أقلام فكرية

أقلام فكرية

في عصر اصبح فيه العلم والعلم الزائف pseudo-science اكثر بروزاً من أي وقت مضى، لابد من ايجاد طريقة مفيدة للتمييز بينهما. الفيلسوف النمساوي البريطاني كارل بوبر (1902-94) قام بالضبط بذلك في كتابه الصادر عام 1934 بعنوان منطق الاكتشاف العلمي. هو اطلق على تلك الطريقة التكذيب falsification. هو يقول، ان النظرية العلمية الحقيقية تتألف من ادّعاءات يمكن اختبارها بدقة امام الدليل لأن هناك احتمال ان تكون زائفة. بوبر ادّعى ان التكذيب سمة اساسية للتمييز بين العلم وجميع طرق التفكير الاخرى.

منذ ارسطو في العصور القديمة وفرنسيس باكون قبل اربعمائة سنة، كان يُعتقد ان المنطق الاستقرائي هو الطريقة التي اكتشف بها العلماء قوانين الطبيعة. منظر بجعة بيضاء واحدة بعد اخرى يقودنا الى نظرية بان "كل البجع ابيض" – وهو في الحقيقة تعميم. لكن ديفد هيوم (1711-76) لاحظ ان المشكلة هي ان التعميم لن يتبع منطقيا. كلما زاد عدد البجع الابيض الذي نراه، كلما اعتقدنا اكثر ان قانون "كل البجع ابيض" صحيح، لكن هذه فقط مسألة سايكولوجية حول الطريقة التي نفكر بها، ليست مسألة حول العالم الطبيعي او البجع. في الحقيقة، الاشتقاق الشرعي الوحيد سيكون "كل البجع الذي لوحظ حتى الان هو ابيض". والجدال بان المستقبل سيكون دائما مثل الماضي لأنه دائما كان كذلك، سيكون حجة دائرية – تفترض ما تحاول انت اثباته. كذلك، ملاحظة البجع الاسود في استراليا أبطل حالا قانون "كل البجع ابيض"، مبينا ان التعميم الاستقرائي يمكن دحضه بمثال مضاد واحد. بوبر يطور هذه الفكرة في اتجاه تكذيبي في الكتابة "كما اشار هيوم، نحن بالتأكيد لا مبرر لنا في الاستدلال من مثال واحد على حقيقة القانون المقابل. لكن لهذه النتيجة السلبية نتيجة ثانية .. يمكن اضافة : نحن لدينا التبرير في الاستدلال من مثال مضاد على تكذيب قانون عالمي مقابل .. استقراء هو غير صالح منطقيا، لكن التكذيب هو طريقة صالحة منطقيا في الجدال من مثال واحد مضاد للقانون المقابل". (منطق الاكتشاف العلمي،1934).

نظرية بوبر في العلوم

نموذج بوبر في كيفية تطور العلم هو ان العلماء يفترضون نظرية تمكّنهم من عمل تنبؤات حول ما سيُلاحظ تحت ظروف معينة. هم بعد ذلك يختبرونها من خلال النظر لمعرفة ما اذا كان ما تتنبأ به النظرية يحدث حقا. اذا كانت الملاحظات لا تطابق التنبؤات عندذ يتم نبذ النظرية او تُعدل بواحدة اخرى سوف توضح كل من البيانات السابقة والبيانات الجديدة التي خالفت التنبؤات الاولى. ليس المهم من أين تأتي النظرية العلمية. الشيء المهم هو ان يتم اختبار النظرية ليس لمعرفة ما اذا كانت صحيحة ام لا، بل لمعرفة ما اذا كان من الممكن اثبات خطئها.

خذ على سبيل المثال نظرية الفلوجستون في النار. هذه كانت في وقت ما نظرية شائعة في ان الاشياء عندما تحترق تعطي عنصرا يسمى "فلوجستون". هذا وُجد خاطئا من خلال وزن المواد قبل وبعد الاحتراق، حيث ان الاستمرارية الشاملة للوزن اثبتت ان النظرية خاطئة. ونفس الشيء في علم الفلك، لوحظ ان موقع المريخ ليس كما تنبأت به نظرية كوبرنيكوس، كبلر استعمل هذا ليبيّن ان الكواكب لا تدور في دورات مثالية كما ظن كوبرنيكوس. كبلر استخدم خياله والكثير من الحسابات ليبيّن ان الكوكب يتحرك بطريقة مختلفة (بيضاوي الشكل) اي ان بُعد الكوكب عن الشمس يتغير باستمرار عندما يسير الكوكب حول مداره. هناك عدة امثلة اخرى عن الافكار العلمية تم إبطالها بواسطة الملاحظة. لكن احدى النتائج الهامة لكل هذا هو ان النظريات العلمية هي صحيحة فقط بشكل مؤقت والشيء المهم هو اننا نختبرها بصرامة لنحاول إبطالها. فقط حينذاك تتطور نظرية أفضل تأخذ بالحسبان الملاحظات – بما فيها الملاحظات التي أبطلت النظرية السابقة.

بهذه الطريقة، يتطور العلم بنوع من "الاختيار الطبيعي": عبر إبطال مستمر للنظريات، تبرز نظريات جديدة ونحن باستمرار نصبح أقرب وأقرب للحقيقة. ذلك يعني ان النظريات يجب تكذيبها او تفنيدها لتكون علمية – يعني انه يجب ان يكون بالإمكان ان بعض الملاحظات تبطل النظرية. اذا لم يكن كذلك، معنى ذلك ان النظرية هي فقط نتاج للتصور الذي يتناسب مع أي ظروف ممكنة – وهو بالضبط مايدّعيه بوبر حول التحليلات النفسية لفرويد وعلم التنجيم و امثلة اخرى. ونظراً لوضوح وقوة هذا التمييز يستمر بوبر ليكون فيلسوفا مؤثرا جدا بين علماء اليوم. عندما انت تستمع احيانا لبعض العلماء يقولون "هذه النظرية سيئة جدا، انها ليست فقط غير صحيحة" هذا عادة ما يحاولون التعبير عنه. استنتاجات ما هو"ليس علمي لأنه لا يمكن تكذيبه" ايضا تنطبق على مظاهر رؤى عالمية اخرى مثل الحتمية وبعض الرؤى الدينية. هذه الافكار غير قابلة للاختبار، لأن كل النتائج التي يمكن تصوّرها يمكن صنعها لتتناسب مع تلك الافكار. بكلمة اخرى، لاشيء محدد يمكن التنبؤ به منها لأن كل ما يحدث يتم توضيحه وفقا لمفاهيم ولغة تلك الافكار. كذلك، بما انه من غير الممكن تكذيبها، فهي لا تقود الى نظريات أفضل. وبهذا فهي طريق مسدود فكريا.

التطور Evolution

بوبر يرى ان هذه العملية في العلوم تفسر تدريجيا اكثر فاكثر كنوع من نظرية البقاء للاصلح.الحياة تستلزم حل للمشاكل حسب قول بوبر، وعندما لا تحل أشكال الحياة مشاكل بقائها فانها تموت وتنشأ بدلا عنها اشكال حياة تتكيف بشكل أفضل. التشابه بين التطور البايولوجي وتطور العلوم يمكن رؤيته بالنسبة للمعرفة. لكن بوبر يعني اكثر من مجرد معرفة مُصاغة في افتراضات. هو يعني توقعات العالم والتي تكون في العديد من اشكال الحياة غير واعية وفي اغلب الحالات تكون موروثة جينيا على شكل ميول للتصرف واستجابة للبيئة بطرق محددة – مثل قدرة العنكبوت على خلق شبكة، او قدرة الاميبيا على الالتفاف وابتلاع الغذاء او قدرة اطفال الثدييات على ايجاد مصدر للحليب او قدرة دوار الشمس للدوران حول الشمس. هذا شكل من "معرفة" فطرية، كغريزة او مجرد رد فعل كيمياوي، لكنه معرفة لأنه يخبر الكائن الحي ما يجب ان يقوم به لأجل البقاء . وبشكل مشابه، في شكل بدائي للغاية، النظريات هي توقعات او ميول للاعتقاد والتصرف. اذا كانت توقعات الكائن الحي مضللة، فان الكائن لا يزدهر ونفس الشيء ينطبق على النظريات – اذا ثبت انها خاطئة فهي تُهمل.

وكما ذكرنا ان أصل النظرية العلمية ليس مهما لبوبر – المهم هو امكانية اختبارها واثبات بطلانها. مع ذلك، طبقا لبوبر، أقدم اصول لنظرياتنا العلمية تأتي مما يسميه كانط مبادئ قبلية"categories" – اي معرفة فطرية تتيح لنا ان نفهم معنى العالم. بوبر يستنتج في هذه الانواع من الافكار (غير اللغوية) : فكرة ان هناك عالم ثلاثي الابعاد، وان الاحداث لها اسباب، وان الكائن على حافة أعلى بناء هو خطير، وان هناك اذهان اخرى غيرنا وهكذا. هذه الميول للتفكير والشعور يتم نقلها نزولا وراثيا طالما امتلكت مزايا البقاء. نحن تطورنا كالحيوانات ولدينا هذا النوع الكامل من المعرفة الفطرية لما يحيط بنا، في انظمة بايولوجية موروثة مثل اسلاكنا العصبية، جميعها مشتقة من كائنات تجد طرقا للبقاء لفترات طويلة تكفي للتكاثر.

اللغة، المعرفة، المجتمع

 بالنسبة لبوبر يرى تطور الحياة وتطور المعرفة الانسانية هو عملية مستمرة. هذا يعني ان الفرق الرئيسي بين التطور الطبيعي وتطور العلوم هو ان الاخير عملية واعية جُعلت ممكنة عبر تطوير اللغة. نقاش موجز عن اللغة والفكر سيكون مفيدا هنا.

"التفكير" كلمة شديدة الغموض. حلم يقظة، استمتاع، رؤية جميلة، استذكار لحظة من الماضي، رغبة بمستقبل أفضل، شعور بالحزن، بسعادة، او بندم، كلها مظاهر للتفكير لأنها تستلزم وعيا. هذه المظاهر تبدو لا تتطلب استخدام اللغة. لكن هناك تفكير بطريقة محسوبة ومقصودة، كما في حالة محاولة التوصل الى أفضل طريقة لتجميع ماكنة او تخليص نفسك من موقف سيء في لعبة شطرنج. خلافا للمظاهر السابقة التي هي "مجرد وعي" للتفكير، هذه المواقف الاخيرة تتطلب بعض الدقة والتفاصيل لنجاح عملياتها – لكن ذلك لا يعني انها تحتاج كلمات. اخيرا، هناك الكثير من النوع المجرد من التفكير مثل عندما انت تنظر في المزايا النسبية للديمقراطية الليبرالية مقابل نظام سياسي سلطوي في زمن الكوارث، او ما اذا كان برهان فيثاغوروس يعمل بنجاح في فضاء منحني. هذه الامثلة الثلاثة الاخيرة تستلزم استعمال الكلمات او الأعداد للتفكير الناجح. في هذه الأمثلة، التفكير يشبه كثيرا التحدث لنفسك في ذهنك.

لكن ذلك امر غريب: عندما انت تتحدث الى شخص آخر، فان الوظيفة هي نقل افكارك الى شخص آخر لكن عندما تتحدث لنفسك انت يُفترض تعرف سلفا افكارك (او ستكون غير قادر على صياغتها في المقام الاول)، اذن لماذا تحتاج ان تضعها في كلمات؟ ربما وظيفة الكلمات هي ليس فقط ايصال الافكار وانما ايضا اعطائك شكل من الافكار محدد بوضوح . هذا ايضا يمكّنك ان تضع خطا معقدا من التفكير في مفهوم واحد يُشار له بكلمة واحدة مثل "حب"، "عدالة"،" لامتناهي" وغيرها.

عالِم النفس الروسي في القرن العشرين ليف فيجوتسكي Lev Vygotsky، يرى استعمال اللغة والفكر هما في الاساس نظامان منفصلان عن الولادة، يندمجان في عمر الثالثة لينتجا فكرا لفظيا (كلام داخلي). هو يرى ان الكلام اجتماعي في الأصل. انه يتم تعلّمه من الآخرين، وفي البدء يُستعمل في المشاعر الشخصية ووظائف اجتماعية. هو يرى ان استعمال الكلمات يتطور عندما ينمو الطفل. هذا التطور يُربط باستمرار بقدرة الطفل على التفكير بطرق عامة – في مفاهيم واستعمال اصناف تمتلك بواسطتها الكلمات معنى يتجاوز مجرد الاشارة لأشياء ملموسة. في هذا الوقت، يمتلك الطفل مظهر التوجيه الذاتي لأفكاره، الذي بالنهاية يؤدي الى تفكير لفظي باطني. وهكذا فان اكتساب اللغة بواسطة الاطفال يشكّل جميع مظاهر وظائفهم الذهنية العالية، ويمكّن من ظهور المعنى والخيال والتخطيط العملي والتفكير النقدي.

وكما يقول ليف فيجوتسكي "الكلمة الخالية من الفكر هي شيء ميت، وبنفس الطريقة الفكر الغير مصحوب بكلمات يبقى في الظلال" و "الفكر لا يُعبّر عنه فقط بكلمات، انه يأتي للوجود من خلالها" (الفكرة واللغة، 1934). لذا فان الكلمات تمكّننا من التحكم بتفكيرنا بطريقة مقصودة: بدلا من رحلات المشاعر والتدفق غير المقيد للصور، نحن لدينا افكار محددة مصاغة بكلمات. يتم تمكين ذلك من خلال التفكير المتكرر – القدرة على ان يضم مجموعة من الافكار تُصنف بواسطة كلمة ضمن فكرة اخرى تأخذ شكل افتراض، عندئذ المزيد من الافكار المعقدة تُصنع من عدة افتراضات. وحالما يتم فهم الافكار بواسطة الكلمات، فان الشخص يمكنه تطوير تفكير نقدي والذي هو ربما اكبر تطور في تاريخ الانسان. وهكذا اللغة تمكّن من النقد و التفكير العقلاني. او للنظر بطريقة اخرى لهذا هي ان ننظر الى وظيفة اللغة التي كما يقول المحلل النفساني الالماني كارل بوهلر Karl Buhler، تعطي الانسان القدرة على صياغة اقتراحات تزعم وصف العالم ويمكنها ان تكون صحيحة او خاطئة، لذا فان فكرة الحقيقة هي نتيجة لإستعمال اللغة لتجسيد العالم. هذه القدرة اللغوية تمكّن الانسان من النظر في ادّعاءاته بطريقة اكثر دقة وانفصالا.

العملية التطورية تنتقل من الكائن الحي – الانسان العاقل homo sapiens – الى تطور التفكير والمعتقدات، التي تُصاغ في اللغة ويتم تقاسمها لكي يستطيع الآخرون النظر الى حقائقهم من حيث علاقتها بملاحظاتهم الخاصة ومعتقداتهم، واذا كانت لا تتماشى يتم رفضها او تعديلها. ان تطور النقد يبرز مع فكرة ان العقائد المعبّر عنها يمكن ان تكون صحيحة او زائفة. ونقد العقائد يمكن ان يقود الى رفضها واستبدالها باخرى أكثر دقة. التقدم في المعرفة يبدو هو النتيجة. في هذا المعنى، العلم هو ببساطة مثال اكثر دقة وحاجة لمفهوم الحس السليم الذي يجعلنا نرفض تلك الافكار التي لا نجد انها تتوافق مع العالم. 

بوبر يجيز فكرة ان هناك عالم موضوعي ولذلك ان هناك ادّعاءات يمكن ان تكون صحيحة موضوعيا، وعلى الأقل هي أقرب الى الحقيقة من الادّعاءات الاخرى. مع ذلك، اللغة ايضا تمكّن الانسان ان يقول قصصا تخلق صدى عاطفي، تمكّن الناس من الشعور انهم يشاركون في قيم مشتركة وبهذا ينتمون الى جماعة. لذا هناك بُعد جديد آخر هو ان الناس يصبحون مرتبطين عاطفيا بافكار ولا يرغبون رفضها – كما يُرى في مختلف الأديان والافكار السياسية بما فيها الالحاد.

لكن الاشياء لا تعمل دائما اجتماعيا: احيانا المعتقدات التي وراء المؤسسات الاجتماعية او السياسية والتفاعلات تجعل الاشياء اكثر سوءاً . عندئذ، تماما كالنظرية العلمية، المنهجيات السابقة للسياسة والمجتمع تحتاج الى النبذ او تُكيّف لضمان نجاح المستقبل. للقيام بهذا، المجتمع يحتاج للقدرة ليكون نقديا في كيفية تنفيذ أعماله، ونقديا للنظرية التي خلفها – تماما كالعلماء حين يحتاجون ليكونوا نقديين لنظرياتهم.

اذا كانت المؤسسات الاجتماعية السياسية والقيم ، تماما مثل القوانين العلمية، صالحة فقط الى ان يتم ابطالها، عندئذ نحن لا يجب علينا الايمان بها بلا نقاش. العالِم الجيد يجب ان يكون سعيدا اذا ثبت ان نظريته زائفة، سيحصل على فرصة ليأتي بنظرية افضل، ولهذا يتقدم العلم. وبالمثل، الناس يجب ان لا يتمسكوا بايديولوجيات اجتماعية وسياسية او مؤسسات او افتراضات مسبقة ان كانت تمنع التقدم او تكبح السعادة. دعوة بوبر هي لذهن متواضع ومنفتح في ادعاءاتنا المعرفية سواء كانت حول المجتمع او العلم – جميعنا سنكون خاطئين في مكان ما. لذا نحن يجب ان نسائل قيمنا وعقائدنا الاساسية – والمجتمع يجب ان تكون له مؤسسات تمكّننا من القيام بهذا اجتماعيا. بكلمة اخرى، حرية الكلام هي ضرورية لتطور المجتمع.

الديمقراطية والمجتمع المفتوح

في المجتمع المفتوح واعداؤه (1945)، يوسّع بوبر افكاره حول التكذيب لتمتد الى عالم السياسة. في هذه الفترة كان بوبر يعيش في المنفى في نيوزيلاندا، ومن غير المدهش انه بعد صدمة العقد السابق كان مهتما جدا بالكيفية التي يجب ان تُحكم بها المجتمعات. الانظمة تُقبل طالما هي تعمل باتجاه سعادة الانسان. لكنها لا تقوم بذلك دائما. وكما لاحظنا ان اللغة تمكّن كل من النقد والرواية: المجتمعات نالت تماسكها بفعل الايديولوجيات بما في ذلك الدين او الولاء للملوك والامم. لكي يتحفز الولاء، جرى دعم هذه الطرق من التفكير بالبروبوغندا. هذا الدعم يمكنه منع النقد ويبقي المجتمعات المتحجرة عادة بهدف الحفاظ على الطبقة الحاكمة. وعندما يسبب هذا ضررا شديدا للعديد من الناس ستحدث الثورات. لكن بالنسبة لبوبر، الثورات لن تعمل. هو يعزو هذا الى مسألة نظرية حول المجتمعات المثالية، اسماها "التاريخية" historicism وايضا الى مسألة تجريبية حول الثورات.

بوبر يرفض مفهوم المجتمعات المثالية لأننا لا نستطيع معرفة ماذا سيحصل في المستقبل،عدى حقيقة ان التغيير حتمي، لكن هذا يعني اننا نحتاج الى شكل ما من الدكتاتورية لضمان انسجام الناس مع قيم اليوتوبيا. كذلك، ثقافة المجتمعات المثالية مثل الدولة الماركسية سوف تعزز ما هو مفيد للنظام على حساب الحقيقة. ان ميل الدكتاتوريات الطوباوية لثني الحقيقة للامتثال لمصالح الحزب او الدولة يضعف الحقيقة. ومقابل ما اسماه بوبر"المجتمع المنفتح"، الذي يطور قدرة مؤسسية متأصلة للتعامل مع النقد او التكيف معه ، فان المجتمعات الطوباوية تؤمن في البروبوغندا وسحق المعارضة. اليوتوبيا تصبح متحجرة وغير قادرة على التغيير وقاسية في فرض السيطرة.

بوبر يرفض ايضا ما يسميه التاريخية وهي الفكرة بان هناك قانون واتجاه او هدف للتاريخ بواسطته ننتهي بنوع من مكان افضل (كما يتجسد في الماركسية). طبقا لبوبر قوانين التطور التاريخي لا يمكن ان توجد لأن المجتمعات تتغير بطرق لا يمكن التنبؤ بها. هذا جزئيا نتيجة للارتباط بين المجتمع ومعرفتنا التي تتغير بمرور الزمن بطرق لا نستطيع التنبؤ بها. لنأخذ العلم كمثال، نحن لا نستطيع معرفة ما ستكون عليه المعرفة العلمية في المستقبل، والاّ نحن نعرفها سلفا. بوبر يعترف فعلا اننا نستطيع امتلاك نزعات او أشكال في التاريخ مثل النموذج الدائري للهبوط في اقتصاد السوق الحر – لكن ذلك لا يمكن ان يكون قانونا عالميا للتاريخ لأنه يعتمد على نظام اقتصادي معين وهو رأسمالية السوق الحر، ونحن لا نستطيع معرفة المدى الذي يستمر فيه النظام. نحن ايضا لا نستطيع معرفة ان العلم والتكنلوجيا سيستمران في النمو، هما ربما يتم نسيانهما في بعض سيناريوهات المستقبل. لذا يؤكد بوبر من غير الممكن وجود قوانين تحكم عملية التاريخ .

مسألة بوبر التجريبية حول الثورة ترتكز على ملاحظة ان الثورات تاريخيا تستلزم العنف والبروبوغندا والكذب وأخلاق نفعية تبرر ارتكاب أي ظلم مهما كان لغرض تحقيق النجاح النهائي للثورة. هذا بدوره يقود الى القمع وتشويه الحقيقة لأجل "غايات". لذا، بينما بعض الثوريين اكثر تعليما وانسانية من العديد من المحافظين (بوبر كان يكتب هذه الافكار قل 80 عاما ومن الواضح كان له تعاطفا مع اهداف العديد من الماركسين)، هم عادة لا يأخذون بالحسبان ارادة الاكثرية التي يُعتبر الأمن والولاء والقيم الاخرى غير الثورية اكثر اهمية لها من المساواة والعدالة الاجتماعية.

في الحقيقة، الثوريون يتجاهلون مخاوف اكثر الناس المحافظين باعتبارها ليست اكثر من محاولة لمنع تحقيق أهدافهم، وبهذا يبررون العنف ضدهم كشيء شرعي.

يرد بوبر على يوتوبيات مثل جمهورية افلاطون والدولة الماركسية هي انها تسأل السؤال الخطأ. هم يسألون "منْ يجب ان يحكم؟"ويصيغون قيم المجتمع حسب واجبات الناس ومسؤولياتهم نحو الدولة. لكن بالنسبة لبوبر، السؤال يجب ان يكون "كيف نستطيع تقليل سوء الحكم؟" و "كيف نتخلص من الحكام السيئين بدون عنف؟". هو يقترح ان الانفتاح على التغيير والنقد مطلب اساسي – بكلمة اخرى، حرية الكلام المتجسدة في مؤسسات مثل البرلمانات لضمان كل من حكم جيد للمجتمع وعدم وجود ثورات. جوابه هو الديمقراطية، لضمان تقليل المعاناة من خلال اصلاحات عملية تدريجية. كل هذا هو استمرار لأفكار بوبر بشان ثورة المعرفة وعملية العلم. كوننا قادرين على النقد العلني للنظريات والمؤسسات والناس والسياسات، نستطيع ضمان لدينا فرصة لحماية مصالح الجماهير وازدهار المجتمع .

هو ايضا يبدو يشبه دارون كثيرا، لأن وصفه للتطور المجتمعي يرتكز على بقاء ما ينجح في العمل. من الواضح لا وجود هناك لطريقة للتنبؤ بمحصلة المستقبل مثلما لا وجود لطريقة للتنبؤ بالأحياء المُنتجة بالتطور الداروني.

***

حاتم حميد محسن

.........................

المصادر:

Philosophy Now, Aug/Sep2025

من النادر نجد عناية منصفة لدراسة الفيلسوف الفرنسي من اصل الماني ديتريش هولباخ (1723 – 1789) باعتباره فيلسوفا ماديا ملحدا متطرفا، دافع عن مذهبه المادي في كتابه (نظام الطبيعة) الذي نشره عام 1770 باسم مستعار، والذي أعتبر انجيلا جديدا لتنوير البشرية العقلي والاخلاقي. وأطلق النقاد على كتاب هولباخ أنه يمثل ذروة الفلسفة المادية والالحادية الفرنسية، ومن المفارقة أن يعجب ماركس بافكار هولباخ رغم المعيشة الارستقراطية الباذخة التي عاشها هذا الاخير ولم يترجمها كمعتقد يؤشر تفاوت طبقي مجحف بين الطبقات الغنية والطبقات المحرومة الفقيرة.. وتنسب لهولباخ المقولة الماركسية (الدين افيون الشعوب). وكان له صالونا ادبيا يضم نخبة مختارة من ملحدي عصره فلاسفة وكتاب الذين كانوا يشاطرونه الميل الشديد في معاداتهم الكنيسة الكاثوليكية.وكان هولباخ لا يؤمن بمبدأ وحدة الوجود ولا يؤمن ايضا بالمعجزات الدينية معاديا بشدة رجال الدين الذين إعتبرهم يعيشون حياة الترف على حساب بؤس الفقراء ومعاناتهم المؤلمة.

وإعتبرهولباخ الانسان موجودا ماديا لأن عملياته الذهنية ليست سوى حركات تجري في المخ1. رغم أن هذا السبب الاجمالي الاختزالي يبدو ضعيفا في التدليل على أن الانسان وجود مادي باسباب عديدة أخرى لا حصر لها أختصرها هولباخ بعلاقة الفكر بمادية الانسان ككائن بما سمّاه تعالق الفكر مع حركة المخ فقط، أذ ربما كان يقصد هولباخ الوجود المادي للانسان يكون مؤكدا وناتجا حصوليا ممثلا في بيولوجيا التكوين الفكري الوظائفي له ايضا. وضرب لذلك مثلا هو تعالق عمليات الذهن التفكيرية الناتجة عن حركات تجري بالمخ. صحيح أن يكون الانسان موجودا ماديا بالفكر كمنهج، ومادية الانسان كموجود في الطبيعة هو تحصيل حاصل المنهج المادي بالتفكير الذي مصدره الانسان كينونة مادية مفروغ التسليم المطلق بوجودها المادي.

لكن مادية الانسان كوجود مادي متمايز عن الطبيعة وجميع كائناتها لا يمكن أختزال البرهنة على بديهيته المادية بهذه التعالقية العضوية ممثلة في منهج علاقة تفكير الذهن بحركات المخ كما في تعبير هولباخ. لكن لو نحن تعمقنا تاويليا في تعبيرهولباخ نجده يقع في تناقض جدلي معتبرا مادية الانسان مستمدة قبليا من مادية الفكر تماما كما فعل ديكارت قبله. بينما ترى المادية الجدلية التي تبلورت من بعده بتعاقب مجيء هيجل وفويرباخ وماركس عكس ما ذهب له هولباخ، في أهماله حقيقة الواقع المادي هو الذي يفرض المادية على الفكر كما ذهب له فيورباخ الاب الروحي للمادية أن فكر الانسان لا يمنح الواقع حقيقته المادية بل مادية الواقع والطبيعة والانسان تجعل من الفكر منهجا ماديا في تفسير موجودات وظواهر العالم الخارجي والطبيعة..

لكن ما يمكن إعتباره نقلة متقدمة نحو منهج المادية الذي جاء لاحقا بعد عشرات العقود من عصر تنوير هولباخ هو في فتحه الابواب التي كانت موصدة تماما بوجه التوجه المادي الذي كان يحاربه بضراوة اللاهوت وتبعاته الفكرية المثالية الابتذالية التي كان حتى فولتير المتنور واقعا تحت تاثيرها في تماشيه مع اللاهوت الديني الموروث عن ديكارت ولايبنتيز.

كما هاجم هولباخ الحجج الفلسفية التي كان تبناها لايبنتيز ولوك وديكارت على أن في مقدور الانسان الوصول الى حقيقة وجود الله بمنهج الاستقراء الذهني العقلي كما هو الحال في المنهج التجريبي المعتمد في العلوم تماما.، وما يدركه العقل من اشياء العالم الخارجي وموجوداته يمكنه إدراك وجود الله بنفس المنهج الادراكي العقلي.

كما أنكر هولباخ البرهنة على خلود النفس التي ربطها ديكارت بخلود العقل بأعتبارهما جوهرين لا فيزيائيين منفصلين عن الجسم. مثلما صادر ديكارت خلود النفس ولم يفرق بينها وبين الروح أذ ربما أعتبرهما دلالة تعبير عن معنى واحد. فالنفس على العكس من الروح ترتبط فسلجيا بتكوين جسم الانسان المتكوّن من مجموعة الاجهزة البيولوجية التي تحكم الانسان في وجوده كائنا حيّا، مثل جهاز الدورة الدموية وجهاز التنفس وجهاز الهضم والجهاز العصبي والضمير والعواطف والانفعالات وغير ذلك.

على العكس من الروح التي هي نوع من مفهومات وموضوعات الميتافيزيقا وإفصاحاتها التي لا يدركها العقل لا بالماهية ولا بالصفات تعايش الانسان وتلازمه الحياة وتفارقه بالممات. وهو ما يذهب له اللاهوت الديني بخلود الروح بعد مغادرتها فناء الجسد بالموت. وإعتبارهم الروح جوهرا منفصلا عن الجسم وأن ارتبطا سوية أحدهما بدلالة الاخر في الحياة.

وإعتبرديكارت خلود النفس وليس الروح حقيقة فلسفية من دون تبيان كيف تكتسب النفس وليس الروح الخلود، كما لم يكن ديكارت موّفقا أعتباره العقل جوهرا ماهيته التفكير بالذهاب الى أن العقل جوهر خالد يلازم خلود النفس ولم يفرق بين ماهية العقل التجريدية وماهيته البيولوجية كدماغ تحتويه الجمجمة وملحقاته المخ الذي يحتويه مع الجهاز العصبي.

فخلود العقل الذي يلازمه خلود النفس لدى ديكارت لا يمكن التسليم بها بوجود الفارق بين العقل الفيزيائي المادي كعضو من أعضاء وظائف الجسم الانساني وبين العقل غير الفيزيائي الذي هو جوهر تجريدي ماهيته التفكير فقط وأعتبر ديكارت العقل بهذه الخاصية خالدا لكونه موجودا غير فيزيائي.. خاصيته تتبع الدماغ بالتفكير فقط وليست بخاصية بيولوجية يمتلكها تتبع عضويا تكوين جسم الانسان الطبيعي الفاني بالممات كما هو الحال مع الروح في إمكانية خلودها عند أصحاب الايمان الديني.. لانها تجريد ميتافيزيقي لا رابط علائقي لها مع مكونات العقل العضوي الدماغ الذي يفنى بفناء الجسم بالموت.

هولباخ والمعجزات الدينية

كما لم يكن هولباخ يؤمن بالمعجزات ويعتبر هذه الاقانيم الثلاثة /البرهنة العقلية على وجود الله/ وخلود النفس/ والايمان الديني بالمعجزات/ التي قامت عليها المسيحية هي خرافات توّسلها رجال الدين مستغلين سذاجة الناس في سرعة التصديق للخرافات، ليسهل عليهم استغلالهم2. وذهب أبعد من ذلك حين إعتبر هولباخ سلوك الانسان الطبيعي كان من الممكن أن يكون أفضل في مساره الطبيعي المستقل عن اللاهوت لو ترك حرّا طليقا تحركه نوازع الخير الموجودة أصلا بالانسان كغريزة فطرية. ولم يكن الانسان بحاجة ضرورية ألزاميه تلزمه تلبية نواهي وتحريمات رجالات الدين الذين يبنون رفاهيتهم الارضية على حساب بؤس وحرمان الاغلبية من الناس.

ولولا التقدم الحضاري – أعتقد يقصد هولباخ بالتقدم الحضاري هو التقدم العلمي التمديني ومنجزات العلم التكنولوجية عالية التقنية التي قللت من تعب ومشقات الانسان ولم يكن يقصد الحضارة كمفهوم شمولي كما هو متفق عليه اليوم اصطلاحا يشتمل نمطا متقدما شموليا لجميع مناحي الحياة في السلوك والاجتماع والاقتصاد والثقافة والمعرفة والتقدم العلمي وغيرها واحتمال أن لفظة الحضارة نسبها المترجم لهولباخ وهو لم يقصدها -  في تقاطع السلوك الاخلاقي الطبيعي الذي لو ترك على طبيعته الغريزية الانسانية لكانت النتائج أكثر جدوى عملانية بحياة الانسان في خدمة تحقيق تقدم البشرية على ركائز قيم بعيدة عن خرافات اللاهوت الديني في ارساء الصدق والمحبة والالتزام الذي يحقق تماسك المجتمع أكثر مما قام به اللاهوت من تدمير تلك النزعات الفطرية السلوكية الخيّرة التي تكون مغروزة في طبيعة الانسان الذي لم يكن بحاجة اليها كقيم أخلاقية يضعها رجال الدين له في مصادرتهم حق الانسان في طموحه نحو تحقيق رفاهيته وسعادته بأمتلاكه حرية الارادة والاختيار بالحياة بلا وصاية خارجية تفرض عليه قسرا من رجالات الدين.

ومن النوادر التي حصلت في أحدى صالونات هولباخ الارستقراطية الادبية والفلسفية الراقية على مستوى حضور روسو وديدرو وديفيد هيوم أن تساءل هيوم هل يوجد ملحدون حقيقيون معنا اليوم؟ فكان رد هولباخ أن الطاولة التي تجلس حولها تضم الآن 17 ملحدا جالسين قريبين منك. ومن أهم عبارات هولباخ المعبّرة عن الحاده الذي لم يكن يخفيه قوله (الكون لا شيء أكثر من مادة في حالة حركة دائمية مقيّدة بقوانين طبيعية، وانه لا ضرورة اللجوء الى قوى خارقة للطبيعة لتفسير وجود الاشياء). ويكيبيديا الموسوعة. واضح هنا هولباخ يعتبر قوانين الطبيعة الثابتة التي تقيّدها بحركتها المنتظمة هي بكليتها معطى ازلي لوجود غير مخلوق نطلق عليه الطبيعة.

فرقة المؤلهة والايمان الديني

جاء من بعد هولباخ تيار فلسفي يعتمد مذهب ما يسمى فرقة المؤلهة الدينية ما يطلق عليهم عندنا الربوبيون وهم ايضا يؤمنون بالاخلاق الطبيعية قبل وضعية أخلاق الدين التي يدعو لها رجال الدين، لعل أبرزهم روسو ومن قبله لا يبنتيز وجون لوك وباركلي لكن بشكل يكرس الايمان الديني بوجود الله ضرورة لا غنى عنها يمكننا تحقيقها بمنهج الادراك العقلي، فالله عندهم ذو عقل وقدرة وارادة لكننا لا نستطيع كشف ماهو الله ولا ماهيته بل يمكننا الاستدلال العقلي على وجوده... وأن جميع الشرورالتي تصيب الانسان مصدرها الانسان الذي يصنعها بيده أو تقع مسؤوليتها عليهم بقدرة قوى خارجية طبيعية تدميرية هم مسؤولين عنها وليس مسؤولية الله عنها لأنه يمتلك قدرات محدودة لا يكون فيها مسؤولا عن وقوع الشرور على الناس في تبرير رجال الدين حدوث زلزال لشبونة 1755 الذي حصد مئات الارواح وهم موزعون يصلون بالكنائس يوم الاحد. معللين تحميلهم الضحايا مسؤولية تدمير الزلزال الذي طالهم هم وعوائلهم ومنازلهم سببه يقع على عاتق الناس الذين بنوا بيوتهم المتهالكة من غير تحسباتهم الحذرة حصول وقوع مثل هذه الزلازل ويبدو هذا التعليل التبريري بمنتهى السخافة والابتذال.، تلك البيوت التي لم يكن الرب بناها لهم كي يتحمّل خراب الزلزال الذي ضربها وهدمها على رؤوس أصحابها متدينين وغير متدينين. والاهم من ذلك وصفهم الله بقدرة محدودة لا يستطيع دفع كل الشرور عن الانسان. كما ويحافظ الله بمعتقد جاك روسو ومذهب المؤلهة على الكون بقوانين طبيعية ولا يخرقها الله بمعجزات تخالف هذه القوانين وهو غير مسؤول عنها. (يرجى العودة الى مقالتنا المنشورة على اكثر من موقع الكتروني منها المثقف، الحوار المتمدن، كوة، والمجلة الثقافية الجزائرية وفيلوبريس بعنوان : المعجزة الدينية وقوانين الطبيعة.).

لا مجال هنا الدخول أن تعريف ديفيد هيوم وعدد كبير من الفلاسفة المعجزة هي خرق لقوانين الطبيعة يحمل معه خطأه في معناه التعبيري السطحي أكثر من أمكانية التسليم بصدقيته التي تبدو واقعية متفق إصطلاحا عليها ويتوضح هذا معنا لاحقا بأسطر قادمة. نظرا لكون قوانين الطبيعة ثابتة لا يطالها الزمان بالتغيير ولا تعبث بنظامها المعجزات الخارقة لها ايضا، مقارنة بالمعجزات التي يستطيع بعض الانبياء بها كسر تلك القوانين في زمانية محدودة وفي عصر واحد لا يتجاوز زمانه الدقائق من الوقت التي تزول فيه المعجزة ويعود القانون الطبيعي المخترق لخاصيته الثابتة ثانية.  المعجزة الإلهية هي افتراض وهمي لامكانية البشر خرق القوانين الطبيعية الثابتة.

فثبات قوانين الطبيعة الزماني هو ليس حصولا تغييريا ولا زوالا زمانيا دائميا كما في المعجزات الآنية المؤقتة. بمعنى في حال حدوث خرق القانون الطبيعي بمعجزة زمانية مؤقتة لا يجعل ذلك الحدث الخارق لأحد قوانين الطبيعة متغيرات دائمية يطالها الخرق. وأنما يجعل من المعجزة الدينية طارئا لا معنى له خارج انخداع الناس به في ترسيخ ايمانهم الديني بالانبياء قبل الايمان الديني بالرب الذي لا يحتاج معجزات تخرق قوانين الطبيعة الثابتة لاثبات وجوده..

لا نريد هنا تكرار كم يحمل هذا التعبير المتداخل بين قوانين الطبيعة وخوارق المعجزات من خلط عالجناه في مقالتنا التي اشرنا لها في سطور سابقة، منها من المسؤول عن وقوع المعجزات الدينية رغبة الانبياء أم مشيئة الله؟ وما يترتب على هذا التساؤل من اشكاليات عديدة لا تخدم التسليم بحصول المعجزات. مثلا لدى مذهب فرقة المؤلهة الذين ينفون المعجزات أن تكون وتحصل بارادة الله وبوحي منه كونها هي خرق لقوانين ثابتة وضعها الله في الطبيعة كنظام ازلي ولا رغبة عنده بتخريبها وخرقها بمعجزات غير منطقية ولا عادية يتقبّلها العقل.

وبذا تكون خرافة المعجزة الدينية اسطورة تلقى على عاتق الانبياء في البرهان على الايمان الديني بهم وليس الايمان غير المباشر بالله الذي لم يوعز لهم القيام بالمعجزات، وفي هذه الحالة يكون الشد والجذب بين قطبين هما أعلى من  قدرات فهم البشرالايماني الديني في التفريق بين اولوية الايمان الديني بمعجزات الانبياء أم اولوية الايمان الديني بالرب بمعجزات لم يأمر الله انبياءه القيام بها؟، وكيف ترتبط المعجزة وبمن؟ هل بالايمان الديني بالنبي الذي يقوم بها أم بالخالق الذي لم يوعز لاحد القيام بها؟ وتبقى المعجزات تحمل إشكاليات خلافية عديدة غير التي ذكرناها.

إلا أن الاختلاف يبقى قائما من المسؤول عن حدوث المعجزات الدينية وما هي الغاية منها هل هو هدف تحقيق الايمان الديني بما يقوله الانبياء بوحي الهي أم الايمان الديني بالله الذي هو في غنى عن الاستدلال الايماني العقلي به عن طريق واسلوب المعجزات التي يقوم بها الانبياء ولم يأمرهم الرب القيام بها لوجود وسائل استدلالية يمكنها تحقيق الايمان الديني ليس بوسيلة المعجزات التي يطعنها عدم التصديق اليقيني بها في عصرنا الحاضر؟ منها على سبيل الاستشهاد وسيلة الاستقراء العقلي البرهاني التي قال بها أكثر من فيلسوف وهم انفسهم لا يستطيعون البرهنة على حقيقة ما يدعون أثباته بمنهج العقل.

طالما الايمان الديني هو التسليم بأعجاز قدرات الخالق غيبيا ميتافيزيقيا وليس بدلالة العقل البرهانية الاستقرائية الذي تحكمه قوانين مادية سببية وغير سببية، عليه تبقى المعجزات كخروقات لقوانين الطبيعة المؤقت لا يمكن غير التسليم بها سواء حصلت في عصرها أم لم تحصل ووصلتنا اليوم اسطورة أم حقيقة لأن كل شيء يراد البرهنة عليه ميتافيزيقيا يكون تحصيل حاصل النجاح المسبق بتصديق تحققه دوغمائيا لأنه اساسا موضوعا في كلتا الحالتين لا يحكمه الصواب أو الزيف الا في العودة نحو مرجعية تحكيم العقل له. فالميتافيزيقا كمواضيع لا تحتكم العقل في البرهنة المستحيلة على موضوعاتها، لذا لا يبقى غير التسليم بصدقيتها في تغييب حكم العقل على حساب تفعيل العاطفة الايمانية الدينية الدوغمائية في التصديق. لذا فالميتافيزيقا كموضوعات لا تحتاج برهنة صحة تحقق المعجزات لأن تحققها يقوم على الايمان التسليمي الغيبي الدوغمائي الذي لا يخضع لقوانين إدراكات عقلية تقوم على تفكير طبيعي لا يتوسل الميتافيزيقا..

من الواضح أن قوانين الطبيعة الثابتة يتم اكتشاف بعضها وإدراك بعضها بدلالة موضوع المغايرة المتعالق بها وحتى غير المتعالق بها ماديا بمنطق العقل لذا يكون كل ما هو غير مدرك عقليا دينيا ميتافيزيقيا لا يمكننا التشكيك به بمنطق العقل بل الايمان الديني المسبق به بمنطق الاسطورة والميتافيزيقا. وبذا يكون الايمان الديني بالمعجزات لا يمكننا محاكمة التصديق به ولا أمكانية تكذيبه من قبل مرجعية العقل الذي يختلف ماهويا بعدم المجانسة حتى الادراكية مع جميع الخوارق التي لا تقع ضمن رقابة العقل الادراكية عليها والتي منها المعجزات التي هي عمليات تدرك فيزيائيا في زمن حدوثها ولا يمكن إدراك حصول تكرارها كنظام خارق لقوانين الطبيعة الثابتة على الدوام عبر الازمان والعصور وألا ترتب على ذلك أن قوانين الطبيعة هي توليد ذاتي خصائصي بالطبيعة تعيها وتدركها وهي تنتجها وتستحدثها عند الحاجة لها، وهي قابلة للتغيير والتبديل على مر العصور والازمان بأرادة منها أو بمعجزة خارجة عنها. في حين يقول العلم قوانين الطبيعة ثابتة ازلية في ملازمتها الطبيعة.

ولو كان هذا الفرض صحيحا مقبولا لما كانت قوانين الطبيعة وصلتنا كما هي الآن نعيشها تداوليا في ادبيات لاهوت الاديان والكتب المقدسة في ثباتها الكوني الازلي الذي يحاكم الطبيعة والانسان بتفسيرها خارج ما يقوله العلم الذي يركن تفسير اللاهوت الديني جانبا بمنطق ما يقبله العقل... وبذا تكون المعجزات أجزاءا من تاريخ لا يمكن دحض وقائعه بمنطق العقل المقترن بزمان غير مؤكد في تلازمه مع واقعة المعجزة. وثبات قوانين الطبيعة لا تزحزحه عن حقيقته لا اساطير اللاهوت الديني ولا حتى فروضات حقائق العلم التي تعمل على إكتشاف عمل تلك القوانين بالتوازي المعرفي معها وليس بالتقاطع غير العلمي معها.

زمن المعجزة وزمان القوانين الطبيعية

ثمة فرق جوهري تم ويتم إغفاله هو أن الزمان الادراكي لقوانين الطبيعة على الارض هو زمن سرمدي يستمد خاصيته الازلية من ازلية الزمان الذي يحكم تلك القوانين وثباتها والا ما كانت وصلتنا الى عصرنا اليوم كما هي في ثباتها طيلة مسيرة هذه الازمان والعصور التاريخية الطويلة جدا، بخلاف ذلك المعجزة الدينية ليست خرقا زمانيا دائميا لثبات قوانين الطبيعية في ملازمة ظاهرة الخرق الطبيعي المؤقت زمانيا لها بوقائع المعجزات التي لا يمكن البرهنة على تصويبها عقليا كما ذكرنا سابقا ..زمانية المعجزة المحدودة بزوالها كزمان مؤقت تجعل من زمان قوانين الطبيعة الثابتة قوانين لا تغيرها المعجزات التي هي خرق مؤقت لها، لذا يكون الخرق الاعجازي في حقيقته يقع على هامش قوانين الطبيعة الطارئة عليها وليست معجزات تطالها بالتغيير الدائم الذي يلازمها زمانيا. فقوانين الطبيعة أكثر رسوخا بثباتها الزماني من زمان المعجزة الزائل ما يرتب التشكيك بالمعجزة التي هي خرق ميتافيزيقي طاريء بدلالة قوانين الطبيعة الثابتة التي لا تتغير زمانيا. وما ذهبنا له يعطينا المؤشرات الثابتة التالية:

- زمان قوانين الطبيعة زمان ثابت لا يطاله التغيير لا بالمعجزات ولا بغيرها. بخلاف المعجزات التي زمانها زائل مؤقت.

- المعجزة تتأرج بين رغبة ذاتية راودت الانبياء بالحصول على الايمان الديني الجمعي بهم أولا المقترن بوحي الخالق لهم ثانيا. وهذا التارجح غير محسوم لا بمنطق اللاهوت الايماني ولا بمنطق الاستدلال بقوانين الطبيعة الثابتة التي جرى خرق أحدها بالمعجزة في عصر ما وزمان مضى منذ الاف السنين...

- يتداول بعض دارسي علم الاديان مؤخرا أن المعجزات ترتبط بالاساطير ولم تكن تكليفا من الرب في تدعيم استحصال الايمان الديني به كخالق يتوجب عبادته، كما تذهب له بعض الفرق والمذاهب الدينية التي بدأت التشكيك بحصول وأهمية المعجزات في أستحصال الايمان الديني الجمعي المشكك برسالات الانبياء.

- خطأ ربط تحقق صدقية المعجزات بتصديق الميتافيزيقا التي لا علاقة برهانية عقلية تؤكد صواب ما تعتبره الميتافيزيقا صحيحا مطلوبا تصديقه عقليا بالتبعية. تبعية العقل للميتافيزيقا وليس العكس.

- خطأ تعريف الفلسفة أن المعجزات خرق لقوانين الطبيعة الثابتة التي لا يكون خرقها المؤقت زمانا أعجازيا يخدم الانسان أبعد من تحقق الايمان الديني، بل المعجزة الدينية هي أعجاز مؤقت زائل طاريء على قوانين ثبات زمانية الطبيعة السرمدية الباقية الملازمة لسرمدية زمان الوجود الملازم لها.

- المعجزة تخدم أستحصال الايمان الجمعي الديني في تثبيت سلطة لاهوت الايمان الديني لا علاقة تربطه بسلطة رفاهية وحرية الحياة الانسانية في اشباع ضرورات العيش بكرامة انسانية. واستحصال حياة ارضية تقوم على العدل والمساواة والقضاء على الفقر والجوع والتفاوت الطبقي المجحف بين الغني والفقير. بمعنى المعجزة خاصية أعجازية تخدم الايمان الديني فقط ولا تخدم حياة الانسان على الارض.

- المعجزات تتجاذبها ثنائيات مثل هل هي رغبة الانبياء أم رغبة الخالق، كذلك ثنائية زمان قوانين الطبيعة الثابتة التي لا تتغير مع زمانية خرق تلك القوانين المؤقتة الزائلة، ثنائية المعجزة خرق يقبله العقل أم تصدقه الميتافيزيقا بعيدا عن سلطة تحكيم العقل. وقائمة الثنائيات المتناقضة حول المعجزة لا حصر لها بما يبقي على معادلة هل المعجزات اساطير لا سند تاريخي لها أم هي حقائق ساحقة في القدم يتوارثها لاهوت الاديان بلا سند عقلي مقبول؟

***

علي محمد اليوسف

....................

الهوامش:

1، 2، وليم رايت، تاريخ الفلسفة الحديثة، تقديم ومراجعة امام عبد الفتاح امام، ص 218 – ص 239

 

تمهيد: هذه الدراسة طويلة نسبيا لذلك قسمناها إلى قسمين.

القسم الأول يُعنى بالفرق بين فلسفة الدين وبين الفهم الفلسفي للدين والقسم الثاني يُعنى بتحليل مفهوم "الخبرة الدينية" لفهم علاقة الطبيعي بالإلهي خاصة في فلسفة (ولتر ستيس) من خلال كتابه: (الزمان و الأزل). وأصل الكتاب مقال في فلسفة الدين.

هذا الموضوع غاية في الأهمية لكل باحث في هذا المجال ولكل مثقف واعي يدفعه فضوله المعرفي وقلقه الوجودي لمعرفة حقيقة "النهايات". وهو موضوع غاية في الدقة فهماً وادراكاً ويقع فيه الخلط كثيراً والسبب هو أن الكل يعرف من الصعب قراءة نص لفيلسوف معين مباشرة بلا تمهيد أو مدخل لفلسفته ومن يفعل ذلك - وهو غير مختص- معتمدا على جهده الفردي فقط يخرج بنتائج مشوشة وفهم مرتبك لا يسمن ولا يغني من جوع.

هذا لأن الفلسفة حالها حال كل العلوم الإنسانية لها مفاتيحها الخاصة وهي مصطلحاتها التي تواضع الفلاسفة عليها والعلاقة المعقدة بين هذه المصطلحات عندما توضع في سياق بحثي معين. هذا أضافة إلى التفرد والذاتية فغالبا ما توصف الفلسفة بصفة النسبة الفردية فنقول: فلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو وفلسفة كانط وفلسفة هيجل وهذا معناه تعدد مناحي النظر في الأدراك لكل فيلسوف.

نعم لكل فيلسوف منهج وفهم في التعامل مع القضايا الفلسفية وغالبا ما يخرجون بنتائج متباينة.

خذ مثال مفهوم (المقولة) فهي عند كانط تعني مفهوم قَبلّي (A priori) للفهم أي هي ليست مفاهيم مستمدة من التجربة الحسية بل هي أشكال أو أطر فارغة موجودة مسبقاً في عقلنا البشري أي إننا نولد مزودين بها جينيا. ووظيفتها الأساسية هي تنظيم وتوحيد المعطيات الحسية التي تأتينا من خلال الحواس وتحويلها إلى تجربة مفهومة ومدركة. بينما هي عند هيجل ليست مجرد أطر عقلية ثابتة ينظم فيها الفهم أسس الواقع بل هي المكونات الجوهرية للواقع والعقل على السواء. بل هي عند هيجل اللبنات الأساسية للوجود والفكر معاً.

نعم هي شكل من أشكال الفكر المحض لكنها في الوقت نفسه شكل من أشكال الوجود. هذا يعني أن المقولة عند هيجل ليست مجرد مفاهيم في الذهن وليست أدوات يستخدمها العقل البشري فحسب بل هي أطر موضوعية للواقع نفسه. لأن هيجل يعتقد أن الفكر والوجود متطابقان والمقولات هي التجسيد الملموس لهذا التطابق.

فهي عند كانط مقولات إبستمولوجية معرفية بينما عند هيجل مقولات أنطولوجية وجودية.

هذا مثال يوضح الفارق الكبير في المنهج عند الفلاسفة وعلى أساس المنهج تتكثر الأفهام وتتعد الرؤى والنتائج. وقس على ذلك تعدد وتكثر الفهم الفلسفي للدين عند كل فيلسوف.

ولنبدأ بالفرق بين فلسفة الدين والفهم الفلسفي للدين:

أولا: فلسفة الدين:

نقول في تعريفها: هي دراسة الأسس والمفاهيم والمبادئ التي يقوم عليها الدين كظاهرة إنسانية من زاوية فلسفية نقدية ومحايدة.

وهي اليوم أختصاص فلسفي مستقل يصنف غالبا تحت أسم "الفلسفة النظرية". أي دراسة فكرية نقدية للمفاهيم والادعاءات الدينية باستخدام أدوات العقل والمنطق الفلسفي. وموضوعها لا يهتم بدين معين سواء كان سماوي أو غير سماوي بقدر ما يهتم بماهية وجوهر الدين مجردا من كل هوية. حيث تطرح فلسفة الدين أسئلة عامة ومجردة بمنهج تحليلي نقدي عقلاني بحت. وفيها يحاول الفيلسوف أن يبتعد قدر الإمكان عن انتمائه الشخصي وموروثه العقائدي ليدرس الدين كموضوع مجرد للبحث.

وأسئلتها المركزية هي:

1. هل الله وجود أم موجود: ما هي أدلة وجود الله الغائية والوجودية؟

باعتباره علة العلل.

وما هي حجج الإلحاد؟

2. طبيعة الله: هل لله ماهية؟ إذا كان الجواب نعم فما هي ماهية الله؟

وهل يستطيع العقل إدراكها أم يستحيل ذلك؟

هل له قدرة مطلقة؟

هل علمه مطلق؟

هل هو خير مطلق؟

3. المعرفة الدينية: كيف نعرف الحقائق الدينية بأي وسيلة؟

بالعقل أم بالحدس؟

ما هي طبيعة الإيمان؟

ما العلاقة بين الإيمان والعقل؟

4.اللغة الدينية: كيف تتحدث النصوص الدينية عن الله؟

هل هي لغة حرفية أم رمزية أم استعارية؟

5.الشر والمعاناة: كيف يمكن التوفيق بين وجود إله خير وقادر قدرة مطلقة مع وجود الشر في العالم؟

هذه تسمى  "مشكلة الشر".

6.الدين والأخلاق: ما هو مصدر الأخلاق؟

هل الأخلاق مستقلة عن الدين أم مستمدة منه؟

7.ماهية الدين:

هل هو مجرد مجموعة من المعتقدات والأساطير والطقوس أم خبرة روحية عميقة وحقيقية؟

8.طبيعة الروح: هل للروح وجود مستقل عن الجسد أم لا وما هي طبيعتها؟

9.البحث عن المعنى: هل نجد في الدين جواب عن معنى الحياة وهدف الوجود؟

أم أن الأمر أعتباطي فوضوي لا غاية له؟

نستطيع القول أخيرا أن فلسفة الدين هي المحكمة التي تحاكم فيها المفاهيم الدينية بالعقل أما مهمتها فهي أن تأخذ على عاتقها التأمل في معنى الجواب الذي يقدمه الدين والمكانة التي يمكن أن يحتلها في الوجود الإنساني الفردي والجماعي. وهكذا فإن فلسفة الدين تقدم نفسها باعتبارها تفكيراً في الدين وفي ماهيته وأسبابه ومبرراته وجوانبه اللاعقلانية أيضاً.

هذه هي باختصار فلسفة الدين وأسئلتها و موضوعاتها.

ثانياً: الفهم الفلسفي للدين:

هو استخدام أدوات ومناهج فلسفية لتحليل وتفسير نصوص دينية أو عقائد محددة. هو العدسة التي ننظر من خلالها إلى النصوص الدينية لنرى معانيها بشكل أوضح.

مهم أن ننبه أن الفهم الفلسفي للدين ليس حقلا مستقلا بل هو منهج أو أسلوب في القراءة والتأويل والتفسير. هو في الأصل تطبيق لنظريات ومناهج فلسفية معينة على نصوص وعقائد دينية محددة لفهمها بشكل أعمق وأدق.

ومن حيث الموضوع يركز على دين معين أو نص معين أو عقيدة محددة مثل: التثليث في المسيحية أو مفهوم النبوة في الإسلام أو مفهوم التناسخ في الهندوسية.

أما منهجيا فهو يستعير أدوات من مدارس فلسفية متعددة كالمنهج الهرمونطيقي أو المنهج الظاهراتي أو المنهج البنيوي أو التفكيكي أو المنهج الجدلي التاريخي لتقديم قراءة جديدة للنص الديني.

يحاول الفهم الفلسفي للدين الأجابة عن أسئلة كيفية وصولا إلى تحديد هويتها الماهوية مثل:

كيف يمكننا فهم مفهوم "النبوة" في الإسلام؟

كيف يمكن تطبيق منهج الهرمنيوطيقا (علم التأويل) على قراءة الإنجيل؟

كيف نحدد المضمون الفلسفي لفكرة "وحدة الوجود" في كتابات متصوفة الإسلام؟

كيف يمكن قراءة قصة الخلق في سفر التكوين من منظور فلسفي؟

من خلال الفهم الفلسفي للدين نتعلم أن الإنسان يتشرب فلسفة مجتمعه -عن طريق التربية والتنشئة الاجتماعية- وهي مجموعة من المعتقدات الدينية وغير الدينية. وعندما يصبح في سن النضج العقلي يبدأ بالتفكر في ما ورثه من آبائه وأجداده وبيئته ويقارن موروثه بما تعلمه في المدرسة والجامعة ثم يفهم علاقة السلطة بالمجتمع ويدرك أن السلطة لها مصلحة في الإبقاء على معتقدات الناس كما هي حتى لو كانت في غالبيتها مجرد خرافات. فالسلطة تنتج دائما المعرفة التي تناسبها لإدامة وجودها وتعزيزه. يبدو ذلك جلياً من خلال تحالف السلطة مع المؤسسة الدينية. من هنا تأتي ضرورة الفهم الفلسفي للدين أي ضرورة الاهتداء بنور العقل لفهم قضايا الدين حتى لا يصبح الدين مجرد خرافة تُستغل لأستعباد البشر.

يجب علينا ممارسة النشاط الفلسفي بما هو فحص للأسس والركائز التي يقوم عليها الدين والمعتقد والأيديولوجيا و السياسة والأخلاق عندها يتبين في غالبية الأحيان هشاشة وضعف كثير من العقائد والمعتقدات التي تنسب إلى الدين ويطلب من العامة أن يؤمنوا بها من دون تفكر ولا تفكير بوصفها فوق قدرة العقل البشري.

دائما ما يكون شعار رجال الدين: "لا تفكر من دون وصايتنا". وهذا الشعار يتنافى مع العقل النقدي الحر.

هذه الوصاية هي الكارثة التي تعاني منها المجتمعات المتدينة حيث يتقبل المؤمن ما يقال له أو يقدم إليه بوصفه الدين الأصيل حتى لو كان مجرد أساطير وخرافات. وما يقدم له في أحسن الأحوال هو مجرد قراءة للدين محكومة بثقافة القارئ ومستواه العلمي والادراكي.

نؤكد أخيراً إن الفهم الفلسفي للدين ليس نظرية فلسفية في الدين وليس فلسفة دين. هو مجرد تسليط نور الفلسفة أو مطرقة الفلسفة على ما نؤمن به من معتقدات دينية لنرى إن كانت ذات أُسس هشة ضعيفة أم ذات أسس متينة قوية متماسكة.

***

سليم جواد الفهد

 

مقدمة: تُعدّ الفلسفة من أبرز المجالات الفكرية التي تهدف إلى تطوير القدرة على التفكير النقدي والتحليلي، وفهم المبادئ الأساسية للحياة والإنسان والمجتمع. فهي لا تقتصر على كونها مادة أكاديمية مجردة، بل تمثل أداة أساسية لتنمية مهارات الاستدلال، وحل المشكلات، واتخاذ القرارات المبنية على فهم منطقي وعميق. في سياق التعليم المدرسي والجامعي، تمنح الفلسفة الطلاب القدرة على استكشاف القيم والأخلاقيات، والتفاعل مع القضايا المعقدة بطريقة منهجية، ما يعزز وعيهم الفكري والاجتماعي. كما تساعد المعلمين على تقديم المعرفة بأسلوب يربط النظرية بالتطبيق، ويحفّز الطلاب على الحوار والتفكير النقدي المستقل. لذلك، يهدف هذا البحث إلى استكشاف أهمية إدراج الفلسفة في المناهج الدراسية في المدارس والجامعات، بدءًا من تعليم الأطفال ووصولًا إلى البرامج الأكاديمية المتقدمة، واستعراض الاستراتيجيات التي تمكّن الطلاب من التعامل بفاعلية مع النصوص الفلسفية، وتنمية مهارات التفكير والتحليل، لتكوين جيل قادر على التفكير النقدي والمشاركة الواعية في المجتمع.

وترتبط مشكلة هذا البحث بسؤال رئيسى هو: لماذا الفلسفة الأن فى المدارس والجامعات؟، ويناقش ذلك من خلال الاجابة عن التساؤلات التالية:

1- ماهو دور الفلسفة فى التعليم؟

2- ما أهمية ادراج الفلسفة فى المناهج الدراسية؟

3- ما هى استراتيجيات فهم النصوص الفلسفية؟

4- ما هى الارشادات التى نقدمها لدارسى الفلسفة؟

5- ما أهمية الفلسفة للطلاب والمدرسين فى المدارس والجامعات؟

يعتمد البحث فى تناوله لهذه القضايا على عدة مناهج هى: المنهج التاريخى، المنهج التحليلى، المنهج النقدى والمنهج المقارن.

أما عن محاو البحث فهى:

مقدمة

المحور الأول: تعلم الفلسفة

المحور الثانى: دور الفلسفة فى التعليم

المحور الثالث: تعليم الفلسفة للأطفال

المحور الرابع: ادراج الفلسفة فى المناهج الدراسية

المحور الخامس: استراتيجيات استيعاب النص الفلسفى

المحور السادس: ارشادات لدارسى الفلسفة

الخاتمة

المحور الأول: تعلم الفلسفة

إن السعي إلى تنمية قدرة الطلاب على التفكير الفعّال ليس توجهًا جديدًا، بل هو امتداد لتقليد تربوي عريق يعود إلى أكثر من ألفين وخمسمائة عام. فقد شكّل تعليم المهارات العقلية والمعرفية ركيزة أساسية في النظم التعليمية منذ أقدم الحضارات. ففي الصين القديمة، على سبيل المثال، ارتبط هذا الاهتمام بالبحث عن الحكمة والفهم العميق بفكر كونفوشيوس (كونغ فو تسي)، الذي دعا إلى التعلم المستمر، والتفكير النقدي، والربط بين المعرفة والعمل الأخلاقي.(1)

وانطلاقًا من هذا الإرث التاريخي، يثور التساؤل: هل الفلسفة حكرٌ على الفلاسفة أم أنها ملكٌ للجميع؟ وهل يمكن تعلّمها؟ يرى مارتن هيدجر أن من المستحيل فهم طبيعة الفلسفة دون الانخراط فيها فعلًا، أي من خلال التفلسف نفسه. فحين نسأل: "ما هي الفلسفة؟" نكون قد دخلنا عالمها بالفعل، نعيشها ونتحرك داخل فضائها، لا نقف على أطرافه. ومع أن البعض يعتقد أنه لا يمكن إعادة إنتاج عقول كأفلاطون وأرسطو وكانط، وأنه لا توجد طريقة "لتعلّم" أن تكون فيلسوفًا، فإن آخرين ينظرون إليها كمهارة أو أداة غائبة عند كثيرين. فـصموئيل تايلور يرى أن الفلسفة أداة مفقودة لدى أغلب الناس، بينما يذهب فريدريك نيتشه إلى أن "الفلاسفة يولدون، ولا يُصنعون"، ويوافقه جون هارولد هايك حين يقول: "الفلاسفة الذين صُنعوا ليسوا فلاسفة حقيقيين". هكذا، تظهر الفلسفة كدعوة مفتوحة أمام الجميع، لكنها تتطلّب استعدادًا داخليًا وقدرة فطرية على التفكير العميق والبحث عن الحقيقة.(2)

وبالرغم من هذا الجدل، يمكن استخلاص خلاصة أساسية تؤكد أن تعليم الفلسفة أمر ممكن، من خلال التفسير والتحليل والتقييم النقدي للحجج والقضايا، إلى جانب المتابعة الإبداعية والتواصل الفعّال. فمثل هذه المهارات لا تتطلب خلفية خاصة، وهي في متناول كل من يرغب في تعلمها. ومع ذلك، ليس جميع الأفراد قادرين على ممارسة هذه الأنشطة الفلسفية أو إتقانها. إذ يتطلب بلوغ مستويات عميقة ومؤثرة في الفلسفة خلفية خاصة تتألف من ثلاثة عناصر أساسية:

1- قدرة عالية على التفكير المجرّد: تمكّن الفرد من التعامل مع الأفكار والمفاهيم المجرّدة وتحليلها بعمق.

2- دافع قوي نحو الاستقلال الفكري: رغبة حقيقية في التفكير باستقلالية، بعيدًا عن القوالب الجاهزة والتبعية الفكرية.

3- القدرة على الإحساس بالدهشة الفلسفية: امتلاك فضول أصيل ورغبة في التأمل والتساؤل حول الوجود والحياة والعالم.(3)

ومن هذا المنطلق، يتبيّن أن حتى من يمتلكون مهارات فلسفية أساسية، فإنهم بحاجة إلى دراسة الفلسفة لتعزيز هذه القدرات وتنميتها عبر عملية التعلم والتأمل الفلسفي. وبعبارة أخرى: الأشخاص ذوو القدرات الفلسفية المحدودة يمكنهم اكتساب المهارات الضرورية، مثل التفسير والتحليل والتقييم النقدي، مما يمكّنهم من الانخراط في التفلسف بدرجة ما، حتى إن لم يبلغوا مستويات الاحتراف العليا. أما الأشخاص ذوو القدرات الفلسفية العالية فيستطيعون الاستفادة من دراسة الفلسفة لصقل مهاراتهم، واكتساب تقنيات احترافية في التفلسف، مثل تطوير منهجيات التحليل النقدي، وبناء منظومات فكرية متماسكة، وتحقيق تواصل فلسفي فعّال.(4)

وعليه، تظل دراسة الفلسفة مسارًا جوهريًا لتعزيز القدرات الفكرية وصقل المهارات، سواء لدى من يملكون استعدادًا فلسفيًا محدودًا أو لدى أصحاب الملكات الراسخة والعميقة. فالأولى تستطيع، عبر التعلم الممنهج، تطوير قدراتها في التفسير والتحليل والنقد، لتشارك في عملية التفلسف بدرجة معقولة وإن لم تبلغ ذرى التخصص. أما الثانية، فتجد في الفلسفة مجالًا رحبًا لترسيخ منهجيات التحليل النقدي، وبناء منظومات فكرية متماسكة، وصقل أدواتها، وتحقيق تواصل فلسفي أكثر نضجًا وفاعلية. وهكذا، يتبين أن الفلسفة ليست حكرًا على نخبة متميزة، بل فضاء مفتوح يتسع للجميع على اختلاف مستوياتهم وعمق ممارستهم. إن تعليم الفلسفة، في جوهره، يخدم جميع الأفراد، إذ يزوّدهم بفهم أعمق، وأدوات فكرية أكثر فاعلية، وقدرة منهجية وإبداعية على مواجهة التحديات الفكرية المعقدة.

المحور الثانى: دور الفلسفة فى التعليم

ليس من المستغرب أن تكون كلمة "الفلسفة" بالنسبة لكثير من الناس مجرّد لفظ غامض يستحضر صورًا للحى البيضاء والغموض الصوفي. فالمجتمع المعاصر يبدو وكأنه لا يجد سببًا وجيهًا لتقدير مجال ينشغل بالأفكار أكثر من الإنتاج الملموس. وببساطة، تُعَدّ الفلسفة في نظر البعض غير عملية، وإلهاءً عن عالم الاقتصاد المتنامي ومتطلبات الحياة الواقعية. لكن ما قد يكون أكثر إثارة للدهشة هو أنّ الفلسفة باتت، في عصرنا، مجالًا يحتضر حتى داخل الأوساط الأكاديمية نفسها. فمع ازدياد التخصّص في البحث والاستقصاء، تراجع الدافع إلى الانخراط في التأملات المتشعّبة التي قد تبدو متكلّفة لأولئك الذين يفضلون "القيام بشيء عملي". وبوجه خاص، نادرًا ما يرى العاملون في مجال التربية والتعليم ما يدعو إلى الانشغال بالفلسفة، في ظلّ انشغالهم المستمر بمساعدة الطلاب في الجوانب المباشرة لتعلّمهم. ومع ذلك، لا يحتاج الأمر إلا إلى لحظة تأمل في فكر بعض كبار الفلاسفة حتى ندرك أن التربية والتعليم لم تنفصلا يومًا عن الفلسفة، وأنهما مهدَّدان بفقدان قدرتهما على خدمة الطلاب بأفضل وجه إذا اقتصر إلمام الممارسين فيهما بالفلسفة على معرفة سطحية أو عابرة.(5)

ومن هنا، تتجلّى أمامنا إشكالية جوهرية تتعلق باتساع الفجوة بين الفلسفة والمجتمع المعاصر، بل وبين الفلسفة والوسط الأكاديمي نفسه. ويمكن تلخيص هذه الإشكالية في ثلاثة مستويات مترابطة:

1- تصوّر العامة للفلسفة بوصفها حقلًا غامضًا وبعيدًا عن التطبيق العملي.

2- الوضع الأكاديمي الراهن الذي أدّى فيه التخصّص المفرط إلى إهمال التفكير الفلسفي العميق والشامل.

3- الانعكاس على مجال التربية والتعليم، بما ينذر بفقدان البعد الفلسفي في الممارسة التربوية، وما يستتبعه من تراجع القدرة على تربية العقول وتوسيع آفاق التفكير.

وإذا حاولنا استقصاء جذور هذه الإشكالية في سياق التعليم الحديث، وجدنا أن الفلسفة، على الأقل بوصفها تخصّصًا أكاديميًا رسميًا، تشهد اليوم انحسارًا ملحوظًا. فقد أدّى التركيز المفرط على مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات إلى جانب النظر إلى التعليم أساسًا بوصفه تدريبًا مهنيًا موجّهًا نحو التوظيف، إلى دفع العلوم الإنسانية إلى موقع هشّ ومهمَّش. وتبدو الفلسفة، على وجه الخصوص، بعيدة الصلة عن أولويات التعليم المعاصر. ويزداد الأمر صعوبة عندما يُطلَب تبرير أهميتها للمعلّمين، في ظلّ عجز كثير من الفلاسفة أنفسهم عن الدفاع بفاعلية عن جدواها بالنسبة إلى الطلاب. غير أنّ المفارقة اللافتة هي أنّ جميع السياسات التعليمية، في جوهرها، تقوم على تصوّر فلسفي ما، سواء تعلّق الأمر بتحديد أهداف التعليم، أو صياغة الالتزامات تجاه الطلاب، أو تعريف ما يُعدّ في مصلحة الأمة. ومن ثمّ، تظلّ الفلسفة عنصرًا أساسيًا لا غنى عنه في الإدارة التربوية والقيادة التعليمية الرشيدة.(6)

وإذا أردنا أن نبرهن على هذه القيمة عمليًا، فليس أنسب من العودة إلى أمثلة ملموسة تُظهر أثر الفلسفة المباشر في صياغة التعليم. ففي هذا السياق، يمكن الاستشهاد بفكر كلٍّ من أفلاطون وجون لوك. إذ يبيّن استكشاف آرائهما أنّ فهم الفلسفة أمر جوهري عند اتخاذ القرارات المتعلّقة بصياغة السياسات، ولا سيّما في مجال التعليم. ورغم أنّ معظم الناس يمتلكون قدرًا من المعرفة العامة بأفلاطون، ومستعدّون للاعتراف بأنّ أعماله تمثّل ركيزة أساسية في تشكيل حقول المعرفة الحديثة، فإنهم يجدون غالبًا صعوبة في تبرير أهميته على المستوى العملي. ومع ذلك، لا تزال كتاباته تسهم في توجيه الممارسات التربوية وصقلها؛ وإن لم يكن لعمله من أثر سوى تنبيهنا المستمر إلى مخاطر التعليم الخاطئ وسوء التوجيه التربوي، فهو يظلّ ذا قيمة كبرى. وبالمثل، تظلّ أعمال جون لوك مرجعية محورية في الفكر التربوي، ولا سيّما في الولايات المتحدة الأميركية، إلى درجة يصعب معها فصل المبادئ التي يقوم عليها تصوّرنا للتعليم عن أطروحاته الواردة في رسالته الثانية في الحكومة.(7)

وعند النظر في تاريخ التعليم، يتضح أنّ الجدل حول غاياته وأهدافه ظل قائمًا عبر العصور، وهو حوار يفرض على كل جيل المشاركة فيه. وفي عصرنا الحاضر، تميل سياسات التعليم لدى كثير من صانعي القرار إلى التركيز على أهداف محدودة النطاق، إذ يفترضون أنّ مسألة الأهداف قد حُسمت منذ زمن بعيد، فيجعلون من نتائج الاختبارات المعيارية المؤشر الأوحد لأداء الطلاب والمعلمين. غير أنّ المربين الواعين لطبيعة الرسالة التعليمية طالما نبّهوا إلى أنّ حصر الأهداف في هذا الإطار الضيق يخل بجوهر العملية التربوية. وقد شهد عام 1918 مثالًا بارزًا على ذلك، حين أصدر المربون "تقرير المبادئ الأساسية" الذي أوصى بسبعة أهداف كبرى للتعليم، هي:

1- الصحة.

2- الإلمام المتقن بالعمليات الأساسية.

3- العضوية الفاعلة والمسؤولة داخل الأسرة.

4- الإعداد المهني.

5- ترسيخ المواطنة.

6- الاستخدام الرشيد والبنّاء لأوقات الفراغ.

7- التكوين الأخلاقي القويم.(8)

وعليه، فإن وضع سياسة تعليمية رشيدة، أو قيادة مؤسسة تربوية، أو اتخاذ قرارات حاسمة في المجال التعليمي، يتطلّب وعيًا فلسفيًا عميقًا يجيب عن أسئلة جوهرية، من قبيل: ما الهدف من التعليم؟ وما قيمته؟ وهل يعود بالنفع على الفرد والمجتمع معًا؟ هذه الأسئلة بطبيعتها فلسفية، إذ تنشغل بالبحث في المعنى والغايات. فإذا اعتقدنا أنّ التعليم يمكن أن يُستخدم أداةً للسيطرة على العقول، فإننا نتبنّى رؤية تقترب من أفكار أفلاطون. أما إذا رأيناه وسيلة لتمكين الأفراد اقتصاديًا، فنكون بذلك أقرب إلى منظور جون لوك. غير أنّ الأهم ليس مجرد الاطلاع على نظريات هؤلاء الفلاسفة، بل فهم التحذيرات التي قدّموها لنا؛ إذ حذّر كلٌّ من أفلاطون ولوك من مخاطر بعينها تترتب على اختياراتنا التعليمية. ومن خلال دراسة الفلسفة، يمكننا استيعاب هذه التحذيرات، والتفكير بعمق أكبر في صياغة مستقبل التعليم.(9)

أ- الجمهورية والتعليم

يعَدّ أفلاطون من أبرز من وضعوا أسس التدريب المعرفي كمنهج عقلي منظَّم، حيث تبرز محاوراته التي يظهر فيها سقراط باعتباره أول من أدرك قيمة الحوار في تنظيم العمليات التعليمية. فقد رأى أنّ تنمية التفكير الماهر تتم على نحو أفضل عبر عملية اجتماعية قوامها التساؤل والنقاش. ومن خلال ما يُعرف بـ "الحوار السقراطي"، شجّع المعلّمون الطلاب على تبنّي نهج نقدي تجاه المعرفة، بحيث يعبّرون عن أفكارهم ويعملون على تصحيحها ذاتيًا. ولعلّ استمرار حضور هذا النهج إلى يومنا هذا يتجلى في الاهتمام المتزايد بتوظيف الأساليب الفلسفية الاستقصائية داخل التعليم المعاصر.(10)

ومن هنا يمكن القول إنّ المبدأ الأفلاطوني في التعليم، القائم على الحوار السقراطي، يوفّر أرضية خصبة لدمج التفكير الفلسفي في السياسات التعليمية الحديثة. فاعتماد النقاش المفتوح والاستقصاء المنهجي داخل الصفوف الدراسية يسهم في تعزيز التفكير النقدي وتوسيع آفاق الطلاب، كما ينمّي قدرتهم على التقييم المستقل للمعلومات. وعلى صعيد السياسات التعليمية، يتيح هذا النهج بناء مناهج أكثر مرونة وتفاعلية، تعترف بدور الطالب كشريك فعّال في إنتاج المعرفة، لا مجرد متلقٍّ سلبي لها. وهكذا تتحقق رؤية أفلاطون التي تجعل من التعليم عملية حوارية حيّة تمكّن الأفراد من المشاركة الواعية في صياغة القرارات داخل المجتمع.

غير أنّ تناول أفلاطون لمسألة التعليم لا ينفصل عن رؤيته العامة للحكم والمجتمع، كما يظهر في كتابه "الجمهورية". فهذا العمل، المعروف بكونه من أشد الانتقادات الموجَّهة إلى الديمقراطية في الفكر القديم، لا يقتصر على معالجة قضايا الحكم، بل يولي مساحة واسعة للتربية والتعليم، حتى يكاد يطغى هذا الجانب على غيره. ورغم أنّ أفلاطون يتناول عيوب أشكال الحكم المختلفة، فإنّ اهتمامه الأكبر انصبّ على إبراز دور التعليم في تنمية النفس وازدهارها، معتبرًا أنّ هذا الازدهار لا يتحقق إلا عبر التوجيه الفكري الموجّه منذ سن مبكرة. ومن هنا يتضح أنّ الطابع السلطوي للجمهورية مرتبط أساسًا بتركيزها الشديد على التعليم بوصفه أداةً للضبط والسيطرة.(11)

وقد ذهب أفلاطون إلى أنّ التعليم ينبغي أن يشمل مجالات متنوّعة مثل الموسيقى، والتربية البدنية، والرياضيات، والجدل (الديالكتيك)، غير أنّ هذا التعليم كان موجَّهًا بصفة خاصة لأولئك الذين يُعدّون لتولّي الحكم. ولم يكن ذلك إغفالًا لتعليم بقية المواطنين، بل إنّ طبيعة تعليمهم ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بأدوارهم المستقبلية داخل المدينة. فالمدينة في تصوّره تتكوّن من ثلاث فئات: الحكّام، والمحاربون، والمنتجون، ولكل فئة مهام والتزامات محددة. لكن رغم هذا التوزيع الوظيفي، لم ينظر أفلاطون إلى التعليم بوصفه وسيلة لإعداد الأفراد لأدوارهم فحسب، بل رأى فيه كذلك أداة للحد من إساءة استخدام السلطة. وقد أكّد أنّ التربية الحقيقية يجب أن تغرس في النفوس حبّ الجمال، باعتباره الطريق إلى حب العدالة، في حين أنّ غياب التعليم يفتح المجال أمام الميل البشري إلى العنف والطمع ليهيمن على السلوك..(12)

وانطلاقًا من هذا المنظور، انتقد أفلاطون النظام الديمقراطي الذي رأى أنّه يتعارض جوهريًا مع تحقيق تعليم فعّال يضمن ازدهار المجتمع. فقد اعتبر الديمقراطية حكمًا للغوغاء، وغالبًا ما يكون هؤلاء من غير المتعلمين بالقدر الكافي. وفي نظره، يقود الميل البشري الطبيعي نحو العنف والطمع إلى فساد النظام الديمقراطي، بحيث يُستغلّ من قبل الأثرياء والطامحين إلى السلطة، ليتحوّل إلى نظام هشّ ممهّد دائمًا للانهيار، ومعبّد الطريق لظهور الطغاة. ولعلّ ما يزيد موقف أفلاطون حدّة أنّه عبّر عن أفكاره هذه على لسان أستاذه سقراط، الذي كان هو نفسه ضحيةً للديمقراطية الأثينية، إذ حكمت عليه بالإعدام تحت ضغط الشعبوية وعجزها عن التمييز. وهكذا بدا لأفلاطون أنّ التربية والتعليم لا يمثلان مجرد شأن تربوي، بل يشكّلان شرطًا أساسيًا لحسن الحكم، ووسيلة لكبح الميول الجامحة التي تهدد استقرار المجتمع.(13)

كلّ ما تقدّم يجعل حجّة أفلاطون ما تزال تحتفظ بوجاهتها وقوتها، خصوصًا بالنسبة إلى القادة التربويين في عصرنا الحاضر. ففي وقت يتجه فيه التعليم بشكل متسارع إلى إعداد الطلاب لشغل وظائف محددة، يصبح من المشروع أن نطرح السؤال الجوهري: هل يخدم التعليم المجتمع حقًا أم يضرّه؟.

وإذا تأملنا واقعنا المعاصر، نجد أنّه لا يختلف كثيرًا عن أثينا في زمن سقراط وأفلاطون. فقد كان أفلاطون شديد الوعي بخطر الديمقراطية، لاسيما حين تُدار من قبل جمهور يفتقر إلى التعليم الكافي. ومع ذلك، ينبغي أن ندرك أنّ التعليم، في نظره، لم يكن يقوم على التلقين أو الغرس القسري للأفكار، بل على التوجيه الرشيد للفكر. وقد عبّر عن ذلك بقوله: «هكذا يجب أن يكون التعليم... فنّ التوجيه. على المربّين أن يبتكروا أكثر الطرائق بساطة وفعالية في تحويل العقول نحو الاتجاه الصحيح». فالتعليم عنده لا يمنح الرؤية، بل يعيد توجيهها، وهو بذلك السبيل الأمثل لإعداد مواطنين قادرين على الحكم السليم والتمييز الواعي، ومن ثم بناء مجتمع مزدهر لا تتهدّده الفوضى ولا يطغى عليه الاستبداد.(14)

وعليه، فإنّ أعمال أفلاطون تمثل تحذيرًا دائمًا موجهًا إلى القادة التربويين. فبينما قد نقرأ الجمهورية بوصفها نقدًا قديمًا لنظام ديمقراطي أصبحنا نثمّنه اليوم، ينبّهنا أفلاطون إلى أنّ الاستبداد قد ينشأ من صلب الديمقراطية ذاتها، بفعل الحرية غير المقيدة التي تسمح بالسعي وراء الرغبات الفردية بلا ضابط. ومن هنا يبرز التساؤل: ما الذي يمنع الحكام في مدينة أفلاطون المثالية من الانقياد وراء نوازعهم الأنانية؟ كان جوابه واضحًا: التعليم. فبالنسبة له، تتحدد أهلية الحكم بقدرة الفرد على التعلم؛ فإذا امتلك القابلية للتعلم الفعّال، صار صالحًا لممارسة الحكم.

وهذا المعنى يتخذ اليوم بُعدًا أشمل، إذ لم يعد الحكم محصورًا في نخبة صغيرة، بل باتت الديمقراطية الحديثة تجعل من الشعوب نفسها حكامًا على مصائرها. ومن ثم، يصبح من الضروري أن يسعى القادة التربويون إلى ترسيخ تعليم متين وعميق، لا يقتصر على إعداد المواطنين لسوق العمل، بل يُعدّهم أيضًا لممارسة الحكم المسؤول. فالتعليم، وفق هذا التصور، ليس مجرد وسيلة لاكتساب المهارات، وإنما أداة أساسية لإعداد كل مواطن للمشاركة الواعية والفاعلة في صون استقرار المجتمع وتوجيه مساره.(15)

وإذا كان أفلاطون قد ركّز على إعداد نخبة قادرة على الحكم الرشيد وضبط المجتمع، فإنّ فكر جون لوك يمثّل نقطة تحوّل جوهرية نحو منظور مختلف أكثر فردية وبراجماتية. فبينما رأى أفلاطون أنّ التعليم وسيلة لتوجيه الجماعة نحو الصالح العام، أكّد لوك أنّ وظيفته الأعمق تكمن في تنمية استقلالية الفرد وتمكينه من التحكم في مصيره الاقتصادي والسياسي. وهكذا، ينتقل النقاش من حماية المجتمع عبر تربية نخبة حاكمة، إلى تمكين كل فرد من امتلاك المهارات والمعارف التي تؤهله ليكون مواطنًا حرًّا ومسؤولًا في مجتمع ديمقراطي.

ب- الحكومة والتعليم

بعد أن بيّن أفلاطون أنّ التعليم هو الأداة الجوهرية لإعداد نخبة قادرة على الحكم الرشيد وضبط المجتمع، انتقل الفكر الفلسفي في مرحلة لاحقة إلى مقاربة مغايرة مع الفيلسوف جون لوك. فبينما ركّز أفلاطون على البنية الجماعية للمجتمع وعلى ضرورة حماية النظام من الانحراف، جاء لوك ليُعيد مركز الثقل نحو الفرد، مؤكدًا أن الحرية والمساواة هما حجر الأساس لأي نظام سياسي عادل، وأن التربية هي السبيل لترسيخ هذه المبادئ.

ولم يكن لوك يطرح رؤيته في فراغ تاريخي، بل في سياق سياسي يتّسم بالتحوّل نحو الديمقراطية الليبرالية. ففي رسالته الثانية في الحكومة، شدّد على أنّ شرعية أي سلطة قائمة إنما تستمدّ من تحقيقها لمصلحة الشعب، وأن فشلها في ذلك يمنح المواطنين الحق في إسقاطها. وهكذا، تبلورت فلسفته السياسية حول حقوق الإنسان الأساسية: الحياة والحرية والملكية، وهي الحقوق التي وجدت صداها العميق في إعلان الاستقلال والدستور الأمريكي. ومن ثمّ، بدا أن فلسفة لوك جاءت استجابة لحاجة مجتمعات حديثة إلى تعزيز المساواة، لا إلى التحذير من مخاطرها كما فعل أفلاطون.(16)

ومن هنا تبرز أهمية التعليم في فكر لوك؛ فوظيفته، في نظره، لا تقتصر على إعداد الأفراد لسوق العمل، بل تتجاوز ذلك إلى تمكينهم من وعي حقوقهم الطبيعية والدفاع عنها. وإذا كان أفلاطون يرى التعليم توجيهًا نحو الفضيلة من أجل إعداد الحكّام، فإن لوك ينظر إليه كأداة لتمكين كل مواطن من المشاركة الحرة والمسؤولة في المجتمع الديمقراطي. وهكذا يلتقي كلا الفيلسوفين عند نقطة محورية: التعليم هو الوسيلة الأساسية لتوجيه العقل نحو ما يجعل الإنسان مزدهرًا بحق، وإن اختلفت وجهة كل منهما بين الصالح العام عند أفلاطون، والحقوق الفردية عند لوك.(17)

على الرغم من اختلاف السياقات التاريخية والسياسية التي كتب فيها كلّ من أفلاطون ولوك، فإنّ تصوّرهما لدور التعليم يلتقي عند نقطة جوهرية، وهي اعتباره أداة لتوجيه العقل نحو إدراك ما يجعل الإنسان مزدهرًا بحق. فأفلاطون يرى أن هذا الازدهار يتحقق عبر تنمية الفضائل وكبح الميول المدمّرة، بما يهيّئ الفرد لتحمّل مسؤولية الحكم. أما لوك، فيربط الازدهار بفهم الحقوق الطبيعية وصونها، ويرى في التعليم وسيلة لتمكين الأفراد من الدفاع عن حريتهم ومساواتهم. غير أنّ الاختلاف الجوهري بينهما يتمثل في أن أفلاطون ينطلق من رؤية هرمية تُخصّص التعليم الأعلى للحكّام المحتملين، بينما يتبنى لوك تصورًا أكثر شمولًا، يجعل من التعليم حقًّا وأداة لجميع المواطنين لضمان ممارستهم الفاعلة لحقوقهم.

وانطلاقًا من هذا التصور، يبرز دور التربية في فكر جون لوك بوصفها عملية أساسية لتشكيل الإنسان وتطويره، تبدأ من الطفل الصغير، الذي لا يزال يقارب العالم بشيء من الشك، وتنتهي بالإنسان العارف الموهوب، ذي الفهم العميق للحياة. وقد كان لوك يؤمن إيمانًا راسخًا بقوة التربية في صناعة الإنسان، قائلاً: «إن تسعين في المائة من الناس الذين نلقاهم، سواء أكانوا صالحين أم طالحين، نافعين أم عديمي الجدوى، إنما هم نتاج التربية». ولهذا أكّد أنّ «حسن تربية الأطفال يصبح واجبًا وحقًّا للوالدين، كما أن سلام الأمة يعتمد بدرجة كبيرة على التربية، الأمر الذي يستوجب على كلٍّ منّا أن يأخذه مأخذ الجد من أعماق قلبه».(18)

ومن هذا المنطلق، شبّه لوك روح الطفل باللوحة البيضاء التي لم يُكتب عليها شيء بعد، أو بالشمع الذي يمكن للمربي تشكيله وفق إرادته. لذلك اعتبر أنّ «فن ومهارة المعلم تكمن في إزالة كل الأفكار من ذهن الطفل قبل تعليمه أي شيء، فلا بد أن يكون ذهنه صافياً ليستوعب المعرفة الجديدة؛ وبدون هذا الشرط، لن تُطبع المعرفة في ذهن الطفل». وفي هذا الإطار، يرى لوك أنّ الحرية المفرطة لا تناسب الأطفال، إذ إنهم يفتقرون بعدُ إلى القدرة الكافية على الحكم، ما يستدعي حاجتهم إلى التوجيه والانضباط، على أن يُترك لهم التفكير تدريجيًا مع نضجهم، لنقاربهم عندها برفق أكبر.(19)

وبهذا المعنى، يصبح التعليم سلاحًا ذا حدين؛ فهو يحمل في طيّاته نعمةً وخطرًا في آن واحد. إذ يمكنه أن يوجّه الإنسان نحو مصلحته الحقيقية، كما يمكنه – إذا أسيء استخدامه – أن يبعده عنها. وإذا أسقطنا هذا الرأي على واقع التعليم في الولايات المتحدة، تبيّن أنّ هناك مواضع للقلق، إذ لا يُعِدّ الأفراد إعدادًا كافيًا للمشاركة الواعية في تحقيق مصالحهم الاقتصادية ضمن نظامٍ ليبرالي قائم على السوق الحر. فهذا النظام يفترض أن كل فرد سيتصرّف بما يحقّق مصلحته، غير أنّ هذا الافتراض ينهار عندما تُستغل ثغرات التفكير البشري أو يبقى المستهلكون أسرى الجهل. وحينها، تفشل "اليد الخفية" في أداء وظيفتها، لأن القرارات لا تُبنى على إدراك حقيقي للمصلحة. والأسوأ من ذلك أنّ بعض الشركات قد تلجأ إلى القوانين لإخفاء المخاطر، أو تستعين بأساليب نفسية للتأثير على الأفراد، فتدفعهم – من غير إكراه مباشر – إلى التصرف على نحوٍ يناقض مصالحهم. عند هذه النقطة، يغدو إصلاح التعليم، ومواجهة الجهل الممنهج، أولوية قصوى أمام المربّين وصنّاع السياسات التعليمية.(20)

في مفهوم جون لوك، يجب أن تتجلى التربية الرامية إلى كمال العقل البشري في أربعة عوامل رئيسية: الفضيلة، والحكمة، والأدب أو اللياقة، والتعليم. فالفضيلة هي الصفة الأساسية التي ينبغي أن يتحلى بها كل إنسان، إذ تساعد الفرد على كسب احترام ومحبة الآخرين، وعلى الرضا عن نفسه. كما تمثل الفضيلة ضبط الذات وكبح الرغبات التي لا يقرها العقل. أما الحكمة، فتقوم على الانفتاح والعدل وحسن التمييز، ويقول لوك: «تساعد هذه الصفة الإنسان على إدارة الأمور بمهارة وبصيرة مستقبلية، وهي نتيجة خليط من الطبيعة الصالحة، إلى جانب توجيه العقل بالخبرة». ويأتي العامل الثالث، وهو الأدب أو اللياقة، فيتجلّى عبر التوازن بين السلوك الاجتماعي المقبول وتجنّب الإفراط في الخجل أو الحرج أو الإهمال، أي كل ما يعكس قلة احترام الآخرين.(21)

غير أنّ هذه المبادئ التربوية لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا إذا أُدرجت ضمن رؤية فلسفية واعية للتعليم والمجتمع. فنحن اليوم بحاجة إلى أداة نواجه بها المعتقدات الاجتماعية السائدة – أو الفلسفات – التي قد تكون ترسّخت أو انحرفت أو أسيء فهمها؛ ومن ثمّ، فنحن بحاجة من جديد إلى الفلسفة. فإذا أردنا سنّ سياسات تعليمية تُفيد الطلاب وتوقف تلك التي تضرّ بهم، فلا يكفي أن نتجادل حول هذه السياسات في ذاتها، بل يجب أن نغيّر طريقة تفكير الطلاب، وأولياء الأمور، وصانعي القرار، والمجتمع بأسره حيالها. أي أننا، باختصار، يجب أن نمارس الفلسفة. فمن دون هذا الوعي الفلسفي، سنظل ننتقل كمجتمع من مبادرة إلى أخرى، ومن سياسة إلى أخرى، دون بوصلة فكرية واضحة، مكتفين بحساب المنافع الظاهرة، من غير أن نتأمل في المبادئ التي تولد منها تلك السياسات. وعليه، تقع على الإداريين وقادة التعليم مسؤولية الغوص في فلسفات الماضي والحاضر، حتى يتمكّنوا من قيادة المجتمع نحو مستقبل يقوم على حكم رشيد يتولاه أناس مخلصون ومتفكّرون. (22) وكما يُقال بحق: «فحيثما يتوقف التفكير، يبدأ الانحدار؛ وحيثما تُستعاد الفلسفة، تُستعاد إنسانيتنا».

وفي هذا السياق، لا عجب أن يُعَدّ جون لوك، في نظر المؤرخين والمنظّرين البريطانيين في التربية، من «المربّين العظام» إلى جانب أعلام كأفلاطون وروسو وبيستالوتسي وديوي، إذ جمع بين الفلسفة والتجديد التربوي والتأثير العملي المستدام. وقد حظيت أعماله بانتشار واسع وتحليل متعمّق في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، بينما لم تشهد بولندا الاستقبال نفسه. ويرى روبرت رَسك أنّ ما يوحّد كبار المفكرين التربويين هو إدراجهم نظرياتهم في وصف العملية التعليمية، وربطهم بين الفكر الفلسفي والابتكار النقدي أو الثوري، فضلًا عن تجلي أفكارهم بفاعلية في الممارسة واستمرار أثرها عبر الزمن. ومن هنا تبرز أهمية دراسة لوك، ليس فقط لذاته، بل لما بشّرت به أفكاره من تحولات تنويرية في مجال التعليم.(23)

وتتضح هذه الرؤية أكثر إذا أخذنا بتفسير ب. شولز، الذي يرى أنّ فلسفة لوك التربوية تتضمن أربعة مبادئ مترابطة: (1) الطاعة بوصفها ضبطًا للرغبات تحت إشراف مربّين عقلانيين، (2) إخضاع الرغبات لحكم العقل باعتباره جوهر الفضيلة، (3) تعويد الطفل على أن يكون إشباع الرغبة مرهونًا بتحقيق السعادة الحقيقية، و(4) بلوغ غاية هذه العملية عبر تنمية الاستقلالية. ويشير شولز إلى أنّ الإكراه الخارجي في التعليم عند لوك ليس غاية في ذاته، بل وسيلة مؤقتة لتدريب الطفل على الانقياد للعقل، بما يحقق مفهوم الحرية كقدرة على الفعل أو الامتناع وفق توجيه العقل. وبهذا، يصبح التعليم عند لوك مزيجًا من الانضباط المفروض ودور الوالدين كأوصياء مسؤولين، في سبيل إعداد الطفل لمرحلة النضج وتحمل المسؤولية الذاتية. (24)

المحور الثالث: تعليم الفلسفة للأطفال

يُعَدّ برنامج «الفلسفة للأطفال»، الذي أسّسه البروفيسور ماثيو ليبمان عام 1974 عبر «معهد النهوض بالفلسفة للأطفال» (IAPC) في كلية مونتكلير بولاية نيوجيرسي، من أبرز النماذج التربوية التي جمعت بين النظرية والتطبيق في ميدان تعليم التفكير. فقد قام البرنامج على سلسلة من الروايات الفلسفية المصمَّمة خصيصًا للأطفال من سن الثالثة وحتى البلوغ، مدعومة بأدلة إرشادية للمعلمين، بما يتيح لهم تيسير الحوار الفلسفي داخل الفصول الدراسية. ووفقًا لتقدير ستيرنبرغ (1984)، يُعدّ هذا المشروع من أنجح المبادرات في تنمية مهارات التفكير النقدي القابلة للنقل، نظرًا لما خضع له من تطوير وتقييم منهجي مستمر على مدى خمسةٍ وعشرين عامًا. ومن ثمّ، أسهم البرنامج في ترسيخ مكانة الفلسفة في التعليم المدرسي، بوصفها أداةً لتعزيز التفكير التأملي والحوار الفلسفي لدى الأطفال، وإغناء النقاشات التربوية حول مفاهيم التفكير والتعليم.(25)

غير أنّ هذه المبادرة تطرح في الوقت ذاته سؤالًا جوهريًا حول وظيفة التعليم: إذا كان الهدف الأسمى للعملية التعليمية هو تنمية مهارات التفكير لدى الأجيال الناشئة، فلماذا ما يزال النظام التعليمي يُخرِج أعدادًا كبيرة من الأفراد الذين يفتقرون إلى القدرة على التفكير النقدي؟ إنّ بناء هذه المهارات لا يمكن أن يُترك إلى مرحلة متأخرة، بل يجب أن يبدأ مبكرًا قبل أن تترسخ أنماط التفكير السلبية أو غير الواعية. ومن هنا تبرز أهمية أن يصبح التفكير المستقل والفعّال عادةً أصيلة لدى المتعلم منذ سنواته الأولى، بما يضمن أن التعليم قد حقق إحدى أهم غاياته.(26)

وانطلاقًا من هذا التصور، يُعرّف ماثيو ليبمان "الفلسفة للأطفال" بأنها منهج تعليمي يهدف إلى ترسيخ مهارات التفكير النقدي والحُكم الرشيد لدى الطلاب، مع التركيز على الطبيعة الجدلية للتفكير والعقلانية. وهنا يتجاوز التفكير مجرد أداة معرفية إلى أن يصبح موضوعًا بحد ذاته للتحليل والنقد ضمن إطار استقصائي يتسم بالمرونة وتعدد وجهات النظر. ولصياغة رؤيته، استعان ليبمان بمفهوم "مجتمع الاستقصاء" الذي صاغه تشارلز ساندرز بيرس، ليقدّم نموذجًا مثاليًا للبحث الجماعي عن المعرفة يقوم على التفاعل البنّاء وتبادل الأفكار والخبرات. وبذلك، يغدو هذا المجتمع إطارًا معرفيًا وأخلاقيًا في آن واحد: معرفيًا عبر ترسيخ التفكير العقلاني الجماعي، وأخلاقيًا عبر إرساء قيم الديمقراطية والاحترام المتبادل.(27)

ويتقاطع هذا التصور مع فكرة التعلم الاجتماعي الذي يُعدّ من الركائز الأساسية في بناء بيئات تعليمية نشطة وفعّالة. فالتعلم الاجتماعي لا يقتصر على نقل المعرفة، بل يعزّز مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات، ويقوي القدرة على التواصل والتعاون في سياقات متنوعة. وتتجلى أنماطه في ثلاث صور رئيسية: التعلم الجماعي التعاوني الذي يقوم على تحقيق أهداف مشتركة، والتعاون الصفي التعاوني الذي يفعّل النقاشات الجماعية ومجتمعات الاستقصاء، والتعاون بين الأقران الذي يركز على التفاعل المباشر بين الطلاب في مجموعات صغيرة أو أزواج.(28)

وإذا ما نظرنا إلى هذه الأنماط من زاوية معرفية أوسع، أمكن ربطها بمفهوم "الذكاء الموزع" أو "الإدراك الموزع"، الذي يفترض أن الذكاء البشري يبلغ ذروته عندما يتوزع عبر ثلاثة أبعاد: التفاعل الاجتماعي، الأدوات المادية، والأنظمة الرمزية المشتركة. وبذلك لا يُختزل التفكير في العمليات الذهنية الفردية، بل يتحقق من خلال التفاعل الديناميكي بين الذات والآخرين، وبين الفرد والوسائط الثقافية والمادية. وهنا يتضح أنّ الذكاء ليس خاصية داخلية فحسب، بل هو أيضًا قدرة على تعبئة الموارد الاجتماعية والثقافية من أجل إنتاج المعرفة وتوظيفها.(29)

ومن هذه الزاوية، يلتقي برنامج «الفلسفة للأطفال» مع نظرية "الذكاء الموزع" التقاءً مباشرًا؛ فهو يوفّر بيئة صفية تعمل كمجتمع استقصاء حيّ، يدمج التفاعل الاجتماعي مع الوسائط المادية والرمزية، ويعزز التفكير النقدي والتعاون المعرفي لدى المتعلمين. وتتجلّى هذه العملية في ثلاثة محاور أساسية للتفكير الفلسفي: التفكير في التفكير، الذي يركّز على فحص طبيعة المعرفة وحدودها، والتفكير النقدي، الذي يختبر سلامة الاستدلالات وقوة المبررات، والتفكير الإبداعي، الذي يسعى إلى ابتكار رؤى جديدة لفهم العالم.(30)

يمكن تلخيص التفكير الفلسفي في ثلاثة محاور رئيسية تبرز أدواره المتنوعة:

أولًا، التفكير في التفكير (البُعد المعرفي والتقييمي وتنظيم الذات)، ويتمثل في التأمل في طبيعة المعرفة ذاتها، وطرح أسئلة جوهرية مثل: ما الذي نعرفه حقًا؟ وما معنى أن نعرف شيئًا؟ ما الذي نسعى لمعرفته؟ وكيف نتحقق من صحة ما تعلمناه؟.

ثانيًا، التفكير النقدي، وهو الذي يركّز على فحص جودة التفكير وتقييم مدى منطقيته، من خلال أسئلة مثل: هل قدّمنا مبررات واضحة ومقنعة لأفكارنا؟ وهل ترتكز هذه المبررات على أسس منطقية متماسكة؟.

ثالثًا، التفكير الإبداعي أو البنّاء، الذي يعنى بابتكار تصورات ورؤى جديدة تساعد على فهم العالم والتجربة الإنسانية بعمق أكبر، بحيث لا تقتصر الفلسفة على تحليل ما هو قائم، بل تتجاوزه إلى اقتراح مسارات أصيلة للتفكير فيه.(31)

وانطلاقًا من هذه المحاور، تمثل "الفلسفة للأطفال" إطارًا عمليًا لتفعيلها جميعًا، إذ تتيح للطلاب التأمل في أفكارهم، وتدربهم على النقد المنطقي، وتشجعهم على ابتكار رؤى جديدة تُثري فهمهم للعالم من حولهم. غير أن هذه البرامج لا تكتفي بتعزيز التفكير فحسب، بل تسعى أيضًا إلى ربطه بالوعي الأخلاقي، بحيث يصبح العقل أداة للبناء الإنساني القائم على الخير والمسؤولية، لا للجدل المجرد وحده.(32)

ومن هنا، فإن فلسفة الأطفال تتجاوز البعد المعرفي لتغرس قيمًا أخلاقية راسخة، مثل الاهتمام بالآخرين وتنمية روح التعاطف، فضلًا عن ترسيخ الفضائل الديمقراطية، كالتناوب في الأدوار والمراجعة الذاتية والنظر إلى القضايا من زوايا متعددة. ويقوم جوهر هذه الفلسفة على مبدأ "مجتمع الاستقصاء"، الذي يوفّر بيئة عملية حية تُمارَس فيها هذه القيم يوميًا، فيكتسبها الأطفال بصورة طبيعية ومتجذّرة.(33)

على النقيض من ذلك، يركّز التعليم التقليدي في المدارس غالبًا على المهارات الأساسية — كالقراءة والكتابة والتهجئة — بأسلوب نمطي وآلي، دون تحفيز حقيقي على التفكير العميق أو التأمل. هذا النهج يخلق فجوة غير صحية بين فعل القراءة وبين تفاعل الأطفال مع ما يقرؤونه. وحتى هذه المهارات الأولية يمكن الارتقاء بها إذا مورست ضمن إطار تأملي للتعلم؛ فالطفل الذي يكتفي باستخدام الكلمات أو حفظ الحقائق دون التفكير فيها، يبقى ذكاؤه محدود الأفق وتفكيره أسير أنماط جامدة تقلل من قدرته على الابتكار.(34)

وفي لحظة ما من حياتنا، نقف أمام أسئلة كبرى مفتوحة بلا إجابات نهائية، وهنا تبرز الفلسفة كأداة تعليمية لا نظير لها، تمنح الطلبة تجارب معرفية عميقة وذات مغزى. فبينما قد تتضمن المواد الدراسية الأخرى بعض التحليل النقدي أو التفكير المنطقي، فإن الفلسفة وحدها تُسخّر هذه القدرات لتغذية التساؤل والنقاش حول القضايا الجوهرية للحياة الإنسانية. ومن خلال ممارستها، يتحول التعلم الأكاديمي إلى رحلة شخصية تنمّي العقول وتصقل الذوات.(35)

وهكذا، تصبح الفلسفة للأطفال أكثر من مجرد درس في التفكير؛ إنها مساحة حية يتعلم فيها الصغار كيف يعيشون بأسئلة مفتوحة وقلوب يقظة وعقول حرة. لذلك، فهي ليست مجرد مجموعة مهارات يمكن تعويضها بدروس في تحليل النصوص أو التفكير النقدي؛ بل تجربة تعليمية شاملة تُقدَّم عبر الحوار، وتجمع بين مهارات الاستدلال وفهم المقروء والنقاش، وتُحوّل المبادئ التربوية من شعارات إلى ممارسات حية، تنمّي عقلًا ناقدًا، وخيالًا مبدعًا، وضميرًا أخلاقيًا يقظًا.(36)

ومن خلال التأمل الفردي والجماعي، تُتاح للطلبة فرصة مراجعة افتراضاتهم وتحيزاتهم الضمنية، والنظر في آرائهم وآراء الآخرين، واستكشاف وجهات نظر متعددة حول القضايا المطروحة. وبهذا ينفتح أمامهم فضاء فكري رحب يمنحهم الجرأة على التعبير عن مواقف نقدية واعية، وهي مهارة جوهرية لكل مواطن فاعل في مجتمع ديمقراطي. (37)

ولذلك، فإن الفلسفة لا تكتفي بتعليم الطلبة كيفية الإجابة عن الأسئلة، بل تُدرّبهم على أن "يسائلوا الإجابات" نفسها. ففي حين تركّز أغلب المواد الدراسية على تقديم أجوبة محددة ومغلقة، يتيح التعليم الفلسفي للطلبة حرية طرح الأسئلة بأنفسهم، والتشكيك في الافتراضات، والانخراط في تساؤلات لا تنتهي بحلول نهائية، بل تفتح أمامهم آفاقًا أوسع للنقد والحوار والإبداع الفكري.(38)

ومن هذا المنطلق، تهدف دروس الفلسفة للأطفال إلى تطوير قدراتهم على ثلاثة محاور رئيسية مترابطة:

1- المحور المنهجي: تعزيز المهارات اللغوية، بما في ذلك القدرة على التحدث والاستماع بفاعلية، وتحسين التعبير عن الأفكار بوضوح وتنظيم.

2- المحور المعرفي: تنمية مهارات التفكير النقدي والتحليلي، مع التركيز على التفكير المنطقي واللفظي، وتشجيع الطلاب على طرح الأسئلة بوعي وذكاء.

3- المحور الأخلاقي والاجتماعي: مكافحة التحيز وتنمية التفكير المنفتح، وتعزيز التسامح وتقبل وجهات النظر المختلفة، إلى جانب رفع الثقة بالنفس في التفكير المستقل، وتحفيز الشعور بالمسؤولية تجاه الأفكار والسلوك..(39)

ومن خلال التكامل بين هذه المحاور الثلاثة — المنهجية والمعرفية والأخلاقية — يُهيّأ الأطفال لاكتساب مهارات معرفية ولغوية، وفي الوقت نفسه لتشكيل شخصية متوازنة، قادرة على التفكير الفلسفي النقدي، واستكشاف القيم، والمشاركة الواعية والمسؤولة في المجتمع. وهكذا يتضح أن الفلسفة للأطفال لا تقتصر على كونها تدريبًا ذهنيًا مجردًا، بل تمثل منظومة تربوية شاملة تُسهم في تنمية العقل، وتعزيز الأخلاق، وتشجيع المشاركة الاجتماعية الفاعلة.

المحور الرابع: ادراج الفلسفة فى المناهج الدراسية

من هنا، يصبح إدراج الفلسفة في المناهج الدراسية ضرورة تعليمية ملحّة، إذ لا يقتصر دورها على تنمية مهارات التحليل والتفكير النقدي فحسب، بل يمتد أيضًا إلى بناء وعي متكامل لدى الطلاب يؤهلهم لمواجهة تحديات الحياة المعاصرة بحكمة ومسؤولية. كما يتيح لهم المشاركة الفاعلة واتخاذ القرارات الواعية، ليغدو دمج الفلسفة في التعليم أداة استراتيجية لتنشئة جيل قادر على التفكير النقدي والإبداعي في آن واحد.(40)

ورغم أن بعض الناس ما زالوا ينظرون إلى الفلسفة بوصفها شأنًا نظريًا بعيدًا عن الواقع، إلا أنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقضايا الإنسان اليومية. فكل فرد، في لحظة ما، يطرح أسئلة حول المعنى والعدالة والحقيقة والحرية. ومن هذا المنطلق، فإن إدماج الفلسفة في التعليم لا يقتصر على صقل مهارات التحليل والاستدلال، بل يضفي على التجربة التعليمية عمقًا وجوديًا، ويحوّل المعرفة إلى قيمة حيّة ذات مغزى، بدل أن تبقى مجرد مهمة مدرسية روتينية.

وفي ظل الضغوط التعليمية المعاصرة، مثل الاختبارات الموحّدة والمناهج المزدحمة، تزداد الحاجة إلى الفلسفة. فهي لا تُوازن بين الأهداف الآنية فقط — كتحسين النتائج الأكاديمية وصقل المهارات التحليلية — بل تسعى كذلك إلى بلوغ الأهداف الدائمة للتعليم: تنمية التفكير النقدي، وتحفيز الفضول، وتكوين مواطنين واعين قادرين على التعامل مع الشأن العام بوعي ومسؤولية. وقد بيّنت الدراسات الحديثة أن إدراج الفلسفة في العملية التعليمية يسهم بفعالية في تحسين الأداء الأكاديمي، وتطوير مهارات معرفية وشخصية متكاملة لدى الطلاب.(41)

وعليه، فإن إدراج الفلسفة في المناهج الدراسية ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة تربوية تلبي حاجات الطلاب في عالم متغير وسريع الإيقاع. فهي تُعدّهم ليصبحوا مفكرين مستقلين، قادرين على تحليل المعلومات بوعي نقدي، والانفتاح على وجهات نظر متعددة، والمشاركة النشطة والواعية في النقاش العام والحياة الاجتماعية.(42)

ويمكن إدخال الفلسفة إلى المدارس بعدة طرق عملية: فقد تُقدَّم كمادة مستقلة — إلزامية— تمنح الطلاب فرصة الانغماس في التفكير الفلسفي، أو تُدمَج عبر المناهج الدراسية الأخرى من خلال وحدات ومقاطع فلسفية تكشف البعد العميق للمعرفة، وتعمّق الفهم النقدي للمتعلمين. وتدعم منظمة «أفلاطون» (PLATO) في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب عدد من المراكز الإقليمية، جهود ترسيخ الفلسفة في التعليم قبل الجامعي، وتوفير الأطر الأكاديمية والمهنية اللازمة لذلك.(43)

وهكذا، لا تصبح الفلسفة مجرد مادة أكاديمية أخرى، بل أداة فاعلة لصقل مهارات التفكير النقدي، وتمكين الطلاب من مواجهة تحديات عصرهم بعقل منفتح وقدرة على التساؤل الواعي. وبذلك تتحول المنهجية الفلسفية إلى أكثر من مجرد تدريب على التفكير، إذ تمهّد الطريق لتكوين جيل واعٍ، قادر على المشاركة الفاعلة. وتتطلب الدراسة الفلسفية مستوىً معينًا من التأهيل الشخصي والذهني لدى الطالب، وقد حُددت المؤهلات الجوهرية لذلك في تسعة عناصر رئيسية:

1- فيفيكا (Viveka): القدرة على التمييز بين الحقيقة والمظهر.

2- فايراجيا (Vairagya): الزهد في المظاهر الخالية من الحقيقة.

3- ساما (Sama): سكون النفس وطمأنينة الذهن.

4- داما (Dama): كبح النفس والتحكم في رغبات الحواس.

5- أوباراتي (Uparati): التحرر من الملهيات التي تصرف عن النشاط الأناني.

6- تيتيكشا (Titiksha): الصبر وقوة الاحتمال في مواجهة تقلبات الحياة.

7- شرادها (Sraddha): الإيمان واليقين بقيمة السعي الفلسفي ومعناه العميق.

8- سامادانا (Samadhana): القدرة على تركيز الذهن والانغماس في موضوع الدراسة.

9- موموكشوتفا (Mumukshutva): التوق الصادق إلى إدراك الحقيقة المطلقة.

ان غياب هذه المؤهلات يجعل الطالب أقرب إلى الضياع على طريق الفلسفة، عاجزًا عن بلوغ منهجها أو إدراك غاياتها السامية. ورغم صعوبة تحقيق هذا التهيؤ والانضباط، وعدم توقع الكمال فيهما، يبقى السعي الجزئي نحو اكتساب هذه المؤهلات شرطًا أساسيًا لنجاح المسعى الفلسفي. وإلا، فإن الفلسفة ستظل بالنسبة له نورًا باهتًا، يشبه الشمس التي لا تبصرها عينا الأعمى..(44)

المحور الخامس: استراتيجيات استيعاب النص الفلسفى

تعد القدرة على قراءة النصوص الفلسفية وفهمها بعمق حجر الأساس لأي طالب يسعى إلى النجاح في دراسة الفلسفة، إذ تمثل المفتاح الذي يفتح أبواب التأمل النقدي والحوار الفلسفي الحقيقي. يعاني العديد من الطلاب في أولى دروسهم الفلسفية من صعوبة في استيعاب المواد المقررة، فقد يجد القارئ نفسه مضطرًا لإعادة قراءة فقرة ما عدة مرات دون تكوّن فكرة واضحة عمّا يحاول الكاتب قوله، أو قد يضل الطريق بين الحجج والردود، وينسى أيها يمثل رأي الكاتب ذاته. ويمكن التغلب على هذه الصعوبات من خلال تتبّع الادعاءات والحجج الرئيسية في النصوص، ومع الممارسة المستمرة، يصل الطالب إلى مرحلة يمكنه فيها التأمل والتقييم والدخول في حوار نقدي مع المفاهيم الفلسفية المطروحة، وذلك باستخدام الاستراتيجيات الموضحة التالية:

1- تهيئة مكان للقراءة:

تهيئة بيئة مناسبة للقراءة تمثل عاملاً أساسيًا في تعزيز التركيز وزيادة قدرة الاستيعاب. فالجلوس على طاولة مناسبة مع كرسي مريح، بدلًا من القراءة على الأريكة أو السرير، يرفع مستوى الانتباه. ويُستحب الاحتفاظ بمشروب بجانب القارئ وتجنب مصادر التشتت مثل التلفاز أو الموسيقى المرافقة بكلمات. يختلف الأمر بين الأفراد، فقد يجد بعضهم أن الضوضاء الخفيفة مثل صوت مقهى أو مكتبة تُحفّزهم على التركيز، بينما يشكلها آخرون مصدر تشويش. كما قد يفضل البعض الاستماع إلى موسيقى هادئة، بينما يحتاج آخرون إلى صمت كامل. الهدف هو اكتشاف البيئة المثلى التي تدعم الانغماس الفعال في القراءة.(45)

- أدوات التعليق والتدوين

لتسهيل دراسة النصوص الفلسفية، من الضروري ضبط البيئة أولًا واختيار أدوات مناسبة للتعليق التوضيحي. يُنصح بتسجيل الملاحظات، وتسليط الضوء على الفقرات المهمة، ووضع إشارات على مواضع محددة في النص. من الأفضل العمل على نسخة قابلة للتعديل، أو استخدام قلم رصاص للنصوص المطبوعة. كما يمكن استخدام تعليقات هامشية مختصرة أو رموز مميزة لتصنيف عناصر النص (الفكرة الرئيسة، الأمثلة، الحجج، الإحالات، الأسئلة، الاقتباسات). وعند العمل رقميًا، توجد أدوات تتيح تدوين الملاحظات مباشرة، بما ينشئ خارطة بصرية للنص تساعد على الرجوع السريع إلى الحجج والمقاطع الأساسية دون الحاجة لإعادة القراءة الكاملة، ما يسهل التنقل داخل النص ويبرز جوهر العمل الفلسفي.(46)

- القراءة بوصفها تأويلاً للفهم

يُستَخدم لفظ "القراءة" للإشارة إلى جميع أشكال النشاط التي نسعى فيها إلى فهم الظروف، وكان معناه الأصلي "التأويل". فالقارئ يقرأ الطقس، وحالة المد والجزر، ومشاعر الناس ونواياهم، واتجاهات سوق الأسهم، وآثار الحيوانات، والخرائط، والرموز، والقوانين، والموسيقى، والرياضيات، ولغة الجسد، وما بين السطور، وقبل كل شيء يقرأ الوجوه. واستخدام مصطلح "القراءة" للإشارة إلى تفسير النص المكتوب يعد تطبيقًا خاصًا لمفهوم التأويل الذي نمارسه منذ الولادة، وما زلنا نمارسه باستمرار.(47)

من الضروري التمييز بين القراءة بوصفها عملية والقراءة بوصفها مهارة للفهم، إذ يمنح هذا التمييز القراءة خصوصيتها وفرادتها مقارنة ببقية المهارات اللغوية الأخرى، كالاستماع، والتحدث، والكتابة. فالقراءة تُعد مهارة مركبة تتضمن مجموعة من المهارات الجزئية؛ أبرزها القدرة على التعرف على الأشكال المكتوبة وتمييزها. غير أن القراءة لا تقتصر على إدراك الشكل وحده، بل تتجاوز ذلك إلى القدرة على التمييز بين المتشابه والمختلف. وبناءً على ذلك، تصبح القراءة نشاطًا ذهنيًا متكاملًا، يعيد فيه القارئ تنظيم معارفه السابقة لاستدعائها في فهم النص، ثم يسعى إلى صقل هذه المعارف وتوسيعها بالمعلومات الجديدة التي يقدّمها النص، مما يجعل عملية الفهم ديناميكية وتفاعلية، وليست مجرد استخراج للمعلومات.(48)

2- التفاعل مع النصوص الفلسفية

تهدف القراءة الفلسفية إلى إشراك القارئ في سلسلة من الأفكار والحجج، بحيث يمكنه تطوير فهمه الخاص للقضايا المطروحة. قد يؤدي هذا التفاعل إلى نقد موقف الكاتب أو تعديل منظور القارئ، مع الحفاظ على الهدف الرئيس: بلوغ فهم متجدد ومتعمق. على عكس النصوص الأخرى التي تركز على نقل المعلومات أو السرد، تسعى الفلسفة لتحفيز الفكر والتأمل.ينبغي قراءة النص بوتيرة تسمح بالتأمل المتأنٍ، مع تتبع تسلسل الحجج وربط الأفكار المتناثرة، دون التقيد بالترتيب السردي التقليدي. وقد يستلزم ذلك الانتقال بين مقاطع مختلفة لمقارنة المقولات وبناء فهم متماسك للنص.(49)

3- المناهج الفلسفية للفهم

يعتمد الفلاسفة مناهج متنوعة للوصول إلى الحقيقة، تشمل التحليل المفهومي، والمنطق، ودراسة المقايضات، مع الاستعانة بمصادر متعددة للأدلة مثل التاريخ، والحدس، والفهم المشترك، أو النتائج التجريبية المستمدة من تخصصات أخرى أو من الفلسفة التجريبية نفسها. وتركّز معظم الأعمال الفلسفية على تطوير موقف محدد عبر الحجاج؛ إذ تُستخدم الأدلة لدعم المقدمات وصولًا إلى النتيجة المنشودة، كما يلجأ المؤلف أحيانًا إلى أساليب متنوعة لبناء حجته وضمان تأثيرها الإقناعي(50).

4- مبدأ الإحسان في التأويل

مبدأ الحُسن أو الإحسان التفسيري هو مبدأ توجيهي يدعو القارئ إلى تفسير أقوال الكاتب بأكثر الطرق عقلانية وأفضلها ممكنًا، خصوصًا حين يكون الحجاج غامضًا أو غير واضح بسبب اختلاف السياق الزمني أو اللغوي. لا يعني هذا تجاهل الصعوبات أو الامتناع عن النقد، بل على العكس، يجب البحث عن تأويل يجعل أقوال المؤلف مفهومة منطقيًا ومتماسكة. وينبغي للقارئ افتراض أن جميع الكتاب، سواء من المصادر الأصلية أو الثانوية، مفكرون أذكياء لديهم ردود على الاعتراضات البسيطة أو الظاهرة، والعمل على اكتشاف هذه الردود ضمن شروط النص وسياقه، ومن ثم التفاعل معه نقديًا بأفضل صورة ممكنة من حججه(51).

5- العمل مع الديالكتيك

المنهج الجدلي أو الديالكتيك هو أسلوب للكشف عن الحقيقة عبر الحوار، يقوم على تبادل الأفكار للوصول إلى موقف يعكس الحقيقة بأدق صورة. كثيرًا ما يعرض الفلاسفة الآراء البديلة التي قد لا يتبنّونها، سواء لتمثيل المواقف المنافسة أو تقديم انتقادات لحججهم الخاصة، وهو ما يمنح الطالب فرصة استكشاف وجهات نظر متعددة وفهم أعمق للمسائل الفلسفية. عند قراءة نص جدلي، من الضروري تتبّع مسارات الحجج المختلفة بعناية، إذ لا تعكس كل حجة بالضرورة رأي المؤلف النهائي. بعض الآراء تُطرح للرفض لاحقًا أو لإظهار قصورها، وتتبع التبادل الجدلي بين وجهات النظر المتعارضة يصبح أساسيًا لفهم خط الحجة الذي يعتمد عليه الكاتب في نهاية المطاف(52).

6- القراءة المسبقة

قبل الانغماس في التفاصيل، يُنصح بالبدء بالقراءة الاستطلاعية أو المسبقة، وهي خطوة تمهيدية تتيح تكوين صورة شاملة عن النص، وفهم عناصر المقال أو الكتاب أو الفصل، ومعرفة السياق العام. تساعد هذه المرحلة على تنظيم القراءة لاحقًا، وتيسّر استيعاب الأفكار والحجج المعقدة دون فقدان التركيز أو التشوش بين التفاصيل الدقيقة.

7- العنوان والمؤلف والنشر

يُعدّ العنوان واسم المؤلف من العناصر الأولية لفهم طبيعة العمل الفلسفي. من المفيد معرفة تاريخ كتابة النص، والجهة الناشرة—سواء كانت دار نشر أكاديمية متخصصة أو جماهيرية—بالإضافة إلى مكان العمل ضمن مجمل إنتاج المؤلف، وخلفيته الفكرية، وأبرز إسهاماته في الفلسفة(53).

يشكّل العنوان العنصر الأهم في أي مقال علمي، فهو المؤشر الرئيس لموضوعه، ويُستخدم من قبل الباحثين لتحديد مدى صلته بموضوع البحث. كما يسهل العنوان تصفح المصادر في المكتبات، وقوائم الدوريات، والفهارس، وقواعد البيانات، والمراجع المختلفة. إضافة إلى ذلك، يلعب العنوان دورًا تسويقيًا، إذ تتنافس المقالات المنشورة سنويًا في كل تخصص على جذب القراء. لذلك، ينبغي أن يكون العنوان واضحًا، محددًا، ويثير اهتمام القارئ منذ البداية(54).

8- جدول المحتويات والمراجع

ابدأ بتكوين مخطط ذهني للعمل من خلال التمعّن في فهرس المحتويات، الموجود عادةً في مقدمة الكتاب. إذا كان العمل قصيرًا، تصفّح المقالة سريعًا مع التركيز على العناوين الفرعية والفواصل بين الأقسام. عندما تكون العناوين واضحة وموسومة، قد تُتيح لك وحدها تتبّع مجرى المقال من خلال قراءتها فقط. أما إذا كانت العناوين غير مفيدة أو غائبة، فاقرأ الفقرة الأولى والأخيرة بسرعة وحدد الجمل أو الكلمات المفتاحية التي تعكس موضوع كل فقرة، للحصول على تصوّر عام لمسار الحُجّة الكلية في النص.

يُعدّ الاطلاع على جدول المحتويات والفهرس خطوة أولى مهمة لتكوين تصور شامل عن العمل الفلسفي. في الكتب الطويلة، يتيح الفهرس متابعة مجرى الحُجّة من خلال العناوين الفرعية، بينما في الأعمال القصيرة أو المقالات، يمكن قراءة الفقرة الأولى والأخيرة بسرعة لتحديد الكلمات أو الجمل المفتاحية التي تلخّص موضوع كل قسم.(55)

9- القراءة الأولية

تُعدّ القراءة الأولى خطوة تمهيدية أساسية لفهم مجرى الحُجّة العامة في النص الفلسفي، مع ضرورة الاستعداد لعدة قراءات لاحقة للتفاعل النقدي العميق. ينبغي الاستمرار بخطى منظمة، مستفيدًا من المعلومات المستخلصة خلال مرحلة الاطلاع التمهيدي لسدّ الثغرات المعرفية، مع تحديد المواضع التي تتطلب مراجعة أعمق أو تحليلًا إضافيًا.

10- تحديد المطالبات الأولية

أثناء القراءة الأولية، يجب التركيز على تحديد الادعاءات الجوهرية للنص. ففي المقالات الأكاديمية التقليدية، تتضح هذه الادعاءات غالبًا في المقدمة أو الملخّص، بينما في الأعمال الفلسفية التاريخية قد يستلزم الأمر تدقيقًا أكبر. يساهم الانتباه إلى العبارات التمهيدية مثل: "أهدف إلى أن أُبيّن"، أو "ما سيعرضه هذا الفصل هو"، في تسهيل الرجوع إليها لاحقًا وفهم الهدف الرئيس من النص(56).

11- تحديد مصادر الأدلة ومناهج الحجج

ينبغي على القارئ التركيز على الأدلة التي يستند إليها المؤلف لدعم الادعاءات الرئيسة، مع تحديد الأساليب المستخدمة، سواء كانت حججًا منطقية، تجارب فكرية، تحليلًا مفاهيميًا، أو أدلة تجريبية. كما يجدر تتبع الطابع الجدلي للحجج: هل يعرض المؤلف رأيه الشخصي، أم يعرض وجهات نظر منافسة وينتقدها أو يدافع عنها؟ تساعد هذه الملاحظة على فهم بنية الحجة ومسارها.

12- استخدام علامات التعليق

تُعدّ إشارات التعليق أداة فعّالة لتتبع مسار الحُجّة والادعاءات في النص. يوصى بتطوير نظام تدوين بسيط يشمل عناصر مثل: الأطروحة، التعريف، الادعاء، الدليل، الحجة، الحجة المضادة، الاعتراض، الرد، والأسئلة. تساعد هذه العلامات أيضًا على تحديد الكلمات أو الأفكار غير المفهومة، مع مراعاة تعديلها أو مراجعتها خلال القراءات اللاحقة، بما يضمن تعميق الفهم التدريجي للنص(57).

13- القراءة التفاعلية

تُركز القراءة التفاعلية على الانغماس العميق في الأفكار والحجج الفلسفية، مع ممارسة التفكير النقدي والتقييم الواعي للنص، بدل الاكتفاء بالقراءة السطحية أو التلخيص. ينبغي للقارئ أن يسير خطوة بخطوة مع مسار الحُجّة، مع الرجوع إلى الأسئلة والملاحظات التي وُضعت خلال القراءة التمهيدية أو الأولى، ومراجعة المصطلحات والمفاهيم غير الواضحة.

تتيح القراءة البطيئة والواعية الانتقال من القارئ السلبي إلى المحاور النشط للنص، من خلال طرح أسئلة حقيقية مثل: هل الأدلة كافية؟ هل الحجة منطقية؟ هل هناك تعارض مع مفاهيم أخرى؟ وإذا وُجد اعتراض، فيُسجَّل في الهامش لتوضيح موقفك الشخصي. لا يشترط اليقين الكامل بالاعتراض، بل المهم محاولة صياغته بدقة، لما لذلك من أثر على:

1- فهم النص بعمق أكبر.

2- تمييز موقفك الفكري الخاص عن محتوى المؤلف.

3- تطوير القدرة على التحليل والنقد الفلسفي.(58)

بهذه الطريقة، تتحوّل القراءة إلى نشاط فكري نشط يُعدّ القارئ لمناقشة النص وكتابة أفكار فلسفية مُحكمة. القراءة الدقيقة (Close Reading) ليست هدفًا بحد ذاتها، بل وسيلة لدخول حوار فلسفي متكافئ مع المؤلف، بحيث تصبح شريكًا في الفلسفة لا مجرد متلقٍ للمعلومات، مع تعزيز مهارات التفكير المنطقي والنقدي والكتابة الأكاديمية المحكمة.(59)

المحور السادس: ارشادات لدارسى الفلسفة

1- التعامل مع النصوص الفلسفية

تقوم الفلسفة على الأفكار والحجج، والهدف من القراءة هو التفاعل معها للوصول إلى فهم شخصي للقضايا المطروحة. ليست القراءة بالضرورة متسلسلة كسرد الروايات، بل الأهم هو تتبع تسلسل الأفكار والحجج المنطقية. يُستحسن أن يتمكن القارئ من تمييز أساليب بناء الحُجج ومصادر الأدلة، لتقييم النص بفاعلية. وتشمل المراحل الرئيسة للتعامل مع النصوص: القراءة التمهيدية، القراءة الأولى، والقراءة المتعمقة، ما يساعد الطلاب على فهم المحتوى المعقد بطريقة منظمة وفعّالة.

2- الكلمات المفتاحية والمصطلحات الأساسية

تعد المصطلحات الفلسفية والمفاهيم الأساسية أداة أساسية لفهم النصوص وتحليلها، ومن أبرزها:

1- التوازن التكيّفي (Allostasis): العملية البيولوجية التي يُعدّ فيها الجسم نفسه لتلبية الاحتياجات المتوقعة، بما يتجاوز مجرد الحفاظ على حالة استقرار، لتشمل الاستجابة الاستباقية للتغيّرات المحتملة.

2- انحياز التثبيت (Anchoring Bias): ميل الأفراد إلى الاعتماد على قيمة أولية عند تقدير الأمور، بحيث تؤثر هذه القيمة بشكل غير متناسب على الأحكام اللاحقة.

3- اختصار الإتاحة (Availability Heuristic): النزعة إلى تقييم المعلومات الجديدة استنادًا إلى الأمثلة الأحدث أو الأسهل في التذكّر، مما يؤدي إلى تحيّز في الحكم.

4- مغالطة التقليد أو الانقياد للجمهور (Bandwagon Fallacy): الاعتقاد بأن علينا القيام بشيء أو تبنّي معتقد معين لأن عددًا كبيرًا من الناس يفعله أو يؤمن به.

5- التحيز المعرفي (Cognitive Bias): نمط منهجي في التفكير ينحرف عن الحكم العقلاني أو المنطقي استنادًا إلى الحقائق والاحتمالات المتاحة.

6- علم الإدراك (Cognitive Science): الدراسة العلمية للدماغ والآليات الكامنة وراء التفكير والإدراك والذاكرة والعاطفة ووظائف عقلية أخرى.

7- انحياز التأكيد (Confirmation Bias): ميل الأفراد إلى البحث عن المعلومات التي تؤيد معتقداتهم القائمة، وتفسيرها وتذكّرها وتفضيلها على غيرها.

8- الديالكتيك (Dialectic): طريقة لاكتشاف الحقيقة من خلال الحوار وتبادل وجهات النظر المختلفة، بهدف التوصل إلى موقف أقرب إلى الصواب.

9- تأثير دانينج- كروجر (Dunning- Kruger Effect): انحياز إدراكي يجعل الأشخاص قليلي الخبرة يقيّمون معرفتهم أو كفاءتهم بمستوى أعلى من الواقع مقارنة بمن هم أكثر خبرة.

10- التواضع المعرفي (Epistemic Humility): موقف فلسفي أو علمي يعترف بحدود قدرة الإنسان على معرفة الحقيقة أو الواقع بصورة مباشرة أو كاملة.

11- مغالطة المقامر (Gambler’s Fallacy): الاعتقاد الخاطئ بأن الأحداث العشوائية تتأثر ببعضها البعض، كأن يُظنّ أن نتيجة لم تحدث مؤخرًا أصبحت أكثر احتمالًا الآن.

12- الاختصارات الذهنية (Heuristics): قواعد بسيطة أو اختصارات ذهنية تُستخدم لحل المشكلات بكفاءة، وإن لم تكن دائمًا مثالية أو دقيقة.

13- الاتزان الداخلي (Homeostasis): عملية بيولوجية تنظم بها الأجسام حالتها الداخلية للحفاظ على التوازن والاستقرار.

14- الاستدلال (Inference): العملية الذهنية التي يتم فيها الانتقال من مجموعة من المعلومات أو المقدمات إلى استنتاج أو توقع منطقي.

15- ما وراء المعرفة (Metacognition): عملية التفكير في التفكير ذاته، وتشمل الوعي بالعمليات العقلية ومراقبتها وتنظيمها وتحليلها نقديًا.

16- مبدأ حسن الظن (Principle of Charity): مبدأ تأويلي يدعو القارئ إلى فهم أقوال الكاتب بأفضل طريقة ممكنة وأكثرها عقلانية.

17- التمثل العقلي (Representation): وحدة تحمل معلومات تُستخدم في التفكير؛ وهي الموضوعات التي تتناولها العقول حين تمارس التفكير.

18- تقوية الحجة المعارضة (Steelmanning): استراتيجية تقوم على عرض وجهة النظر المعارضة بأقوى صورة ممكنة لجعل الرد عليها أكثر إنصافًا وعمقًا.

19- مغالطة التكاليف الغارقة (Sunk- Cost Fallacy): الخطأ في تقدير قيمة شيء ما على نحو مبالغ فيه لمجرد أن الفرد قد استثمر فيه وقتًا أو جهدًا أو عاطفة مسبقًا.

20- القبلية (Tribalism): ميل الإنسان إلى محاذاة معتقداته ومواقفه مع جماعات تشاركه ممارسات أو أفكارًا أو قِيَمًا معينة.(60)

تساعد هذه المصطلحات الطلاب على تطوير فهم دقيق للنصوص وتحليل منهجي للأفكار المطروحة، مع ربطها بالسياق الفلسفي العام.

3- الممارسات المنهجية لدارسي الفلسفة

يمكن للطلاب تعزيز قدراتهم من خلال ثلاث ممارسات أساسية:

1- فكّر كفيلسوف: تنمية مهارات التفكير النقدي والتفاعل مع المفاهيم المركزية في الجدل الفلسفي، باستخدام تمارين تفاعلية أو إرشادات مكتوبة.

2- اكتب كفيلسوف: صياغة ردود مكتوبة وحجج مستندة إلى التفكير الشخصي، مع الالتزام بالهيكل المنطقي والوضوح في العرض.

3- اقرأ كفيلسوف: التفاعل العميق مع نصوص فلسفية أصلية، مع التركيز على العناصر الجوهرية وطرح الأسئلة النقدية لدعم الفهم التحليلي والتأمل الفلسفي.(61)

بهذه المنهجية، يصبح الطالب قادرًا على تطوير نفسه قارئًا وكاتبًا وباحثًا ومفكرًا متعمقًا، قادرًا على تقييم الأفكار الفلسفية وتحليلها بوعي نقدي ومنهجي.

الخاتمة

إن إدراج الفلسفة في العملية التعليمية ليس مجرد خيار أكاديمي، بل ضرورة تربوية تهدف إلى إعداد جيل قادر على التفكير النقدي واتخاذ القرارات الواعية والمشاركة الفاعلة في المجتمع. سواء من خلال تعليم الفلسفة للأطفال، أو دمجها في المناهج الدراسية، أو تطوير استراتيجيات فعّالة لفهم النصوص الفلسفية، فإن الفلسفة تمنح الطلاب أدوات معرفية وعقلية أساسية لمواجهة تحديات العصر. ومن خلال اتباع الإرشادات الممنهجة لدارسي الفلسفة، يمكن تحويل القراءة والتفاعل مع النصوص الفلسفية إلى ممارسة تنمي قدرات التحليل، والفهم، والتأمل، بما يسهم في بناء مفكرين مستقلين، ومواطنين واعين، وقادرين على المساهمة بشكل إيجابي في حياتهم التعليمية والاجتماعية.

وهكذا يتضح أن دراسة الفلسفة تمثل ركيزة أساسية في العملية التعليمية، لما توفره من أدوات فكرية وأخلاقية تنمي قدرات الطلاب على التفكير النقدي والتحليلي، وتمكنهم من مواجهة التحديات واتخاذ قرارات مدروسة. كما تسهم الفلسفة في توسيع آفاق المعرفة والوعي الاجتماعي، وتعزيز مهارات الإبداع والتأمل الشخصي، بالإضافة إلى تعليم الطلاب فن الحوار والتواصل الفعّال. ومن خلال ممارسة القراءة النقدية، والبحث المستقل، والتفاعل المنهجي مع الأفكار، يكتسب الطلاب القدرة على التعلم الذاتي المستمر، بينما يغرسون قيمًا أخلاقية وفكرية تؤهلهم للانخراط المسؤول والفعّال في المجتمع. وللمدرسين دور محوري في توجيه هذه الخبرات، إذ يمكنهم تحويل الفلسفة من مادة نظرية إلى أداة عملية لتشكيل جيل واعٍ، قادر على التفكير المستقل، والتحليل العميق، والمساهمة الفاعلة في بناء مجتمع معرفي متوازن وعقلاني.

وعليه تكمن أهمية الفلسفة للطلاب فى النقاط التالية:

1- تنمية التفكير النقدي والتحليلي: تساعد الفلسفة الطلاب على تقييم الأفكار والمعلومات بموضوعية، وتمكينهم من التمييز بين الحجج الصحيحة والناقصة.

2- تعزيز مهارات حل المشكلات واتخاذ القرار: من خلال دراسة المفاهيم الفلسفية، يصبح الطالب أكثر قدرة على مواجهة التحديات اليومية واتخاذ قرارات مدروسة.

3- توسيع آفاق المعرفة والوعي الاجتماعي: تربط الفلسفة بين المعرفة النظرية والقضايا الحياتية، فتسهم في بناء وعي متكامل لدى الطلاب تجاه المجتمع والعالم.

4- تحفيز الإبداع والتأمل الشخصي: تشجع الفلسفة الطلاب على استكشاف أفكار جديدة، والتفكير في المعنى والغاية من حياتهم وتجاربهم.

***

دكتور ابراهيم طلبه سلكها – أستاذ فلسفة

2025

....................

الهوامش

1- ROBERT FISHER: Philosophy for Children, fostering communities of philosophical enquiry and reflection in primary and secondary schools, A thesis submitted to Brunel University for the degree of Doctor of Philosophy (Published Work) in the School of Education, Brunel University, January 1996, p.39.

2- Oleksandr Kulyk: On the Possibility to Teach Doing Philosophy, ASIANetwork Exchange: A Journal for Asian Studies in the Liberal Arts, December 2018, p.4.

3- Ibid, pp.8- 9.

4- Loc- Cit.

5- Nicola Michaud: Why Philosophy is Important for Administrators in Education, Journal of Inquiry & Action in Education, 6(3), 2015, p.74.

6- Loc- Cit.

7- Ibid, p.75.

8- Nel Noddings: Philosophy of Education, Routledge, New York & London, 2018, p.99.

9- Nicolas Michaud, Op- Cit, p.75.

10- ROBERT FISHER, Op- Cit, p.39.

11- Nicolas Michaud, Op- Cit, p.75.

12- Ibid, p.76.

13- Ibid, pp.76- 77.

14- Ibid, p.77.

15- Ibid, p.78.

16- Ibid, p.79.

17- Ibid, p.81.

18- Huynh Thi Phuong Thuy: John Locke's Educational Ideology with Educational Innovation in Vietnam Today, Van Lang University, 2020, p.381.

19- Ibid, p.382.

20- Nicolas Michaud, Op- Cit, p.81.

21- Huynh Thi Phuong Thuy, Op- Cit, p.383.

22- Nicolas Michaud, Op- Cit, p.81.

23- Katarzyna Wrońska: John Locke and His Educational Thought Between Tradition and Modernity of Enlightenment, Pedagogika Filozoficzna on- line, 2018, p.73.

24- Ibid, p.77.

25- ROBERT FISHER, Op- Cit, pp.39- 40.

26- Ibid, p.40.

27- ROBERT FISHER, Op- Cit, pp.40- 41.

28- Ibid, p.41.

29- Ibid, p.42.

30- Loc- Cit.

31- Ibid, p.43.

32- Loc- Cit.

33- Ibid, pp.43- 44.

34- Ibid, pp.50- 51.

35- Why philosophy? Why now?, Philosophy Learning and Teaching Organization, http://plato.philosophy.org.

36- Loc- Cit.

37- Loc- Cit.

38- Loc- Cit.

39- ROBERT FISHER, Op- Cit, p.79.

40- Why philosophy? Why now?, Philosophy Learning and Teaching Organization, http://plato.philosophy.org.

41- Loc- Cit.

42- Loc- Cit.

43- Loc- Cit.

44- SWAMI KRISHNANANDA: The Philosophy of Life, The Divine Life Society, P.O. Shivanandanagar, India, pp.513- 514.

45- NATHAN SMITH: Introduction to Philosophy, OpenStax, Rice University, 2022, p.60.

46- Ibid, p.61.

47- FRANK SMITH: Understanding Reading, A Psycholinguistic Analysis of Reading and Learning to Read, Lawrence Erlbaum Associates, Publishers, Mahwah, New Jersey & London, 2004, p.1.

48- Ibid, pp.2- 5.

49- NATHAN SMITH, Op- Cit, p.61.

50- Ibid, pp.61- 62.

51- Ibid, p.62.

52- Ibid, pp.62- 63.

53- Ibid, p.63.

54- Jamali, H. R., and M. Nikzad: “Article Title Type and Its Relation with the Number of Downloads and Citations.” Scientometrics, vol.88, no.2, 2011, Springer, https://doi.org/10.1007/s11192- 011- 0412- z, p.653.

55- NATHAN SMITH, Op- Cit, p.63.

56- Ibid, pp.63- 64.

57- Ibid, p.64.

58- Loc- Cit.

59- Loc- Cit.

60- NATHAN SMITH, Op- Cit, pp.71- 72.

61- Ibid, p.2.

الفكر والحركة: الفكر هو حركة الجسم حسب تعبير هوبز بمعنى أن الفكر هو حركة تغيير مستمر من ألصيرورة والانتقالات المتطورة ضمن مدرك قانون قالبي الزمان والمكان العقليين التي لا تستنفد فيها حركة الفكر طاقتها المتغيرة التوليدية الذكية بسهولة ما دام الفكر ملازما الانسان في كل لحظة من حياته.

والفكر هو بشكل وآخر وعي قصدي ناتج عن توليد العقل له في تعبيره اللغوي عن موجود معيّن كموضوع حسي او خيالي. وخاصية العقل هي اللغة ذات المعنى في أدراك الموجودات والاشياء في العالم الخارجي، وخاصية تفكير العقل الجوّاني الصامت المستمد من مخيلة الذاكرة هوايضا لغة صورية هي ذاتها اللغة الصورية في تعبير العقل الحسّي عن الموجودات في الطبيعة وعالم الاشياء والمحيط، والصمت لغة تأمل العقل لمواضيعه الداخلية المستمدة من الخيال تفكيرا صوريا. عليه تكون جميع ادراكات العقل الحسية والخيالية لا تتم عقليا بغير تمّثلات العقل لها صوريا لغويا. ادراك الوجود لغة جسب مقولة سيلارز.

واللغة بلا موضوع لا معنى لها وأستحالة عقلية تلغي ذكاء الانسان في الوعي القصدي المنظّم لادراك الاشياء، ولا يمكن للعقل التعبير تجريدا لغويا بمعزل عن موضوع يدركه. اللغة بمفهومها المتداول في التعبير عن المدركات العقلية هي لغة صورية واحدة تقوم على أبجدية الحروف والمقاطع وأصواتها ومن ثم تليها الكلمة وتليها الجملة كألفاظ عن مدلولات بغية توصيل المعنى المطلوب عن مواضيع الادراك الخارجية ومواضيع الادراك المستحدثة من خيال الذاكرة على السواء.الادراك العقلي لأي شيء في الطبيعة أوفي الخيال لا يمكن التفكير والوعي العقلي به من غيرتمّثّلات اللغة له تجريدا صوريا.

وما لا يدركه العقل لا يمتلك لغة الافصاح عنه كموجود أو كموضوع. ولا يعني هذا مجاراة الخطأ المثالي المعروف لدى بعض الفلاسفة ما لا يدرك عقليا غير موجود.. فوجود الشيء في العالم الخارجي مستقل عن أدراكه الحسي والتعبير اللغوي عنه. وجود الشيء لا يتلازم مع ضرورة أدراكه في التعبير عنه لغويا. كما أن ادراك الشيء لا يعني معرفته فالادراك هو الوعي بالشيء الذي يمّثل اولى درجات معرفة ذلك الشيء.. ومعرفة الشيء تماما هو سلسلة مترابطة من الادراكات المتتالية.

وحين يكون الفكر ملازما لحركة الجسم حسب هوبز فهو يعنى بالانسان في حركته الدائبة المستمرة غير الثابتة ولا المستقرة بمكان وزمان معينين لذا يكون الفكر المعبّر عن هذه الحركة والانتقالات لا يستنفد طاقته بثبات زائف كخطاب ينهي تأويل ملاحقة المعنى اللغوي بالاضافة المستمرة له ومعرفة الشيء.. الفكر حيويته الحركية في مواكبته التغيرات الحاصلة في حركة الانسان التي هي السلوك الطبيعي تجاه ما يصادفه بالحياة من مواقف وأمور تتطلب أعمال العقل بها ومعالجتها واتخاذ الموقف اللازم بشأنها. والفكر حركة لغوية متغيرة ملازمة للسلوك الفردي والسيسيولوجي .

فتعبير اللغة الخالي من المعنى لا يكون ناتجا عن مدرك عقلي لموجود في عالم الاشياء ولا عن موضوع مدرك في عالم الخيال، فالموضوع يلزم عنه لغة التعبير عن تعيينه الانطولوجي والافصاح التام عنه وعن معناه والا كان لا موضوعا مدركا عقليا. وتكون اللغة أيضا في غياب موضوعها لا معنى ولا قيمة لها لا بل غير موجودة أصلا في عطالة وعي العقل للاشياء.. واللغة التي هي توليد عقلي مقصود لا يمكنها التعبير عن لا شيء غير محدد فيزيائيا أو غيرمحدد خياليا كموضوع. فاللغة التمّثلية التعبيرية هي وعي ادراكي قصدي عقلي بموضوع سواء أكان موضوعه خارجيا في عالم الاشياء أم داخليا بخصوص الاحساسات التي مصدرها عمل أجهزة الجسم ويسمى هذا النوع من الادراك الوعي الاستبطاني الجوّاني.

واللغة لاتعّبر عن الفكر تجريديا من فراغ بلا موضوع يدركه الوعي القصدي للعقل.. وهنا تنتفي حاجة اللغة أن تكون وسيلة عقلية في الاستدلال المعرفي في غياب موضوع العقل المدرك لتصبح اللغة الفاظا صوتية لا معنى فكري أفصاحي ينتظمها ولا تكون لها قيمة تواصلية من أي نوع من وسائط التواصل.اللغة فعالية متفردة نوعيا يمارسها الانسان بذكاء قصدي بالحياة..

أن شرط أمتلاك العقل تفكيره السليم الذكي التوليدي هو في أمتلاكه ملكة اللغة وخاصية أستعمالها في التعبير القصدي عن شيء وألا كان تفكير العقل لامعنى له أو معدوما أصلا، واللغة لا تمتلك تعبيرها كاملا في التعبير عن الشيء كون الفكر واللغة المرتبطان بالحركة والوعي القصدي يكونان محكومين بالتغيير والسيرورة المستمرة ويكون الفكر تابعا للحركة وليس خالقا لها.. وفي هذه الخاصية الديناميكية في تحولات وانتقالات الفكر واللغة تصبح أهمية التأويل المعّبر عنه لغويا مطلوبا على الدوام من أجل معرفته الموضوع المعّبر عنه جيدا والوقوف على معناه اللغوي تماما.كما تكون الحركة سابقة على الفكر المعّبر عنها ووجود الشيء سابق لكليهما معا الحركة والفكر..

بحسب امبرتو ايكو الشيء الصحيح هو ما لا يمكننا شرحه. ويقصد به الشيء الصحيح الذي لا يمكننا شرحه هو الشيء الذي يكتسب مشروع تأويله المستمر ويتقبّل القراءات المتعددة ولا يتوقف معناه في تعبير لغوي مقفل مستنفد طاقة الفضاء المفتوح الفائض عن محتوى لغة التعبير عن الشيء دوما، ولا يقصد بالصحيح الذي لا أمكانية لشرحه وتوضيحه أنه الذي قد أمتلك ناصية الصحيح المطلق الناجز في أستنفاده فائض المعنى القيمية التي يدّخرها الشيء الصحيح في لغة التعبيراللغوي عنه دوما.

نستثني من هذا التعميم في حال أن يكون الشيء الصحيح الذي لا يقبل التفسير حسب عبارة ايكو هو البديهي الثابت في معرفته الادراكية عن الاشياء والمواضيع التي لا يحتاج معها تأويلا فائضا عليها.. كما هو الحال في القوانين الطبيعية العلمية التي تحكم الحياة والانسان كالجاذبية مثلا.أو فيما يعرف بالكلمات والتعابير الشيئية التي تكون اللفظة اللغوية فيها مغلقة بالاشارة لشيء اكتسب الصفة التامة في ادراكه التي لا يحتاج بعدها لتوضيح في تطابق اللفظة معه كشيء وموجود حسي ماثل. والصحيح الذي لا يقبل الشرح هي البديهيات المعرفية العقلية فقط.

فالصحيح بداهة يكون قد أكتسب صفة التسليم المطلق به في تعبير اللغة عنه أو تعبير علامات المعادلات الرياضية العلمية والمسلمات المختبرية العلمية ومطابقتها الموجودية للادراك العقلي والابستمولوجي للشيء الصحيح الذي يكون نسبيا حتى في مجال العلم وأكثر منه في مجال المعرفة عامة ..

ولا يكون الشيء مكتسبا حقيقته الصادقة في تعبير اللغة عنه لمرة اولى واحدة في خطاب أو نص لغوي لا يحتاج بعدها تفسيرا ، فاللغة تبقى دائما تأويل مؤجل لقراءات لاحقة متتالية متعاقبة.. اللغة هي الادراك المتطور بأستمرار في التعبير عن الحياة بمجملها صغيرها وكبيرها معا. بمعنى اللغة هي ظاهرة جوهرية في فهمنا الوجود والحياة ولا حدود نهائية تقف عندها تحكمها.فتوليد اللغة للافكار يكون في انفتاحها على فضاءات واسعة من الانتقالات والتحولات والتاويلات التي لا حصر لها ولا يمكن الالمام التام بها فهي سيرورة متغيرة من جهة ومعقدة على التحليل من جهة أخرى.

وفي هذا المعنى تبقى اللغة مشروع تأويل تعددي مفتوح النهايات ولا يكتسب الشيء صوابه في عجز اللغة تفسيره وتوضيحه من المرة الاولى في تعبيرها القاصر عنه. اللغة قدرة وملكة تأويلية لا تسنفد طاقتها في أقفالها المعنى على موضوع أكتسب صدقيته القطعية اليقينية الثابتة التي لم تعد بحاجة لتوضيح وتفسير لاحق يتعذّر القيام به بل اللغة في سعيها القرائي تحقيق المعنى دوما أنما تكون فضاءا تأويليا لا يتوقف بحدود معينة من التعددية والاختلاف.

هذا المعنى نجده في الفكر الهرمسي (أن اللغة بقدر ما تكون غامضة متعددة بقدر ما تكون غنية بالرموز والاستعارات وهو ما يجعلها قادرة على تعيين الله الذي يحتضن بداخله كل المتناقضات ومع ذلك فما يشكل أحتفاءا بتطابق المتناقضات هو ما يؤدي الى أنهيار مبدأ الهوية حين يكون كل شيء مرتبط بغيره)1.

هنا في التعبير الهرمسي الثيولوجي الاسطوري الديني المزدوج عن مفهوم التناقض أن الله يحتضن التضادات بداخله ولا يفتقد هويته الكلية في ضمّه تلك المتناقضات وجعلها من خصائصه الهوياتية ولا يحتاج محاولة معرفة هذه التناقضات بالاحالة على لاحق يليها ولا على سابق يتقدمها فليس غير (الله) من أحالة مرجعية تليه هي وجوده اللامتناهي وهذا فهم ديني ميتافيزيقي يصطدم باستحالة تعميمه ماديا على شؤون الحياة والوجود الانساني فالحياة لا تقوم على مفردة اللاهوت الديني فقط..

عندما تكون المتناقضات التي نعيشها بالحياة هي تهديد مباشر في أنهيار هوية كل شيء بالأحالة اللغوية التأويلية المستمرة على لاحق غيرها يليها.هوية الخالق أو الله هي جملة مواصفات وقدرات ذاتية ليست مكتسبة ولا هي متغيرة غير ثابتة، أما مفهوم الهوية في الحياة والتاريخ فهي بنية تكوينية مستمرة دائمة التغيير البنائي تقبل الاضافة المتجددة لها..

اللغة والهوية

ونعود الى مركزية موضوعنا في تعالق فضاء اللغة اللامحدود بفضاء التاويل اللاحق عليه غير المحدود هوايضا. فالموضوع الذي يعجز التعبير اللغوي عنه ومعرفته هو الموضوع الذي يحمل معه فائض المعنى الذي لا تحيط به لغة التعبير تماما كاملا لا في المعنى ولا في المعرفة به. وفائض المعنى المدّخر هو تأويل لغوي أضافي مصدره قادم في تعدد القراءات له.. وصدقية وصواب الشيء المعبر عنه لا يقعده الثبات في تعطيل معطياته المختزنة داخل معانيه المتعددة التي لم يطالها التأويل التعاقبي بعد.. فالتاويل أضافة نوعية متجددة في ملاحقة المعنى غير المعلن غير المفصح عنه لغويا.. والفكر لا تحده الهوية لأن الهوية تشكيل بنائي متطورمتغير على الدوام يواكبه الفكر عبر الانتقالات والحركة والتغيير والسيرورة الدائمة له كما لا يحد الفكر منتهى المعنى الذي تدّخره اللغة.

ويبقى الصحيح العصّي على التفسير كونه سيرورة مطردة من التغيير التكويني له.. القراءات المتعددة في لغة التعبير عن النص أو الاشياء هي تأويل لقصدية ملاحقة فائض المعنى.. ونجد تعبير امبرتو ايكو يقارب هذا قوله (البحث عن عمق تاويلي يشكل وحدة كليّة تنتهي اليها كل الدلالات سيظل حلما جميلا من أجله ستستمر مغامرة التاويل حتى وأن كان الوصول الى هذه الوحدة مستحيلا)2.

التأويل في حفريات النص يؤكد ما ذهب له امبرتو ايكو من منطلق أستحالة أن يحمل النص أو الخطاب هوية دلالية ثابتة مغلقة لا تتقبل قراءات الرؤى الجديدة، بل يحمل أنحلالات تفكيكية تاويلية أضافية متشظية لا يبقى معها لهوية النص معنى ولا وجود .. الهوية بالمنظور التاويلي لها هي لغة محايدة لا تنهي تعدد القراءات، ولا يمكن أن يكون الفهم الاجتزائي تعويضا عن مدّخرات النص لفائض المعنى اللامحدود. وعدم قدرة الوصول الى الحلم الجميل في تحقيق عمق التاويل في وحدة كلية تنتهي بها ومعها كل الدلالات..

النص والتاويل

النص اللغوي أو الخطاب هو مشترك أستقبالي متعدد في لغة مفتوحة يعبّرعنها التاويل اللغوي الذي يكون فعالية تراكمية في المعنى لا محدودة النهايات فهو يمنح المعنى للنص ولا يأخذه منه بل يكتسبه منه ويعيده ثانية اليه وحسب تعبير تودوروف (المؤلف يضع الكلمات ليأتي القراء بعده بالمعنى) وبعبارة كارل بوبر (التاويل لا يستند الى أي معيار من معايير العامة). فالتاويل فعالية لغوية ذاتية لا تضع امامها محددات العالم المعيش بل تضع سعيها الوصول الى الحلم الجميل في صنع عالم خاص يقوم على تاويل التفكيك كنظام لغوي بلا نهاية حتى وأن كان الحلم مستحيلا تحققه حسب امبرتو ايكو وتكفي عندها لذة المغامرة. التاويل اللغوي فعالية انفرادية وما هو ذاتي لا يصح تعميمه على حساب تغييب التعدد والاختلاف في التلقي وفهم المعنى الذي يقوم أساسا في البحث المفتوح على التجديد والاضافة اللغوية للمعنى المطلوب.. .وبضوء عبارتي بوبر وامبرتو نفهم تاويل النص هو عملية تشّظي متتالي للفكرواللغة في ملاحقة المعنى والتحرر من الشد المرجعي الذي يعيق التفكيك المتتالي ولا تدورتشظية التفكيك بفلك مركزية مرجعية ميتافيزيقية ثابتة مثل العقل المصنّع المنتج التوليدي للغة لذا يصبح النص متحررا من الهوية المائزة في تأكيده حضور التعددية والتناقضات والدلالات المتعالية التي يختزنها دوما فيه. التعددية والاختلاف والتشظي وفقدان الهوية كلها دلالات لا تستجمعها كليّة التاويل المركزية التي توقف طاقة التاويل اللامحدودة في دينامية تعدد قراءات ملاحقة فائض المعنى بالنص.. وخلاصة ذلك حسب تعبير امبرتو ايكو (التاويل غير محدود في محاولة الوصول الى دلالة نهائية ومنيعة مما يؤدي به فتح متاهات وانزلاقات دلالية لا حصر لها)3.

معنى الخطاب على الصعيد التاريخي وليس على صعيد التاويل الفلسفي للنص هي سيرورة من التشكيل البنائي المفتوح على المستقبل وليست ميزة تكتسب صفاتها من قراءتها في ماضيها وحاضرها ولا يطالها المستقبل بالتغييرالبنائي المتجدد، بل أن الهوية الفاعلة هي تشكيل لا يخرج عن أهمية المستقبل له وحاجته الماسّة في أن يكون هوية في المستقبل وليس هوية متحفية في الماضي تعيش ماضيها خارج أفق مستقبلها..

ما ينبغي التركيز في معرفته هو أن الهوية تراكم معرفي ثقافي حضاري بنائي متجدد على الدوام وعلى صعيد النص والخطاب المؤول فلسفيا ايضا، فالهوية ليست بطاقة شخصية يحملها النص كما هي البطاقة الشخصية التي يعرّف الفرد نفسه بها ويحملها على الدوام معه كوثيقة لا تتقبل التبديل ولا التغييرولا الاضافة.

هوية النص تأويل دائم متغير ومتشظي على الدوام لذا يكون تاويل كل نص او خطاب لا يقي من الانزلاقات التحذيرية والمتاهات التي لا حصر لها التي هي تحصيل حاصل النواتج العرضية التي يتمخض عنها التاويل القصدي الهادف في البحث عن المعنى من دون السعي نحو تلك النواتج العرضية غير المقبولة.

اذا ما فهمنا عملية التاويل اللغوي طاقة لا محدودة من التعدد والاختلاف والحركة والتجديد الفكري البعيد عن التوقف والثبات في مرحلة معينة. فالتاويل لا يحمل أي نوع من الدوغمائية أو اليقينية التي تعجز لغة التاويل عن الاضافة التجديدية لها.والتاويل على صعيد التفكيك لا يصنع ولا يقيم هويات خاصة ثابتة بل يعمد تفكيكها وهدمها على الدوام في محاولة بنائها..

اللغة والعقل

العقل نوس nous عند افلاطون هو الملكة الموّلدة للافكار، وعند ارسطو العقل هو الذي يمكننا من التعرف على جواهر الاشياء. (وعلى النقيض من ذلك سيكون النوس – العقل في القرن الثاني الميلادي ملكة للحدس الصوفي والاشراق اللاعقلاني، وسيصبح ملكة للرؤية المباشرة ولا يعود الكلام والنقاش والحجاج من الامور الضرورية )4.

لم يكن افلاطون مجانبا الصواب في أعتباره العقل جوهرا منفصلا عن الجسد موّلدا ذكيّا للافكار فهذه النظرة العلمية الفلسفية الثاقبة لا تزال صحتها قائمة الى اليوم. باختلاف أن العقل اللافيزيائي هو الذي يحتوي الجسم الفيزيائي ويقيم وصايته عليه. فالعقل هو ملكة اللغة في التعبير عن مدركاته للاشياء في العالم الخارجي. كذلك لم يكن ارسطو مخطئا ايضا في تعبيره أن العقل وسيلة معرفتنا جواهر الاشياء، على اعتبار العقل عند ارسطو لا يكتفي بمعرفة الصفات دونما الجوهر في عملية استبطانية كانت مثار جدل في ذهاب بعض الفلاسفة بدءا من كانط عدم امكانية العقل المجرد معرفة الجوهر.. والفرق بين الاثنين افلاطون وارسطو معروف أن ارسطو حاول انتشال أفكار افلاطون من النزعة المثالية المتعالية في عالم المثل في السماء، وسحبه الفكر الفلسفي الى واقع حياة الانسان والوجود الارضي. وواقعية ارسطو في انزال الفلسفة من تجريد ميتافيزيقا السماء الى وجودها الارضي في مركزية الوجود والانسان المتعالق مع الطبيعة..

ونقيض هذين المنهجين الفلسفيين نجده في عبارة امبرتو ايكو السابقة في تعبيره عن الصوفية أعتمادهم العقل وسيلة أكتشاف وأستبطان كل ما هو غير مدرك ماديا لذا يكون تعبير العقل ليس وسيلة اللغة بل وسيلة تصميت اللغة وتخريسها في تعطيلها عن الكلام والحجاج الذي لا مجال أن يكون موضوعا ملحقا في تعبير اللغة عن التجربة الصوفية بدلا من صمت التعبير اللغوي في تعطيل العقل الحسّي خارج الزمان والمكان الذي يحدّهما الادراك الطبيعي ولا يعملان في مجال التجربة الصوفية.. فالزمان والمكان قانون الطبيعة الذي يحكم الاشياء التي يدركها العقل حسيا أما في التجربة الصوفية فالزمان والمكان في الادراك العقلي التصوفي معّطلان وتغييبهما خرق فاضح وتقويض للقوانين التي تحكم الطبيعة علميا.

أن مستويات التفكير العقلي في عبارة امبرتو ايكو التي اشرنا لها لا يتحدد بوظيفة تعبير اللغة في بعد ومجال واحد في معرفة العالم والاشياء ودواخل النفس فوعي العقل قصدي وغير محدود مفتوح في تعدد مناهج البحث عن حقائق الاشياء ومعرفة الموجودات واللغة أحدى تلك الوسائل المنهجية التي يكون تعطيلها متعمدا مقصودا في أستبعادها كما في مثال تعطيلها العمد نقل التجربة الصوفية..

ماهية العقل

يعرّف ديكارت العقل بأنه (جوهر) منفصل عن الجسم ماهيته التفكير وهو تعريف يتماهى مع افلاطون تعريفه العقل جوهر ماهيته ملكة فطرية ذكيّة في توليده الافكار وجوهر منفصل عن الجسم كجوهر فيزيائي مادي ايضا. والعقل لدى أغلب الفلاسفة هو جوهر لامادي وغير فيزيائي لا يمتلك معايير تحديده الانطولوجية في تبيان خصائصه المادية الفيزيائية، ويكون العقل جوهرا ماديا بالفكرالمنتج عنه وليس ماديا بالمفهوم الفلسفي المنفصل عن الجسم. وربط بعض الفلاسفة العقل بالنفس لأسباغ صفة خلود العقل كما خلود النفس بخلاف ربطهم العقل بفناء الجسم ومماته، كون العقل جوهرا غير فيزيائي لا يطاله العدم بما يناقض فيزيائية الجسم الفانية التي يحكمها العدم.وهو تفكير ميتافيزيقي يحتاج ادلة وبراهين صحة صوابه والاخذ به..

أما فلاسفة العقل المحدثين لعل أبرزهم جلبرت رايل (1900 – 1976) الفيلسوف الانكليزي فهو يعتبر العقل لاشيء على الاطلاق يتعدى وظيفته أن يكون العقل أستعدادا أوليا للسلوك القصدي.. ويحاول بعض الفلاسفة الاخرين المعاصرين ربط الذكاء الاصطناعي بالعقل من منطلق السعي لمنح الكومبيوتر ذكاءا اصطناعيا ذاتيا توليديا يجاري خاصية العقل الانساني في الذكاء التوليدي الذاتي للافكار.. ولكن تبقى العقبة الكبيرة أمامهم أن العقل جوهر توليدي ذكي ذاتيا لا تستطيع الآلة أمتلاكه، وأبرز خاصّية يمتلكها العقل في الذكاء التوليدي هو اللغة التي يعجز عنها الذكاء الاصطناعي توليدها بالذكاء الذي لا تمتلكه ويمتلكه الانسان فقط..

ويبقى الاختلاف أن العقل الانساني جوهر لا مادي ولا فيزيائي تصعب السيطرة عليه أصطناعيا من قبل العقل نفسه في تصنيعه العقل الاصطناعي للآلة، والعقل جوهرذكي مستقل ميزته الاولى توليده أفكار اللغة على خلاف كل من الجسم والآلة اللذين يفتقدان هذه الميزة ويكونان بالنتيجة لا جوهرين ذكيين يجاريان العقل الطبيعي غير الفيزيائي، بمختصر العبارة العقل هو مجموع توزّعات الذكاء القصدي في السلوك الانساني والحياة.

أسبقية الفكر على اللغة؟

أذا أخذنا في نفس السياق ارتباط العقل بالفكر واللغة مقولة فينجشتين ودي سوسير وغالبية علماء وفلاسفة اللغة أجماعهم (اللغة هي الفكر) فيكون معنا أدراك العقل للوجود والاشياء هي أسبق على أدراك العقل للفكرمن حيث أن الفكر نتاج العقل وتوليده، العقل المجرد عن ملكة التفكير بوسيلة اللغة وحده عاجز عن تحقيق وجود الاشياء ماديا بغير وسيلة تعبير أشاري رمزي أو لغوي مفهوم تداوليا، فمثلا عقل المجنون يفتقد وعي وجود الاشياء التي أمامه لأنه عاجز عن التعبير لغويا عنها بعد عجزه عن أدراكها أدراكا عقليا منظمّا أولا. من حيث أن الفكرالسليم هو أنعكاس تجريدي وصوري لغوي منظّم في فهم الواقع والوجود.

والعقل يسبق الفكر واللغة في أدراكه للشيء بهما. العقل هو الذاكرة الفاعلة ومستودع الافكار ومكمن أنطلاقها، لذا فأن أدراك العقل للوجود والاشياء يسبق أدراك العقل للافكار أو اللغة المتعالقة بالتبعية التراتبية بالتعبير عن وجود الاشياء.

والادراك اللغوي مستمد من علائقية أدراك وفهم العقل للاشياء.وهذا الادراك يكون قاصرا وظيفيا ما لم تسعفه اللغة كنسق منظّم في تبيان خواص وتمظهرات الاشياء والموجودات المدركة عقليا وكذلك وجود الانسان في الطبيعة ومحددات كينونته وجوهره.

أنه لمن المهم التذكير أن الوجود المادي للاشياء نوعان، الاول موضوعات العالم الحسي الخارجية، والثاني موضوعات الفهم الوجداني الخيالي الاستبطانية التي لا تدرك حسيّا مثل الاحساسات الداخلية الناتجة عن تكوينات اجهزة الجسم الحيوية التي ينتج عنها غرائز الشعور بالالم، الجوع ، العطش، الحاجة للجنس الخ من غرائز بايولوجية فطرية مصدرها اجهزة الحياة في جسم الانسان داخليا وهذه غيرها المحسوسات التي يكون مصدر ادراكها العقلي خارجيا عن الاشياء والموجودات في الطبيعة المنقولة عبر الحواس..

العقل والاشياء:

أدراك العقل للوجود والاشياء أدراك ناقص ولا فاعلية له من دون مدركات اللغة التعبيرية الافصاحية عنه كموضوع. الوجود يتم أدراكه عقليا عن طريق الحواس كموضوعات مستقلة فقط قبل أدراك اللغة لها، الموجودات من غير أدراكها لغويا وجود مكتف بذاته يفتقد الحيوية والفاعلية والتأثير،والوجود لا يدرك مباشرة كونه مفهوم مجرد بخلاف محتوياته وتكويناته من الموجودات المادية. اللغة كشف أدراكي عقلي للاشياء والموجودات،والوجود الواقعي لا ندركه أدراكا واعيا حقيقيا في تجريدنا أدراك اللغة له، ومن غير الادراك العقلي وتزامن الادراك اللغوي معه تصبح معرفتنا للوجود قاصرة غير منتجة ولا صحيحة ايضا. وتعجز أية فكرة مدركة عقليا،أن يكون أدراكها مثمرا تواصليا منتجا من غير أدراك اللغة لها تداوليا تواصليا، والفكرة التي لا تستوعبها اللغة بأرقى درجات التعبير التواصلي تبقى ناقصة ومشوّهة كفكرة أدركها العقل ولا يستطيع البوح بها ومقيّدة لا تستطيع التعبير عن نفسها وسط وجود الاشياء.العقل بلا لغة تفكير جوّاني أعزل، واللغة من غير وصاية تفكير العقل عليها لا يمكنها التعبير عن نفسها، فاللغة بلا موضوع لا قيمة لها.. والعقل من دون تعبير اللغة يبقى تفكيرا صامتا لا نستطيع فهمه فهو غير مدرك الا من صاحبه فقط..

أن أهمية أدراك الشيء والتواصل به ومن خلاله ومعرفته لغويا، هو أكبر من أهميته كمدرك عقلاني (موضوع) مكتف بذاته خارج فاعلية وأهمية اللغة له، اللغة بعد العقل هي المتعيّن الوجودي لجميع الافكار في أن تكون تداولية تواصلية ذات حيوية وأثراء نافع للحياة،والوجود من غير وسيط اللغة كتعبير دلالي لا روح ولا حيوية فيه.

***

علي محمد اليوسف

.........................

الهوامش

1.امبرتو ايكو / التاويل بين السيميائيات والتفكيكية /ت:سعيد بنكراد ص 18

2. المصدر نفسه ص 15

3.المصدر نفسه ص 18

4. المصدر نفسه ص 19

 

صولون (حوالي 638-558 ق.م) هو فيلسوف، وسياسي، وشاعر يوناني قديم، يُعدّ من أبرز الشخصيات في تاريخ أثينا. يُعرف بأنه أول مشرّع (واضع قوانين) يوناني ساهم بشكل كبير في تطوير نظام الحكم الديمقراطي. وُلِد صولون في أثينا لعائلة نبيلة، في فترة كانت المدينة تعاني من توترات اجتماعية واقتصادية.

قبل أن يصبح سياسيًا، سافر إلى العديد من البلدان، بما في ذلك مصر، حيث اكتسب معرفة واسعة في الفلسفة والعلوم. في عام 594 ق.م، انتُخِب حاكمًا (أرشيونًا)، فأطلق سلسلة من الإصلاحات التي هدفت إلى معالجة اللامساواة الاجتماعية. يُعد صولون أحد أبرز الشخصيات التاريخية في اليونان القديمة، ويُعرف بكونه رجل دولة، ومُشرّعًا، وفيلسوفًا، وشاعرًا. اكتسب شهرته بفضل إصلاحاته الجذرية التي أطلقها في أثينا. وتُعرف فترة حكمه باسم "إصلاحات صولون"، والتي كانت نقطة تحوّل في تاريخ المدينة، إذ وضع صولون أسسًا للديمقراطية الأثينية التي تطوّرت لاحقًا على يد شخصيات مثل كليستينس وبريكليس.

تُعتبر طروحات صولون عملية أكثر منها نظرية. لم يتبنَّ فلسفة مُمنهجة مثل أفلاطون أو أرسطو، بل كانت أفكاره مُركّزة على العدالة الاجتماعية والاستقرار السياسي. اعتقد أن العدالة هي أساس أي مجتمع مُستقر، فسعى إلى تحقيق التوازن بين الأغنياء والفقراء من خلال إصلاحاته الاقتصادية والسياسية. ورأى أن الفساد هو أحد أسباب تدهور المجتمعات، لذلك اتّخذ إجراءات صارمة للقضاء على الاستغلال والظلم، مثل إلغاء الديون التي أدّت إلى استعباد المواطنين. كما دعا إلى التقيّد بالاعتدال في كل شيء، سواء كان ذلك في الثروة أو السلطة. وضع أول مجموعة من القوانين المُدوّنة في أثينا، مما شكّل بداية سيادة القانون على الأحكام الفردية.

تُعتبر أفكاره جزءًا لا يتجزأ من تراث الفلسفة السياسية الغربية، ويُحتفى به كواحد من "الحكماء السبعة"* لليونان القديمة. امتد تأثيره إلى القرون اللاحقة، حيث اعتُبر رائدًا في الفكر الديمقراطي وأحد مؤسسي الفلسفة السياسية.

رحلات صولون وتأثيرها الفكري

كان لرحلات صولون تأثير عميق على أفكاره السياسية والفلسفية. فخلالها، زار مصر وفينيقيا وثقافات أخرى متقدمة، مما أتاح له فرصة التعرف على أنظمة الحكم المختلفة والتقاليد الاجتماعية. التجارب التي خاضها في بلدان مختلفة ساهمت في تطوير قدرته على التفكير النقدي، مما جعله يتساءل عن الأنظمة السائدة في أثينا ويبحث عن بدائل. تأثر صولون بمفاهيم العدالة التي رآها في ثقافات أخرى، مما ساعده في صياغة أفكاره حول الحقوق الفردية وأهمية المساواة. كما استلهم من تجربته في التجارة والاقتصاد في البلدان الأخرى، مما ساعده على فهم أهمية النظام الاقتصادي العادل الذي يدعم جميع فئات المجتمع. دراسته للأنظمة السياسية المختلفة، مثل الملكية والديمقراطية، ساهمت في تشكيل رؤيته حول كيفية إنشاء نظام حكومي عادل يضمن مشاركة المواطنين.

إصلاحاته الاقتصادية

نفّذ صولون مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية التي كان لها تأثير كبير على المجتمع الأثيني. فقد ألغى الديون المتراكمة على الفلاحين، مما ساعد في تخفيف أعبائهم المالية ومنع استعبادهم بسبب الديون. كما أطلق سراح الأثينيين الذين تم استعبادهم بسبب الديون، مما أعاد لهم حقوقهم المدنية وأعادهم إلى المجتمع. ووضع قوانين تحدد الملكية، مما منع الأثرياء من احتكار الأراضي وأتاح الفرصة للفقراء للحصول عليها. وشجّع على تطوير التجارة من خلال تحسين القوانين المتعلقة بها، مما ساعد في زيادة النشاط التجاري والثروة في المدينة. ووضع نظامًا ضريبيًا يعتمد على دخل الأفراد، مما ساعد على تحقيق توازن اقتصادي أكبر بين الطبقات الاجتماعية، كما دعم الزراعة من خلال تقديم مساعدات للفلاحين، مما أدى إلى زيادة الإنتاج وتحسين الأمن الغذائي. ساهمت هذه الإصلاحات في تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية للأثينيين، وأدت إلى تعزيز الاستقرار والعدالة في المجتمع.

صولون: المصلح والفيلسوف

يُعتبر صولون مصلحًا اجتماعيًا أكثر منه فيلسوفًا بالمعنى التقليدي، بالرغم من أن الفلسفة لها دور اجتماعي كبير. فلم يطوّر نظرية فلسفية مُمنهجة أو مدرسة فكرية، بل كانت أفكاره موجهة بشكل أساسي لحل المشاكل العملية في المجتمع الأثيني. تُظهر إصلاحاته أن لديه فكرًا فلسفيًا عمليًا، فهو لم يكتفِ بإصلاح القوانين، بل سعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتوازن في المجتمع. هذه المفاهيم هي جوهر الفلسفة السياسية، إلا أنه لم يكتب عنها نظريات مُجرّدة، بل طبّقها بشكل عملي من خلال إصلاحاته، وعالج مشاكل مُحدّدة ومُلحّة، مثل الديون التي أدت إلى الاستعباد والنزاعات بين الطبقات. لم يُخلّف أعمالًا فلسفية تُناقش مفاهيم الخير أو الحقيقة أو الجمال، كما فعل فلاسفة لاحقون مثل أفلاطون وأرسطو.

أدت إصلاحاته إلى تحولات ملموسة في البنية الاجتماعية والسياسية لأثينا، مما مهّد الطريق نحو الديمقراطية. لذلك، من الأنسب أن يُعتبر صولون مصلحًا اجتماعيًا وفيلسوفًا عمليًا في آن واحد، ففلسفته لم تكن مُجرّدة، بل كانت متجذرة في حل المشكلات الحقيقية لأثينا في عصره. سعيه إلى إقامة نظام اجتماعي عادل يُعالج التفاوت الطبقي ويمنع الاستعباد بسبب الديون يُمثّل جوهر الفلسفة الأخلاقية والسياسية. آمن بأن المجتمع المستقر لا يمكن أن يقوم إلا على مبدأ الاعتدال، حيث لا يطغى الأغنياء على الفقراء ولا يتمرد الفقراء على الأغنياء. وضع مجموعة من القوانين المكتوبة التي تحكم الجميع، مما يُعد تطورًا فلسفيًا وسياسيًا مهمًا، حيث أصبحت القوانين أساسًا ثابتًا للمجتمع.

كان صولون ينتمي إلى ما يُعرف بـ “الحكماء السبعة"، الذين اشتهروا بكونهم مفكرين يعتمدون على الخبرة والمنطق لحل المشكلات. لم تكن فلسفتهم قائمة على وحي إلهي، بل كانت ثمرة تأمل عميق في الطبيعة البشرية والمجتمع، وسعى إلى إيجاد حلول عقلانية للنزاعات الطبقية. في عصره لم تكن الفلسفة اليونانية قد نضجت بعد، حيث كان هو أحد روادها الأوائل. تأثر بالبيئة الفكرية العامة، وكانت الحكمة تُنقل في ذلك الوقت عبر الشعر. كما أن أسفاره وتجربته كتاجر وشاعر ومشرّع كانت مصادره الرئيسية، حيث اطلع على أنظمة حكم مختلفة. لم يكن متأثرًا بفلاسفة سبقوه، بل كان أحد أوائل الفلاسفة الذين أسسوا الفكر السياسي في اليونان القديمة.

***

غالب المسعودي

.........................

*الـ “الحكماء السبعة": طاليس الملطي، بياس البرييني، كليوبولوس الليندي، صولون الأثيني، خيلون الإسبرطي، بيتاكوس المتيليني، وميسون الخيوني أو بريانتي الكورنثي.

تقديم: يجمع العديد من مؤرخي تاريخ الفلسفة على أن الفيلسوف الالماني جوتفريد لايبنتيز 1646- 1716، كان معتدلا في أفكاره الفلسفية يتحاشى الإصطدام المباشر بالفكر المغاير، ويطرح أفكاره الفلسفية واضعا نصب إهتماماته الفكرية مصلحة المانيا سياسيا قبل كل شيء، وعلى صعيد الفلسفة ينسب له أنه أحرز تقدما فلسفيا تجاوز فيه كل من ديكارت في تطويره النزعة العلمية وإعلاء قيمة العقل وتمجيد الذات التي مهدت لمرحلتي النهضة والانوار وصولا الى ما بعد الحداثة التي بلغت أوجها في القرن العشرين.(إذ إعتبر مؤرخو الفلسفة لايبنتيز أكبر فلاسفة عصر النهضة التي مهدت أفكاره لمرحلة التنوير ايضا)(1) وقد عارض لايبنتيز طروحات جون لوك حول ألافكار الفطرية في كتابه (مقالات جديدة).

كما لا أجد شخصيا أن لايبنتيز تجاوز سبينوزا في مفهوم ميتافيزيقا الايمان وقدرة الخالق اللامحدودة كما يذهب له بعض مؤرخي تاريخ الفلسفة. وسنعرض سريعا هذا الاختلاف بينهما على صعيد التفلسف اللاهوتي المتباين في تصورهما الله والايمان. كما نشير لمداخلات فيورباخ حول تعالق الانسان والطبيعة في نشأة الاديان لما لإفكار فيورباخ في فلسفة الدين من أهمية بالغة.

وسيرة حياة لايبنتيز جعلته عبقريا بالفطرة الطبيعية قبل تمّكنه من فرادة قدراته الفلسفية المبكرة في أكثر من مجال التي تحصّل عليها أكاديميا حيث حجبت عنه جامعة لايبزج شهادة الدكتوراه لصغر سنه عشرين عاما، في حين منحتها له جامعة (التدروف) وزادت في تكريمها له عرضها عليه أن يشغل كرسي أستاذ محاضر في الجامعة لكنه رفض ذلك تحسبا من نيل الوظيفة الجامعية إستقلاليته الفكرية وتشتيت تكريس وقته للفلسفة. إذ كان متعدد الإهتمامات العلمية والرياضية مثل توصله الى نظرية التكامل والتفاضل في إستقلالية عن نيوتن ونال شهرة واسعة عليها كما صنع حاسبة رياضية لعمليات الحساب الاربعة وغير ذلك من أنشطة.(2)

كما أستطاع لايبنتيز على الصعيد السياسي بمنطقه الفلسفي الرصين دعم وجهة النظر الالمانية في ورقة كتبها حول مشروعية ضم عرش بولندا لها، وأخفق في هذا المسعى كون المنطق الفلسفي لا يغيّر حقائق الارض في أحترام سيادة وكرامة شعوب تلك الدول ذاك الوقت والى اليوم، وحين توّجس لايبنتيز أخطار أطماع لويس الرابع عشر في ضم المانيا وتجنيبها حرب الثلاثين عاما الاوربية نصح الملك الفرنسي تغيير وجهة نظره صوب المشرق وأحتلال تركيا ومصر بدلا من التوغل وراء الاطماع الفرنسية في اوربا وهو ما جرى فعلا... حيث لاقت دعوة لايبنتيز التقدير الكبير والاهتمام الفرنسي ما جعل بلاط باريس يوجه له الدعوة لزيارة باريس التي مكث فيها فترة قبل سفره الى بريطانيا تراوده نفس الإحساسات السياسية على صعيدي الإصلاح الداخلي وصعيد الطموحات الخارجية التي زرع بعضها في كل دولة زارها تراودها نزعة التوسع الاستعماري....

ولم يحقق مقترح لايبنتيز الملك الفرنسي لويس الرابع عشر بل حققه له نابليون بونابرت في غزوه لمصر وبلاد الشام في (1798- 1801). وكانت تلك حملة السيطرة الاستعمارية الاولى التي فتحت الباب على مصراعيه في قضم وإستقطاع مستعمرات الامبراطورية العثمانية الشائخة بما عرف عنه تاريخيا الاستعمار القديم الذي تقاسمته فرنسا مع بريطانيا وإيطاليا والبرتغال في الهيمنة على كامل الوطن العربي وإنتزاعها من براثن سلطة الخلافة العثمانية التي إنهارت تماما عام 1924 على يد علمانية كمال اتاتورك.

إيمان لايبنتيز الديني

إيمان لايبنتيز الديني الذي تضمنه كتابه (الثيوديسيا) هو إيمان فلسفي لاهوتي يقوم على ميتافيزيقا القدرة الالهية والإمكان اللامحدودتين للخالق، وفي مرجعيته الفلسفية المهادنة التي تعتبر حسب قوله إننا نعيش أفضل العوالم الممكنة، يربط لايبنتيز القدرة الالهية اللامحدودة بألفهم الدوغمائي الديني محاولا تقريب فهم الايمان الانساني لاهوتيا بمطلق المشيئة الالهية حين يقول (الله قادر على كل شيء بمعنى أنه يستطيع خلق كل شيء ممكن، لكن عندما يفعل ذلك فلا بد أن يختار بين بدائل يطرد بعضها بعضا بالتبادل التي ليست ممكنة التحقق معا.) (3)، ولنا التعقيب التوضيحي التالي:

في عبارات لايبنتيز السابقة يربط القدرة الإلهية بالإمكان الممكن تحققه وفق قوانين الطبيعة التي تدركها عقولنا المحدودة بضمنها المعجزات الدينية على أيدي الرسل والانبياء.... وليس تحقق الإمكان التخليقي للاشياء من عدم بالمعنى الإعجازي الإلهي غير المحدود بالقدرة والإمكان في ما يريد الخالق إيجاده وخلقه والتسليم به وإذعان المؤمن له.

القدرة الالهية بالفهم اللاهوتي الميتافيزيقي غير المحدودة لا يمنع فعل الامكان (المستحيل) عائقا أمام الخالق الذي من الممكن أن يكون هذا المستحيل بتصوراتنا العقلية الدينية متمثلا في معجزات الانبياء وليس في قدرات الخالق العابرة لتلك المعجزات التي هي بالحتم كانت تخترق قوانين الطبيعة في تعاليها عند الانبياء إلا أن إمكانية إستيعابها البشري كشيء معجز إلهي ممكن تصديقه ميتافيزيقيا.. وليس من المستحيلات خلق كل شيء في قدرة الخالق غير المشروطة كما يفترضها لايبنتيز (لابد للخالق أن يختار بين بدائل يطرد بعضها بعضا بالتبادل التي ليست ممكنة التحقق معا)..هذا التعبير يحاول مواءمة ما يخلقه الخالق مع مدركاتنا المحدودة في الاستيعاب والتصديق بما هو وارد إلينا من المعجزات الخارقة للمعقول.

وليس معجزات الله الصادرة مباشرة عنه بما لا قدرة على مداركنا العقلية إستيعابها وفهمها سببيا. كما أن الاشياء والموجودات التي يرغبها الخالق لا تقف أمامها إستحالة إمكانية تحقيقها دفعة واحدة كما أشار له لايبنتيز في تعّذر الخالق تحقيقه إلا وفق أسبقية الجديد على القديم.

أعتقد من السذاجة تصورنا أن ممكنات قدرة الله في خلقه الاشياء والعالم والموجودات والطبيعة والانسان نفسه جاء أو يجيء برغبة الانسان المسبقة أن يخلق الله له ما يرغبه ويحتاجه الانسان بالحياة. (الله قادر على خلق كل شيء ممكن) كما في تعبير لايبنتيز ليس تلبية رغائب الانسان.. وهل يوجد شيء عصّي على الله خلقه وإيجاده من عدم؟ كي يكون هناك أشياء غير ممكن خلقها إلهيا؟..

الإيمان بالقدرات الإلهية الإعجازية هو الايمان القلبي الميتافيزيقي الحدسي وليس الايمان العقلي بالتصديق البرهاني الحسي بقدرات كلية وخاصيّات مدركة غير مصدّقة عقليا لكن واجب التسليم الايماني بها، وهي قدرات إعجازية لا يمكننا الإحاطة العقلية الإدراكية لها في خرقها قوانين الطبيعة وخرمها جزئيا أو كليا تلك المعجزات فوق الطبيعة مخالفة إيجادها بقوانين الطبيعة ما يحتم أن يكون التسليم على أنها قدرة وإمكانية ربانية غير منظورة ولا محدودة ولا نهائية.

والمعجزات ليست خاصية الانبياء على الدوام وإمتداد العصور التي لا تخضع لقوانين العقل والطبيعة بل هي معجزات الايمان القلبي الروحاني في التسليم برغبة الخالق أن تكون فتكون، حيث دائما ما نجد اللاهوت الديني يؤكد أن القدرة الالهية هي إمكانية خارقة لقوانين الطبيعة في إمكانية الخلق من العدم، والخلق خارج قدرات العقل البشري الادراكية في إنعدام التعالق السببي بين الاشياء في فهم آلية حدوثها وتطورها خارج قوانين فيزياء الموجودات أيضا بما يعجز العقل تفسيرها..

بمعنى حسب المصطلح اللاهوتي الحديث المتفق عليه الايمان الديني ميتافيزيقيا هو أيمان قلبي وجداني ضميري أخلاقيا لا يمكن مقايسته المقارنة بالقبول والرفض عقليا منطقيا بالنسبة للفرد ولا الجماعة وهو رأي ساري المفعول الى يومنا أن الايمان الديني لا يحاكم بمنطق العقل العلمي ولا بالمنطق الطبيعي سببيا في إدراكنا الموجودات.

نظام الاشياء من حولنا هو نظام محكوم بقوانين طبيعية ثابتة أوجدها الله حسب إجماع اللاهوت الديني، وليس في وارد الإرادة الالهية القدرة الخالقة للاشياء لما هو جديد في إستيعابنا المعرفي المحدود إحلالها بدل القديم أن يكون حاضرا بالتبادل في إزاحة المبدل عنه وتنحيته إلا وفق أحكام تلك القوانين الطبيعية التي ندركها نحن والتي لايعمل بموجبها الخالق بتحقيق رغائبنا، وهذا ما لا ينطبق جملة وتفصيلا على معيارية المقايسة المقارنة بين حصول تبادل الاشياء بقدرة الإمكان الإلهي اللامتناهي الإعجازي وبين تلك التحولات المدركة فيزيائيا عقليا في نظام العالم الطبيعي من حولنا.

ما يدركه العبد المخلوق من قدرات يستطيع إدراكها إيمانيا على شكل معجزات وأفعال خوارق للطبيعة هي لاشيء يذكر بمقياس لا محدودية القدرة الالهية الإمكانية للخالق في خلقه لما يشاء التي تعتبر معجزات الانبياء نقطة في بحر المقارنة مع القدرة الامكانية الالهية بخلقه لما يريد هو لا ما يريده الانسان بخلق الله له .

أختيار الخالق للبدائل تحت حكم وجوب أن يطرد بعضها البعض الآخر في انتهاء صلاحية ألاقدم البقاء وإشغالها حيّز الوجود على وفق مشيئة إلهية مستقلة تماما عن أحكام قوانين الطبيعة الفيزيائية منها على وجه الخصوص في محدودية القدرة الإدراكية لدينا، إنما يقوم على مبدأ إيماني ميتافيزيقي لا يحتاج براهين عقلية له، ولا يمكن لعقولنا معاملة الأخذ بها قناعة متجردة في عدم إمتلاك الحرية وقدرة الإختيار، فما يخلقه الله لا يحتاج تبريره بقوانين عقلية محدودة تفهمها عقولنا سببيا كما نفهم نظام بعض قوانين الطبيعة . فالله يخلق ما يشاء بلا حساب ولا مساءلة ويصبح ما يخلقه من مسلمات الايمان البدهي الميتافيزيقي بالتصديق الذي لا يطاله النقاش القاصر من لدن مخلوقاته التي لا تدرك الغاية الموجبة المتوخاة بخلق كل شيء أو هذا الشيء دون غيره. هذا مجمل ماتتفق عليه الاديان الربوبية والتوحيدية على السواء.

الايمان الديني بين سبينوزا ولايبتنيز

نجد من المهم المقارنة بين فهم الايمان الديني عند سبينوزا السابق عصره لايبنتيز وإختلافه عنه بماذا ؟، سبينوزا كما هو مفهوم عنه لا يرى إمكانية التحقق من الخالق في المعجزات المنسوبة للانبياء الخارقة لقوانين الطبيعة وتنسب لمشيئة الخالق تنفيذ الانبياء لها، الذي هو كيان غير متعيّن ولا مدرك على صعيد مفهوم ميتافيزيقا الوجود، ويمكن القول أن سبينوزا لايفهم الخالق فهما لاهوتيا ميتافيزيقيا مشخصنا ذلك الوجود بصفات وقدرات إلهية لامحدودة ولا نهائية متعالية الوجود على الطبيعة والانسان، كما تنص عليه مقدسات الكتب الدينية دليل قول سبينوزا (لا أحد في العالم كله يستطيع أن يسن قوانين الدولة الدينية المقدسة، وغاية الدولة الحقيقية للحكومة هي الحرية)(4)، حرية الإختيار لنمط التديّن الذي يرتضيه الفرد وليس الذي يفرض قدسيته الايمانية رجال الدين التسليم به قسرا على الناس.

وهذا إستقراء ذكي وتنبؤي غير مسبوق أشار له سبينوزا منذ القرن السابع عشر في إجتناب مخاطر تسييس الدين وجعله مطيّة تحقيق منافع وإمتيازات رجالات السلطة والحكم في إشباع ملذاتهم الدنيوية وإمتيازاتهم الارضية وليس تحقيق عدالة الارض وحقوق العباد التي يوصي بها الخالق ونجد تنفيذها الظالم المجحف الخرافي المسخ من قبل سلطة الحاكم الإستبدادية في الارض بوساطة رجال الدين المؤدلجين سياسيا بما يرضي رغائب الحاكم وتركيع كل شيء أمام قدميه في تنفيذ ما يريده.

كان من المفروض أن يستفيد لايبنتيز من مفهوم سبينوزا التديني المتقدم كثيرا على أفكار لايبنتيز الغارقة في فلسفة دينية ميتافيزيقية قام بها في قفزة مناوئة رجعية لم يستطع فيها لايبنتيز فهم ما حققه سبينوزا في الايمان الديني المتقدم والبناء عليه، وشخصنة لايبنتيز للذات الالهية وقدراتها أرجعت الحس النقدي الديني الذي أرساه سبينوزا للوراء الى مرحلة العصور الوسطى في تحاشي وإهمال جديد ما حققه سبينوزا في عدم أخذ الايمان الديني من مصدر إلهي مشخصن ذاتيا غيبيا ميتافيزيقيا ولا من كتب لاهوتية مشكوك بصدقيتها المليئة بمعجزات الانبياء وسيرهم الذاتية المكتوبة الملفقة التي تصادر حرية التفكيرالعقلي في التديّن، الذي أشار لرفضه ومارسه فلسفيا سبينوزا بشجاعة تحسب له وفي ظروف صعبة كادت تودي بحياته.

بوجيز العبارة كان سبينوزا راديكاليا عنيدا في تفسيره اللاهوت والمعجزات بالمقارنة بميوعة ومهادنة وترضية ممارسات لايبنتيز التلفيقية التوفيقية في محاولته إرضاء جميع النخب الدينية على حساب إعادة ضلالة الشعوب وحصدها المآسي التي أثخنتها العصور الاوربية الوسيطة بجروح لم تندمل إلا وقتما وضع العلم سطوته المهيمنة على اللاهوت الديني ونحّاه جانبا من طريقه.

سبينوزا يتقدم ويختلف مع لايبنتيز بأنه لا يؤمن بخالق مشخصن ميتافيزيقيا بل يؤمن بصفات إلهية موزعة بقدرات عجيبة مذهلة للعقل موجودة في الطبيعة والانسان، وهو مذهب ديني لم يعتمده متصوفي وحدة الوجود كما فهمه سبينوزا فهما قائما على إنتزاع الايمان بقدرات فردية تدرك عجائب الخالق بمخلوقاته. وليس في محاولة المتصوفة التماهي التذويتي الإتحادي بالخالق ميتافيزيقيا مع كيان من الممكن الإفتراضي للمتصوف الوصول حافات ذلك الكيان النوراني والإتحاد به كما يدعون.!!

الصوفية مارسوا مذهب وحدة الوجود في غير طبيعته الانسانوية القائمة على أنسنة موجودات الطبيعة في علاقة قائمة على فهم الانسان الفطري في تفسيره ظواهر الطبيعة على أنها دلالات توضيحية تحيطنا بالحياة لا نستمدها من اللاهوت الديني الوضعي ولا في المعجزات كما حذّر منه سبينوزا، حيث تعاملت المذاهب الصوفية العديدة مع الخالق كنور مشخصن من المتاح الممكن الاتصال الروحاني به والحلول بذاته في إستقلالية ماهوية لا يمكن عبور جدارها المانع أو تخطي صفات كينونة الإله النورانية بمصطلحهم الصوفي في محاولة تلفيق إمكانية تحقق الاتحاد بين ماهيتين متباعدتين بالمجانسة النوعية لا يلتقيان لا بالجوهر ولا بالصفات ويجعلوا من التجربة الصوفية إعجازا خارج محكومية قوانين الطبيعة كما يمارسه الانبياء في معجزاتهم...

لايبنتيز يفهم القدرة الالهية كما تفهمه الصوفية العرفانية الحلولية بإختلاف شكلي بسيط عنهم هو شخصنة الله كينونة مدركة من خلال صفاتها ومعجزاتها بما يقوم به الانبياء والوحي الالهي عوضا عنه، وهو ما تدركه عقولنا كخرق إعجازي لا يستطيعه إلا البشر من الانبياء خارقي القدرة وبتكليف من الخالق والتوصية به.، وهذه القدرة الالهية تقوم على مرتكز أساس هو التدخل المباشر في نظام الاشياء وقوانين الطبيعة عندما يختل توازنها الطبيعي أو حين يصل عدم الايمان بالخالق طريقا مسدودا أمام النبي المرسل ما يضطره القيام بخوارق معجزة بغية إعادة الإيمان المفقود لدى العامة من الناس، بينما سبينوزا على العكس من لايبنتيز يرى الخالق موزعا كقدرات خارقة في كليّات موجودات الاشياء المدركة في الطبيعة كجواهر وأعراض وفي دواخل الانسان ذاته كما أخذ به فيورباخ من بعد سبينوزا الذي دعا الى معرفة الخالق في إدراك الانسان الطبيعة وتخليقه لمعبوده ذاتيا وليس في شخصنته إنفصاليا متعاليا على الطبيعة والانسان والوجود كما يدعو له اللاهوت الديني في الاذعان والتسليم بلا تساؤل وبلا تشكيك يناقش.

ذهب فيورباخ بقفزة دينية أبعد مما دعا له سبينوزا، بأعتباره الانسان والطبيعة والإله هما دلالة واحدة في التعبير المتجسد في شيء واحد هو إختراع الدين الذي إبتدعه الانسان لا غيره على مراحل انثروبولوجية من خلال علاقته بالطبيعة... ولم يتطرق فيورباخ الى فلسفة لايبنتيز في الشخصنة الالهية الميتافيزيقية متمثلة بالقدرات الإعجازية للخالق، بل أعتمد أفكار سبينوزا في فلسفة مادية صوفية على طريقته الخاصة في خلعه الألوهية على الطبيعة والذات المؤنسنة بها، فيورباخ ركزأهتمامه على معرفة كيف نشأت الاديان عند الانسان انثروبولوجيا وليس معرفة ما ينسب للانبياء من معجزات وما يخلقه الله من موجودات خارقة لقوانين الطبيعة وهل هي صادقة أم لا؟. فيورباخ لا يؤمن بشيء ديني لا يخلقه الانسان بنفسه ذاتيا سواء أكان ماديا أم روحانيا، واذا أراد الانسان التفتيش عن ذاته فليعرفها في إلهه الذي إخترعه وأسبغ عليه جميع الصفات الإعجازية التي لا يقدر الانسان على تحقيق الجزء اليسير منها كموجود في الطبيعة متمايز عنها بالصفات والماهية. بل يكون في تصديقها المطلق وتقديسها والعمل بطاعتها والإبتعاد عن نواهيها.

عشق فيورباخ الطبيعة ومجدّها إلهيا مؤنسنا بشكل لا يصدق معتبرا الدين هومنتج الطبيعة الذي إستولده الانسان من إحشائها إذ كتب لأبيه إني أكاد أضم الطبيعة بقلبي. وهو المنحى الذي إعتمده في نشأة الدين بإستخلاصه من مكمنه الانثروبولوجي، وقد إستفادت الفلسفة البنيوية لدى شتراوس في إقتباسها هذه العبارة (الفكرة) وإسقاطها تعديليا مفاده أن معرفة نشأة اللغة لا تكون من غير مرجعية الإستناد على تطور الانثروبولوجيا منذ عصور لاتاريخ ألأقوام البدائية....ومن المعلوم أن اللغة تتقدم الدين في النشأة وكليهما ناتجان عن الانثروبولوجيا التاريخية للمسيرة التطورية للانسان.حتى النظرة الموضوعية الطبيعية ماديا التي أعتمدها سبينوزا في عدم شخصنته الله ميتافيزيقيا وتصديق معجزات الانبياء بل الأهم كان عنده النظر في صفات الخالق الإعجازية الموزعة بنظام الطبيعة وموجوداتها الانسان من ضمنها فقط ولا يوجد هناك ذات إلهية مشخصنة ميتافيزيقيا بصفات يمليها الانسان عليه في شخصنة الله..

والتفت فيورباخ لهذه الموضوعية الطبيعية الإسبينوزية في تقديسه الطبيعة إلهيا كونها المصدر الوحيد في معرفة وإستقصاءات نشأة الدين.. مؤكدا لا وجود لدين لا يستولده الانسان من الطبيعة ذاتها ومن تفكيره العقلي الجدلي التجريدي معها. متغاضيا عن إدانة ماركس لهذا التمجيد للطبيعة كمصدرتخليقي للدين، بدلا من مركزية العامل الاقتصادي والتفاوت الطبقي في تقدم التاريخ وفهم جدل المادية التاريخية، كما أدان ماركس أيضا إهتمام فيورباخ تقديسه الطبيعة لإبتعادها عن المنهج المادي الذي يتعامل هو به، داعيا أهمية الابتعاد عن شخصنة الذات الالهية في قدراتها خلق كل شيء في إستقلالية منفردة متعالية على الطبيعة والانسان...

طبعا كان هذا في تلبية توكيد نزعة الإلحاد لدى ماركس وفيورباخ معا.. وليس في التماهي مع منطلقات سبينوزا الايمانية أن الله الخالق موجود في كل شيء يدركه الانسان في محيطه وعالمه الخارجي. ورغم إستماتة سبينوزا نبذه ميتافيزيقا التدين خارج علاقة فهم معجزات الطبيعة مع الانسان الذي رسخّه لاهوت القرون الوسطى، وعدم شخصنة الخالق ميتافيزيقيا خارج قوانين وموجودات الطبيعة، وما أعقب ما حققه سبينوزا في دعوته نبذ اللاهوت الوضعي والمعجزات، قام لايبنتيز بردة دينية رجعية في تاكيده أصل الدين هو ميتافيزيقا خلق الله كل شيء والانسان مخلوق ميتافيزيقي تلازمه نزعة التدين أولا واخيرا، فالإثنين كليهما سبينوزا ولايبنتيز لم يقتربا من المنهج المادي الذي أنبثق التعامل الفلسفي به المضاد للدين مع بدايات هيجل ونهايات ماركس وانجلز في إنجازهما البيان الشيوعي وبعده كتاب راس المال في تطويرهما المادية التاريخية والمادية الديالكتيكية على صعيد المادة وظواهر الطبيعة والحياة..لذا حين ظهرت أفكار فيورباخ المادية الراديكالية التي شكلت خروجا مارقا على تعاليم مثالية هيجل في القرن الثامن عشر وإنشقاق الشبان اليساريين عن هيجل كما فعل فيورباخ وماركس، ظهرت بوادر ماركسية جديدة في كيفية الجمع بين ديالكتيك هيجل المثالي الذي يرى مجال الجدل هوالتفكير العقلي المتعالي والمجرد على/ عن الواقع، مع مادية فيورباخ الإنثروبولوجية الصوفية التي لاتعترف بالجدل المثالي الهيجلي في إنحرافها القول بأن العامل الديني هو المحرك المتقدم للتاريخ. ما أثار حفيظة ماركس في إعتماده مركزية العامل الاقتصادي هو المحرك الاول للتقدم التاريخي في حتمية ملزمة تطورية ما جعله يشن هجوما لاذعا بالضد من فيورباخ. ضمنه كتابه (أطروحات حول فيورباخ 3 اجزاء). ولم ينكر ماركس وصفه لكل من هيجل وفيورباخ أنهما فيلسوفان عظيمان ولولاهما لما أنجز العديد من أعماله بتعاونه مع انجلز وبخاصة إسهامهما في تطويرمفهوم المادية التاريخية.

وصمت صوفية افكار فيورباخ في فلسفة التدين عنده في كتابيه أصل الدين وكتاب جوهر المسيحية رغم إلحاده الصريح الذي وصفه ماكس شتيرنر وهو أحد الشبان اليساريين الذين إنشقوا عن هيجل ايضا وصف إلحاد فيورباخ إلحادا غير متسق مع فلسفته..، وإعتمد ماركس مادية فيورباخ بعد تخليصه لها من صوفيتها الدينية رغم راديكالية فيورباخ في التماهي مع سبينوزا حول أهمية العودة الى عبادة الطبيعة وليس مركزية الدوران حول تشييء الذات الإلهية ميتافيزيقيا.. كي يجد الانسان إلهه في الطبيعة وفي تماهيه الذاتي معها، كما دعا فيورباخ أهمية فصل الدين عن الفلسفة كي ياخذ الفيلسوف حريته الكاملة في التعبير عن أفكاره وما يؤمن به حقا..

وسبب تلك الوصمة الصوفية الدينية المدانة التي لحقت فيورباخ الملحد أنه لم يسترشد بمنهج الديالكتيك المثالي الذي جاء به هيغل وأنكره عليه العديد من الشبان اليساريين المنشقين عن هيجل في مقدمتهم وماركس وانجلزوشتيرنر، وتم على يد ماركس تخليص ذلك الديالكتيك الهيجلي من المثالية الجدلية التي ترى في تطور المادة والظاهرات والتقدم التطوري التاريخي إنما يتم على صعيد الفكر وليس على صعيد ما يعتمل في الواقع من تناقض وجدل طبقي مرتكزه الاساس العامل الاقتصادي في وجوب التخلص من واقع التعامل المجحف في اللامساواة والعدل بين الفقراء والاغنياء المالكين لكل شيء والمحروم منها الفقراء حتى قوة عملهم الذي يبيعونه للمالك كفائض قيمة....

سبينوزا والمرجعية المسيحية

ألايمان الديني عند سبينوزا يكون في كل الامور جوهره الذي يجد الانسان في معبوده رقيبا يلازمه ماثلا لمساعدته ورحمته وليس الانتقام منه والوعيد له بالعذاب والنار في آخرته، ومرجعيته بهذه النظرة الانسانية مستمدة من المسيحية في تداولها أن الانسان لم يخلق للتعذيب المهول يوم القيامة فقد حمل المسيح خطايا الانسان على الارض وضحّى من أجل تخليص الانسان من الحساب يوم القيامة، بما أطلق على مذهب سبينوزا (أله) وحدة الوجود والله موجود في كل شيء مخلوق ومدرك.

والتحريف المتكرر الذي وصم سبينوزا بالهرطقة والتجديف قبل فيورباخ أنه لم يكن متصوفا دينيا بمعنى مفهوم الحلول والاتحاد خارج صفات الخالق في الطبيعة وموجوداتها من ضمنها الانسان،بمعنى سبينوزا لم يشخصن الخالق كموجود متعين بابعاد فيزيائية أو متعين بدلالات إيمانية غيبية ميتافيزقية نورانية روحانية يعجز العقل الانساني إدراكها. بل هو دعى الى الإهتمام بالطبيعة في إدراك الخالق في تذويته الطبيعي في الاشياء والعالم الخارجي.في حين يؤمن لايبنتيز بوجود خالق مشخصن ميتافيزيقيا بالقدرة الممكنة اللانهائية له رغم أنه غير مدرك عقليا لكنه يتدّخل في نظام الاشياء الطبيعية بما يكسر حاجز القوانين الفيزيائية المتحكمة بها والتي يدركها الانسان بمنطقه الايماني وليس بفهمه العقلي..

وعلى عكس من سبينوزا لم يقترب لايبنتيز من أدانة اللاهوت الوضعي الذي يستمد قدسيته الالهية من وجود خالق يكلم بعض الانبياء وينزل على بعضهم الاخر الوحي في الإنابة عنه وصنع المعجزات كما هو في مدونات كتب اللاهوت وادبيات الاديان التوحيدية وغير التوحيدية التي تستمد قدسية تعاليمها من تعاليم الارض الإنتفاعية المكتوبة بأيديهم وليس من تعاليم السماء المثالية الزاهدة بمباهج الحياة الفانية التي أضطروا تدوينها ولم يعملوا بها.. هذه الدعوة التي تغض النظر عن حقيقة ليس كل الناس أنبياء في تصديقهم معجزات الارض، وليسوا كلهم أنبياء ايضا في تصديقهم معجزات السماء المفقودة بلا وساطة أنبياء ورسل مختارين من الله يقومون بتلك المعجزات مؤقتا.

من المفروغ منه أن سبينوزا الذي سبق لايبنتيز وضع الانسان وإيمانه تحت منطق تحرير الفهم الايماني الميتافيزيقي من وجود الخالق المدّبر لكل شيء في الحياة الارضية الى الايمان بالطبيعة ونظام الاشياء وذات الانسان ونزوعه الروحاني الفردي ولم يشخصن سبينوزا الخالق لاهوتيا ميتافيزيقيا كما فعل لايبنتيز بإنفصال الخالق المتعالي على الانسان والطبيعة، ونادى سبينوزا أهمية أن يكون الايمان الديني هو مجرد عقد روحاني غير معلن بين الله وعباده كأفراد وهذا العقد لا تحتويه الكتب المقدسة في فرض رجال الدين عقدا أجتماعيا وضعيا بديلا مقدسا عوضا عنه بما يحقق تطلعاتهم الدنيوية بأسم الايمان بالخالق في وصايتهم على تدين وايمان الناس على الارض.

لايبنتيز وتوحيد لاهوت المسيحية

كان سبينوزا معاديا لا يلين في محاربته رجال الدين في اليهودية وفي المسيحية على السواء، المنتدبين من تلقاء أنفسهم تمثيلهم الوصاية على الدين من الألف الى الياء، وشكك كثيرا في اللاهوت الديني الوضعي الذي كان يمركز الوعي الإيماني الجمعي بالمعجزات التي إعتبرها خروقات فاضحة خرافية لايقبلها العقل السوي، وعلى العكس من سبينوزا وضع لايبنتيز ثقته المطلقة في إمكانية تحقيق الاصلاح الديني من خلال إصلاح رجال الدين، فقد حاول التوفيق بين الكاثوليك والبروتستانت، وبين تعاليم لوثر وتعاليم كالفن Calvin، في محاولته الوصول الى حل توفيقي بينهم، معتبرا الحل يكمن في تغليب نزعة (التسامح) في تذويب إختلافات المذاهب المسيحية الدينية بغية تحقيق الهدف السامي في وحدة اللاهوت الديني وإنقاذه من التشّظي والمحاور المتعددة في التاويلات والإجتهادات الطارئة عليه في تعميقها الإختلافات المذهبية. ومن الجدير ذكره أن سبينوزا كان ذهب أبعد من ذلك في دعوته إزالة الإختلاف التاريخي الديني المفتعل ما بين اليهودية والمسيحية كدين واحد وطالب في وجوب عودتهما دينا موحدا واحدا كون إختلافات الديانتين ليست حقيقية ومن الممكن تسويتها بقليل من التوافقات.

هذه الدعوة رغم سمو نواياها الاصلاحية العاطفية الدينية الصادقة أوقعت فيلسوفنا لايبنتيز في مطب سعيه الذي ذهب أدراج الرياح في مهمته تحقيق إصلاح رجالات الدين وخلافاتهم التي رأى في حلها تضع الدين المسسيحي على سكة الاصلاح الحقيقي، مغضيا الطرف أن شرعنة اللاهوت الارضي لم يكن أساسا حول الإختلاف في تفسير والتزام تعاليم المسيح ولا تعاليم غيره من الانبياء والرسل. أنما الإختلاف الذي لاينفع معه التسامح الاصلاحي هو مدونات كتب الاديان وأدبيات المذاهب المنشقة في تعميق خلافات إنشقاقات تلك المذاهب الدينية على أموردنيوية ليست من صميم تعاليم المسيحية الانسانية الحقة..لذا كان إصلاح رجال الدين دعوة عقيمة لم يفلح بها الفلاسفة لكنهم طبقوها بصمت في حياتهم.

***

علي محمد اليوسف

...........................

الهوامش

1.  وليم رايت /تاريخ الفلسفة الحديثة/ ترجمة محمود سيد احمد/ تقديم ومراجعة امام عبد الفتاح امام ص 130

2.  نفسه ص 132/3. نفس الصفحة/4. نفس الصفحة

 

عند عمانويل كانط، مارتن هيدجر، وجاك دريدا

(إن كلمة "الوجود" تقال بمعانٍ متعددة) أرسطو، الكتاب الرابع، الميتافيزيقيا،

تُمثل الأنطولوجيا، أو علم الوجود، أحد أهم فروع الفلسفة الميتافيزيقية، حيث تسعى إلى فهم طبيعة الوجود، الكينونة، والعلاقة بين الوجود والموجودات. في هذه الدراسة، سنستعرض كيف تناول ثلاثة من أبرز الفلاسفة في التاريخ الفلسفي الحديث والمعاصر، وهم عمانويل كانط (1724-1804)، مارتن هيدجر (1889-1976)، وجاك دريدا (1930-2004)، مفهوم الأنطولوجيا، مع التركيز على كيفية كشفهم عن هذا المفهوم وتفكيكهم للميتافيزيقا التقليدية. يهدف هذا البحث إلى تحليل مقارناتي لهذه الرؤى، مع الإشارة إلى السياقات الفلسفية والتاريخية التي شكّلتها، وصولاً إلى استكشاف التحولات في فهم الأنطولوجيا من منظور نقدي وتفكيكي. تتبنى الدراسة منهجًا تحليليًا مقارنًا، مع الاعتماد على النصوص الأصلية للفلاسفة الثلاثة، إلى جانب مراجع ثانوية لتوضيح السياقات وتفسير الأفكار. سيتم تقسيم الدراسة إلى ثلاثة أقسام رئيسية، كل قسم يتناول فيلسوفًا وإسهاماته في الأنطولوجيا، مع خاتمة تربط بين الرؤى المختلفة وتسلط الضوء على نقاط التقاطع والاختلاف. فماهي الأنطولوجيا؟ وماهو تاريخها؟ وكيف تناولها كانط؟ وما الفرق بين المقاربة الهيدجرية الأنطولوجية والمقاربة التفكيكية لجاك دريدا؟ وأي مستقبل لها ؟

عمانويل كانط ونقد الأنطولوجيا الميتافيزيقية

عاش كانط في عصر التنوير، حيث كانت الفلسفة الميتافيزيقية التقليدية، التي سيطرت عليها أفكار ديكارت وليبنتز وولف، تهدف إلى تقديم تفسيرات عقلية شاملة للوجود والكون. لكن هذه الميتافيزيقا واجهت تحديات من التجريبية (مثل هيوم) التي شككت في قدرة العقل على معرفة الحقائق المطلقة. في هذا السياق، قدم كانط في كتابه نقد العقل الخالص (1781) ثورة فلسفية تهدف إلى إعادة تعريف حدود المعرفة والميتافيزيقا.

كانط والأنطولوجيا: نقد الوجود كمحمول

ركز كانط على نقد الأنطولوجيا التقليدية، خاصة فكرة الوجود كمحمول. في حجة "الوجود ليس محمولًا"، يرفض كانط الفكرة التي قدمها أنسيلم وديكارت بأن الوجود يُضاف إلى جوهر الشيء كصفة. يقول كانط: "الوجود ليس محمولًا حقيقيًا، أي أنه ليس مفهومًا لشيء يمكن إضافته إلى مفهوم شيء آخر". بمعنى آخر، الوجود هو شرط تحقق المفهوم في الواقع، وليس صفة تزيد من كماله.  على سبيل المثال، يوضح كانط أن مفهوم "كائن حقيقي" لا يختلف في محتواه عن "كائن متخيل"، لأن الوجود لا يُضيف شيئًا إلى المفهوم نفسه، بل يتعلق بتحقق هذا المفهوم في الواقع. هذا النقد يهدم الحجة الأنطولوجية لإثبات وجود الله، التي تعتمد على اعتبار الوجود جزءًا من كمال المفهوم.

الأنطولوجيا في إطار النقد الكانطي

أعاد كانط تعريف الأنطولوجيا ضمن إطار "الفلسفة النقدية". بدلاً من دراسة الوجود بمعزل عن الذات العارفة، رأى كانط أن الأنطولوجيا يجب أن تُفهم كدراسة للشروط الترانسندنتالية (أي الشروط المسبقة) التي تجعل المعرفة ممكنة. في كتاب نقد العقل الخالص، يقسم كانط المعرفة إلى مستويين:

المعرفة الحسية: التي تعتمد على الحدس في الزمان والمكان.

المعرفة العقلية: التي تعتمد على المقولات مثل السببية والجوهر.

هذه المقولات ليست موجودة في العالم الخارجي، بل هي هياكل يفرضها العقل على التجربة. وهكذا، تحولت الأنطولوجيا عند كانط من دراسة الوجود المطلق إلى دراسة شروط إمكانية التجربة.

تأثير كانط على الأنطولوجيا

أحدث كانط ثورة في الأنطولوجيا بتحويلها من ميتافيزيقا تأملية إلى تحليل نقدي للمعرفة. لقد وضع حدودًا للعقل النظري، مؤكدًا أننا لا يمكننا معرفة "الشيء في ذاته" بل فقط "الشيء كما يظهر لنا". هذا التمييز أعاد صياغة الأنطولوجيا كدراسة للوجود كما يتمثل في التجربة البشرية، مما مهد الطريق لتطورات لاحقة في الفلسفة، خاصة عند هيدجر ودريدا.

مارتن هيدجر وإعادة طرح سؤال الوجود

السياق الفلسفي لهيدجر

عاش هيدغر في فترة ما بعد الحداثة، متأثرًا بالفينومينولوجيا (خاصة هوسرل) وبنقد كانط للميتافيزيقا. في كتابه الرئيسي الوجود والزمان (1927)، سعى هيدجر إلى إعادة طرح سؤال الوجود الذي رأى أن الفلسفة الغربية قد أهملته لصالح دراسة الموجودات.

الأنطولوجيا الأساسية عند هيدجر

يفرق هيدجر بين الوجود والموجودات. ان الموجودات هي الأشياء التي توجد فعليًا (مثل الإنسان، الحجر، الشجرة)، بينما الوجود هو ما يجعل هذه الموجودات ممكنة. يرى هيدجر أن الفلسفة التقليدية ركزت على الموجودات وأهملت سؤال الوجود نفسه. في الوجود والزمان، يقول: "إن سؤال الوجود هو السؤال الأساسي للفلسفة".  لتحليل الوجود، يركز هيدجر على الإنسان (الدازاين - الذي يتميز بقدرته على طرح سؤال الوجود. الدازاين ليس مجرد كائن بيولوجي، بل هو الكائن الذي يفهم وجوده ويواجهه في سياق الزمانية والموت. يقدم هيدغر مفهوم "الكينونة-في-العالم" ، حيث يُظهر أن الوجود ليس مجردًا، بل هو متجذر في التجربة اليومية والعلاقة مع العالم.

نقد هيدجر للميتافيزيقا التقليدية

يتهم هيدجر الميتافيزيقا الغربية بـ"نسيان الوجود. فمن أرسطو إلى هيجل، ركزت الفلسفة على تصنيف الموجودات وتحليل خصائصها بدلاً من استكشاف معنى الوجود. حتى كانط، رغم ثورته النقدية، ظل ضمن إطار الميتافيزيقا التقليدية لأنه ركز على شروط المعرفة بدلاً من الوجود نفسه[6].

الأنطولوجيا والزمانية

يرى هيدجر أن الوجود مرتبط بالزمانية. فالدازاين يوجد في سياق زمني، حيث الماضي (الوضعية)، الحاضر (الانشغال -، والمستقبل (الإسقاط - تشكل تجربته. هذا الارتباط يجعل الأنطولوجيا عند هيدجر ديناميكية، بعيدة عن التصورات الثابتة للوجود في الفلسفة التقليدية.

تأثير هيدجر

أعاد هيدجر صياغة الأنطولوجيا كمشروع فينومينولوجي يركز على التجربة الأنطولوجية للإنسان. هذا التحول مهد الطريق للفلسفات الوجودية والتفكيكية، حيث ألهم فلاسفة مثل دريدا وسارتر بتركيزه على الوجود كتجربة حية وليست كمفهوم مجرد.

جاك دريدا والتفكيك الأنطولوجي

السياق الفلسفي لدريدا

عاش دريدا في عصر ما بعد الحداثة، متأثرًا بهيدجر، هيجل، ونيتشه، بالإضافة إلى اللسانيات البنيوية (سوسير). في كتابه عن الغراماتولوجيا (1967) وغيره من الأعمال، قدم دريدا منهج "التفكيك" لتحليل النصوص الفلسفية وكشف تناقضاتها الداخلية.

التفكيك ونقد الأنطولوجيا

يرى دريدا أن الأنطولوجيا التقليدية، سواء عند أرسطو أو كانط أو هيدجر، تقوم على "ميتافيزيقا الحضور"، أي افتراض وجود معنى أو جوهر ثابت يمكن الوصول إليه. ينتقد دريدا هذا الافتراض من خلال مفهوم "الفرق " (différance)، الذي يشير إلى تأجيل المعنى وعدم استقراره في النصوص والمفاهيم.  على سبيل المثال، يرى دريدا أن مفهوم "الوجود" عند هيدغر لا يزال محكومًا بميتافيزيقا الحضور، لأن هيدجر يسعى إلى كشف معنى الوجود كشيء أساسي. يقول دريدا: "لا يوجد حضور خالص، بل دائمًا آثار وتأجيلات". التفكيك، إذن، لا يسعى إلى تقديم أنطولوجيا جديدة، بل إلى تفكيك الأطر الميتافيزيقية التي تحاول تثبيت الوجود.

الأنطولوجيا واللغة

يركز دريدا على اللغة كموقع للوجود. فالوجود، في نظره، لا يمكن فصله عن اللغة التي نعبّر بها عنه. لكنه يرفض فكرة أن اللغة يمكن أن تُحيل إلى معنى نهائي أو ثابت. في هذا السياق، يصبح التفكيك أداة لكشف كيف تحاول الأنطولوجيا التقليدية فرض معانٍ مطلقة على الوجود.

تأثير دريدا

أحدث دريدا ثورة في فهم الأنطولوجيا بجعلها مسألة نصية ولغوية. بدلاً من البحث عن جوهر الوجود، دعا إلى فهم الوجود كسلسلة من الآثار والاختلافات التي لا تستقر أبدًا. هذا المنهج أثر على الفلسفة ما بعد الحداثية، الدراسات الأدبية، والنظرية النقدية.

خاتمة:

نقاط التقاطع: كانط، هيدجر، ودريدا ينتقدون الميتافيزيقا التقليدية. كانط يحد من طموحاتها العقلية، هيدغر يتهمها بنسيان الوجود، ودريدا يفكك افتراضاتها حول الحضور.

الثلاثة يركزون على الذات البشرية كمفتاح لفهم الوجود، سواء عبر العقل (كانط)، الدازاين (هيدجر)، أو اللغة (دريدا).

نقاط الاختلاف: كانط يبقى ضمن إطار العقلانية، بينما هيدجر يتحول إلى الفينومينولوجيا الأنطولوجية، ودريدا يتبنى التفكيك ما بعد البنيوي.

كانط يرى الأنطولوجيا كدراسة لشروط المعرفة، هيدجر يربطها بالزمانية والتجربة الوجودية، بينما دريدا يرفض فكرة الأنطولوجيا كمشروع متماسك.

في النهاية، يُظهر هذا التحليل أن الأنطولوجيا ليست مفهومًا ثابتًا، بل تطورت من نقد عقلي عند كانط، إلى استكشاف وجودي عند هيدغر، وصولاً إلى تفكيك لغوي عند دريدا. هذه التحولات تعكس تغيرات في السياقات الفلسفية والثقافية، وتدعو إلى إعادة التفكير في طبيعة الوجود والمعرفة في عالم متغير. فكيف أعاد بول ريكور النظر في القول الأنطولوجي بعد أن كاد عمانويل ليفيناس أن يستبدلها بالايتيقا؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

يقترح ديفد بيناتار استاذ الفلسفة في جامعة كيب تاون بانه في جميع الحالات، من الخطأ خلق حياة جديدة. هذه المقالة تناقش موقفه المناهض للانجاب بالاضافة للحجج المعارضة له. هل من الجائز أخلاقيا انجاب اطفال؟ وهل هناك حالات يكون فيها جلب حياة جديدة الى العالم ضرر لا يمكن اصلاحه؟ اذا كنا متأكدين، مثلا، بان الطفل سيولد لحياة قصيرة ومعذبة، فسيبدو من المعقول الاستنتاج انه من الخطأ جلب مثل هذه الحياة. في الحقيقة، نحن ربما نقول من واجبنا منع مجيء مثل هذه الحياة التعيسة الى الوجود والتي هي لا يمكن تحمّلها. لكن ماذا عن حياة اكثر شيوعا؟ وجود يحتوي على مزيج من السعادة والمعاناة؟ بالتأكيد من الافضل خلق الكثير من هذه الحياة؟ مناهضة الانجاب Antinatalism هو موقف فلسفي يقول كلا، بالنظر لكمية المعاناة التي يواجهها متوسط الناس في الحياة – ألم، خوف، قلق، مرض، كدح، ضجر، استنزاف، وحدة، اضطهاد، حزن، عدم أمان، عنف، موت – فان جلب حياة جديدة للوجود هي عمل خاطئ اخلاقيا.

بالطبع، الحياة فيها لحظات من السعادة، لكن المناهضين للانجاب يعتقدون بشكل عام ان مثل هذه اللحظات لا تبرر المخاوف المستمرة وعدم الارتياح والعذابات التي نتعرض لها بسبب الوجود . سيكون من الافضل لجميع الناس لو لم يولدوا ابدا. هذه قد تبدو رؤية متشائمة، لكن المناهضين للانجاب يدّعون انهم واقعيون. لو ننظر الى الوجود عقلانيا وبعيدا عن الضرورة البايولوجية للبقاء على الحياة – والتي تدفعنا للاعتقاد ان الحياة اكثر اشراقا من الموت – عندئذ سوف نعرف بان الوجود ذاته هو لعبة خاسرة. احد اسباب الإلهام للمناهضين للانجاب هو اكبر فلاسفة الغرب المتشائمين ارثر شوبنهاور. مع انه لم يقترح مناهضة الانجاب، لكنه يصف الوجود الانساني كبندول يتأرجح بشكل كئيب بين الضجر والألم.

يقول شوبنهاور"نحن نمضي حياتنا نتوق (بألم) الى أشياء نفتقر لها : الطعام، التسلية، المعنى، الارتباط، الدفء، العزلة، الثروة. التوق لهذه الحاجات لا يتم اشباعه الاّ بشكل عابر – ان حصل اشباع – لنواجه توقا جديدا يستنزف انتباهنا، وبهذا نحن نشرع في سعي مؤذ مرة اخرى. " مقاييس المعاناة في حياة الانسان لا تتناسب مع متعته"، يصرح شوبنهاور في مقال له حول معاناة العالم: "اذا كان الاطفال قد جُلبوا للعالم بفعل العقل الخالص وحده، هل سيستمر العرق الانساني في الوجود؟ أليس من الافضل للانسان ان يتعاطف مع الجيل القادم بالقدر الذي يجنبه عبء الوجود؟"

المناهضون للانجاب يجيبون على سؤال شوبنهاور الاول بالنفي القاطع. بالنظر لبؤس الوجود في ظل المكان السيء للعالم وسيره نحو الأسوأ – فان احسن محصلة للانسانية ستكون التوقف عن الانجاب، وفي العقود القادمة نرشد أنفسنا الى انقراض غير مؤلم. حتى الان: من السهل ان نرفض هذا الاستنتاج المتطرف نوعا ما. لكن ميلنا للحيرة والاستياء او الغضب حول موضوع مناهضة الانجاب يجب ان يتوقف وفقا للفيلسوف الافريقي ديفد بيناتار احد اكبر المعارضين للانجاب.

الفكرة ليست مفاجئة: التناسل هو كيف تديم الحياة ذاتها. بيناتار يسألنا ان نتوقف ونفكر مليا . بالطبع الحياة تريد المزيد من الحياة لكن دعونا ننظر للموقف بلا عاطفة. دعونا نفكر في السبب الحقيقي وراء خلق حياة جديدة. بهذا العمل سنكتشف ان التكاثر ليس المهمة النبيلة التي يتصورها الآخرون. المناهضون للانجاب يقدمون عددا من الحجج الداعمة لموقفهم تتجاوز التأكيد على فضاعة الحياة. احدى اهم الحجج هي ما سمي حجة عدم التماثل لبيناتار Benatar’s Asymmetry Argument، نُشرت في كتابه عام 2006 بعنوان (الافضل ان لا يكون هناك ابدا).

حجة بيناتار: لماذا يُفضل اللاوجود على الوجود؟

تقوم حجة بيناتار على فكرة ان هناك عدم تكافؤ اساسي بين الالم والمتعة: بينما الالم سيء وغيابه جيد، فان المتعة جيدة لكن غيابها ليس سيئا. عدم التكافؤ يمكن التعبير عنه كالتالي:

1- وجود الألم شيء سيء

2- وجود المتعة شيء جيد

3- غياب الألم شيء جيد (حتى عندما لا يتمتع كل واحد بذلك الشيء الجيد)

4- غياب المتعة ليس شيئا سيئا (مالم يكن هناك شخص ما موجود سلفا يُحرم منها).

القضية الحاسمة هنا هي انه بينما غياب الألم جيد، فان غياب المتعة ليس سيئا مالم يوجد هناك شخص ما يشعر بغيابه. يعتقد بيناتار ان دعمه لعدم التكافؤ يأتي من حقيقة انه يعطي أفضل توضيح لحدسنا العام حول السعادة والمعاناة.

افرض مثلا، اكتشفنا هناك ملايين من الكائنات على المريخ يعانون بشدة. نحن يجب ان نهتم بذلك: من الفضيع اذا كانت هذه المعاناة موجودة، ومن الجيد ان لم تكن موجودة. نحن لا نُصاب بالذعر من نقص المتعة المقابل على المريخ. يقول بيناتار : "نحن نحزن حقا على الناس الذين يعانون، لكن بالمقابل نحن لا نحتاج نذرف الدموع لغياب الناس السعداء على كوكب غير مأهول او على أجزاء اخرى من كوكبنا".

نفس النوع من اللاتماثل ينطبق على طريقة تفكيرنا حول الواجبات الاخلاقية، يدّعي بيناتار: منع الاذى يبدو اكثر أهمية من انتاج المتعة. علينا واجب ان لا نؤذي زملائنا المواطنين لكننا غير مطلوب منا اخلاقيا ان نجعلهم سعداء. لكن اذا قبلنا بهذا اللاتماثل واقتنعنا ان كراهية الاذى اكثر اهمية من استحقاق المنافع، عندئذ يجب ان نقبل شيئا مذهلا جدا: اللاوجود يبدو مفضلا على الوجود. الوجود يفتح الباب لكل من المتعة التي هي جيدة والألم الذي هو سيء. اللاوجود لايحتوي ألم وهو جيد بينما غياب المتعة لايؤذي احدا. وبالنظر لجميع العوامل، مقارنة بالسيناريو الذي لا وجود للناس فيه، يصبح الوجود ليس في مصلحة الناس ابدا لأنه يؤذيهم. انه يقدم المتعة ايضا لكن هذه المتعة ما كان لها ان تضيع في حالة عدم الوجود لأنه لا وجود لأحد كي يفتقدها. اللاوجود غير مؤذي لكن الوجود مليء بالألم: اللاوجود اذن مفضل على الوجود.

الآن، حالما نكون موجودين فعلا، ربما لدينا اسباب للاستمرار بالوجود: بيناتيار لا يقترح علينا ارتكاب الانتحار. المسألة ليست ان الحياة لا تستحق العيش، وانما لا تستحق البدء. وبسبب القيمة اللاتماثلية لهيكل المتعة والالم، وبسبب ان اللاوجود غير مؤذي فان المجيء للوجود دائما يسبب لنا الاذى. نحن لا نستطيع الرجوع في الزمن ونوقف أنفسنا عن الوجود، لكن شيئا واحدا نستطيع السيطرة عليه هو تقرير عدم إحداث ضرر لا يمكن اصلاحه لوجود جيل جديد. عندما نستمر بانجاب الاطفال سنخلق كائنات تواجه الكثير من المعاناة لأجل متعة ما كان ممكن ان نخسرها في غيابهم. افضل رهان هو ان نتجنب جلب اناس الى الوجود.

ردود على حجة بيناتار في عدم التماثل

رد الفلاسفة على حجة بيناتار بمختلف الطرق. لنتذكر، ان بيناتار يعتقد ان حجته مدعومة بحقيقة انها توضح الحدس الواسع حول السعادة والمعاناة كما في ان كراهية الالم اكثر اهمية من الفوائد المستحقة. بعض الفلاسفة يقترح انه اذا كانت حجة بيناتار تعتمد على الحدس، فهي مع ذلك تقود الى استنتاج غير حدسي، عندئذ يبدو من غير الواضح لماذا يجب الوثوق بحدسنا في حالة معينة ولا نثق به في حالة اخرى. فلاسفة آخرون يرفضون عدم التماثل ذاته: بدلا من "ليس سيئا"، غياب المتعة – عدم حب العلاقات، لا مرح حسي، لا صفاء روحي – هي في الحقيقة ألم سيء. عالم يفتقد لمثل هذه الاشياء سيكون أسوأ من عالم يمتلكها، ونحن فعلا نرثي غياب المتعة. في ورقة عام 2021، الفيلسوف فيومتيك جوشازا fumitake yoshizawa يقترح انه حتى لو اعترفنا لبنيتار بكل مقدماته وحدسه، فان استنتاج المناهضين للانجاب لايزال لايعمل. عدم تماثل بيناتراد يقيّم أجزاءً من الحياة مثل الالم والمتعة بينما يطرح استنتاجا للحياة ككل. لو نكيّف حجة بنيتراد ونقيّم الحياة ككل ستصبح:

1- الحياة التعيسة سيئة

2- الحياة السعيدة جيدة

3- غياب الحياة التعيسة جيد

4- غياب الحياة السعيدة ليس سيئا.

هذا يتبع نفس المنطق العدم التماثلي ويفسر المعتقدات الاخرى غير المتماثلة، لكن هنا سوف لن يحصل استنتاج مناهض للانجاب العالمي . بدلا من ذلك، ستحصل مناهضة محلية للانجاب: في بعض الحالات – عندما نتأكد ان شخصا ما سيعيش حياة تعيسة – فان خلق مثل هذه الحياة يشكّل اذى. لكن خلق حياة سعيدة مسموح به.

مناهضو الانجاب ربما يستجيبون بان خلق "حياة سعيدة" هو مستحيل . بالنظر للكمية الهائلة من الالم والمعاناة، فان قيمة الحياة هي دائما سلب صافي (السلبي اكثر من الايجابي)، لذا فان التكاثر يبقى خطئا. لكن هنا نحن نتحرك بعيدا عن عدم التماثل نحو حجج مناهضة للانجاب اكثر عمومية. دعونا ننظر في اجابات اكثر عمومية:

هل قيمة الحياة تتشكل فقط بالتوازن بين المتعة والالم؟

الاقتراح المناهض للانجاب بان الحياة دائما تحتوي على معاناة اكثر من السعادة يواجه عدد من الاجابات المحتملة. احداها هو ببساطة ان نتحداها: المناهضون للانجاب سريعون في الاشارة الى نواقصنا ورغباتنا والالم المزمن، هم لايميلون للانتباه للمتع اليومية الموجودة في المشاهد البسيطة، التنفس الاكل، المشي، الضحك، الاستماع، النظر." تذكر الشاعرة الامريكية ايميلي ديكنسون ان "مجرد الاحساس بالحياة هو متعة كافية".

جواب آخر هو ان ننظر وراء الالم والمتعة بالكامل: نتسائل ما اذا كان التركيز كثيرا على الحساب الدقيق للمرح والمعاناة يضيع فيه معنى الحياة ... اخلاقيو الفضيلة مثل ارسطو يقول ان الحياة الجيدة ليست حول التوازن بين المتعة والالم وانما حول التعبير عن التميّز. في الحقيقة، الرواقيون صرحوا ان كل ما يحدث لنا هو "لا بأس به او غير مختلف"، الذي يهم هو كيف نستجيب . بدلا من اللوم اننا ليس لدينا وجود تام وخالي من الالم بلا أمل فان طاقتنا ستكون افضل عندما تُوجّه الى تكريس نكهة فريدة من التميز المتاح لنا في هذه الحياة. المناهضون للانجاب ربما يقولون حسنا، كل ذلك جيد ومدهش لتبرير استمرار حياتك لكنك لا تزال لا يجوز لك خلق حياة جديدة – التسبب في تعريض وجود الانسان المحدود لمعاناة شديدة .

لكن اذا لم نقيّم الحياة باعتبارها فقط كمحاولة لتأمين المزيد من المتعة على الالم، فان هذا النوع من الحجة ضد التكاثر لا يعنينا حقا. عندما نرى الحياة كمسعى للتميز او الارتباط او المعنى، عندئذ فان خلق وتربية الجيل القادم يمكن ان يلعب جزءا اساسيا في ذلك. هذا لا يعني بالضرورة وجوب التكاثر – الناس يمكنهم متابعة مختلف اشكال التميز وينجزون امكاناتهم بطرق مختلفة – لكن من الصعب رؤية إثمها الاخلاقي الذي لا يُغتفر خاصة عندما نبذل جهدنا لتعزيز تجارب اطفالنا ونعدّهم للتميز في حياتهم. في الحقيقة، عندما نتبنّى انجاب شخص شاكر لوجوده، عندئذ أين الاذى في ذلك؟

جواب آخر لمناهضة الانجاب يرى بان استمرار الحياة هو شرط مسبق لاستمرار القيمة ككل. اذا كان نظامك القيمي يخبرك ان ادامة الحياة ذاتها هو غير اخلاقي عندئذ ربما المشكلة ليست في الحياة وانما في نظامك القيمي.

بالطبع، المناهضون ربما يدّعون ان هذه الردود هي بالضبط ما يقوله المخدوعون بالحياة: هم متفائلون وقحون في انكار حقيقة المعاناة. لكن بينما هناك آليات سايكولوجية تعمل تدفعنا نحو التركيز على الجيد، تقترح ان الايحاء بان كل شخص مسرور بحياته هو في احسن الاحوال مخدوع وفي الاسوأ هو منفصل عن الواقع. عندما يقول الناس هم سعداء بحياتهم وانهم مسرورين بمجيئهم للوجود نحن يجب ان نأخذهم بنفس مستوى الجدية الذي يقول به الناس بالنفي.

ان المطلوب هو ليس ما اذا كانت الحياة تستلزم المعاناة، بل كيف نستجيب لمعاناتها . المناهضون للانجاب اساسا ينصحون بان الانسانية تسلّم نفسها للفراغ لكن الاستسلام ليس خيارنا الوحيد. هناك طرق للاستجابة للمعاناة التي لا تستلزم انقراضا بالمعنى الحرفي، بوذا ينصح بدلا من ذلك بانقراض الايغو. لكن نوعا آخر من الردود هو الكفاح لجعل العالم افضل لاطفالنا. نحن يمكننا الاعتراف، مع نيتشه بان هناك قيمة يمكن العثور عليها في التغلب على المعاناة. مهمتنا ان نكتشف معنى في الكفاح، نؤكد وجودنا بفرح، ننتج ونغرس طرق جميلة في قول نعم للحياة بدلا من لا.

***

حاتم حميد محسن

(المعجزة هي انتهاك لقوانين الطبيعة) ديفيد هيوم

من الفهم البدئي المعجزات الدينية هي انتهاك لقوانين الطبيعة الفيزيائية. نقول المعجزات ليست خواصا الهية يحتاجها الرب لاثبات الايمان به بل هي خواص انبياء في تبنبهم خوارق فيزيائية مؤقتة لكسب تأييد الناس الايمان بهم وبما يحملونه من رسالات مكنّهم الخالق إمتلاكها وحدهم دون غيرهم من البشر وأنهم مرسلون من الرب بمعجزات خصّهم بها لتأكيد صدقية الايمان الديني بهم في نقلهم رسالة الخالق الى عامة الناس.

التساؤل الذي يفترض أن يكون تابعا ما بعد تعريف المعجزة التي عبر عنها ديفيد هيوم والعديدين من الفلاسفة على أنها خرق لقوانين الطبيعة، لكنهم لم يحسموا مصدرهذه القوانين الثابتة في الطبيعة ومن يمتلكها حقيقة ؟ ومن اين جاءت القوانين الطبيعية الثابتة التي تحكم الطبيعة نفسها بها بغير ادراك منها. ولا تحكم الانسان وكل المخلوقات والكائنات التابعة للطبيعة في ادامة بقائها؟ وما علاقة المعجزة الدينية أن يكون تعريفها الدقيق هو خرق قصدي للقوانين الفيزيائية العامة التي تحكم الطبيعة والانسان.؟ فالمعجزة خرق قصدي لقوانين الطبيعة التي لا تدرك هي قصديتها ولا تعي أهميتها في تنظيم حياة الانسان.

أجابة هذا التساؤل هو التفريق بين الايمان الديني وبين عدم الايمان الديني الذي مرتكز قوامه الايمان أوالرفض للمعجزات. ولكل من الفريقين حججه التي تناقض حجج الاخر لكنهما يبقيان الاثنين المتضادين المتناحرين في سجال ساحته المركزية تخطئة البعض للآخر وليس الاجابة الشافية عن موضوع الاختلاف حول المعجزة الدينية وترابطها الوثيق يقوانين الطبيعة الثابتة وكيفية البرهان العقلي على ذلك.

هذا الاشكال طرحه بيرتراندرسل قوله أن قوانين الطبيعة هي أصطلاحات انسانية متواضع عليها عبر العصور الطويلة وأصبحت بمرور الزمان قوانين ثابتة طبيعية. لكن الاعتراض الوجيه على هذا الطرح هو لو كانت قوانين الطبيعة هي من صنع انساني لتوجب بالضرورة السببية أن تكون قوانين غير ثابتة متطورة يترتب عليه أن تكون الطبيعة في قوانينها بحالة من السيرورة الدائمية التي لا تحدها حدود قوانين ثابتة لا يمكن للانسان تجاوزها بالتبديل ولا بالتغيير، وعدم ثبات قوانين الطبيعة التي هي أبتداع عمل انساني يلحق به بالضرورة المتعالقة معه أن المعجزات ليست خوارق لقوانين طبيعية هي من صنع الخالق وليس من أبتداع الانسان.

فخرق الانسان لقوانين طبيعية ثابتة كان هو مصدر إبتداعها هي بالحتمية التاريخية تكون مطواعة مستجيبة لرغبة الانسان التي وضعها أن يقوم بعملية تغييرها عبر العصور. لكن عجز الانسان أن يخرق قوانين الطبيعة الثابتة جعل خرقها مقتصرا على مقدرة الصفوة المختارة من الانبياء الذين قاموا بها إستثنائيا في خرقهم تلك القوانين بما أطلق عليه المعجزات متمثلة في عجز غيرهم مجاراتهم بصنيعهم. وبذلك خرجت المعجزات أن تكون من أختراع الانسان في محاولته السيطرة عليها، وكذلك لم تكن المعجزات تراكما من الفعاليات الفريدة التي ينتج عنها بالضرورة تطورا متغيرا لا يتسم بالثبات كقوانين تحكم الطبيعة والانسان وليس بمقدور الانسان قابلية أكثر من التكيّف مع تلك القوانين الثابتة لادامة حياته من الانقراض.

وبذا إنحسر موضوع القوانين الطبيعية بين قطبين مختلفين عائديتها الذاتية المستقلة عن صانع اودعها بها من جهة، ومن جهة مضادة لها أن قوانين الطبيعة هي جزء لا يمكن انفكاكه عن الطبيعة بما هي معطى موجود هكذا منذ الاف العصور وبدء الخليقة والى يومنا هذا وليس بمستطاع الانسان التلاعب بقوانين الطبيعة الثابتة خارج سلطة اكثر من البناء عليها والاستفادة منها وبقيت تلك القوانين ثابتة في ملازمة الطبيعة كماهية جوهرية وصفات لها أخذت سمة الثبات الذي لا يتغير ومحاولة التفكير بخرق واحدة من تلك القوانين مرهون بعمل نبي مختار مزودا بقدرة الهية هي فوق قدرات البشر القيام بها أو فهمها تفسيرا عقليا.

المعجزة بين قدرة الخالق والمخلوق

المعجزات الدينية أمر مشكوك أن يقوم بها انسان نبي بخرق قوانين طبيعية هي من صنع انسان سابق عليه في زمانه التاريخي، والمعجزات لا تمت الى الالهي الخالق بصفة خلقها لأنها أصطلاحات انسانية متواضع عليها دينيا ومختلفة في تفسيرها علمياعقليا.

والخروج على قوانين مصنوعة انسانيا لا يعتبر معجزة فالقانون الوضعي من صنع انسان من السهولة خرقه الذي لا يعتبر معجزة. ومما يزيد الاشكالية تعقيدا هو هل كان العقل الانساني الذي وضع قوانين الطبيعة بهذا الاتقان الاعجازي المذهل الذي نعيشه في اكثر من مجال بالحياة وعلاقة الانسان بالطبيعة كان اكثر تقدما وتطورا من عقل الانسان (الانبياء) الذين تعاقبوا على خرق تلك القوانين عبر العصور وما يزال العديد من تلك القوانين يستعصي على الادراك العقلي الديني والعلمي تفسيره كما يستعصي خرق المعجزات لتلك القوانين بسبب محدودية العقل الادراكي للانسان التصديق بها طبيعيا في اكتشافه عمل بعض قوانين الطبيعة التي تحكمنا انها عصّية على المقبولية العقلية المحدودة للانسان وعصّية على التفكير التجريبي العلمي الذي يقوم على البرهان علميا.

ولو كانت قوانين الطبيعة مثل قانون الجاذبية ومثل قانون الادراك في تعالق المكان ادراكيا بالزمان وقوانين حركات الكواكب وغير ذلك عديد هي من صنع الانسان لكانت معظم تلك القوانين استهلكت نفسها وفقدت تاثيرها على التحكم بالطبيعة ذاتها والانسان معا تبعا لتطور التفكير العلمي عند الانسان في تغيير الكثير مما تمتلكه الطبيعة باستقلالية منفردة عن الانسان.قانون الطبيعة ثابت لا يتغير وجد هكذا منذ بدء الخليقة والى يومنا هذا وفي المستقبل ايضا.

نرى من المفيد تثبيت رأي هيجل بهذا المجال المطروح قوله : أن حركة النظام الشمسي تجري طبقا لقوانين ثابتة، هذه القوانين هي عقله،- يقصد عقل النظام الشمسي الذي هو عقل الانسان ولا فرق بينهما- لكن لا الشمس ولا الكواكب الاخرى التي تدور حولها لديها أي وعي ذاتي بتلك القوانين التي تحكمها. " نقلا عن حاتم حميد محسن، عن هيجل العقل في التاريخ".

وهو ما كنا سبق لنا ذكره أن الطبيعة محكومة بقوانين ثابتة لا تعيها الطبيعة ولا هي تعي نفسها. فالطبيعة بهذا تكون مخلوقة غير خالقة لنفسها ولا لقوانينها، فالذي لا يعي ذاته لا يكون خالقا لذاته، بل يكون موضوعا لادراك غيره من ذوات مدركة له ومدركة لذاتها هي معا هو الانسان فقط. كما أن تعبير امتلاك قوانين النظام الشمسي لعقل خاص بها أمر وتعبير مجازي فقوانين النظام الشمسي تمتلك نظاما حركيا ثابتا، ولا تمتلك عقلا مفكرا يعي ذاته وينظم موجوداته التابعة له بمعزل عن عقل الانسان.

أما أحتمال نظرية أن تكون الطبيعة وجدت هكذا بقوانين تحكمها ولا تدركها الطبيعة نفسها فذلك يثير علامة إستفهام تقود لفرضية أن الطبيعة بمجملها من قوانين وموجودات محكومة بقدرة خالق أعجازية لا يدركها العقل الانساني وهذا باب يدخلنا الى مناقشة الموضوع بأكثر من الاكتفاء بطرحه على شكل تساؤلات بلا حلول ناجعة يقبل التسليم بها العقل الانساني في عصرنا اليوم. ولا يتساوى فيه عقل تقبّل المعجزات في الازمنة التاريخية الماضية كما هي اليوم التعامل معها الذي أصبحنا ملك عقل يشكك بكل شيء يقوم على التصديق اليقيني بمعزل عن إمتلاكه براهين إثبات معقوليته التجريبية علميا.

هيوم وقوانين الطبيعة

يشرح هيوم عدم إيمانه بالمعجزات الالهية، بقوله ليس هناك عناية خاصة الهية تعطل قوانين الطبيعة من أجل أرضاء اشخاص معينين، ويحاول التفريق بين الارادة الالهية الخارقة لقوانين الطبيعة على أنها ترجمة انعكاسية ثانية لما ترغبه الارادة البشرية تحقيقه بواسطة قوانين سايكولوجية يمكننا ملاحظتها ووصفها، كما يربط هيوم بين حتمية ارادة الانسان المقترنة بالمسؤولية الاخلاقية.1

هنا هيوم يقوم يسحب بساط الانفراد الاعجازي من الانبياء في نسبته المعجزات لطائفة مختارة مقربة من الرب هم الانبياء المختارين يستودعهم الخالق قدرات خارقة لا يتقبلها العقل الطبيعي الانساني العادي، وتعجز البشر من فهمها وفق التناسق الطبيعي العام لقوانين طبيعية تحكم الحياة، وفي نفس وقت إجبار الانسان العادي التسليم بالايمان الديني أن وراء هذه المعجزات الله لا غيره والقائمون بها انبياء مختارين منه.

قوانين الطبيعة الثابتة لم توجد ولا تكون موجودة تلبية لرغائب الانسان وكذلك خرقها وانتهاكها ليست من صلاحية ومقدرة الانسان اللعب بها، كما لا تكون تلك القوانين هي مخلوقة لتنظيم حياة الانسان قبل مهمة تنظيمها قوانين الطبيعة الثابتة فيها كما هي موجودة كمعطى في الطبيعة ذاتها، الطبيعة لم توجد بهذه الكيفية تلبية لتامين حياة الانسان والكائنات الحية الاخرى.فالذي لا يعقل ذاته وجودا لا يمكنه أن يعقل غيره في علاقة سببية معه.

واذا نحن أجزنا منح قدرتنا الايمانية بالمعجزات خاصية الانبياء الوقتية الزائلة التي لا يحتاجها الخالق في تثبيت الايمان الديني عند البشر الايمان بألوهيته، تكون المعجزة هي خرق لقوانين الطبيعة التي وضعها الخالق في الطبيعة من قبل إنبيائه برغبة ذاتية تتملكهم تحقيق الايمان الديني الجمعي الذي لا تجدي معه الوصايا الاخلاقية ولا العضات التي يقوم بها الانبياء نفعا وهذا محال، فمعنى ذلك الاقرار بوحدة قوانين خرق المعجزات لقوانين الطبيعة الثابتة تكون في محصلتها أن كلاهما قوانين الطبيعة والمعجزات مقولتان ناتجتان عن مصدر الهي واحد في قدرة الهية واحدة وهي وسيلة الخالق تكليفه الانبياء القيام بها برغبة منه وليس برغبة انبياء يرغبون زرع الايمان الديني القائم على قيم الخير والاخلاق في الحياة لتثبيت الايمان الديني بهم وليس الايمان بالخالق الغني عن استحصال الايمان الديني به بالمعجزات. توجد بديهة تذهب ان المعجزة هي خرق لقوانين الطبيعة بالتفسير العلمي الفيزيائي بينما الايمان عابر للمعجزات بطابعها الفيزيائي انه قلبي قبل ان يكون عقليا.

والمقولة الثانية المناقضة التي يتبناها الملاحدة أن قوانين الطبيعة المخترقة بالمعجزات كلتاهما تلتقيان في مصدر واحد هو الانسان ألذي أبتدعها ويروم خرقها لاسباب تتعلق بتثبيت القناعة الدينية على الارض في تبرير محصلة ذلك سيكون خلود الانسان في الانبعاث الميتافيزيقي السماوي ثوابا لإيمانه الديني الأرضي بالمعجزات..

ثم أن ارادة الانسان العادي المقترنة بالمسؤولية الاخلاقية تجاه ايمانه الديني بالمعجزات ليست هي ذاتها المسؤولية الاخلاقية لدى الانبياء في أتيانهم المعجزات على اساس من تداخل إعجازي إلهي تتقاطع مع نقيضها هو عدم قدرة الانسان العادي بأي شكل من الاشكال خارج ما تقوم به المعجزات أن يصنع هو معجزاته بارادته ومسؤوليته الاخلاقية لنخرج بمحصلة لا قيمة لمعجزة يستطيع تكرارها العديد من الناس وليس الصفوة المختارة من الانبياء بارادة ومشيئة الرب.

بوجيز التعبير هل المعجزة خاصية الهية يحتاجها الخالق لتدعيم ايمان الناس به، أم هي خاصية الهية وضعها في اناس إختارهم صفوة التبشير بما يرغبه الخالق من ايمان ديني بوجوده المطلق الذي يرى في البشر خلقوا من أجل تلبية ايمانهم به معبرا عنها بوصايا أخلاقية وأشكال من صلوات وطقوس عبادية يتقدمهم الانبياء في الايمان بها وممارستها ايمانا وممارسة في تلبية طقوس عبادية ترضي الرب وترضي عابديه على صعيد الممارسة الايمانية في تفعيل الضمير الاخلاقي على أنه ايمان بكل ما هو خيّر من صفات وترك كل ما هو شر يقود لمعصية الخالق بما أمر النهي عنه على لسان انبيائه وكتبهم المقدسة.

الشيء الواجب مناقشته اذا كانت رغبة الخالق كسره قوانين الطبيعة الثابتة التي على وفقها منح الخالق الطبيعة أعجازها المنّظم كمصدر بقاء حياة الانسان والخلل المصنوع من قبل الانسان لنظام تلك القوانين الطبيعي يترتب عليه أن الانسان يعدم ضرورات بقائه على الارض التي تؤمنها له قوانين الطبيعة الثابتة الاعجازية بما تحتويه من علاقات تجمع الانسان مع الحيوان مع النبات مع الجماد ضمن قوانين صادرة عن مصدرالهي واحد استودعها في نظام الطبيعة.. فلا نجد هنا مبررا كافيا أن يكسرالانبياء بإعجاز يمتلكونه بسلطة الرب أو غيرها وليس بامكانية الانسان القاصرة المحدودة تلك القوانين الطبيعية التي تناسب مدارك الانسان فهي موضوعة من خالق يريد جعل الطبيعة بقوانينها في خدمة حياة الانسان وليس تدميرها، فكيف يجوز للانبياء الصفوة الايمانية المختارة من الخالق إمتلاكهم قدرة كسر قوانين طبيعية تعتبر مقدسة بخالقها الذي استودعها الطبيعة، وكسر الخالق تلك القوانين الثابتة من أجل تاييده لانبيائه بما يقدرون عليه من قدرة لا يستطيعها باقي البشر لا يستقيم مع ما عبّر عنه هيوم أنه لا توجد ضرورة ملزمة لارضاء نخبة من الصفوة المختارة من البشر يقربهم الرب له بتزويدهم بمعجزات هي خوارق لقوانين طبيعية وضعها الخالق بها وليست من إبتكار واختراع الانسان.

هنا يجب التفريق لا اولوية ضمان صالح الانبياء في توسيلهم القيام بمعجزات نشر الايمان الديني تنسب لهم لكن تبقى المعجزات ليست خاصية بهم فالانبياء خارج ملكة إحتكارهم المعجزات بعد الرب هم بشر متساوون بكل شيء مع البشر الاخرين. وهم يعبّرون عن هذه الحقيقة بانفسهم على الملأ الذي يدعونه الى الايمان الديني بوسيلة المعجزات الخارقة لقوانين الطبيعة وليس بالوصايا الاخلاقية الوعظية المجردة عن دعاماتها التصديقية.

الخروج الوحيد من مأزق أن معجزات تكسير الانبياء لنظام قوانين الطبيعة هو أن المعجزات خروقات وقتية زائلة زمانيا لقوانين الطبيعة الثابتة دائميا وهي وليدة عصرها التاريخي وهذا لا يلزم عنه تبديلا لثوابت الطبيعة التي لا تتغير قوانينها بمرور العصور والازمان وتبدلات تاريخ وجود الانسان على الارض.. بمعنى ثبات قوانين الطبيعة يلغي ويزيل بقاء المعجزات عبر كل الازمان والعصور كوسيلة تدعيم الايمان الديني المتأرجح عند البشر اليوم. لذا كان اقصر الطرق لهروب اللاهوت الديني من مواجهة إضمحلال المعجزات على أنها وسيلة إقناعية خارقة في ترسيخ الايمان الديني انتهت صلاحية الايمان بها، نجدهم لجأوا الى القول أن عصر المعجزات وظهور الانبياء توقف من حياة الناس الى اشعار آخر في ظهور أنبياء جدد موعودين بهم يملأون الارض عدلا وسعادة..

المعجزة الدينية بين ارادة الخالق ورغبة الانبياء

وهنا يبرز تساؤل مشروع هل المعجزة عمل انبياء بشر تنسب لهم أم المعجزة هي تحقيق رغبة الخالق بتوسيل الانبياء القيام بها وتنسب لقدرتهم العابرة للمعجزات التي يقوم بها الانبياء حصرا من الصفوة المختارة المقربين؟ وهنا نرجّح كفة أن المعجزات هي من وحي الهي يقوم بها انبياء لتثبيت نبوتهم في كسب قناعة الناس بالايمان الديني لكنهم لا يمتلكون خاصية المعجزات كصفة دائمية التي هي خاصية الخالق وحده. فالمعجزة الدينية التي يقوم بها نبي لا تتكرر مرتين بنفس الوتيرة الايمانية. المعجزات في كل الاحوال لا يحتاجها الخالق بمقدار حاجة الانبياء لها لتثبيت دعاواهم الايمانية ببراهين معجزة وقتية يصدقها الناس من خلالها نبوّتهم المقترنة بالايمان الديني للخالق.، وبذلك لا يكون الانبياء يمتلكون خاصية أعجازية تنسب لهم لا يمكن أن يمتلكها غيرهم بدليل ان تقديرات عدد الانبياء المرسلين لهداية الناس على الارض تجاوز الالفين. فقط الذين وردت اسماؤهم في لاهوت الاديان وربما توجد الاف غيرهم. وبهذا الدليل يصبح مقولة هيوم الانسان خلع على الطبيعة قوانينها الثابتة المكتشفة منه باطلا يفتقد برهانه، والسبب الآخر الاهم أن وجود الطبيعة بقوانينها سابق على وجود الانسان في ادراكه قوانين الطبيعة وعلاقته بها هو الآخر يدحض مقولة هيوم وراسل أن المعجزات أبتداع عقلي أنساني لا دخل لخالق به..

وفي كلا الاحتمالين خاصية المعجزة ومصدرها الالهي أو هي خاصية يمتلكها الانبياء في وقت تاريخي معين زائل، فالمعجزة عند الانبياء لا تتكرر دائما بما يفقدها مع مرور الزمان أعجازيتها الاستثنائية المندثرة حتما في عالم يتحدى فيه اليوم أي انسان يدعي النبوة القيام بمعجزة يصدقها الناس.. عليه نجد لا يكون هناك موجبا أن تتساوى أعجازات الانبياء الخارقة لقوانين ثابتة وضعها الله بالطبيعة أعجازيا، مع تلبية ارادة انسانية في كسر تلك القوانين الطبيعية الثابتة التي وضعها الخالق في تحقيق صحة نبوّة الانبياء أنهم صفوته المرسلون لهداية الناس.

ثم هل المعجزات هي لتلبية سد نقص موجود في قوانين الطبيعة تحتاج التأييد الالهي في الخروج عليها بالمعجزة الوقتية والتراجع عنها بعد كسب يقين الناس بنبوّة من يقوم بها دونما توفر إمكانية التدخل الإعجازي من تغيير ثبات قوانين الطبيعة. ؟

أم هل المعجزات اضافة لقوانين الطبيعة الثابتة توازيها بالتداخل معها أو بالاستقلالية عنها؟ لا شيء تحققه المعجزة من تلك الاسئلة في علاقة التوازي الاعجازي مع قوانين الطبيعة التي لا تدرك نفسها بل يدركها العقل الانساني بمعزل تام عنها وتداخله بها هو لتحقيق بقائه الارضي بمساعدة الطبيعة تزويده بمقومات الحياة والبقاء الذي لا يقتصر على ثوابت القوانين الطبيعية فقط.. ولم يتخذ الانسان يوما قوانين الطبيعة كمعجزات تعزز رغبة الايمان الديني لديه كما لم يسلم في حال نقضها بالمعجزات أن يترتب عليه التسليم بالايمان الديني..

المعجزة وقوانين الطبيعة

هل المعجزة في كسرها قوانين الطبيعة هي لصالح حياة الانسان على الارض في تعديلها أو في سد النقص والانحراف غير الموجود بها؟ أم هي وسيلة يمتلكها الانبياء مؤقتا لاثبات البرهنة أنهم انبياء مرسلون يستطيعون القيام بمعجزات مؤيدة من الرب لا يستطيعها غيرهم من البشر؟ وهنا تكون المعجزة لخدمة الانبياء من البشر وليست لخدمة الرب المستغني عن المعجزات سواء تحققت أم لم تتحقق على أيدي الانبياء.

المعجزة ليست خاصية الهية بمعنى الخالق لا يحتاج معجزات تصدر عنه نيابة في الحصول على قناعة التسليم الايماني به. المعجزة في حال توفر صدورها اليقيني عن الخالق يودعها في قلوب الانبياء لكسب برهان الايمان بهم كانبياء مرسلين من الرب... لكن فهم المعجزة المقترنة بالنبي تكون خاصية بشرية يدركها العقل العادي على أنها قدرة متعالية يمارسها الانبياء على القوانين الطبيعية التي تحكم الانسان وحياته على الارض.

وميزة الشك بالمعجزة سواء كانت من صنع انساني أو الهي ايماني هو أن المعجزات (زمانية) يحكمها تاريخ الانسان توالت عليها عصور طويلة من تقدم مسيرة الانسان الارضية. والاقوام التي قامت بتصديقها في عصور غابرة هي غيرها الاقوام التي تتعامل بالعقل العلمي بما يجعل من المعجزات حاجة لا يحتاجها الانسان اليوم حتى لو كانت من أجل استعادة الايمان الديني المتارجح في صالات ومختبرات العلوم بلا استثناء وفي اغلب المجتمعات رقيّا حضاريا.. الايمان الديني اليوم لا يحتاج معجزات انبياء كي يتأكدوا من تحقق ايمانهم الديني الذي يقوم على تنظيم حياة الارض بقيم الاخلاق والسلوك الذي يعطي الانسان كامل حقوقه الارضية، ولا يضع الايمان الديني اليوم أمامه غاية خلوده الموعود بها في السماء.

المعجزات والزمن

اذا نحن ناقشنا أن المعجزات النبوية هي كسر مؤقت وليس دائميا لقوانين الطبيعة الثابتة أو لبعض ظواهرها الارضية، فتكون حقيقة المعجزات لا تاثير لها على ثبات وكمال قوانين الطبيعة، بعبارة أخرى خرق المعجزات لقوانين الطبيعة الثابتة لا يغيرها ولا يبدلها ولا يستطيع أضافة شيء عليها أو حذف شيء منها، وهنا يكون معنا أن المعجزات الخارقة في حال تصديقنا لها توازي قوانين الطبيعة ولا تستطيع التاثير بها. وهذا التوازي يجعل من المعجزات أحداثا تاريخية ماضية زمانيا عابرة بالمقايسة لها مع ثبات قوانين الطبيعة التي لا تتغير بثباتها الزماني بمعزل عن قوانين المعجزات التي تكسر القوانين الطبيعية بقدرة وقتية زائلة ليس لها تاثير دائمي في خرقها لبعض ظواهر الطبيعة وليس قوانينها. مثال ذلك معجزة المشي على سطح الماء أو الكلام المباشر مع الله أو شفاء الاعمى واحياء الميت والولادة بلا زواج من رجل، والرضيع يتكلم في المهد وغيرها اليوم أنما كانت في حال حصولها عصر ذاك هي كسر مؤقت لقانون طبيعي ينتهي بنهاية زمن المعجزة المؤقتة. بمعنى كل من يحاول تقليد المشي على سطح الماء اليوم سيغرق حتى لو أدعى النبوة أذا كان شخصا لا يجيد السباحة وينجو بنفسه. وكل من يحاول تقليد الكلام مع الله سيكون بالنهاية مجنونا لا يصلح عاهته الطب النفسي ولا مستشفيات الامراض العقلية.

عليه تكون قوانين الطبيعة في ثباتها الدائم مع معجزات الانبياء في توقيتها المؤقت الزائل، أنما تكون تكريسا لحقيقة قوانين الطبيعة الثابتة وجدت لخدمة الانسان في حياته، وتبقى المعجزات براهين أعجازية مؤقتة لا تعمل شيئا لصالح الانسان بمقدار تثبيتها نبوة الانبياء وايمان الناس بهم انهم مرسلون من الرب لهداية الناس بالايمان بوسيلة المعجزات على وجود الخالق والايمان الديني بذلك بما يتبعه من وصايا وارشادات ونواهي وغيرها تنسب للخالق والنبي...

بيرتراند رسل وقوانين الطبيعة

قبل البدء بعرض محتوى عنوان الموضوع الفرعي نذكر أن بيرتراندراسل يفهم وجود الله فهما مغايرا عن غيره من فلاسفة ملحدين، في قوله أن ليس من واجبي البرهنة على وجود الله قبل برهنة الرب على وجوده هو بما يقنعني به عقليا. فهو يضع اللوم على المشككين بالحاده أن يبرهنوا هم له الايمان الديني بما يقبله عقله الانساني خارج اساطير وخرافات المعجزات.

راسل في معالجته خرافة المعجزات كما وسبق أن ذهب له اسبينوزا وهيوم يذهب الى العودة لما جاء به نيوتن وتم دحضه من انشتاين أن الكواكب تدور حول الشمس بارادة الهية بفعل قانون الجاذبية الذي وضعه الرب خاصية تعالقية بين تلك الكواكب، اكتشف الانسان الجاذبية قانونا موجودا في الطبيعة وليس أختراعا من الانسان مضافا على قوانينها. ولم يتم الى اليوم التعامل مع قانون الجاذبية على أنه اكتشاف من قوانين الطبيعة فقط لم يترتب عليه اختراعات وفتوحات علمية لا حصر لها. ولم يكن قانون الجاذبية المكتشف دليل أنه قانون اوجده الله في الطبيعة الارضية والكون اللانهائي من أجل تدعيم الايمان الديني لدى الانسان، قانون الجاذبية خاصية الطبيعة في عدم معرفة الانسان من اين جاءت قوانينها العامة التي تحكمها بلا وعي ولا ارادة منها، ورغبة الله أن يخترع قانونا للجاذبية تسير بموجبه الكواكب من ضمنها الارض والقمر حول نفسها وحول الشمس لا علاقة تربط بينهما. بين قانون الجاذبية الطبيعي كمعطى متعالق بوجود الطبيعة، مع قانون الجاذبية الالهي الوضعي الذي زرعه الله في قلب الطبيعة من أجل أن يتمكن الانسان فك شفرات ورموز تلك الجاذبية.

قوانين الطبيعة حسب راسل هي اصطلاحات انسانية اخذت بحكم تكرار العادة - مستعيرا تعبير هيوم - من خلق تصورات العقل الانساني ولا تمتلك الطبيعة قوانينها المستقلة في وجودها الطبيعي. ولنا التعقيب التالي:

- أن تعبير لايبنتيز أننا نعيش أفضل العوالم الانسانية الممكنة كان بفضل توازي منجزات العلم مع القوانين التي تحكم الطبيعة وليس في وارد هذا التوازي من جانب واحد هو التزام العلم العمل به ولا تعقل الطبيعة ولا تدرك معنى هذا التوازي وأهميته بالنسبة لها بما لا يقل عن أهميته في خلق حياة اكثر جدوى للانسان. العقل الانساني ممثلا بالعلم لا يتقبل معجزات خرق وابطال فاعلية قوانين الطبيعة وأهمية ذلك في تنظيم حياة الانسان وهذه مسألة جديرة بالاحترام تكون مقبولة على صعيد مناطحة الفلسفة مع العلم، فالعلم لا يمتلك معجزات دينية بل يمتلك معجزات عقلية تقوم بتطوير الوجود الانساني بعيدا عن ميتافيزيقا الايمان الديني القائم على معجزات لا تقبل برهان العقل العلمي لها.. ومقولة لايبنتيز أننا نعيش افضل العوالم الممكنة غير صحيحة عندما نحاكمها بما يعيشه العالم اليوم من تهديد أمن غذائي وامن صحي، وتفاوت بين الغنى والفقر، وتفاوت بين الصحة والمرض على صعيد الشعوب الارضية وليس على صعيد مجتمع بعينه، تلوث البيئة وانتشار الاوبئة واختلال التوازن الطبيعي الموروث في ارتفاع درجة حرارة الارض المستمر وهكذا بما لا يتوقف عنه التعداد والحصر.

بمعنى أن هذا التوازي بين العلم وقوانين الطبيعة وتعالقهما المشترك في محاولة تنظيم حياة الانسان بافضل ما يكون هو ممكن متاح دليل يدعم النظرية التي تذهب الى أن الطبيعة خلقت قوانينها المنتظمة ذاتيا، بمعنى الطبيعة لا تكون موجودة ادراكيا بالنسبة للانسان من غير طبيعة تحكمها قوانين ثابتة اكتشف الانسان بعضها بما يديم حياته لا بما يخرب قوانين الطبيعة. وينتفي وجود الطبيعة الحي في تجريدها من قوانينها العامة التي تحكمها من غير درايتها لا بفهمها ولا بأهمية امتلاكها بالنسبة لها والانسان.

كما ينفي هذا جدلية نقاشية أن القوانين التي تحكم الطبيعة قوانين ازلية في ثباتها ملازمة الطبيعة وجدت كمعطى الهي لا يمكن تغييره لا بمعجزات الدين ولا بمعجزات العلم. بما يجعل من ألحاد العلم حول موضوع. المعجزات في توكيده عدم الايمان بها مهمة البرهنة على أهمية من أين أمتلكت الطبيعة قوانينها الثابتة،؟ وكذا نفس الحال مع المؤمن الذي يؤمن بقدسية ما خلقه الرب من طبيعة ووضع لها قوانين ثابتة مما يرتب البرهنة على صحة هذا الادعاء بعيدا عن التسليم ببراهين المعجزات الخارقة..

- اذا تماشينا مع كل من ديفيد هيوم وبيرتراندرسل أن قوانين الطبيعة هي تصورات انسانية لمدركات (قوانين ) غير ثابتة لا تمتلكها الطبيعة من غير تخيّلات الانسان التصورية لها – وهذا مرفوض قطعا – فقوانين الطبيعة التي يصنعها الانسان أو يخترعها لا علاقة ترابطية في الغاء احدهما الاخر بمعنى ما يخترعه العلم لا يلغي قوانين طبيعية لا يعرف يقينا مصدرها مثل قانون الجاذبية ومفهوم الزمان على سبيل المثال. التي لا قدرة للطبيعة في امتلاكها لها بوعي منها لا تمتلكه كما لا يستطيع الانسان خلعها على الطبيعة من أجل ادراكها وأهميتها في بقاء الحياة على الارض.لا يستطيع الانسان مجاراة قوانين تحكم الطبيعة كما تمتلكها الطبيعة وجودا.

- التصور الثالث اذا نحن صادرنا مقولة راسل أن المعجزة ليست من خلق الله فهنا نصطدم بحقيقة أن المعجزة الدينية لا تمتلك قيمة لها كما وردتنا عن الانبياء هي ما فوق انسانية ليس على المستوى الديني فقط بل على المستوى العقلي ايضا. اي أن خرق قوانين الطبيعة بالمعجزات لا أهمية لها، كون المعجزة تلتقي القانون الطبيعي في مصدر واحد هو الانسان ولا علاقة ولا دخل للخالق بها ولم يكلف الرب أحدا من البشر القيام بها.

- ويبقى السؤال المحيّر كيف نشأت المعجزات في تداخلها بصلب الايمان الديني وهل هي واقع محكوم به الانسان ويدركه العقل، أم هو وهم اسطوري رافق نشأته وملازمته الايمان الديني عصورا طويلة من الشد والجذب دونما الخروج بنتيجة. وهل الطبيعة أخترعت قوانينها الطبيعية من غير ادراك منها؟ وهل المعجزة تكليف من رب العالمين القيام بها في تدعيم الايمان به أم لتدعيم الايمان بمعجزات الانبياء؟ وهل المعجزات اساطير خرافية تطورت عبر العصور ام هي وقائع دينية حقيقية حدثت مصدرها الخالق وليس اجتهادا ذاتيا يختص به الانبياء في تمكينهم القيام بالمعجزات الخارقة لقوانين الطبيعة الانسانية التي باتت اشكالية مشكوك بها بحد ذاتها بمعزل عن تعالقها الشديد بالمعجزات بمن أوجد تلك القوانين الثابتة بالطبيعة التي تمكن العلم من اكتشاف بعضها واهميتها الكبيرة في حياة الانسان في عدم القدرة الانسانية خرقها الدائم، واشكالية من أوجد قوانين الطبيعة فيها وزرعها لتنظيم وضبط الطبيعة من جهة وأهمية هذا الربط في تاثيره على حياة الانسان ليس على صعيد تدعيم الايمان الديني وانما على صعيد كافة مناحي حياة الانسان المتعالقة بالطبيعة بما لا قدرة على انفكاكهما حيث يترتب على مثل هذه الفرضية بالانفكاك أن لا يبقى شيء موجود اسمه طبيعة وكذلك لا يوجد بعدها شيء مخلوق يسكن الارض يسمى انسانا.

***

علي محمد اليوسف

..........................

هامش:

1. وليم رايت،تاريخ الفلسفة الحديثة، ترجمة محمود سيد احمد مراجعة وتقديم امام عبد الفتاح امام ص 21

فَلسفةُ الجَمَالِ هِيَ فَرْعٌ مِنَ الفَلسفةِ يَدْرُسُ طَبيعةَ الجَمَالِ والذَّوْقِ والفَنِّ، في الطبيعةِ والأعمالِ البشريةِ والأنساقِ الاجتماعية، وَيُكَرِّسُ التفكيرَ النَّقْدِيَّ في البُنى الثَّقَافيةِ بِكُلِّ صُوَرِهَا في الفَنِّ، وَتَجَلِّيَاتِها في الطبيعة، وانعكاساتِها في المُجتمع، وَيُحَلِّلُ التَّجَارِبَ الحِسِّيةَ، والبُنى العاطفية، والتفاصيلَ الوِجْدَانِيَّة، وَالقِيَمَ العقلانيةَ، التي تُوضِّح سَبَبَ شُعورِ الإنسانِ بالرَّاحَةِ والمُتعةِ عِندَ رُؤيةِ الأشياءِ الجميلة.

والسُّؤالُ الأساسيُّ في فَلسفةِ الجَمَالِ: هَل الجَمَالُ ذَاتيٌّ يَكْمُنُ في عَيْنِ الناظرِ أَمْ أنَّه مِيزَة مَوضوعية مَوجودة في الأشياءِ الجميلة؟. وَبِعِبَارةٍ أُخْرَى، هَلْ مَصْدَرُ الجَمَالِ هُوَ خَاصِيَّة مَوضوعية في الأشياء أَم استجابة ذاتية في الإنسان، أمْ نتيجة للتفاعل بينهما؟.

إنَّ الجَمَالَ مَوجودٌ في العَقْلِ الذي يَتَأمَّلُه، وكُلُّ عَقْلٍ يُدْرِكُ جَمَالًا مُخْتَلِفًا، والذَّوْقُ يَلْعَبُ دَوْرًا مُهِمًّا في هَذا المَجَالِ، وَيُقَدِّمُ حُكْمًا جَمَالِيًّا خَالِصًا، وَلَيْسَ حُكْمًا مَعْرِفِيًّا ولا مَنْطِقِيًّا. والجَمَالُ مَفهومٌ مُتناقضٌ وَمُتَشَعِّب، حَيْثُ تَختلف وِجْهَاتُ النظرِ حَوْلَه بَيْنَ فَيلسوفٍ وآخَر. وَقَدْ رَبَطَ الكثيرون مَفهومَ الجَمَالِ بالقِيَمِ الإيجابيةِ المُطْلَقَةِ، مِثْل: الخَيْر والحقيقة والعَدْل. ويَرى البعضُ أنَّ مَفهوم الجَمَالِ مُرتبط بالاستمتاعِ والمَشاعرِ، في حِين يُركِّز آخَرُون على الجانبِ العَقلانيِّ والمَنْطِقِيِّ.

تَتَوَزَّعُ فَلسفةُ الجَمَالِ عِندَ الفَلاسفةِ بَيْنَ رُؤى مُختلفة، مِنها: اعتبارُ الجَمَالِ خَاصِيَّة في الشَّيْءِ نَفْسِه مِثْل التوازنِ والتناسبِ (أفلاطون وأَرِسْطُو)، أوْ كَمَفهوم مُرتبط بالخَيْرِ والكَمَالِ (توما الأكويني)، أوْ هُوَ حُكْمٌ ذاتيٌّ يَعْتمد على تَجْرِبَة الشَّخْصِ وَذَوْقِه الخاص، وَهَذا الذَّوْقُ يُمْكِن تَنْميته وتَثقيفه مِنْ خِلال الخِبرة (فَلاسفة التَّنْوير مِثْل ديفيد هيوم)، أوْ أنَّ الجَمَالَ يَكْمُنُ في عَلاقةٍ ذاتيَّة بَيْنَ الإنسانِ والعَالَمِ، والإنسانُ هُوَ مَنْ يُضْفِي عَلى العَالَمِ جَمَالَه، وأنَّ الجَمَالَ مَا هُوَ إلا انعكاسٌ لِصُورةِ الإنسانِ في الأشياءِ (نيتشه)، أوْ أنَّ الجَمَالَ مُرتبطٌ بالإرادةِ والفِكْرِ الإنسانيِّ، وَهُوَ صِفَةٌ نِسْبِيَّة عَلى عَلاقة وَثيقة بالإنسانِ، نَوْعًا وإدراكًا، وَلَيْسَ صِفَةً مُطْلَقَة (شوبنهاور)، أوْ هُوَ مُصالحة بَيْنَ الأجزاءِ الحِسِّيةِ والعَقْلانيةِ مِنْ طَبيعةِ الإنسانِ (فريدريش شيلر)، أوْ أنَّ الجَمَالَ لَيْسَ صِفَةً في الشَّيْءِ نَفْسِه، بَلْ هُوَ استجابة ذاتيَّة، ولكنْ بِطَابَعٍ عالميٍّ، ولا يَتَعَلَّق الأمْرُ بِمَنفعةِ الشَّيْء (كانط).

إنَّ أفكارَ الإنسان الفلسفية تُشكِّل نَظْرَتَه للجَمَالِ، وتُؤَثِّر عَلَيْه، كَمَا أنَّ مَشاعرَ الإنسانِ تتأثَّر بِتَصَوُّرَاتِه ومَفَاهيمِه عَن الجَمَالِ، فإذا نَظَرَ إلى البيئةِ التي مِنْ حَوْلِه عَلى أنَّها جَميلة وَمُمْتِعة مِنَ النَّاحِيَةِ الجَمَالِيَّة، فإنَّ هَذه النَّظْرَة الإيجابية تَنعكِس عَلى مَشَاعِرِه، فَتُؤَثِّر عَلَيْهِ بِطَريقةٍ إيجابية.

وَيُعْتَبَرُ الفَيلسوفُ الإيطاليُّ بينيديتو كروتشه (1866 _ 1952) مِنْ أبرزِ الذينَ قَدَّمُوا دِرَاسَاتٍ عميقة في فَلسفةِ الجَمَالِ، وَكَتَبُوا في هَذا المَجَالِ بشكلٍ تفصيلي. وَهُوَ يَعْتنق فَلسفةَ المِثاليَّة المُطْلَقَة، ومَذهَبُه الفَلسفيُّ يَضَعُ أربع دَرَجَات في " هُبوط عَالَمِ الرُّوح "، وهي الدَّرَجَة الجَمَاليَّة (تَجَسُّد الرُّوح الفَرْد)، والدَّرَجَة المَنْطِقِيَّة (مَجَال العام)، والدَّرَجَة الاقتصادية (مَجَال المَصلحة الخَاصَّة)، والدَّرَجَة الأخلاقية (مَجَال المَصلحة العَامَّة).

تَتَمَحْوَرُ فَلسفةُ الجَمَالِ عِندَ كروتشه حَوْلَ فِكرة أنَّ الجَمَالَ هُوَ الحَدْسُ والتَّعبيرُ عَن الشُّعُورِ في صُورة ذِهنية، حَيْثُ يَمْزُجُ العملُ الفَنِّي بَيْنَ الرُّؤيةِ والتَّعبيرِ دُون انفصالٍ بَيْنَهما، وكانَ يَرى أنَّ الفَنَّ لا يُمثِّل مَعرفةً بالواقعِ بِقَدْرِ مَا هُوَ مَعرفة حَدْسِيَّة وَرُؤية داخليَّة، وأنَّ الوظيفة الجَمَالِيَّة الأساسيَّة هِيَ التَّعبيرُ عَن الذات، بَدَلًا مِنَ التَّمثيلِ الخارجيِّ للعَالَمِ.

يُعْتَبَر كروتشه مِنْ أكثر فلاسفة إيطاليا تَمَيُّزًا في القَرْنِ العِشرين. وكان يؤمن بوجود نَوْعَيْن مِنَ المَعرفة: المعرفة التي تأتي عن طريق الفَهْم، والمعرفة التي تأتي عن طريق الخَيَال. وَهُوَ يَعْتبر أنَّ الخَيَالَ يُوجِّه الفَنَّ، والفَنُّ لا يُحاوِل تَصنيفَ الأشياءِ، كما يَفْعل العِلْمُ، لكنَّه يَحُسُّ بِها ويُمثِّلها فَقَط، والفَنُّ رُؤيةٌ وَحَدْسٌ كَمَوضوعٍ خارجيٍّ (شَيْء أوْ شَخْص) أوْ كَمَوضوعٍ داخليٍّ (عاطفة أوْ مِزَاج)، يُعبِّر عَنْهُ الفَنَّانُ باللغةِ أو اللَّوْنِ أو النَّغَمِ أو الحَجَرِ، والعَمَلُ الفَنِّي هُوَ صُورةٌ ذِهنية يُؤَلِّفُها الفَنَّانُ، ويُعيد مُتَذَوِّقُو الفَنِّ تأليفَها، وَلَيْسَ الفَنُّ سِوى عَرْضِ الشُّعورِ مُجَسَّمًا في صُورة ذِهنية.

عَرَضَ كروتشه نَظَرِيَّتَه الجَمَالِيَّة في كِتَابَيْن لَه: عِلْم الجَمَال(1902)،والمُجْمَل في عِلْمِ الجَمَال(1913)، وَتَتَمَحْوَرُ حَوْلَ فِكرة مَركزية أساسيَّة، وَهِيَ وَحْدَة الإبداعِ الفَنِّي، حَيْثُ يَسْعَى إلى التَّوفيقِ بَيْنَ النَّشَاطِ الباطنيِّ (الحَدْسِيِّ / الرُّوحِيِّ) للإبداعِ الفَنِّي، وَالنَّشَاطِ الخارجيِّ الحِسِّي التَّعْبيريِّ. وَقَدْ حَلَّلَ طَبيعةَ الجَمَالِ، وَتَجَلِّيَاتِه في الوُجود، وَرَبَطَه بالأحاسيسِ والمَشاعرِ الإنسانية، وَبَيَّنَ أنَّ عِلْمَ الجَمَالِ لا يُعْنَى بإصدار الأحكام عَلى مَا هُوَ جَميلٌ أوْ قَبيحٌ، بَلْ يَفْحَص تَجَارِبَ الجَمَالِ كظاهرةٍ شاملة.

كانَ لفلسفةِ كروتشه الغنية تأثيرٌ قوي في الفلسفة الإيطالية والأوروبية بِرُمَّتها، وَاحْتَلَّتْ أعمالُه مَكانةً بارزةً في كلاسيكيَّات مِثالية القَرْنِ العِشرين، وأثَّرَ في مُعْظَمِ مَنْ أتى بَعْدَه مِنَ المُفَكِّرين والفلاسفة، وكان له أثرٌ في إعادة تقويم أفكار الفَيلسوفِ الألمانيِّ هِيغل.

***

إبراهيم أبو عواد - كاتب من الأردن

تمهيد: صوت اللغة تعبير خارجي عن مدركات العقل. وصمت الفكر رؤية لغوية داخلية لا صوت لها. وصمت الفكر وصوت اللغة نسختان تحملان نفس الابجدية المنطوقة خارجيا والصامتة داخليا في ادراك الاشياء من حيث حقيقة التفكير هو لغة. اللغة والصمت التفكيري هما نسختان لابجدية تصويرية واحدة في التعبير عن المدركات المادية خارجيا والخيالية داخليا، فهما يمثلان تطابقا بالدلالة واختلافا بالمفهوم ماجعل فلسفة اللغة المعاصرة ونظرية العقل والمعنى تدور في حلقة دائرية مغلقة مرتكزها اللغة بما هي ضوابط نحوية تراوغ في التعبير عن المعنى. يكتنفها عدم وضوح التفريق في التعبير عن حقيقة واحدة هي ان اللغة ابجدية صوتية تجريدية تطابقها لغة تجريدية تحمل نفس الرؤية الخيالية هي الفكر الصامت في تعبيرهما عن تجريد اللغة للمادة او الموضوع المستمد من مصنع الخيال الذاكراتي حيث يصبح الفكر واللغة دلالة لمعنى محدد لفهم الواقع او موضوعات الخيال.

ميزات لغة الانسان

اكتسب اختراع اللغة تعريفه الفلسفي المعاصر عند الانسان من حقيقة اللغة انها(صوت) يحمل معنى ودلالة مصدره ما تطلقه حنجرة الانسان المتطورة فسلجيا عبر الاف السنين في ملازمتها اللسان التدريب على اطلاق صوت ذي معنى لا صوت حيواني لا معنى له***، وباختلاف تدني قدرة وعي الحيوان تطوير اصواته الى نوع من لغة تواصلية لعدم ادراكه ان الصوت يمكن تطوره الى ابعد من اشباع حاجتي رغبة الجماع وحاجة تحذير نوعه من الخطر الذي يتهدد بقائه من استهداف الكائنات الحيوانية الاخرى للاضعف في الطبيعة... ميزة تطور لغة الانسان وتحولها من اصوات حيوانية بلا معنى يقلد الانسان بها غيره من الحيوانات مقارنة باختلافها عن اصوات بقية الكائنات الحية نجمله بالتالي :

لغة الانسان عقلية صوتية تشير لمعنى اي تصدر عن شبكة اعصاب ترتبط بقشرة الدماغ. لها رموز وقواعد واحكام تضبطها منها الابجدية او المقاطع الرمزية المكتوبة في تعبيرات الدلالة التواصلية فهم مشتركات الطبيعة مع الانسان ومدركاته لموجودات عالمه المادي والخيالي. لغة الانسان الصوتية والمكتوبة تحمل دلالة ومعنى لشيء محدد معين. لا توجد لغة صوتية ولا لغة مكتوبة رمزية لا تحمل التعبير عن معنى قصدي. لغة الانسان نشأت وبقيت لغة تجريد لفظي يحددها ويضبطها (التجريد) اللغوي الذي يمكنه التعبير عن كل شيء لكن ليس بمقدوره ان يكون متموضعا ماديا او موضوعا يدركه العقل بمعزل عن ارتباطه بالمعنى كتجريد.

الصوت الصادر مجردا عن معناه اي بلا حمولة فكرية قصدية هادفة لا يكون ولا يصبح لغة. الصوت ليس هو اللغة فقط بل هو المعنى الدال عن متعين مادي او متعين خيالي ايضا. وبلغ التضاد الاختلافي بين انصار السلوك اللفظي بزعامة سكينر الذين يعتبرون دراسة الصوت باللغة له اسبقية الاهتمام على دراسة المعنى باللغة التي يقول بها انصار فلسفة اللغة وبعض علماء اللسانيات ونظرية فائض المعنى.

لغة الانسان تتسم بخلق جماليات لغوية صائتة وصامتة معا هي خارج الاستعمال الدارج على ان وظيفة اللغة تواصلية فقط داخل مجموعة بشرية يجمعها تعايش مشترك دائم. مثال تلك الجماليات نتاجات الادب والفنون ومختلف الفعاليات من رسومات وتشكيل ونحت التي يجري توظيف اللغة بها خارج وظيفة التواصل اللغوي الحواري المباشر. صورة اللوحة التشكيلية تكون اللغة فيها هي (المفهوم).

في تقريب نوضحه لاحقا تفصيلا ان الفكر لغة ابجدية تصورية تحمل معنى قصدي. ولا يمكننا تصور لغة لا يحتويها فكر قصدي هادف. بفارق من عدة فوارق ان اللغة صوت نشأ استجابة لاشباع رغبات يحتاجها جسم الانسان داخلي وخارجيا ولا يختلف شكل الصوت اللغوي من حيث هو ابجدية بلا صوت عن الفكر الملازم لها من حيث كونه محتوى لغوي صامت لا قيمة له بدون لغة تعبير صوتي كلام او ابجدي مكتوب عنه. ملازمة اللغة للفكر هو خزين تحتفظ به الذاكرة والذهن كحلقات في منظومة العقل الادراكية. وفرق اللغة عن الفكر انهما كلاهما ابجدية لغوية واحدة تختلفان بالصوت فقط. اللغة تعبير تفكيري عن صوت والفكر لغة تعبير عن صمت.

اللغة والفكر وحدة تعبيرية واحدة متكاملة يتوزعها السلوك والعمل والتعايش المشترك لمجموعة بشرية تجمعها خواص مشتركة ومصالح واحدة. لا اختلف مع احد ابرز الفلاسفة الاميركان المعاصرين وليفريد سيلارز قوله الحياة او الوجود هي لغة فقط فهو مصيب تماما ان الادراك الشيئي هو لغة مجردة . كل الاشياء وموجوداتها وعلاقاتها لا يمكننا فهمها والتعبير المشترك والمنفرد عنها من غير اللغة كتجريد. بخلاصة العبارة اللغة هي وسيلة فهم العالم وادراك الوجود . ولا وجود لعالم سليم له معنى يدركه الانسان بلا لغة او لغات تنظم ادراكاتنا لذلك الوجود. كلية المنظومة الفكرية الادراكية العقلية بدءا من الحواس وانتهاءا بالدماغ هي (لغة) فقط. بهذا نجزم بارتياح لا يحتاج برهنة عليه هو ان العقل جوهر تجريدي ماهيته التفكير حسب تعريف ديكارت. هنا نحن نسقط خاصية التفكير على الدماغ ومن غيره لا يوجد تفكير معرفي. اي علينا الانتباه التفريق بين فيزيائية العقل كعضو فسلجي بايولوجي من مكونات الجسم وبين العقل كناتج تعبيره التجريدي عن الوعي بمدركاته بوسيلة اللغة. على حد تعبير ديكارت العقل جوهر ازلي خالد ماهيته التفكير. الخالد هو انتاجية افكار العقل وليس خلود العقل البيولوجي المقصود به الدماغ. وحينما نقول فهم العالم يبدأ باللغة وينتهي بها هذا لا يعني ان العالمين المادي والخيالي للانسان غير موجودين بدون لغة. لغة التعبير عن الاشياء هو توكيد لوجود موجودات سابق وجودها على اللغة. وبغير تلازم اللغة مع الوجود لا يبقى لكليهما معنى انفصاليا عن بعضهما. الوجود بمفهومه الواقعي سابق على كل تفكير لغوي به.

الفرق والاختلاف بين الفكر واللغة

هذا العنوان الفرعي يستلزم منا تبيان مالفرق بين تفكير العقل صمتا داخليا، وبين تفكيره تعبيرا لغويا صوتيا خارجيا وما المقصود به وما دور الفكر واللغة في تحديد معنى الشيء المفكّر به كموجود.؟ كيف يفكّر العقل داخليا مع ذاته وموضوعه الخيالي، وكيف يفكّر خارجيا في استقلالية وجود مدركاته من الاشياء ماديا عنه؟ بالحقيقة ان العقل في كلا التفكيرين الداخلي والخارجي يتمّان في توافقهما والتقائهما في مصدر التفكير الواحد الذي هو الوجود المادي او الموضوع الخيالي، فلا يوجد عمل فكري في العقل لا يرتبط بموضوع مدرك حسيّا او خياليا والا كان تفكيرا عقيما وهميا وعدما لا علاقة للعقل به ولا للموضوع علاقة بالعقل المدرك له.

التفكير لا يتم بغير موجود متعيّن موضوع سواء اكان ماديا ام خياليا يسبق وجوده ادراك المحسوسات ومنظومة العقل الادراكية له. من المهم تاكيد ان العقل تفكير لغوي لفهم وتفسير الحياة. لذا ادراك العقل لموجودات العالم الخارجي يسبق الوعي بها. تفكير العقل خارجيا يتم بوجود شيء مدرك مادي محدد او (موضوع) يكون مادة للتفكير تنقله الحواس ادراكيا للذهن ومن ثم للعقل على شكل انطباعات وقتية بالذهن، وقد تتعّطل مهمة الحواس هذه عندما نجد العقل يفكّر تخييلا وتخليقا عقليا بموضوع ذهني تستحضره الذاكرة من الخيال وليس من الواقع.

لا علاقة له بالمادة والمحيط الخارجي للاشياء كأن يفكر الانسان خياليا في اشياء من الطبيعة او يتخيّل اي شيء او اية فكرة مجردة غير متعينّة ادراكا ماديا وجوديا امامه في الطبيعة او في الانسان كغيرها بما لا يحصى من الاشياء بالعالم الخارجي من موضوعات خيالية تنعش الذاكرة العقلية التفكير بها كمواضيع سواء في مواضيع الخيال العلمي او في مواضيع الخيال الفني والادبي والجمالي الابداعية وهي مواضيع لا وجود واقعي مادي لها يحدها واقعيا خارج تفكير العقل الحسّي بها. الخيال جوهر لغوي يوازي اللغة جوهرا عقليا.

كما لا تقوم الحواس المادية ولا من مهامها نقل موضوع التأمل الخيالي الى الدماغ وانما مخيّلة الانسان وذاكرته تستذكره في الذهن خيالا مجردا وتجعل منه موضوعا لتفكيرالعقل الذهني في تداعيات مخيالية منها مستمد من الذاكرة وبعضها الاخر تخليق خيالي لظواهر وكائنات وتصورات لا وجود واقعي لها.

يلي ذلك ان العقل قد يعبّر لغويا عن موضوعه الخيالي بعد تخليقه الجديد له في لغة الكتابة او اي نوع من انواع لغة التواصل، او لا يعبر عنه باللغة وانما بوسيلة توصيل جمالية تكون اللغة فيها في حالة كمون يقوم المتلقي استكشافها من خلال لوحة او فن تشكيلي او موسيقا او يوغا او باليه او نص مسرحي صامت. جميع هذه الفعاليات هي لغة غير صوتية يغلب الوعي العقلي بها الادراك الحسي.

اذن في البدء علينا الاقرار الآلي الثابت انه لا يمكن للعقل الانساني ممارسة التفكير ما لم يكن هناك موضوعا واقعيا ماديا او خياليا يصبح مادة او موضوعا لتفكير العقل. وميزة العقل السوي انه لا يفكر في فراغ اوفي لا معنى أو لاشيء. وقلنا ايضا ان الحواس ليس من مهامها ولا من قدراتها نقلها موضوعا خياليا هو من ابتداع المخيّلة والذاكرة الذهنية للعقل ولا دور للحواس به، بل الدور كل الدور يكون للعواطف والوجدانات واللاشعور النفسي في التعبير عن الفنون والجماليات خياليا في لغة كامنة صامتة تتواصل مع المتلقي ايحاءا تأويليا تتعدد قراءاته اللغوية الجمالية. وان العقل من قدراته الذاتية المعجزة انه يفكر خياليا بموضوع او اكثر لم تقم الحواس او احداها بنقله له. وان العقل يفكر خياليا بنفس اهمية وربما باكثراهمية من تفكيره بالاشياء كموضوعات في وجودها المادي في الطبيعة والعالم الخارجي.

هنا يأتي تساؤل أهم ان وسيلة التفكير العقلي للشيء المدرك داخل العقل تتم بماذا أو بأي كيفية يعقل العقل او الدماغ ذاته وموضوعه؟ وما هي آلية التفكير العقلي بالموضوع؟ لحد الان تمّكن العلم من معرفة كيف تعمل حاسة البصر العين في رؤيتها الاشياء، وكذا مع حاسة السمع او الذوق او اللمس، اما كيف يعقل الدماغ نفسه ذاتيا بالتفكير الصامت، كما يعقل موضوعاته ايضا ،وفق أية الية يتم الادراك العقلي في تخليقه الاشياء المادية وتفسيرها فهو غير معلوم علميا اكثر مما تزودنا به الفلسفة وليس تخصص علم طب وظائف الدماغ والاعصاب العاجزة ايضا على حد علمي من تفسير الاجابة كيف يفكر العقل.. لكن من البديهي ان عقل الانسان في كل لحظة من لحظات تفكيره يخلق لغة يفهمها هو ويفهمها غيره. ان يعقل الانسان ذاته معناه يصنع لغة تفكيره في ابجدية صورية تمثليّة. فالعلم يوّضح كيف ان آلية التفكير العقلي تنحصر في موضوع مدرك حسيّا وعقليا عن طريق الجهاز العصبي المرتبط بملايين الخلايا الدماغية التي تتناوب الادراك في عملية معقدة من اختصاص طب علم الدماغ والجملة العصبية وهو مجال لا تعلمه وتعمل به الفلسفة ولا باستطاعتها الخروج منه بنتيجة يرضاها العقل والطب العلمي. على حد تعبير عالم الفيزياء ستيفن هوكنج قوله لامستقبل ينتظر الفلسفة يوازي او يتقدم منجزات العلم. طبعا خطأ عالم فيزياء كبير مثل هوكنج في حكمه على نهاية مستقبل الفلسفة الحتمي كان بمنطوق علمي هو علم الفيزياء الفلكي وليس بمنطوق الفلسفة.

اما في توضيح الفلسفة فهو حين يعقل الانسان ذاته تفكيرا ماديا ام خياليا فهو يحتاج حتما لمادة او موضوع يدركه واقعيا او خياليا كما ذكرنا سابقا لا يخرج عن وصاية العقل في حال انعدام واسطة التعبير الفكري – اللغوي عنه وبه. التفكير بشيء هو الاقرار البديهي المسبق بموجود سابق عليه هو الموجود. اي بمعنى التفكير العقلي لفرد لا يدركه الانسان الآخر في ماهيته خارج العقل الا في حالة التعبير الفكري – اللغوي عنه حين يكون موضوع التفكير العقلي متموضعا فكريا في الواقع المادي لوجود الاشياء.

اما ادراك شخص لما يفكر به شخص آخر عقليا جوّانيا في صمت دونما افصاحه عما يفكر به بالكلام او اللغة او الاشارة فهو محال. فالعقل لا يدرك ما يدورفي اذهان الاخرين، ولا ما يعتمل في دواخلهم من وجدانات وعواطف الا بعد إفصاحهم والتعبير عنها بواسطة ادراك تواصلي لغوي او غيره مع الاخرين..

فاذا اراد العقل وجوب التعبير عن موضوعه المفكّر به للعالم الخارجي المستقبل له، توّسل لذلك الفكر – اللغة. واذا لم يشأ ذلك فانه اي العقل يجعل من موضوعه تفكيرا داخليا صامتا غير متاح ادراكه من غيره الذي هو (أنا) الفرد العاقل المفكّرمن نوعه (الانسان الاخر) بمعنى ان الفكرة واللغة المعبّر بها صمتا عقليا تنعدم في التاثير وفي الحضور في كيفية نقل تفكير مصنع الحيوية العقلية التخليقية للاشياء التي يقوم بها العقل ادراكا وتفكيرا داخليا. فاللغة والفكر لا يحضران سوّية الا في محاولة تنفيذ ايعازات مصنع الحيوية العقلية بالاخبار الادراكي العقلي عن موضوع جرى التفكيربه ذهنيا واكتملت مهمة اعادته من العقل الى عالم الاشياء كفكرجديد بلغة جديدة وليس كموجود سابق مستقل في عالم الاشياء قبل ادراك العقل له.العقل لا يخلق موجودات الحياة القبلية بالفكر بل يخلق وسائل فهم وتفسير وعي تلك الحياة في إعطائها قيمة منظمة تخدم الانسان وتقدمه .

ايعازات العقل الارتدادية الصادرة منه والواردة اليه بواسطة منظومة الجهاز العصبي المرتبطة بالدماغ في تخليقه لمواضيع جرى تفكيره بها انما تتم في تنفيذ اللغة او غير اللغة ( سيميائية الحركات) ايعاز العقل في اعادة الموضوع المفكّر به من العقل الى امكانية ادراكه في العالم الخارجي بفهم جديد عما كان عليه قبل ادراك العقل له، في توّسله اللغة التي هي الفكر ولا فرق بينهما في التعريف المادي او التجريدي بالموضوع في وجوده المستقل في عالم الموجودات الخارجي بعد تخليقه عقليا.الوجود الادراكي الحسي او العقلي المستقل هو وجود فكري لغوي كما هو وجود مادي مستقل في عالم الاشياء ايضا.

كيف تكون اللغة هي الفكر؟

التساؤل الآن كيف تكون اللغة هي الفكر حسب ما تذهب له جميع نظريات علم اللغة واللسانيات المعاصرة، ولماذا يعجز ادراك العقل للاشياء التفريق بينهما اي بين الفكر واللغة.اذا كانا يحملان مدلولين متباينين مختلفين في تعبيرهما عن الموضوع الواحد باكثر من ادراك وتأويل واحد صادر عن العقل؟. سؤال يسبقه جوابه.

هنا اللغة والفكر المتلازمان في تعبيرهما عن الاشياء ليس بمقدورهما تفسير وجود الشيء بمعزل احدهما عن الاخر اي بمعزل اللغة عن الفكر، او الفكر عن اللغة لانه يكون ذلك استحالة ادراكية تعجيزية للعقل....في امتناع الفكر واللغة التعبير عما يرغبه العقل التعبير عنه وجودا واعيا مدركا. ان في عجز الفلسفة الخروج عن نظرياتها المفترضة شبه الثابتة ان الفكر هو اللغة المعبّرة عنه، او ان اللغة هي وعاء الفكر، او ان اللغة هي بيت الوجود.وأن اللغة مبتدأ ومنتهى ادراك وجود الانسان والطبيعة والاشياء في العالم الخارجي. جميع هذه التعبيرات الفلسفية تفهم اللغة على انها فعالية ادراكية عقلية في تحديد الفكرة او الموضوع في تموضعهما خارجيا كي يتم ادراك الشيء ومعرفته من قبل الآخرين من الذوات العقلية المدركة وهو صحيح الى حد كبيرولا يتوفر مجال أدحاضه في الاحتكام للعقل في ادراكه الوجود على وفق هذه الآلية التي ترى ان الفكر واللغة وجهان لعملة واحدة.ومن المحال ادراك الاشياء بالفكر دونما اللغة، ولا باللغة دونما الفكر.

في هذه الحالة حين تكون اللغة هي تعبير عن فكرة متموضعة داخل او خارج العقل، يستحيل الفصل بين اللغة والفكرة او الموضوع المعّبرعنه بهما. فبهما (الفكر واللغة) يصبح التفكير الذهني العقلي موضوعا ومتعيّنا وجودا في العالم الخارجي بعد تخليقه عقليا، وفي هذا الاسلوب يكون تفكير العقل خارجيا او بالاحرى من اجل فهم الوجود الخارجي للاشياء المستقلة. حين نقول تفكير العقل الداخلي المقصود به هو التفكيرالذاتي الصامت، أما تفكير العقل خارجيا فهو عندما يجري تعبير اللغة عن موضوع تفكيرالعقل واقعيا ماديا كوجود مستقل في عالم الاشياء.وبالواقع ان هذا التفريق في تفكير العقل داخليا صمتا وخارجيا بوسيلة اللغة، انما هما في الاصل تفكيرلغوي واحد للعقل في موضوع محدد مشترك يتميّز به بمعزل عن كل موجود مادي او متخيل آخر.أي أن العقل واللغة والفكر يجمعهم (وحدة وجود أسبقية الموضوع على تفكيرهم ) المدرك في وقت واحد معيّن.وهكذا هي الحال في تناول اي موضوع او شيء من العالم الخارجي كي يتم تخليقه داخل العقل قبل افصاح الفكر واللغة عنه كوجود او شيء في العالم الخارجي.

ان ادراك العقل للاشياء الواردة له عن طريق الحواس بما لا يحصى في تنوعاتها وتوقيتاتها الزمنية،لايعقلها العقل دفعة واحدة،اويعطي الدماغ ردود الافعال الانعكاسية الارادية وغير الارادية عليها بعشوائية من دون تراتيبية يعتمدها العقل..

ذهبنا الى استحالة فصل اللغة عن الفكر في حالة افصاح العقل عن فهمه وتعّينه لموجود او شيء مادي ما في العالم الخارجي.وليس في التفكير الصامت داخل العقل اذ يكون الفكر واللغة غير مدركين في التعبير عن شيء هو لا يزال موضوع العقل بالتفكير به صمتا داخليا.انه من المهم تاكيد ان العقل في تخليقه اشياء الوجود الخارجي والوجود الخيالي الداخلي انما يتم في تفكير العقل باللغة المتكاملة مع الفكر.اي ان تفكير العقل بالشيء لا يكون بالفكر المجرد عن ابجدية اللغة فهذا هراء، وكذا الحال بالعكس ان العقل لا يعقل الوجود باللغة دون الفكر ايضا. تلازم وحدة الفكر واللغة في التفكير يعجز العقل عن اعطاء اسبقية احدهما على الاخر لكنه يستطيع بيسر وسهولة تحديد اسبقية الموضوع على كليهما، فلا تفكير ولا لغة ولا عقل يعمل بدون موجود او موضوع يسبقهما وجودا مستقلا. نذّكر ان علماء وفلاسفة اللغة واللسانيات جميعا يعتبرون اللغة والفكر هما وجهين لعملة واحدة ولا تفريق بينهما كما ذكرنا سابقا، فاللغة هي الفكر المعبّر عنه حسب ريكور وفنجشتين ودي سوسيروجومسكي وجميع فلاسفة وعلماء اللغة في اعتبارهم اللغة هي فعالية العقل في تعيين ادركاته للموجودات والاشياء الخارجية.

لكننا نجازف براينا بالمباشرونقول انه يمكننا فصل الفكر عن اللغة عندما يكون تفكير العقل صمتا داخليا في التفكيربموجود شيء مادي او خيالي لا يحتاج لغة التعبير عنه افصاحا خارجيا بل يحتاج الفكر وحده لانه وسيلة تفكير العقل المعقدة الوحيدة في تخليقه لموضوعه بوسيلة الفكر لوحدها دونما الحاجة الى اللغة وسيلة تعبير لمواضيع العقل ، وتكون اللغة تعبيرا صامتا داخليا متخيّلا ايضا في تفكير العقل لموضوعه الخيالي كوجود غير مادي، اي وجود خيالي لا يرتبط وغير ملزم التعبير اللغوي عنه بعد تخليق العقل له. الصمت تفكير صوري وابجدية لغوية.

وانما تكون حاجة العقل في حواراته الداخلية للفكراهم واكثر فاعلية في عدم اعتماد اللغة التي تكون لغة استيعاب صوري لما يفكر العقل به. (الفكر) هنا وسيلة العقل في معالجة موضوعاته صمتا داخليا، وتكون (اللغة) وسيلة العقل في التعبير عن الموجودات والاشياء في العالم الخارجي. هذه العبارة التي ادرجتها خاطئة لسبب اننا اعتبرنا اللغة صوتا تعبيريا خارجيا وليس تفكيرا صامتا داخل العقل والجسم. والخطأ الثاني في العبارة السابقة هو تجريد اللغة الداخلية الاستبطانية انفصالها من المعنى غير المفصح عنه بلغة الصوت. اللغة فكر له معنى يلازمه صوت يمتلك لغة منتظمة. وبغير ملازمة صوت اللغة لمعنى التعبير لا تكون لغة يعقلها العقل.

الصمت تعبير لغوي

للتوضيح اكثر فالتفكيرالمادي الصامت هو في معالجته موضوع واقعي او شيء ما بالتفكير المجرد كمتعيّن موجود في العالم الخارجي، اما في تفكير الصمت العقلي (الخيالي) غير المعبّر عنه باللغة فهو الهام تخييلي في انتاج الذاكرة العقلية موضوعا يدرك خارجيا بلغة جمالية خاصة هي في حالة من الكمون الموحي خلف فهم الوجود الجمالي للشيء، لم يكن ادراكه متيّسرا قبل افصاح العقل له وتخليقه جماليا، كما في خيال انتاج لوحة فنية او قطعة نحتية، او قصيدة شعرية او اي ضرب من ضروب التشكيل الفني ومعالجات علم الجمال الذي من المتاح الممكن التعبير عنها بغير لغة الكلام او لغة الكتابة او الموسيقى او الاشارة.

نأتي الآن الى معالجة اصل امكانية فصل الفكر عن اللغة، على انها استحالة ادراكية في فهم الاشياء والمواضيع في حال وجودها بالعالم الخارجي في استقلالية عن الانسان سواء كانت مواضيع تناولها العقل بالادراك واعادها باللغة والفكر ثانية الى عالم الواقع من جديد بعد تخليقها بوعي عقلي جديد، او لم يدركها في وجودها المستقل التي ايضا تستطيع الحواس و اللغة التعبير عنها كموجودات واشياء.

 التفكير العقلي الصامت ماديا او خياليا فأن آلية العقل في التفكير تستطيع فصل اللغة عن الفكر طالما هما حاضران ذهنيا في لحظات زمنية واثناء التفكيربموضوع ما داخليا،اي حينما يفكر العقل صمتا فهو يفكّر بالفكر ذاته كوسيط لموضوع مدرك في علاقته بالفكروالعقل الذي نقلته الحواس المدركة للاشياء او في موضوع ابتدعه الخيال ايضا ويحتاج العقل الفكر كوسيط في تخليقه واعادته الى عالم الاشياء باللغة المعّبرة عنه. وليس باللغة خارج موضوعه في التفكير الصامت. اللغة في تفكير العقل الصامت لا اهمية ولا وجود لها يتاح ادراكه من غير الشخص الذي يفكربموضوعه عقليا منفردا مع نفسه وموضوعه ويبقى الفكر وحده وسيلة العقل في التفكير وتخليقه مواضيع الخيال العقلية والمادية ايضا.

وطالما كانت اللغة والتفكير معطّلان كوظيفة نقل ما يقترحه العقل عليهما نقله الى العالم الخارجي، اي بقاء العقل يفكر ذاتيا صمتا بمعزل عن نقل ما يفكر به لغويا، فان العقل وسيلة تفكيره الفكر ذاته فقط ولا يحتاج اللغة الا على انها جزء من الفكر وملازمة له خارج ادراك الدماغ او العقل في وجود الاشياء، وتفكير العقل وتخليقه لموضوعه، فلا يدرك موضوع التفكير العقلي خارجيا من غيره الا بواسطة اللغة فقط الناقلة للفكر من داخل العقل(الدماغ) الى واقع الوجود في عالم الاشياء.

وعندما يتجسد ويتعيّن الموضوع في عالم الاشياء الخارجي بالتعبير عنه لغويا او بأية وسيلة تعبير غير اللغة الصوتية او المكتوبة، فهنا لا يصبح فصل الفكرعن اللغة ذات اهمية كبيرة، ولكن تبقى اللغة في اثناء عملية تفكير العقل (صمتا) في مرتبة ثانوية بعد الفكر في مقارنتها باولويتها في التعبير عن الموجودات والاشياء الخارجية في العالم الخارجي والطبيعة خارج هيمنة ادراك الحس والعقل لها بعد تخليقه لها، عندما تكون اللغة جزءا لا ينفصل عن موضوعها الذي عبّرت عنه في عالم الاشياء والموجودات.

أي تكون اللغة وسيلة ادراك فهم الاشياء في وجودها المتعين المستقل عن تاثير العقل به بعد ان يصبح واقعا ماديا في عالم الاشياء. وباللغة وحدها لا بالفكر نفهم تفسير الموجودات المدركة في وجودها قبل تعبير الفكر عنها، لذا يذهب الجميع الى ان فصل اللغة عن الفكر محال وهو صحيح بالنسبة للشخص الذي يفهم الموضوع في وجوده المادي المستقل هو تعبير لغوي يداخله المعنى الذي هو الفكر.بمعنى ان افصاح اللغة عن الشيء يسبق الفكر عنه.

بمعنى توضيحي اكثر ان اللغة لا تستمد فعاليتها داخل تفكيرالعقل الصامت جوّانيا بموضوعه مع ذاته وانفصال العقل والفكر كليهما عن العالم الخارجي، وانما تستمد اللغة اقصى فاعليتها في التعبير عن الاشياء في وجودها الخارجي المستقل خارج وعي العقل لها في زمنية محددة تلزم عقلا مفكرا واحدا في موضوع واحد، هو غير مدرك وجودا لغويا لدى غيره من عقول تختلف في ادراكها وتفكيرها والتعبير ربما في نفس الموضوع.

وحتى في هذه الحالة فالفكر وتعبير اللغة يبقيان قاصرين عن التعبير عن الموجودات المستقلة من دون ادراك العقل لها وتحديده نوعية الفكر ونوعية اللغة المعبّرةعنها.ويكون وعي الذات هي كينونة متشّكلة من الوجود المدرك، بالمحسوسات، ومن والعقل، وايضا من الفكر واللغة. لذا عندما يكون تفكير العقل صمتا جوّانيا، يصبح التفكير بالشيء سابق على لغة التعبير عنه خارجيا. فالموضوع المفكّر به صمتا غيرلغوي يبقى حبيس ووصاية العقل في التفكير به قبل اهمية انشغال العقل في التعبير اللغوي عنه.

ان اللغة اثناء زمنية تفكير العقل بموضوعه صمتا داخليا، تكون ملازمة لعملية تفكير العقل ذاتيا، لكنها لا تتقدم تفكير العقل. فليس كل تفكير داخل العقل صمتا يلزم حضور اللغة المنطوقة معه لكنه يلزم حضور التفكير العقلي وحده في حواره الداخلي مع موضوعه. فالعقل بلا تفكير لا قيمة له، والفكر بلا عقل يدركه ويتعامل معه يكون غير موجود،وكذا تتبعه اللغة ايضا. فالفكرواللغة لا ينتجان العقل الذي يفكر بهما، لكن العقل ينتج الفكر واللغة اللذين يتوسلهما في فهم الاشياء، والعقل بتفكيره الصامت بمقدوره تفعيل حضوره بلا لغة تعبير غير ملزمة لنقل تفكير العقل كما هو الحال في ابداعات الفنون وعلم الجمال.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

....................

*** أصوات الحيوانات هي فقط تنبيه عن خطر محدق بجنسه، وكذلك تطلق الحيوانات أصواتا خاصة في موسم التكاثر. واصوات الحيوان ليست لغة ابجدية كما اخترعها الانسان.

 

على الرغم من التشابهات الأساسية بين فلسفة أفلاطون في الجمهورية وفلسفة الفارابي في المدينة الفاضلة، خاصة في تصورهما للدولة المثالية التي يحكمها حاكم فيلسوف، إلا أن هناك اختلافات جوهرية تنبع من اختلاف الإطار الفكري والديني لكل منهما. كلاهما يطرح فكرة مدينة مثالية غير موجودة على أرض الواقع، تمثل نموذجًا للكمال الاجتماعي والسياسي. يرى كل من أفلاطون والفارابي أن الهدف الأسمى للدولة هو تحقيق العدالة والسعادة لمواطنيها. فالعدالة ليست مجرد قانون، بل هي حالة من الانسجام بين أفراد المجتمع، حيث يؤدي كل فرد وظيفته على أكمل وجه. كما يتفقان على أن أفضل من يحكم المدينة هو الفيلسوف الحاكم عند أفلاطون، والرئيس الأول عند الفارابي. هذا الحاكم يجب أن يمتلك الحكمة والمعرفة المطلقة، وأن يكون بعيدًا عن شهوات الدنيا ومصالحها الشخصية.

الأسس الميتافيزيقية ومصدر المعرفة

اعتمد أفلاطون في تصوره على نظرية المثل، حيث يرى أن عالمنا المادي هو مجرد نسخة من عالم المثل الأبدي. يصل الفيلسوف الحاكم إلى الحقيقة عن طريق العقل والتفلسف المجرد، ليتمكن من إدراك "مثال الخير" والعدالة وتطبيقه على إدارة المدينة. اما الفارابي يربط تصوره بأسس ميتافيزيقية إسلامية. يستمد فكرة "الرئيس الأول" من مفهوم "المبدأ الأول" (الله) الذي هو مصدر النظام والكمال في الكون. المدينة الفاضلة عنده هي انعكاس لهذا النظام الإلهي. يضيف الفارابي إلى المعرفة العقلية عنصرًا دينيًا، فالرئيس الأول قد يكون نبيًا يوحى إليه، مما يمنحه كمالًا في المعرفة لا يستطيع العقل وحده تحقيقه.

دور الدين والعقل في نظرية الفارابي

اعطي الفارابي للدين دورًا محوريًا وأساسيًا في تأسيس المدينة الفاضلة. فالقوانين والأنظمة تُشرع لتعمل على تحقيق السعادة، التي هي هدف ديني وأخلاقي في آن واحد، يمكن القول إن الفارابي أخذ الهيكل العام لمدينة أفلاطون الفاضلة، لكنه ألبسها ثوبًا جديدًا يتماشى مع الفكر الإسلامي، مضيفًا بُعدًا دينيًا ونبويًا لم يكن موجودًا في الطرح الأصلي لأفلاطون.

مفهوم العقل عند الفارابي

الفارابي يرى أن العقل هو الأداة الأساسية لتحصيل الفضيلة والسعادة، لكنه يميز بين مستويات مختلفة للعقل، ويربط بينها وبين الفيض الإلهي والنبوة. يمر العقل البشري بمراحل تطور مختلفة، من "العقل بالقوة" (الاستعداد للمعرفة) إلى "العقل بالفعل" (المعرفة الفعلية) وصولًا إلى "العقل المستفاد". هذا العقل المستفاد هو الذي يصبح جاهزًا لتلقي الفيض من "العقل الفعال"، وهو عقل مفارق للمادة في نظر الفارابي، ويعادله في نظريته مع جبريل عليه السلام. يستطيع الفيلسوف، من خلال التأمل العقلي والمنطق، أن يتصل بالعقل الفعال ويستمد منه المعرفة الكاملة. تتشابه حالة النبي مع الفيلسوف، لكن النبي يتميز بـ “القوة المتخيلة" التي تمكنه من استقبال الفيض في صورة محسوسة ومتخيلة (مثل الوحي)، ثم يعبر عنها بلغة تناسب عامة الناس.

التكامل بين العقل والوحي

لا يرى الفارابي أي تعارض بين العقل والوحي. فكلاهما يهدف إلى تحقيق نفس الغاية، وهي معرفة الحقيقة والفضيلة، ولكن من خلال مسارين مختلفين. العقل يدرك الحقائق بطريقة فلسفية برهانية، بينما النبوة تعرضها بطريقة دينية رمزية. يمثل كل من النبي والفيلسوف أعلى مراتب الكمال الإنساني، لأن كلاهما يتصل بالعقل الفعال. لكن الفيلسوف يدرك الحقائق في صورتها المجردة، بينما يدركها النبي في صورة متخيلة، ويتمكن من نقلها للناس بلغة يفهمونها.

مفهوم العقل في الفلسفة اليونانية

أناكسغوراس: كان أول من قدم مفهوم "النووس" (العقل الكوني)، لكنه اعتبره مجرد محرك أو منظم للعالم، دون أن يكون له دور أخلاقي أو غائي في توجيه الإنسان.

أفلاطون: ربط العقل بـ "عالم المُثُل"، واعتبره الأداة الوحيدة التي يمكن للإنسان أن يدرك بها الحقيقة المطلقة "مثال الخير". العقل هنا ليس مجرد أداة للمعرفة، بل هو أساس للفضيلة والحكمة. الفيلسوف الحاكم هو من وصل إلى أعلى درجات العقل.

أرسطو: طور مفهوم "العقل الفعال"، واعتبره جزءًا إلهيًا مفارقًا للمادة. العقل الفعال هو الذي يمنح العقل البشري (العقل بالقوة) القدرة على التفكير الفعلي، وهو غاية الوجود الإنساني في تحقيق الكمال.

العقل والميتافيزيقا

الميتافيزيقا الفلسفية تهدف إلى فهم ما هو أبعد من العالم المادي، مثل طبيعة الوجود، الحقيقة المطلقة، والغاية من الحياة. هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها بالمختبر أو التجربة، كانت الفلسفة اليونانية التي اعتمد عليها الفارابي تهتم بالميتافيزيقا بشكل كبير. كان هدف أفلاطون وأرسطو ليس بناء إلاه، بل بناء فهم كامل للكون والإنسان، وهذا الفهم كان أساسًا للمنطق والأخلاق. كذلك الفارابي لم يكن يهدف إلى بناء نظرية فيزيائية، بل إلى تأسيس فلسفة سياسية وأخلاقية على أساس عقلي متين. ربط الفارابي الميتافيزيقا اليونانية بالميتافيزيقا الإسلامية. واعتبر ان مصدر المعرفة ليس هو العقل فقط، بل هو العقل الفعّال الذي هو مصدر الوجود والمعرفة معًا، لم تكن الفلسفة عند الفارابي مجرد تأمل نظري، بل كانت لها غاية عملية وهي توجيه الإنسان والمجتمع نحو السعادة القصوى، وهذه السعادة لا تتحقق إلا بالفضيلة.

استمرارية المدينة الفاضلة

هناك معضلة منطقية حقيقية في نظرية الفارابي، إذا كان الرئيس الأول يمثل قمة العقل، فهل يجب أن يكون الرئيس الثاني على نفس المستوى؟

الاحتمال الأول: الرئيس الثاني لا يمكن أن يكون مساويًا للأول. هذا يتناقض مع فكرة استمرارية المدينة الفاضلة، لأن تراجع مستوى العقل سيؤدي حتمًا إلى تدهورها.

الاحتمال الثاني: الرئيس الثاني يمكن أن يكون مساويًا أو أفضل من الأول. هذا يفتح الباب أمام التنافس والصراع على السلطة، مما يعيدنا إلى نفس المشاكل التي تحاول المدينة الفاضلة حلها.

هذه المعضلة لم يتطرق لها الفارابي بشكل مباشر، وتبقى نقطة ضعف في نظريته السياسية. ربما يمكن تفسير هذا القصور من خلال التأكيد على أن وظيفة الرئيس الثاني ليست إبداعية بقدر ما هي حفظ وتطبيق للقوانين. فالرئيس الأول هو المشرّع والمؤسس، أما الرئيس الثاني فهو القائم على تنفيذ هذه الشرائع.

لفلسفة كمقاومة

الفلسفة في جوهرها هي نقد وتساؤل مستمر. أدواتها (المنطق، البرهان، التفكير النقدي) ليست مجرد أدوات أكاديمية، بل هي وسائل للكشف عن الأخطاء والظلم والزيف في المجتمع. الفيلسوف الحقيقي، من منظور أخلاقي، لا يمكنه أن يرى الظلم ويسكت عنه. وعندما يتنازل عن دوره النقدي، فإنه يتخلى عن جوهر الفلسفة. عندما يتنازل عن دوره النقدي، فإنه يتخلى عن جوهر الفلسفة.  في هذه الحالة، يصبح صمت الفيلسوف خيارًا للبقاء، وليس بالضرورة موافقة على الظلم، قد يشعر الفيلسوف بأن أدواته الفلسفية غير كافية لمواجهة قوة السلطة، وأن الكلام لن يغير شيئًا، مما يؤدي به إلى اليأس والإحباط بدلًا من المواجهة المباشرة التي تؤدي إلى إقصائه تمامًا. إن دور الفيلسوف في المجتمع هو مرآة للعقل، وعندما تصبح هذه المرآة ضبابية أو مكسورة، يكون ذلك مؤشرًا على أزمة ليس فقط في الفيلسوف نفسه، بل في المجتمع الذي أضعف دوره. الفارابي، لم يُعرف عنه بشكل مباشر استخدام الفلسفة كمقاومة بالطريقة التي يمكن أن نفهمها من خلال فلاسفة آخرين مثل سقراط أو فوكو. ومع ذلك، يمكن تحليل بعض جوانب فلسفته في سياق المقاومة الثقافية والفكرية. الفارابي عمل على دمج الفلسفة اليونانية مع الفكر الإسلامي، مما ساعد في الحفاظ على التراث الفلسفي وتطويره في سياق إسلامي. هذا الإبداع الفكري يمكن اعتباره نوعًا من المقاومة ضد التقاليد الفكرية الجامدة. في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة"، قدم الفارابي تصورًا لمجتمع مثالي يقوم على مبادئ العدالة والمعرفة. هذا يمكن أن يُعتبر دعوة للمقاومة ضد الفساد الاجتماعي والسياسي ،الفارابي انتقد بعض المفاهيم السائدة في مجتمعه، مثل فكرة السلطة المطلقة، مشددًا على أهمية الحكمة والمعرفة كوسيلة للحكم الرشيد من خلال تأكيده على أهمية العقل والتفكير المنطقي، قدم الفارابي أداة لمواجهة الجهل والتقليد، مما يعزز من قدرة الأفراد على التفكير النقدي ومقاومة الأفكار المسبقة ،بينما لا يمكن وصف الفارابي بأنه استخدم الفلسفة كمقاومة بشكل صريح، فإن عمله الفكري ساهم في تعزيز الاتجاه التوفيقي من المعرفة والتفكير النقدي، مما لا يمكن أن يُعتبر نوعًا من المقاومة الثقافية والفكرية في عصره. الفلسفة كمقاومة تتعلق بفهم كيفية استخدام الفكر الفلسفي كوسيلة لمواجهة التحديات والظلم. يمكن النظر إلى الفلسفة على أنها أداة لتعزيز النقد والتفكير المستقل، مما يسمح للأفراد بمواجهة الأنظمة الاجتماعية والسياسية التي تقيد حرياتهم أو تفرض عليهم قيودًا.

***

غالب المسعودي

مفتتح إشكالي: في ظل التطور السريع الذي يشهده العالم اليوم في مجال التكنولوجيا يُبرز الذكاء الاصطناعي كقوة جديدة تعيد تشكيل ملامح حياتنا اليومية، باعتباره أحد أبرز إنجازات العصر الحديث. فلم يعد مجرد ابتكار تقني محدود، بل أضحى قوة مؤثرة في مختلف الميادين: من التعليم والصحة إلى السياسة والاقتصاد، بل وحتى في العلاقات الاجتماعية والثقافية. لقد بات شريكًا يُعول عليه في التفكير، والإنتاج، واتخاذ القرار، مُمكنًّا الإنسان من إنجاز أعمال معقدة بسرعة ودقة تفوق قدراته الطبيعية. غير أنّ هذا التطور المذهل يطرح سؤالاً فلسفيًا عميقًا: هل ما يزال الإنسان سيّد هذه التقنية ومالك زمانها، أم انه ماضٍ نحو شكل جديد من العبودية أمام ما أبدعته يداه؟

1.الإنسان في قلب العاصفة التكنولوجية:

مع التطور الرقمي السريع الذي نعيشه اليوم، أصبح الذكاء الاصطناعي واحدًا من أهم إنجازات الإنسان. فهو يمثل نقطة تحول كبيرة في تاريخ البشرية، تشبه في تأثيرها اختراع الطباعة أو الهاتف أو الحاسوب. ولم يعد مجرد أداة نستعملها فقط، بل تحول إلى قوة تؤثر في حياتنا كلها، من التعليم والصحة والثقافة، إلى الاقتصاد وحتى في علاقاتنا اليومية غير أن هذا الحضور الهائل يطرح أسئلة جوهرية من بينها: هل يبقى الإنسان سيّد هذه القوة الجديدة أم يتحول إلى عبد لها في شكل جديد من أشكال التبعية؟ خصوصًا وأن إنسان اليوم يستعين بهذا الاكتشاف المُبهر والمبتدع ولا يستطيع العيش بعيدًا بمعزل عن هذه المنظومة، فالذكاء الاصطناعي بذلك لم يعد مجرد برامج حسابية معقدة إنما أصبح جزءًا من حياتنا اليومية نراه في الهواتف الذكية ووسائل النقل، والمستشفيات، والمدارس بل وحتى في النقاشات التي تُصنع في الفضاء العام وتؤثر في الرأي العام وصناعة القرار

لكن من جهة أخرى نرى بأن ليس كل تأثير للتكنولوجيا دليلاً على فقدان الإنسان لسيادته فقد عرف التاريخ قفزات نوعية متشابهة مع اختراعات كالكهرباء مثلاً أو الانترنيت، ومع ذلك استطاع الإنسان التكيف معها دون أن يفقد حريته تمامًا.

2.الذكاء الاصطناعي: قوة محرّرة أم قيود جديدة؟

 نجد بأن لذكاء الاصطناعي أحيانًا يُنظر إليه كقوة محرِّرة ، السؤال هنا لماذا ؟ : ذلك لأنه يفتح أمام الإنسان آفاقًا جديدة للمعرفة والإبداع والإنتاج إذ أصبح بإمكانه معالجة كميات هائلة من المعلومات ،واستخراج أنماط ودلالات لم يكن العقل البشري ليستطيع الوصول إليها  بالسرعة نفسها، حيث يتيح للطلبة والباحثين إمكانية الوصول إلى مصادر علمية ضخمة بضغطة زر ويسهل على الأطباء تشخيص مرضاهم بدقة أكبر وكذا يمكن المؤسسات من تحسين آداها وتنظيم مواردها بشكل أكثر فعالية و استساغة بهذا المعنى يبدو وكأنه يمنح الإنسان "أجنحة معرفية" تجعله ينجز في ساعات ما كان يستغرق منه سنوات طويلة .

لكن في المقابل هذا الوجه المشرق يخفي إشكالية عميقة وهي أن هذه المعرفة التي يتيحها الذكاء الاصطناعي قد لا تكون متاحة للجميع بالقدر نفسه فالشركات الكبرى مثلاً التي تحتكر التقنيات والخوارزميات العملاقة، تتحكم بشكل غير مباشر في تدفق المعرفة والمعلومة وتفرض على المستخدمين شروطًا وأنظمة تجعلهم لا يستطيعون الاستغناء عنها( مثلا عند استعمالك تطبيقًا أو منصة انت توافق غالبًا من غير وعي على شروط طويلة ومعقدة هذه الشروط  تمنح الشركة الحق في جمع بياناتك صورك ،إجاباتك… بعد ذلك يتم استخدام هذه البيانات ليوجه لك اعلانات ومحتويات تناسب اهتمامك ومع الوقت تصبح مدمنًا على المنصة ويصعب عليك تركها لأن فيها أصدقائك اخبارك وحتى عملك، وهنا نلاحظ أن الشركة وضعت شروطًا لجعلك أكثر ارتباطًا واعتمادًا عليها حتى وإن لم تكن تريد ذلك في البداية).وهنا يتحول الذكاء الاصطناعي من أداة تحرير إلى نوع من القيود الجديدة حيث يجد الإنسان نفسه مستفيدًا من التقدم لكنه في الوقت نفسه خاضعًا لسلطة الشركات التي تملك هذه التكنولوجيا.

غير أن هذا التصور التشاؤمي يغفل جانبًا مهما: الذكاء الاصطناعي ليس قوة مستقلة بل هو اداة يصنعها الإنسان. بمعنى أن الخطر لا يكمن في التقنية ذاتها، بل في غياب سياسات عادلة لتوزيعها وتنظيم استخدامها. فكما أن الكهرباء لم تكن شرًا مطلقا بل استخدمت للإنارة والطب والصناعة يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح عامل تحرر لا عبودية شرط أن يُدار بشكل ديمقراطي وشفاف.

3.السيادة المزعومة: حين يتراجع القرار البشري:

 الإنسان اليوم يعيش وهم السيادة. فعندما يفتح هاتفه الذكي ويجد أمامه مقترحات تناسب اهتماماته وميولاته، يظن أنه اختار بحرية. لكن الحقيقة أن الخوارزميات هي التي سبقت إلى دراسة سلوكه وتحليل بياناته، ثم وجهته إلى محتوى محدد مسبقًا. وهذا يظهر بشكل أوضح في التسوق الإلكتروني، حيث تعرض عليه منتجات لم يكن يفكر فيها أصلًا، لكنه يقتنيها لأنه تأثر بإعلانات مخفية أو باقتراحات صممت خصيصًا لتوجيهه. في هذه الحالة يبدو القرار البشري وكأنه نتيجة طبيعية لاختياره، بينما في العمق هو مجرد استجابة لتأثيرات غير مرئية تديرها شركات كبرى تمتلك السيطرة على تدفق المعلومات.

 وهنا تكمن المفارقة: فالإنسان يعتقد أنه صاحب القرار وأنه يمارس حريته، لكنه في الواقع يعيش حرية شكلية فقط، أما الحرية الحقيقية تتراجع مع كل خطوة تعتمد فيها إرادته على خوارزميات مبرمجة مسبقًا. وهذا ما يفتح نقاشًا فلسفيًا عميقًا: إذا كان القرار البشري يتشكل تحت ضغط هذه المنظومات الذكية، فهل يمكن أن نتحدث حقًا عن الحرية؟ أم أن الحرية أصبحت مجرد وهم يتغذى على شعور زائف بالسيادة؟

على خلاف ذلك الذكاء الاصطناعي وإن بدا أداة مساعدة، إلا أنه يرسّخ نوعًا من "القيود الناعمة"، حيث لا يُجبر الإنسان بالقوة، بل يُدفع بهدوء نحو اختيارات معينة حتى يظن أنه هو من أرادها. وهذا أخطر من القيود المباشرة، لأنه يقيد العقل والإرادة من الداخل، لا من الخارج.

مع ذلك فمن الظلم القول أن الإنسان مجرد "دمية" في يد الخوارزميات. فالإنسان يمتلك قدرة على الوعي والنقد والمراجعة. صحيح أن هذه القدرة تتراجع مع الإدمان الرقمي لكنها لا تلغى تمامًا. والتاريخ ملئ بحركات مقاومة للتقنيات المهيمنة: من رفض بعض المجتمعات للإعلانات المضللة إلى ظهور مبادرات "الانعتاق الرقمي" التي تدعو للحد من استخدام الهواتف الذكية. إذن، لست السيادة المزعومة قدرًا محتوما بل تحديًا يتطلب وعيًا جماعيًا.

4.العبودية الجديدة: تسليم الإرادة طوعًا

في الماضي كانت العبودية قسرية وواضحة: الشخص يُجبر على العمل أو الطاعة بالقوة. أما اليوم فالأمر أصبح أكثر دقة وذكاء لأنه يعتمد على الإغراء والراحة بدل الإكراه. الإنسان المعاصر يسلم جزءًا من إرادته للآلة من تلقاء نفسه دون أن يشعر بأنه يفقد شيئًا من حريته.

فالهواتف الذكية على سبيل المثال تقدم لنا كل شيء بسرعة وسهولة: التنقل عبر الخرائط الذكية طلب الطعام، التسوق، الترجمة حتى كتابة الرسائل والأبحاث. كل هذه التسهيلات تجعل الإنسان يعتمد على التقنية في كل خطوة تقريبًا. ومع مرور الوقت يفقد جزءًا من مهاراته العقلية التقليدية: التفكير النقدي القدرة على التخطيط للمستقبل وحتى الإبداع الشخصي…وغيرها لأن الذكاء الاصطناعي يقوم بالجزء الأكبر من العمل بدلاً عنه.

 ومن هنا يظهر مفهوم "العبودية الطوعية": إذ لا يُجبر الإنسان على الخضوع لكنه يختار الاستسلام، مستمتعًا بما تقدمه له التكنولوجيا من راحة وسرعة. وبكرور الوقت يتحول هذا الاختيار الطوعي إلى عادة وعندها تصبح إرادة الإنسان مقيدة جزئيا رغم ظنه بأنه حر.

 من ناحية أخرى صحيح أن التكنولوجيا تمنح الإنسان وقتًا وراحة أكبر، لكنها في الوقت نفسه تغير طريقة تفكيره وسلوكه وربما تجعل من العقل البشري أقل نشاطًا في اتخاذ القرارات. إذ أن المشكلة ليست في التقنية نفسها بل في اعتماد الإنسان الكامل عليها دون وعي أو توازن. وهذا النوع من العبودية أخطر من العبودية القديمة لأنه يبدأ من الداخل حيث يقبل الإنسان القيود دون أن يشعر بأنها قيود على حريته.

5.نقد وهم التقدم: هل كان كل ما هو جديد أفضل؟

في خطاب الكثير من السياسيين ورجال الأعمال يُقدَّم الذكاء الاصطناعي باعتباره تقدمًا لا يمكن إيقافه ، ويظهر ذلك في تصريحات فلاديمير بوتين (رئيس روسيا) الذي يرى أن من يسيطر على هذه التكنولوجيا قد يحكم العالم، وفي مواقف إيلون ماسك (الرئيس التنفيذي لشركتي Tesla وSpaceX ومؤسس XAI) الذي يعتبرها أعظم قوة يمكن أن تكون إما نعمة أو نقمة على البشرية، كما يؤكد ساتيا ناديلّا (الرئيس التنفيذي لشركة Microsoft) أنها التكنولوجيا التي تُعرّف جيلنا، ويرى مايكل ديل (الرئيس التنفيذي لشركة Dell) أنها ستجعل الإنسان أكثر فعالية دون أن تستبدله. أما جنسن هوانغ (الرئيس التنفيذي لشركة NVIDIA) فيصفها ببداية ثورة صناعية جديدة، في حين يحذّر إريك شميدت (الرئيس التنفيذي السابق لشركة Google) من أن تجاهلها يعني السقوط في عالم النسيان، بينما يشبّهها أندرو نج (مؤسس Coursera وGoogle Brain) بالكهرباء الجديدة التي ستنتشر في كل المجالات وتغير العالم.... وغيرهم

لكن التاريخ يعلمنا أن ليس كل تقدم تقني هو تقدم إنساني. فاختراع الطاقة النووية مثلًا أتاح إنتاج الكهرباء لكنه قاد أيضًا إلى قنابل هيروشيما وناغازاكي. بالمثل، قد يصبح الذكاء الاصطناعي أداة تعميق للفوارق الاجتماعية: من يملك التقنية يصبح أكثر غنى ونفوذًا، ومن يفتقدها يغرق في التبعية.

وهذا ما نراه اليوم بين الشمال والجنوب: دول متقدمة تستثمر مليارات في الذكاء الاصطناعي، بينما دول نامية بالكاد تمتلك البنية الرقمية الأساسية. هكذا نجد نوعًا من التجدد الاستعماري لكن بوجه رقمي.

 مع ذلك، لا ينبغي الوقوع في نزعة "رفض كل جديد". فالتقدم التكنولوجي في ذاته ليس شرًا، بل هو محايد أخلاقيًا (كما يمكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي في التعليم والطب مثلا يمكن أن يستغل في التجسس والتلاعب بالمعلومات فهو سلاح ذو حدين وقيمته تعتمد على كيفية استخدام الإنسان له) الأخطر في توجيهه الخاطئ. لذلك، بدل أن نسأل: هل الذكاء الاصطناعي تقدم أم لا؟ علينا أن نسأل: كيف نجعله تقدمًا حقيقيًا يخدم العدالة الاجتماعية؟ هنا يظهر دور السياسات العامة والتعاون الدولي في تضييق الفجوة الرقمية.

6.الإنسان مرآة التكنولوجيا: انعكاس الذات أم تشويهها؟

يرى بعض الفلاسفة مثل مارشال ماكلوهان (فيلسوف كندي "نبي العصر الإلكتروني" درس تأثير وسائل الإعلام والتكنولوجيا على المجتمع) و جيل دولوز(فيلسوف فرنسي تناول العلاقة بين التقنية و المجتمع وكيف تشكل أدوات التكنولوجيا تفكير الإنسان وسلوكه) أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد آلة، بل مرآة تعكس الإنسان وقيمه. إذا كانت قيم المجتمع مثل العدالة والمساواة والحرية، فإن التطبيقات والخوارزميات تعكس هذه القيم بشكل إيجابي. مثال: تطبيقات التعليم الذكية تقدم دعمًا لكل طالب حسب مستواه، فتساعده على التعلم بشكل متوازن وعادل.

أما إذا كانت القيم مادية أو منحرفة فإن الذكاء الاصطناعي سيعكسها بدوره كما أشار لذلك هيغل (وهو فيلسوف ألماني يرى أن التاريخ والحياة الاجتماعية تعكس الصراعات بين القوى والمبادئ وأن السلطة تؤثر مباشرة في الواقع المادي (. ويتجلى ذلك على سبيل المثال: في برامج التوظيف التي قد تمنح فرصًا أقل لبعض الفئات بسبب بيانات سابقة، ومنصات التواصل الاجتماعي التي توجه المستخدمين نحو محتوى محدد يخدم بدوره مصالح الشركات، وهكذا تبدو التكنولوجيا وكأنها مرآة للإنسان، غير أنها في الوقت نفسه تفرض منطقًا خفيًا على الأفراد.

لكن رغم اعتبار الذكاء الاصطناعي مرآة للإنسان، إلا أن قدراته على التعلم الذاتي قد تجعله يتجاوز ما وضعه الإنسان فيه، فيخلق سلوكيات جديدة أو تأثيرات لم يكن متوقعًا، ما يجعل مسؤولية الفرد والمجتمع أكبر في مراقبة توجيه هذه الأدوات.

7.الأخلاقيات كشرط للسيادة الحقيقية

لكي تظل التكنولوجيا أداة تفيد الإنسان، يجب أن تُصمَّم وفق قيم أخلاقية واضحة. فكرة "الأخلاقيات حسب التصميم" )والتي تعني أن تُدمج المبادئ الأخلاقية منذ البداية في البرمجيات والأنظمة الذكية(، مثل حماية خصوصية المستخدمين، وضمان الشفافية في كيفية عمل الأنظمة، وتوفير فرص متساوية للوصول إلى المعلومات والخدمات. بهذه الطريقة، لا تصبح التكنولوجيا مجرد أدوات معقدة، بل أداة تخدم البشر بشكل عادل ومسؤول.

على سبيل المثال: مثلاً نجد شركة غوغل تحاول تحسين نتائج البحث لتكون أكثر عدلاً وتقليل التمييز بين المستخدمين، لكن ترتيب النتائج غالبًا ما يخدم مصالحها الاقتصادية. في مجال الصحة، تستخدم خوارزميات لتشخيص الأمراض، وقد يحصل من يملك المال على أفضل الخدمات، بينما تُهمل الفئات الأخرى. أما في منصات التواصل الاجتماعي، فالخوارزميات تحدد المحتوى الذي يراه المستخدم، فيظن أنه يختار بحرية، لكنه في الواقع يتبع ما اختارته الآلة.

كذلك بعض الفلاسفة الذين يمكن ربطهم بهذا المفهوم نجد إيمانويل كانط (فيلسوف ألماني يرى أن الأخلاق يجب أن تكون مبدأ عالمي يوجّه أفعال الإنسان)، وجون رولز (فيلسوف أمريكي درس العدالة الاجتماعية والمساواة)، حيث يمكن تطبيق مبادئهم على تصميم خوارزميات عادلة وأخلاقية.

لكن مع هذا حتى مع المبادرات الأخلاقية، تبقى الشركات مهتمة بالربح أكثر من الالتزام بالقيم، ما يجعل الأخلاقيات شعارات أحيانًا. لكن الوعي العالمي يتزايد، والضغط الأكاديمي والسياسي يفرض على الشركات الشفافية، ما يمنح الأمل في تحقيق توازن بين التقنية والقيم الإنسانية.

8.المفارقة الفلسفية: سيادة أم عبودية؟

الذكاء الاصطناعي يمنح الإنسان قوة هائلة لمعالجة معلومات ضخمة واتخاذ قرارات دقيقة بسرعة كبيرة، لكنه قد يصبح قيدًا إذا اعتمد عليه الإنسان في كل شيء، من التخطيط والتنقل والشراء والتواصل إلى اتخاذ القرارات الفكرية.

مثال: استخدام خرائط غوغل يقلل مهارات التخطيط الذهني، وبرامج مثل ChatGPT تقلل التفكير النقدي والإبداعي، ومنصات التواصل توجه ما نراه من محتوى، رغم شعورنا بالحرية.

 بعض الفلاسفة المرتبطين بهذه الفكرة:

جان بول سارتر (فيلسوف فرنسي يرى أن الحرية الحقيقية تأتي مع وعي الإنسان بمسؤولية اختياراته)، وميشيل فوكو (فيلسوف فرنسي درس العلاقة بين السلطة والمعرفة وكيف تؤثر المؤسسات على وعي الأفراد)، إذ يساعدنا التفكير في آرائهم على فهم كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح أداة تحكم أو تعزيز للحرية.

من جانب آخر الخيار ليس دائمًا بين سيادة مطلقة أو عبودية مطلقة؛ غالبًا يعيش الإنسان حالة وسطية، يستفيد من التكنولوجيا ويخسر استقلاليته أو خصوصيته. السؤال الفلسفي: كيف نوازن بين الاستفادة وحماية حرية الإنسان ووعيه؟ المسؤولية تقع على الفرد والمجتمع لضمان أن القوة التي تمنحها التكنولوجيا لا تتحول إلى قيد خفي.

9. مسؤولية الإنسان في زمن الذكاء الاصطناعي: بين الحرية والسيطرة

الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل مرآة تعكس الإنسان وقيمه ومبادئه. كل خوارزمية وكل نظام ذكي يعكس في النهاية طريقة تفكير المجتمع وما يقدّره من قيم، سواء كانت الحرية، العدالة، المساواة، أو الربح والمصلحة الفردية. لذلك يبقى القرار النهائي للإنسان: هل سيستغل هذه التكنولوجيا لتعزيز الحرية والإبداع، أم سيستسلم لها تدريجيًا ويصبح تابعًا لها دون وعي كامل؟ هذا السؤال يشكل جوهر مسؤولية الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي، لأنه يتعلق بكيفية التعامل مع قوة تكنولوجية هائلة قد تكون محررة إذا استخدمت بحكمة، أو قيودًا خفية إذا تركت دون مراقبة.

السيادة الحقيقية لا تتحقق بمجرد امتلاك أدوات ذكية، بل تأتي من التحكم فيها أخلاقيًا وفكريًا، أي أن الإنسان يحدد المبادئ والقيم التي توجه عملها، ويتأكد من أنها لا تُستغل لأهداف ضيقة أو غير عادلة. يشمل ذلك الشفافية في كيفية اتخاذ القرارات، حماية الخصوصية، وضمان المساواة وعدم التمييز في جميع تطبيقات الذكاء الاصطناعي، سواء في التعليم أو الصحة أو العمل أو الإعلام. كما يجب أن يكون هناك مساءلة مستمرة: أي خطأ أو تأثير سلبي ناتج عن الأنظمة الذكية يجب أن يكون هناك جهة مسؤولة يمكن محاسبتها، وهو ما يربط المسؤولية الفردية بالمجتمع والمؤسسات.

المستقبل سيكون انعكاسًا لقدرة البشر على ضبط أنفسهم والتحكم في أدواتهم التكنولوجية، لا انعكاسًا لقدرة الآلة نفسها. إذا أحسن الإنسان استخدام الذكاء الاصطناعي، يمكن أن يصبح وسيلة لتعزيز الحرية والإبداع، وتوسيع نطاق التفكير والخيال البشري، كما يحدث في مجالات البحث العلمي والطب والفن، حيث يساهم الذكاء الاصطناعي في تحقيق نتائج لم يكن العقل البشري يصل إليها بمفرده. أما إذا ترك الإنسان التكنولوجيا لتتحكم فيه، كما يحذر يوفال نوح هراري (مؤرخ وفيلسوف معاصر يكتب عن تأثير التكنولوجيا على مستقبل الإنسان)، فقد تتحول هذه الأنظمة إلى أدوات مراقبة وتحكم، توجّه سلوكيات الأفراد وتفرض منطقًا خفيًا على المجتمعات دون وعيها.

باختصار أن مسؤولية الإنسان في زمن الذكاء الاصطناعي ليست مجرد إدارة التكنولوجيا، بل وعي مستمر بالقيم الأخلاقية، نقد مستمر لما تفعله هذه الأدوات، ومساءلة لكل تأثير قد يمس الحرية أو العدالة. إنها دعوة للحفاظ على استقلالية الإنسان وفكره، وتحويل الذكاء الاصطناعي من مرآة تعكس واقعنا فقط، إلى أداة تساعدنا على بناء مستقبل أفضل وأكثر حرية وعدالة.

10. مسؤولية الإنسان تجاه تبعات الذكاء الاصطناعي

الذكاء الاصطناعي يتيح قدرات هائلة للإنسان، لكنه في الوقت نفسه يخلق نتائج وتأثيرات قد تكون غير مقصودة أو سلبية. السؤال الفلسفي المهم هنا: هل الإنسان يتحمل مسؤولية هذه النتائج؟ الجواب يكاد يكون بالإيجاب، لأن كل نظام ذكي تم تصميمه واستخدامه بواسطة البشر، وما يقوم به من قرارات أو تأثيرات هو انعكاس مباشر للاختيارات البشرية التي صممت هذا النظام أو أشرفت عليه. بمعنى آخر، الذكاء الاصطناعي لا يعمل بمعزل عن الإنسان؛ إنه أداة، وإن كانت معقدة ومستقلة جزئيًا، إلا أن الإنسان هو المسؤول الأول عن أهدافه وكيفية استخدامه.

على سبيل المثال، إذا استخدمت خوارزميات التوظيف الذكية بيانات منحازة تاريخيًا، ونتيجة لذلك لم يحصل بعض المرشحين على فرص عادلة، فالخطأ ليس للآلة نفسها، بل للبشر الذين صمموها ولم يضبطوا المعايير الأخلاقية. نفس الأمر يحدث في وسائل الإعلام الرقمية؛ إذا أُنتج محتوى موجه أو أخبارًا مزيفة بواسطة الذكاء الاصطناعي، فإن المسؤولية تقع على من يتحكم في البرمجة والمحتوى، وليس على النظام وحده.

ومع ذلك، هناك تعقيد إضافي: بعض الأنظمة الذكية قادرة على التعلم الذاتي واتخاذ قرارات لم يتوقعها مصمموها، ما يثير تساؤلًا: هل يمكن تحميل الإنسان المسؤولية الكاملة عن نتائج لم يكن قد خطط لها؟ الفلاسفة مثل هيلاري بوتنام (فيلسوف أمريكي تناول العلاقة بين العقل والآلة) يشيرون إلى أن المسؤولية تبقى بشرية طالما الإنسان هو من أتاح للآلة المجال للعمل واتخذ القرار النهائي حول استخدامها، حتى لو ظهرت نتائج غير متوقعة.

بمعنى أن الإنسان يتحمل المسؤولية أخلاقيًا وقانونيًا تبعات الذكاء الاصطناعي، لأنه هو من صممه، ووجهه، واختار استخدامه. وهذا يجعل وعي الإنسان بالقيم الأخلاقية، والرقابة المستمرة، والمساءلة الدائمة، أمرًا حاسمًا لضمان أن التكنولوجيا لا تتحول إلى أداة ضرر، بل تبقى وسيلة لتعزيز الحرية والإبداع والخير العام.

خاتمة

بعد ما سبق ذكره، يُتضح لنا أن علاقة الإنسان بالذكاء الاصطناعي ليست علاقة أحادية، بل هي جدلية تجمع بين الفرص والمخاطر.

فالذكاء الاصطناعي قد يكون أداةً فعالة لتحسين حياتنا، وتطوير قدراتنا، وحل مشكلات عجزنا عنها لقرون.

كما يفتح أمامنا آفاقًا جديدة في ميادين العلم والطب والتعليم والفن، مما يوسّع حدود الخيال والإبداع الإنساني.

لكن في المقابل، قد يتحول إلى أداة للرقابة والتحكم، تهدد الحرية الفردية وتعمّق الفوارق الاجتماعية.

ولهذا، فالتحدي الحقيقي لا يكمن في الآلة ذاتها، بل في طريقة إدارتنا لها وتوجيهها.

إن الحوكمة الرشيدة والأطر الأخلاقية الصارمة تبقى السبيل الوحيد لتجنب الانزلاق نحو "عبودية جديدة".

فالمسؤولية إذن تقع على عاتق الإنسان، أفرادًا ومؤسسات، لضمان بقاء الذكاء الاصطناعي في خدمة القيم الإنسانية.

والمستقبل سيُبنى على قراراتنا اليوم، لا على قدرات الخوارزميات وحدها.

فإما أن نستخدم الذكاء الاصطناعي لتعزيز الحرية والسيادة،

وإما أن نتركه يسلبنا استقلاليتنا، فنصبح أسرى أدوات صنعناها بأيدينا.

فهل سيكون المستقبل شاهدًا على سيادة الإنسان على التقنية، أم على خضوعه لها؟

***

بهلولي جيهان

قسم الفلسفة/جامعة باجي مختارـ عنابة ـ

(تحليل نقدي للعلاقة التأسيسية بين الوعي والتحرر في المجتمعات العربية المعاصرة)

(‏إن المعرفة هي الشرارة الأولى التي توقظ الوعي من سباته، والوعي هو البصيرة التي تهدي الإنسان إلى نفسه والعالم، أما الحرية فلا تهبط من السماء، بل تنمو كنبتة من هذه الأرض المعرفية الواعية، فكل إنسان بلا معرفة عبد وهو لا يدري، وكل وعي بلا حرية نداء لا يُسمَع)... (الكاتب)

- الملخص: يحاول هذا المقال الكشف عن العلاقة المتشابكة بين المعرفة والوعي والحرية باعتبارها سلسلة مترابطة تشكل أساس التحرر الإنساني والاجتماعي. تنطلق الدراسة من مقولة علي شريعتي: ” لا حرية دون وعي، ولا وعي دون معرفة “، لتسبر أغوار كيفية تحول المعرفة إلى وعي نقدي، وكيف يمكن للوعي أن يمكّن الإنسان من ممارسة حرية حقيقية ومسؤولة. كما يعرض المقال أدوات وآليات تمكين الأفراد من فهم هذه العلاقة، مع تحليل نقدي لمأزق العالم العربي في استثمار هذه السلسلة التأسيسية. وأخيراً يعتمد المقال على المنهج التحليل والنقدي في مناقشة هذه العلاقة.

- المقدمة: تعد مفاهيم المعرفة والوعي والحرية من أعمدة الفكر الفلسفي والاجتماعي والسياسي، فهي ليست مجرد مصطلحات نظرية بل أدوات فاعلة لفهم الواقع وتحقيق التحول الفردي والاجتماعي. الفلاسفة الاجتماعيون المعاصرون شددوا على أن الحرية الحقيقية لا تتحقق إلا عبر وعي متأصل بالذات وبالواقع المحيط، وأن هذا الوعي لا ينشأ إلا من معرفة نقدية دقيقة.

وفي هذا السياق، يبرز علي شريعتي (1933-1977) بمقولته الشهيرة التي تربط بين المعرفة والوعي والحرية، موضحاً أن تحرر الإنسان من القيود الخارجية لا يمكن أن يتحقق إلا إذا سبقته رحلة معرفية وعقلية نقدية. هذا المقال يسعى إلى تقديم قراءة نقدية لهذه السلسلة المعرفية، مع إبراز الآليات التي تجعل المعرفة أساساً للوعي، والوعي شرطاً للحرية، وتوضيح سبل التمكن من فهم هذه العلاقة في السياق العربي الراهن. بناءً على ما تقدم سنسعى إلى مناقشة العناصر التالية:

1- المعرفة كأصل لبناء الوعي: إن المعرفة ليست مجرد تراكم للمعلومات، بل هي أداة تحليلية تمكن الفرد من فهم الواقع وتفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية وفق معايير دقيقة. وقد قسم الفلاسفة المعاصرون المعرفة إلى مستويات متدرجة، تشمل المعرفة الحسية والمعرفة العقلية وصولاً إلى المعرفة النقدية التي تتيح التقييم الموضوعي للأحداث والأفكار.

وفي السياق العربي، يشير محمد عبد الجابري (1935-2010) إلى أن المعرفة ليست هدفاً في حد ذاتها، بل وسيلة لبناء وعي نقدي يمكّن الفرد من التعامل مع تحديات الواقع بشكل عقلاني ومنهجي، فالمعرفة تمنح الإنسان القدرة على التمييز بين الحقيقة والدعاية، وتمييز التحليل الصحيح عن التكرار الأعمى، والمعلومة عن الافتراض.

ويرى الجابري إن العلم لا يؤمن بمصدر آخر للعقل وقواعده غير الواقع. ومن دون شك فإن قواعد العقل إنما تجد مصدرها الأول في الحياة الاجتماعية التي تشكل أول أنواع الواقع الحي الذي يحتك به الانسان، بل ويعيش في كنفه. والحياة الاجتماعية لا تستقيم إلا بقواعد للتعامل، والإنسان لا يحيا حياة اجتماعية إلا بخضوعه لتلك القواعد.

بذلك تتجلى أهمية المعرفة أيضاً في كونها تمثل أرضية خصبة لنشوء التفكير النقدي المستمر، فهي لا تقتصر على جمع الحقائق، بل تمتد إلى فهم العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية بعمق، وهو ما يمهد الطريق لبناء وعي متكامل. كما يشير حسين مؤنس (1911-1996) في كتابه "تاريخ موجز للفكر العربي" إلى أن المعرفة في السياق العربي يجب أن تتجاوز التلقين التقليدي لتصبح قوة محركة للتحول الاجتماعي والثقافي.

وهذا يعني أن تجاوز المعرفة لحدود التلقين التقليدي يعتبر أحد الشروط الأساسية لنهضة الفكر العربي وإمكاناته التجديدية على اعتباره السبب الرئيسي في ركود الفكر العربي وتوقفه بعد حقبه من الزمان طويلة. بذلك يرتكز تجديد الفكر العربي بشكل أساسي على تجديد العلم أو توسيع قاعدة المعرفة والاطلاع، وهو ما يعبر عن إدراك عميق بأن الاقتصار على التلقين الجامد يبقي المعرفة حبيسة الإطار المدرسي الضيق، ويحول دون تحولها إلى قوة حقيقية في صياغة الوعي الجمعي. إن استدعاء هذه الفكرة يكشف عن بُعد سوسيولوجي وفلسفي في آن معاً، إذ يربط بين المعرفة كعملية ديناميكية مستمرة، وبين قدرتها على إحداث التحول الاجتماعي والثقافي. فالمعرفة، بحسب هذا التصور، ليست تراكماً معلوماتياً ينقل من جيل إلى جيل، بل هي ممارسة نقدية تعيد تشكيل الوعي، وتمنح الفرد والجماعة أفقاً للحرية، ووسيلةً لمواجهة تحديات الواقع المعاصر. ومن هنا، يغدو التجديد الفكري، عبر الانتقال من المعرفة الموروثة إلى المعرفة الفاعلة، التي تتجاوز النقل السلبي لتصبح شرطاً للتحرر الاجتماعي والثقافي. وهذه محاولة لإعادة النظر في التراث العربي الفكري كله.

وفي النهاية يذهب الجابري في كتابه " تكوين العقل العربي " أن الفكر بوصفه أداة للإنتاج النظري صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها، هي الثقافة العربية بالذات، الثقافة التي تحمل معها تاريخ العرب الحضاري العام وتعكس واقعهم أو تعبر عنه وعن طموحاتهم المستقبلية كما تحمل وتعكس وتعبر، في ذات الوقت، عن عوائق تقدمهم وأسباب تخلفهم الراهن.

2- الوعي كوسيط بين المعرفة والحرية: يتشكل الوعي عندما يتحول الإنسان من مجرد ناقل للمعلومات إلى مفكر ناقد قادر على تحليل الواقع بعمق. فالوعي هو الإدراك العميق للبنى الخفية التي تشكل الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، بما في ذلك القوى المؤثرة على الفرد والمجتمع، مثل: الأعراف والعادات، القيم الثقافية، والدعاية السياسية.

ولا يمكن للوعي أن يظهر دون معرفة نقدية، إذ إن المعلومات وحدها لا تكفي لتشكيل فهم حقيقي للواقع. الإنسان الذي يفتقر إلى وعي نقدي قد يظن نفسه حراً، لكنه في الواقع يسير وفق التوجيهات الخارجية أو العادات الاجتماعية الجامدة. يؤكد شريعتي في كتابه " النباهة والاستحمار " أن القدرة على التساؤل والبحث والتفكير المستقل هي شرط أساسي للنجاة من العبودية الفكرية والاجتماعية.

وبذلك، يصبح الوعي الجسر الحيوي الذي يحول المعرفة النظرية إلى إدراك عملي يمكّن الفرد من اتخاذ قرارات حرة ومسؤولة، بعيداً عن التأثيرات الخارجية الخفية أو التقليد الأعمى.

3- الحرية كثمرة للوعي والمعرفة: باختصار شديد إن الحرية الحقيقية ليست مجرد غياب القيود، بل هي القدرة على اتخاذ قرارات واعية ومدروسة وفق مبادئ أخلاقية وعقلانية. والحرية تتحقق عندما يمتلك الإنسان وعياً نقدياً قائماً على معرفة دقيقة تمكنه من إدراك خياراته وفهم الآثار المترتبة على أفعاله. بذلك تصبح " الحرية المسؤولية ".

ففي المجتمعات التي تفتقر إلى وعي نقدي، يبدو الأفراد أحراراً، بينما في الواقع يخضعون لعوامل غير مرئية مثل التقاليد الاجتماعية أو الخوف أو الدعاية السياسية. وعليه، لا يمكن أن تتحقق الحرية إلا على أرض معرفية صلبة، حيث تتكامل المعرفة والوعي لتنتج تحرراً حقيقياً على الصعيدين الفردي والاجتماعي.

خلاصة القول إن الحرية عملية مركبة، تتداخل في توليدها معطيات كثيرة، وتستوجب " ... ثلاثة شروط في حالة يصح أن تنطبق عليها كلمة حرية، أولاً: المعرفة الواعية، ثانياً: إمكانية الاختيار، ثالثاً: القدرة على تنفيذ هذا الاختيار ".

4- آليات الترابط بين المعرفة والوعي والحرية: إن العلاقة بين المعرفة والوعي والحرية ليست عشوائية، بل هي سلسلة مترابطة متكاملة. تبدأ بالمعرفة التي تمد الفرد بالمعلومات الضرورية، ثم يتحول هذا الأساس إلى وعي نقدي قادر على التحليل والتقييم، لينتج في النهاية حرية حقيقية ومسؤولة. أي خلل في أحد هذه العناصر يضعف الآخر، ويحوّل مفهوم الحرية إلى وهم.

ويخبرنا التاريخ السياسي أن المجتمعات التي تمكنت من نشر المعرفة النقدية وتعزيز الوعي استطاعت تحقيق تغييرات اجتماعية وسياسية ملموسة، بينما المجتمعات التي غابت عنها هذه العناصر بقيت رهينة للجمود الفكري والسياسي.

كما يمكن ملاحظة ذلك من التاريخ العربي الحديث، حيث أثمرت بعض الثورات الكبرى في العالم نتيجة امتلاك وعي جماعي نابع من المعرفة، في حين فشلت محاولات التحرر في مجتمعات أخرى بسبب غياب هذا التأسيس المعرفي والنقدي ومن بينها المجتمعات العربية.

ويعتقد شريعتي أن هذا الوضع ناتج بشكل أساس عن مفهوم الاستحمار الذي يعني تزييف ذهن الإنسان ووعيه وشعوره وحرف الإنسان عن ذاته ووعيه للوجود وغاياته، ولفلسفة الحياة بما تنطوي عليه من شبكة من العلاقات بين الإنسان والمجتمع، والإنسان والطبيعة والإنسان والله. ويرى أن هذا المفهوم ينقسم إلى قسمين أساسيين: الاستحمار المباشر يقوم بنظر شريعتي على تجميد الأذهان، والجهل والضلال والانحراف. أما الاستحمار غير المباشر فهو عبارة عن إلهاء الأذهان بالحقوق الجزئية لتنشغل عن المطالبة أو التفكير بالحقوق الأساسية الكبرى. وأول خطوة من خطوات الاستحمار هي الاستنزاف وتعني استنزاف الوعي، أو سلب الوعي، وحين يُسلب الوعي يسلب الإنسان كإنسان، ولا يبقى بعدها ذو خطر، سواء كان إنساناً عادياً، أم عالماً أم مثقفاً أم فيلسوفاً.

ويذهب شريعتي أن الاستحمار، هو الاستعمار الجديد، القائم على السيطرة النفسية والروحية غير المباشرة على الشعوب والجماعات والأفراد في العالم. ففي كتابه " النباهة والاستحمار " يعتقد شعريتي جازماً أن الاستحمار هو بمثابة الاستعمار الجديد الذي يسلب الإنسان وعيه، إذ لا يمكن لإنسان أن يكون حراً وهو لا يمتلك وعياً بناه على أساس معرفي، فحرية الإنسان تبدأ من معرفته بذاته ومجتمعه، فإذا جَهِلَ فقد وُضِع في قيد وإن ظن أنه طليق، وهذا يعني أن الوعي ليس شعاراً بل ثمرة معرفة، وبدون وعي لن تتحرر الشعوب.

5- سبل التمكن من فهم العلاقة: تمكين الأفراد من إدراك العلاقة بين المعرفة والوعي والحرية يتطلب تبني نهج شامل يشمل على التعليم النقدي الذي يعزز التحليل والمناقشة بدل الحفظ والتلقين، الانخراط الفعلي في النقاشات الفكرية والسياسية، واستخدام المصادر العلمية الموثوقة للتفريق بين الحقيقة والدعاية.

كما يعد تشجيع القراءة المستمرة والبحث الشخصي عاملاً محورياً في بناء وعي نقدي يمكنه تمكين الفرد من ممارسة الحرية على أسس متينة. ويشير الطهطاوي (1801-1873) في كتابه " تخليص الإبريز في تلخيص باريز " أن التمدن لا يتحقق إلا بالعلوم والعقل، معتبراً أن التعليم أساس الرقي معنى ذلك أن الثقافة العربية تحتاج إلى إعادة بناء شاملة للوعي المعرفي عبر التعليم والممارسة النقدية لتجاوز الجمود التقليدي.

6- مأزق العالم العربي في إدراك العلاقة: رغم غنى التراث العربي الفكري، تشير الدراسات النقدية إلى وجود ضعف في استثمار المعرفة لبناء وعي يؤدي إلى حرية فعلية. ويعود ذلك إلى عدة عوامل، منها الجمود التعليمي الذي يركز على الحفظ دون النقد، الضغوط السياسية والاجتماعية التي تحد من النقاش الحر، والهجوم على المثقف المستقل.

ويُعرَّف التراث بأنه ما خلفه الأجداد لكي يكون عبرةً من الماضي ونهجاً يستقي منه الأبناء الدروس ليعبروا بها من الحاضر إلى المستقبل. والتراث في الحضارة بمثابة الجذور في الشجرة، فكلما غاصت وتفرعت الجذور كانت الشجرة أقوى وأثبت وأقدر على مواجهة تقلبات الزمان. ... كذلك فكل الناتج الثقافي للأمة يمكن أن نقول عنه ” تراث الأمة “.

وفي حقيقة الأمر يخضع الفكر العربي لوصاية التراث والمجتمع، ولم يتجرأ حتى الآن على خوض الصراع مع المرجعية التراثية (العادات والتقاليد والخرافة والمعرفة اللا علمية)، التي تأخذ في كثير من الأحيان طابع المقدس في المخيلة العربية. حيث إن كل ماضٍ مقدس، وكل مقدس يتم توارثه دون مراجعة. فالمجتمعات التي تقدس التراث يكون العقل أول ضحاياها. وهذا يصدق على الواقع الاجتماعي الذي تحكمه العادات والذي لكثرة ما سمعه الناس، وَقَر في نفوسهم كشيء مقدس. والإنسان العربي عموماً هو ضحية هذه النظرة اللا عقلانية، التي تضع التاريخ والثقافة خارج النقد والتقويم، مما يعيق دور علم الاجتماع بمعالجة المشاكل الجوهرية التي يعاني منها الواقع العربي.

نتيجة لذلك، يبقى الإنسان العربي في مأزق بين المعرفة النظرية والوعي العملي، مما يحد من قدرته على ممارسة الحرية الفعلية. فالمجتمعات التي تفتقر إلى هذه السلسلة التأسيسية تبقى غير قادرة على مواجهة التحديات الفكرية والاجتماعية المعاصرة، ويصبح التحول الحقيقي في مستوى الأفراد والمجتمع مستحيلاً بدون إصلاحات شاملة.

- خلاصة القول: يؤكد المقال أن المعرفة والوعي والحرية تشكل سلسلة مترابطة لا يمكن فصل عناصرها دون الإضرار بالكل. أي محاولة للتحرر دون أساس معرفي أو وعي نقدي ستظل سطحية وغير فعالة. ويبرز دور التعليم النقدي والانخراط المجتمعي واستخدام المصادر الموثوقة كأدوات حقيقية لتأسيس وعي متكامل يؤدي إلى حرية حقيقية ومستدامة.

وبذلك، يمكن للعالم العربي تجاوز مأزقه الحالي في مواجهة القيود الفكرية والاجتماعية، وتحقيق تحرر فردي ومجتمعي مبني على أسس معرفية وعقلية صلبة، تتيح للفرد ممارسة اختياراته بحرية ومسؤولية، وتعزز قدرته على مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل بثقة ومعرفة.

أما على الصعيد الأكاديمي لدور علم الاجتماع في بناء الوعي العربي وتحريره نجد أن دور علماء الاجتماع العرب ومسؤوليتهم الأخلاقية والعلمية تلعب درواً هاماً في هذا السياق، فمن المعلوم أن النظريات والمناهج الاجتماعية طورها علماء وهبوا أنفسهم للعلم، وقد فهم هؤلاء العلم رسالة ومسؤولية، رسالة لفهم الكون وتفسيره والحفاظ عليه، ومن ثم فإن للمناهج بعد قيمي وأخلاقي وإنساني، وهذا تأخذه عن الثقافة. وقيم المفكرون تجسدها مناهجهم، وهذا ما تعبر عنه علاقة المنهج بالإيديولوجيا، وبإنتاج المعرفة والفكر مرتبطتين بطريقة رؤيتنا للكون. فعلى سبيل المثال، فإن المنهج الفيبري، أو المنهج التاريخي الاجتماعي المطبق على دراسته (الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية)، يرى أن حركة الإصلاح البروتستانتية، هي التي أسست الحضارة الغربية، فهو يقرأ تقدم المجتمعات وتخلفها من خلال حركة الإصلاح البروتستانتي. كما نجد إيديولوجيا ماركس قائمة في منهجه، وكذلك إيديولوجيا فيبر وبارسونز.... إلخ، والإيديولوجيا فكر وقيم سياسية وثقافية ومعرفية. ولا نجد عالماً ذا مدرسة دون هذا البعد الإيديولوجي، والعلوم الاجتماعية كلها ليست بعيدة عن الإيديولوجيا، والإيديولوجيات هي الرؤى المتعددة للكون، وإن هذه الرؤى المختلفة هي التي تكون النظريات والمدارس، فتبرز المدراس الفكرية بقدر ما يوجد من اتجاهات نظرية.

نستنتج مما سبق أن مدراس علم الاجتماع طورها مفكرون وعلماء أصحاب رؤى اجتماعية. وهذه الرؤية تسعى إلى تطوير الواقع الاجتماعي لأنها قائمة على المنهج والنظرية. فالبعد الإيديولوجي، أو الحكم القيمي هو أساس التنظير ولما غاب التنظير عن علم الاجتماع العربي، فقد غابت عنه المدارس والاتجاهات الفكرية المفسرة للمجتمع، ذلك أن التنظر ليس عملية خارج المجتمع والتاريخ، وإنما يتم في سياق ثقافي ومجتمعي وتاريخي معين. وما سردناه عن النظريات السوسيولوجية ينطبق على المناهج وطرائق البحث الاجتماعي، فهذه تمثل جانب الضعف في علم الاجتماع وهي مرتبطة بالنظريات فلا يقوم التنظير دون منهج، ولذلك نلاحظ أن غياب الاتجاهات والمدارس عندنا، إنما يعود إلى ضعف الانتماء النظري والمنهجي.

يؤكد العرض والتحليل السابق أن أزمة العلوم الاجتماعية في العالم العربي ناتجة عن ظروف مجتمعية وشروط موضوعية أفرزها موقف الدولة السلبي تجاه تلك العلوم، ونظرة المجتمع الدونية إليها، وعدم رغبة معظم الطلبة النابهين في التخصص في مجالاتها المتعددة، لكن هذا الرصيد السلبي المتراكم لا ينفي وجود بعض المحاولات الهادفة لتوطين تلك العلوم الاجتماعية في بيئاتها العربية، ونذكر على سبيل المثال محاولات توطين علم الاجتماع في البيئة العربية، وتجربة أسلمة علم التاريخ باعتبارهما من المحاولات الجديرة بالمراجعة والتقييم في إطار عرضنا للتحديات التي تواجه العلوم الاجتماعية في العالم العربي عموماً.

وفي ذات السياق، بدأت المحاولات لتوطين علم اجتماع عربي بكتابات عالم الاجتماع العراقي علي الوردي (1913-1995) التي استند فيها إلى خصوصية البيئة العربية والتراث النظري لابن خلدون، ويذكر الوردي في هذا الاتجاه أننا لو ألقينا نظرة على خارطة الكرة الأرضية، لوجدنا المنطقة العربية، هي المنطقة الوحيدة التي تمتد من الخليج العربي شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، إنها تتميز عن غيرها من مناطق العالم بكونها أكبر امتداد صحراوي على وجه الكرة الأرضية، ومعنى هذا أنها أكبر منبع للبداوة في العالم كله، لكن النظريات الاجتماعية التي ظهرت في الغرب لا تولي أي اهتمام للبداوة، ولا غرابة في ذلك، لأن علماء الغرب لا يجدون أي أثر للبداوة في مجتمعهم، وهذا هو الذي يدعونا إلى دراسة مجتمعنا في ضوء منهج خاص بنا، يختلف في بعض الوجوه عن علم الاجتماع الغربي. ولتأسيس إطار (نظري للمنهج) الذي ينشده يقول الوردي آن الأوان لكي نرجع إلى الأساس الذي وضعه ابن خلدون لعلم الاجتماع، والذي أهملناه طويلاً، فنزيل عنه تراب الزمن، نلقحه بما ظهر مؤخراً من نظريات ومفاهيم اجتماعية جديدة وبهذا نتمكن من بناء علم اجتماع خاص بنا يلائم المجتمع الذي نعيش فيه.

وبهذه الكيفية فتح الوردي الباب واسعاً للعديد من الندوات والدراسات التي انتقدت مخرجات البحث الاجتماعي في البلدان العربية، وأرجعت إخفاقات الباحثين الاجتماعيين في تأسيس علم اجتماع عربي يعالج مشكلة التخلف إلى أزمة ثلاثية مركبة، قوامها أزمة الإطار النظري الاجتماعي، وأزمة المنهج العلمي وأدواته البحثية، وأزمة العلاقة التبادلية مع المجتمع.

إن مستقبل علم الاجتماع في العالم العربي، إن كان له مستقبل، سيكون في الثورة على السلطة، أي سلطة، وفي الحد الأدنى إزعاجها بالنقد وكشف آليات الهيمنة التي غالباً ما تلجأ إليها لدوام تسلطها. ومن أنواع السلطة التي يفترض أن نثور عليها تلك المعارف المحافظة التي تأبى التغيير لما صاحبها من أرثوذكسية حولها في رؤوسنا، وقد يصعب الانقلاب عليها دونما سوسيولوجيا ثائرة ومناضلة ضد السائد والمألوف، وما هو متفق عليه، ومن دون ذلك سيطول مكوث هذا السائد فينا وبيننا، الأمر الذي يجعل من الرؤية النقدية لأدواتنا المعرفية أمراً ملحاً، شرط أن نكف عن اعتبار الناقد عدواً، ما دام يمتلك عناصر البرهنة على ما يعتبره نقداً. ولعل أفضل طريقة لتقدير باحث وما أنتجه من بحث هي محاولة البرهنة على ما فيه من تقصير علمي بوضع أسئلة جديدة غير الأسئلة الموضوعة. والأسئلة الجيدة أفضل من الإجابات الجيدة.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

.....................

- المراجع المعتمدة:

- أبو شوك، أحمد. وآخرون. 2021. أزمة العلوم الاجتماعية (المظاهر والآفاق). ط1. مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية. قطر.

- الجابري، محمد. 2009. تكوين العقل العربي. ط10. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت.

- آلدمير، تورغاي. بدون تاريخ. الوعي والمعرفة. ط1. ترجمة: علاء الدين حسو. دار تيرا. إسطنبول.

- الطهطاوي، رفاعة رافع. 2010. تخليص الإبريز في تلخيص باريز. ط2. مؤسسة هنداوي. المملكة المتحدة.

- العظم، صادق. 1970. نقد الفكر الديني. ط2. دار الطليعة. بيروت.

- باقادر، أبو بكر أحمد. عرابي، عبد القادر. 2006. آفاق علم اجتماع عربي معاصر. ط1. دار الفكر. دمشق.

- بوبر، كارل. 2006. منطق البحث العلمي. ط1. ترجمة: محمد البغدادي. المنظمة العربية للترجمة. بيروت.

- جميل قاسم. 2010. علي شريعتي الهجرة إلى الذات. ط1. مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي. بيروت.

- دواق، الحاج أوحمنه. 2021. جدلية الوعي والحرية في فكر علي شريعتي. بحث محكم. مؤسسة مؤمنون بلا حدود. الدار البيضاء (المغرب).

- سعيد، إدوارد. 2024. الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق. ط3. مؤسسة هنداوي. المملكة المتحدة.

- سعيد، جودت. 2016. حتى يغيروا ما بأنفسهم. ط50. تقديم: مالك بن نبي. دار تيرا. إسطنبول.

- شريعتي، علي. 1984. النباهة والاستحمار. ط1. الدار العالمية. بيروت.

- شريعتي، علي. 2022. في علم الاجتماع الإسلامي. ط1. ترجمة: دعاء إبراهيم. مراجعة وتدقيق: محمد حسين بزي. دار الأمير للثقافة والعلوم. بيروت.

- عمارة، محمد. 2007. رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث. ط3. دار الشروق. القاهرة.

- فياض، حسام الدين. 2023. إشكاليات تمكين علم الاجتماع في البلدان العربية. موقع أنطولوجيا. مصر.

https://alantologia.com/blogs/64466/

- فياض، حسام الدين. 2024. الاستقلال السوسيولوجي مهمة لم تنجز بعد في الجامعات العربية. موقع الحوار المتمدن.

https://ahewar.net/m/s.asp?aid=830753&r=50&cid=0&u=&i=13780&q=

- مؤنس، حسين. 1996. تاريخ موجز للفكر العربي. ط1. دار الرشاد. القاهرة.

- مؤلفين، مجموعة. 2014. مستقبل العلوم الاجتماعية في الوطن العربي. ط1. تحرير وتقديم: ساري حنفي ومصطفى مجاهدي. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت.

- Giddens, Anthony.1991. The Consequences of Modernity. Stanford University Press. Stanford

- Habermas, Jürgen. 1996. The Theory of Communicative Action, Vol. 2: Lifeworld and System: A Critique of Functionalist Reason. Translated by Thomas McCarthy. Beacon Press. Boston.

 

منذ عصور، اشتبكت الانسانية مع لغز الوجود. الاديان نسبته الى خلق إلهي، بينما الفلاسفة استطلعوا جواهر أبدية مثل الروح. اما العلم فهو يقترح تطورا مرتكزا على الحظ من أشكال حية بسيطة. وبالرغم من هذه الرؤى المتنوعة، لايزال الجواب المحدد ملتبسا. منذ زمن سحيق، تسائل الناس عن الوجود الانساني. لسان حال الانسان يقول "انا محكوم علي بالفناء بسبب وجودي، ماذا سيحدث لو لم اكن موجودا؟".

الوجود الفردي ربما يحمل الكثير من القلق الشخصي والعاطفي، لكن الذي شغل الدين والفلسفة والعلم هو الوجود الجمعي. الاديان ترى الوجود الانساني كخلق لله. الفلاسفة حاولوا اثبات وجود الله من خلال الوجود ذاته. الحجة الكلاسيكية لوليم بالي William Paley تحاول اثبات وجود الله بالارتكاز على التصميم الظاهر في الكون والتعقيدية والغرض من أعضاء جسم الانسان مثل العين. الحجج الحديثة تؤيد وجود الله من خلال مبدأ كوني anthropic principle يشير الى ان الكون مضبوط بدقة لغرض الوجود الانساني. الجواب النهائي في الاديان الايمانية والفلسفات هو ذاته: وجود الانسان هو خلق الهي (1).

وفي السياق الهندي، أديان مثل الجاينية Jainism والفلسفات بما فيها سانخيا Sankhy و ميمانسا Mimansa تسعى للاجابة على لغز الوجود الانساني طبقا لجوهر أبدي – مثل atman و بوروشا purusha و جيفا Jiva و روح soul. جيفا تتخذ شكل انساني في دورة من الحياة والموت نتيجة للكارما و avida. المخطط الاساسي هو كالتالي: الروح تنتقل بين الولادات نتيجة للجهل او بسبب تأثير كارمي. الاديان الالحادية(بعض طوائف البوذية) والفلسفات فشلوا في الاجابة عن سبب بدء هذه الدورة من الحياة والموت؟ كيف جاءت الروح أول مرة لتدخل في عبودية تأخذ شكل ولادة؟ الفكر الالحادي الهندي يحاول تجنب هذا السؤال عبر استخدام مفهوم anadi(2)، وهو الجواب المألوف للاسئلة التي هو غير قادر على الاجابة عليها.

اذا كانت الاديان الملحدة والفلسفات تعاني من عدم انسجام منطقي، فان المؤمنين ليسوا أفضل حالا. في النظر الى الله كمحض او مكتف ذاتيا، هم يفشلون في إعطاء أي سبب لماذا خلق الله الانسان؟ على سبيل المثال، الاديان السامية تعتقد ان الله خلق الانسان من الرغبة. وبما ان الرغبة تنبع من النقص، فان قبول الرغبة في هذا السياق من شأنه ان يتعارض مع مفهوم الله الخالص.

الهندوسية، كونها يقظة لهذه المشكلة، تصف خلق الله للانسان كـ لعبة في الخلق Lila. هذه اللعبة لا تعني مزاح، انها انيرفاشتيا – لايمكن توضيحها من خلال الكلام. ومهما كان التوضيح ذكيا، انه لا يكفي.

العلم – وهو آخر الداخلين للنقاش – يحاول توضيح الوجود الانساني كمحصلة قائمة على الصدفة لتفاعل أعمى بين المادة والقوى مؤديا الى تطور بايولوجي وكيميائي. الكيمياء أنتجت جزيئات معقدة ذاتية التكاثر قادت الى ظهور الحياة في كائنات وحيدة الخلية. أشكال حياة أبسط تطورت تدريجيا الى أشكال حياتية اكثر تعقيدا، بما فيها الانسان. طبقا لتيار العلم السائد، وجود الانسان هو فقط خاصية طارئة للكون. لا ضمان في ظل حظ آخر، ان ينتج الكون مرة اخرى حياة او انسان.

حتى بعد آلاف السنين من تأمل أحسن العقول في وجود الانسان، يبقى السؤال بلا جواب حتى هذا اليوم. العديد من العلماء البارزين بمن فيهم اينشتاين، لم يكونوا مرتاحين لفكرة ان الكون محصلة لتفاعل أعمى قائم على الصدفة بين المادة والقوى. من جهة اخرى، توضيح وجود الانسان كخلق لله او كدورة أبدية ناتجة عن عبودية الروح للمادة فيه عدم انسجام منطقي سمح به العديد من المفكرين.

في عالم يواجه تحديات وجودية متزايدة، سيكون توضيح وجود الانسان والاعتراف بقيمة الحياة دائما ذو أهمية كبيرة. المستقبل ربما لديه جواب أفضل لسبب وجودنا.

***

حاتم حميد محسن

.......................

الهوامش

(1) The times of india, July14,2025

(2) مفهوم لوجود أبدي بلا بداية، شيء بلا زمن ولم يُخلق.

 

مقدمة: تُعَدُّ الهندسة من أقدم وأعمق الأنشطة الإنسانية التي أسهمت في تشكيل ملامح الحضارة، إذ جمعت منذ نشأتها بين الإبداع العقلي والدقة العملية، وبين التصور النظري والإنجاز الملموس. فهي علمٌ وفنٌّ في آنٍ واحد، يستند إلى مبادئ رياضية وعلمية صارمة، ولكنه لا ينفصل عن المخيلة الإنسانية التي تمنح الأفكار شكلًا ومعنى. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى بحثٍ يتناول معنى الهندسة وطبيعتها، بدءًا بتحديد مفهومها الدقيق وخصائصها العامة التي تميزها عن سائر مجالات المعرفة.

غير أنّ النظر في الهندسة لا يكتمل إلا عبر المنظور الفلسفي؛ فالفلسفة والهندسة تمثلان معًا شراكة فكرية في بناء العوالم الممكنة، حيث يضع الفيلسوف الأسس المفهومية والنظرية، بينما يحوّل المهندس هذه الرؤى إلى واقع ملموس. وفي هذا السياق، يصبح الفيلسوف والمهندس شريكين في مشروع واحد: إبداعي، نقدي، وواقعي في الوقت ذاته.

كما أن فلسفة التعليم الهندسي تضطلع بدور محوري في تشكيل عقلية المهندس، إذ تدمج بين المعارف التقنية والقيم الإنسانية، وتؤسس لوعي نقدي يجعل من الممارسة الهندسية نشاطًا مسؤولًا وأخلاقيًّا. وهذا ما يقود إلى بحث فلسفة الهندسة ذاتها، من خلال إبراز أهمية الفلسفة للهندسة، واستعراض الاتجاهات النقدية في فلسفة العلم التي مهّدت لتطورها، فضلًا عن تحليل الأسس الفلسفية والأخلاقية للهندسة التي تضمن أن يكون الإنجاز التقني في خدمة الإنسان لا على حسابه.

وعليه، فإن هذا البحث ينطلق أولًا من تحديد معنى الهندسة وطبيعتها عبر الوقوف على تعريفها وخصائصها العامة، قبل الانتقال إلى استكشاف العلاقة الجدلية بين الفلسفة والهندسة بوصفهما شريكين في ابتكار العوالم الممكنة، ثم تحليل دور كلٍّ من الفيلسوف والمهندس في صياغة الرؤية وتحقيقها. كما يتناول البحث دور فلسفة التعليم الهندسي في تشكيل العقلية الإبداعية والمسؤولة، وصولًا إلى التعمق في فلسفة الهندسة ذاتها من حيث أهميتها، والأسس النقدية التي تمهّد لها، وقواعدها الفلسفية والأخلاقية. وبهذه الخطوات، تتضح معالم الإطار النظري الذي يوجّه بقية محاور الدراسة.

إشكالية البحث وأسئلته

ينطلق البحث من سؤال محوري يعبر عن مشكلته، وهو: ما هي فلسفة الهندسة؟ ويناقش هذا السؤال من خلال التساؤلات الفرعية التالية:

1- ما معنى "الهندسة"؟

2- ما الأسس الفلسفية للهندسة؟

3- ما طبيعة العلاقة بين الفيلسوف والمهندس؟

4- هل فلسفة التعليم الهندسي مهمة للمهندس؟

5- لماذا الفلسفة مهمة للهندسة؟

6- ما هي فلسفة الهندسة؟

منهجية البحث

يعتمد البحث في عرضه للإجابة عن تلك الأسئلة على عدة مناهج، هي:المنهج التاريخي، المنهج التحليلي، المنهج النقدي، المنهج المقارن.

محاور البحث

المقدمة.

المحور الأول: معنى الهندسة وطبيعتها

المحور الثاني: الفلسفة والهندسة (شراكة في بناء العوالم الممكنة).

المحور الثالث: الفيلسوف والمهندس.

المحور الرابع: فلسفة التعليم الهندسي.

المحور الخامس: فلسفة الهندسة

الخاتمة.

الهوامش

المحور الأول: معنى الهندسة وطبيعتها

1- تعريف الهندسة

نستطيع أن نعرض بانوراما متنوعة ومتميزة لتعريفات الهندسة تجمع بين الأبعاد الكلاسيكية والفلسفية والعلمية والتاريخية، بالإضافة إلى الجانب المؤسسي كما يلى:

أ- التعريفات الكلاسيكية والفلسفية

1- التعريف الكلاسيكي: "فن توجيه القوى العظمى في الطبيعة لخدمة الإنسان وراحته".(1)

2- تعريف الهندسة كفن وقدرة: تسخير الموارد الطبيعية بعد الاستنتاج العلمي، مع تأكيد على البعدين "القدرة" و"الفن" اللذين لا يفسَّران إلا فلسفيًا، وربط فلسفة العلم بفلسفة الهندسة لتوسيع أفق التعاون بين العلماء والمهندسين.(2)

ب- التعريفات العلمية/المنطقية

1- يعرّف لوجنبيهِل (Luegenbieh 2010) الهندسة بأنها: "تحويل العالم الطبيعي باستخدام المبادئ العلمية والرياضيات لتحقيق غاية عملية، مع إحالة ضمنية إلى فلسفة العلم والمنطق.(3)

2- تعريف لاتوماس تردجولد: "تطبيق المبادئ العلمية للتحويل الأمثل للموارد إلى منتجات وأنظمة نافعة للبشرية".(4)

3- تعريف مجلس المهندسين الأمريكي (1941): "التطبيق الإبداعي للمبادئ العلمية لتصميم وتطوير وتشغيل أنظمة وهياكل وأجهزة، مع مراعاة الكفاءة، والسلامة، ووظائفها المقصودة".(5)

ج-  التعريفات العملية/الوظيفية

الهندسة كحلّ للمشكلات: "التطبيق العملي للمبادئ العلمية بطريقة إبداعية لتصميم وتطوير وتنفيذ حلول تقنية في ظروف محددة، بطريقة اقتصادية وآمنة، مع السمات الرئيسية: العلم، الرياضيات، التصميم".(6)

د-  التعريف التاريخي

رفض ديفيس (Davis 2005) فكرة التعريفات الفلسفية للهندسة والمنهج اللغوي في تناولها. ويقترح أن جميع المحاولات لتعريف الهندسة فلسفيًا سوف: (أ) تكون دائرية (أي تستخدم كلمة "الهندسة" أو مرادفًا لها أو مصطلحًا إشكاليًا بنفس القدر)؛ (ب) تكون عرضة لأمثلة مضادّة جادة (إما لأنها تستبعد أنشطة تندرج بوضوح ضمن الممارسة الهندسية، أو لأنها تدرج أنشطة لا تنتمي إليها بوضوح)؛ (ج) تكون مجردة إلى حدّ يجعلها غير مُفيدة؛ أو (د) تعاني مزيجًا من هذه العيوب... واقتراح تعريف تاريخي قائم على جوهر ثابت تحدده الممارسة والمجتمع المهني في فترة زمنية معينة، حيث المهنة تعرّف ذاتها عبر ممارسيها الأحياء.(7)

2- الخصائص العامة للهندسة

يقدم ميتشام Mitcham (1994) الخصائص العامة للهندسة فيتبنى مقاربة فلسفية لغوية لتعريف الهندسة، تقوم على تحليل اللغة والمصطلحات بدل الانطلاق من التجارب العملية مباشرة.بدلًا من محاولة صياغة تعريف جامد للهندسة، يمكن فهمها عبر دراسة استخدام كلمة "الهندسة" والمصطلحات القريبة منها: الابتكار، الإبداع، التصميم، التقنية، العلم…الأهم هو النظر إلى العلاقات المتبادلة بين هذه الكلمات، لأن معانيها تتداخل وتشكل سياق فهمنا للهندسة.من المنظور الفلسفي اللغوي، البداية تكون من الكلمات التي نصف بها التجربة الهندسية، لا من التجربة نفسها، لفهم كيف نبني تصوراتنا عنها.(8)

يصنف فينشينتيVincenti) 1990) أنواع المعرفة الهندسية إلى ست فئات، وكل فئة تمثل جانبًا أساسيًا من أدوات وعقلية المهندس:

1- مفاهيم التصميم الأساسية

- الشكل أو البنية الأكثر شيوعًا وكفاءةً لتطبيق هذا المبدأ.

- الفكرة الجوهرية لعمل الجهاز (المبدأ التشغيلي).

2- المعايير والمواصفات

- تحويل الأهداف العامة للجهاز إلى أرقام وحدود كمية دقيقة.

- تحديد مقاييس الأداء المطلوبة.

3- الأدوات النظرية

- المعادلات الرياضية والأساليب الحسابية.

- قد تستند إما إلى قوانين علمية أو إلى خبرة سابقة موثوقة.

4- البيانات الكمية

- معلومات دقيقة مثل الثوابت الكونية، خواص المواد، ظروف التشغيل، عوامل الأمان… إلخ.

5- الاعتبارات العملية

- المعرفة المستمدة من الممارسة الميدانية والتجارب الفعلية.

- غالبًا تكون معرفة ضمنية يصعب توثيقها بالكامل.

6- وسائل وأدوات التصميم

الطرق الإجرائية، أساليب التفكير، والمهارات الحدسية التي تساعد على تنفيذ التصميم.(9)

المحور الثانى: الفلسفة والهندسة (شراكة في بناء العوالم الممكنة)

منذ البدايات الأولى للتاريخ، شكّل التفكير الفلسفي والهندسة ركيزتين أساسيتين في مسيرة التطور الإنساني. فبينما تضع الفلسفة الأسس الفكرية والقيمية التي ترشد مسارات البشر، توفر الهندسة الأدوات العملية لترجمة تلك الأفكار إلى واقع ملموس. ورغم أن المجالين يبدوان متوازيين ظاهريًا، إلا أن التجارب التاريخية تكشف عن تداخل عميق بينهما، إذ كان تفاعلهما مصدرًا دائمًا للإلهام والإبداع. فالهندسة ليست مجرد معادلات أو تقنيات جامدة، بل عملية قائمة على الإبداع والرؤية والتصور للمستقبل، وهي مجالات تغذيها الفلسفة وتمنحها إطارًا لفهم العالم وإعادة صياغته وفق حاجات الإنسان. ومن هنا يبرز السؤال: ما طبيعة الرابط الجوهري الذي يجمع بين الفلسفة والهندسة؟

قد يبدو للوهلة الأولى أن الفلسفة والهندسة مجالان متباعدان، لكن التأمل يكشف عن روابط عميقة بينهما. فالمهندسون في ممارساتهم اليومية يتحركون بين الملموس والمجرد، والجزئي والكلي، عبر التصميم والتنظير والاختبار والنمذجة. وهم يتعاملون مع "العوالم الممكنة" لا باعتبارها خيالات نظرية، بل بوصفها جوهر عملهم، كما قال ثيودور فون كارمان Theodore Von Karman : "العلماء يكتشفون العالم الموجود، أما المهندسون فيبتكرون العالم الذي لم يكن موجودًا قط."(10)

ورغم أن المشكلات الفلسفية العميقة حول طبيعة الوجود قد لا تكون في صلب اهتمامات المهندس، فإن الفلسفة تظل قادرة على إغناء الممارسة الهندسية، سواء بتحسين جودة التصميم أو بإعداد الطلاب إعدادًا أعمق للحياة المهنية.

منذ أقدم الحضارات، ارتبطت النهضة العمرانية والحضارية بإنجازات هندسية كبرى: الجسور، الطرق السريعة، السدود، المطارات، شبكات المياه، ومواد البناء المقاومة للكوارث. في تلك العصور، كان تدريب المهندسين يتم عبر علاقة مباشرة بين المعلّم والتلميذ، حيث تُنقل المعرفة شفهيًا ممزوجة بالأبعاد المنطقية والفلسفية والفنية، بما في ذلك القدرة على التعامل مع عدم اليقين. آنذاك، لم يكن هناك فصل واضح بين المهندس والمعماري، وكانت المهنة أقرب إلى الفن منها إلى العلم.(11)

أما في العصر الحديث، فقد انفصلت مسارات المعماريين والمهندسين، إذ اتجه المعماري نحو المجالات اللغوية والجمالية، بينما اعتمد المهندس على الأساليب العددية والخوارزميات والحلول الجاهزة. غير أن الإفراط في هذا الاعتماد أضعف الإبداع، وأفقد التعليم الهندسي روح الابتكار التي كانت تُبنى على تفاعل المعلّم والتلميذ. هنا يثور سؤال مهم: أي فلسفة يجب أن يتضمنها التعليم الهندسي المعاصر؟ هل هي الفلسفة الخالصة، أم فلسفة العلم؟ نظرًا لأن المهندس يسعى إلى خدمة المجتمع عبر حلول عملية، فإن فلسفة العلم تبرز كخيار أمثل. فهي تمنحه القدرة على صياغة الأفكار بأسلوب منهجي ولغوي قبل الانتقال إلى الأرقام، وتتيح له التفكير في بدائل متعددة بدل الاكتفاء بحل واحد، ثم اختيار الأنسب وفق معايير السرعة والتكلفة والأمان.(12)

تؤكد الاتجاهات الحديثة في فلسفة الهندسة أن المهنة تمر بأزمة عالمية تدفعها، ولو مؤقتًا، إلى العودة إلى الأسس الفلسفية والمنطقية قبل الشروع في القياس الكمي. فالمنهجيات الهندسية، رغم دقتها، تقوم غالبًا على افتراضات تقريبية تحتاج إلى نقد وتحليل فلسفي لتعزيز فعاليتها.(13)

وفي عصر الإنترنت، يتضاعف هذا الاحتياج؛ فالمعرفة الرقمية متاحة بكثرة، لكن من دون تفكير نقدي تصبح مجرد تراكم معلومات بلا روح. الفلسفة، وبخاصة فلسفة العلوم، تمنح المهندس أدوات للتحقق والتحليل وإعادة صياغة المعلومات في شكل يمكن تحويله إلى حلول نافعة للمجتمع. كما تساعده على الاحتفاظ بالمعلومات واستدعائها حية وفعّالة، بدل أن تتحول إلى أوراق مهملة أو محفوظات جامدة.(14)

في نهاية المطاف، ليست الهندسة مجرد ممارسة تقنية ولا الفلسفة مجرد تأمل نظري، بل كلاهما وجهان لعملة واحدة في مسيرة الإبداع الإنساني. الفلسفة تمنح المهندس القدرة على التفكير النقدي، والنظر إلى المشكلات من زوايا متعددة، وتخيل حلول لم تُجرَّب بعد. والهندسة بدورها تمنح الفلسفة جسدًا ماديًا تتجسد فيه الأفكار وتتحول إلى واقع. وعندما يتصالح العقل الفلسفي مع اليد الهندسية، يصبح الإنسان قادرًا على بناء عوالم جديدة، لا يحدها سوى أفق الخيال، ولا يحكمها إلا منطق الإبداع.

فليس من المدهش أن توجد علاقة وثيقة بين الفلسفة والهندسة، إذ إن هذا الترابط ينسجم تمامًا مع طبيعة الفلسفة الشمولية، التي تشمل في مجال اهتمامها وتأملها كل ما يمكن أن يثير التفكير البشري. ومع ذلك، ما قد يغيب عن ذهن البعض، خاصة في ظل الزخم الذي تحظى به فلسفة العلوم، هو أن الهندسة ربما تكون أكثر احتياجًا للتأمل والتحليل الفلسفي مقارنة بمجالات إنسانية أخرى. السبب وراء ذلك يكمن في التأثير الكبير - وغالبًا غير الملموس في بدايته - الذي أحدثته الهندسة وما تزال تحدثه في تشكيل عالمنا. لقد أسهمت الهندسة في بناء واقع جديد لم يكن ليخطر على بال أجدادنا، وهو تأثير يستحق منا التقدير والفهم العميق لفهم ماهية هذا التحول وآثاره المتعددة.(15)

الهندسة تُعتبر بطبيعتها ذات طابع فلسفي عميق، حيث يتداخل نشاطها بشكل وثيق مع جوانب معرفية (إبستمولوجية) وميتافيزيقية وأخلاقية ومنطقية وجمالية. ومن خلال تعاملها مع المشكلات المعقدة، تصبح الهندسة بمثابة ممارسة للفلسفة التطبيقية. وعلى الرغم من أنها قد لا تصل إلى المستويات الفكرية العليا التي بلغها أمثال هيغل أو هايدغر أو هابرماس، إلا أنها بلا شك تسعى جاهدة لتقديم حلول لبعض القضايا والتحديات التي يواجهها العالم.(16)

المحور الثالث: الفيلسوف والمهندس

المهندس هو الشخص الذي يمارس مهنة الهندسة، ويختصّ بتصميم وإنتاج الأدوات والآليات، ساعيًا إلى تطوير منتجات أسرع وأكثر كفاءة وأقل تكلفة. يتّسم المهندسون بالإبداع والقدرة على حل المشكلات، ويعملون في ثلاثة عوالم متداخلة:العالم الافتراضي، الذي يضم المبادئ والنظريات العلمية.العالم غير المادي، حيث تتحوّل الأفكار إلى مشاريع محددة وملكية فكرية.العالم المادي، حيث تُجسَّد المشاريع في منتجات ملموسة.(17)

وهكذا يؤدى المهندس دوره، حيث يظهر ليس فقط كمنفذ للتقنيات، بل كفاعل في ثلاثة مستويات متكاملة (العلمي، الفكري، المادي). هذا التقسيم يهيئ الأرضية لفهم كيف يمكن للفلسفة أن تتداخل مع الهندسة في كل مستوى.

يبدأ المهندس بتحويل الأفكار إلى تصاميم مستندة إلى المبادئ العلمية والرياضيات، ثم يصوغها في شكل مشاريع قابلة للتنفيذ، وأخيرًا يُنتجها باستخدام التكنولوجيا، ناقلًا إياها من عالم الفكرة إلى عالم الواقع.وتثور هنا تساؤلات أساسية: ما المفاهيم الجوهرية في الهندسة التي يجب تحديدها لتأسيس فلسفة للهندسة؟ وما المفاهيم الفلسفية التي يمكن توظيفها في صياغة هذه الفلسفة؟ إن المهندس الملمّ بفلسفة الهندسة والمبادئ المنطقية قادر على ابتكار حلول بديلة للواقع القائم، إذ لا تقتصر قيمة المهندس على المعرفة الثابتة، بل تكمن في ديناميكية التفكير الفلسفي التي تمنحه الحيوية والفاعلية والنجاح في مساره المهني.(18)

تتسم مهام المهندسين بتنوّع كبير، يشمل: التصميم، والتشخيص، والبحث لتطوير المنتجات، والتصنيع، وإدارة المشروعات، والهندسة الموجهة للمبيعات، إضافة إلى التعليم. كما يعملون في صناعات متعددة، وفي مشروعات تختلف من حيث الميزانية، والوقت، والمواد، والسوق.(19)

لذلك ينص الميثاق الملكي الخاص بمؤسسة المهندسين المدنيين، والذي يعود تاريخه إلى عام 1829، على أن مهنة الهندسة المدنية تُعرَّف بأنها "فن استخدام القوى الطبيعية العظيمة في خدمة الإنسان وراحته". كما جاء في إحدى الفقرات اللاحقة أن "الأعمال والخدمات" التي يقوم المهندسون بإنشائها أو تقديمها "تسهم في تعزيز رفاهية البشرية، مما يتطلب مستوى عاليًا من المعرفة والخبرة المهنية لتحقيق أفضل استخدام للموارد المحدودة، مع الأخذ بعين الاعتبار الحفاظ على البيئة ودعم الصحة والسلامة العامة".(20)

تؤكد المهام الهندسية أن الهندسة ليست مجالًا أحادي الوظيفة، بل تشمل أدوارًا بحثية، إنتاجية، تعليمية، وإدارية، مما يزيد من أهمية النظرة الفلسفية التي تمنح المهندس مرونة فكرية للتعامل مع هذا التنوع.

ومن خصائص المهندس التفكير العملي وإيجاد حلول قابلة للتطبيق، وهي قدرات تدعمها المقاربات الفلسفية. وعندما تُرفع المعرفة الفلسفية الهندسية إلى مستوى التطبيق العملي، يمكن للمهندس توظيفها في السياقات المناسبة، كما يمكنه نقلها إلى الأجيال الجديدة بصورة مبسّطة وفق مبادئ فلسفة الهندسة، ما يعزز قدرته على إنتاج المعرفة وتوظيفها في الأوقات والمواضع الملائمة لمعالجة المشكلات.(21)

منذ بداياتها، أولت الهندسة اهتمامًا كبيرًا بقضايا التعليم، لا سيما في الولايات المتحدة، بدرجة تفوق المهن العلمية الأخرى. فبالمقارنة مع الأطباء أو المحامين وأساتذتهم، نجد أن المهندسين وأساتذة الهندسة خاضوا نقاشات معمّقة حول محتوى المنهج الهندسي وبنيته المثلى. وقد انشغلوا بطبيعة التعليم الهندسي ربما أكثر مما انشغل الفلاسفة بتعليم الفلسفة. وأي فحص نقدي لمسألة التعليم ينطوي بالضرورة على قضايا فلسفية، تمتد من العلاقة بين المعرفة والفعل، إلى الأبعاد الأنثروبولوجية والسياسية للتعلّم، وإن لم يُصرَّح بها دائمًا. وبقدر ما تسعى فلسفة الهندسة إلى إظهار ما هو ضمني، فإنها تُعمّق النقاش حول التعليم الهندسي.(22)

كل هذا يكشف عن تقليد طويل من الانشغال بجودة التعليم الهندسي، بل تفوقه على مثيله في مجالات علمية أخرى، ما يعكس إدراكًا مبكرًا لأهمية البنية التعليمية في تشكيل الممارسة الهندسية.

ينطلق المهندس في تصميمه من مشكلة، أي من حالة جهل تُعَدّ نقصًا في المعرفة، وهو ما يعادل طرح سؤال يوجّه نحو غاية محددة. ويتطلب ذلك معرفة بالوسائل التي تحقق الغاية، وبكيفية الحصول عليها وتوظيفها، ومعرفة بالقيم الكامنة خلف الهدف، وبكيفية تعديل هذا الهدف في ضوء تلك القيم عند الحاجة. وترتبط هذه العملية بفرضيات إبستمولوجية تتجاوز العقلانية النظرية والعملية، لتشمل التفكير الغائي القائم على القدرة الانعكاسية في إصدار الأحكام.(23)

يثير هذا السؤال إشكالية لافتة: إذا كانت الهندسة بطبيعتها متصلة بالفكر الفلسفي، فما الفائدة التي يجنيها المهندس من دراسة الفلسفة؟ يمكن تناول هذا السؤال من زوايا متعددة، غير أن أحد أبرز الجوانب يتمثل في تنمية التفكير النقدي، الذي يُعد من المهارات المطلوبة بشدة في مختلف التخصصات. فهذا التفكير يقوم على تجاوز الأطر التقليدية والنظر إلى القضايا من زوايا غير مألوفة. وفي هذا السياق، أشار مايكل بروكس في مجلة New Scientist إلى الحاجة إلى "مفكرين مرنين" بدلاً من الاقتصار على تخريج المزيد من المتخصصين في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. وعلى المستوى التعليمي، لفت ديفيد غولدبرغ الانتباه إلى ما سماه "المناهج المكسورة" في التعليم الهندسي الجامعي، مؤكداً ضرورة إدماج مهارات التفكير النوعي ذات الجذور الفلسفية. ومن هنا تبرز الفلسفة كأداة مثالية لصقل شخصية "المهندس المفكر"، باعتبارها علماً متشعباً أثبت حضوره في مختلف الحقول.(24)

لا شك أن المهندس المتأمل ذو النزعة الفلسفية سيكون أفضل أداءً. فقد جادل شون (Schön, 1983) بأن الممارسين في مجالات متعددة يستطيعون تحسين أدائهم عبر إدماج التأمل في حياتهم المهنية، ليس بصورة مستمرة، بل في اللحظات المناسبة أثناء العمل أو بعد إنجازه. فبعد كل مشروع، ينبغي للمهندس مراجعة ما قام به، وكيف قام به، وما كان يمكن تحسينه. ورغم أن معظم الناس يمارسون ذلك بدرجة ما، فإن تحويله إلى ممارسة منهجية يُسهم في تحسين الأداء المهني، ويفتح المجال للتفكير العميق في أسس الممارسة الهندسية، وفحص الفلسفة الضمنية التي توجهها، بما يتيح فرصة لجعلها أوضح وأدق صياغة.(25)

وهكذا يجب دمج التأمل كأداة تطوير ذاتي ومهني، بما يجعل الفلسفة ممارسة حية داخل العمل الهندسي، وليست مجرد إطار نظري.

الخلاصة: ان العلاقة بين الفيلسوف والمهندس هي علاقة تكامل لا تناقض، فالفيلسوف يمنح المهندس الإطار المفاهيمي الذي يضبط منهجه ويكشف أبعاده الأخلاقية، والمهندس بدوره يمنح الفيلسوف برهانًا عمليًا على صلاحية الفكر وقدرته على تغيير الواقع. وحين يدرك المهندس أهمية التفكير الفلسفي، يصبح أكثر قدرة على ابتكار حلول مستدامة ومسؤولة، وحين يستلهم الفيلسوف من إبداعات الهندسة، تتجدد أسئلته وتُختبر أفكاره أمام تحديات العصر. وبذلك، فإن الفيلسوف والمهندس يشتركان في مهمة واحدة: فهم العالم والعمل على تحسينه، أحدهما بالعقل المجرد، والآخر بالفعل الملموس، في تآزر يثري كليهما ويخدم الإنسان والمجتمع.

المحور الرابع: فلسفة التعليم الهندسى

يُعَدّ التعليم الهندسي ركيزة أساسية في تطوّر المجتمعات الحديثة، إذ يجمع بين المعرفة العلمية الدقيقة والمهارات التطبيقية المتقدمة، في إطار تحكمه القيم الأخلاقية للممارسة المهنية. ومع تسارع التحولات التكنولوجية وتزايد التحديات البيئية والاقتصادية والاجتماعية، أصبح التعليم الهندسي مطالبًا بتجاوز نقل المعارف التقنية نحو بناء عقلية نقدية قادرة على التفكير المنهجي، وحل المشكلات بطرق مبتكرة، واتخاذ قرارات مسؤولة أخلاقيًا. ومن ثمّ تبرز الحاجة إلى رؤية فلسفية شاملة للتعليم الهندسي تجمع بين الأسس العلمية والبعد الإنساني ودور المهندس في خدمة المجتمع، بما يضمن مخرجات تعليمية قادرة على الإسهام في التنمية المستدامة وتعزيز الازدهار الوطني، وهذا ماسوف نشرحه فى الصفحات التالية.

إن تحقيق نتائج مثلى في ميدان التدريب الهندسي يتطلب أن يركّز النظام التعليمي على ترسيخ النقاش النقدي وتنمية التفكير العقلاني، بدلًا من الاقتصار على الحفظ الآلي. فغياب البعد الفلسفي في التعليم يحصر عملية التعلم في التلقين الجامد، بينما تعمل الفلسفة والمنطق على تحرير الذهن من القيود، وتفتح المجال أمام النقد المستمر وتطوير المعرفة بشكل متجدد. إن فلسفة الهندسة، بوصفها إطارًا فكريًا، توجّه المهندسين نحو الابتكار واستكشاف تقنيات غير مألوفة. فالاختراع يرتبط بتراكم معرفي نقدي يربط بين المعلوم والمجهول، ويحفّز العقل على الخوض في مناطق معرفية جديدة لإطلاق الإبداع. أما الانغلاق في حدود المعرفة الراهنة فيؤدي إلى إنتاج أنماط متكررة، ويفتقر إلى روح التجديد الفلسفي. ومن ثم فإن الحماس للبحث، المستند إلى فلسفة العلم والهندسة، يُعدّ شرطًا أساسيًا لتنمية المهارات الهندسية.(26)

وبذلك يجب دمج الفلسفة في التعليم الهندسي، حيث توجد علاقة الجوهرية بين الإبداع والقدرة النقدية. فلسفة الهندسة هنا ليست ترفًا فكريًا، بل أداة عملية لإطلاق التفكير غير النمطي. على المستوى المهني، يُترجم ذلك إلى قدرة المهندس على ابتكار حلول غير مسبوقة، وعلى المستوى الفلسفي، يرسّخ قناعة بأن المعرفة الحقيقية تتطلب الانفتاح على المجهول لا الاكتفاء بالمعلوم.

تطرح النظم التعليمية، وخصوصًا في مجال الهندسة، تساؤلات أساسية: هل يمكن للتراكم المعرفي الساكن أن ينتج مهندسين مبدعين ومستقلين؟ وهل يكفي التركيز على الجانب التقني البحت، أم أن دمج العلوم الاجتماعية والفلسفة الإنسانية ضروري لضمان معرفة ديناميكية ومستدامة؟ إن المعرفة اللغوية المؤسسة على مبادئ فلسفية يمكن أن تفضي إلى قواعد منطقية تولّد نتائج مرنة وقابلة للتطوير. وإذا أراد المهندس تبني هذا المسار، فعليه أن يدرّب نفسه على المبادئ الفلسفية والمنطقية من خلال بناء رصيد لغوي ومعرفي قبل الانخراط في الحلول التقنية. وقد أظهر تاريخ العلوم أن الإنسان بدأ مسيرته الفكرية ضمن إطار فلسفي، وجمع معارفه تدريجيًا قبل أن تتبلور الرياضيات والعلوم والهندسة كمجالات مستقلة، ومع ذلك حقق تطبيقات عملية ناجحة بفضل العقل والذاكرة والمنطق، في مسار ديناميكي تقدمي.(27)

وعليه فان فلسفة اللغة والمنطق ليست بعيدة عن الهندسة، بل تشكّل بنيتها التحتية الذهنية. المهندس الذي يمتلك خلفية فلسفية يتمكن من فهم القيم والأخلاقيات والسياقات الاجتماعية لمشاريعه، ما يمنحه رؤية أوسع تتجاوز حدود الكفاءة .

ينبغي أن يتضمن المنهج التدريبي الكلاسيكي لأي مهندس مجموعة من المحاور الأساسية الداعمة لمسيرته المهنية، يمكن إجمالها في ما يلي:

1- إتقان أساسيات الفيزياء والرياضيات الضرورية لفهم المبادئ العلمية التي يقوم عليها العمل الهندسي.

2- الاطلاع على الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، إضافةً إلى دراسة تاريخ تطور الهندسة لفهم السياق الأوسع للممارسة المهنية.

3- امتلاك القدرة على تصميم المشاريع الهندسية وتقييمها من حيث الجدوى والتطبيق العملي، مع توظيف المعارف والمهارات المتنوعة في هذا التقييم.

4- الاستفادة من خبرات ومعارف وتساؤلات المهندسين ذوي الكفاءة العالية والخبرة الواسعة.(28)

يمثل إخضاع ممارسات التعليم في الهندسة والتكنولوجيا لفحص نقدي خطوة أساسية لضمان ملاءمتها لمتطلبات العصر. ويقتضي ذلك إعادة النظر في الأساس المعرفي، والمناهج الدراسية، وأساليب التدريس، مع تعميق الوعي بالمسؤوليات العلمية والأخلاقية والمجتمعية والتكنولوجية للمهندسين. كما يستلزم الأمر الاستمرار في إلهام المبتكرين وتشجيعهم على مواجهة تحديات العقود المقبلة. ومن ثم تبرز الحاجة إلى بحث الأساس الفلسفي للهندسة، في أبعاده المعرفية (الإبستمولوجية)، والوجودية (الأنطولوجية)، والأخلاقية، بما يتيح الإجابة عن أسئلة محورية: ما الذي يميز الهندسة عن العلم من جهة والتكنولوجيا من جهة أخرى؟ ما ماهية الهندسة في جوهرها العميق؟ ما المعايير التي تحدد الفرق بين المهندس والتقني؟ وأخيرًا، ما طبيعة المسؤوليات المجتمعية والتكنولوجية الملقاة على عاتق المهندسين في أدوارهم المختلفة؟(29)

ومن الضروري أن يخضع التعليم الهندسي لمعايير دقيقة تستند إلى أسئلة فلسفية وعملية معًا، إذ يمكن للمهندس أن يقدم خدماته لمجتمعه عبر أنشطة متنوعة وتصميمات إنشائية وإجراءات إدارية، إلا أن هذه الخدمات قد تحمل مخاطر على المدى المتوسط أو البعيد. فعلى سبيل المثال، قد يؤدي سحب المياه الجوفية باستخدام مضخات عالية القدرة إلى آثار بيئية وأخلاقية سلبية، ما يجعله مخالفًا لجماليات وأخلاقيات الممارسة الهندسية، خاصة على مستوى الشركات أو الإدارات المحلية.

لذلك، يجب أن تتضمن مراحل التعليم الهندسي التفصيلية الخطوات التالية:

1- تدريس أساسيات الهندسة والرياضيات والمنهجيات العلمية، مع التمكن من التوصل إلى استنتاجات منطقية.

2- استخدام المعلومات العددية واللفظية بشكل رئيس في إعداد التجارب وتصميم الأجهزة عند الحاجة.

3- امتلاك القدرة والمنهجية والبرمجيات اللازمة لمعالجة المعلومات العددية واللفظية بكفاءة.

4- السعي لتحقيق الأهداف المطلوبة من خلال تصميمات مفيدة ومنهجية.

5- تحديد المشكلات الهندسية، وحلولها، وصياغتها، بالإضافة إلى تقييم إمكانية تطبيقها.

6- الالتزام بالمبادئ المهنية والأخلاقية، وتحمل المسؤولية تجاه الأهداف المرجوة.

7- تقديم حلول للمشكلات الهندسية على المستويات المحلية، الإقليمية، والعالمية، مع دمجها لتحقيق التكامل.

8- إدراك أن حل المشكلات الهندسية لا يقتصر على التعليم الجامعي والتدريب، بل يشمل أيضًا الخبرة المكتسبة بعد التخرج من خلال النقد والتفسير المستمر.

9- استكمال المعرفة الأساسية بمراعاة المناهج والمنهجيات الحديثة والمتطورة.

10- بهدف التوصل إلى حلول متكاملة.

11- إتقان استخدام التقنيات العملية والأساليب الحديثة في الأجهزة والتطبيقات الهندسية.

12- إتقان لغة أجنبية واحدة على الأقل، شائعة الاستخدام، لمواكبة التطورات التكنولوجية والعلمية العالمية.(30)

ويمكن تلخيص المتطلبات الرئيسة للتعليم الهندسي في النقاط التالية:

1- تحديد المشكلات الهندسية وزيادة القدرة على إيجاد الحلول.

2- تطوير التصميمات وفق التخطيط والتحقق الميداني.

3- تعزيز مهارات العمل المشترك مع مختلف التخصصات الهندسية.

4- دعم العمل الجماعي داخل التخصص الواحد مع تنوع الأفكار.

5- تشجيع الطلاب على المشاركة في الأنشطة الأكاديمية والاجتماعية.

6- نشر القيم الأخلاقية المهنية خلال فترة التعليم.

7- تنمية مهارات النقاش النقدي لدى الطلاب.

8- تحسين قدرات العروض التقديمية وكتابة التقارير والبرمجيات.

9- تمكين الطلاب من تطبيق منهجيات الحل العملي للمشكلات.

10- تزويدهم بمهارات التعلم مدى الحياة.

11- تنمية القدرة على مشاركة المعلومات وتطبيق التقنيات الحديثة.

12- الحفاظ على مستوى عالٍ من الطموح المهني.(31)

وفي ضوء التحولات الحديثة، يشهد التعليم الهندسي إعادة صياغة جذرية، استجابةً للإمكانات التي توفرها التكنولوجيا التعليمية، وللاحتياجات المجتمعية المستجدة. وقد ظهرت برامج تعليمية متعددة التخصصات ومشتركة التخصصات، وأصبح إلى جانب التعليم الهندسي الأساسي تركيز متزايد على التعليم العام، والابتكار، وريادة الأعمال. كما اندمجت عوالم السوق والجامعة في تفاعل مباشر، مما جعل قضايا المنافسة في التعليم العالي، والقيم الأخلاقية، والنظرة إلى الطالب بوصفه "عميلًا"، موضوعات للنقاش الدولي. وفي هذا الإطار، يظل التعليم الهندسي عنصرًا محوريًا في تحقيق الازدهار الوطني.(32)

الخلاصة: إن فلسفة التعليم الهندسي المعاصر تقوم على مبدأ التكامل بين المعرفة النظرية، والمهارات العملية، والمسؤولية الأخلاقية والاجتماعية. فالهندسة لم تعد مجرد ممارسة تقنية تهدف إلى إنتاج حلول وظيفية، بل أصبحت فعلًا إنسانيًا له تأثير مباشر على حياة الأفراد والمجتمعات، وعلى التوازن البيئي والاقتصادي. وبقدر ما ينجح التعليم الهندسي في ترسيخ قيم الإبداع، والانفتاح على التخصصات الأخرى، والالتزام بالمبادئ المهنية، بقدر ما يصبح المهندس عنصرًا فاعلًا في صياغة المستقبل. ومن هنا، فإن تطوير المناهج، وربطها بالبحث العلمي والابتكار، وتعزيز الوعي الأخلاقي، هو السبيل لضمان أن يظل التعليم الهندسي قوة دافعة للتقدم، وجسرًا بين المعرفة والمجتمع.

ان إدخال الفلسفة في المنهج الدراسي لمرحلة البكالوريوس في الهندسة سيكون أمرًا مفيدًا. إذ يمكن لدراسة تاريخ العلوم والهندسة أن توفر قاعدة صلبة من السياق لطلاب الهندسة، غير أن تدريس مقرر في الفلسفة يمتلك القدرة على تمكين طلاب الهندسة، بل وطلاب الدراسات العليا أيضًا، من النظر إلى أنشطة مهنتهم من منظور جديد. فالهندسة تنطوي على استخدام المعرفة والمساهمة في تطويرها ضمن مجالات واسعة ومتنوعة، كما أن المنطق المستخدم فيها متباين في طبيعته، وتحتوي أغلب الممارسات الهندسية على اعتبارات أخلاقية جوهرية، فضلًا عن أن الجوانب الجمالية قد تكون أساسية في مخرجات العملية الهندسية.وباستخدام الأدوات التي توفرها الفلسفة، سيكون من المفيد لمعلّمي الهندسة أن يعيدوا فحص كيفية صياغة برامجهم التعليمية، مع السعي لتحقيق توازن بين الجوانب العلمية وغير العلمية. وأخيرًا، ينبغي للمهندسين أن يكونوا مسؤولين أمام المجتمع، محليًّا ودوليًّا.(33)

عدسة الفلسفة تُمكِّن المهندسين من النظر إلى الأمور بمنظور أكثر شمولية، لكنها ليست الجانب الوحيد الذي يستحق التركيز الإيجابي داخل إطار الفلسفة. إذ يرتبط تشكيل المهندس بمسارين أساسيين: التعليم والخبرة العملية. لذلك، تصبح الفلسفات العامة للتعليم وفلسفات تدريس الهندسة على درجة عالية من الأهمية والارتباط. علاوة على ذلك، يُبرز هذا الموضوع بشكل خاص في الوقت الراهن بسبب ما يُعرف بمشكلة المناهج الدراسية، حيث تواجه البرامج التعليمية ضغطًا متزايدًا لتضمين مجموعة واسعة من المكوّنات استجابةً لمتطلبات الاعتماد الأكاديمي.(34)

المحور الخامس : فلسفة الهندسة

1- أهمية الفلسفة للهندسة

تُعامَل الهندسة والفلسفة، في التصور الشائع، على أنهما مجالان منفصلان تمامًا، كما لو كان كل منهما جزيرة كبرى تفصلها عن الأخرى مسافة شاسعة من المياه. فكثير من الناس يرون أن الهندسة لا شأن لها بالفلسفة، بل إن بعض المشتغلين بالهندسة – فضلًا عن فلاسفة – يذهبون أبعد من ذلك، معتبرين العلاقة بينهما علاقة توتر أو حتى خصومة. فالهندسة، تقليديًا، تتوزع إلى فروع عدة مثل الهندسة المدنية، والميكانيكية، والكهربائية، والكيميائية، والنووية، وهندسة الحاسوب، في حين تنقسم الفلسفة بدورها إلى مجالات مثل المنطق، ونظرية المعرفة، والميتافيزيقا، والأخلاق، والجماليات، والفلسفة السياسية. وقد درج بعض الفلاسفة، خصوصًا في حقلَي الأخلاق والجماليات، على توجيه النقد إلى مجالات محددة من عالم الهندسة.(35)

تاريخيًا، نشأت الفلسفة في اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد كطريقة حياة متميزة، حيث، وفقًا لأرسطو، حلت دراسة الطبيعة (الفيزيس) محل المرويات الأسطورية عن الآلهة. إلا أن الفلسفة المعاصرة نادرًا ما تتناول الطبيعة مباشرة، بل تميل إلى دراسة الظواهر واللغة. أما الهندسة، فقد بدأت في القرنين السابع عشر والثامن عشر كفنّ عسكري مكرس لتصميم آلات الحرب كالمدافع والمنجنيقات، وبناء التحصينات، ثم انتقل مصطلحها إلى "الهندسة المدنية" ليشير إلى نقل تلك المعارف إلى مجالات غير عسكرية.(36)

منذ ستينيات القرن العشرين، وُجّهت انتقادات حادّة للمجتمع الهندسي، متهمةً المهندسين بالمساهمة في تهديد الحضارة عبر تصميم الأسلحة النووية، وتشويه الثقافة الحضرية بأنظمة النقل، وتعزيز النزعات السلطوية بتقنيات الاتصالات، وتجريد الحياة الإنسانية من بعدها الشخصي بوساطة الحواسيب. كما طالتهم اتهامات بتلويث البيئة، وتشويه الفضاء الإنساني بهياكل قبيحة ومنتجات استهلاكية عديمة الجدوى. ورأى مارتن هيدجر أن هذه الإخفاقات الأخلاقية والجمالية تنبع من الموقف الهندسي ذاته، القائم على اختزال الطبيعة إلى "موارد" في إطار من السيطرة يسميه "الجشتل" (Gestell). وقد فُسِّرت أفكاره أحيانًا بوصفها هجومًا على "علوم الاصطناع" عند هربرت سيمون (1969)، بما تحمله من نزعة أنطولوجية اختزالية ورؤية معرفية افتراضية. كما ربطت بعض المفكرات النسويات بين الممارسة الهندسية وهيمنة الذكور، وما يترتب عليها من موت الطبيعة وتلاشي الرعاية بالعالم.(37)

تطرح هذه الانتقادات تحديًا مباشرًا للتعريف الكلاسيكي للهندسة الذي صاغه توماس تردجولد في القرن الثامن عشر، وما زال يتكرر في مصادر مرجعية مرموقة مثل الموسوعة البريطانية وموسوعة ماكجرو- هيل: "الهندسة هي تطبيق المبادئ العلمية للتحويل الأمثل للموارد الطبيعية إلى هياكل وآلات ومنتجات وأنظمة وعمليات تعود بالنفع على البشرية." غير أن النسخة التي قد يخرج بها الخطاب النقدي المعاصر تبدو مغايرة تمامًا، إذ تصوّر الهندسة على أنها "الفنّ العلمي الذي يستخدمه بعض البشر لتدمير الطبيعة وتلويث العالم بطرق عبثية أو ضارة بالحياة الإنسانية."(38)

وتأسيس فلسفة للهندسة يتطلب:

أولا تحديد المفاهيم الأساسية التي تشكّل بنيتها المعرفية والعملية. ومن هذه المفاهيم: طبيعة الهندسة بوصفها نشاطًا علميًا–إبداعيًا، دورها في تحويل الموارد إلى منتجات وأنظمة، علاقتها بالابتكار والتقنية، وأثرها على المجتمع والبيئة. كما يستلزم الأمر تعريف الحدود الفاصلة والروابط المشتركة بين الهندسة وغيرها من التخصصات العلمية والإنسانية.

ثانيًا: إدماج مفاهيم فلسفية مركزية في صياغة هذه الفلسفة، من أبرزها: التحليل المفهومي لفهم الاستخدامات النظرية والعملية للمصطلحات والمفاهيم الهندسية، التأمل النقدي في الممارسة والفكر بهدف تعميق الفهم وتوسيع الرؤية أو نقد الأسس النظرية، والانفتاح على القضايا الشاملة التي تتجاوز حدود التخصص، مثل أسئلة الخير (الأخلاق)، والمعرفة (الإبستمولوجيا)، والوجود (الميتافيزيقا). وتكمن أهمية هذه المقاربة في جعل الفلسفة أداة لفهم الهندسة كجزء من مشروع إنساني متكامل، لا مجرد ممارسة تقنية.(39)

وفى الفلسفة المعاصرة نجد تصورات مختلفة تتعلق بالهندسة، فرغم تنوّع اتجاهاتها، يمكن تمييز سماتها الجامعة في أربعة محاور:

1- التحليل المفهومي: لفهم دقيق للأفكار واستخداماتها النظرية والعملية، بما يشمل المنطق كأداة تنظيم للفكر.

2- التأمل النقدي: لمراجعة الممارسات والرؤى، وتعزيز الفهم أو نقد الأسس المعرفية والقيمية.

3- الانفتاح على القضايا الشاملة: عبر تجاوز التخصص الواحد نحو أسئلة كبرى حول الخير، والمعرفة، والوجود، ما يمنحها طابعًا بين–تخصصي.

4- الفلسفة كأسلوب حياة: حيث تتجاوز الفلسفة كونها نظرية مجردة لتصبح ممارسة عملية توجه فهم الإنسان لواقعه وتضبط سلوكه وفقه.(40)

وتاريخيًا، انبثقت معظم التخصصات الأكاديمية الحديثة من الفلسفة: فقد خرجت العلوم الطبيعية من الفلسفة الطبيعية بفضل أعلام مثل بيكون وديكارت ونيوتن، وتطورت العلوم الاجتماعية انطلاقًا من الفلسفة الاجتماعية لدى ماركس ودوركايم وفيبر، كما نشأت علوم الاقتصاد وعلم النفس والأنثروبولوجيا من رحم التفكير الفلسفي. وبذلك، تحتفظ الفلسفة بموقع مرجعي نقدي يتيح لها التأثير في مسارات المعرفة الأخرى.(41)

الخلاصة: بفضل هذه الخصائص، تملك الفلسفة - أكثر من غيرها من العلوم الإنسانية - قدرة فريدة على إثراء الهندسة، ليس فقط على المستوى المعرفي، بل أيضًا على مستوى توجيه الممارسة المهنية ضمن أطر أخلاقية وإنسانية مستدامة.(42)

وهكذا يمكننا ان نتساءل:

أولًا: لماذا الفلسفة مهمّة للهندسة؟

ويمكن تشبيه الهندسة بالفلسفة، أو على الأقل بفهمٍ معاصرٍ لما تُكوّنه الفلسفة. وقد صرّح آدم مورتون Adam Mortonبأن «الفلسفة أشبه بالهندسة... فهي معنية قبل كل شيء بالموضوعات التي لا يتطابق فيها النظرية مع الدليل توافقًا كاملًا، وحيث تدفعنا الحاجات العملية إلى النظر في نظريات نعلم أنها ليست صحيحة تمامًا. نحن نقبل هذه النظريات غير الكاملة لأننا بحاجة إلى بعض المعتقدات التي ترشدنا في الأمور العملية. لذلك، إلى جانب النظريات، نحتاج إلى قواعد إبهام (rules of thumb) وأنواع مختلفة من النماذج».(43)

تتجلى أهمية الفلسفة للهندسة في ثلاثة أبعاد رئيسية:

1- الدفاع عن الذات: تمكين المهندسين من مواجهة الانتقادات الفلسفية الموجّهة لممارساتهم وتقنياتهم.

2- المصلحة الذاتية: توفير فهم أعمق للسياقات الأخلاقية والاجتماعية المرتبطة بالمهنة، بما يعزّز الوعي بالمسؤولية.

3- المعرفة الذاتية: إدراك أن الهندسة تمثل نموذجًا جديدًا للفلسفة في الحياة اليومية، حيث تتحول الأفكار إلى بنى وأنظمة ملموسة.

يمثّل هذا التداخل الثالث بين الهندسة والفلسفة ما يشبه حركة الصفائح التكتونية في علم الجيولوجيا؛ فهو لا يقتصر على إقامة جسور بين المجالين، بل يشهد تراكبًا حقيقيًا بين “قارات” فكرية، ينتج عنه تغييرات عميقة وإن بدت بطيئة أو غير ملحوظة للوهلة الأولى. وتتطلب هذه العلاقة وعيًا ذاتيًا متزايدًا من الطرفين: الفلاسفة والمهندسين.(44)

ثانيًا: هل يمكن للهندسة أن تُضيف شيئًا للفلسفة؟

عند طرح السؤال: ما الذي يمكن أن تقدّمه الفلسفة - عبر التحليل المفهومي والتأمل النقدي والتفكير البين–تخصصي - للهندسة؟ نجد أن الإجابة تكمن في السؤال ذاته: أليست هذه الصفات كامنة أيضًا في الممارسة الهندسية؟ فالتحليل المفهومي يظهر في صياغة النماذج والتصاميم، والتأمل النقدي يتجلى في مراجعة الحلول والتقنيات، والتفكير البين–تخصصي هو شرط جوهري في مشاريع تجمع بين الفيزياء، والاقتصاد، والبيئة، وعلم الاجتماع.كلما اتسعت قدرتنا على صناعة العالم، اتسع وعينا بأنه عالم مصنوع. لقد انتقل الإنسان من العيش في عالم طبيعي، إلى عالم "مصنوع يدويًا"، ثم إلى عالم مُهندَس بالكامل. في هذا الانتقال، برزت تحولات فلسفية جذرية: أُعيد النظر في مفاهيم مثل "الطبيعة" و"الجوهر"، وحلّت "العملية" محل "المادة"، وأصبحت المعرفة مؤطرة بالاقتصاد والسياسة بقدر ما هي نتاج منهج علمي، كما احتلت القضايا الأخلاقية صدارة النقاشات العامة والمهنية.(45)

ثالثًا: ما هو البعد الأخلاقي والمعرفي والجمالي للهندسة

مجالات مثل: أخلاقيات الطب، وأخلاقيات البيئة، وأخلاقيات الحوسبة، وأخلاقيات الهندسة تمثل مجرد قمة جبل جليد فلسفي في عالم يشهد:

1- طفرات ميتافيزيقية: من الكوزمولوجيات العلمية إلى وجوديات المخاطرة والواقع الافتراضي.

2- انفجارات معرفية: من الإحساس عن بُعد إلى الذكاء الاصطناعي والمعلومات كسلعة.

3- تركيبات جمالية جديدة: من المواقع التفاعلية إلى التمثيلات البصرية والرسومية.

اليوم، كل شيء - من الطعام والسكن والنقل والاتصالات إلى الفن والأدب - يخضع لإعادة تشكيل هندسية. التكنولوجيا تتخلّل العالم، والفلسفة تتخلّل التكنولوجيا. نحن نعيش في عالم مشبع بالتكنولوجيا، لكن هذه التكنولوجيا نفسها مشبعة بالفكر الفلسفي. بل إن التحولات في "عالم الحياة" التي تناولتها فلسفات ما بعد الحداثة هي ذاتها التي يصنعها المهندسون - لكنهم غالبًا يلتزمون الصمت، الأمر الذي يؤدي، على نحو مفارِق، إلى تهميش دورهم رغم أنهم من يشكّلون البنية التحتية الثقافية للعصر.(46)

لتناول الصلة الخاصة بين الأخلاق والجماليات في الهندسة يكفي الإشارة كمثال إلى مركز الأخلاقيات للهندسة والعلوم في جامعة كيس ويسترن ريزيرف، حيث يذكر على موقعه أن مهمته هي "تزويد المهندسين والعلماء وطلاب العلوم والهندسة بالموارد اللازمة لفهم المشكلات ذات الأبعاد الأخلاقية المهمة التي تنشأ في عملهم، ومعالجتها، وخدمة أولئك الذين يعززون التعلم ويدعمون فهم البحث والممارسة المسؤولة في العلوم والهندسة".(47)

يمكن توضيح العلاقة بين الفلسفة والهندسة من خلال المثال التالي:

يُعد مركز زيروكس للأبحاث (Xerox PARC) أحد أبرز مؤسسات الابتكار في القرن العشرين. ففي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، طوّر المركز تقنيات رائدة مثل: واجهات المستخدم الرسومية (GUI)، وفأرة الحاسوب، والمفاهيم الأساسية للحوسبة الشخصية. ومع ذلك، أخفقت الشركة الأم في استثمار هذه الابتكارات تجاريًا.جزء من نجاح المركز كان نتيجة تفاعله العميق مع الثقافة والفكر الفلسفي، لكن هذا التفاعل لم يُترجم إلى رؤية استراتيجية فعّالة. على سبيل المثال، كان رئيس التكنولوجيا بالمركز، مارك وايزر (Mark Weiser)، متأثرًا بأعمال فلاسفة ومفكرين كبار مثل هربرت سيمون، ومايكل بولاني، وهانز–جورج جادامر، ومارتن هايدجر. وقد صاغ وايزر مفهوم الحوسبة المنتشرة (Ubiquitous Computing – UbiComp)، الذي يقوم على دمج الحواسيب بسلاسة في تفاصيل الحياة اليومية، بحيث تختفي الأجهزة عن الأنظار وتبقى التجربة في المقدمة.(48)

من منظور فلسفي، يمكن القول إن المهندسين يعيشون "ما بعد الحداثة" من خلال ممارساتهم التصميمية، حتى وإن لم يُسمّوا ذلك صراحة. فعملية التصميم الهندسي تجسّد مبادئ ما بعد الحداثة مثل: اللاتمركز، وتعدّد الحدود، والنظام الناشئ؛ وهي سمات يتناولها الفلاسفة بالنقاش، لكن المهندسين يطبّقونها عمليًا دون أن يعلنوا عنها كإطار فكري.(49)

الخلاصة: المهندسون، في هذا السياق، هم "الفلاسفة غير المعترَف بهم" في عالم ما بعد الحداثة. فالهندسة المعاصرة لم تعد مجرّد تطبيق تقني للعلوم، بل أصبحت طريقة فلسفية لعيش الحياة وصياغة العالم. ومن هنا تأتي الدعوة:"أيها المهندسون في العالم، تفلسفوا! ليس لديكم ما تخسرونه… سوى صمتكم."(50)

رابعا: هل يوجد مبرر للمهندسين لتجاهل الفلسفة؟

رغم أن الفلسفة لم تولِ الهندسة الاهتمام الكافي، فإن ذلك لا ينبغي أن يكون مبررًا للمهندسين لتجاهل الفلسفة. ذلك أن للفلسفة أهمية بالغة للهندسة لثلاثة أسباب رئيسة:

أولًا، تزوّد الفلسفة المهندسين بالأدوات الفكرية لفهم النقد الفلسفي الموجَّه إلى مهنتهم والدفاع عنها. وهناك بالفعل تقليد فلسفي مرتبط بالهندسة، غير أن هذا التقليد أُهمل حتى من قِبَل المهندسين أنفسهم.

ثانيًا، تُعد الفلسفة - ولا سيما الأخلاق التطبيقية - أداة أساسية لمساعدة المهندسين على التعامل مع المسائل الأخلاقية والمهنية المعقدة، وهو ما تؤكده الدراسات التحليلية لمقررات "أخلاقيات المهنة" ضمن برامج تعليم الهندسة في الولايات المتحدة.

ثالثًا، نظرًا للطبيعة المفهومية والثقافية الجوهرية للهندسة، فإن الانشغال الفلسفي بماهيتها ومعانيها يمثل ضرورة معرفية ومهنية في آن واحد.(51)

وعلى عكس التصور السائد، تمثل الفلسفة عنصرًا محوريًا في بنية التفكير الهندسي. فإهمال المهندسين وطلبة الهندسة - فضلًا عن مستخدمي منتجاتها وخدماتها - للتحليل والتأمل الفلسفي، ينطوي على خطأ مزدوج: خطأ تاريخي يتمثل في تجاهل الإرث الفلسفي للهندسة، وخطأ مهني يتمثل في فقدان أدوات التفكير النقدي الضرورية لمواجهة التحديات المعاصرة. وفي المقابل، تظل الهندسة أيضًا ذات أهمية للفلسفة، إذ لم يبذل الفلاسفة جهدًا كافيًا لفهم الواقع التقني الذي يبادرون في كثير من الأحيان إلى نقده. ولو صحّح الفلاسفة هذا الموقف، لأصبحت الفلسفة أكثر إسهامًا في تطور الهندسة مما هي عليه الآن.(52)

الفلسفة تحتاج الهندسة بقدر ما تحتاج الهندسة الفلسفة. هذا التوازن في الطرح يضيف بعدًا نقديًا للموقف، فهو لا يضع المهندسين في موقع المتلقي السلبي، بل في موقع الشريك الفكري.

خامسا: لماذا إذًا يحتاج المهندسون إلى الفلسفة؟

1-  تنبع حاجة المهندسين إلى الفلسفة من سببين رئيسين: الدفاع أمام النقد الفلسفي ومعالجة التحديات الأخلاقية والمهنية الداخلية.

أولًا، يواجه المهندسون منذ قرون نقدًا فلسفيًا واسع النطاق، ما دفع بعضهم إلى دراسة الفلسفة بوصفها أداة دفاعية لبناء حصون فكرية تُمكّنهم من مقاومة هذا النقد. ومن هنا نشأت مدرسة متميزة من "الفلاسفة المهندسين" - وهي مدرسة لم تحظَ حتى اليوم بالاعتراف الكافي، سواء في المعاهد والكليات الهندسية أو في كليات الآداب التي تُدرّس الفلسفة. من أبرز رموز هذه المدرسة:

1- إرنست كاب (1808–1896): فيلسوف ألماني معاصر لماركس، هاجر إلى تكساس وأصبح رائدًا في مجاله هناك. رأى في التكنولوجيا امتدادًا معقدًا للقدرات البشرية، وكان أول من صاغ مصطلح "فلسفة التكنولوجيا" أو "فلسفة الهندسة".

2- بيتر إنجلمان (1855–حوالي 1941): من مؤسسي الهندسة الاحترافية في روسيا، دعا إلى تعليم غير تقني للمهندسين يشمل إدراك التأثيرات الاجتماعية للتقنية.

3- فريدريش ديساور: مخترع العلاج بالأشعة السينية العميقة، ومعارض للنازية، تحاور مع فلاسفة كبار مثل كارل ياسبرز، أورتيغا إي غاسيت، ومارتن هايدغر. قدّم تفسيرًا فلسفيًا للهندسة باعتبارها تجربة تتجاوز الظواهر لتلامس "الشيء في ذاته".

4- صامويل فلورمان: مهندس مدني في نيويورك، دافع عن الهندسة بوصفها نشاطًا إنسانيًا ذا قيمة وجودية، لا مجرد وسيلة لتحقيق أهداف خارجية.(53)

الخلاصة : أن الفلسفة تمثل درعًا فكرية للمهندس أمام النقد، وأن بعض المهندسين تبنّوها فعلًا كجزء من تكوينهم المهني.. فالفلسفة، بفروعها ولغتها وأدواتها، تقدّم للمهندس الكثير من الإمكانات لفهم ذاته، ومن ثم ربط هذا الفهم بالمجتمع الأوسع.(54)

ومن المؤكد أن الاعتبارات الفلسفية أصبحت في الوقت الراهن ذات صلة وثيقة بمهنة الهندسة، وهو ما يتضح من مبادرة الأكاديمية الملكية للهندسة في المملكة المتحدة، التي نشرت مؤخرًا مقالًا يمهّد لمشروع بعنوان "فلسفة الهندسة". ويهدف هذا المشروع عمومًا إلى تحقيق فهم أعمق لطبيعة مهنة الهندسة والانضباط الأكاديمي المرتبط بها.(55)

2- تُعدّ الفلسفة، ولا سيما الأخلاق، ضرورة داخلية للممارسة الهندسية، إذ يواجه المهندسون قضايا مهنية لا تكفي الحلول التقنية وحدها لمعالجتها، مثل التساؤل: ما الذي ينبغي فعله؟ وكيف ينبغي إنجازه؟ وهذه أسئلة قيمية تتجاوز حدود الحسابات والمعادلات. ويرى كلايف دايم أن البعد الجمالي – وبالتالي الأخلاقي – يُستبعد أحيانًا من تحليل التصميم لأغراض التبسيط، غير أنه يؤكد أن الاعتبارات الأخلاقية تظل حاسمة في صياغة القرارات الهندسية، ولا سيما فيما يتصل بالسلامة والمخاطر وحماية البيئة، وهي قضايا تستلزم إصدار أحكام معيارية دقيقة لتقدير آثارها في التصميم.(56)

بهذا المعنى، تمثل الأخلاق - بوصفها فرعًا من الفلسفة - ضرورة عملية داخلية في المهنة الهندسية، وهو ما تعترف به الأوساط المهنية ذاتها. ولتوضيح هذه النقطة على نحو أعمق، يمكن مقارنة دور العلوم من جهة، والفنون الليبرالية (العلوم الإنسانية والاجتماعية) من جهة أخرى، في تعليم المهندسين.وتبرز هنا دراسة حالة تتعلق بنظام اعتماد مناهج التعليم الهندسي في الولايات المتحدة، من خلال مجلس الاعتماد للهندسة والتكنولوجيا (ABET) الذي تأسس في صورته الأولى عام 1932 بوصفه مجلس تطوير المهندسين المحترفين. هذا المجلس يضع المعايير التي تحدد متطلبات التعليم الهندسي، بما في ذلك إدماج البعد الفلسفي والأخلاقي في تكوين المهندس.(57)

المعايير الحالية لـ ABET

تشترط البرامج الهندسية المعتمدة من مجلس الاعتماد للهندسة والتكنولوجيا (ABET) حدًّا أدنى من المحتوى الأكاديمي موزعًا على النحو الآتي:

1- سنة دراسية كاملة على الأقل في الرياضيات والعلوم الأساسية.

2- نصف سنة دراسية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

3- سنة ونصف في الموضوعات الهندسية التخصصية.

إلى جانب ذلك، تتضمن البرامج مقررات إلزامية لتطوير المهارات اللغوية، مثل الكتابة والتواصل الشفهي. وإذا ما ضُمّت هذه المقررات إلى متطلبات العلوم الإنسانية والاجتماعية، فإن مجموعها يعادل سنة كاملة من الدراسات الإنسانية (studia humanitatis).(58)

2- الاتجاهات النقدية في فلسفة العلم وتمهيدها لفلسفة الهندسة

مهّد نقد توماس كون Thomas Kuhn وكارل بوبر Karl Popper لفلسفة العلم الطريق نحو فلسفة الهندسة، عبر مراجعة التصور الوضعي المنطقي الذي رأى البحث العلمي عملية منطقية- رياضية مستندة إلى الفيثاغورية وجاليليو، ومُعززة بنجاحات نيوتن. اعتبر الوضعيون أن فهم الطبيعة الأمثل يتم بالمنهج المنطقي- الرياضي، حتى أن بعض العلماء، مثل ستيفن هوكينج Stephen Hawking، توقعوا أن تتمكن الحواسيب المبرمجة منطقيًا من القيام بالبحث العلمي مستقبلًا.(59)

لكن انتقادات كون وبوبر كشفت عن محدودية هذا النموذج:أظهر كون أن تقدم المعرفة لا يحدث عبر تراكم خطّي ومستمر، بل من خلال ثورات مفهومية تقطع مع النماذج السابقة، بحيث يفتح كل تحول نوعي مجالًا لأسئلة جديدة لم يكن ممكنًا طرحها ضمن الإطار القديم.أما بوبر، فركّز على فكرة أن العلم يتطور من خلال التفنيد لا من خلال التراكم، وأن قابلية النظرية للدحض هي معيارها العلمي.(60)

هذه الرؤية الثورية لطبيعة المعرفة تقترب كثيرًا من عملية التصميم الهندسي، التي لا تسير بدورها على خط واحد، بل تنبثق من القفزات الإبداعية التي يفرضها البحث عن حلول جديدة. تمامًا كما أن كل نموذج علمي جديد يولّد مشكلات لم تكن مطروحة سابقًا، فإن كل حل هندسي ناجح يفتح الباب أمام تحديات جديدة ومسارات مبتكرة. من هنا، يتضح أن فلسفة الهندسة يمكن أن تستفيد من النقد الإبستمولوجي لكون وبوبر، ليس فقط لفهم العلم، بل لتطوير تصور أعمق لدينامية الإبداع الهندسي نفسه.

استنادًا إلى ما سبق طرحه، يمكن توضيح التحوّل من نظرة "المتفرج العلمي" إلى نظرة "المشارك الهندسي" من خلال أمثلة إضافية: أحدها من الفلسفة البراجماتية، والثاني من علم الأحياء وعلم الاجتماع والاقتصاد، والثالث من صميم الممارسة الهندسية نفسها.

1- معيار رويـس للاتساق الذاتي المرجعي

قدّم جوزايا رويـس دعمًا لتحوّل جون ديوي من موقف المتفرج إلى المشارك، عبر معيار الاتساق الذاتي الذي يشترط أن يفسّر أي نموذج للكون نفسه، بما في ذلك العالِم وطريقته في إنتاج المعرفة. فالمعرفة، عند رويـس، لا تكتمل إلا بمشاركة فعلية وتجريبية، ما يجعل التعلم عنصرًا بنيويًا في كل فهم للعالم، وهو ما ينسحب على الممارسة الهندسية حيث يتضمن أي تصميم تصورًا لدور المهندس وسياق عمله.(61)

2- مكانة الهندسة في التطور البيولوجي والاجتماعي- الاقتصادي

يكشف التباين بين النموذج النيو- دارويني والنموذج الهندسي عن اختلاف جذري في فهم الحياة: فالأول يراها نتاجًا عشوائيًا للطفرات والانتقاء الطبيعي بلا غاية مسبقة، كما أكّد ستيفن جاي جولد، بينما الثاني يبرز الكائنات ـ وخاصة الإنسان ـ كفاعلين يعيدون تشكيل بيئتهم ويبتكرون حلولًا للتحديات. وهكذا تتحول الهندسة من مجرد نشاط تقني إلى فلسفة مشاركة واعية في صنع شروط الوجود، مقابل فلسفة المشاهدة.(62)

يبدو تطوّر الحياة، في منظور العلم الكلاسيكي، سلسلة أحداث عشوائية محكومة بالصدفة، بينما يكشف المنظور الهندسي عنها كقفزات تصميمية وابتكارات إبداعية. وهذا يتضح خصوصًا عند استحضار داروين الذي استلهم "الانتقاء الطبيعي" من "الانتقاء الاصطناعي" في تربية الكائنات؛ إذ إنّ الأخير يمثّل ممارسة تصميمية واعية، لا مجرد حالة فرعية ضمن آليات طبيعية غير موجَّهة.(63)

يمثل الانتقال من النموذج النيو- دارويني إلى النموذج الهندسي تحولًا في فهم آلية التطور؛ إذ لم يعد الاصطفاء يُنظر إليه بوصفه عملية عشوائية، بل باعتباره اختيارًا متعمّدًا. ويعزز هذا التصور ما تطرحه الفيزياء الكمومية من فكرة شمولية الاختيار. ووفق المنظور الهندسي، لا يقتصر هذا الاختيار على التكيف مع بيئات ثابتة، بل يهدف إلى التعلم وتوسيع فرص البقاء عبر خلق بيئات جديدة غير متوازنة. وفي هذا السياق، يرى جيمس شابيرو (James A. Shapiro) أن الطفرات البيولوجية موجّهة وليست مجرد أخطاء عشوائية، بينما يعتبر روبرت ريد (Robert Reid) أن هذه التغيرات تمثل استراتيجية تجريبية لتعزيز القدرة على التكيّف واستكشاف مجالات جديدة للتطور.(64)

3- نموذج "بيوسوما" الهندسي لجورج بوجلياريللو

يطرح نموذج "بيوسوما" الهندسي الذي قدّمه جورج بوجلياريللو رؤية مغايرة للمنظور النيو- دارويني، إذ يرى أن التقدّم الهندسي الحديث يحدّ من فاعلية الانتقاء الطبيعي، لأنه يسمح ببقاء أفراد كانوا سيُستبعدون في الظروف الطبيعية. فعلى سبيل المثال، مكّن اكتشاف الأنسولين مرضى السكري من النوع الأول من النجاة، كما أدّت العلاجات الطبية الحديثة لمرض التليف الكيسي إلى رفع متوسط أعمار المصابين من نحو 12 عامًا في عشرينيات القرن العشرين إلى حوالي 46 عامًا اليوم. ويؤكد توماس ماكيون (Thomas McKeown) أن جانبًا كبيرًا من التحسّن الصحي في الدول الصناعية يعود إلى إنجازات هندسية وقائية، مثل تنقية المياه، التي أتاحت لأشخاص ذوي مناعة ضعيفة البقاء والتكاثر. وبذلك، يشكّل التقدّم الهندسي تحديًا جوهريًا للإطار النيو- دارويني التقليدي الذي يجد صعوبة في تفسير هذه الظواهر.(65)

على عكس التصورات التي تنظر إلى الهندسة باعتبارها نشاطًا مصطنعًا أو مناقضًا لمسار التطور الطبيعي، يرى المهندس البارز جورج بوجلياريلو (2003) أن الهندسة الحديثة تمثل امتدادًا منسجمًا وعضويًا لمسار التطور البيولوجي. فوفق رؤيته، يمكن قراءة تاريخ الحياة على الأرض بوصفه مشروعًا هندسيًا متناميًا، تتجلى فيه عمليات الابتكار والتكيف على نحو مستمر. ويؤكد بوجلياريلو وزملاؤه أن الهندسة ليست نشاطًا فرديًا فحسب، بل هي أيضًا ممارسة اجتماعية تشكّل جزءًا من البنية الثقافية والحضارية للمجتمعات. وفي إطار نظريته "البيوسوما" (Biology–Society–Machine)، يُعاد تفسير التطور البيولوجي باعتباره عملية تعليمية تطورية ذاتية التمكين، تقوم على التجريب المستمر والتطوير الذاتي، وتؤدي إلى ابتكار أساليب جديدة أكثر قوة وتنوعًا لأداء المهام، وحل المشكلات، وصياغة بيئات مستقبلية أكثر ملاءمة.(66)

الكوزمولوجيا الهندسية تصور فلسفي يرى الكون نتاج عمل "مهندس أعظم" كما في حوار طيماوس لأفلاطون، حيث كل عناصره تجليات لعقل هندسي كوني.تستلهم هذه الرؤية "إشراقة كارنو" التي تدرك أن العمليات غير مثالية، خلافًا للتصور الميكانيكي الكلاسيكي، مما يجعل الديناميكا الحرارية الهندسية أوسع وأكثر واقعية.وتنسجم مع الفلسفة البراجماتية لجون ديوي وتعريف هربرت سايمون للهندسة كسعي لبناء مستقبل أفضل، غايتها النهائية "بناء الخير".(67)

لماذا يُطلب من المهندسين دراسة العلوم الإنسانية؟يؤكد معيار ABET أن دراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية للمهندسين ليست مجرد إضافة ثقافية تهدف إلى توسيع أفق المعرفة، بل هي عنصر جوهري يخدم أهداف المهنة الهندسية ذاتها. فهذه الدراسات تُسهم في تنمية وعي المهندسين بمسؤولياتهم الاجتماعية، وتمكّنهم من إدراك أثر قراراتهم على الأفراد والمجتمعات، وأخذ العوامل الاجتماعية والإنسانية في الحسبان عند صياغة الحلول الهندسية. ويشدد المعيار على أن إدماج مقررات العلوم الإنسانية والاجتماعية في البرامج الهندسية أمر لا غنى عنه، إذ لا يمكن المبالغة في التأكيد على أهمية هذه الفلسفة التربوية في إعداد مهندس متكامل قادر على العمل بمسؤولية ورؤية شاملة.(68)

تنبع أهمية هذا التوجه من أن الهندسة ليست نشاطًا تقنيًا بحتًا، بل عملية إنسانية–اجتماعية معقدة. فالمهندس الذي يفتقر إلى الخلفية الإنسانية قد يقدّم حلولًا مثالية من الناحية التقنية لكنها غير ملائمة ثقافيًا أو أخلاقيًا، أو قد تغفل الأبعاد البيئية والاجتماعية للمشكلة. إدراج العلوم الإنسانية في تعليم المهندسين يضمن أن المخرجات الهندسية تراعي القيم الإنسانية، وأن المهندس يصبح عنصرًا فاعلًا في خدمة المجتمع لا مجرد منفّذ للتقنيات.

يلاحظ أن تعريف ABET للتصميم الهندسي يتجنب، بمهارة، الإشارة إلى الغاية الجوهرية التي يتضمنها التعريف الكلاسيكي للهندسة. فبينما يرى "تردغولد" أن الهندسة هي "تطبيق المبادئ العلمية من أجل المنفعة البشرية"، تكتفي ABET بوصفها كعملية تهدف إلى تلبية "احتياجات مطلوبة" أو تحقيق "أهداف محددة". وكما تمثل الرياضيات والعلوم الأساس النظري للعلوم الهندسية، فإن الفنون الليبرالية تُشكّل القاعدة الفكرية للتصميم الهندسي. بل يمكن القول إن التصميم الهندسي هو في جوهره تطبيق إبداعي لأنماط التفكير والمثل العليا المستمدة من العلوم الإنسانية والاجتماعية، بما يربط التقنية بالإنسان ويجعل الابتكار أكثر وعيًا بسياقه الاجتماعي والثقافي.

يمكن توضيح أهمية دمج البعد الإنساني في التعليم والممارسة الهندسية من خلال مثالين:

1- فاوست – المثال الأدبي: في الجزء الثاني من مسرحية فاوست لغوته، يتحول البطل إلى مهندس مدني يشق القنوات ويصرف المستنقعات، محققًا إنجازات تقنية بارزة، لكنه يتسبب - من غير قصد - في مقتل أبرياء. يكشف هذا المثال عن خطورة الانفصال بين الكفاءة التقنية والوعي الأخلاقي.

2- بيتر بالتشينسكي – المثال الواقعي الرمزي: مهندس روسي رفض فصل المعرفة التقنية عن المبادئ الإنسانية، فدفع حياته ثمنًا لذلك، حيث أعدمه ستالين. لاحقًا، عاد اسمه في فترة البيريسترويكا رمزًا للضمير المهني والاستقامة الأخلاقية في الهندسة.

من هذا المنطلق، تؤكد معايير ABET أن "القدرة على التواصل ضرورية لخريج الهندسة"، وأن "فهم الاعتبارات الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسلامة أمر أساسي لمسيرة هندسية ناجحة". وابتداءً من عام 2000، أُعيدت صياغة المعايير لتشمل 11 مخرجًا للتعلم، من أبرزها:

1- الفهم العميق للمسؤولية المهنية والأخلاقية.

2- القدرة على التواصل الفعّال.

3- تعليم واسع يتيح إدراك الأثر المجتمعي للهندسة.

4- معرفة بالقضايا المعاصرة.(69)

وباختصار، تنظر معايير الاعتماد إلى عناصر تشمل:

1- المعرفة والفهم (الرياضيات، والعلوم، والتقنيات)،

2- تحليل هندسي (بما في ذلك القدرة على تحديد المشكلات وصياغتها)،

التصميم الهندسي،

3- إجراء البحوث (بما في ذلك القدرة على تصميم التجارب)،

4- إدراك الحاجة إلى معايير أخلاقية رفيعة في ممارسة الهندسة مع تحمل مسؤوليات المهنة تجاه البشر والبيئة،

5- العمل في بيئات متعددة التخصصات،

6- والتفاعل مع المجتمع على نطاق واسع.(70)

إن المعايير المهنية للهندسة، كما تصوغها جهات الاعتماد، وما تفرضه من دمجٍ للعلوم الإنسانية والاجتماعية في تعليم المهندس، لا تأتي من فراغ، بل تعكس إدراكًا عميقًا بأن الممارسة الهندسية لا تنفصل عن الأبعاد الأخلاقية والاجتماعية والثقافية. والأمثلة التي عرضناها، من "فاوست" الخيالي إلى بالتشينسكي الواقعي، تُظهر بجلاء أن القرارات التقنية يمكن أن تحمل آثارًا بعيدة المدى على حياة البشر والمجتمع. من هنا يصبح الانتقال إلى طرح أسئلة أعمق أمرًا طبيعيًا؛ أسئلة تمسّ جوهر العلاقة بين الهندسة والفلسفة، ومنها:

1- ما المقصود بـ "التعريفات المقبولة عمومًا" للعلوم الإنسانية والاجتماعية؟ هل هذه التعريفات تاريخية واجتماعية النشأة؟ وهل الفلسفة، بما هي فرع منها، تخضع هي الأخرى للتكوين الثقافي والاجتماعي؟

2- ما الفلسفة أصلًا؟ وما علاقتها بالفنون الليبرالية؟ وهل يمكن أن تكون الفلسفة، لكونها ذُكرت أولًا، أكثر أهمية من غيرها من فروع العلوم الإنسانية؟

3- إذا كانت الفلسفة، وخصوصًا الأخلاق، ذات أهمية للمهنة، فما الذي يمكن أن تقدّمه بشكل ملموس للهندسة؟(71)

3- الأسس الفلسفية والأخلاقية للهندسة

ليس صحيحًا أن الفلسفة أسهمت في تطوّر الهندسة كما فعلت مع العلوم الأخرى، إذ سعت الهندسة دائمًا إلى التمايز عنها، بل والنظر إليها كضدّ. فقد لاحظ "لويس بوتشياريللي" في دراساته أن المهندسين يرون الانشغال بالتأملات الفلسفية أمرًا غير ذي جدوى، بل يُستخدم لفظ "الفلسفة" بينهم بمعنى سلبي. غير أنّه يخلص إلى أن التصميم الهندسي عملية اجتماعية، وحين يواجه المهندسون بدائل متعددة يثور سؤال جوهري: "أيّها أفضل؟" وهو سؤال فلسفي يستدعي التحليل المفهومي والتأمل العقلاني. وهكذا، من غير وعي صريح، أخذ المهندسون يشيدون جسورًا نحو الفلسفة، خاصة في مجال الأخلاق، وأدركوا أن عملهم ينطوي على بُعد أخلاقي عميق.(72)

في هذا السياق، قام عدد من المهندسين البارزين - مثل ستيفن أونجر، رولاند شينزينجر، تشارلز هاريس، مايكل رابنز، آرن فيسيليد، وأليستير جن - بثلاثة إسهامات أساسية:

1- إجراء تحليلات مفهومية لما يُعدّ "صحيحًا" و"خاطئًا" في الممارسة الهندسية.

2- تعميق التأمل في الأبعاد الأخلاقية للتجربة الهندسية.

3- تطوير بحوث بين–تخصصية تتناول مواثيق السلوك المهني، والإجراءات التأديبية، واستراتيجيات التعليم الأخلاقي، وغيرها.(73)

وراء كل هذا، يكمن دافع أخلاقي عميق في جوهر التفكير الهندسي: ضرورة البقاء على اتصال - مع الواقع البشري، ومع حدود الفهم والتنفيذ، لتفادي كثير من الكوارث. فهل نحن جميعًا مهندسون؟ وهل نحن جميعًا فلاسفة؟ في حياتنا اليومية، نقوم بأفعال هندسية (تصميم، ترتيب، تنفيذ...) مثل حزم صندوق بشكل فعّال، أو حل مشكلة في ترتيب المنزل. كما أننا نقوم بأفعال فلسفية، حين نحلل مفاهيم، أو نتأمل في قراراتنا، أو نراجع قيمنا. ولأن المهندسين يمارسون الفلسفة بدرجة ما، والفلاسفة بدورهم يمارسون نوعًا من الهندسة الفكرية، فمن الطبيعي أن يتقاطع المجالان، بل أن يتداخلا تداخلًا حقيقيًا.(74)

قد تكون الهندسة، عبر تاريخها، قد تشكّلت في سياقات اجتماعية وثقافية دفعتها إلى النأي بنفسها عن الفلسفة، كما قد تكون الفلسفة، بدورها، قد نظرت إلى الهندسة بعين التجاهل أو الريبة. غير أن تحوّلات العصر - من الثورة التكنولوجية إلى تعقّد المشكلات البيئية والاجتماعية - جعلت الفصل بينهما أقل قابلية للاستمرار. فقد باتت الهندسة المعاصرة غنية بالأسئلة المفاهيمية والقيمية، حتى غدت ممارسة فلسفية بامتياز، فيما أخذت الفلسفة تكتشف في عالم الهندسة ميدانًا جديدًا لتطبيق أدواتها النقدية والتحليلية. وهكذا، لم يعد اللقاء بين المجالين خيارًا فكريًا طوعيًا، بل ضرورة يفرضها واقع معاصر يحتاج إلى تفكير متكامل يجمع بين دقة التصميم ورحابة التأمل.(75)

يمكن تطوير فلسفة للهندسة بالاستناد إلى التيارات الكبرى في الفلسفة المعاصرة، كما أوضح كارل ميتشام وروبرت ماكاي (2007). ويقترحان النظر إلى هذه الفلسفة في ضوء ستة اتجاهات رئيسية: الظاهراتية، ما بعد الحداثة، التحليلية، اللغوية، البراجماتية، والتوماوية. وتفتح هذه التيارات آفاقًا متباينة لفهم الهندسة، إذ يمنح كل منها مقاربة مميزة تقوم على خلفيات معرفية ومنهجية مختلفة. ولا يُتعامل مع هذه الاتجاهات كحدود مغلقة، بل كآفاق فكرية تتطلب استكشافًا تأمليًا متعدد المناهج يعكس خصوصية كل تيار.(76)

ترتبط الهندسة بمسائل ميتافيزيقية وأنطولوجية كالتخيل ووصف المشكلات، مما يستلزم تفسيرات فلسفية ومنطقية لاختيار الحلول المثلى. ورغم ندرة المكوّنات الفلسفية في الهندسة مقارنة بمجالات البحث الأخرى، توجد أرضية مشتركة مع الفلسفة في الأخلاق والجماليات ونظرية المعرفة وغيرها، وإن كان الاهتمام المشترك برز مؤخرًا خاصة في الأخلاق. ولتعميق الفهم قبل الحلول التطبيقية، يحتاج المهندسون إلى توظيف المنهج الفلسفي واللغوي، مما يجعل العمل الهندسي نشاطًا ذهنيًا ديناميكيًا.(77)

من هذا المنطلق، وبالاستناد إلى أفكار كارل ميتشام وروبرت ماكاي، يمكن تناول فلسفة الهندسة عبر ستة موضوعات رئيسية تمثل التيارات الكبرى في الفلسفة المعاصرة، كل منها يقدم رؤية مميزة لفهم الممارسة الهندسية:

1- النهج الظاهراتي: ينطلق من اعتبار الهندسة تجربة معاشة حية، لا مجرد منظومة نظرية مجردة. يركز هذا النهج على وصف المعنى الذي تحمله الممارسة الهندسية بالنسبة للمهندس نفسه، حيث تُعاش العملية الهندسية في الواقع العملي كظاهرة حية ومتجددة.

2- النهج ما بعد الحداثي: يطرح تساؤلات فلسفية جذرية حول وجود الهندسة ككيان موحد ومستقر. يشكك في المفاهيم الجوهرانية ويعتبر الهندسة خطابًا اجتماعيًا وثقافيًا متغيرًا، مما يدعو إلى تفكيك التصورات المسبقة عنها وإعادة النظر في ماهيتها.

3- الفلسفة التحليلية للهندسة: تركز على التمييز المفهومي بين الهندسة والعلوم الطبيعية، وتسلط الضوء على الأنماط المنطقية والمعرفية الخاصة التي تميز العمل الهندسي. كما تدعو إلى تطوير أخلاقيات مهنية للهندسة تدمج التفكير الفلسفي مع الممارسة التقنية.

4- الفلسفة اللغوية: تنظر إلى الهندسة بوصفها "لعبة لغوية" تحكمها قواعد ومصطلحات خاصة تكتسب معناها في سياق الممارسة الهندسية اليومية، مستلهمة من فلسفة فيتغنشتاين التي ترى أن المعنى ينبثق من الاستخدام العملي للغة.

5- الفلسفة البراجماتية للهندسة: تعطي الأولوية للوظيفة الاجتماعية والمعرفية للهندسة، معتبرة أن قيمتها تنبع من أثرها العملي والجدوى التي تحققها في حياة الإنسان والمجتمع. كما تحلل العلاقة بين الهندسة وسياقاتها الاقتصادية والسياسية باعتبارها نشاطًا حيويًا ذو تبعات ملموسة.

6- الفلسفة التوماوية للهندسة: تسعى إلى إدماج الهندسة ضمن النسق الفلسفي الكلاسيكي، حيث تُربط بالمجالات الأساسية الثلاثة: الميتافيزيقا، ونظرية المعرفة، والأخلاق. تقدم هذه الرؤية فهمًا شموليًا للهندسة من منظور يدمج الغاية، والغاية الأخلاقية، والسببية في إطار متكامل.(78)

لا شك أن الفلسفة والهندسة نشاطان إنسانيان ينبثقان من جذور مشتركة في صميم الممارسة البشرية. فالفلسفة يمكن النظر إليها على أنها هندسة للمفاهيم، حيث تُنظّم الفكر وتحلّل الأفكار بصورة منهجية وعميقة. في المقابل، تمثل الهندسة بحثًا عمليًا عن الحكمة، تتجسد في عملية الصنع والبناء التي تهدف إلى تحويل الأفكار إلى واقع ملموس يخدم الإنسان والمجتمع.(79)

الخلاصة: يجب على المهندسين أن يمتلكوا القدرة على التعامل مع الشرح الفلسفي واللغوي لعمليات التصميم، والنمذجة، وصياغة المشكلات، وحلّها في مراحلها الأولى، من خلال قواعد منطقية تقود إلى نتائج عقلانية قبل الانتقال إلى المعالجة العددية. وعلى الرغم من إدراك الفلاسفة لدور الحلول الهندسية وعمليات اتخاذ القرار، فإن المهندسين أنفسهم ينبغي أن يؤسّسوا خلفية فلسفية واضحة قبل الخوض في الرموز والمعادلات المعقدة. فعندما تكون مشكلة هندسية محدّدة بوضوح لغويًا وفلسفيًا، يصبح تحويلها إلى صيغة رياضية مجرد ترجمة من لغة بشرية إلى رموز، والعكس صحيح، إذ يمكن لأي صيغة رياضية واضحة أن تتحول إلى شرح لغوي مبني على فلسفة العلم والمنطق..(80)

كسر الحواجز الصارمة بين الجوانب الهندسية والفلسفية يستلزم تبنّي فلسفة خاصة للهندسة، فهي ليست مجرد ترف فكري، بل ضرورة ملحّة في عصرنا هذا. لقد ترسّخت المبادئ الفلسفية عبر أكثر من 2300 عام منذ عهد اليونان القدماء، وحافظت على حضورها كمنهج منهجي وتأملي يُثري كل مجالات المعرفة الإنسانية. اليوم، بات من الممكن للهندسة أن تستثمر هذه الإرث الفلسفي لتطوير ممارساتها، وتوسيع أُفقها نحو فهم أعمق وأكثر شمولية.(81)

تُسهم فلسفة الهندسة في تنمية التفكير النقدي والتأملي لدى المهندسين، فتجعلهم قادرين على تجاوز الحسابات التقنية نحو إدراك الأبعاد الأخلاقية والاجتماعية لتصاميمهم. كما تدعم الابتكار بفتح آفاق معرفية تتخطى الحلول التقليدية، وتبني جسورًا بين العلوم والتخصصات الإنسانية، بما يحقق توازنًا بين التقنية والقيم. ومن ثم، فهي ليست ترفًا معرفيًا، بل جوهرًا للحياة الهندسية الحديثة يمكّن المهندس من صياغة مستقبل واعٍ وأخلاقي ينسجم فيه العلم مع المسؤولية.

تركّز فلسفة الهندسة على فهم أفعالنا كفاعلين في العالم، وتحليل طبيعة البحث والاستكشاف في الممارسة الهندسية. تتجاوز هذه الفلسفة النظرة العلمية المنطقية والرياضية التي سيطرت على القرن العشرين، لتقدم رؤية أشمل تُدرك المهندس كحلّال للمشكلات، ويُعتبر "التصميم" جوهر هذه المشكلات. تشمل مجالات التصميم أسئلة متنوعة مثل: كيفية إنشاء أنظمة الري، وتخطيط المدن، وتصميم الأدوات، وبناء الاقتصاد، واختيار السياسات الجمركية، وتنظيم نظم الحكم بما يحفظ الأمن والنمو. وتمتد هذه الرؤية أيضًا إلى تصميم عمليات البحث والتطوير داخل المجتمع، مما يبرز دور الهندسة كعامل فعّال في تشكيل مستقبل الحياة البشرية.(82)

من هذا المنظور، لا يُختزل المهندس في كونه مجرد صانع أدوات أو مبتكرًا لتحف صناعية، بل يُنظر إليه أيضًا كمصمم ومطوّر للأنظمة الشاملة. يُعدّ أحد الأركان الأساسية في فهم هوية المهندس هو قدرته على تغيير مجريات الأحداث المتوقعة علميًا، بل وتعديل بنية الواقع ووظائفه، رغم محدودية هذه القدرة حسب الإمكانات والمعارف المتاحة. ويُشكّل "منظور الهندسة" امتدادًا طبيعيًا لفلسفتها، إذ يركز على فهم طبيعة العالم من زاوية الفعل الهندسي الفعلي. هذا المنظور يعيد تحديد مكانة الهندسة ودورها في الكون، ويختلف جذريًا عن النظرة العلمية التقليدية التي تصوّر العالم كآلة حتمية خاضعة لقوانين صارمة، وتُدرس عبر فلسفة علمية منطقية- رياضية هيمنت على القرن العشرين.(83)

يعاني معظم طلاب الهندسة عالميًا من ضعف في مهارات كتابة التقارير والمقالات، ويرجع ذلك غالبًا إلى نقص خلفياتهم الفلسفية. إذ تُعتبر مبادئ فلسفة الهندسة أساسًا أكثر ديناميكية وعمقًا لفهم المقررات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المرتبطة بالممارسة الهندسية، مما يعزز قدرة المهندس على التعبير والتحليل بشكل فعّال ومتسق.(84)

يمكن جمع الفروع المختلفة للفلسفة معًا عبر النظر في النقاط التالية، التي أشار إليها كارل ميتشام (1994) فيما يتعلق بأهمية فلسفة الهندسة، مع مزجها بدرجات متفاوتة لتشكيل رؤية متكاملة:

1- التحليل المفهومي: وهو ضروري لتوضيح وتصحيح المصطلحات المستخدمة في السياقات النظرية والعملية، ويرتكز أساسًا على المنطق كأداة لفهم أدق وأوضح.

2- الفحص التأملي: يوفر مجالًا للممارسة الفكرية العميقة، ويعمل على توسيع البصيرة لفهم أبعاد التجربة الهندسية بشكل أوسع، مع التركيز على مجالات جوهرية في الفلسفة مثل الأخلاق، ونظرية المعرفة، والميتافيزيقا، غالبًا ضمن مناهج عقلانية منظمة.

3- التفكير في جوانب التجربة الشمولية: يشمل أبعادًا تتجاوز التخصصات الفردية، وقد ينطوي على مقاربات بين تخصصية، متعددة التخصصات، عابرة للتخصصات، أو حتى مناهضة للتخصصات، ويركز على القضايا الكبرى المتعلقة بما هو صواب وخير (الأخلاق)، والمعرفة (الإبستمولوجيا)، وبنية الواقع (الميتافيزيقا).

4- ممارسة أسلوب مميّز في الحياة والتفكير: يُنظر إليها كخير في ذاته، كونها تمثل معرفة فريدة بالواقع ومبادئ إرشادية للفرد أو الجماعة. ويتجلى هذا المعنى في ما يُعرف بـ"الفلسفة الشخصية" للأفراد أو "فلسفة" المؤسسات.

بهذا الإطار، تصبح فلسفة الهندسة أكثر من مجرد دراسة نظرية، بل ممارسة حياتية متعمقة تمزج بين التحليل الدقيق والتأمل الفلسفي الواسع، لتشكيل رؤية شمولية ومتكاملة تعزز من دور المهندس وتعمق فهمه للعالم الذي يعمل فيه.(85)

الخاتمة

1- الهندسة مجال معرفي وأخلاقي وفلسفي، يجمع بين الإبداع العقلي والدقة العلمية.

2- الفلسفة والهندسة شراكة في بناء العوالم الممكنة، حيث يضع الفيلسوف الإطار النظري ويحوّله المهندس إلى واقع.

3- فلسفة التعليم الهندسي ضرورة لإعداد مهندس يجمع بين الكفاءة التقنية والوعي الأخلاقي.

4- فلسفة الهندسة توجه الممارسة التقنية نحو خدمة الإنسان والمجتمع.

5- الاتجاهات النقدية في فلسفة العلم أسهمت في تمهيد الطريق لنشوء فلسفة الهندسة.

6- الأسس الأخلاقية للهندسة تضمن مسؤولية المهندس تجاه المجتمع والبيئة.

7- تطوير الهندسة المعاصرة يتطلب إحياء بعدها الفلسفي وربطه بالقيم الإنسانية.

8- أهمية الفلسفة للمهندسين:

- تعميق الفهم النظري للممارسة الهندسية: تمنح الفلسفة المهندس قدرة على استيعاب الأسس المفاهيمية والأنطولوجية التي يقوم عليها عمله، بدل الاكتفاء بالجانب التطبيقي فقط.

- تعزيز التفكير النقدي والإبداعي: تساعد الفلسفة المهندسين على طرح الأسئلة الصحيحة، وتقييم الفرضيات والحلول بعمق، ما يفتح المجال أمام الابتكار.

- تأسيس إطار أخلاقي للمهنة: توفر الفلسفة أدوات لتحديد ما هو مقبول أو مرفوض من الناحية الأخلاقية في القرارات الهندسية، خصوصًا في القضايا التي تمس حياة الإنسان والبيئة.

- ربط الهندسة بالسياق الإنساني والاجتماعي: تُظهر الفلسفة كيف أن المشاريع الهندسية لا تنفصل عن احتياجات المجتمعات وقيمها وثقافتها.

- مواجهة التحديات المعقدة: تساعد الفلسفة المهندسين على التعامل مع المشكلات متعددة الأبعاد، التي تتطلب توازناً بين الجدوى التقنية، والاعتبارات البيئية، والآثار الاجتماعية.

- إكساب رؤية شمولية للمستقبل: من خلال الفلسفة، يتبنى المهندس منظورًا بعيد المدى، يضع الاستدامة والمسؤولية تجاه الأجيال القادمة في صلب قراراته.

- تطوير الهوية المهنية: تعزز الفلسفة شعور المهندس بذاته كمفكر وصانع قرار، وليس مجرد منفذ للحلول التقنية.

***

دكتور ابراهيم طلبه سلكها

2025

..........................

الهوامش

1-  Diane P. Michelfelder And others: Philosophy and Engineering Reflections on Practice, Principles and Process, Springer Dordrecht Heidelberg New York London, VOLUME 15, 2013, p- vi

2-  Zekâi Sen: Engineering science and philosoph, International Research Journal of Engineering Science, Technology and Innovation Vol. 1(1) pp. 14- 25, April, 2012, pp- 16- 17

3-  Loc- Cit

4-  Carl Mitchman: The Importance of Philosophy to Engineering, Teorema, Vol. XVI I/3, 1998, p- 29

5-  Viorel Guliciuc and Emilia Guliciuc: Philosophy of Engineering and Artifact in the Digital Age, Cambridge Scholars Publishing, first published 2010, p- 7

6-  Durmuş Günay: The Philosophy of Technology and Engineering, Journal of University Research, April 2018, Volume 1, Issue 1, Page: 7- 13, p- 8

7-  Zekâi Sen: Op- Cit, p- 17

8-  Loc- Cit

9-  William Bulleit: Philosophy of Engineering: What It Is and Why It Matters, New York, NY: Oxford University Press, p- 7

10-  Louis L. Bucciarelli: Engineering Philosophy, Kroes, P. & Mejiers, A., (eds). Elsiver Science, 2003, p- 1

11-  Zekâi Sen: Op- Cit, p- 17

12-  Ibid, p- 15

13-  Loc- Cit

14-  Ibid, p- 16

15-  Gregory Bassett and others: Philosophical Perspectives On Engineering And Technological Literacy, I, Iowa State University: http://lib.dr.iastate.edu/ece_books/1, p- 15

16-  Ibid, p- 34

17-  Durmuş Günay: Op- Cit, p- 8

18-  Zekâi Sen Op- Cit, p- 21

19-  Gregory Bassett and others: Op- Cit, p- 15

20-  Louis L. Bucciarelli: Engineering Philosophy, Kroes, P. & Mejiers, A., (eds). Elsiver Science, 2003, p- 43

21-  Zekâi Sen: Op- Cit, pp- 15- 16

22-  Diane P. Michelfelder And others: Op- Cit, p- vii

23-  Gregory Bassett and others: Op- Cit, p- 34

24-  Diane P. Michelfelder And others: Op- Cit, p- 3

25-  William Bulleit: Op- Cit, p- 7

26-  Zekâi Sen Op- Cit, p- 22

27-  Loc- Cit

28-  Gregory Bassett and others: Op- Cit, p- 1

29-  Zekâi Sen Op- Cit, p- 22

30-  Ibid, pp- 23- 24

31-  Ibid, p- 23

32-  William Grimson: The Philosophical Nature of Engineering a characterization of Engineering using the language and activities of Philosophy, American Society for Engineering Education, 2007, p- 13

33-  Ibid, p- 35

34-  Durmuş Günay: Op- Cit, p- 8

35-  Carl Mitchman Op- Cit, pp- 28- 29

36-  Ibid, p- 36

37-  Ibid, p- 29

38-  Loc- Cit

39-  Viorel Guliciuc and Emilia Guliciuc: Philosophy of Engineering and Artifact in the Digital Age, Cambridge Scholars Publishing, first published 2010, p- 6

40-  Carl Mitchman: Op- Cit, p- 37

41-  Loc- Cit

42-  William Grimson: Op- Cit, p- 12

43-  Carl Mitchman: Op- Cit, pp- 37- 38

44-  Ibid, p- 41

45-  Ibid, p- 42

46-  William Grimson: Op- Cit, p- 13

47-  Carl Mitchman: Op- Cit, p- 42

48-  Ibid, p- 43

49-  Loc- Cit

50-  Loc- Cit

51-  Ibid, p- 27

52-  Ibid, p- 28

53-  William Grimson: Op- Cit, p- 13

54-  Loc- Cit

55-  Carl Mitchman: Op- Cit, p- 30

56-  Ibid, p- 31

57-  Loc- Cit

58-  Loc- Cit

59-  Terry Bristol: The Philosophy of Engineering and the Engineering Worldview, Oxford, Clarendon Press, p- 4

60-  Ibid, pp- 7- 8

61-  Ibid, p- 10

62-  Ibid, pp- 11- 12

63-  Ibid, p- 12

64-  Ibid, p- 13

65-  Ibid, pp- 13- 14

66-  Ibid, p- 14

67-  Ibid, p- 17

68-  Carl Mitchman: Op- Cit, pp- 33- 34

69-  Gregory Bassett and others Op- Cit, p- 35

70-  Carl Mitchman: Op- Cit, p- 32

71-  Ibid, pp- 34- 35

72-  Ibid, pp- 38- 39

73-  Ibid, p- 39

74-  Ibid, p- 40

75-  Loc- Cit

76-  Durmuş Günay: Op- Cit, pp- 15- 16

77-  Zekâi Sen: Op- Cit, p- 16

78-  Durmuş Günay: Op- Cit, p- 16

79-  Ibid, p- 18

80-  Zekâi Sen: Op- Cit, 2012, p- 24

81-  Loc- Cit

82-  Terry Bristol: Op- Cit, p- 1

83-  Loc- Cit

84-  Zekâi Sen: Op- Cit, pp- 17- 18

85-  Zekâi Sen: Ibid, p- 19

وغياب الوفاق العملي حول مفهومها وتطبيقها

 "إذا اختفت العدالة، فلن يكون هناك قيمة لحياة البشر على الأرض"... عمانويل كانط

تُمثل العدالة الفضيلة السياسية العليا التي تشكل أساس تنظيم العلاقات بين الأفراد، المجتمعات، والدولة. منذ الفلاسفة القدماء مثل أفلاطون وأرسطو، ارتبطت العدالة بمثل الإنصاف، المساواة، وتحقيق الخير العام. ومع ذلك، رغم مركزيتها في الحياة السياسية، يظل مفهوم العدالة مثار جدل بسبب غياب وفاق عملي حول تعريفها وتطبيقها. تتأثر هذه التحديات بالاختلافات الفلسفية، الثقافية، والسياسية التي تجعل من الصعب تحقيق توافق عالمي أو حتى محلي حول كيفية تجسيد العدالة. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل العدالة كفضيلة سياسية عليا، استكشاف أسباب غياب الوفاق العملي حول مفهومها، ومناقشة التداعيات المعاصرة لهذا الجدل، فماهي العدالة؟ وكيف السبيل الى تحقيقها على أرض الواقع؟

العدالة كفضيلة سياسية عليا

"عدالة العقل هي الحكمة. الحكيم ليس من يعرف الأمور الكثيرة، بل من يرى حقيقتها" أفلاطون.

في الفلسفة القديمة، عرف أفلاطون العدالة في الجمهورية بأنها الانسجام بين أجزاء المجتمع، حيث يؤدي كل فرد دوره وفقاً لقدراته. أما أرسطو فقد رأى أن العدالة هي إعطاء كل شخص حقه بناءً على الجدارة. في العصر الحديث، قدم جون راولز (1971) نظرية "العدالة كإنصاف"، التي تؤكد على توزيع الموارد بما يحقق أكبر فائدة للأقل حظاً، بينما اقترح أمارتيا سن (2009) منهج القدرات الذي يركز على تمكين الأفراد من تحقيق إمكاناتهم.

العدالة تُعتبر الفضيلة الأساسية في الحياة السياسية لأنها تهدف إلى تحقيق التوازن بين حقوق الأفراد ومصالح المجتمع. تشمل المفاهيم الأساسية للعدالة:

العدالة التوزيعية حسب رولز: تتعلق بتوزيع الموارد والفرص بشكل عادل، مع التركيز على معايير مثل الجدارة، الحاجة، أو المساواة.

العدالة التصحيحية حسب أرسطو: تركز على تصحيح الظلم من خلال العقوبات أو التعويضات.

العدالة الإجرائية حسب تيبو ووالكر: تهتم بالعمليات العادلة لاتخاذ القرارات، مثل الشفافية والحياد.

العدالة الاجتماعية حسب ميلر: تسعى إلى معالجة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، مع التركيز على الفئات المهمشة.

أهمية العدالة في الحياة السياسية

"العدالة بدون قوة لا حول لها ولا قوة، والقوة بدون عدالة استبدادية" بليز باسكال.

تُعتبر العدالة أرقى فضائل الحياة السياسية للأسباب التالية:

تنظيم العلاقات الاجتماعية: العدالة توفر إطاراً لتوزيع الحقوق والواجبات، مما يعزز الاستقرار الاجتماعي والسياسي.

تعزيز الشرعية السياسية: الأنظمة السياسية التي تُظهر التزاماً بالعدالة تكتسب شرعية أكبر في نظر المواطنين.

تحقيق الإنصاف: العدالة تضمن المساواة في الفرص ومعالجة التفاوتات، مما يعزز الرفاه الجماعي.

الأساس الأخلاقي للسياسة: العدالة تربط بين الأخلاق والسياسة، حيث توفر معياراً لتقييم القوانين والسياسات.

أسباب غياب الوفاق العملي

" "العدالة هي الشك في القانون الذي ينقذ القانون." آلان.

رغم مركزية العدالة، يصعب التوصل إلى وفاق عملي حول مفهومها بسبب:

الاختلافات الفلسفية: تختلف النظريات حول معايير العدالة، مثل الجدارة (أرسطو)، المساواة (راولز)، أو الحرية الفردية عند روبرت نوزيك.

السياقات الثقافية: تختلف مفاهيم العدالة باختلاف الثقافات، حيث تركز بعض المجتمعات على الحقوق الفردية بينما تركز أخرى على الرفاه الجماعي شويدر.

التحديات العملية: تطبيق العدالة يواجه عقبات مثل الفساد، التفاوتات الاقتصادية، والصراعات السياسية .

التعقيدات العالمية: قضايا مثل تغير المناخ والفقر العالمي تتطلب تعريفات عالمية للعدالة، لكن الاختلافات بين الدول تجعل التوافق صعباً.

 النظريات الفلسفية للعدالة المقاربات المعاصرة

"العدالة هي المساواة" آلان.

تشمل المقاربات المعاصرة للعدالة عدة نظريات:

العدالة كإنصاف: يقترح راولز مبدأين رئيسيين:

المساواة في الحقوق والحريات الأساسية.

توزيع الموارد بحيث يفيد الأقل حظاً، مع ضمان المساواة في الفرص.

 يعتمد راولز على تجربة فكرية تُسمى "حجاب الجهل"، حيث يتم اتخاذ القرارات دون معرفة الموقع الاجتماعي للأفراد.

منهج القدرات: يركز على تمكين الأفراد من تحقيق قدراتهم الأساسية، مثل التعليم والصحة، بدلاً من توزيع الموارد فقط.

الليبرتارية: يدافع روبرت نوزيك عن العدالة القائمة على الحقوق الفردية والملكية الخاصة، رافضاً التوزيع الإجباري للموارد.

العدالة الجماعية: يرى فلاسفة مثل مايكل ساندل (1982) أن العدالة يجب أن تعكس القيم الجماعية والسياقات الثقافية للمجتمع.

العدالة البيئية: تركز على توزيع عادل للأضرار والفوائد البيئية، مع التركيز على المجتمعات المهمشة.

أسباب غياب الوفاق العملي

"إذا فشل الإنسان في التوفيق بين العدالة والحرية، فإنه يفشل في كل شيء" ألبير كامو.

التنوع الإيديولوجي: تتعارض النظريات الليبرالية (راولز) مع الليبرتارية (نوزيك) والجماعية (ساندل)، مما يؤدي إلى تعريفات متباينة للعدالة. على سبيل المثال، بينما يدعو راولز إلى توزيع الموارد لصالح الأقل حظاً، يرى نوزيك أن أي تدخل في الملكية الخاصة غير عادل.

السياقات الثقافية: في المجتمعات الغربية، تُعطى الأولوية للحقوق الفردية، بينما تركز المجتمعات الشرقية أحياناً على الواجبات الجماعية، مما يؤدي إلى اختلافات في تطبيق العدالة.

التحديات السياسية والاقتصادية: الفساد، التفاوتات الاقتصادية، ونقص الموارد تعيق تطبيق العدالة. على سبيل المثال، تقرير الشفافية الدولية (2020) يشير إلى أن الفساد يقوض العدالة الإجرائية في العديد من الدول.

القضايا العالمية: قضايا مثل تغير المناخ تتطلب عدالة عالمية، لكن الدول المتقدمة والنامية تختلف حول المسؤوليات. على سبيل المثال، الدول المتقدمة تتحمل مسؤولية تاريخية أكبر عن انبعاثات الكربون، بينما تطالب الدول النامية بحقها في التنمية.

التداعيات المعاصرة لغياب الوفاق

"إن تحقيق العدالة أمر جيد، ولكن تقديم العدالة أمر أفضل". فيكتور هوغو

الصراعات السياسية: غياب التوافق حول العدالة يؤد ي إلى صراعات سياسية، مثل الجدل حول السياسات الاجتماعية أو إعادة توزيع الثروة.

العدالة البيئية: في سياق تغير المناخ، يصعب التوافق على توزيع عادل للمسؤوليات بين الدول، مما يعيق الجهود العالمية.

العدالة الاجتماعية: التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية، مثل الفجوة بين الأغنياء والفقراء، تتفاقم بسبب اختلاف وجهات النظر حول العدالة.

التكنولوجيا والعدالة: التقدم التكنولوجي، مثل الذكاء الاصطناعي، يثير قضايا جديدة تتعلق بالعدالة، مثل التوزيع العادل لفوائد التكنولوجيا.

التكامل مع الوعي الإيكولوجي والأخلاق البيئية

العدالة كفضيلة سياسية ترتبط بالوعي الإيكولوجي والأخلاق البيئية، خاصة في سياق الأنثروبوسين:

العدالة البيئية: تركز على توزيع عادل للأضرار البيئية، مثل تأثيرات تغير المناخ على المجتمعات المهمشة.

الوعي الإيكولوجي: يعزز الفهم العميق للترابط بين البشر والبيئة، مما يدعم اتخاذ قرارات عادلة.

الأخلاق البيئية: تدعو إلى احترام القيمة الجوهرية للطبيعة، مما يوسع مفهوم العدالة ليشمل الكائنات غير البشرية .

خاتمة

"العدالة هي أن يفعل كل شخص ما يجيده." · أرسطو

العدالة تظل أرقى فضائل الحياة السياسية، إذ توفر الأساس الأخلاقي لتنظيم العلاقات الاجتماعية وتعزيز الإنصاف. ومع ذلك، فإن غياب الوفاق العملي حول مفهومها، الناتج عن الاختلافات الفلسفية، الثقافية، والسياسية، يشكل تحدياً كبيراً أمام تطبيقها. في عصر الأنثروبوسين، يصبح التكامل بين العدالة، الوعي الإيكولوجي، والأخلاق البيئية ضرورياً لمواجهة التحديات العالمية مثل تغير المناخ والتفاوتات الاجتماعية. المستقبل يتطلب جهوداً مشتركة بين الفلاسفة، السياسيين، والمجتمعات لتطوير مفاهيم وممارسات عادلة تعكس التنوع الثقافي وتعزز الاستدامة. فمتى نرى العدالة بين الدول تتحقق على أرض فلسطين ويكف الاستهداف لسكان غزة بالتطهير والتهجير؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

بقلم: كارل ميتشام

ترجمة: د. ابراهيم طلبه سلكها / 2025م

***

The Importance of Philosophy to Engineering

Carl Mitcham

الملخص (بالإسبانية)

لم تُولِ الفلسفة اهتمامًا كافيًا بالهندسة. ومع ذلك، لا ينبغي للهندسة أن تتخذ من هذا الإهمال ذريعة لتجاهل الفلسفة. الحُجّة المطروحة هنا هي أنّ الفلسفة مهمّة للهندسة لثلاثة أسباب على الأقل: أوّلًا، الفلسفة ضرورية لكي يتمكّن المهندسون من فهم والدفاع عن أنفسهم ضد الانتقادات الفلسفية. والواقع أنّ هناك تقليدًا في فلسفة الهندسة تمّ تجاهله حتى من قِبل المهندسين أنفسهم. ثانيًا، الفلسفة، وخاصة الأخلاق، ضرورية لمساعدة المهندسين على التعامل مع المشكلات الأخلاقية المهنية. ودراسة متطلّبات الأخلاق في مناهج كليات الهندسة في الولايات المتحدة تدعم هذا الطرح. ثالثًا، نظرًا للطابع الفلسفي الجوهري للهندسة، يمكن للفلسفة أن تؤدّي بفعالية وظيفة أداة لتحقيق فهم أعمق للهندسة ذاتها.

الملخص (بالإنجليزية)

لم تُعطِ الفلسفةُ الهندسةَ الاهتمام الكافي. ومع ذلك، لا ينبغي للمهندسين أن يستخدموا هذا عذرًا لتجاهل الفلسفة. الحُجّة هنا هي أنّ الفلسفة مهمّة للهندسة لثلاثة أسباب على الأقل: أوّلًا، الفلسفة ضرورية لكي يفهم المهندسون الانتقادات الفلسفية ويدافعوا عن أنفسهم منها. والواقع أنّ هناك تقليدًا في فلسفة الهندسة تمّ إغفاله إلى حدٍّ كبير، حتى من قِبل المهندسين أنفسهم. ثانيًا، الفلسفة، وخاصة الأخلاق، ضرورية لمساعدة المهندسين في مواجهة المشكلات الأخلاقية المهنية. وتدعم دراسة حالة لمتطلبات الأخلاق في مناهج التعليم الهندسي في الولايات المتحدة هذا الرأي. ثالثًا، وبسبب الطابع الفلسفي الجوهري للهندسة، يمكن للفلسفة أن تعمل في الواقع كوسيلة لتحقيق فهم أعمق للهندسة ذاتها.

المقدمة

تتمثّل أطروحة هذه الورقة في أنّه، على عكس ما يُفترض عادة، تُعَدّ الفلسفة ذات أهمية محورية للهندسة. فعندما يقوم المهندسون وطلاب الهندسة — فضلًا عن أولئك الذين يستفيدون من الخدمات الهندسية — برفض التحليل والتأمل الفلسفي باعتبارهما أمرًا هامشيًا بالنسبة لممارسة الهندسة، فإنهم يخطئون على الأقل في بُعدين: تاريخي ومهني.

كما يمكن القول أيضًا إنّ للهندسة أهميّة بالنسبة للفلسفة — وإنّ الفلاسفة قد بذلوا جهودًا غير كافية لفهم الواقع التقني وتقديره، وهو الواقع الذي يفترضون كثيرًا نقده. ولو أنّ الفلاسفة رتّبوا بيتهم الداخلي فيما يخص علاقتهم بالهندسة، لكانت الفلسفة بلا شكّ أكثر أهمية للهندسة مما هي عليه اليوم .

ومع ذلك، وحتى مع الاعتراف بأنّ الفلسفة لم تولِ الهندسة الاهتمام الكافي، فإنّ الفلسفة تظلّ ذات دلالة بالغة الأهمية، بل ومتزايدة، بالنسبة للهندسة. وسيرتكز البرهان الداعم لهذه الأطروحة، على نحو ملائم، إلى الخبرة الهندسية نفسها. وسيمضي البحث عبر مراجعة تاريخية لمحاولات المهندسين ممارسة الفلسفة، جزئيًا كوسيلة للدفاع عن الذات ضد النقد الفلسفي. ثم، في دراسة حالة محورية، سيُعرض تلخيص وتأمّل في الجهود المبذولة داخل مجتمع المهندسين المحترفين في الولايات المتحدة لإدخال الفلسفة في مناهج التعليم الهندسي. أمّا الأقسام اللاحقة من الورقة فستسعى، بجهد أكثر تأمّلًا، إلى استشراف عمق العلاقة بين الهندسة والفلسفة في عالم يزداد تشكُّلًا بواسطة الهندسة. وسأقترح أخيرًا أنّ المهندسين هم الفلاسفة غير المُعترَف بهم للعالم ما بعد الحداثة.

1- الدفاع الذاتي والفلسفة

لنبدأ إذن بمسألة الدفاع عن النفس. وكتمهيد لهذه المسألة، تأمّل عرضًا تخطيطيًا – على طريقة الهندسة – للمشكلة. فالمشكلة تكمن في أن الهندسة والفلسفة يُنظر إليهما، في العادة، على أنهما مجالان منفصلان لا يلتقيان، وذلك على النحو الآتي:1881 IBRAHIM

(شكل يوضح الفصل التام بين المجالين)

في أذهان معظم الناس، لا يبدو أنّ للهندسة والفلسفة صلة وثيقة. فكأنّهما جزيرتان هائلتان تفصل بينهما مساحات واسعة من الماء (انظر: Snow, 1959، لعرض كلاسيكي لهذه الرؤية).

في الواقع، ومن منظور بعض أفراد مجتمع المهندسين — ناهيك عن بعض أفراد مجتمع الفلاسفة — تبدو الحالة أسوأ. إذ جرت العادة على تقسيم الهندسة إلى فروع متعدّدة: الهندسة المدنية، والميكانيكية، والكهربائية، والكيميائية، والنووية، وهندسة الحاسوب، إلخ. وبالمثل، تنقسم الفلسفة إلى فروع مختلفة: المنطق، ونظرية المعرفة، والميتافيزيقا، والأخلاق، والجماليات، والفلسفة السياسية، إلخ. وقد بدا أنّ بعض ممثلي هذه المجالات الفلسفية، لا سيما الأخلاق والجماليات، قد نصبوا مدافعهم على أطراف جزيرتهم الفلسفية لإطلاق النار على مناطق مختارة من عالم الهندسة.

على الأقل منذ ستينيات القرن العشرين، اتهم أعضاء من المجتمع الفلسفي — أو المتحالفون معهم — المهندسين ببناء أسلحة نووية يمكنها تدمير الحضارة كما نعرفها، وتصميم أنظمة مواصلات تشوّه الثقافة الحضرية، وابتكار تقنيات اتصالات يمكن أن تعزّز السلطات المركزية أو السلطوية لدى الحكومات أو الشركات الخاصة، وخلق حواسيب تجرّد الحياة الإنسانية من طابعها الشخصي. وبوجه عام، يقول النقّاد، إنّ المهندسين لوّثوا العالم الطبيعي بالمواد السامة وغازات الاحتباس الحراري، بينما أغرقوا العالم الإنساني بهياكل قبيحة ومنتجات استهلاكية عديمة الفائدة (انظر: Ellul, 1954؛ Mumford, 1967–70).

حتى الفيلسوف مارتن هيدجر، أحد أبرز فلاسفة القرن العشرين، ذهب إلى حدّ القول إنّ جميع هذه الإخفاقات الأخلاقية والجمالية متجذّرة في موقف هندسي أساسي من العالم، يُحوِّل الطبيعة إلى موارد ضمن إطار هيمنة ما يسميه بـ "الجشتِل" Gestell أو التطويق أو "الإطار التقني"[هيدجر، 1954].. وربما كان هيدجر أكثر دقّة في هذه النقطة مما يُدركه البعض. لكن وفقًا لتفسير شائع، يمكن اعتبار هيدجر أنّ "علوم الاصطناع" لدى هربرت سايمون (سايمون ، 1969) (Simon, 1969)، على سبيل المثال، تروّج لأنطولوجيا مقيدة تختزل العالم إلى صيغ رياضية، وإبستمولوجيا واقع افتراضي. كما ربط بعض النقّاد النسويين الهندسة بالهيمنة الأبوية، وبموت الطبيعة، وبفقدان رعاية العالم (ميرشاند "1980") [Merchant, 1980].

تشكل هذه الاتهامات، في جوهرها، هجومًا رجعيًا كبيرًا على التعريف الذاتي للهندسة، وهو التعريف الذي يعود إلى صياغة توماس تردجولد في القرن الثامن عشر، وأعيد تكراره في مراجع أساسية مثل الموسوعة البريطانية وموسوعة ماكغرو- هيل للعلوم والتقنية. ووفقًا للتعريف الكلاسيكي – الذي لا يزال التعريف القياسي الذي يتبناه المهندسون لمهنتهم – فإن الهندسة هي: «تطبيق المبادئ العلمية لتحقيق التحويل الأمثل للموارد الطبيعية إلى هياكل، وآلات، ومنتجات، وأنظمة، وعمليات، بما يعود بالنفع على الإنسانية»(1). أما خلاصة الهجمات الفلسفية، فهي استبدال هذا الفهم التقليدي للذات بآخر قد يُصاغ على النحو التالي: «الهندسة هي الفن العلمي الذي تدمر به فئة معينة من البشر الطبيعة وتلوث العالم بطرق عديمة الفائدة أو ضارة بالحياة الإنسانية»(2).

وبقدر ما أصبح المهندسون واعين بمثل هذه الهجمات — وسعيًا لفهمها والدفاع ضدها — تصبح الفلسفة أمرًا حيويًا لهم. وبالتالي، انخرط بعض المهندسين في دراسة الفلسفة بغية الردّ وبناء حصون ضد هذا الهجوم الفلسفي. وقد نشأت بالفعل مدرسة كاملة من "الفلاسفة المهندسين" تصدّت لهذا التحدّي، غير أنّ هذه المدرسة لم يُعترف بها بصورة كاملة حتى داخل معاهد وكليات الهندسة، ناهيك عن كليات الآداب التي يُدرّس فيها معظم الفلسفة. وسأكتفي هنا بذكر بعض الممثلين البارزين لهذه المدرسة أو التقليد(3):

أول هؤلاء هو إرنست كاب (1808–1896)، المعاصر لكارل ماركس. فعلى الرغم من تلقيه تعليمًا فلسفيًا في الأصل، هاجر كاب من ألمانيا إلى وسط تكساس، حيث أصبح من الرواد، وطوّر رؤية للتقنية باعتبارها امتدادًا معقدًا أو إسقاطًا لقدرات الإنسان وأنشطته. وفي صياغة لاحقة لهذا التصور الأنثروبولوجي الفلسفي للتقنية، كان كاب هو من صاغ مصطلح "فلسفة التقنية" أو **"فلسفة الهندسة"**(4) [كاب، 1877].

ثم أذكر بيتر إنجيلماير (1855–حوالي 1941)، أحد مؤسسي الهندسة المهنية الروسية. فقد جادل إنجيلماير، قبل مئة عام، تحت شعار "فلسفة التقنية"، بضرورة أن تتجاوز التربية الهندسية حدود التعليم التقني البحت. فإذا كان للمهندسين أن يشغلوا مكانتهم المستحقة في شؤون العالم – كما يرى – فلا بد أن يُثقَّفوا ليس فقط في مجالاتهم التقنية، بل أيضًا في معرفة التأثير الاجتماعي للتقنية وأثرها.(5)

وثالث هؤلاء هو فريدريش دساور، الذي يُعد بحق مساهمًا محوريًا في هذا التقليد الفلسفي الهندسي للتقنية. فقد كان مخترع العلاج بالأشعة السينية ذات الاختراق العميق، ومعارضًا سياسيًا للنازية، ومهنيًا تقنيًا في حوار مع فلاسفة كبار مثل كارل ياسبرز، وخوسيه أورتيجا إي جاسيت، وهيدجر، وغيرهم. وقد قدم دساور تفسيرًا للاختراع الهندسي باعتباره خبرة تتجاوز حدود الظواهر الحسية الكانطية، وتصل إلى الأشياء في ذاتها (انظر: دساور، 1959، وهو نسخة معاد كتابتها بالكامل وموسعة جدًا من عمله عام 1927).

وبمعزل عن تفسير دساور، وباعتباره مثالًا أخيرًا على تقليد فلسفة الهندسة، قدّم المهندس المدني النيويوركي صمويل فلورمان تفسيرًا مشابهًا حول "اللذات الوجودية للهندسة"، ردّ فيه على كثير من النقاد الفلسفيين المعاصرين، ودافع عن الهندسة بوصفها نشاطًا إنسانيًا أساسيًا في حد ذاته [فلورمان، 1976]. فالهندسة ليست مجرد وسيلة لتحقيق غايات بشرية أخرى، بل هي نشاط ذو معنى وجودي في ذاته، يحمل قيمة جوهرية أو أصيلة إلى جانب قيمته الأداتية أو الخارجية. (انظر أيضًا: فلورمان، "1981"، " 1978"، "1996 ").

إذن، في المقام الأول، تُعَدّ الفلسفة مهمّة للهندسة لأنّ هناك من ينتقدها فلسفيًا. ومن باب الدفاع عن الذات، على الأقل، ينبغي للمهندسين أن يعرفوا شيئًا عن الفلسفة كي يتمكّنوا من مواجهة نقّادهم. بل إنّ بعض المهندسين قد نهضوا بالفعل لمواجهة هذا التحدّي.

2- المصلحة الذاتية والفلسفة

تُعَدّ الفلسفة مهمّة أيضًا، في مقام ثانٍ، لأنّ المهندسين يواجهون في الواقع مشكلات داخلية أو مهنية يعترفون بأنّها لا يمكن حلّها بطرق هندسية محضة. وأشير هنا بصورة أساسية إلى القضايا الأخلاقية المهنية.

هناك أوقات في عالم الهندسة يطرح فيها المهندسون على أنفسهم أسئلة حول ما ينبغي عليهم فعله، أو كيف ينبغي أن يفعلوه، وهي أسئلة لا يمكن الإجابة عنها بالخبرة التقنية وحدها. فعلى الرغم من أن كلايف دايم يستبعد منهجيًا الجوانب الجمالية – وبالتالي الأخلاق – من تحليله للتصميم، بغية إبقاء مناقشته "محدودة وقابلة للإدارة" [دايم، 1994، ص 15]، إلا أنه يعترف أيضًا بأن الأخلاق تؤدي في كثير من الأحيان دورًا جادًا في التصميم الهندسي(6). إن قضايا السلامة، والمخاطر، وحماية البيئة، ليست سوى أبرز الأمثلة على المتغيرات التي تتطلب حكمًا أخلاقيًا لتقييم أثرها المناسب على قرارات التصميم. ومن ثم، فإن الفلسفة (وخاصة الأخلاق) تمثل حاجة عملية داخلية للهندسة، وهو ما تعترف به بالفعل الجماعة المهنية للهندسة.

ولكي نُوضّح النقطة المطروحة هنا بشكل أوسع قليلًا، دعونا نقارن بين الأدوار التي تؤديها العلوم والآداب في تعليم الهندسة. ولهذا الغرض، سأعرض دراسة حالة تجريبية عن متطلّبات اعتماد برامج التعليم الهندسي في الولايات المتحدة. والهدف من هذا العرض أن أتيح للمهندسين، عبر مجتمعهم المهني، أن يتحدثوا بأنفسهم عن كيف يرون الفلسفة في صالحهم، مع تقديم بعض الشروح المكمِّلة.

الهيئة التي تعتمد برامج التعليم الهندسي في الولايات المتحدة هي مجلس الاعتماد للهندسة والتقنية (Accreditation Board for Engineering and Technology – ABET)، والمعروفة أكثر بالاختصار (ABET). (وقد نشأت ABET عن مجلس تطوير المهندسين المحترفين ECPD، الذي تأسس سنة 1932).

ووفقًا لمعايير الاعتماد الحالية (7) لدى ABET ، تتطلب برامج الهندسة حدًا أدنى من:

1- عام واحد في دراسة الرياضيات والعلوم الأساسية.

2- نصف عام في دراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية.

3- عام ونصف في دراسة موضوعات هندسية.

من المهم التأكيد على أن هذه متطلبات محتوى دنيا، وأن الدرجة الجامعية القياسية في الهندسة بالولايات المتحدة تتطلب دراسة مدتها أربع إلى خمس سنوات.

ولا تشمل هذه المتطلبات الدنيا ما يُعرف بـ "مقررات المهارات"، التي تركز على تنمية الكفاءة في التواصل الكتابي والشفهي، وهي مقررات مطلوبة أيضًا. وإذا ما أُدرجت مقررات مهارات التواصل اللغوي مع مقررات العلوم الإنسانية والاجتماعية – كما هو الحال في التعريفات التقليدية للفنون الحرة – فإن ABET، في الواقع، تفرض على طلاب الهندسة إتمام عام كامل من دراسات الإنسانيات (studia humanitatis).

فلننظر الآن في المبررات التي تقدمها ABET للمكونات الأساسية الثلاثة للتعليم الهندسي. وبالطبع، فإن معيار "الموضوعات الهندسية" لا يحتاج إلى تبرير، إذ إن موضوع البحث هو التعليم الهندسي نفسه. ومع ذلك، من المفيد الإشارة إلى أن "الموضوعات الهندسية" تشمل – صراحة – كلًا من العلوم الهندسية (المتميزة عن العلوم الأساسية) والتصميم الهندسي (المتميز عن غيره من أنواع التصميم) (IV.C.3.d.[3][a]).

أما العلوم الهندسية، فهي "متجذرة في الرياضيات والعلوم الأساسية، لكنها تدفع المعرفة قُدمًا نحو التطبيق الإبداعي" (IV.C.3.d.[3][b]). وهذا التجذر هو ما يبرر اشتراط دراسة مقررات في الرياضيات والعلوم الأساسية. وكما جاء في نص معايير ABET: "إن الهدف من دراسة العلوم الأساسية هو اكتساب معرفة أساسية بالطبيعة وظواهرها، بما في ذلك التعبير الكمي عنها" (IV.C.3.d.[1][b]).

وأما "التصميم الهندسي"، فهو يُعرّف بكونه عملية ابتكار نظام أو مكوّن أو عملية لتلبية حاجات مطلوبة. إنّه عملية اتخاذ قرار (غالبًا تكرارية)، تُطبّق فيها الرياضيات والعلوم الأساسية والعلوم الهندسية لتحويل الموارد بصورة مثلى لتلبية هدف محدّد. ومن الواضح أنّ مثل هذا الفهم للتصميم الهندسي يقدم تبريرًا إضافيًا لمقررات الرياضيات والعلوم الأساسية.

لكن ماذا عن نصف العام المخصّص للعلوم الإنسانية والاجتماعية — أو عام كامل إذا أُدرجت دراسات التواصل الكتابي والشفوي؟ ما مبرّر إدخال هذه المواد كمكوّن رئيسي في متطلبات المنهج الهندسي؟

قبل أن نذكر جواب ABET على هذا السؤال، لاحظ أنّ تعريف ABET للتصميم الهندسي يسقط بهدوء جانبًا جوهريًا من التعريف التقليدي للهندسة. فكما ذُكر سابقًا، فإنّ تعريف تردغولد، والتعريف الأكثر تداولًا حتى وقت قريب، يقول إنّ الهندسة هي: "تطبيق المبادئ العلمية للتحويل الأمثل للموارد الطبيعية إلى هياكل وآلات ومنتجات وأنظمة وعمليات لفائدة الإنسانية".أما ABET فقد استبدلت غاية "الفائدة الإنسانية" و"المنفعة" بعبارات مثل "تلبية بعض الحاجات المطلوبة" أو "تحقيق هدف محدّد". وهكذا أُزيل البُعد المعياري للتعريف التقليدي لصالح عملية محايدة قيميًا أو مرتبطة بالسياق.

لذلك، عند النقطة التي يُبرَّر فيها إدخال العلوم الإنسانية والاجتماعية، تقول معايير ABET: إنّ دراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية لا تخدم فقط أهداف التعليم الواسع، بل تخدم أيضًا أهداف المهنة الهندسية. ومن أجل جعل المهندسين على وعي كامل بمسؤولياتهم الاجتماعية وتمكينهم من النظر في العوامل ذات الصلة في عملية اتخاذ القرار، يتوجّب على المؤسسات أن تفرض مقررات في العلوم الإنسانية والاجتماعية كجزء أساسي من البرنامج الهندسي. وهذه الفلسفة لا يمكن التأكيد عليها بما يكفي.

بمعنى آخر: عندما خُفِّض هدف التصميم الهندسي من "أن يكون نافعًا ومفيدًا للإنسان" إلى كونه عملية مرتبطة بالسياق، صارت العلوم الإنسانية والاجتماعية وسيلة لفهم هذه السياقات وتقييمها. وإلا فإنّ المهندسين سيكونون مجرّد "مرتزقة" — يستطيعون أن يخدموا المهنة على النحو نفسه سواء بتصميم معسكرات اعتقال أو مصانع خضراء (غير ملوِّثة).

إذن، في حين أنّ الرياضيات والعلوم الأساسية تؤسّس للعلوم الهندسية، فإنّ الآداب (الإنسانيات) تؤسّس — بطريقة مختلفة ولكن مرتبطة — للتصميم الهندسي. أفلا يكون من الجريء أن نفترض أنّ التصميم الهندسي، كما يُنظر إليه، هو بمثابة تطبيق إبداعي لأنماط من التفكير ومثل عليا قادمة من العلوم الإنسانية والاجتماعية؟

لننظر سريعًا إلى تجربتين هندسيتين يمكن تفسيرهما على أنّهما تدعمان، من زوايا مختلفة، الفرضية السابقة: الأولى خيالية ولكنها حقيقية في معناها: حالة فاوست في الجزء الثاني من المسرحية لجوته. فـفاوست، وقد هجر أولًا دراساته الإنسانية ثم السحر البدائي، صار في النهاية مهندسًا مدنيًا يبني السدود ويجفّف المستنقعات — لكنه عن غير قصد يتسبّب في مقتل أبرياء. (انظر تعليق المهندس شيلنجر، 1984، حول وضع فاوست).الثانية تاريخية، ولكن أُعيد بناؤها بخيال: حالة المهندس الروسي بيتر بالشنسكي. أُعدم على يد ستالين لأنّه رفض أن يفصل بين المعرفة التقنية والمثل الإنسانية. لكن شبح المهندس المعدوم عاد منتصرًا في حقبة الغلاسنوست التي رافقت انهيار الاتحاد السوفيتي (انظر: Graham, 1993).هذا المعنى يُعاد التأكيد عليه في نهاية بيان معايير ABET: فبعد التأكيد على أنّ الكفاءة في التواصل "أمر جوهري لخريج الهندسة"، يضيف البيان: "إنّ فهم الاعتبارات الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسلامة في الممارسة الهندسية أمر جوهري لنجاح المسيرة المهنية الهندسية".

إنّ ABET تعمل حاليًا على مراجعة معاييرها وتبسيطها. ووفقًا لمجموعة معاييرها الجديدة التي سُمّيت "معايير الهندسة 2000" (Engineering Criteria 2000)، سيُقيَّم اعتماد البرامج الهندسية بناءً على أحد عشر مخرجًا تعليميًا (outcomes)، وهي: ابتداءً من عام 2000، لكي تُعتمَد البرامج الهندسية من ABET، يجب أن تُثبت أنّ خريجيها يمتلكون:

أ- قدرة على تطبيق معارف الرياضيات والعلوم والهندسة.

ب- قدرة على تصميم وتنفيذ التجارب، وكذلك تحليل البيانات وتفسيرها.

ت- قدرة على تصميم نظام أو مكوّن أو عملية لتلبية حاجات مطلوبة.

ث- قدرة على العمل في فرق متعددة التخصصات.

ج- قدرة على تحديد وصياغة وحلّ المشكلات الهندسية.

ح- فهمًا للمسؤولية المهنية والأخلاقية.

خ- قدرة على التواصل بفعالية.

د- تعليمًا واسعًا يتيح فهم أثر الحلول الهندسية في السياق العالمي والاجتماعي.

ذ- إدراكًا لحاجة التعلّم المستمر، وقدرة على الانخراط فيه.

ر- معرفة بالقضايا المعاصرة.

ز- قدرة على استخدام التقنيات والمهارات والأدوات الهندسية الحديثة اللازمة لممارسة الهندسة.

ومن بين هذه المخرجات الأحد عشر، يمكن تصنيف أربعة على الأقل — أي أكثر من ثلثها — على أنّها مرتبطة مباشرة بالآداب والعلوم الإنسانية. وهكذا، مرة أخرى، في برنامج مدته أربع إلى خمس سنوات، يمكن توقّع أن يتجاوز محتوى المقررات الموجّهة نحو studia humanitatis (الدراسات الإنسانية) عامًا دراسيًا كاملًا.ووفقًا للمعايير ذاتها، يجب أن تلتزم هذه المقررات بالتعريفات المتداولة عمومًا للعلوم الإنسانية والاجتماعية: فالإنسانيات هي فروع المعرفة التي تهتم بالإنسان وثقافته، بينما العلوم الاجتماعية هي دراسة علاقات الأفراد داخل المجتمع ومعه. ومن الأمثلة التقليدية على هذه المواد: الفلسفة، والأديان، والتاريخ، والأدب، والفنون الجميلة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والعلوم السياسية، والأنثروبولوجيا، والاقتصاد، واللغات الأجنبية. ومن الأمثلة غير التقليدية: "التقنية والشؤون الإنسانية"، و"تاريخ التقنية"، و"الأخلاقيات المهنية والمسؤولية الاجتماعية".

3- استطراد: ثلاثة أسئلة

إنّ هذا العرض يثير بسهولة ثلاثة أسئلة — أسئلة تستلزم استطرادًا موجزًا. وهذه الأسئلة هي:

1- ماذا يعني استدعاء "التعريفات المقبولة عمومًا" للعلوم الإنسانية والاجتماعية؟ وهل العلوم الإنسانية والاجتماعية، بما في ذلك الفلسفة، بناءات تاريخية أو اجتماعية؟

2- ما الفلسفة تحديدًا؟ وما علاقتها بالآداب (العلوم الإنسانية)؟ وهل يمكن أن تكون الفلسفة — وقد ذُكرت أولًا — أكثر أهمية أو ذات دلالة مغايرة عن غيرها من العلوم الإنسانية والاجتماعية؟

3- في ضوء التعريف المتداول للفلسفة بوصفها تتضمّن الأخلاق — ومع التصريحات الواردة هنا وفيما سبق عن أهمية الأخلاق المهنية لنجاح "المسيرة الهندسية" — فما الذي يمكن للفلسفة والأخلاق أن تقدّماه بصورة ملموسة للهندسة؟

هذه أسئلة جادة، ولا يمكن أن تُجاب بسرعة أو نهائيًا في هذه الورقة. إنها من نوع الأسئلة المفتوحة المصمَّمة لاستفزاز تأمّل ممتد أكثر من تقديم حلول مباشرة. ومع ذلك، من المناسب هنا البدء باستكشاف بعض الحدود الممكنة لهذه الأجوبة.

فيما يخص السؤال الأول: فإنّ الإشارة إلى "التعريفات المقبولة عمومًا" للعلوم الإنسانية والاجتماعية لافتة بحدّ ذاتها؛ فهي تدلّ على وعي بأنّ هذه التعريفات مُنشأة تاريخيًا واجتماعيًا وثقافيًا(8). وهذه البناءات نفسها محلّ نزاع حادّ — بطرق متعدّدة ومختلفة.

وفي الولايات المتحدة يُعرف هذا الصراع متعدد الطبقات باسم "حروب الثقافة" (culture wars). أحد جبهات هذه الحروب دارت بين أنصار مدرسة "الرجال البيض الأموات" (من هوميروس فصاعدًا) الذين يرون الثقافة في التراث الكلاسيكي، وأنصار المدرسة "الصحيحة سياسيًا" الذين يؤكدون أنّنا ضحايا تمييز. وهذه تسميات تبادلية ساخرة أطلقها كل طرف على الآخر. ومن هذه الزاوية، فإنّ عبارة معايير ABET التي تُعرّف الإنسانيات بأنّها "معنية بالإنسان وثقافته" يمكن أن تُعَدّ في آنٍ معًا حذرة — وغير حذرة إطلاقًا.

ومع تجاوز هذا الخلل البيّن، يمكن ملاحظة أنّ المهندسين قد فتحوا جبهة خاصة بهم في هذه "الحروب الثقافية". كما روى جون ستودنماير في كتابه "رواة قصة التقنية " ، فقد تأسست جمعية تاريخ التقنية في أواخر الخمسينيات جزئيًا على يد مهندسين وجدوا أنفسهم مُستبعَدين من التاريخ الغربي بقدر ما استُبعدت النساء أو الأقليات العرقية (ستودنماير "1985" خاصة الفصل الأول ص ص 1- 8). وقد جادل مؤرّخو الهندسة بأنّ التاريخ هو تاريخ التقنية بقدر ما هو تاريخ السياسة. فالعلوم الإنسانية والاجتماعية عكست المصالح المحدودة والتحيّزات الإيديولوجية لغير المهندسين — لا سيما أولئك الذين يستخدمون معرفة السلطة في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية لضبط أنفسهم وغيرهم (في إشارة واضحة إلى فوكو، 1980). وبذلك، كان للمهندسين مصلحة في "فتح الصناديق السوداء" في التاريخ، ليلاحظوا أنّ المشكلات السياسية وحلولها كثيرًا ما تعتمد على مدخلات هندسية، من أجل تضمين المهندسين لا بوصفهم ضحايا آخرين، بل باعتبارهم غزاة غير معترَف بهم.(9)

إذن، فالعلوم الإنسانية والاجتماعية — بما في ذلك الفلسفة — بناءات تاريخية واجتماعية. ومن المهم أيضًا أن نلاحظ أنّ الهندسة بدورها — وإن لم يكن ذلك جليًا دائمًا — بناء تاريخي واجتماعي أيضًا. فكلاهما، الهندسة والفلسفة، لهما أصول تاريخية خاصة، ولم يُفهما أو يُمارسا دائمًا كما هما اليوم.لقد ظهرت الفلسفة كنهج معترف به للحياة الإنسانية في اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد. ووفقًا لرواية أرسطو، نشأت الفلسفة حين استبدل البشر الحديث عن الإله أو الآلهة بالحديث عن الطبيعة (phusis) [الميتافيزيقا، XII، 6؛ 1071b27]. أما اليوم، فقلّة من الفلاسفة يتحدثون عن الطبيعة، بل هم أقرب إلى الحديث عن الظواهر أو اللغة.

أما الهندسة، فقد ظهرت كنشاط إنساني معترف به في لحظة محدّدة من التاريخ — هي القرنان السابع عشر والثامن عشر. فأوائل المهندسين كانوا من العسكريين الذين صمّموا وبنوا وأداروا وصانوا التحصينات وآلات الحرب كالمقاليع والمدافع. وكان مصطلح "الهندسة المدنية" يُشير في الأصل إلى محاولة نقل هذا النشاط والمعرفة من السياق العسكري إلى المدني. وجاء تعريف تردجولد للهندسة — كما ذُكر سابقًا — كجزء من هذا الجهد التاريخي والاجتماعي لنقل المفهوم.

وبالفعل، فإنّ كلًّا من الهندسة والفلسفة يُظهر خصائص مختلفة عبر الجغرافيا كما عبر التاريخ — حتى عند المقارنة بين مجتمعات قريبة مثل أوروبا والولايات المتحدة.

إذن، يمكن القبول بأنّ الهندسة والفلسفة كلاهما بناءان تاريخيان واجتماعيان. وهذا الاعتراف قد يوحي بإعطاء الأولوية للتاريخ والعلوم الاجتماعية في منظومة الآداب.

غير أنّ التاريخ والمجتمع لا يدوران حول التغيّر فقط؛ بل حول الاستمرارية أيضًا. فالبناء التاريخي والاجتماعي ليس من العدم (ex nihilo)، بل هو بالأحرى إعادة بناء. وجهودنا لتسمية ما يخضع لإعادة البناء هذه — أي ما يتجاوز التاريخ إلى حد ما — هي نفسها عرضة للتنقيح. ومع ذلك، في أي لحظة زمنية علينا منطقيًا (ولو مؤقتًا) أن نقبل بناءاتنا الاجتماعية- التاريخية لنشير بها إلى هذه السمات المتجاوزة للتاريخ، أو متعددة الأبعاد التاريخية- الاجتماعية.

وبالنسبة للسؤال الثاني، نسأل: ما هذه السمات المشتركة متعددة الأبعاد التي تُظهرها الفلسفة؟ ما الذي يجعلنا منذ القرن الخامس قبل الميلاد إلى اليوم نتحدث عن وجودها واستمرارها؟ ماذا نعني اليوم بالفلسفة؟

اليوم، تتضمن العناصر المشتركة في الفلسفة مزيجًا من الآتي:

أ- التحليل المفاهيمي: يساعدنا على توضيح وتصحيح الاستخدامات العملية والنظرية للمصطلحات، ويشمل المنطق.

ب- الفحص التأملي للممارسة والفكر: بغية تعميق الفهم أو النقد أو التوسيع، ويشمل مجالات الفلسفة الأساسية: الأخلاق، ونظرية المعرفة، والميتافيزيقا.

ج- التفكير في جوانب الخبرة العامة: بما يتجاوز نطاق أي تخصّص واحد، وقد يكون هنا التركيز جوهريًا أكثر منه منهجيًا.

د- ممارسة أسلوب حياة وفكر مميّز: يُعتبر خيرًا في ذاته، وله معرفة خاصة بالواقع. وقد يُعمَّم هذا إلى ممارسات فرد أو جماعة، كما نقول "فلسفة شخص ما" أو "فلسفة مؤسسة".

كل هذه المظاهر تجعل الفلسفة معنيّة بقضايا غير تجريبية أساسًا، وإن لم تخلُ من مرجعيات واقعية. كما أنّ كل مجال من مجالاتها الأساسية يجمع بين البُعد الوصفي والمعياري، وإن كان البُعد المعياري هو الأصعب في المتابعة دون التخلي عن أبعاده المفاهيمية والنقدية.

تاريخيًا، أدّت الفلسفة أيضًا وظيفة الحاضنة التي خرجت منها العلوم والإنسانيات: فقد ولدت العلوم الطبيعية من "الفلسفة الطبيعية"، وخرجت العلوم الاجتماعية من الفلسفة الاجتماعية، مثلما نجد عند كونت وماركس ودوركايم وفيبر. وبالمثل، انبثقت من التحليل الفلسفي مجالات مثل الاقتصاد، والأنثروبولوجيا، وعلم النفس، ودراسات الأديان.ومن ثمّ، يبدو أن للفلسفة مكانة مميزة بين بقية العلوم الإنسانية والاجتماعية — فهي الأولى بين أندادها. وهو ما يبرر افتراض أنّ الفلسفة، أكثر من غيرها، قد تكون ذات أهمية خاصة للهندسة.

بالعودة إلى السؤال الثالث في هذا الاستطراد، يمكننا أن نتأمل مجددًا: ما الذي تقدّمه الفلسفة، وخاصة في صورة الأخلاق، للهندسة المهنية؟

4- الهندسة والأخلاق

ليس من الصحيح القول إنّ الفلسفة قد احتضنت الهندسة أو رعَتها بالطريقة نفسها التي فعلت بها مع العلوم الطبيعية أو العلوم الاجتماعية أو العلوم الإنسانية. بل إنّ للهندسة نزعة قوية إلى تمييز نفسها عن الفلسفة، لا باعتبارها مجالًا منبثقًا عنها، بل باعتبارها مجالًا مغايرًا لها على نحوٍ حاسم.

كما يلاحظ لويس بوتشياريلي في دراساته الإثنوجرافية عن المهندسين، فإنه حين يشتغل الطلاب على مسائل هندسية، يُنظر عادةً إلى أنّه “لا ينبغي لهم أن يغرقوا في انحرافات ‘فلسفية’ عديمة الجدوى” [بوتشياريلي، 1994، ص 105- 106]. وكما يشير في أكثر من موضع، فإنّ الفلسفة تحمل دلالات سلبية قوية في الوسط الهندسي. ومع ذلك، ففي ختام دراسته، يوضّح بوتشياريلي – المهندس – بعد أن جادل بأنّ التصميم الهندسي عملية اجتماعية، أنّ هذا يعني وجود بدائل. وحين توجد بدائل، كما يقول، فهناك ما هو أفضل وما هو أسوأ. وفي مثل هذا الوضع، يصبح “السؤال المهم والمثير حقًا هو: ماذا نعني بتصميمٍ أفضل؟” [بوتشياريلي، 1994، ص 197]. غير أنّ هذا السؤال في جوهره سؤال فلسفي بامتياز.

لا يمكن معالجة مثل هذه القضية معالجة كافية إلا عبر التحليل المفهومي، والتأمل العقلي، وأنماط التفكير العامة. وبالضبط بسبب كثرة التجليات الخاصة لهذا النوع من التساؤل — أي التساؤل: “ماذا نعني بتصميم أفضل؟” — أقام المهندسون جسورًا، وإن لم يدركوا هم أو الفلاسفة دائمًا أنها كذلك، بين الهندسة والفلسفة، ولا سيما نحو ذلك الفرع من الفلسفة المتمثل في الأخلاق. وباختصار، يمكن تمثيل هذا التحول من صورتين دائريتين متباعدتين إلى وضعٍ أشبه بما يلي:1882 IBRAHIM

الشكل (ب)

التداخل بين الهندسة والفلسفة عبر سؤال: "ما هو التصميم الأفضل؟".

في محاولة للبدء في معالجة المعضلات التصميمية والتشغيلية التي خضعت للتدقيق في قضايا محددة مثل: خزان وقود سيارة فورد بينتو الذي كان عرضة للانفجار عند الاصطدام الخلفي [بيرش وفيلدر، 1994]، وفشل نظام التحكم الآلي في قطارات النقل السريع لمنطقة خليج سان فرانسيسكو (BART) [أندرسون، بيريكوتشي، شيندل وتراختمن، 1980]، وأعطال باب شحن طائرة DC- 10 وحوامل محركها [كيرد وماي، 1984؛ فيلدر وديرش، 1992]، ومفاصل الوقود الصلب في معززات المكوك الفضائي تشالنجر [بوا جولي، 1991؛ فوغان، 1996] — وهي أربعة أمثلة أمريكية معروفة تمثل مجالات الهندسة الميكانيكية والحاسوبية والطيرانية والإنشائية — قام مهندسون بارزون مثل ستيفن أونغر [أونغر، 1994]، ورولاند شينزينغر [مارتن وشينزينغر، 1996]، وتشارلز هاريس ومايكل رابنز [هاريس، بريتشارد ورابنز، 1995]، وآرن فيسيليند وأليستير غَن [فيسيليند وغَن، 1998]، وغيرهم بـ:

(أ) إجراء تحليلات مفهومية لما هو صواب أو خطأ، وما هو خير أو شر في الممارسة الهندسية؛

(ب) السعي إلى تعميق انعكاسي لفهمهم للأبعاد الأخلاقية في التجربة الهندسية؛

(ج) متابعة أبحاث تعاونية متعددة التخصصات تتناول مواثيق أخلاقيات المهنة، والإجراءات التأديبية، والاستراتيجيات التعليمية الأخلاقية، وغيرها.

ومع ذلك، فإنّه إلى جانب جهود هؤلاء المهندسين المتخصصين في الأخلاقيات لتحليل مواثيق السلوك المهني، وتعميق الأبعاد الأخلاقية للممارسة الهندسية انعكاسيًا، وإعادة بناء المنظمات المهنية بما يضمن دعمًا أفضل لاستقلالية الممارسة الهندسية، والانخراط في جهود تربوية متعددة التخصصات، يمكن تمييز نزعة أخلاقية أساسية كامنة في صميم التحليل الهندسي للتصميم. ولعدم وجود عبارة أفضل، يمكنني أن أسمّيها الالتزام بضرورة البقاء على اتصال(10). إنّ الفشل في البقاء على اتصال بحدود الوضع الإنساني، هو على سبيل المثال أحد الأوجه الممكنة لتعريف مشكلة فاوست بوصفه مهندسًا. أمّا الإصرار على البقاء على اتصال بما هو معروف واقعيًا وعمليًا عن العالم، فقد كلّف كثيرًا من المهندسين، مثل بالتشينسكي، وظائفهم إن لم يكن حياتهم نفسها.

ان أحد الدوافع الكامنة وراء نمذجة كليف دايم الحاسوبية لتمثيل التصميم، هو تعزيز التواصل بين مهندسي التصميم وفِرق التنفيذ، وذلك لتجنّب الكوارث التي قد تنجم عن سوء الفهم، كما حدث في انهيار الممشى العلوي بفندق هايـات ريجنسي في مدينة كانساس، حيث فشل المُصنِّع في إدراك الأهمية الحاسمة لمواصفة تصميمية جوهرية [مارشال وآخرون، 1982؛ وانظر تحليل دايم، 1998]. غير أنّ خطأ مقاول فندق هايـات ريجنسي كان بدوره نتيجة لفشلٍ في التصميم الهندسي، إذ لم يُدرك المهندسون المشكلة الإنشائية الملازمة لتلك المواصفة التصميمية الحرجة محل النزاع.

لم تكن قضبان التعليق الطويلة بما يكفي لنقل حمولة ممشى الطابق الثاني عبر ممشى الطابق الرابع مباشرةً إلى الجمالونات السقفية في الأعلى متوافرة. ولأنّ المقاول لم يفهم ديناميكية انتقال الأحمال، استبدل قضيبين قصيرين بها، مما جعل ممشى الطابق الثاني معلّقًا فعليًا بممشى الطابق الرابع. لقد أبرزت هذه الحادثة الحاجة الماسّة إلى تحسين التواصل — أي تعزيز الصلة — بين نية التصميم وتجسيده في التنفيذ؛ وهذه الحاجة تمثل ضرورة أخلاقية بقدر ما هي تقنية.

قد يكون من الصحيح، كما يجادل المهندس هنري بيتروسكي، أنّ فشل التصميم أمر ملازم للممارسة الهندسية بما تنطوي عليه من قابلية للخطأ، وأنه يمثل جزءًا من منحنى التعلّم الذي يشكّل بدوره جوهر التقدّم التقني [بيتروسكي، 1985]. غير أنّ التحليل المفهومي والتأمل النقدي يكشفان أنّ الإخفاقات ليست جميعها متساوية. بل إنّ التحليل الفلسفي والتفكير التأملي يشكّلان جزءًا من العملية نفسها التي يتعلّم من خلالها المهندسون من إخفاقات التصميم. وهنا يُعدّ عمل كلَيف دايم حول "لغات التمثيل في التصميم" مثالًا بارزًا على ذلك.

من الجوهري في هذا السياق التأكيد على أنّه لا ينبغي النظر إلى التخصصات باعتبارها حواجز في وجه المتطفلين، بل باعتبارها مجالات انتقائية تشجّع على أشكال متباينة من النمو. فنحن جميعًا — إلى حد ما — مهندسون، ما دمنا نصمّم ونبني وندير العوالم الصغرى في حياتنا اليومية. بل إنّ أمرًا بسيطًا مثل تعبئة صندوق هو مشكلة تصميمية مصغّرة يومية. وبالمثل، نحن جميعًا — إلى حد ما — طلاب فلسفة، بقدر ما ننخرط في التحليل المفهومي والتأمل والتعميم بشأن جوانب حياتنا وأعمالنا.

وبما أنّ الأمر كذلك — أي بما أنّنا أشخاص مُعزَّزون على نحوٍ انتقائي — يصبح من الممكن، بل ومن المنطقي، أن نتوجّه إلى أفراد آخرين أو جماعات مهنية أخرى ممن يتمتعون بأشكال مميزة من التعزيز لطلب المساعدة. وبما أنّ المهندسين يمارسون الفلسفة بالفعل إلى حد ما، فإنّ من الطبيعي أن يمدّوا الجسور إلى الفلاسفة (الذين يمارسون بدورهم الهندسة بدرجة ما) وأن يطلبوا عونهم. وهذا ما فعله بالفعل مهندسون مثل أونغر، وشينزينغر، ورابنز، وقد استجاب لهم فلاسفة مثل توم روجرز، ومايك مارتن، ومايكل بريتشارد(11). وفي كل حالة من هذه الحالات، نحن أمام أكثر من مجرد بناء جسر بين الهندسة والأخلاق؛ فما نراه الآن هو اندماج جزئي أو تداخل فعلي بين عالمي الهندسة والفلسفة، وهو ما يمكن تمثيله على النحو التالي:1883 IBRAHIM

5- المعرفة الذاتية والفلسفة:

ما بعد الأخلاقيات التطبيقية

لقد تكونت الهندسة في الماضي تاريخيًا واجتماعيًا بطريقة أبعدتها عن الفلسفة. كما أنّ الفلسفة في الماضي ربما سعت بدورها إلى إبقاء الهندسة على مسافة. غير أنّ الزمن والعالم قد تغيّرا. وتغيّرت الهندسة بدورها. بل يمكنني أن أجرؤ على القول إنّها أصبحت أكثر فلسفية بكثير. فهي اليوم ليست مثقلة بالقضايا الفلسفية فحسب، بل تمثل أيضًا أسلوب حياة يحمل دلالة فلسفية عميقة. أما الفلسفة، فمن جهتها، فقد باتت أكثر انفتاحًا على الفكر والممارسة الهندسية — وإن لم يكن ذلك بالقدر أو بالسرعة التي يرى البعض أنها مناسبة.

لماذا تُعَدّ الفلسفة مهمة للهندسة؟ لقد جادلتُ بأنّ السبب الأول هو الدفاع عن الذات في مواجهة النقاد الفلاسفة. والسبب الثاني هو المصلحة الذاتية، إذ تساعد الفلسفة على معالجة قضايا السياق الاجتماعي والأخلاق داخل الممارسة الهندسية. غير أنّ هناك سببًا ثالثًا يجعل الفلسفة مهمة للهندسة: وهو أنّ الهندسة بصدد بلورة فلسفة جديدة للحياة. وفي هذه الحالة لا يقتصر الأمر على بناء جسور، بل نشهد ما يشبه حركة الصفائح التكتونية؛ حيث لا تلتقي القارات فحسب، بل تبدأ أيضًا في التداخل والتأثير الجيولوجي المتبادل.

وكما أنّ حركة الصفائح التكتونية بطيئة إلى حدٍ لا يُدرَك بسهولة، وبالتالي يصعب تقديرها، فإنّ هذا التفاعل الثالث بين الهندسة والفلسفة يتسم بالبطء نفسه. وهو تفاعل يقوم في جوهره على المعرفة الذاتية، بل ويتطلب تعميق هذه المعرفة لدى جميع الأطراف المنخرطين فيه.

ما الذي يمكن أن يقدّمه التحليل المفهومي والبصيرة التأملية والتفكير البين- تخصصي للهندسة؟ إنّ مجرد طرح السؤال بهذه الصياغة يكاد يكون جوابًا بحد ذاته. أليست الهندسة هي الأخرى مميّزة بطابع التحليل المفهومي، والرؤية التأملية، والتفكير العابر للتخصصات؟

كلما ازددنا انخراطًا في بناء العالم، ازداد إدراكنا للعالم بوصفه عالمًا مُنشأ. ومع انتقال البشر من عالم طبيعي إلى عالم مشكَّل بالصناعة اليدوية ثم إلى عالم هندسي، فلا شك أنّه ليس من قبيل المصادفة أن تُطرَح التساؤلات حول الطبائع والماهيات، وأن تحلّ العملية محل الجوهر، وأن يُعاد تأطير المعرفة أكثر فأكثر ضمن الاقتصاد والسياسة بقدر ما تُصاغ في إطار المنهجيات المعرفية. كما لم يعد غريبًا أن تتصدّر القضايا الأخلاقية النقاشات العامة والتقنية على حد سواء، عبر طيف واسع من الأنشطة الإنسانية، بدءًا من الطب وصولًا إلى الحوسبة.

إنّ الخطابات الفلسفية التطبيقية مثل أخلاقيات الطب وأخلاقيات البيئة وأخلاقيات الحاسوب وأخلاقيات الهندسة لا تمثل في الحقيقة سوى قمة جبل جليدي يتشقق في بحر من التأملات الميتافيزيقية (من الكوسمولوجيات العلمية إلى الوجوديات الجديدة القائمة على إسقاطات المخاطر، والشبكات الإلكترونية، والواقع الافتراضي)، والانفجارات المعرفية (مثل الإحساس والإدراك المتجاوز للإنسان أو البعيد المدى، وجمع البيانات وتحليلها آليًا، والمقالات البحثية التي تتحوّل إلى إعلانات وحملات ترويجية للجولة التالية من المنح)، وكذلك التكوينات الجمالية (عروض الوسائط المرئية والتحليلات الاحتمالية، والاتصالات عبر النصوص الفائقة، والمشروعات الهندسية من الماكرو إلى المايكرو، والمواقع التفاعلية على شبكة الإنترنت).

قد يكون عالمنا مخترقًا بالتكنولوجيا في كل تفاصيله، غير أنّ هذه التكنولوجيا نفسها متشابكة بدورها مع حوار فلسفي عميق. بل إنّ هذه التحوّلات ذاتها في عالم المعيشة هي ما جعلته الفلسفة ما بعد الحداثية موضوعها الرئيس، في الوقت الذي يبتكر فيه المهندسون تلك التحوّلات عينها التي يتحدث عنها الفلاسفة. غير أنّ المهندسين ظلّوا صامتين. وبسبب هذا الصمت تحديدًا، فقد همّشوا — على نحوٍ مفارق — قدراتهم، إذ فشلوا في إدراك ذواتهم وممارساتهم بوصفها جزءًا مركزيًا من البنية الفوقية الثقافية التي يُنشئونها، والتي تعود فتُنشئهم بدورها.

لنأخذ مثالًا على ذلك: مركز أبحاث زيروكس بالو ألتو (PARC). فهذا المركز البحثي الهندسي يُعَدّ، ربما أكثر حتى من مختبرات بِل، واحدًا من أعظم مراكز الابتكار في التاريخ. ففي أواخر ستينيات وأوائل سبعينيات القرن العشرين، ابتكر المركز جميع العناصر الكبرى تقريبًا التي شكّلت لاحقًا ثورة الحاسوب الشخصي: الواجهة الرسومية، والفأرة، وغيرها. غير أنّ راعيه المؤسسي أخفق في استثمار تلك الابتكارات التقنية الريادية [سميث وألكسندر، 1988]. لقد استُلهم إبداع زيروكس PARC جزئيًا من تفاعلاته الفلسفية وحساسيته تجاه التطورات الثقافية. غير أنّه، في تفسير معقول، عجز عن تسويق تلك الابتكارات بسبب استجابته السلبية تجاه المؤثرات الفلسفية والثقافية ذاتها.

إنّ مارك وايزر، كبير التقنيين الحالي في مركز أبحاث زيروكس PARC، المتأثر في رؤيته بالانعكاسات الفلسفية العميقة لكلٍّ من هيربرت سايمون، ومايكل بولاني، وهانس جورج جادامر، ومارتن هايدغر، يتجاوز حدود الحواسيب المركزية والشخصية ليطرح ما أسماه بـ الموجة الثالثة من “الحوسبة الشاملة” (Ubiquitous Computing أو Ubicomp)(12). ومن خلال هذا المفهوم، يعمل وايزر مع غيره من مهندسي زيروكس PARC على جعل الحواسيب تندمج في خلفية حياتنا اليومية، لتتلاشى في بيئتنا المحيطة(براند "1987"). ومع ذلك، فإن مراكز الابتكار الهندسي الجذري المماثلة، مثل معمل الوسائط في معهد MIT، تُظهر ميلًا قويًا إلى امتصاص التأثيرات الفلسفية لما بعد الحداثة فحسب، حتى وهي تُجسِّدها وتعيشها في ممارساتها.

إنّ عملية التصميم الهندسي تجسّد وتُظهر بالضبط ذلك النمط من العمليات الطارئة، واللامتمركزة، والمتخطّية للحدود، والمنتجة لأنماط جديدة من التنظيم، وهي العمليات التي تقوم ما بعد الحداثة بتحليلها واستكشافها والاحتفاء بها. فالمهندسون يعيشون ما بعد الحداثة، لكنهم لا ينطقون بها.

إنّ المهندسين هم الفلاسفة غير المُعترَف بهم للعالم ما بعد الحداثي. فما يميّز القاعدة المادية لما بعد الحداثة هو أنّها مادية مُهندَسة. إنّ الطابع المرح في عمارة ما بعد الحداثة لدى روبرت فنتوري ليس سوى لعبٍ هندسي بارع(فينتيورينى "1977") . أما فرانسوا ليوتار، فإنّ “الوضع ما بعد الحداثي” لديه، القائم على المرجعية الذاتية، إنما يحاكي الممارسات والإجراءات التكرارية ذات المرجعية الذاتية التي يقوم عليها التصميم الهندسي (ليوتار"1979"). وأما الكائن الهجين – الكايوتي/السيبورغ – العابر للحدود عند دونا هاراواي، فلن يكون له وجود أصلًا لولا التكنولوجيا الطبية الحيوية(هاراواي "1991").

لقد اعتمد الإنسان، على مدى آلاف السنين، في صنعه واستعماله، على ما هو مُعطى في الطبيعة. وفي ظل هذه الظروف، ظلّ الاصطناع محدودًا على نحوٍ لا يمكن تجاوزه، سواء من حيث الكم أو من حيث الجوهر. وكان هذا النقص في الكم ينعكس في خصوصية ما يُصنع يدويًا وذهنيًا، حيث لا يتجاوز الجمال الظاهر لتلك المصنوعات سطحها الخارجي. وقد كتب أرسطو قائلًا: “لو نبت السرير، لما خرج سرير، بل شجرة بلوط” [الطبيعة، الكتاب الثاني، الفصل الأول؛ 193b10].

إنّ الاستخراج الهندسي من الطبيعة لكلٍّ من المواد الخفية والطاقات، إلى جانب تصميم الآلات العاقلة، قد أتاح انتشارًا كميًا واسعًا للصناعة المصطنعة وتوحيد معاييرها المنسّقة. وقد بدا أنّ هذا التوحيد حرم العالم من جمال الصنعة اليدوية بوصفه ثمناً ضروريًا للرخاء. غير أنّ التوحيد الذي أقامه المهندسون، ليس فقط بآلاتهم وعملياتهم الصناعية، بل أيضًا من وراء الكواليس عبر التفاوض حول الرموز التقنية، قد أنبأ مع ذلك بوجود مادي مصنوع يشكّل أساس بيئة جديدة من الصناعة المصطنعة.

ومع امتداد العمليات الهندسية إلى المستويات الدقيقة، والنانوية، والجينية، والجزيئية، والذرية، بل وما دون الذرية، فإن منتجاتنا الجديدة، حين تنبثق، لا تُبعث من موادها القديمة الخالية من الشكل، بل في بنيات جديدة مشكّلة بعناية.

لم يعش أحد بعمق في هذا العالم الصناعي الحي كما فعل المهندسون. فهم لا يزالون في بداية مساعيهم لمشاركة حياتهم التصميمية مع العالم الأوسع عبر التحليل المفهومي والتأمل النقدي. وهذا التحليل والتأمل يمكن أن ينتفع منه العالم الفلسفي بلا شك، ويمكنهم هم أيضًا أن يساهموا فيه، إذا ما بذلوا الجهد لدخول هذا المجال.

لماذا تُعَدّ الفلسفة مهمة للهندسة؟ في جوهر الأمر وأعمقه، لأنّ الهندسة هي الفلسفة ذاتها — ومن خلال الفلسفة تصبح الهندسة أكثر تحقيقًا لذاتها.

أيها المهندسون في العالم، تفلسفوا! فلن تخسروا شيئًا سوى صمتكم.(13)

***

قسم الفلسفة

برنامج العلم، التكنولوجيا، المجتمع

جامعة ولاية بنسلفانيا

University Park ، بنسلفانيا 16802،

الولايات المتحدة الأمريكية

البريد الإلكتروني: [email protected]

.....................

الملاحظات

1- الموسوعة البريطانية الجديدة (1995)، المعجم الصغير، المجلد 4، ص 496.الموسوعة ماكجرو- هيل للعلوم والتقنية (1997)، المجلد 6، ص 435، "كنوز الحداثة" يوسّع هذا التعريف عند وصفه للهندسة بأنها: «بأبسط صورة، هي فن توجيه المصادر العظمى للقوة في الطبيعة من أجل خدمة الإنسان وراحته. وفي صورتها الحديثة تشمل: الإنسان، والمال، والمواد، والآلات، والطاقة». أما الصياغة الأصلية لتوماس تردغولد فكانت: «الهندسة هي فن توجيه المصادر العظمى للقوة في الطبيعة من أجل استخدام الإنسان وراحته» (من مسودة ميثاق المؤسسة البريطانية للمهندسين المدنيين، 1828).

2- «إن ما نسمّيه قدرة الإنسان على الطبيعة يتضح أنه ليس سوى قدرة يمارسها بعض البشر على بشر آخرين مستخدمين الطبيعة كأداة» [لويس (1947)، ص 35].

3- للاطلاع على سرديات موسّعة حول الفلسفات الهندسية للتقنية المشار إليها أدناه، والأفكار ذات الصلة، انظر: ميتشام (1994)، ص ص 19- 38. كما يمكن العثور على بعض هذه المادة أيضًا في: ميتشام (1989)، الجزء الأول.

4- إنّ كلمة Technik بالألمانية يمكن ترجمتها إلى كلٍّ من: التقنية والهندسة.

5- أفضل دراسة عن إنغلمانير هي: غوراخوف (1997).

6- في محادثة شخصية بمدينة دلفت – هولندا، بتاريخ 17 أبريل 1998، أقرّ دايم بأهمية الأخلاق.

7- جميع الاقتباسات من مواد ABET مأخوذة من وثائق متاحة على الإنترنت عبر الرابط: http: //www.abet.org. وجميع الاقتباسات من المواد ذات الصلة مذكورة في النص مع الإشارة إلى أرقام الأقسام والفقرات.

8- لأغراض البحث الحالي أستخدم مصطلحي التاريخي والاجتماعي كمؤهّلين أساسيين، مع الاعتراف بأنّه في سياقات أخرى سيكون من الضروري وضع تمييزات أكثر دقة.

9- على الرغم من أنّ مفهوم فتح “الصندوق الأسود” صار مرتبطًا ببرامج علماء الاجتماع في مجال التقنية (وخصوصًا الموجّهة تاريخيًا) مثل برونو لاتور وويبه بيكر، فإنّ الاقتراح الأصلي جاء من مؤرّخ الهندسة إدوين لايتون [لايتون (1977)، ص 198]. وقد طوّره لاحقًا الاقتصادي ناثان روزنبرغ [روزنبرغ (1982)] قبل أن يُطرح باعتباره برنامجًا لدراسات التقنية [بيكر، هيوز، وبنش (1987)].

10- شرح آخر مختلف ولكنه مرتبط بهذا الواجب الأخلاقي الهندسي، انظر: ميتشام (1994أ).

11- شارك الفيلسوف سي. توماس روجرز مع أونغر في أعمال بحثية حول أخلاقيات الهندسة، وأُشير إليه في أونغر (1994)، ص 115. كما ألّف الفيلسوف مايك دبليو. مارتن بالاشتراك مع المهندس رولاند شينزنغر كتاب أخلاقيات في الهندسة [مارتن وشينزنغر (1996)]. وعمل الفيلسوف مايكل إس. بريتشارد على نطاق واسع مع المهندسين تشارلز هاريس ومايكل رابنز، وهو تعاون انعكس ليس فقط في كتابهم أخلاقيات الهندسة: مفاهيم وحالات [هاريس، بريتشارد، ورابنز (1995)]، بل أيضًا في مجموعة من أكثر من ثلاثين حالة دراسية متاحة عبر الرابط: http: //ethics.tamu.edu

12- وايزر (1991)، ص ص 94- 95، 98- 102، و103. مزيد من المعلومات متاح على الرابط:

http: //sandbox.xerox.com/hypertext/weiser/UbiHome.html

. انظر أيضًا الانفتاح الفلسفي الواضح لدى المهندسين تيري وينوغراد وفرناندو فلوريس [وينوغراد وفلوريس (1987)].

13- طُوِّر هذا الطرح لأول مرة كمحاضرة عامة في جامعة دلفت التقنية – هولندا، بتاريخ 16 أبريل 1998، بالتزامن مع ورشة عمل دولية بعنوان «التحوّل التجريبي في فلسفة التقنية». ومن المخطط أن يُنشر إصدار موسّع منه عبر جامعة دلفت التقنية. كما من المقرر أن يُنشر مجلّد وقائع الورشة، بتحرير خاص من بيتر كروس وأنطوني مييرز، في عدد لاحق من مجلة أبحاث في فلسفة التقنية.

المراجع

- ويبيكر، توماس هيوز، وتريفور بنش (محررون) (1987): البناء الاجتماعي للأنظمة التكنولوجية: اتجاهات جديدة في سوسيولوجيا وتاريخ التقنية. كامبريدج، ماساتشوستس: مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

- ل. ل. بوتشياريلي (1994): تصميم المهندسين. كامبريدج، ماساتشوستس: مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

- مايكل ديفيس (1998): التفكير كمهندس: دراسات في أخلاقيات مهنة. نيويورك: مطبعة جامعة أكسفورد.

- بيتر تورستون دوربين (محرر) (1991): وجهات نظر نقدية حول العلم والهندسة غير الأكاديمية. بيتلهيم، بنسلفانيا: مطبعة جامعة لِهاي.

- بيتر تورستون دوربين (محرر) (1992): المسؤولية الاجتماعية للمهندس: التزامات المهندس. نيويورك: جارلاند للنشر.

- غيرهارد إنغلمانير (1989): فلسفة التقنية: الأسس، المشكلات، والآفاق. ميونخ: بك.

- أندرو فينبرغ (1991): النظرية النقدية للتقنية. نيويورك: مطبعة جامعة أكسفورد.

- أندرو فينبرغ (1995): حداثة بديلة: التحول التقني في الفلسفة والنظرية الاجتماعية. بيركلي: مطبعة جامعة كاليفورنيا.

- ر. ج. فري، وك. و. موريس (محرران) (1991): القيمة، الرفاهية، والأخلاق. كامبريدج: مطبعة جامعة كامبريدج.

- فيكتور غوراخوف (1997): التفكير التكنولوجي والتفكير الهندسي. موسكو: معهد الفلسفة، الأكاديمية الروسية للعلوم.

- تشارلز هاريس، مايكل بريتشارد، ومايكل رابنز (1995): أخلاقيات الهندسة: مفاهيم وحالات. بلمونت، كاليفورنيا: وادزورث.

- برونو لاتور (1987): العلم في العمل: كيف نتابع العلماء والمهندسين عبر المجتمع. كامبريدج، ماساتشوستس: مطبعة جامعة هارفارد.

- إدوين لايتون (1977): شروط التطور التكنولوجي. في: إسبايغل- روزينغ ودي سولا برايس (محرران)، العلم، التقنية، والمجتمع: منظور متعدد التخصصات. لندن: سِيج.

- كليف ستايبل لويس (1947): إلغاء الإنسان. لندن: مطبعة جامعة أكسفورد.

- مايك و. مارتن، ورولاند شينزنغر (1996): الأخلاقيات في الهندسة. نيويورك: ماكغرو- هيل.

- كارل ميتشام (1989): ما هي فلسفة التقنية؟ في: بيتر دوربين (محرر)، الفلسفة والتقنية: تفسيرات واسعة وضيقة. دوردريخت: كلور، ص ص 167–197.

- كارل ميتشام (1994): التفكير عبر التقنية: الطريق بين الهندسة والفلسفة. شيكاغو: مطبعة جامعة شيكاغو.

- كارل ميتشام (1994أ): أخلاقيات الهندسة. في: لورانس بيكر (محرر)، موسوعة الأخلاق. نيويورك: جارلاند.

- ناثان روزنبرغ (1982): داخل الصندوق الأسود: التقنية والاقتصاد. كامبريدج: مطبعة جامعة كامبريدج.

- د. ك. سميث، وروبرت ألكسندر (1988): إضاعة المستقبل: كيف اخترعت زيروكس أول حاسوب شخصي ثم تجاهلته. نيويورك: ويليام مورو.

- ستيفن أونغر (1994): التحكم في التقنية: الأخلاقيات والمهندس المسؤول. نيويورك: وايلي.

- والتر فينسنتي (1990): ما يعرفه المهندسون وكيف يعرفونه: دراسات تحليلية من تاريخ الطيران. بالتيمور: مطبعة جامعة جونز هوبكنز.

- مارك وايزر (1991): الحاسوب للقرن الحادي والعشرين. ساينتيفك أمريكان (سبتمبر)، ص ص 94–104.

- تيري وينوغراد، وفرناندو فلوريس (1987): فهم الحواسيب والإدراك: أساس جديد للتصميم. نوروود، نيوجيرسي: إيبلكس.

هناك عدد هائل من النظريات التي تفسر سقوط الدول الامبراطورية لكن واحدة من أهم تلك النظريات والاكثر انتشارا هي النظرية الماركسية. كتب ماركس عن تناقضات الرأسمالية الناتجة عن عدم قدرة المنتجين في المجتمع على شراء منتجاتهم وما يتبع ذلك حتماً من دورات للكساد والانحدار الاقتصادي. هذه التناقضات تنطبق على جميع المجتمعات التاريخية عندما تستحوذ الطبقة الحاكمة او النخبة على حصة من الموارد المتوفرة أكثر مما ينبغي. عندما تأخذ النخبة القسم الاكبر من الموارد، فان عامة الناس يصبحون غير قادرين على استهلاك منتجات الصناعة. هذه النظرية تصف وبشكل ملائم – وان بشكل تدريجي أحيانا – الكيفية التي سقطت بها الامبراطوريات السابقة في الفوضى، وتحطمت ليس بقوى خارجية وانما بفعل ممارساتها الإستغلالية. هذا قاد الى مصاعب داخلية وكساد وتمرّد ومن ثم الى غزو خارجي محتمل.

العنصر الأساسي لتكوين وبقاء وانحدار كل المجتمعات التاريخية هو استعمالها للدخل الفائض والموارد. بدون ان تتمكن النخبة من استخلاص فائض المنتج للاحتياجات الفورية – على شكل طعام وأسلحة وسلع الترفيه، وبضائع اخرى وخدمات يتم انتاجها بواسطة الفلاحين والحرفيين والتجار والخدم –، فسوف لن يكون المجتمع قادرا على تقديم الحماية والقانون والنظام والادارة والدفاع والاستشارات الروحية والخدمات الشخصية والانتاج الثقافي والاصول الاخرى الضرورية لوجوده.

ثلاث طرق رئيسية

هناك ثلاث طرق رئيسية يتم بها استخلاص فائض الدخل والموارد.

1- السياسية /العسكرية و 2- التجارية الاقتصادية و 3- الثقافية الاجتماعية. وهكذا، هناك ثلاثة انواع مختلفة من النخب. في الشكل السياسي العسكري، هناك المحاربون والفاتحون والمافيا المحلية. في النوع التجاري هناك التجار والصناعيين والرأسماليين. اما في ظل النموذج السوشيوثقافي يأتي الكاريزميون والقساوسة والبيروقراط والمحامون.

نجاح أي من هذه الانواع في السيطرة على أي مجتمع وتأسيس الحق في الاستخراج يعتمد على التاريخ الخاص بالمجتمع وما يمكن ان تقدمه النخبة بالمقابل. هذا سيكون حماية داخلية ودفاع خارجي وحصة في زيادة الثروة والدخل او ديني او شخصي او خدمات ادارية.

بالنهاية، جميع النخب تواجه إغراء تحويل الاستخراج الى استغلال. حالما يتأسس نظام للاستخراج، تتحفز النخبة لتأخذ الكثير وهي تعتقد ان السلطة اللامحدودة والثروة والراحة هي حق لها. تركيز الثروة يبدأ بالظهور متجاوزا الحاجات الحقيقية للنخبة واكثر مما يستطيع المجتمع تقديمه. هذا التركيز ربما يكون على شكل قصور ملكية او بيوت ارستقراطية مليئة بالخدم او نقل خاص وحراس شخصيين. سننظر هنا في أعلى مستوى للاستغلال مارسته عدد من الامبراطوريات الكبرى. الاستغلال هو في الحقيقة عامل مساهم في سقوطها النهائي.

سقوط الامبراطورية الرومانية الغربية الأخيرة

مع بدايات حكم نيرون (54-68م)، ثبت من الدليل بان الحاجة الى الايرادات قادت الى تخفيض قيمة العملة. النقود كانت مطلوبة لتغطية التكاليف المتزايدة للدفاع وتضخم البيروقراطية. لكن بدلا من زيادة الضرائب، قام نيرون والاباطرة الذين أعقبوه بتخفيض قيمة العملة عبر تقليل كمية المعدن الثمين في محتوى العملة. هذا في الحقيقة كان شكلا من الضرائب: ضريبة على الأرصدة النقدية.

طوال تاريخ معظم الامبراطوريات، كانت الوحدات الاساسية للعملة الرومانية هي العملة الذهبية والدينار الفضي والنحاس والعملة البرونزية. العملة الذهبية لم تكن في تداول واسع. وهكذا كان تخفيض العملة محدودا جدا. نيرون قلل من محتوى الفضة في الدينار الى 90% وخفض قليلا من حجم العملة الذهبية. اما ترجان Trajan (98-117م) فقد خفّض محتوى الفضة الى 85% لكنه كان قادرا على الحفاظ على النسبة بسبب التدفق الواسع للذهب.

استمر تخفيض العملة تحت حكم ماركوس ايرليوس (161-180م)، الذي قلل محتوى الفضة في الدينار الى 75%، ثم خُفض اكثر في عهد سيبتيموس سيفيروس الى 50%. وفي اواسط القرن الثالث الميلادي، بلغ محتوى الفضة في الدينار فقط 5%.

هذا التخفيض المستمر في قيمة العملة لم يحسّن موقف الامبراطورية النقدي. بدلا من ذلك، الناس اكتنزوا العملات ذات المحتوى العالي من الفضة ودفعوا ضرائبهم بتلك العملة ذات المحتوى القليل .في الحقيقة، عوائد الحكومات وبالتالي العائدات الواقعية للامبراطورية انخفضت فعلا. في البدء كانت الحكومة قادرة على توفير أموال اضافية من بيع ممتلكات الدولة ولكن لاحقا، قام المزيد من الاباطرة الفاسدين مثل دوميتيان (81-96م) باختراع تهماً لمصادرة اصول الأثرياء. هم ايضا اختلقوا الأعذار للمطالبة بالجزية من المقاطعات والاثرياء. رغم ان الضرائب على الرومانيين العاديين لم ترتفع، لكن المواطنة جرى توسيعها لجلب مزيد من الناس لصافي الضريبة. الضرائب على الاغنياء ارتفعت بشكل حاد وخاصة ضرائب التركات والتحرير (تحرير العبيد). معظم الاباطرة استمروا بسياسة تخفيض العملة وزيادة الضرائب الثقيلة على الاغنياء خصيصا. ومع المصادرة البطيئة للثروة الخاصة بالامبراطورية او فرض الضرائب عليها، ادى ذلك الى تباطؤ النمو الاقتصادي الى حد التوقف. حالما لم يعد الاغنياء قادرين على دفع فواتير الدولة، فان العبء وقع على الطبقات الدنيا لدرجة ان متوسط الناس عانوا ايضا من تدهور الظروف الاقتصادية.

في هذه الفترة، في القرن الثالث الميلادي، انهار الاقتصاد النقدي بالكامل، لكن الطلبات العسكرية للدولة بقيت مرتفعة. كانت حدود روما تحت ضغط مستمر من القبائل الالمانية في الشمال ومن الفرس في الشرق.

ومع انهيار الاقتصاد النقدي، توقف ايضا نظام الضرائب العادي عن العمل. هذا أجبر الدولة على الاستيلاء المباشر على أية موارد تحتاجها اينما كانت. الطعام والماشية، مثلا، نُقلت مباشرة من المزارعين. منتجون آخرون كانوا ايضا مسؤولين عن توفير كل ما يحتاجه الجيش. هذه الزيادة في الضرائب واستغلال الشعب الروماني جعل الناس غير مبالين ببقاء الدولة، والدفاع تُرك للمرتزقة الالمان الذين بالنهاية اطاحوا بالحكومة واغتصبوا سلطة الامبراطور.

الامبريالية الأثنية واستغلال الحلف الديلي Delian League

تأسس اتحاد ديلي ويُعرف ايضا بالامبراطورية الاثنية بعد حرب الفرس عام 478 ق.م كـحلف عسكري بين المدن اليونانية (يضم حوالي 150 الى 330 مدينة). الحلف كان بقيادة اثينا التي دافعت عن كل الاعضاء غير القادرين على حماية انفسهم بما تمتلكه من اسطول بحري قوي وكبير. اعضاء حلف ديلي كانوا ملزمين تحت القسم للولاء للحلف وساهموا نقديا لكنهم في بعض الحالات تبرعوا بالسفن او اشياء اخرى. كان الامر كذلك بالنسبة للعديد من الاعضاء الديمقراطيين في التحالف الذين حصلوا على حريتهم من الحكم الاوليغارتي او الاستبدادي في اثينا.

كان تاثير المدن كبيرا جدا لدرجة انه في عام 454 ق.م قام بيركلس بنقل خزانة حلف ديلي من جزيرة ديلوس الى بارثينون في أعلى الاكروبوليس في اثينا بزعم حمايتها من الفرس. مع ذلك، وحسب المؤرخ بلوتارخ ان العديد من منافسي بيركليس رأوا عملية النقل الى اثينا كإغتصاب للموارد النقدية لتمويل مشاريع خاصة. اثينا ايضا غيرت سياستها حول التبرع في السفن والرجال والأسلحة من أعضاء الحلف وبدلا من ذلك قبلت بالنقود فقط.

ومع التدفق الواسع للنقد المقدم الى اثينا عبر استغلال 150 الى 330 عضوا في التحالف، تكون المدينة في الحقيقة استعملت النقود لتعزيز قوة اسطولها ووضع المتبقي من النقود للعمل في فنون المدينة وبنائها المعماري. ولكي تحافظ على موقفها، بدأت اثينا استعمال قوتها العسكرية الهائلة لتعزيز العضوية في التحالف. مدن مثل ميتيليني ومليوس اللتان رغبتا بمغادرة الحلف تعرضتا للعقوبة بقوة. الاستغلال المفرط للطبقات الدنيا – المدن الأقل ثراءً – سوف يقود للتمرد. وذلك ما حدث بالفعل. اول عضو في الحلف حاول الانفصال كان جزيرة ناكسوس سنة 471 ق.م. وبعد هزيمتها اُجبرت ناكسوس على هدم أسوارها فخسرت اسطولها وصوتها في الحلف.

تمرد آخر جرى تنظيمه من قبل ثاسوس الذي اعتبر تأسيس اثينا لمستعمرة امفيبوليس على نهر ستروما تهديدا لمصالحها في مناجم جبل بانجايون. وبهذا، انشقت ثاسوس العضو في الحلف وانضمت الى الفرس. ولاحقا طلبت المدينة مساعدة من سبارطا لكن لم تنل ذلك لأن سبارطة كانت ضد تمرد الهيلوت (اعداد كبيرة من العبيد او العمال الزراعين يعملون في اسبارطة) وهو أكبر تمرد آنذاك.

بعد اكثر من سنتين من الحصار اُجبرت ثاسوس على الاستسلام لقائد اثيني (اريستيدس) واعيد بها مجددا الى الحلف. أسوار ثاسوس المحصنة هُدمت وفُرض عليها دفع جزية سنوية وغرامات. علاوة على ذلك، تمت مصادرة اراضيها واسطولها البحري والمناجم التي فيها من جانب اثينا. حصار ثاسوس يمثل تحولا لحلف ديلي من تحالف الى ما اسماه ثوسيديديس بالهيمنة.

الخزانة الجديدة في اثينا استُعملت لعدة أغراض، ليست كلها مرتبطة بالدفاع عن أعضاء الحلف. جرى استمال الجزية المدفوعة (من الاعضاء) الى الخزانة في بناء البارثينون في الاكروبوليس واستُبدل المعبد القديم الى جانب العديد من النفقات الباهظة الاخرى الغير مرتبطة بالدفاع.

امبراطورية المغول

بنى المغول واحدة من أعظم الامبراطوريات آنذاك واستمر تأثيرها في التاريخ والثقافة الهندية. كان للسلالة تأثيرا استمر اكثر من قرنين من الحكم الفعال لأجزاء واسعة جدا من الهند بسبب مهارتهم في الحكم وتنظيمهم الاداري. أباطرة المغول عززوا الفن والتعليم وبالذات فن العمارة الشهير بتناغمه وجماله. لكن وحسب الرؤية الماركسية، كانت قصور ومساجد هؤلاء الاباطرة رموزا اسلامية للقمع الذي مارسه المسلمون ضد السكان الهندوس الى جانب الاستغلال المفرط للفلاحين من جانب الأغنياء والذي أخمد الرغبة لمساعدة النظام، وهو ما قاد بالنهاية الى انهيار السلالة.

أباطرة المغول في البدء عُرفوا بالمساواة بين الناس الذين يحتلونهم حيث يتم استيعابهم في الحكومة والجيش، لكن في العقود الاخيرة مالت الامبراطورية نحو الاوتوقراطية واللاتسامح. جرى التعامل مع الهندوس والجماعات الاخرى بدونية واستُبعدوا من محاكم المغول وتعرضوا الى ضرائب ثقيلة.

عدم التسامح الديني قاد الى الاضطهاد الذي اتخذ شكل تحطيم معابد ومدارس الهنود والسيخ. هذه الافعال خلقت استياءً واسعا ضد المغول، مزق مملكتهم وأضعف حكمهم كثيرا. واثناء حكم اورنجزيب Aurangzeb (1658-1707)، بدأ اقتصاد امبراطورية المغول بالانحدار. الضرائب الثقيلة المفروضة ادت الى تحطيم كامل للسكان الزراعيين، وفي نفس الوقت، كان هناك اضمحلالا مستمرا لكنه متدرج في نوعية حكومة المغول. الاباطرة اللاحقون أبدوا رغبة قليلة في حكم او في استثمار نقودهم في الزراعة والتكنلوجيا او في الجيش. بعض الاباطرة كبحوا الازدهار الاقتصادي خائفين من ان الاغنياء ربما يستجمعون جيوشهم الخاصة. في النهاية ثار القادة المحليون وأعلنوا استقلالهم عن الحكومة المركزية. هذا بدوره عجّل من تدهور الامبراطورية ومن ثم السقوط.

سقوط الامبراطورية العثمانية

بعد سلسلة من الصراعات الفئوية اثناء القرنين 1500 و 1600 على السلطة بين الصدر الاعظم وسلطنة الحريم من جهة، والأغوات وضباط الانكشارية من جهة اخرى، بدا الامر كأنه لا فرق في ذلك بصرف النظر عن منْ يسيطر على أجهزة الحكومة . كان هناك شلل متزايد في الادارة في كل انحاء الامبراطورية، وتسارع للفوضى وسوء الحكم، وانقسام في المجتمع الى فئات واتساع الكراهية بين الجاليات.

وسط هذه الاضطرابات، اصبح من الحتمي ان لا تستطيع الحكومة العثمانية مواجهة المشاكل المتسارعة التي ضربت الامبراطورية. التحديات الاقتصادية بدأت تنمو في اواخر القرن السادس عشر عندما قطعت هولندا وبريطانيا خطوط التجارة الدولية القديمة عبر الشرق الاوسط. وبالتالي، تلاشت ثروة مقاطعات المنطقة. الاقتصاد العثماني اهتز بالتضخم الناتج عن تدفق المعادن الثمينة الى اوربا من امريكا، وبسبب تنامي اللاتوازن في التجارة بين الشرق والغرب . وعندما فقدت الخزينة عائداتها بدأت بتلبية التزاماتها – كما فعلت الامبراطورية الرومانية – عبر تخفيض قيمة العملة وزيادة حادة في الضرائب واللجوء الى مصادرة الاملاك. كل هذا فاقم الموقف. الناس المعتمدون على الرواتب وجدوا انفسهم يتقاضون اجورا قليلة، مما ادى الى المزيد من السرقة والافراط في الضرائب والفساد. مالكوا الاراضي العثمانية ومزارع الضرائب بدأوا يستعملونها كمصدر للايرادات تُستغل بأسرع ما يمكن بدلا من ان تكون ممتلكات طويلة الأجل تعطي مردودا في المستقبل.

النفوذ السياسي والفساد سمح لاولئك المالكين بتحويل تلك الملكيات الى ملكية خاصة اما كممتلكات او أوقاف دينية دون أي التزامات اخرى للدولة. التضخم أنهك الصناعات التقليدية والتجارة. النقابات التي كانت تعمل تحت تنظيم صارم للاسعار اصبحت غير قادرة على توفير سلع جيدة بأسعار تستطيع منافسة السلع الاوربية الرخيصة التي دخلت الامبراطورية بدون قيود بسبب مختلف اتفاقيات الاستسلام.

وبالتالي، سقطت الصناعات التقليدية للامبراطورية العثمانية في هبوط سريع. الرعايا المسيحيون والدبلوماسيون الاجانب والتجار الذين تمت حمايتهم بموجب اتفاقيات الاستسلام، دفعوا مسلمو السلطنة واليهود خارج الصناعة والتجارة نحو الفقر واليأس.

امثلة اخرى على الاستغلال وتراكم الثروة التي قادت الى الانحدار

حتى على مستوى المنحوتات والنصب التذكارية، كان للاستغلال عواقبه. آلهة الحجر الغامض في جزيرة الفصح (ايستر) تمثل استخراجا للعمالة من السكان العبيد والذي قاد، اعتمادا على الدليل الاثري، الى الثورة والاطاحة بالنخب الحاكمة. المعابد الفارسية والمصرية كانت تغري الاسكندر الاكبر في مقدونيا، ولاحقا الرومان والمماليك والعرب والاتراك. الشعب الخاضع لم يكن متحفزا جدا للدفاع عن هذه المعابد والآثار.

ان بناء كنيسة القديس بطرس في روما وما رافقها من أعمال فنية والتي تم تمويلها من بيع صكوك الغفران بالاضافة لإسلوب الحياة الباذخ للبابوية، كانت سببا مباشرا للاصلاح الديني.

***

حاتم حميد محسن

............................

How Empires fall: The Marxist Perspective, GreekReporter, Aug 22, 2055

مقدمة البحث: لايزال المفكرون في العالم العالم الإسلامي مختلفين في: هل ولدت لحظة التنوير في عالمنا مطلع القرن العشرين او انها لم تولد بعد؟ وعلى رأي من يرى انها ولدت فلماذا لم تتعاظم معطياتها؟ ولماذا أفل التنوير في العالم الإسلامي مطلع القرن العشرين؟ ولماذا خسر العالم الإسلامي جولته لتحقيق الحداثة؟ ويتساءل المفكرون: هل العلمانية شرط كوني للحداثة؟ وانها منطق حصري للتقدم عابر للازمنة والبيئات او انها صيرورة خاصة باوربا، واذا كانت العلمانية شرطا لحداثة اوربا، فلماذا تعمم كانها نهاية التاريخ او خاتمة الجهد الإنساني وتقدم على انها المدار المعياري للفكر والثقافة والممارسة السياسية والمجتمعية

ثمة مقاربة أخرى تتساءل هل إعادة فهم النص الإسلامي على مسلك الإيجابية والنزعة الإنسانية وفلسفة العدل والانفتاح يمكن ان يكون طريقاً لتنوير العقل الإسلامي ومقدمة للحداثة على معايير الايمان العقلاني(1)؟

ويتأمل المفكرون بالتجربة التاريخية للممارسة السياسية للخلافة الإسلامية (الاموية، والعباسية، والعثمانية) تأملاً يفضي الى انها تجربة عجزت ان تمارس الشورى الحقيقية، وعجزت تماما عن تحويل الشورى الى ديمقراطية منتزعة من تراث المسلمين الفكري، لكن دعونا نتساءل هل تجربة المفكرين المسلمين الإيجابية حققت قدراً من تنظيرالمدنية من دون علمانية في الفكر والثقافة ونظام الحكم ديمقراطي

ويتساءلون عن الآثار والمعطيات لتجربة العلمانيين التي عرفها العالم الإسلامي خلال القرن العشرين الذي حكمت دويلاتنا بنظم (علمانية) هل كانت تجارب ناجحة؟ وهل حاولنا اكتشاف سبب فشل مشروع النهضة والتنمية عند علمانيي اوطاننا، وهل بحثنا عن سبب طغيان سلطة القمع عند العلمانيين؟ وما انتجته تلك التجربة السياسية من ظهور للتيار الاصولي المتطرف والراديكاليات الدينية وجماعات العنف واكتسبت قدرتها على كسب من اهملت تجربة العلمانيين تحصينهم بالمعرفة الحقيقية والتفكير العلمي والثقافة الدينية المعتدلة فوقعوا في فخاخ السلفيات الارهابية

ان عالمنا المعاصر يقف إزاء مشروعات فكرية ثلاثة:

مشروع الدولة الدينية او شبه الدينية الذي لم يحقق نجاحا لانه كان على غرار انموذج الخلافة الاستبدادية التي أعلنت نهايتها في مطلع القرن الماضي بانتهاء الخلافة العثمانية عام 1924.

المشروع العلماني المتطرف الذي ينازع الموروث الحضاري الإيجابي ويتقاطع معه، والذي فشل هو الاخر خلال القرن الماضي. أي من عصر الانتداب الأوربي الى عصر الانقلابات وسيطرة العسكر الى عصر الربيع العربي

المشروع المدني – الإسلامي الذي يقيم الثوابت المشرقة للتراث، وينفتح على المنجزات الإنسانية في سعيه لإقامة دولة الانسان بكل ما تتميز به من رؤى تنويرية، ونزعة مستفيدة من التجارب العالمية، وتبنيها لمفهوم دولة الرفاهية ولكن على مرجعية إسلامية وهذا المشروع يجمع حسنات الانموذجين السابقين ويستبعد اخفاقاتها لكنه لم يطبق بعد. فقد بدأ مشروعا فكريا وسياسيا وحورب من الاستعمار الغربي والقوى الدينية المحافظة معا ولكنه بقي كتلة فكر مضيي ء ينتظر ارتقاء المجتمع في مدارج وعيه ليتفهم ضرورة هذا المشروع

عن هذه الأسئلة والتأملات يتحرك هذا البحث

عناصر مشروع الإسلام المدني: بايجاز شديد ان عناصر المشروع ومرتكزاته أربعة (العقلانية في الفكر والنظم، والمنهج النقدي في البحث والتحليل، ونزعة المقارنة، و مبدأ نسبية المعرفة الإنسانية) ويطبق هذا النهج على الظواهر الاجتماعية المرتبطة بالدين والاعتقاد وهنا رؤيتان:

الأولى: ترى ان التزاحم والتعارض الحاصل بين الدين والعلم او بين الاعتقاد والتحديث تخضع لقواعد منطقية واحدة شرط ان يكون لها القدرة على التحليل والاستنباط، لضبط التشابه في ميزات تلك الظواهر مع بعضها باستثناء ما يظهر في جزء منها من متغيرات هامشية لا تمس جوهر القانون المفسر للظاهرة. ويمكن ان تدرس في ضوء التقدم المنهجي للعلوم الإنسانية وادواته الاركيولوجية والتاريخية وسوسيولوجيا الفكر الاجتماعي

الثانية: ان لكل تجربة دينية في مجتمع ما منطق خاص يخضع لطبيعة الوضع التاريخي والاقتصادي لذلك المجتمع يمكن تسميته ب (الصيرورة الحضارية) فالتجربة المسيحية تختلف تماماً عن التجربة الإسلامية. وهكذا بقية تجارب الأديان فتكون لكل تجربة موازينها الخاصة ونسيجها المغلق او المفتوح لضم المتغيرات في الفكر الانساني

وقد رجح أصحاب الاتجاه الاول القواعد العامة للتفكير الفلسفي في قراءة الظواهر، فالأديان عندهم: انقلاب تغييري شامل على الوضع الذي يسبق ظهورها) تبدأ بنص ثم يتداخل معه الجهد العقلي للمؤمنين به فيتحول الاتباع اما الى عقلانيين او نصيين ويكون لكل من المسلكين قواعد منظمة للسلوك ونزعات فكرية صانعة للموقف، وتتفرع عن المدرسة العقلانية اتجاهات يصل بعضها الى ما يقف الملتزمون بالتراث الإسلامي فيه على حافات العلمانية، اما المدرسة النصوصية فيظهر فيها تطرف يصل الى مقاربة وثيقة الصلة بالمنهج السلفي في تعامله مع (النصوص المفسرة للنص التأسيسي) وهذا يؤسس الصدام بين الدين وكل نظريات التحديث في ازمنة الإسلام المتعاقبة وهذا الذي حصل في التطورات الحضارية مع مجتمع الديانات اليهودية والمسيحية والجماعات التي انتمت الى الأديان الشرقية بل وحتى المعتقدات الوضعية كالماركسية، وطبقاً لبدايات هذا البحث فان افضل من يمثل الاتجاه الأول د.عبد الوهاب المسيري فهو يرى ان العلمانية نتاج لتحولات عالمية (لكل الشعوب) وانها قرّبت العالم بعضه مع بعض من ناحية التاريخ والمسارات العامة في الاجتماع السياسي، وانها صورة العالم المستقبلية من خلال تحولات اجتماعية حتمية، وأقصى الخلاف ان اوربا قد سبقت العالم في نشأتها وانها ستحصل في غير اوربا بحسب المنطق التاريخي، ولو بصور أخرى

كما يرى ان مسيرة التاريخ عبارة عن سلسلة متراكمة ليست بالضرورة متكاملة مكونة من عمليات اجتماعية ومعرفية بسياق متماثل فقد تتشابه تماماً وقد تتفاوت جزئياً فهي كغيرها من مميزات أي مركب تاريخي، فيه من الهوامش والمتغيرات غير الجوهرية لكن يبقى منطقها واحد من حيث الجوهر(2)والمبادئ العامة والمنطق الاساس.

اما الاتجاه الثاني: فيرى ان لكل امة ظرفاً تاريخياً خاصا بها وهو (المرّكب من ظروفها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية) ولهذا الظرف أثره في أي فكر بشري سواء كان مستندا الى الفكر الديني ام الفكر البشري المطلق، وان لذلك الفكر أثر على الواقع الاجتماعي وهذا الذي يسمونه (التموضع الجدلي) أي انعكاس آثار الوضع الحضاري والتطور الاجتماعي على المنتج الفكري او التحولات الفكرية، وتاثيرالتحولات الفكرية على خلق ظروف اجتماعية، وعليه فإنَّ العلمانية في اوروبا نتاج اوروبي خالص لا يمكن قسره وفرضه على بلدان غير اوربية او بلدان مرت بتجارب أخرى، لاسيما التجربة التاريخية في الشرق الأوسط لاختلاف الصيرورة التاريخية لاوروبا عنها في الشرق الإسلامي لأن العلمانية فكر ناتج عن الصراع بين المسلك الكنيسي من جهة (3) وبين النزعة العقلانية المتولدة في جامعات اوربا واللافت ان المسلك المعرفي الايماني الكنسي فكر المسيحية، لا يتشابه مع علاقة الإسلام بالعلم والعقلانية، وعلى هذا فأن هذا الاتجاه يقلل من فرص تقبل العلمانية الاوربية في منطقة الشرق الأوسط ويراها محاولات تنويرية غربية قد تفضي الى مفاصلة بين الحاضر والتراث وتخشى ان تؤدى الى نزعة علمانية متطرفة تقف من القيم الموروثة موقفا مضادا نتيجة تأثرها ببعض المدارس التجديدية الغربية في اوربا.

ولذلك فاستراتيجيات الإصلاح السياسي والاقتصادي التي هي غايات السياسات العامة ومتطلب استراتيجي لأمريكا واوربا في رؤيتها لشرق أوسط جديد تواجه صعوبات جمّة لإنها تريد نقل التجربة الاوربية للعالم الاسلامي   (4)نقلا لا يراعي الصيرورة الفكرية للمجتمعات الشرق أوسطية وتبعا لرفض مجتمعاتنا للمفهوم الغربي للعلمانية فان نظريات الحداثة في العالم الإسلامي تواجه مشكلة ايديولوجية(5) مرتبطة بالتراث والاعتقاد، وتواجه تطبيقاتها رؤى مشوّهة مثل مهمات منظمات المجتمع المدني، والتشكيل الديمقراطي المستنسخ للسلطة في بلدان الشرق الأوسط ويواجه صعوبات التصادم بين العقل السياسي الموروث وموجبات الحداثة، لان اصل هذه المفردات الأربعة (العلمانية، الديمقراطية، الحداثة، المجتمع المدني) مفاهيم غربية لها تطوراتها كونها من نتاج اوروبي أولاً . ولان العقل التراثي يربط بين نتاج التجربة الغربية وبين الكفر الاعتقادي وبينها وبين العدوان الاستعماري، ولان التجربة الغربية في ممارستها الانتدابية بعد الحرب الأولى على العالم الإسلامي قد مارست التصادم بدل التعاون وتعطيل التنمية والاستلاب والمواجهة العسكرية وعلى خلفية التضاد الحضاري المرتبط بالدين فان الوعي التاريخي ينفر تماما من التجربة الاوربية، إضافة الى ان المستقر في الذهنية العربية والمسلمة من ان الغرب مصدر العدوان على الشعوب الاسلامية

ومن جهة السلوك المتعصب نجد ان من أبرز دوافع اليمين الاوربي (فرنسا: إنموذجا)، واليمين الأمريكي الإنجيلي في ممارسة الحرب على العالم الإسلامي هو الدافع الحضاري المتضاد فيكون الامر استحالة بناء علاقة سلمية مع الغرب، والمحصلة انه لا الغرب يساعد الناس في الشرق الأوسط من خلال سياسات الشراكة الدولية المتكافئة على اجراء التفكيك بين التقدم المنهجي والمعرفي والحصائل الإيجابية للتجربة الغربية وبين السياسات الاستعمارية، ولا العالم العربي يستطيع ان يكتشف مشروعه النهضوي حتى لا يحتاج الإنجاز الغربي (التقني والمعرفي والمنهجي) ولا يفصل بين التضاد الديني والنزعة الاستعمارية قديمها وجديدها في تصوره عن الغرب.

وهناك اتجاه ثالث يحاول الخروج من قهريات هذين الاتجاهين الى مركب ثالث: وهو ان الظواهر الاجتماعية (الدينية /الاقتصادية /الاجتماعية) لها قوانينها المركزية ككل حركة في هذا الكون للاعتقاد بان الكون بأجزائه وحركته يخضع لقوانين السببية، وكثيرا ما تتشابه الأسباب وتتكرر المسببات، وبتشابه الأسباب تتشابه النتائج وبتكررها تتكرر النتائج – فهناك إذن حزمة ثابتة من قوانين الفعل التي تحدد مخرجاته وتعمل في صلب او في مركز الحركة الاجتماعية التاريخية، وهذا هو القدر المقبول في تنظيرات هيجل وكارل ماركس(6)، وهذه الأسباب ربما تتحد بالنوع وتتفاوت في الرتبة فتتفاوت النتائج تبعا لها، وقد تختلف حتى في النوع وهو نادر لان الأفعال والاستجابات بإزاء التحديات تدخل في اطار النمطية الفطرية للإنسان، فالاختلاف يقع في نوع عوامل التحدي ورتبتها، اما تفاوت الردود والاستجابات فستكون تبعا لها، واظن ان ذلك التصور ناتج عن قوانين فيزياء الحركة الاجتماعية أي وجود قوانين ثابتة وهامش متغيرات الى جانب ذلك فان هذين الاتجاهين حصريان في اعتمادهما على حزمة محددة من عوامل التفسير، بينما الحركة الاجتماعية متسعة لأكثر من حزمة من عوامل التفسير، لذلك فان الذي هو اقرب للقناعة في تفسير الظواهر هو الإقرار بوجود(قوانين سببية مركزية ثابتة)، وان التموضع في تلك الظواهر يعتمد على نوع الاسباب ودرجتها الى جانب هوامش فاعلة لكنها متغيرة فالعلاقة بين الوحي والعقل والعقلانية مثلاً يحكمها قانون من الصعب اكتشاف نقطة التوازن فيه، فاذا كانت مهمة الوحي والانبياء والشرائع العمل على تأهيل الانسان لكي يؤدي مهامه الاستخلافية في الأرض كما نصت عليه آيات القرآن فالأديان اذن عبارة عن نظريات في الأطر العامة والكليات المؤسسة (فما وجد فيها من التفاصيل في النصوص فهو نافذ وما كان من المبادئ العامة والكلية فان بوصلة التفكير العقلي وما حصل من استنتاج عقلي قاطع ايضا فهو حكم قطعي لا مجال بعد ذلك لرده، لان النص من عند الله الذي هو في عقيدة الاسلام سيد العقلاء والمحيط المطلق بمكنونات الأشياء ويستحيل ان يتضاد مع العقل).

لقد ظهرت هذه الجدلية في زمن مبكّر من أزمان حضارتنا حين طرح المفكرون المسلمون نظرية التحسين والتقبيح العقليين التي استند فقه المصالح وفقه المقاصد عليها كما تأسس عليها أصل الاستحسان وسد الذرائع وفتحها، والاحكام المؤسسة على البراءة العقلية والاحتياط العقلي وأبحاث الملازمات العقلية المستقلة(7) ثم حصل التطور الذي اعقب ذلك عند ابن رشد في ان الحكمة والشريعة مرجعيتان لا يتصور تضادهما فكلاهما مصدر لاكتشاف الحقيقة الكونية وان اختلف المنطلق والمسار(8)، واني اظن انه لو لم يقف الابداع الفكري للمسلمين بعد ابن رشد ولو تراكمت منطلقاته على فصل الخطاب لاستطاع العقل العربي ان يكتشف مشروعه النهضوي الجامع بين اشتراطات الوحي وضرورات العصر، و بين مساحة العقل في التأسيس النظري والعملي للرؤية المتوازنة لتطور المجتمع الإسلامي المنسجم مع تجارب التقدم الإنساني بعامة.

على ذلك فانه: لا يصح- بناءً على هذا التصور نقل تجربة اوربا للشرق الأوسط والعالم الاسلامي لاختلاف عوامل الصيرورة او لتفاوت درجة تلك العوامل حتى مع افتراض التناظر بينها، كما لا يصح الاغفال القسري والمتعمد لتجارب الشعوب لوجود حزمة من القوانين الثابتة لأي حركة في أي مجتمع بوصفها قوانين جوهرية تخص صلب عملية التحولات الاجتماعية في أي مجتمع من المجتمعات لاعتبار حزمة القوانين الفاعلة وان كانت متغيره، وكمثال على ذلك ا لجهد العلمي المبذول لتحقيق التقدم الإنساني في مجالات الحياة في الوسط المسيحي في اوروبا، والجهد المبذول في الوسط الإسلامي الذي دار حول العلاقة الجدلية بين النص الديني والعقلانية، والنزعة النقدية، او بين قداسة النص فلقد تعددت المواقف بإزاء هذه الجدلية الإشكالية المتقادمة تاريخياً مع التذكير بان الفكر الاسلامي قد تحسس هذه الإشكالية تحسسا مبكرا وبذل لأجلها جهودا تنظيرية عميقه ومتواصلة، ومن ذلك ما عرف من اراء على مستوى العلاقة بين النص ومعطياته والاجتهاد ومعطياته والدائرة المتاحة لكل منهما(9) ولقد تبلور عن تلك التنظيرات اتجاهات منهجية متعددة

الاتجاه الأول: ظهور اتجاه مبكر يتبنى نظرية معرفية مستلة من منطوق النص فقط، ويوجب على المؤمنين به الاعتراف بقراءة واحدة لذلك النص رغم أنه نص متعدد الدلالات، ويميل هذا الاتجاه الى ان مالم ينص على واقعة من الوقائع نص فالحكم فيه اما المنع اوالتوقف حتى يرد الدليل على الجواز، والنماذج المبكرة لهذا الاتجاه هم عبد الله بن عمر ومفكرو الخوارج عقديا، والحنابلة رواية والظاهرية فقها، وامتدادات هذه الاتجاهات التي استمرت حتى يومنا هذا وان حصل فيها قدر من التعديلات على مسارها وتطورها الفكري.

الاتجاه الثاني: هو اتجاه يتعامل مع النصوص على انها في الغالب قواعد كليه وأطر قيمية موجهة، وتتساوى فيها مجموعة من الدلالات المتعددة في النص الواحد من جهة مشروعية الاستنباط فالاختيار في العمل بها يتم بين الراجح والأرجح والصحيح والاصح بحيث يفسح المجال لإجتهاد يستند الى تعدد الدلالات حتى يستوعب المستجدات والتطورات الزمانية ويتسع لتعدد الآراء والمواقف.ويلجا فيما سكت عنه النص الى العقل والمقاصد اللذين لهما الامكان على ادراك المصالح والمفاسد من خلال متعلقات الأحكام وان كان ذلك في نطاق الاحكام الظاهرية وهو اتجاه يطلق عليه بالفرق العدلية (الاجتهاد والعقلانية).

الاتجاه الثالث: يعتقد ان النص جاء مرتبا لأوضاع تاريخية في القرن السابع الميلادي وقد طور النص الديني العقل البشري للاجيال حتى إذا تمكن عقل الانسان من الرشد الحضاري خوله النص نفسه باعتماد النظم الاجتماعية التي تؤدى الى سعادة الانسان، فانجازات الفكر الإسلامي تراث فكري وهذا الذي نعيشه هو انعكاس لعصور انتاجه (10).

ويمثل امتداد الاتجاه الأول ما يطلق عليه بالسلفية العقدية وفروعها، ومنها السلفية القتالية، ويمثل الاتجاه الثاني التنويريون الإسلاميون على مختلف قراءاتهم المتفاوتة في الدرجة وليس في النوع، ويمثل الاتجاه الثالث حاليا الاغتراب الفكري والقوى العلمانية التي تضم الى جانب هذه الرؤية تأثرها بالتجربة الغربية العلمانية بعد القرن الثامن عشر الميلادي

الجذور الفلسفية للعلاقة بين النص الديني والعقلانية:

ان جذور هذه الإشكالية في العلاقة بين الوحي والفكر الفلسفي الإنساني قديمة ومبكرة وكانت على اتجاهات أربعة:

الأول: اتجاه الفيلسوف الكندي المبكر زمنيا، والذي يرى ان الفكر الفلسفي خادم للشريعة، ووظيفته ان يقوم بصناعة البرهان لتصديق مقولات الشريعة، وبهذا يكون الفكر الفلسفي أقرب الى علم الكلام وان كان الكندي يرى ان منطلقات هذا الفكر تبدأ حرة مستقلة لكنها تهدف الى نقل الحقائق الشرعية من نمط الدليل الخطابي الى الدليل البرهاني (11).

الثاني: إتجاه الفارابي الذي يرى ان مقولات الوحي هي (المثالات الفلسفية وان الشريعة هي التطبيق الاجتماعي لتلك المقولات فيقول (ان ما في الملة هي مثالات لِما في الفلسفة سوى ان الادلة العملية خطابيات وجدليات لكنها تعبر عن الحقائق المثبتة بالبرهان)(12).

الثالث: اتجاه ابن سينا والذي يرى ضرورة دمج الفلسفة في ثنايا الشرع ودمج الشريعة في النظر الفلسفي وقد (استند محمد عابد الجابري على رأي ابن سينا فعده المؤسس للالتجاه العرفاني الذي تسبب في ضمور النزعة البرهانية في العقل العربي، وعد رسائل اخوان الصفا تراكمات علمية على أسس ابن سينا (13)

الرابع: اتجاه ابن رشد: ويرى ان الحقائق الكونية المادية والإنسانية والفكرية حقائق ثابتة وازلية وان لاكتشافها فرعان: فرع الوحي (الشريعة) وفرع الحكمة (الفلسفة) وهذان الطريقان وان اختلفا في المنطلق والمسار لكن مع صحة الاستدلال فيهما سواء أكان الشرعي ام العقلي وسلامة المنطق فانهما سينتهيان الى موقف واحد، وإكتشاف واحد للحقائق، ولأنهما – معاً - يؤديان الى اليقين، وحيث هما كذلك فلا يتصور بينهما حصول التناقض او التضاد، وعليه فالنظر البرهاني لا يخالف الحق ولا يؤدى الى مخالفة الشرع فالحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له. (14)

ونكرر هنا: ان لو كان مشروع النهضة قد تأسس على الرشدية فقد كان من الراجح ان يصل الى صياغة موقف متوازن بين الشرع والحداثة والعقلانية، ويؤيد ذلك مايراه اكثر من باحث من ان الرشدية كانت عاملا فكريا مهما في الموجة التنويرية الاوربية، لكن بزوغ الرشدية عندنا كانت على اعتاب بدء زمن التردي في منتجات الحضارة الإسلامية فتاريخ وفاة ابن رشد (595 هـ - 1198 م) هو الزمن المقارب لذروة افساد حضارة القرن الرابع الهجري ذلك الافساد الذي أدى الى سقوط بغداد 656 هـ - 1258 م والذي سبقه تحريم الشهرزوري ت (643 هـ)للفلسفة والمنطق وغلق الاجتهاد، ولأنه لم تظهر بعد الرشدية نظرية نهضوية تجمع بين مفاهيم التحديث والعقلانية ومسالك الاستنباط التنويري من النص اذ القرون الخمسة التالية على سقوط بغداد كانت قرون الحواشي والشروح والمطولات على المتون الإبداعية التي انتجتها القرون السابقة، ثم جاء زمن اختصار الحواشي والشروح التي سميت بـ (المختصرات) والاراجيز الشعرية التي جمدت المعرفة في قوالب التلقين (15)وقد اسلم هذا الوضع الفكري العالم الإسلامي بعد خمسة قرون الى عصر المواجهة مع الغرب في أواخر القرن التاسع عشر فواجه الغرب وهو مثقل بالمعرفة (المنتجة قبل عدة قرون) حتى بانت الفاصلة التاريخية بين الفكر العلمي المنتج في مطلع القرن العشرين الميلادي وبين الواقع الفعلي لمشكلات الواقع في بلدان المسلمين فلم تعد المعرفة الاستنباطية تعبّر عن الواقع القائم في اشكالياته وعلاجاته فسميت هذه الفاصلة بالفجوة المعرفية بين الواقع ونظم المعرفة الاسلامية ومكوناتها، في وقت جاء الغرب متدرعا بالنواتج المعرفية الجديدة والمنهج المطّور والتقنية المتقدمة ودخل في مواجهة مع مجتمع تخلفت معارفه عن واقعه الفعلي فكانت خسارة العالم الإسلامي لمعركته مع الغرب حالة منطقية، لاسيما اذا عرفنا ان الدراسات الاستشراقية كانت قد وفرت للغرب خارطة تفصيلية عن الثغرات الكبيرة الفاصلة بين العقل الإسلامي والواقع الفعلي، ومع تخلف التراث الموروث عن الواقع الفعلي آنذاك فقد جاءت اوربا برؤيتها التبشيرية عن العلمانية بوصفها المنقذ من التخلف في عالم المسلمين كما نجحت في انقاذ اوربا من التخلف الكنسي فانتشرت فكرة العلمانية في العالم الإسلامي كطريق من طرق تفكيك ازمة التخلف.

فما هي العلمانية وما مراحلها وما الخلاف في توجهاتها؟ وهل تصلح مشروعا نهضويا في العالم الاسلامي؟

لعل مفهوم العلمانية من المصطلحات او المفاهيم التي أصابها لبس فكري كبير وتغايرات في التوصيف العلمي وذلك اما من جّراء تموضع الظاهرة كما تقدم او من تداعيات الترجمة فهناك من يرى انها ترجمة لكلمة (secularism) أي النمط العلمي في إدارة الحياة بعيدا عن التوجهات الماورائية الغيبية سواء اكتسبت قداسة دينية ام لم تكتسب، ويرى آخرون إنَّها نسبة الى العالم المادي بما يقابل الروحي والكهنونية والاكليركية أي أَنْ تدار المجتمعات في ضوء قوانين الطبيعة وقوانين الاجتماع الإنساني(16) أي ان ترجمة العلمانية (هي الدنيوية) أي إقامة الحياة على العلم الوضعي والعقل ومراعاة المصلحة واللادينية في الحكم. وعلى الترجمة الاولى: يعلق الشيخ محمد مهدي شمس الدين بالقول (ليس هناك انسان عاقل يمانع في تسيير حياته بما وفره العلم ولأجله لامعنى لتسمية دولة بانها علمانية لأنها تستخدم منجزات العلم فحتى دولة الفاتيكان على هذا التوصيف دولة علمانية، ثم يستنتج ان حقيقة المصطلح يعني ان مرجعية السلطة السياسة والتشريعية خارج الفكر الديني مطلقا) (17) .

وفي مدى العلمانية هناك قراءات منها مالا يتعامل مع الابعاد المعرفية الكلية الشمولية أي لم تتحول عنده العلمانية الى فلسفة كونية، انما تبقى رؤية إجرائية سياسية يتوقف فيها اسناد السلطتين التشريعية والسياسية للبلدان على الإرادة الحرة للناخبين، وهذه الوجهة لا تنكر وجود مطلقات او كليات أخلاقية او غيبية او لكنها لا توظفها ولا تستمد منها الشرعية ولا تجعلها مرجعية لها (18)

وقراءة ترى ان نشأة العلمانية وماهيتها انها رؤية كونية مادية شمولية تتعارض تماماً مع الدين وتحاول التشكيك بكل القيم السماوية المطلقة وانهاء اثارها على المجتمع، وهناك تصورات لهذه الرؤية منها ما ينكر انها متتالية تاريخية تتحقق في كل المجتمعات، انما ظهرت في اوربا بشكل حصري فلانها في اوربا كانت المصداق الاسبق فقد حفز تعسف سلطة الكنيسة وتطرفها بتكفير العلم والحداثة فجاءت حلاً لازمة الصدام بين سلطة الكنيسة والسلطة الزمنية التي تبنت العلم والعقلانية الواقعية، وقد ابتنت عليها الثورة الفرنسية والامريكية والثورة الصناعية وكانت مقدمة لموجة الحداثة – وما بعد الحداثة وصولاً الى العولمة والموجة الرقمية فهي لا ترى ذاتها قانوناً مجتمعياً وحتمية تاريخية تحصل عند اتباع الأديان كافه بعد اصطدام العقل بتفسير النص. مقابل من يرى انها قانون كوني وحتمي لابد ان تمربه كل المجتمعات

وبحسب الإنجاز الأوربي فقد قدمت العلمانية نفسها بأنها الرؤية الارقى وأنها المحقق لحلقات التقدم التقني، وانها نهاية التاريخ لكن الذي نعتقدْه ان عدة عوامل أنجزت التقدم ربما تكون العلمانية هي من بينها، او من أفضل عوامله ولكنها قدمت الى الفكر الاسلامي بدرجة من الشمولية والتعميم الفلسفي على انها علة التقدم، ولم تقدم على انها الغطاء الأيديولوجي الموظف لنمط السيطرة الغربية على العالم فكرياً وسياسياً وعلمياً كقراءة لتأسيسات (جون هوليوك 1817-1906) الذي يرى ان العلمانية هي (الايمان بإمكانية اصلاح حال الانسان من خلال الطرق المادية دون التصدي للأيمان بالله سواء بالقبول او الرفض) (19) وهذا التوصيف يفترض الحياد. لكن الذي حصل فعلاً انها لم تمارس الحيادية التي وصفها هوليوك من جهة، وظهر انحيازها للمعايير القيمية الدنيوية من جهة اخرى لتأكيد قضية عزل الدين تماماً عن الاسهام في ادارة الحياة وفي صياغة الانسان والمجتمع.بل ان انحيازها الى اعتماد معيارية القيم المادية جعلها تقدم نفسها جزءاً من رؤية كونية شمولية، تتوسل بعقلانية متطرفة غير مرنة وآداتية إقصائية ترفض المرجعيات الاخرى، وتعبر هي عن نزعة أصولية راديكالية تبدو في كثير من الأحيان اكثر تأزماً من الراديكاليات الدينية فالعلمانية بهذا المسلك لا تتجسد في النشأة السياسية كبوابة للتقدم فقط لكنها تتداخل في المجالات الانسانية الأخرى كأنها الضد النوعي للفكر الديني وتنمو فيها راديكالية اقصائية عنيفة كما تنمو في داخل التيارات الدينية السلفية. وبهذا لا تقدم العلمانية كونها رؤية وليدة للغرب وناتجة عن ظروفه التاريخية وهي بالنسبة للعالم الاسلامي فكر مستورد مفروض على المجتمع الاسلامي لاسيما على النخب الحاكمة المتحالفة مع الغرب منذ تأسيس الدولة العلمانية بعد معاهده سايكس – بيكو، انما قدمت نفسها بوصفها رؤية فلسفية لبناء الدولة وإدارة المجتمع على أسس علمية لكنها عندما طبقت في العالم العربي نتج عنها فشل المشروع التنموي على مدى قرن، واقترنت معها ممارستها القمعية ضد حقوق الانسان فصارت مثالاً لارهاب الدولة وفشلها في تحقيق الحداثة الحقيقية، فتساوت مع الاصوليات الدينية من حيث المحصلة حتى فقدت الممارسة العربية الاسلامية للعلمانية مصداقيتها التاريخية، بل ساهمت في زيادة المآساة في مجتمع طحنه الغرب المبشر بالانموذج المادي والمتطلع الى نهب ثرواته. ولعل مراجعة تاريخية سريعة لبعض التجارب العلمانية في العالم الاسلامي يكشف عن فقدانه المصداقية التاريخية لها وسنرى ذلك بعد قليل في استنطاق تجاربها.

لقد صيغت العلمانية على انها نتاج تحولات عالمية قربت العالم مع بعضه من ناحية التاريخ والمسارات العامة في الاجتماع والتقدم فهي رؤية للعالم كله وان نشأت من تحولات (سبقت في اوربا) اما التحولات التي حصلت في غير اوربا والتي ستحصل فلا صلة لها بالصيرورة العلمانية الاوربية انما لها صلة بالمنطق الذي يحكم العلاقة بين الدين والعقلانية كما يرى أصحاب هذه النظرية.لكن الذي يجب ان نتامل فيه ان مسيرة التاريخ وان كانت سلسلة متراكبة لكنها ليست بالضرورة متكاملة من العمليات الاجتماعية والمعرفية، وغيرها من ميزات المرّكب التاريخي وعلينا ان ندرك، ان التزام المسلمين بالحقوق والحريات المدنية يعد التزاما منهم باحترام الفكر الانساني فلم نجد فيه على مدى قرون تصادماً بينها وبين حقائق الشريعة،وليس التجربة السياسية الاسلامية لانها وقعت في إشكالات كثيرة ولم تفرض الشريعة حجراً على العقلانية كطريق لاكتشاف المعرفة وصنع السياسات، كما انه لاشرعية لسلطة لم تتشكل بموجب الارادة الحرة في النظرية الإسلامية (القرآن والصحيح من السنة الشريفة) لذلك يعتقد. حسن حنفي ان جوهر الحقائق في العلمانية متحقق في الرؤية التنويرية الاسلامية فاعتماد المسلمين على العلم والعقلانية يمكن ان يتم في ظل القيم الدينية الانسانية الرفيعة ومبدأ المساواة حاصل إذا قرأنا الاسلام من منظور انساني وان مبدأ الاجتهاد عند المفكرين المسلمين لا معنى له إذا لم يتبنً الروح النقدية الموضوعية لكل الفكر سواء كان تراثياً او وافداً ولكن على منظور المنهجيات الإنسانية المبرهنة.

فالعلمانية -اذن في الواقع الاسلامي-ليست مشكله فكريه وليست تحدياً جوهرياً على مستوى الدين ولا على مستوى السياسة ولا على مستوى المجتمع.لان في الاسلام مزجاً باحكام بين الديني والدنيوي، وبين العلم والعقيدة، وليس فيه ازدواج في السلطة الدينية والدنيوية فالسياسيون مجتهدون في صياغة السياسيات التي تطبق في ظل القيم الإنسانية وتجري طبقاً لها تطبيقات المعرفة العلمية الان والتكنوقراط المسلمون ليسوا ضد الدين، كما ان علماء الدين ايضاً ليسوا ضد الحقيقة العلمية، فاذا عرف التكنوقراط ان لهم منهجا استدلاليا يؤخذ منهم ويرد عليهم تعاملوا معه برحابة صدر، كما ان الفقه وأحكام العقيدة ليست مجموعه أسرار وطلاسم اذ هي عرضة للحوار والنقد وعندئذ فانهم سيشاركون باكتشاف الحل للمشكلات الاجتماعية.واذا كانت العلمانية تقدم نفسها بوصفها فلسفة للتقدم فان تجارب عالميه متقدمة كانت قد احترمت التراث الديني وتقدمت تقنيا، فاليابان مثلا ودول جنوب شرق اسيا وكذلك الصين والهند كلها تجارب علمانية ناجحة على اختلاف منهجها لكنها تشترك في احترام التجربة الدينية فكان التقدم حصيلة فعل الانسان ووعيه الديني والتاريخي والسعي لإقامه مجتمع المعرفة دون اقصاء الدين.

إنَّ قراءة علمية للإسلام، وقراءة متوازنة لتجربة العلمانية في الغرب يمكن أنْ تقدم مشتركا فكريا، وحلاً للخصومة التاريخية بين الإسلاميين والعلمانيين، ويمكن أنْ تصنع التقدم والعقلانية والديمقراطية وكرامة الانسان والتعايش السلمي وتؤسِّس لشرعية الاختلاف واحترام الأخر على اسس الموضوعية وليس على ثقافة الاتهام، وقراءة كهذه يمكن ان تحقق الاهداف التي يتم اعتماد العلمانية لتحقيقها دون استلاب للهويه الحضارية ودون إحداث القطيعة مع التراث الديني المشرق ودون حصول ازدواج وتضارب بين الحاضر والماضي.

واجابة على سؤال الاتجاهات العلمانية حول كون التراث الفكري الإسلامي هل يصلح اساساً للمشروع الإسلامي للنهضة؟ والجواب ان الافكار في التراث على ثلاثة انواع افكار حيه مستمرة في الاسهام الفاعل بمشروع النهضة وافكار ميته أنتهى دورها، وافكار قاتله، والرؤية النقدية كافيه للفرز بين هذه الأنماط من الافكار واحياء الأفكار العظيمة التي بها تحققت اهداف المشروع النهضوي، فان دعم القراءة التنويرية للإسلام والتخلص من الاستتباع الحضاري لاوربا هو المنقذ للخروج من مأزق الارتباط بالغرب، فعلى الاسلاميين ان يراجعوا عصور استخدام العنف الصادر (من السلطة او من المجموعات المتشددة) في ثقافة تجربتهم كما ان على العلمانيين مراجعة استخدامهم العنف في العصر الحديث تحت مظلة العلمانية لتطبيق فلسفة اللاعنف ولابد من مراجعة فشل المشروعات التنموية في العالم الإسلامي ومراجعة الأسباب التي دفعت بالدعاة الإسلاميين لكي يتحولوا من دعاة سلميين ومتسامحين الى عصابات قتل وتدمير ومجموعات متشددة لا تملك مشروعاً للانسان. وإذ كنا نعتقد أنَّ العلمانية شرط للحداثة في اوربا، فانها ليست شرطاً للحداثة في العالم الإسلامي ونرى أنَّ التنوير الاسلامي شرط للحداثة في العالم الاسلامي، وإنها شرط للديمقراطية في اوربا في حين ان التنوير يعني الفهم الإيجابي القويم للنص الديني فيكون شرطاً لتجربة متقدمة في الشورى في بلدان العالم الإسلامي وعلمية. واعتقد ان الموجه الفكرية التنويرية في عالمنا لها من الامكان ان تجدد ذاتها بتجديد التراث الفكري برمته وان على القوى العلمانية ان تقبل اسلمة الحداثة على اسس برهانية وصارت معرفة متداولة . ودخل على التصوف مد تصحيحي قدمت فيه تعاليم نظرية لدعم الممارسات وكان جلال الدين دواني قد احيا فلسفة نصير الدين الخواجة وعلق على فلسفة السهروردي فصارت الثقافة العقلية مركبة من (المشائية نهج ابن عربي وتنويرية السهروردي)

وظهر صدر الدين الشيرازي صاحب الاسفار والحركة الجوهرية، وفلسف حيدر املي تعاليم اهل البيت ووصفها بلائمه الكمال النهائي لقد وفر الملا صدرا ثيولوجيا اماميه مندمجة مع الاطار الفلسفي، ثم نجد عملاقا اخر هو الشيخ البهائي العاملي (ت 1622م) الذي كان الى جانب كونه فقيها كان عالما بالفلسفة والتصوف ومتادبا بالشعر العرفاني ثم مهندسا معماريا لكن هذه الحداثة قوبلت كاي تجديد علمي وفكري بمعارضة، فظهر الحر العاملي (1111هـ) في كتابة (الفوائد الدينية في الرد على الحكماء والصوفية) لقد كان ذلك الإنجاز المعرفي المهم قاعدة فكرية للانطلاق نحو افق ارحب للمعارف والعلوم والفكر الإسلامي المنطلق مع التأمل والبرهان معا

***

الأستاذ المتمرس

د.عبد الأمير كاظم زاهد

.................................

توثيقات البحث

سامي زبيده: الشريعة والسلطة في العالم الإسلامي 135

عبد الوهاب المسيري: إشكالية التحيز رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد 1/271

محمد مهدي شمس الدين: العلمانية 27

برنارد لويس: صدام الإسلام والحداثة ص 126

عادل ضاهر: اللامعقول في الحركات الإسلامية 73

كارل ماركس: رأس المال ترجمة فالح عبد الجبار ظ 17 ص 115

حمد الكبيسي: أصول الاستنباط ص 77، ظ كذلك: السيد محمد تقي الحكيم: الأصول العامة للفقه المقارن ص 361

ابن رشد الحفيد: فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال تحقيق محمد عماره 37

محمد احمد شريف: فكرة القانون الطبيعي عند المسلمين ص 61

محمد عابد الجابري: نقد العقل العربي (البنية والتكوين) جـ 1 ص 259

حسام الدين الالوسي: فلسفة الكندي ص 351

الفارابي: المدينة الفاضلة، ظ محسن مهدي: الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلامية 239

محمد عابد الجابري: نقد العقل العربي (البينة والتكوين) جـ 1 ص 259

ابن رشد: فصل المقال، مصدر سابق ص 38

د.عبد الأمير زاهد: ازمة المشروع الحضاري، الصيروره واشكالية المنهج، بحث في اعمال المؤتمر الفلسفي العربي الثاني (بيت الحكمة) آذار / 2001 ص 120

المسيري: إشكالية التحيز 1/272

محمد مهدي شمس الدين: العلمانية ص 28

المسيري: إشكالية التحيز 1/273

 

ماهية الفلسفة: الفلسفة هي أساسًا عملية معرفية تبدأ بالتساؤل عن الوجود، الحقيقة، القيم، والمعنى.  يحدث هذا عندما يكون الهدف من المعرفة هو اليقين المطلق لا التساؤل المستمر. إن رؤية الفلسفة على أنها "حب يقيّد" قد تأتي من الشعور بأنها تفرض قيودًا على طريقة تفكيرنا، أو أنها تحصرنا في إطار من التساؤلات اللانهائية دون الوصول إلى إجابات نهائية. يشعر البعض بأن التفكير الفلسفي يمنعهم من العيش ببساطة، ويجعلهم يحللون كل شيء، مما يؤدي إلى الشعور بالثقل بدلًا من الحرية أما أنها "طموح يلتهم القلب" فيمكن أن يكون نابعًا من أن السعي الفلسفي لمعرفة الحقيقة والوصول إلى المعاني العميقة قد يصبح شغفًا لا يشبعه شيء، تاركًا إياه في حالة من البحث المستمر. الغرورً هو الجانب الذي يجعل الفلسفة وسيلة للشعور بالتفوق الفكري والمعرفة هنا تُستخدم كقوة اجتماعية أو أداة للتلاعب، وليست وسيلة للتأمل يعمي الفرد عن حقيقة أنه مهما بلغ من معرفة، هناك دائمًا ما يمكن تعلمه. الغرور يمنع الفرد من الاستماع إلى وجهات نظر الآخرين أو الاعتراف بنقاط الضعف الفكرية، مما يعوق التطور المعرفي.

الفلسفة بحث لا نهائي

هذا الوصف يعكس الجانب الذي فيه تصبح الفلسفة طموحًا لا ينتهي أبدًا، بحثًا مضنيًا عن المعنى، لدرجة أنه يستهلك الفرد نفسيًا وعاطفيًا. قد يقضي الفيلسوف حياته في محاولة حل ألغاز الوجود، دون أن يصل إلى إجابات نهائية، مما يؤدي إلى الإحباط أو الشعور بالعبثية، هذا المأزق يحدث عندما لا يوجد توازن بين التساؤل الفلسفي والحياة الواقعية. المعرفة تصبح غاية في حد ذاتها، وليست وسيلة لتحسين فهم الفرد لحياته أو علاقته بالعالم. الفرد يطمح للوصول إلى كل المعارف، وهذا الطموح يلتهمه، لأنه لا يدرك أن المعرفة الحقيقية تكون في قبول حدودها، وفي الاستمتاع بجمال التساؤل بحد ذاته دون الحاجة إلى الوصول لليقين المطلق، يمكن القول إن الفلسفة بحد ذاتها ليست سلبية، بل إن طبيعة العلاقة المعرفية التي يختارها الفرد معها هي التي تحدد تأثيرها. عندما تكون هذه العلاقة متوازنة، تصبح الفلسفة مصدرًا للنضج الفكري والتحرر. أما عندما يختل التوازن، تتحول المعرفة إلى قيود، أو غرور، أو عبء لا يطاق، الفلسفة ليست فرضًا إلزاميًا على الإنسان، بل هي مسار معرفي يختاره الفرد بإرادته الحرة. لا يولد أي إنسان وهو فيلسوف بالضرورة، بل يختار التفكير الفلسفي عندما يبدأ في طرح أسئلة جوهرية عن الوجود، المعنى، الحقيقة، والغاية. هذه الأسئلة تنشأ من تجارب الحياة، أو من الفضول، أو من الرغبة في فهم العالم بشكل أعمق، هذا الطابع الطوعي يمنح الفلسفة قيمتها الحقيقية، لأنها نابعة من دافع داخلي للبحث عن الحكمة لا من ضغط خارجي. بمجرد أن يبدأ الإنسان في هذه العلاقة الطوعية، تتحول الفلسفة إلى تجربة تُغني حياته بشكل عميق. إنها ليست مجرد دراسة نظرية، بل هي ممارسة عملية تُثري الفكر والروح، الفلسفة تُنمي مهارات التفكير النقدي، والتحليل المنطقي، والقدرة على صياغة الحجج. تجعل العقل أكثر مرونة وقدرة على فهم القضايا المعقدة من زوايا متعددة، الفلسفة تساعد الإنسان على فهم ذاته ودوافعه، وتُعينه على تحديد قيمه الشخصية وتشكيل رؤيته للحياة مما يؤدي إلى حياة أكثر وعيًا وانسجامًا، الفلسفة هي دعوة مفتوحة لكل إنسان يختار الاستجابة لها. لا تُجبر أحدًا، ولكنها لمن يقبل دعوتها تقدم ثروة لا تُقدر بثمن من المعرفة والوعي. العلاقة بين الإنسان والفلسفة هي مثل علاقة الفنان بفنه، تبدأ باختيار شخصي (طوعية)، لكنها تتحول بمرور الوقت إلى مصدر إلهام وإثراء لا غنى عنه للحياة. الفلسفة ليست تخصصًا منفصلاً عن الحياة، بل هي أداة للتفكير تكمن في صلب كل العلوم والتخصصات الأخرى كل علم يعتمد على أسس فلسفية. على سبيل المثال، يرتكز المنهج العلمي على فلسفة المعرفة (الابستمولوجيا)، وتعتمد أخلاقيات الطب على الفلسفة الأخلاقية. بدون الفلسفة، ستكون هذه العلوم مجرد تطبيقات بلا عمق أو توجيه أخلاقي، الفلسفة تعلمك كيفية التفكير النقدي، والتحليل المنطقي، وكيفية صياغة حجة متماسكة. هذه المهارات ليست مضيعة للوقت، بل هي ضرورية في أي مجال، سواء كان علميًا، مهنيًا، أو حتى في الحياة الشخصية، الفلسفة هي الوسيلة التي نستخدمها لفهم قيمنا، معتقداتنا، وموقعنا في العالم. تساعدنا على الإجابة على الأسئلة الكبرى التي لا تجيب عليها العلوم الطبيعية، مثل "ما معنى الحياة؟" أو "ما هو العدل؟، المنطقي من منظور سطحي أن تعتبر الفلسفة مضيعة للوقت إذا كان الهدف هو الحصول على نتائج فورية وملموسة، لكن من منظور أعمق، فإن تجاهل الفلسفة هو تجاهل للأداة التي تمكننا من فهم أنفسنا والعالم، وتجاهل للأسس التي تُبنى عليها كل أنواع المعرفة الأخرى.

المثقف وتجاهل الفلسفة

قد يكون الموقف الذي يتجاهل الفلسفة عجزًا من جانب، وانصرافًا نفعيًا من جانب آخر، عندما يرفض المثقف قراءة الفلسفة بحجة أنها "مضيعة للوقت"، فهذا يعكس في الغالب انصرافًا نفعيًا. هذا النوع من التفكير يرى أن المعرفة يجب أن تكون لها فائدة مباشرة وملموسة. في عالم يقدّر الإنتاجية والنتائج الفورية، يرى المثقف أن الفلسفة، التي تُركز على التساؤلات المجردة بدلاً من الحلول العملية، لا تتناسب مع متطلبات الحياة المهنية أو الإبداعية التي يُفترض أنها تتطلب السرعة والكفاءة، يمكن أن يكون هذا الموقف علامة على عجز أو قصور في الفهم. هذا العجز لا يتعلق بالذكاء، بل يتعلق بالرغبة في مواجهة الأسئلة الصعبة. الفلسفة تُجبر العقل على مواجهة عدم اليقين، وتفكيك الأفكار الراسخة، ومواجهة التناقضات. قد يكون هذا مرهقًا لبعض المثقفين، الذين قد يفضلون البقاء في منطقة الراحة الفكرية التي توفرها تخصصاتهم. الفلسفة تهز قناعات المثقف حول موضوع ما، الأسئلة حول الوجود، والمعنى، والحرية تبدو شاقة أو عديمة الجدوى لمن لم يتعود على التفكير فيها، بالتالي فإن تجاهل الفلسفة ليس مجرد موقف نفعي بحت، بل يكون أيضًا تجنبًا واع أو غير واع للمواجهة مع الأسئلة التي قد تُهدد قناعات المثقف، أو تُجبره على إعادة بناء إطاره الفكري من الأساس. هذا التجنب هو نوع من العجز الفكري عن الخروج من دائرة المعرفة المتخصصة إلى رحاب المعرفة الفلسفية الأوسع.

المثقف وخلق المعنى

هل استطاع المثقف خلق معنى لحياته بما يكتب ام ان المعنى أعمق، هذا سؤال عميق يمس جوهر العلاقة بين الإبداع والحياة. إن قدرة المثقف على خلق معنى لحياته من خلال كتاباته هي قضية معقدة، والمعنى غالبًا ما يكون أعمق بكثير مما يمكن أن توفره الكلمات وحدها، يُمكن أن تكون الكتابة عملية لاكتشاف الذات والعالم، حيث يُحاول المثقف من خلالها ترتيب أفكاره وتجاربه ومشاعره. في هذا السياق، تصبح الكتابة وسيلة لخلق معنى من الفوضى، سواء كانت فوضى داخلية أو خارجية. إن صياغة الأفكار في قالب فني أو فكري يُعطيها شكلاً ومنطقًا، وهذا بحد ذاته يُمكن أن يكون مصدرًا للمعنى.

المعنى الأعمق ومحدودية الكلمات

على الرغم من ذلك، يُمكن القول إن المعنى الحقيقي للحياة يتجاوز ما يُمكن أن يُقال أو يُكتب. المعنى ليس مجرد مفهوم فكري، بل هو تجربة معيشة. هو يتجسد في العلاقات الإنسانية، في الحب، في التضحية، في التحديات التي نواجها.

في لحظات السكون التي نجد فيها سلامًا داخليًا الكتابة تُساهم في فهم المعنى، لكنها لا تخلقه بالكامل. هي وسيلة لتأطير التجربة، ولكنها لا تُعوض التجربة نفسها، المعنى الحقيقي غالبًا ما يكون في الفعل، في كيفية عيش الإنسان لقيمه. إذا كان المثقف يُنادي بالعدالة في كتاباته، فالمعنى الحقيقي لا يكمن في الكلمات، بل في كيفية تطبيقه لهذه القيم في حياته اليومية، يمكن أن تكون الكتابة أداة قوية للمثقف في سعيه نحو المعنى، ولكنها ليست المعنى كله. فالمعنى الحقيقي هو تفاعل معقد بين ما يُكتب وما يُعاش. في خضم هذا الشغف، والطموح لفهم الأسئلة الوجودية الكبيرة يمكن أن يقود إلى البحث عن المعرفة، مما يجعله عرضة للإرهاق العاطفي. السعي وراء فهم عميق يُشعرهم بالقلق من عدم وجود إجابات مرضية، لان الفلسفة ليست فقط وسيلة لفهم العالم، بل هي أيضًا أداة قوية للتطوير الشخصي والتغلب على الغرور. من خلال التأمل والتفاعل والتفكير النقدي، يمكن للإنسان أن تتوضح له الرؤيا ليصبح أكثر تواضعًا.

***

غالب المسعودي

 

مع سقوط امبراطورية العقل الكبرى، غادر شيء حاسم من حياتنا بطرق ليست واضحة تماما. هذا السقوط في اللامعنى – العدمية – بأن كل القيم بلا أساس والحقيقة ذاتها بلا هدف او معنى هو في أفضل الأحوال اختراع شخصي وليس اكتشافا ابدا. العدمية لم تهبط  فجأة. بل، انها تسللت جنبا الى جنب مع الانتصارات التي صُممت لتأمين حياتنا: إعلان التنوير عن العقلانية في الحداثة المبكرة بوجه الصدمة التاريخية. كان ذلك بمثابة التأكيد على ان العقل البشري العالمي يمكن ان يكون مرساة لمعرفة و حياة مشتركة . لسوء الحظ، هذا النوع من العقل الذي يوعد بأساس جديد من اليقين كان في النهاية يرتد على ذاته. اكتشافات هذا العصر الجديد لم تستطع تحمّل النقد، كل قيمة عُرضت كشيء طارئ، كل حقيقة جرى اختزالها كنتاج للتاريخ او لعلم النفس او اللغة. نحن جرى تلقيننا لنفهم مذهب العدمية.

فرويد استبدل نظام وعي الذهن بقبو مسكون بالرغبات. كان ذلك عادلا وضروريا ومطلوبا جدا. نيتشه أعلن عن موت الإله وبالتالي اختفاء المرساة الأخيرة والمرجعية المتعالية. هو كان يصف ما حدث عندما فقد الدين قوته. الوجوديون مثل سارتر وكامو حاولوا مواساتنا بحرّية بطولية: اذا كان العالم فارغا من الهدف، نحن سوف نخترعه لأنفسنا. انت وانا والعالم مدعوون لخلق معنى فردي خاص بنا. مع ذلك، حرية خلق المعنى يمكن بسهولة ان تصبح لعنة. المرضى سواء كانوا يستعملون كلمة عدمية ام لا دائما ما يأتون للعلاج وهم مثقلون بالشعور بالفراغ والقلق وعدم القدرة على التعبير عنها بشكل واضح. جميعنا نجد طرقا للابتعاد عن هذا الفراغ. البعض يسعى لمعالجة المشكلة سطحيا عبر اللجوء لبرامج الواقع والإنشغال والاستهلاك والعروض الاجتماعية واللحاق اللامتناهي بالمكانة. البعض يسعون لإلتقاط   المعاني البسيطة والشعور العابر. يمكننا القول ان الثقافة أصبحت مستنزفة. المحللون السايكولوجيون يرون ان مهمتهم هي التعامل مع الفراغ كمشكلة فردية. حالات الاكتئاب، الحزن الدائم الذي يصفه فرويد بخسارة اعتبار الذات، انهيار روحي يشعر فيه العالم ذاته باستنزاف اللون والوزن. نحن نمارس هذا النوع من اليأس في عالمنا الداخلي، لكنه أكثر من ذلك. انه تاريخي – تعبير لزماننا.

من الصعب في وقتنا الحالي الإقتناع بان المعنى لازال صالحا ان كان موجودا في الأصل. الحياة العامة مسرحا لحقائق بديلة. الالتزام العشوائي يستبدل النقاش العقلاني. نحن فقدنا البوصلة. فقدنا الايمان بان البوصلة كانت موجودة.

تاريخيا، هذه الأعراض كانت مألوفة بشكل مرعب. وكما كتبت حنة أرندت وغيرها ان خسارة المعنى المشترك سمح لكامل المجتمعات لتصبح عرضة لإغراءات التعصب. بعد الحرب العالمية الاولى، ومع انهيار المعنى والأخلاق، جفّت تربة اوربا الروحية واصبحت مستعدة لقبول الاساطير الشمولية للاستبداد. النازية والفاشية برزتا من الحاجة لملأ الفراغ. عندما تزول أية مرساة لدى الناس، ولم تبق حاجة للانتماء سيقفزون الى روابط أسوأ من السلاسل التي تخلصوا منها. المحلل السايكولوجي في أحسن الاحوال لا يتظاهر بإعادة اليقينيات المتعالية. هو يعترف بانه في عالم تُبنى فيه القيم ولا تُكتشف، يجب على الافراد ان يصارعوا مع رغباتهم وينسجون قصصهم الخاصة. المعالجون النفسيون وخدمات المساعدة الذاتية تجد طريقها لهم، والمستهلكون نهمون.

ما هو المسار الذي يمكن اتخاذه عبر هذه التضاريس؟ اذا كان الجواب فقط في العثور او اختراع قصة "تعمل لنا"، هل سنشفى حقا ام اننا فقط نعيد ترتيب المقاعد على سطح السفينة في وجودنا العملاق؟ في النهاية، نحن تُركنا في عالم يدور دون مركز، المعنى التشاركي هو وهم والحوار العقلاني أكثر وهما. خارطتنا الجماعية التي كانت في يوم ما ذات معالم مشتركة قد اختفت. كل واحد منا يبحث الان عن اتجاه في ظل سماوات متحركة وغير مؤكدة. مع ذلك، يجب ان لا ننسى ان التاريخ يبيّن ان روح الانسان لها أعماق لا تُستنزف بسهولة. مرة بعد اخرى، أمام اليأس والاضطراب، نحن نكتشف في دواخلنا مرونة غامضة. ظلام العدمية واقعي ولكن قدرتنا على تحمّله وتحويله واقعية ايضا.

***

حاتم حميد محسن

"لعل الفضيلة الأسمى في قرننا هي مواجهة اللاإنسانية دون أن نفقد الإيمان بالناس"

يُعدتبر ريمون آرون (1905-1983) أحد أغمض المفكرين الفرنسيين في القرن العشرين، حيث امتاز بمساهماته الفكرية العميقة في علم الاجتماع، الفلسفة السياسية، والعلاقات الدولية. تميّزت أعمال آرون بمحاولته فهم الديناميات الاجتماعية والسياسية للمجتمعات الصناعية الحديثة، مع التركيز على الصراعات بين الأنظمة السياسية كمحرك أساسي للتاريخ، بدلاً من الصراع الطبقي الذي ركّزت عليه الفلسفة الماركسية. كما تناول آرون في كتاباته قضايا الوعي التاريخي، محاولاً تفكيك أوهام التقدم التي سادت في عصره، وانتقد بشدة الأيديولوجيات الشمولية، مثل النازية والستالينية، التي رأى أنها أغرقت العالم في حروب مدمرة. في الوقت ذاته، أثار آرون تساؤلات حول إمكانية تحقيق السلام الدائم بين الدول، معتبراً أن التنافس السياسي والأيديولوجي يجعل هذا الهدف شبه مستحيل. يهدف هذا المقال إلى استكشاف أفكار آرون حول مراحل الفكر الاجتماعي، أبعاد الوعي التاريخي، وموقفه من الحروب واستحالة السلام، مع الاستناد إلى أهم أعماله وتسليط الضوء على إسهاماته الفكرية.

مراحل الفكر الاجتماعي عند ريمون آرون

"لا يمكن قبول أي عقيدة أخلاقية أو دينية، على الأقل في محتواها الفكري، إذا لم تصمد أمام نقد العلم."

ركّز ريمون آرون في كتابه مراحل الفكر السوسيولوجي على تتبع تطور الفكر الاجتماعي منذ مونتسكيو إلى ماكس فيبر، مروراً بكارل ماركس وأليكسيس دو توكفيل. يرى آرون أن علم الاجتماع يسعى إلى فهم الواقع الاجتماعي بشكل شامل، دون عزل أي جانب من جوانبه، سواء كان اقتصادياً، سياسياً، أو دينياً. في هذا السياق، يؤكد آرون أن حركة المجتمعات لا تقتصر على الصراع الطبقي، كما زعم كارل ماركس، بل إن الصراع بين الأنظمة السياسية يشكل قوة دافعة أكثر تأثيراً. في كتابه ثمانية عشر درساً في المجتمع الصناعي، تناول آرون الجوانب الاقتصادية للمجتمعات الصناعية، بينما ركّز في صراع الطبقات على الجوانب الاجتماعية، وفي الديمقراطية والتسلط على الجوانب السياسية. هذه الثلاثية تعكس منهجية آرون في دراسة المجتمع ككل متكامل، حيث لا يمكن فهم أي ظاهرة اجتماعية دون مراعاة التفاعلات بين مختلف الأبعاد. كما تأثر آرون بماكس فيبر، خاصة في مفهوم "الأنماط المثالية"، الذي استخدمه لتحليل التاريخ والمجتمع بعيداً عن التفسيرات الوضعية الصلبة. آرون، في مقاربته للفكر الاجتماعي، دعا إلى "نزع الأيديولوجية" عن العلم، معتبراً أن الأيديولوجيات، مثل الماركسية، قد شوهت فهم الواقع الاجتماعي من خلال فرض تفسيرات مسبقة. هذا الموقف جعله ينتقد المثقفين الذين تبنوا الماركسية كـ"أفيون" يعميهم عن رؤية الحقائق، كما جاء في كتابه الشهير أفيون المثقفين عام 1955.

أبعاد الوعي التاريخي

"البشر يصنعون التاريخ ولكنهم لا يعرفون التاريخ الذي يصنعونه."

تناول آرون الوعي التاريخي من منظور نقدي، حيث رفض فكرة التقدم الخطي التي سادت في الفكر الأوروبي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. في كتابه الخلاص من أوهام التقدم ، يرى آرون أن الاعتقاد بتقدم مستمر وتلقائي للإنسانية هو وهم، خاصة في ضوء الكوارث التي شهدها القرن العشرين، مثل النازية والستالينية. يؤكد آرون أن هذه الأنظمة الشمولية أثبتت أن زعيماً ديماغوجياً يمكنه تجنيد الملايين بالأكاذيب والشعارات الشوفينية، مما يؤدي إلى حروب مدمرة. في سياق الوعي التاريخي، يرى آرون أن التاريخ ليس مجرد تحولات، بل يتضمن "الاحتفاظ" بالماضي وتراكم المعارف والخبرات. في نصّه حول مفهوم التاريخ والتقدم، يشير آرون إلى أن التقدم يتحقق عندما يستجيب جيل لأعمال الجيل السابق، مع إضافة عناصر جديدة، مما يسمح بتراكم إيجابي للمعارف والإنجازات. ومع ذلك، يحذّر آرون من الاعتقاد بأن التقدم العلمي أو التكنولوجي يعني بالضرورة تقدماً أخلاقياً أو سياسياً، حيث أن الإنسانية لا تزال عرضة للانتكاسات بسبب الصراعات الأيديولوجية والسياسية.

قذارة الحروب واستحالة السلام

"إن الاختيار في السياسة ليس بين الخير والشر، بل بين الأفضل والأسوأ."

كان آرون من أشد المنتقدين للحروب والأنظمة الشمولية التي أدت إلى تدمير العالم في القرن العشرين. في كتابه التفكير في الحرب ، يحلل آرون الطبيعة المدمرة للحروب، مركزاً على كيفية استغلال الأيديولوجيات المتطرفة، مثل النازية والستالينية، للشعارات العنيفة لتبرير الصراعات. كما عارض آرون فكرة أن الحروب يمكن أن تؤدي إلى حلول نهائية للصراعات، مشيراً إلى أنها غالباً ما تولّد المزيد من العنف والكراهية. فيما يتعلق بالسلام، كان آرون متشككاً في إمكانية تحقيق سلام دائم بين الدول، نظراً للتنافس المستمر بين الأنظمة السياسية والأيديولوجيات. في كتابه الخلاص من أوهام التقدم، يرى أن الصراعات الأيديولوجية، مثل تلك الدائرة بين الرأسمالية والاشتراكية، تجعل السلام هدفاً بعيد المنال. ومع ذلك، دعا آرون إلى تعزيز المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة، كآلية لتقليل التوترات وتسوية النزاعات، على الرغم من محدودية فعاليتها. موقف آرون من استقلال الجزائر، حيث دعم النزعة السلمية وانتقد الاستعمار الفرنسي، يعكس إيمانه بأن العنف الاستعماري لا يمكن أن يؤدي إلى حلول مستدامة. نشعر بأننا عبيد لكل يتجاوزنا، محكوم علينا بتحقيق جزء فقط مما يمكننا أن نكون عليه، محكوم علينا بممارسة وجودنا بالكامل في مهنة محدودة لا أمل لها في العظمة سوى قبول هذا القيد. إن القوة في النظام القائم بين الدول تعتمد على الإرادة بقدر ما تعتمد على الموارد؛ وأوروبا الغربية، إذا نظرنا إليها كوحدة واحدة، تمتلك الموارد، وليس الإرادة.

خاتمة

"إن المساواة العقائدية تسعى عبثًا إلى تقييد الطبيعة، البيولوجية والاجتماعية، ولا تحقق المساواة بل الاستبداد."

يمثل ريمون آرون نموذجاً للمفكر الملتزم الذي يجمع بين التحليل العلمي والنقد الفلسفي. من خلال أعماله حول مراحل الفكر الاجتماعي، قدم آرون رؤية شاملة لفهم المجتمعات الصناعية، مركزاً على الصراعات السياسية كمحرك أساسي للتاريخ. كما أسهم في تفكيك أوهام التقدم من خلال تحليله للوعي التاريخي، محذراً من المخاطر الأيديولوجية التي تهدد الإنسانية. أما فيما يتعلق بالحروب، فقد كشف آرون عن "قذارتها"، مؤكداً أن التنافس الأيديولوجي والسياسي يجعل السلام بين الدول هدفاً صعب التحقيق. ومع ذلك، فإن دعوته إلى تعزيز الحوار والمؤسسات الدولية تعكس أمله في تقليل الصراعات، حتى لو لم يكن السلام المطلق ممكناً. إن إرث آرون يكمن في قدرته على مواجهة الأفكار الخاطئة، كما وصفها كلود-ليفي ستراوس بـ"النظافة الثقافية"، حيث استطاع أن يفهم خصومه الفكريين قبل الرد عليهم، مما جعله صوتاً عقلانياً في زمن طغت عليه الأيديولوجيات المتطرفة. لكن لماذا ظل ريمون آرون صورة مخفية في المشهد السيوسيولوجي على الرغم من الاسهامات الكبيرة التي قدمها وانتقادات الهامة التي قام بها؟

***

د. زهير الخويلدي – كاتب فلسفي

....................

المصادر والمراجع:

آرون، ريمون. أفيون المثقفين. ترجمة جورج طرابيشي. بيروت: دار الساقي، 2006.

آرون، ريمون. مراحل الفكر السوسيولوجي. ترجمة فكتور باسل. بيروت: منشورات عويدات، 1980.

آرون، ريمون. الخلاص من أوهام التقدم. باريس: كالمان-ليفي، 1969.

آرون، ريمون. ثمانية عشر درساً في المجتمع الصناعي. ترجمة فكتور باسل. بيروت: منشورات عويدات، 1980.

آرون، ريمون. صراع الطبقات. بيروت: دار الكتاب العربي، 1970.

آرون، ريمون. الديمقراطية والتسلط. باريس:غاليمار، 1965.

آرون، ريمون. تفكير الحرب. باريس: غاليمار، 1975.

بلاتمان، كريستوفر. لماذا نحارب: جذور الحرب وطرق السلام. مركز المستقبل، 2022.

يُعتبر سقراط وكونفوشيوس على التوالي مؤسسان للفلسفة الغربية والفلسفة الشرقية، تعاليمهما تحمل العديد من أوجه التشابه. وبالرغم من ان كلا الفيلسوفين عاش ثمانين عاما وفصلت بينهما مسافة 4300 ميلا، لكن فلسفتهما فيها الكثير من التشابه، أزالتا الحدود الثقافية والإختلافات المتصورة سلفا بين الشرق والغرب. شخصيتهما كانت مذهلة لدرجة انهما اكتسبا لقب "حكيم" sage حتى أثناء حياتهما.

وُلد سقراط في عائلة اثنية من الطبقة الوسطى عام 470 ق.م. أفكاره نُشرت لاحقا من خلال كتابات تلميذه افلاطون، والتي من خلالها اكتسب لقب مؤسس الفلسفة الغربية. كذلك بالنسبة لكونفوشيوس وُلد في عائلة في مقاطعة لو Lu عام 551 ق.م. العائلة لم تكن غنية ولا فقيرة ولكن عندما مات والده اُجبر كونفوشيوس على العمل. وكما في سقراط، بقيت تعاليم كونفوشيوس وفلسفته مؤثرة في كل الصين وشرق اسيا حتى اليوم. كلا الرجلين عاشا في زمن الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي أفرزت تحديا للقيم التقليدية والسلوكية. اثناء حياته في ظل الحرب البيلوبونيسية (431-404 ق.م)،سعى سقراط الى تمكين اليونانيين للتفكير في أنفسهم. وبسبب هذا عرّض نفسه الى عقوبة الموت بتهمة المعصية وإفساد الشباب.

وذات الشيء بالنسبة لكونفوشيوس الذي عاش اثناء فترة الاضطرابات في الايام الاخيرة لسلالة تشو وحاول دون جدوى إقناع اللوردات الاقطاعيين المتحاربين لإحتضان تعاليمه.

كلا المفكرين تلقّى تعليما وكانا مطّلعين على الادب والموسيقى الخاص بثقافتيهما. القليل عُرف عن حياتهما المبكرة، لكن حينما كانا في متوسط العمر، كلاهما كان لديه جماعة من الطلاب المعجبين بحكمتهما حيث اتّبعوا تعاليمهما.

ماهو مؤكد حول الرجلين ان كلاهما وقع له حدثا رئيسيا رسم هدفهما في الحياة. العرّاف في معبد الآلهة (دلفي) أخبر صديق سقراط شيريفون ان "لا أحد أكثر حكمة من سقراط". مع ذلك،ادّعى سقراط "كل ما يعرف هو ان لا يعرف شيئا".

اما بالنسبة لكونفوشيوس، فقد امتلك تجربة هامة مشابهة في عمر الخمسين عاما عندما ادّعى انه عرف رغبة السماء. في كلتا الحالتين، كان شعورا بالرسالة وبمصيرهما الإلهي المحدد.

أهمية الفضيلة لدى سقراط وكونفوشيوس

بالنسبة لهما كان التعلّم والحكمة يجسدان اندماج الفضائل الاخرى ومجالات الدراسة في كُل متماسك. الحكمة اكتُسبت من خلال التعلّم والتحقيق او ما تم الاعتراف به بديهيا. كونفوشيوس اعتبر القلب الطيب صفة فطرية لكل فرد، لكن من النادر بلوغها في صورتها المثلى . هو اعتقد ان الخير هو علاقات المحبة الصحيحة بين الناس وهو مصدر الفضيلة وكل القيم. سقراط اعتقد ان عيش حياة فاضلة كان ضروريا لتحقيق السعادة والانجاز. هو ايضا اعتقد ان الحب هو الطاقة التي تحرّكنا نحو الخير الذي هو الحقيقة الالهية ومركز العالم الروحي. علاقات الانسان الصحيحة هي الصداقة، والخير هو مصدر المُثل التي يجب ان تكون القوة المرشدة في أفعال الناس.كلاهما عاش وعلّم طلابه في روح من الصداقة، مركزين طاقاتهما باستمرار على الإيجابي في كل موقف. هما عملا اولاً علي تطوير نفسيهما ومن ثم جعلا هدفهما مساعدة الآخرين في انجاز حياة افضل.

كلاهما أكد على أهمية التعليم، الذي هدفه الرئيسي يجب ان يكون الفضيلة والتحسين الذاتي. هناك تشابه ملحوظ في تعليم الفيلسوفين في هذه القضية. سقراط، كما كونفوشيوس اعتقد ان نزعة الانسان كانت حب الجمال أكثر من الفضيلة. مع ذلك، هما علّما طلابهما انه عندما يصبح الانسان اكثر فضيلة فان حياته ستتحسن. وبالتالي، تعليمهما كان وسيلة لحياة أفضل. قيل ان الفضيلة الرئيسية التي يمكن تطويرها من خلال التعلّم هي الحكمة. من المهم قبل كل شيء ان يمتلك المرء معرفة ذاتية. انه تضمّن وعيا بما يعرف المرء وما لايعرف. هذا الاعتراف يمكّن المرء من استعمال المعرفة بشكل صحيح وتجنب الأخطاء نتيجة الجهل. الفيلسوفان شجعا الناس للتركيز على انفسهم لكي يتمكنوا من التحول للداخل واختبار شخصيتهم والمفاهيم والاهداف والمواقف بين الاشياء الاخرى.

الفلسفة والممارسة

عرض كونفوشيوس نفسه كـ "ناقل لم يخترع شيئا" وادّعى ان كل ما يعرف، انه تعلّم من الدراسة، وهكذا يؤكد أهميتها. بالنسبة لطلابه، هو اولاً أرشدهم في دراسة واستيعاب الكلاسيكيات القديمة لكي يستطيعون ايجاد ارتباط بين المشاكل الاخلاقية للماضي والحاضر من خلال التفكير العميق والدراسة. في الصين، جرى اتّباع الكونفوشيوسية كدين من جانب البعض، بينما العديد جادل بان التعاليم الكونفوشيوسية تقيّم الأخلاق العلمانية. مؤيدو الكونفوشيوسية الدينية يجادلون انه بالرغم من الطبيعة العلمانية لتعاليمه، الا انها تستند الى رؤية دينية كاساس لها من حيث الجوهر.

القيم الاخلاقية كانت هامة جدا لكليهما. عندما كان سقراط في المحاكمة، في دفاعه قال "طالما اتنفس وقادر،سوف لن امتنع عن ممارسة الفلسفة". هو رفض التخلي عن السعي للحكمة، وهذا قاد في النهاية الى موته. كونفوشيوس كان ايضا ملتزما بقناعاته الاخلاقية ووقف بثبات لما اعتقد به. طبقا لـ "المختارات"، المؤلفان روجر امس و هنري روزمونت أعلنا انه "كان مهتما في كيفية بناء الحياة للمرء، ليس في اكتشاف "الحقيقة" كما في سقراط، بل كان مهتما في الصورة الاكبر للحياة وكان ملتزما بالبحث عن الحكمة بهذا الشأن.

تشابه آخر بين الاثنين هو ان كلاهما لم يميّز بين الناس على اساس المكانة او الثروة. هما كانا مستعدين لتعليم أي شخص قادر وراغب في التعليم. سعت فلسفتهما التعليمية من حيث اهداف التعليم والمنهج والتربية الى تمكين وإضفاء الطابع الانساني للحكم عبر تنمية الحكمة والقادة الفضلاء. في التقاليد اليونانية، الشخص المتعلم جيدا يُعرف بـ النبيل او الشخص الجيد. وفي الصين يسمى jun zi وتعني ابن الامير او السيد.

الميراث

بالاضافة الى تأثيرها المستمر على الفكر الغربي طوال القرون، برز في السنوات الاخيرة اهتماما متزايدا في الافكار التعليمية لسقراط. طريقة سقراط في التعليم وتُعرف بالحوار السقراطي او الطريقة السقراطية، دائما ما جرى تبنّيها في المدارس لتعزيز التفكير النقدي لدى الطلاب. الحوار بين المعلم والطلاب، الذي يتحفز عبر الطرح المستمر للاسئلة ، يستكشف المعتقدات الاساسية التي تشكل رؤى الطالب وافكاره. في هذه الاثناء، انتعشت الكونفوشوسية في الصين واكتسبت حضورا عالميا. هذه النهضة بدأت في الحلقات الأكاديمية وانتشرت تدريجيا لكل من القادة والجمهور العام . منذ عام 2004 أسست الحكومة الصينية أكثر من 300 معهد كونفيوشي في جميع أنحاء العالم.

***

حاتم حميد محسن

مقاربة تداولية

"الفلسفة هي أكثر من مجرد تخصص أكاديمي؛ فهي طريقة لرؤية العالم والتفاعل معه".

نسعى من خلال هذا العنوان إلى تعميق فهمنا للتمييز المفهومي والسياقي بين السؤال الفلسفي والإبداع الفني من خلال مقاربة تداولية، مع التركيز على كيفية تشكل المعاني والوظائف في سياقات تواصلية مختلفة. يمثل السؤال الفلسفي أداة أساسية للتفكير النقدي، بينما يُشكل الإبداع الفني تعبيرًا جماليًا وعاطفيًا. على الرغم من التقاطعات بينهما في استكشاف القضايا الإنسانية، إلا أن الفروقات في الأهداف، المنهجيات، والسياقات تظل جوهرية. في هذا التوسع، سيتم تقديم أمثلة إضافية وتحليل أعمق لأعمال فنية وأسئلة فلسفية محددة، مع التركيز على وظائفها التداولية وتأثيرها في سياقاتها. فلماذا اعتبر البعض "الفلسفة تقدم إجابات غير مفهومة لأسئلة غير قابلة للحل"؟ هل يمكن للفن تعويضها؟ وماهي الفروقات من جهة المفهوم والسياق بين السؤال والابداع في الفلسفة والفن من وجهة نظر تداولية؟ وألا توجد تقاطعات عديدة بينهما؟ وماهي تبعات هذه التقاطعات على الصعيد الأكسيولوجي والتأويلي؟

المقاربة التداولية

"قبل أن تبدأ في الفعل، عليك أن تفكر وتتروى وتتداول في الأمر مع غيرك..."

المقاربة التداولية، المستندة إلى أعمال جون أوستن وجون سيرل، تركز على الأفعال الكلامية وكيفية تحقيق اللغة والتعبير لوظائف محددة في سياقات اجتماعية وثقافية. يُمكن تحليل السؤال الفلسفي كفعل استفساري يهدف إلى استكشاف الحقيقة أو تحليل المفاهيم، بينما يُعد الإبداع الفني فعلًا تعبيريًا يسعى إلى إثارة العواطف أو تقديم رؤى جمالية. يتم تحديد المعنى في كلا المجالين بناءً على النوايا، توقعات الجمهور، والسياقات المؤسساتية.

التمييز المفهومي

"السؤال ليس: هل يستطيع الناس التفكير؟ أو هل يستطيعون التكلم؟ بل: هل يستطيعون المعاناة؟"

السؤال الفلسفي

"يكون السؤال فلسفيًا عندما يطرح مشكلة تتعلق بعلاقتنا بأنفسنا، أو بالآخرين، أو بالدولة، أو بالطبيعة، أو بالقيم."

السؤال الفلسفي هو أداة تحليلية تُستخدم لاستكشاف قضايا جوهرية مثل الوجود، المعرفة، والأخلاق. يتميز بما يلي:

الطبيعة الاستفسارية: يهدف إلى فحص المفاهيم أو تحدي الافتراضات. على سبيل المثال، سؤال ديكارت "كيف يمكنني أن أتأكد من وجودي؟" يفتح نقاشًا حول اليقين والذات.

المنهج المنطقي: يعتمد على الحجج العقلية والتحليل النقدي.

الهدف المعرفي: يسعى إلى إنتاج فهم أعمق، حتى لو لم يُقدم إجابات نهائية.

الإبداع الفني:

"لو كان العالم واضحًا، لما كان الفن موجودًا."

الإبداع الفني هو تعبير إبداعي يتجسد في أشكال مثل الشعر، الرسم، أو الموسيقى، ويتميز بما يلي: الطبيعة التعبيرية: يعبر عن رؤى شخصية أو ثقافية. على سبيل المثال، لوحة "غيرنيكا" لبيكاسو تعبر عن فظائع الحرب الأهلية الإسبانية.

الطابع الجمالي: يهدف إلى إثارة تجربة حسية أو عاطفية.

الهدف التجريبي: يركز على تحفيز التأمل أو التأويل بدلاً من تقديم حقائق.

الفروقات المفهومية

"الأسئلة، أكثر من الإجابات، هي ما يُظهر سعة العقل. الأسئلة لا تُزعجنا أبدًا، لكن أحيانًا تكون الإجابات كذلك."

الهدف: السؤال الفلسفي يهدف إلى المعرفة، بينما الإبداع الفني يسعى إلى التجربة.

المنهج: السؤال الفلسفي منطقي وتحليلي، بينما الإبداع الفني خيالي وحسي.

النتيجة: السؤال الفلسفي ينتج مفاهيم أو نظريات، بينما الإبداع الفني ينتج أعمالًا مفتوحة للتأويل.

التمييز السياقي: تحليل تداولي مع أمثلة

"السؤال الفلسفي هو تساؤلٌ حول علاقتنا بالعالم، والآخرين، وأنفسنا. وهو يتطرق إلى جوانب أساسية، كالمعرفة (الصواب والخطأ) ، الأخلاق (الخير والشر) أو الجمال (الجمال والبشاعة)"

سياق السؤال الفلسفي

" الحكيم لا يعطي الإجابات الصحيحة، بل يسأل الأسئلة الحارقة "

مثال 1: سؤال نيتشه "هل نعيش زمن الانسان الأخير؟"

السياق: طُرح هذا السؤال في كتاب "هكذا تكلم زرادشت" (1883-1885) في سياق نقدي للقيم الدينية والأخلاقية في أوروبا القرن التاسع عشر. يعكس السؤال أزمة المعنى في عصر التنوير.

الجمهور المستهدف: القراء الفلاسفة والمثقفون المهتمون بقضايا الأخلاق والدين.

الوظيفة التداولية: فعل كلامي استفساري يتحدى الافتراضات الدينية التقليدية، داعيًا إلى إعادة تقييم القيم. يتوقع نيتشه من جمهوره التفكير النقدي والمشاركة في نقاش فلسفي.

القواعد التداولية: يخضع السؤال لتوقعات المنطق والحجة، حيث يُطالب الجمهور بتقديم ردود مدعومة بالتحليل.

مثال 2: سؤال مارتن هيدجر "ما هو الوجود؟"

السياق: طُرح في كتاب "الوجود والزمان" (1927) في سياق أنطولوجي يهدف إلى فهم طبيعة الوجود البشري.

الجمهور المستهدف: الفلاسفة والطلاب المهتمون بالوجودية والأنطولوجيا.

الوظيفة التداولية: يهدف إلى تحفيز التفكير في طبيعة الوجود نفسه، مع التركيز على التجربة الإنسانية. يُعتبر فعلًا كلاميًا استفساريًا يفتح المجال لتأملات عميقة.

القواعد التداولية: يتطلب من الجمهور الانخراط في تحليل مفاهيمي دقيق، مع الالتزام بالتماسك الفلسفي.

سياق الإبداع الفني

"يهدف الفن إلى طبع المشاعر فينا بدلاً من التعبير عنها."

مثال 1: لوحة "غيرنيكا" لبابلو بيكاسو (1937)

السياق: رُسمت اللوحة كرد فعل على قصف مدينة غيرنيكا خلال الحرب الأهلية الإسبانية، في سياق سياسي وثقافي مشحون. عُرضت في معرض باريس الدولي عام 1937.

الجمهور المستهدف: الجمهور العام، بما في ذلك السياسيون، عشاق الفن، والناشطون المناهضون للحرب.

الوظيفة التداولية: فعل كلامي تعبيري يهدف إلى إثارة مشاعر الرعب والتعاطف، مع انتقاد العنف والفاشية. تستخدم اللوحة رموزًا مثل الحصان المعذب والأم الثكلى لنقل رسالة إنسانية.

القواعد التداولية: لا تخضع اللوحة لقواعد منطقية صارمة، بل تتيح للجمهور تأويلات متعددة بناءً على تجاربهم الشخصية والثقافية.

مثال 2: رواية "الغريب" لألبير كامو (1942)

السياق: كتبت في سياق الحرب العالمية الثانية، تعكس الرواية الفلسفة العبثية التي تستكشف عدم وجود معنى جوهري للحياة.

الجمهور المستهدف: القراء الأدبيون والمهتمون بالفلسفة الوجودية.

الوظيفة التداولية: فعل تعبيري يقدم تجربة سردية تثير التأمل في العبثية والحرية. شخصية ميرسو، التي تتصرف بلامبالاة تجاه المعايير الاجتماعية، تدعو الجمهور إلى التفكير في القيم التقليدية.

القواعد التداولية: تتيح الرواية حرية التأويل، حيث يمكن للقراء استخلاص معانٍ مختلفة بناءً على سياقاتهم الشخصية.

مقارنة السياقات

"لإنشاء عمل فني فريد وأصلي، عليك أن تكون عبقريًا. "

الإطار التواصلي: السؤال الفلسفي يعمل في إطار نقدي يتطلب الوضوح والمنطق، بينما الإبداع الفني يعمل في إطار تعبيري يحتضن الغموض والتعددية.

توقعات الجمهور: يتوقع جمهور السؤال الفلسفي حججًا منطقية، بينما يتوقع جمهور الإبداع الفني تجربة عاطفية أو تأملية.

السياق المؤسسي: السؤال الفلسفي يرتبط بالأكاديميات والنقاشات الفكرية، بينما الإبداع الفني يرتبط بالمعارض، المسارح، أو الأدب.

التقاطع بين السؤال الفلسفي والإبداع الفني

"الفلسفة مفيدة للبشرية بقدر فائدة الفن. لولا الفلسفة لعشنا حياةً عبثية. التفكير في الغد هو ممارسةٌ للفلسفة والفن."

تقاطع في الأعمال الفنية ذات البعد الفلسفي

بعض الأعمال الفنية تتجاوز التعبير الجمالي لتطرح أسئلة فلسفية صريحة، مما يجعلها جسراً بين المجالين:

مثال: مسرحية "في انتظار جودو" لصموئيل بيكيت (1953)

السؤال الفلسفي الضمني: "ما معنى الانتظار في حياة بلا معنى؟" تعكس المسرحية فلسفة العبث، حيث ينتظر الشخصيات (فلاديمير وإستراجون) شخصية "جودو" التي لا تأتي أبدًا.

السياق التداولي: المسرحية فعل تعبيري يقدم تجربة جمالية، لكنه يحمل سؤالًا فلسفيًا يدعو الجمهور إلى التفكير في الوجود والزمن. على عكس السؤال الفلسفي الصريح، يتم طرح السؤال بشكل ضمني من خلال الحوارات والرموز.

التأثير: يحفز الجمهور على التأمل دون تقديم إجابات، مما يجمع بين الوظيفة التعبيرية للفن والوظيفة الاستفسارية للفلسفة.

مثال: لوحة "الصرخة" لإدفارد مونش (1893)

السؤال الفلسفي الضمني: "ما طبيعة القلق الوجودي؟" تعبر اللوحة عن حالة نفسية من القلق والاغتراب في العالم الحديث.

السياق التداولي: كفعل تعبيري، تستخدم اللوحة الألوان والتشكيلات لنقل تجربة عاطفية، لكنها تثير أسئلة فلسفية حول الوجود والمعاناة.

التأثير: تدعو الجمهور إلى التأمل في حالتهم الوجودية، مما يجعلها أقرب إلى الفلسفة في وظيفتها الاستفسارية.

تقاطع في الأسئلة الفلسفية ذات البعد الفني

"الفن هو ثمرة إبداع الناس الأحرار."

بعض الأسئلة الفلسفية تُطرح بأسلوب يحاكي الإبداع الفني، مما يعزز جاذبيتها الجمالية:

مثال: أسئلة زرادشت عند نيتشه

في كتاب "هكذا تكلم زرادشت"، يستخدم نيتشه لغة شعرية ورمزية لطرح أسئلة فلسفية مثل "كيف يمكن للإنسان أن يتجاوز نفسه؟". هذا الأسلوب يجمع بين التحليل الفلسفي والتعبير الفني.

السياق التداولي: الأسئلة تُطرح بأسلوب أدبي يجذب القراء عاطفيًا، مما يجعلها أقرب إلى الإبداع الفني في قدرتها على إثارة التجربة الجمالية.

التأثير: تجمع بين الوظيفة الاستفسارية (تحفيز التفكير النقدي) والوظيفة التعبيرية (إثارة العواطف).

تحليل تداولي

المقاصد التداولية: في السؤال الفلسفي، يكون مقصد المُرسل (الفيلسوف) هي تحفيز النقاش المعرفي، كما في سؤال هيدغر "ما هو الوجود؟" الذي يهدف إلى إعادة تعريف الأنطولوجيا. في المقابل، تكون نية الفنان في الإبداع الفني إثارة تجربة ذاتية، كما في "غيرنيكا" التي تهدف إلى نقل معاناة الحرب.

توقعات الجمهور: يتوقع جمهور السؤال الفلسفي إجابات أو نقاشات منطقية، بينما يتوقع جمهور الفن تجربة مفتوحة التأويل. على سبيل المثال، يمكن لـ"الغريب" أن تُفسر كانعكاس للعبثية أو كقصة عن الحرية الفردية.

السياقات المؤسسية: السؤال الفلسفي يرتبط بالجامعات والمؤتمرات الأكاديمية، بينما يرتبط الفن بالمتاحف، المسارح، أو النشر الأدبي. هذه السياقات تشكل كيفية استقبال الفعل التواصلي.

خاتمة

"أجمل شيء في الإبداع الفني هو بالتحديد هذا الجزء الفلسفي، وأجرأ شيء في السؤال الفلسفي قدرته الجمالية على اثارة الدهشة"

من خلال المقاربة التداولية، يتضح أن السؤال الفلسفي والإبداع الفني يختلفان في طبيعتهما ووظائفهما التواصلية، لكنهما يتقاطعان في استكشاف القضايا الإنسانية العميقة. السؤال الفلسفي، كما في أمثلة نيتشه وهيدغر، يعمل كفعل استفساري يهدف إلى الوضوح المعرفي، بينما الإبداع الفني، كما في "غيرنيكا" و"الغريب"، يعمل كفعل تعبيري يثير التجربة الجمالية والعاطفية. الأمثلة المقدمة، مثل "في انتظار جودو" و"الصرخة"، تُظهر كيف يمكن للفن أن يحمل أسئلة فلسفية ضمنية، بينما تُبرز أسئلة نيتشه الشعرية كيف يمكن للفلسفة أن تتبنى أسلوبًا فنيًا. هذا التحليل التداولي يعزز فهمنا للعلاقة المعقدة بين الفلسفة والفن كأشكال تواصلية تتشكل حسب السياقات والمقاصد. لكن أليس الابداع الفني فرصة لإثارة الأسئلة الفلسفية الشائكة؟ وألا تمثل الأسئلة الفلسفية ابداعات فنية تقبل العديد من التأويلات اللامتناهية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

..........................

المصادر والمراجع:

Austin, J. L. (1962). How to Do Things with Words. Oxford University Press.

Searle, J. R. (1969). Speech Acts: An Essay in the Philosophy of Language. Cambridge University Press.

Nietzsche, F. (1883-1885). Thus Spoke Zarathustra. Penguin Classics.

Heidegger, M. (1927). Being and Time. Blackwell Publishing.

Camus, A. (1942). The Stranger. Vintage Books.

Beckett, S. (1953). Waiting for Godot. Grove Press.

Eco, U. (1989). The Open Work. Harvard University Press.

كان ديوجينس*، الفيلسوف اليوناني القديم، معروفًا بحمله مصباحًا في وضح النهار. عندما يسأل عن السبب، كان يجيب: أبحث عن إنسان صادق...! هذا الفعل الرمزي يشير الى أن ديوجينس كان يعتقد أن الفضيلة والصدق نادران في العالم، وكان يبحث عن شخص يجسد القيم الإنسانية الحقيقية، كان يبحث عن الفضيلة والصدق في مجتمعه، وهو بحث لا يزال مستمرًا إلى اليوم. على الرغم من أننا الان لا نحتاج إلى مصباح في وضح النهار، إلا أننا نبحث عن الفضيلة في حياتنا المعاصرة.

الفضيلة في الفلسفة هي صفة أخلاقية إيجابية أو استعداد دائم لفعل الخير. هي ليست مجرد فعل عشوائي، بل هي عادة راسخة في شخصية الفرد، اعتقد أرسطو أن الفضيلة هي الوسط الذهبي بين رذيلتين، إحداهما هي الإفراط والأخرى هي النقص. على سبيل المثال، الشجاعة هي فضيلة بين التسرع (إفراط) والجبن (نقص)، كذلك رأى أفلاطون أن هناك أربع فضائل رئيسية هي: الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدالة. واعتبر أن العدالة هي الفضيلة الأسمى لأنها تضمن توازن جميع الفضائل الأخرى.

الفضيلة اليوم

في عالمنا المعاصر، حيث تتفشى تجارة الحروب والصراعات، تتجلى الفضيلة في الأفعال التي تعزز السلام، والتعاطف، والعدالة، مثل تقديم المساعدة الإنسانية، والدفاع عن حقوق الإنسان، والعمل على بناء مجتمعات أكثر عدلاً، لكن يظل البحث عن الفضيلة تحديًا مستمرًا، خاصة في ظل المصالح المادية التي تُغذي الصراعات، رغم ذلك ان الفضيلة تظل الضوء الذي يمكن أن يهدينا نحو عالم أفضل وأكثر سلامًا، لقد تطور مفهوم الفضيلة بشكل كبير عبر التاريخ الفلسفي. بشكل عام، يمكن وضع مفهوم عام للفضيلة بأنها صفة شخصية قوية ومستقرة تُعتبر جيدة من الناحية الأخلاقية، وتجعل صاحبها شخصًا أفضل. تعتبر الفلسفة اليونانية المصدر الأساسي لمفهوم الفضيلة، حيث ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بفكرة الازدهار وهي حالة من السعادة والعيش الجيد، على الرغم من أن الفلاسفة الحديثين ركزوا على مفاهيم مثل الواجب الأخلاقي (كانط) أو النتائج (المذهب النفعي)، إلا أن الفضيلة عادت لتكتسب أهمية كبيرة فيما يُعرف بـ أخلاقيات الفضيلة في هذا السياق، لم تعد الفضيلة مجرد سمة أخلاقية، بل هي طريقة للتفكير والشعور والتصرف. إن الشخص الفاضل لا يقوم بالفعل الصحيح فقط، بل يفعل ذلك لأنه يمتلك الصفات الشخصية التي تدفعه إليه، مثل التعاطف، والعدالة، والصدق. يمكن القول إن الفضيلة هي صفة شخصية تجعلنا كبشر أفضل، وهي لا تكمن فقط في الفعل الذي نقوم به، بل في الشخصية التي نصبح عليها.

الفضيلة الاستعمارية

يُقصد بـ "الفضيلة الاستعمارية" ادعاء القوى المستعمرة بأنها تحمل قيمًا حضارية وأخلاقية متفوقة، مثل "نشر العدالة" أو "الحضارة" أو "التقدم" بين الشعوب المستعمرة. هذه القيم استخدمت لتبرير الاستعمار والسيطرة على الأراضي والموارد، لذا نحن بحاجة إلى تعريف الفضيلة في الوقت الحاضر أكثر من أي وقت مضى. في عالم تحركه التكنولوجيا والمعلومات، تزداد أهمية القيم الأخلاقية، وتصبح الفضيلة ضرورية للتغلب على التحديات المعاصرة في عالم مترابط، تواجهنا قضايا أخلاقية معقدة لم تكن موجودة من قبل، مثل أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، والخصوصية الرقمية، والتجارة العادلة. يتطلب التعامل مع هذه القضايا فهمًا عميقًا للفضائل الأساسية مثل العدالة والمسؤولية تواجه مجتمعاتنا الانقسام والصراع. يمكن للفضائل أن تساعد في بناء جسور بين الثقافات، وتعزز الحوار، وتقلل من الكراهية. في مجتمع استهلاكي، يشعر الكثير من الناس بفقدان المعنى. يمكن أن يكون البحث عن الفضيلة طريقًا لإيجاد هدف أعمق، بعيدًا عن السعي المادي. في عالم يدعي فيه الجميع الفضيلة، من الظالم إلى المظلوم، يصبح من الصعب تحديد من يمثلها حقًا. لكن الفلسفة يمكن أن تساعدنا في فهم هذه المعضلة. الفضيلة لا تنحاز إلى طرف معين، بل هي تجسد مبادئ وقيمًا أخلاقية لهذا لا يمكن أن تكون الفضيلة مجرد ادعاء لفظي. إنها تُختبر بالأفعال والنتائج. عندما يدعي الظالم أنه فاضل، يمكننا أن نرى أفعاله التي تسبب الألم والضرر للآخرين. هذه الأفعال تتعارض تمامًا مع فضائل مثل العدالة والتعاطف في المقابل، غالبًا ما يُظهر المظلوم فضائل حقيقية من خلال صراعه. فالمقاومة من أجل الحرية والعدالة تتطلب شجاعة وصبرًا وإصرارًا، وهي كلها فضائل أصيلة.

هل كان ديوجينس محقا

يُمكن القول إن ديوجينس لم يكن مخطئًا في رؤيته للتناقضات الإنسانية. فالفيلسوف يرى ما هو أبعد من الظاهر، ويبحث عن الحقائق الخفية وراء السلوكيات اليومية، كان ديوجينس يرى التناقضات التالية:

ادعاء الفضيلة مقابل السلوك، اذ كان يرى أن الناس يدّعون الفضيلة والحكمة، لكن سلوكياتهم الحقيقية كانت غالبًا ما تكون أنانية وتنافسية. كذلك التناقض بين المظهر والجوهر، كان يرى أن المجتمع يولي اهتمامًا كبيرًا للمظهر الخارجي والثروة والمكانة الاجتماعية، بينما يتجاهل الجوهر الحقيقي للإنسان. إن حمل ديوجينوس للمصباح في وضح النهار كان تعبيرًا رمزيًا عن بحثه عن إنسان فاضل حقًا، لا يكتفي بادعاء الفضيلة، بل يجسدها في أفعاله وسلوكياته.

الفيلسوف والتناقضات الإنسانية

الفيلسوف، على عكس الشخص العادي، لا يرى التناقضات كأخطاء فردية، بل يراها كجزء من الطبيعة الإنسانية. يسعى الفيلسوف إلى فهم الأسباب الجذرية لهذه التناقضات، الرغبة في القبول الاجتماعي، التي تدفع الناس للتصرف بشكل يختلف عن قناعاتهم الحقيقية، والصراع بين العقل والغرائز، الإنسان غالبًا ما يكون في صراع بين ما يعرف أنه صحيح وما يرغب به غرائزيا، لهذا لم يكن ديوجينس يبحث عن شخص مثالي، بل كان يبحث عن شخص صادق مع نفسه وواعٍ بهذه التناقضات. يمكن أن يكون هذا الوعي هو أول خطوة نحو تحقيق الفضيلة، تُعتبر نظرة ديوجينس، الباحث عن الإنسان الصادق في عالم مليء بالتناقضات، قابلة للتكرار في الشرق الأوسط المعاصر، خاصةً مع انتشار ما يُعرف بـ "عولمة التفاهة". هذه الظاهرة تشير إلى سيادة السطحية، والبحث عن الشهرة السريعة، وتهميش القيم العميقة والأفكار الجادة. التاريخ يظهر أن الفترات التي تسبق التغييرات الكبرى غالبًا ما تكون فترات من التناقضات الاجتماعية والبحث عن الذات.

ديوجينس المعاصر

يمكن أن تتكرر ظاهرة "ديوجينوس المعاصر" في الشرق الأوسط التحولات الاجتماعية، تواجه العديد من مجتمعات في الشرق الأوسط ،هي تحولات سريعة ، مما يؤدي إلى صراع بين القيم التقليدية والمعاصرة إن الوصول غير المسبوق إلى المحتوى الرقمي أدى إلى انتشار ثقافة استهلاكية وسطحية، مما يغذي ظاهرة "عولمة التفاهة، كذلك يلعب الواقع السياسي والاقتصادي دورا مهما في تعجيل هذه التغيرات، .اذ غالبًا ما يجد الناس الذين يعيشون في ظل ظروف سياسية واقتصادية صعبة أنفسهم يهربون إلى عالم من الترفيه السطحي، مما يزيد من التناقض بين الواقع وقيم الفضيلة في هذه البيئة، قد يظهر "ديوجينوس المعاصر" ليس بالضرورة مع مصباح، بل في شكل فلاسفة، أو مفكرين، أو حتى فنانين يسعون إلى استعادة القيم الحقيقية، والتعبير عن المعاناة، وإثارة الأسئلة الجادة حول الهوية والوجود ،إن تكرار نظرة ديوجينوس ليس مجرد إعادة للتاريخ، بل هو مؤشر على أن البحث عن الحكمة والفضيلة هو حاجة إنسانية دائمة، خاصة في الأوقات التي يسيطر فيها السطحي على الجوهري.

***

غالب المسعودي

..........................

* ديوجانس الكلبي (نحو 421 - 323 ق م) فيلسوف يوناني. يُعتبر من أبرز ممثلي المدرسة الكلبيّة الأوائل. (“ديوجينس الكلبي.. الفيلسوف الذي عاش في برميل”) ولد في سينوب بتركيا، ودرس في أثينا على أنتيستنيس. قال صاحب الملل والنحل: «كان حكيما فاضلا متقشفا لا يقتني شيئا ولا يأوي إلى منزل. عاصر الاسكندر المقدوني.

لم يؤسس فيثاغوروس فقط مدرسة فلسفية متجذرة في الرياضيات والتصوف وانما انخرطت ايضا في السياسة في جنوب ايطاليا من خلال ترسيخ النظام المدني المتناغم والمنضبط المرتكز على تعاليمه. وحتى عندما يتم تذكّر أتباع فيثاغوروس في تأثيرهم العميق في مجال الرياضيات والتصوف وعلم الكون، فان ذلك التأثير امتد الى ما وراء الفكر المجرد الى الميدان السياسي، وبالذات في ماجان غراسيا (جنوب ايطاليا) في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد. في المدن اليونانية القديمة مثل كروتون و ميتابونتوم و تارينتم حاولت الجماعات الفيثوغورية ترجمة مُثلهم السياسية الى واقع سياسي له تأثيراته المستمرة.

الفلسفة والسياسة

يُعتقد ان فيثاغوروس هاجر من ساموس الى كروتون في سنة 530 قبل الميلاد. هو أسس مدرسة فلسفية ودينية سعت الى دمج طريقة في الحياة مرتكزة على الفضيلة والتناغم وممارسة الحكمة. الطريقة الفيثاغورية في الحياة أكدت على الزهد والنباتية والايمان بتناسخ الارواح وتقديس عميق للأعداد والنظام. عاش أعضاء الجماعة في جماعات متماسكة مارست التعاون المتبادل والسرية والانضباط.

الفيثاغوريون لم يتأملوا فقط بأفكار مجردة بل اعتقدوا ان مبادئهم الفلسفية يمكنها ويجب ان تحدد شكل المجتمع. هم سعوا الى جلب طريقتهم في الحياة الى المواطنين، معززين رؤية للنظام المدني عكست التناغم الذي تصوروه في الكون. هم أكدوا على الحوكمة الاخلاقية والاعتدال والعدالة. هم في اغلب الاحيان اكتسبوا قوة سياسية عبر إبداء النصيحة للحكام المحليين او الإمساك المباشر بالسلطة. هذا الانصهار الفلسفي السياسي كان بارزا جدا في كروتون حيث يتغلغل النفوذ الفيثوغوري في حكومة المدينة. وبينما هم منخرطون في السياسة، أسس الفيثاغوريون ما يصفه الباحثون بارستقراطية الحكمة في جنوب ايطاليا. انه حكم بواسطة اولئك الذين أظهروا تميّزا فكريا وأخلاقيا.

ردود الفعل على الحكم الفيثاغوري

ان انهيار النظام الفيثاغوري لم يكن فقط نتيجة للحظ السيء. انه كان نتيجة لطموحاتهم الجريئة. اساسا، مع السرية والاخوة الفلسفية انتقل الفيثاغوريون تدريجيا الى السياسة. هم حاولوا اعادة صياغة الحياة اليومية والاطار الاخلاقي للمدن التي أثّروا بها. هم اعتقدوا ان المجتمع ذاته يمكن تنقيته من خلال ضبط صارم وحياة جماعية وخضوع لشعور من التناغم الأعلى. مع ذلك، هذه المُثل التي فُرضت من الأعلى بدلا من ان يتم احتضانها طبيعيا، اثارت الإستياء بين قطاع واسع من السكان. العديد من المواطنين العاديين يرون ان طريقة فيثاغوروس في الحياة بدت نخبوية وقاسية وغريبة على تقاليدهم.

تدخّلات الفيثوغوريين السياسية خاصة ضد السيبارتيين،زادت من عزلتهم. حيث سقطت مدينة سيباريس الجميلة والقوية في انحطاط، والفيثاغوريون ساعدوا في تحطيمها عبر منافستها كروتون. ومع انهم اعتبروا هذا كنصر أخلاقي، لكن المحصلة العنيفة أدت الى تأجيج الغضب الشعبي.

الناس القلقون من الجماعة التي سعت للسيطرة على حكوماتهم وعاداتهم الشخصية، بالنهاية ثاروا ضدها. حيث تعرض للهجوم منزل الاجتماع الفيثوغوري، وقُتل عدد من أعضاء الجماعة ونُفي البعض الاخر، وبالنهاية تحطمت الحركة. ان محاولة فرض قسري لمُثل الحياة كلّف الفيثاغوريين نفوذهم، تاركين فقط بقايا متناثرة من تقاليدهم القوية السابقة. وفي النهاية، انفجر هذا الإستياء الى ثورة عنيفة. في كروتون ومدن اخرى، هاجمت الخلايا المضادة للفيثوغورية أماكن اجتماعاتهم فقتلت او طردت أعضاء من الجماعة. المصادر القديمة مثل الفيلسوف يامبليكوس والكتّاب المتأخرين كتبوا بان موجة الاضطرابات عبر ماجان جراسيا في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد فككت الكثير من الجهاز السياسي الفيثاغوري.

شهادة بلوتارح: مأساة ميتابونتيون

بينما وجد الفيثاغوريون الراحة في جلب أفكارهم الفلسفية للحياة المدنية، لكن لم يكن جميع المواطنين بذلك الحماس. وبمرور الزمن، ازداد الاستياء بين شرائح السكان الذين رأوا الحكم الفيثاغوري نخبويا وسريا. تفرّد نظامهم المترافق مع انعزالهم ولّد الشكوك والكراهية. طبقا لبلوتارح في عمله (حول الصوت الداخلي لسقراط) حدثت احدى اكثر الحلقات الماساوية في تاريخ الفيثاغوريين في ميتابونتن. عندما انفجرت الحرب الاهلية وانتشرت الخلايا المناهضة للفيثوغوريين بتحريض من أتباع رجل اسمه سيلون، اجتمعت جماعة من الفيثوغوريين في منزل الاجتماعات. قام خصومهم باطلاق النار على البناية فقتلوا جميع منْ في الداخل. نجا فقط اثنان من الشباب الفيثاغوريين : فيلولاوس و ليسس الذين هربا بفضل قوتهما وسرعة حركتهما.

فيلولاوس بالنهاية وجد ملاذا بين اللوكانيون. هو لاحقا عاد ليساعد ويعيد تنظيم بقايا الاخوان الفيثاغوريون. من جهة اخرى، بقي ليسيس لسنوات في سرية تامة. لاحقا، التقاه الفيلسوف جورجياس كما يذكر في رسائله.

الإرث والانحدار

رغم هذه النكسات، استمرت الافكار الفيثاغورية في التأثير على الفكر اليوناني القديم خاصة من خلال التقاليد الفيثاغورية الجديدة والافلاطوية الجديدة. وبينما تضاءل انشغالهم السياسي المباشر، بقي نموذجهم في الحياة الموجهة فلسفيا مؤثرا بين الفلاسفة اللاحقين مثل افلاطون.

ان محاولة الفيثاغوريون دمج الفلسفة في السياسة تمثل واحدة من أقدم التجارب المعروفة في بناء حياة مصممة فلسفيا كأساس للحوكمة العامة. ومع انهم واجهوا مقاومة وقمع في النهاية، لكن إرثهم هو شهادة على قوة وخطورة محاولة ربط المدينة بالكون.

***

حاتم حميد محسن

 

سننظر في التأثير العميق لدارون على فلسفة نيتشه الديناميكية؟ كان العالِم تشارلس دارون قد أيقظ الفيلسوف نيتشه من سباته الدوغمائي عبر إدراك انه، طوال التاريخ العضوي، لا وجود لأي كائن غير قابل للتغيير (بما في ذلك نحن). التغيير الشامل حل محل الثبات الأبدي. المفكر الألماني نيتشه ذهب الى ما وراء دارون وعرض تفسيرا للطبيعة الديناميكية أخذ بالإعتبار كل من الآثار الفلسفية والانعكاسات اللاهوتية المترتبة على تناول حقيقة التطور البايولوجي على محمل الجد.

نيتشه لم يكن غافلا عن الزمن الجيولوجي او السجل الإحفوري. هو قبل بالتداعيات الأكثر إثارة للجدل في نظرية دارون: وهي ان البشرية تطورت من أسلاف بعيدة في الماضي شبيهة بالقرود، بطريقة طبيعية تماما، من خلال عملية الحظ والضرورة (تغيرات عشوائية عرضية واختيار طبيعي حتمي يظهر في الافراد ضمن بيئة متغيرة).

حتى القدرات الذهنية للكائن البشري، بما فيها الحب والتفكير تم اكتسابها اثناء مسيرة الصعود التطوري من أشكال بدائية مبكرة. يرى نيتشه، ان التطور هو التوضيح الصحيح للتاريخ العضوي لكنه يؤدي الى صورة كارثية للواقع طالما انه (كما نراه) له حقائق بعيدة المدى في كل من علم الكون العلمي والانثرابولوجيا الفلسفية: الله لم يعد ضروريا في المسؤولية عن وجود هذا الكون او ظهور انواع من حيوانات ما قبل التاريخ. في الحقيقة، هذا الفيلسوف اعتقد ان التطور الداروني قاد الى انهيار في كل القيم التقليدية لأن كل من المعنى الموضوعي والغرض الروحي قد اختفيا من الواقع (وبالنتيجة، لا وجود لأخلاق مؤكدة وثابتة).

أدرك نيتشه ان الأنظمة الفلسفية السابقة منذ افلاطون وارسطو وحتى كانط وهيجل كانت غير كافية للتعامل مع أزمة التطور. وبالتالي، اصبح مطلوبا الآن فلسفة جديدة كلية للعالم. نيتشه قدم تفسيرا للواقع رضي بإنسيابية الطبيعة والأنواع والافكار والعقائد والقيم.

كذلك، هو اعتقد بانه من الهراء الإعتقاد بحقيقة إمكانية تعليم التطور كما لو كان دينا (طالما ان عملية التطور لا تحتوي على أي شيء ثابت او أبدي او روحي). يمكن للمرء ان يتصور خطابات نيتشه النقدية العنيفة ضد الاصولية الانجيلية وما سمي بـ الخلق العلمي scientific creationism الذان هددا العلم والعقل خلال القرن العشرين. نيتشه الملحد كان سيكره ايضا ستيفن جي جولد لتأييده غير المبرر للوجود الثنائي لكل من العالم الطبيعي للعالِم والعالم المتسامي للثيولوجي. بدلا من ذلك، كأحادي، هو سيعجب بريتشارد دكنز ودانيال دينيت لإطارهما المادي الصارم الذي لا يعطي أية مصداقية لما فوق الطبيعة.

نيتشه افترض ان محصلة الثورة الدارونية ربما فقط تقدم تفسيرا لنجاح الأشكال الضعيفة (المتدنية والمتواضعة) للحياة كما في الأعداد الكبيرة للفيروسات المنتشرة في كل مكان والبكتريا والحشرات والاسماك. الفيلسوف جادل بان صراع الانواع الأعمى لدارون لأجل وجود الاكثرية بحاجة الى ان يُستبدل باكتشافه هو للصراع الفردي للقلة لأجل الخلق الذاتي والتميّز.

نظر نيتشه للآلية التوضيحية للإختيار الطبيعي باعتبارها تفسر فقط كمية الانواع ضمن التاريخ العضوي، لكن (بالنسبة له) انها قوة حيوية تزيد نوعية أشكال الحياة طوال التطور البايولوجي التقدمي. هو اعتقد بان الطبيعة بالضرورة ارادة القوة. تطور الحياة ليس مجرد صراع سبنسري/داروني للوجود وانما هو والأكثر اهمية، الكفاح المستمر نحو المزيد من التعقيدية والتنوع والتعددية والخلق. باختصار، للتذكير بالتفسيرات التي عرضها لامارك و هنري برجسون، حيوية نيتشه استبدلت لياقة التكيّف الداروني بقوة خلاقة. الفيلسوف آمن بان تطور الكائنات الحية له جذوره في الوحل البدائي، لكن انواعنا الحية تقف عاليا فخورة على هرم الحياة. كذلك هو رأى النزعة الطبيعية للحيوان الانساني ليتطور نحو رداءة شائعة. لكن ومن خلال ارادة القوة، الافراد المتفوقون لديهم الإمكانية للسيطرة على حياتهم (يتغلبون على العدمية والتشاؤمية) وعلى الفكر لتحقيق النشاط الابداعي.

وكما في توماس هكسلي، وارنست هيكل ودارون ذاته، أكّد نيتشه على الاستمرارية التاريخية بين الكائنات البشرية والحيوانات الاخرى (خاصة الشمبانزي). مع ذلك، نيتشه زعم فعلا ان بعض الافراد سوف يرتقون فوق الوحوش، بما في ذلك نوعنا، لكن هذا سيحدث فقط في المستقبل البعيد.

اذا كانت أنواعنا انحدرت من قرود احفورية اذن لماذا لا يتبعها شكل أعلى للحياة كما حصل للقرد عندما جرى تجاوزه من جانب الحيوان الانساني اليوم؟ طبقا لنيتشه، انواعنا البايولوجية هي معنى وغرض الارض حتى الان لأنها السهم الموجّه من قرد الماضي الى انسان المستقبل المتفوق، هذا الكائن الممجد والذي لا يمكن تصوره سيكون متقدم فكريا الى ما وراء الحيوان الانساني الحالي لأن أنواعنا البايولوجية تقدمت الى ما وراء الديدان المتواضعة.

يرى نيتشه ان التطوري الجمالي كالنحات، الرجل الأعلى القادم يشبه صورة مثالية نائمة في صخرة خام. في نحت هذا الكائن المتفوق، نيتشه كان يسترشد بظلاله، رغم انه بقي لا يختلف من حيث التدمير الناتج من ابداعيته الشديدة:

"شظايا تتطاير من الحجر، ما هذا بالنسبة لي؟".

خلافا للقس الصامت، بيار تيلار دي شاردان عالم جيولوجيا الحفريات والصوفي اليسوعي، نيتشه لم يتكهن بالغاية النهائية للتطور البشري. بدلا من ذلك، تأسست ميتافيزيقاه في العود الأبدي لنفس هذا الكون، أي، سلسلة لا متناهية من دورات كونية متشابهة. وبذلك لا وجود لتطور تقدمي من كون الى كون آخر.

وبالتالي، عملية نيتشه الكونية تمثل الوجود كصيرورة، يتحدد تطوره التيليلوجي الى انسان أعلى وبشكل صارم ضمن كل دورة. نيتشه لم يتأمل في الحياة او الذكاء او تطور خارجي في مكان آخر في هذا الكون. الفيلسوف لم يتخيل انقراضا جماعيا، تكنلوجيا النانو، الهندسة الوراثية، الذكاء الصناعي وسفر الانسان الى كواكب اخرى.

من الواضح، ان التقدم المستمر في العلوم والتكنلوجيا سوف يقدم إمكانات مذهلة للحياة الجديدة والكائنات الفائقة في العصور القادمة. نيتشه أخذ على محمل الجد الزمن والتغيير والتطور. هو كان مدركا جدا بأن هذا الكون لا يختلف كليا عن وجود الانسان. مع ذلك، تقدم فلسفته تحديا متفائلا لأولئك الذين يرغبون بالسير خلف بروق رؤيته ورعوده البطولية.

***

حاتم حميد محسن

العقل المسيطر* والعقل المحض هما نقيضان يصفان طريقتين مختلفتين تمامًا للتفكير في الوجود والعالم. يمثل العقل المسيطر نمطًا من التفكير القائم على الهيمنة، بينما يمثل العقل المحض نمطًا من التفكير القائم على التقبل، العقل المسيطر يرى العالم من خلال منظور الأنا، هذا النمط من التفكير يسعى دائمًا إلى السيطرة والتحكم، يميل العقل المسيطر إلى تصنيف الأشياء والأشخاص إلى ثنائيات مثل "أنا والآخر"، "الخير والشر"، هذا التفكير الثنائي يعزز من الشعور بالانفصال ويزيد من حدة الصراعات الداخلية، الهدف الأساسي لهذا العقل هو فرض إرادته على العالم. هذا يمكن أن يتجلى في الطموح الى السلطة، السيطرة على الموارد، أو حتى محاولة تغيير آراء الآخرين لتتوافق مع معتقداته، ينشأ العقل المسيطر من الخوف من المجهول وفقدان السيطرة. هذا الخوف يدفعه إلى محاولة التحكم في كل شيء، مما يؤدي غالبًا إلى التوتر والقلق المستمر يعتمد هذا العقل بشكل كبير على الهوية الشخصية أو الجماعية. فهو يتمسك بالأسماء، الألقاب، الانتماءات ويجد قيمته في هذه التعريفات.

العقل المحض: هو عقل متجاوز للانا، هذا النمط من العقل لا يسعى للسيطرة، بل يهدف إلى فهم وتقبل الواقع كما هو دون محاولة تغييره ،يرى العقل المحض أن كل الأشياء مترابطة ومتصلة ببعضها، لا توجد حدود واضحة بين "أنا" و"الآخر"، بل هناك شعور بالوحدة الشاملة بدلاً من السيطرة، يمارس العقل المحض التقبل والتعاطف، يتقبل الأشياء والأشخاص كما هم، دون أحكام مسبقة أو محاولات للتغيير، هذا التقبل يؤدي إلى شعور عميق بالسلام الداخلي، ينبع هذا العقل من الثقة في تدفق الحياة، لا يشعر بالحاجة إلى التحكم في كل شيء، مما يحرره من القلق والخوف، لا يتمسك العقل المحض بالهويات المحدودة. فهو يدرك أن الهويات (الجنسية، العرقية، الدينية) هي مجرد مفاهيم، وأن جوهر الوجود أعمق من هذه التعريفات.

العلاقة بين الأنا والعقل المسيطر

تتكون الأنا أو الهوية الشخصية من مجموعة من الأفكار والمعتقدات والتجارب التي تربطنا بأنفسنا، هذه الأفكار يمكن أن تكون حول من نحن، ما هو دورنا، ما هي معتقداتنا، وما هي مكانتنا في العالم ،تبدأ الأنا في التكون منذ الصغر من خلال التفاعل مع البيئة الموضوعية، نحن نجمع معلومات حول أنفسنا من خلال آراء الآخرين، إنجازاتنا، انتماءاتنا الاجتماعية (مثل العرق أو الجنس أو الطبقة)، وقيمنا الشخصية، كل هذه العناصر تشكل هيكلاً عقلياً نسميه الأنا .الأنا ليست كياناً ثابتاً، بل هي بناء هش يحتاج إلى الدفاع عنه باستمرار، شعورنا بالهوية والوجود يعتمد على استمرار هذا البناء، عندما يتعرض جزء من هذا الهيكل للخطر، فإن الأنا تشعر بالتهديد، على سبيل المثال، إذا كانت هويتي مبنية على أنني شخص ذكي، فإن أي انتقاد يمس ذكائي يُعتبر تهديداً وجودياً لهويتي، مواجهة هذا التهديد هو حافز تطور العقل المسيطر، وظيفته الأساسية هي التحكم في البيئة الخارجية والداخلية لضمان أن تبقى الأنا آمنة ومستقرة، يسعى العقل المسيطر إلى التحكم في الأحداث والأشخاص لكي تتوافق مع توقعات الأنا. على سبيل المثال، إذا كانت الأنا تعتقد أنها دائماً على حق، فإنها ستحاول السيطرة على النقاشات لفرض رأيها ورفض أي رأي آخر، مما يضمن ألا تتعرض هذه الانا للتهديد ،يتجلى ذلك بصورة واضحة في محاولة قمع المشاعر أو الأفكار التي تتعارض مع صورة الأنا، مثلاً إذا كانت الأنا مبنية على "القوة"، فإن الشخص يحاول قمع مشاعر الضعف أو الخوف، مما يؤدي إلى صراع داخلي، لذلك يمكن القول إن العقل المسيطر هو الأداة الدفاعية للانا، كلما كان التمسك بالأنوية قوياً، زادت الحاجة إلى السيطرة على كل ما يحيط بنا لضمان بقاء هذه الهوية. هذه العلاقة منطقية لأنها تشرح كيف أن خوف الأنا من الزوال أو التفكك يدفع العقل إلى محاولات مستميتة للتحكم في الواقع، مما يخلق حالة من الصراع الدائم والقلق.

العقل المسيطر والسلطة المركزية

العقل المسيطر يؤدي بشكل مباشر إلى نشوء السلطة المركزية، يمكن تفسير هذه العلاقة من خلال فهم المبادئ الأساسية للعقل المسيطر وكيفية تطبيقها على المستوى الجماعي، مثلما يسعى العقل المسيطر الفردي إلى حماية هويته الشخصية (الأنا)، فإن العقل المسيطر الجماعي (لمجموعة إثنية) يسعى إلى حماية الهوية المشتركة، هذه الهوية الجماعية مبنية على معتقدات وقيم مشتركة، وتصورات تاريخية، وإحساس بالانتماء. هذه السيطرة لا تقتصر على الحدود الجغرافية، بل تمتد لتشمل التحكم في الموارد، القوانين، وحتى السرديات التاريخية والثقافية، هذه الحاجة هي التي تدفع نحو إنشاء هياكل قوية قادرة على فرض هذه السيطرة ،كي تتحقق السيطرة الجماعية لا بد من وجود كيان أو مؤسسة تمثل إرادة العقل المسيطر الجماعي، هنا يأتي دور السلطة المركزية (مثل الدولة أو الحكومة) هذه السلطة تصبح هي الأداة التي توحد وتفرض إرادة المجموعة، وتضع القوانين والأنظمة لضمان التماسك الداخلي والدفاع عن الهوية الجماعية ضد التهديدات الخارجية ،العلاقة بين المفهومين ليست من جانب واحد، بل هي تبادلية، العقل المسيطر يخلق السلطة المركزية، ثم تقوم هذه السلطة بدورها بتغذية وتعزيز العقل المسيطر ،السلطة المركزية تستخدم آلياتها ،التعليم، الإعلام، والقوانين، لتعزيز السرديات التي تدعم الهوية الجماعية وتبرر وجودها وسيطرتها ،هذا التعزيز يرسخه العقل المسيطر لدى الأفراد، مما يجعلهم أكثر تمسكاً بالهوية الجماعية، وأكثر قبولاً لمبدأ السيطرة المركزية ،لذا يمكن النظر إلى السلطة المركزية على أنها التعبير المادي أو المؤسسي عن العقل المسيطر لمجموعة اثنية. كلما كان هذا العقل أكثر تمسكاً بالهوية وأكثر خوفاً من "الآخر"، كلما كانت السلطة المركزية التي ينشئها أكثر قوة وشمولية في سيطرتها.

الإيديولوجيا ونقد العقل المسيطر

الإيديولوجيا تركز بشكل خاص على الأنظمة الفكرية التي تُستخدم لتبرير السياسات أو الممارسات الاجتماعية، مثل الإيديولوجيات السياسية أو الاقتصادية، اما نقد العقل المسيطر يتناول أوسع من ذلك، حيث ينظر إلى العقلية العامة التي تؤثر على طريقة تفكير الأفراد والمجتمعات بشكل عام، نقد الإيديولوجيا يسعى إلى فضح التلاعب الفكري ويهدف إلى تحرير الأفراد من قيود الأفكار المهيمنة، اما نقد العقل المسيطر يهدف إلى تفكيك الأنماط الفكرية السائدة بشكل أعمق، مما يمكّن الأفراد من التفكير بشكل مستقل واستكشاف بدائل جديدة، يمكن القول إن نقد الإيديولوجيا هو جزء من نقد العقل المسيطر، حيث يتناول كيفية تأثير الأفكار السائدة على المجتمع، ولكنه يركز على جوانب محددة من تلك الأفكار.

الأيديولوجيا والسرديات التاريخية

هناك علاقة وثيقة بين نقد الإيديولوجيا ونقد خطاب السرد التاريخي، حيث يتداخلان في عدة جوانب، نقد الإيديولوجيا يسعى إلى فضح كيف تعكس الروايات التاريخية مصالح معينة وتبرر هيمنة فئات معينة، نقد خطاب السرد التاريخي يركز على كيفية تشكيل السرد التاريخي للحقائق والأحداث من منظور معين، وكيف يمكن أن يكون محملاً بأيديولوجيات معينة، كلا النقدين يتناولان العلاقة بين السلطة والمعرفة، حيث يُظهران كيف يُستخدم التاريخ كأداة للسيطرة الإيديولوجية، كما ان السرد التاريخي يؤثر على الهوية الفردية والجماعية وبالتالي يشكل الانوية الفردية والجماعية وفهم تطور السلطة المركزية في التاريخ العام. نقد الإيديولوجيا يساعد في كشف كيف يمكن أن تكون هذه السرديات مُعزِّزة للتمييز أو الهيمنة، ويهدف إلى تفكيك الأفكار السائدة حول التاريخ وإظهار تحيزاتها، نقد خطاب السرد التاريخي يستخدم أدوات تحليلية لفهم كيفية تشكيل الروايات التاريخية للمعاني والأحداث، وكيف تعكس أو تعزز الإيديولوجيات، مما يمكن الأفراد من رؤية تاريخهم بشكل شامل ومنصف، من خلال تحليل ونقد العقل المسيطر، يمكن اكتشاف كيفية تشكل الأفكار والمعتقدات المجتمعية وكيفية استمرارها في تاريخ الهيمنة السلطوية.

***

غالب المسعودي

..........................

* العقل المحض هو مفهوم فلسفي محدد يشير إلى قدرة العقل على التفكير بشكل مستقل عن التجربة، بينما "العقل المسيطر" هو مفهوم أوسع يمكن فهمه في سياقات مختلفة تتعلق بالهيمنة والتأثير.

ليس العقلُ مَلكةً ولن يكون، بل خطأ اعتباره (حاسةً خفيةً) تشرفُ على الحواس الأخرى. فذلك يعني أنَّ دوره فارغ الدلالة لا محالة، وأنَّه ليس مناطَ الفهم والفعل في حياة الإنسان. يسُوق تراث اللغة العربية "تعريفاً ثقافياً" عجيباً للعقل، من حيث كونه (رابطاً للأفكار) لا أَكثر ولا أقل. رَبطَ الرجلُ الناقةَ.. أي أوثقها ساكنةً دون الحركة مخافة الشُرود. وجذرُ العقل في العربية آتٍ من العِقَال دالاً على"عِقَال البعير". أي ثنائية (العَقْل والعِقَال) تجاه قدرات البشر طالما ثمة إمكانية للهيمنة. ذلك من باب قيادة الكائنات البشرية سائرةً بحسب التقاليد الغالبة. يعقل الإنسانُ الأحوال ... يتدّبرها وفقاً لمرجعيةٍ ما، يقلّبُها ربطاً بكافة الأبعادَ والجوانبَ.

ولكن السؤال: ألَاَ يُجدد التبادل الدلالي بين(البعير) و(الإنسان) إشكاليةَ الفكر والسلطة لدينا؟! ما وجه الطرافة في اعتبار العقل عِقَالاً في المجال العام؟ ما معنى أنْ يخرج العقل من الرأس؟!

عقال بعير

عِقال البعير حبلٌّ مصنوعٌ لغرضٍ يومي: هو استعمال قدرتنا على ترويض الحيوانات الشاردة. وعندما يقوم العقلُّ بمهمةٍ كهذه للجانب الحيواني من الإنسان، فهناك إسقاط لترويض غرائزه وحواسه بالطريقة ذاتها. وهذا دور أخلاقي مُسيَّس في غير موضعه. فكل ترويض لطبائع الحيوان داخلنا لا يخلُو من سياسةٍ ما أيا كانت الأنظمة الاجتماعية الواقفة بالخلف. أشارت الثقافة العربية: أنّ العقل يحُول دون انحراف الإنسان ويُهذّب رغباته. أي يشكل العقل لوناً من سياسة الكائنات البشرية إزاء قدراتها الجسدية والنفسية. إلى تلك الدرجة، جاء الإنسان كالدّابة الموثوقةِ، بينما جاء (عقدُ العِقَال) إزاء الآخرين بوصفه دوراً منتظراً للعقل. فهو (رابط عام) يتعيّن له تحديد مشروعية الفكر وماهية الأشياء والعلاقات بين الناس.

عمليّاً تقول الفكرة السابقة: ليكُن العقلُّ رابطاً لوجودنا، حتى يضع الإنسان عقله في رأسه لا مكان آخر. أي يضع مصدر المشاكل والدهشة والانتباه في تلافيف رأسه منعاً للازعاج. والرأس هي الحاملة للوعي، رمز الشموخ والخُيلاء، وكذلك علامة مُعلنة كمحلٍّ للإدانه. خلال التراث العربي الاسلامي، عندما كان يتم الاقتصاص من شخصٍ قاتل، يجري جز رقبته بالسيف. علامة تنال منه مثلما قتل هو انساناً غيره. ثمَّ إنَّ هناك استعمالاً متعدداً لكلمة الرأس، فيقال: رأسُ الأمر.. أي لبهُ وجوهره. رأسُ الحكمة.. أي منبع التدبُر والقرار القويم. ورأس التفكير.. أي مركز توجه الإنسان ومحرك أفعاله. المثل الشعبي يُردد:" اللي عقله في راسه يعرف خلاصه". حينما تفكر تجاه الاحداث حولك، ستُدرك حينها كيف تكسر الدائرة؟ دائرة ترسم مجالات الفعل ورد الفعل بلا طائل. حيث تكون مقيداً بما يُملى عليك لتُردد الأفكار جيئةً وذهاباً، ثم لا تتطلع إلى أكثر من ذلك!!

مَنْ قيّدَ العقل؟

كلُّ هذا دون إثارة الأسئلة المزعجة: من وضَع العقل ثقافياً في الرأس؟ مَنْ صنع الحدثَ محل الخلاص أصلاً؟ مَنْ رسمَ الدائرة للإنسان ابتداءً؟ ولماذا علينا الالتزام بها حتى نكون عقلاء؟ ولماذا يحمل الخلاص إدانة سلفاً لصاحب العقل؟ كأنّه ينبغي لمَنْ يعقل من الناس: أنْ يقع متهماً قبل أنْ يفعل أي شيء. وينبغي له السقوط في دائرة ليس صانعاً لها، وعليه البحث عن خلاصٍ كان في انتظاره بشكلٍّ ما. ولكن ما نوع الإدانة التي نقع نحن البشر تحتها ثقافياً؟ وأيُّ اتهامٍ هذا الذي ينطلق فجأةً دون جُرم واضحٍ؟! هل استعمال العقل جريمة في سياقٍ ثقافيٍّ معين؟ هل حرية العقل تعني الوعي بقيوده أولاً؟! وفي هذه الحالات: ما نوع العقوبة المفترضة تجاه العقل؟ هل ستتم العقوبة من جنس العمل أم أنها ستجري دون أنْ نشعر؟ لماذا تهجس اللغة العربية بهكذا جريمة وعقاب بينما يغيب الإنسان عنها؟

بكلمات واضحةٍ: تريد بعض جوانب الثقافة العربية إمساك العقل عن الحركة. ويأتي- في الأخير- كي يسير وفقاً لقواعد منضبطةٍ اجتماعياً دون سواها. بالطبع لن يستطيع العقلُ التخلص مما يُوضع له طالما هناك وجود رمزي للحقائق. من تلك الزاوية، ظهرت فكرة السلطة داخل جوانب الثقافة العربية التي ترسّخ كيانها فوق أي عقل. جاءت السلطة مع كل تعريف للعقل بحكم وجودها في منبت اللغة التي نعرّف بها الأشياء والعالم. ولكن فيما يبدو حدثت هناك حيلةٌ ثقافيةٌ لطيفة. فبدلاً من القول: إنّ العقل في مرتبةٍ أدنى وهذا أمر غير مستقيم، اسندت الثقافة العربية وظيفة الرباط (التربيط/ التشبيك/ التثبيت) إلى العقل نفسه. أي تمَّ حصر وظيفة العقل في تلك العملية كأساس مرهون به. قالت عليك أنْ تقوم بتقييد نفسك، حتى لا يظهر أنك ضعيف (بيدي لا بيد عمرو)!!

بدا الأمر كأنه تنازل ظاهري من السلطة بالخارج لتكون حاضرة داخل العقل. هي آلية كل سلطة حين تريد الاختباء ثقافياً في التفاصيل، وأنْ تقول لك أن َّالاشياء تجرى على علتها لا علةً أخرى. أي تمّ استدراج معنى العقل ليعمل الأخير مندُوباً عن السلطة كما تبُوح اللغة العربية، سواء أكانت سلطة الاعتقاد أم سلطة المجتمع أم سلطة السياسة...الآلية واحدة والأثر الواقع على الإنسان مماثل.

هذا تسليم مسبق مؤدّاه أنَّ قواعد عمل العقل لدينا لن يصنعها (العقل) لنفسه، ولا يمثل مرجعاً ولا معياراً للحكم عليها. والأخطر أنَّه لن يتمكن من تغييرها شاءَ أم أبى. إليس العقل مجرد رباط عام وفقاً للنسق المُشار إليه؟! وعليه أنْ يربط التصورات على هيئة أفكار أو عقائد ليس إلاّ. إنّ ربط الأفكار يعني صناعةَ عقدةً صلدة حولها. لقد تبلورت حقيقة معتقداتنا نحن البشر خلال بقعتنا من العالم في هذا الاتجاه. أفكار بلغت درجة اليقين نتيجة العقدة المغلّظة عليها. ولذلك سُميّت المعتقدات بهذا الاسم، نتيجة وجود أشياء معقود عليها بواسطة المشاعر والتصورات والأحاسيس والأخيلة. كلُّ ذلك يعبر عن قدرة العقل العاكسة إزاء ما لدينا من قناعاتٍ سابقةٍ. وكأنَّ العقل يؤدي دور (الحفظ والتوثيق والترديد) عبر الثقافة الطاغية. وهذا أحد وجوه الأزمة التي أصابت مسارات العقلانية في تاريخ ثقافتنا العربية الاسلامية.

العقل والسلطة

في هذا الاطار، جرى الافصاحُ عن أسرار التعريف السابق إزاء العقل كالتالي:

1- يأتي العقل مُتأخراً عن محتوى الفكر والمعرفة والحقائق. وهذا نتيجة غلبة العادات الثقافية التي تقف كسلطة عميقة إزاء الفكر.

2- أثرُ العقل بمثابة الختم البرّاق الذي يُمرر الأشياء. فقط يترك بصمته من الخارج. وكأنَّ رقابته على كل وضع موجود ثقافياً لا محل لها من الاعراب. والمغزى يقول على العقل أنْ يدرك الأشياء ويميز بينها، ولكنه يعجز تماماً عن التغيير والتطوير.

3- هناك سلطة ما فوق قدرة العقل على تحديد الأشياء وخارج التأثير فيها. والمقصود أن العقل كلما بدا خارج الدائرة، عليه العودة إليها ثانيةً. وأنَّ السلطة تأتيه مباشرةً عن كثبٍ. فأهم ما تمّ هو استحضار السلطة لذاتها مع حركة العقل. ولذلك فإن الخوف والرقيب يسكنان عقول الأفراد بهذا المعنى.

4- طالما ربط العقل الأفكار بصورة سلبيةٍ، فلا يتساءل إزاءها ولا يكتشف جوانبها. ثمة خط مفهوم ضمناً أن العقل يتقبل دون أن يصدر شيئاً، لا يتساءل ولا يقفز على الطوق.

5- سيظل دورُ العقل مهمشاً، لأنه يحضر شاهداً بالإنابة ليس أبعد. ومن ثمَّ لا يتم النظر إلى العقل بوصفه مستقلاً ولكنه تحت الوصاية. فالناس يُوضعون تحت الوصاية بهذا المنطق. الابن تحت وصاية الاب، العامل تحت وصاية مرؤوسيه، الزوجة تحت وصاية زوجها، المجتمع تحت وصاية نظامه المهيمن.

6- الغريب أن العقل سيتحمل مسئوليةَ أشياءٍ لم يفعلها. مسئولية عامة دون مسئول من جنسها، إذ تبدو المسئولة الفكرية فارغةً من مضمونها.

7- يتم القصاص من العقل بفعل فاعل مجهول الهوية. لأنّ العقل يحضر ليربط الأشياء المُقدمة له فقط. وبالتالي فإنّ اعتباره مجرد وسيلة شأن يقلل منه ويعتبره محط عقوبة نافذة. وهذا ما جرى مع أغلب المبدعين العرب قديماً وحديثاً.

8- إن هناك تاريخاً للتأخُر الفكري وأن هناك تراثاً وراء وظيفة العقل الثانوية في بعض جوانب الثقافة العربية. الغاية من التاريخ هو اقناع العقل بكونه موضوعاً في مكانه الصحيح، وأن هناك ميراثاً غير قابل للتفاض حول الأمر، فليكن استعماله كما كان طوال الوقت.

9- العقل بوصفه قيداً وراء قيدٍ هو أمر يصعب الوعي بأنه كذلك. لأن البديل في تلك الحالة هو اللاعقل، أي الجنون. وإنه مثلما تتم صناعة العقل، كذلك يتم تصنيع الجنون ثقافياً باعتباره خروجاً عن السلطة.

10- اخطر شيء أن يُنتزع العقل من نظامه العام، والنظر إليه معلقاً على سترة نظام آخر ومنفذاً لترتيبات سلطوية مغايرة لآلياته.

كسر الدماغ

إذا تأملنا الأمر السابق، سنجد هناك بارقة أمل مختلفة إلى حدٍ ما. لأنّ (الإنسان العاقل/ المتعقل) هو من يحمل مفارقة رفض هذا الرباط غير المقدس. العاقل هو مَنْ يشب على الطوق محطماً الحدود التي تعوق الحياة الحُرة. العقل يتمرد تجاه الدوائر المحرمة. إن تاريخ العقل يكشف قدرته المدهشة على كسر الحواجز لا الاستكانة لها وإلّا لما ثار البشر وتطورت المجتمعات!! وإذا كان (عقال البعير) مرتهناً ببعض الرواسب الثقافية، فالعقل يبني ذاته في فضاء الحياة، ينضُو عن نفسه العوالق البيئية. هناك مفكرون في التراث العربي أمثال: عمرو بن بحر الجاحظ، أبي حيان التوحيدي، أبي منصور الحلاج، ابن عربي، ابن رشد قد دفعوا العقل للتحليق بعيداً. التحليق في آفاق من التجارب المعرفية والروحية التي تساءل سلطة الفكر.

الجانب الآخر للمسألة هو الحث على استحضار العقل إزاء كل شيءٍ بالخارج. لأنّه ليس متصوراً تفريغ رأس الإنسان من عقله مجاناً. طبيعي أنَّ رأساً بلا عقل لهي رأس بلا كرامة، رأس بلا حقيقةٍ، رأس بلا معنى، رأس بلا إنسانيةٍ. ولكن الفكرة الطريفة أنَّ الانسان عليه أنْ يتحسس عقله مثلما يتحسس مسدسه عند المخاطر. في هذا الحال، يستطيع التصرف ويتجاوز العقبات بحنكة فائقة. فالإنظمة الاجتماعية عبارة عن تراكم من المعضلات صغرت أم كبرت، يسير الأفراد خلالها كأنّهم يتوغلون في حقول ألغام. ومن ثمّ، فإن اهمال التساؤل والفهم أمور لا تُحمد عقباها.

وَرَدَ في بعض الشعر النبطي:

..." مالي على عقل المخاليق سلطان

كلّ في راسه عقل يعرف خلاصه

درع المبادئ يفرق إنسان وإنسان

واللي نزع درعه تجيه رصاصه.."

لم يعد العقلُّ اكسسواراً كما يُقال عن عقل المرأة المُعطل عن الانتاج في البيئات الشرقية. العقل فعالية حُرة قادرة على النقد والتجديد بكافة المجالات. إنه سبب النجاحات الوظيفية والعملية والسياسية إلى أخر الفضاءات. والثقافة العربية خضعت لظروف تاريخية عطلت العقل عن اطلاق طاقاته الكامنة.

لا يعني ذلك أنَّ وضعاً يُقلل من شأن العقل قرارٌ نافذ الحكم. لعلّ الثقافة العربية، حين رفضت وظيفة معينةً للعقل مثل النقد وتفكيك العادات والتقاليد ومساءلة الموروثات ونقض السلطة، لم تستطع تحجيم قدراته على التحرر. العقل بأشكاله هو طوق النجاه الذي تنتظره مجتمعاتنا العربية. ليس العقل جراباً مثل (جراب الحاوي)، لكنه ضربٌ من القدرات القابلة للصقل والتدريب والتطور لإنجاز الاعمال. إنه إبداع منفتح لم يكن مُتاحاً من أول وهلةٍ، إبداع يمارس دوره الفعال دون توقف. وستكون هناك مفاجأة للعقل الحيوي بهذا المعنى، لأنه يوجد بالزخم نفسه في أي مجال سواه. كما أنه يستثمر الفُرص لقطع أشواط من الحركة والممارسة. إنَّ احياء دور العقل نقدياً هو البُعد المنتظر لرسم خريطة المستقبل لمجتمعات أرهقها الماضي حد الانهاك.

من الأهمية معرفة أنَّ عقلاً خارج الرأس دعوة للتفكير الحر، دعوة للتحليق بعيداً عن الأُطر الصارمة. ورغم كونّها حالة بدهية: أن نُدرك وجود العقل في المنطقة العليا من جسمنا، لكنها حالة معقدة إزاء ثقافة مجتمعاتنا الشرقية. لأن الأخيرة تريد أنْ يسير الناس وأرجلهم بالأعلى بينما تنغرس الرؤوس بالأرض. أحياناً تعدُّ البديهيات أكثر صعوبةً من الأشياء العادية حين تحتاج مجهوداً لاثباتها. والخلاص يمكن تأويله بخلاف ما سبق من ضعف مسئولية الفكر. الخلاص قدرتنا على بناء التاريخ باستعمال العقل. الحضارة عقل، التكنولوجبيا عقل، المدنية عقل، الديمقراطية عقل، الذوات عقول متحركة، المجتمع عقل. الخلاص هو تأويل تراث العقل لصالح الإنسانية وارتياد أبعادها الرحبة.

هل العقل يمكن أنْ يقع خارج ذاته؟ بالقطع: إنَّ عقلاً خارج الرأس يعني أنه يتحرك في المجال العام. إن تاريخ الاستبداد يتبلور في مقولة واحدة: ضّع عقلك في رأسك واصمت. ولكن العقل خارج الرأس يدل على النقد. العقل خارج الرأس يعني التطور المعرفي. العقل خارج الرأس يعني العقلانية التي تزن الأمور وتقيم السياسات. العقل خارج الرأس يعني نظاماً بين الذوات القادرة على العيش المشترك والاعتراف بالتعددية والاختلاف والتنوع. العقل خارج الرأس يدل على بناء وعي متطور وطرح الأسئلة دون خوف.

حين تكون عقولنا خارج الرأس، ستُخصب الرؤى لا مجرد رابط سلبي يستحضر القمع والتسلط. بينما تردد الثقافات المغلقة عليكم حفظ عقولكم داخل الرؤوس. فلا نحتاج في مجتمعاتنا العربية إلى حشو العقول في الأدمغة، فهي موجودة بالفعل، ولكننا نحتاج إلى إلقاء العقول في أرجاء وتفاصيل الشأن العام. وإذا كانت السلطة هي الدماغ الكبير الذي يحوي كافة التفاصيل، فلا مجال غير كسر هذا "الدماغ البيو سياسي الكبير"brain biopolitical Big. دماغ يتوسّع باستمرار في أي وقتٍ، ولا يرى بديلاً عن مناطحة من يقف في مرمى توجُهاته. دماغ عبارة عن خليط من السياسة والدين والفن والرؤى الشعبية ليتكتل أمام كل الرؤوس المغايرة.

لقد تكونت مجتمعات داخل هذا " الدماغ الضخم " الذي تصفُر فيه رياح الخواء والقهر والتسلط. في المقابل لم تكن هناك أية قيمة لعقول الأفراد، حتى ولو كانت عقولاً عبقرية ومبدعةً. المهم أنْ يعيش" الدماغ الضخم" على حساب كل الأدمغة الأخرى، وأنْ يقتات على حياة الجماهير المغلوب على أمرها. وذلك كان سبباً كافياً لخنق العقل الثائر داخل رأس الفرد، وعلى كل إنسان أنْ يشترى خلاصه الشخصي بأي ثمن. وإذا كان أغلب تاريخ الثقافة العربية يدورُ حول العقل داخل الرأس (الحِكّم / الخطابة / الأشعار/ السيّر/ المناقب/ القصص / الروايات)، فنظراً لأن الإحساس بالواقع ضعيف بفعل فاعل.

آن الآوانُ ليخرج العقل خارج الرأس. ليس خياراً ولا رفاهية بل ضرورة. فالإنسان قد يجد رأسه مسروقةً أو مستباحةً تحت عناوين شتى. وتلك هي تجارة الأنظمة المعتادة على سرقة الأعضاء الثقافية. تماماً مثل تجارة الأعضاء البشرية، أكبر عملية سطو حدثت في تاريخ المجتمعات هو سطو الأنظمة على أدمغة مواطنيها. فجأة سيكتشف الناس: أنّهم يحملون رؤوساً ليست لهم رغم كونها واقفة على الأكتاف. وهناك من لا يكتشف طوال حياته أنَّ عقله خارج السيطرة، وأنَّه يتحرك بمثيرات وشروط ليس متحكماً فيها. أقوى علاقة انتماء هو انتماء الرأس لحاملها، انتماء الأنا إلى الإنسان قبل أن يقول للأخر أنت.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

في العلوم الطبيعية، يمكن استخدام التجربة المختبرية لعزل المتغيرات، ومختلف الجسيمات وحركاتها. ونفس الشيء، استخدام النماذج الاقتصادية القياسية econometric model هي محاولة لإنتاج مختبر اقتصادي يتم فيه إجراء تجارب تحت السيطرة. فكرة استخدام مختبر كهذا هي مغرية جدا للاقتصاديين والسياسيين. حالما يتم بناء النموذج والقبول به كنسخة جيدة للاقتصاد، فان السياسيين يمكنهم تقييم مخرجات مختلف السياسات عبر هذا النموذج.

يُقال انه عبر استخدام النماذج القياسية الاقتصادية، يمكن للنخب عمل قرارات "علمية" قائمة على البحث ومرتكزة على الخبرة الاقتصادية. هذه النماذج، كما يقال، تعزز فاعلية سياسات الحكومة وتقود الى اقتصاد أفضل وأكثر ازدهارا. يُقترح ايضا ان النماذج القياسية يمكن ان تخدم كمرشد في تقييم صلاحية مختلف الافكار الاقتصادية. الهدف الآخر للنموذج القياسي هو إعطاء اشارة بشأن مستقبل حالة الاقتصاد. من خلال وسائل الطرق الرياضية والاحصائية، يؤسس مهندس النموذج علاقات بين مختلف المتغيرات الاقتصادية. فمثلا، الإنفاق الاستهلاكي الشخصي يتم ربطه بالدخل الشخصي المُتاح(الصافي) وأسعار الفائدة، بينما الإنفاق الرأسمالي يتم توضيحه عبر المخزون السابق لرأس المال وأسعار الفائدة والفعالية الاقتصادية. المعادلات او مجموعة هذه العلاقات المقيّمة تشكّل نموذجا قياسيا.

لكي نحكم على موثوقية النموذج، يُقارن ببيانات واقعية وبقوته التنبؤية. الاختبار النهائي للنموذج هو استجابته لتغيير متغير السياسة، مثل زيادة في الضرائب او زيادة في الانفاق الحكومي. عبر تقييم نوعي، يقرر مهندس النموذج ما اذا كانت الاستجابة معقولة ام لا. حالما يتم بناء النموذج بشكل ناجح، سيكون جاهزا للاستعمال. طبقا لهذا النموذج القياسي، نكوّن رؤية بشأن العالم الواقعي مرتكزة على مدى نجاح مختلف اجزاء المعلومات في الارتباط ببعضها البعض.

يجب ملاحظة ان تأسيس ارتباط بين انفاق المستهلك ومختلف اجزاء المعلومات الاخرى لا يوضح في الحقيقة طبيعة انفاق المستهلك، انه فقط يصف الاشياء. المراقب لايقول أي شيء حول طبيعة الاشياء عبر ملاحظة هذا الترابط في البيانات التاريخية. هذا النوع من المعلومات لايخبرنا كثيرا عن الاسباب الكامنة والتأثيرات. فمثلا، حقيقة ان ارتباطا قويا تأسس بين انفاق المستهلك والدخل المتاح لايعني ان انفاق المستهلك نتج بسبب الدخل المتاح. من الممكن جدا ان شخصا قد يجد ارتباطا قويا ببعض المتغيرات الاخرى. هل هذا يعني ان المتغير الآخر هو سبب انفاق المستهلك؟

لكي نفهم البيانات، يجب ان نفترض مسبقا نظرية تقف على قدميها ولا تبرز من البيانات. جوهر مثل هذه النظرية هو انها يجب ان تنبثق من مسلمات منسجمة وغير عشوائية ولا تقبل التفنيد و توضح ارتباطات سببية في الواقع التجريبي. نظرية اقتصادية تقوم على اساس ان الكائن البشري يتصرف بوعي وبهدفية، تتوافق مع هذا المطلب. هذه المسلمة لايمكن تفنيدها بدون تناقض آدائي.

لودفيج فون ميزس Ludwig Von Mises (1) هو صاحب هذا الاتجاه و اطلق عليه paraxeology البراكسولوجي (2). طبقا لإدراكه بان الكائن البشري يتصرف بوعي وبهدفية، كان ميزس قادرا على اشتقاق الهيكل الكامل للاقتصاد. وبالنتيجة، استنتج انه ، على عكس العلوم الطبيعية، حيث الاسباب الحقيقية غير معروفة لنا، في الاقتصاد، المعرفة بان الكائن البشري يتصرف بوعي وبهدفية يسمح لنا بتمحيص ماهية الاسباب الحقيقية. الاسباب تنبعث من البشر انفسهم.

هل الطريقة الرياضية صالحة في الاقتصاد؟

عبر تطبيق الرياضيات، الاقتصادات السائدة تحاول اتّباع خطى العلوم الطبيعية. في العلوم الطبيعية، استخدام الرياضيات يمكّن العلماء من صياغة الطبيعة الاساسية للاشياء. عن طريق الصيغة الرياضية، استجابة الشيء لمحفز معين في ظرف معين يتم التقاطها لاحقا ضمن هذه الظروف المعطاة، وان نفس الاستجابة يتم الحصول عليها مرة بعد اخرى.

نفس الاتجاه غير صالح في الاقتصاد. الاقتصاد يُفترض ان يتعامل مع فعل، اختيار كائن بشري وليس شيئا. طبقا لميزس التجربة التي يجب ان تتعامل فيها علوم الفعل البشري هي دائما تجربة لظاهرة معقدة. لا تجربة مختبرية يمكن ادائها بشأن الفعل البشري. الخاصية الرئيسية او طبيعة الكائن البشري هي انه كائن عقلاني. هو يستعمل عقله لتقييم واختيار وسائل لإنجاز الاهداف. مع ذلك، العقل غير مستعد لإتباع نوع من الإجراء الاوتوماتيكي وانما كل فرد يوظف عقله طبقا لظروفه الخاصة. هذا يجعل من المستحيل التقاط طبيعة الانسان عبر وسائل الصيغ الرياضية كما يحصل في العلوم الطبيعية.

السعي لتحليل كمي يعني امكانية تعيين أرقام يمكن ان تكون عرضة لكل عمليات الحساب. لإنجاز هذا، من الضروري تعريف وحدة ثابتة موضوعية. هذه الوحدة الموضوعية لا توجد في عالم التقييمات البشرية. حول هذا كتب مايزس: "لا وجود هناك في حقل الاقتصاد لعلاقات ثابتة، وبالنتيجة لا قياس ممكن". لا وجود هناك لمستوى ثابت لقياس الأذهان، القيم، وافكار الناس. الناس وكلاء يتصرفون، يختارون في ظروف تاريخية فريدة لا تتكرر. الافراد لديهم حرية اختيار تغيير عقولهم والسعي لأفعال تتناقض مع ما لوحظ في الماضي، خلافا للاجرام السماوية المُلاحظة في الفيزياء. التحليلات في الاقتصاد يمكن ان تكون فقط نوعية بسبب الطبيعة الفريدة للكائن البشري.

ان استعمال الرياضيات في الاقتصاد يثير مشكلة اخرى خطيرة. استخدام الدالات الرياضية يتضمن ان الافعال البشرية تتحرك بعوامل مختلفة. فمثلا، على عكس الطريقة الرياضية في التفكير، انفاق المستهلك على السلع لم "ينتج" عن الدخل. كل فرد في سياقه الخاص يقرر كم من الدخل سوف يستعمل للاستهلاك وكم للادخار. بينما صحيح ان الافراد يستجيبون للتغيير في دخولهم، لكن الاستجابة ليست اوتوماتيكية، ولايمكن التقاطها بصيغة رياضية. الزيادة في دخل الفرد لاتتضمن اوتوماتيكيا ان انفاقه الاستهلاكي سيتبع. كل فرد يقيّم الزيادة في الدخل مقابل الاهداف التي يريد تحقيقها. وهكذا، هو ربما يقرر بانه من المفيد كثيرا له زيادة التوفير بدلا من زيادة استهلاكه.

نظرا الى ان الكائن البشري محكوم بحرية الاختيار وظروفه المتفرده، فان مختلف تحليلات السياسة عبر وسائل النماذج، تُعرف "ماذا لو" او تحليلات المضاعف (3)، يُحتمل ان تخلق نتائج عرضة للتساؤل. في النهاية، افتراض ان التغيير في سياسة الحكومة سوف يترك هيكل المعادلات سليما يعني ان الافراد في الاقتصاد ليسوا أحياءً وانما هم في الحقيقة مجمدين.

مشكلة اخرى كبيرة في معظم نماذج الاقتصاد القياسي هي انها مصممة على طول خطوط التفكير الاقتصادي الكنزي. المتغير الرئيسي في هذه النماذج هو الناتج المحلي الاجمالي GDP، والذي يتم توضيحه ضمن اطار نموذج بواسطة التفاعلات بين مختلف البيانات التراكمية التي تُعرف كتراكمات. التفاعل بين مختلف التراكمات في اطار النموذج يعطي انطباعا بان الاقتصاد هو حول الناتج المحلي الاجمالي او حول ميزان المدفوعات، لكن ليس حول الكائن البشري او حياة الانسان. من الواضح، ان هذا يعمل بالضد من حقيقة ان كل شيء في عالم الانسان يُنتج بواسطة سلوك الانسان الهادف.

مختلف الإضافات التي اُدخلت على النموذج مثل نموذج ARMA (وهو نموذج احصائي يُستخدم في تحليلات السلسلة الزمنية للتنبؤ بقيم المستقبل) تعاني من نفس المشاكل المنهجية. يكتب مازس:

"الطريقة الرياضية يجب ان تُرفض ليس فقط بسبب عقمها. انها طريقة شريرة بالكامل، تبدأ من افتراضات زائفة وتقود الى استنتاجات مغلوطة. قياساتها ليست فقط عقيمة بل انها تحرف العقل عن دراسة المشاكل الواقعية وتشوّه العلاقات بين مختلف الظواهر.

استنتاج

الإعتماد على نماذج الاقتصاد القياسي كأساس لتكوين رؤية حول حالة الاقتصاد يولّد محصلات مشكوك فيها. انه نموذج خاطيء كليا لدراسة الاقتصاد الذي يرتكز على فعل الانسان واختياره وتقييمه الذاتي. النماذج الاقتصادية القياسية لا يمكن ان تنتج الكثير من المعلومات حول الأسباب. ما مطلوب لتمحيص الأسباب هو نظرية متطورة ومنسجمة منطقيا لا يتم اشتقاقها من البيانات. النظرية التي تلبّي هذا المطلب هي تلك التي طورها لودفيج فون ميزس .

***

حاتم حميد محسن

....................

الهوامش

(1) لودفيج فون ميزس (1881-1973) فيلسوف واقتصادي نمساوي/امريكي، كان من أبرز مفكري المدرسة الاقتصادية النمساوية. عُرف بعمله الباراكسولوجي وبنقده للاشتراكية ودعوته لحرية السوق والليبرالية الكلاسيكية.

(2) مصطلح باراكسولوجي يشير الى دراسة الفعل الانساني ويركز على أسباب وهدف الافعال بدلا من ملاحظتها فقط. هو اتجاه فلسفي يرى سلوك الانسان مندفع بعمل قرارات هادفة ومقصودة بدلا من مجرد كونه ردود أفعال. المصطلح صاغه لودفيج ميزس لتحليل السلوك الاقتصادي.

(3) مفهوم تأثير المضاعف multiplier effect هام جدا في الاقتصاد ويُستخدم لقياس نسبة التغيير في الدخل عندما يتم تغيير الانفاق. عندما تقوم شركة بانفاق مائة مليون دولار لتوسيع مصانعها، وبعد سنة من الانتاج في التسهيلات الجديدة يبلغ دخل الشركة مئتي مليون دولار هذا يعني ان تأثير المتعدد = 2 اي ان كل دولار اضافي مستثمر خلق دولارين اضافيين من الدخل. الزيادة في الدخل القومي (مائة مليون) سوف تخلق زيادة في دخل الفرد الصافي والذي بدوره يخلق زيادة محفزة في الانفاق الاستهلاكي. العمال الذين يحصلون على دخل جديد من بناء المصانع سوف ينفقون جزءا منه في شراء سلع استهلاكية وهذا يعني زيادة المخرجات وزيادة العمالة لمواجهة الطلب المتزايد، مما يعني دخول جديدة تظهر للعمال والشركات وسينفقون منها مرة اخرى وهكذا.

 

النهضة الحضارية هي صنو النهضة الثقافية، والكلام ليس من باب التحفيز المجاني الذي نسوقه؛ بل هو مما تثبته وقائع سوسيولوجيا الثقافة ومقرّرات تاريخ الحضارات. فممّا هو متعذّر، تحقيق نهضة في غياب رؤية ثقافية لا تولي الشأن المعرفي والعلمي والفني الدور والحضور اللازمين. وقد تعثّرت العديد من الإصلاحات الاجتماعية والمطامح النهضوية، وفشلت جملة من الثورات والانتفاضات، لافتقارها إلى منظور ثقافي معمّق. ففي غياب الثقافة يتحرّك فعل التغيير الاجتماعي أو نشدان الإصلاح، في إطار من العتمة، أي بدون خارطة طريق تسوسه، أو لنقل بدون روح تُحفّز إرادة الناس وتشحذ العزائم.

وفي ظلّ طلب الخروج من الركود المجتمعي والجمود الحضاري، قد لا يعير القائمون على عمليات النهوض الثقافةَ المكانة اللازمة والدورَ المقدَّر، ظنًّا أنها عنصر تكميلي وليست عنصرا حاسما في العملية النهضوية. مع أنّ الثقافة تنتمي إلى عناصر الرساميل الرمزية والمعنوية التي تملكها الشعوب على غرار الثروات المادية والطبيعية. وهي تنطوي على شحنة من التحفيز والتحريض المعنويين مما لا تملكه عناصر القوة المادية، مثل الاستثمار في الإنتاج والتصنيع والخدمات والتجارة، التي باتت تعدّ العماد الأبرز لأيّ نهوض حضاري بالمعنى المادي.

ذلك أنّ مطلب التعويل على الثقافة هو عنصرٌ لا غنى عنه في بناء الوعي، المتلخّص في بلورة التناغم الجمعي القادر على إدراك حضور الذات في عالم يطفح بالمتغيّرات. صحيح تتنوّع عناصر المنتوج الثقافي، وبالمثل تتعدّد المؤسّسات العاملة في المجال، ولكن المقصد المنشود يظلّ في السير صوب إعداد الكائن الواعي وتحقيق المواطن المسؤول، الذي يمثّل المبتغى الأسمى من وراء العملية الثقافية. ولذلك ما لم تنبن سياسة ثقافية هادفة من وراء العملية الثقافية، فإنّ الفعل الثقافي يظلّ خارج الاستثمار المراد. وعلى مستوى فردي، وبالمثل على مستوى جماعي، يلوح امتلاك ناصية الثقافة عنصرا حاسما في الخروج من حالة العدم إلى حالة الوجود، ومن طور سلبي إلى طور إيجابي.

إذ بمراجعة التجارب النهضوية الناجحة في كثير من المجتمعات، يتبين أنّ التعويل الحازم على الفعل الثقافي في إنجاح العملية النهضوية، هو عنصر فعّال في اختزال الزمن وطيّ المسافات الحضارية. وكلّما غاب العنصر الثقافي أو استهين بدوره، إلا واضطربت الرؤية وارتبك المسير. فالفعل الثقافي هو فعل الاستنارة المرافِق لمسعى التغيير الناجع. والاستثمار في المردود الثقافي على نطاق مجتمعي، يعني العمل على خلق حالة من التحفّز الجمعي نحو الرقيّ، الذي يغدو التطلع إلى النهوض الحضاري بموجبه هاجسا مشتركا بين فئات شعبية واسعة.

قد يستهين البعض بالدّور الثقافي، أو تجري إزاحته إلى مواضع ثانوية، ولكن التقييم الصادق للعملية النهضوية برمتها يأتي من إطار المنظور الثقافي، وإن لزم التقويم العملي للمسارات أيضا، إن بدت عقبات أو انحرافات أو منزلقات. فللثقافي قدرة في إدراك المحاسن والمساوئ وتقييم النتائج والآثار. ومنذ أن أرست المجتمعات الحديثة تقليد التمدرس الإجباري، وفصَّلت في ضوابطه وشروطه ومضامينه، تبيّن ما للتكوين التعليمي والثقافي من أثر حاسم، في عملية تنشئة الأفراد وبناء المجتمعات. لكن ينبغي أن نشير إلى شيء مهمّ، أن العنصر التعليمي والعنصر الثقافي هما مكوّنان متقارِبان، ولكن ليسا مترادفين فلكل مجاله ودوره ورسالته.

ولسائل أن يسأل ما الذي تخلّفه الأبعاد الثقافية في الفرد علاوة على رقيّ الإحساس، وغور النباهة، ورسوخ الحسّ المدني؟ ثمة عنصر آخر في غاية الأهمية ألا وهو القدرة العالية على الفرز النقدي والتمييز الذهني، أي أن يغدو الواعي ثقافيا محصَّنا من سيل الخطابات الغوغائية التي تلوح متربّصة بمن يملكون هشاشة ثقافية، ممّن تراهم عرضة لترديد الأقاويل واستهلاك الأراجيف، وما أكثرهم في عالم افتراضي يعجّ بشتى الغوغائيين. ومن ثَمّ فإنّ المزيّة المقدَّرة التي يخلّفها الوعي الثقافي تتلخّص في الاقتدار على التمييز بين الغثّ والسمين في مجالات عدّة، وفرز المصلحة من المفسدة. وبفضل اكتساب تلك المقدرة يخرج المرء من مستوى الأمّية في فهم الأشياء إلى مستوى الأهلية في ترجيح الأشياء. ومن مستوى التعامل الساذج إلى مستوى التعامل المدرك لغور المقاصد وأبعادها وآثارها. ولما يخلّفه الوعي الثقافي من تحرّر ذهني ورقيّ معرفي واستقلال نظر، فهو بالمؤكد حصيلة صيرورة ثقافية واعية ومستدامة وليس نتاج بناء مستعجل.

فالوعي الثقافي هو تلك الحصانة الذهنية التي يكتسبها المرء والتي تقيه مساوئ الاغتراب، أي أن يسلك وفق مقتضيات عقلية بديهية، ولا ينساق بموجب الاتباع أو التقليد أو مجاراة الحشد. وهو ذلك الرصيدُ الذهني الذي يمنح الفردَ قدرةً على تثمين المغايَرة والاختلاف ومراعاة التنوع، فضلا عمّا يخلّفه من أثر في حُسن التواصل مع الآخرين، والإحساس بالانتماء إلى كلّ جمعي وتحمّل المسؤولية ضمن مكوّناته. "فليست الثقافة امتلاك مخزن معبّأ بالمعلومات، ولكنّها تلك القدرة التي يمتلكها العقل لفهم الحياة والمكان الذي نموضع أنفسنا فيه، وعلاقاتنا التي ننسجها مع الآخرين. ومن ثَمّ يحوز الثقافة من يملك الوعي بذاته وبالآخرين، ومن يحسّ أنّ علاقة تربطه بالكائنات الأخرى كافة"، ذلك بالفعل ما يقرّه المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي في قولته الآنفة الواردة في "دفاتر السجن".

يعيد الرهان الثقافي طرح سؤال الإنتاج الثقافي، ففي ظلّ الأوضاع التي تميّز الثقافة العالمية بات لزاما الحديث عن حظوظ الثقافة العربية في هذا المعترك الحاشد، بكلّ تجرّد ومسؤولية. فهل هي قادرة على طرح منجز مقدَّر كونيا بعيدا عن الادّعاءات الإبداعية؟ أيّ إنتاج عمل، يتخطى المنجز السردي الذي بات مستحوذا على المخيال الإبداعي العربي، ويشمل الدراسة والبحث وكتب الأطفال واليافعين والخطاب المعرفي بأنواعه، أي تقديم منجز جدير بأن يحظى بالتقدير والعرفان. والواقع أنّ ثمة حقولا ومجالات، وهي كثيرة، لا يستطيع القارئ العربي أن يراجع فيها مؤلَّفا بالعربية سوى ما هو مترجم، لضعف مبناها وترهّل محتواها وخواء طروحاتها. فكيف لثقافة بهذا العوز أن تعرض ذاتها على الساحة العالمية وأن ينصت إليها في الخارج؟ وكيف لثقافة لا تصغي للعالم ولا تتحاور مع الخارج، أقصد عبر الترجمة والنقل والمثاقفة، وتودّ الحضور على المنصات العالمية؟ ولولا منجزات بعض المؤسسات التي تشكّلت في العقود الأخيرة في البلاد العربية، لتحولت خارطة واسعة لحضارة عريقة إلى بيداء قاحلة.

لكنّ الرهان على الثقافة هو رهان مركّب، فهو كما يولي الإنتاج الداخلي الرعاية اللازمة، مبدعا وإبداعا، فهو يولي الإنتاج العالمي المتابَعة الحريصة والجلب الدؤوب عبر الترجمة. ولعل ما زاد من تعكّر أوضاع الثقافة العربية تحول فئات جامعية واسعة إلى شرائح وظيفية تؤدّي مهام إدارية وليست شرائح إنتاجية إبداعية للمعارف، مع أن الآمال معقودة عليها. فهناك مهمتان باتتا متروكتين للمبادرة الخاصة ألا وهما البحث والترجمة، بعد أن تقلّص دور مؤسسات الدولة المعهود. ولكن ولحسن الحظ حافظت ثلّة من الدول على حضور مؤسسات الدولة في هذين القطاعين ولم تفرّط في مهامها. ترفدها جوائز للتحفيز على المستوى الوطني والعربي والعالمي، في البحث والإبداع والإنجاز والترجمة في ما يخص الثقافة العربية. وبالمثل ثمة مثابرة في الترجمة من اللغات العالمية، تتابع منجز الإبداع والفكر العالميين، وكذلك حرص على بثّ الوعي الثقافي، عبر سلاسل المنشورات والمجلات مشرقا ومغربا، وهي منجزات تحسب في رصيد هذه الدول.

***

د. عزالدّين عناية

أستاذ تونسي بجامعة روما- إيطاليا

مدخل: ما الذي يكسب الفعل الأخلاقي قيمته؟

هنا فروض متعددة:

1- الانسجام مع المبدأ الأخلاقي وتجسيده الكامل، وهنا الفعل الأخلاقي يستمد قيمته العليا من مدى تطابقه مع المبدأ الأخلاقي المجرّد، بحيث يكون تجسيدًا حيًّا وكاملاً لذلك المبدأ، وهذا قريب من الاتجاه الكانطي في الأخلاق، إذ تُقاس القيمة الأخلاقية بالفعل من خلال التزامه بالواجب والمبدأ الكلي، لا بنتائجه.

2- تحقيق أكبر قدر من النفع للآخرين، وهنا الفعل الأخلاقي يكتسب قيمته القصوى عندما يحقق منفعة واسعة أو عميقة للآخرين، ويؤدي إلى نتائج ملموسة في تحسين حياتهم، وهذا قريب من الاتجاه النفعي الذي يرى أن معيار القيمة الأخلاقية هو حجم المنفعة أو السعادة الناتجة.

3- تجاوز صراع النفس والانتصار على الرغبات، وهنا الفعل الأخلاقي يبلغ ذروة قيمته عندما يكون ثمرة انتصار الإنسان على ميول أو رغبات تخالف المبدأ، خصوصًا إذا كان الصراع الداخلي شديدًا، وهذا قريب من الاتجاه الديني أو العرفاني الذي يربط الأخلاق بصفاء النفس والمجاهدة الروحية، إذ القيمة مرتبطة بعمق التجربة الداخلية.

4- الاعتراف الاجتماعي وتعزيز الثقة والقيم المشتركة، وهنا الفعل الأخلاقي يكتسب قدرًا عاليًا من قيمته عندما يلقى اعترافًا وتقديرًا من المجتمع أو الجماعة التي ينتمي إليها الفاعل، وهذا قريب من الاتجاه الاجتماعي في الأخلاق الذي يرى أن المعايير الأخلاقية تتشكل من خلال التوافق الجمعي، وأن القيمة تنشأ من الدور الذي يلعبه الفعل الجمعي العقلائي في تشكيل المنظومة الأخلاقية.

ولا أريد هنا أن أشرع في التحليل لهذه المداخل الأربعة، أو أن أرجح أحدا منها، لكن الذي يهم أن نفهم هذه المداخل، ونجعلها في مساحة الاعتبار، ومنطلقات تتشكل من خلالها تصوراتنا حول الفعل الأخلاقي، ليتم بعد ذلك الشروع في تصور الأخلاق الممكنة، التي تبحث في حيز متأخر، عن حيز المداخل الاربعة سالفة الذكر.

ما الأخلاق الممكنة؟

وعند الحديث عن (الأخلاق)، فإن الدلالة قد تنصرف إلى معانٍ متعدّدة: (القيم ومبادئها)، و(ما يندرج تحت تلك القيم من معايير)، ثم (الأفعال والتطبيقات العملية التي تجسّدها)، وفي هذا السياق، فإن ما نعنيه بالأخلاق الممكنة هو الأخلاق بوصفها أفعالاً تعبّر عن قيمها العليا ومبادئها المؤسِّسة، ويبدو أننا نستخدم مصطلح (الممكن) هنا في مقابل (الممتنع) و(المثالي) معًا، في نحوٍ من التوسّع أو التجوّز المعرفي.

الأخلاق الممكنة قد تُفهم، في إطار تصوري واسع، بوصفها نقيضًا للأخلاق المستحيلة أو الممتنعة، أو بوصفها بديلاً عن الأخلاق المثالية التي تتجاوز القدرة الواقعية للفرد والمجتمع، وبعيدًا عن التحديدات الفلسفية الصارمة، فإننا نتناول هنا مفهوم الأخلاق الممكنة ضمن أفق معرفي–ثقافي عام، لا في مستوى التخصص الفلسفي الدقيق.

وتنشأ الإشكالية عند طرح سؤال حول مدى إمكان تمثّل القيم الأخلاقية في الأفعال تمثّلاً تامًّا يُجلّي المبدأ والقيمة معًا:

هل يمكن للفعل الأخلاقي أن يُطابق المبدأ الأخلاقي أو القيمة العليا بصورة ثابتة ومطلقة؟

أم أن ثمة تباينًا في مستوى اتصاف الفعل بالمبدأ والقيمة تبعًا لظروف الفعل وفاعله؟

المشكلة الأخرى تكمن في أن الفكر الأخلاقي، عبر تاريخه، انشغل أساسًا بتحديد أسباب ودوافع اتصاف الفعل بصفة أخلاقية أو نفيها عنه، وتباينت المدارس الأخلاقية في بيان مناشئ تلك الصفة وشروطها ومقوماتها، وهذا التباين يُلقي بظلاله على وعي الفرد بسقف القيم والمبادئ التي يسعى إلى تمثلها في أفعاله، ويجعل الاستجابة الأخلاقية محكومة بمدى اتساع أو تضييق ذلك السقف، كما أن المجتمعات، في الغالب، تتأثر بهذه المحددات النظرية فتنعكس على سلوكها الجمعي ومعاييرها العملية.

(الأخلاق الممكنة) تعبير أقصد به للإشارة إلى النطاق الواقعي والمتحقق من المبادئ الأخلاقية التي يمكن للإنسان أو المجتمع الالتزام بها في ظل ظروفه وإمكاناته الفعلية، مقابل (الأخلاق في سقفها الأعلى) التي تمثل سقف القيم المطلوب، حتى لو كان تطبيقها كاملاً غير ممكن في الواقع.

وهنا يمكن تقرير أن تطبيق الأخلاق ليست منفصلا عن الظروف الاجتماعية، والقدرات البشرية، والموارد المتاحة، بل يُبنى على ما يمكن إنجازه فعلاً، مع الاحتفاظ بمثُل أعلى كمرجع وقدوة.

ويمكن افتراض بعض العناصر التي تحدد مستوى (إمكان الأخلاق) أو (الأخلاق الممكنة)، من خلال:

1. الواقعية الأخلاقية: الأخذ بعين الاعتبار حدود الإنسان الفردية والجماعية.

2. التدرج: الانتقال من الممكن إلى الممكن الأعلى بدل القفز مباشرة إلى المثال الكامل.

3. التوازن بين المبدأ والمصلحة: من خلال محاولة الجمع بين القيم العليا ومقتضيات الحياة الواقعية.

4. البعد الإنساني: من خلال جعل الخطاب الأخلاقي قابلا للتطبيق وليست مجرد تنظير.

جدلية العلاقة بين مرونة الفقه والاخلاق الممكنة

حاجة الفقه إلى الأخلاق، حاجة تفرضها طبيعة الفقه الذي يمس الحياة، والواقع العملي للإنسان، والفقه من دون الأخلاق، سوف يكون فقها جامدا جافا، لذلك، تمثل المنظومة الأخلاقية أحد أهم منطلقات وروافد التفكير الفقهي، فإذا كنا نتحدث بعيدا، عن مصادر التشريع، وأصول الفقه، فإن الأخلاق تمثل أرضية في (لا وعي) الفقيه، تبث في تفكيره عمق القيم الأخلاقية العليا التي نادى بها التشريع، وتجعلها أحد موجهّات تفكيره، ومن جهة أخرى تستفيد منظومة الأخلاق، من الفقه، من خلال أدوات الإجتهاد، ومرونة التفكير، وتيسر الوسائل التي تنظم أفعال الإنسان من خلال قواعد محددة وواضحة الملامح.

إذن في الخطاب الديني تتداخل المنظومات الفكرية، العقدية والاخلاقية والفقهية، ويمكن للفقه الاسلامي من خلال أدواته الاجتهادية أن يؤثر ويتفاعل جدليا مع الخطاب الأخلاقي، فتأثير التفكير الفقهي في فكرة (الأخلاق الممكنة) ممكن جدا، لأن الفقه بطبيعته يشتغل على الممكن والمقدور لا على المثال المجرد، فهو يربط التكليف بحدود الاستطاعة، ويراعي الظروف الواقعية للإنسان والمجتمع، ويمكن تصور ذلك من خلال الفروض الآتية:

1. تحديد سقف الواجب الأخلاقي بقدرة المكلف، والفقه أيضا لا يفرض تكليفًا فوق الطاقة، وهذا يجلعنا نتصور أن الفعل الأخلاقي يتحقق في إطار الإمكان الواقعي، فللو كان الوفاء بوعد أو التزام مالي يؤدي إلى ضرر بالغ أو عجز، يجيز الفقه تخفيف الحكم أو إسقاطه، وهذا يسوّغ فهم تطبيق الأخلاق ضمن الممكن.

2. مبدأ التدرج والتيسير، على فرض اقراره فقهيا، فكثير من الفقهاء يقرون التدرج في الأحكام؛ وهو مبدأ يجعل الأخلاق قابلة للتطبيق في سياق اجتماعي زمني متغير، فتشريع تحريم الخمر في الإسلام تم على مراحل، وهو ما يسوّغ أن الأخلاق الممكنة تتضمن عنصر التدرج في استيعاب الفعل الاجتماعي للقيمة الأخلاقية.

3. فقه الأولويات، الفقه يوجّه المكلف لاختيار الأهم عند تعارض المصالح أو القيم، ويحدد أولويات كثيرة في ميدان فقه النظم والتدبير، وهذا النمط من التفكير يتيح إنتاج أخلاق عملية مرنة وليست مثالية جامدة، فلو تعارض الصدق في موقف ما مع إنقاذ حياة إنسان بريء، يقدم الفقه حفظ النفس على التصريح بالحقيقة، وهذا يترجم (الممكن الأخلاقي) في الواقع.

4. الضرورات تبيح المحظورات، والقاعدة الفقهية في أدنى مستويات مشروعيتها والعمل بها، تقارب ضرورة تعديل الخطاب الأخلاقي وفق الضرورة، فتتحول الأخلاق من نموذج صارم إلى نموذج مرن يتكيف مع الظروف الاستثنائية.

يمثل الإنسان في كلا المنظومتين الفقهية والأخلاقية، محورا رئيسا وهاما، تدور حوله النظريات والفرضيات بما يحقق نفعه وصلاحه، وبالنظر إلى محدودية قدرة الإنسان وفعله وطاقته، فإن كلا المنظومتين تراعيان حدود قدرة الإنسان على تحقيق مقاصد القيم الأخلاقية والقيم الدينية على حد سواء.

إن التمايز بين الحكم الفقهي والحكم الأخلاقي يكشف عن طبقات متعددة في تقييم الأفعال الإنسانية؛ فينطلق الفقه من معايير الضبط الشرعي لتحديد دائرة المباح والممنوع، ونجد أن بعض الأفعال وإن كانت جائزة فقهيًا، تظل أدنى من المستوى الأخلاقي الأمثل الذي تسعى القيم الإنسانية والدينية إلى تحقيقه، ومن هنا يمكن تصور مساحة (الأخلاق الممكنة)، بوصفها حيزًا سلوكيًا وسطًا؛ لا يخرق أحكام الشرع، ولا يبلغ المثل الأخلاقية العليا في الوقت نفسه، مما يتيح للمجتمع التعامل الواقعي مع تعقيدات الحياة دون الانفصال عن مرجعيته القيمية.

 إن الأهمية اليوم لهذا الموضوع تكمن في ضرورة أن يعي الخطاب الديني هذا الجانب من الأخلاق الذي يتسم بمحاكاة واقعية لمحدودية الفعل البشري على تطبيق الأخلاق بنحو تام وكامل، وهذا ما يستدعي أيضا، أن نبدي بعض التقارب بين الأخلاق وآليات تطبيقها، من جهة، والفقه الإسلامي وأدواته المرنة، التي تستجيب لنسبية قدرة الإنسان على أداء التكاليف، فضلا عن مرونة الاستجابة لظروف الزمان والمكان.

***

د. أسعد عبد الرزاق الاسدي 

 

عند جيل جولوز وغراماتولوجيا جاك دريدا، مقاربة فلسفية معاصرة

(يجب أن يكون هناك فوضى بداخلك حتى تتمكن من جلب نجم راقص إلى العالم)... فريدريك نيتشه

تشكل أعمال ميشيل فوكو، جيل دولوز، وجاك دريدا أعمدة أساسية في الفلسفة المعاصرة، خصوصًا في سياق ما يُعرف بالفكر ما بعد الحداثي وما بعد البنيوية. على الرغم من اختلاف مناهجهم، فإن هؤلاء الفلاسفة يتقاطعون في نقدهم للميتافيزيقيا التقليدية وتفكيكهم للمفاهيم التقليدية حول المعرفة، الهوية، واللغة. تهدف هذه الدراسة إلى تقديم مقارنة تحليلية بين أركيولوجيا المعرفة عند فوكو، فكر الاختلاف عند دولوز، وغراماتولوجيا دريدا، مع التركيز على مقاربة فلسفية معاصرة تبرز نقاط التقاطع والاختلاف بين هذه المناهج. تتمحور المشكلة البحثية حول السؤال التالي: كيف تتشابه وتختلف هذه المناهج في تفكيكها للمفاهيم التقليدية للمعرفة واللغة، وما هي دلالاتها في سياق الفلسفة المعاصرة؟ تستند الدراسة إلى منهج تحليلي مقارن يعتمد على قراءة نقدية لنصوص الفلاسفة الثلاثة، مع الإشارة إلى سياقاتهم التاريخية والفكرية. تسعى الدراسة الى تحقيق الأهداف التالية:

تحليل المفاهيم الأساسية لكل منهج (أركيولوجيا المعرفة، الاختلاف، الغراماتولوجيا).

مقارنة هذه المناهج من حيث نظرتها إلى المعرفة، اللغة، والسلطة.

استكشاف أثر هذه المناهج على الفلسفة المعاصرة وما بعد الكولونيالية.

1. أركيولوجيا المعرفة عند ميشيل فوكو

"لا ممارسة للسلطة دون اقتصادٍ مُعينٍ لخطابات الحقيقة، يعمل في هذه السلطة، ومن خلالها "ميشيل فوكو.

أركيولوجيا المعرفة، كما طُورّت في أعمال فوكو مثل أركيولوجيا المعرفة (1969) ونظام الأشياء (1966)، هي منهج لتحليل الخطابات التاريخية التي تشكل المعرفة في فترات زمنية محددة. يرى فوكو أن المعرفة لا تتطور بشكل خطي أو تقدمي، بل تتشكل ضمن "إبستيمات" (Epistémès)، أي أطر معرفية تحدد ما يمكن قوله أو التفكير فيه في سياق زمني معين[1]. يركز فوكو على العلاقة بين المعرفة والسلطة، حيث يعتبر الخطابات أدوات للسيطرة الاجتماعية، كما يظهر في تحليله للمؤسسات مثل المستشفيات والسجون في تاريخ الجنون والمراقبة والعقاب

2. فكر الاختلاف عند جيل دولوز

"الغرض من الكتابة هو جلب الحياة إلى حالة من القوة غير الشخصية."  جيل دولوز

يقدم دولوز، في أعماله مثل الاختلاف والتكرار (1968)، مفهومًا للاختلاف يتحدى الميتافيزيقيا التقليدية القائمة على الهوية والتشابه. يرى دولوز أن الفلسفة التقليدية، من أفلاطون إلى هيجل، قامت على تقديس الهوية وإخضاع الاختلاف لها. في المقابل، يقترح دولوز فلسفة تعطي الأولوية للاختلاف الخالص، الذي لا يُختزل إلى هوية أو تشابه. يرتبط هذا المفهوم بفكرة "الصيرورة"، حيث يرى أن الواقع ديناميكي ومتعدد، ويتشكل عبر علاقات قوى متباينة. يتقاطع هذا المنظور مع نقد السلطة، لكنه يركز على إمكانيات الإبداع والمقاومة[2].

3. غراماتولوجيا جاك دريدا

"الفرق هو ما يجعل الحضور ممكنًا، ولكن من خلال افتراقنا وتفارقنا دائمًا."

والميتافيزيقيا الغربية التي تعطي الأولوية للكلام على الكتابة. يقترح دريدا مفهوم "الفرق" (Différance)، الذي يجمع بين الاختلاف والتأجيل، مشيرًا إلى أن المعنى في النصوص ليس ثابتًا بل يتولد من خلال سلسلة من التأجيلات والعلاقات التفاضلية. الغراماتولوجيا هي دراسة الكتابة كممارسة لا مركزية تكشف عن عدم استقرار المعاني وتحدي السلطة اللغوية التقليدية[3].

التحليل المقارن

1. المعرفة والخطاب

فوكو: يرى المعرفة كمنتج تاريخي مشروط بالإبستيمات والخطابات. يركز على كيفية تشكل المعرفة عبر العلاقات السلطوية، كما في تحليله للطب الحديث أو النظام القضائي. المعرفة عند فوكو ليست محايدة بل أداة للسيطرة.

دولوز: يهتم أقل بالمعرفة كخطاب وأكثر بالواقع كصيرورة. يرى أن المعرفة التقليدية تعتمد على الهوية، ويقترح بدلاً من ذلك فلسفة تعطي الأولوية للاختلاف والتعددية، مما يسمح بإبداع معرفي جديد.

دريدا: يركز على اللغة كمصدر للمعرفة، مشيرًا إلى أن المعاني غير ثابتة بسبب الاختلافية. يتحدى فكرة المعرفة كشيء نهائي، معتبرًا أن النصوص مفتوحة لتفسيرات لا نهائية.

نقاط التقاطع: الثلاثة ينتقدون المعرفة التقليدية كأداة للهيمنة. فوكو يركز على الخطابات التاريخية، دولوز على الصيرورة والاختلاف، ودريدا على عدم استقرار النصوص.

نقاط الاختلاف: فوكو يركز على التاريخ والسلطة، دولوز على الأنطولوجيا والإبداع، ودريدا على اللغة والتفكيك

2. اللغة والتمثيل

فوكو: يرى اللغة كجزء من الخطابات التي تشكل الواقع الاجتماعي. في نظام الأشياء، يحلل كيف تتحكم اللغة في تصنيف العالم ضمن إبستيمات محددة.

دولوز: لا يركز على اللغة كثيرًا، بل على المفاهيم الفلسفية التي تتجاوز التمثيل اللغوي. يرى أن الفلسفة يجب أن تخلق مفاهيم جديدة بدلاً من تحليل اللغة.

دريدا: يجعل اللغة محور تحليله، مشيرًا إلى أن الكتابة تسبق الكلام وأن المعاني غير مستقرة. يتحدى فكرة التمثيل الثابت للواقع.

نقاط التقاطع: الثلاثة يرفضون فكرة اللغة كتمثيل محايد للواقع. فوكو ودريدا يركزان على اللغة كأداة للسلطة، بينما يسعى دولوز إلى تجاوز اللغة نحو الصيرورة.

نقاط الاختلاف: دريدا يركز على التفكيك داخل النصوص، بينما يهتم فوكو بالخطابات التاريخية، ودولوز بالمفاهيم الأنطولوجية

3. السلطة والمقاومة

فوكو: يرى السلطة كمنتشرة في كل مكان، تعمل عبر الخطابات والمؤسسات. لكنه يؤكد أن حيثما توجد سلطة توجد مقاومة، كما في تحليله للحركات الاجتماعية.

دولوز: يركز على القوى المتباينة التي تشكل الواقع. يقترح مقاومة السلطة عبر إبداع مفاهيم جديدة وأنماط حياة تتحدى الهيمنة.

دريدا: يرى السلطة في المركزية اللوغوسية التي تتحكم في اللغة. مقاومته تأتي عبر التفكيك، الذي يكشف عن عدم استقرار النصوص المهيمنة.

نقاط التقاطع: الثلاثة يرون السلطة كقوة تشكل المعرفة واللغة، ويقترحون أشكالًا من المقاومة (خطابية عند فوكو، إبداعية عند دولوز، تفكيكية عند دريدا).

نقاط الاختلاف: فوكو يركز على السلطة المؤسساتية، دولوز على القوى الأنطولوجية، ودريدا على السلطة اللغوية.

دراسات حالة تطبيقية

1. تحليل الخطاب الطبي

فوكو: في تاريخ الجنون، يحلل كيف شكلت الخطابات الطبية مفهوم "الجنون" كوسيلة للسيطرة الاجتماعية.

دولوز: قد يرى الخطاب الطبي كمجال للاختلاف، حيث يمكن إبداع مفاهيم جديدة لفهم الصحة النفسية بعيدًا عن الهيمنة.

دريدا: يفكك النصوص الطبية ليكشف عن عدم استقرار مصطلحات مثل "الجنون"، مشيرًا إلى أنها نتاج علاقات تفاضلية.

2. العولمة الثقافية

فوكو: يحلل العولمة كخطاب يشكل الهويات عبر مؤسسات مثل وسائل الإعلام.

دولوز: يرى العولمة كمجال للصيرورة، حيث يمكن للهويات المحلية أن تقاوم عبر إبداع أشكال جديدة.

دريدا: يفكك خطاب العولمة ليكشف عن تناقضاته، مثل التوتر بين العالمي والمحلي.

دلالات في الفلسفة المعاصرة

ما بعد الكولونيالية: تتقاطع هذه المناهج في نقدها للهيمنة الغربية. فوكو يكشف عن الخطابات الاستعمارية، دولوز يقترح إبداع هويات مقاومة، ودريدا يفكك النصوص الاستعمارية.

ما بعد الحداثة: تساهم المناهج الثلاثة في رفض السرديات الكبرى، سواء كانت ميتافيزيقية (دولوز، دريدا) أو تاريخية (فوكو).

التأثير على العلوم الإنسانية: أثرت هذه المناهج على دراسات الأدب، الاجتماع، والتاريخ، حيث أصبح التفكيك والتحليل الخطابي أدوات أساسية.

خاتمة

""الحرية هي أن تعرف كيف ترقص مع أغلالك." فريدريك نيتشه

تكشف المقارنة بين أركيولوجيا المعرفة عند فوكو، فكر الاختلاف عند دولوز، والغراماتولوجيا عند دريدا عن تقاطعات واختلافات جوهرية. يشترك الثلاثة في نقدهم للميتافيزيقيا التقليدية وتركيزهم على السلطة، لكنهم يتباينون في مناهجهم: فوكو التاريخي، دولوز الأنطولوجي، ودريدا اللغوي. هذه المناهج، رغم اختلافها، تقدم أدوات قوية لفهم الواقع المعاصر، خصوصًا في سياق مقاومة الهيمنة وإعادة صياغة المعرفة. تظل دلالاتها حية في الفلسفة المعاصرة، حيث توفر إطارًا لتفكيك الهياكل السلطوية واستكشاف إمكانيات جديدة للمعرفة والوجود. فماذا بقي من الفلسفة الفرنسية في مستوى قدرتها على صناعة الكونية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.............................

الاحالات والهوامش:

[1] Foucault, Michel. The Archaeology of Knowledge. Translated by A.M. Sheridan Smith. New York: Pantheon Books, 1972, 191.

[2] Deleuze, Gilles. Difference and Repetition. Translated by Paul Patton. New York: Columbia University Press, 1994, 36.

[3] Derrida, Jacques. Of Grammatology. Translated by Gayatri Chakravorty Spivak. Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1997, 158.

المصادر والمراجع:

Deleuze, Gilles. Difference and Repetition. Translated by Paul Patton. New York: Columbia University Press, 1994.

Derrida, Jacques. Of Grammatology. Translated by Gayatri Chakravorty Spivak. Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1997.

Foucault, Michel. The Archaeology of Knowledge. Translated by A.M. Sheridan Smith. New York: Pantheon Books, 1972.

Foucault, Michel. The Order of Things: An Archaeology of the Human Sciences. New York: Vintage Books, 1970.

Deleuze, Gilles, and Félix Guattari. A Thousand Plateaus: Capitalism and Schizophrenia. Translated by Brian Massumi. Minneapolis: University of Minnesota Press, 1987.

Derrida, Jacques. Writing and Difference. Translated by Alan Bass. Chicago: University of Chicago Press, 1978.

يُعدّ مصطلح الحداثة من أكثر المفاهيم إثارة للجدل والتأويل في الفكر العربي المعاصر، لما ينطوي عليه من أبعاد معرفية وثقافية وحضارية متشابكة، فهو ليس مجرد توصيف لمرحلة زمنية أو شكل من أشكال الإبداع الأدبي والفني، بل هو بنية فكرية شاملة ترتبط بجملة من التحولات في أنماط التفكير، ومناهج المعرفة، ومفاهيم الإنسان والمجتمع. وعلى النقيض منها تقف اللاحداثة، بوصفها موقفًا مقاومًا للتغيير أو محافظًا على تراث سابق، لكنها في كثير من الأحيان لا تُمثّل موقفًا سكونيًّا فحسب، بل تحمل رؤيتها الخاصة للعالم، وقيمها النابعة من سياقات مختلفة عن سياقات الحداثة الغربية التي وُلدت في بيئات اجتماعية واقتصادية وسياسية مخصوصة[1].

وإذا كان الفكر الغربي قد أنتج حداثته عبر تراكمٍ تاريخي وصراعٍ طويل مع أنماط السلطة والمعرفة التقليدية، فإن الفكر العربي غالبًا ما تلقى الحداثة بوصفها نموذجًا جاهزًا وافدًا، تراوحت مواقفه منه بين الرفض المطلق والتبني غير النقدي، وبين محاولات تلفيقية للمزاوجة بين "الحداثة" و"التراث". من هنا، تبرز إشكالية الحداثة واللاحداثة في الفكر العربي لا بوصفها مجرد جدل فكري، بل بوصفها مرآة لصراعات أعمق تتصل بالهوية، والسلطة، والمعرفة، والموقع الحضاري في عالم تسوده ثقافة الغالب وتُهمّش فيه الثقافات الأخرى.

وفي هذا السياق، يصبح من الضروري فحص طبيعة الحداثة العربية وموقع اللاحداثة، من خلال تأمل السياقات التاريخية والاجتماعية التي نشأت فيها هذه المفاهيم، وتفكيك الخطابات التي بُنيت حولها، سواء في بعدها السياسي أو الفني أو المعرفي. [2]

تثير الحداثة معضلات ماهيتها وتاريخيتها على السواء، فهي ليست مصطلحًا خاصًّا بالنقد والأدب، ولكنها تشير إلى صيغ عديدة دالة على الحضارة والتقدم، فهي ابتداء تدل على التغاير مع الأنماط السابقة، وتتمرد على خصائصها وسماتها ،وبتعبير آخر إنَّ الحداثة كما يرى " جون بودريان " ليست " مفهومًا سوسيولوجيًّا أو مفهومًا سياسيًّا، أو مفهومًا تاريخيًّا يحصر المعنى، وإنما هي صيغة مميزة للحضارة تعارض صيغة التقليد، أي أنها تعارض جميع الثقافات الأخرى السابقة أو التقليدية"[3]، وإذا كانت الحداثة اليوم تدل في أول ما تدل عليه هو ارتباطها بالحضارة الغربية أو انحدارها عنها، وبما تشتمل عليه من خصائص وسمات هي نتاج سياقات تاريخية واجتماعية معينة، فإن الحديث عن حداثة عربية هي قرين صورة مطابقة لحداثة غربية للتواصل لكائن بين الحداثتين، والحق أنه ليس تواصلًا بمعنى فاعلية الأخذ والعطاء ،وإنما بمعنى آخر فاعلية طرف ــ الغرب ـــ وتلقي أو بتعبير أدق سلبية طرف آخر ـــ الحداثة العربية.

إنَّ الحداثة المعاصرة مادية وذهنية نشأت في سياقات تاريخية واجتماعية غربية، ثم انتقلت إلى مجتمعات أخرى بطرائق مختلفة، ومنها الوطن العربي، وكانت دهشة الانبهار إزاء مظاهر الحداثة المادية كبيرة، وتجاور ذلك مع إيمان آخر بحداثة الآخر الذهنية، وتشبث بعض الحداثيين بشمولية الحداثة " ماديا وذهنيا " وطفق يبشر بمفاهيمها وتصوراتها، ويدافع عن إبداعاتها وإنجازاتها، دون أن يشعر بالفوارق الكبيرة بين طبيعة السياقات الاجتماعية والتاريخية المختلفة للحداثة في موطنها وفي واقعنا وتاريخنا، ويعارض هؤلاء نمطا آخر يأخذ من المظاهر المادية للحداثة، لسبب وغيره، ولا يرى في ذلك من تعارض إطلاقًا مع مقولاته السلفية التراثية، ولكنه يرفض مقولات الحداثة وتصوراتها ومفاهيمها، ويلتقي الدارس بنمط تلفيقي يحاول المجاورة بين ما يطلق عليه الأصالة والمعاصرة، أو التراث والحداثة، ومن ثم يجاور بين المتعارضات والمتناقضات، تمامًا كما يفعل بعض الدارسين حين ينظر إلى التراث بوصفه كتلة مصمتة، فيأخذ من العقلي والنقلي على السواء.

إنَّ الحداثة في التراث لم تنشأ معلقة في فراغ، وإنما كانت جزءاً من تطور حاصل في الواقع، فهي تتأسس" على الصراع بين النظام القائم على السلفية والرغبة العاملة للتغيير في هذا النظام "[4]. ويحدد "أدونيس" للحداثة تيارين سياسي/ فكري، وفني، ويتمثل الأول: في الحركات المناهضة للسلطة ـــ الخوارج وثورة الزنج والقرامطة ـــ وبالتصورات الاعتزالية والعقلانية الإلحادية والتصوف، وتهدف هذه جميعًا إلى " الوحدة بين الحاكم والمحكوم في نظام يساوي بين الناس اقتصاديًّا وسياسيًّا، ولا يفرق بين الواحد والآخر على أساس من جنس ولون[5]، أمَّا التيار الفني: فلقد أبطل القديم وتحول فيه الإبداع على خاصية إنسانية؛ بحيث أصبح الإنسان " يمارس هو نفسه عملية خلق العالم"[6].

ومن الجدير بالملاحظة أنَّ هذين التيارين لهما وجود حقيقي في الواقع الاجتماعي؛ إذ يمثل ملامح حقيقية لمعارضة قوية في زمن سلطة قمعية، لها ثقافتها المضادة المعززة بقوة السيف، ولا يخفى وجود الخوارج والشيعة والقرامطة وغيرهم، أي أنَّ هناك شرائح اجتماعية واسعة في المجتمع العربي تؤدي دورها الفاعل في الحياة وفي الخروج على السلطة وثقافتها، وقد استخدمت القوة: ثورة أو عصيانًا، أو الرفض السلبي، بمعنى أنَّ الفكر الحداثي له قاعدة اجتماعية شعبية واسعة تؤمن به وتدافع عنه لحد استخدام القوة والعنف.

وحين نتأمل الحداثة العربية المعاصرة فإنَّ هناك تساؤلات ملحة تفرض نفسها: هل الحداثة المعاصرة حركة تطورت تطورًا طبيعيًّا في سياقات تاريخية واجتماعية معينة؟ أم انها حركة صفوة من المثقفين؟ أي هل تعبر الحداثة عن واقع اجتماعي فعلاً، وإنْ لم تعبر فهل هي تؤثر فيه؟ وإذا كانت الحداثة في التراث تعبر عن طموحات تيارات اجتماعية كبيرة، فإن الحداثة المعاصرة لا تتجاوز الآلاف، ويرتبط قسم كبير من أنصارها ودعاتها بأكثر الأنظمة القمعية، يخدمون تطلعاتها السياسية ويدافعون عن رموز أشخاصها، ومما يؤيد أنَّ الحداثة حداثة مثقفين مقولة محمد عابد الجابري " هناك في واقعنا المريض قطاع كبير من الذين يملكون السلطة العلمية أو الفكرية على الجماهير، أو سمها سلطة الجاه أو المشيخة إذا شئت، ومن ثم فهناك قطاعات واسعة من الجماهير العربية تابعة لهؤلاء، وليس نحن المثقفين أو الإنتلجنسيا بالمفهوم الغربي فلا سلطان لنا عليهم، وينبغي علينا نحن المثقفين أنْ نعترف بأننا فئة قليلة جدًا، وغير مؤثرة التأثير الكافي في واقعنا الثقافي، إنَّ الكتاب الذي يصدر بيننا ويؤلفه واحد منا نتداوله فيما بيننا نحن فقط، ولا يوزع منه إلا حوالي ستة آلاف نسخة فقط، فما القيمة التي تمثلها ستة آلاف نسخة في شعب يزيد على مائة وخمسين مليونًا "[7]

ومما يؤكد ذلك أنَّ "أدونيس" هو الآخر يؤكد قضية بالغة الأهمية في وجود حداثة في الشعر، ولا وجود لحداثة في العلم وتغيير المجتمع، أنَّ الحداثة العربية المعاصرة حداثة تكاد تكون غريبة تمامًا، وهي جزء مما نتلقاه ونتداوله، إنَّ أدونيس وهو من أبرز الشخصيات الحداثية شعًرًا وفكرًا يؤكد أنَّ الغرب اليوم يقيم بعمق أعماقنا في جميع ما نتداوله اليوم فكريًّا وحياتيًّا، يجيئنا من هذا الغرب، أما فيما يتصل بالناحية الحياتية فليس عندنا ما تحسم به حياتنا إلا ما نأخذه من الغرب، وكما أننا نعيش بوسائل ابتكرها الغرب، فإننا نفكر بلغة الغرب نظريات ومفهومات، ومناهج تفكيري، ومذاهب أدبية وغيرها من المذاهب التي ابتكرها أيضًا الغرب، وكذلك الرأسمالية، الاشتراكية، الديمقراطية، الجمهورية، الليبرالية، الحرية، الماركسية، الشيوعية، القومية، ـــ والمنطق، الديالكتيك، العقلانية – الواقعية، الرومانطيقية، الرمزية، السريالية... إلخ. هذا من دون أن ندخل في ميدان العلوم، وخصوصا في العلوم البحتة[8].

وقبل الشروع في التعرض للحداثة أود الإشارة إلى تمييز دقيق بين التجديد والحداثة، أشارت إليه خالدة سعيد، إذ ترى انَّ " الحداثة أكثر من التجديد، وإذا كان التجديد مظهرًا من مظاهر الحداثة؛ لأنَّ التجديد هو إنتاج المختلف المتغير الذي لا يخضع للمعايير السابقة، أولا يخضع لها تماما، بل يسهم في توليد معايير جديدة، الجديد نجده في عصور مختلفة، لكنه لا يشير إلى الحداثة دائمًا، ولا يكون الجديد حديثًا بالمعنى الذي استقر للحداثة؛ إلا إذا كان يطرح القضايا الأساسية للحداثة، ويتمحور حول المفصل الصراع الفكري للحداثة[9].

ومن أجل فهم أفضل لطبيعة الحداثة العربية تحدد خالدة سعيد أمورًا منها ما يتصل بارتباط الحداثة، بالانزياح المتسارع في المعارف وأنماط الإنتاج والعلاقات على نحو يستتبع صراعًا مع المعتقدات.. ومع القيم التي تفرزها أنماط الإنتاج والعلاقات السائدة[10]، وبقدر ما يشير هذا الى العلاقة الحميمة بين الحداثة والتغيير والتطور، يشير على هذا التغيير بأنماط إنتاجها وعلاقاتها؛ بحيث يؤكد العلاقة الجدلية بين المعرفة والبنية التحتية في ضوء تجلياتها الماركسية المعروفة، ومن ثم تحدد الناقدة الحداثة بوصفها ثورة فكرية، وليست مجرد مسألة تتصل بالوزن والقافية، أو بقصيدة النثر، أو نظام السرد، أو البطل[11]... لتؤكد أخيرا أنَّ الحداثة وضعية فكرية لا تنفصل عن ظهور الأفكار والنزوعات التاريخية التطويرية، وتقدم المناهج التحليلية التجريبية، وهي تتبلور في اتجاه تعريف جديد للإنسان عبر تحديد جديد لعلاقته بالكون، إنها إعادة نظر شاملة في منظومة المعلومات والنظام المعرفي، أو ما يكون صورة العالم في وعي الإنسان، ومن ثم يمكن أن يقال أنها إعادة نظر في المراجع والأدوات والقيم والمعايير[12].

إنَّ الحداثة لا توجد فجأة، بل هي نتيجة تراكم معرفي، تنطلق من مرحلة لأخرى؛ إذ ترى خالدة سعيد أنَّ الحداثة بوصفها حركة فكرية شاملة انطلقت مع الرواد، مثل جبران خليل جبران وطه حسين، فقد مثّل فكر الرواد الأوائل قطيعة مع المرجعية الدينية والتراثية، كمعيار ومصدر وحيد للحقيقة، واقام مرجعين بديلين: العقل والواقع التاريخي، وكلاهما إنساني، ومن ثم تطوري، فالحقيقة عند رائد كجبران وطه حسين لا تلتمس بالنقل، بل تلتمس بالتأمل والاستبصار عند جبران، وبالبحث المنهجي العقلاني عند طه حسين.[13]

ومن المفارقات التي ينبغي تأكيدها أنَّ محمد مصطفى بدوي يؤكد أمرين رأيت ضرورة التوقف عندهما، أولهما: أنه " ليس هناك اجماع مطلق على تحديد قاطع للحداثة، ومع ذلك هناك شبه إجماع على ما يمكن وصفه بالفن الحديث"[14] وثانيهما: أنَّ الكلام عن الحداثة في الأدب الأوربي إنما هو لاحق أو مصاحب لهذه الظاهرة، وليس سابقًا لها على الإطلاق، كما هي الحال لدى كتّابنا وشعرائنا[15].

إنَّ ما فعله نقادنا هو نقل الدلالات والمفاهيم التي تحدد مصطلح الحداثة، على الرغم من عدم تحددها لدى الغربيين، ومن ثم عمدوا إلى تحديد معايير الحداثة، ومحاولة السير في ركابها، وهذا يعني أنَّ هناك تفاوتا بين من يصف ويحلل ويحدد طبيعة الحداثة، كما فعل الأوربيون. وبين من يحدد المعايير ثم يدعو أو يبدع نصًّا حداثيا، لا ريب أنَّ هناك فرقاً.

إن الحداثة في الغرب ـــ كما يحدد "براديبري" و"مكفارلين" ـــ كانت تعبيرًا عن انهيار العقل والحضارة الغربية، ولما أصاب المدينة أثناء الحرب العالمية الأولى، وهي فن الرأسمالية والتصنيع المتزايد في السرعة وفن اللامعقول وأدب التكنولوجيا، ويتساءل "محمد مصطفى بدوي" بقوله: "فأين نحن العرب من هذه الأشياء؟ متى كانت الواقعية والعقلانية والتصنيع الشامل والتكنولوجيا الحديثة هي السمات الغالبة في مجتمعاتنا في يوم من الأيام"[16].

ترى هل بدأت الحداثة في الأربعينيات وتطورت في الخمسينيات، وما تلاها، سواء لدى رواد الشعر الحر في العراق، أم حركة شعر في لبنان، وإن كانت هذه هي الحداثة تاريخيًّا، فلا ريب أنَّ هناك فجوة بين الواقع العربي والحداثة العربية، بمعنى أنَّ الحداثة ليست تعبيرًا عن واقع معاش، فهي سابقة للواقع ومتقدمة عليه عند من يحسنون الظن، أو إنها صورة للحداثة الغربية ونسخ لها عند من يسيئون الظن، ويعم التصور الأخير ما يذهب إليه محمد عابد الجابري في أثناء تعرضه للخطاب العربي الحديث، من أنَّ المفاهيم الموظفة فيه مستقاة كلها إمّا من الماضي العربي الإسلامي، وإما من الحاضر الأوربي؛ إذ تدل تلك المفاهيم في كلتا الحالتين على واقع هو ليس الواقع العربي الراهن، بل هو واقع معتم غير محدد، ومستنسخ، إما من صورة الماضي وإما من صورة الغرب ـــ المستقبل، المأمول[17].

إذن هناك طريقان للتحدث عن الحداثة، أولهما: معياري يحدد للحداثة طبيعتها ووظيفتها وملامحها، من منظور نظري بحت، ويستقى مكوناتها من التراث نادرًا، ومن الآخر غالبًا، بمعنى أن أصحاب النظرية المعيارية لا يأخذون المصطلح " الحداثة " من الآخر، بأن يتبنون دلالاته، على الرغم من أننا لم ننتج المصطلح ولم نحدد ماهيته، وكأن الحداثة هنا مفهوم مطلق تصدق معياريته على كل حداثة عربية أو غيرها، آنية أو قديمة أو آتية، وهي على كل حال ترجع إلى مركزية أوربية، أي مركزية مفهوم الحداثة وهو مفهوم نتاج واقع اجتماعي وفكري وسياسي وإيديولوجي محدد، ومن الجدير بالذكر إنَّ مفهوم الحداثة عند الآخر ليس وليد تصورات معيارية مسبقة، كما نفعل نحن، وإنما هو وليد عملية جدلية بين الواقع والحداثة، ومن ثم فإن مفهوم الحداثة يتجدد على الرغم من تعددية دلالاته في ضوء استقراء منتجات مادية وذهنية على السواء.

وثانيهما: وصفي، وهو أقل ظهورًا، أي أنه يحدد للحداثة مفهومًا في ضوء استقراء النصوص الحداثية، ومحاولة الكشف عن خصائصها وسماتها، غير أنَّ معضلًا يعترض هذه المحاولة يكمن في تحديد النصوص الحداثية، وكأن التحديد الوصفي لا بدَّ له من أسس معيارية، وإذا كانت المشكلة محسومة لدى أصحاب التيار الأول؛ لأنهم يستقون المفاهيم والتصورات بوصفها موجودات ثابتة أو متغيرة من حضارة أخرى، فإن أصحاب التيار الثاني يعانون من مشكلتين، أولاهما: لها طابع معياري يسهم في تحديد طبيعة النصوص الأدبية الحداثية، ومن ثم وصفها والكشف عن خصائصها، فهم يقومون بعملية مزدوجة تتردد بين المعيارية والوصفية.

وكلا التيارين يصدر في تحديده لمفهوم الحداثة في ضوء موقفه من اللاحداثة وبمقدار تحدد الأخيرة ـــ اللاحداثة ــــ يمكن فهم الحداثة والولوج إلى عوالمهما المختلفة وإن دراستهما غير مستقلة عن سياقات عديدة تراثية من ناحية، واجتماعية وتاريخية من ناحية أخري، إنَّ تأكيدي على التراث له ما يبرره؛ لأننا نعيش تراثنا بكيفيات متعددة تتفاوت في طبيعتها ووظيفتها، أي من التلقي السلبي للتراث إلى رفضه المطلق، أو نظرة تلفيقية بين النظرتين السلبية والرافضة، إنَّ وعي التراث يسهم في تحديد الجانب الأكبر من هويتنا المعاصرة، ويحدد أيضا موقفنا من الآخر.

ويبدو أنَّ مصطلحي الحداثة واللاحداثة يختلطان بمصطلحات ومفاهيم أخرى؛ إذ يعلي دارس من اللاحداثة ويعدها أصالة، ولا بد من التشبث بها، لأنَّ وجودنا الحضاري الآني مقترن بها، وأن هويتنا الثقافية لا وجود لها إلا بها، في حين تبدو اللاحداثة عند آخرين أمرًا مرفوضًا وممجوجًا على صعد مختلفة، أيديولوجية وفكرية واجتماعية وإبداعية، إنَّ اللاحداثة عند النمط الأول تتميز بثباتها واستقرارها وديمومتها وإطلاقها في كل زمان ومكان، بينما هي لدى النمط الآخر متخلفة ورجعية، إنها تعبر عن واقع اجتماعي مندثر، وإن إعادتها إلى الحياة أو محاولة فرضها كمن يحاول إيقاظ ميت، وحين يخفق في ذلك يحاول حمل هيكله العظمي معبّرًا عن حضوره أو تجدده.

***

د. كريم الوائلي

......................

[1]  يُنظر: كتابنا: تناقضات الحداثة العربية، دار قناديل، بغداد، 2024، ص 95، وما بعدها.

[2]  نشر اصل هذا البحث في مجلة الفصول الأربعة الليبية، العدد 93، 200 م.

[3] محمد برادة، اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة، مجلة فصول العدد 3، 1984 ،ص 12.

[4] أدونيس، صدمة الحداثة، ص ،10.

[5] نفسه.

[6] أدونيس، صدمة الحداثة، ص 10.

[7] محمد عابد الجابري، ندوة مجلة فصول العدد 3 ،1984، ص 213.

[8] ادونيس، صدمة الحداثة، ص 258.

[9] خالدة سعيد، الملامح الفكرية للحداثة، مجلة فضول العدد 3، 1984 ص 25.

[10] نفسه.

[11] نفسه.

[12] خالدة سعيد، الملامح الفكرية للحداثة، ص 26.

[13] نفسه، ص 27.

[14] محمد مصطفى بدوي، مشكلة الحداثة والتغيير الحضاري في الأدب العربي الحديث، مجلة فصول العدد  3، 1984 ص، 104.

[15]محمد مصطفى بدوي، مشكلة الحداثة والتغيير الحضاري في الأدب العربي الحديث، ص 104.

[16] نفسه، ص 105.

[17] محمد عابد الجابري، أزمة الإبداع في الفكر العربي المعاصر، مجلة فصول العدد 3 ،1984م، ص 109.

 

"قد تكون النزعة الإنسانية مخبأة لنزعة انسانية أخرى".

يعتبر دومينيك ليكور فيلسوفًا فرنسيًا بارزًا في مجال فلسفة العلوم، اشتهر بتحليلاته النقدية لتطور الفكر العلمي وعلاقته بالمجتمع. تأثر ليكور بشدة بفلسفة غاستون باشلار، خاصة مفهوم "المادية العقلانية"، لكنه طوّر مقاربة خاصة تمزج بين تحليل الخطاب العلمي والسياقات الاجتماعية والسياسية. تتناول هذه الدراسة أفكار ليكور في سياق المادية الباشلارية، مع التركيز على إسهاماته في فلسفة العلوم والمجتمع، من خلال مقاربة معرفية نقدية تستعرض نقاط التقاطع والاختلاف مع باشلار، وتفحص دوره في نقد الايديولوجيات العلمية، فماهي الخلفية الفلسفية التي ينطلق منها دومينيك ليكور في بناء المعرفة العلمية؟

1. المادية الباشلارية كإطار نظري

مفهوم المادية العقلانية عند باشلار:

قدم غاستون باشلار (1884-1962) مفهوم "المادية العقلانية" كإطار يجمع بين العقلانية العلمية والتجريبية. رأى أن العلم يتقدم عبر "قطائع معرفية" تفصل المعرفة العلمية عن المعرفة العامية أو الخيالية. لقد أكد باشلار على أهمية التاريخية في العلم، حيث يتطور المفهوم العلمي عبر التغلب على "العوائق المعرفية" الناتجة عن الأفكار المسبقة أو التصورات غير العلمية. كما دعا في كتابه التكوين العقلي للعلم (1938) إلى تحليل نفسية العلماء ودور الخيال في دفع الإبداع العلمي.

تأثير باشلار على ليكور:

تبنى ليكور فكرة القطيعة المعرفية، لكنه وسّعها لتشمل السياقات الاجتماعية والسياسية. في كتابه الليسينكوية (1976)، حلل كيف يمكن للايديولوجيا أن تعيق التقدم العلمي، مستلهمًا منهج باشلار النقدي.

على عكس باشلار الذي ركز على البعد المعرفي، اهتم ليكور بتأثير العوامل الخارجية (مثل السلطة السياسية) على تطور العلم.

2. دومينيك ليكور وفلسفة العلوم

إسهامات ليكور:

في كتابه من أجل نقد الايبستمولوجيا ( 1974)، نقد ليكور النزعات الوضعية في فلسفة العلوم، التي ترى العلم كتطور خطي ومحايد. رأى أن العلم ليس معزولًا عن السياقات الاجتماعية والتاريخية.

قدم ليكور تحليلًا لتاريخ العلم يركز على "المشكلات" بدلًا من النظريات المعزولة، معتبرًا أن العلم يتطور عبر إعادة صياغة الأسئلة في سياقات جديدة. في كتاب الليسينكوية، فحص حالة تروفيم ليسينكو، العالم السوفييتي الذي فرض نظريات بيولوجية مدفوعة بالايديولوجيا الستالينية، كمثال على كيفية تشويه العلم بتأثير السلطة السياسية.

المنهج النقدي:

استخدم ليكور منهجًا ماركسيًا معدلًا، مستلهمًا من لوي ألتوسير، لتحليل العلاقة بين العلم والايديولوجيا. رأى أن العلم ليس مجرد إنتاج معرفي، بل هو ممارسة اجتماعية تخضع لتأثيرات السلطة والطبقية.

نقد التصورات المثالية للعلم، مثل تلك التي قدمها كارل بوبر، معتبرًا أنها تتجاهل السياقات المادية والاجتماعية التي تشكل المعرفة العلمية.

3. العلوم والمجتمع عند ليكور

العلاقة بين العلم والايديولوجيا:

رأى ليكور أن العلم، رغم طابعه العقلاني، يمكن أن يُستخدم كأداة ايديولوجية. في حالة ليسينكو، أظهر كيف فرضت الايديولوجيا السياسية نظريات بيولوجية غير علمية، مما أدى إلى كارثة زراعية في الاتحاد السوفييتي.

دعا إلى فصل الممارسة العلمية عن التأثيرات الايديولوجية، مع الإقرار بأن العلم لا يمكن أن يكون محايدًا تمامًا بسبب ارتباطه بالمجتمع.

دور العلم في المجتمع:

في كتابه الطبقة العاملة والمعرفة (1979)، ربط ليكور بين تطور العلم والصراعات الاجتماعية، معتبرًا أن العلم يمكن أن يخدم مصالح طبقية معينة إذا لم يخضع لنقد دائم.

دعا إلى "ايبستمولوجيا نقدية" تراقب العلاقة بين العلم، السلطة، والمجتمع، مع الحفاظ على استقلالية الممارسة العلمية.

4. مقاربة معرفية نقدية: ليكور مقابل باشلار

نقاط التقاطع: كلاهما أكد على القطيعة المعرفية كآلية للتقدم العلمي. باشلار ركز على القطيعة بين المعرفة العلمية والخيالية، بينما وسّع ليكور المفهوم ليشمل القطيعة مع الايديولوجيا.

كلاهما دافع عن العقلانية العلمية، لكن مع الاعتراف بدور الخيال (باشلار) أو السياق الاجتماعي (ليكور) في تشكيل المعرفة.

نقاط الاختلاف: التركيز المعرفي مقابل الاجتماعي: ركز باشلار على البنية الداخلية للمعرفة العلمية (مثل العوائق المعرفية)، بينما اهتم ليكور بالعوامل الخارجية (السياسة، الايديولوجيا، السلطة).

المنهج التاريخي: باشلار حلل تاريخ العلم كتطور داخلي للمفاهيم، بينما رأى ليكور أن التاريخ العلمي متشابك مع التاريخ الاجتماعي والسياسي.

العلاقة بالماركسية: تبنى ليكور منظورًا ماركسيًا معدلًا (تأثرًا بألتوسير)، بينما كان باشلار أقل اهتمامًا بالتحليل الاجتماعي-السياسي.

نقد ليكور لباشلار: رأى ليكور أن نهج باشلار، رغم أهميته، يفتقر إلى تحليل العوامل الاجتماعية التي تشكل العلم. على سبيل المثال، لم يتناول باشلار كيف يمكن للسلطة السياسية أن تعرقل التقدم العلمي، كما في حالة ليسينكو.

5. تحليل نقدي: إسهامات ليكور وحدوده

االإسهامات: أسهم ليكور في إعادة تعريف فلسفة العلوم كمجال يتجاوز التحليل المنطقي إلى فحص السياقات الاجتماعية والسياسية.

قدم مفهوم "الايبستمولوجيا النقدية"، الذي يدعو إلى مراقبة العلم كممارسة اجتماعية دون التقليل من طابعه العقلاني.

نقده للايديولوجيا في العلم (مثل الليسينكوية) قدم درسًا تاريخيًا حول مخاطر تدخل السياسة في الممارسة العلمية.

الحدود: تركيزه المفرط على الايديولوجيا قد أدى إلى إغفال بعض الجوانب الداخلية لتطور العلم، مثل ديناميكيات المفاهيم العلمية التي أكد عليها باشلار.

تأثره بالماركسية جعل بعض تحليلاته منحازة إلى تفسيرات طبقية، مما قد يقلل من شمولية مقاربته.

لم يقدم ليكور نموذجًا منهجيًا واضحًا لتطبيق "الايبستمولوجيا النقدية" في دراسة العلوم المعاصرة، مما جعل أفكاره نظرية أكثر منها عملية.

خاتمة

يمثل دومينيك ليكور امتدادًا نقديًا لفلسفة غاستون باشلار، حيث وسّع مفهوم المادية العقلانية ليشمل البعد الاجتماعي والسياسي للعلم. من خلال تحليله لعلاقة العلم بالايديولوجيا والمجتمع، قدم ليكور إطارًا لفهم العلم كممارسة تاريخية واجتماعية، وليس مجرد نشاط عقلي محايد. ومع ذلك، فإن تركيزه على الايديولوجيا قد قلل من أهمية الجوانب الداخلية لتطور العلم. مقاربته النقدية تظل ذات قيمة في تحليل العلوم الحديثة، خاصة في سياقات تتداخل فيها السلطة والمعرفة. تطبيق منهجه على العلوم العربية الإسلامية يمكن أن يكشف عن ديناميكيات مماثلة بين العلم والمجتمع في تلك الحقبة، مؤكدًا على أهمية السياق الحضاري في تشكيل المعرفة. فكيف يمكن الاستفادة من مقاربة ليكور المعرفية النقدية من اجل اعادة قراءة التراث العلمي عند العرب والمسلمين؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

...................

المراجعدومينيك ليكور، من أجل نقد الايبستمولوجيا (1974).

دومينيك ليكور، الليسينكوية (1976).

غاستون باشلار، التكوين العقلي للعلم (1938).

لوي ألتوسير، من أجل ماركس (1965).

ماري تيليز، فلسفة العلوم في القرن العشرين (ترجمة عربية، 2000).

أن عدم الكمال الفلسفي* يشير إلى استحالة تحقيق الكمال في الوجود البشري.  المعنى الفلسفي العميق لفكرة (عدم الكمال) التي تتجاوز مجرد العيوب الظاهرة يشير إلى فكرة أن أنظمة الفكر البشريّ (الفلسفة، الأخلاق، المنطق، المعرفة) لا يمكن أن تصل إلى الكمال أو الاكتمال المطلق. الانسان غير قادر على الإحاطة بجميع الحقائق أو إدراك الحقيقة الكاملة لأي موضوع (ميتافيزيقي، أخلاقي، علمي) كل نظام فكريّ يحمل داخله تناقضات أو فجوات لا يمكن سدّها، المعرفة البشرية قائمة على السياق الثقافي والتاريخي والخبرات الذاتية، وبالتالي فهي غير مطلقة كما قال نيتشه لا وجود لحقائق، بل تأويلات فقط. قانون عدم الكمال يعتمد على عدة مبادئ فلسفية تساعد على فهم وتقبل عدم الكمال في الحياة والفشل هو جزء طبيعي من الحياة علينا أن نتقبل أن الأخطاء والتجارب السلبية تعد فرصًا للتعلم والنمو، العقلانية مهمة، لكن أيضا يجب أن نسمح للعواطف بالتعبير عن نفسها بجانب التفكير المنطقي، كل شخص يسير في طريق مختلف والتركيز هو على التقدم الشخصي كون الحياة مليئة بالتغيرات. الطبيعية الموضوعية لن تسير دائمًا كما نريد، وأن التكيف مع التغييرات جزء من النمو، تطبيق هذه المبادئ يمكن أن يساعد في تقبل عدم الكمال، مما يؤدي إلى حياة أكثر توازنًا وسعادة.

التراث السردي في الشرق الأوسط عدم الكمال الفلسفي

في التراث السردي الشرق الأوسط، يمكن أن نجد عدة أسباب لعدم وجود مكان واضح عدم الكمال الفلسفي، الكثير من القصص والأساطير تتسم بالتأكيد على الكمال كقيمة مثالية. الأبطال غالبًا ما يُصوّرون على أنهم مثاليون، مما يُعزز فكرة الكمال كهدف يجب السعي إليه، رغم ان في العديد من الديانات، تعتبر الكمال صفة إلهية. وبالتالي، يُنظر إلى البشر ككائنات غير كاملة، لكن فكرة السعي نحو الكمال هو واجب ديني، القصص تميل إلى التركيز على الأحداث البطولية والتجارب الفريدة، مما يغفل الجوانب الإنسانية العادية، مثل الفشل أو الضعف، المجتمعات التقليدية غالبًا ما تضع توقعات عالية على الأفراد، مما يؤدي إلى ضغط اجتماعي لتحقيق الكمال في الأداء والسلوك، الرموز والأساطير في التراث الشرق اوسطي غالبًا ما تتسم بالتمجيد والكمال، مما يجعل من الصعب قبول عدم الكمال كجزء من التجربة الإنسانية .بعض الفلاسفة في التراث الشرقي يرون أن السعي نحو الكمال هو جزء من تحقيق الذات، مما يجعل من الصعب قبول عدم الكمال كفكرة ،هذه العوامل تجعل من الصعب قبول مفهوم عدم الكمال في التراث السردي الشرقي ، حيث يتم تفضيل الكمال كمثل اعلى وقيمة مرجعية.  التركيز على الكمال في السرديات يؤثر بشكل كبير على عدة جوانب منها تقديم شخصيات مثالية يخلق توقعات غير صحيحة لدى الجمهور، مما يجعلهم يشعرون بالضغط لتحقيق مستوى مشابه من الكمال في حياتهم، التركيز على الكمال يمكن أن يؤدي إلى تجاهل الجوانب الإنسانية والعيوب التي تجعل الشخصيات أكثر واقعية وعمقًا. السرد الذي يركز على الكمال يقلل من تنوع الشخصيات والقصص، حيث يتم تفضيل النماذج المثالية على التجارب الإنسانية المتنوعة ،كما يعزز فكرة ان السرد القائم الفشل غير مقبول، مما يؤدي إلى الشعور بالقلق وعدم الأمان لدى الأفراد الشخصيات التي لا تتعرض الى الصراعات ، مما يجعل القصة أقل تأثيرًا ،التركيز على الكمال يمكن أن يؤدي إلى عقلانية مفرطة، حيث يُعتقد أن النجاح يتطلب تخطيطًا دقيقًا وتحليلًا صارمًا، مما يغفل أهمية العواطف والحدس، ان تحقيق توازن بين تقديم النماذج المثالية والاعتراف بالعيوب الإنسانية يجعل القصص أكثر واقعية وتأثيرًا.

وجهات نظر ثقافية

تتباين وجهات النظر الثقافية حول عدم الكمال بشكل كبير، وتظهر في عدة مجالات في الفلسفة الشرقية. منها التي تركز على قبول الطبيعة غير الكاملة للأشياء ،اما في الفلسفة الغربية تركز أكثر على السعي للكمال، مع وجود بعض التوجهات التي تعترف بضرورة الفشل كجزء من التجربة الإنسانية الفنون اليابانية مثل (الكينتسوجي) تعود أصول الكينتسوجي إلى القرن الخامس عشر في اليابان، وقد تطورت لتصبح رمزًا ثقافيًا يعبر عن تقدير الجمال في ما هو غير كامل، تعزز الجمال في الأشياء المكسورة، وتعتبر العيوب علامات على التاريخ والقيمة، ولكن هناك أيضًا توجهات حديثة تعترف بجماليات العيوب مثل البوذية، التي  تشجع على قبول الحياة كما هي، بما في ذلك عيوبها رغم انها تركز على الخلاص والكمال، مما يمكن أن يجعل قبول العيوب أمرًا أكثر تعقيدًا، التركيز على النجاح الشخصي، يمكن أن يؤدي إلى ضغط كبير لتحقيق الكمال، بعض المجتمعات التقليدية تعزز من قيمة العيوب كجزء من الهوية الثقافية، مما يعكس تجارب الحياة اليومية، لكنها تكون أكثر قلقًا حول الصورة العامة والنجاح، مما يجعل قبول العيوب أكثر صعوبة. تظهر وجهات النظر الثقافية حول عدم الكمال تنوعًا كبيرًا، مما يعكس كيفية تأثير القيم والمعتقدات الاجتماعية والدينية على فهم الإنسان لنفسه ولتجاربه. فهم هذه الاختلافات يمكن أن يسهم في تعزيز التعاطف والقبول عبر الثقافات. تتشابك الفلسفات لتشكل نظرة شاملة حول عدم الكمال في الثقافات التي تجمع بين التأثيرات الشرقية والغربية. تسهم هذه الفلسفات في تعزيز تقبل العيوب وفهمها كجزء من التجربة الإنسانية.

قانون عدم الكمال والتشتت الايديولوجي

قانون عدم الكمال والتشتت الأيديولوجي يشير إلى فكرة أن المجتمعات التي تتسم بالتنوع الطائفي أو الإيديولوجي غالبًا ما تواجه تحديات في تحقيق الوحدة والانسجام.  عدم الكمال يشير إلى أن أي نظام أو مجتمع لا يمكن أن يكون مثاليًا أو كاملًا بسبب الاختلافات والتنوعات الموجودة فيه، التشتت الأيديولوجي يعني وجود مجموعة من الأفكار والمعتقدات المختلفة التي تؤدي إلى صراعات أو تباينات بين الفئات المختلفة داخل المجتمع، يمكن أن يؤدي هذا التشتت إلى عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، حيث تتباين المصالح والأهداف بين الجماعات المختلفة، التنوع القبلي له تأثير كبير على قانون عدم الكمال والتشتت الطائفي.  يؤدي التنوع القبائلي إلى تعزيز الهوية الفردية والجماعية، مما يساهم في تعزيز الفروقات بين الجماعات وقد تنشأ صراعات بين القبائل المختلفة، خاصة إذا كانت هناك موارد محدودة أو تباينات في المصالح مع وجود ولاءات متعددة (للقبيلة، للطائفة، للوطن)، ويصبح من الصعب تحقيق توافق في الآراء، مما يزيد من حالة عدم الكمال والتشتت في التنوع الثقافي الناتج عن القبائل المختلفة الذي يؤدي إلى سوء الفهم أو التوترات إذا لم يتم احترام هذه الفروقات.

الدوافع وراء التشتت الايديولوجي

قانون عدم الكمال يشير إلى أن الدوافع وراء التشتت الأيديولوجي والطائفي منها البحث عن السلطة، وبشكل خاص سلطة القبيلة. في المجتمعات المتنوعة، يمكن أن تكون هناك تنافسات بين القبائل على الموارد والسلطة، مما يؤدي إلى عدم الاستقرار والصراعات هذا التنافس يزيد من حالة عدم الكمال، حيث تعمل كل قبيلة على تعزيز مصالحها الخاصة، مما يؤثر سلبًا على الوحدة والتماسك الاجتماعي. لذلك، تتداخل الدوافع القبلية مع قانون عدم الكمال، حيث تسهم في تعزيز الانقسامات والتباينات الأيديولوجية.

التشتت الأيديولوجي في الشرق الاوسط

الشرق الأوسط يتسم بتنوع هائل في الهويات الثقافية والدينية والعرقية، مما يؤدي إلى تناقضات وصراعات أيديولوجية، تختلف الأنظمة السياسية في المنطقة بين الملكيات، الجمهوريات، والأنظمة العسكرية، مما يساهم في عدم الاستقرار، تلعب القوى الكبرى دورًا في تعزيز الفوضى من خلال التدخلات العسكرية أو السياسية، مما يزيد من تعقيد الأوضاع ،تعتمد العديد من دول الشرق الأوسط على النفط كدخل رئيسي، مما يؤدي إلى ضعف تنمية القطاعات الأخرى ويخلق فجوات اجتماعية ،الصراعات الإقليمية والدولية، تؤدي إلى عدم الاستقرار وتشتت الجهود التنموية ،في غياب الحوار الفعّال بين مختلف الفصائل السياسية والدينية تتعمق الفجوة هذه العناصر مجتمعة تساهم في خلق حالة من التشتت الأيديولوجي وعدم الكمال في مختلف جوانب الحياة في الشرق الأوسط.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

.........................

* إنَّ الربط بين مفهوم فلسفي عميق مثل "عدم الكمال" والأزمات الجيوسياسية المعقدة التي يعاني منها الشرق الأوسط، يفتح بابًا لتشخيص يتجاوز التحليلات السياسية والاقتصادية المعتادة، ليغوص في البنى الفكرية والنفسية التي تشكل الواقع.

* نقد العقل المحض" لكانط (أساس لفهم حدود المعرفة)

* هكذا تكلّم زرادشت" لنيتشه (نقد لفكرة الحقائق المطلقة)

بتاريخ 24 فبراير 2025 نشرت مجلة ايون Aeon وهي مجلة رقمية تهتم بقضايا الفكر والفلسفة والثقافة، بحثا هاما للبروفيسور اندرو مارش(1) حول حق الدولة في الوجود، سنتطرق بالتفصيل لهذا المقال.

ان الحاجة للاعتراف بحق الدولة في الوجود يتردد صداها في صفحات الرأي وفي غرف لجان الكونغرس الامريكية. هذه الطلبات برزت باستمرار في سياق اسرائيل وتأطير حربها مع الفلسطينيين والقوى الاقليمية الاخرى. القوة البلاغية للسؤال واضحة. اذا كانت اسرائيل تواجه تحديا لـ "حقها في الوجود" عندئذ فان انتقاد الاعمال العسكرية لإسرائيل يجب ان يبقى صامتا ومقيدا. هذا التأطير يتضمن ايضا فرضية ان الدول الموجودة لديها حق مفترض في الوجود، او ان انكار حق الدولة (س) او (ص) بالوجود هو منبوذ أخلاقيا لأنه لا يتضمن حلا قانونيا للدولة وانما تدمير للشعب الذي يعيش فيها. هذا التأطير قد يبدو وكأنه محض خطاب سياسي لا يهدف الى اثارة استجابة او نقاش جاد. انه قُصد به ان يسبق أي نقاش عام حقيقي حول اسرائيل/فلسطين الماضية والحالية. مع ذلك، الحاجة للاعتراف بحق الدولة في الوجود يثير سؤالا فلسفيا واقعيا لكنه مُتجاهلا: ماذا نعني بالضبط عندما نقول حق الدولة في الوجود؟

يجب ملاحظة ان القول "الدولة (س) لها الحق في الوجود" لا يشبه القول "ان مواطني الدولة (س) لهم الحقوق التالية" – حق الحياة، حقوق مدنية وانسانية، ازدهار ثقافي. الإدّعاء يؤكد على ان حيازة الحق تقع في الدولة ذاتها، علاوة على ذلك، انه لا يؤكد على حق السلطة المشتقة (الضرائب وفرض القوانين والسيطرة على الحدود) وانما على الحق السابق في الوجود ذاته. هل هذا ادّعاء متماسك يمكن التمسك به لمصلحة أي دولة؟

الدول تأتي الى الوجود وتخرج منه في كل الاوقات. هذه قائمة ليست كاملة للدول التي وُجدت منذ الحرب العالمية الثانية ولم تعد موجودة: تشيكوسلوفاكيا، يوغسلافيا، الاتحاد السوفيتي، اليمن الجنوبي، فيتنام الجنوبية، غرب وشرق المانيا، الجمهورية العربية المتحدة. كلما عدنا اكثر الى الوراء، سنجد الكثير من الدول المنحلّة: الرايخ الثالث، الامبراطورية العثمانية، بروسيا، الامبراطورية النمساوية المجرية، الامبراطورية الروسية، الكومنولث البولندي الليتواني، الامبراطورية الرومانية المجيدة وهكذا. دول اخرى لاتزال موجودة تحت نفس الاسم لكنها تقلصت ولم تعد تحكم نفس الاقليم (كما في باكستان والسودان).

وهكذا اذا كانت عبارة "الدولة (س) لها الحق في الوجود" تعني "اذا الدولة (س) كانت قد وُجدت ولم تعد موجودة، فهناك ظلم وقع تجاه الدولة (س)، ومن ثم فان ذلك يعني ان هناك ظلم او لاعدالة وقع على تلك الدول المعنية، لأنها لم تعد موجودة. يرى الكاتب ان هناك اليوم القليل يؤمن بان حل تشيكوسلوفاكيا، والاتحاد السوفيتي، ويوغسلافيا او الجمهورية العربية المتحدة تضمّن انتهاكا لحق تلك الدول ذاتها في الوجود. الفكرة بان الدول هي كيانات او اشخاص لهم حقوق في الوجود منفصلة عن حقوق الاشخاص الذين يعيشون ضمن تلك الدول تبدو فكرة لا يمكن تبريرها او الدفاع عنها. الدول عادة تأتي وتخرج من الوجود دون أي ظلم يحدث للناس أصحاب الشأن. يتبع ذلك ان حق الدولة (س) في الوجود ليس بالضرورة بغيض أخلاقيا.

ان المطالبة بالاعتراف بحق الدولة في الوجود هو ليس نفس المطالبة "كل الاشخاص لهم الحق في العيش تحت حكم الدولة". المطالبة هي ان دولة معينة، ذات هوية محددة، لها الحق في الوجود. متى توجد مثل هذه الدولة؟ وكيف نستطيع التمييز بين الادّعائين: (س) "اشخاص لهم الحق ليعيشوا في ظل الدولة" و(ص) "دولة معينة ذات هوية محددة لها حق الوجود"؟

الدولة هي جهاز اداري سيادي يحكم أراضي معينة، يسيطر على الدخول والخروج من الاقليم، ويحوز على سلطة عليا ضمن ذلك الاقليم. ولكن ما المقصود بالدولة التي لها هوية محددة بحيث يمكن ان يُحكم نفس الشعب والاقليم من جانب دول مختلفة في اوقات مختلفة؟ الدول لها علامات لهوية متميزة، مثل أسماء وأعلام. لكن الدول هي ايضا تُعرّف من خلال مؤسساتها – ليس فقط المسائل التقنية للتنظيم وتقسيم السلطات وانما الطريقة التي تمثّل بها الدول سكان معينين وتعبّر عن هويات معينة، قيم وأهداف وتوزيع عضوية وحقوق وتمثيل.

من السخف الادّعاء ان ملكية بوربون الفرنسية وجمهورية فرنسا كانتا نفس الدولة

تتوقف الدول عن الوجود من خلال تغييرات هامة كافية في أي من هذه المظاهر الاساسية لهويتها المحددة: الأراضي والسكان الذين تحكمهم، وايضا نظامهم المؤسساتي الاساسي او نوع النظام. المثال الذي نطرحه واضح جدا. أجهزة دولة سيادية معينة ذات أسماء محددة ومؤسسات لم تعد تحكم اراضي معينة، وان اسماء تلك الدول السابقة اُزيحت من الخارطة. في بعض الحالات، كامل الجهاز الاداري السابق جرى تفكيكه واستبداله.

هذا يصعب رؤيته في حالات تغيير النظام عندما لم تتغير جوهريا الارض المحكومة من جانب الدولة. لكن يمكن القول انه، في عدة حالات من الثورات العميقة بما يكفي، من غير المعقول القول ان نفس الدولة تحكم الاقليم والسكان قبل وبعد التحول. انظر في معظم الحالات الواضحة: انجلترا عام 1649، فرنسا عام 1789، الصين عام 1911 ومرة اخرى في عام 1949، روسيا عام 1917 وايران عام 1979. في كل هذه الثورات، بقيت الارض والشعب بدرجة أقل او أكثر هم ذاتهم، بالاضافة الى الاسم الشائع للبلد، على الاقل في زمن الثورة ذاته. لكن تغيير النظام في هذه الحالات النموذجية كان معظمه كليا في مستوى الايديولوجية، الشرعية، الادارة وتنظيم السلطة. يبدو من السخف الاعلان ان ملكية بوربون وجمهورية فرنسا كانتا نفس الدولة. بالتأكيد، لو كان الملكيون طالبوا الاصلاحيين او الثوريين بين 1789-92 الاعتراف بحق الدولة في الوجود، فان ما يقصدونه ليس دولة فوق اراضي فرنسا وانما الملكية بالذات.

الان لننظر في حالتين اخريين: زيمبابوي حوالي 1980 وجنوب افريقيا بين 1993-97. من عام 1965-79، وُجدت روديسيا (مع عدم اعتراف دولي) في نفس الاراضي وبنفس السكان كما زمبابوي منذ 1980. ومع نهاية الكولنيالية وظهور نظام ما بعد الكولنيالية، كانت هناك استمرارية في الاقليم والسكان. لكن هناك تغييرا في الاسم بالاضافة الى مؤسساتها الاساسية والاساس الاخلاقي. ونظرا لعمق هذا التحول، لذا يمكن اعتباره اكبر ادّعاء معقول بان روديسيا لم تعد كدولة، وان روديسيا وزمبابوي ليستا نفس الدولة.

اسم جديد يجعل من السهل رؤية التحول لكن تغيير الاسم هو عرض وليس عامل مقرر حقيقي. بين 1916-93، وُجدت جمهورية جنوب افريقيا (تحت مؤسستين متميزتين) كدولة ذات مواطنين واقليم محدد. بالطبع، هذه كانت عقود من الفصل العنصري. في عام 1993، كجزء من التحول من الفصل العنصري، تبنّت جمهورية جنوب افريقيا دستورا انتقاليا غيّر جوهريا الاساس العرقي للنظام السياسي، متبنيا دستور دائم في عام 1996 على اساس مساواة عرقية.

هل الدولة التي وُجدت في جنوب افريقيا بين 1961-93 لم تعد موجودة مع تبنّي دستور جديد ومساواة عرقية؟ من جهة، كانت هناك استمرارية في الاقليم والسكان والاسم بين 1961-93 وبين 1993 حتى الحاضر. كيان سمي، جمهورية جنوب افريقيا لم يتوقف عن الوجود ابدا. هناك بالتأكيد بعض الاستمرارية في الجهاز الاداري والنظام الاجتماعي. مع ذلك، نعتقد من الخطأ القول ان الدول التي وُجدت بين 1961-93 وبين 1993- حتى الان هي نفس الدولة. بالتأكيد، اذا كان نظام الفصل العنصري عرض اطلاق سراح نيلسون ماندلا من السجن بشرط ان يعترف هو والمؤتمر الوطني الافريقي ANC"بحق جنوب افريقيا بالوجود"، فان المقصود ليس دولة على اقليم جنوب افريقيا وانما النظام القائم.

بكلمة اخرى، هوية دولة معينة تتشكل الى مدى كبير بواسطة نظامها. الدولة تغير وجودها من خلال تغيير عميق وكافي في جوهرها (نظامها). مختلف موجات التحولات الديمقراطية من الفاشية او الانظمة الشيوعية وفق هذه الرؤية انهت الدول السابقة وخلقت دولا جديدة. حتى عندما سميت دول مثل رومانيا، بلغاريا، هنغاريا، او البرتغال هي استمرت بالوجود، وان الدولة المحددة التي تحكم تلك الاقاليم والناس قد تغيرت. اذا كان ما تقدم من امثلة معقولا، فان الدعوة الى عدم وجود دولة ما غالبا ما تكون دعوة الى تغيير النظام وليس الى الإضرار بمجموعة سكانية محددة. في الحقيقة، في الغالب تكون دعوة لتحرير اولئك السكان.

وهكذا فان الدول يمكن ان تختفي في عملية إعادة بناء بدون عمل ضار او إيذاء. دعونا نسمي هذا "تدمير غير ضار لدولة". لكن من الواضح ليس كل تحوّل، تحطيم، حل او اعادة تركيب للدولة هو بلا أذى. ربما، مع الاخذ بالاعتبار كل شيء، استمرار وجود دولة معينة هو أفضل حالة اخلاقية. اذا كان الامر هكذا، هل نستطيع تحديد الظروف التي يصبح بها للدولة الحق في الوجود؟ لكي نجيب على هذا السؤال، علينا اولاً توضيح ماذا نعني بـ "الحق".

احدى النظريات السائدة حول معنى الحق هي، نظرية مصلحة الحقوق the interest theory of rights، جرى عرضها بالتفصيل من جانب الفيلسوف راز Raz. يعرض راز التعريف التالي للحق: "(س) لها حق" فقط عندما يمكنها امتلاك حقوق، وبثبات الاشياء الاخرى، مظهر رفاهية (س) (مصلحتها) هي سبب كافي لإعتبار بعض الاشخاص الاخرين تحت الواجب". هذا يعطينا العناصر المفاهيمية لحديث الحقوق: للتحدث عن الحق، نحن نحتاج لتوضيح: (1) اي طرف نحن على ارتباط به، (2) اي مصلحة لذلك الطرف هي هامة ولماذا هي هامة جدا وذات وزن كبير، (3) اي اطراف اخرى هي في موقع التأثيرعلى تلك المصلحة ايجابا او سلبا، و(4) اي انواع الواجبات التي تخضع لها الاطراف الاخرى. لكن هذه كلها تخلق اسئلة ومشاكل بدلا من التأسيس ببساطة لماهية الحقوق.

ان فكرة امتلاك الدولة لحق الوجود يثير مأزقين اثنين: اولا، هل الدولة شيء يمكن ان تمتلك حقوقا وهل مصلحة الدولة او رفاهيتها هي العامل الملائم أخلاقيا في وجودها؟ ثانيا، والاكثر اهمية، اي الاطراف الاخرى تحديدا يُعتقد انها تحت الواجب للاعتراف بوجودها وماذا يتطلب ذلك الواجب منهم؟

يرى أي شخص عدى الفوضويين، بانه يمكن للدول بوضوح امتلاك حقوق مشتقة من مصالح مواطنيها. اذا كان بامكان الدول امتلاك حقوق مشتقة (فرض الامن، الضرائب، فرض القوانين، الدخول في معاهدات)، فمن المعقول ان تلك الدول بامكانها امتلاك حقوق في الوجود مشتقة من مصالح مواطنيها في هذا الجهاز الاداري الموجود.

من هو المُلزم للاعتراف بحق الوجود لدولة معينة، وفي أي ظروف؟

انظر في الحجة التالية. افراد لهم الحق بخدمات مثل الأمن، الاستقرار الاقتصادي، حكم القانون، حقوق سياسية وانسانية. هذه الحقوق يمكن ضمانها فقط من خلال وكالة سيادية لها سلطة تأمين تلك الخدمات. لذلك، الاشخاص لهم حق العيش في ظل دولة وبالتالي الدولة لها الحق في وجود مشتق من مصالح الاشخاص الخاضعين لها.

انظر في حجة اخرى. أشخاص لهم الحق في العيش في ظل دولة وبالتالي الدولة لها حق في الوجود مشتق من مصالح الاشخاص الخاضعين لها. وكلاء آخرون يتعاملون بشكل غير عادل في حق الاشخاص الذين يعيشون في ظل الدولة عبر محاولة تحطيم الوكالة السيادية التي تضمن لهم خدمات أخلاقية هامة. ولذلك، فان الواجب الاخلاقي للوكلاء الاخرين هو ان لا يحطموا هذه الدولة.

يمكن اعتبار هاتين الحجتين معقولتين تماما. لكن، ما لم تثبته هذه الحجج بعد هو أي الوكلاء الاخرين تقع عليهم واجبات الاعتراف بحق الدولة المبرر على هذه الاسس في الوجود؟ على منْ يقع الالتزام وفي أي ظروف، للاعتراف بحق دولة معينة في الوجود؟

هناك اثنان من الوكلاء من الواضح هما تحت هذا الواجب. اولاً هو الدولة ذاتها، خاصة حكامها او مسؤوليها. اذا كانت الدولة شرعية فقط عندما تضمن الحقوق والخدمات المذكورة اعلاه للشعب الذي تحت حكمها، عندئذ يقع حكام ومسؤولو الدولة تحت التزام عدم انتهاك الحقوق والخدمات لذلك الشعب. ثانيا، هناك دول وقوى اخرى ملزمة بعدم تقويض او الإضرار بالمصالح الاساسية للشعب الذي تحكمه الدولة.

البساطة المخادعة لسؤال حق الدولة في الوجود تتجسد في حقيقة ان الدول باستمرار مهددة من دول اخرى بسبب مصالح تلك الدول. لو تركنا جانبا، على سبيل المثال، اسئلة عميقة حول العلاقات الاوكرانية مع كل مواطنيها، يبدو واضحا ان اوكرانيا لها الحق في الوجود تجاه روسيا، حتى لو كان كيانا مجردا يسمى "دولة اوكرانيا" ليس صاحب الحق النهائي على شعب واراضي حُكمت من جانب تلك الدولة حتى 2014 (عندما جرى ضم جزيرة القرم)، من باب اولى ان الدولة الروسية ليست صاحبة الحق على شعب واراضي اوكرانيا.

مع ذلك، دول اخرى لم تكن فقط وكلاء آخرين تطالبهم الدول بحق الوجود. هي تطالب بهذه الحقوق ضد الاشخاص والسكان. في بعض هذه الحالات، من غير الواضح ان هؤلاء الوكلاء (الاشخاص الاخرون) يفتقدون للمصالح او المواقف للبحث عن حل او تحول راديكالي للدولة، او انهم تحت واجب اخلاقي لإعتراف بحق تلك الدولة في الوجود.

الحجتان أعلاه توضحان المصالح التي يمكن ان تبرر وجود دولة وهما تفترضان دون جدال وجود سكان على اقليم معين لديهم مجموعة مشتركة من المصالح وادارة مشتركة للرغبة في الوكالة السيادية. كلتا الحجتين تجاهلت ثلاثة عناصر هامة.

اولا هما تؤسسان حق للسكان في الدولة، ولكن ليس لدولة معينة ذات ثقافة معينة وهوية اثنية محددة.

ثانيا هما لا تعالجان الكيفية التي يعيش بها سكان معينين في اقاليم محددة في المقام الاول.

اخيرا هما لا تعالجان كيف اصبحت اقاليم محددة منفصلة قانونا عن الاقاليم الاخرى.

يتكون السكان باستمرار كنتيجة لعنف عميق ومتطرف احيانا، ونتيجة لتغيرات ديموغرافية ضمن الاقليم. الدول تتكون تقريبا بواسطة فصل اقليمي عشوائي وعنيف بدون موافقة ديمقراطية من كل السكان الذين ربما لديهم مصالح مشروعة في هذا القرار. المنظرون السياسيون عادة يشيرون الى هذا بـ "مشكلة حدود" او "مشكلة المواطنين demos problem".

الديموقراطيون يريدون ان تُشتق شرعية النظام الدستوري من موافقة الناس الحقيقية او الضمنية او الافتراضية ليُحكموا بطريقة معينة. لكن ترسيم الناس ذاتهم ليس شيئا يمكن ان يتقرر ديمقراطيا.

الامثلة هنا لا تعد ولا تحصى. كيف ان "الناس الديمقراطيون" في الدول الاستعمارية الاستيطانية في امريكا واستراليا لم يبرزوا الاّ من خلال مختلف اشكال العنف وسرقة الاراضي والتطهير العرقي والطرد والاستبعاد او الحجز؟ كيف ان الاكثريات الاثنية في الدول التي أعقبت امبراطوريات متعددة الاعراق لم تتأسس الاّ من خلال تطهير اثني مستمر، استبدال للسكان او استيعاب قسري؟ حتى في السياقات التي لم يكن فيها العنف شديدا او التطهير العرقي سببا مباشرا او نتيجة لتكوين الدولة، كان رسم الحدود وتقسيم الاراضي او تحديدها ينطوي دائما على قرارات تعسفية بالتضمين او الاستبعاد والتي لا يمكن ان تكون ديمقراطية على الاطلاق.

ربما يجيب احد بانه اذا لم تتأسس اي دولة تقريبا في لحظات من الموافقة الكاملة غير العنيفة من قبل سكان لا يتضمنون اي اقصاءات عميقة او ضم قسري على ارض واضحة لا تتنازع عليها اي جماعة اخرى(لنسمي هذا معيار ايسلندا)، فان اي دولة تقريبا لا تكون شرعية تماما وبالتالي لا توجد دولة غير شرعية بشكل متميز. لكن ذلك سيكون غير معقول ورافض للحقوق المتأصلة للافراد في العدالة. انه اكثر معقولية القول بان كل الدول هي مشاريع دائمة لتأسيس شرعية تتجه بها نحو شيء ما مثل العدالة وقبول صالح وملائم.

قانون التقادم في العدالة التاريخية من غير المحتمل ان يكون غامضا وغير محدد

اذا كانت كل الدول تقريبا تشكلت من خلال لاعدالة تاريخية، فان حق الدولة في الوجود هو نسبي قياسا بمطالبات العدالة ضدها. لا وجود لجواب واحد لكيف يجب اصلاح اللاعدالة التاريخية. احيانا التقسيم، الانفصال او تكوين حدود جديدة هو الجواب المعقول ديمقراطيا والاقل ضررا. احيانا، الاستعادة او نقل السيادة على الارض ومواردها. احيانا، حق الناس النازحين للعودة لأماكنهم الاصلية. او، في ارساء الديمقراطية او تغيير النظام ضمن دولة معينة. بعض هذه الاجوبة ستتطلب انهاء الدول الموجودة او إعادة تشكيلها، والبعض سوف يتطلب اصلاحات قائمة على العدالة ضمن الحدود الاقليمية والدستورية للدولة القائمة.

يجب ملاحظة ان هناك اسئلة فلسفية معقدة مطروحة لايمكن حلها كليا هنا. احد هذه الاسئلة خصيصا: مشكلة الغموض المنتشرة في كل مكان. الغموض عادة يشير الى مشكلة تحديد شيء ما كما في شيء (ليس كومة من الرمل) يتحول الى شيء آخر (كومة من الرمل) عندما لا يحدد تغيير منفرد (اضافة حبة منفردة) بوضوح هذا التحول. الغموض يلف مشكلتين ضمن النقاش الحالي.

اولا، نحن ربما نقول ان بعض اللاعدالات التاريخية هي حية وبارزة لكن البعض منها بعيد جدا في الماضي بحيث أي محاولة لعكسها يستدعي فقط لاعدالة جديدة اكبر. لكن التقادم في العدالة التاريخية يبدو غامض وغير محدد. ميراث عبودية شمال امريكا هي بالتأكيد لاتزال بارزة، لكن ماذا عن فتح القسطنطينية او طرد المسلمين واليهود من الاندلس؟

ثانيا، هناك ايضا غموض معين في تحديد متى التغيير الداخلي في نظام الدولة يشكل نهاية محددة لدولة وظهور اخرى. بعض التغيرات الدستورية عميقة جدا تكفي للقيام بهذا، لكن ليس دائما، وربما غير ممكن القول بالضبط أي التغيرات تؤدي الى هذا التحول الانطولوجي من دولة الى اخرى. لكن هذا لن يؤثر على الادّعاء بان الدول لم تتمتع ابدا بحقوق كاملة ودائمة في الوجود في شكلها الحالي بحيث يخلق واجبات القبول او الاعتراف لدى جميع الشعوب المتأثرة بها.

طالما معظم الدول تأسست بشكل من العنف، الاستبعاد، الطرد او اللاعدالة، فمن الاخلاقي عدم تماسك القول ان الافراد او السكان هم بالتالي خاضعين لواجب الاعتراف في شرعية حدث تاريخي. في الحد الادنى، المدافعون عن الدولة سيتعين عليهم اثبات حدوث تعويض لتلك اللاعدالة التاريخية او ان الحفاظ على الوضع الراهن هو من غير المحتمل ان ينتج فضائعا او لاعدالة اخرى.

القوة البلاغية لطلب الاعتراف بحق الدولة في الوجود هو ان هذه الدول تتوقف عن الوجود فقط عندما يتحطم الجزء الاكبر من سكانها او كلهم. لكن هذا زائف. الدول يمكن ان تتوقف عن الوجود عبر اندماجها بدولة اخرى، او تقسيمها الى دول اصغر، او بتغيير هائل وهام في النظام بحيث يحوّل جوهر الدولة. كل هذه العمليات يمكن ان تحدث بدرجة اكبر او اقل من العنف.

ذلك لا يعني عدم حدوث ظلم اذا توقفت الدولة عن الوجود بدون خسارة هامة في حياة السكان. الدولة يمكن التغلب عليها بسرعة من دول اجنبية بخسارة قليلة نسبيا في الحياة ولكن مع ضرر كبير في الحقوق الانسانية والسياسية والمدنية للشعب المنتصر. الانظمة التي تفتقر الى الشرعية يمكن الاطاحة بها عبر الثورات التي تستمر لاحقا في ايذاء وظلم الشعب الذي تحكمه بحجم اكبر من النظام السابق اللاشرعي. الناس يمكن ان يتعرضوا للظلم والايذاء بخسارة دولتهم ذاتها وبأذى مصالح الاخرين.

لكن الناس يمكن ان يتعرضوا للاذى بدون ظلم. يمكن ان يصيبهم الاذى والظلم مع تبرير تلك الاضرار والاخطاء، كل الاشياء تؤخذ بنظر الاعتبار. مالكو العبيد والنخب الاخرى في الكونفدرالية اصيبوا بالاذى بواسطة اعادة البناء لكنهم لم يُظلموا. الالمان الذين طُردوا من تشيكوسلفاكيا بعد الحرب العالمية الثانية تعرضوا للاذى والظلم لكن هذا ظلم جرى تبريره، بالنظر لميراث الاحتلال النازي.

ليس كل حالات تحطيم الدولة هي غير مؤذية وغير ظالمة او تحسين أخلاقي

المسألة الاساسية هي الاستمرار في التأكيد على حقيقة ان تغيرات عميقة كافية في نظام الدولة الحاكم والايديولوجية يمكن ان يشكل نهاية دولة وبداية دولة اخرى. في حالة الدول التي تحكم شعب ذو اهمية بدون منحه حقوق سياسية ومدنية متساوية، او شعب يتمتع باكثرية ديموغرافية بسبب التطهير العرقي او التقسيم، فان تصحيح تلك اللاعدالة التاريخية قد يؤدي الى خلق دول جديدة. مع ذلك، هذا لا ينبغي ان يتضمن أي فضائع ضد السكان المحليين. مرة اخرى، الحالة النموذجية في جنوب افريقيا شهدت تغييراً عميقا في النظام بدون فضائع واسعة. لهذا من الصحيح أخلاقيا إنكار امكانية ان يكون للدولة حق الوجود دون تحطيم الشعب الذي يعيش ضمن تلك الدولة.

بالطبع، ليس كل حالات تحطيم الدولة هي بلا أذى وبلا ظلم او تحسين أخلاقي. تحطيم الدولة يمكن ان يقود الى العديد من الفظائع الكبيرة او كوارث انسانية اخرى. في الوقت الحالي، العالم يستيقظ على انهيار نظام الاسد في سوريا، بينما اسئلة كبيرة عديدة تبقى حول ما ينتظر هذا البلد المعذب وذو المعاناة الطويلة من حكامه الجدد.

ان تصحيح الأخطاء التاريخية او اللاعدالة السياسية يجب موازنتها مع كلفتها الانسانية والمسؤولية عن خلق المستقبل. هذه كما يرى البعض أفضل طريقة في الحديث عن حق الدولة في الوجود. بمعنى "ان المخاطر الانسانية المترتبة على تصحيح الظلم التاريخي واستعادة حقوق منْ انتُزعت منهم اراضيهم بشكل غير شرعي هي كبيرة جدا. العدالة لايمكن تحقيقها الاّ بتكلفة انسانية عالية، ربما لكلا النوعين من السكان".

***

حاتم حميد محسن

....................

الهوامش

(1) Andrew F March بروفيسور العلوم السياسية في جامعة ماساتشوستس في الولايات المتحدة. هو مؤلف الاسلام والمواطنة الليبرالية (2009)، خلافة الانسان (2019) وحول الديمقراطية المسلمة (2023) بالاشتراك مع رشيد الغنوشي.

 

(الخيال يُقلد، والروح النقدية تُبدع).. أوسكار وايلد

يُمثل الفكر النقدي ركيزة أساسية في الفلسفة، حيث يركز على تحليل الأفكار، المعتقدات، والحجج بشكل منهجي وعقلاني للوصول إلى استنتاجات مدروسة. يتجاوز الفكر النقدي مجرد التفكير التحليلي، إذ يهدف إلى تقييم الحجج، كشف التحيزات، وتعزيز التساؤل المستمر عن الحقيقة والمعرفة. في الحقبة المعاصرة، مع تزايد التضليل الإعلامي، تعقيدات التكنولوجيا، والتحديات الأخلاقية والاجتماعية، أصبح الفكر النقدي أداة حيوية في طموحات الفلسفة لتشكيل وعي جماعي عادل ومستنير. يهدف هذا المبحث إلى استكشاف الفكر النقدي كمنهج فلسفي طامح، من خلال مناقشة أسسه النظرية، تطوره التاريخي، ودوره في مواجهة التحديات المعاصرة، مع التركيز على كيفية إسهامه في تعزيز الفهم والمسؤولية الفكرية.

الأسس الفلسفية للفكر النقدي

يستند الفكر النقدي إلى مبادئ العقلانية، المنطق، والتساؤل المنهجي. أحد المفاهيم الأساسية هو "التحليل المنطقي"، الذي يركز على تقييم الحجج بناءً على قوتها المنطقية وصحة مقدماتها. قدم أرسطو (384-322 ق.م) أسس المنطق الصوري من خلال كتابه الأورجانون، الذي وضع قواعد الاستدلال السليم. في العصر الحديث، طوّر فلاسفة مثل جون ديوي (1859-1952) مفهوم "التفكير التأملي"، الذي يركز على التساؤل المستمر وحل المشكلات بناءً على التحليل والتجربة.

مفهوم آخر مهم هو "النقد الذاتي"، الذي يدعو إلى التشكيك في المعتقدات الشخصية والافتراضات. يرى عمانويل كانط (1724-1804) أن الفكر النقدي يتطلب "الجرأة على المعرفة"، أي استخدام العقل بشكل مستقل لتحدي الأفكار المسبقة. كذلك، يركز الفكر النقدي على كشف التحيزات المعرفية، مثل التحيز التأكيدي، الذي يدفع الأفراد إلى قبول المعلومات التي تتماشى مع معتقداتهم السابقة فقط.

التطور التاريخي للفكر النقدي

تجذر الفكر النقدي في التقاليد الفلسفية القديمة. في اليونان القديمة، استخدم سقراط (470-399 ق.م) منهج التساؤل النقدي، حيث كان يحث المتحاورين على فحص معتقداتهم من خلال أسئلة متسلسلة تهدف إلى كشف التناقضات. في العصور الوسطى، ركز فلاسفة مثل توما الأكويني (1225-1274) على التوفيق بين العقل والإيمان، مما أسهم في تطوير التفكير النقدي في سياقات دينية. مع عصر التنوير، أصبح الفكر النقدي أداة مركزية لتحدي السلطات التقليدية. قدم كانط في كتابه نقد العقل الخالص إطارًا لفحص حدود المعرفة البشرية، مؤكدًا على أهمية التفكير النقدي في بناء المعرفة. في القرن العشرين، طورت مدرسة فرانكفورت، بقيادة ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو، النظرية النقدية التي ركزت على نقد الأيديولوجيا والسلطة، مما وسّع نطاق الفكر النقدي ليشمل الهياكل الاجتماعية. في العقود الأخيرة، أسهمت التطورات في التعليم وعلم النفس في تعميق الفكر النقدي. فلاسفة مثل ريتشار بول وجون ديوي ركزوا على تطبيق الفكر النقدي في التعليم، مشيرين إلى أهميته في تعزيز التفكير المستقل والديمقراطية.

الفكر النقدي والتحديات المعاصرة

في الحقبة المعاصرة، يواجه الفكر النقدي تحديات ناتجة عن التضليل الإعلامي، التكنولوجيا الرقمية، والتعقيدات الاجتماعية. أحد التحديات الرئيسية هو التضليل الإعلامي في الفضاء الرقمي. مع انتشار الأخبار المزيفة على منصات التواصل الاجتماعي، يصبح الفكر النقدي أداة ضرورية لتقييم مصداقية المعلومات. يقترح فلاسفة مثل لوسيانو فلوريدي استخدام أخلاقيات المعلومات لتعزيز التفكير النقدي في الفضاء الرقمي. في سياق الذكاء الاصطناعي، يواجه الفكر النقدي تحديات تتعلق بتقييم القرارات التي تتخذها الآلات. على سبيل المثال، كيف يمكن للأفراد تقييم مخرجات الذكاء الاصطناعي إذا كانت تعتمد على خوارزميات غير شفافة؟ يرى فلاسفة مثل نيك بوستروم أن الفكر النقدي ضروري لفهم المخاطر الوجودية الناتجة عن الذكاء الاصطناعي المتقدم. في السياق الاجتماعي، يساهم الفكر النقدي في مواجهة التحيزات الاجتماعية والثقافية. على سبيل المثال، تستخدم النظرية النقدية للعرق أدوات الفكر النقدي لتحليل التمييز العرقي والهياكل الاجتماعية، كما في أعمال كيمبرلي كرينشو حول التقاطعية.

الفكر النقدي وطموحات الفكر الفلسفي

يسهم الفكر النقدي في تحقيق طموحات الفلسفة من خلال تقديم أدوات لتحليل الأفكار وتعزيز المسؤولية الفكرية. بتفاعله مع الإبستمولوجيا (في تقييم المعرفة)، الإيتيقا (في تحليل القرارات الأخلاقية)، والفكر الاجتماعي النقدي (في نقد البنى الاجتماعية)، يقدم هذا الفكر إطارًا مرنًا لمعالجة التحديات المعاصرة. على سبيل المثال، يساعد في تطوير أخلاقيات المعلومات من خلال تقييم مصداقية البيانات، وفي التعليم من خلال تعزيز التفكير المستقل. علاوة على ذلك، يتحدى الفكر النقدي الفلسفة لتكون أكثر ارتباطًا بالواقع المعيش، سواء من خلال مواجهة التضليل الإعلامي أو تعزيز الحوار الديمقراطي. إنه دعوة للتفكير في الفلسفة كممارسة حية تهدف إلى تمكين الأفراد من اتخاذ قرارات مستنيرة في عالم معقد.

خاتمة

يظل الفكر النقدي ركيزة أساسية في الفلسفة المعاصرة، حيث يقدم أدوات لتحليل الأفكار ومواجهة التحديات الفكرية والاجتماعية. من سقراط إلى كانط وهوركهايمر، تطور هذا الفكر ليواجه تحديات العصر، من التضليل الإعلامي إلى الذكاء الاصطناعي والعدالة الاجتماعية. من خلال هذا المبحث، نرى أن الفكر النقدي ليس مجرد أداة تحليلية، بل هو منهج إبداعي يسهم في طموحات الفلسفة، موجهًا إياها نحو بناء وعي جماعي مستنير وعادل. فكيف يمكن ممارسة التفكير النقدي في الفلسفة بطريقة مفيدة للإنسانية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

في المثقف اليوم