أقلام فكرية

أقلام فكرية

يُعتبر كتاب حفريات المعرفة بمثابة النموذج المصغر الذي تناول شرح وتفصيل منهج فوكو الحفري الأركيولوجي، والذي سبق أن تطرق له في كتاب الكلمات والاشياء (الحفر الاركيولوجي) حيث أعاد فيه قراءة وإكتشاف تاريخ المعرفة الغربية عبر الحقب الثلاث (عصر النهضة، العصر الكلاسيكي، العصر الحديث) وأهمية الخطاب السائد في كل  عصر من العصور الثلاث، والذي إستناداً عليه تتكون شكل المعرفة الخاصة بالفترة الزمنية المحددة- أي بكل عصر.

يؤكد فوكو أن التّاريخ المعرفي لا يُبنى عبر التراكم والتطور والتقدم الزمني، بل أنه يسير وفق إنفصالات وإنقطاعات تكون هي المسؤولة عن شكل المعارف السائدة في كل زمن، وذلك عن طريق إبستيم خاص بتلك الفترة.  ويعرف الأبستيم على أنه مجموعة القواعد والأدوات والمسلمات السائدة في وقت ما أو مجتمع ما، والتي تساهم في تشكيل المعرفة؛ ويتطرق فوكو بذلك إلى الوثائق التاريخية مؤكداً أن باحثي التاريخ التقليديين كانوا يتناولون الوثائق التاريخية للتأكد من وثوقية المعلومات وعن صحتها وخطئها ( المنهج التقليدي). أما فوكو فهو على خلاف ذلك حيث لا يجنح للتأويل إنما يحاول إستنطاق تلك الوثائق، وذلك من خلال تحليل الخطاب وفق شبكة من العلاقات التي كانت سائدة في الفترة التي عمد تحليلها، وبذلك نجد أن للخطابات دور رئيس في بناء المعرفة في أي عصر وبهذا فهو يقول : أنه لا يمكن قراءة أي عصر معرفي قراءة صحيحة مالم تتم معرفة الخطاب السائد في ذلك العصر، ويسعى فوكو دائماً لفضح العلاقة بين المعرفة والسلطة، مؤكداً أن إمتلاك الخطاب هو إمتلاك للسلطة.

لا ينظر فوكو للخطاب على أنه ظاهرة لغوية فحسب، و لايعير إهتماماً باللغة التي صيغ بها الخطاب، بقدر إهتمامه بالعبارات والإفادات التي يحتويها الخطاب، وينصب إهتمامه حول معرفة القواعد والشروط التي أنتجت الخطابات، و لماذا ظهرت هذه العبارة أو الإفادة تحديداً دون سواها، ولماذا اختفت هذه العبارات في هذا الخطاب وظهرت في الخطاب الذي يليه أو يسبقه. والخطاب لايقتصر على ماهو مكتوب أو ملفوظ فقط، بل يضم لذلك نمط الحياة، الثقافات السائدة، طريقة التفكير الخاصة بمجتمع معين أو عصر بعينه.

ويؤكد فوكو دائماً عن لامركزية الذات الفردية ولا يؤمن بها مشيراً إلى أن الأفراد مهما بلغوا من الذكاء فليسوا بقادرين على إبتكار أي شيء من عندهم، وإنما الخطاب السائد وتوافر عوامل محددة خاصة بكل عصر هي التي تساهم في تكوين المعرفة، أي أن الذات الفردية المبدعة لاتحظى بأهمية لديه، وأن المعرفة موجودة بمعزل عن البشر، فقط هنالك عوامل بعينها وظروف محددة ساهمت على ظهور نوع محدد من المعارف ، أي أن الذين سطرهم التاريخ كقادة ومفكرين ومبدعين محدثين  تغييرات فيه هم ليسوا سوى منتوج خطاب سائد، فلو لم يكتشف داروين في ذلك الوقت نظرية التطور، لظهر غيره وأكتشفها لأن العوامل والعناصر المساهمة في ذلك متوفرة لظهور هكذا نوع من العلوم، وهذا ماحدث فحينما كان يعمل داروين على نظرية الإنتخاب الطبيعي، كان صديق له قد توصل إلى ذات ماتوصل إليه في دولة أخرى، وكما داروين فكذلك  كارل ماركس فالخطاب السائد في ذلك العصر والظروف المعاشة بجانب عوامل أخرى، هي التي أدت لظهوره، وإن لم يكن هو بالتحديد من المؤكد شخص غيره، وبهذا فهو يرى أن الأفراد ليسوا منتجي للخطاب بل هم منتوجه وهو المسؤول عن تغيير طرائق التفكير والمعرفة بتغيره عبر الأزمنة فما كان سائدً في أفكار وخطاب ونمط حياة  في عصر النهضة أنتج معرفة تختلف كلياً عن تلك التي المعرفة التي تكونت في العصر الكلاسيكي وذلك وفق حدوث قطيعة معرفية أو إنفصال أدى لتشكل نمط تفكير مغاير تماماً عن العصر الذي سبقه. لتوضيح ذلك بمثال حينما تناول فوكو تاريخ الجنون في (كتاب الجنون في العصر الكلاسيكي) وجد أن مفهوم الجنون في كل عصر من العصور الثلاث تكون وفق أسس مختلفة، ففي عصر النهضة والذي كان يسيطر عليه الخطاب اللاهوتي الديني  كان يُنظر إلى الجنون على أنه على درجة من العقل، إذ كان ينظرون إلى الشخص المجنون على أنه بلغ مبلغاً من الحكمة والمعرفة جعلته يرتقي إلى درجة أعلى (الجنون) وبذلك كان يعامل المجنون بتقديس وإحترام ويتم التبرّك به عادةً، بغض النظر عن التصرفات التي قد تكون مشينة أحياناً، ولكنهم يرون أنه يعبر عن جزء من طبيعتهم المكبوتة.

وبالإنتقال الى العصر الكلاسيكي الذي يبدأ بديكارت، نرى أن النظرة إلى المجانيين تغيرت كلياً، فالخطاب السائد في ذلك العصر هو خطاب العقلانية، حيث وضع  الأنسان العاقل في إطار كوجيتو ديكارت ( أنا أفكر إذاً أنا موجود) وبالتالي فالمجنون شخص غير عاقل لأنه لا يفكر فهو إذاً ليس موجود، وكان سائدًا أن الشخص الذي يمتنع عن التفكير، إنما يعطل عقله بمحض إرادته ولذا فهو مجنون، لا فرق بينه وبين الحيوان الذي لا عقل له، لذلك بنيت بيوت الحجز الكبير (معتقلات المجانين) في أوربا ليودع فيها الحمقى والمجانيين، مع الإشارة إلى أن الايداع في تلك المعتقلات لم يكن على أساس طبي وإنما إستناداً لخطاب العقل الذي كان سائداً في العصر الكلاسيكي.

أما في العصر الحديث تغيير ذلك تماماً بظهور الطب العقلي والطب النفسي، وأصبح الجنون يتعامل معه وفق أسس طبية وعلمية، بخلاف ما ساد في العصرين، وبهذا يتضح جلياً المفارقة التاريخية في تاريخ الجنون وتشكّله عبر كل عصر بطريقة مختلفة وفق الخطاب السائد في الفترة المحددة، وكما ذكرت آنفاً فإن فوكو حينما يرغب في تحليل المعرفة في عصر ما، يعود للخطاب في ذلك العصر ويقوم بتحليله وفق شبكة من العلاقات التبادلية في المجالات المختلفة ( الادب ، السياسية، الفلسفة، الدين، الإقتصاد...الخ) فلتحليل الجنون في عصر ما ، يعود للخطاب الديني ليعرف ماكتب عنه، الخطاب الفلسفي، الخطاب الأدبي، الخطاب الإقتصادي... الخ وجميع  هذه الخطابات تترجم وتوضح كيف كان ينظر للجنون في ذلك الوقت مما قيل عنه أو كتب أو عرف.، وفي هذا يرى فوكو أن الممارسات الخطابية هي التي تحدد المعرفة، لذا لمعرفة تاريخ كل علم فإنه يجب العودة لما قيل عنه في مختلف الأوقات، وعلى هذا يؤكد فوكو أن العبارات أو الافادات التي قيلت قديماً وحديثاً تتناسق مع بعضها البعض وعلى هذا الأساس تنتج العلوم.

ويؤكد فوكو أن حفريات المعرفة لاتسعى إلى تحديد الخواطر والتماثُلات والموضوعات الأساسية التي تختفي وتظهر في الخطاب، بل يحدد الخطابات نفسها من حيث أنها ممارسة تحكمها قواعد معينة، ولا ينظر للخطاب على أنه وثيقة ولا يعتبره علامة أو إشارة تحيل إلى شيء أخر، ولا عنصراً مهما بلغ من الشفافية نكون ملزمين في الغالب بإختراق عتمته وضبابيته لنصل الى ماهو عميق وجوهري، بل تهتم بالخطاب بوصفه نُصباً أثرياً، فالحفريات ليست مبحث تأويلي، لكونها لاتسعى إلى اكتشاف خطاب آخر يتوارى خلف الخطاب المعين، وترفض أن تكون دراسة تبحث عن المعنى الحقيقي خلف المعنى الظاهر. وكما أنها لا تسعى إلى استكشاف مظاهر الاستمرار غير المحسوس الذي يربط بكيفية اتصالية الخطابات بما يسبقها أو مايحيط بها، ولا اللحظة التي تكوّن فيها الخطاب أو الصورة التي ظهر بها، بل تعمل على تحديد الخطابات في خصوصيتها، وإبراز كيف أن  القواعد التي تخضع لها تلك الخطابات، لا يمكن إرجاعها إلى أي شيء آخر، ينحصر في تتبع الخطابات من خلال مظاهرها الخارجية، من أجل الإحاطة واللإلمام بها بشكل أفضل، فالحفريات هدفها تحليل الفوارق والاختلافات الموجود بين صيغ الخطابات، وليس البحث عن صحت الأراء أو بطلانها.

ويقر فوكو أن الحفريات لا تسعى الى أن تبرز ماكان يفكر فيه البشر، أو ما شعروا ورغبوا به في اللحظة التي كانوا يصيغون فيها كتابات خطاباتهم، أي أنها لا تحاول أن تردد ما قيل، من خلال التعمق في ماهية وهوية الخطاب. كما أنها لن تكون قراءة تسمح بإستعادة النور البعيد في صفائه، النور الذي كان خافت قبل القراءة، بل هي وصف منظم للخطاب تجعل منه موضوع للتحليل الحفري، كما أنها لا تسعى أن تكون دراسة نفسية أو إجتماعية، ولاحتى بحثاً انثربولجي للإبداع يربط الحفريات بالإنسان، ولا أن تركز على الأثر وتعليّ من شأنه، وتحصر إهتمامها فيه، بل تسعى إلى تحديد أنماط وقواعد الممارسات الخطابية التي تحكم الأثار الفردية وتوجهها أحياناً توجيها كلياً، بحيث لا ينجو من هيمنتها شيء، لذا فإن التأكيد والإلحاح على دور الذات المبدعة وإعتبارها علة وجود الأثر ومبدأ الوحدة، أمر لا يعترف به المنهج الحفري لفوكو، فهو يجعل من الذات الفردية جزء من العوامل في الخطاب  التي ساهمت في إنتاج المعرفة، وذلك بتفاعلها مع محيطها، وبهذا فإن الذات الفردية ليست هي الجوهر الذي ينتج المعرفة.

***

مودة جمعة

بقلم: ميشيل فوكو

ترجمة: علي حمدان

***

كيف تمارس السلطة، وسؤال الذات؟

أود أن أقترح طريقة أخرى للمضي قدماً نحو اقتصاد جديد للعلاقات القائمة على السلطة، وهي طريقة أكثر تجريبية، وأكثر ارتباطاً بشكل مباشر بوضعنا الحالي، والتي تنطوي على المزيد من العلاقات بين النظرية والممارسة. وتتلخص هذه الطريقة في اتخاذ أشكال المقاومة ضد أشكال مختلفة من السلطة كنقطة انطلاق. وباستخدام استعارة أخرى، فإنها تتألف من استخدام هذه المقاومة كمحفز كيميائي من أجل تسليط الضوء على العلاقات القائمة على السلطة، وتحديد موقعها، ومعرفة نقطة تطبيقها والأساليب المستخدمة. وبدلاً من تحليل السلطة من منظور عقلانيتها الداخلية، تتكون من تحليل علاقات السلطة من خلال تناقض الاستراتيجيات.

على سبيل المثال، لمعرفة ما يعنيه مجتمعنا بالعقل السليم، ربما يتعين علينا أن نحقق فيما يحدث في مجال الجنون. وما نعنيه بالشرعية في مجال اللاشرعية. ولكي نفهم ماهية علاقات السلطة، ربما يتعين علينا أن نحقق في أشكال المقاومة والمحاولات التي تبذل لفصل هذه العلاقات.

 ولنبدأ بسلسلة من المعارضات التي نشأت على مدى السنوات القليلة الماضية: معارضة سلطة الرجال على النساء، وسلطة الآباء على الأبناء، وسلطة الطب النفسي على المرضى العقليين، وسلطة الطب على السكان، وسلطة الإدارة على أساليب حياة الناس. ولا يكفي أن نقول إن هذه صراعات ضد السلطة؛ بل يتعين علينا أن نحاول تحديد ما يجمع بينها بدقة أكبر.

1. إنها صراعات "متقاطعة"؛ أي أنها لا تقتصر على بلد واحد. وبطبيعة الحال، فإنها تتطور بسهولة أكبر وبدرجة أكبر في بلدان معينة، ولكنها لا تقتصر على شكل سياسي أو اقتصادي معين من أشكال الحكم.

2. والهدف من هذه الصراعات هو تأثيرات السلطة بحد ذاتها. على سبيل المثال، لا تُنتقد مهنة الطب في المقام الأول لأنها مؤسسة تهدف إلى تحقيق الربح، بل لأنها تمارس سلطة غير منضبطة على أجساد الناس، وصحتهم، وحياتهم، وموتهم

3. وهذه "نضالات فورية" لسببين. في مثل هذا النضال ينتقد الناس نماذج السلطة الأقرب إليهم، تلك التي تمارس تأثيرها على الأفراد. إنهم لا يبحثون عن "العدو الرئيسي" بل عن العدو المباشر. ولا يتوقعون أيضًا العثور على حل لمشكلتهم في تاريخ مستقبلي (أي التحرير والثورات ونهاية الصراع الطبقي). وبالمقارنة مع مقياس نظري للتفسيرات أو نظام ثوري يستقطب المؤرخ، فإنها نضالات فوضوية.

ولكن هذه ليست أكثر النقاط أصالة. ويبدو لي أن النقاط التالية أكثر تحديداً.

 4. إنها صراعات تشكك في وضع الفرد: فمن ناحية، تؤكد على الحق في الاختلاف، وتؤكد على كل ما يجعل الأفراد أفراداً حقيقيين. ومن ناحية أخرى، تهاجم كل ما يفرق الفرد، ويقطع روابطه مع الآخرين، ويقسم الحياة المجتمعية، ويجبر الفرد على التراجع عن ذاته، ويربطه بهويته الخاصة بطريقة مقيدة.

إن هذه الصراعات ليست لصالح أو ضد "الفرد" بالضبط، بل إنها صراعات ضد "حكم الفردانية".

5. إنها معارضة لتأثيرات السلطة المرتبطة بالمعرفة والكفاءة والمؤهلات: صراعات ضد امتيازات المعرفة. ولكنها أيضاً معارضة ضد السرية والتشويه والتمثيلات الغامضة المفروضة على الناس. لا يوجد شيء "علمي" في هذا (أي، عقيدة دوغمائية في قيمة المعرفة العلمية)، ولكنه ليس أيضًا رفضًا متشككًا أو نسبيًا لكل حقيقة مؤكدة. ما يتم التشكيك فيه هو الطريقة التي يتم بها تداول المعرفة ووظائفها، وعلاقاتها بالسلطة. باختصار، نظام السلطة المتعلق بالمعرفة.

 6. وأخيراً، يدور كل هذه الصراع الحالي حول السؤال: من نحن؟ إنها رفض لهذه التجريدات، من العنف الاقتصادي والإيديولوجي للدولة، الذي يتجاهل من نحن كأفراد، كما أنها رفض لمحاكم التفتيش العلمية أو الإدارية التي تحدد من يكون الفرد، وباختصار، فإن الهدف الرئيسي لهذه الصراعات ليس مهاجمة "هذه أو تلك" من مؤسسات السلطة، أو مجموعة، أو نخبة، أو طبقة بل مهاجمة تقنية، أو شكل من أشكال السلطة.

هذا الشكل من أشكال السلطة ينطبق على الحياة اليومية المباشرة التي تصنف الفرد، وتحدد هويته الفردية، وتربطه بهويته الخاصة، وتفرض عليه قانون الحقيقة الذي يجب أن يعترف به والذي يجب على الآخرين أن يعترفوا به فيه. إنه شكل من أشكال السلطة التي تجعل الأفراد خاضعين. وهناك معنيان لكلمة "خاضع": الخضوع لشخص آخر من خلال السيطرة والتبعية؛ والارتباط بهويته الخاصة من خلال وعي أو معرفة ذاتية. كلا المعنيين يشيران إلى شكل من أشكال السلطة الذي يستعبد ويجعل الانسان خاضعا.

وبشكل عام، يمكن القول إن هناك ثلاثة أنواع من النضال: ضد أشكال الهيمنة (العرقية والاجتماعية والدينية)؛ أو ضد أشكال الاستغلال التي تفصل الأفراد عما ينتجونه؛ أو ضد ما يربط الفرد بنفسه ويخضعه للآخرين بهذه الطريقة (النضالات ضد الخضوع، وضد أشكال التشيء والخضوع).

أعتقد أنه يمكنك أن تجد في التاريخ الكثير من الأمثلة على هذه الأنواع الثلاثة من النضالات الاجتماعية، إما معزولة عن بعضها البعض أو متشابكة. ولكن حتى عندما تكون متشابكة، فإن أحدها، في معظم الأحيان، هو الذي يسود. على سبيل المثال، في المجتمعات الإقطاعية، كانت النضالات ضد أشكال الهيمنة العرقية أو الاجتماعية سائدة، على الرغم من أن الاستغلال الاقتصادي قد كان له أهمية كبيرة بين أسباب الثورة.

في القرن التاسع عشر، برز النضال ضد الاستغلال إلى المقدمة. واليوم، أصبح النضال ضد أشكال الخضوع ــ ضد إخضاع الذات ــ أكثر أهمية، على الرغم من أن النضالات ضد أشكال الهيمنة والاستغلال لم تختف. بل على العكس تمامًا.

إنني أشك في أن هذه ليست المرة الأولى التي يواجه فيها مجتمعنا هذا النوع من الصراع. إن كل تلك الحركات التي حدثت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر والتي كان الإصلاح الديني تعبيرها الرئيسي ونتيجتها، ينبغي تحليلها باعتبارها أزمة كبرى للتجربة الغربية للذاتية وثورة ضد ذلك النوع من السلطة الدينية والأخلاقية التي أعطت شكلاً لهذه الذاتية خلال العصور الوسطى. إن الحاجة إلى المشاركة المباشرة في الحياة الروحية، وفي عمل الخلاص، وفي الحقيقة التي تكمن في الكتاب المقدس ـ كل ذلك كان صراعاً من أجل ذاتية جديدة.

إنني أعلم ما هي الاعتراضات التي يمكن تقديمها. يمكننا أن نقول إن كل أشكال الخضوع هي ظواهر مشتقة، وأنها مجرد عواقب لعمليات اقتصادية واجتماعية أخرى: قوى الإنتاج، والصراع الطبقي، والبنى الإيديولوجية التي تحدد شكل الذاتية.

من المؤكد أن آليات الخضوع لا يمكن دراستها خارج علاقتها بآليات الاستغلال والهيمنة، ولكنها لا تشكل مجرد "نهاية" لآليات أكثر جوهرية. بل إنها تقيم علاقات معقدة ودائرية مع أشكال أخرى. والسبب وراء ميل هذا النوع من الصراع إلى السيادة في مجتمعنا يرجع إلى حقيقة مفادها أنه منذ القرن السادس عشر، كان هناك شكل سياسي جديد للسلطة يتطور باستمرار. وهذا الهيكل السياسي الجديد، كما يعلم الجميع، هو الدولة. ولكن في أغلب الأحيان، يتم تصور الدولة باعتبارها نوعًا من السلطة السياسية التي تتجاهل الأفراد، وتنظر فقط إلى مصالح المجموع أو، كما ينبغي لي أن أقول، مصالح فئة أو مجموعة من المواطنين.

إن هذا صحيح تماماً. ولكنني أود أن أؤكد على حقيقة مفادها أن سلطة الدولة (وهذا أحد أسباب قوتها) هي شكل من أشكال السلطة الفردية والشمولية في الوقت نفسه. وأعتقد أنه لم يحدث قط في تاريخ المجتمعات البشرية ـ حتى في المجتمع الصيني القديم ـ أن حدث مثل هذا الجمع المعقد في نفس البنى السياسية بين تقنيات الفردانية وإجراءات الشمولية. ويرجع هذا إلى حقيقة مفادها أن الدولة الغربية الحديثة قد دمجت في شكل سياسي جديد تقنية سلطة قديمة نشأت في المؤسسات المسيحية. ويمكننا أن نطلق على تقنية السلطة هذه اسم السلطة الرعوية.

***

.....................

*هذا المقال كتبه مشيل فوكو كخاتمة لكتاب: ميشيل فوكو : ما وراء البنيوية والتأويلية بقلم هيربرت ال. ديفوس وبول رينبو. اصدار جامعة شيكاجو.

 

تمهيد: هناك أزمة ثقة في المجتمعات الغربية اليوم. ويأتي ذلك بعد عقود من الإيمان الراسخ بالتقدم. إنه أمر خطير ويتعلق بالابتكار التكنولوجي. وترتبط هذه الأزمة بالتوتر "الانهياري". لماذا يرتبط التقدم التكنولوجي المبهر بالخوف من المستقبل؟ فهل لا تزال تتكيف مع توقعات البشرية؟

إن المناقشات بين محبي التكنولوجيا وكارهي التكنولوجيا تسير على المسار الخاطئ لأن التقنية والتكنولوجيا مجرد وسيلة. يتم استخدامها لإنشاء أو القيام بالأشياء. إنهم ليسوا أكسيولوجيين. إن استخدامها هو الذي يمكن أن يسبب مشاكل. أقدم لكم وجهة نظر طبيب فرنسي مواطن إنساني لمقاربة جديدة للحضارة التكنولوجية. فماهي النظرة الأخرى لقيام منهج جديد للحضارة التكنولوجية؟

مفهوم التكنولوجيا

بالمعنى الأول هو دراسة وتدريس التقنيات. التقنية (أو "techne" - الفن أو الدراية) هي مجموعة من الوسائل. ويستخدم العمليات لتحقيق غاية. تستخدم التكنولوجيا التقنيات، وتضعها في تآزر. هذه التقنية أكثر بدائية وتجريبية. فالتكنولوجيا أكثر حداثة، وأكثر ارتباطا بالعلم، وأكثر تعقيدا. لقد قامت الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر على الفحم والمعادن والمحرك البخاري. ثم جاءت الكهرباء والنفط والكيمياء والتصنيع والإنتاجية. هناك الآن عدة أنواع من التكنولوجيات: "التكنولوجيا العالية"، "التكنولوجيا الحيوية"، "التكنولوجيا الخضراء"، والعلوم التقنية التي لم تعد تنطبق فقط على الأدوات والآلات. ومن الجانب الفني هنا نأتي إلى الجانب التنظيمي، والاستراتيجي، والمفاهيم، و"الافتراضي". إن الفيزياء الفلكية، والطب، وتكنولوجيا النانو، والكم، والذكاء الاصطناعي هي في طليعة العلوم. مشاريع التقنيات المتقاربة لـتقنية النانو، وعلم الأحياء، والمعلومات، والإدراك تتنبأ بعالم في حالة تحول كامل مع نتائج غير مؤكدة، مما قد يزعج الأخلاق.

مكانة التكنولوجيا في عالمنا

منذ حوالي 10 سنوات، سيطرت التكنولوجيا، عبر الهواتف الذكية، على حياتنا اليومية بأكملها. جميع أنشطتنا "تعتمد على التكنولوجيا". بيئتنا تعتمد على التكنولوجيا: أصبحت أتمتة المنزل، والاتصال، والروبوتات، وتكنولوجيا المعلومات، أمرًا شائعًا. الشاشات في كل مكان. يتأثر أكثر من ثلاثة أرباع البشرية بالتقدم التقني. الأقمار الصناعية تقلص العالم. هذه التكنولوجيا عالمية وعابرة للأجيال وتخلق نموذجًا جديدًا في حياة البشر. عندما يتعلق الأمر بالتكنولوجيا، لا شيء يوقف التقدم. يتغذى على نفسه. حتى لو كنا لا نعرف حقًا ما يتم استخدامه من أجله. وهذا ما يؤكد ذلك: "يتم استخدام الأساليب الأكثر كفاءة الناتجة عن مرحلة واحدة من التقدم التطوري لإنشاء المرحلة التالية": ريموند كورزويل، مدير الهندسة في جوجل. ومع ذلك، فإن الأسوأ ممكن، مع الطاقة النووية، والصناعة الكيميائية، والتلاعب الجيني، والكوارث البيئية، و"البيانات الضخمة"، والذكاء الاصطناعي، وفقدان الحكمة، وحتى العقل. العباقرة المتميزون مثل كورزويل، ، والجمهور الذي لا يشبع من التكنولوجيا المحبوبة، يخلقون مخاطر لعالمنا. وتزيد جماعات الضغط الصناعية التي تهتم بالربح الفوري أكثر من اهتمامها بالصالح العام، من هذه المخاطر. ويؤدي ضعف الأخلاقيات والافتقار إلى التنظيم العالمي إلى تفاقم هذا الوضع.

في المستقبل القريب، وبفضل براعة التكنولوجيا، لدينا لقاحات ضد كوفيد-19. نحن نبحث عن طرق لتقليل ثاني أكسيد الكربون، ولكن في الوقت الحالي، يبدو أن إعادة التشجير والاقتصاد في أنماط حياتنا وتقليل الاكتظاظ السكاني هي أفضل الطرق (بمساعدة الطاقات المتجددة والهائلة).

الحضارة وأسلوب الحياة

تتأثر جميع مناطق العالم بالتكنولوجيا الحديثة. إنها مسألة الطاقة الأولى. وسوف تصبح الحضارات موحدة من خلال ذلك. أصبحت أنماط الحياة "التكنولوجية" باهظة الثمن ومقيدة بشكل متزايد: استهلاك الطاقة، والخضوع المعرفي للآلات والشاشات، وفقدان التمييز والتعب، وتدمير الوظائف، وتعقيد الحياة اليومية (تعلم تقنيات جديدة، والتجريد من الإنسانية، والأتمتة). تعمل التكنولوجيا على تفاقم عدم المساواة من خلال اختيار أولئك الذين يعرفون كيفية استخدامها، والاستيلاء عليها وإثراء أنفسهم بها، ومن خلال التخلي عن الأضعف الذين تطغى عليهم التكنولوجيا أو تخيفهم. يوضح جيرالد برونر أن الوقت الذي تم تحريره بفضل التقدم التكنولوجي لم يتم استغلاله في التطور الدماغي، وذلك بسبب وفرة العرض المعلوماتي والمعرفي، مما يجذب العقل نحو الخوف، والإثارة، والألعاب، والجنس، والصراع ... أحلام اليقظة، والتفكير البطيء. ، والعقل والحكمة تتلاشى.

الفلسفة والتكنولوجيا

لقد عبر الفلاسفة عن آرائهم حول التكنولوجيا منذ القرن التاسع عشر، دون إحسان، مع الشك في تضييق الفكر الإنساني والعداء تجاه الفن والثقافة. منذ عام 1990، فشلوا في تحديد ماهية التكنولوجيا بوضوح، ولا في تقييم آثارها على حياتنا. بالنسبة لبرنارد ستيجلر، تنسى الفلسفة اليونانية مسألة التقنية عن طريق الابتعاد عن التقنية، هذا "الخارج" الذي من المفترض أن لا يساهم بأي شيء في المعرفة. في الواقع، أي فكر في التكنولوجيا يتجاوز حدود الفلسفة. التكنولوجيا ليست خارجية بل هي مكونة للإنسان. ومن خلال استخدامها الصناعي، الخاضع للسوق والنزعة الاستهلاكية والليبرالية، تصبح التكنولوجيا غاية في حد ذاتها، بعيدًا عن فائدتها الأساسية. يمكننا أن نتساءل عن أهمية فقدان المعنى ورؤية الهدف النهائي، الأمر الذي يسير جنبًا إلى جنب مع تراجع الدين في العالم الغربي. إن تسارع وتيرة الحياة الحديثة يضع الأفراد في حالة فورية حتمية لم تعد تترك مجالاً للتباعد والتفكير. غارقًا في العمل، ومنافسًا مفرط المعرفة، ومتوترًا، وقلقًا، ليس لدى العاقل بديل آخر سوى "الاستعداد للتفكير" و"الأمر التكنولوجي" الذي لا يعرف مبرره.

العقلانية والتكنولوجيا

العقلانية هي الحركة بالاستدلال نحو ما هو معقول، ثم عقلاني. لقد استوردها آدم سميث إلى الاقتصاد لتحسين البحث عن الأرباح وتوسيع الرأسمالية. لقد أصبح منتشرا في كل مكان، وهو ما أدانه ماكس فيبر من خلال عقلانية العمل العملي، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى "خيبة الأمل من العالم". ويشير أندرو فينبرغ إلى تأثير التكنولوجيا على الحياة الديمقراطية من خلال "الحتمية التكنولوجية"، التي تقود المجتمعات إلى تغييرات في الثقافة والقيم، وهي عالمية. كما يسلط الضوء على "مرونة التكنولوجيا"، القادرة على التكيف والتحول وفقا لتوقعات الناس واختياراتهم.

الذكاء الاصطناعي:

إنه هناك، ببياناته الضخمة، والخوارزميات، والتعلم الآلي، والبرمجة الذاتية. هناك التعرف البصري والأصوات واللغة والعواطف. الأنظمة الخبيرة قادرة على تفسير الصور، وقيادة المركبات، وتأليف السمفونيات، وهزيمة الإنسان في كل مباراة، وتقليد أصواتنا وجعله يقول أي شيء، وحل القضايا المعقدة ونمذجة المستقبل. وفي الصين يؤدي إلى جواز سفر المواطن مع نقاط مرتبطة بالسلوك الفردي. في الولايات المتحدة الأمريكية، يتم جمع وبيع معلوماتنا الحساسة.

ما بعد الإنسانية:

من مدرسة بيتنيك الفكرية، سيضع ماكس مور بدايات المفهوم حول تحسين جسم الإنسان من خلال العمليات التقنية. تبدأ رابطة ما بعد الإنسانية العالمية بيانها على النحو التالي: "قد يخضع الإنسان لتعديلات، مثل التجديد، وزيادة الذكاء بوسائل بيولوجية أو اصطناعية، وإلغاء المعاناة واستكشاف "الكون". فيما يلي بعض وجهات نظر ما بعد الإنسانية وفقًا لهذا الارتباط: الخلود، والواجهات بين الإنسان والآلة والدماغ والحاسوب، والتلاعب الجيني والاستنساخ، وتنزيل العقول، ونقل الفكر، واستعمار الفضاء نحو آلاف المجرات. شبكة من المستحيلات والشكوك التي تشكك في الصحة العقلية والمستوى العلمي والأخلاقي لمؤلفيها. الانطلاق من الإنسان العاقل، نحو الإنسان التكنولوجي، وصولاً إلى الإنسان الإله (بقلم نوح هراري)، عبر المتحولين جنسياً، ثم ما بعد الإنسانية، بدافع استغلال كل القوى التكنولوجية لتحويل الإنسان إلى إنسان خارق إلهي. وتشارك جوجل وأمازون وفيسبوك وغيرها. إليكم ما يجب أن يقوله الطبيب الإنساني ذو الخبرة لأنصار ما بعد الإنسانية:

الإنسان هو تتويج لرجعية كونية خطيرة. لقد غزا الأرض بفضل تقنيته وذكائه الجماعي وتنظيمه الاجتماعي. إنه يحمل في داخله متغيرات منها: إشباع الحاجات الحيوية، والمخاوف، والعدوانية، والجنس، والعواطف، والفضول، والخيال. ويتميز تاريخها الحديث بالتقدم التقني والعلمي، والانفجار الديموغرافي، والإثراء الجماعي السيئ التوزيع، والعنف والتعصب. تتأرجح التطورات الحالية بين التكنولوجيا الراكضة وفقدان التوجهات والمستقبل المقلق. تستفيد ما بعد الإنسانية من هذا لتزدهر.

إذا كان على الإنسان أن يتطور نحو "الرجل المعزز"، فإن ذلك لا يكون بالمصنوعات والآلات والتلاعبات الخارجية، بل بالعمل على نفسه للبحث عن الأفضل في نفسه وتطوير كل إمكاناته. فهو لا يحتاج إلى التخلي عن إنسانيته الموروثة من الطبيعة، بل على العكس من ذلك ليجد ارتباطه وهويته هناك.

إن العيش حياة صحية وطويلة أمر ممكن من خلال تطوير عوامل طول العمر، ومكافحة عوامل الخطر المعروفة، والاستفادة من التقدم الطبي في التكنولوجيا.

إن الزيادة في متوسط العمر المتوقع أمر واقع. يمكن تحسين الجودة. لكن الشيخوخة تعتمد أيضًا على عوامل اجتماعية وبيئية. ولتحسينها، يجب علينا أن نجعل احترام الحياة البشرية أولوية ثابتة وأن نستخلص العواقب الاجتماعية منه.

التفرد

بالنسبة لريموند كورزويل، فإن الذكاء الاصطناعي ونظام الكمبيوتر بأكمله سوف يتفوقان قريبًا على البشر في جميع المجالات، لدرجة أنهم سيضطرون إلى الاندماج معهم للبقاء على قيد الحياة.

التفرد هو مفهوم دون دليل علمي. يستحضر النبي التكنولوجي عالمًا افتراضيًا، خاليًا من الأجساد، حيث سيتم حوسبة الدماغ ونقله، وسوف يحوم الفكر في الكون نفسه تقنيًا. هذيان كورزويل لا نهاية له.

رفع القيود واللامعقول

يتم التسامح مع الأدلة على الأعطال الخطيرة، أو تجاهلها، أو حتى إنكارها. والإشارات إلى الأخلاق ضعيفة، خاصة وأنها تطارد التقدم. النوايا الحسنة مثل جريمة الإبادة البيئية لا تنتشر ولا توجد سلطة قادرة على تنفيذها. الصين تفعل ما تريد ولا تتورع عن ذلك. إنها تطور تقنياتها بحرية ولا تهتم بالبيئة إلا عندما تكون ضحية لأفعالها السيئة. العالم لا ينظم. وهذا ما يتحدث عنه برنارد ريميش في "الثورة التكنولوجية والعولمة وقانون براءات الاختراع". وينتهي به الأمر إلى "طرح سؤال حول ما إذا كنا لا نتحرك في نهاية المطاف نحو ازدواجية متزايدة للاقتصاد العالمي". لأن براءات الاختراع، التي تم إنشاؤها في البداية لحماية المخترعين، يتم الاستيلاء عليها من قبل الشركات الكبيرة التي تنفذ معظم الإبداع، مما يجعل جماهير البلدان التي لا تتمتع بقدرات إبداعية تذكر، أسيرة اتفاق تريبس. ولم تعد الولاية القضائية الدولية تنظم التوزيع الكوكبي للابتكار.لقد كشفت جائحة كوفيد-19 عن فشل منظمة الصحة العالمية، وضعف التضامن الدولي في الاندفاع نحو اللقاحات، وإفلات البلدان الملوثة من العقاب. الملوثون ليسوا قلقين. تكثر الأخبار الكاذبة والهجمات السيبرانية والمؤامرات. وبالتالي فإن العولمة المتحررة من القيود التنظيمية تطلق العنان للتقدم التكنولوجي المحموم والمربح وغير المعقول، حتى ولو ادعى أنه عقلاني. فالعقلانية ليست العقل، بل إنها أقل عقلانية، التي تتعلق بالوسط الذهبي بين كل التجاوزات، بما في ذلك التعصب والدوغمائية والربح والمخاطرة والجمود. فما هي آفاق الحضارة التكنولوجية؟

خاتمة

بالنسبة لكارل ماركس، كان التغلب على الرأسمالية يعني أيضًا إضفاء الطابع الديمقراطي على الأنظمة التقنية ووضعها تحت سيطرة العمال. وكان من شأن التكنولوجيا المتحررة من ضرورات الرأسمالية أن تجعل تطوراً مختلفاً ممكناً. لم يحدث شيء. إن عالمية الشكل التجاري سوف تعمل وفقاً لقوانينها الخاصة، مما يؤدي إلى "التشييء" ــ تجسيد الأفراد والأفكار. إننا نشهد اليوم تبدد شخصية العلاقات الإنسانية، وإخفاء الهوية في المناطق الحضرية، وانفصال لا مبالٍ عن العالم. يؤدي التشيؤ إلى فقدان "الذات" والأمل. وتؤدي الرأسمالية التكنولوجية الجديدة إلى تفاقم التوترات والمنافسات. عليك أن تمتثل للهدف المراد تحقيقه. الأداء يأتي قبل الناس. وينتهي بنا الأمر إلى تجسيد الذات. إن الفجوة تهدد بالاتساع بشكل خطير بين مدى التقدم التكنولوجي وتطور العقل. وتصبح التكنولوجيا أسطورة، يغذيها وهم المنفعة المطلقة للعلم وإضعاف الفكر الفلسفي. علاوة على ذلك، فإن المصالح الاقتصادية والمالية الكبرى معرضة للخطر، والإنسان راسخ في حضارة التكنولوجيا بحيث لا يمكنه إبطاء تقدمها الفوري. لكنه يتساءل عن مستقبل يحتكره الابتكار التكنولوجي الذي يحرمه من احتياجات أخرى مثل الطمأنينة واحترام الذات واحترام الآخرين، والتفكير البطيء والاتصال المنعش والنظيف بالطبيعة. الحتمية التكنولوجية ليست محظورة، والسيطرة الاجتماعية الديمقراطية على التقدم التقني ممكنة، لأن المستهلك هو الذي لديه إمكانية استخدام الابتكارات أو عدم استخدامها. من المرجح أن يكون للوباء تأثير إيجابي على السلوك الفردي. هناك مستقبل آخر ممكن، قادر على التوفيق بين النشاط الاقتصادي واحترام الطبيعة، ويمنح الجميع شيئًا للعيش فيه بسلام، وفي احترام وتقاسم متبادلين. ولابد أن يحدث هذا من خلال مبادرات شعبية قوية ومنظمة قادمة من "جماهير" أكثر ذكاءً واستنارة بين جماهير المستهلكين غير المبالين. سنحتاج إلى الحصول على لوائح تشريعية وأخلاقية، وإنهاء الحرب الاقتصادية والعودة إلى مجالات نشاط أكثر تقييدًا، مما يسمح بديمقراطية القرب والتعاون. في مواجهة الخطر البيئي وعدم كفاءة بعض طرق الحياة والفكر، سوف تسود الضرورة، ويجب أن تحدث تغييرات كبيرة لتجنب التدهور والانحطاط والصراعات وربما علم الأمور الأخيرة...لأن كل حضارة مقدر لها أن تختفي بمجرد أن لا تتكيف مع بيئتها. لقد طورت حضارة التكنولوجيا القوة والثروة. وفي أيدي الرأسمالية الجديدة، خلقت أيضًا ثلاثة مخاطر: فقدان الإنسانية (التشيؤ – ما بعد الإنسانية)، والقيم (التي حلت محلها النزعة الاستهلاكية ومذهب المتعة) وتدهور المحيط الحيوي. هل لا يزال بإمكان الإنسان أن يفعل شيئًا حيال ذلك؟ يمكن أن تساعد التكنولوجيا المستخدمة جيدًا والمتقنة. هناك إلحاح.  في النهاية، أعتقد أن البشر، على الرغم من عيوبهم، لديهم القدرة على إدارة هذه الحتمية الوشيكة، وآمل ألا يتم تأكيد رأي فريدريك نيتشه: "نحن جميعا نفضل تدمير الإنسانية على تراجع المعرفة!" (نيتشه. الفجر 1881). لكن المعرفة ليست المصدر الوحيد للسعادة. على كوكبنا، الإنسان مهدد فقط بنفسه (وبعض الفيروسات. حضارة التكنولوجيا: إلى أي مدى يجب أن نذهب؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

هناك 7000 لغة حول العالم تشكل سبعة آلاف طريقة مختلفة للتفكير بما حولنا. اللغة باعتبارها تمثيل رمزي للواقع، تشكل اطارا فريدا من الفهم والتصور للعالم الذي يحيط بنا. اليوم، كشف الدليل الآتي من اللسانيات المعرفية عن الدور المهم الذي تلعبه اللغة في صياغة أفكارنا وتصوراتنا.

ماهي النسبية اللغوية؟

النسبية اللغوية Linguistic relativity هي نظرية تزعم ان اللغة التي نتحدث بها تؤثر في الطريقة التي نفكر ونتصور بها حول العالم. وهي تسمى ايضا فرضية سابير – ورف Sapir-Whorf في النسبية اللغوية، كمصطلح جامع لمختلف النظريات التي تستطلع العلاقة بين اللغة والادراك. وفي الاتجاه المتطرف للنسبية اللغوية نجد نظرية الحتمية اللغوية التي تؤكد ان اللغة تقرر بشكل تام تفكيرنا. نظريات اخرى للنسبية اللغوية تميل للتأكيد على رؤية اكثر اعتدالا بشأن المدى الذي تؤثر فيه اللغة على تفكيرنا وتجاربنا. فكرة ان اللغة تؤثر على التفكير وُجدت قبل الصياغة الصارمة للنظرية في النقاشات الفلسفية والعلمية.

في وقت مبكر من القرن الثامن الميلادي، قال الامبراطور الروماني شارلمان charlemagne "ان تتحدث لغة ثانية يعني انك تمتلك روحا ثانية". وبينما يستمر النقاش حول مدى تأثير النظرية، لكن يبقى هناك القليل من الخلاف على ان اللغة تؤثر جوهريا على تفكيرنا بمختلف الأشكال.

كيف تطورت نظرية النسبية اللغوية؟

تطورت هذه النظرية من خلال أعمال فلاسفة اللسانيات المتميزين وعلماء الادراك. وعلى الرغم من ان البحث العلمي المنهجي في الموضوع نشأ في الخمسينات من القرن الماضي، لكن الافكار الاساسية لنظرية النسبية اللغوية تعود الى القرن التاسع عشر. الفيلسوف الالماني اللغوي فيلهلم فون هومبولتWilhelm von Humboldt كان اول مفكر يفترض بوضوح نظرية الحتمية اللغوية Linguistic determinism.

في كتابه (التباين اللغوي والتطور الفكري) جادل هومبولت بان "الانسان يعيش في العالم المحيط به بشكل أساسي، بل وحصريا كما تعرضه له اللغة"(Humboldt، 1836). وبعد مائة سنة، قام اللغوي البارز ادوارد سابير وتلميذه بنيامين لي ورف بمراجعة وتوسيع بحث هومبولت. عملهما كان مؤثرا جدا لدرجة اُطلق على نظرية النسبية اللغوية "فرضية سابير ورف".

كل من سابير وورف كانا مشككين بفكرة "العالم الواقعي" الذي يمكن ان يتعامل معه جميع الناس. طبقا لسابير، حتى أبسط أشكال التصور تُحكم بواسطة العادات اللغوية للجماعة، والتي بدورها تقدم خيارات معينة للتفسير. وبهذا فان كل لغة تمثل واقعا اجتماعيا متميزا وتشكل طريقة محددة للتعامل مع العالم. في عمله (مكانة اللغويات كعلم) جادل سابير بان "العوالم التي تعيش بها مختلف المجتمعات هي عوالم متميزة، ليست مجرد تسميات مختلفة لنفس العالم"(sapir، 1929).

بالاضافة الى ذلك، جادل ورف ان العالم المُدرك بالحواس هو تدفق مستمر للانطباعات التي نحللها وننظمها ذهنيا باستعمال اللغة. الأشكال المحددة من تنظيم وتفسير للبيانات من العالم الظاهري يتم تشفيرها في الأنظمة اللغوية لأذهاننا. وبهذا فان اللغة هي اتفاق اجتماعي ضمني ضمن الجماعة لإدراك او(تفسير) العالم بنفس الطريقة. فمثلا، عبر التحدث بالانجليزية، انت توافق على الاحتكاك بالعالم من خلال نماذج متأصلة في اللغة الانجليزية. لاحظ ورف في العلوم واللغويات، ان "كل المراقبين لم ينقادوا بنفس الدليل المادي لنفس صورة الكون"(Whorf، 1940).

هل هناك دليل تجريبي على النسبية اللغوية؟

أعداد هائلة من الدراسات أنتجت دليلا ميدانيا لنظرية النسبية اللغوية. العلماء رفضوا في البداية فرضية سابير- ورف مفضلين العالمية universalism – وهي النظرية القائلة بان اللغة والفكر متشابهان أصلاً في جميع الثقافات. في العقود الماضية، برز عدد متزايد من الأدلة الميدانية تدعم الادّعاءات في النسبية اللغوية. الباحثون في حقل اللغويات الإدراكية باشروا سلسلة من الدراسات حول الاختلافات ما بين الثقافات في الإدراك ووجدوا ان اللغة تؤثر على القدرات المعرفية الأساسية في الكائن البشري.

ليرا بوروديتسكي Lera Boroditsky كانت من أبرز الباحثين والتي أجرت (دراسة حالة) حول لغة كوك ثورو Kuuk Thaayorre التي يتم التخاطب بها في بعض مناطق استراليا. المتحدثون يستعملون الاتجاهات الاساسية (مثل شرق، غرب، شمال، جنوب) بدلا من كلمات مكانية نسبية مثل يسار ويمين. فمثلا، هم يقولون ان الملعقة جنوب غرب السكين. الاتجاهات الاساسية هي جزء مكمل للغتهم اليومية.

بوروديتسكي وجدت ان جميع المتحدثين بلغة كوك ثورو لديهم قدرات استثنائية ليبقوا موجّهين مكانيا في كل الاوقات والاماكن بطريقة لم يعتقد العلماء انها ممكنة بشريا. هي اوضحت ان لغتهم درّبت وطوّرت هذه المهارة المعرفية المهملة.

العديد من الدراسات حول فهم الوقت، القوة، السببية، اللون؟، وحتى النوع الاجتماعي، كانت صدى لإستنتاج بوروديتسكي: "اللغة تلعب دورا سببيا في صياغة التفكير" (بوروديتسكي، 2011). كل لغة توفر أدوات معرفية متفردة وتشكل طريقة مختلفة في تصوّر وفهم العالم.

السؤال هو: من بين 7000 لغة يتم التحدث بها حاليا، ماهي اللغة التي يحب المرء ان يرى بها هذا العالم؟

***

حاتم حميد محسن

"أنا مواطن العالم".. ديوجين الكلبي

تميز الإنسان عن سائر الكائنات الأخرى في طريقة معيشته، فالحيوانات تعيش على نمط واحد لا يعرف التقدم، أما الإنسان فيتطلع الى التقدم والارتقاء دائماً لوصول الى (المثل العليا) رغم ما تحيط به من مؤثرات وما تتجاذبه من شهوات ونقصد بالمثل العليا هي الأخلاق الممثلة بالخير والشر، الحق والباطل، الفضيلة والرذيلة، الى غير ذلك من الأمور التي بحثتها الفلسفة اليونانية التي تحررت من قيود الدين وعقدة الإله الجبار المتكبر الذي يدس أنفه في كل صغيرة وكبير على العكس من الفلسفة الإسلامية التي ظلت أسيرة الدين فلم تنزع جلبابه حتى تحولت الى فلسفة صوفية ترى إن الفضيلة العليا ما هي إلا الاتحاد بذات الله كي يصل الإنسان من خلال هذا الاتحاد الى صفة الكمال.

لقد مرت الفلسفة اليونانية بمراحل وتشعبت الى مذاهب، هذه المذاهب والمدارس ولدت من رحم الفلسفة الأم التي كان يمثلها طاليس وسقراط وأفلاطون وأرسطو.

ومن بين هذه المذاهـب الفلسفيـة " المذهـب الكلبـي " الذي أسـسه الفيلسوف اليوناني " انستاس " احد أتباع سقراط، غير إن " ديوجين " كان الشخصية الأكثر بروزاً في المذهب الكلبي وليس من المستغرب أن يكون الكلب مثلاً أعلى لمدرسة فلسفية شغلت حيزاً كبيراً من الزمان والمكان في العصور القديمة فهو معروف بالوفاء وليس في الحيوانات أشد حباً لصاحبه منه وهو أيقظ الحيوانات عيناً، وقد حفل التراث العربي بالعديد من الكتب التي الفت في الحيوان واختصت صفحات منها بالحديث عن الكلب مثل كتاب " الحيوان " للجاحظ و " حياة الحيوان " للدميري كما أشار أبو حيان التوحيدي في كتابه " الإتباع والمؤانسة " إليه.

ويبدو إن العالم البيولوجي الروسي " بافلوف " 1849 – 1936 قد آثر إلا أن يكون الكلب حقلاً لتجاربه عند دراسته للغدد الهضمية فقد أراد من خلال تجاربه أن يعرف كيف يفكر الكلب ومتى تم ذلك فسيعرف بافلوف كيف يفكر الإنسان سواء كان عالماً أو فيلسوفاً أو أديباً أو سياسياً، وهكذا اثبت بافلوف إن هناك أواصر بيولوجيـة بين الإنسـان والكلـب فيما أسمـاه بـ (الانعكـاس الشرطي) أو (الاستجابة الشرطية).

مزايا الفلسفة الكلبية:

حدد المذهب الكلبي خصائصه من خلال موقف رجاله من الأخلاق والقيم السائدة في عصرهم ومع ذلك فقد اختلف مؤرخو الفلسفة في تفسير هذه التسمية التي لحقت بهم فهناك ثلاثة آراء بهذا الصدد (الأول بقول إن أصحاب هذا المذهب كانوا يجتمعون في مكان اسمه (الكلب السريع)، والثاني يرى إن أتباع هذا المذهب كانوا ينبحون على الرذيلة كما ينبح الكلب الحارس عند الخطر، أما الرأي الثالث فمنسوب الى الفارابي في قوله عن الكلاب إنهم كانوا يرون إطراح الفرائض المفروضة عن الناس ومحبة أقاربهم وإخوانهم وبغض غيرهم من سائر الناس وإنما توجد هذا الخلق عند الكلاب فقط، وفي الأخلاق تفيد احتقار العرب والتقاليد والرأي العام ومرجع ذلك الى إن الكلبين الذين كانوا يشترطون للانضمام الى زمرتهم أن ينزل المريد عن مكانته الاجتماعية).

  " المعجم الفلسفي مراد وهبة ص553 – 554 "

ومعنى هذا أن يحتقر المريد نفسه ويسمى بذلك كلباً ويكون بذلك مبعث اعتزاز وفخر للعضو الجديد.

ومن مزايا هذا المذهب إن أتباعه يرون إن الآلهة منزهة عن الحاجة وخير الناس من تخلق بأخلاق الله فقلل من حاجاته جهد الطاقة وقنع بالقليل وتحمل الآلام واستهان بها واحتقر الغنى وزهد في اللذائذ. وان الفقر والعمل الشاق المؤلم وسوء السمعة أمور نافعة تسهل للإنسان تحصيل الفضيلة وتعينه على نيل الحرية، ومن أجل ذلك زهدوا في اللذائذ ولم يحترموا أعراف الناس ولا قوانين البلاد وإنما يحترمون ما تمليه عليهم الحكمة والعقل، ولما كانوا لا يحترمون عوائد الناس ويرتكبون ما يتحرج الناس من فعله من غير خشية ولا احتشام وكانوا في ذلك كالكلاب أطلق عليهم أهل زمانهم اسم (الكلبيين).

 "موسوعة احمد امين – مبادئ الفلسفة ص94"

 ديوجين الشخصية الأكثر بروزاً في المدرسة الكلبية:

يعد ديوجين 404 – 323 ق. م من ابرز رجال المذهب الكلبي ويعتبره المؤرخون أشهر زاهد متقشف في العالم القديم، بل إن البعض يذهب أكثر من هذا فاعتبروه نبياً شاد دينه على العقل، ويوصف بأنه كان يعيش على الخبز اليابس والماء والنبيذ فهي أهم مقومات حياته وقيل انه كان يسكن في برميل ويتجول نهاراً في شوارع أثينا وبيده مصباح موقد وإذا سئل عن سر هذا قال إنني ابحث عن الحقيقة، جاء ذكره في كتاب " معجم الفلاسفة المختصر " للدكتور خلف جراد: انه رفض كل شئ ما عدا الواقع المحسوس ودعا الى تحرير الإنسان من قيود الأسرة والمجتمع وأنكر تعدد الآلهة وجميع العبادات واعتبرها من اختراع الإنسان وزائدة عن حاجته ونجد ذكر لاسم ديوجين مبثوثاً في كتب الحكم مثل كتاب " مختار الحكم " لأبي الوفاء البشر بن فاتك يصفه قائلاً... " كان حكيم أهل زمانه وكان زاهداً لا مسكن له ولا مأوى، لا يمتنع عن الطعام إذا جاع عند من وجده، يحبه الناس بالحق وقد قنع بثوبين من الصوف فلم يزل ذلك حاله حتى فارق الدنيا... "

وبما انه ليس له بيت يسكن قيل له يوماً: لماذا لم تتخذ لك بيتاً تستريح فيه ؟ قال: وأنا إنما استرحت إذ ليس لي بيت، و سمي بالكلب لأنه لا يحتشم أحداً وحين قيل له لماذا سميت بالكلب ؟ قال: لأني أبصبص للأخيار واهرأ على الأشرار، وعندما أعيد عليه السؤال مرة أخرى قال: لأني انبح على الجهلاء وأتملق للحكماء وكان يقول: " إذا رأيت كلباً ترك صاحبه وتبعك فارجمه بالحجارة لأنه سوف يتركك كما ترك صاحبه... "

وقال ديوجين عن المرأة: إن المرأة هي أذى لا بد منه وعندما عاب قوم من المترفين على معيشته رد عليهم: " لو أردت أن أعيش عيشكم لقدرت، ولو أردتم ان تعيشوا عيشتي لم تقدروا.."

وهكذا كان ديوجين اقرب الى النبي الشرقي منعه الى الفيلسوف اليوناني فقد روي عنه كان يرتدي في عز الشتاء معطفاً ممزقاً، وكان يسكن في برميل ويتغذى على الخبز والماء وقد احتقر الأخلاق والأعراف والعقائد كما احتقر الأقوياء والأساتذة.

سئل مرة عن الوقت المناسب لتناول الغذاء فأجاب قائلاً حسب الحالة فحين يكون الإنسان غنياً فانه يأكل متى ما يريد وحين يكون فقيراً فعندما يستطيع.

وكان يستمني علناً أمام الناس وهو يقول: كم يكون المرء سعيداً لو انه يكفيه أن يفرك بطنه كي لا يعود يشعر بالجوع.  

وحين قابله لاسكندر وقال له: اطلب مني ما تريد وستحصل عليه، رد عليه ديوجين قائلاً: ابتعد أنت تحجب الشمس عني.

وحين سئل ما هو وطنه قال: أنا مواطن العالم.  

وختاماً فلم يكن أصحاب هذا المذهب إلا رجال عاديين فلاسفة كغيرهم، ليسوا طغاة أو جبابرة أو قادة فتوحات عسكرية أو مؤسسو إمبراطوريات بل كانوا أصحاب مبادئ وقيم احترموها وعاشوا في سياقاتها مختارين لا مجبرين لهذا فقد أزهروا في حدائق التاريخ الكبيرة فأصبحوا من الخالدين. 

***

غريب دوحي

 

"لم يتقاتل البشر؟"، إنه سؤال استشكالي، يتعالى مع واقع نظر السوسيولوجيا المعاصرة. بل إنه يكاد ينفضها من بٌعديها السلوكي الاجتماعي، والتوظيفي التاريخي ...

كان المفكر سينيشا مالشيفيتش قد أغار على سؤال التقاتل وارتداداته على بنية السلوك البشري، وأحاط بكل ما هو محاذر للغة التشخيص الآلي والتشبيك المفهومي "للتقاتل" كفضاء تأريخي للأحداث فقط، متوسلا حجم الفظاعات التي تتفكك بإزائها قيم الحرب وتداولياتها التاريخية والثقافية والأنثروبولوجية.

عالم الاجتماع الايرلندي مالشيفيتش، الذي انبرى في أبحاثه التي قارب معظمها موضوعات سوسيولوجيا الحرب والعنف، وتاريخية العنف، من أجل تأويل تعاظم العنف الحربي بين البشر، وتواصل تحطيم الأخلاق والقيم الاختلافية بين الأيديولوجيات والأنظمة السياسية المتعاركة، لا يخفي اجتراحه مفهوم "المقاتلة الاجتماعية"، الذي يتساوق و"القتال المباشر" المجاهر بالصفة العنفية والخرق الحربي المتنوع، مع ما يحملانه من استكشافات بنيوية للآليات العملية التي تساق ضمن المقاتلة الاجتماعية المذكورة.

ويرى مالشيفيتش، المبتكر لهذه النظرية المستحضرة لمجمل الديناميات المسببة للعنف الجسدي البشري، أن التأثيرات الصادمة والمركبة في آن واحد، وضمن سياقاتها المتغيرة زمكانيا وبالمرونة الواجدة للقتال الجسدي إياه، توفر حيزا تفكيريا واسعا لاستعراض مختلف السياقات والمرامي الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية لبنى القتال"، باعتباره ظاهرة اجتماعية تصوغها علاقات الإنسان، وتراكمات تلك العلاقات على مستوى التنظيم والتقاطع، ما ينتج عنه اختلافات وتشعبات، تناكفها "قابليات" ومنطقيات أخرى، منها ما هو إيديولوجي وآخر تنظميمي.

 ويدلل المفكر هذه الظاهرة بما أسماه " ظواهر الحرب والعنف والصراعات الإثنية والقومية، بالانهيار القاسي والكبير الذي شهدته يوغسلافيا خلال تسعينيات القرن الـ20 الماضي"، مسجلا مأساوية الحقبة العنيفة التي كرست وشائج جديدة لوظائف وأدوار البيولوجيا والسيكولوجيا والاقتصاد والأيديولوجيا، في تبيين إشكالية لما وصفه ب "معايشة الفرد تجربة القتال"، بالنظر إلى "الاستجابة العلائقية" القائمة بين تلاقي بنى وفاعلين وأحداث مختلفة داخل باراديجم الحرب العنيفة، وهو بذلك يستند إلى أن العلاقات الإنسانية لا تنشأ وتتفاعل بوساطة خصائص بيولوجية أو سيكولوجية أو خصائص أخرى ثابتة ومستقرّة، بل إنّها "تنشأ وتتولد من التفاعلات المتحركة بين منظمات اجتماعية محددة، وأطر أيديولوجية وعمليات تفاعل جزئية متصاعدة، مما يؤكد أن القتل والقتال لا يعبّران عن ممارسات موحّدة وثابتة ومستقرة ومتجاوزة للتاريخ وعابرة للثقافات، كما أنّها لا تقوم على أنماط ثابتة ولا تعتمد على أطر معروفة مستقرة، بل هي ظاهرة متنوعة ومتغيّرة ومتحركة ومتبدلة وسياقية"(*).

إن اقتفاء أثر السلم والحرب كثنائية فلسفية مشاعة، يفرض ضبطا مفهوميا لقياسات محايثة ومنذورة للتأويل والتبدل، كما هو الشأن بالنسبة للتنظيرات الفلسفية المجاوزة للحدود العقلانية، التي تراكم التوتير في المعنى والتشارك المواضعاتي، كفعل الشر الموصوف الذي يبرر معاشرة الخير والعدل، بنفس المعنى الذي يتلمس خيط السلم طريقه باتجاه العنف (لا يتحقق السلم إلا بإقامة العنف إذا عدمت الوسائل السلمية)، وهو ما تنبه إليه القديس أوغسطين الذي أقام جدارا بلويرا لما أسماه بالحرب العادلة"، منشغلا بصيرورة الحروب وجدواها في السنن والكونيات والحتميات الإنسانية، وتعدد قواها وظروفها وأشكالها، وصولا إلى قطائف السلام وانثيالاته. وكثيرًا ما وجدت الفلسفة أنه ولتحقيق السلم لا بد من اندلاع الحرب، فأوكلت للعنف إنهاء العنف. هكذا ارتبطت، فلسفيًّا، الحرب بالسلم، والعكس بالعكس.

لكن الحقيقة المرة في كل هذه المغايرة اللامحسومة، هو الافتتان بالحروب قدرا مقدورا، وصناعته بالإرادة والدربة والاقتداء، حيث يجرف التاريخ البشرية إلى ما يشبه حوائم الطاحونة ومتلاشياتها. يستثمر طاقة الإنسان، لتجريفه خارج المتاهة، ويعاود تدويره على نحو يصير متمثلا للأنماط المشكلة بالقسر لا المبادرة، والتعثر والاصطدام عوض الإبداع والديمومة؟.

لقد ظلت رؤى الحكماء والفلاسفة حول الحرب والمقاتلة، تتقاطع ولا تنصرف البتة إلى مكامنها في الروح والوجدان البشري المنكوس. بين من يعقر ميزابها بقيامة "السلام الأبدي" وتفكيره المستميت، من أجل الخلاص. ومن يعتبرها وجها من أوجه كتابة الموت نفاذا للحياة، وتحضرني في هذا السياق، اجتهادات كانط، الذي اقترح وضع نظام أو ميثاق أو عقد يقوم على التضامن. وكان قد كرس نظريته قبل ذلك في كتابه "نحو السلام الدائم"،  قبل أن يتراجع عنه، ويطالب بدولة عالمية ذات كيان سياسي تضامني مفصول عن السوبر لا تخضع للقوة المهيمنة، ولا تنزلق إلى هوة الظلم والقهر والاستعباد.

***

د. مصطفى غَلمان

......................

* "لم يتقاتل البشر؟" سينيشا مالسيفيتش، الشبكة العربية للأبحاث والنشر ط1 2024/ ص 127

1. هيجل وطبيعة العقل الجدلية

من خلال مقولة انجلز الدوغمائية ماركسيا اعتباره (قوانين الطبيعة) تعمل بشكل جدلي ديالكتيكي ذاتي بعيدا عن رغائب الانسان. قول انجلز هذا يوقعنا بمأزق ليس سهلا علينا التخلص منه. ماهي العلاقة التي تربط بين قوانين الطبيعة الثابتة وقوانين الديالكتيك المتغيرة؟. الاسبقية في التحكم بالطبيعة والمادة والتاريخ هي لمن؟ هل هي لقوانين الطبيعة ام لقوانين الديالكتيك؟.

أم هما متكاملان في التحكم بالمادة والتاريخ والانسان. لا يمكننا القول ان قوانين الطبيعة(الثابتة) هي نفسها قوانين الجدل الديالكتيكي (المتغيرة) وهما يعملان بخصائص ذاتية باختلاف خواص قوانين الطبيعة هي قوانين فيزيائية ثابتة. بينما قوانين الجدل الديالكتيكي هي قوانين تحكم التاريخ في سيرورة متغيرة ليست ثابتة. في تخطئتنا عبارة انجلز نقول قوانين الطبيعة العامة ثابتة فيزيائيا ولا تدخل في علاقة جدل ديالكتيكي مع ظواهر او قوانين هي من صنع علاقة الانسان بالطبيعة.. الديالكتيك المادي الجدلي في قوانينه الثلاث انما يقوم على ركيزة التضاد التي تحكمهما وتجمع بينهما المجانسة النوعية الواحدة زائدا الحركة الدائمية الدائبة لطرفي التضاد الجدلي. التضاد محكوم بزوال ما يسمى طرف السلب ليخلي الطريق امام الطرف الايجابي ان ياخذ دوره في استحداث الظاهرة الثالثة الجديدة نتيجة التضاد بين سالب وموجب.

هذا الخلط الذي بدأه انجلز قوله طبيعة قوانين الطبيعة محكومة بالجدل الديالكتيكي أوقع هيجل بخطا فلسفي فادح قوله (طبيعة العقل جدلية بالفطرة البايولوجية للانسان). وهذه الطبيعة الجدلية للعقل هي التي تحكمنا في تحليل كل مظاهر المادة والحياة والتاريخ بقوانين الجدل الثلاث. اولا وحدة وصراع الاضداد، ثانيا تحول الكم الى كيف (نوعي)، وثالثا قانون نفي النفي.

اعتقد انزلاق انجلز قوله قوانين الطبيعة هي ذات خصائص ديالكتيكية لا موجب الوقوف لتفنيد خطأها فهي ولدت ميتة بدوغماية فجّة واضحة.

اما بخصوص مقولة هيجل التي لا تقل ابتذالية فلسفية دوغمائية عن مقولة انجلز في مقولته طبيعة العقل الديالكتيكية بالفطرة هي التي تملي وتخلع على التاريخ والمادة طبيعتهما الجدلية المادية الديالكتيكية.

طبيعة العقل جدلية بايولوجيا بالفطرة هراء وخرافة فلسفية اطلقها هيجل. ولا يمكن لطبيعة العقل الجدلية هذه حسب تعبير هيجل ان تخلع على تفكيرنا ان كل شيء يتوجب تحليله ودراسته وفق منطق الديالكتيك. قوانين الجدل يحكمها التغيير الحاصل بكل شيء محكوم بالحركة والسيرورة المتقدمة فهي لا تلتقي قوانين الطبيعة الفيزيائية العامة الثابتة.

خصائص العقل البيولوجية تقوم على اشباع حاجات الجسم الغريزية والمكتسبة عن المحيط والمؤثرات الموضوعية والمعرفية التي مصدرها العالم الخارجي الطبيعة وموجوداتها. وتبقى علاقة اشباع الذات او العقل لمفاهيم اكسيولوجية مثل القيم والعواطف والغرائز الفطرية وغيرها تدخل في باب علاقة العقل بالجسم.

من المحال ان يشتغل العقل في جانب واحد من خصائصه المتعددة كي نقر بسذاجة مقولة هيجل العقل ذو طبيعة جدلية. ومن غير المنطقي ولا من المعقول ان تكون جميع عقول الناس مبرمجة طبيعيا بالفطرة في الخاصية الديالكتيكية.

فالفكر الصادر عن عقل شخص يفكر تفكيرا ماديا جدليا. لا يمكننا العثور على عشرات بل مئات وملايين العقول التي يجمعها خاصية الديالكتيك كطبيعة عقلية كما يرغب هيجل نمذجة العقول في بعد واحد من التفكير.

من جنبة اخرى ليس بمقدور العقل تخليقه واقعة الديالكتيك المادية. فالديالكتيك قانون محكوم بظروف موضوعية متغيرة وليست ثابتة وهي اشتراطات تحدث بمعزل عن تدخل ارادة الانسان بها. وطبيعة الجدل في العالم الخارجي هو الذي يجعل التفكير العقلي جدليا يكون ثانويا على الجدل الحاصل في الواقع ما يجعل الفكر الجدلي متماهيا تابعا لجدل الواقع في الاسبقية الاستقلالية عن الفكر.

من جانب آخر فالديالكتيك هو خاصية واقعية بينما الفكر الجدلي خاصية تجريدية لذا يكون من الصعب جدا تمرير مقولة هيجل طبيعة الفكر الجدلي للدماغ او العقل هي التي تملي الجدل الديالكتيكي على الواقع. لا يوجد جدل كما ذهب له ماركس على صعيد الفكر يسبق ويحكم الواقع جدليا في جل تجلياته وظوهره. الواقع لا يحكمه الجدل في كل الاوقات كما ولا هو حادث حاصل بارادة ذاتية للانسان في تحقيق رغائبه. الجدل في حال حصوله في التاريخ والمادة يكون مستقلا نهائيا عن تلبية رغائب الانسان. نعم ترافق عملية الجدل الحاصلة وقائعيا عوامل موضوعية مساعدة في مهمتها تسريع انجاز عملية الديالكتيك.

2. الفكر والواقع:

إذا كان هناك خاصية ينفرد بها الفكر تراسندتاليا (متعاليا) على الواقع فهي أنه يتطور ويتغير أسرع من التغييرات ألحادثة في واقع الحياة المادية وعالم الاشياء من حولنا في الطبيعة، بمعنى الفكر يدرك الموجودات بالوصاية العقلية عليها بما يجعل من هذا الاخير(الواقع بموجوداته) تابعا للفكر الذي يتقدمه في نفس الوقت الذي لا يمكن القفز من فوق حقيقة أن الواقع المادي للاشياء هو مصدر إلهام الفكر وسابق عليه وليس العكس. فالفكر لا يصدر من فراغ أي بلا موضوع مادي يدركه حسيّا او موضوع خيالي سابق عليه .

تبدو مفارقة متناقضة حين نقول الفكر يتقدم الواقع المادي في التقاطع مع/ والخروج على النظرة المادية ونسقط في تعبير مثالي حين نجد الافكار تجر الواقع وراءها على الدوام، في حين الحقيقة أن الواقع في موجوداته المستقلة أنطولوجيا هو محرك الفكر المحايث لذلك الواقع ماديا جدليا السابق على الفكرالمنتج لاستثارة وعي الادراك العقلي،، والأفكار في الوقت الذي تدخل جدليا(تكامليا معرفيا) مع موجودات الاشياء فهي تسابقها من أجل تغييرها وتطويرها بعد معرفتها وإدراكها عقليا، وتتطور هي ذاتيا أيضا بعلاقتها الجدلية مع تلك الموجودات. العلاقة بين المادة والفكر تكامل معرفي لكليهما في التقدم والتطور. لا يتطور الواقع من دون فكر نظري ولا يتقدم الفكر النظري بدوره من دون علاقته الترابطية بالواقع.

والافكار التي تحاول تغيير الواقع جدليا متخارجا مع موجوداته تتطور هي الأخرى في جدليتها المتعالقة بها.فوجود الشيء أو الموضوع المستقل ماديا أو خياليا يعالج من قبل الذهن فكريا في العقل البايولوجي قبل الأفصاح عن وجوده المادي في عالم الاشياء بواسطة تعبير اللغة عنه كموجود في العالم الخارجي او موضوعا متخيّلا. الموجود يسبق الفكر لكنه لا يلزم العقل إدراكه.

الموجودات في العالم الخارجي لا قدرة لها الإفصاح عن نفسها دونما الإدراك العقلي لها والتعبير الفكري لغويا عنها. وكذا نفس الحال مع المواضيع المصنّعة خياليا. فنحن نفهم الصمت تفكيرا إستبطانيا داخليا ذاتيا ولا نفهمه تعبيرا لغويا تواصليا صوت ومعنى دلالي. صمت اللغة في ضروب الفنون والادب تواصل إيحائي تكون فيه لغة التعبير في حالة كمون مفهومي المعنى بمعزل عن خاصية ملازمة الصوت للغة.

وهذا يختلف عن صمت الانسان وإمتناعه التعبير عن تفكيره باللغة المكتوبة أو بالكلام في حال إدراكه أن لا فائدة من التعبير اللغوي . وتاكيد ذلك في تعبير لوفيدج فينجشتاين قوله حين نعجز التعبير بوضوح يكون الصمت أجدى.

ليس الواقع الوجودي للاشياء هو الإنعكاس الميكانيكي في تعبير الفكر واللغة عنه، وأنما الموجود بعد إدراكه حسّيا وعقليا يتم تخليقه ثانية بالعقل بما يطلق عليه كانط مقولات العقل. والاشياء التي يعمل العقل على تطويرها ينعكس هذا التطور الواقعي على الافكارالتعبيرية عنه فتتطور هي ايضا. بمعنى أن الواقع الذي يتطور بفاعلية الفكر يقوم هو الآخر بتطوير (ذاته) واقعيا ماديا ليبقى الفكر يتقدم الواقع في تخليقه له على الدوام ولا يتقدم عليه في أسبقية وجوده على الفكر..

3. عن اللغة ومصطلح ما فوق اللغة:

ما فوق اللغة مصطلح فلسفي له ثلاثة تشعبات:

الاول يطلق عليه الميتالغة بمعنى الفهم السبراناتيكي للغة الذي يعتمد الذكاء الصناعي في الريبوت وغير ذلك من تكنولوجيا متطورة. ويطلقون على هذه الميتالغة اللغة المافوق اللغة المتقدمة المتعالية ترانسدتاليا التي تتحدث عن لغة اخرى ادنى منها. مشتركات اللغات في غير صفات النحو والقواعد الذي يشكل هوية لغوية خاصة بكل لغة لا تمكننا من دمج تلك اللغات مع بعضها في وضع قواعد نحوية مشتركة تجمعها. هذا ما حاوله موريس هيرمان سكينر في نظريته السلوك اللفظي ونعوم جومسكي في التوليدية اللغوية.

الثاني ان مافوق اللغة هو اللغة التواصلية التي لا تحكمها ضوابط النحو والقواعد والصرف وغيرها. فهي لهجة فطرية خاصة بجماعة او قوم اكتسبت صفة هوية يتكلمها ويتواصل بها قوم من الاقوام.، ولم تكتسب اللهجة ضوابط المصطلح المتفق عليه على انها لغة خاصة تمتلك كل ضوابط وقواعد اللغة الخاصة بقوم من الاقوام او امة من الامم.

شرط اللغة هو المصطلح المتفق عليه في تثبيت نحوها وقواعدها الخاصة بها كي تمتلك هوية لغوية لقوم من الاقوام او مجتمع من المجتمعات. اما اللهجة او الكلام الشفاهي فهو وسيلة تواصل مجتمعية لا تمتلك قواعد ونحو لغة مدوّنة كما نجده عند الاقوام البدائية التي لم تكن تعرف التدوين والكتابة الصورية او الحروفية المتقدمة.

الثالث ان ما فوق اللغة هي اللهجات التواصلية لدى اقوام بدائية لم تكن تعرف التدوين. هذه اللهجات من الممكن ان تكون ما فوق لغة لكنها لا تمتلك الابجدية الحروفية المصطلحية المتفق عليها لتكون بعدها لغة تمتلك هوية خاصة بها.(تراجع مقالتنا ما فوق اللغة في العربية على كوكل وعلى نافذة نبأ العراقية).

الانسان يتكيف مع الطبيعة عندما يجد تفكيره لا يتعدى عالم ما يدركه حسيا. هل يعي الانسان تكيفه مع الطبيعة بارادة ووعي منها ام ان تكيّف الانسان مع تقلبات بعض ظواهر الطبيعة هي استجابة فطرية غريزية لديه؟.

الاحتمال الذي اميل اليه ان تطور ذكاء الانسان هو الذي اعطاه معنى التكيّف مع تقلبات ظواهر الطبيعة الذي رافقه انقراض انواع عديدة من الكائنات الحية من حيوان ونبات وبعض من سلالات بشرية تعود الى مراحل عصور تطور الانسان انثروبولوجيا. من حيث ان منهج دارون في اصل الانواع والبقاء للاصلح يعتمد تطور انثربولوجيا تاريخ الانسان وليس تطور الغرائز والفطرة البايولوجية للانواع في الطبيعة فقط.

نظرية داروين تقاطع في بعض حلقاتها حقائق العلم كما تقاطع ميتافيزيقا السرديات الدينية الكبرى. كما تقاطع الماركسية الحاضنة الاولى لافكار داروين. القوى الذاتية لتطور الانواع وبقاء الاصلح هو ناتج املاءات الطبيعة على الكائنات الحية. الطبيعة وبيولوجيا الانواع المرتكز الاساس في الداروينية.افضل الكتابات الفلسفية هي غير الزوبعة التي تثيرها بل هي النبيذ المعتق الذي خمّرته الاعوام الطويلة ليصبح بعدها تذوقا نخبويا فريدا.

اعجاز العقل يكمن في تفكيره اللغوي الصوري. بمعنى آخر العقل لا يفكر بالفكر المجرد الانفصالي عن الابجدية اللغوية فهذا محال. تفكير العقل ابجدية لغوية صورية صامتة وليس فكرا تجريديا متحررا من ابجدية اللغة. الفكر داخليا في (الجسم) وخارجيا في ادراكه العالم وموجودات الطبيعة والحياة هو لغة لها معنى محدد لموضوع. وهنا اعيد عبارة منسوبة للفيلسوف الاميركي سيلارز هي قمة ما توصلته فلسفة اللغة قوله (الوجود لغة). وهي تاكيد اننا لا ندرك اي شيء بالفكر وحده مجردا عن ملازمة الابجدية اللغوية له. وجود المادة ادراك لغوي للانسان وحضور مستقل في الطبيعة لا يمتلك التفكير ولا ملكة التعبير عن نفسه.

تفكير العقل صمتا لا يلغي ابجدية اللغة الصورية صوتا ومعنى كما هي في تعبير اللغة الصائتة عن مدركات العقل من الاشياء والمواضيع في العالم الخارجي. والفكر الذي يعمل على تطوير واقع الاشياء إنما هو الآخر يتطور في مجاراته تطورات الواقع ومجاوزته لتلك التطورات في تعاليه عليها بإستمرار... وفي الفرضية الخاطئة التي تقود الى نتيجة خطأ أيضا هي في إعتبار عملية إدراك الانسان للاشياء هو في سعيه مطابقة قوانينه المستحدثة لديه مع قوانين الاشياء في وجودها المادي المستقل قبل إدراكها وهو إفتراض وهمي غير حقيقي ولا يمكن الانسان فهم وتنظيم عوالمه الحياتية بهذا التنميط من التفكير السلبي مع إدراكاته لعوالم الاشياء في وجودها الطبيعي..

بل الادراك الحقيقي أن تدخل الاشياء المدركة مع الفكر في تكامل معرفي ثنائي متبادل يكسبهما كلاهما التغيير والتطور وبغير هذا الفهم معناه نفي أن يكون هناك فائدة من وعي الانسان لموجودات الطبيعة وإستحداث رؤيته وقوانينه الخاصة بها ..ألنتيجة التي يحرزها الفكر بالنهاية من هذه العملية هو أن تكون قوانين الفكر هي قوانين الاشياء في الواقع... بمعنى أصبح ما نمتلكه عن الاشياء من أفكار نتيجة مدركاتنا لها هو وحده الذي يعطي وجودها الحضوري الواقعي في حياتنا. مطابقة تفكيرنا للواقع لا يلغي حيازة الفكر خاصية تغيير ذلك الواقع.

تفكير العقل في وعيه القصدي لا يسعى مطابقة صحة افكاره مع مدركاته الواقعية بل في محاولته وضع تنظيرات فكرية في تغييرها. العقل الانساني يبحث عن الاجابة لماذا ندرك الاشياء؟ وليس كيف ندركها.؟

إن العقل وحده له الأسبقية في تحديد الوجود والفكرالمتعالق معه أن يكون ماديا أم مثاليا. واللغة تكون في هذه الحالة وعاء الفكر في تحديد نوع الوجود المادي أو المثالي المفصح عنه بتعبير اللغة. في عالم صنع الانسان لحياته في كل مناحيها بعلاقته بظواهر الطبيعة ومواضيعها، بمعنى أن وجود عالم الاشياء سابق على أدراك الانسان لها انطولوجيا، وتنظيم الانسان لوجود عالم الاشياء هو الحافز الاساس لأدراكه تلك الموجودات، والعامل الأهم أنه ينّظم مدركاته للاشياء التي هي بالنتيجة تنظيم حياته ووجوده، والفكر الانساني لا يعمل في فراغ وجودي مادي أوفي فراغ غير موضوعي متخيّل من الذاكرة ولا في تجريد ذهني يلغي مؤثرات علمية ومعرفية عديدة في فهم وبناء الحياة الانسانية...

اللغة والفكر لا يحضران سوّية الا في محاولة تنفيذ ايعازات مصنع الحيوية العقلية بالاخبار الادراكي العقلي عن موضوع جرى التفكير به ذهنيا واكتملت مهمة اعادة الوعي من العقل الى عالم الاشياء كفكر جديد بلغة جديدة وليس كوجود سابق مستقل في عالم الاشياء قبل ادراك العقل له. العقل لا يخلق موجودات الحياة القبلية بالفكر بل يخلق وسائل فهم وتفسير وعي تلك الحياة في إعطائها قيمة منظمة تخدم الانسان وتقدمه .

ايعازات العقل الارتدادية الانعكاسية الصادرة عنه بتوسيط الوعي والواردة اليه بواسطة منظومة الجهاز العصبي المرتبطة بالدماغ في تخليقه لمواضيع جرى تفكيره بها انما تتم  في تنفيذ اللغة او غير اللغة ايعازات العقل في اعادة الموضوع المفكّر به من العقل الى امكانية ادراكه في العالم الخارجي بفهم جديد عما كان عليه قبل ادراك العقل له، في توّسله اللغة التي هي الفكر ولا فرق بينهما في التعريف المادي او التجريدي بالموضوع في وجوده المستقل في عالم الموجودات الخارجي بعد تخليقه عقليا. الوجود الادراكي الحسي او العقلي المستقل هو وجود فكري لغوي كما هو وجود مادي مستقل في عالم الاشياء ايضا.

كل خارق لقوانين الطبيعة معجزة لا يستطيعها كل البشر ولا يتم ادراكها عقليا لتصبح وجودا بذاته. يمكن التسليم بها ايمانا قلبيا فقط. المنفعة او مبدا اللذة الابيقورية وفي الفلسفة البراجماتية الاميريكية هي جوهر انساني فطري غريزي .اي انها لا تحتاج اشتراط فلترتها التجريبية العملانية في تاكيد نفعها من عدمه كما تذهب له الذرائعية الامريكية.

المنفعة غريزة انفرادية يعزز انتشارها انها تعيش ضمن مجتمع. والمنفعة معرفة وسلوك تلازم الانسان كمثل تقاسيم وجهه. اعمال الانسان طيلة حياته هي سعي محموم مرتكزه برمجة الانسان لعقله من اجل تحقيق منفعة انفرادية من حيث طبيعة الانسان كائن إنتفاعي نفعي معا. والتضحية من اجل الاخرين ضرورة ملزمة وليس ارادة ذاتية متحررة. وحين يحب رجلا امراة على سبيل المثال انما يحبها بدافع اشباع لذته ومنفعته الغريزية وليس تلبية رغائب المرأة في العملية الجنسية.. القليل الذين يفكرون ممارسة العلاقة الحميمة تنتفي فيها السلطة الذكورية التسلطية على الارادة الانثوية المستضعفة. الحل في التكافؤ فقط.

عالمنا المعاصر اصبح مفهوما متفقا عليه يقوم على ثلاثة ركائز هي :اولا الشعور الواقعي هو أنه عالمنا الحقيقي الذي نحياه ولا يشترط ان يكون افضل العوالم كما ذهب له لايبنتيز في القرن الثامن عشر. كما لا يوجد عالما مثاليا لا ندركه هو الاسمى من عالمنا الذي نعيشه كما ذهب له افلاطون ونيتشة وبعض فلاسفة الوجودية. الركيزة الثانية لم يعد امام العالم التراجع عن منجزات العلم الواجبة التكيف معها لذا يكون العقل البوصلة الحقيقية الوحيدة في محاولة معرفتنا موضع اقدامنا. الركيزة الثالثة التفكير الصارم بعدم جنوح النزعات التدميرية والحربية بدل ترسيم مستقبل متعايش بسلام يحتضن الجميع بوئام المعيش بسعادة..

لم يعد امام عالمنا اليوم التعويض عن تازمات الحياة المتوالية في سلسلة متناسلة من الكوارث سوى دخول واقعنا الحقيقي بخطاب نافذ جريء. الخطابات الانانية الضيقة التي تلهث وراء الاستهلاك النخبوي لم تعد صالحة لعالمنا اليوم فقد انتهى زمن القضم من حافات تجسير العلاقات الانسانية وتراجع تاثيرها. اعتقد مقولة بروتاغوراس "الانسان مقياس كل شيء" صالحة الاستعمال.

من جملة فلاسفة عديدين انكروا العقل الانساني يبرز في الفلسفة الغربية المعاصرة الاسكتلندي ديفيد هيوم ليتبعه زميله الانجليزي جلبرت رايل 1900- 1976 الذي قال باصرار عنيد ليس هناك عقلا ولن يكون مستقبلا ابدا. الوعي هو الوسيلة الادراكية العقلية لفهم الواقع وتغييره. ولا علاقة جدلية بين الوعي والواقع، الوعي تجريد عقلي تصوري لا ينتجه الواقع. بل هو توسيط نقل مقولات العقل عن مدركاته الواقعية.

***

علي محمد اليوسف

بقلم: ميشيل فوكو

ترجمة: علي حمدان

***

كيف تمارس السلطة، وسؤال الذات؟

الأفكار التي أود مناقشتها هنا لا تمثل نظرية ولا منهجية. أود أن أقول، أولاً وقبل كل شيء، لم يكن هدف عملي خلال العشرين عامًا الماضية، لم يكن تحليل ظاهرة السلطة، ولا لوضع أساس لمثل هذا التحليل.

 لقد كان هدفي، بدلاً من ذلك، هو إنشاء تاريخ للأنماط المختلفة التي يتم بها تحويل البشر في ثقافتنا إلى ذوات، افراد. وقد تناولت أعمالي ثلاثة أنماط من التشييء التي تحول البشر إلى موضوع.

إن الأول هو أساليب البحث التي تحاول أن تمنح نفسها مكانة العلوم؛ على سبيل المثال، إضفاء طابع موضوعي على الذات المتحدثة في النحو العام، وعلم اللغة. أو مرة أخرى، في هذا النمط الأول، إضفاء طابع موضوعي على الذات المنتجة، الذات التي تعمل، في تحليل الثروة والاقتصاد. أو، في مثال ثالث، إضفاء طابع موضوعي على حقيقة كون المرء حيًا في التاريخ الطبيعي أو البيولوجيا.

في الجزء الثاني من عملي، درست موضوعية الذات فيما أسميه "ممارسات التقسيم". فالذات إما أن تكون موضوعية أو غير موضوعية. "إن الإنسان منقسم داخل نفسه أو منفصل عن الآخرين. وهذه العملية تجعله موضوعياً. ومن الأمثلة على ذلك المجنون والعاقل، والمريض والصحي، والمجرم و"الأولاد الصالحين".

وأخيراً، سعيت إلى دراسة ــ وهذا هو عملي الحالي ــ الطريقة التي يحول بها الإنسان نفسه إلى موضوع. على سبيل المثال، اخترت مجال الجنس ــ كيف تعلم الرجال أن يدركوا أنفسهم كموضوعات "للجنس".

وبالتالي، فإن الموضوع العام لبحثي ليس السلطة بل الذات نفسها.

لقد كنت مهتماً بمسألة السلطة. وسرعان ما تبين لي أن الذات البشرية، في حين أنها موضوعة في علاقات الإنتاج والدلالة، موضوعة أيضاً في علاقات السلطة التي تتسم بالتعقيد الشديد. وبدا لي أن التاريخ والنظرية الاقتصادية توفران أداة جيدة لعلاقات الإنتاج وأن علم اللغة وعلم العلامات يوفران أدوات لدراسة علاقات الدلالة؛ ولكن بالنسبة لعلاقات السلطة لم تكن لدينا أدوات للدراسة. ولم نلجأ إلا إلى طرق التفكير في السلطة استناداً إلى نماذج قانونية، أي: ما الذي يضفي الشرعية على السلطة؟ أو أننا لجأنا إلى طرق التفكير في السلطة استناداً إلى نماذج مؤسسية، أي: ما هي الدولة؟

ولذلك كان من الضروري توسيع أبعاد تعريف السلطة إذا أردنا استخدام هذا التعريف في دراسة موضوعية الذات.

هل نحتاج إلى نظرية للسلطة؟ بما أن النظرية تفترض موضوعية مسبقة، فلا يمكن تأكيدها كأساس للعمل التحليلي. ولكن هذا العمل التحليلي لا يمكن أن يستمر دون تصور مستمر. وهذا التصور يستلزم التفكير النقدي ـ والتحقق المستمر من صحة المعلومات.

إن أول شيء يتعين علينا التحقق منه هو ما أسميه "الاحتياجات المفاهيمية". أعني أن عملية التصور لا ينبغي أن ترتكز على نظرية للذات ـ فالذات التي يتم تصورها ليست هي المعيار الوحيد لعملية التصور الجيدة. يتعين علينا أن نعرف الظروف التاريخية التي تحفز تصورنا. ونحن في حاجة إلى وعي تاريخي بظروفنا الحالية. والشيء الثاني الذي يتعين علينا التحقق منه هو نوع الواقع الذي نتعامل معه.

لقد عبر أحد الكتاب في إحدى الصحف الفرنسية الشهيرة ذات مرة عن دهشته: "لماذا مفهوم السلطة يثار في أذهان كثير من الناس هذه الأيام؟ "هل هذا الموضوع مهم إلى هذه الدرجة؟ هل هو مستقل إلى الحد الذي يجعل من الممكن مناقشته دون الأخذ في الاعتبار المشاكل الأخرى؟"

إن دهشة هذا الكاتب تحيرني. وأنا أشك في افتراض أن هذا السؤال قد طرح للمرة الأولى في القرن العشرين. وعلى أية حال، فهو بالنسبة لنا ليس سؤالاً نظرياً فحسب، بل إنه جزء من تجربتنا. وأود أن أذكر هنا "شكلين مرضيين" فقط ـ هذين "المرضين اللذين يصيبان السلطة" ـ الفاشية والستالينية. ومن بين الأسباب العديدة التي تجعلهما محيرين للغاية بالنسبة لنا أنهما على الرغم من تفردهما التاريخي فإنهما ليستا أصليتين تماماً. فقد قاما باستخدام وتوسيع  نطاق الآليات الموجودة بالفعل في أغلب المجتمعات الأخرى. بل إنهما على الرغم من جنونهما الداخلي استخدما إلى حد كبير أفكار وأليات عقلانيتنا السياسية.

إن ما نحتاج إليه هو اقتصاد جديد للعلاقات القائمة على السلطة ـ ونستخدم كلمة "اقتصاد" بمعناها النظري والعملي. وبعبارة أخرى: منذ كانط، كان دور الفلسفة هو منع العقل من تجاوز حدود ما نراه في التجربة؛ ولكن منذ نفس اللحظة ـ أي منذ تطور الدولة الحديثة والإدارة السياسية للمجتمع ـ أصبح دور الفلسفة أيضاً هو مراقبة القوى المفرطة للعقلانية السياسية، وهو ما يشكل توقعاً مبالغا إلى حد ما.

إن الجميع يدركون مثل هذه الحقائق العادية. ولكن حقيقة كونها عادية لا تعني أنها غير موجودة. وما يتعين علينا أن نفعله مع الحقائق العادية هو أن نكتشف ـ أو نحاول أن نكتشف ـ أي مشكلة محددة وربما أصلية ترتبط بها.

إن العلاقة بين العقلنة والإفراط في استخدام القوة السياسية واضحة. ولا ينبغي لنا أن ننتظر البيروقراطية أو معسكرات الاعتقال حتى نعترف بوجود مثل هذه العلاقات. ولكن المشكلة هي: ماذا نفعل بمثل هذه الحقيقة الواضحة؟

هل نجرب العقلانية؟ في اعتقادي، لا شيء أكثر عقماً من هذا.

أولاً، لأن المجال لا علاقة له بالذنب أو البراءة. ثانياً، لأنه من غير المعقول أن نشير إلى العقلانية باعتبارها الكيان المعاكس للاعقلانية. أخيراً، لأن مثل هذه التجربة من شأنها أن توقعنا في فخ لعب الدور التعسفي والممل للعقلاني أو اللاعقلاني.

هل ينبغي لنا أن نحقق في هذا النوع من العقلانية الذي يبدو أنه خاص بثقافتنا الحديثة والذي نشأ في عصر التنوير؟

أعتقد أن هذا كان نهج بعض أعضاء مدرسة فرانكفورت. ولكن هدفي، مع ذلك، ليس بدء مناقشة لأعمالهم، على الرغم من أهميتها وقيمتها. بل إنني أقترح طريقة أخرى للتحقق في الروابط بين العقلنة والسلطة. وقد يكون من الحكمة ألا نأخذ عقلنة المجتمع أو الثقافة ككل، بل أن نحلل هذه العملية في عدة مجالات، كل منها بالإشارة إلى تجربة أساسية: الجنون، والمرض، والموت، والجريمة، والجنس، وما إلى ذلك.

أعتقد أن كلمة "العقلنة" خطيرة. ما علينا أن نفعله هو تحليل العقلانيات المحددة بدلاً من استحضار تقدم العقلنة بشكل عام.

هل نجرب العقل؟ في اعتقادي، لا شيء أكثر عقماً من هذا أولاً، لأن هذا المجال لا علاقة له بالذنب أو البراءة. ثانياً، لأنه من غير المعقول أن نشير إلى العقل باعتباره الكيان المعاكس للاعقلاني. أخيراً، لأن مثل هذه التجربة من شأنها أن توقعنا في فخ لعب الدور التعسفي والممل للعقلاني أو اللاعقلاني.

حتى وإن كانت مرحلة التنوير مرحلة بالغة الأهمية في تاريخنا وفي تطور التكنولوجيا السياسية، فإنني أعتقد أنه يتعين علينا أن نشير إلى عمليات أكثر بعداً إذا أردنا أن نفهم كيف وقعنا في فخ تاريخنا.

***

.....................

*هذا المقال كتبه مشيل فوكو كخاتمة لكتاب: ميشيل فوكو.. ما وراء البنيوية والتأويلية بقلم هيربرت ال. ديفوس وبول رينبو. اصدار جامعة شيكاجو.

 

احيانا يجد الانسان نفسه عالقا في تفكير ثنائي. هل نؤمن بالارواح ام نؤمن ان الروح هي نفس الدماغ؟ هل نؤمن باننا لدينا ارادة حرة ام ان كل شيء مقرر سلفا؟ هل انت شيوعي ام رأسمالي؟. هذه واحدة من أكبر النقاشات الفلسفية الثنائية المعاصرة بين التوحيديين التقليديين والملحدين التقليديين: هل انت تؤمن بالإله الخالق القدير ام انك تؤمن اننا نعيش في كون عبثي بلا إله؟ في أي جانب ستقف، هل مع الملحد ريتشارد دكنز ام مع البابا؟ هذه الخيارات امام كل فرد والقرار يعود  له.

غير انه في كل من هذه الحالات هناك مواقف صائبة تقع بين الحدّين المتطرفين. الفيلسوف فيليب جوف Philip Goff (1) استطلع المنطقة الوسطية في فلسفة الذهن، وبالذات الدفاع عن الروحانية الشاملة panpsychism، وهي الرؤية بان الوعي هو خاصية أساسية وشاملة في كل مكان من الكون. وفي كتاب جوف الأخير (لماذا؟ الغرض من الكون،2023) استطلع فيه المنطقة الوسطية المثيرة بين الشكلين التقليديين للايمان والالحاد.

في النهاية، يرى جوف ان كل جانب من طرفي النقاش حول الله لديه شيء من الصواب. الملحد يشير وهو على صواب الى صعوبة التسوية بين إله محب وقدير وما نراه من معاناة مرعبة في العالم. الجواب الأكثر شهرة من جانب الموحدين يستخدم الارادة الحرة، وهذا يوضح ان المعاناة ناتجة عن فعل الانسان – لكن ماذا عن المعاناة التي نجدها في العالم الطبيعي؟ ولماذا اختار الله خلق حياة ذكية من خلال عملية دموية للتطور تعتمد على الاختيار الطبيعي؟ غير ان هناك ايضا أشياء يصارع الملحد لتوضيحها. وهي التي نوقشت كثيرا – والتي تتحدى الإلحاد وهي الضبط الفيزيائي الدقيق للحياة – الإكتشاف المثير في العقود الأخيرة بان الثوابت الأساسية للفيزياء ملائمة تماما لدرجة تسمح بإمكانية الحياة. البعض يحاول توضيح هذا من حيث علاقته بالأكوان المتعددة: اذا كانت هناك أكوان كافية، عندئذ فان أحد هذه الاكوان سيقع عليه الحظ ويكون ملائما للحياة.

اعتقد جوف ان هذا هو الجواب الصحيح بالنسبة له. لكنه، اُقنع من جانب فلاسفة الاحتمالات بان المنطق الكامن وراء تفسير الأكوان المتعددة والضبط الدقيق للكون هو منطق ملتبس ومشوش بشكل خطير.

توضيح محدود

لاحظنا ان كلا الجانبين من نقاش مسألة الله لديه شيء ما يستطيع توضيحه وشيء لا يستطيع . لحسن الحظ، هناك فرضية يمكن ان تسد الفجوة لدى كلا الجانبين: إله خيّر بقوة محدودة.

التحدّي للتوحيدي التقليدي هو ان يوضح لماذا اختار الله خلق حياة ذكية من خلال عملية مروعة عبر الاختيار طبيعي بدلا من مجرد جلب الناس الى الوجود بشكل كامل في عالم يتمتع بالارادة الحرة ودون معاناة.  لكن اذا كان الله ليس لديه القدرة الكلية، فهو سيكون غير قادر على خلق حياة معقدة بهذا الشكل. ربما، على سبيل المثال، الله يستطيع فقط ان يبني من البساطة – وعليه فان الخيار الوحيد لخلق حياة ذكية كان خلق كون بواسطة نوع ملائم من الفيزياء تؤدي بالنهاية الى تطوره مع كل المعاناة التي ينطوي عليها. الله عرف ان الكون سيكون فوضويا وغير سار، ورغب بطريقة اخرى، لكنها كانت اما كذلك (فوضوية) او اللاخلق (العدم). ان افتراض "فرضية الله المحدود" يمكن ان يوضح كل من نواقص الكون وعدم احتمالية الاشياء الجيدة، مثل كون مضبوط بدقة fine-tuning. لذا بينما التوحيديون التقليديون والملحدون التقليديون يحاولون التعامل مع كل من المعاناة والضبط الدقيق، فان هذه الفرضية يمكن ان تقنع الاثنين معا بسهولة. لكن يبدو ان الميول والتحيزات في كلا الجانبين تحول دون الاعتراف  بذلك.

الجواب الذي يمكن الحصول عليه لهذه الحجة هو "لماذا لا يكون إله سيء بقدرة لا محدودة بدلا من إله جيد محدود القدرة؟"

درس جوف هذه الإمكانية بعمق في كتابه. لكن، بالنهاية، افتراض إله شر كلي القدرة مشابه لإفتراض إله خير كلي القدرة. وبدلا من السؤال، لماذا إله خير كلي يسمح بهذه المعاناة؟ ربما يسأل احد لماذا إله شر كلي القدرة يسمح بكل هذا الجمال، والسحر والخيرية التي نجدها في كوننا؟ (فكرة الإله الشرير عُرضت بشكل ملفت في كتاب الفيلسوف الانجليزي ستيفن لو "تحدّي الإله الشرير"، الذي يمكن الاطلاع عليه في اليوتيوب).

أمل معقول

هل يمكن للاعتقاد بإله محدود القدرة ان يعطي أملا بما بعد الحياة او بغرض نهائي للكون؟

يبدو من المعقول ذلك، لأن الإله المحب المحدود القدرة سيرغب بالحفاظ على أذهاننا الواعية بعد الموت، وسيرغب بنقلنا نحو عالم أفضل. عدم اليقين يكمن في ما اذا كان الإله المحدود القدرة  قادرا على القيام بهذه الأشياء . المؤيدون لفرضية الإله المحدود القدرة يعتقدون انه من المؤسف هناك عدة شرور في العالم لايستطيع الله منعها، وهذا يفسر لماذا توجد تلك الشرور. هذا يضع الحياة بعد الموت والغرض الكوني في خانة الأمل المعقول. انها اشياء قد يستطيع الله وقد لا يستطيع فعلها، ونحن لا نعرف أي خانة تقع ضمنها الحياة الأبدية والمعنى الكوني، لأننا لا نعرف مدى وطبيعة محدوديات الله.

لكن الأمل المعقول ليس عدما. لنأخذ مثالا، من المهم ان هناك حظا معقولا باننا سوف نتغلب على مشكلة تقلبات المناخ حتى عندما نكون غير متأكدين من ذلك. الحظ المعقول يمكن ان يخلق فرقا بين الأمل واليأس.

الإله المحدود القدرة قد يبدو غير منسجم مع الأديان التقليدية. لكن، في كتاب (أشياء سيئة تحدث للناس الجيدين،1981) عالج الحاخام هارولد كشر Harold Kushner مشكلة الشر عبر افتراض إله محدود، وكذلك المسيحيين اتخذوا خطوة مماثلة  في طريقتهم الثيولوجية حين تحفزوا بفلسفة (اللامسيحيين) للفريد نورث وايتهد.

 في الحقيقة، يعتقد جوف ان المسيحية تستفيد كثيرا لو كان الله له قدرة محدودة. دائما كان يرى من الصعب فهم لماذا كان على الله ان يصبح كائنا بشريا لكي يعطينا حياة خالدة. لكن اذا كان الله ليس عظيم القدرة، فان طرقا جديدة من الفهم ستفتح امامنا. فمثلا، ربما تكون المشكلة هي ان الإله الخالد وغير المادي يختلف تماما عنا نحن المخلوقات الزمنية المتجسدة، بحيث ان الطريقة الوحيدة التي يمكن ان يسمح بها الله لنا بالمشاركة في وجوده الخالد هي عن طريق دخول الله الكامل في وجودنا المؤقت – يصبح اكثر شبها بنا لكي نتمكن ان نصبح اكثر شبها به. في الحقيقة، توجد هناك سلفا تفسيرات للمسيحية كهذه، تُعرف بـ "النظرية التشاركية"، لكنها  ستكون اكثر سهولة في الفهم عندما تُقترن بفكرة الإله المحدود.

***

حاتم حميد محسن

.......................

الهوامش

(1) فيليب جوف فيلسوف مثالي بريطاني واستاذ في جامعة دورهام البريطانية. ركز في بحوثه على فلسفة الذهن والوعي.  

 

كنا قد كتبنا في السابق سلسلة من البحوث والدراسات حول نقد العقل الدعوي لم يكن هدفنا من كتابة هذه السلسة إذ ذاك إلا صياغة المفردات الثلاث: النقد، والتجديد، والإصلاح كمعالم بارزة لا بدّ منها لفهم الخطاب الديني، ومحاولة مواكبة المسيرة المستنيرة لعصرنا الذي نعيش فيه، وهو العصر الذي أضحى فيه التفكير في الدين بمثابة الهوس الذي أسفر عن التطرف والعنف والإرهاب؛ فعوض عن أن يكون التفكير في الدين أداة عمل ونشاط وحيوية وبناء، أصبح أداة إرهاب وكراهية ونفور وتدمير وفناء.

وعليه؛ فلا بدّ من تغيير في فهم الخطاب الديني فهماً مجدداً، ولا بد (أولاً) من نقد التوجُّهات التي ترتكز فيه على المناطق السوداء؛ لتنشرها بغير وجه حق عسفاً بين الناس.

ولا بدّ (ثانياً) من تجديد القوالب الجامدة بتجديد الأنفس القابلة للوازع الديني بمطلق الشعور، وبتجديد طرائق التفكير فيها، ولا بدّ من فهم أصول الدين فهماً يتماشى مع عالمية هذا الدين، ومع سماحته التي تجذب قلوب العالمين ولا تنفّرها من رحمة الله.

ولا بد (ثالثاً) من إصلاح العقم الديني الذي أصاب العقول فحَجَّرها عند زوايا ضيقة، ولا بدّ من تجديد الحماسة الروحيّة فيه؛ باستشعار القلوب والبصائر بقيمة التعلق بالملأ الأعلى على الحقيقة، وبالعمل الدائم في هذا الإطار وبهذا المضمون الذي يُرسل السكينة القلبية في قلوب العاملين.

ولم نكن في المقالات السالفة وأولها: عوائق تقدّم العقل العربي.

وثانيها: نقد العقل الدعوي. وثالثها: تجديد الخطاب الدعوي؛ ندور حول قضايا مفصولة عن واقع هذا العقل، ولم تكن بالقضايا المعزولة عن فهم ذلك الخطاب الديني؛ فقد ذكرنا في المقال الأول أداة هذا الخطاب متمثلة في اللغة فتجديدها ضربة لازب، ثم أردفنا هذا العائق أمام تقدّم العقل العربي بإصلاح جوانب النفس الإنسانية.

وفي المقال الثاني ركزنا على فكرة احتكار الحقيقة المطلقة، وقلنا إن مضمون “الاحتكار” نفسه هو مضمون يأتي ضد الحرية، وضد الإسلام، وضد العقل على التعميم. وفي المقال الثالث تناولنا “الفهم” كحيوية عقليّة ونشاط ذهني أعمق.

والمقصود بالفهم هو فهم الخطاب الإلهي بالأساس، وهذا يتطلب من صفاء القلب ولين الجانب ورهافة الحسّ وارتقاء الأذواق العليا بما عساه يوفر لصاحبه القدرة على استخدامه، ولا يمكن أن يقوم به ثلة مطموسة الذوق والبصيرة، مُجرّدة عن هذه المواهب والقدرات.

فلئن كنا في المقال السابق “تجديد الخطاب الدّعوي”، ذكرنا أن الفهم لا يتوقف على الحرفيّة، ولكنه يأخذ بالتأويل والتعميق، ولا يقدّم القشرة الظاهرة السطحية ويكتفي بها فقط، وضربنا مثالاً على “الفهم” بمورد من موارد ابن عربي لمعالجة مفهوم الرحمة؛ فإننا في هذا المقال نستكمل تلك الرؤية التذوقيّة للخطاب الديني عند أحد تلاميذه؛ وهو عبد الكريم الجيلي.        

فقريباً من مورد ابن عربي الذَوْقيِّ التبَصُّري، يُفَرِّق عبد الكريم الجيلي (ت 805 هـ) أحد تلاميذه في مجال الرحمة ومفهوماتها بين نوعين من الرحمة: الرحمة العامة. والرحمة الخاصّة؛ فالرحمة العامة هى التي تظهر في سائر الموجودات. والرحمة الخاصَّة هى التي يختص بها أهل السعادات وعنده أن: “الرحيم والرحمن اسمان مشتقان من الرحمة. ولكن الرحمن أعمَّ، والرحيم أخص وأتمُّ؛ فعموم الرحمن لظهور رحمته في سائر الموجودات، وخصوص الرحيم لاختصاص أهل السعادات به.

والجيلي هنا يتفق مع ابن عربي في أن:”كل موجود مرحوم”؛ فما عمَّ الرحمن رحمته إلا بظهور رحمته في سائر الموجودات، وهو المراد برحمة الامتنان عند ابن عربي. ثم إنّ هذه الرحمة تأتينا على سعة قدر الله لا سعة أقدارنا نحن؛ فنحن البشر لا نسع حتى رحمة أنفسنا بأنفسنا ولا نطيق في الغالب رحمة هذه النفس بإزاء نفسها فما بالك بغيرها؟ ولكن رحمة الله الواسعة هى أعرف بحاجة النفس إلى رحمة خالقها؛ لأنه هو الذي خلقها وأعطاها من الأمل في فضله ما يقرُّها على الثقة به وحسن الظن فيه سبحانه وتعالى.

ومن الرحمة الإلهية التي لا حدود تحدِّدها حدود العقول البشرية، ولا وصف يقتدر على تشخيصها: قوله صلى الله عليه وسلم من حديث الترمذي: قال الله تعالى:” يا ابن آدم: إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم: لو بلغت ذنوبك عنان السّماء ثم أستغفرتني غفرت لك. يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً؛ لأتيتك بقرابها مغفرة”،

ثم ماذا؟

لقد جاء الإسلام رحمة للعالمين من لدن ربّ العالمين؛ فمن شاء أن يقيد هذه الرحمة بخصوصية إدراكه هو؛ فقد أراد أن يحجِّر واسعاً من عند الله ويضيق بتصوراته هو ما وسَّعه الله على عباده، ويتخذ من فهمه لدين الله منهجاً – معوجَّاً أو غير معوَجِّ !- يفرضه فرضاً مبالغاً فيه على خلق الله؛ ليظن، من بعدُ، ظناً ليس فيه يقين أنه هو المنهج الذي جاء به الله سبحانه، لا لشيء إلا ليحتكر الخطاب الإلهي وحده تعبيراً وتفكيراً وإلزاماً للناس تمهيداً لاحتكار الحقيقة ثم تملُّكها، وتخطئة؛ بل وتكفير من يرى رأياً غير رأيه أو يقول قولاً غير قوله، أو يُعَبِّر عن تلك الحقيقة بفهم غير فهمه ومعيار غير معياره؛ ولو أنه قال:” هذا فهمُ أُوتِيه رجل مسلم؛ فمن شاء أخذ به ومن شاء تركه”؛ لكان أقرب إلى الحقيقة، وأصوب في التقدير والتفكير، وأرقى في لغة التعبير خطاباً غير محتكر ولا متعدّى ولا متجاوز ولا مملوك.

مثل هذا الرقي في التصور يدل على رقي في الإدراك؛ وهو من علامات المتحقق؛ إذُ المتحقق على الحقيقة – فيما يقول ابن عربي – هو الذي يدعو إلى الله على بصيرة؛ وهو الذي – كما روي الشعراني في طبقاته –:” لا يأتي بشرع جديد وإنما يأتي “بالفهم” الجديد في الكتاب والسنة”. ولتلحظ عبارة الفهم الجديد  هذه تجدها تعطي العقل دوره الذي يناط به ولا تبخسه حقه في التفكير والتعبير، وهما علامة التجديد الذي يدل في أول مقام على صاحبه رأياً ورؤية.

ومن هنا؛ من ذلك المعنى المفتوح لإدراك مفهوم الرحمة كما تقدَّم؛ وفوق ما تقدَّم، يمكننا القول مرة ثالثة بأن الإسلام جاء رحمة للعالمين. وهذه الرحمة للعالمين تشمل خلق الله جميعاً بغير استثناء فرقة ولا طائفة ولا مذهب ولا دين: في البوذية جزء من الإسلام، وفي اليهودية جزء من الإسلام، وفي المسيحية جزء من الإسلام، وفي الأديان غير الكتابية جزء من الإسلام؛ لأنها جميعاً قد مسَّت الحقيقة في جزء منها.

والإسلام هو الحقيقة الكبرى؛ والضخمة، والتامة، والشاملة؛ وهو هو الرحمة التي أرسلت في المطلق للعالمين: ”وَمَا أرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً للعَالَمِينَ”

وفكرة “التمام” لمكارم الأخلاق التي نضح بها حديث المصطفى، صلوات ربي وسلامه عليه، – على بساطتها ويسرها – هي من أصول فهم الإسلام للعقائد والأديان السابقة عليه، والإقرار بما لديها من مساس الحقيقة؛ في جزء منها لا في كلياتها، والاعتراف بوجود المكارم؛ أخلاقيّة عملية كانت أو عقائدية كبرى، ففي الحديث قوله؛ صلى الله عليه وسلم: ”إنما بعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق”؛ فكأنما هذه المكارم الخُلقية كانت موجودة في السابق، غير أنها في الوقت ذاته لم تكن كاملة، ولم تكن تامة، ولم تكن كلية شاملة يلمُّها مبدأ “التوحيد” ويضمُّها تحت لوائه. ومعنى كونها لم تكن تامة لا يلغي في السابق عدم وجودها.

وفي الحديث اعتراف بفضل السابق: أنهم كانوا أهل مكارم، وإنْ كانت لديهم ناقصة قاصرة ليست بتامة ولا شاملة. وما يُقالُ عن جانب الأخلاق يقالُ في نفس اللحظة الكاشفة لفكرة “التمام” هذه – على بساطتها ويسرها – عن العقائد الكبرى: التوحيد والعالم الآخر.

فالذي يفهم من ثمَّ هذا الجزء من أصحاب الديانات – كتابية كانت أو غير كتابية – يقبل الإسلام علي أنه حقيقة إلهيّة ضخمة وكبيرة، تخاطب الضمير وتستقر في السريرة بمقدار ما تخاطب كل وعي مفتوح لتلقِّي الحقيقة بما فيها من دعوة عالمية، ومن دين شامل لا يتقيد بقيود الحدود الجغرافية والحدود الفكرية والثقافية سواء.

والذي ينكر هذا الجزء من المنتسبين إلى الإسلام ينكر (أولاً) خلق الله، وينكر (ثانياً) تقدير الله على عبادة فيما قدّره على خلقه من عقائد وعبادات، وينكر (ثالثاً) هؤلاء الذين عرفوا الحقائق التي جاء الإسلام ليقرَّها في الضمائر والقلوب، وهو من بعدُ يدعو إلى الإسلام لا على بصيرة بل على جهالة؛ ليكون بمثل تلك الدعوة المغلقة يتبنَّاها، ديناً ضيقاً متحجّراً لا يعرف السماحة ولا يتسع لخلق الله ولا لعبادة الله الواحد الأحد. فليس هذا كله أو بعضه بداخل في تجديد العقل الدعوي لأن عنصر الأصالة فيه يأبى مثل هذا التضييق ويروم أنوار الهداية لبني الإنسان ولن يكون النور متاحاً، والدعوة مغلقة، والبصيرة مطموسة، والعقل مُعطل عن فريضة التفكير .

***

بقلم الأستاذ الدكتور مجدي إبراهيم

أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف جامعة أسوان

من أكثر المفاهيم التي اسيء فهمها في فلسفة افلاطون هو الحب الافلاطوني، حيث العبور الى ما وراء الفلسفة، واصبح يُستعمل بشكل واسع عبر الثقافات منحرفا اثناء العملية عن معناه الأصلي. اعتقد افلاطون ان الحب هو تحفيز يقود المرء لمحاولة معرفة وتأمل الجمال في ذاته. يحدث هذا من خلال عملية متدرجة تبدأ بتقدير مظهر الجمال الجسدي ثم الانتقال الى تقدير الجمال الروحي.

الانتقال عبر هذه الخطوات يصل ذروته في المعرفة العاطفية الخالصة والنزيهة لجوهر الجمال الذي هو غير قابل للفساد ومساوي دائما لذاته: معرفة فكرة الجمال.

المفهوم الحقيقي للحب الافلاطوني

هذا النوع من الحب عادة يُفسر كحب روحي بدلا من جسدي. البعض يذهب بعيدا ليسمي الحب الافلاطوني بـ "الحب المستحيل"، رغم انه أكثر تطرفا من تصوّر افلاطون . افلاطون يعرض وبشكل واضح الخطوط العريضة للحب الافلاطوني في "الندوة" symposium.

الندوة او "المأدبة" كانت احتفالا شائعا يجتمع فيه اليونانيون مع بعضهم ليحتفلوا ويناقشوا الأفكار. خلال الندوة المنعقدة في بيت الشاعر المأساوي أجاثون، وحيث يحضر أهم رجال اثينا البارزون بمن فيهم سقراط و يوسانياس وارستوفان والسيبياديس ليبدأوا النقاش الفلسفي حول الطبيعة الحقيقية للحب، ويعرض كل فيلسوف حجته الخاصة به.

بعد الإستماع لجميع اولئك الحاضرين، يأخذ سقراط الكلمة ويحكي ما كشفته له ديوتيما – كاهنة ابولو حول معنى الحب الافلاطوني: انه سلّم يتدرج فيه الحب عبر سلسلة من الخطوات للوصول الى الذروة "الفكرة العليا" supreme idea.

بالنسبة لإفلاطون، الحب ليس غاية في حد ذاته وانما فقط وسيلة لإنجاز هذا المفهوم الأسمى للجمال. أول خطوة هي مادية، الحواس تطلق العنان للآيروس (الحب الذي يأتي من خلال العيون ويجبر المرء للاقتراب من شخص ما). في هذه المرحلة، الحب هو جسدي. افلاطون في الحقيقة لا يرفض البُعد الجسدي للحب، كما يعتقد البعض بشكل خاطئ، بل هو مرحلة أساسية وضرورية لكي نصل الى الفكرة الأسمى.

في الخطوة الثانية، يذهب الشخص من النظر الى الجمال في جسم معين الى النظر الى الجمال في عدة أجسام، وبهذا يصوغ فكرة للجمال بعيدة عن الشك ويشجع البحث عن فكرة وراء هذا التصور.

الخطوة الثالثة هي الخطوة التي يتم فيها الانتقال من الجسد المادي الى جمال الروح. في هذه الحالة، يتعلم الشخص حب الروح رغم المظهر الجسدي للجمال.

في الخطوة الرابعة، يرفع سقراط الحب الى نطاق مختلف جدا حيث يدخل عالم الاخلاق. حب الارواح الجميلة يزيد الجمال الاخلاقي. في الخطوة الخامسة، سقراط ينتقل من قواعد السلوك الى المعرفة الجميلة مشيرا الى المؤسسات وحب الحكومة.

الخطوة السادسة تبدأ من المعرفة الجميلة وتستعمل العلوم لتصل الى المتعة في جمال المعرفة والفهم.

في المرحلة السابعة، تصل فكرة الجمال الى تناغم تام مع الكون. انها تنتقل من العالم الى الصنف الكوني (الجمال ذاته). في هذه المرحلة، يأخذ الجمال لون الرؤية او الكشف، مُمارس من خلال عدسة الفلسفة.

افلاطون وحبه المثالي

يرتبط حب افلاطون المثالي بفكرته عن العالم المثالي (عالم حيث كل شيء تام ،وفيه واقعنا المادي ليس الا  نسخة من صورة ذلك العالم المثالي). هذا يفسر لماذا مثال الحب الافلاطوني لايشير الى امتلاك حب يتعذر الحصول عليه وانما الى حب بمعنى انه خالد وواضح: شكل مثالي تام.

هذا الاطار مرتبط بشكل وثيق برمزية كهف افلاطون. الشخص الذي يأتي الى فكرة الجمال هو الشخص الذي نجح في الخروج من الكهف والنظر الى ضوء الشمس. ذلك الفرد انتقل من التجربة الاولية للحب الجسدي الذي يمكن مقارنته بمن هو موجود في الكهف، الى الوصول الى ممارسة الحقيقة الجميلة، المساوية لمغادرة الكهف الى العالم الخارجي.

***

حاتم حميد محسن

 

إن الدراما "الوجودية" التي يعيشها العالَم الحديث هي نتيجة لتحول كارثي حقيقي في مؤسساتنا وأساليب معتقداتنا. وهي تنافس في نطاقها وأهميتها، إن لم تكن تتجاوز، التحول الذي أحدثته "الثورة العلمية" في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وقليلون هم الذين ما زالوا يشككون ـ حتى وإن كانوا لا يدركون بعد ـ في النطاق الشامل والعالمي لهذه "الثورة العلمية الثانية". إن أنماطنا الأساسية في التفكير والعمل، والبنية المؤسساتية، والهوية الشخصية، والتنمية الاقتصادية، والعلاقة بالطبيعة، كل هذا يتطلب مراجعة جذرية إذا كان لنا أن نحافظ على الحياة البشرية على هذا الكوكب (وخارجه) ونزدهر. وعلى هذا فإننا نواجه عالماً تتعرض هياكله المعنوية وأسسه المؤسساتية المقابلة لها للتقويض، الأمر الذي ينذر بتحول ثوري. ولا شك أن هذا التحول، على الرغم من عدم وضوحه في الوقت الحاضر، لا بد وأن يكون جذرياً وشاملاً. ويقيم هذا العمل طبيعته بشكل نقدي، ويحدد هياكل رؤية عالمية بديلة، ثم يطور الخطوط العريضة للنظام الاجتماعي والمؤسساتي الذي يقترحه. ويختتم هذا الكتاب بمناقشة الاستراتيجيات العملية التي يمكننا من خلالها أن نأمل بشكل معقول في مواجهة التحديات التي تواجه الحضارة المعاصرة. فما هي الفلسفة الغربية؟ تشير الفلسفة الغربية إلى المفكرين والنظريات في أوروبا والولايات المتحدة. وقد شملت العديد من المناقشات في الميتافيزيقا ونظرية المعرفة والأخلاق والمنطق وما إلى ذلك. والمواقف في هذه المناقشات متباينة للغاية لدرجة أنه لا يوجد سوى القليل مما يمكن قوله عما يجمع بين الفلاسفة الغربيين خارج منطقتهم الأصلية. وبالتالي، لا توجد طريقة موجزة لبيان الفرق بين التقاليد الفلسفية الشرقية والغربية. يمكن تحديد الفلسفة الغربية من خلال مجموعة قانونية من المفكرين بالإضافة إلى بعض التمييزات والمفاهيم المتكررة. أفلاطون وأرسطو وديكارت وكانط جميعهم مفكرون غربيون. بالإضافة إلى وجود مجموعات متميزة من المفكرين، تأثرت الفلسفات الغربية والشرقية بأديان مختلفة. كانت الديانات التوحيدية، وخاصة المسيحية، أكثر تأثيرًا في الفلسفة الغربية، في حين كان للهندوسية والبوذية تأثير أكثر أهمية على الفلسفة الشرقية. فما هي خصائص الفلسفة الغربية؟ تتميز الفلسفة الغربية بمجموعة من المفكرين التقليديين بما في ذلك أفلاطون وأرسطو وديكارت وكانط، إلخ. كما تتميز أيضًا بتأثير الديانات التوحيدية، وخاصة المسيحية. وأخيرًا، غالبًا ما تعكس الفلسفة الغربية نظريات تؤكد على الشكلية والمفاهيم العالمية. فما هي أنواع الفلسفة الغربية؟ هناك العديد من الطرق للتمييز بين الأنواع المختلفة من الفلسفة الغربية. إحدى الطرق هي التاريخية، والتي تقسم التقليد إلى عصور مختلفة. تشمل هذه العصور الفلسفة القديمة وفلسفة عصر النهضة والفلسفة الحديثة والفلسفة المعاصرة. إن كتاب ديفيد سبرينتزن "نقد الفلسفة الغربية والنظرية الاجتماعية" هو عمل يحمل عنوانًا نثريًا مع طموحات واسعة. نُشر الكتاب في عام 2009، وهو جوهرة مخفية من التحليل الفلسفي الذي يقدم مخططًا لإعادة بناء المجتمع المعاصر. سبرينتزن أستاذ فخري للفلسفة في جامعة لونغ آيلاند وناشط سياسي مدى الحياة، أسس ائتلاف لونغ آيلاند التقدمي وترأسه لسنوات عديدة. في هذا العمل، يبرز الفيلسوف الناشط معرفته الفلسفية في حين يلمح إلى التطبيقات العملية لفلسفته في السياسة الاجتماعية. يلتزم سبرينتزن، الذي نشر نصين عن فلسفة ألبرت كامو، وهو باحث في فكر الفيلسوف الأمريكي جون ديوي، في هذا العمل بما لا يقل عن نقد وإعادة صياغة الأسس الميتافيزيقية للمجتمع الحديث. فكره واسع النطاق، ومع ذلك فهو يرتكز على مفهوم موحد. تركز أطروحته على الأخطاء الميتافيزيقية التي شكلت القيم والعادات الفكرية الحديثة. وبروح ديوي التي تراقبه من فوق كتفه، يزعم سبرينتزن أن الخطأ الأساسي الذي يبتلي الحياة الحديثة هو تفتت الأشياء والأفكار والخبرات التي ننخرط فيها. ومهما بدت الظواهر متمايزة ومستقلة عن بعضها البعض، يؤكد سبرينتزن أن نسيج الواقع موحد وأن كل الأشياء على المستويات اللاحقة مترابطة. إننا نعيش في سياق من النماذج الخاطئة، وطموح سبرينتزن هو تحويل الطريقة التي نقيم بها الواقع على أسسه بشكل جذري. يقول سبرينتزن:إن إحدى الأطروحات المركزية لهذا العمل هي أننا في خضم تحول ثقافي وميتافيزيقي عالمي لا يقل نطاقه عن التحول الذي بدأ في تحويل الثقافة الكوكبية قبل أربعة قرون. إن أنماط تفكيرنا وعملنا الأساسية، والهياكل المؤسساتية، والهوية الشخصية، والتنمية الاقتصادية، والعلاقة بالطبيعة، تتطلب كلها مراجعة جذرية إذا كان للحياة البشرية على هذا الكوكب (وخارجه) أن تبقى وتزدهر... ستكون مهمتي في هذا العمل تقييمًا نقديًا لملامح هذا التحول ثم تحديد هياكل الميتافيزيقيا البديلة ورسم إطار للنظام الاجتماعي والمؤسساتي الذي يقترحه. إن هذه المهمة، على أقل تقدير، شاملة، وليس من المستغرب أن يبدأ المؤلف أطروحته بالصراع بين النظرتين الدينيتين والعلميتين للعالم. ويؤكد سبرينتزن أن الدين لعب الوظيفة الضرورية المتمثلة في تزويد البشر بالشعور بالمعنى والمكان في واقع سخيف. فنحن كائنات أسطورية نجد المعنى داخل السرديات. والثورة العلمية، التي نشأت بالتنسيق مع البروتستانتية، تتعارض بشكل صارخ مع التفسيرات الدينية للواقع، واستبدلتها ببدائل، والتي على الرغم من خلق أسس الحداثة، فقد أبعدتنا جذريًا عن الطبيعة وشرعنت نظرة عالمية قائمة على الفردية المنعزلة والمنافسة والرأسمالية الجامحة والهيمنة على الآخرين. ويضمن مشروع سبرينتزن ضمناً الحاجة إلى إعادة بناء سرد محدث وملائم للنتائج التجريبية لعصرنا. ورغم أنه لا يستخدم هذا المصطلح، فإن الميتافيزيقيا التي يعتمدها سبرينتزن تقوم على فكرة مفادها أن الواقع وحدة عضوية، وأن النظر إلى أجزائه المكونة ككيانات مستقلة منفصلة عن بعضها البعض يشكل فهماً خاطئاً وتصوراً خاطئاً يؤدي إلى عواقب وخيمة. يطبق سبرينتزن هذا التحليل على مجموعة واسعة للغاية من الظواهر، بما في ذلك ثنائيات الذات والموضوع الموجودة في بنية الجملة والمنطق الأرسطي، والثنائية الديكارتية، والحتمية النيوتونية، مما يجعلنا نفتقر إلى الهدف. ومن أعظم اللحظات التي عايشها المؤلف هو الخطأ الذي نرتكبه في تأكيد الفردية الوجودية التي تضع الشخص خارج المجتمع وتتجاهل الديناميكيات الاجتماعية الشاملة التي تشكل الشخص، بما في ذلك شعورنا الذاتي بالفردية. وهنا يجد سبرينتزن حليفاً في ملاحظة كارل ماركس بأن الجوهر البشري هو "... مجموعة العلاقات الاجتماعية". إن أقوى تعبير عن الفردية يتم نشره اقتصادياً في السوق، والذي لا يرى بمنطقه الخاص أي إشباع أعلى من إشباع الذات المنعزلة. "إلى الحد الذي ننظر فيه إلى أنفسنا باعتبارنا أفراداً مغلفين بذاتهم في الأساس ــ "الانسان الاقتصادي" الذي يصفه الاقتصاديون بأنه يبحث دائماً عن "الرقم واحد" ــ إلى هذا الحد لا يصبح المجتمع سوى أداة عملية لاستراتيجية محسوبة، حيث يشكل الآخرون أدواتها الحالية والسوق الوسيلة الأساسية للتماسك الاجتماعي". الفردانية نوع من الاختزالية، التي تتلخص في الاختزال المغلوط للحقائق المعقدة إلى ظاهرة واحدة أو تفسير واحد. وتأخذه مناهضة الاختزالية التي يتبناها سبرينتزن إلى ما هو أبعد من عالم البشر إلى مجال الفيزياء الكمومية ومبدأ عدم اليقين الذي وضعه هايزنبرغ، حيث يجد تبريراً لظهور ظواهر جديدة لا تستطيع الحتمية الصارمة أو مفهوم الواقع المكون من أجزاء ذرية توفيرها أو تفسيرها. وهنا يقدم سبرينتزن مفهوم "الظواهر الناشئة" وهي تلك "التي لا يمكن تفسير طبيعتها وطريقة عملها بالكامل من خلال وصف سلوك أجزائها المكونة". الواقع معقد ومتعدد الطبقات. إن الأنظمة المختلفة تعمل ويمكن تفسيرها وفقاً لقوانينها الخاصة. ومع ذلك فإن القوانين التي تفسر الظواهر داخل الأنظمة لا تستطيع أن تقدم تفسيراً شاملاً عندما تتداخل الأنظمة أو تتداخل. وعلى هذا، وكما يلاحظ سبرينتزن، "... فمن الأفضل أن نفكر في الظواهر الناشئة باعتبارها عناصر من هياكل ناشئة تعبر عن الخصائص التنظيمية الفريدة والقوى التي تتمتع بها مجالات أو مستويات مميزة من الواقع". على سبيل المثال، "... إن الجاذبية تحدد شروط الحياة، ولا يمكن لأي حياة أن تنتهك قوانين الجاذبية، ولكن الجاذبية لا تحدد ما تفعله الكائنات الحية". أو على سبيل المثال، "إن اللغة... تتطلب من الخلايا الدماغية نقل الإشارات الكهربائية، ولكن لا يوجد لدى أي من هذه الخلايا لغة أو تفهمها". إن العلاقات بين هذه الأنظمة المتباينة هي التي تخلق "الحقول"، ومفهوم الحقول يشكل محوراً أساسياً في ميتافيزيقا سبرينتزن. فالحقول تؤدي إلى نشوء الواقع شبه المستقل للبنى الناشئة، كما توفر حلاً لما يعترف به سبرينتزن باعتباره المشكلة المستعصية حتى الآن المتمثلة في العلاقة بين الحرية والحتمية. ولإكمال تحليله، يناقش سبرينتزن تعقيد الوعي، الذي يشارك أيضاً في تحليل الحقول. ويلاحظ سبرينتزن: إن الوعي الذاتي ينطوي على قدرة الكائن الحي على أن يكون في نفس الوقت ــ في فعل واحد ــ كلاً من الذات والموضوع لوعيه الخاص: أن يكون موضوعاً "لذاته". وبالتالي فإننا نواجه حقلاً ناشئاً فريداً يتميز بالذاتية غير القابلة للاختزال والتواصل الاجتماعي، ولا يمكن اختزال أي منهما في الآخر. والوعي هو البنية الذاتية لتلك التجربة. والوعي الذاتي هو التنظيم الهادف لتلك التجربة حيث تضع نفسها داخل حقل المعنى الخاص بها. إن تجاربنا يمكن للآخرين معرفتها موضوعياً من الخارج، ولكنها تظل خاصة وغير قابلة للمعرفة ذاتياً. إن وجهة النظر الموضوعية لا تخبرنا بأي شيء عن المعنى الذاتي، أو القصد، أو حتى السلوك المحتمل للتجربة الناشئة إذا نظرنا إليها ذاتياً. إن حقيقة الأنظمة في علاقتها ببعضها البعض تؤدي إلى ظهور مجالات بحيث لا يمكن تفسير هذا الواقع الأوسع أو اختزاله إلى العناصر المكونة لأي نظام بمفرده. وهذا الفهم يفتح لنا الباب أمام الناشئ والجديد، وفيما يتعلق بالوعي، الحرية. كما أنه يعمل كأساس لفهم ميتافيزيقي جديد ينبغي أن يوجه تفكيرنا بينما نمضي قدماً. من خلال منهجه الذي يدحض الحتمية والاختزالية عبر مجموعة كاملة من الظواهر - المادية والاجتماعية والمعرفية - يزعم سبرينتزن "... أنه يقترح عدم كفاية تلك الطريقة الكلاسيكية في التفكير - التي نظمها أرسطو لأول مرة منذ أكثر من 2300 عام والتي سيطرت على الفكر الغربي منذ ذلك الحين - وأن يقدم إطاراً مفاهيمياً لإطار بديل يمكن استبداله به". قبل أن أشير إلى التطبيقات العملية لإعادة بناء سبرينتزن الميتافيزيقية، أعتقد أنه من المفيد للغاية أن نعود بإيجاز إلى مناقشته لمغالطة الفردية والطبيعة الاجتماعية المتناقضة للشخص البشري. هنا يظهر المؤلف في أبهى صوره. يبدأ فصله عن "الذات الشبكية" بصرخة حاشدة، "يجب أن يكون هناك شيء واحد واضح تمامًا الآن: الفردية هي عقيدة غير قابلة للدفاع عنها نظريًا ومدمرة اجتماعيًا. قد نطلق عليها المرض الاجتماعي للحداثة، فهي تشوه تمامًا أي قدرة على فهم العملية التي ينتج بها المجتمع الأفراد ويرعاهم حتى سن الرشد". بالنسبة لسبرينتزن، فإن الفردية هي "... ببساطة ذرية العالم الاجتماعي ..." يصبح هدف غضب سبرينتزن واضحًا عندما يقول، "إنها (أي الفردية) بمثابة مبرر ضيق لأنانية ضيقة تسعى إلى تحقيق الذات (غالبًا تعظيم الربح)". ورغم المغالطة الوجودية التي تعيب الفردية، فإن سبرينتزن يعترف بدورها التاريخي العميق كأداة دعائية تحررية في تحويل المجتمعات الجامدة المقيدة بالطبقات والقمعية وتحرير الأشخاص من حياة البؤس الدائم على أيدي المستبدين. ومع ذلك، يزعم سبرينتزن أن الوظيفة التاريخية للفردية لا ينبغي أن نخطئ في اعتبارها كافية من الناحية النظرية. ولا ينبغي لنا أن ننكر عواقبها الكارثية ونحن نمضي قدماً. في مناقشته لخطأ الفرد باعتباره سابقاً للمجتمع ومعارضاً له، يضع المؤلف التمييز الحاسم، كما أشرنا سابقاً، بين الفردية كفئة وجودية والقيمة الأخلاقية للفردية كصفة من صفات الشخصية. وهنا يستعير صراحةً من فكر جون ديوي ويستشهد بموافقة مارثا نوسباوم على ازدهار الإنسان باعتباره من بين الأهداف الاجتماعية الأكثر جدارة. والواقع أن المجتمع هو الذي يولد الفردية وهو أحد أكثر أغراض المجتمع قيمة. وهنا أجد إغفالاً في معالجة سبرينتزن للفردية. وبصفتي دارساً لحقوق الإنسان ومدافعاً قوياً عن الحريات المدنية، يبدو لي أن انتقاد سبرينتزن للفردية يستحق مناقشة تقاليد الحقوق في الغرب. فالديمقراطية الليبرالية، التي لا شك أنه يؤيدها، تتطلب الانتخابات الديمقراطية فضلاً عن احترام الحقوق التي يتمتع بها الأفراد. إن الفردية الوجودية كأساس للحقوق لها تاريخ طويل، وقد عبر عنها بشكل قوي كبار علماء التنوير مثل توماس هوبز، وجون لوك، وإيمانويل كانط. وفي الأزمنة الأخيرة، دارت مناقشات حول أساس حقوق الإنسان، بما في ذلك الحجج التي تثبت كيف أن الإنسانية، التي يمتلكها الأفراد، تؤدي إلى نشوء الحقوق. إن أطروحة سبرينتزن، التي تنكر الوضع المستقل للفردية بعيدًا عن طبيعتنا الاجتماعية، سوف تتعزز من خلال استجواب الموقف الذي دافع عنه هؤلاء الشخصيات الكلاسيكية، وهو ركيزة أساسية للفلسفة السياسية، والتي يزعم كثيرون أنها شرط أساسي لمجتمع حر ديمقراطي. وبينما يتجه نحو الاستنتاج، يطبق سبرينتزن تحليله الميتافيزيقي على حالة ومستقبل المجتمع الأمريكي. لقد أدى الالتزام بالفردية تاريخيًا إلى الاعتقاد بالتوسع غير المحدود، وخاصة الأسواق. لكن هذه الديناميكية استنفدت مسارها واستنفدت. ومن بين العواقب التراجع إلى الخصخصة، وتآكل المجتمع والشعور بالوحدة الناتج عن ذلك. إننا نعاني من "الاحتفال بالسلع"، وتضييق المعنى والغرض والأمل، من بين أمراض اجتماعية أخرى. إن حلول سبرينتزن، كما يوحي بذلك، شاملة. فهو يقدم التغييرات الفلسفية في الرؤية اللازمة لتوفير بقاء وازدهار المستقبل البشري، دون صياغة سياسات محددة. ومرة أخرى، فإن هدفه فلسفي وسياسي بالامتداد فقط. وهو يقدم خريطة بالتفاصيل التي يتعين على الآخرين استكمالها. ولكن رؤيته التي تنبثق من نقده واضحة، وهناك تلميحات لما قد يستلزمه المجتمع القائم على هذه الرؤية. نحن بحاجة إلى تحول في المعتقدات والممارسات والمؤسسات الاجتماعية والشخصية الفردية. ومن بين عناصر رؤيته ما يلي: يجب أن يكون النشاط الاقتصادي دائمًا تابعًا لتوفير الرفاهة البشرية الجماعية. يجب أن تكون الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية حقًا. الاستدامة البيئية، والمساواة في توفير الضروريات الأساسية والمساواة العرقية والجنسانية مطلوبة. واستنادًا إلى ديوي مرة أخرى، يجب علينا استخدام الذكاء وتجنب طرق التفكير العتيقة لمعالجة مشاكلنا. ولكن من أهم تطلعات سبرينتزن إحياء الديمقراطية، وهو ما يتم التعبير عنه بشكل عضوي من خلال إعادة تشكيل الحياة في الأحياء. ويتعين علينا أن نبتعد عن التركيز الحصري على المجال الخاص وأن ندرك كيف ينبغي للمصالح الخاصة المزعومة أن تخدم الصالح العام والصالح الخاص. وفي الختام، لا يطرح سبرينتزن فكرة اليوتوبيا، ولكنه يفتح لنا أبواب الاحتمالات. ونحن في احتياج إلى تجديد المثل العليا، والالتزام بالناشئ والجديد بالتناغم مع الأخلاق الطبيعية وخلاصات العلم. وهو يقدم تقييماً لحالتنا يتسم بالبعد والعمق والحكمة. ونقده جذري ورؤيته إنسانية. إن كتاب ديفيد سبرينتزن "نقد الفلسفة الغربية والنظرية الاجتماعية" يرقى إلى مستوى اسمه. وسوف يكافأ أولئك الذين يختارون اتباع فكر هذا الفيلسوف الماهر للغاية. فكيف يمكن توظيف النظرية الاجتماعية المعاصرة في عملية مراجعة جذرية ونقد عقلاني للفلسفة العربية الاسلامية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

........................

المصدر

David Sprintzen, Critique of Western Philosophy and Social Theory Book © 2009

هل تراجعت اللغة كنسق نظامي مستقل في تعبيرها عن الوجود؟، وهل اصبحت جوهرا محايدا في فلسفة اللغة وتيارات فلاسفة التاويلية والتفكيكية والتحليلية في تعبير اللغة عن المعنى الدال وتراجعت مهمة التواصل المجتمعي الى مرتبة ثانوية في خلق عوالمها الموازية لعالم الواقع الحقيقي لا تقاطعه ولا تحتدم معه بصراع ولا تتلاشى فيه كتكوين تجديدي اضافي؟

هل تنازلت اللغة عن مهمتها في تحقيقها الإدراك الشيئي القائم على مطابقة الدال اللغوي مع المدلول الشيئي مطابقة تامة تجعل من المدركات الشيئية بديهيات معرفية لا تقبل التشكيك بها ولا تحتاج تجربة اثبات، بعدما إكتسبت تلك الاشياء البداهة الموجودية في مطابقة الدلالة اللغوية مع وجودها الشيئي زمكانيا.؟

فلسفة اللغة أدخلت مبحث اللغة في دوامة من المتناقضات التي إعتبرها فلاسفة اللغة وعلوم اللسانيات وفلاسفة مبدأ التحول اللغوي علي يد كل من فريجة ودي سوسير، وفلاسفة اللغة، ونظرية القراءة الجديدة وحفريات النص في تقصّي البحث عن فائض المعنى اللغوي.

المعنى غير المكتشف في ثنايا تداولية اللغة بمثابة محاولة عملية إنقاذ فاشلة لمباحث الفلسفة من تقليديتها الخاوية المفرغة في مرحلة الاحتضار والموت البطيء التي كانت تعانيه طيلة قرون طويلة في دورانها المتمركز حول الميتافيزيقا والمعرفة والوجود والطبيعة والعلاقات البينية بين تلك المباحث وغيرها. ما اقصده هنا هو تشخيص الاعتلال والمرض لا يعني إمكانية معالجة الشفاء منه كما حاولته تيارات ومدارس فلسفة اللغة والتحويل اللغوي بلوغه.

الحقيقة التي لا يمكن القفز من فوقها أن التيارات الفلسفية التي عمّت وسادت اوربا وامريكا بعد أفول نجم البنيوية التي رافقت بكل إمكاناتها طروحات مرحلة ما بعد الحداثة، لم تحقق الطموح الذي كانت تتوخاه من عملية التحول اللغوي وإعتماد علوم اللسانيات وفلسفة اللغة وما يتفرع عنها في محاولة إدخال فلسفة اللغة في كل مبحث فلسفي أو مبحث معرفي حتى وصل الحد تجاوزإدخال الفلسفة بعلوم الفيزياء الى إدخالها في علوم الرياضيات وباقي العلوم الطبيعية التي تمتلك خصائصها النوعية التي تقاطع منطق تجريد الفلسفة تماما. ليس في إختلاف شكلية التعبير اللغوي بين الفلسفة التي تعتمد اللغة الابجدية الصوتية، وبين العلوم الطبيعية التي يكون تعبيرها اللغوي هو علامات ورموز ما يسمى بالمعادلات الرياضية ونتاج التجربة المختبرية. إنما الإختلاف أبعد من ذلك حول إهتمامات ما يشغل التفكير العلمي في تقاطعه مع ما يشغل مباحث الفلسفة.

ولو نحن إستقصينا في جردة سريعة الإخفاقات التي رافقت فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات ولم تنجز اليسير مما كان يمّثل طموحا مرتجى صدر عنها وأعلنت هي عنه، فلا البنيوية ولا التاويلية ولا حتى نهايات الوجودية الحديثة، ولا التفكيكية، ولا العدمية ولا التحليلية المنطقية الانجليزية جميعهم منفردين ولا حتى متداخلين لم يتمكنوا من إسعاف بعضهم البعض ولا إستطاعوا إنجاز ما كانوا يأملونه من توظيفات فلسفة اللغة وعلوم اللغة واللسانيات بما لا يمكن حصره من مباحث وقضايا كانت فلسفة اللغة على الدوام توازيها ولا تتقاطع أو تتداخل معها حينما كانت غارقة في مثالية إعتماد مركزية اللغة هي الحل السحري لمشاكل وقضايا الفلسفة المستعصية أو التي اصبحت بمرور الوقت ميئوس منها..

أغلب المطلعين على مباحث فلسفة اللغة يدركون جيدا أن المبدأ العام في المنطق النظري الذي طرحته فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات كان في تمام المقبولية والإقرار بحقيقة أن معنى اللغة أضاع على مباحث الفلسفة الوصول الى مثابات إرتكاز تجديدية لم تتحقق عبر تاريخها الطويل وبقيت مباحث الفلسفة التقليدية تراوح مكانها إجترارا تقليديا لا معنى له بات مركونا بالظل في غياب توافر ملء الفراغ التجديدي له. وقالوا مشكلة الفلسفة اولا واخيرا مشكلة تعبير اللغة القاصر في خيانتها المعنى.

فلسفة اللغة حديثا شطرت مباحث الفلسفة شطرين: الاول أن مباحث فلسفة اللغة هي ليست الابحار العميق في تقليب صفحات تتوخى تصحيح نحو اللغة وقواعدها التركيبية لإعطاء كمال المعنى باللغة المجردة عن كل قصدية قبلية سابقة تروم وصولها. والثاني وجدوا في مباحث فلسفة اللغة أنها لم تكن غاية بذاتها بل وسيلة تصحيح مسارات مباحث الفلسفة الغارقة في مستنقعات الإعادة والتكرار في مواضيع تتوزعها مباحث الوجود ومباحث الابستمولوجيا والمعارف، ومباحث القيم الاخلاقية. لذا نجد أول من تنبّه تحاشي هذا المنزلق الخطير هو الفلسفة البنيوية التي ركنت مباحث فلسفة اللغة جانبا بعد أن كانت ألسبّاقة الاولى في فتحها فضاءات فلسفة اللغة والمعنى على يدي سوسير وشتراوس وبياجيه، كما وركنت مباحث الفلسفة التقليدية كالابستمولوجيا. ثانيا لتقوم بطرق أبواب مباحث فلسفية لم تكن ذات إهتمام عند الفلاسفة طيلة قرون، كما نجد ذلك عند فوكو والتوسير ولاكان ودي سوسير وليفي شتراوس وباشلار وهكذا في اشتغالهم على مباحث فلسفية لا علاقة ترابطية تداخلية لها مع مركزية فلسفة وعلوم اللغة.

أبدأ بسؤال: هل فلسفة اللغة أغنت مباحث الفلسفة القديمة والحديثة التي جاءت بها؟ أم عملت على تشتيت إهتمامات الفلسفة في السير وراء تجريدات من الاشتغال على بنية اللغة كنصوص تتداولها الفلسفة بما هي لغة تشكيل علاماتي يتكوّن من (صوت ومعنى) مرتكزه نظام يتألف من نحو وقواعد وصرف خاص باللغة شكلا لا محتوى؟

أم أن فلسفة اللغة فتحت أبوابا بحثية فلسفية كانت موصدة ولم تحقق المرجو المطلوب منها حيث أضحى تراشق تهم خيانة اللغة وبراءة الفكر في أولويات مداخل مباحث الفلسفة اللغوية التي أصبحت في متراكمها الكمّي والنوعي متاهات من التجريد الذي جعل من اللغة إنفصالا تاما عن كل ما هو جدير بالإهتمام في الحياة والانسان والعقل ناهيك عن العلم بكل تجليّاته.

هنا ربما يساء الفهم أننا نطالب أن تكون مباحث فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات ايديولوجيات تعبوية ملتزمة قضايا الانسان في حياته اليومية. من هذه النقطة الاخيرة نستعير كلمات بول ريكور في إدانتنا إنفصال اللغة عن الواقع الميداني، والمفارقة الغريبة هي أن بول ريكور هو الآخر كان يسبح في مغطس تضليل الفلسفة بإسم الإحتماء خلف فلسفة اللغة في تاويليته (الهورمنطيقا). لكنه ربما أراد ترقيع الفتق الفاصل بين اللغة والفلسفة بما أطلق عليه التاويلية أو الهورمنطيقا التي لم تغادر محكومية الإنقياد وراء فلسفة اللغة لها.

أمام حقيقة الاصطدام أن فلسفة اللغة أصبحت إنفصالا تاما عن التزامها التعبير عن الواقع الخارجي الحياتي للانسان، وصف بول ريكور فيلسوف التاويلية إدانته الفلسفة البنيوية التي خرج من تحت عباءتها قائلا ما معناه التفكير البنيوي النسقي في البنيوية كان يتخّبط في نمطيّة كليّة من التفكير في عالم اللغة الداخلي الذي يتخّطى جميع الاشتراطات المنهجية الذي ينشدها عالم الانسان الخارجي، عليه لم تعد اللغة بعدها توسيطا بين العقل والاشياء بل البحث عن تشكيل بنية عالم لغوي منفرد خاص باللغة وحدها.

. بهذه النظرة رفض بول ريكور الفكرة الأساسية التي كان دافع فينجشتين عنها بإلحاح حينما كان أحد اعضاء فلسفة المنطقية التحليلية حلقة اكسفورد في وجوب التعامل مع اللغة بوصفها صورة حياتية تنمو وتتطور من خلال طبيعتها المجتمعية، وفي وجوب جريان ينابيع اللغة في سريان دفق الحياة في سيرورتها الدائمية.

وكأنما كانت هذه الدعوة من فينجشتين هي تكفير عن ذنب إرتكبه وخرجت معالجته من بين يديه في كتيبه الصغير (مصنف منطقي فلسفي 1921). وحتى بول ريكور رغم إدانته الصحيحة للبنيوية فهو عجز عن إعطاء بديل عنها. بول ريكور في الهورمنطيقا سبق جميع التيارات الفلسفية السابقة عليه في رفضه إتجاهين فلسفيين رئيسيين أحدهما متمثلا بالفلسفة التي كانت تنادي في إصلاح معنى اللغة تمهيدا لإصلاح قضايا الفلسفة عامة في وضعها على سكة معالجتها قضايا فلسفية تكون فيها اللغة ليست بنية نسقية في تنظيم نفسها باستقلالية تامة عن عالم الانسان الخارجي.

والإتجاه الثاني أن اللغة كبنية تبني نفسها بنفسها كي لا تكون سلوكا نفسيا ولا نزوعا فطريا يسكن الفرد يتطور ذاتيا بمعزل أن يكون للمجتمع دورا تكامليا معه.، فأصبحت فلسفة اللغة لا علاقة لها مع وجوب معالجة قضايا إنسانية هي خارج تشكيل إستقلالية بناء نسق لغوي من التجريد لا يمكن تطبيقه ولو جزئيا على ضروب معرفية سوى ما جرى على مستوى نقد الادب كما فعل رولان بارت، وغيره من المتاثرين بفلسفة اللغة  قبل تفكيكية جاك دريدا ممن وجدوا في معالم التفكيكية وبعض موروثات البنيوية إمكانية أن تكون منهاجا تطبيقيا تجديديا في ضروب مناهج النقد الادبي كما فعل جيل ديلوز...

ربما يبدو مصادرة فكرية قولنا كان سعي بول ريكور تاسيس بنية لغوية هي إكتفاء لغوي ذاتي يقوم على إعتماد تطورات اللغة في مجمل التناقضات والاختلافات والفروقات القائمة داخل النظام اللغوي المستقل عن العالم الخارجي من منطلق كل شيء نجده باللغة... النسق اللغوي المكتفي ذاتيا الذي إخترعه ريكور ودريدا بفارق ليس جوهريا، هو خلق اغتراب لغوي إتعسّفي داخل نظام اللغة النسقي سيسيولوجيا ما جعل الفلسفة تدور في مناخات البحث عن التجديد الذي قفلته مباحث فلسفة اللغة الخالية من مضمونية شكل اللغة بما هي قواعد نحوية يكون البحث عن فائض المعنى هو المرتكز المتحول باستمرار في استرتيجية هدم نسق اللغة بما لا نهاية...

رغم أن البنيوية اشّرت وظيفة اللغة في فلسفة العقل ونظرية المعنى، أن وظيفة اللغة لم تعد تلك الوسيلة المعرفية لفهم الواقع والتعبير عن مشكلاته، وخرجت اللغة أن تكون وسيطا علائقيا بين الأفكار والاشياء. نجد بول ريكور شنّ هجوما على البنيوية من حيث أنها تعاملت مع اللغة خارج منطق اللغة في التعبير المستقل عن ذاتيتها كاداة توصيل المعنى بعيدا عن النسق البنيوي اللغوي المجرد المحكوم بضوابط واحكام اللغة. ولم يلبث ريكور ان سقط في المحذور الذي نبّه في ادانته استقلالية وتوازي اللغة مع الواقع والحياة والانسان.

فالبنيوية لم تحاول مسك تلابيب الواقع الخارجي وتوظيف نظرية المعنى في جعل علاقة اللغة بالواقع علاقة جدلية تخارجية معرفية مثمرة وليست منفصمة كما أرادت البنيوية وريكور ، ودريدا ذلك. البنيوية منذ بدايات دي سوسير عام 1905 لم تعمل على ترسيخ حيوية اللغة في ربطها بالواقع كما تبنّى فينجشتين هذا الطرح لاحقا قبيل وفاته، وكان تحذيره من انزلاق الفلسفة نحو انشاء بنيّة كليّة تجعل من اللغة اكتفاءا ذاتيا لا يؤثر بالواقع الخارجي ولا يتأثر به ويكون خطرا لم تتم معالجته.

ما عدا التماعات متناثرة تبنّاها جورج مور في دعوته من داخل الفلسفة المنطقية التحليلية الانجليزية الى أن يكون أصلاح قضايا الفلسفة إنما يكون في إصلاح نظام اللغة التي إنحرفت الفلسفة عموما به ودعا مور الى أهمية اللغة العادية المجتمعية في تطوير الفلسفة من جهة وتطوير مباحثها من جهة أخرى.

هذه الدعوة ذهبت أدراج الرياح في إصرار كلا من بيرتراند رسل أن تكون مباحث فلسفة اللغة تقوم على الرياضيات والمنطق حسب وصّية فريجة نصا وأقنع فينجشتين بذلك ايضا. وإهتمام راسل بمبحث الرياضيات بشكل استثنائي يوازي لابل يفوق إهتماماته الفلسفية والمنطقية ما جعله يتنقل في مؤلفاته من مبحث لآخرفي تنويعة بدت لبعض المهتمين بالفلسفة متناقضات فلسفية بالفكر وقع بها راسل . والى جانب ذلك برزت مدرستي التوليدية اللغوية الفطرية لدى نعوم جومسكي، وأخرى مناوئة لها أطلقت على نفسها فلسفة السلوك اللغوي اللفظي رائدها موريس سكينر، روادها ودعاتها هم الفلاسفة الاميركان حصرا نأتي على ذكرهم لاحقا .

طرح الباحث اللغوي عبد القادر البار تساؤلا هاما على صعيد إشكالية اللغة مع الفلسفة. قائلا: أين يوجد معنى اللغة؟ هل يوجد في أذهان البشر؟ أم يوجد في العالم الخارجي المشترك بينهم؟ وهل يمكن للمعنى أن يتكون وينمو خارج المكونات التقليدية الخاصة بما لا يمكن تجاوزه بسهولة ؟ نجد في محاولة فتح هذه المسالك الفلسفية أن نبدأ بالوعي كمفردة مفتاحية للدخول في معترك المداخلة فلسفيا مع اللغة ومنظومة العقل الادراكية بكل حلقاتها التي تبدا بالحواس وتنتهي بالقشرة الدماغية....

فالوعي يمكننا تصنيفه الحذر أنه حلقة في بايولوجيا منظومة العقل الادراكية ليست له ميزة فيزيائية غير تجريدية كما هو حال الفكر واللغة. والوعي الذي أصبح له فلسفة خاصة به. الوعي الذاتي أي تعبير ذهن الانسان عن مدركاته إنما يمتلك معان مستمدة من الاحساسات يمكن أن تكون إضافة نوعية تثري المعنى اللغوي في تعبيره.

في أغلب الاحيان لا يطابق معنى انطباعات الذهن معنى الموجود المادي في واقعه الاستقلالي، كون جوهر الذهن هوإنطباعات عشوائية خارجية  مصدرها الحواس وليس جوهر الذهن افكارا إكتسبت كامل اليقينية، فهل نلجأ الى تفعيل دور الوعي أن يكون وسطا بين المدرك المادي ومعنى التعبير اللغوي عنه؟

الوعي يتداخل جدليّا بينه وبين ما يمتلكه الذهن من معنى لم يأخذ حيّز التنفيذ الإفصاحي لغويا له، لذا يكون الوعي توسيط بين الذهن حامل الانطباعات المؤقتة، والمعنى الدلالي اللغوي عن الشيء المقصود. والوعي كما أشرنا هو خصيصة إدراكية ذاتية منفردة، بمعنى حينما نقول الوعي الجمعي أو الوعي المجتمعي فهذا لا يتحقق على صعيد التفكير المنفرد بل يتحقق على صعيد التوافق غير المعلن لمجموعة من الناس في التعبير عن قضية أو عن موضوع يجمعون عليه سواء أكان ماديا أو غير مادي معين.

وما يدركه الذهن من معنى هو إدراكات إنطباعية لتداعيات فارقته بسهولة. ألذهن ليس مستودعا لتخزين الانطباعات ولا حتى الافكار. والوعي لا يعمل في فراغ ولا يعّبر عن معنى غير قصدي يمكن التأكد منه. الذهن ليس ذاكرة من جهة، ولا هو عقل تفكيري ينوب عن العقل من جهة ثانية، واخيرا الذهن ليس مستودعا لتخزين الافكار فيه.

الوعي هو معنى لغوي وحلقة غير منظورة في منظومة العقل الإدراكية، هذه المنظومة الادراكية بعضها بايولوجي عضوي وظيفي مثل الحواس والجهاز العصبي ومحتويات تكوين الدماغ، وبعضها الآخر له مناطق عصبية مسؤولة عنه في القشرة الإمامية للدماغ، وهي في حقيقتها الإفصاحية بالدلالة إنما هي تعبيرات من الفهم الادراكي التجريدي مثل الاحساسات، الاحاسيس، الذهن، الذاكرة، المخيلة، الوعي، الادراك، الفكر، واللغة. والوعي لا يكون تعبيرا أفصاحيا ذاتيا عن اشياء خارجية مادية فقط وإنما الوعي يكون إستجابة إدراكية داخلية أيضا في التعبير عن النفس والعواطف والضمير والاخلاق والسلوك وغيرها.

الوعي مصطلح فلسفي تجريدي – بيولوجي الولادة غامض، والخوض في معتركه لا يسلم صاحبه من الأخطاء لكن مع هذا فالدراسات والابحاث الفلسفية العديدة بدأت التركيز على بسط الوعي كمبحث فلسفي يستحق الإهتمام الإستثنائي به.

ومنذ منتصف القرن العشرين حينما أصبحت فلسفة اللغة هي الفلسفة الاولى، نشأ الاهتمام الملتبس حول الوعي الفلسفي، وأكثر الفلاسفة إهتماما بالوعي هم الفلاسفة الاميركان المعاصرين يتقدمهم جون سيرل وريتشارد رورتي وسيلارز وكواين يسبقهم الانجليزي جلبرت رايل فيلسوف العقل...حين وجدوا في فلسفة العقل واللغة الارضية المناسبة للاهتمام بدراسة الوعي من الناحية الفلسفية إذ لم يروا مناسبا طغيان التحول اللغوي على مباحث الفلسفة في هيمنة الفلاسفة الفرنسيين على المشهد اوربيا ويبقى الفلاسفة الاميركان متفرجين، فعمدوا الى إستعارة مفهوم الوعي من عميد البراجماتية الامريكية وليم جيمس عالم النفس وفيلسوف الذرائعية الذي لخّص فهمه الوعي:

اولا الوعي يقوم على أساس أنه ليس جوهرا مستقلا بل هو وظيفة.

نزع صفة الجوهر عن الوعي في إعتباره وظيفة فقط لا يقلل من أهميته أنه حلقة إدراكية غير فيزيائية تعبر عن جوهر العقل الذي ليس هو ماهية مفكرة فقط، لذا فالوعي يستمد جوهره من العقل بإعتباره وظيفة ملحقة لا غنى للعقل عنها. فالوعي إفصاح ادراكي وسيلته التعبيرية الفكر واللغة.

رب تساؤل يقول مالفرق بين وظائف العقل والوعي والذهن والذاكرة، وهل بمكنة وإستطاعة الوعي الإنابة عن العقل بالوظيفة الإدراكية؟ لكي نجيب:

- الوعي لا يقوم بمهمة العقل التفكيرية بل هو الوسيلة لذلك.

- الوعي إستجابة ناقلة لردود أفعال العقل، وكذلك وظيفة ناقله لإنطباعات الذهن الى العقل.

- يشترك العقل والوعي بوسيلة الفكر واللغة في الافصاح التعبيري عن مدركاتهما.

- ما يدركه العقل يدركه الوعي بالضرورة، بفارق العقل جوهر كليّ والوعي جوهر وظيفي جزئي حلقة في منظومة العقل الادراكية.

- الصفة الثانية للوعي حسب وليم جيمس أن الوعي تجربة صرفة لا يمكن تجزئتها الى أفكار واشياء، والوعي ليس تجربة عقلية ولا طبيعية . وتعقيبنا عليه هو:

الوعي تجربة صرفة يمكن تجزئتها الى أفكار إدراكية لاشياء بإعتباره حلقة تابعة لمنظومة العقل الإدراكية. كل حلقة في منظومة العقل الادراكية هي جزء يمّثل نفسه بدلالة مرجعية العقل له، لكنه لا ينوب عن العقل في دلالة الادراك الكامل عن الاشياء منفردا.

الوعي هو فكر وإحساس عن شيء شأنه شأن ووظيفة كل حلقة إدراكية مرجعيتها العقل. وليم جيمس كونه عالم نفس وفيلسوف يريد أن يجعل الوعي إنطباع نفسي حين يصفه ليس تجربة عقلية ولا هو تجربة طبيعية.

لا يمكن الحكم على الوعي انه ليس تجربة عقلية ولا طبيعية وهو حلقة توسيط ادراكية للعقل. الوعي تجربة عقلية في مرجعية العقل له وليس هناك وعي يريد الافصاح عن ذاتيته من غير وصاية العقل عليه.نعت وليم جيمس الوعي انه ليس تجربة عقلية ولا طبيعية تعبير خاطيء بوضوح، فالوعي يستمد سمته العقلية من جوهر العقل الادراكي التفكيري الذي يرتبط به الوعي، ولا يمكن أن يكون للعقل مخرجات معرفية يصدرها العقل عن شيء لا يكون الوعي ناقلا لها.

قول وليم جيمس الوعي ليس تجربة طبيعية غير صحيحة، فالطبيعة وكل ما يدركه العقل يجري وفق تراتيبية نظامية طبيعية للعقل والوعي جزءا من العقل وليس طارئا منفصلا عنه. والوعي هو إدراك متعال على الطبيعة وليس ناتجا عنها بل عن الدماغ.كما هو شان العقل بعلاقته بالطبيعة هو جزء منها متعال بذكائه عنها..اذا إعتبرنا مع وليم جيمس الوعي ليس تجربة طبيعية بمعنى ليس تجربة فطرية مرتبطة بفطرية العقل الادراكي يحوزها الانسان كجزء من تكوين العقل في وظيفته غير الفيزيائية كون الوعي تجريد لغوي يحتوي الفكر التجريدي بينما العقل تجريد ناتج عن منظومة عضوية بايولوجية هي جزء من تكوين جسم الانسان تسمى العقل الوظيفي العضوي ومنظومة شبكة الاعصاب الناقلة والمستلمة للاحساسات والمثيرات خارج وداخل جسم الانسان...لا يشترط أن يكون ما هو طبيعي جزءا من الطبيعة ولا منقادا لها وهو ما ينطبق على الوعي كونه حلقة إستدلالية معرفية تطال كل موجود في الطبيعة ولا تكون جزءا منها.

***

- علي محمد اليوسف /الموصل

من الاساليب اعتمدها دائما هو اسلوب تحويل المقالة إلى بحث وفق المستقبل القريب، والحديث عن مقاربة بين برهان النفس الطائرة لابن سينا وتقنية الميتافيرس المعاصرة، يمكن أن يتحول إلى بحث في المستقبل.

‏وتكون أهمية هذه المقاربة للتاكيد على قوة وعمق الفلسفة الإسلامية، سيما ما تعلق بأفكار الفيلسوف العظيم ابن سينا.

ويمكننا أن نجد بعض أوجه التقارب الفلسفي بين الميتافيرس وبرهان النفس الطائرة لابن سينا، رغم اختلاف السياق التاريخي والفكري لكل منهما.

‏ان برهان النفس الطائرة يعد تنظيرا كبير الأهمية في الفكر الإسلامي، وهو يهدف إلى إثبات النفس الإنسانية، والبرهنة عليها ويهدف الى تحديد النفس البشرية ككيان مستقل عن الجسد.

‏ففي الوقت الذي يطلب ابن سينا من القارئ أن يتخيل إنسانًا خُلق فجأة مكتمل العقل والإدراك، معلقًا في الفراغ، معزولًا تمامًا عن أي إحساس جسدي (لا يرى، لا يسمع، لا يلمس، إلخ). لكنه بالرغم من غياب التواصل المادي مع العالم الخارجي، سيظل هذا الإنسان مدركًا لوجوده كذات مفكرة.

‏ولا أعلم كم هو الوقت الذي سيكشف لنا بشكل قاطع، من ان ديكارت استحوذ على هذه الفكرة، وقدمها في الكوجيتو بوصفها أحد اهم واجمل الأفكار الفلسفية على مر التاريخ الإنساني .

ان البرهان يركز على الوعي الذاتي كحقيقة أولى ومستقلة عن الجسد.

‏ولا شك من وجود تشابه بين الفكرتين، ولكن الأمر الآخر الأكثر مقاربة وتشابه، هو ذاك الذي يمكن مقارنته بين كل من برهان وحيلة الرجل الطائر وبين تقنية الميتافيرس .

وربما لا يشير مفهوم الميتافيرس بالمعنى الأوسع إلى العالم الافتراضي، بل قد تشير إلى الإنترنت ككل، بما في ذلك النطاق الكامل للواقع المعزز.

لان تقنية الميتافيرس تشير إلى عالم رقمي ثلاثي الأبعاد مترابط يحاكي الواقع ويساعد على التفاعل الاجتماعي والاقتصادي والترفيهي.

وكنت قد كتبت بحثا قبل سنوات عن مخاطر الامن الاجتماعي وفق انتشار الميتافيرس .

ويتكون الميتافرس من العديد من التقنيات مثل الواقع الافتراضي والواقع المعزز والذكاء الاصطناعي وتقنيات الويب وهو ليس نوعاً محدداً من التكنولوجيا لكنه مجموعة من التقنيات التي قادت البشرية إلى طريقة أفضل للتواصل والتعبير.

ويعود مصطلح الميتافيرس إلى ما قبل 31 عاماً عندما ابتكره الروائي نيل ستيفنسون عام 1992م في روايته «سنو كراش» التي تخيل فيها شخصيات افتراضية حية تلتقي في مبانٍ ثلاثية الأبعاد وغيرها من بيئات الواقع الافتراضي، وتتكون الكلمة من شقين الأول «meta» (بمعنى ما وراء أو الأكثر وصفاً) والثاني «Verse» (مُصَاغ من «Universe») وتفيد (ما وراء العالم). واعتمادًا على نفس الفكرة، يمكن للأشخاص من جميع أنحاء العالم أن يجتمعوا بشكل افتراضي لحضور حفل غنائي ما، تمامًا كما لو كانوا هناك.

اما مفهوم الواقع الافتراضي فانه يشير إلى تقنية تستخدم أنظمة الحواس، والهدف الاساسي فهو إنشاء العالم الرقمي المتكامل والذي يمكن أن يكون مكملًا للعالم الحقيقي للتفاعل الاجتماعي والاقتصادي، وكل ذلك ياتي لخلق بيئة افتراضية يمكن للمستخدمين التفاعل معها بشكل واقعي .

اما ما تعلق ببرهان الرجل الطائر لابن سينا فان البرهان يقوم على افتراض خلق الانسان دفعة واحدة، ثم طيرانه أو تعلقه في الهواء وتجرَّيده من المحسوسات والمعقولات، والنتيجة انه يستطع هذا الرجل أن يشعر بأي شيء من أعضائه الداخلية أو الخارجية، ولا يراها... لهذا سيظل يشعر ويعرف نفسه ولن يغفل عن ذاته. من ثم اعتمد ابن سينا على كل تلك البراهين التي تبرهن على وجود النفس، وبالفعل استطاع أن يستدل على وجودها وأقر بأنها مغايرة للجسم، فهي تستطيع البقاء من دون جسد، ولكنها مع ذلك في كل الأحوال لا توجد قبل الجسد بل هي تولد معه وتستمر، وبسبب عدم ارتباطها بالجسم واستطاعتها أن توجد منفصلة عن الجسد، فان كل ذلك جعلها تستطيع البقاء من دون الجسد بعد فنائه، وأرجأ طرق المعرفة في النفس إلى الإدراك والحواس الخمس.

ويلاحظ ان الوعي كجوهر مستقل: في كل من برهان ابن سينا وتقنية الميتافيرس، يمكنه أن يوجد بمعزل عن الجسد المادي.

اما الإدراك الداخلي والذي سيكون مقابل الإدراك الحسي: فكلاهما يعتمد على فكرة أن إدراك الذات لا يتطلب بالضرورة إدراكًا حسيًا مباشرًا بالعالم الخارجي.

كما ان الانفصال عن الجسد وفق تجربة الميتافيرس قد تتيح للإنسان تجربة التحرر من قيود الجسد المادي، وهو مفهوم يقارب فكرة ابن سينا عن النفس المستقلة.

لكن لاباس بايراد بعض الانتقادات حول هذا الموضوع، فالغاية الفلسفية لبرهان ابن سينا هو برهان فلسفي ميتافيزيقي يسعى لإثبات طبيعة النفس وخلودها، بينما الميتافيرس يشكل بيئة تقنية وتجريبية لا تهدف مباشرة إلى استكشاف قضايا فلسفية.

كما ان الوسيلة لبرهان ابن سينا تعتمد على التخيل العقلي البحت، بينما الميتافيرس يعتمد على تكنولوجيا متقدمة لتوليد تجارب حسية رقمية.

مع هذا يمكنا القول ان هناك تشابهًا عميقًا في الفكرة الجوهرية المتعلقة بإمكانية فصل الوعي عن التجربة الجسدية المباشرة. الميتافيرس يتيح نوعًا من برهان الرجل الطائر الحديث من خلال تكنولوجيا تجعل الإنسان يدرك ذاته في سياق مختلف عن جسده المادي. لكن في النهاية، يبقى برهان ابن سينا طرحًا فلسفيًا خالصًا، بينما الميتافيرس هو تطبيق تكنولوجي مع انعكاسات فلسفية محتملة.

***

ا. د. رحيم محمد الساعدي

نجري بمناسبة عيد الميلاد مونولوجا تقييميا حول عام 2024 من خلال معالجة مجموعة القضايا والمشاكل والازمات بطرح الأسئلة والاستفسارات والانتظارات والتوقعات الفكرية للسنة المقبلة 2025. لقد كان العام المنقضي عام التقدم التكنولوجي المتسارع وزمن التفكك الامبراطوري الامبريالي بامتياز ولكنه أيضا عام الحروب المدمرة وصعود اقصى اليمين المحافظ وتراجع اليسار والمبادئ الكونية والتنازلات القيمية المؤلمة.

1.ماهو أهم سؤال تقييمي يمكن ان يلخص مفهوميا ما جرى من أحداث حاسمة في سنة 2024؟

ما وقع في عام 2024 من أحداث تكنولوجية هامة وتغييرات سياسية حاسمة في المعمورة عامة وفي الوطن العربي بالخصوص قد يعجز الفكر الفلسفي المعاصر عن العثور عن المفاهيم المناسبة التي يمكنها التعبير عنها وقراءة التواريخ وصياغة التصورات. وذلك لأن هذه التغييرات مدمرة وكارثية ولأن الأحداث تبدو مرعبة ومزلزلة لكل المرجيعيات والأنساق ومنها ماهو طبيعي مناخي ومنها ماهو سياسي اقتصادي ومنها ماهو تاريخي ثقافي. وبالرغم من تزايد الحروب وتفاقمها في العالم والوطن العربي وفلسطين الجريحة الا أن الأزمة الصحية والتهديد البيئي والتغيرات المناخية وتراجع الموارد الغذائية والمائية والطاقوية للدول هو الذي يطرح نفسه بقوة على المشهد الاعلامي ويستدعي النقد والتأمل والتدبر. يبدو أننا في طور مغادرة زمن العولمة بعدما اكتوينا بنار توحشنا وفي اتجاه دخول عصر ميتا الحداثة البعدية ولقد شاركت بعض الباحثيين الايكولوجيين في التوصيف بأن البشرية تحيا في زمن الأنثربوسين.فكيف ستؤثر الفلسفة على التطور التكنولوجي بحيث تساعد البشرية على الرد على ظاهرة الأنثربوسين؟

2.عما يتساءل الفلاسفة اليوم؟

الفلسفة هي دراسة الوجود والمعرفة والقيم والعقل واللغة. بعبارة أخرى، إنها الاستكشاف الأكاديمي للأسئلة الكبرى في الحياة. إنها تخصص يمكن تطبيقه على أي مجال أو موضوع ويساعد في تطوير مهارات التفكير النقدي. الفلسفة هي واحدة من أقدم التخصصات في العالم، ويمكن تتبع تاريخها إلى اليونان القديمة. لا تزال أعمال أفلاطون وأرسطو، تُدرس وتُقرأ حتى اليوم. كان للفلسفة تأثير كبير على العديد من مجالات الحياة والمهن بما في ذلك الحقوق والفنون والعلوم والسياسة. ماهو متعارف عليه هو خوض الفلاسفة في مشاكل المعرفة بحثا عن الحقيقة واليقين ودراستهم للقيم ومعايير السلوك البشري ولكننا نراهم اليوم يعودون الى طرح قضايا تتعلق بمعنى الوجود في العالم ومستقبل الحياة على الكوكب وجعلوا من الطبيعة محور اهتمام متجدد في اتجاه مضاد للتصحر والتجمد ومن الصحة مجال للتنقيب الأركيولوجي والتشريح الطبي ومن الرقمي حقل استثمار ودعاية وترويج. لقد أصبحت مهمة الفلاسفة اليوم هي استكشاف الحياة الطيبة في ظل ما يعانيه الناس اليوم من شقاء الوعي وتعاسة الضمير وتراجيديا الفعل وآلام الجسد والشح المائي وندرة الغذاء والدواء وقلة الموارد الطبيعية. فما الذي يشكل حياة طيبة لسكان الارض على أية حال؟ و لماذا "يجب علينا أن نتخيل سيزيف سعيدًا" ؟

لقد كان ألبرت كامي يعتقد أن كل واحد من بني البشر يشبه سيزيف، حيث لا شيء مما يفعله أي منا له أهمية جوهرية، لأن الحياة ببساطة لا تحمل أي معنى جوهري. فنحن جميعًا نتدحرج وندحرج الصخور على تلالنا الخاصة. ومع ذلك، يمكننا اختيار إعطاء معنى لما نفعله. ففي نهاية المطاف، بالنسبة للوجوديين، نحن نقرر ما الذي نقدره، لذا عندما نلقي بأنفسنا في مهمة، تصبح مليئة بالمعنى -المعنى الذي نعطيه لها. كما تساعدنا الفلسفة على فهم الذات والعالم والغير وتعلمنا كيفية التشكيك في افتراضاتنا المسبقة. يعتبر الكثيرون بعض الأشياء أمرًا مسلمًا به دون التساؤل عن سبب إيماننا بها. من خلال استكشاف كيفية تشكيل الأفكار والمعتقدات وكيفية تطور هذا عبر التاريخ، يمكننا أن نبدأ في فهم إطار معتقداتنا الدينية وقناعاتنا المشتركة ونظرتنا المالوفة للعالم. قد تبدو الفلسفة نظريات مجردة، لكنها في الواقع ليست كذلك. ستساعد الناس على التساؤل وإيجاد إجابات وتوسيع الفكر والعالم. إن حالات العالم التي نعتبرها أمرًا مسلمًا به ليست واضحة عندما يتم التعمق فيها. بشكل عام، نعتقد أنها تساعدنا على التفكير خارج الصندوق وعدم جعلنا عالقًين في نفس الصور النمطية. كما يمكن للفلسفة أيضًا أن توفر إطارًا لاتخاذ القرارات الأخلاقية واستكشاف الأسئلة المهمة حول الحياة والموت والمعنى والغرض وتعمل على تطوير مهارات التفكير المنطقي والمجرد، والتي تعد ضرورية للنجاح في أي مجال. كما تساعد الفلسفة على معرفة كيف يجب أن تكون مواطنًا صالحا في هذا العالم المليء بالفساد وأن تعرف المسؤوليات وان تكون لديك العديد من الخيارات الأخلاقية وعلى اثراء الحياة الداخلية والعلاقات الاجتماعية.

3.ماهو الدور الذي تضطلع به التكنولوجيا في تغيير نمط حياة الإنسان واعادة تشكيل العالم؟

طلب روبرت نوزيك في كتابه "الفوضى والدولة واليوتوبيا" (1974) أن نتخيل أن العلماء طوروا الابتكار النهائي في الواقع الافتراضي، والمعروف باسم آلة التجربة. تسمح لك الآلة بالحصول على أي تجربة تريدها، طالما أردت - لمدة ساعة، أو يوم، أو عامين، أو حتى لبقية حياتك، ربما. سيرتاح جسدك بشكل مريح، تحت رعاية الممرضات، ويتغذى من خلال أنابيب التغذية. وفي الوقت نفسه، سيختبر عقلك أفضل ما يمكن أن يقدمه خيالك. يمكنك تحقيق الشهرة والثروة التي طالما أردتها، أو علاج السرطان، أو تسلق الجبال ببطولة - أيًا كان اختيارك. ولكن نوزيك يرتب الموقف بحيث تنسى أنك متصل بالآلة، وأن المحاكاة مكتملة إلى الحد الذي يجعلك تقتنع أثناء وجودك فيها بأن هذه التجارب تحدث بالفعل. وسوف تشعر بأن كل شيء حقيقي مثل التجارب التي تعيشها الآن، ولن يكون هناك أي وسيلة لمعرفة أنك في محاكاة. بعد ذلك يمنحك نوزيك خيارًا بين حياة كاملة داخل الآلة أو حياة خارجها. وقد رتب التجربة الفكرية بهذه الطريقة ليسأل عما إذا كانت المتعة هي الشيء الوحيد الذي نرغب فيه حقًا، لأنه أثناء وجود الشخص داخل الآلة يمكن أن يستمتع بقدر ما يتخيله من المتعة. ولكن نوزيك نفسه لم يكن مهتمًا بدخول الآلة مدى الحياة، وكان يعتقد أن معظمنا لن يهتم أيضًا، فقط لأن التجارب التي تمنحنا إياها لا تتوافق مع الواقع. لذا، على الرغم من أنك قد تشعر وكأنك تعيش علاقات ذات مغزى داخل الآلة، إلا أنك في العالم الحقيقي، مستلقٍ على سرير وتعيش تجارب محاكاة للوجود مع أشخاص غير موجودين. ولقد خلص نوزيك إلى أن الحقيقة هي أيضًا قيمة بالنسبة لنا لا يمكن استبدالها بالمتعة. إذا كان التأثير الفعلي على العالم الحقيقي مهمًا بالنسبة لك، فهذا شيء لن تتمكن آلة التجربة من منحه لك. إذا كنت من أتباع مبدأ اللذة - الشخص الذي يعتقد أن "الخير" يساوي "المتعة" - فإن مجرد الحصول على أي تجارب ممتعة ترغب فيها هو ما تريده أكثر من أي شيء آخر. في هذه الحالة، قد يكون من الصعب أن ترى سببًا لعدم دخولك إلى آلة التجربة. بعد كل شيء، ستسمح لك بتجربة أشياء لم يكن من الممكن أن تجربها أبدًا لولا ذلك. يجب التأكيد على الحاجة الملحة للأخلاقيات في صناعة التكنولوجيا ومع تزايد حضور التكنولوجيا في كل مجالات حياتنا وتجاوزها لحدود جديدة، فإنها تفرض العديد من المعضلات الأخلاقية الجديدة التي لا يمكننا حلها بدون الفلسفة. كما تتزايد المخاوف بشأن الحريات الشخصية والخصوصية والأخلاق والأسس التي تقوم عليها الاختراعات المستقبلية، وربما تكون الفلسفة هي التخصص الوحيد الذي يمكنه التعامل مع هذه المخاوف. في المشهد التكنولوجي الحالي، فإن الأسئلة الوحيدة التي تُطرح عند النظر في الابتكارات هي - هل هذا ممكن؟ وهل هو مربح؟ إن الأسئلة الأخلاقية غير موجودة، والقيود الوحيدة قانونية. وفي حين تفشل الأطر القانونية في معظم البلدان في مواكبة الابتكار التكنولوجي، فإن شركات التكنولوجيا تحتاج إلى القدرة على النظر إلى الداخل وتقييم المبررات - أو عدم وجودها - لمشاريعها. هذا هو السبب في أن المفكرين الرائدين يوصون شركات التكنولوجيا بتوظيف الفلاسفة لطرح الأسئلة الأخلاقية - وليس فقط الأسئلة التقنية والاقتصادية التي يستشيرون فيها الخبراء. ليس من المستبعد أن نعتقد أن شركات التكنولوجيا الكبرى قد ترغب في توظيف الفلاسفة في السنوات القادمة. لقد أصبحت أفضل الكليات على دراية بكيفية تغلغل التكنولوجيا في كل مجال في العالم المعاصر. وبناءً على ذلك، بدأت أفضل الكليات في دمج دورات التكنولوجيا لإعداد خريجيها للعالم الرقمي. في حين قد يعتقد الكثيرون في صناعة التكنولوجيا أن التكنولوجيا محايدة أو حتى حتمية، فإن الحقيقة هي أن علاقات القوة في المجتمع والسياق الثقافي تشكل التكنولوجيا، تمامًا المجتمع. وهذا يستلزم التفكير النقدي حول التكنولوجيا من جهة التشكل والتبعات. تؤكد النظرية النقدية للتكنولوجيا على إمكانية وجود تكوينات تكنولوجية أخرى تتوافق مع المبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية من خلال النظر في الجوانب الاجتماعية والسياسية للتكنولوجيا. تمنح أفضل الكليات منظورًا شاملاً حول الترابطات بين السياسة والاقتصاد والتاريخ والثقافة وتأثيرها الجماعي على التكنولوجيا.

4. كيف يعد الفيلسوف باحثا عن القيمة والمعنى في الثقافة وحارسا للعقلانية والمشروعية؟

في الفلسفة، غالبًا ما تقودنا الأسئلة غير المحلولة إلى إعادة التفكير في فهمنا للمجهول. هل يمكن لهذه الأسئلة نفسها أن تثير شعورًا أعمق بالدهشة وهل هذه هي القيمة النهائية التي تجلبها؟ تركز أبحاث الفلاسفة على الاعتراف بالجهل وتوسع رغبة الفضول ودور التساؤل في الفكر العقلاني المشروع. إن الفلاسفة يحبون أن يروا أنفسهم مفكرين ناقدين محايدين. ولكنهم قد ينجرفون في أفكارهم إلى حد الهوس بفكرة فلسفية أو عمل فلسفي. إن الفلسفة تولد في الدهشة، ولكن النظريات الفلسفية يمكن أن تصبح هي نفسها مصدراً للدهشة. وهي تفعل ذلك من خلال مساعدتنا على رؤية العالم وما كنا نعتقد أننا نعرفه بعيون مختلفة. فهي تمنحنا شعوراً بالأولوية: أي رؤية المألوف على أنه عجيب أو غريب، وكأننا نواجهه لأول مرة. ونحصل على هذا الشعور بالأولوية في المواقف الدنيوية، مثل عندما تبدو كلمة شائعة فجأة غريبة، أو عندما يبدو مشهد عادي فجأة غريباً. ويزرع بعض الفلاسفة هذا الشعور بالأولوية من خلال تشجيعنا على التفكير في غرابة المواقف التي نادراً ما نتوقف فيها للتأمل. ورغم أن الأفكار التي تثير اهتمام الفلاسفة لا تحرم عامة الناس من النوم في كثير من الأحيان، فإن كل فرد، بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية أو التعليم، يمر بلحظات من التأمل الهادئ والتعجب. ويتساءل فلاسفة آخرون عن الأعراف الاجتماعية. ورغم أن أعرافنا ومؤسساتنا تبدو وكأنها ثابتة، فإنها في الواقع ليست كذلك، ولدينا القدرة على تغييرها. ونرى هذا بوضوح في الفلسفة المعاصرة للنوع والعرق، ولكن أيضا في الأعمال القديمة. تُعلِّم الفلسفة التفكير النقدي من خلال تشجيع العقول على التشكيك في كل ما يتم تعليمهم إياها. ويتم تشجيع الناس على تطوير معتقداتهم الخاصة والتفكير بأنفسهم. هذه مهارة قيمة، خاصة في عالم أصبح من الصعب فيه التمييز بين الحقيقة والخيال. كما تُعلِّم الفلسفة كيفية الجدال بفعالية. وهذا مهم، لأنها تسمح للبشر بالدفاع عن معتقداتهم ضد الحجج المعارضة ويساعدهم على فهم آراء الآخرين بشكل أفضل. كما تتضمن الفلسفة بعض المهارات ذات القيمة الأعلى التي يكتسبها الناس معهم، على غرار مهارات الكتابة وفهم القراءة والتحدث والتعلم النشط والتعليم والتفكير النقدي وحل المشكلات المعقدة والفطنة الاجتماعية والحكمة الإيتيقية والتدبير الايكولوجي.

5. إلى أي حد يمكن اعتبار براغماتية الفلسفة الفردانية التملكية في مجتمعاتنا مشكلا حقيقيا؟

هناك انتشار لنزعة براغماتية فجة مبنية على ابيقورية حسية مضافا اليها نزعة حسية نفعية تفضي الى انتشار مشاعر انانية متمحورة حول الشخصية الفردانية ومنتشرة نرجسيا على الصعيد الواقع الاجتماعي. لكن الفلسفة مهمة للأعمال التقليدية والانشطة المتعلقة بالتمويل والإدارة وتعتبر وسيلة رائعة للنظر في المشاكل التي قد تؤثر على الشركات في المستقبل، مثل: القضايا الأخلاقية مثل المواطنة المؤسساتية أو ممارسات العمل غير العادلة. سوف تحتاج البشرية إلى رؤية سريعة للقضايا المعقدة، وتجميع الحجج المقنعة لصالح التملك الخاص أو ضد المقترحات المقدمة، وتصفية المعلومات ذات الصلة من غير ذات الصلة، والتحقق من اتساق وسلامة أوراق السياسات الاقتصادية، وتحديد المشاكل الحاسمة وتحديد القضايا التي لا تزال غير مفهومة بشكل جيد. كما أن الأسئلة المتعلقة بالتكنولوجيا، مثل ما إذا كان ينبغي السماح بالأتمتة لأنها يمكن أن تحل محل العمال البشريين بسهولة أكبر بكثير من ذي قبل. مع استمرار النمو في التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي، نشهد قلقًا متزايدًا بشأن دور وأخلاقيات استخدام التكنولوجيا. لذلك، من المتوقع أن تنمو مجالات مثل أخلاقيات الذكاء الاصطناعي وقانون حقوق النشر والتمويل. في السنوات الأخيرة، كان هناك اتجاه متزايد لتطبيق التفكير الفلسفي في مجال الأعمال. فليس من النادر أن تدعو الشركات العالمية الفلاسفة، ويتم تقديم خدمات مبتكرة باستمرار في جميع أنحاء العالم من قبل الأفراد الذين درسوا الفلسفة. غالبًا ما يُنظر إلى الفلسفة على أنها مثال شائع لـ "التخصصات الأكاديمية غير العملية"، فلماذا تجتذب هذه الانشغالات الآن اهتمامًا كبيرًا في مجال المال وعالم الأعمال؟ إن الاستشارات الفلسفية هي محاولة لتطبيق المعرفة والفكر الفلسفي المتخصص في إدارة الأعمال والتنظيم، والتي اكتسبت بالفعل بعض الزخم في المجتمع الصناعي المتقدم. أثناء البحث في العديد من الشركات، تمت ملاحظة أن العديد منها عانت من قضايا مثل الافتقار إلى الوضوح في الأهداف المتوسطة إلى الطويلة الأجل وعدم اليقين بشأن كيفية تحسين المشاريع الحالية. إن المنهج النموذجي للتعامل مع هذه القضايا ينطوي بشكل عام على أنشطة مثل جمع الموظفين لتبادل الأفكار أو إجراء أبحاث تسويقية ونمذجة المنتجات بما يتماشى مع الاتجاهات. ولكن الاعتماد فقط على منهج عشوائي أو تكرار العصف الذهني والتجربة والخطأ العشوائي، يمكن أن يؤدي في النهاية إلى استنزاف الأموال والأفكار والمواهب. وعلاوة على ذلك، فإن الرضا عن الأفكار المؤقتة يعيق في كثير من الأحيان استكشاف القيمة الجوهرية، مما يجعل من الصعب خلق قيمة تدعم الأهداف المتوسطة إلى الطويلة الأجل. لنأخذ الأعمال التجارية كمثال. تخيل أن هناك بالفعل وفرة من المنتجات في العالم، وكل ما يحتاجه الناس متاح بسهولة. لم تعد الفكرة التقليدية القائلة بأن الأعمال التجارية تزدهر من خلال تلبية الطلب بالعرض قابلة للتطبيق. ومع ذلك، لا يزال يتعين علينا الاستمرار في بيع المنتجات من أجل العمل. في مثل هذه الحالة، ماذا ينبغي لنا أن نفعل؟ إذا كنت صاحب عمل، فقد تجيب بالقول إننا يجب أن نجري أبحاث تسويقية، ونحلل البيانات لفهم الاتجاهات، ونستثمر أكثر في العلاقات العامة. ومع ذلك، فإن العملاء لديهم بالفعل ما يريدون. وحتى لو تمكنا من الاستحواذ على حصة السوق من المنافسين، فهناك قيود على توسيع المبيعات. في مثل هذا السيناريو، ليس لدينا خيار سوى خلق وبيع قيمة جديدة. في الواقع، تدرك معظم الشركات بالفعل الحاجة إلى القيام بذلك. من المحتمل أن يكون الموظفون قد سمعوا مرارًا وتكرارًا من الإدارة أن التحدي الجديد للشركة هو خلق القيمة وأن الابتكار هو المطلوب. ومع ذلك، لماذا يكافحون لتحقيق هذا؟ قد يكون ذلك لأنهم لا يسعون حقًا إلى جوهر الأشياء. لهذا السبب أعتقد أن الانضباط الفلسفي يمكن أن يكون مهمًا. لذلك تساعد الفلسفة على الابتكار الاقتصادي وفي السنوات الأخيرة، كانت هناك جهود عديدة، سواء على المستوى المحلي أو الدولي، لربط الفلسفة بالأعمال التجارية. وعلى وجه الخصوص، لا يمكن تجاهل الرابط بين شركات تكنولوجيا المعلومات في العالم المتقدم والفلسفة. ومن المعروف أن المؤسس المشارك لإنستغرام مايك كريجر ورائد الأعمال ريد هوفمان، المعروف عن لينكد إن، درسا الفلسفة في المؤسسات الأكاديمية. لقد أكملا بشكل خاص برنامج الأنظمة الرمزية في جامعة ستانفورد. في هذا البرنامج، يتم تعيين الفلسفة كدورة أساسية إلى جانب علوم الكمبيوتر. لقد نجح رواد الأعمال في مجال تكنولوجيا المعلومات الذين لديهم خلفية في الفلسفة في إنشاء منصات تشرك مئات الملايين من المستخدمين عبر الدول والثقافات. لا يوجد عدد قليل من الشركات التي توظف الفلاسفة. ومن الأمثلة البارزة على ذلك شركة أبل، التي وظفت الفيلسوف السياسي جوشوا كوهين كفيلسوف داخلي. لم يتم الكشف رسميًا عن الطبيعة المحددة لدور كوهين، لكن الشركة تسعى إلى مبادرات مبتكرة يمكن أن تقلب أسس المجتمع وتنطوي على تطوير منصات جديدة تدعم المجتمع ككل. إنني أتصور أنهم استأجروا كوهين، المعروف بمناقشاته حول الديمقراطية التداولية وصنع القرار العام، للتنبؤ بكيفية تحقيق هذه المبادرات داخل الأنظمة السياسية، وتأثيرها المحتمل، وعمق اختراقها للتسلسلات الهرمية المجتمعية. كما توفر الفلسفة رؤى حول منهجيات الإدارة التنظيمية. على سبيل المثال، كشف عالم الإدارة إيكوجيرو نوناكا، المعروف بأبي إدارة المعرفة، أن نموذجه الخاص لعملية خلق المعرفة التنظيمية استوحى إلهامًا كبيرًا من مفهوم "التفاعل بين الأشخاص" في الفينومينولوجيا الهوسرلية، والتي تركز على تجربة وإدراك أحاسيس الذات والآخرين، فضلاً عن مفهوم "المعرفة الضمنية" الذي حدده الفيلسوف العلمي مايكل بولاني. قال بولاني: "يمكننا أن نعرف أكثر مما نستطيع أن نقول". ومع ذلك، لا يمكن التعبير عن الكثير من هذه المعرفة بالكلمات. على سبيل المثال، عندما تعلم طفلاً كيفية ركوب الدراجة، فمن السهل أن تقول له لفظياً: "امسك بمقود الدراجة بقوة واضغط على الدواسة للحفاظ على التوازن"، ولكن الإحساس الفعلي بالتوازن أثناء الحركة لا يُفهَم إلا من خلال التجارب الداخلية غير اللفظية للطفل. وليس من السهل نقل هذه المعرفة الضمنية إلى الآخرين. ففي عالم الأعمال، يمكن اعتبار المعرفة الفردية غير المعبر عنها، مثل تقنيات المبيعات الفريدة التي يتقنها مندوبو المبيعات ذوو الأداء العالي وحالة الآلات في المصنع التي لا يستطيع سوى مدير الإنتاج في الموقع أن يدركها، معرفة ضمنية. ويكمن التحدي في كيفية تجميع وتحويل الخبرات الحسية والذاتية وغير اللفظية للفرد إلى معرفة مدونة داخل منظمة الشركة. وفي استكشاف وممارسة هذا التحدي، تثبت الفلسفة وعلم الإدارة بالتأكيد ترابطهما. لذا فان الفلسفة مجال متعدد التخصصات و يُعتقد أيضًا أن شركة بيونتيك ، وهي شركة ألمانية للتكنولوجيا الحيوية اكتسبت شهرة واسعة لتطوير لقاح كوفيد-19 ، تدمج الفلسفة في قراراتها التجارية. مؤسسا الشركة هما أوزليم توريجي وأوغور شاهين، زوجان عالمان في الطب. في حين أن إنجازات كارل بوبر واسعة النطاق، يبدو أن ما أثر على شاهين هو موقفه من العقلانية النقدية. باختصار، يشير هذا المنظور إلى أنه لا توجد نظرية مثالية، وأن العلم ينطوي على الاستماع إلى انتقادات مختلفة وإجراء تصحيحات للاقتراب من الحقيقة. لقد زعم بوبر أن الفرضيات أو التكهنات الصحيحة والخاطئة يمكن أن تقربنا من الحقيقة، خطوة بخطوة، من خلال عملية الإشارة إلى أخطائها. "لقد صرح قائلاً: "إن دحض نظرية ما - أي الحل المؤقت لمشكلتنا - هو دائمًا خطوة إلى الأمام تقربنا من الحقيقة. وهذه هي الطريقة التي يمكننا بها التعلم من أخطائنا". في خضم الوباء العاجل في عام 2020، تواصل شاهين وآخرون مع شركة الأدوية العملاقة فايزر لبدء التعاون. لقد تبادلوا فرضيات جريئة مع الباحثين، واختبروا نظريات مختلفة، ونجحوا في تطوير لقاح جديد. في عالم اليوم، حيث تزداد الحاجة إلى التعاون بين الصناعات والمجالات بشكل متزايد، يبدو أن أهمية الموقف البوبري في ازدياد في مجال الأعمال. إن الفلسفة، في الأساس، تتعمق في جوهر موضوعاتها، سواء كانت أشياء أو نظريات، وتوضح الأسس التي تدعم مجالات مختلفة. لذلك، بطبيعتها، تمتد الفلسفة عبر مجالات متعددة. وبينما تم تكرار مصطلحات مثل "التعددية التخصصية" و"إعادة هيكلة التخصصات الأكاديمية"، فإن الفلسفة لا غنى عنها لربط ودمج مجالات الدراسة المختلفة، والواقع أن العديد من الدراسات متعددة التخصصات تنطوي على الفلاسفة. وهذا بارز بشكل خاص في أوروبا والولايات المتحدة، حيث يتخصص المشرف الأكاديمي في كل من الفيزياء الفلكية النظرية والفلسفة. وهناك العديد من الأفراد الذين تابعوا دراسات في مجالات متعددة التخصصات، بما في ذلك الفلسفة، لمعالجة القضايا المجتمعية المعقدة.ومن الأمثلة التي حظيت باهتمام دولي في السنوات الأخيرة ألينا بويكس، التي لعبت دورًا حاسمًا في الاستجابة لجائحة كوفيد-19 بصفتها رئيسة المجلس الألماني للأخلاقيات. وقبل تولي دور جلب المعرفة المتخصصة مثل نماذج العدوى والأخلاقيات الطبية لعامة الناس، حصلت في الأصل على درجة الدكتوراه في الطب ثم قدمت لاحقًا أطروحة تأهيل في الفلسفة. من خلال عبور مجالات متعددة، لا يتكيف الشخص مع تعقيد الأحداث فحسب، بل يكتشف أيضًا بشكل غير متوقع وجهات نظر جديدة. وفي الوقت نفسه، يمكن أن يؤدي هذا المنهج إلى إعادة تقييم القضايا المعاصرة في سياق المعرفة البشرية المتراكمة على مدى أكثر من ألفي عام أو حتى التقدم البشري بأكمله. يمكن أن تكون القيمة الناتجة عن الفلسفة عالمية كونية، وتتجاوز المناطق والعصور  الخاصة بها. لذلك، قد يكون من المفيد التخلص من المفهوم الخاطئ بأن الفلسفة غامضة وغير عملية، واستكشافها بدلاً من ذلك كتخصص أكاديمي يمكن تطبيقه لتحديد التحديات في مجال الأعمال.

6. كيف تكون فيلسوفا في العلم والتقنية وفي ذات الوقت تكون عالما وتقنيا في الفلسفة؟

يتناول الفيلسوف بالتحليل والنقد الحالة الحرجة التي تعيشها الفلسفة اليوم من خلال النظر في جانبين من جوانبها: الطريقة التي تمارس بها الفلسفة في الوقت الحاضر على نحو أكثر تقليدية (الاحترافية والتخصص المتزايدين) والتحديات الجديدة التي يتعين عليها مواجهتها لمواكبة السياق العلمي والثقافي والاجتماعي المتغير بشكل عام. ولكنه يسلط الضوء في ذات الوقت على بعض آفاق التقدم في ضوء ما يمكن اعتباره حتى الآن المهام المناسبة للبحث الفلسفي. ويتم تحديد مثل هذه المهام من خلال مسح تاريخي للشخصيات الأصلية للفلسفة وتقييم دوافعها النظرية. كما يتم التأكيد على أهمية تاريخ الفلسفة وضرورة تحقيق علاقة فاضلة بين التخصصات الفلسفية المختلفة لمقارنة مخاطر التخصص والاحتراف المفرطين.

اذا تم طرح السؤال "ماذا يمكن للمرء أن يفعل بالفلسفة؟" فإن مارتن هيدجر أقر بأن "عدم جدوى" الفلسفة يشكل جزءاً حميماً من طبيعتها، وأن المساهمة الفريدة والقوية التي قدمتها الفلسفة للحياة البشرية تكمن على وجه التحديد في عدم جدواها. ومع وضع أفكار هيدجر حول الفلسفة في الاعتبار، فسوف نعود إلى سؤال استخدام الفلسفة في محاولة لإظهار السبب الذي يجعل المطالبة بإثبات فائدة كل شيء تنتهي إلى إفقار مؤسف للحياة. إن السؤال حول ما يمكن للمرء أن يفعله بالفلسفة يُفهَم عادة من حيث تطبيقات مهنية محددة. ويسعى السؤال إلى معرفة نوع العمل الذي يمكن أن تقود إليه الفلسفة. ومن غير المستغرب أن تميل الإجابات على هذا السؤال إلى التوافق مع نفس التوقعات، مع تحديد فرص العمل والمهن التي يستعد لها احباء الفلسفة. وهناك منهج آخر مرتبط بهذا السؤال يركز على المهارات الفكرية التي تتطور في دراسة الفلسفة، مثل القدرة على الكتابة، وتحليل المشاكل، وبناء وتنظيم الحجج. فالفلسفة تقود المرء إلى تقدير أهمية الأسئلة؛ وتشجعه على التفكير بنفسه؛ وتعزز القدرة على فهم المشاكل من وجهات نظر متنوعة وعلى عدد من المستويات المختلفة. ويزعم هذا المنهج أن المهارات المكتسبة من خلال دراسة الفلسفة قيمة وقابلة للنقل. وهناك وجهة نظر أخرى تزعم أن الفلسفة، سواء كانت "تصنع الكثير من الخبز" من حيث إعداد الوظائف أو الحياة المهنية، تستخدم في المساهمة التي تقدمها للطريقة التي يعيش بها الإنسان حياته. إن ما يستطيع الإنسان أن يفعله بالفلسفة هو أن يعيش حياة إنسانية أكثر إثارة للاهتمام. وتعترف هذه الاستجابة بأن سبل عيش الإنسان، بالرغم من أهميتها، ليست المقياس الأساسي لمدى فائدته. لقد كان الفلاسفة منذ أمد بعيد هدفاً للنكات، من أريستوفان إلى رورتي، حيث صوروا الفلاسفة باعتبارهم مروجين لما هو عديم الفائدة. والخلاصة التي توصلت إليها هي أن النكات أصابت هدفاً حقيقياً للغاية. ولكن ما تغفله الفكاهة هو التفكير المتعمق في الأسباب التي تجعل عدم جدوى الفلسفة جزءاً من طبيعتها، ولماذا يشكل عدم الفائدة أهمية كبيرة في حياة الإنسان. إن الفلسفة حركة من الدهشة، ورغم أن هذا لا ينتج نتائج ومنتجات ملموسة مباشرة، فإنه يبقي البشر أحياء باعتبارهم مخلوقات من الممكنات والتساؤلات. وربما لا يؤدي الدفاع عن "عدم الفائدة" إلى دفع كثيرين إلى التخصص في الفلسفة؛ ولكن أملي أن يشجع هذا قِلة من الآخرين على اغتنام الفرصة الفلسفية عندما يسمعون السؤال التالي: "ماذا يمكنك أن تفعل بالفلسفة على أي حال؟". على هذا النحو لا تقف الفلسفة لتغيير العالم فحسب؛ بل قد تغير مسار حياة الذات ومعنى وجودها في العالم وعلاقاتها بالأغيار. إنها صناعة بشرية فكرية ذات قوة بقاء وإمكانيات غير عادية. بينما يُنسب إليها غالبًا تشكيل الحضارات العريقة ووضع أسس الثقافات العلمية، ولا يزال تأثيرها محسوسًا حتى اليوم، لكن لماذا تظل الفلسفة مهمة لنا جميعا في الأزمنة المستقبلية؟

7. ماهي مكانة الصحة والحياة في الاهتمام الإيتيقي الراهن بالأزمات الحدية والتداعيات الكارثية؟

للوهلة الأولى، قد تبدو الفلسفة والصحة وكأنهما مجالان غير مرتبطين. فالفلسفة غالباً ما تدرس الأسئلة المجردة والنظرية والمنطقية، وتبني حججاً تبدو منفصلة عن الاهتمامات اليومية لمعظم الناس، في حين يتعامل مجال الصحة والاستشارة مع الذاتية، أي تفاصيل الحياة اليومية. وعلى وجه الخصوص، تهتم الاستشارة بتنفيذ العلاجات القائمة على الأدلة والتي تم تخصيصها لتلبية الاحتياجات الفعلية للفرد. وبهذه الطريقة، تكون الاستشارة عملية للغاية وواقعية. ومع ذلك، فإن العلاقة بين هذين المجالين متشابكة أكثر مما قد يتصور المرء في البداية. ما أقترحه هو أن الفلسفة يمكن أن تفيد الصحة وتعزز الرفاهية. إن عملية التأمل في تجارب المرء، وهي جانب أساسي من الفلسفة العملية، تشكل أهمية بالغة للصحة. وتمكن الممارسات التأملية الأفراد من اكتساب نظرة ثاقبة لأفكارهم ومشاعرهم وسلوكياتهم، مما يسهل النمو الشخصي والتنظيم العاطفي. وترتبط هذه القدرة التأملية بممارسات اليقظة الذهنية، التي ثبت أنها تقلل من أعراض القلق والاكتئاب. علاوة على ذلك، فإن العلاج السردي، الذي ينطوي على استكشاف وإعادة تأليف القصص الشخصية، يعتمد على الأفكار الفلسفية حول الهوية والمعنى. ومن خلال فحص السرديات التي يعيشون بها، يمكن للفاعلين إعادة تشكيل فهمهم لأنفسهم وظروفهم، مما يؤدي إلى تغييرات إيجابية في صحتهم. باختصار، فإن الفلسفة والصحة مترابطتان بشكل عميق. وتقدم الحكمة العملية المستمدة من التأمل الفلسفي رؤى خصبة وأدوات قيمة للتنقل بين تحديات الحياة. من خلال دمج المفاهيم الفلسفية في الاستشارة، يمكن للأفراد اكتساب فهم أعمق لأنفسهم وتجاربهم، مما يعزز من صحتهم. ومع استمرار البحث في استكشاف التقاطعات بين هذه المجالات، أصبحت فوائد الفلسفة للصحة واضحة بشكل متزايد.

8. كيف أدى الحرص على تحويل الطبيعة إلى مجموعة أدوات إلى الفقدان المستمر للغايات؟

إن العلم- التقنية يشكل أحد أهم العناصر في حياتنا اليوم. فنحن نعتمد عليه بشكل كبير لأسباب شخصية ومهنية. ولكن العلم لا يستطيع أن يخبرنا ما الذي يجعل شيئاً ما صحيحاً أو خاطئاً. وفي جوهره، فإن الفلسفة العلمية التقنية هي السعي إلى معرفة ما هو صحيح ومفيد، وما يعنيه أن نعيش حياة ذات معنى وذات قيمة. وهذا أمر محظور على العلم- التقنية، لأنه يستطيع أن يخبرنا كيف تسير الأمور تجريبياً، ولكنه لا يستطيع أن يصف لنا كيف ينبغي لنا أن نعيش بشكل أحسن. وباختصار: يساعدنا العلم- التقنية على العيش لفترة أطول، في حين تساعد الفلسفة العلمية التقنية غالبية الانسانية على العيش بشكل أفضل. إن ممارسة التأمل الفلسفي ليست مهمة فقط للتقدم في البحث العلمي، بل إنها ضرورية للتنقل بنجاح في عالم تجذبنا فيه المسؤوليات والمعلومات والقوى المتنافسة في اتجاهات مختلفة. وهذا بالضبط ما فهمه الرسام وصانع المطبوعات الإسباني فرانسيسكو غويا عندما أنتج نقشه الشهير "نوم العقل ينتج وحوشًا"،. في تحليله لنقش غويا، يلاحظ الفيلسوف المعاصر سيمون بلاكبيرن في كتابه "فكر" أن "هناك دائمًا أشخاصًا يخبروننا بما نريده، وكيف سيوفرونه لنا، وما يجب أن نؤمن به"، ويتابع بقوة: "إن المعتقدات معدية، ويمكن للناس أن يجعلوا الآخرين مقتنعين بأي شيء تقريبًا. نحن عادة على استعداد للاعتقاد بأن طرقنا ومعتقداتنا وأدياننا وسياساتنا أفضل من طرقهم ومعتقداتهم وأديانهم وسياساتنا، أو أن الحقوق التي منحنا إياها الله تتفوق على حقوقهم أو أن مصالحنا تتطلب ضربات دفاعية أو استباقية ضدهم. في النهاية، الأفكار هي التي يقتل الناس من أجلها بعضهم البعض". إن الأفكار التي تدور حول ماهية الآخرين، أو من نحن، أو ما تتطلبه مصالحنا أو حقوقنا، هي التي تدفعنا إلى خوض الحروب، أو قمع الآخرين بضمير مرتاح، أو حتى الرضوخ في بعض الأحيان لقمع الآخرين لنا. ومع كل هذا الخطر، لابد من مواجهة هروب العقل لوقف الانتشار الخطير للمعلومات المضللة. إن التأمل الفكري يمكّننا من التراجع خطوة إلى الوراء، واليقظة تبلور رؤية وجهة نظرنا في أي موقف على أنها ربما تكون مشوهة أو عمياء، أو على الأقل لنرى ما إذا كان هناك حجة لتفضيل طرقنا، أو ما إذا كانت مجرد حجة ذاتية. ومن خلال نشر التفكير النقدي وصرامة الفلسفة، نصبح أقل عرضة للخداع أو الانجراف وراء أولئك الذين يشوهون تفكيرنا ـ عن قصد أو عن غير قصد. لذلك تتمتع الفلسفة بالقوة التحويلية التي تتمتع بها العلم التقنية. فإلى جانب توضيح المعرفة، فإن أعظم فلسفة ــ مثل أعظم العلوم ــ تتمتع بقوة تفسيرية هائلة قادرة على تحويل نظرتنا إلى العالم. فكما تطعن نظرية النسبية لألبرت أينشتاين في مفهومنا اليومي عن الزمن، فإن تشريح فريدريك نيتشه للأخلاق يتحدى مفاهيمنا اليومية عن "الخير" و"الشر"، كما يتحدى تحليل جون لوك للألوان فكرتنا ذاتها عما إذا كان الإدراك حقيقة أم لا، وتساعدنا تأملات لوكريتيوس الخالدة في الموت على التعامل مع فناءنا. إن العالم غير مؤكد، وتكمن قيمة الفلسفة على وجه التحديد في مواجهة هذا عدم اليقين ــ وفي إيجاد موطئ قدم للمعرفة والتقدم على الرغم منه. وكما يلخص برتراند راسل لأسباب أهمية الفلسفة: "إن الفلسفة يجب أن تُدرَس ليس من أجل أي إجابات محددة لأسئلتها، لأن أي إجابات محددة لا يمكن، كقاعدة عامة، أن تكون صحيحة، بل من أجل الأسئلة نفسها؛ لأن هذه الأسئلة توسع مفهومنا لما هو ممكن، وتثري خيالنا الفكري وتقلل من الثقة العقائدية التي تغلق العقل ضد التكهنات؛ ولكن قبل كل شيء لأن العقل، من خلال عظمة الكون التي تتأملها الفلسفة، يصبح عظيماً أيضاً، ويصبح قادراً على ذلك الاتحاد مع الكون الذي يشكل خيره الأسمى".

9. اذا كانت الآلة يمكن أن تحل محل الدماغ البشري في التفكير فماهي الرهانات الانثربولوجية من اعتماد الذكاء الاصطناعي؟

" الخيال المهجور بسبب العقل ينتج وحوشًا مستحيلة" غويا

إن الكثير من المخاوف والشكوك التي نشعر بها في حياتنا، بدءاً من التساؤل عما إذا كانت وظائفنا تمنحنا المعنى الذي نحتاج إليه، إلى عدم القدرة على تقبل الموت، كلها مشاكل فلسفية في الأساس. ولقد واجه الفلاسفة هذه المشاكل وقدموا لها أفكاراً عميقة للغاية لآلاف السنين. إن الانخراط بشكل نقدي في الحكمة الدائمة للفلسفة هو وسيلة رائعة لتثقيف أنفسنا بشأن المشاكل المتأصلة في الحالة الإنسانية، وكذلك مواجهة تلك المشاكل وتهدئة مخاوفنا وقلقنا الوجودي. من خلال الانخراط في أفكار المفكرين العظماء عبر التاريخ، نصبح قادرين على التفكير بأنفسنا - سواء كان ذلك في مسائل المعنى والوجود، أو كيفية صنع عالم أفضل، أو ببساطة معرفة ما يستحق السعي إليه في الحياة. طالما إن الحياة غير المدروسة لا تستحق أن نعيشها. فان التأمل الفلسفي هو البندقية التي تنطلق بنا من خوض الحياة وكأننا نمر فقط بالحركات، أو نعيش وفقًا لتوقعات الآخرين، أو نعيش وفقًا للمعايير التي لم نفكر فيها حقًا، ناهيك عن تأييدها. كما تفتح الفلسفة أعيننا على الطرق العديدة التي يمكننا أن نقضي بها حياتنا، وتولد التسامح تجاه أولئك الذين تختلف ممارساتهم عن ممارساتنا، وتوقظ دهشة الطفل وتقديره للغموض الهائل والفرصة الكامنة في قلب الوجود. الآن، قد يعتقد البعض أن بعض الأسئلة التي تتطرق إليها الفلسفة، مثل الطبيعة الأساسية للكون، أو ظهور الوعي، قد حلت محلها موضوعات علمية أكثر تخصصا. على سبيل المثال، يقف علماء الفيزياء في طليعة التحقيق في الطبيعة الأساسية للواقع. وعلى نحو مماثل، يقود علماء الأعصاب الطريق في الكشف عن أسرار الدماغ. ولكن الفلسفة ليست هنا للتنافس مع هذه المشاريع البحثية الرائعة، بل لتكملتها وتوضيحها وحتى توحيدها. على سبيل المثال، عندما يشارك علماء الفيزياء أحدث نماذجهم الرياضية التي تتنبأ بسلوك المادة، يسأل الفلاسفة، "حسنًا، إذن ماذا يخبرنا هذا السلوك عن الطبيعة الجوهرية للمادة نفسها؟ ما هي المادة؟ هل هي النزعة المادية، هل هي مظهر من مظاهر الوعي؟ - ولماذا يوجد أي من هذه الأشياء في المقام الأول؟" وبالمثل، عندما يحرز علماء الأعصاب تقدمًا في رسم خريطة الدماغ، يكون الفلاسفة على استعداد لاستيعاب العواقب التي تخلفها أحدث الأبحاث على مفاهيمنا للوعي والإرادة الحرة. وعلى نفس القدر من الأهمية، بينما يواصل علماء الكمبيوتر تطوير الذكاء الاصطناعي، يناقش الفلاسفة الآثار المترتبة على ذكاء الآلة المتنامي على المجتمع، ويشرحون المخاوف الأخلاقية والمعنوية الملحة المصاحبة له. مع تركيزها على الحجة والوضوح، تتمتع الفلسفة بقدرة خاصة على استئصال الافتراضات والتناقضات التي تكمن في صميم التفكير السليم، وتشحذ رؤيتنا للحقيقة، وإضفاء الأمن على أسس المعرفة في جميع مجالات البحث - وخاصة العلوم، التي تعمل كما تفعل على حدود ما نعرفه حول التكنولوجيا. لقد أصبحت التكنولوجيا موضوع اهتمام متزايد من جانب الفلاسفة. إن التأمل الفلسفي في التكنولوجيا يعرض مجموعة واسعة ومحيرة في بعض الأحيان من الأساليب البحثية وأساليب التفكير. يتم تسليط الضوء على تطور ثلاث مدارس في فلسفة التكنولوجيا. بناءً على المقدمات الشاملة لفكر كارل ماركس ومارتن هيدجر وجون ديوي حول التكنولوجيا، يمكن تقديم تاريخ التقنية وسرد متعمق للطريقة التي استجاب بها المفكرون في المدارس النقدية والفينومينولوجية والبراجماتية للقضايا والتحديات التي أثارتها أعمال مؤسسي هذه المدارس. إن التكنولوجيا في أي جانب تقريبًا من جوانب الحياة البشرية هي موضوع محتمل للمعالجة الفلسفية. بالإضافة إلى الفلاسفة الذين يسعون إلى هيكلة قيمة  لمجال لا يزال مزدهرًا، فإن المبحث مثير للاهتمام لأولئك الذين يعملون في الفلسفة التعليمية والتصميم الحسي للقيمة.

10. كيف يمكن أن نستشرف أحوال الحضارة الكونية والتداعيات الجارية في سنة 2025؟

" ليس الأمر أننا لدينا وقت قصير لنعيشه، بل إننا نضيع الكثير منه. فالحياة طويلة بما فيه الكفاية، وقد أعطينا قدراً سخياً كافياً لتحقيق أعلى الإنجازات إذا استثمرناها بشكل جيد." الرواقي سينيكا

يتراوح عمل الفلسفة اليوم بين صرخات الإنذار وآفاق التقدم وبين الاقدام على المخاطرة والتسلح بالأمل. فلماذا يتم اعتبار الفلسفة مهمة اليوم، وكيف يمكنها تحسين الحياة الانسانية على الكوكب الفائض بسكانه؟

تضمن الفلسفة بشكل أساسي التفكير الجاد في أسئلة الحياة الكبرى، بما في ذلك - كما ناقشنا ماهية الفلسفة، وكيف تعمل، بالإضافة إلى فروعها الأساسية - لماذا نحن هنا، وكيف يمكننا معرفة أي شيء عن العالم، وما هي الغاية من حياتنا. نحن نؤمن أن ممارسة الفلسفة التطبيقية هي الترياق لعالم مشبع بالمعلومات المفيدة والمعارف النافعة، وكلما زاد انخراط الناس في التجارب الهادفة، كلما كانت حياتهم أكثر إشباعًا. إن الطبيعة الإدمانية للعالم الرقمي، كمثال، تصيب الكثيرين منا. فالسيل المستمر من المعلومات يملأ مدى انتباهنا. ولكن الحياة محدودة، والأشياء التي نوليها اهتمامنا تحدد حياتنا. ومن الأهمية بمكان أن نتحرر من التيار المضطرب ونخرج للتنفس. إن خدمات البث المباشر تجعلنا نتابع حلقة أخرى، وأولئك منا الذين لديهم هواتف ذكية يفحصونها دون تفكير؛ ولكن الإكراه على المشاهدة، والتسوق، وتحديث موجزات الأخبار الخاصة بنا ــ كل هذا يمكن كبح جماحه من خلال التأمل في العالم من حولنا، ومكاننا داخله. فكيف يمكننا أن نقضي حياتنا على الأرض بأفضل شكل؟ ما الذي يحقق لنا السعادة؟ أليس الهدف الذي نرسمه؟ كيف ستؤثر الفلسفة على التطور التكنولوجي؟ وما هو العمل الفلسفي الذي يجب عليك القيام به إذا كنت تريد التأثير على معدل التطور التكنولوجي؟ إن هذه الأسئلة مرتبطة بأسئلة أكثر جوهرية. مثل: أي نوع من العمل الفلسفي ينبغي القيام به على الإطلاق؟ إذا كنت تريد التأثير بشكل إيجابي على العالم، فما نوع العمل الفلسفي الذي ينبغي لك القيام به؟ فما هو برنامج البحث الذي سيؤثر بعمق على مسار الحضارة؟ هناك اهتمام في نهاية المطاف بأسئلة وجودية مصيرية. ولكن إحدى الطرق لإحراز تقدم في هذه الأسئلة هي طرح أسئلة وصفية، وترك الأسئلة المعيارية جانبًا. بطبيعة الحال، هناك عمل مهم من الواضح أن الفلاسفة يقومون به بخلاف التأثير على معدل التطور التكنولوجي وفرملة العلم والوعظ الاخلاقي والارشاد السياسي. يتعلق الامر بإعطاء أمثلة للفلسفة المؤثرة، ثم التكهن بنوع العمل الأكثر وعدًا. إنني أعني بالتأثير أنه لابد وأن تكون هناك علاقة سببية بين العمل الفلسفي نفسه والتغيير في التكنولوجيا. إن السلاسل السببية للتطور التكنولوجي معقدة وتخمينية، ولكن لكي يكون شيء ما مؤثراً، فلابد وأن نكون على ثقة معقولة من أنه لعب دوراً غير تافه في السلسلة. ولاحظ أنه لابد وأن تكون هناك رؤى مستمدة من العمل الفلسفي نفسه، وليس اعتبارات أخرى تلعب الدور السببي. أقصد بالفلسفة نوع الفلسفة التي تحل المشاكل الوصفية. ولا أتحدث عن هذه الأنواع من الفلسفة: الفلسفة الأدائية، حيث يكون الهدف من الفلسفة هو طرح الأسئلة أو التعبير عن بعض الجماليات والفلسفة التاريخية والفلسفة الأخلاقية. الفلسفة هي شريك كل تخصص فكري جاد. وتظهر عندما يكون هناك ما يكفي من المعرفة حول مجال ما لجعل التقدم الجديد ممكناً، حتى وإن ظل هذا التقدم غير محقق لأن هناك حاجة إلى أساليب جديدة. يقدم الفلاسفة مفاهيم جديدة وتفسيرات جديدة وأسئلة أعيد تصورها لتوسيع مساحات الحل. توفر الفلسفة الأسس المفاهيمية للمعرفة النظرية. يمكنك التأثير على معدل النمو في اتجاهين: أسرع أو أبطأ. أعني بالتكنولوجيا الأشياء التي تأخذنا من القطع الأثرية والعمليات، من أجهزة الكمبيوتر واللقاحات والمجاهر والقنابل والمزيد. أنا لا أتحدث عن "التقنيات الاجتماعية" أو "التقنيات الثقافية"، مثل التصميمات المؤسسية أو إجراءات اتخاذ القرار الجماعي مثل الشركات والديمقراطية. أعني بالتنمية التغيير التكنولوجي. لا يجب أن يكون التغيير للأفضل، على الرغم من أنه سيكون أفضل إذا كان كذلك! فماهي الفلسفة المؤثرة؟ لقد أثرت بعض برامج البحث الفلسفية على معدل التطور التكنولوجي. ومن غير الواضح مدى تأثيرها، ولكنني  نحن على ثقة من أن بعض الأعمال الفلسفية كانت مهمة. وسنقدم ثلاثة أمثلة: الحوسبة، والاحتمالات، والفلسفة التنبؤية. الحوسبة لقد شارك العديد من الأشخاص في إنشاء أجهزة الكمبيوتر الحديثة. باباج، ولوفليس، وتورينج، وفون نيومان، والعديد غيرهم. والنص المؤسس لهندسة أجهزة الكمبيوتر الحديثة هو "المسودة الأولى " الذي كتبها فون نيومان وفريق تصميمه. ومع ذلك، فقد تم التأكيد على أن فون نيومان "أكد أن المفهوم الأساسي كان لتورينج". إن آلة تورينج التي ابتكرها آلان تورينج هي في الأساس تحليل مفاهيمي للحوسبة. ما هي الحوسبة؟ "تعتبر المشكلة الرياضية قابلة للحساب إذا كان من الممكن حلها من حيث المبدأ بواسطة جهاز حاسوبي". إن ما فعله تورينج هو أنه قدم لنا تجريدًا مفيدًا لجهاز الحوسبة. وبالإضافة إلى كونه نجاحًا فلسفيًا، فقد لعب هذا دورًا غير تافه في تطوير أجهزة الكمبيوتر. من غير الواضح إلى أي مدى لعب هذا النوع من العمل دورًا. ربما كان ذلك بسبب تسريع تطوير أجهزة الكمبيوتر لبضعة أيام فقط. وربما لم يتأثر فون نيومان نفسه بعمل تورينج. ومع ذلك، لاحظ أن المياه الفكرية التي تنفسها تورينج وفون نيومان وغيرهما كانت تتكون من أعمال من تقليد فلسفي ثري يعود إلى باسكال، بما في ذلك فريجه وجودل وهيلبرت. ومن المرجح أن النتائج التراكمية لهذا التقليد الفكري سرّعت تطوير أجهزة الكمبيوتر لسنوات، وربما حتى قرون. ولكن الأمر ليس واضحًا. فبالنسبة للعديد من الاختراعات، مثل حساب التفاضل والتكامل، يبدو أن المخترعين ربما سرّعوا التطوير لبضعة أعوام فقط، وربما أقل. ولكن هناك العديد من القطع الأثرية التي استغرق اختراعها قدراً مذهلاً من الوقت ــ وهو ما يشير إلى أن الاختراع والاكتشاف الفكري عادة ما يكونان صعبين للغاية وأن البشرية قد تمر قرون دون اكتشاف شيء سوف يتم تدريسه في نهاية المطاف للأطفال في سن ما قبل المدرسة من الأجيال القادمة. وبالعودة إلى الحوسبة، قد يعارض شخص ما هذا العمل ويقترح أنه ليس فلسفة، بل منطق أو علم حاسوب. وهذا الاعتراض دلالي، ولكنه يستحق المعالجة. أولاً، إن عمل تورينج يتجسد في التعريف السابق للفلسفة. فقد أجرى تورينج تحليلاً مفاهيمياً للحوسبة. والتحليل المفاهيمي هو الأساس الذي يقوم عليه ما يقوم به الفلاسفة. وثانياً، إنه قريب إلى حد كبير مما يقوم به الكثير من الفلاسفة المتخصصين في المنطق. وبطبيعة الحال، قد يعترض المرء بأن ما يقومون به ليس فلسفة أيضاً، ولكن في هذه المرحلة يصبح هذا الاعتراض دلالياً للغاية.

 اما الاحتمالية لقد أثر مفهومنا للاحتمالية على العديد من البرامج الفكرية، والأسواق المالية، والنماذج العلمية، والذكاء الاصطناعي. لقد كانت مهمة لعدد من المجالات، سواء من حيث وضع المعايير المعرفية، أو من حيث إثبات فائدتها للعمل نفسه، كما هو الحال في الذكاء الاصطناعي وعلم الأعصاب. في أوائل القرن التاسع عشر، طبق فرانك رامزي الاحتمالية على السؤال حول ما يلزم لكي تكون معتقدات الفاعل عقلانية وناجعة. لقد أثر تحليله على كيفية نمذجتنا للفاعلين في الاقتصاد وعلم النفس وعلوم الكمبيوتر حيث يقترب العمل على الحوسبة من المنطق، يقترب العمل الفلسفي في الاحتمالية من الرياضيات.

اما الفلسفة التنبؤية، فيمكن للمرء أن يؤثر على معدل التطور التكنولوجي من خلال الفلسفة التنبؤية. عمل حول الذكاء الفائق، هو نموذج لهذا. في عام 1997 كتب نيك بوستروم ورقة بحثية بعنوان "تنبؤات من الفلسفة؟ كيف يمكن للفلاسفة أن يجعلوا أنفسهم مفيدين؟". في هذه الورقة، يزعم أن هناك دورًا للفيلسوف الموسوعي. أي شخص يمكنه الجمع بين أعمال من عدد من المجالات، مثل الفلسفة والاقتصاد والفيزياء وعلم النفس والرياضيات والمزيد. في هذا المقال، يسلط بوستروم الضوء على الأنثروبولوجيا، ومفارقة فيرمي، والذكاء الفائق، والتطور البشري، والتحميل، وعلم الكونيات كمجالات للبحث الفلسفي المحتمل - المجالات التي عمل فيها منذ كتابة تلك الورقة. قال ويلفريد سيلارز: إن هدف الفلسفة، إذا ما صيغ على نحو تجريدي، هو فهم كيفية ترابط الأشياء بالمعنى الأوسع الممكن للمصطلح. وبشكل تقريبي، فإن هدف الفلسفة التنبؤية هو فهم كيفية ترابط الأشياء بالمعنى الأضيق للمصطلح، ومن أجل التوصل إلى تنبؤات مفيدة. ويمكنك أيضاً أن تفكر في هذا النوع من الفلسفة باعتباره "فلسفة عامة" أو "فلسفة متعددة المعارف"، ولكنني أفضل مصطلح الفلسفة التنبؤية لأنه يقول المزيد عن المنهجية. ورغم أنه يقترب من الجانب المعياري للأشياء، فإن كتاب توبي أورد "الهاوية" هو مثال حديث ممتاز لهذا العمل. ويهتم أورد بالمخاطر الوجودية التي تهدد البشرية. وهنا سؤال: ما هو احتمال تدمير الحضارة الإنسانية بسبب خطر الانقراض الطبيعي؟ قد يبدو هذا للوهلة الأولى سؤالاً تجريبياً بحتاً، وليس شيئاً قد يكون الفلاسفة مؤهلين للإجابة عليه. إن هذا المنظور يتجاهل حقيقة مفادها أن هناك الكثير من عدم اليقين هنا والأسئلة غير التافهة حول كيفية تقييم الاحتمال. هل تنظر إلى معدل انقراض الأنواع مثلنا؟ هل تشمل فقط الانقراضات الجماعية أم أن انقراض أي نوع مثلنا يجب أن يساهم في المعدل؟ هل تستنتج المعدل من حقيقة أننا لم ننقرض بعد؟ بطريقة ما، أرى هذا العمل مشابهًا للعمل الفلسفي حول احتمال وجود الله. المدخلات التجريبية مهمة للغاية (الحقائق حول الضبط الدقيق للكون على سبيل المثال)، ولكن هناك الكثير من عدم اليقين لدرجة أن الكثير من هذه القضايا تعتمد كثيرًا على المناقشات حول كيفية تحديد المسبقات، والمنطق حول الأنثروبولوجيا، وطبيعة الاحتمال والتفسير. لكي أكون واضحًا، أنا أتحدث عن العمل الاحتمالي من قبل أشخاص مثل سوينبورن وأوبي، وليس الحجج الوجودية. ليس من قبيل المصادفة تمامًا أن جون ليزلي كان مهتمًا بكل من المخاطر الوجودية وعلم الكونيات والمناظرات الدينية التقليدية. ان الفلسفة الواعدة هذه هي أنواع العمل الفلسفي الذي ينبغي أن ترغب في القيام به إذا كنت تريد التأثير على مسار التطور التكنولوجي: الفلسفة الصورية والفلسفة التنبؤية أمثلة الحساب والاحتمالية هي أمثلة للفلسفة المهمة. الذكاء الفائق، والهاوية، ونهاية العالم هي أمثلة للفلسفة التنبؤية. سأقول المزيد عن المنهجية واختيار المجال لهذين النوعين من الفلسفة. الفلسفة الصورية مع الصياغات، يكون العمل فلسفيًا بشكل أكثر وضوحًا. على الرغم من أنه كان يميل، ومن المرجح أن يستمر، على حدود المنطقية والرياضية والمفاهيمية. عندما ينجح الفلاسفة في صياغة مفهوم ما، فإن هذه الصياغات تساهم أحيانًا بشكل مباشر في تطوير التكنولوجيا أو قد تساهم بشكل غير مباشر من خلال تحسين قدراتنا المعرفية . هناك شيئان أهتم بهما هنا: المنهجية واختيار المجال. تعتمد المنهجية على أمثلة الحساب والاحتمالات. غالبًا ما تبدو الفلسفة هنا أكثر شبهاً بالرياضيات والمنطق وعلوم الكمبيوتر مما قد اعتاد عليه بعض الفلاسفة. ومن غير المستغرب أن يكون مجال الفلسفة الذي يقترب بشكل وثيق من هذا النمط من الفلسفة في الوقت الحالي هو نظرية المعرفة الصورية. الأساليب الصورية ليست كافية، بل يحتاج المرء إلى اختيار المجالات الواعدة. ما تقوم بإضفاء الطابع الصوري عليه مهم. لن يؤثر جزء كبير من نظرية المعرفة الصورية على تطوير التكنولوجيا ، لأنها تهدف إلى الإجابة على أسئلة لن تحدث إجاباتها أي فرق في المجالات الأخرى. هناك بعض السمات التي تميز هذا النوع من الفلسفة ومجالاتها والتي تزيد من احتمالية نجاح العمل: الرياضي أو المنطقي. وتشير السجلات التاريخية إلى أن هذا العمل أكثر أهمية للتطور التكنولوجي. يجيب العمل على الأسئلة الأساسية في مجال تاريخي معين. ويمكننا أن نتخيل رسمًا بيانيًا للمفاهيم، ويريد الفلاسفة تحليل المفاهيم الأكثر حداثة. يركز العمل على المشكلة. فإذا عرفنا الإجابة على سؤال أو كانت لدينا فكرة دقيقة عن مفهوم معين، فسوف يكون ذلك مفيدًا لحل المشكلات غير الفلسفية. يتم طرح طريقة العالم، بدلاً من تزوير الأطروحات الفلسفية. وهناك بعض الأمثلة المضادة المحتملة لهذا، ولكن الفلسفة التي تهم هي تقديم رؤية إيجابية للعالم يمكننا أن نفعل شيئًا به، وليس إسقاط إطار قائم. المجال نفسه مضاربي وناشئ نسبيًا. وهناك الكثير من عدم اليقين. المجالات التي قد يكون فيها الصياغة الصورية مفيدة هي: الفاعلون النموذجيون ونظرية القرار قد يكون العمل على مشاكل شبيهة بـ "نيوكومب" مهمًا لتطوير الذكاء الاصطناعي.

 السببية معظم ما قاله الفلاسفة الأكاديميون هنا ليس مفيدًا. لقد قام علماء الكمبيوتر والإحصائيون بمعظم العمل المهم حتى الآن، ولكن لا يوجد سبب يمنع علماء الكمبيوتر ذوي التوجه الفلسفي أو الفلاسفة ذوي التوجه الإحصائي من تقديم مساهمات مهمة هنا. أما فلسفة الفيزياء فهي الأعمال التي تبدو وكأنها ميتافيزيقيا الفيزياء. في حين أن التطور الثقافي من غير المرجح أن يحدث هذا العمل فرقًا كبيرًا في التكنولوجيا، ولكنه جديد بما يكفي بحيث يمكن للفلاسفة الاستمرار في تقديم مساهمات مهمة هنا. هناك أسئلة اجتماعية هنا حول سبب عدم تأثير عمل الفلاسفة على التطور الثقافي بشكل أكبر. علم الأحياء التطوري من غير المرجح أن يحدث فرقًا كبيرًا في التكنولوجيا، ولكن الأمر يستحق الذكر لأنه مجال يجب على العلماء أن يولوا فيه المزيد من الاهتمام للفلاسفة. ومن المؤسف أن نفس الفلاسفة الذين قدموا مساهمات مهمة ينشغلون أيضًا بقضايا لا تحدث أي فرق في الممارسة العلمية. نظرية المعلومات قد لا يكون هناك الكثير من العمل للقيام به هنا بعد الآن. الوعي من المرجح أن العمل على المشكلة الصعبة للوعي لا يهم في تطوير التكنولوجيا. ومع ذلك، فإن التفكير في كيفية إضفاء الطابع الصوري على الحالات الواعية، والمناقشات حول نظرية مساحة العمل العالمية ومنافسيها، أو المشكلة الفوقية قد يكون مهمًا. علم الأعصاب لقد قام كارل كارفر بعمل مثير للاهتمام هنا. أحد جوانب علم الأعصاب التي تجعله واعدًا للفلاسفة هو أنه لا أحد لديه أي فكرة عما يجري. بعض هذه المجالات واعدة أكثر بكثير من غيرها. إن احتمالية أن يؤدي أي برنامج بحثي فلسفي إلى مساهمات تؤثر على تطوير التكنولوجيا ضئيلة. هذا لا يعني بالطبع أن الجهد المبذول لا يستحق العناء.

 الفلسفة التنبؤية هناك بعض السمات لهذا النوع من الفلسفة ومجالاتها التي تزيد من احتمالية أن يكون العمل واعدًا للفلاسفة: يقترب العمل من المنطق والرياضيات والعلم. إنه نوع من الأشياء التي يمكنك تقريبًا أن تفلت بها خارج قسم الفلسفة. يأخذ المجال مدخلات من عدد من المجالات المختلفة. إن كونك موسوعيًا أو عامًا مطلوب لتقديم مساهمة. المجال مهمل نسبيًا. يركز العمل على المشكلة. إذا عرفنا إجابة سؤال أو كانت لدينا فكرة دقيقة عن مفهوم معين، فسيكون ذلك مفيدًا لحل المشكلات غير الفلسفية. هناك الكثير من عدم اليقين. قد يتم تحديد المواقف من خلال وجهات نظر دقيقة حول الاحتمالات والمنطق في ظل عدم اليقين. يحتوي العمل على أسئلة فلسفية وغير فلسفية في مركزه. كما يحلل العمل تاريخ التطور التكنولوجي والعلمي للحصول على دروس مفيدة في الحياة. هناك عدد من القضايا الواعدة هنا: المحاكاة والتحميل الرقمي تتمحور هذه القضايا حول أسئلة فلسفية وغير فلسفية، مما يجعل العمل واعدًا جدًا. علم الجينوم وتحرير الجينات إن عدم اليقين هنا يجعله واعدًا بشكل محتمل. اما المخاطر الوجودية فتتجسد في مطب الهاوية. يتضمن قسمًا للأبحاث المستقبلية المفيدة، والتي يجيب عليها المتخصصون العلميون بشكل أفضل، ولكن القليل منها يمكن للفلاسفة المساهمة فيه. الذكاء الاصطناعي والذكاء الفائق والجهود ذات الصلة والتفكير في التفكير الجيد. لقد تناول الفلاسفة وغير الفلاسفة هذا الأمر، ولكن لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به. ان دراسات التقدم تركز دراسات التحضر بشكل صريح على التقدم الصناعي الاقتصادي والتكنولوجي. ويعتبر فلاسفة العلوم مؤهلين بشكل خاص للمساهمة هنا. فلسفة العلوم لن يؤثر الكثير من فلاسفة العلوم مثل ميتافيزيقيا العلوم أو التاريخ الوصفي على علم مسار التكنولوجيا. ولكن بعضها قد يكون مفيدًا بالفعل. ومن الأمور الواعدة للغاية استخراج الدروس القابلة للتطبيق، وتحليل التصاميم المؤسساتية، والتوصل إلى أنظمة جديدة تغير من تطور العلوم والتكنولوجيا. اما فلسفة التطور التكنولوجي فهي الميتا العلوم الفلسفة والتي تهم الكل. ما هي أنواع الفلسفة التي دفعت بذرة التكنولوجيا إلى الأمام أو إلى الخلف؟ ما نوع الفلسفة التي ينبغي لنا أن نتبعها إذا أردنا أن نترك أثرًا على التكنولوجيا؟ من الجدير أن أكرر أنني لا أقترح أي إبطاء أو تسريع في معدل التكنولوجيا هو ما ينبغي للفلاسفة أن يفعلوه هو اكثر من ذلك او اقل بقليل. الفكرة الرئيسية، وهي أن الفلسفة قادرة على التأثير على تطور التكنولوجيا، تبدو صحيحة. ويمكن للفلاسفة، باعتبارهم مهندسين مفاهيميين، أن يكونوا أكثر طموحًا. لكن لماذا تكون في الفلسفة المعاصرة بعض الأسئلة ذات قيمة حتى عندما لا نستطيع العثور على إجابات لها؟ نأمل ان يتقلص نفوذ الأشرار في هذا العالم وتتقلص مساحة الالم ويسود العدل وتتسع دوائر الحرية والسلام.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

ثمة من يعتقد في محيطنا ومجتمعنا العربي الإسلامي بأن الفلسفة مجرد آراء لغو وكلام فارغ وخطاب نظري عديم الجدوى. فهل هذا صحيح؟ أليست الفلسفة تحتوي على جانب من المعقولية والاحتكام إلى الموضوعية، مستندة إلى منطق يدعمها؟ أليست الفلسفة شكلاً من أشكال التفاعل مع الوجود، الحياة والفكر؟ عندما يواجه الإنسان أزمات حقيقية تهدده بالخطر، من الذي يتساءل؟ إن الفيلسوف يدفعنا إلى التفكير في الكثير من المعاني التي قد نغفلها في عالمنا المعاصر. أليس من حقنا القول إن الإنسان المعاصر قد فقد صلته بذاته وبفكرة "هيراقليطية الحياة"؟ إذا لم تكن غاية الفلسفة هي فن العيش فما غايتها إذًا؟

لننظر في فلسفة القدماء، حيث لم تكن الفلسفة منعزلة عن حياتهم العملية. أليس من حقنا أن نقول إن الفلسفة كانت لديهم ممارسة علاجية؟ أليس من حقنا القول إننا نسينا ذواتنا ونسينا العيش في اللحظة الآنية بأسلوب فلسفي؟ هل غفلت مدارسنا وجامعاتنا عن التركيز على التكوين، بدلاً من التلقين، فيما يتعلق بهذه المادة؟

لقد كان الفيلسوف في العصر القديم يعد نفسه فيلسوفًا ليس لأنه يشيد خطابًا فلسفيًا، بل لأنه يعيش بطريقة فلسفية، وكان يُطلق لقب الفيلسوف على من يعيش حياة فلسفية حتى وإن لم يكن دارسًا أو أستاذًا. هكذا ركز الفيلسوف الفرنسي المعاصر بيير هادو على أن الفلسفة ليست مجرد نظرية أو أفكار مجردة، بل هي "طريقة حياة"، أو لنقل إنها ممارسة يومية تتعلق بكيفية عيش الإنسان وتحقيق ذاته. بالنسبة إليه، لم تكن مهمة الفيلسوف الأساسية هي تقديم معرفة موسوعية في شكل نسق من القضايا والمفاهيم التي تعكس على نحو تقريبي نسق العالم، بل كانت تهدف إلى تحويل شخصية الإنسان وتعليمه فن العيش والحياة الفلسفية.

ركزت دراستي عن بيير هادو على إشكالية تحويل الفلسفة من مجال نظري إلى مجال عملي، وكيفية تأثيرها على التفكير والسلوك لتوجيهنا نحو الرجوع الى الذات والتحرر من ما ألفناه في الحياة المعاصرة؛ من سرعة ونسيان الفكر والوجود.

كيف يمكن فهم الفلسفة بوصفها طريقة للعيش من خلال فلسفة بيير هادو؟

المفهوم القديم للفلسفة: قراءة بيير هادو لمحاورة "المأدبة"

تبدأ المحاورة بقصة رجل يدعى أبولودروس، وهو يتبادل أطراف الحديث مع غلوكون، الذي طلب منه أن يحكي له ما حدث في مأدبة أغاثون (الشاعر التراجيدي الذي أقام المأدبة في بيته)، إذ لم تكن القصة واضحة لغلوكون من رواية فينكس بن فيليب. أخبره أبولودروس أن اللقاء حدث في صغره، تحديدًا في السنة التي فاز فيها الشاعر أغاثون بجائزة عن أول "مأساة" له، وأضاف أن الشخص الذي أخبره بالقصة هو أريستيديموس (تلميذ سقراط) الذي حضر المأدبة برفقة سقراط، ثم بدأ يسرد عليه ما رواه له هذا التلميذ.

يحكي أريستيديموس كيف طلب منه سقراط، وهو في كامل أناقته، أن يذهب معه إلى مأدبة أغاثون. وصل أريستيديموس إلى بيت أغاثون، في حين اختار سقراط أن يمنح نفسه بعض الوقت للتأمل، لذا وصل متأخرًا إلى المأدبة. بعد ذلك، اقترح إريكسماخوس أن يكون موضوع النقاش حول الحب أو "إيروس"، الإله الذي لم يجد أحدهم الشجاعة الكافية لمدحه بما يستحق. فاتفق الجميع على مناقشة هذا الموضوع.

بينما ركز معظم الحضور على صفات إله الحب، اختار سقراط اتباع منهجه المعتاد في التساؤل والتهكم، فدفع أغاثون للتعبير عن موقفه، حيث بدأ أولاً بوصف طبيعة الحب، ثم انتقل إلى الحديث عن تأثيره وهباته. وقد جاء في وصفه: الحب إذًا صغير، وهو أيضًا مرهف الحس، رقيق الشعور، لا يحتمل الشدة، ولا يطيق المكروه(1). استأذن سقراط الحاضرين ليقول الحقيقة بطريقته الخاصة، وذلك ببناء مقدمات منطقية انطلاقًا من أسئلة وجهها لأغاثون. فقال: أن أسوق حديثًا بسيطًا أبسط فيه حقيقة الحب بألفاظه وعباراته من وحي الساعة، لا صنع فيها ولا عمل(2).

يمكن إجمال هذه المقدمات على النحو التالي:

المقدمة الأولى: إن المرء يحب ما ليس في إمكانه ولا يملكه(3).

المقدمة الثانية: وفقًا لأغاثون، الحب هو حب الجمال لا حب القبح(4).

النتيجة: ما دام الإيروس يسعى الى ما ينقصه، فإن الجمال ينقصه.

هكذا يبدأ سقراط ببسط نظريته حول الحب اعتمادًا على ما سمعه من معلمته ديوتيما. هذه الأخيرة ترفض تصنيف الحب كجميل أو قبيح، بل تراه وسطًا بين الاثنين: هو بين الكائن الفاني والمواد الأزلية(5). أي نصف إله ونصف إنسان. ثم تشرح ديوتيما، من خلال سرد أسطورة إيروس، طبيعة الحب، حيث تروي أنه ابن الغنى الذي أنجبته بينيا، إلهة الفقر. هكذا تتأرجح صفات الحب بين الغنى والفقر: الحب فقير دائمًا، لا تتوفر فيه صفات الرقة والجمال كما يظن البعض، خشن المظهر، حافي القدمين بلا مأوى، يرقد في العراء. تلك هي الصفات التي ورثها عن أمه. ومن أبيه، ورث السعي الدائم نحو الخير والجمال، والشغف بالحكمة، لكنه لا هو فانٍ ولا هو خالد(6).

تقول ديوتيما: الحقيقة أنه لا يمكن القول بأن الإله يحب الحكمة أو يرغب فيها، لأن الإله حكيم بالفعل. ينطبق هذا القول على الحكماء إذا وجدوا. أما الجاهل، فلا يحب الحكمة ولا يرغب فيها، لأن من ينقصه الجمال والخير والعلم يرضى عن نفسه كل الرضا، ولا يعتقد أنه ينقصه شيء على الإطلاق. ومن كان كذلك، لا يرغب فيما يعتقد أنه لا ينقصه (7).

يسأل سقراط ديوتيما: إذن، من يحبون الحكمة ويرغبون فيها ليسوا بحكماء ولا جهلة؟ فترد ديوتيما بأنهم في منزلة بين الاثنين: لا يوصفون بالحكمة ولا يوصفون بالجهل، والحب بينهم(8).

لكن الفيلسوف يدرك أيضًا أن الحكمة حالة مثالية لا سبيل إلى بلوغها بالنسبة لهذا الإنسان. تبدو الحياة اليومية كما ينظمها الناس أشبه بحالة جنون وغيبوبة وجهل بالواقع(9). وبذلك فإن الفيلسوف ليس هو الحكيم المطلق ولا الجاهل المطلق، بل هو مزيج من الاثنين، كما هو إيروس مزيج من الفناء والخلود.

يتضح مع بيير هادو أن الفيلسوف كائن "إيروسي". سقراط، على حد تعبير هادو: وإن لم يشبه أحدًا قط، نراه يتخذ الأوصاف الأسطورية لإيروس، أي أوصاف إيروس متصورًا كإسقاط لصورة سقراط(10). الفيلسوف ليس إنسانًا أحمق، بل هو الوسيط الذي يعرف بـ"محب الحكمة"؛ إن الحمقى لا يعون بعدم حكمتهم، لذلك لا يسعون إليها، عكس الفيلسوف الذي يعي افتقاده لها ويتطلع إليها باستمرار، ومن ثمة يتعذر تصنيفه، لا مأوى ولا سكن له، شأنه شأن إيروس وسقراط.(11)

لنتذكر فيثاغورس حينما رفض أن يُلقب بالحكيم، وقال: أنا لست حكيمًا، فالحكمة من اختصاص الآلهة. أنا فقط محب للحكمة. حينما تقول إنك حكيم، فإنك تزعم أنك بلغت قمة المعرفة. لكن سقراط، مثل إيروس، لا يطمئن إلى حالة معينة، بل يسعى دائمًا إلى المعرفة. إن سقراط يدرك بعمق أنه ليس ما ينبغي أن يكونه. وإنما من هذا الشعور بالانفصال والافتقار - يولد الحب (12).

إن الفيلسوف غريب. عاشق الحكمة، هذا العشق الغريب عن العالم، هو ما يجعل الفيلسوف غريبًا فيه. وهذا يعني الخروج عن المألوف أو القطيعة مع الحياة اليومية التي يعيشها الناس. الفيلسوف يختار أسلوبًا متفردًا في الحياة والعيش: الفلاسفة إذًا غرباء.. جنس منفصل(13).

يذكر سقراط بأنه كان يُدعى في المحاورات الأفلاطونية أتوبوس، أي المتعذر تصنيفه (غريب الأطوار)(14). وما يجعله كذلك هو حبه للحكمة التي تفسرها محاورة المأدبة. إذًا، فلسفة سقراط لم تكن منفصلة عن حياته، فقد كان فيلسوفًا بأسلوبه في العيش، وحواره، وتمسكه بمبادئه، حتى أن الأمر كلفه السخرية بل الموت حتى.

هكذا إذن يجب أن تفهم العلاقة بين النظرية والتطبيق في الفلسفة في هذه الفترة. لم تكن النظرية يُنظر إليها كغاية ذاتها، وإنما هي، بوضوح وحسم، في خدمة الممارسة(15) الحوار نفسه، بوصفه نشاطًا روحيًا، يعتبر خبرة أخلاقية ووجودية؛ ذلك أن فلسفة سقراط ليست هي التشييد المنعزل لمذهب معين، بل هي إيقاظ الوعي، والولوج إلى مستوى من الوجود لا يمكن بلوغه إلا في علاقة شخص بشخص(16).

الفلسفة، إذًا، في الحقبة الهلنستية واليونانية، كما قد رأينا، أخذت شكل أسلوب في الحياة؛ إن الفلسفة القديمة اتخذت هذا الطابع منذ سقراط تقريبًا.

أهمية الحوار السقراطي في بناء الدرس الفلسفي:

لا يخفى على أستاذ مادة الفلسفة أن من بين طرائق تدريس هذه المادة، وهي مستمدة من داخلها، نجد الطريقة السقراطية، أي الحوار الذي يكون بين الأستاذ والتلاميذ، وذلك عن طريق طرح مجموعة من الأسئلة الغرض منها استثارة تمثلاتهم حول القضية المطروحة. وهذا ما يعلمه لنا سقراط. يقول هادو عن سقراط: النداء الحي الذي يوقظ ضميرنا الأخلاقي. وينبغي ألا ننسى أن هذا النداء تردد في شكل محدد، هو الحوار(17).

إن الغرض من الاعتماد على الطريقة الحوارية في بناء الدرس الفلسفي هو جعْل التلميذ يسعى إلى بناء المعرفة من خلال ما سبق وأن تعرف عليه أو من خلال تمثلاته ومعارفه السابقة. وبالتالي، إذا كان سقراط يقول مرارًا وتكرارًا، لكل من يريد أن يستمع، إن الشيء الوحيد الذي يعرفه هو أنه لا يعرف شيئًا. غير أنه، مثل ذبابة خيل لا تعرف التعب، لم يكن يكل عن ملاحقة محدثيه بأسئلة تنسل أسئلة، لكي يدفعهم إلى الانتباه إلى أنفسهم ورعايتها (18). إن الأستاذ الناجح يمكن ان نسميه أيضا "ذبابة خيل" داخل الفصل لا يهدأ من طرح الأسئلة واستخراج المعرفة الحقيقية منهم، مثلما كان يفعل سقراط. هذا الأخير كان يجوب الشوارع والأزقة ويباشر الشباب بالأسئلة التي يكون الهدف منها مساعدتهم على استخراج الحقائق الكامنة في نفوسهم. ودور الفيلسوف، كما هو دور الأستاذ، هو استعادة تلك الحقائق الباطنية عن طريق عملية تسمى حسب سقراط "المنهج التوليدي" وذلك عن طريق طرح الأسئلة وتصنع الجهل.

حيث يظهر في هذه الأسئلة نمط ملحوظ للغاية: فالسؤال الأول يطلب به التعريف، ولذلك فهو لا يقبل أن يجاب عنه بنعم أو لا، بل يكون موضوع شك. أما الأسئلة التالية فتتطلب الإجابة بنعم أو لا، وغالبًا ما يكون واضحًا أي هذين الجوابين هو المطلوب. وبعد أن يحصل سقراط عن هذا الطريق على عدد من الإجابات غير المترابطة في الظاهر، يضعها في قياس كما يقول أرسطو، ليبين أنها تدحض إجابة مجيبه عن السؤال الأول. وحينئذ يطلب إلى المجيب أن يجد إجابة أخرى عن السؤال الأول، ثم يعالج الإجابة الثانية بالطريقة الأولى نفسها. ومن شأن هذا أن يظهر المجيب وكأنما هو يناقض نفسه ولا يعرف ما كان يظن أنه يعرفه (19).

إن الأستاذ هو الذي يطرح السؤال حول ما يعتقد التلميذ أنه يعرفه كالحرية، الحب، العدالة، والجمال... لكن من خلال أسئلته يورطهم، ويجعلهم في حيرة من أمرهم، بل ويساعدهم على بناء هذا التفكير النقدي من خلال هذا التوتر (الشك، الدهشة الفلسفية، السؤال...).

إن الديالكتيك، بالنسبة إلى هادو، يحمل المحاور على اكتشاف التناقضات في رأيه أو موقفه، إن ما يهم ليس الوصول إلى الحل، أي حل وضعية المشكلة، بل ما يهم هو الطريقة التي سلكناها من أجل الوصول إليه: العبرة ليست بحل مشكلة معينة، إنما هي بالطريق الذي نقطعه للوصول إلى الحل. طريق عبره يكون المحاور والتلميذ والقارئ فكرهم، ويجعلونه أجدر باكتشاف الحقيقة بنفسه(20).

هكذا يكون حل المشكلة أقل قيمة من الطريق الذي نقطعه معًا لكي نحلها. ليس المهم أن تجد الجواب على مشكلة ما قبل غيرك، بل أن تمارس، بأكبر كفاءة ممكنة، تطبيق منهج(21).

وبالتالي، هذا المنهج الفلسفي هو الذي يعطي للدرس قيمته. كما يمكن القول إن الكلام والحوار تعبير وإفصاح عن الفكر الحي في انسيابه، هو نقل مباشر لهذا الذي يكون في الروح. إنه أهم من فعل الكتابة نفسها، إذ إن هذه الأخيرة نسخة ثانية لا تفضي إلى هذا النقل المباشر بين الفكر والعالم. إن دورها يتجلى في حفظ هذا المخزون الشفهي، لكنها لا يمكن أن تقوم مقام الحوار، الذي يمنح للتلميذ فرصة الاعتراض على ذاته. فمن خلاله يسعى إلى فحص وانتقاء الحقيقي من الزائف والمغلوط، كما يمكنه من إدراك حدود معرفته وجهله ويمكن الأستاذ أيضًا من أن يكيف تدريسه وفق احتياجات التلميذ(22).

ونحن نتحدث عن الحوار وعن الكلمة المنطوقة، لا ننسى أن من بين الأسباب التي أدت بالحضارة الإغريقية إلى الانتقال من الميثوس إلى اللوغوس، حسب جون بيير فيرنان، عامل الكتابة؛ أي أن هذه الحضارة لم تعد تعتمد على الفعل الشفهي في نقل مخزون معارفها وإنتاجاتها، بل اعتمدت في التعبير عن أفكارها بواسطة الكتابة. بيد أنها لم تتخلَى عن العنصر الشفهي باعتباره يعطي للكلمة سحرها، إيقاعها، وتأثيرها على أذن المستمع أو المتلقي. إذ إن القراءة في العصر القديم كانت تعني عادة القراءة الجهرية، التي تبرز إيقاع العبارة وأصوات الكلمات (23).

الأمر يرتبط بنظام المكتوب وانسجام أفكاره، وهو ما يظهره فعل القراءة. إن هذه الظاهرة ليست غريبة على الأدب المكتوب بحيث إنه أيضًا يجب أن يكترث بالإيقاع والصوت(24). إن الحوار هو ما يضاد الدوغما. الحوار الأفلاطوني، بصفته تدريبًا ديالكتيكيًا، هو تدريب روحي قلبًا وقالبًا(25). أي انه، من وجهة نظر أفلاطون فكل تدريب ديالكتيكي، بالضبط لأنه تدريب على الفكر الخالص وخاضع لمتطلبات اللوغوس، فإنه يصرف النفس عن العالم الحسي، ويتيح لها أن تحول ذاتها تجاه الخير. إنه خط رحلة النفس تجاه المقدس(26).

إن الأستاذ هو من يصعد بتلاميذه من الرأي، أي من تصوراتهم، إلى حقيقة الشيء أو إلى معرفة الشيء، بناءً على مجموعة من الآليات الحجاجية والنقدية. لذلك يرى بيير هادو بأن التعليم الحقيقي شفاهي دائمًا. ولعلنا نذكر الفيلسوف سقراط الذي كان له موقف صارم من الكتابة، بل لم يرغب فيها حتى. وجه نقدًا لها باعتبارها ليست فنًا ولا تعليمًا. ومن يعتقد ذلك فهو رجل على قدر كبير من السذاجة(27).

إن سقراط، في محاورة فايدروس، يشبه الكتابة بالصورة المرسومة التي تبقى صامتة وجامدة مهما بدت لنا كما لو أنها كائنات حية. الكلام المكتوب تظنه يكاد كأنما يسري فيه الفكر، ولكنك إذا ما استجوبته بقصد استيضاح أمر ما، فإنه يكتفي بترديد نفس الشيء. وهناك أمر آخر هو أن الشيء بعد أن يكتب يظل ينتقل من اليمين إلى اليسار بغير مبالاة، فيُساق إلى من يفهمونه وإلى من لا يعنيهم منه شيء على السواء. وهو، فضلًا عن ذلك، لا يدري إلى من من الناس يتجه أو لا يتجه (28).

هذا الأمر لازم لمن اتخذ على عاتقه أن يسلك سبيل المعرفة الحقة، كما هو حال سقراط. إن المعرفة عنده حوار مع الآخر أو مع الذات، بيد أن هذا الحوار يلزم الإصغاء. إذن الحقيقة تتكلم بصوت يدعو إلى الإصغاء إليها، والتطهر من أوهام المعارف، ثم الارتقاء بالنفس والسمو بها إلى مقام الحقيقة. هذا الصعود هو ما نسميه الجدل، وهو الشكل الأرقى الذي سوف يتحدد أساسًا من خلال الفلسفة مع سقراط وأفلاطون. يأخذ الحوار الجدلي، هذا الشكل الديالكتيكي، طريق النفس إلى التحرر من المظاهر، والاندفاع بها إلى عالم المثل. أما الكتابة فهي لا تكاد تحظى بأية أهمية في تمارين السير بين عالم الآلهة وعالم الناس.

لهذا، لا يمكن اعتبار الفلسفة مجرد معلومات غير متصلة بالحياة، يمليها الأستاذ على التلميذ حتى ينساها ويطويها الزمن في خبر كان. كما لا يمكن أن نختزل الفلسفة في الجامعات والمدارس. قد يكون هذا الاختزال قتلًا لروح الفلسفة وجوهرها إذا وضعناها في هذه الصورة الضيقة وجعلناها تنحصر في موضع الكمية والمكان. هذا ما يعلمه لنا القدامى: كيف نجعل هذا النص الذي يقرأه أو يكتبه التلميذ يعنيه، ولا يتعارض مع الحياة، بل يدعوه إلى تأملها وعيشها. ففي التقليد الإغريقي، لم تكن المعرفة أو الحكمة مجرد معرفة نظرية خالصة بقدر ما كانت إتقانا للعمل Savoir faire وإجادة للعيش savoir vivre، وإننا نتعرف على أثر ذلك في طريقة حياة سقراط الفيلسوف، وليس في معرفته النظرية(29).

لذا يوضح بيير هادو أن النصوص التي كُتبت قديمًا كانت مرتبطة بالنشاط التعليمي يعكس جنسها الأدبي مناهج المدارس وطرائقها (30). إنها غير منعزلة عن الحياة. يتكون أحد التدريبات المعتبرة في المدارس من شرح: إما على نحو ديالكتيكي (على شكل أسئلة وأجوبة) أو على نحو خطابي؛ أي في حديث مستمر يطلق عليه "أطروحات" (theses)، أي مواقف نظرية معروضة في شكل أسئلة من قبيل: هل الموت شر؟ هل الرجل الحكيم يغضب على الإطلاق؟(31).

إن مثل هذه الأسئلة علينا أن نستعيد طرحها من جديد، الغاية منها هي إيقاظ سبات التلميذ وجعله ينخرط في بناء التعلمات. يحاول الأستاذ بذلك وضع وضعية مشكلة لا تتعارض مع الواقع المعيش للتلميذ. إن هذه المنهجية التي يسلكها الأستاذ في تدريسه لا تجعله مالكًا للمعرفة أو سيدًا لها، بل موجهًا ومساعدًا في بناء المعرفة مع التلاميذ. من شأن هذا أن يقدم تدريبًا على أحكام الكلمة المنطوقة وتدريبًا فلسفيًا قويمًا أيضًا (32).

وعليه، يعي التلميذ أن ما يقرأه من نصوص فلسفية ليست نصوصًا متعارضة مع واقعه. إن الأستاذ يكون مثل ذلك الشخص الذي صوّره أفلاطون في أمثولة الكهف، عندما تحرر من تلك الأغلال والقيود وبدأ يكتشف حقائق ويبني معرفة عليها. عليه أن يعود إلى الكهف لكي يحرر الآخرين أيضًا. الأستاذ هنا يحرر التلاميذ مما يؤمنون به من معتقدات وعادات وخرافات عن طريق هذا الجدل، أي إخضاع الأقوال والآراء للفحص من خلال فن الحوار.

لهذا السبب، على الأستاذ العاشق للحكمة أن يحمل على عاتقه رسالة مفادها أن الفلسفة هي تواصل مستمر معها. إن هذا هو، بالدرجة الأولى، تعبير عن عشق وصداقة للحكمة. يخرج التلميذ من ما تعود عليه من حفظ وتقليد وسكب ما تعلمه يوم الاختبار (مثل ما كان عليه الامر مع البيداغوجية الكلاسيكية) إلى إطار واسع يجعله يكتشف نفسه وحدود تفكيره من خلال الحوار الذي يجريه الأستاذ مع تلاميذه أو التلاميذ مع بعضهم البعض.

***

حفصة روان

..........................

* المراجع المعتمدة

(1): أفلاطون. المأدبة فلسفة الحب. ترجمة وليم الميري. أقلام عربية للنشر والتوزيع. 2019.  ص51

(2): المأدبة فلسفة الحب. ص56

(3): المأدبة فلسفة الحب. ص58

(4): المأدبة فلسفة الحب.ص59

(5): المأدبة فلسفة الحب.ص62

(6): المأدبة فلسفة الحب.ص63

(7): المأدبة فلسفة الحب.ص64

(8): المأدبة فلسفة الحب.64

(9): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة التدريبات الروحية من سقراط إلى فوكو. ترجمة عادل مصطفى. دار النشر هنداوي 2023. ص 36

(10): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص133

(11): pierre Hadot. Qu'c'est ce que la philosophie antique ?p81

(12): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص139

(13): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص34

(14): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص35

(15): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص38

(16): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص139

(17): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص73

(18): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص73

(19): الموسوعة الفلسفية المختصرة للدكتور زكي نجيب محمود، دار القلم بيروت-لبنان. ص260

(20): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص77

(21): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص77

(22): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص41

(23): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص40

(24): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص41

(25): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص78

(26): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص78

(27): محاورة فايدروس لأفلاطون. ترجمة اميرة حلمي مطر، دار غريب للطباعة 2000. ص108.

(28): محاورة فايدروس لأفلاطون. ص108

(29): pierre Hadot.Qu'est ce que la philosophie antique ? Page 77

(30): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص42

(31): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص 42

(32): بيير هادو. الفلسفة طريق. حياة. ص42

اللغة: من غير المعقول والمقبول ان تكون اللغة رصفا لكلمات خالية من قصدية المعنى. فتعبير العقل باللغة لا ينتج ما لا معنى له. قصدية المعنى باللغة سابقة على شكلها الانتظامي صوت وشكل حروفي دال على معنى ضمن كلمات. والعقل واللغة تبطل فاعليتهما التفكيرية الادراكية عندما لا يكون هناك موضوعا لهما.

شكل الحرف اللغوي هو خاصية رمزية نحوية ما لم تكتمل بخاصية الصوت الذي هو المعنى. ومتى ما اكتسب شكل الحرف دلالة الصوت الخاص به نجده يتحرر من الرمزية ليصبح دلالة معنى تجريدي.

اشار جون سيرل فيلسوف العقل واللغة الامريكي الى تراتيبية علاقة ارتباط العقل باللغة بقوله هما يتوجهان الى الاشياء معا. العقل يتمثل الشيء ويقصده بالتزامن مع استحضار اللغة له. اي في التعبير عنه. ويعتبر جون سيرل هذا التزامن بين العقل واللغة تزامنا (آنيا).

في مداخلة مع هذه العبارة لجون سيرل أجد حقيقة اللغة غير الظاهراتية هي انها (لازمانية). ليس في إعتماد أن الآنية لحظة وقتية منحلة في تحقيب الزمن الارضي الى ماض وحاضر ومستقبل. (الآنية) حاضرا هي لحظة لا زمنية كما اشار ارسطو لذلك.

بل واذهب اكثر أن اللغة لازمانية لانها تعيش زمانا لا نهائيا ازليا غير محدود بحدود ادراكية ولا يقبل القسمة على نفسه او التجزيء. فالزمن واحد أينما وجد شيء في الكون يلازمه وليس ملازمة وقتية في الطبيعة الارضية وفي عالمنا الخارجي. عليه فأن الآنية لا تدرك بغير زمانية مغايرة لها حتى وإن كانت هي في حالة سيرورة من انحلال انتقالي من الحاضر كتحقيب وقتي الى سيرورة خارج الزمن النسبي الارضي.

لا زمانية اللغة الذي ذهبت له هو نابع من استحالة حضور لغة لا يزامنها الزمن وليس من عدم مزامنة وحضور الزمن في ملازمة معها.. قد يبدو كلامي متناقضا غير مقبول. لكن لو نحن أخذنا برأي جون سيرل علاقة اللغة بالزمن هو آنية وقتية حاضرا زائلة فهو يدرك جيدا أن الآنية هي تحقيب وقتي منحل متلاش وليست زمنية حاضرة بمفهوم الزمن بل في تحقيب الوقت ارضيا. الآنية حالة من الانحلال والتلاشي في كل من الماضي والمستقبل. بمعنى اكثر وضوحا وصرامة لا وجود لزمن يسمى الحاضر.

وحول إجابة سيرل حول سؤال الاسبقية التراتيبية بين العقل واللغة فهو أعطى اولوية العقل على بعدية اللغة. وكان مصيبا تماما. وحول علاقة الكلام باللغة فهو يحيلها الى وجوب فهم آلية ارتباط المخ او العقل باللغة بايولوجيا في دراسة فسلجة وعلاقة ارتباط الخلايا المخيّة بانتاجية اللغة. وأجد أن كل تعبير لغوي هو فلسفة تنتسب للعقل قبل انتسابها لخصائص اللغة. بمعنى العقل جوهر لغوي تجريدي وبايولوجي فيزيائي عضوي ايضا. لذا أجد بعض التحفظ بتمرير عبارة سيرل اللغة فرعا من فلسفة العقل بل اللغة هي تمُثل فلسفة العقل عن الوجود كاملة. مصداق ذلك تعبير سيلارز الوجود لغة. اروع عبارة تعبير فلسفي قرأتها لسيلارز عن ماهية اللغة وليس البحث في وظائفها.

بأي معيار نتكلم عن ما فوق اللغة؟

هل المعيار وجود لغة يدركها العقل ويتعامل مع الوجود بها ومن خلالها؟ هل ما فوق اللغة هي لغة فطرية أم مكتسبة من لغة قبلية سابقة عليها ويتبادلان التخارج بينهما أم لكل منهما له استقلاليته النحوية وضوابطها الخاصة بها؟ لا أعتقد ان ما فوق اللغة تستطيع الغاء اصلية وقبلية اللغة الام التي إنبثقت عنها. يوجد فرق كبير بين الاستعداد الفطري لاكتساب اللغة وبين القول بفطرية اللغة. الفيلسوف وعالم اللغات الامريكي في نظريته التوليدية نعوم جومسكي مّيز وأعطى تفريقا بين الاستعداد الفطري للغة وهو الارجح على أن تكون اللغة فطرة قبلية غير مكتسبة حتى في بداياتها عند الطفل.

واذا ما كانت اللغة حسب فلاسفة اللغة وعلوم اللسانيات ونظرية المعنى يعتبرون اللغة تضليل العقل في ازدواجيتها التعبير عن المعنى. فمن يكون اصدق تعبيرا واقعيا حقيقيا ملزما لنا اللغة أم ما فوق اللغة؟ هل اللغة منطق عقلي أم هي جملة قواعد وضوابط نحوية خاصة بها يتم استيلادها بتطور اللغة ذاتيا؟

اجد وهو رأي شخصي أن ما فوق اللغة هي استعداد فطري لاكتساب اللغة وتعلمها. من جنبة ثانية فالادراك العقلي الشيئي لموضوعاته في التعبير اللغوي عنها ليس هو المطابقة ما بين الدال والمدلول بل العقل لا يدرك ذاته بوسيلة شكل اللغة بل بالتفكير الاستبطاني المضموني المتعالق بشكلها الرمزي الحروفي المجرد. شكل يتالف من صوت ومعنى. وما لا تعّبر عنه اللغة لا يكون موضوعا للعقل باستثناء ما ذكرناه ادراك الفرد لذاته يكون صمتا تفكيريا لغويا. الادراك العقلي لأي شيء يتألف من موضوع ولغة تعبير عنه.

نظرية السلوك اللفظي

صاحب نظرية السلوك اللفظي هو بوريس فريدريك سكينر في القرن العشرين شغل كرسي تدريس الفلسفة في جامعة هارفارد. يعتبر سكينر بكتابه (السلوك اللفظي) عالم لغة ونفس وبذلك مهد الطريق امام فيلسوف وعالم اللغات نعوم جومسكي في اختراعه النظرية التوليدية باللغة. سكينر اراد تحويل السلوك الى تجارب تطبيقية في تعلم الطفل مفردات التعامل مع الحياة بوسيلة اللغة. سكينر يعتبر السلوك اللغوي هو كغيره من انواع السلوك يصدر عن شخص في مرجعية النفس والرغبة في التعبير عن موجوديته ضمن مجتمع يحتويه. كما يعتبر سكينر حسب نظريته في السلوك اللفظي أن اللغة لها وظيفة ذات معنى. فنحن نحاول على حد قوله بشتى الطرق أن ننشيء طفلا قادرا على التواصل لفظيا ويردد كلمات لها معنى. أعتقد توليدية جومسكي اللغوية أنكرت تعلم اللغة بسلوك مرجعيته علم النفس التي قال بها سكينر وليس تعلم اللغة استعداد فطري بايولوجي في اهمية تطور حنجرة الانسان واللسان لفرد يعيش في مجتمع.

التراتبية بين العقل والوجود والماهية

في عبارة للفلسفة الوجودية ان (الوجود يسبق الماهية) هنا المقصود بالوجود ليس مفهوم الوجود كمطلق خارج ادراك العقل لا موضوعا له ولا ادراك لماهيته. وإنما هنا في العبارة الوجود هو الموجود (الانسان). ولو حاولنا إجراء مقارنة تراتيبية اسبقية بين الوجود والماهية فاننا نجد دقة وصواب العبارة الوجود او الاصح الموجود يسبق الماهية. وجود الانسان يسبق ماهيته وتفكيره. يمكننا تلخيص الاشكالية التراتيبية بين الموجود الانسان وماهيته بكلمتين. الوجود هنا يقصد به التعبير عن الانسان كموجود (ثابت) والماهية سيرورة من التغيّر المستمر للذات.

الانسان وجوده الثابت هو معطى بالفطرة البايولوجية. بينما حقيقة الماهية كجوهر انساني باختلاف عن جميع الماهيات في موجودات واشياء العالم الخارجي، هي سيرورة من تصنيع الانسان لماهيته الذاتية المتعالية نحو الارقى باستمرار.. لهذا يكون الثبات في الانسان كموجود سابق على ماهيته المتغيرة كتصنيع ذاتي مستمر من سيرورة متطورة تلازم الانسان مدى الحياة..

واذا قلنا (العقل يسبق الماهية) فتكون العبارة حسب تحليلنا السابق في منتهى صواب ودقة التعبير. اما قولنا الجسد يسبق الماهية يكون بالقطع خطأ لا يمكننا تمريره حتى عند الانسان والسبب ان الجسد متعيّن انطولوجي ايضا ثابت موجودا وليس (ثباتا) ماهويا محال أن يكون. فالماهية كما اوضحنا ميزتها التغيير المستمر في مسار من السيرورة الخاضعة للذات والعقل.

الفرق الذي يساء تفسيره بين ثبات كينونة الانسان كموجود جسمانيا وليس ماهويا. والماهية الانسانية سيرورة بنائية للذات غير متوقفة مستمرة. التفسير القاصر هو الذي يعتبر الجسم ماهية!! مثلما تقول بابتذال غير مسيطر عليه النفس هي الجسم او الجسم ينوب عن تمثيله الذات.

ربما يتبادر للذهن تساؤل لماذا نعتبر جسم الانسان وماهيته وصفاته الخارجية هي دلالة واحدة في التعبير عن كينونته كموجود؟. ولا نعتبر جسم الحيوان كذلك؟ الحيوان لا يمتلك ماهية لان الماهية جوهر عقلي في وعي الذات لمجاوزة نفسها نحو الافضل في تراكم خبرة بنائية كما هي عند الانسان. بينما الحيوان لا يمتلك وعيا (لذاته) كي يقوم بتصنيع ماهية ذاتية خاصة به تطوريا نحو الارقى بحياته. لذا الحيوان جسم يعيش ليأكل. وليس كما يفعل الانسان بوعيه الذاتي في مشروع بناء. جسم الحيوان بصفاته الخارجية وغياب وعيه لذاته يترتب عليه يكون بالضرورة البايولوجية لوجوده كائنا بلا ماهية.

العقل خاصية الذكاء لديه هي في امتلاكه وعي ذاته وفي خاصية تصنيعه لذاته تطوريا نحو الافضل بالحياة في تكوين ماهيته. وعي الذات لدى الانسان يتمثل في وعيه الزمن ليس كمطلق كونيا ولو انه حتى بهذا التوصيف خطأ اذ مع نسبية انشتاين 1915 لم يبق مطلق زمني لا عند ارسطو ولا عند نيوتن. بل بقي وقت لازمني هو تحقيب ارضي يقوم على ملاحظة التغييرات المناخية وهو ما لا يمتلكه الحيوان.

ربما يعترض أحدهم متسائلا أن بعض الحيوانات تمتلك حاسة تنبؤية بحدوث بعض الظواهر الطبيعية مثل الزلازل والفيضانات والاعاصير وغيرها قبل احساس الانسان بها. والرد على ذلك ان الحيوان صحيح يسبق الانسان في الخاصية التنبؤية للظواهر المدمرة التي تحدث بالطبيعة لكنه اي الحيوان يعجز مجاراة الانسان في وعيه التوقيت الزمني والتغيرات المناخية وحدوث الفصول الاربعة فيزيائيا وليس زمنيا التي اثبت علم الفيزياء الحديث ان تلك الظواهر لا تحدث بفعل تغيرات زمنية بل تحدث نتيجة تغيرات فيزيائية مناخية مصدرها دوران الارض حول نفسها وحول الشمس كذلك دوران القمر حول الشمس ومن احدى نتائج هذه الظاهرة الفيزيائية الثابتة ان جاذبية القمر هي وراء حدوث المد والجزر بالبحار. وكلها تحدث فيزيائيا خارج نسبية الزمن..

والعقل سواء في معناه البايولوجي كعضو يتسّيد كينونة الانسان كموجود خاصيته الماهوية التفكير حسب تعبير ديكارت. اعتبر ديكارت خلود العقل والنفس دلالة عن مصير واحد يجمع بينهما. توصيف ديكارت ان خاصية العقل التجريدي والبايولوجي معا هو خاصية قدرته التفكير بالتعبير عن الاشياء والموجودات كان تعبيرا فلسفيا غير دقيق يجانب التفلسف الصائب من حيث أن (ماهية) الانسان ليست هي (تفكيره) في التعبير اللغوي.

وكذلك كان ديكارت غير موفق فلسفيا في اعتباره العقل والنفس جوهرين خالدين. فهو لم يميّز بين العقل كعضو في تكوين جسم الانسان البايولوجي، وبين العقل كخاصية تفكير تجريدي بالتعبير عن الاشياء ومدركاته. فالخلود يكون حصرا بافكار العقل وليس في بايولوجيته الفانية بالموت الذي يطال جسم الانسان كاملا.

الشيء الاخر لم يميّز ديكارت بين النفس الفانية وبين الروح الخالدة. وقوله النفس جوهر خالد خطأ جسيم اذ النفس خاصية جسمانية بيولوجية قابلة للفناء الوجودي ولا ينتظرها خلود بعد فناء الانسان.

ولو نحن عدنا الى التراتيبية بين العقل والماهية في الاسبقية لمن؟ هل العقل يسبق الماهية أم الماهية تسبق العقل؟ واذا اخذنا المقايسة المعيارية بينهما في خاصية (الثبات) للعقل والسيرورة التغييرية(للماهية) لقلنا بلا تردد لحظة واحدة الاسبقية التراتيبية هي للعقل. اذ من الصعوبة تعيين محدودية للماهية التي هي تصنيع ذاتي متغير خلاف العقل بصورتيه البايولوجية وخاصيته التفكيرية.

الفكر والمادة

إذا كان هناك خاصية ينفرد بها الفكر تراسندتاليا (متعاليا) على الواقع فهي أنه يتطور ويتغير أسرع من التغييرات ألحادثة في واقع الحياة المادية وعالم الاشياء من حولنا في الطبيعة، بمعنى الفكر يدرك الموجودات بالوصاية العقلية عليها بما يجعل من هذا الاخير(الواقع بموجوداته) تابعا للفكر الذي يتقدمه في نفس الوقت الذي لا يمكن القفز من فوق حقيقة أن الواقع المادي للاشياء هو مصدر إلهام الفكر وسابق عليه وليس العكس. فالفكر لا يصدر من فراغ أي بلا موضوع يدركه حسيّا او خياليا سابقا عليه. تبدو مفارقة متناقضة حين نقول الفكر يتقدم الواقع المادي في التقاطع مع/ والخروج على النظرة المادية ونسقط في تعبير مثالي حين نجد الافكار تجر الواقع وراءها على الدوام، في حين الحقيقة أن الواقع في موجوداته المستقلة أنطولوجيا هو محرك الفكر المحايث له ماديا جدليا السابق على الفكر المنتج لاستثارة ادراكه العقلي، والأفكار في الوقت الذي تدخل جدليا (تكامليا معرفيا) مع موجودات الاشياء فهي تسابقها من أجل تغييرها وتطويرها بعد معرفتها وإدراكها عقليا، وتتطور هي ذاتيا أيضا بعلاقتها الجدلية مع تلك الموجودات. العلاقة بين المادة والفكر تكامل معرفي لكليهما في التقدم والتطور.

والافكار التي تحاول تغيير الواقع جدليا متخارجا مع موجوداته تتطور هي الأخرى في جدليتها المتعالقة بها. فوجود الشيء أو الموضوع المستقل ماديا أو خياليا يعالج من قبل الذهن فكريا في العقل البايولوجي قبل الأفصاح عن وجوده المادي في عالم الاشياء بواسطة تعبير اللغة عنه كموجود في العالم الخارجي او موضوعا متخيّلا. الموجود يسبق الفكر لكنه لا يلزم العقل إدراكه.

الموجودات في العالم الخارجي لا قدرة لها الإفصاح عن نفسها دونما الإدراك العقلي لها والتعبير الفكري لغويا عنها. وكذا نفس الحال مع المواضيع المصنّعة خياليا. فنحن نفهم الصمت تفكيرا إستبطانيا داخليا ذاتيا ولا نفهمه تعبيرا لغويا تواصليا صوت ومعنى دلالي. صمت اللغة في ضروب الفنون والادب تواصل إيحائي تكون فيه لغة التعبير في حالة كمون بمعزل عن خاصية ملازمة الصوت للغة. وهذا يختلف عن صمت الانسان وإمتناعه التعبير عن تفكيره باللغة المكتوبة أو بالكلام في حال إدراكه أن لا فائدة من التعبير اللغوي. وتاكيد ذلك في تعبير لوفيدج فينجشتاين قوله حين نعجز التعبير بوضوح يكون الصمت أجدى.

ليس الواقع الوجودي للاشياء هو الإنعكاس الميكانيكي في تعبير الفكر واللغة عنه، وأنما الموجود بعد إدراكه حسّيا وعقليا يتم تخليقه ثانية بالعقل بما يطلق عليه كانط مقولات العقل. والاشياء التي يعمل العقل على تطويرها ينعكس هذا التطور الواقعي على الأفكار التعبيرية عنها فتتطور هي ايضا. بمعنى أن الواقع الذي يتطور بفاعلية الفكر يقوم هو الآخر بتطوير (ذاته) واقعيا ماديا ليبقى الفكر يتقدم الواقع في تخليقه له على الدوام ولا يتقدم عليه في أسبقية وجوده على الفكر..

المعنى بين الفكر واللغة

هل يخطأ العقل بالتفكر قبل خطأ اللغة في نقلها تصورات العقل لموضوعات ادراكه؟ عبقرية اللغة سابقة على عبقرية الفكر رغم الخاصية التداخلية بين الفكر واللغة. عبقرية اللغة سابقة عبقرية الفكر رغم ان انتاجية العقل للفكر يسبق تعبير اللغة عنه. من المحال ان يستطيع العقل التفكير بغير اللغة. كما لا يستطيع العقل نقل تصوراته الادراكية باللغة التي من المحال الفصل بينها وبين الفكر وكلاهما انتاجية عقلية. وفي حالة الصمت اللغوي لا يمكننا تصور تراتبية اسبقية التفكير على اللغة.

اللغة ليست شكلا تعبيريا خاليا من مضمونه القصدي المعرفي الذي هو محتوى الشكل اللغوي. وتفترق اللغة عن الخيال التصوري العقلي اللغوي والتمايز الاختلافي في الدلالة بينهما متى ما اصبح موضوع الخيال واقعا ماديا.

خطأ اللغة هو خطأ تفكير العقل. وحين تكون حقيقة الفلسفة التي اشار لها التحليلين المنطقيين تتلخص مهمتها في توضيح قضايا العلم فهذا التقزيم التبعي للغة الفلسفة امام قضايا العلم غير كاف. الحقيقة التي يجب ان لا تقاس بالحجوم ما بين العلم واللغة تكون اللغة عامة ولغة الفلسفة خاصة اشمل من الاهتمام بقضايا العلم كي تؤكد حقيقتها الملتبسة امام العلم.

تحليل اللغة بعيدا عن التطرق الى مضامينها وحواملها يجعل من اللغة نسقا شكليا مستقلا عن الحياة وهذا ما اكده جورج مور وفينجشتين المتاخر. كلاهما اكدا اهمية مضمون ما تهدف له اللغة تعبيرا قبل شكل الصياغة اللغوية.

***

علي محمد اليوسف

 

ان مسألة إثبات او نفي وجود الله هي في الغالب مسألة عقل وغرض وليست مسألة تحقيق علمي. ما مطلوب هو منطق استنتاجي يحاول توضيح الله من خلال الاستدلال المنطقي، وعلاقة الله بالعالم. سيكون من الخطأ ان يقتصر البحث عن الحقيقة فقط بالوسائل التجريبية (العلم). ان الالحادية الحديثة حينما تصر على استخدام التجريبية كأداة في جميع أغراض المعرفة، فهي تمارس نفس القضية التي تتجاوز التجريبية طالما ان الله خارج الكون وليس فيه. وهذا يعني ان ذكاء الله ينعكس في خلقه لكنه لا يُدرك دائما او ممكن استعماله كدليل قابل للاثبات. ان ما قيل من جانب العديد من الثيولوجيين ايضا بحاجة لكي يُفهم جيدا: ان الله متميز كليا عن أي شيء يُستخدم لتصنيفه. في الحقيقة، يصف توما الاكويني الله في اللغة اللاتينية" totalliter aliter" بمعنى خارج قدرتنا على الفهم الكامل له. من الواضح ان محدوديات الانسان تجعل من الصعب اثبات او فهم الحقائق العليا. لحسن الحظ يمكننا البدء بوصف مظاهر الله القابلة للفهم بواسطة قدرات الانسان. على سبيل المثال، الله ذكاء تام خالص، لأنه اذا كان فقط ذكاء دون المستوى الأمثل، عندئذ سوف يكون متناهي وبالتالي ليس إلها، على الاقل في المعنى التقليدي التوحيدي.

بما ان الله ليس مجرد عقل خالص وانما هو اساس الوجود ذاته (وهو لا يمكن بالطبع تحليله كميا) وليس شيئا ماديا ضمن الكون، فان البحث عن دليل علمي مادي سيضر في نقاش وجود الله. عند التحقيق بوجوده، علينا ان ندع انفسنا نُقاد بالعقل والتفكير النقدي، ولا نُخدع باولئك الذين يرتكبون خطأ التصنيف في محاولة وضع الله في بيانات تجريبية.

لذلك، فان الغرض الرئيسي في هذا المقال هو بيان لماذا يجب ان نقبل الحجج العقلانية لوجود الله بدون أدلة تجريبية صارمة: اثبات وجود الله ليس من خلال عرض دليل علمي وانما من خلال اظهار وجوده عبر طرق مثل الحجج الاخلاقية والكونية والانطولوجية (1).

عندما يفشل العلم في إعطاء جواب قاطع لسؤال الله، عندئذ فان الملحدين الواثقين بالعلم عادة يتبنون الايمان الأعمى في موقفهم. وبما ان الاختبار العلمي هو الطريقة الخاطئة لمعالجة مسألة وجود الله او عدم وجوده، ومع اعطاء العقلانية حقها، فان التمسك بالايمان بعدم وجود الله هو عمل ارادي خالص. نوع من ايمان أعمى في تحدي المنطق والعقل. لكن عندما تُستعمل التحليلات العقلانية بدلا من ذلك، فان الملحد سيجد نفسه يعمل ضد الدليل الفلسفي والتاريخي الساحق لوجود الله. الناس احيانا يدّعون ان الفلسفة حقل دراسة "ميّت" تُعاد فيه المسائل القديمة بلا نهاية. وهذا الادّعاء خاطئ تماما.

مع تطور العلم والانسانيات، تطورت ايضا الفلسفة التي دمجت ما اشتقته من تلك التطورات. وعلى الرغم من ان البعض لايزال يعتبر الفلسفة مسعى بلا قيمة، فهي تبقى تنظر في سبب اهمية الاشياء. هناك قول قديم : العالِم يسأل الفيلسوف لماذا الفلسفة تهم. يجيب الفيلسوف بتوجيه سؤال للعالِم لماذا العلم يهم. وعندما يبدأ العالم بالإجابة، يقاطعه الفيلسوف بالقول "والآن نحن نعمل فلسفة".

 منذ التنوير، بدأ الفلاسفة بتفكيك الاشياء التي كانت في السابق اما يقينية او على الاقل نُظر اليها بنوع من الشك. هذا ليس تشويها لسمعة التنوير او للفترات المشابهة، والتي تستحق الثناء حقا لأنها أنتجت أساليب رائعة من التفكير النقدي. وكما في كل العصور، لم يكن ذلك بدون عيوب. التنوير في تعبيراته الراديكالية أنتج شكا متطرفا. هذه الممارسة المبالغ بها مترافقة مع التأكيد على الدليل التجريبي، قاد الى التخلي عن الايمان بالله وهو ما يمكن ان يسمى سبب غير كافي، لأن استعمال الشك المفرط لإثبات عدم وجود الله يجب ايضا ان يدحض التفكير الذي يصل بواسطته المرء لذلك الاستنتاج.

هذه الطرق المتطرفة والاستنتاجات اللاحقة أثارت مشكلة، لأن الله يمكن الجدال فيه بعقلانية وبشكل مقنع. لكن نتيجة لتغلغل العلموية الاحادية النظرة في الثقافة الغربية، فان احدى القضايا الكبرى التي يواجهها المؤمن اليوم هي ان الناس يبدو غير قادرين على قبول أي شيء لا ينطوي على برهان تجريبي على وجود الله. من المفارقة هنا انهم سوف يقبلون مثلا بحقائق الجمال او الاخلاق او بكلمات مثل "انا احبك" رغم ان هذه الاشياء لم يتم اثباتها تجريبيا ابدا.

الإلحاد ام اللاادرية؟

كل من ارسطو وافلاطون وبقية اليونانيين القدماء الذين وضعوا حجر الاساس للفلسفة اتخذوا اتجاها مختلفا، البعض كانوا اكثر شكا، آخرون اكثر تجريبية، ولايزال آخرون يهتمون بموضوعات عقلانية مثل الاخلاق او أشكال المعرفة. ولو تقدمنا الى العصور الوسطى سنجد شخصية مثل القديس توما الاكويني في الخلاصة اللاهوتية (1274)، والتي كانت رسالة فلسفية بقدر ما هي ثيولوجية. هو ربما كان ابرز شخصية مؤثرة في استخدام حجج مقنعة في وجود الله.

اللاادرية تبدو موقفا اكثر معقولية بالنظر الى ان عبء البرهان يقع على الملحد وليس على اللاادري. في بعض السيناريوهات، يقع عبء البرهان ايضا على المؤمن، ولكن على الاقل المؤمن لديه حجج ايجابية تُظهر وجود الله، بينما الملحد عليه مهمة يستحيل التعامل معها بنجاح في اتخاذ موقف ايجابي في عدم وجود شيء، ولهذا يتضح انه قادر فقط على الجدال ضد وجود الله المفترض سلفا. لكن يجب التوضيح ان الجدال ضد حجج وجود الله هي ليست نفس الشيء كاظهار عدم وجوده. الاخيرة حالة يكون تبنّيها أصعب بكثير طالما انها تتضمن على الاقل مهمة التصدي لكل حجة تُظهر وجوده بشكل معقول. رؤية الملحد الراسخة تتطلب دحضا صارما وهي رؤية يصعب فهمها بالنظر الى قرون من الادب حول هذا الموضوع. لكن اذا لم ينجح الملحد في تقديم هذا الدحض، عندئذ هو حقا لا يمكنه اعتبار نفسه ملحدا صادقا – أي، شخص ليس لديه ايمان قوي وظاهر. بل، هو لا ادري (والذي يعني شخص بدون معرفة بوجود او عدم وجود الله) – مالم يكن لديه استعداد لإتخاذ قفزة الايمان (ايمان بشيء يصعب الايمان به، ليس على اساس المنطق) للوصول الى إلحاده، الامر الذي يبدو مناقضا واكثر خطورة من قفزة الايمان للوصول الى موقف مضاد. في الحقيقة، يبدو ان الالحاد الايجابي يتطلب ايمان اكثر مما يتطلبه المؤمن بعقيدته. الالحاد الحقيقي او العقيدة الايجابية بعدم وجود إله (بمعنى، عقيدة بعدم وجود اله، مقابل عدم امتلاك عقيدة بان هناك اله) يفترض سلفا ان يعتبر المرء نفسه غير مقتنع وبشكل لا يقبل الجدل، بينما الايمان يتطلب فقط عقيدة بـ "حجم حبة خردل" (لوك 17:5-6).

لذا، فان المؤمن ليس لانه لديه برهان تجريبي او منطقي لوجود الله وانما هو اتخذ قفزة عقلانية نحو تلك العقيدة بالارتكاز على حجج ايجابية لله، وبهذا هو يعطي موافقة على الافتراض الذي هو في موقف جيد من الناحية الابستيمولوجية مقابل اولئك الذين لا يؤمنون فقط وبشكل أعمى.

وكملاحظة جانبية، نعتقد ان الناس يفضلون اعتبار انفسهم ملحدين عندما يميلون نحو عدم وجود الله، ويعتبرون انفسهم لاادريين عندما يكونون أقرب الى منتصف الطريق او لا قرار لديهم ولكن ليسو لا ادريين تجاه الحجج المؤيدة لله. هذا القرار في تسمية اولئك الذين ينقصهم فقط الايمان بالله كـ "ملحدين" بدلا من "لاادريين" هو ببساطة امر خاطئ. اذا كان شخص ما ليس لديه كفر ايجابي، اي، تجاهل و ترك الحجج المؤيدة لله بلا جواب، عندئذ عندما يهتم شخص ما بما يكفي ليكون صادق فكريا، فان الخيار الوحيد المتبقي هو الاعتراف على الأقل باحتمالية وجود إله – الامر الذي يضع الشخص في معسكر اللاادريين.

الحل

العقلانية هي الطريق الذي نقترب به من سؤال وجود الله من خلال عملية التساؤل والاستدلال. التجريبية ليست نفس الطريقة ويجب ان لا تُطبق عند محاولة اثبات او نفي وجود الله، طالما ان تصورا صادقا فكريا وشاملا لله يعرّفه كمتعالي على النظام الطبيعي، ينطلق منه بدلا من ان ينطلق هو منه، والتجريبية سوف دائما تأتي ناقصة عندما تسعى لنفي وجود كائن متجاوز، لأنها مقيدة بشكل صارم بدراسة النظام الطبيعي. لذلك، فان البرهان الايجابي على عدم وجود الله لا يمكن انجازه من خلال الطريقة العلمية. وجود الله او عدم وجوده يتم فحصه بدلا من ذلك من خلال مجال عقلاني خالص، او من خلال النظر في الدليل التاريخي – على سبيل المثال قيامة المسيح.

في كثير من الأحيان يقفز الباحثون – وربما عن طريق الخطأ وليس عبر اللانزاهة الفكرية – من التجريبية الى العقلانية، محاولين استعمال طريقة تجريبية للوصول الى استنتاج عقلاني خالص. وبينما التجريبية يمكن ان تخدم العملية العقلانية الى نقطة ما، مثل قفزة من الطريقة التجريبية الى استنتاج عقلاني خالص، فهي مشابهة لمحاولة استعمال الطحين والزبدة والسكر والبيض لبناء كومبيوتر. لكن عندما يعترف المرء بالنهاية بإلغاء التجريبية، فان اثبات عدم وجود الله من خلال العقلانية يمثل عبئا لا يطاق. وفي ضوء الدليل العقلاني، سيكون لدينا سؤال جديد: تؤمن ام لا تؤمن؟

يُعتقد ان الامر يتعلق بما اذا كان ينبغي لنا ان نؤمن او لا نؤمن بأهمية الاسباب المعطاة للايمان بالله. ولكن كما ذكر كيركيجارد، نحن مسموح لنا في استشارة ليس فقط الرأس وانما القلب ايضا.

يمكن القول ان جوزيف بريبر Josef Preper وهو من أبرز الثيولوجيين في القرن العشرين الذي قال "ان الحب هو الحقيقة المبسطة"، التي ليس فيها توضيح اساسي اكثر من الفكرة ذاتها. ان محاولة وصف خصائص كلمة "حب" يعني تعقيدها، لكن ماذا يعني الحب، ببساطة هو "انا اعتقد من الجيد انك موجود". الحب يراه معظم الناس انه يعطي معنى جوهري لحياتهم. الله وُصف كـ "حب" في 1 John 4:8:.

الكاردينال نيومان كتب رسالة سُميت مقالة في مساعدة قواعد الموافقة (1870) (2). هذه المقالة وصفت كيف يقوم الذهن طبيعيا بتجميع مذهل لكمية كبيرة من البيانات كل يوم، ويصل الى استنتاج عقلاني بدقة وفورية لا حاجة فيه لجهد فكري منسق من جانب الفرد. انها وسيلة كشفية مساعدة مفيدة وضرورية لبقائنا. مثلا: لو ان شخص ما يتلقى مكالمة اثناء العمل من رقم مجهول، والمتكلم يعرّف نفسه كضابط شرطة يعلن عن حصول مداهمة لمنزله ويذكر عنوانه، فان ذلك الشخص سيثق فورا بان المتصل هو حقا ضابط شرطة وانه يقول الحقيقة بدون أي برهان ايجابي لأي من هذه الاشياء. نيومان يسمي هذه الظاهرة من التوليف العقلاني الفوري بـ "حس استدلالي". Illative sense. انها عملية ننخرط بها يوميا. لماذا يكون الايمان بالله جسرا بعيد جدا في هذا الشأن، بينما نحن في الحقيقة نمارس هذا السلوك الفطري دائما وبانتظام؟.

السؤال هو حول ما اذا كنا سنسمح بالحقائق الواضحة للحب لتتردد فينا وتغمرنا بفهم مشابه لما نسميه "تبرير" لوجودنا – والذي في كثير من الاحيان هو ما نبحث عنه بقوة، سواء بمعرفة او بدون معرفة. انه استطلاع حقيقي هنا – فيما اذا كنا نعترف بحقيقة الحب العابرة – والخيار متروك لكل فرد لإعطاء جواب له. هل نؤمن بـ "الحب غير القابل للاثبات" او هل سنستمر في البحث عن جواب يمكن التحقق منه تجريبيا لسؤال لم يُطرح ابتداءً من جانب الرأس العقلاني بل بطريقة غير عقلانية احيانا او ما يمكن تسميته قلب فائق العقلانية super rational؟

***

حاتم حميد محسن

..............................

The return of God? A critique of pure Atheism, philosophy Now, Dec/Jan2025

(الكاتب الدكتور اندرو ليكودس، رئيس مؤسسة ليكودس للبحوث الثيولوجية، وهو محرر لستة كتب ومحاضر في جامعة توسون)

الهوامش

(1) الحجج الفلسفية الثلاث لإثبات وجود الله

1- الحجة الأخلاقية The moral Argument

هذه الحجة تؤكد ان الله هو التوضيح الأبرز الوحيد للاخلاق الموضوعية. تذهب الحجة كالتالي:

2- بدون إله لن يكون هناك اساس للاخلاق الموضوعية او للالتزامات الاخلاقية.2- لكن الاخلاق هي موضوعية – الاغتصاب والقتل والتعذيب جميعها خاطئة موضوعيا.3- لذلك لابد ان يكون هناك إله.

هذه الحجة تعتمد على كون الاخلاق صادقة موضوعيا وهو ما يعارضه الان العديد من الناس. انها ايضا عليها ان تبيّن كيف ان الله هو اساس للاخلاق. كذلك، انها تعتمد على عدم وجود اسس اخرى حيوية للموضوعية الاخلاقية. بدلا من ذلك، يمكن تحقيق نفس الدور بواسطة المثالية الافلاطونية. وهي الفكرة بان هناك وجود مستقل للمفاهيم الاخلاقية. لكن المثالية الافلاطونية فيها عدة مشاكل ايضا.

الحجة الكوزمولوجية The cosmological Argument

وهذه الحجة تسأل لماذا شيء ما يوجد بدلا من ان لا يوجد. انها تعالج وجود كائن هو ذاته سبب وراء الكون وهو الله. نسخة علم الكلام لهذه الحجة تذهب كالتالي: 1- كل شيء يأتي الى الوجود له سبب. 2- الكون جاء الى الوجود 3- لذلك فان الكون له سبب 4- لكي نتجنب العود اللانهائي فان هذا السبب يجب ان يكون كائنا موجودا بالضرورة 5- ذلك السبب يجب ان يكون الله 6- لذا فان الله موجود. المشكلة الرئيسية في الحجة الكونية هي اظهار لماذا يوجد الله بالضرورة. لماذا لايكون الكون صدفة اي غير ضروري.

3- الحجة الانطولوجية The ontological Argument

اول حجة انطولوجية في الغرب صاغها القديس انسلم عام 1078 حيث يعرّف الله "كائن لا يمكن تصوّر أعظم منه" ويجادل بان هذا الكائن يجب ان يوجد في الذهن، حتى لدى الشخص الذي ينكر وجود الله. ومن هنا هو يقترح بان الكائن الأعظم الموجود في الذهن يجب ان يكون ايضا موجود في الواقع، وبالتالي يكون الله موجودا.الحجج الانطولوجية تثق بفكرة مشكوك فيها بان تعريف الله ذاته يثبت انه موجود. لكن من الصعب تحديد الخطأ في هذا الاتجاه ان كان هناك خطأ.

(2) مقال في المساعدة في قواعد الموافقة هو الكتاب الشهير للثيولوجي نيومان John Henry Newman حول فلسفة الايمان والذي اكتمل العمل به عام 1870 بعد 20 عاما من العمل. كان هدف الكاتب بيان ان المعايير العلمية للدليل والموافقة هي ضيقة جدا ولا يمكن تطبيقها في الحياة الملموسة. هو جادل بان المنطق واستنتاجاته لايمكن نقلها لميدان القرارات في الحياة الواقعية. وبالتالي، من غير الملائم الحكم على صلاحية الموافقة على الايمان الملموس من خلال معايير المنطق التقليدية لأن منطق الورق لايتساوى مع المهمة. "المنطق فضفاض في كلا الطرفين"، بما يعني ان جميع عمليات المنطق في الاساس تعتمد على افتراضات مقيّدة وبهذا تكون غير قادرة على موائمة استنتاجاتها بدقة مع ظروف العالم الواقعي. هو كان مهتما بالدفاع عن الايمان كنتاج شرعي لفعالية الانسان العقلية – بمعنى ان الموافقة ليست معاكسة لطبيعة الانسان. هو كتب هذا الكتاب بالضد من التجريبية البريطانية التي قيّدت قوة وشرعية الموافقة فقط بالدليل المعروض. جون لوك وديفد هيوم وجون ستيوارت مل كانوا من أشهر التجريبيين الذين اشتبك نيومان معهم فلسفيا.

 

ولدت حركة التنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر. وقد حصلت على اسم التنوير في إنجلترا و الأنوار Aufklärung في ألمانيا. وأشهر ممثليها، بالإضافة إلى عمانويل كانط، ومونتسكيو، وفولتير، ودينيس ديدرو، وجان لورون دالمبر، وجان جاك روسو، وباروخ سبينوزا وجون لوك وتوماس هوبز وديفيد هيوم. تتميز هذه الفترة، التي نسميها "عصر التنوير"، بالرغبة في التقدم في جميع المجالات: السياسية: التشكيك في الملكية المطلقة بالحق الإلهي، الدينية: انتقاد الخرافات والتعصب، الثقافية: الاهتمام المتجدد بالمعارف والعلوم. التكنولوجيا والقضايا الاجتماعية: تراجع الطبقة الأرستقراطية، وصعود البرجوازية. ويمكن تلخيص "برنامج" التنوير على النحو التالي: محاربة الجهل من خلال نشر المعرفة على نطاق واسع؛ وزيادة الثروة من خلال تطوير الزراعة والصناعة والحرف والمهن والتقنيات والأدوات والوسائل والفنون؛ العقل بديل للخرافة. الطبيعة والانسان مكان اللاهوت. ضمان استقلالية الأخلاق فيما يتعلق بالدين؛ جعل فكرة الله مستقلة عن أي دين معين؛ رفض الاستسلام لما يسمى بمراسيم العناية الإلهية. فكيف أجاب كانط عن سؤال ما الأنوار؟ والى أي مدى ترجم الجواب الذي اقترحه روح عصر الأنوار؟

  "ما هو التنوير؟ خروج الإنسان من أقليته التي هو مسؤول عنها. أقلية، أي عدم القدرة على استخدام فهمه (القدرة على التفكير) دون توجيه من الآخرين، أقلية هو مسؤول عنها، لأن السبب لا يكمن في خلل في الفهم بل في عدم القدرة على اتخاذ القرار والشجاعة في استخدامه دون توجيه من الآخرين (الجرأة في التفكير). تحلى بالشجاعة لاستخدام فهمك الخاص. هذا هو شعار التنوير. الكسل والجبن هما السببان اللذان يفسران لماذا هذا العدد الكبير من البشر، بعد أن حررتهم الطبيعة لفترة طويلة من (أي) اتجاه أجنبي، يظلون رغم ذلك عن طيب خاطر، طوال حياتهم، قاصرين، وأنه قد يكون من السهل على الآخرين أن يتظاهروا بأنهم قاصرون حراس السابقين. من السهل جدًا أن تكون قاصرًا! إذا كان لدي كتاب يخدم فهمي، ومدير يخدم ضميري، وطبيب يقرر نظامي الغذائي، وما إلى ذلك، فأنا حقًا لا أحتاج إلى الخوض في أي مشكلة بنفسي - حتى لا أحتاج إلى التفكير طالما أستطيع الدفع؛ سوف يعتني الآخرون بهذا العمل الممل جيدًا. أن الغالبية العظمى من البشر (بما في ذلك النوع الأضعف بأكمله) يعتبرون أيضًا هذه الخطوة للأمام نحو أغلبيتهم خطيرة جدًا، بصرف النظر عن كونها أمرًا مؤلمًا، فهذا ما يعمل الأوصياء بشكل جيد جدًا لتحقيقه (من باب اللطف) أخذوا على عاتقهم ممارسة القيادة العليا على البشرية. بعد أن جعلوا ماشيتهم غبية جدًا وحرصوا بعناية على عدم السماح لهذه المخلوقات المسالمة بالجرأة على اتخاذ أدنى خطوة خارج الحديقة حيث حبسوها. ويوضحون لهم المخاطر التي تهددهم إذا حاولوا المغامرة بالخارج بمفردهم. لكن، هذا الخطر ليس كبيرًا حقًا، لأنهم سيتعلمون المشي أخيرًا، بعد بضع مرات من السقوط؛ لكن حادثًا من هذا النوع يجعل المرء خجولًا، والخوف الناتج عنه عادة لا يشجع على المحاولة مرة أخرى. ولذلك يصعب على كل فرد على حدة أن يهرب من الأقلية التي تكاد تصبح طبيعة بالنسبة له. لقد استمتع بها جيدًا، وفي هذه اللحظة هو حقًا غير قادر على استخدام فهمه الخاص، لأنه لم يُسمح له أبدًا بتجربته. المؤسسات (المبادئ) والصيغ، هذه الأدوات الميكانيكية لاستخدام الكلام أو بالأحرى إساءة استخدام المواهب الطبيعية، هذه هي الأجراس التي تم لصقها على أقدام الأقلية التي تستمر. وحتى أي شخص يرفضها لن يتمكن إلا من القيام بقفزة غير ثابتة فوق أضيق الخنادق، لأنه غير معتاد على تحريك ساقيه بحرية. لذلك هناك عدد قليل جدًا ممن تمكنوا، من خلال عملهم الفكري، من الانفصال عن الأقلية والتمكن من السير بخطوة واثقة. لكن لكي يقوم الجمهور بتنوير نفسه، والدخول أكثر في عالم الإمكانية، فهذا أمر ممكن حتى طالما أعطيناه الحرية للقيام بذلك، وهو أمر لا مفر منه تقريبًا. لأننا سنجد دائمًا عددًا قليلًا من البشر الذين يفكرون بمفردهم، من بين الأوصياء المعتمدين (المعينين) للجماهير والذين، بعد أن تخلصوا من نير الأقلية (الخاصة بهم)، سوف ينشرون روح التقدير المعقول لذاتهم قيمة ودعوة كل انسان للتفكير بنفسه. دعونا نلاحظ على وجه الخصوص أن الجمهور الذي سبق أن وضعوه تحت هذا النير، يجبرهم على وضع أنفسهم تحته، بمجرد أن يتم تحريضهم على التمرد من قبل بعض حراسهم غير القادرين أنفسهم، فغرس التحيزات أمر ضار جدًا لأنهم في النهاية ينتقمون من مؤلفي الكتاب أو من أسلافهم. لذلك لا يمكن للجمهور الوصول إلى الأنوار إلا ببطء. قد تؤدي الثورة إلى سقوط الاستبداد الشخصي والقمع المهتم أو الطموح (الجشع والاستبدادي) ولكنها لا تؤدي أبدًا إلى إصلاح حقيقي لطريقة التفكير؛ بل على العكس من ذلك، ستظهر أحكام مسبقة جديدة من شأنها أن تخدم، بالإضافة إلى الأحكام المسبقة القديمة، الجماهير الغفيرة المحرومة من الفكر..." فماهي الأفكار التنويرية الجديدة التي تضمنها هذا المقال؟

يأخذ نص كانط جزءًا من هذا البرنامج: محاربة الجهل من خلال نشر المعرفة على نطاق واسع، واستبدال الخرافات بالعقل، وضمان استقلالية الأخلاق فيما يتعلق بالدين، وجعل فكرة الله مستقلة عن أي دين معين. مفاهيمها الأساسية هي: "الجرأة"، "الإنسانية"، "الحرية"، "عدم التحيز"، "الثورة"، "الاستبداد"، "الإصلاح"، "الحرية"، العقل، "الاستخدام الخاص للعقل"، "الاستخدام العام للعقل". "، "العلمي"، "التقدم"، "الحقوق المقدسة للإنسانية"، "الإرادة العامة"، "الاستبداد الديني"، "النقد". لذلك يعرّف كانط عصر التنوير بأنه "خروج الإنسان من أقليته"، وبالتالي انضمامه إلى الأغلبية. يشبّه كانط الإنسانية بالطفل الذي يُمنع من النضوج أو الذي يمنع نفسه من النضوج. يتمتع معظم الناس "بالقدرة على التفكير". يؤكد رينيه ديكارت، الذي يمكن اعتباره مع سبينوزا رائدًا لعصر التنوير، في خطاب حول المنهج أن الفطرة السليمة هي الشيء الأكثر انتشارًا في العالم. بالنسبة لكانط، ليست القدرة على التفكير هي ما هو محل شك (عجز العقل)، ولكن الشجاعة في استخدامه. من الأسهل أن أتصرف كقاصر بدلاً من أن أتصرف كشخص بالغ، لأن هذه الحالة لا تتطلب أي جهد خاص: كل ما علي فعله هو أن أترك نفسي تسترشد بالآخرين (نقول اليوم "الخبراء") الذين يعرفون أفضل مني ما أقوم به. يجب أن أفكر وماذا يجب أن أفعل. في الفقرة الثانية، يستخدم كانط صيغو عملية غالبًا ما توجد في كتابات مفكري التنوير: المفارقة: "أن الغالبية العظمى من البشر (بما في ذلك النوع الأضعف بأكمله)، يعتبرون أيضًا أن هذه الخطوة للأمام نحو أغلبيتهم خطيرة جدًا، بصرف النظر عن ذلك". وحقيقة أنه أمر مؤلم، هو ما أخذه الأوصياء الذين بلطف شديد (بدافع اللطف) على عاتقهم لممارسة التوجيه العالي لـ "السخرية، أو "مضاد العبارات" هو صيغة (عملية) بلاغية تتكون من قول عكس ما يعتقده المرء من خلال الإشارة ضمنًا إلى أنه لا يعني ما يقوله. على عكس الكذبة التي تعمل على إخفاء الحقيقة، فإن العبارة المضادة تعمل على كشفها بشكل أفضل من خلال التواطؤ مع القارئ "المستنير" الذي يعرف جيدًا أن حراس الإنسانية لا يستخدمونه بأي حال من الأحوال "من باب اللطف" للتخفيف عنه بجهد التفكير، ولكن، كما سيقول نيتشه، عن طريق "روح الاستياء" وممارسة "إرادتهم في السلطة". ويمكن أيضًا تفسير عبارة "بما في ذلك النوع الأضعف بأكمله" بطريقة إيجابية، باعتبارها انتقادًا للولاية التي يمارسها الرجال على النساء. إن النوع البشري بأكمله، وليس البشر فقط، هم الذين يجب أن يبلغوا سن الرشد. هذا ما فكر فيه وقال أوليمب دي غوج، الذي كان أول من طالب بـ”حقوق المرأة”. يمكننا أن نرى في اللوحة التي تمثل غرفة معيشة مدام جوفرين عددًا قليلاً من النساء (أربع في المجموع، وهو ليس كثيرًا، لكنه ليس شيئًا) من بين ممثلي عصر التنوير. يُظهر كانط، مثل إتيان دو لا بويتي، أن العبودية لا يعاني منها البشر فقط (بالمعنى العام للمصطلح)، ولكنها طوعية وأنها لن تستمر لفترة طويلة إذا لم يوافق الناس على ذلك . وبعد مقارنة البشر بالأطفال (القاصرين)، يقدم كانط مقارنة ثانية في الفقرة الثانية: بين البشر والحيوانات الأليفة. يحتوي هذا المقطع أيضًا على علامات سخرية: "بعد أن جعلوا ماشيتهم (المحلية) غبية للغاية، وبعد أن حرصوا بعناية على عدم السماح لهذه المخلوقات المسالمة بالجرأة على اتخاذ أدنى خطوة، خارج الحديقة حيث حبسوها، يظهرون لهم الأخطار التي تهددهم إذا حاولوا المغامرة بالذهاب الى الخارج بمفردهم..." هنا يتناول كانط الأطروحة التي قدمها في بداية النص: ليس بسبب ضعف اذهانهم أن البشر لا يجرؤون على استخدامها، ولكن بسبب الخوف. ويعمل أولياء أمورهم على تعزيز هذا الخوف. يوضح كانط أن البشر يبالغون في المخاطر التي يعرضون أنفسهم لها من خلال "الخروج من محيطهم". الأطفال أنفسهم، عندما يتعلمون المشي، غالباً ما يتعرضون لسقوط ليس له عواقب خطيرة. كما يصر كانط هنا على أهمية التجربة الشخصية: لا يمكن لأحد أن يفكر أو يسير في مكاننا. الحرية لها ثمن ولا يمكن لأحد أن يعفي الآخرين منه. لذلك يجب علينا أن نتغلب على الخوف من التفكير بأنفسنا وألا نسمح لأنفسنا بالإحباط بسبب "السقوط". ولا ينبغي للخوف الناتج أن يثنينا عن المحاولة مرة أخرى. ومن الصعب على كل فرد منفرداً أن يهرب من الأقلية لسببين:

أ) تميل حالة القاصر إلى أن تصبح عادة، "طبيعة ثانية"، لدرجة أنه أصبح غير قادر على استخدام فهمه الخاص.

ب) لم يسمح له أحد بتجربته. يؤكد كانط على حقيقة أن المؤسسات الإنسانية، والصيغ والمبادئ التي تنبثق عنها، تميل إلى معارضة استخدام الحرية الفردية، بنوع من الجاذبية الطبيعية. هذه المؤسسات وهذه الصيغ تأتي من الاستخدام السيئ للعقل. يمكننا مقارنة الفقرة الثالثة من النص برمز كهف أفلاطون، في الجمهورية، الكتاب السابع: الناس أسرى قيود الرأي ويجب عليهم بذل جهود مضنية لتحرير أنفسهم منها. لقد أوضح أفلاطون، كما يفعل كانط، أنهم راضون عن حالتهم لأنهم اعتادوا عليها وأن أي تغيير فيها هو مصدر إزعاج. وبالتالي فإن البشر الذين انتزعوا أنفسهم من حالة القصور (الذين حرروا أنفسهم) هم قليلون بالنسبة لكانط مثل أولئك الذين، في أسطورة الكهف، ابتعدوا عن الرأي (doxa) ليتجهوا نحو الأفكار والمثل والحقائق والمبادىء. ان الأسباب الداخلية للعبودية: هي الخوف، العادة، الامتثال... تجتمع عند كانط، كما عند أفلاطون، مع الأسباب الخارجية والمؤسسات والمبادئ، والأسباب الخارجية لعبودية الإنسان التي تعزز الأسباب الداخلية (اليوم سنتحدث عن "التغذية الراجعة" " كعملية تدجين). ان المؤسسات والمبادئ هي "أدوات ميكانيكية لاستخدام الكلام". كلمة "آلية" تعني عكس كلمة "مدروس"، حرة، شخصية. إن التصرف بطريقة ميكانيكية يعني تقليد الآخرين (عدم السعي إلى معرفة الذات)، وهو يعني الاستعباد للمؤسسات والمبادئ (سيتحدث فرويد عن جمود "الأنا العليا")، وهو يعني التكرار مثل الببغاء للأشياء. التعاليم، دون أن نتحمل عناء فحصها (اشتقاقيًا لتمريرها عبر منخل العقل). إن البشر الذين انتزعوا أنفسهم من حالة القاصرين قليلون العدد، ولكن يجب أن يكونوا، وفقًا لكانط، المرشدين الحقيقيين للإنسانية: "لأننا سنلتقي دائمًا بعدد قليل من البشر الذين يفكرون بمفردهم بين الأوصياء المرخصين (المعينين) ) من الجماهير والذين، بعد أن يتخلصوا من نير الأقلية، سينشرون روح التقدير المعقول لقيمتهم الخاصة ودعوة كل إنسان إلى التفكير بنفسه" (فقرة 4). فكما يجب أن نعلم الطفل المشي، فمن غير الممكن أن نفكر بأنفسنا؛ يجب أن نساعد، ليس من قبل المعلمين الذين يسعون إلى استعبادنا، ولكن من قبل المرشدين الذين يرغبون في تنويرنا. لقد تم تنوير هؤلاء المعلمين منطقيًا من قبل آخرين، ولا شك أن كانط يفكر في سلسلة طويلة من المفكرين الذين ميزوا تاريخ الفكر منذ بداياته في اليونان القديمة: فلاسفة مثل أفلاطون، ولكن أيضًا علماء الرياضيات وعلماء الهندسة مثل إقليدس أو فيثاغورس الذين سوف يستحضرهم في مقدمة الطبعة الثانية من نقد العقل الخالص. ولذلك فإن المفكرين والفلاسفة والعلماء لديهم مسؤولية داخل المجتمع، بل ومهمة تتمثل في مكافحة الخرافات والأحكام المسبقة، وتنوير الآخرين ومساعدتهم على الهروب من العبودية. لكن كانط كان حريصًا على الإشارة إلى أن تقدم عصر التنوير لا يحدث في يوم واحد، وأنه ثمرة تاريخ طويل وجهود متجددة باستمرار: "كما أن الجمهور لا يمكنه الوصول إلى الأنوار إلا ببطء". لا شك أن كانط، الذي كان معاصرًا للثورة الفرنسية، شعر بأن أحداثًا تاريخية مهمة كانت جارية، لكنه اعتقد أن الثورة السياسية لا تؤدي بالضرورة إلى تطور فكري وأخلاقي (إلى "إصلاح حقيقي لطريقة التفكير"). هكذا يقدم القسم 5 مفهومًا جديدًا: مفهوم الحرية: “الآن، بالنسبة لهذه التنويرات، لا يوجد شيء مطلوب سوى الحرية؛ وفي الواقع، الحرية الأكثر ضررًا من بين كل ما يمكن أن يحمل هذا الاسم، أي استخدام المرء لعقله بشكل عام  في المناطق." وسوف يميز أيضًا بين استخدامين للعقل: "الاستخدام الخاص" و"الاستخدام العام". "هناك سيد واحد فقط في العالم يقول: "فكر بقدر ما تريد وفي كل ما تريد، ولكن أطع!": يلمح كانط إلى "الاستبداد المستنير لفردريك الثاني ملك بروسيا ويذهب إلى حد تسمية عصر التنوير "قرن فريدريك". وسيشرح هذه الإشارة التي سنعود إليها في نهاية النص. يُجري كانط تمييزًا مهمًا للغاية ضمن مفهوم الحرية المُعرّف على أنه استخدام العقل، بين "الاستخدام الخاص" و"الاستخدام العام": "أنا أفهم من خلال الاستخدام العام لعقلنا ما نعتبره باحثًا أمامنا". لجمهور القراءة (المثقف) بأكمله... أنا أسمي الاستخدام الخاص هو ما يحق للمرء أن يفعله بعقله في منصب مدني أو وظيفة محددة موكلة إليه." يجب أن يكون الاستخدام العام لعقلنا حرًا، وهذه الحرية مفيدة لأنها "وحدها قادرة على جلب التنوير بين البشر". الاستخدام الخاص للعقل محدود بالضرورة بالضروريات المرتبطة بعمل المجتمع (الحفاظ على النظام الاجتماعي). «هنا لا يجوز العقل، بل هي مسألة طاعة». لا يجب على البشر، وفقًا لكانط، التشكيك في النظام الاجتماعي من خلال رفض الطاعة، لأن المجتمع يعمل كآلة يكون كل عضو فيها ترسًا. يتطلب أداء المجتمع "الإجماع المصطنع" وسلبية أعضائه (أو على الأقل جزء منهم) في الاستخدام الخاص لعقولهم. ومع ذلك، فإن نفس الشخص، بشرط أن يفعل ذلك بطريقة مناسبة ومدروسة، يمكنه الإدلاء بملاحظات علنية حول الاختلالات في المجتمع. يأخذ كانط مثال المواطن الذي يعتقد أن الضريبة غير عادلة. باعتباره شخصًا عاديًا، لا يحق له عدم دفع الضريبة، لكنه يستطيع أن ينتقد علنًا "الحماقة أو حتى الظلم الذي يترتب على مثل هذه الإملاءات". ويذكر أيضًا حالة الضابط الذي يجب عليه، أثناء ممارسة وظيفته، أن يطيع الأوامر الصادرة إليه، ولكن يمكنه، بصفته خبيرًا، أن ينتقد علنًا، كتابيًا أو بأي طريقة أخرى، أي خطأ في القيادة. سوف يتناول هنري ديفيد ثورو هذه المشكلة بعد قرن من الزمان، في أطروحته حول العصيان المدني التي يرفض فيها (دون أن يذكر كانط) التمييز الكانطي بين الاستخدام العام والاستخدام الخاص للعقل: للمواطن الحق، بل واجب، ألا يفعل ذلك. دفع الضرائب حتى تقوم دولة المرء بإلغاء الممارسة التي يختلف معها الشخص بشدة (في هذه الحالة العبودية). ويأخذ أيضًا مثال الكاهن الذي، كشخص عادي، ملزم بتعليم حقائق الكنيسة التي تم قبوله فيها، ولكن كعالم، "يتمتع بالحرية الكاملة، بل وأكثر من ذلك مهمة إيصال جميع أفكاره المدروسة وحسنة النية للجمهور حول ما هو غير صحيح في هذا الرمز وتقديم مشاريعه إليه بهدف تنظيم أفضل للأمر الديني والكنسي. كما استخدم كانط كلمة "رمز" وليس كلمة "الحقيقة" لاستحضار الحقائق الدينية. وفي الديانة الكاثوليكية، تسمى هذه العقيدة "عقيدة الرسل". نرى مدى ابتعاده عن فكرة الاعتقاد الأعمى أو حتى عن فكرة أن الفلسفة (العقل) يجب أن تكون بمثابة المساعد أو الخادم للاهوت. وفي كتيب آخر: الدين في حدود العقل، سوف يفضح كانط الفرضية التي بموجبها لا يمكن إجبار أي شخص على الإيمان بـ "الحقائق" التي تتعارض مع العقل. ان "المجتمع الكنسي" ليس له ما يبرره قانونًا في أداء القسم على رمز ثابت لأنه، بالنسبة لكانط، لا توجد "حقائق أبدية". ويضيف كانط، أنها ستكون "جريمة ضد الطبيعة البشرية" هدفها الأصلي هو تقدم التنوير، أي إمكانية اكتشاف أن ما نعتبره حقيقة في الوقت الحاضر يمكن اعتباره لاحقًا خطأ. إن "محك" كل ما يمكن أن يقرره شعب على شكل قانون يكمن في السؤال التالي: "هل يوافق الشعب على أن يمنح لنفسه مثل هذا القانون؟" وبعبارة أخرى، هل يوافق الشعب على أن يمنح لنفسه بحرية قانونًا يلزمه بالإيمان بحقيقة ثابتة؟ يجيب كانط بالنفي، وإلا "لفترة محددة وقصيرة، في انتظار قانون أفضل، بهدف إدخال نظام معين". وهنا نجد حرص كانط على التوفيق بين الحرية والنظام، ولكن الحرية هي التي يجب أن تسود. ان السلطة التشريعية للملك لا تأتي من الله (الملكية بالحق الإلهي)، ولكن من حقيقة أن "الملك يجمع الإرادة العامة للشعب في إرادة خاصة به". يقع "الاستبداد المستنير" في المنتصف بين ملكية الحق الإلهي التي نظر إليها بوسويه والنظام الجمهوري (أو الديمقراطي) الذي تكون فيه السيادة للشعب كما نظر إليها روسو في "العقد الاجتماعي". ليس على الملك التدخل في الشؤون الدينية: "شريطة أن يضمن أن أي تحسن حقيقي أو مفترض يتوافق مع النظام المدني، يمكنه بالنسبة للباقي أن يسمح لرعاياه بأن يفعلوا بمحض إرادتهم ما يجدون أنه من الضروري تحقيقه من أجلهم". إن خلاص نفوسهم ليس من شأنه، بل من شأنه أن يضمن ألا يمنع البعض بالقوة الآخرين من العمل لتحقيق هذا الخلاص والإسراع به بكل ما في وسعهم من قوة. هنا يضع كانط أسس ما نسميه اليوم "العلمانية"، أي مبدأ فصل الكنيسة عن الدولة. ولذلك يرفض كانط مفهوم الملكية المطلقة للحق الإلهي كما تم تجسيده في فرنسا في القرن السابع عشر على يد الملك لويس الرابع عشر. «إن قيصر ليس فوق النحويين». : على الملك أن يثق بالمؤمنين والعلماء والفلاسفة والفنانين، وأن يمتنع عن التدخل في هذه المجالات التي، رغم أنه يملك السلطة العليا فيها، فإنه ليس بكفاءة أكبر منهم." إن الحرية الدينية، التي تشكل اهتماما أساسيا عند كانط، تتوافق، حسب رأيه، مع "الاستمرارية العامة" و"وحدة الشيء المشترك"، بمعنى آخر، يجب ألا نبني النظام الاجتماعي على الدين؛ يجب ألا يكون هناك "دين الدولة". إلى جانب الدين، هناك مجالات أخرى يمكن ويجب على البشر أن يمارسوا فيها حريتهم في الحكم وهي الفنون والعلوم. يجب على الملك أن يتدخل في هذين المجالين بشكل أقل من تدخله في الدين، تحت طائلة "إهانة" نفسه. ويمكن أن تمتد حرية الحكم إلى مجال تشريعات الدولة. "فقط من هو مستنير، لا يخاف الظل (الأشباح)، في حين أن لديه جيش كبير ومنضبط لضمان الهدوء العام، يمكنه أن يقول ما لا يمكن أن تجرؤ عليه دولة حرة: "فكر بقدر ما تريد وعلى أي شيء". "الرعايا الذين تحبهم، لكن تطيعهم!" إن الإشارة إلى "الجيش الكثير والمنضبط" تتيح لنا أن نفهم أنه من الواضح أنه فريدريك الثاني بروسيا، النموذج البارع لـ "الطاغية المستنير". "كل شيء تقريبًا متناقض في النظام الاجتماعي الذي يُنظر إليه ككل: فالدرجة الأعلى من الحرية المدنية تبدو مفيدة لحرية روح الشعب ومع ذلك تفرض عليها حدودًا لا يمكن التغلب عليها." "فكر بقدر ما تريد وفي أي موضوع تريده، ولكن أطع!" : حرية العقل للناس محدودة بواجب إطاعة القوانين. ان "الاستبداد المستنير": يتم تكثيف التناقض في هذا التناقض، لأنه الاستبداد: الحد من الحرية الخارجية، وواجب الانصياع للقوانين المعقولة التي يصدرها الملك "يجمع الإرادة العامة للشعب في إرادة خاصة به" وهو ما يسمح بالحرية الفكرية مع الحفاظ على النظام الاجتماعي. إن إمكانية التفكير الحر تنمي بذرة الفكر الحر وتؤثر تدريجياً على قدرة الناس على التصرف بحرية. ومن هذه اللحظة فصاعدا، لا يصبح الإنسان أكثر من مجرد ترس في الآلة الاجتماعية، وتجد الحكومة أنه من المربح أكثر أن تعامله بالكرامة التي يستحقها. لقد ميز أرسطو الوجود الممكن (أو النواة) عن الوجود الفعلي. البلوط، على سبيل المثال، هو البلوط "في الإمكانات" (أو البذرة"). لقد أطلقت الطبيعة (وليس الله) في الإنسان بذرة الفكر الحر. وتهدف هذه النواة إلى تجاوز آليات الغرائز، ثم الآليات الاجتماعية التي تميل إلى إبقاء الإنسان في حالة الطفولة والحيوانية. "هل نعيش حاليا في قرن مستنير؟" يسأل كانط. فيجيب: «لا، ولكن في قرن يتجه نحو التنوير». فكرة الوجهة الطبيعية للإنسان موجودة في كتاب آخر من عام 1784 بعنوان التاريخ العالمي من وجهة نظر سياسية عالمية: "أرادت الطبيعة أن يستمد الإنسان بالكامل من نفسه كل ما يتجاوز الترتيب الميكانيكي لوجوده الحيواني وأن يشارك فيه". ولا سعادة ولا كمال آخر غير تلك التي خلقها لنفسه، متحررًا من الغريزة، بعقله الخاص. كما عرّف كانط التنوير بأنه "خروج" للإنسان من أقليته، وباعتباره ممارسة حرة للعقل. وستكون شروط هذا التمرين موضوعا لثلاثة اشكال من النقد (نقد العقل المحض، نقد العقل العملي، نقد ملكة الحكم) تجيب على الأسئلة الأساسية الثلاثة (الأسئلة التي تتلخص، عند كانط، في سؤال واحد: " ما هو الإنسان؟): ماذا يمكنني أن أعرف؟ (حدود العقل والشروط الشرعية لاستخدامه)، فماذا يجب علي أفعل – المبادئ العقلية للفعل الاخلاقي؟ ماذا يجوز لي أن آمل- الدين العقلاني والرجاء؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

تعبر المشاعر عن الفهم العاطفي للأشياء من حولنا. لما نحمله من أحاسيس ومواقف اتجاه الموضوعات.

وتعني الإنسانية القيم الأخلاقية والجوانب الإيجابية والقواسم المشتركة بين الناس التي تظهر فيها انسانيتهم وشعورهم الجميل اتجاه بعضهم باختلاف هذا الشعور لدى الافراد.

كما يرتبط الشعور الانساني بالجانب الأخلاقي والقيم العليا كالحق والخير والجمال، وهذا ما أكد عليه الفيلسوف ايمانويل كانط اذ رأى بأن الإنسانية هدف الاخلاق وأساس فكرة الواجب، لأن المفاهيم العليا هي التي تحدد المعنى الانساني للناس، وكون ما هو لا إنساني جزء من الإنسان، فالحق مضاد للباطل، والشر مضاد للخير، والقبيح مضاد للجمال، وهذا كان معنى الانسانية في تصورات الفكر الأولى.

إذ اخذ معنى الإنسانية الطلاق والشمول في الفهم، ولازال كذلك يتصوره الأغلب، ألا أننا نجد معناه متغير غير ثابت، ففي كل عصر معنى للإنسانية كونه مرتبط بالمشاعر، كذلك خاضع للعوامل الخارجية والظروف الداخلية لكل فرد، والبيئة والثقافة التي تسود في جغرافية ما، فالذي يرسم معالم الإنسانية ليس الإنسان، بل نسق و بنية تحكم العصر والمجتمع، قد يكون الدين، وقد تكون أيديولوجية، أو عادات وتقاليد، وقد تكون التكنولوجيا. لذلك نحن لا نملك مشاعرنا.

وقد ظهر مفهوم الإنسانية في القرن التاسع عشر للدلالة على منجزات وافكار عصر النهضة، وتقدم الإنسانية في العلوم والفن والأدب والجمال، لذلك ارتبطت معاني الإنسانية بالعلمانية والتقدم ورفض المعاني الدينية. لذلك كان ينظر لهذه الحركات نظرة ريب كون أن عقل الناس تعود على احتكار الدين لمعاني الحياة والفكر.

إذن فالمشاعر الإنسانية متصيره في المعنى، ويخضع فهمها للمعرفة والثقافة والسلطة، والحالة النفسية، وتظهر في كل ما نفعله ونتفاعل معه، فليست كل محبة ذات معنى انساني كما يفهما الأغلب، بل إن الكره جزء مهم من وجود الإنسان كونه كائن غريزي عاطفي في اختياراته ومشكلاته وتعامله مع الاخر، كما أن المحبة يمكن أن تختل انسانيتها عند ما تخضع للمجاملة والتعصب والأفكار المنحرفة. لذلك لجئ الإنسان إلى فهم ذاته وتحولاتها، وقلب كل ما هو لا إنساني إلى شيء إنساني من خلال الفنون والجماليات.

فالتساؤل الذي يمكن أن يطرح، ما الذي يُحدد المشاعر والسلوكيات بالمعنى الإنساني؟

ويمكن الاجابة عن ذلك، بأن المعنى الإنساني لا يمكن ان يحدد من خلال الفعل أو التفاعل بين الأنا والآخر، بل المعنى كامن في النية والدوافع الإنسانية، وعلى الرغم من أن تلك الدوافع ذاتية، ألا أنها تكتسب معناها العام من التفاعل معها من قبل المجتمع.

اذ تُرسم ملامح الإنسانية تحت سطوة سلطة المجتمع، فما اتفق عليه أنه إنساني فهو إنساني لمجتمع ما، وما اتفق عليه أنه لا إنساني فهو لا إنساني وخير دليل على ذلك ما يحدث حول أمر ما في منصات التواصل الاجتماعي، فالمعنى الإنساني يرتبط بالثقافة والهوية لا بالحقيقة، التي حددتها القيم العليا. وهذا ما أكده عالم الاجتماع والفيلسوف اوجست كونت بأن الإنسانية تشكل كائناً جماعياً يتطور مع الزمن.

وترى هلينا كرونين من خلال مشاركتها في كتاب (الانسانيون الجدد) من تحرير جون بروكمان، أن الطبيعة البشرية ثابتة، أنها طبيعة كلية، وغير متغيرة ومشتركة عند كل طفل يولد، بما يسري خلال كل تاريخ نوعنا، أما السلوك البشري الذي يتولد عن هذه الطبيعة فهو متباين ومتنوع إلى مالا نهاية، فإذا أردنا أن نغير سلوك ما، ما علينا إلا أن نغير البيئة. أذن طبيعة الإنسانية تنقسم إلى قسمين: فطرية وأخرى مكتسبة.

فالمعاني الإنسانية من كرم وإيثار واحترام وشجاعة وعفة وشرف معاني متفاوتة بين الناس والأمم بسبب طبيعة اختلاف تبني الأفكار والثقافات والهويات، كما أن التطور التكنولوجي والتواصل الرقمي سمح للناس بالتعرف على طبيعة تلك الاختلافات، واكتشاف أهم المشتركات بين الشعوب بعيداً عن السياسات والايديولوجيات، وهذا ما ظهرلنا في أزمة كورونا، وكذلك في القضية الفلسطينية.

فالإنسانية بالمعنى الأيديولوجي تعتمد السببية، وفي المعنى الديني تعتمد الأمور الصالحة، أما في عند الإنسان متجردا من كل فكر وهوية، فهي المشاعر الجمالية الخالصة.

***

كاظم لفتة جبر

والالتزامات التفاعلية بين الفكر التحليلي والفكر القاري

نقدم كتاب ويليام إيجينتون ومايك ساندبوت، التحول البراجماتي في الفلسفة: التفاعلات المعاصرة بين الفكر التحليلي والقاري، مطبعة جامعة ولاية نيويورك، 2004، 262 صفحة.إن أغلب المقالات في هذا المجلد جُمعت سابقاً في كتاب ساندبوت "نهضة البراجماتية" (2001). وقد تُرجمت هذه المقالات أو أعيد طبعها الآن، وفي بعض الحالات عدلها المؤلفون استجابةً للنوع نفسه من التبادل الذي حفز المجلد الأصلي والذي يأمل المجلد الحالي أن يستمر. ووفقاً لمقدمة المحررين فإن الكثير على المحك في التأكيد المتجدد الحالي على البراجماتية. فهي تبني جسوراً بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية، وكذلك بين الفلسفة والنظرية الأدبية. كما أنها تطور حججاً ضد نظرية المعرفة التمثيلية، وفي القيام بذلك تبحث عن لغة مشتركة يمكن أن تخدم "فلسفة القرن القادم" "المسكونية" و"العابرة للقارات" وعابرة للتخصصات. إن الإمكانات المسكونية للبراجماتية الجديدة مبالغ فيها، كما يوضح هذا المجلد نفسه. إن بعض المزاعم الأساسية التي تطرحها هذه البراجماتية الجديدة قد تثير اهتمام عمداء الجامعات، وقد تزعج طلاب الدراسات العليا الذين يبدو أنهم مضطرون إلى الاختيار بين قراءة هيجل وهيدجر أو إتقان المنطق الرمزي. ومن غير المعقول أن يهتم المرء بالقيام بكلا الأمرين، حتى بالنسبة لهؤلاء الكتاب الجدد المسكونيين. ذلك أنهم يعترفون في النهاية بأنه على الرغم من كل الحديث عن بناء الجسور، فإن الانقسام بين الفلسفة "القارية" و"التحليلية" من غير المرجح أن يلتئم. ولكن ما يبرز هنا هو نقاش مثير للاهتمام ودقيق حول التوترات الداخلية والاتجاه المستقبلي للنقد البراجماتي للتمثيلية. إن الرؤية الموحدة في الخلفية هي رؤية ريتشارد رورتي، وفكره وجاذبيته الحالية بين الفلاسفة في ألمانيا يشكل العمود الفقري لهذه المجموعة. وباستثناء مساهمات هيلاري بوتنام، وآرثر فاين، وأنتيج جيملر، فإن كل المقالات الأخرى في هذا المجلد عبارة عن تعليقات متعاطفة إلى حد ما على أفكار رورتي. ويستعرض مقال رورتي نفسه انتقاداته المألوفة للفلسفة التحليلية ويحدد آماله في يوم يتم فيه التخلي عنها. ولن يتحقق ذلك اليوم من خلال حجة جديدة ضمن برامج البحث التي أنشأتها الفلسفة التحليلية؛ ولن تتمكن أي كمية من التأمل الدقيق والمفصل في وضع ادعاءات الواقعية العلمية، على سبيل المثال، من إنتاج "المآثر الخيالية العظيمة" المطلوبة للتقدم الفلسفي. وبدلاً من ذلك، فإن الفلاسفة "ينتظرون معلماً روحياً"، وهو ما يصر رورتي على أنه "أمر محترم تماماً". ولكن هذا ليس كل ما يفعلونه. إننا نستطيع أن نجد بالفعل إشارات إلى هذا المعلم الروحي في أعمال آرثر فاين، وروبرت براندون، ودونالد ديفيدسون. فهم يتفقون على أننا "لا ينبغي لنا أن نكون واقعيين ولا مناهضين للواقعية"، وبالنسبة لرورتي فإن هذا الإجماع يمثل "اختراقاً إلى عالم فلسفي جديد". بطبيعة الحال فإن العالم الفلسفي بالنسبة لفاين وبراندون وديفيدسون لا يتألف من الرفض السلبي المحض للمناقشات التقليدية حول الواقعية. بل إن كلاً من هؤلاء الفلاسفة يبين لنا، كل بطريقته الخاصة، كيف يمكننا أن نتصور التزاماتنا المعيارية تجاه عالم من الأشياء الموجودة دون الوقوع في النمط الديكارتي في وصف علاقتنا بهذا العالم. إن المعايير التي تحكم صحة ادعاءاتنا، بما في ذلك الادعاءات الوجودية، في العلم بقدر ما هي في اللاهوت، تنبع من الالتزامات المادية المتأصلة في ممارساتنا اللغوية، أو في التوافق الشامل لشبكة معتقداتنا. أو كما يزعم آرثر فاين في خطابه الرئاسي للجمعية الأميركية للطب النفسي، والذي أعيد طبعه في هذا المجلد، يمكننا أن نجد هذه المعايير في الموضوعية الضمنية في إجراءاتنا للتعامل مع منتجات الاستقصاء. وفي كل حالة، نستغني عن مشاكل نظرية المعرفة الديكارتية، حتى نتمكن من التخلص من الانشغال بتلك الأسماء الفلسفية التي يحب رورتي استخدامها بأحرف كبيرة من أجل التنديد بوضعها شبه الصوفي: الحقيقة، العالم، الواقع، الطريقة التي تكون عليها الأشياء حقًا، وما إلى ذلك. إن رورتي يحاول في كثير من الأحيان استخدام نقده البراجماتي للفلسفة التحليلية ليقترح ما يبدو وكأنه تغيير بسيط في الموضوع. فبدلاً من الحقيقة أو الواقعية، ينبغي للفلاسفة أن يهتموا أكثر بالليبرالية السياسية أو الضمائر المعذبة. ويوضح هذا المجلد أن قِلة من زملائه البراجماتيين الجدد على استعداد للتخلي عن انتقاد الموضوعات القديمة. ويوضح باري ألين السبب وراء ذلك. فهو يشير إلى أن الأمل ليس نقيض المعرفة ولا بديلاً عنها؛ بل على العكس من ذلك، فهو يحتاج إلى دعم المعرفة. ويشير ألين إلى أن اقتراح رورتي بالتخلي عن الأخيرة والتحول إلى الأولى يرتكز على انكماشيته العدوانية المفرطة فيما يتصل بموضوعات نظرية المعرفة التقليدية. وربما يكون ألين قد قرأ الكثير في المبالغة البلاغية، كما يشير لودفيج ناجل. ويشرح ناجل الانتقال من العقل إلى الأمل في كتاب رورتي وجيمس. ومن خلال التأكيد على "أولوية العملي"، تعمل البراجماتية على نقل البعد الموجه نحو المستقبل من التجربة الإنسانية إلى دائرة الضوء الفلسفية. إن النقطة هنا ليست أننا يجب أن نتوقف عن الحديث عن العقل وما يمكننا أن نعرفه، وأن نتحدث بدلاً من ذلك عن الأمل وما ينبغي لنا أن نفعله. بل إن البراجماتية تهدف إلى إظهار أن العقل والمعرفة يستندان إلى السلوك العملي، وبالتالي فإنهما يوجهان المستقبل بطبيعتهما ولا يمكن اختزالهما؛ وإذا فهمنا الأمر على النحو الصحيح فإننا نعتبرهما قريبين من الأمل. وبالتالي، وبصراحة شديدة، لا يمكننا أن نسعى إلى المعرفة دون وجود تصور ما لليوتوبيا في الخلفية. ولعل أولوية الجانب العملي تشكل الرابط الأعمق بين البراجماتية الأميركية وظاهراتية هيدجر التأويلية، لذا فإن مقال ناجل يفتح آفاق بناء جسر إلى القارة. وهو واحد من ثلاثة مقالات فقط في هذا المجلد تقوم بهذا على نحو فعال. إن جوهر ادعاء ألين، بأن البراجماتية الجديدة لابد وأن تبذل المزيد من الجهد لتبرير مواقفها الانكماشية إذا كانت تريد أن تكسب الحق في قلب الفلسفة الأنجلوفونية التقليدية رأساً على عقب، قد تطور بشكل أكثر دقة في المقالات التي كتبها ألبرشت ويلمر، وولفجانج ويلش، وجوزيف مارغوليس، وهيلاري بوتنام. فقد أعادوا الحقيقة والمعايير والتمثيلات والواقعية إلى مسرح البراجماتية الجديدة، وبالتالي سلطوا الضوء على مدى صعوبة قبول حتى أكثر المطالبات المركزية للبراجماتية الرورتية. في هذا الصدد يشير ويلمر، على غرار البراجماتيين المتعاليين الألمان مثل يورجن هابرماس وكارل أوتو آبل، إلى أن الحقيقة تشكل نقطة محورية في التحليل الفلسفي حتى بدون استخدام حرف كبير. ويهدف البراجماتيون إلى تحويل الأسئلة حول حقيقة الادعاء إلى أسئلة حول تبرير الادعاء، أو، على حد تعبير سيلارز وبراندون، إلى أسئلة حول الفضاء الاجتماعي للأسباب. وفي القيام بذلك، يؤيدون نظرية انكماشية للحقيقة. فالمحتوى المزعوم يكون صادقًا على وجه التحديد عندما يتم تأكيد هذا المحتوى وبالتالي يتم تبنيه في ممارسة تقديم وطلب الأسباب. وفي مواجهة هذا الموقف، يزعم ويلمر أن فكرة معايير التبرير تشير ضمناً إلى "ادعاءات حقيقة متجاوزة للسياق وعابرة للذات". ويشير ويلمر، مستعينًا بفيتجنشتاين، إلى أن بعض الادعاءات يجب أن تظل ثابتة حتى يتمكن مجتمع الباحثين من التساؤل أو الشك أو التبرير. إن هذا الثبات هو معياري، ولكن ليس بنفس الطريقة التي تحكم بها المعايير التي تحكم التبريرات داخل الإطار. إن بعض معايير الحقيقة المعصومة من الخطأ والمستقلة عن السياق تعمل كشرط لإمكانية وجود مساحة الأسباب، وبالتالي يجب أن تفترضها البراجماتية المتسقة. تفترض الانكماشية هذه المعايير، لكنها لا تستطيع التعبير عنها. في هذه الحجة، قد يقلل ويلمر من تقدير مرونة قابلية الخطأ الجزئية لرورتي ديفيدسون؛ في حين أن جميع معتقداتنا عرضة لإعادة نسج شبكة المعتقدات باستمرار، لا يمكننا تغييرها كلها دفعة واحدة. كما زعم فيتجنشتاين، لا يوجد شيء في المعتقد نفسه يحدد أنه ثابت؛ ما هي المعتقدات التي تصادف أنها ثابتة بالنسبة لثقافة ما تخبرنا بالكثير عن الثقافة، وليس المعتقدات. ومع ذلك، تُظهر ورقة ويلمر أن المشاكل التي تحاول البراجماتية تركها وراءها برفضها لنظريات المطابقة للحقيقة يمكن إعادة إنتاجها داخل الموقف البراجماتي. في حين يتفق رورتي وبراندون مع عكس هيجل لالتزامات كانط الموضوعية، يمكننا أن نقول إن ويلمر يعيد تقديم وجهة النظر الكانطية إلى المشهد البراجماتي. كما يحلل ولفجانج ويلش بنية ومكانة الحجج في كتابات رورتي. ومن المثير للاهتمام أن استنتاجه يتوازي بشكل عميق مع استنتاج ويلمر. تقدم براجماتية رورتي الجديدة نفسها باعتبارها "نوعًا من الكتابة" حيث يحل الإقناع الخطابي محل الحجة، لكن قوة خطاب رورتي المناهض للفلسفة تعني المعايير ذاتها التي تجعل الحجج التقليدية ممكنة. يميز ويلش بين مفهوم أساسي للحجة، يفترضه أسلوب رورتي "المناهض للحجة"، ومفهوم أكثر مرونة للحجج باعتبارها ألعابًا لغوية على غرار ليوتار. وفقًا للمفهوم الأساسي، لا يمكن أن تتم الحجج إلا على أساس مفردات مشتركة، وأساليب، ومعايير للأدلة، وما إلى ذلك. نظرًا لأن رورتي يريد منا التخلي عن المفردات الأساسية للفلسفة التمثيلية، فإنه يعتقد أنه لا جدوى من محاولة الجدال لصالح هذا التحول، لأن أي حجة من هذا القبيل ستكون ملتزمة بالأساس ذاته الذي تهدف إلى رفضه. بدلاً من ذلك، يجب علينا ببساطة التوصل إلى أوصاف جديدة دون افتراض أن مفرداتنا المتخيلة حديثًا أفضل بأي حال من الأحوال، أو نهائية. يشير ويلش إلى أن نموذج المحادثة التي أقرها رورتي لها بنيته الجدلية الخاصة، والتي تمكن "الحجة بين المفاهيم". قد لا تشترك الأوصاف الجديدة للبراجماتيين في الافتراضات الأساسية لوجهات النظر التمثيلية، لكن وجهتي النظر تشتركان بالتأكيد في بعض العناصر، مثل الالتزام بالاتساق والترابط، وبعض الهياكل المنطقية، وعدد قليل من مجالات المحتوى المشتركة. فلسفة المحادثة التي يتصورها رورتي ليست مجرد محادثة؛ إنها تستمر في استخدام العقل وتحركاتها البلاغية تروق للميل الفلسفي القياسي لاكتشاف الحقيقة بقوة الحجة الأفضل. إن أغلب ما يعاد إحياء البراجماتية يركز على المناقشات حول رفض الواقعية. وفي تطويره لمفهومه عن الواقعية الداخلية، ينتقد بوتنام رورتي بشدة لإصراره على ضرورة التخلي عن فكرة مفادها أن العلم قادر على "تصحيح" العالم. ويزعم بوتنام أن هذا يقود حتماً إلى النسبية، وهو يعارضها بمفهومه عن مفهوم محدود للحقيقة ينظم كل أشكال البحث. ويرد رورتي بأن بوتنام بذلك ينزلق إلى الوضعية العلمية التي يهدف منهجه البراجماتي إلى تجنبها. ويزعم جوزيف مارغوليس أن هذا الجمود هو نتيجة لتخلف ديكارتي في لغة الفلسفة الناطقة بالإنجليزية الحديثة. ويعجز رورتي وبوتنام عن تجاوز المواقف المتطرفة للوضعية والنسبية لأنهما يواصلان طرح النقطة باستخدام مفاهيم ديكارتية للذات والموضوع. وعلى وجه الخصوص، يربط كل من رورتي وبوتنام (وديفيدسون) أنفسهما بثنائية زائفة: فإما أن تكون الوسطاء (أو "الثالثيات") بين الوعي والواقع في علاقاتية، أو لا وجود لمثل هذه الأشياء على الإطلاق. وهذا يتجاهل خياراً ثالثاً مستمداً من الاستيلاء النقدي الذي قام به هيجل على الواقعية التجريبية التي صاغها كانط. فهناك وسطاء مفاهيميون، لكنهم لا يرتبطون بالواقع؛ بل إنهم يبنونه من خلال تحويل وعينا الواقعي التاريخي. ولا يتطرق مارغوليس إلى تفاصيل هذا الاقتراح هنا. بل يلفت اقتراحه الانتباه إلى وضع المصطلح الذي تبنته البراجماتية الجديدة: فإذا كنا نريد أن نهرب من افتراضات التمثيلية، فلابد وأن نتجنب لغتها أيضاً. وهذا يتطلب منا أن نولي هيجل قدراً أعظم من الاهتمام. إن مساهمة بوتنام في هذا المجلد لا تتعامل بشكل مباشر مع واقعيته الداخلية، ولكنها مع ذلك تشارك في التبادل المثمر بين الأوراق التي قدمها رورتي ومارغوليس وويلمر وويلش. يركز بوتنام على مفهوم الحقيقة في الادعاءات الأخلاقية ويطور وجهة نظر ويليام جيمس القائلة بأن مثل هذه الحقائق تأتي إلى العالم عندما يكون هناك شخصان أو أكثر، وبالتالي تخضع لمعايير تم تطويرها جماعيًا. بطبيعة الحال، يشكك ويلمر في إمكانية وجود معيار للحقيقة الجماعية. وتتلخص استجابة بوتنام البراجماتية في أنه يمكن للمرء أن يلتزم بالحديث عن الحقيقة في الأخلاق على أساس الإجماع الأخلاقي دون الحاجة إلى تأييد نظرية ميتافيزيقية للحقيقة باعتبارها إجماعًا. يبدو أنه حتى مفهوم الحد ليس ضروريًا لنا لمناقشة التأكيدات الأخلاقية على أنها صحيحة أو خاطئة بشكل عقلاني. ويتجه مايك ساندبوت وأنتجي جيملر إلى البعد التاريخي للبراجماتية الجديدة، بما يتجاوز جذورها الواضحة في البراجماتية الأمريكية. ويتتبع ساندبوت عناصر الكليات البراجماتية الجديدة ومناهضة التمثيل إلى لحظات مختلفة من "التحول اللغوي" من راسل إلى ديفيدسون، مسترشدين بتحليل رورتي نفسه لتاريخ الفلسفة الموجهة نحو اللغة. وليس من المستغرب أن يتبين أن فيتجنشتاين وكواين وسيلارز وديفيدسون هم أبطال هذه القصة المألوفة، التي تقدمها ساندبوت هنا للقراء الذين يأتون إلى البراجماتية الجديدة من تخصصات غير فلسفية. وتحلل جيملر أولوية الممارسة كما تظهر في تحليل هيجل للوعي الذاتي. وتثبت بشكل مقنع أن البراجماتية في هيجل أكثر من تلك التي يستمدها البراجماتيون الجدد الذين يزعمون أن عباءته، رورتي وبراندون، من كتاباته. إن رورتي يقتصر في تفسيره لهيجل على المزاعم التاريخية على نطاق واسع. أما براندون فينظر عن كثب إلى إصرار هيجل على الخارجية الجوهرية للمفاهيم ويستخدمها لتأسيس وجهة نظره القائلة بأن المحتوى المفاهيمي قد استنفد بسبب الالتزامات والحقوق الضمنية في الاستخدام المشترك للمفاهيم. ولكن جيملر يزعم أن التفكير بالنسبة لهيجل ليس مرتبطاً بالنشاط العملي فحسب؛ بل إنه في حد ذاته نشاط. ولا يمكن إدراك المعنى الكامل لرفض هيجل للتمثيلية إلا عندما نرى أن التفكير هو فعل وبالتالي يؤثر بشكل تكويني على بيئته. ويتجلى هذا بوضوح في تحليل هيجل للوعي الذاتي في جدلية السيد والعبد. إن عمل العبد ليس مجرد شرط مسبق للفكر المفاهيمي والوعي الذاتي؛ فالعمل هو التحول الواعي للبيئة، وهذا، بالنسبة لهيجل، هو بالفعل كل ما يتعلق بالفكر. وفي هذه النقطة على وجه التحديد نستطيع أن نقدر بشكل أفضل الاقتراح المثمر في مقال ويليام إيجينتون. يُظهِر إيجينتون نفسه باعتباره الممارس الأكثر إخلاصًا للبراجماتية الجديدة والمؤلف الوحيد في هذا المجلد الذي يأخذ مذكرات التحرير على محمل الجد. فهو يربط بين النظرية الأدبية، وينتقل بسلاسة من رورتي إلى لاكان، ومن دينيت إلى جيجيك؛ وهو يعتنق المبادئ الأساسية للبراجماتية الرورتية دون مزيد من المعاناة بشأن معايير الحقيقة المتعالية أو التمثيلات الديكارتية. علاوة على ذلك، فهو يمارس أسلوب رورتي. وبينما يكتب البراجماتيون الآخرون في هذا المجلد نثرًا أكاديميًا تقليديًا، فإن كتابات إيجينتون تقترب من صوت رورتي العامي، وإعادة وصفه غير الرسمية والسهلة على ما يبدو، وربطه المستمر بين الموقف الفلسفي والنظرة الشخصية ("نحن البراجماتيون" في رورتي، و"البراجماتيون مثلي" في إيجينتون). يزعم إيجنتون أن تفسير لاكان للرغبة من حيث المتعة يمكن أن يخدم في التغلب على "الرفض العقائدي" لرورتي لقبول تجارب الشخص الأول الجوهرية وغير القابلة للاختزال والتي لا يمكن وصفها وبالتالي، بالنسبة للاسميين مثل رورتي، خارج المخطط الفلسفي. يهدف إيجنتون إلى إعادة وصف ما لا يمكن وصفه من خلال تجاهل فشله في تحقيق مكانة لغوية وبدلاً من ذلك يتصوره، مع لاكان، كأحاسيس جسدية، واحمرار، وانفعالات. لكننا لسنا بحاجة إلى استدعاء لاكان لإثبات هذه النقطة. كما يوضح جيملر، فإن التركيز على الجسم النشط العامل كمكان للفكر هو العنصر المركزي لمناهضة التمثيل عند هيجل. وبالتالي، عند قراءة مقال إيجنتون بالتزامن مع جيملر، فإنه يخدم في التأكيد على ادعاء مارغوليس بأن البراجماتيين الجدد لم يتعلموا بعد وضع نقاطهم في مفردات تتجاهل حقًا لغة الموضوع والذات. ولكي يتجنب البراجماتيون الجدد المشاكل التي أثارها ويلمر وبوتنام ومارجوليس، فإنهم في حاجة إلى الحديث عن الفكر المجسد.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

...................

المصدر

William Egginton and Mike Sandbothe (eds.), The Pragmatic Turn in Philosophy: Contemporary Engagements between Analytic and Continental Thought, SUNY Press, 2004, 262pp

تحضر الفكرة الدينية بشكل محوري في مختلف الحضارات القديمة ما قبل الحضارة الغربية الحديثة، والحضور هنا نقصد به المرجعيات التي تؤطر تصورات الإنسان عن ذاته وعن العالم وعن المخلوقات التي تحيط به ومختلف الظواهر الطبيعية. ففي القدم سادت العقلية الإحيائية نتيجة عجز الإنسان على فهم ماهية الظواهر الطبيعية، وعبد الشمس والقمر شكرا لهما على إزاحة ظلمة الليل، وهناك من عبد مخلوقات أخرى، مثل الكبش والبقر ومخلوقات أخرى...ولكن استلاب الإنسان الذي وقع فيه بعبادته لما يرى فيه أحقية العبادة في الطبيعة، لا يتوقف عند الطبيعة ذاتها؛ بل يتطلع إلى قوى غيبية من ورائها؛ بمعنى أنه يشرك الطبيعة وظواهرها ومختلف الأسماء التي لا سلطان لها عليه؛ في عبادة الخالق إما بوعي أو بدونه.[1]

فبالنظر إلى علم الآثار، فالإنسان والدين يشكلان ثنائية لا يمكن أن تفترق، فلا الإنسان في لحظة ما من تاريخ البشرية استغنى عن الدين وعاش دونه؛ إذ أينما حل الإنسان إلا ورافقه شيء يسمى بالمعتقد، ولا الدين بتجلياته ارتبط بمخلوق آخر غير الإنسان. ولهذا، فالدين والإنسان يشكلان جدلا لا غنى لأحدهما عن الآخر. وعليه، فلا غرابة في القول إن الإنسان كائن ديني بامتياز. وقد سادت الكثير من الآراء التي أرجعت أمر نشأت الدين إلى عوامل نفسية وعقلية ارتبطت بضعف الإنسان القديم الشيد من مختلف الظواهر الطبيعية، الأمر الذي شكل لديه شعور بعبادتها وإرضائها حتى يتقي شرها.

إلا أن "الدين لا يقوم على أساس وهمي ولا على عدد من الأفكار الخاطئة التي تم تكوينها في طفولة الإنسانية، بل إنه يقوم على أكثر الأسس صلابة في وجود الإنسان. إنه الوعي الباطني بالحقيقة. وأن كل اعتقاد ديني، إنما يقوم على اختبار نفسي للوحدة الكلية للوجود في وعي بالغيب [...] إن الدين هو الحالة المثلى للتوازن مع الكون، والعبادة كيفما كانت صيغتها، وإلى من أو ماذا يكون توجهها، هي معبر إلى البقاء في الحقيقة، وحالة وجود في الواحد، حالة الوجود الحق"؛[2] إذ بإمكاننا التمييز بشكل مجمل بين اتجاهين من الدين؛ الديانة التوحيدية، والديانة الوثنية.

يتضمن القرآن خطاطة لقصص الأنبياء والأمم الغابرة، وقد نقل إلينا طبيعة الجدل القائم على مر التاريخ بين رسل الله وأنبيائه ودعوتهم إلى عبادة الواحد الخالق، وبين مختلف تصورات أقوامهم الوثنية التي تنبني على معتقدات وممارسات تتفق على عبادة الطبيعة؛ فمشكلة الكثير منهم لا تكمن في إنكار الخالق والإعراض عنه، بل في اتخاذ الوثنية طريق مثلى إليه. فدور الأنبياء والرسل بالتتابع يتجلى في تجديد العهد والمنهاج الذي يسلكه الناس في معرفة الخالق، فمع مرور الزمن ونتيجة ما يطرأ على الإنسان من وقائع وأحداث تتسع رقعة الوثنية وتختلط بالتوحيد، ليظهر رسول أو نبي أو مصلح يدعو الناس إلى طريق الهدى. وتبعا لهذا السياق، جاءت دعوة إبراهيم وموسى وعيسى. وقد قص علينا القرآن مشكلة بني إسرائيل من بعد موسى؛ فمجيئ عيسى كان بغاية الهداية وإصلاح ما أفسده بني اسرائيل.

تعتقد المسيحية بكون اليهود متورطين في قتل المسيح، وهذا سبب رئيس في كره اليهود ونبذهم من لدن المسيحية ورجال الكنيسة، مما كان سببا في مآسي إنسانية داخل أوروبا؛ فالتاريخ يحفظ لنا محنة اليهود إلى جانب محنة المسلمين زمن محاكم التفتيش في الجزيرة الإيبيرية وقد طردوا منها، وكانت وجهتهم دول شمال إفريقيا، بعد سقوط الاندلس 1492م؛ ولم يستثنهم قرار طرد أحفاد المسلمين الذين عملت إسبانيا على تنصيرهم 1609م، الشاهد عندنا هنا هو أن اليهود كانوا منبوذين في أوروبا قبل القرن 15م، والسؤال كيف تجاوزت أوروبا معضلة كراهية اليهود؟

من البديهي أن فكرة الإصلاح الديني في أوروبا لها دور كبير في هذا الأمر، بالنظر إلى مواقف مارتن لوتر (-1546م)؛ فالجديد الذي جاء به لوتر يرتبط بدعوته رجال الدين المسيحيين بأن يحسنوا التعامل مع اليهود، بهدف تقريبهم من الديانة المسيحية وتحبيبها إليهمن ولكن موقف لوتر هذا موقف مبني على مصلحة مفادها العمل على مسيحية اليهود، فضلا على كون القراءة المباشرة للكتاب بشقيه (العهد القديم والعهد الجيد) جعلت لوتر يتبنى مواقف مخالفة للكنيسة المسحية في نظرتها وتعاملها مع اليهود، وقد اعتبرت دعوته حينها انقلابا على مواقف الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تنظر إلى اليهود على أنهم حملة لدم المسيح عيسى بعدما صلبوه.[3] فبالعودة إلى كتاب لوتر بعنوان: "عيسى ولد يهوديا" سنة 1523م نجد فيه مواقف تختلف عن الموقف التقليدي، فهو يرى أن اليهود هم أبناء الله وإن المسيحيين هم الغرباء.

صحيح أن لوتر يعود له الفضل في زرع فكرة الإصلاح الديني في المسيحية الأوروبية، ولكن المشكلة هنا عند لوتر تكمن في عودته لتراث ديني في حاجة إلى إصلاح يرتبط بتراث العهد القديم، وهو إرث يعتريه النقص من كل جانب ولا يرقى ليكون كتابا مفتوح على الوجود والإنسان فحاله "حال مؤلف جماعي يلخص الأعمال والعادات، القواعد والأعراف، الأمثال والأشعار، القصص والمواعظ، أو بكلمة واحدة هي موسوعة محمولة، مكتبة في كتاب، تلبي حاجات مجموعة من قبائل الرحل. تتكلم عن رب خاص بها، ملك مملوك لها تصوره، وهو يخاطب شعبه الذي تعاقد معه بعهد لا يفتأ يذكّر به ويحذّر من مغبة تجاهله أو نقضه. فلا يزيد التذكير أتباعه ومواليه إلا تنطّعاً وعقوقاً".[4]

الرهان في فكرة الإصلاح على (العهد القديم) المؤلف الجماعي بتعبير عبد الله العروي ورط فكرة الإصلاح به كان سببا من بين الأسباب الأساسية في ولادة تكتل وتحالف عنصري بين المسيحية واليهودية، تحت عباءة المذهب البروتستانتي، رغم أن مارتن لوثر في آخر أيامه كتب كتاب "اليهود وأكاذيبهم" وعبر فيه عن خيبة أمله من اليهود وأقر بالفشل في استقطابهم لعقيدته الجديدة. ولكن ثقته بنصوص العهد القديم، جعلته يرى أن دخول اليهود في الدين المسيحي لن يتم إلا عبر عودتهم إلى القدس؛ فعودة المسيح هناك كفيلة بدخولهم في الدين المسيحي، وهذا طموح مستقبلي قد يتحقق في نظر لوتر بطرد اليهود من العالم المسيحي[5]، قوله: "غريبة الغرائب أننا إلى اليوم لا نعلم السبب في حلول اليهود بيننا، وأي شيطان جلبهم إلينا. فنحن لم نأت بهم من بيت المقدس، وفوق كل ذلك لا أحد منا يأخذ بحُجُزاتهم اليوم ليقيموا عندنا وفي أرضنا، فالطرق السريعة مفتوحة لهم إلى أي مكان يريدون أن يرحلوا إليه، ويمكنهم الانتقال إلى بلدهم في أي وقت يشاءون. وإذا هم اختاروا الرحيل عنا، فنحن مستعدون أن نقدم إليهم حسن المعونة، حتى نتخلص منهم. فهم عبء ثقيل علينا في وطننا، بل هم أشبه بالوباء والطاعون، وما رأينا منهم إلا النكبات!"[6] وبهذا يكون لوتر من جهة يكره اليهود ومن جهة ثانية يرى فيهم آمال المستقبل لظهور وعودة المسيح، وقد تقوت بذرة العنصرية المسيحية اليهودية تجاه الآخر، في المذهب البروتستانتي بعد لوثر، بفعل عوامل متعددة من بينها انخراط الكثير من اليهود في تعزيز فكرة الإصلاح الديني. ومع الأسف لم تبد البروتستانتية قطيعة قوية مع فكرة النظر إلى اليهود وهجرتهم إلى القدس كأمل كبير في ظهور المسيح في بيت المقدس.

لا نقصد هنا أن العنصرية المسيحية تجاه اليهود قد انتهت بعد أفكار لوثر، بل بقيت داخل أوروبا، وقد ظهرت مشكلة العنصر والعرق اليهودي عند اندلاع فكرة العرق والقومية داخل أوروبا في القرن التاسع عشر، وظهرت مشكلة اليهود في أوروبا وامتدت حتى القرن العشرين، ولا نظن أنها حلت بالكامل؛ ففي عام 1896م، نشر تيودور هرتزل (يهودي) نشر النص الأساسيّ للصهيونيّة السياسيّة بكتاب تحت عنوان "الدولة اليهودية" وقد أكَّد في هذا الكتاب أن الحل الوحيد للمسألة اليهوديّة في أوروبا، هو تأسيس دولة لليهود. وقد تعززت القناعات الدينية البروتستانتية وتحولت إلى واقع سياسي مع وعد بلفور 1917م. فمشكلة اليهود مشكلة أوروبية بالأساس تم تصديرها إلى خارج أوروبا، بعد اختزال الديانة اليهودية في الصهيونية المتحالفة مع الأصولية البروتستانتية، مع العلم أن اليهود في بدء الأمر كانوا ضد الصهيونية والوطن القومي.[7] في هذا السياق، نفهم مقولة الرئيس الأمريكي بايدن في 18 اكتوبر "إن لم تكن إسرائيل لأوجدناها"، وهي مقولة تعود في جذورها للعقيدة البروتستانتية في الغرب. أما اليهود والديانة اليهودية في الحضارة الإسلامية، فلم تعترضها مشكلة عبر التاريخ الإسلامي.

ففكرة الإصلاح الديني في أوروبا كرست فكرة الهروب من مشكلة واقعية حينها لليهود، إلى مشكلة أخرى تشكلت عبر الزمن مفادها طرد اليهود وتهجيرهم إلى بيت المقدس، وهي فكرة تعود إلى مارتن لوتر (-1546م) وتنسجم مع قرار تهجير حفدة المسلمين من إسبانيا 1609م، وهذا يعني أن فكرة الطرد فكرة حاضرة ومتداولة في السياق الأوروبي حينها، وهي الفكرة نفسها التي جسدها اليهود في بيت المقدس وما حوله، وكذلك هي نفس الفكرة التي أقبل عليها الغرب في تعامله مع السكان الأصليين للقارة الأمريكية.

ليس هناك فكرة واضحة عن اليوم الآخر ويوم البعث في العهد القديم، بقدر ما هناك حديث مستفيض عن علاقة الإله وتحيزه لشعبه من بني إسرائيل، وحديث عن تاريخ وملاحم هذا الشعب وأنبيائه؛ فمجمل مدارات الخطاب في العهد القديم لا تفضي إلى الإيمان بعالم آخر، وقد توقف القرآن الكريم عند هذا الموضوع في حوار مع الكتاب المقدس في مواطن عديدة؛ وأنكر على اليهود عملية إخفاء وتغييب الحديث عن ما بعد هذا العالم، الشاهد عندنا هنا أن العهد القديم يحمل بين طياته بذور الإيمان بعالم واحد، وهو العالم الذي نحن فيه دون غيره من العوالم، وهي فكرة تجسدت مع الفكر المادي وفق الأيدلوجية الماركسية.

***

بقلم مولاي أحمد صابر

..............................

* نُشر في موقع مؤمنون بلا حدود أيضا

[1] قوله تعالى: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)" (الزمر) صحيح بكون هذه الآية تنقل لنا وضع المشركين من العرب، فهم لا ينكرون الخالق بقدر ما يتقربون إليه من خلال ما يشكونه في عبادته.

[2] فراس السواح، دين الإنسان، بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، الطبعة الرابعة 2002 دار علاء الدين للنشر والتوزيع.ص.391

[3] القرآن له موقف آخر مفاده قوله تعالى: "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)" (النساء)

[4] العروي عبد الله، السنة والإصلاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب، ط I، 2008م، ص. 79

[5] مارتن لوتر؛ اليهود وأكاذيبهم (-1546م) ترجمة محمود النجيري، مكتبة النافذة، مصر، الطبعة الأولى 2007م ص.157

[6] نفسه؛ ص.113

[7] آلان دييكوف، الصهيونية المادية لم تجذب اليهود المتدينين في البداية، ترجمة، عز الدين عناية/ نقلا عن موقع:

https://alwatannews.net/ampArticle/494731

 

اهداء إلى الاستاذ هشام حسن

الاخصائي النفسي التحليلي في مصر

 ***

السلوك الذي نتحدث به أمام الآخرين هو اللاشعور – اللاوعي، وما نريد قوله تم صياغته بتحوير مقبول، إذن اللاشعور – اللاوعي يمتلك لغة يعبر بها الفرد عما خزن في تلك القارة الكبيرة التي أحتوت كل ذكرياتنا، وطفولتنا، والحوادث التي تم خزنها والأدهى من ذلك تم التثبيت عليها وأصبحت تمثلات " وكما تقول استاذتنا " نيفين زيور" يشير مفهوم التمثل إلى تصور أو مجموعة التصورات التي تتثبت عليها الرغبة خلال تاريخ الشخص وتدون في النفس بواسطتها، ونقول تعود هذه التمثلات بمختلف الانواع من الأفكار، الصور الطفلية، أو الصور من كل مرحلة من مراحل طفولتنا المبكرة، إنها رحلة الحياة في اللغة المحكية، وكما يقول " جاك لاكان " مجدد أفكار التحليل النفسي الفرويدي طلاقة اللغة المحكية، هي أن يدع طاقات اللاشعور – اللاوعي تتجسد في إيقاع جملة العارض، وأن يمنع القارئ من تشييد كيانات نظرية سابقة لأوانها على النص الذي يقرأه، وأن يجبره على التعاون معه تعاونًا تامًا في عمل اللغة الخلاق " البنيوية وما بعدها، جون ستروك، ترجمة محمد عصفور، عالم المعرفة الكويتية، العدد 206،  شباط 1996، ص 166" ويقول "لاكان " أيضًا نحن مسؤولون عن لا شعورنا – لا وعينا، الذات مسؤولة عن لا وعيها – لا شعورها؟ ونقول أننا كبتناه " الكبت"  هروبًا من عالم الواقع، عالم الحقيقة ولم نجد له منصرفًا مقبول إجتماعيًا بعد أن ضاقت النفس به " يضيف لنا جاك لاكان قوله : ان بعد الحقيقة، غامض وغير قابل للتفسير، ولا شيء يُمكن من ضبط ضرورته، لأن الإنسان يتعايش مع عدم الحقيقة " لاكان، الذهانات، ص 245 " فأرسلناه دون أن ندري إلى خفايا القارة المظلمة، مخزن الذكريات وهو اللاوعي – اللاشعور ويقول سيجموند فرويد : فالمكبوت مجرد جزء من اللاشعور – اللاوعي، ربما يعود بسلوك آخر، بصورة أخرى، بطاقة ربما متجددة بمختلف الأشكال، سلوك التعصب والتدين المفرط، سلوك العدوان، سلوك العنف الموجه للزوجة بعد أن تم تثبيته في مرحلة التعلق بالأم، فكانت الزوجة شبيهة لإمه، فرفضها لاشعوريًا، لا احد يشبه أمي، أو لدى أمرأة تعلقت بابيها فكانت العودة غير موفقة في السلوك، وبالأخص السلوك الجنسي ممن أقترنت به شريكًا لحياتها، فصدرت منها مختلف أنواع من السلوك، الفراش هو الحكم بينهما في الاتفاق، أو الإختلاف، والإختلاف هو سيد الموقف ونقول : لأن الزوج ليس كما هي صورة الأب التي تم تثبيتها، وتمثلها بعد ذلك. ويقول استاذ الاجيال العلامة " مصطفى زيور" التثبيت يضع علامة وقوف للنكوص، وهو يضعف القسم المتطور من الشخصية . ويقول " فرويد " الحق أن الفرد إبتداءًا من سن البلوغ، يتعين عليه أن يكرس نفسه لعمل خطير هو تحرير نفسه من والديه، والمقصود هنا سلطة الآثار التي تركت في أنفسنا وشكلت ما تركه فينا حتى بتنا ننوء بثقل هذه الآثار في تعاملنا مع  أقرب الناس لنا، وممن يشاركوننا في حياتنا اليومية المعاشة،  وكذلك يضيف  " مصطفى صفوان " قوله : الأب هو النقطة التي من خلالها يحكمُ الشخص على نفسه، كي يُقيم الفرد نفسه، يجب أن يبتعد عن نفسه حتى يتمكن من رؤية نفسه.

يقودنا كلام " جاك لاكان " قوله : نحن لا نتعافى لأننا نتذكر، هذا هو الصحيح تمامًا لأنه يؤرقنا في حياتنا ونحن في حالة الوعي، ويرهقنا هذا التذكر لما تم خزنه وكبته  في عالم اللاشعور – اللاوعي، وربما نستدعيه في مواقف الحياة اليومية منها النكتة الجارحة، أو الهفوة المقيتة، أو زلة اللسان، ويضيف لاكان لاستكمال النص قوله : نتذكر لأننا نتعافى، إذن وضعنا يدنا على ما يؤلمنا فالتذكر مرة ثانية هو معرفة ما يؤلمنا، لتبدأ معرفة جديدة وهي معالجة ما كان يؤلمنا وسماها سيجموند فرويد معرفةٌ  بمعرفة، وقالها " مصطفى زيور " إذا عرفت أستطعت .

وفي الختام نؤكد قول "سيجموند فرويد" بأن افتراض اللاشعور – اللاوعي ضروري ومشروع، أنه ضروري لأن معطيات الشعور – الوعي بالغة النقص، فبين الأصحاء وبين المرضى نجد من الأفعال العقلية ما لا يمكن تفسيرها إلا بافتراض وجود أفعال أخرى لا يقدم الشعور – الوعي البرهان على وجودها، ولا تضم فقط هذه الأفعال هفوات الأصحاء وأحلامهم وكل ما ينتمي إلى ما يوصف بالاغراض العقلية، أو الحواز لدى المرضى، بل خبرتنا اليومية الحميمة للغاية تضعنا أمام أفكار مفاجئة نجهل مصدرها، وأمام نتاج نشاطات عقلية لا نعرف كيف تأتت، ان جميع هذه الأفعال الشعورية – الواعية تظل غير مترابطة وغير مفهومة، إذا بقينا على اصرارنا أن كل فعل عقلي مفرد يصدر عنا يجب أن يكون في نطاق الخبرة الشعورية – الواعية، بينما على العكس من ذلك يسهل علينا بيان ترابطها إذا ما قبلنا الأخذ بما يجب استنتاجه من افتراض الأفعال اللاشعورية – اللاواعية " سيجموند فرويد، اللاشعور، ترجمة فرج احمد فرج"

***  

د. اسعد الامارة

تمهيد: هل نعيش جميعاً في محاكاة؟ إذا سألت الفيلسوف الفرنسي جان بودريار هذا السؤال، فستكون إجابته نعم مدوية. على الرغم من أن ما يعنيه بالمحاكاة وما تعنيه أنت قد يكونان شيئين مختلفين للغاية (وهو أمر مضحك بالنظر إلى أن المثال الأكثر تأثيراً للمحاكاة – هو افلام ماتريكس - مستوحى بشكل مباشر من عمل بودريار لعام 1981 المحاكاة والسيمولاكر) هذا هو الكتاب الذي اقتبس منه مورفيوس، والذي نرى نيو يخفي أقراص الكمبيوتر التي يبيعها بداخله في فيلم ماتريكس الأول وهو الكتاب الوحيد الذي جعله الأخوان واتشوسكي قراءة إلزامية للجميع في طاقم أفلام ماتريكس. ولكن على الرغم من هذا المثال الشهير لفكرة المحاكاة السائدة المستوحاة بشكل مباشر من عمل بودريار، فإن ما يعنيه الفيلسوف الفرنسي ما بعد الحداثي بمصطلح المحاكاة هو شيء أكثر غدراً وأكثر رعباً مما نجده في أفلام ماتريكس. في هذا المقام ، سنستكشف ما يعنيه بودريار بهذا المصطلح "محاكاة" ولماذا يعتقد بودريار أننا بالفعل محاصرون داخل محاكاة - معزولون بشكل دائم عن الواقع. إن فكرة بودريار عن المحاكاة هي واحدة من أكثر الأفكار الفلسفية التي ستصادفها على الإطلاق - أكثر صلة وإثارة للخوف من فيلم 1984 أو فيلم عالم جديد شجاع. إن المحاكاة والسيمولاكر هي ديستوبيا حاضرنا، ديستوبيا شاملة للغاية ومع ذلك يصعب فهمها لدرجة أننا دخلنا إليها دون وعي. إنها التشخيص الأكثر دقة للمنحدر الذي نجد أنفسنا نسقط فيه بحرية مع رحيل ثقافتنا عن الحداثة إلى المحاكاة غير الواقعية التي تشكل حالة ما بعد الحداثة. فماذا يقصد جان بودريار بالمحاكاة؟ وما الفرق بين المحاكاة والسيمولاكر؟ ولماذا نعيش جميعنا في عالم من المحاكاة؟

المحاكاة والسيمولاكر

بعد إعادة مشاهدة أفلام ماتريكس قبل بضعة أشهر، فكرت أنه قد يكون من الجيد أن ألقي نظرة على العمل الأيقوني لجان بودريار "المحاكاة والسيمولاكرا ". إنه كتاب صغير ولكن يا إلهي إنه بعيد كل البعد عن أن يكون سهلاً. إنه يذكرني بأولى تجاربي في الفلسفة عندما قرأت كتاب أسطورة سيزيف لألبير كامو ثم كتاب ما وراء الخير والشر لنيتشه. عندما قرأت الكتاب الأخير لأول مرة، شعرت أن 90% من الكتاب كان يمر فوق طاقتي ولكن الـ 10% التي كانت تتسرب كانت تعيد ترتيب ذهني. كان عمل بودريار في الواقع استكمالاً أنيقاً لهواجسي الأخرى على مدار العام الماضي: جيمي ويل، وتريستان هاريس، وقبل كل شيء دانييل شماختنبرجر. أعتقد تمامًا أنه إذا تمت كتابة المحاكاة والسيمولاكر كرواية، فسيتم التحدث عنها مع 1984 و عالم جديد شجاع - أعتقد أنه في شكل مشوه كما هو الحال مع أفلام ماتريكس. من ناحية أخرى، ربما لم يكن الأمر كذلك. لأن الشيء المميز في هذا الكتاب هو أنه من الصعب حقًا تحديده. عندما جلست لكتابة هذا المقال، فكرت في معالجة ثلاث أفكار رئيسية في الكتاب: المحاكاة، وسيمولاكرا والاستنساخ، والواقع المفرط. لذلك بدأت بمصطلح المحاكاة وحاولت تحديد معنى الكلمة ووجدت نفسي على الفور في الأعشاب الضارة. هذا هو أول فرق كبير بين كتاب بودريار وأفلام ماتريكس. من السهل للغاية تعريف فكرة المحاكاة في ماتريكس. المحاكاة هي عالم الواقع الافتراضي التكنولوجي الذي نتصل به جميعًا. إنها في الأساس نسخة محدثة من شيطان ديكارت المعرفي. هذه واحدة من نقاط ضعف بودريار (العديدة) في سلسلة الأفلام. بالنسبة لبودريار، فإن فيلم الماتريكس يتعامل مع مشكلة الوهم وليس مشكلة المحاكاة. لأن فيلم الماتريكس هو في الحقيقة مسألة وهم، أليس كذلك؟ لديك الواقع الافتراضي الذي هو الماتريكس والذي يبدو حقيقيًا ثم لديك الواقع الفعلي لمدينة صهيون. الماتريكس وهم. الحبة الحمراء تخرجك من الوهم إلى الواقع. إنها قصة بطل أنيق. لكن هذا ليس ما يتحدث عنه بودريار على الإطلاق.  ان محاكاة بودريار أكثر خبثاً ورعباً. لأن محاكاة بودريار لا وجود فيها لصهيون. هذه هي النقطة الأساسية. لا يوجد مخرج من المحاكاة. إنها سترة مقيدة؛ إنها سجن نحتجز فيه. ولهذا السبب فهي مرعبة للغاية. يخبرنا بودريار أن التناقض الثنائي بين الوهم والواقع ينهار مع دخول عصر ما بعد الحداثة. لم يعد هناك أي تمييز بين الوهم والواقع. لم يعد الواقع قابلاً للوصول وبالتالي لم يعد للواقع ولا للوهم أي معنى. نحن، باستخدام المصطلحات السيميائية لبودريار، تقطعت بنا السبل في عالم بلا مرجعيات؛ نعيش في بحر من العلامات المنفصلة عن أي شيء حقيقي. الواقع يتحلل، وينهار في عالم المحاكاة الخاص بنا؛ لقد أصبح ما يسميه بودريار "صحراء الواقع". لكن، للوهلة الأولى، قد يبدو هذا أشبه بكل ما يحذر منه المعلقون فيما يتصل بفلسفة ما بعد الحداثة. إنه يشمل كل ما يخيفها ـ النسبية والتشكك في المعرفة والحقيقة وكل ما نعتبره مقدساً في الغرب. ولكن من الخطأ التام أن ننظر إلى الأمر بهذه الطريقة. إن ما يغفله هذا الكاريكاتير عن فلسفة ما بعد الحداثة ـ وبودريار هو أحد أتباع فلسفة ما بعد الحداثة الكلاسيكيين (حتى أنه يُطلَق عليه لقب "الكاهن الأعظم لفلسفة ما بعد الحداثة") ـ هو أن فلاسفة ما بعد الحداثة ليسوا مجرد دمى تتحكم في هذا الواقع الجديد الذي يفرضه عصر ما بعد الحداثة. إنهم أشبه بـ "كاساندرا"، وكانوا في كثير من الأحيان الوحيدين الذين كانوا على استعداد للتحديق في وجه ما كان قادماً. كان الفلاسفة التحليليون منشغلين بمحاولة اللحاق بالعلم وبالسعي المتواضع إلى جعل تخصصهم صارماً. ولكن العديد من هؤلاء الفلاسفة الفرنسيين كانوا أكثر اهتماماً بالحاضر ـ بنشاط الفلسفة ومسار التاريخ. لقد كانوا فلاسفة ذلك العصر. وهذا جزء من السبب الذي جعل الكثير منهم يصبحون من المشاهير ــ لأن ما كان لديهم ليقولوه كان ذا صلة بالعالم الذي يعيشون فيه. ولذا، آمل أن نتمكن مع بودريار من الحصول على نظرة ثاقبة إلى هذه العدسة الأخرى للنظر إلى ما بعد الحداثيين ــ ليس باعتبارهم أشباحاً وظلالاً لكل ما هو خطأ في العالم كما يراهم كثيرون، بل باعتبارهم خبراء تشخيص كانوا يشخصون التحول العظيم الذي كان يحدث في الثقافة. من الواضح الآن أنهم لم يكونوا جميعًا أفرادًا موضوعيين غير متحيزين يجلسون على الهامش. كان ميشيل فوكو بالتأكيد شخصًا ألقى بثقله إلى جانب واحد من الحركة وعمل كمحفز لإحداث التغيير الذي اعتقد أنه يجب أن يأتي. لكن القول بأن فوكو أو دريدا أو غيرهما من ما بعد الحداثيين خلقوا هذا العالم هو الوقوع في مغالطة الخلط بين انعكاس النجوم في البركة والسماء الليلية. أو بلغة بودريار، إنه ينسب إلى الأفراد ما هو في الواقع وظيفة للمحاكاة.

صعوبات تعريف المحاكاة

السؤال الكبير إذن هو ماذا يعني بودريار بالضبط بالمحاكاة؟ اتضح أن هذا ليس سؤالاً سهلاً للإجابة عليه. في البداية، اعتقدت أن قلة خبرتي ببودريار هي التي منعت فهمي للأمر، ولكن بعد البحث في أربعة أو خمسة كتب مختلفة عن بودريار وقراءة الكثير من المقالات على الإنترنت، يبدو أن هذا الصراع لفهم فكرة المحاكاة ليس مجرد نزوة شخصية بل صراع شامل. لم يتوصل أي من الكتب التي قرأتها إلى تعريف مرضٍ للمصطلح. لقد تركوا المصطلح يتجول دون تحديده. أقرب ما توصلت إليه من تعريف هو صفحة بودريار في موسوعة ستانفورد للفلسفة حيث يعرف دوجلاس كيلنر محاكاة بودريار على النحو التالي:"أنماط التمثيل الثقافية التي "تحاكي" الواقع كما هو الحال في التلفزيون، والفضاء الإلكتروني للكمبيوتر، والواقع الافتراضي". يبدو هذا التعريف مناسبًا تمامًا باستثناء أنه لا يعمل. عندما تفكر في الأمر، فهذا مجرد تعريف موسع قليلاً لمحاكاة فيلم ماتريكس. إن الواقع الافتراضي للمصفوفة وأسلافها ــ التلفاز والكمبيوتر ــ هو الذي يمتص قوة حياتنا. وهذا جانب مهم حقاً من المحاكاة، وسوف نتعمق فيه في مقالات مستقبلية، ولكنه لا يفسر كيف يستطيع بودريار أن يبرر القول بأن العالم بأسره عبارة عن محاكاة ــ وأننا جميعاً نعيش في محاكاة. إنه ببساطة لا ينسجم مع الواقع. ولكن على الرغم من أن محاولة كيلنر كانت بعيدة عن الهدف، فإنني أقدر محاولة تحديد المصطلح، وفكرت في محاولة إضافة بعض الإضافة إلى هذا المسعى، على الرغم من أنني ربما أنتهي إلى تعكير المياه قليلاً. كان أحد الكتب التي درستها من تأليف عالم يُدعى ريكس بتلر، الذي تحدث عن الصعوبات المتأصلة في الحديث عن مصطلح المحاكاة: "في كل هذا تبرز صعوبة الحديث عن المحاكاة، وهي الصعوبة التي يدركها بودريار ببطء مع تقدم عمله. من الصعب التحدث عن المحاكاة ليس فقط لأنها ليست حقيقية، ولكن بشكل أعمق لأنها عملية إجمالية، ولا يوجد شيء خارجها. إن المحلل الذي يحلل المحاكاة، إذن، يخضع للقاعدة ذاتها التي يحللها. فإذا كان القانون الأساسي للمحاكاة هو أننا لا نستطيع أن نقترب كثيراً من الشيء الذي نمثله، فإن هذا ينطبق أيضاً على محاولات المحلل لتمثيل المحاكاة ذاتها. وبالتالي فإن السؤال المطروح هو: إذا لم يكن هناك شيء خارج المحاكاة ولا شيء قبلها، فكيف لنا أن نفكر فيها على الإطلاق؟" لذا، إذا بدا لك كل شيء في هذه المقالة غامضاً وغير واضح، فإن هذا يرجع جزئياً فقط إلى عدم الكفاءة. كما يفسر لماذا لن يكون من السهل أبداً تلخيص المحاكاة والمحاكاة الساخرة بحيث يمكن أن يقفا إلى جانب 1984 أو عالم جديد شجاع. إن النسخة المخففة منها في فيلم ماتريكس هي أفضل ما يمكن أن نحصل عليه على مستوى التيار السائد. وبعد أن قلنا كل هذا، فإن بقية هذه المقالة ستكون محاولة لإزالة الغموض عن فكرة المحاكاة على الأقل إلى حد ما. فما هي المحاكاة؟

بعد قراءة كتاب باتلر يبدو أن القاعدة الأولى للمحاكاة، مثل القاعدة الأولى لنادي القتال، هي ألا تتحدث عن المحاكاة. يقول بودريار:"في اللحظة التي تعتقد فيها أنك في حالة محاكاة، فإنك لم تعد هناك. وسوء الفهم هنا هو تحويل نظرية مثل نظريتي إلى مرجع بينما لا ينبغي أن تكون هناك أي مراجع على الإطلاق."  إنه يستخدم المرجع هنا بالمعنى السيميائي باعتباره المرجع أي الشيء في الواقع الذي تشير إليه العلامة. هذا هو الجانب الرئيسي الأول لمحاكاة بودريار: إنها في المقام الأول فرضية. وكما يشير باتلر إلى المحاكاة:"ليست ظاهرة تجريبية، شيئًا يحدث بالفعل. إن بودريار يدرك تمام الإدراك المفارقة التي مفادها أن المحاكاة التي يصفها، بقدر ما هي موجودة، تجعل أي وسيلة للتحقق منها مستحيلة. وهذا يعني أن الواقع الحقيقي الذي نقول إنه ضاع في المحاكاة ونقارنه به لا يمكن تصوره الآن إلا في شكل محاكاة. بل إننا قد نقول حتى إنه بقدر ما نستطيع أن نتحدث عن المحاكاة، فإنها لم تحدث بعد، وأن المحاكاة ثبتت في غيابها. إذن، المحاكاة ليست حقيقية، بل هي نوع من الفرضيات. لذا آمل أن تبدأ في رؤية السبب الذي جعل هذا الموضوع يحطم رأسي وكذلك السبب الذي يجعلني أجده جذابًا للغاية. إنه كثيف للغاية ويصعب فهمه ولكنه في نفس الوقت أحد أكثر الأفكار إثارة للاهتمام التي صادفتها منذ سنوات. حسنًا، بعد أن ثبت أن أي شيء نقوله عن هذا الموضوع لن يكون كافيًا وسيتجاوز وصية فيتجنشتاين القائلة بأن "ما لا يمكن التحدث عنه، يجب أن نتجاوزه في صمت"، فلنحاول أن نقول المزيد عن المحاكاة. هناك دليل مهم آخر في محاولة فهم المحاكاة وهو الفكرة القائلة بأن:"تحاول المحاكاة أن تشبه الواقع، وأن "تدركه"، وأن تبرز ما هو ضمني فيه وتجعله واضحًا. ولكن في نقطة معينة من تقدمها تقترب كثيرًا من الأصل، وتزداد كمالًا، بدلًا من تقريب النظام من هذا الأصل، فإنها تدفعه بعيدًا عنه. يبدأ النظام في عكس اتجاهه، مما يؤدي إلى ظهور تأثيرات معاكسة لتلك المهمة المقصودة". مرة أخرى، يبدو كل هذا مثيرًا للاهتمام للغاية، ولكن ماذا يعني ذلك في الواقع. أحد الأمثلة التي يستخدمها بودريار في الكتاب هو فكرة الهايبر ماركت. وهذا المثال العادي إلى حد ما هو وسيلة جيدة لفهم هذه النقطة.

"الهايبر ماركت"

"الهايبر ماركت" مصطلح شائع في فرنسا يشير إلى السوبر ماركت، لذا فإنك قد تجد متجر تيسكو أو متجر وول مارت أو متجر دونز في أيرلندا. وما هو السوبر ماركت؟ إنه محاولة لإتقان فكرة السوق. في الأصل كان السوق مكانًا تذهب إليه وتشتري لحومك من هذا الشخص وخبزك من ذلك الشخص وشموعك من الانسان الذي هناك. وكما يقول بودريار فإن السوق التقليدي كان ""المكان الذي تلتقي فيه المدينة والريف معًا"" ولكن يأتي السوبر ماركت ويحاول تجسيد فكرة السوق بشكل مثالي. فهو يجمع كل هذه الأشياء تحت سقف واحد. فالخضروات هنا واللحوم هناك والشموع هناك. ولكن في مرحلة معينة من تقدمه يقترب كثيرًا من الأصل وبدلاً من تقريب النظام من الأصل فإنه يدفعه بعيدًا عنه فحسب." وهذا منطقي تماما في مثال السوبر ماركت لأن السوبر ماركت ــ رغم أنها أقرب نظريا إلى الكمال الذي تتمتع به السوق ــ لا يمكن أن تكون أبعد عنه. وهناك شيء مدمر للروح في السوبر ماركت. فأنت تدخل وتختار البقالة التي تريدها تحت أضواء الفلورسنت، والآن لا يتعين عليك حتى أن تتحدث إلى أي شخص، بل تقترب فقط من الماكينة وتلمس هاتفك وتخرجه. ولكن الأمر لا يتعلق حتى بالتنظيم المنهجي لكل شيء؛ بل يتعلق بشبه كل شيء بالآلة. فأنت تدخل ــ نقطة أخرى في حشد من الناس ــ وتختار بعض العناصر من صفوفها المنظمة تماما. وفي أعقابك تتجدد الصفوف بحيث تكون الآلة في حالة مستمرة من التجانس. وأنت، العميل، تتحرك بطريقة خطية منظمة حول السوبر ماركت، وتأتي إلى الصندوق وتخرج إلى سيارتك ومنزلك. والأمر لا يتعلق بالسوبر ماركت فقط. يكتب بودريار:"لا يمكن فصل الهايبر ماركت عن الطرق السريعة التي تحيط به وتغذيه، وعن مواقف السيارات المغطاة بالسيارات، وعن محطة الكمبيوتر ــ أو بالأحرى، في دوائر متحدة المركز ــ عن المدينة بأكملها باعتبارها شاشة وظيفية كاملة للأنشطة." قارن كل هذا بالذهاب إلى السوق حيث توجد ضجة صحية. فهناك أشخاص يتفاعلون، وهناك أشخاص في الأكشاك، وهناك شخص يعزف في الشارع في الزاوية. وهناك مخزون محدود وبشر عليك التغلب عليهم للوصول إلى هذا المخزون. أجد أن هناك شيئًا مغذيًا في الذهاب إلى السوق. أشعر بالرضا بعد ذلك. لن أذهب أبدًا إلى سوبر ماركت للتنزه ولكن إلى السوق؟ بالتأكيد. هناك شيء صحي في السوق مفقود تمامًا في الهايبر ماركت. لقد فقد روحه في محاولته لإتقان فكرة السوق. إن هذا السعي إلى الكمال في السوق ــ إلى هذا السوق النهائي ــ يخلق تجربة سوق متجانسة في مختلف أنحاء البلاد والعالم. ويصبح السوق شيئاً مبالغاً فيه في هذا النهج نحو الكمال، وفي مكان ما على طول الخط يفقد روحه. وهناك أكثر من ما يكفي من الدروس التي ينبغي لنا أن نأخذها في الاعتبار فيما يتصل بالكمال البشري أيضاً؛ ولعلنا نكون في وضع أفضل إذا أحبطتنا الفوضى العشوائية التي تسود غرائزنا. فقد يصبح العالم الرواقي بلا روح مثل المتاجر الكبرى.

قبيلة تاساداي

من الواضح أن هذا مثال عادي، ولكن لمحاولة إقامة جسر بين هذا المثال للهايبر ماركت وفكرة المحاكاة الشاملة العالمية التي تدمر الحقيقة، فمن الجدير أن نلقي نظرة على مثال بودريار من علم الأعراق. في عام 1971، قررت الحكومة الفلبينية إعادة بضع عشرات من أفراد قبيلة تاساداي إلى أعماق الغابة التي تم اكتشافهم فيها مؤخرًا. عاش أفراد قبيلة تاساداي هناك لمدة ثمانية قرون دون أي اتصال بالعالم الخارجي، ولكن عند الاتصال بهذا العالم الخارجي، كما يقول بودريار، "تفككوا فور الاتصال، مثل المومياوات في الهواء الطلق".وبالتالي، بناءً على توصية علماء الأنثروبولوجيا، قررت الحكومة إعادة أفراد القبيلة إلى الغابة البكر بعيدًا عن متناول المستعمرين والسياح وعلماء الأعراق. إن تحليل بودريار لهذا الحدث رائع. إن هذا الأمر صعب الفهم تماماً، ولكن هناك شيء قوي بشكل لا يصدق في هذا الأمر. يقول بودريار: "لكي تعيش الإثنولوجيا، لابد أن يموت موضوعها" ففي عملية دراسة القبائل كان علماء الإثنولوجيا يتسببون في تدهورها.ولكن عودة أفراد القبائل إلى الغابة البكر هي على وجه التحديد ما يجعل الأمر غريباً للغاية. فالعلم يضحي بأفراد هذه القبائل من أجل الحفاظ على مبدأ واقعيته. لقد تجمد أفراد قبيلة تاساداي في عنصرهم الطبيعي. لقد أصبحوا "متجمدين، ومبردين، ومعقمين، ومحميين حتى الموت، وأصبحوا محاكاة مرجعية، وأصبح العلم نفسه محاكاة خالصة". أصبح أفراد هذه القبائل نموذجاً للمحاكاة ــ لكل أفراد القبائل المحتملين من العصور التي سبقت الإثنولوجيا.إن ما توصل إليه بودريار هنا يجسد جوهر المحاكاة الذي يصعب فهمه. ففي وقت سابق كتب عن كيف أن الواقع لم يعد كما كان في ظل المحاكاة. "إننا نرى انهيار الواقع ــ انهيار الفارق بين الوهم والواقع. والآن لم يعد هناك وهم أو واقع، بل محاكاة فحسب."هناك وفرة من أساطير الأصل وعلامات الواقع ــ وفرة من الحقيقة، والموضوعية الثانوية والأصالة. تصعيد للحقيقة، للتجربة المعاشة، إحياء للمجازات حيث اختفى الموضوع والجوهر. إنتاج مذعور للواقع والمرجعية. هكذا تظهر المحاكاة في المرحلة التي تهمنا ــ استراتيجية للواقع، والواقع الجديد والواقع المفرط" إذا نظرنا إلى حالة قبيلة تاساداي في هذا الضوء، فإننا نرى محاولة العودة إلى الواقع، واستعادة تاساداي إلى شكلهم الحقيقي في الغابة العذراء؛ إنها فكرة ما هو طبيعي ــ مبدأ الواقع هذا. ولكن في محاولة الإمساك بهذا الواقع فإننا نحاكيه فحسب. عندما تسمع الناس يتجادلون حول ما كان يأكله أسلافنا، وكيف عاشوا، ولماذا يجب أن تعيش بهذه الطريقة الآن، فإن الأمر لا يتعلق بالعودة إلى الطريقة التي عاش بها البشر في العصر الحجري القديم؛ بل إنه محاكاة أخرى تمامًا مثل سكان قبيلة تاساداي.

محميات البرية

مثال آخر جاء إلى ذهني هو فكرة محمية البرية. إذا فكرت في الأمر، فإن محمية البرية هي نوع من المفارقة. كانت البرية في الماضي مساحة غير آمنة كانت موجودة خارج أسوار المدينة؛ كانت الأراضي البرية الخطرة حيث يمكن أن يحدث أي شيء. كانت المسار المظلم، والغابة الكثيفة، والبرية غير المروضة التي تتسكع فيها الذئاب وأسود الجبال. كانت مكانًا للخطر وعدم اليقين. ولكن ليس هذا فقط. كانت البرية هي العالم. لم تكن الحضارة سوى سلسلة من الجزر في هذا العالم غير المروض من البرية. هذا ما جعلها برية - كانت الآخر غير المروض والشامل. ولكن الآن لديك محميات برية. فبدلاً من أن تكون البرية هي الشيء الذي يحيط بالحضارة، لديك الآن هذه المنطقة التي قمنا بعزلها وسميناها برية. لقد حاولنا الحفاظ على فكرة البرية هذه، ولكن في القيام بذلك قمنا بإنشاء برية محاكاة. إنها محاكاة للبرية فقدت كل اتصال بها في محاولتها لإتقان فكرة البرية.

خاتمة

هذه أمثلة عادية نسبيًا لمحاكاة بودريار، ولكن يمكنك أن تبدأ في رؤية ما يعنيه بقوله إن كل شيء أصبح محاكاة - أن المحاكاة أصبحت شاملة. هذه ليست مجرد مسألة تتعلق بالإنترنت أو وسائل الإعلام؛ إنها كل شيء. عندما نتحدث عن الإنترنت والتكنولوجيا وكيف شوهت حياتنا، فمن السهل فهم المحاكاة. إن المصفوفة شيء سهل الفهم لأننا ننظر إلى حياتنا غير الافتراضية ونرى شيئًا أقل تشوهًا. ولكن النقطة التي أراد بودريار أن يوصلها ـ والتي لا شك أنني أخطأت فيها خطأً فادحاً ـ هي أن المحاكاة أكثر خبثاً وتغلغلت إلى أعماق حياتنا. فنحن نعيش الآن في عالم محاكي بالكامل. ما زلت أصارع في فهم ما يعنيه هذا بالضبط، وأنا على ثقة تامة من أن أي شخص درس بودريار بعمق ربما ينزعج من محاولتي غير الدقيقة لالتقاط ما يتحدث عنه، ولكن في الأجزاء المستقبلية أريد أن أحيط بهذا العمل لبودريار أكثر لأنني أشعر حقًا أن هناك شيئًا مهمًا للغاية فيه وشيئًا قد يكون ضروريًا لفهم الفوضى التي نجد أنفسنا فيها في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. لم يعد التجريد اليوم هو تجريد الخريطة أو المزدوج أو المرآة أو المفهوم. لم تعد المحاكاة محاكاة إقليم، أو كائن مرجعي، أو مادة. إنه التوليد بنماذج لواقع بلا أصل أو واقع: واقعي مفرط. لم تعد المنطقة تسبق الخريطة، ولا تنجو منها. إنها الآن الخريطة التي تسبق المنطقة - مبادرة المحاكاة - وهي التي تولد المنطقة وإذا كان علينا العودة إلى الحكاية، فهي اليوم المنطقة التي تتعفن أشلاءها ببطء على امتداد الخريطة. إنها الحقيقة، وليست الخريطة، التي تبقى آثارها هنا وهناك، في الصحارى التي لم تعد صحارى الإمبراطورية، بل صحارينا. صحراء الواقع نفسه. فالي حد تخطى بودريار موقف افلاطون الساخر من المحاكاة وتغيرت نظرة الفلاسفة المابعد الحداثيين للسيمولاكر؟ وكيف يمكن استثمار هذا المعطى في فهم الواقع؟.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.......................

المصدر:

Jean Baudrillard, simulacres et simulation, 1981,

 

الموجود والوجود

ثمة مقولة في الفلسفة الوجودية تذهب الى (ان الوجود يسبق الماهية) طبعا هنا المقصود بالوجود في العبارة هو الموجود الانساني الارضي وليس الوجود الميتافيزيقي المجرد المطلق كمفهوم. وخطأ العبارة الوجودية ان الموجود الانسان وجوده يرتبط بماهيته ارتباطا وثيقا لا فكاك منه ولا تمييز بينهما يدركهما العقل كموضوعين منفصلين. بمعنى لا الموجود الانسان يكون موضوعا منفصلا عن ماهيته التي هي الاخرى ليست موضوعا ايضا. بمعنى حسب تعبير سارتر الانسان كينونة مستقلة موحدة ليس موضوعا.

فالموجود ونعني به الانسان أينما وردت اللفظة في المقال وليس الانسان بالمفهوم الميتافيزيقي(وجودا) إنما يدرك الموجود بصفاته الخارجية فقط وليس بماهيته التصنيعية ذاتيا المحتجبة خلف تلك الصفات. والمقصود بالماهية المصنّعة انها مشروع بناء الموجود لماهيته او جوهره الخاص به.

ماهية الانسان تختلف عن ماهيات الاشياء فماهية الانسان ليست جوهرا ثابتا بل هي صيرورة مشروع بناء الذات من الخبرة التراكمية النوعية المكتسبة بالتجارب الذاتية للموجود. الموجود الذي يدرك ذاتيته كمتعين انطولوجي بكليته الكينونية الواحدة هو ذات موجودية بالصفات الخارجية المدركة والماهية معا. الماهية المدّخرة في كينونة الموجود الانسان هي سيرورة من تصنيع الذات لنفسها يقوم بها الفرد يتعذّر ادراكها لسببين الاول انها أي الماهية جوهر ذاتي فرداني استبطاني صرف والثاني انها صيرورة من البناءات الذاتية التي يقوم الفرد بها.

أما الماهية أو الجوهر في الاشياء والموجودات باستثناء الانسان فهي ماهية ثابتة وتكون معطى يتبع الصفات الخارجية لتلك الكائنات كما هي في الحيوان والنبات وبعض الاشياء والمدركات المادية الاخرى. وغالبا ما تكون الصفات الخارجية هي جوهر تلك الكائنات والموجودات من غير الانسان كما في الحيوان فهو موجود بلا ماهية. وتنكر الماركسية على الانسان انه يمتلك ماهية او جوهرا استبطانيا وانما تعتبرالانسان كينونة موجودية موحدة. في حين نجد الوجودية تؤكد الانسان موجود يمتلك ماهية كما ذكرنا هي ليست معطى فطري بيولوجي بل هي مشروع تصنيع تطور الذات بالخبرة التراكمية يقوم بها الفرد مدى حياته..

اود التنبيه أن الدارج في ادبيات الفلسفة عموما ما عدا الوجودية أن الوجود يسبق الفكر. وليس الوجود يسبق الماهية كما وردت في اسطر سابقة. ولو قالت الوجودية وجود الموجود يسبق ماهيته لكان ذلك مقبولا نسبيا وليس صحيحا تماما ايضا. والسبب عدم الاخذ بنظر الاعتبار ان موجودية الموجود لا تنفصل عن ماهيته او جوهره والتراتيبية في الاسبقية بين الموجود كينونة جسمية والماهية كجوهر مصنّع تعبير مغلوط ايضا.. واستعمال لفظة الوجود بدل لفظة الموجودات يتقدمها الانسان خطأ فالوجود مفهوم ميتافيزيقي وليس مصطلحا يمكن ادراكه كموضوع. الوجود يشير الى مطلق ميتافيزيقي لانهائي ازلي لايحيط به العقل أبدا بينما الموجود هو كينونة الانسان الارضية وتشمل ايضا كائنات الطبيعة وعالمنا الخارجي التي هي موضوعات العقل.

ماهية الانسان معطى فطري أم مشروع بناء خبراتي مكتسب؟

ماهية أو جوهر الانسان هي مشروع بناء لتوكيد ذاتية الانسان المتفردة من جانب وتحديد (الهوية) الموجودية الجوّانية الاستبطانية للفرد غير المدركة إلا من ذاتها فقط. ماهية الانسان هي ليست صفاته الخارجية وليس الانسان ماهية او جوهرا مستقلا بمعزل عن الجسم. الانسان كينونة موحدة تتوزعها صفاتها الخارجية المدركة وعالم داخلها الجسدي الذي تحكمه غرائز واحتياجات البيولوجيا الحيّة في ادراك موجودات واشياء العالم الخارجي. واشباع الغرائز الفطرية واحتياجات الجسم الداخلية الاستبطانية. الانسان كائن موجود يعي ذاته والمحيط وليس موضوعا لكن من المهم جدا تاكيد ان الانسان موجود انطولوجي يمتلك ماهية غير منفصلة لا عن الذات ولا عن الجسم.

ماهية الانسان أو جوهره هو مجموع مايكتسبه من خبرة تراكمية نوعية تمّثل كل اشتمالات اكسيولوجيا القيم غير المنظورة بغير دلالاتها السلوكية لفرد موجود ضمن مجتمع. منها على سبيل الاستشهاد وليس الحصر ضمير الانسان، شرفه، سلوكه الاخلاقي، ايمانه بمباديء معينة، حريته، وعيه الزمن، وتشكيل نفسيته، الحب، الخ الخ. هذه المفردات وغيرها هي جوانب وخصائص وابعاد غير قابلة ان تكون موضوعات مادية واقعية لتفكير عقلي بها وانما هي تجليّات سلوكية بالحياة مصدرها الذات والنفس.. الماهية عند الانسان هوية انفرادية لا يدركها غير صاحبها كموضوع لانها صيرورة بنائية من تراكم معرفي وخبراتي غير ثابتة. وعبارة سارتر وفلاسفة آخرين(الانسان ليس موضوعا) صحيحة وصائبة.

سارتر وتحقق ذاتية الموجود

يستعير سارتر بمواربة خفيّة لكنها حدسية واضحة مقولة سورين كيركجورد الاب الروحي للوجودية المؤمنة غير الالحادية مفادها في تعبير سارتر (الانسان الوجودي ناتج عملية قذف نفسه نحو ما ليس بموجود). وهي رؤية فلسفية صرفة وجودية في تحقيق وجود ميتافيزيقي ذاتي غير متحقق واقعا.

قذف الانسان نفسه حسب تعبير سارتر بالمطلق غير الموجود انما يقصد به قذف الانسان نفسه بالوجود المطلق الميتافيزيقي لكي يحقق موجوديته الذاتية الوجودية غير الدينية كما يرغب سارتر. سورين كيركجورد بخلاف سارتر كان يتوخي من ناتج قذف الانسان نفسه في مطلق وجودي ايماني مصدره القلب وليس العقل كفيل بتحقيق موجوديته الايمانية في وجود الخالق وليس إثبات موجودية الفرد انطولوجيا. موجودية ايمانية قلبية روحانية يمتلكها الفرد لكنها ليست ميتافيزيقية كما يرغبها سارتر. بل هي واقعية عند سورين كيركجورد.

سورين كيركجورد كان سبق سارتر تحت وطأة ايمانه الديني انكاره العقل أن يكون منهجا بالوصول الى الايمان بل كي يوقف الانسان قلقه الوجودي الميتافيزيقي الذي يتقاذفه الشك الايماني يتوجب عليه أن يبطل منهج العقل المادي. سورين كيركجورد على خلاف سارتر اراد من عملية قذف الانسان نفسه بالمطلق الوجودي هو بغية توكيد الانسان وجوده الايماني الارضي وليس تضييع موجودية الانسان الارضية في متاهة اللاوجود الذي يرغبه سارتر. كان سارتر يبغي من قذف الانسان نفسه باللاموجود بالنسبة للذات وليس في الوجود المطلق اللانهائي الازلي الذي تكون نتيجته خلاص الانسان من كينونة قلقه الوجودي الارضي. الحقيقة التي لم تفصح عنها عبارة سارتر هي ان اللاموجود هو الوجود المطلق اللانهائي.

سورين كيركجورد أراد اثبات وجود الخالق في القاء الموجود نفسه بالمطلق الميتافيزيقي وليس اثبات الوجود الانطولوجي للفرد ميتافيزيقيا بل اثبات وجوده انطولوجيا إيمانيا ولو انه أي كيركجورد اشترط إلغاء منهج العقل للوصول الى الوجود المادي – الروحي الايماني. وليس قذف الانسان نفسه روحانيا في مطلق سديمي يسمى اللاموجود كما اراد سارتر.

سارتر وكتابه نقد العقل الجدلي

سارتر رغم تنكره للماركسية وانكاره انضمامه للحزب الشيوعي الفرنسي الا انه بقي تفكيره الوجودي المادي الجدلي مرجعية اقرب اليه من ميتافيزيقا الفلسفة الوجودية. سارتر اراد الالتفاف على الماركسية في محاولته تطعيمها ومزاوجتها بافكاره الوجودية ولم يفلح لسبب بسيط أن ماركس كان أخرج الفلسفة من تحت عباءة التجريد الفلسفي الذي صرفت الفلسفة جهودا وآمادا طويلة في محاولتها تفسير العالم وليس كما المطلوب تغييره فعمد ماركس الى إدماج الفلسفة بالاقتصاد السياسي لكي يجعل قوانين الجدل الديالكتيكي حقائق تحكم المادة والتاريخ واقعا وليس فلسفة على مستوى التنظير غيرالواقعي في تغيير العالم. فكانت قوانين ديالكتيك المادة والمادية التاريخية الماركسية. وبذلك اوقف ماركس ديالكتيك هيجل المثالي المقلوب ومادية فيورباخ الصوفية أوقفهما كلتاهما على اقدامهما بدلا من رأسيهما.

كتاب سارتر نقد العقل الجدلي مهّد الطريق امام فلاسفة البنيوية التوجه نحو الهجوم الشديد على السردية الماركسية الكبرى التي استهدفتها منطلقات الهجوم على الحداثة باسم مابعد الحداثة. فقام كل من شتراوس وفوكو والتوسير بتناول كتاب راس المال والديالكتيك الماركسي بمفاهيم حاولت سلخ ماركسية ماركس من عمودها الفقري المنسوب لها بحيث تكون تلك المؤلفات ماركسية بلا ماركس وماركسية خيالية فلسفية ليست واقعية بلا كتاب راس المال.

فهم سارتر للذات والعالم الخارجي

ذكر سارتر عبارة فلسفية رشيقة في كتابه نقد العقل الجدلي (معنى العالم متوقف على، مادام العالم في ذاته خلوّا من كل معنى وانا الذي اخلع عليه كل ما له معنى.). سارتر يقصد بالانا ليس ذاته هو بل المجموع البشري. طبعا هنا سارتر لا يتعامل مع العالم المادي انه بلا معنى بل يقصد هنا لامعنى ميتافيزيقا الوجود. من منطلق الوجود مفهوم مطلق وجوديا أي ليس موضوعا. فلا يمكن أن يكون عالمنا الخارجي بموجوداته ومكوناته وكائناته من ضمنها الطبيعة ليس لها معنى. وهو يحتل مكانة مركزية في معالجة الذات وعلاقتها بالعالم الخارجي. صحيح تعبير سارتر اننا نخلع على عالمنا المعيش معانيه وتجلياته الظاهرية والمدّخرة من خلال موجوديتنا ضمن مجتمع لكنما العالم يسبق في وجوده المادي الادراكي وعينا به.

والعالم اذا كان المقصود السارتري به هو الوجود الميتافيزيقي بلا معنى فيكون هذا الخلو من المعنى مستمدا من عجز وعينا وادراكنا التفكيربه إلماما تاما بغير آليات انضباطية تمنع تفكيرنا من انسيابية الضياع في متاهات المطلق الوجودي الذي تسبح فيه الذات بلا ادراك منها ولا معنى تبتغيه. أما إهمال الوجودية علاقة الذات بالطبيعة في موجوداتها وتكويناتها بإعتبارهما – الذات والطبيعة - موجودين مستقلين ومنفصلين عن بعضهما فهي من المحال أن لا تكون العلاقة بينهما علاقة ارتباط تخارجي معرفي متبادل في كل ماله معنى يجمعهما.

وحين ينقد سارتر الجدل الديالكتيكي وينكره تماما باعتباره تضليل فلسفي خادع على صعيدي المادة والتاريخ وليس له وجود نجد رغم اقراره الواضح هذا فهو يقول ( علينا التسليم بأن في المادية التاريخية نجد التفسير الوحيد الصحيح لحركة التاريخ )1.

سارتر يقع غفلا أو تغافلا مقصودا في تعامله مع الموجود المادي وليس مع ميتافيزيقا الوجود كمفهوم مطلق. فالفعل الانساني عنده مثلا (لم يعد مجرد نشاط ذاتي يقوم به الموجود لذاته من أجل حريته في وجه حرية الاخرين. بل اصبح الفعل نشاط مادي واقعي يقوم به كل كائن اجتماعي تاريخي يعمل على تغيير عالمه محاولا صبغ الطبيعة بصبغة انسانية)2.

وفي نفس المنحى المادي الوجودي لدى سارتر فهو يعتبر محاولات الذات التعالي المستمر على نفسها الوجودي في توقها الوصول للافضل ويصف عملية التجاوز في سعي الذات بناء تجديداتها التراكمية بقوله (لم تعد عملية التجاوز عملية ذاتية زئبقية يقوم بها الموجود لذاته في سعيه المستمر وراء تحقيق ذاته، واصبح هذا السعي هو تحقيق الوجود خارج الذات)3.

تحقيق الوجود خارج الذات هو تحقيق خروج مفارق متعال تراندستاليا على الذات التقليدية في نوع من انقلابية الذات على وجودها. وهي العلاقة التي يستشعرها المتمرد على وجوديته المتعالية على ذاتها التي لا يمكنها الاستغناء عن الاخر من البشر ومن موجودات الطبيعة ايضا في تعالقها الموجودي معها. تحقيق الوجود الانطولوجي للانسان خارج الذات كما يقول سارتر استحالة موجودية ولا يمكننا تصور ان يستطيع الانسان الانفصال عن ذاته في كل الاحوال.

سارتر والانسان المادي

على ما يذكر دكتور زكريا ابراهيم أن سارتر في كتابه الضخم (الوجود والعدم) لاقى انتقادا على اهماله حقيقة الانسان موجود تاريخي. ما حدا به تدارك هذا الاهمال مؤكدا البعد التاريخي للانسان في كتابه نقد العقل الجدلي قائلا (الانسان موجود تاريخي). وأضاف سارتر اكثر قائلا الانسان موجود مادي يحيا في وسط عالم مادي يريد تغييره وتغيير ذاته وما ينشده في كل لحظة انما رغبة الوصول الى تنظيم جديد للكون مركزه وضع جديد للانسان4.

المادة في نظر سارتر ليست مجرد امتداد محض بل هي حقيقة بشرية لا تكتسب كل خصائصها الا بفعل الانسان. ولا يكفي ان نقول مع الوضعيين ان البشر اشياء. بل لابد ان نضيف الى ذلك ان الاشياء تتميز بطابع بشري. والانسان هوتلك الحقيقة المادية التي تتلقى المادة عن طريقها شتى الوظائف البشرية5.

تعبير سارتر بهذا الاقتباس كان نوعا من التبسيط الذي يكرر بديهيات الحياة مثل قيمة الشيء تكون بعلاقة الانسان به بالاستخدام وليس المعرفة به وقد اخذ هيدجر هذه البديهيات وضمنها كتابه (الوجود والزمان) مثل قوله اهمية المطرقة هي في مسك اليد لها واستعمالها الوظيفي. وما هو الجديد بذلك وأي نوع من فلسفة يحتويها.؟ معلوم بداهة أن الآلة وظيفة لا قيمة لها من غير علاقتها الاستعمالية من قبل الانسان.

يجري سارتر على نفس منوال الحشو اللغوي الذي اشرنا له فيعقد مقارنة سطحية جدا بين دور العامل الاقتصادي في الماركسية ودور الوجودية التي تريد فهم الانسان بابعاد اكثر شمولية من الاقتصاد وصراع الطبقات قائلا: (الوجودية تحاول ان تبحث عن الانسان اينما وجد فتهتم بدراسة عمله وعلاقاته العائلية وعقده النفسية وصلاته الاجتماعية وحالته المادية وظروفه الاقتصادية وغيرها بينما تكاد الماركسية أن تقتصر على تفسير الانسان بالرجوع الى حالته الطبقية ووضعه الاجتماعي6.

هذه التهمة الملتصقة بالماركسية فنّدها عشرات المفكرين الماركسيين وأول من فنّد هذه المثلبة بالدفاع عن الماركسية انها تعنى بالانسان من كافة مناحي حياته هو انجلز مؤكدا أن البعد الاقتصادي الذي يمثل محورا مركزيا في تناقض مصالح الطبقات الذي يعطي دفعا للتاريخ أن يتقدم ليس هو العامل الاقتصادي الوحيد في دراسة وجود الانسان وأنما هناك عوامل بنى تحتية تنفرز عنها بنى فوقية كلها تعمل مجتمعة بتداخل وتخارج معرفي واقعي متكامل في دراسة أهمية تحقيق مصالح وسعادة المجتمع والانسان..

الحقيقة التي يتجاهلها المكابرون في نقد الفكر الماركسي عن غير فهم صحة وصواب مقولة أن دور العامل الاقتصادي في حياة المجتمع والانسان دورا مركزيا يتقدم جميع العوامل الاخرى هي صحيحة تماما. إذ انت حينما تقضي على فقر الانسان تجد ان الكثير من المتعالقات الاخرى بحياته تنحل وتتلاشى ذاتيا لانها عوامل ثانوية ونتائج عرضية لكارثة الفقر بالمجتمع والفرد الذي يعتبر برنارد شو الفقر هو ام كل الرذائل. واستطيع القول إعطني انسانا مكتف ذاتيا باموره الحياتية الاساسية في مقدمتها العمل والاجور وحالته المالية المؤمنة في تقاعده أعطيك مجتمعا مرفها سعيدا بجميع أفراده في كل مناحي الحياة.

معارضة سارتر لديالكتيك الطبيعة

معارضة سارتر لوجود ديالكتيك يحكم التاريخ ذاتيا مسالة لم يكن سارتر الوحيد الذي عارضها وشخصّها ولم يكونوا من اصحاب الايديولوجيا الراسمالية. برأيي الشخصي الاجتهادي أعيد بهذا المجال ما سبق لي تناوله في مقالات غير هذه أن الديالكتيك الذي يحكم المادة والطبيعة والانسان اصبحت اليوم غير كافية لتفسير التطور التاريخي إن لم يكن الديالكتيك في المادية التاريخية بدعة تجاوزها الزمن.. وحين أعرض وجهة نظري بضوء ادانة سارتر لعبارة انجلز العمومية بابتذال فكري قوله (يوجد قانون عام يحكم كلا من الطبيعة والتاريخ والفكر هو الجدل الديالكتيكي). أنا مع رسالة سارتر التي بعث بها الى روجيه غارودي قبل إسلامه وخروجه من الحزب الشيوعي وهذا قبس منها (لو اننا نظرنا الى الماركسية على انها الاطار الشكلي لكل فكر معاصر لكان بامكاننا القول انه ليس في وسعنا تجاوزها. وانا اعني – الكلام لسارتر – بالماركسية تلك المادية التاريخية التي تفترض وجود ديالكتيك باطن في التاريخ، لا المادية الجدلية التي تحلق في سماء الاوهام الميتافيزيقية فتظن انها قد اكتشفت ديالكتيك في الطبيعة. لكن من المؤكد عدم وجود ذرة من اليقين حول هذا الامر. وتبعا لذلك فالمادية الجدلية مجرد حديث خاو مليء بالادعاء والتكاسل)7. سنوضح في سطور قادمة صحة ماذهب له سارتر عدم وجود ديالكتيك يحكم المادية التاريخية. ونحن بدورنا نثني على ذلك مؤيدين.

الماركسية والوجودية

بتاثير من الخلفية الماركسية التي رافقت فلسفة الوجودية لدى سارتر فقد حاول ادماج الوجودية بالماركسية في محاولة استيلاد (فلسفة مركبة ثالثة) خالية من المادية التاريخية وخالية من كتاب راس المال. وباءت جهود سارتر بالفشل.

وسلم الراية بعد افول نجم الوجودية نهاية عقد الستينات من القرن العشرين لفلاسفة البنيوية الشابة التي هاجمت بشراسة الماركسية والعقل والانسان والتاريخ وكل ماله صلة بالحداثة الاوربية التي اعقبت الخلاص من مآسي القرون الوسطى. كما هاجمت البنيوية السردية اللاهوتية الدينية وجاء كل ذلك باسم افكار مابعد الحداثة. فانبرى كل من شتراوس والتوسير وفوكو وجيل ديلوز مهاجمة كتاب راس المال والمادية التاريخية والديالكتيك بضراوة. وهاجم جان لاكان علم النفس الفرويدي. وتوجه دي سوسير نحو مهاجمة تاريخ الفلسفة باسم التحول اللغوي وفلسفة اللغة ونظرية المعنى التي شكلت بتاريخ الفلسفة إنعطافة عظيمة في مباحث الفلسفة عامة.

الجدل الديالكتيكي حقيقة ماركسية ام بدعة هيجلية؟

في اسطر سابقة ذكرت أن سارتر سخر من قانون المادية التاريخية (الديالكتيك) واعتبره بدعة خلوا من المعنى لا حقيقة موجودية له. وهو أي الديالكتيك من اختراع هيجل المثالي. وقبل اطلاعي على افكار سارتر هذه فقد كان لي نفس المنحى في مقال منشور لي قبل اكثر من سنة ذهبت فيه الى ان الديالكتيك الذي يحكم التاريخ حسب الماركسية هو تضليل عقلي تاريخي فلسفي قام به هيجل لا صحة واقعية ولا تاريخية له. وتبناه ماركس على انه حقيقة وقانون طبيعي يعمل ذاتيا بعيدا عن رغائب الانسان وتدخلاته وفي مايلي ادرج اسباب لماذا اعتبرت انا الديالكتيك هراء فلسفي كما ذهب وسبقني فيه سارتر.

- اولا من المحال تاريخيا ان يكون التطور التاريخي محكوم بمسار احادي يسمى الديالكتيك. وقوانينه الثلاثة العامة انما هي مقولات فلسفية لاواقعية مستمدة من ادبيات فيزياء الطبيعة الكلاسيكية ولا علاقة لها بتحديد مسار التقدم التاريخي المتطور الى امام. وكذا الحال فالديالكتيك لا يحكم الطبيعة التي تحكمها القوانين العامة الثابتة.

- لا يوجد مسار خطي تقدمي تاريخي تتخلله طفرات نوعية محكومة بديالكتيك توجبه الضرورة الملزمة والحتمية التطورية. فالتاريخ وقائع تستوعب التنظيرات وليست النظريات تحتويه وتسيّره كيفما تشاء. الديالكتيك ليس قانونا عاما يعمل بقواه الذاتية بمعزل عن تدخل ورغائب الانسان اكتشفته الماركسية. فمسارات التاريخ التقدم الى امام متعددة متنوعة لا حصر لها.

- التاريخ وقائع تلعب الصدف والعشوائية وغير المتوقع حدوثه دورا محوريا فيه. وكذلك غياب مراحل ساكنة من التاريخ يعجز الديالكتيك تحريكها. هذه القطوعات المراحلية في تغييب مراحل من التاريخ او في غيابها الذاتي من الحضور إنما هي نتيجة عوامل موضوعية واخرى عوامل خاصة بالتاريخ نفسه تعتمل داخل الوقائع التاريخية وتمنعها من الحضور في أوانها.

- اختراع هيجل لخرافة الديالكتيك المثالي هي من التجريد الفلسفي البعيد جدا عن المادة والطبيعة والتاريخ ولم يكن هيجل يؤمن بحدوثها نتيجة عوامل ذاتية واخرى عوامل موضوعية ثانوية مساعدة. بمعنى هيجل لم يكتشف قوانين الديالكتيك بل هو اخترعها فلسفيا واسقطها على التاريخ رغم مثاليتها الفجّة.

-  أهم ابتذال فلسفي وقع به هيجل حول اشكالية الديالكتيك وكنت ذكرتها في مقال سابق لي منشور هو مقولته الساذجة ان العقل البشري خاصيته الديالكتيك بالفطرة البيولوجية لتكوين العقل وخصائصه. وهذه السمة الديالكتيكية للعقل هي التي تجعل من تفكير العقل جدليا في المادة والتاريخ والحياة. ما يترتب عليه ميكانيكيا في هذه الخاصية العقلية الجدلية للعقل بالفطرة انها تحكم الطبيعة والتاريخ والمادة بخاصية قانون الجدل الديالكتيكي العام. طبعا اكتفي بالقول لا يوجد مثل هذه الخرافة الفلسفية ان العقل الانساني بطبيعته جدليا سوى في تفكير هيجل فقط.

***

علي محمد اليوسف - باحث فلسفي

.......................

الهوامش

1. د. زكريا ابراهيم / درسات في الفلسفة المعاصرة ص 485

2. نفسه اعلاه ص 479

3. نفسه اعلاه ص 483

4. نفسه اعلاه ص 480

5. نفسه اعلاه ص488

6. نفسه اعلاه ص 486

7. نفسه اعلاه ص 488

يمكن اعتبار رمزية الكهف الافلاطوني بمثابة رحلة أبدية من الظلام الى النور، تشحذ السعي نحو الحقيقة في عالم غارق في الظلال. قصة الكهف تجسّد فكرة شهيرة ومؤثرة وردت في كتاب افلاطون (الجمهورية). انها تنطوي على مسألة هامة حول الكيفية التي تبدو بها الأشياء مقارنه بما هي عليه حقا. طبقا لهذه القصة، الناس هم أشبه بالسجناء في كهف. انها تتحدث عن الانتقال من الجهل الى المعرفة وعن تصوّر الفرد لنفسه حين يتنور بالفلسفة ويجد ما هي الحقيقة. ولكن ماذا تقول القصة حقا؟

العناصر الرمزية في قصة الكهف

قصة كهف افلاطون هي استعارة لإختبار الادراك البشري والمعرفة والتنوير. انها تصف سجناء في كهف مظلم لبثوا فيه منذ الولادة. هم رُبطوا بالسلاسل يواجهون حائطا و لايمكنهم النظر الى الخلف.

هناك نار تشتعل خلف السجناء، و ممر بين النار والأسرى (من الخلف).على هذه المنصة المرتفعة، هناك ظلال لأجسام مختبئة تسقط على الحائط المقابل للسجناء. بالنسبة لهؤلاء السجناء، الظلال تبدو واقعية – هم لا يدركون ان وجودها ليس اكثر من صور متراقصة – ولهذا هم يركزون عليها كل انتباههم.

هذه الرمزية توضح عالم الجهل (الكهف) والكيفية التي يقيّدنا بها ادراكنا (كوننا مقيدين في الداخل منذ الولادة لذا نستطيع فقط النظر الى حائط واحد). بدون الفلسفة والتفكير النقدي نحن أشبه بالسجناء المقيدين بالسلاسل هنا. نحن لا نسأل حول ما نعرفه دائما لأننا لا نعرف ان هناك شيء آخر في الخارج – شيء ربما أكثر صدقا وعدلا.

ان قصة تحرر السجناء من الكهف والانطلاق الى الخارج ترمز الى الكيفية التي يبحث بها الفلاسفة عن المعرفة والحكمة. من الصعب واحيانا من المؤذي ترك الجهل في الخلف (الذي يمثله الكهف). ذلك يفسر لماذا يجب على الشخص المتحرر اولاً ان يكافح في رحلته نحو الضوء لأنه سيشعر بالتشويش والاضطراب.

في ضوء النهار، كل شيء يُكشف على حقيقته لأنه مجرد نسخة نراها نتيجة انعكاس الضوء. هذه التجربة الطاغية ترمز الى فهم نظرية افلاطون في الأشكال: النظر وراء الاشياء المادية الى أشكال لا يشوبها أي نقص. عندما يعود هذا الشخص لتنوير الآخرين، هم يسخرون منه ويرفضونه : الناس لا يحبون إعادة تعلّم الواقع. هذا الجزء يبيّن حجم الصعوبة التي يواجهها الشخص الحكيم في تنوير الاخرين عندما هم يفضلون فقط مشاهدة الظلال على الشاشة.

الأفكار الفلسفية

رمزية كهف افلاطون تستطلع مفاهيم فلسفية أساسية في فلسفته. هذه تتضمن الفرق بين الواقع والتصور، نظرية الأشكال ودور الفلاسفة في المجتمع. القصة في جوهرها تقارن الواقع المتصور للسجناء  - كما مبين بالظلال على جدار الكهف – مع ما يكمن وراء الكهف. انها تعرض اسئلة عميقة حول ما يشكّل الواقع الحقيقي وفيما اذا كان هذا مرتكز بثقة على الكيفية التي تبدو بها الاشياء لحواسنا وحدها.

ان نظرية الأشكال، احدى افكار افلاطون الاساسية، تؤمن بان هناك عالم لا متغير من أشكال تامة او افكار وراء عالمنا المتدفق الملموس. هذه الأشكال تجسد الطبيعة الحقيقية لكل الاشياء التي نتعامل معها – حيث الاشياء المادية تشكل نسخا غير تامة (مشاركة) لهذه الاشكال المثالية.

قصة مغادرة الكهف تمثل الكيفية التي تصبح بها الارواح أقرب لفهم هذه الاشكال – انها تشبه صورة اكتشاف اشياء والنظر اليها في ضوء جديد. افلاطون ايضا يدرس ما تعنيه هذه الرمزية للفلاسفة في المجتمع. انت حين تفهم الاشكال، هل ذلك يعني عليك ان تخبر كل شخص آخر بما وجدت؟ هو يستعمل فكرة الرجوع الى الكهف لبيان ان الناس ربما لا يصدقون ما تقول – وربما يغضبون عليك.

في نسخة افلاطون، الفلاسفة أشبه بالمرشدين الذين يقودون الناس الى خارج الجهل نحو المعرفة. هذه الطريقة من التفكير حول التعليم والقيادة ترتكز على الحكمة والبحث عن الحقيقة. انها تشير الى مدى أهمية الفلاسفة في رفع مستوى الوعي لكامل المجتمع.

الرمزية كنقد للمجتمع والسياسة

هناك مضامين سياسية واجتماعية في رمزية القصة، بما في ذلك كيفية التفكير في السلطة والحكم ودور القائد كفيلسوف - ملك. انها تستعمل الإستعارة لتقترح ان بعض المجتمعات عمياء لما هو حقا ثمين وجيّد. هم ربما يُقادون بواسطة اناس يسيئون فهم ظلال الاشياء الواقعية، مثلما يفعل السجناء. يقترح افلاطون ان هذا الوضع شائع في الانظمة السياسية حيث السلطة والثروة تُمجّد فوق كل شيء آخر – أنظمة لا تقيّم عاليا قيمة الحكمة والعدالة. القصة تقترح بدلا من ذلك اننا يجب ان نبني مجتمعا يتولى فيه من لديه تجربة مباشرة بالضوء إرشاد الآخرين وان الافراد يمكنهم فقط الحكم بشكل جيد لو فهموا هذه الحقائق الاساسية بشكل أفضل. حاكم افلاطون المثالي يُعرف بـ الفيلسوف - الملك الذي هرب من الكهف وحصل على التنوير من الأشكال. مثل هذا الشخص، ونظرا لكونه فهم جيدا ماهية الواقع، فهو يناسب جيدا للقيادة لأن قراراته ترتكز على معرفة ما هو الجيد.

مثال على هذا يمكن ان نعثر عليه في جمهورية افلاطون حينما يقترح برنامجا تعليميا مكثفا للفلاسفة لكي يمكنهم يوما ما القيادة بحكمة وفضيلة. الرمزية لا تعني فقط نقد المجتمعات القائمة في النظرية. انها ايضا لها تطبيق عملي من خلال توجيه سؤال للافراد حول سبب تفضيلهم اناس معينين كقادة على آخرين. ألا يجب اختيار الحكام لأنهم لديهم نظرة ثاقبة حول أحسن طريقة للحكم وليس فقط بسبب خلفيتهم العائلية او مقدار ما لديهم من ثروة؟

افلاطون انتقد ديمقراطية اثينا لأنه اعتقد ان السياسة كانت تتقرر من جانب اناس سيئي الاطّلاع  كانوا جيدين في الاقناع ولكن ليس في التفكير الجيد. في اقتراحه اننا يجب النظر الى الفيلسوف الملك كحاكم، يريدنا افلاطون النظر بما نقيّمه في القادة وننظر في ما اذا كان من الأفضل لمنْ هم في المسؤولية ان لا يسعوا لمصالحهم الشخصية. بدلا من ذلك، هم يجب ان يبحثوا عن العدالة والحقيقة حتى عندما يعني ذلك احيانا الذهاب عكس ما يريده أغلب الناس.

التعليم والتنوير في القصة

رمزية كهف افلاطون تصف بالضبط كيف يتعلم الناس ويرتقون على الصعيد الشخصي، مبينا ان تصبح متنورا يعني اكثر من مجرد تعلّم الحقائق. انه تحوّل تام من اللامعرفة الى المعرفة. يصف افلاطون ببراعة عملية التعليم والنمو الشخصي، وهو في هذه القصة التي يشبّه فيها الصراع في الخروج من عتمة الكهف والدخول الى ضوء الشمس انما يعطي صورة قوية جدا تقترح ان التغيير ذاته يتعدى مجرد معرفة الأشياء.

الافراد قبل الانطلاق في رحلتهم نحو التعليم، هم كأنهم سجناء داخل كهف – مقيدين بما عرفوه سلفا وفهموه (هم ايضا لا يعرفون الى أي مدى هم لا يعرفون). الظلال على الجدار تبدو واقعية لهم يمكن الاعتقاد كانها تمثل جهلا مقبولا او نصف معرفة. كطلاب يبدأون السؤال ويستكشفون افكارا جديدة (يمكن ان تكون غير مريحة)، هم كما لو يدخلون نفقا طويلا يقود الى مكان مفتوح. هم يتركون خلفهم الطرق القديمة في التفكير ويسيرون نحو المنطقة غير المعروفة. انها تشبه المشي خروجا من كهف مظلم الى ضوء الشمس لأول مرة. لمعان الشمس قد يؤذي عيونهم وقد لا يرون جيدا، ولكن عندما يتكيفون هم يعترفون كم هو مدهش امتلاكهم هذا الفهم الجديد.

رؤى افلاطون حول المعرفة والوجود

في جوهر طريقة افلاطون في التفكير يكمن الفرق بين عالم الظهور الذي نستطيع فقط الوصول اليه عبر الحواس، وعالم الأشكال المثالية الذي يتم الوصول اليه عبر التفكير العقلاني. الكهف يمثل العالم المادي كما نراه: وهمي ومتغير باستمرار (الظلال المتراقصة على الحائط). وفي خارج الكهف هناك ضوء الشمس الذي يكشف عالما آخرا. انه يرمز لأشكال افلاطون حيث الحقيقة لن تتغير ولا يضيع شيء ابدا. يستطيع المرء فهمها فقط عبر استعمال العقل.

القصة توضح رؤية افلاطون بان المعرفة المكتسبة من خلال حواسنا هي لا تستحق وغير تامة – انها تلمّح فقط لما يجب ان تكون عليه المعرفة الحقيقية. بالنسبة لافلاطون المعرفة الحقيقية تأتي من الفهم الجيد للأشكال الأبدية. هذه المُثل المجردة توجد بشكل مثالي في مكان ما، كأن تكون مثلا في الجمال ذاته وليس في الأشياء الجميلة او في افعال عادلة صادف ان تكون عادلة وجيدة.

وعليه، فان المعرفة هي أكثر من مجرد تعلّم الحقائق. هي تجربة تحويلية تأخذنا من الجهل الى التنوير ومن العقائد غير المختبرة الى الأحكام المدروسة. كذلك، تعبّر رمزية افلاطون في الكهف عن رؤيته الميتافيزيقية بان هناك عالمين متميزين: العالم المحسوس الذي هو متغير دائما ومؤقت الوجود وعالم الوجود المثالي العقلاني الذي هو لا زمني ودائم. خروج السجناء من الكهف يمكن رؤيته كرمز للروح المتحركة من الوهم (خداع الحواس يقيّدنا الى عالم المحسوسات) الى الحقيقة (الأشكال توجد فقط في عالم المُثل). هذه الطريقة، يستعملها افلاطون ليبيّن كيف نصل لمعرفة الاشياء وماذا يعني الوجود حقا.

اذن، ما هو المعنى المخفي في رمزية كهف افلاطون؟

رمزية الكهف ليست قصة فقط – انها رحلة من الوهم الى الحقيقة. تصوّر انك قُيّدت في كهف مظلم حيث الصور الظلية المتراقصة هي واقعك الوحيد، لكن هل هناك ما هو اكثر للحياة من هذه الظلال؟ افلاطون يشجعنا على التحرر وكشف الحقيقة لأنفسنا.

من حيث الجوهر، تغوص هذه الرمزية في لب المعرفة: ماذا يعني ان نعرف شيئا ما؟ ما هو الواقعي مقابل ما يبدو واقعيا؟ انها تتحدانا للذهاب الى ما وراء ما تراه حواسنا من اول نظرة والانتباه الى ان هناك حقائق لا متغيرة خارج كهف ادراكنا.

بكلمة اخرى، الرمزية تشجع الباحثين عن التنوير بعدم القبول بمعلومات محدودة عندما يكون بالإمكان اكتشاف حقائق عظيمة. انها دعوة لليقظة ونصيحة خالدة عبر طرح الأسئلة والبحث عما هو تحت السطح.

***

حاتم حميد محسن

................

المصدر:

The hidden meaning of plato’s cave Allegory, The collector Dec11,2024 

تساؤلات تمهيدية

هل الانا (الذات) وهي ليست موضوعا ادراكيا من غير صاحبها ولا تمتلك ماهية خارج وصاية العقل المنفرد وليس الجمعي عليها في الدلالة المعرفية عن مختلف جوانب الحياة وحاجات الجسم. هل الذات حقيقتها الوعي الادراكي الاستبطاني الداخلي كموجود قائم بذاته في ملازمة الجسم لها؟ ام الذات من خلال وعيها لذاتها ووعيها موضوعات العالم الخارجي والعالم الداخلي هي ادراك استبطاني عقلي – نفسي مشترك؟ هل الانا موجود يدرك من غيره أم هو خاصية انفرادية لدلالة وجودها المغاير للذوات الاخرى ومع الاشياء في خاصيتها التفكيرية المجردة؟ أم الانا الذات موجود انطولوجي من خلال تعالقه بالشخصية الهوياتية للفرد تدخل في علاقة تجريد تواصلي مع الآخر ولا تكون موضوعا له على إعتبار الانا ماهيتها المتفردة هي مرجعية العقل المفكر لفرد؟ هل وعي الذات كتجريد إرادي سلوكي فاعل يرتبط بالاستشعارات والاحاسيس الجسمية والنفسية خارج وداخل الجسم في توليفة واحدة.؟ هل يمكننا فصل الذات عن الانا كما هو حال الافتراضية التي تذهب فصل الفكر عن اللغة او فصل الشكل عن المضمون او فصل الصفات الخارجية عن الجوهر؟ هل يوجد عضو بايولوجي مثل جسم الانسان ينوب عن تمثيله الذات كما يذهب له فيلسوف الوجودية جبرييل مارسيل؟ هل من المتاح أن تنفصل الذات عن الجسم في علاقتها بعالمي الانسان الخارجي والداخلي الاستبطاني وحتى العالم الخيالي؟ الانا والانا الاعلى والهو تراتيبية فرويدية لتجليات الذات النفسية السلوكية حسب حاجة الشعور واللاشعور. من البديهي الانا التي هي الذات التي تعي وجودها بالمغايرة الموجودية مع غيرها من الاشياء والموضوعات كتفكير تجريدي تختص به الذات دون غيرها. يذكر دي بيران (اخطاء الميتافيزيقيين الذين يخلطون بين الانا التي هي الذات النسبية القائمة بالمعرفة وبين النفس التي هي موضوع مطلق للاعتقاد)1. هذه واحدة من الخلط الذي وقع به جبرييل فيلسوف الوجودية كما سيتوضح معنا بهذه الورقة. فالذات والنفس كلاهما موضوعان مطلقان للاعتقاد.

الذات الوجودية وجبريل مارسيل

 يعمد جبرييل مارسيل أحد اقطاب الوجودية المؤمنة الى تشييء الذات انطولوجيا بغير خاصيتها في تجريد التفكير كما سبق وفعله ديكارت في الكوجيتو. جبرييل يعتبر افضل تجليّات الذات أن تكون هي بعدية لا تتقدم (الجسم) وليس ماهية وخاصية التفكير العقلي الذاتي. ويقول جبرييل بهذا الصدد " اليقين الوجودي – طبعا المقصود بالوجود هنا هو الكينونة الانسانية للفرد وليس الوجود كمفهوم ميتافيزيقي مطلق غير قابل للادراك – ماثل في الخبرة التي عن جسمي على نحو ما هو حي بالفعل. والتجسيد الذاتي هو ان المرء يدرك نفسه باعتباره جسما. والجسم هو حلقة الاتصال بين الذات والعالم الخارجي"2. العبارة بين شارحتين للكاتب.

هنا قبل الاستمرار بنقل فكرة جبرييل الوجودية حول الذات هي الجسم نود الاشارة الى أن كليهما الذات والجسم موجودان جوهريان وهما معطى فطري منفصل بالتركيبة البايولوجية في عدم جواز الانابة التبادلية بين جوهر الذات وجوهر الجسم. بل تربطهما علاقة مشتركة لا إنفكاك منها. وسنوضح هذا لاحقا في البديهة لا جسم بشري لاتسكنه الذات ولا ذات لا يحتويها جسم بايولوجي.

 ويمضي جبرييل تاكيد فكرته الفلسفية قائلا " تجسيد الانا او الذات عينيا بالجسم هي نقطة انطلاق من شيء مادي ملموس فانا لا ادرك نفسي كما يظن ديكارت باعتباري فكرا محضا بل باعتباري متجسدا في بدن. هو نواة كل موقفي الوجودي ومعنى ذلك أني لا استطيع فصل شعوري بذاتي عن إحساسي بجسمي وإدراكي العالم الخارجي. وعندما اقول عن شيء ما موجود فانني أعني بذلك ان هذا الشيء قابل للاتصال بجسمي والتاثير عليه. سواء اكان ذلك بطريقة مباشرة ام بطريقة غير مباشرة"3. ملخص عبارات جبريييل هذه معناها التوضيحي ان ليس هناك جسما لا تسكنه ذات كما ذكرناه. ولا يتسنى لنا التعامل مع الذات منفصلة عن الجسم والعكس صحيح ايضا.

يلاحظ أنه كما فعل ديكارت كي يخلص من الابعاد المتعددة لتجليّات الذات فحصرها في إثبات انطولوجيا الموجود الانسان بقابلية التفكير المجرد في الكوجيتو. عمد جبرييل ايضا الخلاص من تشظيات الذات الادراكية بين الفكر التجريدي والواقع, وبين الوجود الانطولوجي والفكر, وبين الذات وعلاقتها بالسلوك النفسي, وبين الذات واللغة, وبين الارادة الحرة والفعل, وهكذا... إختار جبرييل اختزال مركزية الذات بالجسم. وقال بأسبقية الجسم البيولوجي على تجريد الذات الفكري. الذات فضاء جوهري يتجاوز إحتواء الجسم له والانقياد وراءه بالتبعية. دائما يكون كل فضاء مفهومي غير متعيّن بحدود يكون يحتوي كل ماهو نهائي محدود من موجودات.

 إختزال جبرييل الذات تتقدم الجسم كان يريد من ورائه إثبات وإيجاد نوع من واقعية فلسفية تلغي الابعاد المتعددة الفاعلة للذات في قيادتها هي الجسم وليس العكس في اولوية الجسم عليها. الذات الانسانية لا تتجلى في بعد واحد بل هي مركب من ابعاد تفكيرية واقعية مادية وايضا خيالية واستذكارية ونفسية لا حصر لها هي تجليات فاعلية كينونة الانسان التي من المحال فصل الذات عنها او محاولة تقديم اولوية الجسم عليها كما يرغب جبرييل مارسيل. اما الجسم فهو كينونة موجودية بيولوجية نهائية موجود ببعد بيولوجي واحد متعين يدركه الحس والعقل.

 من الحقائق البيولوجية الواقعية والتفكيرية ان الذات لا تتموضع بالجسم على حساب الغاء الابعاد الاخرى للذات في الاضطلاع بمهمة تجريد الوعي السلوكي العملاني للجسم التي من دونها يفقد الانسان موجوديته الوجودية الفاعلة بالحياة. ابسط تلك الابعاد ان الذات مجتمعية بالفطرة والخبرة المكتسبة لا يمكنها المعيش المنفصل عن التعايش مع الاخرين وإن كانوا هم الجحيم على حد تعبير سارتر.

نؤكد ما سبق لنا ذكره ان الذات في توزع خصائصها المتعددة الابعاد فهي ملزمة أن تكون قائدة لكينونة مركبة عديدة إحداها جسم الانسان. والذات سواء أكانت بقدراتها الذاتية كخبرة تجريبية بالحياة أو كانت افكارا تحت هيمنة ووصاية العقل في توجيهها فهي لا تتمكن من الاحتفاظ بخاصية واحدة لها تعتبرها مرتكزا اوليا في الموجود الانساني كينونة موحدة على حساب الغائها العديد من الخصائص الاخرى التي تمتلكها الذات وملزمة بالضرورة الاستجابة في اشباعها حاجات الجسم في علاقته بالعالم الخارجي وحاجات الجسم الداخلية التي تتوزعها اجهزة الجسم الباطنية التي تنتج الاحاسيس البيولوجية والغرائزية التي تلزم العقل والجسم اشباعها والا يفنى الكائن الحي ويموت.. وبفناء الجسم تفنى الذات التي تحتويه في كل حركاته ومشاعره.

ففي الوقت الذي تكون فيه الذات تفكيرا تجريديا فهي تكون بنفس الوقت واقعية لابعد الحدود المادية حينما تتعلق الامور باشباعها حاجات الجسم البايولوجية والغرائزية الفطرية على السواء.. فالذات حين تكون الجسم والارادة والنفس والسلوك واللغة والمخيلة ووعي الزمن وما لا حصر له من خصائص ومهام فانما بكل هذه المهمات الصفاتية المفكرة تجريدا وغيرها تكون ذاتا عقلية تحتوي كل شيء مادي ولا تحتويها مادة بعينها بداية ومنتهى.

جبرييل وحقيقة اسبقية الجسم على الذات

يعترف جبرييل مارسيل بزّلة لسان فلسفية بحقيقة الذات ليست جسما كما سبق وقال به الذات هي اسبقية الجسم كوجود حقيقي عليها دليل ذلك قوله نصا " ان جسم الانسان لا يستوعب كل ذاته ولا يعبر عن صميم وجوده ".4 الوجود الحقيقي للانسان لا يعبر عنه الجسم بل وعي الذات لوجودها النوعي المغاير لكل ماهو مادي. لتاكيد صواب وصحة ما ذهبنا له قبل جبرييل في اعترافه الجسد لا يستوعب الذات لناخذ مثلا ملكة الخيال هل هي خاصية فكرية تجريدية للذات أم هي خاصية بيولوجية جسمانية؟ الخيال خاصية ذاتية تجريدية في تعبير المخيلة عن موضوعاتها تجريدا في اللغة الصورية الصامتة والمنطوقة. وملكة الخيال خاصية نوعية جوهرية لا يمتلكها الجسم منفصلا عن ذاته. الخيال تفكير مفهومي تجريدي قبل أن يتحول الى تجسيد موضوعي.

يستعير جبرييل مارسيل مقولة الوعي القصدي التي استعارها هوسرل ونادى بها اقطاب الفلسفة الوجودية وفينامينالوجيا هوسرل. وقد وقعت الوجودية في خطأ افدح ضررا مما ارادت تصحيحه لكوجيتو ديكارت. حينما قالت الوعي القصدي هو الذي يحمل معه هدفه القصدي ولا يستمده من معرفته التخارجية بعلاقة وعيه مع موضوعه. وهنا يصبح معنا التساؤل المشروع لماذا نقوم بادراك الاشياء والموضوعات اذا كان وعينا الاشياء يحمل هدفه معه؟ لماذا يدرك العقل الاشياء وموضوعات التفكير اذا لم يكن يتوخى حصوله على معرفة مضافة جديدة عنها / ومنها؟ سبق لي تناولت الموضوع في غير هذا المقال. لكني وجدت الاشكالية غير التي ذكرناها فقط.

الاشكالية هي في هل يعجز وعينا الادراكي من معرفة موضوعه اذا لم يكن يحمل الوعي عن ذلك الموضوع تصورات اولية عنه؟ اذا نحن اجبنا انه يتعذر على الوعي ادراك معرفة موضوعه بدون ان يمتلك معلومات اولية عنه نسقط في خطأين الاول ما مصدر امتلاك الوعي لاوليات معرفية قبلية سابقة على وعيه موضوعه الذي يقصده؟ اذا قلنا مصدر تلك المعلومات الفطرة نقع ايضا بالخطأ لأن المعرفة خبرة مكتسبة وليست فطرية بالغريزة. الخطأ الثاني اذا ذهبنا مع الرأي الذي يقول يعجز الوعي معرفة موضوعه دونما إمتلاكه الحد الادنى المعرفي عن موضوعه فكيف يتمكن الوعي التعامل مع الموضوعات الصدف الغفل التي تعترضه وتفرض عليه تفاعله المتخارج المعرفي معها وهو لا يمتلك ادنى معرفة مسبقة عنها.؟

خلاصة القول ابتداع هوسرل ومن قبله استاذه برينتانو في فلسفته الظواهر الفينامينالوجيا وفلاسفة الوجودية انه لكي يكون وعينا الاشياء منتجا عليه ان يمتلك خاصية الوعي (القصدي) خرافة وهراء فلسفي ابتدعه هوسرل. فالوعي مثل الزمن لا يقبل القسمة على نفسه ولا يتقبل تقسيمه الى ازمان. مثلما تقول الزمن هو الزمن وقولك لا يجانب الخطأ كذلك الوعي هو الوعي والقصدية ملازمة عضوية له ولا يجوز لنا خلعها عليه في اشتراطنا المسبق لكي يكون الوعي منتجا عليه ان يتسم بالقصدية.. لايوجد وعي تفكيري لا يكون قصديا في افصاحاته او في استبطاناته المعرفية. الوعي الذي لا يكون بالضرورة الموجودية وعيا قصديا لتحقيق هدف يعنى ذلك ليس بوعي يتحكم به العقل بل هو لاوعي.

الوجود الاصيل والوجود الزائف

ذكر هيدجر ومعه فلاسفة الوجودية أن العامة من الناس تعيش نسيان الوجود الاصيل وتعيش وجودها الزائف القطعاني الاستهلاكي في روتين الحياة الذي يتوزعه العمل والمأكل والنوم والعلاقة الحميمة. ومن خلال تقصي اطروحة هيدجر هذه اتضح لي ولكل باحث بالفلسفة ان كولن ولسون في مؤلفه اللامنتمي وفي اكثر من مؤلف له وفي رواياته أجاد في توضيح الالتباس الهيدجري لمعنى الوجود الاصيل الذي اراده هيدجر للعامة وهو استحالة أن يناله غير النخبة المميزة في وعيها ونضجها المتقدم على الوعي الجمعي كما اثبت كولن ويلسون ذلك. بالحقيقة مصطلح كولن ولسون اللامنتمي هو المعادل الموضوعي لاغتراب الذات.

لذا ما سبق لهيدجر طرحه حول ضرورة ان تتوجه العامة لنيل وجودها الاصيل بدلا من وجودها الكاذب هو يوتوبيا فلسفية لم يعرف صياغتها منطقيا مثلما فعل بعده بنجاح باكثر من قرن المفكر الروائي الانكليزي كولن ولسون. هيدجر اتفق مع استاذه هوسرل بالرد على ديكارت بان الوعي بلا موضوع غير متحقق في الكوجيتو وهو صحيح قابل لدحضه.

لذا يجب ان تكون خاصية الوعي هو القصدية او الهدف من وعي الاشياء والموجودات حسب فلاسفة الوجودية بالاجماع. واعيد هنا تحت الضرورة ما سبق لي ذكره ان الوعي القصدي هراء فلسفي ومصطلح افتعالي بدليل انعدام التفكير بلا موضوع وسبق لي اوضحت ذلك في سطور سابقة. وعندما قال ديكارت انا افكر يعني ضمنا انه يفكر بموضوع فالادراك والتفكير لا يعملان فعليا ولا عقليا من دون موضوع.

وبلغت المهزلة الابتذالية اوج جنونها وهستيريتها الفوضوية تحت يافطة لماذا لم يقل ديكارت بماذا كان يفكر كي يثبت وجوده الانطولوجي.؟ استطيع القول بلا ادنى تحفظ تحوّل الكوجيتو الديكارتي بالفلسفة الى افتتاحية ابتذالية في كل تفلسف ما جعل الاب الروحي للفلسفة الوجودية سورين كيركجورد يقول بغضب فلسفي ناضج جدا ينهي مهزلة كوجيتو ديكارت (انا لا افكر اذن انا موجود.) بمعنى الوجود يسبق التفكير وهذا تحصيل حاصل أن خاصية كل موجود يمتلك تفكيرا. الموجود باستقلالية انطولوجية يسبق التفكير به والوعي الادراكي به فهو موضوع مادي او خيالي لوعي ادراكي تجريدي صوري.

الاقتباس الخاطئ

إستعار جبرييل مارسيل فيلسوف الوجودية من زميله الخطأ التالي " الوجود الاصيل- حسب ما قال به هيدجر- انما يتمركز بمقولة (الوجود- في- عالم) ونسب جبرييل في اعتماده هذه المقولة الخاطئة التي اخذها عن هيدجر ان الوجود الاصيل مرتكزه الجسم وليس الذات. (اراد جبرييل صاحبنا يكحلها عماها).

- اولا الوجود – في – عالم مقولة هيدجر هي خاصية الانسان انه كائن مجتمعي او اجتماعي لافرق ولا علاقة لها بالوجود الاصيل ولا بالوجود القطعاني الزائف. فالفرد موجود قبل تصنيف نوعية وجوده اصيل ام زائف. سواء اكان ذلك الفرد يعرف أو يدرك معنى الوجود الاصيل في انضمامه الوجودي ضمن عالم لاصبح تحصيل حاصل أن كل انسان بحكم اجتماعيته الفطرية إنما يعيش وجوده الاصيل غير الزائف وبدعة هيدجر الوعي القصدي مولود مات في بطن أمه. ولا يبقى هناك فرق بين وجود اصيل عن وجود زائف فالكل يعيش في عالم كما يرغب هيدجر. العامة من الناس في وجودهم الاجتماعي الزائف لا يفكرون بوجود اصيل عليهم بلوغه فهذه مهمة وخاصية النخبة المجتمعية وليس عامة الناس.

- للامانة شر البلية ما يضحك هيدجر قال لكي يحقق الفرد خاصية وعيه الايجابي كموجود في مجتمع يجب ان يكون وعيه قصديا قبليا. ولم يقل كما فهم واقتبس عنه جبرييل الوجود في عالم يحقق للفرد وجوده الاصيل غير الزائف. الفرد وجوده في عالم هو معطى فطرة غريزية فالانسان الفرد من المحال أن يستطيع المعيش خارج عالم يحتويه. لذا اشتراط هيدجر كي يكون الوعي قصديا محققا هدفه عليه المعيش في عالم ومجتمعية الانسان كموجود وكائن اجتماعي بالفطرة وليس بالوعي القصدي الهيدجري.

- الوجود الاصيل هو حصة النخبة المجتمعية التي تمتلك وعيا نوعيا خاصا يتجاوز الوعي الجمعي المتخلف عن وعيه. وبالعكس هؤلاء النخبة في الغالب الاعم هم منعزلون عن الوجود في عالم يحتويهم لا يجانسهم المقاربة الفكرية ولا العلمية ولا اي اختصاص ثقافي او ادبي وغيره لان الوجود القطيعي مجتمعيا ولو في حقيقته ضرورة لا يمكن للانسان الخلاص منها الا انه يختزل ويميت الخاصية العبقرية للنخبة حينما تنزل بتفكيرها الى العامة وتفقد خاصيتها الانفرادية المنعزلة التي تحمل وعيا متدما متعاليا عن المجموع.. من بديهيات المبدعين النخبة التي تقود مجتمعاتها هو ان تحاول رفع الوعي الجمعي المتخلف المتدني لمستوى ما تفكر به هي النخبة الواعية ولا تنزل هي بتفكيرها الى وعي المجتمع الذي استهلكته امور وحاجات الحياة في مجاراتها الوعي المجتمعي الهابط.

- جبرييل أخزاها جدا في مقولته الاستنتاجية الابتذالية (الوجود الاصيل مرتكزه الجسم وليس الذات). وفات جبرييل ان (الوجود في عالم) مقولة هيدجر البائسة هو اولوية وجود الذات وليس اولوية وجود الجسم وحتى هذا التعبير يمتلك اشكالية انه ليس هناك موجود انساني يكون الجسد مرتكزا لوجوده في عالم منفصل عن ذاته اذ لا وجود لذات بدون جسد ولا يوجد جسد لا يمتلك ذاتا مفكرة.

يصّر فيلسوفنا جبرييل على ان مرتكز الموجود الانسان هو الجسم وليس الذات ولا العقل. الجسم الذي تتفرع عنه اكثر مما ذكرنا من ابعاد هي خصائص الذات التي نضيف لها وتتفرع عنها الاخلاق والضمير والعواطف ومفردات مباحث الاكسيولوجيا. والا فما معنى قول جبرييل" الاتصال بالعالم الخارجي انما يكون بالجسد الذي لا ينفصل عن الذات ولا تنفصل هي عنه" 5 . بداية العبارة الاتصال الخارجي يكون بالجسد خطأ وتكملتها صحيحة. ولكي نوقف عبارة جبرييل على قدميها بدلا من رأسها كان عليه القول الاتصال بالعالم الخارجي انما يكون بالذات التي لا تنفصل عن الجسد. اولوية الذات على ثانوية الجسم لا تحتاج نقاش تخطئتها ولو تصح تخطئتها لكان الحيوان الذي تكون اولوية الجسم عنده أسبق على تفكيره فهو اولا يعيش لياكل على ثانوية اهمية الذات المفكرة المتراجعة جدا عنده وتكاد تكون غير موجودة. ربما بهذه الخاصية الحيوانية التي يبتغيها جبرييل في تغليبه الجسم على الذات المفكرة تجعل الحيوان يتساوى مع الانسان اذا لم نقل حسب نظرية جبرييل الجسم يتقدم الذات يترتب عليها ان يكون الحيوان أرقى من الانسان بجسمه لا بعقله.!!

خاتمة

جسم الانسان ينقسم الى عالمين بايولوجيا العالم الخارجي بجميع موجوداته المادية وغير المادية وليس شرطا ان يكون اتصالنا بالعالم الخارجي من حصة الجسم وحده فهذا افتراض محال بدون ملازمته ذاتا مفكرة. الثاني هو عالم الانسان الباطني او الداخلي الذي تكون مسؤولية اشباع حاجاته الحياتية الاساسية هي من حصة الاستشعارات التي تصدرها اجهزة الجسم الداخلية على شكل أحاسيس فطرية وغريزية معا.. وفي خلاصة لفلسفة جبرييل حول علاقة الذات بالجسد ندرج التالي غير الذي سبق ذكره بتوضيح:

- يتلاعب جبرييل بالكلمات والالفاظ ولا يتلاعب بالافكار فهذه خاصية فلسفية وتلك خاصية هراء. فمرة يعتبر الجسم هو تجسيد الذات وفي اخرى يعتبر الجسم او البدن كما يحلو له حلقة اتصال بين الذات المفكرة والعالم الخارجي. ويرى حسب اجتهاده أنه يتحاشى وينأى بتفكيره الوقوع في خطأ ديكارت حين ادرك وجوده الجسماني بالفكر المجرد بلا موضوع تفكير. فيقول (انا ادرك نفسي- لم يقل ذاتي فالذات غير النفس- متجسدا في بدن الذي هو انا وجودي الحقيقي!!).

- يكمل فيلسوفنا الوجودي جبرييل قائلا:(انا لا املك افضل شعور بذاتي في غير احساس جسمي بالعالم الخارجي). ويجد جبرييل في فوارق الجسم الوظائفية مسار وجوده الحقيقي. بينما يعتبر الذات لا تمتلك تلك الفوارق الجسدية التي تمكنها الالتقاء مع الاخر وهو تفكير خاطيء تماما.

- لا يقّر جبرييل بوصاية الذات على الجسم ويعتبر الجسد ليس موضوعا للذات تمتلكه فهو اشمل منها ويستوعبها. والجسد هو احد مقومات امتلاك الذات لخصائصها وليس العكس.

- من طرائف جبرييل ما يطلق عليه المشاركة الوجدانية ويضرب مثلا على ذلك علاقة المالك الفلاح لارضه وعلاقة البحار مع (بحره) فلا يعتبر هذه العلاقة نفعية بل هي علاقة اندماج وجداني – نفسي ما يترتب عليه ان تكون علاقة الجسم بالعالم الخارجي اكثر شعورا وجدانيا في وصول الوجود الحقيقي بدلا من الشعور الوجداني الذي تمنحه الذات المفكرة.!!

- كما قلنا بأن جبرييل يجد علاقة الجسم بالعالم الخارجي هي علاقة وجدانية غير انتفاعية رومانسية. عليه تكون هذه العلاقة علاقة (خبرة بدن) مع (خبرة نفس) في تلازم لا انفصال بينهما!!. من غير المعقول ان نقصي الذات المفكرة ان تكون خبرة الانسان في كينونته الموجودية الواحدة. وخبرة النفس ارتباطها بالذات المفكرة اوثق واولوية على ارتباطها بالبدن.

***

علي محمد اليوسف / باحث فلسفي

...........................

الهوامش:

 1. جان فال/ الفلسفة الفرنسية من ديكارت الى سارتر/ترجمة فؤاد كامل ص 70

2. د.زكريا ابراهيم/ دراسات في الفلسفة المعاصرة/ ص 464

3. المصدر اعلاه نفس الصفحة

4. المصدر اعلاه نفس الصفحة. ......

5. المصدر اعلاه نفس الصفحة

 

ما معنى أن يكون الأشخاص أحراراً؟ معنى ذلك وبكل بساطة أن يشعر الشخص بأن ما يريد قوله، أو ما يريد القيام به، أو ما يريد أن يفعله غير خاضع لأي ضرورات أو حواجز أو إكراهات.

إن الشخص الحر هو الشخص الذي يفعل ما يريد أو ما يشاء بدون محاسبة على فعله، وهذا شيء مستحيل التحقق إستحالة تامة.

عند عودتنا إلى اليونان، نجد أن أفلاطون كان قد قال ساخراً في إحدى محاوراته: "سعيد لأنني ولدت يونانيا أثينياً ولم أولد بربرياً" وهذا تعبير سلبي تجاه الغير الذي يعتبره شيئاً بَرَّانِياً، أي يوجد بشكل ثانوي في هذا الوجود، لأنه أي الغير مجرد متوحش وعبد مشكوك في آدميته، ليس بشر بل حيوان متوحش، لهذا إنطلاقاً من نشأة المدينة-الدولة وشروط الممارسة السياسية في أثينا، ثم إعطاء الحق في التفكير الحر والتأمل النظري للأسياد وحرمان العبيد من هذه الحرية، ما يعني أن السيد وحده من له الحق في الممارسة السياسية والانخراط في الشأن العام والتعبير عن الرأي وبنائه حسب أرسطو، ونفس التصور تقريباً سيظل سائداً حتى القرن العشرين 20م.

رغم أننا سنلحظ نقاشا وسجالاً حازما بين كل من الرواقية والأبيقورية بخصوص حرية الأشخاص، ذلك أننا سنتحدث معهما عن الشخص العبد الخاضع للغرائز والشهوات والأفعال والانفعالات والنزوات والميولات والدوافع والشهوات والرغبات، فهو كائن خاضع لميولاته لا يستطيع التخلص أو التحرر منها كما لا يستطيع التخلص أو التحرر من نظام الطبيعة، أي القوانين الطبيعية الضرورية التي تتحكم في الأفراد رُغْماً عن أنفهم، ومن هنا أصبحنا نتحدث عن حرية داخلية توجد داخل الأفراد، وكأن الحرية قوة باطنية أو قوة خفية كامنة داخل الأشخاص.

وهذا ما جعل اسبينوزا يقول: "يخطئ الناس، إذن، في كونهم يعتقدون أنهم أحرار؛ وهذا الرأي لا يكمن إلا في وعيهم بأفعالهم وجهلهم بالعلل التي تجبرهم على القيام بها." [1] ، فالمرء يحدث له أن يخطئ حينما يعتقد أنه حر ومستقل، ويدعي أنه يشعر بالفعل الحر الذي يقوم به، في حين أنه مجرد جاهل ساذج للعلل أو الأسباب والأحداث التي تجبره على القيام بتلك الأفعال، لعل من بينها قوانين الطبيعة، ومن بين هذه القوانين الطبيعية الرادعة لحرية الأفراد قوانين الجاذبية التي تعرفنا عليها مع نيوتن، ولم تكن الذات على وعي بها أو تعرفها.

وقد نذهب بعيداً فنقول لقد بدأت لحظة الوعي الحقيقي للأفراد بأنهم مجرد أشخاص خاضعون للضرورات الطبيعية منذ الإكتشاف أو الكشف الكوبرنيكي سنة 1543م، عندما تعرفنا على حركة الأرض، وأن الأرض التي كانت ثابتة، أصبحت في حركة دائمة حولنا نحن كأشخاص، وحول ذاتها، فقدان المركزية هذا عصب حتى ببصيص الحرية الذي كنا نتوهمه، لهذا جاءت دعوات ديكارت الساذجة بأن الإنسان مركز الكون والعالم والوجود، سيد ذاته، يعي ذاته والعالم من حوله، ...إلخ من الدعوات الوهمية.

ولربما كان الرد النيتشوي [نسبة إلى فريدريك نيتشه] أقوى رد على هذه الزخات الوهمية، حينما قال: "إن الإنسان يتوهم أنه يسلك وفق مبدأ الحرية." [2] ، لقد كان على حق، لأن الشخص اتضح له منذ الكشف الكوبرنيكي أنه مجرد عبد في هذا العالم، وأن الحرية الموعودة في العالم الآخر أصبحت مجرد غيض من فيض.

وقد تحول التفكير في الحرية إلى تفكير في شيء متعالي، وهذا ما عبر عنه كانط الذي قال: "بهذا المعنى فالحرية عبارة عن فكرة متعالية لا تتضمن مبدئيا أي شيء مستخلص من التجربة، كما أن موضوعها غير معطى سلفاً من خلال أية تجربة. وذلك لأن كل تجربة ممكنة وكل ما يحدث، يخضع لقانون كوني." [3]، ما يعني أن الحرية لم تعد شيئاً موجوداً في العالم الأمبريقي بمعناه الاختباري والتجريبي أو بالمعنى الذي يمكننا من الشعور أو تلمس الحرية، فهذه الأخيرة غير موجودة في عالمنا ولا يمكن أن توجد، إنها موجودة في عالم الهناك، أي عالم آخر.

هذا العالم الآخر هو ما سيطلق عليه كانط فيما بعد مملكة الغايات التي هي مملكة الحرية، أما عالمنا التجريبي فهو عالم تستحيل فيه الحرية، علما أن نيتشه بالمناسبة هو ضد هذا التصور الكانطي المتعالي الذي لاحظ أنه تعبير أو مجرد صدى عن الأخلاق المسيحية الزهدية.

وتصور كانط بالمناسبة هو نفس تصور الحرية الطوباوي، داخل الثقافة الإسلامية الوسيطية الذي نأخذه على لسان أحمد بن خالد الناصري في مقدمة كتابه: "واعلم أن هذه الحرية التي أحدثها الافرنج، في هذه السنين هي من وضع الزنادقة قطعاً لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله، وحقوق الوالدين، وحقوق الإنسانية ... واعلم أن الحرية الشرعية هي التي ذكرها الله في كتابه، وَبَيَّنَهَا رسول الله لِأُمَّتِهِ، وَحَرَّرَهَا الفقهاء في باب الحجر من كتبهم ..." [4] ؛ ومفاد ذلك أن الحرية التي مصدرها الأجنبي الافرنج الذي يشكل هنا في هذا السياق ألمانيا وفرنسا أو الغرب عموماً، هي حرية كما يقول مخالفة للدين الإسلامي أي الشرع.

هكذا كان تصور الحرية في العصور الوسطى الإسلامية مقروناً بالفعل الإلهي، وكل حرية عدا الحرية الواردة في الكتاب المقدس القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة هي حرية مكروهة، لأنها لا تحترم حق الله وحق طاعة الوالدين، بل لا تراعي حتى الحقوق الإنسانية التي لا يجب عليها أن تمس أو تتطاول وتتجاوز الحقوق الإلهية، لهذا ثم تحريم الحرية التي لم يقل بها الشرع، ولا يبحها حتى الفقهاء !

رغم أننا نلاحظ أن الشرع (القرآن والسنة) يؤكد على الحرية في بعض الآيات وأخرى تحيل على الجبر، ما يحيل على أن الحرية الفعلية توجد في السماء، أي العالم الآخر، أما في هذا العالم نحن مجرد عبيد.

لهذا نفضل قول ما قاله ليبنتز من أن "لفظ الحرية لفظ جد ملتبس، فهو يعني، من جهة، الحق في الحرية، كما يعني، من جهة ثانية، الحرية الفعلية أو الممارسة." [5]

ومفاد اللبس والغموض الذي يحيط بمفهوم الحرية، هو كونه وهم ناتج عن أن الحرية حق، في حين أنها ليست كذلك، رغم أن هذا القول قد يحمل علينا، ونتلقى ردا قويا مفاده أن حرمان الحق في الحرية دليل على أنك عبد مسجون ومقيد بنفس التصور الذي نحمله على السجن، لكنني أرد بأن هذا ليس قصدي، بل ما أقصده، هو أن الحق في الحرية مشروع من الناحية النظرية، في حين موقوف من الناحية العملية أو الفعلية بما هي ممارسة Praxis

لهذا "لا يمكن للحرية أن تقوم إلا على القدرة على فعل ما يجب أن نريده، وأن لا نجبر على فعل ما لا يجب أن نريده." [6] ؛ بالرغم من طوباوية هذا التصور، لأن القدرة على فعل ما يجب أن نريده، تحيل كلمة "يجب" إلى الحرية في خضم الواجب، هذا الأخير الذي يذكرنا بالواجب الكانطي المتعالي الذي له صلة وثيقة بالإرادة الخيرة، لكن من يضمن لنا أن حريتنا نابعة عن واجب مصدره الإرادة الطيبة ؟ فقد تكون إرادتنا شريرة لهذا نجبر على فعل ما لا يجب أن نريده في أغلب الأحيان ما يعني أننا لسنا أحراراً.

وذلك بسبب أنه "لا يكون للحرية تحقق فعلي في العالم الذي لا يسمح بممارسة الفعل والكلام، مثل المجتمعات الاستبدادية [...] التي تمنع ميلاد حياة عمومية." [7] ؛ فالحرية لا وجود لها في عالم المستبد الذي يقول فكروا في كل ما تريدون وفيما تشاؤون لكن أطيعوا !

مثل هذا النوع من التفكير السائد في المجتمعات الاستبدادية تفكير يقوض حرية المرء في الانخراط الفعال في الحياة العمومية أو الفضاء العمومي بلغة هابرماس، قد تكون له مظاهر خطيرة جداً تؤدي إلى شطب قدرة الفرد على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة لصالح الجماعة، كما يؤدي إلى تكون النزعة الفردانية الأنانية المنغلقة على ذاتها والمفكرة في مصلحتها الخاصة.

وهذا ما عبر عنه اسبينوزا قائلاً أنه : "كانت ستكون الأحوال الإنسانية على أحسن ما يرام، لو كان الإنسان هو الذي يقرر متى يتكلم ومتى يصمت.

إلا أن التجربة قد أثبتت -بما فيه الكفاية- أن أقل ما يمكن للبشر التحكم فيه هو تحكمهم في ألسنتهم."، ولعل هذا ما يؤكد أن في ظل المجتمعات الاستبدادية يفقد المرء حتى قدرته على الكلام أو التعبير عن آرائه بكل حرية واختيار لدرجة يفقد معها حتى قدرته على الصمت، فيصبح الصمت في هذه المجتمعات مستحيلاً كما يصبح الكلام الحر طبعاً مستحيلاً أيضاً، لكن التحكم في اللسان ممكناً خوفاً بطبيعة الحال من المستبد العادل الذي يستطيع تعديل لسان العوام في أية لحظة شاء ذلك.

ويذكرنا هذا بصياح ديدروا على هذا الوضع المتأزم الذي يعيشه المرء في المجتمع المستبد قائلاً: "أُنْظُرُوا عن قرب وسوف تُدْرِكُونَ أن لفظ الحرية هو لفظ فارغ من المعنى، فليس هناك ولا يمكن أن توجد كائنات حرة." [8]، لقد أصبت يا ديدروا ففي مثل هذه المجتمعات الاستبدادية لا نتحدث عن كائنات حرة ومسؤولة، بل نتحدث عن كائنات خاضعة وخائفة ومسجونة ومقيدة، لا تستطيع حتى التكلم، أو التلفظ بالحق، فتصبح الحرية كما عبر فيتجينشطاين "لفظا فارغا من المعنى والفائدة والدلالة"، أو بمثابة قضية ميتافيزيقية لا معنى لها ولا فائدة ترجى منها.

لهذا دعى فلاسفة التعاقد الاجتماعي ومن بينهم جون جاك روسو بأن يكون المستبد أيضاً خاضعاً للقانون ف "لا وجود قطعاً لحرية من دون قوانين، ولا يوجد شخص فوق القوانين، وحتى في حالة الطبيعة، لا يكون الإنسان حراً إلا عندما يخضع للقانون الطبيعي، الذي يُسَيِّرُ كل شيء." [9]، ما يعني أن الحل الوحيد أمامنا للقطع مع المستبد العادل هو إخضاعه هو أيضاً للقانون، رغم أن توماس هوبز جعل الملك أو الأمير أو رئيس الجمهورية يتعالى على القانون ولا يخضع له، إلا أن روسو تصدى لهذا الموقف الذي قد يؤدي بنا إلى إستبداد بإسم القانون، خاصة وأن المرء في حالة الطبيعة المفترضة كان خيراً بطبعه، وحراً خاضع للقانون الطبيعي وفقط.

هكذا إذن عنت "الحرية، بالنسبة للمحدثين، الحق في ألا يخضع الفرد إلا للقوانين." [10]؛ وما يقصده بنجامان كونسطون هنا هو الحرية في إطار القانون الذي نخضع له نحن ورئيس الجمهورية، لكن علينا الإنتباه هنا إلى مسألة في غاية الأهمية، والتي إنتبه لها كل من ماركس وإنجلز، وربما لم ينتبه لها فلاسفة العقد الإجتماعي والمحدثين اللذين فوضوا السلطة والقانون للطبقة البورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج والتي استغلت الطبقة البروليتارية المالكة لقوة العمل، فجعلتها عن طريق العمل خاضعة لها، لهذا صرح ماركس قائلاً: "إن مملكة الحرية لا تبدأ إلا حينما ينتهي العمل الذي تفرضه الحاجة والضرورة الخارجية." [11]؛ هكذا انتهت الحرية مع ماركس إلى كونها مملكة تقع خارج العمل، إن تحرر البروليتاري من العمل وخروجه منه أو ثورته عنه دليل على وعيه ومطالبته بولوج عالم الحرية، وكلنا نعرف سياق قول ماركس هذا الكلام، حيث كان البروليتاري يعمل 12 ساعةً يومياً ولازال، وكان طموح ماركس هو الثورة والتحرر من نظام العمل الذي يقيد الأفراد ويجعل منهم عبيدا في هذا العالم لصالح الطبقة البورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج.

كما يجب علينا الوعي أن الشخص ليس هو الإنسان أو الأنا والذات التي نادى بها ديكارت في العصر الحديث بأنها حرة ومسؤولة ومستقلة وأن التفكير لا يفوض، وأن الأنا جوهر مفكر ومالكة أو سيدة العالم ومسيطرة على الطبيعة ...إلخ، "لم يعد للأنا مكان كافٍ في الفكر المعاصر. فها هو مسحوق من طرف علوم الإنسان، بعد أن ظل محاصراً بين لاشعور فرويد، والقوى الإقتصادية حسب ماركس، وتأكيدات نيتشه (بأن الأنا نِتَاجُ عادةٍ نَحْوِيَّةٍ) ومُهْتَزاً من طرف المنطق واللسانيات. إن الأنا الذي كان من قَبْلُ مَلِكاً لَمْ يَعُدِ الْيَوْمَ إِلاَّ سَرَاباً." [12]؛

في ختام مقالنا نقول أن كل الفلاسفة المعاصرين بدءاً من نيتشه إلى فوكو، قد أعلنوا موت الإنسان كمفهوم مجرد في مقابل ذلك حضر مفهوم الشخص المشروط، وبالتالي فقدت الذات/الأنا مركزيتها في العالم المعاصر، ما يعني فقدان البوصلة والإحداثيات أمامه، فصرنا نتحدث عن الفرد أو الشخص بدل الإنسان، ما يعني موت الإنسان كمفهوم وإحياء الفرد كفكرة، ذلك أن الشخص يفكر بوسائط Média  هذه الوسائط هي اللغة كما لاحظنا مع نيتشه، التاريخ كما علمنا هيغل صيرورة بلا ذوات/أنوات، المجتمع كما أخبرنا ماركس وإنجلز، فليس وعي الناس من يحدد وجودهم الإجتماعي بل وجودهم الإجتماعي هو من يحدد وعيهم، ولا ننسى أيضاً الاكتشاف الفرويدي بأن اللاوعي أو اللاشعور هو الجانب الخفي في حياة الإنسان والذي لا يظهر كما يظهر الوعي، لدرجة المغالاة بالقول بأن الخمس السنوات الأولى هي من تحدد مصير الشخص، نضيف أيضاً أن الشخص يحتوي الغير كبنية توجد داخله من خلالها يفعل فعله، وكنا قد أشرنا أيضاً إلى الحتميات الطبيعية والبيولوجية التي تفعل فعلها في الشخص، لا بأس أن نشير إلى نظرية التطور لدى داروين التي تخضع لها كل الكائنات الحية بدون استثناء، لا هي ولا قوانين ماندل في الوراثة، كما أصبح الشخص مشروطاً بنسق ثقافته أيضاً مع الأنثروبولوجيا الثقافية، إلى جانب التقنية التي تشكل الشرط الأخير المعاصر للشخص.

في نفس هذا السياق تعالت الدعوات المنادية لتحرير الشخص من البنى والاشراطات التي تشرطه لعل أبرزها دعوة سارتر الذي صرح قائلاً : "نحن في الواقع عبارة عن حرية تختار، إلا أننا لا نختار أن نكون أحراراً: نحن مُجْبَرُونَ على الحرية."، والذي جعلت من الحرية شرطاً إنسانياً سواء في الفلسفة الوجودية التي هي فلسفة إنسانية بالدرجة الأولى أو الفلسفة الشخصانية بزعامة إيمانويل مونييه التي هي فلسفة جعلت الشخص في المركز، مع العلم أنها مجرد امتداد للوجودية والفينومينولوجية بزعامة هوسرل وهايدغر وميرلوبونتي ...إلخ.

***

بقلم: محمد فرَّاح – تخصص فلسفة

...............................

المصادر والمراجع:

[1] – اسبينوزا، الإيتيقا، الجزء الثاني، التعليق على القضية الخامسة والثلاثين.

[2] – Nietzsche, Humain trop humain, 1878, traduction française. A. M. Desrousseaux, édition. Donoel Gonthier, I, p. 160.

[3] – E. Kant, Critique de la raison pure, traduction française de Alain Renaut, Flammarion, Paris, 2001, pp. 495 – 496.

[4] – الشيخ أبو العباس أحمد بن خالد الناصري، كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، الطبعة الثانية، المغرب، الدار البيضاء، 1954، ص: 11.

[5] – Gottfried Withelm Leibniz, Nouveaux essais sur l'entendement humain. Partie 8, Édition Jacques Brunswick, Flammarion, Paris, 1990, p: 137.

[6] – Montesquien, De l'esprit des lois, Club du livre français, 1968, p. 186.

 [7] – Hannah Arendt, La crise de la culture, traduit en français par B.  Lévy et A.  Faure, Gallimard, 1972, p. 193

[8] - Diderot, Correspondance de Diderot, édition de. Minuit 1953, t. 1, p. 218.

[9] – J.J. Rousseau, Lettres, Tome III, La Pléiade, Gallimard, p. 842.

[10] – Benjamin Constant, in Blandine Kriegel, Cours de philosophie politique, Paris, L. G. F. Livre de poche, 1996, p. 128

[11] – K.Marx, Le capital III, édition Sciences Sociales 1974, pp. 198-199.

[12] – كريستيان دي لا كامبان، تَشَكُّلُ الأَنَا، ضمن كتاب: تساؤلات الفكر المعاصر (مؤلف جماعي مشترك، ترجمة: محمد سبيلا)، دار الأمان، الرباط، 1987، ص. 87.

مقدمة قصيرة:

إنّ قراءة فوكو وكما هو دارج ومعلوم عنها، تعدّ من أصعب القراءات نسبة لتعقيد النّص الفوكوي، وفُرادة الأسلوب الذي تميّز به عن سواه، وتعد فلسفة فوكو من أهم الفلسفات حول المعرفة الغربية، والتي أعاد قراءتها من جديد، بخلاف ما هو معهود عنها (الفلسفة الغربية) باعتبارها معرفة متصلة.

يعتير كتاب الكلمات والأشياء الذي صدر عام 1966 من أهم كتب فوكو، لكونه يلخص فكرته وفلسفته عن المعرفة، ومن الجدير بالذكر الإشارة أن الكتاب في الأصل لم يكن يحمل هذا الأسم الذي عرف به الأن، بل إن مسماه الأولي كان (نظام الأشياء) وقد صادف في نفس عام إصداره أن كتاباً أخر يحمل ذات الأسم كانت تحت الطباعة، مما أضطر فوكو لتغيير الاسم الى (الكلمات والأشياء)، بعد محاولات عديدة منه، مع المؤلف الأخر لتغيير الأسم، والذي قوبل بالرفض، وتم نشر الكتاب بإسمه الحالي. ويشير فوكو في العديد من مقابلاته ومحاضراته إلى العنوان الحقيقي للكتاب (نظام الاشياء) منعاً للبس، إستناداَ لكون الأسم قد يشير لدى الكثيرين أنه يتخصص في اللسانيات وهذا ما حدث، إلا أن الكتاب في مجمله يتحدث في حيز ومجال مغاير تماماً.

يتناول فوكو في هذا الكتاب تاريخ المعرفة الغربية وكيفية تشكلها وتكونها عبر العصور الثلاث (عصر النهضة، العصر الكلاسيكي، العصر الحديث) والقطائع المعرفية المسؤولة عن تكوين المعارف، وبتعبير أكثر وضوحاً: يؤكد فوكو عن لاتواصلية الفكر الغربي عبر التاريخ، أي أن لكل حقبة معرفية في تاريخ الفكر الغربي ابستيم(1) خاص بها مسؤول عن تكوين المعارف في هذا العصر وينفصل عن ابستيم العصر الذي سبقه والذي سيليه، وهذا الإبستيم هو مجموعة القواعد والشروط والمسلمات التي تساهم في تكوين المعرفة الخاصة بكل عصر، إلا أن هذا الابستيم خفي غير واضح رغم أنه المسؤؤل الأساسي عن تشكيل المعرفة الخاصة بذلك العصر، ومن هذا المنطلق كان فوكو يبحث في المسلمات والبنى التي شكلت كل عصر، واختلفت عن مايليه ومايسبقه، بإستخدامه منهجه الاركيلوجي (الحفريات) الذي يدرس به كل مرحلة تاريخية، ومن المهم أيضاً في دراسة أي مرحلة الإهتمام بشكل الخطاب الذي كان سائداً في ذاك الوقت، إذ أنه لايمكن دراسة المراحل التاريخية دراسة صحيحة دون معرفة نوع الخطاب الذي كان زائعاً في ذلك العصر، فللخطاب أثر في تشكيل المعرفة في مكانٍ ما أو عصر ما.

يبدأ فوكو الكتاب بالحديث عن نص بورخيس " لهذا الكتاب مكان ولادة في نص ل (بورخيس) في الضحكة التي تهز لدى قراءته كل عادات الفكر _ فكرنا: الفكر الذي له عمرنا وجغرافيتنا، مزعزعة كل السطوح المنظمة والخطط التي تعقل لنا التدفق الغزير للكائنات، وتجعل ممارساتنا القديمة ل الذات والأخر، ترتعش وتقلق لمدة طويلة، يستشهد هذا النص بموسوعة صينية معينة، كتب فيها أن الحيوانات تقسم الى: أ – يملكها الأمبرطور، (ب) محنطة، (ج) داجنة، (د) خنازير رضيعة، (ه) جنيات البحر، (و) خرافية،(ز) كلاب طليقة، (ح) مايدخل في هذا التصنيف، (ط) التي تهيج كالمجانين، (ي) حيوانات لا تحصى، (ك) المرسومة بريشة دقيقة من وبر الجمل،(م) التي كسرت الجرة لتوها،(ن) والتي تبدو بعيد كالذباب . ونحن تحت تأثير إنبهارنا أمام مثل هذا التقسيم نصل بقفزة واحدة، بفضل المدافع عن هذا التقسيم الباديء لنا كسحر غرائبي الفكر، إلى الحد الأخير لفكرنا: الإستحالة العارية المطلقة لأن نفكر هكذا) (2) .

خصّص فوكو الفصل الأول بأكمله لِلوحة وصيفات الشرف أو كما تسمى (عائلة فليب الرابع) والذي تناولها بشرح وتحليل موسع ومفصل جداً للشخصيات المرسومة داخل اللوحة، والتي يظهر بعضها بوضوح والبعض الأخر لايمتاز بذلك.

تعتبر لوحة (وصيفات الشرف) للفنان الإسباني دييغو فلاسكيز(3)، من أكثر اللوحات تعقيداً، والتي تحمل العديد من أوجه التأويلات والتساؤلات المحيرة حيث أعتبرت الأساس اللاهوتي لفن الرسم، بعد أن كانت مهنة الرسم سيئة السمعة في العصر السادس عشر وقد قام برسمها ليغيّر النظرة التي كانت مأخوذة عن هذا الفن. وحينما تنظر إلى اللوحة التي أُلحقت في أخر الكتاب، ترى الأميرة الصغيرة في المنتصف، حولها عدد من الوصيفات وكل الأنظار موجهة إليها وكأنها الموضوع الأساسي للوحة، إلا أن ذلك ليس صحيح إذ أن الموضوع الأساسي للوحة هما الملك و الملكة أو فليب وزوجته، إلا أنها لا يظهران في اللوحة إلا من خلال إنعكاسهما في المرآة، وحتى هذا الإنعكاس لايكون جلياً، جميع من في اللوحة إنتباههم للملك والملكة، اللذان هم أقل العناصر ظهوراً أو أكثر الشخصيات خفاء، ولكن حين ينظر المشاهد الى اللوحة يجد نفسه موضوع الإهتمام إذ أن جميع أنظار من في اللوحة موجهة إليه، حتى الرسام ذاته والذي جسد نفسه داخل اللوحة، والذي أمامه لوحة الرسم، التي تنظر أنت فيها قطعة القماش الخلفية فقط، وفي إحدى يديه فرشاة الرسم، والأخرى الألوان، (أي بمعنى آخر يكون المشاهد نفسه هو موضوع الرسم أو اللوحة) إلا أنه وفي حقيقة الأمر ليس المشاهد هو الموضوع الأساسي إلا بقدر مايخيل إليه أو يظن، وحيث الملك والملكة هما الموضوع الأساسي رغم عدم ظهورهما في اللوحة، إلا من خلال المرآة التي تعكسهما بصورة غير واضحة، (الملك والملكة يجلسان في المكان أو الموقع الذي نحن فيه) كما يقول فوكو: "في ظاهر هذا المكان بسيط، إنه محض تبادل: إننا ننظر إلى لوحة وفيها رسام يتأملنا بدوره، لاشيء أكثر من وجه الوجه، من عيون تفاجئ بعضها، من نظرات مستقيمة تتراكب حين تتقاطع، ومع ذلك فإن هذا الخيط الرفيع من الرؤية يحتوي بالمقابل شبكة معقدة من الشكوك، والمبادلات والتهرب. فالرسام لايتجه بعينيه نحونا إلا بمقدار مانتواجد في مكان موضوعه الرئيسي، ونحن المشاهدين لسنا إلا مجرد زيادة. وإذ نستقبل هذه النظرة فإنها تطردنا، ليحل محلنا ماكان منذ بدء الأزمنة يتواجد هناك قبلنا، النموذج نفسه. "(4) (الملك والملكة). وموضوع هذه اللوحة يحيلنا إلى فكرة الابستيم الخفي الذي هو المكون الاساسي للمعرفة في عصرٍ ما والذي لا يظهر ولا يتم التعرف عليه إلاعبر الحفريات وحيث أنه الاقل ظهوراً مثلما تعبر عنه اللوحة حين يبدو الملك والملكة هما العنصرين الاقل ظهوراً كما بدا انعكاسهما على المرآة الا أنهما الموضوع الاساسي للوحة.

لقد أشار فوكو لهذه اللوحة في الكتاب بتفصيل لكونها تماثل التمثيل الذي شكل أساس المعرفة في العصر الكلاسيكي الذي يبدأ من منتصف القرن السابع عشر وحتى نهاية القرن الثامن عشر.

في الفصل الذي يليه " نثر العالم" يتحدث فيه فوكو عن التشابه، وهو الذي شكل المعرفة الخاصة بعصر النهضة، حيث يقول؛ "حتى نهاية القرن السادس عشر، لعب التشابه دور الباني في المعرفة الثقافية الغربية، فهو الذي قاد في جزء كبير تفسير النصوص وتأويلها، وهو الذي نظم لعبة الرموز، وسمح بمعرفة الأشياء المرئية، واللامرئية، وقاد فن تمثيلها وتصوها" (5). مما سبق ذكره يشير فوكو إلى أن المعرفة في عصر النهضة قائمة على التشابه كمعرفة ظاهرية فقط لا علاقة لها بالجوهر. معرفة قائمة على التأويلات، وأن هذا التشابه الذي كان ينظم أشكال المعرفة في ذلك العصر تتمفصل بداخله أربعة أشكال جوهرية لتكون الأساس لحل مشكلة اللاتناهي، حيث يطرح السؤال نفسه إذا كان التشابه هو الأساس الذي تنبنى المعرفة عليها، كيف يتعامل مع لاتناهي الأشياء ويعمل على تفسيرها وحل رموزها؟.

لقد كان ذلك يتم وفق الأشكال الأربعة التي تندرج داخل التشابه والتي، سوف اتطرق إليها بأيجاز:

1- التوافق: تلائم الاشياء التي توجود في مكان واحد، وتتجاوز بعضها البعض بحيث ينشأ بينها إتصال. وبتعبير أكثر وضوحاً: شيئان وضعت فيهما الطبيعة في نفس المكان تنشأ بينهما حركات تواصلية وبذلك تتشابه خصائصهما، والتوافق ينتمى للأشياء نفسها، أكثر مما ينتمي للعالم الذي توجد فيه الأشياء، ففيما هو (مخلوق) توجد في البحر أسماك بقدر مافي اليابسة من حيوانات. وبقدر مافي السماء، وهكذا تتجاور المتشابهات وتتلاءم وتتصل فيما بينهما وتتجاوز بعضها الأخر، وهذا ما يشكل العالم نفسه، وفي كل نقطة اتصال تبدأ وتنتهي حلقة تشبه الحلقة السابقة، وتشبه اللاحقة، ومن دورة لأخرى تتابع المتشابهات تاركة الطرفين في تباعدهما (الله والمادة) كما ذكر فوكو.

2-  التنافس: نوع من التوافق متحرر من قانون المكان، يعمل بلا اتصال. إن التنافس شيء من الإنعكاس في المرأة، أشياء توافق بعضها من حيث أنها إنعكاس من الأخر، توأم الأخر، إذ أن الطرف الضعيف من الشيئين يستمد تأثير ذلك الذي ينعكس في مرآته السلبية، ولهذا فإن الشكلين المنعكسين المتعارضيين لا يكونان في حالة جمود الواحد مقابل أخر. فالوجه إنعكاس للسماء، والعينين إنعكاس للنور الأعظم (الشمس والقمر) وعقل الإنسان يعكس حكمة الله، ووفق هذا النسق تقلد الأشياء بعضها البعض من أقصى العالم لأدناه دون إتصال وتسلسل.

3-  التماثل: ويشمل التوافق والتنافس كليهما، مكافئة شيء للأخر، أو قياس الشيء بالآخر من حيث تماثله ومطابقته، وهو مرهون بضوابط الوصل والروابط بين الأشياء، كعلاقة النجوم بالسماء، علاقة العشب بالأرض، أعضاء الحواس بالوجه الذي يبثون فيه الحياة، الأحجار الكريمة بالحجارة التي توجد داخلها، وقياس التماثل بين الحيوان القديم والنبات، حيث أن النبات أيضاً حيوان واقف يصعد الغذاء فيه من الأسفل نحو الأعلى مما يماثل الحيوان الذي يضع رأسه وفمه إلى الأسفل حينما يأكل.

4- التعاطف: يجذب الأشياء نحو بعضها البعض بحرية كاملة في أعماق العالم، إذ يعمل على مجاورة الأشياء بلا قيود؛ حيث يسقط من بعيد كالعاصفة، مثيراً حركة الأشياء مسبباً تقاربها أو تباعدها، كمجاورة ورود الحداد التي توضع عند موت أحد ما، بحيث تجعل من يستنشقها حزيناَ.

تعتبر هذه التشابهات التي أعدت من قبل نظام العالم منذ الأزل ويستدل بها من خلال التواقيع التي تعمل كرموز وعلامات نستطيع من خلالها الإستدال على الأشياء، وهكذا وعلى هذا النهج بُنيت معرفة القرن السادس عشر، كيف ولماذا؟ وعلى أي أساس؟ لانستطيع القول سوى أن إبستيم ذاك العصر هو الذي حدد شكلها، إذ أنّها خليط متقلب من المعرفة العقلية وممارسات مشتقة من ممارسات السحر ومن تراث ثقافي كامل. وحيث أن حدود التفكير في ذاك الوقت كانت لاتخرج عن هذا النطاقات، مما يقودنا للقول، أن ما لانفكر فيه وليس مقدورنا التفكير فيه هو الذي يشكل إبستيم العصر الآخر، وما نفكر فيه ويشغلنا هو أساس إبستيم العصر الذي نحن فيه. وبالرجوع إلى المقولة الصينية التي ذكرت سابقاً والتي تصنف الحيوانات تصنيفاً غريباً غير المتعارف عليه اليوم ولا في العصور التي سبقتها نتوصل إلى أن البنى الضمنية التي قام عليها هذا التقسيم لأسطوري في ذاك الوقت؛ تختلف تماماً عن الأسس التي قامت عليها تصنيفات الحيوانات فيما تلت .

وقد قسم فوكو الحضارة الغربية إلى ثلاث مراحل أو عصور (عصر النهضة، الكلاسيكي، العصر الحديث) وكما توسعنا بالشرح سابقاً فإن الإبستيم الخاص بكل عصر يختلف عن العصر الذي سبقه والذي يليه، وأن الأفراد الذين يعيشون في عصر محدد يكون فهمهم ومعرفتهم محدود داخل إطار هذا الأبستيم، ويسبب هذا الإبستيم القطائع المعرفية والتمفصلات بين العصور المختلفة والتي تحدث في اللغة، الإقتصاد، والبيولوجيا .

ففي عصر النهضة الذي يبدأ من منتصف القرن الرابع عشر وحتى السادس عشر نجد أن المعرفة تقتصر على الشكل الخارجي فقط ولا علاقة لها بالداخل. لأن أبستيم ذلك العصر يستند على المظهر فلا نجد وجود لعلم البيولوجيا ولا حتى هذه التوسعات والبنى التي تؤسس اللغة اليوم، فاللغة كان ينظر إليها كشيء من الطبيعة، مثلها مثل النجوم، الشمس، القمر، النبات، الحيوان، كانت تستخدم لتسمية الأشياء بشكل مباشر، أي كل مفردة توقيع لشيء محدد، حيث تحمل التوقيع الذي يستدل به عليها، ونجد أن الإقتصاد وما يتعلق بالنقود كان في غاية البساطة، حيث أن القيمة التداولية كانت ترتبط بالقيمة الفعلية للمعدن المصنوع منه، فمثلاً كانت النقود الذهبية، الفضية، هي التي تحدد قيمة الأشياء. أما أبستيم العصر الكلاسيكي الذي ابتدأ من ديكارت ونيوتن وفرانسيس بيكون وغيرهم، قام على التمثيل الذي يعرف بأنه تفكيك المقولة المعرفية إلى أبسط مركباتها (الموضوع والمحمول)، فتظهر كتب تاريخ الكائنات التي تعتمد على الجدولة والملاحظة ثم التصنيف في جداول على حسب الشكل والبنية والسمات. وكان في ذاك الوقت تصنيف النبات أكثر زيوعاً من تصنيف الحيوانات التي كانت صعبة التشريح في بعض منها، ومن هنا وعن طريق الملاحظة كانت بداية نشوء نظرية التطور عند داروين، والذي سبقها عليها بوفون ولامارك.

لقد اختزل الحيوان والنبات من شكله الخارجي إلى التصنيف الذي يرتكز على الخلايا، وهكذا ظهرت الحاجة إلى كلمات جديدة، نسبة للتوسع في التصنيفات والجدولة، وبهذا انتقلت اللغة إلى مكان آخر وأخذت تتطور مما كانت عليه؛ وظهر علم النحو وتوسعت العمليات الخاصة باللغة إلى فك رموز الشفرات والبحث عن اليقين. لقد كانت اللغة إناء للأفكار، وهي التي تعبر عن الفكرة المراد إيصالها، أما الاقتصاد فينشئ التبادل والذي على أساسه تخلق القيمة، وهو الذي يعطي النقود قيمتها على خلاف القرن السادس عشر إذ كان المعدن هو مايقيّم الأشياء، أما الآن فأن القيمة التبادلية أو الإستعمالية هي الأساس.

لقد كانت المعرفة في العصر الكلاسيكي قائمة على التحليل، التصنيف، الحساب، نقد، ملاحظة، بناء على الإبستيم السائد في ذلك العصر. أما العصر الحديث، والذي تتشكل المعرفة فيه بالفراغ الذي نشأ في القرنين اللذين تلاه فهو يقوم على أساسين لا ثالث لهما تتمحور حولهما المعرفة، ألا وهو الوظيفة وظهور الإنسان على السطح ليس كذات مفكرة وإنما موضوع للمعرفة، وظهور العلوم الإنسانية التي تتناول الإنسان كمادة للدراسة السسيولوجيا – الانثربولوجي – الإقتصاد السياسي...... الخ، وهذا على خلاف العصريين السابقين حيث كان الإنسان سيداً للمعرفة بإعتباره ذاتاً مفكرة، أما في العصر الحديث فقد أضحى هو موضوع دراسة كغيره من المواضيع الأخرى. وهو ما أشار اليه فوكو بـ(موت الانسان) عكس فكرة نيتشه حول موت الاله وظهور الانسان الخارق (السوبرمان) ومن رواد هذه المرحلة كانط الذي حدد فيه حدود معرفة الإنسان، وادم سميث في الإقتصاد وكارل ماركس.

يتبع................

***

مودة جمعة - تخصص فلسفة

......................

هوامش:

1-  ابستيم: هو منظومة من المسلمات والقواعد والشروط والادوات التي تتيح المعرفة في عصرٍ ما.

2-  ميشيل فوكو -الكلمات والاشياء – ص 20

3-  رسام إسباني يعتبر من أعظم ممثلي الرسم الإسباني وكبير الرسامين في العالم.

4-  الكلمات والاشياء مركز الإنماء القومي ص 30

5-  نفس المصدر ص 39

 

الترجمة: "من غير المرجح أن يكون أي منا واضحًا بشأن علاقتنا بالمال. وبدلا من استنكار ذلك، يجب علينا أن نعترف بأنه لا يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك، لأن هذه العلاقات شديدة التنوع والتناقض والتشابك. إنها تراث عصور مختلفة، ولم يتم إلغاء أي منها بشكل نهائي. وليس من المؤكد حتى أن مثل هذا الموقف الذي يتميز به الماضي البعيد لن يجد شرعية جديدة، في ظروف يصعب التنبؤ بها.

سأفكر في ثلاث طبقات في مخيلتنا فيما يتعلق بالمال: طبقة أخلاقية، وطبقة اقتصادية، وطبقة سياسية. إذا لم يكن من الخطأ أن نقول إن المشاعر والمواقف المتعلقة بالثانية لم تنضج إلا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وإذا كان اليوم هو ما نفترضه أكثر من غيره، على الرغم من أن المشاكل تندرج تحت المستوى الثالث، فإن الارتباك الحالي لدينا وتنتج المشاعر من حقيقة أن السلوكيات المكتسبة في أوقات مختلفة تظل بطريقة ما معاصرة لبعضها البعض في عمق الحاضر.

أولا: المستوى الأخلاقي

لقد كان ذلك المال مناسبة لردود فعل أخلاقية قوية تستحق شرحاً مفصلاً. للوهلة الأولى، يبدو المال غريبًا بحكم تعريفه على المجال الأخلاقي. كوسيلة للدفع، وبعبارة أخرى، باعتبارها المال، فهي مجرد إشارة مجردة، وسيلة بسيطة للتبادل. ومن ثم فإننا نميل إلى القول إن السلع المتبادلة، وهي الأشياء الحقيقية لرغبتنا في الاستحواذ والحيازة، هي وحدها التي ينبغي أن تخضع للحكم الأخلاقي وأن يطلق عليها اسم الخير أو الشر. كوسيط محايد وعالمي، ألا يقتصر المال على التعبير عن القيمة السوقية المشتركة للسلع المتبادلة، حيث يكون السعر هو مقياس هذه القيمة؟ محايدة اقتصاديا، لماذا لا تكون محايدة أخلاقيا؟ أو بالأحرى، ألا ينبغي اعتبارها مجرد سلعة جيدة، ما دامت، على النقيض من المقايضة، تفتح مساحة مزدوجة من الحرية للمشتري والبائع؟

لكن المنطق البسيط للغاية مضلل. وينتج السعر عن منافسة الرغبات المطبقة على السلع النادرة المقدمة لشهية الجميع؛ ولذلك فإن عظمة الممتلكات المكتسبة تحمل علامة عدم تحقيق رغبات الآخرين. وهكذا يتم إخفاء لعبة صغيرة قاسية في أدنى تبادل، حيث يبدو في البداية أن حرية أحدهما في الاستسلام وحرية الآخر في الاختيار هي التي تلعب دورًا. إن استبعاد طرف ثالث غير مرئي واضح وراء لفتة البيع والشراء البسيطة. ولكن هذا ليس كل شيء، أو حتى الشيء الرئيسي؛ وبقدر ما يكون المال محايدًا فيما يتعلق بالسلع التي يسمح بتبادلها، فإنه يشكل موضوعًا متميزًا للرغبة؛ إن امتلاك الوسيط العالمي يعني امتلاك مفتاح الحكم الحر لجميع معاملات السوق. عند هذا المستوى يأتي دور الأحكام الأخلاقية، خارج أي تحليل اقتصادي. وهذه الأحكام مهمة جدًا لدرجة أن الدفع الذي سيظهر لاحقًا لصالح الارتباط التجاري لا يمكن سماعه إلا على حساب الحجة نفسها التي يتم إجراؤها على أسس أخلاقية. وسنورد هنا تلك الحجج التي تتأرجح بين عدم الثقة والإدانة الصريحة. على عكس الرغبات المرتبطة بسلع المتعة، فإن الرغبة في الحصول على المبادل الشامل لا تتضمن في حد ذاتها أي إجراء؛ فلا معنى للحديث عن الرضا؛ لقد كررها الأخلاقيون من جميع المعتقدات والتقاليد: الجوع إلى الذهب لا يشبع؛ هناك نوع من "اللانهاية السيئة" يسكن هذا دائمًا، وهو ما لا يكفي أبدًا. لقد نقل الأخلاقيون المسيحيون، من الآباء إلى السكولاستيين الكبار، فقط الأخلاقيين اليونانيين عن فصل الاعتدال؛ إن فكرة أرسطو عن الوسيلة السعيدة بين الإفراط وعدم الكفاية تهدمها رغبة غير محدودة تحمل الآن علامة الخطيئة. وأقوى حجة تكمن في وصف هذه الشهوة بالهوى، إذا فهمنا بالهوى شيئاً آخر غير الشهوات؛ الرغبات تحد من بعضها البعض. في العاطفة يضع الفرد كل ما لديه؛ البشر وحدهم هم من يملكون القدرة على استهداف الرضا الكامل، حقًا أو خياليًا، وهو ما يسمونه أحيانًا السعادة؛ وعندما يتم تحديد سلعة واحدة بهذه الكلية، فإن الارتباط بهذا الخير يصبح كليًا؛ أما الآن، فإن المال، بسبب حياده وعالميته، المرتبط بقوة الاستحواذ غير المحددة التي يوفرها، هو موضوع الحلم، إذا جاز لنا أن نقول، لمثل هذا الاستثمار الشامل. هذه العاطفة تسمى الجشع. ويقول لوروبر إن البخيل "يعشق الثروات ويستمتع بتكديسها على الدوام". ولكن هل "أن تكون سعيداً" يعني أن تكون سعيداً؟ يشكك الأخلاقيون في ذلك؛ إن خيال الاستثمار الكامل للرغبة في شيء واحد يجعل من العاطفة معاناة يلحقها المرء بنفسه: ألا يطلق اسم الألماني"Leidenschaft" لايدنشافت على العاطفة ؟ هنا، لدى الأخلاقيين المسيحيين ما يقولونه أكثر تحديدًا من الأخلاقيين القدامى، بقدر ما أن الشغف بالذهب، من خلال احتلال المدى الكامل للرغبة، لا يترك مجالًا لمحبة الله التي وحدها يمكن أن تكون كاملة. إن خطيئة الجشع مميتة بالمعنى الحرفي للكلمة، بقدر ما تفصلنا عن الله تمامًا. قلنا الجوع الذي لا يشبع للذهب؛ شغفه يستهلك كل شيء. وعلى هذا الانتقاد للجشع يمكننا أن نطعم الإدانة الإضافية التي فرضتها ممارسة الحياة الرهبانية ونذر الفقر على جميع الممارسات الدنيوية، وخاصة تلك المتعلقة بالتجارة والربح. من المؤكد أن الحياة العلمانية، في حد ذاتها، لا تعتبر سيئة، ولكن، مثل الزواج، يعاني العمل من المقارنة مع البحث عن الكمال المرتبط بحياة الدير. مع القديس فرنسيس، لم يعد الراهب المسيحي مجرد رجل دين ورجل ترفيه، مثل الحكيم القديم، بل "فقير". يتم الاحتفاء بالفقر باعتباره عظمة إيجابية بسبب المساحة التي يفتحها للروح المتحررة من الرغبة في الاكتساب والتملك. صحيح أن الإصلاح اللوثري والكالفيني عكس هذا الحكم السلبي على المال والتجارة، وفي الوقت نفسه أدان النذور الرهبانية وأعاد تأهيل العمل العلماني المزين بهالة الدعوة. لكن لا يزال يتعين إثارة حجة خاصة بالمهن المالية، من بين جميع المهن: الحجة القائلة بأن المال، كونه غير منتج، لا يستحق، عندما يُقرض، راتبًا خاصًا به؛ ولا شيء يفصل بين القرض بفائدة والربا. يتذكر ج. لو جوف في كتابه "من أجل عصر وسطى آخر" أنه إذا لم يكن التاجر في العصور الوسطى مكروهًا كما قيل، وحتى لو كانت الكنيسة تحميه وتفضله في وقت مبكر جدًا، "فإنها قد سمحت منذ فترة طويلة لشكوك جدية بأن تحيط به" تخيم على نشاطها... وفي مقدمة هذه المظالم الموجهة ضد التجار، اللوم على أن أرباحهم تنطوي على رهن زمني لا يعود إلا لله" (ص 46). وهذه الحجة مثيرة للاهتمام بقدر ما تصل إلى النقطة التي تنطوي فيها الحياة الاقتصادية على رؤية كاملة للعالم، والذي يشكل الزمن بعدًا أساسيًا فيه. الآن أصبح وقت التجار فرصة للربح، إما لأن المُقرض يستغل انتظار السداد من قبل المقترض المعدم مؤقتاً، أو لأنه مستغلاً فرصة الوضع يلعب على فروق الأسعار بين الأسواق، إما لأنه فهي تخزن تحسبا للمجاعات، أو لأنها - وهذا سيكون لاحقا مصدر حجة مضادة لصالح القروض بفائدة - فإنها تفرض رسوما على المخاطر التي تتكبدها بضائعها على الطرق البرية أو البحرية. بكل هذه الطرق، "يبني التاجر نشاطه على فرضيات يكون الزمن هو نسيجها ذاته". "هذه المرة تتعارض مع الكنيسة التي تنتمي إلى الله وحده ولا يمكن أن تكون موضوعًا للربح" (المرجع نفسه). وعلى هذا الأساس بالذات ينهار الإصلاح، من خلال تسليم جميع الأنشطة الدنيوية إلى المسؤولية الإنسانية. رسالة من كالفن إلى كلود ساشين مثيرة للاهتمام للغاية في هذا الصدد: “لأننا إذا دافعنا تمامًا عن الربا [القرض بفائدة ليس له اسم آخر] فإننا نقيد الضمائر من رباط أقوى من الله نفسه. » في الحقيقة، "ليس هناك شهادة في الكتاب المقدس تدين كل الربا بشكل كامل... شريعة موسى (تثنية 23، 19) هي شريعة سياسية، لا تربط عقل الإنسانية إلا بالإنصاف والعدالة.." ومن المؤكد أنه سيكون من المرغوب فيه أن يتم طرد الربا عن الجميع، حتى لو كان الاسم غير معروف. ولكن لكي يكون هذا مستحيلاً، يجب علينا أن نستسلم للمنفعة المشتركة” (أوبرا أمنية، المجلد العاشر، الجزء الأول، ص 245).

ثانيا: الخطة الاقتصادية

من الجدير بالملاحظة أن الرأسمالية الوليدة، لكي تحظى بالقبول، قامت بالدفاع عن نفسها على نفس الأرض التي كانت فيها الرغبة في المال والبضائع موضع إدانة من جانب الأخلاقيين المسيحيين. وفي هذا الصدد، يشكل قبول الرغبة في الإثراء تغييراً حقيقياً على المستوى الأخلاقي. وكما أظهر ألبرت هيرشمان في كتابه "عواطف واهتمامات"، فإن الانقلاب كان منهجياً في البداية. يرفض سبينوزا الموقف المعياري، ويقترح في الكتاب الثالث من الأخلاق اعتبار "أفعال الإنسان وشهواته كما لو كانت مسألة خطوط أو مستويات أو أجساد". وهو متشكك في قوة العقل على العواطف، ويؤكد أن "العاطفة لا يمكن إحباطها أو قمعها إلا من خلال عاطفة تتعارض مع العاطفة التي يجب معارضتها وأقوى منها". وهو بذلك يكرّس، بعيدًا عن أي نية أخلاقية، موقف العديد من مراقبي الطبيعة البشرية الباحثين عن العاطفة التعويضية، القادرة على هزيمة المشاعر الأكثر تدميرًا، تلك التي تحرك الأمراء بشكل رئيسي في حب المجد والشجار والحرب. وعلى خلفية هذه الأفكار المتشائمة جدًا، فيما يتعلق بكل من إمبراطورية العقل الضعيفة والتأثير المدمر للعواطف العنيفة، يرى هيرشمان أن موضوع العواطف التي يتم ترويضها بالمصلحة يبرز، وأن يتم فهم هذا بمعنى العقلانية. حب الذات؛ إن الفائدة، بمعناها الأوسع، تشير إلى استبدال العنف بالحساب عبر مجموعة كاملة من المشاعر. هكذا توصلنا إلى أن نرى في العاطفة، التي تسمى حتى الآن الجشع أو الجشع أو الجشع، نموذج الاهتمام القادر على كبح الأهواء الأخرى مثل الطموح أو حب السلطة أو شهوة الجسد. إن الاهتمام، الذي يُفهم بالمعنى المحدود للشهوة لتحقيق الربح، يظهر الآن كعاطفة باردة، والتي، لأن ثباتها يجعلها قابلة للتنبؤ وبالتالي جديرة بالثقة، "لا يمكن أن تكذب"، كما يقول المثل السائد في هذا العصر. وإذا انتقلنا من المجال الخاص إلى المجال العام، أليس صحيحا أن التجارة هي المهنة الأنسب للحفاظ على الأخلاق السلمية، ضد جنون الأمراء القاتل؟؟ بالمقارنة مع العقل الأرستقراطي، فإن العقل التجاري هو بالتأكيد مقر المشاعر "اللطيفة". إن اقتران الكلمتين "حلو" و"تجارة"، الذي يأتي من مجال المحادثة، يمتد الآن إلى المجال التجاري بأكمله. هكذا تم رد محبة المال إلى المستوى الذي كانت فيه مُدانة سابقًا، وذلك تحت عنوان العاطفة السلمية. بعد كسب السبب الأخلاقي للمال، والتمييز بين الفائدة والعاطفة، الذي تم استخدامه للدفاع لصالحه، سيصبح عديم الفائدة، وسيكون من الممكن أن يتم تبرير البحث عن الربح على مستوى الاقتصاد الوحيد. اكتمل هذا التغيير في الخطة بنشر كتاب ثروة الأمم لآدم سميث في عام 1776. ولم يُؤخذ في الاعتبار الآن سوى المزايا الاقتصادية التي قد تنجم عن إزالة العقبات التي تعترض البحث عن الربح (لأن آدم سميث لا يشاركه بأي حال من الأحوال التفاؤل). "من مونتسكيو فيما يتعلق بالآثار السياسية السعيدة للتنمية الاقتصادية، حيث لا تزال السياسة تبدو له وكأنها مستسلمة لـ "جنون البشر"). يقتصر النقاش على الافتراض الأساسي، “الذي بموجبه فإن أفضل طريقة لضمان التقدم (المادي) لمجتمع ما هي السماح لكل فرد من أعضائه بمتابعة مصلحته (المادية) الخاصة به على النحو الذي يراه مناسبًا” (هيرشمان، 102).  فماذا عن تفكيرنا بشأن المال؟ وفي قدرة البحث دون عوائق عن الربح على إيجاد نوع جديد من الرابطة الاجتماعية، يكمن البديل الحقيقي الذي اقترحه الاقتصاد السياسي، في نهاية القرن الثامن عشر، للمقاربة الأخلاقية السابقة. تبادلات السوق، ومضاعفة العلاقات بين الأفراد، وتحررهم من قيود التبعية الشخصية. علاوة على ذلك، فإن الارتباط التجاري يتكون من "تآلف رغبات" حقيقي، وفقًا للتعبير السعيد ل ل. بولتانسكي و ل. ثيفينو في كتابهما "عن التبرير": "إن الأفراد، الذين يتمتعون بنفس الميل إلى التبادل، يشرعون في تحديد مشترك للسلع". يتبادلون. لكن هذا التعريف المشترك الذي يعكسه السعر لن يكون ممكنا إذا لم يتمتع الأفراد بتصرفات متعاطفة يستطيع كل فرد من خلالها أن يحتضن أذواق وعواطف الآخرين؛ ومن خلال ذلك لا تؤدي المنافسة إلى تفريق الأفراد، بل تنجح في ربطهم ببعضهم البعض. يمكن للمؤلفين المذكورين بعد ذلك أن يتحدثوا عن الارتباط التجاري باعتباره تأسيسًا لـ "مدينة"، "عالم". من الواضح أن كل شيء يعتمد على قدرة العلاقة التنافسية البحتة على إحداث تأثير تنسيقي. لكن التحرر المنهجي للاقتصاد، الذي يؤدي إلى تحييد كل التقديرات السلبية المتعلقة بالنقود، لا يشكل سوى نصف الصورة، إن جاز التعبير، الوجه الآخر. ما يجب أن نفهمه هو "الغزو التدريجي لجميع مجالات الحياة الخاصة والعامة والاجتماعية والسياسية، من خلال منطق الاقتصاد والسلع... الاقتصاد هو الشكل الأساسي للعالم الحديث، والمشاكل الاقتصادية هي الحل". اهتماماتنا الرئيسية. ومع ذلك، فإن المعنى الحقيقي للحياة يكمن في مكان آخر. الجميع يعرف ذلك. الجميع ينسى ذلك. لماذا ؟ ". هكذا عبر ج ب دوبوي وب دوموشيل في جحيم الأشياء. رينيه جيرار ومنطق الاقتصاد (1979).

بهذا السؤال نفسه يعود ج ب دوبوي في كتابه الأخير. التضحية والحسد. الليبرالية تتصارع مع العدالة الاجتماعية (1992). إنه يريد الرد على لويس دومون، الذي لا يعتبر السؤال الرئيسي بالنسبة له منهجيًا؛ إن تكوين الاقتصاد كعلم دقيق في مجال مستقل ومتخصص في الشؤون الإنسانية لا يكون له معنى إلا عندما تدعمه حركة روحية، وهي حركة الفردية الحديثة. الإنسان الاقتصادي هو الفرد الحديث، بلا جذور ولا روابط، مثقل بنفسه في عزلة مقفرة. إن العلم الذي يمثل هذا الفرد قضيته الحقيقية لا يمكنه إلا أن يؤسس استقلاليته وخاصة سيادته على حساب عمليات اختزالية وتبسيطية مؤسفة. الفردية المنهجية، التي تعكس الفردية كنموذج للمجتمع، تتعارض مع شمولية المجتمعات الهرمية. خارج نطاق الاندماج في مجموعة، بغض النظر عن أي موافقة رسمية، لا يمكن للفرد إلا أن يبرز نفسه، وفقًا للويس دومون، في حيلة العقد المبرم بين الذرات البشرية. في مقابل هذا التفسير المتشائم لرجل الاقتصاد، يعارض ج ب دوبوي التقليد العظيم للفردية الليبرالية، النابعة من عصر التنوير الاسكتلندي، والذي كان آدم سميث على وجه التحديد المبشر الرئيسي له. إن المسألة منهجية في المقام الأول: إنها مسألة معرفة ما إذا كانت الفردية المنهجية يمكن أن تكون غير اختزالية، وما إذا كان يمكنها أن تفكر في مجتمع السوق كنظام عفوي أو منظم ذاتيًا، وعلى أساسه ينتصر الفرد وينتصر. عهد العدالة الاجتماعية. وللتأكيد على الاحتمال البسيط، على حافة التطور الذي سيقود من آدم سميث إلى جون راولز، وروبرت نوزيك، وفريدريك هايك، من المهم العودة، في إطار عمل آدم سميث نفسه، من ثروة الأمم إلى نظرية المشاعر الأخلاقية، كتبها قبل سبعة عشر عامًا وأعاد آدم سميث إصدارها للمرة السادسة قبل وفاته. لقد افترضنا أعلاه أن مجموعة الرغبات لا يمكن أن تولد رابطة اجتماعية دون مساعدة ودعم من التصرفات المتعاطفة. وهذا يعني أن الاقتصاد لا يمكنه أن يسمح إلا بكتابة أطروحة جديدة عن الأهواء. ومن اللافت للنظر في هذا الصدد أن نظرية آدم سميث عن المشاعر الأخلاقية لا تدين بأي شيء للاقتصاد؛ على العكس من ذلك، هي التي تسلحها ضد الانجراف الأناني. يجب علينا بعد ذلك أن نفهم بوضوح كيف أن التعاطف لا يتفق فقط مع حب الذات، أي الاهتمام بشخصنا، بل إنه متحد معه تمامًا لدرجة أنه لا يهم. يجب علينا بعد ذلك أن نفهم أن التعاطف، وهو الشعور الأخلاقي الرئيسي والوحيد، لا ينبغي الخلط بينه وبين الخير، وأنه يفترض انفصال الكائنات، وبالتالي فإنه لا يمكن أن يرتكز إلا على الخيال الذي بفضله أصبح الآخر في الفكر. ومن خلال الدخول في تكوين مع حب الذات، يشهد التعاطف على النقش البدائي للنقص في العلاقة بين الذات وذاتها. هل فتحنا، مع ذلك، بديلاً متميزًا تمامًا للوحة ل. دومونت عن الإنسان الاقتصادي؟ هل يمكن إذن أن يكون هناك فردان، فردانية الذات المستقلة وفردانية الذات المستقلة، لاستخدام تمييز آلان رينو في عصر الفرد (1989)؟ سيكون هذا هو الحال إذا تم التعبير عن التعاطف بالكامل في النموذج الذي يستمده ج ب دوبوي من شخصيته المزدوجة والمتبادلة، أي تلك الحلقة المرجعية الذاتية (حب الذات) التي تربط الذات به - حتى من خلال المجتمع (التعاطف).إنها على وجه التحديد واحدة من أبرز المساهمات التي قام بها جيه بي دوبوي في إعادة قراءة أعمال سميث، حيث سلط الضوء على التناقض النفسي والأخلاقي على حد سواء، والذي يتأثر به التعاطف بشكل أساسي. يغلف نقيضه، وهو الحسد، أي الرغبة في الحصول على ما يملكه الآخر، لأنه هو من يملكه. ويخبرنا سميث، ج ب دوبوي، أنه كان حريصًا على مواجهة هذه الصعوبة الكبرى بإضافة فصل إلى الطبعة السادسة من كتابه "نظرية المشاعر الأخلاقية" فصلًا بعنوان: "حول فساد مشاعرنا الأخلاقية، الناتج عن ميلنا إلى الإعجاب بالمشاعر الأخلاقية". الأغنياء والعظماء واحتقار أو إهمال الفقراء والبائسين." لاحظ العلاقة بين الأغنياء/العظماء والفقراء/البائسين. تُفهم حالة الغنى على أنها حالة عظمة، وحالة الفقر على أنها حالة صغر. الآن يستهدف الحسد هذه الدول. إنه “ما يمنع التعاطف من لعب دوره التنسيقي” (ج ب دوبوي، ص 96). إنه يفسد تعاطفنا مع فرحة الآخرين. وفي الوقت نفسه، يكشف الحسد عن سمة مهمة من سمات التعاطف: ما يفسده هو "الميل إلى الإعجاب بالأغنياء والأقوياء وتبجيلهم تقريبًا، واحتقار، أو على الأقل التخلي عن الناس الفقراء أو البائسين". ظروف." أليس هذا اعترافًا بأن المشاعر التي تثيرها علاقات التبادل، وبالتالي أيضًا تلك المتعلقة بجاذبية المال، لا يمكن فصلها عن تلك التي يثيرها مشهد السلطة؟ سميث يقول ذلك جيدًا: «ما هي المزايا التي نهدف إليها من خلال هذا التصميم العظيم للوجود الذي نسميه تحسين حالتنا؟ أننا نلاحظ، أن يتم الاعتناء بنا، أن يتم الاهتمام بنا بالتعاطف والرضا والموافقة؛ هذه هي كل المزايا التي يمكن أن نهدف إليها من خلال تدريبه. إن الغرور، وليس الرفاهية أو المتعة، هو ما يهمنا. لكن الغرور يعتمد دائمًا على الاقتناع بأننا موضع اهتمام الآخرين واستحسانهم” (ص. ص. 97). الاستنتاج واضح: التعاطف، الذي قلنا من قبل أنه ليس إحسانًا، “لا يختلف عن الرغبة في الاستيلاء على ما يملكونه [العظماء]. إن الرغبة في أن يكونوا مثلهم هي حتماً رغبة في الحصول على ما لديهم” (المرجع نفسه، ص 100). أليس هذا غموضًا لا يمكن تجاوزه هو ما تؤدي إليه نظرية المشاعر الأخلاقية، حيث أن “التعاطف يحتوي على حسد، ويحتوي الفعل على كلا المعنيين” (المرجع السابق، ص 100)؟ لذلك يبدو أن عنوان الفصل الذي كتبه جيه بي دوبوي عن آدم سميث مناسب: "التعاطف الحسود. » وعنوان العمل يكشف نصف سره: التضحية والحسد. وفي الوقت نفسه، فإن "اليد الخفية" الشهيرة، والتي كان من الممكن أن يظن المرء أنها مجرد إسقاط أسطوري للتعاطف نفسه، تصبح موضع شك مرة أخرى، لأنها تعيد إلى الأذهان خدعة العقل التي، وفقًا لهيجل، تستمد من المنافسة بين المصالح الخاصة قصيرة النظر هي الشكل المستقر لنظام معقول على مقياس تاريخ الإنسان بأكمله. ألا ينبغي أن تُمنح "اليد الخفية" فضيلة "احتواء" الحسد؟

من المؤكد أنه سيكون من السخافة حصر مصير ما أطلق عليه منذ فترة طويلة "الاقتصاد السياسي" في نظرية المشاعر الأخلاقية. ونرتكب حينها الخطأ المعاكس لمن رأوا «انقلاباً» بين النظرية... وثروة الأمم. سيكون الأمر أكثر سخافة أن نحكم على التطور الإضافي للاقتصاد العلمي على مثل هذه البدايات. نماذج توازن السوق العامة تعطي فكرة التنظيم الذاتي محتوى علمي دقيق. ولكن بجعل أسطورة "اليد الخفية" زائدة عن الحاجة، فهل نجحوا في إزالة كل التساؤلات المتعلقة بالفئتين الرئيسيتين من التضحية والحسد اللذين ذكرهما ج ب دوبوي في عنوانه؟ والآن، أليس فيما يتعلق بهذه المشاعر أن مسألة العدالة تنشأ في نهاية المطاف، حتى في إطار الفردية الليبرالية؟

ولكن، قبل كل شيء، يمكننا أن نتساءل عما إذا كان العلم الدقيق لنشاط مهم ولكن جزئي، ويخضع أيضًا إلى قدر كبير من التجريد - العلوم الاقتصادية - لم يعط حيوية جديدة للسؤال المذكور أعلاه حول معرفة كيفية تحديد سعر المجال الاقتصادي قادرة على مساوية مجمل الأنشطة البشرية. السؤال مهم لأغراضنا. لأنه إذا كانت مسألة النقود، في نظر العلوم الاقتصادية، مجرد فصل واحد من فصول النظرية المعممة للتبادلات، فإنها تثير مرة أخرى سؤالاً متميزاً عندما ترتبط بما ذكر أعلاه وهو "الغزو التدريجي لجميع مجالات الحياة". الخاص والعام، الاجتماعي والسياسي، بمنطق الاقتصاد والسلعة". إن مسألة "المال الملكي"، سواء أكانت صياغتها جيدة أم سيئة، لا تنشأ إلا ضمن هذه الإشكالية. والآن لم تعد المسألة تتعلق بالاقتصاد، بل أصبحت مسألة تحول نموذجي في الحضارة؛ والمشكلة التي طرحها ل. دومونت وآخرون بشأن تقييم الفردية تظهر بنفس الحدة في نهاية هذه الرحلة. هل يمكننا بعد ذلك أن نأمل في تسليط الضوء عليه، جزئيًا على الأقل، من خلال التعامل مع السؤال المطروح باعتباره سؤالًا سياسيًا، إذا كنا نسميه سؤالًا سياسيًا يؤثر على مجمل المجتمع التاريخي المنظم كدولة؟

ثالثا: الخطة السياسية

إن طرح مسألة المال على المستوى السياسي لا يعني القفز مباشرة إلى الصيغة الشهيرة: «المال مفسد. ". إنه يسأل نفسك:

1 - إذا كانت هناك مجالات للتفاعل الإنساني، ضمن الغلاف السياسي للمدينة، تفلت من قياس السلع الاجتماعية الأولية بالعملة؛

2 - في أي ظروف يتم انتهاك الحدود بين المجالات، بطريقة تتلوث القيم غير السوقية بالقيم السوقية؛

3-كيف يتم التعبير عن هذا الانتهاك على مستوى العلاقات الفردية من خلال ما يسمى عادة "الفساد". فقط في المرحلة الثالثة من التفكير، فإن السؤال، الذي تم طرحه أولاً من حيث الأمثلة، والأنظمة الفرعية، والمجالات، و"المدن" (أو أي شيء يريد المرء أن يقوله)، سوف يشير إلى مسألة المال على المستوى الأخلاقي الذي منه نحن بدأت.

تعتبر السياسة هنا متوازية مع سلطة السيادة والتوجيه والقرار التي يتماهى بها الدولة الحديثة. إن ما يميز النشاط بأنه سياسي، بالتالي، هو علاقته بالسلطة. ومع ذلك، فإننا نصل إلى السؤال الأول من أسئلتنا الثلاثة من خلال النظر في ممارسة السلطة السياسية من منظور العدالة التوزيعية. في مجتمع سياسي معين، وتحت رعاية الدولة، يتم توزيع السلع بمختلف أنواعها: سلع السوق (التراث، الدخل، الخدمات) والسلع غير السوقية (المواطنة، الأمن، الصحة، التعليم، الرسوم العامة). والتكريم والعقوبات وغيرها). تنشأ المسألة السياسية المتعلقة بالمال مباشرة من مسألة ما إذا كان من الممكن اعتبار جميع السلع الموزعة سلعا للسوق. دعونا نفهم طبيعة السؤال: ليس السلوكيات الفردية في المقام الأول، والتي من المحتمل أن تقع تحت الحكم الأخلاقي، هي التي تؤخذ في الاعتبار هنا، ولكن طبيعة الأنظمة الفرعية التي تحددها طبيعة البضائع الموزعة. ومن المؤكد أن هذه السلع لا تستحق هذا الاسم إلا لأنها مقومة ومقدرة وبهذا المعنى تعتبر جيدة؛ لكن هذا التقدير يرتكز على «فهم مشترك»، بحسب تعبير مايكل فالزر في كتابه مجالات العدالة، الذي نتابع تحليلاته هنا. هذه الرمزية المشتركة، حتى لو كانت مفتوحة للنقد والطعن، تمثل استقرارًا لإجماع دائم، ناتج عن تقاطع التقاليد التأسيسية المتجذرة في التاريخ المشترك. إن القول بأن جميع السلع الموزعة ليست سلعًا للسوق يعني التأكيد على أن القائمة المفتوحة، على ما يبدو، للسلع الاجتماعية غير متجانسة بحكم الطابع المتعدد غير القابل للاختزال للتفاهمات المشتركة والرمزيات المشتركة. هنا، لا يختلف عالم السياسة عن عالم الأنثروبولوجيا، عندما يقتصر الأخير على توسيع خط الفهم الذي يعتقد أنه قادر على استخلاصه من الممارسات الاجتماعية نفسها، من التقديرات المدفونة فيها أو المنعكسة في رموز منفصلة. وبنفس الطريقة يعمل عالم السياسة على تحديد مختلف الرمزيات المشتركة، والتعرف على منطقها الداخلي، أي الأسباب التي تحكم مدى الصلاحية وحدود اختصاص هذا الخير الاجتماعي أو ذاك. إن مشكلتنا اللاحقة المتمثلة في الفساد بالمال تعتمد على الموقف الذي اتخذناه في البداية، عندما نقول إنه ليس كل شيء للبيع. بمعنى آخر: السوق لا يشبع الارتباط السياسي. وكما نرى، فإن مسألة النقود تطرح على مستوى وجهتها الأساسية، وهي التبادل بين سلع السوق. يتم قياس فترة حكمه من خلال اتساع المجال التجاري. يشترى. ويكفي أن نتذكر النزاع حول صكوك الغفران في زمن حركة الإصلاح الديني، أو النزاع حول التعويض عن التجنيد العسكري في فترة أحدث، لكي نضمن أن إحساسنا بالظلم واضح للغاية وحساس للفروق الدقيقة. يوجد اتفاق بشأن عدم فساد البشر (نهاية العبودية)، وفساد المناصب العامة، والعدالة، والسلطة السياسية، وحقوق الأسرة، والحريات الأساسية، بل وأكثر من ذلك، توزيع النعمة الإلهية، والحب والصداقة، والترفيه والهواء والماء. والنقاش مفتوح بالطبع على الحدود بين المجال التجاري والمجالات الأخرى: هل أعضاء الجسم البشري للبيع؟ هل ينبغي تلبية الاحتياجات الأساسية للفئات الأكثر حرمانا من قبل المجتمع ككل (مشكلة دولة الرفاهية)؟ ما هي أجزاء الخدمة الصحية والخدمات التعليمية التي يمكن تقديمها لقوانين السوق، أي معاملتها كسلع سوقية؟ إن حقيقة وجود شك حول هذا التوزيع أو ذاك تثبت بوضوح أن هناك مشكلة عدالة التوزيع هناك. إننا نتداول دائمًا على أساس توافق آراء قوي حول الفروق الأساسية حول الخطوط الفاصلة غير المؤكدة. لكن عدم اليقين ليس المشكلة الأكثر خطورة. سؤالنا الثاني ينشأ من ظاهرة أكثر إثارة للقلق، وهي ظاهرة انتهاك الأفلاك. وهو ما يضعه السيد والتزر في بداية تحقيقه ونهايته. وهو يسمي الهيمنة ميل سلع مجال معين إلى التعدي على سلع الآخرين. وإذا كان هناك وقت حيث غزت السلطة الكنسية - المالكة المفترضة للنعمة الإلهية - كافة المجالات الأخرى، فإن الخطر اليوم يأتي من ميل المجال التجاري إلى إخضاع نفسه لجميع المجالات الأخرى، مع مساواة السوق بعد ذلك لجميع المعاملات الاجتماعية. كيف هذا ممكن ؟ قبل إدانة الرجال، يجب علينا أن نتساءل عن ظاهرة أكثر خفية تحدث فيما يتعلق بتقييم السلع، وبالتالي الرمزية المشتركة.

يتحدث السيد والتزر هنا عن التحويل أو قابلية التحويل. يتمثل التحول في حقيقة أن سلعة معينة، مثل المال أو الثروة، قد تم تأسيسها كعنوان للقيمة في مجال آخر من مجالات العدالة، مثل السلطة السياسية. وهذا هو السر المطلق لما يسمى بظاهرة الهيمنة، التي تُعرف بأنها "طريقة لاستخدام سلع معينة، لا يقتصر عليها معناها الجوهري أو التي تشكل هذه المعاني في صورتها الخاصة" (ص 11). سأتحدث هنا عن العنف الرمزي. يعترف والتزر بالغموض الأساسي لهذه الظاهرة: "يتم تحويل الخير السائد إلى خير آخر أو إلى عدة سلع أخرى اعتمادًا على ما يبدو غالبًا أنه عملية طبيعية، ولكنه في الواقع يشكل عملية سحرية، يمكن مقارنتها ببعض الخيمياء الاجتماعية" ( الحادي عشر). يعيد هذا النص المذهل إلى الأذهان الفصل الشهير من كتاب ماركس "رأس المال" المخصص لـ "صنم السلعة"، حيث يتم رفع السلعة إلى العظمة الغامضة بفضل الاندماج بين الاقتصادي والديني. الآن سوف يلجأ فالزر إلى التحول عدة مرات، لكنه سيتركه، دون مزيد من التفكير، إلى مكانته كمجاز. لكن هذا ليس شيئًا إذا اعترفنا، مع المؤلف، أنه “من الممكن وصف مجتمعات بأكملها وفقًا لصور التحول السائدة فيها” (المرجع نفسه). علاوة على ذلك: "إن التاريخ لا يكشف عن خير واحد سائد، ولا خير سائد بشكل طبيعي، بل يكشف فقط عن أنواع مختلفة من السحر وفرق السحرة المتنافسة" (المرجع نفسه). وفي الواقع فإن عمل السيد والتزر هو في مجمله آلة حرب موجهة ضد ظاهرة الهيمنة. إنه كتاب قتالي، في التقليد "المؤيد لإلغاء عقوبة الإعدام". منذ البداية، حدد النغمة: "إن هدف المساواة السياسية هو مجتمع متحرر من السيطرة" (XIII). أود أن أتعمق أكثر في الثغرة التي فتحتها فكرة التحول، والتي تعتبر ظاهرة سحرية. وأسأل نفسي سؤالاً عن كيفية مساهمة الأفراد المنخرطين في معاملات تندرج ضمن هذا المجال أو ذاك من العدالة، في هذه التجاوزات، في هذه التحويلات، باختصار في سحر التحويل هذا. يبدو لي أنه لا يمكننا التحرك في هذا الاتجاه دون النظر في حالات الأشخاص المرتبطة بتقييمات السلع الاجتماعية، وبالتالي دون النظر في عظمة أو صغر الفاعلين الاجتماعيين، لاستخدام مصطلحات بولتانسكي وثيفينو العمل المذكور بالفعل. كما أشارت تحليلات آدم سميث في نظرية المشاعر الأخلاقية إلى هذا الاتجاه؛ فالثروة والعظمة، كما رأينا، يسيران معًا. لا يمكننا عزل امتلاك السلع العظيمة عن مجموعة التأثيرات المؤثرة على مستوى الاعتراف العام. أن تكون ثريًا يعني أن تشعر فعليًا بالعظمة في كل "اقتصادات العظمة" الأخرى: في اقتصادات الشهرة، والإبداع، والعلاقات المنزلية، وبطبيعة الحال، في "المدينة" الصناعية. وهنا نجد سمة المال كخاطبة عالمية. المال هو القيمة الشاملة لجميع الأغراض، ويمر عبر الجدار. ولكن إذا كانت تميل إلى استعمار كل المجالات غير السوقية، فذلك لأن العظمة التي تمنحها للناس هي عظمة صنم، تميل العظماء الآخرون إلى الانحناء أمامها. إن كل شيء يلعب دورًا في نهاية المطاف على مستوى تقدير المقادير. إن سحر الاهتداء، المتأصل في كل فرد، والذي يعمل أولاً على مستوى الخير والعظمة، يتحول إلى فساد شخصي. إن ما يسميه الخطاب العام بالفساد هو إذن مجرد ملخص لثلاث ظواهر: فيما يتعلق بمجالات العدالة، وسيطرة المجال التجاري على الآخرين، ولا سيما السلطة السياسية؛ على مستوى المقاييس المرتبطة بحالات الناس، تلوث جميع المقاييس بتلك التي تمنحها الثروة؛ من حيث استيعاب السلع الاجتماعية وعظمة المؤسسة، والفساد الشخصي. ألا يقول كانط الصارم: لكل إنسان ثمنه؟

إذا كان الأمر كذلك بالفعل، فإن هذه الظاهرة الأخيرة تعيدنا إلى تحليلاتنا الأولى. وبالعودة من قسمنا الثالث إلى الثاني، يمكننا القول إن الفساد الشخصي، وهو صورة فردية لفساد الأخلاق، تسهله حالة الحضارة الحديثة، التي تتميز بظهور وسيادة الفرد المجتث، المنعزل، المستقل، ترك لمتعته الخاصة. أخيرًا، بالعودة من الجزء الثاني إلى الأول، ألا يمكننا أن نقول إن مشهد فساد الأخلاق وإغراءات الرشوة الشخصية هي فرصة لسماع حكم الأخلاقيين مرة أخرى -بل وأكثر من ذلك حكم الحكماء والأذكياء. القديسون -على هذا المال "السيد الداخلي" الآخر؟ ولكي نقاوم التأثير "المفسد" للمال، أفلا ينبغي لنا أن نظل منفتحين على روح الاعتدال والإتقان التي يعلمها علماء الأخلاق اليونانيون واللاتين، وأن نظل قادرين على سماع حض الرسول بولس؟ إذ كتب إلى أهل كورنثوس: "دعونا والذين يشترون يعيشون كأنهم لا يملكون؛ أولئك الذين يستخدمون هذا العالم كما لو أنهم لا يستخدمونه حقًا. لأنه يمر، رقم هذا العالم "؟"

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

............................

المصدر

Texte de Paul Ricœur publié dans L’Argent. Pour une réhabilitation morale (Mutations,132).-dirigé par A. Spire, Paris : Editions Autrement, 1992, p.56-71

جرى مؤخرا نقاش مع خبير تكنلوجي حول وجود او عدم وجود الله. وبعد عرض قوة ونواقص تلك الحجج، أعلن الخبير" ان هذه الحجج في الحقيقة لا تهم كثيرا، حيث انه اختار الايمان بالله. لأن الايمان به شيء مهم جدا لحياته".

لكن هل هذه هي الطريقة التي تتم بها العقيدة؟ هل يمكن ببساطة للمرء اختيار ما يؤمن به؟ بالطبع، الناس يستطيعون قراءة مصادر معينة، قضاء وقت مع جماعة معينة او التفكير في مسألة محددة – كل واحدة من هذه الامور تؤثر في عقيدة الناس. لكن جميع هذه الخيارات تتطلب نوعا من الدليل. نحن عادة نختار الدليل، لكن من الواضح ان الدليل ذاته هو سبب تبنّي العقيدة.

في الشطر الاكبر من الألفين سنة الماضية، كان الفلاسفة مقتنعين تماما في ان الادّعاء بعقيدة معينة هو مسألة اختيار. جميع المفكرين البارزين بدءاً من الفيلسوف الايبيقوري ايبكتوس والقديس اوغستين والفيلسوف الفرنسي ديكارت ورائدة النسوية ماري استيل آمنوا بان الناس لهم السيطرة في عقائدهم.

لكن في نصف القرن الماضي، جرى رفض واسع لـ "العقائدية الطوعية" doxastic voluntarism وهي الفكرة بان العقيدة تخضع لسيطرة الرغبة. معظم الفلاسفة الحاليين لا يعتقدون ان الناس يمكنهم فورا الايمان بشيء ما فقط لأنهم يريدون ذلك. ما يمتلكه المرء من عقيدة يتقرر بفعل الناس والبيئة التي يتأثرون بها بدءاً من الايمان بالإله الى العقائد المتعلقة بالنظام الشمسي.

بعض الفلاسفة أمضى سنينا طويلة في التفكير في هذه القضية، ووجدوا ان كلا الفريقين لديهم شيء من الصواب.

انعكاس الواقع

يعتقد بعض الفلاسفة ان طبيعة العقيدة ذاتها تضمن ان الناس لا يستطيعون اختيار ما يؤمنون به. هم يرون ان العقائد لها هدف بُني فيها "هدف – الحقيقة"  truth aim : اي ان العقائد وبشكل مميز تمثل الواقع. ومن المؤسف ان الواقع عادة لا يطيع رغباتنا وتمنياتنا، لا يهم كم قدم أرغب ان يكون طولي (كأن يكون ثمانية أقدام) ،الواقع سوف يطبع في ذهني بان طولي هو ستة اقدام  كلما نظرت في المرآة او شاركت في لعبة كرة السلة. لو قررت ان اصدق ان طولي ثمانية اقدام، سوف اجد بسرعة ان هذه القرارات خاطئة تماما. ولو نظرنا في مثال آخر. اذا كانت العقيدة طوعية حقا، سوف اتخلى عن ايماني بتقلبات المناخ. لكني لم استطع ذلك. الدليل المتوفر على نطاق واسع في الأوساط العلمية اثّر بعمق في ذهني لأنه يؤكد بان تقلبات المناخ هي جزء من الواقع.

وبصرف النظر ما اذا كنت اريد الاعتقاد او عدم الاعتقاد، فان مجرد الرغبة لا تكفي لحدوث الشيء. العقائد تبدو وبشكل كبير خارج سيطرتنا.

منْ المسؤول؟

لكن اذا كان هذا هو ما يحدث حقا، سيتبع ذلك نتائج مثيرة للقلق. ربما من الافضل لو توقفنا عن لوم الناس بشأن عقائدهم، لا يهم كم هي العقائد بعيدة الاحتمال. افرض لو اني اعتقدت بادّعاء خطير وزائف مثل: ان بل غيت استعمل لقاح كوفيد - 19 لزرع شريحة الكترونية في الناس، او ان تغيرات المناخ هي خدعة و ان الهيلوكوست هي فبركة خالصة. اذا كانت العقيدة غير طوعية، فهي تبدو كما لو اني بريء من أي عمل خاطئ أقوم به. هذه العقائد هي فقط  كونها حدثت لي. اذا كانت العقائد غير طوعية،عندئذ هي تبدو نتيجة تلقائية لتعرّضي لأفكار ومؤثرات معينة  – بما فيها نقاشات الاون لاين حول نظرية المؤامرة. الان، يمكن للناس لمدى معين اختيار أي المؤثرات يسمحون بها في حياتهم . انا استطيع اقرر من أين أجمع المعلومات عن اتجاهات المناخ: هل أحصل عليها من تيار الميديا الرئيسي، او من نقاشات الاون لاين، او من الفريق الحكومي الدولي المختص بتغيرات المناخ. استطيع تحديد مقدار التفكير بما تقوله لي المصادر. تقريبا جميع الفلاسفة المعاصرين يرون ان الناس يمكنهم ممارسة هذا النوع من التحكم الطوعي في عقائدهم. لكن هل ذلك يعني انا مسؤول عن العقيدة التي توصلت اليها؟ كلا، هذا ليس بالضرورة.

اخيرا، نوع المصادر التي أستعملها وكيفية تقييمي لها يمكنها ايضا ان تتقرر بواسطة عقائدنا الموجودة سلفا. قد لا أثق بالتقرير الأخير لفريق الامم المتحدة للمناخ لو كنت اعتقد انه جزء من مؤامرة عالمية لتقليص الأسواق الحرة .

غموض البيانات

البحوث قادت للاعتقاد ان الأشياء هي أقل كآبة والصورة ليست ابيضا وأسود. الفيلسوفة اليزابيث جاكسون أجرت دراسة لم تُنشر بعد، ضمت أكثر من 300 مشارك. اُعطي المشاركون ملخصا لعدة سيناريوهات لم يكن فيها واضحا ما اذا كان الفرد ارتكب جريمة، حيث كان الدليل غامضا، بعد ذلك سألت الباحثة المشاركين هل هم اختاروا الاعتقاد بان الفرد كان بريئا، بدون الحاجة لجمع دليل او اجراء تفكير نقدي. العديد من الافراد في الدراسة قالوا انهم يفعلون هذا بالضبط. ربما هم كانوا مخطئين. لاتزال، عدة دراسات حديثة في الفلسفة وعلم النفس ترى ان الناس يمكنهم السيطرة على عقائدهم خاصة في المواقف التي يكون فيها الدليل غامضا. وهذا ينطبق على العديد من الافتراضات الهامة التي اُجبر الناس على النظر فيها، بدءاً من السياسة والمهن وحتى الرومانسية: منْ هو أفضل مرشح؟ أي مسار يجب ان اتخذ؟ هل هو من ضمنها؟

لذا، يبدو هناك سبب للاعتقاد ان الناس في النهاية قادرين على التحكم المباشر بعقائدهم . واذا كان الدليل على وجود الله ايضا غامضا، فان الخبير الآنف الذكر قد يكون صائبا في انه يستطيع تقرير ما يؤمن به.

***

حاتم حميد محسن

 

كارناب وهيدجر

كارناب فيلسوف الوضعية المنطقية حلقة فيّنا النمسا بزعامة شليك. وبعد انحلال حلقة فينا انتقل كارناب الانضمام الى الوضعية المنطقية التحليلية الانكليزية حلقة اكسفورد تحت زعامة بيرتراند رسل وجورج مور وعالم الرياضيات نورث وايتهيد وفينجشتين الشاب المتأخر. لقد حاولت المنطقية التحليلية الانكليزية تحليل فلسفة اللغة في اعتمادها محاولة دمج الرياضيات والمنطق فيها وفشلت المحاولة فشلا كبيرا وتراجعت حلقة اكسفورد عن افكارها باستثناء اصدار بيرتراند رسل ووايتهيد كتابا مشتركا لهما باسم (مباديء الرياضيات العامة 1906). هذا الربط الافتعالي في خلق توليفة تجمع الرياضيات والمنطق وفلسفة اللغة كان جاتلوب فريجة فيلسوف اللغة السويسري اوصى بها قائلا اصبح يخجلنا اننا لحد الان لم ننجح جعل الفلسفة علما يشبه الرياضيات.

انشق كارناب ومعه جورج مور عن حلقة اكسفورد وتبعهم لاحقا فينجشتين متراجعا عن غالبية افكاره في اطروحته (40) صفحة التي نال بها شهادة الدكتوراة من جامعة كامبريدج تحت اشراف بيرتراندرسل عنوانها (تحقيقات فلسفية ) عام 1953. وقد حظى هذا الكتيّب الصغير باهتمام فلسفي واثار ضجة كبيرة جدا في عالم الفلسفة. اما المهم بالموضوع هو اتفاق كارناب وفينجشتين وجورج مور فلاسفة المنطقية التحليلية الانكليزية على مقولة مفادها كل ما لا يمكن التعبير عنه بوضوح فالصمت اجدى نفعا منه. وعدم الوضوح اللغوي بالفلسفة لغو فارغ لا يستحق الاهتمام به ولا الوقوف عنده. وذهب كل من كارناب ومعه جورج مور الى المناداة تحت وطأة يأس فلسفي غاضب تاكيدهما مسالتين:

الاولى أن اللغة بريئة من تهمة أنها تضليل العقل وخيانة المعنى. كما ساد بطغيان هيمنة فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات ونظرية المعنى خاصة بعد النصف الثاني من القرن العشرين. في اعتبار فلاسفة البنيوية بزعامة دي سوسير الذي اصدر بيانا فلسفيا قال فيه أن فلسفة اللغة باتت الفلسفة الاولى بعد تنحية مبحث الابستمولوجيا من مركز الفلسفة الاولى الذي شغلته عصورا طويلة من تاريخ الفلسفة.

الثانية وتزعمها جورج مور في إعتماده حسب تحليلي الشخصي كي نخّلص تاريخ الفلسفة من الطريق المسدود الذي ادخلتنا به فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات ونظرية المعنى خاصة في هورمنطيقا بول ريكور وتفكيكية جاك دريدا. لذا توّجب علينا والكلام لجورج مور كتابة افكارنا الفلسفية بلغة الناس العاديين وأيده بذلك كارناب.

من المهم الاجابة عن التساؤل لماذا ادخلتنا فلسفة اللغة واللسانيات ونظرية المعنى طريقا مسدودا فلسفيا؟ طبعا يوجد استثناء انه بعد استلام الامريكان راية فلسفة اللغة من الفرنسيين حصرا والفلاسفة الاوربيين عامة ابدعوا في اختراعهم مباحث فلسفية جديدة مستقاة من فلسفة اللغة خارج المسار المسدود المنغلق التي ادخلت القارة الاوربية فلسفة اللغة في متاهة التفتيش عن موضع قدم يعيد لها الاعتبار وعجزت. ادخل الفلاسفة الاوربيون فلسفة اللغة بطريق مسدود تخبطوا به حتى غادروه عن عجز لكن من حقنا نتساءل كيف ولماذا؟. اود تثبيت رأيي الشخصي الاجتهادي في الاجابة:

- اولا كان اختراع مبحث فلسفة اللغة الغاية منه تصحيح مسار التخريب الذي لعبته اللغة في تضليل العقل وتعطيل تاريخ الفلسفة بعيدا عن الاجترار والتكرار بلا معنى ولا تجديد وكذلك اتهام اللغة خيانة المعنى بما عطّل الفلسفة من تصحيح مسار تاريخها من الاخطاء المليء باللغو الفارغ الذي اكتشفت الفلسفة الحديثة أن غالبية مباحث الفلسفة على مدى عصور طويلة كانت تجريدا لغويا لا معنى له.

- الثاني أن تطرف كل من بول ريكور في فلسفته (الهورمنطيقا) وتطرف جاك دريدا في التفكيكية كان ابتذالا فلسفيا قاتلا. فقد زرع الاثنان بذور ما اطلق عليه النسق اللغوي الفلسفي المستقل عن مركزية الانسان والحياة. عالم لغوي نسقي قائم بذاته وله اهدافه الخاصة باللغة بما هي لغة حصرا. عالم لغة نسقي داخليا لاعلاقة تفاعلية متخارجة تربطه مع الواقع وحياة الانسان. وأن النسق اللغوي نسقا له خصائصه التي توازي الواقع ولا تقاطعه. وكل شيء نجده باللغة وليس خارجها.

- السبب الثالث انه اسقط بيد الفلاسفة القارييين (الاوربيين) أن اللغة على مر عصور تاريخها لم تضلل العقل ولا خانت المعنى. وهذه الاكذوبة اخترعوها فلاسفة البنيوية ولم يعرفوا كيفية الخلاص منها. وكان الفلاسفة الاميركان هم الذين انقذوا فلسفة اللغة من تضييعها وضياعها الفلسفي.

باستلامهم راية تجديد مباحث فلسفة اللغة التي أخفق تحقيقه فلاسفة فرنسا والمانيا. من قبل فلاسفة اميركا امثال ريتشارد رورتي وجون سيرل وسانتيانا وسيلارز ونعوم جومسكي.

المهم كارناب هاجم افكار هيدجر الوجودية باقسى عبارات السخرية منه في كتاب هيدجر المعروف (الوجود والزمان). وانا بدوري اقول باعتزاز اني هاجمت افكار هيدجر بما يضعه بحجمه الحقيقي باكثر من مقال كما فعل كارناب ذلك قائلا ( ان كل ما كتبه الفيلسوف الالماني هيدجر لا يخرج عن كونه مجموعة هائلة من الاخطاء والمفارقات اللغوية الغامضة والالفاظ المعقدة التي لا معنى لها)1.

الباحث الفلسفي دكتور زكريا ابراهيم اعتبر كتاب هيدجر الذي اعطاه بعض الفلاسفة اكثر من استحقاقه (الوجود والزمان) انجيل ثان يحمل القداسة التي لا يمكن لفيلسوف غير هيدجر كتابة افضل مما كتبه ومدح افكار هيدجر الفلسفية بما لم يكن يحلم به هيدجر لا في المانيا ولا في اوربا قاطبة. نفس المفارقة الفلسفية حصلت مع كتاب شوبنهاور (العالم ارادة وتمثّل). فقد تم التغافل عنه واهماله تماما بداية صدوره مدة طويلة وبعد سنوات تم رد الاعتبار له لاسباب هي غير مضمون الكتاب بل عوامل تسويقية لافكار شوبنهاور فرضتها تحولات الظروف الفلسفية بعد وفاة هيجل.

نموذج من هذاءات هيدجر الفلسفية

نقلا عن كتاب زكريا ابراهيم (دراسات في الفلسفة المعاصرة ص 422) اورد التالي مما قاله هيدجر: ( ولقد قدم هيدجر في الفصل الخامس من كتابه الوجود والزمان وهو عن الزمانية التاريخية عرضا انطولوجيا وجوديا لمشكلة التاريخ وفيما يلي الفقرة الاولى التي استهل بها هيدجر حديثه: ان كل جهود التحليل الوجودي انما تهدف تحقيق غرض واحد وهو البحث عن امكانية الاجابة عن معنى الوجود من حيث هو وجود؟ وما يتطلبه تمحيص هذا السؤال - طبعا الكلام لصاحبنا فيلسوف الوجودية هيدجر- انما هو تحديد تلك الظاهرة التي تكون هي الكفيلة باقتيادنا الى شيء يشبه الوجود الا هي ظاهرة فهم الوجود. وقد راينا ان هذه الظاهرة انما تخص الموجود البشري من حيث هي داخلة في مقومات وجوده. وعلى ذلك فانه لا بد لنا باديء ذي بدء من ان تقوم بتاويل كينونة هذا الموجود تاويلا يسمح لنا بالكشف عن طابعه الاصلي. لاننا عندئذ وعندئذ فقط. نستطيع نتصور ظاهر فهم الوجود الذي الذي ينطوي عليها هذا الموجود في صميم تكوينه الوجودي. وهذه هي الدعامة الوحيدة التي يمكن ان يرتكز عليها السؤال الخاص بالوجود على نحو ماهو مفهوم او متضمن في صميم كينونة ذلك الموجود. بل هذه هي الدعامة الوحيدة التي تسمح لنا بان نقيم تساؤلنا على اساس من الافتراضات التي تتضمنها عملية التفهم ) 2 انتهى الاقتباس من فلسفة رائد الوجودية هيدجر. والتمس من كل مختص وباحث فلسفي أن ينورنا بما اراد هيدجر قوله بمنطق الفلسفة لاغيرها. الذي أجده هراءا تحت خانة التفلسف بلا معنى ولا منطق تفكيري.

تعقيب نقدي

أقطاب فلسفة الوجودية مطلع الستينيات من القرن العشرين أمثال مارتن هيدجر وكارل ياسبرز ومارسيل جبريل والبرت كامو باستثناء جان بول سارتر يخلطون بين مسالتين. فهم لا يفرقون بين الوجود المطلق اللانهائي وبين الموجود المحدد النهائي الانسان وموجودات الطبيعة الحيّة التي يطالها العدم. كما ولا يفرقون – اقصد فلاسفة الوجودية - بين العدم والموت على انهما جوهر واحد في التعبير عن ميتافيزيقا الفناء البيولوجي للانسان وكل الكائنات الحيّة. خطأ الوجودية المرافق لها ويلازمها أنها اعتبرت الوجود هو الانسان وليس الانسان موجودا يحتويه الوجود.

أختصر التعقيب النقدي حول عبارات هيدجر السابقة التي لا رابط فلسفي له معنى يجمعها. وقبل البدء اود الاشارة اني التقيت صديقا اهديته ثلاثة مؤلفات بالفلسفة من تأليفي. فقال لي اردت الكتابة عن احد كتبك فوجدتك عندما تكتب عن قضايا فلسفية معاصرة تكتب آراءك ويقصد اني لا استنسخ ما يقوله فلاسفة الغرب كما يفعل غالبية المشتغلين بالفلسفة بقداسة من الاكاديمين. أجبته أن مشروعي بالكتابة الفلسفية أعتمد فيه مرتكزين أولهما اني لا استعرض مايقوله الفيلسوف في منهج من القداسة والتعظيم المنزّه عن الخطأ التي غالبا ما نجده لدى اساتذة الفلسفة بالجامعات العربية من الاكاديميين ومعظم الباحثين العرب بالفلسفة الغربية فهم يكيلون التمجيد للفلسفة الغربية بلا ميزان في حين أن العصر الحالي يوجب علينا الالتزام بزرع بذور النقد الفلسفي ورعايتها والاهتمام الاستثنائي بها في محاولة ايجاد فلسفة عربية معاصرة.

المرتكز الثاني الذي أعتمده بكتاباتي الفلسفية هو مشروع (نقد) الفلسفة الغربية المعاصرة بعيدا عن التجريح وغمط الحقيقة بل أحاول تبسيط لغة التلقي للفلسفة قدر الامكان والبحث عن المعنى. فالفلسفة نمط من التعبير الاجناسي المتفرد الذي لا يمكن تغافل حقيقة أن لغة الفلسفة لغة خاصة تتسم شئنا أم أبينا بالغموض والابهام والتعقيد. ومثال على ذلك التوضيح النقدي الذي سادرجه عن آراء بعض فلاسفة الوجودية مثل هيدجر وياسبرز وسارتر:

اولا: الوجود مفهوم مطلق لانهائي والموجود هو الانسان الكائن الحي جزء من الطبيعة متمايز مستقل عنها. وكل الموجودات التي يحتويها الوجود باستقلالية تامة يدركها الحس والعقل كموضوعات له. اذن الوجود كما ذكرنا هو مفهوم فلسفي مطلق من مباحث الميتافيزيقا الفلسفية تحكمه اللانهائية. حاله حال كل المفهومات المطلقة مثل الزمن، الارادة، الحرية، الموت، العدم، الاخلاق وكذلك جميع موضوعات اكسيولوجيا القيم المرتبطة بالسلوك والنفس. موجودات الوجود هي موضوعات الادراك التي يحتويها الوجود بالتسمية المجازية وليس بالمعنى الحقيقي الواقعي. فالموجودات من ضمنها الانسان هي موضوعات مستقلة يدركها الحس والعقل ويتعامل معها على هذا الاساس. وموجودات الوجود جميعها تدور في فلك الموجود المركزي الذي هو الانسان في تعامله مع الطبيعة وموجودات العالم الخارجي.

لا يشترط ابدا ان نفهم موجودات الوجود هي في علاقة ارتباط عضوي مع الوجود. فالوجود مفهوم ميتافيزيقي مطلق بينما موجوداته من الاشياء والكائنات والموضوعات نسبية متعيّنة واقعيا وحتى خياليا يمكن تعامل الوعي بها باستقلالية تامة. يمكنننا القول أن الوجود هو الشكل الذي يحتوي مضمونه من الموجودات المستقلة عنه ادراكيا. في توضيح اكثر نحن نستطيع تناول موجودات الوجود كموضوعات في وعينا الادراكي الحسي والعقلي لكن من المحال ان نتناول الوجود في وحدة كينونية واحدة كموضوع ممكن إدراكه. اكبر التباس وخطأ اقترفته الوجودية بحقها انها تعاملت مع الوجود انه الانسان ولم تتعامل مع الانسان كموجود وكائن حي مستقل عن الوجود. خلاصة القول ان الوجود ليس هو الموجود بذاته. والوجود مطلق وليس موضوعا للعقل.

وإن كنا نقر بأن موجودات العالم الخارجي والطبيعة هي موضوعات متعينة موجوديا إلا أنه بدون ادراك ووعي العقل الانساني لها تضل في حال الموجودات الساكنة المستقلة انطولوجيا التي لا تثير حاجة الوعي بها ولا أهمية الوقوف عندها ودراستها. وموجودات الوجود الحيّة منها وغير الحيّة باستثناء الانسان غالبيتها لاتعي ذاتها ولا تمتلك جوهرا وراء الصفات الخارجية لها ولا تعي علاقة الانسان بها. نستثني من هذا التعميم الانسان في امتلاكه وعيه الخاص به كذات وفي وعيه موضوعات العالم الخارجي بتخارج معرفي باستقلالية تفريق بين الاثنين.. ذات الانسان او الانا الهوياتية تدرك ذاتيتها وتدرك موضوعها ايضا. ومقولة الذات هي موضوعها فهم فلسفي خاطيء ولا انفصال بينهما خطأ يشبه علاقة الفكر باللغة.

فلاسفة من أمثال ديفيد هيوم وجون لوك وبيركلي وتبعهم هوسرل ومن معه أنكروا وجود العالم الخارجي بجميع موجوداته المتنوعة في عبارة أشهارهم العلني الصريح بها أن ما لا يدركه العقل غير موجود وكل شيء يدرك وجوده بالذهن قبل ادراك وجوده المادي من ضمن موجودات العالم الخارجي. وكل شيء موجود في تصورات الذهن قبل وجوده موضوعا ماديا ..

ما تجب الاشارة له ان نيتشة من مجموع فلاسفة عديدين انكروا جميعا ان يكون مفهوم الوجود المطلق غير الطبيعة والانسان كما تطلق عليه الوجودية خطأ هو الموجود الانسان. لايعني شيئا عدا ان الوجود هو ليس الانسان كما خلطت فلسفة الوجودية بذلك. الوجود مفهوم ميتافيزيقي البحث فيه وليس بموجوداته لا معنى له. اما حينما نتحدث عن الانسان باعتباره كينونة موجودية من ضمن موجودات الوجود فهو بهذا المعنى يكون موضوعا لذاته ووعيا لموجودات العالم الخارجي. نيتشة إعتبر الكلام الفلسفي عن الوجود المطلق الميتافيزيقي ضربا من الهراء فلا يوجد شيء حقيقي يسمى الوجود ولا يعني نيتشة الوجود هو الانسان كما فعلت الفلسفة الوجودية.

ثانيا: هيدجر فيلسوف الوجودية بكتابه (الوجود والزمان) لم يتعامل فلسفيا مع الموت والعدم على أنهما مفهومان لجوهر ميتافيزيقي واحد. فانت عندما تقول موت تقصد بالمفردة فناء كائن حي. واذا قلت عدما تعني بها اللاشيء الذي يمتاز بخاصية حتمية إفناء الكائنات الحية ايضا. ومن اقوال هيدجر الفلسفية السطحية قوله الديزاين ويقصد به الانسان او الحياة هو ركض الموت الى العدم. في حين الموت والعدم جوهران ميتافيزيقيان في التعبير عن شيء واحد هو فناء الكائن الحي بحتمية الموت. من المهم التفريق أن الوجود لا يموت لانه مفهوم لا يطاله التعين الموجودي لوعي العقل به كموضوع مادي ولا هو كائن حي مثل كائنات حيّة غيره محكومة بحتمية النهاية الموت. الوجود مصطلح ميتافيزيقي مجازي في التعبير عن مطلق تجريدي بالفكر. أما الفناء والاندثار فهو حتمية تطال كل ماهو حي من موجودات عالمنا الخارجي والوجود. ومقولة هيدجر بكتابه المشار له سابقا (العدم لا يعدم نفسه ) وكررها وسقط في ترديدها مع الاسف سارتر اثارت الكثير من السخرية اذ لا يصح ان نقول الموت لا يميت نفسه ونحن لا نعرف ماهو الموت لا بماهيته ولا بصفاته فهو ليس موضوعا يدركه العقل بغير دلالة علاقته بافناء الكائنات الحيّة. الموت حتمية فناء الاحياء. العدم او الموت لا فرق بين اللفظتين لا يمكننا تحديد ماهيتهما ولا معرفة احداهما لاننا ندرك ان لفظتي الموت والعدم تعني اللاشيء بحتمية الفناء البيولوجي والاندثار للكائن الحي.

ثالثا: الانسان كائن ميتافيزيقي

استذكر قبل دخولي في تفاصيل عنونة هذه الفقرة تثبيت مقولة هيدجر الفلسفية الساذجة (الانسان كائن لغوي وليس كائنا عقليا) إذ من البديهيات عدم وجود لغة بعدية بغياب عقل قبلي سابق عليها. الانسان كائن عقلي بواسطته توصّل اختراع اللغة. أجد الانسان كائنا ميتافيزيقيا بالفطرة الضرورية لانسنة وجوده الذاتي المتفرد عن باقي كائنات الطبيعة. ميتافيزيقا الانسان ليس محركها البحث عن معرفة وادراك (الاله) او الخالق او حاجة الوجود الانساني الى ميتافيزيقا التديّن وكلاهما هدفان لا تنكر الميتافيزيقا الخوض فيهما فلسفيا.. بل كل تفكير انساني عبر العصور في مختلف القضايا التي تعترضه ويعيشها أما أن يختار التكيّف المغلوب على أمره معها اذا ما اتسمت تلك القضايا بميتافيزيقا التفكير. أو الاحتدام التصارعي مع الافكار القابلة للتطبيق في فرض ارادته الذاتية عليها ولا يتكيّف معها ويجاريها..

أنسنة الانسان بميتافيزيقا الروحانيات والتصوفيات الدينية أي في محاولته التسامي فوق الوجود المادي في تعطيل احساسات البدن او الجسم وفي تعطيل فاعلية العقل المحدودة بالمدركات التي تشكل لديه موضوعات موجوديته الارضية كفرد ضمن مجتمع.

بعض جوانب المباحث الميتافيزيقية الخاصة بالاديان واللاهوت تكون خاصيتها تغليب النزعة الدينية الايمانية القلبية الغيبية على العقل ولا ارى ضررا بذلك. سواء اكان الانسان هو مخترع دينه والهه بعلاقته بالطبيعة حسب فلسفة فيورباخ في محاولة الانسان معرفة وجوده الارضي بدلالة ميتافيزيقا السماء.

او سواء أن يكون الانسان معطى ديني روحاني تكون فيه ميتافيزيقا التفكير اللاهوتي عموده الفقري. اي كما في تعبير الوجودية الانسان وجود طاريء. وأجد بناء عليه يكون التدّين في حياته ملازما طارئا ايضا محكوما به الانسان.

ميتافيزيقا التفكير عند الانسان سواء اكان خرافيا اسطوريا وثنيا او تدينا روحانيا عاصر الانسان طويلا فهي أي ميتافيزيقا التفكير الديني عموما بالنتيجة كانت ضرورة حياتية قديمة جدا وضرورة نفسية يحتاجها الانسان حاضرا. أنا هنا اتجاوز نظرية علماء الفيزياء والفلك أن لا مستقبل للفلسفة أمام تقدم فتوحات العلم. كما تنبأ العالم الفيزيائي الكبير ستيفن هوكنج والسبب كونه عالما في فيزياء الكون وليس فيلسوفا على الارض.. أنشتاين رفض تصنيفه فيلسوفا على حساب انه عالم فيزياء.

حين تقودنا الميتافيزيقا الوصول الى الايمان الديني التوحيدي المعاصر فهي عندها لم تعد ميتافيزيقا إعدام علمية تفكير العقل من جهة ولا إعدام أهمية حياة الانسان الارضية من أجل أهداف غيبية يؤمل حصوله عليها في عالم ما بعد الفناء الارضي من جهة اخرى.

رابعا: استشكالات فلسفية عن الوجود:

يقول دينوسيوس الوجود الاعلى لا ينتمي الى مقولة الموجود الذي لا يدرك ولا الى مقولة اللاوجود. وبدورنا نقول الوجود في ذاته هو نومين كما اقرّه كانط، أي هو وجود الاشياء التي لا تمتلك وعيا بذاتها ولا وعيا مغايرا لها. لذا الوجود بذاته بالنسبة لادراك ألانسان له هي إستحالة وجودية إدراكية تناقض المفهوم الطبيعي للانسان. والوعي هو إدراك الآخر، والآخر موجود مغاير للوعي به.

ينكر سارتر أن يكون الوجود في ذاته وجودا حقيقيا، كما لا يمكنه أن يكون "لا وجودا". والعدم لا يعدم نفسه وهو خطأ اشرنا له ونجد صداه الاستنساخي عند هيدجر. لكن يبقى العدم هو الموت الحتمي الملازم للانسان ولكل كائن حي. ملازم كل موجود حي وصولا مرحلة إفنائه. العدم لا يعدم نفسه لانه يفني غيره من الكائنات الحية فقط اوضحنا باسطر سابقة ان الموت والعدم دلالة إفنائية لوصف حالة الفناء. حسب عبارة سارتر وهيدجر هل هناك حاجة معرفية او فلسفية ان نقول الموت لا يميت نفسه. طبعا عبارة سارتر سبق لهيدجر ان قالها.

الوجودية تدعي فهمها الوجود الذاتي بشكل خلاق، فالانسان يخلق نفسه بنفسه من حيث سعيه تكوين ماهيته في كينونة متكاملة. كما تعتبر الوجودية لا فرق بين الذات والموضوع وليس العقل هو الطريق الوحيد في إكتساب المعرفة. برايي يوجد فرق بين الذات والموضوع وادماجهما معا عضويا مفارقة خاطئة يصعب تمريرها. أما أن لا يكون العقل الطريق الوحيد في اكتساب المعرفة فهي صحيحة تفتقد البرهنة عليها والتوضيح.

عمد هيدجر في كتابه الوجود والزمان إستعماله تعبيرات غامضة لا تحمل أكثر من قشرتها التعبيرية اللغوية ومثل قوله " الوجود – في – عالم هو ليس علاقة بين ذات وموضوع". و"الموجود هناك الانسان الديزاين ليس له عمق، بل يأتي من جوف هاوية بلانهاية من العدم" " ونهاية الموجود هناك هو الموت الذي هو نهاية بلا عدم، هو ركض الموت الى العدم، هو المحمول بذاته في داخله نحو العدم"." الوجود الاصيل يكون في الانعزال عن "الهم" الاخرين، وهذا لا يتحقق بقلب العالم " نستطيع القول بامانة ان هذه المقتطفات والقفزات الكنغرية في العبارات لا تخدع المتلقي الحصيف انها بلا معنى وبعضها يدحض نفسه تلقائيا. اعتقد ماسبق وذكرته عن هذاءات وهراء فلسفة هيدجر توضحها العبارات السالفة له.

عارض سورين كيركارد الفيلسوف الشاب الدنماركي الذي توفي في عز شبابه والذي يعتبر الاب الروحي للوجودية المؤمنة غير الالحادية فقد انكر العقل كي يتسق نفسيا مع ايمانه الديني، فهو يرى أنه لا يمكن ان نصل لوجود الخالق الاله بوسيلة طرائق الفكر لأن العقيدة المسيحية مليئة بالتناقضات في معاداتها العقل. وبذلك أراد بناء فلسفة وجودية مؤمنة ليس باللاهوت كنص ديني، وإنما أراد وجودية تمزج بين المادي والروحاني في تعطيلهما فاعلية العقل الايماني غير المتحقق.

***

علي محمد اليوسف - باحث فلسفي

.....................................

الهامش:

 1. دكتور زكريا ابراهيم /دراسات في الفلسفة المعاصرة ص 394

2. نفس المصدر ص 422

يهدف المقال إلى توضيح مفهوم الرؤى السلوكية باعتبارها مجال متعدد التخصصات يطبق مقولات وتصورات مجموعة من العلوم الإنسانية والتطبيقية (علم النفس، الاجتماع، الاقتصاد السلوكي، الطب) بهدف فهم السلوك البشري وطريقة تفكير أفراد المجتمع وتصرفاتهم وآلية اتخاذهم للقرارات والتأثير عليهم في مجالات مختلفة، مثل السياسة العامة والصحة والتعليم والأعمال، بالإضافة إلى تبيان الكيفية التي يتأثر بها سلوكنا بالعوامل التي تقع خارج نطاق إدراكنا الواعي، كما يسعى المقال إلى توضيح نهج الرؤى السلوكية في تطبيق أحدث الأدلة حول ما يؤثر على السلوك البشري الفعلي، بهدف حل المشكلات العملية التي تقف عائقاً في توافق الإنسان مع بيئته وتقييم نتائج الحلول المقترحة.

تمهيد:

يمارس الإنسان سلوكه وسط بيئة متعددة العوامل، فإن هذا السلوك يتأثر بالعوامل البيئية المحيطة تأثراً كبيراً سلباً أو إيجاباً وهذه العوامل البيئية قد تكون عوامل اجتماعية أو دينية أو ثقافية أو سياسية إلخ...، وحيث إن هذا السلوك أو هذا النشاط يتأثر بما حوله، فإن فهم السلوك الإنساني أصبح مهماً، والأهم من ذلك دراسة الظروف والمواقف المحيطة بهذا السلوك بهدف رصد تمظهرات السلوك الإنساني في مختلف سياقات الحياة الاجتماعية المعاصرة من أجل تحليلها ونقدها وتفسير دوافعها التي تحدد طبيعة علاقاتنا بالآخرين.

ينظر إلى السلوك الإنساني كنشاط موجه ومقصود لتحقيق غايات محددة، ولكن السلوك الإنساني يرتبط بقدرة الفرد وتفهمه لمعنى السلوك والنتائج المرتبطة به، حيث يختلف الأفراد في مدى تفهمهم لحقيقة السلوك ومدى وعيهم بموضوعية السلوك وقدرتهم على تعديله وتنميته وتطويره من أجل الحصول على الأهداف بطريقة مثلى وبنتائج كبيرة.

وهذا يعني أن السلوك الإنساني موضوع معقد بطبيعته، وهو يتعلق بالطريقة والأسباب الكامنة وراء تصرفات الناس. بالطبع، هناك عدد لا يحصى من النظريات المرتبطة بالسلوك البشري وأنواع السلوك المختلفة. وفهم السلوك البشري مهماً جداً في الحياة الاجتماعية، حيث تسلط تلك المعرفة الضوء على الأنماط، والأسباب التي تجعل الناس يتخذون قرارات معينة، أو التعامل بطريقة ما في موقف معين. بكل تأكيد، كلما زاد فهم الأفراد للسلوك البشري، كلما كان بإمكانهم معرفة أنفسهم بشكل أفضل وفهم كيف يتصرف الآخرون، ويفسرون ويتكيفون مع بيئاتهم الاجتماعية المختلفة.

أولاً- تعريف السلوك الإنساني:

في حقيقة الأمر، يقوم السلوك Behavior  على مجموعة من الأفعال والاستجابات التي يتخذها الأفراد نحو الأفراد الآخرين، أو الكائنات الحية أو الأنظمة أو الكيانات الاصطناعية أو نحو بيئتهم بشكلها عام، والتي تشمل الأنظمة أو الكائنات الحية، بالإضافة إلى البيئة المادية غير حية. والسلوك بطبيعة الحال، هو استجابة الكائن الحي للعديد من المحفزات أو المدخلات، سواء كانت داخلية أو خارجية، شعورية أو لا شعورية، علنية أو خفية، إرادية، أو لا إرادية.

يعرف علماء علم النفس السلوكي السلوك الإنساني Behavioral Psychology: بأنه أي أنشطة ينتجها الكائن الحي استجابةً لمحفزات خارجية أو داخلية، بما في ذلك الأنشطة التي يمكن ملاحظتها بشكل موضوعي، والأنشطة التي يمكن ملاحظتها بالاستبطان والعمليات غير الواعية، بشكل أكثر تقييداً. أي إن السلوك: هو أي إجراء أو وظيفة يمكن ملاحظتها أو قياسها بشكل موضوعي استجابةً للمنبهات الخاضعة للرقابة. وبالتالي فإن السلوك، هو كل ما ينتج من الكائن الحي (الناطق) بشكل خاص، وهو يتميز بإمكانية ملاحظته وقياسه. باختصار شديد " السلوك هو ترجمة الأفكار إلى كلمات وحركة. وسلوك الإنسان وتصرفاته تدلنا على شخصيته وبواسطة هذا السلوك نستطيع أن نقرأ أفكاره ونقومها ".

نستنتج مما تقدم، أن السلوك الإنساني: هو مجموع النشاط النفسي والجسمي والحركي والفسيولوجي واللفظي الذي يصدر عن الإنسان وهو يتعامل مع بيئته ويتفاعل معها. وهو جميع أنواع الأنشطة التي تصدر عن الإنسان أثناء تعامله مع البيئة وتوافقه معها. والسلوك الإنساني يتضمن عدة جوانب، وهي كالآتي: حركية مثال: المشي عند الإشارة، الكتابة. انفعالية مثال: الغضب، الفرح، الشعور بالارتياح. عقلية (معرفية) مثال: التخيل، التذكر، الإدراك. ويتميز السلوك الإنساني بتفوقه على غيره (من الحيوانات العليا)، وأوجه التفوق تكمن في أن سلوك الإنسان مرن قابل للتغيير والتعديل على حسب ظروف بيئته، وأنه يصبح بالتعود سريع ليس بحاجة لعمليات التفكير والجهد. كما أنه قادر على الوصول لأهدافه وتحقيق رغباته وحل المشكلات التي تعترضه، وأيضاً على التفكير السليم والاستفادة من أخطائه، وأخيراً يصبح سلوك الإنسان بالتعود سريعاً محكماً سهلاً لا يحتاج إلى إعمال فكر أو جهد عميق.

تعتبر المدرسة السلوكية هي واحدة من أشهر مدارس علم النفس، ومؤسس هذه المدرسة العالم جون واطسون (1878-1958) وآخرون، الذي يهتم بتشكيل السلوك بغض النظر عن الوراثة والسمات الشخصية وخلفية الفرد، فتشكيل السلوك يكون عن طريق التجربة، فيتم تفسير سلوك الإنسان بالاطلاع على الخبرات التي اكتسبها في حياته.

ومن أهم الأسس التي تقوم عليها النظرية السلوكية قواعد التعلم، فهي تعتمد على أساليب تستطيع من خلالها أحدث تعديل أو تغير في السلوك الإنساني، لذا شغلت النظرية السلوكية مكانة هامة في مطلع عقد الستينيات من القرن الماضي، حيث ترى النظرية السلوكية إن الإنسان لا يتصف بالخير أو الشر إنما يولد بفطرته الطبيعية ومن ثم يبدأ في احتكاكه بالبيئة المحيطة به فيتعلم السلوكيات من خلالها. فالتعلم في علم النفس السلوكي هو عملية اشتراطية، لا تعتمد على الحفظ والتذكر، فنحن نتعلم من خلال التفاعل مع المثيرات الخارجية فعلى سبيل المثال نتعلم تذوق الطعام عن طريق تجربة الأطعمة المختلفة حتى يصبح الطعام ذاته مثيراً للجوع بينما هناك أنواع أخرى من الأطعمة تشعرنا بالغثيان وعدم الراحة فور رؤيتها فنحن لم نولد بهذه الغريزة إنما تعلمناها من خلال التجربة والاختبار، فالطفل الصغير قد يضع أي شيء في فمه دون أن يكون طعاماً.

وعلى العموم حاولت النظريات السلوكية* فهم السلوك البشري وأكثرها انتشاراً هي نظريات التكيف. يحدث التكيف عندما يتم إعداد شخص ما على التصرف بطريقة معينة. وهناك نوعان رئيسيان من التكيف (الكلاسيكي والفعال)، وقد يتأثر الأشخاص المختلفون بشكل أكثر من الآخر. وبطبيعة الحال، فإن تكييف البشر للتصرف بطريقة معينة يمكن أن يكون له نقاشات أخلاقية، خاصةً عندما يكون الشخص مهيئاً للتصرف بطريقة لا تتناسب مع مصالحهم وغاياتهم. ومن ناحية أخرى، يؤكد آخرون أن جميع البشر مبرمجون بطبيعتهم على التصرف بطريقة أو بأخرى.

يحدث التكيف الكلاسيكي عندما يربط شخصاً ما محفزات معينة بنتائج مختلفة. غالباً ما تشجع طريقة التكيف هذه الناس على التصرف بطرق تجلب لهم السعادة والسرور. على سبيل المثال، إذا وجد شخص ما أنه يميل إلى القيام بعمل جيد عندما يتبع غرائزه بدلاً من إتباع القواعد، فمن المرجح أن يكون غير ممتثل ويتحمل المخاطر. لا يجب أن يحدث التكيف الكلاسيكي دائماً من أفعال أو تلاعبات فرد معين. ففي بعض الأحيان، يحدث هذا النوع من التكيف من المجتمع أو من البيئة التي يتعرض فيها الشخص بشكل روتيني. أما فيما يتعلق بالتكيف الفعال (1)، نجد أنه يتم التحكم في السلوك البشري من خلال التعزيز الإيجابي والسلبي. وعادةً ما يتعلم الشخص الذي يجد نفسه في مشكلة مع القانون عندما يخالف قواعد معينة ربط خرق القواعد بالمسائل القانونية. وبالمثل، فإن الفرد الذي يدرس بانتظام للامتحانات ويؤيدها يربط الدراسة بالدرجات الإيجابية. عندما يتعلق الأمر بالسلوك البشري، يميل الناس إلى الابتعاد عما يسبب لهم الألم والانجذاب نحو المتعة والرضا الشخصي.

ثانياً- الرؤى السلوكية للدوافع الواعية وغير الواعية في السلوك الإنساني:

كثير من الأحيان نتوقف فجأة ونسأل أنفسنا: " لماذا فعلنا ما فعلناه؟ " ربما نكون قد توقفنا مؤقتاً، ونظرنا حولنا، وأدركنا أننا قد وصلنا إلى منتصف الطريق إلى المنزل بينما كانت أفكارنا في مكان آخر. أو ربما جلسنا بجوار شيء اشتريناه ونحن نتساءل عما إذا كنا نريده أو نحتاج إليه حقاً، بعد أن وجهتنا التحفيزات والتطمينات نحو شرائه دون عناء.

إن تسلط الضوء على سلوكنا غالباً ما يتأثر بعوامل تقع خارج إطار إدراكنا الواعي. ولا يمثل هذا مشكلة بالضرورة، إذ كنا سنجد صعوبة كبيرة في القيام بوظائفنا إذا كان علينا استيعاب كل شيء نقوم به بوعي والموافقة عليه. لكننا - وكذا الحكومات أو المؤسسات الأخرى - غالباً ما نميل إلى التقليل من أهمية هذا الجانب " التلقائي " من سلوكنا. وقد تكون النتيجة سياسات أو منتجات أو خططاً غير فعالة.

يحاول نهج الرؤى السلوكية معالجة هذه المشكلة عن طريق أخذ أحدث الأدلة حول ما يؤثر على السلوك، ثم تطبيق هذه الرؤى على قضايا عملية. وبما أن النهج يعطي الأولوية أيضاً لتقييم تأثير تدخلاته، يمكننا أن نعرف بالضبط كيف أحدث فارقاً في مشكلات ملموسة. ومن ثم، انتشر استخدام نهج الرؤى السلوكية من قبل الحكومات والشركات والأفراد بقوة على مدى السنوات العشر الماضية.

ولكن كان هناك أيضاً أسئلة عديدة حول ما إذا كان منهج الرؤى السلوكية موثوقاً به، وما إذا كان يمكنه معالجة القضايا الكبيرة التي تواجه المجتمع، وما إذا كان يطرح أسئلة أخلاقية جادة. هناك أيضاً قدر كبير من الالتباس حول ما يعنيه مصطلح " الرؤى السلوكية " في الواقع، فالسلوك البشري هو محط الأنظار، ومقياس الرفض والقبول على مستويات متعددة، وفق السياقات والمؤثرات التي تجعله مؤيداً أو ممتنعاً، لذلك تتداخل العلوم النفسية والاقتصادية والاجتماعية والطبية، مُشكّلة مناهج ومجالات تتقصى حياة البشر، وتفندها بطريقة دقيقة.

تلك المناهج والأدوات وُضعت في محك مع الإنسان، لقياس كيفية اتخاذ قراراته على النطاق الفردي أو في تجاه التوافق الجماعي، أو وفق الجندرية التي ربما اختلطت على كثير من الناس، فتساوت في كل شيء بناءً على المحفزات التي أعادت السلوك الإنساني إلى واجهة البحث والتقصي بما يعرف اليوم بـالرؤى السلوكية (Behavioral Insights).

بمعنى أدق الرؤى السلوكية (BI) هي مجال متعدد التخصصات يطبق رؤى من العلوم السلوكية لفهم السلوك البشري والتأثير عليه في مجالات مختلفة، مثل السياسة العامة والصحة والتعليم والأعمال. يستمد ذكاء الأعمال من ثلاث تخصصات رئيسية: علم النفس، والاقتصاد، وعلم الأعصاب. يساهم كل من هذه التخصصات في الأسس النظرية لذكاء الأعمال بطرق مختلفة:

1. يقدم علم النفس الأدلة التجريبية والنماذج النظرية لكيفية تفكير البشر وشعورهم وتصرفاتهم في المواقف المختلفة. يساعد علم النفس ذكاء الأعمال على تحديد التحيزات المعرفية والاستدلال والعوامل العاطفية التي تؤثر على اتخاذ القرار والسلوك البشري. على سبيل المثال، يشرح علم النفس سبب ميل الناس إلى المبالغة في تقدير احتمالية وقوع أحداث نادرة (اكتشاف التوفر)، ولماذا يفضلون المكافآت الفورية على المكافآت المتأخرة (التحيز الحالي)، ولماذا يتأثرون بالمعايير الاجتماعية وضغط الأقران (الدليل الاجتماعي).

2. يوفر علم الاقتصاد الأدوات والأطر التحليلية لتقييم تكاليف وفوائد التدخلات والسياسات المختلفة التي تهدف إلى تغيير السلوك البشري. يساعد الاقتصاد ذكاء الأعمال على تصميم واختبار فعالية وكفاءة مختلف الحوافز والدفعات وهياكل الاختيار التي يمكن أن تغير سلوك الأفراد والجماعات. على سبيل المثال، يفسر علم الاقتصاد لماذا يستجيب الناس للتغيرات في الأسعار (الطلب والعرض)، ولماذا هم أكثر عرضة للتصرف بناء على معلومات بارزة وذات صلة (الانتباه والتأطير)، ولماذا يقدرون الخسائر أكثر من المكاسب (النفور من الخسارة).

3. يوفر علم الأعصاب الآليات البيولوجية والفسيولوجية التي تكمن وراء الإدراك والعاطفة البشرية. يساعد علم الأعصاب الذكاء الاصطناعي على قياس ومعالجة النشاط العصبي والاستجابات الهرمونية المرتبطة بالنتائج السلوكية المختلفة. على سبيل المثال، يشرح علم الأعصاب لماذا يكون الناس أكثر انتباهاً وتحفيزاً عندما يتلقون ردود فعل إيجابية (الدوبامين)، ولماذا يعانون من التوتر والقلق عندما يواجهون عدم اليقين أو التهديد (الكورتيزول)، ولماذا يكونون أكثر تعاطفاً وتعاوناً عندما يشعرون بالارتباط مع الآخرين. أخرى (الأوكسيتوسين).

في واقع الأمر، يسعى نهج الرؤى السلوكية إلى تطبيق أحدث الأدلة حول ما يؤثر على السلوك البشري الفعلي، بهدف حل المشكلات العملية، كما يمكن أن تقدم الرؤى السلوكية وصفاً واقعياً للكيفية التي نأتي بها بأفعالنا ودوافعنا للإتيان بها، مما يسمح لنا بتصميم أو إعادة تصميم السياسات والمنتجات والخدمات وفقا لذلك. وقد أدت النتائج التي حققها هذا النهج إلى اعتماده من قبل الحكومات والمؤسسات والشركات في جميع أنحاء العالم. فما هي المبادئ الأساسية لمنهج الرؤى السلوكية، ولماذا أثبت شعبيته، وما الذي يمكن أن يحققه؟

يمثل هذا النهج الجديد تحدياً للآراء المتعارف عليها بشأن كيفية اتخاذ القرارات. غالباً ما يفترض الأفراد، وكذا الحكومات والشركات التسويقية، أن سلوكنا يخضع في الغالب لردود فعل مدروسة ومتروية تجاه المعلومات والمحفزات التي نتلقاها. ومن خلال هذا الفهم، يلاحظ الناس كل معرفة ذات صلة، ويوازنون بعناية بين تكلفة وفوائد كل خيار متاح، ويتخذون الخيار الذي يعتقدون أنه يعظم من الفوائد التي ستعود عليهم (أو على أولئك الذين يهتمون لأمرهم).

على النقيض من ذلك، تتمثل " الرؤية " الأساسية لنهج الرؤى السلوكية في أن جزءاً كبيراً من سلوكنا غير واعٍ، واعتيادي، ومدفوع بإشارات في بيئتنا أو بالطريقة التي تقدم بها الخيارات. نحن قادرون على اتخاذ القرارات بطريقة مدروسة ومتروية، ولكن هذا يحدث بمعدل أقل مما نفترض. وعوضاً عن ذلك، توجه الاختصارات الذهنية أو " القواعد الأساسية " البسيطة أفعالنا، على سبيل المثال، " افعل ما يفعله الآخرون " أو " اتخذ الخيار الأوسط ". وغالباً ما تحفز هذه الاختصارات تلقائياً - خارج نطاق إدراكنا الواعي - عن طريق سمات الخيارات أو المواقف التي نواجهها.

ونتيجة لذلك، قد تتحكم جوانب السياق أو الطريقة التي يقدم بها قرار ما في تشكيل سلوكنا على نحو أكبر بكثير مما ندرك. لنتأمل سلوكنا الغذائي مثلاً. ونظراً لأن الناس يستخدمون وجود السلطة باعتبارها اختصارا ﻟ " الطعام الصحي " على سبيل المثال عند تقييم خيارات الطعام المتاحة، فإن إضافة السلطة إلى وجبة (الهامبرغر) السريعة تجعلنا نعتقد فعلياً أنها تحتوي على سعرات حرارية أقل من الوجبة نفسها بدون السلطة. وتتأثر الكمية التي نأكلها بطرق مماثلة. فمضاعفة حجم الحصة الغذائية يعني أن استهلاك الناس من الأكل سيزداد بمقدار الثلث، في المتوسط، والإشارات التي تحيط بطعامنا مهمة أيضاً، إذ تعني عبوات الطعام الأكبر حجماً وأواني التقديم الأكبر تناول المزيد من الطعام.

إن ردود الفعل التلقائية هذه تحدث خارج إطار إدراكنا الواعي، فإنها غالباً ما تكون قد تطورت باعتبارها وسائل فعالة وقوية لتحقيق أهدافنا. بالمقابل نتأمل كم كانت حياتنا ستصبح أصعب بكثير لو اضطررنا إلى التركيز عمداً على كل عنصر من عناصر عملية ربط رباط حذائنا كل صباح، أو تقييم إيجابيات وسلبيات كل طعام نشتريه بدقة وعناية. فهذا النوع من التفكير " السريع " هو ما يسمح لنا باتخاذ الآلاف من الأحكام والقرارات الناجحة كل يوم، دون أن ندرك حتى أننا نقوم بذلك. غير أن قلة وعينا لها ثمن أيضاً، إذ تعني أننا عادة ما لا ندرك الطريقة التي تشكل بها هذه العمليات سلوكنا.

لكننا بالمقابل سنظل نطور أنظمة واستراتيجيات تعتمد على الاعتقاد بأن قراراتنا تعتمد على التفكير المتأني بينما تظهر الأدلة العكس. ويمكن للرؤى السلوكية أن توضح لنا العوامل المحركة لأفعالنا بحق في هذه الحالات. وبذلك، يوفر النهج التفسيرات والتوقعات التي توجهنا إلى خطط عمل أكثر فاعلية.

باختصار شديد، يجمع نهج الرؤى السلوكية الأدلة على كيفية تفاعل التفكير الواعي مع العمليات غير الواعية لتشكيل السلوك. ولكنه يبني أيضاً على هذه الأدلة لاقتراح حلولٍ جديدة من خلال ما يلي:

1- المعلومات: كان النهج التقليدي لتقديم المعلومات عن الأكل عموماً هو إخبار الناس بالأطعمة التي ينبغي أو لا ينبغي عليهم تناولها. ولكن نظراً لأن العديد من خياراتنا الغذائية مدفوعة بالعادات وتحدث خارج إطار إدراكنا الواعي، فقد يكون لتحسين الوعي بمخاطر وفوائد أطعمة بعينها تأثير محدود على السلوك. في الواقع، يمكن أن يأتي تقديم المعلومات بنتائج عكسية. على سبيل المثال، وجدت إحدى الدراسات أن الناس كانوا في الواقع أكثر ميلاً لتناول دواء ما بعد عرض الكثير من آثاره الجانبية المحتملة عليهم - على عكس ما قد يحدث حال عرض أثر واحد فقط - وهذا بسبب طريقة إدراكنا للمخاطر.

مع وضع هذه المبادئ في عين الاعتبار، قد يساعد نهج الرؤى السلوكية الأشخاص بدلاً من ذلك على تبني " قواعد أساسية "، عملية جديدة تركز على خلق عادات جديدة. على سبيل المثال، يمكننا وضع خطط بسيطة لتقليل احتمالية تعرضنا للطعام المغري - مثل " إذا سأل النادل عما إذا كنت أرغب في الاطلاع على قائمة الحلوى، فسأطلب فنجان قهوة ". وقد أثبت هذا النوع من التخطيط، الذي يمكن أن يؤدي إلى خلق عادات جديدة، فاعليته عبر الكثير من الدراسات. بعبارة أخرى، قد يقترح نهج الرؤى السلوكية أن المعلومات يجب أن تركز بصورة أقل على ما يجب أن يأكله الناس، والتركيز بصورة أكبر على كيف يأكلون بالفعل. لا داعي للتخلي عن التوجيه الغذائي، ولكن بدلاً من ذلك، يجب أن يكون هناك تحول نحو كيفية تحويل هذا التوجيه إلى أفعال.

2- الحوافز: تعتبر الحوافز أداة هامة من أدوات صنع السياسات، وفي الآونة الأخير تركَّز الكثير من الاهتمام، فيما يتعلق باستهلاك الغذاء، على كيفية استخدام الضرائب لزيادة أسعار الأطعمة غير الصحية. والفكرة هي التحول بمشتريات المستهلكين بعيداً عن الأطعمة غير الصحية - مما قد يؤدي إلى تحولها نحو الأطعمة الصحية - تماماً كما أدت الزيادات الضريبية إلى تقليل استخدام التبغ. على سبيل المثال، فرضت بعض الدول ضرائب على المشروبات المحلاة لهذا الهدف.

إن محاولة التأثير على مشتريات المستهلكين بهذه الطريقة أمر يستحق التفكير. لكن نهج الرؤى السلوكية يشير إلى إمكانية استخدام الضرائب بطريقة مختلفة، وربما أقوى، وهي تحفيز إعادة الصياغة. تشير الدراسات إلى أن تقديم وجبات تحتوي على سعرات حرارية أقل بمقدار الربع جعل الناس يقللون استهلاكهم للطاقة بالمقدار نفسه. بعبارة أخرى، لم يحتج الناس إلى التعويض بتناول المزيد من الطعام، ولم يقل شعورهم بالشبع عن الأشخاص الذين استهلكوا الوجبة ذات السعرات الحرارية الكاملة. لذلك، فإن إعادة تشكيل الأطعمة للتخلص من السعرات الحرارية طريقة فعالة لمعالجة الإفراط في تناول الطعام. فلن يضطر المستهلكون إلى بذل جهد لتغيير سلوكهم، إذ يمكنهم شراء المنتجات نفسها، ولكن بآثار صحية سلبية أقل. فالهدف المتمثل في دفع المنتجين إلى إعادة صياغة المنتجات هو أساس تطبيق ضريبة على المشروبات المحلاة في بريطانيا (ضريبة صناعة المشروبات الغازية)، التي أعلن عنها في عام 2016. كان لهذه السياسة سمتان أظهرتا أن الهدف الأساسي كان سلوك المنتجين، وليس المستهلكين. فكلما زاد مستوى السكر وحجم المشروب، زادت الضرائب المطبقة على المُنتج لإعادة صياغة منتجاته.

هكذا أثرت الضريبة على سلوك المنتجين كما هو متوقع. فبسرعة أعادوا صياغة محتوى كل من المشروبات ذات الأسماء الشهيرة والعلامات التجارية الخاصة بهم. وفي غضون ثلاث سنوات فقط، انخفضت كمية السكر المباع للفرد من المشروبات الغازية بنسبة (30) في المائة، أي ما يعادل (5) جرامات لكل شخص يومياً. وكان السبب في حدوث ذلك هو تغير السوق، إذ انخفض إجمالي حجم مبيعات المشروبات التي كانت خاضعة للضرائب بنسبة (50) في المائة، في حين ارتفعت مبيعات المشروبات المنخفضة السكر والخالية من السكر المعفاة من الضرائب بنسبة (40) في المائة. كان الجزء الأكبر من هذا التغيير ناتجاً عن إعادة الصياغة، وليس بسبب تبديل المستهلكين لاختياراتهم. فقد أدى اختلاف التفكير بشأن السلوك إلى سياسة ساهم فيها ولاء المستهلكين لشراء علامة تجارية بعينها بحكم العادة في النجاح، وليس الفشل.

3- التشريعات: أخيراً، يمكننا أن نرى كيف يمكن للرؤى السلوكية أن تغير طريقة تفكيرنا في القوانين التي تضعها الحكومات وكيفية تطبيقها لهذه القوانين. فيما يتعلق بالأكل، يوجد اقتراح شائع وهو مطالبة مصنعي الأغذية وبائعيها قانوناً بعرض المعلومات الغذائية على العبوات وقوائم الطعام. وكثير من هذه القوانين تحدد الطريقة الدقيقة التي يجب أن تعرض بها المعلومات. ومن الخيارات الشائعة (التي تتبناها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) في هذا الشأن الاعتماد في الغالب أو كلياً على عرض الأرقام، مثل السعرات الحرارية. الفكرة من وراء ذلك هي أن يتابع الناس استهلاكهم من السعرات الحرارية ويتخذوا الخيارات على هذا الأساس.

إلا أن المشكلة الأساسية تكمن في أن الناس يُنقحون المعلومات الغذائية، ويعالجونها باستخدام اختصارات ذهنية سريعة. ولا تتوافق المعلومات العددية الخاصة بالسعرات الحرارية مع هذه الاختصارات، بل تعتمد على تقييمنا المتأني للسعرات الحرارية، وإضافتها إلى حصيلة مستمرة. ويبدو أن الملصقات التي تستفيد من عملية اتخاذ القرارات السريعة والحدسية تعمل بشكل أفضل. على سبيل المثال، تستخدم الملصقات القائمة على ألوان إشارات المرور نظاماً لونياً بسيطاً يمكن تفسيره بنظرة سريعة، دون انخراط واع. وقد أظهر كثير من الدراسات أن ألوان إشارات المرور لها تأثير أكبر على خيارات الطعام من حسابات السعرات الحرارية العددية البسيطة، التي غالباً ما لا يبدو أن لها أي تأثير. وأعلنت الحكومة الألمانية أنها ستدخل نظاماً واحداً قائماً على ألوان إشارات المرور لملصقات الحقائق الغذائية نظام         " نوتري سكور/ Nutri-Score "(2 ) يستعين بهذه المبادئ.

فالنقطة الأساسية الكامنة وراء هذه الأمثلة هي: التأكد من أن السياسات أو البرامج تسترشد بأفضل الأدلة حول ما يؤثر على السلوك. إذا كنت ستطرح قانوناً جديداً، فعليك فهم الخيار الذي من المرجح أن يغير السلوك. وإذا كنت ستطرح حوافز، فعليك ضبط توقيتها وحجمها وهيكلها وشروطها لتعظيم تأثيرها. وعند إنشاء حملة معلومات، ضع في اعتبارك كيفية ملاحظتنا للمعلومات ومعالجتها. بشكل عام، تأكد من أن لديك فهماً واقعياً لما يؤثر وسيؤثر على السلوك ولماذا.

- خاتمة: بناءً على ما تقدم حاولنا من خلال هذا المقال مناقشة السمات الأساسية للرؤى السلوكية، ألا وهي: الاهتمام بالمشكلات العملية، وتطبيق الأدلة حول السلوك البشري لخلق حلول محتملة جديدة لهذه المشاكل، واستخدام التجريب لتقييم تأثير هذه الحلول على السلوك. بناءً عليه يمكننا تعريف نهج الرؤى السلوكية في عبارة واحدة هو أنه " نهج يستخدم أدلة على الدوافع الواعية وغير الواعية للسلوك البشري لمعالجة القضايا العملية ".

وهكذا أضحت منهجية الرؤى السلوكية بكل أبعادها، وبحسب كثير من المختصين النموذج العلمي الذي يوجه ويتحكم في مفردات المعيشة اليومية، لذلك فقد بنت شركات التقنية تطبيقات متخصصة، وذات تركيز عالٍ في تحليل السلوك الإنساني، والتأثير فيه، بهدف تعزيز الجوانب الترفيهية التي تبعده عن ازدواجية المعايير والمواقف واختلاط المصالح، مع تأثير آخر بغرض متقاطع يوجه الجمهور إلى اكتساب أهداف محددة، ربما تكون لمصلحته أو العكس بناءً على النوايا التي يراد منها.

لقد أتاحت البرامج التقنية مسألة مراقبة سلوك الأفراد بشكل دقيق لارتباط حياتهم بها، لذلك عملت الكثير من الدول على تطبيق منهجية تحليل الرؤى السلوكية من خلال تلك البرامج المتخصصة في جمع بيانات وتفضيلات المستخدمين، والتعرف بتعمق على أنماط حياتهم التي تظهر من بين هوامش التجربة ومتون الواقع، لذلك تكون القرارات محكمة، وتخدم المصالح التي وضعت من أجلها، بانسياق الأفراد معها دون إدراكهم أنهم يتعرضون إلى توجيه وتحكم في شؤون حياتهم.

بالمقابل يعتبر كثيرون أن الاعتماد على تحليل دوافع الرؤى السلوكية إثراء للمشاركة المجتمعية في تصميم السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر على سلوك الجمهور، لذا فهي تهدف إلى تحقيق أبعاد إنسانية مشروعة، وتكون مدخلات لبناء قرارات حاسمة قصيرة المدى أو طويلة المدى، ضمن متطلبات راهنة أو قراءة مستقبلية.

خلاصة القول تعبّر الرؤى السلوكية عن تطبيق مفرزات العلوم السلوكية لفهم السلوك البشري والتأثير عليه. وهي مهمة لأنها قادرة على المساعدة في تصميم سياسات وبرامج وتدخلات أكثر فعالية تأخذ في الاعتبار الكيفية التي يتصرف بها الناس في الواقع، وليس الكيفية التي يفترض أن يتصرفوا بها. يمكن أن تساعد الرؤى السلوكية في معالجة التحديات المختلفة في مجالات مختلفة، مثل: الصحة، والتعليم، والبيئة، والتمويل، والحوكمة، التنمية الشاملة.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

.............................

- المراجع المعتمدة:

– حسام الدين فياض: تمظهرات السلوك الإنساني في المجتمع المعاصر، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب: السادس، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2024.

- مايكل هالزوورث، وإلزبِث كيركمان: الرؤى السلوكية، ترجمة: سارة طه علام، مراجعة: شيماء طه الريدي، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2023.

- هلال بن سالم الزيدي: الرؤى السلوكية بين التوجيه والسيطرة، مدونة الجزيرة، الدوحة (قطر)، 23/09/2024. https://2u.pw/2sZDLAPg

- حسين حسن سليمان: السلوك الإنساني والبيئة الاجتماعية (بين النظرية والتطبيق)، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 2005.

- محمد زياد حمدان: نظريات التعلم – تطبيقات علم النفس التعلم في التربية، دار التربية الحديثة، دمشق، ط1، 1997.

- عماد عبد الرحيم الزغول: نظريات التعلم، دار الشروق، عمان، ط1، 2010.

- أحمد عبد اللطيف: تعديل السلوك الإنساني (النظرية والتطبيق)، دار المسيرة، عمان، ط2، 2014.

- ب. ف. سكنير: تكنولوجيا السلوك الإنساني، ترجمة: عبد القادر يوسف، مراجعة: محمد رجا الدرني، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد: 32، أغسطس 1980.

- جمال محمد أبو شنب: السلوك الاجتماعي (الاتجاه السلوكي في نظرية علم الاجتماع)، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ط1، 2008.

- هارولد ريجنا بيتش: تعديل السلوك الإنساني، تعريب: فيصل محمد الزراد، دار المريخ، الرياض، 1992.

- هاب ميد. ون: Nutri-Score: يسهل اختيار المنتجات الصحية، معهد الرأي إيجابي، وارسو (بولندا)، 7 سبتمبر 2021. https://epozytywnaopinia.pl/ar/nutri-score-ulatwia-wybor-zdrowszych-produktow

-  فاستر كابيتال: تطبيقات الرؤى السلوكية من النظرية إلى التطبيق (تطبيقات الرؤى السلوكية في العالم الحقيقي)، 26 حزيران 2024.  https://2u.pw/vsiGCcNS

هوامش

* النظرية السلوكية هي واحدة من أشهر النظريات النفسية، التي تتبنى فكرة العلاج القياسي، مثل العلاج عن طريق الكلام، والتي تؤمن أن تحسين السلوك أو تحسين نوعية الحياة يمكن أن يتم من خلال التكيف، وقد ظهرت هذه النظرية لدراسة سلوك البشر على أساس أن السلوك البشري سهل الملاحظة والدراسة من أهم روادها (إيفان بافلوف، وإدوارد لي ثورندايك، وجون بي واطسون، وبي إف سكنر). بمعنى أدق... تقوم المدرسة السلوكية على مبدأ هو أن السلوك الملاحظ لدى الفرد هو الوحدة الموضوعية فقط يمكن اعتمادها كمؤشر موثوق لشخصيته دون ما يقال عن عقله أو ذكائه أو ضميره أو أخلاقه أو عرقه أو خلفيته الثقافية أو غيرها.

(1) التكيف الفعال هو عملية تعلم يتم فيها تعديل السلوك من خلال عواقب مثل التعزيز أو العقوبة. بينما التكيف الكلاسيكي هو عملية تعلم يؤدي فيها حافز محايد مسبقاً إلى استجابة فطرية. أي يتضمن التكيف الكلاسيكي الاستجابة التلقائية للكائن الحي، بينما يتضمن التكيف الفعال الإجراءات المتعمدة للكائن الحي.

ينظر إلى التكيف على أنه نزعة فطرية تولد مع الإنسان وتمكنه من التأقلم والتعايش مع البيئة من خلال تعديل أنماطه السلوكية استجابة لمطالب البيئة، فهو بمثابة استعداد بيولوجي عام لدى الإنسان يساعده على العيش في بيئة معينة، ويمكنه من التنويع في طرق وأساليب تفكيره باختلاف فرص التفاعل والمراحل العمرية التي يمر بها. ففي الوقت الذي تعمل فيه قدرة التنظيم داخل الفرد، نجد أن قدرة التكيف تعمل في الخارج، حيث من خلال هذه العملية يعمل الفرد على تحقيق نوع من التوازن مع ما يجري من متغيرات في البيئة التي يتفاعل معها، مما يتيح له بالتالي فرصة العيش والبقاء.

وبناءً على وجهة نظر بياجيه، فإن العقل ليس مجرد صفحة بيضاء تنطبع عليها المعارف، أو مجرد مرآة تعكس ما يتم إدراكه، فهو ليس مُسجلاً سلبياً، وإنما يمتاز بالفعالية والنشاط. فالأفراد يتفاعلون على نحو نشط وفعال مع البيئة وينتج عن خبرات التفاعل هذه تطورات في الوظائف والأنشطة المعرفية يمثل التكيف الهدف النهائي لعملية التوازن، ويتضمن التغيرات التي تطرأ على الكائن الحي استجابة لمطالب البيئة.

(2) Nutri-Score نظام ذو أساس علمي قوي. تم إنشاؤه من قبل فريق الأستاذ. هيرسبيرج، عالم متخصص في البحث في علم الأوبئة التغذوية. يقوم على طريقة علمية لتقييم القيمة الغذائية للمنتجات، تم تطويره في عام 2005 من قبل فريق بحثي من جامعة أكسفورد البريطانية وتم اعتماده في عام 2007 من قبل وكالة معايير الغذاء البريطانية (وكالة معايير الغذاء، FSA). أساس النتيجة هو معادلة بناها فريق من العلماء يسمى نقاط راينر. يتم وضع تحديد القيمة الغذائية لمنتج غذائي في نظام Nutri-Score في مقدمة العبوة، على شكل ما يسمى تسمية التغذية. الملصق عبارة عن رمز بسيط مكون من 5 أحرف مع الألوان المقابلة ويوفر تقييمًا للقيمة الغذائية الإجمالية للمنتج. يتلقى كل منتج تم تمييزه بنظام Nutri-Score  إحدى الدرجات الخمس الممكنة في مقياس التصنيف، محسوبة على أساس الخوارزمية. يشمل التقييم:

1- المكونات التي يجب أن تكون محدودة في النظام الغذائي (قيمة الطاقة والسكر والدهون المشبعة ومحتوى الملح).

2- المكونات المفيدة التي يجب الترويج لاستهلاكها (محتوى الألياف والبروتين والفواكه والخضروات والمكسرات).

المنتجات المميزة باللون الأخضر لها قيمة غذائية عالية مهمة في النظام الغذائي ويمكن أن تشكل أساسه. يجدر استهلاكها في كثير من الأحيان أو أكثر. تشير الألوان البرتقالية والحمراء إلى المنتجات التي تحتوي على كمية أكبر من المكونات، ويجب أن تكون نسبتها في النظام الغذائي محدودة. يوصى باستهلاك هذه المنتجات بشكل أقل أو أقل. هذا لا يعني، مع ذلك، أنه ينبغي استبعادهم من النظام الغذائي على الإطلاق. كل منتج - بغض النظر عن التصنيف في النظام - قد يكون لها مكان في القائمة. يُظهر ملصق Nutri-Score القيمة الغذائية للمنتج ودوره في النظام الغذائي.

 

يرى سقراط، ان الروح تعيش في العالم المثالي، لأنها أبدية، لا تتغير ولن تتعرض لموت البدن.

افلاطون وهو تلميذ سقراط عرض في حواراته وصفاً شاملا لفلسفة سقراط. في حواراته، يتحدث سقراط مع شخص آخر. طوال تلك الحوارات، يعرض افلاطون فلسفة سقراط. في حوار افلاطون (فيدون)، يقابل سقراط فيدون الذي استمع تواً لحديث أجراه الخطيب ليسياس Lysis. الحوار يجري أثناء جولة عبر ضفة نهر اليسوس خارج جدران أثينا. سقراط وفيدون يجدان مكانا للراحة تحت ظلال شجرة كثيفة الأوراق متشعبة الأغصان.

هناك، يحاول سقراط إقناع فيدون لمناقشة الكلام الذي أدلى به الخطيب الشهير. في الحوار، هو يصف طبيعة الروح الانسانية من خلال اسطورة الروح المجنحة.

سقراط وروح الانسان

اعتقد سقراط ان الواقع ثنائي، مركّب من عالمين مختلفين. عالم متغير، عابر، وغير تام، بينما العالم الآخر لا يتغير وأبدي وغير فان. العالم المادي الذي نعيش به – حيث نرى ونسمع ونتذوق ونشم ونشعر – فهو ينتمي الى العالم الاول، عالم الانسان الذي يتغير باستمرار. بالنسبة لسقراط، هذا العالم تنتمي له الروح الانسانية.

بالمقابل، العالم الآخر، العالم الالهي، هو لا يتغير، أبدي، مثالي  ويتضمن الجواهر الفكرية للكون مثل الحقيقة، الخيرية والجمال. هذه هي الرواح الالهية. وعلى الرغم من وجود علاقة وثيقة بين أرواحنا وأجسامنا، لكنهما وجودان مختلفان راديكاليا. روحنا الانسانية تكافح لأجل الحكمة والكمال، والذي يتطلب عقلا. وطالما ان الروح مرتبطة بالبدن، فان هذا السعي للحكمة يُكبح من قبل نواقص العالم المادي، لأن الروح تُسحب بواسطة الجسم الى المنطقة المتغيرة. حيث "تتجول وهي مرتبكة". اذا كانت الروح قادرة على تحرير نفسها من العيوب الفاسدة للعالم المادي وتنجز "تواصلا مع اللامتغير"، عندئذ هي ستصل الى حالة الالوهية.

عادة يُشار الى أثينا القديمة بمهد الحضارة الغربية، كونها كانت مركزا مزدهرا للنشاط الفلسفي والفكري.

الروح المجنحة ورمزية العربة

طبقا لسقراط وافلاطون، الارواح هي إلهية وانسانية معا، تسافر الى السماء. كل واحدة توصف كعربة مجنحة يجرها حصانان يقودهما سائق العربة. يرمز سائق العربة الى الجزء العقلاني من الروح، الجزء الذي يفكر فيه الانسان ويحكم.

أحد الحصانين يرمز الى الجزء الروحي والذي يرتبط بعواطفنا المؤثرة مثل الغضب والاستياء وما شابه. الحصان الآخر هو الجزء الرغبي، المرتبط باحتياجاتنا الجسمية مثل الجوع والعطش والشهوة. عندما تسافر الروح في العربة، تصل الى نقطة يمكنها فيها رؤية ما وراء السماوات. هنا يكمن الوجود الحقيقي، والحقيقة المطلقة. عند الوصول الى هذه النقطة، يكون الحصانان هادئين وساكنين. هما يتبعان طوعا أوامر سائق العربة. عند هذه النقطة يمكن لأرواح الآلهة ان تتأمل بسلام جوهر وحقيقة الاشياء.

لكن هذا لا ينطبق على الارواح الانسانية. الحصان الذي يرمز الى الجزء الروحاني هو أبيض اللون.  يقف منتصبا بوضعية مثالية. يُبقي رأسه عاليا، ولديه أنف مهيب وعينان سوداوان. ذلك الحصان يقف فخورا ولكن بتواضع وتحكّم في الذات. انه صادق وشريف. هو لا يحتاج الى سوط ليتبع أوامر سائق العربة.

الحصان الآخر الذي يمثل الجزء الرغبي هو أسود اللون وجامح. جسمه يبدو ملتويا، وبديناً وذو مظهر قبيح. لديه رقبة سميكة وقصيرة، وجه عريض رمادي وعينان محتقنتان بالدم.

انه لا يستمع لأوامر سائق العربة ولا يستجيب لجلدة السوط. بدلا من ذلك، انه يميل الى الغطرسة والغرور. يقول سقراط انه في تلك الارواح الانسانية التي تبدو اكثر شبها بالروح الالهية، يرفع سائق العربة رأسه ليرى ماذا يكمن وراء السماوات.

مع ذلك، الحصانان لا يتبعان كل الأوامر. سائق العربة الذي ركز كل انتباهه على التحكم بالعربة، ينصرف ذهنه بعيدا عما يراه. الان هذه الارواح يمكنها ان ترى جزءاً كبيرا، لكنه ليس كل الحقيقة. أحصنة بعض الارواح الانسانية الاخرى هي أكثر جموحا. انها لا تسمع أوامر قادة العربات ولا تنسق حركاتها، بل بدلا من ذلك تجر العربات نحو مواقع متدنية.

يحاول قادة العربات السيطرة على عرباتهم عبر سحب اللجام بقوة. فقط في حالات محدودة هم قادرين على الالتفات برؤوسهم نحو منطقة وراء السماء. وبالنتيجة، هم يستطيعون فقط رؤية جزء صغير من الحقيقة. اخيرا، أحصنة بعض الارواح الانسانية هي شديدة التوحش. انها تصهل وتنتصب على سيقانها، وتركض نحو أحصنة آخرى بينما يحاول قادة العربات البقاء منتصبين. رغم صعوبة ما يقومون به، هم غير قادرين على التحكم بالعربات.

طبقا لسقراط في الحوار، هذه الارواح تُسحق، كل واحدة تسحب الاخرى، أجنحتها تتحطم وهي لن تنجح ابدا في إلقاء لمحة على الحقيقة.

افلاطون والروح

نظرية افلاطون في الروح مشابهة جدا لنظرية سقراط. لكن افلاطون يحلل الروح الى ثلاثة أجزاء وهي: الرغبي، الروحي، العقلاني. الجزء الرغبي يتعامل مع الرغبات الجسدية. الجزء الروحي يتعامل مع العواطف مثل الغضب عند الإهانة او الميل لتمييز المرء، والعقلاني يسعى للحقيقة ويستعمل التفكير المنطقي.

الروح التي يحكمها الجزء الرغبي هي خطيرة وتتغير باستمرار لأن كل رغبة تسيطر على كامل الروح. الجزء الروحي من الروح ليس خطيرا لكنه ليس متماسكا كليا ولا منسجما طالما لايمكنه احيانا التحكم بالعواطف. الروح المحكومة بالعقل هي متناغمة بالكامل وعادلة، انها تمارس رغبات وعواطف لكن فقط بمقدار ملائم ولأجل غايات عقلانية.

***

حاتم حميد محسن

” سعى ميلز من خلال مفهومه عن الخيال السوسيولوجي إلى ضرورة إيجاد رؤية تصورية جديدة لعلم الاجتماع، وهي رؤية لا تستند إلى إبراز التعارض بين فكرة الصراع أو التوافق، أو بين التغير والاستقرار، بل إن قوامها دراسة الإنسان في إطار التاريخ، أو كما يقول ميلز دراسة التفاعل بين التاريخ الشخصي والتاريخ الإنساني، وهذا يعني من جانبه عوداً إلى علم الاجتماع التاريخي الذي أغفلته الوظيفية. ذلك أن علم الاجتماع في تصور ميلز ينبغي أن يكون تاريخياً حتى يستطيع أن يدرك المشكلات الاجتماعية الحاسمة التي تواجه البشرية وذلك لأن طبيعة الظواهر الاجتماعية تستلزم قيام تصور لهذه الظواهر يحوي أبعادها التاريخية “.

التاريخ هو دراسة الماضي وأثره على الحاضر والمستقبل، ويمكننا تعريفه بأنه جملة من الأحوال والأحداث التي يمر بها كائن ما، وتصدق على الفرد والمجتمع. كما تصدق على الظواهر الطبيعية والإنسانية. وقد عد هيجل التاريخ جزءاً من الفلسفة، لأنه ليس مجرد دراسة وصفية، بل هو أقرب إلى التحليل وبيان الأسباب. " وعلى كل حال فإن التاريخ وببساطة شديدة هو العلم الذي يهتم بدراسة التطور الذي لحق بالمجتمعات الإنسانية منذ الماضي البعيد ".

تأتي أهميته لعلم الاجتماع في أن البحوث الاجتماعية هي بحوث تاريخية لأن علماء الاجتماع يسجلون الحوادث والظواهر التي يشاهدونها خلال احتكاكهم ببيئة ونظم المجتمع. ويستعمل اصطلاح علم الاجتماع التاريخي في دراسة الحقائق والحوادث الاجتماعية التي مضى على وقوعها فترة تزيد على الخمسين عاماً.

إن الصلة بين التاريخ وعلم الاجتماع هي صلة قوية وثيقة، ومع هذا فإن هناك من يقول بأن التاريخ يختلف عن علم الاجتماع بكونه يدرس الحوادث التاريخية الماضية التي لا يمكن تكرارها أو وقوعها ثانيةً بأية صورة من الصور، بينما يدرس علم الاجتماع حقائق ثابتة ونظريات نسبية تتعلق بالزمن الماضي والحاضر والمستقبل أضف إلى ذلك أن التاريخ يهتم بإيجاد وشرح وتعليل حقيقة أو حادثة أو شخصية تاريخية معينة، أما الاجتماع يدرس مجموعة عوامل وحقائق دراسة تفصيلية عامة تساعده على استنتاج الأحكام والقوانين التي تفسر الظواهر والعلاقات الاجتماعية تفسيراً كاملاً وعقلانياً.

بذلك فإن كلمة التاريخ تدل على مجرى الحوادث وما تصنعه الشعوب. وفي هذا الصدد يقول العلامة ابن خلدون (التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضي من أمم في أخلاقهم). ويميز بين التاريخ وعلم الاجتماع بأن التاريخ ينزع للبحث عن الحالات الفردية الفريدة للسلوك الإنساني، أما علم الاجتماع فينزع إلى البحث عن التتابعات الانتظامية في السلوك البشري. لكن علم الاجتماع لا يستطيع أن يستغني عن التاريخ والعكس صحيح، لأن التاريخ حافل بالوقائع التي صنعها الإنسان الذي هو محور وهدف دراسة علم الاجتماع. ومعظم الاستنباطات والأفكار الاجتماعية تم استنباطها من التاريخ.

وهكذا فإنه يوجد علاقة قوية بين التاريخ وعلم الاجتماع، وتتضح لنا من خلال اعتماد علم الاجتماع على المنهج التاريخي في دراسته وتتبعه لتطور وتغير الظواهر الاجتماعية، التي حدثت في الماضي بغية تحليلها وتفسيرها لمعرفة القوانين التي تحكمها. مثال: (دراسة تطور أشكال الأسرة العربية قبل ظهور القطاع الصناعي وبعد ظهوره). وتنحصر العلاقة بين العلمين بشكل واضح وجلي في جانبين أساسيين:

- تطبيق المنهج التاريخي، أي أن الظاهرة لا يمكن دراستها وتحديد طبيعتها إلا عن طريق تتبع صورها في الماضي، فمثلاً عند دراسة النظام الأسري في البلاد العربية علينا دراسة تاريخ النظام الأسري في الماضي وتحديد وظيفته في ذلك الزمان وتتبع التغيرات التي طرأت عليه حتى وقت الدراسة.

- اتخاذ التاريخ كحقل تجارب للعالم الاجتماعي، فمن المعروف أن التجربة في علم الاجتماع مجالها ضيق ومحدود، فلا يمكن إجراء تجارب على المجتمع بشكل مباشر لذا يلجأ علماء الاجتماع إلى التاريخ، مثال ذلك: لو أدرنا أن نتعرف مدى تماسك المجتمع في زمن الحروب فلا يمكن أن نجري حرب اصطناعية، وإنما ندرس تاريخ الأمم في أوقات الحرب الفعلية الماضية. بذلك سيكون علم الاجتماع دون الرجوع للتاريخ علماً ضحلاً خفيف الوزن، ولا يستطيع القيام ببحوثه ودراساته وصياغتها دون الرجوع إلى التاريخ في سعيه الدؤوب لتتبع تطور الظواهر الاجتماعية والقوانين الناظمة التي تحكمها.

بناءً على ما تقدم، يرى رايت ميلز أن علم الاجتماع يتعامل مع مشاكل البيوغرافيا، والتاريخ، ومع تقاطعاتهما داخل البناء الاجتماعي، ويعتقد أن هذه العناصر الثلاث المتمثلة بـ: البيوغرافيا، والتاريخ، والمجتمع، هي عبارة عن نقاط تتساوي في أهميتها بالنسبة للدراسة المناسبة للإنسان ولواقعه الاجتماعي.

تمثل هذه النقاط الرئيسية لميلز مساحة رئيسية ارتكز عليها في نقد لمختلف مدارس علم الاجتماع التي أهمل ممارسوها هذا التقليد الكلاسيكي. فالمشاكل الحالية التي نواجهها في عصرنا لا يمكن دراستها بصورة كافية ومناسبة دون ممارسة للرأي الذي يقول بأن التاريخ يمثل العمود الفقري للدراسة الاجتماعية التي لها أساسها السوسيولوجي وتوافقها التاريخي. لأن بدون توظيف التاريخ لا يستطيع عالم الاجتماع يحدد ويقرر أنواع المشاكل التي ينبغي أن تكون نقاط التوجيه للدراسات التي يقوم بها.

فإذا أراد عالم الاجتماع أن يفهم التغيرات الديناميكية التي تقع في أي بناء الاجتماعي معاصر، فيجب عليه أن يكشف ويتتبع بوضوح التطورات طويلة الأمد التي حدث في هذا البناء الاجتماعي الذي سيقوم بدراسته. بعد ذلك ينبغي عليه أن يطرح بعد التساؤلات الهامة حوله: ماهي الديناميات التي وقعت بها هذه التطورات مما أدى إلى حدوث التغيير بهذا المجتمع؟ فمن خلال هذه التساؤلات سيصل اهتمام عالم الاجتماع بهذه التطورات إلى ذروته. هذه الذروة لها علاقة بالانتقال التاريخي من حقبة إلى أخرى. وبذلك نسمي هذه العملية ببناء الحقبة التاريخية، فيرى ميلز أن على عالم الاجتماع، الذي يرغب في فهم طبيعة الحقبة الحالية لتحديد البناء الخاص بها، وللكشف عن القوى الرئيسية التي تعمل داخله. لا بد له من أن يحددها تحديداً ملائماً، حتى تصبح ميداناً واضحاً للدراسة تؤدي به إلى الكشف عن ميكانيزمات صنع التاريخ الخاص به، ويضرب ميلز مثال على هذا الطرح، فيقول: " إن الدور الذي تلعبه صفوة القوة في صنع التاريخ، يختلف وفقاً للمدى الذي تتمركز فيه وسائل القرار النظامية والمؤسسية ".

يعتبر ميلز مفهوم البناء الاجتماعي وديناميات " العصر الحديث "، مفهوم من المفاهيم المركزية. لأنه يتمتع بالخصوصية والسمات الجوهرية الفريدة التي قد يتميز بها، لذا لا بد للعلوم الاجتماعية وفي مقدمتها علم الاجتماع من الاعتراف به كمكون أساسي يتصل بالبعد التاريخي عند القيام بدراسة المجتمع ما. لأن معظم المشاكل الكلاسيكية التي تعاني منها العلوم الاجتماعية الحديثة لها في الحقيقة علاقة بغياب أحد التفسيرات المفصلية التي تعتبر أقرب إلى التفسير التاريخي المحدد: وهو تفسير نشأة، ومكونات، وشكل، المجتمعات الحضرية الصناعية في الغرب الحديث، الذي غالباً ما يكون نقيضاً لعصر الإقطاع.

يرى ميلز أن الكثير من المفاهيم التي يشيع استخدمها أكثر في علم الاجتماع، هي مفاهيم لها صلة بالتحول التاريخي من المجتمع الريفي إلى عهود الإقطاع إلى المجتمع الحضري في العصر الحديث من هذه المفاهيم نذكر منها: مفاهيم (مين) عن المكانة الاجتماعية والعقد الاجتماعي. مفاهيم (توينز) عن المجتمع المحلي والمجتمع العام. مفاهيم (فيبر) عن المكانة الاجتماعية. مفاهيم (هربرت سبنسر) عن المجتمع الصناعي. مفاهيم (ريدفيلد) عن المجتمع الشعبي، مفاهيم (بيكر) عن المجتمع المقدس، والمجتمع العلماني...إلخ. كل المفاهيم سابقة الذكر مهما كان شيوع استخدامها، فهي مفاهيم قد ترسخت جذورها جمعياً من الناحية التاريخية. بل حتى أولئك الذين يعتقدون بأنهم لا يعملون مستخدمين التاريخ، فهم يكشفون بصفة عامة باستخدامهم لمثل هذه التعبيرات قدراً من الفهم بالتيارات التاريخية بل وحتى إحساس بالعصر.

يحث ميلز علماء الاجتماع في نطاق هذا الوعي بديناميات وشكل " العصر الحديث " وبطبيعة أزماته، الاهتمام المعياري بالتيارات. فنحن عندما نحاول دراسة التيارات للذهاب إلى ما وراء الأحداث لكي ننظم إحساسنا بها. لذا فإننا في مثل هذه الدراسات، فإننا غالباً ما نحاول التركيز على كل تيار فيما يسبق بقليل الوضع الذي صار عليه الآن، والأكثر أهمية لكي ترى جميع التيارات في الحال، وهي أجزاء متحركة للبناء الشامل للعصر.

لذا يجب على علماء الاجتماع أن يحاولوا دراسة التاريخ وليس التقهقر بداخله، والاهتمام بالتيارات المعاصرة دون أن نكون " مجرد صحفيين "، وأن نستشرف مستقبل هذه التيارات دون أن يكون عملنا قاصر فقط على مجرد التنبؤ. مما يوجب على عالم الاجتماع قبل كل شيء، أن يحاول رؤية التيارات الرئيسية المتعددة معاً- من الناحية البنائية بأكثر من رؤيتها من أشياء واقعة في أوساط اجتماعية مبعثرة. لأن هذه الرؤية تمثل الهدف الذي يعطي دراسة التيارات صلتها الخاصة بفهم العصر، الذي يتطلب الاستخدام الكامل والاستفادة البارعة بمادة التاريخ.

وهكذا سعى ميلز من خلال مفهومه عن الخيال السوسيولوجي إلى ضرورة إيجاد رؤية تصورية جديدة لعلم الاجتماع، وهي رؤية لا تستند إلى إبراز التعارض بين فكرة الصراع أو التوافق، أو بين التغير والاستقرار، بل إن قوامها دراسة الإنسان في إطار التاريخ، أو كما يقول ميلز دراسة التفاعل بين التاريخ الشخصي والتاريخ الإنساني، وهذا يعني من جانبه عوداً إلى علم الاجتماع التاريخي الذي أغفلته الوظيفية. ذلك أن علم الاجتماع في تصور ميلز ينبغي أن يكون تاريخياً حتى يستطيع أن يدرك المشكلات الاجتماعية الحاسمة التي تواجه البشرية وذلك لأن طبيعة الظواهر الاجتماعية تستلزم قيام تصور لهذه الظواهر يحوي أبعادها التاريخية.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

..............................

المراجع المعتمدة:

1. اسماعيل محمد الزيود: علم الاجتماع، دار كنوز المعرفة للنشر، عمان، ط1، 2011.

2.  صلاح مصطفى الفوال: علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية (علاقات ومجالات وميادين)، عالم الكتب، القاهرة، 1982.

3. عبد الرحمن بن محمد بن خلدون: مقدمة ابن خلدون، تحقيق وشرح: علي عبد الواحد وافي، دار نهضة مصر للنشر، القاهرة، الجزء الأول، ط7، جديدة مزيدة ومنقحة، مارس 2014.

4. مجموعة مؤلفين: المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1983.

5. رايت ميلز: الخيال العلمي الاجتماعي، ترجمة: عبد الباسط عبد المعطي- عادل مختار الهواري، تقديم: سمير نعيم أحمد، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية (مصر)، ط1، 1986.

6. حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر (دراسة تحليلية – نقدية في النظرية السوسيولوجية المعاصرة)، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب الأول، دار كريتار، إسطنبول، ط1، 2020.

7. حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع (من مرحلة التأصيل إلى مرحلة التأسيس)، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب الثاني، مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، ط1، 2021.

8. Mills C.W: The Sociological Imagination, Oxford University Press, 1959.

يقول نيتشه: "لكل كلمة رائحتها: يوجد للعطور تناسق وتنافر، مثلما هو أيضا للكلمات "(1). هكذا تفوح رائحة ما من الكلمات، تماما كالعطور أو كالأزهار. فلكل كلمة رائحتها، عطرها وعبقها الخاص، رائحة طيبة وكريهة أيضا، وربّما كانت كلمات بلا "طعم ولا رائحة"، مثلما تكون في العلم بدعوى " الموضوعية " والحياد. ليست الكلمات على حدّ السواء، هي بكلّ لون وشكل وطعم وبكل رائحة أيضا. فليست عند نيتشه بالذات على قدر واحد وبرائحة واحدة. فحينما يكتب " هكذا حدّث زارادشت " أو " المسافر وظلّه "... تفوح رائحة الكلمات بمنبتها وتفصح لاعن أصلها وفصلها فحسب، بل عن مُقامها وربّما مَقامها. ينتقي نيتشه كلماته حينما يكتب، ربّما كسائر الفلاسفة أو الكتّاب، غير أنّه لا ينسى أن يجعلها " تفوح" برائحتها الخاصّة، وتلك قدرة خاصّة نلمسها حينما نقرأ نصوصه، ربّما لأنّ الكتابة عنده كيفية للحياة أو لأنّ الكلمات تفصح عن الموجودات التي تسكنها، كلّ بما فيه من " التناسق والتنافر " كما قال. إذ من الكلمات ما تتناسق وتتجاور وتترادف وتتضايف ومنها ما يتضادّ ويتمايز الخ. تماما كالموجودات. أو بالأحرى كما الحياة تتراوح بين اللذة والألم، بين المتعة والمعاناة، بين القبح والجمال...وتتقلب فيها الكائنات بين هذا وذاك. إنّ كلمة "رائحة" هي الأخرى بأكثر من معنى. فهي لا تعني في اللغة العربية " ما يُشَمُّ سواء كان طيبًا أو نتِنًا" فحسب، بل تحمل معنى مجازيا أيضا. لتعني " في قولنا مثلا عن الرجل:" ما له في وجهه رائحة دم.."، كونه لا يستحي " وغير ذلك، لتضحى كلمة " رائحة" هنا كلمة تشير مجازيا إلى انعدام الحياء. ولعلّ أغرب ما يكون، ممّا أثبته العلم " عجز الكلمات عن وصف الروائح"، مع زعمنا أنّ لها من الروائح ما طاب وما خبث.. والطريف بل ربّما "المؤسف" أن هذا القصور لا يعود إلى مبرر ثقافي، وفق آخر الدراسات العلمية، (اختلاف تجربة " التذوّق" من ثقافة إلى أخرى تعبّر عنها اختلاف دلالة "اللون " والرائحة من ثقافة إلى أخرى..) فحسب، بل إلى مبرر: عصبي" هو " انقطاع في الاتصال بين منظومة الشمّ والمنظومة اللغوية في الدماغ". وهو ما يعني أنّه قصور بنيوي في أصل التكوين. هكذا ليعجز المرء عن التعبير عمّا يجده من روائح متنوّعة محبذة ومستهجنة، فيكتفي بوصفها بكلمات جامعة طيبة أو كريهة. فكيف تكون للكلمات روائح؟

لمّا كانت الكلمات "مسكنا للوجود" كما يقول هيدجر، وكانت الكتابة تجربة حياة، أقلّه عند نيتشه، فغالبا ما تفوح بروائح الحياة ما كان على سطحها وفي عمقها ما ترسّب فيها من ماء آسن وما طاب فيها أيضا الخ. وتفصح الكلمات عن هذا وذاك حتى نكاد نشمّ " بأنوفنا" و"بأسماعنا" وبكلّ كياننا ما يفوح منها من روائح ونحن نقرأها أو حتى نكاد "نرى " ما تكشفه من " مشاهد" أو " نسمع" أصواتها، وقد حرّكت الكلمات ملكاتنا، ونشّطت قوى التخيل والتصوّر والتمثل والتذكر فينا وأثارت أحاسيسنا...يقول ميشيل هنري متحدّثا عن النص النيتشوي كيف يشتغل وكيف يستعيد ما في الذاكرة :" وكما هو الحال دوما حينما يكتشف نيتشه عمق الحياة - العاطفة والمعاناة- يشتعل النص النيتشوي، يحمله نَفَسٌ شديد، وتنفجر الصّور، وتُستدعى حرائق التاريخ الكبرى، كل دليلٍ هو نارٌ متأجّجة، وتستدعى بعض صور التعذيب الرهيبة للاستمتاع بها. هذا ما كان يجب للإنسان كي يصنع ذاكرة: "...آلام، شهداء، التضحيات والرغبات الأكثر رعبا...والتشويهات الأكثر اشمئزازا...والطقوس الأشدّ قسوة... ". وهذا ما كان يجب للإنسان الألمانيُّ:" الوسائل الأكثر رعبا...الرجْم...العجلة...آلام العصا، التمزّق، السحق تحت أقدام الخيول، سلق المجرم في الزيت...السلخ...ختان اللحم". الألم في كلّ مكان هو" المعين الأقوى للذاكرة"، تحلّ المعاناة محل الفكر وفي النهاية تُؤسّسه."(2)

إنّ قدرة الكاتب في الوصف والتعبير هي ما يمنح الكلمات امتلاءها دلالة ورائحة وطعما حتّى. يقول غادامير عن هوسرل بأنّه: " يصف ويقدّم الأشياء الأكثر سذاجة بدقّة متناهية للغة إلى درجة يحصل لنا فيها انطباع بأنّنا نرى فيها حرفيا وبالفعل هذه الأشياء. وأنّه ليس لنا صدقا، أيّ حاجة لكلماته " (3). يبدو أن الكلمات في ذاتها ليست " بطاقات تلصق على الأشياء" كما يقول نيتشه بالذات، وأنّها بما هي كذلك لا تملك أي رائحة في ذاتها، إلاّ ما نغمسه فيها بما لدينا من قدرة على التعبير، ممّا يختلج فينا من مشاعر وأحاسيس وتصورات وتمثّلات الخ. ينكشف الشعر في هذا الباب، أكثر أدوات التعبير وأقدر فنون الكتابة على أن يملأ الكلمات طعما ورائحة.."، لأنّه أكثر ما يحرّر الإنسان والكلمات أيضا بما يملكه من " قدرة شعرية "هي " أكثر ما هو حيّ في اللغات" بتعبير لغادامير. ذلك أن للشعر" قدرة على إثارة حدوسٍ تُكلّمنا حقيقة ". وتجعل الكلمات تتحرّك حية تفصح عن مضامينها وتفوح بما يسكنها من روائح بل وتجعلنا نكاد نرى " من خلالها الأشياء رأي العين أو نكاد" نشمّ رائحتها " بأنوفنا. هذه الزهور والحقول بل حتى المشاعر تكاد تتجسّد من فرط "الوصف الدقيق". حينما يكتب نيتشه عن "الليل " بأسلوب شعري، إشاري مفعم بالمجازات، تجدنا ننساب إلى الكلمات ويحملنا الخيال إلى الصور التي ترسمها ويكاد الليل يمثل أمامنا في " يقظتنا" بكل ما فيه من أشياء وبكل ما يثيره فينا من أحاسيس وروائح أيضا. يقول نيتشه في حديثه عن الليل واصفا إياه وحال الإنسان فيه بدقّة ورقّة قد لا تصل إليها "الترجمة" بل قد " تشوّهها" رغم جهد صاحبها ومهما كانت براعته:" تتغيّر انطباعاتنا عن أشياِئنا المعتادة عند قدوم الليل. هنا الريح يتسكّع عبر طرق مسدودة، يهمس كما لو أنّه يبحث عن شيء ما، ويغضب لأنه لم يعثر عليه. وبريق المصابيح، بأشعّتها الحمراء المضطربة، ووضوحها الُمتعب، تقاوم كُرهًا الليل، هذا العبُد نافذُ الصبر لإنسانٍ ساهرا ليله. هنا نَفَسُ النائم، وإيقاعُه المثير للقلق، يبعث دوما على انشغاٍل كأنّما يعزف لحنا، لا نسمعه، ولكن حينما يرتفع صدر النائم شهيقا، نحسّ بضيق، وحينما ينخفض نَفَسُه، زفيرا في صمتِ الموتِ، نقول لأنفسنا:" ارتح قليلا أيّها الفكرُ المسكينُ المُعنّى!" نتمنّى لكلّ حيّ يحيا مثل هذا الضّيق، راحة أبديّة؛ يُغري الليل بالموت- لو أمكن للناس أن يستغنوا عن النّعاس ويخوضوا المعركة مع الليل بضوء القمر وزيت المصباح، فأيّ فلسفة ستلفّهم بستائرها!. نحن لا نلاحظ بعدُ في الوجود الفكري والأخلاقي للإنسان إلاّ كثرة ما أضحى عليه من عتمة، بواسطة هذا النصف من الظلمات وغياب الشمس الذي يأتي ليحجب الحياة". (4).يبدو أن الذين يكتبون بشعرية أو يطوّعون أجمل ما في الشعر حينما يصوغون الأفكار الفلسفية، هم الذين يملئون الكلمات طعما ورائحة وينوّعونها تنوّع الأزهار والعطور. ليس نيتشه وحده من يدرك ذلك بل " إيميل سيوران " وهو الذي شرب من عيون النصوص الفلسفية النيتشوية منذ شبابه، كان يدرك هو الآخر خطورة الكلمة فكان يكتب " الشذرات والحكم والقول المأثور.."، يكتب مختصرا الكلام ليمنح الكلمات " كثافة " لا في المعنى فحسب، بل في " الرائحة" والطعم بل حتى في اللون. كأنّما نحن إزاء كائنات وموجودات حيّة ليست مجرّد وسائط للتعبير. نلمس مرارة " الكلمة " و"سوداويتها" و" وحشيتها " ورائحتها "الثقيلة " كرائحة " شراب معتّق"، حينما يتكّلم سيوران عن " الحياة " والألم اليأس، يصيبنا "الدوار" يقول سيوران:" لا شيء ممكن ولغاية الآن-لا شيء-. كل شيء مُباح ومجدداً –لا شيء. لا يهم أي طريق نسلك، إنها ليست بأفضل من غيرها. كل الأمور سواء، أنجزت شيئاً أم لم تُنجز، لديك إيمان أم لا، تماماً كما هو سواء أبكيت أم بقيت صامتاً. هناك تفسير لكل شيء ولحد الآن-لا شيء-. كل شيء حقيقي ووهمي في آن واحد، طبيعي وشاذ، رائع وتافه. لا شيء يساوي أكثر من شيء أخر، ولا فكرة أفضل من فكرة أخرى. لما ينمو أسى من حزن المرء وابتهاج من فرحه؟ بما يهم أجاءت دموعنا من الفرح أو من الألم؟ أحب تعاستك وأكره سعادتك,أخلط كل شيء! أخبصهم جميعاً,كن ندفه ثلج ترقص في الهواء، زهرة تطفو على التيار! تَحلى بالشجاعة عندما لا تحتاجها وكن جباناً حين يتوجب عليك أن تكون شجاعاً! من يدري لعلك تظل رابحاً! وإذا خسرت أيهم ذلك حقاً؟ أهناك شيء يربح في هذا العالم؟. كل مكسب هو خسارة وكل خسارة مكسب. لماذا نتوقع دائماً مواقف حاسمة، أفكاراً واضحة، كلماتٍ ذات معنى؟ أشعر أنه علي أن افتح النار رداً على كل الأسئلة التي سبق لها أن ظهرت أم لم تظهر أمامي(5).” يفوح هذا النص برائحة اليأس والتشاؤم والعدمية ونكاد نشتمّ رائحة الكلمات وقد أصابها الإعياء وتصبّبت عرقا، من فرط الدوران. وهذا باشلار صاحب " شعرية الأحلام" و" جماليات المكان" الخ ، فيلسوف يسكنه "شاعر"، حينما يكتب عن العزلة والليل نصّا " نثريا شعريّا " تنساب فيها الكلمات انسيابا وتكاد من فرط دقة الوصف أن تختفي ليحل ّ محلها المكان والزمان والأشياء، والليل بحلكته وسكونه ورائحته... يحملنا هذا النص إلى عالم الليل ويجعلنا نشارك الفيلسوف عزلته، ونكتشف وقد امتلئ كياننا مشاعر وأحاسيس مرهفة وحرّكت الكلمات حواسنا الخمس حتى لكأننا في الليل فعلا. كيف لا وقد سلمنا أنفسنا إلى سحر هذا النص:"  سأذهب إذن هذا المساء أتأمّل على الشرفة، وسأذهب لأرى كيف يعتمل الليل، وسأهب نفسي كليّا لأشكاله المطوّقة، ولستائره، وللمادّة المخاتلة التي تلفّ كلّ الزّوايا. وسأحاول الإحساس بساعات هذا الخريف واحدة فواحدة، هذه السّاعات التي ما تزال نشطة كي ينضج الثّمر، لكنّها تفقد شيئا فشيئا القوّة في الدفاع عن الأوراق المتساقطة من الشجرة. هذه الساعات هي في مجموعها حياة وموت.

هل الورقة التي تسقط في الليل، هي ذكرى تريد النّسيان؟ إرادة النّسيان، إنّها أكثر ضروب التذكّر حدّة. هل أنّ ألما صغيرا نطلقه كورقة ذاوية، هو حقّا دليل على قلب قد سَكَن؟ عند شجرة الزّيزفون وهي تداعب الشرفة، وقرب همسات الأغصان، أنسى مَهمّتي الإنسانيّة وشواغل يومي؛ وأشعر بالتأمّل النّسيِّ وقد تشكّل فيَّ، تأمّلا يدع الضّباب يعمّ الأشياء، وهو الذي لا يبالي ليلا بأمثلته. هل أنا سعيد لرؤية اختصار الكون؟ هل أنا سعيد لكوني أقلّ قربا من صوري، وأكثر عزلة بفعل رؤية ملبّدة، ووحيدا أكثر؟ هل أنا سعيد لكوني وحيدا في خريف عمري؟... إنّ العزلة في العالم هي في الحال شيخوخة.

هكذا تظهر بانتظام شديد، في السّلم وفي كلّ مراحل العمر، إحالة إلى ماض، يشيخ منه الكائن الأكثر شبابا. فيبدأ إذن حوار أصمّ بأصوات خافتة بين السّكون والعزلة. فهل لقدْر من سكون اللّيل أن يكون لطف كائن نحسّه أو أمان كائن منعكس؟ وهل أن هذا الليل هواء يُثير أم هواء يتنفّس؟ كلّ شيء يتنفّس فيّ وخارجا عنّي. إنّ إيقاعا أشارك فيه، يجذب الكون إلى السّلام. لِقَمر اليوم ضوء الأمس. ولضوء ليلٍ هادئ حجم وديمومة. وكذلك الظلّ. يحمي الليل من عزلته الأدغال والأشجار. وتحلّ على المدينة النائمة وحدة وتوازن. ويَحْرس الحديقة الحالمة، مزيجٌ من الضوء الخافت واللّيل وقد تصالحا.

سأؤمن إذن هذا المساء بسكون الأشياء في اللّيل. وسأهب سعادتي وسكينتي، وزهدي لهذا الكون البسيط والهادئ. ولكن بينما أنا أحلم بكلّ هدوء، تُوقظ بعض النّسائم ألما نائما. وتريد روحي الأبيّة، أن تغيّر الكون. هل سأشكّ مع ألمي، مثل قلب ديكارتي، مانحا ندما تائها معنى كونيّا؟ أيّها القلب دافع عن سكينتك، أيّها الليل دافع عن يقينك !

ولكن أين يشتغل هذا الشكّ الذي قد انبجس؟ من أين يأتي هذا الصّوت الذي من عمق الليل، يهمس بتمهّل:" ليست إلاّ غريبا، بالنسبة إلى هذا الكون كلّه ! ماذا؟ هل يمثّل ببساطة الاتحاد مع الليل المُجتاح، والمساواة بهدوء بين ظلمات الكائن وظلمات الليل، وتعلّم الجهل، وتجاهل الذات، ونسيان أفضل قليلا لآلام قديمة، آلاما قديمة جدّا في عالم ينسى أشكاله وألوانه، هل يمثّل هذا كلّه برنامجا كبيرا جدّا ؟ أن لا نرى إلاّ ما هو أسود، وأن نتكلّم إلاّ للصّمت، أن نكون ليلا في الليل، وأن نتدرّب على أن لا نفكّر أمام عالم لا يفكّر، هو مع ذلك تأمّل كوني لليل هادئ مهدّئ. على هذا التأمّل أن يوحّد بيسر وجودنا الأدنى مع الحدّ الأدنى لكون. ولكن، ها أنّي أشكّ حتى فوق الحدّ الأدنى للشكّ، بشكّ غير متشكّل، بشكّ لا واع، مادّي، راشح يعكّر صفو مادّة هادئة. فالّليل الحالك السّواد ليس ليلا حالك السّواد بوضوح. والعزلة فيّ ترتجف. يمنع الليل عنك بداهة عزلته وحضوره. وتجانس العزلة الإنسانيّة والكون الليلي لم يعد كاملا. لقد عاودك حزن قديم، وتستعيد وعيك بعزلتك الإنسانيّة، عزلة تريد أن تَسم كائنا يعرف التغيير بعلامة لا تمّحي. تعتقد أنّك تحلم وتتذكّر نفسك. إنّك وحيد. لقد كنت وحيدا وستكون كذلك. فالعزلة ديمومتك. وعزلتك هي موتك ذاته الذي يدوم في حياتك، وتحتها."(6)

من البيّن أن المقصود "برائحة الكلمات" هو ما نستشفّه منها من معاني وما تثيره فينا من مشاعر وأحاسيس وما تحدثه فينا من " تمثّلات" و" تخيّلات"، وصور. وإذا كانت الرائحة شيئا حسيّا يدرك إدراكا حسيا بواسطة "حاسّة الشم"، فإن "رائحة الكلمات " مجازية بلا شكّ، تحيل إلى ما يجده القارئ في نفسه من أثر يحرّك كيانه كلّه، حواسه ومخيلته ووجدانه تماما بمثل ما تحدثه العطور والأزهار فينا.

***

عبد الوهاب البراهمي

......................

هوامش:

1- نيتشه "المسافر وظلّه"

2- م. هنري "فينومينولوجيا الحياة" "نحن الشرفاء، الخيرون، الجملاء، السعداء ": انظر نيتشه، جينيالوجيا الأخلاق، المقالة الأولى:" الخيرون والأشرار"،، الحسن والسيء"، 10، ترجمة هيلدانبرنت وج. قراتيان في العمال الكاملة ، باريس قاليمار 7، 1971 ص.234).

3- من حوار مع غادامير 1998 مجلة جارمانيكا عدد22

4- "نيتشه" المسافر وظلّه" ص 11 - مقطع 8.

5-إ. سيوران -على قمم اليأس".

6- باشلار " من كتاب “مزيج من الاستيتيقا وعلم الفن ” مُهْدى إلى ” ايتيان سوريو” من زملائه وأصدقاءه وتلامذته. – مكتبة نيزات 1952 باريس.

رابطة الفضاء الفرويدي الدولي "عيون الكلام" ALYP

التحليل النفسي ليس علم له حدود، أو له نهاية كما له بداية، أو نظريات توضع فروضها وتختبر مثل باقي النظريات، التحليل النفسي هو معرفة واسعة بالنفس، ومعرفة النفس لا تنتهي لأنها دينامية متجددة مما يعطي ديمومة المعرفة ومسايرتها للعالم الخارجي للإنسان، فضلا عما يدور في النفس في مواجهة أحداث الحياة اليومية، ويقول المحلل النفسي الألماني " ليون . س. برينر " في محاضرة له بعنوان تكوين المحلل النفسي، في رابطة الفضاء الفرويدي الدولي في باريس يوم 21 / 11 / 2024 لطلبة التحليل النفسي في الرابطة والباحثين والاطباء العرب والاجانب، كل تحليل نفسي هو نقد للمجتمع، لأن المجتمع يتغير باستمرار، ونقول بأن النفس البشرية تواكب هذا التغيير مما يجعلها في مواجهة مستمرة بين النفس والتغيرات البيئية الخارجية، لذلك فإن التحليل النفسي لا ينفصل عن السؤال المركزي حول كيفية دخول الحقيقة في حياة الإنسان كما يقول جاك لاكان المحلل النفسي الفرنسي ومجدد فكر سيجموند فرويد، ويضيف أيضًا أن بعد الحقيقة، غامض وغير قابل للتفسير، ولا شيء يُمكن من ضبط ضرورته، لأن الإنسان يتعايش مع عدم الحقيقة .

يتعلم الفرد في هذا المعهد المتخصص في تعليم التحليل النفسي كيفية تأهيل محلل نفسي معالج وكذلك دراسة منظمة عن كيفية التفسير والتحليل في موضوعات الحياة المعاصرة وأزماتها مستندًا في ذلك أن بعض الناس يسقطون ضحايا هذا التغيير فنجد الكثيير في المجتمعات المتحضرة، أو الأقل تحضرًا  يسقطون صرعى العصاب " الاضطرابات النفسية "  مثل القلق – الحصر، المخاوف المرضية " الفوبيا"، الاضطرابات النفسجسمية، الاكتئاب النفسي، توهم المرض، الوساوس، وكذلك الاضطرابات الذهانية " العقلية" مثل الفصام، برانويا العظمة والاضطهاد، وأنواع الهوس، والاكتئاب العقلي السوداوي – الميلانخوليا . كل تلك يتعلم الدارس في هذه الرابطة المتخصصة أساليب متنوعة في مجال العلاج النفسي التحليلي .

يتعلم الباحث أيضًا في التخصص النفسي التحليلي ليس فقط أساليب العلاج النفسي، وإنما مدخل نفسي لمعرفة خبايا الاعلام والسياسة والتفسير النفسي التحليلي للفنون  والأداب، واللغة وهي منبع اللاوعي – اللاشعور ومعرفة تلك الأثريات الانثروبولوجية وإنعكاسها على السلوك المعاصر في حياة الشعوب .

عودنا التحليل النفسي على الاعتقاد بأن الوعي ليس سوى قشرة خارجية وأن العلم هو البحث عن المخبوء، لا يُفسر المعلوم إلا بالمجهول وهذا المجهول هو ما يكون تحت الظاهر كما دونه لنا روجيه باستيد في كتابه السوسيولوجيا والتحليل النفسي، ويضيف " باستيد " قوله تنبأ ميشيل فوكو بالتكوين القادم للغة مشتركة تجمع كل العلوم الأنسانية وقد تكون كلام اللاوعي – اللاشعور، لأن الاثنولوجيا، مثل التحليل النفسي، لا تستجوب الإنسان بذاته، بل تلك المنطقة السرية التي تجعل أية معرفة عن الإنسان سهلة، لأنها تتوصل إلى معايير يتمم الناس، انطلاقًا منها، الوظائف الحياتية، القواعد التي يحافظون من خلالها على حاجاتهم، من هنا يستشف ميشيل فوكو إمكانية وجود اثنولوجيا تحليل نفسية، وإن كانت رؤية التحليل النفسي الفرويدي تختلف عن رؤية فوكو .

يتناول تعلم التحليل النفسي في رابطة الفضاء الفرويدي " عيون الكلام " دور اللغة عند الإنسان، استنادًا على مقولة الإنسان بما هو إنسان بقدر ما هو يتكلم، ويذهب بعيدًا في دراسة اللغة وتأثيرها في وجود الإنسان .

التحليل النفسي تشكيل جديد للاوعي – للاشعور وهذا ما يمكن لمسه في دراسة التحليل النفسي في هذا الملتقى العلمي الثقافي الفكري ويقوم بتعليم أساليب التأويل ونحن نعرف ويعرف معنا من يهتم بالمعرفة النفسية المعمقة بأن التأويل في التحليل النفسي يعطيه معنى. يدرس التحليل النفسي الرمزية بمختلف أنواعها في الحياة اليومية المعاشة وفي الحلم، ويدرس الهفوات وزلات اللسان والقلم . يطرح التحليل النفسي في دروسه العلمية – النفسية العميقة بأن هذيان المريض يحمل معنى ودلالة، وهو بنفس الوقت يحاول معرفة الصراع النفسي بين قطبيه الأطروحة والأطروحة المضادة، وكما يقول العلامة مصطفى زيور أن الهذيان محاولة لاستعادة ديالكتيك الوجود مع الآخر بعد انقطاع . وكما قدمت المدرسة الفرويدية وأصولها في تكوين الاضطرابات النفسية والعقلية والانحرافات بعدًا عميقًا في التكوين المرضي عند الإنسان، فإن تصنيف جاك لاكان لم يبتعد عن رؤية سيجموند فرويد بل عمق هذا الرؤية حينما صنف الاضطرابات بثلاثة أنواع * بنية العصاب، * بنية الذهان، * بنية الانحراف، وكان يقصد "لاكان" بذلك التصنيف هو أن يبعد وصمة العار أو الدونية وربما التقليل مما يعانية مريض النفس أو العقل، لذا فإن هذا التصنيف ليس فيه وصمة عار، مخجلة بقدر ادعاء البعض هذا مريض، وهذا سليم . وخلاصة القول أن تعلم التحليل النفسي كتدريب للعلاج النفسي التحليلي، أو معرفة ثقافية  أو لمعرفة عالم الابداع والفنون والأدب  وحياة الإنسان المعاصرة بكل تناقضاتها التي تسبب الاختلال النفسي، فإنه " اي التحليل النفسي" هو ممارسه إجتماعية تمس الفرد بكينونته وعمقه، والمجتمع بكل تكوينه وما ورث من قيم وعادات وتقاليد ولغة وما تحويها من بعد لاواعي – لاشعوري عبر الأجيال .

***

د. اسعد شريف الامارة

تمهيد: منذ أن كتب جون فرنسوا ليوتار سفره المدهش الوضع ما بعد الحداثي سنة 1979 ودشن يورغن هابرماس عبارة عصر ما بعد حديث في عام 1981، أصبح هذا الموقف أكثر حدة. والآن، في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، أصبحت خنادق ما يسمى بالحرب الثقافية مرسومة بواسطة التوتر بين الحداثة وما بعد الحداثة. ولا تزال هاتان النظرتان العالميتان ــ المختلفتان جذرياً مثل العصور الوسطى والحداثة ــ تتداخلان إلى حد كبير. في هذه المداخلة، سوف نستكشف معنى هذين المصطلحين ــ أصولهما التاريخية، وسماتهما، وبالطبع اختلافاتهما. "إن ما بعد الحداثة تقدم نفسها بالتأكيد باعتبارها معاداة للحداثة". يصف هذا البيان تياراً عاطفياً في عصرنا اخترق جميع مجالات الحياة الفكرية. وقد وضع على جدول الأعمال نظريات ما بعد التنوير، وما بعد الحداثة، وحتى ما بعد التاريخ —يورغن هابرماس، الحداثة في مقابل ما بعد الحداثة (1981).

الحداثة

إن كلمة "حديث" مصطلح غامض يستخدم للإشارة إلى العصر الحديث منذ القرن السادس الميلادي. ولكن في العقود القليلة الماضية، تم تحديد فترة زمنية معينة باسم الحداثة. كما تختلف تواريخ هذه المرحلة الثقافية، حيث يطلق البعض على كل شيء بعد العصور الوسطى اسم الحداثة؛ ويقسم آخرون العصر الحديث إلى ثلاث مراحل:

الحداثة المبكرة: التي تتوافق مع التنوير الفرنسي والثورة العلمية؛

الحداثة الكلاسيكية: التي تتوافق مع القرن التاسع عشر الطويل؛ والنزعة العلموية

الحداثة المتأخرة: التي انتهت في مكان ما بين عامي 1968 و1989.

ولأغراضنا هنا، لا تهم التواريخ الدقيقة لأننا لا نتحدث حقًا عن فترة تاريخية. باتباع تحليل فوكو في مقاله "ما هو التنوير؟"، سنتعامل مع الحداثة "كموقف أكثر من كونها فترة من التاريخ". ولقد تجلى هذا الموقف بشكل واضح في الفترة المعروفة باسم القرن التاسع عشر الطويل والتي امتد من الثورة الفرنسية في عام 1789 إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914. وكان هذا هو الوقت الذي بلغت فيه الحداثة ذروتها وكانت القوة المهيمنة في الثقافة. لذلك يحدد فوكو عددًا من سمات الحداثة بما في ذلك:

التشكيك في التقاليد أو رفضها؛

إعطاء الأولوية للفردية والحرية والمساواة الصورية؛

الإيمان بالتقدم الاجتماعي والعلمي والتكنولوجي الحتمي،

الحركة من الإقطاع نحو الرأسمالية واقتصاد السوق،

التصنيع والتحضر، والنزوح من الريف الي المدن،

العلمانية، ونقد الفكر الديني، الدين المدني،

وتطوير الدولة القومية والديمقراطية التمثيلية والتعليم العمومي،

لقد وضع فلاسفة التنوير الفرنسي الذين أثروا على الآباء المؤسسين للولايات المتحدة ومتمردي الثورة الفرنسية الأساس للحداثة. وكانت مُثُل "الحياة والحرية والسعي إلى السعادة" في الولايات المتحدة و"الحرية والمساواة والأخوة" في فرنسا بمثابة نداء صارخ للحداثة. لقد تحرر الإنسان من مضطهديه، وتم التخلي عن الأنظمة الملكية والأرستقراطية، وتم الفصل بين الكنيسة والدولة؛ وكان من المفترض أن تكون الحداثة عصر العقل. لقد اتسمت النظرة العالمية للحداثة بالتفاؤل المفرط والثقة في قوتها. لقد كان العقل هو المبدأ التوجيهي للعصر وكان حداثته مغلقة. ومعه جاءت السذاجة والتفاؤل بشأن حتمية التقدم في جميع مجالات الحياة. لقد ارتفعت هذه الثقة إلى ذروتها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. خلال هذا الوقت، كانت التقنيات الجديدة التي أحدثت ثورة في الحياة تظهر كل عام. وفي غضون بضعة عقود، ظهرت على الساحة عشرات الاختراعات التي غيرت العالم. وللمرة الأولى كان لدينا الدراجات والطائرات والسيارات والمصابيح الكهربائية والهواتف والراديو. والآن تم القضاء على الأمراض التي كانت تقضي في الماضي على قطاعات كاملة من السكان. لقد كان العلم يحقق قفزات سريعة إلى الأمام وبدا الأمر وكأنه مجرد مسألة ربط النهايات السائبة. في القرن التاسع عشر الطويل، صيغت قوانين الديناميكا الحرارية، وتم إنشاء الجدول الدوري، ونشر أينشتاين أوراقه الثورية حول النسبية. حتى في الفلسفة كان هناك حماس شديد للدراسة الجديدة للغة والمنطق. في أحد أكثر التعبيرات النموذجية عن ثقة الحداثة في نفسها، ادعى لودفيج فيتجنشتاين في عام 1922 أنه حل جميع مشاكل الفلسفة وكتب: "لقد تم حل المشاكل بالمعنى الفعلي للكلمة - مثل قطعة من السكر تذوب في الماء". على الصعيد الاجتماعي والثقافي، كان عصر الديمقراطية عندما حصلت النساء في جميع أنحاء العالم على حق التصويت وتم حظر العبودية. ولكن كان أيضًا ما وصفه ماتي كالينيسكو بـ "عصر الإيديولوجية" عندما حاول أشخاص مثل ماركس وفرويد تقديم روايات شاملة عن الحياة البشرية. كان عصر الشيوعية والفوضوية والفاشية، حيث كان لكل منها سرد شامل كبير اقترح ثورة في الطرق التي يتم بها ترتيب المجتمع. كانت الحداثة لديها أحلام كبيرة. لقد كانت تلك الفترة في ذروة موجة التقدم، ومع النجاح الحتمي الذي حققته تلك الموجة، بدا كل شيء ممكناً. لقد كانت فترة من الأحلام الجريئة.

ما بعد الحداثة

بحلول النصف الثاني من القرن العشرين، أصبح من الواضح أن الرؤية كانت خيالاً، وبالتالي بدأ الصراع بين الحداثة وما بعد الحداثة يكتسب أهمية ثقافية. بدأت وعود الحرية والمساواة والأخوة، والحياة والحرية والسعي إلى السعادة تبدو جوفاء بشكل متزايد مع كل عام. لم تكن وحشية الفرنسيين في الجزائر تجسيدًا للحرية أو المساواة أو الأخوة. كان الجنود المدمنون على الهيروين في فيتنام بعيدين كل البعد عن الحياة والحرية والسعي إلى السعادة التي كان يتمتع بها جيفرسون. ولا شك أن الملايين من الفيتناميين الذين يعانون حتى اليوم من الآثار المترتبة على العامل البرتقالي الأمريكي يتفقون مع هذا الرأي. لقد حصلت النساء على حق التصويت ولكنهن ما زلن منبوذات من مكان العمل وبعيدات عن الاستقلال الحقيقي. ربما تحرر المجتمع الأمريكي من أصول أفريقية من العبودية من الناحية الفنية، ولكن وصفهم حتى بالمواطنين من الدرجة الثانية في أمريكا في الخمسينيات والستينيات كان ليكون أمرًا مثيرًا للسخرية. مع تقدم النصف الثاني من القرن العشرين، أصبح من الواضح أن المساواة والحرية التي وعدت بها موجة الثورات الحديثة ضد القوى القديمة كانت بالنسبة لكثيرين أفقاً لا يقترب. الدكتور كينج: عندما كتب مهندسو جمهوريتنا الكلمات الرائعة للدستور وإعلان الاستقلال، كانوا يوقعون على سند إذني كان من المفترض أن يرثه كل أمريكي. كان هذا السند وعداً بأن جميع البشر ـ نعم، االسود وكذلك البيض ـ سوف يضمنون حقوقهم غير القابلة للتصرف في الحياة والحرية والسعي إلى السعادة. من الواضح اليوم أن أمريكا تخلفت عن سداد هذا السند فيما يتصل بمواطنيها من ذوي البشرة الملونة. فبدلاً من الوفاء بهذا الالتزام المقدس، أعطت أمريكا الزنوج شيكاً بلا رصيد، شيكاً عاد إليهم مكتوباً عليه أنه لا يحتوي على أموال كافية. لقد تغير ميزان القوى، لكن الأيدي التي أمسكت به كانت تتناسب مع نفس التركيبة السكانية. ولكن الآن بدلاً من الملوك والأرستقراطيين، أصبح هناك أباطرة ومصرفيون. لقد قطعت الحداثة خطوات كبيرة إلى الأمام. ولكن هذا لم يكن كافياً. فقد بدأ التشاؤم يتسلل إلى عقولنا. لقد مات حلم الحداثة. وفي أعقابه ظهرت ما بعد الحداثة. وكان هذا الموقف الذي تبناه ما بعد الحداثة كل ما لم تكن عليه الحداثة. وداعاً للسرديات الكبرى، والسذاجة والتفاؤل، والأحلام الطوباوية بالسعادة الأبدية وتمجيد العلم. لقج بدأت ما بعد الحداثة في إحداث ثقوب في جثة الحداثة المتداعية. وتبين أن أحلام الوحدة التي حلمت بها الحداثة كانت سرديات منحرفة. لم يكن هذا هو الحال فقط مع خيالات الحداثة الوهمية الواضحة مثل الفاشية. فقد أصبح من الواضح أن الوعود المجيدة التي قدمتها الحداثة جاءت بمجموعة من الشروط والأحكام ــ البيض، والهيمنة الذكورية والمتغايرين ، ويفضل أن يكونوا من خلفية ثرية. ولكن مع ظهور عصر ما بعد الحداثة في ستينيات القرن العشرين، سئم الناس الأمر. فلم تكن ما بعد الحداثة تدور حول تحقيق رؤى طوباوية. بل كانت تدور حول العدالة والمساواة. لقد ناضلت ثقافة ما بعد الحداثة المضادة من أجل الأصوات المهملة والمستبعدة من قِبَل الحداثة. فقد قاومت حركة النساء، وحركة الفخر، وحركة الحقوق المدنية ــ كل هذه الحركات ما بعد الحداثية ــ الحداثة وحاسبتها حسابا مؤلما. لقد تبنى فلاسفة ما بعد الحداثة أصوات المستضعفين، والمستبعدين ــ أصوات النساء، والأعراق الأخرى، والمتحولات والمتغيرين، والسجناء، وغير الأسوياء، والمستعمرين. لقد كانت نبرة ما بعد الحداثة مشبعة بالسخرية والتهكم. وكانت هذه نبرة السخرية التي تأتي مع العيش في عالم من الوعود الكاذبة. وكانت النبرة الأكثر ملاءمة لمواجهة خيانة الحداثة.

الحداثة في مواجهة ما بعد الحداثة

من عجيب المفارقات أن ما بعد الحداثة، على الرغم من كل ازدرائها للحداثة، كانت تحقق أحلام سلفها. فقد احتوى نضالها من أجل العدالة والمساواة على تأكيد ضمني لقيم الحداثة. ولم تكن هناك همسة عن العودة إلى قيم الإيمان والتقوى في العصور الوسطى. بل إن ما بعد الحداثة تميزت باحتضان الحرية والمساواة التي وعدت بها الحداثة. وكانت ما بعد الحداثة تدور حول ملء الشقوق في سرد الحداثة للمساواة. ولكن ما بعد الحداثة تخلت عن العديد من العناصر الأساسية للحداثة. فقد استغنت عن كل السرديات الكبرى، واعتنقت معبود الحداثة التقدم. وكانت تنتقد هيبة العلم وقوته في الحياة الحديثة. وبعد أن أدركت ما بعد الحداثة إلى أين قادها اليقين المتغطرس للحداثة، اتسمت ما بعد الحداثة بالعدمية والنسبية التي تأتي مع رؤية العالم من وجهات نظر لا حصر لها. ومع مرور الوقت وعمل ما بعد الحداثة على الوفاء بالوعود التي تراجعت عنها الحداثة، بدأت رؤية عالمية جديدة في الظهور. هذه المرحلة الثقافية الجديدة، الحداثة الماورائية، تأخذ السخرية والمنظورات المتعددة لما بعد الحداثة وتدمجها مع التفاؤل والجرأة في الحداثة. إنها تتجاوز الصراع بين الحداثة وما بعد الحداثة من خلال توليفة تسعى إلى تبني منظور الصورة الكبيرة للحداثة - والذي تعتبره الحداثة الماورائية ضروريًا لمعالجة الأزمات الكبرى التي يواجهها العالم اليوم - مع الحفاظ على عمق وتأمل الذات اللاذع لما بعد الحداثة. هذا ما سنستكشفه في الجزء القادم من الفلسفة الحية.

مقاربة في الحداثة البعدية: ما بعد ما بعد الحداثة

"دعونا نقولها ببساطة: لقد انتهى الأمر" - ليندا هاتشيون، سياسات ما بعد الحداثة

ما هو العصر الذي يلي ما بعد الحداثة؟

قد تكون الحداثة البعدية هي الفكرة الأكثر أهمية التي تواجهك هذا العام. ففي عالم يزداد انقسامًا وتعقيدًا، تعد الحداثة الميتا رؤية عالمية تقدم طريقًا للمضي قدمًا. في مقال الأسبوع الماضي، نظرنا إلى الفرق بين النظرتين العالميتين للحداثة وما بعد الحداثة. تطورت كل منهما استجابة لاتجاهات تاريخية وثقافية معينة. كانت الحداثة، كما رأينا، المرحلة الثقافية التي بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. أما ما بعد الحداثة فقد نشأت في ستينيات القرن العشرين وهي المنظور الثقافي السائد في القرن الحادي والعشرين. إن المشهد الثقافي الحالي لدينا مستقطب على طول خطوط المعركة هذه. ومع وجود هاتين النظرتين العالميتين فقط للاختيار من بينهما، يبدو أن المجتمع محكوم عليه بالانقسام. ولكن هنا يأتي دور الميتا حداثة. لقد ظهرت الميتا حداثة في العقدين الماضيين وهي تقدم وسيلة لتجاوز الجمود. إن الميتا في الميتا حداثة تأتي من الكلمة اليونانية القديمة ميتاكسيس التي استخدمها أفلاطون وبلوتينوس لالتقاط شعور الوسطية. وفي حالة الميتا حداثة فإن هذا يعني أن تكون في وسط بين الحداثة وما بعد الحداثة. ولكنها ليست مجرد أرضية وسطى. وفي لغة مدرسة كين ويلبر الفكرية المتكاملة ـ والتي تشكل الأساس النظري الرئيسي لمدرسة هانزي فرايناخت للميتا حداثة سياسية ـ فإن الميتا حداثة تتجاوز هذه النظريات العالمية السابقة وتتضمنها. وهذا التوليف بالغ الأهمية للمشاكل التي نواجهها في القرن الحادي والعشرين. في عصر الأزمة الميتا حداثية، نجد أنفسنا نحدق في ستة أزمات وجودية في آن واحد. لا يتعلق الأمر بأزمة المناخ فحسب، بل بأزمة المعنى، وأزمة الصحة العقلية، ومخاطر وإمكانيات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الناشئة التي قد تجعلنا من ناحية غير ضروريين كنوع، ومن ناحية أخرى، مع وجود تكنولوجيا مثل أسراب الطائرات بدون طيار التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، تهدد تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بقاءنا بطريقة ملموسة أكثر. هناك أزمة الطاقة، وتناقص الموارد الطبيعية، وسياسة الفضاء، والحرب الباردة التي تتشكل بين الصين وأمريكا ناهيك عن زيادة عدم المساواة وطوفان البطالة القادم الناجم عن الروبوتات. هذا عصر من المشاكل المعقدة والكثير من خطابنا العام هو إعادة ترتيب كراسي التشمس على متن سفينة تيتانيك. إن التحديات التي تواجه البشرية معقدة للغاية وخطيرة للغاية بحيث لا يمكننا العودة إلى السرد المغري لنا كوهم. على أقل تقدير، تعد الحداثة الميتا رؤية عالمية جديدة لا تقع في فخ "نحن وهم" اليسار واليمين. إنها رؤية عالمية معقدة لعصر من التعقيد. في هذه المداخلة، سننظر في خصائص هذا الاتجاه الثقافي الجديد. علاقتها بالاتجاهات السابقة للحداثة وما بعد الحداثة ولماذا نحتاج في هذا العالم المأزوم إلى الحداثة الميتا.

التوليف الميتاحداثي

في المقال السابق عن الحداثة وما بعد الحداثة، نظرنا إلى خصائص هاتين النظرتين للعالم. باختصار، تميزت الحداثة بثقة مفرطة في النفس. كان هيجل يعتقد أننا نعيش في نهاية التاريخ، وكان فيتجنشتاين يعتقد أنه حل جميع مشاكل الفلسفة، وكان فرويد يعتقد أنه وجد مصدر كل الأمراض العقلية، وجاء أينشتاين بنظريته النسبية وكان يعتقد أن نظرية كل شيء في متناول يده. باختصار، بدا الأمر وكأننا نحل جميع المشاكل التي تواجهنا بوتيرة لا تصدق، وبدا أن الحقيقة النهائية كانت على بعد خطوة واحدة. كان هناك إيمان راسخ بالتقدم، وكان العقل يجلس على العرش الذي تركه الله شاغرًا. حتى في الاتجاهات المعاكسة للحداثة مثل ماركس وأعمال الفوضويين مثل باكونين وكروبوتكين، كانت هناك رؤية جريئة لليوتوبيا في متناول أيدينا. لقد اتسمت الحداثة آنذاك بالسرديات الكبرى في كل المجالات من الاجتماعية والسياسية إلى الفلسفية والعلمية. وكانت نبرة الحداثة عبارة عن إيمان متعجرف تقريبًا، وغطرسة مفادها أن الإنسان الحديث هو قمة الحياة نفسها. إن ما بعد الحداثة، كما وصفها جان فرانسوا ليوتار، تُعرَّف بأنها عدم ثقة في السرديات الكبرى. وتركز ما بعد الحداثة على الحالات الهامشية، والأطراف، والاستثناءات، وكل الشقوق في سرديات الحداثة الجميلة. لقد فككت ما بعد الحداثة كل هراء الحداثة. وقد تجسد الملل الذي يصاحب تفاؤل الحداثة في نبرة ما بعد الحداثة التي تتسم بالسخرية والتهكم والتجريح. وبدلاً من البحث عن حقيقة موضوعية متجانسة، كشفت ما بعد الحداثة عن مليون حقيقة وحقيقة واحدة لوجهات نظر مختلفة. لقد أعطت منصة للأصوات التي استغلتها وأهملتها رواية الحداثة: أصوات الأميركيين من أصل أفريقي، والنساء، ومجتمع المتحولين، والأصوات التي عانت من النزعة الاستعمارية، وأصوات السجناء وغير الاسوياء . باختصار، كل الأصوات التي استبعدتها الحداثة من إعلاناتها العظيمة عن الحياة والحرية والسعي إلى السعادة والحرية والمساواة والأخوة. من خلال تبني مثل هذه الوفرة من وجهات النظر، سادت روح النسبية والعدمية في منظور ما بعد الحداثة الأوسع. في محاولة لإعطاء صوت متساوٍ للعديد من وجهات النظر، لم يكن لدى ما بعد الحداثة رؤية مركزية موحدة كما كانت الحداثة. لم يكن لديها نقطة ارتكاز لتوجيه نفسها نحوها. لقد أدارت ظهرها لإيجاد سرد عظيم يحاول تجسيد كل هذه وجهات النظر. وهنا، تدخل الحداثة الميتافيزيقية إلى المشهد.

ما هي الحداثة الميتابعدية؟

في لغة الجدلية الهيجلية، كانت الحداثة هي الأطروحة التي عارضها نقيض ما بعد الحداثة. ومن هذا الصراع بدأ تركيب جديد في الظهور في الميتا حداثة. إن التحديات التي تواجه البشرية اليوم ترفض أن يتم ترويضها إما بالتفاؤل المتغطرس للحداثة أو بالتكاثر النسبي للمنظورات في ما بعد الحداثة. وبالمثل، لا يمكن حل هذه المشاكل المعقدة بدون جرأة الحداثة ودقة ما بعد الحداثة. وبالتالي فإن المطلوب هو دمج هذه الفضائل مع تجاوز الجمود. المطلوب هو التسامي والشمول. كما يلاحظ هانزي فرايناخت في كتابه عن الميتا حداثة السياسية "المجتمع المستمع": "إن الميتا حداثة مختلفة نوعيًا جدًا عن ما بعد الحداثة: فهي تقبل التقدم والتسلسل الهرمي والإخلاص والروحانية والتطور والسرديات الكبرى والسياسات الحزبية والتفكير في كليهما وغير ذلك الكثير. "إنها تطرح الأحلام وتقدم الاقتراحات. وما زالت تولد". من منظور الحداثة الميتا، ألقى ما بعد الحداثيون الكثير من الأشياء غير المفيدة مع مياه الاستحمام للحداثة. لا شك أن هذه السمات يمكن أن يكون لها جوانب مظلمة وقد تتحول إلى سمات سامة، لكن هذا لا يعني أنه يجب التخلص منها. في مواجهة مشاكل القرن الحادي والعشرين، نحتاج إلى الصورة الأكبر التي قدمتها الحداثة. نحن بحاجة إلى هيكل وترتيب التسلسلات الهرمية؛ نحن بحاجة إلى رؤية للتقدم وسرد عظيم حول سبب أهمية كل هذا. وأكثر من ذلك، نحتاج إلى أن نكون قادرين على التحدث عن القضايا الكبرى دون الوقوع في فخ السخرية والتهكم. إذا كان هناك شيء واحد لاحظه المعلقون المختلفون على الحداثة الميتا، فهو نبرتها الغريبة من الصدق الساخر. هذه الديناميكية مألوفة لنا جميعًا بالفعل من وسائل التواصل الاجتماعي. هناك أشخاص ينشرون منشورات محبطة صادقة على وسائل التواصل الاجتماعي مثل هذا الشخص ولا تلهم الرحمة والتعاطف. إنه يجعل الجميع الآخرين ثم هناك المتفاخر المتواضع مثل هذا الشخص. إن المشكلة في وسائل التواصل الاجتماعي هي أنه لا يمكنك ببساطة نشر شيء ما. فهناك قواعد للخطاب يجب عليك اتباعها وإلا فإنك ستنتهي إلى نشر شيء محرج. لقد أصبح لدى معظم الناس الآن وعي أكثر دقة بما قد يفكر فيه الآخرون بشأن ما ينشرونه وبالتالي يمكنهم تجنب معظم المزالق ولكن هذا يتركنا مع نوع من المأزق: كيف يمكنك أن تقول شيئًا ذا معنى على وسائل التواصل الاجتماعي؟

إن الحيل الشفافة أحادية البعد يتم إبادتها من قبل السخرية المتهكمة لأولئك الذين لديهم بعض الوعي الاجتماعي الأساسي. ولكن هذا الوعي يقيد أيضًا التعبير عن المشاعر الحقيقية. وهذا لا يقتصر بالطبع على وسائل التواصل الاجتماعي بل هو مجرد أحدث وأكثر ظهور واضح لاتجاه ثقافي يعود إلى الانفصال الساخر الذي جعل ديفيد ليترمان أيقونة لأول مرة في ثمانينيات القرن العشرين. وفي مقابل هذا لدينا عمل أشخاص مثل الباحثة في مجال العار برين براون التي تتحدث عن أهمية الضعف. "ولدينا ثقافة تحب إثارة الكثير من الضجيج حول الصحة العقلية ولكن عادة دون قول كلمة واحدة عن سبب صعوبة التعبير عن المشاعر. لذا فإن السؤال الحقيقي يصبح كيف نتواصل بشيء حقيقي في ثقافة حيث يميل التعبير العاطفي إلى أن يكون غير صادق؟ كيف يمكننا أن نكون جادين دون الشعور بالخجل؟

نغمة الميتاحداثة

وهنا يدخل الميتاحداثيون إلى المشهد. تم وصف نغمة الميتاحداثة بأنها صدق ساخر. تستخدم السخرية كآلية توصيل للصدق العميق. لا يوجد مثال أفضل على هذا من تحفة بو بيرنهام عن الميتاحداثة داخل، والتي سننظر إليها بعمق أكبر الأسبوع المقبل. أغنية الافتتاح للعرض الخاص تسمى محتوى. هذه الأغنية تجسد الصدق الساخر. عندما تم إصدار داخل، كان قد مر 5 سنوات منذ إصدار بيرنهام الخاص السابق، لذا كان هناك شيء من الفيل في الغرفة. كيف يمكنك أن تشرح للجمهور الذي يحبك سبب غيابك لمدة 5 سنوات؟ كان بإمكانه أن يفتتح حديثه بلحظة صادقة من القلب للاعتذار للجمهور وشرح أنه كان يعاني من بعض المشاكل المتعلقة بالصحة العقلية. لكنه لم يستطع فعل ذلك لأنه سيكون محرجًا. كان بإمكانه أن يستسلم للقيود التي تفرضها عليه ثقافة ما بعد الحداثة والتي تحد من هذا النوع من التعبير. كان بإمكانه أن يبرر ذلك بأنه لا يحتاج إلى شرح نفسه لجمهوره. كان بإمكانه أن يلعب بهدوء. لكن هذا ليس خيارًا رائعًا أيضًا. وبدلاً من ذلك، قام بيرنهام بدمجها في الأغنية الافتتاحية. الأغنية مضحكة وجذابة وتقول آسف بطريقة ساخرة ولكنها تفيض بالصدق العبقري. لا يقول آسف، أرجوك سامحني، وآمل أن تعجبك. إلا أنه يفعل ذلك، لكنه يغلفه بحاوية من السخرية الحلوة التي تجعل هذه الرسالة الجادة مفيدة بدلاً من أن تكون محرجة. وهذا هو جوهر النبرة الميتاحداثية. إنها تعترف بسخرية ما بعد الحداثة التي ترى في معظم أشكال الجدية نوعًا من الأداء. تعترف العبوة الساخرة بهذا، وتسخر من نفسها بشكل متواضع ولكنها في القيام بذلك تكشف عن جدية. هذه الصراحة الساخرة هي مثال على الموضوع المتناقض الذي يمتد إلى جوهر الحداثة. عندما استخدم مبدعو بيان الميتاحداثية لعام 2011 عبارات مثل المثالية البراغماتية والسذاجة المستنيرة والواقعية السحرية، كانوا يشيرون إلى تقابلات مماثلة. إن الحداثة الميتا تتجاوز القيود الساخرة التي تفرضها عليها ما بعد الحداثة وتسعى مرة أخرى إلى إيجاد شكل أعظم من المعنى، وشكل أكثر صدقاً من الاتصال وإحساس أعمق بالحقيقة. في سعيهم إلى إيجاد إحساس عظيم بالمعنى والمثالية، لا يتسم الحداثيون الميتا بمؤمنين متحمسين مثل الحداثيين. بل كما لاحظ علماء الفن الهولنديون الذين أشعلوا شرارة حركة الحداثة الميتا لأول مرة من خلال ورقتهم البحثية التي صدرت عام 2010 تحت عنوان "ملاحظات حول الحداثة الميتا": "إن نيتهم ليست تحقيقها، بل محاولة تحقيقها على الرغم من "عدم قابليتها للتحقيق". أو كما تقول هانزي فرايناخت في كتابها "مجتمع الاستماع": "إن الحداثية الميتا لديها سردها الخاص الذي لا يعتذر عنه، والذي يلخص فهمها المتاح. ولكن يتم التعامل معه باستخفاف، حيث يدرك المرء أنه خيالي جزئياً دائماً ــ توليفة أولية". وبالتالي يمكننا أن نقول إن إحدى سمات الحداثة الميتا هي المرح. إن الأمر يتطلب الوعي بحدودنا التي أصبحت ما بعد الحداثة مدركة لها بحدة، ولكن بدلاً من أن تشلها هذه الحدود فإنها تختار بدلاً من ذلك المرح لقبول عدم كفايتها وطبيعتها القابلة للخطأ. إنها متعة في المحاولة؛ إنها الاعتقاد بأن هناك شيئًا جميلًا في السعي. هذه الروح المرحة للحداثة الميتافيزيقية، وهذا الإخلاص الساخر والمثالية البراغماتية ضرورية للمشاكل التي نواجهها اليوم نحن بحاجة إلى الحداثة الميتافيزيقية. عالمنا يغرق في التعقيد. إن سذاجة الحداثة والعدمية النسبية لما بعد الحداثة لا تؤدي إلا إلى تفاقم المشاكل التي نواجهها. نحن بحاجة إلى رؤية أكبر مرة أخرى. إن عالمنا يواجه أزمة ميتافيزيقية - لدينا أزمة مناخية، وأزمة معنى، وأزمة صحة عقلية بالإضافة إلى اقترابنا من أزمة سياسية أخرى وربما حرب باردة جديدة. نحن عالم في أزمة ولا يمكن لأي قدر من السذاجة أو العدمية أن يجعلنا نتجاوز هذا. نحن بحاجة إلى سرد عظيم مرة أخرى. إننا في احتياج إلى شيء يمنحنا الأمل مرة أخرى. والحداثة الماورائية هي الاتجاه الذي يتطور من هذه الحاجة. إنها جسر البناء بين كل الفصائل المختلفة في عالمنا. وكما يلاحظ فرايناخت: "إن مبادئ الحداثة الماورائية متأصلة بالفعل في تناقضات المجتمع الحديث؛ والمجتمع الحديث المتأخر حامل بالحداثة الماورائية. يحتاج الناس إلى السخرية من أجل بناء الثقة الشخصية القائمة على المعرفة الذاتية والفكاهة والتفكير النقدي. فقط عندما تكون هذه الثقة موجودة يمكننا أن نجتمع بنجاح حول صراع ذي معنى من أجل شيء أعظم من أنفسنا، مثل أزمة المناخ. هناك غرابة ساخرة أخرى في عصرنا: "الريبية تجلب الثقة والثقة تتوج الفائز". فماذا يخفي زمن ميتا الحداثة البعدية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

تمهيد: اود التنبيه أنى اتناول موضوع المقالة من جنبة فلسفية وليس من جنبة دينية لاهوتية تقودنا الى انواع مختلفة متباينة ومتطاحنة من الايديولوجيات الدينية السياسية المعاصرة في تعطيلها تفكير العلم والعقل خاصة في بلدان الوطن العربي..

منذ ولادة الانسان المفكر خرافيا سحريا كانت الميتافيزيقيا البدائية العمياء صنو وجوده الحيواني – البشري. وفي مرحلة متقدمة لاحقة فرضتها عليه الطبيعة كان تكيّفه لها يشبه تكيّف الحيوان الانقيادي المذعن لطبيعة لا تعقل وجوده لكنها بقيت مصدر بقائه حيا بعيدا من الانقراض كما حصل مع انقراض حيوان الماموث وسلالات الديناصورات.. وحتى انقراض انواع بدائية قبل وصولنا انسان نادرتال.

نجد في مراحل بدائية متقدمة عن سابقاتها غادر الانسان البدائي خوفه من ظواهر الطبيعة التي لم يكن تفكيره بها يقوده الى تعليل اسبابها فانتقل الى مرحلة خوفه الاشد روعا هي مرحلة خوفه من افكاره الخرافية البدائية والسحرية هل ما يفكر به صحيحا يرضي القوى الغيبية التي يخشاها حتى وصل به الخوف من افكاره والشك بها الى ان يجعل من الحيوانات والجمادات الطبيعية والمصنوعة من قبله بدائيا آلهة يعبدها (الطوطم).

كان خوفه من افكاره في تعطيل تفكير العقل المنتج في حدوده الدنيا معدوما. وكانت افعاله بما يبقيه على قيد الحياة يتصورها تثير غضب قوى لا يعرف ماهي ولا كيف يواجهها. الى ان توصلنا الى ان تلك الافكار والتصورات الخرافية الغيبية التي عاشها الانسان في عصور قديمة جدا هي ما اصطلح تسميته اليوم (الميتافيزيقا) وصرنا نؤمن ايمانا قطعيا يقينيا راسخا ان الانسان كائن ميتافيزيقي قبل معرفته الاديان منذ بداياتها والى الوقت الحاضر وحسب مقولة الاستاذ سعد البزاز الحرب تلد اخرى فلم تكن الميتافيزيقا تلد الاديان بل الاديان ولدت الميتافيزيقا.

لا نجانب الصواب قولنا اننا كائنات ميتافيزيقية قبل ان نكون كائنات عقلية او لغوية او اجتماعية وحتى قبل ان نكون كائنات علمية تنكر جميع انواع التفكير الميتافيزيقي الغيبي في تعطيلها العقل العلمي اليوم. ولم يستطع جبروت العلم القضاء على الانسان الاسطوري الميتافيزيقي الثابت في عقولنا الباطنية اللاشعورية الذي نتوارثه في جينات  DNA اننا كائنات ميتافيزيقية بداية ونهاية.

بعلاقة مع ميتافيزيقا الاديان اذكر ان ليفي شتراوس احد رواد الفلسفة البنيوية ونتيجة دراساته المعمّقة باثنولوجيا الاقوام البدائية التي لا تاريخ لها بسبب ان تلك الاقوام لم تكن تعرف التدوين الذي جاء متاخرا جدا بحدود ثلاثة الاف سنة قبل الميلاد. قال شتراوس عبارته الشهيرة والتي تلقفها منه فوكو باهتمام مبالغ فيه انه انكر شيء اسمه انسان او عقل او تاريخ وهاجم فوكو ومعه فلاسفة البنيوية قاطبة كل شيء يمت بصلة مع الحداثة منها السرديات الكبرى في طليعتها سردية اللاهوت الديني وسردية الماركسية.

ولم يسلم من هذه المعمعة سوى الفيلسوف الالماني المخضرم يورغن هبرماس المعاصر الذي جنّد نفسه مدافعا مستميتا عن الحداثة وهجومه على فلاسفة ما بعد الحداثة من البنيويين. مقولة شتراوس الاستفزازية المريبة قوله ان مشكلات الانسان واحدة على مر العصور والتاريخ هي ذاتها مشكلاته منذ العصور الحجرية والى يومنا هذا لم تتبدل في جوهرها الوجودي الانثروبولوجي.. طبعا العبارة في منطوق علمي تاريخي انثروبولوجي يجعل من بطلانها خارج منطق الفلسفة اكثر من وارد.

ولولا اختراع الانسان للعلم لكنا الى اليوم كائنات ميتافيزيقية تعيش على قناعة وممارسة اصل الحياة هو الدين اللاهوتي بكل طبعاته الوثنية والتوحيدية. ولو لم تكن حقيقتنا الوجودية اننا كائنات ميتافيزيقية بالفطرة فكيف لنا تمرير انه في امريكا ودول اوربية غالبية من شعوبها يؤمنون بالسحر والجان والخرافات والشعوذة والسحر وجميع اشكال الدجل خارج جوهر الدين؟ اذن هل نجد غريبا علينا اليوم اننا اقدم حضارة وتقدما من الغرب في الوقت الحاضر في ايماننا بالخرافات والسحر والشعوذة ومحاربتنا بالوعي الجمعي المتخلف التفكير العلمي حتى اصبح من واجبنا الحضاري الخرافي تصدير جميع خرافاتنا السحرية واليوتوبيات الفارغة وايماننا بعالم الجان للغرب المتحضر بالعلم والذكاء الصناعي والريبوتات الذكية عالم الغرب المتخلف بتفكير العقل الايماني المعتدل السليم؟

إله الفلاسفة

اذكر قرأت أن امراة متزمتة دينيا وقفت امام بيرتراند رسل وعنفته بلهجة شديدة قائلة له ماذا ستقول لله يوم الحساب والقيامة في الاخرة بعد موتك وانت تجاهر بالحادك؟ اجابها رسل وقتها اسال الله لماذا حجبت عني البراهين التي تثبت وجودك لاعبدك.؟

وعن نفس السؤال لانشتاين اجاب سائليه ساقول له – يقصد الله - انا على دين إله اسبينوزا. وكان يقصد مذهب وحدة الوجود الذي انكر فيه اسبينوزا المعجزات الدينية واعتبرها مجافية لمنطق العقل وقال الله جوهر كلي لا تدركه عقولنا ازلي خالد، وبدلالة الجواهر الموزعة في اعجاز الطبيعة بموجوداتها نستدل على وجود الله الجوهر الكامل الكلي الازلي الخالد اللانهائي. فاتهموه بالالحاد الذي كان انشتاين مسرورا انه وجد في مذهب اسبينوزا مخرجا له ينقذه من مازق اتهامه بالالحاد.

اسبينوزا في مذهب وحدة الوجود اصاب بمقولة له الماركسية والوجودية بمقتل لابراء منه بسهولة حين قال (اننا بدلالة الجوهر ندرك الوجود) ومعلوم ان ما تؤمن به الماركسية يقينا مطلقا اننا بدلالة الوجود المادي نفهم الصفات الخارجية والجوهر بالاشياء. اسبينوزا لم يكتف بتغليب الفكر على المادة خلاف الماركسية بل ذهب ابعد من ذلك حين اعتبر اننا بغير دلالة الجوهر الكلي الكامل الخالق الله لا ندرك الوجود ولا الجوهر في موجودات الطبيعة والاشياء. ما حدا بالماركسية للخروج من احراج اسبينوزا المثالي قولها البحث عن الجوهر في الطبيعة وموجودات العالم الخارجي خرافة ساذجة لاقيمة لها. واعتبرت الماركسية ان ادراك الصفات الخارجية للاشياء كافية ولا قيمة تذكر للجوهر.

كثيرا ما استوقفتني عبقرية باسكال الايمانية بالله الذي توفي مبكرا ولم يكمل مشواره الفلسفي الايماني البراجماتي. كانت عبارته الايمانية البراجماتية ما معناه عليك الايمان بوجود الله وتصرّف بالحياة بما يمليه عليك الايمان فانك بذلك سوف لن تخسر شيئا وتكون كسبت دنياك. واذا ثبت لك يوم الدينونة والحساب ان الله غير موجود فايضا سوف لن تخسر شيئا واذا تحقق لك وجوده تكون ربحت دنياك وآخرتك. اجد ان الدين عموده الفقري الايمان القلبي بالله وممارسة الطقوس العبادية الخاصة. ثم تليها مرحلة اخرى هي مرحلة الالتزام السلوكي بالقيم التي مصدرها الضمير وبالاخلاق وما يتفرع عنها من جوانب في عمل الخير والصلاح ومحبة السلام الخ. لا دين بلا قيم روحانية.

مقولة باسكال البراجماتية النفعية الايمان بالله بلا تجربة اثبات اقتبسها ماكس شيلر بتعبير آخر قائلا: " النظرية الجديدة ان الانسان نفسه اصبح مركز العالم او المحل الاوحد الذي يدرك فيه الله ذاته ويحقق ذاته. هنا شيلر يذكرنا بالفكرة التي نادى بها كل من اسبينوزا وهيجل ان الموجود الاصلي – المقصود الله – يشعر بذاته من خلال الاشياء وقد اصبح مدعما في صميم الوجود الالهي. وانتهى شيلر بايمانه الديني بفكرة (الظهور المتبادل للانسان والله). المصدر ص 390. طبعا واضح من كلام شيلر ان الخالق يدرك وجوده الالهي بدلالة ايمان الانسان به بوحدانيته وقدراته غير المحدودة وصفاته السامية المثالية التي يخلعها الانسان على معبوده.

قبل 3500 قبل الميلاد قال الفيلسوف اليوناني بروتوغوراس مقولته الشهيرة (الانسان مقياس كل شيء) وهو كان وقتها يقصد الانسان مركز كل فكر يتعلق بالوجود والطبيعة ولم يكن يقصد الانسان مركز تفكير ميتافيزيقا اللاهوت الذي لم يكن معروفا وقتذاك في الايمان بتعدد الالهة عند الاغريق والرومان.

اليس من الغريب ان نقول ان مقولة بروتوغوراس يمكننا اسقاطها الصائب على اللاهوت الديني المعاصر في مركزية الانسان اليوم.؟ وان الانسان اصبح مقياس كل شيء.؟

في كتابه الشهير"اصل الدين" يذهب فيورباخ فيلسوف المادية الطبيعية الصوفية الى ان الانسان والطبيعة والاله توليفة واحدة مركزيتها علاقة الانسان بالطبيعة في اختراعه الاله. وهو بهذا الطرح يلتقي بمذهب وحدة الوجود لدى اسبينوزا وصوفية الاديان الوثنية الشرقية عامة. بفارق واحد هو ان فيورباخ كان ماديا في صوفيته اي معتبرا الطبيعة مصدر الهام الانسان اختراعه الدين.

اسبينوزا كان متأرجحا في فلسفته مذهب وحدة الوجود بين الايمان والالحاد فهو من جهة ادان وانكر المعجزات الدينية واعتبرها اعتقادات بالية منافية للعقل. وكي يبعد عنه شبهة الالحاد التي لاحقته وجعلت الكنيست اليهودي في هولندا تعتبره مهرطقا منبوذا من طائفته الدينية اليهودية ما جعله يمضي بقية حياته متنقلا باسماء مستعارة كما فعل ديكارت نفس الشيء بعد هروبه من فرنسا محاكم التفتيش الى هولندا حتى وفاته. عمد اسبينوزا اختراع مذهب وحدة الوجود.

مذهب وحدة الوجود الصوفي في فلسفة اسبينوزا كان غريبا جدا فلا هو ينتمي حقيقة الى الايمان ولا هو يماليء المذاهب الصوفية التي حاولت تطويع التصوف لتبعية الفلسفة واخفقت. السبب الحقيقي هو ان منبع التصوف بجميع مذاهبه كان الشرق موطنه الاصلي في بلاد العرب والفرس والهنود والصين. هذا الهاجس جعل الاسكندر المقدوني يقوم بحملته التي فتح بها الهند وبلاد فارس والعراق البابلي ومصر الفرعونية ومات عام 321 قبل الميلاد دون ان يحقق حلمه في رغبته مزاوجة منطق اليونان الفلسفي العقلي مع صوفية الشرق التي ملكت قلبه. ويؤرخ الفلاسفة موت الاسكندر المقدوني هو بداية تاريخ العصر الهلنستي بالفلسفة الذي حاول إحياء حلم الاسكندر المقدوني في مزاوجة فلسفة اليونان مع صوفية الشرق بين مصر وروما.

بالعودة لشيلر نجده يؤكد مذهب وحدة الوجود متاثرا بطروحات اسبينوزا وهيجل رغم الاختلاف والبون الشاسع الاختلافي بينهما. قائلا اننا بدلالة الانسان نشعر بوجود عظمة الخالق. كذلك فيورباخ الذي مررنا به لم يغادر مقولة مركزية الانسان في وحدة الوجود الصوفية المادية التاملية التي اثارت حفيظة ماركس ضده. معتبرا فيورباخ اصل الدين هو من اختراع الانسان في علاقته بالطبيعة.

فيورباخ كان متاثرا بالطبيعة بشكل مذهل ما جعله يكتب رسالة لابيه يخبره بها انه ترك دراسة اللاهوت ليجد كل ما يتمناه بالطبيعة فاصدر ثلاثة كتب محورها دور الطبيعة في نشوء الاديان واختراع الانسان لها. يحضرني عناوين اثنين فقط من كتب فيورباخ هما كتاب (اصل الدين) وكتاب (جوهر المسيحية).

وفي هذا التعلق المستميت بالطبيعة كانت مادية فيورباخ لقبه باليونانية قناة النار. التي استعارها ماركس منه باقرار مكتوب حين وضع قانون المادية التاريخية الجدلية في مؤلفاته بعضها ثلاثة اطروحات كتبها عن فيورباخ نشرت بعد وفاة ماركس. كما اخذ ماركس الجدل المقلوب الواقف على راسه من هيجل.

برايي الشخصي رغم مادية فيورباخ الالحادية المشكوك بها الا انه وجد ضالته الميتافيزيقية بمركزية الانسان على انه كائن ميتافيزيقي ديني بالفطرة رغم ايمان فيورباخ المادي ان علاقة الانسان بالطبيعة خلقت إله السماء. كما هو الانسان كائن اجتماعي بالفطرة ايضا ومن الخطا القول الانسان حيوان ناطق بالفطرة بل حيوان لغوي ناطق بالخبرة المكتسبة. تعلم اللغة غير موروث فطري بل اكتساب من العائلة والمحيط والمجتمع.. اود الاستطراد المختصر السريع حول فطرية تعلم اللغة عند الطفل غير الرجل البالغ توجد مدرستين فلسفيتين الاولى يطلق عليها مذهب (السلوك اللفظي) رائدها سكينر تؤمن بفطرية اللغة. وكذلك مدرسة ثانية تزعمها نعوم جومسكي تناوىء مدرسة السلوك اللفظي وتؤمن بالاستعداد الفطري لتعلم اللغة بما اطلق عليه (التوليدية اللغوية ). وهي الاكثر مقبولية.

توجد مقولة تنسب لتولستوي على ما اعتقد قوله الله ضرورة لو لم نجده على الارض لاخترعناه. ولم تسلم هذه المقولة في اسقاطها على الشعر الغنائي حين قال نزار قباني في قصيدة ماذا اقول له؟ غنتها الرائعة نجاة الصغيرة (الحب بالارض بعض من تخيلنا لو لم نجده عليها لاخترعناه).

***

علي محمد اليوسف - باحث فلسفي

.................

الهوامش:

الاقتباسان في المقال هما نقلا عن زكريا إبراهيم، دراسات في الفلسفة المعاصرة

هل للدين فلسفة؟ والجواب، نعم! له فلسفته، إذا كانت له منطلقاته وقواعده وأحكامه. وكان معناه التأمل فيما يمس بؤرة الشعور الإنساني ويستغرق بالكلية منطق الوجدان، وكيف تُقام فلسفة (والفلسفة تقابل العقل، والعقل يفرز العلم والمعرفة العلميّة) على منطق ندّعيه هو منطق الوجدان؟

هذا سؤال من الأسئلة اللافتة للنظر من الوهلة الأولى غير أنه لافت للنظر مع غيبة البديهة، ولكن مع حضورها لا تجد له معنى.

نعم! تقام الفلسفة على منطق الوجدان كما تقام على منطق القانون أو على منطق اللغة أو على منطق الدين، أو على منطق العلم أو على أي منطق أرادت الفلسفة أن تقيمه. ليس هناك ما يمنع من قيامها على منطق الوجدان مع المعرفة التامة التي لا شك فيها بالفروق الفارقة بين منطق العقل ومنطق الشعور والوجدان؛ لأن هذه المعرفة مع دعوى تمامها ناقصة عجزاء إذا أغفلت بديهة حاضرة، وهى حقيقة الإنسان الأصليّة.

فليس الإنسان يعي أو يعيش بالعقل والفلسفة وحدهما، وليس هو بالشعور والوجدان إنساناً وحده، ولكنه يجمع بينهما في اتساق لا تناقض فيه، إذْ من المؤكد عندنا: استناد الفكر على الوجدان، والعقل على الشعور وهو المقرر هنا فيما لا شك فيه، كما تقرّر سلفاً لدى الإمام محمد عبده، وكما تقرر أيضاً لدى الدكتور محمد إقبال؛ لا بل كما تقرّر قبلاً لدى أفلاطون عندما قال: إنّ التفكير كلام نفسي، وصاغته ملكة الطبع العربي شعراً:

(إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنمّا جُعل اللسانُ على الفؤاد دليلاً)

على أن توضيح الغرض من أي فلسفة، ولتكن فلسفة العلم (تاريخيّاً) يبدو في كون العلم ظاهرة إنسانية قديمة قِدم الإنسان، نشأت مع ظهوره؛ فاخترع رموز العدّ الرياضية قبل أن يضع الأبجدية المكتوبة؛ فطالما كانت الغاية تطويع البيئة بالسحر تارة، وبالتقنية التي يصيغها له العلم تارة أخرى، تلك الظاهرة المستمرة التي كانت حصيلة مجهودات بشرية متراكمة لم تتوقف أبدًا؛ فقد وضعت حضارات الشرق القديم أصوله، وصاغ الإغريق أسسه النظريّة، ثم اعتنى العرب بترجمته ودَرْسه وتطبيقه في عصورهم الذهبية، فلم يَضِع في ظلمات العصور الأوروبية الوسطى؛ فكانت ثوراته الكبرى في عصور العقلانيّة والتنوير.

وهنا تظهر الفلسفة في المشهد من جديد؛ فالعلم أصبح يشكل الواقع والمعقول؛ وبالتالي يحتاج لدراسة خاصّة تضبط منطقه وتتبع تطور أساليبه العلمية والمنهجية، كما تضطلع بعبء دراسة إطاره التاريخي وعمقه الحضاري؛ لنخرج بنظريّة فلسفيّة خاصّة بالمعرفة، وعلوم جديدة تتبع تاريخ العلم وترسم منطقه ومنهجيته وتدرس قوانينه ونتائج نظرياته في تطور لا يثبت على قرار.

غير أن فلسفة العلوم بصفة خاصة هي إحدى فروع الفلسفة، تُعنى بدراسة طرق وأسس ومضامين العلم، كما أن الأسئلة المركزية لدراسة فلسفة العلوم تتعلق بما هو مؤهل لأن يُلقب بالعلم، ومدى القدرة على الاعتماد على النظريات العلمية، والهدف النهائي للعلم.

فهل يصبح الدين علماً في مستقبل الأيام؟

نعم! تتعدد المداخل الفلسفية وتختلف باختلاف المذاهب والمدارس، وكذلك تختلف من حيث نوع العلم الذي تختص بصياغته ومناقشته وتفسيره وتحليله، ومن ضمن تلك العلوم الفلسفيّة ما يسمى بفلسفة العلوم، وهي فلسفة انتشرت على مرّ العصور، وكان لها تأثير بارز لا شك فيه.

فلئن كنتُ أنا لا أعني مطلقاً أن تكون هناك قطيعة معرفية تجئ بينا وبين الغرب، بل ولا نستطيع أن نفعل ذلك، فكل ما أقول به هو التفكير الدائب في التقليل من مثل هذا النزوع الغريب إزاء تقليد المدارس الغربية المعاصرة، ومحاولة محاكاة روّادها ومؤسسيها في مناهجهم ومذاهبهم، وليس محاولة نقدها وفحصها؛ بل لتطبيقها عنوة على عقائدنا وتراثنا وخصوصيتنا الحضاريّة وهُويّتنا الثقافية، وهى من بعدُ أفشل المحاولات!

مثل هذا الترقيع البغيض غير مقبول ببداهة المنطق من الوهلة الأولى، ومع ذلك يقع فيه الباحثون رغم عرفانهم ببديهة رفضه، وفشل الاعتماد عليه مع تطبيقه أو التنويه إليه، كما فشلت محاولات قبل ذلك ومحاولات، فمن يعتمد على الترقيع لا يَسْلَم آخر الأمر من المهانة العقلية؛ فهو موضع الخطر يقع فيه كثيرون ممّن مارسوا في السابق عملية نقد التراث أو تجديد التراث أو التماس لغة مغايرة للخطاب الديني أو دعوى التفكير العقلاني المُوغل في الدعوى المؤسسة على الاستقلال، وهى في نفس الحال دعوى غارقة في التقليد لعلماء الغرب ومفكريه والمحاكاة لهم في غير استقلال.

لا ينجمُ التقليد عن أصالة، ولا يسفر عن استقلال أو عن شعور بالتبعة من الوجهة الأخلاقية، يستوي في ذلك من يقلّد الأفكار الغربية أو يقلد الأفكار التي تنتمي إلى بني جلدته.

كل تقليد مذموم لأنه يؤدي إلى الاستكانة والجمود، وهو ضد المعرفة وضد التفكير، وهو مذموم في العقل مذموم في الدين، وفوق هذا هو مذموم في البحثّ عن الحقيقة.

وموضع الذم فيه أنه يعتمد على المتابعة التي لا يظلها جهد التفكير، ولا تجمعها وحدة معرفية أو عقلية، ولا غوص عميق في المصادر الدينية المعتبرة، بمقدار ما يعتمد على المغالطات لتزوير الحقيقة التي هو بصدد البحث فيها، لأنه لا يتوخىّ عرضها بالتجرّد والنزاهة والإنصاف، ولكن يعرضها بمطلق الهوى ومطلق الغرض وهما نقائض البحث العلمي ونقائض المنهجية العلميّة سواء، ثم لا يقتصر الأمر على هذا الحدّ؛ بل يتفاخر بمعرض السوء وصناعة الأمجاد الكاذبة.

لذلك كله؛ ومن أجل ذلك كله؛ نفضل من حيث الاصطلاح العلمي الدقيق ألا نقول "فلسفة الدين"؛ بل نقول "فلسفة العلوم الدينية"؛ لتجنب الخلط بين الوحي في ذاته، وهو مصدر الدين، وبين الفلسفة ومصدرها "العقل"، وما دامت الفلسفة تقف وراء العلم من حيث هو علم ديني لا من حيث هو دين، مصدره الوحي؛ فإنّ اصطلاح فلسفة الدين هذا، فيه مغالطة منطقية ومبالغة تصل إلى درجة الخطأ.

أمّا اصطلاح فلسفة العلوم الدينية؛ فهو اصطلاح مقبول عقلاً ومنهجاً؛ لأنه يقوم على علوم الدين لا الدين في ذاته.

وقد يُقال بالمقاربة على غرار ذلك؛ إننا نقول فلسفة العلم تماماً كما نقول فلسفة العلوم، ولا نجد غضاضة في التسمية؛ إذْ لا مشاحة في الألفاظ. والرد على ذلك بسيط جداً؛ وهو أنك عندما تقول "فلسفة العلم" لا تخرج بعيداً عن السياق المنطقي المستخدم في ميدان العلم، ولا تخرج عن ميدان الفلسفة ولا عن ميدان فلسفة العلم بوجه عام.

ولكنك حين تقول فلسفة الدين، فأنت تجعل للوحي شروطاً فلسفية فتخلط من حيث لا تدري مجالاً بمجال. ومعلوم أن مجال الدين في ذاته مقدّس، وسرُّ تقديسه أنه وحي من عند الله.

أمّا ما يُقام عليه من علوم فلا تقديس فيها، ومن حق الفلسفة أن تحيلها إلى منطقها وتتدخل فيها من حيث إضفاء الطابع النظري النقدي المنهجي على العلوم التي تتناول الدين.

أمّا الدين في ذاته، فلا. لا يمكن أن يتحوّل الدين في ذاته إلى فلسفة ولا شرط للفلسفة أن تناقش قضايا الوحي، وهو معصوم، مناقشة فلسفية حظ العقل فيها أكبر من حظوظ سواه، ما لم تقم على الوحي علوماً تفسيرية وتأويلية يتدخّل في تصنيفها العقل البشري ويطلع بالجانب الأكبر من تأسيسها، وإذْ ذاك يحق لمناهج العقل أن تبحث في فلسفة العلوم الدينية، وتظل مشروعية هذا الاصطلاح قائمة كلما توغل العقل البشري؛ ليخاطب بطرائقه المعرفية المعتبرة أصنافاً لا حدّ لها من ألوان التفكير في الدين.

ــ اصطلاحاً؛ نقول فلسفة العلوم الدينية ولا نقول فلسفة الدين؛ لتجنُّب الخلط بين مجال الإيمان الديني الذي يقوم على الوحي، ومجال العلم الذي يعتمد النظر في التجارب المعمليّة والمحسوسات الطبيعية، كما يعتمد منجزات العقل والمعرفة العقلية بمناهج يستخدمها العقل نفسه في مجال علوم الدين. وهذا أسلم للبحث العلمي وأقرب للموضوعية والنزاهة العلميّة.

وبنفس هذا المقياس في تلك الفوارق من حيث كونها مفاهيم مستخلصة، يستوقفنا التساؤل حول (العقيدة والدين)، أو حول الإيمان والعقيدة؛ ليقيم جدلاً نظريّاً إزاء ما يمكن طرحه عند دلالة المفاهيم المستخلصة؛ لتشكل رؤية قائمة مع كل مفهوم مطروح.

ولا شك أنّ جدل الأسئلة المطروحة يثير كثيراً من التساؤلات الفرعيّة ويتوقف الإجابة عليها على فعل القناعات الإيمانية والمعتقدات التي تواكب تأصّلها في الفكر والشعور؛ فنحن نضيف العقيدة أحياناً إلى الفكر كما نضيفها إلى الدين، فنقول "العقيدة الدينية" لتميزها عن العقائد الفكريّة سواء لدى الفلاسفة أو المفكرين أو الأدباء أو العلماء، فكل هؤلاء وأولئك لهم عقائدهم في مجرى التفكير والشعور، بمقدار ما لهم كذلك آراء تخصّهم أو تخص غيرهم ممّن يحيون على تلك الآراء عقائد يطبقونها على حياتهم الفعليّة ويقيمون عليها مجدّداً محاور البناء.

لا نشك في عموم الدين من حيث التّوجه به إلى أصل القداسة شعوراً من أعمق الأسس النفسية في كل ديانة؛ لأن شعور القداسة هذا هو الأصل الأصيل لكل حاسّة جديرة أن توصف بالصفة الدينيّة وتنبني عليها عقائد المؤمنين، ولولاها لما كانت ديانة على الإطلاق.

أيّهما الأعمُّ الشامل وأيهما الأخص الأضيق: العقيدة أم الدين؟

بداية لا يُقاس الدين ولا العقيدة الدينية بمعيار المنطق، وإنما معيار المنطق يجوز أن يفعّل في النتاج لا في الأصول، ويجوز أن يُرى في الوقائع لا في الأطر النظريّة.

وإذا نحن قلنا عقيدة دينية ونسبناها إلى الدين عزّ علينا أن نجرّدها من شعور القداسة، ويبقى معناها لازماً فيما يشتمل عليه وجدان المفكر في العصر الحديث؛ فهي من ثمَّ طريقة حياة لا طريق فكر ولا طريقة منطق ولا طريقة دراسة.

لا معنى للعقيدة الدينية عندنا إذا كان قصاراها هو ما تشتمل عليه الأوراق والمجلدات والمتاحف والمحفورات، ولا معنى لها عندنا اذا كان قصاراها أيضاً إقامة مجموعة دراسات نظريّة وفلسفات تمس الأطر الخارجة ولا تمس بواطن الأمور وجواهر الأشياء، وإنمّا معناها الحقيقي حاجة النفس كما يحسُّها من أحاط بتلك الدراسات، ومن فرغ من العلم والمنطق والمراجعة ليرقب مكان العقيدة من قرارة ضميره.

معناها بهذا المعنى تحقّق "الإيمان" في مسارب الفكر وخلجات الضمير.

يلزم عن هذا (من جهة المنطق) أن تتاح الحرية للعقيدة، ويتاح لها في الوقت نفسه الاستقامة، فلا شيء يقدح في العقائد غير نزع الحريات، ولا شيء يصيبها بالجدب والتجديف غير غيبة الاستقامة الصادرة رأساً عن الحرية، فالعلاقة أسمى ما تكون وأوثق ما تكون بين الحرية والاستقامة.

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

في المثقف اليوم