقلابية الالية فعلا ابعد من نطاق الاحادية نحو مابعدها ومايقابلها، خارج التبسيطية الايهاميه التي تشيعها مع ما يتسنى لها من الظروف الالية المنطلق المؤاتية ساعتها، تلك التي تعزز موقعها ودرجه فعاليتها على مستوى المعمورة ابتداء، الى ان يحضر اخيرا الانتقال الضروري الاعلى المقابلز وبعد الوثبة الثانيه الحداثية الغربية الارضوية اللاحقة على الاغريقية اليونانيه، ومايتنامى بمقابلها من اسباب الانبعاثية الثانيه اللاارضوية المحجوبة، مكملة الانطلاقة الابراهيمة النبوية الحدسية الاولى، لنصبح على مشارف الازدواج الاصل مع حكم آلياته التي تضع اللاارضوية، على عكس مايظن ويتصور توهما، بموقع الصدارة كحقيقة وكموئل تحولية كبرىشامل، هي الغرض الاعلى الذي تنطوي عليه المجتمعية منذ ان وجدت وصارت واقعا معاشا، ووقتها يتعدل المنظور الاعقالي البشري الاحادي، وتتراجع القصورية الاعقالية الملازمه للعقل من بدايات التبلور المجتمعي.

فالالة توفر اشتراطات الانقلابيه المزدوجه عكس ماتقوله الاحادية، وهو الجانب الاهم والاخطرالذي يستمر غائبا عن رؤية الاحادية الحداثية اليوم كما في الماضي، فلا ترى كما ينبغي احتمالية التقابلية، (ابراهيم، مقابل ارسطو)، بما هما منظوران رئيسيان لاارضوي شرق متوسطي نتاج الاصطراعية المجتمعية الارضوية اللاارضوية، سماوي مقرون بالعبقرية الحدسية النبوية، وفلسفي هو حصيلة الاصطراعية الطبقية الاوربية، حيث الاليات الاعلى ضمن نمطية الارضوية على مستوى المعمورة، ولاعلاقة من حيث التشكل واشتراطات التبلور النشوئي بين المظهرين والتعبيرين، بينما يظل يحكمهما كل من جهته وعالمه، مؤثر وفعالية اليدوية الانتاجوية ابتداء، ثم الالية المتاخرة، فيحدث وقتها الذهاب الى الطور الثاني من التعبيرية اوربيا اولا، وشرق متوسطيا رافدينيا لاحقا.

لا يسير الوعي البشري من الاسطورة الى الدين الى الفلسفة، بل يسير واقعا في عالم اللاارضوية من الاسطورة الى الصيغة الدينيه التوحيدية الاكمل الابراهيمية الحدسية، بانتظار الصيغه الثانيه العليا اللاارضوية العليّة السببيه كطور نهائي، وهو مايوافق وينجم عن اثر وفعل الاله المتاخر، ومايتبع ويلحق بانتقالية اوربا الطبقية الى الدورة الثانيه من الادراكية هناك فلسفيا علمويا عقلانيا طاغيا، لاقترانه باسباب القوة والهيمنه الاكراهية، في الوقت الذي يتعاظم فيه النفي الالغائي للمنظور الكوني اللاارضوي الاصل، والمنطوي على الحقيقة الكبرى المجتمعية الموافقه للغرض الكامن في الظاهرة المجتمعية.

يبدا العقل البشري لا ارضوي مرهونا لاشتراطات بيئية طبيعية استثنائية، اقصى مايتوفر له من ممكنات هي التعبيرية الاولى الحدسية العبقرية النبوية، وقت لاتكون كافة الاسباب الضرورية للتحقق والانتقال، وبالاخص المادية منها حاضرة كي يتم الانتقال من الجسدية الى العقلية ماينجم عنه انتكاس ارضوي طويل، من ابرز مظاهره الطرد الكلي للتعبيرية اللاارضوية خارج النمطية المجتمعية قصورا وعجزا ادراكيا، بما يزيل من الحسبان اي اعتقاد بخصوص احتمالات، لابل موجبات التطور التعبيري على الطرف اللاارضوي نتاج الاشتراطات البيئية المعاكسة، التي تضع الكائن البشري على حافة الفناء بمقدمها النهران المدمران العاتيان المخالفان للدورة الزراعية مع انفتاح الحدود شرقا وغربا وشمالا على الانصبابات البشرية باتجاه ارض الخصب من الصحاري والجبال الجرداء، بخلاف حالة مصر تماما، وبالذات احتمالية الانتقال من شروط اللاتحقق البدائية الاولى، الى توفر اسباب الانتقالية التحولية مع الاله وتحولاتها التي تبدأ اولا بالمصنعية، قبل الذهاب الى التكنولوجية العليا العقلية، المتطابقة فعالية مع اللاارضوية، بينما تخرج الاارضوية الطبقية الاوربية وقتها من مجال التفاعلية الاليه التي بدات بين ظهرانيها.

ينتقل العقل اللاارضوي وقتها من التعبيرية الحدسية النبوية الى العليّة السببية، (الابراهيميه الثانيه التحققية العليا)، وقد اكتملت ساعتها عناصر الرؤية الكونية الضرورية المطابقة لاشتراطات التحولية التاريخيه كما مقررة حتما للظاهرة والوجود البشري المجتمعي منذ الابتداء.

ومع الانتكاس الطويل اليدوي الاول، واليدوي الالي التوهمي الاخير، فان العقل الارضوي يجد موضعا هو الاعلى آليات اصطراعية، وان تكن "طبقية" دون "مجتمعية"/ الاصطراعيه/، مركزها اوربا التي تعود مع انقضاء الطور اليدوي لتصبح لعلو الديناميات والاليات منطلق وبوابة الانتقال الجديد الفاصل، ما يمنحها، وان مؤقتا موقعا مضافا لتاريخها الانتكاسي القصوري الاول، حين كانت بمثابة مركز التاريخ المجتمعي، ومنطقة تحققه التاريخي الابتدائي الانتهائي، توهما وقصورا ادراكيا.

***

عبد الاميرالركابي


عقلان بشريان"الارضي" و"المعجز"(2/2)

عبد الاميرالركابي

يبدأ الاعقال البشري الوجودي، لاارضوي، وجهته ومقاصده لاارضوية كونية سماوية محكومة لشروط الابتداء غير القابل للتحقق، يمنعه من ذلك عاملان، القصورية العقلية، وافتقاد الوسيلة المادية الضرورية، ففي المنطلق وعند بداية التبلور المجتمعي بصيغته الاستثناء اللاارضوية السومرية الرافدينيه، يكون العقل مازال وقتها مرتهنا ادراكا لممكنات الوثبة الاولى بعد الانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين، الانقلابيه النوعية الافتتاح بعد مليارات السنين من الغلبة الكاسحة شبه المطلقة الحيوانيه، قبل ان تتسنى الشروط الضرورية لمغادرة الهيمنه الجسدية في انتقالة اولى، يصير معها العقل حاضرا ليدخل طورا اخر من اطوار تصيره وارتقائه الذي هو الجوهر ضمن عملية الارتقاء الناظمه للوجود الحي، على عكس تصورات النشوئية الارتقائية الارضية الدارونيه التي تجعل الانسان متحققا مكتملابصورة نهائية، لحظة انبلاج وحضور العقل الاول بعد طول رضوخه المديد.

ومن يومه تبدا عملية التصير والارتقاء الثانيه بعد الاولى حصيلة وحدة وتفاعلية البيئة/ الكائن الحي وتحولاته، ذهابا الى الصيغة "المجتمعية"، المحطة الاخيرة المفضية الى مابعد جسدية، وقت ينتهي دور ولزوم الجسد، ويصير ممكنا تجاوزه وتحرر العقل واستقلاله عنه، قبل انتقاله الى عالمه ومملكته الكونية الاخرى، مابعد الارضوية المؤقته الانتقالية. هذا المسار نحو ( الانسان/ العقل)، محل ( الانسايوان العقل/ جسد)، ذلك الذي يصير قائما مع الوثبة العقلية الاولى، غير المهياة، ولا القادرة على ادراك المنطوى التصيري المجتمعي وحقيقته، وما هو ذاهب اليه، فتظل القصورية لهذه الجهه تنتظر التفاعلية المجتمعية على مدى الطور اليدوي من تاريخ المجتمعية، بينما تستمر الرؤية الارضوية الحاجاتية وقتها هي الغالبة المتسيدة لدرجه الحلول بموقع البداهة.

يذهب تاريخ التعبيرية الوجودية الكونية المتوافق مع كينونة المجتمعية والوجود البشري الحي ومآلاته بين محطتين، اولى محكومة لاشتراطات اللاتحقق والقصور، وثانيه عليا هي محطة الانتقال الى "الانسان/ العقل" التحولية العقلية، تحضر بينهما وتتغلب الى حد، رؤية وتعبيرية اخرى هي الارضوية الاحادية المرتكزة الى القصورية ونقص اسباب تحقق اللاارضوية، كانتكاس طويل الامد، موافق لاجمالي الطور اليدوي من التاريخ المجتمعي على طوله، محوره واساسه المفاعيل الارضوية الحاجاتيه الجسدية، يظل يسبغ على المجتمعات وتاريخها، واجمالي الوجود والنظرة له ولدينامياته ووجهتها، مايتماشى منها مع الحدود والمتاح المنظور ارضويا، والعائد للعيانيه المعتبرة "علمية"، اي الملموساتيه المحسوسة، باغفال كلي وتام للاليات الفعليه المجتمعية ولقانون حركتها، والهدف الناظم لدينامياتها، علما بان الامر لهذه الجهة يشمل مفهوم "العلم" نفسه و "العقلانيه" المجتزاة والمحدوده ارضويا، بما يجعل هذين التوصيفين ومايدلان عليه منقسمين الى ارضويين ولا ارضويين، هما ايضا.

يصر العقل الارضوي قاطعا جازما بحكم طبيعته، على انه هو"العقل"، متجاهلا بنكران كون العقل الحالي له سابق هو الخفي غير المعلن المحتجب داخل الكينونه الحيوانيه الازدواجية، ايام كان الكائن الحي حيوانا، فهل يمكن ياترى اعتماد "العقل الحيواني" على اعتباره هو العقل النهائي ولاغيره؟ مثل هذه الرؤية مصدرها الاساس الاعتقاد بجمودية العقل، ورفض ديناميات تصيره وترقيه التصيري، وصولا لوثبته الحالية المتزامنه مع الانتصاب واستعمال اليدين على انه المنتهى والمأمول الذي لابعد له، والحال وبالمقارنه فان مانشير اليه هو نظير المفهوم العقلي الحيواني لو وجد، حين لم يكن بالمطلق التفكير باحتمالية الوثبة العقلية الراهنه واردا.

العقل بالاحرى وقطعا، ليس الذي نعيش في غمرته وتحت مفعوله الحالي، وهو سائر حكما الى مابعد، والى وثبة اخرى لايعود معها العقل الراهن الا بمستوى ومن عينة العقل ابان فترة التسيد الحيواني، مع الاختلافات التي تفرضها لحظة التصير وشروطها، ليس العلم الراهن " علما"، ولا العقلانيه " عقلانيه الا بمنطق ومفهوم الارضوية والعقلية الانسايوانيه، اما "العلم" و " الاعقال" فمايزالان واقعين تحت وطاة واشتراطات ماقبل، الى ان تاتي الوثبة الثانيه العقلية، ونصير امام مفاهيم اخرى، وطريقة نظر للاشياء لاعلاقة لها بالمعروف اليوم وماهوسائد.

وليس الامر على هذا الصعيد معزولا عن التفاعلية الواقعية، فنهضة الغرب الحديثة تلك التي حركها الانقلاب الالي، لم تكن مجرد انقلاب على مستوى الارضوية وممكنات الجسدية كما ذهب الغرب بتوهميته العائدة الى رسوخ خضوعه لمتبقيات الوعي والادراكية اليدوية، فالالة المصنعية ليست نهاية الاله شكلا ومفعولا، وهي تظل بعد ظهورها سائرة بالاصطراعية مع المجتمعية التاريخيه اليدوية، الى التكنولوجية، والتكنولوجية العليا المتجاوزة مفعولا لعالم اليدوية ومتبقياته، وبالذات ايهاميته التي تتكرس على يد الغرب ابتداء، الى ان يصير عالم الكيانيه والدول، وكل اشكال ومتبقيات الطور اليدوي وتطويراته الكيانوية القوموية والوطنيه، واشكال تنظيم الدول الداخلي، ومنها المستجده الايهامية الليبرالية والمدنيه، خارج الفعل وامكانيه الاستمرار، بينما تتعدى المتغيرات التكنولوجية ومايرافقها، ممكنات استمرار الدول الحالية، لتشيع من يومها الاضطرابيه القصوى، والفوضى التدميرية الاحترابيه الحالية، ويحل زمن "وحدة البشرية"، مع الاقرار الابتدائي بالانتقال من الارضي الى الكوني، حيث الاداة الالية العليا وسيلة تفاعلية عقلية لاجسدية، وحيث مجمل التنظيم والجهد البشري من هنا فصاعدا، ذاهب الى بناء عالم "مابعد كوكب الارض" ولزومية "مابعد جسد".

يدخل العالم والكائن البشري اليوم مرحلة عظمى من التاريخ، ينتهي معها فعل وجدوى عالم الارضوية وعيا وتنظيما، واشكال وصيغ حياتيه على المستويات المختلفة، ويبقى الاخطر متبقيات التوهمية الغربية وماتصر على التمسك به من اسباب الاعقال المتجاوزة، وسبل التعامل مع الشان المتعلق بالكائن البشري ووجوده، واحتمالية استمراره، فضلا عن عبوره مترقيا الى الطور الاخر الترقوي العقلي المنفصل عن الجسدية،مع مايتطلبه كل ذلك من مواجهة غير مسبوقة وصعبه التخيل، ناهيك عن مقتضيات التعامل الاستثنائي غير المتاحة مقاربته ماتزال.

اليوم وفي مثل هذا الحال الفريد، والمقارب لاشكالية البدئية من دون ماتقتضيه وتتطلبه من وسائل من طبيعتها، لايبقى من مدخر انقاذي امام الكائن البشري، الا الرؤية الاعقالية الاخرى الكونيه اللاارضوية، بصيغتها الثانية المكتملة العناصرالتحولية، بافتراض توفر الاسباب لها كي تتحقق بعد ان زال النقص التحولي المادي العقلي مع الاله المتحولة الى التكنولوجيا العقلية العليا، وبعدما مر العقل بالاسباب والموجبات الضرورية، بعد تفاعلية وخبرة التاريخ الفاصل بين الوثبة العقلية الاولى، والوثبة المنتظرة اليوم، تلك الثانيه الانقلابيه الانتقالية العظمى الى خارج الكوكب الارضي بعد انفصال العقل عن الجسد وتحرره من متبقيات الحيوانيه العالقة به.

انتهت الابراهيمه النبوية الحدسية، كما انتهت التوهمية الغربية الارضوية، ليغدو العالم والجنس البشري على موعد صعب وعسير غير مسبوق مع الرؤية اللاارضوية العلّية السببية المنطلقة من ارضها الاولى، ارض مابين النهرين.

...

يشكل الصمت منظومة سكونية متعددة الوظائف، فهو قدرة على إِجَادَة وحَذَاقَة ذرء الكلمات والمفردات والمصطلحات والألفاظ بقصدية، إذ في الصمت توجد الأفكار، فمن لا يعير أي إهتمام للكلمات، سنجده يتجاوز البَقْبَاقَ والتَّلْهُوقَ، أي الشخص الثَّرْثَارُ وكثير التَّقَعُّرِ فِي قَوْلِهِ، عَلَى جَميع الأصعدة.

يرتبط الصمت في دلالته المتداولة بالسكوت، فعندما يراد التعبير عن إطراق أحد من الناس للصمت يقال إنه يفضل السكوت، فالفعل الذي يستخدم للتعبير عن ذارئ الكلام لا يشتق من الصمت بل من السكوت، وكأن بالصمت اسم لا يتحقق إلا من خلال فعل السكوت.

لهذا لا يمكننا أن نقول أن السكوت أداة للتفاعل بين الناس، بل هو أداة لقتل التواصل فيما بينهم البين، لكنه يشكل في الحقيقة أداة تفكير وتأمل وإِخْفاءٌ ، وإِضْمارٌ ، وتَعْمِيَةٌ ، وتسَتُّرٌ قوي، خاصة وأن له بعداً سلطوياً وايديولوجياً نتعرف عليه فيما بعد.

ففعل السكوت فعل ساكن زمنيا بطيء الزوال والتلاشي، وغير قابل البتة للتجدد، ويتبدى بشكل ثابت وقار نسبيا، يبقى الصمت والهدوء والسكون والسكوت دائماً سيد الموقف بين الناس، فيوفر لأفراد المجتمع وسائل لذبول التواصل وإخفاء التعابير الحقيقية، ويتخذ شكل إبرة سقطت في كومة من القش، فيحمل دلالات ومعاني غير قابلة للتجاوز والفهم والتأويل.

يظل الصمت ثابتا في جوهره، منظما بدقة، وساكنا لا شيء يطابقه ويعبر عن حقيقته الثاوية خلفه، إنه وبكل بساطة، حالة سيكولوجية ووجدانية وذهنية ووجودية بإمتياز، لا يمكن التعبير عنه وتبليغه أو إيصاله للآخرين.

ذلك أن الصمت والسكوت قابل للتوظيف في حياتنا اليومية لأغراض عديدة ومختلفة، وقلنا إن ماهية وحقيقة الصمت تكمن في كونه يطابق بين الفكرة والخَافِي، أي الخَفِيّ فيها، والمَخْفِيّ، أو حتى المُخْتَفِي، والمَحْجوب، والمُتَواري، والمَسْتور، ثم المُضْمَر فيها، إن الصمت بمثابة قمة جبل الجليد يخفي كثلة ضخمة من الأفكار والتصورات والآراء والمنظورات والمعتقدات والقيم والمعايير والسنن والأعراف والممارسات والمقترحات الثقيلة على الأفراد.

إن اعتمادنا لهذا الوصف يسهل علينا القول بأن الصمت يشكل بعداً من أبعاد الإنسانية المضمرة، لكن إذا سألنا أي واحد ممن نعرف، لأي شيء يصلح الصمت؟ أكيد أن الجواب سيكون هو: الانْقِطاع عن العالم ، والإِحْجامٌ عن الأغيار، بل والإِعْراضُ عنهم، من خلال الإِمْتَناعِ عن التحدث معهم ، وإِمْساكُ الكلام مع الآخرين، وإِنْفِصالُ عن هذا العالم، وكَفٌّ عن التواصل مع البشر، ففي عالم تهيمن فيه مواقع التواصل الاجتماعي، تبدو كلمة الصمت كلمة رَهِيبة ، وشَنِيعة، إن لم نغالي فنقول أنها فَظِيعة ، وقَبِيحة ، ومُرَوِّعة ، ولا تخطر على البال لكونها مُرِيعة ، ومُرْعِبة ، ومُفْزِعة لغوغاء الناس ودهمائهم، أي أن سواد الناس لن يقبلوا هاته الفكرة بحماس، بسبب انتشار التكنولوجيات الجديدة والوسائط المتعددة في الاتصال التي شرعت التواصل وأهملت عدم التواصل أو التزام الصمت، كما نلحظ هيمنة قوية للخطابات المسترسلة، في حين ندعوا لهيمنة صَوَامِتُ مسترسلة!

وهذه المنظومة السُّكْتِيَّةُ (جمع سُكُوتٌ، سُكْتٌ.) مركبة من ثنائية الجَاثِمُ والمَجْثُومِ. من جهة أولى، لكونها حالةً أو نشاطاً سيكولوجيا وَاجِماً أو هادئاً، ومن جهة ثانية، نقول أنها حمَّالَةٌ للدلالات والمعاني، كما أنه من خلال العدد المحدود من السُّكْتِ المُحْجَمِ يستطيع الصمت أن ينشئ ما لا نهاية له من الأفكار والتصورات والآراء والمنظورات والمعتقدات والقيم والمعايير والسنن والأعراف والإمكانات المُضْمَرَّةُ والدَّالَةُ على مستوى الذهن.

لذلك فإن الصمت العقلي صمت ينظم الفكر وغير قابل للتحقق البتة في شكل خاص، لهذا يجعل من التجربة الذاتية الباطنية لِذَاتٍ ما منغلقة ومعزولة على ذات أخرى في تعبير مُلْتَحِمٍ ومُتَوَاشِجٍ، وليس يظهر إلا على شكل إنشادٍ ، وسَكينَةٍ ، وسُكُوتٍ ، وسُكُونٍ ، وشَدْوٍ ، وصَمْتٍ ، وطَرَبٍ وهَمْسَةٍ أو هُدُوءٍ محدد. خاص بفرد متميز عن غيره، ولا يشترك في صمته مع الآخرين.

إن الصمت يقدم لنا نموذج البنية القطائعية بالمعنى الأكثر حرفية للكلمة والأكثر شمولا في الآن نفسه، فهو يضع السكون في علاقة معقدة داخل الخطاب، منتجا بذلك مجالا خاصا داخل الفكر العقلي للفرد.

وأخيراً إن الصمت هو النظام السكوني الأكثر اقتصادا، فهو خلافا للثرثرة لا يتطلب أي مجهود فيزيائي أو بدني، ولا يعاني العقل-الذهن فيه شيئاً، إنه الحالة الأكثر عمقاً في وجود الإنسان.

من هنا تطرح إشكالية الصلة بين الصمت والفكر، ونجيب بدون أخذ ورد، أن الصمت محايث للفكر لا مفارق له، ذلك أن الفكر فعالية لا يقوم له قائم خارج الصمت، وقد تثبت الدراسات الدماغية وعلوم الأعصاب والإدراك وتدعم وترجح أطروحة تعالق وترابط الصمت بالفكر داخل الدماغ-الذهن.

ذلك أن الذهن هو مجموع المواصفات الضرورية المتبناة من طرف العلماء، لكي يتمكن الأفراد من إستعمال أي ملكة، لعل من بينها ملكة الصمت، والتي هي ملكة مضادة للسان، ويمكنها أن تشتغل وتُمَارَسَ بِدُونِهِ.

والصمت لا يَقْتَنِصُ من الشيء غير ملمحه المُبْتَذَلُ ويفضل ذرء الوظيفة الأكثر عمومية للشيء، لأنه يعبر عنها، ويذرئ تسللها إلى الخارج، ويَحْجُبُ صُورَتَهُ عن أنظارنا، لأن صورة الصمت عن الفكر لا تتوارى البتة، عن الصمت والسكوت وهو يقوم بعملية التفكير!

لهذا يختفي الصمت وراء الكلمات، كما تتوارى عنا حالتنا السيكولوجية المُضطربة لإجبار حمولتها من أجل الظفر بالتجربة المعاشة على نحو أصيل، فالصمت يشكل حقيقة التجربة الحميمية التي نعيشها من الداخل.

إذا كان الصمت في الحقيقة يقتضي وجود الفكر سلفا، كما أن فعل السكوت فعل يقترن بالشيء قصد معرفته وتقمصه، لأن الصمت علامة على وجود الفكر، لأنهما وُضِعَا بشكل موضوعي، فالصمت يحتوي الفكر، والفكر يَسْكُنُ الصمت، والفصل بينهما أمر غير وارد وغير مقبول البتة، لكونهما مرتبطان ومتحدان، ولا يجوز القول بأسبقية أحدهما على الآخر، لأنهما وبكل بساطة يتكونان معا وفي آن واحد.

وهذا يعني أن قيمة الصمت بالنسبة للإنسان، أنه كينونة أودع فيها الإنسان عالما خاصا به إلى جانب العالم الآخر الواقعي، وبالتالي يصبح بمثابة عالم أول متأصل في الذات البشرية وأودع كل شيء فيه، بما في ذلك إحساساته الوجدانية والعاطفية والسيكولوجية عموماً.

ونحن ضيوف هذا العالم الصامت داخلنا ونقيم عنده وننعم بالخيرات والمسرات الجمة التي يغدقها علينا بكل سخاء، وطبعا نشعر بحقيقة وجودنا خلال مقامنا في واحاته، أي طوال حياتنا، ويبدوا أن الصمت والسكوت مشاكس عنيد يتأصل فينا دون استئذان، فيتملكنا ويسكننا رغماً عنا، إننا مسكونون بالصمت، نصمت كثيراً ونتكلم قليلاً، لا أحد يستطيع إنكار صمته، من أجل جمع رمقه ونفسه، أصاب بالدهشة والذهول، حين أكتشف أن البعض منا لا يعترف بحقيقة الصمت، وأنه غير قادر من الإفلات منه، ولا شفاء يرجى منه، إنه مرض عصابي بلغة فرويد يصيب الحضارة الإنسانية.

يسود الاعتقاد أننا حينما نصمت فإننا نكون في حالة تعبير عن أفكارنا ومشاعرنا بإرادتنا الحرة وننغلق على الآخر بموضوعية ووضوح تامين، فنخرج من عالمنا الواقع، لندخل إلى عالم الصمت الأرحب والأوسع، هو عالم مسيج خاص بي، عالم محكوم بسلطة السكينة والحركة، إنه عالم متناقض!

بمعنى أن الصمت هو في نفس الوقت الشكل الوحيد لوجود الفكر، وحقيقته ونمط تحققه، وغالبا ما لا نتساءل هل يوجد صمت بدون تفكير أو تفكير بدون صمت؟ كما لا يوجد دخان بدون نار أو نار بدون دخان، لا يوجد كذلك صمت بدون تفكير، ولهذا فإن المثل الشعبي المغربي القائل: ب "أن السكوت علامة الرضى" لم يصب هذه المرة، فالخطاب الصامت أو الفكر الصامت هو فكر صَاخِبٌ قياس على حَياةٍ صَاخِبَةٍ : مُضْطَرِبَةٍ وغير مستقرَّة.

ونقلب المثل الشعبي فنقول: "السكوت علامة الحَرَدِ ، والغَضَب ،والتنافُرِ ،والحَذَرِ، والخَشْيَةِ، والخَوْفِ ، والرَفْضِ ، والعِصيانِ المتَمَرُّدِ ، والمُخالَفَةِ ، والمُعارَضَةِ ، والمُقاوَمَةِ."، نقف عند هذه الأخيرة، فنقول: "كل صمت وسكوت هو مُقَاوَمَةٌ وَإِزْعَاجٌ لِلثَّرْثَارِ.".

ونحذر هنا من قصدنا أن الصمت أداة للفكر، فالمقصود به أن الصمت يضمر، عكس أي أداة التي تظهر، أي شيء، أو عن فكرة توجد داخله وقد تكون خارجة عنه فيتلقفها كونها بادية للعيان ويعمل على إضمارها.

حينما ننظر في حقيقة الصمت، نجده ينطوي، تبعا لبنيته الداخلية المعقدة، على علاقة استيلاب محسومة يشعر بها الكائن الصامت، فأن نلتزم الصمت، وبالأحرى أن ننتج خطابا صامتا، لا نسمعه إلا نحن مع ذواتنا، ليس معناه أن ننغلق على ذاتنا هكذا، وننطوي على قوقعتنا الداخلية، بل معناه وبكل بساطة أن نسود ونسيطر ونقاوم ونرغب ونزعج أنفسنا والآخرين، من خلال قمعهم ونكون نحن من نمتلك القوة والسيادة والهيمنة، أو وبكل وضوح نمتلك سلطة، الصمت إذن تملك للسلطة، ونقصد هنا سلطة النفي القطعي التي يمارسها الصامت بشكل روتيني، خاصة عندما يقوم بتعليق الحكم ليس بالمعنى الهوسرلي، بل تعليق الحكم بمعنى تفضيل الصمت على الكلام في كثير من الأحايين، ولهذا نفضل السكوت من خلال لم الشتات المتناثر بداخلنا وعدم الإفصاح عنه، فتعليق الحكم تَدِلَّةٌ على الشعور بالسيادة والخلود إلى راحة لا هروب عنها.

ومن ثم نخلص إلى مشكلة الصمت وعلاقتها بالشروط التي يشرطها عليه المجتمع، هذا الأخير يمارس تأثيراً جانبيا قويا على الصمت، فقد نسكت لنرضي المجتمع أو نرضاه، أي المجتمع الذي ننتمي إليه، بمعنى نتوخَّى استمالته واستدراجه لصالحنا، ذلك أن قدرة المرء على تبليغ ما بداخله للمجتمع لا يمكن أن يتحقق إلا في حالة كثمان، أي عَدَم الإِفصاح عن أمرٍ أو أحاسيس، وتفضيل إِخفاؤها، ذلك الصمت لا يعمل إلا على الإشارة إلى تلك القدرة الخفية وتمثيلها بطريقة صحيحة، فليست سلطة الصمت سوى سلطة موكولة إلى صاحبها الذي فضل الصمت والتَّأَفُّفِ وأخذ الحيطة والحذر من التلفظ لجهة معينة داخل المجتمع.

ولهذا لا يجب علينا أن ننسى أن الصمت يستمد سلطته من الخارج، أي من المجتمع والمحيط الأسري، وأقصى ما يفعله الصمت هو أن يخفي هذه السلطة ويُبْطِنها، ويضْمِرها ، ويُسِرَّها عنده في مجاله الذهني الخاص به، وهذه السلطة تتحدد بحدود التفويض الذي يسندها لها المجتمع والمحيط العائلي دائماً، فيصبح هذا المجتمع ومؤسساته بمثابة قوى ضغط تمارس على الصامت وتراقبه من خلال العديد من الإجراءات التي يكون دورها هو الحد من خطورة كل من يفضل السكون، لدرجة التحكم في تلفظه المحتمل، وإخفاء سَمْتِهِ الرَّهِيبُ والمُقْلِقُ.

لا يخفى على أحد كيف يتم استبعاد وعزل كل من يفضل الصمت، لأنه وبكل بساطة لا يقول لنا كل شيء أو بعض شيء، وهناك أشياء خاصة تعرفها الذات الصامتة تتقاطع وتتعاضد مع ما يعرفه المجتمع، فتشكل [هذه الأشياء الخاصة التي تعرفها الذات الصامتة] سياجاً معقدا يُفْسِدُ أقنعة المجتمع التنكرية باستمرار.

هناك حدود حمراء بمثابة طابوهات المجتمع تلك المتعلقة على سبيل المثال لا الحصر، بالجنس، والدين، والإله، والمرأة، والدولة، والسلطة الحاكمة، والسياسة عموماً، هي أحد المجالات التي تمارس فيها تقويضات رهيبة لا يجوز الحديث عنها، بل يُخَافُ كثيراً على الصامت عنها الذي لا يقدم موقفاً صريحاً [يتوافق ورأي المجتمع السائد] عنها.

يبدو أن الصمت في ظاهره شيء بسيط، لكن في عمقه شيء خطير جداً، لهذا يُخَافُ من أن يكون الصامت لا يتوافق والرأي السائد في المجتمع وتوجهات الدولة، ولا شيء يستغرب في هذا، ما دام الصمت ليس هو ما يظهر بل ما يتخفى ويتستر عن الظهور والتلفظ، لهذا نقول أن الصمت رغبة، لكنه رغبة مُقاوِمَةٌ ومُتَعَطِّشَةٌ ومُزْعِجَةٌ كثيراً، لأنه يترجم الصراعات وتوترات أنظمة السلطة وتناقضاتها، ولهذا فالصامت يعاني في صمت وخفاء ويصارع الغير ويتصارع مع ذاته، إن الصمت صِرَاعٌ نُحَاوِلُ دَائِماً أَنْ نَخْرُجَ مُنْتَصِرِينَ عليه، لكن ما يفتأ يهزمنا ويحبطنا دائماً .

على سبيل الخَتْمِ؛ يمكننا القول الآن أن الإنسان يتحدد أيضاً، بعد عديد من المُحَدِّدَاتِ التي تَحُدُّهُ، أنه "كائن صامت" "Être silencieuse"، ينفصل عن العالم الواقعي ويعيش عالما جديدا انعزاليا يركن فيه للصمت، لكنه صمت سَيَّالٌ، لأنه نتاج للفكر والعقل والذهن، ويتسم بالخلق والإبداع.

لهذا لا وجود للفكر في استقلال عن الصمت إنهما يتكونان ويشتغلان في آن واحد، ونستطيع في ضيافة الصمت أن نعبر بعمق عما يجري في عالم أفكارنا: إنه قادر على امتلاك عمق الفكر والوجدان، وانصات للوجود كما عبر عن ذلك هايدغر.

كما يشكل الصمت أخيراً منظومة صاخبةٌ ضاغطةٌ ومُعَبِّرَةٌ عن الخطاب الإيديولوجي السائد في المجتمع وتوجهات الدولة والمحيط الأسري.

***

محمد فرَّاح – الرباط

تخصص فلسفة

كان الفهم العلمي الجديد ومعه التقنيات الهندسية دائما مثيرا ومخيفا، ولاشك انه سيستمر. شركة open AI المتخصصة ببحوث الذكاء الصناعي أعلنت مؤخرا انها تتوقع "ذكاءّ خارقا" – للذكاء الصناعي يتجاوز قدرات الانسان خلال هذا العقد. وبناءً على ذلك قامت الشركة ببناء فريق جديد وخصصت 20% من مواردها الحوسبية لضمان الانسجام بين سلوك أنظمة الذكاء الصناعي من جهة والقيم الانسانية من جهة اخرى. انها لا تريد من الذكاء الصناعي ان يشن حربا على الانسانية.

ولذلك دعت الشركة المهندسين وكبار الباحثين في مجال التعليم الآلي لمساعدتها في حل المشكلة.

لكن ماذا عن الفلاسفة؟ هل لدى الفلاسفة ما يمكنهم المساهمة فيه؟ ماذا يمكن ان نتوقع من الفلسفة في عصر التكنلوجيا المتقدمة حاليا؟

للإجابة على ذلك، يجدر التأكيد على ان الفلسفة كانت فعّالة ومؤثرة في الذكاء الصناعي منذ أيامه الاولى. كانت اولى القصص الناجحة للذكاء الصناعي عام 1956 في برنامج كومبيوتر اُطلق عليه نظريات المنطق، اسّسه كل من الن نيويل Allen Newell وهربرت سيمون Herbert Simon. وظيفة البرنامج كانت إثبات نظريات باستعمال افتراضات من مبادئ الرياضيات. وهناك عمل من ثلاثة أجزاء في عام 1910 للفيلسوفين الفريد نورث وايتهد و برتراند رسل سعيا فيه لإعادة بناء كل الرياضيات على أساس منطقي واحد.

في الحقيقة، كان التركيز المبكر على المنطق في الذكاء الصناعي مدينا بالكثير للنقاشات التأسيسية التي سلكها الرياضيون والفلاسفة. احدى الخطوات الهامة كانت تطوير الفيلسوف الألماني جوتلب فريج Gottlob Frege للمنطق الحديث في أواخر القرن التاسع عشر. أدخل فريج في المنطق استعمال متغيرات قابلة للقياس الكمي - بدلا من أشياء مثل ناس - هذا الاتجاه جعل من الممكن القول ليس فقط، على سبيل المثال، "جو بايدن رئيسا" وانما ايضا التعبير منهجيا عن افكار عامة  مثل "هناك يوجد X كما في ان X هو رئيس"،حيث ان "هناك يوجد" هي محدد للكمية، و "X" هو متغير.

مساهمات اخرى هامة في الثلاثينات كانت للمنطقي النمساوي المولد كورت جودل Kurt Godel، الذي كانت نظرياته في الإكتمال وعدم الإكتمال حول حدود ما يمكن ان يثبته المرء، وكذلك المنطقي البولندي الفريد تارسكي في "برهان في عدم تحديدية الحقيقة". الأخير بيّن ان "الحقيقة" هي أي نظام صوري معياري لا يمكن تعريفها ضمن ذلك النظام المعين، حيث ان الحقيقة الرياضية على سبيل المثال، لا يمكن تعريفها ضمن نظام الرياضيات.

أخيرا، في عام 1936 جاءت الفكرة المجردة لماكنة حاسبة من جانب البريطاني الن تورنك معتمدا على مثل هذا التطور وكان لها تأثيرا هائلا على الذكاء الصناعي المبكر.

ربما يقال،حتى لو كان الذكاء الصناعي بنسخته القديمة مدينا للفلسفة والمنطق، فان "الموجة الثانية" من الذكاء الصناعي المرتكز على التعليم العميق، يعتمد على الكثير من مآثر الهندسة المرتبطة بمعالجة كميات هائلة من البيانات. مع ذلك، لاتزال الفلسفة تلعب دورا هاما ايضا. لو أخذنا نماذج اللغة الكبيرة، مثل تلك التي تدير دردشة ذكاء صناعي Chat GPT التي تنتج نص محادثة. هي نماذج هائلة، لها بلايين او ترليولنات العوامل، مدربة على مجموعات كبيرة (تؤلف الكثير من الانترنيت). ولكن في جوهرها، هي تتعقب وتستخدم نماذج احصائية من استعمال اللغة. شيء يشبه كثيرا هذه الفكرة جرى توضيحه بالتفصيل من جانب الفيلسوف النمساوي لودفيج فيتجنشتاين في أواسط القرن العشرين: "معنى الكلمة هو استعمالها في اللغة" حسب قوله.

لكن الفلسفة المعاصرة، وليس فقط تاريخها، ملائمة للذكاء الصناعي وتطوراته. هل بامكان LLM (برنامج الذكاء الصناعي الذي يستطيع تمييز وانتاج النص) ان يفهم حقا اللغة التي يعالجها؟ وهل يمكنه ان ينجز وعيا؟ هذه اسئلة فلسفية عميقة.

العلم حتى الان غير قادر على ان يوضح بشكل كامل كيفية بروز الوعي من خلايا الدماغ البشري. بعض الفلاسفة اعتقدوا ان هذه "مشكلة صعبة"، تتعدى نطاق العلم وقد تتطلب مساعدة من الفلسفة. وفي رؤية مشابهة، نحن نستطيع ان نسأل ما اذا كانت الصورة او الايميج التي تخلق ذكاءً صناعيا هي حقا مبدعة. مارغريت بودن Margaret Boden عالمة الإدراك البريطانية والفيلسوفة في الذكاء الصناعي، تجادل اذا كان الذكاء الصناعي قادرا على انتاج افكار جديدة، فهو سوف يصارع لتقييمها مثلما يفعل الناس المبدعون.

هي ايضا تتوقع ان هندسة الرموز العصبية الهجينة – التي تستعمل كل من التقنيات المنطقية والتعليم العميق من البيانات – وحدها سوف تنجز ذكاءً صناعيا عاما.

القيم الانسانية

لكي نعود الى إعلان الذكاء الصناعي الذي تقدّم ذكره،وسؤالنا عن دور الفلسفة في عصر الذكاء الصناعي، اقترحت دردشة الذكاء الصناعي بان (من بين اشياء اخرى) انها "تساعد في التأكد من ان تطوير واستعمال الذكاء الصناعي يتماشى مع القيم الانسانية".

في هذه الروحية، ربما نستطيع الافتراض، اذا كانت موائمة الذكاء الاصطناعي هي القضية الخطيرة التي تعتقد بها شركة الذكاء الصناعي المفتوح، فهي ليست فقط مشكلة تقنية تتطلب الحل من قبل المهندسين او شركات التقنية، وانما ايضا مشكلة اجتماعية. ذلك سوف يتطلب مدخلات من الفلاسفة وايضا من علماء الاجتماع والمحامين وصناع السياسة والمواطنين المستخدمين وغيرهم.

في الحقيقة، العديد من الناس قلقون حول القوة الصاعدة وتأثير شركات التكنلوجيا على الديمقراطية. البعض يرى اننا نحتاج الى طريقة جديدة بالكامل في التفكير حول الذكاء الصناعي آخذين بالاعتبار الانظمة الاساسية الداعمة للصناعة. المحامي البريطاني والمؤلف جيمي سوسكند Jamie Susskind جادل بانه حان الوقت لبناء "جمهورية رقمية" –  ترفض بالنهاية  النظام السياسي والاقتصادي الذي أعطى لشركات التكنلوجيا المزيد من النفوذ.

اخيرا، لنسأل، كيف سيؤثر الذكاء الصناعي على الفلسفة؟ المنطق الصوري في الفلسفة  يعود تاريخيا الى ارسطو. وفي القرن السابع عشر اقترح الفيلسوف الالماني جوتفريد ليبنز اننا في يوم ما سنمتلك آلات حاسبة تساعدنا في اشتقاق أجوبة للأسئلة الفلسفية والعلمية بشكل يشبه الوحي .  نحن الان بدأنا ببلوغ تلك الرؤية، مع بعض المؤلفين الذين يدعون الى "فلسفة حوسبية" – تشفّر افتراضات وتشتق نتائج منها. هذا حتما يسمح بتقييمات واقعية او موجهة قيميا للمخرجات.

فمثلا، مشروع الرسوم البيانية يحاكي تأثيرات معلومات المشاركة على التواصل الاجتماعي. هذا يمكن ان يُستعمل لمعالجة حسابية لأسئلة حول الكيفية التي يجب ان نشكل بها افكارنا.

بالتأكيد، التقدم في الذكاء الصناعي أعطى الفلاسفة الكثير مما يُفكر به، وهو ربما بدأ في توفير بعض الأجوبة.

***

حاتم حميد محسن

 

يعد المؤرخ والفيلسوف الفرنسي (أرنست رينان 1823-1892) من الذين يركزون على التفوق الحضاري، والذي عمل على ارجاع التفوق الى العالم الغربي من خلال الصراع الحضاري بين الشعوب السامية التي يرجع لها الاسلام والشعوب والآرية التي يرجع لها بعض الاقوام الاوربية المتفوقة عرقياً،ورأى (رينان) في المحاضرة، التي القاها عن (الاسلام والعلم)، التي يستمد فيها أفكاره من (فولتير)، إذ يقول:  " أنّ العقل الشرقي غير قادر على التفكير المنطقي والفلسفة، وكان ذلك سبباً في الوقوف من دون تطور العلم والمعرفة في العالم الاسلامي. كان العلم القليل والفلسفة اللذان جاء بهما المسلمون نتاجاً لثورة على الاسلام"(1)، والذي هو - على وفق رأي (ارنست رينان)-  دين بعيد عن التفكير والابداع التي أصبح من سمات الأمم المتقدمة، لكن الإسلام أسهم في جعل الشعوب التي دخلت تحت رايته من العيش في التخلف و انحدار نحو الهاوية، والجهل والابتعاد عن المعرفة و التقدم، والإسلام على وفق تعاليم الرسول (ص) لا يتناسب مع المعرفة والعلم والتطور، بل هو دين استند الى تعاليم دينية ابعدته كل البعد عن حقيقة التقدم، لهذا السبب يرى (رينان) أنّ المسلمين "هم أول ضحايا الاسلام، تحرير المسلم من دينه هي افضل خدمة يمكن للمرء أنّ يقدمها له"(2)، وهذه الخدمة هي إبعاد المسلمين عن حضارتهم وديانتهم وانتمائهم لنبيهم . وهنا نسأل (أرنست رينان) هل هذه الاطروحة التي تقول بها معتمدة على دراسة الاسلام بشكل صحيح،ومن داخل المنظومة الاسلامية نفسها ؟، اي هل اطلع (رينان) عل (القران الكريم) ودرسه بشكل علمي سليم، دون أنّ يعتمد على اراء الاخرين فيه؟ و هل درس حياة الرسول الكريم (ص) من نفس مصادر المسلمين انفسهم ؟ أم تأثير بأقوال الآخرين، كما هو تأثيره برأي (فولتير)،أو غيره من  المنظومة المعرفية الغربية التي وضعته بالضد من الإسلام ورسوله الكريم (ص)؟، هذه التساؤلات و غيرها عادة ما تكون بعيدة عن المفكرين الغربيين، فهم فقط يدرسون الإسلام وحياة الرسول من خارج الاسلام متأثرين بآراء بعيدة عن الاسلام نفسه، لذلك كانت نظرة (ارنست رينان) عن الرسول محمد (ص) تناقض الحقيقة وبعيدة عن صفات الرسول (ص)، اذ يرى (رينان) في الرسول محمد (ص) تناقض الحقيقة و بعيدة عن صفات الرسول محمد(ص)، اذ يرى (رينان ) في الرسول وحسب رأي نسبه الى المسلمين بأنهم "اعترفوا أنّ الرسول في مناسبات عدة كان اكثر استجابة لرغباته منه الى واجبه، رينان الذي نظر الى القران الكريم كثورة ادبية بقدر ما هو ثورة دينية، خلص الى أنّ الحركة الاسلامية حصلت دون إيمان ديني، وأنّ النبي لم يقنع سوى أناس قليلين في الجزيرة العربية(. . .)، يقول رينان (ايضا): كل أنسان يتمتع بالحد الأدنى من الاطلاع على شؤون العصر يرى بوضوح الدونية الحالية للبلدان الاسلامية و الانحطاط الذي يميز الدول التي يحكمها الاسلام و البؤس الفكري للأعراق التي لا تقتبس ثقافتها و تعليمها الا من هذه الديانة" (3) .

إنّ آراء (رينان) تكشف عن عدد من النقاط التي يراها في الاسلام و رسوله الكريم (ص) وهي كالاتي:-

اولاً- إنّ الاسلام هو دين يبعد العقل و يعتمد فقط  على الطقس الديني، وهذا ما يجعل الشعوب التي تعيش تحت  سلطته هي شعوب متخلفة بعيدة عن التطور والعلم و المعرفة.

ثانياً- إنّ هذه الديانة تأتي على وفق ترتيب (رينان) المؤدلج في المراتب الدونية وهي منحطة وتعيش في بؤس فكري، مما انعكس ذلك على الأعراق التي عاشت في ظلها، فهذه الأعراق هي الصورة الطبيعية للدين الاسلامي وافكار الرسول (ص)، و خير دليل يراه (رينان) البلدان الاسلامية و ثقافتها المستمدة من هذه الديانة.

ثالثاً- إنّ هذه الافكار والثقافة الاسلامية التي أوجدها الرسول (ص)،يراها (رينان) ما هي الا إستجابة لرغبات الرسول (ص) فقط وليست مستمدة من رسالة سماوية، وهذا ما ينقله (رينان) عن المسلمين و رأيهم برسوله وكما يزعم، وفي هذه الصورة تَجني كبير، كون (رينان) نفسه قد تأثر بآراء غربية صورت  الرسول (ص)  في صورة مشوه قائمة على الرؤية من خارج الاسلام، أي نظرة غربية بعيدة عن الموضوعية في هذا المجال .

و ننتقل الى كاتبين أخرين هما (واشنطن ايرفينج 1783- 1859) و (مارتن توين 1835-1910)، فالكاتب الأول نشر كتاب بعنوان (محمد وخلفائه)(Mohamet and his Successors)، اراد فيه أنّ يقدم صورة عن انظمة الحكم في الاسلام والتي تتميز بحكم الرجل الواحد المتسلط (الاوتوقراطي)، وتشكيل سلطة دينية (تيوقراطية) بعيدة عن الديمقراطية،وحسب المفهوم الغربي، وهذه الطريقة في الحكم صنعت شعوب بعيدة عن الحرية، وهذا السياق من الحكم يبقى في نفس التصورات السابقة، بأنه حكم الرجل الواحد الذي يسيرهم بحسب اهوائه، وهذه الشعوب تبقى تعيش في فترة العبيد الذين لا يستطيعون تغيير،أي شيء في حياتهم .أما الكاتب الثاني (مارتن توين)، ففي كتابه عن الشرق الذي يحمل عنوان (السذج خارج الوطن) قدم فيه نقد للمسلمين على أنهم شعوب همجية قذرة وجاهلة ومتخلفة، يؤمنون بالخرافات التي اتتهم من طبيعة حياتهم وطريقة حكمهم وطريقة دينهم، ففي زياراته الى فلسطين يصفهم بأنهم يعيشون في مستنقع قذر لا يعباؤن بالجهل ولا الوحشية، أما في زيارته لمصر رأي بأنهم  لا يستحقون التقدير .إنّ كتاب (السذج خارج الوطن)  مليء بصور ذهنية لكاتبة عن شرق اوسط مسكون بالقراصنة والانبياء والمعوزين على محمل الجد، وبالتالي فأن عدم التفريق بين هؤلاء وأوصافهم،وأوصاف الشعوب في الشرق الاوسط، يجعل من (توين)  يعيش في صورة تحمل النمطية  ذاتها عن هذه المنطقة، كون دينهم لم يرتقي بهم الى مستوى الحياة، وكل هذه الاوصاف المنحازة في ذهنية (توين) يتحملها الاسلام و نبيه الذي لم يرتقي بهم الى مستوى الشعوب والامم الاخرى كالشعوب التي تعيش تحت سلطة المسيحية في الغرب (4).

وكان لبعض رجال الدين من الأمريكيين مواقف من الرسول محمد(ص) والإسلام مبنية على تصورات سابقة لمفكرين وكتَاب ووعاظ، لكن هذه التصريحات للأمريكيين المعاصرين كان لها الدور في رسم و تأكيد العداء ضد الاسلام ورسوله الكريم في الولايات المتحدة الامريكية، وهذه الاوصاف تتناغم مع السياسات الحالية في وصف العرب والمسلمين بأنهم أرهابيين، وهم شعوب بعيدة عن الحياة والتحضر، واذا استعرضنا بعض أقوال هؤلاء الكتّاب الذين يمثلون الشريحة الدينية في أمريكا الذين يعدون العالم الاسلامي تهديداً و يدعون الى عدم احترام مقدساته و هذا يجعل الكراهية تزداد للمسلمين في أمريكا،ويجعل المسلمين يزدادون كرهاً ايضاً لأمريكا، و من هذه الاقوال: "يقول (بات روبرتسون): لقد كان (أودلف هتلر) إنساناً سيئاً لكن ما يفعله المسلمون باليهود هو اسوأ مما فعله (هتلر)، وعندما يشير (الاب جيري فالويل) في كلامه عن النبي محمد(ص) أنه (ارهابي)، و ندما يقول (جيمي سواغارت) في صلاته (ليبارك الله اولئك الذين يباركون اسرائيل و يحفظونها ويلعن اولئك الذين يلعنونها ). و عندما يقول الاب (فرانكلين غراهام) عن الاسلام أنه (دين شرير)كما يقول أن المسيحية والاسلام (يختلفان عن بعضهما اختلاف النور والظلام) "(5). وهذه الاقوال الأربعة هي خطاب مكرر يرجع الى ازمان سابقة، وهذا الخطاب الذي أنتجه هؤلاء الكتاب دون أنّ يقع تحت مبدا المسائلة والاساءة للأخرين، كما هي الطريقة التي يحارب بها كل شخص يتناول اليهودية بالأقوال،أو الافعال، وهذه الاساءات للإسلام ورسوله الكريم (ص) لم تواجه من قبل الساسة في الغرب لأنها حسب زعمهم  تقع تحت بند حرية التعبير في العالم الغربي .

ونستنتج من هذه الاقوال الاربعة ما يأتي:-

اولاً- إنّ تهمة الإرهاب التي اصبحت في الوقت الحاضر الصيغة المهمة لاتهام الاخر، هي صفة من صفات الرسول (ص) حسب راي (جيري فالويل) الذي - على وفق قوله هذا فأنه - يجيز الاساءة للرسول (ص) واتهام دين الاسلام بأنه دين إرهابي أوجد الارهاب بصيغته الحالية في العالم.

ثانياً- إنّ الاسلام هو الاسوأ في الوقت الحاضر، اسوأ حتى من (هتلر) و ما فعله في اوربا وهذا يعطي الحق للدعوة في الصلاة (جيمي سواغارت) ضد الاسلام لأنهم يلعنون اليهود، وبالتالي فأن الاسلام دين شر.

ثالثاً- الإسلام دين الشر والظلام يختلف عن الديانات الاخرى (اليهودية والمسيحية) كاختلاف النور والظلام، والخير والشر، والمسامحة والارهاب، وهذه الثنائيات هي ليست جديدة بل هي تقسيمات قديمة ترجع الى الحروب الصليبية و ما قبلها من ثنائيات كانت تستخدم للتفريق بين الاسلام و الغرب.

***

أ.د محمد كريم الساعدي

.....................

الهامش

1. ساردار، ضياء الدين: الاستشراق، صورة الشرق في الآداب و المعارف الغربية، ترجمة، ترجمة:فخري صالح، ابو ظبي: كلمة،2011. ص97.

2. مقال: هل حقاً العظماء يعرفون محمد؟، انترنيت: مجلة مصر المدنية، مجلة مصرية علمانية ليبرالية اجتماعية (الشهر السادس 2015).

3. فرج، ريتا: الساميون والاسلام في الاستشراق العنصري عند رينان، جريدة الحياة، في 18/7/2014.

4. ينظر: ليتل، دوجلاس: الاستشراق الامريكي، ترجمة: طلعت الشايب، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2009، ص63-64.

5. شوير، مايكل: الفوقية الامبريالية الامريكية،ترجمة: سيمة عبد ربه، بيروت: الدار العربية للعلوم،2005، ص31.

 

حين تريد الثقافة أنْ تحكي مسيرتها غير المُعلنة، تصنع من أدق الأشياء مسرحاً لتداعياتها الحرة. فهي كـ" الجينات المتوارثة " تكمنُ في أصغر الأشياء بُعداً عن النظر بدرجة مساوية للأشياء الأكثر قرباً. وعندما تصر الثقافة على الهمس إلى متلقيها، تجعلهم ناطقين بخصائصها دون الشعور بقوة الفعل. ففي بعض القول العام قصداً إلى نفسها، تُلقي الثقافة كلّ القول إلى فاعليها. ومن ثمَّ، فإنّه دائماً وخلال تلك المناطق الرخوة وغير المأهولة، يمكننا مراقبة: ماذا يحدث من أعمالٍّ ثقافيةٍ في نوم ويقظة المجتمعات؟، وماذا يقع من آثارٍ بعيدةٍ لدى الأفراد؟! لتقول الثقافة أشياء وموضوعات يصعبُ قولها عادةً بصورة واضحةٍ.

لا نعرف ماذا يحدث تحديداً إلّا أنْ تكون الثقافة هناك بوافر سطوتها. بالطبع هي تظهر فاعلة وممسكة بكل الخيوط الممكنة لوعينا الإنساني. لا توجد مساحات ثقافية فارغة، لأنَّ الفراغ وضع غير محتمل ولا يُسمى فراغاً. فالنعال - وهي مفردة لا تلقى قبولاً لدى الناس - تعد من أهم المفردات والعلامات السيميائية في مجتمعاتنا العربية. تذهب المعاني هنا أو هنالك مع دلالتها، وتتوالد الأفكار مع حركة العلامات التي لا تتوقف عن المزيد.

على مسرح (المنامات)، تواصل الثقافة العربية إبراز جوانب العلاقة بين المرأة والنعال. لم يأتِ الأمرُ ضرباً من المصادفة، لكن ثمة محددات تأويلية تحكم القضية برمتها. ومحمد بن سيرين يعد مؤلفاً للحوار والسناريوهات، وكيف تطرح الثقافة موضوعاتها الأساسية عبر الأشخاص؟! فالمثقف- رغم أعماق الثقافة- قد يكون لساناً ناطقاً بهذه الأعماق عفواً أو قصداً.

هكذا تجسد الثقافة لونين من الأعماق

اللون الأول: هو العمق الذي يُكوّن نظام الثقافة العام. لون يحققق الامتداد والاستمرارية، إذ يحدد آفاق التفكير ويربط بين الأطراف وأساليب العيش. بحيث تُظهر الثقافة قدرة أفقية على التجوال في جوانب المجتمعات. وبإمكانها أن تضم إليها الأفراد والجماعات المختلفين، طالما يحيون في كنفها. وتبقى تلك الأعماق مثل الخيط الناظم الذي يخيط الممارسات والأفعال والخطابات إلى بعضها البعض. وقد لا يدرك الإنسان هذا العمق بسهولة، لكونه مترامي الأطراف. كما أنه قد يبدو واهنا هنا أو هناك ليظهر في اتجاهات أخرى أكثر قوة.

يتجلى هذا اللون من الأعماق بصورة جماعية لدى أفراد المجتمع. لأن الامتداد هو الفضاء العام الذي يؤازر جوانبه بحثاً عن الترابط والتحقق. وليس ثمة لون أكثر ظهوراً من هذا العمق، حتى أن أفراداً لا يستطيعون بسهوله الانفصال عن جسد الثقافة. لكونها توفر كافة العلاقات والمبررات التي تجعل انعزالهم غير قابل للتبرير سواء سراً أم علانية. والثقافة في هذا، تشبه خطوط الطول وخطوط العرض في مجال الجغرافيا، حيث توجد عبر النقاط الافتراضية التي لا يشعر بها أحد، ولكنها توجد بقوة وتترك آثاراً بارزة هنا أو هناك.

اللون الثاني: هو العمق الذي يؤسس مركزيتها والمحور الرأس لوجودها. إنه العمق التاريخي الموروث عادة والذي يحمل وجهه الماضي والحاضر على الدوام. فليست الثقافة – أية ثقافة- بقادرة على العيش مستقبلاً دون هذا المحور. ومن مفارقاته: أنك لا تشعر به كثيراً ولا قليلاً. فهو ذات حركة شاملة، ويستثمر قدرات العمق الأول بأن يوجد خلال كل مكان وخلال اللامكان أيضاً. بمعنى أنه في الوقت الذي لا نشعر فيه بوجود الثقافة، ستكون حاضرة بقوة في التفاصيل وفي كافة التجليات وإن غابت عن المتابعة.

والدليل هو هيمنة الثقافة العربية على تفسير المنامات كما طرحها ابن سيرين وغيره من كتاب السير والرؤى والأحلام. فالمنامات في عرف الناس فراغ من الحياة عند الانقطاع عنها. حتى أنها توازي الموت على الصعيد العام، لأن الموت مثل النوم، والحياة مثل الاستيقاظ في الثقافة العربية الاسلامية. بينما الثقافة ترى في المنامات مناطق حاسمة، تحسم العلاقة المفترضة بين كيفية التفكير وما يعيشه الناس. دوماً تعد تأويلات ابن سيرين مغلّفة ببلاغة الحياة. وهي ستاره خفيفة القوام والنسيج لمعانً ثقافية معيشة.

غير أنَّ ابن سيرين يطيل الأمد لتأويلات الحلم، معتبراً أن النعال (كلمة وصورة). لكنها بمثابة الكلمة المفتاح Key word والصورة هي ممارسة الحياة. أما معاني الحلم المتناثرة، فهي إثارة الخيال لدى المتلقى حتى يُصدّق ما يقول. وهي معان يجعلها ابن سيرين طوع الأفهام حتى يتم التفاعل معها. وبخاصة أنَّ مسألة النساء من المسائل الشائكة التي تتميز بحساسيتها لدى الثقافة الجارية. وتحاول الأخيرة أن تجعلها موضوعاً للإسقاط لا المباشرة، موضوعاً للتلميح لا التصريح.

وبناء عليه، سيواصل ابن سيرين إشارة النعال في الحلم إلى المرأة بصور مختلفة... " وإنْ كانت النعال من نعال الماء، فإنَّها زوجة، أو أمة يستفيدها، أو يطؤها. وأمَّا نِعال الطائف، أو ما يتصرف به التجار في الأسواق، في المنام فهي دالة على الأموال، والاكتساب والمعاش. وقد تدل النعال في المنام على الزوجة أيضاً، إذا مشى بها في خلال الدور، أو اشتراها، أو أهديت إليه. فإن كانت النعال جديدة، فهي تدل على امرأة بكر، أو حرَّةً، أو جارية، وإنْ كانت قديمة ملبوسةً، فهي تدل على امرأة ثيب" (محمد بن سيرين، منتخب الكلام في تفسير الأحلام، ص ص 366- 367).

أخذ ابن سيرين يطلق الخيال لمتلقي التأويل، مثيراً قدرة الأفراد على اقتناص المعاني كلما عن لهم ذلك. فالنعال التي من الماء تشير إلى الزوجة أو الأمَة أو المرأة التي يستفاد منها حسياً أو علاقياً. والإشارة لا تذهبل بعيداً في عقد الصلة المعروفة بين الماء والحياة. فالماء هي أصل الحياة إذ جعل الله منها كل شيء حي. والحلم يلتصق بتلك الإستعارة التي تقول إن الماء دالة على العلاقة الحميمة بالوجود الإنساني ومنها يأتي العطش والإرتواء والحرمان وإزهار الحياة والأمل والاقبال على العالم.

أشارت النعال – الماء إلى الزوجة، نظراً لتقارب الرغبات الحسية، فالطعام والشراب ليس يوجد منها غير اللقاء الحسي بالعالم والأشياء. لأن الماء تحيينا وتحيي الكائنات الأخرى، فمابلنا بعلاقات الحب والشهوة بالأنثى؟ ولكن بما أن الماء سهل وحميم في وجوده لدينا، فالنعال المقترنة به هي الزوجة.  هي التي يقبل عليها الذكور بشكل شرعي واخلاقي واضح. والثقافة تريد إبلاغ فاعليها بكل ما يجعلهم ملتصقين بالحياة تلقائياً. وليس ألصق بالحياة من الكائنات الحية والحلم يرمز إلى الاشياء الثقافية بصور مستعارة من الطبيعة. لأن حركة الثقافة قد تكون تدخلاً وعنفاً على طبيعة الإنسان التلقائية. ولكن عندما تستبدل الأحلام الشفرات الثقافية (علاقة النعال بالنساء) برموز طبيعية (الماء والرغبات)، فإن الثقافة ترجع إلى الأصل. أي تعيد تأصيل ما تقوم به لإقناع ذاتها وإعادة ترسيخ توجهاتها لدى الناس.

لئن كانت حالة النساء أحدى التيمات المسكوت عنها، فلتواصل الثقافة اعتبارها كذلك، لكونها الغطاء الذي أخفى ذلك ابتداء، أي أن الثقافة العربية هي التي وضعت النساء تحت الوصاية. إذن فلن يضيرها شيئاً: إذا اعتبرتهن مجرد نعال أو يأتين إلى لاوعي الذكور على هيئة استعارات حذائية بالمعنى نفسه.

فالنعال تشترى وتهدى إلي الإنسان مثل النساء في واقع المجتمعات العربية خلال مراحلها التاريخية. حين كانت تبتاع النساء على خلفية أسواق الجواري والعبيد. وكذلك كانت تهدى إلى الأصحاب الشأن كنوع من استطراق الرغبات الحسية بالمزيد من التجارب ومعاقرة الشهوات. إذْ كانت النساء علامة على التبادل الذي يلف الجنس بنوع من الغطاء الثقافي العام. كان يتم ذلك تحت عين الأشخاص حتى يمكن حيازة المرأة للتمتع ورواج الأفعال الحسية. من هنا كانت النساء كعلامات مرغوبة تدور مع النعال دوران الفعل والأثر، دوران الجوهر والوظيفة. فالطرفان يُلبسان بشتى المواصفات الحسية، ثم سرعان ما تتواتر المعاني الاجتماعية لتلك العملية في ذهنية الإنسان العربي.

ربما ذلك يمس المعنى الوارد في القرآن الكريم "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن" (البقرة/ 147). أي أنه لما كان الرجل والمرأة يتعانقان إلى بعضهما البعض، فيضم كل واحد منهما جانبه إلى جانب صاحبه، حتى يصير كلُّ واحد لقرينه كالثوب الذي يلبسه، سُمي كل واحد منهما لباساً. حتى قال بعض المفسرين عن النساء والرجال: هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن. القرآن كان دقيقاً في نفي التحقير من المرأة، فاللباس لا يعني الحطَّ من القدر. بدليل أن اللباس فعل يسري على الطرفين المرأة والرجل بالتوازي. وتستدعي اللغة مناطقها الغامضة من جهة كون اللباس هو الستر والمداراة والحفظ والعناية.

كأنَّ القرآن الكريم يرد على تداعي المعاني بصدد استعارة النعال في عالم النساء، فإذا كان الإنسان يرتدي النعل، فهو للحفظ والوقاية. ولا فرق هنالك بين (اللابس والملبوس) من واقع العلاقة بين الذكر والأنثى. ولئن كان القرآن قد وضعهما على خط واحد وما يجري على أحدهما سيجري على الآخر، فإن المعنى مشترك بين الطرفين ويستحيل التقليل من شأن المرأة دون التقليل من مكانة الرجل.

وفي هذا الجانب قد ظهر القرآن متقدماً عن البيئة التي ظهر فيها. حيث مازالت العقول متحجزة تحجر الصخر، وليست هناك ليونة بصدد هذا، حتى ولو في المنامات التي لم يسلم منها الإنسان. ولعل مطلق لنعال إزاء النساء- كما جاء على لسان ابن سيرين- كان حفاظاً على لباس ثقافي موروث. والقرآن أراد أن يحطم هذا اللباس، بل يمزقه بالمعنى الهادئ لكون المرأة لباس الرجل والعكس.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه الفلاسفة في مساعدتنا على تجاوز الأزمات التي يعيشها مجتمعنا حاليًا؟ ما هو دور التعليم والثقافة في مواجهة هذه القضايا؟ لماذا دراسة الفلسفة؟ ما هي الدروس التي تقدمها الفلسفة  للناس ويمكنهم أن يعملوا بها في حياتهم اليومية زمن الصراعات وانتشار اللايقين والتوحش؟

هذه أسئلة يجب على كل معلم الإجابة عليها في بعض الأحيان. وحتى لو لم تتم صياغتها بشكل صريح، فإننا نشعر بها معلقة في هواء العصر، وأحياناً فوق رؤوس بعض صناع القرار الذين يرغبون في تخفيف التعليم العام، من أجل تخفيفه أو جعله أكثر جاذبية. ومع ذلك، بدرجات متفاوتة، كل شخص يتفلسف، ويحتاج إلى القيام بذلك. وهذا مطلب ضروري للغاية لأنه لا يمكن للعلم ولا للأديان أن تحل محل التفكير الفلسفي. ولذلك يهدف هذا العمل إلى تسليط الضوء على معنى الفلسفة وأهميتها اليوم. ومن خلال محاولته فهم طبيعة ودور الأخير، فهو يسعى جاهداً للرد بشكل واضح ومباشر على هذه الأسئلة، وفي الوقت نفسه يقدم نداءً حيويًا لهذا النشاط الإنساني الحقيقي الذي هو التفلسف. إن السعي لمعرفة ما إذا كان ينبغي للمرء أن يمارس الفلسفة أم لا هو بالفعل فلسفة، لأنه بحث. علاوة على ذلك، فإننا نضطر سريعًا إلى ملاحظة أنه حتى الجدال ضد الفلسفة هو فلسفة بالمعنى الحقيقي للكلمة، كما لاحظ أرسطو في وقت مبكر جدًا. لأنك تجادل وبالتالي تدعي بعض الحقيقة؛ وإلا لماذا يجادل؟ وإذا تبين أن المشاكل الاجتماعية والمشاكل السياسية أصبحت أكثر تعقيدا، بمعنى "المنسوجة معا"، فإن نشر المعرفة يسير في الاتجاه المعاكس، في أعقاب متاهات أصبحت على نحو متزايد متخصصة، ومجزأة، ومنفصلة عن الكل. وهذا يكفي لإظهار الأهمية المتزايدة للفلسفة، التي كانت دائما تتعلق بالواقع برمته. الفلسفة عديمة الفائدة، بمعنى أنها لا تخدم شيئًا محددًا. إنها حرة ومستقلة. فماهي الفلسفة ان كانت بلا فائدة ؟ إذن ما فائدة الموسيقى؟ أو بمعنى آخر ما فائدة الصحة؟ وكلها تخدم الإنسان. والفرق هو أنهم يخدمون كل ذلك. وفي حالة الفلسفة، فإن الحياة الإنسانية بكل أبعادها هي التي تخدمها حقًا.  فهل الفلسفة مفيدة للمجتمع أم أنها ترف معرفي خاص بالقلة؟

إن "معركة الفلسفة" التي أثارها المكان المخصص لهذا التخصص في المشروع الإصلاحي لا تزال تبهر قرائنا. كتب لنا العديد من الأشخاص، بعد المقالات ليشاركونا ردود أفعالهم، وتدور العديد من رسائلهم حول مشكلة "الفائدة" - أو "عدم الجدوى" - لتدريس الفلسفة. هناك أيضًا أسئلة حول محتوى وطبيعة هذا التدريس، فضلاً عن أصوله التربوية. كل هذه الأسئلة ليست جديدة إذا حكمنا من خلال الدراسة الممتازة التي أجراها السيد بول جربود "الجامعة والفلسفة من 1789 إلى يومنا هذا". أليست الفلسفة معرفة مثل أي معرفة أخرى؟

الفلسفة هي المعرفة التي تسمح لنا بفهم واستخدام "كل المعرفة". وهذا يعني أنها ليست مجرد معرفة نقدية ولا مجرد معرفة بتاريخها الخاص (وهو ما يجعلها، على هذا النحو، مجرد ثقافة)، ولكنها توفر هذه الفائدة التي تتمثل في فهم الأشياء والعالم. لا يعني ذلك أن الفلسفة هي ما نسميه "تصورًا للعالم"، وهو ما من شأنه أن يضعها - من خلال ارتباك متكرر بلا شك، ولكن غير مقبول - بين جميع المنتجات الوهمية إلى حد ما للفكر الإنساني؛ على العكس من ذلك، بقدر ما تكون عقلانية بشكل حازم، فهي وحدها القادرة على جعلنا نفهم، من خلال التحليلات الدقيقة، أن ما تجعلنا نعرفه العلوم الوضعية المختلفة، تجعلنا نعرفه حقًا. لا يعني ذلك أن الفلسفة، بأي حال من الأحوال، قد "أسست" العلوم، وهو عملها الحصري. لكن الفلسفة وحدها هي القادرة على إظهار أن العلوم الحقيقية هي التي تجيب على الأسئلة التي يمكن أن نطرحها حول العالم، وهي الأسئلة التي تؤدي في أغلب الأحيان إلى الإسراف والاختراع الاعتباطي. ومن المفيد، بالمعنى الحقيقي، لطلابنا أن يعرفوا أن علم التنجيم خاطئ. وليس من اختصاص علم الفلك أن يعلم ذلك، بل من اختصاص الفلسفة، أي العقل المسلح بعلم الفلك، أي المعرفة الإيجابية التي يشرحها بشكل محدد، والتي لا تتمثل فائدتها النهائية في تنوير نفسها، بل في تنوير أنفسهم. أي تنوير العقل. وبهذا المعنى تكون الفلسفة مفيدة للغاية: فهي تعلمنا استخدام كل المعرفة التي قد تكون تحت تصرفنا، والتي بدونها ستكون معرفة لا تعلمنا شيئًا. علم التنجيم ليس سوى مثال هنا، ولكن بشكل عام يجب أن نرى كل شيء مفيد يمكن أن تجلبه إمكانية المعرفة - وليس فقط من أجل متعة الفهم ولكن أيضًا من أجل ضرورة العيش، التي تقدمها لنا العلوم، والإمكانية من المعرفة الحقيقية أننا نعرفها حقًا، ما هي الفلسفة التي تقدمها لنا، وهي هذه المعرفة. لقد تم دائمًا الاعتراف بأهمية الفيلسوف في المدينة بشكل أو بآخر. فحين تدين أثينا، على سبيل المثال، سقراط بشرب مشروب الشوكران، فإن قضاتها يريدون حماية الجسد الاجتماعي ضد تأثيرات الروح النقدية للفيلسوف. ونتفق أيضًا على إعلان أن روسو وهيغل هما آباء العالم الحديث، وأن القديس أوغسطين هو أب الحضارة المسيحية في العصور الوسطى. من ينكر أن فلاسفة مثل كيركجارد وماركس ونيتشه كان لهم تأثير عميق على قرننا هذا؟ أخيرًا، يؤكد مسح أجرته اليونسكو بهذه المصطلحات على الأهمية التي توليها هذه المنظمة الدولية لتدريس الفلسفة: "إن المكانة الخاصة جدًا التي أعطتها هذه الدراسة لتدريس الفلسفة تفسر من خلال الدور الذي تلعبه الأفكار الفلسفية في سلوك الناس ورأيهم... لقد كان لتطور الأفكار الفلسفية في التاريخ، ولا يزال حتى اليوم، أهمية كبيرة - سواء بشكل مباشر أو غير مباشر - في تأسيس الديمقراطية، وتعزيز حقوق الإنسان، والحفاظ على السلام العادل. " فمتى يعود للفلسفة دورها الريادي في المجال الأكسيولوجي بغية التمييز بين اللاانساني البشع والانساني النافع؟.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

اللغة هي ما نريد قوله بأسلوب كل منا، وهناك فروق فردية بين الأفراد في طريقة إيصال الكلمة أو الفكرة ونحن نعرف أن الكلمة تبقى هي الوسيط بين البشر وكما علمنا التحليل النفسي بأن الإنسان بما هو إنسان بقدر ما يتكلم ، وهناك فروق في الفرد نفسه في اللغة التي يتكلم بها، وهي أسلوبه في كيفية طرح ما يريد قوله، من حيث نغمة الفرح أو الحزن في الكلام، وهي بنفس الوقت تعبر عن لحظات الموقف الذي يتكلم به الشخص وهي كيفية استخراج أصوات الكلمة، أو الكلمات والجمل التي تكون مرتبطة بعضها البعض، فهي نمط شخصياتنا، نريد إيصاله لمن نتحدث معه، هي التي تجمعت وتراكمت وغدت لغة اللاشعور – اللاوعي، تعطي الاحترام لمن نتحدث معهم تارة، وتارة أخرى تعطي عدم الرضا، آه.. عندما نُجبر على قول ما لا نريد قوله، نرفضه ونخاف من هذا الرفض، فيداهمنا شيء من أعماق اللاشعور – اللاوعي هي الهفوات، أو ربما زلات اللسان والقلم، إذن لغتنا هي لاشعورنا – لاوعينا، وما نَكَنهُ للمقابل، في فرحٍ أو لحظة حزن، هو تمثيل نجاري به المواقف الحياتية، هي شخصياتنا.. علمنا بذلك، أم تغافلنا عن هذه المعرفة.

اللغة تكشف عما يدور في دواخلنا حتى وإن تم كبت ما نكرهه وما يؤلمنا، وما أحدث فينا شرخ في النفس، لابد وأن يعود، عودة المكبوت بسلوك آخر، لا كما كُبتَ، لؤم، أنانية، حقد دفين، كره لا يطاق لمن نتعامل معهم في الخفاء وتكشفه الهفوة في العلن، إنها النفس التي تخبئ بين حناياها ما لا نريد قوله، ولكنه يظهر، حتمًا سيظهر وإن كنا مع أقرب الناس معنا وهن زوجاتنا، إذا ما أصبحت موطن أسرارنا، وهو بالتأكيد لأنها تسمع تآوهاتنا في اللحظات الحميمة خلال العلاقة، وهي كذلك. أنه أمر محير أننا نعرف أنفسنا ولا نريد معرفتها !! هي اللغة الوسيط الذي به نستعين، وبه يكشف المضموم، المتخبأ لكل ما في أنفسنا. ويزودنا " فريدناند دي سوسير" عالم اللغة السويسري بأن الكلام الحقيقي والكلام الكامن بقوله: نسمي مقطعًا ما كان كلامًا حقيقيًا، وهو التوليفة من العناصر المحتواة في قطعة من كلام متحقق، أو هو أيضًا النظام الذي ترتبط بموجبه العناصر فيما بينها، من خلال ما يليها وما يسبقها، وهو مقابل للتوازي، أو الكلام الكامن " سوسير، في جوهري اللغة، ص 210" ويضيف " سوسير " إن التوازي أحادي الطرف للماضي غير المحدد هو ذلك الذي يجمع بين، من خلال استحضار وحدة فكرة ما. واستعراضها في الإبدال، وعلى رأي "سوسير" أن نستخرج مباشرة في كل لسان، وفي كل فترة من فترات وجوده، فضلا عن أننا نستطيع في بعض الأحيان التعرف على الظروف الموسومة بـ الصوتية، التي ينشأ فيها عنصري الإبدال، أو أحدهما على الأقل.. أنه اللاشعور – اللاوعي الذي يتحكم في لغتنا، وكان محقًا المحلل النفسي الفرنسي " جاك لاكان " قوله بأن للاشعور – للاوعي لغة خاصة. وقوله " نحن مسؤولون عن لاوعينا – لاشعورنا " وقوله أيضًا: الذات مسؤولة عن لاوعيها – لاشعورها. لذا فهو على حق حينما يقول أن اللاوعي – اللاشعور مبنيًا مثل لغة. واللغة عند "جاك لاكان" هو الواقعي الذي يرتبط به الرمزي والخيالي عن طريق هذه اللغة والخيالات – التخييل " دون أن يستنفذاه، بحيث يبقى الواقعي في مكانه، ويكتفي الخيالي وضع حجاب عليه، ويحاول الرمزي إيجاد وجهة له مقصيًا إياه حتى يصبح الواقعي ممكنًا، أي يتحول إلى واقع، وبذلك فالهذيان ناجم عن انبثاق الواقعي مستحيل، وهو في الوقت نفسه محاولة لدرء عنف هذا الواقعي المستحيل " النص منقول".

ولو عدنا إلى أن اللاشعور – اللاوعي باعتباره حامل خبايا اللغة ونقول عبر التخييل حيث أورده "سيجموند فرويد" في كتابه الشهير تفسير الأحلام حيث يشير إلى التخييلات بوصفها أبنية Structures  كذلك يشير إلى وجود عدد وفير من التخييلات في النطاق اللاشعوري – اللاواعي كما تدونها " د. نيفين في كتابها التخييل" ويحق لنا القول بأن للاحلام

لغة، وما نتحدث عنه من لغةٍ هي من بقايا تم خزنها في اللاشعور – اللاوعي، وأزاء ذلك فإن الكبت يظل مطلق القوى، إنه يسبب الكف للأفكار في لحظة تولدها، وقبل أن يفطن لها الشعور، ذلك إذا كان من شأن شحنتها أن تستثير اللا - لذة " نيفين زيور – التخييل ص24" ولذلك حينما نتكلم بلغة ونحاول إيصال فكرة، أو موضوع فإننا نتهيب " رهبة " الكلمات، ونوع الخطاب في الحديث أمام المقابل الذي يستمع لنا، ويتدخل الكف في أحيان كثيرة، وَيُستدرج الكبت بلغة اللاشعور – اللاوعي مهابة الحديث، فتفلت الكلمات وتحضر بهفوة، أو زلة لسان، هذا هو تأثير خبايا اللاشعور – اللاوعي في ما نريد قوله. إذن أن الحقيقة لا تقال كلها في لغة الكلام والتحدث، تظهر مُجَملةٌ – محسنة قدر المستطاع، ويكون حديثنا إلى من هو، إلى هو؟

ولو عدنا مرة أخرى لرؤية "جاك لاكان" عن اللغة وجدنا أن اللاوعي – اللاشعور مبني مثل لغة كما ذكرنا في السطور الماضية، ويذكر "جان ميشال بالميي" قوله: لقد أظهرت لنا الملاحظات السالفة كيف يمكن التعبير عن آليات الدفاع من خلال عمليات لسانية، صيغ بلاغية تضيء تُشكل العرض العصابي، إلا أن كل ذلك لا يكتسب معناه إلا عبر الاقرار بهذه الأطروحة الأساس: إن اللاوعي – اللاشعور يشاغل اشتغال لغة مَبنية " جان ميشال بالميي، تشكلات اللاوعي.

 " ويفترض " Meringer  " أن الأصوات المنطوقة المختلفة لها تكافؤ نفسي مختلف، فعندما ننطق الصوت الأول في الكلمة أو في الجملة بتعصيب فإن عملية الإثارة تمتد بالفعل إلى الأصوات اللاحقة والكلمات التالية، ويضيف أيضًا قوله إذا أردنا معرفة أي صوت في شدة أعلى، يجب أن نلاحظ أنفسنا عندما نبحث عن كلمة منسية، أو أسم شخص، فأول أسم يعود إلى الوعي هو من له أكبر كثافة قبل نسيان الكلمة، كما أن الأصوات ذات التكافؤ الأعلى هي الصوت الأول في المقاطع، والصوت الأول في الكلمة وأحرف العلة، هذه الرؤية يختلف معها "سيجموند فرويد" مؤسس التحليل النفسي قوله: لا يسعني سوى معارضته فسواء كان الصوت الأول أحد عناصر التكافؤ الأعلى لكلمة أم لا، فمن غير الصحيح بالتأكيد أنه أول من يعود إلى الوعي في كلمة منسية، لذلك فإن القاعدة المذكورة أعلاه غير قابلة للتطبيق" فرويد، علم النفس المرضي، ص 52" وخلاصة القول نستعير هذا النص: إن ما يقبع في اللاشعور – اللاوعي هو ما تنحني أمام سلطانه رقاب الناس.

***

د. اسعد شريف الامارة

جليان روز

ترجمة: علي حمدان

***

كارل ماركس

رغم أن مفهوم الأشكال المختلفة للثقافة التي تتعاقب على مر التاريخ يشكل محوراً أساسياً في فكر هيجل، فإن في فكر ماركس يتلخص في الأشكال الاجتماعية المختلفة التي تحددها أنماط الإنتاج المتعاقبة. ولم يكن لدى ماركس نظرية للثقافة بحد ذاتها. وكما قلت، كان لدى هيجل نظرية للثقافة، وكانت هذه النظرية هي الأساس لفلسفته للتاريخ. وفي أواخر القرن التاسع عشر، أصبحت وجهة نظر ماركس جامدة في التمييز الثابت والميكانيكي والحتمي بين القاعدة الاقتصادية والبنية الفوقية الإيديولوجية والقانونية والسياسية.

وعادت مدرسة فرانكفورت إلى التمييز الديناميكي بين العمليات الاجتماعية والأشكال الاجتماعية الناتجة عن ذلك من خلال تبني نظرية ماركس في تقديس السلع وليس التمييز بين القاعدة والبنية الفوقية كنموذج للثقافة والإيديولوجية، وقد تلقت هذه النظرية بيانها الكلاسيكي في المجلد الأول من كتاب رأس المال، الفصل الأول، وفي جميع أنحاء كتاب "الاطروحة الأولى، الغروندريسة".

سأحاول الآن أن أعرض بشكل تقريبي  للغاية. نظرية ماركس في تقديس السلع. وإذا كنت لا تعرفها، فإنني أنصحك بإلقاء نظرة على هذه الصفحات القليلة من كتاب رأس المال، المجلد الأول. فوفقاً لماركس، يتم إنتاج السلع في مجتمع تُباع فيه قوة العمل مقابل أجر، وتتحقق القيمة الزائدة عندما يتم بيع منتج هذا العمل، ليس من قبل العامل، بل من قبل رجل الأعمال أو صاحب العمل مقابل ربح.

وهذا على النقيض من المجتمع ما قبل الرأسمالي أو المجتمع غير الرأسمالي حيث يقوم المنتج المباشر أو العامل إما باستهلاك أو بيع منتج عمله بنفسه. فهو لن يبيع قوة عمله، بل سيحقق مباشرة القيمة المضمنة في المنتج. وعلى هذا فإن السلعة، أي المنتج الذي يتم إنتاجه في ظل الظروف الرأسمالية، تتألف من عنصرين: قيمتها الاستعمالية، وقيمتها التبادلية.

إن القيمة الاستعمالية للسلعة، والتي يسميها ماركس أيضاً القيمة الاستعمالية، تعني صفاتها المحددة. على سبيل المثال، طعم التفاحة، أو دفء المعطف الذي ترتديه. أما القيمة التبادلية، على النقيض من ذلك، فهي ما يعادله سلعة ما كنسبة إلى سلعة أخرى، والتي يتم التعبير عنها عادة بالنقود. لذا فإن القيمة التبادلية هي نسبة، والقيمة الاستعمالية هي الصفات الملموسة للمنتج.

إن من نتائج هذا الانفصال بين الاستخدام والتبادل أن قيمة التبادل تبدو وكأنها سمة من سمات المنتج نفسه ـ أي سعره. والناس يعتقدون أن القيمة متأصلة في المنتج نفسه، وهم لا يدركون أنها في واقع الأمر تعبير عن علاقات اجتماعية وأنشطة محددة بين الناس. يقول ماركس:  "إن الطابع الاجتماعي للنشاط، وكذلك الشكل الاجتماعي للمنتج، وحصة الأفراد في الإنتاج، تظهر هنا في السلعة كشيء غريب وموضوعي". "إن العلاقة الاجتماعية المحددة بين البشر تتخذ الشكل الخيالي للعلاقة بين الأشياء". هذه هي الجملة الحاسمة. هذا ما يسميه ماركس بالصنمية ـ أي عندما تعامل شيئاً ما باعتباره شيئاً في حد ذاته، بينما هو في الواقع تعبير عن علاقات اجتماعية محددة بين الناس.

رأت مدرسة فرانكفورت أن فكرة تحويل العلاقات الاجتماعية الحقيقية بين الناس إلى علاقات بين الأشياء وسوء فهمها، قدمت نموذجًا للعلاقة بين العمليات الاجتماعية والمؤسسات الاجتماعية والوعي.

إن هذا النموذج، على النقيض من التمييز بين القاعدة الاقتصادية والبنية الفوقية الإيديولوجية، لن يختزل التكوينات المؤسسية والإيديولوجية إلى مجرد ظواهر ثانوية أو مجرد انعكاسات بسيطة لقاعدة. بل إنه من شأنه أن يقدم تفسيراً اجتماعياً للتحديد الاجتماعي والاستقلال النسبي للأشكال الاجتماعية الأخرى، مثل الثقافة. كما قدم وسيلة للقول بأن شيئاً ما محدد اجتماعياً ولكنه أيضاً يتمتع باستقلال جزئي.

إن ماركس لا يقول، على سبيل المثال، إن الأوهام التي تنشأ عن تقديس السلع خاطئة؛ بل يقول إن هذه الأوهام ضرورية وحقيقية، ولكنها مع ذلك مجرد أوهام. وهذا ما أطلقت عليه مدرسة فرانكفورت منذ جورج لوكاش فصاعداً "التشيء" ـ وهو المصطلح الذي لم يستخدمه ماركس نفسه، وإن كان لأسباب مختلفة قد ارتبط بماركس نفسه.

في واقع الأمر، كان تبنيهم لمفهوم التشيء هذا سبباً في منح أعضاء مدرسة فرانكفورت المختلفين حرية هائلة في تفسير ماركس على نحو مختلف. وحتى نظرية تقديس السلع أصبحت تدعم فلسفات مختلفة تمام الاختلاف للتاريخ ومواقف سياسية ونظريات ثقافية مختلفة تمام الاختلاف. وهذا كل ما سأقوله عن تكييفهم العام لماركس في الوقت الحالي.

فريدريك نيتشه

والآن سأتحدث عن اهتمام مدرسة فرانكفورت بنيتشه. فمن الشائع أن يستغل منظرو الاجتماع والسياسيون اليمينيون في القرن العشرين أفكار نيتشه استغلالاً سيئاً. على سبيل المثال، ربما سمعتم عن أوزوالد شبنجلر أو إرنست يونجر. ولكن ليس من المعروف على نطاق واسع أن نيتشه كان له تأثير هائل على منظري اليسار في القرن العشرين.

ومن بين هؤلاء الذين نهتم بهم  بشكل خاص، ينطبق هذا على بلوخ وهوركهايمر وبنيامين وأدورنو. لماذا اهتموا بنيتشه؟ لقد اهتموا بنيتشه لعدد من الأسباب، وسأذكرها بإيجاز شديد:

لقد رفض نيتشه فلسفة التاريخ التي تقوم على فكرة هيجل عن غاية نهائية أو هدف في التاريخ، أو مجتمع مثالي في المستقبل، أو التوفيق بين كل التناقضات. لقد رفض نيتشه هذا الموقف. لقد طبق مفهوم التناقض على فلسفة التاريخ المتفائلة ذاتها ـ على سبيل المثال، أن عملية التغيير التاريخي قد تتحول إلى نقيض لجميع القيم المثالية. وهذا ما أطلق عليه هوركهايمر وأدورنو فيما بعد "جدلية التنوير".

لقد اهتموا بنيتشه لأنه انتقد المفهوم الفلسفي التقليدي للذات. هذا المفهوم الفلسفي التقليدي للذات، والذي تبنته أيضًا بعض أشكال الماركسية، على سبيل المثال التفسير الوجودي للماركسية، هو أن وحدة الوعي هي أساس كل الواقع. على العكس من ذلك، اعتقدت مدرسة فرانكفورت أن الواقع الاجتماعي لا يمكن اختزاله في مجموع حقائق الوعي. لقد استخدمت هذه النقطة للتأكيد على أن الواقع الاجتماعي لا يمكن اختزاله في وعي الناس به، ولكن أيضًا على أن تحليل التحديد الاجتماعي لأشكال الذاتية أمر ضروري: أن الذاتية هي فئة اجتماعية.

والسبب الثالث وراء اهتمامهم بنيتشه هو أن فكر نيتشه يقوم على فكرة "إرادة القوة". وكانت مدرسة فرانكفورت مهتمة أيضاً بتحليل أشكال جديدة من الهيمنة السياسية والثقافية المجهولة والعالمية التي تؤثر على الجميع على قدم المساواة، والتي تمنع تشكيل وعي طبقي بروليتاري تحرري.

رابعاً، اهتموا بنيتشه لأنه شن هجوماً على الثقافة البرجوازية في عصره. ومثله كمثل ماركس، أشار إلى "التفاهة البرجوازية". وكانت مدرسة فرانكفورت أيضاً راغبة في إظهار عودة التناقضات الاجتماعية في كل من ما يسمى بالثقافة الشعبية وما يسمى بالثقافة الجادة . وكانت المدرسة تنتقد على حد سواء الثقافة الراقية والثقافات الشعبية، إذا صح التعبير. بل إنها رفضت هذا التمييز.

والسبب الأخير وراء اهتمام مدرسة فرانكفورت بنيتشه هو أن نيتشه أنتج تحليلاً لولادة التراجيديا في المجتمع اليوناني، وهو تحليل كان راديكالياً اجتماعياً، وعلى النقيض من التقليد الأقدم في الفكر الألماني، لم يقم بإضفاء المثالية على المجتمع اليوناني. وقد وفر هذا نموذجاً لتحليلات مدرسة فرانكفورت للأجناس الأدبية في المجتمع الرأسمالي المتقدم. وقد ركزت مدرسة فرانكفورت على الشكل الأدبي، وليس المحتوى.

سيغموند فرويد

وأخيرا، أود أن أقول بضع كلمات عن اهتمام مدرسة فرانكفورت بفرويد. فإذا كان المفهوم التقليدي للذات غير مقبول، فما الذي كان ليحل محله؟ لقد استخدمت مدرسة فرانكفورت النظرية الفرويدية لتفسير التكوين الاجتماعي للذاتية وتناقضاتها في المجتمع الرأسمالي المتقدم. واعتقدت أن النظرية التحليلية النفسية من شأنها أن توفر الصلة بين العمليات الاقتصادية والسياسية والأشكال الثقافية الناتجة عنها.

ولكن هذا الاتجاه لم يتجه إلى أعمال فرويد اللاحقة الأكثر وضوحاً ومباشرة في علم الاجتماع، مثل كتاب " قلق الحضارة". بل استند في تفسيره إلى تحليل المفاهيم التحليلية النفسية الأكثر مركزية التي طرحها فرويد. وقد انجذب بشكل خاص إلى موقف فرويد القائل بأن الفردية تشكل إنجازاً، وليست مطلقة أو مسلماً بها. وكان الاتجاه يتمنى تطوير نظرية لفقدان الاستقلال أو انحدار الفرد في المجتمع الرأسمالي المتقدم لا تهدف إلى إضفاء المثالية على ما كان يعتبر في المقام الأول استقلالاً أو فردية.

وقد استخدم هذا المنهج النظرية الفرويدية في العديد من دراساته الرئيسية: في دراساته حول قبول السلطة وإعادة إنتاجها في المجتمع الرأسمالي المتأخر؛ وفي فحصه ومحاولاته لتفسير نجاح الفاشية؛ وفي تطويره لمفهوم صناعة الثقافة، وتأثيرها على وعي الناس ولاوعيهم؛ وأخيراً في التحقيق العام في إمكانية أو استحالة التجربة الثقافية والجمالية في المجتمع الرأسمالي المتأخر.

***

.............................

* Marxist Modernism: Introductory Lectures  on Frankfurt School Critical Theory by Gillian Rose.

 

يقول الشعراء خذوا وقتا لتشمّوا رائحة الورود، لا تعيشوا فقط في الحاضر. عندما يكون الماضي ممتلئاً بالأسى والمستقبل يدعو الى القلق، فربما يبدو من المعقول ان الحاضر وحده يقدم السعادة. لكننا في هذا المقال نجادل بما يعاكس ذلك، اي ان الحاضر لا يعني كل ما يتعلق بالسعادة – خاصة عندما نعني بالحاضر اللحظة الحاضرة المباشرة المنفصلة عن الماضي والمستقبل.

مع ان السعادة يحيط بها الغموض ويصعب تعريفها، لكننا نقول دون شك ان السعادة يجب على الأقل ان تتضمن استجابة محسوسة من جانب الكائن الواعي نحو أشياء جيدة في حياته. لذا فان السعادة هي دائما حول الحياة ولا تُعرّف أبدا وفق لحظات مختزلة ومباشرة من المتعة تؤخذ بشكل منعزل، وانما طبقا للعديد من مظاهر الحياة الجيدة التي هي ذاتها معقدة ومؤلفة من عدة أجزاء. دعونا نسمي تلك المظاهر بـ  الكليات "wholes". "كليات" الحياة نعني بها الأحداث والعمليات التطورية المستمرة بدلا من ان تكون حالات ساكنة  وهي تتضمن، مكونات من الحاضر المعاش، الماضي المعاش وكذلك المستقبل الذي سيُعاش. هي ايضا تدمج أحداثا لحيوات اخرى لا تُعد تؤخذ مجتمعة لتشكل نوعا من "مجموعة من الأحداث". الحياة وفق هذا المعنى مرتبطة بشكل لا ينفصم، بأحداث تمتد مؤقتا لتدمج الماضي والحاضر والمستقبل، وهي ليست مجرد سلسلة من اللحظات مثلما السمفونية ليست مجرد سلسلة من النغمات. الماضي والحاضر والمستقبل يشكلون كليات أحداث الحياة وهم المادة الاساسية للتجربة. بالضد من الكثير من الفكر المعاصر، ان لحظات الحاضر المعزولة يتم تجريدها من الكليات الملموسة التي تشكل التجربة الحقيقية لأغراض التحقيق الفلسفي بنفس الطريقة التي يتم بها تجريد الأعضاء الحية المنعزلة من الكائن الكلي لأغراض التحقيق البايولوجي. التجريد هو دائما مسألة تفكيك ما تم العثور عليه في الواقع التجريبي من خلال الفصل التأملي لما لا يمكن فصله في الواقع. ومع ان هذا قد يقوم بمهمة التحقيق فقط عبر توجيه التركيز، لكن المرء يجب ان لا ينتابه قصر النظر تجاه العنف الذي يلحقه بالحقيقة الملموسة.

تعبير واضح عن الموقف المعاصر المهيمن في هذا الموضوع يمكن العثور عليه في مقالة أخيرة نُشرت من جانب معهد الفن والافكار لإستاذ الفلسفة ستيفن كامبيل هاريس Campbell Harris بعنوان "الحاضر هو كل السعادة". يشير كامبيل الى الشكوك في الفرق الذي يطرحه علماء النفس عادة بين السعادة كـ "حكم حول شعور المرء بالقناعة او عدمها اثناء حياة المرء الكلية ، والسعادة كاستجابة شعورية فورية لّلحظة الحاضرة. كما هو يوضح، "القناعة بالحياة، ليست منفصلة عن الرفاهية العاطفية وانما جزء منها". كذلك، هو صائب في القول، ان الانفصال المفترض بين التجربة المعاشة والذكريات المسجلة، التي تؤخذ لدعم الفرق بين الرفاهية العاطفية الفورية والقناعة الكلية للحياة، هو ايضا ضعيف. الذكريات تدخل الى معظم او كل ما نسميه "التجربة الحاضرة"، بحيث لا يمكن فصلها. هذا الزواج الذي لا يمكن فصله يتم توضيحه بشكل جميل من جانب الروائي الفرنسي مرسيل بروست مؤلف رواية (البحث عن الزمن المفقود) الذي يعبر عنه شعريا  في عمله الشهير "سلسلة مادلين". بينما هو يستمتع بواحدة من الكعكات الصغيرة مع الشاي هو فجأة يستحضر ذاكرته الطفولية، حين استمتع قبل عدة سنوات بتلك الفتات التي اُعطيت له من جانب عمته صباح يوم الاحد .

وفق هذه الرؤية، ولكن في سياق فلسفي، البروفيسورة ماريا شيختمان Marya schehtman في تفسيرها لنظرية جون لوك ترى ان الذاكرة تشكل استمرارية الذات او الهوية الفردية، تقول:  "انها خاصية حاسمة ومميزة لذاكرة ذواتنا الماضية، حيث لا يتم اعتبار المنظور الذي يتم تذكره فيها مجرد شيء، بل يتم اعادة تجربته ايضا". (لوك والنقاش الحالي حول الهوية الفردية،2021).

توقّع المستقبل، ايضا،يلعب دورا في الحاضر المعاش – ربما كل الوقت ما عدى في لحظات صرف الانتباه او النوم العميق. وكما يحصل في حياتنا اليومية، نحن لا ننشغل ابدا فقط في لحظة حاضرة تؤخذ منعزلة وانما نحن دائما نمتد مؤقتا عندما نستخدم مخزون ماضينا في فهم الحاضر لتوقّع المستقبل. وهكذا ماضي المرء المُعاش، والحاضر والمستقبل هم (كما تقول شيختمان) في كل الحالات وُجد انهم ينمون مجتمعين  لصنع تجربة المرء المُعاشة. الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون تحدّث شعريا وفلسفيا حول هذا في عمله (مدخل الى الميتافيزيقا،1903) : "هناك تتابع في الحالات، كل حالة تعلن عن ما يليها وتحتوي على ما قبلها".

لكن ألا يصطدم هذا  مع ادّعاء كامبيل هاريس والرؤية الواسعة الانتشار التي يمثلها بان "الحاضر هو كل ما يتعلق بالسعادة"؟ اذا كان الماضي والحاضر والمستقبل ينمون مجتمعين ومترابطين بإحكام  ليشكلوا كلّ موحد ومتماسك في التجربة، وان "الكثير مما نسميه "تجربة حاضرة" مرتبط بذاكرتنا طالما نحن دائما نتوقع ما يحدث لاحقا مما حدث سابقا" (الحاضر هو كل ما يتعلق بالسعادة،2022)، عندئذ كيف يمكن القول ان الحياة "هي فقط سلسلة من اللحظات"، او ان سعادتنا تعتمد فقط على تلك اللحظات؟ الحاضر الفوري، مأخوذا كلحظة بدون أبعاد وبدون عمق ماضي- مستقبل، هو كالشكل المجرد من تجربة معاشة واقعية كتتابع فقط من هذه النقاط، والنقاط ذاتها كأشياء فعلية تُصنع منها تجربة الحياة، هي تبنّي ما يسميه الفيلسوف والرياضي الفريد نورث وايتهد (العلم والعالم الحديث،1925) مغالطة وضع الملموس في غير محله التي تخلط بين تجريداتنا وبين المادة الملموسة للواقع. وكما يتبين من خطوط المغناطيسية في الفيزياء، الكل لايتجاوز فقط الأجزاء وانما يسبقها. كذلك مع التجربة. نحن نبدأ بتجربتنا الملموسة ومن ثم في تفكيرنا حولها، نجرّد منها لحظات فردية للتجربة.

السقوط في الزمن

سوف نسلّم بالارتباط الذي لا مفر منه حسب كامبيل هاريس بين الذاكرة، توقّع المستقبل، وتجربة الحاضر، وبشكل غير مباشر الربط بين الحكم على القناعة الكلية بالحياة والعواطف الايجابية المحسوسة فوريا كالبهجة. اول خطوة نختلف عندها هي عندما  يقترح كامبيل اننا لا يجب ان "نفضل القناعة (الرضا) على العديد من العواطف الايجابية الاخرى، مثل البهجة، الاثارة، الاتصال ". بدلا من ذلك، وبينما نعترف بالدور المهم لكل واحد من تلك العواطف في الحياة الجيدة، لكننا نرى ان الإحساس بالقناعة الكلية للحياة له أهمية خاصة عندما نأخذ بالاعتبار الطبيعة الكلية للتجربة المعاشة.

يفترض كامبيل ان "غياب الحجج المقنعة يوضح سبب هذا التفوق النوعي لهذه القناعة على كل المشاعر الاخرى". الفرنسي الوجودي البير كامو (1913-1960) يؤيد هذه الفكرة. اذا كان المعنى الموضوعي غائبا تماما من العالم والحياة كانت سخيفة، كما يرى كامو، فربما يتبع ذلك اننا يجب ان نتوقف عن البحث عن المعنى وراء المتع العابرة مهما صادف ان نعمل في هذه اللحظة. لكن حتى كامو بالتأكيد وجد بعض المعنى في القناعة الكلية للحياة أمام السخافة من خلال كتاباته.

الفينومينولوجي مارتن هايدجر(1889-1976) يعرض عدة حجج حول تفوّق القناعة الكلية للحياة. في عمله الشهير (الوجود والزمن،1927)، يكتب ان الكائن البشري (الذي يسميه دازين والتي تعني بالألمانية الوجود) له تركيب ثلاثي يرسم بدقة الماضي والحاضر والمستقبل. دازين هو في العالم كوجود ملقى – بمعنى وجود اُسقط دون ان يُسأل عن عائلة، تربية، ثقافة، لحظة تاريخية، تطور طبيعي وغيره.

وليم باريت عبّر عن هذه النقطة بجدارة:

"انا لم أختر والديّ" لذا قبل ان يختبر المرء ذاته او أي شيء لأجل تلك المسألة، سيجد ذاته سلفا ضمن اسم ودور في مكان وزمان معينين. بالنسبة لنا كوجودات مُلقى بها، الماضي والحاضر بدرجة ما هما غير مختارين، لذا فان معاني النشاطات التي ننشغل بها تصبح ذات معنى فقط في ضوء تطوراتها المستقبلية. لذلك فان دازين هو دائما موجّه نحو مستقبله. فمثلا، عندما أكتب حاليا، تكمن في ذهنيتي الخلفية رؤية خام عن إستكمال ونشر ما أكتب. مع ذلك، هذا لا يجب ان يُفسر كهدف ثابت لي مرئي بالضرورة ، وان جهودي ستكون بلوغ الرؤية المذكورة. بدلا من ذلك، الرؤية هي مرنة وعرضة للتعديل في كل الأوقات. كل ما أعرفه على وجه اليقين عندما أكتب هذه الكلمات، هو اني ربما بدلا من ذلك أهمل هذه المقالة او احاول ان عمل منها منولوج صوتي .

دازين كوجود اُلقي به لتوجيه نفسه للمستقبل (الذي يسميه هايدجر اختصارا thrown projection)، هو دائما بطريقة ما منشغل مباشرة بالعالم. يجب ان يتعامل مع كائنات بشرية اخرى بالاضافة الى كل انواع المخلوقات الاخرى في بيئته عند التهيؤ نحو مستقبله المفتوح من وجهة نظر مرتكزة في ماضيها. فمثلا، أثناء كتابة هذا المقال، أحتسي شايا ساخنا أخضر واستبعد القهوة، انا اتعامل مع مراوغات جهازي اللابتوب القديم، بينما افحص ايضا الايميل والطلبات وصياغة الفواتير لفعاليات عملي في مجال الطعام . ربما لا حاجة للقول الآن ان التوسع المؤقت في التعامل مع العالم يرتبط مع الحاضر.

مع الأخذ بالإعتبار لكل ذلك، يرى هايدجر الدازين نوع من الزمانية المجسدة، ليست حاضرة فقط في مكانها وزمانها، وانما في كل الحالات الممتدة على طول زمانها لأنها تتعامل مع حاضرها لكي تتهيأ نحو مستقبلها بالإعتماد على ماضيها. في الحقيقة، في مختلف المقاطع من كتاب الوجود والزمن، يقول هايدجر ان دازين هو فقط التقدم الخطي للماضي والحاضر والمستقبل (temporality).

من أجل ماذا؟

الأساس لهذه الثلاثية الزمنية هي ما يسميه هايدجر مقتفيا اثر ارسطو الغرض for the sake of which . بالضبط كما يبدو، هذا الغرض هو لأجل وجود الدازين او الكائن البشري.

التفسيرات المعاصرة لهايدجر عادة تأخذ هذه الفكرة كما لو كانت حول مهنة الفرد. لكن لأجل ماذا  او الغرض يمكن ان يكون عدة أشياء غير المهنة، وانها ليست ثابتة ولا خاصة. يمكن ان تكون هناك عدة أغراض، وهي يمكن ان تتغير طوال حياة الفرد. يقول روب جلبرت :انه أكثر من مجرد كاتب، انا أرى نفسي كرجل أعمال في مجال الأغذية ، طباخ، موسيقي، مهرج، صديق. هذه كلها اشياء لأجل غرض ومعظمها لا استلم منها قرشا واحدا. لإجل هذا النقاش نستطيع القول ببساطة ان الغرض يسمح لنا بالحكم على القناعة الكلية بالحياة. السبب هو واضح: هذه القناعة تتماشى مع حياة تتوافق مع غرض الفرد، وفقدانها يتماشى مع حياة لا تتوافق مع غرض الفرد، او حياة لم يتحدد بها غرض الفرد في المقام الاول. الرضا العام عن الحياة هو مسالة العثور على غرض الفرد ومواءمة حياة الفرد معه.

من المهم ان غرض الفرد لا يُعطى ابدا. انه يستلزم معطيات تتضمن المواهب، التأثيرات الاجتماعية والثقافية، الضغوط، الميول الوراثية المسبقة. لكن الغرض ذاته لا يُعطى ابدا بشكل اوتاماتيكي بواسطة هذه المعطيات. استخراج المعادن من خام ظروف الفرد هو عمل ابداعي. انه حصرا بيد الفرد، وانه الأعظم أهمية في كل الأعمال طبقا لهايدجر.

ان الغرض لا يعني الإنهماك او الهوس بالشيء. انه سوف لن يحقق وظيفته المتمثلة في ارساء حياتنا، وذلك فقط لان الحياة المكرسة حصريا للتفكير في هدف الفرد بالكاد تتطور وتحتوي على القليل من الاشياء الاخرى التي يمكن ان يرتكز عليها هدف الفرد.  وبعبارة اخرى، هدفنا ليس للتفكير في هدفنا وانما، حالما يتم التفكير والاعتراف به، فان هدف الفرد سيستقر بقوة في الخلفية الذهنية، ليشير الى انخراطنا بأي شيء كان  في ذهننا. ذلك لا يعني ابدا ان دوره التأسيسي في حياتنا يمنعنا من ان نكون عفويين او في اتّباع اللحظة الحاضرة. في الحقيقة، انه فقط بعد توافق حياتنا مع الهدف، سوف لن تكون هناك حاجة للتفكير والتركيز في سؤال الهدف. تحقيق عفوية هادفة وحالات من التدفق دون اعتبار لهدفك هو كما لو ان شخصا ما ليس لديه آلة موسيقية فجأة يلتقط الغيتار ويعزف ويغني مقطوعة متقنة من موسيقى فلمنكو.

قناعة الحياة من خلال السعادة:

كامبيل – هاريس يعرض تجربة فكرية تتألف من اثنين من السيناريوهات: واحد فيه قناعة الحياة الكلية هي الحاضر، وآخر تكون فيه القناعة غائبة. كونك تأملت الاثنين، سنسأل أي سيناريو تفضل:

"في الاول، حياتك اليومية في معظمها متوترة وباعثة على القلق، مع انفجارات للبهجة والمتعة احيانا. مع ذلك، عندما تفكر بحياتك انت تجد انه – رغم صعوباتها – انت مقتنع. انت تشعر صنعت فرقا في العالم وتحكم على حياتك بانها جديرة بالاستحقاق. في السيناريو الآخر تكون حياتك اليومية معظمها ممتعة . انت نادرا ما تشعر بالحزن او عدم الراحة او الخوف. لكن عندما تاخذ وقتا لتفكر حول حياتك، انت تشعر بفراغ. انت تتمتع بحياتك، ولكن حتما ذلك لن يجعلك مقتنعا".

كامبيل هارس يستعمل هذه التجربة الفكرية لتوضيح الفرق بين السعادة من القناعة بالحياة والسعادة من المشاعر الفورية كالبهجة. في فلسفة السعادة،منذ ايام افلاطون، جرت المقارنة بين الحياة الجيدة eudaimont والمتعة على التوالي كنوعين اساسيين للسعادة يُفترض ان كامبيل يفضل النوع الاخير الذي تكون فيه الحياة اكثر متعة، طالما يبدو (على الاقل كما يعرضه) يتضمن سعادة كلية حاضرة اكثر من الاولى. لكننا نعتقد ان أغلبنا سيفضل الاولى لأن الحياة بدون أي هدف يتعدى المتعة الفورية تبدو فقيرة – في الحقيقة حياة بدون سعادة حقيقية. اذا كان ذلك هو الموقف، فان السيناريوهين  كما عُرضا هما اسيء فهمهما. الفرد في السيناريو الاول، رغم انه مرهق، سوف لن يكون تعيسا في النهاية طالما ان الرضا العام عن الحياة قائم لإرساء سعادته الدائمة. والسيناريو الأخير يتضح تعيسا نتيجة لغياب الرضا. في الحقيقة، كيف لا تشعر بالحزن اذا كنت تشعر بالفراغ بشكل غريب عندما تتأمل في حياتك؟.

يقول كامبيل هارس "نحن نخدع أنفسنا عندما نعتقد اننا عند النظر الى حياتنا ككل، نستطيع تجاوزها". لكن ذلك لا ينفي قدرتنا على النظر لحياتنا بالكامل من الداخل. بالتأكيد، نحن كبشر فانين، حياتنا بالكامل غير متجسدة لنا طالما ان رحيلنا في الموت هو وحده يشير لإكتمالها. غير ان ذلك لا يعني اننا لا نستطيع مواجهة كامل حياتنا من داخلها. في الحقيقة، هناك إحساس لا يسعنا فيه الاّ القيام بهذا أحيانا.

ربما الأكثر أهمية، هو تأسيس قناعتنا الكلية في الحياة (مهما كانت ناقصة) والتي بدورها تؤسس سعادتنا. يجب ان تتم هذه القناعة لتتناسب مع سياق حياتنا. المدرس يجب ان يجد طلابا، الفنان يجب ان يجد وسيطا،على الأقل ان يجد مشاهدين. اذا وجدنا هذا التناسب مهما كان ناقصا، سيبقى ثابتا كأساس لحياتنا ككل، يقودنا نحو رضا من خلال السعي وراء كل أنواع المرح. كل هذه الانواع من البهجة تنمو مجتمعة الى كلّ لا ينفصل من السعادة.

ان أنقى وسيلة للاعجاب باللحظة يمكن العثور عليها في فن التأمل، وهو المثال الذي يعرضه كامبيل هاريس. انه خصيصا هنا حينما ننسى حياتنا الكلية ونفقد أنفسنا في الحاضر. المعارضة للإعتقاد الشائع بان الحاضر هو كل ما يتعلق بالسعادة ليس اقتراح ان نتخلص من الوصية البوذية لنصبح اكثر التصاقا بالحاضر. بل، انه اقتراح باننا نوسّع فكرة تركيز كامل الذهن لتتضمن الماضي المتجذر الذي يجعل الحاضر ممكنا، بالاضافة للمستقبل المفتوح . بهذا المعنى، ربما الماضي والحاضر والمستقبل كلها تشبه الحاضر للتجربة.

يجادل وايتهد ان التجربة هي عملية أكثر من كونها وجودا: انها تدفق مستمر، ولا وجود هناك للحظة ثابتة نتوقف عندها. التجربة تشبه نهرا كما يذكر هيرقليطس في عدم امكانية النزول في النهر مرتين بحيث نتوقع انه في المرة الثانية كالاولى. برجسون يوضح ذلك : "خذ أبسط الإحساس، إفترض انه يستمر ... الوعي المصاحب لهذا الاحساس لا يمكن ان يبقى مشابه لذاته للحظتين متعاقبتين لأن اللحظة الثانية دائما تحتوي بالاضافة للاولى، الذكرى التي أورثتها اللحظة الاولى". (مدخل الى الميتافيزيقا،1903).

اذا قبلنا المعنى الشائع على نطاق واسع للحاضر، باعتباره دمجا للماضي والمستقبل، فسيتبيّن بشكل تافه ان الموقف المعاصر هو الصحيح. اذا كان كل ما هناك هو الحاضر، فلا يمكن ان يكون هناك شيء آخر للسعادة.

*** 

حاتم حميد محسن

تمهيد: سبق لي ونشرت مقالة بعنوان (ميرلوبونتي ونفي واقعية الحقيقة) وهذه المقالة تكملة لها.

يذهب ميرلوبونتي نحو تناول موضوعات كلاسيكية بالفلسفة بنوع من التغريب الذي يثير نوعا من الحساسية الفلسفية. فهو مثلا لا يعترف بوجود (ذات) مدخّرة في عالم الانسان الداخلي كما ذهب له القديس اوغسطين. طالما ان هذه الذات لا يمكننا التحقق منها كموجود يمتلك استقلاليته الا في مغايرتها المعاشة ضمن عالم خارجي يحتويها.

ويذهب ميرلوبونتي ابعد اكثر الى ان العالم الخارجي ليس حقيقة. وكذلك (الذات) ليست حقيقة.أعتقد انه من المتفق عليه انه بدلالة العالم الخارجي ندرك ذواتنا بمغايرة ادراكاتنا الموجودات. وليس بهذه الخاصية الادراكية المتفردة نستطيع معرفة حقيقة العالم الخارجي ايضا.الذات جوهرفردي لا وجود حقيقي له سوى بالمغايرة الادراكية العقلية للاشياء والتفكير بما حولنا من موجودات في عالمنا الخارجي والطبيعة وموضوعات الخيال الميتافيزيقي.

العالم الخارجي مفهوم وليس مصطلحا لكينونة وجودية متعيّنة ماديا محدودة بابعاد الموضوع سواء اكان الموضوع ماديا أو غير مادي يدركه العقل ويمكنه بها معالجة العالم الخارجي كموضوعات. متى يكون موضوع تفكير العقل غير مادي؟ كل مواضيع تفكير العقل المستمدة من الخيال هي غير مادية بمعنى هي تجريد صوري تتمثّل الواقع. إنها تصورات ذهنية يبتدعها العقل ويعبّر عنها لغويا او يتم التعبير عنها بأنشطة ادبية وفنية. وحتى الصمت الحركي جسديا كما في المسرح الصامت واليوغا واوضاع حركات الجسم الايحائية غير الناطقة لغويا كما في الرقص والباليه وطقوس العبادات الصوفية الوثنية منها والتوحيدية على السواء.

في الواقع ميرلوبونتي كان قريبا جدا من فلاسفة الوجودية وفينامينالوجيا هوسرل وهو محسوب فلسفيا عليهما لذا نجده يكرر المرادف الفلسفي للذات على انها وعي قصدي يحتاج العالم الخارجي لتوكيد ذاتيته الموجودية بالمغايرة في تاكيد وجوده وسط عالم يحتويه كانسان. والذات من دون وعي قصدي هادف يلازمها سلوكيا ومعرفيا لا وجود حقيقي لها على ارض الواقع.

كما انكر ميرلوبونتي مقولة القديس اوغسطين اعتباره الحقيقية – هكذا وردت في اطلاقية غير محددة في ترجمة دكتور زكريا ابراهيم لم يذكر بأي نوع من الحقيقة يقصد اوغسطين كون الحقيقة مفهوما فلسفيا مطلقا يصل احيانا حد البحث عنها يكون ضربا من الميتافيزيقا. والحقيقة ليست مصطلحا فلسفيا متفقا عليه محدود الدلالة بل هي مفهوم لا نهائي مطلق .  انكر ميرلوبونتي مقولة اوغسطين الحقيقة وجودها العالم الداخلي للانسان وهي ادانة صريحة واضحة صائبة. والذات ليست حقيقة استبطانية يدّخرها العالم الداخلي للانسان. متعللا ميرلوبونتي بالمقولة الفلسفية عن الوعي القصدي التي تذهب الى ان الذات لا تعي وتدرك نفسها الا بالمغايرة الموجودية مع محتويات العالم الخارجي الذي ايضا انكره ميرلوبونتي ان يكون وجودا تتحدد موجودية الانسان بدلالة ادراكه العالم الخارجي.

ميرلوبونتي سقط في فخ انه ليس للذات علاقة تعريفية لها لا بوجودها خالصا وهو محال ولا في ادراكاتها ولا بمعيارية علاقتها بالعالم الداخلي ولا بالعالم الخارجي. اي وضع الذات في تصور ميتافيزيقي يتارجح بين اليقينية الواقعية والغياب التام عن الوجود. بينما الذات هي جوهر معطى لا وجود لما يسمى انسان من دونها وهو لا يمتلك ذاتا تلازمه. الذات كينونة الانسان في موجوديته وليست صفة خارجية ولا داخلية  تلازمه.

الشيء الذي يمكنننا التعقيب عليه هو ان التوليفة الثلاثية (الذات والعالم الخارجي والعالم الداخلي) انما هي توليفة من الصعب الغاء التعالق الادراكي المتواشج بينها رغم أن كلا منها تحمل استقلالية موجودية كمواضيع متفردة بخصائص نوعية فيزيائية  فلسفية ومعرفية يمكن ادراكها بانفصالية واحدة عن الاخرى كمصطلحات متفق عليهما.

لا الذات ولا العالم الخارجي ولا عالم الانسان الداخلي بدون العلائقية التعالقية الادراكية بينهم ثلاثتهم ينتفي ان تعرف الذات كموضوع مستقل استقلالية  تقوم على نوع من المقايسة المغايرة لثنائية الاخريتين منفصلتين احداهما عن الاخرى العالم الخارجي والعالم الداخلي وانفصالهما عن الذات بالتخارج التكاملي المعرفي مع الذات وعن العلاقة البينية التي تجمع بين العالمين ايضا بدون وعي ادراكي ذاتي يتوسطهما.. الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها بابتذالية فلسفية قولنا اننا ندرك العلاقات البينية بين عالمي الانسان الخارجي والداخلي من دون حضور الذات كوسيط فاعل غير محايد بينهما. هذا بمنطق الفلسفة يسمى هراء.

احتفاظنا بالافتراض الخاطيء بوجود ذات مستقلة عن روابطها وعلاقاتها المتواشجة المشتبكة بمختلف امور الوجود وموجودات العالم الخارجي وأحاسيس  استشعارات الجسم الداخلية لاشباع حاجاته البيولوجية والغريزية . تكون تصوراتنا جميعها عن العالم الداخلي هو محض هراء فلسفي افتعالي من المحال ان نجد تحققه لا في منطق الفلسفة ولا في بيولوجيا وظائف اعضاء واجهزة الجسم. حتى لو وردتنا هذه التقوّلات على مستوى التنظير التجريدي الفلسفي الصرف الذي يقوم على النمط النسقي في المنطق.

الذات الانسانية لا تعرف وجودها الحقيقي الا حين تكون محتواة ضمن عالمين غير منفصلين بينهما وغير منفصلين كليهما مع الذات هما العالم الخارجي والعالم الداخلي. العالم الخارجي هو الموجودات والمواضيع والظواهر الخارجية بضمنها الطبيعة التي تعيها الذات وتدرك تعالقها بها على صعيدي المغايرة الموجودية وصعيد التخارج المعرفي معها على صعيد اكتشاف القوانين العامة الطبيعية الثابتة التي تحكمها وصعيد القوانين العامة التي يخترعها الانسان الذي يجمعها والطبيعة معا.

اما تعالق الذات مع عالم الانسان الداخلي فتحكمه جميع الاحاسيس التي مصدرها عمل وظائف الجسم البايولوجية والغرائزية الفطرية معا. اجهزة الجسم بما تصدره من استشعارات بيولوجية ونفسية تصل الدماغ عبر منظومة العقل الادراكية عن طريق الجهاز العصبي، فتكون ردود الافعال الانعكاسية الارتدادية الارادية وغير الارادية العائدة ثانية للجسم من الدماغ انما هي ايعازات يريد الجسم فيها القيام بوظيفة اشباعها كحاجات تديم الحياة في الجسم مثل حاجة الانسان للاكل او النوم او الالم والحزن والخوف والجماع الجنسي وحاجات الغرائز الفطرية المزروعة داخل جسم الانسان داخليا.

 كل ما ذكرناه هو حاجات بيولوجية وحاجات غرائزية فطرية تتداخل فيها النفس مع السلوك ومع الذات في وعيها القصدي الهادف. الذات اشمل إحتوائيا من النفس كجوهرين متلازمين بحياة الانسان في وظيفتهما اشباع جميع الحاجات البيولوجية والغريزية للانسان التي هي اشباعات ما يريده ويرغبه الجسم في نوعين من الاشباع الجسدي الاول حاجات بيولوجية والثانية حاجات غرائزية فطرية بكل ماله صلة بالنفس وليس لما ترغبه وله صلة مباشرة بالذات التي تكون جميع افصاحاتها تجريدية صورية في تعبير اللغة والنفس عنها.. وليس معنى هذا ان اشباع غرائز الجسم الفطرية وحاجاته البيولوجية الحياتية بعيدة عن وعي الذات القصدي في تحققها.

كيف ومتى يمتلك الانسان ذاته؟

ميرلوبونتي حين يطرح إمكانية امتلاك الانسان لذاته التي يرغبها مستقلة استقلالية تامة عن كل رابطة تجمعها مع موجودات العالم الخارجي تخارجيا معرفيا متبادلا ولا اقول علاقة جدلية فجدل الذات مع الواقع اي مع موجودات العالم الخارجي غير متحققة بسبب الذات لا تمتلك خاصية التجانس النوعي مع كافة الموجودات التي تجعلها تدخل بعلاقة جدلية معها.(هذا الموضوع متى يحصل الجدل الديالكتيكي في المادة والتاريخ كتبت فيه اكثر من مقال).

أن تكون الذات جوهرا مستقلا استقلالية تامة عن علاقاتها التي تربطها بكل من العالمين الخارجي والداخلي كما يرغب ميرلوبونتي أن تكون الذات هو تهويم وهراء فلسفي يتجاوز طبيعة الذات انها ليست موضوعا لغيرها بل هي موضوع لحاملها يعيها الفرد فقط. حين تقول ذاتا فانت تقصد ذلك الشيء الملازم لعقل وجسد الانسان حتى الممات ويتجلى في افصاحات كيف يعيش الانسان عالمه الخارجي وعالمه الداخلي بعلاقة ايجابية يحقق فيها امتلائه النفسي والروحاني والمادي.

ذكرنا ونعيد التذكير به أن تعالق الذات بكل من العالم الخارجي والعالم الداخلي يمنحها خاصية عمومية تخرجها عن فردانية إمتلاكها لذاتيتها في وعيها الاشياء بمغايرة كيفية وامتلاكها موضوعاتها التي بغيرها تفقد الذات خاصية ارتباطها بالعالم الخارجي. وهذا لا يتم الا بعد عبور الذات لخاصية انتسابها الانفرادي انها خاصيّة شخصانية يمتلكها العقل وتمتلكه هي بتناوب تخارجي طبيعي معرفي متبادل بينهما. وجود الذات الافصاحي عن نفسها وليس عن ماهيتها مرتبط بالجسد واللغة.

الخطأ الكبير جدا قولنا الذات هي الجوهر المّدخر في عالم الاشياء او عالم الجسد داخليا. بل لكي نخلص من هذا الاحراج الافتعالي الاعمى اين توجد الذات؟ لا يشابه بالتاكيد مقارنته بسؤال اكثر احراجا قولنا اين توجد الروح؟ الذات هي جوهر تجليّات مقولات العقل عن مدركاته ليس في التعبير التجريدي اللغوي بل من حقيقة الذات علميا هي جوهر العقل السليم الطبيعي كيف يعيش الانسان الحياة وعالم الوجود والمجتمع بسلوك نفسي عقلاني متواشج الفعالية.

وحين إعتبر سارتر الذات وعي قصدي ملتزم بمسؤولية عن حريته ضمن موجوديته كفرد يعيش مجتمعا افراده احرار مثله. إنما كان يعّبر أن الذات سلوك فردي يعيش ويتصرف في كيفية فهمه الحياة منفردا كشخص هويته هي ذاته.

رب تساؤل مشروع يردنا كيف اذن نستطيع التفريق بين الذات كهوية انفرادية والماهية الانسانية كجوهر ملازم حياة الانسان كهوية؟ من يمنح الذات هويتها؟

بشديد العبارة المختصرة جدا نقول ان الذات ممارسة سلوكية يومية استهلاكية في تعامل الفرد مع المحيط والطبيعة وموجودات العالم الذي يحيط به. لماذا قلت ان سلوك الذات في تبادل تخارجي معرفي متفاعل مع المجتمع والمحيط هو استهلاكي؟ السبب لان الذات بعلاقاتها مع مدركاتها من الموضوعات والاشياء تسنفد من تلك المدركات اهميتها البعدية المعرفية لها. فحينما تنتهي الذات بافصاحاتها التخارجية مع الموضوع لا يبقى للموضوع اهمية بعدية في عودة الذات له  ثانية . بمعنى الذات في وعيها الادراكي الاولي لموضوعها اتخذت الاجراءات العقلية تجاهه بما تنتفي الحاجة العودة له ثانية. من المعلوم البديهي الذي لا يحتاج برهانه ان الذات في وعيها لمدركاتها لا تتموضع في تكويناتها ولو جزئيا. لكن الجديد فلسفيا هو ماجاء على لسان هوسرل اننا في جميع الاشياء التي وصلتنا عبر آلاف السنين انما تحمل مسحة من معرفة قبلية ندركها فيها. هوسرل الاب الروحي للفينامينالوجيا مثالي التفكير الفلسفي وما استشهدنا به يوّضح واحدة من شطحاته الميتافيزيقية.

اما الماهية او الجوهر عند الانسان لا غيره من الكائنات الحيّة وانا بهذا اذهب لتبني وجهة نظر سارتر هي بناء تراكمي تبنيه الخبرة المكتسبة عن وجود الانسان ضمن مجتمع يعيش حريته بمسؤولية اجتماعية. اننا بناء على هذا نستطيع القول الماهية هي شخصية الانسان الانفرادية التي يعبّر عنها الفرد سلوكيا ضمن مجتمع في مواجهته اسباب الحياة السلبية منها والايجابية. اما الذات مقارنة بهذا المعنى السلوكي الذي ذكرناه عن الماهية فهي جوهر العقل في فهمه وتفسيره ومعرفته الحياة ولكل شيء يدركه العقل او يتخيله موضوعا له.

الذات هي وعي قصدي متغيّر تعي نفسها وتعي اهمية ملازمتها لمواضيعها المدركة من قبلها. اما الماهية او الجوهر فهو الثبات الذي تدور في فلكه الصفات الخارجية التي لا تعبّر عنه مباشرة ولكنها تؤثر به تكوينيا. ومقارنة ذلك بالحيوان فهو بلا ماهية والسبب انه لايعي اهمية ان تكون له هوية خاصة خارج القطيعية النوع لذا تكون صفاته الخارجية هي ماهيته الجوهرية.

هل يمكننا تصور الذات بمعزل عما تجد فيه مغايرة موجودية تؤكدها؟

انا اجد في الطرح الذي يرغب استحضار(ذات) واقصد ميرلوبونتي هنا بمعزل عن العالمين الخارجي عالم الموضوعات والمدركات . والعالم الداخلي الذي هو عالم وظائف اجهزة الجسد المكتسبة منها والغريزية هو كمن يلعب باللغة بفائض التهويم الفلسفي التجريدي الذي لا تجد له معنى ولا اهمية. سبق لي قولي أن عبارة اوغسطين الحقيقة جوهر مدّخر في العالم الداخلي للانسان لا تحتاج الوقوف عندها ولا حتى رفضها كما فعل ميرلوبونتي. فهي ولدت ميتة. لسبب مباشر هو ماهي الحقيقة التي قصدها اوغسطين؟ نحن يمكن الاستفادة من صياغة عبارة اوغسطين البالية الركيكة تساؤلات لعل ابرزها برأيي هو ماهي الحقيقة التي قصدها اوغسطين؟ الحقيقة كما هي المتداول بالفلسفة والانشطة المعرفية الابستمولوجية غير المحكومة بتجريبية التطبيق العلمي هي مفهوم فضفاض  غير محدود لا يعني شيئا كما في المصطلح المتفق عليه.

الحقيقة غير النوعية المعروفة بها هي خارج المحدودية الادراكية للعقل كموضوع من جهة. وعالم  الانسان الداخلي هو عالم اشباع رغائب الجسم البيولوجية منها والغريزية الفطرية داخل الجسم التي تتحكم به الاحاسيس الصادرة عن اجهزة الجسم الداخلية. التي تكون خارج محدودية الوجود الانطولوجي للجسم.

امام هذه الواقائع العلمية اين يقع فهمنا ان الحقيقة استبطانية داخلية من غير معرفتنا أي نوع من حقيقة نقصد؟ وماهي صفاتها؟ وماهي علاقتها بالذات وبجسم الانسان الداخلي على افتراض أن أوغسطين عندما أطلق الحقيقة موجودة في عالم الانسان الداخلي لم يكن يهذي. ونستنتج انه لا الذات ولا الحقيقة ماعدا الاستشعارات الاحساسية التي تبعثها اجهزة الجسم الداخلية عبر منظومة الجهاز العصبي ومنظومة العقل الادراكية لاشباع حاجات الجسم الغريزية الفطرية وحاجات الجسم البيولوجية هي فقط الموضوعات التي يمكننا معرفتها ويمكننا التعامل معها في عالم الانسان الداخلي.حتى العواطف والقيم والمشاعر اللاشعورية ليس فيها حقائق اكثر من ردود الافعال الانعكاسية التي تصدرها مناطق في قشرة الدماغ والفصوص المخيّة. وهذه الردود الدماغية الانعكاسية هي التي تحدد وعي الذات وافصاحات النفس بضمنها السلوك والوعي القصدي الهادف.

ميرلوبونتي بعد أن اتحفنا رفضه مقولة اوغسطين يذهب الى تطرف فلسفي مفاده أن الذات طالما تعرف نفسها في وعي وجودها المتعيّن بالمغايرة والتخارج المعرفي مع موضوعات عالمها الخارجي فلا وجود ولا معنى يبقى أن للذات أو الحقيقة علاقة تربطها بعالم داخلي للانسان غير موجود!! ولنا أن نتصور هذيان ميرلوبونتي بضوء ما اوضحناه في سطور سابقة علمية أهمية وجوب تعالق الذات مع عالم الانسان الداخلي الذي ينكره ميرلوبونتي.

الفينامينالوجيا والنفس

الفينامينالوجيا تلتقي مع علم النفس وعلماء النفس بخاصة السلوكيين منهم يرفضون كل نظرية تغلق الشعور على ذاته لكي تجعل منه حياة باطنية خالصة. (نقلا عن د. زكريا ابراهيم).هذا الاقتباس يلزمنا توضيح ما يلي:

-التفريق بين الذات والشعور على صعيدي البايولوجيا وعلم النفس السلوكي. ليس فقط في إختلاف مرجعية الذات (العقل) ومرجعية الشعور (علم النفس السلوكي). ولو اجرينا معيارية بين المرجعتين فالكفة تشير الى ذهاب الذات ومعها الشعور النفسي نحو مرجعيتهما كلاهما للعقل.

- الشعور في بديهية معرفته ومعرفة وظائفه يصبح من المحال انغلاقه على نفسه. الشعور فضاء نفسي مفتوح كلية على عوالم الانسان وظواهرها الخارجية والداخلية التي تجعل الذات الانسانية تحيش عوالمها الطبيعية وما يستتبعها من تحقيق اشباعات بايولوجية وغريزية يحتاجها الجسم والنفس على السواء.

- الشعور مفهوم غير محدود النهايات فمثلا العاطفة، الضمير، القيم، الاخلاق، العواطف، القلق، الحزن، الالم، جميعها افصاحات ترتبط بالسلوك النفسي للانسان. من المحال انغلاق تلك الافصاحات الشعورية على نفسها. والسلوكيون محقون في رفضهم مقولة الانغلاق النفسي.

- يرفض ميرلوبونتي ان تكون الذات حقييقة تسكن الداخل الانساني وهو طرح نثني على صوابه وصحته العلمية والمنطقية، فالذات مصطلح متعيّن محدود، والحقيقة مفهوم مطلق لانهائي غائم غير محدود. فالتناول اللفظي ان تكون الذات حقيقة داخلية خطأ اوضحناه. هذا اوصل تفكير نيتشة الفلسفي إنكاره التام لما يسمى الوجود.

- الذات بافصاحاتها غير المحدودة تكون جوهرا لانهائيا لكنه يختلف عن الحقيقة كمفهوم ميتافيزيقي لا يمكننا معرفته بتحليلنا مكوناته. والحقيقة بهذا المعنى تختلف عن الوجود. فالوجود وإن كان مفتوح النهايات على مطلق لا نستوعبه في كليتّه إلا أن الوجود بخلاف الحقيقة مفهوم ميتافيزيقي قابل التقسيم في موجوداته. ولو أجرينا مقايسة معيارية بين الوجود والذات لوجدنا الذات عالم من الشعور النفسي السلوكي المتعيّن يرتبط إدراكيا بالعقل في تعالق الذات مع العالمين الداخلي والخارجي للانسان. ويبقى الوجود جوهر سديمي لانهائي لكنه ايضا قابل التقسيم في تنوع محتوياته الموجودية. معنى الوجود هو في معرفتنا لموجوداته التكوينية التي يحتويها.

- اخيرا الذات جوهر مادي – روحاني مركّب متداخل تواشجيا معا. ولا يمكننا فصل هذه الثنائية الذاتية كصفة ومحتوى عن ملازمتها ذات الانسان. ففي الوقت الذي نجد فيه الذات منغمسة في عالم المادة خارجيا، وعالم الاحساسات الجسدية داخليا. الا انها اي الذات تفكر تفكيرا روحانيا ميتافيزيقيا. وتتسم الذات بقدرة الخيال في هيمنتها على الخبرة الذاكراتية في مخزونها الاستذكاري، وهيمنة الذات على المخّيلة في تصنيعها مواضيع الخيال الآنية الحاضرة. الفرق بين الذاكرة كمخزن لخبرات وقائع الحياة والتاريخ وبين ملكة المخيال الذي لا تستثيره احداث الماضي بل تستثيره الاسئلة المتعلقة حاضرا آنيا بمعنى الوجود ومعني وتفسير ظواهره التي يصادفها الانسان بحياته.

***

علي محمد اليوسف

 

الدهشة بصيرة الفلاسفة، يندهش الفيلسوف بالأشياء التي نحسها هامشيَّة وبسيطة وعابرة، ليغوص فيها ولا يخرج منها إلا بأسئلة مجهولة وإجابات ذكيَّة. تنبعث الفلسفة لحظة إيقاظ العقل وانبعاث الأسئلة العميقة في الوعي. ‏الإنسان الذي يندهش، وينقد، ويتأمل، ويتساءل أسئلة كبرى، لديه استعداد لأن يكون فيلسوفا. لا معنى للفلسفة من دون النقد العميق، والأسئلة الكبرى.  الفيلسوف يمارس النقد العقلي بلا قيود وحدود، تتوالد أسئلته في سياق النقد، كما يتوالد نقده في سياق أسئلته. يلبث الفيلسوف يفكر في جواب لا ينتهي إليه إلا بعد تأمل، وتمحيص، ونقض الإجابات المتهافتة المختلفة.

النقد بوابة الدخول للتفكير الفلسفي، نشر فيلسوف الأنوار كانط أعماله الأساسية، وهو يصدّرها بكلمة نقد: "نقد العقل الخالص" 1781، و"نقد العقل العملي" 1788، و"نقد ملكة الحكم" 1790، على التوالي، وخلص من هذه الأسفار العقلية الصبورة إلى نشر كتابه الثمين: "الدين في حدود العقل" 1793.

الفلسفةُ إيقاظٌ متواصل للعقل، وتحرير له من تسلط المعتقدات، والأيديولوجيات، والهويات، والخرافات، والأوهام، والسلطات بأنماطها المتنوعة. التفكير الفلسفي يبدأ لحظة يتحرّر العقل من أنماط الوصايات المتنوعة، والبداهات غير البديهية. تتجلى قوةُ العقل في معرفته لحدوده، وقدرته على التفكير داخل فضائه، والخلاص من أوهامه، ومما هو زائف من أحكامه.

التفكيرُ الفلسفي على الضدّ من الاعتقاد النهائي المغلق، التفكير الفلسفي متحرّر من الحدود والقيود والشروط والأسوار المغلقة.

 كلُّ شيء يخضع لمساءلة العقل ونقده وتمحيصه، العقل نفسه يخضع لمساءلة العقل، وتمحيصِ مفاهيمه، وغربلة أحكامه، وطريقة تعريفه لنفسه، وتفسيره لحقيقة معرفته، ومصادرها، وقيمتها. لا يضع الحدود للعقل إلا العقل، العقل يرسم حدوده وما هو داخل في فضائه، ويتدخل ببيان حقيقةِ ما هو خارج حدوده. لا يصدق التفكير فلسفيًّا إلا لحظةَ يكتفي العقلُ في تصديقاتِه وحججه وأحكامه بذاته، فيكون هو مرجعيَّة تمحيصِ تفكيره، ومرجعيَّة ما سواه، والحكم عليه إثباتًا أو نفيًا.

عندما يصمت العقل ويكفُّ عن وظيفته، تدخلُ الروح والعاطفة في متاهات. العقل يريد ألا نستمع منه إلا إلى صوته الخاص، من دون أن تشوّش عليه وتربكه وتنهكه أصوات خارج حدوده. العقل يحكم بعدم إمكان أن يتخلص الإنسان من تأثيرٍ خفيٍّ لذاته وعواطفه ومشاعره والمحيط الذي يعيش فيه بشكلٍ تام.

العقل يحكم بوجود الدين في الحياة ويحدّد مجالاته، ووجود المتخيّل ويحدّد مجالاته، والمثيولوجيات والأساطير ويحدّد مجالاتها، ويعلن بأنّها من الثوابت الأبديَّة في الثقافات البشريَّة. العقل هو الذي يتولى تصنيفَ وتوصيفَ هذه الموضوعات ويحكم عليها إثباتًا أو نفيًا، ويرسم خرائطَها ويضع حدودَها.

 الإنسان واحد بالرغم من أنّه متعدّد، متعدّد بالرغم من أنّه واحد. طبيعة الإنسان تتَّسع للوحدة والتفاعل الحيوي للعاطفة والروح والعقل. ‏هذه الوحدة أحيانًا يتغلب فيها أحد العناصر ويتراجع دور العناصر الأخرى.

في الفلسفة يتغلب العقل ليصير هو المرجعية في الحكم والقرار، وبتغلُّبه يتحقق التفاعل الخلّاق بين العقل والروح والعاطفة. يضع العقل الروحَ والعاطفةَ في حدودهما، وهو الذي يصحّح المسار لهما على الدوام. تنحسر مرجعية العقل في مجتمعاتٍ غير متعلّمة تتفشّى فيها العبوديّة الطوعيّة، واستعباد الوعي، والانقياد الأعمى، وتخدير الضمير الأخلاقي.

العاطفة والروح تعملان بخفاءٍ للتأثير في العقل، والتحكّم بتفسيراته وصناعة أحكامه وقراراته. يعود سوء الفهم بين الفلاسفة وطرائق فهمهم إلى تأثير الذات والعاطفة والروح في تفسيرات العقل وأحكامه، على الرغم من أن الفلاسفة هم الأكثر صرامةً في اعتماد العقل والعملِ على توظيفه في كلِّ شيء. لا خلاف في الفلسفة حول كون العقل هو الذي يرسم حدودَه، ويحدّد وظيفته، ويكتشف مصادر معرفته. الخلاف بين الفلاسفة أنفسهم حول حدود العقل، وماهية هذا العقل وتعريفه، ومجالاته، وكيفية إدراكه، ونوع مدركاته.

العقل الفلسفي هو الذي أولد العقل الحديث، تَوالد هذا العقل وتشكّل في فلسفة فرنسيس بيكون وديكارت وكانط وغيرهم من الفلاسفة، فكان العقل الفلسفي الحديث باعثًا أساسيًّا على وضع التاريخ البشري في مسار جديد، غادر فيه حالتَه الرتيبة التكرارية الطويلة، بعد أن لبثت البشريةُ آلاف السنين لم تحقّق المكاسب العلمية من الاكتشافات والاختراعات والتكنولوجيات المنجزة في القرون الثلاثة الأخيرة، وتحول عبرها الإنسانُ من الآلات اليدوية إلى المحرِّكات الحديثة، ومن وسائل النقل البدائية إلى القطار والسيارة والطائرة ووسائل النقل المتطورة.

وهكذا تواصلت هذه المكاسب بقفزات على شكل منعطفات، إلى أن وصلنا إلى هندسة الجينات، وتكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي والروبوتات.

كانت الفلسفة وستبقى تتفاعل مع النظريات العلمية والاكتشافات، تؤثر وتتأثر بها، تستجيبُ لما يستجدّ من اكتشافات في الفلك والفيزياء والأحياء وغيرهما من العلوم. لعلم الفلك الحديث، الذي بدأ مع كوبرنيكوس (1473 – 1543) ونظريته في مركزية الشمس ودوران الأرض والأجرام الأخرى في المجموعة الشمسية حولها، أثرٌ مباشر على التفكير الفلسفي والميتافيزيقي في أوروبا من بعده، وهكذا تأثر هذا التفكيرُ بقوانين الحركة والجاذبية العامة في فيزياء نيوتن (1642 – 1727)، كما تأثر لاحقًا بفيزياء الكوانتم لماكس بلانك (1858 – 1947)، والنظرية النسبية لأينشتاين (1879 – 1955)، وقبل ذلك تأثر بنظرية التطور لتشارلز داروين (1809 – 1882).

 الفلسفة لا تنتهي ولن تتوقفَ مادام الإنسان يندهش، ويفكّر، ويتساءل، ويشكّك، ‏ ويناقش، ويتحاور، ويختلف. لا تمثل الفلسفة مرحلة من مراحل تطور الوعي، الفلسفةُ تواكب الوعي ولا تتخلّف عنه، حتى لو ساد العلم الحياة. العلم يطرح على الفلسفة أسئلتَه ومشكلاته العويصة، وما يعجز عن اكتشاف طرق الخلاص منه في فضاء المادة والمحسوس والتجربة، الفلسفة لا سواها من يجيب عن ذلك. لم يولد العلم إلا ‏في أحضان الفلسفة، تظلّ الفلسفةُ تواكب العلم، تتغذّى بأسئلته الحائرة، ومشكلاتِه وأزماته خارج حدود المادة والتجربة، وترفده وتغذّيه بالأجوبة والحلول والرؤية لما تنتجه تطوراته من تساؤلات، ومشكلات معقدة، وأزمات روحيَّة وأخلاقيَّة ونفسيَّة ومعرفيَّة، سواء أكانت هذه المشكلات والأزمات فرديَّة أم مجتمعيَّة.

لن يكتفي العلمُ بذاته ويستغني عن الفلسفة، مهما بلغ تقدُّمه وتنوعت وتراكمت نتائجه. حين يفكر الفيلسوفُ يقدّم تفسيرًا يتجاوز سطح الأشياء والظواهر، يحاول أن يفسّر حقيقةَ العلم وماهيته، ويقدم إجابات لمشكلات العلم وأسئلته العميقة خارج حدوده. الفيزياء والكيمياء والعلوم المختلفة تنشغل باكتشاف قوانين الطبيعة ومعادلاتها، ولا تعرف حقيقةَ ذاتها، ولا تعرف حقيقةَ العلم وماهيته. الفيلسوف يحاول أن يفسّر حقيقةَ الوجود والظواهر والأشياء والعلوم وماهيتها، مما هو خارج حدود العلم.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

مدرسة الجشتالت Gestalt مدرسة في علم النفس تعنى بوحدة الشعوراو الوعي واستقلاليته الذاتية كموضوع. ونادت بأن الوعي ليس مكوّنا من عناصر مستقلة على غرار أن جميع مدركاتنا تتكون كموجودات من عناصر عديدة رغم أنها تتعايش جميعها ضمن وحدة كليّة كينونية مستقلة تسمى الموجود او الشيء المستقل. واعتبرت الكل ليس فقط مجموع اجزائه ولا يفهم الكل في انحلال عناصره.

والجشتالت كلمة المانية تعني الشكل او الهيئة او النمط المنظّم الذي يتعالى على مجموع الاجزاء. وظهرت حركة الجشتالت عام 1912 في نفس الوقت الذي ظهرت فيه نظرية السلوكية التي قادها ماكس فرتماير. وهي تعتبر السلوك تعلم ناتج عن مثيرات خارجية. اما رواد الجشتالت فيعتقدون التعلم هو فهم وادراك وتمييز.. ونظرية الجشتالت جاءت ايضا كرد فعل على البنيوية التي تحاول تجزئة الادراك الى مكونات. (نقلا عن ويكيبيديا الموسوعة ).

الوعي الادراكي في الفلسفة

هنا نجد الوعي بمعنى الشعورالنفسي أنه فهم مستقل ذاتيا يدرك بالممارسة الادراكية الانفرادية. صواب هذا التوصيف حين نعتبر الوعي وهو كذلك خاصية انفرادية تحكم انفراديتها الممارسة الادراكية الواحدية للشيء في كليته. حيث من المتعذر أن يمارس الوعي دوره المعرفي والادراكي بنفس طريقة واسلوب تفكير جميع أو عامة الناس. هذا يعني أن وعي الفرد الواحد لا ينوب عن وعي المجموع تجاه معرفة الشيء او الموجود الواحد. المقصود الوعي الجمعي يتوزع على عدد مدركي الشيء الواحد بتنوع كيفي بما لا حصر له كما في خاصية عمل عقول الناس كجوهر نوعي غير مبرمج جمعيا بالادراك والتفكير...فليس كل العقول تدرك الموجودات في تنميط واحد مشترك نوعيا.

الحقيقة أن خاصية الوعي من حيث امتلاك الفرد لها هي ثنائية تتالف من خاصية فردية مجمع عليها. حال الوعي يشابه تماما كما في مقولة ديكارت العقل أعدل قسمة ومساواة بين جميع الناس في امتلاكهم له. لكن كما ينطبق على ان العقل جوهر (نوعي) منفرد و ليس نموذجا متقولبا واحديا في التفكير المنمذج الذي ينوب عن العقول الاخرى. فلكل عقل تفكيره الخاص به لكنه عقل يحمل المجانسة النوعية الواحدية البيولوجية والتفكيرية المجردة مع باقي العقول الانسانية عموما.

في مفهوم مدرسة الجشتالت النفسانية ان الوعي او الشعور كليّ لا يقبل التجزئة الى عناصر كما هو حال العناصر الموجودة في تكوينات الاشياء بعالمنا الخارجي والموجودات بالطبيعة. وان مرجعية الشعور هو علم النفس وليس مرجعيته فاعلية بيولوجيا الادراك العقلي.

صحيح جدا ان نقول الوعي جوهرا ادراكيا موحدا شعوريا مصدره العقل. وصحيح ان الوعي او الشعور كليّ التكوين وكليّ الادراك معا بغض النظر عن ان تلك المدركات والموجودات والمواضيع تتكون من عناصر تشكل كينونة موجودية كليّة انطولوجية يدركها الوعي الانفرادي النوعي بواحدية تكاملها الوجودي في مدركات العالم الخارجي ولا يدركها بعناصرها التكوينية في الاشياء والموجودات.

هنا المقصود بعناصر مكونات الموجودات ليست جواهر الاشياء او الموجودات او ماهياتها التي تحتجب خلف الصفات الخارجية لتلك الموجودات انطولوجيا. فمجموع العناصر التكوينية والصفات الخارجية للشيء موضوع الادراك تمثل الموجود كيانا مستقلا ولا تمثل جوهره او ماهيته التي هي ذاتية خاصية ذلك الشيء نوعيا وليس هو مجموع عناصر مكوناته. فالذات جوهر عقلي وليست موضوعا مستقلا في الذهن.

اننا لو اخذنا الوعي من حيث وظيفته الادراكية نجده كما تقول مدرسة الجشتالت النفسية انه وحدة كليّة مستقلة فردية لا يمكننا تجزئتها لعناصر تكوينية داخليا كما هو حال وجود الاشياء انها تتالف من عناصر ايضا لا يمكن تجزئتها لأي غرض كان لأن معنى ذلك نجعل من الموجود كليّة غير متجانسة نوعيا في عناصر تكوينها القابلة للتفكك والانحلال ما يرتب عليه غياب موجودية او كينونة قائمة ادراكيا في حال إنحلت تلك الموجودات الى عناصرها التكوينية المنفصلة عنها.

هذا الاختلاف بين كليّة الوعي او الشعور غير القابل للتجزئة مع كليّة الموجودات المؤلفة من عناصر قابلة للتفكك والانحلال لا يلغي حقيقة اللاتجانس النوعي الذي يحكم الوعي ولا يحكم تكوينات المدركات في كليتها الواحدة الموجودية.

كليّة الوعي او ما يسمى الشعور النفسي الصوري في الجشتالت كما ذكرنا سابقا لا تاخذ صفتها انها ليست قابلة التفكيك لعناصر اولية تكوينية لها لأن الوعي أو الشعور مرجعيته مقولات العقل وليس مقولات علم النفس كما هي الاشياء المكونه من عناصر يمكننا تفكيكها اذا ما اقتضت الحاجة لذلك. هذا يذكرنا بما فعله سكينر في كتابه(السلوك اللفظي) حين اراد جعل توليدية اللغة فعالية ترتبط بعلم النفس السلوكي ما جعل نعوم جومسكي يعارضه معارضة شديدة في فلسفته عن اللغة التوليدية المكتسبة ولو انه اي جومسكي ايضا أيّد ما اسماه الاستعداد الفطري في تعلم واكتساب اللغة.. (لي اكثر من مقال واحد منشور بهذا الصدد).

فلاسفة السلوك اللفظي وفلسفة نعوم جومسكي التوليدية لا يعترفون بمقولة جون لوك يولد الطفل وعقله صفحة بيضاء. جون لوك فيلسوف تجريبي يفرّق بين بيولوجيا العقل الذي يتنامى معرفيا عن طريق الاسرة والمدرسة و المحيط واختلافها عن المكتسبات الفطرية الموروثة عن الجينات او الكروموسومات التي هي الصفات الخارجية لكل الموجودات وليست تمثّل ماهيتها.

الوعي والواقع

ثمة عبارات للكاردينال دي سوكا وهو فيلسوف القرون الوسطى اشار فيها:

- الوعي هو نوع من التحرر الواقعي

- الزمن يسبق الوعي الحقيقي

حسب نظرية الجشتالت النفسية وحسب الفلسفة عموما أن الوعي أو الشعور جوهر مستقل لكن هذه الاستقلالية مشروطة بتبعية الشعور او الوعي للنفس قصديا سلوكيا حسب الفينامينالوجيا. والاشمل من ذلك فالوعي مشروط بتبعيته للعقل وهو مالا تاخذ به مدرسة الوعي النفسي. اي لا تأخذ به مدرسة الجشتالت ولا الفينومينولوجيا لدى هوسرل.

الوعي او الشعور هو جوهر العقل وليس جوهر النفس في إدراكه موضوعات وموجودات عالمنا الخارجي. لذا فالوعي مستقل عن الواقع بمعنى عدم تموضع الوعي فيه تكوينيا. الوعي لا ينتج الواقع كما وليس هو نتاج ذلك الواقع. على خلاف الحواس التي هي ادراكات مصدرها موجودات الواقع او الوجود المادي منتج الاحساسات. الوعي هو فعل تجريد مقولات العقل عن الاشياء التي يدركها. والواقع الذي لا يدركه الوعي او الشعور فمن المحال ادراك العقل له. بتعبير آخر الواقع بكل تنوعاته الموجودية هي مواضيع ادراكية للعقل.

لكن الوعي ليس مستقلا عن العقل ولا هو موضوع يهم العقل أكثر من إهتمام الوعي معرفته الواقع. وهذا ينفي صدق تعبير اللغة القاصر عن موضوعات العقل تماما. فتعبير اللغة يكون احيانا وسيلة تضليل العقل. وظيفة العقل حينما لا تتجاوز مطابقة الدال مع المدلول واقعيا تصبح تضليلا للعقل ان يعي مدركاته بابعد مما تعبر عنه اللغة بايولوجيا حسيّا صرفا. لذا نجد بعض الفلاسفة كي لا يقعوا بهذا المطب اخترعوا مصطلح (ما فوق اللغة) لعل ابرزهم بول ريكور في التاويلية وجاك دريدا بالتفكيكية طبعا باختلاف جوهري بينهما في توظيفهما لمصطلح ما فوق اللغة. وكذلك نظرية السلوك الذي يقوم على المحفز والاستجابة.

بول ريكور في الهورمنطيقا اعتبر اللغة نسقا مفهوميا لا علاقة له بالواقع لا جدليا ولا تخارجا معرفيا ولا بحياة الناس فهو يوازيها بنسق لغوي مستقل.. في حين اعتبرجاك دريدا في التفكيكية ان اللغة تراكم تجريدي يستمد وجوده في التقويض والهدم. اي اللغة مادة للتفكيك المستمرالذي لا يخضع لثبات العقل ولا ثبات الانسان كجوهر مركزي..

وفي غياب موضوعات تفكير العقل المادي او موضوعات التفكير الخيالي المستمد من المخّيلة وليس من الذاكرة. الخيال توليد تفكير الشعور او اللاشعور خارج الزمن الماضي الذي يكون استذكار موضوعات الخيال مستمدة منه تحقيبا تاريخيا وليس زمنيا مستمدا من الذاكرة التي هي ثبات افتراضي تتتبع الماضي زمنيا وفي الحقيقة هي استذكار لتحقيب تاريخي بدلالة زمنية.. وليس من المخيلة وموضوعات الاستذكارالذهني التي تعود للماضي كتحقيب تاريخي فقط. فالزمن من المحال ادراك زمانيته في معرفتها ذاتيا كوعي او كموضوع. لذا نجد بدلالة نظامية المكان ينتظم الزمن ويتخلص من عشوائيته وهو ما كان ذهب له افلاطون نصا.

في غياب كما اوضحنا سابقا مواضيع تفكير العقل بشقيه المادي والخيالي فلا يوجد هناك وعي يصدره العقل. الوعي كما هو العقل خاصيته ملازمته لموضوع وعيه والتفكير به. الواقع في تفرده الوجودي المستقل ليس له تاثير مباشر ولا علاقة له بغير علاقة ادراك الوعي له. لذا فليس في مقدرة الواقع سجنه الوعي كي يسعى هذا الاخير الخلاص من هذا السجن ويطابق مقولة الكاردينال دي سوكا الوعي هو نوع من التحرر الواقعي. الوعي وموضوعه ثنائية لا وجود احدهما بغير ملازمة الاخر له.

كما الجدير ذكره أن لا توجد هناك علاقة تكاملية معرفية تجمع الوعي والواقع. أعيد تكرار العبارة التي سبق لي ذكرها. الوعي تجريد لغوي لا ينتجه الواقع لانه وسيلة تفكير العقل بمدركاته. كما لا توجد علاقة ديالكتيكية بمعنى التضاد الخارجي الذي ينتج عنه تراجع وتلاشي احد اطراف التضاد الجدلي ليعطي المجال هيمنة العامل المنتصر استحداثه الظاهرة الجديدة. أي لا جدل ديالكتيكي بين الوعي والواقع بل هو تكامل معرفي متخارج بينهما.

لماذا لا توجد علاقة جدلية بين الواقع والوعي؟ ببساطة لانهما طرفي علاقة غير تجانسية تربطهما معا. الديالكتيك يستلزم تضاد عنصرين تجمعهما المجانسة النوعية الواحدة داخل الظاهرة الواحدة أوداخل موضوع الديالكتيك الموّحد نوعيا. مثال ذلك انك لا يمكن أن تجد علاقة جدلية تربط شجرة بحيوان ولا حتى شجرة باخرى. والسبب هو انعدام المجانسة النوعية الواحدة التي تجمع بينهما فهل تستطيع الشجرة نفي وجود الحيوان جدليا؟ أو بالعكس.

الوعي صورة الذهن وصورة النفس

اصحاب مدرسة الجشتالت النفسي يرون ان الوعي (صورة) حالها حال اي موضوع. ويعتقد هوسرل ان الوعي هو الخبرة القبلية الموجودة داخل المدركات كخاصية تكوينية. ويعتبر هوسرل الوعي صنفين الاول قبلي يحدس الخبرة التراكمية بالاشياء ووعي ثان بعدي يعطي تفسير الموضوعات بدلالة مقولات العقل.

هذا التقسيم في الوعي لا صحة له اذ لا يوجد خبرة قبلية (صورة) موجودة داخل الاشياء قبل ادراكها والوعي بها. هذا الفهم كان اشار له شيلر بمصطلح ثان هو ان الاشياء والموجودات تمتلك خاصية قابلية ادراك ذاتي وليس قابلية ادراك تمتلكه الحواس والعقل تخلعه علىيها.. بتلخيص شديد الوعي هو ادراك لموضوع مستقل. كل موجود له معنى يشكل موضوعا لادراك عقلي وما ليس له معنى لا يدركه العقل.

ومن المهم التنبيه جيدا ان الوعي ليس موضوعا مستقلا صادرا عن النفس كما تذهب له مدرسة الجشتالت. دليل ذلك اننا لا نعرف ماهو الوعي من غير دلالة تعالقه بمدركاته. وهذه الخاصية تشبه تعالق الزمان بالمكان من دون ادراكنا المعرفي في وعي الزمان كموضوع مستقل. ونفس الخاصية تنطبق على الجوهر او الماهية فهو ليس موضوعا مستقلا يمكننا ادراكه....

يبدو لنا التساؤل الجدير بملاحظته اذن ما الفرق بين الزمن والوعي من حيث تعالقهما المحايد غير المدرك بالاشياء والموجودات ونحن لا نستطيع تعريفهما لا ماهويا ولا صفاتيا؟ كلاهما الزمن والوعي يعرفان حدسيا بالدلالة التعالقية مع الاشياء. الزمن معطى قبلي يتعالق بالطبيعة ايضا كمعطى لكنهما كليهما الزمن والطبيعة لا نعرف العلاقة التراتيبية ايهما اسبق على الاخر. الزمن مفهوم ميتافيزيقي يحتوي الطبيعة بالدلالة المحايدة، بينما الوعي هو ادراك يقوم به الانسان باردة قصدية ذهنية معرفية.

***

علي محمد اليوسف

مقدمة: هذا العمل الأكاديمي المسمى أسطورة الدولة المكتوب بأسلوب واضح يسهل قراءته، كُتب في سياق الحرب العالمية الثانية، التي غادر خلالها إرنست كاسيرر (1874-1945) السويد ليستقر في الولايات المتحدة. إرنست كاسيرر هو شخصية علمية، مهتمة بجميع مجالات المعرفة، سيتم إدراج عمله في تاريخ الفكر، في تقاليد أعظم الفلاسفة. وبناء على طلب زملائه وأصدقائه في جامعة ييل، كتب هذا العمل الكبير، الذي يهدف إلى فهم أصول النازية وأسبابها. كما ينظر حول دور الثقافة والعقل في مواجهة إغراءات الفكر والعنف. فما علاقة الدولة بالأسطورة؟ لماذا تستعمل الدولة الأساطير أثناء ممارستها للحكم ؟ ومتى قام الناس بأسطرة الدولة؟ وكيف تحولت الدولة نفسها الى اسطورة ينظر اليها الأفراد من منظور المخيلة والذاكرة والوجدان؟ وماذا ترتب عن ذلك في مستوى الحقوق والحريات والمواطنة والمكاسب المدنية التي دافعت عنها البشرية؟ وماهي حدود هذا الترابط غير المنطقي بين سياسة المعقول وثقافة اللامعقول؟

تأملات حول القرن العشرين

وفقا لإرنست كاسيرر، فإن الكوارث السياسية في القرن العشرين ترجع جذورها إلى النمط الأسطوري للفكر الإنساني. إن إعادة إصدار كتاب أسطورة الدولة، أحدث أعمال الفيلسوف إرنست كاسيرر، والذي نُشر لأول مرة في عام 1946، لم يكن من قبيل الصدفة. إنه يستجيب بشكل واضح، في نظر المحرر، للأحداث الجارية. والواقع أن عصرنا قد يبدو مرة أخرى فريسة لشياطين الشر، التي تعوقها إن لم تكن تزعزع استقرارها بسبب الانقسامات الاجتماعية، في حين أصبحت الأنظمة الديمقراطية محل نزاع وإضعاف. يطارد القلق البليد أذهان الناس أكثر فأكثر، وهو القلق المتعلق بالعودة إلى ثلاثينيات القرن العشرين، إلا أن كاسيرر، وهو لاجئ من عام 1933 في السويد ثم في الولايات المتحدة، ألف كتابه بتحريض من الأصدقاء الذين حثوه على تسليط الضوء على أفكاره. عين فلسفية على الأخبار المأساوية في ذلك الوقت والحرب العالمية الثانية والأنظمة الشمولية. كاسيرر، المولود عام 1874، هو فيلسوف كانطي جديد، وريث مدرسة ماربورغ لهيرمان كوهين وبول ناتورب. وبروح موسوعية، نشر العديد من المؤلفات حول تاريخ الفلسفة، المثقفة والمشهورة، التي سعت إلى دمج المعرفة العلمية الحديثة في جميع المجالات. ومع ذلك، فإن عمله الرئيسي هو فلسفة الأشكال الرمزية، حيث يطور، بروح كانطية، فلسفة الثقافة. تشكل الأفكار التي تم تطويرها هناك الخلفية النظرية لهذا المقال. كيف يتعامل الفيلسوف الأكاديمي كاسيرر مع موضوعه، الأخبار الرهيبة في عصره؟ وكما يشير عنوان الكتاب، فإن الأسطورة هي مدخله. الأطروحة الرئيسية، والتي هي أيضًا الخيط المشترك للتحقيق، هي أن الأنظمة الشمولية، وخاصة النازية التي تجذب معظم انتباه المؤلف، ترجع إلى عودة ظهور الأسطورة على نطاق واسع في مجال الأعمال التجارية. ولا بد من الاعتراف بأن هذه الفكرة مخيبة للآمال، حتى مع الأخذ في الاعتبار تاريخ الكتاب، المكتوب في حرارة اللحظة حتى قبل اكتمال التسلسل التاريخي الذي يركز عليه. إنها، قبل كل شيء، أطروحة الأنوار، الوريث المستحق لفلسفة التنوير. وعلى هذا النحو، فإن تاريخ البشرية هو موقع معركة بين الأسطورة والعقل، حيث ناضل العقل في البداية لتحرير نفسه من الأول، دون أن ينتصر تمامًا.

جنيالوجيا الأساطير السياسية الحديثة

يتمثل جوهر عمل كاسيرر في اقتراح جنيالوجيا للأساطير السياسية المعاصرة تعود إلى أصولها التاريخية البعيدة. تبدأ هذه الرحلة بالمجتمعات البدائية التي يؤكد كاسيرر، بالاعتماد على الأعمال الأنثروبولوجية المتاحة آنذاك، أن الفكر الأسطوري يهيمن عليها. ماذا يعني أن يتكون هذا الفكر الأسطوري في السياسة؟

يلخص كاسيرر هنا تحليلات الأسطورة التي خصص لها المجلد الثاني من كتابه فلسفة الأشكال الرمزية. ووفقا له، فإن الأسطورة هي شكل من أشكال الفن الذي يتعلم الإنسان من خلاله، منذ لحظة، التعبير عن غرائزه وعواطفه بوسائل رمزية. الأساطير، الاجتماعية دائمًا، وليست فردية أبدًا، تعمل على تشييء وتنظيم هذا المجال من الخبرة عن طريق تحويله إلى صور ومعاني. وهكذا، فإن بعض تجارب الحياة الفردية والجماعية، ولا سيما التجارب الأكثر إلحاحًا والتي لا تطاق، مثل الموت، يتم وضعها بعيدًا عن طريق قوة الرمزية، والتي يمكن للمرء أن يقولها تسامي بمصطلحات التحليل النفسي. لذلك يعيد كاسيرر رحلة الدفع والتراجع المتتالي للأسطورة والعقل في مجال التمثيل السياسي. هذا يؤدي إلى قصة كلاسيكية للغاية. اليونان القديمة هي الموقع الذي يخرج فيه السبب من الأسطورة ويتم تحريره منه. بعد ذلك، من مختلف المراحل المتميزة، تبرز، بعد صياغة العصور الوسطى لسلالات النظرية الأولى لسيادة القانون، وهي لحظة حاسمة، وفقًا للمؤلف، في نشأة الأساطير السياسية الحديثة. إن مكيافيلي هو مخترع العلوم السياسية الثورية التي، في قلبه، تتمثل في وضع أقواس أي اعتبار أخلاقي في الغايات، للتركيز على المعرفة التقنية لوسائل السلطة، وضعت في خدمة طموحات الأمير. ثم يصف كاسيرر كيف ظهرت، مستوحاة من الأفكار الرائعة، من القرن السادس عشر، وهي نظرية أولى للقانون الطبيعي الحديث. في الوقت نفسه، كما يشير إلى أن رجال عصر النهضة، المستنيرون في بعض النواحي، لا يزالون يعانون من جاذبية الأفكار غير المنطقية. يتذكر أن مؤسسي الثورة العلمية الحديثة في القرن السابع عشر، يتذكر، كيبلر أو جاليليو، يزرعون علم التنجيم وكذلك علم الفلك. ثم تعال إلى التنوير الذي يبدو أنه ينغمس بشكل نهائي في الأمور العملية (الأخلاقية والسياسية) وفي المسائل النظرية (العلوم والفلسفة). ومع ذلك، منذ بداية القرن التاسع عشر، عبرت الرومانسية عن رد فعل قوي على التنوير وتميزت بعودة ضار إلى الفكر الأسطوري. بعد فترة وجيزة، يفتح هذا التيار الطريق إلى الأساطير الرئيسية التي ستستلزمها شموليتها. لتوضيح ذلك، يتوقف كاسير عن عبادة البطل وفقًا لتوماس كارلايل والفكر العنصري في آرثر دي جوبينو. بعد ذلك، يتم ترتيب كل شيء بعد ذلك، بحيث يكون الوضع الأسطوري للانحدار القابل للتطبيق-الكون السياسي في القرن العشرين. ماذا عن، سوف نسأل، من أسطورة الدولة المقدمة في عنوان العمل؟ التعبير غامض، لأنه لا يجعل من الممكن أن تقرر بين فكرة أن الدولة متحركة من قبل الأسطورة، والتي نتوقعها عندما يتم إخبارنا بما هو عليه، وما هي الدولة، في نفسه، أسطورة، مثل، أعلاه، البطل أو السباق. يتم توفير الجواب في فصل طويل مكرس لفلسفة هيجل السياسية. إن أسطورة الدولة، وفقًا لكاسيرر، تصور الدولة التي طورها هذا الفيلسوف، الذي يؤكد، يقدم استراحة مع جميع النظريات السابقة. هيجل تعمت الدولة وتمجدها حقا. إنه يعاني من كل شيء، وخاصة عالمية القانون الأخلاقي، والتي، بالتالي، تتوقف عن أن تكون نداءً محتملاً ضده. معه، تصبح الأخلاق الذاتية أخلاقية، أي موضوعية الجمارك، نظيفة، في كل مرة، للشعب. هكذا يحكم إرنست كاسيرر بأن النسق الهيغلي "أصبح أحد أعظم القوى الثورية للسياسة الحديثة" وأن تأثيره الكبير كان كارثيًا في المجال السياسي.

فلسفة الأنوار عند كاسرر

تبقى رواية كاسير، في معظمها، مهمة من حيث تاريخ الأفكار، حتى لو كان من الممكن أن نفهمها كتعبير، على هذا المستوى، للتمثيل الجماعي الذي ينشط فاعلات التاريخ. يبدو، في عضوية الممتلكات في فلسفة التنوير، تقليدية للغاية. ومع ذلك، يتضمن العديد من المؤلفين، اليوم اضطرابات في الوقت الحالي مثل الهجمات، على نحو متزايد حيوي وغير مقيد، ضد روح التنوير، والتي يدعونها أمام الجبهة والمقاومة. هذه الفكرة ليست مقنعة تمامًا، لأنها تستند إلى مجموعة من التبعات (العقل مقابل الأسطورة، والعقل مقابل التأثيرات أو العواطف، والعقل مقابل الخيال، والخطاب مقابل العمل) التي تميل، بدورها، إلى أن تكون في أصل الأساطير. في الأساس، لا يزال فهم ظواهر كاسير الاستبدادية مثبتة للغاية في علم النفس. في المقابل، فإن المنهج الهيكلي لأيديولوجيات عالم الأنثروبولوجيا لويس دومونت يوفر تفاهمًا أكثر تاريخيًا. بالنسبة له، الاشتراكية الوطنية هي ظاهرة حديثة عادة. إنه يشكل "البديل الألماني للأيديولوجية الحديثة". في هذا المنظور، وهو أكثر فكريًا، يُصوَّر أنه مزيج متناقض ومتفجر للموضوع الشامل لمجتمع الناس والفرد والدارويني الاجتماعي، وهو صراع الجميع ضد الجميع. ربما تكون هذه هي الطريقة التي يتصور بها كاسير الأشكال الرمزية التي هي مشكلة. وهي تشمل، بالإضافة إلى الأسطورة واللغة والمعرفة العلمية والدين والفن. هذه ليست مسبقة بالمعنى الكانطي، ولكن أنشطة الروح التي يحاول كاسير فهمها على مستوى وسيطة بين الفئات الأساسية والبيانات التجريبية. إنه يفهمهم كوظائف ثقافية يعتزم اكتشاف الهياكل الأساسية والتي، والتي، معًا، تشكل نظامًا يجب أن يتم من خلالها إصدار الوحدة التأسيسية. في هذا الصدد، يمكننا التشكيك في أهمية القائمة المقترحة. ما هو المعيار، سوف نسأل، من الواضح أنه من الممكن التمييز بين أسطورة الدين بوضوح؟ هل يجب وضع اللغة حقًا على نفس مستوى الأشكال الأخرى عندما تكون، في حد ذاتها، في العمل مركزيًا، إلا في الفنون الجميلة؟ يجادل علماء الأنثروبولوجيا والمؤرخين في المجتمعات التقليدية بأن هذه الفروق غائبة عن العديد من الشركات التي يتم فيها تنظيم كل هذه الجوانب بشكل مختلف أو تكثيف بطريقة لا تنفصل. وهكذا، فإن فكرة الفكر الأسطوري، والتي يوضح فيها كاسيرر تحليلاته، تشكل مشاكل أساسية. تتضمن القصة المقترحة في هذا العمل جانبًا تطوريًا واضحًا عندما يبدو المؤلف وكأنه يتتبع المراحل التي يجب أن يمر بها العقل البشري بالضرورة قبل أن يفرض العقل نفسه باعتباره المرشد المهيمن لوجوده. ومع ذلك، فإن كاسيرر لا يتبع الرؤية المتفائلة لكوندورسيه. ويبدو أنه متردد، في الواقع، بين فكرتين. الأول هو معركة لا نهاية لها بين الفكر العقلاني والفكر الأسطوري، لأن الأخير قادر، اليوم كما في الماضي، على التفوق على الأول. ولكن، في مكان آخر، يتساءل عن التناقض بين الانتصار المعاصر لأكثر الأساطير غير العقلانية والتطور الهائل، في الوقت نفسه، لعقلانية العلم والتكنولوجيا، ويستنتج أن العقل قد اقتصر بشكل أساسي على التحقيق في الطبيعة وأن ويجب، من الآن فصاعدا، أن يمتد إلى مجالات الإنسان، الذي لا يزال فريسة للميول البدائية. ومهما كانت هذه النواقص، فإن إعادة إصدار أسطورة الدولة هي فرصة مناسبة لاختبار التفسير العقلاني والقانون الطبيعي للظاهرة الشمولية، والتساؤل حول معنى الظاهرة الشعبوية المعاصرة التي يعتبر الكثير منها اليوم استمرارا للظاهرة الشمولية السابقة. واحد. وسيجد القارئ أيضًا عناصر غنية لتاريخ الأفكار السياسية. وأخيرا، تجدر الإشارة إلى صدق كاسيرر الأساسي. إنه يعترف دائمًا بالصفات العظيمة للفلاسفة والكتاب الذين يعرض أفكارهم. وإذا كان يحكم بانتظام أن تأثيرهم كان ضارًا، فإنه يؤكد بالقدر نفسه على أن ذلك لم يكن بسبب نواياهم بقدر ما كان بسبب استقبالهم، والذي غالبًا ما كان أيضًا انتعاشًا أو استغلالًا. ويؤكد أكثر من ذلك أن هؤلاء المؤلفين لم يكونوا، بشكل عام، مدفوعين بحتمية العمل. وهكذا فإن أسطورة الدولة تظهر “المصير المأساوي للفلسفة الهيغلية حول دولة الحق” .

أصول الأسطورة وتحولاتها

في العلاقة مع الأسطورة يتم تسجيل المأساة. ومن خلال الاحتفال بعبادة البطل والعرق والدولة، وتشويه سمعة العقل، يبدو أن الثقافة قد ضلت طريقها، وابتعدت عن تعاليم التنوير، وانحدرت إلى الإيديولوجية والعنف. وهكذا يعود إرنست كاسيرر عبر تاريخ الفكر السياسي بأكمله من العصور القديمة إلى القرن العشرين، ليبني مجموعة من الأعمال الراسخة بعمق في فلسفة الأشكال الرمزية، والتي تتناول جميع أنماط التعبير الثقافي: اللغة، والأسطورة، والفن، والدين، والتاريخ. والعلم، من أجل محاولة الحصول على فهم أفضل للإنسان الحديث، مع الأخذ في الاعتبار كل ما هو جديد منذ لوك وكانط وجميع العقول المستنيرة في القرن الثامن عشر. ما يميز العمل، بالإضافة إلى أهميته الكبرى من حيث الأفكار، هو وضوح الكلمات، فهو موجه للجميع، وليس فقط لطلابه أو أصدقائه. كلمات وافق على تكثيفها، بهدف تنوير العقول بشكل أفضل، في وقت كان يسود فيه الالتباس الأكبر حول معنى التاريخ وطبيعة حضارتنا، التي تحافظ عليها ثقل السياسة والأيديولوجية. خصص الجزء الأول من الكتاب لتعريف الأسطورة ودراسة أسباب سيطرة الفكر الأسطوري على الفكر السياسي بشكل مثير للقلق في القرن العشرين على حساب الفكر العقلاني. في كل يوم تقريبًا، تستمر المعرفة العلمية والإتقان التقني للطبيعة في تحقيق انتصارات غير مسبوقة. ومن ناحية أخرى، عندما يتعلق الأمر بالحياة الاجتماعية أو الممارسة، يقدم الفكر العقلاني جميع جوانب الهزيمة الكاملة وغير القابلة للإلغاء. ومن المفترض أن ينسى الإنسان المعاصر كل ما تعلمه في تطور حياته الفكرية. بل إنه يحث على العودة إلى المراحل الأكثر بدائية للثقافة الإنسانية. إن الفكر العقلاني والعلمي يعترف بهزيمته ويتنازل عن كل شيء لأسوأ عدو له. وهو يدرس بطريقة رائعة بنية الفكر الأسطوري القائم على أعمال الفلاسفة وعلماء الأعراق وعلماء الأنثروبولوجيا وعلماء النفس وعلماء الاجتماع، ليس من دون الكشف عن التناقضات بين التفسيرات المختلفة والخلافات التي تثيرها. وبالعودة إلى الثقافات البدائية، يدرس أيضًا العلاقة بين الأسطورة واللغة، دون أن ينسى الدور الذي تلعبه سيكولوجية العواطف، والذي يمكن أن يفسر جزئيًا لماذا تميل المعتقدات غالبًا إلى الاعتماد على عالم من الأوهام والهلوسة والأحلام بدلاً من المحاولة. لمواجهة الواقع. ومن هنا يهتم بوظيفة الأسطورة في الحياة الاجتماعية، من خلال تنوعها اللامتناهي، باحثًا عما يشكل وحدتها وتعبيرها الرمزي. ويحدد بشكل عابر أن الأسطورة يجب أن تُفهم على أنها تجربة اجتماعية للإنسانية، وليست تجربة فردية، وبالتالي يستبعد من الميدان أساطير أفلاطون العظيمة، على سبيل المثال. الأسطورة الحقيقية لا تمتلك هذه الحرية الفلسفية؛ الصور التي يتطور فيها لا تعتبر صورًا أبدًا. ولا يتم التعامل معها كرموز، بل كحقائق. لا يمكن أن يكون هناك مجال لانتقادهم أو رفضهم؛ ويجب قبول هذه الأمور دون ظل المقاومة. لكن هذا لا يمنع الأسطورة من اتخاذ الخطوة التمهيدية المؤدية إلى إيصال معنى أكبر من الصورة. من خلاله، في الواقع، يتوقف الشعور بالعواطف. تصبح صورا. يصبحون "الحدس". هذه الصور، في الحقيقة، قديمة وغير متجانسة وخيالية تمامًا. ولكن بفضل هذا أصبحت هذه الكائنات في متناول الكائنات غير المتحضرة، مما يوفر لها تفسيرًا للطبيعة وكذلك لحياتها الداخلية.

بناء أسطورة الدولة عبر القرون

وفي الجزء الثاني من العمل، يدرس إرنست كاسيرر تطور الفكر الفلسفي في موضوع الأسطورة، ومحاربتها في تاريخ النظرية السياسية. وينطلق من الفلسفة اليونانية التي ظهرت فيها أول نظرية عن الدولة، ثم يعرض أهم المراجع الفكرية المتعلقة بها عبر القرون. لقد كان اليونانيون بالفعل رواد الفكر العقلاني. كان ثوسيديدس أول من هاجم المفهوم الأسطوري للتاريخ. طاليس، وهيراقليطس، وزينوفانيس، ثم سقراط، وأفلاطون (من خلال جمهوريته، أول نظرية حقيقية عن الدولة)، وأرسطو، دون أن ننسى بروتاجوراس والسفسطائيين وغيرهم، كل هؤلاء المؤلفين نقلوا إلينا تصورًا معينًا عن الحكمة والفلسفة. منظمة إنسانية، والتي يعلق عليها إرنست كاسيرر بشكل نقدي وبموهبة. ثم ننتقل نحو الفكر الرواقي الذي يقيم تصوره للإنسان روابط متينة بين الفكر القديم وفكر العصور الوسطى. مع شيشرون وسينيكا على وجه الخصوص، بهدف تحقيق المساواة الأساسية بين الرجال (التي سبق أن اعترف بها بعض السفسطائيين)؛ أيضًا مؤسسو الإنسانية، الأمر الذي سيؤدي في فكر العصور الوسطى إلى فكرة الحرية ومفهوم الحكمة، فضلاً عن التنافس على السلطة المطلقة، حيث يتعين على القانون أن يحد من السيادة. في حين أن العقل والتعالي، مع القديس أوغسطين، سوف يغذيان الأسس الميتافيزيقية والدينية لنظرية الدولة في العصور الوسطى، والتي تمت دراستها في فصل آخر، تشابك الحكمة (البشرية) والوحي (الإلهي). يسبقه فصل آخر مخصص لنظرية سيادة القانون في العصور الوسطى. إذا كان القديس أوغسطين يفصل نفسه عن أفلاطون في رؤيته للحياة، فإن الهلينية "ظلت دائمًا واحدة من أقوى عناصر فكر العصور الوسطى"، على الرغم من أن "ثقافة العصور الوسطى تميزت جذريًا عن الثقافة اليونانية". لقد وصلنا في العصور الوسطى ومع توما الأكويني إلى ذروة التكامل بين الفلسفة اليونانية واللاهوت. إذا كانت سلطة الأمير مستمدة من سلطة الله (بحكم القانون)، فإن توما الأكويني يقدم مع ذلك تفسيرًا سيقلب معناها، من خلال افتراض أنه إذا كان مطلوبًا من الرجال طاعة السلطات العلمانية، فمن المشروع ألا يطيعوا سلطة ظالمة. أو السلطة المغتصبة، أي سلطة الطاغية. القانون الإلهي ليس زمنيا، بل أبديا. وهكذا لم تكن الدولة سوى مؤسسة إلهية أنشأها الله لتكون مجرد علاج للخطيئة. يستمد توما الأكويني الإلهام من فكر أرسطو ليثبت الآن أن النظام الاجتماعي مستمد من مبدأ تجريبي وليس متعالٍ. وهكذا تصبح الدولة إنتاجًا عقلانيًا، يعتمد على النشاط الحر والواعي، ويقتصر الله على إعطائه دفعة. والأمر متروك للإنسان “أن يبني بجهوده الخاصة نظامًا للقانون والعدالة. ومن خلال تنظيم العالم الأخلاقي والدولة يظهر حريته. ثم يحول إرنست كاسيرر انتباهه إلى العلوم السياسية الجديدة لمكيافيلي. يبدأ بالإشارة إلى حقيقة أن سوء فهم مكيافيلي (الأمير) ناتج عن طبيعة تحليلاته التي عفا عليها الزمن. وفقًا للبعض، لم يكن نصًا ساخرًا ولا أطروحة أخلاقية، بل كان تحفة سياسية ذات توجه عملي كتبت لمعاصريه. أما إرنست كاسيرر فهو أقل ثقة، حيث يرى أن مكيافيلي كان مهتمًا أيضًا بالخصائص المتكررة “التي تجعل الأشياء تظل كما هي على مر العصور”. ووفقًا لميكيافيلي، فإن أولئك الذين يحكمون يهملون أو يتجاهلون اعتبار أن نفس الشرور تؤدي إلى نفس الثورات، حيث يتم تحريك الرجال دائمًا بنفس المشاعر. خلال عصر النهضة، انتصرت المكيافيلية، وأدت إلى نظرية جديدة للدولة فصلت نفسها عن الحياة السياسية في العصور القديمة. في الواقع، نظرًا لشكوكه في الطبيعة البشرية، يرى مكيافيلي أنه لا ينبغي احتقار الأخلاق، بل أن هناك انحرافًا أخلاقيًا عميقًا لرؤساء الدول من قبل الرجال، وهو ما يبرر إضفاء الشرعية التي يُساء فهمها في كثير من الأحيان على استخدام القوة، ولا يمكن للقوانين – الأساسية – أن تفعل ذلك. وحده علاج الفساد. تحت عقوبة الفشل، لا يمكن للأمراء الطيبين والحكماء والنبلاء أن يأملوا في الحكم وفقًا لمبادئهم الجيدة. على العكس من ذلك، ومع مراعاة عدم وجود خط واضح بين الرذيلة والفضيلة في السياسة، فإن الواقعية يجب أن تؤدي إلى مراعاتها في ممارسات السلطة. إن "الأمير" هو قبل كل شيء عمل تقني، مكتوب بهدوء ولامبالاة الباحث، وبهذه الطريقة يعارض نظريات سيادة القانون التي حاول أفلاطون وتلاميذه إنتاجها. "فنه السياسي سيتناول سيادة القانون وحالة الفوضى". وفقًا للمصطلحات التي استخدمها هيبوليت تاين في القرن التاسع عشر فيما يتعلق بالمؤرخ، فإن مكيافيلي سيعمل ككيميائي، كما يخبرنا إرنست كاسيرر: ومن الطبيعي أن تكون له مشاعره الشخصية ومثله السياسية وتطلعاته الوطنية، لكنه لن يسمح لهذه العناصر بالتأثير على أحكامه السياسية. وسيظل حكمه حكم عالم وتقني في الحياة السياسية. عندما نتوقف عن قراءة كتاب الأمير من هذا المنظور ونعتبره من عمل داعية متحمس، فإننا نفقد الهدف.

نظريات الحق الطبيعي للدولة

كشفت الروح الفلسفية الجديدة التي ظهرت خلال عصر النهضة عن أنها كانت فوضوية تمامًا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وتخللتها العديد من التناقضات. تتعايش جودة الملاحظات التجريبية مع ازدهار علوم السحر والتنجيم (السحر والكيمياء وعلم التنجيم). كان علينا أن ننتظر حتى القرن السابع عشر، قرن غاليليو وديكارت، لوضع حد لهذا الخلط. أصبحت العقلانية، والمنهج التحليلي والاستنتاجي، نقطة مشتركة بين التيارات الفلسفية بخلاف تيارات هوبز وغروتيوس، وكذلك بين الفلاسفة العظماء الذين سيتبعونهم، مثل سبينوزا أو لايبنتز. ثم نشهد ولادة جديدة للأفكار الرواقية، والتي بلغت ذروتها في القرن الثامن عشر مع إعلان توماس جيفرسون للاستقلال الأمريكي، ثم إعلان حقوق الإنسان والمواطن. وهكذا تصبح نظرية حقوق الإنسان الطبيعية مذهبًا رئيسيًا للنظرية السياسية. إن انحلال ثقافة العصور الوسطى ومركزية الشمس هما الشرطان الأساسيان اللذان سمحا بعودة الفكر الرواقي، الذي يعتمد بالكامل على الإرادة البشرية. منذ ذلك الحين، فإن نظرية العقد الاجتماعي والأساس القانوني للدولة، كما حددها هوبز بشكل خاص، سوف تعتمد ليس على مسألة التاريخ، بل على مسألة صلاحية النظام الاجتماعي والسياسي. ومع ذلك، فإن المبادئ التي حددها هوبز لتعزيز السيادة المطلقة سيتم الحكم عليها على أنها متناقضة مع مبادئ حقوق الإنسان ذاتها. وهو ما سيؤدي بشكل خاص إلى فلسفة التنوير. يخبرنا كاسيرر أن فلاسفة عصر التنوير لم يسعوا إلى الأصالة، ولا الأفكار الجديدة، ولا التجريد، في مسائل المفهوم السياسي. وقبل كل شيء، كانوا يسعون إلى تحقيق الكفاءة؛ وهو ما يهدف إلى الاعتماد على الفطرة السليمة للتحقق من بعض المبادئ البسيطة والراسخة التي تحظى بالدعم وتتجه نحو المستقبل. ولكن أيضًا، بالطبع، على الأفكار التي دافع عنها رواد الحقوق الطبيعية، وكذلك على نقد العقل الخالص، ثم العملي، لعمانويل كانط.

لكن تجاوزات الثورة الفرنسية أدت إلى بداية القرن التاسع عشر الذي كان بمثابة رد فعل على هذه الأفكار. على وجه الخصوص، من خلال انتقادات الرومانسيين الألمان، الذين يعتبر شيلينج بلا شك أفضل المتحدث باسمهم، الذين يعيدون تأهيل المنظور التاريخي - من خلال إضفاء المثالية على الماضي - ويعيدون تقديم الأسطورة، التي يجلبون عنها مفهومًا جديدًا، ذو طبيعة ميتافيزيقية. وبذلك يحدث انقلاباً كاملاً مقارنة بروح التنوير الذي اعتبر أن الفلسفة تبدأ حيث تنتهي الأسطورة. أما بالنسبة للرومانسيين، فقد أصبحت الأسطورة على العكس من ذلك المصدر الرئيسي للثقافة الإنسانية، والجوهر الشعري (وليس السياسي، كما يصر كاسيرر، الذي يرفض الاتهامات التي توجه إليهم أحيانًا بأنهم ألهموا مفاهيم الدولة الشمولية، حتى لو كانت تهدف إلى تحقيق عالمية معينة، وخاصة الدينية، تتجاوز قوميتهم الرومانسية).

الأسطورة في القرن العشرين

في هذا الجزء الثالث والأخير من العمل، يعود تاريخ إرنست كاسيرر إلى عام 1840 ومحاضرات توماس كارلايل حول عبادة الأبطال، بين ما يقرب من مائتين أو ثلاثمائة عضو من الطبقة الأرستقراطية في لندن، والتأثير غير الطوعي الذي سيمارسه هذا المفكر بعد قرن من الزمان. العقول التي من شأنها أن تلهم الأيديولوجية الاشتراكية الوطنية. كارلايل معادي بشكل أساسي لهذا القرن وفلاسفة عصر التنوير. قبل كل شيء، لقد فتح الطريق، أكثر من أي شخص آخر، كما يخبرنا كاسيرر، لمُثُل القيادة السياسية. إذا اتخذت عبادة العرق، هذه المرة عند آرثر دي غوبينو، نهجًا يتعارض جذريًا مع نهج كارلايل واستنتاجات مختلفة تمامًا، فإن كتابات هذا المؤلف أكثر من تقريبية وغير علمية للغاية مع أطروحات خيالية، ومع ذلك سيكون لها تأثير معين مكملاً لخطة كارلايل، وكلاهما ألهم تيارات الاشتراكية القومية بعد ذلك بقليل. لا يؤسس غوبينو نظرية قاسية عن العرق فحسب، بل ينتقد أيضًا الثقافة اليونانية والحضارة الرومانية بشدة، حيث يشكك بشكل جذري في مبادئ التنوير. في نهاية المطاف، كما يوضح كاسيرر، تنتهي نظريته بالعدمية الكاملة. وبعد تطورات طويلة حول هذين المؤلفين، يتناول إرنست كاسيرر، في فصل جديد، تأثير فلسفة هيجل في تطور الفكر الحديث (تذكر أن العمل الذي نعرضه قد نشر عام 1946). ويؤكد أنه لم يطرح أي فيلسوف عظيم قبله نظرية للدولة لم تفعل شيئًا سوى التأثير على الاتجاه العام للفكر السياسي، ولكن ليس على حياته العملية. والوجه الآخر للعملة هو أن فكر هيجل قد فقد جزءًا من وحدته وانسجامه الداخلي حيث انخرطت مدارس مختلفة وأحزاب مختلفة في صراع حقيقي حتى الموت للمطالبة به، في حين أنتجت تفسيرات له، متباينة تمامًا، وحتى غير متوافقة. . واستمر البلاشفة والفاشيون والاشتراكيون الوطنيون، على وجه الخصوص، في الاستيلاء على تراثها. لقد أسيء ماركس ولينين استخدام مذهب هيجل بشكل ملحوظ بعد وفاته، ومن المؤكد أن الفيلسوف كان سيرفض، وفقًا لكاسيرر، معظم العواقب. إن المفهوم الهيغلي للدولة يتماشى مع مفهومه للتاريخ. بل إنه جوهرها، ألفا وأوميغا. كما تحدث منذ البداية ضد مفاهيم القانون الطبيعي. لكنه يختلف أيضًا بشكل واضح عن الرومانسيين. في الواقع، سيتم دمج عبادة الدولة، في الداخل، مع عبادة البطل. على عكس نوفاليس، لن يهتم هيجل بجمال الدولة، بل بـ “حقيقتها”. وهذا لن يكون أخلاقيا في عينيه. بل ستكون "الحقيقة الخاصة بالسلطة". تحتوي هذه الكلمات المكتوبة من هيجل عام 1801، منذ ما يقرب من مائة وخمسين عامًا، على أوضح برنامج للفاشية وأكثرها قسوة يمكن أن يقترحه أي مفكر سياسي أو فيلسوف على الإطلاق. تبدو الهيغلية واحدة من أكثر الظواهر تناقضًا في الحياة الثقافية. لا يوجد مثال أفضل للطابع الديالكتيكي للتاريخ من مصير الهيغلية. إن المبدأ الذي دافع عنه هيغل قد تحول في الواقع إلى نقيضه. ويبدو أن منطقه وفلسفته هما انتصار العقل. إن مساهمة الفلسفة بأكملها، على وجه الخصوص، تكمن في مفهوم العقل الذي بموجبه قدم لنا تاريخ العالم نفسه في شكل عملية عقلانية. ومع ذلك، فإن المصير المأساوي للهيغلية سيكون إطلاق العنان، دون وعي، لأكثر القوى غير العقلانية التي وجدت على الإطلاق في الحياة الاجتماعية والسياسية للبشرية.

خاتمة

"إن المعجزة الحقيقية الضرورية بالنسبة له هي معجزة الحرية الإنسانية والضمير الأخلاقي كدليل على هذه الحرية. وهناك يجد الوساطة الحقيقية بين الإنسان والله."

تمكنت الأساطير السياسية الحديثة من الازدهار بعد الحرب العالمية الأولى، تحت تأثير عواقبها، وخاصة ارتفاع معدلات البطالة والتضخم المفرط الذي تطور في ألمانيا في عشرينيات القرن الماضي. بشكل عام، يصلون إلى إمكاناتهم الكاملة عندما يتعين على البشرية أن تواجه موقفًا تهديديًا وغير متوقع. "في المواقف اليائسة، يلجأ الإنسان دائمًا إلى وسائل يائسة." ومن بينها أساطير القرن العشرين. كل ما ينقص هو "انسان الموقف"، هذا "البطل" النظرية التي وضعها كارلايل (حتى لو لم يصنع لها برنامجا) لتتحقق الأسطورة... مع العواقب التي نعرفها . لكننا هنا نتعامل مع متعلمين وأذكياء وصادقين ومخلصين تخلوا فجأة عن أعظم الامتيازات الإنسانية. نراهم يتوقفون عن أن يكونوا وكلاء أحرارًا وشخصيين. ومن خلال أداء الطقوس الموصوفة، يبدؤون في الشعور والتحدث والتفكير بطريقة موحدة. قد تكون حركاتهم حية وعدوانية، لكن هذه حياة مصطنعة وزائفة. ما يحركهم يأتي من قوة خارجية. إنهم يتصرفون مثل البيادق في مسرح الدمية - متجاهلين أن خيوط هذا العرض، كما هي الحال في كل الحياة الاجتماعية أو الفردية، يتم التلاعب بها الآن من قبل القادة السياسيين. وهكذا تذوب كل القيم الأخرى في هذه الفكرة المذهلة: تغيير الإنسان. نقطة مشتركة بين جميع الشموليات. أحيانًا باسم "الحرية" ذات ملامح غريبة جدًا. فكيف السبيل المؤدي الى ازالة الأسطرة عن الدولة الشمولية وعقلنة الممارسة السياسية من اجل الديمقراطية والحرية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

..........................

المصدر

Ernst Cassirer, Le mythe de l’État, édition Gallimard, Paris, 2020.

في المثقف اليوم