أقلام فكرية

أقلام فكرية

تمهيد: اود ايجاز بعض التوضيح في ما يخص هذا المبحث (التاريخ البدائي والنزعة الانسانية في الفلسفة البنيوية)، اني استقصيت ابرز عاملين او مرتكزين اعتمدتهما البنيوية لدى فلاسفتها ليفي شتراوس الاب الروحي للبنيوية، والتوسير، ولاكان، وفوكو، ودي سوسير وغيرهم. وسنأتي عليهم لاحقا.

كما اود الاشارة ان المقصود بالانسان هنا، ليس الكائن النوعي المتفرد عن جميع الكائنات الاخرى في الطبيعة، كائن انثروبولوجي- بيولوجي وحسب ميزته المتفردة (العقل واللغة)، وانما يعني في هذا المبحث (النزعة الانسانية) بمعناها القيمي والفلسفي في صنع الانسان لتاريخه التطوري الحضاري، وليس كموجود انساني غير فاعل كما هو في مراحل بدائية سحيقة من عمر البشرية.

من الجدير بالذكر ان الانسان اكتسب فرادته النوعية وانسنته بالطبيعة متميزا عن بقية المخلوقات والكائنات الحية على الارض بامتلاكه وحده خاصية الذكاء العقلي واللغة والخيال.

العاملان اللذان اعتمدتهما البنيوية هما:

اولا التاريخ البدائي للاقوام البشرية او ما يسمى علم الاثنولوجيا، وهو علم اجتماعي يدرس الجماعات البشرية البدائية قبل اختراع الانسان للتدوين، اعتمدته البنيوية، فحواه ان تلك الاقوام لا تاريخ لها بالمعنى البنيوي والتطور الخطي الحتمي الحضاري للتاريخ، اذ تعتبر البنيوية تاريخ تلك الاقوام البدائية تاريخا ساكنا في ثباته ومحدوديته في تفكير الانسان. ان هذا التاريخ البدائي الانساني توقف تطوره مراحليا في عصور اكتشاف الانسان للزراعة سبعة الاف سنة قبل الميلاد.

ان عصر اكتشاف الانسان للزراعة اعقب عصر الصيد والالتقاط البدائي، وهو بداية صنع الانسان للحضارة الانسانية، فقد عرف تخزين الحبوب الفائضة عن حاجته، وراقب بدقة تغّير الفصول وموسم سقوط الامطار، واستوطن على شكل مجموعات قرب الانهر والترع، وعرف كيفية تدجين الحيوانات الاليفة والاستفادة منها، وعرف ايضا الوسائل البدائية في الري. وعرف ايضا اهمية تخزينه للحبوب.

لكن الاهم من اكتشاف الانسان للزراعة هو اختراعه ابجدية الكتابة اربعة الاف سنة قبل الميلاد في وادي الرافدين (الكتابة المسمارية) عند السومريين، ومثلها 3200 قبل الميلاد عند الفراعنة المصريين (الكتابة الهيروغليفية). هنا مع اختراع الانسان الكتابة بدأ تاريخ جديد للبشرية اذ اصبح التدوين كتابة متاحا على الواح الطين واوراق البردي وجلود الحيوانات وغيرها، وكل المراحل التاريخية التي سبقت الكتابة تعتبر تاريخ بدائي غير مدوّن ولا معروف توثيقيا سوى آثاريا تنقيبيا فقط، واصبحت تلك الاقوام التي عاشت تلك الاحقاب بلا تاريخ او خارج التاريخ الإنساني المدوّن.

العامل الثاني هو (النزعة الانسانية) مرتكز الفلسفتين الماركسية والوجودية. مع اختلاف المعنى المفهومي بينهما. الذي انكرته البنيوية جملة وتفصيلا.

ان البنيوية تيّار فلسفي معاصر نشأ قبل الحرب العالمية الاولى في مؤلفات توبتسكي وجاكوبسون واعمال هوسرل، في فرنسا معقل الفلسفة العقلانية والحداثة التي ارساها رينيه ديكارت في القرن السابع عشر (العقل والعلم)، مقصّيا الميتافيزيقيا من مباحث الفلسفة معتبرا اياها لغوا فارغا باستثناء ماكانت الكنيسة تريده بعصره . كما ان العديدين يصنفون شتراوس فيلسوف البنيوية الرائد بانه وريث مدرسة فرانكفورت النقدية الالمانية، والبنيوية هي اقرب الى فلسفة الحداثة التي يقودها الفيلسوف المعاصر يورغن هابرماس.

والبنيوية تيارات فلسفية متشعبة تأثرت اول الامر بالماركسية والوجودية قبل ان تنقلب عليهما. (معظم فلاسفة البنيوية والوجودية كانوا في بداياتهم ماركسيين شيوعيين).

وقد عنت البنيوية على يدي دوسوسير ولوفيدج فنتجشتين بعلم الصوتيات واللغة. ويوضح شتراوس:ان الوقائع التجريبية لا معنى لها في ذاتها، ولكن متى وضعناها في نسق فكري له معنى او نموذج اكتسبت معنى علميا.

كما اجد ضروريا التنويه ان تيارات الفلسفة المعاصرة اصبحت مفاهيمها الفلسفية متداخلة في خطاباتها الرؤيوية الفلسفية والمعرفية، بحيث لم نعد نمتلك معه القدرة الكافية على تمييز تلك الفواصل والفروقات المتباينة في ما بين تياراتها بيسر وسهولة، فمثلا نجد فلسفة الحداثة تتداخل مع تيار ما بعد الحداثة بحيث صار بعض الفلاسفة ينكرون فواصل الاختلاف الكبيرة بين الفلسفات المعاصرة، فمثلا التداخل نجده مع ابرز فيلسوف الحداثة يورغن هابرماس الذي تحسب الكثير من افكاره الفلسفية الى البنيوية، فقد اختلف ايضا في مقالة مهمة له بعنوان (الحداثة مشروع لم ينجز بعد) مع ابرز فلاسفة مابعد الحداثة فرانسوا ليوتار الذي يعارض تلك الفكرة بقوله (ان مشروع مابعد الحداثة مشروع مختلف عن مشروع الحداثة التي هي وليدة عصر النهضة والانوار الواجب مجاوزتها. وانها استنفدت اغراضها).

في حين يصر هابرماس ان فلسفة وعصر الحداثة لم يستنفدا اغراضهما ومهامهما بعد. عديدة هي الانتقادات اللاذعة التي واجهتها تيّارات الفلسفة البنيوية، من فلاسفة ومدارس عديدة مناوئة لطروحاتها الفلسفية، كونها (البنيوية) أثارت اشكاليات في الفكر الفلسفي جديدة غير مسبوقة في تاريخ الفلسفة، استلزمتها واحتاجت معها الى نقودات متباينة معها او ضدها، جاءت في مقدمتها من مفكرين وفلاسفة ماركسيين وغير ماركسيين، تلاهم بالتزامن معهم فلاسفة الوجودية الحديثة لعل أبرزهم كان سارتر، في مسألتين او منحيين اثنين نسلّط الضوء عليهما دون غيرهما من قضايا اشكاليات البنيوية المتعددة التي لا تزال وستبقى لفترة غير محدودة مثار نقاش وحوار فلسفي مستمر.

الاول: التاريخ البدائي:

التركيز البنيوي تاريخيا على ( الاثنولوجيا) دراسة تاريخ الجماعات البشرية البدائية، التي اعتمدها أبرز اعلام الفلسفة البنيوية بمختلف الاختصاصات (شتراوس) في دراسة تاريخ انثروبولوجيا الحضارة، (التوسير) في نقده الماركسية وكتاب رأس المال، (لاكان) في علم النفس، (دو سوسير و فنتنجشتين) في علم اللغات واللسانيات، (فوكو) في تاريخ الجنسانية وتاريخ الجنون وهو صاحب مصطلح (اركيولوجيا المعرفة) او مايسمى تعريبا حفريات المعرفة، ويعتبر كتابه الشهير (الكلمات والاشياء) من اشهر كتب الفلسفة في القرن العشرين، و (جان بياجيه) في علم النفس ايضا مع جاك لاكان وهكذا.

أعتبرت البنيوية أن دراسة الاقوام البدائية تمتاز بأنها تعنى بأقوام، كانت تعد خارج التاريخ البشري، ولا تمتلك تاريخا مدّونا وليس لها تاريخ بالمعنى التاريخي المتغّير والمتطّور، التاريخ الخطي في مراحله الحضارية والمتعذّر رصد تغييراته المتسارعة أسوة بغيره كما في تاريخ شعوب ما قبل التاريخ التي عرفت بمراحل تاريخية طويلة بدءا من العصور الحجرية البدائية، وبعدها عصر الصيد والالتقاط تلاها العصور الزراعية والصناعات المعدنية البرونزية اليدوية بأبسط اشكالها واشتمالاتها، وأعتبرت البنيوية تلك المراحل البدائية، مقارنة بالتاريخ الانساني لمراحل ماقبل التاريخ المدّون والموّثق تنقيبيا وآثاريا اركيولوجيا بعد ظهور الكتابة المسمارية في بلاد مابين النهرين والهيروغليفية في مصر القرن الرابع ق. م، على ان ما سبقها تعتبر مراحل اللاتاريخ البشري كما اشرنا له سابقا.

كما أعتبرت البنيوية التاريخ البدائي (تاريخ ساكن) بحكم طبيعة العقل البدائي في ثباته ومحدوديته، وبالتالي أصبح هذا التاريخ أنموذجيا في التناول المنهجي البنيوي البحثي المتعدد التيارات، الذي تخدمه (حالة الثبات والسكون) التي تعتري التاريخ البدائي وتقعده عن الحركة التطورية السريعة المتلاحقة مثلما حصل بعد اختراع الكتابة.

ان هذه المسألة التي اعتمدتها مرتكزا اساسيا الفلسفة البنيوية، أثارت حفيظة الماركسيين من الذين عابوا على البنيوية انها لم تجد في التاريخ الانساني، الا المجتمعات البدائية ما قبل التاريخ، لدراسة تاريخها على وفق منطلقات أسمتها (قطوعات التاريخ) ميزتها ثبات وسكون تلك المجتمعات تاريخيا ومراحليا بما يفتح المجال الى دراستها وتحليلها الانثروبولوجي بدقّة وتناول أيسر. للمفكر مطاع صمدي عبّر عن هذه القطوعات بما اطلق عليه مراحل من غياب التاريخ.**

واذا كانت البنيوية نجحت في اقامة بناءات نسقية معرفية تحت مسمى (التكوين الثابت) للانسان، وتشابه قضايا الانسان في مختلف الازمان والعصور، ليس على صعيد الحقب التاريخية البدائية السحيقة وحسب، وانما على صعيد التاريخ الساكن للانسان في مختلف المراحل التاريخية، لأن مشاكل الانسان كانت وبقيت ثابتة ومتشابهة لم تتغيرجوهريا على حد زعم البنيوية. لكن ما يلحظه الدكتور الباحث فؤاد زكريا وآخرين عديدين غيره من باحثين ماركسيين ووجوديين، أن البنيوية تغاضت واخفقت معا ولم تنجح في تعليل التقدم التطوري والتاريخي انثروبولوجيا الى حد اعتقادها بان ما يدعى التقدم البشري بفعل الاشكاليات البشرية المتنوعة والمتتالية هو محض خرافة ووهم، وان التحديات التاريخية سراب خادع ولم تكن في يوم من الايام عاملا لتقدم حضاري من أي نوع كما ذهبت له البنيوية في ادبياتها البحثية والفلسفية.

ولقد ذهب فوكو الى أبعد من ذلك في قوله: انه يتجنب الخوض في/ ومع كل ما له صلة بمقولات التحّول والتغيير، ولا يرى في كل مرحلة تاريخية الا (ثوابتها) فحسب، ووصل الحد به الى التشكيك بالانسان نفسه، واسقاط التاريخ البعدي القديم والحديث والمعاصر من الحساب الفلسفي البحثي البنيوي نهائيا باستثناء الوقوف عند مراحل اللاتاريخ الذي تمثله الاقوام البدائية باعتبارها مراحل بشرية خارج التحقيب التاريخي الخطي في التطور البشري انثروبولوجيا.

لقد انساق خلف هذه المنطلقات الفلسفية البنيوية العديد من الذين انشقّوا عن الماركسية، ربما كان ابرزهم (التوسير)في استهدافه المادية التاريخية وكتاب رأس المال في انتاجه ماركسية خيالية وتجريدية تعتمد خطابات غامضة واقامة بنى نسقية لا تمّت بأدنى صلة لها مع الواقع العيني ومعالجة مشاكله، وعجزت عن دحض الاسس المادية والجدلية التي قامت عليها الماركسية. وأكثر من ذلك نجده عند اقطاب البنيوية الذين سقطوا في الذهان التجريدي الفلسفي، وخلقوا أنساقا معرفية خارج اهتمام مركزية الانسان وجعلوها حقائق في مواجهتها الفكر المادي والماركسي تحديدا. ان البنيوية تجاهلت الطبيعة الاجتماعية للانسان وحوّلت الانسانيات نحو مملكة التجريد اللغوي. لكن في اعتماد اللغة وعلوم اللسانيات هذه المرة، واعتماد اللغة كمحور ارتكاز في مراجعة جميع مواضيع الفلسفة تجريديا لغويا. ***

و من أبرز الامور في هذا المنحى البنيوي، أن غالبية مدارسها أستقت ينابيع تفلسفها من التاريخ الاسطوري والميثولوجي، الذي أعتبرته البنيوية الأنموذج الأمثل لدراسة القطوعات التاريخية الساكنة التي لايحكمها التغيير او التطور والتبديل. وبذلك تسهل وتتوفر دراستها، وفي اعتمادها الاساطير كما يعتمدها علم النفس الفرويدي على انها حلم جماعي لاشعوري لدى جميع الشعوب قبل وبعد التاريخ، متجاهلة تماما أن ارتباطات مثل اللغة والاسطورة والدين والطقوس والمجتمع او القرابة و القبيلة، والزواج جميعها مرتبطة بالانسان ووجوده الارضي بعرى وثيقة جدا لا ينفع معها المكابرة في تقليل اهميتها في دراسة أي منحى تاريخي او معرفي او فلسفي مبتور لغرض الحصول على استنباطات تعميمية خاصة فقط بالاقوام والقبائل البدائية . ربما كانت تلك المفردات الحياتية بعيدة جدا عن سياقاتها الاجتماعية والانسانية والتاريخية كما حصل في التوظيف البنيوي لها في قراءاتها فلسفة العصر.

ومن الجدير ذكره ان مركزية الانسان في الفلسفة قديمة، ورائدها هو الفيلسوف السفسطائي بروتوغوراس، القرن الرابع قبل الميلاد في مقولته الشهيرة (الانسان مقياس كل شيء). واعقبه فلاسفة الوجودية جميعهم، سورين كيركارد، وهيدجر، ومارسيل جبريل، وصولا الى سارتر وكامو واخرين من فلاسفة البنيوية خرجوا من عباءة الوجودية في الغائهم محورية الانسان كمعيار كل منجز معرفي او حضاري، من دون ادنى تانيب ضمير ولا اسف على الانسان الذي اعتبرته الماركسية اثمن راس مال في الوجود يصار الى الغائه ومصادرة حضوره باكمله.

كما ان الاسطورة التي هي حلم جماعي لا شعوري لدى الشعوب البدائية كما يذهب له علم النفس الفرويدي، الذي يختلف دلالة ومضمونا مع مفهوم البنيوية له، ففي علم النفس الفرويدي يكون المحلل النفسي أعلى مرتبة تمييزية عن المريض، ويعد الطبيب النفسي نفسه، أعلى مرتبة انسانية عن الشخص المعالج، مادام يستطيع كشف أبعاد أعمق من تلك التي يبوح بها الشخص له عن تجاربه العفوية. اما في البنيوية في اتجاهها التحليلي البنيوي السايكولوجي عند (جان لاكان) فان المحلل النفسي (لا يعتبر نفسه سوّيا وسليما بالقياس الى من يقوم بتحليله، كما لا يتخّذ منه اي موقف مميز عنه)1. وبهذا التفريق الافتعالي بين الفهم الفرويدي للاسطورة من جهة، وفهم الفلسفة البنيوية لها في التحليل النفسي من جهة مغايرة، لا اجده يشكل مسألة فلسفية جديرة بالاهتمام والاختلاف حولها. كما اجد ان انحسار المد الفلسفي عن معالجة أمور حقيقية تهم معاناة الانسان في الحياة المعاصرة، واعتبار مسائل اللغة محورا مركزيا في معالجتها كل المسائل الفلسفية، سيجعل من الفلسفة هراءا لا طائل من ورائه وهو يحتضر اليوم سريريا.

الثاني: النزعة الانسانية:

البنيوية بحسب النقاد الماركسيين لها، يلازمهم ومعهم (سارتر) وأقطاب الوجودية الحديثة مثل هيدجر، (فقط بمنطلقات متباينة مختلفة كما سيتضح معنا لاحقا)، يجمعون على ان البنيوية ألغت في فلسفتها مسألتين على جانب كبير من الأهمية في تاريخ الفلسفة، (الذات / والانسانية) واقصتهما نهائيا من التفكير الفلسفي ب (المطلق)، بما يترتّب عليه نسف التاريخ الفلسفي السابق على البنيوية. ان لم يكن نسف ضرورة ذلك التاريخ في عزل البنيوية الانسان كمحور وجودي مركزي في جميع وعلى امتداد تاريخ الفلسفة القديمة والمعاصرة.

قبل التطرق لرد البنيوية على الماركسيين والوجوديين، نرى انه من المتعذّر لأي جديد في الفلسفة الغاء (الذات) والغاء (النزعة الانسانية) من الفلسفة، وماذا يتبقى منها بعدئذ؟ ولمن تخاطب او تكتب من أجله أو له؟ معظم تاريخ الفلسفة في أشد تجريداته وميتافيزيقيته الفلسفية لم يكن محور الانسان غائبا ولا مغيّبا منها، كمحور مركزي في التفلسف (مرسل ومتلقي) (فاعل ومنفعل) (وجود وقضايا) (كينونة وجوهر) (حياة وموت) (خير وشر) وهكذا، ليقوم العقل بعدها وحقول المعرفة والعلوم في اختصاصات الاجتماع، علم النفس، الاقتصاد، السياسة، وامور عديدة لا حصر لها بدورها المكمّل أو المفارق، وفي مختلف شؤون الحياة المتعالقة بالفلسفة.

علما ان الوضعية المنطقية حلقة فيّنا هي الاخرى كانت سبقت البنيوية في تجاهلها موقع الانسان المحوري في الحياة والوجود. وفي معرض دفع (سيباج) هذه المثلبة عن البنيوية يقول (ان كل ما ينتمي الى مجال الانسان لا بد ان يكون من صنع الانسان، ثم لا يصح ان نتصور البنيوية على انها نظرية تجعل أصل الانساق التي تفسر بها الظواهر الانسانية خارجا عن نطاق الانسان)2، بمعنى ان البنيوية لا تلغي الاهتمام بالنزعة الانسانية من قاموسها الفلسفي.

كما ان الوضعية المنطقية في رائدها الفيلسوف اوجست كونت (1798 – 1875) اهتمت بدراسة الظواهر الواقعية المادية فقط، متبنية شعار (ما لا يمكن رصده لا وجود له) رافضة كل تفكير في الغيبيات واعتبرت الميتافيزيقيا لغو فارغ لا معنى له، وان الوضعية هي التي تلتزم العلم في فهم الظواهر الطبيعية والبشرية.

وفي هذا الشعار للوضعية المنطقية يظهر جليّا تناقضها المثالي وفي تطرفها ايضا (رغم ما تدعيه من عقلانية واقعية)، ولا ارغب العودة وتكرار خطر وخطأ التفكير المثالي في اعتماد ان الفكر سابق على الوجود ومنتج له. ناقشت هذا الموضوع سابقا في (اللغة والاشياء) وفي اكثر من موضع.

ان كل تجاوز ونفي للنزعة الانسانية فلسفيا، يجعل من تاريخ الفلسفة قبل البنيوية، تراثا كميّا استذكاريا لا نفع له، ولا علاقة صحّية تربطه بالانسان كوجود نوعي في الحياة التي نحياها على الارض. وأن تاريخ الفلسفة مدموغا بعدم الفاعلية الانسانية، انما تريده البنيوية خطابات من السرد التجريدي المنطقي، وأنساق فارغة أجترارية لمفاهيم موغلة في التجريد من جهة، وموغلة في الغياب من الاسهام في تغيير العياني الواقعي، والتي استنفدت جميع متبنيّاتها ومجالات تناولها البعيدة عن تحقيق حلول حيوية ماثلة في حياة الانسان المعاصر. ارتكبت البنيوية خطأ لم تتمكن تصحيحه بالفلسفة هو عندما قام ليفي شتراوس في عام 1905 من التبشير بنظرية التحول اللغوي وفتح باب اللسانيات وفلسفة اللغة على مصراعيه واخفقت البنيوية تكملة ذلك المبحث الهام الذي يمثل اكبر انعطافة في تاريخ الفلسفة من الانحراف الذي ورثه بول ريكور في الهورمنطيقا وجاك دريدا في التفكيكية.

مؤكد اننا ليس بمقدورنا ان نصادر منطلقات فلسفية تشغل الباحثين عقودا طويلة مثل الفلسفة البنيوية قبل ان نتبيّن ردودها ووجهة نظرها وتعليلها لمثل تلك التوجّهات المصادرة للذات والنزعة الانسانية، خاصة ان ماتدّعيه البنيوية بانها بصدد قلب جميع المفاهيم الفلسفية السابقة عليها من اجل خلق انساق وبناءات لخدمة العلم وتقدم الحياة الانسانية وهذا التوجه لا يخدم الغرض المعلن عنه بوسائلها المحدودة القاصرة على الاقل. . . وليس من الواقع في شيء ان تخرج البنيوية الفلسفة من ذاتيتها الانسانية مهما كانت الذرائع التي ترفعها، على صعيدي التفلسف، وصعيد التلقي الاستقبالي. ويطلق شتراوس على الذاتية انها احد اشكال الوعي البرجوازي التجريدي لذا فهو يرفضها.

كانت البنيوية موفقّة في ادانتها لوجودية سارتر انها فلسفة مغرقة في ذاتيتها غير الانسانوية على مستوى المجموع، وهو شيء لا تنفرد به البنيوية عن سائر منتقدي وجودية سارتر، المغرمة بالتشاؤم والعدم، واللاجدوى، وان الانسان قذف به بمحنة الحياة، حاملا حريته المسؤولة عن ذاته وعن الاخرين الذين هم الجحيم، وعليه خلاص نفسه بقواه الذاتية منفردا من المأزق الوجودي كما في دعوة بوذا (ابحث عن خلاصك وحدك).

كما أعتبرت ذاتية سارتر الفلسفية ذاتية متضخّمة ومتطرّفة لكن ماهو مهم اكثر، وجوب التفريق بين تأكيد سارتر (للذات الانسانية) التي يحاجج بها البنيوية ويحمّلها مسؤولية اضاعتها، وبين (النزعة الانسانية) التي تطالب الماركسية بها البنيوية لأضاعتها لها. فالنزعة الانسانية التي يدّعيها سارتر في فلسفته هي غيرها النزعة الانسانية التي تريد الماركسية حضورها في الفلسفة البنيوية وتفتقدها لديها.

أن البنيوية مهما سعت وبذلت من جهد في ربط منطلقاتها الفلسفية بعلم النفس او الانثروبولوجيا اوالتاريخ، اوعلم الاجتماع او اللغة او علم النفس وغير ذلك فهي بالنتيجة عاجزة عن تحقيق منجز تدّعيه بصدد اقامة (بناءات نسقية) تدّعم مسار العلوم وتساهم بتطويرها وتقدم الحياة بالتزامن مع اعلانها الفلسفي المتشدد ان دور الوجود الانساني في التاريخ اصبح خارج مقولات البحث الفلسفي والمعرفي.

محاورة جان بياجيه:

هنا نعيد قبل ان نعرض محاججة (جان بياجيه) على أدعاءات كل من الماركسيين وسارتر المختلفتين حول (الذات، والانسانية) وتقاطع واختلاف سارترحول النزعة الانسانية الذي اشرنا له سابقا مع البنيوية، عنه في تقاطع واختلاف الماركسية في فهمها النزعة الانسانية المصادرة فلسفيا عند كل من البنيويين وسارتر على السواء.

يذهب بياجيه في رده على نقد سارتر للبنيوية، وتأكيده أهمية محورية الذات الانسانية في فلسفته الوجودية، التي أتهم سارتر بها البنيوية العبور عليها ومجاوزتها

بافتعال غير مقبول او مبرر، فكان رد بياجيه: (ان الذات الانسانية التي يؤكدها سارتر لا تشيّد بناء العلم بحكم طبيعة عملها انها تجريدات لا شخصية، لا يمكننا الاستدلال عنها الا من خلال هذه التجريدات فقط)3. وليست هي (ذات) فاعلة يعتد بها من واقع تأصيل النزعة الانسانية كفاعل تنموي في مجرى الحياة.

هنا بياجيه في رده على سارتر يضع نفسه، بالمثل الدارج فاقد الشيء لا يعطيه، فاذا كانت الذاتية الانسانية عند سارتر تجريدات غير شخصانية، فالبنيوية لا تعتمدها وتلغيها هي اصلا ولا تعترف بها على لسان فوكو بشيء عياني تتمحور الفلسفة حوله وحول قضاياه ومشكلاته ذلك هو الانسان (كذات)، وحتى على لسان شتراوس وفوكو فهما لا يقرّان بأن للانسان تاريخ حضاري أوصله الى مانعيشه اليوم.

وان قضايا الانسان واحدة وتطلعاته لم تتغيرعبر العصور لذا يكون كافيا دراسة تاريخ الاقوام البدائية فقط لنفهم التاريخ البشري بمجمله، بمعنى تعميم منجزات الجزء على الكل. ومن الجدير ذكره ان المفكر الكبير محمد عابد الجابري في دراساته وفلسفته القيّمة حول صياغته لمشروع عربي نهضوي استبعد البنيوية وتحفّظ على التسليم بالكثير من منطلقاتها، لانها وبحسب ادانته لها عملت على تعميم منجز الجزء على الكليات وهو سبب كاف لرفضه.

ويمضي بياجيه في التوضيح أكثر انه يوجد فرق كبير بين العلاقات الشخصية التي تختفي من خلالها الذات الانسانية، كنزعة فطرية (انسانية مجتمعية)، وبين ما يطلق بياجيه عليه (الذات الانسانية في مجال المعرفة)، وهذا بحسب بياجيه فرق كبير وهام، اذ يجده بياجيه التخلي عن الذات الانسانية في مجال المعرفة، انما يحررنا في تخلّينا عن اتجاهنا التلقائي في التمركز حول انفسنا، و (نتحرر من ذاتية العلاقات الشخصية، ولا يكون هناك بعدها للذات وجودا بوصفها ذاتا عارفة، الا بمقدار ترابطاتها المتداخلة التي تتولد منها البناءات)4. رد تجريدي يتلاعب بالالفاظ فقط.

ونكمل مع بياجيه توضيحه: ان البنيوية تفرق بين (الذات الفردية) التي لا تأخذ منها موضوعا للبحث الفلسفي على الاطلاق، وبين (الذات المعرفية) أي تلك النواة التي تشترك فيها الذوات الفردية كلها على مستوى واحد، وهي موضوع الفلسفة ان صح التعبير، كذلك تفرّق البنيوية بين ما تحققه الذات بالفعل، وما بين ما يصل اليها وعيها، وهو محدود بطبيعته، وما تركّز البنيوية عليه هو اهتمامها بتلك العمليات التي تقوم بها الذات وتستخلصها بالتجريد من افعالها الذهنية العامة. 5

ان ما يلاحظ على حجة بياجيه تجاه درء تهمة اغفال البنيوية النزعة الانسانية، ركيزة الفكر الفلسفي الماركسي انها لم تكن مقنعة بما فيه الكفاية، اذ عمد بياجيه باسلوب تجريدي صرف تفنيد مقولات فلسفية تاريخية علمية ومادية صلبة لا تزال تمتلك حراكها العملياني الواقعي المقبول ليس لدى الوجودية والبنيوية، وانما في الماركسية، فهي تمتلك حضورا انسانيا فاعلا في مجرى الحياة وتداخلها معها. ولم يكن بياجيه الوحيد الذي وقع بمطب التجريد الفلسفي المسرف في مناكفة وتضاد مع الماركسية حتى احيانا من دون تسميتها، اذ نجد ان (ألتوسير) كان أنشطهم وأبرزهم تأثيرا في نقده المادية التاريخية وكتاب راس المال كما اشرنا له سابقا*.

وقبل ان نختم مبحثنا هذا نشير الى ان البنيوية ترى ان الكلام يسبق الكتابة، وان الحقائق التاريخية تثبت ان اقدم نظام كتابي يرجع الى خمسة الاف سنة قبل الميلاد، وانه لا يمكن لأي مجتمع الوجود من غير اللغة الكلامية، لذا يكون من المنطقي ان نفترض ان الكلام يرجع الى بداية ظهور المجتمع الانساني، وعلى العكس من البنيوية ترى التفكيكية ان الكتابة تسيق الكلام وان الكلام ولد من رحم الكتابة، وينعتون الكتابة بالعدم والكلام بالوجود ومنطقيا فالعدم يسبق الوجود.

كما ان النص في الفلسفة التفكيكية يظل دائما يحمل عوامل اندثاره وتلاشيه بحسب الباحثة والناقدة سارة كوفمان من رواد الفلسفة التفكيكية، وتجد ان التفكيكية تتعامل مع النص اللاهوتي المتعالي، بانه نص يحمل اسباب تفككه ومغادرته احتكار مركزية خطاب النص، الى ان تصبح حسب رأيها جميع النصوص نسبية الوجود ونسبية التلقي ومتعددة القراءات. كما ان الفيلسوف الانثروبولوجي جيمس فرايزر يذهب الى انه كما استطاع الدين ابطال عمل السحر، فان العلم في طريقه الى ابطال لاهوت الدين.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

........................

الهوامش:

** لتوضيح اكثر يراجع كتابنا (العولمة بضوء نهاية التاريخ وصدام الحضارات وبروز ظاهرة الارهاب.

*** لتوضيح اكثر حول محاولة التوسير نقد كتاب راس المال تراجع مقالتنا بعنوان (التوسير وكتاب راس المال).

1. توضيح اكثر انظر، فؤاد زكريا، افاق الفلسفة صفحات 363-365

2. المصدر السابق ص 360

3. نفس المصر السابق ص 366

4. نفس المصدر السابق ص 368

5. نفس المصدر السابق ص 364

تُعد التفكيكية، من أهم الحركات ما بعد البنيوية، فضلاً عن كونها الحركة الأكثر إثارة للجدل أيضاً، فالتفكيكية ردُّ فعل على الإسراف البنيوي، تهدف إلى التخفيف من غلوائها وتوضيح رؤيتها الداخلية بالطريقة المثلى، فقد كرّس (جاك دريدا) في بعض مقالاته مهمة تفكيك مفهوم (البناء)، والتي تخدم تجميد التلاعب بالمعاني في النص وتقليل ذلك إلى نطاق يمكن السيطرة عليه. وذهب أيضاً إلى ضرورة تفكيك مركزية العقل، إذ يجب إيجاد وضع جديد للكلمة، وذلك من أجل إسقاطها وانتزاع تسلطها الكامل كأصل ومركز للغة.

ويعد كتاب (لسان التفكيك) لجاك دريدا بمثابة لسان التفكيكية، على أن البحث الذي يتقصى دريدا ونظريته في التفكيك تواجهه عقبتان رئيسيتان، الأولى أوجدها دريدا نفسه المتسم بإثارة الحيرة فضلاً عن مصطلحاته ومفاهيمه، أما الأخرى فهي سلسلة الآراء النقدية التي تعد تأويلات غير وافية أو سوء تأويلات محتملة، على الرغم من الضوء الذي تسلطه على بعض المفاهيم الصعبة التي شكلها دريدا.

ومما لا شك ان التفكيك هو المفهوم المركزي في فلسفة دريدا. فماذا يقصد به؟ في رسالة له (الى صديق ياباني)، اعترف دريدا بان التفكيك كلمة عصية على التحديد والتعريف والتدقيق والضبط لان كل تعريف وتحديد في نظره يحتاج الى تفكيك ويتطلب على الاقل الشك والظن في الكلمات والمفاهيم التي صيغت بها تلك الكلمات التي الفنان والتي تسكن اي لغة كانت خاصة اذا علمنا انه لا وجود للغة بريئة فكل لغة مشكلة من قرارات ومن اشكال من الاقصاء التي يجب العمل على ادراكها وفهمها.

يؤكد (م.هـ ابرامز)، أن أبرز جزء في نظرية دريدا هو: 1-إنه ينقل بحثه من اللغة إلى الكتابة، النص المكتوب أو المطبوع. 2-أنه يتصور النص بطريقة محددة غير اعتيادية... أما (نيوتن غارفر) فيشدد على أن دريدا واحد من فلاسفة اللغة، وأنه يؤكد على أسبقية البلاغة على المنطق، فيقول: ينضوي دريدا تحت لواء الحركة التي تنظر إلى الأثر الذي تلعبه الملفوظات في الخطاب الفعلي على أنه يمثل ماهية اللغة والمعنى، والذي يسبب ذلك يعد المنطق مستنبطاً من المسوغات البلاغية... ويذهب (هيليس ميلر) إلى أن التفكيك بحث في الإرث الذي يخلفه المجاز والمفهوم والسرد في أحدهما الآخر، ولهذا السبب يعد التفكيك حقلاً معرفياً بلاغياً... ويعتقد (موراي كريغر) أن دريدا بنيوي نقدي تغلب على البنيوية وقهرها، وربما يكون قد أبطلها أيضاً، وإن الهجوم الذي شنه دريدا، يعد شكلاً أكثر حداثة لذلك الهجوم القديم الذي شنه أفلاطون على الشاعر بوصفه خالق أساطير... ويؤكد (فريدريك جيمسون) أن فكر دريدا وهم تخطى الميتافيزيقا والهرب من النموذج القديم لغرض تمحيص الجديد وغير المكتشف.

ويتميز التفكيك بنوع من الانتباه واليقظة تجاه الكلمات والبنى التي تسكن فيها الكلمات، والانتباه بوجه خاص الى تلك البنى والى ضرورة الشك فيها بما انها تحيل الى نزعة كاملة هي البنيوية التي تحتاج الى تفكيك، وهذا يعني اننا في حاجة الى ما أسماه بـ ما بعد البنيوية، ويعتبر دريدا من الفلاسفة الأوائل الذين صاغوا عبارة ما بعد البنيوية لتدل على التيار الناقد والمعارض والمتجاوز للبنيوية، وهو ما بينه في كتابه الكتابة والاختلاف، وخاصة في نصه النقدي لميشيل فوكو حول تأويل هذا الأخير لنص ديكارت عن الجنون، ونصه حول ليفي شتراوس أو البنيوية والعلوم الإنسانية.

من هنا نعرف أن التفكيك، ومنه فلسفة دريدا التفكيكية، تعبير عن مرحلة جديدة في الفلسفة المعاصرة على العموم والفلسفة الفرنسية على وجه الخصوص، وذلك تحت اسم ما بعد البنيوية، التي تتميز بنقدها لفكرة البنية الموضوعية والمحايثة للأشياء... وليست التفكيكية منهجاً أو نظرية تسمح بالكشف عن البنى الخفية للأشياء، وإنما هي ممارسة ونشاط وعملية انتباه ويقظة وحذر دائم، التفكيك ليس نظاماً فلسفياً واضح المعالم ولا منهجاً يقوم على قواعد وخطوات معلومة، وإنما هو عبارة عن توجه فلسفي في قراءة النصوص وطرح القضايا، خلفيته المباشرة نقرؤها عند الفيلسوف الألماني هيدغر الذي قام بالهدم.

على أن دريدا، رغم صعوبة التعريف ولبس المقولة، حاول مرتين على الأقل الإجابة على السؤال عن معنى التفكيك، المرة الأولى كانت في كتابه مذكرات من أجل بزل دي مان، حيث قال: التفكيك باختصار شديد، سأقول ذلك من دون جملة، أنه أكثر من لغة. لكن ماذا يعني دريدا بهذا القول: بحسب الزواوي بغوره، أنه إذا أردنا تحليل هذا التحديد، أو بلغة الفيلسوف تفكيك هذه الصيغة، فإن أصعب كلمة في تلك الصيغة هي من دون شك كلمة: اللغة، فماذا يقصد دريدا باللغة، وهو الذي انشغل طول حياته باللغة، وأسس فلسفة لغوية خاصة به، فعن أية لغة يتحدث دريدا؟. ومفاد هذا الرأي، الآتي: يشير القول إلى ضرورة الانتباه إلى الكلمة وليس إلى اللغة، إذ من المعروف أن رائد اللسانيات الحديثة سوسير، قد ميز بين اللغة والكلام، أو بين الدال والمدلول، وكان لهذا التمييز أثره الفاصل في تأسيس النزعة البنيوية في اللسانيات ثم في الانثروبولوجيا على يد شتراوس والتحليل النفسي عند (جاك لاكان) والنقد الأدبي عند رولان بارت. وبالتالي فمن الممكن أن دريدا يقصد باللغة الكلام، الذي تجاهلته البنيوية عندما ركزت على البنيات الأساسية للغة، أو أنه كان يشير إلى كل ما يمثله الصوت وبالتالي ضرورة الاهتمام بالاذن والاستماع، وإلى من يتكلم وإلى ان الكلمة تقول دائماً شيئاً آخر غير الذي تصرح به. وهذا يحيلنا إلى خطاب الآخر وماذا يقول؟ ولقد مثلت التفكيكية محاولة فلسفية أصيلة في فهم الآخر، وذلك لما تضمنته من تقنيات التحليل النفسي والتحليل التأويلي.

ومن الجدير بالذكر، أن الكتابة والكلام كلمتان محوريتان يمكن أن يبدأ بها فهمنا، وتتمتع اتان الكلمتان بدلالة خاصة في المفاهيم التقليدية للغة، إذ أن هذه المفاهيم تنص على أسبقية الكلام وأولويته على الكتابة، وإن الكلمة المنطوقة (صوت) كلمة غير خارجية ولها القدرة على المحو الذاتي، كما تعرف الكلمة المنطوقة بأنها صورة صوتية (سمعية) وظيفتها هي استحضار المفهوم الذي تمثله الصور الصوتية ، وتتلاشى الكلمة المنطوقة أو الصورة الصوتية في سيرورة استحضار المفهوم، ولهذا السبب فإنها بوصفها دالاً تطفئ نفسها في سيرورة التدليل على المدلول الذي يكون هو الأكثر أهمية من أي شيء آخر، ولا يمكن تصور هذا المدلول إلا من خلال الصورة الصوتية التي هي الدال، ومن الممكن أن نلاحظ هنا أن ثمة شيئاً أشبه بالثالوث في هذه العلاقة: الذهن الإنساني، الدال (الصورة الصوتية)، المدلول (المفهوم).

وهناك رأي آخر لتفسير عبارة (أكثر من لغة)، تفيد وجود أكثر من لغة، وإن شرط التفكيك مقرون بالتعدد والاختلاف، وإن خطاباً واحداً مهما كانت قدرته لا يمكن أن يكون خطاباً اختزالياً، على أن ما يثير السؤال في صيغته تلك هو أن دريدا لم يقل اللغات، بل قال اللغة، أي أنه تحدث عن اللغة بصيغة المفرد لا بصيغة الجمع، وهذا يعطي دلالة خاصة لمعنى اللغة، فهل يتعلق الأمر بالضغوط التي تمارسها اللغة على محدثيها؟ إننا عندما نتحدث أو نعبر أو نكتب بلغة معينة فإننا نشعر دائماً بضغوط اللغة، وبعدم قدرتنا على التعبير، وإننا نعاني من أسر اللغة، لذلك وجب تجاوز اللغة إلى ما بعد اللغة، أي إلى كل ما يشكل العلامة، وبالتالي وجب الشك في كل مقولات اللغة والتركيب والنحو، كما دعا نيتشه إلى ذلك، وضرورة الانتباه واليقظة مرة أخرى إلى كل ما لا تستطيع اللغة قوله والإشارة إليه. أي ضرورة الانتباه إلى الصمت وإلى الحياة ذاتها، تلك الحياة التي لا يمكن نقلها إلى اللغة، أو لا تستطيع أن تصبح لغة، نتيجة لعجز اللغة عن التعبير... من هنا وجب القيام بالتفكيك على أساس التعدد والاختلاف، واستعمال أكثر من لغة وعلامة، أملاً في التحرر والانعتاق من أسر البديهيات والأمر الواقع للغة الخاصة.

وآخر ما يجدر الإشارة إليه، أن مفهوم الكتابة الجديد الذي صاغه دريدا يستند إلى ثلاث كلمات معقدة جداً، وهي الاختلاف، الأثر، والكتابة الأصلية الأولى...

1-الاختلاف يشير إلى فعلين: أ-أن يختلف، أن لا يكون متشابها. ب-أن يرجئ ويؤجل، وينبغي الانتباه إلى أن الأول مكاني والثاني زماني، ويرى دريدا أن كل علامة تؤدي هذه الوظيفة المزدوجة: أي الاختلاف والتأجيل، ولهذا السبب تكون بنية العلامة مشترطة من قبل الاختلاف والتأجيل، وليس من خلال الدال والمدلول، بمعنى إن بنية العلامة هي الاختلاف الذي يعني أن العلامة شيء لا يشبه علامة أخرى، وشيء غير موجود في العلامة على الاطلاق.

2-الأثر: إن ما هو كائن في العلامة يحرك الذهن باتجاه ما هو غير كائن فيها، ولهذا السبب فإن ما موجود في العلامة يحمل أثر ما هو غير موجود فيها، وتستطيع العلامة أسر الذهن لأن بمقدورها أن تذكرنا بما هو غير موجود فيها، وتستطيع عبر هذا التذكير تحفيز الذهن ودفعه إلى الحركة.

3-الكتابة الأصيلة: أطلق دريدا هذه التسمية على الفرق بين مفهوم الكتابة هذا ومفهوم الكتابة المبتذل الضيق، وتعمل الكتابة الأصيلة في التعبيرات الكتابية وغير الكتابية، والكتابة بمعناها الضيق تعتبر كتابية، أما في النظرية التفكيكية التي حدد دريدا أبعادها، فقد أصبح لصفة الكتابية معنى مختلفاً عن المعنى الذي كان متداولاً في الاستعمال التقليدي.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

ما يؤلمني حقًا هي نفسي، لم أجد الكلمات التي أستطيع أن اعبر بها بلغة مفهومة عن ما يدور بداخلي، داخلي الصاخب بموجودات لا تقبل أن تزيح نفسها بنفسها عن طريقي وتفكيري، فسلبت كل ما لدي من طاقة متاحة، لم تعد اللغة مفهومة كما أريد، لا أدري هل هذا بسبب الألم، أم خليط غير متجانس من الأفكار، وتدلنا كلمات الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري،

لم يبقَ عنديَّ ما يبتزه الألم،

حسبي من الموحشات الهمُ والهَرمُ،

*

لم يبقَ عنديَ كفاءة الحادثات أسىً،

ولا كفاءة جراحات ٍ تضجُّ دمُ،

*

وحين تطغى على الحران جمرته،

فالصمت أفضلُ ما يطوى عليه فمُ

.ويمكننا القول بأن الصمت هو أيضًا لغة. ونستشهد بقول المحلل النفسي الفرنسي "جاك ميلر": اللغة لا تشرح المتعة هنا، بل تجرحها، الجسد يحتفظ بالأثر، بالندبة، بالمتعة كصمت غير قابل للقول. رغم أن "جاك لاكان" المحلل النفسي الفرنسي يقول خصوصية الإنسان هي أن يكون كائنًا متكلمًا، وعند " ارسطو " اللغة هي نظام أساس من الرموز التي تمكن البشر من التواصل والتفكير والتأمل في العالم، الكلمات هي تمثيلات رمزية للمفاهيم، وهذه المفاهيم نفسها تمثل الأشياء في العالم. إذن هي اللغة التي تعبر فيها النفس عما يدور في داخلها، حتى وإن لم تعرف كنهها، أو عن ما هو موجود فعلا، وإن خرج بتفوه وبكلمات وأفكار لها دلالتها وعمق معانيها، ولكنها ليست كل ذلك، فما بقي وخفي كان أعظم، ويرى " أرسطو " بأن الرموز " بما في ذلك اللغة " لا يمكنها نقل جوهر الحقائق المعقدة والمجردة بشكل كامل، على الرغم من أن اللغة أداة قوية لتمثل ومناقشة هذه المفاهيم، إلا أنها تظل غير كاملة ومحدودة بطبيعتها الرمزية، ومع ذلك يعرض لنا " جاك لاكان " بقوله ان اللغة البشرية تتميز بأن الاشارات التي تتكون منها، تكتسب قيمتها مع علاقتها مع بعضها البعض.

أن هروبنا نحو الحلم فهو يحمل لغة أيضًا ما لا يمكن قوله في حالة الوعي، يمكن قوله في حالة اللاوعي بوساطة الحلم حيث يكون بعضه ظاهر – سطحي، والآخر عميق له معنى كامن، وهو مؤشر لمعرفة ما يدور في النفس وفي اعماقها دون أن يعلن صاحبها عما يدور بداخله، أليس هذا الشخص يبحث في داله على مدلول مفقود، وكما تعلمنا أن الدال هو المكون الواعي واللاواعي للغة، لم يجده في حياته اليومية منه فهرب به دون أن يدري إلى عالم آخر تقل فيه الرقابة وينام الرقيب ليس عمدًا، بقدر ما هو تحايل على ما يرغب به، وهذه الرغبة جائحه غير مقبولة، ربما يعرف إنها مؤلمة، ولكن لا يستطيع أن يقاوم شدتها وعنفها على نفسه، فهرب بها إلى الحلم وظهرت لغة الحلم، كما يؤكد لنا " لاكان " الفرق بين اللغة كمجال رمزي وبين حواره الداخلي، وإن عبر عنه لاكان عن حساسية المريض في الجانب المعقِلن " لاكان، الذهانات، ص 152".

ألم يقل لنا فرويد ومن جاء بعده بأن الحلم هذاء قصير الأمد؟ ألم يظهر اللاشعور – اللاوعي ويعود بلغة قل على المشتغلين بالعلوم النفسية الآخرى إدراك كنهها؟ وهي حقيقة واقعية.

ألم يعلمنا التحليل النفسي أن عملية التكلم عند الإنسان هي الوسيلة لمجابهة الأكتئاب والضيق والحصر؟ ألم يذكرنا فرويد حينما يطلب الطفل من خالته في الغرفة الأخرى أن تتكلم لأن الغرفة مظلمة وهو يخاف من الوحدة؟

أَولم تكن تلك الكلمات بسحرها لوصف العاشق لمعشوقته في غيابها هو دليل حضورها ولو على مستوى التخييل، يعيد لنفسه نوعًا من الطمأنينة في غيابها فيكون هذا النمط من اللغة نمط إفراغي يبعد عنه دقائق نوبة الحصر وربما تؤدي إلى الكأبة. ما تقدم يؤكد لنا أهمية اللغة ونحن في حالة الوعي، وهو الأمر ذاته في حالة اللاوعي وهو الحلم بلغته، فالوجود يتحدد بوجود الكلام، بالتحدث مع ذاته ليعبر عن ما يدور في داخلها، ولا ننسى تأوهات الإنسان المريض وآنينه، وهي لغة لا تقل أهمية عن لغة العاشق الولهان وإن أختلفت مسارهما ولكن تتفق في بعدها النفسي الداخلي العميق.. ويحق لنا أن نسميها لغة اللاشعور – اللاوعي. لغة المتكلم الذي يبحث عن وجوده فرحًا أو متألمًا، وليبرهن لنا " جاك لاكان " نوعية الترابط ما بين الواقعي والمتخيل والرمزي، إنطلاقًا من أن دخول الإنسان عالم اللغة، أعطى تحقيقًا لوجوده، وهو ما عبر عنه بكلمة المتكلموجودي، أي الوجود مرهون بالكلام.

أن اللغة كما ذكرنا هي مرهونة بالوجود بكل أنواعه، ومنها الوجود الاجتماعي، حيث تعيد للإنسان حضوره، هذا الحضور القائم على الأنس والمؤانسه، حضور يتكيف به الإنسان مع مجتمعه، بلغة التواصل الذي يعتمد على التفكير سواء التفكير التجريدي مثل النكته، أو الفكرة المرمزة لقائلها، أو النكتة السياسية في الشارع، في المجتمعات التي تسجن صاحبها لعدة سنوات في غياهب المطامير وخلف الشمس حتى يطلب منه السجان أن يفقد ذهنه ويحاول محو القدرة على التفكير في العمليات الذهنية التي تميز به الإنسان عن الكائنات الحية الأخرى، وأفضل ما نستشهد به في هذا الموضع هي السجن الانفرادي المفروض على روبنسون كروسو حينما وجد نفسه وحيدًا في جزيرة صغيرة بعيدًا عن كل ما هو بشري واجتماعي، فلجأ "كروسو " أن يتواصل مع اللغة بطريقة مختلفة في عملية تخاطب، هي في الحقيقة مخاطبة للذات، وهي تمامًا يمثل فيها المرسِل والمرسَل إليه في آن معًا، ويقول " بسام بركة " وكأن أطراف العالم الاجتماعي كله قد ضاقت لتنحصر في حدود ذاته ويضيف أيضًا أن " كروسو" يشعر في الفشل في هذه المحاولة، ذلك أنه كما تؤكد نظريات التحليل النفسي ينحصر المستوى الواقعي الخارجي بين المستوى الرمزي " أي اللغة بشكل خاص " وبين المستوى الخيالي. والذات لايمكن أن تحافظ على كيانها، أو تعبر عن مستوياتها إلا بوساطة اللغة، كما يقول " لاكان " – هي ما يصدر عن الكائن الحي بفعل اللغة، والرغبة عند الإنسان هي بالتالي " رغبة في الآخر " وإنشداد نحو الآخر.

***

د. اسعد الامارة

 

تلخيص: موضوعة الجدل او الديالكتيك في التاريخ والفلسفة، قضية جوهرية معقّدة وحاضرة بقوّة على صعيدي الفلسفة والايديولوجيا، مبتدأها في الفلسفة مثاليا بسيطا، يمكننا ارجاعه الى زينون الأيلي وهيراقليطس وصولا الى كانط وهيجل وفويرباخ وأخيرا عند ماركس وأنجلز وفلاسفة ومنظّري الماركسية، بعدهم سارتر في الوجودية وفلاسفة البنيوية شتراوس والتوسير وغيرهم.

ونقر منذ البداية ان هذا المبحث اخذ حيّزا واهتماما بالغين ليس على صعيد الادبيات اللينينية والستالينية والتروتسكية الماركسية، وانما على صعيد ما استجد على الساحة الفكرية والفلسفية بالذات في تناولهم الجدل الماركسي بقسوة تنظيرية غير بريئة في مراميها نهايات القرن العشرين، بدءا بالوجودية ومن ثم البراجماتية الذرائعية العملية الامريكية عند اقطابها الثلاثة المؤسسين تشارلزبيرس، وجون ديوي ووليم جيمس. تلاهم في القرن العشرين الفلسفة البنيوية، والتفكيكية، والتاريخية، والعدمية الخ.

أن مرتكز الجدل المادي التاريخي وبؤرته في الفلسفة الحديثة وعلوم المعرفة هي عند الثلاثي (هيجل، فيورباخ، ماركس) أي في التوليفة المادية الجدلية التي اشترك بأيجادها وصياغتها هؤلاء الفلاسفة الثلاث حصرا، فقد أخذ فويرباخ (المادية)عن هيجل، وأخذ ماركس عن هيجل أيضا(الجدل او الديالكتيك)، بعدها عمد ماركس وانجلز باستقلالية تخليص مادية فويرباخ من تأمليتها الدينية التصوّفية غير الجدلية، وتخليص الجدل الهيجلي من مثاليته المقلوبة غير المادية، ليخرج ماركس بعدها بما عرف بقوانين المادية الجدلية التي تحكم المادة والتاريخ ومظاهر الحياة وايديولوجيا السياسة، وعلم الانثروبولوجيا وهي:

1. قانون وحدة وصراع الاضداد

2. تحوّل التراكمات الكمية الى كيفية(نوعية)

3. قانون نفي النفي

ومن هذا السبق الفلسفي تشظّت تيّارات فلسفية ومعرفية عديدة في تبنّيها أو في مناوئتها وفهمها المغاير للجدل الماركسي، ليس بمعنى عدم أمكانية تفنيده وحسب، وانما بمعنى الخروج عليه ونقده كما فعل سارتر واقطاب البنيوية شتراوس والتوسير وآخرون. وربما نستبق الامور في الحكم على ان تلك المحاولات في دحض الديالكتيك الماركسي باءت بالفشل.

ان اهم نقطة يتمحور حولها هذا المبحث، ليس مناقشة الديالكتيك الماركسي وتفنيده كبنية فلسفية معرفية لا علاقة لها بالتطور التاريخي الانثروبولوجي لمراحل وجود الانسان، او مع الوقع الميداني التطبيقي الذي اعتمده الجدل الماركسي على المادة وعلى الواقع السياسي وفي الاقتصاد والتاريخ كما جرى في التجربة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي القديم، كما الماثل الى الآن في تجارب مثل الصين وكوبا وفيتنام وكوريا الشمالية وهو الاهم براينا هنا، اننا نريد توضيح هل كان حقا للديلكتيك التطوري التاريخي فاعلية في التقدم الحضاري البشري المنسوب للماركسية ام لا؟

الجدل او الديالكتيك في الفلسفة الغربية المعاصرة:

كما ونجد تداخلا مفهوميا مربكا في تناول الجدل الديالكتيكي بين تلك التيّارات والمذاهب الفلسفية، فعبارة سارتر على سبيل المثال(ان المادة حقيقة بشرية تكتسب معناها وخصائصها بفعل الانسان فقط). انما تمثل مداخلة خلفيتها واضحة مستمّدة من الجدل الماركسي. وهذه عبارة لا تغني عن كتب ومؤلفات عديدة تفصح تداخل الوجودية مع الماركسية ليس على صعيد الجدل فقط وانما على مستوى جميع القضايا التي تهم الفلسفة والتاريخ والمعرفة والعلوم.

ويقول سارتر في مقدمة كتابه (نقد العقل الجدلي) ان (الماركسية هي فلسفة العصر، وان الوجودية ليست سوى ايديولوجيا تعيش على هامش الفلسفة الماركسية). هذا بمعزل عن القول ان سارتر كان ماركسيا منتميا للحزب الشيوعي الفرنسي قبل انسحابه وقطع علاقته بالماركسية متبنيا الفلسفة الوجودية، وبقيت الافكار الشيوعية حاضرة في خلفيته الفلسفية حينما حاول من دون جدوى خلق فلسفة توفيقية تأخذ عن الماركسية أشياء، ومن الوجودية اشياء اخرى، في محاولته خلق نوع من توليفة فلسفية فيها من التكامل او التجديد في الماركسية وفشلت محاولته تلك. وكان نقده للماركسية لا يخلو من تهمة توجيهه الدوغمائية الفكرية لها حين يعتبر الماركسية تنطلق من مسلمات يقينية قاطعة جاهزة تلبسها وقائع الحياة والتاريخ الانساني قسرا.

واذا كان سارتر قد اخذ على الماركسية اقرارها بوجود جدل الطبيعة واغفالها الانسان في بعده الوجودي، فان سارتر حسب حبيب الشاروني يذهب الى ان الماركسية الحقيقية هي المادية التاريخية حيث التفسير الصحيح لحركة التاريخ.

وفي الوقت الذي يقر سارتر صحة الجدل في تفسير التاريخ، فهو ياخذ على هذا الجدل ملاحظتين، الاولى ان الجدل التاريخي يجب ان لا يلغي الدور الوجودي للانسان بوجوب اذعانه للحتمية التاريخية. الثاني ياخذ سارتر على الماركسية اهتمامها بتفسير الانسان وليس فهمه انثروبولوجيا، ويقصد الجانب النفسي والقيمي.

انه لمن المهم الاشارة الى ان التزييف الذي جعل من الماركسية عقيدة دوغمائية، هو عدم الفهم الصحيح لتاريخ في مؤلفات ماركس. وفي الوقت الذي اكد ماركس ان التاريخ هو من صنع الانسان فان الماركسية المعاصرة قلبت المقولة في جعلها التاريخ يحتم على الفرد ان ينخرط به في حتميته الضرورية التطورية شاء أم أبى .

وفي المنحى ذاته نجد جيرالد كوهين، في كتابه (المادية والصراع الطبقي ص17) ينسب لسارتر تهمة الدوغمائية في ادانته الماركسية: (انه بدون الحاجة الى اعادة بناء الماركسية من الفكرة النقدية، ان الماركسية اصبحت نوعا قبليا وعقائديا من المعرفة التي تضع الاحداث داخل اطار مفاهيمي قبل دراستها، فهي قررت مقدما ماذا يجب ان يكون عليه كل شيء) وفي هذا التعبير تكون الماركسية اضحت من السرديات الكبرى التي يتوجب مراجعتها بنقد معرفي وفلسفي قوي وشفاف، وبذلك اعطى الراية بيد اقطاب البنيوية لتنفيذ ما دعا له.

وقول هيجل (ان الفكرة بدون واقع هي فكرة صورية فارغة لا معنى لها، وتصبح الفكرة حيّة ولها امتداد من خلال الواقع فقط) هي مقولة لا تخرج عن الفهم المادي الجدلي الماركسي المنبثق اساسا من التفكير الديالكتيكي المثالي الذي ادين به هيجل.

لكن هذا لا يعني ان سارتر الوجودي المنشّق عن الماركسية أو التوسير البنيوي المنشّق هو الآخر عن الماركسية لا يعاديان الماركسية بضراوة، فالوجودية والبنيوية كلتاهما فلسفتان تناهضان الجدل الماركسي وتعتبرانه من مخلفّات الايديولوجيا والسرديات الكبرى التي لم تعد صحيحة ولا صالحة في دراسة التاريخ تحديدا وان عبارة أنجلز (ان انهيار جميع الانظمة الفلسفية التأملية أمر حتمّي) هي عبارة أكثر من استفزازية لدى متبنّي الطروحات المثالية ومن بعدهم الوجودية والبنيوية في التزامهم المنهج النقدي المثالي في مواجهة الماركسية بماديتها العلمية الجدلية الرصينة ايديولوجيا.

كما يشن ارتيجا نقدا لاذعا على تبني الماركسية حتمية التطور الخطي للتاريخ قائلا: (الآنية الزائفة، - في اشارة الى الذوات الماركسية المفكّرة -، التي تحدثت عن حتمية تاريخية تخضع الاشياء والبشر لقوانينها، باعتبارهم ضمن اشياء العالم).

يلاحظ الربط الفكري والتعبيري المشترك في تلاقي سارتر مع ارتيجا في نقدهما الماركسية من نفس منطلق انها اصبحت نظرية دوغمائية تحاول الباس الواقع مفردات النظرية الجاهزة المعدة سلفا، وتطويع مراحل التاريخ لمنطلقاتها الفلسفية.

استهداف الجدل الماركسي:

هناك مقولات عديدة فلسفية صدرت عن سارترحول ادانة الجدل الماركسي كانت مثار نقاش فلسفي حاد وعنيف بين الماركسيين والوجوديين والبنيويين على السواء. فقد أصدر سارتر كتابه (نقد العقل الجدلي) وأصدر شتراوس كتابه (التفكير المتوحش) وأقتفى أثره لاكان في كتابه (كتابات) وأستقر المقام مع اكثرهم ضراوة عدائية للماركسية التوسير في كتابه (نقد راس المال) كما اصدر فوكو كتابه (الكلمات والاشياء).

ان المرتكز الاساس في هذه المؤلفات وغيرها العديد كانت جميعها تدين الفهم الجدلي الماركسي ليس من خلال التفنيد النقدي المباشر، في التحليل المادي للتاريخ محاولين (تحويل مفهوم البنية المادية للوجود والاشياء الى مفهوم ميتافيزيقي مثالي) وتسويق الجدل برؤى مثالية بعيدة عن علاقة التأثير المتبادل مع الواقع العيني للمجتمعات البشرية. أي ابعاد الجدل عن محيطه الشغّال في الحياة الاجتماعية والطبيعة والمجتمعات كما سبق لهيجل ذلك قبل تصحيح ماركس جدله المثالي. واعتبار الجدل الماركسي اصبح من كلاسيكيات الفلسفة المعاصرة.

وحين يوجّه النقد من البنيوية والوجودية الى الماركسية في صلب مرتكزها أن العامل الاقتصادي المتداخل بالحراك الاجتماعي هو مبعث التطور الذي يقود الى التغيير والتطور التاريخي، فان البنيوية تعمّدت من جانبها ايضا أعتماد (علم اللغة) الذي يقوم في مختلف توجهاته اعتماد مثالية فجّة في النقد السطحي للمادية، في فلسفتها كبنية محورية لها الدور الحاسم في احداث التطورات التاريخية.

وأهتم كلود ليفي شتراوس باللغة على انها ظاهرة ثقافية تميّز الانسان عن الحيوان – وهي مقولة مقتبسة عن ديكارت وقبله وبعده عشرات من الفلاسفة – وان علاقة ارتباط اللغة الوثيق بالانثروبولوجيا تعتبر المرتكز الاساس الذي بموجبها يمكننا فهم التطور التاريخي، وليس الجدل الديالكتيكي الذي تعتمده الماركسية الذي اصبح من مخلفات السرديات الايديولوجية التي تمت مغادرتها حسب الادانة البنيوية.

وقد كانت لافكار فنجشتين عالم وفيلسوف اللغة، ودي سوسير، وجاك دريدا، ورولان بارت وآخرين، الاثر الكبير في محاولة اعتماد مركزية اللغة في مراجعة وتصحيح تاريخ الفلسفة عموما، وكان اكبر الفلاسفة المعارضين لهذا التوجه هو فيلسوف المنهج التحليلي العلمي الانجليزي براتراند رسل وريث التجريبية العقلانية عن جورج مور وجون لوك وديفيد هيوم، في ادانتهم ان تكون مركزية الفلسفة هي اللغة كما تفهمها البنيوية والتفكيكية على السواء معتبرا ان الاشتغال على اللغة تفكيكيا بلاغيا في ادانة الفلسفة محاولة غير مجدية ويمكن ان تكون هذه الفلسفات قواميس في اللغة لا علاقة لها بقضايا الفلسفة.

كما يجد شتراوس ان التاريخ هو منهج لا ينتسب اليه موضوع بعينه، لكنه يبقى رغم ذلك ضروريا لفحص تكامل العناصر في اي بناء انساني او غير انساني، ونعت التوسير بدوره الايديولوجيا الماركسية بانها ليست افكارا وانما هي اكاذيب جميلة في محاولة عجز فلسفي وهروب من دحض الافكار الماركسية علميا وفلسفيا.

ولتكريس هذا النمط من التفكير المثالي واحيانا التجريدي غير المادي يذهب شتراوس الى أن (التاريخ كعلم ينبغي فهمه من ان طبيعته لا تختلف عن طبيعة الاسطورة). ويفهم من هذا أن التاريخ هو مجموعة أحلام جماعية أسطورية للشعوب والجماعات البدائية لا ينتظمها قوانين تحكمها تطوريّا، لكنما لا تخلو من عقلانية سحرية، وانها مراحل لا تاريخية تتقبّل الشروحات المتباينة الكثيرة عنها وفي دراستها.... بمعنى أكثر تكثيفا أن شتراوس أراد أن يخرج التاريخ من تاريخيته التحقيبية التطورية والحضارية المادية تحديدا وينقله الى مصاف الاساطير والميثولوجيا والسحر، في دراسة التاريخ الانساني في نموذجه البدائي على شكل قطوعات ساكنة لا يحكمها التغيير المتسارع، لذا تكون هذه القطوعات التاريخية بلا تاريخ، او بتعبير ادق خارج التحقيب التاريخي الذي بدأ مع اختراع الانسان الكتابة.

وتاكيدا لهذا المعنى من جانب آخر يذهب (برنانوس) الى ان الانسانية مجردة من اساطيرها ودياناتها، ومستسلمة الى لغة العلم والقوة، انما هي مهددة بالموت بردا، وقد اختفت الميثالوجيا عندما تم اخضاع هذه القوى بالواقع.

الجدل والوجود غير الموجود:

يميّز سارتر بين نوعين من الجدل التاريخي، الاول ويطلق عليه(الجدل الحقيقي) وهو الذي يعتبره خاصّية المجتمعات التي لها تاريخ انثروبولوجي مدوّن، والثاني يطلق عليه (الجدل التكراري) القصير الأجل وهوما تختّص به المجتمعات البدائية التي لا تاريخ لها كما اوضحناه في عبارات سابقة. (1) تاريخ الشعوب يؤرخ بمعرفة الانسان للتدوين.

كما أن سارتر يقارن بين الاثنولوجي، والمؤرخ في فهمهما جدل التاريخ: (اذ يرى الاثنولوجي – اي المؤمن بالتاريخ البدائي- في التاريخ حركة تعرقل الخطوط – يقصد المسارات الحركية التطورية للتاريخ – في حين يجدها المؤرخ في دوام واستمرار البناءات) (2) اللاشعورية والشعورية المستنبطة من دراسة التاريخ بمنهج تأملي واحيانا في تجميع احصائي ميداني يفيد في تعميم خلاصة نتائج الجزء على الكل والخاص على العام وبالعكس.

ويطرح سارتر من خلال الجدل التاريخي اشكالية فلسفية معقّدة، هي الذات الانسانية والوجود الفردي للانسان منطلقا من (ان حقيقة الانسان تكمن في انه الموجود الوحيد الذي يسأل عن وجوده باستمرار، أوهو الموجود المتحقق براكسيا. )(3)أي بالفعل الميداني المنتج.

بمعنى أن الانسان يتساءل عن وجوده المقلق مرّة باعتباره موجودا كمعطى طبيعي انثروبولوجي - بيولوجي، وكينونة انسانية تاريخية متفردّة نوعيا، والتي تكون تساؤلاته الدائمية قرين وجوده المادي البيولوجي المفارق، ومرّة اخرى يكون الانسان هو الموجود المتحقق براكسيا (بالفعل والعمل) كناتج وجوده في الطبيعة وفي تناقضاته الوجودية الدائمة المستمرة مع وعيه لذاته ومع الاشياء والمحيط.

أن هذا السبق الجدلي يعود لصاحبه هيراقليطس الأب الروحي للجدل والتغييرفي مقولته: انك لا تعبر النهر مرّتين، وعبارته الجدلية (ان الوجود واللاوجود شيء واحد موجود وغير موجود) وكما هو مثبّت في تاريخ الفلسفة أعتمد هيجل كثيرا على آراء ومقولات هيراقليطس التغييرية المتحركة، هريقليطس له الفضل والاسبقية الاولى في ان كل شيء بالوجود في حال حركة دائمية مستمرة، وهو المحرك الاول في اختراع هيجل الجدل او الديالكتيك المادي، ومنها هذه العبارة التي مرّت بنا سنوضحها وقد وضّحها هيجل بقوله (ان حركة الشيء تفصح عن ان الشيء موجود وغير موجود ايضا، ) اي ان هيجل يقصد طالما ان (الحركة) تحكم كل شيء موجود، فيصبح حينها وجود الشيء متحركا لا يختلف عن وجوده ثابتا، فهو ثابت ومتحرك في نفس الوقت، لذا هو موجود وغير موجود في محكومية الحركة المستمر له، والحركة تجعل من الموجود (الثابت) غير موجود في وقت واحد او بتعبير اوضح في(آنية) واحدة.

نلاحظ بالعودة الى سارتر انه يعبّر عن رؤى فلسفية ماركسية لم يستطع الخلاص منها لازمته في مرجعية تداعيات فكرية لم يستطع الخلاص من تاثيرها عليه، بأن الوجود الانساني يتحقق بالفعل الانساني(براكسيس) الذي يفارق به حياة الحيوان، كما نجد نفس هذه المداهنة مع الماركسية لدى ليفي شتراوس الاب الروحي للبنيوية قوله (ان للتاريخ والانثروبولوجيا موضوعا واحدا فقط مشتركا، هو الحياة الاجتماعية وان هدفهما الواحد فهم الانسان بشكل افضل واحسن). (4)  معظم فلاسفة الوجودية والبنيوية وغيرها من تيارات فلسفية كانوا جميعهم ماركسيين وشيوعيين لذا نجد صعوبة خلاصهم من خلفياتهم الفكرية التي لازمتهم لاشعوريا .

أن المنهج الجدلي الصارم (انما يفترض احلال المقولات التاريخية، محل المقولات المنطقية وبدلا عنها) (5) بمعنى ان دراسة الانسان تاريخيا في صيرورته المتغيّرة على الدوام، اي في واقعه، العملي والاجتماعي العيني هو ما تؤكد عليه الماركسية، بدلا من دراسة الانسان تاريخيا (صوريا تجريديا وظاهراتيا) في مقولات فلسفية منطقية يجري تداولها على مستوى الفلسفة وعلوم المعرفة.

أي أن تلك المفاهيم المثالية هي التي تقوم عليها ادبيات الفلسفتين الوجودية والبنيوية والتفكيكية والعدمية، في التسليم ان الفكر التأملي التجريدي هو الذي يخلق للانسان تواريخه (مراحل التاريخ) على مدى العصور، التي تنعدم معها الصلة بالانسان كواقع عيني وجودي حيوي متغيّر ومتطّور غير ساكن. اي ان الانسان لا يصنع تاريخه بنفسه نتيجة حراكه الدائم طبقيا اجتماعيا. وهي منطلقات فكرية مغرقة في مثاليتها الى أبعد الحدود. فليس هناك تاريخ انساني لا يصنعه الانسان.

من هنا نرى أهمية عبارة دي لاكروا (ان عصرنا يشهد نهاية المنهج المنطقي في تفسير التاريخ). ليس بتأثير العلم وانجازاته العظيمة فحسب، وانما بأتجاه تأكيد أهمية تغيير الوجود الانساني نحو الافضل على صعيدي المعرفة والفلسفة على السواء. أي ( نهاية الجهد الانساني الذي يحاول الامساك بالعلاقات الثابتة بين افكار محضة تخرج عن الصيرورة التاريخية للفرد والانسانية) (6).

واذا كان المنهج المنطقي الوضعي يفترض أمكانية معرفة الانسان والعالم من الخارج، فأن منهج الديالكتيك يكتشف النفس الانسانية وهي تعي ذاتها تدريجيا او عندما تخلق ذاتها من خلال تناقضاتها وايجاد حلول ومخارج منها لتطوير ذاتها. (7)

أنه مع الاقرار بالاختلاف أن الانسان لا يمتلك طبيعة واحدة بيولوجية، فيزياوية، نفسية لا تختلف وغير متغيّرة او شبه ثابتة، أو طبيعة مشتركة ثابتة لا تتغيّر مع غيرها من نوعها على مّر العصور، نجد البنيوية وقعت في مطب يحسب عليها لا لها، عندما حاولت تأسيس انثروبولوجيا نسقية معرفية تصورية استنباطية، في محاولتها الغاء الجدل المادي التاريخي، وشطب الغائية الحتمية في تطورية التاريخ مراحليا حسب التفاوت الطبقي المتصارع على الدوام في رغبته تحقيق مصالحه الطبقية كما تذهب له الماركسية، سواء في النظر الى دراسة المجموعات البشرية المتعددة من خلال التزامن البنيوي وليس التحقيب التاريخي الذي تعتمده الماركسية، أي أن البنيوية درست مراحل تاريخية لعيّنات قبائلية واقوام بدائية كقطوعات تاريخية ساكنة، وليس من منطلقات التحقيب التاريخي الماركسي والحضاري للصيرورة التاريخية المراحلية المتغيّرة على الدوام في تظافر عوامل عدة تكون سببا في احداث تلك التطورات التصاعدية في التاريخ.

وعلى الرغم من الاختلاف في الطبيعة الانسانية بين الجماعات البدائية من جهة، وبين المجتمعات المعاصرة من جهة اخرى فانه (من الممكن – حسب البنيويون – ان يقوم هناك اتصال حقيقي، وتفاهم ايضا متبادل بين الفريقين المتمايزين. )(8) والمقصود بالتبادل والتفاهم هنا هو ايجاد استنباطات دراسية مستخلصة وفلسفة بناءات تجمع القضايا التي كانت تهم الجماعات البدائية مع المجتمعات المعاصرة من حيث ان البنيوية تذهب الى ان المشاكل والقضايا التي كانت تشغل الانسان قديما وحاضرا هي قضايا مشتركة تقريبا، ولا توجد فروقات جوهرية كبيرة بينها. ومن هذا الفهم والتبادل المقصود بين عدم وجود طبيعة انسانية واحدة ثابتة غير متطورة، وبين الاتصال الممكن الدائم بين شعوب وجماعات الجنس البشري، أعادت انثروبولوجيا البنيوية بصورة متجددة مسألة ايديولوجيا الوجود في تفسير تاريخ الجماعات والاقوام، لكن ليس بالاقتراب من الفهم الايديولوجي الماركسي الذي جرى نبذه وتحريم الأخذ به في الفلسفتين الوجودية والبنيوية.

ولما كانت نقطة الضعف في الفلسفة الوجودية، هي الانطلاق من مسلمة (امتناع التواصل بين الذوات) الانسانية المنفردة، نجد سارتر يستنجد بايديولوجيا الوجود ايضا للخروج من مازقه الوجودي ان الانسان وجود لذاته بدلا من وجوده بذاته الذي اعتمده ولم يستطع تحققه.

نماذج من التلفيق الساذج:

في ندوة للأحتفاء والترويج لأفكار التوسير المعادية للجدل الماركسي اثبّت هنا نموذجين من الابتذال الفكري احدهما لكاتب اسمه علي الرحال في جلسة من اعمال ندوة أقامتها مؤسسة مؤمنون بلا حدود تاريخ 16/5/2016 يقول فيها (يفهم التوسير الجدل على صعيد الايديولوجيا انها بنية جوهرية ومجموعة من الصور والتمثّلات التي تلقي الضوء على المعاناة الانسانية في الواقع المعيشي – ولا يلبث ان يناقض نفسه اي الكاتب مكمّلا على لسان التوسير – وان الايديولوجيا مجرد تصورات فكرية عن عوالم وهمية، رافضا وبشدة مقولة ماركس في وجوب ربط الايديولوجيا بالوعي).

قبل التعليق على ماورد على لسان المنتقد علي الرحال أنتقل الى نفس الكلام في ادانة الماركسية وفي نفس الندوة بعنوان:التوسير.. اعادة قراءة الماركسية بعيون بنيوية، للكاتبة نزهة صادق تقول (دعت البنيوية الماركسيين الى اعادة قراءة الماركسية بعيون بنيوية، وانكار مبدأ الحتمية، وعدم اعتبار العامل الاقتصادي اساس الحركة التاريخية، والاعتراف بدور الدين والثقافة والفكر بحركة التاريخ)

وفي نفس الندوة شارك آخر ثالث بما أطلق على موضوعه (كوميديا الماركسية) التي تسبب له الماركسية السخرية والكآبة !!، ولم أجد في كل ماذكره جملة واحدة او عبارة تستحق الوقوف عندها.

أصحاب هذه الافكار من حقهم التعبير بما يعتقدونه صوابا بالنسبة لهم فقط ولا يلزم ما يعتقدونه غيرهم الوقوف عنده الا من باب أن لا يمّر التشويه الفكري في تحميل الماركسية ما لم تقله وليس بها، وتعليقي ليس دفاعا عن الماركسية الغنيّة عن الدفاع عن منطلقاتها الفلسفية التي لا يدحضها تقادم الزمن بسهولة، ليس لأنها معصومة من الخطأ، ولكن لأن دعاة الطعن بها ومريديهم من المثقفين يبنون تصوراتهم المخطوءة من منطلق الدفاع عن افكار فلسفية مثالية تجريدية غير علمية وهو مايناقض الماركسية ولا يدينها.، يقّر اصحاب تلك الافكار المثالية غير الواقعية بالعجز امام الكثير من الافكار الماركسية المادية التي تؤيد سلامتها مسيرة العلم وتقدم الحياة.

ففي مقابلة مع باحثة متخصصة بافكار التوسيرلا يحضرني اسمها من امريكا اللاتينية(المكسيك) سألت الباحثة التوسير من ضمن اسئلة عديدة، هو انك متهم نتيجة نقدك الماركسية، انك انتجت مجموعة من الخيالات الوهمية والافكار التجريدية التي لا رصيد حقيقي لها تاريخيا، أمام المنهج العلمي ألذي تتمتع بها الماركسية، وكان جوابه المحرج وهو كذلك وليس عندي ما أرد به لتفنيد هذا الادعاء!! اي أنّه بدأ يعي او لايعي، هل أن ماجاء به كان صوابا مقنعا لغيره أم كانت هذاءات فلسفية لا يجمعها رابط تحليلي علمي منهجي يعتّد الأخذ به في ادانة الفكر الماركسي. وبحسب نقاد التوسير فهو اراد تقديم ماركسية بدون ماركس، ومادية تاريخية بدون تاريخ.

أجد من السذاجة الفكرية ان نقّر ان ماركس اعتبر العامل الاقتصادي والاجتماعي المرتبط به، هو العامل الاساس الوحيد الذي تقوم عليه الماركسية في التطورالجدلي المادي للتاريخ في كتاب راس المال، وقد اكّد انجلز ذلك، وأنما أعتبر التناقض والتفاوت الطبقي يتصّدر أولوية عوامل الحراك مع غيره من عوامل في تحقق جدل التغييرالتاريخي، وان الدين والثقافة والفنون(بنى فوقية) لكل واحدة منها دورا تاثيريا متبادلا، ويرتبط بعلاقات جدلية لا يمكن اغفالها مع البنية الاقتصادية والاجتماعية (البنية التحتية)، وهذه البنى الفوقية الثقافة والدين والفنون مفروزة عنها لكنها لا تعدم التاثير والتاثر بها ومعها في احداث جدل التغيرات التاريخية.

ومن نافل القول ان نقول في هذا المجال وان لم يكن هو موضوع دراستنا هذه، بأن الاديان منذ بدء الخليقة والى يومنا هذا لم تلعب دورا تقدمّيا في حياة البشرية حتى نعتبر الدين عامل مهم في دراستنا التطور التاريخي، ونحمّل الماركسية مسؤولية أغماط او مصادرة دورالدين في المقولة المنسوبة لماركس (الدين افيون الشعوب) .

من الصحيح أن الدين أكل من تاريخ البشرية آلافا من السنين لكنه لم يكن بالضرورة عامل تقدم ايجابي في التقدم التاريخي الانساني على المستويات، العلم، التاريخ، والحضارة، بل كانت الاديان والى يومنا هذا عامل حراك في استثارتها لنوازع التقدم المتقاطعة معها من عوامل تحريك التاريخ حضاريا. وأن التقدم التاريخي والحضاري الذي حصل هو من نتاج منجزات العلوم حصريا ولم يكن للاديان اي اسهام به يذكر.

الحتمية التاريخية الماركسية ومابعد الحداثة:

كذلك مسألة الحتمية التاريخية التي تعتمدها الماركسية في المادية التاريخية، وهي مسألة تحتمل النقاش المستفيض، الا انه من المؤكد لا البنيوية ولا الوجودية ولا غيرهما من فلسفات حديثة، أعطت دحضا بديلا منهجيا علميا مقنعا يمكن الأخذ به في اعتبار الحتمية التاريخية التي جاءت بها الماركسية عفا عليها الزمن وأصبحت من مخلفّات الايديولوجيا. فلا تزال ساحة الفلسفة والفكر والمعرفة خالية من نظرية تاريخية تلغي وتبطل النظرية المادية التاريخية علميا وفلسفيا. وبهذا الصدد اشارت الباحثة الامريكية (كميل باليا) بان البنيوية في حجاجها الماركسية أثبتت انها فاقدة الصلابة الفكرية الفلسفية امامها.

وأن من المهم جدا الاشارة له أن الحتمية في التقدم التاريخي لم تكن حكرا على الماركسية فقط، بل أن فلسفات الحداثة وما بعد الحداثة، التي تعارض الوجودية والبنيوية على السواء في منطلقاتها الفكرية، فهي تلتقي مع الماركسية حول الحتمية التقدمية للتاريخ، طبعا من منطلقات لا تعترف بأهمية الجدل في المادية التاريخية حسب التنظير الماركسي التقليدي لها، في تحريك التاريخ نحو الامام.

وتذهب هذه المنطلقات الفلسفية ما بعد الحداثية من واقعة أن الانسان بطبيعته مسكون بتغيير حياته ونشدان تحقيقه الأفضل على الدوام، وبحسب (جيدنجز)، وهو من فلاسفة الحداثة صاحب النظرية الخطيّة العلمية في التطور التاريخي يذهب(أن التاريخ الانساني يصعد من مرحلة الى أخرى صعودا غائيا ارتقائيا دائميا)9 وهي نظرية الحداثة في تطور التاريخ. واضح ان مابعد الحداثة تذهب الى التطور الغائي للتاريخ بفعل ما يشبه (الروح المطلق ) الذي دعا له هيجل مثاليا، ومأخذ الحداثة على التطور الماركسي للتاريخ هو من مصدر الأدانة الايديولوجية الماركسية في تفسير التطور الغائي من منطلقات ثورية طبقية في مسار التغيير التاريخي.

أن نقد تيارات الحداثة وما بعد الحداثة التي تدين التطور الغائي المتصاعد للتاريخ، كما دعت له الماركسية من منطلق الادانة الايديولوجية للتفسير الغائي، وليس الفلسفي حصرا كما تفهمه وتدعو له فلسفات ما بعد الحداثة، وأبلغ تعبير عن ذلك يأتينا من ( يورغين هابرماس) أبرز فلاسفة الحداثة المعاصرين قوله وبنبرة قاطعة (ان أنساق التفكير الكبرى – السرديات الكبرى – قد سقطت ولم يعد لها وجود )10، الحداثة وما بعد الحداثة لا تخفي رفضها وتشكيكها بالتاريخ (الرسمي) المعاصر القائم على اختلاف (الايديولوجيا) الذي كانت تتوزعه ثلاثة اقطاب ايديولوجية، أيديولوجيا الفكر الشيوعي، وايديولوجيا الفكر الرأسمالي، وفكر أوايديولوجيات العالم الثالث بمختلف تنوعاتها الهجينة التلفيقية. هذا هو مجمل الايديولوجيات المؤثرة سابقا والى اليوم في ترسيم التاريخ البشري والحضاري للانسانية.

واضح أن هابرماس يقصد الانساق الكبرى هي سرديات الايديولوجيا التي تتصدرها ايديولوجيا الماركسية. (التي لها حجج تنبؤية بالمستقبل وسقطت سقوط الانساق الفكرية المغلقة، والدعوة موجهة اليوم الى انساق فكرية مفتوحة تتلاقى فيها الافكار المتباينة المختلفة). 11وهذا تأكيد أدانة صريحة هدفها الاساس النيل اكثر من (الايديولوجيا) الماركسية. الا ان ما يحسب لهابرماس في دعوته فتح قنوات التواصل امام الجميع تحمل الكثيرالمطلوب مما يحتاجه العصر والحضارة العالمية.

لكن أدانة التطور الغائي حداثيا لم يسلم هو الآخر من نقودات لاذعة خارج مدارات التفلسف والايديولوجيا، في ( أعتبار أن حكاية التاريخ الصاعد في المجتمعات المختلفة كلام باطل، والا لماذا ظهرت الفاشية والنازية لو أن المسألة تتعلق بالارتقاء الصاعد كما يزعم انصار الحداثة، فالحقيقة ان التاريخ ليس صاعدا على الدوام بل قد يرتد ويتراجع ومن ثم يتقدم، ونظرية التقدم التاريخي المطلق قول لا اساس له من الصحة)12.

وهذه الانتقادات اللاذعة هنا تدين الارتقاء الايديولوجي للتاريخ وحصرا ايديولوجيا الماركسية، بنفس وقت ادانتها للارتقاء التاريخي (الفوضوي) الذي تنادي به الحداثة وما بعد الحداثة. علما ان البنيوية لا تؤمن أصلا بوجود تاريخ كانت لارادة الانسان دورا في تشكيله وانبثاقه. وبذا تبقى الغائية او الحتمية التاريخية تدور في دائرة مغلقة لا يعرف أمدها ولا مبتغاها يوصل الى اين.

***

علي محمد اليوسف

.............................

الهوامش

1. عبد الوهاب جعفر/ البنيوية في الانثروبولوجيا وموقف سارتر/ص204

2. المصر السابق نفسه ص 199

3. المصر السابق ص 211

4. المصدر السابق ص 216

5. المصدر السابق ص 222

6. المصدر السابق ص 225

7. المصدر السابق ص 231

8. المصر السابق ص 237

9. ا. سيد ياسين، نقلا عن ندوة فكرية، الحداثة وما بعد الحداثة، ص 19

10. نفس المصدر السابق ص 20

11. نفس المصدر ص 20

12. نفس المصدر ص21

يمكن القول ان مفهوم الحكمة لا يتناسب بشكل مريح مع مجتمع المساواة المضاد للنخبوية. في عصر تهيمن عليه المادية والاستهلاكية والعلم والتكنلوجيا، والتخصص وتقسيم العمل، سيكون المفهوم فضفاضا جدا وكبيرا جدا وشديد الغموض. حينما تكون رؤوسنا معلقة في التلفونات الذكية والاجهزة اللوحية، ومنشغلين بالفواتير والكشوفات البنكية، سوف لن يكون لدينا وقت او مساحة ذهنية لمفهوم الحكمة وحتى للفكرة. لكن الاشياء لم تكن دائما بهذه الصورة. ان كلمة "حكمة" ظهرت 222 مرة في العهد القديم، الذي يتضمن جميع كتب الحكمة السبعة: ايوب، المزامير، الأمثال، الجامعة، نشيد الانشاد، كتاب الحكمة، وسفر سيراخ.

هنا بعض ما ورد في سفر الجامعة (الواعظ) Ecclesiastes 7:12:

فالحكمة هي دفاع، والنقود دفاع: لكن الحكمة كأعلى شكل للمعرفة تحفظ حياة منْ يمتلكها(1).

 ان كلمة "فلسفة" تعني حرفيا "حب الحكمة"، والحكمة هي الهدف الشامل للفلسفة، او على الاقل، الفلسفة القديمة.

في حوار ليسز لافلاطون، يخبر سقراط الشاب ليسز بانه بدون الحكمة سيكون بلا قيمة لأي شخص آخر: ولذلك، ايها الولد، اذا كنت حكيما، كل الناس سيكونون اصدقائك وعشيرتك، لأنك ستكون مفيدا وجيدا، لكن اذا لم تكن حكيما، سوف لن يحبك ابوك او امك ولا عشيرتك او أي شخص آخر.

الراعية إلهة اثينا، مدينة ليسز، هي إلهة الحكمة، التي تنبثق من جمجمة زيوس. رمزيتها، ورمزية الحكمة، هي البوم، الطير الجارح الذي يشق طريقه اثناء الظلام.

في الحقيقة ان "الحكمة" تُشتق من أصل هندو- اوربي بدائي، "يرى". في الاساطير الاسكندنافية، قام اودين بقلع احدى عينيه وقدمها الى ميمير مقابل شراب من المعرفة او الحكمة الجيدة، رمزيا يعني استبدال نمط من الإدراك بنمط آخر أعلى منه.

الحكمة كمعرفة

لكن ما هي بالضبط الحكمة؟ الناس غالبا ما يتحدثون عن "المعرفة" و "الحكمة" كما لو انهما شيئا واحدا. هناك احدى الفرضيات بان الحكمة معرفة، او كمية كبيرة من المعرفة. اذا كانت الحكمة معرفة، عندئذ يجب ان تكون نوعا معينا من المعرفة، كما في تعليم سجل التلفون او أسماء جميع الانهار في العالم، ربما تُعد حكمة. واذا كانت الحكمة نوعا معينا من المعرفة، عندئذ هي ليست معرفة علمية او تقنية، وسيكون كل شخص معاصر أكثر حكمة من الفلاسفة القدماء. سيكون أي شاب تارك للدراسة في القرن الواحد والعشرين أكثر حكمة من سينيكا او سقراط.

لنتذكّر: ان معبد الالهة أعلن ان سقراط هو اكثر الناس حكمة ليس لأنه عرف كل شيء وانما لأنه عرف مدى ما لايعرف.

لايزال، يبدو ان الحكمة اكثر من "المعرفة السلبية"، او بدلا من ذلك انا ربما اكون مشكك للغاية حول كل شيء ومع ذلك اعتبر نفسي حكيما به. او ان الحكمة تعتمد على امتلاك معايير ابستمية عالية، امتلاك معيار عالي للاعتقاد بشيء ما، وحتى معيار عالي لتسمية تلك العقيدة معرفة.

الحكمة كرأي صحيح

في حوار مينو لافلاطون، يلاحظ سقراط ان الناس ذوي الحكمة والفضيلة يبدون فقيرين جدا في نقل تلك الخصائص. ثيموستوكلس كان قادرا على تعليم ابنه كليفانتوس مهارات مثل الوقوق منتصبا على ظهر الحصان ورمي الرماح، لكن لم ينسب احد قط الى هذا المسكين أي شيء من حكمة والده، ونفس الشيء يقال عن ليسيماخوس وابنه ارستيدس، وبيركليس واولاده. اذا لم يكن بالامكان تعلّم الحكمة، حتى بواسطة احكم شعب أثينا، عندئذ هي ليست نوعا من المعرفة.

يسأل مينو، اذا كانت الحكمة لا تُعلّم هل ظهر اناس طيبون في أي وقت مضى؟ يجيب سقراط بان الفعل الصحيح ممكن تحت اشراف من هو ليس صاحب معرفة: الفرد الذي لديه معرفة بالطريق الى لاريسا (مدينة في ثساليا) ربما يعطي ارشادا جيدا، لكن الفرد الذي لديه فقط الرأي الصائب حول الطريق، ولم يكن يعرف عنه ابدا، ربما يعطي وبنفس المقدار ارشادا جيدا. طالما لايمكن تعليم الحكمة، فهي لا يمكن ان تكون معرفة، واذا لم تكن معرفة، فهي تكون فقط رأي صحيح – هذا يوضح لماذا لم يتمكن حكماء مثل ثيمستوكلس و ليساماتس و بيركلس من نقل حكمتهم حتى الى اولادهم . الناس الحكماء لايختلفون عن العرافون والانبياء والشعراء الذين يقولون العديد من الاشياء الصحيحة عندما يستلهمون دينيا لكن لا معرفة واقعية لديهم بما يقولون.

الحكمة كفهم للأسباب

ارسطو يعطي فكرة اخرى في الميتافيزيقا عندما يقول ان الحكمة هي فهم الأسباب. لا واحدة من الحواس الخمس تُعتبر حكمة لأنها رغم انها تعطي معرفة حسية موثوقة، لكنها غير قادرة على تمييز الاسباب البعيدة لأي شيء.

ونفس الشيء، نحن نفترض الفنانين اكثر حكمة من الحرفيين لأن الفنانين يعرفون سبب الشيء، ولهذا يمكنهم التعليم، بينما الحرفيين لا يستطيعون ذلك. بكلمة اخرى، الحكمة هي فهم العلاقات الصحيحة بين الاشياء التي تستدعي مزيد من المنظورات البعيدة المُزاحة، وربما ايضا القدرة او الرغبة للانتقال بين المنظورات.

في نزاعات توسكولان، يقتبس شيشرون نموذج حكمة لفيلسوف ما قبل سقراط اناكساجوراس الذي حين اُبلغ بوفاة ابنه قال، "كنت أعلم اني سأموت". بالنسبة لشيشرون، الحكمة الحقيقية تعتمد على إعداد المرء نفسه لكل الاحتمالات لكي لا يندهش او يؤخذ على حين غرة. ومن الصحيح ان الحكمة، التي هي فهم الاسباب والارتباطات، ارتبطت الى الابد بكل من الفهم العميق والاستشراف.

طريقة للرؤية

باختصار، الحكمة ليست نوعا من المعرفة بنفس المقدار الذي تكون فيه كطريقة للرؤية. عندما نتخذ خطوات للوراء، مثل عندما نستحم او نذهب في إجازة، نحن نبدأ في رؤية الصورة الأكبر. في اللغة المشتركة، "الحكمة" لها مضادان: "السخافة" و "الحمق"، واللذان كلاهما مشتقان من الكلمة اللاتينية follies، وتستلزم على التوالي، النقص وفقدان المنظور.

في غرس منظور اوسع، من المفيد، بالطبع، ان يكون قابل للمعرفة، ولكن ايضا من المفيد ان يكون ممكن التفكير فيه، مفتوح الذهن، وغير متحيز – ولهذا يبحث الناس دائما عن نصيحة "مستقلة".

فوق كل ذلك، من المفيد ان يكون المنظور شجاعا لأن النظرة من الأعلى، مع انها قد تكون مبهجة، وبالنهاية محررة، لكنها قبل ذلك هي مخيفة ... لأنها تصارع مع الكثير مما تعلّمنا الاعتقاد فيه. الشجاعة، طبقا لارسطو، هي اول الصفات الانسانية لأنها هي التي تتوقف عليها كل الصفات الاخرى.

Psychology Today, May23, 2025

***

حاتم حميد محسن

.......................

الهوامش

(1) في تفسير للعبارة هي انها تسلط الضوء على الفوائد المتفوقة للحكمة على مجرد المعرفة. انها تعني ان الحكمة الحقيقية ليست فقط في تراكم المعلومات وانما في ما يمكّن الفرد في النهاية من عيش حياة هادفة ذات معنى ومنجزة.

 

المدخل: غالبا ما تعتبر الأسطورة باللبنة الأولى للفكر الإنساني، لكنها تزخر بالخصوبة رغم بساطتها وبرائتها الجذابة. ولكونها ولیدة التماس مع الواقع والطبیعة، فانها تعكس خفایا الشعور واللاشعور معا. لذا یقتات الأنسان علی مر العصر منها معاني ودلالات حول ما كان، وما هو كائن وما یكون.  فالسردیات الأسطوریة لیست ولیدة الماضي، بل ان الدول والنزعات الطائفیة والعرقیة والأیدولوجیة، او ماتسمی بنظریة المؤامرة تستند الی اساطیر وسردیات مفبركة.

لذا، اعتقد 'كاسیرر' في كتابه ' مقال عن الإنسان: مقدمة لفلسفة الثقافة الإنسانية '، بأن ' العالم الأسطوري يبدو عالمًا مصطنعًا، ذريعةً لشيء آخر'. ویقتبس رأي 'مالينوفسكي' بأن "كل أسطورة تمتلك كنواة أو حقيقة نهائية بعض الظواهر الطبيعية أو غيرها، منسوجة بشكل متقن في حكاية إلى حد يكاد أحيانًا يخفيها ويمحوها". أو كما یری 'فریزر' بأن "للأسطورة وجهان. فمن جهة، تُظهر لنا بنية مفاهيمية، ومن جهة أخرى، بنية إدراكية". 

كذلك، تُعدّ الأسطورة والدين من بين جميع ظواهر الثقافة الإنسانية، أكثر عصيانًا على التحليل المنطقي المحض...إن كان هناك ما يميز الأسطورة، فهو كونها "بلا نسق ولا منطق". مع ذلك، یر كاسیرر أنه "لا توجد ظاهرة طبيعية ولا ظاهرة من ظواهر الحياة البشرية لا يمكن تفسيرها بشكل أسطوري ولا تستدعي مثل هذا التفسير".

I- المشهد المرعب للكون

عندما جابە الانسان الأحداث والتغیرات البیئیة والتحولات الطبیعیة والكونیة/ السمائیة، حاول الإحاطة بها وفهمها ضمن نسق فكري عالي بسیط. وذلك من خلال ربط النتائج بما تخیل لە كأسباب موضوعیة أو ذاتیة.

فالقلق الذي اغمر الانسان البدائي جراء الوصول الی اجوبة مقنعة وملموسة، أرغمه علی التفكر والتفلسف. لأن الدافع الذاتي للبحث عن الاجوبة ومعرفة مصیره في الحیاة وتحدید اسباب الموت والتباین بین الوجود والعدم، دفعە نحو تفسیر اسطوري وسردي لمجریات الامور. 

ومن هنا، توجد علاقة متینة بین الاسطورة والفلسفة. فبنیة العلاقة، تتشكل في السؤال الوجودي للانسان البدائي ان صح التعبیر، حول الكون، الحیاة والموت، والخلود والسعادة والخ. لذا، اعتقد (باول رادین) بان الانسان البدائي بمثابة فیلسوف1.

فإذا أمعنا النظر في 'الكون' كمسرحا للاحداث، تبدو كمشهدا مرعبا لجریانات الطبیعیة وتحولاتها المستمرة. لذا فمنذ القدم، استقرت الظواهر في الفكر البشري وارغم هواجسە علی التعاطي مع الأمور وفهمه.

ولما كان الفهم محدودا، كان الخیال ثریا ومتجاوزا. لذا كان مستوی الوعي في فهم العلل والاسباب وراء الاحداث والتغیرات بدائیا، اناط الامر بالخیال السردي. ولأن الحاجة الماسة الی اجوبة مقنعة، كانت الهاجس المهیمن، صاحب الخیال القلق أيضا.

والاجوبة المكتسبة، كانت إما ملموسة وعینیة أو مجردة وعمومیة. فصعب علی العقل فهم الاجوبة المجردة اللاعینیة بدون تجسیدها علی هیئة حیوانات أو كائنات فائق القدرة وخارقة للطبیعة. فلذلك وجدت للأجوبة موطنا في الخیال وفي التفسیر الأسطوري سبیلا.

لكن العقل/التفكیر الذي سلك الطریق الملموس والأسلوب المیكانیكي- ان صح التعبیر-، ارغم الانسان علی التفلسف. لكون الفلسفة آلیة واعیة لمجابهة التغیر وفهما جذریا. لذا ادی الفهم الفلسفي الی التفلسف، اما الخیال الی التدین في شتی انواعه. لكن قوة التخیل للانسان البدائي، للقوی الماورائیة سعی الی تجسیدها في هیئات مرئیة 'طوطمیة'.

II- خصائص ووظائف الفكر الاسطوري:

لقد اعتبر 'اوغست كونت' الفكر الاسطوري أولی ارهاصات الفكر لانساني. لكن، اذا نظرنا الیها من خلال 'العودة الأبدیة' للأسطورة حتی في المجتعات المعاصرة، یمكننا إضافة ادوار للإسطورة في الحیاة.

علی الرغم من ان الباحث المشهور 'جوزیف كامبل' لخص دور الأسطورة في أربعة أمور: الوظيفة الصوفية- الميتافيزيقية- تلهم الفرد شعورا بالرهبة والامتنان تجاه غموض الكون. الوظيفة الكونية، تقدم صورة للكون من خلال ربط المعرفة المحلية والتجربة الفردية. الوظيفة الاجتماعية، تثبت معايير المجتمع وتدعمها وتطبعها في الفرد. وأخیرا، الوظيفة النفسية-التربوية- ترشد الفرد خلال مراحل حياته، ضمن سياق تلك الثقافة المجتمعیة. (كامبل قوة الاسطورة ٥٦).

لكننا، نضیف وظائف أخری لها:

- الوظیفة التعلیلیة، أو التعبیریة؛ تكمن في ارجاع الاحداث والتغیرات الی علة ما.

- الوظیفة الابداعیة التخیلیة: الخیال والتخیل لتجاوز حدود الواقع الملموس والطبیعي للحیاة.

- الوظیفة الترانسندتالیة؛ تجاوز لما هو واقع وكائن.

- الوظیفة الأونتولوجیة: لماذا الوجود وماهو، ومن اوجده.

- الوظیفة السردیة: تأریخ الاصول والازمنة عبر السرد اللازمني.

- الوظیفة الرمزیة؛ ترمز الی معضلات الحیاة كالبٶس، الموت، الجوع والخ...

- الوظیفة السلطویة؛ تبریر سلطة جماعة، أو ملك وسن القوانین الاخلاقیة باسمه.

- الوظیفة التذكیریة؛ التذكیر بأمور ومأل الاحداث او بمثابة الذاكرة الجمعية.

- الوظیفة السایكولوجیة: تجسید للخوف، القلق، العدم والحزن والأسی. او تعبیرا للفرح والمباهج وانبعاث الدهشة كرد فعل داخلي للانسان تجاه الخارج.

- الوظیفة الثقافیة: كیفیة التعاطي مع الآخر وتحدید هویة الغیریة (الامم والثقافات) والتي تطفو بین حین وآخر علی مسرح الاحداث المتمثلة  في الحركات الشعبویة، الیمینة والدینیة المتطرفة.

- الوظیفة التفسیریة: مثلا فسر افلاطون حرب طروادة بالتفسیر المیتافیزیكي واخلاقي، لكي یوظفها في افكاره الفلسفیة أو كأسطورة الكهف والخ...

III- الفرق بین الیونان والشرق

الخلاص والنجاة من 'الدنیوي' من خلال التأویلات الاسطوریة لما یأتي مستقبلا، تخیل الآخرة تظهر في كافة الآساطیر تقریبا. لكن الیونان مثلا، لم یعتقدوا حرفیا بتلك الاساطیر كما یقول المفكر الفرنسي (بول فاین). بل تعاطوا معها كمنبع للذة والتمتع.

أما الأساطیر في الشرق فقد استخدم كالعلم والفن، ولكن لأغراض میتافیزیكیة، أخروية. أي  لمطلب عملي، هو الخلاص ولأجل الوصول الی الاخرة، الحیاة الأبدیة مابعد الموت. في حین استخدمه الیونان لمطلب علمي ونظري بذاته .

لانبالغ اذا قلنا ان العقل الیوناني، رغب في الاسطورة بدافع التلذذ والمتعة والخیال في السردیات الاسطوریة. لأنها رأت فیها القوة التولیدیة المحركة للخیال والسرد وتجسیدا للعوالم الخفیة بلغة الرموز والاشارات. التخیل كمفاعل التمثیل والمحاكاة لعلاقة الانسان بالعالم والطبیعة.

فالأسطورة الیونانیة علی الرغم من انها تحتوي علی اشارات میتافیزیقیة لمعركة الآلهة، الا انها ترمز بشكل مباشر الی الانسان ولیس اله كما هو في الاساطیر الشرقیة.

فكانت غایة الأسطورة في السیاق الیوناني؛ تأسیس لعلاقة الانسان مع ذاته من خلالها، ولیس الوصول أو التوسل الی قوی خار‌قة خارج الطبیعة. وسمة أخری كتابة وتدوین الأساطیر حصل بالفعل. في حین أن النص الأسطوري في الشرق بقی شفویا متنقلا بین الشعوب.

IV- الخلاصة

الأسطورة، رحم الادیان والفلسفة والعلم والادب والفن أیضا. فانها تجسد الواقع/الطبیعة بلغة رمزیة. كما أنها اثرت في النص المسرحي والفلسفي والشعر الملحمي وحتی العلمي أیضا. كما أن النص الاسطوري عبارة عن وعاء ثمین، یقتات الفیلسوف منها وینهال من الرموز والخیالات الواسعة، لتأسیس نظریة فلسفیة.

 فالرأي القائل بأن الاسطورة مجرد نتاج اوهام وتخیلات أولیة للبشریة في المراحل البدائیة، سطحي نوع ما. فعلی الرغم من أن التطور طرأ علی الحیاة المعاصرة، تطفو الأساطیر علی السطح وتظهر خبایا حیاة الانسان.

وهذا یعود الی حقیقة بسیطة: أن الانسان كائن اسطوري ومبتكر الاسطورة أیضا. فالاساطیر لم تنزل من السماء، إنما معراج الفكر الأنساني من الارض الی ماوراء الطبیعن بأشكال مختلفة.

وعلی الرغم من ان التعبیر والترتیب الزمني للمرویات الأسطوریە، لا یشكل التأریخ الفعلي للعصور، الا انها تدل وتعكس حقیقة العقلیة والحالة النفسیة وخفایا النظم الاجتماعیة والسیاسیة والدینیة للمجتعات عبر التاریخ.

فالانسان المعاصر ابتكر العدید من الاساطیر عن الحیاة والموت، اوحی الفن والموسیقی والادب. اذن، الاسطورة موروث ثقافي وحضاري لكل المجتمعات البشریة.

***

د. نوزاد جمال

باحث واستاذ في الفلسفة الحدیثة / سلیمانیه- اقلیم كردستان العراق

.....................

1- Paul Radin: Primitive Man as Philosopher 1927

 

لا يبدو لي مازقا لا يمكننا تجاوزه والخلاص منه حينما يقول فولتير "الارادة ليست حرة اما افعالنا فهي حرة". هذا التناقض البادي منطقيا يلزمنا القول الارادة هي وعي الذات بموضوعها. والارادة ليست غفلا طارئا يحددها الموجود المدرك موضوعا وكينونة مستقلة. الارادة هي الوعي القصدي الذي يلازمه هدفه المسبق قبل التوجه الوصول لموضوع ادراكه. هذا ما قال به هوسرل في فلسفة الظواهر حول الوعي القصدي وناقشت هذا الرأي الاحتمالي القابل للدحض في غير هذا المقال..

وهذا يحيلنا الى مفارقة تناقضية اكبر من الاولى حول الارادة تلك هي اذا كان الوعي القصدي يلازمه هدفه المعرفي معه قبل ادراكه لموضوعه الخارجي المستقل عنه. فمعنى هذا ان موضوع الادراك بالنسبة للوعي هو الذي يكتسب خاصيته المعرفية الهادفة التي يتوخى الوعي القصدي أن يجدها في موضوع ادراكه ولا يحملها معه وهو خطا. اي ليس هناك حاجة لادراك موضوع لا يكتسب فيه الوعي معرفة مضافة له نتيجة ادراكه لموضوعه. الوعي جوهر عقلي لا يدرك شيئا ليس له قيمة معرفية تضيف له خبرة مكتسبة او على الاقل تخارج معرفي بين الوعي ومدركاته.. فالحواس والعقل لا يشتغلان على شيء هو موضوع يدركانه لا معنى معرفي له. الموضوع قيمة ومعطى في الطبيعة والعالم الخارجي. أي الوعي لا يخلق موضوع إدراكه بل الموضوع يخلق الوعي به. الوعي غير محايد بل هو يدخل بعلاقة تكامل معرفي مع موضوعه. ثم الموجود كموضوع ليس له حظوظ الحضور الادراكي الذي يلفت اهتمام العقل التفكير به الا اذا كان يحمل خبرة معرفية مدخرّة فيه. الموضوع المجرد عن مضمون يعيه العقل خبرة مضافة لا وجود ولا قيمة له.. ولا يمكن تحقق موجود شكل بلا محتوى.

خطأ هوسرل في الفينامينالوجيا فلسفة الظواهر هو ان الوعي القصدي يحمل هدفه الادراكي معه لينقب ويبحث عنه كي يجده في موضوعه. الوعي القصدي الحامل لهدفه لا يحتاج ادراك موضوع يتخارج معه معرفيا. لذا مقولة هوسرل الوعي القصدي يحمل هدفه الادراكي الذي يبحث عن تكامله الوجودي في الموضوعات التي يدركها خطأ. الوعي القصدي على مستوى التفكير الانفرادي المجرد هو لاثبات الوجود الانطولوجي - المعرفي كما جاء به ديكارت في الكوجيتو انا افكر... اما الوعي القصدي على صعيد الادراك التخارجي معرفيا مع موضوعات العالم الخارجي فهو ليس التفكير لاثبات الوجود الانطولوجي للفرد الذي يفكر بل هو التكامل المعرفي في وعي موضوعه. الوعي القصدي اختراع فلسفي بالضد من ديكارت حين اعتبر التفكير مجردا من التعريف بموضوع التفكير هو ضرب ناقص من الوهم. الحقيقة التي سبق لنا اثباتها ان لا وجود لفاعلية تفكيرية خالية من موضوع يحتويه التفكير.

هنا نصطدم بتساؤل إلتباسي معقد بعض الشيء هو هل الخاصية المعرفية جوهرا يدركه الوعي موجود بموضوعه أم الخاصية المعرفية موجودة بالوعي القصدي الذي يحمل هدفه معه قبل ادراكه لموضوعه كما يعبّر عنه هوسرل ويرغبه !؟ الذي بدوره أي الوعي العقلي يخلع معرفته السابقة على موضوعه المدرك. كلتا الاجابتان عن التساؤل سوف توقعنا بالخطأ. لماذا؟

بداية الوعي بالاشياء والموضوعات هو ليس الانطباعات الاولية التي تنقلها الحواس بل الوعي هو رد فعل تفكير العقل بالموجودات والمواضيع. الوعي حين يختار موضوعه فهو يمتلك خبرة عامة عن موضوعه اي تصورات قبل ادراكه لكن هذا لا يعني الوعي يمتلك هدفا متكاملا يقصده في ادراك موضوعه. فالموضوعات الغفل الصدف وما اكثرها التي يواجهها الوعي اول مرة ويتعامل معها لا تخضع للمعيار التي سبق اشرنا له. اي تكون الموضوعات مادة خام لا يعرف عنها الوعي شيئا مسبقا قبل مواجهته لها. وليس معنى ذلك ان موضوعات الصدف الغفل يمنحها الوعي القصدي معرفة مضافة. بل الوعي بالمدركات هو عملية تخارج معرفي احدهما يغني الاخر ويثريه. الوعي فعالية عقلية هي رد فعل الدماغ عن مدركاته، بمعنى الوعي يمتلك تصورات عقلية سابقة لعملية ادراك الموضوعات الحسية وليس الموضوعات الغفل موضوعات الصدف.

قبل الاجابة عن التساؤل هل معرفة الشيء تتم بالادراك الحسي ام بالوعي؟ اود تثبيت ان الوعي القصدي الذي اخترعه برينتانو واخذه عنه تلميذه هوسرل في منهج الفلسفة الظاهراتية بدعة خاطئة ابتدعوها فلاسفة الفينامينالوجيا من بينهم سارتر وهيدجر وميرلوبونتي في الرد على الكوجيتو الديكارتي انا افكر... وسبق لي مناقشة هذه البدعة في اكثر من مقال منشور لي .

بضوء ما ذكرناه الاجابة الصحيحة ستكون علاقة الوعي القصدي بموضوعه علاقة تكاملية تخارجية معرفيا وليس علاقة جدلية ديالكتيكية تقوم على قانون نفي النفي في استحداث المركب الجديد في الظاهرة المستحدثة. فوعي الموضوع لا ينفي وجوده بل يتكامل معرفيا مع الوعي الانفرادي له. بابسط تعبير علاقة الوعي بموضوعه أخذ وعطاء. العقل لا يعي ما ليس له معنى و قيمة والوعي العقلي غير محايد. ادراك الوعي بخلاف ادراكات الحواس التي تكون محايدة بل وقاصرة في نقلها الانطباعات الاولية بصدق عن المحسوسات.. حين نقول وعي الموضوع هو عملية تخارج معرفي انما نقصد به (التغيير) في كليهما الموضوع والوعي معا. فالوعي لا يعي مدركاته لمجرد الوعي المحايد لها. الوعي هو تفكير تجريد العقل في تعبيره عن مقولاته في الموضوعات وحين يدخل الوعي في عملية تكامل وتخارج مع موضوعه فكلاهما الوعي والموضوع يتبادلان التغيير المعرفي التخارجي التكاملي بينهما. نفس هذه العلاقة تربط الفكر بالمادة فالفكر الذي يغني المادة يكون بالضورة المعرفية التخارجية يغتني ويتطور هو ايضا بالمادة.

من هنا نجد فرق ادراك الحواس لموضوعاتها هو ادراك محايد (نقل انطباعات) لا تربطه علاقة تفاعل وتخارج معرفي بين الحواس والمواضيع التي تدركها فهي أي الحواس ناقل الانطباعات الاولية الادراكية التي هي الاحساسات للذهن فقط.. باختلاف ادراك الوعي لموضوعاته ليس ادراكا محايدا بمعنى واسطة نقل الاحساسات التي يكتسبها من موضوعاته بعلاقة محايدة كما هو في دور الحواس غير تخارجية وتكاملية معرفية. بل علاقة الوعي بموضوعه هو عملية تداخل معرفي بينهما. هذا معنى اشار له كانط ان العقل يتناول موضوعه باثنتي عشر مقولة من مقولة العقل وهذا يوضح قولنا الوعي ليس محايدا في ادراكه وتعامله مع موضوعاته فهو يدخل بعلاقة تخارج معرفي وليس تخارج ديالكتيكي. ويكون الوعي مزودا بمقولات العقل الاثنتي عشر مقولة عن الموضوع المدرك حسبما اجملها كانط. الوعي بكل شيء لا ياتي من فراغ ولا يحدده الموضوع بل مصدره العقل وهو الذي يحدد وظيفة الوعي ايضا. ملاحظة مهمة العقل لا يخترع موضوعاته بل المحسوسات التي مصدرها الحواس تزوده بها.

الادراك العقلي بمعنى التفكير ليس من اجل اثبات وجود الذات انطولوجيا كما ذهب له ديكارت انا افكر اذن فانا موجود وليس مهما في الكوجيتو كيف تمت عملية معالجة الوعي لمدركات التفكير المجرد. بل العقل يهمّه الاصطدام بالحقيقة المباشرة هو لماذا تختار الحواس والذهن والدماغ هذه الموضوعات دون غيرها.؟ صحيح يصادف العقل احيانا الاصطدام بموضوعات طارئة غفل مصادفة عشوائية غير متوقعة ولا مناص للوعي من التعامل معها مع الحذر الشديد الوعي ليس هو العقل بل الوعي وسيلة العقل في معالجة موضوعات ومدركات العقل.. لكن اغلب مدركاتنا من الاشياء في اختيار الموضوعات مسبقا يكون مصدرها المحايثة الموجودة في الوعي في أهمية ما تختاره الحواس والعقل من موضوعات للمعالجة التغييرية وماذا يقول العقل او بالاحرى بعض خلايا الدماغ بشأنها..

الارادة فلسفيا

عندما يقول فولتير الارادة ليست حرة بل هي مقيّدة بمعيقات وكوابح الاعاقة في الوصاية عليها امر يحمل وجهات نظر مختلفة عديدة متباينة. فالارادة خاصية جوهرية للذات التي تقود الوعي القصدي نحو تحقيق اهدافه. الذات حرة بالفطرة البيولوجية فمثلما يكون الانسان كائنا عقلانيا وكائنا ميتافيزيقيا وكائنا لغويا وكائنا زمانيا فهو كائن حر ايضا بالطبيعة البيولوجية الفطرية لتكوينه (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا؟) يسعى لاسترجاع حريته بكل وسيلة في حالة استلابها منه. لكن هذه الحرية لا تسري على الارادة في اتخاذ قراراتها الانفرادية بسبب كوابح ومعيقات عديدة. الارادة امتلاك فردي غريزي بيولوجي تصبح موضوعا للمجموع متى ماجرى الافصاح عنها بالفكر او في السلوك. بمعنى تحول الارادة الى فكر او سلوك نفسي عملي يفقدها خاصيتها الانفرادية لتصبح ملك المجموع.

شوبنهاور في عنونة كتابه المعروف "العالم ارادة وتمّثل" كان يرى صدقية وحرية الارادة أنها معطى بيولوجي فطري بمعنى ليس هناك من تاثير كبير في الوصاية التي تحد من حرية الارادة اتخاذها القرارات. وأجد في عنوان كتاب شوبنهاور خطا تراتيبي فالتمّثل يسبق الارادة عليه كان الاكثر معقولية ان يعنون شوبنهاور كتابه "العالم تمثل وارادة" فالعالم الموجود يسبق الفكر عنه. من حيث اننا نحتاج تمّثل عالمنا الخارجي استيعابا معرفيا كي يكون كفيلا ان يقودنا الى ارادة حرة باتخاذ قرارات متحررة هي ناتج تراكم خبرة صائبة تقينا الوقوع بالخطأ. خطأ شوبنهاور كان في اعتباره الارادة حرة بالضرورة / بينما الحقيقة تقول الارادة غير ذلك ولا يوجد تمثيل تناوبي تكاملي بين الارادة والحرية بل في الغالب يوجد احتدام متقاطع بينهما.

الحرية مسؤولية

الحرية بمفهومها الفلسفي الانفرادي وليس بمعناها الايديولوجي السياسي الجمعي. هي ممارسة الوعي السلوكي المنضبط بوعي الذات ورقابتها الانسانوية الاخلاقية. والحرية جوهر انساني مسؤول وملتزم بالضرورة. كما والحرية بمفهومها الفلسفي تكون انفرادية ولا تشكل ظاهرة عامة الا في المنظور السياسي لها فقط.

سارتر كما طالب ان يكون الادب ملتزما بالضرورة الاجناسية هو طالب ايضا الحرية الفردية تكون ملتزمة ومسؤولة عن هموم وقضايا الاخرين. الفرد الذي تحكمه الحرية المسؤولة ليست من اختياره الطوعي بل تأتيه مفروضة من المجتمع عليه كفرد ضمن مجتمع. كيف؟ الفرد الذي يمتلك وعيا انفراديا ناضجا متعاليا اكثر من محصلة وعي المجموع الذي يغلب عليه طابع التعبوية هو الذي يشعر حريته مرهونة بحرية مجتمعه ولا خلاص انفرادي امامه يلزمه لوحده ولا يلزم غيره مجتمعيا. لكنه مع هذا يسعى لرفع مستوى وعي المجتمع لمستوى وعيه الانفرادي المتعالي. واذا ما اخفق ووصل الطريق المسدود فليس امامه اختيار غير الانغماس في الكليّة المجتمعية القطعانية حتى لو فرض عليه الصمت كموقف من المجتمع والحياة.

قلنا ونحن نناقش هنا الحرية بمفهومها الفلسفي وليس الايديولوجي السياسي التي يكون فيها الالتزام يحكمها جمعيا وليس انفراديا كما في الفلسفة. المجتمعات البشرية غالبا ما تكون في وضعية (نسيان الوجود) او الناسيّة الكليّة كما يصفها هيدجر.

لذا يمتلك الحرية الانفرادية الحقيقية الشخص الذي يمتلك وعيا اعلى من مستوى الوعي الجمعي الذي يحكم المجتمع فتكون الحياة بمجملها في المجتمع تستنفدها امور واشباع الحاجات الاساسية البيولوجية والغرائزية التي يشترك بها المجتمع مثل الدوام بالوظيفة والعمل ومشاغل الاسرة في اشباع غرائز الجسم البيولوجية بانواعها ومختلف تجلياتها المفروضة على الحياة التي تجعل من المجتمع فردا بصورة مجموع.

هنا حين تكون الحرية غائبة او هي استنفدت نفسها في الكليّة الناسيّة في نسيان الوجود الجمعي الحقيقي المسؤول عن حريته في اتخاذ قراراته الصائبة. تبرز لا اراديا أهمية أن يتمتع الفرد المنفصل اللامنتمي للمجموع بالحرية الانفرادية المسؤولة الملتزمة حتى عندما يجد نفسه منفردا منعزلا متمردا عن القطعانية الغفل التي تحكم الوجود الجمعي بحكم العادة والاعتياد في الانغماس التام في روتين الحياة الاستهلاكي...

التساؤل ماهي كوابح ومعيقات حرية الفرد المتعالي في وعيه ويمتلك حساسية من نوع خاص خارج القطعانية المجتمعية ومتمرد على الانقيادية الاذعانية في الانغماس الضائع مجتمعيا في كليّة نسيان الوجود الحقيقي. هذا النموذج المتمرد يصطدم بالمعيقات الكابحة لطموحه في التالي:

- يعيش الانكفاء الانعزالي بمعنى الاغتراب المسؤول عن قضاياه وقضايا مجتمعه.- هنا غالبية الدراسات التي تعنى بالاغتراب تعتبره حالة انكفاء جواني هروبي سلبي من مشاكل المجتمع بينما الاغتراب لدى الشخص المكتمل وعيا ونضجا بالحياة فهو ليس فردا هاربا امام التحديات بل فردا يرغب ترك مسافة رصد ومعاينة لمشاكل وقضايا المجتمع الذي يعيش فيه. بمعنى يختار الحرية الازدواجية التي يرى فيها جوهر حريته الحقيقية هو في تحقيق حرية المجموع كما يتصورها هو لا كما اعتادها المجتمع تحت سلطة وصاية القانون وتخلف الوعي الجمعي.

- الانقلابية على الذات ليس في منظور ان حريته التي يتصورها لا قيمة مجتمعية لها بل هي محاولة الفرد الخلاص من جحيم الاخرين وجحيم الحياة. وهو ما تؤكد عليه الادبيات الفلسفية للوجودية الحديثة كما هي عند سارتر وهيدجر وياسبرز وجبرييل مارسيل.

- البحث عن القوانين الوضعية التي ترفع من الوعي الجمعي وتنصاع لما يحقق الصالح العام وإشباع الحقوق الاساسية بالحياة. في حق العمل والتامين الصحي والتعليم والضمان الاقتصادي والتمتع بمعطيات الحرية في سلوك منضبط قانونيا ومجتمعيا. هذا متحقق بما لا يستهان به في النظم الديمقراطية الليبرالية.

فولتير والحرية

" ارادتنا ليست حرة اما افعالنا فهي حرة" فولتير

من المفروض ان تكون عبارة فولتير واضحة لا تحتاج زرع الاشكالية التناقضية بها من حيث بدايتها تناقض تكملتها. واذا اردنا البحث عن تخريج منطقي يضفي عليها صواب تمريرها فلا نجد امامنا غير لغة المجاز تسعفنا بهذا المجال. دائما بالفلسفة تكون اللغة غير الواضحة في التعبير كما ارادها فيلسوفا الوضعية المنطقية جورج مور وفينجشتين هي ليس فقط قصور اللغة التعبير الدقيق عن معنى الاشياء و الموضوعات وانما هي ايضا نوع من المجاز اللغوي الذي يتلاعب باللغة في تمويه الافصاح الواضح عن الفكرة. في ايهام الدلالة العميقة الكاذبة في ما وراء اللغة العصيّة على التلقي.

لا الارادة الانفرادية المتمردة على الواقع المجتمعي المنقاد بطواعية التساؤل الملازم هو كيف يؤمن الانسان ويصنع مستقبلا افضل له ولعائلته.؟ ولا الارادة الجمعية التي استهدفتها العادة الاستهلاكية اليومية وافرغتها من عضوية مصنع الحيوية البشرية فاصبحت سطحية الحضور بحكم الاعتياد في الركض وراء تامين متطلبات المعيش في الاشباع الاستهلاكي المؤقت الخادع. كلا النموذجين من الحرية هو زائف غير حقيقي يعيشهما الفرد والمجموع بنوع من نسيان الوجود الضائع في الكليّة الناسّية والتكيّف الكاذب مجتمعيا.

رب قائل يقول هذه هي حقيقة الحياة ولا يستطيع الانسان ان يعيشها باكثر من الابعاد التي تحكمها العادة المترسخة بالتقادم الزمني على انها حياة الاشباع الاستهلاكي تحت رقابة القانون ودرجة وعي المجتمع. ومن المتعذر جدا نمذجة المجتمع بنوع من الحياة هي خارج المالوف المعتاد الذي اتفق عليه المجموع كما جاء به روسو بما أسماه (العقد الاجتماعي). فانت ملزم التنازل عن الكثير من الامنيات التي تطمح لها المحروم منها من اجل تحقيق صالح المجموع الخادع.

طبيعي جدا ان تكون مهمة الفرد المنسلخ عن مجتمعية الناسية بالوجود املا في تحقيق وجوده غير الزائف بالحياة صعبة ومؤلمة له ولامثاله من النخبة المجتمعية لذا تكون معاناة النخبة التي تمتلك وعيا متقدما على الوعي الجمعي المتكيّف استهلاكيا مهمتها غير متحققة لا على صعيد الازدواجية الذاتية الارادية المنقسمة على نفسها ولا على صعيد التخلي عن  مسؤوليتها تجاه مجتمعها المضلل المقهور بالنزعة الاستهلاكية التي تجد بالحياة عبئا ابتليت به الناس في روتين قاتل من النمط المعيش..

الارادة والحرية

الارادة ليست هي الحرية باتخاذ القرارات كما فهمها شوبنهاور. فغالبا ماتكون الارادة مثلومة امام قيد الحرية ذاته. اذا ما وضعنا بنظر الاعتبار الكوابح والمعرقلات المعيقة التي تصطدم بها الارادة قسرا وواقعا مفروضا عليها. فالارادة الانفرادية تقاطع ارادة المجموع في جوانب متعددة بضرورة التكيّف الالزامي الجمعي الزائف.. لذا نجد الفرد الذي لا يتمتع بارادة ذاتية حقيقية يسعى بالنهاية الانصياع المتكيّف بالناسّية المجتمعية متنازلا مكرها عن جميع احلامه ورغائبه المشروعة. اما ان تكون افعالنا حرة بخلاف ارادتنا فهو تناقض لا يقوم على سند فلسفي منطقي. من حيث الارادة هي السلوك المعلن والخفي. ومن المتعذر أن نجد ارادات انفرادية تاخذ حيّز التطبيق والتنفيذ في تقاطعها الحتمي مع غالبية ارادة المجموع التي انصهرت اجتهاداتها بفيتو منع القانون الوضعي. الارادات التي نتوهم قراراتها حرة نجد يصادر حريتها القانون الوضعي الذي يرى على الاقل مصالح المجموع اولى من مصالح الفرد وتتقدم عليها. عليه يكون التكيّف والانخراط في المجموع مايعّبر عنه فولتير(بالطاعة الضرورية). لكن غالبا ما نصطدم به عند التطبيق والتنفيذ الذي يجاهر به القانون في حقوق المجتمع تعلو حقوق الفرد انها ادعاءات فارغة باسم الطاعة الضرورية الملزمة.

يطرح فولتير جملة من عبارات غالبا ما يكون فيها وضعيا متماهيا مع سلطة القانون في مصادرته فوضوية الارادات المشتتة المختلفة تعسفيا. وقبل الاستشهاد ببعض من هذه العبارات التي يلبسها فولتير مخاتلة تعبير اللغة الغامض على انها تحمل كنوز مابين الاسطر وهي مغالطة فارغة.

اقول القوانين الوضعية تحكمنا بحجة صحيحة نسبيا انها الضمانة الوحيدة المتاحة في لجم الارادات الفوضوية والرغائب المنحرفة الانفرادية التي تحاول تخريب سلطة القانون والنظام. وفي وضع حد للنزعات المنفلتة التي تجد مصالحها في التخريب والممارسات التي تقاطع حياة المجتمع الطبيعية ولو في حدودها الدنيا المتاحة.

من اقوال فولتير وديدرو" من التناقض ان يكون في استطاعة مايجب ان يكون الا يكون" من هو الذي يقرر ما يجب في استطاعته ان يكون؟ لا يوجد غير الايمان بقدرية لا ادرية الافضل منها ان سبب ما يجب ان يكون لا يكون هو تقاطع بعض امور الحياة بالمصادفات العشوائية وحدوث ما هو غير متوقع حدوثه.

تعبيره الاخر " الحرية هي النتيجة المعروفة لعلة مجهولة" وقوله ايضا"كل شيء غارق بالنسبة لنا في هوة من الظلمات" لا اجد في طلاسم فولتير اللغوية ما يشي ويشير الى مضمون فلسفيي مدّخر فيما وراء اللغة المفككة العصّية. يوجد العديد من العبارات مثل هذه لم اتطرق لها فهو مضيعة وقت اجده بعيدة عن معنى التفلسف الجاد الهادف الذي يسير نحو فتح نوافذ رؤيوية متجددة بالحياة.

***

علي محمد اليوسف

...........................

ملاحظة: الاقتباسات الجملية المحصورة بين مزدوجتين مصدرها كتاب جان فال /الفلسفة الفرنسية من ديكارت الى سارتر / ترجمة فؤاد كامل.

 

تقديم: نجد في السيرة الذاتية لزهير الخويلدي يما يلي: فيلسوف تونسي وباحث أكاديمي مختص في الفينومينولوجيا، الهرمينوطيقا، وفلسفة السرد، قدم إسهامات بارزة في دراسة التأويل والهرمينوطيقا من خلال قراءته لأعمال بول ريكور. حصل الخويلدي على الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة بأطروحة بعنوان "تقاطع السردي والإيتيقي من خلال أعمال بول ريكور". إسهاماته تتمحور حول تفكيك وإعادة صياغة مفاهيم ريكور التأويلية، مع التركيز على تطبيقاتها في سياقات فلسفية وعربية إسلامية. فكيف قرا الخويلدي هرمينوطيقا بول ريكور؟ بماذا تتميز قراءته عن بقية القراءات العربية للفيلسوف الفرنسي؟

فيما يلي تحليل لإسهاماته الرئيسية في قراءة التأويل والهرمينوطيقا عند بول ريكور:

1. - ابراز البعد الأنطولوجي للهرمينوطيقا عند ريكور

الإسهام: يركز الخويلدي على الهرمينوطيقا الفينومينولوجية عند ريكور كمشروع أنطولوجي يسعى إلى فهم الذات في علاقتها بالعالم. يرى أن التأويل عند ريكور ليس مجرد تفسير نصوص، بل عملية وجودية تكشف عن كينونة الإنسان.

التفصيل: في دراسته "المنعطف الهرمينوطيقي لفلسفة الدين عند بول ريكور"، يبرز الخويلدي كيف ينتقل ريكور من الفينومينولوجيا الماهوية إلى الهرمينوطيقا الفينومينولوجية، خاصة في كتاب رمزية الشر (1960)، حيث يؤسس ريكور لتأويل الرموز كوسيلة لفهم الشر والخطيئة كأحداث وجودية. يؤكد الخويلدي أن هذا المنعطف يجعل الهرمينوطيقا أداة لفهم الذات الفاعلة.

الأهمية: الخويلدي يوسع هذا المنظور ليطبقه على السياق العربي الإسلامي، مشيراً إلى إمكانية استخدام الهرمينوطيقا الريكورية لتفسير النصوص الدينية بطريقة تتجاوز الحرفية وتركز على الأبعاد الكونية والإنسانية.

2 - التركيز على تقاطع السرد والإيتيقا

الإسهام: يركز الخويلدي على مفهوم ريكور للهوية السردية كجزء من الهرمينوطيقا، حيث يرى أن السرد هو تأويل للتجربة الإنسانية يربط بين الأخلاق والفعل. أطروحته الدكتورالية تُظهر كيف يدمج ريكور السردي (في الزمن والسرد) مع الإيتيقي (في الذات عينها كآخر) لفهم الذات الفاعلة.

التفصيل: يوضح الخويلدي أن التأويل عند ريكور يتجلى في السرد كآلية لتنظيم الزمن والتجربة، مما يسمح بفهم الذات ككائن أخلاقي. في كتابه أنثربولوجيا الإنسان القادر (2023)، يطور الخويلدي هذه الفكرة ليبين كيف يمكن للهرمينوطيقا أن تُسهم في بناء أنثروبولوجيا فلسفية تركز على قدرة الإنسان على الفعل والمسؤولية.

الأهمية: يربط الخويلدي هذا التقاطع بالسياق العربي، مشيراً إلى إمكانية استخدام السرد الريكوري لفهم الهوية الثقافية والدينية في المجتمعات العربية، مع التركيز على التعددية الدلالية للنصوص.

3 - التأويلية والفن عند ريكور

الإسهام: في دراسته "الأثر الفني عند بول ريكور بين قابلية التبليغ والتعددية الدلالية"، يبرز الخويلدي كيف يتعامل ريكور مع الأثر الفني كنص مفتوح يتطلب تأويلاً هرمينوطيقياً. كما يرى أن بول ريكور، رغم عدم تقديمه كتاباً مخصصاً للإستيطيقا، يدمج الفن في مشروعه التأويلي كوسيلة لفهم التجربة الإنسانية.

التفصيل: يوضح الخويلدي أن الأثر الفني عند ريكور يحمل تعددية دلالية مشابهة للرموز في صراع التأويلات، حيث يتطلب تفاعلاً بين القارئ والنص. يربط هذا بمفهوم "اندماج الأفقين" عند ريكور، الذي يسمح بتأويل الفن كحدث وجودي.

الأهمية: يقترح الخويلدي تطبيق هذا المنظور على الأعمال الفنية العربية، خاصة الأدب والشعر، لفهم كيف يمكن للهرمينوطيقا أن تُثري التجربة الجمالية في السياق الثقافي العربي.

4 - الهرمينوطيقا الدينية وتفسير النصوص المقدسة

الإسهام: يركز الخويلدي على المنعطف الهرمينوطيقي لفلسفة الدين عند ريكور، مشيراً إلى أن ريكور يحرر الدين من المعاني السياسية ويركز على الأبعاد الكونية والإنسانية في النصوص الدينية. يرى أن الهرمينوطيقا الريكورية تتيح تفسيراً للنصوص المقدسة يتجاوز الصراعات المذهبية.

التفصيل: في دراسته بالموقع الحوار المتمدن، يوضح الخويلدي أن ريكور يقارن بين الهرمينوطيقا الفلسفية والدينية، مستدعياً فلاسفة مثل أوغسطين، كانط، وهيدغر لفهم اللغة الدينية كمحكي شفوي أو مدونة مكتوبة. يقترح الخويلدي أن هذا النهج يمكن أن يُطبق على النصوص الإسلامية لفهمها في سياقها الكوني.

الأهمية: يدعو الخويلدي إلى هرمينوطيقا دينية تقر بالاختلاف بين الديني واللاديني، وتسعى إلى تفسير النصوص الدينية بطريقة ترتقي إلى ما وراء الطوائف، مما يُسهم في الحوار بين الثقافات.

5- ترجمة ونقل أفكار ريكور إلى السياق العربي

الإسهام: الخويلدي لعب دوراً مهماً في نقل أفكار ريكور إلى القارئ العربي من خلال ترجماته ودراساته. ترجم عدة نصوص وحوارات لريكور، مثل حواره مع جاك ليكونت (فن التفكير ضد الذات) ونصوص حول نزع الأسطورة والهيرمينوطيقا.

التفصيل: في ترجماته، يحرص الخويلدي على إبراز الجوانب التأويلية في فلسفة ريكور، مثل النقد الذاتي كشرط لتقدم الفكر الفلسفي، والعلاقة بين الهرمينوطيقا والوجودية. كما يقدم تعليقات نقدية تُظهر كيف يمكن تطبيق هذه الأفكار على قضايا معاصرة، مثل الهوية والحرية.

الأهمية: هذه الترجمات جعلت أفكار ريكور متاحة للجمهور العربي، وساهمت في إثراء النقاش الفلسفي حول التأويل في السياق العربي.

6 - نقد الاختزالية وتعزيز التعددية الدلالية

الإسهام: يتبنى الخويلدي نهج ريكور في رفض الاختزالية (مثل اختزال النصوص إلى تفسير واحد)، ويؤكد على التعددية الدلالية كمبدأ أساسي للهرمينوطيقا. يرى أن التأويل عند ريكور يحترم تنوع وجهات النظر ويعزز الحوار.

التفصيل: في دراسته "الهرمينوطيقا ومبادئ التأويل"، يوضح الخويلدي أن ريكور يرى الهرمينوطيقا كدراسة للمبادئ العامة لتفسير النصوص، خاصة المقدسة، مع التركيز على اكتشاف الحقائق والقيم من خلال التأويل. يربط هذا بالسياق العربي، داعياً إلى تفسير النصوص الثقافية والدينية بطريقة تحترم التعددية.

الأهمية: هذا النهج يُسهم في مواجهة التفسيرات الحرفية أو الدوغمائية في السياق العربي، ويعزز الحوار بين التيارات الفكرية المختلفة.

7 - تطبيق الهرمينوطيقا على قضايا معاصرة

الإسهام: يطبق الخويلدي الهرمينوطيقا الريكورية على قضايا معاصرة مثل السلطة، الحرية، والهوية. في دراسته "السلطة السياسية بين القوة الفيزيائية والقدرة الأخلاقية"، يستخدم مفاهيم ريكور لتحليل العلاقة بين السياسة والأخلاق، معتبراً التأويل أداة لفهم السلطة كفعل إنساني.

التفصيل: يرى الخويلدي أن الهرمينوطيقا عند ريكور تتيح فهماً أعمق للظواهر الاجتماعية والسياسية من خلال تحليل الرموز والسرديات التي تشكلها. يقترح استخدام هذا النهج لفهم التحولات السياسية في العالم العربي.

الأهمية: هذا التطبيق يُظهر مرونة الهرمينوطيقا الريكورية وقدرتها على معالجة قضايا معاصرة، مما يجعلها ذات صلة بالسياق العربي.

الخاتمة

إسهامات الاستاذ زهير الخويلدي في قراءة التأويل والهرمينوطيقا عند بول ريكور تتمحور حول إبراز البعد الأنطولوجي للهرمينوطيقا، التركيز على تقاطع السرد والإيتيقا، تحليل الأثر الفني، تفسير النصوص الدينية، ترجمة أفكار ريكور، تعزيز التعددية الدلالية، وتطبيق الهرمينوطيقا على قضايا معاصرة. يتميز الخويلدي بقدرته على ربط أفكار ريكور بالسياق العربي الإسلامي، مما يجعل الهرمينوطيقا أداة لفهم الهوية، الثقافة، والدين في المجتمعات العربية. من خلال دراساته وترجماته، ساهم الخويلدي في إثراء النقاش الفلسفي العربي وتعزيز الحوار بين الثقافات، مع الحفاظ على الطابع الجدلي والإبداعي للهرمينوطيقا الريكورية. فماهي الفتوحات الفكرية التي تحملها قراءة الخويلدي لريكور لحضارة اقرأ؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

...................

المراجع

الخويلدي، زهير. أنثربولوجيا الإنسان القادر. تونس، 2023.

الخويلدي، زهير. "المنعطف الهرمينوطيقي لفلسفة الدين عند بول ريكور." الحوار المتمدن.

الخويلدي، زهير. "الأثر الفني عند بول ريكور بين قابلية التبليغ والتعددية الدلالية." مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2016.

الخويلدي، زهير. "الهرمينوطيقا ومبادئ التأويل." الأنطولوجيا، 2021.

الخويلدي، زهير (ترجمة). "فن التفكير ضد الذات: حوار مع بول ريكور." جريدة عالم الثقافة، 2020.

الخويلدي، زهير (ترجمة). "أناقة بول ريكور وشجاعة رودولف بولتمان." جريدة عالم الثقافة، 2023.

ريكور، بول. صراع التأويلات: دراسات هيرمينوطيقية. ترجمة منذر عياشي. بيروت: دار الكتاب الجيد المتحدة، 2022.

 

يمكن أن تكون الفضيلة طريقًا نحو سعادة العقل، ولكن هل يمكن للإنسان أن يكون سعيدًا إذا كانت الفضيلة مفروضة عليه؟ تعتبر الفضيلة مفهومًا مركزيًا في مختلف الثقافات والأزمنة، وقد تم فرضها عبر التعليمات السلطوية كوسيلة للحفاظ على النظام الاجتماعي على مر العصور، استخدمت الحكومات والأنظمة السياسية التعليمات السلطوية لتوجيه سلوك الأفراد، مما يثير تساؤلا عن الحرية الشخصية والاختيار، هل الفضيلة التي تُفرض تُعتبر فضيلة حقيقية؟ تطرح هذه المعادلة تساؤلات عميقة حول طبيعة الأخلاق، الحرية، والسعادة. ما مفهوم سعادة العقل يمكن أن يُعتبر فضيلة وجودية لكنها سردية تاريخية خارجية في عدة جوانب:

سعادة العقل تمثل هدفًا أساسيًا للوجود البشري، حيث يسعى الأفراد لتحقيق السلام الداخلي والرضا، اذ تعزز السعادة من أهمية الاختيار الحر، مما يجعلها فضيلة وجودية تتعلق بالمسؤولية الفردية، عبر العصور، تطورت مفاهيم السعادة وعلاقتها بالعقل. في الفلسفات القديمة، مثل الفلسفة اليونانية، كانت السعادة مرتبطة بالفضيلة والحكمة وقد شهدت المجتمعات تغيرات في مفهوم السعادة نتيجة للتغيرات السياسية والاجتماعية، مما ساهم في تشكيل السرديات حول العقل والسعادة، سعادة العقل ليست مجرد مفهوم فلسفي، بل هي فضيلة وجودية تعكس التجربة الإنسانية وتاريخها المليء بالتطورات الثقافية. كما تعكس هذه السعادة رحلة البحث عن المعنى والهدف في الحياة.

سعادة العقل ومفهوم الوعي الذاتي

يساعد الوعي الذاتي الأنسان في التعرف على مشاعره وأفكاره، مما يسهم في تحقيق رضا داخلي، يمكّن الأفراد من تقييم سلوكياتهم وأفعالهم، مما يؤدي إلى تحسين الذات ويعزز قبولها، وهو ما يعد عنصرًا مهمًا في تحقيق سعادة العقل، كما يساعد الأنسان في اتخاذ قرارات تتماشى مع قيمه وأهدافه، مما يعزز الشعور بالسعادة والرضا، الأفراد الذين يمتلكون وعيًا ذاتيًا أعلى غالبًا ما يشعرون بتوازن نفسي أفضل، ما يساهم في سعادتهم، الوعي الذاتي يعد عنصرًا أساسيًا في تحقيق سعادة العقل، مما يؤدي إلى شعور أعمق بالرضا والسعادة.

سردية السعادة العقلية وفلسفة اللذة

هناك وشائج فكرية بين سردية السعادة العقلية وفلسفة اللذة. السعادة العقلية تتعلق بالسلام النفسي والرضا الذاتي، وهي تشمل جوانب مثل الوعي الذاتي والتقبل، تتطلب السعادة العقلية ارتباطًا عميقًا بالقيم والأهداف الشخصية، في الفلسفات مثل الأبيقورية، تُعتبر اللذة هدفًا رئيسيًا للحياة، ولكنها تُفهم على أنها لذة متوازنة وغير مفرطة وبدون الم، تُعزز اللذة العقلية من الاستمتاع بالأفكار، الفنون، والتجارب الفكرية، اللذة غالبًا ما تكون لحظية، بينما السعادة العقلية تتطلب التوازن والاستمرارية، إن السعادة العقلية تسعى لتحقيق معنى أعمق في الحياة يمكن أن تسهم اللذات العقلية في تعزيز السعادة، وبالتالي يؤدي السعي الواعي نحو اللذات الصحية إلى تعزيز السعادة العقلية، تتفاعل سردية السعادة العقلية وفلسفة اللذة في البحث عن معنى الحياة والرضا، حيث يمكن أن تكون اللذة جزءًا من السعادة، لكن السعادة العقلية تتطلب عمقًا ووعيًا أكبر.

الإرادة الحرة والسعادة العقلية

الإرادة الحرة تمنح الأنسان القدرة على اختيار سلوكياته وأفعاله، مما يؤثر على تحقيق السعادة واللذة، يمكن للأنسان تحديد ما يجلب له السعادة، سواء كان ذلك عبر تجارب معينة أو علاقات، الإرادة الحرة تعني أيضًا تحمل المسؤولية عن نتائج الخيارات، مما يعزز الوعي الذاتي والنمو الشخصي، الإرادة الحرة تمكن الأفراد من اختيار اللذات التي تعزز من سعادتهم العقلية، مثل الفنون أو الأنشطة الاجتماعية وتمكن الأنسان من تجنب اللذات الفورية التي تؤدي إلى نتائج سلبية على المدى الطويل، الإرادة الحرة تسمح للأنسان الوصول الى حالة من التوازن بين اللذات اللحظية والسعادة المستدامة، الإرادة الحرة تعزز من القدرة على التفكير في الأهداف الشخصية والسعي لتحقيقها، مما يؤدي إلى السعادة العقلية من خلال الإرادة الحرة، و يمكن الأفراد ممارسة التأمل والتفكير في ما يجعلهم سعداء الإرادة الحرة تلعب دورًا حاسمًا في السعي نحو السعادة العقلية واللذة، حيث تمكن الأفراد من اتخاذ قرارات واعية، تحمل المسؤولية، وتحقيق توازن بين اللذات والسعادة المستدامة، الإرادة الحرة تتيح للأفراد اختيار القيم والمبادئ التي يرغبون في تبنيها، مما يعزز من وعيهم الذاتي، تعزز الإرادة الحرة من الوعي بمسؤولية الفرد تجاه أفعاله، مما يسهم في نمو الوعي الأخلاقي، استخدام الإرادة الحرة في ممارسة التأمل والتفكير النقدي يعمق الفهم الشخصي كما يمكن استخدام سردية الإرادة الحرة كأداة فعالة في السعي لتحقيق الوعي الذاتي، حيث تعزز من القدرة على اتخاذ قرارات واعية، تحمل المسؤولية، وتطوير الوعي الاجتماعي.

الحدود البايولوجية للإرادة الحرة

هناك حدود لقدرة الدماغ البشري على معالجة المعلومات وفهمها، مما يؤثر على مستوى الوعي، تختلف القدرات العقلية والوعي من شخص لآخر بناءً على العوامل الوراثية والبيئية، يمكن أن تعيق المخاوف والمعتقدات الراسخة من تحقيق وعي كامل، حيث تؤثر على كيفية رؤية الأفراد للعالم، التجارب المؤلمة قد تعوق الأفراد عن الوصول إلى مستويات أعلى من الوعي، الخلفيات الثقافية والعادات الاجتماعية يمكن أن تحد من قدرة الأفراد على التفكير النقدي وفهم الذات، التوقعات المجتمعية والضغط الاجتماعي قد تؤثر على الإرادة الفردية وتحد من الوصول إلى الوعي الكامل.

المعرفية الوجودية

نقص المعرفة أو المعلومات يمكن أن يحد من فهم الأفراد للعالم ولأنفسهم، القضايا الوجودية مثل معنى الحياة والموت قد تظل بلا إجابة كاملة، مما يؤثر على الوعي، الوعي عملية مستمرة و تتغير آراء الأفراد ووجهات نظرهم مع مرور الوقت، مما يعني أن الوصول إلى وعي كامل قد يكون غير ممكن، على الرغم من أن الإرادة الحرة تلعب دورًا مهمًا في السعي نحو الوعي الكامل، إلا أن هناك حدودًا بيولوجية، نفسية، اجتماعية، ومعرفية تحد من قدرة الإنسان على الوصول إلى الوعي الكامل وهو حالة من الإدراك العميق والشامل للذات وللبيئة المحيطة، يتميز بالقدرة على فهم الأفكار، المشاعر، والسلوكيات، وكذلك التفاعل، التفاعل مع العالم بشكل واعٍ، الوعي الكامل هو حالة شاملة من الإدراك تتضمن فهم الذات والبيئة، التفكير النقدي، والتواصل الفعّال، مما يسهم في تحقيق النمو الشخصي والتفاعل الإيجابي مع العالم.

الوعي الكامل والوعي الذاتي

 الوعي الذاتي يتعلق بكيفية رؤية الفرد لنفسه يركز على التعرف على الجوانب الداخلية للفرد، مثل الهوية، القيم، والنقاط القوية والضعيفة، الوعي الكامل هو حالة شاملة من الإدراك تشمل فهم الذات والبيئة المحيطة، بالإضافة إلى القدرة على التفكير النقدي والتفاعل بفعالية، يمتد ليشمل الإدراك الكامل للعالم الخارجي، بما في ذلك العوامل الاجتماعية والثقافية والبيئية، وليس فقط الذات يتضمن جوانب الوعي الذاتي، لكنه يتعدى ذلك ليشمل التفاعل مع الآخرين وفهم السياقات الأوسع، الوعي الذاتي يتعلق بفهم الفرد لذاته، بينما الوعي الكامل يشمل هذا الفهم بالإضافة إلى الإدراك للبيئة والتفاعل معها. الوعي الكامل يعتبر حالة أكثر شمولية لكنها تتطلب الوعي الذاتي كجزء أساسي.

الوعي الكامل سردية خارجية

الوعي الكامل يمكن اعتباره مفهومًا معقدًا تتداخل فيه العديد من العناصر. قد يُنظر إلى الوعي الكامل كفكرة مثالية أو هدف غير قابل للتحقيق بشكل كامل، مما يجعله سردية خارجية ترمز الى ما يجب أن يكون بدلاً من ما هو موجود فعليًا، هناك ضغط اجتماعي للبحث عن الوعي الكامل، ما يمكن أن يؤدي إلى شعور بعدم الكفاءة أو الفشل إذا لم يتحقق، السعي إلى الوعي الكامل قد يجعل الأفراد يشعرون بأن هويتهم غير مكتملة، و يعكس ضعفًا في فهم الذات، التركيز على تحقيق حالة مثالية قد يؤدي إلى شعور بالانفصال عن الواقع ويؤثر سلبًا على الهوية، يمكن أن يكون السعي نحو الوعي الكامل تحفيزًا للنمو الشخصي، لكنه يجب أن يتم بطريقة تحافظ على صحة الهوية، الوعي الكامل يجب أن يُفهم كعملية مستمرة بدلاً من هدف نهائي، مما يساعد في تقليل الضغط الناتج عن السرديات المثالية، الوعي الكامل يمكن أن يكون سردية خارجية افتراضية، لكنه أيضًا يمكن أن يُعتبر نقطة ضعف في الهوية إذا أدى إلى شعور بعدم الكفاءة أو الانفصال. من المهم تحقيق توازن بين السعي نحو الوعي والنظر إلى الهوية كعملية مستمرة، لذا تعتبر فكرة الإجبار على الفضيلة وسعادة العقل موضوعًا مثيرًا في الفلسفة والأخلاق في السياق التاريخي، التوفيق بين الحرية الفردية والإجبار على الفضيلة يعد تحديًا فلسفيًا وأخلاقيًا معقدًا وتفسيرات الفضيلة يختلف باختلاف الزمان والمكان مما يجعل التعريفات تتطور باستمرار كذلك الفضيلة قد تكون شخصية حيث يراها الفرد بشكل مختلف بناءً على تجاربه وقيمه الفضيلة تعتمد على حرية الاختيار. إذا تم إجبار شخص ما على التصرف بشكل فضيل، يفقد قيمة هذا الفعل.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

تمهيد: مالبرانش فيلسوف فرنسي قسيس 1638- 1715 اراد الجمع بين فكر القديس اوغسطين مثله الفلسفي الاعلى وافكار ديكارت الفلسفية العقلية الايمانية. مالبرانش له فلسفة خاصة حول الرؤية في الله، وينكر السببية، تأثر بكتاب ديكارت حين وجد ديكارت الديني يجمع بين الله وخلود النفس الروحانية. (عن الويكيبيديا بتصرف).

قبل مغادرة هذا التمهيد ديكارت لم يقل النفس روحا خالدة هي والعقل التجريدي (اللوغوس) وليس العقل البايولوجي (الدماغ) والخلط بين الروح والنفس خطأ لا يحتاج الى شرح تفصيلي بل باختصار النفس هي من خصائص بيولوجيا الانسان وعلم النفس بكل تفرعاته. والروح مصطلح ميتافيزيقي ديني غيبي تتناوشه الشكوك على صعيدي الوجود والماهيّة من كل حدب وصوب حتى العجز عن اعطاء جواب علمي.

مالبرانش في مذهب وحدة الوجود

يذهب مالبرانش ان الوجود لا يتحقق في تجارب القوانين الفيزيائية المشكوك بها بل الوجود يتحقق بالايمان بالله. مالبرانش عن علم مسبق اقتباسي او توارد خواطر فلسفية فهو يكرر ما كان ذهب له سورين كيركجورد انه في تعطيل الاستدلال العقلي والغاء السببية والعليّة التي قال ببطلانها ديفيد هيوم نصل الى حقيقة التسليم ان تحقيق الوجود الايماني انما يتم بقفزة ايمانية في المطلق الالهي الغيبي يقررها القلب وليس العقل.

التساؤل اذا اعتبرنا القوانين الفيزيائية العامة التي تحكم الطبيعة هي قوانين موجودة في الله جزءا فيه !! كما يذهب له مالبرانش فهل نستطيع بدلالة القوانين العامة للطبيعة الموجودة بالله تاكيد وحدة الوجود مابين قوانين الطبيعة الفيزيائية العامة وبين الذات الالهية كما تفعل المذاهب الصوفية؟ اجابتي عن تساؤلي من المحال الجمع بينهما لسببين:

- الله وجود مفهومي ميتافيزيقي غيبي غير مدرك ولا محدود بصفات ولا جوهر. والحلول الصوفي بالذات الالهية امر مشكوك به من الالف الى الياء.

- القوانين الفيزيائية الطبيعية يمكن التحكم بها ماديا ولكن لا يمكنها المجانسة النوعية باي شكل او تدخل في علاقة صوفية مع الخالق الذي كما ذكرنا مفهوم ميتافيزيقي مصدره الايمان القلبي وليس العقل. ماهية الخالق لا تجانس ماهية البشر ولا حتى بالهوية. لذا من الصعب جدا افتراض حلول الذات البشرية الصوفية بذات الالهي التي لا تدرك أن تكون متحققة.

من الصعب جدا التسليم غير المشكوك به ان القوانين الطبيعية العامة والله جوهر واحد في ماهية نوعية واحدة المجانسة. من حيث اننا نستطيع ادراك القوانين الطبيعية العامة بعلاقتها في التحكم بالطبيعة والعقل وليس بعلاقة الاستدلال الايماني القلبي الميتافيزيقي بالله. هذا اذا جاز لنا فصل القوانين الطبيعية الفيزيائية عن الوجود والانسان فصلا كاملا. والا دخلنا في نمط من الاعتباط التشييئي الخاطيء جدا حين نذهب ان ماهية الانسان او جوهره موجود بالله كما هي حال القوانين الطبيعة الفيزيائية انها جزء موجود في الخالق قبل ارادة الله خلق وجودها الوظائفي في التحكم الثابت بالطبيعة وتمنحها تماسك موجوداتها الذي يجعلها اي الطبيعة غير مفككة بانقسامات موجوداتها الموحدة استقلاليا احتوائيا داخل الطبيعة غير المتناثرة الوجود مكانا اعتباطيا. موجودات الطبيعة المستقلة داخل علاقاتها مع الطبيعة التي تحتويها وداخل العلاقات البينية فيما بين تلك الموجودات ايضا محكومة الوجود داخل احتواء الطبيعة لها.. طبعا هنا علينا التفريق ان الطبيعة وجود مستقل كوكب ارضي متماسك بقوانين فيزيائية عامة ثابتة تحكمها. رغم العلاقات البينية بين موجوداتها التي تحتويها الطبيعة باستقلالية عنها داخل احتوائها لها فقط. الا ان تلك الموجودات المستقلة داخل الطبيعة الاحتوائية لها متناثرة الموجودية مكانيا كما ولا يجمعها التجانس النوعي مع بعضها البعض فالجمادات غيرها النباتات وكلاهما غير الحيوان. رغم التعايش المتبادل بينها وبين الانسان معا في علاقة تكيّف وانسجام براجماتي غير معلن لكنه متحقق طبيعيا..

استقلالية الموجودات المحتواة داخل الطبيعة لا يمنحها الخروج والانفلات عن كوكب الارض المحكوم بقانون الجاذبية والا لما كنا وجدنا كوكبا نعيش فيه مستقلا بنفسه يسمى الارض.. وموجودات الطبيعة المستقلة في الطبيعة هي موضوعات الادراك الحسي والعقلي عند الانسان. فالانسان موجود جزئي من الطبيعة متمايز ومنفصل عنها وهو يعي علاقة وجوده الارتباطية البراجماتية النسبية بالطبيعة. بخلاف الطبيعة غير العاقلة التي لا تعي علاقاتها التكيفية المعاشة بين مكوناتها من انسان وحيوان ونبات وجماد.. الانسان يؤنسن ذاته بوجوده جزءا من الطبيعة لكن لا تقدر الطبيعة طبعنة الانسان في علاقتهما المتبادلة سواء بالمنفعة التي تؤديها الطبيعة للانسان او بعلاقة التكيّف الالزامي المفروض على الانسان من الطبيعة.

فالانسان يقود الطبيعة في نفس وقت الاعتياش عليها متمايزا بالعقل عنها منفصلا بالتبعية والانقياد لها ليس كما هي علاقة الحيوان الانقيادية للطبيعة. الانسان لا ينقاد للطبيعة بل يتكّيف انتفاعيا معها. تكيّف الحيوان مع الطبيعة لا يحكمه تفكير العقل كما هو تكيّف الانسان العقلاني معها. بخلاف الطبيعة التي لا تمتلك وعيا ادراكيا بعلاقتها مع الانسان وباقي موجوداتها من كائنات حيوان ونبات وجماد والعلاقات البينية بينهم.

هل من المتاح لنا ان نعتبر القوانين الطبيعية الثابتة التي تحكمنا ككائنات حيّة وكائنات اخرى غير حيّة هي جزء من الطبيعة منفصلين وجودا عنها متكاملين معرفيا متعايشين معها.؟ القوانين الفيزيائية الطبيعية العامة هي معجزات لا دينية بمقدار ما هي معجزات علمية فيزيائية. بمعنى ليس في خرقها من قبل الانببياء والرسل نتوصل الى الايمان الديني لاهوتيا. فخرق القوانين الطبيعية العامة هو خرق لقوانين فيزيائية تحكم الطبيعة ولا تحكم الدين.

لو نحن اخذنا المنهج الصوفي في تحليل هذه العلاقة بين معجزات القوانين الطبيعية فيزيائيا وليس لاهوتيا في الوصول الى الايمان الديني التوحيدي لوجدنا انفسنا نسقط في امكانية (استثماراتنا) العلمية لتلك القوانين التي تقودنا  الوصول الى تشييء الوجود الالهي ماديا غير الغيبي الايماني وهو محال. تشييء الخالق او احدى صفاته هو تعجيز عقلي بمعنى تعطيل العقل عن التفكير بابعد مما يدركه ماديا.

سبينوزا والايمان الديني

سبينوزا في بحثنا العلاقة رباعية الابعاد ذات الاضلاع الاربعة الانسان/ الطبيعة/ والذات الالهية/ وقوانين فيزياء الطبيعة/ في تعالقاتها البينية عبّر عنها سبينوزا اننا بدلالة الجوهر ندرك الوجود على خلاف الماركسية والوجودية اللتان تغلبّان الوجود على الفكر والجوهر.. رغم ما يحيط هذا التعبير من مقاطعة تتشبث بالمثالية بالضد من المادية.

الجوهر ماهيّة لوجود مادي سابق عليه وبدلالة الوجود المادي نحاول ادراك الجواهر بالاشياء والموجودات التي ليست جميعها تمتلك جوهرا. فتوجد كائنات حيوانية ونباتية لا جوهر ولا ماهيّة لها بل صفاتها الخارجية هي جوهرها. بإستثناء الانسان الذي يمتلك الصفات الخارجية المتفردة نوعيا عن غيرها في صفات الافراد الاخرين. ويمتلك قدرة تصنيع ماهيته او جوهره الخاص به. اي يصنع هويته الانفرادية الماهوية المميزة عن الهويات الماهوية في النوع من جنسه.

وذهب سبينوزا اكثر من قوله بدلالة الجوهر ندرك الوجود في استجلابه المرجعية الايمانية الغيبية خارج المعجزات المنسوبة للايمان التي هي معجزات القوانين الفيزيائية العامة التي يكتشف الانسان اعجاز الطبيعة فيها وليس اعجاز الايمان الديني فيها.. لذا نجد سبينوزا ابطلها لانها منافية للعقل وليست منافية للايمان الديني. ونجد سبينوزا ذهب اننا بدلالة الجوهر الالهي الكلي المطلق الازلي الله ندرك الوجود وندرك الطبيعة في مجمل كائناتها كما وندرك الجواهر الموزعة في موجودات الطبيعة..

اول الامور التي يتوجب نشير لها ان سبينوزا اعتبر الخالق الالهي جوهرا موزعا في الطبيعة على شكل جواهرلانهائية موزعة متناثرة إعتباطيا بكل شيء يدركه العقل وليس على اشكال من الموجودات تتوزعها الطبيعة والكون كما هو الحال الذي يماشي تفكير العقل.

كما وليس الخالق موجودا متعيّنا يمكن ادراكه ماديا بصفات خارجية وجوهر. وهذه مسالة التباسية يقف العقل الانساني المحدود الاجابة الحاسمة عنها من حيث تلغي الوجود الالهي على اي شكل كان متصورا ماديا او لامتصور خياليا.

سبينوزا اعتمد الطبيعة مرتكزا اساسيا في جعلها الام التي انجبت تفكير الانسان بصنع الهه وهو ماذهب له نصا فيورباخ في وحدة وجود صوفية لا دينية مادية تاملية مصدرها علاقة الانسان بالطبيعة كانت هي اصل الدين.

سبينوزا حين جعل الخالق جوهرا كليّا لا يمكن ادراكه موزعا على جميع الاشياء والمدركات في مذهب وحدة الوجود الصوفية يكون بذلك اعفى مهمة العقل التفتيش عن اثبات وجود الخالق حتى على مستوى المعجزات التي ينسب لها صفة الايمان الديني وهي في حقيقتها معجزات ذات طبيعية فيزيائية قابلة للادراك العقلي وليست معجزات غيبية جيّرها اللاهوت لحسابه دينيا وانكرها سبينوزا على انها قوانين فيزيائية تخص الطبيعة فقط وليس اللاهوت فأتهم بالزندقة واباح الكنيست اليهودي اهدار دمه..

صوفية الزن والرستفارية

صوفية الزن في الديانة البوذية تنكر وجود الخالق خارج علاقة موجودات الطبيعة بالانسان وبهذا تقترب من فلسفة فيورباخ التي سبق لنا الاشارة لها التي تتلخص بان اصل الدين هو علاقة الانسان بالطبيعة حصرا وليس علاقة الانسان فيما وراء الطبيعة خارجيا ميتافيزيقيا. الايمان الديني اختراع ارضي وليس معطى سماوي حسب فيورباخ الذي اتهم بالالحاد.

كما نجد في الديانة البوذية مذهب (الشنتوية) اليابانية انها ترى في الامبراطور تجسيدا للاله على الارض وهي نسخة مشابهة للديانة (الرستفارية) الجامايكية – الاثيوبية الاصل والمنشأ المشتقة من اسم الامبراطور الاله الاثيوبي هيلا سيلاسي. الذي حكم اثيوبيا حيث كان اسمه قبل تنصيبه (تفاري ماكوان). ويبلغ تعداد هذه الطائفة الرستفارية اليوم نحو مليون نسمة يؤمنون بأن الامبراطور هيلاسلاسي (الها) لم يمت ولا زال حيا وربما رفع جسده الى السماء. نفس هذا المنحى نجده في الديانة الهندوسية في تأليه (براهما) وفي الديانة البوذية في تأليه (بوذا). صوفية الزن ايضا اتخذت من بوذا الها تعبده وانكرت وجود اله توحيدي يدير العالم من السماء كما وتذهب صوفية الزن الى ان وحدة الوجود التي نجدها بالاشياء والموجودات الطبيعية كافية للايمان الروحاني وتغني عن البحث عن وجود اله في السماء وليس على الارض يمنحنا وجوده الغيبي الايماني. تعاليم بوذا الروحانية هي التي تجعل منه الها ارضيا يعبد. منكرين البعث وحياة يوم القيامة والحساب كما هو متعارف ومستنسخ في الاديان التوحيدية الثلاث.

انت حسب الايمان الصوفي الزن البوذي في وحدة الوجود لكي تدرك العلاقة الروحانية التي تربطك بالزهرة مثلا عليك ان تدرك ذاتك هي الزهرة تارة وتارة اخرى تدرك ذاتك التي تملكها انت كجسم روحاني يجد ان ذاته الروحانية لها علاقة ترابطية نفسية قوية حميمية مع الزهرة تصل الى حد ان يجد ذاته الروحية فيها..

مالبرانش والاعتباطية بالخلق

يذهب مالبرانش والعهدة على جان فال مؤرخ الفلسفة الفرنسية الى ان العالم المادي بوصفه من خلق ارادة الله الاعتباطية – وهذا التعبير من اكثر الجوانب دهشة في تعبير مالبرانش الفيلسوف القسيس -  فإن العالم المادي لم يكن ليوجد الا لان الله طاب له ان يخلقه. ونحن لا نعرف هذا العالم الا عن طريق الوحي. ولا يمكنننا البرهان الحقيقي للعالم المادي الا في الكتاب المقدس، ولا شيء سوى الايمان يكشف لنا عن وجود الاجسام بحق. 1 ص37

يعقب جان فال على ما سبق لمالبرانش قائلا: " اننا نستنتج من كلام مالبرانش وجود نوعين من العلوم، علوم تبحث في العلاقات القائمة بين الافكار المجردة، وعلوم اخرى تبحث في العلاقات القائمة بين الاشياء (بتوسط افكارها). 2 ص37

لو نحن اخذنا العلوم القائمة بين الاشياء بتوسط افكارها لوجدنا انفسنا امام حقيقة عدم وجود علم يقوم على افكار نظرية مجردة عن التجربة والتطبيق. فالعلوم الطبيعية قاطبة تقوم على فكرة نظرية وتجربة برهان. العلوم تختلف بالاختصاصات لكنها لا تختلف بثوابت المنهج العلمي. الافكار المجردة التي تبحث نظريا في منحى علمي لا تخلق علما بلا تجربة وتطبيق اختباري.

سمة الفكر التجريد وسمة العلم التجربة والتطبيق. افضل مثل يمكننا الاستشهاد به فلسفيا وليس علميا هو نموذج الفلسفة البراجماتية الامريكية او الذرائعية التي تذهب الى ان صواب وصحة قبول اية افكار نظرية يتوقف على مدى نجاحها عبور الفلترة التجريبية العملانية في تحقيقها المنفعة. والافكار النسقية المنضبطة منطقيا عقليا غير كافية لان تكون علما او نظرية صائبة. هذا على صعيد الفلسفة فما بالك لو طبقنا هذا المعيار على العلوم؟

مالبرانش والدوغمائية الايمانية

يذهب التطرف الايماني اللاهوتي لدى مالبرانش ابعد الحدود قوله مثلا: العلوم الطبيعية هذه المرة وليست القوانين الفيزيائية العامة تعتمد حسب مالبرانش في كثير من الاحيان على تجارب وظواهر مشكوك بها الى حد ما. ويصفها مالبرانش انها اعظم قيمة بالنسبة لنا من العلوم الرياضية، هذه العلوم خاضعة للنظام الموجود في الله. 3ص37.على ماذا اعتمد مالبرانش في استدلاله ان نظام الرياضيات وباقي العلوم الطبيعية خاضعة ومستمدة من النظام الموجود في الله.؟ نظام الرياضيات مخلوق بشريا وهو نظام ازلي ثابت لا يمكن تغييره ولا التلاعب بثوابته (المعادلات والرموز) فانت حين تتعامل اليوم مع معادلة حسابية بسيطة مثل 2+3=5 فهذه الحقيقة الرياضية لا تحتاج البرهنة المتكررة عليها بعد ان اصبحت حقيقة بديهية ثابتة اليوم وبعد الاف من السنين. بخلاف ثوابت العلوم الطبيعية فهي نسبية قابلة للدحض والتغيير والاضافة والتبديل احيانا.النظام الذي نجده ليس في قوانين الطبيعة والعلوم وفي بيولوجيا وظائف جسم الانسان ولا في غيرها من ظواهر فيزيائية وكيماوية وفي مختلف مناحي الحياة التي تعتمد منطق ثوابت علم الرياضيات والهندسة والجبر لا يمكن القطع بان نظامها الدقيق مستمد من النظام الموجود في الله.نحن حين نقول سواء بمنطق علمي او بمعنى ايمان غيبي بان العالم مخلوق باعجاز منظم تعجز عقولنا الالمام التام به ما يعني ان نظامه الاعجازي مستمد من الله. وباستثنائنا القوانين الطبيعية العامة الثابتة التي لا علاقة للانسان بوجودها بل باكتشافها فقط وليس اختراعها ايضا. فان الاعجاز الموجود في العلوم الطبيعية المصنعة مختبريا انما هي اختراع بشري لا علاقة له بالايمان الديني.

***

علي محمد اليوسف

.........................

الهوامش:

1. جان فال/ الفلسفة الفرنسية من ديكارت الى سارتر/ ترجمة فؤاد كامل ص37  

2. نفسه اعلاه نفس الصفحة/3. نفسه اعلاه نفس الصفحة  / 3. نفسه اعلاه نفس الصفحة

يجري في المقرر المتعارَف دراستُه في معاهد التعليم الديني اختزال الفلسفة في الإسلام بفلسفة ملا صدرا، وشيءٍ من ابن سينا، وشيءٍ من شيخ الإشراق السهروردي المقتول، وغالبًا ما يجري التعرّفُ على بعض أفكارهما عبر ملا صدرا، فيما يغيب بنحوٍ تام أو يشحّ حضورُ تراثٍ فلسفي واسع، أنجزه فلاسفةٌ معروفون. كانت فلسفةُ ملا صدرا وما زالت محورًا للدرس الفلسفي في معاهد التعليم الديني، وتنامت واتسعت دراستُها في نصف القرن الماضي. التقليد المكرّس في هذا الدرس اليوم لا يهتم إلّا بفلسفة ملا صدرا الشيرازي، وتلامذةِ فلسفته. وكأن الفلسفةَ في الاسلام تبدأ وتنتهي بملا صدرا.

يلتقي القارئُ في المجلدات التسعة لكتاب "الأسفار الأربعة" باقتباساتٍ مطولة من آثار الفخر الرازي وغيره، فقد قال بعضُ المحققين إن ملا صدرا نسخ كتابَ: "المباحث المشرقية"، ونصوصًا لابن عربي. ويلتقي القارئُ بكلمات القيصري شارح "فصوص الحكم"، مضافًا إلى نصوص من الكتب الأخرى، وغالبًا لا يشير ملا صدرا إلى ما يقتبسه، حتى اتهمه البعضُ بالانتحال. وذهب آخرون إلى أن ملا صدرا جمع أكثر كتابه الأسفار الأربعة وغيره بنَسْخ مؤلفات غيره، فقد كتب علي أصغر حلبي: "لا تكمن أهمية فيلسوفنا في تأليفه كتابًا ضخمًا بحجم الأسفار، وإنما تكمن أهميته في بيان بضع مسائل بديعة لا يتجاوز بيانها أربعين صفحة، ولو أن هذا الرجل العظيم قد اكتفى بطرح هذه الأفكار في رسالة مختصرة، لكفى نفسه وكفانا مؤونة قراءة موسوعاته"[1].

وكان الميرزا أبو الحسن جلوه (1238- 1314 ه) أول من نبّه على ذلك. أبو الحسن جلوه فيلسوف مشائي من أتباع ابن سينا، والمعروف عنه أنه كان لا يدرّس كتابًا إلا بعد أن يصحّحَه، ويشرحَ غوامضَه، ويحيل على مصادره ومراجعه.كان جلوه يحتفظ بنسخة مخطوطة من الأسفار الأربعة "موجودةٍ في مكتبة مجلس الشورى في طهران. وهي مملوءةٌ بالتعليقات، التي كتبها بين سطورها"[2]. نبّه أبو الحسن جلوه إلى المراجع التي نقل عنها ملا صدرا، من دون أن يحيل إليها صاحبُ الأسفار، حتى نسب بعضُ الباحثين الى جلوه أنه ألّف كتابًا، بعنوان: "سرقات ملا صدرا، وأشاروا إلى أنه محفوظ في مكتبة مجلس الشورى. حيث تم استخراج الموارد التي أخذها صدر المتألهين من الآخرين"[3]. ولعلها التعليقاتُ المذكورة نفسُها، إذ لم تدرج في آثار جلوه، وهي غير موجودة اليوم في فهارس هذه المكتبة، وربما أخفاها أحدُ عشّاق ملا صدرا.

كما اتهم الآغا ضياء الدين درّي ملا صدرا بانتحال أفكار غيره من دون إشارة. إذ تعرّض إلى هذا الموضوع عند التعريف بملا صدرا في القسم الأخير من ترجمته لكتاب "كنز الحكمة" للشهرزوري، الذي خصَّ به الفلاسفةَ الذين لم يرد ذكرُهم في هذا الكتاب. وهناك صرَّحَ بانتحالات ملا صدرا، وذكر العديدَ من الموارد، فقال بصراحة: "كان صاحب الأسفار يعمد إلى إسقاط بداية النص وخاتمته، وفي أغلب الموارد تكون العبارات منقولة بشكل خاطئ، الأمر الذي كان يوقع الأساتذة المتقدمين في الخطأ في سعيهم إلى توجيه تلك العبارات ... في الكثير من الموارد ينسب مسائل وأجوبة الآخرين إلى نفسه"[4].

حسن حسن زاده آملي، الذي هو أبرزُ المختصين في عصرنا بآثار ملا صدرا، وأوسعُهم اطلاعًا وتتبعًا، والذي قام بتصحيح الأسفار الأربعة والتعليق عليها[5]، يقدّم لنا شهادتَه الصريحة بهذا الشأن، بعد 20 عاما من التدقيق والتحقيق والتدريس لكتاب "الأسفار" وكتب ملا صدرا، وكتابَي الفتوحات والفصوص، ففي كتاب زاده آملي: "العرفان والحكمة المتعالية" وهو بالفارسية[6]، يقول: "إن جميع المباحث الرفيعة والعرشية للأسفار منقولة من الفصوص والفتوحات وبقية الصحف القيّمة والكريمة للشيخ الأكبر وتلاميذه، بلا واسطة أو مع الواسطة... إذا اعتبرنا كتاب الأسفار الكبير مدخلًا أو شرحًا للفصوص والفتوحات فقد نطقنا بالصواب، ولا سيما عندما يذكر: تحقيق عرشي"[7]، وأضاف حسن حسن زاده آملي ما نصه: " كل ما لدى ملا صدرا هو من محيي الدين وقد جلس على مائدته"[8].

وكتب جهانگيري في مقدمة تصحيح رسالة (كسر أصنام الجاهلية) لملا صدرا: "إن جميع المسائل تقريبا، وأكثر العبارات والأحاديث الواردة في هذه الرسالة ــــ إلا في بعض الموارد المعدودة ــــ منقولة عن مؤلفات المتقدمين على عصر صدر المتألهين، وقد نقلها دون الإحالة إلى مصادرها، ويبدو أنه كان يقوم بنقل الأحاديث من ذاكرته ودون الرجوع إلى كتب الحديث. وكان لكتاب (إحياء علوم الدين) للغزالي الحصة الكبرى من الكتب التي اعتمدها صدر المتألهين، وقام بتلخيص موضوعاتها"[9].

وأشار رضا أكبريان ــــ الذي تولى تصحيحَ المجلد التاسع من الأسفار ــــ في هوامش متعددة إلى ذلك، إذ يكتب مثلًا: "إن عبارة المصنف في هذا الشأن قد وردت في كتاب (المباحث المشرقية) مع شيء من التغيير"[10]. أو قوله: "إن مسائل هذا الفصل شبيهة بمسائل (المباحث المشرقية)"[11]. ومن ثم ذكر موضعَ المصادر الأصلية لتسهلَ على القارئ عمليةُ المقارنة بين هذه الموارد. وفي الحقيقة، إن صدرَ المتألهين قد أخذ هنا[12] ما يقرب من عشرين صفحةً عن الفخر الرازي، دون أن يشيرَ إلى مصدره، مع قيامِهِ بتغيير بعضِ الكلمات والعبارات[13].

وكذلك أشار جوادي آملي في شرحه على الأسفار إلى هذه الحقيقة،كما في ذلك قوله: "إن بعض أبحاث هذا الفصل متطابقة مع أبحاث الفخر الرازي في (المباحث المشرقية)"[14]، وهكذا قوله: "لقد ذكر ابنُ سينا برهانَ الصديقين في الفصل التاسع والعشرين من النمط الرابع من (الإشارات والتنبيهات)، وقام المحقّق الطوسي بشرحه، وإنَّ جانبًا من عبارات هذا الفصل من الأسفار هي ذات عبارات شرح الطوسي على الإشارات"[15].

كما نبه أحمد خسروجردي إلى كيفية نقل ملا صدرا عن غيره، بقوله: "لم يقتصر على جملة واحدة أو جملتين، وإنما قد يستغرق أحيانًا صفحة كاملة وحتى أربع صفحات، بل وحتى فصلًا كاملًا أو فصلين من كتب الآخرين، دون أدنى تغيير"[16].

وقال علي رضا ذكاوتي قراگزلو: "هناك فصلٌ كاملٌ في (عشق الظرفاء والفتيان وذوي الأوجه الحسان)[17] منقولٌ بنصِّه عن (رسائل إخوان الصفا)[18]، فعلى من أراد أن يجري مقارنةً بينهما، أن يقفَ على حقيقة ذلك"[19].

وكتب مهدي حائري يزدي: "المعروف أن صدر المتألهين قد أخذ أجزاء من كتاب الأسفار الأربعة وبعض كتبه الأخرى عن الآخرين دون ذكر أسمائهم. وهذا ما وجدته بنفسي، حيث رأيت اقتباساته عن (المباحث المشرقية) في كتاب (الأسفار الأربعة)، دون أن يشير إلى ذلك"[20].

كما صرّحَ غلام حسين إبراهيمي ديناني قائلا: "إن صدر المتألهين في الكثير من الموارد قد نقل نص عبارات الفلاسفة والمتكلمين والعرفاء الذين سبقوه، دون أن تصدر عنه أدنى إشارة للمصادر التي نقل عنها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن تبرير صدور هذا الأمر عن مثل هذا الشخص الحكيم والمتألِّه؟"[21].

تسيّدت فلسفة ملا صدرا في معاهد التعليم الديني بشكل حجبت فلاسفة عالم الإسلام سواه، وبالغ المعجبون فيه إلى درجة جعلوه يتفوق على فلاسفة المشرق والمغرب في تاريخ الإسلام، وقلما درست آثاره دراسة نقدية في معاهد التعليم الديني، أو جرى التفتيش عن مرجعيات نظرياته والكشف عن منابعها، وغالبًا ما تم التسليم بما يقوله بلا تفحص واختبار وتمحيص.

شدّد ملا صدرا في بعض كتاباته على أنه هو مَن أبدع نظريةً أو قاعدةً ما، وأنه لم يسبقه للقول بها أحد، في حين نعثر عليها نفسها فيما أورده ابنُ عربي أو غيره قبله مثلًا،كما نلحظ ذلك بقوله: "وهذا مطلب شريف لم أجد في وجه الأرض من له علم بذلك"[22]، وهو يتحدث عن قاعدة: "بسيط الحقيقة كل الأشياء"، التي وردت في آثار ابن عربي، فقد ذكر القيصري في شرحه لفصوص الحكم هذه القاعدة في سياق قوله: "لأن تلك الحقائق أيضاً عين ذاته حقيقة، وإن كانت غيرها تعينًا". والغريب أن ملا صدرا يورد نصًّا لابن عربي تأييدًا لما قرّره في هذه القاعدة، إذ يقول محيي الدين: "العلم التفصيلي في عين الإجمال"[23].

كما أن القارئ الخبير بكتاب الأسفار لملا صدرا وآثارِ ابنِ عربي يعرِفُ أن نظريةَ الحركة الجوهرية لملا صدرا هي صياغةٌ أخرى لنظرية تجدّد الأمثال عند ابن عربي. وإن كانت نظريةُ تجدد الأمثال تتسع لكل عالَم الإمكان الذي يشمل عوالِمَ العقل والمثال والمادة، لكن ملا صدرا خصَّها بعالَم المادة. ويعني تجدّدُ الأمثال أنَّ وجودَ كلّ شيء في عالم الإمكان يتلوه وجود، من دون أن يتخللَ العدمُ بينهما، أي في كلّ آنٍ يظهر وجود، ثم يليه وجودٌ جديد، وهكذا تتوالى الوجودات كلَّ آن. يرى المتصوفةُ أن لكل وجود باطنًا وظاهرًا، وتجددُ الأمثال هو تجلِّي الوجود الإمكاني وظهورُه من عالم الباطن. أما الحركةُ الجوهرية فهي صيرورةٌ تكاملية لكل شيءٍ موجودٍ في عالم المادة، أي ليس هناك جوهرٌ ماديّ ثابت في الطبيعة، كلُّ وجودٍ لجوهر في حالة صيرورة سيالة مستمرة متواصلة، يتكامل وجودُه معها بالتدريج حتى يتجردَ ليتوقفَ، إذ لا حركةَ في المجرَّد[24].

وعلى الرغم من الانقسام في المواقف من ملا صدرا، لكن تَسيَّد منذ النصف الثاني من القرن العشرين التيارُ الصدرائي، وحجب الأصواتَ الناقدة لهذه الفلسفة. فمثلًأ تمحورت اهتمامات مرتضى المطهري وغيرُه من تلامذة الطباطبائي بالفلسفة الصدرائية، وأُعجب المطهري في توصيف أثرها بعبارات، هو أقرب لمديح الشعراء من صرامة عقل الفلاسفة، فنراه يقول في سياق حديثه عن الحركة الجوهرية: "إن من جملة الأفكار الثمينة جدًّا لصدر المتألهين، والتي غيرت وجه الفلسفة، وفي الواقع غيرت وجه العالم في نظرنا، هي إثباته للحركة الجوهرية. وهي تعني أن جواهر هذا العالم، وتبعًا لها أعراض العالم، في تغيُّر دائم ومستمر، وأساسًا لا يوجد ثبات في عالم الطبيعة"[25]. والذي نعرف أن ملا صدرا (980هـ-1050هـ / 1572م-1640م) في الشرق كان معاصرًا لديكارت (1596 –1650) في الغرب، ولا ينكر خبيرٌ بتاريخ الفلسفة أن عقلانيةَ ديكارت كانت رائدةً في انبعاثِ العقلانية الحديثة، والتحرّرِ من وصاية العقلانية الأرسطية. ولم نرَ حتى اليوم أثرًا ملموسًا للفلسفة الصدرائية في بناء عقل حديث في عالم الإسلام.

سنة 1991م ترجمتُ من الفارسية كتابَ "شرح المنظومة المبسوط" في 4 أجزاء لمرتضى مطهري، وأردفتُه بترجمة: "محاضرات في الفلسفة الإسلامية" له أيضا، وكلاهما مطبوعٌ بالعربية، ولم قرأ له فيهما كلمةٌ واحدة أو إشارةٌ عابرة في نقد الفلسفة الصدرائية أو دعوة لضرورة مراجعتها ونقدها وتمحيصها. يرى المطهري بأن "ملا صدرا ألّفَ بين المسلك العقلي للفلسفة والمسلك القلبي للعرفان"[26]. ونحن نعلم أن الفلسفة لا تخرج عن مرجعية العقل، فهي تستقي من العقل وتسقيه، والعرفان لا يخرج عن مرجعية القلب، فهو يستضئ بالقلب ويضيؤه.

بسبب سطوة الفلسفة الصدرائية لا يعرف أكثرُ دارسي الفلسفة في المعاهد الدينية شيئًا عن فلسفة أول فيلسوف مسلم، وهو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكِندي المتوفى سنة 252 أو260 هـ، والذي عدَّه كاردان cardan؛ أحدُ فلاسفة عصر النهضة «واحداً من اثني عشر مفكرًا، هم أنفذ المفكرين عقولًا»[27]. وأورد ابنُ النديم في (الفهرست) قائمةً لمؤلفات الكندي تجاوزت (230) عنوانًا[28]؛ منها ما هو في الفلسفة، ومنها ماهو في المنطق، والموسيقى، والحساب، والطبيعة، وغير ذلك، لكن ما وصلنا منها هو مجموعةُ رسائل، ظلَّت حتى عهد متأخر طيَّ النسيان، حتى اكتشفها في الثلاثينات من هذا القرن المستشرقُ الألماني ريتر H-Ritter، في مكتبة أيا صوفيا بإسطنبول، فعكف عليها محمد عبد الهادي أبو ريدة، ونشر ما يتصل منها برسائل الكندي الفلسفية والعلمية في مجلدين، صدر الأولُ منهما عام 1950م، وصدر الثاني عام 1953م، وقدّم أبو ريدة لهذه الرسائل بدراسةٍ مستفيضة عن الكندي، وفكرِه الفلسفي، وإسهامِه في تأسيس الفلسفة في الإسلام. وكانت بضعُ رسائل أخرى قد نُشرت للكندي في أوروبا قبل هذا التاريخ بكثير، أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بترجمات لاتينية، ضاع الأصلُ العربي لبعضها[29].

كذلك يظل تلميذُ الفلسفة في هذه المعاهد يجهل ما أنجزه الفيلسوفُ أبو نصر محمد بن طرخان الفارابي المعروف بالمعلم الثاني والمتوفى سنة 339هـ ، والذي وصفه ابنُ خلكان بأنه: "أكبر فلاسفة المسلمين، ولم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه، والرئيس أبو علي بن سينا بكتبه تخرج، وبكلامه انتفع في تصانيفه"[30]. ولذا نصَّ غيرُ واحدٍ ممن ترجموا لابن سينا أو درسوا فلسفته، على أنه كان تلميذًا لتصانيف الفارابي، بل ذهب بعضُهم إلى أننا: «نكاد لا نجد في فلسفته شيئًا الا وأصوله عند الفارابي»[31]. وربما لا يتاح لتلميذ الفلسفة سوى معرفة بعض الآراء القليلة للفارابي، المتناثرة في آثار ملا صدرا الشيرازي، والفلاسفة التالين لـه، ممن يتعاطى التلاميذُ دراسةَ مؤلفاتهم في معاهد التعليم الديني، وهي لا تقدّم صورةً واضحة عن الآثار الفلسفية للفارابي، ودورِه التأسيسي للفلسفة في الإسلام. يقول الشيخ الرئيس ابن سينا في ترجمته لنفسه: «وانتهيت إلى العلم الإلهي ، وقرأت (كتاب ما بعد الطبيعة)، فلم أفهم ما فيه، والتبس عليَّ غرضُ واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظًا. وأنا ـــ مع ذلك ـــ لا أفهمه، ولا المقصود به، وأيست من نفسي، وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه، فحضرتُ يومًا، وقت العصر، في سوق الوراقين، فتقدم دلال بيده مجلد ينادي عليه، فعرضه علي، فرددته رد متبرم، معتقدًا أنْ لا فائدة في هذا العلم، فقال: اشتره فصاحبه محتاج إلى ثمنه، وهو رخيص، أبيعكه بثلاثة دراهم، فاشتريته، فإذا هو كتاب أبي نصر الفارابي في أغراض كتاب (ما بعد الطبيعة). فرجعت إلى داري وأسرعتُ قراءته فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب، لأنه صار محفوظًا على ظهر القلب، ففرحت بذلك، وتصدقت في اليوم التالي بشيء كثير على الفقراء، شكرًا لله تعالى...»[32].

واحدة من نتائج تقليد فلسفة ملا صدرا تعطيل الاختلاف والتساؤل الفلسفي في معاهد التعليم الديني. الفلسفة فن الاختلاف والتشكيك والتساؤل، تسود تاريخَ الفلسفة سلسلةٌ متوالية من الاختلافات والتساؤلات الكبرى، وتقويض اليقينيات المتصلبة، والخروج على ما كان كثيرون يحسبونها بداهات راسخة. لولا ذلك لم تتعدّد وتتنوع المدارسُ الفلسفية، ولم تختلف الرؤى والمواقفُ والآراء والمفاهيم المتصارعة للفلاسفة. يبدأ موتُ الفلسفة لحظة تتسلط آراء فيلسوف واحد ويقلده دارسو الفلسفة، ويرضخ الكلُّ لما يقوله. ‏لا يتجلى التفلسف ولا يدلّل على حضوره وفاعليته إلا بالأسئلة وإجابات الأسئلة التي تتوالد منها أسئلةٌ واختلافات في الرؤى والآراء. التقليد والاتباع يُفسِد التفلسف.

اختصار الفلسفة بملا صدرا الشيرازي في معاهد التعليم الديني في القرن الأخير يعود إلى كون الفلسفة الصدرائية مزيجًا من الفلسفة والعرفان، وهي تعبير واضح عن الحاجة إلى ما تنشده الحياة الحياة الروحية. فضلًا عن أن الفقهاء الذين قالوا بولاية الفقيه المطلقة يتبنون نظرية الإنسان الكامل في العرفان، وفلسفةُ ملا صدرا الشيرازي أساسٌ لهذه النظرية، لذلك اتسعت دراسةُ وتدريس هذه الفلسفة في قم بعد قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

..............................

[1] علي أصغر حلبي، تاريخ فلسفه در ايران وجهان اسلامي، ص 488.

[2] مرتضى مطهري، مصدر سابق، ص 92.

[3] مهدي حائري يزدي، كاوشهاي عقل نظري، ص 32

[4] ضياء الدين درّي، كنز الحكمة، ترجمة تاريخ الحكماء لشمس الدين الشهرزوري، ج 2، ص 157، 160.

[5] أصدرت وزارة الارشاد في طهران عام 1414 هـ المجلد الأول من الأسفار الذي صححه وعلق عليه: الشيخ حسن حسن زاده أملي.

[6] العرفان والحكمة المتعالية ص 36.

دومين يادنامه علامه طباطبائي، طهران، 1363 = 1984، ص 16، 36.[7]

[8] المصدر السابق، ص 41

[9] - انظر: صدرالمتألهين محمد بن إبراهيم الشيرازي،كسرأصنام الجاهلية،مقدمةالمصحح، ص34.

[10] - انظر: صدر المتألهين محمد الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، ج 9، ص 101.

[11] - انظر: المصدر أعلاه، ص 103.

[12] - أي: السفر الرابع، الباب التاسع، ص 103 ـ 107.

[13] - انظر: فخر الدين الرازي، المباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات، ج 2، ص 421 ـ 428.

[14] عبد الله جوادي آملي، رحيق مختوم، شرح حكمت متعالية، ج 9، ص 205.

[15]  عبد الله جوادي آملي، شرح حكمت متعالية، الأسفار الأربعة، ص 133.

[16] - انظر: سلسلة مقالات مؤتمر كرمان، ج 3، ص 627 ـ 628، نقلاً عن: علي رضا ذكاوتي قراگوزلو، سير تاريخي نقد ملا صدرا، ص 16.

صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، ج 7، ص 229 ـ 239 [17]

رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، إذ تناولت الرسالة السابعة والثلاثون ماهية العشق، ج 3، ص 269 ـ 286[18]

[19]  علي رضا ذكاوتي قراگزلو، سير تاريخي نقد ملا صدرا، ص 18.

[20]  مهدي الحائري اليزدي، كاوش هاى عقل نظرى، ص 32.

[21]  غلام حسين إبراهيمي ديناني، نيايش فيلسوف (سلسلة المقالات)، ص 451 ـ 452.

ملا صدرا، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج 6: ص 286-289.[22]

شرح القيصري على فصوص الحكم، قم، 1363=1984، ص7.[23]

[24] للمزيد راجع: هُمائي، جلال الدين، رسالتان في الفلسفة الإسلامية: تجدد الأمثال والحركة الجوهرية، والجبر والاختيار من وجهة نظر جلال الدين الرومي، ترجمة: محمد حمادي، البصرة: شهريار، ص 37 – 47.

[25] المطهري، مرتضى، محاضرات في الفلسفة الإسلامية، ترجمة: عبد الجبار الرفاعي،  قم: دار الكتاب الإسلامي، ص 121.

[26] المطهري، مرتضى، محاضرات في الفلسفة الإسلامية،  ص 96.

[27]- دي بور، ت . ج . تأريخ الفلسفة في الاسلام. ترجمة: د. محمد عبد الهادي أبو ريدة .القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر،ط4، 1957م، ص182.

[28]- ابن النديم . الفهرست .تحقيق: رضا تجدد.طهران. ص315ـــ 320.

[29]- مرحبا. د. محمد عبد الرحمن . الكندي : فلسفته ـــ منتخبات. بيروت ـــ باريس: منشورات عويدات،ط1، 1985م،ص13ـــ 15.

[30]- ابن خلكان، أحمد بن محمد. وفيات الأعيان. تحقيق: د. إحسان عباس . قم: منشورات الرضي، ج5 .ص153.

[31]- دي بور. تاريخ الفلسفة في الإسلام . ترجمة: الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة ، القاهرة: ط  4، 1957م، هامش ص 192.

[32] الطريحي، محمد كاظم، ابن سينا، بغداد: 1949م، ص 12.

 

يتناول عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (1 أغسطس 1930 - 23 يناير 2002) السلطة في سياق "نظرية مجتمعية" شاملة، والتي - كما هو الحال مع نظرية ميشيل فوكو - لا يمكننا هنا إنصافها، أو التعبير عنها بسهولة من خلال مناهج تطبيقية. ورغم أن موضوعه كان في الغالب المجتمع الجزائري والفرنسي، فقد وجدنا أن منهج بورديو مفيد في تحليل السلطة في عمليات التنمية والتغيير الاجتماعي. في حين يرى فوكو السلطة "موجودة في كل مكان" وتتجاوز نطاق الفاعلية أو البنية، يرى بورديو السلطة كعنصر ثقافي ورمزي، يُعاد إضفاء الشرعية عليه باستمرار من خلال تفاعل الفاعلية والبنية. والطريقة الرئيسية لتحقيق ذلك هي من خلال ما يسميه "الهابيتوس" أو المعايير أو الميول الاجتماعية التي توجه السلوك والتفكير. "الهابيتوس" هو "الطريقة التي يترسخ بها المجتمع في الأفراد على شكل ميول دائمة، أو قدرات مُدرَّبة وميول مُهيكلة للتفكير والشعور والتصرف بطرق مُحددة، تُوجِّههم". يتشكل "الهابيتوس" من خلال عملية اجتماعية، لا فردية، تُؤدي إلى أنماط دائمة وقابلة للانتقال من سياق إلى آخر، ولكنها تتغير أيضًا تبعًا لسياقات مُحددة ومع مرور الوقت. "الهابيتوس" "ليس ثابتا أو دائم، ويمكن تغييره في ظروف غير متوقعة أو على مدى فترة تاريخية طويلة": "الهابيتوس" ليس نتيجة إرادة حرة، ولا تُحدَّد بالهياكل، بل ينشأ من نوع من التفاعل بينهما على مر الزمن: ميول تُشكِّلها أحداث وهياكل الماضي، وتُشكِّل الممارسات والهياكل الحالية، والأهم من ذلك، تُحدِّد إدراكنا لها . بهذا المعنى، تُخلق الهابيتوس وتُعاد إنتاجها لا شعوريًا، "دون أي سعي متعمد لتحقيق التماسك... دون أي تركيز واعٍ". ومن المفاهيم المهمة الثانية التي طرحها بورديو مفهوم "رأس المال"، الذي يتجاوز مفهوم الأصول المادية ليشمل رأس مال قد يكون اجتماعيًا أو ثقافيًا أو رمزيًا. قد تكون هذه الأشكال من رأس المال بنفس الأهمية، ويمكن تراكمها ونقلها من مجال إلى آخر. يلعب رأس المال الثقافي - والوسائل التي يُنشأ بها أو يُنقل من أشكال رأس المال الأخرى - دورًا محوريًا في علاقات السلطة المجتمعية، إذ "يوفر وسيلة لشكل غير اقتصادي من الهيمنة والتسلسل الهرمي، حيث تتميز الطبقات من خلال الذوق". إن التحول من الأشكال المادية لرأس المال إلى الأشكال الثقافية والرمزية لرأس المال هو الذي يخفي إلى حد كبير أسباب عدم المساواة. وقد توسع بورديو في دراسة المجتمع الفرنسي الكلاسيكية، في كتابه"التمييز" (1986)، فيه شرح هذه الأفكار، حيث يُظهر كيف "يُنقش النظام الاجتماعي تدريجيًا في عقول الناس" من خلال "المنتجات الثقافية"، بما في ذلك أنظمة التعليم، واللغة، والأحكام، والقيم، وأساليب التصنيف، وأنشطة الحياة اليومية. ويؤدي كل ذلك إلى قبول لاواعي للاختلافات والتسلسلات الهرمية الاجتماعية، وإلى "شعور الفرد بمكانته"، وإلى سلوكيات الإقصاء الذاتي. وهناك مفهوم ثالث مهم في نظرية بورديو، وهو فكرة "الحقول"، وهي الساحات الاجتماعية والمؤسساتية المتنوعة التي يُعبّر فيها الناس عن تصرفاتهم ويُعيدون إنتاجها، ويتنافسون فيها على توزيع أنواع مختلفة من رأس المال. المجال هو شبكة أو بنية أو مجموعة علاقات قد تكون فكرية أو دينية أو تعليمية أو ثقافية، إلخ. غالبًا ما يختلف شعور الناس بالسلطة تبعًا للمجال الذي يعملون فيه في لحظة معينة ، لذا يُعدّ السياق والبيئة من العوامل الرئيسية المؤثرة على الهابيتوس: "يشرح بورديو في (1980) التوترات والتناقضات التي تنشأ عندما يواجه الناس سياقات مختلفة ويواجهون تحدياتها. ويمكن استخدام نظريته لتفسير كيف يمكن للناس مقاومة السلطة والهيمنة في مجال ما والتعبير عن التواطؤ في مجال آخر". تساعد المجالات في تفسير اختلاف السلطة، على سبيل المثال، التي تشعر بها النساء في المجالين العام والخاص. وقد لاحظ الناشطون والباحثون النسويون هذا على نطاق واسع، وهو يُشير إلى أن النساء والرجال مُعَيَّنون اجتماعيًا على التصرف بشكل مختلف في مجالات السلطة "العامة والخاصة والحميمة" . وهناك مفهوم أخير مهم في فهم بورديو للسلطة، وهو مفهوم "الدوكسا"، وهو مزيج من المعايير والمعتقدات التقليدية وغير التقليدية - أي الافتراضات غير المعلنة والمسلَّم بها أو "الحس السليم" الكامن وراء التمييزات التي نُجريها. وتحدث "الدوكسا" عندما "ننسى الحدود" التي أدت إلى انقسامات غير متكافئة في المجتمع: إنه "التزام بعلاقات نظامية تُعتبر بديهية، لأنها تُشكِّل العالم الواقعي وعالم الفكر على نحو لا ينفصل". يستخدم بورديو أيضًا مصطلح "سوء التقدير"، وهو مصطلح يُشبه الأفكار الماركسية عن "الوعي الزائف"، ولكنه يعمل على مستوى أعمق يتجاوز أي نية للتلاعب الواعي من قِبل أي جماعة أو أخرى. وخلافًا للرؤية الماركسية، يُعد "سوء التقدير" ظاهرة ثقافية أكثر منه أيديولوجية، لأنه "يُجسد مجموعة من العمليات الاجتماعية النشطة التي تُرسّخ افتراضات مُسلّم بها في نطاق الحياة الاجتماعية، والأهم من ذلك، أنها تولد في قلب الثقافة. جميع أشكال السلطة تتطلب الشرعية، والثقافة هي ساحة المعركة حيث يُتنازع على هذا التوافق، ويتجسد في النهاية بين الفاعلين، مما يُؤدي إلى اختلافات اجتماعية وهياكل غير متكافئة". في حين أن الكثير من هذا قد يبدو تجريديًا، فإن نظريات بورديو راسخة في مجموعة واسعة من الأبحاث الاجتماعية، وعبر مجموعة من القضايا الاجتماعية. في الواقع، يكمن جزء من جاذبيته في غزارة أبحاثه وتوثيقها تجريبيًا. ومن عوامل الجذب الأخرى لبورديو للباحثين الملتزمين سياسيًا أنه يعتبر المنهج الاجتماعي جزءًا من عملية التغيير. فالتحليل الدقيق يمكن أن يساعد في الكشف عن علاقات القوة التي أُخفيت بفعل العادات وسوء التقدير. اقترح بورديو "علم اجتماع تفكري" - حيث يُدرك المرء تحيزاته ومعتقداته وافتراضاته في عملية فهم المعنى - قبل أن تصبح التفكرية رائجة بوقت طويل. إن المعرفة النقدية الذاتية التي تكشف عن "مصادر القوة" وتكشف عن "الأسباب التي تفسر التفاوتات الاجتماعية والتسلسلات الهرمية" يمكن أن تصبح بحد ذاتها "أداة قوية لتعزيز التحرر الاجتماعي". تختلف الأساليب والمصطلحات التي استخدمها بورديو عن تلك المستخدمة في كتاب "مكعب القوة"، وتشير إلى تحليل اجتماعي أكثر تفصيلاً لعلاقات القوة، متجذر في "نظرية مجتمعية" شاملة. ومع ذلك، فإن آثار التحليل والفعل التطبيقيين تتوافق بقوة مع معاني القوة الداخلية الخفية و"القوة الداخلية"، ومع "نظرية التغيير" الضمنية في كتاب "مكعب القوة". تكمن الفكرة في أن فهم القوة والعجز، وخاصةً من خلال عمليات التعلم والتحليل التي تكشف عن القوة الخفية، يمكن أن يكون في حد ذاته عملية تمكين.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

........................

المصادر

بورديو، ب. (1980). منطق الممارسة. ستانفورد، مطبعة جامعة ستانفورد.

بورديو، ب. (1984). التمييز: نقد اجتماعي لحكم الذوق. لندن، روتليدج.

بورديو، ب. (1986). "أشكال رأس المال". دليل النظرية والبحث في علم اجتماع رأس المال. ج. ج. ريتشاردسون. نيويورك، مطبعة غرينوود: 241-258.

المراجع

جافينتا، ج. (2003). السلطة بعد لوكس: مراجعة للأدبيات، برايتون: معهد دراسات التنمية.

مونكريف، ج. (2006). "سلطة الوصمة: لقاءات مع "أطفال الشوارع" و"الريستافيك" في هايتي". نشرة معهد دراسات التنمية 37(6): 31-46. نافارو، ز. (٢٠٠٦) "بحثًا عن تفسير ثقافي للسلطة"، نشرة معهد الدراسات الاستراتيجية ٣٧(٦): ١١-٢٢.

فينيكلاسين، ل. وميلر، ف. (٢٠٠٢). نسيج جديد من السلطة والشعب والسياسة: دليل العمل للمناصرة ومشاركة المواطنين. أوكلاهوما سيتي، جيران العالم.

واكانت، ل. (٢٠٠٥) هابيتوس. الموسوعة الدولية لعلم الاجتماع الاقتصادي. ج. بيكيت وميلان، ز. لندن، روتليدج.

اسبينوزا ومذهب وحدة الوجود

يذهب والتر ستيس وهو فيلسوف يعنى بالتصوف في كتابه الذي نناقش بعض أفكاره (التصوف والفلسفة) تقديم وترجمة امام عبد الفتاح امام الى ان: المشكلة الأساسية في وحدة الوجود الصوفي تتصل بالعلاقة بين الله والعالم من حيث الهوية والاختلاف، هل الله والعالم متحدان في هويه واحدة؟ ام انهما متمايزان تماما؟ (1) كما يذهب له الادراك والتفكير الذهني العقلي واللاهوت الديني في مختلف الديانات السماوية وعديد من الديانات الأخرى من الذين لا يؤمنون بوحدة الوجود ويعتبرون ان الله والعالم متمايزان ومختلفان بالكينونة والهوية والكيف والصفات ولا علاقة اتحاد بينهما تحصل في أي شكل من أشكال الترابط او الحلول الصوفي بينهما.*

ولا بد من المرور برأي اسبينوزا صاحب مذهب وحدة الوجود الكلاسيكي الذي قال به فلسفيا ان الله شأنه شان جميع الظواهر الطبيعية والموجودات يتكون من جوهر وصفات موزعة على جميع الكائنات الحية والطبيعة والانسان والكوني، لذا نجده يتحدث عن الله والطبيعة او العالم والكون انهم جميعا مترادفات لمدلول ومعنى واحد، ولا يمكن الفصل بينها من حيث انها جميعا تعني دلالة واحدة، هي ان الله موجود في كل شيء، ولا تفريق كيفي هوّياتي مختلف متمايز ذاتيا من أي نوع بينهم. (كما لا يسلّم اسبينوزا باي وجود خالص خارج الطبيعة)(2). اي لا وجود لله خارج صفاته التي يمكن ادراكها او التي يتعذر علينا ادراكها ومعرفتنا بها بل نستمدها من الطبيعة.

كما يذهب دارسو اسبينوزا الى ان فكرة وحدة الوجود عنده لا تقوم على منطق فلسفي ذهني ولا على حجة عقلية بل تقوم على فكرة صوفية تماما. بمعنى اكثر وضوحا ان الله وجوده ملحوظ في توزّع صفاته على الطبيعة والانسان والكوني وما عدا ذلك فلا وجود الهي خارج هذه العوالم يمكننا ادراكه خارج صفاته بها وخلقه لها التي نحيا بها ومعها، ومن الملاحظ ان فيورباخ ذهب نفس المذهب في تأصيله نشأة الدين في علاقة الانسان بالطبيعة، ولا وجود من أي نوع من المقدس عابر لهذه الحقيقة قائلا (ان عبادة الله تعتمد فقط على عبادة الانسان لنفسه).

من الواضح ان اسبينوزا في فهمه وحدة الوجود يتأرجح بين الالحاد غير المعلن صراحة، وبين الايمان الذي تعجزه البرهنة عليه، فهو يطرح مسألة وحدة الوجود بتلاعب لفظي فلسفي نجده نحن انه يفترض ان الطبيعة تلتقي ب (الله) بالصفات لا بالجوهر، وانهما الله والطبيعة كلاهما وجود بصفات اختلافية، وهذا الجوهر أساسا ليس مفتقدا بالنسبة لظواهر الطبيعة، كظواهر وماهيات لا حصر لها، لكنه مفتقد بالنسبة ل (الله)، فالله بلا ماهية ولا جوهر يمكن ادراكها و معرفتها، وانما يعرف جوهره في مجموع صفاته، صفات لاهوتية تجريدية فقط، كالرحمة، والقوة، والخير، والمحبة، والعذاب، والعفو، والعظمة، والمقدرة وهكذا، وهذه غير صفاته المدركة حسّيا بالطبيعة وقوانينها المستمدة من الطبيعة في كل ما هو خير يتطلع الانسان الاقتداء به، صفات لاهوتية يقرّها الايمان و لا يقرّ بها العقل والعلم اصلها الطبيعة.

ومحاولة اسبينوزا الربط بين الله والطبيعة والوجود الكوني بالجوهر وصفاته، يؤكد لدينا نحن فقط ان صفات الله الالهية بلا ماهية ولا جوهر، فهو أي (الله) ليس ذاتا ولا موضوعا يمكن وعي وادراك ماهيته و صفاته غير المذكورة في اللاهوت الديني المستمدة جميعها من الطبيعة والصفات الخيرّة كما يتمناها الانسان، بل هو ممكن ان تكون بعض صفاته ادراكية في الطبيعة والكوني فقط لا غير، ومعدومة في كل مجالات التعرف او التعريف بها خارج الطبيعة الحسية والادراك العقلي او اللاشعوري التخيلي، ولكل شخص تفسيره لهذه الصفات وايمانه بها، بخلاف ان الطبيعة ظواهرها في اغلبها هي جواهر وظواهر معا تحكمها قوانين الطبيعة المدركة منها وغير المدركة إنسانيا في فضائي الزمان والمكان المحكوم بهما الانسان والطبيعة معا، بخلاف ان الله بلا ماهية ولا جوهر يمكن للإنسان ادراكها. فالله مدرك غيبيا بصفاته وليس مدركا بماهيته العصّية على المعرفة والادراك الحسي والذهني، ماعدا ان تكون مجمل صفاته تمثل جوهره، سواء اكانت تلك الصفات مدركة ام غير مدركة لنا.

الصفات الطبيعية في صوفية الاوبنشاد:

وحدة الوجود التي تعتمدها الاوبنشاد التي يطلبها صوفية الهنوسية والبوذية في اقتفائهم تعاليم المعبود براهمان او بوذا، هي من منطلق اسباغ قدسية الصفات الطبيعية على المعبود عندهم، ولا وجود لحياة أخرى فيها حساب وثواب بخلاف اديان الوحي التوحيدية، ويبدو ان هذا التعبير قريب من فهمنا لمقولة اسبينوزا بانه لا وجود لخالق فوق مدركات صفاته الأرضية والكونية له التي ندركها.

ولنقرأ هذه الابيات الشعرية للاوبنشاد:

انت النار والشمس والهواء/ وانت القمر/وانت الفلك المرصّع بالنجوم/ انت براهمان الأعلى /انت المياه/ (انت خالق كل شيء)/ انت الشاب والصبية والشيخ الذي يتوكأ على عصاه/ فثم وجهك في كل مكان/ انت الفراشة السوداء/ انت الببغاء ذو العينين الحمراوتين/ انت السحاب وانت الفصول وانت البحار/(انت البداية وانت فوق الزمان والمكان)(3).

من الواضح جدا ان وصف الاوبنشاد الصوفي هو وصف حسي ادراكي عقلي لظواهر الطبيعة والكون وخلعها على معبودهم وهو توصيف لاهوتي مشترك في غالبية الأديان التوحيدية وبعض غير التوحيدية من الأديان الوثنية، ولا يوجد بهذه الصفات خرق لقوانين الطبيعة على شكل معجزات ايمانية مجردة الا في عبارة(انت البداية وانت فوق الزمان والمكان) التي هي كسروخرق لقوانين الطبيعة التي تحكم قدرات البشرالادراكية حسيا وعقليا في اللانهائي زمانا ومكانا، وبهذا الفارق نكون نحن بشر، ويكون الله الها يعبد.

هذا الإحساس الصوفي والتعلّق بالصفات الطبيعية المنسوبة للخالق على انها صفات خارقة لقوانين الطبيعة هي في حقيقتها ليست كذلك في القداسة المسبغة عليها، ولا تنسجم مع القول: (براهما انت خالق كل شيء)، وفي هذا لا نجد ميزة قدسية تنفرد بها صوفية براهما عن باقي الأديان التوحيدية التي لا تجمع بين ان تكون الطبيعة بصفاتها هي الخالق، في نفس ان تكون مخلوقة أيضا، كما تدعي الاوبنشاد انها مخلوقة من خالق أسبق عليها بمعنى (ان الكون خالق للكون)(4) ذاتيا ولنفسه فقط، والطبيعة مخلوقة بصفاتها من قبل خالق هو في حقيقته عدم وخواء وامتلاء في وقت واحد، صاحب الصفات في الطبيعة واللاهوت الديني، والخالق غير المدرك للبشر لا في ماهيته ولا في صوره وتجليّاته وهو ما ينطبق على الفهم الديني واللاهوتي في مختلف الأديان التوحيدية في عجزها العقلي اثبات وجود الخالق او في اثبات عدم وجوده أيضا ولا في امكانية الاستدلال على صفاته غير الأرضية او الكونية التي يدّعي الصوفية الاتحاد بها في العرفان والاشراق في مدارج الحال الصوفية.

شيء عن صوفية zen البوذية

نبدأ بالتساؤل الازلي والاشكالية المتقادمة زمنيا في مختلف العصور ومختلف الأديان هي كيف يمكن لما لا يمكن ان يقال عنه انه موجود او موضوعي، ان يكون علّة أولى لكل ما هو موجود، وموجود وخالق من عدم او لاشيء؟ (5)

من العبث اللامجدي ان نتدخل في حل إشكالية وفك رموز شفرة ليست عصيّة على الصوفية وحسب، وانما عصية في محاولة سحبها على إشكالية اشبعت اجتهادا دونما نتيجة، هي كيف يكون الخالق علة بلا معلول، صانع وخالق كل شيء، وجوده من غير عدم سابق عليه لا قبله ولا بعده؟ وهكذا ندخل في دوامة من التجاذبات التي لا نهاية لها، في ادراك المسار الازلي لخلق العالم من عدم. من الخطأ الاعتقاد ان يكون ما ذكرناه حجّة كافية لاصحاب الاشراق الصوفي والاتحادي على انها إمكانية حقيقية ومتاح لهم تحقيقها، وانها وان كانت لا تمتلك الاقناع العقلي بها لكنها كافية لديهم للتعايش مع إشكالية الأصل في عدم إمكانية تفسير الخالق بانه علة بلا معلول، وأنه وجود ازلي واجب بالضرورة والحاجة البشرية له. فلماذا لا تكون التجربة الصوفية بزعمهم في مثل هذه الإشكالية العصّية على التفسير بمنطق او منهج فلسفي او لاهوت ديني التي تلتقي باشكالية الميتافيزيقا واختلافات التفسير اللاهوتي المتنوعة.؟ التي لا تمتلك لحد الان حلولا مقبولة. بمعنى ان القضايا الميتافيزيقية والدينية التي ليس لها حل، هي نفسها الايمان الغيبي في قضايا الصوفية كيقينيات لا تمتلك برهان صحتها ولا نفيها، ولكن يوجد من يؤمن بها ويدعو لها ويزيدها ارباكا وغموضا.

ان ما يجعل الشك وعدم الترجيح والتسليم في ان تكون التجربة الصوفية حقيقة وليست ذهانات خيالية تغذيها الجوانب النفسية اللاشعورية الوجدانية التي يخلعها المتصوف على الخالق المتصور، ويرتد فيها وعليها في وعيه وفي تأكيد ذاتيته الاضطرابية مستعينا بنفس المعيار الاشكالي غير المحسوم في غالبية الإشكاليات اللاهوتية والفلسفية في معالجتها قضايا الميتافيزيقا التي يدخل ضمنها الدين والصوفية من دون حل مرضي ونتيجة مقبولة.

ترى البوذية التصوفية zen ردا على إشكالية عدم وجود المتعين وجودا بنفس معيارية عجز العقل البشري في ادراك أي نوع من أنواع الصفات الإلهية او إمكانية الاتحاد بها في تجربة المتصوف في غير مجال الطبيعة والانسان والكوني، وهي وجهة نظر لا تبتعد كثيرا عن الدوران حول مركزية الإشكالية اللاهوتية في غالبية الأديان التي تجمع على ان وجود الله هو في تجلياته الطبيعية وصفاته المدركة عقليا وعاطفيا التي يتساوى في ادراكها المتصوف وغير المتصوف ميتافيزيقيا، وعليه لا تطرح البوذية معالجات جديدة يمكن الاعتداد والتسليم بمقبوليتها فتقول (طالما ان النرفانا هي الحقيقة النهائية التي هي بغير تمايز ولا اختلاف او ثنائيات، وانه لا توجد تفرقة في الحقيقة النهائية بين النرفانا واللانرفانا، بين الحقيقة واللاحقيقة وبين التعاليم واللاتعاليم، لذا يعلن بوذا ان الوجود واللاوجود ينبغي رفضهما معا، لا على انه وجود ولا على انه لا وجود او عدم). ص 253 من المصدر .

بضوء ما ذكرناه آنفا انه لمن المهم ان نعيد للذهن عدم إمكانية المتصوف تجاوز ذاتيته الصوفية التعبدية التي تعني التشتت واللانظام والكثرة بصفات لا (انسية) او لا بشرية تصوفية امام الواحدية الكلية الإلهية التي هي غير ذاتية ولا موضوعية، كي يستطيع الصوفي تنظيم وبرمجة مدركاته الحسية والتخييلية في امكانية الاتحاد الصوفي بها، فالواحدية الالهية هي اللامتعين اللانهائي غير المحدود زمانا ومكانا، واللا مختلف في واحديته ولا هوية تميزّه التي لا يمكن ادراكها باي وسيلة تصورية ادراكية بشرية، فهو الخالق بذاته وليس من اجل ذاته بعلاقته بالاخر فهو ليس بحاجة الى غيره وبعيد عن امكانية التشيؤ بأي معنى او مظهرحسيا اوتخييليا امام من يرغب ذلك من مريدي الاتحاد الصوفي به.

كل هذه العلاقة غير السوية وغير المتكافئة بادنى شروط المعيارية المقارنة بين الله والانسان، انما تجعل المتصوف يسلك طريقا خاطئا، ولا يعود بحصيلة لتجربته يمكن الوثوق بها والتيقن منها، لا كتجربة خارج ادراك الشخص غير المتصوف، ولا كتجربة ذاتية تمتلك اقل الإمكانات الادراكية او المقومات غير المنظورة في إمكانية كسر قوانين الطبيعة الشغالة في حيزي الزمان والمكان ان جاز التعبير وتحقيق الاتحاد بالله صوفيا. حتى عندما يعجز المتصوفون التعبير عن تجربتهم الصوفية لغويا، فهم يعزون ذلك العجز الى ادعائهم ان اللغة كيان محدود بمدركات الطبيعة ومفهوم الزمان والمكان الأرضي فقط، ولا يمكنهم توظيف اللغة المحدودة الصوفية للتعبير والاحاطة بكيان لا متناهي ولا محدود ولا متعيّن بصفات يتسنى للبشر ادراكها او معرفة ماهيتها.

وحدة الوجود في المسيحية

يطرح والتر ستيبس إشكالية وحدة الوجود في الأديان السماوية بالتساؤل التالي: (ما الذي يحدث في لحظة الاتحاد الصوفي مع الله؟ هل تصبح روح الصوفي ببساطة متحدة بالله؟ ام تبقى وجودا متمايزا ومختلفا عن الله تماما؟ ام ينتج عنهما هوية ثالثة في الاختلاف الاتحادي)(6) .

من المبكر التأكيد بالقطع ان المسيحية تفهم الاتحاد بالله انه لا يعني بالمطلق وحدة الوجود الذي تدينه كما في ادانة الإسلام له عند الصوفية ولا تقرّبه. فالقديسة تيريزا تصف الاتحاد بالله بقولها (واضح جدا ما الذي يعنيه الاتحاد، شيئان متمايزان يصبحان شيئا واحدا(7). تفسير الاتحاد هنا يعني ان الشيئين كلاهما يحتفظان بكيفياتهما المتمايزة غير المشتركة بعد الاتحاد، ويفقدانها وقت الاتحاد، فمثلا التقاء نهر مع نهر اخر يكونان نهرا ثالثا في كيفية واحدة جديدة، (مثال واقعي التقاء نهري دجلة والفرات وتكوينهما شط العرب) لكنهما في حقيقتهما (النهرين) يلغيان خصوصيتهما كلا لوحده في الكيفية الجديدة التي اوجداها في دمج كيفياتهما المتجانسة المشتركة (بالماء) وذوبانها في المجرى النهري الثالث بلا رجعة، ويكتفيان بتمايزهما كنهرين غير متصّلين قبل التقائهما واتحادهما معا في نهر شط العرب، ربما هذا المثل يفيدنا في الاتحاد الطبيعي المادي بين شيئين ماديين بكيفيات معلومة محسوسة ومشتركة عقلانيا لدينا، لكن هذا النوع من الاتحاد في الطبيعة غير صحيح في التعميم في وصف تجربة الاتحاد الصوفي بالله، من حيث اذا ما حقق المتصوف (كيفية) متمايزة عن كيفية البشر في الاتحاد الصوفي المؤقت بالله، فالنتيجة رجوع كل من الله والصوفي الى كيفياتهما الاصيلة قبل تحقيق اتحادهما وعودة المتصوف الطبيعي الخارج من تجربة الاتحاد الصوفي كأنسان ارضي قبل الاتحاد. لكن يتعذر على أي من النهرين العودة الى كيفياتهما قبل اتحادهما وتكوينهما حالة كيفية جديدة ناشئة من اتحادهما. لانهما يمتلكان كيفيتين ماديتين من نوع واحد هو (الماء). فالكيفيات المختلفة في حالة الاتحاد الصوفي تبقى متمايزة بالصفات، فالاله هو الخالق، والصوفي يبقى بشرا لا غير اذا صح تواصله مع الخالق ام لا.

ولنطالع على هذه العبارات لفيلسوف كبير في قضايا الصوفية تذهب لتاكيد ما ذهبنا له في العبارات السابقة، يقول روز بروك:(كما ان النار لا تصبح حديدا، ولا يصبح الحديد نارا، فان المخلوق المتحد بالله لا يكون الها، كما لا يصبح الله مخلوقا)(8). وهذا من ابلغ التبيرات الفلسفية اللاهوتية الموفقة، لكنه لا يتوافق تماما مع قول القديس يوحنا: (ان الاتحاد بالله اتحاد مشابهة يحدث عندما تتطابق ارادتان، إرادة الله وإرادة الروح معا، تلك الروح التي وصلت مرحلة التطابق الكامل والمماثلة فتتحد اتحادا تاما مع الله وتتحول الى الله على نحو يفوق الطبيعة ) (9). هنا واضح جدا ان الانسان يكتسب صفة فوق بشرية بالاتحاد مع الله ليرجع يفقدها بعد زمن انتهاء تجربة الاتحاد الصوفي. ومن هنا يجري التأكيد على ان الذات الفردية للمتصوف التي يتسنى لها زعم الاتحاد بالذات الإلهية، انما تبقى محتفظة بهويتها الخاصة البشرية بعد عودتها من رحلة التجربة الصوفية ولا يمكنها الاتحاد الهوياتي من غير الاختلاف مع الذات الإلهية.

عند امعان النظر جيدا في عبارات يوحنا حامل الصليب نفهم انه لا يتحدث عن الاتحاد الصوفي بالله في المسيحية، ولا يتحدث أيضا عن وحدة الوجود، بل يتحدث عن اتحاد اعجازي مستمد من تجربة المسيح في الصلب والقيامة، وفي خرقه نواميس الطبيعة في اعجاز لا يستطيعه البشر المتصوفة ولا الناس العاديين، عليه لا يترتب على مثل هذا النوع من الاتحاد مبدأ التعميم الصوفي في مفهومة الاتحاد بالخالق. وهذا لا يمنح تفويضا لاهوتيا ان بمقدور كل صوفي تجربة ما مر به المسيح . فالمسيح يمتلك اعجازا ممنوحا له من قبل الخالق في تمكينه اجتراح المعجزات التي لا يستطيعها أحد من البشر في قيامه بخوارق الأفعال، وهو ما يعجز عنه الصوفي او أي كائن عادي.

انه لمن المهم ان فكرة وحدة الوجود في المسيحية مرتبطة ارتباطا وثيقا في اللاهوت الديني المسيحي، وتعاليم الكنيسة اكثر من ارتباطها بفهم فلسفي صوفي كما يتاكد لنا من هذا الاقتباس: (ان ايكهارت وهو من اعظم متصوفة المسيحية في القرون الوسطى انه كان يردد في مواعظه بما اتهمته به الكنيسة على انه يزعم الهوية مع الله، في قوله: ينبغي على المرء ان يحيا بحيث يكون متحدا مع ابن الله لدرجة ان يصبح هو ذلك الابن، حتى لا يكون بين الروح والابن أي تمايز) ص 285 من المصدر.

ويقول القديس بولص؛ (اننا جميعا نتحول الى الله، وكل مايتغير الى شيء اخر، يصبح متحدا معه في هوية واحدة، ومن ثم لو انني تغيرت الى الله وجعلني واحدا مع ذاته، فلن يكون مع الله الحي أي تمييز بيننا، وانا والله واحد، وعيني عين الله واحدة، وهي هي، واحدة في الرؤية، واحدة في الحب). ص286 من المصدر المشار له.

(بعبارة أخرى فان الله والروح من حيث الوجود هي موجودات متمايزة، واتحادهما هو اتحاد تشابه كيفي أي نوعي لارادتين متفقتين، ويمكن تسمية هذا النوع من الاتحاد بالاتحاد الكيفي كتمييز له عن الاتحاد في الوجود – وحدة الوجود – او في الجوهر او في الهوية)(10). لاحظ العبارة تقول ارادتين متفقتين ولم يقل صفتين متشابهتين لكيانين يمتلكان كيفيتين متمايزتين جدا ومختلفتين هوياتيا، ولا مجال في تكافؤهما. (خالق الهي ومخلوق بشري).

تفهم المسيحية (العلاقة بين الله وجزء من العالم – المقصود بهذا الجزء الانسان – التي هي الذات الفردية في وصولها حالة الاتحاد الصوفي بالله انما تعني الهوية مع الله حتى لو كانت خلال فترة الاتحاد على الأقل)(11).

أيضا في الاقتباس أعلاه نلاحظ مدى التحفظ اللاهوتي المسيحي حول إمكانية وحقيقة الاتحاد بالله وفي امكانية اكتساب الصوفي كيفية خارقة لعالم البشر، وتستمد هذا الاكتساب – حتى لو كان اكتسابا مؤقتا خلال لحظة الاتحاد كما مر بنا – في الاتحاد المتكرر بالله تصوفيا. هذا الفهم الهوياتي الصوفي للاتحاد بالله قد يعطي تصورا زائفا لدى الصوفي انه بمستطاعه ان يكون ذاتا فردية وهوية صفاتية مكتسبة مغايرة لحقيقتها الاصلية البشرية الطبيعية، في اكتسابه هوية جزئية بصفات الوهية في اتحاده بالله. وهذا غير صحيح فلا يمكن لكيفيات متباينة مختلفة في الهوية والتكوين ان تتحد ويكتسب احدها من الاخر الذي هو الإلهي صفات تجعل منه فوق الانسان البشري حتى ولو لبعض الوقت، التي هي التجربة الصوفية وزمنها، وهذا النوع من وحدة الوجود يطلق عليه الكتاب المسيحيين ليس كل المسيحيين اسم (الهرطقة).

وحدة الوجود في المسيحية بادانتها زعم الصوفية بالاتحاد بالذات الإلهية انما تقوم على مبدأ (الهوية في الاختلاف بين الله والعالم او بين الروح والله، وان الاختلاف بين الله والذات المتناهية – الانسان –هو ما يسلّم به كل انسان بوصفه مسألة طبيعية لا تحتاج الى متصوف يؤكدها ولا الى فيلسوف يوضحها). ص 308

ويلتقي الإسلام بهذا النوع من التفسير التصوفي على ان هناك هوة عظيمة تفصل الخالق عن مخلوقاته، كما ان صوفية الإسلام تميل الى الاخذ بالاختلاف الهوياتي، بين الإلهي والبشري، وعن مقولة الفناء في الله لدى صوفية الإسلام يصفها الغزالي (غاية التصوف الفناء التام في الله، تخيلها البعض انهم اصبحوا مع الله في وحدة، كما تخيل اخرون انهم اصبحوا معه في هوية، وتخيل فريق ثالث انهم ارتبطوا به، لكن كل هذا غلط.).

***

علي محمد اليوسف / الموصل

.......................

الهوامش

* نحن هنا نصف الخالق بان له كينونة وهوية وماهية وصفات، قولا مجازيا فقط فلا احد بمستطاعه الجزم ان هذه من معالم الادراك البشري لها لا ايمانيا ولا عقليا. (كاتب المقالة).

1.  والتر ستيس /التصوف والفلسفة/ ترجمة امام عبد الفتاح امام / ص262

2.  نفس المصدر السابق ص 267

3.  نفس المصدر السابق ص 269

4.  نفس المصدر السابق ص 256

5.  نفس المصدر السابق ص 270

6.  نفس المصدر السابق ص 281

7.  نفس المصدر السابق ص 282

8.  نفس المصدر السابق ص 283

9.  نفس المصدر السابق ص 285

10.        نفس المصدر السابق ص 287

11.        نفس المصدر السابق ص 257

 

تقديم: مذهب وحدة الوجود لا تنحصر مداولته فلسفيا فقط بعيدا عن الاديان حيث لا يخلو دين من الاديان في العالم قديما وحديثا من التطرق لمبحث مذهب وحدة الوجود ولدى الفرق الصوفية العديدة التي تدين به. مذهب وحدة الوجود مبحثا إشكاليا على صعيدي الاديان والفلسفة على السواء. وتختلف معالجته في تداخله بين الدين والفلسفة، ونتطرق بهذه المقالة الى مفهوم وحدة الوجود في فلسفتي اسبينوزا المثالية وهيجل ألتأملية العقلية.

وحدة الوجود في فلسفتي هيجل واسبينوزا

" مذهب وحدة الوجود عند اسبينوزا يشبه الى حد كبير وحدة الوجود عند هيجل. وأكثر مما يشبه وحدة الوجود عند هنود ألمايا، ويقرّ هيجل على أن اسبينوزا كان محّقا الى حد ما عندما تصّور المطلق جوهرا واحدا، لكن المطلق بالفهم الفلسفي الهيجلي أبعد ما يكون عن فهمه أنه جوهر. لذا نجد وجوب معاملة الجوهر "ذاتا" وليس هناك شيء بالمطلق لا يكون عقليا، من الممكن معرفته وتصوره عقليا1.

توضيح مبدئي

وحدة الوجود عند اسبينوزا حين يلتقي مع فهم هيجل، فهذا مؤشر على وجود إختلاف جوهري كبير بينهما يصل مرحلة التضاد وليس التلاقي بينهما..أهمها بداية أن أسبينوزا يفهم وحدة الوجود فلسفيا بمرجعية لاهوت الإيمان الديني بالخالق خارج عدم ايمانه بالمعجزات، في حين يعمد هيجل فهم وحدة الوجود من منطلق فلسفي عقلاني منطقي على صعيد الفكر لا ديني يقوم على وحدة الادراك الكليّة العقلية في نزعة واقعية مثالية ليست ميتافيزيقية..

اسبينوزا يرى بالمطلق الأزلي الشامل الإلهي جوهرا لا يمكن إدراكه خالق غير مخلوق، بدلالته ندرك الجواهر الاخرى في الطبيعة والاشياء. بينما نجد النزعة العقلية لدى هيجل تذهب خلاف اسبينوزا أن الله والطبيعة والانسان والميتافيزيقا تقوم على فكرة مطلقة واحدة عقلية لا دينية تجد أنه لا يوجد شيء حتى الروح يطالها الإدراك العقلي. فكرة المطلق الهيجلية تجدها تمّثل مدركات موجودات الواقع في كل شيء يدركه العقل.اسبينوزا محق في إعتباره المطلق هو جوهر لا يمكن إدراكه، ليعود ينقض قوله هذا أن المطلق لا يلتقي الجوهر وهو خال من جوهر لا يدركه العقل. تناقض هيجل يتعدّى هنا مفهوم الجوهرفي الوجود الى الفكرة المطلقة التي يطال فيها العقل كل شيء. هيجل يرى المطلق هو الواقع الذي يدركه العقل. مطلق وحدة الوجود عند هيجل هو مطلق إدراك العقل لكل شيء يكون موضوعا لتفكير العقل به. الفكرة المطلقة عند هيجل لا يمكن تحديدها فهي الوجود والصيرورة والكيف وهي الماهية والطبيعة والفكرة الشاملة.

هيجل لا يؤمن بجوهر مثالي غير عيني غير مدرك لا على مستوى الطبيعة ولا على مستوى المطلق الكوني الالهي. لذا يدعو الى معاملة الجوهر "ذاتا" يمكن حدّها وإدراكها العقلي المباشر في التعامل معها، وهو خلاف صميمي بالإجهاز على فكر اسبينوزا في وجود جوهر كليّ شامل متكامل نعرف الوجود كاملا بدلالته. حينما نعامل الجوهر (ذاتا) كما يرغب هيجل نعامله كمدرك عقلي، يمكن تذويته بالموجودات التي ندركها على أنها صفات خارجية هي ماهيّة لا يحتجب جوهرا وراءها، وهذا ينطبق على الحيوان والنبات والجمادات التي تكون جواهرها هي صفاتها الخارجية المدركة في ملازمة وجودها الواقعي. لذا يوجد من يعتبر كائنات الطبيعة ما عدا الانسان جواهرها الماهوية تسبق وجودها في الطبيعة وعلاقة الانسان بها بخلاف الانسان وجوده المادي يسبق ماهيته كما رسّخت ذلك الفلسفة الوجودية الحديثة وقبلها فعلت الماركسية.. نستدرك أن معظم الفلسفات المعاصرة والحديثة تذهب الى أن جميع كائنات الطبيعية هي بلا ماهية ولا جوهر خفي، وصفاتها الخارجية المدركة هي ماهياتها وجواهرها ايضا.

إعتبار الجوهر ذاتا كما يدعو هيجل يعني يمكن إدراك جواهر كل الاشياء عقليا حسّيا كصفات خارجية للموجودات، وإذا سحبنا هذا التصور التذويتي في تشييء الخالق الجوهر الالهي المطلق (ذاتا) عندها يتاح للعقل إدراكه وينسف معنى التصور الديني الاسبينوزي أن الجوهر لا يدرك عقليا بل يحدس بمخلوقاته وموجودات الطبيعة الحيّة. والجوهر عند اسبينوزا هو سبب الموجودات وليس نتائج محتوياتها. ولا يدرك الجوهر الإلهي بدلالة موجوداته العينية بخلاف ما يعتقده العديد من الفلاسفة.

اسبينوزا يعتبر الجوهرالانساني سابقا على الوجود الشيئيء بخلاف الفلسفة الوجودية تماما، بمعنى ما عدا الانسان الذي لا يمكننا معرفة جوهره من ناتج ومحصلة إدراكنا لصفاته الخارجية، عليه يكون وجود الانسان سابق على ماهيته وجوهره الذي هو تصنيع ارادة ذاتية خاصّة بالانسان في حين نجد الحيوان والنبات والجمادات لها صفات فقط خالية من إحتجاب جوهر داخلها، وماهيتها كصفات وسائلية للانسان تسبق وجودها الانطولوجي. كل شيء تحتويه الطبيعة ما عدا الانسان هي موجودات لا تمتلك جوهرا ماهويا خاصا بها.

حين يعتبر هيجل المطلق ذاتا يعني أضفى عليه صفة الإدراك الممكن له، وبذلك يفقده خاصّية الجوهر المطلق الإلهي في تعاليه على الطبيعة والكون والانسان. حين يقول اسبينوزا في معرض محاججته عن الجوهر إنني لم أنزل التعالي الإلهي الى مصاف الطبيعة الارضية في وحدة الوجود، بل حاولت رفع شأن الطبيعة بتقريبها من الجوهر الخالق لها، نجد هيجل أراد العكس في محاولته تذويت الالهي الشيئي كي ينزله من تعاليه على الطبيعة الى مساواته بها فيكون هذا التذويت التشييئي للخالق لا يختلف عن إدراك فكرة المطلق أنه يدرك كل شيء من ضمنها الذات الالهية فلا يوجد مطلق لا يدركه العقل لا دينيا ولا واقعيا كونيا ولا يبقى بعدها معنى ميتافيزيقي غامض يراود قلق الانسان بالحياة..

نجد من المهم توضيح أن هيجل لا يأخذ مذهب وحدة الوجود وسيلة ألكشف عن شك يفقد برهان ألوصول لإيمان ديني، بوجود الخالق كجوهر نعرفه بدلالة الاعجاز التنظيمي في موجودات الطبيعة، فالفكرة المطلقة عنده هي الكلّي الشمولي الادراكي، وهي كل الواقع والكوني الذي في قدرة العقل إدراكه. ليس للبرهان على وجود مطلق كوني إلهي لا يدركه العقل حسب مفهوم اسبينوزا، وهو خالق الطبيعة وقوانينها الثابتة التي تحكمها بكافة تكويناتها من ضمنها الانسان.

هيجل لا يؤمن بميتافيزيقا خارج الطبيعة والمطلق الكوني رغم نزعته الفلسفية المثالية التأملية. ولا يوجد ما هو خارج قدرة العقل على إدراكه. والطبيعة والكوني حسب هيجل أنهما القوانين التي تحكمها ويدركها العقل كونه جزء من الفكرة المطلقة إن لم يكن هو كل تلك الفكرة.

تخطيط منقول لفلسفة هيجل برمتها

الهيكل التنظيمي لفلسفة هيجل كالتالي كما رسمها أحد المؤرخين الفلاسفة:

* الفكرة المطلقة = الواقع هو الفكرة في ذاتها وهذا يشمل (المنطق الوجود، الماهية، المفهوم).

* الطبيعة أو الفكرة لذاتها (الميكانيكا، الفيزياء، الكائنات الحية).

* الروح أو العقل يعني الفكرة في ذاتها ولذاتها وتشمل (النفس، السايكولوجيا.

* الروح الموضوعي (القانون، الدولة، الاخلاق)

*  الروح المطلق (الفن، الدين، الفلسفة)

في هذا الترسيم المختصر لفلسفة هيجل نجده يعتبر كل وقائع وظواهر وتجليّات الحياة المادية والميتافيزيقية هي أجزاء تكوينية لعقل مطلق هو فكرة مطلقة تدرك كل شيء ولا إدراك لشيء خارجها يمكن أن يكون موضوعا لادراك وتفكير العقل به..

موجودات الطبيعة والجوهر

العبارة التي وقفت عندها متأملا هي مقولة سارتر (جوهر الانسان الحقيقي أنه بلا جوهر) من السهل جدا أن نحسم خطأ العبارة بمصادرتها من نهايتها، ونقع نحن أيضا بالخطأ مع سارتر أن الانسان لا جوهر له في حين هو يمتلك جوهرا قيد التكوين والتصنيع مدى الحياة حسب فلسفة سارتر الوجودية نفسها. وكي نناقش العبارة نقول الانسان يمتلك كينونة وجوهرا، لكن متى يكون الانسان فاقدا جوهره ومتى يكون مالكا له؟

هذا يتوقف على المرحلة العمرية للانسان ويتوقف على موقفه النفسي الصحّي، فالطفل يولد موجودا بلا ماهيّة ولا جوهر، والجوهر الانساني في جميع المراحل العمرية هو عملية تصنيع ماهوي تلازم الانسان منذ الولادة والى الممات. أما المجنون فهو يمتلك وجودا لا جوهر حقيقي طبيعي سوّي له.

تصنيع الجوهر عند الانسان يقوم على ركيزتين الاولى أنه يعي ذاته عقليا طبيعيا كموجود في عالم، والثانية يعي مدركاته الخارجية بنوع من المسؤولية التي تتطلب قدرة على إمتلاك الحرية في إتخاذه القرار الصائب.... والجوهر الانساني ماهيّة يشّكلها الوعي الذاتي والمحيطي الطبيعي وتتجلى في صورة سلوك مجتمعي هادف بالحياة.

ولتوضيح أكثر نجد:

* الوجودية تؤمن أن الانسان موجود طبيعي نوعي قبل أن يكون جوهرا خفي، فالانسان يوجد أولا وبعدها تتشكل ماهيته أو جوهره ذاتيا حسب مؤهلاته وقدراته وإمكاناته الفردية ومميزاته الخاصة به كفرد.

* يمتلك الانسان جوهرا ماديا مكتسبا مصدره الحياة التي يعيشها وتجاربه وخبراته ومميزاته الثقافية والسلوكية في تكوينه لشخصيته. بمعنى الانسان يصنع جوهره بقواه وإمكاناته الذاتية.

* الانسان كائن نوعي موجود بالطبيعة جزء منها متمايزعنها بصفات العقل والذكاء والوعي بالذات والمحيط، إمتلاكه لغة تواصلية معرفية، شعوره بالزمن، إدراكه أن الطبيعة تحكمها قوانين طبيعية عامة ثابتة، كما أن الانسان يعي حاجته للطبيعة ولا تعي الطبيعة حاجتها للانسان...وغيرذلك مما تفتقده الطبيعة ويمتلكه الانسان مثل العقل، اللغة، الوعي، المخيّلة، العواطف، الاحساسات، والمشاعر الخ.

أصبحت لدينا مقولة سارتر أن جوهر الانسان الحقيقي بلا جوهر، صحيحة تحمل إمكانية تخطئتها كما مر بنا توضيحه. والآن نعود لطرح تساؤل يخّص موضوعة وحدة الوجود، ما علاقة مذهب وحدة الوجود بالطبيعة من غير الانسان.؟

مذهب وحدة الوجود هو نزوع صوفي ديني ليس لإثبات الوجود الانساني كما مر بنا وإنما لإثبات وجود الخالق كموجود لا ندركه بذاته ولكن يمكن إدراك وجوده من خلال تقصّي وجود الجوهر في نظام الطبيعة...جميع الكائنات من موجودات الطبيعة الحيوان، والنبات والجماد هي موجودات بلا جوهر يحتجب خلف صفاتها الخارجية. وصفاتها الخارجية هي جواهرها.

لنأخذ مثلا هل الحيوان يمتلك جوهرا؟ أم لا يمتلك جوهرا وكيف؟ الحيوان لا يمتلك جوهرا متمايزا عن صفاته الخارجية لا في داخله ولا في سلوكه خارج صفاته. والقول في منطق وحدة الوجود حسب فلسفة اسبينوزا أن جميع الكائنات في الطبيعة من ضمنها الانسان تمتلك جواهر مستمدة من جوهر مطلق خالق لها غير مخلوق الهي هو فوق إدراك العقل، جواهر يستطيع الانسان إدراكها في مخلوقاته ولا يستطيع إدراكها في خالقها الجوهر الكلي المهيمن عليها، هي نوع من المنهج الذي يصادر برهان تحققه. بمعنى النظام الطبيعي الإعجازي في قوانين الطبيعة الثابتة، يمتلك من القدرة والإمكانية ما هو فوق عقلي، وهذا النظام الإعجازي بالطبيعة لا يعني إمتلاك مكوناته لجوهر دفين موزّعا عليها يشير لوجود خالق عظيم ولا يشير لإثبات وجود موجودات في الطبيعة كمظهر وجوهر متكاملين.. هذا التكامل من قبيل الحدس الايماني لا أكثر، إذ هل من المتاح لإدراك عقل الانسان إدراك جواهر الاشياء خارج صفاتها في موجوداتها؟ الجواب لا يمكن ذلك لأن تلك الموجودات والكائنات عدا الانسان بلا جواهر خارج صفاتها الخارجية مثلما اشرنا له عند الحيوان والنبات والجمادات.

لنأخذ مثالا الحيوان الذي هو أعلى مرتبة بيولوجية من النباتات والجمادات، فهو موجود بلا جوهر ولا ماهية. لماذا وكيف؟

* الحيوان لا يعي ذاته ولا يدرك الطبيعة ويفتقد اللغة وشعوره بالزمن من حوله إلا على نطاق ضيق جدا يتحدد في إشباعه لغرائزه الاكل والتكاثر ودفع الاخطار المحدقة عنه وعن نوعه. الطبيعة هي التي تعطي الحيوان صفاته الخارجية التي هي مجموع كينونته المنفردة كحيوان.

* الحيوان لا يمتلك ميزات إنفرادية نوعية كما هي عند الانسان مثل الذكاء العقلي، الوعي الذاتي، إمتلاك اللغة، الإحساس بالزمن وغيرها من صفات.

* الحيوان يكتسب صفاته الخارجية من خلال إذعانه المتكيّف بما تمليه عليه الطبيعة من غير إرادتها ولا وعي منها. عدم وعي العلاقة الحيوانية – الطبيعية من كليهما المشّكلين لها هو سبب إمتلاك الحيوان قدرات التكيّف الطبيعي البيئي كي يبقى حيا. وانثربولوجيا تاريخ الحيوان تؤشر لنا إنقراض العديد من السلالات البشرية والحيوانية على السواء لفقدانها قدرة التكيّف مع ظواهر طبيعية شديدة القسوة مثل الانهيارات الجليدية والفياضانات، والزلازل، والبراكين، وقلة الغذاء وهكذا.

التكيّف الطبيعي يمتلكه الانسان والحيوان على السواء لكن بإختلافات جوهرية هامة. إذن علاقة التكّيف الحيواني بالطبيعة يجري بين قطبين هما الطبيعة والحيوان وكلاهما لا يتبادلان الوعي الادراكي بهذه العلاقة بينهما. فالطبيعة لا تدرك معنى تكّيف الحيوان في إستمرار بقائه، ولا الحيوان يدرك أن تكيّفه مع الطبيعة لا تعيه الطبيعة ولا تدركه.

* كذا نفس الحال يتكرر مع النباتات في علاقتها بالطبيعة فكلاهما لا يتبادلان الادراك المشترك بينهما. وليس مهما تفتيش الانسان عن جوهر يمتلكه النبات أكثر من إعتبار الانسان للنبات وسيلة الطبيعة في توفير إحتياجاته من الغذاء.

* أما الجمّاد الطبيعي غير المصنوع وجوده في الطبيعة من قبل الانسان فلا جوهر له خارج صفاته. وتختلف عن الجمادات التي يصنعها الانسان فهي لسد رغبته بالحاجة لها في تأمين خدمته. فالقلم يحمل ماهية إستخدامه من قبل الانسان قبل تحقق وجوده المادي كقلم، وكذا مع جهاز التلفاز أو مع أي شيء آخر مادي يصنعه الانسان لسد حاجته له، فهو يمتلك ماهية وجوهر وجوده بذهن الانسان صانعه قبل إمتلاك وجوده المادي حينما يكون فكرة صناعية في تفكير الانسان حاجته لها أن يقوم بصنعها فهو يعرف ماهيتها الإستعمالية قبل وجودها المصنوع.

فكرة المطلق والتجريد

هل يمكننا إستخلاص أن مفهوم الجوهر في وحدة الوجود الذي يفهمه اسبينوزا وسيلة ميتافيزيقية لتدعيم إيمان ديني بوجود الخالق، ويفهمه هيجل مطلق متعيّن في هيمنة العقل على كل شيء يمكن إدراكه لا وجود له هو فوق متعال عقلي يدركه العقل ولا يدرك هو العقل.

. فكرة المطلق عند هيجل إدراك عقلي، وفكرة الجوهر لا إدراك عقلي يطاله. كلا المفهومين فكرة المطلق الذي لا يفهم بدلالة الجوهر، ولا الجوهر يقبل الإستدلال العاجز التعريف به. يصبح معنا كلا المفهومين الفكرة المطلقة والجوهر تجريد فلسفي عاجز عن الوصول للمادة وإحتوائها كوجود.

هل يمكننا التساؤل أن خلع توصيف المادية العقلية على مطلق الفكرة الادراكية عند هيجل ينفي الجوهر كتجريد اسبينوزي غير موجود ولا يمكن البرهنة على إثبات هذا الوجود؟ كونه بالمعيار الهيجلي مطلق خارج ذاته، لذا وجدنا مطالبة هيجل معاملة الجوهر كذات أو ذاتيا أي بمعنى الجوهر الالهي في تذويته بخلاف اسبينوزا يصبح قابلا للادراك العقلي. ويعود هيجل رد الإعتبار الذي أجهز عليه اسبينوزا الى الرجوع للمقولة التي كانت متداولة فلسفيا لعصور طويلة أن الجوهر يعرف بدلالة الوجود المادي، وليس كما عكس اسبينوزا المعادلة أن الوجود يعرف ويدرك بدلالة الجوهر الذي لا يمكن إدراكه خارج التسليم الايماني الغيبي الاسبينوزي في وجوده الطبيعي قبل السماء. لازال الفلاسفة يتغاضون عن التفسير الاسبينوزي حول أن الجوهر مطلق كوني يحتوي كل شيء في الكون، كون هذا التفسير الاسبينوزي يستند الى مرجعية دينية لا تأخذ بها الفلسفة. فالفلسفة ترغب معرفة الجوهر ليس وسيلة إثبات برهاني حدسي ديني، بل بوصفه مبحثا فلسفيا معرفيا قائما بضرورة حسم الجدل النقاشي له..

يذكر بعض المعنيين بتاريخ الفلسفة الى أن هيجل كان يردد دائما مقولة اسبينوزا (كل تحديد هو سلب) بمعنى كل تحديد لمواصفات شيء مدرك شيئيا يسلبه صفاته الايجابية الاخرى، فالتحديد الشيئي هو مدرك متعيّن الصفات، ولا يمكن للفكر المجرد إضافة مواصفات إنتزعها التحديد له. تحديد الشيء بمواصفات معينة يعني غلق الإمكانات التجديدية له وجعله كينونة مقفلة.

من الغريب أن نجد كلما أوغل اسبينوزا وشيلنغ في تأكيدهما المطلق هو إدراك عقلي مجرد، بمعنى هوية بلا مضمون في حين يصر هيجل أن المطلق أكثر الاشياء عقلانية إذ يعتبره محتوى أدراكيا عقليا وليس وسيلة ادراك معرفي بدلالته. يفهم هيجل المطلق أنه يستوعب مدركاته، في تكوينه العضوي الإحتوائي بلا تفريق بين ما هو مادي عما هو تجريدي غير مادي.

المطلق عند كل من اسبينوزا وشيلينغ هوجوهر كلي مجرد عن ماديته، فالجوهر عندهما محض هوية مجردة لا تحتوي المادة، وتعرف كل الاشياء المادية بدلالة هذا الجوهر الكلي الالهي غير المدرك. وينكر هيجل المطلق هو دلالة بلا مضمون بل هو عيني يحتوي الواقع بكل شيء، ولا يحتويه شيء، وأنكر مقولة شيلنغ "المرء لا يمكن أن يكون أكثر من موجود " أي موجود لا يمتلك جوهرا. وهذه نظرة تجريدية تنزع من الانسان جوهر انسانيته التي تميزه عن باقي مكونات ومخلوقات الطبيعة التي هي فعلا موجودات لا جوهر لها في بقاء الانسان كينونة وجوهر.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

..........................

هامش:

1. وليم رايت /تاريخ الفلسفة الحديثة /ت: محمود سيد احمد / تقديم ومراجعة امام عبد الفتاح ص 319

تعريف اولي: يذهب امام عبد الفتاح امام في هامش تقديمه وترجمته لكتاب والتر ستيس (التصوف والفلسفة) ص259 الذي نعتمده كمصدر وحيد في هذه المقالة، ان مصطلح وحدة الوجود pantheismيوناني مؤلف من مقطعين pan بمعنى شامل أوعام وtheism بمعنى الاله، أي شمول الالوهية لكل شيء، او ان وجود الله ووجود العالم هما ضرب واحد من الوجود.

ومذهب وحدة الوجود في الكتابات المسيحية التصوفية يشير الى العلاقة بين الله وجزء خاص من العالم، الذي هو الذات الفردية للمتصوف عندما يصل حالة الاتحاد الصوفي بالله. وينسب للبروفيسور ابراهام ولف (ان وحدة الوجود في الفلسفة واللاهوت تعني النظرية التي تقول ان الله هو كل شيء، وكل شيء هو الله، فالكون ليس خلقا متميزا عن الله، فالكون هو الله، والله هو الكون).1

لا شك ان التصوف يرتبط ارتباطا وثيقا بالدين واللاهوت الديني في جميع اشكالاته اكثر من محاولات طرحه كاشكالية ترتبط بالفلسفة او المنطق، وهذه الإشكالية ليست لغوية صرف في التأكيد على البلاغة والمعنى كما هو مطروح متداول في الفلسفة الغربية المعاصرة (البنيوية والتفكيكية). وربما تكون دراسة التصوف فلسفيا احدى هذه الإشكالات التي ليس من السهل البت بها او التوصل الى نتائج يمكن الركون لها والتسليم بها، لذا نجد من العبث ربط إشكالية التصوف باشكاليات الفلسفة وموضوعاتها لأننا والحالة هذه لن نصل الى ما يرضي الفلسفة ويرضي التصوف معا، فالغيبيات الميتافيزيقية التصوفية طاغية بشكل يصادر الجهد الفلسفي كمنطق لغوي تجريدي ينتظمه العقل، بما اطلق عليه كانط ثم ديكارت منذ القرن السابع عشر نهاية الميتافيزيقا وأن ميادين الميتافيزيقا مضيعة للجهد الفلسفي، فهي ميادين بحثية لا معنى حقيقي لها، وهي المانع الأهم في عدم إمكانية الوصول الى مفاهيم تساعدنا على فهم التصوف فلسفيا. وعليه تكون الجهود المبذولة في ربط التصوف بالفلسفة هي من باب الاجتهادات الفردية في مسائل قد يأتي يوم يؤخذ على الفلسفة انها حاولت العناية بموضوع لا يقبل الصدق الحقيقي او الوثوق به في نفس وقت انعدام البراهين التي تجعلنا نثق به وبذا يكون التصوف (ديني وميتافيزيقي فلسفي معا) اذا اريد له ذلك والعودة المتكررة لدراسته فلسفيا.

وحدة الوجود في الاديان

لا يؤمن الإسلام بوحدة الوجود الديني ولا التصوفي، ويقول والتر ستيس (ان الإسلام يصر على ان بين الله والانسان هوة ومن ثم فهو ينكر وحدة الوجود). والهندوسية والبوذية التي تؤمن جميعها بوحدة الوجود الديني، ويتوّسل متصوفيها العرفان الاشراقي الحلولي بالذات الالهية لتحقيق اندماج الذات الصوفية في النور الإلهي الغامر والذوبان النفسي - الروحي فيه بطريقة تتجاوز فيزياء الطبيعة والوجود وقوانينهما التي تحكم علاقة الانسان معها ومع الحسي والوجداني العاطفي النفسي (مجاوزة الزمان والمكان كليّا). ورغم ان الديانات الوثنية لا تعترف بوجود الله الخالق لذا فهي تربط الحلول الذاتي والتصوفي مع براهما او بوذا في بلوغ النرفانا التي هي معناها الخواء والعدم والامتلاء معا، وتحقيق اشباع الانجذاب التصوفي الروحي الحلولي تجاه المعبود وفي تدّبر آيات الخلق والوجود اللامتناهي غير المحدود في اسراره وجماله ونظامه في الطبيعة والكون.الخواء والعدم تعابير مجازية غير حقيقية في الفلسفة فهي من وسائل الادراك للوجود والاشياء، (واسطة الدلالة بها) وليست هي مدركات موضوعية يمكننا التحقق منها بذاتها فهي غير قابلة للتحقق وبلا معنى من أي نوع ان تكون موضوعا يعيه العقل والتعامل معه..

وحجّة الذين ينكرون وحدة الوجود التصوفي يذهبون ان هناك حاجزا يفصل الهوية الفعلية للارواح عن الخالق او المعبود.1رغم ادعاءات المتصوفة في مقدمتهم متصوفة المسلمين بوحدة الوجود دينيا التي ينكرها عليهم بعض فقهاء الدين الاسلامي وفلاسفته. الا ان الإسلام يفهم وحدة الوجود في آيات الله وصفاته في الطبيعة وفي الانسان وفي مخلوقاته فقط، وان وحدة الوجود البشري مع الله في كسر قوانين الطبيعة شرك. في حين تبدي المسيحية الموافقة المشروطة على وحدة الوجود(الله والطبيعة والانسان) معتبرة وحدة الوجود لا تتقاطع مع الثوابت اللاهوتية، لكن بعض المذاهب المسيحية تلتقي بنظرة الإسلام وتعتبر وحدة الوجود التصوفي (هرطقة ) من حيث ان الوصول الى الانا الفردية الخالصة المتجردة عن انسانويتها تماما لا تتوفر للإنسان ذي القدرات المحدودة بعاملي الزمان والمكان اللذين ليس من السهولة والمتاح مجاوزتهما، وكذلك عامل محدودية قدرات الانسان تجاه الذات الإلهية العصّية وماهيتها الغامضة على كل التصورات والادراكات العقلية المادية او الخيالية. التي تفتح الطريق امام المتصوف ولوج مرحلة التسامي الروحاني التي يجادل المتصوف في نسبتها له وتعلقه بها في حب وعشق الخالق والذوبان في تجلياته وفي كليته الذاتية. المسيحية برمز المسيح اعطت مثالا اعجازيا لاهوتيا للتصوف.

وحجة المتصوفة ان الكشف الصوفي لا يدرك بالعقل، ويؤكد والتر ستيس انه في تراث الأديان السامية عموما، هناك هوة تفصل بين الخالق ومخلوقاته ولا تستطيع روح الفرد ازالتها بل ينظر الى ازالتها بانها تجديف. انه لمن المؤكد ان تغييب العقل كفاعلية ادراك، واحلال الايمان العفوي الصوفي بدلا منه، لا يجعل من تجارب الصوفية حقائق يمكن التسليم بها.

الحلول الاشراقي في الذات الالهية

يصف منصور الحلاج الصوفي الاسلامي الاشهر وصوله مرحلة التسامي والحلول والاشراق العرفاني بالله بقوله مرددا (انا الحق) وهي لفظة ناقصة ماخوذة ربما عفويا عن عبارة السيد المسيح (انا الحق والحياة والطريق) وكثيرا ما يتحدث الحلاج عن الروح الإلهي والروح البشري على انهما محبّان يتناجيان في حالة من الغبطة والسكر والنشوة الممزوجتين تماما كما في الابيات التالية:

مزجت روحك في روحي كما

تمزج الخمرة بالماء الزلال

*

فاذا مسّك شيء مسّني

فاذا انت انا في كل حال

*

انت من اهوى ومن اهوى انا

نحن روحان حللنا بدنا

*

كما يقول شهاب الدين السهروردي مغدور حلب:

لا تظنوني باني ميت        ليس ذا الميت والله انا

ويعتقد اللاهوتيون الفرقة (المؤلهة) في المسيحية الذين ينكرون امكان تحقق الحلول العرفاني، بخلاف ابيات الحلاج الشعرية التصوفية والسهروردي الذي ادعى أيضا ان الله كلمّه مثلما كلّم النبي موسى، (انه حتى في حال الاتحاد بالله فلابد ان تظل فردية المتصوف منفصلة ومتميزة عن الله).2 وهو امر مفروغ منه لا يحتاج مناقشة اثباته لاقناع غير المتصوفة من الناس قبل المتصوفة قبلهم.

انه من المشكوك به اثبات وصول المتصوف مرحلة الاندماج بالذات الإلهية الكلية التي حسب الادعاءات الصوفية تتجلى في حدس مبهم غامض لا يتاح الإفصاح عنه او شرحه جماعيا من قبل أصحاب التصوف فهو فوق قدرة الوجود الإنساني معرفته حسّيا او الإحاطة بجزء منه، وحتى في الأديان الوثنية البوذية والهندوسية، فالقدرات البشرية مهما تسامت فوق قوانين الطبيعة وادراكات الزمان والمكان فهي قدرات محدودة مكبّلة وعاجزة في الحلول في فضاء الانجذاب النوراني الرباني، لانها بالنتيجة لا يمكنها ان تترك وقع اثار اقدامها على الأرض. فطبيعة الانسان لا يمكن ان تتشابه وتتجانس مع اية طبيعة متصورة ذهنية للاله الخالق في حال اقرارنا إمكانية تشيؤ (الله) على شكل او صورة من الادراك التي يستطيعه البشرفهم هذا التشيؤ الافتراضي المستحيل.

ورغم ذلك يذهب بعض الفلاسفة الى القول ( ان الله بلا كيفيات ولا صفات، وانه ليس للواحد كيف ولا خواص، والله في ماهيته التي لا تولد هو ماهية جوهرية بغير شخصية الماهية التي تتجلى كوجود غير شخصي) والتر ستيس، التصوف والفلسفة ص 243.

كما انه ليس من السهولة ان نجد ذاتا الهية تخص بعضا من البشر بنوع من المحبّة والأيثار دون غيرهم وتقرّبهم من الاتحاد بأناها الإلهية، وامام هذا المأزق نجد ان المتصوف يدور في حلقة مفرغة قطباها أولا الدوران حول الذات في عوالم من التصورات الانجذابية الحلولية التخييلية اللاشعورية في تسامي روحي يتجاوز الارضي، وثانيا الدوران حول التهرب من الإفصاح عن التجربة التصوفية التي يمر بمراحلها المتصوف بواسطة الدلالة اللغوية او الرمزية والاشارية ليفهم الآخرون تجربته. وبهذين المعنيين تنعدم امامنا صدقية التجربة الصوفية من عدمها في زيفها وادعاءاتها لأننا لا نستطيع الحكم على شيء لا يفصح عن نفسه او دلالاته بأية وسيلة ادراك حدسية او عقلانية تثبت صدقيته او نفيها.

ونجد هذين الافصاحين يرددهما جميع المتصوفة وفي جميع الأديان وفي مختلف العصور ومختلف الثقافات والأمم. من ان تجاربهم الصوفية هي من الاسرار التي لا يجوز البوح بها للاخرين وانها تفوق الوصف ومن غير اللائق بالمتصوف الحديث عنها!! ويشير والتر ستيس الى ان الاوبنشاد الف وخمسمائة ق. م وهي اقدم الوثائق المعروفة عن التصوف الهندي، تصف على نحو ثابت لا يتغير التجارب الصوفية بانها بلا صوت ولا شكل وغير ملموسة وتخلو تماما من المضمون الحسي.3

وعن مقاربة هذه الدلالة والمعنى نجد القديسة تيريزا، من منطلق استحالة الكتابة عن التجربة الصوفية اثناء حدوثها والمرور بها، وانما يتم ذلك بعد الخروج منها ومحاولة تذّكر وقائعها تصف لنا قائلة: (اثناء الغبطة نفسها كثيرا ما يكون البدن كأنه ميّت وعاجز تماما، وتضعف الحواس وتهن غير ان قوة الابصار والسمع تبقى بصفة عامة، لكن كما لو كانت الأصوات المسموعة والاشياء المرئية تقع على مسافة بعيدة جدا، وانا لا اقول ان النفس تسمع وترى عندما تكون الغبطة في قمتها، عندما تضيع الملكات بسبب الاتحاد العميق بالله، فانها عندئذ لا تسمع ولا ترى ولا تدرك، وهذه التحولات التامة لا تستغرق سوى (لحظةّ!!!!).4

التصوف بين الذاتية والموضوعية

يقسم المختصون بدراسة الصوفية الى ان جميع تجاربها يمكن اجمالها جميعها عند مختلف الأمم ومختلف العصور والازمنة في منحيين، هما أولا التجربة المسماة الانبساطية في حب الله، والتي يطلق عليها أيضا الغبطة واللذة. والثانية التجربة الانطوائية المتأملة ذاتيا في تداعيات الحلم التصوفي والانجذاب، وهي تجربة ربما يعتبرها البعض اكثر نضجا من التجربة الانبساطية في التصوف.

وفي الوقت الذي يذهب فيه وليم جيمس وبرود وكتاب اخرين الى ان التجربة الصوفية ذاتية وليست موضوعية، وهو رأي اكثر مقبولية من دعاة ان التجربة الصوفية موضوعية، فالادعاء بان الذات الكلية الإلهية هي حقيقة واقعية موضوعية فيها الكثير من شبهات التجسيم الإلهي الذي يرفضه الإسلام وخاصة في اراء فرقة( المعتزلة) وهو رأي لا يعتد الاخذ به فلسفيا ايضا، فالمتصوف الذي يعي ذاته هو عندما يجد ان الذات الإلهية ذات مفارقة لوجود الانسان ووعي هذا الوجود، يعطيه مشروعية ان يكون جزءا منفصلا او متحدا مع الكلية الإلهية التي يدركها وهو محال عقليا فيزيولوجيا لغير المتصوف ادعاؤه، وفي كلا الادعائين فان الذات هي الفاعلة وفي هذا مصداقية لمقولة ديفيد هيوم في تعريفه (الانا) بانها ليست سوى تيار الحالات الواعية، ويكون هيوم بهذا يزرع بذور الشك بالروحانيات ويستبطن نظرية الالحاد في عدم وجود الله في ثنايا عبارته، والأكثر منها انه يستبعد نهائيا ان يكون لتداعيات وخيالات اللاشعور قدرة امتلاك وثوقية الحقائق الواقعية او الموضوعية. كما انها عاجزة عن امتلاك الادراك والتصورات التي تثبت الكلية الإلهية حقيقة واقعية او موضوعية. وهذا التفسير لا تستطيع دحضه الأديان من غير الإسلام ولا الفلسفات التي تعترف بصدقية التجارب الصوفية ولا زالت القضية موضع تجاذب ونقاش مستمر.

في تعريف الموضوعية: (ان المعيار المطلق لمعنى الموضوعية هو انها نظام او ترتيب يخضع لقوانين الطبيعة) 5وهو معيار مختلف تماما عن معنى الذاتية التي هي نظام شعوري تارة، ونظام لا شعوري تارة أخرى يستطيع كسر حاجز قوانين الطبيعة كما في حالات النوم والاحلام والتخييل او التصوف ومعجزات الاديان في اليهودية وفي المسيحية، وبهذا يصعب البت في إعطاء التخييل الحلمي وبضمنه التصوفي على ان ما يدركه ويعيه انه شيء حادث او ممكن الحدوث في الواقع او في الخيال على اعتبار ان الله عصي على التشيؤ في اية صورة يستطيع الانسان ادراكها. كما ان الله هو وجود بلا ماهية ولا جوهر يتمكن عقل الانسان ادراكه، والوجود الإلهي وجود مفارق لجميع الموجودات في الطبيعة والانسان وعالم الأشياء. اسبينوزا في مبحث وحدة الوجود يرى الله جوهرا موزعا في الطبيعة وفي كل شيء. وهنا يكون الادراك الانساني للجوهر هو تشييء ذلك الجوهر على انه الله.

لا يستطيع المتصوف ادعاء ان الذات الكلية الإلهية التي يتحد او يتواصل معها انها كليّة (ذاتية) فقط او كليّة (موضوعية) فقط وانما يقول هي كلية ذاتية وموضوعية في وقت واحد، وفي كلا الافتراضين فان هذه الكلية متمايزة جوهريا بذاتها وماهيتها وخصائصها، ان تكون حاملة لأي من مواصفات البشر التي يمكن ادراكها بوسائل الادراك البشري والاتحاد بها. كما اننا في كلتا الحالتين يتعذر علينا نحن غير المتصوفة الوثوق في إمكانية الاتحاد بهذه الكلية الإلهية تصوفيّا. اللاتجانس النوعي بين الله والانسان ينسف الصوفية ان تكون فعالية يمكن ممارسة تحققها . فاذا اعتبرنا الكلية الإلهية ماهية ذاتية في مقابلة الوجود البشري التصوفي كذات أيضا بمواصفات اختلافية جدا فمن المتعذر التصديق بالقول امكانية الاتحاد معها، وان ما يمر به المتصوف ليس اكثر من تداعيات وتصورات يتداخل بها النفسي اللاشعوري مع الموضوعي الحسّي بمعزل عن وجود آخر حتى لو كان اثيري او نوراني تتجلى به الذات الكلية للمتصوف. كذلك ان نقول الذات الكلية الإلهية موضوعية تنفي امكانية التواصل بها لما تحمله من تجسيم متشيء لا يتعدى مدارك ووعي الصوفي في اسباغ كل تداعيات اللاشعور الذاتي على موضوعه المفترض خياليا فقط. وبهذا المعنى يمكننا اعتبار التجربة الصوفية مرحلة متأخرة من تطور الدين عبر الازمان.

يجيب افلوطين وهو فيلسوف متصوف عاش في الإسكندرية في العصر الهيلينستي عن سؤاله كيف للمتصوف ان يعرف المتناهي؟ أجاب بقوله: المتصوفة لا يعرفون اللامتناهي عن طريق العقل، لان وظيفة العقل التمييز والتحديد، ولا يمكن ان يكون اللامتناهي على مرتبة واحدة في موضوعاته ...انك لا يمكن لك ادراك اللامتناهي الا ..... بالدخول في حالة لا تعود انت فيها موجود ولا ذاتك المتناهية.... وهذا يعني تحرر ذهنك من الوعي المتناهي، وعندما تتوقف ان تكون متناهيا فانك تصبح واحدا مع اللامتناهي كما ان روح المتصوف كما يرى افلوطين تختفي باتحادها اللامتناهي وتصبح معه واحدا لكنه يستدرك قائلا: ان اللامتناهي هو واحد مكتف بذاته، والمتصوف انسان قائم بمواصفات محدوديته وعجز قدراته ان يكون مكافئا في تحقيق اتحاده مع الخالق.

وحدة الوجود والفلسفة

في السطور السابقة اشرنا الى فشل وعجز الاجماع في دعم النظرية التي تقول ان التجربة الصوفية تشهد او هي دليل على وجود حقيقة واقعية تتجاوز الذاتية الفردية للوعي الصوفي، (وان التجربة الصوفية ليست ذاتية وحسب، بل هي في صميم ما يزعمه المتصوفة انها تجربة مباشرة بالواحد، وبالذات الكلية، والله).6

يعتبر اسبينوزا اهم فلاسفة وحدة الوجود، وهو يعتبران الله والطبيعة مفهومان مترادفان لمعنى واحد ولا يقر بوجود خالص خارج الطبيعة، والكون عنده يتألف من جوهر وصفاته وهي صفات الله ولا يوجد شيء غير ذلك .7وأن الطبيعة والله كينونة وجودية واحدة علما ان الانسان بلا كينونة في المنطق الفلسفي.

ان اسبينوزا هنا لا يقر بوجود خالق قائم بمواصفات ذاتية بمعزل عن توزعات هذه الصفات الالوهية على الطبيعة وقوانينها التي من ضمنها الانسان في تغطية وحدة الوجود وان كل شيء في الوجود والكون هو في النهاية يدّخر ذاتيا خصائص الهية هي من صنع واغداقات الخالق على الطبيعة والانسان بكل مميزاتها البشرية وتعقيداته الوجودية التي تعزى الى الخالق في غموضها المستعصي على الوضوح في اغلب الأحيان وتعتبر بمثابة اعجازات الخالق في مخلوقاته ( الانسان وفي الطبيعة معا).

وتمتاز هذه الموجودات بانها جواهر وصفات غير محدودة ولا نهائية لا يمكن احاطتنا بجميعها ولا وجود لشيء خارجها منفصل عنها. بمعنى مختصر ان الله هوصفات مخلوقاته في كيفياتها اللانهائية فقط ولا وجود له (الله) على شاكلة أي نوع من الصفات المستقلة به ذاتيا الغير مدركة في بعضها في الطبيعة والانسان والنظام الكوني الذي يجعل الوجود واحدا في تداخل الإلهي كصفات أرضية وطبيعية فيه مع البشري والطبيعي والكوني لاهوتي - ميتافيزيقي بما يستلب من الانسان مركزيته الوجودية وحاجته الى رد الأمور المستعصية على تحملها الى قدرة الله المتجلية في بعض مظاهرها امامه في نفسه وفي الطبيعة وتشعره بالتقزيم الملازم لوجوده.

اذن وحدة الوجود الاسبينوزي تدحض بالصميم ان يكون الخالق ذاتا او موضوعا او هوية مستقلا يمكن ادراكه ويتأمله بعض الناس المتصوفة دون غيرهم.فالواحد الالهي هنا في هذه الحالة هو في حقيقته (كثرة) متوزعة بما لانهاية له من التجليات والصفات، غير محدود ولا نهائي وليس واحدا كيانيا قائما لا في ذاته ولا كموضوع لذا يكون من المتعذر على الصوفي ان يتحد بالذات الإلهية كما يدعي حتى في حال اعتبارنا وحدة الوجود هنا منطقا فلسفيا لا صوفيا لاهوتيا.

وعن صحة ما ذكرناه نجد الفيلسوف والتر ستيس يعبّر بالكلمات التالية: ان وحدة الوجود هو الفلسفة التي تؤكد القضيتين الاثنتين التاليتين والمتلازمتين معا:

1.  العالم يتحد مع الله في هوية بسيطة واحدة.

2.  العالم متميز عن الله بمعنى انه لا يتحد معه في هوية واحدة. (ص 262 مصدر مشار له).

كما ان ايكهارت وهو من كبار الفلاسفة الصوفية قوله (لايعوق الروح عن معرفة الله مثل إعاقة الزمان والمكان، فهما شذرات في حين ان الله واحد. ومن ثم اذا ارادت الروح ان تعرف الله فلابد ان تعرفه خارج المكان والزمان، لان الله لازماني ولا مكاني، على حين يتجلى الزمان والمكان في جميع الأشياء) مصدر سابق مشار له ص 250

ورفض ديفيد هيوم ومعظم فلاسفة الوضعية التجريبية والتحليلية الإنكليزية مثل فرانسيس بيكون وجون لوك وجورج مور وبراتراندرسل إمكانية ومقدرة وصول المتصوف مرحلة وجود الانا الخالص التجريدي والمتحرر من مقيّدات الوجود الإنساني الواقعي الطبيعي الفيزيائي المحكوم في الزمان والمكان. ويضيف هيوم دحضه وجود الانا الخالص في تعريفه الانا:( ان الانا الخالصة ماهي الا تيار الحالات الواعية)8 بمعنى وعي الذات لوجودها المادي والتخييلي التصوري وادراكاتها للمحيط والموجودات إدراكا ذهنيا عقليا حسيا شعوريا. وبهذا ينفي هيوم الوجود المادي ان يكون سابقا على الفكر والادراكات والتصورات كلية في تأكيده ان الذات ادراك واعي بذاته وهويته الوجودية.

وان وجود الشيء هو ان يدرك، وهي قمة المثالية التي يشاطره بها بيركلي عندما يقول لا وجود لشيء خارج ادراكي له فكريا وذهنيا، وفي حال تجرّد الانسان من حواسه في ادراك الوجود سوف لن يكون هناك وجودا قائما بذاته كما تذهب له المادية في ان وجود الشيء يسبق ماهيته وادراكه والتفكير به.طبعا هذه المثالية عند بيركلي ليست غير واقعية وحسب بل هي مثالية ساذجة بحق.

ان الزعم بتحقق وحدة الوجود تصوفيا امرا لا يمتلك براهينه الفلسفية المنطقية فاذا اخذنا (النوع الانطوائي من التجربة الصوفية، فهي غير حسّية مادامت جميع الاحساسات والتصورات استبعدت منها )9 لكنها تبقى تجربة ذاتية غير موضوعية (فهي ذاتية بالمعنى الذي يكون فيه الهذيان والهلوسة والاحلام مصادر تنبعث بالضرورة ذاتيا وليس موضوعيا)10أي ان هذه الحالات عند المتصوف لا تخضع الى انتظام قوانين الطبيعة في فهم ماهو الموضوعي. لكنما اذا ما اخذنا المتصوف كوجود متعين زمانا ومكانا من خلال تجريده عن جميع حالات الهذيان والاحلام التخييلية فيصبح وجوده موضوعيا ماديا لاعلاقة له بالفكر المدرك لوجوده في وعي ذاته، ولا بحالات الهلوسة التي امتلكت صفة الذاتية المنعزلة عنه، وهو تصنيف غير مقبول منطقيا، كون الانسان وجود مادي يتحدد بالعقل والفكر واللغة والوعي، لكن ما يبرره هو ادعاء المتصوف ان حالاته الحلمية التخييلية تمتلك موضوعيتها من موضوعية وجوده الأرضي المتعين التي اكتسبها من مقارنه وجوده مع الوجود (الموضوعي) للذات الإلهية التي يدعي حدسها والتقرب المتزايد منها كذات وموضوع فهو مالا يؤخذ به لأنه لا توجد لحد الان براهين لا هوتية ولا علمية تؤكد وجود الخالق بالمواصفات الذاتية الماهوية او الصفاتية التي لا نحدسها ومعنا يشترك المتصوفون بها أيضا في هذا العجز.

كما لا نعتقد أن الصوفية حسمت أمرها في ان الادراك التصوفي الحلول في النور الالهي يقوم على اعتبار الله (ذاتا) بمواصفات الهية يصعب على الانسان الإحاطة بها او الاتحاد بها؟ ام ان الله موضوع تأملي بمواصفات الهية ليس من اليسير الإحاطة بها او ادراكها ايضا؟ وفي أي من العلاقتين يتحدد الادراك التصوفي للذات الالهية؟ في اعتبارها ذاتا ام موضوعا يتيسر للذات البشرية الحلول والذوبان الاشراقي في الوجود الإلهي وكيف؟ ليس هناك من أجوبة شافية قاطعة. وبضوء ما ذكرناه (نجد اجماعا من جميع متصوفة العالم الى ان التجربة الصوفية لا هي ذاتية ولا هي موضوعية، وهم لم يصلوا الى هذه النتيجة استدلالا منطقيا مقبولا، وانما يشعرون به حدسيا وهي التاويل الوحيد الطبيعي لتجاربهم.)11

ديكارت وتغييب العقل في الايمان الديني

يزعم البعض ان ديكارت في منهجه الشكي النسقي القائم على العقل لم يستثن دور العقل في معالجة قضايا الميتافيزيقا، ودور العقل في الايمان الديني، وكما ان العقل هو هبة ربانية كما هي هبة الايمان، فان بامكانه ان يقدم دلائل عقلانية لادراك الوجود الإلهي في خوارق الطبيعة.

طبعا لم يكن ديكارت وحده اعلى من قيمة العقل في فهم الحقيقة الفلسفية والوجود، فمثله كان شوبنهور وديفيد هيوم وجون ديوي وجورج مور وجون لوك وليس آخرهم براتراندرسل، فهؤلاء جميعهم وصلوا الى قناعة فلسفية وعلمية في وجوب ابعاد العقل والمنطق الفلسفي في معالجة قضايا الميتافيزيقا ومسألة الايمان الديني باستخدام العقل، واعتبروا الايمان الديني لا يتوسل العقل وانما يكون التسليم بالايمان هو تسليم غيبي مطلق.وهذه المسالة تعتبر ثغرة منهجية عقلية لدى ديكارت كما في دعوته تعميم النسق العقلي في معالجة كل قضايا الوجود المفروض ان يكون من ضمنها قضايا اللاهوت والايمان الديني ووجود الله. ولتلافي هذا النقص النسقي المنهجي في ابعاد العقل عن الخوض في مسالة الوجود الإلهي، لجأ ديكارت الى نوع من التقية في تخلصه من الاحراج الكنسي الذي كان يطارد ويتربص العلماء والفلاسفة واتهامهم بالهرطقة والتجديف، لذا قال ديكارت عبارته الشهيرة (سلم من عاش بالظل) وهي عبارة واضحة في حذره وخوفه من رد فعل الكنيسة عليه وعلى دعوته اعمال العقل في كل قضايا الوجود، متعظا بما أصاب غاليلو ومن قبله جوردن برونو في حرقه حيا على الخازوق. لانهما ناديا بمركزية الشمس ودوران الأرض، فكيف سيكون الحال مع ديكارت اذا ما دعا الى اعمال العقل في معرفة وجود الخالق والوصول الى الايمان الديني عقليا؟،

نعود الى اصل المشكلة انه اذا سلمنا ان معرفة الخالق غير ممكنة كونه جوهرا بصفات لا نعرفها ولا ندركها خارج الفهم اللاهوتي لها، وهي صفات لا يدركها العقل ولا يحدها الزمان ولا المكان اللذان يحكمان الوجود البشري ويبقيان هذا الوجود ضمن ادراكات العقل والحواس والنفس، نكون والحالة هذه امام عجز العقل في ادراكه مالا يعقل كجوهر وكينونة بصفات الهية، ولا بد لنا من الاستعاضة في اعتماد الايمان الفطري المسبق على جميع التساؤلات والاشكاليات التي يستثيرها العقل في فهم الوجود الإلهي غير المجدية.

امام هذه المعضلة التي وجدنا ان حدود العقل الادراكية في معرفة الخالق لا تتعدى الوصول الى ان الموجود الخالق وجود بذاته، وجوهر وصفات لا يشترط وعي المخلوق بها على انها يقينيات يمكن ادراكها، فأن الايمان يكون لا اكثر من رغبة الانسان تقديس هذه الصفات والايمان بها ايمانا عابرا لحدود العقل، ومعبرا عنها بطقوس التدين ومفردات قواميس اللاهوت الديني لجميع الأديان.

والقول ان التصوف هو لغة ذات قدسية ربانية تربط الخالق بالمخلوق وعابرة لادراكات العقل القاصر في محاولة فهم معرفة الخالق بأكثر من صفاته البسيطة جدا، لا تمتلك اسنادها المنطقي ولا حتى الايماني المجرد عن العقل. ولا يمكن للإنسان ان يتوصل الى لغة مشتركة بين الله وبعض خاصته من البشرفي جعل ماهو متعين كانسان في صفاته البشرية وعقليته المحدودة متاحا امامها ان تكون جزءا ضئيلا بمواصفات ونفحة الهية مكتسبة يخلعها الخالق عليهم. ويبقى التعبير عن هذه العلاقة الاتحادية المزعومة مجازات تعبيرية لفظية مستمدة من قواميس ثيولوجيا الأديان ولا علاقة للعقل في الايمان بها.

خاتمة

ان الخصائص العامة للصوفية في مختلف الديانات والثقافات والحضارات وفي مختلف العصور وتباين الظروف المجتمعية وغيرها، يمكن اجمالها جميعها بالتالي:

1. الوعي الموحد الذي يستبعد منه كل كثرة للمضمون الحسي او التصوري او أي مضمون تجريبي اخر حتى انه لا يبقى سوى الوحدة الفارغة او الخالية فحسب، وتلك هي الخاصية الجوهرية او النواة التي ينتج عنها معظم خواص التجارب الصوفية الأخرى. 12

2. التجربة الصوفية ليست مكانية ولا زمانية.13

3.التجربة الصوفية لا تلغي الشعور بالموضوعية ولا بالواقع الحقيقي. 14

4. التجربة الصوفية هي شعور بالغبطة والنشوة والسلام والسعادة .15

5. التجربة الصوفية تترك عند المتصوف شعورا ان ما ادركه هو القدسي الإلهي. 16

6. زعم المتصوفين ان التجربة الصوفية تفوق الوصف وتستعصي على اللغة. 17

ان القضية الصوفية التي تقول ان العالم متحد مع الله، ومختلف عنه بالهوية في آن معا، يمكن ان نطلق عليه مفارقة وحدة الوجود . 18، أي بمعنى ان مقولة وحدة الوجود غير متفق عليها صوفيا. وهي تشي بشكل واضح جلي الى ضياع التجربة الصوفية في جذب وشد متضاد بين التجربتين الصوفيتين الذاتية او الموضوعية من جهة، ومن جهة أخرى تشي هذه المفارقة في وحدة الوجود الى نوع من الجدل الديالكتيكي في وحدة وصراع الاضداد في تشكيل الظاهرة الجديدة، وحتمية اندثارها واستحداث نفسها لاحقا في تطور دائمي لا متناهي يحكم المادة والوجود والتاريخ.

وهذا معنى التضاد الجدلي الذي مررنا به قبل اسطر قليلة (المتصوف يتحد مع الله ويختلف عنه بالهوية في وقت واحد هذه اكبر معضلة تواجه الصوفية).

ويصف والتر ستيس وهو فبلسوف متخصص في الدراسات والبحوث الصوفية الجدل الهيجلي بقسوة اعتادها جميع الفلاسفة المثاليين الغربيين في وحدة وتناقض الاضداد، بانها فكرة ليست منطقية، بل هي فكرة ضد المنطق بالقطع، وانها تعبير عن العنصر اللاعقلي في الفكر البشري.19 نحن بدورنا نؤيد والتر ستيس بما ذهب له رغم انه ستيس يتغاضى تماما ان الجدل الهيجلي هو الذي الهم ماركس في وضع النظرية الماركسية على محك النظرية والتطبيق في تجربة الاتحاد السوفييتي الشيوعي منذ عام 1917 والى امتداد اكثر من سبعين عاما، نظرية عقلانية صالحة للتطبيق على التاريخ والانسان وفق منهج تطوري يؤمن بأهمية العلم في قيادة الحياة.

على كل حال في العودة الى مذهب اسبينوزا في وحدة الوجود، ان الله جوهر وصفات، لذا يكون امامنا فهم ان الله جوهر بذاته مكتف بهويته الالهية التي لا تدركها الحواس ولا العقل، لذا من المستحيل توزيع جوهر الذات الالهية كما تتوزع صفاته في الخلق والطبيعة والانسان التي هي أيضا اعجازات لاتستطيع الذات الإنسانية مجاراتها بالخلق والوجود.

الجوهر الإلهي ماهية وهوية مكتفيتان بذاتيتهما غير قابلتان للادراك البشري ولا متاحتان للاتحاد بهما صوفيا. اما صفاته الموزعة في الكون والطبيعة والانسان المحكومة بالزمان والمكان وقوانينهما، فهي ايات اعجازية يدركها الانسان بالتامل وتمجيد قدرات الخالق غير المتاحة للإنسان مجاراتها.

على العكس من مذهب اسبينوزا في وحدة الوجود ان الله جوهر وصفات لكل كينونته المميزة عن الاخر يذهب والتر ستيبس ان الصفات تشكل الجوهر الإلهي، وان اسبينوزا في كتابه الاخلاق ذهب الى هذا المذهب المناقض لما هو معروف عنه في مذهب وحدة الوجود. وبناءا على هذا الفهم غير المتحقق منه جيدا، اذا اعتبر اسبينوزا الله بلا صفات ولا جوهر ماهوي فهو ينسف مذهب وحدة الوجود الذي دعا له.، عندها يكون الاتحاد بهذه الصفات متاحا الاتحاد بها في طبيعة بشرية منفصلة تماما عن الهوية الماهوية للخالق.

وتماشيا مع جميع الصوفية في المشرق وفي الغرب ما يعتبره والتر ستيبس ان التجربة الصوفية لا يمكننا الاحتكام لها عقليا، لذا فان مذهب وحدة الوجود عنده لا يقوم على حجة منطقية ولا حجة عقلية، وانما هي في جوهرها فكرة صوفية.20

انه من الجدير بالإشارة له في ختام بحثنا ان والتر ستيبس قام بتفنيد مذهب وحدة الوجود عند اسبينوزا بمنهج عقلي لم يستخدمه في معالجة وحدة الوجود في البوذية والهندوسية او مع غيرهما من التجارب الصوفية عالميا.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

.....................

الهوامش

1.  التصوف والفلسفة، والتر ستيس، ترجمة وتقديم امام عبد الفتاح امام، ص267

2.  المصدر السابق ص53

3.  المصدر السابق ص 76

4.  المصدر السابق ص 166

5.  المصدر السابق ص 87

6.  المصدر السابق ص 269

7.  المصدر السابق ص180

8.  المصدر السابق ص 197

9.  المصدر السابق ص 210

10. المصدر السابق 217

11. المصدر السابق ص 184

12.  12، 13، 14، 15، 16، 17، والتر ستيس/التصوف والفلسفة/ مصدر مشار له سابقا ص 269

13. المصدر السابق ص 272

14. المصر السابق ص 274

15. المصدر السابق ص 276

16. المصدر السابق 280

17. المصدر السابق ص 283

18. المصدر السابق ص 285

19. المصدر السابق 286

20. المصدر السابق ص 269

مقاربة أنطولوجية أساسية

بقلم أندريا جافورسكا

ترجمة: د. زهير الخويلدي

***

تمهيد: " تحليل عمل هيدجر حول التاريخية كمشكلة وجودية من خلال التحليل الأنطولوجي للوجود. ان الهدف هو تحديد البنية المعنوية للزمانية التي تمثلها تاريخية الوجود. يُظهر مارتن هيدجر ونظريته ا الأنطولوجية الأساسية أن مسألة التاريخ تُعدّ من أهمّ مسائل الوجود الإنساني، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعلاقة بين الوجود والزمان. تظهر هذه المشكلة على خلفية كشف البنية الديناميكية للتاريخية والزمانية للدازاين. وهكذا، يفتح هيدجر معنى أنطولوجييًا لمسألة الزمان، يُمكّنه من التمييز بين المفهوم "العادي" للزمان والزمانية الأصلية، أي معنى الوجود المتجذر في الزمان، والذي يُسمّى، مع أنماطه، تأويلًا زمنيًا. وفقًا لهيدجر، للوجود طابعٌ مفتوح، وبالتالي فهو دائمًا جزء من العالم، أي أنه في العالم. هذا الانفتاح هو معنى أنطولوجي لـالكائن"هناك"، الدازاين ، إنه لحظة تأسيسية لبنية المرء الوجودانية. الإنسان هو الكائن الوحيد المنفتح على العالم، فهو لا يقبل عالمه سلبيًا، بل يؤثر فيه ويغيّره بنشاط. بناءً على هذا الانفتاح، يستطيع الوجود أن يرتقي بنفسه عن العالم، وأن يعود إلى ذاته، وأن يكون حرًا في استخدام إمكاناته. ولأنه وجود مفتوح، فإن للدازاين علاقة فهم بالعالم وبالانفتاح الأصيل للوجود. يُطلق هيدجر في عمله اللاحق، بعد "الانعطاف"، على "عدم اختفاء الوجود". سيُستبدل مصطلح "الوعي بالوجود" بـ"حقيقة الوجود"، التي ستُعبّر عن نفسها كمكان للوجود، والغرض من ذلك هو منع أي خلط محتمل بين مصطلح "الحقيقة" والمفهوم التقليدي للصواب. إن الأفق الأصيل الذي يكشف عن معنى الوجود وكل ما هو موجود، ويعبّر في الوقت نفسه عن إجابة سؤال الوجود، هو الوعي بالزمان، كشرط الفهم الممكن للزمان، وبالتالي الوجود في الزمان، هو الزمانية.

التاريخية والفهم

صاغ هيدجر منهجه تجاه الوجود نفسه في كتابه "الوجود والزمان" من منظور فهم أصيل وغير أصيل للوجود. تجلّت البنية الأصلية للزمانية باعتبارها الشرط الأصلي لإمكانية الرعاية، وكذلك مسألة اعتماد الدازاين كمشكلة أنطولوجيية على ظهوره. يكشف هيدجر عن مفهوم أنطولوجي للتاريخية كأساس لبنية الحدوث، كشرط أنطولوجي-زماني لإمكانيته. وقد صاغ هيدجر المفهوم الأنطولوجي للتاريخية ليتمكن من الكشف عن بنية الحدوث والوصول إلى شرطه الأنطولوجي -الزماني لإمكانيته. في هذا السياق، هدفتُ إلى شرح كينونة التاريخي، والتاريخية كبنية أنطولوجيية، ولكنها ليست تاريخية، ولا كائنات بمعنى التعامل مع الكائنات "التاريخية". كان هيدجر يحاول وضع موضوعية للزمن الأصلي باعتباره معنى الوجود، ثم أكد لاحقًا أن هياكل الفهم، التي حللها في كتابه "الوجود والزمان"، هي هياكل فهم الوجود أصلًا. وبفضل التعامل العملي مع الكائنات، نترك الكائنات في حالة انفتاح. وبسبب الوجود العملي التجريبي في العالم، هناك أيضًا إمكانية ثانوية – معرفة بعدية عن "الأشياء". إن معرفة الأشياء هي موضوع علوم متخصصة متنوعة، قسّمت نفسها إلى كائنات محددة بناءً على معايير مختلفة. مهمتها هي التعرف على هذه الكائنات وتصنيفها وتبويبها. كان أرسطو قد مكّن وشجع بالفعل تقسيم جميع المعارف إلى مجالات علمية مختلفة، لكنه في الوقت نفسه أكد أن مسألة ماهية الكائنات كوجود، مسألة الوجود، ليست موضوع بحث أي علم وضعي خاص. يشير هيدجر ، الذي يعود غالبًا إلى أرسطو، إلى أن مسألة معنى الوجود، ووجود الكائنات، وكذلك مسألة التاريخ والتاريخية نفسها، لن تكون متاحة في سياق بحث منهجي وعلمي وموضوعي وأنطولوجي، بل في سياق دور المفكر كإمكانية لطرح أسئلة ذات صلة بالافتراض الأنطولوجي لعلم ما. يحاول استخلاص هذا الافتراض من البنية الأنطولوجي للوجود: "من الضروري البحث عن الإمكانية الأنطولوجية لأصل العلم في البنية الأنطولوجية لأساسية  للوجود ". يُركز هيدجر اهتمامه تحديدًا على كشف فرضية التاريخ كعلمٍ يفترض تاريخية الوجود وتجذره في الزمانية: "لكن التاريخ لا يزال يفترض تاريخية الوجود بطريقةٍ محددةٍ ودالةٍ تمامًا". في الواقع، يسعى هيدجر إلى معرفة الأصل الأنطولوجي للتاريخ ليتمكن من تحليل تاريخية الوجود وتجذرها في الزمانية. كيف يفترض علم التأريخ تاريخية الوجود؟ كيف يعتمد تمييز هيدجر الموضوعي بين علم التأريخ والتاريخ والتاريخية على ما يُسمى كينونة التاريخ؟ أين تكمن البنية الأساسية للتاريخ؟

يُدرك الوجود التاريخي الوجود من خلال الوجود في العالم. الوجود في العالم بنيةٌ ذات معنى محددة، وهي سمةٌ وجوديةٌ نموذجيةٌ للوجود البشري. الوجود الإنساني، بوصفه مُلقىً في العالم وكائنًا نحو الموت، هو بالإجماع وجودٌ نهائي، وما يُسميه هيدجر "الزمانية الانطية" هي الزمانية النهائية. تُشكل هذه الزمانية النهائية تحديدًا زمانًا أصيلًا، وهي أساس ما أسماه هيدجر تاريخية الوجود، "أي ليس كونه موضوعًا لعلم تاريخي، بل كونه موجودًا تاريخيًا، مانحًا ذاته إمكانياته". في كتابه "الوجود والزمان"، اهتم بالتحليل الأنطولوجي للتاريخية: "هدفنا التالي هو إيجاد حل للسؤال الأصلي عن وجود التاريخ، أي البناء الأنطولوجي للتاريخية. هذا الحل هو حل تاريخي بوسائله الأصلية". إن المعرفة التاريخية، وفقا لهيدجر ، ليست ممكنة إلا على أساس تاريخية الوجود. لتوضيح استحالة فهم التاريخ كشيء أو كائن قائم أمامنا، يتحدث هيدجر عن معانٍ مختلفة لفهم التاريخ. يركز شرحه على التمييز العام بين ما هو تاريخي، ككائنات ماضية، بمعنى أنها لم تعد تحدث، والكائنات الموجودة التي لم تعد تؤثر في الحاضر. علاوة على ذلك، من وجهة نظره، يُفهم التاريخ عادةً إما كأصل للماضي يتوافق مع مفهوم التطور، أو كوحدة الكائنات التي تتغير مع الزمن. في هذا الصدد، يُشير هيدجر إلى التغير والمصير البشري، والمجتمعات البشرية وثقافاتها، بالإضافة إلى التقاليد التي إما تُبحث تاريخيًا أو تقبلها بعض المجتمعات كشيء طبيعي بينما يظل أصلها مخفيًا. يُفهم التاريخ كعلم تاريخ: علم دراسة الماضي أو علم تاريخي. وكما نرى، فإن الارتباط الواضح بالخصائص الزمنية والأولوية يشبه الإجماع على موضوعية الماضي وتتوافق مع المعاني المحددة للمفهوم العادي للتاريخ. ماهي موضوعية الماضي التي يقصدها هيدجر ؟ كيف يُمكن للتاريخ أن يُصبح موضوعًا مُمكنًا لعلم التأريخ؟

سيُحدد هيدجر في تفسيره كيفية وجود ما هو تاريخي بحد ذاته، وتاريخيته، وتجذره في الزمانية. ما هي الكائنات التاريخية؟ هل يقتصر الأمر على الوجود أم أن هناك كائنات غير بشرية أيضًا؟ هل يجب أن تظهر الكائنات أولًا لتتمكن من الدخول في التاريخ لاحقًا؟

يرى هيدجر أن الوجود لا يُصبح تاريخيًا من خلال التقاء الظروف والأحداث المُختلفة وتداخلها. بل على العكس، من خلال الأحداث نفسها تتشكل كينونة الوجود، وبالتالي "بمجرد أن يكون الوجود تاريخيًا في كينونته، فإن الظروف والأحداث والمصائر تكون مُمكنة أنطولوجيًا". لا يمتلك الوجود تاريخيته؛ لا يُمكننا تحديدها، ولا يُمكننا استحقاقها لأي سبب وجيه. تُسقط بنية الوجود في مفهوم هيدجر في علاقة الزمان بالوجود. ولهذا السبب، للتاريخية وتحليلها الأنطولوجي معنى زمني. إلى جانب الوجود، تُعدّ الكائنات الدنيوية تاريخية أيضًا، ولكن بشكل ثانوي. هذا لا يعني أنها ستكون تاريخية فقط بفضل التشييء التاريخي. هل يُمكن أن تُصبح موضوعات للبحث التاريخي لمجرد كونها تاريخية؟

الأشياء العادية، كالأدوات اليدوية أو حتى التحف، التي تنتمي إلى الماضي، تنتمي إليه لأسباب مختلفة عن عدم استخدامها. إنها لا تزال موجودة في الحاضر! إذا قبلنا مفهومًا واضحًا للتاريخ كشيء ماضي، فإننا، مع هيدجر، نتساءل: "بأي معنى تُعتبر هذه الأدوات اليدوية تاريخية، رغم أنها لم تعد ماضية بعد؟". سواء استخدمنا هذه الأدوات اليدوية أم لا، فمن الواضح أنها ليست كما كانت عليه. في أي سياق نتحدث إذن عن شيء ماضي، عما لم يعد موجودًا؟

في التحليل الأنطولوجي عند هيدجر ، تنتمي الكائنات الدنيوية الباطنية، بمعنىً ما، إلى وحدة أدوات، إلى العالم الذي يهتم به الوجود ويستخدمها في ظروف معقولة. لكن عالم هذه الظروف المعقولة الذي اعتدنا الاهتمام بها أو استخدام تلك الأدوات فيها، لم تعد موجودة. ومع ذلك، لا يزال بإمكان الكائنات الدنيوية الباطنية أن توجد. هل يعني هذا أنه في الماضي كان هناك عالم لم يعد موجودًا، وأن الكائنات الدنيوية الباطنية توجد الآن في العالم الموجود؟ العالم، وفقًا لهيدجر ، ليس مجموعة من الأشياء المفردة في مكان ما في الفضاء، وليس مجموعًا كليًا للأشياء المعروفة. ينتمي العالم إلى ماهية الوجود، وهو ما يُحدد فهمه الأساسي، وتعريفه الأساسي كطريقة معينة للانفتاح. لهذا السبب، فإن العالم "ليس إلا بمثابة وجود موجود، أي أنه موجود في العالم" موجود بالفعل. في هذا السياق، يعيش الناس من مختلف العصور، ويحددون منهجهم تجاه ما هو موجود، وكذلك تصورهم لذاتهم. تاريخية الكائنات الدنيوية التي لا تزال قائمة، ولكنها تنتمي بمعنى ما إلى الماضي، وبالتالي، وفقًا لهيدجر ، لا تعتمد على التشييء التاريخي، بل على العلاقة ما قبل الموضوعية للوجود بالكائنات الدنيوية التي كانت تنتمي إلى عالم الوجود "السابق للوجود". يتناول هيدجر هذا أيضًا في كتابه "أصل العمل الفني"، ويقول إننا لا نفهم خصوصية حقبة ما بتسمية الأشياء التي كانت تنتمي إلى ذلك الوقت. إن فهمنا للعالم يتحدد من خلال توضيح وكشف إمكانية وصول الكائنات إلى الوجود. نحن نقترب من عالم الانفتاح. تعتمد طريقة لقائنا بالكائنات وفهمنا لها على نوع الانفتاح الذي نعيش فيه. إن نوع الانفتاح المحدد، كما يزعم هيدجر ، يميز أيضًا العوالم التاريخية. إن الانفتاح في حد ذاته ليس ماديًا أو ملموسًا؛ ولا يمكن أن يكون موضوعًا لأي علم وضعي. لا يقتصر الانفتاح على مسألة الكائنات غير البشرية التي يواجهها الإنسان، بل يشمل أيضًا تصوره لذاته، وتصوره للآخرين، بالإضافة إلى إدراكه الروحي. تهدف حركة الفهم الدائري لهيدجر إلى الانفتاح كشيء مكشوف في معنى الحقيقة. فبمجرد أن يُظهر الشيء ذاته، وأن يتجلى وجوده، يُمكننا التعبير عن انفتاح الكائنات في ماهيتها وكيفية وجودها. وهذا يعني أن الكائنات تصبح متاحة في جوهرها. وبهذه الطريقة، يتحدث هيدجر عن الحقيقة على أنها "دع الكائنات تصبح متاحة في ماهيتها". في حين أن جميع جهود التحليل الأنطولوجي لدى هيدجر تهدف إلى إيجاد إمكانيات للإجابة على سؤال معنى الوجود بشكل عام، فإن هذا التحليل الأنطولوجي يحتاج أولًا إلى فهم الوجود. ففهم الوجود يحدث في أفق الزمن. يتحدث هيدجر عن فهم الوجود انطلاقًا من الزمانية، من الزمن البدئي. وقد تطورت الزمانية في إطار تحليل الوجود إلى البُعد الأساسي للوجود البشري كشرط أصلي لإمكانية الرعاية. وقد فُسِّرت في علاقتها بالأنطولوجيا الأصيلة "إمكانية الوجود ككل". وبما أن "الزمانية تُمكّن من وحدة الوجود والواقعية والسقوط، وتُشكل في الأصل وحدة بنية الرعاية" ، فإن مجمل الأنطولوجيا يتحدد بالبنية الأفقية الأنطية للزمانية.

الزمانية والتاريخية

اعتبر هيدجر الزمن أفقًا لفهم الوجود. وبهذا التأويل، يكون الزمن أصيلًا بمعنى بنيته الأفقية الأنطية التي تُفسر مجمل الاهتمام الأصيل بـ"الوجود نحو الموت"، وفي الوقت نفسه، الأساس الأصيل والأعمق للوجود: الدازاين. لا يُعرّف الزمن الوجود بأنه زمني، بل يُؤول الوجود بأنه زمني. لا يعني "الوجود في الزمن"، بل "الوجود زمنيًا" كوجود زمني. يمكن تمييز الوجود من خلال الزمن، أي أنه يمكن تأويله على أنه زمني. تمييز الوجود يعني إمكانية تاويله بمعناه، أي أن شيئًا ما كالمعنى يُمكّن من تأوليه. هذا التأويل الزمني ممكن فقط لأن الوجود يفهم وجوده من خلال الزمن. تكمن كينونة الزمانية في توقيت وحدة أنطيات الزمان، وظواهر المستقبل، و"الوجود" والحاضر، وهي تُمكّن من وحدة الوجود والواقعية والسقوط. إن الكوكبة المحددة من الارتباط بين معاني "كان" و"هو" و"سيكون" تخلق حدًا سلبيًا محددًا للوصول إلى الزمان والوجود. إذا كان المقصود من هذا الوصول صحيحًا، فيجب أن يكون هناك شيء مثل بُعد مفتوح، منطقة مفتوحة يمكن من خلالها الكشف عن الوجود على الإطلاق، ويمكن الوصول إليه وحاضرًا في وسائله وبواسطته، ويمكن أيضًا فهمه. يتطلب فهم هذا الحد المتبادل المحدد القائم على عدم اختفاء الوجود والزمان وإخفاء الذات لوحدة "كان" و"هو" و"سيكون" (حتى يستمر عدم اختفاء كينونة الكائنات)، التحقيق في البنية الداخلية لهذه النشوة الزمنية، أي الزمنية المنتشية. هذا البناء الذي يُعبّر عن انقسام أو امتداد الوجود في زمانية التوقيت، ويظهر كـ"إحساس بالاهتمام الأصيل"، يُشير إلى وحدته الأصلية الانتية المتمثلة في "الوجود" كإلقاء للوجود في العالم، لحظة الوجود-الحاضر-السابق-فيه؛ الحاضر كوجود إلى جانب هذا الكائن أو ذاك؛ المستقبل كإسقاط ذاتي للوجود، مُتاحًا في فرص العودة إلى ذاته، كلحظة وجود-الوجود-السابق-فيه دائمًا. تُصبح الجملة من الفقرة 65 من كتاب هيدجر "الوجود والزمان" نقطة انطلاق لتحليلنا المُعمّق. لا يُمكن للوجود أن يوجد ككائن مُلقى عليه إلا لأن الاهتمام نفسه قائم على "الوجود". لنتذكر أن الوجود هو الكائن الذي يهتم في وجوده بالكائن نفسه. وجوده مُسند إليه. هذا يعني أن الوجود قد انفتح على هذا" الوجود هُنا" ليبلغ وجوده. "هُنا" توحي بشيء أشبه بمساحة مفتوحة لمنطقة محتملة، مساحة ممتدة من عالم ممكن - وهكذا فإن وجود ذلك "الوجود هُنا"هو منذ البداية وجود في العالم. هذا يعني أن الوجود مُسند إليه دائمًا أن يكون هذا " الوجود هنا" الخاص كوجود في العالم. يكتب هيدجر عن واقعية تعيين وجودنا الخاص ويسميه "الإلقاء الزائد" لوجودنا. "الإلقاء الزائد" يعني أن وجود الوجود (كوجود في العالم) مُلقى "دائمًا" في الانفتاح، في "هُنا". لهذا السبب، وجد الوجود نفسه "دائمًا" واقفًا أمام حقيقة وجوده في العالم، في حالة مزاجية معينة، "حالة ذهنية". هذه الحالة الذهنية هي سبيلٌ انفتح من خلالها "دائمًا" على "هنا" حيثُ بحدث انسلاخ المرء عن الوجود في العالم. إنها تسبق كل تأمل أو فهم ممكن. ولهذا السبب، فهي "دائمًا" معنية بوجود المرء نفسه. كيف تتوافق هذه التأملات الموجزة مع موضوعنا؟ كيف يُمكن أن تكون بنية الوجود الموصوفة أعلاه ممكنة؟

في كتابه "الوجود والزمان"، يُفرّق هيدجر بين "الوجود-السابق" و"الوجود-الماضي". في أفق تحليله ، لا يُشير الماضي إلى شيءٍ مُؤرخٍ قد استُنفد، وبالتالي يبقى مُستنفدًا "الآن"، وهو ما نُشير إليه بأنه موجود "آنذاك". لا ينطلق هيدجر من فكرة الزمن كتسلسل للماضي والحاضر والمستقبل، ولا من فكرة ارتباطه بالحاضر كـ"كائن ساكن" أو بالمستقبل أو الماضي كـ"عدم وجود". ينتمي هذا التعريف للزمن، حسب رأيه، إلى المفهوم الاعتيادي للزمن.1 إن مفهوم هيدجر للزمن، المُفسَّر ضمن حدود التحليل الأنطولوجي للدازاين، ليس إطارًا موضوعيًا للحدوث، فهو لا يحدث في مكان ما "خارجيًا" أو "داخليًا"، مثلًا في الوعي.2 فالزمن ليس كائنًا يظهر أو يختفي، أو قابلًا للقياس، أو التعريف بالمصطلحات، أو شيئًا أبديًا. يكتب هيدجر عن الماضي فيما يتعلق بالكائنات "غير البشرية" التي تظهر وتوجد "في الزمن". تُسمى الطريقة التي يُسقط بها الدازاين الذات في هذا الكائن باللأنطولوجيا. ولذلك، فإن الدازاين، بالإضافة إلى كونه الوجود-في-العالم المُنقلب، هو أيضًا إسقاط ذاتي مفهِوم في إمكانية المرء-للوجود-في-العالم. يُطلق هيدجر على هذه الطريقة في وجود الدازاين اسم "الإسقاط المُنقلب". ووفقًا لهيدجر ، لا يمكن للدازاين، كوجود، أن يكون الماضي لأنه لا يمكن أن يحدث ماهويًا: من الواضح أن الدازاين لا يمكن أن يكون ماضيًا أبدًا، ليس لأنه لن يختفي، ولكن لأنه لا يمكن أن يحدث ماهويًا. بقدر ما هو موجود، فهو موجود. والوجود الذي لم يعد موجودًا، ليس ماضيًا بالمعنى الأنطولوجي، بل هو هذا الوجود هنا". ولهذا السبب يستخدم مصطلح "الوجود" كمصطلح ذي معنى لأحد المكونات الزمنية التي لا يمكن تحليلها على أنها معزولة أو متعارضة بالتناوب مع المكونات الأخرى المتبقية لبنية كاملة من الرعاية. الوجود، والحاضر، وحتى المستقبل، كلها مترابطة دائمًا، مما يخلق ظاهرة متكاملة خاصة، هي معنى الوجود. إن التحليل الفينومينولوجي لظهور كائن موصوف بأنه قادم إلى الحضور من الخفاء والعدم مكّن من التمييز بين الحاضر الحسي كظهور وتمثُّل بمعنى "الخروج"، أو "الصعود" إلى الخفي، أو الوقوف في الانفتاح. إن التمثل يُمكّن "الوجود" (الاهتمام، كائنات داخل العالم) جنبًا إلى جنب مع سقوط الوجود. السقوط يعني الضياع في الحاضر. لا يُمثل الحضور لحظة، "الآن" كنقطة في نظام زمني محدد. الحضور كلحظة "الآن" سيكون ظاهرة زمنية تُقابل الزمن بمعنى الوجود داخل الزمن. في الزمن كوجود داخل الزمن، يحدث دائمًا شيء ما. لكن الوجود ليس كائنًا عارضًا، ولذلك لا يُمكن تأويل"وجود المرء بجانبه" من خلال "الآن". باختلافه عن الكائنات التي تظهر "في" الحاضر، يكون الوجود في حالة نشوة. وفيما يتعلق بنشوة الوجود هذه، لا يعني الماضي "انقضاء الوجود"، بل يعني "وجود الوجود نفسه"، ولا يعني الحضور "الآن"، بل هو منفذ إلى الوجود في خفائه. الحاضر كوضعٍ انتشائي هو ما يُمكّن من "الالتقاء بما يُمكن أن يكون" في وقتٍ مُعين، "كائناتٍ جاهزة أو حاضرة في متناول اليد". لهذا السبب، لا يُمكن للوجود أن يكون قريبًا من كائنات العالم إلا عندما يكون مُتاحًا لـ"التمثيل الحاضر" المُمكن لهذه الكائنات، وبالتالي لذاتها. من خلال هذا الوجود المُجاور، يُستخرج الوجود ليكون حاضرًا. الحاضر هو تمثيل للكائنات في خفائه. وبالمثل، ينطبق الأمر أيضًا على تحليل النشوة الزمنية الثالثة، أي المستقبل. فإذا سمحنا بتفسير مبتذل للزمن، فإن المستقبل يمثل الآتي، وهو شيء لم يكن موجودًا من قبل، أي ليس موجودًا بعد ولكنه سيكون - سيصبح حاضرًا. وإذا كان المستقبل سيأتي فقط، فسيكون قادرًا على الظهور كمستقبل لأنه سيبقى بعيدًا إلى الأبد 3. وينسب هيدجر إلى هذا المستقبل القادم فهمًا غير أصيل للزمانية. فالمستقبل في الأفق الأصلي للزمن (في الزمنية الأفقية الأصلية) موجود دائمًا بالفعل، ولا يأتي أبدًا. وفي كتاب "الوجود والزمان"، يُؤول على أنه إسقاط ذاتي للدازاين، كوجود متقدم على الذات. يُسقط الدازاين الذات وفقًا لإمكانياته الخاصة للوجود، ويفهم هيدجر هذا الإسقاط الذاتي في إمكانيات المرء الخاصة على أنه إضفاء طابع زمني على المستقبل. يتيح المستقبل فهم شيء مثل التقدم على الذات. لهذا السبب، يكون الوجود مُسبقًا على ذاته مستقبليًا. يعني "مُستقبليًا" توجه الوجود نحو ذاته في أقصى إمكاناته للوجود. يُشير التوجه نحو ذاته إلى مستقبل أصيل يُمكّن الوجود من أن يكون على النحو الذي يُعنى به بإمكانياته للوجود. من السمات الظاهرة للمستقبل "التوجه نحو الذات" (من إمكانية مُحددة) أي "الوجود نحو". المستقبل، المفهوم على هذا النحو، بطريقة مُحددة، لا يزال يُهمّ الإنسان. يُواصل هيدجر تأويله للزمانية الأصلية بالتأكيد على بنية ديناميكية لوحدة الزمانية الأصلية. ولكن بما أن الوجود، كوجود في العالم، يوجد في وحدتين أساسيتين من الوجود، ويصل إلى إمكاناته للوجود من خلال الاهتمام بالكائنات، فإنه لا يستطيع أن يرى أن وحدة الزمانية لا تُوليه اهتمامًا، بل تُغفله. إذا كان الوجود مُهتمًا "بكينونته"، فإنه يُعنى أيضًا بنشوته الذاتية، إما بشكلٍ غير أصيلٍ على نحوٍ من السقوط، أو بشكلٍ أصيل. تُؤجّل الزمانية إما بالنسيان والتمثيل والتوقع، أي بشكلٍ غير أصيلٍ من الكائنات داخل الزمانية، أو كتجددٍ مستمرٍّ للحظة، أي بشكلٍ أصيلٍ من زمانية المرء نفسها. يبدو أن بعض لحظات بنية الوجود في الوجود ممكنةٌ فقط بشرط أن يكون الوجود في تنوّعه دائمًا وفي الوقت نفسه: قادمًا - مستقبلًا، و"موجودًا بالفعل"، وحاضرًا - مُمثّلًا. من منظور فينومينولوجي، تُشكّل هذه النشوات الزمنية الثلاثة وحدةً، وهذا يعني أنها تُؤجّل الزمانية الأصلية. هذه الوحدة، وفقًا لهيدجر ، تحدث في العالم. العالم هو فضاء الكائنات الذي يفهمه الإنسان باعتباره من يفهم الوجود. ينتمي العالم إلى الوجود، ويشير إلى كيفية تجلي الكائنات للإنسان ككل. في الفينومينولوجيا، يعني تجلي الوجود هنا بطريقة ما، أي الحضور في "المكان" الذي يحدث فيه اللقاء. لكن يجب فهم هذا "المكان" بطريقة ما: فهمًا غير أصيل، يتمثل في المادية، أي حدوث الحاضر؛ وفهمًا أصيلًا، حيث يمكن الوصول إلى كل حاضر من المستقبل، فكل فهم هو إسقاط، ولكنه إسقاط مقلوب، لأن كل حاضر يتحدد بالماضي في الوقت نفسه. بعد فهم "الخطوة-الخارجية" التي تُمكّن من الحضور في موقف معين، نخرج دائمًا من مكان ما، انطلاقًا من تحديد ما، واعتماد على ما كان. سواء في الأصالة أو اللاأصالة، يظهر في علاقة مع الذات. في الحالة الأولى نعود إلى ذواتنا، وفي الثانية لا. ولكن في كلتا الحالتين، لا بد من وجود بنية ما تُمكّن من وضوح الأمور ووصولها إلينا، ونصل إلى ذواتنا. لفهم ماهية الوجود، يكشف هيدجر عن نمطٍ حاسمٍ يُسمى "أصالة التصاميم"، والتي عادةً ما نترجمها بمصطلحٍ قد لا يكون مناسبًا أخلاقيًا، ألا وهو أصالة الوجود. تُسهّل هذه الأصالة فهمَ نهائية الوجود. في هذا السياق، يجد هيدجر لتعبيره ظاهرة الوجود نحو الموت، التي تكتسب أهميتها في مواجهة المرء للنهائية كفهمٍ أصيلٍ للكائن البشري. إنّ إضفاء طابعٍ زمنيٍّ على الزمن، وهو سمةٌ من سمات الوجود الأصيل، يندرج ضمن نمطٍ تاريخي. يُشدد هيدجر، في تحليله للطابع الزمني للكائنات التاريخية، على حقيقة أننا لا نستطيع الخروج من "الوجود في الزمن" ككيانٍ حاضرٍ بين أيدينا. ومع ذلك، لا يصبح الكيان "أكثر تاريخيةً بالعودة إلى ماضٍ أبعد فأبعد، بحيث يصبح الأقدم تاريخيًا بالمعنى الأكثر واقعيةً". الوجود، وفقًا لهيدجر ، ليس تاريخيًا لأنه ليس هنا، بل فقط من خلال إضفاء طابع زمني على زمانية المرء، ذات بنية أفقية-منعزلة، يمكننا الحديث عن التاريخية كبنية ماهوية للوجود. يناقش هيدجر التاريخية كمشكلة أنطولوجية، يحللها من خلال التحليل الأنطولوجي للوجود. ويشير إلى بنية ذات معنى للزمانية، تتمثل في تاريخية الوجود. تناول هيدجر البناء الأنطولوجي للتاريخية؛ فالتاريخية في هذا التحليل "ليست مجرد بيان وجودي بسيط لحقيقة أن الوجود يعمل في "تاريخ العالم". تاريخية الوجود هي أساس الفهم التاريخي الممكن، الذي يتيح إمكانية الحفاظ على التاريخ واضحًا كعلم".  لقد كان هيدجر يحاول تأويل التاريخية من منظور الزمانية، النابعة أصلًا من الزمانية الأصيلة".4

***

بقلم أندريا جافورسكا، ، جامعة الفيلسوف قسطنطين في نيترا، سلوفاكيا

..........................

الاحالات والهوامش

١- اتخذ هيدجر منهجًا نقديًا تجاه المفهوم التقليدي للزمن، وهو منهجٌ نموذجيٌّ، على سبيل المثال، لدى أرسطو، لأنه لا يكفي لفهم العلاقة بين الوجود والزمان. انظر: (ميترباخ، ٢٠٠٧، ص ٦٥-٦٦).

٢- ينحرف هيدجر أيضًا عن مفهوم هوسرل للزمن، الذي يرى أنه لا يتحدد بسؤال الوجود: "لقد كان سؤالي عن الزمن يتحدد بسؤال الوجود. لقد كان يتخذ الاتجاه الذي لا يزال مجهولًا بالنسبة لبحث هوسرل في الوعي الداخلي للزمن". في: (هايدغر، ١٩٩٣، ص ٥٣).

٣- نجد تحليل التحديد الحسي للـ "أنوسن" و"أبوسن" خاصةً في الأعمال التي تلت الطبعة الأولى، مثل: "تاريخ الأمثال"، و"هل كان ما كان؟".

4 المساهمة هي عرض جزئي لنتائج مشروع البحث VEGA رقم 2/0175/12 من الفينومينولوجيا إلى الميتافيزيقيا وإلى التفكير في الأزمة المعاصرة للمجتمع والفن والذي تم تنفيذه في معهد الفلسفة التابع للأكاديمية السلوفاكية للعلوم وقسم الفلسفة بكلية الآداب في جامعة قسطنطين الفيلسوف في نيترا.

المصادر والمراجع:

Biemel, W. (1995). Martin Heidegger. Prague : Mladá fronta.

Dastur, Françoise. (1996). Le temps et l'Autre chez Husserl et Heidegger. Prague : Institut philosophique de l'Académie tchécoslovaque des sciences.

Heidegger, Martin. (1996). Être et temps. Prague : Oikoymenh.

______. (1993). La fin de la philosophie et la tâche de penser. Prague : Oikoymenh.

Mitterpach, K. (2007). Être, temps et espace dans la pensée de Martin Heidegger. Bratislava : Iris.

كاتب فلسفي

بقلم: ألفونس دي فالهينز، لوفين

ترجمة: د. زهير الخويلدي

***

"ليس من السهل بالتأكيد تحليل هذا الكتاب الضخم، الكثيف، ضعيف التأليف - أو غير مؤلف على الإطلاق - والمكتوب بشكل سيء، والذي يُثير الإزعاج باستمرار تقريبًا بسبب مظهره المتعمد الذي يُصعّب مهمة القارئ، أو بسبب التناقض الذي نراه بين دقة التفاصيل السخيفة أو المتضخمة أحيانًا والغموض التام لإطاره وبنيته. هل نُكافأ في النهاية على صبرنا الطويل؟ لا نعلم حقًا. بعض الأفكار الحاسمة، سواءً فيما يتعلق بطبيعة الموضوع أو بأسس فكر سارتر، لا تُزيل خيبة أمل كبيرة. وهذه الخيبة لا تُجنّب جوهر العمل. ففي النهاية، بعد الانتهاء من هذه القراءة، وهذه القراءة المُعادَة لأكثر القراء إصرارًا، أين نحن؟ سيستغرق الأمر مئات الصفحات الأخرى لإلقاء نظرة خاطفة عليه. ولكن دعونا نحاول أن نُقيّم الوضع. ماذا يريد سارتر؟ تُخبرنا صفحتان من المقدمة. الماركسية هي الفلسفة الحية الوحيدة في عصرنا. لنفهم أنها وحدها تُجمّل هذه المرة وتجعلها مفهومة لنا. هي وحدها التي تُعبّر عن نفسها عن حركة الوجود والمعرفة التي تُشكّل عصرنا؛ عصر هو أيضًا، كأي عصر، تكرارٌ لكل العصور الأخرى. ومع ذلك، تفتقر الماركسية إلى أنثروبولوجيا أساسية، تختلف عن الطبيعية الساذجة والعقائدية التي غالبًا ما تُشكّلها. كما تفتقر - وهي مفارقة لا تقل إثارة للدهشة ولكنها مفهومة - إلى المفكرين الأصيلين والنشطين الذين سيسمحون لها بمواصلة العمل التأملي للشمولية في العصر الناشئ. ما يُطلق عليه سارتر، دون أوهام، "الأيديولوجية" الوجودية تنبع من هذه الثغرات التي يجب أن تُسدها. ولكن إذا كانت عيوب الماركسية قد ولّدت الوجودية، فإن الماركسية - لأنها "أيديولوجية" - يجب أن تُكافح الوجودية بنفس القدر. وهذا، علاوة على ذلك، هو ما يفعله. سيشرح الكتاب كيف يمكن التوفيق بين هذه الأطروحات، وكيف يمكننا في آنٍ واحد التأكيد على أن الماركسية هي حقيقة عصرنا، وأنها تفتقر إلى الأنثروبولوجيا، وأنها لا تستطيع البقاء على قيد الحياة في حد ذاتها، وأن الأيديولوجية الوجودية، بتأسيسها واستكمالها، لا تنوي سوى الانغماس فيها، لا بل تغييرها. وستكون النقطة التي تتضح عندها هذه التأكيدات جليةً هي أيضًا نقطة إزالة الغموض التام. بل إننا نتساءل إن لم تكن كاملةً لدرجة أن لا شيء يفلت من هذا الوضوح. ومع ذلك، هل كان لكل هذه الطرق الملتوية، والتسويف، والعبثيات هدفٌ سريٌّ يتمثل في تأخير هذه الكارثة النهائية إلى أجلٍ غير مسمى تقريبًا: فالشر، في النهاية، لا يُقهر. كل ما تبقى هو محاربته ما استطعنا، وبكل الوسائل المتاحة. يبدأ الكتاب بسلسلة من المقالات، كانت في الأصل مخصصةً لمجلة بولندية، وأعادت نشرها مجلة "الأزمنة الحديثة". في الواقع، تفترض هذه المقالات أن المشكلات النظرية التي تناولها نقد العقل الجدلي نفسه قد حُلّت. بل إنها تهاجم فلسفة التاريخ التي تُمارسها الماركسية "المبتذلة" والمتصلبة اليوم؛ لذا تنطلق من فرضية إمكانية وجود فلسفة أخرى للتاريخ (وفلسفة تاريخ عامة)، فلسفة تاريخ لا تندرج، دون التخلي عن الماركسية، في فخ القبلية والشكلية ومثالية الأنماط الصرفة، أو بكلمة واحدة، في فخ "المدرسية" التي كرّس لها لوكاش وغارودي وغوران، وغيرهم. ولكن هذا هو الاحتمال الذي يجب على نقد العقل الجدلي إثباته، وليس من المؤكد أنه سينجح. وأخيرًا، سيتذكر قراء سارتر المحنكون أنه، وفقًا لكتاب "الوجود والعدم"، يُعرّف مشروع الوجود في ذاته لذاته شغفًا لا طائل منه. ووفقًا لهذا المنظور نفسه، لا يُمكن تصوّر أي توافق نهائي بين الداخل والخارج. وهو ما يكفي - على ما يبدو - لجعل أي فلسفة "تجميعية" "تجميعية" على حد سواء "تجميعية" وعبثية. فكيف لنا أن نستغرب إذًا أن تكون "التجميعيات" مجردة، مقيدة، ثابتة، تزدري الملموس، "مثالية"، و"مدرسية"؟ صحيح أن الأمر بالنسبة لسارتر لا يتعدى "تجميعية" في طور التقدم، كليات في حالة اندماج، يجب استعادتها دائمًا. في أي ظروف تكون ممكنة؟

هناك حلان زائفان لهذه النقطة: حل هيغل وحل الماركسية المبتذلة. تقوم الهيغلية على هوية الفكر والوجود، منفصلتين كلحظتين فقط. إن توافق هذه العناصر، الناشئة في نهاية العملية، يُحدد نهاية التاريخ وظهور المعرفة المطلقة. وقد أظهر ماركس الطابع المُحيّر لهذه المعرفة، التي تنقلب على ذاتها بتركها واقع عالمٍ لاإنساني خارجها، مُنزلةً نفسها إلى مرتبة الأيديولوجيا، إذ تُعيد لنفسها الفصل بين ما هو مُفكر وما هو كائن. علاوةً على ذلك، لا تُثبت هذه الصعوبة أن المعرفة المطلقة الهيجلية كانت سابقة لأوانها فحسب، بل تُفسد مبدأها ذاته. فالفكر والوجود ليسا مجردَي: فهناك وجودٌ فكريٌّ ليس هو فكر الوجود. هذا الوجود الفكري، في نهاية المطاف، لم يعد فكرًا بل ممارسة. لا يُخلط بين التجميع والمعرفة المُكتملة تمامًا، بل بين الفعل في طور التطوير الدائم. والآن، ينبغي، بالتحديد، العمل على أسس هذا التطوير، دون أن تُعيد هذه المحاولة صاحبها إلى مجرد فكرٍ تأملي. ووفقًا لسارتر، لم يكن ماركس مُهتمًا بهذا الأمر حقًا. وفي هذه النقطة، لا يوجد بين تلاميذه وخلفائه "مجموعات" سوى تلك التي تُعتبر في غاية البؤس! إن الطبيعية العلمية التي تقوم على وضع الديالكتيك في المادة لاستخلاص كينونة الفكر جدليًا هي مزحة لا يُضفي عليها إلا صرامة المنهج الدنيوي جدية العقيدة. لا داعي لسرد تفسيراتها الخاطئة وعبثيتها، التي يُطورها سارتر بشراسة لا هوادة فيها. من الواضح أنه لا يُقدّر "عجائب" بافلوف، لا قبل الرسالة ولا بعدها. هذا، دون أن يُنيرنا بعدُ بتفاصيل رد سارتر، يُحدد لنا بالفعل هدفه، والتمييز الذي يُقيمه بين الجزء المنشور حاليًا من نقد العقل الديالكتيكي (الذي يُسميه "نظرية المجموعات العملية") وما لا يزال في طور التكوين. يسعى الكتاب الذي بين أيدينا إلى شرح، دون الرجوع إلى الفكر التاملي المحض (الذي يكرس هيجل فشله)، كيف يشكل الفعل والممارسة، بشكل فعال ونهائي، التركيب الوحيد، وإن كان في شكل غير مكتمل ومتكرر إلى الأبد، لكائن الفكر وفكر الوجود. المهمة الثانية - التي تخلطها الماركسية، حتى ماركس، بل والماركسيون بشكل أوضح، بالمهمة الأولى - تتمثل في إظهار كيفية تحقيق هذه الإمكانية تاريخيًا، مع الحفاظ على وحدتها، أي من خلال كشف تاريخ يوحده الديالكتيك ويجعله مفهومًا. يمكن للمرء - مع أن هذه الطريقة في التعبير لها عيوبها - تبسيط التمييز بالقول إن كتابنا يدرس مبدأ فلسفة التاريخ، أي مبدأ الديالكتيك كما عُرّف؛ وسيتعين على المستقبل حينئذٍ أن يُظهر لنا عمل الديالكتيك، أي تفسير التاريخ كما هو موجود، وقد كان، والذي سنجعله واقعًا. دعونا نتجاوز الاعتراضات الجدية التي يثيرها هذا المشروع في الأذهان فورًا. يفحصها سارتر بإسهاب، ولكن، لأنه يُدرك أنها لن تُدحض إلا بنجاح مشروعه الفعلي: لإثبات أن التجميع التركيبي ممكن بالفعل، يمكن تأجيل مناقشتها أو استئنافها وربطها بمسار المشروع نفسه. الإنسان ككائن حي، أو حتى أي كائن حي إن شئت، يُشكل أولَ مجموع. لفهم ذلك، يكفي الرجوع إلى الصفحات التي خصّصها كتاب "فينومينولوجيا الروح" للحياة، ولكن فصلها عما سبقه وما يليه. من السابق، لأن الكائن الحي، خلافًا لادعاءات هيجل، هو المجموع الأصلي لدى سارتر، وهو لا يقصد أن يجعل الحياة في نقطة التقاء الوعي والوعي بالذات. من التالي، لأن الحياة ليست، بالنسبة لسارتر، مرحلةً على طريق الكلّية تُعرّف بأنها امتلاك الروح بذاتها، مع أنها أيضًا مرحلةٌ بالنسبة له. الكائن الحي، إذن، هو وحدة ذاته ونفيه (غير العضوي)؛ هذه الوحدة تشمل كل شيء، ولكن على نحوٍ هش. إنه يستوعب الخارج (على سبيل المثال، في التغذية)، ولكنه لا يستوعبه إلا بقدر ما يُخرجه: لا يتم استيعاب الطعام من قِبل الكائنات الحية إلا إذا كانت القوانين الفيزيائية الكيميائية، وهي قوانين الخارج، تعمل فيه. ومع ذلك، بالنظر إلى الأشياء في ذاتها فقط، يُمكن القول بسهولة إن هذا التجميع كامل بقدر ما هو ناقص. فبينما يجب إعادة صياغته باستمرار، فإن إعادة البناء هذه تتم وفقًا لعملية دورية ثابتة. ماضي الكائن الحي هو مستقبله، ومستقبله هو ماضيه. وهنا تكمن الحقيقة الرئيسية - التي لا يُقدم لنا أي تبرير جدلي لها -: الاحتياجات (أي نفي النفي) لا تُشبع بالضرورة. تحدث العملية في بيئة الندرة. فبالندرة، يُصبح الآخر شريرًا، المنافس الذي يحكم على المرء بالهلاك. يُمكن القول، وهذا صحيح، إن الندرة عامل قوي في التجميع، لأنها تدفع المرء إلى نفي الآخر. لكن الآخر يفعل الشيء نفسه معي. إنه ينكرني، دون أن أقبل أن أُنكر. لذلك، يجب أن نأخذ في الاعتبار أنه على المستوى الجزيئي الفردي حيث وضعنا أنفسنا الآن، فإن التعددية دون تجميع فعال هي القانون الفعلي الذي يحكم العلاقات الفردية. مع ذلك، ليست هذه العلاقات، على كل حال، فوضويةً أو مقتصرةً على صراع كلٍّ ضدّ الجميع. في الواقع، لا يصل كلُّ شخصٍ إلى غايته، أو يسعى إليها، إلا من خلال إدراكٍ مُعينٍ لغايات الآخر (وإن كانت مُتناقضة): عليّ أن أدفع لمن يعمل لديّ؛ ومن يرغب في العيش عليه أن يُوافق على العمل لديّ. علاوةً على ذلك، لا يُمكن لأيِّ عملٍ غايته إشباع الحاجات أن يُحقق ذلك، إلى حدٍّ ما، دون استخدام موادّ مُعدّة مُسبقًا، أي موادّ تحمل بالفعل معانٍ مُعينة، وقد وُضعت فيها غاياتٌ أخرى، غاياتٌ نهائيةٌ إلى حدٍّ ما. لذا، يجب أن نستنتج أو نُقرّ بوجود نوع من التبادلية منذ البداية، حتى في الحالة الجزيئية. ولكن أيضًا، إنها بعيدة كل البعد عن أن تكون مُجرّدة من كل اضطهاد. ومرة أخرى، يوجد أيضًا نوع من التجميع منذ البداية، ولكن من خلال المادة بقدر ما تُفعّل. في الواقع، المادة المُفعّلة - وهي الإمكانية الوحيدة لاستمرار الاستبطان - هي أيضًا استبطان مُكتسب بالفعل، ولكنه مُتجلٍّ. تُؤنسن المادة المُفعّلة الطبيعة وتُعمّم الإنسانية، ولكن في شكل جامد، مُقترح للممارسة. في هذه الطبيعة، النادرة والمُؤنسنة بالعمل، يسعى الأفراد إلى غايات متناقضة تُصوّر نفسها، كلٌّ لنفسه، على أنها تُنفي الكلّية، بينما تُعيدها أو تُرسّخها بطريقةٍ مُعيّنة. هذا الاستعادة - الجزئية والمؤقتة - للكلية تُصبح جليةً، أو تتقدم نحو التفسير، من خلال تدخّل الطرف الثالث الوسيط. لا يهتم سائق الحافلة إلا بإشباع احتياجاته بقيادة مركبته بشكلٍ جيد - إن أمكن (ولكنه مُستحيل) خاليةً من الركاب؛ ولا يهتم المسافر إلا بإشباع احتياجاته باستخدام الحافلة - إن أمكن (ولكنه مُستحيل) خاليةً من الركاب. ببساطة، غاية السائق وغاية المسافر تتعايشان، بينما تميلان إلى استبعاد إحداهما الأخرى وجميع الآخرين. شركة الحافلات - لنسمّها الشخص المسؤول عن وضع جدولها الزمني الخاص (والتي لا تهتم إلا بإشباع احتياجاتها الخاصة) - تُرتّب هاتين الغايتين، وأكبر عددٍ ممكنٍ من الغايات الأخرى، في كليّة مُنظّمة ومفهومة، مؤسسة نقل. وبطبيعة الحال، تبقى هذه الكليّة خارجيةً عمّن توحّدهم. قد لا أفهمه، وهو لا يتكيف تمامًا مع غاياتي: أُفضّل أن تكون الحافلات موجودة حتى الواحدة صباحًا؛ ومع ذلك، فإن وجودها حتى العاشرة مساءً فقط يُزعجني أقل من توقف حركة المرور في الثامنة مساءً. ولهذا السبب أيضًا هو دائمًا في طور التفكك، وإعادة البناء. كلٌّ من جمود المادة والذاتية - اللذان لا يمكن التوفيق بينهما في النهاية - يُهددانه باستمرار. ولكن دعونا نعود للحظة إلى هذه الندرة، التي قلنا إنها تُهيمن على التاريخ كله. لنُلاحظ أولًا أنها حقيقة عرضية. ليس من المُستحيل أن توجد على كواكب أخرى كائنات تتطور في بيئة من الوفرة المفرطة؛ وليس من المُستحيل حتى أن يكون هذا هو حال أحفادنا يومًا ما. ببساطة، لا نعرف شيئًا عن ذلك، ونعرف، إن أمكن، أقل من ذلك بكثير كيف سيكون وجود هذه الكائنات. الحقيقة هي أن ثلاثة أرباع البشر يعانون اليوم من سوء التغذية، وأن الأمر لم يكن يومًا على هذا النحو، على أقل تقدير. لكن هذا لا يعني أن الندرة تدفع الإنسان دائمًا وبالضرورة نحو التاريخ. بل على العكس، نرى بعض المجتمعات تستقر في توازن بائس وتحافظ عليه بشدة من خلال نظام من التكرار الثابت والدنيوي، خوفًا من أن ينتهي الأمر بأي ابتكار - حتى لو قلل من الندرة إجمالًا - إلى كسر هذا التوازن مما يضر أكثر ببعض أعضائها. المؤكد، كما يقول سارتر، هو أن الإنسان عندما يُؤرخ نفسه، فإنه يفعل ذلك لمحاربة الندرة . وعندما لا يُؤرخ نفسه، فإن الندرة هي التي تُحدد الحالة الإنسانية كما تبدو: سيكون الإنسان، مرة واحدة وإلى الأبد، ذلك الإجهاض البائس، الذي لديه فرصة واحدة من عشرة أو واحدة من مئة لعيش أربعين عامًا يحفر الأرض ويراقب الحيوانات. هذه الاعتبارات حول "بيئة الندرة" جوهرية لفكر سارتر، لأنها تُمكّننا من وضعه في علاقة دقيقة مع ماركس. أولًا، يجب أن نلاحظ أنه، على الرغم من التطور الواضح في أسلوب فكره ومواضيعه، فقد ظلّ وفيًا للعنوان الأول، الذي اختاره قبل أكثر من عشرين عامًا لكتاب "لا مخرج: الجحيم هو الآخرون". إن خطر الاغتراب من خلال ظاهرية المادة يُخفي في الحقيقة خطرًا آخر، أشدّ خطورةً وجذرية، خطرًا لا مفرّ منه: فالآخرية للجميع هي وعد الموت والفناء؛ ولهذا السبب فإن الآخر هو الآخر بالنسبة لي تمامًا. في بيئة الندرة، تُصبح الأنسنة والإنسانية، في جوانب أخرى دائمًا في طور الإنجاز، مستحيلة جدليًا. نحن هنا على نقيض اللاعقلاني. قمعه لا يعني بالضرورة قمع الندرة. بل على العكس، نرى الندرة تُعيد إنتاج نفسها. على مستوى حضارة مُعينة، النفط هو النادر، أو المباني المدرسية. لماركس والتفاؤل الماركسي. أدرك ماركس - وقبله المدرسة الإنجليزية - المعنى المميت للندرة. لكن بربط تطور المجتمع بالهيمنة المتزايدة، والتي سرعان ما ستُصبح كلية، على الطبيعة، فإنه يُلغي آثارها، على الأقل في المستقبل. هدف الاشتراكية ببساطة هو منع آثار الندرة من الاستمرار بعد الندرة. أما سارتر، فالمشكلة هي عكس ذلك. ليس لدينا أدنى فكرة عما سيؤول إليه الندرة، ويبدو، من حيث الاحتمالات، أنه لا يمكن التغلب عليه. لكن ما نعرفه هو أن الإنسان الوحيد الذي يُمكننا تصوره هو من يعيش في ندرة. وهكذا، يقع التاريخ كله، وكل تاريخية، يُمكننا تصورها، في تناقض لا يُقهر: ضرورة التجميع وضرورة التخارج تتعايشان بلا هوادة. لا داعي للخوض في هذا لندرك النقطة الحاسمة - والقديمة جدًا - التي تفصل سارتر جذريًا عن الماركسية. بالنسبة للأخير، التفاؤل العلمي - بل وحتى العلمي - ليس بُعدًا أساسيًا في العقيدة فحسب، بل هو أيضًا مبرر سياسي دائم. إن المنظور الذي يضمنه العلم، القائل "لكلٍّ حسب حاجته"، يُعطي معنىً للتضحيات التي تُبذل أو تُفرض اليوم، تضحيات ربما لا تستسلم بثقلها لمعاناة الاستغلال العقيمة (نسبيًا). ولكن إذا كانت الندرة لا تُقهر، وإذا لم نتمكن، على أي حال، من التنبؤ بإمكانية التغلب عليها... فإن الشر هو الذي يصبح لا يُقهر، يُعيد بناء نفسه مع مرور الوقت. في نهاية المطاف، فإن العوائد الأخرى للظهور الخارجي لا أهمية لها: جمود المادة، الذي يعود إلينا كغاية مضادة، بسبب ذاته وبسبب الآخرين ؛ والاستغلال، الذي يُعزز بشكل دائري. لا توجد فرصة للتعميم أكثر من فرصة اعتراف الإنسان بالإنسان. كلاهما يسعى إلى تحقيقه؛ وكلاهما، لنفس السبب النهائي، لن ينجح: لن ينتهي ما قبل التاريخ أبدًا. هذا، لا يُصرّح سارتر بذلك صراحةً، ولكنه يُثبته لنا دون أن يُصرّح به. هذه هي الحقيقة الأساسية: الاشتراكية، حتى لو استطاعت أن تُلهم ثورةً أو مئة ثورة، لا يُمكن أن تكون نظامًا لبيئة الندرة، التي هي بيئة البشرية. وحتى لو أنقذنا مستقبلٌ غير مُتوقع من بيئة الندرة، فلن يُغيّر هذا الاحتمال شيئًا مما قد نعتقده اليوم، لأن الإنسان المُتحرّر من هذه الندرة، بالنسبة لنا، لا يُمكن تصوّره، بل يستحيل حتى تخيّل ما سيصبح عليه. ومع ذلك، حتى داخل دائرة الندرة، تهدف تهديدات أخرى إلى تقويض المكاسب الهشة والمدروسة للشمولية، للشموليات الجارية بالفعل. ودون أن نُتيح لنا الوقت الكافي لمتابعة تشعبات تحليلات سارتر، الدقيقة والفوضوية والمُبهرة في هذه النقطة، فقد سبق لنا، في هذا الصدد، أن أشرنا إلى الغائية المُضادة للمادة المُصنّعة. ويُماثل ذلك، دون أن يكون التمييز واضحًا دائمًا، التموضع السلبي للممارسة. إن الكائن المادي الذي ترسخت فيه الممارسة كمعنى، يخاطب الإنسان الآن مطالبًا إياه بالامتثال التام للمعالجة التي يشير إليها ويطالب بها. تختار الآلة رجالها، وأسلوب عملهم، وأسلوب معيشتهم، وأماكن سكنهم. إنها تُملي اختراع آلات جديدة: محرك البنزين "يريد" أبراج رومانيا والشرق الأوسط. لكن هذه الأبراج تُحدد مسبقًا حيوات أخرى، وطرق عمل ووجود أخرى. من خلال المادة، تخاطبني مشاريع قديمة، قادمة من الآخرين، كما لو كنتُ آخر، تجعلني مختلفًا: يُفسد النفط ويُبيد حضارة عمرها ألف عام، كانت تعتقد أنها لا تتزعزع. من الواضح أيضًا أن هذه العملية ليست مجرد تراجع عن الشمولية، بل على العكس تمامًا. لكنها ليست تراجعًا عن التخارج أيضًا. ولهذا السبب يريد سارتر دراسة جميع أساليب "الشمولية" و"اللاشمولية" للشموليات البشرية. لذا، فإن ما قلناه لا يرقى إلى مستوى هذه الملاحظة المفترضة، المستندة إلى الطبيعة البشرية، والتي تُوجِّه البشر بمصالحهم الخاصة. ما يهمنا هو فهم كيف، في بيئة الندرة، تُنْقَشُ ممارسة كل فرد، من حيث كونها التعامل المشترك مع المادة وتحويلها، في هذه المادة بطريقة تُمَوْضِع، في صورة طبيعة ثانية (طبيعة اقتصادية)، تضارب المصالح المُحَوَّل إلى مصير خارجي. وكيف أن "حل" هذه التاملات، من خلال منطق الممارسة ذاته، يُنشئ ويُفَكِّك باستمرار أيَّ تجميع مُعلَّق. ولهذا الغرض، يُحلِّل سارتر بإسهاب ودقة مختلف أشكال ما يُسمَّى في لغة أخرى "الوجود المشترك". دعونا نذكر في هذا الصدد تمييزًا أوليًا حاسمًا: تمييز الجماعة والجماعة. يُعرَّف الكيان الجماعي بوجوده، أي بقدر ما يُشكِّل كل ممارسة كوجود بسيط؛ فهو كائن مادي وغير عضوي في المجال العملي الجامد بقدر ما يُنتَج فيه تعددٌ مُنفصل من الأفراد الفاعلين تحت علامة الآخر كوحدة حقيقية في الوجود، أي كتركيب سلبي، وبقدر ما يُشكِّل الكائن المُشكَّل ذاته جوهريًا، ويخترق جموده كل ممارسة فردية كتحديد أساسي لها من خلال الوحدة السلبية، أي من خلال التداخل السابق والمُعطى للجميع كآخرين". دعونا نحاول تفسير هذا التعريف عضوًا تلو الآخر بناءً على مثال ملموس. لننظر، في لوفين، إلى جماعة العاملات في مصنع فيليبس. ما يربطه هو وجود فرع لشركة فيليبس في لوفين حيث يكون التوظيف دائمًا. هذا الكائن الذي هو المصنع، يُقدّر لهم مُسبقًا عملًا لم يختره أحدٌ منهم: مختلف المهن المتعلقة بتصنيع وشحن المصابيح والأجهزة الكهربائية. الأب، حالما تُغادر المدرسة، "يُرسل ابنته إلى فيليبس". وتكتسب الابنة فرصةً لدخول عالم الكبار الحقيقي من خلال العمل في فيليبس. فهي، بكونها خارج ذاتها، مُنخرطة في نشاط لا تُحدده بأي شكل من الأشكال. عملها "وجود". يوجد مصنع فيليبس من خلال تعدد الأفراد المُتجمعين على هذا النحو والذين لا يُجمّعون إلا به. يُنتجه هذا التعدد، ولكنه يُنتجه أيضًا. كل عامل يُوظّف بقدر ما هو شخص، أي آخر من ذاته. كما أنه يُوافق أيضًا على العمل وفقًا "لتحديد أولي مُعطى للجميع كآخرين". هذا الكل سلبي وغير مُفعّل عمليًا. على العكس من ذلك، "تُعرَّف الجماعة بمشروعها وبهذه الحركة التكاملية الدائمة التي تهدف إلى جعلها ممارسة خالصة من خلال السعي إلى إزالة جميع أشكال الجمود". هذه التعريفات كافية بالفعل للإشارة إلى إمكانية وجود سلسلة من الأنماط الوسيطة، ولكن أيضًا إلى أن الجماعة الخالصة لا يمكن أن تكون إلا استثنائية، عابرة، أو حتى، في حدها الأقصى، غير قابلة للتحقيق، إذ لا توجد ممارسة إلا موجهة نحو مسألة مُنجزة بالفعل، والتي، بصفتها كذلك، تُحدد، في شكل جمود، الممارسة التي يجب الحفاظ عليها. يستخدم قسم في القتال - يميل نحو الجماعة - أسلحة يفرض التعامل معها مثل هذه الإيماءات ومثل هذه التكتيكات. ولا توجد مباراة كرة قدم - يبدو أن سارتر قد نسي هذا - بدون حكم، وهو نوع من التجسيد الخالص للآخر. لنعد إلى الجماعة. جميع أعضائها قابلون للتبادل ببساطة، متطابق, مع الآخرين. ولكن، من خلال الجماعة، تظهر التسلسلية. بمجرد انتهاء العمل، لا يستطيع جميع العمال الذهاب إلى غرف تبديل الملابس معًا، أو الجلوس في الحافلة، أو استلام أجورهم، إلخ. لا يُسمّى "الفائض" فرديًا، تمامًا كما لا يُختار الأطفال الذين يموتون بأعداد كبيرة في الأحياء الفقيرة بالاسم. الواحد فائضٌ من خلال الآخر، وبصفته آخر. لا تُميّز "صفات" الفائض. صحيحٌ أنه قد يكون "متكاسلًا". لكن مهما بلغ، فهو فائضٌ فقط من خلال الآخر، وعلاوةً على ذلك، إذا كانت ورشته تقع عند بوابة المصنع، فلن يضرّه بطؤه. التسلسلية هي تلك الخاصية الجماعية في حد ذاتها، والتي بموجبها يكون كل آخر، من خلال الآخر، مختلفًا عن الآخر، دون أن يصبح هو نفسه. بالتأكيد، تنبع التسلسلية من المادة، عضوية كانت أم غير عضوية. توجد في الخصائص الترتيبية للعدد، وهي التي تتجلى في الجماعية. ولكن، في الجماعية، تُنتج هذه التسلسلية أيضًا من خلال ممارسة عملية. الآن، تتضمن كل ممارسة تبادلية، وهو ما تستبعده التسلسلية تحديدًا. فالتركيب، وفقًا لسارتر، تبادلية زائفة: فكل شخص ليس مطابقًا للآخر فحسب، بل إنه، بفعل الآخرين، يصنعه مختلفًا عما هو عليه، تمامًا كما يصنعون جميع الآخرين مختلفين عما هم عليه. وباعتباره واحدًا، فهو نسبي فحسب، لأن لوفان ينفذ، دون أن يشارك في تطويره، "الخطط الموضوعة في آيندهوفن". ينتمي الفرد إلى عدد غير محدد من الجماعات العملية الخاملة - العامل الذي تحدثنا عنه هو أيضًا مستمع لراديو لوكسمبورغ وقارئ لمجلة نسائية - فالوجود المشترك منغمس في بيئة مواتية للجمود. هذه البيئة المواتية للجمود هي في حد ذاتها أصل مجموعة من الظواهر التي لا يمكن تفسيرها إلا من خلال الجمود العملي: بطرق متنوعة للغاية، الرأي العام، وبعض أشكال الذعر الاجتماعي، وانخفاض قيمة العملة، على سبيل المثال، كلها جزء منها. وهذا يمثل، من وجهة نظر ماركسية، صعوبة جسيمة. فبينما من الواضح أن الطبقة هي أيضًا، في الواقع، من جوانب مختلفة، جماعة عملية خاملة تخضع للتعديل التسلسلي المحض للاختلاف، فإن هذه الملاحظة تعيق الوصف الماركسي للطبقة، الذي يستخدم فقط مفهوم سارتر للمجموعة، والذي نعرفه بالفعل ولكن لم نفسره بعد. سارتر مُدركٌ تمامًا للصعوبة، تمامًا كما يُدرك بلا شك أنه لم يُحلها - وهو ما يتبدى جليًا في بعض الملاحظات العرضية، التي تُثير أهميتها الضمنية لمستقبل الاشتراكية قلقًا بالغًا. لكن هذا لن يُفاجئ القارئ المُنتبه تمامًا، المُدرك مُسبقًا للعواقب المُرتبطة بندرةٍ تُعتبر لا تُقهر. لذا، يُدرك سارتر جيدًا أن الطبقة ليست مُجرد تسلسل. "إذا كان كل شيء مُختلفًا في المجتمع الرأسمالي، كما قال ماركس مرارًا، فذلك أولًا لأن التذرية - أصل العملية ونتيجة لها - تجعل الإنسان الاجتماعي مُختلفًا عن نفسه، مُشروطًا بالآخرين بقدر ما هم مُختلفون عنه". لذا، فإن الاغتراب التسلسلي هو اغترابٌ لا تتحمل الرأسمالية مسؤوليته، مع أنها تُساهم بقوة في تعزيزه. لذلك، لن يكفي إلغاء الرأسمالية للتغلب عليها - كما تُشير النظرية الماركسية للاغتراب. لكن، من ناحية أخرى، لا تحرر فعلي دون انتصار على التسلسلية: "لن يتحرر العامل من مصيره إلا إذا تحولت التعددية الإنسانية بأكملها إلى ممارسة جماعية إلى الأبد". إن مقارنة هاتين الجملتين، بعد تجريدهما من تجريدهما، تُعطي مقياسًا - بل مأساويًا - للآمال التي يضعها سارتر على مستقبل الاشتراكية. تُفسر المقارنة نفسها أيضًا الاهتمام الشديد الذي يتابع به بناء هذه الاشتراكية نفسها على جزيرة يسكنها ستة ملايين نسمة، مما يُثبت العبارة الشهيرة: "الشيوعية تساوي السوفييت + الكهرباء" من خلال إنتاج السيجار والسكر. كما تُفسر النبرة شبه المفجعة لمقدمة كتاب "عدن العربية"، حيث يروي سارتر مصير بول نيزان. لكن في النص الذي نُحلله، يحاول سارتر إيجاد مخرج - مخرج سيُفسده هو بنفسه - من خلال الإشارة إلى أن الهدف الحقيقي لنضال الطبقة العاملة هو سلسليته. تحاول الجماعات، "الجماعات الصغيرة"، حشدها ضد تشتتها، و"إثارتها بأساليب متسلسلة"، لأن "الجماعة تدرك صغرها وعجزها وهشاشتها". ومع ذلك، يسعى الناشط إلى جعل "الوحدة السلبية للاختلاف موضوعًا لممارسته التنظيمية". وهكذا، "ما يميز الطبقة العاملة في نهاية المطاف... هو أن الممارسة المنظمة للمجموعة النضالية تنبع من جوهر الممارسة الخاملة، في المادية الغامضة للعجز والجمود كتجاوز لهذه المادية". لذا، فإن التحول في العلاقة بالماركسية كبير، لأن العدو الرئيسي الذي يجب أن يتغلب عليه نضال العمال لم يعد الاغتراب من جانب الرأسمالية أو أي طبقة أخرى، بل جموده الذاتي. هذه مجرد نقطة أولى. ولا تقل خطورةً التعديلات التي طرأت على منظورات النضال. كيف، إذا كانت الندرة لا تُقهر، يمكننا أن نتخيل نظامًا، سواء سميناه اشتراكيًا أم لا، يُستبعد منه كل فصل، وبالتالي كل تسلسل؟ يبدو أن النضال، وبقدر ما هو لحظة، يصبح غايته الخاصة، غاية متناقضة بطبيعتها. "طبقة فاعلة تمامًا - أي طبقة يندمج فيها جميع أعضائها في ممارسة واحدة، وأجهزتها، بدلًا من ذلك، "إن الثورة الحقيقية هي أن كل من يعارض الآخر، سوف ينظم نفسه في وحدة - وهذا لم يتحقق إلا في لحظات نادرة للغاية (وكلها ثورية) في تاريخ الطبقة العاملة". هذه هي الثورة الدائمة من حيث المبدأ، وربما هي أيضًا عديمة الفائدة، لأن "مجال الوجود العملي الخامل يغلق باستمرار أو يهدد بالإغلاق باستمرار". يبدو أننا بعيدون كل البعد عن أي أمل عالمي في "غدٍ أفضل". ماذا كسبنا؟ هذا هو أننا نفهم الآن مصائبنا حتى جوهرها، وأن جدلية التسلسل تجعل الاجتماعي والوجود الاجتماعي مفهومين حتى أعماقهما، وبالتالي ستكون فلسفة التاريخ ممكنة، وربما تُقدم مفتاحًا لأدق الأحداث. "لقد اجتزنا المجال العملي الجامد من طرفه إلى آخر، وكان هدفنا اكتشاف ما إذا كان هذا المكان المليء بالعنف والظلام والسحر يمتلك بالفعل وضوحه الجدلي، أو بعبارة أخرى، ما إذا كانت المظاهر الغريبة لهذا الكون تخفي عقلانية صارمة. الآن نحن مقتنعون: ليس فقط أن جميع الأشياء التي تشغله وجميع العمليات التي تحدث فيه تخضع لقواعد التطور الجدلي التي تجعل فهمها ممكنًا دائمًا...". فالا تجدر الإشارة إلى أن هذا الأمل تأملي في جوهره، وأن "ماركسية" سارتر، بدلًا من تحقيق الفلسفة بتدميرها، تُنقذ الفلسفة وتُرسخ في نهاية المطاف طابعها "المنفصل" - بإلغاء أي إمكانية للتغلب نهائيًا على الاغتراب؟ ما الذي يُحدث إذًا تحول الجماعة إلى جماعة، أي ما الذي يُؤدي إلى انبثاق غاية مشتركة صريحة من الأولى، من خلال ممارسة مشتركة، مُنتجًا بذلك اندماج الجميع في كلٍّ واحد؟

إنه بالتأكيد ليس تحولًا عضويًا، ويرفض سارتر أي تفسير عضوي للجماعة، وهي صورة شائعة الاستخدام ورجعية في جوهرها، لأنها تميل إلى إخفاء الحقيقة الجدلية للجماعة، التي تكمن في الوحدة الصريحة لغايات قائمة على ممارسة مجموع الأفراد. يجب ربط هذا التحول مجددًا بالحاجة، ومن خلالها، بالخطر. ينشأ عندما يكشف خطر، تهديد (قمع، مجاعة، إفلاس - أي مجاعة) لطبقة - كانت حتى ذلك الحين مجرد جماعة - أن استحالة التغيير ستصبح قريبًا استحالة العيش. لذا، مهما كلف الأمر، فإن استحالة التغيير هي ما يجب معالجته. لنلاحظ أنه في أغلب الأحيان، بل دائمًا، يتحقق اندماج الكل في مجموعة واحدة من خلال "تعيين" الطبقة الأخرى، التي تجمع، بالتالي، الطبقة التي تدافع عن نفسها. يرسل الملك قوات إلى باريس خوفًا من أعمال شغب؛ يدرك الباريسيون، الذين لم يفكروا إلا في عدم الثقة ببعضهم البعض أو الفرار من الأمر كلٌّ بمفرده بأي وسيلة، أن الملك لا يثق بباريس، وأنهم وحدة واحدة، حيث يرتبط مصير كلٍّ منهم بمصير الجميع؛ فبدلًا من نهب المخابز، نهبوا تجار الأسلحة: لقد سلح باريس نفسه ضد الملك. وبما أن باريس سلحته ضد الملك، فلا خيار أمام باريس سوى شن حرب على الملك. وبما أن قوات الملك، بعد دخولها باريس، سيكون هدفها الرئيسي إقامة ملتقى مع حصن الملك الباريسي، الباستيل، فلا بد من الاستيلاء عليه أولاً. يتحقق ذلك، وللنجاح، تصبح المجموعة المندمجة مجموعة منظمة، أو عدة مجموعات منظمة. تكمن المشكلة - الحقيقية والوحيدة - في كيفية نجاة المجموعة من اقتحام الباستيل، والخوف من سحب الملك لقواته من باريس، والحاجة إلى توزيع مهامها على مجموعات فرعية، ولكن بروابط متبادلة تحمي تفرد المجموعة ومعاملتها بالمثل. يصف سارتر بإسهاب عملية التحول، أي ولادة الجماعة. يكمن هذا التحول في أن كل شخص، تحت ضغط التهديد، يرى نفسه في الآخر، بدلًا من أن يكون - كما في الحياة اليومية - شخصًا آخر. لن نتابعه في تفاصيل هذا الوصف؛ بل سنسلّم بأن جوهر التحول يكمن في أن كل شخص لم يعد يشبه الآخر، لأن كل شخص آخر أصبح هو نفسه. ولكننا نلاحظ أنه بما أن جميع أمثلة سارتر من هذا النوع، فلا بد أن نستنتج أن الجماعة لا تتشكل إلا في الصراع ضد آخر أعلى (الملك أو الفيرماخت في باريس)، ومن خلاله، وبالتالي لا وجود لشمولية مطلقة حتى في عملية التشكل (باستثناء العقل، الذي يدرك أن لعبة الملك ولعبة الفوبورغ مترابطتان). ومع ذلك، فالنصر هو أيضًا موت، وهي أطروحة يمكن للمرء أن يفكر فيها كما يشاء، إلا أن لها صلة بماركس، أو، إن أمكن، بالاشتراكية. سنعود، علاوة على ذلك، إلى مشاكل تنظيم الجماعة (وهي، من منظور سارتر، مشاكل مستعصية على الحل، تتعلق بالبيروقراطية والستالينية، وكذلك بالحزب والنقابات العمالية). وأخيرًا، سنحتفظ بملاحظة أخرى لسارتر حول الأحداث التأسيسية للجماعة: عندما يشارك المواطن دوران، وهو رجل مسالم، في نهب مستودع أسلحة، فذلك بلا شك لأنه يشعر بأنه يمثل الآخرين في ظل التهديد الذي يثقل كاهل المدينة، ولكنه قد يكون كذلك أيضًا، وبشكل غير محسوس، لأن "كل واحد يحاول الوصول قبل الآخرين، ففي إطار الندرة الناشئة، يصبح جهد كل واحد في حمل بندقية خطرًا على بقاء الآخر أعزلًا". وهذا يُظهر لنا ليس فقط أن الجماعة تتغلب على الجماعة، وأنها دائمًا مُهددة بالعودة إليها، وأنها ترتبط بها كأساس لها - كل ما نعرفه بالفعل - ولكن أيضًا، وقبل كل شيء، أن بُعدًا من الجمود ينخر حتى في الفعل الذي تنبثق منه الجماعة. تكمن نقطة جوهرية في جوهر تركيب الشمولية. إنها ليست مسألة فكر - مع أن هذه الجدلية جدلية فهم - بل مسألة تطبيق عملي: ففعلي في القتال وفعل الآخرين الذين أعرف نفسي فيهم فعل واحد. لو فكرتُ فقط في انتمائي أو شعرتُ بتعاطفي، لما كان هناك كلٌّ: ستبقى المجموعة آخر أعارضه بوضع ثقتي فيه. لكن مشاركتي الفعلية في فعلها تحديدًا هي التي تمنع عملية العزلة والمعارضة، وهي ما يُختزل إليه الفكر أو الوعي في ذاته، من النجاح. لا أفكر ولا أرى نفسي مرتبطًا بكلية المجموعة: أنا أُكوّنها فعليًا في فعل الآخرين، تمامًا كما يُكوّنونها هم في فعلِي - ولهذا السبب تحديدًا لم يعودوا آخرين، ولماذا لا توجد أفعال متعددة يقوم بها عدة أفراد، بل فعل واحد: القتال. كان فابريس، في واترلو، مخطئًا؛ لم يكن سوى متفرج، إيطالي لا علاقة له بالأمر. هذا سمح له بمراقبته ووصفه. وبصورة مختلفة عما كانت عليه. ولكن كيف يمكن للجماعة أن تنجو من انتصارها، وأن تكتسب ديمومة لا تُشبه تسلسلية الجمود العملي؟ ثمة جمودٌ لا مفر منه هنا: جمود الوجود الشهير الذي لطالما ندد به سارتر. هل يمكننا "تجنب" أن يكون هذا الديمومة مجرد جمود عملي؟ نعم، كما يعتقد، على الأقل إلى حدٍّ ما. إذا لم يكن هذا الديمومة ممارسةً - وأين ممارسة المقاومة اليوم؟ - فعلى الأقل، فإن الدخول إلى الجمود يجب أن ينتج عن ممارسة حرة: هذا هو القَسَم. "عندما تصبح الحرية ممارسةً شائعةً لتأسيس ديمومة الجماعة بإنتاجها بنفسها، وفي تبادلٍ وسيط، يُسمى هذا الوضع الجديد القَسَم". يمنح القَسَم جماعةً مُهددةً بالزوال تبادلاً وسيطاً ذا شكل جديد، انعكاسي هذه المرة، ولكنه دائم. إن القسم هو التأكيد على أنني لن أجعل نفسي أبدًا الآخر في المجموعة، تمامًا كما يقسم الآخرون - الذين ليسوا آخرين - أن الآخرية لن تأتي إلى المجموعة من خلالهم. لنلاحظ - وقد أشار سارتر نفسه إلى ذلك - أن القَسَم يُدخل عنصرًا غير جدلي جذريًا على الجدلية. إن بقاء الجماعة سيُغيّرها، مُنشئًا جماعات فرعية متنوعة. ما نُسميه اليوم منظمات المقاومة يختلف تمامًا عما كان عليه عام ١٩٤٤ - فعلى سبيل المثال، عاد أعضاؤها إلى أحزابهم المختلفة، التي تتقاتل بشراسة. لكن القَسَم الذي أدوه - تحت طائلة عدم التمسك بأي شيء على الإطلاق - لا بد أنه أُدي بعبارات مطلقة، وكأنه مُنفصل عن أي تفسير لاحق من شأنه أن يُغير معناه. وإلا، فلن تكون هذه التفسيرات تفسيرًا واحدًا، تفسير المقاومة التي تُقسم بالولاء لنفسها، بل تفسير مقاتلي المقاومة الكاثوليك، وتفسير مقاتلي المقاومة الاشتراكيين، وتفسير مقاتلي المقاومة الشيوعيين، إلخ - أي أفكارًا متنوعة جذريًا، لم تعد تنبع من المقاومة، لأنه بحكم التعريف لم يعد هناك أي ممارسة مقاومة، ويجب أن يضمن هذا القَسَم بقاء الجماعة. تسعى الجماعة إلى أن تجعل من نفسها أداةً في وجه التسلسلية التي تُهدد بحلها؛ فهي تخلق جمودًا وهميًا يحميها من تهديدات الجمود العملي. فهل يُمكن تعريف القَسَم على هذا النحو؟ نعم، يعتقد سارتر. بشرط - كما سنرى - أن يُصاحب القَسَم قبول الرعب: إذا حَنَثتَ زورًا، فسأشنقك؛ وإذا حَنَثْتُ زورًا، فستشنقني؛ وهكذا، على أي حال، سيُقضى على الآخر. يُمكن الاعتراض هنا على كتاب "الوجود والعدم" وما جاء فيه عن قَسَم الحب. القلق هو حالة الإنسان لأنه يختبر القَسَم على أنه غير ضروري: مهما وعدتُ بأنني لن أُقامر مرة أخرى، يجب أن أُكرر هذا الوعد في أي لحظة دون أن أعرف إن كنت سأُكرره غدًا. القَسَم، بالطبع، لم يُصبح ضروريًا. والأعضاء الذين يُؤدونه يدركون ذلك جيدًا. فلماذا هذا الخيال، المُبالغ في تهكمه؟ هل يُقال إن الحقيقة الحقيقية للقَسَم وحرية أدائه هي الإرهاب؟ لا شك في ذلك. قال هيجل: الحرية إرهابٌ حين تتخذ من نفسها غايةً لها. هذا بالتأكيد سؤالٌ عن الموجود، وليس عن ما نتمناه: لقد احتج سارتر بشدةٍ ذات مرةٍ عندما أعلن رجلٌ مُشنوقٌ بصوتٍ عالٍ حقَّ الجلاد في شنقه، كما يُسمع في أفضل المحاكمات. سيُقال، وهذا صحيح، إن الأمور، للأسف، مُعقدةٌ للغاية، لأن ليس كلُّ المُشنوقين حانثين، على عكس ما يُقال. إنه سؤالٌ عن الموجود. ولكن كيف يُمكننا الادعاء بأننا أسسنا مفهومية الوجود المُشترك ومفهومية التاريخ المُستقبلية، إذا كان ما أسسها، في أيِّ لحظةٍ من لحظاتها، سلوكًا يُعتبر غير مفهوم؟ كيف يمكننا أن نحافظ على الجمود المستقبلي للمجموعة من أجل الحرية، إذا كان ذلك من خلال فعل حر -القسم- والذي أخبرنا سارتر أنه ينكر شرط الحرية؟

باختصار، يقوم القَسَم، بصفته حافظًا على الجماعة، على استبدال الرعب الخارجي، الذي تشكلت الجماعة تحت ضغطه، برعب داخلي. لنقتبس من سارتر حتى لا نغير فكرته: "إن التجديد الجذري، الذي يكمن في صميم القَسَم، هو مشروع استبدال الخوف الخارجي الآخذ في الزوال بخوف حقيقي، نابع من الجماعة نفسها...". "القسم هو القول كفرد عادي: أطالب بالقتل إن انفصلت"، "وضع الإنسان كسلطة مطلقة للإنسان على الإنسان (بالتبادل)". دعونا لا نُصرّ. إذا لم يكن لإجمال حقبة ما أساسٌ للفهم - بافتراض كونها كذلك - سوى جدلية (أو غير جدلية) من هذا النوع، فمن الأفضل أن نفقد كل أمل في التاريخ الذي ستُولّده هذه الجدلية. تبدو سلبية من يعتقدون أنه لا يوجد في التاريخ ما يُفهم أفضل مما ستُفهمه فلسفة التاريخ، وفقًا لفهم سارتر. ولكن ماذا لو كان الأمر كذلك؟

لا يُمكن للمرء أن يُجيب بالإيجاب إلا إذا، من جهة، قدّم مفهوم سارتر للعقل الجدلي إمكانيةً لإجمالية مفهومة ومتماسكة في حد ذاتها، وإذا، من جهة أخرى، كان التجلي الظاهراتي للتاريخ "يُضم" بالكامل ضمن هذه الجدلية. دون إفراط أو تفريط. لكننا بعيدون عن ذلك. ولن يُسهم ما تبقى من التحليل في جعل النتيجة النهائية لهذه الأسئلة إيجابية. فالإرهاب، في الواقع، إن كان كافيًا للحفاظ على تماسك الجماعة، فهو لا يكفي لتحديد مهامها، ولا لتكوين تنظيم داخلها قادر على تحقيقها. سارتر، الذي لا يُبدي أي تعاطف مع العضوية، يرى أنه لا يوجد فعل محدد للجماعة. في النهاية، شن الحرب هو حث الناس على القتال، وليس هناك واقع آخر للحرب. كان طيار أو طاقم من دمر هيروشيما. لا أمريكا ولا الحرب، وهما غير موجودين. "إذن، الفعل المحدد والمباشر الوحيد للجماعة المنظمة هو التنظيم وإعادة تنظيمها الدائمة". يحمل الإرهاب البيروقراطية كما تحمل السحابة العاصفة (هنا يجب أن نعكس الصورة ونقول إن العاصفة تتحول إلى ضباب). حيث، كما يُمكننا أن نتخيل، يستعيد الجمود والظاهرية حيويتهما وتألقهما. هذا ما يسمح "للممارسة المشتركة [ممارسة جميع الأعضاء مجتمعين، لا ممارسة الجماعة بحد ذاتها التي لا وجود لها] أن تكون فعلاً وسيرورة في آنٍ واحد". لا يمكن للجماعة أن تصبح كائناً حياً - مع أنها تميل إلى ذلك - وفي الجماعة، لا يمكن الحفاظ على الاندماج (تبادلية أعضائها). ولكن ما هي السيادة إذن في الجماعة؟ السيادة في حد ذاتها هي السلطة العملية المطلقة التي تتمتع بها الجماعة من خلال القسم. ولكن، كما نعلم، لا تتصرف الجماعة على هذا الأساس. نعلم أيضاً أن جميع أعضاء الجماعة يؤدون القسم ويتلقونه. من حيث المبدأ، جميعهم ذوو سيادة؛ لأنهم جميعاً من تُمارس السيادة ضده أو يمكن أن تُمارس ضده. لذا، فإن كل واحد منهم هو ما يسميه سارتر شبه صاحب سيادة، لأن سيادته محدودة بسيادة الآخرين. هذا الصراع في النهاية لا حل له، "لا يمكن التغلب عليه". ووحدة الجماعة تتجه دائمًا نحو "الجمود المُقَسَّم، الذي هو في كل فردٍ واحد، أي أن تصبح حريته مختلفةً بوساطة الآخر". "نعود إلى الجمود العملي الذي انفصل عنه إرهاب الحرية للتو: نبدأ نلمح أن حركة التجربة ربما تكون دائرية". ولكن هذا لا يفسر لنا الدولة بعد. الدولة هي مجموعة من الجماعات، يتغير تركيبها باستمرار، وقد كلفت نفسها بمهمة "التلاعب بالجماعات دون إبعادها عن التسلسل، وبناء قوتها على تباين وجودها [في تكوينها] والتسلسل". الدولة هي مجموعة حاكمة تستغل لصالحها قوانين الجمود العملي التي تحكم المجموعات الفرعية التي تتكون منها. وبطبيعة الحال، فهي نفسها خاضعة لقوانينها، ويمكن أن تكون ضحية لها. فإما أن تمارس عليها مجموعة فرعية ضغطًا كبيرًا يجعلها تخضع لتلاعب الجمود العملي (استيلاء الجيش على السلطة بعد 13 مايو)، أو أنها لم تعد قادرة على الحفاظ في جسدها على الحد الأدنى من التوتر اللازم لممارسة سلطتها، فتغرق في مستنقع بيروقراطية عاجزة؛ أو كليهما في الوقت نفسه، حيث يعزز الحدثان بعضهما البعض (سقوط الجمهورية الرابعة). وهذا يذكرنا بشكل بعيد جدًا بـ النظرية الماركسية للدولة. صحيحٌ أن "الطبقة الحاكمة تُنتج دولتها". لكن، إلى جانب أن المشكلة، على مستوى فلسفة التاريخ، تُطرح بالمعنى نفسه تمامًا لما يُسمى بالدول الشيوعية، لا بد من إضافة أن الدولة، وفقًا لسارتر، هي في حد ذاتها سلطة، وبالتالي، فإن الفئة الفرعية التي تتولى زمام الأمور نيابةً عن الطبقة الحاكمة تستطيع الفرار منها، والحكم ضدها، ولو جزئيًا. ذلك لأن السلطة تسعى إلى البقاء سلطة، وأضمن سبيلٍ لذلك هو السعي لتوحيد جميع الفئات التي تحكمها. "لذا، تُنتج الدولة نفسها لمصلحة الطبقة الحاكمة، ولكن كقمع عملي للصراعات الطبقية داخل الشمولية الوطنية". لذا، فإن الدولة شيءٌ مختلفٌ عن التضليل الذي وصفه الماركسيون، بل وأكثر منه. وهذا لا يعني، علاوةً على ذلك، أنها ليست تضليلًا على الإطلاق. لكن الأمر سيكون كذلك بمعنى أن يُدفع الفيلسوف إلى الاعتقاد، بمعنى واحد على الأقل، بأن الوجود بحد ذاته تضليل. ما الاستنتاج الذي نخلص إليه؟

هل نحدد موعدًا لليوم الذي ربما يكون قريبًا عندما تُظهر ألف صفحة أخرى أن هذا المفهوم الجدلي للعقل قادر على تفسير التاريخ الملموس للبشرية وفهمه فهمًا كاملًا؟ لنفترض، منذ البداية، أن مشروعًا كهذا، إذا كان لا بد أن يُمثل إزالة بعض التضليلات الرئيسية، فإنه مع ذلك لا يملك فرصة كبيرة لعدم إرساء بعض التضليلات الأخرى: مثلًا، تضليل ماركسية سارتر؛ وتضليل تطور حقيقي للفكر السارتري. صحيح أن الأهداف ومجالات الاهتمام التي يطرحها هذا الفكر ويتحرك فيها قد تغيرت. ليس من الواضح أن مفهومه للإنسان قد تغير، وهذا المفهوم ليس ماركسيًا. لذا، يبدو أن فلسفة سارتر، التي يُطلق عليها سارتر نفسه اسم "أيديولوجيا"، مُلزمةٌ بافتراض المعنى الذي أعطاه ماركس لهذه الكلمة، وهو ليس المعنى الذي يُطلقه سارتر على نفسه، أو بالدخول في صراعٍ مفتوح مع الأنثروبولوجيا الماركسية، التي تدّعي توسيعها أو إصلاحها. أما العقل الجدلي الموصوف لنا، فليس له غرضٌ سوى تبرير اثنتين من أقدم الأطروحات التي دافع عنها سارتر: "الشغف العقيم" الذي يُعرّف الإنسانية، واكتشاف أن "الجحيم هو الآخرون". إن نقد العقل الجدلي ليس سوى تطبيقٍ، بارعٍ وغير ناجحٍ في آنٍ واحد - بارعٍ من حيث مشروعه وغير ناجحٍ من حيث تنفيذه - لهذه الخيارات. إنه يحمل المعنى نفسه والحقيقة نفسها."

***

.....................

المصدر

Alphonse De Waelhens, Sartre et la raison dialectique [note critique], Revue Philosophique de Louvain  Année 1962  65  pp. 79-99

كاتب فلسفي

قبل عقد من الزمن، تبنّت أكثرية الامم أهداف الامم المتحدة في التنمية المستدامة، وتعهدت بتحقيق ذلك في عام 2030 والوصول الى مستوى صفر من الإنبعاثات الحرارية العالمية بحلول عام 2050. وبعد عشر سنوات، أصبح المزاج كئيبا والمشاعر بشأن تلك الطموحات محاطة بالشكوك. ومع صعود الاوتوقراط وتأثير مليارديرات التكنلوجيا التحررية على السياسة، بدت أهدافا مثل تنمية للجميع ومناخ خال من الإنبعاثات الحرارية بقايا من الماضي.

الولايات المتحدة الامريكية – القوة الأكبر في العالم، هي في قلب هذا التحوّل. في عام 1776، أعلنت الولايات المتحدة بيان الاستقلال وتأسست على أهداف الحياة، الحرية، السعادة. اليوم، أصبح واضحا وبشكل متزايد عدم احترامها للحياة، وهجومها التشريعي على الحريات المدنية وخلق حالة من عدم الإستقرار العالمي بفعل التعريفات الكمركية الاخيرة.

وسط كل هذا، من المهم ان نتذكر اننا لسنا الجيل الاول الذي يواجه أوقاتا مظلمة. فلسفة عمانوئيل كانط يمكن ان تقدم لنا رؤىً ثمينة لمواجهة تحديات اليوم.

رؤية كانط للتقدم الممكن

في عام 1776 وهي نفس السنة التي تأسست بها الولايات المتحدة، كان كانط يعد فلسفته النقدية العملاقة ويحاضر حول الحرية والانثربولوجيا البرجماتية، كل ذلك كان في ظل الحكم الملكي المطلق لبروسيا. في ذلك الوقت، كانت بروسيا تستعمل قوتها العسكرية لتوسيع حدودها وفرض استعمار داخلي على الأرض والشعوب.

في ظل هذا الوضع، لاحظ كانط تناقضات الطبيعة البشرية – الناس الذين فعلوا للآخرين كل من الجيد والقبيح، القاسي والجميل – حيث وصف الانسانية بـ "أخشاب ملتوية" (الناس بطبعهم يميلون للشر والعنف يصبح حتميا، هو يربط بين افكار الماضي والكوارث الاجتماعية والسياسية الحالية). مع ذلك أصر كانط على رؤية هذه "الأخشاب الملتوية" من خلال عدسة الحرية. في جوهر فلسفة كانط العالمية، رؤية المستقبل المرتكزة على الحرية كانت تجسيد لفكرة ان يعيش كل الناس في كرامة. انها ركزت على الاستقلالية كمقدرة على التشريع الذاتي. الحرية كانت بمثابة نجم مرشد لما يُسمى اليوم "التنبؤ العكسي" backcasting (1) او التفكير رجوعا انطلاقاً من مستقبل مرغوب لتحديد مسارات ممكنة باتجاه الهدف.

في هذه الروح، لاحظ كانط صعود الأسواق التنافسية التي مجدت الأنانية والجشع، وجادل ان القانون والتعاون الدولي – الذي سمّاه اتحاد الجمهوريات – يمكن ان يحوّل العداء الى ينابيع للتقدم. بكلمة اخرى، هو حلّل الفتنة والصراع في زمانه كعلامات لتقدّم ممكن.

حرية العقل العام كانت حاسمة لتشخيص مثل هذه الإمكانات: الناس يفكرون لأنفسهم ويساهمون بالنقاش العام.

التفكير البعيد المدى حول الحرية

ماذا يمكن ان نتعلم من كانط حول مواجهة الأزمات المتعددة لعالم اليوم؟

اولاً: انه ركز على الحرية من منظور بعيد المدى. حروب التجارة الحالية سوف تقلل النمو الاقتصادي، لكنها ربما ايضا تحقق تقدما في إعادة الأقلمة للاقتصادات – وهي الفكرة التي نالت تأييدا مستمرا من اقتصاديي ما بعد النمو الباحثين عن ازدهار مستدام. لكن الانتاج الاقليمي ليس جيدا بطبيعته، نحن نحتاج الى نقاش عام حول أي البضائع الأساسية، مثل الطعام – من الأفضل توفيرها اقليميا وبواسطة منْ وبأي مقدار من التعاون الدولي.

كوارث المناخ تحتاج خططا وليس اصلاحات

ثانيا: كانط يذكّرنا ان الحرية يجب متابعتها ضمن واقع كوكب مشترك ومحدود. تقلبات المناخ ليست مشكلة يمكن حلها بين يوم وليلة. الانبعاثات الحرارية لاتهتم بتهديدات ونوبات غضب الاوتوقراط. انها تحدّي عالمي معقد يتطلب عمليات تخطيط طويلة الأمد.

هناك علامات تقدم في هذا الشأن: في عام 2024، أبلغت المملكة المتحدة بان الانبعاثات الغازية هي في أدنى مستوى لها منذ عام 1872 بفضل التخطيط الطويل المدى. كندا، بعد قرارها في الخروج من بروتوكول كياتو عام 2011، أخيرا رأت ان الانبعاثات بدأت تنخفض في عام 2025 وجدّدت التزامها بأهداف التخطيط والمناخ العالمي . لكن هذا التقدم كان هشا. فوضى ترامب في التعريفات الكمركية يجب ان لا تقود السياسيين وصناع القرار لتفضيل اقتصاد قصير الأجل ومكاسب سياسية على ستراتيجيات المناخ الطويلة الأمد.

دعمْ رئيس الوزراء الكندي مارك كارني والقائد المحافظ بيير بويليفر لخطوط الأنابيب، مثلا، يتناقض مع الدليل بان التوسع في الوقود الاحفوري سوف يُبقي نفس المستوى من الانبعاثات.

انه ايضا يحوّل نقود عامة الناس بعيدا عن المصادر الرخيصة للطاقة المتجددة. مع الحرب التجارية واللااستقرار الاقتصادي، يُحتمل ان يؤدي التضخم الى زيادة تكاليف المعيشة. هذا سوف يضرب الاسر الفقيرة بقسوة بما يجعل هذه القضية ليست فقط بيئية وانما تتعلق بالعدالة الاجتماعية.

إعادة بناء الفضاء العام

ثالثا، بالنسبة لكانط، توقعات اسلوب الحياة الحالية ليست مرشدا لجوهر الحرية المستقبلية. وزير الخزانة الامريكي أعلن ان "البضائع الرخيصة ليست جزءاً من الحلم الامريكي". يمكننا فهم هذا كدليل على ان طموحات قيّمة لا يمكن تحقيقها عبر الاستهلاكية وانما بالدعوة لمزيد من جهود الاستدامة. وبينما يرغب المستهلكون المعاصرون ببذل جهود أكبر – مثل الروتين اليومي لممارسة الرياضة والجري – يمكن اطلاق طاقة مماثلة لتحقيق الاحلام الجماعية للتقدم وإنقاذ الكوكب؟ بالنسبة لكانط، حرية المستقبل تتطلب النظر وراء الفرد الى الطموح الجمعي. هذا يعتمد على الأهداف المشتركة التي يمكن تبنّيها من خلال الحكمة وبدعم من فضاء رأي عام نقدي وحيوي.

في زمان كانط، كان الفضاء العام يتكون اساسا من جمهورية الرسائل(2)، وهي شبكة أقامها المثقفون والكتّاب في أواخر القرنين السابع عشر والثامن عشر منخرطين في نقاش مفتوح.

بالمقابل، اليوم نجري المزيد من الاتصالات على منصات التواصل الاجتماعي التي تفضل الصيغ القصيرة المدى وتثمن الغضب بدلا من التحليل، هذه المنصات يملكها عدد قليل من الشركات المصممة لمضاعفة الأرباح بدلا من نوعية المداولات العامة. لمواجهة هذه النزعة، نحتاج الى مقدمي أخبار مستقلين ومتنوعين إقليميا بالاضافة الى تواصل اجتماعي منفتح ولامركزي.

لكن فوق كل ذلك، وفي عصر الكوارث المناخية، والاستقطاب السياسي وعدم الاستقرار الاقتصادي، يذكّرنا كانط بما أسماه "فن التفكير" او عقلية مرتكزة على الحرية والإمكانية وفق منظور طويل الأمد.

The conversation, May 2025

***

حاتم حميد محسن

.....................

الهوامش

(1) مصطلح التنبؤ العكسي صاغه لأول مرة جون روبنسون من جامعة واترلو عام 1990. هو يصف احدى الاستراتيجيات لعمل قرارات ناجحة في الحاضر لإنجاز هدف معين في المستقبل. في التنبؤ العكسي نبدأ بهدف محدد في الذهن ونخطط رجوعا لتحديد الافعال المطلوبه لإنجاز ذلك الهدف. التنبؤ العكسي backcasting هو عكس التنبؤ forecasting يأخذ المستقبل كنقطة بداية بدلا من الوضع الراهن الحالي. لكي نضمن اننا غير مقيدين بنماذج التفكير الحالي عند النظر نحو المستقبل، فان التنبؤ العكسي يستدعي تحولا في التركيز. اذا كنا نعتمد فقط على التفكير الحالي عند النظر الى الامام، فان منظورنا سيتشكل برؤى من الماضي. لكن هذه الرؤى لايمكن تطبيقها على المستقبل، وقد تكبح مقدرتنا على التخطيط الفعال. عبر تبنّي اتجاه التنبؤ العكسي، نستطيع تطوير ميثدولوجيا تقلل من تأثير هذه العوامل ووجهات النظر المقيدة. البرت اينشتاين ذكر مرة: انت لا تستطيع أبداً حل المشاكل بنفس طرق التفكير التي خلقتها.

(2) جمهورية الرسائل عبارة عن مجموعة متباعدة من المثقفين والمفكرين، برزت في اواخر القرنين السابع عشر والثامن عشر في اوربا وامريكا. الجماعة عززت الاتصالات بين المفكرين في عصر التنوير. هذه الجماعة تجاوزت الحدود القومية للدول وشكلت اساسا لجمهورية ميتافيزيقية. ونظرا للقيود المجتمعية على المرأة انذاك، اقتصرت جمهورية الرسائل على الرجال فقط.

 

قبل اكثر من 2500 سنة، عرض المفكر والمؤرخ اليوناني ثيوسيديدس طريقتين متعارضتين للتفكير حول السياسات الدولية. هل يجب ان ترتكز تلك السياسات على العدالة ام انها تبقى الى الأبد ميدانا لصراع القوى. في الفلسفة السياسية للعلاقات الدولية، هناك تمييز واسع يُطرح بين فريقين: "الواقعيين" الذين يتنبأون بصراع دائم على المسرح الدولي، و"المثاليين" الذين يؤكدون على التعاون.

يميل الواقعيون للتعاون طبقا للافتراضات التالية:

1- الكائن البشري بطبيعته يهتم بالمصلحة الذاتية. بهذا فان الامم المؤلفة من بشر سوف تتعاون فقط لأجل مصالحها الذاتية.

2- المصلحة الذاتية للامة ترتبط جوهريا بأمنها. ونظرا لعدم وجود سلطة شمولية واقعية او قوة قادرة على فرض القانون الدولي فان الامم سوف تسعى جادة لتدعيم وترسيخ قوتها من خلال إضعاف الامم الاخرى.

3- الأخلاق والعدالة والقواعد ليس لديها سلطة او مكان في "فوضى" العلاقات الدولية: انها مفيدة لغرض محدد فقط بالمصلحة الذاتية للامة. الموقف الواقعي الوحيد المقبول هو القوة.

المثاليون، بالمقابل، يناصرون ويدعون الى قيم مثل القانون الدولي والأمن الجماعي وحق تقرير المصير القومي والايمان بان العدالة اذا تعرضت للتهديد في أي مكان من العالم فذلك يشكل تهديدا للعدالة في كل مكان. وعلى المدى البعيد، يقول المثاليون، انه من مصلحة كل طرف حتى في الامم الأكثر قوة، ان تستند السياسات الدولية على قواعد مشتقة من مبادئ العدالة. أحد أقدم الأمثلة على النقاش بين التصوّر الواقعي والمثالي للعلاقات الدولية يأتي من تاريخ ثيوسيديدس لليونان القديمة (تاريخ حرب البيلوبوميسيا). حوار ميليان لثيوسيديدس، يشكل جزءاً هاما من التاريخ، فيه يربط أحداث عام 416ق.م، عندما غزت أثينا جزيرة ميلوس – الجزيرة الصغيرة في بحر ايجه.

يعرض ثيوسيديدس منطق الاثنيين الذين ركزوا على تصوّر "واقعي" للعلاقات الدولية. من الصواب ان يحتلوا ميلوس، لأن عمل كهذا سوف يقوّي أمنهم ويرسل رسالة للجزر الاخرى في المنطقة مفادها ان: أثينا لا ينبغي العبث بها.

يبدأ الحوار بمبعوثين من أثينا يجادلون الميلانيين بان الخيار الوحيد أمامهم هو اما الموت او الاستسلام. يقول المبعوثون لا تلجأوا للعدالة في مواجهة قوتنا، لأن مثل هذا اللجوء غير ملائم. فكروا فقط في بقائكم:

(نحن كلانا نعرف ان قرارات العدالة تُصنع في النقاشات البشرية فقط عندما يكون كلا الجانبين تحت إكراه متساوي، لكن عندما يكون أحد الجانبين أقوى، سيحصل على اكبر ما يستطيع، والضعيف يجب ان يقبل بذلك.)

الميلانيون لا يرون الخيار بين التدمير والاستسلام، هم يرونه بين الخضوع او الحرب. هم يحبون وطنهم، ولايريدون التخلي عن حريتهم: رغم كونهم الأضعف عسكريا، لكنهم يعلنون عن نيتهم في الدفاع عن أنفسهم.

وبينما أكّد الاثنيون لخصومهم بان لا فائدة هناك من اللجوء الى العدالة، وان يسترشدوا فقط بالمصلحة الذاتية والبقاء على قيد الحياة، كان الميلانيون يرون ان مبادئ العدالة مرتبطة بشكل وثيق بالمصلحة الذاتية:

(من وجهة نظرنا"طالما انتم تجبروننا لترك العدالة خارج الحساب وحصرنا في المصلحة الذاتية" – نرى انه من المفيد انكم لايجب ان تحطموا مبدأً يخدم الصالح العام لجميع البشر، أي انه متى ما وقع خطر على أي طرف يجب ان يكون هناك شيء من التعامل العادل والمعقول، ويجب السماح للناس باستخدام الحجج التي لا تصل الى مستوى الدقة الرياضية والاستفادة من تلك الحجج . وهذا مبدأ يؤثر عليكم بقدر ما يؤثر على أي شخص آخر، لأن سقوطكم سوف يؤدي الى انتقام رهيب وسيكون مثالا للعالم).

يطرح الميلانيون سؤالا، اذا انهارت الامبراطورية الأثنية، أي أمل يبقى للاثنيين في التعامل العادل، اذا لم يلتزموا هم أنفسهم بالمبادئ العادلة؟

الاثنيون بقوا دون حراك امام الحجة الميلانية واستمروا في سعيهم للاستيلاء على الجزيرة. بالنهاية، هم اخطأوا الحساب، حيث أفرطوا في تقدير قوتهم وهُزموا في حرب البيلويوميسيا من جانب سبارطا.

وكما يلخص الخبير جوليان كوراب كاربوفيتش في (الواقعية السياسية في العلاقات الدولية):

(الاثنيون المخمورون بأمل المجد والكسب، بعد استيلائهم على ميلوس، انخرطوا في حرب ضد سيسلي. هم لم يولوا أي اهتمام لحجة ميلان بأن اعتبارات العدالة مفيدة للجميع في المدى البعيد، وعندما بالغ الاثنيون في تقدير قوتهم خسروا في النهاية الحرب، منطقهم في المصلحة الذاتية أثبت في الحقيقة انه قصير النظر للغاية).

وبينما لايبدو ثيوسيديدس يفضل الشكوكية الأثنية او مثالية ميلان، فان احد الدروس الكبرى لتاريخ حرب البيلوبوميسيا هي ان،القوة التي تُترك بلا رادع تقود حتما الى رغبة جامحة بمزيد من القوة بحيث يصعب التحكم بها (1).

يلاحظ كوراب، في حالة عدم التقيد بالإعتدال او بمعنى العدالة، " لن تكون هناك حدود منطقية لحجم الامبراطورية".

العالِم في السياسة الدولية جاك دونلي، في كتابه الواقعية والعلاقات الدولية، يستنتج ان ثيوسيديدس يحذرنا لنحمي أنفسنا من كل من "الأحلام الساذجة حول السياسات الدولية" بالاضافة الى "إفراط الآخر الخبيث: السخرية وعدم الثقة الجامحة".

مع ان ثيوسيديدس كتب تاريخ حرب البيلويوميسيا قبل 2500 سنة تقريبا، لكن تمييزه بين هذين الاسلوبين من التفكير لازال يطلعنا اليوم على التصورات المتضادة للعلاقات الدولية:

 1- الشيء الوحيد المقبول على المسرح العالمي هو القوة.

2- الامة التي تتصرف بشكل غير عادل تتجاهل مصالحها وأمنها في المدى الطويل.

 *Philosophy Break, March2025

***

حاتم حميد محسن

..........................

الهوامش

(1) بناءً على ملاحظات ثيوسيديدس "كان صعود اثينا والخوف الذي أثاره في سبارطا جعل الحرب بينهما حتمية. عالِم السياسة الامريكي غراهام اليسون 2011 استعمل عبارة (فخ ثيوسيديدس) لوصف النزعة نحو الحرب عندما تتحدى قوة صاعدة (مثل اثينا) مكانة القوة المهيمنة السائدة (مثل سبارطا). هناك عاملان يساهمان في تغيير ميزان القوى بين الخصمين. القوة الصاعدة الطموحة التي تحتاج بشكل مباشر او غير مباشر الى مصادقة والى صوت اكبر ومكان ستراتيجي في العلاقات الدولية، يقابل ذلك خوف القوة الحالية وتصميمها على الدفاع عن الوضع الراهن. اليسون توسّع في هذا في كتاب له عام 2017 بعنوان (متجهون للحرب) جادل فيه ان الصين والولايات المتحدة حاليا في مسار التصادم نحو الحرب. هذه الحرب مع انها ليست حتمية لكن يصعب تجنبها وتتطلب انتباها وجهدا دبلوماسيا مكثفا.

 

ورد على لسان المفكر والمترجم الفلسفي د. عبد الغفار مكاوي عن آخر نص كتبه كارل ياسبرز احد اعمدة الفلسفة الوجودية بعنوان (تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية) قوله : "الانسان بالاساس لا اكثر مما يمكنه ان يعرف عن نفسه". وهي عبارة مرادفة لعبارة أحد الفلاسفة الاميركان قوله :الانسان هو حدود ما يدركه ويعرفه عن ذاته وعالم الاشياء المحيط به في المجتمع والطبيعة.." واضيف عبارة اخرى لياسبرز قوله " انني لا اتحول الى موضوع امامي انا نفسي ". ارى في تعبير ياسيرز هذا استشكالا حول ادراك الذات في المداخلة مع الموضوع لا مجال الى مناقشتها الان.

في الفقرتين السابقتين اراد ياسبرز ان يقول ان الانسان هو وعي ذاتي لغوي تجريدي في ادراكه لذاته التي هي ماهيته التي اعتبرها انا تشمل مجموعة العواطف والاحاسيس والنزعات الفطرية والمكتسبة والغرائز التي تتوزعها اجهزة الجسم الداخلية التي يحتويها الضمير والعاطفة والوجدان والنفس وليس العقل.

رغم الفارق البيولوجي بين مثالية الضمير كمفهوم انساني مطلق وبين مادية العقل في التعبير عن مدركاته وموضوعاته في العالمين الخارجي والباطني... اجد ان الضمير عاطفة صادقة في حب الخير والاخلاق القويمة والوجدانات لا تخطأ اغلب الاحيان بخلاف العقل الذي يخطأ حتى بصرامته العلمية التي تحكمها التجارب العلمية والمعادلات الرياضية وفي التطبيق ايضا..

مالسبب الذي دعاني تغليب مصداقية الضمير كمفهوم ميتافيزيقي على مادية العقل كمصطلح ادراكي معرفي متفق عليه؟

الاجابة المقتضبة ان العقل يعتمد الاحساسات التي مصدرها مدركات الحواس التي هي غالبا ما تكون قاصرة خاطئة في نقل الانطباعات الحسية الاولية الخارجية للعقل. اما الضمير فمصدر تكوينه وتغذيته هي مجموع الاحاسيس الداخلية التي تثيرها اجهزة الجسم لايقاظ صحوة الضمير في استشعارات غايتها اشباع حاجات الجسم البيولوجية والنفسية قبل نقل تلك الاستشعارت للعقل والبت فيها..

انا ادرك جيدا من الناحية الفسلجية البيولوجية ان قرارات العقل سابقة على سلوك استجابات العقل اشباع العواطف الوجدانية والاخلاقية للضمير التي هي بخلاف دائم مع صرامة العقل الذي لا يتقبل العواطف النفسية وايعازات السلوك ما لم يتم تخليق ردود افعال الدماغ /العقل في التاكد من صلاحيتها الفكرية.. السلوك النفسي يستهدي دوما بوصاية العقل والاستجابة التنفيذية لها. لذا تكون الاخلاق والضمير وكافة المتعالقات بها لا تعمل باستقلالية عن العقل وتحديدا عن خاصية الدماغ البيولوجية. 

العقل الانساني عقل خلاق يعلو قوانين الطبيعة في إدراكه الاشياء بتخليقها وليس في خلقها، التخليق هو الاضافة على مدركات مادية متشكلة موجودة.  قوانين العقل الانساني الوضعية هي إختراعات وليست إكتشافات مثل اكتشاف قوانين الطبيعة الثابتة. فالعقل يعقل نفسه ادراكيا ويعقل الطبيعة في قوانينها وطبيعة موجوداتها في وقت واحد، لذا دأبت الفلسفة ترديد عبارة الانسان ذات وموضوع ولا إنفكاك بينهما. بينما الطبيعة لا تمتلك عقلا تعي فيه ذاتها ولا تدرك الانسان موضوعا لها يتعايش معها بخلاف الانسان. كينونة الانسان لا تمتلك وصايتها على الضمير ولا على الاخلاق ولا على العواطف بمعزل عن طبيعة العقل الادراكية المعرفية.

كما اورد الدكتور عبد الغفار مكاوي على لسان جابرييل مارسيل وهو ايضا احد اعمدة الفلسفة الوجودية قوله " انني وفي كل الاحوال لا اكثر من مجموع الصفات التي يمكن ان يخلعها عليّ اي بحث اقوم به لنفسي او يتولاه غيري عنه" ص8 من تقديم النص المترجم 80 صفحة فقط. هنا جبريل مارسيل يعتبر ادراك الذات لنفسها (ناقصا) وهي في نفس الوقت موضوعا لغيرها (ناقص) الادراك التام ايضا.

توحيد العبارتين بمعنى يجمعهما معا هو ان الانسان بعيد عن الكمال في وعيه لذاته وفي تشكيل ماهيته وكذلك ناقص في تعامله مع مجتمعه. الانسان في حقيقته ناقص الكينونة البايولوجية وناقص الكينونة المعرفية. ولا فرق هنا بين الانسان العادي الذي تتوزع اهتماماته العمل اليومي وتكوين الاسرة ومحاولته الدؤوبة تحسين اوضاعه المعيشية في تحقيق طموحاته المتسلسلة حسب الاهمية. وبين الاخر الذي يمتلك التحصيل العلمي المميز او العمل ايّا يكن نوعه أوايّا يكن مستواه الثقافي او المعرفي. بمعنى كينونة الانسان ليست هي تحصيله العلمي المائز عن الاخرين ولا هي الشخص في امتلاكه الملايين في تغييب دور ضمير العقل في كل منحى بالحياة.

الكينونة الانسانوية هي تجنيس نوعي وليس امتيازا عقليا يشمل مجموع الجنس البشري. الكينونة لاتمثل تمام وكمال ذات الانسان بل هي تعبير عن وجود انطولوجي متكامل يحتويه جسم الانسان مع العقل والاخلاق في تنوعاتها التجاذبية الاختلافية بما لا يمكن حصره. بمعنى أن تعرف ابستمولوجيا يعني أن تنقص بيولوجيا.

هنا نعرّف الانسان كينونة وجودية بغض النظر عن التمايزات التي ذكرناها انه تلك الكينونة الموجودية الناقصة التي يكون سبب النقص فيها هو نقص حدود مايدركه الانسان عن ذاته وعالمه المحيط به كائنا بيولوجيا موجودا في مجتمع وطبيعة تحكمانه. فالانسان هنا يكون مجموع حصيلتي ما يدركه كذات مفكرة من جهة وما يكتسبه من خبرة معايشته لمجتمعه من جهة اخرى. ولا ضير ان تكون تلك الكينونة موضوعا لغيرها من نفس النوع البشري الاخرين.

لذا يكون نقص كينونة الانسان  ليس بعيب يرثه او يكتسبه الفرد، وانما نقص الانسان ياتي بسطوة محدودية الادراك العقلي المعرفي الفطري و الادراك العقلي الخبراتي التجريبي المكتسب في تاكيد الوجود البايولوجي الذي لا يختلف فيه عالم الذرة مع موظف ساعي البريد او عامل البناء او غير ذلك من ناحية كينونة الوجود كجسم وليس من ناحية فروقات العقل المعرفي الادراكي بين الاثنين. الكينونة هي بيولوجيا الوجود، والعقل هو بيولوجيا التفكيرالمجرد.

هنا الفرق المعرفي بين الانسان العالم الفائق الذكاء والعامل البسيط عادي الذكاء لا يجعل من كينونة العالم اقل نقصانا عن نقصان الشخص العامل كون الكينونة ليست معرفة عقلية بل هي وجود انطولوجي. الكينونة هي الوجود الانسانوي في عالم طبيعي ومجتمع يحيط به ويتعايش معه. وليست الكينونة "ذاتا" تعي وجودها والمحيط بانعزالية عما حولها او يحتويها.

بالحقيقة ديكارت في كوجيتو اثباته الوجود الانطولوجي من مصدر التفكير نوعيا انما هو قام باثبات وجوده كينونة موجودية بايولوجية وليس موجودية عقلية تعي ذاتها بامتيازاجتماعي ... حين ربط تحقق الوجود بناتج التفكير المجرد للفرد المنفرد المنعزل .بهذا المعنى نحن اذا اخذنا الانسان كينونة موجودية تفهم وتفكر بأعلى مستويات الذكاء وبين شخص تأهيله التعليمي دون المتوسط في اكتسابه مهارة مهنية تمكنه تامين عمل و تكوين اسرة او غير ذلك، نجد النقصان البيولوجي يجعل النموذجين يعيشان نفس حال النقص المحكومين به في طبيعة الحياة.

فالعقل المعرفي المتميز وان كان يتفوق العقل المحدود بالنسبة لغالبية الناس فهو اي هذا العقل المعرفي المتقدم هو ناقص بمحدودية ما يدركه علميا ويفكر به ذاتيا. بنفس نقص العقل المعرفي المتدني المستوى لكن يبقى الفارق النوعي عند العقل العالم لا يتساوى مع الادراك العقلي الذي يعيش الحياة بروتين تحدده وسائل العيش مثل الاكل والنوم واشباع الجنس وهكذا.

كينونة الانسان ونقصان تكويناتها

كينونة الانسان التي تتوزعها الاقانيم الثابتة التالية نجدها موزعة بين امتلاكها العقل ووعي الذات وامتلاكها الجسم وامتلاكها اللغة واخيرا امتلاكها الوجود الطبيعي الارضي – الكوني. هذه الجوانب وغيرها من التمايزات التي تمثل خصائص انسانوية شخصية لكينونة الانسان نجدها في حصيلتها العامة ناقصة في كل شيء يدركه الانسان تتشكل عنه حصيلته كينونة موجودية ولا تتشكل عنه ذاتا عارفة بكل شيء.. وهذه غير الخصائص التي يمتلكها الانسان ولا تمتلكها لا الطبيعة ولا مكوناتها الموجودية من كائنات حيوانية ونباتية.

خذ عقل انسان ما لا على التعيين هو في حالات عديدة ناقصا ويخطأ كما تخطأ عقول الناس الاخرين بلا استثناء. ثم عندما نقول عقل الانسان هو ما يمتلك فهمه عن ذاته وحريته وحقوقه بالحياة وحقوق مجتمعه له او عليه. يكون العقل منقوصا بسبب محدودية الادراك ومحدودية الذكاء لديه ايضا. في معرفة ضبط سلوكه وتعامله السوي مع مجتمع يمتاز بسلوكيات متباينة وعواطف مختلف وما يتبعها من اخلاق وضمير وحب الخير ونزعة الشر التي تتلبسه وغيرها من مميزات نفسية عاطفية.

حين يختصر سيلارز الفيلسوف الامريكي اللامع قوله (الوجود لغة) لو نحن تعمقنا فهم هذه المقولة الصائبة المختزلة لكثير من التفلسف ان كل الوجود هو (لغة) لاغير. لعرفنا مدى اهمية اللغة بعد العقل في اهميتها التكوينية لوجود الانسان وماهيته بالحياة اي لكينونته الناقصة ادراكيا وليست الناقصة عضويا.

سيلارز الذي يقر بان الوجود بجميع تكويناته هو ادراك وتعبير لغوي انا اعتبرهذا الوجود حصيلة  ناقصة ايضا. بسبب نقص الادراك اللغوي ونقص تعبير تداعيات ردود الافعال الاستجابية الواردة من العقل في تعامله اللغوي والسلوكي مع وعي الذات والعالم في تطابق تام متعذر او في اختلاف ناقص قائم.

بمعنى عبارة الفيلسوف الاميركي سيلارز انت لا تستطيع التعبير عن ادنى خاصية عقلية او سلوكية او نفسية او معرفية او علمية او جمالية او ما لا حصر له دونما وسيلة تعبيراللغة في نقصانها وليس في تمام تعبيرها.. علما ان فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات اعتبرت خيانة تعبير اللغة بمثابة جعل البشرية تسير نحو مراكمة الاخطاء في كل مجال من مجالات الحياة التي في مراجعتها وتصحيحها صنعت التاريخ الانساني بمجمل تكويناته وقادته الى سلسلة من الاخطاء الاخرى التي جعلت من تاريخ الفلسفة مثلا هو تاريخ تصحيح اخطاء مسارات حياة الانسان بسبب تعبير اللغة الناقص عبر التاريخ.

فيصبح معنا امام التسليم بحقيقة ان تاريخ الفلسفة وتاريخ اللغة ، وتاريخ المعرفة والوجود هو تاريخ تصحيح الاخطاء التي وقعت بها هذه المسارات عبر العصور. ان نتيجة كل هذه النقائص والاخطاء الملازمة لها انما تكون في محصلتها الانسان وجود معرفي يتقادم على مر العصور تصحيح اخطائه بالحياة له ولغيره طيلة حياته. وتدخل اللغة وسيلة معرفية فيه بدءا من انثروبولوجيا الانسان وصولا وليس انتهاءا بالفلسفة والعلوم الطبيعية ومنجزات التكنولوجيا والنظم السياسية والديمقراطية المتحررة.

اليوم فلسفة العقل واللغة ونظرية المعنى تجد في تصحيح تاريخ اخطاء اللغة هو المدخل الوحيد في تصحيح اخطاء تاريخ الفلسفة والعلوم الطبيعية باكملها. وهكذا الحال في معالجة اخطاء اللغة وتكوينها الناقص في التعبير عن باقي مسارات الحياة الخاطئة في مراكمتها الاخطاء عبر العصور..

نقصان الكون هو جزء مكمل من نقص حياة الانسان

نذهب كيف يكون الانسان ناقصا (كونيا) فوق نقصانه الارضي المتعدد الذي مررنا على جنبة منه في نقصان ادراك العقل ونقصان تعبير اللغة؟

بالاجابة المباشرة التي تحضر كل شخص ان هذا الفضاء الكوني الذي اكتشفه الانسان الذي يمثل وجود الانسان والطبيعة الارضية فيه نقطة تائهة في مجال لانهائي لا مدرك ولا محدود ولا تعرف بدايته ولا نهايته والى اين يذهب وما مصير الانسان في تعالقه معه.؟،

الوجود الكوني بكامله وليس الزمان ولا الضوء ولا الجاذبية ولا غيرها من خصائص كونية وقوانين طبيعية وفيزيائية هم جميعا ضمن وحدة سرمدية لانهائية هي في حقيقتها تمثّل تكوين كونية وجودية ناقصة هي الفضاء. وقد سبق واشار علماء الفيزياء الكونية تاكيد هذه الحقيقة التي احاول تلخيص ما يحضرني منها.

ذهب العديد من علماء فيزياء الكون ان هذا الفضاء اللانهائي هو مليارات تليها مليارات في متوالية هندسية لا تقف عند حد نهائي من كواكب ومجرات ونجوم انه ولد عما اسموه الانفجار العظيم لصدفة لا يمكن ان تتكرر بعد ملايين من السنين الضوئية لا في محاولة وجودها من غير علة ولا في تصنيعها مختبريا علميا هو في حركة دائبة ليس من الامتداد والتقلص التي اثبتها علميا انشتاين وحسب وانما من الحيرة التي خلقتها هذه الخاصية ان الكون دائم التوسع والامتداد نتيجة امتلاكه طاقة غير نافدة هي سبب الحركة التوسعية الامتدادية للكون...ما يترتب عليه ان فائض مسار التوسع الكوني يحتاج فراغات تستوعبه وتحتويه من اي نوع كانت.

الطاقة الحركية التي يمتلكها الكون في مجراته ومجموعاته الكوكبية التي لا نعرف مصدرها هي الدلالة الوحيدة التي نمتلكها في تاكيد انشتاين في النسبية العامة 1915 ان الكون يتمدد ويتقلص بعلاقة طردية واحيانا بعلاقة عكسية نتيجة تداخله مع عوامل موضوعية بالكاد نستطيع فهم جزء منها بفضل علماء الفيزياء والكون.

هنا تبرز امامنا مسالة لا يمكن اغفالها هي الا يحتاج هذا التمدد الانبساطي التوسعي للكون الى حيز دائمي من فراغ يتقدمه ويحتوي فائض حركته التوسعية الامتدادية الانبساطية في اتجاهات غير معلومة؟ الجواب بالتاكيد نعم. في حال اقرارنا ان الكون بحالة من التمدد الدائمي يحتاج فراغا يستوعب ويحتوي فائض تمدده التوسعي وهو ما يضعنا امام احتمالية اشار لها العلماء وحتى بعض الفلاسفة مثل ارسطو ان هذا الفضاء الكوني اللانهائي ناقصا بدليل اثبات حركته الدائبة في اشغاله حيّزات من فراغات فضائية متتالية لا حصر لها تدلل على نقصان الكون كوزمولوجيا.. رب معترض يقول ان فائض التمدد الكوني تحتويه وتستوعبه مجرات الثقوب الدودية السوداء التي تلتهم كل نفايات الفضاء التي هي على شكل كواكب انتهت دورة حياتها في نضوب الطاقة لديها. تذهب الموسوعة العلمية الى ان الثقوب السوداء تتكون من اربعة ابعاد تجمع الزمكان هي ابعاد المادة الثلاث زائدا الزمن الذي اضافه انشتاين للمادة. والثقوب السوداء الفضائية تمتلك جاذبية على مستوى عال جدا بحيث لا تسلم من هذه الجاذبية المذهلة حتى الموجات الكهرومغناطيسية الكونية. حيث لا تخلص من ابتلاع الثقوب السوداء الجسيمات او موجات الاشعاع الكهرومغناطيسي مثل الضوء الافلات منها.

ماذا لو نضبت الطاقة الحركية للكون؟

السؤال ماذا يحدث في حال نضوب الطاقة المغذيّة الدافعة نحو توسع وتمدد الكون.؟ اذا قلنا ان الفضاء ناقص الوجود التام  نصطدم باثبات نظرية الكون بحالة من الاتساع والتمدد والحركة ما ينافي ان نحسم الامرانه الكون تام الكمال بالوجود مكتف بذاته او نقول ان الفضاء الكوني ثابت اكتسب كامل حجمه وهو غير مرجح ولا صحيح مع حقيقته الكونية انه يتمدد ويتوسع بفعل طاقة الانفجار العظيم.. وقبلها مع لانهائيته المطلقة التي لا يدركها العقل الانساني.

امام هذه المعضلة تبرز امامنا الاستشكالات التساؤلية الدائمة:

- هل الانفجار العظيم الكوني الذي عمره 13،7 مليار سنة ضوئية حقيقة ثابتة ام افتراض وهمي اوجدته النظريات العلمية؟ حول الاختلاف ان الكون مصنوع من خالق مع فرق الكون نتج عن الانفجار العظيم بالصدفة.

- هل فعلا الكون هو في حالة من تمدد وتوسع دائمي يحتاج فراغا يسبقه يحتوي تلك الامتدادات الفائضة عن اصل الكون وحجمه غير المدركين عقليا؟ بالتاكيد نعم طالما اخذنا بنظرية الكون يتمدد ويتسع.

- هل فعلا الكون وجود لا نهائي مكتف بنفسه لا يقبل الاضافة له كما يرفض الاخذ منه وكيف يتم انجاز مثل هذه التوقعات؟ بمعنى ماهي الآلية لحصول وتحقق مثل هذه الافتراضات؟

- هل الكون ناقص بالوجود ام هو كامل بالوجود؟ وكلا الوجودين واحدا لا يمكن ادراكه. لو نحن قلنا الكون ناقص ويحتاج الى فراغات تحتوي تمدداته لكنا نقبل بفرضية صواب نظرية التمدد والانكماش ليس للزمن بل وللكون باكمله. واذا قلنا الكون ليس ناقصا بل كاملا فهذا ينفي ان الكون حركة دائمية من التمدد والانبساط المكاني ناتجة عن طاقة حركية دائمية ذاتية استولدها الانفجار العظيم بقدرة نجهلها..

يترتب على ما ذكرناه التسليم بواحدة او اكثر من الفرضيات التالية:

1. ان الله خلق الكون ناقصا يحتاج الى فراغات فضائية زمكانية يشغلها فائض تمدده الفضائي على الدوام. وهي نظرية فلسفية اثارها ارسطو قبل اثارة العلم الفيزيائي لها. اذا اعتبرنا الانفجار العظيم هو ارادة الهية وان حركة التمدد والانكماش والتوسع هي دليل قطعي على ان الفراغ المكاني وجود موجود ليحتوي ويستوعب التمددات الحاصلة في العشوائية الجغرافية التكوينية للكون. تكون نتيجة ما ذكرناه ان الكون مخلوق ناقص يتمدد ويتوسع ويحتويه فراغ فضائي يستوعب فائض ناتج هذا التوسع في حجم الفضاء.

2. اذا كان الانفجار العظيم الذي دام مليارات من السنين الضوئية هو نتيجة صدفة عجيبة حيرت العلماء، فخاصية التمدد الكوني تحتاج ايضا الى فراغ يستوعب ويحتوي فائض التمدد. وهذه الفرضية على ما اعتقد هي (مقدس) الملاحدة من علماء الفيزياء الكونية. حول الفضاء الكوني ناتج الانفجار العظيم الذي يستتبعه التمدد والاتساع الذي يحتاج الى فراغات ليست مكانية بل فلكية تستوعبه وتحتويه يطلق عليها العلماء زمكانية.***

3. الانفجار العظيم الذي حصل بفعل فاعل هو الخالق فهل تمدد الكون نحو فراغ فضائي يحتويه هو دليل نقص اختاره الخالق في اثبات اعجازه التخليقي للكون غير المحدود غير المدرك في تقزيم محدودية ادراكات العقل الانساني.. انه جعل الكون ناقصا يزامنه التمدد التوسعي.

4. حركة التمدد التوسعي يصاحبها استهلاك الطاقة الكونية في ادامتها حركة الكون وتمدده. عليه يكون التمدد الكوني يصل مستقبلا ربما بعد ملايين او مليارات من السنين الضوئية الى مرحلة استهلاك الطاقة الديناميكية المغذية لاندفاع التمدد الكوني ذاتيا فيه ويعيش الفضاء حالة من عشوائية غير محسوبة لا يدركها العقل.

5. مثلما اشار العلماء الى فرضية نهاية وفناء الانسان على الارض نتيجة استهلاك الشمس للهيدروجين ما يجعل درجة حرارة الارض تصل الى مادون الصفر من الصقيع الجليدي الذي يجعل استحالة العيش على الارض يصبح امرا واردا علميا .

كذلك سيكون نفس الحال معنا في نضوب الطاقة الحركية التي تديم حركة الامتداد الكوني ليرتد ايضا نحو التراجع الانكماشي وبذا لا يختل فقط نظام عيش الانسان على الطبيعة بافناء وانقراض يتهدده مستقبلا. بل يصيب الاختلال عشوائيا الكون بكل لا محدوديته ولا نهائيته.

باستنزاف الكون طاقته الحركية يتوقف عن التمدد ما يجعله يعيش مناخا جليديا انجماديا تنعدم فيه كل الاحتمالات في وجود انساني او اي شكل من اشكال الحياة يستوطن احدى الكواكب الفضائية.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

........................

ملاحظة: المقال اجتهاد فلسفي خاص بكاتب المقال لا يستند الى مصدر علمي فيزيائي ولا الى نقل عن فكرة سابقة لاحد الفلاسفة او العلماء. لذا اتحمّل اي خطأ فيزيائي علمي ورد بالمقال الذي هو مقال فلسفي تنظيري تجريدي. كما اود الاشارة الى اقتباس عبارة عن الموسوعة حول الثقوب السوداء فقط وردت في متن المقال.

الأفكارُ المُتكاثرةُ في المنظومة الثقافية تُمثِّل إنتاجًا مُستمرًّا للعلاقاتِ الاجتماعية، وَتَوْليدًا دائمًا للعملية الإبداعية على الصَّعِيدَيْن: الإنسانيِّ والماديِّ، مِمَّا يَدْفَع باتِّجاه تَطوير رُؤيةِ الإنسانِ لذاته، ورُؤيته لِمُجْتَمَعِه. وَهَذه الرُّؤيةُ المُزْدَوَجَةُ للذاتِ وَالمُحِيطِ تُؤَسِّس نظامًا فلسفيًّا تَراكميًّا يَفْحَصُ التَّصَوُّرَاتِ الحَيَاتِيَّة، ويَخْتَبِر التأمُّلاتِ الوُجودية، وَيَمْتَحِن الظُّروفَ المَعيشية. وهَذا يُؤَدِّي إلى تَقْويةِ الصِّلَةِ بَيْنَ الفِكْرِ والتَّطبيقِ مِنْ جِهَة، وَتَفْعِيلِ الوَعْي بأهمية الحَياة الثقافية للفردِ والجَماعةِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى.

وإذا كانت الأفكارُ تَتَحَوَّلُ مَعَ مُرورِ الوَقْت إلى مَواقف حَياتية وحَالاتٍ إبداعية، فَإنَّ عَناصر الحياة الثقافية تَتَحَوَّلُ مَعَ ضَغْطِ الواقع الاستهلاكيِّ إلى رُموز كامنة في المَشَاعِرِ المَقموعةِ، والأحلامِ المَكبوتة، والذكرياتِ المُسْتَتِرَة. وَوَظيفةُ الإنسانِ الأسَاسِيَّةُ هِيَ استخراجُ هَذه الرُّموزِ الكَامنةِ، وحَقْنُها بالحُرِّيةِ والحَيويةِ، وإعادةُ بَعْثِها إلى الحَياةِ، وهَذا يَعْني تَحَوُّلَ الثقافةِ إلى حَياةٍ دَاخِلَ الحَياةِ، وانتقالَ القِيَمِ الإبداعيةِ مِنَ الهَامِشِ إلى المَركَز، مِمَّا يَحْمِي المُجْتَمَعَ مِنَ الفَجَوَاتِ المَعرفية، وَالثَّغَرَاتِ المَخْفِيَّة في مَصادر الوَعْي الاجتماعيِّ.

إنَّ الوَعْي الاجتماعيَّ لا يُحرِّر الإنسانَ مِنَ الخَوْفِ والعَجْزِ فَحَسْب، بَلْ أيضًا يَمْنَعُ المُجْتَمَعَ مِنَ الوُقُوعِ في الفَراغِ، ويَحْمِي الحَضَارَةَ مِن انتحارِ المَعْنَى، وَيَحْرُسُ التَّنَوُّعَ الثقافيَّ مِنَ العَدَمِ، وَيَحْفَظُ الشُّعُورَ مِنَ الاستلابِ، وَيُبْعِد الشخصيةَ الفرديةَ والسُّلطةَ الاعتبارية للكَينونةِ الإنسانيةِ عَن الاغترابِ.

وَالوَعْيُ الاجتماعيُّ يُولَدُ مِنْ رَحِمِ اللغة، وَيَتَشَكَّلُ في الأُطُرِ المَرجعيةِ لِمَصادرِ المَعرفةِ تاريخيًّا وحَضاريًّا. وإذا كانَ التاريخُ يَكتبه المُنتصِر، والحَضارةُ يُهَيْمِن عَلَيْهَا الطَّرَفُ الأقْوَى، فَإنَّ اللغة يُفَجِّرُ طَاقَتَهَا الرَّمزيةَ الطَّرَفُ الأكثرُ إبداعًا. والإبداعُ لا يَتَكَرَّسُ كَحقيقةٍ واقعية إلا إذا تَخَلَّصَ مِنَ الجُمودِ، وَتَحَرَّرَ مِنَ الانكماشِ، وَأَفْلَتَ مِنَ الانغلاقِ. والإبداعُ لا يَتَجَذَّرُ كَمعرفةٍ جَمَاعِيَّة خَلَاصِيَّة إلا في ظِلِّ الانفتاحِ المَدروسِ، والتواصلِ المَنطقيِّ، وتَلاقُحِ الأفكار معَ التَّطبيقات، مِمَّا يُسَاهِمُ في تَشْييدِ الهُوِيَّةِ الإبداعية عَلى الخُصوصيةِ، وتأسيسِ السُّلطةِ المَعرفية عَلى الذاتيةِ الثقافية، بعيدًا عَن الحُلولِ المُسْتَوْرَدَةِ، وَعُقْدَةِ الشُّعُورِ بِالنَّقْصِ، والشُّعُورِ بِالدُّونِيَّةِ.

وَالحِفَاظُ عَلى مَفاهيمِ الهُوِيَّة والسُّلطةِ والذاتيةِ في المَنظومةِ الثقافية ذات التطبيقات الاجتماعية، لا يَعْني العُزلةَ والتَّقَوْقُعَ عَلى الذاتِ وَالخَوْفَ مِنَ الآخَرِين، بَلْ يَعْني اعتمادَ الثقافة المُجتمعية كَنِظَامِ حَيَاةٍ مُمَيَّز وأُسلوبِ عَيْشٍ فَعَّال، انطلاقًا مِنْ مَبْدَأ الخُصوصيةِ، وَالمَعاييرِ الأخلاقيةِ، وَالتَّكَيُّفِ مَعَ القُدراتِ الفردية وَخَصَائصِ الجَماعةِ الإنسانية، وَالتَّأقْلُمِ مَعَ الفِعْلِ الحَضَاريِّ المُنْبَثِق مِنَ الواقعِ المُعَاشِ، وَالمَضمونِ التاريخيِّ النابعِ مِنْ أدواتِ اللغةِ وآلِيَّاتِهَا.

واللغةُ بِوَصْفِهَا حَرَكَةً فِكرية، وباعتبارِها تَيَّارًا مَعرفيًّا، تَمْنَحُ الحَيَاةَ الإبداعية للعلاقاتِ الاجتماعية، وَتُعْطِي العُمْقَ الإنسانيَّ للأحداثِ التاريخية. وإذا كانَ التاريخُ يُعَاد تَفْسِيرُه بشكلٍ مُستمِر في المَنظومةِ الثقافية التُّراثية، والمَناهجِ الحَياتية المُعَاصِرَة، فَإنَّ اللغة يُعَاد اكتشافُها بشكل دائم في أنماطِ السَّيطرة الوجودية، وأبعادِ الفِعْلِ الاجتماعيِّ.

وإعادةُ تَفْسيرِ التاريخِ وإعادةُ اكتشافِ اللغةِ تُمثِّلان خَطَّيْنِ مُتَقَاطِعَيْن في بُؤْرَة مَركزية واحدة، هِيَ كَينونة المُجْتَمَع، وتُجسِّدان نَسَقَيْنِ مُتَكَامِلَيْن في إطارٍ مَرجعيٍّ واحد، هُوَ كِيَان الإنسان. وَالوَعْيُ الاجتماعيُّ هُوَ نُقْطَة التَّوَازُنِ بَيْنَ كِيَانِ الإنسانِ وكَينونةِ المُجْتَمَعِ، وَهُوَ أداةُ الحَفْرِ في أعماقِ الشَّخصيةِ الإنسانيةِ، وأبعادِ السُّلطةِ المُجتمعية، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَكريسِ اللغةِ كحالةٍ إنسانية ضِمْنَ شُروطِ تَفْسيرِ التاريخ، وإخراجِ الفِعْلِ اللغويِّ مِنَ تَرَاكُمِ الألفاظِ إلى رِحْلَةِ البَحْثِ عَن المَعْنَى في الفِكْرِ والوُجودِ.

وكُلَّمَا تَعَزَّزَ دَوْرُ اللغةِ في سَبْرِ أغوارِ النَّفْسِ الإنسانية، وَرَصْدِ التَّحَوُّلاتِ العميقة في بُنْيَةِ العَلاقاتِ الاجتماعية، تَجَذَّرَ دَوْرُ الثقافةِ في عَقْلَنَةِ اللامَعقول، وَأنْسَنَةِ إفرازاتِ المَاضِي وَمُعْطَيَاتِ الحَاضِرِ وَقِيَمِ المُسْتَقْبَلِ، وَتَحويلِ التَّجَارِبِ الإنسانية إلى مَصادر مَعرفية عَلى تَمَاس مُبَاشِر مَعَ الفِعْلِ التاريخيِّ والفَاعليَّةِ الحَضارية. وهَذا النَّشَاطُ اللغويُّ والثقافيُّ يُخَلِّصُ الإنسانَ مِنْ عِبْءِ التأويلاتِ المَصلحية للتاريخِ، ويُحَرِّرُ الذاكرةَ الحَضارية مِنْ جَلْدِ الذاتِ وَالخَوْفِ مِنَ المُسْتَقْبَلِ، ويُطَهِّرُ العَلاقاتِ الاجتماعية مِن احتكارِ الحقيقةِ المُطْلَقَةِ وَالوِصَايَةِ عَلى الآخَرِين.

واللغةُ تَسْتَمِدُّ حَيَاتَهَا مِنْ حَركتها المُستمرة نَحْوَ المَعْنَى، والثقافةُ تَسْتَمِدُّ حَيَوِيَّتَهَا مِن اندفاعها الدائم باتِّجَاه الهُوِيَّة. والحَيَاةُ والحَيَوِيَّةُ وَجْهَان لِعُمْلة واحدة، يُوجَدان مَعًا، ويَغِيبان مَعًا. وحَرَكَةُ اللغةِ لَيْسَتْ نَقْلَةً مِيكانيكية في الزَّمَانِ والمَكَانِ، وإنَّما هِيَ نَقْلَةٌ في الشُّعُورِ والوِجْدَانِ، واندفاعُ الثقافةِ لَيْسَ وَظيفةً رُوتينية، وإنَّمَا هُوَ تَوْظِيفٌ للشُّعُورِ والوِجْدَانِ في الوَعْي التاريخيِّ والذاكرةِ الحَضارية، مِنْ أجْلِ إعادةِ الإنسانِ إلى إنسانيته، بِوَصْفِهِ كائنًا حَيًّا وكِيَانًا حُرًّا وكَينونةً إبداعيةً، والإنسانُ هُوَ مَركَزُ التاريخِ والحَضارةِ، ومِحْوَرُ العَمليةِ الإبداعية في الزَّمَانِ والمَكَانِ. وَبِدُون إنسانيةِ الإنسانِ لا يُمْكِن أنْسَنَةُ التاريخِ القائمِ على الصِّرَاعِ، وَبِدُون إبداعِ الإنسانِ لا يُمْكِن عَقْلَنَةُ الحَضارةِ القائمةِ عَلى الاستهلاكِ.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

عندما نجد ان وسيلتي العقل في الادراك ومعاملته الاشياء لا تتم من غير اعتماد العقل للحواس والفكر واللغة في ادراكه الشيء والتفكير به سواء كان التفكير داخليا (صامتا) على شكل حوار فكري ذاتي داخل العقل(الدماغ)، او افصاحا عنه في التعبير اللغوي عن وجود الاشياء المادية في الواقع او الموضوعات المتخيّلة كناتج علاقة الذاكرة بالعقل قبل كل شيء.

والوجود المادي والوجود الافتراضي التخيّلي لا يختلفان في الماهية او الجوهر وحسب، وانما هما يختلفان بلغة التعبير عن كليهما، فالوجود المادي الواقعي في عالم الاشياء والمحسوسات الخارجي تعّبر عنه اللغة المنطوقة او المكتوبة، في حين ان الوجود الخيالي الذي ابتدعته الذاكرة كموضوع او مادة تفكير العقل وتخليقه الجديد له، لا تعبّر عنه اللغة التداولية نطقا او كتابة كما في التعبير عن الوجود المادي للاشياء في العالم الخارجي، بل يبتدع العقل وسائل توصيل خيالية جمالية هي غير وسائل التواصل اللغوي التداولية المسموعة او المكتوبة، مثل لغة رسم لوحة او نحت تشكيلي في الفنون والجمال التي هي لغة الابداع الخيالي الذي تكون فيه اللغة والفكر وجود مضمر في مضمون اللوحة او التشكيل الجمالي. فالتعبير الفني الجمالي لا يحتاج اللغة التعبيرية الفكرية التواصلية المجتمعية في التعبير عن وجوده المادي. ولغة الجمال والفنون التشكيلية هي ما يطلق عليه اصطلاحا ما فوق اللغة. كونها تعطي المتلقي ايحاءات ادراكية ومرموزات تلغي معها خاصية الصوت التي تلازم اللغة الابجدية في امتلاكها التعبيري خاصيتي الصوت والمعنى المعبّر عنه. عليه يمكننا ايجاز تعريف اللغة على انها صوت له معنى.

يصبح تساؤلنا كيف يفكّر العقل وما وسيلة التفكير التي يعتمدها، تقودنا الى طريق مسدود عند عدم الاقرار ان وسيلة العقل في التفكير وادراك الاشياء لا يمكن ان تتم خارج فعالية الدماغ بتخليق موضوعاته وفي توظيفه الفكر – اللغة وسيلة التعبير عن مدركات العقل من وجود الاشياء في العالم الخارجي المستقل التي هي نفسها في داخل الدماغ تكون تفكيرا تجريديا يقوم بصنع الوعي المفهومي للمدركات الواصلة اليه ايضا.

لا يمكننا تمييز الفكر عن اللغة داخل فعالية العقل تخليق الافكار بالصمت التفكيري داخل العقل، وانما يتاح لنا ذلك في الوجود المستقل لادراك الاشياء خارج العقل التي يصدر العقل والجهاز العصبي التعبير عن وجودها الفكري – اللغوي بعد تخليق العقل لها من جديد كناتج اجابته عما وصله عن طريق الحواس من مدركات.

ان فعالية العقل تنعدم نهائيا عند افتراضنا ان العقل يقوم بفعاليته الادراكية ومعالجتة الموضوع المدرك عقليا بغير وسيلة تداخل الفكر مع اللغة (داخل) و(خارج) العقل في تباين واختلاف اشرنا لهما سابقا.

لم يثبت العلم لحد الآن ان تفكير العقل او الدماغ الصامت يتم بغير تداعيات الفكر الذي تستوعبه اللغة او الخيال في الذاكرة للتعبير عنه لا حقا بعد انتهاء العقل من تخليقه. وهي عملية معقدة لا يمكن معرفتها بسهولة حتى على مستوى التخصص العلمي في دراسة وظائف الدماغ والجهاز العصبي.

بمعنى داخل العقل يكون التفكير حوارا لغويا صامتا في تعطيل صوت اللغة المنطوقة او المكتوبة، وليس على صعيد استيعاب اللغة لتفكير العقل الصامت. وفي خارج العقل تبطل رقابة العقل الصارمة في انتاج الافكار واللغة حول المواضيع والاشياء بعد تعبير اللغة والفكر عن وجود الاشياء المستقل في العالم الخارجي دونما وصاية العقل عليها التي في حقيقتها ليست بقدر اهمية امكانية اللغة التعبير عنها، وتكون الموجودات والاشياء في وجودها المادي خارج العقل هي من حصة ووصاية اللغة والفكر المعبّر عن تلك الاشياء في تخليق العقل لها الذي اخذ مداه في تعبير الفكر واللغة عن الاشياء الخارجية بعد انتهاء تفكير العقل بها.

تفكير العقل الصامت والناطق

وهذا يستلزم منا تبيان ما الفرق بين تفكير العقل صمتا داخليا، وتفكيره تعبيرا لغويا صوتيا او كتابة خارجيا؟ وما المقصود به وما دور الفكر واللغة في تحديد معنى المفكّر به كموجود.؟

كيف يفكّر العقل داخليا مع ذاته وموضوعه، وكيف يفكّر خارجيا في استقلالية وجود الاشياء عنه؟ بالحقيقة ان العقل في كلا التفكيرين الداخلي والخارجي يتمّان في توافقهما والتقائهما في مصدر التفكير الواحد الذي هو الوجود المادي او الموضوع الخيالي، فلا يوجد عمل فكري في العقل لا يرتبط بموضوع مدرك حسيا او خياليا والا كان تفكيرا عقيما وهميا وعدما لا علاقة للعقل به ولا للموضوع علاقة بالعقل المدرك له. التفكير لا يتم بغير موضوع يسبق وجوده ادراك المحسوسات والعقل.

تفكير العقل داخليا تتم بوجود شيء مدرك محدد (موضوع) يكون مادة للتفكير تنقله الحواس بما ترسله من استثارات هي احساسات ادراكية للعقل يستلمها الذهن كحلقة توصيل عن طريق شبكة الاعصاب، وقد تتعّطل مهمة الحواس هذه عندما نجد العقل يفكّر تخييلا وتخليقا عقليا بموضوع ذهني تستحضره الذاكرة خياليا، لا علاقة له بوجود المادة والمحيط الخارجي للاشياء كأن يفكر الانسان خياليا في اشياء من الطبيعة او يتخيّل اي شيء او اية فكرة مجردة غير متعينّة ادراكا ماديا وجوديا امامه في الطبيعة او في الانسان كذات تعي نفسها انفراديا كغيرها بما لا يحصى من الاشياء بالعالم الخارجي من اشياء تنعش الذاكرة العقلية التفكير بها كمواضيع في الخيال العلمي او في مواضيع الخيال الفني الابداعية وهي لا وجود واقعي مادي لها خارج تفكير العقل بها.

كما لا تقوم الحواس المادية ولا من مهامها نقل موضوع التأمل الخيالي الى الدماغ وانما مخيّلة الانسان وذاكرته تستذكر موضوعها من ماضي الذهن خيالا مجردا عن متراكم خبرة مستقلة مخزّنة بالذاكرة على شكل تجارب. وتجعل منه موضوعا لتفكير العقل والذهن. يلي ذلك ان العقل قد يعبّر لغويا عن موضوعه الخيالي بعد تخليقه الجديد له في لغة الكتابة او اي نوع من انواع لغة التوصيل، او لا يعبر عنه باللغة وانما بوسيلة توصيل جمالية قائمة باستقلالية تكوينية تكون اللغة فيها في حالة كمون إيحائي يقوم المتلقي منفردا استكشافها من خلال لوحة او فن تشكيلي او موسيقا او يوغا او باليه او نص مسرحي صامت.

اذن في البدء علينا الاقرار الآلي الثابت انه لا يمكن للعقل الانساني ممارسة التفكير ما لم يكن هناك موضوعا واقعيا او خياليا يصبح مادة او موضوعا لتفكير العقل. وميزة العقل السوي انه لا يفكر في فراغ اوفي لا معنى ولاشيء متعيّن ادراكا.

وقلنا ايضا ان الحواس ليس من مهامها ولا من قدراتها نقلها موضوعا خياليا هو من ابتداع المخيّلة والذاكرة الذهنية للعقل ولا دور للحواس به، بل الدور كل الدور يكون للعواطف والوجدانات واللاشعور في التعبير عن الفنون والجماليات خياليا في لغة كامنة صامتة تتواصل مع المتلقي ايحاءا تأويليا.

وان العقل من قدراته الذاتية المعجزة انه يفكر خياليا بموضوع او اكثر لم تقم الحواس او احداها بنقله له. وان العقل يفكر خياليا بنفس اهمية وربما بأكثر اهمية من تفكيره بالاشياء كموضوعات موزعة في وجودها المادي في الطبيعة والعالم الخارجي.

هنا يأتي تساؤل أهم ان وسيلة التفكير العقلي للشيء المدرك داخل العقل تتم بماذا أو بأي كيفية يعقل العقل او الدماغ ذاته وموضوعه؟ وما هي آلية التفكير العقلي بالموضوع؟ لحد الان تمّكن العلم من معرفة كيف تعمل حاسة البصر العين في رؤيتها الاشياء، وكذا مع حاسة السمع او الذوق او اللمس، اما كيف يعقل الدماغ نفسه ذاتيا بالتفكير الصامت، كما ويعقل موضوعاته ايضا، وفق أية الية يتم الادراك العقلي في تخليقه الاشياء المادية وتفسيرها فهو غير معلوم علميا اكثر مما تزودنا به الفلسفة من شذرات وليس تخصص علم طب الدماغ والاعصاب على حد علمي.

فالعلم يوّضح كيف ان آلية التفكير العقلي تنحصر في موضوع مدرك حسيّا وعقليا عن طريق الجهاز العصبي المرتبط بملايين الخلايا الدماغية التي تتناوب الادراك في عملية معقدة من اختصاص طب علم الدماغ والجملة العصبية وهو مجال لا تعلمه وتعمل به الفلسفة ولا باستطاعتها الخروج منه بنتيجة يرضاها العقل والطب العلمي.

اما في توضيح الفلسفة فهو حين يعقل الانسان ذاته تفكيرا ماديا او خياليا فهو يحتاج حتما لمادة او موضوع يدركه واقعيا او خياليا كما ذكرنا سابقا لا يخرج عن وصاية العقل في حال انعدام واسطة التعبير الفكري – اللغوي عنه وبه.

اي بمعنى ان التفكير العقلي لفرد لا يدركه الانسان الآخر في ماهيته خارج العقل الا في حالة التعبير الفكري – اللغوي عنه خارج وصاية العقل عليه حين يكون موضوع التفكير العقلي متموضعا فكريا في الواقع المادي لوجود الاشياء.

اما ادراك شخص لما يفكر به شخص آخر عقليا جوّانيا في صمت دونما افصاحه عما يفكر به بالكلام او اللغة او الاشارة فهو محال. فالعقل لا يدرك ما يدور في اذهان الاخرين، ولا يحدس ما يعتمل في دواخلهم من وجدانات وعواطف الا بعد الافصاح والتعبير عنها بواسطة ادراك تواصلي لغوي مع الاخرين.

فاذا اراد العقل وجوب التعبير عن موضوعه المفكّر به للعالم الخارجي المستقبل له، توّسل لذلك الفكر – اللغة. واذا لم يشأ ذلك فانه اي العقل يجعل من موضوعه تفكيرا داخليا صامتا غير متاح ادراكه من غيره الذي هو (أنا) الفرد العاقل المفكّر من نوعه (الانسان الاخر) بمعنى ان الفكرة واللغة المعبّر بها صمتا عقليا تنعدم في التاثير وفي الحضور في كيفية نقل تفكير مصنع الحيوية العقلية التخليقية للاشياء التي يقوم بها العقل.

فاللغة والفكر لا يحضران سوّية الا في محاولة تنفيذ ايعازات مصنع الحيوية العقلية بالاخبار الادراكي العقلي عن موضوع جرى التفكير به ذهنيا واكتملت مهمة اعادته من العقل الى عالم الاشياء كفكر جديد بلغة جديدة وليس كوجود سابق مستقل في عالم الاشياء قبل ادراك العقل له. وهذه العملية اطلق عليها كانط مقولات العقل الارتدادية الانعكاسية الصادرة عنه في توضيحه موضوعات الادراك.

ايعازات العقل الارتدادية الصادرة منه والواردة اليه بواسطة منظومة الجهاز العصبي المرتبطة بالدماغ في تخليقه لمواضيع جرى تفكيره بها انما تتم في تنفيذ وسيلة تعبير اللغة او غير اللغة ايعاز العقل في اعادة الموضوع المفكّر به من العقل الى امكانية ادراكه في العالم الخارجي بفهم جديد عما كان عليه قبل ادراك العقل له، في توّسله اللغة التي هي الفكر ولا فرق بينهما في التعريف المادي او التجريدي بالموضوع في وجوده المستقل في عالم الموجودات الخارجي بعد تخليقه عقليا. الموجود الادراكي الحسي او العقلي المستقل هو وجود فكري لغوي كما هو وجود مادي مستقل في عالم الاشياء ايضا.

كيف تكون اللغة هي الفكر؟

التساؤل الآن كيف تكون اللغة هي الفكر حسب ما تذهب له جميع نظريات علم اللغة واللسانيات المعاصرة، ولماذا يعجز ادراك العقل للاشياء التفريق بينهما اي بين الفكر واللغة.اذا كانا يحملان مدلولين متباينين مختلفين في تعبيرهما عن الموضوع الواحد باكثر من ادراك وتأويل واحد صادر عن العقل؟.

هنا اللغة والفكر المتلازمان في تعبيرهما عن الاشياء ليس بمقدورهما تفسير وجود الشيء بمعزل احدهما عن الاخر اي بمعزل اللغة عن الفكر، او الفكر عن اللغة لانه يكون ذلك استحالة ادراكية تعجيزية للعقل. في امتناع الفكر واللغة التعبير عما يرغبه العقل التعبير عنه وجودا مدركا. هذه الفكرة التداخلية هي دائرة يتناوب بها اللغة على انها فكر وان الفكر هو لغة ولا فرق بين الاثنين الا من حيث الفكر محتوى لغوي بلا صوت، واللغة اصوات تحمل معاني الفكر الملازم لها.

ان في عجز الفلسفة الخروج عن نظرياتها المفترضة شبه الثابتة ان الفكر هو اللغة المعبّرة عنه، او ان اللغة هي وعاء الفكر، او ان اللغة هي بيت الوجود. وأن اللغة مبتدأ ومنتهى ادراك وجود الانسان والطبيعة والاشياء في العالم الخارجي.

جميع هذه التعبيرات الفلسفية صحيحة تفهم اللغة على انها فعالية ادراكية عقلية في تحديد الفكرة او الموضوع في تموضعهما خارجيا كي يتم ادراك الشيء ومعرفته من قبل الآخرين من الذوات العقلية المدركة وهو صحيح الى حد كبير ولا يتوفر مجال أدحاضه في الاحتكام للعقل في ادراكه الوجود على وفق هذه الآلية التي ترى ان الفكر واللغة وجهان لعملة واحدة. ومن المحال ادراك الاشياء بالفكر دونما اللغة، ولا باللغة دونما الفكر. صحيح جدا قول فلسفة اللغة الاميركية ان الوجود هو لغة.

في هذه الحالة حين تكون اللغة هي تعبير عن فكرة متموضعة داخل او خارج العقل، يستحيل الفصل بين اللغة والفكرة محتواها او الموضوع المعّبر عنه بهما. فبهما ثنائية (الفكر واللغة) يصبح التفكير الذهني العقلي موضوعا ومتعيّنا وجودا في العالم الخارجي بعد تخليقه عقليا، وفي هذا يكون تفكير العقل خارجيا او بالاحرى من اجل فهم الوجود الخارجي للاشياء المستقلة.

حين نقول تفكير العقل الداخلي المقصود به هو التفكير الذاتي الصامت، أما تفكير العقل خارجيا فهو عندما يجري تعبير اللغة عن موضوع تفكير العقل واقعيا ماديا كوجود مستقل في عالم الاشياء.

وبالواقع ان هذا التفريق في تفكير العقل داخليا صمتا وخارجيا بوسيلة اللغة، انما هما في الاصل تفكير واحد للعقل في موضوع محدد مشترك يتميّز به بمعزل عن كل موجود مادي او متخيل آخر وتنعدم بين الفكر واللغة فواصل التباين او الاختلاف الانفصالي بينهما..

أي أن العقل واللغة والفكر يجمعهم (وحدة وجود أسبقية الموضوع) المدرك في زمن واحد معيّن. وهكذا هي الحال في تناول اي موضوع او شيء من العالم الخارجي كي يتم تخليقه داخل العقل قبل افصاح الفكر واللغة عنه كوجود او شيء في العالم الخارجي.

ان ادراك العقل للاشياء الواردة له عن طريق الحواس بما لا يحصى في تنوعاتها وتوقيتاتها الزمنية، لا يعقلها العقل دفعة واحدة، او يعطي الدماغ ردود الافعال الانعكاسية الارادية وغير الارادية عليها بعشوائية من دون تراتيبية يعتمدها العقل.

ذهبنا الى استحالة فصل اللغة عن الفكر في حالة افصاح العقل عن فهمه وتعّينه لموجود او شيء ما في العالم الخارجي. وليس في التفكير الصامت داخل للعقل اذ يكون الفكر واللغة غير مدركين في التعبير عن شيء هو لا يزال موضوع العقل بالتفكير.

انه من المهم تاكيد ان العقل في تخليقه اشياء الوجود الخارجي والوجود الخيالي الداخلي بتعبير الفكر واللغة المتلازمين. انما يتم في تفكير العقل باللغة المتكاملة مع الفكر. اي ان تفكير العقل بالشيء لا يكون بالفكر المجرد عن اللغة، وكذا الحال بالعكس ان العقل لا يعقل الوجود باللغة دون الفكر ايضا.

نذّكر ان علماء وفلاسفة اللغة واللسانيات جميعا يعتبرون اللغة والفكر هما وجهين لعملة واحدة ولا تفريق بينهما كما ذكرنا سابقا، فاللغة هي الفكر المعبّر عنه حسب ريكور وفنجشتين ودي سوسير وجومسكي وجميع فلاسفة وعلماء اللغة في اعتبار ان اللغة هي فعالية العقل في تعيين ادركاته للموجودات والاشياء الخارجية.

لكننا نجازف براينا بالمباشر ونقول انه يمكننا فصل الفكر عن اللغة عندما يكون تفكير العقل صمتا داخليا في التفكير بوجود شيء مادي او خيالي لا يحتاج لغة التعبير عنه بل يحتاج الفكر وحده لانه وسيلة تفكير العقل المعقدة الوحيدة في تخليقه لموضوعه بوسيلة الفكر لوحدها دونما الحاجة الى اللغة وسيلة تعبير لمواضيع العقل، وتكون اللغة تعبيرا صامتا داخليا متخيّلا ايضا في تفكير العقل لموضوعه الخيالي كوجود غير مادي، اي وجود خيالي لا يرتبط وغير ملزم التعبير اللغوي عنه بعد تخليق العقل له. وانما تكون حاجة العقل في حواراته الداخلية للفكراهم واكثر فاعلية في عدم اعتماد اللغة التي تكون لغة استيعاب صوري لما يفكر العقل به. (الفكر) هنا وسيلة العقل في معالجة موضوعاته صمتا داخليا، وتكون (اللغة) وسيلة العقل في التعبير عن الوجودات والاشياء في العالم الخارجي.

هذا التفريق الاعتسافي الذي ذهبنا توضيحه في السطور السابقة كان خاطئا بمجمله رغم ألية الاقناع التنفيذي لعمل اللغة كشكل والفكر كمضمون له يمتلكان نفس دلالة المعنى الواحد في التعبير. هما نفس معنى الدلالة عن شيء او موضوع معيّن.. وتعبير ذلك رغم ان الفكر مضمون لشكل لغوي الا ان تفكيرهما المشترك عن موضوع يكون بلغة هي (تلازم تفكير الفكر بوسيلة اللغة الملازمة له) لا يوجد تفكير عقلي له معنى لا تلازمه لغة صورية تحمل نفس المعنى.

للتوضيح اكثر فالتفكير المادي الصامت هو في معالجته موضوع واقعي او شيء ما بالتفكير المجرد كمتعيّن موجود في العالم الخارجي، اما في تفكير الصمت العقلي او(الخيالي) الاستبطاني غير المعبّر عنه باللغة فهو الهام تخييلي في انتاج الذاكرة موضوعا يدرك خارجيا بلغة جمالية خاصة هي في حالة من الكمون خلف فهم الوجود الجمالي للشيء، لم يكن ادراكه متيّسرا قبل افصاح العقل له وتخليقه جماليا، كما في خيال انتاج لوحة فنية او قطعة نحتية او اي ضرب من ضروب التشكيل الفني ومعالجات علم الجمال الذي من المتاح الممكن التعبير عنها بغير لغة الكلام او لغة الكتابة او الموسيقى او الاشارة.

نأتي الآن الى معالجة اصل امكانية فصل الفكر عن اللغة، على انها استحالة ادراكية في فهم الاشياء والمواضيع في حال وجودها في العالم الخارجي في استقلالية عن الانسان سواء كانت مواضيع تناولها العقل بالادراك واعادها باللغة والفكر ثانية الى عالم الواقع من جديد بعد تخليقها، او لم يدركها في وجودها المستقل التي ايضا تستطيع الحواس واللغة التعبير عنها كوجودات واشياء.

يبقى عندنا ان التفكير العقلي الصامت ماديا او خياليا فأن آلية العقل في التفكير تستطيع فصل اللغة عن الفكر طالما هما حاضران ذهنيا في لحظات زمنية واثناء التفكير بموضوع ما، اي حينما يفكر العقل صمتا فهو يفكّر بالفكر ذاته كوسيط لموضوع في علاقته بالفكر والعقل الذي نقلته الحواس المدركة للاشياء او في موضوع ابتدعه الخيال ايضا ويحتاج العقل الفكر كوسيط في تخليقه واعادته الى عالم الاشياء باللغة المعّبرة عنه. وليس باللغة خارج موضوعه في التفكير الصامت. اللغة في تفكير العقل الصامت لا اهمية ولا وجود لها يتاح ادراكه من غير الشخص الذي يفكر بموضوعه عقليا ويبقى الفكر وحده وسيلة العقل في التفكير وتخليقه مواضيع الخيال العقلية والمادية ايضا.

وطالما كانت اللغة والتفكير معطّلان كوظيفة نقل ما يقترحه العقل عليهما نقله الى العالم الخارجي، اي بقاء العقل يفكر ذاتيا صمتا بمعزل عن نقل ما يفكر به لغويا، فان العقل وسيلة تفكيره الفكر ذاته فقط ولا يحتاج اللغة الا على انها جزء من الفكر وملازمة له خارج ادراك الدماغ او العقل في وجود الاشياء، وتفكير العقل وتخليقه لموضوعه، فلا يدرك موضوع التفكير العقلي خارجيا من غيره الا بواسطة اللغة فقط الناقلة للفكر من داخل العقل(الدماغ) الى واقع الوجود في عالم الاشياء. لكن الحقيقة الصادمة هي ان الفكر تفكير بواسطة اللغة ولا يستطيعان كليهما الافلات من حقيقة ان كل حلقات منظومة العقل الادراكية منفصلة افتراضيا عن بعضها هي تعبير (لغة) فقط.

النزعة المثالية بالاستناد الى هذه الحقيقة الصائبة تعتبر كل ما يدركه العقل حسيا ويعبر عنه لغويا هو موجود فقط. وما لا يدركه العقل غير موجود ماديا. والرد البسيط هو اعتبار المثالية العالم وجود لغوي في الذهن والذاكرة والخيال قبل وجوده المادي في الطبيعة وعالم الاشياء وهو خطأ فالوجود المادي لا يحدده تفكير العقل به، بل أسبقية الوجود المادي هو الذي يبعث العقل على التفكير.

وعندما يتجسد ويتعيّن الموضوع في عالم الاشياء الخارجي بالتعبير عنه لغويا او بأية وسيلة تعبير غير اللغة الصوتية او المكتوبة، فهنا لا يصبح فصل الفكر عن اللغة ذات اهمية كبيرة، ولكن تبقى اللغة في اثناء عملية تفكير العقل (صمتا) في مرتبة ثانوية بعد الفكر في مقارنتها باولويتها في التعبير عن الوجودات والاشياء الخارجية في العالم الخارجي والطبيعة خارج هيمنة ادراك الحس والعقل لها بعد تخليقه لها، عندما تكون اللغة جزءا لا ينفصل عن موضوعها الذي عبّرت عنه في عالم الاشياء والموجودات.

أي تكون اللغة وسيلة ادراك فهم الاشياء في وجودها المتعين المستقل عن تاثير العقل به بعد ان يصبح واقعا ماديا في عالم الاشياء. وباللغة وحدها لا بالفكر نفهم تفسير الموجودات المدركة في وجودها قبل تعبير الفكر عنها، لذا يذهب الجميع الى ان فصل اللغة عن الفكرة محال وهو صحيح بالنسبة للشخص الذي يفهم الموضوع في وجوده المادي المستقل هو تعبير لغوي يداخله المعنى الذي هو الفكر. بمعنى ان افصاح اللغة عن الشيء يسبق الفكر عنه.

بمعنى توضيحي اكثر ان اللغة لا تستمد فعاليتها داخل تفكير العقل الصامت جوّانيا بموضوعه مع ذاته وانفصال العقل والفكر كليهما عن العالم الخارجي، وانما تستمد اللغة اقصى فاعليتها في التعبير عن الاشياء في وجودها الخارجي المستقل خارج وعي العقل لها في زمنية محددة تلزم عقلا مفكرا واحدا في موضوع واحد، هو غير مدرك وجودا لغويا لدى غيره من عقول تختلف في ادراكها وتفكيرها والتعبير ربما في نفس الموضوع.

وحتى في هذه الحالة فالفكر وتعبير اللغة يبقيان قاصرين عن التعبير عن الموجودات المستقلة من دون ادراك العقل لها وتحديده نوعية الفكر ونوعية اللغة المعبّرة شعنها. ويكون وعي الذات هي كينونة متشّكلة من الوجود المدرك، بالمحسوسات، ومن والعقل، وايضا من الفكر واللغة.

لذا عندما يكون تفكير العقل صمتا جوّانيا، يصبح التفكير بالشيء سابق على لغة التعبير عنه خارجيا. فالموضوع المفكّر به صمتا غير لغوي يبقى حبيس ووصاية العقل في التفكير به قبل اهمية انشغال العقل في التعبير اللغوي عنه.

ان اللغة اثناء وزمنية تفكير العقل بموضوعه صمتا داخليا، تكون ملازمة لعملية تفكير العقل ذاتيا، لكنها لا تتقدم تفكير العقل. فليس كل تفكير داخل العقل صمتا يلزم حضور اللغة معه لكنه يلزم حضور التفكير وحده في حواره الداخلي مع العقل. فالعقل بلا تفكير لا قيمة له، والفكر بلا عقل يدركه ويتعامل معه يكون غير موجود، وكذا تتبعه اللغة ايضا. فالفكر واللغة لا ينتجان العقل الذي يفكر بهما، لكن العقل ينتج الفكر واللغة اللذين يتوسلهما في فهم الاشياء، والعقل بتفكيره الصامت بمقدوره تفعيل حضوره بلا لغة تعبير غير ملزمة لنقل تفكير العقل كما هو الحال في ابداعات الفنون وعلم الجمال.

***

علي محمد اليوسف / الموصل

...........................

1. نقلا عن كتاب الفلسفة المعاصرة في اوربا، ترجمة عزت قرني ص 64

2. نفس المصدر السابق ص132

جاءت تسمية الطابور الخامس متأخرة لتصف حالة موجودة على أرض الواقع منذ العصور الوسطى وقبل ذلك ...وتنطوي أنشطة الطابور الخامس السرية على أعمال تخريب وتضليل وتجسس يُنفذها مؤيدو القوى الخارجية التي تريد بالبلاد شراً، ضمن خطوط الدفاع في بلادهم لصالح العدو.

في العراق عندما احتله العثمانيون عام 1534 بعد إن طردوا محتليه الذين سبقوهم وهم من الدولة الصفوية تحت حكم شاه طهماسب، فإن من بين بعض العراقيين من بقي مواليا للصفويين وهم اما منتمين لهم أو منتفعين من حكمهم والذريعة كانت ...المذهب.

ولم يدرك العراقيون وقت ذاك ان للمذهب رب يحميه ولكن عراقهم لهم بالذات وينبغي الدفاع عنه هو بالذات ...

استمر حكم الدولة العثمانية للعراق ٤٠٠ عام من التخلف والجوع والاقطاع وترسخ فيه الصراع المذهبي الذي انتشر بين العراقيين بالنيابة عن الدولة الصفوية في إيران والدولة العثمانية في تركيا والذي صبغ العراق بصبغته الطائفية المقرفة والماثلة اليوم ...

وعندما احتلت الجيوش البريطانية العراق عام 1917 أثر هزيمة الجيوش العثمانية تحرك الطابور الخامس من بقايا تلك الدولة ومن المنتفعين من وجودها وجيشوا البسطاء لشن حملة الجهاد في الشعيبه ضد الإنكَليز فتغنى بهم أتباعهم من عديمي الوعي بنظم الشعر وإقامة النصب والتماثيل ...وهذه المرة الذريعة كانت ...الدين.

ولم يدرك العراقيون وقت ذاك ان للدين رب يحميه ولكن عراقهم لهم بالذات وينبغي الدفاع عنه هو بالذات ...

وعلى الرغم من ان قائد الجيوش البريطانية الجنرال ستانلي مود قد أعلن من قلب بغداد "بيان بغداد" الشهير قائلا: "لم تأتِ جيوشنا إلى مدينتكم وأرضكم كغزاة أو أعداء، ولكن كمحررين"، لكن جيوشه المحتلة ودولته المستعمرة أمعنت في نهب واضطهاد الشعب العراقي واهان جنوده وضباطه كرامة العراقيين فحصل التململ الذي انقلب الى هيجان في عام 1918 في بغداد ومدن العراق الأخرى لتكلل بثورة العشرين التحررية في العراق التي نجم عنها قناعة الإنكَليز بأن حكم العراق حكم مباشر غير ممكن ويكلف الخزانة البريطانية أكثر مما يجلب لها من منافع.

تحرك الطابور الخامس ممثلاً بالجواسيس والمنتفعين وحاول افراغ ثورة العشرين من محتواها التحرري بدعوى ان قادتها كانوا أميّون...! في حين أن محمد مهدي البصير وغيره من قادة الفكر الذين هيأوا لها فكريا لم يكونوا أميين ...ثم ان شعلان أبو الجون ورفاقه لم تكن مساقط رؤوسهم باريس أو موسكو لتنتج لك فولتير ورسو ولينين وتروتسكي. ولا هم تلامذة عصر التنوير بل نتاج "الفترة المظلمة" التي سادت بلاد ما بين النهرين لقرون عديدة...لكن ثورة العشرين أجبرت بريطانيا باستبدال الحكم المباشر بالحكم غير المباشر، وايضا ،لكن بريطانيا العجوز دولة الاستعمار العتيدة لم ترخ قبضتها من على اعناق العراقيين وبدلاً من منهج الحرب وتجييش الجيوش واستخدام الطائرات والدبابات و"مطر اللوز" استخدمت هذه المرة الخداع والحيلة واصطناع نظام عميل لها جلبته من الحجاز وعينته مسز بيل وتشرشل وهم يعتلون سنام الجمال العربية بين اهرامات خوفو وخفرع ملكاً على العراق ...فأمعن نظام "الباشا" والوصي في اضطهاد الشعب ونصب المشانق وتعليق الناس مصلوبة على باب وزارة الدفاع ...

وعندما هاجت الناس وماجت ضد الإنكَليز وحلف بغداد ونهب الشركات البريطانية لنفط العراق وسياسة بريطانيا الاستعمارية في تسييد الحكومات الصنيعة والعميلة والاقطاع وبعض شيوخ العشائر على رقاب ومصائر العراقيين وتصاعدت الاحتجاجات والانتفاضات واكتظاظ السجون وتكللت نضالات الشعب العراقي بثورة 14 تموز عام 1958 التي اسقطت حكم نوري سعيد وعبد الإله وطردت الانكَليز وقوضت حكم الاقطاع وحررت العراق من حلف بغداد ومن كتلة الإسترليني وتمسكت بسيادة العراق الحر المستقل الواحد استقتلت طوابير شتى لكنها تلتقي جميعا في نهاية المطاف على أبواب الإنكليز وموائدهم:

طابور يتكون من الاقطاعيين ومطايا الإنكَليز والمنتفعين من نوري سعيد استبدل قميص عثمان بقميص عبد الإله ونوري سعيد وهذه المرة الذريعة كانت مقتل العائلة الهاشمية ...في حين لليوم يناصب ملوك الدولة الهاشمية العداء لـ "أتباع أهل البيت الهاشمي" ويتعاملون معهم بازدراء واحتقار، وكان على هؤلاء مراجعة التاريخ للوقوف على عدد الضحايا التي رافق الثورة الفرنسية او الروسية.

وطابور آخر يتكون من البعثيين والقوميين وذيول عبد الناصر والذريعة كانت الغيرة على القومية العربية...! في حين لو ينتبه هؤلاء الى ان القومية العربية باتت عار وشنار على المدعين بها، وعبد الناصر الذي انتشرت له تسريبات صوتية هذه الأيام تعود لحقبة السبعينيات وهو يكيل التهم والازدراء للعرب وحكوماتهم والتنصل منهم لا يشد الرحال إليه، وانهم كان الأحرى بهم أن يتمسكوا بعراقهم الأبقى والأثمن من كل المسميات.

وطابور ثالث من أرباب التجهيل ذريعتهم كانت. حماية الدين...! في حين انتهى الأمر باتباعهم اليوم ليعلقوا: على نواصيهم قول شاعرهم العتيد:

والله ما فعلت تموز في دينهم * معشار ما فعلت بنو المحاصصه...

فتكالبت تلك الطوابير على تموز وكريمها فاغتالوه واغتالوها في حين أن كل ما إجترحه الرجل من ذنوب هو التمسك بالدفاع عن استقلال وسيادة العراق وثروته واعتماد المواطنة منهجاً.

حل حكم البعث لأربعين عجاف عاث في الأرض فساد واجتث الضرع والزرع وزرع فيافي العراق وسهوبه مقابر جماعيه وتسبب في تعدياته وعنترياته بدمار العراق وإعطاء الذريعة لاحتلاله من قبل الجيوش الأمريكية وتمهيد الحالة العراقية لإقامة نظام حكم المحاصصة والفساد ...في حين أظهرت أفلام وثائقية تعود لتلك الفترة إن كل ما كان يفعله الصفيق المخبول لمواجهة الباتريوت والتوما هوك وآلة الدمار الأمريكية هو استعراض أسلحة مضحكة ومخزية من قبيل المحجال والمصياده والكَزوه وكرات الدعبل التي يأنف الصبية والغلمان في الأزقة والحواري التقاتل بها، وينهي مشوار عنترياته في الحفرة الشهيره...

من ناحية أخرى ففي عام 1787 ظهرت العدمية في ألمانيا، وهي مذهب في الفلسفة ينكر أصحابه المؤسسات الاجتماعية والسياسية القائمة، ومن ثم اختفت لتظهر من جديد في أوربا عام 1862 لتشير الى أولئك الذين ينكرون كل شيء والذين لا يعتنقون أي مبدأ ومهما كان هذا المبدأ، والذين يعتبرون اللاوجود هو الأكثر فائدة من أي شيء.

تُعرِّف الشخصيات العدمية نفسها على أنها أولئك الذين "ينكرون كل شيء"، والذين "لا يعتنقون أي مبدأ في الإيمان، ومهما يكن احترام هذا المبدأ"...

وعندما يفيض بك الكيل وتقول ما كان هذا ليحصل ...تحاصرك طوابير الجهل والتبعية ومعها العدمية لتقول لك: "ما تلومون الماضي الا لتحمون الحاضر! كلاهما وجهان لعملة واحده"، ومع تنميق العبارة حتى لتصلح أن يخطها أصحاب التكتك والستوتة على مؤخرات مركباتهم ...لكنها تفصح وبشكل جلي أن أصحابها يسعون لحماية كوارث الماضي بسوءات الحاضر، وهذه المرة الذريعة هي مساوئ نظام المحاصصة والفساد...!

في حين انهم يروّن ويسمعون اننا نكافح ونجالد وننافح بكل ما أوتينا في مجابهة مساوئ الحاضر والماضي معاً...

مرض عضال يجتاح الثقافة العراقية المعاصرة: الطابور الخامس والعدمية، فسحقاً لهما وسحقاً لمعتنقيهما....

***

د. موسى فرج

 

1. كثيرا ما ادين كوجيتو ديكارت "انا افكر اذن انا موجود" انه تغافل عن الموضوع، وعمد الى تجسيد الذات انطولوجيا على حساب تغييب الموضوع. ولما اراد منتقدوه تصحيح ما بدا لهم خطأ لدى ديكارت، قالوا بالوعي القصدي، بمعنى الوعي لا يكون الا حاملا لهدفه المرسوم سلفا. وعمدوا بذلك ضرورة ووجوب فصل الوعي عن فعالية التفكير وهو خطأ اشد فداحة من ادانة الكوجيتو الديكارتي في تغييبه الموضوع المفكر به. ونحن نجد ان الوعي وفعالية التفكير فعالية متداخلة لا يمكن الفصل بينهما، فالعقل لا يعقل تفكيريا واعيا شيئا لا معنى له. معنى ذلك ان فعالية التفكير تنعدم في تغييب الموضوع. لكن فعالية التفكير التي لا تنفصل عن موضوعها هي بحد ذاتها تحتوي موضوعها سواء افصحت بذلك ام لم تفصح كما فعل ديكارت. عليه ان الكوجيتو الديكارتي كاملا غير منقوص لا يمكن الطعن به.

من الطريف ان يقول رائد الفلسفة الوجودية الدانماركي سورين كيركجورد بغضب انا لا افكر اذن انا موجود. ونسبها الباحث الفلسفي جان فال الى روسو فهل هي زلة قلم ام تجنّي على كيركجورد في سرقة افكاره.

2. من خلال مقولة انجلز الدوغمائية اعتباره قوانين الطبيعة تعمل بآلية جدلية ديالكتيكية، بعيدا عن رغائب الانسان. نفس الخطأ وقع به هيجل قوله طبيعة العقل التفكيرية جدلية بالفطرة. التي ساناقشها لاحقا. ما معنى مقولة انجلز ان قوانين الطبيعة جدلية ديالكتيكية ثابتة كمعطى وجودي؟

- معناه مساواة قوانين الطبيعة مثل الجاذبية وسرعة الصوت وسرعة الضوء ودوران الارض الخ الخ، هي ذاتها قوانين الديالكتيك التي تحكم المادة والتاريخ التي هي، قانون وحدة وصراع الاضداد، وتحول التراكم الكمي الى تراكم نوعي، وثالثا قانون نفي النفي. وهذا خطأ جسيم. لا يمكننا القول مطلقا ان قوانين الطبيعة يحكمها الجدل الديالكتيكي.

-  قوانين الجدل الديالكتيكي متحركة التي يراد لها ان تعمل بنفس آلية عمل قوانين الطبيعة الثابتة، وهذا خطأ / فقوانين الطبيعة هي قوانين (فيزيائية) بخلاف قوانين الجدل الديالكتيكي فهي تعمل وفق شروط موضوعية معينة وهي ليست قوانين فيزيائية. بل هي تحكم المادة والتاريخ ولا تحكم الطبيعة ولا حتى في بعض تجليّاتها.

3.  اما مقولة هيجل الخرافية والهراء الفلسفي قوله (طبيعة العقل جدلية بالفطرة) وهذه الاكثر ابتذالية مثالية من مقولة انجلز التي مررنا بها، وزاد هيجل على هذي التعمية الخرقاء قوله ايضا (الديالكتيك الحاصل بالمادة ووقائع التاريخ هو انعكاس لتلك الطبيعة الجدلية للعقل). لتفنيد هذا الطرح المثالي الساذج سوف لا نعتمد النص الماركسي فقط بل وجهة نظرنا الاجتهادية:

-  قول هيجل طبيعة العقل جدلية بايولوجيا بالفطرة هي هراء فلسفي لا صحة له. ومن السذاجة القول ان العقل يخلع طبيعته الجدلية على الواقع والمادة والتاريخ.

- قوانين الطبيعة الثابتة تعمل في كل الظروف وهي ثابتة لا تتغير. بخلاف قوانين الديالكتيك فهي تعمل ضمن شروط موضوعية معينة فهي (متحركة) ان جاز لنا التعبير. فهي ليست قوانين فيزيائية.

-  قوانين الجدل الديالكتيكي الثلاث هي مثل قوانين الطبيعة تشتغل بعيدا عن رغائب الانسان، وليس كما توّهم هيجل انها تعمل (بوحي) من جدلية العقل الفطرية. معلوم بديهيا ان لا قوانين الطبيعة الثابتة ولا قوانين الجدل الماركسي هي من صنع ارادة الانسان. وكذا فهي لم ينجبها العقل ولا بمستطاعه تخليقها.

- الشيء الاخر ان العقل بتركيبته البايولوجية ليس بمقدوره خلق قوانين الجدل الديالكتيكي بل هو يعمد الى اكتشافها ومعرفة كيف تعمل؟ عليه يكون العقل تابعا للديالكتيك في اكتشافه وليس خالقا له في اختراعه. الجدل الديالكتيكي قوانين تعمل في المادة والتاريخ ضمن اشتراطات موضوعية لا دخل للعقل بها اكثر من محاولته اكتشافها فقط. اما خرافة هيجل ان طبيعة العقل الجدلية قمينة بخلق الديالكتيك فهذه سقطة لا ترحم هيجل ولا ترحم حتى انجلز.

- مقولة هيجل العقل طبيعته جدلية بالفطرة انما جاءت للتستر على تارجحه بين حقيقة هل الجدل الديالكتيكي حقا يحكم المادة والتاريخ ام لا؟ بمعنى اخر هيجل حين ابتدع الديالكتيك احتار هل هو قانون يمكن البرهنة عليه واقعيا؟ ام هو شطحة تفكير؟

4. الانحياز للعقل دوما يجعل من كل شيء مادة تتصف بخاصية الامتداد مثلها مثل الفكرة لدى هيجل. ليصبح كل ما يحس به العقل كموضوع هو مادة وهذا خطأ اذ يمكن للعقل ادراك وتخليق بعض مدركاته من موضوعات هي تجريد لا مادي من صنع الخيال المنتج. بهذا المجال فقد دعا لامتري الى ضرورة ارجاع المادة الى روح، ليتصدى له الفيلسوف الالماني عالم الرياضيات لايبنتيز قائلا: علينا ارجاع المادة الى روح. ويذهب بعض الفلاسفة الفرنسيين الى ان الامتداد صفة المادة وصفة الفكرة ايضا كما يرغب هيجل ذلك. بمعنى الافكار الواضحة بديهيات لا تحتاج برهانها. فالجوهر لدى اسبينوزا هو فكرة اللامتناهي الممتد، في حين يذهب مالبرانش في مقاربة مع طرح اسبينوزا فيقول الفكرة هي الامتداد في الوجود الكلي التام الله.

5. خطأ العقل بالتفكير يسبق خطأ تعبير الفكر واللغة في التعبير. عن مدركات الاشياء. وخيانة اللغة للمعنى يسبقها خيانة العقل في التفكي التعبيري عن المعنى. ويذهب غالبية الفلاسفة على ان تضليل العقل للمعنى يتم بتضليل اللغة والفكر تعبيرهما عن المعنى. الجدير بالقول ان فلسفة اللغة ونظرية التحول وفائض المعنى انما قامت على هذا التناقض ايهما اسبق بالانحراف هل في خيانة اللغة تعبيرها القاصر عن المعنى ام خيانة العقل وقصوره التفكيري في الاحاطة التامة للمعنى. بالنسبة لنا اننا يجب ان نعرف كيف يفكر العقل قبل تفتيشنا عن خيانة اللغة لتاريخ الفلسفة. من المهم التذكير به ان الحواس تخدع العقل بيولوجيا في نقلها الانطباعات الاولية عن المحسوسات والمدركات.

6. يبدو ان اسبينوزا كان له تاثيرا بالفلسفة الوجودية اكثر من تاثير العديد من الفلاسفة، فالوجودية حين قالت "الوجود يسبق الماهية" كان قولها ذاك على مضض لم يسلم من التشكيك به. الوجودية جعلت من الماهية وجودا مستقلا عن كينونة الموجود بما في ذلك انفصال الذات عن ماهيتها اعتسافا.

اسبينوزا الفيلسوف الوحيد الذي ناقضت افكاره الفلسفية الافكار الوجودية من قبل ان تكون فلسفة الوجودية حضوريا طاغيا عالميا لعقدين من الزمن الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين واكثر من ثلاثة قرون على وفاة اسبينوزا. افضع مقولة لاسبينوزا قوله اننا بدلالة الجوهر ندرك الوجود. ويقصد الموجود الانسان. وحتى ادراكنا الطبيعة حين تكون موضوعا للادراك العقلي.

الجوهر الكلي لدى اسبينوزا هو الماهية او الجوهر الذي لا يمكننا ادراكه لكنه موزع في الموجودات التي نتعامل معها ولنا علاقة بها. من الواجب ذكره ان الجوهر الكلي (الله) ليس هو جواهر الاشياء او ماهياتها. بل هي جوهر بالاشياء وهذا ما يجعل بخلاف اسبينوزا ان جوهر الاشياء ليس من حتمية تجعله موصولا ممتدا في الجوهر الكلي الالهي كما يرغب اسبينوزا. والا وقعنا في تشييء الله كي نثبت وحدة الوجود.

طبعا الوجودية تجاوزت هذا الفهم الاسبينوزي الذي يرى ان الجوهر الكلي الالهي الموزع على موجودات الوجود بضمنه الطبيعة في مكوناتها الحيّة والنباتية والجمادات. هنا اسبينوزا يبشر بمذهب وحدة الوجود الذي عرف به ان كل هذا الجوهر الكلي قمين ان يجعلنا ندرك اسبقية الماهية على الموجود. وهذا اثار حفيظة وغضب كل من الماركسية والوجودية معا بما لا يغتفر لاسبينوزا. الذي يؤمن بمذهب وحدة الوجود كل شيء في الله والله في كل شيء.

في منحى مغاير لم تعط الوجودية الموجود الانسان قيمته الانطولوجية كما اراد هيدجر تكريسه في كتابه (الكينونة والزمان)، وذهب سارتر بمنحى وجودي مغاير عن هيدجر معتبرا الحرية المطلقة هي الجوهر الحقيقي للانسان، وتحاشى سارتر الانزلاق نحو مبدأ وحدة الوجود سواء لدى الصوفية او لدى اسبينوزا وحتى وحدة الوجود في الديانات الوثنية غير التوحيدية مثل الزرادشتية والبوذية والهندوسية والراستفارية عند هيلاسيلاسي في عقيدة الامبراطور هو الاله. الشنتوية اليابانية تؤمن بالامبراطور الاله ايضا.أهمية الافكار الفلسفية الوجودية هي انها لم تعط لا للجوهر (الماهية) استقلالية ولا يجوز لها. بل رهنت حتى كينونة الموجود انه حرية مطلقة ليس لها ابعادا انطولوجية. كل شيء بالوجود حسب التفلسف الوجودي يناقض كل شيء. الوجودية تجعل من حتمية الموجود بذاته خال من الذات المهيمنة بسطوة ادركها المعرفي للمحيط وادراكها الذاتي لماهيتها. ونصل بذلك الى نتيجة نهائية ان الانسان عالم منغلق على نفسه كما يجده سارتر.

في مداخلة بسيطة نجد من العبث الحديث عن موجود انساني لا يمتلك ماهيته الذاتية التي هي ليست هبة ناجزة يورثها الانسان بالفطرة انما هي تصنيع ذاتي لهوية الفرد. الادبيات الوجودية اخرجت الذات واخرجت الماهية عن موجودية الانسان في كينونة موحدة متعددة الجوانب والابعاد.

من الحقائق التي علينا الاقرار بها والتسليم لها ان الفلسفة الخالصة هي تجريد منطقي عقلاني لا يلتزم حياة الانسان بالتغيير، الفلسفة تكون ملتزمة بالحياة اذا تحولت الفلسفة الى ايديولوجيا سياسية – اقتصادية كما فعل ذلك ماركس وكذلك ما فعلته الفلسفة البراجماتية او الذرائعية النفعية الامريكية.

تاريخ الفلسفة يشير الى توازي الفلسفة مع كل من العلم والدين والحياة. الوجودية فكر منفلت من الاحاطة بها كمتناقضات تبدو غريبة على منطق الفلسفة غير المتشنجة في مباحثها. وفي مقارنة بينها وبين الفلسفة البنيوية نجدها على خلاف مع البنيوية تتمركز طروحاتها حول الانسان كعالم مغلق.

هجوم الوجودية على العقل جعلها تتكيء على وقائع التاريخ " الحربين الكونيتين" على خلاف مع البنيوية التي جاءت على انقاض الوجودية في اكتساحها وتجاوزها لكل تمجيد للعقل والانسان والتاريخ والعلم والسرديات الكبرى السردية الماركسية وسردية الاديان.

7.  يذكر الفيلسوف دي بيران ان فلاسفة القرن السابع عشر يتقدمهم ديكارت انهم وقعوا بخطأ عدم التفريق بين الارادة والرغبة، وتوضيح هذه الثنائية ان الارادة وعي قصدي في علاقته بالمعرفة. اما الرغبة فهي نزعة نفسية بايولوجية غرضها الاشباع البيولوجي وليس المعرفة.

ومن الثنائيات التي عاملها فلاسفة القرن السابع عشر بقليل من اهتمام التمييز هي ثنائية الروح والنفس، العقل البيولوجي والعقل التفكيري المجرد " اللوغوس" او الخطاب، وكذلك ثنائية الوجود كمفهوم مطلق والموجود على انه كيان ارضي نتعايش معه. ومن الثنائيات بالوجودية ايضا الفرق بين ما هو خالد وماهو فان. عن سورين كيركجورد انه يستحيل على الذات ان تعي وجودها من غير خاصية التفكير، فالتفكير هو صنو الموجود في وحدة اندماجية تسمى الكينونة.

8. بمقدار تصنيعك لماهيتك الفردية الوجودية تتحقق موجوديتك الانطولوجية، وعلى خلاف اسبينوزا فان الماهية او الجوهر لا تسبق الوجود بما هو موجود. وحسب تعبير سورين كيركجورد (اننا لا نوجد كي نتفلسف، بل نحن نتفلسف كي نوجد، ولا تساوي الفلسفة شيئا ان لم تكن تعبيرا ووسيلة حياة في وقت معا) الملاحظ بجلاء ان كيركجورد يطرح مسالة الالتزام الفلسفي التي عالجها سارتر في كتابه الشهير الوجود والعدم. كذلك نجد كيركجورد طرح مسالة واقعية الفلسفة العملانية ان صح التعبير. الفلسفة ليست تجريدا منطقيا يتمحور حول ثيمة كيف نتكلم بل في ثيمة لماذا نتكلم؟ وجودية كيركجورد هي السعي نحو تحقيق الذات من منطلق ان الذات هي الفلسفة. ولا تجد الذات حقيقتها الا في حالة الانماج الاحتوائي ضمن مجتمع يحقق للفلسفة التعبير عن الحياة. انه لمن الغريب فعلا ان نجد الوجودية تطرح مثل هذه المفاهيم وتاثيرها اللاحق بالفلسفة عامة. في الوقت الذي اغرقت الوجودية لدى سارتر، هيدجر،  جبرييل مارسيل، مارلوبونتي، ياسبرز واخرين غيرهم في مناقشة مصير الانسان في مفاهيم مثل العدم، القلق، العبث، اللامعنى، ولا معنى الوجود، الانسان نزوة طارئة والاخرون هم الجحيم وغير ذلك من تهويمات نفسية تعالج عالم الانسان المنغلق على عوالم جوّانية، كل هذا الميراث الفلسفي سبق وعارضه كيركجورد من منطلقين الاول انكاره العقل على حساب ايمانه الديني وانكاره لمباحث الميتافيزيقا حين نادى باهمية القفزة القلبية بالمطلق الايماني وليس بالعقل البرهاني.

رغم اختلاف تفلسف نيتشة الذي يمكن اعتباره خارج ادبيات الفلسفة الوجودية حتى في خطوطها العريضة الا اننا نجد نيتشة يقتفي اثار كيركجورد في تاكيده مركزية الانسان بما هو تفكير بشخصية فرد هو عالم متفرد حضوره مركزيا بالحياة.

9. الفلاسفة واللغة، يقول نيتشة رغم مقولته موت الاله (اللغة من ابداع الله).

وقول غاديمير (اللغة هي احد الالغاز العظيمة في التاريخ الانساني).

ويقول هيدجر (الانسان كائن لغوي وليس كائنا عاقلا).

ويقول  سيلارز (الوجود لغة).

ويقول جون سيرل (الله لغة).

اذا اخذنا مقولة نيتشة (اللغة من ابداع الله) فلا معنى تبريري يسوّغ لنا تمرير العبارة سوى ارجاعها لعبارة شيلر (ان كل شيء ندركه نجده باللغة)، وهو ما نجده في المجتمع مجسدا بالانسان. كخاصية نوعية تعرف المعنى الدلالي لله القادر على الخلق.  هذا المعنى اوضحه فيورباخ الى ان الانسان اله ما يصنعه بنفسه ولنفسه الها من خامة الطبيعة ويؤمن به معبودا متعاليا يمثل قدراته على كل شيء يعجز عنه الانسان، ولا يدركه عقليا وجوديا لذا اعتبره خالقا غير مخلوق الا من قبل الانسان نفسه في علاقته مع الطبيعة وليس في علاقته بالميتافيزيقا.

اما اذا اردنا توضيح عبارة غادمير اللغة هي احد الالغاز العظيمة بالتاريخ. فهو اي غادمير يجد اللغة هي تطور الانسان انثروبولوجيا تاريخيا. وليس العكس بمعنى تطور تاريخ انثوبولوجيا الانسان هي التي قادت عبر العصور الطويلة تطورات وتنوعات اللغة حسب الاقوام والامم. معنى هذا اللغة لا تتقدم صنع التاريخ، بل التاريخ الانثوبولوجي يصنع لغته الخاصة بقوم من الاقوام ويسحبها على الدوام خلفه. اما عن ملازمة انثروبولوجيا التاريخ للغة، فهي ملازمة وجودية لا انفكاك احد الطرفين منها عل مدى عصور سحيقة من تطور التاريخ الانساني.

 مقولة هيدجر الانسان كائن لغوي وليس كائنا عقليا، فالعبارة خاطئة تماما من جنبة التراتيبية البيولوجية . فالانسان كائن عقلي قبل ان يكون كائنا لغويا.

 ليس بمعيارية تاريخية، بل بمعيارية انثروبولوجية – بيولوجية. فالعقل سابق على اللغة ليس من حيث انه عضو بيولوجي تحتويه الجمجمة ويطلق عليه احيانا (الدماغ). وانما من جنبة العقل عضو بيولوجي خاصيته التفكير. واكتساب المعرفة وفهم الوجود واختراع اللغة.

نرى في عبارة سيلارز المكتنزة العميقة فلسفيا (الوجود لغة) فهي عبارة تلخيصية سليمة لا تجاريها عبارة اخرى في صحتها. من حيث ان كل ادراك لموضوع او شيء لا يتم الا بتصور لغوي. حتى صمت التفكير هو لغة ساكتة. عبارة سيلارز الوجود لغة لم يكن يرغب التعبير في مثالية غير قابلة للتحقق. كما فعل باصرار عنيد فلاسفة القرن التاسع عشر كل من بيركلي، وديفيد هيوم، وجون لوك. حين اعتبروا ما يدركه العقل تجريبيا موجود بالملازمة الضرورية عقليا.

التفكير الذي اشار له ديكارت قبلهم يقرن العقل جوهر خاصيته التفكير، وكان ديكارت يعلم جيدا ان العقل البيولوجي العضوي (الدماغ) وإن تداخلت خاصيته التفكيرية التجريدية مع خواصه البيولوجية في  معالجة مدركاته بالنسبة للعالم الخارجي والداخلي للانسان.

 وحين يقول ديكارت العقل جوهر ازلي خالد خلود النفس فهو كان يريد التمييز بين عقلين من حيث الخصائص التجريدية والخصائص البيولوجية الاشباعية.

واخيرا ناتي لعبارة  فيلسوف امريكي آخر غير سيلارز يمكن ان يكون جون سيرل قوله (الله لغة). وهي تختلف عن عبارة نيتشة (اللغة من ابداعات الله) الذي جعل من الله جوهرا متشيئا ينتج لنا اللغة او اللغات.

 10. تفكير العقل صمتا لا يلغي ابجدية اللغة الصورية صوتا ومعنى كما هي في تعبير اللغة الصائتة (الصوتية) عن مدركات العقل من الاشياء والمواضيع في العالم الخارجي. وإذا كان هناك خاصية ينفرد بها الفكر تراسندتاليا (متعاليا) على الواقع فهي أنه يتطور ويتغير أسرع من التغييرات ألحادثة في واقع الحياة المادية وعالم الاشياء من حولنا في الطبيعة، بمعنى الفكر يدرك الموجودات بالوصاية العقلية عليها بما يجعل من هذا الاخير(الواقع بموجوداته) تابعا للفكر الذي يتقدمه في نفس الوقت الذي لا يمكن القفز من فوق حقيقة أن الواقع المادي للاشياء هو مصدر إلهام الفكر وسابق عليه وليس العكس. فالفكر لا يصدر من فراغ أي بلا موضوع يدركه حسيّا او خياليا سابقا عليه .تبدو مفارقة متناقضة حين نقول الفكر يتقدم الواقع المادي في التقاطع مع/ والخروج على النظرة المادية ونسقط في تعبير مثالي حين نجد الافكار تجر الواقع وراءها على الدوام، في حين الحقيقة أن الواقع في موجوداته المستقلة أنطولوجيا هو محرك الفكر المحايث له ماديا جدليا السابق على الفكرالمنتج لاستثارة ادراكه العقلي،، والأفكار في الوقت الذي تدخل جدليا(تكامليا معرفيا) مع موجودات الاشياء فهي تسابقها من أجل تغييرها وتطويرها بعد معرفتها وإدراكها عقليا، وتتطور هي ذاتيا أيضا بعلاقتها الجدلية مع تلك الموجودات. العلاقة بين المادة والفكر تكامل معرفي لكليهما في التقدم والتطور.

والافكار التي تحاول تغيير الواقع جدليا متخارجا مع موجوداته تتطور هي الأخرى في جدليتها المتعالقة بها. فوجود الشيء أو الموضوع المستقل ماديا أو خياليا يعالج من قبل الذهن فكريا في العقل البايولوجي قبل الأفصاح عن وجوده المادي في عالم الاشياء بواسطة تعبير اللغة عنه كموجود في العالم الخارجي او موضوعا متخيّلا. الموجود يسبق الفكر لكنه لا يلزم العقل إدراكه.

الموجودات في العالم الخارجي لا قدرة لها الإفصاح عن نفسها دونما الإدراك العقلي لها والتعبير الفكري لغويا عنها. وكذا نفس الحال مع المواضيع المصنّعة خياليا. فنحن نفهم الصمت تفكيرا إستبطانيا داخليا ذاتيا ولا نفهمه تعبيرا لغويا تواصليا صوت ومعنى دلالي. صمت اللغة في ضروب الفنون والادب تواصل إيحائي تكون فيه لغة التعبير في حالة كمون بمعزل عن خاصية ملازمة الصوت للغة.

وهذا يختلف عن صمت الانسان وإمتناعه التعبير عن تفكيره باللغة المكتوبة أو بالكلام في حال إدراكه أن لا فائدة من التعبير اللغوي . وتاكيد ذلك في تعبير لوفيدج فينجشتاين قوله حين نعجز التعبير بوضوح يكون الصمت أجدى.

ليس الواقع الوجودي للاشياء هو الإنعكاس الميكانيكي في تعبير الفكر واللغة عنه، وأنما الموجود بعد إدراكه حسّيا وعقليا يتم تخليقه ثانية بالعقل بما يطلق عليه كانط مقولات العقل. والاشياء التي يعمل العقل على تطويرها ينعكس هذا التطور الواقعي على الافكارالتعبيرية عنها فتتطور هي ايضا. بمعنى أن الواقع الذي يتطور بفاعلية الفكر يقوم هو الآخر بتطوير (ذاته) واقعيا ماديا ليبقى الفكر يتقدم الواقع في تخليقه له على الدوام ولا يتقدم عليه في أسبقية وجوده على الفكر..

***

 علي محمد اليوسف - الموصل

‏يقول "ديفيد هيوم "الجمال ليس خاصية في ذات الأشياء بل في العقل الذي يتأملها" وعليه إذا اعتبرنا ان مواضع التفكير مختلفة بدرجات متفاوتة في العرض والتقديم على مدار التاريخ التفكر الفلسفي في سياق نظرية المعرفة لان القدرات تختلف في جوهرها فإنه من الحتمية أن نذكر أن الابداع وهو من أهم عناصر التفكير يختلف فيه الفلاسفة بين من جعل العقل والصدر الأول المعارف وبين من انتصر التجربة على أساس أن الابداع هو ما يعبر عنه باحياء جديد في المعرفة وأن ما نبدعه في المعرفة هو النتاج المشترك بينهما

‏فإن كانت الحسية هي الأصل في تكوين المعارف الإنسانية وهي تضمن إشكاليتين هما الانتباه والأفكار سيتحدد إذا الفرق بينهما في قوة وحيويه الانتباه على الفكرة التي تعد صورة فنعطي للخيال أهمية تتمثل في كونه يشكل وسيطا بين إدراك والشيء المدرك وهو الذي يستدعي المعرفة من خلال دفع النفس للخيال المعرفي انطباعا يستعين بذلك بمبدأ الذاتي وهنا يكون الإبداع أما في ما يخص كانط فقد تناول بدوره قضية أصل المعرفة والتي هي الإبداع من حيث التفكير وكان موقفه بالتالي بين وجهتين نظرة العقلانيين والحسيين حيث يقول " أن كل معرفتنا تبدأ مع التجربة " فهل يحتاج الابداع إلى تحقيقا وتدقيقا وهنا نتحدث عن الإبداع الفكري والذي يجمع بين العلوم الرياضية وبين الميتافيزيقا وهذا هو الشرط لقياه الإبداع ومن هنا برزة مشروع علم الإنسان أو علم الطبيعة البشرية كما أكد عليه فمن الواضح أن لكل العلوم والمعارف والأدبية علاقة تكبر أو تصغر الطبيعة البشرية مثل علم الرياضيات والفلسفة الطبيعية فلا يجوز أن نقيم الإبداع في معرفة الناس فقط ولكن في هذه العلاقة الجبلية بين الموجود ولا موجود يقول كانط "

كل غرض بعقلي تتوحد في الأسئلة التالية

‏ماذا يجب أن أعلم؟

‏وكيف أعمل بما علمت؟

‏ماذا يحب أن أقدم لغيري؟

‏والإبداع هنا هو الاجابة على هذه الأسئلة الثلاث التي تتلخص في البداية وفي النهاية في سؤال واحد ما هو الإنسان؟

‏والجدير بالملاحظة أن كل ما طرح حول العلاقة التأثيرية التي تجمع بين هيمنة الفكر عن الخيال والطبيعة كانت بالتحديد موجبا لفضيلة حسن التلقي وحسن الالقاء الأدبي والمعرفي مع الحفاظ على خصوصية الإتلاف والفراق التي تميز المبدع عن الآخر و في إبستمولوجيا "هيوم "مثلا الابداع يستند إلى علم النفس والإبداع باب من أبواب التميز في الاستقراء وفي الخلق لأفكار جديدة أو البحث في أفكار سائدة ومعرفة العلاقة بينها بطريقة جديدة ومختلفة تعتمد على تفسير الأحداث بواقعية وبما وبأرجع المعارف إلى اصولها.

ولعل نظرية "هيوم" عن العقل تقودنا إلى منهجية وقورة جديدة في التفكير ثورة نحن نحتاجها جدا مع المتغيرات الفكرية في ما هو إبداعي وما هو سائد أو مكرر ففي مقولته هذه "ليس العقل يقود حياتنا بل العادة "تظهر الجوانب المخفيّة في النفس التي تريد التكرار لترى نفسها في الآخر ولا تفسح المجال للعقل

وكما قال جان جاك روسو "الطبيعة هي المعلم الرئيسي، اي أننا نتعلم عن طريق ثلاثة معلمين: الطبيعة و الإنسان والأشياء "ول ولئن استأثر حقل التربية باهتمام فلاسفة عصر الأنوار في القرن الثامن عشر وأفردوا له حيزا مهما من تفكيرهم، والواقع أن هذا الاهتمام ينصب في اتجاه تحليل وتشخيص وضعية المجتمع الأوربي في تلك الفترة

كمحاولة منهم لفلسفة اللحظة التاريخية وتفسيرها تفسيرا علميا، قصد فهم معيقات التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وذلك عبر تصويب سهام النقد إلى شرور الحياة العامة وفساد الأخلاق والمنظومة القيمية من جهة وابراز مفهوم الابداع اذ يرفض روسو الأسلوب الذي يعتمد على الحفظ والاستظهار لأفكار بالية فاسدة، تجعل من الطفل آلة طيعة في مجتمع منحل وتهبط بمستوى قدراته إلى الحضيض في مقابل ذلك يقترح أن يكون التعليم بمثابة تجربة سعيدة في حياة الطفل، تنمي قدراته وتعتني بصحته وخلقه وذكائه وقدرته على الخلق والإبداع والابتكار بمعنى ان الابداع هو تطوير

واهتمام بقدرات معينة عند الاطفال كما أن العواطف الابتدائية والغرائز الطبيعية والانطباعات الأولى يمكن الوثوق بها كقاعدة للعمل أكثر من التأمل والتجربة التي تتكون عن طريق الاتصال بالآخرين: ” إن ما أسميه طبيعتنا هو استعداداتنا قبل أن يطرأ عليها تغيير، عن طريق عادات التفكير والمحاكمة التي نقتبسها من غيرنا .

ولكن إذا اعتبرنا الإبداع صفة أساسية لدى بعض الأشخاص يساعدهم على الوعي وإدراك ما يدور داخل المجتمع، ويُمكن استخدام هذه الصفة في إنتاج كل ما هو جديد يلائم البيئة التي يعيشون فيها، فكيف تكون إذا هوية افكارنا بين الإبداع الذي يتعلق بالإنجازات الحقيقية والمستمدة من الواقع وبين الابداع المبني على تحقيق الذات؟

***

د. آمال بوحرب - تونس

"كل شيء في الكون، كما قال الفيلسوف اليوناني ديمقريطس، هو نتيجة للصدفة والضرورة."

يُعد جاك مونو (9 فبراير 1910 ـ 31 مايو 1976)، الحائز على جائزة نوبل، أحد الشخصيات البارزة بين رواد علم الأحياء الجزيئي، حيث يُظهر مدى ثمار هذه الثنائية في فهم القضايا الرئيسية في علم الأحياء - أصل الحياة أو تطور الأنواع - وفهم تحديات علم الوراثة الحديث. إذا لم يكن الإنسان نتيجة لأي خطة إلهية، وإذا كان تطوره مجرد صدفة وليس خطة مسبقة، فلا شيء يسمح له بالغرق في المادية المتشائمة. في مواجهة تحديات العلم والتكنولوجيا التي تذهب إلى حد تهديد سلامة الإنسان، يدعو جاك مونو إلى اختراع إنسانية جديدة تدمج بيانات العلم. لقد تم كسر العهد القديم؛ وأخيرًا أدرك الإنسان أنه وحيد في هذا الكون الهائل الذي خرج منه بالصدفة. لم يتم كتابة مصيره ولا واجبه في أي مكان. يتعين عليه الاختيار بين المملكة والظلام. كان كتاب جاك مونو "الصدفة والضرورة" الصادر عام 1970 معلمًا بارزًا في الأدبيات العلمية الشعبية، وذلك لبيانه القاطع بأن أصل الحياة وليد الصدفة البحتة. ان الطفرات تُشكل المصدر الوحيد المُحتمل للتعديلات في النص الجيني، وهو في حد ذاته المستودع الوحيد للهياكل الوراثية للكائن الحي، ويترتب على ذلك بالضرورة أن الصدفة وحدها هي مصدر كل ابتكار، وكل خلق في المحيط الحيوي. صدفة بحتة، حرة تمامًا ولكنها عمياء، هي أساس صرح التطور الهائل: لم يعد هذا المفهوم المركزي في علم الأحياء الحديث واحدًا من بين الفرضيات الأخرى الممكنة أو حتى المُتصورة. إنه اليوم الفرضية الوحيدة المُتصورة، الفرضية الوحيدة التي تتوافق مع الحقائق المُشاهدة والمُختبرة. ولا شيء يُبرر الافتراض - أو الأمل - بأن موقفنا في هذا الصدد من المُحتمل أن يُراجع يومًا ما. لذلك ينفي مونو، مُحقًا، وجود أي قوى غائية لازمة لخلق الحياة من مادة جامدة، لكنه يجد أن السلوك الغائي الهادف هو إحدى السمات الأساسية للحياة، إلى جانب ما يُسميه التخلق الذاتي (الحياة "تبني نفسها") والثبات التناسلي (الحياة "تتكاثر ذاتيًا"). تُقر فلسفة المعلومات بأنه مع ظهور الحياة، دخلت هياكل معلوماتية ذات أهداف إلى الكون. ولكن لا بد من وجود عمليات مُولِّدة للمعلومات، وديناميكية، قبل ظهور الحياة الأرضية. فقد خلقت هذه العمليات الركيزة المعلوماتية للحياة، وبالأخص الشمس والبيئة الكوكبية المُلائمة لأصل الحياة على الأرض. يقول مونو إن بعض علماء الأحياء لم يكونوا راضين عن فكرته عن التخلق الذاتي، أي أن الكائنات الحية مُنحت غرضًا أو مشروعًا، لكنه يرى أن هذا أساسي لتعريف الكائنات الحية. معياره التالي هو التخلق الذاتي. يقول:...إن بنية الكائن الحي تنجم عن ... عملية ... لا تكاد تُعزى إلى تأثير قوى خارجية، بل إلى كل شيء، من شكله العام إلى أدق تفاصيله، وإلى تفاعلات "تشكلية" داخل الكائن نفسه. نعلم الآن أن هذا ليس سوى "حتمية كافية". إنها إذن بنية تُثبت حتمية مستقلة: دقيقة، صارمة، تنطوي على "حرية" شبه كاملة تجاه العوامل أو الظروف الخارجية - القادرة، بلا شك، على إعاقة هذا التطور، ولكنها لا تُسيطر عليه أو تُوجهه، ولا تُحدد مخططه التنظيمي للكائن الحي. ومن خلال الطابع المستقل والعفوي للعمليات التشكلية التي تُشكل البنية العيانية للكائنات الحية، فإن هذه الأخيرة تتميز تمامًا عن المصنوعات، كما أنها، علاوة على ذلك، تختلف عن غالبية الكائنات الطبيعية التي ينشأ شكلها العياني إلى حد كبير من تأثير العوامل الخارجية. البلورات من العمليات الفيزيائية البحتة "الإرجودية" القليلة، التي تُقلل الإنتروبيا محليًا. إلا أن هناك استثناءً واحدًا: البلورات، التي تعكس هندستها المميزة تفاعلات مجهرية تحدث داخل الجسم نفسه. لذا، باستخدام هذا المعيار وحده، يجب تصنيف البلورات مع الكائنات الحية، بينما تُصنف القطع الأثرية والأشياء الطبيعية، سواءً المصنّعة بواسطة عوامل خارجية، ضمن فئة أخرى. ان الظواهر الذرية التعاونية الكمومية التي تُشكّل البلورات هي نفسها التي تُشكّل الجزيئات الكبيرة للحياة، كالحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA) والحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (RNA)، إلخ. يعتقد مونو أن هناك "حتمية داخلية مستقلة" "تضمن تكوين الهياكل شديدة التعقيد للكائنات الحية". لا يمكن أن يكون "الضمان" كاملًا نتيجةً للفيزياء الإحصائية. مونو مُدرك تمامًا لعدم التحديد الكمومي. بعد مناقشة الصدفة من حيث الاحتمالات وألعاب الحظ، يقول: على المستوى المجهري، يوجد مصدر آخر لعدم يقين أكثر جذرية، متأصل في البنية الكمومية للمادة. فالطفرة بحد ذاتها حدث مجهري، حدث كمي، ينطبق عليه مبدأ عدم اليقين. حدثٌ بالتالي، وبحكم طبيعته، لا يمكن التنبؤ به أساسًا. ان العملية التطورية الأساسية بأنها انتقال المعلومات من بنية معلومات حية إلى أخرى. تجدر الإشارة إلى أن هذا يتم في ظل وجود مستمر للضوضاء الحرارية والكمية. تمثل هذه البنى كمية كبيرة من المعلومات التي لم يُحدد مصدرها بعد: فكل معلومة مُعبر عنها - وبالتالي مُستلمة - تفترض وجود مصدر. ويقول: "مصدر المعلومات المُعبر عنها في بنية الكائن الحي هو دائمًا كائن آخر مطابق هيكليًا". تمتلك الكائنات الحية القدرة على إنتاج ونقل المعلومات المتعلقة ببنيتها. إنها معلومات غنية جدًا، إذ تصف نظامًا تنظيميًا، بالإضافة إلى تعقيده الشديد، يبقى محفوظًا سليمًا من جيل إلى جيل. المصطلح الذي سنستخدمه لوصف هذه الخاصية هو التكاثر الثابت، أو ببساطة الثبات. مع هذا التكاثر الثابت، نجد الكائنات الحية والهياكل البلورية تشترك مجددًا في خاصية تجعلها مختلفة عن جميع الأجسام الأخرى المعروفة في الكون. بعض المواد الكيميائية في المحاليل فائقة التشبع لا تتبلور إلا بعد تلقيح المحلول ببذور بلورية. كما نعلم أنه في حالة وجود مادة كيميائية قادرة على التبلور في نظامين مختلفين، فإن بنية البلورات التي تظهر في المحلول ستحددها بنية البذرة المستخدمة. كما يزعم مونو أن الفرق الرئيسي بين البلورات والكائنات الحية يكمن في كمية المعلومات المنقولة بين الأجيال. وبالتالي، فهو يهمل الإبداع الكامن في اكتساب ونقل المعرفة من قِبل الكائنات الحية. مع ذلك، تُمثل البُنى البلورية كميةً من المعلومات أقل بكثير من تلك التي تنتقل من جيل إلى آخر في أبسط الكائنات الحية التي نعرفها. وبهذا المعيار - الكمي البحت، مع العلم - يُمكن تمييز الكائنات الحية عن جميع الأجسام الأخرى، بما في ذلك البلورات. في مساهمته الرئيسية في lنهج معلوماتي في علم الأحياء، يُقدم مونو تقديرًا كميًا لما يُسميه "المستوى الغائي" للأنواع، مُرتبًا إياها في تسلسل هرمي قائم على محتوى المعلومات فقط. تُمثل هذه بدايةً مهمةً لعلم الأحياء القائم على المعلومات. ...بما أن درجة ترتيب البنية يُمكن تعريفها بوحدات المعلومات، فسنقول إن "محتوى الثبات" لنوع مُعين يُساوي كمية المعلومات التي، عند نقلها من جيل إلى آخر، تضمن الحفاظ على المعيار الهيكلي المُحدد. وكما سنرى لاحقًا، وبمساعدة بعض الافتراضات، يُمكن التوصل إلى تقدير لهذه الكمية. وهذا بدوره سيُمكّننا من توضيح المفهوم الأكثر مباشرة ووضوحًا من دراسة هياكل وأداء الكائنات الحية، ألا وهو مفهوم الغائية. ومع ذلك، يكشف التحليل أنه مفهومٌ شديد الالتباس، لأنه ينطوي على فكرة ذاتية تُعرف بـ"المشروع". لنأخذ مثال الكاميرا: إذا اتفقنا على أن وجود هذا الشيء وبنيته يُحققان "مشروع" التقاط الصور، فيجب أن نتفق أيضًا، وهذا بديهي، على أن مشروعًا مماثلًا يُنجز مع ظهور عين الفقاريات. ولكن لا يُصبح لكل مشروع، مهما كان، معنى إلا كجزء من مشروع أشمل. جميع التكيفات الوظيفية في الكائنات الحية، مثل جميع المصنوعات التي تُنتجها، تُحقق مشاريع محددة يمكن اعتبارها جوانب أو أجزاءً متعددة من مشروع أساسي فريد، وهو الحفاظ على النوع وتكاثره. بتعبير أدق، سنختار، بشكل عشوائي، تعريف المشروع الغائي الجوهري بأنه يتمثل في نقل محتوى الثبات المميز للنوع من جيل إلى جيل. وبالتالي، ستُسمى جميع البنى، وجميع الأداءات، وجميع الأنشطة التي تُسهم في نجاح المشروع الأساسي "غائيًا". هذا يسمح لنا، على الأقل، بطرح مبدأ تعريف "المستوى الغائي" للنوع. يمكن اعتبار جميع البُنى والأداءات الغائية مُقابلةً لكمية مُعينة من المعلومات التي يجب نقلها لتحقيق هذه البُنى وإنجاز هذه الأداءات. لنُسمِّ هذه الكمية "معلومات غائية". يُمكن القول إن "المستوى الغائي" لنوعٍ مُعين يُقابل كمية المعلومات التي يجب نقلها، في المتوسط، لكل فرد، لضمان انتقال المحتوى المُحدد للثبات التناسلي من جيلٍ إلى آخر.  بالنسبة لفرانسوا جاكوب، الذي تقاسم جائزة نوبل مع جاك مونو، كانت الغائية سمةً أساسيةً لكل خلية. قال جاكوب إن الغرض والرغبة الأساسية لكل خلية هي أن تُصبح خليتين. لكن مونو يرى أن غائية هذه تبدو مُتعارضة مع مبدأ أساسي، وهو حجر الزاوية في العلم الحديث. حجر الزاوية في المنهج العلمي هو فرضية موضوعية الطبيعة. بعبارة أخرى، الإنكار المنهجي لإمكانية الوصول إلى المعرفة "الحقيقية" بتفسير الظواهر من حيث الأسباب الغائية - أي من حيث "الغرض". يمكن تحديد تاريخ دقيق لاكتشاف هذه القاعدة. لقد مهدت صياغة غاليلي وديكارت لمبدأ القصور الذاتي الطريق ليس فقط للميكانيكا، بل لنظرية المعرفة في العلم الحديث أيضًا، بإلغاء الفيزياء الأرسطية وعلم الكونيات. لا شك أن أسلاف ديكارت لم يتجاهلوا العقل، ولا المنطق، ولا الملاحظة، ولا حتى فكرة المواجهة المنهجية بينهما. لكن العلم كما نفهمه اليوم لم يكن ليتطور على هذه الأسس وحدها. لقد تطلب الأمر التقييد الصارم الضمني في فرضية الموضوعية - صارم، نقي، لا يمكن إثباته أبدًا. فمن الواضح أنه من المستحيل تخيل تجربة يمكنها إثبات عدم وجود غرض، أو غاية منشودة، في أي مكان في الطبيعة. لكن مُسلّمة الموضوعية مُشتركة في جوهرها مع العلم؛ فقد قادت تطوره الهائل على مدى ثلاثة قرون. ولا سبيل للتخلص منها، حتى ولو مؤقتًا أو في نطاق محدود، دون الخروج عن نطاق العلم نفسه. مع ذلك، تُلزمنا الموضوعية بإدراك الطابع الغائي للكائنات الحية، والاعتراف بأنها في بنيتها وأدائها تتصرف بشكل إسقاطي - تُحقق غرضًا وتسعى إليه. وهنا، على الأقل ظاهريًا، يكمن تناقض معرفي عميق. في الواقع، تكمن المشكلة المركزية لعلم الأحياء في هذا التناقض نفسه، والذي يجب حله، إن كان ظاهريًا فقط؛ أو إثبات أنه غير قابل للحل تمامًا، إذا تبيّن ذلك بالفعل. كما يُمثّل حل مونو "للتناقض المعرفي العميق" في جعل الغائية ثانوية - ونتيجة - لثبات التكاثر. بما أن الخصائص الغائية للكائنات الحية تبدو وكأنها تتحدى إحدى المسلمات الأساسية لنظرية المعرفة الحديثة، فإن أي رؤية فلسفية أو دينية أو علمية للعالم لا بد أن تقدم، بحكم الواقع، حلاً ضمنيًا، إن لم يكن صريحًا، لهذه المشكلة. الفرضية الوحيدة التي يعتبرها العلم الحديث مقبولة هنا: وهي أن الثبات يسبق بالضرورة الغائية. أو، بتعبير أوضح؛ الفكرة الداروينية القائلة بأن الظهور الأولي، والتطور، والتحسين المستمر لهياكل غائية متزايدة الكثافة، ناتجة عن اضطرابات تحدث في بنية تمتلك بالفعل خاصية الثبات - وبالتالي تكون قادرة على الحفاظ على آثار الصدفة، وبالتالي إخضاعها لتأثير الانتخاب الطبيعي. بتصنيف الغائية كخاصية ثانوية ناتجة عن الثبات - تُعتبر وحدها أساسية - فإن النظرية الانتقائية هي النظرية الوحيدة المقترحة حتى الآن والتي تتوافق مع مسلمة الموضوعية. وهي في الوقت نفسه النظرية الوحيدة التي لا تتوافق مع الفيزياء الحديثة فحسب، بل تستند إليها تمامًا، دون قيود أو إضافات. باختصار، تضمن نظرية التطور الانتقائية التماسك المعرفي لعلم الأحياء، وتضعه في مكانه بين علوم "الطبيعة الموضوعية". لقد كان كولين بيتندرا أول من استخدم مصطلح "الغائية" لتمييز ظهور الغاية في التطور البيولوجي، وتحديدًا الانتقاء الطبيعي الدارويني، عن فكرة "الغائية" القديمة، أو "الغاية" الأرسطوية، وهي غاية كونية سابقة لظهور الحياة. يشهد مفهوم التكيف اليوم رواجًا متزايدًا لعدة أسباب: يُنظر إليه على أنه أقل من مثالي؛ وفهم أفضل للانتقاء الطبيعي؛ وقد كرّس المهندس الفيزيائي، في بناء الآلات الساعية إلى الغاية، استخدام المصطلحات الغائية. يبدو من المؤسف إحياء مصطلح "الغائية"، وإساءة استخدامه، كما أعتقد. سيزول الالتباس الذي طال أمده بين علماء الأحياء لو وُصفت جميع الأنظمة الموجهة نحو الغاية بمصطلح آخر، مثل "الغائية"، للتأكيد على أن إدراك ووصف التوجه نحو الغاية لا يحملان التزامًا بالغائية الأرسطية كمبدأ عرضي فعال. ان التكيف، والانتقاء الطبيعي، والسلوك، في هما اللذان يحددان السلوك والتطور. يلخص مونو تاريخ الفلسفة، تقريبًا كما نفعل نحن (وكما يفعل كارل بوبر)، على غرار الانقسام الكبير، أو الثنائية، بين المثاليين والماديين. نرى هذا التمييز بين من يعتقدون أن المعلومات ثابتة ومن يرونها تتزايد باستمرار. قد يمنعه تركيز مونو على الثبات التكاثري من إدراك أهمية التجديد وخلق معلومات جديدة. منذ نشأتها في جزر البحر الأيوني قبل ما يقرب من ثلاثة آلاف عام، انقسمت الفلسفة الغربية بين موقفين متعارضين ظاهريًا. فوفقًا لأحدهما، لا يمكن لحقيقة العالم الأصيلة والنهائية أن تكمن إلا في أشكال ثابتة تمامًا، جوهرها ثابت. أما بالنسبة للآخرين، فإن الحقيقة الحقيقية الوحيدة تكمن في التغير والتطور. من أفلاطون إلى وايتهيد، ومن هيراقليطس إلى هيجل وماركس، من الواضح أن هذه النظريات المعرفية الميتافيزيقية كانت دائمًا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتحيزات الأخلاقية والسياسية لمؤلفيها. هذه الصروح الأيديولوجية، التي تُصوَّر على أنها بديهية للعقل، كانت في الواقع بناءات لاحقة صُممت لتبرير النظريات الأخلاقية السياسية المسبقة.  لقد طرح مونو مشكل العلاقة بين المعرفة والقيمة: مثل العديد من العلماء، يعتبر مونو البحث المفتوح عن المعرفة والحقيقة ذا قيمة جوهرية. هل يمكنه أن يجعل المعرفة نفسها قيمة في العالم الموضوعي للعلم "الخالي من القيم"؟ يسعى مونو إلى "أخلاقيات المعرفة". هل يجب علينا أن نتبنى بشكل نهائي الموقف القائل بأن الحقيقة الموضوعية ونظرية القيم تُشكلان مجالين منفصلين أبديين، لا يمكن اختراقهما معًا؟ هذا هو الموقف الذي اتخذه عدد كبير من المفكرين المعاصرين، سواء كانوا كُتّابًا أو فلاسفة أو حتى علماء. بالنسبة للغالبية العظمى من البشر، الذين لا يمكن لقلقهم إلا أن يُديمه ويتفاقم، أعتقد أن هذا الموقف لن يُجدي نفعًا؛ كما أعتقد أنه خاطئ تمامًا، وذلك لسببين أساسيين.

أولًا، وبديهيًا، لأن القيم والمعرفة ترتبطان دائمًا وضروريًا بالعمل، كما هو الحال في الخطاب.

ثانيًا، وقبل كل شيء، لأن تعريف المعرفة "الحقيقية" بحد ذاته يرتكز في نهاية المطاف على مُسلَّمة أخلاقية.

تتطلب كل نقطة من هاتين النقطتين توضيحًا موجزًا.

ترتبط الأخلاق والمعرفة حتمًا بالعمل ومن خلاله. فالعمل يُدخل المعرفة والقيم في آن واحد في الاعتبار، أو يُشكك فيهما. كل عمل يدل على أخلاق، أو يخدم قيمًا معينة أو يُسيء إليها؛ أو يُشكِّل خيارًا للقيم، أو يُدَّعي ذلك.

من ناحية أخرى، المعرفة مُضمَرة بالضرورة في كل عمل، بينما العمل، في المقابل، هو أحد المصدرين الضروريين للمعرفة.

انه بمجرد أن نجعل الموضوعية شرطًا أساسيًا للمعرفة الحقيقية، يُنشأ تمييز جذري، لا غنى عنه في البحث عن الحقيقة، بين مجالي الأخلاق والمعرفة. المعرفة في حد ذاتها لا تشمل أي حكم قيمي (باستثناء "القيمة المعرفية")، بينما الأخلاق، غير الموضوعية في جوهرها، مُستبعدة إلى الأبد من نطاق المعرفة. مبدأ الموضوعية يمنع أي خلط بين أحكام القيم والأحكام المُكتسبة من خلال المعرفة. ومع ذلك، تبقى الحقيقة أن هاتين الفئتين تتحدان حتمًا في شكل الفعل، بما في ذلك الخطاب. وللالتزام بمبدئنا، سنتخذ موقفًا مفاده أنه لا يُنظر إلى أي خطاب أو فعل ذي معنى أو أصيل إلا - أو بقدر ما - يُوضح ويُحافظ على التمييز بين الفئتين اللتين يجمعهما. وبهذا التعريف، يُصبح مفهوم الأصالة أرضية مشتركة تلتقي فيها الأخلاق والمعرفة مجددًا؛ حيث تكشف القيم والحقيقة، المترابطتان ولكن غير القابلتين للتبادل، عن أهميتهما الكاملة للإنسان المُنتبه المُدرك لصداها. في نظام موضوعي... أي خلط للمعرفة بالقيم محرم، بل ممنوع. ولكن - وهنا تكمن النقطة الحاسمة، الرابط المنطقي الذي يربط المعرفة بالقيم معًا في جوهره - هذا التحريم، هذه "الوصية الأولى" التي تضمن أساس المعرفة الموضوعية، ليست موضوعية في حد ذاتها. لا يمكن أن تكون موضوعية: إنها مبدأ أخلاقي، قاعدة سلوك. المعرفة الحقيقية تجهل القيم، ولكن لا يمكن أن تُبنى إلا على حكم قيمي، أو بالأحرى على قيمة بديهية. من البديهي أن طرح مبدأ الموضوعية كشرط للمعرفة الحقيقية يُشكل خيارًا أخلاقيًا وليس حكمًا مُستمدًا من المعرفة، لأنه، وفقًا لشروط المسلمة نفسها، لا يمكن أن تكون هناك أي معرفة "حقيقية" قبل هذا الاختيار التحكيمي. ولإرساء معيار المعرفة، يُعرّف مبدأ الموضوعية قيمةً: هذه القيمة هي المعرفة الموضوعية نفسها. وهكذا، فإنّ قبول مبدأ الموضوعية يُعلن التزامًا بالبيان الأساسي لنظام أخلاقي، ويؤكد على أخلاق المعرفة. ولعلّ أخلاق المعرفة، بفضل طموحها النبيل، تُشبع هذه الرغبة في الإنسان للتطلع نحو ما هو أسمى. فهي تُرسي قيمةً سامية، هي المعرفة الحقيقية، وتدعوه إلى عدم استخدامها لأغراضه الشخصية، بل إلى استخدامها من الآن فصاعدًا بدافع اختيارٍ واعٍ ومدروس. وهي في الوقت نفسه إنسانية، إذ تُحترم في الإنسان خالق هذا التعالي ومستودعه. أخلاق المعرفة هي أيضًا، بمعنىً ما، "معرفة الأخلاق"، وهي تقديرٌ ثاقبٌ لدوافع ورغبات الكائن البيولوجي، ومتطلباته وحدوده. إنها قادرة على مواجهة الحيوان في الإنسان، واعتباره ليس عبثيًا، بل غريبًا، ثمينًا في غرابته ذاتها: المخلوق الذي ينتمي إلى عالم الحيوان وعالم الأفكار في آنٍ واحد، ويمزقه ويثريه في آنٍ واحد هذه الثنائية المؤلمة، التي تُعبَّر عنها في الفن والشعر وفي الحب الإنساني. في المقابل، فضّلت الأنظمة الروحانية، بدرجة أو بأخرى، تجاهل الإنسان البيولوجي، أو التقليل من شأنه، أو التنمر عليه، وغرس الاشمئزاز أو الرعب في نفوسه من سمات متأصلة في طبيعته الحيوانية. أما أخلاقيات المعرفة، فتشجعه على تكريم هذا الإرث والتمسك به، عالمةً في الوقت نفسه كيف تُسيطر عليه عند الضرورة. أما بالنسبة لأسمى الصفات الإنسانية، كالشجاعة، والإيثار، والكرم، والطموح الإبداعي، فإن أخلاقيات المعرفة تُقرّ بأصلها الاجتماعي البيولوجي، وتؤكد قيمتها السامية في خدمة المثل الأعلى الذي تُعرّفه. لكن هل وقع جاك مونو في خطأ تاريخي؟

لقد استقى مونود عنوان عمله من مقولة لديموقريطس تخيّلها أو أخطأ في تذكرها. يفتتح كتابه بهذا الاقتباس: كل ما هو موجود في الكون هو ثمرة الصدفة والضرورة. للأسف، لم يُدلِ ديموقريطس بمثل هذه المقولة. بصفته مؤسس الحتمية، عارض هو ومعلمه ليوكيبوس بشدة الصدفة أو العشوائية. أصرّ ليوكيبوس على الضرورة المطلقة التي لا تترك مجالًا للصدفة في الكون."لا شيء يحدث عشوائيًا (ماتين)، بل كل شيء له سبب (لوجوس) وبالضرورة." لا يتم صنع المال من الهواء، بل يتم صنعه دائمًا من العقل والضرورة." فما الذي سيتغير في فلسفة البيولوجيا لو تم تصحيح هذا الخطأ التاريخي؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

....................

المصدر:

Jacques Monod, le hasard et la nécessité, Edition seuil Paris 1973, 244 pages

حين يصبح الزمان عند باشلار موضعة ادراكية للذات معّبرا عن تجلياتها النفسية الرومانسية المحدودة بحدود مواضيعها يكون حينها الزمان أصبح خارج مطلقه الميتافيزيقي ليكون مدركا محدودا يتمثّله العقل، وقتها ايضا لا نجد أدنى غرابة في إعتبار باشلار تأملات النفس حول ما يطلق عليه حتمية إندثار الانسان بالموت، التي عادة ما تنفر النفس من مواجهة هذه الحقيقة البايولوجية المرعبة من هول الصدمة عليها، كما ينفر الجواد من رؤيته جثة حصان فارق الحياة مطروحا ارضا على حد توصيف باشلار.

باشلار يتقبّل فكرة أن ينفصل الانسان عن ذاته خارج وعيه لذاته وموضوعه معا، لكنه من غير المتاح أمامه تقبله تصّور أن الزمن يقوده نحو حتمية الإندثار العدمي بإفنائه البايولوجي بالموت كاملا جسدا ونفسا وعقلا. الزمن لا يفني الانسان بل يلازمه طيلة حياته في مساره نحو الافناء. الذي يفني الانسان هو الموت(العدم) وليس الزمان المحايد للوجود. مقولة باشلار الانسان يمكن ان يكون وجودا خارج وعيه لذاته وموضوعات ادراكه خطأ. وجود الانسان ادراك عقلي وبانتفاء ادراك عقل الانسان لذاتيته وموضوعه عندها لم يعد هناك وجود انسان بابعاد نفسية او خيالية او غيرها.

عبارة باشلار تحمل الكثير من الملابسات في إمكانية الانسان الانفصال عن ذاته، حيث لا يمكن أن تكون حقيقة مقبولة إلا في حال توفر اكثرمن إشتراطين لا يتوفران إلا في حال جعل وعي الذات وعيا ميتافيزيقيا لا تحده انطولوجيا الوجود الادراكي المتعيّن الوجود وهو محال للاستحالات الادراكية التالية:

- أن يتوقف العقل عن وعيه لذاته.

- أن يتوقف العقل عن التفكير التجريدي بموضوع مادي أو خيالي.

- أن يتوقف العقل عبر منظومته الحسيّة الادراكية عن وعي الوجود من حوله..

إن محاولة باشلار نقل الانسان من حتمية زمانية إندثاره بالموت الى واقعية التعامل مع الزمان كمحتوى تذكاري لمخزون رومانسي بالذاكرة إبتهاجي متفائل بالحياة التي لا نجدها في حاضرنا ولا في مستقبلنا بل في ماضينا الاستذكاري الرومانسي فقط. حتى جمالية المكان القديم التي نتذوق استذكاراتها نفسيا بكل نشوة وغبطة وانتعاش رومانسي لذيذ إنما السبب في ذلك هو العودة للماضي كتاريخ وقائعي بدلالة زمنه الماضي المتموضع فيه تجريدا كدلالة وليس العودة الى زمن ماض جديد نتعرف عليه لاول مرة تخلقه الرغبة النفسية في الاستذكار لحوادث الماضي. عبر إستذكارات المخيّلة في عبورها حاجز الحاضرالمقلق المرعب نحو الماضي البهيج المفرح. عقل الانسان او النفس عاجزين عن خلق زمن والاستذكار للماضي يكون مكانيا وليس زمانيا بمعنى الماضي اكتسب زمانيته بدلالة تحقيب وقائعه التاريخية الثابتة. الاستذكار الخيالي لتحقيب إلغائه الزمن الارضي المتعالق بالمكان يجعل من النفس تعيش الخيال في تعويضها الحرمان الذي عاشته بالماضي كوقائع تاريخية. لا وجود لخيال صادق يعيش الزمن بل هو يعيش المكان في الاستذكار.

هنا ربما أستبق الامور القول أن العودة الاستذكارية نحو الماضي هي عودة (تاريخية) استذكارية للمكان كوقائع تاريخية وليست عودة (زمانية) لزمن يدركه العقل.. لاحقا أوضّح هذه الاشكالية الفلسفية.

الانسان أمام هذه الحالة في جعل ماهو مادي يتداخل مع ماهو ميتافيزيقي يدركهما العقل معا في تداخلهما إنما يكون دافعها هو إرادة الهروب الى أمام  في محاولة خروج الانسان من حتمية مسار الزمان الانحداري الهابط به نحو الاندثار النهائي بالموت والفناء، في لجوئه إبتداع زمان إستذكاري تجريدي ليس مطلقا في وحدته الوجودية التي تختلط فيها الالام والاحزان في تذويبها بمصهر التفاؤل والامل بالسعادة الخادعة نفسيا. لذا يطلق باشلار على هذه الحالة النفسية التي تحاول النفس تطويع مسار التاريخ المتّعثر الى ما اسماه "سلسلة من القطوعات الزمانية" حسب تعبيره. التي هي في حقيقتها استذكارات لازمنية.

وفي حقيقتها هي قطوعات استذكارية نفسية لا علاقة إرتجاعية لها في ملازمة الزمن الحاضر لها نحو إستذكار زمنا ماضيا بحوادثه ووقائعه وليس رغبة إكتشاف الزمن الماضي كزمن خالص منفصل عن ملازمة تحقيبه التاريخي. هو غير الزمان الماضي الذي يحتوي تاريخية وقائع وأحداث جرت فيه فاصبحت جزءا من تاريخ ماض ثابت مدوّن زمانيا..

فالزمان لا يعود الى الوراء في مطلق التجريد كماهية غير مدركة بل يعود الى الوراء (الماضي) كتحقيب تاريخي غير تابع لزمن يقوده بل لزمن يسترشد به كتاريخ في وقائع حدثت. من الغريب الاقرار بحقيقة المكان يقود الزمن وليس العكس كما نتصور خطأ. الزمن وجود ملازم ومحايد للمكان.

حين نغادر الزمن كمفهوم ميتافيزيقي مطلق ازلي لا يدرك مجردا إلا بدلالة حركة مكانية لأجسام يحتويها عندها يمكننا التسليم أن الزمان تسوده قطوعات هي في منطق علم الفيزياء عارية عن الصحة تماما. فالزمان التجريدي عن موضوعاته المكانية الادراكية لن يكون سببه محدودية العقل قابلية إدراكه زمنا مجردا عن ملازمة أشيائه والتعريف بها.

الزمن يجهله العقل ماهويا حتى بدلالة ادراكيته للمكان. كما ولا يمكن للعقل جعل الزمن موضوعا تجريديا يدركه. اي العقل لا يدرك الزمن بغير ملازمته مكانيا للاشياء والاجسام. حين نجد رمز الزمن حرفT  في المعادلات الرياضية الفيزيائية والكيميائية انما يكون التعامل معه تنظيرا تجريديا يختلف عن الزمن الواقعي. الشيء الأهم أن الزمان على الارض وفي الكون يمتلك خاصيّة ماهوية واحدة هي أنه وحدة من جوهر أزلي يحكمنا نحن والطبيعة ولا نقوى على إدراكه ومعرفته الا بدلالة غيره من حركة أجسام أو مواد تداخله في انفصالية ماهوية.

 من البديهيات التي نتمنى القفز من فوقها عبثا هي أن الارادة الانسانية ورغائب النفس لا تؤثر بمسار الزمن في مطلقيته الحتمية الحركية المتجهة دوما نحو الامام المستقبلي الذي هو إقتراب لا إرادي نسلكه في السير نحو الفناء وليس الحصول على التجديد في الحياة السعيدة بوفرة المتعة واللذة التي تزودنا بها المخيلة في إستذكار حوادث الماضي ونحن نتجه مرغمين طواعية في اقتناصنا اكبر متعة في طريق مسار حاضرنا مرغمين نحو مستقبل مجهول ليس كما رسمناه ورديا سلفا..

الادراك النفسي العقلي يتوقف تماما أمام استحالة معرفة ماهية الزمن وكيفية إدراكها مجردة عن الحركة المادية للاشياء حتى لو تيّسر لنا ذلك على مستوى الصفات للزمان فقط وهو محال. فصفات الزمان وهم لا تعرف بدلالة غيره في مقدار حركة الاجسام فيه. والزمن وحدة قياس حركة الاجسام المادية داخله لكن الزمن ليس حركة بذاتها مجرّدة نستطيع إدراكها لوحدها... كما لا نستطيع ادراك المكان(الاشياء) من دون ملازمة الزمن لها. الزمن ملازمة مكانية محايدة في دلالة ادراكية لا تعرف صفاتها ولا ماهيتها مجردة.

لذا فالزمان الذي تنتابه القطوعات المتعاقبة وحتى القفزات النوعية فيه إنما هي في حقيقتها تمّثل إنعكاسات قطوعات ادراكنا نتائج حاصل تفاعل تكامل معرفي لا جدلي وجودنا الذاتي مع مدركاتنا المادية في الطبيعة والعالم الخارجي التي نتعايش معها وليست حصيلة فاعلية إرادة إنسانية أو رغبة نفسية ينفذّها الزمان إستجابة لنا. لاتوجد قطوعات زمنية نوعية خارج مسار مطلقية الزمن في ماهيته الموحدة وصفاته الموحدة ايضا. الزمان لايدرك ولا يفهم لا بالماهية ولا بالصفات.

الزمان جوهر ماهوي محايد لا يحكمه الجدل الديالكتيكي بعلاقته بمدركاتنا الموجودية في عالمنا الطبيعي المادي. الزمان جوهر تكاملي مع المدرك المكاني معرفيا وليس جدلا ديالكتيكيا معه. وحين نعتبر الزمان في تعسف خاطيء أنه جدلي ديالكتيكي في تداخله الإدراكي مع الاشياء والنفس والذات وغيرها فهو بالمحصلة هراء لا قيمة له، هذا الخطأ يعني أننا نجعل من الزمان مدركا متموضعا بالذات مجردا يعيه العقل تجريدا حتى من غير تعالقه بالمكان وهو امر مستحيل تحققه. كي تكون علاقة الزمن بادراك المكان جدلية يجب ان يجتمعا الزمن والمكان في تضاد جدلي تجمعهما المجانسة النوعية الواحدة اي ان تكون صفات وجوهر المكان مطابقة لصفات وجوهر الزمان وهو محال ينفي ان تكون علاقة الزمن بالمادة علاقة جدلية وليست علاقة ادراكية معرفية.

كانط والزمكان

إدراكنا المكان لا يكون مجردا عن زمانيته الإدراكية كما نتوهم، لذا إعتبر كانط ما ندركه مكانا هو ما ندركه زمانا بنفس الوقت، ولا إنفكاك يحكم الإدراكين المكاني والزماني. وهو الشيء الصحيح فلا وجود لإدراك مكاني مجردا عن زمانيته، كما لا وجود لإدراك زماني مجردا عن مكانيته في الموجودات والطبيعة من حولنا. ولا اسبقية تفرق بينهما.

الزمان في مساره الذي يبدو لنا مسارا مجرّدا من ماديته هو مسار متّعثر بمحتواه الوجودي المدرك ذاتيا، ما يجعله مستقلا متّحكما بنا لا نتحكم نحن به، رغم إعترافنا المسبق أن الزمان يتعامل مع المادة إدراكا محايدا وليس تداخلا تموضعيا تكوينيا ماديا أو غير مادي جدلي بها وكذا مع العديد من مسارات الحياة.

علاقة الزمن بادراك الاشياء هي علاقة ابستمولوجية معرفية محايدة بالاحتفاظ بخصائصها النوعية. المكان والاشياء لا تفرض على الزمن الذي يلازمها ان يكون جزءا تكوينيا منها. هنا لا اعتقد ياسبرز كان دقيقا في تعبيره (الزمن هو بعد سببي للزمكان). الخطأ بالعبارة ان الزمن هو طرف ملازم لما نقصد به الزمكان اي (زمان + مكان) في تعالقه الادراكي للمكان. لذا من المتعذر ان يكون الزمن بعدا سببيا لوجوده الذاتي في ملازمته المكان.

ولتوضيح هذه النقطة نقول مثلما تموضع إدراك الذات للاشياء لا يفقدها إستقلاليتها عن مدركاتها،كذلك يكون معنا نفس الشيء حينما يتموضع الزمان إدراكيا في العديد من الامكنة فهو أي الزمان يبقى محتفظا بإنفصالية مستقلة عن مدركاته ولا يخسر في موضعته شيئا من تلك الخصائص التي يمتاز بها وحده. التموضع الزماني في الاشياء هو إدراك لها وليس تداخل إندماجي عضوي تكوينيا معها.

لذا تكون إنعكاسات النفس الواعية تماما هي التي تضفي على إستقلالية الزمان المحايدة الكثير من الأحكام التي تشرعنها النفس هي وتحاول فرضها زمنيا. فمثلا الملل من طول وقت إنتظارنا لمجيء شخص ما في وقت محدد، ليست هي خاصّية زمانية سببية بل هي خاصية نفسية نستشعرها لا علاقة للزمان بها. تعبيرات النفس ليس سببها الزمن الذي تمر به ولا علاقة تربطها بالزمن خارج اولوية ارتباطها بالذات.

الزمن الحاضر الوهمي

يذهب معظم فلاسفة اليونان القدماء منهم الرواقيين يتقدمهم هيراقليطس وبارمنيدس انهم يعتبرون الحاضر هو آنية لازمانية غير مدركة ولا وجود لها كتحقيب زماني يتوزعه الزمان الماضي والحاضر والمستقبل.

هذا الفهم قال به بارمنيدس وأيده افلاطون وارسطو أذ نجده يقول" الآن – يقصد لحظة الحاضر -  هو نقطة ابتداء تغييرين متعاكسين، - يقصد بهما شد الماضي للحاضر لموضعته وتذويته به من جهة، وشد المستقبل المعاكس للماضي في محاولته تذويت الحاضر له وأدغامه به من جهة أخرى، علما أن الحاضر لا يحتاج البرهنة على أنه مستقبل حركي سيرورة غير منظورة في حاضرمتحرك يحدس زمانا. – وذلك والكلام لبارمنيدس التغيير لا يصدر عن السكون. كما أن النقلة – يقصد النقلة الزمانية -  لا تبدأ من الحركة التي لا تزال متحركة، وهذه الطبيعة الغريبة للآن (الحاضر) قائمة في الفترة ما بين الحركة والسكون لذا فهي خارجة عن كل زمان . القول لبارمنيدس.

بداية طالما كانت الحركة والتغيير هما سمتا وصفتا كل موجود بالعالم منذ هيراقليطس، فأن حركة الحاضرغير المتعينة كقطوعة زمنية لا ادراكية أنما تنسحب علي كل شيء يحكمه التغيير وعدم السكون وفي المقدمة يكون دلالة الماضي بمقايسته بالحاضر الذي لا وجود زماني له فهو بفهم بارمنيدس الماضي حركة لازمنية يحكمها زمان متحرك وليست سكونا زمانيا مدركا، لأن حركة الماضي تعاكس المستقبل الذي يحاول تذويت الحاضربه.

وطالما النقلة الحركية لا تبدأ من حركة كما في تعبير بارمنيدس، فهذا يلزم عنه أن يكون الحاضر هو سكون يمكن ادراكه وهو أستنتاج لا يقبله العقل قبل الفلسفة بدلالة الزمان مفهوم كلّي لامتناهي ليس له صفات ادراكية مستقلة ثابتة ونسبية به وليس له ماهية يمكن ادراكها. والآنية الحاضرة ادراك زماني بدلالة حركة الاجسام والموجودات في الطبيعة وليس زمانا في معيار الادراك المادي المكاني الساكن لها..

لأن الحاضر قطوعة زمنية تحقيبية ماديا من زمن مطلق لانهائي لا تحده حدود ولا يتقبل التحقيب المحال زمانا في تحديده كمدرك لانهائي سرمدي ازلي. وهذا المعيار لا يستثني الماضي كزمان وليس انثروبولوجية تاريخية في الماضي ولا يستثني المستقبل بدلالة كونهما قطوعات زمنية وتحقيب تاريخي متحرك ايضا لا يمكن ادراكه كونه يتسم بالحركة السيرورية التي لا يمكن رصدها وتعيينها بغير دلالة حركة جسم مادي يتحرك في الحاضرالزماني. هنا يتوجب علينا الانتباه في التفريق بين قولنا الماضي كتاريخ انثروبولوجي عاشه الانسان كزمن انتهى أصبح ثابتا فهو يتسم بالسكون اكثر من الحركة، بخلاف فهم أن يكون التاريخ زمانيا حركة لها تاثير مباشر في كل من الحاضر والمستقبل. زمن تاريخ الماضي هو حركة مكانية وليست حركة زمنية. فالزمن الاسترجاعي للماضي لا يجعله تاريخا متحركا لا تحكمه مكانية ثابتة هي وقائع التاريخ.

الماضي كزمن هو دلالة فهمنا الحاضر وفهمنا الماضي هو بدلالة الحاضر له. التحقيب الزماني ماض وحاضر ومستقبل هو دلالة ادراك الزمن الارضي وليس ادراك الزمان الكوني. الزمان الارضي المرتبط بحركة الاجسام وحركة الارض والقمر، يختلف عن الزمان الكوني باعتباره لا مدرك ازلي سرمدي ولا يقبل التجزئة والتحقيب كما هو الزمان الارضي.

وفي حال ذهبنا مع بارمنيدس أعتباره الحاضر الزماني لحظة تتوسط الحركة والسكون للماضي والمستقبل ولكنه أي الحاضر لا يمتلك حركة ولا سكونا ويتعذر رصده ادراكا زمانيا لذا فهو نقلة وهمية، فهذا يعني أن الحاضر وجود وهمي كلحظة تحقيب زماني زائلة، وأهم ميزة لقطوعات تحقيب الزمان هو أن الزمان كلية ازلية سرمدية جوهرية تحكم كل شيء بالوجود وهو غير مدرك لا بالصفات ولا بالماهية. أي أن زمان الماضي وزمان الحاضر وزمان المستقبل ثلاثتها تعبيرات عن قطوعات زمنية تحقيبية ارضية لا يمكن ادراكها كمفاهيم ولا كمواضيع مستقلة بدلالة عدم امكانية ادراكنا الزمان كمطلق ازلي ليس له حدود ولانهائي.

باستثناء اننا ندرك هذه القطوعات الزمانية الارضية واختلافاتها بدلالة حركة الارض حول نفسها وحول الشمس وحركة القمر والكواكب الاخرى وقبل كل هذا حركة الاجسام والمدركات في الطبيعة وفي الحياة التي نعيشها التي بدلالتها جميعا ندرك الزمان في تحقيبه الزماني لا في تحقيبه الوقائعي تاريخيا كحوادث يلازمها زمن حدوثها الذي يجعل من حضورها الآني ماضيا ... الحقيقة التي تجعل الفلاسفة يعتبرون الحاضر وهم زماني غي موجود هو لانه ماض ومستقبل ولا يمثل نفسه زمانا حاضرا يدرك لوحده مستقلا عن حركة المكان داخله. حركة التاريخ ماض لا يدرك بغير دلالة زمانية، في حين يكون الزمان يدرك من غير دلالة تاريخية تؤطره والسبب ان الزمان مفهوم مطلق والتاريخ مصطلح يدرك بوجوده التحقيبي زمانيا على الارض.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

 

تمهيد: الوعي قضية تناولتها الفلسفة عبر تاريخها الطويل مادة اشكالية جديرة بالاهتمام من بين متراكم فلسفي كمي – نوعي على امتداد عصور طويلة. والوعي أهمل الاهتمام به فترة طويلة بسبب انه موضوع فلسفي شائك متداخل مع جوانب وقضايا فلسفية عديدة. الاهم من كل هذا الاندفاع يتضح لنا حقيقة أن ليس كل فيلسوف كتب عن الوعي كان مصيبا تماما ولا كان غيره مخطئا بمطلق تفكير فلسفي ميتافيزيقي. وكتبت عدة مقالات حول الوعي ضمنتها كتابي تحت الطبع (الوعي في الفلسفة المعاصرة) وتندرج مواضيعه بين تجاذب الصح والخطا لدى مجموعة من فلاسفة اوربيين واميركان في اجرائي مقارنة متداخلة معاصرة بينهم زادت من اشكالية المبحث فلسفيا وتداخله الفيزيائي في منظومة العقل الادراكية البيولوجية. الوعي استقر فلسفيا في مقولة انه جوهر لا يدركه تعبير اللغة والفكر ولا يهتم العقل به موضوعا خارج منظومة العقل الادراكية بيولوجيا التي تبدأ بالحواس وتنتهي بالدماغ. الوعي مضمون إجرائي لمدركات العقل في حين يكون تعبير اللغة والفكر تجريد وصفي حيادي في علاقته بالمدركات. كما ان الوعي بالاشياء لا يرادف معنى الادراك. فإدراك الشيء غير الوعي به.

الوعي الفلسفي

الوعي بالفهم البيولوجي التجريدي المعرفي الملازم للانسان هو قابلية تعبير العقل عن مدركاته معرفيا لا جدليا. بهذا يكون الوعي مرتكزا في التناول الفلسفي الذي نجده اليوم يشكل احد اهم القضايا الفلسفية ليس في جنبة تعالقه بانتاجية تفكير العقل له، وجنبة تعبيره غير الحيادي مع مدركات العقل.

اللغة والزمن والفكر والنفس والعواطف جميعها تجريدات تعبيرية محايدة في علاقة التاثير بمدركات العقل. ماعدا الوعي الذي تحكمه القصدية وتحكمه المداخلة غير الحيادية مع مواضيع الادراك بالتغيير وتبادل التاثير.. وعي الشيء يعني قابلية التاثير به.

لتكن البداية من فلسفة ديكارت فهو عمد في الكوجيتو انا افكر... ربط الوعي بالتفكير التجريدي الانفرادي في اثباته خاصية الوجود الانطولوجي للانسان الذي لا تحده الابعاد المادية ولا يلجمه التوقف خاصية التفكير العقلي..

خاصية الوعي هي خاصية التفكير العقلي الناجز الذي يعبر عنه تجريد اللغة. ترك ديكارت في اهتمامه تثبيت الوجود الواقعي للانسان بوسيلة الاستشعار الفكري اللغوي انا افكر إذن انا موجود. ميزتان اخذهما عليه معظم الفلاسفة الوجودية وهما:

يتوجب ان يكون للوعي موضوعا محددا يفكر به الانسان سواء اكان الموضوع واقعيا مستمدا من عالمنا الخارجي والطبيعة او خياليا مصدره الذاكرة. واولوية هذا التخطيء الفلسفي وجوب ان يكون للوعي قصدية يهدف تحقيقها. الوعي كما هو اللغة والفكر لا يعبران عن اللامعنى.

كان اول من ادان ديكارت في عدم ربطه الوعي بالقصدية او الهدف المنشود هو برينتانو في طرحه مشروطية الوعي بالادراك القصدي الذي يحدده تفكير العقل بعد استلام الحواس الانطباعات الذهنية عن الاشياء المدركة. بعدها انتقلت موضوعة الوعي القصدي الى هوسرل وسارتر وهيدجر وقائمة فلاسفة الوجودية التي تطول لعل ابرزهم اخيرا كان ميرلوبونتي.

الوعي تجريد لغوي تعبيري عن فكرلا يدخل في علاقة جدلية مع الموضوع بل يدخل مع الموضوع بخاصية العقل انه يحاول معرفة الاشياء وليس ادراكها فقط، وثانيا يعطي العقل مقولاته التغييرية لذلك الشيء. إعتبر كانط للعقل 12 مقولة جاهزة بالفطرة اسماها مقولات العقل.

فالعقل لا يعقل الاشياء لاثبات كيف يدركها بل في معرفة لماذا يدركها وما اهمية ذلك الادراك لتطوير كلا من الموضوع من جهة وتطوير تفكير العقل ذاته من جهة اخرى.

هذه العلاقة الترابطية التجريدية المحايدة للعقل لا تدخل الوعي في علاقة جدلية مع موضوعات الادراك. بل يدخل الوعي معها بعلاقة تكامل معرفي في ضمان استقلالية كل واحد الموضوع والوعي به في اختلاف الماهية والصفات بينهما .

اود قبل الدخول في تفاصيل موضوع المقالة (الوعي) التنويه الى مسالة متداخلة لها علاقة في مطاولة المعرفة الفلسفية في وعي الزمن. حيث كان هجوم فلاسفة ما بعد الحداثة وخاصة فلاسفة البنيوية من ليفي شتراوس، الى دي سوسير ، ثم لاكان، فوكو، ريكور ، دريدا، التوسير وغيرهم عديدون ركزوا على مسائل متنوعة لم يحيدوا عنها وكان سبب الاهتمام بهذه التنويعات الفلسفية انبثاق نظرية التحول اللغوي وفلسفة العقل واللغة ونظرية المعنى التي سادت منذ منتصف القرن العشرين مرتبة الفلسفة الاولى في تاريخ الفلسفة المعاصرة. كانت البنيوية بطروحاتها الفلسفية التجديدية هي الفلسفة التي كان لها اسبقية دفن الفلسفة الوجودية المحتضرة في طروحاتها المستهلكة نهاية الستينيات من القرن العشرين.

المحاور الحديثة التي شغلت الفلسفة يتقدمهم اشهر فلاسفة العقل والوعي مثل ريتشارد روروتي وجون سيرل وسيلارز وغيرهم  من الاميركان هم حملة راية تفلسف الوعي المعاصروالعقل بما حشر معظم الفلسفات الاوربية في زاويا التيه الذي فتحته الفلسفة البنيوية نقصد به التحول اللغوي وفلسفة اللغة وتخلت عنه البنيوية لاحقا لانها لم تستطع اضافة تجديد يعتد الاخذ به في فلسفة التحول اللغوي وفلسفة اللغة واللسانيات ونظرية فائض المعنى فيما اطلق عليه تضليل تعبير اللغة  للمعنى السائدة في تاريخ الفلسفة..

آفاق التجديد في فائض معنى اللغة وما يتعالق بها من امور استلم رايته الفلاسفة الاميركان باجتهاد تجديدي يناصرهم فيه بعض فلاسفة الوضعية التجريبية المنطقية التحليلية الانكليزية حلقة اكسفورد. مثل بيرتراند راسل وفينجشتين وجورج مور ووايتهيد وكارناب من الانكليزوالنمساويين. ماجعل فلاسفة قارة اوربا الذين هاجروا الى اميركا بفتحهم مبحث فلسفة اللغة يعودون الاستقرار في فرنسا والمانيا ودول اوربية عديدة في محاولتهم رد الاعتبار لتفلسفهم التي خبا بريقه ومحاولة اعادة تلميع اسمائهم التي غيبّها الطوفان الفلسفي الامريكي التجديدي بعد عصور طويلة كانت فيها الفلسفة الامريكية تعتاش على الفلسفة العملانية التجريبية الوحيدة في تحقيق المنفعة تلك هي الفلسفة البراجماتية او الذرائعية. وجاء ما اكتسحها لدى فلاسفة معاصرين تجديدين اداروا ظهورهم للفلسفات الاوربية التي بقيت تراوح في تنقيبات اركيولوجيا حل مباحث تاريخ الفلسفة بتصحيح تاريخ اوهام اللغة.

لعبة الفلسفة البنيوية وما بعد الحداثة

لا نجانب الصواب ان مقولات فلسفة البنيوية التي تماهت مع ما بعد الحداثة لا تراجع ولا انفكاك بينهما كانت في المرتكزات الفلسفية المتمردة المشتركة التالية:

1.  لا مركزية للانسان بالحياة والفلسفة ولا عصمة للعقل بالادراك.

2.  تاريخ الفلسفة في غالبيته تاريخ وهمي مصطنع زائف سببه مناقشة قضايا فلسفية لا اهمية لها. تقوم على مماحكات تنظيرية لا رصيد واقعي له اهميته.

3.  اللغة وسيلة العقل الادراكية القاصرة التعبيرعن مدركاته الحقيقية. هنا نتجاوز عبور غير مسوّغ لحقيقتين في اتهام الفلسفة  بالقصور اولا تجاوز لا عصمة للعقل فيه أن يخطأ. ثانيا مصنع الحيوية الفكرية هي تضليل مكمّل تضليل الحواس للعقل في تمكينه دوام تداوله الوعي الخطأ.

4.  اللغة والوعي جوهران يخطئآن لكنهما ليسا جوهرين ادراكيين سببيين في تضليل العقل فتفكير قصور العقل يتقدمهما سابقا عليهما جوهري الفكرواللغة..

5.  العقل يخطأ كما تخطأ الحواس وليس من هناك قيمة عقلية تطابق الاحساسات الواصلة للعقل من العالم الخارجي في تعبير اللغة مطابقة حقيقة المعنى في مدركات وموجودات الواقع.. الادراك المعرفي لا يطابق حقيقة الاشياء في استقلاليتها الموجودية. الادراك الاولي يماثل كينونة الشيء في تاكيد وجوده وليس معرفته. الحواس تدرك والعقل يعرف.

6.  جميع السرديات الكبرى التي حكمت تاريخ الانسان في القرن العشرين مثل سرديات الاديان وسرديات الايديولوجيا السياسية وغيرهما كانت عقيمة راح ضحيتها الاف من القتلى في الحربين العالميتين والحروب العبثية الاخرى. وبمقدار ما كانت منجزات العلم عامل تقدم ورخاء نسبي للانسان  كانت تلك المنجزات نفسها من اهم وسائل تدمير الحياة السعيدة لشعوب الارض بلا تفريق وعدم مساواة وعدالة في نيل حقوق الانسان ومضامين حريته المسؤولة ضميريا وقانونيا واخلاقيا الى يومنا هذا..

الوعي والادراك

الى أي مدى يمكننا قبول مقولة كانط  إكتساب المعرفة ينحصر على نطاق حدسي حسّي وبدون الاحساسات تبقى مقولات العقل الصادرة  بضوء انطباعات الحواس فارغة بضوء الأخذ بنظر الإعتبار أن الحواس تضليل للعقل، والحدس يقبل المراوغة التي تفرضها مخاتلة وقصور ملازمة الفكر واللغة في التعبير عما ندركه من الاشياء، هل هو صورة ذلك الشيء المدرك فوتوغرافيا أم هي حقيقته  الكينونية كاملة؟..

الوعي يدخل في ملازمة تداخلية غير جدلية مع كل من الادراك العقلي والزمن على السواء. كما ان الوعي له تداخل عميق بين الوعي والخيال وبين الوعي وتعبير اللغة وبين الوعي والاستذكار النفسي الخيالي. من المهم التذكير بمقولة انشتاين قوله: اسمى خاصية يمتلكها العقل البشري هو الخيال الذي سبق وهاجمها ديفيد هيوم وجون لوك وبرجسون بضراوة قبل مقولة انشتاين في تاكيدهم الوعي القصدي الهادف تجربة وليس تفكيرا مجردا فقط..

متداخلات الوعي الفلسفية

ينكر ديفيد هيوم اية قيمة موضوعية للقوانين العامة والعالم الحقيقي لا يقوم إلا على الاعتقاد في ادراكه المحسوسات. ليس غريبا هذا على هيوم الذي ينكر ثلاثة ثوابت قارّة بالفلسفة لا يمكن القفز من فوقها بسهولة هي بتعبير هيوم:لا يوجد عالم مادي خارج مدركاتنا الحسيّة الذهنية وما ندركه موجود وما لا ندركه غير موجود، ثانيا لا وجود لنظام سببي يحكم ظواهر ووقائع الحياة سببا ونتيجة ، ثالثا لا يوجد ما يعرف بالعقل خارج ماهيته التفكيرية التجريدية فقط العقل هو تصوراتنا عن الاشياء  في عالمنا الخارجي. واخذها عنه الفيلسوف الانكليزي جلبرت رايل 1900- 1976 قائلا ليس هناك ما يطلق عليه عقل ابدا.

الحقيقة الفلسفية بحسب لايبنتيز هي ما يمكننا تحديده بالكامل، ويقصد لايبنتيز بالحقيقة الواقعية المدركة وليس مطلق الحقيقة كمفهوم ميتافيزيقي. لايدرك كيف نمرر مقولة لايبنتيز بضوء نسبية كل شيء بالعالم الطبيعي والكوني وفي العلم ذاته؟

تحديد كامل الحقيقة شيء متعذّر تحققه ادراكيا. عن طريق انطباعات الحواس عن موجودات العالم الخارجي . أما أن يقصد لايبنتيز الحقيقة الكاملة هي تجربة علمية وليست إدراكا عقليا فهو أخذ تعبير الفكر واللغة عنه فقط هي وجهة نظر تفرض مقبوليتها قدرات التجربة العلمية كنظرية وليس قدرات تفكير العقل المجرد بها. ما يحكم العقل التجربة ولا يحكمها العقل في صحة مقولاته الفكرية.

المذهب الثنائي الديكارتي يقوم على وجود جوهرين فقط هما العقل وماهيته التفكير، والمادة وماهيتها الإمتداد والحركة. وهذا تعبير يدخل مجال فيزياء العلم  وفيزياء المعرفة الكونية على السواء. وما يترتب على هذا المعنى أن إحساساتنا الإدراكية ليس بمقدورها الفصل بين حقيقة الشيء في وجوده المادي عن حقيقة الشيء في تصوره التجريدي الذهني.

كل وعي إدراكي بحسب سيلارز شأن بدايته هو اللغة. هنا يقصد سيلارز بالوعي العقلي للمادة تفكيرا إستبطانيا داخل منظومة العقل الإدراكية، واللغة تعبير صوتي عن موجودات المادة خارجيا، وتفكير اللغة وعيا إدراكيا لاصوتيا صامتا داخليا. صحيح جدا الوعي هو تفكير عقلي لكنه في مجال الفلسفة يكون الوعي قريبا من علم النفس السلوكي أكثر منه قربا من تجريد الفلسفة كمنطق لغوي. هذه نظرية الفيلسوف الانكليزي اسكنر بما اسماه نظرية اللغة اللفظية كسلوك نفسي وعارضها جزئيا نعوم جومسكي في الفطرة التوليدية.

ينكر وليم جيمس أنه يوجد شيء حقيقي يسمّى الوعي) على صورة مادة أو جوهر، موضّحا الواقع الوحيد الذي نعتمده هو التجربة في سياقها يكون كل شيء، وكل الذوات العارفة صاحبة الوعي والموضوعات المعروفة.(

الحقيقة الصادقة عند وليم جيمس: أنها ما يمّثل لدينا الأفضل لإعتقادنا، وليس التمثيل الدقيق للواقع" وصاغ وليم جيمس عميد الفلسفة البراجماتية نظريته بالصدق مفادها أن صدق التصورات ليس سكونيا، فالتصّور لا يمتلك صدقه في ذاته. بل صدقه تحدده التجربة التطبيقية في تحقيق المنفعة العملانية، ومعنى ذلك المعرفة ليست جاهزة صحيحة في مقبوليتها بل هي إبنة التجربة التي أنجبتها. كما والصدق عند وليم جيمس هو صدق التصور أو الفكرة التي حمولتها منفعة في التطبيق، فكل نافع حق وصادق وكل ما هو غير صادق وزائف هو الذي لاينفعنا بالحياة.

الفكر والحركة

يتفرّد هوبز فيلسوف عصر النهضة الاوربية بتعريفه الفكر هو حركة الجسم، بمعنى الفكر هو سلوك نفسي عقلي، وليس نتاج عقلي مجردا من واقعه المادي. والفكر هو توليد عقلي في معرفة موجود أو معرفة موضوع. الفكر ربما يكون إمتدادا لفكر سابق عليه، وربما يكون فكر ثالث يليهما وهكذا، لكن العبرة ليست في تناسلية الفكر اللاحق عن السابق بل الأهمية القصوى أن الفكر تكون مرجعيته المادة والوجود المادي حتى قبل إدراك العقل له وتعبير اللغة عنه. وهذا لا ينفي أن خاصّية العقل الجوهرية الاولى هي توليده الافكار التي ليست مجردة عن تفسير الواقع المادي لكنها ليست جزءا ماديا غير تجريدي في التعبير عنه.  الفكر يمتاز بالخصائص التالية:

الفكر تعبير عن إدراك شيء مادي أو تعبير عن شيء خيالي، وسيلة تعبير الفكر عن نفسه خارجيا هو اللغة الصوتية المسموعة حوارا أو المكتوبة  قراءة. ابجدية وتعبير الفكر عن نفسه ذهنيا هو لغة تصوّرية مركوزة بالذاكرة التي تعي موضوع الفكر الذي تختزنه فيها.

الفكر توليد عقلي بمعنى الفكر يعبّر عن وعي قصدي يتمّثل هذا الوعي بسلوك الانسان ضمن مجتمع يحتويه. وميزة الفكر المستمدة من العقل أنه تعبير عن شيء مادي أو موضوع خيالي والفكر لا يخلق تعبيره اللغوي من فراغ ولا يعبّر عن لا معنى له. والفكر شأنه شأن اللغة تعبير عن تجريد لشيء مادي أو موضوع من الذاكرة.. الفكر حلقة مهمة في سلسلة حلقات المنظومة الإدراكية للعقل لكنه لا ينوب في تمثيله عن حلقات أخرى داخل هذه المنظومة الإدراكية العقلية. فالفكر ليس هو الذهن ، كما أن الفكر ليس هو الوعي، كما أن الفكر ليس هو الذاكرة، وأخيرا الفكر هو لغة صامتة غير مفصحة عن نفسها الا بدلالة صوت لغوي قصدي هادف.

الفكر يلازم اللغة الصوتية ولغة أبجدية القراءة إدراكا تصوريّا ولا سبيل للفكر التعبير عن نفسه إلا بواسطة اللغة. إختلاف الفكر عن اللغة رغم تلازمهما الذي لا إنفكاك له هو أن الفكر تفكير عقلي صامت واللغة تفكير عقلي ناطق يلازمه الصوت الذي يفتقده الفكر الذي هو تفكير لغوي بلا صوت حينما لا تعبّر اللغة عنه إفصاحا عن شيء.

تعبير الفكر التواصيلي وسيلته الوحيدة هي اللغة. فالفكر لغة عقلية. وتعبير الفكر عن شيء أو موضوع بلا معنى هو إستحالة إدراكية يرفضها العقل قبل رفض الفكر لها. فأللامعنى بالفكر يعنى اللامعنى في تفكير العقل واللامعنى في تعبير اللغة.

الشيء الموجود المادي أو الموضوع الخيالي يكونان ملزمين بتعبير اللغة عنهما، والإدراك المادي للشيء وإن كان سابقا تعبير اللغة إلا أنه في جوهره تصوّر لغوي أخرس صامت، الإدراك إحساسات لغوية فاقدة لنظام تعبير اللغة التي يصدرها العقل وليس ألتي يستمّدها الإدراك عن الاحساسات. الإدراك من غير مرجعية العقل واللغة لا قيمة حقيقية له.

شرط الفكر الاول هو إمتلاكه معنى وتعبير لغة عن هذا المعنى، وإلا أصبح الفكر هلوسة لامعنى لها ولا تمتلك لغة تواصلية مفهومة. واللغة لا تمتلك حقيقتها المضمونية بدون فكر يلازمها يحمل معه حمولة معناه عن شيء أو موضوع.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

 

بقلم: جوزيف جابل

ترجمة: د. زهير الخويلدي

***

"إن تاريخ الطبيعة، أو ما نسميه "العلوم الطبيعية"، لا يهمنا هنا؛ ولكن "سيتعين علينا أن نتعامل مع تاريخ البشر، لأن الأيديولوجية بأكملها تقريبًا قد تم تقليصها إما إلى مفهوم خاطئ لهذا التاريخ أو إلى تجريد كامل من هذا التاريخ. " (كارل ماركس: الأعمال الفلسفية، المجلد السادس، ص 153-154).

تتعلق مشكلة الوعي الزائف بالتاريخ الألماني الحديث بطريقتين. ومن ناحية أخرى، يعود الفضل في وضع الأسس الفلسفية لهذه المشكلة إلى المنظرين الماركسيين غير التقليديين في ألمانيا في عهد جمهورية فايمار. علاوة على ذلك، فإن العقيدة الاشتراكية الوطنية تمثل بلا شك مثالاً نموذجياً للأيديولوجية بالمعنى الماركسي للمصطلح، أي على وجه التحديد نظام أفكار غريب عن الواقع وحامل لوعي زائف. ومن الواضح أن هذا التفسير للاشتراكية الوطنية باعتبارها وعياً زائفاً له تأثير على مسألة المسؤولية الألمانية التي أثارت الكثير من الجدل، ولكن ليس من شأننا الخوض في تفاصيل هذه المسألة هنا. ومن المؤكد أن النقاد الألمان لكتابنا سوف ينظرون فيه ويناقشونه. إن وضع الماركسية ككل فيما يتصل بمشكلة الوعي الزائف مماثل. إن نظرية الأيديولوجية ونتيجتها، نظرية الوعي الزائف، هي من أصل ماركسي؛ إنها تشكل فصلاً - بالنسبة لنا الفصل الرئيسي - من مجال الاغتراب العظيم. ولكن إذا كانت الماركسية قد قدمت المقدمة لموقف نظري بشأن هذه المسألة، فإنها قدمت أيضاً توضيحها غير الطوعي: فلم يكن اغتراب الروح الإنسانية في أي مكان أكثر عمقاً مما كان عليه في الستالينية، ولم يكن أي شكل من أشكال الوعي السياسي أكثر زيفاً من هذا. لكن النظرية التي أصبحت أيديولوجية سياسية لا تستطيع أن تدين نفسها. وإلى جانب الوعي الزائف، فقد أصبح هذا بمثابة تبلور للطلاق بين الماركسية النظرية والماركسية السياسية؛ نقطة اللاعودة التي قد تتحول عندها الماركسية إلى نظرية مدمرة للذات. إن الماركسية العقائدية كانت متسقة مع نفسها فقط في منع تطور أي نقد أيديولوجي بنيوي بشكل منهجي - وهو نقد لا ينفصل عن صحة مفهوم الوعي الزائف - ليحل محله رفض عالمي وغير متمايز للبنى الفوقية للمعسكر المعارض كما رأينا في روسيا وكما يبدو أنه ينشأ حاليًا في الصين. تنشأ مشكلة أولية لأي نظرية متماسكة للوعي الزائف: كيف نحدد الوعي الأصيل وبالعلاقة معه يمكن تسمية شكل آخر من أشكال الوعي "زائفًا" وما هي الطبقة الاجتماعية التي تشكل مستودعًا للوعي الأصيل. المشكلة فلسفية واجتماعية. تقترح الماركسية الأرثوذكسية حلاً لهذه المشكلة، وهو الحل الذي لا يمنع من التماسك أكثر من التضحية باستقلالية مشكلة الضمير من أجل إنشاء فرع لعلم اجتماع المعرفة. الضمير الضمير هو مجموعة من «النظريات غير الملائمة» التي لا يعتبرها القصور بمثابة مكافأة للمصلحة الطبقية. الضمير الأصيل - خلية البروليتاريا - هو مجموعة من "النظريات المناسبة للواقع" التي تم إعدادها من قبل نظريات الأصل التي ليست بروليتارية، فهي بمثابة مصدر للطبقة العاملة الممثلة من قبل الحزب. لينين وكاوتسكي، اللذان كانا يقاتلان معًا، وجدا اتفاقًا لتقدير أن الضمير الطبقي البروليتاري يجب أن يأتي إلى الخارج. إنها تتزامن مع الحد الأقصى من الوقت مع إيديولوجية حزب غير قابل للفشل ومع الانتصارات القيمة في العلوم الاجتماعية. لقد صممنا مصطلح "المفهوم المعرفي الماني" للضمير السياسي هذا التفسير الذي يميل إلى الظهور اليوم كجزء من مؤسسات النقد الإيديولوجي للماركسية الأرثوذكسية. بدلاً من العمل على إثبات بنية الاتصال بين الضمير والوجود، يتم تحملها للتنصل من خطأ الخصم. هذه النظرية تتوافق بشكل خاص مع الماركسية الأرثوذكسية، وهي لا تتسطح أبدًا مع التوجه العلمي والنزعة المانوية: الحقيقة ضد الخطأ، والروح العلمية ضد اللاعقلانية. ومع ذلك، فإن تبني الماركسية يلتزم باستقلالية مشكلة الضمير: يمكن أن يكون شكل من أشكال جائزة الضمير ثمرة «فورية» للحياة الاجتماعية ؛ يجب أن يتم تطوير نظرية اجتماعية من قبل المتخصصين. إن المفهوم الذي حاولنا الدفاع عنه في سياق العمل الحالي هو "فكر ضد" هذا التفسير. نحن ننتقد مفهوم "الآلة المعرفية" لقيامه بعقلنة مشكلة الوعي السياسي، متجاهلاً العامل غير العقلاني، الذي يظل دوره واضحاً رغم ذلك. ويمكننا أيضًا أن ننتقدها بسبب السذاجة التي تتعامل بها مع فكرة "عدم الكفاية" (الخطأ) باعتبارها حقيقة لا تقبل الجدل وقادرة على أن تكون نقطة انطلاق، في حين أنها تفترض تحقيقًا منطقيًا ومعرفيًا صعبًا بالكامل. هل يمكن أن نعتبر الستالينية، التي قادت روسيا إلى النصر في أعظم الحروب، خطأً سياسياً حقيقياً؟ لا، بالتأكيد لا. فهل نحن ملزمون إذن بالموافقة على استيعابه للتروتسكية والنازية، وهوسه البارانويدي بالمؤامرة خارج الزمن، ورفضه المزمن للتاريخ، باعتبارها حقيقة علمية؟ هل كان الانتصار العسكري الذي حققته ألمانيا النازية، والذي لم يكن مستحيلاً على الإطلاق، من شأنه أن يحول بأثر رجعي أخطاء العنصرية إلى حقيقة علمية؟ ومن ثم يمكننا أن نرى مدى خطورة ادعاء تبرير مشكلة الوعي الزائف من خلال إقامة مفهوم "الكفاية" كفئة مركزية. إن التعريف التقليدي للحقيقة: ملاءمة الشيء مع الفهم هو إطار فارغ يطالب بمحتوى: يمكن أن يأتي هذا المحتوى إما من أبحاث معرفية صعبة من النوع الذي قام به فيكتور بروشارد في الماضي، أو بسهولة أكبر من سلطة خارجية. إن المفهوم العقلاني للوعي السياسي يؤدي بعد ذلك إلى أيديولوجية استبدادية. كنا نعتقد أننا نستطيع الهروب من هذه التناقضات من خلال تأسيس أبحاثنا الخاصة ليس على معيار الكفاية ولكن على المعيار الجدلي، الخالي من رهن أي حكم قيمي معرفي. وعلى النقيض من أنصار الماركسية العقائدية، فإننا لا نعتبر مصطلح "الديالكتيكي" مرادفًا لـ "الحقيقة العلمية". النهج العلمي هو توليفة من المناهج الديالكتيكية وغير الديالكتيكية. لا شك أن الوعي الديالكتيكي الكامل غير ممكن ولا حتى مرغوب فيه. لم تعد مشكلة الوعي الزائف تقع بين مصطلحات معضلة "الحقيقة والخطأ"، حيث تميل إلى أن تصبح غير شخصية، ولكن بين مصطلحات "التفكير الديالكتيكي" و"التفكير غير الديالكتيكي": فئتها المركزية ليست عدم الكفاية للواقع - لا يمكن تعريف مفهوم "الكفاية للواقع" إلا بطريقة استبدادية - ولكن درجة الوظيفة التاريخية والشمولية (الديالكتيكية) للبيانات السياسية. ومن ثم فإن التصور السياسي المعادي للجدلية وغير التاريخي والمتجسد بشكل عنيد من شأنه أن يشكل الفئة الأساسية للوعي الزائف. نقطة البداية لهذا المفهوم هي دراسة خصصناها في عام 1949 لعلم نفس الشيوعية والتي تمكنا من إعادة نشرها مؤخرًا بفضل المساعدة المتميزة من دار نشر فيشر والسيد بيترو دوميتريو. إن "علم نفس الفكر الشيوعي" هذا ينبغي أن يسمى الآن، بكل إنصاف، "الأسس النفسية والمنطقية للأيديولوجية الستالينية". في الواقع، لقد نجحت الشيوعية في التخلص من عزلتها إلى حد كبير منذ ذلك الحين؛ ربما تظل استنتاجاتنا التي توصلنا إليها في عام 1949 صالحة فيما يتصل بمشكلة الوعي الزائف؛ إنها لا تنطبق إلا جزئيا على الوعي الشيوعي لعام 1967، على الأقل على وعي المنظمات الخاضعة للنفوذ الروسي. لقد انطلقنا من الملاحظة التي مفادها أن الفكر الشيوعي، على الرغم من ادعائه بأنه جدلي، إلا أنه في مناهجه الفعلية يقع على النقيض تمامًا من المنهج الجدلي. إلى جانب النزعة المدرسية في العصور الوسطى، فإن الستالينية هي بلا شك المجموعة العقائدية الأكثر ثباتاً في معاداة الجدلية في تاريخ الأفكار بأكمله. إنها فكرة أنانية وهندسية، تهيمن عليها "التعريف الزائف" وتعتمد على الوعي المتجسد. ربما كانت الأيديولوجية الستالينية تمثل الدرجة القصوى التي يمكن أن يصل إليها الوعي الزائف. في ذلك الوقت، عندما كنا نقرأ الصحافة الشيوعية أو نستمع إلى الخطابات الدبلوماسيين السوفييت، كان لدينا انطباع حقيقي بأننا نتعامل مع كائنات ذات دماغ مختلف عن دماغنا. هذا يُلقي نظرةً على هويةٍ بنيويةٍ بين الوعي الزائف والوعي الفصامي. قد يبدو هذا التعريف للوعي الزائف كفكرٍ لا ديالكتيكي تعسفيًا. لنُلاحظ، لمصلحة القراء المُحتملين المُهتمين بالوفاء للنصوص الكلاسيكية، أن التعريف الماركسي للأيديولوجيا مُلهمٌ بشكلٍ وثيقٍ إلى حدٍّ ما، شريطة أن نُعتبر الرؤية التاريخية بُعدًا هامًا في أي جدلية. لكن هذه ليست النقطة الجوهرية في المسألة. جميع العلوم تعمل بمساعدة مُسلَّماتٍ تعسفيةٍ إلى حدٍّ ما، وغالبًا ما تتزامن مع أنظمةٍ بديهيةٍ غير متوافقة. القيمة الأداتيَّه للأنظمة البديهية وحدها هي التي تُتيح لنا قياس قيمتها بأثرٍ رجعي. وسواءً أكان تعريفنا "الديالكتيكي" للوعي الزائف تعسفيًا أم لا، فقد مكّن من تطوير توليفةٍ واسعةٍ تشمل - ولأول مرةٍ على حدِّ علمنا - قطاعًا من الاغتراب السريري. وبقدر ما يُثبت هذا التوليف تماسكه وفائدته، فإنه يُبرِّر بأثرٍ رجعيٍّ التعريف الذي كان بمثابة نقطة انطلاقه. ليس هناك ما يمنعنا من معارضة المفهوم "الإيلي" للتعريف "الجدلي" للوعي الزائف. لقد كشف كتاب آخرون، أكثر تألقاً من كتابنا، عن الصعوبات التي تكتنف نظرية فيلفريدو باريتو حول تداول النخب. ولكن إذا أثبتت هذه النظرية قدرتها على تفسير بعض جوانب الوهم السياسي ـ ونحن نفكر هنا في المكون الطوباوي لبعض البرامج ـ فليس لدينا سبب لرفض هذه المساعدة، حتى ولو كان ذلك يعني الترحيب لاحقاً، دون ندم، بالمفهوم الجدلي لمشاكل مختلفة. الحقيقة لا تتعايش مع الخطأ أبدًا؛ يمكن لنظامين بديهيين مختلفين أن يتعايشا ويتشاركا المهام؛ هناك رياضيات تستخدم هندسة إقليدس وهندسة ريمان بالتناوب. إن المنظورية في العلوم الإنسانية لا تنفصل عن الوضع الديمقراطي للفكر، في حين أن الاستبداد يميل إلى "إطلاق" منظور الفرد واعتبار الآخرين غير شرعيين. ", ومن بين البنيات المضادة للجدلية التي تترك بصماتها على الوعي الزائف، لا بد من الإشارة بشكل خاص إلى التعريف. وتغطي مشكلة تحديد الهوية وإساءة استخدامها مساحة ضخمة. ويتعلق الأمر بتخصصات متنوعة مثل نظرية المعرفة (راجع أعمال إميل مايرسون)، وعلم نفس الطفل، وعلم الأمراض النفسية، والتحليل النفسي، وعلم اجتماع المعرفة والأيديولوجيا، وحتى، إلى حد ما، فلسفة القانون. إن تجميع هذه الجوانب المختلفة يتطلب كتابًا. في المسائل العلمية، يعتبر التعريف تقنية مشروعة تم تسليط الضوء على أهميتها وتدوين استخدامها في الأعمال الكلاسيكية لإميل مايرسون (الهوية والواقع). إن إساءة استخدامها في الأمور السياسية هي نتيجة حتمية للهيكلة الأنانية للفكر. إن النظام الذي يحتل مكانة متميزة في أذهان أنصاره (أي أنه لا يستطيع بحكم التعريف الدخول في علاقة عكسية) يفرض تصوراً مانوياً يرى التاريخ ببساطة باعتباره صداماً بين معسكرين متجانسين. وتميل الدعاية، من جانبها، إلى تعزيز هذا الاتجاه بهدف الاقتصاد في الفكر. ومن هنا ازدهار هذه المفاهيم الأنانية في الأيديولوجيات الشمولية، والتي تترجم على المستوى المنطقي الفرضية اللاواعية حول الوحدة الأساسية للمعسكر المعارض (البلشفية اليهودية). لقد رأى لابرويير بوضوح هذه العلاقة السببية بين الأنانية وشيوع مبدأ التعريف. في أحد فصول كتاب الشخصيات نجد هذه الفقرة المذهلة: "الأمراء، دون أي علم أو قاعدة أخرى، لديهم ذوق للمقارنة: إنهم يولدون وينشؤون في وسط أفضل الأشياء، وكأنها في مركزها، والتي يربطون بها ما يقرؤون، وما يرون، وما يسمعون". إن ريموند آرون، الذي لا يحب كلمة "جدلية" ولكن تحليلاته تشكل في كثير من الأحيان نماذج للنقد الأيديولوجي الجدلي، قد ندد في كثير من الأحيان في كتاباته بتقنية تحديد السلسلة، والتي يعزو أصلها إلى الموقع المتميز للحزب في الكون الذهني الشيوعي، أي باختصار إلى العامل الأناني. وسوف نظهر في سياق هذا العمل أن هذه الظاهرة هي في الأساس جانب جزئي من الانتشار العام للهياكل اللاديالكتيكية - غلبة المكان على الزمن هي جانب آخر - في عالم الاغتراب. خصص الماركسي المجري بيلا فوجارناسي فصلاً من كتابه "الماركسية هي المنطق" لمشكلة التعريف الزائف في السياسة؛ وأمثلته مستمدة من ما يسمى بالأيديولوجيات "اليمينية"؛ لقد أخذنا فكرتها المركزية لاستخدامها في نقد أيديولوجية اليسار المتطرف. وفي نهاية المطاف فإن مجال الاغتراب الفردي ليس غافلاً عن هذه الظاهرة. يمكننا أن نقتصر على ذكر مثال سهل للغاية - ومع ذلك صحيح - للفتيشية الجنسية: إن استبدال شيء ما بمجموع شريك الحب هو تحديد زائف حقيقي تمامًا. من ناحية أخرى، سيكون هناك نقاش مطول لاحقًا حول البحث المثير للاهتمام الذي أجراه سيلفانو أرييتي من نيويورك، والذي أظهر في دراسته لما يسميه "الاركيولوجيا القديمة" للمصابين بالفصام، أن هؤلاء المرضى النفسيين لديهم أيضًا "تحديد سهل". نحن إذن أمام بنية أساسية ـ قاسم مشترك حقيقي ـ لمختلف جوانب الاغتراب، التي يشكل استمرارها على المستوى الفردي والجماعي أحد أسس ما نسميه البنية الانفصامية للوعي الزائف. السؤال الذي يطرح نفسه هو: بعد مرور ثلاثة عشر عامًا على نهاية الستالينية، هل لا يزال لهذا المفهوم للوعي الزائف أي قيمة تفسيرية في السياسة؟ هذا ليس سؤالا بلاغيا. لقد تم الإشارة إلى نهاية العصر الأيديولوجي مراراً وتكراراً في الآونة الأخيرة؛ بالنسبة للماركسيين، الوعي الزائف لا ينفصل عن الأيديولوجية. علاوة على ذلك، فإن موقف المشكلة نفسه ليس خاليا تماما من الغموض. في الواقع، يشير مصطلح الأيديولوجية إما إلى الجهاز العقائدي بأكمله لحزب ما، أو إلى التعبير الأيديولوجي عن رؤية تاريخية متدهورة. في الحالة الأولى، سيكون تراجع الأيديولوجيات ظاهرة من ظواهر الانحطاط الثقافي؛ أما في الحالة الثانية، فعلى العكس من ذلك، فإنها ستعلن عن قدوم عصر الوضوح. يمكن أن تتعايش هاتان العمليتان، بل وتتداخلان؛ أما الثاني فهو وحده مرادف لتراجع الوعي الزائف. ويحدث أيضًا - ويعرف الأطباء النفسيون هذه الظاهرة جيدًا - أن فقر المظاهر الفكرية يخفي وراءه استمرارًا لقاعدة من الإدراك غير الواقعي. بعض أشكال الوعي الزائف، مثل الستالينية، تحيط نفسها بدرع أيديولوجي سميك. والبعض الآخر، مثل أصحاب التوجه العرقي الأميركي، متمردون على أي أيديولوجية. وبالتالي فإن تراجع نفوذ الأيديولوجيات لا يشكل تقدماً في حد ذاته. ولا يمكن أن نصل إلى معلومات صحيحة بشأن هذه المشكلة إلا من خلال دراسة كل حالة على حدة على مختلف القطاعات المعنية. في مقدمة العمل، يكون هذا الفحص بالضرورة ملخصًا. ومن المؤكد أننا نشهد عملية حقيقية لإزالة الاغتراب في القطاع الروسي من العالم الشيوعي. في عمل حظي بتعليقات واسعة النطاق في فرنسا حوالي عام 1954، يشرح السيد إسحاق دويتشر هذه العملية من خلال التأثيرات المسببة للاغتراب للتقدم التقني الذي أدى، من خلال ضمان سيطرة جديدة للإنسان على الطبيعة، إلى دفع السحر البدائي إلى الوراء، وهو إرث من الستالينية. إن هذا التفسير الذي قدمه دويتشر لا يجذبنا إلا إلى حد ما. إن مثال ألمانيا في عهد هتلر يثبت أن التكنولوجيا الأكثر تقدماً يمكن أن تتعايش مع تراجع عميق في الوعي. لا يمكن اعتبار التقدم التقني في حد ذاته عاملاً من عوامل إزالة الاغتراب. وربما لعبت الآلية التي وصفها السيد دويتشر دوراً ثانوياً؛ إن السبب الاجتماعي الحقيقي وراء هذا الذوبان الأيديولوجي يجب أن نبحث عنه في مكان آخر. ربما يكون هذا السبب هو ظهور الاشتراكية متعددة المراكز التي، من خلال كسر المخطط المانويّ للعالم الخاص بالشيوعية، جعلت في الوقت نفسه الأساس الوجودي للأنانية الجماعية يختفي، والتي تشكل "معادلاتها" العامل الأساسي لهندسة (انفصام) الوعي. وفي الوقت نفسه، استعادت نظرية الاغتراب، التي حظرها ستالين بشدة، بعض المصداقية في المعسكر الماركسي، كما يتضح من كتابات ج. نادور في المجر، وآدم شاف في بولندا، وأخيراً روجيه جارودي في فرنسا. وفي الوقت الذي تعالج فيه الماركسية الحكومية نفسها جزئياً من حالة عميقة من الاغتراب والوعي الزائف، فإنها تعيد اكتشاف الأهمية النظرية لمشكلة الاغتراب. لقد شهدنا في الولايات المتحدة مؤخراً ظهور مناخ سياسي بدأ يشبه مناخ ألمانيا في عهد جمهورية فايمار، ولكن من دون البؤس. إن صعود المطابقة، وصعود "التحديد الخارجي" على حساب "التحديد الداخلي" للسلوك، وإزالة الصفة الشخصية عن الإنسان الأمريكي، سجين "التنظيم"، المحاصر في مرمى نيران الدعاية والإعلان، كل هذا يؤدي إلى ظهور اتهامات لا تقل انتقاداً لشكل أمريكي محدد من الاغتراب الاجتماعي. هناك بالفعل رصيد دائم من الوعي الزائف في الولايات المتحدة يتكون في المقام الأول من مقاومة التغيير. إن المكارثية، والغولدووترية الأقرب إلينا، هما في الأساس نتيجة للاستياء المؤقت لهذا الصندوق الدائم لصالح الظروف السياسية. لقد حرصنا أعلاه على تحديد الوعي الزائف بوضوح فيما يتعلق بسلوك الفشل في السياسة: تشكل الستالينية في نفس الوقت "النوع المثالي" التلقائي للوعي الزائف وفي نفس الوقت الحالة النموذجية للأيديولوجية التي، على حد تعبير ماركس، "تصبح قوة مادية من خلال الاستيلاء على الجماهير". ولكن ليست كل أشكال الوعي الزائف أدوات للنجاح، ولم تقدم أي حركة فكرية خدمة أكثر عفوية لخصمها من المكارثية وخلفائها. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن المركزية العرقية الجنوبية، وهو وعي زائف نموذجي لإدراكها المتشدد والمُزيل للطابع الشخصي لأعضاء ما يسمى بالأعراق "الدنيا"، وعدم وعيها بدوافعها الحقيقية، ومانويتها، ورفضها لأي إمكانية للتقدم للمجموعة العرقية "الدنيا"، وهو رفض متبلور في هويات زائفة حقيقية ["الزنجي يظل زنجيًا دائمًا"]. إن المركزية العرقية السوداء تضعنا، حتى قبل مغادرة أمريكا، في وسط أجواء العالم الثالث. لقد كان إنهاء الاستعمار هو الحقيقة العظيمة لإزالة الاغتراب في عصرنا ـ وقد أظهر جاك بيرك ذلك في صفحات مبهرة. لكن كما هو الحال مع كل حركات التحرر في التاريخ، فإنها مهددة بالوعي الزائف، ربما في شكله الطوباوي. إن الفضل الكبير لعمل جان زيجلر: علم اجتماع أفريقيا الجديدة هو أنه طرح هذه المشكلة بوعي شديد. إن زيجلر مطلع على أعمال لوكاش، وهو يدرك أهمية مشكلة الاغتراب. وكان خطأه هو رغبته في تغطية مساحة هائلة في ثلاثمائة وثمانين صفحة، مما اضطره إلى اللجوء إلى أسلوب أخذ العينات التعسفي إلى حد ما. ولا يمكننا أن نفكر هنا في التعامل، ولو بشكل مختصر، مع المشكلة العالمية المتمثلة في الوعي الزائف بالمسيحانية والطوباوية السياسية في العالم الثالث؛ وسنقتصر هنا على الإشارة إلى وجود مشكلة وخطورة هذه المشكلة التي تتطلب المعالجة إما في دراسات أحادية أو في عمل تاريخي عالمي وليس عملاً نظرياً مثل عملنا. إننا سوف نترك جانباً عمداً تحليل بعض الأشكال "الثانوية" للوعي الزائف، ذات البنية المثيرة للاهتمام، ولكن نطاقها التاريخي محدود، مثل البوجادية الفرنسية، التي شكل حنينها إلى الجمعية العامة مثالاً بارزاً على اللاتاريخية الأيديولوجية، أو حركة جون بيرش في الولايات المتحدة. كما أن استخدام مفهوم الوعي الزائف في البحث التاريخي هامشي أيضًا مقارنة بدراستنا التي ركزت على الأحداث الجارية. ولكن يجب أن نشير إلى بعض المشاكل التي يواجهها الباحثون المتخصصون الذين لا يترددون في استخدام اقتراحات غير المتخصصين في عملهم. وهكذا ــ ولنأخذ مثالاً واحداً فقط ــ فإن الفترة المعروفة باسم "إعادة الإعمار" في التاريخ الأميركي (التي تلت الحرب الأهلية مباشرة) تميزت من جانب المنتصرين بشكل غريب من الوعي الزائف الذي لا شك أن وجوده هو أحد الأسباب البعيدة للدراما العنصرية الحالية. إن الرغبة في إسناد المسؤوليات الحكومية فورًا إلى أشخاص بالكاد ابتعدوا عن حالة العبودية ــ بغض النظر عن لون بشرتهم ــ هي علامة على شكل خطير من أشكال التفكير غير التاريخي، وقد تم الانتقام من هذا الخطأ منذ ذلك الحين بوحشية. وهناك مجال آخر حيث يمكن لمفهوم الوعي الزائف أن يساعد المؤرخ بشكل مفيد على فهم موضوعه وهو أصل الأنظمة الفاشية. من المؤكد أننا لا ننوي ـ كما يود أي ناقد سهل أن نصدق ـ أن نختزل المشكلة الاجتماعية المتمثلة في الفاشية في مسألة الوعي الزائف. الفاشية ظاهرة معقدة تتعلق بالاقتصاد وعلم الاجتماع والسياسة؛ علاوة على ذلك، فهي تحمل دائمًا علامة الخصوصية التاريخية وحتى العرقية لمكان نشأتها. لا يستطيع أحد أن يدعي جدياً أن الفاشية هي وعي زائف، ولكن هذه الفئة تلعب مع ذلك دوراً أساسياً في البنية الأيديولوجية للأجواء ما قبل الفاشية وفي أيديولوجية الفاشية القائمة. يخصص أحد فصول هذا الكتاب لدراسة الاشتراكية الوطنية باعتبارها أيديولوجية متجسدة؛ تقول صيغتنا ضمناً أننا لا نرفض مسبقاً أي تفسير اقتصادي أو سياسي (على مستوى ما يسميه الأنجلوساكسونيون "صنع القرار") أو تاريخي. لقد امتنعنا أيضًا عن أي فرضية تتعلق بالأصل. وأخيرًا، دعونا نشير، فيما يتعلق بأصول الفاشية الإيطالية، إلى العمل الرائع لروبرت باريس والذي يشكل، على وجه التحديد في الاستخدام التوضيحي لمفهوم الوعي الزائف، نموذجًا لهذا النوع. وعلى الرغم من التراجع الذي لا يمكن إنكاره للأيديولوجيات، فإن مفهوم الوعي الزائف يبدو أنه يحتفظ ببعض القيمة كفئة تفسيرية للأحداث الجارية. ونحن نشهد أيضاً، على الأقل في فرنسا، النشر المتتالي للأعمال السياسية التي غالباً ما تشكل، تحت عناوين مختلفة، تحليلاً للهياكل غير الواقعية، وغير الجدلية في كثير من الأحيان، أو حتى المنفصلة بوضوح عن التجربة السياسية للمجموعات. نحن لا نفكر هنا في أعمال من نوع "اغتراب..." التي تتكاثر حاليًا والتي غالبًا ما يلعب فيها مفهوم الاغتراب دور الكليشيه، بل نفكر في أعمال جادة من نوع "الوهم السياسي" لجاك إيلول ، و"الانسان المحير" لـ ر. موري، دون أن ننسى العمل الرائع "مداخلات في أمور مختلفة" لجان بولهان. ومرة أخرى، يمنعنا الإطار المحدود لـ"المقدمة" من أن نكون شاملين. لذلك سوف نقتصر - كنوع من الاستنتاج - على وضع عمل ذو نطاق دولي وغير معروف نسبيًا في فرنسا فيما يتعلق بمفهوم الوعي الزائف: إنه عمل ك. مانهايم. وقد وُصف مانهايم بأنه "ماركسي برجوازي"؛ لقد قبل هذا التأهيل إلى حد ما، لكنه لم ينكره أبدًا. أنا أراه بسهولة أكبر باعتباره ماركسيًا ديمقراطيًا لا يكون "برجوازيًا" إلا بقدر ما تكون البرجوازية هي الحامل التاريخي للفكرة الديمقراطية. إن الماركسي البرجوازي الحقيقي، الذي يرغب في اتباع البرجوازية في جميع تجسيداتها وفي جميع مغامراتها، بما في ذلك المغامرة الشمولية، هو في رأينا فيلفريدو باريتو. إن عمل مانهايم، الذي ولد في ظل أزمة، يستجيب لحاجة واضحة للغاية: وضع إنجازات الماركسية، وفي المقام الأول إنجازات النقد الأيديولوجي وتقنية كشف الماركسية، في خدمة الديمقراطية، وليس البرجوازية أو الرأسمالية. إن مسألة إمكانية وجود ماركسية ليست برجوازية بل "ليبرالية" تشكل مسألة حيوية بالنسبة للديمقراطية. إن هذا الانشغال يسيطر بشكل قهري على كتاباته بعد عام 1933 (كتابات الهجرة)، ولكنه موجود مسبقًا بشكل كامن في كل أعماله، بما في ذلك تلك التي كتبها منذ البداية. كان مانهايم يرغب ـ ونحن نعيد صياغة هنا صيغة ماركسية معروفة ـ في "صنع الأسلحة الإيديولوجية للديمقراطية". عمله غير معروف إلى حد كبير ويتم التقليل من شأنه بشكل عام في فرنسا. نقتبس منه دون أن نقرأه كثيراً ونتفق ضمناً على اعتباره كمية ضئيلة. والسبب في ذلك هو وجود ترجمات رديئة، إن لم تكن مشوهة، فضلاً عن سوء الفهم المستمر الذي يحافظ عليه المعارضون، والأصدقاء، وفي نهاية المطاف مانهايم نفسه. كان يُنظر إلى مانهايم على أنه عالم اجتماع المعرفة قبل كل شيء؛ لكن دراساته المعرفية الاجتماعية الصارمة قليلة العدد وذات أهمية متوسطة. ومن ناحية أخرى، فإن مساهمته المهمة في مشكلة الأيديولوجية ـ وضمناً مشكلة الوعي الزائف ـ قد طغت عليها تماماً الترجمة غير الكافية لكتاب "الأيديولوجيا واليوتوبيا". يُعرّف مانهايم الأيديولوجية بأنها نظام من الأفكار يتخلف عن الواقع؛ إنه، باختصار، تبلور رؤية مناهضة للتاريخ. يقدم عصرنا أمثلة أكثر إضاءة من تلك التي استخدمها مانهايم: الوعي الاستعماري الذي يفسر الواقع الحالي من منظور عصر "سياسة الزوارق الحربية" أو حتى الانعزالية الأمريكية التي تفترض "عزلة" الأراضي الأمريكية، التي كانت حقيقية في زمن ماكينلي، وغير موجودة اليوم. في كتابه "الأيديولوجيا واليوتوبيا"، ينتقل مانهايم إلى تقسيم مزدوج لهذا المفهوم. من ناحية أخرى، يعارض المفهوم الخاص للأيديولوجية، وهو بنية جدلية بحتة ("الأيديولوجية هي الفكر السياسي للآخر"!) بمفهومه العام الذي يعترف بأن كل فكر سياسي يحتوي على عنصر أيديولوجي لأن كل سياسة تعكس وجهة نظر معينة. من ناحية أخرى، يميز مانهايم بين المفهوم الخاص للأيديولوجيا، الذي يفترض تضليلًا واضحًا ومهتمًا، ومفهومها الكلي ، الذي يترجم إعادة هيكلة "مرتبطة بالوجود" للأسس المفاهيمية والإدراكية للفكر السياسي، والفكر الطوباوي، وفي النهاية، يكون القاسم المشترك بينهما هو حقيقة أنهما تبلوران مختلفان للوعي الزائف. يبدو أن طموح مانهايم هو تحرير مفهوم الأيديولوجية من كل عبودية حزبية و"جدلية" من أجل جعله عنصرًا من إطار السياسة العلمية. ومن الواضح أن صحة مفهوم الوعي الزائف لا تنفصل عن نجاح هذه المحاولة. في عام 1933 غادرت مانهايم ألمانيا؛ ومن الآن فصاعدا ستظهر كتاباته باللغة الإنجليزية. تشكل هذه الكتابات فصلاً مثيراً للاهتمام في تاريخ الأفكار. غادر لوكاش إلى الاتحاد السوفييتي؛ سوف يظل شيوعيًا بالتأكيد، ولكن شيوعيًا "هامشيًا" مرفوضًا جزئيًا من قبل النظام. أما مانهايم فقد اختار ما سيصبح لاحقا العالم الغربي، وعلى وجه الخصوص العالم الأنجلو ساكسوني الذي شعر تجاهه بالإعجاب التقليدي من جانب الدوائر الليبرالية في المجر في الماضي. ولكن هذا لم يمنعه من تشخيص مبكر للضعف الإيديولوجي للعالم الأنجلوسكسوني، وهو ضعف ناجم عن "مقاومته للتغيير". التقليدية البريطانية، والتوافقية الأمريكية، والميل نحو "الضيق الأفق". في كتاباته باللغة الإنجليزية، يبدو أنه قد تولى مهمة كبرى: وضع إنجازات الماركسية بشكل عام والديالكتيك بشكل خاص في خدمة الديمقراطية المهددة، والقيام بذلك دون إثارة صدمة جمهوره الجديد بشكل كبير من خلال استخدام المصطلحات ذات الأصل الماركسي. وقد وُصِف مانهايم بأنه "ماركسي برجوازي" خلال فترة فايمار، وبالتالي أصبح، في أعماله المكتوبة باللغة الإنجليزية، ماركسيًا حقيقيًا جزئيًا. تشكل هذه الأعمال في الواقع درسًا جدليًا حقيقيًا للجمهور الناطق باللغة الإنجليزية، ولكنه درس تظل فيه كلمة "جدلي" محظورة تمامًا، لتحل محلها مصطلحات غير ضارة: الكمال (= الكلية الجدلية)، والتعليم من أجل التغيير وغيرها من المصطلحات من نفس النوع. تحت عنوان "الوعي الاجتماعي" غير المؤذي، يقدم لنا مانهايم نظرية جدلية كاملة حول الوعي الزائف، والتي أصبحت مقبولة في المجتمع الراقي من خلال التخلص عمداً من أي مفردات تبدو مشبوهة. ويؤكد مانهايم على هذه النقطة قائلاً: "الوعي ليس ظاهرة معرفية بحتة". إنها في الأساس تقنية وظيفية اجتماعية جدلية، أو إذا شئت، نهج شمولي. إن القول بأن "الزنجي يظل زنجيًا دائمًا" يدل على نقص الوعي لسببين: مقاومة التغيير، وعدم فهم دور المكون الاجتماعي في نشأة الدونية الافتراضية الحالية للعرق الأسود. قد يقول القارئ الألماني إن أيديولوجية الاشتراكية الوطنية كانت، باختصار، افتقارًا إلى "الوعي" تم دفعه إلى أقصى حد؛ ونحن لا نعتقد أنه ينبغي لنا أن نناقضه في هذه النقطة. يبدو أن الفكرة المركزية لعمل مانهايم الإنجليزي بأكمله هي هذا: تقديم نظرية أولية للاغتراب والجدلية في متناول الجمهور المقاوم للمصطلحات الماركسية، وفكرة التغيير، والتأمل الفلسفي. في هذه الكتابات، يذكرنا مانهايم بطبيب يريد دون قصد فرض علاج مؤلم على مريض عنيد. ولم يتمكن أحد من تحديد دوره بشكل أفضل من المنظر الماركسي في عصر فايمار، ك.-أ. فيتفوجل، الذي صنفه بين "علماء الاجتماع البرجوازيين الذين ينهبون ترسانة العدو الطبقي ". ومنذ ذلك الحين، فعل فيتفوغل، المؤلف المستقبلي لعمل ضخم عن الاستبداد الشرقي، الشيء نفسه تماماً..." فكيف نتخلص من الوعي الزائف وننظر الى العالم كما هو لكي نتمكن من تغييره نحو الافضل ونحقق عملية الاقلاع المجتمعي والاستقرار السياسي والاسترجاع الحضاري؟

بقلم جوزيف جابل

***

..................

المصدر

Joseph Gabel, La fausse conscience, revue L'Homme et la société, Année 1967  3  pp. 157-168

للاجابة على فك الاشتباك بين المكان والزمان وعلاقة الذاكرة بالخيال وعلاقة الاثنين مع الزمان:

- الذاكرة هي مستودع ما تختزنه الذات من تجارب الحياة على شكل تراكم خبراتي يصيبه النسيان مع مرور الزمن. الذاكرة ليست تموضع تجريدي في الوعي الادراكي فقط بل هي وجود عضوي في بعض خلايا الدماغ. كذلك الخيال وان كان يغلب عليه اللاشعور فهو ايضا يحسب على بعض الخلايا العصبية بالدماغ هي المسؤولة عن تداعيات الخيال.

- الخيال ليس مصدره الذاكرة بل مصدره المخيلة التي تبتدع الخيال بلغة التعبير عنه تجريديا بالفكر واللغة. هنا تكون المخيلة زمانا زائلا بخلاف الذاكرة التي تكون زمانية ثابتة بدلالة مكانها الثابت في تركيبة الدماغ العضوي لبعض الخلايا العصبية. الزمان حركة دائمية حتى حين يلازم كل مدرك وجودي ثابت.

الزمان في علاقته بكل من الذاكرة والخيال اوضحه بالتالي:

الذاكرة هي وسيلة التعامل مع الزمن الماضي كإستذكارات لحقائق تاريخية حدثت فيه، واخذت صفة الثبات كوقائع تاريخية وليست زمنية ملازمة حيادية تجريدية الادراك. اننا حين نقول ان الوقائع التاريخية هي ثبات زماني غير مدرك فاننا بذلك نعتبر ثبات الزمان الوهمي يقاس بدلالة ثبات المكان الواقعي الحقيقي كتاريخ ماضي وليس كزمن ماض.

 رغم استحالة الذاكرة استذكار وقائع التاريخ من دون ملازمة زمنية ادراكية محايدة تجريدية لها. هناك فرق كبير بين زمن الذاكرة الذي هو استمرار تداعيات التذكر لاحداث الماضي، وبين الزمان التاريخي الذي حدثت فيه وقائع ذلك التاريخ الذي تحاول الذاكرة استحضاره من ماضيه التاريخي الى زمانيتها في الحاضر الذي تعيشه الذاكرة. بالحقيقة الاستذكار الخيالي لا زمني.

اذا تساءلنا لماذا يكون استذكار الذاكرة لتاريخ الماضي ناقصا ولا يتطابق تماما مع تداعيات الذاكرة؟ الجواب هو ان الذاكرة مخزن تراكم خبرة زمنية واقعية تتآكل تدريجيا ويطالها النسيان. لذا ليس كافيا الاعتماد على الذاكرة في دراسة وقائع التاريخ زمانيا من غير الاعتماد على الكشوفات الاثرية والتنقيبات الحفرية ومقاربة معرفة زمن حدوث تلك الوقائع تماما.

اصبحت الاركيولوجيا اليوم هي وسيلة معرفة حقائق التاريخ وليس المدونات التي لا تسعفها حقائق اركيلوجيا الحفريات والتنقيب الاركيولوجي. تجري اليوم مراجعة معظم ما يسمى السرديات الكبرى باحدث الوسائل العلمية في الوصول الى حقائق وليس اقرار خرافات واساطير لا تحكمها تجارب العلم وكشوفات المعرفة.

اما عن الخيال فهو زمانية مرتبطة بالمخيلة في استحضاره ولا علاقة موجودة بينه وبين الذاكرة. المخيلة متحررة تماما من سطوة الزمن عليها في تسييرها فعلاقة الزمن بالخيال علاقة محايدة. ومتى ما تموضعت الخيالات في فكر تعبيري تفصح عنه اللغة، تكون فاعلية الزمن عليه محكمة تماما. فالخيال هو تصورات يمتزج احيانا فيها الشعور باللاشعورفي انتاجية يرغبها تفكير العقل. وفي تعبير دقيق لفرويد قوله " اللاشعور لا يحتاج الزمن" لأن خاصية افكار اللاشعور لا يحدها الزمان العقلي. الذي ترتبط به المخيلة لكن ليس على حساب تحررها من سطوة الزمان العقلي عليها في حدّها وتعيين مسارها في تعبير اللغة عما يبتدعه الخيال. ربما تبدو العبارة غير محكمة حين نقول الخيال لا زماني لكن الحقيقة العلمية والفلسفية تؤكد ذلك. الخيال في مقارنته باللاشعور الذي هو تداعيات غياب رقابة العقل عليها. لكن الخيال هو شعور يدرك تداعيات التذكر الذي يحتاج الزمن لانه خاضع الى تداخل الشعور الادراكي في توظيفه تداعيات اللاشعور الذي لا يحتاج الزمن. يعبر احد الفلاسفة الاميركان (ان الوعي هو نوع من التحرر من الواقع والزمن يسبق الوعي الحقيقي).

ارسطو والزمن

المعتقد الذي لم يفارق ارسطو هو أعتباره الزمان مقدار حركة الشيء وليس هو حركة بذاتها. يعود الى برهنة نظريته هذه بمقولته العبقرية (الزمان لا يحد بالزمان)، وهي مقولة صائبة صحيحة مئة بالمئة. ويذهب الى وجوب التفريق بين حركة الجسم وبين زمانية مقدار تلك الحركة، بقوله أن حركة الشيء داخل الزمان، هي سرعة بطيئة وسرعة سريعة وكلتاهما خارج الزمان الذي يحتوي الجسم او الشيء، معتبرا الزمان هو رتابة من الانتظام الثابت الذي لا يتغير ، بينما يكون الجسم او الشيء داخله هو حركة لا منتظمة ولا رتيبة وبذا يرسي ارسطو مفهوم أن الزمن ليس ما يدرك بدلالة حركة الجسم التي سبق وقالها. هو حقيقة الزمان لا تدرك زمانيته بخلاف الاشياء التي ندرك زمانيتها بدلالة حركتها المادية داخل الزمن. بعبارة ثانية اوضح اراد ارسطو القول أن الزمان ازلي سرمدي وهو كلي وحدة واحدة لا يمكن تجزئتها كمفهوم مطلق، ولا حتى كقطوعات زمنية تحقيبية هي صفات زمنية للاشياء المتحركة بلا انتظام وليست صفات ماهوية للزمن الثابت المنّظم. كما سبق لي القول الزمان ليس ثابتا بل متغيرا ملازما تغيرات المكان.

وفي تعبير بدوي لشرح ما اورده ارسطو نقلا عن المصدر الاجنبي يشير الى أن الزمان لا يكون زمانا الا في مجانسته الحركة، عندما يكون الزمن والحركة من جنس زمني واحد يحدهما ويجمعهما معا، وبذلك يعود ارسطو الى اصل مقولته الزمان يقاس بدلالة حركة الاجسام ولا يمتلك الزمان حركة ذاتية مستقلة يمكن ادراكها بغير دلالة حركة الاشياء والاجسام داخله.

ويذهب ارسطو ابعد من هذا في مخالفته الرأي السائد فيزيائيا المكان يرتبط ادراكه بزمن يلازمه، ليستنتج أن الزمان الملازم للمكان، هو الذي يسير بدلالة المكان وحركته وليس العكس الزمان يقود حركة المكان الذي يعرف بدلالة الزمان. عن ذلك يقول احد الفلاسفة (الزمن هو بعد سببي للزمكان).

يشرح ارسطو كيف (يكون الزمان ليس حركة، ولكنه لا يقوم الا بدلالة الحركة التي تتضمن مقدارا او عددا)، وقبل الانتقال لمناقشة العبارة نرى تفسير عبد الرحمن بدوي لها قوله (ثمت نوعين من العدد، عددا موضوعيا وهو للاشياء القابلة للعد، وعددا ذاتيا هو الفكرة التي يكونها العقل وبها يعد الاشياء القابلة للعد وهذا الاختلاف هو ما تقوم عليه الآنية). بمعنى هناك عدد موضوعي والى جانبه ومعه يلازمه عدد تجريدي بالفكر.

نتساءل هنا بدورنا:

- هل الزمان الذي هو مقدار حركة الجسم، والذي هو ليس حركة ذاتية يختص بها يقاس بمقدار " كمي" أم بمقدار عددي ؟ ارسطو نقل عنه بدوي ذهابه نحو الاختيار العددي. ولم يوضح لماذا وكيف يكون تمييز مقدار الحركة بالكم عنها الاختلاف بالعدد؟.

- هل الزمان يمتلك ذاتية عددية خاصة به، تقوم على دلالة عددية منفصلة عن عددية المكان في قياس حركته عدديا داخل الزمان الذي يحتويه. بمعنى الزمن يقاس (كميّا) بدلالة احتواء مادة لفراغ.

- واضح يمكن تمرير الاختلاف بين العدد الموضوعي وبين العدد الذي هو فكرة مكتسبة يختزنها العقل تجريدا لا علاقة زمنية لها معها.، لكن هذا التمايز ما اوجه تعالقه بالزمن الآني الذي استنتجه بدوي؟. كيف يتم ربط العدد كفكرة او كموضوع بالآنية الزمانية؟ الاجابة لمجرد تدعيم نظرية أن الآنية(الزمن الحاضر) لا تنقسم على نفسها لا بالكم ولا بالعدد.

وفي تعبير بدوي لشرح ما اورده ارسطو نقلا عن المصدر الاجنبي يشير الى أن الزمان لا يكون زمانا الا في مجانسته الحركة، عندما يكون الزمن والحركة من جنس زمني واحد يحدهما ويجمعهما معا، وبذلك يعود ارسطو الى اصل مقولته الزمان يقاس بدلالة حركة الاجسام ولا يمتلك الزمان حركة ذاتية مستقلة يمكن ادراكها بغير دلالة حركة الاشياء والاجسام داخله.

ويذهب ارسطو ابعد من هذا في مخالفته الرأي السائد فيزيائيا المكان يرتبط ادراكه بزمن يلازمه، ليستنتج أن الزمان الملازم للمكان، هو الذي يسير بدلالة المكان وحركته وليس العكس الزمان يقود حركة المكان الذي يعرف بدلالة الزمان.

يشرح ارسطو كيف يكون الزمان ليس حركة، ولكنه لا يقوم الا بدلالة الحركة التي تتضمن مقدارا او عددا، وقبل الانتقال لمناقشة العبارة نرى تفسير عبد الرحمن بدوي لها قوله (ثمت نوعين من العدد، عددا موضوعيا وهو للاشياء القابلة للعد، وعددا ذاتيا هو الفكرة التي يكونها العقل وبها يعد الاشياء القابلة للعد وهذا الاختلاف هو ما تقوم عليه الآنية). بمعنى هناك عد موضوعي والى جانبه ومعه يلازمه عد تجريدي بالفكر.

بحسب ارسطو الذي يذهب الى تحديد الآن او الحاضر بالمحددات التالية:

- الآن او الزمن الحاضر ليس جزءا من كل لأن الجزء مقياس للكل، والكل لابد أن يكون مركبا من أجزاء، بخلاف الزمن ليس مركبا من آنات. بل وحدة كلية متجانسة الصفات والماهية في مطلق ازلي لا نهائي ازلي.

- الآن الحاضر لا ينقسم لذا لا يتركب ما ينقسم المادة المدركة زمانيا مما لا ينقسم الزمان غير المدرك بغير ملازمته ما هو حركة ومدرك. .

- الآن الحاضر لا يوجد فيه حركة ولا سكون. هذه العبارة لارسطو جاءت بتاثير من افلاطون وبعض فلاسفة ما قبل سقراط في اعتبارهم الزمن الحاضر وهما افتراضيا لا حقيقي . " ناقشت هذه العبارة في مقالة سابقة منشورة لي بعنوان افلاطون والتحقيب التاريخي للزمان).

 الآن بمعنى الحاضر هي جزء من الكل الزماني في المجانسة الكيفية الواحدة، ولو كانت الآن جزئية مغايرة الكيفية الزمانية فلا يمكنها التوسيط التجسيري بين حدين زمانيين هما الماضي والمستقبل.

صحيح جدا أن الآنية هي زمن جزئي بسيط نقطة زائلة لكنها تحتفظ بماهية زمنية ليست متناقضة مع ماهية كلية الزمان الازلي غير المدرك. ثم لا يوجد ما يدعم أن الزمان كيفية غير قابلة الى تقسيم تحقيبي زماني مدرك ولا الى آنات لا نهائية. مقولة ارسطو الرائعة (الزمان لا يحدد بالزمان) مقولة النقص بها انها تتعامل مع الزمان الكوزمولوجي وليس تعاملها مع الزمان الارضي التاريخي المختلف عن الزمان الكوني. فالزمان السرمدي الكوني الازلي لا يقبل التجزئة لا بالدلالة ولا بالادراك، فهو كلي لا يمكن الاستدلال بدلالة الجزء عليه في وقت لا يمكن تجزئة اي جزء منه. أما ان الزمان الارضي وهو ما لم يكن يقصده ارسطو فهو يقبل دلالة حدوده بتجزئته كتحقيب زماني ارضي وليس كوزمولوتي كوني. والتحقيب الزماني الارضي يبدأ بالثانية والدقيقة والساعة واليوم والاسبوع والليل والنهار والفصول الاربعة وهكذا. لكن اهم ميزة ان هذه التقسيمات التجزيئية افتراضية وهمية زمانيا ما لم تقترن بحركة مكانية.

من غير المقبول تمرير أن الآنية ليست جزءا ماهويا متجانسا مع زمان كلي سرمدي ازلي، مما يترتب على عدم المجانسة أنها ليست زمانا وان تكون ماهية ليست زمانية وزجها ومعالجتها على أنها توسيط لحظة انتقالية غير مدركة زمانيا، هذا غير وارد ولا صحيح. كما ان الانية لا تمتلك مجانسة الزمان خطأ ينسف كلية الوحدة التجانسية المطلقة للزمان. الزمان كمفهوم يعبر عن دلالة مطلقة لا يقبل التجزيء والتقسيم صحيحة جدا كما وردت في تعبير ارسطو العبقري (الزمن لا يحدد بالزمان) هو توكيد ارسطو لحقيقة الزمان كلية موحدة واحدة ازلية كمفهوم مطلق سرمدي وازلي لا يمتلك الانسان معرفة ماهيتها كما لا يعرف آلية اشتغالها. ثم بهذه المقولة ميّز ارسطو بين مفهوم الزمن كمطلق لا يتجزأ، وبين مفهوم الزمن الارضي الذي يقبل القسمة والتحقيب بدلالة حركة الاجسام.

اما تعبير ارسطو نقلا عن بدوي بأن الان لا ينقسم وبذا لا يتركب ما ينقسم مما لا ينقسم، فهو يحمل تساؤل مررنا به اكثر من مرة هو اذا كانت الانية لا يتوزعها التوسيط التجسيري بين تحقيبين زمانيين هما الماضي والمستقبل من دون انقسام تجانسي زمني معهما فكيف يمكننا الاستدلال بان الآنية وهم غير موجود لأنه غير مدرك عقليا، في نفس وقت تجاهل ارسطو ومن بعده بدوي ان الآنية فيزيائيا كتحقيب زمني شغالة دائمية في مهمتها تجسير قطوعات الزمان التحقيبية على الارض حينما لا يكون الزمان مفهوما مطلقا لا يدركه العقل ولا تحد حدوده الازلية السرمدية. الشيء الذي ينهي اشكالية عدم مجانسة الآنية الحاضرة مع الزمان هو في التمييز بين الزمان الارضي بإختلافه عن الزمان كمفهوم كوني مطلق لا يقبل المقايسة الاستدلالية به في قول عبارة ارسطو الزمن لا يحد بالزمان وهو يقصد الزمن كمفهوم مطلق غير مدرك.

ختاما علينا التنبيه أن آنية الحاضر هي استدلال لا ضير أن يكون وهميا بالقياس لمدركات العقل، لكنه موجود كدلالة افتراضية غير وهمية زمانيا بمنطوق علم الفيزياء، بدليل كثير من الظواهر وقوانين الطبيعة والحياة العامة التي تحكم الانسان هي قوانين غير مدركة عقليا لكنها تفعل فعلها خارج رغائب الانسان، لكن عدم ادراكها لا يترتب عليه نزع فيزيائيتها الشغالة الدائمة في تنظيمها حياة الانسان منها باستقلالية عنه. اذ يقول الفيلسوف لي سمولن (اذا كان هناك شيء اساسي انما يكون هو الزمن).

قوانين الفيزياء الطبيعية هي ليست قوانين العقل في ادراكه او في عدم ادراكه نظام العالم الخارجي من حولنا. فمثلا قولنا الآن ليست استدلالا لماضي ولا لمستقبل، ونزع صفتي الحركة والسكون عنها يحتاج اثبات برهاني فلسفي، لكن الفيزياء العلمية وليس الفلسفة تجعلها موضوعا فيزيائيا قائما لا يحتاج البرهنة الفلسفية له.

***

علي محمد اليوسف / الموصل

يعتقد الفيلسوف والمؤرخ الألماني (اوسفالد شبنغلر) إنّ لكل حضارة اسلوبها الخاص الذي يميزها عن غيرها من الحضارات، ولهذا اطلق عليها بـ(الدوائر المغلقة)، والتي تشير إلى ثقافة الاختلاف السائدة بين الحضارات، ولا وجود لشيءٍ قد يؤسس لتقارب ذلك الاختلاف، فقد وجد الاختلاف داخل الحضارات وبني على أساس التأصيل، وكأن الحضارة تتطور بمدى قدرتها على الانغلاق والاختلاف عن الحضارات الأخرى. وليس لواحدةٍ من تلك الحضارات أن تفرض سطوتها الاجتماعية والثقافية والقيمية على غيرها، لأن الحضارات مقفلةٌ على ذاتها، وإن أرادت الانفتاح على غيرها من الحضارات فإن ما تستند عله لا يتجاوز ما يسميه (شبنغلر) بـ (التشكل الحضاري الكاذب)، فتعمد على اختراع صور ملائمة، لا إلى ذاتها، وإنما لتوجهات الحضارة الأخرى، لكن في جميع الأحوال، لا يمكن لنا أن نسمي ذلك انفتاحاً على ثقافات الآخر، وإنما هو تسليك مبدأي يشي بقبول ما يقدمه الآخر من أجل غاية قد تذكر أو لا تذكر، أما الحقيقة، فإن الإرث محفوظ، ولا يسمح للانفتاح أن يؤثر في محيط وعمق الثقافة المتجذرة في حضارة ما.

وإذا كان (شبنغلر) قد استوعب وأورد قوله في وصف تلاقح الحضارات، وانتهى إلى فشل إمكانية التواشج والحوار بين الحضارات، إلا أنه لم يدرك أن الزمن الذي سيليه قد أسس لتعميق فجوة التنافر والتناشز والتأصيل لثقافة الانغلاق، فلم يكن الأمر حكراً على قيام حضارة ما بالانغلاق على نفسها، فبدلاً من الدائرة المغلقة، أصبحنا اليوم أمام دوائر أكثر انغلاقاً، وسواء اتسعت دائرة تلك الدوائر أم انكمشت، فإن الصياغة الحقيقية لها لا تلوح إلا بالانغلاق وقطع الطريق أمام إمكانية التواصل الخلّاق، فالحضارة والدين والأمة والدولة وحتى المجتمع، بات الجميع يعيش تحت ظلِّ الانغلاق على ذاته، لغرض الحماية من المحيط الخارجي من جهة، ولأجل التنمية الذاتية من وجهة نظر أخرى، والحقيقة أن الآخر بات أكثر رعباً من بين جميع الفترات والحقب التاريخية، وحقّ للجماعات أن تفتعل الأروقة في داخر الدوائر المغلقة... لذلك يجب الإقلاع عن وهم ما يسمى بالحوار والتواصل (حوار الحضارات، حوار الأديان، تواصل الثقافات).

والعجب يكمن في أن الأمر قد ألقى بضلاله على الاسرة، فالأخيرة بدأت تأخذ موضع الانغلاق على الأُسر الأخرى، فالمتابع لطبيعة الحياة الأسرية قبل ربع قرن، سيجد إمكانيات التواصل والتلاقح حاضرة وبقوة، أما اليوم فبدأ الناس يعيشون في محيط مغلق، يفتقر هذا المحيط إلى أدنى مظاهر التواصل، حتى صلة الرحم، فإنسان اليوم يخرج بعياله من بيتٍ كان يجمعه مع أسرته الأولى، فيهجر الأخيرة بقطيعة مطلقة، ليؤسس إلى أسرة تنشأ بمعزل عن الاسرة المربية الأولى، بل يذهب البعض إلى ضرورة عدم تواصل الأبناء مع أبناء الأسر القريبة عليه، بغية الأثر والتأثير، لأنه بصدد خلق دائرة مغلقة خاصة، تنشأ وتترعرع في فضاء خاص لا يحيط به سوى الأب، ومن دون أيِّ أثرٍ أو تأثير.

وقد اتسع الموضوع كثيراً إلى جعل الذات الإنسانية دائرة مغلقة على ذاتها، فأصبح الآخر جحيماً حقيقياً، لا كما وصفه الفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر) بأنه جحيمٌ مثمر، لان الذات لا تنكشف إلا بالآخر وإن كان جحيماً، أما الآخر في عصرنا الحالي، فيمثل هلاكاً من وجهة نظر الذات، وكل ما على الأخيرة فعله أن تردم مسافات التلاقح والتواصل مع ذلك الآخر، لنجد أنفسنا اليوم لا نعيش إلا بذاتنا، مع ذاتنا ومن أجل ذاتنا، فاتسعت بذلك دائرة الأنانية وانعزلت الدائرة الاشتراكية التواصلية.

وفي الآونة الأخيرة، يربط صاحب هذا المقال جميع ما يكتب، بألوانه المختلفة، مع ما يمرُّ به مجتمع فلسطين العزيز، ونعتقد أن التأسيس للدوائر المغلقة قد أدى بنا إلى أن نكون مجرد ذوات تستخدم آلات ناقلة للأخبار، نتفرج على ما يحدث، ويكتفي أشرفنا بالتحسر على ما سيحدث، من دون موقف يذكر، لا قولاً ولا فعلاً... وإن وجد ذلك القول أو الفعل، فإن الأصل في ذلك هو (التشكل الكاذب للذوات)، فالأمر كما هو مخطط له، أكتفي بدائرتي وأعمل على إحكام إغلاقها وليحصل ما يريد أن يحصل.

ويمكن لنا بالأخير أن نجد السبب الحقيقي من وراء قصورنا إزاء القضية الفلسطينية، فلقد باتت الدول والمجتمعات والذوات البشرية تختلق لها مناخاً مغلقاً تمارس فيه أنانيتها بمعزلٍ عن جميع ما يحصل أو ما سيحصل في القشرة الخارجية لذلك السور المغلق، فاكتفت الدولة بالدفاع عن حكومتها، والشعب عن مغانمه، وليذهب الآخر إلى الجحيم، لأنه لا يمكن أن تتصوره إلّا بعدّه جحيماً.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

في هذا الكون اللامتناهي تعد التجربة الوجودية في حياة الانسان إشكال ملغز وكبير يبدا من الذات وينتهي في الكون باتجاهات متعددة بوصفها نتاج احداث ميتافيزيقية داخل نسق ميثولوجي، هذا النسق هو زماني ومفارق يبحث عن جوهره غير المتعين من خلال جغرافيا الجسد لكن التجربة التاريخية الواقعية تشير ان من السهل الوقوع في الفخ رغم ان بين الروح والجسد، هناك فضاءات الوعي والمتخيل وذاكرة اللغة وهناك تفاعل منهجي وبنية ذات خصائص وجودية جوهرية، هنا تكمن فعالية الزمن المقدس. يُعتبر الزمن المقدس فترات خاصة تحمل معانٍ روحية ودينية، حيث يتم التركيز على الطقوس التي من خلالها يتعزز الارتباط الروحي بين الأفراد، وهو فرصة للتجديد الروحي والتأمل في القيم والمعاني العميقة، ان وعي الزمن المقدس يُشير إلى القدرة على إدراك اللحظات في المسارات الكونية واعتبارها فرص مركزة للتأمل والتفكير، من خلال هذا الوعي، يُمكن للأفراد أن يعيشوا تجاربهم بشكل أعمق ويعزز الفهم الذاتي بإتاحة فرص الاتصال بالأبعاد الروحية وإدراك التجلي. السرديات التاريخية، الزمن المقدس، ووعي اللحظة كلها مُرتبطة ببعضها البعض تُسهم في فهم التجربة الإنسانية الوجودية غير ان التأمل فيها هو أداة لفهم هذه العلاقات، وتعزيز الوعي الثقافي للطبيعة الوجودية التي من خلالها يمكن تحقيق تجارب روحية غنية تُعزز من الفهم الذاتي وتأكيد الهوية الجماعية وصياغتها في نسق شامل.

وعي الزمن المقدس

فهم الزمن المقدس يعكس كيف تُعتبر الأوقات والمناسبات ذات الأبعاد الروحية جزءًا لا يتجزأ من الهوية الجماعية، من خلال ربط الأفراد بتقاليد وأحداث تاريخية معينة، ما يُساعد في بناء شعور بالانتماء، الزمن المقدس يُعزز من الوعي الجماعي من خلال تجسيد القيم والمعتقدات في سياقات زمنية معينة. هذا الوعي الجماعي يساهم في تشكيل تصورات الأفراد عن ذواتهم ومجتمعاتهم، فهم الزمن المقدس يساعد على تجربة اللحظات بشكل أعمق، مما يُعزز من الوعي الروحي. هذا الوعي يُتيح رؤية المعاني الخفية وراء الأحداث اليومية ويُعزز من الإرسال الثقافي من خلال الطقوس التي تُنقل عبر الأجيال. هذه الطقوس تُعتبر وسائل لنقل القيم والمعاني الروحية، مما يُعزز من التواصل بين الأجيال، عندما يُفهم الزمن المقدس في سياق السرديات التاريخية، يُمكن أن يُعزز من فعالية الخطاب الروحي الذي يعتبر وسيلة لإرسال الرسائل الروحية التي تُعزز من الفهم الذاتي، عندما يتم فهم حدث تاريخي في إطار الزمن المقدس، يمكن أن يُعاد تأطيره بحيث يُعتبر جزءًا من خطة أو غرض أعمق. هذا يساعد على رؤية الأحداث كجزء من مسار زمني أوسع، الأحداث التي جرت في أوقات مقدسة غالبًا ما تُكتسب معاني رمزية أعمق حيث يمكن أن يُنظر إلى المعارك المصيرية أو التغيرات الاجتماعية والاقتصادية كإشارات روحية تعزز من الفهم الجماعي الأحداث، الطقوس تُعيد إحياء الذكريات والتاريخ، مما يُعطي للأحداث بعدًا روحيا. هذا يؤدي إلى تفسير الأحداث بطريقة تعكس القيم المشتركة، فهم الزمن المقدس يُعزز من تجديد المعاني عبر الزمن ويُساعد الأفراد والمجتمعات على رؤية تاريخهم بطريقة تُعزز من الروحانية الثقافية.

الانثروبولوجيا والزمن المقدس

الأنثروبولوجيا تدرس كيفية تداخل الزمن المقدس مع الأحداث التاريخية، مما يُعزز من فهم كيف يتم تفسير الأحداث استنادًا إلى الأبعاد الروحية و كيف تُشكل الأحداث المقدسة الذاكرة الجماعية للمجتمعات، ويعكس كيف تُستخدم الذاكرة لتفسير التاريخ وتقديم معاني مختلفة، الأنثروبولوجي تُساعد في فهم الرموز والمعاني المرتبطة بالزمن المقدس، وكيف تُؤثر هذه الرموز في الأحداث بشكل أعمق و تُظهر مدلى تأثير الزمن المقدس على الهياكل الاجتماعية والسياسية، وكيف تُستخدم الأحداث التاريخية لتبرير أو تحدي السلطة، تعتبر الأنثروبولوجيا أداة فعالة لفهم الزمن المقدس وتأثيره على تفسير التاريخ. من خلال تحليل السياقات الثقافية، ودراسة الذاكرة الجماعية، والرمزية وتقدم رؤية شاملة لكيفية تداخل الزمن المقدس مع الأحداث التاريخية، مما يُعزز من الفهم الإنساني وتفسير التجارب.

الميتافيزيقيا والزمن المقدس

تعتبر الميتافيزيقيا لحظة دائمة التكرار في الزمن المقدس من عدة جوانب روحية، في العديد من الثقافات، يُنظر إلى الزمن المقدس على أنه يعود بشكل دوري، مما يُعطي للأحداث الروحية معنى دائمًا، هذه الدورة تعكس مفاهيم الميتافيزيقيا حول الوجود والتجربة الروحية، الطقوس المرتبطة بالزمن المقدس تُعتبر فرصًا للتأمل والتجديد الروحي رغم ثباتها، كل مرة تُمارَس فيها هذه الطقوس، يُمكن اعتبارها لحظة ميتافيزيقية تُعيد الأفراد إلى جوهرهم الروحي، الزمن المقدس يُعبر عن الوجود كحالة متكررة، حيث تتداخل الأبعاد الروحية مع الزمن، مما يُعطي معنى لتجارب الحياة، يُعتبر الزمن المقدس فرصة للوصول إلى اللحظة الأبدية أو اللحظة الحقيقية، حيث يمكن للأفراد تجاوز حدود الزمن المادي والشعور بالوحدة مع الكون، اللحظات الميتافيزيقية التي تُمارَس في الزمن المقدس يجعلها دائمة التكرار في الوعي الجماعي، لذا يمكن اعتبار الميتافيزيقيا لحظة وجودية دائمة التكرار في الزمن المقدس، هذه اللحظة تُعيد الأفراد إلى جوهرهم الروحي وتُعتبر فرصة للتأمل والتجديد، مما يجعلها جزءًا أساسيًا من تجربة إنسانية محددة عبر زمن المجمعات الاثنية.

مفهوم الخلود والزمن المقدس

تتفاعل اللحظات المتكررة في الزمن المقدس مع مفهوم الخلود بطرق متعددة. في العديد من الثقافات، يُفهم الخلود على أنه دورة مستمرة من الحياة والموت، حيث تُعتبر اللحظات المقدسة جزءًا من هذه الدورة. كل تجربة روحية هي لحظة من الوعي بالوجود، هذه الدورة والطقوس التي تُمارَس خلال الزمن المقدس تُعتبر فرصًة لاتصال المتناهي باللامتناهي . كل مرة تُمارَس فيها الطقوس، يتم تذكير الأفراد بالمعاني الأبدية والروحية للأفراد، مما يُعزز من الوعي بالخلود، اللحظات الروحية التي تُعتبر دائمة التكرار رغم انها لا تُتيح الفرصة للتأمل في الوجود لكنها تؤدي إلى فهم سطحي لمفهوم الخلود من خلال تجاوز الزمن المادي بالانتشاء، في وعي الأبدية، لكنها من ناحية وجودية ايهام مظلل اذ لا يستطيع الباحث عن الخلود تذوق الشهوة الحقيقية بتجريبية أمبريقية حقيقية وجعل الوجود صاعدا نحو الأسمى لذلك تتأجج صحوة ثقافية في الحضور ولا يجد الانسان أي أنماط ملموسة تغير اليات اشتغال الجوهر، لكنها تعطي معنى مشابه للخلود الثقافي، حيث تُعتبر القيم والمعتقدات جزءًا من الوجود المستمر تتفاعل من خلال اللحظات المتكررة في الزمن المقدس او في غيره مع مفهوم الخلود الثقافي وتعزز الوعي بالدورات الحياتية والفقدان وفي تكرار الطقوس وتجارب الأفراد. هذه التفاعلات تُعزز من الفهم الثقافي للوجود وتُساهم في بناء هوية روحية جماعية، مما لا يمنح معنى خاصا للخلود في سياقات ثقافية وهمية ويعزز من تألق الاسطورة.

مفاهيم الزمن المقدس عبر الثقافات

تختلف مفاهيم الزمن المقدس عبر الثقافات بناءً على المعتقدات الدينية، القيم الاجتماعية، والتقاليد التاريخية. كل ثقافة تقدم فهمًا فريدًا للزمن المقدس وكيفية تجسيده في الطقوس، مما يعكس تعقيد التجربة الإنسانية وعلاقتها بالزمان تتداخل العلاقة بين الزمن المقدس وتداعيات الوعي في السرديات التاريخية بشكل معقد وتعيد تفسير التاريخ. عند دراسة الوعي المكاني، وتأثير التجربة الفردية، يُمكن أن يتشكل وعي متقدم حول المعاني الروحية والأخلاقية في التاريخ، ويمكن أن تؤدي هذه المفاهيم الى تجاوز الزمن الخطي وتؤدي إلى تغييرات جذرية في فهم ماهية التاريخ، مما يفتح المجال أمام تفسيرات أكثر تعقيدًا للأحداث. هذه التأملات تدعو إلى إعادة تقييم السرديات التاريخية وفهمها في سياقات جديدة لتجاوز الالتباس.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي   

بعدما جعلت الماركسية من الميراث المادي الهيجلي، فلسفة مثالية ابتذالية في تفسير المادة والتاريخ، وبعد ان اعتمدها ماركس بمنهج مادي جدلي مغاير محسن، اطلق مقولته الشهيرة بانه – ماركس – اوقف التفسير المثالي الهيجلي للتاريخ على قدميه بعد ان كان اوقفه (هيجل) مقلوبا على راسه. مختتما ماركس وصف (هيجل) بعبارة لاذعة، اوردها المفكر المجري جورج لوكاتش في فصل الكتاب الذي نعرض فيه الافكار: (ان تنبيه ماركس كي لانعتبر (هيجل) كلبا فاطسا، ظل حرفا ميتا للكثير من الماركسيين المخلصين)(1)، بهذه العبارة القاسية نعت ماركس الفيلسوف الذي انار له الطريق لاول مرة في التاريخ الفلسفي في تفسيره المادة والتاريخ ماديا جدليا، وساعد هيجل بمهمته الفلسفية الرائدة الخصبة ما اطلق على تسميتهم الشبان الالمان الهيجليين من ابرزهم فويرباخ، الذي لم يخلص هو الاخر من شتائم ماركس.

يمكننا ان نقرر منذ الان وهو ما سيتوضح معنا لاحقا بأن التوسير وما صدر عنه من افكار فلسفية واراء، اعتمدناها من كتاب محمد علي الكبسي/ قراءات في الفكر الفلسفي المعاصر/ الفصل الأول: التوسير ومنطق الاختلاف. متعكزاً مسندا ظهره في الهجوم على مثالية (هيجل) المدانة مع فيلسوفها منذ قرنين تقريبا، مقدما قدما، مرجعا اخرى في الوثوب على كتاب راس المال الذي وصفه (ان راس المال لم يعد شيئا منتجا، بل حاملا لمفعولات العلاقات باعتباره بنية، فهو ابعد من ان يشير إلى الواقع لانه منتج للواقع من خلال قوانينه)(2).

لابد من التنبيه بان مصطلح (بنية) لدى التوسير يعني حامل العلاقات المنفرزة عن واقع معين، أو فاعلية معينة، وليست (البنية) كما نتداولها في ادبيات ثقافاتنا انها تموضع اجتماعي في الواقع، فمرة (البنية) عنده تمثل علاقات الانتاج وفي ثانية كما مر بنا هي مرادف (كتاب راس المال)، وهكذا....

التوسير ليس الوحيد الذي يعتبر فلسفة (هيجل) ابتذالية، وانه كلب ميت، وفخ يتوجب مجاوزته كما ورد في الكتاب على لسانه ص24، في هجومه الاستهدافي اللاذع على فلسفتي هيجل وماركس، والتشنيع بهما، كانت تلك اداته التي اعتمدها في محاولته كسر العمود الفقري للفلسفة الماركسية في ارثها المتبقي كتاب راس المال، والمادية التاريخية. وفي مسعاه هذا اراد ان يبني التوسير لنفسه فلسفة نظرية تعتمد اللحظة العلمية فوقع في مطب الابتذالية هو الاخر، فهو اراد اقامتها على تصفية جدل (هيجل) ومصادرة ارثه الثقافي في التفسير المادي للتاريخ، طالما سبق وان اعطى ماركس الضوء الاخضر لمن يأتي بعده، وينعت هيجل بالكلب الفاطس، كما فعل هو من قبل، وحرف ساقط لدى الماركسيين المخلصين!!.

التوسير كما يذهب المفكر محمد عابد الجابري اعتمد تطبيق (البنيوية) والاستعانة بعلم اللسانيات المعاصر، والانتروبولوجيا البنيوية في كتابيه (مفهوم القراءة )، و(القراءة الجديدة) في دراسة الارث الماركسي الفلسفي والايدولوجي، وهي دعوات – حسب الجابري – لايمكن ان تؤدي الا الى طرق مسدودة، الا الى تكريس الانحطاط والجمود بدعوى اخضاع المتغيرات الى الثوابت التي تحكمها، وذلك لان البنيوية باهتمامها بالكل اكثر من الاجزاء، وبنظرتها الى الاجزاء في اطار الكل الذي تنتمي اليه ضرورية لاكتساب رؤيا اشمل واعمق، لا تكفي وحدها، ويؤكد الجابري انه لا بد من المزاوجة بين البنيوية وبين النظرة التاريخية التي تتبع الصيرورة وتعمل جاهدة على ربطها بالواقع لاكتشاف العوامل الفاعلة فيها الموجهة لها .(3)

اعتبر التوسير: (هيجل حّول المادية التاريخة إلى نظرية لا انسانوية ولا تاريخانية)(4) معتمدا تعبيرا غير موفق ولا متطابق مع سياق تفكيره لماركس قال فيه: (الغاية النهائية لكتابي هذا رأس المال، انما هو الكشف عن القانون الاقتصادي لحركة المجتمع) (5) وفعلا هذا ماحققه ماركس، فما علاقة (هيجل) بذلك!؟ والمادية التاريخية!؟.التي نزع عنها التوسير تاريخيتها وانسانيتها .

السؤال الذي يفرض نفسه، هل بامكان ماركس الاتيان بقانون اقتصادي يكشف به حركة المجتمع، يأتي به من فراغ انساني/ تاريخي، كما يرغب مقاس التوسير وذوقه!! فالتوسير لايعترف بواقع عيني بدليل قوله: (اذا كانت البنية هي الثابت الوحيد القابل للمعرفة باعتبارها علاقات انتاج، واذا كانت لاتتكون الا خارج كل صلة مباشرة مع العيني، فهي اذن ليست ترجمانا للواقع بل انتاجا يتحدد فقط من خلال التصورات والمناهج) (6) ويقول ايضا: (فالواقع ليس موجودا بل يتحول إلى موجود، والعملية الحقيقية، تتمثل في الممارسة النظرية، وهذا يعني ان هذه الاخيرة تعني تطورا لمجمل تاريخ المعارف، هذا التطور لا نبلغه الا بالابتعاد عن الزوج (راس المال/ تناقض) لان التناقض يجب فهمه نظريا على انه فعالية واسلوب تتمظهر فيه البنية ومن هنا جاءت ضرورة مصادرة الارث الهيجلي)(7). ايهما اكثر مثالية ابتذالية التوسير صاحب العبارات الجوفاء المار ذكرها بين قوسين، ام مثالية هيجل في التفسير المادي للتاريخ!!؟ من المعلوم لابسط مثقف ان القوانين الاقتصادية في راس المال الذي ينكره التوسير مزاوجاً معه بالرفض ديالكتيك هيجل، ان ماركس توّصل لها من خلال ابحاثه الفلسفية ووقوفه سنين طويلة على دراسات معمقة موسوعية في الانثروبولوجيا، الاقتصاد، الاجتماع، الفلسفة، الادب، وكان نتيجتها ان بسطت امامه التطور الديالكتيكي البشري منذ العصور الحجرية وصولا إلى العصور الرأسمالية والامبريالية. واذا كان ماركس راى في المادية التاريخية لهيجل لا انسانيتها ولا تاريخيتها، فلماذا اعتمدها ماركس في منهجه المادي واوقفها على قدميها بدلا من راسها!؟ وافاد منها كثيراً... ام ترى ان التوسير اكتشف ان ماركس في كتابه راس المال كان يدرس تطور التاريخ البدائي للحيوان مستفيدا من نظرية النشوء والارتقاء لداروين، بدءا من العصور الحجرية وانتهاءا باقفاص حدائق الحيوان في المدن !؟ كي يستنبط قانونا اقتصاديا للبشر وليس للحيوان!؟. محاولة التوسير بناء مثالية فلسفية هّشة، مستفيدا من الهراء الفلسفي الغربي يلصقه بالماركسية على اعتبار انها عاشت قرونا عديدة في وهم الايدولوجيا، والتقسيم الطبقي المتناقض للمجتمع. كل الدلائل الواقعية التي تعيشها شعوب الارض اليوم تشير الى حقيقة التقسيم الطبقي المتناقض بين الاغنياء والفقراء في المجتمعات عالميا، وفي ضرورة وضع حلول معالجته عالميا.

ينسب د. محمد علي الكبسي معد فصل التوسير ومنطق الاختلاف عبارات الاطراء التي تقول: (رأى التوسير في كتاب راس المال مالم يره غيره – هكذا – وهو انه ليس افراداً متعينين، بل علاقات انتاج تتمظهر في شكل بنية وهذه الاخيرة هي الفعلة الحقيقيون في التحولات الاجتماعية)(8).

الملاحظ الغريب ان يصطدم القارئ مباشرة بتساؤل مشروع، هو كيف يتسنى امكانية فصل علاقات الانتاج (كحامل) متمظهر لبنية طبقية مفروزة عن المجتمع، ؟! اشرنا سابقا بان مفهوم البنية الاجتماعية أو الطبقية لدى التوسير لاوجود حقيقي لها، فجميع هذه المفاهيم ودلالاتها لدى التوسير (محمولات) نظرية لا اكثر يمكن ان نجدها في علوم المعرفة الحديثة. كما ان التوسير يتجنب بشدة ربط أي (بنية) التي هي مجرد (علاقات فقط في فلسفته) بالواقع وعلاقتها بشبكة العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، السائدة في مجتمع ما. فهو يعتبر البنية لاي مدلول واقعي، يتحول إلى علاقات نظرية، وهي الحقائق والمحمولات التي يجب دراستها بمنظومة مفهومية. بتأكيده على (اللحظة العلمية)... كيف يتحقق ذلك، هناك في فلسفة التوسير الجواب!!؟.

كيف يمكننا السير مع نظرية التوسير بوجوب اعتبار (البنية) التي هي في تصديه لكتاب رأس المال، والمادية التاريخية، هي علاقات الانتاج فقط!! وهي وحدها تقوم بخلق راس المال، متجنبا الاشارة لقوى الانتاج وملكية وسائل الانتاج، وسخريته من التناقض في الطبقة والمادة، وينكر أي وحدة ترابط للبنية مع الواقع العيني للمجتمع. كما اشرنا سابقا، التوسير يتعامل مع (البنية) كحامل علاقات يعاملها نظريا ومفهوميا، بضوء معطيات تطور علوم المعرفة، لذا فهو يسخر من التحليل المادي الجدلي. معتبرا اياه من مخلفات الوهم الايديولوجي ولايمكننا ان نجني جديدا من فلسفة التطور الابتذالي الهيجلي والماركسي، مثل قانون نفي النفي، وحدة وتناقض الاضداد في خلق الظاهرة المستحدثة... طبيعي القول التوسير من خلال ارائه الفلسفية لايتطرق للتقسيم الطبقي المادي للمجتمع ويتحاشاه بلغة فلسفية مثالية صرف. كما يتحاشى جدل العلاقة بين البنية التحتانية – بحسب المفهوم المادي الجدلي – للمجتمع مع البنية الفوقانية المفروزة عنها المتواشجة معها ودلالاتها مثل الوعي الفكري، الدين، الايديولوجيا، الثقافة، الادب، الفنون، فمثل هذا التصنيف الميكانيكي اصبح ارثا قديما، الغى الخصوبة التي تحتويها الفلسفة الماركسية على حد زعمه، وهذا التقسيم، غير حقيقي ولا وجود (عيني) له، ولا معنى له بوجود (بنية) التوسرية، هي حوامل نظرية تعوض عن كل ذلك. يؤكد التوسير على لسان المؤلف الكبسي: (ان هدفه – التوسير – تخريج الانتاج النظري في جعل المادية التاريخية، ممارسة نظرية – هكذا – في تاريخ انتاج الممارسات النظرية، وذلك عن طريق تحويل مواضيع المادية التاريخية وفصلها عن جدل الواقع العياني، وتحويلها من مجرد مواضيع عاكسة للواقع إلى تصورات تنفصل عن الواقع لانها تحولت إلى منظومة مفهومية)(9).

واضح اكثر من السابق منهجية التوسير الفلسفية المثالية، في تأكيدها التعامل المعرفي النظري، واسقاط علوم المعرفة الحديثة على موضوعات المادية التاريخية، وفصلها عن جدل الواقع والتاريخ، فقد اصبحت من وجهة نظره الفلسفية مفهومات كلاسيكية مبتذلة، تمثل فقط مجموعة من المعارف القاموسية، لانها جميعها من امراض اوهام اخطاء الايدلوجيا كما اسلفنا، واتحفنا به .

يؤكد التوسير ايضا: (اما الافراد والبشر الواقعيون وكل فعالياتهم، ليسوا سوى مشكلة زائفة تسربت من الارث الهيجلي، وهكذا يتأكد ان (البنية) وحدها تتمكن من العودة إلى (الكلية) بصيغة علمية) (10). فقط البنية التي هي عند التوسير، كما اشرنا سابقا هي علاقات الانتاج، وهي حامل فعالية مستقلة في منهجه وهي كما قال وذكرناه البنية هي الثابت الوحيد القابل للمعرفة باعتبارها علاقات انتاج. ويجهر المؤلف اكثر بهذه الطروحات حين يؤكد: (ان الشكل الأول لفعالية التوسير يتجسد في كونه يريد رفع محتوى الصراع الطبقي إلى المستوى النظري، فالمقصود لديه يتمثل في قطع كل تعامل مألوف وحسي مع نصوص ماركس من خلال انتظام عملي، يدحض اكبر قدر ممكن من المادية التاريخية، سلسلة المفاهيم الهيجلية، لا لكونها لاتكفي، بل لكونها توقعنا في الخطأ)(11).

التوسير في مواربة بائنة يريد استبدال ورفع محتوى الصراع الطبقي من الواقع الاجتماعي إلى مستوى الفلسفة النظرية، المعرفية التجريدية، المعزولة عن المتعارف والسائد والمألوف، وطبيعي هذه الرغبة لا تتاح لألتوسير ولا تتحقق من غير الاجهاز على سلسلة المفاهيم الهيجلية، في الحركة، والجدل، والتناقض، وحدة الاضداد وتطورها. يريد التوسير جعل كل هذه السلسلة وغيرها افكارا معرفية نظرية مجردة غير تطبيقية. لو جاز لنا التعبير عن المفاهيم الانسانية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها على وفق منطوق رياضي تجريدي، فهذا ايضا موصول بالواقع غير مقطوع ومنفصل عنه، ولاثبات صحة اية معادلة في مجال علوم الطبيعة في الفيزياء أو الكيمياء مثلا، يلزمنا العودة إلى مختبر التجريب العلمي. فكيف الحال ونحن نتعامل مع افكار ومفاهيم وقوانين ومعطيات ونظريات كلها تدخل في الحقل الانساني للمجتمع في مجمل مناحي حياته. بشر تسودهم علاقات وضوابط اجتماعية وسلوكية وقوانين تنظيم الحياة، كلها مجتمعة مع غيرها مسرحها الواقع الميداني الحقيقي لوجود الناس .

يبني التوسير على ما مر ذكره، تجريديته الفلسفية المثالية في ما نصه على الصفحة نفسها المذكور في الاقتباس السابق بين قوسين منها قائلا: (الاهمية هي ان تصبح حقيقة اسبقية العلاقة على الكينونة، هذه الاسبقية كان قررها ماركس في اطروحته السادسة حول (فويرباخ) حيث كان قد قال ماركس: (ان الفرد هو جملة علاقاته الاجتماعية ... من هنا يكون واضحا القول ان الطريقة الجديدة لقراءة راس المال تكمن في تسطير الحد الفاصل بغية استبدال موضوعات نظرية المعرفة المتعلقة بالبشر، بموضوعات تهتم بالعلاقات التي يظهرون عليها لان الفاعل الرئيسي والوحيد ليس سوى علاقات الانتاج فهي المولدة لرأس المال وليس التناقض أو تطور التناقض)(12) من هذه العبارات المارة الذكر نود تثبيت:

- الفرد هو جملة علاقاته الاجتماعية، بضمنها بالتأكيد العلاقات الاقتصادية والثقافية وغيرها، وهي عبارة صحيحة سليمة لماركس، اراد التوسير توظيفها في صالح افكاره فأخطأ الاختيار. ماركس لم يقل العلاقات الاجتماعية تسبق الكينونة او الوجود.فالوجود سابق على العلاقات الاجتماعية ومنتج لها.

- لا وجود لعلاقات اجتماعية بدون مجتمع بشري، ولا يمكن الفصل بينهما ولا احلال احدهما محل الاخرى، او عوضا عن الاخرى في تناوب وظيفة استبدالية نظريا، معزولة عن الحياة المادية الواقعية لمجتمع بشري.

- يفهم التوسير ان علاقات الانتاج وحدها فقط هي المولدة لراس المال، وليس التناقض الطبقي، أو تطور هذا التناقض على حد ماورد في عبارته، وفي هذا يرغب التوسير الغاء جدل وحدة الشغيلة الاجتماعية مع علاقات الانتاج وملكية وسائل الانتاج وناتج راس المال، وفي هذا التجزيء الالغائي تنتفي الطموحات الاقتصادية الطبقية المشروعة لأمم وشعوب تكافح من اجل حياة افضل.

- يلغي التوسير ابجدية الجدل الديالكتيكي الهيجلي، وما بني عليه ماركسيا معتبر ان ما بني على خطأ، هو الاخر خطأ ايضا. والعكس المثبوت تاريخيا فلسفيا، هو العكس الصحيح فأن ما انجزه ماركس في فلسفته ماديا، لم يكن ليرى النور لولا اسهامات (هيجل) المثالية، التي اعتمدها ماركس بمنهج مادي محسن.

- معلوم لأي من قرأ شيئا بسيطا عن الفلسفة الماركسية، انه وجد فيها وفي ادبياتها المنوعة الكثيرة مسلمات قوانين طبيعية علمية، فهي تعمل في جدل علاقة الانسان والطبيعة باستقلالية عن ارادة الانسان، ويجد الانسان بعد اكتشافها وتسخيرها لصالحه انه من الصعوبة بمكان فرض دحضها والغائها والعبث بمعطياتها الانسانية التقدمية في مجرد افكار فلسفية صرف لاتعطي بديلا تطبيقياً مقبولا عنها.

- التوسير يريد بكل بساطة الغاء الصراع الطبقي من المجتمعات في العالم فهو لا يقرها، ويعتبر ان علاقات الانتاج، كمحمول نظري هي مولدة رأس المال وهو (بنية) تعويضية لكل مفردات المادية التاريخية يتوجب الاهتمام بها وحدها فقط، بضوء تطورات علم المعرفة.

- واذا نحن جارينا التوسير في تخريجاته المستمرة احداها قوله: علاقات الانتاج تسبق الكينونة. هل يصبح من الممكن الغاء حقيقة ان علاقات الانتاج هي جزء من وجود بشري فاعل سابق عليها، مفروزة عنه، متأثرة ومؤثرة فيه، ببساطة هي كينونة مجتمع انساني طبقي. العلاقات الانتاجية جزء عضوي منه، وتكون وحدة عضوية مع ملكية وسائل الانتاج ومن الرأس المال وبدون هذا التكوين العضوي فلا يوجد علاقات انتاج (بنية).

- من حق التوسير الاجتهاد لبناء فلسفي مثالي ابتذالي، لاينقص ولا يضيف للهيجلية ولا للماركسية اللتين يدينهما، ولم يسعفه تفكيره التوسل السليم بمقولة ماركس الفرد هو مجمل علاقاته الاجتماعية، ليس معقولا ان التوسير لم يلحظ ان ماركس لم يخلط مثله بين علاقات الانتاج التي هي كل شيء عند التوسير وبين العلاقات الاجتماعية التي قصدها ماركس، اذ تدخل علاقات الانتاج جزء عضوي من العلاقات الاجتماعية التي هي حصيلة وضع الفرد اقتصاديا، ثقافيا، سلوكيا، علميا....الخ، كذلك من غير المرجح ان ماركس في مقولته تلك واستعملها التوسير عكازا بيده، ان تصلح استشهادا في سياق حديث التوسير بان العلاقات الانتاجية تسبق الكينونة، وكأنما اراد ان يقول بان ماركس اعتبر العلاقات الاجتماعية تسبق الكينونة فلماذا لاتكون علاقات الانتاج الجزء منها تسبق الكينونة؟ وهو مالم يحصل، ولم يقله ماركس.

وان استشهاد التوسير بعبارة ماركس في تخطئته لفويرباخ زلة فكر فلسفية لاتدين فويرباخ بل التوسير ومن قبله ماركس الذي ربما ناقض نفسه بابجدية مادية. وكلمات التوسير في ابطاله قانون جدل الاشياء والمفاهيم والعلاقات، وتطور التناقض، مختزلا كل تلك الفلسفة، بان علاقات الانتاج هي مولدة راس المال!! محاولة غير سليمة لنسق جدلية التطور المادي التاريخي، وهي قوانين اثبت تاريخ البشرية التطوري الطويل انها لا تسلم نفسها بسهولة، بعد اكتشافها وتفعيلها، في صالح مسيرة التقدم للانسان، ان يعبث بها الانسان بارادته ورغباته، كما لاتستطيع ارادات البشر بسهولة النجاح في مجاوزتها والغائها دونما دفع ثمن فادح وخسارة تصيب امما وشعوبا تشق طريقها نحو بناء مستقبل افضل تسوده الحرية والمساواة وتقليص فجوات التفاوت في مستوى المعيشة بين دول الشمال ودول الجنوب. القوانين التطورية التي يحاول التوسير الغائها من قاموس تاريخ البشرية، لها الباع الاطول والقدرة الاكبر على الاستمرار والبقاء كقوانين ضرورية لتلبية طموحات امم وشعوب ليست مثل فرنسا والولايات المتحدة ودول اوربا اليوم. فارادة الانسان المقهور البائس الفقير حلم عبر قرون طويلة وحلم اليوم وسيبقى يركض وراء حلمه المتحقق منه والذي لم يتحقق.

كما يرى معد فصل التوسير محمد علي الكبسي الذي كان سروره بلا حدود في تسويق افكار التوسير على صفحات كتابه فهو ينقل عبارات المفكر قوله: (ان المساهمة الالتوسرية لانقاذ الخطاب الماركسي من الابتذال والفجاجة، والبعدية، عن التسطيح والكليانية هو في ابراز الخطوط الخفية التي تحرك الصراع على المستوى (النظري) التي تمثل استنطاقا لمشروع ماركس الذي لم ينهه، في انشاء ماوراء الخطاب حيث يتحول الصمت إلى كلام أو بالاحرى يصبح صمتا متكلماً)(13).

اذن اصبح الصراع الطبقي الذي لايقربه التوسير، اسبقيته واهميته (نظريا)، فقط مقتلعا من ارضية الواقع الاجتماعي الاقتصادي السياسي، وكي ينقذ الخطاب الماركسي من الابتذال والفجاجة نستعين بلغة الصمت المتكلم من خلف الكواليس النظرية، ليتحقق ابتذال مفهوم التناقض على الورق وسطور الفلسفة والنظريات التي تنطلق من ابراج عاجية تحرث في بحار بعيدة جداً عن احلام المسحوقين وبؤساء الارض، وغياب الارادات الانسانية الفاعلة الناشدة للتغيير في غد افضل لم يعد بعد اليوم حسب فلسفة التوسير صراع واضح أو خفي بين من يملكون كل شيء ومن لايملكون شيئاً. لذا فان مشروع ماركس لم ينته ولم يكتمل أو يتجدد الا بعد ان نقلب الصمت ونجعله متكلما، وبعد ان نمسك بالخيوط الخفية للتناقض مع الاعتزاز بمقولة عالم اللغات (فنغشتاين) "ما لايمكن توصيله باللغة يمكن توصيله بالصمت".

كلما تقعرت لغة الفلسفة خارج حدود العقلاني المدرك، وساحت تهويماتها في متاهات البحث عن ملاذها الاخير، لاتجدها الا لغة معلقة بين الارض والسماء، وحيثما اصبحت طلاسمها النظرية العصية على التلقي والتوظيف قطع خشب انقاذ يتعلق بها الفيلسوف الغارق وسط امواج الهراء الفلسفي المتلاطمة، الذي لايقدم ولا يؤخر ولا دور حقيقي جاد له في معالجة معضلات العصر بوسائل علمية وحلول حيوية انسانية تعايش هموم العالم بمسؤولية وامانة، يبقى حاضر

في مقابلة مع التوسير اجرتها معه(فيرناندا نافارو) مكسيكية استاذة فلسفة، سالته عن اسباب هجومه الكاسح والفوضوي على الارث الماركس والمادية الجدلية، وهل لا يزال حقا يعتبر وصف

رايموند اردن له بان ما جاء به في جميع مؤلفاته عن الماركسية، انه سعى لانشاء (ماركسية خيالية !!) اجاب التوسير ان رايموند لم يكن مخطئا بذلك التوصيف .

***

علي محمد اليوسف/الموصل

..............................

المصادر والهوامش:

1- محمد علي الكبسي، كتاب قراءات في الفكر الفلسفي المعاصر، دار الفرقد، سوريا، الفصل الأول: التوسير ومنطق الاختلاف، ص20، نقلا عن التوسير .

L. Althusser: Ibid Tom lp، 12.13.21.22.

2- نقلا عن كتاب الكبسي، نقلا عن التوسير

L. Althusser: Ibid Tom lp، 170.

3- نقلا عن د. محمد الشيخ/ محمد عابد الجابري /مسارات مفكر عربي/ مركز دراسات الوحدة العربية/ 2011 ص 18 .

4-عن المصدر السابق، عن كتاب راس المال، مج1، ترجمة محمد عتياني، بيروت، 1982، ص7.

5-عن المصدر السابق، عن كتاب انجلز وفوير باخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الالمانية، دار التقدم، تونس، ترجمة محمد العربي، ص104.

6- نقلا عن كتاب الكبسي، عن التوسير.

L. Althusser: Ibid Tom lp، 236

7- نقلا عن الكبسي، مصدر سابق، عن التوسير.

L. Althusser: Ibid Tom lp، 12.13.21.22.

8- عن كتاب الكبسي، عن كتاب انجلز وفويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الالمانية، مصدر سابق، ذات الصفحة.

9- عن كتاب الكبسي، عن نفس المصدر السابق، ذات الصفحة.

10-     عن كتاب الكبسي، نقلا عن التوسير.

L. Althusser: Ibid Tom lp، 209.

11-     عن كتاب الكبسي، نقلا عن التوسير.

L. Althusser: lvid p10.12.

12-     نفس المصدر السابق، الصفحات ذاتها.

13-     عن كتاب الكبسي، عن التوسير.

L. Althusser: Lire le Capital Tom، p75.

يصف أحد الباحثين، نقلاً عن أحد المؤرخين الغربين، القرن العشرين بـ الطويل، كونه قد شهد حربين كونيتين مدمرتين، وشهد أيضاً أهم الانقلابات الفكرية في الفن والعلم، ونالت الفلسفة فيه أيضاً نصيبها، إذ أتت فلسفة اللغة التي عدت ثورة البحث عن المعنى. وبالتالي توجهت الفلسفة في القرن العشرين نحو اللغة، بل أصبحت فلسفة لغوية. ويشير (عبد الرحمن بدوي) إلى إن أكثر مجالات الدراسة في العلوم الإنسانية نشاطاً في هذه الأعوام الأخيرة علم اللسان العام.

وتعد فلسفة اللغة من الموضوعات الأساسية والمهمة في العصر الحديث، وإلى جانب أهميتها في حقول المعرفة المعاصرة، فلها جانب آخر يترتب على تناولها لأهم انجازات الجنس البشري، أقصد اللغة ذاتها. حيث تعد اللغة من أعظم منجزات الجنس البشري، لأنها تمس فروعاً مختلفة من المعرفة، وتؤدي طوائف عديدة من الأغراض، فهي عمل فسيولوجي لأنها تدفع عدداً من أعضاء الجسم إلى العمل، وهي فعل إنساني لأنها تتطلب نشاطاً إرادياً من العقل، وهي ظاهرة اجتماعية لأنها وسيلة اتصال بين البشر، وهي أخيراً حقيقة تاريخية ثابتة من عصور متباعدة في القدم. واللغة بمثابة البعد الحقيقي الذي تتحرك فيه الحياة الإنسانية، فحيثما تكن اللغة فثمة تجد الإنسانية. فاللغة وجدت بين الناس وللناس، والمجتمع البشري وجوده محال بدونها، فنحن نراها في كل مجتمع، وتستعمل في كل مجال، ولا غنى عنها كوسيلة اتصال أساسية. أو كما يقول بدوي بأنها سبيل الاتصال بين الذوات الوجودية.

ويجب أن نفرق في البدء ما بين اللغة وفلسفة اللغة، فتعرف اللغة على أنها نسق من الإشارات والرموز، تشكل أداة في المعرفة، وفي حفظ واستعادة منتجات الثقافة الروحية والبشرية. ويعرف ابن جني اللغة على أنها أصوات يعبر كل قوم عن أغراضهم. أما فلسفة اللغة، فهي لا تهتم باللغة بشكل رئيسي، بل إنها حديث فلسفي عن اللغة، أو تفلسف حول اللغة. فضلاً عن ذلك يجب أن نفرق ما بين فلسفة اللغة والفلسفة اللغوية، إذ أن الفلسفة اللغوية تكون مرادفة لمصطلح التحليل اللغوي، ولا تقدم سوى منهج لحل مشكلات فلسفية تواجه اللغة العادية، في حين إن فلسفة اللغة تمثل محاولة لتقديم وصف فلسفي لملامح عامة في اللغة من قبيل الإشارة والمعنى والصدق... إلخ. مضافاً إلى أن الفلسفة اللغوية تدرس الميزات العامة لبنية اللغات طبيعياً، وتاريخياً، والذي يسمى بـ (الفيلولوجيا)، من هنا تعالج فلسفة اللغة مسائل تعد كلية بالنسبة إلى جميع اللغات في حين أن علم اللغة يختص بلغة دون أخرى، ومن ثم ففلسفة اللغة تمثل حديث فلسفي عن اللغة وليست دراسة اللغة.

ويطرح (أريك غريلو) مستويين لفهم فلسفة اللغة، أحدهما بالمعنى الواسع ولآخر بالمعنى الضيق للمفهوم، أما المفهوم الواسع لفلسفة اللغة فيشير إلى كل فلسفة تعرضت في أثناء تطورها إلى مسألة اللغة وتناولتها بشكل منفصل، وبهذا المعنى تتحدد فلسفة اللغة مع أفلاطون... أما بالمعنى الضيق للمفهوم فيشير إلى تيار رئيسي في الفلسفة المعاصرة، مهيمن في العالم الأنجلوسكسوني. وإلى ذلك يذهب (الزواوي بغورة) حين يقرر وجود تعريفين لفلسفة اللغة، أحدهما تقليدي أو عام، والآخر حديث أو خاص، أما التعريف العام فهو الذي يرى في فلسفة اللغة مختلف الآراء التي قيلت في طبيعة اللغة، قبل ظهور الأبحاث اللسانية والمنطقية، والتأويلية، أو قبل ظهور الدراسات المنطقية والرياضية والدراسات الوضعية للغة. أما التعريف الآخر وهو الحديث أو الخاص فيشير إلى أنه لم تصبح اللغة موضوعاً مركزياً في الفلسفة الحديثة والمعاصرة إلا بعد تطورات أساسية أهمها ما حصل على مستوى دراسة اللغة كعلم وثانياً ظهور المنطق الرياضي والتحليلات المنطقية والرياضية والممارسات التأويلية الناجمة عن التفسير القديم.

وتذهب الدراسات الفلسفية اللغوية إلى أن اللغة أصبحت موضوع الفلسفة منذ نهاية الفلسفة الحديثة وبداية الفلسفة المعاصرة، وتحديداً منذ (فريدريك نيتشه) والمدرسة التحليلية الانجليزية وما تبعها من اتجاهات وتيارات في الفلسفة الانجلوسكسونية. وتعد اللغة في الفترة المعاصرة بؤرة التفلسف، أي أصبح التفلسف لعبة لغوية لكونها المنعرج الخطير الذي خلص الإنسان من الالتباسات الثيولوجية والتقنية لكونها المنقذ الوحيد للإنسان من تعسف الآلة. وهي مبحث فلسفي حديث، ظهر في بداية القرن العشرين، إلا أن هناك من يعتقد أن فلسفة اللغة قديمة قدم الفلسفة، وترجع إلى مختلف الآراء الفلسفية التي قيلت حول طبيعة اللغة وعلاقتها بالفكر والواقع والتي نقرؤها في نصوص أفلاطون وأرسطو والفارابي و ديكارت ولوك ونيتشه فتجنشتاين وغدامير... وغيره، وبهذا المعنى تعني: مختلف آراء الفلاسفة في اللغة.ولكن هذا الرأي يجعل من فلسفة اللغة عنواناً عائماً ومبثوثاً في جميع تاريخ الفلسفة، أي لا يمكن تناوله بالمعنى الخاص، بل لا يمكن أن يكون له موضوعاً مستقلاً عن المنظومات الفلسفية الأخرى، والأرجح أن فلسفة اللغة تبلورت –مع وجود إرهاصات لها- في مطلع القرن العشرين لتؤسس منظومة فلسفية ومعرفية مستقلة على يد التيارات الفكرية التي انبجست في مطلع القرن العشرين. وبرزت هذه التيارات في فجر القرن العشرين المنصرم من خلال انقلاب في النظر أطلق عليه (المنعطف اللغوي)، والذي كان مطلوباً منه المساهمة في التجديد العميق في مفهوم الفلسفة وفي ممارستها في آن معاً. وأول من استعمل عبارة (المنعطف اللغوي) هو الفيلسوف الوضعي الجديد (غوستاف برغمان) عام 1953م، ثم انتشرت العبارة وذاعت، عندما استعملها الفيلسوف الأمريكي (ريتشارد رورتي)، عنواناً لمجموع النصوص التي جمعها وكت لها مقدمة ونشرت عام 1967م.

ويذهب (أريك غريلو) إلى أن هناك ثلاثة شروط يجب أن تتوفر ليتحقق المنعطف المنشود، وهي:

الشرط الأول: أن يطرح سؤال اللغة والدلالة مجدداً على نحو جذري.

الشرط الثاني: أن يطرح في عبارات جديدة أو حسب متطلبات جديدة.

الشرط الثالث: أن يرتدي طابع الإلحاح المحض بحيث يحشد مفكرين من آفاق مختلفة حول المشكلة نفسها.

وهذه الشروط الثلاث، بحسب غريلو، اجتمعت في منعطف القرن العشرين، وفي أواخر القرن التاسع عشر وقعت سلسلة من التغيرات في حقل المعرفة، بشرت بإعادة تشكيله.

ويشير الباحثين إلى أن (كروتشه) أو من أسس لمصطلح فلسفة اللغة، وإلى هذا يذهب الزواوي بغورة حين يقول: وفي تقديرنا، فإن أول فيلسوف استعمل مصطلح فلسفة اللغة هو الفيلسوف الإيطالي كروتشه. مع ذلك فإن تراكم النقاشات حول مسألة اللغة جعل المعنى العام لها قلق ومتوتر نحتاج فيه إلى مساءلة جادة لتصبح بذاتها ولذاتها منعطفاً شديد الأهمية في الصيرورة الفلسفية انطلاقاً من التأثير الذي ضخته الفلسفة التحليلية. ولعله من المفارقة-كما يقول بغورة- أن يكون هذا الفيلسوف الهيغلي هو أول من طرح هذا المصطلح، إذا علمنا أن الفلسفة اللغوية كما أسسها مور ورسل فتجنشتاين كانت محاولة للقضاء على الفلسفة عموماً، والفلسفة الهيغلية على وجه الخصوص.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

هنا ملخص لواحدة من أبرز المحاولات لنقد العقيدة الدينية. يجادل الفيلسوف انتوني فلو(1) بانه اذا كان المتدينون لا يسمحون بأي شيء كدليل ضد ما يؤمنون به، عندئذ هم في الحقيقة لايؤمنون بأي شيء. هم لا يقدّمون ادّعاءات كاذبة، وانما هم لا يعرضون أي ادّعاء ابداً.

أنتوني فلو ومثل البستاني

بعض نقاد العقيدة الدينية يسعون لبيان ان العقيدة زائفة. الانتقاد الأكثر راديكالية هو ان عبارات مثل "الله موجود" تفشل في الزعم بأي شيء. التصريحات الدينية لا تصل حتى الى الادّعاء بان شيئا ما يمكن ان يكون صحيحا او خاطئا. احد أشهر الانتقادات من هذا النوع عرضه الفيلسوف البريطاني انتوني فلو. يوضح فلو موقفه من خلال استعارة وتبنّي مثالاً يعود لفيلسوف آخر هو جون وزدم John wisdom. صيغة فلو للمثل تسير على الشكل التالي:

افرض ان اثنين من المستكشفين يعثرون في غابة على منطقة خالية من الاعشاب والاشجار. هم ذُهلوا بالعدد الكبير من الزهور والأعشاب الخضراء المحيطة بتلك المساحة الخالية. المستكشف الاول يعتقد بانه يجب ان يكون هناك بستاني يعتني بتلك المساحة الخالية. لكن المستكشف الثاني مقتنع بعدم وجود بستاني هناك. لذا، لكي يريا أي منهما صحيح، هما يقرران اقامة معسكر في المساحة الخالية ويضعوها تحت المراقبة. هما لم يريا أي احد هناك. "يقول المستكشف الثاني، ألا ترى لا يوجد بستاني؟"، لكن المستكشف الاول يرد "لا تستعجل، ربما هو غير مرئي".

لذا، قام المستكشفان بوضع سياج من الأسلاك الكهربائية الشائكة حول المساحة الفارغة. هما ايضا قاما بدوريات حول المساحة ليلا ونهارا باستخدام كلاب الصيد. مع ذلك، لا توجد أية علامة لوجود زائر بستاني. هما لم يسمعا أحدا يصرخ من وراء السياج، لا نباح للكلاب، لا حركة او اهتزاز في السياج حتى بأدنى مقدار.

لازال المستكشف الاول مصرا على عقيدته: "هناك بستاني غير مرئي وغير محسوس. لم يتأثر بالصدمات الكهربائية، لايُطلق أي صوت، ولايترك أي أثر، وليس فيه أي رائحة يمكن ان تلتقطها الكلاب. انه يأتي سرا ليعتني بالحديقة التي يحبها".

أخيرا، يصبح المستكشف الثاني غاضبا ويقول: "لكن ماذا يبقى من ادّعائك الأصلي؟". "بماذا يختلف ما تسميه بالبستاني غير المرئي وغير الملموس والمراوغ الى الأبد عن البستاني الخيالي او الغير موجود ابداً ؟

يقترح فلو بانه اذا قام شخص ما وبشكل دائم بتجاهل وتقليل قيمة ما يُعد دليلا ضد عقيدته بحيث لا يُسمح في النهاية لأي شيء بدحضها، فلن تبقى أية عقيدة.

بالطبع، المستكشف الاول لايزال يعتقد انه ملتزم بحقيقة الادّعاء، لكنه مخطيء في هذا الأمر. وكما يذكر فلو " ربما المرء يبدد زعمه تماما بدون ملاحظة انه قام بذلك". اعتقد فلو ان معارضة مماثلة يمكن طرحها ضد اولئك الذين يقولون انهم يؤمنون بإله خيّر، لكنهم لايسمحون بأي شيء يدحض عقيدتهم. بالطبع هم ربما يقولون "الله خلق العالم"، "الله لديه خطة"، و "الله يحبنا". لكن طبقا لفلو، اذا كان هؤلاء المؤمنون غير مستعدين للسماح بأي شيء يُعد ضد ما يقولون، عندئذ في الحقيقة هم لايقدمون أي ادّعاء.

في الحقيقة، كان فلو حذرا. هو لم يلزم نفسه بالرؤية بان الناس المتدينين لا يسمحون بأي شيء يُعد ضد ما يؤمنون به. بدلا من ذلك، هو يقول انه عادة يبدو لغير المؤمنين ان لا وجود لحدث يمكن تصوره ان يقود المؤمن للاستنتاج بان لا وجود هناك لإله او انه غير محب. اذا كان هذا هو الموقف، يستنتج فلو، عندئذ هم حقا لايؤمنون بأي شيء ابدا.

كيف يمكن للمؤمن الديني ان يدافع عن ايمانه مهما كانت الظروف؟ اذا قيل ان المعاناة الهائلة التي نلاحظها في العالم دليلا ضد الإله المحب، يصر المؤمنون بان حب الله يتجاوز فهمنا البشري. في هذه الحالة، المعاناة التي نلاحظها ليست دليلا جيدا ضد الإله المحب. اذا كان، في كل مرة يُعرض عليهم الدليل ضد وجود الههم، وهم يراوغون و يتجنبون ذلك عبر تجاهل الدليل، او اللجوء الى طرق الله الاسطورية، عندئذ فان عقيدتهم تنتهي بالموت. يتوجه فلو بسؤال للمؤمن: "انا، لذلك أطرح السؤال المركزي البسيط، "ما الذي كان يجب ان يحدث او حدث ليشكل بالنسبة لك دحضا لمحبة الله او وجود الله؟" اذا كان الجواب "لاشيء يمكن ان يُبطل وجود الله" عندئذ " فان القول بـ "الله موجود" لم يعد يزعم بأي شيء".

يعرض فلو هذه الحجة في اجتماع يستلزم حضور اثنين آخرين بالاضافة له وهما، الفيلسوف هير والثيولوجي باسل ميتشل. النقاش نُشر بعنوان "الثيولوجيا والتكذيب: الندوة". دعونا ننظر الآن كيف يرد هير وميتشل على فلو.

هير R.M.Hare

يبدأ هير بالاعتراف ان فلو كان صائبا: التصريحات الدينية مثل "الله موجود" و "الله لديه خطة" يمكن جعلها غير قابلة للتكذيب من جانب المتدين، وكنتيجة لذلك تفشل في ادّعاء أي شيء. لكن ذلك لا يعني ان تلك التصريحات غير هامة.

طبقا لهير، هذه المتبنيات الدينية هي مواقف لا واعية bliks "عقيدة لا يمكن تكذيبها". العقيدة التي لا يمكن تكذيبها هي عقيدة يتمسك بها شخص ما ولا يسمح ابدا بدحضها مهما حدث. يوضح هير ذلك من خلال قصة تتضمن طالب جامعة مصاب بالجنون. هذا الطالب مقتنع ان جميع رفاقه في الكلية يريدون قتله. أصدقاء الطالب يحاولون إقناعه بانه مخطيء، ويحاولون إظهار انه من ألطف واكثر الطلاب احتراما. :" هم يقولون "هذا الطالب محبوب ورقيق، انت حتما تستطيع ان ترى الان انهم لايريدون قتلك؟" لكن الطالب يجيب "ذلك ليس الاّ خبث شيطاني. هم يحاولون الايقاع بي سرا، انا أعرف ذلك".

هذا الطالب لديه عقيدة لا يسمح بتكذيبها. أي دليل ضدها يتم التقليل من أهميته او رفضه. لكن مع ذلك تبقى عقيدته تلك هامة. في الحقيقة، انها تؤثر بعمق على حياة الطالب. يقترح هير ان العقيدة الدينية هي مماثلة لتلك – نعم، انها ربما لايمكن تكذيبها ولذا تفشل في الادّعاء بأي شيء. لكنها لاتزال تحظى باهتمام عميق ويمكنها التأثير جدا في حياتنا.

يرى هير ان عقيدة الطالب حول الطلاب الخطرين هي نوع من الجنون. لكن ليس كل عقيدة جنون. يصر هير اننا دائما لدينا عقائد راسخة. وان الاعتقاد بان كل رفاق الدراسة لا ينوون قتل للطالب هي ايضا عقيدة راسخة. طبقا لهير، انها عقيدة جنونية مختلفة عن جنون الطالب. المعتقدات الراسخة الاخرى تتضمن عقيدته الجنونية بان مقود سيارته سيستمر بالعمل بثقة، او عقيدة شخص مختل الذهن بان آلية الستيرن في السيارة لايمكن الوثوق بها وان عناصر الستيل ستنحني وتنكسر. مرة اخرى، هذه العقيدة الراسخة يمكن ان يكون لها تأثير هام على حياتنا (على سبيل المثال، اذا الشخص المختل يرفض ابدا الدخول الى السيارة، هو ربما يشعر بعدم ارتياح كبير).

لذا، باختصار، جواب هير لفلو هو لكي تعترف بانه اذا الشخص المتدين لا يسمح بأي شيء يبطل عبارة "الله موجود"، عندئذ بالنسبة له، عبارة "الله موجود" هي عقيدة راسخة: انها لا تدّعي شيء ابدا. لكن هير لايزال يصر ان التزام ذلك الشخص المتدين بعقيدته الراسخة لايزال مهما.

رد هك Hick على هير

الثيولوجي جون هك يثير معارضة مهمة لإقتراح هير بان الايمان الديني يستلزم عقيدة راسخة: هير لا يوفر اساسا للتمييز بين العقيدة المجنونة وغير المجنونة. بالطبع، اذا تمكنا من تزويد اساس جيد للاعتقاد بان رفاق الكلية غير مؤذين و ان عقيدة الطالب بمحاولة الرفاق قتله هي كاذبة، عندئذ نحن يمكننا بيان ان عقيدة الطالب هي سخيفة. لكن وفق رؤية هير، نحن لا نستطيع عمل ذلك. لأن هير يقبل بان عقيدة الطالب هي راسخة (لايمكن تكذيبها). لذا، بما اننا في موقع نقول فيه ان عقيدة الطالب هي سخيفة، يبدو ان هير يجب ان يكون مخطئا: عقيدة الطالب المجنون هي ليست لايمكن تكذيبها، وبالتالي ليست عقيدة راسخة.

باسل ميتشل Basil Mitchell

دعونا الان نعود الى المساهم الثالث في الندوة: الثيولوجي باسل ميتشيل. ميتشل يرفض انتقاد فلو للعقيدة الدينية. ليوضح موقفه، هو ايضا يحكي قصة. أحد المقاتلين من أفراد المقاومة يلتقي شخصا غريبا في مساء يوم ما. الاثنين يمضيان وقتا طويلا في المحادثة. الشخص الغريب يوضح بانه حقا القائد السري للمقاومة ويطلب من أنصار حزبه ان يكون لديهم ايمان به، رغم حقيقة ان الغريب ربما يبدو احيانا يتصرف كما لو كان حقا في جانب العدو. الشخص المقاتل معجب بشدة بالغريب ولديه ثقة عميقة فيه.

احيانا الغريب بدا كأنه يساعد المقاومة، والمقاتل يقول لرفاقه "انظروا، هو في جانبنا". احيانا هم يطلبون المساعدة من الغريب ويحصلون عليها. ولكن في أوقات اخرى هم يطلبون المساعدة لكن دون جدوى. في الحقيقة، الغريب يظهر مرتديا لباس العدو ويقوم بتسليم أعضاء المقاومة للقوات المحتلة.

لايزال، المقاتل يستمر بوضع ثقته في الغريب. رفاقه يسألونه، غاضبين، "ماذا يحتاج هذا الغريب عمله لإقناعك بانه ليس في جانبنا؟" المقاتل يرفض الجواب.

المقاتل سوف لن يقول ما سيقوم به لتكذيب عقيدته بان الغريب هو في جانبه. لكن، ميتشل يشير، ذلك لا يعني ان المقاتل ليس ملتزما بحقيقة الادّعاء. وفي الحقيقة، نظرا لإجتماعه الاول مع الغريب، الذي تركه مقتنعا بولاء الغريب، من المعقول للمقاتل الاستمرار بالثقة بالغريب رغم الخيانات الظاهرة.

الاخلاق التي يعرضها ميتشل من هذه القصة هي انه، وبشكل مشابه، فقط بسبب ان الفرد المتدين يستمر بالايمان في إله خيّر رغم الدليل المعاكس، ويرفض القول بما يقنعه بطريقة اخرى، لا يعني انه غير ملتزم بحقيقة الادّعاء. ولا حاجىة لتكون عقيدته بخيرية الله غير معقولة.

بالنسبة للعديد من المؤمنين الدينيين، العقيدة هي "مادة مهمة من الايمان" – شيء استثمروا فيه الكثير. هم سوف لن يتنازلوا عنه بسهولة. لكن، يقول ميتشل، ذلك لايعني القول هم سوف لن يتخلوا عنه ابدا بصرف النظر عن كمية الدليل المتراكم ضده. ميتشل يصف هذه المادة من الايمان اولاً هي، من جهة، مجرد "فرضية مؤقتة" نحن ربما نهملها بسرعة لو وُجد الدليل ضدها، ومن جهة اخرى، هناك ما يسميه ميتشل "صيغة فارغة" التي لا تزعم بشيء لأن لا شيء سوف يُسمح ليُحسب ضدها.

ردود ضد فلو

يوضح الكاتب ستيفن ان فلو كان مخطئا. أنتوني فلو يؤمن بشيء يشبه المبدأ التالي:

"اذا لم يتخلّ شخص ما أبداً عن عقيدته مهما كان الدليل ضدها، عندئذ فان عقيدته فارغة تماما".

ما هي حجة هذا المبدأ؟ استدلال فلو يقوم على انه لو ان أي ادّعاء كان غير قابل للتكذيب، ذلك بسبب فشله باستبعاد أي شيء يتعلق بالواقع. المبدأ منسجم مع أي شيء قد يصبح عليه العالم. لكن عندما يفشل التصريح باستبعاد أي شيء حول الواقع، عندئذ سيفشل بزعم أي شيء ايضا. نحن يمكن ان نرى ما الذي يقصده فلو هنا من خلال النظر في تكرار المعنى او التحصيل حاصل tautologies. تكرار المعنى صحيح بمقتضى شكله المنطقي. هنا مثال:

ليس صحيحا ان: باريس في فرنسا وباريس ليست في فرنسا.

من المؤكد منطقيا ان هذا الافتراض صحيح، كما في أي افتراض للشكل. التوتولوجي لايمكن تكذيبه لأنه منسجم مهما كانت الحقيقة. سواء كانت باريس في فرنسا ام لا، التوتولوجي لايزال صحيحا. انه لا يتطلب شيئا من العالم لأجل صحته. او، بطريقة اخرى، انه لايزعم أي شيء حول الواقع(2).

فلو يبدو يفكر بشكل مشابه، اذا كانت عبارة "الله موجود" و "الله له خطة" لا يمكن تكذيبهما، ذلك يجب ان يكون بسبب انهما ايضا لا يتطلبان أي شيء من العالم لصحتهما. هما يفشلان ايضا بزعم أي شيء.

لكن هل هذا صحيح؟ يقول الكاتب ستيفن انه غير مقتنع بهذا. لاحظ، اولا، ان "الله موجود" و "الله لديه خطة" ليسا تكرار في المعنى. الشكل المنطقي للعبارة لا يضمن صحتها. بل الطريقة التي يدافع بها بعض المتدينين – هم وباستمرار يتجاهلون وينكرون أي دليل مضاد.

هل صحيح لو ان شخص ما لايسمح بتكذيب عقيدته، عندئذ هو لا يطرح حقا أي ادّعاء؟ الكاتب لا يظن هكذا.

انه صحيح حتما عندما يستثمر الناس الكثير في الادّعاء، فهم قد يلتصقون به متجاهلين الدليل ضده. بعض العقائد يسهل التخلي عنها. هو يعتقد ان الانفجار الكبير حدث قبل 13 او 14 بليون سنة، لكن لو يقول العلماء تقديرا جديدا 16 بليون سنة هو حالا سيغير عقيدته. ذلك لا يكلفه شيئا.

لكن ماذا لو استثمر الكثير في العقيدة؟ الاستثمار قد يكون، شخصي، اجتماعي، مالي، استثمار في الوقت والجهد. عامل في احدى شركات التبغ، عُرض عليه دليلا على ان التبغ سبب رئيسي للسرطان، ربما يجد كل انواع الطرق لتجاهل او القاء الشك حول مصداقية ذلك الدليل. زوجة رجل متهمة بجريمة قتل ترفض بشدة دليلا قويا لجريمتها مصرة على ان الجريمة يتم فبركتها. شخص ما ذو عقيدة سياسية قوية يجد من الصعب التخلي عن عقيدته امام الدليل. العالِم الذي استثمر كل حياته المهنية في تطوير نظرية قد يستخدم كل براعته لتجاهل الاكتشافات الجديدة التي تهدد نظريته. الاديان والطوائف عادة تدعو الناس لإستثمار الوقت والنقود في عقيدتهم وان إهمال العقيدة ربما يكلف الشخص اشياءً ثمينة من حيث العلاقات الاجتماعية والعائلية. هم عادة يجدون عقيدتهم مريحة للغاية ومن غير المدهش ان العديد من الاشخاص المتدينين من غير المحتمل ان يتخلوا عن عقيدتهم بسهولة حتى لو انهم واجهوا حججا قوية.

ماذا لو كان التزام المتدينين قوي جدا بحيث لا يسمحون بأي شيء يكذّب عقيدتهم؟ اصحاب نظرية خلق الارض الشابة هم انجيليون حرفيون يعتقدون ان الكون خُلق بالضبط كما ورد في سفر التكوين حوالي ستة الاف سنة. بالطبع هناك دليل هائل ضد هذه النظرية. فمثلا هناك المتحجرات والسجلات الجيولوجية التي تكشف ان عمر الارض يعود لبلايين السنين مع تطور الحياة تدريجيا عبر فترات شاسعة من الزمن. كذلك هناك ضوء من المجرات البعيدة مثل مجرة اندروميدا الذي تستغرق 2 مليون سنة ليصلنا. وهناك ايضا نوى الجليد في القارة القطبية الجنوبية يكشف مواسم تاريخية تعود الى مائة الف سنة. كيف يرد اصحاب فرضة الارض الشابة على هذه الادلة؟

عادة هم يطورون توضيحات بارعة لهذا. فمثلا، بعض اصحاب نظرية الخلق يؤكدون ان معظم سجلات المتحجرات اُنتجت اثناء الطوفان الانجيلي الذي طافت فيه سفينة نوح، حيث اُنتجت كميات هائلة من الطين، ودُفنت اشياء حية في الطبقات. اول ما دُفن هو حياة بحرية بسيطة في قعر البحر. مختلف المناطق الايكولوجية غمرتها المياه في اوقات مختلفة، ادى هذا الى النظام الذي نراه اليوم في الطبقات. بالطبع، الانسان كونه ذكي تجنب الغرق حتى وقت متأخر، والذي يفسر لماذا نرى فقط علامات للحياة البشرية في أعلى الطبقات. أصحاب نظرية الخلق ايضا طوروا توضيحاتهم للضوء القادم من النجوم البعيدة وهكذا.

بالطبع هم يشيرون الى ان جميع النظريات العلمية تواجه تحديات وألغاز، لذا حتى عندما يوجد هناك شذوذ لايستطيع توضيحه اصحاب نظرية الخلق، ذلك ليس سببا للتخلي عن العقيدة.

من الواضح ان بعض اصحاب نظرية الخلق مهما كان الدليل ضد عقيدتهم سوف لن يقودهم لإهمالها. بطريقة او باخرى هم يلتصقون بعقيدتهم. لكن فيما بعد، وفق رؤية فلو، هؤلاء الخلقيون غير ملتزمين باي ادّعاء ابدا. نظريتهم في الخلق ليست نظرية سخيفة تناقض تيار العلم السائد، بل انها لا تزعم أي شيء.

لكن هذا يبدو للكاتب ستيفن زائفا. صحيح هناك شيء خاطيء في الطريقة التي يؤمن بها اصحاب نظرية الخلق ويدافعون عنها. لكن ماهو خاطيء هو ليس انهم غير ملتزمين بأي نظرية. احد الاسباب لماذا يبدو واضحا له ان اصحاب نظرية الخلق ملتزمون بنظرية هو انهم يستعملون النظرية لتوضيح اشياء. فمثلا، هم يستعملونها لتوضيح وجود الكون، أصل الحياة وتعقيدات الاشياء الحية. في الحقيقة، هم يعتقدون ان هذه الاشياء توفر دليلا لنظريتهم، لأنها توضح ما لا يستطيع تيار العلم السائد توضيحه.

ويضيف الكاتب، ان فلو ربما صائبا بان هناك أشياء خاطئة بالطريقة التي يدافع بها بعض المتدينين عن عقيدتهم. لكن تشخيصه لما هو خاطيء يبدو غير صحيح. حتى عندما لايسمح اولئك الذين يقولون "الله موجود" بأي شيء مخالف لدليلهم، يبدو له انهم لايزالون ينجحون في الزعم بشيء.

***

حاتم حميد محسن

......................

المصدر:

Antony Flew on Religious Language،

منشورات جامعة كامبردج في 8 سبتمبر2023

الهوامش

(1) أنتوني فلو فيلسوف بريطاني (1923-2010)، كان ملحدا لسنوات طويلة لكنه في عام 2004 إنتقل فجأة الى الايمان بالله معلناً ان الدليل من العلم أقنعه بوجود الله. للاطلاع على افكار هذا الفيلسوف يمكن الرجوع الى المقال الذي نُشر في صحيفة المثقف بتاريخ 3 حزيران 2021 بعنوان: حوار حول الطاولة بين الدين والفلسفة.

 (2) مثال آخر يستخدمه أصحاب نظرية الخلق ضد نظرية التطور ويعتبرونها نوع من التوتولوجي حيث ان نظرية الاختيار الطبيعي تؤكد ان البقاء للاصلح: منْ الناجون؟ الأصلح. منْ هم الأصلح؟ اولئك الذين نجوا.

 

تمهيد: يُعد كارل ماركس (1818-1883) أحد أكثر الشخصيات التاريخية تأثيرًا وإثارةً للجدل. كرّس معظم وقته لمحاولة فهم الآليات الداخلية للاقتصادات الرأسمالية. وكان أيضًا فيلسوفًا مهتمًا بعزل الأفراد في ظل الرأسمالية عن إمكاناتهم الاجتماعية والإبداعية. على نطاق أوسع، كان ماركس فيلسوفًا تاريخيًا، وضع نظريةً لتطور المجتمعات البشرية وتحولها بشكل عام - وهي نظرية تُعرف باسم المادية التاريخية. تقدّم هذه المقالة هذه النظرية مع البحث في تجلياتها التاريخية وتبحث في الاغتراب والتحرر السياسي والتغيير الاجتماعي. فكيف تساعد الفلسفة الماركسية الشعوب المقهورة والامم المضطهدة من التحرر من الاستعمار الصهيوامبريالي؟

١. ما هي المادية التاريخية؟

طُرحت أطروحاتٌ مختلفة لتفسير مسار التاريخ البشري: على سبيل المثال، أن التاريخ يتشكل أساسًا من خلال أفعال أفراد استثنائيين. أو أنه يُظهر تطوّر وعي الإنسانية بالحرية. أو أن الحضارات تنمو وتتلاشى كالكائنات الحية. أو أن التاريخ ليس له نمط، بل هو "مجرد حدثٍ مُلعونٍ تلو الآخر". يرى ماركس أن العامل الرئيسي المُحدد لشكل أي مجتمع وتطوره هو طريقة تفاعله مع بيئته المادية للحفاظ على وجوده - أي أسلوب إنتاجه. ويشمل ذلك قدراته التكنولوجية ("قوى الإنتاج") والبنية الاقتصادية ("علاقات الإنتاج") المُستخدمة لتسخير هذه القدرات. تشمل قوى الإنتاج وسائل الإنتاج (الأدوات والآلات والمواد الخام) وقوة عمل العمال (القوة والمهارة والمعرفة). علاقات الإنتاج هي علاقات اجتماعية للتحكم في قوى الإنتاج، سواءً وسائل الإنتاج أو قوة العمل. يعكس تقسيم المجتمع إلى طبقات اقتصادية التوزيع غير المتكافئ للسلطة على عملية الإنتاج والثروة المُنتجة. يقول ماركس: "إن نمط إنتاج الحياة المادية يُحدد عملية الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية بشكل عام". وبشكل خاص، يُحدد الهيكل الاقتصادي ("القاعدة") للمجتمع طبيعة "بنيته الفوقية" من المؤسسات القانونية والسياسية والأيديولوجية السائدة. يجادل ماركس بأنه مع مرور الوقت، تُعيق ("تُقيّد") القدرات التكنولوجية المتنامية للمجتمع ببنيته الاقتصادية الثابتة نسبيًا. ويؤدي هذا الخلل المتزايد في النهاية إلى ثورة: إذ يُستبدل الهيكل الاقتصادي للسماح بمزيد من النمو التكنولوجي، وتخضع المؤسسات السياسية والقانونية للمجتمع وأيديولوجيته لتغيير مُقابل. على سبيل المثال، عندما أصبحت الاقتصادات الإقطاعية القائمة على الأراضي في العصور الوسطى الأوروبية عائقًا أمام نمو القوى الإنتاجية للمجتمع، حلت محلها الاقتصادات الرأسمالية القائمة على المنافسة السوقية والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وتوظيف العمال المأجورين. ترسخت هذه الاقتصادات بفعل الهيمنة السياسية للطبقة الرأسمالية، وهيمنة أيديولوجية الفردانية الاستحواذية.

2. الحتمية التكنولوجية؟

ما الذي يُحرك التغيير التاريخي في نهاية المطاف؟ ترى إحدى المدارس الفكرية أن نظرية ماركس شكلٌ من أشكال الحتمية التكنولوجية "حيث التاريخ، في جوهره، هو نمو القوة الإنتاجية البشرية، وأن أشكال المجتمع تزدهر وتنهار وفقًا لما تُمكّنه أو تُعيق هذا النمو". أما آخرون، وإن لم يُنكروا أن التكنولوجيا قد تُمهّد الطريق للتغيير التاريخي، فهم يُصرّون على أن ماركس يُسند الدور الرئيسي للصراعات بين الطبقات الاقتصادية المختلفة. في البيان الشيوعي، يُعلن ماركس وزميله فريدريك إنجلز (1820-1895): "إن تاريخ أي مجتمع قائم حتى الآن هو تاريخ صراعات طبقية".

3. الرأسمالية

تشمل نظرية ماركس العامة للتاريخ المجتمعات من جميع الأنواع، ولكل نوع سمات فريدة. نمط الإنتاج الرأسمالي هو نظامٌ يتوسع ذاتيًا وغير مستقر، يتميز بدورة "ازدهار وكساد". لقد أعطت المنافسة السوقية زخمًا غير مسبوق لتطور التكنولوجيا، بينما قوّضت الروابط والقيم الاجتماعية التقليدية، وركزت رأس المال في أيدي قلة قليلة تسيطر على وسائل الإنتاج. لكنها في الوقت نفسه ولّدت طبقة عاملة تزداد تكاملًا، وتدرك قوتها الكامنة من خلال تطور النظام الذي يستغلها. في البداية، اعتقد ماركس وإنجلز أن النضال لإسقاط الطبقات الرأسمالية الحاكمة يتطلب العنف؛ ولكن بحلول سبعينيات القرن التاسع عشر، أصبحا يعتقدان أنه في بعض البلدان ذات المؤسسات البرلمانية، يمكن للطبقة العاملة الفوز بالسلطة بالوسائل السلمية. سيسمح الانتقال من الرأسمالية بتحقيق مجتمع ديمقراطي حقيقي بلا طبقات ("الشيوعية")، مما يضع حدًا لتاريخ الصراعات الطبقية. لقد أثبتت الرأسمالية أنها أكثر مرونة بكثير مما توقعه ماركس. ومع ذلك، فإن إضافة الأزمات البيئية إلى التحديات التقليدية للرأسمالية تُنذر بعاصفة عاتية، يعتقد الكثيرون أن النظام سيواجه صعوبة في الصمود في شكله الحالي. فهل النظرية متماسكة؟

يرى بعض النقاد أن نظرية ماركس في التاريخ إما خاطئة أو سطحية. فإذا كانت ترى أن "البنية الفوقية" القانونية والسياسية للمجتمع ليست سوى نتيجة لنمط الإنتاج، فهي خاطئة بوضوح لأن السياسة والقانون والأيديولوجيا تؤثر تأثيرًا عميقًا على هذا النمط. على سبيل المثال، لا يمكن للاقتصاد الرأسمالي أن يستمر يومًا واحدًا بدون القوانين والنظام القضائي الذي يحمي الملكية الخاصة ويدعم الأسواق، ويُمكّن التجارة، ويضمن الأمن، إلخ. من ناحية أخرى، إذا فُسِّرت نظرية ماركس على أنها تعني أن كل جانب من جوانب النظام الاجتماعي يؤثر على كل جانب آخر، فهي صحيحة ولكنها سطحية. سعى المدافعون عن ماركس، بدءًا من إنجلز، إلى إيجاد سبل للتوفيق بين فكرة الأسبقية التفسيرية لنمط الإنتاج وحقيقة التأثير المتبادل. وتتضمن أعمال الباحثين في العقود الأخيرة محاولاتٍ مبهرة لإثبات إمكانية تفسير النظرية بطريقة متماسكة وغير سطحية.

مفهوم كارل ماركس للاغتراب

يتميز فكر كارل ماركس بشموليته وتأثيره الكبير، لا سيما في الفلسفة وعلم الاجتماع. يشتهر ماركس بنقده اللاذع للرأسمالية. يؤكد نقده الرئيسي الأول أن الرأسمالية تُغري الناس في جوهرها. أما نقده الرئيسي الثاني، فيؤكد أن الرأسمالية استغلالية في جوهرها. يركز هذا المقال تحديدًا على نظرية ماركس في الاغتراب، والتي ترتكز على ادعاءات ماركس المحددة حول كل من الاقتصاد والطبيعة البشرية.

١. تحليل ماركس للرأسمالية

يعتبر ماركس مفهوم وسائل الإنتاج مفهومًا اقتصاديًا بالغ الأهمية. تشمل وسائل الإنتاج كل ما يلزم تقريبًا لإنتاج السلع، بما في ذلك الموارد الطبيعية والمصانع والآلات. في الاقتصاد الرأسمالي، على عكس الاقتصاد الشيوعي أو الاشتراكي، تكون وسائل الإنتاج مملوكة ملكية خاصة، كما هو الحال عندما يمتلك رجل أعمال مصنعًا. ان العنصر الأساسي الذي لا يُدرج ضمن وسائل الإنتاج هو العمل. ونتيجةً لذلك، يجد أعضاء الاقتصاد الرأسمالي أنفسهم منقسمين إلى طبقتين متمايزتين: أولئك الذين يملكون وسائل الإنتاج (الطبقة الرأسمالية أو البرجوازية) وأولئك الذين لا يملكونها (البروليتاريا).

٢. مفهوم ماركس للوجود النوعي

يرى ماركس أن كون الرأسمالية وتقسيمها الطبقي نظامًا مناسبًا للبشر يعتمد على الطبيعة البشرية. لأن البشر كائنات بيولوجية، وليسوا مجرد عقول غير مادية عائمة، علينا التفاعل مع العالم الطبيعي وتحويله من أجل البقاء. لكن ما يميزنا عن جميع الحيوانات الأخرى، كالنحل والعناكب والقنادس، والتي تُغير العالم غريزيًا، هو أننا نُغيره بوعي وحرية. وهكذا، فإن جوهر الإنسان - ما يُسميه ماركس كينونتنا النوعية - هو تحويل العالم بوعي وحرية لتلبية احتياجاتنا. ومثل العديد من الفلاسفة الآخرين، يعتقد ماركس أن القيام بما يُميزنا كبشر على أكمل وجه هو المصدر الحقيقي للإنجاز.

3. الاغتراب في المجتمع الرأسمالي

يمكننا الآن توضيح ادعاء ماركس بأن الرأسمالية تُغريب. الفكرة العامة للاغتراب بسيطة: يصبح الشيء مُغتربًا عندما يبدو ما هو (أو ينبغي أن يكون) مألوفًا ومتصلًا غريبًا أو منفصلًا. ولأن كينونتنا النوعية هي جوهرنا كبشر، فيجب أن يكون شيئًا مألوفًا. بقدر ما نعجز عن التصرف وفقًا لطبيعة جنسنا، نصبح منفصلين عن طبيعتنا. فإذا كان العمل في المجتمع الرأسمالي يعيق تحقيق طبيعة جنسنا، فإن العمل يُسبب لنا الاغتراب. وبما أننا نُعزل عن طبيعتنا، فإن الاغتراب ليس مجرد شعور ذاتي، بل يتعلق بواقع موضوعي. فكيف يُعزل العمال عن طبيعة جنسهم في ظل الرأسمالية؟

يُميز ماركس بين ثلاث طرق محددة.

أ. يُعزل العمال عن غيرهم من البشر. في الاقتصاد الرأسمالي، يتنافس العمال فيما بينهم على الوظائف والزيادات. ولكن كما تُخفض المنافسة بين الشركات أسعار السلع، تُخفض المنافسة بين العمال الأجور. وبالتالي، ليست البروليتاريا هي المستفيدة من هذه المنافسة، بل الرأسماليون. وهذا لا يُلحق ضررًا ماديًا بالعمال فحسب، بل يُبعدهم عن بعضهم البعض. البشر كائنات حرة، ويمكنهم التعاون من أجل تغيير العالم بطرق أكثر تطورًا وفائدة. لذا، ينبغي أن ينظر العمال إلى بعضهم البعض كحلفاء، لا سيما في مواجهة طبقة رأسمالية تسعى إلى تقويض تضامن العمال لمصلحتها الخاصة. لكن في ظل الرأسمالية، ينظر العمال إلى بعضهم البعض كمنافسين متعارضين.

ب. يُعزل العمال عن منتجات عملهم. لا يحتاج الرأسماليون إلى القيام بأي عمل بأنفسهم - فبمجرد امتلاكهم لوسائل الإنتاج، يسيطرون على ربح الشركة التي يملكونها، ويثرون من ذلك. لكن لا يمكنهم تحقيق الربح إلا من خلال بيع السلع، التي ينتجها العمال بالكامل. وهكذا، فإن منتجات عمل العامل تُعزز الرأسماليين، الذين تتعارض مصالحهم مع مصالح البروليتاريا. يفعل العمال هذا كعمال، ولكن أيضًا كمستهلكين: كلما اشترى العمال سلعًا من الرأسماليين، فإن ذلك يُعزز أيضًا موقف الرأسماليين. وهذا يتعارض مرة أخرى مع وجود العمال كنوع. ينتج البشر استجابةً لاحتياجاتنا؛ ولكن بالنسبة للبروليتاريا على الأقل، فإن تقوية الطبقة الرأسمالية ليست بالتأكيد إحدى تلك الاحتياجات.

ج. يُعزل العمال عن فعل العمل. لأن الرأسماليين يمتلكون الشركات التي توظف العمال، فإنهم، لا العمال، هم من يقررون ماهية السلع التي تُصنع، وكيفية صنعها، وظروف عملها. ونتيجةً لذلك، غالبًا ما يكون العمل مُملًا ومتكررًا، بل وخطيرًا. قد يكون هذا العمل مناسبًا للآلات، أو للكائنات التي لا تملك القدرة على تحديد طريقة عملها بوعي وبحرية، ولكنه غير مناسب للبشر. إن تحمل هذا العمل لفترة طويلة يعني أن المرء لا يمكنه البحث عن الرضا إلا خارج نطاق عمله؛ بينما "نشاط العمل، الذي يُمثل مصدرًا محتملًا لتعريف الإنسان لذاته وحريته، قد تدهور إلى ضرورة للبقاء على قيد الحياة". وكما يقول ماركس في فقرة شهيرة: لذا، في عمله، لا يُؤكد العامل نفسه بل ينكرها، لا يشعر بالرضا بل بالتعاسة، لا يُنمّي طاقته الجسدية والعقلية بحرية، بل يُميت جسده ويُدمر عقله. لذلك، لا يشعر العامل بنفسه إلا خارج العمل، وفي عمله يشعر بأنه خارج ذاته. يشعر بأنه في بيته عندما لا يعمل، وعندما يعمل لا يكون في بيته." إذا كان ماركس مُحقًا في كل هذا، فإن الشكاوى المعاصرة من الطبيعة المُهينة للعمل ليست مُبالغة. بقدر ما تمنعنا الرأسمالية من تحقيق كينونتنا كنوع، فهي، حرفيًا، مُجرّدة من الإنسانية.

- حول شعار كارل ماركس "من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب حاجته"

يُعدّ شعار "من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب حاجته" أحد الأوصاف القليلة الصريحة للشيوعية التي طرحها الفيلسوف الألماني كارل ماركس. يتصور ماركس الشيوعية كنظام اقتصادي يُدير فيه العمال أنفسهم بحرية إنتاج وتوزيع السلع والخدمات. نتناول هنا أصول هذا الشعار ومعناه.

١. التوزيع في ظل الرأسمالية

في المجتمع الرأسمالي، تُوزّع السلع والخدمات من خلال الأفراد والشركات التجارية في سوق تنافسية. نظريًا، تضمن المنافسة عدم امتلاك أيٍّ من الطرفين قوة تفاوضية غير عادلة، كما تسمح الحرية الاقتصادية لكلا الطرفين بالحصول على ما يحتاجانه من خلال التبادل. يجادل الاشتراكيون بأن قوة التفاوض المتساوية مجرد وهم، إذ يُعطي هذا النظام في الواقع امتيازات لمن يملكون وسائل الإنتاج، أو رأس المال: المصانع والأراضي وغيرها من الأشياء التي يستخدمها العمل لإنتاج السلع. عمليًا، يُبرّر هذا النظام استغلال العمال الذين يُحوّلون بشكل متزايد إلى مجرد "تروس" في آلة الربح الرأسمالية.

٢. منتقدو الرأسمالية

طرح الاشتراكي الطوباوي الفرنسي هنري دي سان سيمون (١٧٦٠-١٨٢٥) بديلًا للرأسمالية يتمحور حول قيادة الخبراء لتخطيط الاقتصاد لتلبية احتياجات الجميع. دعا أتباع سان سيمون إلى مبدأ العدالة التوزيعية - أو توزيع السلع والخدمات - الذي ألهم ماركس: "من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب عمله". أي أنه ينبغي على كل فرد أن يُسهم في خدمة المجتمع بأفضل ما لديه من قدرات، وألا يعمل أكثر مما يُناسب صحته العقلية والجسدية والاجتماعية. مع ذلك، يجب أن يُبنى التعويض عن هذا العمل على الجهد المبذول، وليس على أسعار السوق. قام الاشتراكي الفرنسي لويس بلان (1811-1882) بتعديل الشعار ليصبح: "من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب حاجته". وكما هو الحال مع شعار سان سيمون، يتمتع الجميع بحرية السعي وراء مواهبهم وإثراء أنفسهم. لكن عبارة "لكلٍّ حسب حاجته" تعني أن التوزيع سيعكس احتياجات الفرد، وليس مدى اجتهاده في العمل.

٣. التأثير على ماركس

استشهد ماركس بشعاري بلانك وسان سيمون في كتابه "نقد برنامج غوتا"، وهو نقدٌ لبرنامج الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني عام ١٨٧٥. ورغم تأثر البرنامج بأفكار ماركس، إلا أنه انحرف عن تفكيره في جوانب مهمة: إذ ركّز خطأً على التوزيع العادل للسلع والخدمات فقط، دون كيفية إنتاجها. لا ينبغي للعمال أن يحصلوا على تعويضات أفضل فحسب، بل ينبغي أن يمتلكوا وسائل الإنتاج ويتحكموا بها بأنفسهم، لمصلحة البشرية. وبتأكيده على إنتاج السلع، أخذ ماركس على محمل الجدّ جانب الشعار الذي شاركه فيه سان سيمون وبلان، والذي يُركّز على الإنتاج. واعتقد ماركس أن كل شعار سيجد مكانه في رؤيته للمجتمع الاشتراكي.

٤. المرحلة الدنيا من الشيوعية عند ماركس

يقترح ماركس مرحلتين للشيوعية. جادل بأن هاتين المرحلتين ستنشأن حتمًا نتيجةً للأزمات الاقتصادية في الرأسمالية وتنامي الوعي الطبقي لدى الطبقة العاملة. تُنظّم المرحلة الأولى، كما في شعار سان سيمون، حيث يتقاضى العمال أجورًا تتناسب مع طول العمل وصعوبته. تبدو هذه المرحلة مساواتية ظاهريًا، إذ تُمنح أجور متساوية لجهد متساوٍ. لكن ماركس يُشير إلى خلل في صياغة سان سيمون، نظرًا لاختلاف احتياجات الناس :هذا الحق المتساوي هو حق غير متساوٍ لعمل غير متساوٍ. فهو لا يعترف بأي فروق طبقية، لأن كل فرد عاملٌ كغيره؛ ولكنه يعترف ضمنيًا بعدم تكافؤ المواهب الفردية، وبالتالي القدرة الإنتاجية، كميزة طبيعية. لذا، فهو حقٌّ في عدم المساواة، في مضمونه... كما يجادل ماركس بأن هذه "المساواة" الظاهرية تُخفي فرديتنا بطريقة غير مساواتية في جوهرها. الأم لديها فمان لإطعامهما، وقد لا يتمكن الشخص ذو الإعاقة من العمل لفترة طويلة، وهكذا، لذا فإن الأجر المتساوي مقابل الجهد المتساوي سيظل غير متكافئ.

5. المرحلة العليا من الشيوعية

في المرحلة الثانية من الشيوعية، يُنظّم المجتمع وفقًا لمبدأ بلانك: "من كل حسب قدرته، ولكل حسب احتياجاته!". تُحقق هذه المرحلة المساواة الكاملة حيث تُلبى احتياجات الجميع ويمكنهم تطوير مواهبهم بحرية. كما يعمل الناس وفقًا لقدراتهم: فالعمل ليس ضروريًا فقط لاستدامة المجتمع، بل هو جزء مما يجعلنا بشرًا. وبفضل زيادة الإنتاجية وتنظيم العمل وفقًا لأهداف العمال، يمكن تلبية الاحتياجات دون أيام عمل شاقة. وهذا يتيح أيضًا وقت فراغ لتطوير أنفسهم واحتياجاتهم التي تتجاوز مجرد البقاء على قيد الحياة - مثل الرغبة في الموسيقى والفن والفلسفة والعلوم وما إلى ذلك. كما يُعوّض الناس وفقًا لاحتياجاتهم: فالتعويض لا يعتمد على الجهد، بل على ما هو مطلوب منهم للازدهار. يتطلب هذا التغلب على التحيزات حول المهن الأكثر قيمة؛ يجب على المجتمع أن يتغلب على هرمية العمل الذهني على العمل البدني وجميع التسلسلات الهرمية المماثلة الأخرى ضمن تقسيم العمل. قد يقلق البعض بشأن استعداد الناس للعمل فقط من أجل إعادة توزيع ثمار عملهم على أولئك الذين لم يبذلوا جهدًا كبيرًا. يقول ماركس إن الناس سيتحملون طواعيةً بعض المسؤولية الاجتماعية، بالطريقة التي نتشارك بها الأعمال المنزلية والبستنة ورعاية الأطفال. قد يبدو هذا ساذجًا، ولم يحدد ماركس ما إذا كان سيتم فرضه أو تشجيعه أو كيفية تطبيقه. ولكن في النهاية سيعمل الناس طواعيةً لأن العمل هو مصدر تحقيق الذات. اعتقد ماركس أن الطبيعة البشرية تجد أعظم تحقيق لها في العمل الاجتماعي، لكن الرأسمالية حوّلت العمل إلى عبء. وذلك لأن العمل في ظل الرأسمالية منظم حول أهداف الربح، وليس احتياجات العمال أو البشرية بشكل عام. عندما نفخر بتسخير قدراتنا لتلبية احتياجات الناس، يصبح العمل رغبةً من رغباتنا بدلًا من أن يكون مجرد وسيلة للبقاء.

خاتمة

تزعم نظرية ماركس للتاريخ تحديد سمات هيكلية وتنموية مشتركة بين جميع المجتمعات البشرية، تنبع من حاجتها إلى توظيف قدراتها التكنولوجية لانتزاع لقمة العيش من بيئاتها المادية. وبينما ترفض هذه النظرية فكرة أن مسار التاريخ مُحدد مسبقًا، فإنها ترى تطورًا طويل الأمد للأشكال المجتمعية نحو زيادة القدرة التكنولوجية على التحكم في هذا "التفاعل" مع الطبيعة. مهما كانت مزايا تنبؤات ماركس حول الرأسمالية، فإن المادية التاريخية، كنظرية أعم للتاريخ، لا يمكنها أن تتنبأ بمستقبل ما بعد الرأسمالية بأي قدر من اليقين - مع أنها قد تُساعد في فهم كيف وصلنا، على مدار التاريخ الطويل، إلى ما نحن عليه الآن.

قد يجد المرء إلهامًا كبيرًا في فكرة أن الرضا الحقيقي يمكن أن يأتي من العمل الإبداعي والهادف. ومع ذلك، فإن تجربة معظم الناس الفعلية في العمل في الاقتصادات الرأسمالية تتميز بالملل واللامبالاة والإرهاق. وتقدم نظرية ماركس في الاغتراب إطارًا مفاهيميًا لفهم طبيعة هذه التجارب وأسبابها، وتؤكد لنا أن هذه التجارب الذاتية تتعلق بواقع موضوعي - والأهم من ذلك، واقع يمكننا تغييره. يُعدّ شعار ماركس "من كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب حاجته" مبدأً من مبادئ التنظيم الاجتماعي، حيث يكون العمل بناءً ومرغوبًا فيه، ونعتبر فيه احتياجات الآخرين احتياجاتنا. وبالتالي، رأى ماركس أن هذا مجتمعٌ مُحرَّرٌ من الاستغلال، واللاإنسانية، والهيمنة. فهل تكفي القوة الاجتماعية للعمال لإحداث التغيير الاجتماعي الأممي؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

مقاربة تداولية

تمهيد: ساهم يورغن هابرماس، من مواليد 18 يونيو 1929 في دوسلدورف، من بين جيل الشباب من الفلاسفة الألمان، بطريقة مبتكرة في تجديد التفكير النقدي. وقد فتح نفوذها الحالي، المهيمن في ألمانيا، نقاشا دوليا واسعا. تغذى على قراءات كانط وهيجل وماركس، التي شكلتها أفكار هوركهايمر وأدورنو وماركوز، ولا يدين بشهرته فقط لإقامته في فرانكفورت (كان مساعدًا في معهد البحوث الاجتماعية من 1955 إلى 1959، وأستاذًا للفلسفة وعلم الاجتماع من 1964 إلى 1971، بعد أن بدأ مسيرته التعليمية في هايدلبرغ في عام 1961). في الواقع، وبفضل تدخلاته النقدية في العلوم الإنسانية الرئيسية، لم يكتف هابرماس بالتشكيك في الروح الوضعية والوعي التكنوقراطي الذي يهيمن عليها، ولكنه أيضًا أثرى فكره بشكل كبير. وبهذه الطريقة وضع "النظرية النقدية" لمدرسة فرانكفورت على مستوى آخر، مواجهًا تحديًا مزدوجًا: عدم التخلي عن الإلهام الماركسي أثناء ممارسة التحريفية المؤكدة؛ وهي تحرير النظرية النقدية من دينها المعرفي مع الاحتفاظ ببعدها التحرري. يعارض هابرماس تفكير أدورنو السلبي حصريًا من خلال التخلي اليوم عن النقد لصالح العمل البناء والمنهجي. لكنه أقرب إلى هوركهايمر وأدورنو إلى الحد الذي تناول فيه بدوره المشكلة التي ميزت النظرية النقدية لمدة أربعين عاما والتي تصل إلى حد التساؤل عن كيفية توضيح العلاقة بين النظرية والممارسة مع الأخذ في الاعتبار الحقائق الجديدة للرأسمالية المتقدمة. وقد خصص سلسلة من الدراسات لهذا السؤال: النظرية والتطبيق (1963)، حيث ينتقد، في الفلسفة الاجتماعية كما تطورت منذ هوبز، إلغاء بُعد التطبيق العملي (بالمعنى الأرسطي) لصالح التفكير التكنولوجي. علاوة على ذلك، يمكننا أن نعتبر عمله بأكمله بمثابة انعكاس لهذه المشكلة، وذلك في ثلاثة جوانب مختلفة. أولاً، يتم فحص "الجانب التجريبي" للعلاقات بين السياسة والعلم والرأي العام في الرأسمالية المتقدمة: 1968 (التكنولوجيا والعلم كأيديولوجية). ثم يتم تحليل "الجانب المعرفي" للروابط الموجودة بين المعرفة والمصالح المهيمنة: "المعرفة والمصلحة" (1968)، وهو عمل تاريخي ومنهجي في نفس الوقت، يطور البرنامج المعرفي للفيلسوف. وأخيرا، يتم تناول "الجانب المنهجي للنظرية الاجتماعية الذي يجب أن يكون قادرا على القيام بدور النقدي". يعتبر هابرماس عمله بأكمله، غنيًا جدًا بالفعل، على أنه يتكون فقط من سلسلة من المقدمات وأعماله العديدة التي تشير إلى العديد من المراحل الأولية لنظرية الفعل التواصلي (1989). ويستمر هذا التفكير في كتابي "الأخلاق والتواصل" (1983) وفي "أخلاقيات المناقشة" (1991). كان في البداية قريبًا من قادة الحركة الطلابية، واعتبر أحد مرشديهم، وأصبح منذ عام 1967 خصمًا سياسيًا لهم من خلال الدعوة إلى "الإصلاحية الراديكالية" (1969). وبشكل ملموس، فهو يناضل من أجل إعادة تأسيس الرأي العام الديمقراطي والنقدي. وبعد تعرضه للانتقادات بدوره، غادر فرانكفورت في عام 1971، وقبل منصب مدير معهد ماكس بلانك في شتارنبرغ في بافاريا. ثم عاد إلى الجامعة الألمانية في فرانكفورت عام 1983. فماهو تقييمه للاتصال التقني المعاصر؟ كيف عمل في مشروعه العقلاني الكوني على نقده؟ وماهي شروط امكان التواصل الانساني في عصر التقدم التكنولوجي المتسارع؟

 التقنية والتكنولوجيا

في عمله الصادر عام 1969 بعنوان "التكنولوجيا والعلم كـ"أيديولوجيا"، تناول يورغن هابرماس الظواهر المتعلقة بالتكنولوجيا والعلوم الحديثة بوضوح أكبر من غيره من الأعمال. وهو معروف بنظريته الاجتماعية، ونظريته القانونية، ونظرياته حول الذاتية والتفاعل بين الذاتية، وكان شخصية بارزة في التاريخ الفكري لأوروبا الحديثة نظرًا للدور المزدوج الذي لعبه كصوت وممثل للحركات السياسية والفلسفية في ألمانيا الغربية ما بعد الحرب وما بعد الهولوكوست. إن استكشاف دور التكنولوجيا في تفكيره يُبرز الوضع الغامض للتكنولوجيا في النظرية الاجتماعية النقدية، بالإضافة إلى العلاقة العامة بين التاريخ الفكري وتاريخ التكنولوجيا. إن السؤال المفتوح والمقلق حول ما إذا كانت التكنولوجيا نعمة أم نقمة على الحداثة قد حشد النقاد والمعلقين على الأقل منذ الثورة الصناعية، وفرقهم على المستويات السياسية والمعرفية والأخلاقية. يقع مشروع هابرماس في قلب هذه التقاليد، ومقاله الصادر عام 1968 يُحدّث المخاوف الراسخة بشأن الحداثة الصناعية بما يتناسب مع الظروف التكنولوجية والفلسفية والسياسية الخاصة ببدايات الحرب الباردة. وتتجلى نقاط التقاطع بين التكنولوجيا ومجالاته المميزة - وهي نقاط تقاطع صاغها وساهم فيها - في النظريات السياسية للتكنولوجيا والديمقراطية (على سبيل المثال، في أشكال التكنوقراطية والحتمية التكنولوجية)، ونظريات المعرفة العلمية وأهميتها لنظريات الذات المعقولة ومجتمعات المعرفة، ونظريات العلمانية وبناء الدولة الحديثة. لكن لا يُنظر عادةً إلى يورغن هابرماس كفيلسوف للتكنولوجيا. بعد عرض نقده المبكر للوعي التكنوقراطي، سنجادل بأن المشكلة الرئيسية في مفهوم هابرماس للتكنولوجيا تكمن في خلطه بين "التكنولوجيا" و"العقلانية التقنية". كما يمكن انتقاد موقف هابرماس لنزعه الطابع السياسي الضمني عن التكنولوجيا. ومن خلال التمييز بين "التكنولوجيا" و"التقنية"، سنجادل بأن موقف هابرماس لا يستبعد نظرية نقدية للتكنولوجيا. ستجمع الصورة الناشئة بين تأكيد هابرماس على أن التكنولوجيا أكثر من مجرد مشروع تاريخي، وتفاؤل فينبرغ بإمكانية إعادة توجيه تحرري للتكنولوجيا. إن تزايد القوى المنتجة التي أصبحت مؤسسية مع التقدم العلمي والتقني يتجاوز كل النسب المعروفة في التاريخ. وهنا يستمد الإطار المؤسسي إمكانياته لإضفاء الشرعية. إن فكرة إمكانية قياس علاقات الإنتاج من خلال إمكانات القوى الإنتاجية المنتشرة يتم رفضها على الفور من خلال حقيقة أن علاقات الإنتاج الحالية يتم تقديمها كأشكال تنظيمية ضرورية تقنيًا لمجتمع رشيد. تُظهر "العقلانية" بمعنى ماكس فيبر هنا وجهها المزدوج: فهي لا تكتفي بكونها مقياسًا نقديًا لحالة تطور القوى المنتجة، إنها أيضًا مقياس دفاعي يسمح بتبرير علاقات الإنتاج نفسها كإطار مؤسساتي مناسب لوظيفتها. علاوة على ذلك، فيما يتعلق بإمكانية استخدامها اعتذاريًا، يتم تخفيف "العقلانية" كمقياس للنقد ويتم تخفيضها إلى مستوى تصحيح بسيط داخل النظام: كل ما لا يزال من الممكن قوله هو أن المجتمع "مبرمج بشكل سيء". عند هذا المستوى من تطورها العلمي والتقني، يبدو أن القوى الإنتاجية تقيم مجموعة من العلاقات الجديدة مع علاقات الإنتاج: من الآن فصاعدًا لم تعد تتحرك في اتجاه إزالة الغموض السياسي للتنوير، حيث تعمل كأساس لنقد عمليات الشرعية القائمة، ولكنها تصبح هي نفسها مبادئ للشرعية.

نظرية الفعل التواصلي

يُعتبر يورغن هابرماس أحد أهم فلاسفة المجتمع عالميًا. وقد أرسى هابرماس مفهوم التواصل، الذي يُسهم في تجديد الوعي الثقافي ونقله لتحقيق التفاهم المتبادل. وفي هذا السياق، يُنشئ الأفراد شخصياتهم، ويشكلون حركةً منسقةً نحو التضامن والتفاعل الاجتماعي. وتتناول النظرية قضايا مُتعددة، منها تطوير إدراك متوازن لا يقتصر على المقدمات الفردية والذاتية للنظرية الاجتماعية والفلسفة الحديثة.

ثانيًا، ابتكر هابرماس مفهومًا مجتمعيًا ثنائي المستوى يدمج نماذج النظام مع مفهوم "عالم الحياة" للتنشئة الاجتماعية. وأخيرًا، تُعدّ نظرية الحداثة هذه نقديةً، إذ تُفسر وتُحلل أمراضها الخاصة بطريقة تُشير إلى إعادة توزيع المعايير في حالات الخلاف.  في هذا الإطار يصرح بما يلي "أسمي التفاعلات التواصلية التي يتفق فيها المشاركون على تنسيق خطط عملهم بذكاء جيد؛ يتم بعد ذلك تحديد الاتفاق الذي تم الحصول عليه على هذا النحو إلى حد الاعتراف الذاتي المتبادل بمتطلبات الصحة. عندما يتعلق الأمر بالعمليات اللغوية الواضحة للتفاهم المتبادل، فإن الممثلين، من خلال الاتفاق على شيء ما، يصدرون متطلبات الصحة أو بشكل أكثر دقة متطلبات الحقيقة أو الدقة أو الإخلاص اعتمادًا على ما إذا كانوا يشيرون إلى شيء يحدث في العالم الموضوعي (كمجموعة من الحالات القائمة)، أو في عالم المجتمع الاجتماعي (كمجموعة من العلاقات الشخصية التي تم تأسيسها بشكل شرعي داخل المجموعة الاجتماعية) أو في العالم الشخصي البيذاتي (كمجموعة من التجارب الحياتية التي يتمتع كل فرد بامتياز الوصول إليها). ولكن بينما في النشاط الاستراتيجي، يؤثر أحدهما على الآخر تجريبيا (سواء عن طريق تهديده بعقوبة أو عن طريق الوعد بالإكراميات) من أجل الحصول على الاستمرار المتوقع للتفاعل، في النشاط التواصلي، يتم تحفيز كل منهما عقلانيا من قبل الآخر للعمل بشكل مشترك، وذلك بفضل آثار الالتزام الإجرائي المتأصلة في حقيقة أن فعل الكلام مقترح." من هذا المنطلق يرتبط مبدأ يورغن هابرماس للفعل التواصلي بتباين فكرتين عن العقلانية، تُوجّهان النشاط من خلال التأثير على المعرفة. هناك ثلاثة مكونات هيكلية لـ"عالم الحياة" تتوافق مع الوظائف، وهي الثقافة، والمجتمع، والشخصية. على المستوى الثقافي، يُمثّل هذا معيارًا للوعي يُدمجه المشاركون في التواصل لأنفسهم أثناء فهمهم لشيء ما في العالم. كما تضمن النظرية ربط المواقف الناشئة حديثًا بالظروف القائمة في هذا المجال. كما تضمن استمرار اتساق وتقاليد المعرفة، وهو ما يكفي للممارسة التوافقية للاحتياجات اليومية. على سبيل المثال، يُشكّل التفاهم المتبادل بين بعضنا البعض في علاقة متبادلة تقليدًا ثقافيًا يُمارس ويُحسّن. فيما يتعلق بالمجتمع، تُطبّق أوجه القصور في التفاعل والتكامل الاجتماعي على انسجام السلوك، بينما يُرسي كلاهما، بشكل ذاتي، المعايير التي تحكم العلاقات الشخصية قانونًا. وهكذا، تُولّد النظرية الوحدة من خلال التحكم في التفاعلات بين الأشخاص من خلال التنشئة الاجتماعية. على سبيل المثال، قد ترتبط الأحداث الأخيرة بالأوضاع الراهنة في العالم. وأخيرًا، على مستوى الشخصية، تضمن النظرية تشكيل الشخصيات ذات الكفاءات التفاعلية من خلال عملية التنشئة الاجتماعية. وتخلق نظرية التواصل هوية شخصية مقبولة من خلال قدرات التواصل ضمن فترة زمنية تاريخية. على سبيل المثال، يكتسب الطفل الناشئ مهارات شاملة للعمل المجتمعي، ويتبنى قيم جماعته الاجتماعية من خلال الانخراط في علاقات مع أفراد ذوي شخصيات مختلفة. فما أهمية نظرية التواصل في المجتمع؟ في المقابل، تُعد النظرية أساسية وفعالة، إذ تلعب دورًا قيّمًا في فهم البشر. يمكن أن يساعد التواصل والتفاعل في بناء العلاقات بين المجتمعات. بالإضافة إلى ذلك، فهو يساعد على فهم الأفراد والمجتمعات والعلاقات مع الزملاء والعائلات. كما أنه يساعد في تعزيز استيعاب من لديهم نفس الهدف. وفي الإنتاج الاجتماعي، شكّلت نظرية التواصل تواصلًا للفهم الاجتماعي في المجال الثقافي، وتساهم في استدامة جميع عناصر "عالم الحياة". إن التواصل الفعال يساهم دائمًا في بناء مجتمع صحي ومثقف. علاوة على ذلك، يُحافظ على المجتمع والشخصية دائمًا من خلال إعادة الإنتاج الثقافي. وقد أدت هذه النظرية أيضًا إلى ترتيبات التنشئة الاجتماعية، والأهداف التعليمية، والارتباطات الاجتماعية، وحتى الهوية الشخصية. وتستطيع النظرية تحديد المسؤوليات، والإنجازات التفسيرية، والمخططات التفسيرية المناسبة للمعرفة القيّمة. كما أدى هذا المفهوم إلى نشوء علاقة القرابة المستقلة نتيجةً لتقدم التمييز الطبقي. وقد يكون هناك صعود في مفاهيم التنظيم الرسمي، مما قد يُسهم بفعالية في تطوير القانون في اتجاه إيجابي. لذلك، قد يكون من السهل التوصل إلى تفاهم متبادل نظرًا لوجود آلية لحل المشكلات تُكمل تفسيرات العالم بين الكائنات التواصلية. فكيف يتصور هابرماس عالم الحياة؟

مفهوم عالم الحياة

يُفسر هابرماس "عالم الحياة" بأنه الخلق الذي يتشارك فيه الأفراد مع بعضهم البعض يوميًا. في هذا السياق، يُشبه العالم تجربةً سابقةً للعمل في الفلسفة الفينومينولوجية أو العلمية. لقد أثّر عالم الحياة على المجتمع الحالي، وقد أُسندت إليه مهمة التنظيم انطلاقًا من أطروحة الاحتلال العالمي للعالم. يُطوّر هابرماس مناقشةً لعملية التشريع في مقرر التاريخ. يشير هذا المفهوم عادةً إلى تكثيف اللوائح الاحتفالية في سياق تطوير لوائح إيجابية، مما يؤدي إلى علاقات اجتماعية خاضعة لرقابة قانونية وتكثيف التشريعات التي تُفصّل المبادئ التوجيهية القانونية. علاوة على ذلك، يدّعي هابرماس أن عالم الحياة يميل إلى نبذ الأعمال المستقلة للاقتصاد والحكومة، ويؤكد أن "المعيار" يبقى القانون، الذي يقتصر على المجال الراسخ للخطاب العملي. على سبيل المثال، يذكر بعض المراسيم العائلية والمدارس التي تُغيّر الإدماج الاجتماعي وتُدار وفقًا للمعيار التوجيهي من حيث الضوابط الإدارية والمالية. لا تتطلب القواعد أي تفكير عملي، بل علاقة ايتيقية وثيقة. تشير المؤسسات القانونية، كالقوانين الجنائية والدستورية، إلى مبادئ توجيهية مُقيّمة معياريًا وخطاب أخلاقي تطبيقي، والذي لا يزال بحاجة إلى التحقق من صحته. ويمكن ملاحظة مثال واضح على تطبيق هذه الإجراءات في الازمات الصحية الحالية، التي انتشرت في كل مكان وفي كل بلد حول العالم. فماهي أشكال حضورالعقلانية التواصلية في الفضاء العمومي العالمي؟

خاتمة

لقد أكد هابرماس في نظريته للتواصل، فإن التفاعل والترابط بين الأطراف أساسيان لتحقيق التفاهم، مما يسمح للمجتمع بالتقدم. لذلك، بمقارنتها بنظرية التواصل، يدّعي هابرماس أنه مع هذا النوع من الترابط والتفاهم والتعاون، لا شيء يصعب تحقيقه. ما نستخلصه هو أن الفعل التواصلي يُعد مبدأً عالميًا لقدرة المجتمع على التعبير، وهو القواعد الأساسية والهياكل الأولية التي يُناقش فيها موضوع التعلم اللغة. كما سلّط هابرماس الضوء على مكونات نظرية التواصل، وهي الثقافة والمجتمع والشخصية. هذه المراكز الهيكلية للعالم الحي مُبسّطة مجازيًا، وتُنشأ من خلال الفعل التواصلي لتحقيق ونقل فهم الثقافة. لقد ساعدت هذه النظرية المجتمعَ لأنها تُعيد إنتاجَ الثقافة، مما ساعد على الحفاظ على جميع مقومات عالم الحياة، أي المجتمع والشخصية. وقد تحقق ذلك من خلال إيجاد شرعياتٍ للتأسيس في المجال الاجتماعي، ونمط التنشئة الاجتماعية، وأهداف التعليم للكفاءات العامة، واكتساب العمل في مجال الشخصية في عالم الحياة. يلفت الانتباه إلى موضوع أُهمل في التناول الأكاديمي لأعمال هابرماس، ألا وهو مفهوم تخفيف التواصل. ففي نظريته الحديثة في المجال العام، يُصنّف أشكالًا إعلامية مختلفة ضرورية لتنسيق مختلف أنواع الفعل الاجتماعي. ويُحدد ثلاثة أشكال إعلامية: التوافق اللغوي، وتوجيه الإعلام، والتواصل المعمم. ورغم اعتراف علماء الاتصال بأفكاره حول التوافق اللغوي، إلا أنهم أغفلوا تلك المتعلقة بتوجيه الإعلام والتواصل المعمم. وعليه، يُركز هذا التحليل بشكل أكبر على هذين الشكلين الإعلاميين الأخيرين، اللذين يندرجان ضمن المفهوم الأوسع لآليات التخفيف. وبتوسيع نطاق نظريات الإعلام لتالكوت بارسونز، يُحدد هابرماس أربعة أنواع من آليات التخفيف: المال، والسلطة، والنفوذ، والالتزام بالقيمة. يؤدي المال والسلطة وظائف توجيه إعلامية تعزز الكفاءة. أما النفوذ والالتزام بالقيمة فيؤديان وظائف تواصل معممة تعزز ليس فقط الكفاءة، بل الفهم أيضًا. وتُناقش الآثار المترتبة على النظريات المعيارية للاتصال الديمقراطي عبر وسائل الإعلام الجماهيرية. فكيف يمكن توظيف الاتصال التكنولوجي في سبيل تحقيق العدالة الكونية والمساواة بين الشعوب دون تمييز بين المجتمعات أو تمركز حضاري غربي؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

....................

المصادر

Jürgen Habermas (1929), La technique et la science comme idéologie, Denoël, 1973, coll. Médiations,

عندما تُرسل فكرة أو معنى تصل بشكل مختلف عما كانت عليه في الأصل "جاك لاكان"

في هذه السطور محاورة نفسية بين ما هو موجود في البيئة الخارجية وما تدركه النفس وتفسره، وهي محاولة علمية إجتهادية على ضوء فكر التحليل النفسي من فرويد إلى جاك لاكان المحلل النفسي الفرنسي. التحليل النفسي هو معرفة النفس بما يجري في داخلها، وما يعكسه من الخارج ليستقر ربما فيها، في عالم اللاشعور – اللاوعي، يستدعي الإنسان أحيانًا بعض ما تم خزنه لاشعوريًا ليشرح أو يفسر للنفس عما أدركه، فيفسر ذلك المدرك من الخارج، فيعود مختلف ومَحور تمامًا ليس كما تم خزنه أو كبته، أو خُزن، فاللاشعور هو اللغة التي تصل إلينا من اعماق النفس وقول "جاك لاكان" المحلل النفسي الفرنسي مجدد التحليل النفسي أن اللغة هي ما يحدد الإنسان. ونقول أن لغة اللاشعور – اللاوعي هي التي تفسر ذلك المُدرك، فيصدق قول لاكان أن اللغة هي ما يحدد الإنسان.

إن الخارج أقصد " البيئة الخارجية" لأي منا هو ما يدركه من صور، أو حديث، أو حوار مع الآخر من زملاءه، أو المحيطين به، لا بل ما يشاهده في معظم الأوقات من علامات تُعبر عن دلالة يعرفها الجميع في المجتمع، هي لغة تنبع من لاشعور – لاوعي الفرد فبعض الصور مثل علامة ممنوع الدخول، أو هذا المكان مخصص للعوائل، أو لا يسمح لبيع هذه المواد من هم أقل من ثمانية عشر عام مثل الادوية، أو المشروبات، أو علب السيكاير، أو يمنع دخول السافرات في هذا الحرم الديني مثل المسجد، فتضطر المرأة حتى الأجنبية منهن أن تضع على رأسها شال " حجاب" لكي يسمح لها بالدخول وغيرها من الرموز التي تواجهنا ونحن في حياتنا اليومية.

نتساءل ما هي دلالاتها فيجيب " جاك لاكان " قوله: النقاط أو الرموز تعكس فكرة " غياب المعنى "، الغياب " أو النقص" في النصوص الرمزية ليس نقصًا عرضيًا بل أساسيًا. ويورد لنا " لاكان" بأن الهيمنة الرمزية هي السائدة في اللاشعور – اللاوعي، فما ندركه من العالم الخارجي ويثير فينا لحظة تأمل، أو وقفة، وربما لم تكن غير التفاتة عابرة لكنها تركت فينا الأثر، هي رسالة ذهبت إلى العالم الخفي وهو اللاوعي، ويضيف " لاكان " الرسالة ليست مجرد نص مكتوب، بل هي رمز في بنية اجتماعية، انتقالها عبر المحطات في المخطط يرمز إلى الدور الذي تلعبه الرموز، أو العلامات ضمن نظام رمزي ومنها اللغة، العلاقات الاجتماعية، السلطة، الدين، التقاليد والاعراف الاجتماعية وغيرها ممن تشكل سلوكنا الذي نتعامل به مع الآخر، أو ممن يعلمنا برضانا ونرضخ لتعاليمه، أو مرغمين على قبوله وهو الأخ الكبير " الأب، الأم، أو بديلهما ".

يعرفنا " لاكان " بأن هناك علاقة بين اللغة والرموز وهي علاقة رمزية فمثلا مواقف الحياة وأسلوب التعامل يحمل العديد من الجوانب التي شكلت هذا السلوك الذي يصدر منا في مواقف مختلفة، أو ما تعنيه الإجابة عن حدث، أو استرجاع معلومات تم خزنها واستعادتها في إمتحان لطالب، أو طالبة، استدعيت للإجابة على هذا السؤال المحدد، فيذهب الطالب لاستخراج تلك المعلومات بشكل ربما أقرب الى المطلوب وليس مثله تمامًا إلا إذا كان خزنه كقصيدة، أو معلومة وقول " لاكان " عندما تمر الرسالة من الذات إلى الآخر، أو العكس، فهي دائمًا تخضع لتحولات، لأنها تعبر عبر بنية رمزية لا يمكن للذات أن تسيطر عليها بالكامل، وهذا ما سماه علماء نفس الجشطلت التشوه الإدراكي، ويتفق تمامًا مع رؤية لاكان الفرويدية، وتختلف عنهم في الآن نفسه " رؤية التحليل النفسي بوجود لاشعور – لاوعي وهو الذي يضم الكثير من المخزونات غير المخزونة آليًا وقول " لاكان " اللاوعي ليس مجرد مستودع للرغبات المكبوتة، بل هو " منظم رمزي " يعمل عبر اللغة، كل معنى يمر عبر اللاوعي يتم إعادة تشكيله على وفق القواعد الرمزية واللغة مما يسبب تحريفًا في الرسالة، أو لنقل المدرك، هذا التحريف أو الانعكاس يحدث لأن اللاوعي لا يعمل على وفق المنطق المباشر، بل عبر الانزلاق بين العلامات والمعاني كما عبر عنه لاكان.

عندما تُرسل فكرة أو معنى تصل بشكل مختلف عما كانت عليه في الأصل " جاك لاكان " ويرى أيضًا لاكان التحريف بأنه يحدث لأن الفرد يقرأ الرسالة بناءً على ما يريد هو قراءتها وكذلك على موقعه في النظام الرمزي " وهو القيم الاجتماعية السائدة، القانون، السلطة، التربية والتنشئة الاجتماعية، الضبط الاجتماعي" مما يعيد تشكيل الرسالة لتناسب غاياته أو تصوراته، ويحق لنا القول بإن دواخلنا تحدد سلوكنا بالقبول أو بالرفض، باللف أو بالدوران فيما نقبله، أو نشك في قبوله، أو تحدد النفس الريبة فيه أو اليقين !! وتؤكد لنا المقولة النفسية التالية نحن نرى ما نراه، لأننا نريد أن نراه، وليس الذي يجب أن نراه، وهو مبدأ نفسي يسمى مبدأ الحساسية الإنتقائية في الإدراك.

لذا عندما نستلم رسالة من الأخر الذي هو نظيرنا في الوجود، أو محدثنا في الكلام، أنا الذي أحدد ماهية هذه الكلمات، أو الذي اسمعه منه، وما هي نوع النبرة الصوتية، كيف أدركها تمامًا، هل هي محببة، أم تحمل شيء من التحدي أو الازدراء فارفضها أما علنًا، أو مع نفسي، والأمر سيان إذا كانت علامة في الشارع وهي تعبر عن خطوط العبور للمارة، أو علامة تحذير لوجود روضة أطفال، وربما يَعبر بعض الأطفال من هذا المكان. ربما يعترض البعض على ماهية العلامة ويصفها بإنها تقليل من قيمة الإنسان، أو احترامه، لأنها تبرمج سلوكه، والبعض الآخر يدركها بأنها تحمل سمات التحضر، فهي رسالة لنا ندركها نحن، بأن فيها معاني متنوعة عند من يسكن المدينة، أو القادم من الارياف، أو الذي يعيش في بيئة خارج هذا المجتمع، كما هو الزائر لبلدان في افريقيا تعيش قيم وعادات واعراف مختلفة عن إطار الفرد المرجعي وما كَونه من بنية اجتماعية. ونقول أن دواخلنا تحدد ما نريد تفسيره، أو معرفته، أو قبوله وهو الأمر الذي تتشابك في اصدار أنفسنا أحكامًا له، بمعنى أدق.. النفس هي التي تحدد ما نريد الاعتراف به، بنقائه، أو تلوثه، ويبقى التساؤل مفتوح بلا إجابات.. ما أصعب النفس في أحسن أحوالها، فكيف هو الحال في أسوأ أوضاعها؟

***

د. اسعد الامارة

يصنف بعض الفلاسفة (هيجل) وجوب تربية الفرد وتنشئته في اعتماد منهج   التفكير الادراكي الجدلي للعقل، وهو مايعزز لدى الفرد والمجتمع تنمية الوعي بالحرية المسؤولة، وتنمية ارادة الاندماج مع الدولة. ويعزز ايضا ضرورة تنمية الوعي الديني والفلسفي.

تربية العقل تربية جدلية منهجية في التفكير وفهم العالم والحياة ليست مسالة سهلة من حيث تباين واختلاف طبيعة الجدل بين الوعي القصدي الانفرادي كسلوك وبين الجدل كفلسفة عقلية لا يمكن تلقينها للفرد تربويا.

كما لا يمكننا اعتبار اكتساب التفكير الجدلي(مدرسيا) يمنح صاحبه ادراك الواقع جدليا. من حيث جدل الواقع يحكمه قانون طبيعي منعزل عن تحقيق رغائب الانسان أو امكانية التداخل معه. والاهم انه لا يوجد عقل ذو طبيعة جدلية بالفطرة ينقاد له تفسير الواقع جدليا.

وسنتناول الجدل في مفهومه الفلسفي الذي هو الاخر يرتبط بالسلوك النفسي للفرد اكثر من كونه فلسفة فهم الحياة. كون الجدل هو وعي ادراكي في فهم الحياة وفق منهج جدلي خاص بفرد لا يمكننا تلقينه تربويا للمجموع. صحيح العقل اعدل قسمة مشتركة بين الناس في التفكير كما يصفه ديكارت لكن خاصية الجدل ليست خاصية عقلية مشتركة تجمع طبيعة تكوين غالبية عقول الناس.

حسب فلسفة هيجل يقول (العقل بطبيعته جدليا) بمعنى ان الجدل خصيصة بيولوجية فطرية طبيعية لا يكتسبها الفرد ولا يتعلمها. من حيث جدل العقل هو الذي يخلق جدل الواقع والموجودات بالطبيعة ولا يكتسبه منها. وفي هذا تضاد جوهري مع مقولة ماركس ان جدل الواقع هو الذي يضفي جدله على تفكير العقل وليس العكس الذي يقول به هيجل.

جوهر فلسفة هيجل هو (المنطق موضوعه العقل) يلاحظ هنا كيف قلب هيجل اولوية المنطق على ثانوية العقل في وقت المنطق هو ماهية ناتجة عن تفكير العقل ولا وصاية لها عليه.. العقل لا يكون موضوعا للمنطق الذي هو ناتج تفكير العقل. ويضيف هيجل ان (المنطق هو علم العقل الموضوعي وعلم العقل الذاتي). من التبرير المسوغ ان يكون المنطق هو علم العقل الموضوعي، اما ان يكون المنطق علم العقل الذاتي عندها يصبح المنطق سلوكا قصديا يقوم على مرجعية علم النفس السلوكي وليس على ادراك العقل لموجودات العالم الخارجي.

فالعقل غير ممكن ان يكون موضوعا لنفسه بل ان يكون العقل ادراكا ذاتيا هو في توكيد ادراك الذات له. عندما يتشبث هيجل وباصرار عنيد على مثالية التفكير في تغليبه المنطق موضوعه العقل، رغم تباين الاسبقية في التقديم والتاخير بين اولوية العقل على المنطق مع اولوية المنطق على العقل.

نعود لمركزية فهم هيجل لجدلية العقل الذي يعتبرها خاصية طبيعية في ادراكه النسق الجدلي الذي يوجده تفكير العقل الجدلي في الطبيعة والاشياء القائم على طبيعة العقل الجدلية التي هي تضفي على مواضيعه الادراكية النسق الجدلي. بمعنى جدلية العقل تسبق جدلية مواضيعه التي تنقاد له. بتوضيح اكثر يفترض هيجل انعدام الجدل في الواقع او حضوره هو الذي يحدده تفكير العقل ذو الخاصية الجدلية الطبيعية التي تملي على مدركاته الواقعية نوع من النسق الجدلي القائم على الحركة الدائمية والتطور.

معادلة اسبقية جدل العقل على جدل الواقع لدى هيجل تنعكس لدى ماركس ان جدلية الواقع الذي تحكمه الحركة الاصطراعية الذاتية المتضادة هي التي تملي على العقل جدليته الفكرية. كلاهما لا يمتلكان تقديم اثبات ادعاءاته. كيف يثبت هيجل ان طبيعة العقل جدلية وليست ليبرالية في فهم الحياة؟ وكيف يثبت ماركس خارج منهج الاستقراء التنبؤي ان الجدل قانون طبيعي يحكم المادة والطبيعة خارج ارادة الانسان التداخل معه؟ الجدل من حيث هو طبيعة عقلية والجدل من حيث هو قانون يحكم المادة والتاريخ بمعزل عن تداخل ارادة الانسان به كلاهما مبني على تصورات افتراضية لا يمكن التحقق الاثباتي منها.

الحقيقة والمنطق

يستعير فلاسفة المنطق عبارة هيجل " الحقيقة هي الكل" بمعنى فهم الحقيقة لا يكون صائبا الا اذا كان ضمن نسق تام من الترابط الحقائقي الذي لا يتقبل التجزئة على حساب تفكيك الهيكل النسقي الكلي الذي يضيع في فك ترابط أجزائه وفصلها عن بعضها البعض.

ويفرق فيلسوف المنطق "بوزانكت" أن الحقيقة لا يفهم معناها ولا تكون صائبة الا ضمن نسق منتظم يحتويها. والحقيقة لا يمكن الاستدلال عليها إلا اذا كانت ضمن نسق كلي ترابطي داخليا يجمعها بغيرها في بنية كلية واحدة.

والحقيقة المنطقية هي ليست الحقيقة في المفهوم الفلسفي الذي يقوم على نسبيتها وحمولة الخطأ والصواب معا بداخلها، وحتمية إندثارها حينما تكون (درجة) في سلم مفهوم البحث الدائب عن مطلق الحقيقة الوهمي الزائف الذي لا يمكن بلوغ أزليته. ترافقها حتمية تطورها النسبي على الدوام عندما تكون حقيقة (نوعية) لا تندثر ولا تموت بل تستحدث نفسها بإستمرار.

منطق الحقيقة النسقي هو غيره مفهوم معنى الحقيقة الفلسفية، فالمنطق لا يعتبر إكتساب الحقيقة المجردة مصداقيتها كما هي في المفهوم الدارج في تطابق الفكر مع الواقع في معرفة حقيقة المادة، بمعنى آخر تطابق تعبير اللغة مع الموجود الشيئي تطابقا تاما يعطيه حقيقته المادية الصادقة.

وتأكيد هذا المنحى لدى فيلسوف منطقي مثل " بوزانكت" الذي لا ينكر وجود الوقائع الانطولوجية الشيئية منفردة مستقلة في العالم الخارجي تعبر عن نفسها في إدراكها الحسي لكنه لا يعتبرها حقائق معرفية. الحقيقة في الشيء المنفرد المادة التي تدرك حسّيا في تطابق وجودها الخارجي مع معنى الفكر المعبّر عنها، والتي لا يحتويها نسق ترابطي من الحقائق داخليا وتكون حقيقة منفردة لوحدها. الحقيقة التي لا تشكل إنتظاما نسقيا متداخلا بغيرها لا معنى لها. لذا تكون الحقيقة التي تدركها الحواس زائفة كونها تعبر عن موجود خارجي منفصل عنها.

يعتبر فلاسفة المنطق ما أشرنا له في تعبيرنا الدارج الذي يعتبره كلا من برادلي وبوزانكت هو في مطابقة الدال مع المدلول مطابقة تامة لا تحتمل غير التاويل الوحيد المتعيّن بحقيقة الشيء. لذا مطابقة أفكارنا مع وقائع موجودية بعينها لا يمنحها حقيقتها الصادقة حسب المناطقة. كذلك حقيقة الشيء المادي المتعيّن هو ليس منطق حقيقة المفهوم الفلسفي. منطق الحقيقة الذي لا يأخذ بمبدأ الترابط في التطابق خارجيا في معناه مطابقة الفكر لما هو واقع عياني في الوجود وهو مايخص المادة كموجودات متناثرة في عالمنا الخارجي، أي هنا تلعب الحواس دورا مهما مركزيا في خلق التطابق الخارجي بين الفكر والاشياء خارجيا الذي نطلق عليه حقيقة ذلك الشيء. أما إدراك الحقيقة كمفهوم تجريدي إنما يكون في ترابطها الداخلي ضمن نسق كلي موحد.

والطعن بمبدأ الترابط الخارجي بين الفكر والمادة في تحقق تطابق المعنى الذي يخص المتعيّن الانطولوجي المادي منطقيا وليس منطق الترابط الداخلي النسقي الذي تختص به الحقيقة كمفهوم تجريدي يعتمده منطق الفلسفة يقوم على أربع ركائزحسب إجتهادنا هي:

- الحواس في جوهرها الحقيقي هي تضليل العقل في معرفة حقائق الوجود النسقي.

- عدم تطابق حقائق الاشياء في نظام نسقي داخلي يجعل منها اجتزاءات فاقدة لجوهر تحققها المنطقي وليس تحققها الحسّي الانفرادي.فمدركات الحواس للاشياء خارجيا زائفة منحلة زائلة قياسا لمدركات الفكرالثابتة بما يخص علاقته التطابقية مع النسق الداخلي للحقيقة.

- تطابق حقائق الاشياء خارجيا لا يكافيء ترابطها الحقيقي المنطقي داخليا عندما يحتويها نسق كلي يعطيها حقيقة معناها ولا يؤخذ بترابطها الخارجي التقليدي في مطابقة الادراك عن الشيء في وجوده الانطولوجي..

- لا مجال لنكران دور العقل في التعبير عن حقائق الظواهر والاشياء في إرتباطها الداخلي مع بعضها البعض كنسق والخارجي في مطابقة معنى الفكر اللغوي مع الشيء على السواء. وكل ما لا يدركه العقل لا يمكن معرفة حقيقته الزائفة ولا الصادقة معا. وسيلتا إدراك العقل للعالم الخارجي هما الحواس والدماغ والمخيلة فقط.

رغم مثالية المناطقة في معرفة الحقيقة إلا أن التفسير المنطقي للحقيقة مستمد من التفكير العقلي الذي لا يقوم على انطولوجيا موجودات الواقع بل في دراسة النظام المنطقي الداخلي الذي يحتوي الحقيقة نسقا ادراكيا تصوريا تجريديا. بهذا يكون تحليل المنطق في إنكاره علاقات الترابط الخارجية بين الوقائع وإدراكها الفكري المطابق لوجودها لا يمنح حقائق الاشياء في ترابطها بمنظومة النسق الكلي داخليا مصداقية وأرجحية على صدقية معرفة الحقيقة. فمعرفة حقيقة المادة حسّيا عقليا لا يعني معرفة حقيقيتها الجوهرية ،كذلك معرفة الحقيقة المجردة في إنتظامها النسقي المترابط داخليا لا يمنح مفهوم الحقيقة المجرد مصداقيته اليقينية. معنى دلالة الحقيقة في الوجودين المادي والمثالي لا يدرك العقل أصالتها من زيفها تماما..

منطق الحكم

يقر برادلي ومعه مناطقة المثالية معرفة الحقيقة لا تكون بإدراكها التصوري، فالتصور لا مكان له في التفكير الفعلي إلا بوصفه جزءا من (حكم) يشترط معرفة الحقيقة أن تكون نسقية مترابطة غير مجزأة الى قطوعات تنهي الهيكلية الكلية الانتظامية للترابط الحقائقي. فقد إعتبر بوزانكت حكم الادراك الحسي الخارجي المألوف تداوله يعد تعبيرا جزئيا عن الواقع في غير حقيقته. أما الحكم المنطقي والكلام لبوزنكارت فهو في تأكيد كلية الواقع في صورة شمولية عامة.

تعقيب:

- الادراك التصوري الحسّي التجريدي لاشياء العالم من حولنا هو الطريقة الوحيدة التي يتوفر عليها العقل. ولا يتوفر العقل على إدراك الحقيقة المجردة حتى لو كانت – إفتراضا – هي حلقة في منظومة نسق داخلي لا يدركه العقل مباشرة لا بالحس ولا بالحدس.

- الادراك التصوري ليس جزءا من (حكم) مثالي يعبرمن فوق الواقع، فالادراك مرحلة بدئية اولى في سلم المعرفة الحقيقية تبدأ بالحواس وتنتهي بالعقل. سواء أكان المدرك ماديا حسيا أو موضوعا متخيلا تجريديا من تداعيات تفكير الذاكرة. منظومة العقل الادراكية التي تبدأ بالحواس وتنتهي بالدماغ هي نسق منتظم بدونه لا يتحقق للعقل أي نوع من الادراك.

- الحكم على الكليّات ليس حكم حقيقة صائبة تماما بل حكم إحتمال.

- الحكم على حقائق العالم الخارجي في كليته يلغي الخصوصية الانفرادية لكل حقيقة جزئية، فمثلما يكون الاهتمام بجزء من النسق الكلي هو إنحلال لوحدته المتكاملة كذلك الحكم الشمولي هو تضييع خصوصيات الاجزاء الحقيقية.

- الحكم على الواقع يأتي من أسبقية وجوده المادي على كل تفكير، والواقع هو ما يحدد نوع الحكم وليس نوع الحكم يخلق حقائق الواقع.

-    في لغة المناطقة الذي ينكر الاستدلال الكلي بدلالة الجزء، فهذا لا يبيح أن يكون الحكم المنطقي الكلي هو في إهمال خصوصيات أجزائه ضمن النسق الذي لا يعير فيه الحكم حقائق الاجزاء أدنى إهتمام في تشكيل النسق الكلي العام.

برادلي ومطلق المثالية

يطرح برادلي في كتابه (المظهر والحقيقة) عدة مفاهيم نجدها متناقضة في بعض منها:

- يعرف برادلي المظهر – ويعني به الصفات الخارجية – ليس هو الظاهري، سواء فهمنا هذا الظاهري على أنه معطى في الوعي أو أنه مقابل الشيء في ذاته، والمظهر ليس مجالا معينا للوجود أو الفكر يتميز عن أي مجال آخر1.

أود في تعقيب بسيط قبل الانتقال الى فقرة أخرى لبرادلي، أن ظواهر الاشياء ليست معطى في الوعي، بل هي معطى في إدراك حسّي قبلي يتبلور لاحقا بالفكر الى وعي عقلي مجرد. إدراك الشيء لا يكافيء معنى الوعي به. الصفات الخارجية للاشياء هي ادراك حسي قبل كل شيء. وطبعا صفات الشيء أو الظاهر منه لا يشابه كما ولا يمثل الشيء بذاته. معلوم الشيء بذاته هو الماهية أو الجوهر الذي لا تدركه الحواس ولا يدركه العقل، فكيف يكون الجوهر أو الماهية معطى للوعي يكافيء وعي الصفات الخارجية لذلك الشيء.؟ ثم ومن المرجح الذي اؤيده أنا أن يكون جوهر الشيء تتقاذفه فرضيتان : الاولى لا يمكن الجزم القاطع أن الاشياء وكائنات الطبيعة الحيّة تمتلك جوهرا هو غير صفاتها الخارجية باستثناء الانسان الذي يمتلك كينونة موجودية تسبق ماهيته الجوهرية. الثانية توجد دلائل يقينية ثابتة أن الحيوان والنبات والجماد جميعها لا تمتلك ماهيات هي غير صفاتها الظاهرية الخارجية التي يدركها العقل الانساني.

- في فقرة لاحقة أخرى يناقض برادلي علاقة ظواهر الاشياء بحقيقتها قوله : المظهر هو الحقيقة المطلقة للشيء، ولا يوجد ما يعقبها، والحقيقة التي يتوزعها تقسيم العالم الى جزئي وكلي، يجعلنا ندرك حقيقة ما هو جزئي في تعميمها على ما هو كلي.. وبذلك لا يكون هناك فرق يذكر بين حقيقة نسبية واخرى مطلقة2.

لا امتلك تعليقا إدحاضيا لما ذكره برادلي من خلط جرى توضيحه سابقا من قبلي في هذه المقالة أكثر مما ينبغي تكرار مناقشته وتوضيحه، فقط اتساءل كيف يكون المظهر (الصفات الخارجية) هو الحقيقة المطلقة للشيء الذي لا يوجد ما يعقبه.؟ ومن قال أن جزئية حقيقة شيء كافية لجعل كليته حقيقة مطلقة بدلالة مطلق الجزء الوهمي؟ المظهر هو صفات الشيء المدركة خارجيا وهي في تغيير مستمر فكيف لا يعقبها حقيقة مطلقة أخرى غيرها؟ مطلق الحقيقة وهم ركض وراءه عشرات الفلاسفة ولم يستطيعوا حتى ولو تعريفه وليس بلوغه.

أختم برأي ورد على لسان هيجل (الحقيقة هي الكل) بمعنى الحقيقة الكلية هي نسق متكامل من الصعب معرفته بدلالة معرفة الجزء. عبارة هيجل تكررت استعارتي لها مرتين في مفتتح هذه المقالة وفي نهايتها لأهميتها..

***

علي محمد اليوسف / الموصل

.................................

الهوامش

1. امل مبروك /الفلسفة الحديثة/ ص54

2. نفسه ص 255

لا غرابة ان نجد جورج ادوارد مور فيلسوف الوضعية المنطقية التحليلية الانجليزية ينحى منحى عداء النزعة الفلسفية المثالية التي اعرض بعضها بهذا المقال. فهو يرى ان ماهو مفهوم واضحا لغويا ادراكيا لا يحتاج الى تعريف. ويضيف ان الكون – يقصد عالمنا الذي نعيشه - روحي في صميمه. بمعنى والكلام له انه يختلف كليا مع ما يبدو لنا فهو ينطوي على عدد كبير من الكيفيات او الصفات التي يبدو انه لا يتمتع بها . كلام مورهذا منسوب للمثالية ورد على لسانه1.

جورج مور فيلسوف معروف بنزعته الشعبية التبسيطية للفلسفة ان تكون مفهومة واضحة تتحدث بلغة الناس العاديين حالها حال لغة الاجناس الادبية والثقافية والسرديات النثرية البعيدة عن لغة التعقيد الابهامي والاستعصاء المتبادل بين المتلقي والنص الذي تنفرد به الفلسفة دون سائر الاجناس الثقافية عامة.

جورج مور كان له دورا اساسيا في الانشقاق عن الوضعية المنطقية التحليلية الانجليزية في شخص رائدها بيرتراند رسل متماهيا مع افكار فنجشتين المتأخر الذي إنقلب على تصحيح افكاره الخاطئة عن اللغة في اطروحة الدكتوراه التي تحصّل عليها تحت اشراف بيرتراند رسل. كما كان كارناب عضو الوضعية المنطقية حلقة فيّنا سابقا متضامنا مع جورج مور في التمرد على النهج الذي وضعه بيرتراند رسل في الوضعية التحليلية الانجليزية حلقة اكسفورد ومحاولته الفاشلة ربط اللغة بالمنطق والرياضيات عملا بتوصية الفيلسوف السويسري جاتلوب فريجة.

جورج مور على لسان الفلاسفة المثاليين اعتبر الكون يقصد الطبيعة والانسان هو في صميمه روحيا انما ينزع نحو مثالية تستبطن ماهو روحاني ديني ميتافيزيقي حين يقر بعبارات غامضة ان هذا العالم يحتوي كيفيات او صفات يبدو ان الكون لا يتمتع بها على حد تعبيره.

من السهل على اي قاريء متلق ان ينكر على مور ان الكيفيات او الصفات في عالمنا هي واقعية لمادة وظواهر طبيعية مدركة وليست روحانية لا يتمتع بها الكون والا لما كنا استطعنا نسبتها ادراكيا او حدسيا او حتى خياليا لعالم روحي في صميمه غير مدرك حسب مور ولا لعالم مادي يفرض نفسه حضوريا وهو امر مشكوك به.

جورج مور ومقولته (الزمن لا واقعي)

ماذا يمكننا القول في التعقيب على عبارة مور الملتبسة فلسفيا لكنها الصحيحة صياغة وليست مثالية بل هي مادية بالتفكير الفلسفي رغم نسبتها للفلسفة المثالية للاسباب التي ندرجها عنها لماذا يكون الزمن لا واقعي؟. لكي نلوي حقيقة الزمن مفهوم مطلق لا يدركه العقل تصبح عبارة مور الزمن لا واقعي سليمة.

1.  تعبير مور الزمن لا واقعي تعني الزمن حيادي يلازم الواقع ولا يتمظهر بمكونات الاشياء التي يلازمها بحيادية مستقلة عنها تماما. فالمدركات من الاشياء والمواضيع واقعية لانها محدودة بابعاد فيزيائية معيّنة.

2.  الزمن مطلق غير محدود غير مدرك كموضوع بخلاف الواقع المحدود المتعيّن بابعاد مادية لا تحتاج البرهان على امكانية ادراكها. فالمطلق الزمني لا واقعي لانه ازلي خالد غير متناهي ولا قابل للادراك الا بدلالة حركة غيره من الاجسام المحتواة داخله.

3.  الزمن لا واقعي لانه لا يتموضع بالاشياء التي يلازمها ويحتويها والتي لا تدرك الا بدلالته المستقلة الحيادية عنها. فالزمن لا يكون جزءا من مدركاتنا العقلية في المواضيع والاشياء. الزمن دلالة ادراكية لحركة الاجسام التي يحتويها لكنه ليس بحركة ولا بموضوع مستقل يدركه العقل.

مور وادراك الوجود

في عبارة فلسفية رشيقة تبدو لاول وهلة صحيحة صائبة يقول مور (وجود الشيء هو قابليته على الادراك). العبارة لا تمت بصلة الى مثالية في التفكير الفلسفي. فهي تشير لواقعة مادية تحمل صدقها البرهاني التجريبي معها. وتحدد كيفية ادراك الوجود واقعيا. فوجود اي شيء في عالمنا هو موضوع لادراكنا الحسي والعقلي لكنه لا يحمل معه قابلية الادراك كما ورد على لسان مور. العبارة قابلة للتفنيد المادي كما سيتوضح معنا لاحقا. قابلية الادراك ليست موجودة تكوينيا بالاشياء بل قابلية الادراك هي من خصائص الحواس والوعي والعقل. الموجود المستقل عنا ما يحدد له قابلية الادراك هو امكانية الحواس والعقل ادراكه. المادة لا تدرك ذاتها فتبقى موضوعا لمن يدركها وليست موضوعا لذاتها. والسبب ان هذه المواضيع لا تمتلك وعيا حسيا عقليا يجعلها تدرك ذاتيتها باستقلالية عنها كما يفعل عقل الانسان.

 مثالية مور هنا بالعبارة تستبطن في احشائها بما لا تفصح عنه اللغة تعبيرا. هو ان ما ليس له قابلية الادراك غير موجود وهو خطأ. والحقيقة التي لا شك بها ان جميع موجودات عالمنا بالحياة والطبيعة وجودها متحقق بالضرورة الواقعية حضوريا لانها تمتلك قابلية ادراكها معها في خصيصة الحواس والعقل الادراكية لها. لكن هذه القابلية الادراكية ليست من خصائص الشيء في وجوده كموضوع يدرك وليس خاصية الشيء في ادراكه.

لا تتمتع كل الموجودات المستقلة قابلية الادراك ذاتيا. لكنها تمتلك وجودها المادي وغير المادي عن الادراك المتاح للعقل وليس للموجودات التي لا تعي من يدركها. اذن سبب ادراكنا الموجودات لان حواسنا وعقولنا لها قابلية الادراك ولا تمتلك مدركاتنا قابلية الادراك جزءا تكوينيا منها.

صحيح الادراك الحسي او العقلي هو الوسيلة الوحيدة في ادراكنا الوجود الانطولوجي المادي. لكن نتساءل اي الموجودات والاشياء قابلة للادراك كي لا نقع بخطا نكران وجودها العالم المستقل عنا؟ الحقيقة أن الادراك الحسي او العقلي لا يستطيع الالمام بكل شيء موجود بالحياة والطبيعة. لكن العقل الادراكي للفرد هو الذي يحدد نوعية الادراك لما هو مرغوب ادراكه ومعرفته . العقل الادراكي الفردي والجمعي لا يفكران في مواضيع لا معنى لها ويعجز العقل ان يتصورها اساسا وقد تكون غير موجودة ينطبق عليها مقولة وليم جيمس قوله الباحث في ميتافيزيقا الفلسفة كمن يبحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة.

الشيء الآخر الذي لا يقل اهمية عن ما ذكرناه هو ان موجودات الوجود موجودة باستقلالية عنا سواء طالها ادراكنا ام لم يطلها. وموجودات الوجود التي لا حصر لها ويعجز الادراك الحسي والعقلي التعرف عليها جميعا أن يحدد وجودها المادي والانطولوجي فهي تكتسب قابلية الادراك لمن يدركها.

لكنما لا تطالها الحواس ولا العقل لاسباب لا يمكن حصرها فليس كل شيء بالوجود يستحق الادراك. الحواس والعقل تحصر اهتمامها الادراكي بما له اهمية يستجيب العقل لها دون غيرها فقط.

نخلص من هذا ان موجودات عالمنا موجودة باستقلالية عنا وتحمل معها صفة امتلاكها قابلية الادراك المكتسبة من الحواس والعقل. وقابلية الادراك لا توجد ذاتيا تكوينيا في المدركات. ولو كانت قابلية الادراك خصيصة ذاتية تكوينية بالموجودات لا صبحت موضوعا مستقلا عنها يدركه العل منفصلا عن اصله. كونها اي قابلية الادراك لم تعد جزءا تكوينيا من موجود تدركه الحواس والعقل. كما لسنا بحاجة ادراكنا لموضوعة افتراضية لا اساس مادي لها تكون موضوعا مستقلا لادراك هذا ما يقوله العقل. الموجود المادي وحتى الموضوع الخيالي يسبق كل فعالية يمتلكها العقل في علاقته الادراكية التخارجية المعرفية معها. ويقر جورج مور(بان الكشف عن بطلان القول بوجود هوية او تكافؤ بين الوجود وقابلية الادراك له سيكون هو الكفيل باضعاف حجة انصار المثالية)2. بتعبير آخر مور يقر ان خاصية قابلية الادراك ترجع لمن يدرك الشيء في كينونته الواحدة الموحدة. وليست خاصية الموجود في وجوده . وهو الصحيح الذي كنت ارغبه.

الوجود الروحاني

 يذكر دكتور زكريا ابراهيم نقلا عن لسان جورج مور ان وجود الموضوع هو وقوعه في خبرة الذات. ولما كانت الذات روحانية كان الوجود كله في رأي أصحاب المذهب المثالي روحانيا3.

الموضوع المقيّد بقابلية الادراك حسب العبارة الفائتة من الوجهة المثالية الساذجة لا تعني الموجود المادي بل تعني ميتافيزيقا التهويم التفكيري الصرف. لكن من ناحية خبرة الذات الروحانية التي تصبغ الوجود يكون اسعاف هذا المنحى ان المقصود هو مواضيع الخيال وهذه العلة ليست كافية ابدا. فالخيال لا يصطبغ بالصبغة الروحانية ولا بالصبغة الميتافيزيقية ولا بالصبغة اللونية منفردة او مجتمعة مع غيرها.

ومن التعسف الربط بين ما يبتدعه المخيال الادراكي لمواضيعه وبين الخبرة الذاتية الروحانية الميتافيزيقية المثالية للادراك. فالمخيال منتج لمواضيعه خارج قيد تكبيله بالروحانية الميتافيزيقية فهو ينتج مواضيع الفن والادب وضروب الثقافة التي لا علاقة لها بالروحانية المثالية الميتافيزيقية التي تصبغ الخبرة الذاتية والتي تقوم لاحقا بصبغة الوجود باكمله بالروحانية المطلقة ميتافيزيقيا. الخبرة الروحانية المثالية للذات غير منتجة وهي المستهلك الميتافيزيقي بلا طائل لكل ما لا يقع في خانة المواضيع التي يدركها العقل ويعالجها معرفيا.

طبعا من السهل الرد المادي في تخطئة ان وجود الموضوع يحدد وقوعه في خبرة الذات باستثناء مواضيع الخيال غير المادية التي يقوم المخيال في تخليقها. ولا علاقة حقيقية يتقبلها العقل انه طالما كانت الذات روحانية فهي تستطيع صبغ الوجود كله بالروحانية. روحانية الكون يمكن اسباغها بدون ادنى حقيقة واقعية يتحفظ المرء عليها كون هذا التعبير مثالي يعالج مفهوم مطلق ميتافيزيقي. عندها يصبح متاحا لكل شخص ان يسبغ ما يراه منسجما مع مزاجه في وصفه الوجود بما يشاء بعيدا عن الواقع والعقل والعلم.

اللون والوجود

يعرض مور مثالية فجّة هي علاقة الوجود او بالاحرى الموجود وقابلية الادراك الملازمة له تكوينيا على انها لون او صفة كيفية ويهاجم المثالية بقوله (انهم يتصورون علاقة اللون الازرق بالوعي هي على غرار علاقة اللون الازرق بالخرزة الزرقاء)4.

ما يهمنا هنا هو خطا جورج مور اباحته امكانية استعارة احلال الادراك محل الوعي وبالعكس. الادراك كما هو معلوم خاصية الحواس في نقلها الانطباعات البدئية الاولية عن موجودات العالم الخارجي الى الذهن عبر شبكة الاعصاب.

اما الوعي فهو حصيلة افكار العقل في التوصيات القطعية الصادرة عن الدماغ في معرفته الاشياء المدركة الواصلة له عبر الانطباعات الاولية الحسية ومعرفته لها ومقولاته عنها.. الوعي والادراك كلاهما حلقتا تجريد في منظومة العقل الادراكية ومن المحال ان ينوب احدهما عن الاخر.

يذكر مور باستهجان يدحض به الافكار المثالية ما معناه ان امتلاك الاشياء والموجودات لخاصية قابلية ادراكها ذاتيا التي تلازمها وجودا انطولوجيا باعتبار قابلية الادراك هذه هي (كيفية) او (صفة) تكوينية متموضعة في الموجودات.

ليس شرطا ضروريا ان تكون علة ادراكنا موجودات العالم الخارجي انها تمتلك تكوينيا كيفيا او صفاتيا علة تلازمها تسمى قابلية الادراك. الحقيقة الاكثر مقبولية ان قابلية الادراك هي صفة تحوزها الحواس ولاحقا يتقبلها العقل وهي وسيلة ادراكهما موجودات الوجود. وليس لان الموجودات والاشياء تمتلك قابلية ادراكها كصفة تكوينية متموضعة بها تلازمها. قابلية الادراك لكل شيء في عالمنا الخارجي والطبيعة ان الحواس والعقل يمتلكان قابلية الادراك اللامحدودة لكل شيء يكون موضوعا ولا تمتلكها الاشياء والموجودات بذاتها في وجودها المستقل ماديا عنا.

بيركلي ومور

من المعروف أن بيركلي هو أحد ابرز ثلاثة فلاسفة مثاليين متطرفين حتى العظم هم جون لوك وديفيد هيوم وبيركلي هو اشدهم مثالية ساذجة. رغم التباين بينهم فلسفيا. جون لوك وديفيد هيوم فيلسوفان تجريبيان بالرغم من تطرفهما المثالي. فقد انكرا وجود ما يسمى العقل. وانكر بيركلي معهما وجود عالم خارجي لا تدركه الحواس يقع خارجها. كما هاجم ديفيد هيوم وجود العقل اوالسببية وانكرهما انكارا تاما. بما جعل من شهرة ومكانة هيوم الفلسفية قامت بفضل تفنيده لمفهوم السببية.

حول موضوعة الادراك يقول بيركلي (ان وجود الشيء يتحدد في قابليته ان يكون موضوعا للادراك)5. بالحقيقة لا غبار على صحة العبارة ليس فقط بالمفهوم المثالي بل بالمادي ايضا. رغم اننا تداركنا سابقا خطأ مقولة ادراك الشيء سببه قابلية الادراك التي يمتلكها الشيء ذاتيا تكوينا موجوديا في وجوده المستقل كومضوع. والصحيح ان الحواس والعقل تضفي على مدركاتها قابلية الادراك. ولو انا نزلنا مرتبة ادنى في توضيحنا لقلنا ان قابلية الادراك هي الموجود المتعين بابعاد فيزيائية يدركها العقل ولا يدركها الموجود او الموضوع بذاته.

مور يفسر عبارة بيركلي هذه في دخوله نفق فلسفي شائك ان كل موجود لا يحمل مضمونا لا يكون موضوعا لادراك. طبعا هذا خطأ فلسفي ويدخلنا في ثنائية ابستمولوجية ادراكية ان كل موجود – هو بديهيا موضوع طالما هو محدد ومتعّين وجودا واقعا - له صفات خارجية مدركة وجوهر او مضمون يحتجب خلف الصفات وهو صحيح.

ادراكات الحواس لا تعمل على وفق هذه الآلية الثنائية التي تفصل بين الصفات الخارجية والمضمون. اذ ان ادراك الحواس للاشياء هو ادراك كليتها باشتمالية الصفات والمضمون بمعنى ادراك الشيء كينونة موحدة. صحيح ادراك الصفات الخارجية حسّيا تأتي تراتيبيا فسلجيا بيولوجيا قبل مهمة العقل التفتيش عما وراء الصفات التي ادركتها الحواس ووصلت الدماغ وغالبا ما تكون تلك الادراكات الحسيّة خادعة مضللة للعقل.

يصادفنا ما لا حصر له من موجودات في حياتنا وعالمنا الخارجي وفي الطبيعة يكون ادراكنا لصفاتها الخارجية يغني او يبطل اهتمام العقل الادراكي التفتيش اذا ما كانت تحمل مضمونا مدّخرا جوّانيا غير صفاتها الخارجية البائنة ام لا.

الادراك الحسي لا يدرك مواضيع ادراكه بدافع معرفة مضامينها بقدر نقله الانطباعات السريعة عنها. فادراك الحواس ينحصر في الصفات الخارجية للاشياء المدركة فقط. وانطباعات الحواس حسب ديفيد هيوم هي ليست افكار العقل لذا تكون الانطباعات قلقة ومشوشة سريعة الزوال عكس الافكار التي مصدرها العقل وينقلها الوعي فهي ثابتة.

ورغم مثالية بيركلي الفجّة الساذجة فهو قال بالواحدية الابستمولوجية الادراكية التي تدرك الاشياء بكليتها الكينونية دونما الفصل بين صفات الشيء المدرك الخارجية وبين مضمونه المدّخر او الجوهر المحتجب خلف الصفات غير البادي البائن للادراك. علما انه ليس كل مدركاتنا تحمل في دواخلها جوهرا او مضمونا هو غير صفاتها الخارجية. وكان بيركلي صائبا في مقولته.

ادراك الشيء حسب نظرية بيركلي الواحدية الابستمولوجية هو ادراك لكينونة موجودية واحدة لا تنفصل بها الصفات عن الجوهر او عن المضمون سواء كان المضمون خلف الصفات الخارجية موجودا ام لا . مثال ذلك الحيوان لا يدّخر مضمونية جوهرية خلف صفاته الخارجية المدركة فما يحمله من صفات خارجية مدركة هي جوهره الحقيقي.

وقد سبق وخالف فلسفة بيركلي في الواحدية الابستمولوجية كلا من ديكارت وكانط على التوالي بما عرف عنهما بنظرية الثنائية الابستمولوجية الادراكية. ديكارت قال ان ادراكاتنا للاشياء ينحصر في ادراكنا لصفاتها الخارجية بمعزل عن الاهتمام بادراك مضمينها الجوهرية غير المدركة مع الصفات. وانكر ديكارت ان يكون هناك ادراك يتناول الكينونة الكلية الشاملة للاشياء. واعترف ديكارت بان الموجود المستقل يتكون من مظهر (شكل) ومضمون (جوهر) لا تدركهما الحواس سوية وقد اخذها عن اسبينوزا. وذهب كانط ابعد من ديكارت بهذا المنحى قوله علينا صرف الاهتمام بالتفتيش العبثي غير المجدي عن الجوهر او المضمون المحتجب خلف الصفات الخارجية لمدركاتنا.

 اصبح لدينا مهما الاشارة الى بطلان مقولتين مثاليتين للادراك بهاتين الحقيقتين اللتين اثبتناهما:

الاولى: وجود الشيء لا تحدده قابليته على الادراك غير الموجودة اصلا فيه بل المكتسبة له عن غيره..

الثانية: وجود الشيء يتحدد ادراكيا حين يكون مادة او موضوع يتكون من وحدة متألفة من شكل ومضمون متلازمان لا انفكاك بينهما .

جورج مور واشكالية الموضوع

 اثار مور اشكالية مثيرة للجدل حول ما هو الموضوع؟ قوله: (لابد للادراك الحسي نفسه من ان يدرك – يقصد يكون موضوعا مستقلا عن مدركه الحسي والعقلي في الموجود - لكي يكون موجودا. ويضيف مور متسائلا لماذا لايكون في إمكان الادراكات الحسية ان توجد دون ان تكون موضوعا لادراك؟ ولماذا لا يكون في إمكانية المضامين الحسية ان توجد دون ان تكون هي الاخرى موضوعا لادراك؟6.

رغم هذا التلفيق الفلسفي المثالي لجورج مور خارج المنطق الواقعي الفلسفي اجد ذلك يلزمني توضيح ما جاء به:

1. جورج مور في عبارته السابقة لا يميز ما بين الادراك الحسي (كوسيلة) وبين موضوع الادراك المستقل وجودا في كليته المتعينة ماديا.

2. من المحال ان تتحول وسيلة الادراك الحسية الى موضوع مستقل بذاته دليل قول ما يحب مور ان يفترض قوله لماذا لا يكون في امكانية الادراكات الحسية ان توجد دون ان تكون موضوعا لادراك؟ الادراكات الحسية بعدية على ادراك موضوع سابق عليها وجودا انطولوجيا مستقلا. والادراكات لا توجد بغير ملازمتها لموضوع تدركه فكيف تكون هي موضوعا مستقلا لادراك؟ ومن يدرك ذلك الموضوع في حال تخليقنا له حسب مور تعسفا فلسفيا؟؟ ما تدرك عقولنا يجب ان يكون موضوعا واقعيا مستقلا بالضرورة وهذا ما لا ينطبق على الادراكات الحسية كوسيلة فقط وليس موضوعا لادراك.

3. الادراكات الحسية هي وسيلة تجريد لموضوع كما اسلفنا ولا وجود لها لا وسيلة ولا موضوع مستقل بذاته من غير موضوع تدركه سابق عليها. وكيف يمكن للادراك ان يتحول الى موضوع مستقل عن موضوع ادراكه المادي؟ موضوع الادراك لايكون موضوعا يدركه العقل الا بوسيلة نقل الاحساسات الخارجية عنه بوسيلة مدركات الحواس. والعقل يعتمد فسلجة الدماغ في النظر بالانطباعات الحسية الواصلة للدماغ ولا يعتبرها موضوعا مستقلا عن موضوع انطباعاتها الحسية الاولى المستمدة من موجود مستقل. تفكير الدماغ لا ينظر في وسيلة الادراكات الواصلة اليه بل يهتم بالمواضيع الواصلة اليه عن طريق وسيلتي الحواس ومنظومة الاعصاب.

4. لا اعرف كيف اباح جورج مور لنفسه ان يطرح مثل هذه الافتراضات الافتعالية تساؤله لماذا لا يكون في امكان المضامين الحسية ان توجد دون ان تكون هي الاخرى موضوعا لادراك؟

المضامين الحسية في الاشياء على افتراض وجودها هي جوهر مدّخر في الكلية الكينونية للموجودات كمواضيع مستقلة وجودا غير قابلة لحظة إدراكها للتقسيم الافتراضي التعسفي المفتعل بين شكل ومضمون لموجود شيئي. كما ليس من الثابت أن لجميع مدركاتنا مضامين حسيّة يتوجب أن تكون موضوعا مستقلا لادراك حسي او عقلي.

مضامين المدركات الحسية والعقلية في الاشياء والموجودات في حال تحقق وجودها في مدركات مادية تكون جزءا جوهريا تكوينيا من تلك الموجودات لا قدرة ذاتية لها عن الانفصال. ولا يمكن ان يكون المضمون منفردا عن الشكل موضوعا لادراك. وذكرنا سابقا ان الحواس بمرجعيتها العقلية تدرك الاشياء والموجودات بكليتها الشاملة كينونة موحدة غير منقسمة الى صفات او شكل ومضمون.

كما ذكرنا انه من غير المؤكد ان جميع مدركات الحواس والعقل تحمل مضامين هي غير صفاتها الخارجية. لذا يكون من المحال ان تغادر المضامين شكل احتوائها المادي التكويني في موجود يدركه العقل لتصبح موضوعات مستقلة تبحث لها عن شكل يحتويها كما وتبحث عمن يدركها كمواضوع مستقلة من غير ادراك الحواس والعقل.

***

علي محمد اليوسف

....................

الهوامش:

1.  دراسات في الفلسفة المعاصرة / دكتور زكريا ابراهيم ص187

2.  نفسه نفس الصفحة

3.  نفسه نفس الصفحة

4.  نفسه نفس الصفحة

5.  نفسه ص 191

6.  نفسه ص 198

في المثقف اليوم