أقلام فكرية

أقلام فكرية

فعلُ الخير ليس مشروطًا

‏الإنسانيةُ غيرُ المشروطة منبعُ كلِّ خير يقدمه الإنسان لكلِّ مخلوق. ‏طاقةُ الإنسانية غيرُ المشروطة تضيء العالَم بأجمل ما يمتلكه الانسان. ‏الإنسانيةُ غير المشروطة على الضد من ‏إنسانية مشروطة تحصرها بهوية أو معتقد أو دين أو أيديولوجيا أو قومية أو جغرافيا أو ثقافة محلية، وأمثالها من شروط وقيود وأوصاف تسجنُ استعدادَ الإنسان لفعل الخير وتضعه في حدودها. مَنْ هو محتاجٌ للإغاثة والحماية والدعم والرعاية والرحمة يستحقها، بغض النظر عما تفرضه الهويات الاعتقادية من حصر فعل الخير ووضع أسوار تحدده في اطارها. في ‏الإنسانية غير المشروطة يُنظَر إلى حاجة المخلوق ويغاث تلهفه، ولا ينظر إلى مَنْ هو المخلوق ولا إلى هويته.

مَنْ يعتنقُ عقيدةً انحصارية، تحصرُ النجاةَ في الدنيا والآخرة بمعتقده، ولا ينجو من النار ويدخل الجنة في الآخرة أيُّ إنسانٍ لا يعتقدُ بعقيدته، يكون لديه فعلُ الخير مشروطًا، بنحو لا يصدقُ عنوانُه وفقًا لمعتقده إلا على ‏مَنْ ينتمي إلى هويته الاعتقادية. هذا الإنسانُ الذي لا يصدق عنوانُ فعل الخير لديه على أيِّ إنسان ‏لا يعتقدُ بعقيدته، لا يجدُ حافزًا دينيًا يدعوه لفعل الخير من أجل إنسان مختلف في المعتقد. فعلُ الخير في نظره يصدقُ على عنوان الهوية الاعتقادية لا غير، لا على الإنسان بوصفه إنسانًا. العقيدةُ الانحصاريةُ تفرض على كلِّ مَنْ يعتقدُ فيها أن يعيشَ وذهنُه وضميرُه الأخلاقي ومشاعرُه مسجونةٌ داخلَ هويته الاعتقادية. لا يكون الإنسانُ في هذه العقيدة إلا أداة تُستخدم لأجل العقيدة، كما تُستخدم الأشياء أداة لتحقيق غرض معين.

مَنْ يتمسك بمعتقد انحصاري يجعل ‏الغايةَ معتقده، الإنسانُ ليس غايةً، الإنسانُ أداةٌ لتحقيق ما تفرضه عليه هويتُه الاعتقادية، لذلك لا يفعل خيرًا من أجل الإنسان بما هو إنسان، وإنما يفعل الخير من أجل المعتقد الذي يحدد له مَنْ ينطبق عليهم عنوانُ فعل الخير من البشر، وهم كلُّ مَنْ يعتقد بمعتقده خاصة من دون غيره من الناس.كلُّ شيء يفعله لا يأخذ الإنسان بوصفه إنسانًا موضوعًا للتكريم والاهتمام والاحترام، وإنما يأخذ الإنسان بوصفه إنسانًا يعتقدُ بمعتقدٍ معين موضوعًا، فالتكريم والاهتمام والاحترام يبدأ بالإنسانِ الذي يشترك معه بمعتقده، وينتهي عندما لا يكون الإنسانُ مشتركًا معه في الهوية الاعتقادية. يكتب ابن تيمية: (وأمّا الكفار فلم يأذن الله لهم في أكل أي شيء، ولا أحلّ لهم شيئًا، ولا عفا لهم عن شيء يأكلونه، بل قال: "يا أيّها الناس كلوا ممّا في الأرض حلالًا طيبًا"، فشرط فيما يأكلونه أن يكون حلالًا، وهو المأذون فيه من جهة الله ورسوله، والله لم يأذن في الأكل إلا للمؤمنين به، فلم يأذن لهم في أكل شيء إلا إذا آمنوا، ولهذا لم تكن أموالُهم مملوكةً لهم ملكًا شرعيًا، لأنّ الملك الشرعي هو المقدرة على التصرف الذي أباحه الشارع صلى الله عليه وسلم، والشارع لم يبح لهم تصرفًا في الأموال إلا بشرط الإيمان.. والمسلمون إذا استولوا عليها فغنموها ملكوها شرعًا، لأنّ الله أباح لهم الغنائم ولم يبحها لغيرهم) . الغريبُ أن الخطابَ في الآية القرآنية التي استدل بها "يا أيّها الناس كلوا ممّا في الأرض حلالًا طيبًا" يشمل كلَّ الناس، ولم يختصّ بالذين آمنوا، فكيف يُستدلّ بها ويحصرها بالمؤمنين خاصة. الاستدلالات من هذا النوع الغريب الذي يقرأ الآيات في ضوء معتقد المفسّر والفقيه في مدونة التفسير والفقه لمختلف المذاهب ليست قليلة.

في ضوء مفهومي لـ "الإنسانية الإيمانية" يصدق فعلُ الخير على كلِّ عملٍ يساهمُ في حماية كرامة الإنسان بوصفه إنسانًا بغض النظر عن معتقده ورعايته وإسعاده، ويحرصُ على حقوق كلِّ فرد، إلى أي جنس، أو أي دين، أو أية ثقافة، أو أية هوية ينتمي. فعلُ الخير هو كل مسعى يعمل على بناء الحياة، باستثمار قيم الخير والحق والعدل والسلام، وتكريس ما يسعد الإنسان ويجعل العالَم أجمل، ويحرص على نفع الناس وحل مشكلاتهم، بغض النظر عن الاتفاق أو الإختلاف مع هؤلاء الناس في المعتقد أو الهوية أو الثقافة، وغيرها. عندما تكون الإنسانية هي المنطلق والغاية يصدق حينئذ على كلِّ مسعى من أجل إسعاد الإنسان أنه فعلٌ للخير.

فعلُ الخير في "الإنسانية الإيمانية" موضوعُه الإنسانُ من حيث هويته الإنسانية لا غير، يبدأ بالإنسان وينتهي بالإنسان بوصفه إنسانًا، بلا تصنيفات إضافية أيديولوجية واعتقادية وعرقية وثقافية وجغرافية تتعالى على هويته الإنسانية. الإنسانيةُ وحدها هي مناط التكريم والاحترام، الاهتمام بالإنسان ‏بوصفه إنسانًا بذاته، إنسانًا قبل كل شيء وبعد كل شيء. ‏عندما تكون الغاية هي الإنسان من حيث هو إنسان، وليس الإنسان من حيث هو أداة من أجل عقيدته أو هويته أو إثنيته، حينئذ يكون فعلُ الخير من أجل الإنسان، لا من أجل ‏عقيدة الإنسان. في "الإنسانية الإيمانية" العقيدة هي الأداة والإنسان هو الغاية، العقيدة أداة من أجل احترام كرامة الإنسان وحماية حرياته وحقوقه واسعاده. ‏

في "الإنسانية الإيمانية" يقترن الإيمان بالعمل الصالح، فقد وردت كلمة الصالحات 180 مرّة في القرآن الكريم، وجاء العمل الصالح ملازمًا للإيمان في 75 موردًا في القرآن، وذلك يشي بأن الأثر الطبيعي للإيمان هو العمل الصالح، ففي "المواضع التي يذكر فيها القرآن الذين آمنوا يقرن بينهم وبين العمل الصالح بشكل صريح، فيما يقرن الإيمان بألوان من الرؤى‏ والقصد والسلوك في المواضع الأخرى‏، يجسد العمل الصالح روحها، ويمثل مادتها التي تتقوم بها، فإن أركان الايمان، وثمراته في الدنيا، وثوابه في الآخرة، كلـها تأتلف مع العمل الصالح متواشجة في منظومة واحدة، يكتسي ظاهرها وباطنها بالعمل الصالح. ويتجلى‏ لنا ذلك بوضوح عندما نتأمل الآيات التي اقترن فيها الإيمان بالله بالعمل الصالح، فقد ارتبط العمل الصالح ارتباطًا عضويًّا بالإيمان، وبدا العمل الصالح كمعطى للإيمان" . الإنسان يكون صالحًا بقدر جهوده وأثره وثمراته الطيبة في الحياة، وبما يقدمه من عطاء يجعل العالَم أجمل. العمل الصالح معنى عام يصدق على كل جهد يعمل على بناء الحياة، وكل ما ينفع الناس ويحل مشكلاتهم ويسعدهم، بغض النظر عن الاتفاق أو الإختلاف معهم في المعتقد والهوية والثقافة، "وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ"، الرعد، 17.

-2-

فعل الخير في ضوء مقولة الولاء والبراء

مفهوم فعل الخير والعمل الصالح اللامشروط يتنافى مع مفهوم فعل الخير والعمل الصالح في ضوء مقولة الولاء والبراء، إذ لا يصدق فعلُ الخير والعمل الصالح فيها على المختلف في المعتقد. في إطار مقولة "الولاء والبراء" لا يكون فعلُ الخير خيريًّا أو العمل الصالح صالحًا بذاته، وبوصفه فعلًا يُسعِد الإنسان المتلقي له والمبادر به، وإنما يستمدُ فعلُ الخير قيمتَه من كونه متصفًا بالخيرية بحسب المعايير والحدود المرسومة في مقولة "الولاء والبراء"، وهذه الصفة لا تتحقّقُ إلا عندما يكون ذلك الفعلُ من أجل المشتركين في العقيدة، فيكتسب قيمتَه الخيرية وصلاحه من حكم العقيدة بأنه فعلُ خير وعملٌ صالحٌ، وليس بالضرورة أن يكون ذلك الحكمُ مطابقًا في كل الحالات لحكم العقل الأخلاقي "العقل العملي"، لأن أحكامَ العقل الأخلاقي لا تقبلُ التقييد بهوية اعتقادية أو سواها من الهويات القومية وغيرها. أحكامُ العقل الأخلاقي لا تقبل التقييد، فالكذبُ قبيحٌ والصدقُ حَسَنٌ مع كل الناس، والظلمُ قبيحٌ والعدل حَسَنٌ مع كل الناس، والأمانةُ حَسَنةٌ والخيانة قبيحةٌ مع كل الناس، بغض النظر عن معتقداهم الدينية وهوياتهم المجتمعية وغيرها.

عندما يشدّدُ من يتبنى "الولاء والبراء" على أن أيَّ فعلِ خيرٍ وعملٍ صالح يجب أن يكون لله، ولا يُشرك به أحدًا من الخلق، يريد بذلك أنّ كلَّ فعل لا يتصف بالخيرية إلا إن كانت تنطبق عليه المعايير والقيود والشروط المنصوص عليها في العقيدة كما يفهمها ويفسّرها هو، وهي تعني ألا يفعل فعلًا من أجل الإنسان بوصفه إنسانًا، بل يفعله لمن ينتمي إلى معتقده خاصة . وإن كان المقصودُ هو الإنسان في بعض الحالات فإنه مقصودٌ لسبب ما، وليس لكونه إنسانًا فقط، وهو ما تحيلُ إليه الرؤية التوحيدية السلفية الذي تتفرع عنها مقولةُ "الولاء والبراء". لذلك لا يبادر مَنْ يعتنقون هذا المعتقدَ إلى فعل الخير للناس من دون نظر لعقيدتهم، يختص فعلُ الخير لمن يشترك معهم في المعتقد دون سواه، بمعنى أن التديّنَ الذي يبتني على هذه الرؤية يرى أن الصلةَ بالله لا تتحقّق إلا من خلال ميثاقٍ خاص للاعتقاد، وما يرسمه هذا الميثاق من حدود تفصيلية دقيقة لمعتقداتِ المتديّن وسلوكِه. الميثاقُ يتضمن مقولاتٍ اعتقاديةً تمنع فعلَ الخير لمن يعتقد بمعتقد آخر في بعض الحالات، وترسم بوصلةً ترشد لخارطة الخيرية التي حدودها أهل المعتقد، داخل هذه الحدود تكون للفعل قيمة دينية تجعله مصداقًا لعنوان كونه خيريًا وصالحًا.

إن مقولة "الولاء والبراء" وغيرَها من مقولات اعتقادية ترسم حدودًا صارمةً لفعل الخير الذي الذي ترى أنه يُرضى الله، وهو كلُّ فعلٍ مشروعٍ بالمعنى الذي تضع حدودَه مدونة الاعتقاد، وكلُّ ما لا يرضى اللهُ عنه على وفق هذا المعنى لا يكون مصداقًا لفعل الخير. وعلى هذا لا يكون الإنسانُ الذي ينطبق عليه عنوانُ ديني أو مذهبي آخر موضوعًا لفعل الخير والعمل الصالح. ولا ينظر إليه من أجل كونه شريكًا في الإنسانية أو محتاجًا لفعل الخير، لأن مثلَ هذا الفعل ليس مطلوبًا لله من منظور أكثر متكلمي الفرق.

إن العملَ الخيري لأجل الإنسانِ بما هو إنسان ليس مصداقًا لفعل الخير لدى أتباع مَنْ يحرّم حتى المبادرةَ بتهنئة مَنْ ينتمي لدين آخر في أعياده، ويحرّم تحيتَه والسلامَ عليه. يقول ابن القيّم: "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر، فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب... وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك" ، بل يحرّم بعضُهم أكلَ ذبيحة مَنْ لا يصلي، ودعوته لأية مناسبة، ويفرض مقاطعةً شاملةً عليه. فقد "سئل الشيخ ابن عثيمين، عن حكم السلام على غير المسلمين؟ فأجاب بقوله، البدء بالسلام على غير المسلمين محرم ولا يجوز" ، "البدء بالسلام على غير المسلمين محرم ولا يجوز" . و"سئل الشيخ عبد العزيز بن باز، عن حكم جواز الأكل من ذبائح تارك الصلاة عمدًا الذي لا يصلي لا تؤكل ذبيحته. هذا هو الصواب... إن الذي لا يصلي لا دين له، ولا تؤكل ذبيحته... فلا تؤكل ذبيحته، ولا يدعى لوليمة، ولا تجاب دعوته؛ بل يهجر حتى يتوب إلى الله وحتى يصلي" . وقد بلغ الأمر لدى ابن تيمية أقصى مدياته عندما منعَ الإفادةَ من خبرات ومعارف غير المسلم ومنعَ تقليدَه حتى في ما فيه مصلحة للمسلم، إذ يقول: "لا تقلدهم حتى في ما فيه مصلحة لنا، لأن اللهَ إما أن يعطينا في الدنيا مثله أو خيرًا منه، وإما أن يعوضنا عنه في الآخرة" . وهذا يعني مقاطعةَ المسلمِ للعالَم غير المسلم كلِّه، وذلك متعذر، لأن العالَم اليوم متداخلٌ ومتفاعل ومتشابك كنسيج مترابط في تواصله وتبادله وتفاعله في مختلف مجالات الحياة، وليس بوسع مجتمع يريد أن يحضر في العالَم العيش وكأنه في جزيرة يغلقها على نفسه.

تورّطت أكثرُ الأديان المعروفة بالتكفير في مرحلة من مراحل تاريخها، ولم ينفرد فيه دينٌ واحد فقط، على تباين في درجة التكفير واختلاف في أنواعه وآثاره وحدوده. التكفيرُ مأزق الأديان، التكفيرُ يُفشِّل كلَّ محاولة جادّة للحوارٍ والتعايش بين الأديان. يتنكّر أكثرُ أتباع الأديان للتكفير في أديانهم وتراثهم وتاريخهم، وينزعج كثيرون من الحديث عن التكفير لدى الفرق والمذاهب في تراثنا، وعادة ما يُتهَم مَنْ يكشف ذلك بأنه يُشهِّر بالدين والمذهب الذي ينتمي إليه. وكأنهم لا يعلمون أن التكفيرَ يتفشى في مقولات علم الكلام القديم لكل الفرق.

تحولت مقولةُ "الولاء والبراء" بوصفها رديفة للتكفير إلى سلطة تغلغلت في ضمير المسلم المعتنق لها، بنحو كان معه ومازال المسلمُ الذي يتبناها عاجزًا عن بناء ضمير أخلاقي إنساني حرّ، يسمح له ببناء علاقات إنسانية إيجابية مع أتباع الأديان الأخرى، بل كثيرًا ما عجز المسلم المعتنِق لها عن بناء علاقات ثقة مع المسلم الذي ينتمي لمذهب آخر، لأن عقيدة "الولاء والبراء" تفرض عليه أن يتخذ موقفًا عدائيًّا مع الغير، وهو ما يشدّد عليه بعضُهم بقوله: "واعلم أنه لا يستقيم للمرء إسلامٌ ولو وحّد الله وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين".

الاقتصارُ على إيراد الأقوال والفتاوى السلفية هذه لا يعني شذوذَها ولا أنها الوحيدةُ التي تشدّدُ على ذلك في تراثنا، بل لأنها مازالت مؤثّرة وفاعلة في مواقف أكثر مَنْ يعتقد بها. الواقعُ الذي يعيشه أكثرُ المسلمين غير السلفيين فرض عليهم تجاوزَ تلك المقولات والأحكام في تعاملهم مع المختلِف في المعتقد. تفرض قوةُ الواقع منطقَها لتتغلب على حجج الذين يعاندون صيرورةَ التاريخ مهما كانت. تحدّثنا صيرورةُ التاريخ عن أنَّ مَنْ يمكث في خصومةٍ حادة مع الواقع لن يلبث طويلا في مواقفه ولن يستطيع الصمودَ في مواقعه مهما فعل،كما رأينا ذلك يتكرّر في كلّ الأديان والمعتقدات والهويات والثقافات.

التكفير يمزق أواصرَ العيش المشترك في المجتمع، ويزجّ المجتمع الواحد في حروب مفتوحة. فضحُ أرشيف التكفير ضرورة لاستئناف حضور قيم القرآن الكريم الروحية والأخلاقية والجمالية في حياة المسلم، وتحرير ضمير المسلم من التراث التكفيري المظلم.

-3-

سبيلُ الله هو سبيلُ الإنسان

التديّن الذي يتأسّس على "الولاء والبراء" لا يكون سبيلُ الإنسان فيه متحدًا مع سبيل الله، ولا يمرُّ الطريقُ إلى الله فيه عبر الإنسان، ولا ينطبق على بعضٍ من أفعال الخير فيه عنوانُ "في سبيل الله"، إن كانت من أجل الإنسان بوصفه إنسانًا. سبيلُ الله على وفق هذا النوع من التديّن لا يتّحد دائمًا مع سبيل الإنسان، أي لا يصدق على فعلِ الخير والعمل الصالح للإنسان أحيانًا أنه في سبيل الله إلا عندما يكون ذلك الإنسانُ متحدًا معه في المعتقد، ومعنى ذلك أن الإنسانَ بوصفه إنسانًا لا غير لا يستحقّ أن يتعامل معه كما يتعامل مع من ينتمي إلى معتقده، ولا ينطبق عنوانُ فعل الخير على ما يفعله من أجله بوصفه إنسانًا إلا في بعض المواقف الخاصة.

تتكرّر في القرآن آياتٌ عديدة تحثّ على إقراض الله، وفي هذا السياق آياتٌ تتحدث عن قضايا أخرى مماثلة يطلب فيها اللهُ أن يقدّمَ الإنسانُ له شيئًا وهو يريد بذلك أن يقدّمه الإنسانُ للإنسان، من هذه الآيات: "مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً" ، "إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ الله"، "مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ" ، "إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ"، "وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا". اللهُ غنيٌ عن العالمين غير محتاج لأحد، إقراضُ الله إقراضُ الإنسان، تكريمُ الله تكريمُ الإنسان، حُبُّ الله حُبُّ الإنسان، كلُّ خيرٍ وعملٍ صالح يقدّمُه الإنسانُ للإنسان يقدّمُه لله. ليس هناك طريقٌ إلى الله خارجَ طريق رعاية الإنسان واحترامه وتكريمه. يكتب محيي الدين بن عربي: "فقلتُ له: فأين حظي من ذاتك؟ قال: في إيثارك بأقواتك؛ ألم تعلم يا بُنيّ أنّه لولا الجود ما ظهر الوجود" .

عندما لا يتطابق سبيلُ الإنسان وسبيلَ الله لا تُصان حقوق الإنسان بما هو إنسان، ويمكن أن تُصادر حرياتُه في حالات متعدّدة بذريعة حماية حقوق الله، على الرغم من أن اللهَ يعفو عن الإنسان لو عصاه وفرّط بحقوقه حين يستغفر. الله يتنازل عن حقوقه بالتوبة والمغفرة والعفو والرحمة مهما كانت، ولا يتنازل عن العدوانِ على أيّ إنسان، وانتهاكِ كرامته وتضييع حقوقه. ذلك حقّ ‏للإنسان، ‏له أن يتنازل عنه، وله ألا يتنازل عنه. يتحدث القرآنُ الكريم عن المغفرة والتوبة والعفو واليسر، فقد وردت كلمةُ المغفرة ومشتقاتُها 234 مرةً في القرآن، تكرّر ذكر كلمة الجزاء 117 مرة، والمغفرة ضعف هذا العدد أي 234 مرة، وكلمةُ التوبة ومشتقاتُها 87 مرة، وكلمةُ العفو ومشتقاتُها 27 مرة، وكلمةُ اليسر 3 أضعاف كلمة العسر، فذكر اليسر 36 مرة والعسر 12 مرة. عدلُ الله يقتضي ألا يتنازل عن الاعتداء على حقوق خلقه، مالم يتنازلوا هم عنها. لا يمكن أن يتغاضى اللهُ عن حقوق خلقه أو يغفرها لمن ضيّعها أبدًا، الله يثأر لانتهاك كرامة الإنسان، ويعاقب من ضيّع حقوقَه عقابًا أليمًا، ويقتصّ ممن سرق أموالَه ويعاقب مَن أهدرَ كرامته، ويكون العقابُ على شاكلة الفعل.

في ضوء مفهومي للإنسانية الإيمانية يتّحد سبيلُ الإنسان بسبيل الله، سبيلُ الإنسان هو سبيلُ الله، ومفهومُ سبيل الله المنفصل عن سبيل الإنسان لا يوصل إلى الله. سبيلُ الإنسان وسبيلُ الله يتحقّقان معًا، وأن نفيَ سبيل الإنسان يعني نفيَ سبيل الله، كلاهما وجهان لحقيقةٍ واحدة. ذلك هو المضمونُ الإنساني للتوحيد، الذي تنعكس أجلى تعبيراته بالمحبّة والتراحم والتضامن مع القضايا الإنسانية العادلة. أسرع مَن يصلون في سفرهم إلى الله ويحضرون في ملكوته أولئك الذين يجعلون همَّهم الدائم إسعافَ المكروب وإدخالَ السرور على قلبه الكئيب ولو بكلمة محبة صادقة.

مأزقُ التديّن الذي يتأسس على "الولاء والبراء" يكمن في أن الضميرَ الديني يتغلّبُ فيه على الضمير الأخلاقي، وأعني بالضمير الديني ما هو غاطسٌ في البنية اللاشعوريّة، وما تفرضه عليه مقولةُ "الولاء والبراء" ومرجعياتُها الكلامية. يتساءل الضميرُ الديني دائمًا عن تكليفه لحظةَ الإقدام على فعل شيءٍ ما، أو عند ترك شيءٍ ما، يريد معرفةَ موقفه في ضوء معتقده الكلامي، كي يتحدّد موقفُه العملي. أعني بالضمير الأخلاقي ما يحكم به العقلُ الأخلاقي "العقل العملي" بشكلٍ مستقلٍّ عن أيّ عنوان اعتقادي أو ديني أو هوياتي أو أيديولوجي، ففعلُ الخير على وفق منطق العقل الأخلاقي هو ما تقدّمه للإنسان المحتاج بعنوان كونه إنسانًا لا غير، من دون أيّ توصيفٍ إضافي، سواء كان هذا التوصيفُ الإضافي دينيًا أم هوياتيًا أم ثقافيًا أم عرقيًا أم جغرافيًا أم غيره.

عندما يبتني الضميرُ الديني على الأخلاق يكون هو ‏ذاته الضمير الأخلاقي، ‏وهو يختلف عن الضمير الديني الذي يبتني على مقولة "الولاء والبراء". في سياق مقولة "الولاء والبراء" يوجدُ الضميرُ الديني عندما يوجدُ التكليفُ بمدلوله في علم الكلام القديم، وينتفي هذا الضمير عندما ينتفي التكليفُ. فعلُ الخير على وفق مفهوم "الولاء والبراء"، هو ما تقدّمه للإنسان بتوصيفه وعوانه الإضافي، وهو عنوانُ كونه من دينك أو من مذهبك، لذلك لا يجد المُعتقِد بذلك، في أكثر الحالات، حافزًا لأن يفعلَ خيرًا ويعمل صالحًا للإنسان بعنوان كونه إنسانًا، لأنه غيرُ مكلّفٍ بذلك، فينحصر فعلُ الخير والعمل الصالح في ضميره الديني بما يقدّمه للإنسان بعنوان كونه من مذهبه أو دينه، انطلاقًا مما ينغرس في ضمير المتديّن من أن مفهومَ الخير لا يصدق على أيِّ فعلٍ مالم يكن خيرًا بالمعنى المكلَّف فيه المتديّن. هذا المنطق لا يختصّ بدين خاص أو معتقد معين، هذا المنطق يفرض على كلِّ صاحبّ عقيدة دينية من أيّ دين أن يكون فعلُ الخير مختصًا بدينه، إن كان فعلُ الخير في عقيدته مشروطًا بأتباع دينه ولا ينطبق على غيرهم.كما يتسلّط هذا المنطقُ ويأسر كلَّ إنسان ينطلق في فعل الخير من عنوانٍ للإنسان مُقيَّدٍ بتوصيفٍ إضافي مهما كان، سواء كان ذلك القيدُ دينيًا أو هوياتيًا أو ثقافيًا أو عرقيًا أو جغرافيًا أو حزبيًا أو غيره. خلافًا لمن ينطلقُ في فعل الخير من الضمير الذي يحكمُ به العقلُ الأخلاقي، فهو يتألمُ لآلامِ الناس بوصفه شريكًا لهم في إنسانيتهم، ويشعرُ باحتياجاتهم وآلامهم بغضّ النظر عن كونِهم شركاء في ملته أو خارجها، أو اتفاقِهم معه بأيّ توصيف آخر خارج عنوان كونهم شركاء في الإنسانية.

الضميرُ الأخلاقي يفسد إن كان مشروطًا، لأن الضميرَ الأخلاقي حرٌّ بطبيعته لا يقبل أيَّ قيد، بمعنى أن التعاملَ بصدق وأمانة وعدل حسنٌ مع كلَّ إنسان بوصفه إنسانًا، بغضّ النظر عن دينه ومعتقده وجنسه وثقافته، والتعاملَ بالكذب والخيانة والظلم والتمييز بين الناس قبيحٌ مع كلّ إنسان بوصفه إنسانًا. التربيةُ على "الولاء والبراء" وغيرها من المقولات الاعتقادية المماثِلة تفرض سلسلةً من الشروط لتصنيفِ البشر على مراتب، وعدمِ إنصاف الناس، والتمييزِ بينهم في المعاملة على أساس معتقداتهم، فمن تتطابق معتقداتُه معك يستحقّ أن تعامله كنفسك، في حين لا يستحقّ المختلِفُ عنك في الدين الحقوقَ التي يستحقّها الشركاءُ في معتقداتك.

لا يمكن بناءُ حياة روحية وأخلاقية أصيلة في مجتمع تتفشّى فيه ثقافةٌ يتسلط فيها التكفيرُ على الضمير الديني ويُلزِم المتديّنَ بمقاطعة المختلِف في المعتقد. لا يستطيع قلبٌ يمتلئ بكراهية الإنسان المختلِف في المعتقد، وروحٌ لا تشعر بالانتماء للعالَم، وعقلٌ ينهكه التشاؤمُ والاغترابُ والارتيابُ من الآخر، أن يؤسّس لحياة روحية وأخلاقية حقيقية، تشفق على المعذّبين، وتتضامن مع الضحايا، بغضّ النظر عن أديانهم ومعتقداتهم وثقافاتهم وإثنياتهم، وتتصالح مع العقل وقيم الحق والخير والسلام والجمال في الحياة.  يمنع أحد رجال الدين السلفيين تداول "كل عام وأنتم بخير" حتى بين المسلمين بذريعة أنها مستعمَلة عند غير المسلم، إذ يقول: (أمَّا "كل عام وأنتم بخير"؛ هذه تحية الكُّفَّار، سرت إلينا نحن المسلمين في غفلة منا) . العقل السلفي يستفزّه التحدّثُ أيام المسرات والأعياد بأية عبارة لم تكن متداولة في مدونات الحديث، وكأن اللغة ولدت في هذه المدونات واكتفت إلى الأبد بمعجمها، ولا مشروعيةَ خارج هذه المدونات لأية كلمة عند الاحتفاء بالإنسان الذي نشترك معه في الإنسانية بالأعياد وغيرها من المناسبات السارة.

في ضوءِ ذلك نفهمُ لماذا يشحّ حضور عطاء مَن يعتقد بذلك في قائمةِ أعظمِ المتبرعين بثرواتهم من أجل الإنسانية ككل. لا نرى حضورًا لأصحاب الثروات ممن يعملون بـمقولة "الولاء والبراء" بما يتناسب مع نسبتهم من سكان الأرض، ونفهم السببَ الذي لا يجد معه رجالُ الأعمال دافعًا للعطاء من أجل إسعاد الإنسان بوصفه إنسانًا بغضّ النظر عن دينه،كما يفعلُ أصحابُ الضمائر الأخلاقية اليقظة، الذين ينصتون لنداء العقلِ الأخلاقي، من مالكي الثروات الهائلة في العالم، الذين لا ينظرون إلا لاحتياجات الناس الذين يستحقون الرعاية، ولا يهتمون بمعتقداتهم وهوياتهم الإثنية، فينفقون في أعمال الخير مليارات الدولارات، ولا تختصّ مشاريعُهم بصنفٍ من البشر دون غيرهم.

أخلاقُ الإنسان مرآةُ إنسانيته. خلصت من كلِّ تجارب حياتي إلى أن الإنسانَ الوحيد الذي يمكنُ أن أراهن عليه هو مَن يمتلك ضميرًا أخلاقيًا غير مشروط، بغضِّ النظرِ عن دينه وهويته وقوميته وثقافته وجنسه ولونه وموطنه، وبغضِّ النظرِ عن مقامه الاجتماعي والسياسي والمالي والثقافي.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

إذا كانت الماركسية بمثابة محاولة تغييرية نبعت من واقع الفكر الغربي في مرحلة تاريخية معينة ذات تطور مادي معين لمواجهة الإيديولوجية الرأسمالية. إلا أن الرأسمالية استطاعت الاستفادة من المرآة التي وفرتها لها الماركسية ذاتها لرؤية أخطائها وتجاوزها، وفي الوقت نفسه العمل على احتواء الماركسية كإيديولوجية تغييرية وإذابتها في الإيديولوجية الغربية ذات الطابع الليبرالي، هذا ما أفقد الإمكانية في تحقيق تحول شامل في المجتمعات الغربية، لا بل الأحزاب الماركسية الأوروبية والتيارات اليسارية الأخرى التي كانت لها السيادة في الحياة الثقافية – السياسية في الستينيات لم تقدم البديل التاريخي للاحتكار السلطوي للنظام الرأسمالي، مما يؤكد أن تلك السياسات الكبرى في التغيير قد فشلت، مما أدى إلى ظهور سياسات صغرى، من السلطة اللامركزية، المحلية، واختفاء المعرفة الشاملة.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف استطاعت الطبقة الرأسمالية توظيف الإيديولوجية الليبرالية في خدمة مصالحها والدفاع عن وجودها كقوى مسيطِرة على البناء الاجتماعي في المجتمعات الغربية؟ هذا ما سوف نقوم بتفصيله في الفقرات التالية.

في حقيقة الأمر، تتبني المجتمعات الغربية لإيديولوجية الفكر الليبرالي على الصعيدين السياسي والاقتصادي، ولكن قبل استعراض ممارسات الليبرالية على الصعيدين السياسي والاقتصادي في المجتمعات الغربية وموقفها من الآخر، سنقوم بتوضيح مفهوم الليبرالية أولاً.

1- مفهوم الليبرالية: تعتبر الليبرالية Liberalism " إحدى الإيديولوجيات السياسية الكبرى في العالم الحديث، وهي تتميز بالأهمية التي تعزوها لحقوق الفرد المدنية والسياسية، لأنها مذهب سياسي أو حركة وعي اجتماعي، تهدف لتحرير الإنسان كفرد وكجماعة من القيود السلطوية الثلاثة (السياسية والاقتصادية والثقافية)، وتتحرك (الليبرالية) وفق أخلاق وقيم المجتمع التي يتبناها، فتتكيف حسب ظروف كل مجتمع، إذ تختلف من مجتمع إلى آخر. فالليبرالية مذهب سياسي واقتصادي معاً تقوم على فلسفة استقلال الفرد والتزام الحريات الشخصية وحماية الحريات السياسية والمدنية والاقتصادية . وكمفهوم اصطلاحي ترجع إلى الأصول اللغوية اللاتينية التي دخلت إلى اللغة الإنكليزية والفرنسية بحكم التواصل الثقافي مع الحضارة الإغريقية، ويعود ظهورها في كل من فرنسا وإنكلترا وهولندا إلى القرن السادس عشر، إذ أصبحت إحدى أهم مفردات الثقافة السياسية الأوروبية في ذلك الوقت، ونقلت إلى العربية غداة ترجمتها من أصلها اللاتيني من قبل رفاعة الطهطاوي بـ:(الحرية) والذي ترجم (ليبرالي) إلى (حُريَّ).

وردت في القاموس السياسي بمعنى التحررية، لأنها كانت تشير إلى إقامة حكومة برلمانية، وتأكيد حرية الصحافة والعبادة وحرية الكلمة. أما من الناحية الاقتصادية، فتعني حرية التجارة، وعدم التدخل في الشأن الاقتصادي، وجاءت في ترجمات عربية أخرى أنها تقليد في الفكر الأوروبي، يركز على قيمة الحرية، وعلاقتها بالدولة، وأن الفرد له (حقوقه الطبيعية) المالكة لوجودها المستقل عن الحكومة، وعن المجتمع.

في حين ترجم المعجم الوثائقي Liberalism بالمذهب الحر، وهو مذهب سياسي واقتصادي يدعو إلى التحرر والانعتاق من القوى التقليدية التي كانت تجمع بين الملكية والاستبداد والكنيسة وطبقة الإقطاعيين، لأن مبادئ وأسس " الليبرالية متناقضة جذرياً مع الإيديولوجيا الإقطاعية، أي أنها ضد فكرة الما وراء حين أكدت على موضوعية الطبيعة والمادة. وهي ضد الوحي والميتافيزيقا حين أكدت على العقلانية والعلم. وهي ضد الاستبداد حين أكدت على الحرية وهي ضد سحق الفرد وامتصاصه في المجموع، حين أكدت على أولوية الفرد". كما يدعو هذا المذهب (الحر) إلى إقامة نظام ديمقراطي برلماني، وعدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، إلا في أضيق الحدود، وإقامة الأحزاب السياسية الليبرالية. أي أن الليبرالية نشأت في خضم التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي عصفت بأوروبا منذ بداية القرن السابع عشر، فعلى الصعيد الفكري نجد أن الليبرالية لم " تتبلور كنظرية في السياسة والاقتصاد والاجتماع على يد مفكر واحد، بل أسهم عدة مفكرين في تطورها وإعطائها شكلها الأساسي وطابعها المميز. فالليبرالية ليست اللوكية (نسبة إلى جون لوك 1632 – 1704)، أو الروّسووية (نسبة إلى جان جاك روسو 1712-1778) أو الملّية (نسبة إلى جون ستيوارت ملْ 1806-1873)، وإن كان كل واحد من هؤلاء أسهم إسهاماً بارزاً أو فعالاً في إعطائها كثيراً من ملامحها وخصائصها.

في المقابل " يرى نقاد الليبرالية بأنها نشأت كتبرير إيديولوجي لظهور الرأسمالية، وأن صورتها للفرد المستقل مجرد تمجيد للسعي وراء المصالح الذاتية في السوق، لأنها استبدلت شبكة الالتزامات المتبادلة التي تربط بين الناس في الجماعات العرقية، والدينية، وما في حكمها بمجتمع مؤسس على التنافس والفردانية الذرية ".

بعد القيام بعملية توضيح مفهوم الليبرالية بشكل عام، سنحاول التعرف على الآلية التي سعت من خلالها المجتمعات الغربية إلى تبني واستثمار الفكر الليبرالي كإيديولوجيا على الصعيديين (السياسي والاقتصادي) بهدف تحقيق مصالحها وغاياتها هذا من جانب، ولكي تضمن سيطرة أفكارها ومبادئها على مجتمعاتها في عالم سياسي يتسم بالتناحر وصراع القوى الإيديولوجية المضادة الساعية كل منها إلى تنميط الواقع الاجتماعي بأفكارها من جانب آخر.

2- ممارسات الليبرالية على الصعيد السياسي: أدى تبني المجتمعات الغربية للمبادئ والأفكار الليبرالية في إطار ممارسة العملية السياسية إلى بروز " مفهوم الدولة الديمقراطية الليبرالية التي تمثل دولة القانون، والتي تهدف إلى حماية حقوق الأفراد الأساسية، وإلى تنظيم أمور الجماعة وتطويرها ". بالإضافة إلى ضمان حقوق أفراد المجتمع في المشاركة السياسية في إطار الديمقراطية التمثيلية أو النيابية " عن طريق الاقتراع العام أو الانتخاب العام الذي يقوم به المواطنون لممثليهم في المجالس والهيئات التشريعية "، ووضع القوانين وتنفيذها، وإمكانية التغيير السلمي للسلطة وفقاً للإرادة الشعبية من فئة إلى أخرى بين الحين والحين.

يرى بعض المفكرين أن الديمقراطية ليست مجرد احترام الحقوق الأساسية للإفراد، بل هي فضلاً عن ذلك نظام لحكم الأغلبية ولتداوم السلطة، بحيث إن " لكل فرد صوت ". فهي تقوم على أساس المساواة الكاملة بين الأفراد في الحقوق السياسية، أما في النظام الرأسمالي فإن القوة الاقتصادية تقاس بما يملك الفرد من ثروة أو ما يحققه من دخل، وبالتالي فإن مفهوم المساواة في الرأسمالية لا يقترن بها " المساواة الاقتصادية "، لذلك هناك نوعاً من التوتر بين مقتضيات الديمقراطية في المساواة السياسية وبين مقتضيات الرأسمالية في تفاوت الحظوظ الاقتصادية، لذا كانت وما تزال الديمقراطية الليبرالية في المجتمعات الرأسمالية الغربية أداة لتخفيف حدة التفاوت بين في الدخول والثروات، من خلال دور الدولة الاجتماعي في المجتمعات الرأسمالية الديمقراطية.

بمعنى آخر، أدى التعارض الإيديولوجي بين المساواة في السلطة السياسية التي تقوم عليها الديمقراطية وحقيقة اللا مساواة في القدرة الاقتصادية التي تقوم عليها الرأسمالية، إلى تطعيم الرأسمالية والديمقراطية بالاستثمارات الاجتماعية ودولة الرفاه الاجتماعي. لأن المجتمعات الرأسمالية قد أدركت أهمية قضية " العدالة الاجتماعية "، كأحد أهم التحديات التي تواجهها نتيجة الآثار السلبية التي لحقت بالطبقة العاملة بسبب ممارسات الرأسمالية الاقتصادية اللا إنسانية. وقد ظهرت هذه المشكلة بوجه خاص خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع تزايد درجة التصنيع وتضخم المدن الصناعية وازدحامها وزيادة أحجام البؤس الذي تعرض له العمال في هذه الفترة من التصنيع. وساعد على ذلك أيضاً زيادة الوعي العمالي مع انتشار الأفكار الاشتراكية في ذلك الوقت. لذلك بدأت تلك المجتمعات تصدر، ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، قوانين لحماية الفقراء ووضع حدود دنيا لمعدلات الأجور مع تحديد لساعات العمل والسماح للعمال بتكوين النقابات والاعتراف بحق الإضراب ووضع قيود على تشغيل النساء والأطفال واستغلالهم. ومع القرن العشرين وقيام الثورة البلشفية عام 1917 والنظام الشيوعي – في ما كان يسمى الاتحاد السوفيتي سابقاً – وخاصة بعد نجاح الأحزاب العمالية في الوصول إلى الحكم، ووقوع الأزمات الاقتصادية* الكبرى وخاصة الأزمة العالمية في عام 1929. بدأت سياسات الضرائب في المجتمعات الرأسمالية تتجه إلى العمل على تحقيق عدالة التوزيع، بحيث أصبح للضرائب وظيفة اجتماعية في تحقيق العدالة الاجتماعية ومنع الإسراف في سوء توزيع الدخول والثروة. فمع تزايد تدخل الدولة لتوفير أنواع من الضمان الاجتماعي المتمثل بالرعاية الصحية وتوفير حدود دنيا للمعاشات لكبار السن والعاطلين عن العمل وذوي الاحتياجات الخاصة، أصبح الضمان الاجتماعي أحد أهم مظاهر النظم الرأسمالية الصناعية. لأنه بنظر منظري النظام الرأسمالي أنجع وأفضل وسيلة اجتماعية لمواجهة المخاطر الاجتماعية غير المتوقعة والتعويض عنها، وهذا ما عبر عنه بيير لاروك Pierre Laroque أحد أهم رواد الضمان الاجتماعي في فرنسا، وبالأخص بعد أن أصبح " خطر التعاسة في المستقبل يخيم على الطبقة العاملة فيجعلها تطالب بقوة بالتأمين الاجتماعي وبإزالة مسببات القلق وعدم الثقة بالغد.

أدت هذه التطورات والمتغيرات التي أوجدتها " دولة الرفاهية " إلى إيجاد نقلة كيفية كبيرة في مفاهيم الطبيعة البشرية والعلاقات الإنسانية بالحد من عنصر استقلال الفرد المرتبط بقوة شخصيته ومدى تحمله وسيطرته على ذاته، وكذلك من حيث العيوب الذاتية للفرد لدى كل من (العامل) و(صاحب العمل)، حيث لم يعد البؤس يفسر على أنه معتمد أو سبب للّوم بل أصبح المجتمع يرى إمكانية لتغير ظروف الأشخاص وسلوكياتهم. كما لم تعد الطبيعة البشرية هي تلك الصفات الثابتة للأفراد وإنما هي سلوكياتهم الاجتماعية. وبدلاً من النظر إلى النظم السياسية القائمة باعتبارها سلسلة من القيود الضرورية على السلوك الفردي، أعيدت صياغة هذا المفهوم لتصبح النظم السياسية عملية لتنمية الحياة الجمعية الجيدة. وبذلك ظهرت وظيفة جديدة للدولة. فبدلاً من " التدخل " كان " التنظيم " أو " التمكين " لأسباب إنسانية ولمراعاة الكفاءة أو المواءمة السياسية.

 هكذا مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وبداية النصف الثاني للقرن العشرين، أصبحت معظم الدول الصناعية الغربية أكثر عدالة في التوزيع بالمقارنة بالماضي. حيث ولدت في خضم تلك الظروف والمتغيرات دولة الرفاهية** " Welfare State" التي وفرت المزيد من الخدمات الاجتماعية مع فرض الضرائب التصاعدية على أصحاب الدخول العالية، وفي الكثير من الأحيان تأميم العديد من القطاعات الإنتاجية الاستراتيجية، كما أصبحت توجه نسبة عالية من الإنفاق العام لأغراض اجتماعية. بالإضافة إلى تدعيم دولة الرفاهية بالديمقراطية الذي أصبح مطلباً مهماً للرفاهية، حتى وإن صدرت مفاهيم الرفاهية عن جذور غير ديمقراطية. ثم إنها، في انسجامها مع الفكر الأعمق عن الدولة، كان يتم تقديمها للمجتمع باعتبارها أداة حيوية لتأمين أهداف اجتماعية وإنسانية أبعد، مثل الازدهار والمساواة والكرامة والمسؤولية وتنمية الذات وتطويرها والمشاركة والعمل المرضي المنتج. فهي ترى في الإصلاح الاجتماعي وسيلة ذهبية ما بين سياسة عدم التدخل الحكومي والاشتراكية.

أدى انتهاج المجتمعات الرأسمالية الغربية لتلك السياسة إلى تزييف الوعي السياسي للطبقة العاملة، مما أدى إلى تبنيها لقواعد اللعبة الرأسمالية (البرلمانية) المتمثلة في حق المشاركة والتفاعل في إطار العملية السياسية " عبر ممارسة المواطنين لحق الاقتراع في الديمقراطيات الحديثة، والاشتراك في التظاهرات والاحتجاجات الذي يعبر عن حرية لا وجود لها، مما أدت ترسيخ الاغتراب عن طريق تزييف الوعي بميكانزيم الديمقراطية.

وهكذا كذبت الرأسمالية المعاصرة توقعات ماركس، فقد تغيرت العلاقة بين الرأسماليين والطبقة العاملة، لأن هذه العلاقة المتغيرة خلقت وضعاً جديداً، خلقت البعد الواحد داخل الوضع الاجتماعي، بحيث وجدت نفسها الطبقة العاملة مندمجة بالنظام السياسي والاقتصادي، مما افقدها فاعليتها كعنصر ثوري. وهذا ما يؤكده بعض المفكرين وعلى رأسهم هربرت ماركيوز Herbert Marcuse أن المجتمعات الغربية عبر ممارساتها السياسية ذات الطابع الليبرالي قد خلقت قوى إنتاجية عظمى بلا تدمير تتمثل بقوة النظام الرأسمالي في المجتمعات الغربية، التي كانت من الممكن أن تتحول إلى قوة تغييرية، إلا أن هذا النظام عبر سياساته المختلفة استطاع أن يدمج الطبقة الثورية (الطبقة العاملة) دون أن تفكر في العنف أو الثورة، مما يجعلها وسيلة بناء وتطوير، لكن على حساب استعبادها واستملاكها، وهذه ما يجعلها تبقى قوةً ثوريةً حتى ولو لم تقم بالثورة حسب ماركيوز.

3- ممارسات الليبرالية على الصعيد الاقتصادي: تتجسد الليبرالية - كمذهب اقتصادي - بشكل عام فيما يدعى بالرأسمالية " وهو مذهب اقتصادي يرى أن الدولة لا ينبغي لها أن تتولى وظائف صناعية، ولا وظائف تجارية، وأنها لا يحق لها التدخل في العلاقات الاقتصادية التي تقوم بين الأفراد والطبقات أو الأمم "، لكي تترك السوق يضبط نفسه بنفسه. فالأنظمة الرأسمالية المؤمنة بالفكر الليبرالي، تعتبر المقولة الفرنسية (دعه يعمل دعه يمر) هي الشعار المثالي للرأسمالية التي تعمل على حرية التجارة ونقل البضائع والسلع بين البلدان دون قيود جمركية ". وفكرة الاقتصاد الحر تقوم على عدم تدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية، والليبرالية كما أشرنا من قبل تعتمد بالأساس على فكرة الحرية الفردية. وقد مرت الليبرالية الاقتصادية بثلاث مراحل رئيسية: الليبرالية التقليدية أو الكلاسيكية، ثم الليبرالية الجديدة أو الحديثة، ثم أخيراً النيوليبرالية (الليبرالية المعاصرة).

ففي مرحلة الليبرالية الكلاسيكية التي سادت القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حين بدأت الرأسمالية الصناعية في الظهور، سعى رواد هذه المرحلة على رأسهم آدم سميث Adam Smith وآخرون إلى تجسيد مبدأ عدم تدخل الحكومة في مجال الاقتصاد بشكل عام على أرض الواقع تطبيقاً لمبدأ حرية السوق، طالما أنها لا تملك عقلية المشروع الخاص، هذا من جانب، ولقدرة النظام الرأسمالي على خلق ثروة الأمم من جانب آخر، لأن " جوهره يتمثل في استثمار رأس المال بتوقع تحقيق مكاسب وأرباح" في نطاق الأنشطة الاقتصادية. بالإضافة إلى ذلك فقد اعتقد سميث بوجود " قدرة غيبية " أطلق عليها " اليد الخفية " التي ترسم السلوك العقلاني للأفراد في تتبع مصالحهم الخاصة، والتي تقود بالتالي إلى تحقيق المصلحة العامة للمجتمع.

 بذلك اتسم الواقع الاقتصادي في معظم المجتمعات الغربية في تلك المرحلة بملامح رئيسية تميزت بوجود رأسمالية المنافسة الحرة " التي تحض على زيادة شدة التنافس بين الشركات الصناعية محدودة الحجم، بالإضافة إلى ضعف التنظيمات العمالية، ووجود تحرر اقتصادي من أي نظم تفرضها الدولة، فقد انحصر دور الدولة في هذه الفترة في مواجهة الفوضى وعدم الاستقرار اللذين كان يخلقهما رأسمال الصناعي". لذا سعت الفعاليات الصناعية " المدفوعة بهاجس الربح وتراكم رأسمال، إلى إنتاج سلع تتجاوز ما يمكن للناس شرائه (عدم التوازن بين العرض والطلب) فيتطور الإنتاج في هذه الحالة بمستوى أكبر بكثير من السوق، ولحل هذا التناقض الذي يتسبب في أزمة تصريف المنتجات تلجأ الرأسمالية إلى وسيلتين: إذ تلجأ أولاً إلى تحطيم قوى الإنتاج بشكل يؤدي إلى إرجاع الإنتاج إلى المستوى الذي يتيح للسوق امتصاصه، وتلجأ ثانياً إلى توسيع السوق إما عبر تكثيف العلاقات التجارية مع الدول الرأسمالية الأخرى، أو عبر إدخال دول جديدة أو جهات جديدة في منظومة علاقاتها الاقتصادية، ويمكن ذلك من رفع مستوى السوق إلى مستوى الإنتاج".

نتيجةً لتسلط رأسمال وطغيان الاستبداد بدأت التمردات والانتفاضات والثورات الاجتماعية تشتغل في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، فانزعج البعض لأحوال البؤس والشقاء والفقر التي عاشتها الشعوب الصناعية بشكل عام والطبقة العمالية بشكل خاص، مما أدى إلى ظهور بعض المفكرين الليبراليين المصلحين، الذين ينادون بضرورة تدخل الحكومة لإنقاذ الجماهير التي أفقرتها السياسة الليبرالية الاقتصادية (التقليدية أو الكلاسيكية) التي تبنتها الرأسمالية. مبشرين بذلك بداية مرحلة جديدة من السياسة الليبرالية الاقتصادية تدعى الليبرالية الجديدة أو الحديثة.

 فرضت تلك السياسة نفسها على الرأسمالية في نهاية العقد الثالث من القرن العشرين المنصرم عندما جاءت الأزمة المالية العالمية (الكساد الكبير) عام 1929، لتشكل ضربة هائلة اهتز لها الاقتصاد الرأسمالي إلى درجة الانهيار. فكانت تلك الأزمة مناسبة لانطلاق التفكير الليبرالي إلى محاولة فهم مكمن المشكلة وإيجاد المعالجات الكفيلة بإنقاذ الوضع. لأن المجتمعات الغربية " بدأت تفقد ثقتها في " رأسمالية دعه يعمل " و " حافز الربح "، وأدى بالكثيرين إلى استنتاج أن الأسواق التي لا تخضع لقواعد لا يمكنها أن تؤدي إلى الرخاء وتمنع الفقر".

لذا بدأ المفكرون الليبراليون في هذه المرحلة ينادون بضرورة تدخل الدولة في المسار الاقتصادي ولو بشكل محدود، وبتدخل الدولة أيضاً لتساعد على سد الضروريات الأساسية للفقراء (الطعام والمسكن والملبس، وعلاج وتعليم).

فسارعت النخب السياسية في المجتمعات الغربية الرأسمالية وعلى رأسها رئيس الولايات المتحدة (فرانكلين روزفلت) آنذاك إلى تطبيق أفكار جون مينارد كينز*** John Maynard Keynes حول تفعيل دور الدولة، لحل هذه الأزمة، من خلال إعطاءها دوراً مركزياً لإعادة ترتيب المجتمع الرأسمالي بدلاً من تركه للفعل الاقتصادي المرتهن بفردانية " دعه يعمل دعه يمر"، حيث سيقترح اللورد جون كينز في كتابه الشهير " النظرية العامة للتوظيف وسعر الفائدة والنقود " عام 1936 حلاً يقوم على إجراء تحليل شامل للاقتصاد السياسي الليبرالي وتطبيقاته، فقد توصل كينز من خلال تحليلاته لواقع الأزمة المالية التي تعيشها المجتمعات الرأسمالية، إلى ضرورة نهج تلك المجتمعات سياسة اقتصادية ترتكز على إدارة جانب الطلب لتأمين التوظيف الكامل للعمالة، في سعيه إلى حل مشكلة البطالة التي لم تنتبه إليها النظرية الكلاسيكية، ولم تبلور لها إجراءات كفيلة للتقليل منها.

إلا أن كينز في المقابل أكد أن التوازن الاقتصادي يمكن أن يتحقق عند مستويات متعددة، وليس من الضروري أن يتحقق ذلك عند مستوى التوظيف الكامل للعمالة، لذلك فإن ظهور البطالة واستمرار الكساد لا يعتبر بالضرورة وضعاً استثنائياً ومؤقتاً تعمل قوى السوق على تصحيحه، بل قد يكون وضع التوازن المقبول في ظروف اقتصاد السوق. ولذلك لا يمكن الخروج منه إلا بتدخل من الدولة عن طريق سياسة مقصودة لزيادة الطلب الفعلي وبالتالي تنشيط الاقتصاد، وبدون ذلك يمكن أن يستمر الكساد والبطالة بلا علاج.

 صحيح أن هذا الحل يخرج الرأسمالية من أزمتها الاقتصادية الخانقة، إلا أن تاريخ الرأسمالية كما هو معروف لنا ينضح بمحاولاتها المستمرة لتسخير القانون لحماية مصالحها الطامعة، ولخرق القوانين وتحديها حين تستعصي على التسخير. وطبيعي أن يكون أقرب القوانين لعدوانها تلك التي تقر حقاً اجتماعياً جديداً للطبقة العاملة الكادحة، وتحاول أن تضع العدالة الاجتماعية موضع التنفيذ، ولو كان ذلك داخل التقاليد الرأسمالية ذاتها. وليس أدل على ذلك ما لقيه الرئيس الأميركي " روزفلت " حينما حاول أن ينفذ سياسته المعروفة بـ " الصفقة الجديدة " New Deal عقب انتخابه رئيساً للولايات المتحدة عام 1933، حيث لم يكن هذا المنهج يمس النظام الرأسمالي في جوهره، بل كان يقوم على وضع برنامج واسع يؤسس به " دولة الرفاهة " عبر إقرار التأمين الاجتماعي وإعانات المتعطلين، ودعم حقوق النقابات، إشراف السلطة الفدرالية على المرافق العامة، وكان روزفلت قبل أن يطالب بهذا النهج قد نجح في حل الأزمة التي حنقت أمريكا والعالم كله معها في أزمة الكساد الكبير عام 1929، حتى لقب في ذلك الحين بـ " المنقذ العظيم ". بيد أنه لم يكن يخطو خطوات إيجابية في رفع مستوى العدالة الاجتماعية في بلده حتى يتصدى له أرباب الصناعة والمال أبشع التصدي، فوصفوا منهجه الجديد بأنه " شيوعية، دكتاتورية، وإهانة للروح الأمريكية وتقاليدها " ووصفوه هو بالرجل الذي خان طبقته، والأحمر الذي يتربع في البيت الأبيض. ومع ذلك فقد استمرت دول النظام الرأسمالي وحلفاؤها في الأطراف في تطبيق السياسات الاقتصادية الكينزية طوال الفترة الممتدة منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى نهاية العقد السابع منه رغم كل الانتقادات التي تم توجيهها لهذه السياسة من قبل الصناعيين وأصحاب رؤوس الأموال لأنها أقرت بامتيازات وحقوق قوية لصالح الطبقة العاملة على حساب شراهة وجشع رأس المال الذي لا يعرف الرحمة ولا الإنسانية عندما يكون سيد الموقف فقد جاء تطبيق تلك السياسة في ظروف لا يحسد عليها النظام الرأسمالي فكانت الحل الوحيد أمامه لكي يعيد التوازن والقدرة الاقتصادية لأركان نظامه ولمواجهة المد الشيوعي الصاعد بقوة والساعي إلى تصدير الثورة الاشتراكية إلى المجتمعات الرأسمالية الغربية.

 إلا أنه في "بداية السبعينيات من القرن العشرين أخذت سيطرة الاقتصاديات الكينزية تتلاشى وتختفي في الحكم ومن الدراسات الأكاديمية بعد تصاعد البطالة والتضخم تصاعداً خطيراً " لتظهر فيما بعد على الساحة السياسية والاقتصادية للمجتمعات الرأسمالية ما يعرف باسم النيوليبرالية (الليبرالية المعاصرة) Neo Liberalism إبان الحرب الباردة، وتنامي الأحادية القطبية الأمريكية.

قدمت النيوليبرالية نفسها في المجتمع الرأسمالي كدعوة محافظة في شكلها الأقصى في رفض الحلول والسياسات الوسطى، نتيجة سلسلة الأزمات الاقتصادية التي واجهتها الأنظمة الرأسمالية وأبرزها فترة الركود الاقتصادي بين عامي 1973- 1984 في تلك الفترة، حيث انخفضت نسبة النمو الاقتصادي ونسبة النمو حجم التجارة العالمية، فأرادت تلك الإيديولوجية إعادة الاعتبار إلى حرية الأسواق، والحد من تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية بمعنى العودة إلى المفاهيم الليبرالية الأولى (الكلاسيكية). بهذا المقام تعتبر النيوليبرالية نظرية في الممارسات السياسية والاقتصادية، تدعي حسب رأيها أنها الطريقة المثلى لتحسين الوضع الإنساني عبر إطلاق الحريات والمهارات التجارية الإبداعية للفرد، ضمن إطار مؤسساتي عام يتصف بحمايته الشديدة لحقوق الملكية الخاصة، وحرية التجارة، وحرية الأسواق الاقتصادية. بحيث يقتصر دور الدولة في هذه النظرية على إيجاد وصون وحماية رأسمال وإطلاق حريته في الأسواق مع استخدام القوة إذا لزم الأمر لتحقيق ذلك، " والعمل أيضاً على تشجيع وتقوية مجتمع أكثر عدلاً وديمقراطية ". وهذا يعني أن أنصار النيوليبرالية يصرون على أن دولة الرخاء يجب تفكيكها أو خصخصتها بهدف ترسيخ الحد الأدنى من الإنفاق الحكومي، والحد الأدنى من الضرائب، لأن دولة الرفاه الاقتصادي والاجتماعي عجزت في مرحلة من المراحل عن الوفاء بوعودها لأفراد المجتمع، مما دفع كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا نحو تبني سياسات النيوليبرالية التي بدت آثارها واضحة على الشأنين الاقتصادي والسياسي: فعلى الصعيد الاقتصادي أدت دعوات النيوليبرالية إلى زيادة حركة الاستثمارات المالية بصورة لم يشهدها الاقتصاد العالمي منذ الحرب العالمية الثانية، كما زادت نسبة التجارة العالمية بين عامي 1983- 1990 بما يصل إلى 9%. فقد حصل ذلك مع إزالة القيود على حركة الرساميل في الدول الرأسمالية المتقدمة، مما أدى إلى فتح مجالات جديدة أمام الاستثمار الأجنبي التي مكنت تلك الدول من استغلال الموارد العالمية إلى أقصى حد كالعمالة الرخيصة، والمواد الخام، بالإضافة إلى فتح الأسواق جديدة ذات طابع عالمي، بأكثر الطرق الفعالة والممكنة، بهدف تصريف منتجات وسلع الدول المتقدمة عن طريقها هذا من جهة، ومن جهة أخرى " أدت هذه الدعوات بنفس الوقت إلى زيادة تبعية دول العالم الثالث لرأس المال العالمي والحفاظ على وضعيته باعتباره هامشاً للمراكز الرأسمالية في الغرب "، مما ساعد على تحقيق المصالح الاقتصادية للدول الرأسمالية على حساب الدول الفقيرة تحت ذريعة أن الدعوة إلى حرية الأسواق وحرية تنقل رؤوس الأموال ستنعكس إيجاباً على كل المجتمعات تحت عباءة العولمة الاقتصادية. أما على الصعيد السياسي فقد اقترنت النيوليبرالية سياسياً بالعودة إلى اعتماد الديمقراطية، والاعتراف بحقوق الإنسان عالمياً، وعلى الرغم من الاختلافات الفكرية والسياسية بين الدول حيال مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا أن العالم كما تدعي الدول الرأسمالية المتقدمة قد شهد موجة في تطبيقات الديمقراطية التي أصبحت ملازمة للتعدية الحزبية، وآلية إجراء الانتخابات العامة. وفي النهاية يمكن لنا القول أن دعوات السوق الحرة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتخصصية، متلازمة ومتداخلة في سياق المنظومة العالمية، التي تفسر جانباً من معالم النظام العالمي بعد الحرب الباردة، التي لعبت فيها الولايات المتحدة دوراً مركزياً في الترويج تلك الدعوات عالمياً. إلا أن الثقافة السياسية الديمقراطية اقترنت بثقافة الاستهلاك المادي على نطاق واسع، في إطار العولمة التي تصور إمكانية إخضاع العالم لأنماط واحدة في الاقتصاد والسياسة والثقافة. حيث جسّد النموذج الأمريكي هذا الدور على حساب مصالح وقيم وثقافات الشعوب الأخرى، فأين تكمن الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان؟

- خلاصة القول:

إن هدفنا من هذا المقال توضيح موقف القوى المحافظة من عملية التحول الاجتماعي ومن الإنسانية جمعاء، التي كانت في يوم من الأيام قوى راديكالية قامت ضد الإقطاعية، بالإضافة إلى التعرف على الإجراءات والآليات والممارسات اللا إنسانية التي اتبعتها الليبرالية كإيديولوجيا للحفاظ على مشروعية وجودها، والإمكانات التي سخرتها لمنع النظام الرأسمالي الجشع من الانهيار، لأن انهياره سيؤدي بكل تأكيد إلى انهيار مصالحها وفقدان الامتيازات، التي تتمتع بها كطبقة مسيطِرة فالمسألة مسألة وجود بغض النظر عن الشعارات البراقة.

وهكذا نجد أن الإنسانية عانت الكثير من ويلات الليبرالية وشعاراتها البراقة خاصةّ في التاريخ الحديث والمعاصر، وأحداث السياق الاجتماعي وتفاعلاته خير دليل على ذلك ابتداءً من الحروب العالمية الأولى والثانية واستعمار شعوب العالم الثالث، نهايةً بتدمير مجتمعات الشرق الأوسط اجتماعياً، واقتصادياً، وسياسياً، والسعي إلى تعميق وزيادة معاناتها واستغلال ظروفها السياسية، وتشجيع ومباركة الاستبداد السياسي والظلم والطغيان الممارس عليها، وغض الطرف عن ما يحدث بحقها من جرائم ضد الإنسانية، فكل هذه المعطيات خير دليل وبرهان على فشل القيم والأخلاق الليبرالية بالتعامل مع الآخر، أي مع المجتمعات الأقل منها تطوراً والمختلفة عنها دينياً وثقافياً واجتماعياً. هذا الوضع ناتج بكل وضوح عن سابق إصرار وترصد في توظيف الفكر الانتقائي بالتعامل الآخر، فحقوق الإنسان وحرية الرأي والديمقراطية وميزات دولة الرفاه حلال عليهم حرام على غيرهم. فالشعوب التي لا تنتمي إلى العالم الغربي شعوب مستباحة بكل النواحي من قِبل الإيديولوجيا الليبرالية، التي لا هم لها سوى النباح بشعارات حقوق الإنسان والحرية الشخصية والانحلال الأخلاقي وتدمير الوعي الجمعي المخالف لها. فأين الليبرالية من الإنسان والإنسانية؟ اعتقد أن ليس لها سوى المفهوم دون المضمون، فالنظرية غير التطبيق.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

........................

المراجع المعتمدة:

- تد هوندرتش: دليل أكسفورد للفلسفة، تحرير وترجمة: منصور البابور- محمد حسن أبو بكر، مراجعة اللغة: عبد القادر الطلحي، المكتب الوطني للبحث والتطوير، الجماهيرية العربية الليبية، الجزء:2، 2003.

- عز الدين دياب: الليبرالية، الموسوعة العربية، دمشق، المجلد:17، ص(256).

https://arab-ency.com.sy/ency/details/9867/17

- توفيق المدني: التوتاليتارية الليبرالية الجديدة والحرب على الإرهاب (دراسة)، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003.

- معن زيادة: الموسوعة الفلسفية العربية (المدارس والمذاهب والاتجاهات والتيارات)، معهد الإنماء العربي، بيروت، المجلد: 2، القسم: 2، ط1، 1988.

- حازم الببلاوي: عن الديمقراطية الليبرالية (قضايا ومشاكل)، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1993.

- أنتوني غدنز: علم الاجتماع (مع مدخلات عربية)، ترجمة وتقديم: فايز الصياغ، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2005.

- ضياء مجيد الموسوي: العولمة واقتصاد السوق الحرة، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، ط4، 2010.

* يرى مفكرو الاتجاه الاشتراكي أن تاريخ الرأسمالية الصناعية هو تاريخ فترات من الرخاء وفترات من الركود. أي أنه تاريخ ما يطلق عليه الاقتصاديون الرأسماليون الرسميون " الدورة الاقتصادية "، فلأكثر من مائتي عام كانت هناك فترات في التوسع الشديد في الإنتاج تتخللها أزمات مفاجئة تتحطم فيها قطاعات كاملة في الصناعة وتتوقف.

Michael Freeden: The coming of the welfare state, of The Cambridge History of Twentieth-century Political Thought, edited by: Terence Ball and Richard Bellamy, Cambridge University Press, United Kingdom, v.(1), 2008.

** اعتبرت دولة الرفاهية الهدف الأهم للسياسة الداخلية لمعظم دول الغرب تقدماً في النصف الأول من القرن العشرين نتيجة تغيرات جذرية في مفاهيم " الرفاهية " و " مفاهيم الدولة " على حد السواء. وتُعرف دولة الرفاهية بأنها: " دولة يتم فيها استخدام قوة الديمقراطية لتنظيم وتعديل القوى الاقتصادية والسياسية من أجل إعادة توزيع الدخل ".

- حازم الببلاوي: النظام الرأسمالي ومستقبله، دار الشروق، القاهرة، ط1، 2011.

- علي ليلة: الفكر النقدي في علم الاجتماع - جماعاته وتياراته، من مقدمة كتاب: النظرية الاجتماعية ونقد المجتمع (الآراء الفلسفية والاجتماعية للمدرسة النقدية)، زولتان تار، ترجمة: علي ليلة، المكتبة المصرية، الإسكندرية، 2004.

- قيس هادي أحمد: الإنسان المعاصر عند هربرت ماركيوز، رسالة دكتوراه، كلية الآداب، قسم الفلسفة، جامعة القاهرة، 1977.

- عبد الغني بو السكك: العنف والسلطة في فلسفة هربرت ماركيوز، رسالة ماجستير في الفلسفة العامة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم الفلسفة، جامعة الحاج لخضر باتنة، الجزائر، 2008-2009.

- أندريه لالاند: موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب: خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت، مجلد:2، 1966.

- عادل المعلم: ألف باء الليبرالية... والشريعة الإسلامية، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط1، 2011.

- جيمس فولتشر: مقدمة قصيرة عن الرأسمالية، دار الشروق، القاهرة، ط1، 2011.

- جواد كاظم البكري: الأزمة المالية العالمية الكبرى القادمة: مقاربة اقتصادية سياسية، موقع المدى، 7 نيسان (أبريل)، 2011.

- الطيب بوعزة: نقد الليبرالية، مكتبة الملك فهد الوطنية، الرياض، ط1، 2009

- آمال كيلاني: ألف – باء الليبرالية من موسوعة ويكيبديا، ترجمة: آمال كيلاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 2010.

*** جون مينارد كينز (1883- 1946) عالم اقتصاد إنجليزي كان لأفكاره تأثير كبير على الاقتصاد المعاصر والنظريات السياسية وعلى السياسات النقدية للحكومات، أهّله علمه الغزير في أن يسمى فرع كامل في الاقتصاد باسمه، حتى أن لنظريته وممارساته السياسية ما يجعلنا نتحدث عن " الثورة الكينزية " و " عصر كينز "، برز المنهج الكينزي بروزاً كبيراً في السياسة الاقتصادية في أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن العشرين كمنهج في السياسة الاقتصادية. صنفته مجلة تايم الأميركية واحداً من أهم مائة شخصية في القرن العشرين.

- محمد خالد محمد: أزمة الحرية في عالمنا، دار المقطم للنشر والتوزيع، القاهرة، 2006.

- واين بارسونز: السياسة والأسواق: كينز ومنتقدوه، من كتاب :موسوعة كمبريدج للتاريخ: الفكر السياسي في القرن العشرين، تحرير: تيرنيس بول – ريتشارد بيللامي: ترجمة: مي مقلد، مراجعة: طلعت الشايب، المركز القومي للترجمة، القاهرة، المجلد:1، العدد: 1338، ط1، 2009.

- عدنان السيد حسين: تطور الفكر السياسي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط3، 2012.

- عادل المعلم: ألف باء الليبرالية... والشريعة الإسلامية،

Wayne Parsons: Politics and markets: Keynes and his critics, of The Cambridge History of Twentieth-century Political Thought, edited by: Terence Ball and Richard Bellamy, Cambridge University Press, United Kingdom, v.(1), 2008.

- أشرف منصور: النقد المعاصر للفكر السياسي الليبرالي، تقديم: مهدي بندق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الكتاب الأول، 2003.

في حياتنا أشكال متنوعة من الأشياء التي لها تأثير مباشر في تشكيل البنى العقلية والوعي لدينا، ولكل شيء نحاول أن نشكله في حياتنا داخل الوعي بوصفه صورة لهذا الشيء الذي من الممكن أن يكون له أثر كبير في رسم صورة الفهم، وعملية بلورة مفاهيمنا تجاه الأشخاص والأحداث والصور، وحتى تجاه تبني قضايا مفصلية في حياتنا العامة أو الخاصة . إنَّ من بين الضرورات المعتمدة في هذا الطريق هي طبيعة ومضمون المبنى الفكري والعقلي، الذي ينتج عن هذه القضية في رسم ماهيات الأشياء في ذواتنا، وكيفية إطلاق الأحكام المتبناة فيما بعد، نحو أيّ تصور ما، لذلك علينا أن نوجه آليات الفهم في داخل الوعي؛ من أجل ربط القضايا مع مصاديقها الخارجية، حتى يستقيم المعنى المراد الوصول إليه، هذا بالنسبة للذات الفردية عند الشخص المتلقي، أما بالنسبة للمجموعة فمن المؤكد أنه سيكون هناك اختلاف أو اتفاق في كليات المعنى، أو بعض من جزئياته في المعنى المراد الوقوف عنده، أو تبني معان أخرى تظهر عن الموضوع ذاته، إذا تعددت الرؤى والمفاهيم لهذا الشخص الواعي أو ذاك، حسب وجود الشيء وعلاقته بالكينونة عند الكائن ذاته ومراحل انتاج صيرورة الوعي لديه، ويقول (هيدجر الفيلسوف الألماني): " إن الوجود الإنساني هو حوار مع العالم ... ليس الفهم بادئ ذي بدء إدراكًا، ولكنه جزء من تركيبة الوجود الإنساني"(1) بين وجودين وجود إنساني ووجود الشيء ذاته، يتشكل حوار العالم بوصفه حوار مصغر يعكس كمية الحوارات المتعددة التي تنبعث من الملامسات الفكرية بين أطراف هائلة تشكل الوعي الإنساني العام، فالوعي الجمعي لا يقتصر على أفهومات جانبية لا ترتكز على مباني عامة في تشكيل الوعي البشري على مر التاريخ وآفاقه المتعددة والمتداخلة فيما بينها، حتى تشكل فهماً ممتداً في رسم ملامح الوجود الإنساني وشيئياته المتداخلة والذائبة في الفهم الممتد عبر مراحل الزمن، وهنا يأتي الإدراك الذي هو سمة من سمات الانتقال بالوعي من الجزئيات إلى الكليات التي يتقبلها كل وعي ذاتي بحسب صيرورته التي تناغم أفعاله مع الكينونات التي أصبحت تشكل (الدازاين) على وفق الوعي الهيدجري .

إنَّ المعايير التي تشكل حياتنا كيف انطلقت في فضاءاتها وأصبحت ظواهر عامة من الممكن أن نقيس عليها هذه العلاقة بين الوعي والشيء؟ وما هي الأطُر العامة التي تنسق هذه المسافة بينهما؟، وما هي طبيعة هذه العلاقة التي أصبحت معياراً انسانياً ناتجة من طبيعة المسافة ذاتها مع الشيء؟. وعودة أخرى إلى (هيدجر)، الذي ينتقل " إلى مسألة الكائن والواقع البشري مركزاً على العلاقة الإنسانية وهذه العلاقة هي علاقة الكائن – هنا أو الكائن - في – العالم ... وأن الآخر ينطرح أمامي يشكلني وبما أنه كائن من أجلي وإنني كائن من أجله، فالمسألة هي في الاعتراف المتبادل بوعي قائم أمام وعي الآخرين، هذا الوعي الذي يظهر أمام وعي آخر في العالم ويتجابه معه"(2). إن هذه الأطر التي تشكل طبيعة الوعي بالشيء (كائن آخر بشري / كائن أخر غير بشري)،أو كائن من الممكن أن يكون موضوعاً في داخلي، أو حتى أي شكل آخر لا يمكن أن نصفه في آنيته كونه قد يكون خيالاً أو حلماً، وكل هذه الأشياء الماثلة أمامي تشكلني وأشكل معها وجودها في مسافة معينة قد تتصف في الثبات في صورتها الظاهرة، أو متحركة في ذاتها من دون أن ندركها ظاهراً، لكن الوعي بها في علاقة ممتدة بين كائن وآخر لا بد أن تنتج عملية مؤطرة من الفهم الذي يرسم في أقل تقدير بطبيعة العلاقة المتحركة مع الآخر. إن ما يسميه (هيدجر) بـ(من أجلي) و(من أجله) هذه العملية هي أول الأطر التي تحدد العلاقة وطبيعتها، وهل هي مفروضة في الوجود وصيرورته؟، أم هي حتمية في كينونة الأشياء ذاتها واكتمال فعل التكوين فيها وفينا أيضاً؟. أم هي إرادية في الاختيار حتى يتكون معنى الأشياء وحدود المسافات البينية بين وعي الكائن والشيء المشكل لحدود هذه المسافات؟. وكذلك بين الوعي بالكيفية والافتراض هل تنطلق مسافة أخرى في الوعي وما يكدسه من معاني متجاذبة بين الاثنين ؟. أم هل يوجد جاذب أصلاً لكلا الطرفين تبنى على أساسه العلاقة أصلاً؟. من هذه الجدلية التي تشكل معاني الأشياء وصورها في وعينا في باطنها وظاهرها، وفي حركتها نحو الاكتمال، وفي كينونتها التي من المفترض بفعل التغير الجبري نحو القادم والتزحزح عن الثبات، الذي لا يدوم بفعل تقادم الأشياء والأفعال والأحداث التي تغير كل شيء أمامها مهما كان ثباته، وهنا يصور (أدموند هوسرل الفيلسوف الألماني مؤسس الفينومنيولوجيا)، بأن العملية بين الكائن واكتمال كائنيته في الآخر، لا بد من وجود محركة من طرف لآخر حتى تكتمل الكينونة في صورتها الأولى ومن ثم تتلاشى إلى كينونة أخرى حتى ولو بعد حين من الثبات، وهنا يصور (أدموند هوسرل) هذه الحركة بالآتي " إن الوعي ينزع إلى عالم الأشياء فيدركها ويعطيها معنى من المعاني، حتى يتحول هذا العالم من حالة الكينونة إلى الظهورة، أي إلى المعنى، إلى الوجود"(3). للقارئ أن يسأل في هذا المفهوم، والكيفية التي يظهر بها إلى الوجود، هل أن تعدد المعاني تشكل وجودات متنوعة ومختلفة ومتخالفة أحياناً، ومتوافقة أحياناً أخرى؟. وهل أن حالة الظهورة هي من تسمح للآخر على وفق المسافة بين الوعي والشيء أن يشكل معناه في هذه المسافة القابلة فيها للظهور؟، وهل الوجود يأتي في لحظة الظهور فقط ؟، أم تكون بداياته بوصفه وجود هي في عملية النزوع نحو الشيء ذاته؟. نحن في هذا المجال نريد أن نصل إلى المعنى الذي يعد المؤطر لهذه العلاقة والمسافة بين الوجود الأول والوجود الثاني، والوجود الناتج في لحظة الظهور بين الوجودين، وما هي شكل المسافة التي لا بد أن يقع فيها فعل الظهور واكتمال الكينونة حتى يصبح وجوداً ثالثاً؟، ليس بمعنى دمج الوجودين مثلاً (كالسيارة والسائق)، بل (فعل الحركة المتشكل من وجود السياقة بينهما). وهل هذا المثال البسيط يؤكد على الإطار العالم للوجود بمعناه الأوسع الذي يشمل وجودات أكبر تشكل كينونة أمة بعينها ولحظات ظهورها في التاريخ، وكما هي الظهورات السابقة للأمم السالفة في الحضارات القديمة، وأيضاً في الحضارات الحالية والأمم التي بَنَتْ مجدها في الوقت الحالي .

إنَّ في موضوعة الظهور والاكتمال للوجود يصاغ معنى واحد في نهاية هذا الظهور، وقد تصاغ عدة معانٍ لهذا الظهور أيضاً، قد يُتفق عليها وقد يخُتلف فيها، فالاتفاق قد يصيغ فكرة الظهور ومدى التماهي معه حتى يظهر ويشكل معنى ما متفق عليه، مثل النجاح بعد الدراسة، لو كان المعلم متفق مع عائلات التلاميذ أن طريقة الدراسة التي تصل بأبنائهم نحو النجاح تتطلب أن تكون على وفق الطرائق الدراسية المعينة، التي لا بد للأهل أن يسهموا فيها حتى يكون النجاح هو النهاية الطبيعية، هنا سيكون الاتفاق على النتيجة مؤكدا، والمعنى سيكون موحداً من وراء هذا العملية، بينما قد يختلف على مثال آخر كأن يكون عملية توزيع نسب التصويت على المقاعد يشكل ضرراً ببعض من يشترك في هذه العملية، هنا سيكون المعنى المتحقق من هذه العلمية مختلف عليه، أي ستكون هناك عدد من المعاني التي تظهر من هذا الوجود الظاهر بسبب هذه العملية يؤدي إلى اختلاف المعنى عند كل طرف من الأطراف.

ويمكن أن نخرج من هذين المثالين بمفهومين هما:

* التوافق من أجل إنتاج المعنى (إيجابية الظهور للعالم).

فالمثال الأول تضمن عملية تشكيل وعي إيجابي نحو الشيء الذي تم النزوع إليه، وهنا من الممكن أن نطلق على هذه العملية الأولى في الظهور وكيفية تشكيل المعنى فيها بالظهور الإيجابي (التوافق الإيجابي للظهور )، أي (إيجابية الظهور) هو نتيجة انتاج وجود متفاعل نحو هدف معين يتفق على تفعيل جميع العاملين عليه؛ من أجل الوصول إلى تضمين متفق عليه، وهنا تكون المسافة القائمة بين الوعي والشيء - على وفق تصنيفات الكائن السابقة – تكون المسافة مستقيمة الشكل قائمة على انبساطية العلاقة بين الوعي والشيء (الدافع/ النتيجة).

* عدم التوافق في إنتاج المعنى (سلبية الظهور للعالم).

في المثال الثاني قد تكون عملية تشكيل الوعي فيها الكثير من عدم الوضوح، أو عدم التطابق في الرؤية تجاه الشيء، مما يولد عملية غير منتظمة في العلاقة بين الوعي والشيء المراد تقصده والانزياح إليه، ومن الممكن أن نطلق على هذه العملية (عدم التوافق في انتاج المعنى)، وهذا المفهوم (سلبية الظهور) هو عدم إنتاج وجود ظاهر من الممكن أن يؤدي إلى معنى نتيجة محددة وبناء مسافة واضحة بين الوعي والشيء ذاته، وهنا المسافة لا تؤدي إلى الشيء ذاته؛ بل تؤدي إلى عدة طرق متباعدة عن المعنى المحدد، والإطار العام هنا لا يحدد المسافة والعلاقة بين الوعي والشيء للوصول إلى ظهور واضح في الطريقة التي يمكن أن تنتج عن مسافة واضحة الدلالة في المعنى عند الظهور، من خلال بلورة صيغة كائن لديه انزياح نحو الشيء في صيغته التي تعطي للظهور حدوده، من دون الابتعاد عن المعنى المراد تحقيقه في بناء هذه المسافة الدالة عن الرؤية المتقصدة للشيء ذاته وللكائن بوعيه المتقصد، تكون العملية التي تربط بينهما قابلة للإفادة من الجهد المتقصد في طبيعة التوجه نحو الشيء . وهنا هل أن هذه العملية هي من أجل الوصل في قصدية الوعي إلى الشيء ذاته، من دون أن نحدد ما لهذه القصدية من تخطيط مسبق على العملية التي انطلقت بقصديتها من لحظتها الآنية ؟. وهل نعتقد أن لكل وعي في لحظة الانطلاقة من أجل ظهورة معينة، هي لحظة انتباه من دون أن يكون فيها التخطيط مسبق لحاجة قد تدفع هذا الوعي إلى البحث في مدياته عن شيء ما؟، أو كائن ما خارج ما هو متوفر من تصورات في داخل حدوده الفعلية التي شكلت بعده في المساحة المعرفية التي من الممكن أن تكون بحاجة إلى بعض الفضاءات والأفق الأخرى؛ من أجل الوصول إلى غايات معينة هو بحاجة لها ؟. وهل أن هذه المسافة هي تضاف الى الوعي في لحظة تقصده ؟، أم إلى الشيء ؟، أم لكليهما معاً ؟. ومن يحدد المستفيد في هذه الحالة؟، هل هي لحظة تكاملية كما يرى (هيدجر)، أي أن العملية هي (من أجلي / من أجله)؟، أم أن العملية هي في إطار ظهور الأشياء في الوعي (الوعي بالشيء)؟ كما عند (هوسرل)، أم أن العملية مقتصرة في حرية وجودية الكائن وخياراته (الحرية في الوجود)؟ كما هي عند الفيلسوف الفرنسي (سارتر)، أم هي في تأكيد وجود الأشياء التي تؤكد ذواتنا ولولا الأشياء ما كانت لذواتنا وجود (الشيء موجود وذواتنا تتقصده)؟، كما هي عند الفيلسوف الفرنسي (ميرلوبونتي). وهل أن العملية تكمن في التحديد والتأطير لهذه الحدود المعرفية ذات الأبعاد الفكرية والجدل في (أينية) الحدود ومبتدأها الفعلي؟، وما منطلقها في الرسم المعرفي؟، ومن أين يبدأ؟، وأين ينتهي؟. وهل هذه المسافة المعرفية هي نفسها التي تجادل عليها (أفلاطون ) و(أرسطو) في أيهما يتبع الثاني في تأكيد الأصالة ؟، وأيهما ظل الآخر في تأكيد الوجود ؟ .

إنَّ التحديد في أسبقية كل طرف على الآخر تقع كلها في هذه المسافة التي تشكل في الكائن الباحث عن مراحل تكامليته الآنية والمتغيرة حسب الفهم الصحيح والادراك والوعي، وأيضا الخبرة المتولدة من ممارسة اختبار هذه المسافة في تكوين مدلولات جمالية ذات أطر معرفية شكلت معيار عند من عرفها وخبرها، لذلك فالشخص الذي يعتقد بمثالية الأشياء في تحديد أطر فهمه لها والوصول إلى معانٍ كامنة في وعيه المتأني في فهم الأشياء، يكون قادراً على الانزياح في إطار (هوسرلي) يحدد طبيعة هذا المسافة في تعاليه للفهم . أما من ينزاح إلى أن من يحدد له طبيعة هذه المسافة في إطار حدود معينة يرجع في تحديدها المعرفي للأشياء، بوصفها ظهور للوعي في توجهه القصدي لها، في حال ظهورها يكون في الطرف الآخر من المعادلة ألا وهي مادية الأشياء في مفهومها (الميرلوبونتي) في تحديد أسبقية المحدد لهذه المسافة . وأما من هو باحث في وجود هذه المسافة التي تعد في قياسها هي من تعطي لكلا الطرفين وجوداً ظاهراً في المعرفة الإنسانية يجعل من (الدازاين الهيدجري) هو محل انطلاقة في مسك المعرفة من الوسط، من دون الركون إلى أحدهما على حساب الآخر، وأخيراً في الحرية التي تؤكد منبع وجود الإنسان في الاختيار على أي صورة يكون، في هذا المسافة المعرفية هي من تجعل من هذا الإنسان خارج أطر الصراع المعرفي بين الطرفين ووجودهما معنى، لأن هذا الاختيار هو من يحدد حقيقة (سارترية) الانتماء في شكل الظهور وتشكيل المعنى في هذا التكوين المعرفي.

إنَّ الذات والموضوع (الوعي/ الشيء) والمسافة المعرفية، وأسبقية الظهور في سلبيته وإيجابيته، والمعنى المتشكل، وتحديد الاختيار (لمن الأسبقية)، وغيرها من المرتكزات المعرفية كلها توضح مدى الاختلاف في تشكيل هذه الأطر، التي توضح حجم وطبيعة الفهم والإدراك في هذه الجدلية الكبرى، التي انطلقت معها أفكار وفلسفات حاولت إثبات أحقية وأسبقية ظهور (وجود مَن / معنى مَن) على الآخر في هذه الاشكالية الكبرى، لكن بعضهم يراها تنطلق في إطار المتعة القائمة على اختلاف التفكير حتى في الاتجاه الواحد كما هو في الوعي والشيء بين كبار فلاسفة الفينومينولوجيا وانزياحاتها الوجودية . فهذه المتعة تؤكد على التأرجح بين الوعي والشيء، أو الذات والموضوع، وهنا يرى (روبرت ياوس) الباحث في مجال الخبرة الجمالية في هذه المسافة المعرفية بين الوعي والشيء إن" التأكيد ليس فقط على الحركة التقدمية والتراجعية بين الذات والموضوع، ولكن أيضاً على الوحدة الاساسية للاستمتاع بالفهم وفهم المتعة . وللمتعة كلمات أخرى يجب ألا تنفصل عن وظيفتها العملية الموجهة للإدراك (...) إدراك يعتمد على ما يمكن للمرء أن ينجزه بشكل من العمل يحاول ويفحص لغرض جعل الفهم والانتاج متوحدين" (4).

إنَّ عملية المتعة في فهم وإدراك هذه المعضلة في التحديد من حيث الأولويات والمسارات في هذه الرؤى المختلفة وكيفية الظهور، تجعل من هذه العملية محركاً أساسياً في إنتاج حركة الصراع الفكرية حول الموضوع ذاته، كون هذا الحركة مستمرة في خلق شكل المفاهيم المستقبلية التي يكون عليها شكل حركة المستقبل المعرفية وما هي طرائق انتاج المعرفة، كون أن كل تيار يخلق في داخله حراك آخر يطور من أساليب إنتاج معرفة متقدمة داخله على حساب الرؤى المتصارع في الدفاع عن الآراء في تأكيد أحقية الظهور في الوجود والمعنى في هذه المسافة المعرفية .

***

أ. د. محمد كريم الساعدي

........................

الهوامش

1. تيري أيغلتن: مقدمة في النظرية الادبية، ترجمة، أبراهيم جاسم العلي، بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 1992، ص70- 71.

2. غسان يعقوب، وجوزيف طبش: سيكولوجية الاتصال والعلاقات الانسانية، بيروت: دار النهار للنشر، 1979، ص145.

3. نفسه، ص 143.

4. روبرت سي هول: نظرية الاستقبال، مقدمة نقدية، ترجمة: رعد عبد الجليل جواد، اللاذقية: دار الحوار للنشر والتوزيع، 1992، ص94.

لمفردة التحول النوعي معنى محدد في العلوم والفلسفة. لطالما سمعنا عبارة "تحول نوعي" paradigm shift، ليس فقط في مجال الفلسفة، بل ان الناس يتحدثون عن التحولات النوعية في جميع المجالات وفي مختلف الأنواع: الطب، السياسة، علم النفس، والرياضة. ولكن ماهو المقصود بالضبط بالتحول النوعي؟ ومن أين جاء المصطلح؟

أول من صاغ عبارة "تحول نوعي" هو الفيلسوف الامريكي توماس كوهن (1922-1996). انها واحدة من المفاهيم المركزية في عمله الشهير "بنية الثورات العلمية" الذي نُشر عام 1962. لكي نفهم معنى العبارة،علينا اولا ان نفهم فكرة نظرية النموذج.

نظرية النموذج

نظرية النموذج هي نظرية عامة تساعد في تزويد العلماء العاملين في حقل معين باطار نظري واسع – وهو ما يسميه كوهن "مخطط مفاهيمي". انه يزودهم بالافتراضات الأساسية والمفاهيم الرئيسية والمنهجية. النظرية تعطي لبحثهم أهدافه واتجاهه العام. انها تمثل نموذجا مثاليا للعلم الجيد ضمن حقل معين.

أمثلة على نظريات النموذج

نموذج مركزية الارض في الكون لبطليموس (حيث الارض هي مركز الكون).

علم الفلك لكوبرنيكوس في مركزية الشمس (حيث الشمس هي المركز).

فيزياء ارسطو.

ميكانيك غاليلو.

نظرية القرون الوسطى في "الأخلاط" الأربعة في الطب.

نظرية اسحق نيوتن في الجاذبية.

نظرية الذرة لجون دالتون.

نظرية دارون في التطور العضوي.

نظرية البرت اينشتاين في النسبية.

ميكانيكا الكوانتم.

نظرية الصفائح التكتونية في الجيولوجيا.

نظرية الجرثوم في الطب.

نظرية الجين في البايولوجي.

تعريف التحول النوعي

يحدث التحول النوعي عندما تُستبدل نظرية النموذج بنظرية اخرى. هنا بعض الأمثلة:

1- علم بطليموس في الفلك مهد الطريق لعلم كوبرنيكوس.

2- فيزياء ارسطو (التي تؤمن ان الاشياء المادية لها صفات ضرورية تقرر سلوكها) مهدت الطريق لفيزياء غاليلو و نيوتن (التي نظرت لسلوك الأشياء المادية باعتبارها محكومة بقوانين الطبيعة).

3- فيزياء نيوتن (التي تؤمن ان الزمان والمكان هما ذاتهما في كل مكان، لجميع المراقبين) فتحت الطريق لفيزياء اينشتاين (التي تؤمن ان المكان والزمان هما نسبيان للمراقب).

أسباب التحول النوعي

كان كوهن مهتما بالطريقة التي ينجز بها العلم التقدم. من وجهة نظره، ان العلم لايمكنه حقا ان يستمر حتى يتفق معظم الذين يعملون ضمن حقل معين على نموذج. قبل ان يحدث هذا، سيبقى كل شخص يقوم بعمله بطريقته الخاصة، ولم يحصل التعاون ولا فريق العمل الذي يتميز به العلم المهني اليوم. حالما توضع نظرية للنموذج، يبدأ اولئك الذين يعملون ضمنه القيام بما يسميه كوهن "العلم الطبيعي". هذا يغطي معظم الفعاليات العلمية. العلم الطبيعي هو عملية حل ألغاز معينة،جمع بيانات،عمل حسابات. العلم الطبيعي يتضمن التالي:

1- معرفة كم يبعد كل كوكب في النظام الشمسي عن الشمس.

2- إكمال خارطة الجين البشري.

3- تأسيس أصل تطوري لأنواع معينة.

ولكن بين الحين والآخر في تاريخ العلوم، يطرح العلم الطبيعي نتائج شاذة لا يمكن توضيحها بسهولة ضمن النموذج السائد. القليل من الاستنتاجات المحيرة لا تبرر بذاتها التخلي عن نظرية النموذج التي كانت ناجحة. لكن احيانا تبدأ النتائج التي يتعذر تفسيرها تتراكم، وهذا يقود بالنتيجة الى ما يسميه كوهن بـ "الأزمة".

أمثلة عن الأزمات التي تقود الى تحولات نوعية

في نهاية القرن التاسع عشر، قاد العجز عن كشف الأثير – وسيط لا مرئي مفترض لتوضيح كيفية سير الضوء وكيفية عمل الجاذبية – بالنهاية الى نظرية النسبية.

في القرن الثامن عشر، كانت حقيقة ان بعض المعادن اكتسبت كتلة عند إحراقها في تضاد مع نظرية فلوجستون. هذه النظرية تؤمن ان المواد القابلة للاشتعال احتوت على مادة الفلوجستون التي اُطلقت أثناء الاحتراق. وبالتالي،جرى استبدال النظرية بنظرية لافوازيه في ان الاحتراق يتطلب اوكسجين.

ماهي التغيرات التي تحدث أثناء التحول النوعي؟

الجواب الواضح على هذا السؤال هو ان ما يتغير هو ببساطة الأفكار النظرية للعلماء العاملين في الحقل. لكن رؤية كوهين هي اكثر راديكالية واثارة للجدل من ذلك. هو يرى ان العالم او الواقع، لايمكن وصفه بشكل مستقل عن مخطط مفاهيمي. لذا عندما يحدث التحول النوعي، فان العالم يتغير بشكل ما . او بكلمة اخرى، العلماء الذي يعملون في  نماذج مختلفة  يدرسون عوالم مختلفة.

فمثلا، لو لاحظ ارسطو حصاة تتمايل كالبندول مربوطة بحبل، هو سيرى الحصاة تحاول الوصول الى حالتها الثابتة وهي حالة الاستقرار على الارض. لكن نيوتن سوف لن يرى هذا، هو سيرى الصخرة تطيع قوانين الجاذبية وتحوّل الطاقة. او لنأخذ مثالاً آخر: قبل دارون، سيندهش كل من يقارن وجه الانسان مع وجه القرد بالاختلاف بينهما، ولكن دارون سيندهش بالتشابهات.

تقدّم العلوم من خلال التحولات النوعية

يدّعي كوهن ان الحقيقة التي تُدرس  في التحول النوعي هي شائكة جدا. نقاده يرون ان وجهة النظر هذه "الغير واقعية" تقود الى نوع من النسبية، ومن ثم، الى استنتاج بان التقدم العلمي لا علاقة له بالتقرّب من الحقيقة. كوهن يبدو يقبل بهذا. لكنه يقول هو لايزال يعتقد بالتقدم العلمي طالما هو يؤمن ان النظريات اللاحقة عادة أفضل من النظريات المبكرة كونها أكثر دقة وتعطي تنبؤات قوية وتقدم برامج بحث مثمرة، وهي ايضا أكثر أناقة.

نتيجة اخرى لنظرية كوهن في التحولات النوعية هي ان العلم لا يتقدم بطريقة متساوية، بحيث يراكم المعرفة تدريجيا ويعمق توضيحاته. بدلا من ذلك، تشهد الحقول فترات من العلم الطبيعي الحاصل ضمن نموذج مهيمن، وفترات من العلم الثوري عندما تبرز أزمات تتطلب نموذجا جديدا. هذا ما يعنيه "التحول النوعي" في الأصل، والذي مازال يعني نفس الشيء في فلسفة العلوم. عندما يُستعمل خارج الفلسفة، فهو يعني فقط تغيير هام في النظرية او التطبيق. لذا فان أحداثا مثل إختراع تلفزيون عالي الجودة، او قبول زواج المثليين،يمكن وصفها بانها تنطوي على نقلة نوعية.

***

حاتم حميد محسن

الأفكارُ الكامنةُ في العلاقات الاجتماعية تُولِّد مَعْنَاها الوجودي وشرعيتها الحياتيَّة اعتمادًا على سُلطةِ مَصَادر المَعرفة، واستنادًا إلى هُوِيَّة المعايير الأخلاقية. وهذه الأفكارُ لا يُمكن تطبيقُها على أرض الواقع لِتُصبح تاريخًا حَيًّا للفردِ ووُجُودًا حُرًّا للجماعة، إلا في ظِلِّ صناعة مُستمرة لمفاهيم الوَعْي الحضاري الذي يُوَازِن بَين منظومةِ (الخِبْرَة / المَصلحة) ومنظومةِ (الفِطْرَة / البَرَاءة). وكُلُّ مُوَازَنَةٍ في تاريخ الأفكار تُؤَدِّي إلى تَوَازُن في البُنية الوظيفية لفلسفة المُجتمع كَآلِيَّة للتأقلم مع الواقع، وإعادةِ تَكوين أنساقه بما يَضمن تحقيقَ المَنفعةِ الفرديَّةِ والجماعيَّةِ . وإذا كان المُجتمعُ يَقُوم على التسلسل الهَرَمي لمصادرِ المعرفة والمعاييرِ الأخلاقية، فإنَّ الأفكار تَقُوم على التَّرَاتُب الثقافي للتجاربِ الحياتيَّة والوَعْيِ الحضاري، وهذا مِن شأنه ضَمان استمرارية البناء الاجتماعي، ومُواصلة تَتَبُّع آثاره المعرفية في المَعنى اللغوي، والسُّلوكِ اليَومي، والحقيقةِ الوجودية، والإدراكِ الذهني، والمُمَارَسَةِ الوِجدانيَّة . والبناءُ الاجتماعي لَيس موقفًا فلسفيًّا مَعزولًا عن الحياة، وبعيدًا عَن مُشكلات الواقع، ولكنَّه تَكوينٌ لحياة جديدة، وإنتاجٌ مُستمر للعناصر الفكرية القادرة على اكتشاف الطبيعةِ الإنسانية والعقلِ الجَمْعي، وتفسيرٌ دائمٌ للنسيج الاجتماعي لتحريره مِن الخَوف تُجَاه المُستقبل، وتحويلٌ للتجربة الفردية الذاتية إلى منهجٌ لقواعد التحليل اللغوي للتاريخ والحضارة معًا.

2

صِدَامُ الفردِ معَ ذاته، وصِرَاعُه معَ الحياة، يَنبغي أن يَتِمَّ توظيفُهما مِن أجل إنشاء فلسفة حياتية للتَّكَيُّف معَ مُكَوِّنَاتِ البيئة المُعاشة معرفيًّا واجتماعيًّا . وهذا التَّكَيُّفُ يُشكِّل نَسَقًا عقلانيًّا حاضنًا للظواهر الثقافية، التي تُجَمِّع العواملَ النَّقْدِيَّةَ ذات التأثير الرئيسي على بُنيةِ الفِعْل الاجتماعي، وكيفيَّةِ صِيَاغته ذهنيًّا وواقعيًّا، لتحديدِ دوافع الفرد في الأحداثِ اليومية والوقائعِ التاريخية، وتحليلِ دَور العَقْل الجَمْعِي في نَشْأة التجارب الإنسانية، على الصَّعِيدَيْن المَعنوي والمادي، ونقلِ الفِكْر الإبداعي في المُجتمع مِن المَفهوم التاريخي المَحصور في الماضي إلى الماهيَّة الوُجودية القادرة على اقتحام المُستقبل . وهذه المَاهِيَّةُ الوُجوديةُ لا تَعْني احتلالَ مَوْقِع في الزمان والمكان، وإنَّما تَعْني بناءَ وُجود إنساني مُتكامل فكريًّا وأخلاقيًّا، وقادر على التأثير الإيجابي في مَسَارِ الوَعْي الحضاري، ومَسِيرَةِ الفاعليَّة التاريخية، ومَصِيرِ المُجتمع الإنساني . ولا يَكفي أن يَكُون الفردُ مَوجودًا على خريطة المُجتمع، بَلْ يَنبغي أيضًا أن يَكُون مُؤَثِّرًا في تاريخ أفكار المُجتمع، ومَالِكًا للبُوصلة في تفاصيل البناء الاجتماعي . ولا يَكْفي أن يَكُون العقلُ الجَمْعي في ثقافة المُجتمع يَمتاز بالنشاط والحيوية، بَلْ يَنبغي أيضًا أن يمتاز بالقُدرةِ على التأقلم، وتحديدِ أهدافه، والتَّحَرُّرِ مِن التأثيراتِ الشُّعورية، والانعكاساتِ الوِجدانية، والضُّغوطاتِ الذهنية . والخطرُ الحقيقي على العقل الجَمْعي لا يأتي مِن خارجه، وإنَّما يَأتي مِن داخله، لذلك يجب أن يُطهِّر العقلُ الجَمْعي نَفْسَه باستمرار، ويَندمج معَ عَوَالِم صَيرورة التاريخ، ويَتَّحِد معَ شُروط الفِعل الاجتماعي، كَي يُوفِّق بين حقيقة المُجتمع ومَعنى الإنسانية ضِمن السِّيَاق العقلاني الذي يُحقِّق المَنفعةَ للجميع.

3

لا يُوجَد مَفهومٌ فلسفي يَقْدِر على الحركة خارجَ المنهج الاجتماعي، ولا يُوجَد وَعْيٌ حضاري يَستطيع الانتقالَ خارجَ التفاعلات الرمزية في اللغة والمُجتمع . وهاتان الحقيقتان تُعيدان تأسيسَ الفِعْل الاجتماعي لِيُصبح ظاهرةً ثقافيةً فَعَّالَةً، تَدْمُج التِّلقائيَّةَ والبديهيَّةَ معَ التَّجربة والخِبرة، مِن أجل تكريس الإرادة الإنسانية كحالة خَلاص للفرد والجماعة، تَقُوم على اعتبارِ الواقع انعكاسًا للنشاط المعرفي، واعتبارِ اللغة عَالَمًا مُشْتَرَكًا مِن السُّلوكِ الهادف والمِعيارِ النَّقْدِي، وإعادةِ تأويل الثقافةِ والتاريخِ مِن خلال الطاقة الرمزية في اللغة، ولَيْسَ مِن خَلال المَصلحةِ الشخصيَّة أو المَنفعةِ الماديَّة الضَّيقة . والثقافةُ صِنَاعةٌ إنسانيَّةٌ لا يُمكن تحليلُها إلا ضِمن سِيَاقها التاريخي الصحيح، ودورُ الطاقةِ الرمزية في اللغة يتجلَّى في حِمايةِ الثقافة مِن التَّحَوُّل إلى كِيَان مُسْتَلَب، وحمايةِ التاريخ مِن التَّحَوُّل إلى كائن مُغْتَرِب .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

التكنلوجيا هي وسيلة لترسيخ هياكل السلطة التقليدية. في اكتوبر 2011 عرضت خدمة الاذاعة الخاصة SBS الجزء الاول من فيلم وثائقي من ثلاثة أجزاء لـ آدم كيرتس Adam Curtis، لقصيدة (الكل تحت رعاية مكائن الحب) (1). البرنامج أثار نقاشا ساخنا بعد اذاعته في المملكة المتحدة . في الفيلم هناك تألق غامر في الاسلوب، صور مبهرة، فكرة واحدة كبيرة تتحول بسلاسة الى فكرة اخرى، بينما السرد المنوّم لكيرتس يزيل أي مطبات معرفية. ولكن يبقى هناك شعور مزعج في انك ربما تعرضت للخداع، شعور في انك لو توقفت وفكرت في الموضوعات الكبرى،فانها سوف تنهار الى مجموعة من التناقضات او تتحلل الى تفاهة. انت تبدأ بالتساؤل في ما اذا كان كيرتس نوعا من مثقف ما بعد حداثي مشعوذ.

رسالة الفيلم هي اننا وصلنا للاعتقاد اننا نعيش في عالم خُلق بواسطة المكائن، وحيث الجميع مرتبطون وأحرار. ولكن في الحقيقة في عالم الماكنة هذا، نحن جميعا عناصر ضمن نظام. نحن حلمنا بان الانظمة يمكن ان تخلق الاستقرار لذاتها من خلال التغذية العكسية،وتخلق توازن مثالي في المجتمع الانساني وفي نظام الأسواق وفي النظم البيئية الطبيعية، شبكة بدون سياسة وبدون تراتبية السلطة القديمة. لكن كيرتس يقول لنا ان السلطة لم تنسحب من الميدان. وهي لن تفعل ذلك ابدا.

المعلومات ليست قوة

أحد الأهداف الرئيسية لكريتس هو طوباوية الانترنيت، الايمان، كما يقول، بان "التكنلوجيا يمكنها ان تحوّل كل شخص الى فرد بطل ، متحرر كليا في اتّباع افكاره الخاصة ". لكن هذا وهم يعمل على إخفاء حقيقة استمرارية السلطة في ظل الرأسمالية. المدونون، القراصنة، الهويات الزائفة في اون لاين جميعها تجسيدات لهذا النوع من اليوتوبيا. الكومبيوترات تمنح كل شخص شعورا بقوة التعبير عن الرؤية، الهجوم على بيانات البنك، إرسال ايميالات بذيئة، بينما السلطة الحقيقية تستمر تحكم العالم.

لايوجد هناك اختلاف كبير بالرؤية حول مراكز السلطة،او حول فهم ماهية السلطة. نحن أعتدنا الايمان بان سيطرة رأس المال كانت المصدر الرئيسي للسلطة، لكن الان قيل لنا ان المعلومات هي السلطة. سمعنا مرارا وتكرارا الناس يمتدحون الانترنيت باعتباره وفر المزيد من المعلومات، مجادلين ان الوصول لهذه المعلومات هو نوع من التمكين، بما يجعل مجتمعاتنا أكثر ديمقراطية؟ عندما نسمع مثل هذه الادّعاءات نتذكر مسلسلات الطفولة التي يتوصل بها البطل الى ان المعلومات الرديئة تطرد المعلومات الجيدة، بل ويقترح ايضا انه حتى المعلومات الجيدة يمكنها ان تطرد المعرفة. اليوم تبدو يوتوبيا الانترنيت، غير منحازة كليا، وتغمر الناس بافراط بمعلومات عبر إضفاء طابع اسطوري لا تمتلكه حقا. هذا هو سبب انحدار "ثورات الميديا الاجتماعية" من النشوة الى الفوضى. انها تقود بسهولة الى الاستبداد. اولئك الذين انساقوا نحو التضامن من خلال أجهزة الايفون ربما هم أقوياء بما يكفي للاطاحة بالمستبد، ولكن اذا لم تكن هناك خلفية سياسية غير التوق الى الحرية الغربية، واذا لم يكن هناك تنظيم راسخ ومتماسك يعبر عن ايديولوجية معينة، عندئذ سوف لن يوجد هناك تفضيل لنظام جديد.

شبح ويكيليكس

لم يُذكر ويكليكس في قصيدة الكل تحت رعاية مكائن الحب، لكنه ظل يتدخل بشكل ما. جوليانا اسانج اراد الاطاحة بالأقوياء لكنه بنى حملته على مثل هكذا تصور مشوه لمصدر السلطة . حتى الفيديو المقزز بعنوان "قتل جماعي"الذي قتل فيه الجيش الامريكي صحفي لرويتر،لم يغير الحرب ضد العراق. اذا وضع الاقوياء أسرارهم في قاعدة بيانات، فان القراصنة الاذكياء يمكنهم العثور عليها.

بالنسبة لآدم كيرتس ليست الكومبيوترات قاطرة للتحرر وانما هي عامل للقمع. هو يذكّرنا لماذا انهارت مجتمعات الهيبي بسرعة كبيرة. الاسطورة الرومانسية لـ اللامركزية والانظمة الرخوة المفتقرة للتنظيم  التي يمكن ان تحررنا ونعبّر بها عن ذواتنا الحقيقية اصطدمت بالعالم الواقعي للسياسات الشخصية وحب الذات. القصيدة كانت مبكرة لما يمكن مقارنتها به.

غير ان هناك شيء شاذ في عالمي كيرتس واسانج. ربما الاسلوب اللامع الذي يتجاهل صلابة الواقع، كما في محاكاة الواقع التي تتم بالماكنة. انطلاقا من الاحساس بان الحقيقة لايمكن الوثوق بها، فان الاثنين يشتركان بنوع من جنون العظمة الما بعد حداثي. هما كانا نوع من الفرد الذي عليه الاختيار بين عمل خاطئ او المؤامرة، سوف دائما يختار المؤامرة. الفرق هو ان كيرتس يفهم كيف تعمل السلطة، لذا كانت مؤامراته اكثر صدقية.

تكنو رأس المال

في حركة غير متوقعة، القصيدة تربط الايديولوجية الفردية السامة لآين راند بالثقافة المضادة للستينات،وتقوم بهذا في مستوى أعلى من ظاهرة البوهيميين البرجوازيين في التسعينات. كيرتس يتعقب مسار الحياة والافكار الجديدة التي وصلت وادي السليكون وحيث ولادة الشركات التي تحكم العالم الان. هؤلاء هم الناس الذين يدعمون حاليا ذلك النوع الغريب من الرأسمالية الافتراضية التي بها تقوّي المكائن كل شخص على حساب الدولة. كانت الفردية الامريكية التي وُلدت من جديد بدون بدلة وربطة تجسدت بأفضل شكل من جانب ستيف جوبس. الرجل الذي صنع البلايين من المستهلكين المهوسين بالمنتج الرافضين ان يضعوا  ثروتهم في أي هدف جيد. ثقافة وادي السليكون تعرّي الرأسمالية في أفضل اختياراتها.

احدى موضوعات القصيدة هي ان الرأسمالية وصلت الى نقطة حيث الكومبيوترات تقوم بعمل السوق. معظم قرارات المتاجرة في اسواق الاسهم تتم بواسطة مكائن مبرجمة سلفا، مثلما الكومبيوترات تسيطر على مواد خام المصنّعين، وعمليات الانتاج عند الطلب،وانظمة طلبات التجزئة واستراتيجيات استثمار البنوك.

نتذكر نقاشا حادا في الخمسينات حول ما اذا كانت الدولة الاشتراكية مثل الاتحاد السوفيتي يستطيع استعمال الكومبيوترات لمحاكاة مهام التخصيص الكبيرة جدا للسوق الرأسمالي بينما لايزال يتابع الاهداف الاشتراكية. المكائن ستقوم بملايين الحسابات المطلوبة لمقابلة العرض والطلب عبر الاف الاسواق المترابطة داخليا بالطريقة التي تقوم بها آلية الاسعار في ظل الراسمالية.

هناك منْ يرون شيئا شريرا في هذا الانهيار التنظيمي السيبراني لعام 2008،عندما انقلبت التغذية العكسية من كونها عامل استقرار الى كونها مزعزعة للاستقرار. النظام سار متخبطا منذ ذلك الحين.

انت لا تحتاج لقراءة كتاب رأس المال لكارل ماركس لتعرف ان الانهيار كان حتميا. الرأسمالية بطبيعتها غير مستقرة. ثورة الليبرالية الجديدة، بعد شيطنتها للدولة  بدأت بنقل السلطة من الحكومة الى السوق، الذي قيل انه محايدا وفعالا. بينما كل من كان أقل ذكاءً عرف ان السوق عبّر ورسّخ لامساواة عميقة في السلطة، لذا فان تحول السلطة اللليبرالية الجديدة كان من الحكومة الى الأغنياء. والاغنياء هم دائما يسعون لاستغلال السوق للحصول على المزايا. لكن كيرتس وفي حالة من عدم الوضوح يتخذ قفزات غير معقولة لكي يصل الى جدال معقول – ذلك ان فكرة المكائن تحكم بتعاطف عالما منظما فيه الافراد متحررون اصبحت دخانا يخفي الحقيقة الثابتة. السلطة تبقى بأيدي الأقوياء.

القصيدة تعمل على حقيقة كبيرة في كيفية عمل السلطة اليوم، وهي يتردد صداها لدى فكرة فوكو عن الحكوماتية. هذه تعلن ان العملية التي بها المجتمع الحديث يصبح قابلا للحكم من جانب الحكومات تخلق نوعا من المواطن يحدد مصالحه مع اولئك الذين في النظام. كيرتس يوسع هذه الفكرة،ليست الحكومات فقط تشبع رغبة المواطنين بهذه الطريقة، وانما النظام المدار بالمكائن وبـ "تفكير الماكنة" الذي يحل الان محل الايديولوجيات السياسية.

ميديا الماكنة

هناك عنصر اساسي لـ "الحكوماتية الليبرالية الجديدة"، به توصّل المقامرون الى حكم انفسهم من خلال مشاركتهم في السوق، وهو التأثير المخدر للميديا الحديثة. هناك مفارقة معينة في اسلوب القصيدة. كيرتس ذاته قال انه اراد دمج الجدية العالية مع الثقافة الشعبية، وازالة الاشياء الوسطى". الصعوبة هي انه عند  جعل الافكار العليا مسلية جدا، فان الافراط الحسي يوقف الدماغ في مساره. انت عليك ان تتحدث عنه بعد ذلك مباشرة لتفهم ما شاهدت توا، وعند ذلك فقط تقرر كم  ذلك منطقيا. ملاحظة متنافرة في قصة كيرتس الساحرة تكمن في تعامله مع الايكولوجي. هو يحكي قصة فوضوية فيها هندسة مفاهيم الشبكات، التغذيات العكسية والانظمة المعقدة حول الطبيعة  كانت اقتُرحت وخُطط لها من جانب المفكرين المبكرين. الطبيعة جرى تصورها كنظام منظم ذاتيا رغم ان بيئيين اخرين اثبتوا خطأ ذلك،لكنه مع ذلك منحنا رؤى هامة حول التواصل مثل نظرية جايا والافكار الطوباوية المتعلقة بعالم الويب العالمي الواسع" www..

كل من يعرف القليل حول تطور علم البيئة والشمولية holism (2) سوف يتسائل كيف استطاع كيرتس ان يقرأ فيه مثل هذه القصة الشريرة. لو تذكّرنا بعض الاعمال الهامة للبيئية – الربيع الصامت، البلد الرملي، الايكولوجيا العميقة – لاشيء هناك من التصور التكنوقراطي لسيطرة المكائن والتناغم القوي. بالعكس تماما: انها تتحدث عن تعقيدية وراء التنظيم ونزاهة داخلية تراوغ الفهم العلمي. انها تحذر من خطر التدخلات الراديكالية ومحاولات السيطرة، المضاد لما نسبهُ كيرتس للتوازن البيئي. لكن كيرتس يكشف دون قصد حقيقة عميقة حول البيئة. عندما تطورت الى حقل علمي تُدرس في الجامعات، أبقى علم البيئة ما كان يُفترض ان يدمره وهو العلم الآلي.  مفردة "النظم البيئية" تفشي ما يجب ان يبقى سريا، لأنها تقبض على الفكرة الاساسية في فرض انظمة تفكير على الطبيعة تبقى في الاساس نيوتنية. صحيح ان الانظمة تحكم العالم لكن تلك الانظمة ليست محايدة ومنظمة ذاتيا، انها انظمة للسيطرة. هذه هي الفكرة العميقة في القصيدة.

***

حاتم حميد محسن

.........................

الهوامش

(1) القصيدة بعنوان All watched over by machines of loving Grace لريتشارد براوتيغان، نُشرت اول مرة في عام 1967. تمثل وصفا حماسيا لطوباوية التكنلوجيا التي فيها تتولى المكائن تحسين وحماية حياة الناس. جرى تفسير القصيدة كيوتوبيا وكنقد ساخر لليوتوبيا التي تصفها. تتألف القصيدة من 99 كلمة في ثلاثة مقاطع وتصف الانسان والتكنلوجيا يعملان مع بعض لأجل الخير الأعظم. جاء في مقدمة القصيدة:

انا أحب التفكير في مرج سبريني

حيث تعيش الثدييات والكومبيوتر

مجتمعان في تناغم برامجي متبادل

أحب الماء الصافي

يلامس السماء الصافية ...

 (2) نظرية الشمولية تفيد بان الأجزاء في ترابط صميمي مع الكل وانها لا يمكن ان توجد بشكل مستقل عنه، ولايمكن فهمها بدون الاشارة اليه. الكل يُعتبر أكبر من أجزائه. جرى تطبيق الشمولية على الحالات الذهنية وفي اللغة والبيئة.

تُعد اللّغة عنصرا رئيسا في إنتاج وإعادة إنتاج المجتمع، وهي آلية السّيطرة في نظم الإدارة بما تُشكّل من مجال عامّ للخطاب السّياسيّ، فهي الوسط الذي يصبح فيه الصّراع واضحا، وهي وسيلة بناء الهوّيّة كما أشارت إلى ذلك نانسي فريزر (Nancy Fraser): "تشتمل هوّيّات النّاس الاجتماعيّة على معانٍ معقّدةٍ وشبكاتِ تفسيرٍ، وللحصول على هوّيّة اجتماعيّة في مجتمعات معيّنة (...) لا بدّ من العيش والعمل تحت مجموعة من الأوصاف التي لا تفرزها أجساد النّاس ببساطة ولكنّها تنضح من نفسيّاتهم، وتُستمدّ بالأحرى من مخزون الإمكانات التّفسيريّة المتاحة ومن رأسمالهم الثّقافيّ.[1]

يُشير ظهور الهوّيّة المهيمنة في مواقع محدّدة زمانيًّا ومكانيًّا إلى نقطة تقاطع بين بُنى الهيمنة وبين التّرتيبات الرّمزيّة والشّرعيّة التي يمليها عدم التّماثل بين خطاب التّحكّم وبين تشكيلات الهوّيّة الاجتماعيّة. ومن ثمّة "يحيل مفهوم "الهيمنة الخطابيّة" إلى الوضع المتميّز الذي تحتفظ به الجماعات المهيمنة، والذي يفترض مسبقًا أن يصبح المجتمع منصّة لتعدّد الخطابات والمواقع الخطابيّة".[2] لذلك لا تنتج الهيمنة الخطابيّة تلقائيّا ولا عن رغبة المواطنين في استيعاب بيانات الهوّيّة بوصفهم مرشحين تمّ فرزهم من قبل قيادة خطابيّة متميّزة، بل تُعدّ رائزا للاختبار والاختيار والتّنافس على حدٍّ سواء، ومعيارا لتشكيل الهوّيّة بدلالة البنى المهيمنة وعبر سيطرة الخطاب المهيمن. إنّ اللّغة هي المكوّن لكلّ ما هو عامّ وسياسيّ، وبحسب ما أشارت إليه آن نورتون فإنّ "اللّغة بما هي وعاء للفكر تجعل الفضاء الخاصّ والعامّ وبمساعدة مجموع الخبرات الفرديّة والجماعيّة داخل مفاهيم وتصنيفات الخصوصيّة الثّقافيّة والنّظام السّياسيّ". [3] فليست بنية النّظام الرّمزيّ الذي يعامل اللّغة أو "اللسان" كشيفرة لتوليد الذّاتية وفقًا للغويّات دي سوسير (Saussure) هي المهمّ هنا، لكن المهمّ بالأحرى هو اعتبار ذلك النّظام أسلوبا للممارسة التّواصليّة أو طريقة في "الحديث"[4] تُميّز طبيعة الفعل التّواصليّ. إنّ الهوّيّة الاجتماعيّة هي محصّلة ما هو موجود في المجتمع من سياقات تواصليّة وعلاقات قوّة، من منازعات وممارسات خطابيّة ومؤسّسيّة مهيمنة.

تأتي الأمّة (The Nation) كإسناد مألوف للهوّيّة في مركز الممارسة الخطابيّة والمؤسّساتيّة لتمنح الشّرعيّة أو تنزعها في الوقت نفسه، إنّها مفهوم ملتبس، ومستودع  للرّموز والذّكريات الجمعيّة، ووسيلة مثلى للتّعبئة في أيّ صراع. لقد ارتكزت نزاعات العصر بعد الحرب الباردة حول خطاب الأصول الذي أطلق الحروب المعاصرة والمستقبليّة باسمه مسترجعا ماض بعيد لأجل تعبئة حاضر مترابط وإقصائيّ، ومن هذه الحروب عن سبيل المثال: الحرب الإسلاميّة المسيحيّة، الحرب العربيّة الإسرائيليّة، الحرب البوسنيّة الصّربيّة، الحرب التّركيّة الكرديّة، حرب الهوتو والتّودسي، حرب الكاثوليك والبروتستانت... إنّها عمليّة فرز تُبرِز هوّيّة مهيمنة على حساب هوّيّات أخرى سعيا إلى إنكار ونفي الاختلاف، وطمسا لكلّ معارضة قائمة أو محتملة باسم كيان موحّد أسطوريّ وقوّة قتاليّة فعّالة. فبهذا يقع خطاب الأصول في صميم صراع يصبح قائمًا في الواقع عندما تغرق الفردانيّة في انتماء جماعيّ مُقيّد بالذّاكرة الجماعيّة، ومحدّد بخطاب إقصائيّ ولغة سياسويّة حمائيّة موجّهة لدرء خطر عدوٍّ شيطانيّ يستحقّ أي عنف يُرتَكب ضدّه. فالعدوّ ليس مجرّد قيادة هجوميّة مذنبة تلام على خلق ظروف غير مرغوب فيها، وتستحق لأجله العقاب، إنّما العدوّ هو كيان آخر قائم، هو مجتمع بأكمله أعيد بناء تاريخه بطريقة مقصودة وفقا لعمليّات الإقصاء والتّصنيف والتّعريف، واستنادا إلى صفات محدّدة، إنّه صراع تتمّ باسمه قمع أيّ معارضة داخل المجتمع.

تُعدّ الهوّيّة الوطنيّة مكوّنا هامّا لإدارة النّظم الاجتماعيّة وتصوّرا ذاتيّا يعتمد على الثّقافة، أي على التّاريخ والأساطير، على اللّغة والتّقاليد في بناء هوّيّة واحدة ترتكز على عمليّة التّصنيف التي تسمح ببسط سلطة الدّولة على جميع المناطق والجماعات والطّبقات. فهي تُؤسّس العلاقة بين الهوّيّة الجماعيّة وبين السّلطة "لتضفي عليها خصائص النّظام المؤسّساتيّ العقلانيّ"[5] لتعزّز من خلالها توسيع نطاق السّيطرة على توجيه عمليّات التّواصل وأشكال التّفسير، وأنماط الإدارة والحكم.

يتقلّب الأفراد في استمراريّة خطابيّة ومؤسّسية تربط خصوصيّة الجماعات بعضها ببعض لتشارك في ضبط التّحوّلات وإعادة إنتاج النّظم القائمة عبر هذه الممارسة المستمرّة،[6] وحتى يتمّ بناء هوّيّة مشتركة موحّدة وعابرة لدورة حياة أولئك الأفراد. فبالسّيطرة الخطابيّة والمؤسّسية على الحياة اليوميّة يندمج الفرد في المجتمع باعتباره مستهلكا للرّموز الثّقافيّة، غير أنّ الهوّيّة الوطنیّة لا تُشكّل بالضّرورة جانبًا من الوعي الخطابيّ الذي قد ينشأ عند کلّ لقاء اجتماعيّ، بل هي عنوان رئيس يشمل مجمل الصّفات المتعدّدة بما فيها تلك التي تُشكّل خلفيّة غير معترف بها أوقات السّلم لكنّها تغدو مدمجة على التّعميم باسم الانتماء للأمّة واستنادا إلى تحديد القضايا، المصالح، والشّرعيّة المستهدفة في فترات الصّراع مع العدوّ سواء كان من خارج المجتمع أو من داخله.

تُعدّ "الأمّة" و"المصلحة الوطنيّة"، "الأمن القوميّ"، "الرّفاه الوطنيّ"، "السّيادة الوطنيّة" و"تقرير المصير" تصنيفات مفاهيميّة تعتمد على الإحساس بالهوّيّة الجماعيّة للمشاركة في استلهام ماضٍ متخيّلٍ يربط الأفراد ربطا يعبر الطّبقة الاجتماعيّة والجنس ومستويات الدّخل وجميع أشكال الفرز والتّقسيم. وعلى هذا الأساس يُعِّرف بنديكت أندرسون (Benedict Anderson) الأمّة بأنّها "مجتمع سياسيّ متخيّل ومحدود بطبيعته، لكنّه متصوّر ككيان له سيادة".[7] فمفهوم الأمّة تصوّر لمجتمع يقوم على الذّاكرة يسعى لبعث التّاريخ واستثماره كحاوية زمنيّة تجمع ذكريات مجيدة لإنجاز ثقافيّ وسياسيّ وعسكريّ.[8] فمع مفهوم الأمّة تصبح هذه الذّكريات والأمجاد المتخيّلة راسخة بمرور الوقت في صميم التّرتيبات الرّمزيّة والمعايير الاجتماعيّة "المنقولة" من جيل إلى جيل لتُشكّل على العموم ركيزة للمعاني التي تتكاثر ويُعاد تشكيلها من خلال الأحاديث اليوميّة التي تشير إلى كلّ ما هو "وطنيّ" أو قوميّ "كلّما تشارك أفراد الشّعب المفاهيم المكوّنة لسيادة الدّولة القوميّة أو لطابعها متعدّد الأركان، وهو ما يرتّب هذه المفاهيم رأسا في الوعي العمليّ بدل إتاحته  في تشكيل خطابيّ  كسبب للعمل"[9] بحسب غيدنز.

إنّ المفهوم الذي قامت عليه الأمّة والهوّيّة الوطنيّة هو مفهوم متجذّر بعمق ومنتشر على مرّ العصور في كلّ مكان عبر العالم، بحيث يبدو أنّ تقسيم البشريّة إلى دول قوميّة مستقلّة هو النّظام الطّبيعيّ للأمور. إنّ القوميّة كعقيدة ترى في الأمّة شكلًا طبيعيًّا من أشكال تطوّر المجتمع البشريّ يصلح أن يكون معيار الحكم، وبذلك ينفي الخطاب القوميّ الأسس التّاريخيّة والثّقافيّة للأمّة ككيان اجتماعيّ يعتمد عليه في الوقت نفسه لإضفاء الشّرعيّة على ذكريات سابقة.[10] تتجسّد "الأمّة" ككيان محدّد باعتبار ما هو قائم سياسيًّا على حساب أنماط التّمثيل الأخرى، بحيث تصبح العلاقات الاقتصاديّة التي تنتج بطرق غير مسيّسة مجرّدة من شرعيّتها تماما، ويتمّ تعريف المصالح الخاصّة للفئات المهيمنة في المجتمع عامّة بالمصالح "الوطنيّة" ليصبح هذا التّوصيف الذي تطلقه البنى السّياسيّة القائمة على "مصالحها القطاعيّة" مضلّلا ومتحيّزا خصوصا إذا اعْتُبِرَ حافزًا موجّهًا للعمل الحكوميّ. وفي ساحة الفعل السّياسيّ وبنفس التّمثّل يتمّ تصوّر الحكومة والأمّة والدّولة كيانات متجانسة في تفاعلها مع الحكومات والأمم والدّول "الموحّدة" الأخرى.[11]

لقد اعتبر إيلي خدّوري أنّ ظهور العلاقة بين القوميّة والسّيادة والمواطنة في الثّورة الفرنسيّة حدث يؤسّس العلاقة بين السّلطة الشّرعيّة والمواطنة فيتماثلها أو يطابقها مع الأمّة.[12] من ناحيته يرى غيدنز السّيادة والمواطنة والقوميّة ظاهرة مترابطة، ويرفض التّفسير النّفسيّ للقوميّة الذي يرى أساسها في الحاجة إلى الهوّيّة معتبرا أنّه تفسير محدود جدًّا ولا يساعد على تطوير فهم الرّابط الاجماعيّة. فالقوميّة بما هي صيغة أيديولوجيّة لسياسة الدّولة لا تماثل السّلطة، ولكنّها تأخذ أشكالا مترابطة مثل علاقة السّياسة القوميّة ببناء السّيادة، وعلاقة طابعها الأيديولوجيّ بالسّيطرة الطّبقيّة، وعلاقة القوّة النّفسيّة وحسن السّلوك بالمواطنيّة الصّالحة والارتباط بالدّولة؛ وكحاوية للقوى الرّمزيّة الجبّارة تخلق القوميّة مجتمعا متخيّلا.[13] إذن، تنشأ الأمّة في مخيال مجتمع يرى نفسه كيانا كلّيّا مبنيّا على تاريخ مجيد وثقافة مميّزة تتضمّن نظاما رمزيّا يُسْتَخْدَمُ في أوقات الشدّة لتعبئة جماعات بأكملها ضدّ مجتمعات أخرى تُنَصَّبُ عدوّةً.

ليست اللّغة بتلك الأهمّيّة التي توفّر قوّة توحّد أفراد المجتمع، بل هي وسيط أو وسيلة يتمّ عبرها نعت "السّياسيّ" ب "الوطنيّ" بنحو ما أشار إليه إريك هوبسباوم (Eric Hobsbawm): "اللّغات الوطنيّة هي بُنًى شبه اصطناعيّة تقريبًا ودائمًا، وهي النّقيض لما تفترضه الأساطير القوميّة باعتبارها أسسا ابتدائيّة للثّقافة الوطنيّة وقوالب للعقل الوطنيّ. كانت هناك محاولات لوضع صيغ توحّد تعدّد التّعابير المنطوقة للألسن التي تمّ تخفيضها إلى لهجات، فأصبحت المشكلة الرّئيسة هي أيّ  لهجة سيتمّ اختيارها كأساس للّغة الموحّدة والمتجانسة؟.[14]

تنهض اللّغة الموحّدة بدور مركزيّ في حياة الدّولة الأمّة بما تكتنف من رموز قويّة تتغلغل في وجدان المواطنين وحياتهم اليوميّة، فالأعلام الوطنيّة المنتشرة في زوايا الشّوارع أو على لوحات السّيارات أو فوق أسطح البنايات تظهر الانتماء بوضوح يؤكّد قوّة التّمييز والفصل سواء في المناسبات الرّياضيّة أو في الاحتفالات العسكريّة. وتُمثّل النّصب التّذكاريّة "للجنود المجهولين" إشارة قويّة تستوجب ضمان الاستمراريّة لبقاء الأمّة بصرف النّظر عن تضحياتها الجديدة، إذ تُخلّد التّركيبات اللّغويّة فضلًا عن المضمون الرّمزيّ للثّقافة مجمل النّضالات والتّضحيّات التي تضفي على حياة المجتمع معنًى يعتبر الشّرط الأساس للإدارة الكلّيّة في الدّولة القوميّة.

استثمارًا للمعامل البنيويّ يعتمد تصوّر الصّراع كخطاب إقصاء على صياغة روايات وبناء أحداث اعتمادا على مجموعة متنوّعة من المصادر اللّغويّة الموجودة سلفًا، وأيضا على عوالم المعاني المشتركة المستمدّة من بنية الواقع. فنهاية الحرب الباردة بين "القوى العظمى" لم تفض إلى زوال الحرب، إذ شهد العالم نشوب صراعات عرقيّة وقوميّة ارتكبت فيها مذابح وصور عنيفة للإبادة الموجّهة ضدّ جماعات معيّنة، وظهرت معسكرات الاعتقال من جديد، وارتكبت حالات الاغتصاب الممنهج للنّساء والأطفال كتكتيك للحرب القذرة والصّراع المنفلت من كلّ قيد أخلاقيّ أو إنسانيّ.[15] فإحصاء بيتر والينستين (Peter Wallensteen) وكارين أكسيل (Karen Axell) يشير إلى 82 صراعًا مسلّحًا بعد انتهاء الحرب الباردة شاركت فيه 64 دولة في سنوات قليلة تجاوز عدد ضحاياها ما يفوق المليون إنسان، وقد تمحورت تلك الصّراعات في جزء كبير منها حول "مسائل داخلية" تتعلّق بمطالب الاستقلال الذّاتي وتقرير المصير.[16] ويحيل انتشار مجمل هذه النزاعات الطّائفيّة والعرقيّة إلى هيمنة الخطاب الإقصائيّ الذي يوفر الدّعم للصّراعات المسلّحة العنيفة.

في مقال لها بعنوان "ماذا عن أمّة الغد؟" تحدثت جوليا كريستيفا (Julia Kristeva) عن توسّع خطاب إقصائيّ يقوم على "كراهيّة دفاعيّة" "ينزلق معها تقديس الأصول إلى الاضطهاد".[17] والواقع أنّه إلى مثل هذا الخطاب يتّجه العنف ضدّ "الأجنبيّ"،[18] إنّه خطاب يُشرعن سياسيًّا ليولّد تصنيفًا يطلقه من يُعرفون بامتلاك "الشّرعيّة" من داخل الجماعة ضدّ جميع الآخرين  الذين يعتبرون خارجها أو خارجين عنها، والذين يفضي بهم الاختلاف إلى أن يصبحوا أهدافا للعنف المباشر أو للتّمييز الممأسس. إنّ العنصريّة "انحطاط بفكرة الوطنيّة"[19] بحسب كريستيفا، فهي عنف منتشر أعيد تشكيله من خلال الميز والفصل العنصريّ إن بالقول أو بالفعل. فما تنطوي عليه صلة هذا النّوع من العنف اللّفظيّ بالصّراعات المسلّحة من خطاب إقصائيّ يعمد بوضوح إلى تصنيف مجموعة من الأفراد كأعداء ليُشكّل بُنًى للعنف تقوم على التّفرقة وعلى معنًى اعتباطيّ وهدف هو في الأساس غير معروف.

تُظهر الهوّيّة الجماعيّة في جميع تشكيلاتها طرقا لعنف رسميّ تتّسم بمؤسّسات منظّمة ومحدّدة بقواعد على درجة عالية من السّيطرة، كما تُظهر أساليب أخرى لعنف غير رسميّ تضمّ كيانات غير منظّمة وتجمّعات سياسيّة فضفاضة. وترتبط الأساليب الرّسميّة للعنف الجماعيّ بالدّولة وبمؤسّستها العسكريّة، في حين ترتبط نظيرتها غير الرّسميّة بالجهات غير الحكوميّة المشاركة في الصّراع، وتترتّب عن كلتا الطّريقتين وعبر أشكال الصّراع المتنوّعة علاقة بين الهوّيّة الاجتماعيّة وبين العنف الجماعيّ.

تُنَفَّذُ الحروب الرّسميّة المرتبطة بالدّولة باسمها لكي تكتسب شرعيّة تستند إلى الهوّيّة الجماعيّة للأمّة، وبحسب ما أشارت إليه آن نورتون "فإنّ الجيش يمثّل الأمّة بشكل رسميّ كما يمثّل الإرادة العامّة بالوكالة، ويرتبط هذا الطّابع التّمثيليّ بالزّيّ الرّسميّ الذي يخفي الفرديّة وينكرها علنًا، كما يرتبط باستخدام العلم الوطنيّ وبالشّعارات الأخرى التي تعلن وحدة القوّة ودورها في تمثيل الأمة".[20]

يُعتبر العنف الذي يمارسه الجيش المتورّط في الحرب شرعيًّا من حيث إنّه "تنفيذ للإرادة العامّة" فهو الرّمز الخارجيّ للسّيادة الوطنيّة، أمّا المواطنون الذين لم يشاركوا مباشرة في شنّ الحرب فيتمّ دمجهم في آلة القتال من خلال الولاء، والمساهمة في المجهود الحربيّ برفع الإنتاج الاقتصاديّ على الجبهة الدّاخليّة. ويعتمد هذا الإدماج على التّعبئة العامّة التي تستند في دعم الصّراع العنيف على ما للأمّة من معنًى وشرعيّة، فالتّعبئة كعمليّة واضحة في الأوقات الاستثنائيّة وزمن الصّراع مع العدوّ تُعزى إلى قيادات كفوءة تستثمر المخيال الجماعيّ لتستلهم حمولته الوجدانيّة المتغلغلة في ثقافة المجتمع، وتوظّف ما تزخر به الذّاكرة الجمعيّة من صور البطولة لكي يُعاد إنتاجها معتمدة على خطابات تمجّد الأمّة والجيش.[21] فبهذه التّعبئة، وبتجنيد وسائل الإعلام الجماهيريّ كمصدر وحيد للمعلومات، ومنبر لترويج الخطاب السّياسيّ يتمّ بناء صورة تشيد بمؤازرة الجيش للأمة وتنوّه بدفاعه عن ثوابتها.[22]

يرتبط الفرد بالعنف الجماعيّ إذن من خلال الهوّيّة الجماعيّة، سواء كان هذا العنف صادرا عن أجهزة الدّولة أو ناجما عن احتجاج فئات متمرّدة تطمح إلى إزالة الدّولة أو الحلول محلّها. فبهذا التّعريف تغدو الحرب عنصرًا رئيسا في الهوّيّة الجماعيّة التي تشكّل شرارتها في الذّاكرة الجماعيّة من خلال "السّرديّات"،[23] والتي تحتمي بالماضي لتحتفي بأمجاد الأسلاف، ولكي تستمدّ القدرة على مواجهة ما تعتقد تهديدا لوجودها وبقائها على قيد الحياة لأنّ الصّور الذّاتيّة التي تقوم على مفاهيم البطولة والقيم والعدل تستند في مجملها إلى الذّكريات الجماعيّة التي يعاد إنتاجها فعليًّا زمن احتدام الصّراع. يقدّم الخطاب الوطنيّ "القوميّ" القتال في الحروب بوصفه نيابة عن "الأمّة" ودفاعا عن قضيّة عادلة، فسرديّات الحروب التي تمجّد "الأبطال" تلهم الأمم بمخزونها الرّمزيّ فتوفّر لها ما يسعف في إعادة إنتاج هوّيّة تقوم على الحرب بحسب ما أشار إليه هديتوفت (Hedetoft): "البطل هو عبارة عن معاني الوطنيّة التي يُعزى بها إلى أشخاص استثنائيّين يقدّمون صورا ملهمة للشّجاعة الوطنيّة والتّضحيّة والدّفاع عن الوحدة. ويُنظر إلى البطل أيضًا كشخص حقّق هوّيّته الدّاخليّة العميقة عبر التّضحيّة الشّخصيّة والتّفاني الدّينيّ في أداء الواجب تُجاه قضيّة نبيلة جديرة بالاهتمام والتّضحيّة (...) يُشكّل الأبطال البُنى الاجتماعيّة والثّقافيّة للأمم، ومن المفارقات الغريبة فعلا أنّ الموت بالنّسبة للوطنيّة القوميّة هو أكثر قدسيّة من الحياة".[24]

فالحرب إذن هي حاصل الخطاب الوطنيّ القوميّ، وهي رمزٌ لسيادة الدّولة، وهي مظهرٌ لهوّيّة الفرد والأمّة والدّولة، وهي أيضًا خطاب صراع يبني عبر هوّيّة خطابيّة استمراريّة مؤسّساتيّة تمنحه الشّرعيّة.

واعترافًا بالعنصر البَّناء للّغة يذهب تحليل الخطاب إلى حدٍّ ما باتّجاه المساهمة في فهم الصّراع كخطاب إقصائيّ يتوسّل طريقة وحيدة للمعرفة، ويتموقع ضمن سياق اجتماعيّ سياسيّ وتاريخيّ معيّن. وبما أنّ لكلّ مراقب أو محلّل أو طرف في الصّراع زاوية نظر تخصّه، فإنّه وعلى هذا النّحو لا يمكن أن تكون هناك قراءة أحاديّة لرواية، أو نصّ تشريعيّ، أو سرد تاريخيّ، وبالتّالي لا يوجد في الواقع تفسير "موحّد" ولا طريقة وحيدة للمعرفة.[25] إنّ إدراك تعدّديّة الاحتمالات للتّفسير يفترض الاعتراف بوفرة القراءات، التّمثيل، الهوّيّات والشّرعيّة التي تشكّل فرديّة يجب أن تقع في صميم الخطابات التّحويليّة والحاسمة حول السّلام.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

....................

[1] Fraser, N., “The Uses and Abuses of French Discourse Theories for Feminist Politics” Theory, Culture   and Society, Vol. 9 (1992), p. 52

[2] Ibid  p. 54

[3] Norton, op. cit., p. 46

[4] Saussure, F. De., Course in General Linguistics (Fontana, London, 1974).

لمراجعة التمييز بين "اللسان" و " الكلام"، انظر:

Giddens, A.  Central Problems in Social Theory (Macmillan, London, 1979), pp. 10-18

[5] Norton, op. cit., p. 47

[6] Giddens (1984), op. cit. p. 171; Bhaskar, R.., The Possibility of Naturalism (Harvester Wheatsheaf  Hemstead, 1989), p. 42  Hemel

[7]  Anderson,M., Imagined Communities (Verso, London, 1991), p. 6

[8] حدد Anthony Smith التاريخية بوصفها العنصر  المحدد الأساسي للقومية العرقية انظر:

Smith, A, .D.,  The Ethnic Revival in the Modern World (Cambridge University Press, Cambridge, 1981); National Identity (Penguin Books, Harmondsworth, 1991).

[9]. Giddens, A.,The Nation-State and Violence (Polity Press, Cambridge, 1985), p. 211

[10] Kedourie, ., . Nationalism (Hutchinson University Library, London, 1966), pp. 9-20

[11] إن الواقعية بوصفها مدرسة لفكرة انضباط  العلاقات الدّوليّة تعتبر الدّولة وحدة للتّحليل دائمًا، وأنّ لها مجموعتها البنائية المفاهيمية مثل " المصلحة الوطنيّة" و " السّيادة" انظر

Morgenthau, H.J., Politics Among Nations (Alfred Knopf, New York, 1985); James, A., Sovereign Statehood: The Basis of International Society (Allen and Unwin, London and Boston, 1986).

[12] Kedourie, op. cit., p. 12-13

[13] Giddens (1985), op. cit., pp. 215-217

[14] Hobsbawm, E.J., Nations and Nationalism since 1780 (Cambridge University Press, Cambridge,1990), p. 54

[15] انظر:

Mearsheimer, J.J., “Back to the Future: Instability in Europe after the Cold War” International Security, Vol. 15, No. 1 (1990), pp. 5-57.

[16] Wallensteen, P., and Axell, L., “Armed Conflict at the End of the Cold War, 1989-92”, Journal of Peace Research, Vol. 30, No. 3 (1993), pp. 331-346.

[17] Kristeva, J., Nations without Nationalism (Columbia University Press, New York, 1993), p. 3

[18] يشير Richmond إلى أن المصطلحات هي مثل: الافعال، الهياكل والمؤسسات المرتبطة  مع عزلة قسريّة للناس المختلفين انظر:

Richmond. A.H., Global Apartheid: Refugees, Racism, and the New World Order (Oxford University Press, Oxford and New York, 1994), p. 296.

[19] Kristeva, op. cit., p. 13

[20] Norton, op. cit., p. 146

[21] في بحثه لتأسيس علاقة تجريبية إحصائية صحيحة بين دعم الحرب وبيع ألعاب الحرب وافلام الحرب، أشار Patrick Regan إلى إستعمال الرموز القومية والوطنية في " أشكال ترفيهية واسعة الإنتشار" لخلق  دعم شعبي للجيش. انظر

Reagan, P., “War Toys, War Movies, and the Militarization of the United States, 1900-85”, Journal of Peace Research, Vol. 31, No. 1 (1994), pp.45-58.

انظر أيضًا

Virilio,P., War and Cinema (Verso, London and New York, 1989).

[22] Chaffee, S.H., “Mass Communication in Political Socialization”, in S.A. Renshon (ed.) Handbook of Political Socialization: Theory and Research (Free Press, New York, 1997), p. 227

[23] . Bhabha, H.K.,(ed.), Nation and Narration (Routledge, London, 1990).

[24]  Hedetoft,U., “National Identity and Mentalities of War in Three EC Countries”,Journal of Peace     Research, Vol. 30, No. 3 (1993), pp. 281-300.

[25]  Hawkesworthm, M.E., “Knowers, knowing, known: Feminist Theory and Claims of Truth”, Signs, Vol. 14. No. 3 (1989), pp. 553-547.

 

طبيعةُ المجتمعِ مُندمجةٌ معَ فلسفة اللغة، باعتبارها منظومةً عقلانيةً تتحقَّق في داخل السُّلوكِ والوَعْي به، وكَينونةً منطقيةً تتكرَّس في الفِعل الاجتماعي، الذي يتعامل معَ التاريخ ككائن حَيٍّ، يَنبعث في أنساق الحياة المُعَاصِرَة، ويَنمو في العقل الجَمْعِي، ويُفَعِّل دَوْرَ القواعد الأخلاقية في الأحداث اليومية، ويُؤَكِّد على علاقة الوَعْي بالآلِيَّات المعرفية التي تُحلِّل مَضمونَ الأنظمةِ المادية الاستهلاكية المُسيطرة على الإنسان والطبيعة معًا، مِن أجل تَكوين ظواهر ثقافية تَنبع مِن تفاصيل الواقع الإنساني المُعَاش، ولا تتمركز حَوْلَ عَقْلِ الآلة الميكانيكية كبديل لعقل الإنسان المُبدِع.وهذا مِن شأنه تَكوين نظام فلسفي جديد لرؤيةِ العَالَمِ الكامن في داخل الإنسان، ورؤيةِ العَالَمِ الخارجي المُحيطِ بالإنسان، والضاغطِ عليه، والمُؤثِّرِ في شُعوره ووَعْيِه وإدراكه. وهاتان الرُّؤْيَتَان تُساهِمان في استخراجِ الأحلام المنسيَّة مِن أعماق المُجتمع. وحركةُ الوَعْي (الحقيقي لا الزائف) في الزمان والمكان يُعاد تشكيلُها وَفْقَ كَيْفِيَّة رؤية العَالَم (الداخلي والخارجي)، وهذه الكيفيةُ تتأثَّر بطريقة مُمارسة الإنسان لِسُلطته على تراكيبِ البناء الاجتماعي، وتقاطعاتِ التاريخ، والقيمةِ الوجودية للظواهر الثقافية في البيئة، وشُروطِ الثورة الصناعية في الطبيعة. وهذه السُّلطةُ مُرتبطةٌ بالبُعْدِ الأخلاقي في التجارب الحياتيَّة، بِوَصْفِهَا طريقًا إلى بناء المَنْطِق في العلاقات الاجتماعية، ومُرتبطةٌ كذلك بالبُعْدِ التعبيري في اللغة، بِوَصْفِهَا وسيلةً للتفاهم والحِوَار، وقاعدةً معرفيةً لعقلانية المُجتمع. والسُّلطةُ على الأشياءِ تُمثِّل فلسفةً خَاصَّةً لفهم ماهيَّة الأشياء. وإذا نَجَحَ المُجتمعُ في إزالة التناقضات بين سُلطةِ الإنسان وماهيَّةِ العلاقات الاجتماعية، فإنَّه سَيَنجح في إعادة تَوظيف دَور المَعرفة في السُّلوكِ الفردي والمُمَارَسَةِ اللغوية.وهذه المعرفةُ لَيْسَتْ تجميعًا للمعلومات، ولا أرشيفًا للوثائق، وإنَّما هي عملية تَوليد مُستمرة لفلسفة التاريخ العابر للمراحل الزمنية والتجنيسِ المكاني. وفلسفةُ التاريخِ لَيْسَتْ ماضيًا مضى وانقضى، أوْ شيئًا يتمُّ الرُّجُوع إلَيه، أوْ هُوَّةً سحيقةً يتمُّ الهُرُوبُ إلَيها والاختباءُ فيها. إنَّ فلسفةَ التاريخ نَسَقٌ فِكري يُولَد في شُعورِ الإنسان وإدراكِه، ويُسيطر على طريقة رؤيته للأشياء، وأسلوبِ تَعَامُلِه معَ العناصر. وكُلُّ نَسَقٍ فِكري هو بالضَّرورة فاعليَّةٌ اجتماعيةٌ في بُنية شخصية الفرد الإنسانية، وتفاعُلٌ إنساني معَ سُلطةِ المُجتمع الاعتبارية، وهُوِيَّتِه الحضارية المَتمركزة حَول الوَعْي بالذات والمُحِيطِ، وكَيْنُونَتِهِ الوجودية القادرة على صناعة حُقول معرفية جديدة، تُسَاهِم في إعادة بناء الواقع على أُسُس عقلانية إبداعيَّة، مِن أجل إيجادِ كِيَان للإنسان في التاريخ، وتَكوينِ مَعنى للتاريخ في قواعد المنهج الاجتماعي.

2

مركزيةُ اللغةِ في المُجتمع تُعيد تشكيلَ الهُوِيَّات الإنسانية (الفَرْعِيَّة والرئيسيَّة) في السِّياق الثقافي، وتَكشِف الخلفيَّةَ الفلسفية الكامنة وراء العلاقات الاجتماعية، وتَفْصِل بين حُرِّية الإرادة والواقع المُقيَّد. وهذا الفصلُ ضروري مِن أجل تحديدِ جَوْهَر الشخصيَّة العَامَّة المُتَمَثِّلَة في مَصِير المُجتمع، وتحديدِ ماهيَّة الشخصية الخَاصَّة المُتَمَثِّلَة في مَسَار الإنسان. وإذا كان مصيرُ المُجتمعِ ومَسَارُ الإنسانِ يَرتبطان بالعواملِ النَّفْسِيَّة والمعاييرِ الأخلاقية، فإنَّ قِيمةَ التاريخِ ورمزيةَ اللغةِ تَرتبطان بالظواهرِ الثقافية والتجاربِ الحياتية. وهذا الارتباطُ الوثيق بَين كُلِّ هذه المُكَوِّنَات الوُجودية يَدْمِج الخِبْرَةَ العمليَّةَ بالفِطْرَةِ الذاتية، ويُشيِّد البناءَ الروحي على البناء الاجتماعي، مِمَّا يُؤَدِّي إلى إعادة تَمَوْضُع الذات الإنسانية المُبْدِعَة في تاريخِ الأفكار الحَيَّة والحُرَّة، وطبيعةِ الزمانِ والمكان،بِوَصْفهما عمليةَ تحرير مُزْدَوَجَة للإنسان مِن صُورةِ الضَّحِيَّةِ وبُنيةِ المأساة.وهكذا، يَجِد الإنسانُ نَفْسَه صانعًا للتاريخ، وفاعلًا في أنساقه، ولَيْسَ مَفعولًا به، أوْ سِلْعَةً مَصنوعةً ضِمن قانون العَرْض والطَّلَب.

3

العقلانيةُ في المُجتمعِ واللغةِ والتاريخِ لا تَعْني تقديسَ العَقْل، أوْ جَعْلَ الإنسانِ حَاكِمًا على عناصر البيئة والطبيعة، ولا يَحْكُمُه شيء، وإنَّما تَعْني إنشاءَ نظام فلسفي يُحرِّر المُجتمعَ مِنَ الأوهام المُكرَّسة بِفِعْل سياسة الأمر الواقع، ويُحرِّر اللغةَ مِن الوَعْي الزائف الناتج عن التناقض بين الأحلامِ الفردية والطُّموحاتِ الجماعية، ويُحرِّر التاريخَ مِن الحضارة الاستهلاكية التي تُمثِّل قَفَصًا حديديًّا يَمنع رؤيةَ مصادر المعرفة مِن كُلِّ الزوايا. وكُلُّ نظام فلسفي لا يُصبح شرعيًّا ذا جَدْوَى إلا إذا قامَ على ثنائية التَّحَرُّر والتحرير، أي إنَّهُ يُحرِّر نَفْسَه بِنَفْسِه مِن الصِّدَام بين الوسيلة والغاية، تمهيدًا لتحريرِ العناصرِ التي يَحْتَوِي عَلَيها، والأشياءِ التي تُحيط به. وكما أنَّه لا يُوجَد نظام فلسفي خارج الظواهر الثقافية، كذلك لا يُوجَد جَوهر إنساني خارج المُجتمعِ واللغةِ والتاريخِ.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

للهوية الجمالية تاريخ من الابتكار يؤسس له في شتى أنواع الفعل والقول والنتاج الصوري في العقل الجمعي في الحضارة الإنسانية،لذا فإن (فريدريك نيتشه) يضع في كتابه (مولد التراجيديا) أشارة لذلك من خلال شخصية (هوميروس) (1) وهو محور هذا المقال الذي يبحث في هذا الجانب الجمالي ومعطياته الفكرية في صناعة مفهوم البطل وجماليات الظهور وتأسيس الهوية في الحضارة الإغريقية، وما أسس عليه في الحضارة الغربية عامة . وبالعود الى (نيتشه) الذي يرى الآتي: (هوميروس ... يبدو وهو مندهشاً وهو ينظر الى الرأس الرائع لآلهة الفن (الميوزات) المخلّصة التي تتقلد الدروع الحربية). وهذه الرؤية المندهشة الملهمة تصنع فعلتها في خيال (هوميروس) في نتاجاته الملحمية المؤسسة للتاريخ الإغريقي البكر، حسب رؤية نيتشه لـ (هوميروس) المؤسس الأول والمبتكر لأحد روافد الهوية الجمالية الإغريقية.

إنَّ من أولويات البحث في التاريخ القديم الذي أصبح من علامات الابتكار في الفكر الغربي الجمالي، وما صنعه وأبدعه شاعر رسم خطى التجربة الأولى لتصبح بعد ذلك من علامات التمركز وقصديات السياق العام في صورة البطل في الذاكرة الغربية وغائيته التاريخية، فـ(هوميروس)، الذي أبدع (الإلياذة) (2)، وأختها (الأوديسا)، وجعلهما " مصدر هام لمعرفة الأسطورة اليونانية، ونرى الأسطورة فيهما وكأنها قد تكونت وترعرعت وتكاملت أو تكاد في خطوطها الكبرى الجوهرية . وما يضاف إليهما فيما بعد بمثابة التنميق والتوشية والزخرف على ثوب من دمقس فاخر . أما جو هاتين الملحمتين فهو جو حضارة مزدهرة، جو بذخ وعظمة واقتدار يتجلى لنا عند عظماء وأمراء الإغريق " (3)، صوّر من خلالهما (هوميروس) صورة هذه الحضارة النواة لمفهوم الهوية الجمالية التي عظّمت من صورة البطولة لديهم، وخاصة في (الإلياذة) التي جعل فيها البذرة الأولى لصورة البطل المخلّص في البناءات الأولى للهوية الجمالية، إذ عمل على بناء معطى جمالي أولي في البدايات الشعرية الأولى في ملاحمه على أعتبار أنه عمل على " التقاط الحساسية الأسطورية البدائية، حيث كانت أحداث الوجود الإنساني تُرى وثيقة الارتباط بالملكوت الأبدي للآلهة ومغتنية به. فالرؤية الإغريقية القديمة كانت تعكس نوعاً من الوحدة الحقيقة بين الإدراك الحسي المباشر والمعنى الأزلي، بين الظرف الخاص والدراما الكونية، بين نشاط الإنسان ودفع السماء. ثمة أشخاص تاريخيون كانوا يعيشون بطولات أسطورية في الحرب" (4) وأصبحت هذه الصورة جزء مهم من التجربة التاريخية التي تحكم العلاقات بين المتصارعين من منطلقات التبرير التاريخي لتأسيس الفكر الكوني في أنتاج هذه التجربة التاريخية وابتكار الهوية الجمالية في الفكر اليوناني القديم، إذ " ظهرت المصطلحات الأولى لعلم الجمال عند الإغريق القدماء وفي أشعار (هوميروس) على وجه التحديد . فقد أستعمل (هوميروس) أم التعبيرات الجمالية مثل: الرائع، والجمال، والتناسق . فكل ما هو رائع متناسق بالنسبة لهوميروس هو موضوعي واقعي، يمكن أن يفهمه الأنسان ويلمسه بحواسه " (5)، والصيغ الجمالية التي حددها هوميروس تعد البداية الاولى في تحديد هوية فكرية جمالية في التاريخ اليوناني القديم، على أعتبار أن المصطلحات التي أطلقها أسست للفهم الحقيقي الذي يتردد في المستقبل صداه عند فلاسفة إغريق، فالرائع، والجمال، والتناسق من المعطيات التي تحدد المعايير الجمالية في تشكيل صورة البطل في ملاحم (هوميروس) .

إنَّ هذه الملاحم قد رسم فيها (هوميروس) صورة البطل التي ترتبط في أدائيات جمالية أخرى في الملحمة،إذ "أستعمل هوميروس عبارة (أن أثينا سكبت الجمال على أوليس) . فالفن عند هوميروس هو حرفة، فهو عندما يتكلم عن الأبداع الفني يفهمه كأنه عمل جسماني منتج، كحرفة" (6)، وهذا الابداع الفني قد يفهم بمروره بمراحل هي:

* الأولى: الحرفة الجمالية التي عمل (هوميروس) على صياغة أفكاره على وفق الرائع، والجميل، والمتناسق في فكره الذي أبدع ملاحم كبيرة صمدت على مر التاريخ أمام كل القبح الذي انتجه العالم على مر السنين، وأصبح هذا الرائع هو التصور الجمالي عنده من خلال صياغاته الفنية والجمالية في الملحمة .

* الثانية: عمل على صياغة المصطلحات الجمالية في شخصياته البطلة التي انتجت صور جمالية متناسقة بين الشكل والمضمون في الملحمة، كما في الشخصية التي نتناولها بعد قليل في التحليل الجمالي عند (هوميروس).

* الثالثة: عمل على اضافات مكملة في ملحمته تظهر الجانب الجمالي الذي ركز عليه في الملاحم من خلال الوصف الذي قدمه والذي وصف الأداء الطقسي في " الألياذة والأوديسا، وتكلم عن تأثير الغناء والموسيقى في حياة الإغريق . فهو يقص لنا عن المعني (ديمودوك) الذي أثر بأغانيه على حرب طروادة في نفس أوليس فأبكاه " (7).

* الرابعة: في المعطى الجمالي لدى (هوميروس) وإعادة البناء الجمالي في المخيال الإغريقي من خلال صياغة البطولة في هذه الشخصيات التي تحمل معها التناسب في الصياغة الجمالية في البناء الملحمي . ولو أستعرنا تشبيهات (أرلوند توينبي) في كتابه (بحث في التاريخ) عن أسلوبه الثالث من أساليبه في البحث في التاريخ، وهذا الاسلوب الثالث الذي يركز فيه على مفهوم (إعادة الخلق) من خلال إعادة خلق صورة البطولة  في رسم النظام في اليونان القديمة، وإعادة أسلوب الرائع والجميل في صناعة شكل الهوية التاريخية والجمالية التي أسهمت فيها صور فنية وشعرية من خلال تشكيل الوعي اليوناني بملاحمه التي من بينها (الإلياذة)، التي ابدع فيها (هوميروس) البطل المخلّص والذي جعل منه المنقذ في الحرب ضد طروادة، إذ جعلت من التجربة التاريخية التي يرى فيها المؤرخ أنها قد وقعت في الفترات الاولى من تكوين الدويلات اليونانية، وقد أعاد (هوميروس) أنتاجها في ملحمة لنسج العلاقات بين الكوائن البشرية .

إنَّ الحرب مع طروادة هي من أجل الزعامة والإخضاع، والصورة  من الصراع الأولي أوجد في الفكر الغربي تجربة متقصدة أبدعها شاعر إغريقي في ملحمته الشعرية، ولكن المهم فيها البطل المخلّص وصورته التي اصبحت الدائرة الأبرز في هذه التجربة المستمدة من أحداث التاريخ، ويرى (والتر كاوفمان) في كتابه (التراجيديا والفلسفة): "إنَ هوميروس لم يسرد أحداث السنوات العشر التي استغرقتها الحرب، ولا حتى أبرز أحداث حرب طروادة، بل هو يختار موضوعاً وحداً، هو غضب (آخيل)، ويقصر قصيدته على زمن محدود بصورة مدهشة . أما الأحداث الواقعة خارج هذا المدى الزمني، والتي يرغب في طرح فإنه يقدمها من خلال الأحاديث . وكان مبدأ الترتيب الذي نظم به قصته هو الصراع وعلى أوضح المستويات، فقد تصور الحرب باعتبارها سلاسل من الصراعات" (8) تؤدي الى بناء صور لعملية بناء الشكل الرائع في صورة البطل الذي يؤول اليه الأمور فيما بعد وصولاً الى أنتاج عملية محكمة في شكل وهيئة البطل المخلّص، ويعمل على جعل الأحداث كلها تدور حول ما يقوم به، أو ما يريد القيام به تجاه من يعارض مواقفه . ولكن يبقى موقف البطل وفياً لصالح المرجعيات العليا التي تتحكم بالصيغ العليا للدولة وليس تجاه مقتضيات المعايير أخرى خارج هذا الفكر، بل إنَّ توجهات (أخيل ) عند (هوميروس) من أجل المصالح العليا لليونان، والذي سيصبح فيما بعد المتمركز الأساسي والمهم في إنتاج وإعادة خلق صورة لتجربة تاريخية متقصدة في الوعي الغربي وهويته الجمالية في هذا المجال . ويمكن أن نؤشر أن (هوميروس) هو صورة للفنان الباصر ومن المساهمين في إنتاج هوية مبتكرة في تجربته الملحمية ذات البعد القصدي في تأسيس وعي جمالي غربي يعمل من أجل المصالح العليا للدولة ولكن على وفق المبدأ وبناء ميتافيزيقيا قائمة على مرجعيات التمركز الجمالي في الثقافة الغربية، قد الهمها قراء هذه التجربة في إيجاد البعد في الذات الغربية . فالفنان في هذه المسألة أصبح من الذين ابتكروا واجتهدوا في إعادة خلق التجربة بطريقة تفعّل النواة الأولى للذات المتمركزة حول البعد التاريخي للهوية الثقافية والجمالية الغربية وللغائية التاريخية من ورائها . وهذه التجربة التاريخية في الصراع مع (طروادة) وإعادة خلق الصراع في (الإلياذة) جعلت من هذا الفكر يركز في صياغة الهوية ذات البعد المعياري القائم على صورة التكامل في انتاج البطل وفي ابتكار الذات المتمركزة على صورة البطل المخلّص، الذي يظهر في وقت  يراد منه أظهار الانتصار والقوة والسيطرة على الآخر المهزوم .

إنَّ التركيز على إعادة خلق البطل المخلّص في الملاحم اليونانية القديمة، تعد عملية تتمحور حول فكرة إنتاج ذات قوية تعيد للماضي أمجاده في صياغات جديدة تشكل النواة الأساسية للبعد المفاهيمي للمعطى الجمالي، وبناء صورة مكملة تنطلق من بطولات الماضي ذات البعد الحضوري في دلالة تعمل على إعادة أنتاج الوعي بذلك التاريخ والتذكير به متى ما ضعف في الذاكرة الجمعية اليونانية، أو بث ظهوره المتكرر للماضي في صورة البطل الفردي القاهر الذي أصبح ملهماً للجماعة في ظهور ثاني وبروز هذه الجماعة التي استمدت من البطل حضورها . ويعني إعادة خلق (آخيل) على مستوى الذات الجمالية المؤسسة، هو ذات بعد دلالي في البناء القصدي في الفكر الغربي وميتافيزيقياه المتمركزة في الذاكرة ذات البعد التوليدي للبطل والبطولة في مراحل أخرى متقدمة . بحث (هوميروس) عن معاني معينه في بطله وفي ما يقدمه للإغريق في ذلك العصر ليشكل من خلالها هوية خاصة لصورة البطل من خلال معايير خاصة بالصورة الملحمة لديه " فقد أستخدم تعبير الرائع، التناسق، الجمال، ففي رأيه كل ما هو جميل ومتناسق ورائع هو واقعي يستطيع الإنسان أن يفهمه ويلمسه بحواسه، فالفن عنده حرفة  " (9)، توظف لهذا الفهم في التكوين الجمالي للهوية في بعدها التاريخي وغائيتها في المقصد لمراد اظهاره فيما بعد في التمركز الغربي .

***

أ. د. محمد كريم الساعدي

......................

الهوامش

1. (هوميروس) ابن (كريثيس) ابنة (ميلانوفوس)، ولدته أمه على ضفة نهر (ميليس) في ضاحية (أزمير) ودعته ميليسا (جينيس) أي: ابن النهر (ميليس)، رباه (فيميوس) زوج أمه وتعهد بتعليمه حتى كبر وبعد موت (فيميوس) ورث (هوميروس) المدرسة التي كان يملكها (فيموس) فأصبح معلمها الأول، حتى ذاع صيته بين أهاليها وأصبح من المعروفين فيها، ومن مؤلفاته ملحمتي (الإلياذة والأوديسة). ينظر: سليمان البستاني: مقدمة ملحمة الإلياذة : هوميروس: الإلياذة، ترجمة: سليمان البستاني، القاهرة: كلمات عربية للترجمة والنشر،2011،ص14.

2. (الإلياذة) أو (الإلياس) تنسب الى (إليون) عاصمة بلاد (الطرواد)، وهي ملحمة وضعها (هوميروس) تناولت  موضوع واحد هو (غيظ آخيل)، وفي مجمل القصة كان في جملة السبايا فتاة جميلة وقعت في سهم (آخيل) فانتزعها منه (أغاممنون) وهو ملكهم وأستخلصها لنفسه فعظم الأمر على (آخيل) وكاد يبطش بـ(أغاممنون) لولا أن (أثينا) إلهة الحكمة هبطت من السماء وصدَّته قسراً، وأعتزل (آخيل) القتال هو ومجموعته، بالحرب الدائرة بين الإغريق والطرواد، فاشتدت المعارك بين الطرفين حتى كاد الطرواد ينتصرون على الإغريق، فأرسل الإغريق وفودهم لاسترضاء (آخيل) فما زاد إلا عتواً وكبراً، فوقعت هيبة (هكتور) زعيم الطرواد وابن ملكهم (بريام) في قلوب الإغريق، ومازال الغلبة للطرواد عليهم . فكان لـ(آخيل) صديق حميم هو (فترقل) فتى جمع بين كرم الخلال وبسالة الأبطال صحب (آخيل) في معتزله، فألح على (آخيل) من أجل الإشتراك في المعارك، ولما اشتدت الأزمة على الإغريق وكاد (هكتور) ورجاله يقضون عليهم، وافق (آخيل) على أشتراك صديقه في الحرب وبعد أن نصرهم وكاد يهزم الطرواد أستطاع (هكتور) من قتل (فترقل)، فعلم (آخيل) بموت صديقه فأزداد حزناً وقرر أن يشترك في الحرب، حتى قتل (هكتور) وأذل الطرواد وملكهم (بريام) وأنتصر لدم صديقه وللإغريق منهم . ينظر: سليمان البستاني: مقدمة ملحمة الإلياذة : هوميروس:  المصدر نفسه، ص 30،ص32.

3. الأب فؤاد جرجي بربارة: الأسطورة اليونانية، دمشق:الهيئة العامة السورية للكتاب، 2014، ص 12.

4. ريتشارد تارناس: آلام العقل الغربي / فهم الأفكار التي قامت بصياغة نظرتنا الى العالم، ترجمة: فاضل جتكر، أبو ظبي: كلمة، 2010، ص40.

5. م. أوفسيانيكوف، ز. سميرنوفا: موجز تاريخ النظريات الجمالية ، تعريب: باسم السقا، بيروت: دار الفارابي، 1975، ص11.

6. نفسه، ص 11.

7. نفسه، ص 11، ص12.

8. والتر كاوفمان: التراجيديا والفلسفة، ترجمة: كامل يوسف حسين، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1993، ص159،ص160.

9. الدكتورة غادة المقدم عذره: فلسفة النظريات الجمالية، بيروت:جروس برس، 1996، ص39.

 

ج) المواطنة الحديثة وصلتها بتقاليد المدنيّة الجمهوريّ

سنقيًم ونقوّم ابتداء من هذا الفصل صلة المفهوم الحديث للمواطنة بتقاليده المدنيّة الجمهوريّة، وسنفحص مساهمته في النّظريّة الدّيمقراطيّة لنتعرّف سويّا مدى توجيهه للقضايا التي تتعلّق بممارسة المواطنة في المجتمع السّياسيّ، لذلك سيتمّ التّركيز على التّفكير المدنيّ الجمهوريّ في هذا الفصل على أن يتمّ تناول النّظريّة الدّيمقراطيّة الحديثة في فصل لاحق.

كموضوعة مؤسّسة لا بدّ من الإشارة إلى حقيقة أنّه لكي يصبح المواطن فعّالاً يتعيّن إكسابه المهارات اللاّزمة كالمعرفة والوقت، ومنحه الوسائل الضّروريّة للتّنفيذ كالسّلطة والتّفويض، ثمّ تنميّة الدّافعيّة المطلوبة لديه ليتسنّى له أخذ دور في ممارسة المواطنة بشكل جدّيّ سواء من حيث الانتفاع بالحقوق أو من حيث أداء واجبات العضويّة في المجتمع، فالتّأهيل شرط رئيس ولازمة من لوازم تأسيس الفعّاليّة في المشاركة. وممّا هو مطلوب أيضاً في هذا الصّدد العمل بنزاهة وبما يلزم من انسجام مع التّوجّهات الحديثة على إرساء النّمط الحديث في تدبير الشّأن العامّ بتقعيد "لامركزة"، "لاتركيز" و"لاتركّز" السّلطة السّياسيّة والاقتصاديّة ..

حقيقة الاختلاف ثابتة والمدنيّة هي احترام المغايرة

تكتسب المدنيّة بممارسة المواطنة التي تستمدّ زخمها من قوّة الدافعيّة وتأثير حوافز المواطنيّة لدى الأفراد، ولعمري فإنّ الجمهوريّة المدنيّة تبدو أقرب إلى الفلسفة الجماعاتيّة بتأكيدها على ما يختلف به الأفراد بعضهم عن بعض وعن المجتمع، وبما يشتركون فيه ويدمجهم في ذلك المجتمع. وقد تحدّث كل من ميكافيلّي، روسّو ودي توكفيل عن روابط الولاء والالتزام بالمشروع المجتمعيّ المشترك بين مواطني الجمهوريّة، كما تحدّث هيغل عن تحقّقه بالفهم العميق للحياة الأخلاقيّة بمفهومها الحديث حيث يعتبر الاختلاف بين الأفراد في هوّيّاتهم الشّخصيّة وصفاتهم ومصالحهم حقيقة تجريبيّة تخلق الأشكال العليًا للحياة في وجهيها الضّروريّ والممكن في الوعي أو الذّات، وفي أبعادها المتراوحة بين الخاصّ والعامّ. فميكافيلّي قاده إدراك الاختلاف في الموهبة والمقدرة والمهارة بين الأفراد إلى استخلاص حقيقة أنّ الحكومة الجمهوريّة أكثر قوّة ومتانة من الإمارة لأنّ بتلك المهارات يكون الأفراد أكثر مرونة في التّعامل مع أي مشكلة تواجههم. ومن جهته أثنى دي تو كفيل على النّزعة "الفرديّة" معتبرا أنّها أكثر تعبيراً عن الحرّيّة الإنسانيّة التي تتجلّى أرقى أشكالها في اللّيبراليّة السّياسيّة. بينما اعتبر روسّو الاختلاف خطرا كامناً يهدّد الحرّيّة المدنيّة التي لا يمكن ضمانها بنظره إلاّ من خلال الإجماع السّياسيّ مؤكّدا في الوقت نفسه على أنّ إرادة الفرد دليل على قوّة موقفه الأخلاقيّ حينما يُخضِع خصوصيّته للإرادة العامّة التي هي إرادته كمواطن، وأنّ أقوى تحقّق لاستقلاليّتها لديه يكون في ظلّ الجمهوريّة المدنيّة.

الوطنيّة وواجبات المواطنة

يتعيّن بالنّسبة لميكافيلّي ترسيخ الفضائل المدنيّة، وبالنّسبة لروسّو فإنّ تلك الفضائل تعني الحرّيّة المدنيّة، أمّا بالنّسبة لهيغل فهي حرّيّة الذّات. يرى دي تو كفيل أنّ المصالح الشّخصيّة التي تفضي إلى اختلاف الأفراد باختلافها بين كلّ واحد منهم تنمو وتتجذّر بتطوّر الحياة الاقتصاديّة وأنماط العيش، لذلك لم يألُ جهداً في تمييز مصطلحه "تسليط الضّوء على المصالح الذّاتيّة" عمّا يدعوه مونتسكيو الفضائل المدنيّة للتّعبير عن نكران الذّات والولاء لغايات وأهداف المجتمع، ليصبح معناها بحسبه هو نشر الفضائل المدنيّة المعبّرة عن إرادة المشاركة في قضايا الشّأن العامّ التي تجعل الفرد يحدّد مصالحه الحقّة عند الانخراط في خدمة أهداف الجمهوريّة والدفّاع عنها بوصفها ضمانا لمكانته في النّظام السّياسيّ، ووسيلة تمكّن من الوصول إلى حماية المصالح الشّخصيّة. هكذا ينكبّ مواطن روسّو عند ممارسة الحرّيّة المدنيّة على تعزيز مصالحه الشّخصيّة من حيث هي جزء من المصالح التي يشترك بها مع الآخرين، والتي تجد تعبيرها في القانون من خلال إرادة عامة تأتي من الكلّ لتطبق بالتّساوي على الكلّ، بينما يعبّر مواطن هيغل عن الحرّيّة الذّاتيّة عبر الوعي بوحدة الغايات الخاصّة والغايات العامّة للدّولة فلا تتطلّب منه فضيلة المواطنة في الجمهوريّة المدنيّة أيّ نكران للذّات.

واجب المواطنة الجوهريّ

ـ يكتسب مواطنو الجمهوريّة المدنيّة صفة المواطنة عبر الممارسة، أي من خلال النّهوض بمسؤوليّات تحدّد ميزة تلك المواطنة وعبر القيام بواجبات ترتبط أساساً بالدّفاع وبـإبداء الرّأي حول القضايا المشتركة. فالخدمة العسكريّة هي واجب المواطنة الجوهريّ عند ميكافيلّي لأنّها ضمان وحدة واستقلال الجمهوريّة وسلامتها ممّا قد تواجه من تهديد، أيضا لأنّها مساهمة تحمي الحرّيّة، تدعم الجهد التّنمويّ، وتساعد على الاستقرار فتمنح الدّولة قوّة وهيبة.

- ويأخذ مواطنو العقد الاجتماعيّ واجباتهم بجدّيّةِ يشاركون بالرّأي في مشاورات الجمعيّة التّشريعيّة كمواطنِين فيُقدّمون هذا الجزء العموميَّ على مصالحهم الخاصّة، فإن تخلّوا عن أداء هذه الواجبات أو أنابوا عنهم الغير للقيام بها فإنّ ذلك لا يؤدّي إلى نهاية ممارسة المواطنة فقطّ، ولكن إلى موت الجمهوريّة أيضاً. فبإدراك هذه الحقيقة يكون أداؤهم للواجب لمصلحتهم فيكونون أحراراً باعتبار أنّ إنجاز الواجب من قبل الفرد حرّيّة أخلاقيّة وسلوك فاضل يجعله سيّدا يمكنه الحصول على السّعادة، وبذلك يكون أداء الواجب لا يدعم الجمهوريّة فقطّ ولكن سلوكا ينشد بصدق مصلحة المواطن وهي السعادة.

- أمّا بالنّسبة لهيغل فإنّ إدراك الفرد لما عليه تتوقّف حرّيّة الذّات يُلزِمُه بمطابقة الفعل للبنية المؤسّسيّة للدّولة، ومع ذلك فإنّ المواطنين الذين ينجزون أنشطتهم السّياسيّة من خلال النّقابات ومؤسّسات المجتمع المدنيّ أو المجلس التّشريعيّ يقومون في الواقع وبأكبر قدر ممكن من النّيابة عن غيرهم ولحساب أنفسهم أيضا بدور الوسيط بين الخصوصيّة الفرديّة والرّوح العموميّة. ومن المعقول جدّا أن يُعتَبَرَ نشاطهم هذا أداء لواجب المواطنة وإن لم يكن هذا متضمّنا في وصف هيغل للنّشاط السّياسيّ.

ويبدو واضحا أنّ واجب المواطنة بحسب ميكافيلّي هو الخدمة العسكريّة التي يعبّر المواطنون من خلالها عن رغبتهم في المخاطرة بحياتهم من أجل الدّفاع عن الدّولة التي أقاموها لبلوغ حرّيّة الذّات عبر إدماج كامل خصوصيّاتهم في الحياة الأخلاقيّة العامّة للدّولة. كما يبدو من تحليل دي توكفيل للحياة السّياسيّة الأمريكيّة أنّ إحدى واجبات المواطنة هي الدّفاع عن الوحدة. فالمواطنون يؤدّون واجباتهم بشكل اعتياديّ طبقاً لما يحملون في وعيهم من أحكام عن قضايا الشّأن العامّ في منطقتهم، ويعتبر هذا دليلا على اهتمامهم بمصالح أكبر من مصالحهم الشّخصيّة. ومثال ذلك ما يقدّمون في المجالس التّشريعيّة وفي مختلف الجمعيّات التّطوّعيّة، لذلك يعرب دي توكفيل عن تخوّف مفاده أنّه إذا حرّض المواطنون على الانسحاب من التّنافس حول خدمة قضايا الشّأن العامّ فإنّهم لن يهتمّوا سوى بالسّعي وراء المكاسب المادّيّة فقطّ، وعندئذ لن تعني الحرّيّة السّياسيّة بالنّسبة لهم أكثر من هذا.

الحسّ الوطنيّ والتّضامن

إنّ الحسّ الوطنيّ أو حبّ الوطن الذي ينعته هيغل بالعاطفة السّياسيّة هو الخصّيصة التي تعبّر عن الرّغبة في القيام بالواجبات العامّة في الجمهوريّة المدنيّة، والتي عبرها يظهر الولاء للمجتمع وبممارسة المواطنة تتعزّز. إنّه يقوم كما يرى دي توكفيل على تفكير المواطن بمصالحه الحقّة أي بمعناها الواسع، وفي هذا السّياق تجدر الإشارة إلى مسـألة الحرب في الفكر السّياسيّ لميكافيلّي وهيغل، فالأوّل يعتبر الفضائل العسكريّة والدّفاع عن الدّولة تعزيزا لممارسة المواطنة؛ بينما يعتبر الثّاني المخاطرة بالحياة من أجل الدفاع عن الدّولة دليلا على حرّيّة الذّات. فالحسّ الوطنيّ أو العاطفة السّياسيّة الوطنيّة موجود لدى جميع المواطنين وإن بشكل كامن يظهر للعيان إذا تعرّض المجتمع للتّهديد، وليست الحرب وحدها ما يخلق التّضامن بين المواطنين ولكن أيضا أيّ شكل من أشكال نزع الاستقلاليّة عن المجتمع. ينطبق هذا على الدّولة بأكبر قدر ممكن، كما ينطبق على الوحدات السّياسيّة المحلّيّة داخلها كالجمعيّات التّطوّعيّة عند دي توكفيل أو الهيئات والمؤسّسات عند هيغل.

المواطنة والمشاركة

تشغل المشاركة حيّزا مهمّا من الفكر الجمهوريّ تمثّل وجهة نظره في أيّ نقاش حول ممارسة المواطنة، فهي جزء طبيعيّ من نشاط المواطنين في أداء الواجبات لذلك كان حجم الدّولة محلّ معالجة من قبل هيغل ودي توكفيل على خلاف روسّو الذي رأى ضرورة أن تكون الدّولة صغيرة لكي يكون الفرد مواطنا بالمعنى الكامل للمواطنة. ففي تحليل ميكافيلّي للجمهوريّة الرّومانيّة يساهم المواطنون مع أنّهم أقلّيّة بين رعايا الرّومان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في التّشاور والتّداول حول القضايا العامّة في الجمهوريّة.

لقد أدرك هيغل أنّ فرص الحياة السّياسيّة محدودة لذلك رأى من الضّروريّ أن تساعد الدّولة على تشكيل هيئات ومؤسّسات اجتماعيّة توفّر للمواطنين فرصا أكثر، فهذه الهيئات والمؤسّسات بنظره من المقوّمات الأخلاقيّة للدّولة التي لها مصلحة فيما تقوم به من وظيفة الوساطة تحقّق لها ولأعضائها غايات عامّة. ومع أنّ نقاش دي تو كفيل عند التّطرّق لوظائف المؤسّسات التّطوعيّة المدنيّة كان أقّل صرامة فلسفيّة من هيغل إلاّ أنه لفت الانتباه في تحليل الفيدراليّة الأمريكيّة إلى حقيقة أنّه إذا كان للحرّيّة السّياسيّة معنى في دولة كبيرة فإنّ الواجب السّياسيّ يقتضي منها تفكيك مركزيّتها وتوزيع المسؤوليّات بطريقة محصّنة حتى لو أدّى هذا إلى فقدان فعّاليتها على العموم. إذ لا تـُمارس الحرّيّة السّياسيّة بمعناها الأتمّ إلاّ في المحلّيّات حيث يمكن أن ينتقل المواطن بسهولة من المصالح الخاصّة إلى الوجبات العامّة، لذلك يتعيّن على هذه المحلّيّات ضمان حرّيّة المواطن واستقلاليّته وإلاّ فإنّه لن يحسّ بقيمة مشاركته في المشاورات حول قضايا الشّأن العامّ.

المواطنة والقيادة السّياسيّة

حينما يؤكّد الفكر المدنيّ الجمهوريّ على المواطنة فإنّه لا ينكر أو يستهين بالحاجة إلى القيادة السّياسيّةّ، لأنّ الحكومة الجمهوريّة حكومة مختلطة وليست حكومة الدّيمقراطيّة المباشرة، فعندما تكون الجمعيّة التّشريعيّة هي صاحبة السّيادة تكون الدّيمقراطيّة حقيقيّة، ويكون الاهتمام منصبّا على شكل الحكم وعلى النّظام القانونيّ. لم يحتلّ الحكم سوى مكانة ثانويّة في تفكير روسّو الذي رأى أن لا ضير في أن يكون ملكيّا أو أرستقراطيّا طالما يطبّق القانون الذي به تتحقّق السّياسية الجمهوريّة. ومن غير الحكمة بالنّسبة له أن تطلق صفة الدّيمقراطيّة على حكومة تتعامل مع القانون تعاملا أداتيّا أو بانتقائيّة استجابة لظرفيّة خصوصيّة أو فرديّة.

فوظيفة الحكومة عند روسّو هي الحفاظ على كافّة المؤسّسات مع ضمان أداء المواطنين للواجبات، وهي نفس وظيفة القيادة السّياسيّة في فكر ميكافيلّي متمثّلة في الاستجابة للأزمات ومعالجتها بفعّاليّة عند إلغاء المَلَكِيّة وتأسيس الجمهوريّة. إنّ القادة يقدّمون للمواطن مثلا في الإخلاص وفيما يأمل النّاس رؤيته ساريا بينهم من القيم الجمهوريّة، وبهذا يؤدّون أدواراً بطوليّة يمكن قياسها على دور المشرّع في سنّ التّشريعات.

أمّا عند هيغل فتتجلّى سلطة القيادة السّياسيّة بشكل واضح في الحكومة الملكيّة الدّستوريّة والطّبقة العامّة من موظّفي الخدمة المدنيّة، وهي بالنّسبة للمواطن رمز الوحدة الفعّالة لإرادة الدّولة. فالملكيًة التي تحدّث عنها هيغل في زمنه هي ملكيّة تنفيذيّة مدعومة بطبقة عامّة وظيفتها تطبيق الغايات التي تحدّدها أجهزة الدّولة ومؤسّساتها على الحالات والمصالح الخاصّة للأفراد.

بالمقابل، اعتبر دي توكفيل أنّ القيادة السّياسيّة في الدّستور الأمريكيّ رمز للوحدة فقطّ، لهذا لم يتوقّع للرّئيس دورا أكثر من ذلك، فالضّامن الأسمى للحرّيّة السّياسيّة بنظره هو الاعتقاد الدّينيّ الذي إذا فشل فلن تعادل القيادة السّياسيّة دوره في حماية الأعراف الوطنيّة وغرسها في صميم ممارستها لأن مهمّة تلك القيادة في الجمهوريّة المدنيّة كما يراها هي التّعامل مع الضّعف البشريّ ومع الجهل ليس إلاّ. وبالإشارة إلى الجوانب النّاجمة في مجملها عمّا يفضي إليه الجهل والأنانيّة من إعاقة تحجب رؤية الفرد لمصالحه الحقّة أو تجعله أميل لنسيانها كتب ميكافيلّي وروسّو عن الوجود الملائم والخير وكيفيّة تشكيل الوعي عبر القيام بدور المشرّع الذي له أن يمدّ النّاس بالقرارات المميّزة لكن لا يمكنه قولبتهم بهذه الطّريقة أو تلك رغبة في القضاء على الضّعف الإنسانيّ.

المواطنة والدّين المدنيّ

وفي سياق الحديث عن الدّين المدنيّ كتب روسّو عمّا تحتاج إليه ممارسة المواطنة من مؤازرة وإسناد، فمهمّة الدّين سواء بالنّسبة لميكافيلّي أو روسّو أو دي توكفيل هي مدّ يد العون للضّعف الإنسانيّ بما يدعم الإرادة ويمنحها القدرة والقوّة في أداء الواجب المدنيّ. أمّا بالنّسبة لهيغل فقد كانت مقاربته للدّين مختلفة حينما اعترض على الموقف المسيحيّ الذي يضع التّحرّر والخلاص النّهائيّ للرّوح في العالم الآخر، بينما الحقيقة الموضوعيّة التّاريخيّة للرّوح  تسعى إلى التّحقّق في هذا العالم وليس في غيره. وهو ما دفع إلى اعتبار فلسفته السّياسيّة علمنة للدّين. إنّ التّوفيق الفلسفيّ هذا ضروريّ للتّقدّم التّاريخيّ الذي ينجزه الأفراد بممارسة حرّيّاتهم الذّاتيّة، قد لا يدعم الدّين كثيرا أداء واجب يُعْرَفُ من مصادر أخرى غيره فيلزم التّوفيق الفلسفيّ بطريقة سقراط الذي اعتبر أنّ معرفة الواجب تنشأ عندما ينتفي الجهل.

سؤال تعزيز المواطنة

تمتدّ المطالبة بتعزيز المواطنة إلى ما هو أبعد من الدّين الطّبيعيّ، فقد كتب ميكافيلّي عن القانون، وروسّو عن التّربيّة، وكلاهما عن الأعراف والعادات والقواعد الأخلاقيّة وطرق غرسها في ذهن الفرد المواطن، ويظلّ السّؤال قائما: كيف يمكن تحقيق الانسجام في الاستقلاليّة الأخلاقيّة للمواطن في كافّة مجالات الحياة؟.

***

د. علي رسول الربيعي

جامعة ابيردين

.............................

المصادر

Benhabib, S(ed), Democracy and Difference (Princeton, Princeton University Press, 1996).

Brubaker,R., Citizenship and Nationhood in France and Germany (Cambridge, Mass., Harvard University Press, 1992).

مفتاحُ تفسير كلِّ كتاب هو الكتابُ نفسُه، لأن نصوصَه مُضاءٌ بعضها بالبعض الآخر، سواء كان كتابًا مقدّسًا أو غيره. آياتُ القرآن الكريم تفسِّر إحداها الأخرى، وذلك ما دعا أكثر من مفسِّرٍ لتبنى تفسير القرآن بالقرآن. ويعدّ هذا المنهج من أدق مناهج التفسير الموروثة، غير أن مَن اعتمده لم يكن استثناء، فكان اختيارُه لتفسير آيةٍ بآية وكلمةٍ قرآنية بآية وآيةٍ بكلمة يخضع لرؤيته للعالَم وتكوينِه المعرفي ومعتقده ولغته الأم.

القرآنُ الكريم ليس ديوانًا للشعر، أو كتابًا في الفلسفة، أو التاريخ، أو الجغرافيا، أو العلم، أو الفيزياء، أو الكيمياء، أو الرياضيات، أو غير ذلك من أجناس الكتابة. القرآنُ كتابٌ متفرّدٌ ليس كمثله كتابٌ، لا يشبه غيرَه ولا يشبهه غيرُه، حقيقتُه أنه قرآنٌ وكفى. القرآنُ مفتاحُ بوابة الارتواء من منابع النور، وضوءٌ لبصيرة مَنْ ينشد بناءَ صلة وجودية بالله. كان وما يزال وسيظل هذا الكتابُ الكريمُ يوقظ صوتَ الله داخل الانسان. القرآن منجم عظيم، لا يفصح هذا المنجم عن كنوزه إلا بمفاتيح يمتلكها ذوي البصيرة النورانية. القرآنُ الكريم مرآةٌ يتجلى فيها الله، وذلك ما يقرأه كلُّ متدبّر لآياته "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"[1]، ويراه كلُّ مَنْ توقظ قلبَه الأنوارُ الإلهية، وتتذوق روحُه الإشراقاتِ الرحمانيةَ. ذلك ما يشير إليه قولُ الإمام جعفر الصادق "ع": "لقد تجلى الله لخلقه في كلامه، ولكنهم لا يبصرون"[2].

القرآنُ الكريم يركزُ على الغيب بشكل مدهش، وذلك يعني كثافة حضور ما هو ميتافيزيقي في دلالاته، عالَمُ الغيب لا نفقه منه شيئًا إلا بحدود ما تشير إليها لغةُ الغيب الرمزية. لا طريقَ للتعرّف على ما ينتمي إلى عالَم الغيب إلا أن نستنطقَ القرآن، القرآنُ يحدّدُ نوعَ المعنى الذي تنطقُه لغةُ الغيب. القرآنُ يتحدّثُ عن الغيب وما وراء الطبيعة أكثر مما يتحدّث عن الطبيعة، ليس من العلمِ تجاهلُ ما وراء الطبيعة في القرآن، أو تأويلُ لغة الغيب وآياته تأويلًا يخضعها لمناهج وأدوات العلوم التي تدرس الطبيعةَ وظواهرَها وقوانينَها وما فيها من كائنات وأشياء. الإصغاء لنداء الوحي هو النافذة الوحيدة للإطلالة على الغيب واكتشاف آفاقه. كلُّ لغة تتحدثُ عن الغيبِ لا تتحدثُ بلغة العلم، لغةُ الغيب ترسمُ صورةً مألوفة لتقريب ما لا صورةَ له إلى ذهن الإنسان. عالمُ الغيب عالمُ الأسرار، الأنطولوجيا الميتافيزيقية في القرآن فضاءٌ لعالَم الأسرار. في لغة القرآن يمكن تمييزُ نوعين من الدلالات، دلالاتُ آياتٍ تتحدّثُ عن الغيب، لغتُها تمثيلٌ ومجازات وكنايات واستعارات وتشبيهات ورموز تشيرُ لحقيقةٍ لا مرئية ولا محسوسة ولا صورة لها، ودلالاتُ آياتٍ لغتُها تتحدّثُ عن الإنسانِ والكائنات والأشياء والقوانين في الطبيعة، هذه اللغةُ تتبادر لنا دلالاتُها الظاهرة، ونتعرفُ على معاني كلماتها عبر الاستعمال، وفي معاجمِ اللغة، وما تكشفُه العلومُ المتنوعة من عناصرها وتركيباتها وخصائها وآثارها[3].

القرآنُ كتابٌ ميتافيزيقي بامتياز، عند العودةِ إليه والنظرِ فيه بتدبّرٍ نلحظ أن حضورَ الله يتفوّق كثيرًا على كلِّ حضورٍ في هذا الكتاب، وهذا الحضورُ لله لا نراه ماثلًا بهذه الكثافة في أيّ كتابٍ مقدّسٍ آخر في الأديان. ورد ذكرُ اسمِ "الله" 2699 مرّة في آياته، ولو أضفنا لذلك عددَ أسماءِ الله وصفاتِه المتنوّعةِ في القرآن لتجاوز هذا العددَ بكثير، فمثلًا تكرّر ذكرُ كلمة "رب" 124 مرّة. الكثافةُ اللافتةُ لحضورِ "الله" وأسمائِه وصفاتِه المتنوّعةِ تدلّل بوضوحٍ على أن القرآنَ يشدّد على الإيمانِ بالله، ويجعله حجرَ الزاوية في بناء الحياة الدينية في الإسلام، ويؤشر إلى ضرورة وصل نظام القيم في الحياة الفردية والمجتمعية بالله، بالمعنى الذي يصير فيه الإيمانُ بالله منبعًا مُلهِمًا للحق والعدل والخير والسلام والمحبة والجمال في العالَم، وخلص الإنسان من الشرِّ الأخلاقي. وتظهر القيمةُ العظمى للإيمان في تحريرِ الإنسان من اغترابه الوجودي. فهذا الاغترابُ يُفضي إلى استلابِ ذات الكائن البشري، لأنه اغترابٌ لكينونة هذا الكائن عن وجودها، ومن هذا الاغتراب يحدث القلقُ الوجودي، إذ بعد أن تنقطعَ صلةُ الإنسان الوجوديةُ بإلهِهِ، تُستلَب ذاتُه ويفتقدها، وعندما يفتقدُ الإنسانُ ذاتَه يمسي عرضةً لكلِّ أشكال الهشاشة والتشظّي، وربما يتردّى إلى حالةٍ من الغثيان الذي يعبثُ بروحِهِ ويمزّقُ سلامَه وسكينتَه الجوانية. ‏

ابتكر القرآنُ نظامَه الدلاليَّ الخاص، فأسّس شبكةَ علاقات دلالية محورهُا الله والرؤيةُ التوحيدية للوجود، وكلُّ المفاهيم الأخرى مشبَعةٌ بدلالتها، لأنها تصدر عنها وتنتمي إليها. لا تحتفظ الكلماتُ العربية المستعملة في معجمِ القرآن بالضرورةِ بدلالاتها السابقة في اللغة، بعد أن وظّفها القرآنُ في حقله الدلالي، ودخلت في شبكة العلاقات الجديدة التي محورها اللهُ والرؤيةُ التوحيدية للوجود. يشرح توشي هيكو إيزوتسو (1914-1993) ذلك بقوله: "إن المفاهيم لا توجد منعزلة وحدها، بل تكون دائمًا منظمة إلى أقصى حد داخل نظام أو أنظمة... هذا يعني أن كلمة (كتاب) البسيطة بمعناها البسيط، حالما أُدخلت في نظام خاص، ومنحت موقعًا محددًا ومعينًا فيه، اكتسبت العديد من العناصر الدلالية الجديدة الناشئة عن هذا الوضع الخاص، وعن العلاقات المتنوعة التي شكلتها لتحملها إلى المفاهيم الرئيسية لذلك النظام. وكما يحدث غالبًا، فإن العناصر الجديدة تميل إلى التأثير بعمق في بنية المعنى الأصلي للكلمة، بل إلى تغييرها جوهريًا"[4].  ويكتب إيزوتسو في موضع آخر: "إن هناك نوعًا من التماسك المفهومي في الرؤية القرآنية للعالَم، وإحساسًا بنظام حقيقي يقوم على مفهوم الله ويتركز حوله، وهو ما لم يكن موجودًا في النظام الجاهلي. من أجل هذا كل الحقول الدلالية وتبعًا لذلك كل المصطلحات المفتاحية في هذا النظام الجديد تقع تحت سلطة هذه الكلمة - المركز العليا. وفي الحقيقة لا يمكن لشيء أن يفلت منها، ليس فقط تلك المفاهيم التي ترتبط مباشرة بالدين والإيمان بل كل الأفكار الأخلاقية، حتى المفاهيم التي تمثل الأوجه الدنيوية، مثل الزواج والطلاق والإرث والمسائل التجارية، كالعقود والديون والربا والمكاييل والمقاييس... إلخ، كلها قد تم إدخالها في علاقة مباشرة مع مفهوم (الله)"[5].

في ضوء ذلك، على مَنْ يريد أن يفسِّرُ القرآنَ أن يكتشف حقلَه الدلالي وشبكةَ علاقات الكلمات في سياق آياته، بوصفها اصطبغت برؤيتِه التوحيدية للوجود. وذلك ما لم يتنبه إليه بعضُ المفسّرين الذين ضاعوا في متاهات المعاني اللغوية للكلمات، أو الدلالات البديلة الغريبة على نظامه الدلالي، التي أسقطتها على الحقل الدلالي للقرآن بيئاتٌ ثقافية وقيمُ ومفاهيم مجتمعات متنوّعة دخلت الدينَ الجديد، بعد امتداد عالَم الإسلام من الأندلس إلى الصين، وتشبّع شيءٌ من كلماته بدلالات الفلسفة اليونانية وغيرها في عصر الترجمة، وبمرور الزمان خضع تفسيرُ آياته لحقل دلالي مشبع برؤية كلامية فقهية. في العصور التالية لعصر البعثة الشريفة تسيّدت الحياةَ الدينية، بكلِّ تجلياتها، لغةٌ مشتقةٌ من رؤية علم الكلام والفقه. تحضرُ الذهنَ غالبًا في عملية التفكير بالدين الكلماتُ المشبعة بدلالات لغة الكلام والفقه، وهكذا تحضرُ هذه الكلماتُ بكثافةٍ في التعليم الديني. في أحاديث خطباء الجمعة والمحاضرات على منابر المساجد ووسائل التواصل لا يخرج المتكلمُ عن الحقل الدلالي الكلامي والفقهي إلا في حالات محدودة، ولا يتبادرُ إلى ذهن المتلقي إلا المعنى الراسخُ في هذا الحقل الدلالي. في الحياة اليومية للمسلم، حينَ يتحدثُ عن أيِّ شأن يتصلُ بالدين، يتكررُ في أحاديثه ما تحيلُ إليه هذه الكلماتُ من مفاهيم كلامية وفقهية، وعندما يتناول أيُّ كاتبٍ موضوعاتٍ تتصلُ بالدين يستقي من هذا الحقل الدلالي. أكثرُ مفسِّري القرآن الكريم المتأخرين لا يرون معنًى لآياته خارج فضاء لغة الكلام والفقه، وقلّما تُستعمَل كلمةٌ أو مصطلحٌ في الحياة الدينية خارج أُفق رؤية المتكلمين والفقهاء للعالَم.

اللغةُ ليست محايدةً أو قوالبَ فارغة، ولا يصحُّ توصيفُها بوعاءٍ يمكن أن يُملأ بأيّ معنى. اللغةُ ترسمُ خارطةً للذهن، وتحدّدُ مساحةَ التفكير ومدياته وكيفيته. اللغةُ بوصلةُ توجيه الفهم والمولِّدة لوجهة عملية التفكير. اللغةُ ترسم الرؤية للعالَم، يقول فيلهم فون همبولد (1767-1835): "من خلال الارتباط المتبادل بين الفكر والكلمة يصبح بديهياً أن اللغات ليست وسائل لتمثيل حقيقة معروفة من قبل، بل هي أكثر من ذلك، إنها وسائل للكشف عن الحقيقة غير المعروفة بعد، وإن تنوع اللغات، إذاً، ليس تنوعاً في الأصوات والعلامات فحسب، بل تنوع في رؤى العالم"[6]. مادام مضمونُ لغة الدين في الإسلام لا يتجاوز علمَ الكلام والفقه، فحدودُ تعريف الدين ومفهومه وأدوات قراءة القرآن والسنة قلّما تتجاوز رؤيةَ المتكلم والفقيه.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

........................

[1] محمد، 24.

[2]  المجلسي، محمدباقر، بحار الأنوار، ج 89، ص 107، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

[3] الرفاعي، عبدالجبار، مناقشة الرؤى الرسولية لعبدالكريم سروش، جريدة الصباح، بغداد، الصادرة في 22-9-2022.

[4] إيزوتسو، توشي هيكو، الله والإنسان في القرآن، علم دلالة الرؤية القرآنية للعالَم، ترجمة، هلال محمد الجهاد، ص 66، ط1 ، 2007، المنظمة العربية للترجمة، بيروت.

[5] المصدر السابق، ص 78.

[6] الزواوي بغوره، اللغة ورؤية العالم، في: كيف تعمل اللغة وتؤثر علينا، اعداد: عبد العزيز العوضي، ص 20، 2019، صوفيا حروف، الكويت.

 

إذا كانت الميكافيليّة (Machiavellianism) كفلسفة وفقاً لتعريف قاموس أوكسفورد الإنجليزي: "هي "توظيف المكر والازدواجيّة (الخداع) في الكفاءة السياسيّة أو في "السلوك العام". فهي أيضاً مصطلح يعبر عن مذهبٍ سياسيّ في إدارة الدولة والمجتمع، يقوم على تطبيق مقولة "الغاية تبرر الوسيلة". وهذا التوظيف السياسيّ لهذه العبارة أو المقولة، راح يتجلى بشكل واضح في مفهوم الدولة التي رسم ملامح قائد هذه الدولة ميكافيلي في كتابه " الأمير"، والتي هي أقرب إلى الدولة الشموليّة التي يقودها فرد بسلطات مطلقة. هذا ويعتبر كتاب "الأمير" من أهم الكتب التي اعتمدت مرجعا في مضمونها عند من امتلكتهم شهوة السلطة من الحكام المستبدين، إن كان في الأنظمة الملكيّة، أو الجمهورية لا فرق، فـ (الأمير) هو السيد المطلق، الذي يرسم سياسة الدولة وتطبيقاتها العمليّة في خطوطها الاستراتيجية.

إن الدولة والنظام السياسيّ في المفهوم الميكافيلي، يقومان على الفصل الكامل بين الحكام والمحكومين. والتركيز على أهميّة القهر وعلاقات القوة من قبل الحكام للمحكومين، وتعتبر سيطرة القلة أو النخبة المكوّنة من الأمير وحاشيته، هي التي يجب أن تسود. فـ“البشر (الشعب) عند ميكافيلي غير شاكرين للجميل، وهم متقلبون وكذابون ومخادعون، وعادة ما يهربون من المخاطر أو المسؤولية، ويطمعون في المكاسب، ولذلك فمن الضروري للحاكم أن يتعلم بأن لا يكون صالحا معهم”. لذا يقول “مكيافيلي”: على الحاكم أن يتظاهر بالرحمة والوفاء والنزاهة والتدين، وإن كانت فيه هذه الصفات حقيقة فذلك أحسن، ولكن عليه أن يكون متأهبا للتخلي عن كل هذه الصفات والعمل بضدها إذا اقتضى الأمر، والتحلي بسياسة الأيدي القذرة والقفازات النظيفة. (1).

إن هذا المبدأ الذي تبناه نيكولو مياكافيلي المفكر والفيلسوف والسياسيّ الإيطالي في القرن السادس عشر، جعله يعتقد أن صاحب الهدف، باستطاعته أن يستخدم الوسيلة التي يريدها أيا كانت وكيفما كانت دون قيود أو شروط. لذلك كان هو أول من أسس لقاعدة "الغاية تبرر الوسيلة"، حيث اعتبرت هذه القاعدة الانطلاقة الأولى التي ينطلق منها كل سياسيّ  أو حاكم يعتقد أو يؤمن بأن الدولة ملكاً له أو هي حق طبيعي له ولأسرته وراثياً. لذلك سمى ميكافيلي كتابه الشهير بـ (الأمير)، وبالتالي فقاعدة الغاية تبرر الوسيلة يضعها (الأمير) نصب عينه ويتبناها لتبرر له الاستبداد وممارسة الطغيان والفساد الأخلاقيّ إن اقتضى الأمر. ويرى ميكافيلي كما بينا في موقع سابق، ضرورة استخدام العنف و القوة من قبل القائد السياسي، مبررا ذلك بأن العنف يولد الخوف، والخوف أساسيّ من أجل السيطرة على الشعوب - حسب اعتقاده - ومن لم يفعل ذلك لا يعتبره قائدا سياسيّاً ناجحاً. (2).

بيد أن السؤال المشروع هنا، يطرح نفسه بالضرورة وهو: أيعقل أن يُترك المرء لاختيار أيّة وسيلة يريدها لفرض سيطرته دون أن يضع لها معايير تحفظ المجتمع من الدمار والقتل والتفكك والفساد.؟. فتصبح الحياة بناء على هذه السلوكيّة مليئة بالفوضى، وبعيدة كل البعد عن النظام الذي يحفظ الأمن والأمان للفرد والمجتمع. فكيف لحياة أن تقوم على قاعدة سياسيّة تبرر للحاكم سلب الأمن والأمان من الحياة اليوميّة لشعبه، ومنحه القدرة على سجن وتعذيب وتشريد وحتى قتل هذا الشعب إذا اقتضت الحاجة.؟!. ومن ثم تبرر للأخ قتل أخيه.؟!.

يعتقد ميكافيلي بالتفصيل في كتابه الشهير ” الأمير ” بأن تلك النظرة اللاأخلاقية للسلطة أمر طبيعيّ. فبالنسبة لـه ليس ثمة أساس أخلاقيّ يمكن أن نفرق به بين الممارسات الشرعيّة وغير الشرعيّة للقوة. ولكن السلطة والقوة يستويان بالضرورة عنده، وكل من يمتلك القوة له الحق أن يقود الدولة والمجتمع، ولكن الخير لوحده برأيه لا يضمن القوة، والشخص الفاضل ليس مميزا بفضل كونه خيّرًا.. وهكذا وفي تضاد مباشر مع النظريّة الأخلاقيّة للسلطة يقول ميكافيلي :إن الهم الوحيد للحاكم السياسيّ هو اكتساب القوة والحفاظ عليها (على الرغم من أنه يتكلم عن ” الحفاظ على الدولة ” أكثر من حديثه عن القوة). بهذا المعنى ينتقد ميكافيلي بشدّة مفهوم السلطة، مجادلاً بأن مفهوم الحقوق الشرعيّة للحاكم لا تضيف شيئًا إلى الامتلاك الفعليّ للقوة. والناس مجبرون على الانصياع المجرد لسلطات الدولة العليا. والإكراه هو ما يجعل الناس تحترم السلطات العليا للدولة. لذلك هو يقول: (لو كنت أظن بأنني لست مجبراً أن أخضع لقانون ما، فما الذي سيحملني حقًا على الخضوع له؟، لا شك أنه الخوف من قوة الدولة أو الممارسة الفعليّة لهذه القوة. فقط القوة هي التي ستحسم أمر تنفيذ الرؤى المتعارضة حول ما يجب علي أن أفعله، سأختار العصيان فقط إذا كنت أمتلك القوة لمقاومة مطالب سلطات الدولة، أو سيكون لدي الاستعداد لتحمل عواقب تميز الدولة بالقوة القسريّة.).(3).  ويتبدى معنى أن يكون الأمير كفؤًاً لدى ميكافيلي، هو أن يكون لدى الأمير قبل كل شيء ” تصرفًا مرنًا”. فالحاكم المناسب للمنصب كما بينا في موقع سابق، هو ذاك القادر على تغيير سلوكه من الخير للشر والعكس بالعكس كلما أملت الظروف والحظ. وبالتركيز على ادعاء ميكافيلي في ”الأمير” أن رئيس الدولة يجب أن يكون خيرا متى استطاع ذلك، ولكنه يجب أن يكون مستعدًا لارتكاب الشر متى توجب عليه ذلك أيضاً. (4).

على العموم، يبقى مفهوم سلطة ” الدولة” عند ميكافيلي إرثا شخصيًا، أو ملكاً، وهو أكثر تماشياً مع مفهوم القرون الوسطى التي عاشت النظام الملكيّ الوراثيّ كأساس للحكم. ففكرة النظام الدستوريّ المستقر الذى يعكس جوهر الفكر السياسيّ الحديث وكذلك ممارسة هذا الفكر، ليس لهما مكاناً  في مفهوم ميكافيلي عند حكومة الأمير، هذا رغم أنه يمدح النظام الجمهوريّ، معتبراً « أن الفضيلة الموجودة لدى الشعب في النظام الجمهوري تفوق ما يوجد منها عند الأمير»، مثلما يرى أن النظام الجمهوري يتصف بحساسيته السياسيّة وقابليته للتطور والتجدد، وهو الأكثر احتراماً للاتفاقيات والمعاهدات الدوليّة من النظام الملكيّ. ولكن (الأمير) مهما كانت طريقة وصوله إلى العرش، فإنه مضطر إذا أراد البقاء في السلطة، أن يراعي سلوكا ما محددا بدقة، أي أن يخضع لبعض القواعد العمليّة. وهذه القواعد العمليّة، هي استخدام العنف والقسوة وعدم الرأفة وعدم الوفاء بالتعهدات والكذب إذا اقتضى الأمر، ولذلك، رفض ميكافيلي آراء منظري عصره الذين قالوا إن الأمير مطالب بأن يكرس نفسه لحياة الفضيلة من أجل تحقيق الشرف والمجد والشهرة. (5).

لا شك أن ثمة علاقة بين الخير الأخلاقيّ وشرعيّة السلطة. حيث اعتقد العديد من المؤلفين الذين عاشوا عصره (خصوصا الذين كتبوا كتب “مرايا الأمراء / الأداب السلطانية” أو كتب النصائح الملكية خلال العصور الوسطى وعصر النهضة)،(6). حيث تُبَيْنُ هذه الكتب أن استخدام القوة  السياسيّة مشروعًا فقط إذا كان الحاكم يتمتع بشخصيّة فاضلة تمامًا من الناحية الأخلاقيّة. وهكذا كان يتم نصح الحكام من قبلهم إذا ما أرادوا النجاح، لو كانوا يرغبون في حكم طويل وسلمي، ومن ثم تمرير السلطة إلى ذريتهم، فيجب عليهم الالتزام بالمعايير التقليديّة للصلاح الأخلاقيّ. أو بمعنى ما، كانوا يعتقدون أن الحكام الجيدون هم الذين يفعلون الخير، ويكتسبون الحق في الطاعة والاحترام بقدر ما يظهرون أنفسهم فضلاء وأخلاقيين.

تظل هناك مسألة على غاية من الأهميّة يشير إليها ميكافيلي بالنسبة لموقف الأمير إذا ما شعر بأن دولته تتعرض لخطر يهددها من الداخل أو من الخارج، فالأمير الذي يُفرض عليه أن يطلب معونة دولة صديقة للحفاظ على وجوده، عليه أن ينتبه بأن الدولة التي تقدم له المعونة لن تقدمها مجاناً له، حيث يقول : (إذا طلب حاكم من دولة قويّة مجاورة أو صديقة أن تتدخل لمساعدته فهذا أمر جيد، ولكن الأمر سيكون في غاية الخطورة "إذا ذهبت قوة هذه الدولة أو أصابها خلل في استقرارها الداخلي بفعل ظروف داخليّة او خارجية"، لأنها ستجره معها إلى الهاوية، وإذا انتصرت فإنه يصبح تحت رحمتها، وباختصار فإن سلاح الغير إما أن يسقط عن كتفيك، وإما أن يثقل كاهلك ويشل حركتك). (7).

تظل في العموم نظرة ميكافيلي ودولته سيئة الصيت في تاريخنا المعاصر، فالحياة تطورت منذ القرن الخامس عشر حتى اليوم في جملة حياة الناس وقضاياهم ومنها قضيّة الدولة، فالأنظمة الشموليّة سقطت في المفاهيم الدستورية والدولة الحديثة عند الشعوب المتحضرة، فأصبح الشعب هو من يشكل الدولة ونظامها الدستوريّ وشكلها وآليّة عملها، أما الدول التي لم يزل يقودها فرد مستبد في سلطاته فهي تقف اليوم على عتبة النهاية، وقد أثبت التاريخ وأحداثه فشلها حتى ولو كان الحاكم مستبداً عادلاً، فالعدل والاستبداد لا يلتقيان، وإن حاول بعض الحكام العمل على السير على هذا الطريق فهم يعملون على ليّ عنق التاريخ.

يرى بعض النقاد العرب، أن نظريّة الدولة الميكافيليّة لم تعد تنطبق على الحالة العربيّة في تاريخنا المعاصر، فالعرب على ما يبدو وكما تشير ما سميت بثورات "الربيع العربيّ" أنهم يتنفسون السياسة من رئة واحدة، وإذا حصل تحرك سياسيّ في بلد تداعت له معظم البلدان الأخرى بالثورة والحراك، ما يستدعي مثال “أحجار الدومينو” في هذه الحالة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة.

........................

الهوامش

1- موقع الجزيرة نت - كتاب “الأمير” لمكيافيلي.. نظرية اليد القذرة والقفّاز النظيف - حسن العدم.

2- صلاح شعبان – موقع الجزيرة نت - 4/1/2017.

3- راجع موقع حكمة – نيكولاي ميكافيلي – الكاتب كاري نيدرمان- ترجمة محمد رضا.

4- راجع موقع حكمة – نيكولاي ميكافيلي – الكاتب كاري نيدرمان- ترجمة محمد رضا. المرجع السابق.

5- موقع عربي -  وجهان مختلفان لمكيافيلي (2-2) - حسين عبد العزيز.

6- في العمل الفني «مرايا الأمراء»، تمت دراسة عوالم الأمراء وتحديد واجبات الأمير. وهناك أعمال فنية أخرى قدمت مرايا التاريخ أو العقائد أو الأخلاق. راجع حول هذه المسألة بشكل مفصل – ويكيبيديا – أدب المرايا.

7- راجع موقع الجزيرة نت - كتاب “الأمير” لمكيافيلي.. نظرية اليد القذرة والقفّاز النظيف - حسن العدم.

 

 

ب) أيّ مفهوم للمواطنة نريد؟

يفترض التّصور الكلاسيكيّ للمواطنة الجمهوريّة سيطرة الدّولة على المجتمع السّياسيّ في مرحلة أولى على أنً يوحّد المواطنون أنفسهم مع ذلك المجتمع في مراحل لاحقة، لذلك يرى أرسطو كما روسّو أنّ المواطن معنيّ بأن يكون لديه حافز قويّ للمشاركة بفعّاليّة في الحياة السّياسية ليس فقطّ من أجل تحصيل المصالح الخاصّة وإنّما من أجل  تحقيق النّفع العامّ. 

والحقيقة أنّ هناك ثلاث وجهات نظر مختلفة تناولت مفهوم المواطنة وهي: اللّيبراليّة بما تطرح من شكّ في مدى ملائمة ومعقوليّة المواطنة الجمهوريّة في الدّولة الحديثة، والجماعاتيّة ثمّ الجمهوريّة اللّتان تطرحان أسئلة جدّيّة عن مرغوبيّة هذا التّصوّر، وفيما يلي بعض ما تقدّم هذه الرّؤى الثّلاث من اعتراضات على المواطنة.

1ـ وجهة نظر اللّيبراليّة:

لا تنظر اللّيبراليّة إلى المواطنة أكثر من كونها مجموعة من الحقوق التي تلزم الدّولة بتنميتها والحفاظ عليها، والتي لا تلزم المواطنين بالمشاركة في النّشاط السّياسيّ لأنّ تلك المشاركة من خلال الرّأي ليست ضمانا للصّالح العامّ طالما الحقوق الأساس مكفولة لجميع أفراد المجتمع بالتّساوي، وطالما الأغلبيّة لا تنتهك حقوق الآخرين فلها أنْ تهتمّ بشؤونها.

فالمنظور اللّيبراليّ يعتبر التّصوّر الجمهوريّ للمواطنة ملائما بالأحرى لمجتمعات سياسيّة صغيرة يتقابل أفرادها وجها لوجه كأصدقاء، لكنه غير واقعيّ ولا عمليّ حينما يتعلق الأمر بمجتمعات كبيرة متعدّدة الطبقات متنوّعة الفئات تضمّ طوائف وإثنيّات مختلفة كالمجتمعات الصّناعيّة الحديثة حيث يتعذّر على النّاس أن يتّفقوا مسبقا على معنى محدّد للخير العامّ في ظلّ مصالح متنافسة غاية الطّموح أن يتمّ الوصول بشأنها إلى تفاوض سلس بطريقة منصفة. فمن غير المتوقّع أنً يخصّص النّاس وقتا كثيرا للمشاركة في هذه المجتمعات المعاصرة مع أنّ فضيلة السّياسة المنفتحة للنّظام الدّيمقراطيّ تسمح بتشكيل ائتلافات في أوقات مختلفة تمكّن الخاسر من أن يفوز في فرصة أخرى.

يستفيد التّصوّر الجمهوريّ من المفهوم الليبرالي للمواطنة عندما ينظر إليها هو الآخر باعتبارها مجموعة من الحقوق مضيفا فكرة ممارستها عمليّا لتظهر كسلوك يعطي المواطن هوّيّة توحّده مع المجتمع السّياسيّ الذي ينتمي إليه، فما يقترح من التزام بخدمة الصّالح العامّ عبر المشاركة الفعّالة لا يُفرَض على المواطن بطريق القسر أو الإكراه وإنّما بطريق الحجّة والإقناع. فما يوجد من عناصر ليبراليّة في الفكر الجمهوريّ المعاصر يشجّع على ألاّ تعاقب الدولة من يرفض المشاركة في الشّأن السّياسيّ لأن مؤازرة النّفع العامّ شأن تطوعيّ في المجتمع الحديث، فالحكومة تبني مؤسّسات للتّشاور ولكنّ أمر المشاركة في أشغال المداولات العامّة يعود لاختيار الفرد في النّهاية. ومن ثمّة يأتي الرّدّ الجمهوريّ على الاعتراضات اللّيبراليّة بالإشارة إلى أنّ الدّولة الأمّة تحمي الصّالح العامّ وتوفّر لمواطنيها فرصة المشاركة في تحقيق النّفع العامّ، وأنً الوطنيّة من شأنها صيانة التّكافل بين أعضاء تلك الدّولة مهما كان عددهم، وأنّه ليس ضروريّا اتّفاق هؤلاء النّاس على القيم التّأسيسيّة لكن عليهم في المقابل أن يتطوّعوا للسّعي إلى حلّ النّزاعات عبر مناقشة مفتوحة تمكّن من الوصول إلى مواقف متّفق عليها، وأنّه إذا كان لجماعة معيّنة أن تدافع عن مصالحها الخاصّة فليس لها أن تلجأ إلى تلك المصالح لتبريرها بل عليها أن تعرض أمام أولئك الذين لا يتّفقون معها أسبابا مقنعة فتصوغ حججها بلغة الثّقافة السّياسيّة، وهذا بالضّبط هو ما يمكن اعتباره مطلبا جوهريّا ومثلا عمليّا للنّجاح السّياسيّ في الدّولة المعاصرة.

إنً المشكلة هي ألاّ يترجم الاتّفاق حول مبادئ العدالة الاجتماعيّة إلى اتفاق بشأن عدالة فعليّة لتوزيع الثّروات والمنافع طبقا لمقدار قيمتها في المجتمع. فليس مفاجئاً أن تختلف مدركات أولئك الفقراء الذين هم في أسفل السّلّم الاجتماعيّ عمّن هم في ذروة الهرم الطّبقيّ من الأثرياء، فمع هذا الاختلاف نجد الفقراء والأغنياء يتّفقون سويّا على مبدأ توزيع الوظائف والمناصب طبقا للاستحقاق القائم على الكفاءة والأهليّة. الأسوأ أنً يتّفق النّاس على نظام غير عادل1،  وعندئذ لا يساعد الاتّفاق على مجرّد مبادئ العدالة الاجتماعيّة إذا ما حدث شيء يسمّم الفضاء العامّ.

2ـ وجهة النّظر الجماعاتيّة:

 استند مفكّرو الاتّجاه الجماعاتيّ إلى المواقف الأرسطيّة والهيغليّة في الرّدّ النّقديّ على الدّعوة للحقوق على أساس النّظريّة اللّيبراليّة لما اعتبروه إفراطا في التّأكيد على الفرد كقيمة، وتفريطا ذرائعيّا بالرّوابط الجماعيّة كالرّوابط العائليّة والدّينيّة عند التّأكيد على المنفعة في رسم العلاقات الاجتماعيّة وتعديل المخطّطات الحياتيّة.

يشكّك الجماعاتيّون بقوّة عند الانتقال من "الأنطولوجيا" إلـى السّياسة فيما يفترض اللّيبراليّون للحكومة من مهامّ في ضمان الحرّيّات وما يزعمون للملكيّة الفرديّة من الحاجة إلى حريّة الاختيار. ويجادلون بحجّة ما للمهمّة السّياسيّة الأساس من دور في ترسيخ الوسائط التي تكبح تآكل الحياة الجماعيّة في ظروف ترتفع فيها وثيرة تشظّي العالم، ثمّ بضرورة مساندة وتعزيز أشكال الحياة الجماعيّة التي تضفي على العلاقات والوجود معنى حاسما لاسيما وأنّ الحرّيّات الأساس لا تتحقّق آليّا في المجتمع على الرّغم من ضمانها في الدّيمقراطيّة اللّيبراليّة. 

إنّ المشكلة الأساس من وجهة نظر الجماعاتيّة هي أن بناء المواطنة باعتماد التّصوّر الجمهوريّ  يمثّل تهديداً قد يسحق كلّ الرّوابط، فالولاء للأمّة وفق منظوره من العمق بحيث لا يمكن أن ينافسه فيه ولاء لجماعة أخرى لأنّه يعتبر الأمّة مجتمع الواجب والالتزام الذي يولد النّاس به ويدينون له بواجب التّضحيّة والتّعاون. ويعني هذا في الممارسة من حيث المبدأ استعداد كلّ فرد للتّضحيّة والفداء في سبيل الوطن، ورغبته الأكيدة في مشاركة الآخرين في صناعة المستقبل وصياغة التّوجّهات السّياسيّة العامّة سواء من خلال المناقشة أو من خلال خدمة النّفع العامّ؛ هكذا وعلى هذا النّحو تعني المواطنة تفكيرا وسلوكا بطريقة تسعى لامتلاك مقياس كافٍ للفضائل العامّة، وهكذا يكون الوطن هو الرّابطة الأكثر أهمّيّة بالنّسبة للشّعب، له كلّ الأولويّة على جميع الرّوابط الأخرى في حال السّلم كما في حالات الصّراع. 

لذلك لا يوافق الجماعاتيّون على هكذا تصوّر يعطي للسّياسة مساحة كبيرة تجعل المواطنة الفعّالة فوق كلّ الرّوابط الاجتماعيّة الأخرى، ومظهرا ضروريّا لحياة جيّدة وخيّرة لتبدو وكأنّها حقيقة شاملة. علما أنّ القليل من النّاس من لديهم النّشاط والوقت الكافيين للمشاركة السّياسيّة وفق هذا المنظور، وعموما فإنّ المبالغة في ربط المواطنة بالمشاركة تعسّف غير ملائم، فهناك مجتمعات كثيرة يميل النّاس فيها إلى تكريس حياتهم تقريبا لأنفسهم أو لشأنهم العائليّ ويتركون صناعة القرار السّياسيّ لنخبة متخصّصة تمثّل الرّوح العامّة للمجتمع، ومع ذلك تبقى تلك المجتمعات مجتمعات ديمقراطيّة تحترم الإرادة العامّة بتطبيق القانون وحماية الحقوق وصيانة الواجبات.

وأخذا بهذه الاعتراضات يبدو المفهوم الجمهوريّ للمواطنة إشكاليّا بالنّظر إلى وضع الأقليات فيه، وباعتبار ميله الواضح والصّريح لصالح الثّقافة السّياسيّة للأغلبيّة المهيمنة على المجتمع خصوصا وأنّه لا يرتّب على هذه الأغلبيّة أيّ التزامات تجاه مطالب الأقلّيّات، كما لا يرتّب أوضاعها ضمن المبادئ والأطر القانونيّة الموجودة. فوضع العلمانيّين في دولة دينيّة عن سبيل المثال يفرض عليهم صوغ مطالبهم السّياسيّة ضمن ثقافة الأغلبيّة والعكس صحيح.

 والخلاصة أنّ الميّالين للمشاركة السّياسيّة يفضّلون هذا الشّكل الضّعيف من المواطنة الجمهوريّة الذي يُعرِض عمّا تفرض المسؤوليّات المشتركة الأخرى من التزامات عند تقرير المسائل الكبرى. بل إنّه يبقى مقبولا من وجهة نظر الجماعاتيّين أنفسهم لتبرير تنافس الالتزامات المشتركة في حالات الصراع.

نحو تأهيل ملائم لبناء الوطنيّة على أساس المواطنة الجمهوريّة

ليس الغرض من هذه الدّراسة هو تقويض بناء مفهوم للشّعب على أساس المواطنة، إنّما القصد هو إعادة صياغة تصوّر للمواطنة في نواح عديدة آمل أن يكون ما سأقدّم في هذه الخلاصة المختصرة مسعفا في الرّدّ على جملة من الاعتراضات والإجابة عن أهمّ التّساؤلات وبالله التّوفيق...

يستند تصوّر الوطنيّة بالاعتماد على مفهوم المواطنة الجمهوريّة إلى عنصرين اثنين:

أوّلا: يستند إلى نزعة سيكولوجيّة يشكّل عبرها روحا عامّة تدفع الفرد إلى تقديم الرّغبات الوضعيّة على مذبح الرّغبات الرّفيعة وإعطاء الأسبقيّة للخير العامّ على حساب المصالح الشّخصيّة بحجج سياسيّةً مطابقة للمفهوم الجمهوريّ تستهدف الوصول إلى صياغة مشتركة لقرارات منسجمة، مسؤولة ومتّفق عليها.

ثانياً: نزعة سلوكيّة تعرض الآليّات التي يتمّ عبرها تكوين مواطن فعّال يُقبِل بإصرار ودون تردّد على المشاركة في الشّأن العامّ وفي تقرير القضايا الكبرى والمصيريّة.

ولعلّ التّصوّر العمليّ المرغوب لبناء وطنيّة على قاعدة المفهوم الجمهوريّ بالنّسبة لي سيحتفظ بالعنصر السّيكولوجيّ ويطرح نظيره السّلوكيّ لانعدام الجدوى مادام أكثر المواطنين يمتلكونه كروح عامة أو نزعة وإن بشكل كامن يجعلهم غير فاعلين في الشّأن السّياسيّ. سيقضي أغلب النّاس أوقاتهم في مواجهة عنف اليوميّ، في الاستجابة لضرورات العيش والسّعي وراء المصالح الخاصّة، أوفي إنجاز ما تفرض الحياة الاجتماعيّة المشتركة في أبعادها غير السّياسيّة من واجبات. في حين ستحصل المشاركة الشّعبيّة في البناء العمليّ لمفهوم الوطنيّة اتّفاقا أو عرضا بواسطة الرّوح العامّة للمواطنة، ويمكن ملاحظة هذه العرضيّة بالملموس في أغلب المجتمعات الحديثة لأنّها تلائم الدّيمقراطيّة في السّياق اللّيبراليّ المعاصر. لذلك تأخذ بها الاتّجاهات الواقعيّة بما فيها الاتّجاه الجماعاتيّ لاسيما وأنّ فكرة المواطنة الجمهوريّة لا تلائم الدّولة الأمّة من وجهة نظر الواقعيّة اللّيبراليّة لأنّ السّياسة اتّفاقات وصفقات بين جماعات مصالح، أكثر منها  تشاور أو تعبير عن روح عامّة.

لذلك تجد الاتّجاهات الواقعيّة لا تعطي أهمّيّة لمسألة الرّوح العموميّة لأنّ اهتمامها الرّئيس متعلّق بالحقوق الأساس وبالدّفاع عنها ومواجهة أيّ تهديد قد يطالها من قبل النّزعات التّسلطيّة أو الدّولة الشّموليّة. ولعلّ الذي شهد ويشهد العالم المعاصر من وقائع وأحداث يثبت أنّ المواطنين يعبّرون تلقائيّا عن الاستعداد للدّفاع عن دولهم والتّضحيّة في سبيل رموزهم الوطنيّة، والحرب العالميّة الثّانية أبرز مثال على ذلك. 

ولذلك أيضا لا تبحث هذه الاتّجاهات مسألة الرّوح العامّة مادام أغلب المواطنين لا يشاركون في قضايا الشأن العامّ بحسب ما جرت به العادة إلاّ من أجل اهتمامات معيّنة، لكنّها لا تستنكف عن استثمار هذه النّزعة السّيكولوجيّة وتوظيفها بقوّة في الظّروف الاستثنائيّة وكلّما دعت الحاجة لذلك. ويعبّر هذا وإن بشكل ضمنيّ عن مرغوبيّة صياغة التّصوّر الجمهوريّ صياغة أكثر عمليّة وواقعيّة على أرضية ليبراليّة محضة.

تستهوي فكرة الدّولة الأمّة الجماعاتيّين لتأكيدها الواضح على الرّوح العامّة للمواطنة باعتبار أنّ الوطنيّة محور ملهم يكسب النّاس هوّيّة تشحذ ولاءهم للدّولة وتدعم لديهم حوافز خدمة الصّالح العامّ في عالم لا مكان فيه للسّلبيّة، وفي لظى عولمة تلزم الحياة السّياسيّة بخوض معارك التّنميّة المستدامة واستحقاقات التّقدّم على أساس المواطنة، ومن خلال تعليم وطنيّ وبرامج للخدمة المدنيّة التي تدعم الرّوابط المشتركة الأخرى بين جميع الفاعلين ومكوّنات المجتمع.  

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

....................

 للمزيد وضرب الأمثلة أنظر:

Lenug, Kwok,’ Social Justice from a Cultural Perspective’, in The Handbook of Culture and Psychology, ed, Matsumoto,D,.(New York: Oxford University Press, forthcoming).

قراء في النظم المعرفية (البيان، والعرفان، والبرهان)

دعا محمد عابد الجابري الى تناول التراث على أساس ابستيمولوجي لا على أساس أيديولوجي فالأبستمولوجيا حسب لالاند هي الدراسة النقدية لمبادئ وفرضيات ونتائج مختلف العلوم، الهادفة إلى تحديد أصلها المنطقي لا النفسي وقيمتها ومدى موضوعيتها (1). 

فمهمة الابستمولوجيا مهمة نقدية، ترمي من ورائها تحليل العلم والكشف عن الفلسفة المتضمنة فيه، وتتبع مسيرته قصد التعرف على ثغراته، ومحاولة سدها ومعالجتها، سواء أكانت هذه الثغرات تتعلق بالمناهج أو المبادئ أو الفرضيات أو بالنتائج إذا ومن هذا المنطلق ما هو الأساس الذي انطلق منه محمد عابد الجابري لدراسته النقدية للعقل العربي

بين محمد عابد الجابري أن هناك ثلاثة نظم في الثقافة العربية هي "البيان، والعرفان، والبرهان" حيث اعتبر أن:

1- البيان: حسب الجابري في كتابه بنية العقل العربي كفعل معرفي هو الظهور والإظهار والفهم والإفهام، وكحقل معرفي هو عالم المعرفة الذي تبنيه علوم اللغة وعلوم الدين أبرزته البيئة العربية الإسلامية ومرجعيته "اللغة العربية حيث يقول الجابري: ''إذا جاز لنا أن نسمي الحضارة الإسلامية بإحدى منتجاتها، فإنه سيكون علينا أن نقول عنها أنها حضارة فقه، و ذلك بنفس المعنى الذي ينطبق على الحضارة اليونانية حينما نقول عنها أنها حضارة فلسفة.''(2) فالعقل الفقهي بما قدمه من آليات معرفية جديدة وغير مسبوقة في الحضارة العربية الإسلامية عند الجابري شكل أول الأنظمة المعرفية داخل ما يسمى العقل العربي وهو الذي ساهم في تأسيس المعقول الديني البياني الذي تمثله كل العلوم التي تدور حول النص الديني، والتي تقوم على جواز حدوث الأشياء أو غيابها بعيدا عن قوانين السببية والحتمية.

2-العرفان: والعرفان كفعل معرفي هو الكشف أو العيان، وكحقل معرفي هو عبارة عن خليط من هواجس وعقائد وأساطير تتلوّن بلون الدين الذي تقوم على هامشه. فقد كانت مرجعيته العرفان الهرمسي، فالعرفان كان هو النظام المعرفي الذي ساد العصر الهلنستي منذ اواخر القرن الرابع قبل الميلاد والعصر اليوناني الى أواسط القرن السابع بعد الميلاد مع ظهور الاسلام وانتشار الفتوحات. إذا العرفان نظام معرفي ومنهج في اكتساب المعرفة ورؤية للعالم، وأيضا موقف منه، انتقل الى الثقافة العربية الاسلامية من الثقافات التي كانت سائدة قبل الاسلام في الشرق الادنى خاصة في مصر وسورية وفلسطين والعراق(3). فحسب الجابري أسس الشيعة والصوفية نظاما معرفيا جديدا هو النظام العرفاني، أو اللامعقول العقلي، أو ما يعبر عنه الجابري بالعقل المستقيل في الإسلام، اذ جعل منه ابن سينا أسمى أنواع المعرفة، العرفانيون يرتبط أيضا بين الظاهر والباطن ثم يقيسهما بالمصطلح التفسير والتأويل. هم يرون أن التفسير هو ظاهر الشيء وأما التأويل هو باطن الشيء. التأويل في طبيعة العرفانيين هو تحويل وتغيير العبارة من الظاهر الى الباطن على سبيل السيمة والإشارة(4) والخلاصة التي انتهى إليها الجابري هي انتصار العقل المستقيل في الإسلام.

3-البرهان: كفعل معرفي هو استدلال استنتاجي، وكحقل معرفي هو عالم المعرفة الفلسفية العلمية، فمرجعيته فلسفة أرسطو ومنطقه والبرهان اذ يرجع الجابري بداية العقل العربي البرهاني مع الفيلسوف العربي ''الكندي''، ثم بعده ''الفارابي''، ثم تحول مع ''الغزالي'' و''ابن سينا'' إلى خدمة العقل البياني والعقل العرفاني، حيث يرى الجابري أن البرهان كمنهج قد انتهى به الأمر في الثقافة العربية الإسلامية. اذ صنف البرهان بعد البيان والعرفان فيرجعه الجابري إلى أن الثقافة العربية الاسلامية لم تتعرف على منطق ارسطو إلا في مرحلة متأخرة بعد تعرفها على الفكر الهرمسي بنحو قرن من الزمن، حيث لم يبدأ حضور فكر أرسطو إلا في عصر المأمون والذي ارتبط بشكل مباشر بترجمة حنين بن إسحاق المتوفي سنة 260 ه وابنه اسحاق المتوفي سنة 298 ه(5)

وحسب الدكتور الوائلي فالجابري طالب بإلغاء المنهج البياني وإحلال المنهج البرهاني محله، وأنه ينظر للبرهان بوصفه منهجاً، ورؤيته مرتبطة بالثقافة اليونانية وما نُقل الى الثقافة الإسلامية من اجل مواجهة المد الهرمسي العرفاني. لهذا جسد توظيفا آيديولوجيا وليس معرفيا ويطالب بالفصل بين الأنظمة الثلاثة وبناء البيان على المنهج البرهاني واعتماد المقاصد الكلية للشريعة بدل النص(6).

***

د. خالد غربي أستاذ علم الاجتماع جامعة الوادي – الجزائر

.......................

المراجع:

1- A. la lande : vocabulaire technique et critique de la philosophie, 2eme édition, P.U.F paris 1986, p 293

 2- الجابري محمد عابد، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1989، ص 92

3- محمد مخلص هدى، مفهوم العرفان عند محمد عابد الجابري، مجلة الدراسات الإسلامية، المجلد. 1، رقم 1، ماليزيا، 2018، ص 50

4- الجابري محمد عابد، نفس المرجع، ص 268.

5- القدس العربي، البيان والبرهان والعرفان في فكر محمد عابد الجابري، مارس، 2014

6- بايع راسو خولة، البيان والعرفان والبرهان عند الجابري، مذكرة مقدمة لاستكمال متطلبات شهادة الماستر أكاديمي فلسفة، جامعة قاصدي مرباح ورقلة، 2022، ص 35

 

1ـ المواطنة: أيّ حدود للمفهوم؟

2ـ أيّ مفهوم للمواطنة نريد؟

3ـ المواطنة الحديثة وصلتها بتقاليد المدنيّة الجمهوريّة

أ) المواطنة: أيّ حدود للمفهوم؟

مستهلّ:

ماذا تعني المواطنة؟ ما الذي يفترض وجود الفرد ليكتسب صفة مواطن بالفعل؟ أين تقع حدود المواطنة إن كانت للمواطنة حدود؟ جوابا عن هذه الأسئلة ستتناول هذه الدّراسة مفهوم المواطنة وتبني تصوّرا عن ممارستها فعليّا داخل حدود علم الاجتماع السّياسيّ، لمقاربة ذلك سأبدأ بالسّؤال الأوّل.

ما معنى المواطنة

يعتبر المفهوم مثل أغلب مفاهيم النّظريّة السّياسيّة محلّ خلاف إذ هناك تأويلات تحمل قواعد مختلفة حول معنى المواطنة، لذلك يتطلب الأمر تعيين حدودٍ لمفهومها لأجل توضيح ما الذي تعنيه ابتداءً. لا شكّ أنّ في الوضعيّة الوجوديّة والقانونيّة للمواطن أساسا موضوعيّا للمفهوم ومبرّرا عمليّا لممارسة مضمونه، لكنّ هناك اختلاف حول مستلزمات هذه الوضعيّة، ولأغراض الجرأة في مقاربة هذا البحث سأستعمل بكلّ وضوح المفهوم الجمهوريّ للمواطنة فأقول: يعتبر المفهوم اللّيبراليّ الذي يعرّف المواطنة بوصفها مجموع الحقوق والواجبات التي تنطبق بالتّساوي على كافّة الأفراد في المجتمع السّياسيّ منافسا رئيسا للمفهوم الجمهوريّ للمواطنة.[1] فأنْ تكون مواطناً يعني أنْ تتمتّع بحقوق الأمن الشّخصيّ، حرّيّة التّعبير، حقّ الانتخاب ... وهكذا، وبتماثل الحقوق مع الواجبات تفيد ممارستها الخضوع للقانون، وتجنّب الاصطدام بحقوق الآخرين.

فالنّقطة المركزيّة في المفهوم الليبراليّ للمواطنة هي الموازنة بين الحقوق والواجبات، يبدو ذلك واضحاً مع الكلاسيكيّة المحدثة متمثلةً في تفسيرات ت.هـ. مارشال[2] وفي أعمال راولز ويونغ مؤخّراً.[3] بالمقابل لا ينكر المفهوم الجمهوريّ أهمّيّة حقوق المواطن إلاّ أنّه يُعطي وزنا أكبر لفكرة المواطن الفعًال الذي يشارك الآخرينَ في النّقاش السّياسيّ وفي تشكيلِ الأطر المجتمعيّة. حيث تحتلّ المكانة القانونيّة لوضعيّة المواطنة هنا الموقع الثّاني، لأنّ الأولويّة هي للدّور الذي يتولّى المواطن القيام به كعضو عامل كامل الأهليّة في المجتمع. ومن ثمّة يغدو واجبا على الفرد ليكون مواطناً أن يفكّر ويتصرّف بطريقة محدّدة، أي أن يمتلك بشكل كافٍ مقياساً لما يدعوه التّقليد الجمهوريّ القديم الفضائل العامّة.[4]

يحدّد المفهوم الجمهوريّ صفة المواطنة بأربعة عناصر يشترك بالأوّلين منها مع المفهوم اللّيبراليّ ويتميًز بالعنصرين الأخيرين، وهذه العناصر هي:

أولاً: حقوق متساوية بالنّسبة لكافّةِ المواطنين على حدّ سواء لضرورتها في تحقيق الأهداف والأغراض الخاصّة وفي ممارسة الدّور العموميّ أيضاً. فكثير من الحقوق لها وجه مزدوج كالتّملّك وحرّيّة التّعبير مثلا، لها وجه تعتبر فيه حقّا طبيعيّا يمكّن الأفراد من إنجاز المشاريع الشّخصيّة أو الخاصّة، ووجه تعتبر معه شرطا مؤسّسا بدونه يتعذّر أن يكون المواطن فعّالاً؛ ففي غياب الاستقلال الاقتصاديّ وحرّيّة التّعبير عن الرّأي لا يسع الفرد أن يشارك بفاعليًة في النّقاش العامّ.

ثانيا: واجبات توازي هذه الحقوق كدفع الضّرائِب واحترام القانون (مع أنّه ليس ضروريّا لتحقيق العدالة الاجتماعية الخضوع في مطلق الأحوال لقانون مجحف مهما كان ظالماَ وبشكل كالح) وهكذا.

فالمواطنة من وجهة نظر الرّأيً الجمهوريّ تتضمّن بالإضافة إلى هذه الحقوق والواجبات شروطا أخرى أكثر من هذه، إنّها تتضمّن:

ثالثاً: الرّغبة في أخذ خطوات عمليًة وفعًالة للدّفاع عن حقوق الأعضاء الآخرين في المجتمع السّياسيّ، والقيام بخطوات عموميّة تعزّز المصالح العامّة، فالفرد المستعد للتّطوّع تحت عنوان الخدمة العامّة كلّما تطلّب الأمر ذلك هو مواطن بالفعل. فالتّقليد الجمهوريّ القديم يؤكّد على الخدمة العسكريّة انطلاقا من فكرة الاعتماد على المواطنين في بناء القوّات المسلّحة بدلا من المرتزقة أو من التّجنيد الإلزاميّ، لكنّ التّطوّر الرّهيب الذي حصلَ في تكنولوجيا السّلاح والحرب جعل هذه الفكرة تـفـقد قيمتها، لذلك أخذت الخدمة العامّة أهمّيّة أكبر داخل المجتمع المدنيّ.

رابعا وأخيراً: التزام المواطن تجاه المجتمع الجمهوريّ بأداء دور فعّال في الميدانين الرّسميّ وغير الرّسميّ، وكذا بمباشرة مهامّ المشاركة السّياسيّة لمناهضة الفساد تعزيزا للمصالح المحلّيّة. ويتعيّن عليه ليكون التزامه تجاه المجتمع صحيحا على العموم أن يكون ممأسسا عبر الانتماء إلى تكتّل يتضامن فيه ويعمل من خلاله مع نظرائه من المواطنين لخدمة قضايا الشأن العامّ على أساس برنامج محدّد الأهداف، وآليّات متعارف عليها، ووسائل مشروعة ليكون نضاله باسم الصّالح العامّ ومن أجل المجتمع، وتعتبر هذه الصّيغة صيغة مثلى بالتّأكيد إذ من المتعذّر أن يتّفق المواطنون كافّة على قرار معيّن إلاّ عبر تجمّعات مصالح أو ما يسمّى اليوم أحزابا. لكن إذا حصل توافق سياسيّ على أهدف محدّدة فإنّه يصبح من الممكن الوصول إلى سياسات مرضيّة تحظى بمصادقة أغلبيّة المواطنين، لاسيما وأنّ هؤلاء لا يدافعون عن سياسات مختلف بشأنها عندما تكون هناك الخيارات البديلة والأكثر ملائمة ممكنة.

إنّ المواطنة الجمهوريّة بالمعنى الذي وصفت مثاليّة وغاية عليا تواجه ممارستها العمليّة أو تطبيقها الميدانيّ قصورا في التّحقّق أو ضعفا في التّطابق مع المثال. ويدور السّؤال بهذا الخصوص ليس حول تصور مجتمع يتصرّف فيه كلّ عضو كمواطن كامل لأنّ الجواب واضح بما فيه الكفاية، ولكن السّؤال هو حول إمكانيّة إدارة الحياة السّياسيّة على مثال النّموذج الجمهوريّ في الدّيمقراطيّة الحديثة، بمعنى هل يمكن اللّجوء لهذا النّموذج كمعيار عند تقييم أداء المؤسّسات وتقويم الممارسات؟ إنّ النّقاش يتناول هنا فحص ما إذا كان عموم النّاس يفهمون بالفعل معنى أن يكونوا مواطنين من ناحية التّمثّل والاستجابة للنّموذج الجمهوريّ.

ينظر بعض النّاس إلى المواطنة من ناحية الحقوق والواجبات أساساً، بينما ينظر آخرون إليها كصفة تشمل كافّة أعضاء المجتمع وممارسة تسهم في دعم رفاهيته وتعزيز مصالحه،[5] فليست المكانة القانونيّة للمواطن بالنّسبة للأغلبيّة شيئا هامشيّا أو معزولا بل إنّها تشكّل الجزء الأساس من هوّيّتهم،[6] فالمسألة إذن لا تتعلّق بمجرّد شعور النّاس بأنّهم مواطنون ولكن بما إن كانوا يسلكون في حياتهم اليوميّة طبقا لذلك الشّعور. تتخوّف بعض الدّراسات الحالية من ضعف المواطنة في الدّيمقراطيّات اللّيبراليّة لكنّه تخوّف مبالغ فيه، فالنّاس يمارسون نشاطهم السّياسيّ كما هو من قبل ولكن بطريقة مختلفة بعد الذي حصل من تغيير في الانتماء للأحزاب وظهور أشكال غير مؤسّساتيّة من المشاركة السّياسيّة كالمظاهرات وغيرها من الأفعال المباشرة.[7]

ليس الغرض هنا هو مطارحة الكيفيّة التي تمارس المواطنة عبرها اليوم، ولكنّ الغرض هو التّركيز على متطلبات المواطنة الجمهوريّة من ناحيتين:

الأولى: تتعلّق بافتراض أنّ المواطن لديه من الحوافز ما يكفي لتنفيذ المهامّ السّياسيّة وغير السّياسيّة التي تشملها المواطنة على الرّغم ممّا تكلّف هذه المهامّ من وقت وجهد، ومن احتمال عدم الحصول على الخبرة المطلوبة أو الوصول إلى نتيجة مرضية.[8] لأنّ النّفع العامّ يُـنتج من خلال الدّور الذي يقوم به المواطن النّشط وليس بخمول ذاك الذي لا يُرى له أثرا ولا يعرف له تأثيراً.

الثّانية: تتعلّق بمقتضيات المواطنة الجمهوريّة التي تحفّز المواطنين على التّصرّف بمسؤوليّة في الفضاء العامّ والعمل على تعزيز المصالح العامّة فتحول دون أن يقتصر دورهم على المشاركة في صناعة القرار. وهو ما يتطلّب امتلاك تصوّر راشد يسعى لإدارة وتدبير الاختلاف، وإحداث التّوازن المطلوب للاستفادة من تعدّد وتنوّع الأهداف لأنّ المطلوب هو توفّر إرادة تنجز توافقا ديمقراطيّا بعيدا عن التّحيّز للمصالح الفئويّة والرّغبات الوضعيّة. فللمواطن المسلم مثلا قناعة دينيّة راسخة حول قداسة يوم الجمعة تقضي بإقامة طقوس مخصوصة فيه، ويتعيّن عليه ــ وإن كان من الأغلبيّة ــ بدلاً من أنْ يحاول فرضها عنوة على الفضاء العموميّ لمجتمع متعدّد الملل والثّقافات أنْ يجد طريقة ملائمة تستدرج كلّ الجماعات إلى توافق مقبول وتسوية منصفة، أي أن يعمل تلك القاعدة التي وضعها روسّو التي مفادها: "لا تسأل ما هي إرادتي أو إرادة جماعتي حول هذه المسألة، ولكن اسأل ما هي الإرادة العامّة حولها!" ويتطلّب تحقيق هذا المسعى تدرّبا ذاتيا وعملا فعليّا في الميدان.

لسوء الحظّ قد يقف الحافز ضدّ المسؤوليّة مع أنّهما معا شرطان للمواطنة، فالمواطن الذي يقوم بدور عموميّ عليه أن ينهض بهذا الدّور بصرف النّظر عن الكلفة الشّخصيّة، لكنّه قد يستسلم للغايات الخاصّة فيكون غير مسؤول بالمعنى الذي أشرت إليه آنفا. إنً تعصّب الشّخص لرأيه واعتقاده بصواب أفكاره قد يمنعه من الإصغاء إلى رأي أولئك الذين لا يشاركونه نفس المواقف والأفكار، لذلك فهو لا يتحرّك للبحث عن أسس الوفاق أو الاتّفاق معهم، وهو إن أبدى ظاهرا بعض المرونة والاستعداد للتّفهّم والتّقبّل استبدّ به واقعا إغراء الرّكوب على إرادة الآخرين بتكييف مطالبهم مع أهدافه الخاصّة. لذلك كان من متطلّبات العمل بمسؤوليّة الحصول بدرجة معقولة على تأكيد وثقة بأنً الآخرين سيقومون بالشّيء نفسه.[9]

وهذا هو ما يُبـرّر تشدّد التّقليد الجمهوريّ في التّشجيع على الفضائل العامّة، وسعيه إلى أخذ خطوات باتّجاه دفع الأذى النّاتج عن الفساد الذي يضرّ المصالح الخاصّة قبل العامّة. فالأمر يتطلّب ولاء وطنيّا قويّا حسب روسّو في "العقد الاجتماعيّ"، فإذا ضعُـفَ هذا الولاء وأقتصر السّعي على تحقيق المصالح الخاصّة أخذت الدّولة في التّفسّخ وفقد النّاس دور المواطنة الفعًالة.[10] لأنّه عندما يخفت وهج الولاء للميثاق الاجتماعيّ في القلوب تصبح الإرادة العامة صامتة فيُقاد الجميع من قبل حوافز غامضة لا يبدي معها الفرد رأيه كمواطن، وتكون ماجريات الأمور والأوضاع كما لو كانت الدّولة غائبة أو غير موجودة فتُجاز المراسيم الجائرة باسم قانون لا يحقّق غير المنفعة الخاصّة.[11] تبرز الحجّة التي قدّم روسّو في "خطاب حول الاقتصاد السّياسيّ" من خلال السّؤال: (هل نريد أنً يكون النّاس أفاضل؟ وإذا كان ذلك كذلك فعلينا أنْ نجعلهم يحبّون وطنهم، ولكن كيف سيحبّونه إن كان الوطن لا يقدّم لهم أكثر ممّا يقدّم للأجانب، ولا يمنحهم سوى ما يرفض منحه للآخرين؟)[12] يقدّم روسّو قائمة مفصًلة من الاقتراحات عن كيفيّة تصميم دستور لدولة واسعة تجبر على تقليد أو ارتداء زيّ قوميّ في المناسبات، ويؤكّد بشكل خاصّ على أهمّيّة النّظام التّعليميّ.[13]

ويرى بعض الباحثين أنّ كتاب "حكومة بولندا" يعبّر عن تحوّل في تفكير روسّو من جمهوريّة دولة المدينة إلى جمهوريّة دولة العقيدة القوميّة،[14] فهل تنفع القوميّة فيما لم تنفع فيه الوطنيّة؟ وهل يصلح أن يكون الولاء لها بديلاً عن الولاء الوطنيّ لدولة المدينة أساس المواطنة الجمهوريّة؟ لقد ظهرت الأمّة في المشهد السّياسيّ بتصاعد حركة النّقل وتطوّر وسائله وتطوّر الطّباعة التي جعلت من الممكن لمجموعات كبيرة من النّاس أن يتصوّروا أنفسهم أعضاء في مجتمعات لها سمات ثقافيّة مشتركة. ويفترض أنْ يجمع مفهوم المواطنة النّاس وجها لوجه من أجل تشريع القوانين طبقا لروسّو، لكنّ أوضاع المجتمع الحديث تجعل اجتماعهم هذا غير ممكنٍ فكان من اللاّزم ابتكار وسائل أخرى تخلق الثّقة والولاء الذي تتطلّبه المواطنة.

ليس المقصود بهذه المناقشة استحضار ما للهوّيّة الوطنيّة باعتبارها فوق الهوّيّات الطّائفيّة سواء كانت دينيّة أو إثنيّة أو فئويّة من دور فاعل في إنجاح التّوافق السّياسيّ عندما تكون الهوّيّة المهيمنة في الدّولة هي هوّيّة الجماعة التي تمثّل الأغلبيّة، أو عندما تسعى الفئات المختلفة في ظروف وأوضاع التّجاذب السّياسيّ إلى تشكيل الوعي باتجاهات متضاربة فتكون المواطنة عـنوانا يبرّر سعيها وشعارا يلفّ مطالبها مثلما حصل إبّان الثّورة الفرنسيّة حينما توسّل الفرنسيّون الوطنيّة مصدرا لشرعيّة الحراك باعتبارها مناطا سياسيّا يحدّد العضويّة في المجتمع والدّولة بعدما لم تعد في هذا السّياق الجديد منزلة خاصّة لأولئك الذين ادّعوا لأنفسهم المنزلة السّامية في الأمّة.[15]

إنّما المقصود هو إظهار الهوّيّة الوطنيّة باعتبارها نتاجا عقلانيّا لذاك التّفاعل الإيجابيّ بين جماعات مختلفة تتنافس على السّلطة، ولحمة توطّد وجودها وتدعم علاقاتها لتستقـرّ أوضاعها فتتمكّن من إعداد أفرادها لأن ينظروا لأنفسهم وأن يعملوا سويّا كمواطنين. لم ينجح التّوحيد القسريّ للهوّيّات سواء بشكل كلّيّ كالذي حصل في الإتّحاد السّوفيتيّ ولا بشكل جزئيّ على نحو ما تمّ في ظلّ الحكم الإمبراطوريّ، ولم يساعد أيّ من المثالين على ازدهار المواطنة كما في نموذجها الجمهوريّ. وبذلك أستطيع الجزم بثقة أنّ الدّولة الدّيمقراطيّة أوجدت لمواطنيها هوّيّة وطنيّة مشتركة تحضن مشاركتهم السّياسيّة على الرّغم من اختلاف أجناسهم وأصولهم العرقيّة، واختلاف لغاتهم ومعتقداتهم الخاصّة، وبذلك تكون الدّيمقراطيّة اختبارا يؤكّد صدق حجّة المواطنة الجمهوريّة.

تعرّضنا لمفهوم المواطنة كما حدّدته دولة المدينة ابتداء ولاحقا ضمن نطاق ثقافة الدّولة الأمّة، ومن المفيد في هذا السّياق المقارنة بين النّموذجين الفرنسيّ والألمانيّ للمواطنة. فهذان النّموذجان يشكّلان التّطوّر التّاريخيّ لسياسة المواطنة على الرّغم من أنّ التّشريع الألمانيّ يكشف راهنا عن تحوّل باتّجاه مفهوم أكثر شموليّة[16] بمنح المواطنة على أسس واعتبارات إثنيّة في الحين الذي يشتغل فيه النّموذج الفرنسيّ على معيار الإقامة فيمنح كلّ مقيم في الإقليم الفرنسيّ صفة المواطنة ضمن سياسة تسعى لاستيعاب المهاجرين، ولضمان مستوى رفيع من الوعي بالثّقافة الوطنيّة الفرنسيّة يتمّ تكريسه من خلال نظام التّعليم. فالنّموذج الألمانيّ يقصر المواطنة على الألمان بمعيار إثنيّ، بينما يوسّع النّموذج الفرنسيّ من دائرتها لتشمل المهاجرين كما اشتغل في وقت سابق على إدماج الفلاّحين كفرنسيّين.[17]

لا تستهدف هذه المقارنة الحكم على النّموذجين الألمانيّ والفرنسيّ مع ما يحظى به النّموذج الفرنسيّ من تأييد في الغالب الأعمّ، ولكن هدفها النّظر إلى المواطنة كوضع قانونيّ لتتأتّى بعد ذلك إثارة أهمّيّة تعيين صفاتها طبيعيّا لأولئـك الذين يعتبرون أنفسهم جزءاً من شعب، ويطالبون في الوقت ذاته بحقوق الهوّيّة الثّقافية. ففي هذا ومثله يمكن القول: إنّ المواطنة في الممارسة العمليّة تكون أقرب للنّموذج اللّيبراليّ حتى في بلدان لها تقليد جمهوريّ راسخ مثل فرنسا؛ ولكنّ هذا المعنى اللّيبراليّ للمواطنة يعتمد على مستوى معيّن من التّبادليّة يلزم بالمسؤوليّة عند التّصويت وأثناء القيام بالواجبات العامّة المطلوب تنفيذها لاعتبارات المواطنة.

قد تكون هناك ظروف يستعصي معها أن تكون الهوّيّة الوطنيّة المشتركة أساسا للمواطنة في دولة يرى الأفراد فيها أنفسهم طوائف وإثـنيّات متـنازعة، أو أقلّيّات توحّد نفسها مع جماعات في دول مجاورة، فتكون الحلول المطروحة لهكذا أوضاع إمّا بتشكيل هيكل سياسيّ يسمح لجماعات مختلفة بالتّعايش والانسجام في صيغة إتّحاد ديمقراطيّ مثلا، أو بإعادة رسم حدود الدّولة.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

............................

[1] هذه ليبراليّة التّعدّديّة الثّقافيّة التي تُعرًف من خلال كتاب مثل راز وكاميلكا أنظر:

Raz.J., ‘Multiculturalism: A Liberal Perspective’, Dissent,41(1) ( winter 1994).67-79; and Kymlicka,W., Multicultural Citizenship (Oxford, Clarendon Press, 1995), ch.5.

[2] Marshall, T.H., Citizenship and Social Class, (ed) Bottomore, T. (London, Pluto press, 1992).

[3] Young. I.M., Justice and the Politics of Difference (Princeton, Princeton University Press, 1990), p. 116.

[4] افضل مناقشة لهذه المسألة كانت في:

Phillips A., The Politics of Presence, Political Representation of Gender Race and Ethnicity (Oxford University Press, 1998).

[5] Young. I.M. Justice and the Politics of Difference, p.176.

[6] Young. I.M. Justice and the Politics of Difference, p. 184

[7] وجهت يونغ نقداً مشابهاً للنظريات الحالية حول الدّيمقراطيّة التّشاوريّة في:

Communication and the other: Beyond Deliberative Democracy’ in Benhabib, S(ed), Democracy and Difference (Princeton, Princeton University Press, 1996).

[8] Young. I.M Justice and the Politics of Difference  ص 119

[9] لمزيد من النقاش حول هذا النقطة أنظر:

Elster J.’The Matket and the Forum’ in Elster and Hyllan, A.(eds), Foundations of Social Choice Theory (Cambridge, Cambridge University Press, 1986),P.115.

[10] Rousseau J.J The Social Contract in Rousseau’s Political Writing ed.. Ritter. A and Bondanella. J.C.(New York,Norton,1988),p.143.

[11] Bondanella. J.C.( p. 149.

[12] Rousseau J.J Discourse on Political Economy in Rousseau’s Political Writing, , ed Watkins, F., (Edinburgh, Nelson, 1953, P.70

[13] Rousseau .J.J Consideration on the Government of Poland in Rousseau’s Political Writing, P. 176.

[14] Viroli. M., For Love of Country (Oxford, Clarendon Press, 1995), pp. 90-4.

[15] Sieyes. J.J What is the third Estate? (London, Pall Mall Press, 1963)

[16] أنظر على سبيل المثال:

Brubaker R. Citizenship and Nationhood in France and Germany (Cambridge, Mass Harvard University Press, 1992)

[17] Weber,E., Peasants into Frenchmen (London, Chatto and Windus,1979).

 

بمناسبة ذكرى وفاة فانون

أتناول آراء فانون في "معذّبو الأرض" من أجل تأويل آرائه بوصفها مكمّلة لآراء أرنديت عن العنف مع أنّ فانون لم يذكر أرنديت التي كانت على معرفة تامّة بتأثيره الواسع، وربّما لم يكن يعرف بوجودها أصلاً. فالشّعبيّة التي حظيَ بها كتاب "معذبو الأرض" بين القرّاء والدّارسين حول العالم كانت من محفّزات أرنديت على كتابة مقالتها "في العنف" التي قُرِأت كثيرًا باعتبارها نقداً لتمجيد العنف من قبل فانون، فقد كتبت أرنديت في هامش مقالتها موضّحة سبب مناقشتها لكتاب "معذبو الأرض" فقالت: "أعود إلى هذا العمل لتأثيره الكبير على أجيال من الدّارسين. وعلى كلّ حال، فقد أبدى فانون شكوكاً فيما يتعلّق بالعنف أكثر من إعجابه به، ويبدو أنّ الفصل الذي قُرِئ من الكتاب بشكل واسع هو الفصل الأوّل المتعلّق بالعنف فقطّ. حيث يرى فانون أنّه إذا لم تُقاوم الوحشيّة المحضة والشّاملة فورًا فإنّها تدمّر أيّ تحرّك من أجل التّحرّر في غضون أسابيع".[1]

لم تتحرّ أرنديت رأيها النّقديّ على أهمّيّته، بل على العكس من ذلك ظلّت تقتبس من كتاب فانون ما تعتبره تمجِيدا للعنف ويدمجه بالسّلطة،[2]حتى إنّها سخرت من بعض فقراته التي أوردها فانون عن "الأفكار والانفعالات، والتي كان يأمل منها ماركس إطلاق الثّورة مرّة واحدة وإلى الأبد".[3] لذلك تجدها قد أكّدت أنّ فانون مدفوع بكراهية عميقة للمجتمع البرجوازيّ مثل سوريل (Sorel) وبارتون (Barton)، وأنّ هذا العنف الجمعيّ الذي يحتفي به هو الشّكل الأكثر خطورة.[4] لقد لاحظت وهي محقّة أنّ أوّل ما يختفي في العمل المسلّح كما في العمل الثّوريّ هو قيمة الفرد لتحلّ محلّه قيمة الجماعة بديلًا في محاولة لشدّ تماسك الجماعة بمشاعر تثبّت قوّتها.. إنّ الجماعة التي تهدف إلى البحث عن أمنها الخاصّ في كلّ أعمالها الإجراميّة أو السّياسيّة، من المؤكّد أنّها سوف تطلب من الفرد أن يقوم بأعمال إجباريّة لحرق جسوره مع المجتمع قبل أن تعترف به ضمن عناصرها".[5]

وتأسيسا على ما ذكر، قد تبدو وجهات نظر أرنديت وفانون متعارضة، إذا قبلنا بتحليل أرنديت للسّلطة والعنف فإنّ التّعارض ذاك يبدو تفنيدًا قويّا لوجهة نظر فانون. لكن يكشف الفحص الدّقيق عن أنّ الأمور ليست حتميّة وبهذا الوضوح الذي تبدو عليه للوهلة الأولى، إذ يكمّل أحدهما ما اعترى تحليل الآخر من نقص. لا أقصد بهذا الموقف تأهيل خطاب فانون الاستفزازيّ ولا تلطيف نقد أرنديت للعنف الثّوريّ؛ بقدر ماهو استكشاف مواقع القوّة والضّعف في تحليل كلّ منهما، أذ يُمَكِّنُ من فهم جدليّة العلاقة المعقّدة بين العنف واللاّعنف والسّلطة بشكل أفضل. فإذا تأمّلنا الفقرات التي أوردتها أرنديت من كتابات فانون وجدناها تؤكّد على معنى الغضب العفويّ، وعن عنف من تمّ إذلالهم بالاحتلال وظُلِموا وجُرِّدوا من إنسانيّتهم من قبل المحتلّ. وحول هذا تعقّب بالقول: "أن يكون العنف أمرا ينتج عن الغضب مسألة يتّفق عليها الجميع، ومن شأن الغضب ـحقّا أن يكون لاعقلانيًا ولا مُرضيًا. ولكن أليس هذا حال كافّة العواطف البشريّة الأخرى؟ ليس الغضب بأيّ حال من الأحوال ردّ فعل تلقائيّ إزاء أوضاع اجتماعيّة قد تبدو غير قابلة للتّغيير. بل إنّ الغضب يظهر فقطّ حينما يتعذّر حدوث تبدّل في الأوضاع، فنحن نتصرّف بغضب حينما يخدش حسّ العدالة لدينا. وردّ الفعل هذا ليس من شأنه بأيّ حال من الأحوال أن يعكس شعورنا الشّخصيّ عندما نتعرّض للظّلم، هذا ما يبرهن عليه تاريخ الثّورات جميعا".[6]وبهذا تعرض أرنديت نقطة أخرى "في مواجهة أحداث وشروط اجتماعيّة مثيرة للغضب، حيث يكون ثمّة إغراء كبير بضرورة اللّجوء إلى العنف بسبب قدرته التّدميريّة وميزته كعمل فوريّ. إنّ التّحرّك بسرعة مدروسة يتناقض تمامًا مع انتفاضة الغضب والعنف، وهو ما لا يجعل منه عملاً لاعقلانيًّا على الإطلاق، بل على العكس من ذلك، فإنّنا نلاحظ في الحياة الخاصّة كما في الحياة العامّة، أنّ ثمّة أوضاعا تكون فيها القدرة التّدميريّة  للعنف هي التّرياق الوحيد... إنّ العنف في ظروف معيّنة أي ذلك الفعل المنجز من دون استشارة العقل، من دون كلام، ومن دون إعمال الفكر في النّتائج يصبح هو الوسيلة الوحيدة لإعادة التّوازن لميزان العدالة. في هذا المعنى يُصبح من الواضح أنّ الغضب والعنف الذي قد يواكبه أحيانًا ينتميان إلى العواطف الإنسانيّة "الطّبيعيّة"، أمّا شفاء الإنسان منهما فلا يعني شيئا آخر غير نزع الإنسانيّة عنه".[7] بالرّغم من إعجاب أرنديت بفلسفة غاندي وباستعماله لإستراتيجيّة اللاّعنف في مواجهة الاحتلال إلاّ أنّها لم تكن مع اللاّعنف وتبرّر موقفها بالقول: "عند حصول المجابهة أو المواجهة المباشرة بين العنف والسّلطة لا يمكن لأحد أن يشكّ فيما سوف تتمخّض عنه المجابهة. فلو أنّ إستراتيجيّة غاندي النّاجحة والقويّة التي قامت على مبدأ المقاومة اللاّعنفيّة وجدت نفسها مضطرّة لمجابهة روسيا ستالين مثلا، أو ألمانيا هتلر، أو يابان ما قبل الحرب بدلا من إنكلترا فمن المؤكّد أنّ النّتيجة ما كان أبدا من شأنها أن تكون رحيل الاستعمار عن الهند، بل كانت ستحدث مجزرة رهيبة وخضوع عامّ".[8] ويرى فانون نفس رأي أرنديت أنّ الإستراتيجيّة السلميّة على الطّريقة الغانديّة ليس لها فرص نجاح في مستعمرات أفريقيّة لاسيما الجزائر؛ لأنّ فرنسا كانت مصمّمة على استعمال كافّة الوسائل الممكنة لإبقائها تحت الاحتلال، وأنّ محاولات بعض الجزائريّين لأن يكونوا "معتدلين وعقلانيّين" لم تنجح إلاّ في تقوية النّفوذ الفرنسيّ. إنّ الأطروحة الأساس في "معذبو الأرض" المقاومة المسلّحة هي الطّريقة الوحيدة لتحطيم النّظام الكولونياليّ.

ومن اللاّفت فعلا إشارة أرنديت في مقالتها "في العنف" إلى تورّط أمريكا في حرب فيتنام، "فلقد شاهد العالم كيف استطاع الفيتناميّون تحييد التّفوّق الأمريكيّ الهائل في العدّة والعتاد ووسائل العنف الرّهيب وأساليبه في حرب غير متوازنة لا يملكون فيها العتاد اللاّزم بصفوف منظّمة بشكل محكم جعل قوّتها الميدانيّة أكبر. من المؤكّد أنّ هذا الدّرس المستفاد من تاريخ حرب العصابات أضحى قديما قدم هزيمة جيش نابليون في إسبانيا المعروف حتى ذلك الحين بالجيش الذي لا يُقهر"،[9] وما ذلك إلاّ بفعل ما أحرزت الإستراتيجيّات والتّكتيكات الحربيّة من تطوّر، وما أنجز في مجال العتاد واللّوجيستيك من تقدّم تقنيّ مهول. وبنفس اللّهجة أشار فانون إلى أنّ حرب العصابات التي خاضها الجزائريّون ضدّ الاحتلال الفرنسيّ من جهة، تفيد الدّرس ذاته في كيفيّة تحييد "تفوّق العدوّ" وهزيمته بعد تعطيل قدرته على امتلاك أدوات العنف واستعمالها أو إدارتها في المعركة، وتؤكّد من جهة ثانية انتصار القوّة على العنف. فقد استطاع الجزائريّون بصلابة العزيمة وقوّة التّصميم إحراز النّصر وتحقيق الاستقلال على الرّغم من نجاح الفرنسيّين في تحطيم جبهة التّحرير الوطنيّ.

لا أريد قصر الأمر هنا على عقد مثل هذه المقارنات، فهناك فقرات عديدة عند أرنديت تكشف عن ذلك التّشابه الكبير بينها وبين فانون. وما أريده بالأحرى هو توضيح:

ـ كيف أنّ البنية العامّة لحججهما تكمّل بعضها، وأنّ أرنديت برّرت العنف في بعض الظّروف.

ـ أنّ تبريرها للعنف " سيبدو أقلّ مصداقيّة بمقدار ما تبدو الأهداف المستقبليّة المتوخّاة بعيدة في الزّمن، إذ لا يماري أحد في ضرورة استعمال العنف في حالة الدّفاع المشروع عن النّفس عندما لا يكون الخطر باديًا فقطّ بل حتميًّا فتكون الغاية مبرّرة للوسيلة بجلاء".[10]

ـ أنّ ملاحظاتها حول هذا التّبرير كانت سطحيّة وناقصة لاسيما عند وضع ملاحظاتها حول تبرير العنف إلى جانب تمييزها بين التّحرّر والحرّيّة. فإذا كان التّحرّر شرطاً ضروريّاً للحرّيّات العامّة، فإنّ الكفاح من أجل التّحرّر الذي يستخدم العنف ويتضمّنه ممكن التّبرير على الأقلّ بالنّسبة لأولئك الذين ينشدون الحصول على الحرّيّة. إذ لا يقتصر التّحرّر فقطّ على تحقيق التخلّص من الجوع والسّخرة والعمل الذي لا يطاق، وإنّما يتضمّن أيضا القضاء المبرم على اضطهاد الحكومات، وطغيان الأنظمة الشّموليّة، وعلى الاحتلال الذي يستهدف تحطيم قدرة الأهالي ونهب خيرات البلد. علينا أن ندرك أنّ الثّورة تسبقها حرب التّحرير، فالثورة الأمريكيّة التي استشهدت بها أرنديت مثالًا للثّورة الحديثة، والتي قصرت هدفها على تحقيق الحرّيّات العامّة قد سبقتها حرب تحرير لازمها العنف مثل كلّ الحروب.

يسوق "معذّبو الأرض" مجموعة من الحجج التي تسعى لأن تثبت أنّ التّحرّر من الاحتلال وعنف المحتلّ لا يمكن أن يُنجَز إلاّ من خلال الكفاح المسلّح الذي تعتبره أرنديت السّبيل الممكن والوحيد لحصول المضطهدين على الحرّيّة التي تمجّدها كثيرا. وقد برّرت عند وصولها إلى نيويورك بداية الأربعينيّات في موقف تاريخيّ مختلف عنف الكفاح المسلّح داعية إلى تشكيل جيش من يهود العالم لقتال هتلر والقضاء على النّازية.[11]ويكشف التّشابه اللاّفت بين الحجج التي طوّرها كلّ من أرنديت وفانون أنّه في ظلّ ظروف تاريخيّة معيّنة يكون عنف الكفاح المسلّح مبرّراً لمقاومة العدوّ. فهناك شواهد عديدة تؤكّد أنّه لولا عنف المقاومة وكفاحها المسلّح لما بادر الفرنسيّون إلى الاعتراف بالاستقلال الجزائر لاسيما بعد أن كشفت الأوضاع عن سعي أصحاب الأقدام السّود وأنصارهم في الجيش الفرنسيّ إلى تخريب قرار ديغول بالموافقة على استقلالها بعد اتفاقات إيفان.

يبدو خطاب فانون وكأنّه احتفاء غير مقيّد بالعنف، وهو ما جعله عرضة لانتقاد شديد من قبل أرنديت. لكن ينبغي التّمييز هنا بين ما قام به "معذّبو الأرض" من دور استفزازيّ وتحريضيّ، وبين الحجّة الأساس التي يعرضها فانون على طول الكتاب في انتقاد العنف، والتي يمكن نسبتها إليه بعد أن اتّخذ نقده للعنف ثلاثة أوجه:

ـ وجه يكشف عن فهم عميق للعنف الكولونياليّ.

ـ وجه ثانٍ يعتبر النّقد ممارسة ثوريّة مطلوبة لتحطيم العنف الكولونياليّ وإنجاز التّحرّر الفعليّ.

ـ وجه ثالث يجعل النّقد دعوة إلى وضع حدود للعنف.

لقد ركّز فانون على تحليل وإدانة العنف الكولونياليّ في المقام الأوّل، وكان التّحرّر هو اهتمامه الرّئيس، ولم يكن يعني عنده التّحرّر مجرّد الاستقلال الوطنيّ فحسب، وإن كان يعتبر الاستقلال شرطا ضروريّا للتّحرّر. ففي معرض تحليله الذي غطّى معظم صفحات الكتاب يتناول معيقات التّحرّر، والطّرق التي تتمّ بها خيانة الكفاح من أجل التّحرّر، ومن هنا كان نقده للقيادات البعيدة عن هموم الشعب وتطلّعاته لاذعا، ولم تكن إدانته للبرجوازيّة التي تبنت أسوأ وجوه الذّهنيّة الكولونياليّة عديمة الفائدة.[12] قد نعثر بالكاد على تفسير معنى التّحرّر عند فانون من خلال تلميحات قليلة، لكنّها نكتشف صلته القويّة بأفق مفهوم السّلطة والحرّيّة العامّة عند أرنديت، نجد فانون يؤكّد على دور التّعليم في التّنميّة البشريّة وعلى أهمّيّة مؤسّسة الحزب كوسيلة من وسائل المجتمع الأصيلة في تكوين المواطن وتأهيله للمشاركة الفاعلة في إدارة الشّأن العامّ[13]، باعتبار أنّ الحزب ليس سلطة ولكنّه منظّمة تتطلب الحرّيّة وأقصى درجات النّشاط والمشاركة لكي يمارس المواطنون من خلالها سلطتهم وإرادتهم.[14] لم يرسم فانون صورة للمجتمع الجديد الذي يتصوّره أو يطمح إليه لأنه يرى أنّ المجتمع الذي يأمل سينشأ حتما عند تحطيم النّظام الكولونياليّ وهزيمة عنفه، لذلك نجده يتحدّث عن "إنسانيّة جديدة" وعن "تاريخ جديد للبشريّة". أمّا أرنديت فهي ترى أنّ الثّورة تعتبر بداية عهد جديد تدشّن نظاما عالميّا جديدا، وبذلك يكسر فانون كما أرنديت حلقة العنف والعنف المضادّ مادام هدف الثّورة لديهما هو الحرّيّة أو التّحرّر. ورغم تكامل الأطروحتين فإنّني لا أتصوّر إمكانيّة التّوفيق بين فانون وأرنديت، لأنّ الأوّل لم يهتمّ بتطوير حجّة شاملة حول علاقة السّلطة بالعنف وإن أثبت بالشّكل الملموس لماذا يكون النّضال المسلّح ضروريا للتّغلّب على النّظام الكولونياليّ فكان بذلك على وعي بخطورة استمرار دائرة العنف. فمن يعانون اضطهاد الاحتلال يحلمون أساساً بالتّخلص من كابوسه المذلّ والمظلم، ويسعون إلى استبداله بنظام وطنيّ ورشيد مع أنّ الاستقلال ليس هو الهدف النّهائيّ لكفاحهم لوعيهم المبكّر بخطورة هيمنة العقليّة الكولونياليّة على "القيادات المحلّيّة"، وبدورها المدمّر في استمرار العنف والإبقاء على الاحتلال بشكل مطوّر وجديد. من هنا تبدو رؤية فانون عن التّحرّر قريبة جدًّا مما أسمته أرنديت "روح الثّورة" التي تتجلّى بالحرّيّة العامّة، وهو ما يضع أرنديت موضع المصحّح لمواقف فانون خصوصا بتحذيرها من الإسراف في العنف وعدم السّعي إلى تقييده. ففي ظلّ التّاريخ الحديث الذي تميّزت كثير من وقائعه بشيوع الإساءة بتبرير العنف فإنّ التّسليم بظروف محدّدة تُبرّرُ العنف يُثير السّؤال عن تلك الإكراهات التي تبرّر استعماله وعمّن يحدّدها. ولا أعتقد أنّ هناك قاعدة أو طريقة نظريّة مجرّدة للجواب عن السّؤال: متى يكون العنف مبرّراً؟ وأسمح لنفسي بالتّشكيك في إمكانيّة الاحتكام إلى أيً حجّة تقوم دليلا على ذلك دون أن يساء استعمالها. فحتى ذريعة الدّفاع عن النّفس لا تسلم دائما من إساءة الاستعمال؛ وأقوى شاهد على ذلك هو استعمال ألإدارة الأمريكيّة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر مبرّر الدّفاع عن النّفس في ترتيب ذرائع كاذبة لشنّ العدوان خارج كلّ شرعيّة أو مشروعيّة على الشّعوب تحت مسمّى الحرب الاستباقيّة، وقد كان العراق في مقدّم تلك الدّول التي تعرّضت للعدوان، فبعدما دمّر الاحتلال الأمريكيّ جميع بنياتها التّحتيّة بحجّة امتلاك أسلحة الدّمار الشّامل، اتّضح لاحقًا كذب هذه الحجّة/المبرّر لكن بعد فوات الأوان. ومن ثمّة فإنّ تأكيد أرنديت على ما يتطلّب تبرير العنف من حكمة وحسن تمييز يُمسك بزمام الظّروف الواقعيّة الملموسة، ويقدّم أسباباً محدّدة مفيد يمكن اعتباره جوهر السّياسة من حيث هي إقناع عقليّ ينتج عن نقاش عامّ مفتوح وجدّي يسمح بتبادل الآراء حول قضايا الشّأن العامّ، ويتفحّص بدقّة وجهات النّظر المختلفة يُقَدَم لها شرحاً وتقييماً من قبل المشاركين في محاولة لاختبارها قبل اتّخاذ أيّ قرار خطير قد يتعلّق بالتورّط في العنف، وهو ما يبيّن أنّ خلق فضاء عامّ يخوّل سلطة تنتج عن المشاركة وتستند إليها مسألة حيويّة جدًّا خصوصا وأنّ تغييب المجتمع وتعطيل فاعليّته يترك المجال مفتوحًا يتحكّم به العنف والعنف المضادّ. وباعتماد هذا المنظور فإنّ تطوير فانون لحجّة سياسيّة تبرّر الكفاح المسلّح ضدّ النّظام الكولونياليّ ترك المجال مفتوحًا لإمكانيّة مواجهة الاعتراض ليس لقصور فيها ولكن بالأحرى لجدّيّتها؛ ففي الحجّة السّياسيّة لا مهرب من الاعتراف بإمكانيّة الخطأ وعدم اليقين، فبصرف النّظر عمّا تقدمه الحجّة من تبرير مقنع وقويّ يبقى من المحتمل أو المرجّح أن تكون هناك عواقب غير متوقّعه قد تتطلب مراجعة للأحكام السّياسية. وإذا ما استدعينا بنيامين هنا فإنّه سيخبرنا أنّ هناك حالات استثنائيّة قد نقرر فيها تجاهل وصيّة: "لا تقتل" لأنّه على الأشخاص كما على المجتمعات أن تواجه تلك المواقف بنفسها، وأن يأخذ الجميع على عاتقه مسؤوليّة تجاهل هذه الوصيّة. ويمكن في هذا السّياق أيضا الاستفادة من دعوة أرنديت إلى فتح نقاش عامّ، ومن تحذيرها من أنّه إذا فشلت السّياسة والسّلطة فإنّه لا يبقى للانفعالات قيود تكبح استعمال العنف.

***

د. علي رسول الربيعي

.....................

[1] Arendt.,Crises of the Republic, New York: Harcourt Brace & World, 1972, p.116.

[2] Ardith, On Voilence.p. 71.

[3] Ardith, On Voilence, p.122.

[4] Ardith, On Voilence, p.164.

[5] Arendt, Crises of the Republic, p. 164.

[6] أرنديت، في العنف، ص 56.

[7] أرنديت، حنة: في العنف ص 57

[8] أرنديت، حنة: في العنف، ص  47- 48

[9] أرنديت، حنة: في العنف ص 45 .

[10] أرنديت، حنة: في العنف ص 46 .

[11] Arendt, The Jewish Writing, New York, Schocken Book, 2007, p137.

[12] Fanon,F,. The Wretched of the Earth, trans, Richard Philcox, New York, Grove Press, 2004,P.180.

[13] Fanon,TheWretched of the Earth, p.124.

[14] Fanon,The Wretched of the Earth, p.128.

 

 

هويات علمانية حديثة

لقد بدأت هذه السلسلة بالتعبير عن شعور بعدم الارتياح تجاه ثنائية الأسود والأبيض التي تفصل بين عناصر الدين عن عناصر العلمانية. زعمت، في الجزء الأول، أن هوية الشخص يمكن أن تتشكل بطرق مختلفة؛ من خلال ثقافة رغبة غير مقيدة، وثقافة مُثُل عليًا، وثقافة قيم متعددة. وتختلف كل ثقافة عن الأخرى وقد تعارضها. وزعمت فيما يخص الهويات الدينية" أنه على الرغم من أن إحساسنا بالهوية الدينية يتشكل من ثقافة ذات مُثُل عليًا لا تضاهى، إلاأنه  توجد هويات دينية أخرى داخل كل من الثقافات المذكورة أعلاه. بعبارة أخرى، توجد أشكال مختلفة من الهوية الدينية داخل كل دين من الأديان الكبرى المعروفة، وهي في صراع محتمل مع بعضها البعض. وينطبق هذا بالقدر نفسه على الهويات العلمانية. فلكل نوع من أنواع الهوية الدينية كالمؤمن والايديلوجي والمتعصب-  التي ذكرناها  في الجزء الثاني من هذه السلسلة- نظيره العلماني.

يدعي يعض النقاد التقليديين أن الحداثة تعتمد على ثقافة ذات أفعال قاسية وعنيفة وغير مبررة  وتعبر عن رغبة بلا قيود أو محددات، قد يكون حدث ذلك فعلا لكن هي الوحيدة وأول من أطلق  هذه الثقافة ومارسها؟ وهل الثقافة الحديثة والهوية المتكونة داخلها قابلة للاختزال في ثقافة تقوم على الرغبة المطلقة؟ يعتقد هؤلاء النقاد أن حالة الالتباس التي تبدو لدي نقاد الحداثة تأتي من وصفهم لها أو تصورها بأنها ثقافة رغبة معادية للمُثل العليًا. إنهم بذلك يكررون رأيً المؤمن والمتعصب والأيديولوجي آزاء العلمانية ذات النزعة الانسانوية الحديثة. وتعبر وجهات نظرهم هذه عن مدي رفضهم أو سخطهم الشديد علي الحداثة، بوصفها المجسدة لما يعتبرونه الجحيم على الأرض، والمعبرة عن تقويض المُثُل، والمتنكرة لكل القيم. وهذا يرجع إلي تصورهم إن مُثُلهم العليًا ترتفع فوق بقية العالم هي فقط يمكنها أدعاء الارتقاء عن هذا الوحل. يقلق مسيرًي شؤن الأديان من اللحظة الكارثية التي تغرق فيها البشرية في هذا العالم وتكون مفتقرة إلى المصادر الثقافية (الدينية) للخروج منها. وأن العالم الحديث، من وجهة نظر اصحاب الهوية الدينية، هو الشكل الأكثر معاصرة لثقافة الرغبة غير المقيًدة. لكن في الحقيقة ليست الثقافة الحديثة هي الوحيدة التي يمكن أن توصف هكذا على ألأقل لو افترضنا  صحة الوصف وأنما الدينية ايضا.

فليس الحداثة وحدها من تحمل ثقافة الرغبة المطلقة. وقد قدمت نفسها كشكل من أشكال المذهب الطبيعي الذي يتشجع على الشك في المثل العليا. وهذا هو السبب في أنه إذا ما طُرحَ السؤال الرئيس بمصطلحات صارمة مثل: "هل ستطيع الله أو تتبع رغباتك الخاصة؟"، يُنظر اليها حينئذ على أنها أسرع انزلاق للإنسانية الى عالم لا قيمة له ولا يعبر إلا عن  مجرد نزعة غريزية. ونادرًا ما يُلتفت الى الجذور الروحية للحداثة التي تشبه الروحانية الدينية من قبل حتى أكثر مؤيديها المتحمسين. باختصار، تتشكل هوية علمانية حديثة داخل كل  ثقافة من الثقافات. ولا تتشكل من خلال ثقافة الرغبة الخالصة فقط ولكن من خلال ثقافة المُثل العليًا والقيًم المتعددة والخيرات المتعددة التي يغمرها مثال روحي رفيع أيضًا. هذا ما سنعمل علي توضيحه أكثر.

ما هي المثل العليا للعلمانية الحديثة؟ هناك العديد من وجهات النظر حول المُثُل العليًا للعلمانية. أشير هنا إلى واحدة منها. تطورت النظرة العلمانية الحديثة على عكس الرأي القائل بأن العالم بأسره هو تجسيد للأفكار، ويعبر عن المعنى، وله هدف شامل. إن العالم، بالنسبة لما قبل الحداثة، هو نص يجب تفسيره. ويُعرفَ العنصر الأساس أو المكون الأساس لهويتنا من خلال العلاقة بهذا الكون. وأن أسئلة الهوية لا معنى لها ما لم تتم صياغتها في علم الكونيات. لذلك، من أجل تحقيق ذاتنا، يجب أن نضعها داخل هذا الكون ذي المعنى، وتكون متصلة به، ونعرف أين نقف بالنسبة للأشياء الأخرى فيه. وقد جاءت إحدى معارضات هذا المنظور من المذهب الطبيعي الحديث كما هو معروف. وكان التحدي الرئيس الآخر هو ما يمكن أن نسميه بالنزعة الإنسانية الكانطية. تقبل هذه النزعة الإنسانية الثنائية، أيً، أن الطبيعة لا معنى لها في ذاتها، وأنها تتألف من كيانات مختلفة ترتبط ببعضها البعض بشكل احتمالي ومشروط وآلًي. وتدعي هذه النزعة بعد تجاهل الرؤية التفسيرية للطبيعة بأن أي معنى موجود في الحياة البشرية، وفي المجتمع، والتاريخ، يرجع بالكامل إلى الأفعال الواعية أو اللاواعية للبشر. فنحن الذي نضفي المعنى على المجتمع والتاريخ. لذلك، لا يجد البشر هويتهم في العالم المنفصل عنهم. لذا عليهم أن يصنعوا هويتهم الخاصة من خلال إنتاج "شبكاتهم ذات المعنى"، ومن ثقافتهم الخاصة.

ربما يكون هذا مكونًا لأيً شكل يمكن الدفاع عنه من العلمانية الحديثة ولكن تنفتح هنا عدة مسارات، يؤدي أحدها مباشرة إلى أحد المُثل العليًا  للعلمانية الحديثة، وهي الإنسانية الفائقة. تحتفل الإنسانية الفائقة بموت الإله ولكنها تخلق بدلاً من ذلك إلهًا جديدًا؛ إنه الإنسان الذي يرتقي الى مرتبة الإله. إنها تكرر بأدق التفاصيل بنية التفكير اللاهوتي. فنجد سمات الإنسان هي نفسها سمات الإله بالمعنى اللاهوتي: يمكنه تخطيط أي شيء وتنفيذه إلى حد الكمال. لا يوجد شيء لا يستطيع أن يعرفه أو يتوقعه أو يتحكم فيه؛ وأن الإنسان فقط، هو من يفعل هذا، وليس الله. قوى الإنسان الطبيعية غير محدودة. قد يصنع الإنسان التاريخ في ظروف مقيدة ليس كليًا من اختياره الآن ولكن سيأتي اليوم الذي يصنع فيه الحرية الراديكالية. يمكن ترويض كل من العمليات الطبيعية والتاريخية بشكل كامل. لذلك، فإن المثل الأعلى للعلمانية الحديثة هو خلق الإنسان بشكل مثالي فائق القدرات. الهوية الأساسية للبشر هي هوية ناتجة من ما يخلق ويبدع. ويُعرف البشر من خلال قدراتهم المتطورة على تحقيق الذات باستمرار. كل شيء له ما يبرره في خدمة هذا المثل الأعلى . يمكن للمثل الأعلى للعلمانية الحديثة أن يكون صارمًا وقاسًا مثل نظيرتها الدينية.

لكن طورت العلمانية الحديثة أيضًا قدرًا كبيرًا من الأرتياب وعدم الثقة في مثل هذه المُثل العليًا أيضًا. أنظر، على سبيل المثال، العلمانية السياسية؛ حيث يعتمد الفهم الأكثر ثباتًا لمبادئها على الفهم المسبق لما سماه تايلور "تأكيد الحياة العادية".[1] تنشأ الحاجة إلى فصل شؤون المُثل العليًا عن إدارة المصالح والقيم الدنيوية على وجه التحديد لأن لم يعد من الممكن التقليل من قيمة الوجود العادي والدنيوي. ومهما يكن الأمر، تعكس العلمانية السياسية الحديثة أيضًا الاعتراف المتردد بأن السعي المستقل وراء القيم الدنيوية لا يقل أهمية عن النضال من أجل الحصول على منافع عالم أخر. إن المعنى الضمني هنا واضح  بالنسبة لنا وهو: تخفيض المُثل العليا ورفع مستوى التعددية. يرى مادان أن العلمانية هي "هدية من المسيحية".[2] ولكن أرى حتى لو كان هذا صحيحًا، أنه قد فشل في ملاحظة إمكانات التعميم. فأعتقد أنه يمكننا إيجاد جذور ثقافية تدعم عالمية هذه القيم. إن المهم أبتعاد العلمانية الحديثة عن مخاطر المُثل العلياً. وعلى وجه التحديد المثل الأعلى الشامل لتحقيق كمال الإنسان في الشؤون العادية لهذا العالم. فالمُثًل العليًا تجلب الفوضى بقدر ما تجلبها الرغبة غير المقيدة. وأن الصراع بين المُثل العليا لا يمكن التوفيق فيه مثل الصدام بين الرغبات. لذلك، ولدت ثقافة القيم المتعددة من الاعتراف بأن جميع القيم الأساسية لا يمكن أن تتحقق بالدرجة القصوى وفي الوقت نفسه.[3]

لكن كيف تدرك العلمانية الحديثة ذلك وهي محاصرة داخل مُثُلها العليًا؟ أعتقد أنها يمكن أن تحقق ذلك من خلال استعادة جذورها الروحية، وتضمنها الكامل للنزعة الإنسانية، وفي تفكيرها في معنى الحياة بدون إلًه، ورفض الحياة العابرة للزمان والحياة الدنيوية الأخرى يعني عليها أن تتجنب تخيل الآلهة  تمامًا لا أن تستبدل الآلهة القديمة بآلهة جديدة. وهذا يعني أيضًا ادراك وأحترام حدود البشر وامكانياته والكافح بتواضع من أجل مُثُل أصغر.

إن تقبل هذه العلمانية الروحانية والإنسانية أننا لا نستطيع معرفة كل شيء والتنبؤ به والتحكم فيه. وأن هناك حدودًا لمحاولاتنا لترويض نظام الطبيعية وحتى والعمليات التاريخية؛ ولا يمكن التغلب على تلك الحالة الأحتمالية والعرضية الطارئة في الطبيعة أو التاريخ؛ وبالتالي، ستبدو بعض مناطق العالم مظلمة وغامضة وعبثية دائمًا. إن الإنسانية بعد كل شيء هي فقط ما هي عليه: فلا تتعلق النزعة الإنسانية بإيمان بإله في تصوره الديني ولا بإنسانية متفوقة عظمى – السوبرمان بتصوره العلماني العلموي. وعلى العلمانية العلمانية الروحانية أن لاتتبنى التصور المفرط للبشر كما تصورته العلمانية الأنوارية. يوجد فينا الكثير مما لم نصنعه وهو مٌعطى لنا. نحن سلبيون فيما يتعلق بجزء من الطبيعة  يقع خارجنا وداخلنا.[4] فلا يمكننا أن ننسى ما عرفه البشر منذ قرون، أي أن أولئك الذين يولدون سوف يشيخون ويموتون، أوحتى يمكننا  السيطرة على الأمراض والعجز في الشيخوخة، وليس القضاء عليها تمامًا، وبالتالي، لا يمكن هزيمة المعاناة تمامًا. يعلم العلمانيون الروحانيون أن المعاناة غالبًا ما تكون من صنع الإنسان لكنهم ينسون أن بعض المعاناة لايخلقها الإنسان.ى

وإن هذا بالضبط مايقع على عاتق الروحانية الدينية وما تعلمنا إياه : أنه يمكننا في كل شيء نفعله أن نشعر بعلاقتنا بالكون، باللانهائية؛ أن نعرف عيوبنا، وبالتالي، لا نتجاوز أنفسنا أبدًا. نتعلم بهذه الروح أنه على الرغم من أنه يمكن تسوية العديد من النزاعات البشرية، إلا أنه ليست كل الظروف ملائمة بشكل متساوٍ لحلها عن طريق العقل، وبالتالي، هناك أوقات يكون فيها التعايش مع النزاعات أفضل من السعي إلى حل قسري. إن هذا التواضع في النهاية هو الذي يعلمنا التسامح وحب التنوع. وأيًا كان ما يتضمنه خطاب الحقوق والعدالة، فإنه يعكس أيضًا هذه البصيرة الإنسانية العظيمة. أنا لا اقول أن لغة الحقوق والعدالة، المركزية جدًا في بعض اشكال العلمانية الحديثة، لها صلاحية سياقية. وأعتقد أن جميع الفضائل ذات الصلة المرتبطة بالمثل العليا يمكن تحقيقها في ثقافة ذات قيم متعددة. ليس الجذور الروحية للعلمانية الحديثة بعيدة عن كل ما له صلة  بالتعددية والتسامح الذي تحمله تعاليم الديانات العالمية الرئيسة.

لقد حاولت أن أوضح أن هناك ثقافات تغذي الهويات الدينية والعلمانية بشكل متساوٍ. اسمحوا لي أن أتحدث عن أحد الآثار الضمنية لهذه الحجة. أعتقد أنه يتبع مما قلته أنه على الرغم من أختلاف الديني والعلماني عن بعضهما في احد  المستويات، إلا أن هناك مستوى آخر يتشابهان به من الناحية البنيوية. تشترك الهوية الدينية المستنيرة بالمُثل العليًا في الكثير من القواسم المشتركة مع الهوية العلمانية التي تشكلت داخل الثقافة نفسها. ويمكن تمييز كلاهما بشكل واضح عن أي هوية شكلتها ثقافة الرغبة غير المقيدة. لذلك، فإن شكل الهوية لا يقل أهمية عن محتواها. إن الهوية الدينية والعلمانية متمايزان في مضمونهما، ولكن لايجب أن يؤدي هذا بحد ذاته إلى صراعهما. يتطور الصراع فقط عندما يفترض كلاهما أشكالًا شديدة الانقسام.

لا معنى للسؤال، "هل يمكن تصنيف الهوية الدينية في إطار الهوية الثقافية أم أنها تمتلك سمات خاصة" ما لم نحدد شكل الهوية الدينية التي نفكر فيها ونشير إلى الشكل الدقيق للهوية الثقافية التي يجب أن يتضمنها. فعن سبيل المثال، يمكن تصنيف هوية المؤمن الموحد ضمن فئة أكثر عمومية من الهوية الثقافية المستنيرة بالمثل العليا ومن هوية الإنسان الفائق. لكن لا يمكن تصنيف هوية الأيديولوجي الديني أو المتعصب ضمن أوسع فئة ممكنة للهوية التي تشكلها ثقافة المُثل العليًا. باختصار، إن الرأي القائل بأن هناك تناقضًا عميقًا دائمًا بين وجهات النظر الدينية والعلمانية للعالم هو في أفضل الأحوال وجهات نظر مضللة. إن ادعائي هو أن عدم التوافق موجود بين الأشكال المختلفة للهوية الثقافية، وهذا يشمل كل منهما الهوية الدينية والعلمانية.

إذا كان هناك أي معقولية في الآراء التي قدمتها، فيمكننا أن ننظر من جديد في بعض الأسئلة المهمة التي لا تزال تشغلنا. هل تتعارض الحداثة مع الإيمان والتعددية والتسامح ومع أساليب الحياة  التقليدية والدينية؟ هل تغرق  جميع المجتمعات بالضرورة في فوضى عديمة القيمة، وفي ثقافة الرغبة المطلقة التي يخافها المثاليون بسبب الحداثة؟ أليس من غير المألوف الادعاء بأن الحداثة قد عطلت أو همشت حياة المؤمن، وأنها أنتجت الايديلوجي الديني وشكله المرضي والمتعصب الديني الحديث معقول؟ هل تفرض علينا الحداثة حقًا الاختيار الأخلاقي الذي لا يمكن الدفاع عنه بين خيارين كلاهما غير مقبول، بين غير المبدئي، والأناني، والفاسد والأيديولوجي، المتعصب وعاشق التقليد؟

لا أنكر أن الحداثة قد أطلقت العنان لعمليات تجانس ذات نطاق وقوة تكنولوجية غير مسبوقة. ولا بد أن هذه القوة والعمليات تغيًر أي طريقة ثابته للحياة وفي كل مكان في العالم. وبقدر ما ترتبط الحداثة بالصناعة والرأسمالية، فإنها قادرة على تعطيل العقيدة التقليدية، وتعدديتها، وسلطتها. لأن هذه القوى تنتزع من الرموز الدينية القوة التي تمتلكها. وتفسح الثقة، والالتزام غير المشروط ، والتنازل الطوعي عن الأختيار، والمشاعر القوية مثل الحب الذي يحوّل الاعتقاد إلى إيمان، والقناعة تدريجيًا المجال للعقل والشك. يجب دعم الإيمان بالأدلة أو الحجج في ظل هذه الظروف المتغيرة، وعندما لا يتوفر أي منهما، على الإيمان أن يحاول الأعتماد على نفسه. لكن هذا الاعتماد على الذات يكون متذبذبا مما يجعل الإيمان دوغمائيا عدائيًا.

إذا كانت العلمانية الحديثة مليئة بأوجه القصور فأن هدفي هو أقتراح ما يولد مصادر ثقافية يمكن بواسطتها مواجهة العديد من عيوبها. وهذا غالبًا ما ينساه العديد من منتقديها. اسمحوا لي أن أضع القضية بالصوغ التالي: صحيح اتخذت الحداثة والعلمانية، في بعض الأوجه والأحيان، شكلاً مرعبًا وطائشًا. ومن الصحيح بالقدر نفسه أن بعض هذه الأمور لا مفر منها. لكن  كيف تكون استجاباتنا عندما نواجه هذه الأوضاع؟  المطلوب أن لا تكون إستجابة المرء لها أو رد فعله أزاءها إما بتهور وبشكل أعمى من خلال الانغماس في تأييد الأشكال السابقة من الأديان والتقاليد، أو الدفاع عن هذه الأخيرة  ليس ضد كل أشكال الحداثة والعلمانية السائدة حاليًا ولكن حتى السابقة منها. إن كل ما قلته هو نقاش  مباشر او غير مباشر على طرح ناندي، فأنا معجب  بطرحه عن العلمانية، ليس فقط بسبب أنه يعبر عن تركيز و ذكاء حاذق، وأنما بسبب عمقه وطرافته أيضًا. لكن عند تفكيري فيه، لا يسعني الأً الشعور بأنه على الرغم من كل عمق أفكاره وقوة طرحه العلماني و وجهة نظره المركبة والمعقدة للدين إلا أنها لا تقدم معالجة مناسبة تماما للمشكلة أو حلأً نهائيا لها. إن ناندي حساس تجاه الفروق الدينية الداخلية. لكنه يستسلم في نهاية المطاف إلى كعب أخيل لكل ناقد ومجادل قوي. باختصار، إنه يعمل باستراتيجية هجومية رتيبة وفق سلسلة من الأجراءات التي يتبعها بانتظام وبشكل ثابت: وصف الآخر بالشر المطلق وعندما يتناول الوجود البغيض لميزات مماثلة في وضع الآخر، يقول:" إن هذه آلام مؤقتة وعرضية ويمكن التخلص منها عن طريق المواجهة الحاسمة معها وهي تحصل اجباريا".

لا تحاول الاستجابة البديلة -التي أقدمها- عزل الدين عن الحداثة، أو التقاليد عن العلمانية، ولكنها تحاول أن ترى بالضبط كيف تعمل كل واحدة من هذه في ثقافات مختلفة، في تلك الرغبة غير المقيدة، والقيم المتعددة، والمثل العليا التي تتجاوز القيم المتعددة، و في الثقافة الناضجة الأخرى التي تمر عبر هذه القيم المتعددة. إن القيام بذلك هو رؤية قوة كل من الحداثة والتقاليد، والتوجهات العلمانية والدينية. إنه أيضًا رفض اتخاذ خيارات سهلة تُفرض علينا تكرارًا.

لا يزعجني إذا وجد القارئ في وجهة النظر هذه نفحة من التسوية للوصول الى تفاهم. وقد يقول:" أن هذا الحل الوسط لا يعمل". لكن هل نعرف ماذا يعمل؟ يبدو لي أن الرفض التام للحداثة ليس ممكنًا ولا مرغوبًا فيه. إن تحقيق  نمط من حداثة أخرى هو الخيار الأكثر منطقية المتاح لنا وكنت قدمت رؤية عنها.[5] أنا متأكد من أن العقل السليم بين المناهضين للعلمانية، في لحظاتهم الأقل جدلاً، يعرفون هذا بالفعل. ولكن حان الوقت لأن يقولوا ذلك بصراحة.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.......................

[1] تايلر، تشارلز، منابع الذات تكوين الهوية الحديثة، ترجمة، حيدر حاج اسماعيل،  بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 20014 ، ص 55.

[2] T.N. Madan, Non-Renunciation, New Delhi: Oxford University Press, 1987, p. 9.

[3] T.N. Madan, Non-Renunciation, p. 10.

[4] أفضل تعبير عن هذا في رأئي هو لـ:

S. Timpanaro, On Materialism, London: New Left Books, 1975.

[5]  أنظر: د. الربيعي، علي رسول، حداثات أم حداثة غربية واحدة

https://www.google.com/url?sa=t&rct=j&q=&esrc=s&source=web&cd=&cad=rja&uact=8&ved=2ahUKEwi0la68zNP7AhWQaMAKHc12Cc0QFnoECA8QAQ&url=https%3A%2F%2Fwww.almothaqaf.com%2Faqlam-3%2F951658-%25D8%25AD%25D8%25AF%25D8%25A7%25D8%25AB%25D8%25A7%25D8%25AA-%25D8%25A3%25D9%2585-%25D8%25AD%25D8%25AF%25D8%25A7%25D8%25AB%25D8%25A9-%25D8%25BA%25D8%25B1%25D8%25A8%25D9%258A%25D8%25A9-%25D9%2588%25D8%25A7%25D8%25AD%25D8%25AF%25D8%25A9%25D8%259F&usg=AOvVaw3JK9a8hAlEtAtkym8Xl7S4

 

مثّلت أفكار (فرانز فانون Frantz Fanon) الذي تمرُّ ذكرى وفاته في السادس من ديسمبر/ كانون الأول من عام 1961م إضافةً أصيلة في حقل تحليل الخطابات الاستعمارية ما بعد الكولونيالي، لاسيّما في عمله الأهم في هذا السياق: "معذَّبو الأرض" الذي استلهمت منه الحركات المناهضة للتمييز العنصري في مختلف دول العالم وعيها الثوري فكان بحق "إنجيل" تلكم الحركات الثورية، وبصفةٍ عامة فقد كانت مجمل خطابات "فانون" ملتزمةً بمنهج التحليل النفسي الذي عُدّ أحد المعارف التي طوّرها علماء الغرب، فكان لهم الصدارة في تقعيد منجزاته النظرية والتطبيقية على السواء، ومن الطبيعي أنْ توظّف آليات علم النفس – بوصفها مُحدّدات منهجية محايدة بفضل السمة الموضوعية التي تتّسم بها- في سبيل كشف التوتّرات النفسية التي يُصاب بها الفرد أو المجتمع، فكان لفانون – وهو الطبيب النفسي خرّيج جامعات فرنسا- أنْ يتحرّى تلك التوتّرات ويكشف عن أسبابها والسبل الكفيلة بمعالجتها، إلا أنّ (العيّنات) التي أرّقت فانون كانت هي الشعوب المُستعمَرة، فقد تحدى فانون النظرة الإنسانية الليبرالية الأوربية بشأن (الذات) "مُحتجًّا بأن السكان الأصليين والقبائل والجماهير والفلاحين وأمثالهم من طبقات مسحوقة، يتعرضون في الوضع الكولونيالي لعملية نزع إنسانيتهم بصورة كاملة بفعل عنف الواقع الكولونيالي وخطاباته التي تصل إلى درجة أنهم لا يبدون قادرين على الربط بين أفكارهم بالذات، ومع ذلك فلم يتخلّ عن مفهوم الذات أو المعرفة المُستعبَدة، فهو ليس مجرّد ناقد للخطاب الكولونيالي، إذ هو يُدرك أن المُستعمَر والمُستعمِر عالقان في شبكة من العلاقات؛ ومع أن المستعمَر يتمّ إسكاته فهو ليس ساكتًا بصورة كاملة، فالكولونيالية تريد لنفسها أن تكون شمولية وأساسًا لطريقة جديدة في الحياة"[1].

وللاقتراب أكثر من عمل فانون، وتبيان مقدار استفادته من معطيات علم النفس (اللاكاني) لابُدّ لنا من أنْ نبيّن أنه لم يكن ناسخًا لعمل (لاكان) بما يخصّ نظريته عن نشوء الآخر انطلاقًا من الذات، أو ما يُسمّى بـ(مرحلة المرآة)، أو ما اجترح له مصطلح (الآخر الرمزي) الذي يقصد به "أنّ (كينونة) المرء لا تتحقق إلا من خلال القدرة على (القول). لكن هذه القدرة تعتمد على استخدامك نظامًا تمثيليًّا (اللغة) يسبق وجودك. [...] وعليه فإنك حال نطقك تكون أصلاً (منطوقًا) أو (مكتوبًا) مسبقًا. وهذا الوضع يجعل (الوعي) الذاتي نفسه مخترقًا من الخارج"[2]، بل كان مضيفًا لها ومنقّحًا بعض رُؤاها، بما يتّفق والمنظور النفسي الذي اشتغل عليه فانون، إذ يرى لاكان أنّ الطفل حينما يبصر نفسه أو مرة في المرآة، فإنه يرى انعكاسًا ألطف وأكثر تناسقًا وثباتًا من نفسه. والفرد يبني نفسه مقلّدًا هذه الصورة ومعارضًا لها، أما فانون فقد توصّل إلى أنّ المرء لن يشك أبدًا أن الآخر Other الحقيقي بالنسبة للرجل الأبيض هو الرجل الأسود، وسيبقى كذلك. وبالمقابل فإنّ الرجل الأبيض فقط ينظر إلى الآخر على مستوى صورة الجسد، تمامًا على أنه ليس ذاتًا؛ فلذا كانت الصورة النمطية للأسود في منظور الأبيض هو المتّسم باللون المختلف وبقدرته على ممارسة الجنس بصورة لا محدودة، وفي المقابل تشكّلت الصورة النمطية للأبيض في منظور الأسود على أنه الآخر الذي يقوم بتحديد كل شيء مرغوب، وهذه الرغبة مغروسة في داخل بنية السلطة، وعليه كان الرجل الأبيض ليس فقط الآخر، بل هو السيد سواء كان حقيقيًّا أم متخيّلاً، وبموجب هذه المُصادرة التي ترسّخت في متخيّل الرجل الأسود، يمثّل اللون الأسود عنصرًا يقوي الذات البيضاء ويؤكّدها، في حين يفرغ اللون الأبيض الفرد الأسود من محتواه، فلا يستطيع أن يتماثل مع ذلك الذي يتم نفيه باستمرار من قبل البنية الاستعمارية العنصرية[3].

إنّ خلاصة ما توصّل إليه فانون فيما كتب وحلّل – وفق علم النفس- أنّ الخطاب الاستعماري لن يُؤمن بالمساواة، ولا بالشراكة الإنسانية في القيم العامة، وهذا ما حدّدته فرضيّته القائمة على ثنائية ضدّية لم يكن لها نصيب من الواقع العلمي شروى نقير، أما الواقع المعيش الذي فرضته الهيمنة الاستعمارية فكانت حاضنةً لتفقيس مثل هذه الثنائية، فالمُستعمِر يمثّل الخير وسُموّ المقام والرفعة الأخلاقية والتقدّم العلمي، أما المُستعمَر فيمثّل مستودعًا للشرّ والانحطاط والدونيّة والتخلّف، ولا سبيل للقاء بينهما إلا حينما يُدرج المُستعمَر تابعًا للمستعمِر، وبهذا يتمّ تعديل وضع المُستعمَر أخلاقيًّا باعتبار أنّها مكتسبة، أما فيما يخص الطبيعة البشرية، فلا سبيل إلى تعديلها، وهذا ما يُتيح للمُستعمَر – في أفضل حالاته- أنْ يكونَ عبدًا يحاول تقليد سلوك سيّده، فعبوديّته هي المانحة لقيمته، وكما يقول: "إنّ المستعمِر لا يكتفي بأنْ يصِفَ المجتمعات المُستعمَرة بأنها خالية من القيم، أو أنّها لم تعرفها قط، إنما هو يعلن أنّ السكان الأصليين لا سبيل لنفاذ الأخلاق إلى أنفسهم، وأنّ القيم لا وجود لها عندهم، بل إنّهم إنكارٌ للقيم، أو قُل إنهم أعداء القيم. فالمستعمَر بهذا المعنى هو الشرُّ المُطلق. إنه عنصرٌ مُتلِفٌ يُحطّم كل ما يقاربه، عنصرٌ مخرّبٌ يُشوّهُ كل ما له صلة بالجمال والأخلاق، إنه مستودع قوى شيطانية، إنه أداة لا وعيَ لها ولا سبيل إلى إصلاحها"[4].

ويمكن رصد مُنجز فانون المعرفي فيما يخصّ الصياغة الفلسفيّة للهويّة، بوصفها مقولةً أخذتْ بُعدًا شاسعًا في خطاب النقد الأدبي ما بعد الكولونيالي، ولأنّها تمثّل المُحدّد الذي يتمّ بوساطته تنميط كلٍّ من الذات والآخر عبر جملةٍ من المُميّزات التي ترسّم الحدود الثقافية في المخيال الجمعي للأمم والجماعات، على الرغم من كونها وسيلة من وسائل الآيديولوجيا، فهي إذن قيمة غير مُحايدة، بدليل أنّها نتاج المركز الغربي، وله الحق من دون الآخر في تثبيت هذه المعطيات القيمية أو تغييرها، بحسب الظرف التاريخي أو المكاني الذي تتحدد فيه مثل هذه المعايير، يقول فانون: "إنّ ما يُطلق عليه في كثير من الأحيان اسم الروح السوداء هو في حقيقة الأمر من صنع الإنسان الأبيض"[5]. ويظهر في هذا النص مدى الارتياب النفسي الذي أفرزته العلاقة الكولونيالية بالآخر الأسود، "حيث تُبدي التمثيلات المنشطرة لهذه العلاقة انقسام الروح والجسد الذي يُجسّد اصطناع الهوية، ذلك الانقسام الذي يطول البشرة الهشّة. السوداء والبيضاء. للسلطة الفردية والاجتماعية"[6]. ويستلهم (هومي بابا) عبر هذا النصّ الذي اقتطعه من فانون ثلاثة شروط تشكّل أساسًا لفهم سيرورة تعيين الهويّة، وهي[7]:

أولاً: أن توجد يعني أنْ تكون في علاقة مع آخريةٍ ما، وهذه السيرورة واضحة في تبادل النظرات بين المحلّي والمستوطن، ومن خلال هذا التبادل ينشأ نوع من الاستيهام الذي يخلق شعورًا بالتملّك، فالرغبة الكولونيالية يُفصح عنها في العلاقة بمكان الآخر الذي لا يمكن لذاتٍ واحدة أنْ تشغله بمفردها أو بصورة ثابتة.

ثانيًا: إنّ مكان تعيين الهوية ذاته، حيث يكون واقعًا في إسار التوتّر بين الحاجة والرغبة، هو فضاء انشطار، بمعنى أنْ تكون مختلفًا عن أولئك المختلفين بحيث تغدو مماثلاً، وهو المكان الذي يعبّر فيه اللاوعي عن شكل الآخرية، وبذا تكمن المشكلة الحدّية المتعلّقة بالهويّة الكولونيالية.

ثالثًا: إنّ مسألة تعيين الهوية ليست أبدًا مسألة تأكيد على هوية متعيّنة مسبقًا، بل إنتاج صورة للهوية وتغيير للذات باتّجاه اتخاذها تلك الصورة، وهذا يقتضي تمثيلاً للذات  في نظام الآخريّة المولّد للتباين، وبحسب فانون فإن اللحظات الأساسية لتكرار الذات تكمن في رغبة النظرة وحدود اللغة.

وقد كان صدى (فانون) ظاهرًا في منجز إدوارد سعيد، إذ اعتمده في صياغة عدّة مفاهيم نظرية تتلائم والشواهد الثقافية التي وقعت تحت مجهر نقده، ومن ذلك صياغته النظرية لمفهوم الهوية القائم على (التخالط الثقافي أو الهجنة) الذي ارتبط بالتعددية الثقافية التي تشكّل هويّة اليوم الحضارية، وبمقتضاه لا يمكن اللجوء دائمًا إلى السيطرة والعداوة، بل المشاركة وتجاوز الحدود وإلى التواريخ المشتركة والمتقاطعة، فيقول في مقدمة ترجمة أبي ديب لكتابه (الثقافة والإمبريالية): "وإنه لذو أهميةٍ خاصةٍ بالنسبة لي، كعربيٍّ وغربيٍّ، <أن ينجلي> أنّ فكرة التعددية الثقافية أو الهُجنة – التي تشكّل الأساس الحقيقي للهوية اليوم- لا تُؤدّي بالضرورة دائمًا إلى السيطرة والعداوة، بل تُؤدّي إلى المشاركة، وتجاوز الحدود، وإلى التواريخ المشتركة والمتقاطعة"[8]. ولا يخفى أنّ ما جعل سعيدًا يُكرّس هذا المفهوم، هو الواقع الثقافي الحضاري في العالم الذي يفرض – بسبب التجربة الامبراطورية- واقعًا معبّرًا عن ثقافة التجزُّؤ، وليس بينهما ثقافة منفردة نقيّة، بل كلُّها مُهجّنة ومُتخالطة إلى درجة فائقة وغير واحديّة[9].

ويكشف سعيد في كتابه (الثقافة والامبريالية) عن تأثّر فانون الفكري بمنجز (لوكاش) الناقد الماركسي، من خلال قراءة كتابه (التاريخ والوعي الطبقي) هذا الحدس يسمح لسعيد بقراءة العنف لدى فانون بوصفه التكوين الذي يهزم مادية الرجل الأبيض بوصفه فاعلاً، والرجل الأسود بوصفه هدفًا، وبحسب فانون، فالعنف يمثّل (القوة المطهّرة) التي تسمح بالثورة العرفية التي تشبه عمل الإرادة العقلية اللوكاشية التي تهزم التشظّي ومادية الذات والآخر، والحاجة لمثل هذا العنف لا تكون إلا حينما يقرر المواطن (الأصلي) أن على الاستعمار أنْ ينتهي. ويستشهد سعيد بنص فانون: "إنّ عنف النظام الكولونيالي والعنف المقابل لابن البلد يتوازنان ويستجيبان لبعضهما البعض في سيطرة متبادلة غير اعتيادية... يقوم عمل المستولي بأن يجعل أحلام التحرر غير ممكنة لابن البلد في تخيّل كل الإجراءات الممكنة لتدمير المستولي، في خطة منطقية، تنتج مانوية (ثنوية) المستولي مانوية أبناء البلد، نحو نظرية أنّ (الشر المطلق في ابن البلد) تستجيب إلى نظرية (الشر المطلق في المستولي)" ، وهذا الاستشهاد يكشف لنا فرضية سعيد عن تأثر فانون بلوكاش بخصوص مادية الفاعل والهدف، والأمر الآخر يكشف لنا أن العنف هو عمل الإرادة العقلية التي تهزم هذه المادية، وبهذا يتضح أن فانون ليس قوميًّا تبسيطيًّا يدعو إلى عنف القوة التطهيرية. وقد استلهم سعيد هذا التأثير اللوكاشي من زاويةٍ أخرى تمثّلت بأنّ فعل الإدارة الذي يهزم مادية الذات الإمبريالية هو (الرد بالكتابة) على هذه الإمبريالية الثقافية؛ لذا فإن جوهر التحرر هو الوعي وإدراك الذات الشاملة التي هي توحيد للذات والآخر، ومثل هذا الاستنتاج ممكن لأن سعيدًا يرى فانون ليس مجرد منظّر للمقاومة وتفكيك الاستعمار بل أيضًا منظّرٌ للتحرُّر[10].

ولم يكن أثر فانون منعكسًا على سعيد فحسب، بل على جملة نُقاد ما بعد الكولونيالية، ويلخص الناقد العربي صبحي حديدي في دراسة مبكرة حول (الخطاب ما بعد الكولونيالي) أثر فانون على الآخرين بقوله: إن "إدوارد سعيد جعل من فانون المدافع عن سرد التحرير المضاد الذي ينتمي إلى حقبة ما بعد الحداثة، وهومي بابا نحت من أفكار فانون معمارا نظريا لعالم ثالث ما بعد بنيوي، وعبد الرحمن جان محمد اكتشف فيه منظّرا مانويا للاستعمار والنفي المطلق، وبينيتا باري وجدت فيه برهانا ساطعا على النظرة التفاؤلية للأدب والعمل الاجتماعي، أما عند سبيفاك فقد ظهر فرانتز فانون في أصدق صوره وأكثرها بساطة وإقناعا: الطبيب النفسي الذي خرج من بين أبناء البلد لكي يحلل بعمق ونفاذ ما تعكسه تلك المرآة الرهيبة المعقدة"[11].

***

د. وسام حسين العبيدي

...............................

[1] فانون – المخيلة بعد الكولونيالية، نايجل سي. غبسون، ترجمة: خالد عايد أبو هديب، مراجعة: فايز الصُياغ، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، الدوحة – قطر، 2013م: 34 .

[2] دليل الناقد الأدبي، د.ميجان الرويلي، ود.سعد البازعي:  24 .

[3] ينظر: في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية: 150 – 151 .

[4] معذبو الأرض: 26 .

[5] موقع الثقافة: 103 نقلا عن كتاب فانون بالانكليزي (جلد أسود أقنعة بيضاء).

[6] المصدر نفسه: 103 .

[7] المصدر نفسه: 104 .

[8] الثقافة والإمبريالية، إدوارد سعيد: 10 .

[9] ينظر: نظرية التلقي أصول وتطبيقات، د. بشرى موسى صالح: 82 .

[10] ينظر: إدوارد سعيد – سيرة فكرية: 164 – 165، والثقافة والإمبريالية: 326 .

[11] الخطاب ما بعد الكولونيالي – في الأدب والنظرية النقدية، صبحي حديدي، مجلة الكرمل، ع47، 1993ص79: 79 – 80 .

المضامينُ الفكرية في البناء الاجتماعي تُمثِّل إطارًا مرجعيًّا لفهمِ المَعنى الكامن في الظواهر الثقافية الذي يُؤَثِّر على السُّلوكيات اليومية، ومصدرًا معرفيًّا لفهمِ تأثير اللغة الرمزي في عملية التفاعل بين الأفراد، التي تُؤَدِّي إلى تحليل المفاهيم الجَوهرية في العلاقات الاجتماعية، وإعادتها إلى أنويتها التاريخية الداخلية، وجُذورها الفلسفية العميقة. وفلسفةُ التاريخ هي القُوَّةُ الدافعة للمجتمع، والرافعةُ الأخلاقية للفِعل الاجتماعي المُستند إلى الوَعْي العميق والإدراكِ النابع مِن تَعَدُّد زوايا الرؤية للأحداث والوقائع، والحاضنةُ الحضارية للواقع المادي المُنبثق عن الرُّوح المَعنوية المُتَحَرِّرَة مِن الأحكام المُسْبَقَة والعُقَدِ التاريخية. وفلسفةُ التاريخ لَيْسَتْ كَينونةً هُلاميَّة، وإنَّما هي صَيرورة معنوية ومادية في حالة ولادة مُستمرة، وهذا يُساهم في تَكوين أنساق وجودية - فرديَّة وجماعيَّة - لتحليلِ مُعطيات الواقع اجتماعيًّا، وتفسيرِ إفرازات الخَيَال رمزيًّا، وتأويلِ العقل الجَمْعي لُغويًّا. والعقلُ الجَمْعي يَفهم العلاقاتِ الاجتماعية استنادًا إلى المَعنى الذي تَحْمِله.وهذا المَعنى صادر عن الشرعية التي تُمثِّلها البُنى الوظيفية في المُجتمع، التي تُحَدِّد كيفيةَ تفسيرِ فلسفة التاريخ، ورَبْطِها مع الطبيعة النَّفْسِيَّة للفرد، والماهيَّةِ الوجودية للجماعة. وكما أنَّ فهم الفرد والجماعة لا يَتِم إلا مِن خَلال الرابطة المصيرية بينهما، كذلك فهم السُّلوك والثقافة، لا يَتِم إلا مِن خلال المسار الحياتي الذي يُوحِّدهما شكلًا ومَوضوعًا.

2

مُكَوِّنَاتُ البناء الاجتماعي ناتجةٌ عن الوَعْي التاريخي بدور الفرد في تثبيت كَينونته الإنسانية في مركز السُّلطة المعرفية، التي تَقْدِر على دَمْج تاريخ المُجتمع وتاريخ الأفكار ضِمن سِياق إنتاج الخِطَاب العقلاني، الذي يُحدِّد الآلِيَّاتِ اللغوية لِتَتَبُّع آثار المعرفة في الفِعْل الاجتماعي والمسؤولية الأخلاقية. وإذا كانَ جَوْهَرُ الفِعل الاجتماعي تعبيرًا مُستمرًّا عن روابط الهَيمنة، فإنَّ جَوْهَرَ المسؤولية الأخلاقية تَجَاوُزٌ دائم لضغط الغرائز وقَسْوَةِ الأنساق الاستهلاكية.وهذا التجاوزُ الدائمُ يُولِّد تصوُّراتٍ إبداعية تُعيد بناءَ مصادر المعرفة في المُجتمع، لحماية الفرد مِن الاغتراب في اللامَعنى. وإذا كانت المعرفةُ هي رِحلةَ البَحث عن المَعنى، فإنَّ وَعْي الفرد هو بُوصلة لإيجاد الهُوِيَّة. والمِحَكُّ الحقيقيُّ هو تحديد الاتجاه الصحيح. والاتِّجَاهُ أهمُّ مِن الطريق، والخُطوةُ أهمُّ مِن الخريطة.

3

المَعنى والهُوِيَّةُ يَمنحان الفردَ القُدرةَ على التَّأمُّل في الأشياء التي اعتادَ عليها، وإعادة اكتشافها، كما يَمنحانه القُدرةَ على التمييز بين عَظَمَة الحضارة وبريقها الزائف. ويجب على الفرد أن يتجاوز نَفْسَه باستمرار كي يُؤَسِّس سُلْطَتَه الفكرية وَفْق مبادئ تَوظيف التقنية واستخدامها، ولَيس الانبهار بها والخُضوع لها. ويجب على المُجتمع أن يُمارس دَوْرَه المركزي في غَرْبَلَة التاريخ وتَمحيصه، ولَيس عِبادته وتقديسه. والفردُ ابنُ لَحْظَتِه الزمنية، وسَيِّدُ أحلامِه، وصانعُ حَيَاتِه، ولَيس خادمًا لتراكيبِ البيئة، وعناصرِ الطبيعة، ووسائلِ التقنية. وتحقيقُ الحُلْمِ الإنساني إنَّما يكون بالانعتاق مِن وَعْي الآلَةِ الوهمي، وبريقِ الحضارة الزائف. ومركزيةُ التاريخ كمشروع للخلاص تتجلَّى في اعتبار العِلْمِ وسيلةً لإنقاذ الفرد مِن مأزقه الوجودي، ولَيس أداةً للسيطرة عليه، واستعباده، والتَّحَكُّم بمساره ومصيره.

4

الفِعْلُ الاجتماعي الحقيقي (الذي يمتاز بالفاعليَّة والتفاعل معَ كِيَان المُجتمع وكَينونة الفرد)، هو الفِعْل الذي يَجمع بين المَعنى والهُوِيَّة كمنظومة وجودية مِن جِهَة، وبين المعرفة والمصلحة كطبيعة إنسانية مِن جِهة أُخْرَى. وجَوْهَرُ الفِعل الاجتماعي يَستمد شرعيته الحياتية مِن توظيف الإرادة الإنسانية لبناء شخصية الفرد، وتخليصها مِن نَقيضها الكامن فيها. ولا فائدة مِن بحث الفرد عن أحلامه وطُموحاته، إذا كانَ يَحْمِل بِذرةَ انهياره في داخله، لأنَّ هذا سَيُؤَدِّي إلى غياب التوازن بين ذاتِ الفرد كَبِنَاء إنساني، وذاتِ المُجتمع كَبُنية حضارية، فينهار الفردُ والمُجتمعُ معًا، ويَعْجِزَان عَن الاتِّحَاد في فلسفة التاريخ. وكُلُّ تاريخٍ لا غاية له إلا ذاته عِبَارةٌ عن زمن وهمي، ومكان عابر، ووَعْي زائف، فالغايةُ مِن التاريخ هي مَنح رُوحَ الإبداع للفرد، ولَيس تَحويله إلى آلةٍ ميكانيكيةٍ تَستهلك نَفْسَها بِنَفْسِها. وكُلُّ تاريخ يَحْمِله الفردُ على ظَهْرِه كَعِبْء ثقيل، إنَّما هو وَهْم يتقمَّص شخصيةَ المَاضِي وسُلْطَتَه وهُوِيَّتَه، لأنَّ التاريخَ مشروعٌ كَوْني لإنقاذ الفرد، ولَيس القضاء عَلَيه، وطاقةٌ رمزية لتحرير المُجتمع مِن أحلامه المَوؤدة، ولَيس تكريس العُقَد النَّفْسِيَّة والأحقاد القديمة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

 

من بين الأشياء التي يعرفها معظم الناس عن الزمن هو انه لا يوجد له فهم كافي، وان المشكلة تزداد سوءاً. الشاعر الانجليزي اوستن دوبسن Austin Dobson قال "الساعات الآن تهرب بسرعة كبيرة"، كان يشكو في عام 1882 من حنينه للايام التي كانت قبل الضوء الكهربائي. هو يستمر بالقول "فسحة ضئيلة لدينا لتأجيل الفنون"، مع انه كان لديه وقتا كافيا لإنتاج عدد لا يستهان به من القصائد والكتب والمقالات، رغم انشغاله لمدة 45 سنة في العمل الوظيفي. بالنسبة لبعض الفلاسفة والفيزيائيين ذوي الميول الفلسفية، يرون ان التفكير حول الزمن هو وظيفتهم اليوم، او على الاقل جزءاً منها.

ومع ان بعض القضايا التي نفكر بها هي جديدة وتقنية، ومرتبطة بالتطورات الاخيرة في الفيزياء، لكن بعضها يسهل فهمها من جانب أي فرد مستعد للتفكير الشاق حول الزمن ووجوهه المتناقضة.

ما الفرق الذي يحدثه اليوم

لنفكر مليا حول ما قمنا به يوم أمس. سنكون قادرين على تخصيص أحداث اليوم وفعالياته الى أوقات، كما لو قمنا بتسجيل كل شيء في كتاب. مقدار ما نضعه في الكتاب ومدى ارتباطه بالزمن يعتمد على قوة ذاكرتنا وعلى العوامل الاخرى المساعدة .

الآن لنفكر في اليوم، انها مسألة مختلفة كليا. انها حدوث حقيقي يحصل الآن، في زمن واقعي، كما وانت تقرأ هذه الكلمات، تيار حي ومتغير من التجربة، ليس سلسلة ثابتة من الاطر.

لغز الزمن الأقدم

المقارنة بين هاتين الرؤيتين للزمن هي جوهر أقدم الألغاز في الفلسفة والفيزياء. احدى الرؤى تنظر للزمن فقط مثلما نعيشه، عملية حية من التدفق والتغيير. (كل شيء يتدفق، حسب تعبير الفيلسوف اليوناني هيرقليطس عام 500 قبل الميلاد).

الرؤية الاخرى ترى الزمن كطريقة لوصفه في التاريخ، كسلسلة ثابتة غير متغيرة من الأحداث انتظمت في ترتيب معين. (هنا الفضل يعود لبارمنديس الفيلسوف اليوناني الذي جادل ان الوجود موحّد وبلازمن، وان التغيير مستحيل).

أي الرؤيتين أصح؟ هذه لازالت قضية للنقاش الساخن في الفلسفة، وهيرقليطس وبارمنديس كلاهما له مؤيدين معاصرين.

الفلاسفة في معسكر بارمنديس يجدون دعما قويا من الفيزياء الحديثة ، حيث يعلن الفيزيائيون انفسهم انهم يفضلون الصورة الثابتة.

الرياضي والفيزيائي الألماني هيرمان وي Hermann wey (1885-1955) أصر على ان بارمنديس كان صائبا.

ونفس الشيء، في رسالة تعزية كتبها اينشتاين الى عائلة صديق قديم ، ميشيل بيشو، هو يقول ان الماضي والحاضر والمستقبل كلها واقعية بنفس المقدار ولكن فقط من منظورنا البشري الذي يبدو فيه الماضي ضائعا. "نحن الفيزيائيون ندرك ان الفرق بين الماضي والحاضر والمستقبل هو فقط كإصرار عنيد متواصل للوهم". (الفيلسوف كارل بوبر سمى اينشتاين برمنديس الفيزياء الحديثة).

الفيزيائي النمساوي الكبير Ludwig Boltzmann (1844-1906) يحقق في فكرة ان الزمن له اتجاه: "بالنسبة للكون، اتجاها الزمن لايمكن التمييز بينهما، تماما كما في المكان لا وجود فيه لصعود ونزول".

ولكن حتى الفيزيائيين لايوجد بينهم إجماع، والبعض يشعر ان الفيزياء ضاع منها شيء. الفيزيائيون المعاصرون مثل لي سموان Lee smolin، والكوزمولوجي جورج ايلس George Ellis، يجادلان ان هناك جزء ضائع، غائب من الفيزياء ، مطابق لتدفق هيرقليطس. والفيزيائي الفلكي سر ارثر ادنكتون Sir Arthur Eddington (1882-1944)، الذي هو اول من صاغ عبارة (سهم الزمن)، ايضا اعتقد ان تجربة الانسان بالزمن توفر رؤية لخاصية الواقع التي ضاعت من رؤية اينشتاين البرمنديسية.

طريق ثالث

كلا الجانبين في هذا الجدال القديم يؤكدان وبشكل بديهي ان كلا الرؤيتين غير منسجمتين – اي ان احدى الرؤيتين فقط يمكن ان تكون صحيحة عن طبيعة الزمن. ولكن هل الامر حقا كذلك؟ هناك خيار ثالث يرى ان الرؤتين هما فقط طريقتان مختلفتان يصفان نفس الشيء. واحدة، رؤية هيرقليطس "اليوم"، هي وصف من رؤية للحظة معينة ضمن الزمن. الاخرى، رؤية برمنديس "امس"، هي وصف ليس من وجهة نظر معينة من "خارج" الزمن . لكنهما كلتاهما صحيحتان، هما مختلفتان فقط. هنا مقارنة شائعة. لو سألنا طفلا منْ هم الناس الذين يراهم في صورة عائلته المباشرة، هو سيعطينا أجوبة من وجهة نظره هو: "تلك امه، عمه، اخته الصغيرة".

الآن لنسأل شخصا لا صلة له بالعائلة، سنحصل على جواب مختلف : "ذلك زيد، اخوه علي، اخته جنان، ابنته بلقيس". هذه الاجوبة مختلفة لكن اي منها ليس خاطئا. هما ببساطة يصفان نفس الشيء من وجهة نظر مختلفة. احدهما هو وصف من داخل العائلة – في الحقيقة، من منظور معين للطفل. الآخر هو وصف من خارج العائلة. لكنهما كلاهما صحيحان. المكان هو مشابه جدا. انظر في الفرق بين رؤيتك عن جيرانك حين تقف في زاوية شارع معين، ورؤية خارطة لنفس المنطقة.

واحدة تعطي رؤية من نقطة ضمن منطقة جغرافية، الاخرى تعطي رؤية من خارج تلك المنطقة. مرة اخرى، كلا الوصفين لنفس الواقع هما مختلفان لكنهما كلاهما صحيحان.

لماذا يبدو الزمن مختلفا؟

في حالة العائلة والجيران، هم كانوا قادرين في الحركة الى الامام والى الخلف بين الرؤية من الداخل والرؤية من الخارج – بين تمثيلات منظورية وغير منظورية، كما يقول الفلاسفة. لا احد يرغب القول ان هناك تصورات مختلفة جدا للعوائل او للمكان متجسدة بهاتين الطريقتين من تمثيل هذه الاشياء. لماذا اذاً في حالة الزمن، الاختلاف جعل الناس مقيدين جدا كما لو انهم مشدودين في عقدة؟

ان الاختلاف له علاقة بالتغيير. بالنسبة للعوائل والجيران من السهل الاستفادة من رؤية ثابتة من الداخل: العلاقات الثابتة هي موقع طفل معين بالنسبة لكل شخص آخر في العائلة، او وجهة النظر الثابتة من زاوية شارع معين.

ولكن في الزمن، لايوجد مثل هذا الثبات. لو حاولت فقط عدم الحركة، انت سوف تُحمل من "الآن" الى آن آخر. او ربما انت لا تتحرك، و"الآنات" تتبع الماضي واحدا بعد الآخر. في كل الاحوال، انت تعتقد ان هناك شيء منفرد - أنت- الذي يشغل على التوالي مختلف الآنات، مختلف زوايا النظر ضمن الزمن.

هل الزمن يسير ام نحن؟

عندما نكون في قبضة هذا الوهم، اسئلة قوية تبدو ممكنة. هل حقا الزمن يتحرك ام نحن؟

الشاعر اوستن دوبسن Austin Dobson اعتقد انه عرف الجواب. أضاف قوة للفكرة، هو حوّلها الى تذكير ممتع براهنيتنا المؤقتة:

نحن خداع عيون

الناس الذين تطير أقدامهم

نحن نمر ونعتقد اننا نرى

سطح الارض الثابت يتحرك

للأسف الزمن يبقى، نحن نذهب

لاشيء يتحرك، لا الزمن ولا نحن. هاد فاوست أخذ الفكرة بجدية اكبر،

ما أعلنه هو ان لحظته التامة، مثل كل اللحظات، لها نوع من الخلود مهما حدث.

انها دائما هناك في التاريخ، صحيحة أينما تكون – لا يمكن لشاعر او فيلسوف او فيزيائي او أي قوة سحرية ان تجعلها غير ذلك.

***

حاتم حميد محسن

هيجل والجدل

يصنف دارسي فلسفة هيجل انها قامت على ثلاثة ركائز هي المنطق، والطبيعة، والروح، معتبرا الطبيعة هي (تخارج) العقل بالمكان، والروح أوالتاريخ هو تخارج العقل في الزمان.

السؤال لماذا استخدم هيجل لفظة (تخارج) بدلا من لفظة (جدل)؟

تخارج العقل مع الطبيعة هو تخارج تكامل (معرفي) وليس تضادا جدليا، فعلى قدر اعطاء العقل موجودات الطبيعة من ادراك معرفي، تقابله الطبيعة بتبادل متخارج يعمل على تطوير العقل معرفيا ايضا. التخارج المعرفي لا يقوم على مجانسة نوعية بين العقل والطبيعة بدلا من جدل غير حاصل على صعيد علاقة العقل بالطبيعة كبنية ادراكية شاملة او كموضوعات وجودية منفصلة بصفات وماهيات مختلفة. التخارج الجدلي بين العقل في ادراك تجريد التعبير اللغوي الصادر عنه هو من نوع وعي قصدي معرفي.

اما ان العقل يدرك علاقته بالاشياء جدليا فهذا يلزم العقل بتفكيره التجريدي الدخول في جدلية تجمع الفكر بالمادة المدركة في تضاد يجمع نقيضين في مجانسة نوعية واحدة لانتاج مركب ثالث. لا اعتقد جدل الفكر مع الواقع يقوم على تضاد يجمع نقيضين متجانسين بالماهية والصفات، بل يدخلان بعلاقة تخارج معرفي كما سبق وذكرنا.

هيجل علاقة الجدل بين المنطق والعقل

يصنف بعض الفلاسفة وجوب تربية الفرد وتنشئته في اعتماد منهج التفكير الادراكي الجدلي للعقل، وهو مايعزز لدى الفرد والمجتمع تنمية الوعي بالحرية المسؤولة، وتنمية ارادة الاندماج مع الدولة. ويعزز ايضا ضرورة تنمية الوعي الديني والفلسفي.

تربية العقل تربية جدلية منهجية في التفكير وفهم العالم والحياة ليست مسالة سهلة من حيث تباين واختلاف طبيعة الجدل بين الوعي القصدي الانفرادي كسلوك وبين الجدل كفلسفة عقلية لا يمكن تلقينها للفرد تربويا. كما لا يمكننا اعتبار اكتساب التفكير الجدلي يمنح صاحبه ادراك الواقع جدليا. من حيث جدل الواقع يحكمه قانون طبيعي منعزل عن تحقيق رغائب الانسان أو امكانية التداخل معه.

وسنتناول الجدل في مفهومه الفلسفي الذي هو الاخر يرتبط بالسلوك النفسي للفرد اكثر من كونه فلسفة فهم مظاهر الحياة. كون الجدل هو وعي ادراكي في فهم الحياة وفق منهج جدلي خاص بفرد لا يمكننا تلقينه تربويا للمجموع.

صحيح العقل اعدل قسمة مشتركة بين الناس في التفكير كما يصفه ديكارت لكن خاصية الجدل ليست خاصية عقلية مشتركة تجمع طبيعة تكوين غالبية عقول الناس. الجدل ليس ناتج تناقض مادي مصدره عقل الانسان وانما مصدره واقع مسيرة الحياة.

حسب فلسفة هيجل يقول (العقل بطبيعته جدليا) بمعنى ان الجدل خاصية تفكيرية بيولوجية فطرية طبيعية لا يكتسبها الفرد ولا يتعلمها من المحيط. من حيث جدل العقل هو الذي يخلق جدل الواقع والموجودات بالطبيعة ولا يكتسبه منها. وفي هذا تضاد جوهري مع مقولة ماركس ان جدل الواقع هو الذي يضفي جدله على تفكير العقل وليس العكس الذي يقول به هيجل.

ليس من المعقول منطقيا فلسفيا وحتى عضويا بيولوجيا ان نحصر خاصية العقل الاساسية انها خاصية جدلية فطرية وليست مكتسبة من الواقع. السيرورة الطبيعية في تقدم الحياة هي التي تملي على التفكير العقلي صفته المادية الجدلية او صفته المثالية المجردة.

جوهر فلسفة هيجل هو(المنطق موضوعه العقل) يلاحظ هنا كيف قلب هيجل اولوية المنطق على ثانوية العقل في وقت المنطق هو ماهية ناتجة عن تفكير العقل ولا وصاية لها عليه.. العقل لا يكون موضوعا للمنطق الذي هو ناتج تفكير العقل. ويضيف هيجل ان (المنطق هو علم العقل الموضوعي وعلم العقل الذاتي). من التبرير المسوّغ ان يكون المنطق هو علم العقل الموضوعي، اما ان يكون المنطق علم العقل الذاتي عندها يصبح المنطق سلوكا قصديا يقوم على مرجعية علم النفس السلوكي وليس على ادراك العقل لموجودات العالم الخارجي.

فالعقل غير ممكن ان يكون موضوعا لنفسه بل ان يكون العقل ادراكا ذاتيا هو في توكيد ادراك الذات له بمعيارية الاختلاف مع موضوعها.عندما يتشبث هيجل وباصرار عنيد على مثالية التفكير في تغليبه المنطق موضوعه العقل، رغم تباين الاسبقية في التقديم والتاخير بين اولوية العقل على المنطق مع اولوية المنطق على العقل. انما هو – هيجل – يعمد الى تصنيع مقولات العقل المنطقية في اسبقيتها على الواقع. المنطق نسق مهمته تفسير وفهم الحياة ولا يهتم المنطق ان يجعل موضوع تفكيره العقل.

نعود لمركزية فهم هيجل لجدلية العقل الذي يعتبرها خاصية طبيعية في ادراكه النسق الجدلي الذي يوجده تفكير العقل الجدلي في الطبيعة والاشياء القائم على طبيعة العقل الجدلية التي هي تضفي على مواضيعه الادراكية النسق الجدلي.

بمعنى جدلية العقل تسبق جدلية مواضيعه التي تنقاد له. بتوضيح اكثر يفترض هيجل انعدام الجدل في الواقع او حضوره هو الذي يحدده تفكير العقل ذو الخاصية الجدلية الطبيعية التي تملي على مدركاته الواقعية نوع من النسق الجدلي القائم على الحركة الدائمية والتطور.

معادلة اسبقية جدل العقل على جدل الواقع لدى هيجل تنعكس لدى ماركس ان جدلية الواقع الذي تحكمه الحركة الاصطراعية الذاتية المتضادة هي التي تملي على العقل جدليته الفكرية. وكلاهما لا يمتلكان تقديم اثبات ادعاءاته في ان الجدل حاصل سواء بالفكر او بالواقع.

كيف يثبت هيجل ان طبيعة العقل جدلية وليست ليبرالية في فهم الحياة؟ وكيف يثبت ماركس خارج منهج الاستقراء التنبؤي ان الجدل قانون طبيعي يحكم المادة والطبيعة خارج ارادة الانسان التداخل معه؟

الجدل من حيث هو طبيعة عقلية والجدل من حيث هو قانون يحكم المادة والتاريخ بمعزل عن تداخل ارادة الانسان به كلاهما مبني على تصورات افتراضية لا يمكن التحقق الاثباتي منها. الجدل كقانون تفسيري وضعي يختلف عن القوانين الطبيعية الثابتة التي لا يستطيع الانسان باردته المحدودة التداخل معها.

فقانون الجدل يحكم حياة الانسان العملية واقعيا ولا يحكم الجدل الطبيعة بما هي طبيعة طابعة التي هي حسب تعبير اسبينوزا هي مايكون متصورا بذاته ومحصورا بذاته.. مثلما يعجز العقل عن تغيير مباديء الرياضيات والفيزياء والكيمياء كقوانين ثابتة قابلة للتطوير لكنه اي العقل يعجز ان يفهم كل ظاهرة بالحياة والطبيعة جدليا.

الحقيقة والمنطق

يستعير فلاسفة المنطق عبارة هيجل " الحقيقة هي الكل" بمعنى فهم الحقيقة لا يكون صائبا الا اذا كان ضمن نسق تام من الترابط الحقائقي الذي لا يتقبل التجزئة على حساب تفكيك الهيكل النسقي الكلي الذي يضيع في فك ترابط أجزائه وفصلها عن بعضها البعض.

ويفرق فيلسوف المنطق "بوزانكت" أن الحقيقة لا يفهم معناها ولا تكون صائبة الا ضمن نسق منتظم يحتويها. والحقيقة لا يمكن الاستدلال عليها إلا اذا كانت ضمن نسق كلي ترابطي داخليا يجمعها بغيرها في بنية كلية واحدة. وهو منطق فلسفي صحيح جدا.

والحقيقة المنطقية هي ليست الحقيقة في المفهوم الفلسفي الذي يقوم على نسبيتها وحمولة الخطأ والصواب معا بداخلها، وحتمية إندثارها حينما تكون (درجة) في سلم مفهوم البحث الدائب عن مطلق الحقيقة الوهمي الزائف الذي لا يمكن بلوغ أزليته. ترافقها حتمية تطورها النسبي على الدوام عندما تكون حقيقة (نوعية) لا تندثر ولا تموت بل تستحدث نفسها بإستمرار.

منطق الحقيقة النسقي هو غيره مفهوم معنى الحقيقة الفلسفية، فالمنطق لا يعتبر إكتساب الحقيقة المجردة مصداقيتها كما هي في المفهوم الدارج في تطابق الفكر مع الواقع في معرفة حقيقة المادة، بمعنى آخر تطابق تعبير اللغة مع الموجود الشيئي تطابقا تاما يعطيه حقيقته المادية الصادقة.

وتأكيد هذا المنحى لدى فيلسوف منطقي مثل " بوزانكت" الذي لا ينكر وجود الوقائع الانطولوجية الشيئية منفردة مستقلة في العالم الخارجي تعبر عن نفسها في إدراكها الحسي لكنه لا يعتبرها حقائق معرفية.

الحقيقة في الشيء المنفرد المادة التي تدرك حسّيا في تطابق وجودها الخارجي مع معنى الفكر المعبّر عنها وعيا لغويا، والتي لا يحتويها نسق ترابطي من الحقائق داخليا وتكون حقيقة منفردة لوحدها. الحقيقة التي لا تشكل إنتظاما نسقيا متداخلا بغيرها لا معنى لها. لذا تكون الحقيقة التي تدركها الحواس زائفة كونها تعبر عن موجود خارجي منفصل عنها.

يعتبر فلاسفة المنطق ما أشرنا له في تعبيرنا الدارج الذي يعتبره كلا من برادلي وبوزانكت هو في مطابقة الدال مع المدلول مطابقة تامة لا تحتمل غير التاويل الوحيد المتعيّن بحقيقة الشيء.

لذا تكون مطابقة أفكارنا مع وقائع موجودية بعينها لا يمنحها حقيقتها الصادقة حسب المناطقة. كذلك حقيقة الشيء المادي المتعيّن هو ليس منطق حقيقة المفهوم الفلسفي. منطق الحقيقة الذي لا يأخذ بمبدأ الترابط في التطابق خارجيا في معناه مطابقة الفكر لما هو واقع عياني في الوجود وهو مايخص المادة كموجودات متناثرة في عالمنا الخارجي، أي هنا تلعب الحواس دورا مهما مركزيا في خلق التطابق الخارجي بين الفكر والاشياء خارجيا الذي نطلق عليه حقيقة ذلك الشيء. أما إدراك الحقيقة كمفهوم تجريدي إنما يكون في ترابطها الداخلي ضمن نسق كلي موحد.

والطعن بمبدأ الترابط الخارجي بين الفكر والمادة في تحقق تطابق المعنى الذي يخص المتعيّن الانطولوجي المادي منطقيا وليس منطق الترابط الداخلي النسقي الذي تختص به الحقيقة كنسق مفهوم تجريدي يعتمده منطق الفلسفة يقوم على أربع ركائزحسب إجتهادنا هي :

- الحواس في جوهرها الحقيقي هي تضليل العقل في معرفة حقائق الوجود النسقي. ولا يعني هذا الانسياق بالخطأ ان جميع المحسوسات التي مصدرها الحواس لاقيمة لها. لاننا بهذا الفهم الاعتباطي الساذج نلغي وجود منظومة عقلية ماهيتها التفكير وتزويدنا بالمعرفة عن عالمنا وعن موجودات الطبيعة والحياة من حولنا كافة.

- عدم تطابق حقائق الاشياء في نظام نسقي داخلي يجعل منها اجتزاءات فاقدة لجوهر تحققها المنطقي وليس تحققها الحسّي الانفرادي.فمدركات الحواس للاشياء خارجيا زائفة منحلة زائلة قياسا لمدركات الفكرالثابتة بما يخص علاقته التطابقية مع النسق الداخلي للحقيقة.

- تطابق حقائق الاشياء خارجيا لا يكافيء ترابطها الحقيقي المنطقي داخليا عندما يحتويها نسق كلي يعطيها حقيقة معناها ولا يؤخذ بترابطها الخارجي التقليدي في مطابقة الادراك عن الشيء في وجوده الانطولوجي..

- لا مجال لنكران دور العقل في التعبير عن حقائق الظواهر والاشياء في إرتباطها الداخلي مع بعضها البعض كنسق والخارجي في مطابقة معنى الفكر اللغوي مع الشيء على السواء. وكل ما لا يدركه العقل لا يمكن معرفة حقيقته الزائفة ولا الصادقة معا. وسيلتا إدراك العقل للعالم الخارجي هما الحواس والدماغ والمخيلة فقط.

المثالية بالتفكير ليست خاطئة تماما

رغم مثالية المناطقة في معرفة الحقيقة إلا أن التفسير المنطقي للحقيقة مستمد من التفكير العقلي الذي لا يقوم على انطولوجيا موجودات الواقع بل في دراسة النظام المنطقي الداخلي الذي يحتوي الحقيقة نسقا ادراكيا تصوريا تجريديا.

بهذا يكون تحليل المنطق في إنكاره علاقات الترابط الخارجية بين الوقائع وإدراكها الفكري المطابق لوجودها لا يمنح حقائق الاشياء في ترابطها بمنظومة النسق الكلي داخليا مصداقية وأرجحية على صدقية معرفة الحقيقة.

فمعرفة حقيقة المادة حسّيا عقليا لا يعني معرفة حقيقيتها الجوهرية،كذلك معرفة الحقيقة المجردة في إنتظامها النسقي المترابط داخليا لا يمنح مفهوم الحقيقة المجرد مصداقيته اليقينية. معنى دلالة الحقيقة في الوجودين المادي والمثالي لا يدرك العقل أصالتها من زيفها تماما..

منطق الحكم

يقر برادلي ومعه مناطقة المثالية معرفة الحقيقة لا تكون بإدراكها التصوري، فالتصورلا مكان له في التفكير الفعلي إلا بوصفه جزءا من (حكم) يشترط معرفة الحقيقة أن تكون نسقية مترابطة غير مجزأة الى قطوعات تنهي الهيكلية الكلية الانتظامية للترابط الحقائقي. فقد إعتبر بوزانكت حكم الادراك الحسي الخارجي المألوف تداوله يعد تعبيرا جزئيا عن الواقع في غير حقيقته. أما الحكم المنطقي والكلام لبوزنكارت فهو في تأكيد كلية الواقع في صورة شمولية عامة.

تعقيب:

- الادراك التصوري الحسّي التجريدي لاشياء العالم من حولنا هو الطريقة الوحيدة التي يتوفر عليها العقل. ولا يتوفر العقل على إدراك الحقيقة المجردة حتى لو كانت – إفتراضا – هي حلقة في منظومة نسق داخلي لا يدركه العقل مباشرة لا بالحس ولا بالحدس.

- الادراك التصوري ليس جزءا من (حكم) مثالي يعبرمن فوق الواقع، فالادراك مرحلة بدئية اولى في سلم المعرفة الحقيقية تبدأ بالحواس وتنتهي بالعقل. سواء أكان المدرك ماديا حسيا أو موضوعا متخيلا تجريديا من تداعيات تفكير الذاكرة. منظومة العقل الادراكية التي تبدأ بالحواس وتنتهي بالدماغ هي نسق منتظم بدونه لا يتحقق للعقل أي نوع من الادراك.

- الحكم على الكليّات ليس حكم حقيقة صائبة تماما بل حكم إحتمال.

- الحكم على حقائق العالم الخارجي في كليته يلغي الخصوصية الانفرادية لكل حقيقة جزئية، فمثلما يكون الاهتمام بجزء من النسق الكلي هو إنحلال لوحدته المتكاملة كذلك الحكم الشمولي هو تضييع خصوصيات الاجزاء الحقيقية.

- الحكم على الواقع يأتي من أسبقية وجوده المادي على كل تفكير، والواقع هو ما يحدد نوع الحكم وليس نوع الحكم يخلق حقائق الواقع.

- في لغة المناطقة الذي ينكرالاستدلال الكلي بدلالة الجزء، فهذا لا يبيح أن يكون الحكم المنطقي الكلي هو في إهمال خصوصيات أجزائه ضمن النسق الذي لا يعير فيه الحكم حقائق الاجزاء أدنى إهتمام في تشكيل النسق الكلي العام.

برادلي ومطلق المثالية

يطرح برادلي في كتابه (المظهر والحقيقة) عدة مفاهيم نجدها متناقضة في بعض منها:

- يعرف برادلي المظهر – ويعني به الصفات الخارجية – ليس هو الظاهري، سواء فهمنا هذا الظاهري على أنه معطى في الوعي أو أنه مقابل الشيء في ذاته، والمظهر ليس مجالا معينا للوجود أو الفكر يتميز عن أي مجال آخر.1

أود في تعقيب بسيط قبل الانتقال الى فقرة أخرى لبرادلي، أن ظواهر الاشياء ليست معطى في الوعي، بل هي معطى إدراك حسّي قبلي يتبلور لاحقا بالفكر الى وعي عقلي مجرد. إدراك الشيء لا يكافيء معنى الوعي به. الصفات الخارجية للاشياء هي ادراك حسي قبل كل شيء. وطبعا صفات الشيء أو الظاهر منه لا يشابه كما ولا يمثل الشيء بذاته. معلوم الشيء بذاته هو الماهية أو الجوهر الذي لا تدركه الحواس ولا يدركه العقل، فكيف يكون الجوهر أو الماهية معطى للوعي يكافيء وعي الصفات الخارجية لذلك الشيء.؟ ثم ومن المرجح الذي اؤيده أنا أن يكون جوهر الشيء تتقاذفه فرضيتان : الاولى لا يمكن الجزم القاطع أن الاشياء وكائنات الطبيعة الحيّة تمتلك جوهرا هو غير صفاتها الخارجية باستثناء الانسان الذي يمتلك كينونة موجودية تسبق ماهيته الجوهرية. الثانية توجد دلائل يقينية ثابتة أن الحيوان والنبات والجماد جميعها لا تمتلك ماهيات هي غير صفاتها الظاهرية الخارجية التي يدركها العقل الانساني.

- في فقرة لاحقة أخرى يناقض برادلي علاقة ظواهر الاشياء بحقيقتها قوله : المظهر هو الحقيقة المطلقة للشيء، ولا يوجد ما يعقبها، والحقيقة التي يتوزعها تقسيم العالم الى جزئي وكلي، يجعلنا ندرك حقيقة ما هو جزئي في تعميمها على ما هو كلي.. وبذلك لا يكون هناك فرق يذكر بين حقيقة نسبية واخرى مطلقة. 2

لا امتلك تعليقا إدحاضيا لما ذكره برادلي من خلط جرى توضيحه سابقا من قبلي في هذه المقالة أكثر مما ينبغي تكرار مناقشته وتوضيحه، فقط اتساءل كيف يكون المظهر(الصفات الخارجية) هو الحقيقة المطلقة للشيء الذي لا يوجد ما يعقبه.؟ ومن قال أن جزئية حقيقة شيء كافية لجعل كليته حقيقة مطلقة بدلالة مطلق الجزء الوهمي؟ المظهر هو صفات الشيء المدركة خارجيا وهي في تغيير مستمر فكيف لا يعقبها حقيقة مطلقة أخرى غيرها؟ مطلق الحقيقة وهم ركض وراءه عشرات الفلاسفة ولم يستطيعوا حتى ولو تعريفه وليس بلوغه.

أختم برأي ورد على لسان هيجل (الحقيقة هي الكل) بمعنى الحقيقة الكلية هي نسق متكامل من الصعب معرفته بدلالة معرفة الجزء. عبارة هيجل تكررت استعارتي لها مرتين في مفتتح هذه المقالة وفي نهايتها لأهميتها..

***

علي محمد اليوسف /الموصل

.....................

الهوامش:

1. امل مبروك /الفلسفة الحديثة/ ص54

2. نفسه ص 255

يعني امتلاك هوية أن يكون لديك ارتباط متكامل بمجموعة ثابته ذات صلة بمعتقدات ورغبات وأفعال. ونظرًا لأن هذه المعتقدات والرغبات والأفعال تٌبنى وتستدام اجتماعيًا، فإن الحصول على هوية مرتبط بشكل متكامل أيضًا بجميع أولئك الذين يشاركون الإطار المفاهيمي الذي يولد هذه المعتقدات والرغبات والأفعال. أن يكون لديك هوية ليس فقط أن تكون لديك لغة ولكن أيضًا مجتمع يمكن ان تندمج معه. وهو أن نعيش في عالم مشترك، عالم محدد بمفردات لغة مشتركة، يولد مجموعة معينة من التوجهات التي تدفعنا إلى التصرف بطريقة ما بدلاً من طرق أخرى. أزعم أن هذه تشكل شروطً الحد الأدنى لهوية الإنسان.

الهويات الدينية

إن ادنى إطلاع على الأديان دليل كاف على أن مفهومنا الغالب للهوية الدينية يضعها بقوة ضمن ثقافة المثل العليا. إن الحصول على هوية دينية هو امتلاك إطار أو نطاق يمكّننا من التمييز النوعي بين ما هو هام وما هو زهيد، وما هو ذو قيمة قوية أومجرد مرغوب فيه، ومتفوق وأدنى، ومقدس ومدنس، وخير أعلى وشر مطلق، ومثير للإعجاب ومزري، وماهو رائع وماهو خسيس. باختصار، مُثُلنا النهائية وعكسها، بما في ذلك ما هو مجرد شيء ممتع، أو مفيد ولكن ليس ذا أهمية دائمة وغالبة.

تبني الأديان صورتها الخاصة عن الوجود، الجحيم والنعيم، الأضطراب والتشوش، والرغبات التي تتلاشى والفوضى التي لا قيمة لها وغيرها. إن أكبر مخاوف جميع الأديان هو أن يسقط العالم في حالة من حرب الجميع ضد الجميع، وتنتهك فيها  القيم السامية. وأن فقدان الهوية الدينية هو السقوط من ثقافة المثل العليا إلى ثقافة الرغبة المطلقة.

هل هذا هو الشكل الوحيد المتاح للهوية الدينية، هوية تشكلت من مُثُل عليا في معارضة مباشرة لهوية ضعيفة وغير مستقرة مكونة من الرغبات؟ يقدم غيرتز، في كتاب صغير لامع، أختلافا مهمًا بين   المتدين الورع  واللاهوتي، وبوصف الأخير حصيلة لإدلجة الدين.[1] وكذلك، يفرق ناندي، في مقال شديد التأثير، التعصب الديني عن شكلين آخرين من الدين، الدين كإيمان والدين كإيديولوجيا.[2] ووبناء عليه، من المفترض أن هناك ثلاثة أنواع من الهويات الدينية، هوية المتعصب، والمؤمن، وأخيرًا، الأيديولوجي الديني. فيما يلي، سأحاول أولاً استكشاف هذه الأنواع الثلاثة المختلفة من الهويات الدينية. وسأضيف إلى هؤلاء ثلاثة أنواع أخرى: الدين كروحانية حية (الروحانية الدينية) ، والتدين بلا روح، وما أسميه، الدين باعتباره تقليد.

ما هي هوية المؤمن؟ ليس من المستغرب أن الإيمان مصطلح مراوغ. اعتبر فلاسفة الدين الإيمان إما أحد أشكال الأعتقاد أو الثقة أو كليهما. أو أنه مجرد شكل من الاعتقاد النظري، ومجموعة من العبارات المتعلقة بوجود الله والتي تعتبر صحيحة أو صادقة.[3] فالإيمان هو الأعتقاد بوجود الله. وهو شكل من أشكال الثقة. ولايعني أن الشخص الذي يؤمن لديه نظرية عن الله بقدر ما يثق به. إذن ليس الإيمان مسألة قناعات بل هو بالأحرى مسألة موقف وتوجه.أما بالنسبة للبراغماتيين مثل باسكال وجيمس، فإن الإيمان هو مسألة ثقة بالكامل وتقوم على التفكير الاحتمالي والعملي وليس الاستنتاجي والنظري. يبدو من الواضح  هنا أن الشخص المؤمن هو متدين ويعيش حياته يثق بالله.

لا يعني الإيمان، وفقًا لويلفريد كانتويل سميث، أن نقول عبارات عما نؤمن به يمكن أن تكون صحيحًة أو خاطئًة، وليس للتعبير عن رأي ولكن أن يكريس المرء نفسه لكل ما يؤمن به.[4] يتعلق قلبه فيه ويحبه، وينجذب إليه بقوة. المؤمن هو الذي يحب ما يؤمن به، ويكون مخلص له تمامًا، وليس ذاك الذي لديه معتقدات نظرية. أذن، تتكون شروط الحد الأدنى للهوية من معتقدات ورغبات وأفعال ذات صلة بالشخص. فتتشكل هوية الشخص المؤمن من إيمانه الراسخ الذي لا يتزعزع بوجود الله أو بإمكانية وجود عالم تحكمه مُثُل عليا. علاوة على ذلك، فهو يحب الله ويكرس نفسه للأمر الألهي أو لمثله العليًا. يعزز الإيمان الراسخ بالمثل العليًا وحبها كل منهما الآخر. وكذلك، يكون الحب والتفاني أو التقوى من المشاعر القوية التي لها سيطرة قوية على الشخص الذي يجربها أويواجهها.[5] ويكون الشخص المتدين في قبضة هذه المشاعر العارمة التي تدوم طويلاً وتؤثر عليه بعمق. هذه المشاعر هي التي تعطي سببًا ومبررا للعيش، ومعنى واتجاهًا لحياة الرجل أو المرأة المؤمنة. يختلف عالم الإيمان والحب والإخلاص هذا ويتفوق، ضمنيًا أو صريحًا عند المؤمن على العالم الدنيوي اليومي الذي تحكمه الرغبات العادية.

هل يستغرق هذا الذي اسلفنا ما يطرحه ناندي؟[6] يبدو لا، لأن الإيمان، حسب رايه، هو أسلوب حياة  وليس مسألة معتقدات وتفاني فقط. لا يقول ناندي عن هذا الأ القليل ومع ذلك يمكن تخمين رأيه  ضمنيًا. لقد قلت أعلاه أن شخصًا مؤمنًا يعني لديه معتقدات راسخة. لكن يمكن أن تعني صلابة المعتقدات شيئًا مختلفًا تمامًا عن الشحنة العاطفية المذكورة في الفقرة السابقة أيضًا. وكما أشار فيتجنشتاين، فإن صلابة المعتقدات ليست مسألة شدًة الشعور الذي يتمسك به الشخص.[7] فليس التمسك بالمعتقد هو الشعور به بقوة ولكن عندما يوجه حياة الفرد بأكملها. أن يكون لديك معتقدات راسخة هو ممارستها في الأفعال بحيث تكون هذه المعتقدات جزء طبيعي من الأفعال؛ وتتجلى في اسلوب حياتك. يقول كولاكوفسكي ما مفاده أن غاية الدين غالبًا ما تُفقد عند ما يٌعبر عنه بمصطلحات عقائدية، فليس الدين "مجموعة من الافتراضات أو القضايا ولكنه أسلوب حياة يظهر فيه الفهم والإيمان والالتزام معًا في فعل واحد".[8] إن يكون لديك إيمان، إذن، هو أن تتشكل هويتك من خلال تلك الممارسات التي ينشأ فيها الفهم والأعتقاد والالتزام معًا.

ومع ذلك، فإن ناندي يعني شيئًا أكثر من ذلك. فالدين، بالنسبة له كإيمان "ليس كتلة واحدة متجانسة ولكن متعدد عمليًا''.[9] تبدو لي هذه عبارات غامضة إلى حد ما، لكنها توضح أنه قد جعل الإيمان ليس مجرد أسلوب حياة ولكنه يتضمن عدة طرق مختلفة للحياة. وقد مضى يقول، ما لم يكن الدين محصورًا جغرافيًا وثقافيًا في منطقة صغيرة، فلديه أسلوب حياة يتحول، في الواقع، إلى اتحاد لعدد من أساليب الحياة التي ترتبط بعقيدة مشتركة لديها مساحة للتنوع في الحياة اليومية.[10]

يبدو لي أن هناك شئ من الحقيقة في قوله هذا ولكن على المرء أن يتوخى الحذر في قبوله. وذلك لأن الأديان  التوحيدية عندما ظهرت في مناطقصغيرة، فإنها تتضمن في داخلها ميلًا للانتشار. ويتوقف كل هذا على السياق والفرصة. يشير غيرتز إلى النقطة نفسها التي ذكرها ناندي ويدرك التناقضات الدائمة للإيمان الديني وهي بالنسبة له:

مهما كانت الشمولية والعالمية التي تنجح هذه التقاليد الدينية في تحقيقها، فإنها تنشأ من قدرتها على إشراك مجموعة واسعة من المفاهيم الفردية، والخصوصية، للحياة ودعم تفاصيلها والحفاظ عليها بطريقة ما. قد تكون النتيجة عندما تنجح في ذلك تشويه هذه الرؤى الشخصية في كثير من الأحيان كما قد تكون إثراء لها، ولكن على أيً حال، سواء كان تشويه للمعتقدات الخاصة أو تحسينها، فإن هذه التقاليد الدينية عادة ما تزدهر. ولكن، عندما تفشل في التعامل معها أو السيطرة عليها  فإنها إما تتحول إلى حالة من التمسك الشديد بتعاليمها، أو تتبخر إلى مثالية أو تتضائل إلى انتقائية.[11]

إن التقارب بين العديد من الأديان بقدر ما هو إثراء هو عملية تشويه. فلا ينتج عن تعميم الأديان، مهما كانت أسبابه خارجيًة أو داخليًة بالكامل، تعددية سعيدة، بل ينتج وحدة خطرة أيضًا مع كل ما يصاحبها من تشوهات للهوية. ولكن رغم هذا الحذر، علينا أن نعترف ايضًا بأن الدين يمكن أن يجسد تعددية في أساليب الحياة المحلية، وأنه بوصفه تعدديًا يحتوي على بذور التسامح. لا يمكن تشكيل مثل هذا الدين من خلال ثقافة مُبسطة ذات مُثُل عليا مع رؤية آحادية متناقضة مع الآخر، وثقافة الرغبة غير المقيدة، ولكن أنْ يشبه العالم الثقافي للقيم المتعددة. في المقابل، أنْ تعكس الهوية الدينية  هذه التعددية والتسامح التي أنتجتها، وأن توفق و تستوعب عددًا من القيم التي تبدو غير متوافقة أو متضاربة.

الدين كإيمان، إذن، هو شكل من أشكال الحب أو الثقة أو الأعتقاد أو أسلوب حياة. يمكن أن يكون متجانس أو تعددي، عام أو خاص، ومسبب للأنقسام أو التكامل. وغالبًا ما يتم وضعه بقوة داخل ثقافة ذات مُثُل عالية، ولكنه قد يشبه أيضًا إلى حد كبير شكلاً من أشكال الحياة الموجودة داخل ثقافة ذات قيم متعددة. وبالتالي، فإن الهويات التي يولدها أو يحافظ عليها متنوعة كتنوع ممثليها.

كيف يختلف الدين كإيمان عن الدين كأيديولوجيا؟ كيف تختلف هوية الأيديولوجي الديني عن هوية المؤمن؟ يقدم غيرتز لنا دليلًا ، قائلًا: بينما يخضع الشخص المتدين لدينه، فإن الأيديولوجي الديني يُخضع الدين له.[12] تبدأ ادلجة الدين عندما يبدأ اليقين في الإيمان بالتداعي أو الترنح. وعندما تضعف وترخي المشاعر القوية المؤمنة بعالم يقوم على القيم المطلقة قبضتها. وتبدأ الهوة بالظهور بين عمليات الفهم والإيمان، بين الإيمان والالتزام. وعلى حد تعبير غيرتز،"يجد الناس صعوبة في جعل الطقوس والرموز الدينية تعمل وتحق نتيجة معبرة عن ذلك الإيمان، ويصعب عليهم أكثر استخلاص المعنى والإحساس منها للتحرك  بإتجاه الحقائق العميقة التي تحدد طبيعة العقل الديني ونطاقه".[13] يبدأ الحب، والإخلاص، والثقة، وخاصيًة الرموز الدينية في إفساح المجال للشك، ولكن ليس الشك تمامًا في أن الدين مستودع للباطل والزيف والخداع والتضليل، ولكن الشك في الأسلوب أو الطريقة التي يُفترض بها  أو يصطنع حتى الآن. فما أن يصبح الدين مسألة اعتقاد نظري مثل أي معتقد آخر، حتى يُنظر إليه بشكل متزايد على أنه يقع في نطاق الأدلة واثباتاتها والحجج ومنطقها. وبمجرد أن يصبح مجموعة من القضايا والافتراضات، فقد يحتمل أن يكون، مثل أي تعبير آخر، زائفًا، وبالتالي، يصبح في مواجهة التهديد في أن يكون عقائديًا ودوغمائيا بشكل متزايد. وتكون له صفات أو سمات مشتركة مع اي معتقد آخرأولاً ثم يكتسب صفة الأيديولوجية.

وبهذه الحالة المعروضة أعلاه يفقد الأيديولوجي الديني هويته الدينية المؤمنة بالفعل. فظهور الأيديولوجيات الدينية هو أحد أعراض أزمة الإيمان الديني. لم تعد هوية الأيديولوجي الديني راسخة بقوة في المثل العليًا. فالعلاقة بين هذه المثل العليًا وممارستها قد قُطعت بالفعل. وتتجه أفعاله وتُقاد أكثر فأكثر بالرغبات والمصالح الاقتصادية أو السياسية. قد يقدم سببًا دينيًا لكل ما يفعله ولكن يعود هذا السبب في حقيقته الى الرغبات والمصالح. فحتى في حالات أدعاء أرتباط السبب الديني والمصلحي معا ويُنظر إلى المعتقدات والقيم الدينية على أنها السبب الرئيس للفعل، فغالبًا ما لا يكون هذا الارتباط من النوع الصحيح. تحوم المثل العليا فوق الأفعال البشرية التي تحددها المعتقدات والرغبات العادية. فتتشكل هوية الأيديولوجي الديني بشكل أقل في إطار المثل العليًا ولكن أكثر في الرغبة غير المقيدة. وعلى الرغم من أنها تحمل ظل هذه المٌثل إلا أنها في الواقع لا تتشكل من المثال الديني. فتعاني الهوية الدينية لمثل هذا الشخص من الأزمات.

وماذا عن المتعصب الديني؟ المتعصب هو من يقبل أن أهمية الإيمان، وربما حتى الأيديلوجية الدينية، قد تم تجاوزها وانتهت. ومن المحتمل أنه يدرك أن كلاهما قد مات ودُفن، وفي أحسن الأحوال، يمكن إحياءهما في شكل مختلف تمامًا. إنه يعيش في ظل ثقافة الرغبة غير المقيدة ويعتبر استعادة أو إنشاء نظام ديني مشروعه الأساس. ويتحدث عادة عن العودة إلى حالة الكمال الأصلية أو إلى زمن أتخذ فيه مجتمعه منعطفًا خاطئًا. إنه يختار الأسس الخالدة لدينه التي يريدها أن تحكم حياته وحياة الآخرين في المستقبل. ويحدد هويته طبقا لهذا المشروع  الذي يراه غير منجز يعد. إنه متأثر برغبة دنيوية في السلطة وإحساس مؤلم بالأذى الحقيقي أو المتخيل، وبالموقف الخاص للضحية، وبأولئك الذين تم إهمالهم، والذين لا ينتمون إلى أي نظام قائم. فبينما يعتقد الأيديولوجي بشكل جزمي أن المثل العليًا هي التي توجه عمله، نجد المتعصب متشائم من أن الدافع وراء سلوك الناس هو المصلحة الذاتية؛ ولا يثق في صدقهم أو نزاهتهم. إنه ذرائعي، وواقعي سياسيًا، وغير مقيّد في استخدامه لأي وسيلة لتحقيق هدفه المزعوم، ومتمرس في دهاء وخداع الألعاب السياسية. يبرر كل شيء باسم هدفه السياسي الأكبر المتمثل في إحياء الدين. إن التعصب والأيديولوجيا شكلان متميزان يتخذان بواسطة الدين داخل ثقافة الرغبة المطلقة.

كما وعدت أعلاه أنني سأتحدث عن ثلاثة أنواع أخرى من الهويات الدينية. أولا ما يمكن تسميته بالدين اللا روحاني وهو معروف جيدًا. فيكفي أن نقول إنه مجموعة من الممارسات الدينية التي انتزع منها الدافع الحي الأصلي. لقد أطلع الكثير منا على الظروف التي ولدت فيها البروتستانتية، والظروف السيئة التي دفعت إلى محاولة إجراء إصلاحات محدودة أومعتدلة في الإسلام مع من قبل الإصلاحية الإسلامية في القرن التاسع عشر.

يبقى في التدين اللا روحاني، سواء في تنوعه الديني أو الطقسي، الجسد ولكن الروح الأصلية قد تلاشت.  ضاعت في مما أسميه بالدين كتقليد كل من البنية الأصلية والقصد والهدف، ويسكن تقليد ضعيف جدا و سيئ للغاية للدافع الأصلي في مجموعة جديدة تمامًا من الممارسات. وكما يقول جيمسون، فإن التقليد للدين أو الهوية اللاروحانية في عملها عبارة عن محاكاة ساخرة فارغة.[14]  فالتقليد في الدين هو نسخة عن الأصل لكن فارغة، تحمل علامات الأصطناع والزيف. وعندما يزدهر التقليد ينسى الناس ما يعنيه أن تكون لديهم تجربة دينية أو حتى ذكرى لها. لم يعد لديهم أي فكرة عما يسعون إلى تقليده. إذن، هو تقليد للدين في شكل ثقيل ومجهد للسمة المتخيلة للأصل. أنه جزء من الحنين العام للأشياء الماضية، الحنين الذي يحاول إعادة الذاكرة لما فعله أجدادنا. المتعصب لديه منظور غائي (أيً، منظور ينطوي على تفسير الظواهر من حيث الغرض الذي تخدمه بدلاً من السبب الذي نشأت من خلاله). إنه يريد أن يأتي بشيء ما بأستخدام أكثر الوسائل المتاحة له فعاليًة. ان أولئك الذين لديهم ميل للدين المٌقلد أو تدين مٌقلد لديهم منظور للتعبير عن الذات؛ فهم أشخاص يبحثون عن هوية دينية تكتفي  بالتقليد الفارغ.

يقودني هذا إلى تناول الدين باعتباره روحانية حية. يختلف الدين هنا عن كل من الميتافيزيقيا والأخلاق، عن التخمين (أيً، تشكيل نظرية بدون دليل قاطع) والتطبيق العملي. إن المقصد الأسنى في الميتافيزيقيا والأخلاق له موضوع الدين نفسه، أي الكون وعلاقته بالإنسان، لكن بينما التطبيق العملي لهما هو فن وعلم، فإن "الدين هو الإحساس وتذوق اللانهائي".[15] ليس جوهر الدين- الروحاني هنا- " التفكير ولا التصرف بل الحدس والشعور".[16] فيأتي إفساد الدين – من وجهة النظر الروحانية-  من إغراقه بالفلسفة ووضعه قسرًا في نظام فكري. ويتشتت الدين عندما يفترض كوقائع أو يوضع كوقائع أو كاساس  لححج الجدال والبرهان التي تحدد طبيعة الأشياء، ويفقد نفسه اذا وضعَ في مصفوفات لانهائية من الأسباب والاستنتاجات، أو البحث عن الأسباب النهائية، أو التعبير  بهذه الطريقة عن الحقائق الأبدية.[17] كما أنه ينحرف عندما يحدد أنظمة الواجبات والأوامر ويمنع التصرف بأوامرسلطة مطلقة.[18] إن التحول الطائش للدين إلى ميتافيزيقيا وأخلاق مسؤول، طبقًا لهذا المنظور، عن الحقد والاضطهاد، وعن تدمير المجتمع، وجعل الدم يسيل كالأنهار.[19]

الدين هو الحدس القائل بأن اللانهائي يرافق الشعور المحدود والقوي، المباشر والفوري بأن العالم البشري ليس منفصلاً عن بقية الكون. إن التركيز على الشعور بالفورية وعلى المرافقة أمر بالغ الأهمية، من هذا المنظور. تفصل الفورية الدين عن المنطق، وعن العقلانية، وتفصله المرافقة عن السببية. يجب أن يصاحب هذا الشعور الغامر والمثير للقلق، على راي شلايرماخر، كل عمل بشري. وأن نفعل كل شيء مع الدين، لا شيء بسببه أو من أجله.[20] يجب أن تمنع المشاعر الدينية، بحكم طبيعتها ، قوة أفعالنا وتدعونا إلى الهدوء والتمتع المتفاني بالولاء والنزاهة.

إن الدافع إلى السلطة أو التوحيد المنتظم هو الذي يولد التعصب ، لكن الشخص الذي يتمتع بـ: الإحساس الحي بالروحانية يرى دينه كجزء من الكل فقط ويعرف أنه " فيما يتعلق بالأشياء نفسها التي تؤثر عليه دينياً، هناك آراء بنفس القدر من التقوى ومع ذلك، تختلف تمامًا عن آراءه، وتتدفق منها عناصر أخرى من الحدوس والمشاعر الدينية، التي قد يفتقر اليها تمامًا".[21] يعلم الدين التواضع والحياء والتسامح الودود، مثل " روما القديمة، تقية ومتدينة بأسلوب نبيل؛ كانت مضيافًة لكل إله ولذا أصبح مليئة بالآلهة".[22]

الشخص الذي يحمل مثل هذه الهوية الدينية هو شخص متسامح. لديه علاقة واقعية بمثله الأعلى ويعيش حياته بإحساس دائم بحضوره. يتشكل الشخص مع هذا المفهوم للدين من خلال ثقافة التعددية المشبعة بالاحساس بالمثل الأعلى؛ وبالحد الأدنى من المثالية العالية المصاحبة لعالم متعدد القيم.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

....................

[1]  Clifford Geertz, Islam Observed, Chicago: University of Chicago Press,1971, pp. 18, 61.

[2] Ashis Nandy, 'The Politics of Secularism and the Recovery of Religious Tolerance', in Veena Das(ed.), Mirrors of Violence, New Delhi: Oxford University Press, 1990, pp. 69- 93.

[3] أنظر:

Richard Swinburne, Faith and Reason, Oxford: Clarendon Press, 1981, chapter 4.

[4] أنظر:

Terence Penelhum (ed.), Faith, New York: Macmillan, and London: Collier, 1989, p. 11 ('Introduction').

[5] راجع القسم القصير ولكن الممتاز عن المشاعر في:

Jon Eister, Nuts and Bolts in the Social Sciences, Cambridge: Cambridge University Press, 1989,

pp. 61-70.

[6] Nandy, 'The Politics of Secularism and the Recovery of Religious Tolerance', in Das (ed.), Mirrors of Violence

[7] مقتبس من:

J.L. Mackie, The Miracle of Theism, Oxford: Clarendon Press,1982, p. 218.

[8]  Kolakowski, Religion, London: Fontana, 1982, p. 218.

[9] التسامح في:

Nandy, 'The Politics of Secularism and the Recovery of Religious Tolerance', in Das (ed.), Mirrors of Violence, p. 70.

Nandy, 'The Politics of Secularism and the Recovery of Religious Tolerance', p. 70.

[10]Nandy, 'The Politics of Secularism and the Recovery of Religious Tolerance',102.

[11] Geertz, Islam Observed, pp. 14, 48

[12]   Geertz, Islam Observed, p. 61.

[13]  Geertz, Islam Observed, p. 102.

[14]    Jameson, 'Post Modernism and Consumer Society', in H. Foster (ed.), The Anti-Aesthetic, Washington: Bay Press, 1983, p. 114.

[15]  Schleiermacher, Friedrich, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers, translated by Richard Crouter, Cambridge: Cambridge University Press, 1998, p. 103.

[16] Schleiermacher, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers,  p. 102.

[17] Schleiermacher, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers,  p. 98.

[18]   Schleiermacher, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers,  p.102.

[19]   Schleiermacher, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers, p.108.

[20] Schleiermacher, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers,  p.110.

[21]  Schleiermacher, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers, p.108.

[22]   Schleiermacher, On Religion: Speeches to Its Cultured Despisers, p.108.

1. لغة العقل: العقل هو تعبير اللغة عن معنى الوجود وليس هناك وجود يدركه العقل صوريا تمثّليا لا تحضره وسيلة اللغة في التعبير عنه. ولا يوجد ادراك تصوّري عقلي لشيء يتم بلا  تعبّير اللغة عنه. تعبير اللغة عن الاشياء هو الوعي بها. .

كي نفهم حقيقة العقل علينا التسليم بخاصيته الجوهرية التي هي ماهية التفكير وعي قصدي ولا يعقل العقل ما لا معنى له كما لا تستطيع اللغة التعبير عن شيء او موضوع لا يدرك العقل معناه لغويا..لا يوجد وعي عقلي بشيء لا يدركه العقل.

هل ندرك الشيء تفكيرا بلغة ابجدية صوتية ام بلغة صامتة؟  الحقيقة هي كلا التفكيرين  ابجدية تعبيرية واحدة لغوية يحكمها الصوت ودلالة المعنى.. اللغة صوت ذو معنى.

كل موجود في الطبيعة والعالم الخارجي ما لم تحتويه(تحتوه) اللغة الصورية لا يدركه العقل ولا يعيه. ادراكات الحواس هي احساسات لغوية ينقلها الذهن للعقل لذا تكون انطباعات حسيّة تعيها اللغة ماديا. كل موجود ادراكه العقلي لغة.

 قلت بدءا العقل تفكير لغوي بينما ذهب سيلارزفيلسوف اللغة والعقل الامريكي قوله (الوجود لغة) اروع إختزال فلسفي تعبيري.

 واضيف انا العقل وجود لغوي ولا معنى لوجود لاتعبّر عنه اللغة. العقل ماهيته التفكير اللغوي المجرد سواء اكان مصدر ادراكاته تكوينه البيولوجي او سواء اكانت مرجعيته انه جوهر ماهيته تجريد مستقل في تعبيره اللغوي عن مدركاته. في نفس الوقت الذي قال به هيجل الوجود هو الله وهي فكرة معناها هوية الله..هنا هيجل يتناول مذهب وحدة الوجود والاقرار به ميتافيزيقا يرغبها اسبينوزا ولا يؤمن بها هيجل رغم تعبيره عنها.

واجد ان هذه التعبيرات الثلاث واحدة في التعبير عن مفهوم واحد متداخل غير منفصل. وثلاثتها تعبيرات صحيحة عن حقيقة فلسفية واحدة هي كل تفكير عقلي هو لغة.

 العقل هو لغة لمعنى الوجود وليس هناك وجود يدركه العقل لا تحضره اللغة تصوّريا ولا يوجد ادراك عقلي لشيء لا تعبّر عنه اللغة. حتى في حالات الصمت والاستذكار والخيالات جميعها تعبيرات تتوّسل اللغة.

2. اللغة بين الذات العملية والدين:

 صحيح جدا ان الذات كخاصية انسانية يحتويها الديني ميتافيزيقيا, عندها تصبح الذات واقعا ماديا هامشيا في العمل المنتج الذي يمثل سلطة النفوذ المالي وملكية وسائل الانتاج. . لكن الاهم ان الذات تكتسب وعيها الطبيعي للاشياء سواء اكانت تحت وصاية الدين او تحت وصاية تسلط راس المال ووسائل الانتاج. وعي الذات هو وعي قصدي ضمن نوع مجتمعي يجانسها الاستيعاب والاحتواء المنتج.

الذات لا يمكنها الانفصال عن الحياة والوجود المجتمعي في اسوأ الظروف والمراحل. وفي هذه الخاصيّة تتجنب الذات السقوط في الاغتراب بمضمونه السلبي في فقدان الانسان جوهر وجوده الاندماجي ضمن مجتمع.

الاغتراب الانعزالي الايجابي هو وعي قصدي محسوب البداية ومحسوب الوصول الى نهاية وهو ميزة غالبية الفلاسفة والعلماء والمتميزين في كتابة الاجناس الادبية. اما الانعزال بمعنى الاغتراب المرضي فيكون غير منتج محبط نفسيا وادراكيا ولا يعيش مجتمعه باغتراب ذاته..

3. الذات بين الطبيعة والدين:

لا تحقق الذات موجوديتها في ارتباطها بالديني الذي يحتويها في علاقة دائمية وحسب. بل تحقق الذات وجودها الانطولوجي السلوكي بالمغايرة الوجودية مع غيرها من غير وحدة تشابه المجانسة النوعية بين الذات وموجودات الطبيعة. والا اصبحت الذات موجودة في كل شيء تكوينيا وليست وعيا تجريديا في فهم موجودات الحياة وتكويناتها وعلاقاتها البينية مع بعضها.

ثنائية الذات مع الروح والزمن هي علاقة يجمعها ميتافيزيقا المطلق ويفصلهما فقدان الانسان لحياتة بالممات. ولا يوجد ماهو روحي خالد ولا ماهو زمني غير ازلي خالد بفناء الانسان. فناء الانسان الارضي مدرك عقليا ميتافيزيقيا بخلاف ازلية الزمان فهي حقيقة غير مدركة عقليا بل تصورا ميتافيزيقيا فقط.

كما هي الذات وجود متحقق بوعي العقل الا انها تفقد انطولوجيتها الحسية والادراكية في نهاية الانسان بالموت. مثلما لا يستطيع الانسان إثبات وجود الروح بالجسم قبل الممات فهو اعجز أكثر عندما يبحث عن مصير الروح التي غادرت الجسد بعد الممات.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

بعد النمو الانفجاري في التفكير البيئي، اصبحت فكرة الاعتمادية المتبادلة شائعة في كل مكان من العالم. اساس الفكرة هو اننا بطريقة ما "مترابطون بشكل دائم"مع بعضنا البعض، ومع الكائنات الحية الاخرى والبيئة بشكليها المادي والرقمي. ما يشار اليه ضمنا هنا ان فكرة الترابط هي شيء جيد وجميل. كوننا في ارتباط يجعلنا أقوى وأكثر صحة وأشد تفاعلا. لكن هناك تحت هذه الفكرة الايجابية تختبئ رؤية مظلمة – وهي ان كوننا مترابطين بشكل وثيق يمثل رعبا وجوديا. كونك مرتبط بالمعنى القوي للارتباط بالآخر،يهدد ما يجب ان تكون عليه الذات وما يعني ان يكون عليه الفرد. هذا الجانب المظلم من الترابط المتبادل ينكشف عندما نرى ان ذلك الترابط يعني أكثر من مجرد ارتباط.

الشكل الأول: الرؤية المتفائلة

العديد من النظريات الايكولوجية والاجتماعية ترى ان التفكير العلائقي له تأثير على فهم طبيعة وقيمة الذات الفردية. فمثلا، لو نظرنا للافراد مترابطين، عندئذ سيصبح تقييم الآخرين شرطا ضروريا لتقييم الفرد بالذات. هذا التفكير هو في لب المشاريع النسوية التي تسعى للتوفيق بين ما كان يُرى كمشاريع "ذكورية" للاستقلالية والهوية والفردية من جهة والمشاريع النسوية الأكثر علائقية وترابطا.التفكير حول الفرد يأخذ على الأقل ثلاثة أشكال رئيسية.

 الشكل الاول هو الفردية القوية.

 هذه الرؤية تؤمن ان الافراد يشبهون كرات البليارد: منعزلين، منفصلين وكيانات قائمة بذاتها،يقف بعضها مقابل البعض الآخر. هذه الرؤية كانت سائدة خصيصا في التيار الرئيسي للفلسفة الغربية، الذي مال لتمجيد القدرة على اتخاذ القرارات العقلانية المستقلة فوق كل القدرات الانسانية الاخرى. هذه الفردانية تسللت الى فهمنا للكائنات الاخرى ايضا. انها مكنّتنا للاعتقاد اننا نستطيع فهم أي كائن حي فقط عبر عزله وفحص وظائفه الداخلية.الفردانية القوية جرى تحدّيها بانتظام وعلى نطاق واسع.

الشكل الثاني: العلاقات التأسيسية

 هذه الرؤية للفرد حسب الابستيمولوجيين النسويين امثال انيت باير،اني دونشن،جون كرستمن، تدافع عن الدور التأسيسي الذي تلعبه العلاقات الاجتماعية في تأطير ما نحن عليه وما نعرفه حول العالم. طبقا لهذه الرؤية، نحن كافراد نعتمد بطريقة ما على علاقاتنا الاجتماعية. واذا كانت العلاقات الاجتماعية تأسيسية لطبيعة الكائن الحي، عندئذ فان أي كائن يدخل في علاقة اجتماعية ينطبع بتلك العلاقات. لا توجد حيوانات مثل البشر تتكون وتتحدد بعلاقاتها الاجتماعية.

 الشكل الثالث: الرؤية البيئية

هذا الشكل من التفكير حول الفرد ينظر وراء الترابطات الاجتماعية وبعمومية اكثر الى الترابطات البيئية. واذا كانت الاعتمادية المتبادلة كانت يُنظر اليها في الأصل كعلاقات اجتماعية، فان التفكير العلائقي البيئي كان له وجود طويل ومستمر.

مثالان، احدهما خارجي والثاني داخلي، سيكون لهما دور توضيحي هنا. الايكولوجي والموسيقي بيرني كراش Bernie Krause ينقل قصة عن مجموعة من الفيلة في الملاوي،في مكان يسمى سنغاباي. الخصائص الجيولوجية في منطقة باي مكنت المجموعة من تطوير لهجة خاصة بها عبر دمج أصداء من جدران الجرف الصخري ضمن اتصالاتها. طبقا لكراش، فرادة بيئة المجموعة تعني انه لا جماعة اخرى من الفيلة على الارض تشترك بهذه اللهجة. اذا كانت العلاقات الاجتماعية والبيئية خارجية، فان العلاقات الميكروبية داخلية. الاجساد الانسانية مصنوعة من خلايا وأجزاء ميكروبية بكميات متساوية تقريبا. العلاقات الوثيقة بين كل فرد وميكروباته تجعل هناك امكانية للقدرات الفسيلوجية التي ليست نتاجا لتطور كائن انساني،ان تؤثر على نحافة او بدانة الاشخاص.

الايكولوجيون الميكروبيون حتى عندما يعترفون بعلاقات الاعتمادية، فان لغتهم تؤيد الفردية في التمييز بين جسم الانسان والميكروبات التي تعيش فيه او فوقه. هنا رؤية لكينونتين متميزتين، "لفردين" اثنين  يعملان مجتمعان نحو غاية مشتركة وهي الصحة .

في ضوء كل ما تقدم نستطيع القول ان الفرد الانساني يتشكل بالعلاقات بين ميكروباته وبنائه الخلوي، بالاضافة الى علاقاته الخارجية الاجتماعية و البيئية. نحن معتمدون على ارتباطاتنا. هناك جمال في هذه الرؤية الايجابية للاعتمادية الايكولوجية. انها تتحدى الفردية الانعزالية للحداثة الغربية بينما تحافظ على الهوية والفرادة. انها تعكس ارتباط عميق بالعالم الحي حولنا،تحدد وتحافظ على منْ نحن. بفضل هذه الرؤية، نستطيع امتلاك علاقاتنا وإنهائها ايضا.

الترابط ليس اعتمادية متبادلة

رغم اننا نرتاح في كوننا مترابطين interconnected بقوة في هذه الطريقة، لكن الاعتمادية المتبادلة interdependence تعني اننا بطريقة او باخرى معتمدون . ومع استمرار الثقافة الايكولوجية في التطور من خلال التحقيق العلمي والتقدم التكنلوجي، فهي بشكل متزايد تقبل ليس فقط علاقات الاعتمادية التي نحن مرتاحون بها سلفا، وانما ايضا علاقاتنا الاعتمادية المتبادلة. وكلما اعترفنا اكثر بالفرق بين الترابط والاعتمادية ، كلما اصبحنا غير مرتاحين. الاختلافات تتحدى ما تسميه الفيلسوفة لوران كود Lorraine Code بخيالنا الاجتماعي. العلاقات الاعتمادية هي تلك التي تربط فردين متميزين الى بعضهما. عندما تحدّث المفكرون النسويون عن "علاقات اجتماعية تأسيسية"، هم تركوا ضمنا الافتراض بان الفرد يقف وحيدا. نعم الافراد يتفاعلون ويؤثرون على آخرين ، ولكن لايزالون يشبهون كثيرا كرات البليارد في الفردية القوية.

الاعتمادية المتبادلة تعرض منظورا مختلفا جدا، تدعونا للتفكير بان وجودنا ذاته يعتمد على علاقات معينة. هذا هو الخوف الذي تعرب عنه البايولوجية كريتي شارم Kriti Sharma في مقدمة كتابها اللامع (الاعتمادية المتبادلة،2015)، مجادلة بانه رغم ان المصطلح استُعمل في عدد هائل من الطرق، لكنه بالاساس يدور حول هذا السؤال الوجودي  - حول ماذا أكون.

تعتقد شارما ان فهم الاعتمادية المتبادلة يتطلب تحولين اثنين متميزين في خيالنا الاجتماعي. الاول هي تصفه كـ حركة"بسيطة" من النظر الى الاشياء في عزلة الى النظر الى الاشياء في تفاعل. هذا التحول هو محبوب، ربما اول ما اتخذه المفكرون النسويون في تحدي الفردية القوية، والآن يتم تبنّيه تقريبا من جانب كل فرد. من الصعب تصور فيلسوف قادر على تجاهل الدليل الواسع والمقنع في الطرق التي نعمل بها في التفاعل بدلا من العزلة. المثال الرئيسي على هذا هو عمل علم النفس الاخلاقي الذي قلب جذريا الرؤية التقليدية في الاخلاق التي تفضل كثيرا العقل على حساب العواطف.

اذا كان التحول الاول للكاتبة مرغوب، فان الثاني اكثر أهمية. هي تدعو للتحرك من النظر الى الاشياء في تفاعل الى النظر الى الاشياء كمتأسسة بشكل متبادل. بهذا هي تعني ان الاشياء توجد دائما فقط نتيجة لإعتماديتها التبادلية.

الرؤية المظلمة

التحول الأول هو سهل من حيث المقارنة لأنه لا يطلب منا ان نغير رؤيتنا للعالم. لكن التحول الثاني يشير لمشكلة غير مريحة  وهي مشكلة قديمة: كيف يمكن لهوية شيء ما ان تعتمد على علاقات تأسيسية اما في الداخل او في الخارج؟ الفيلسوف اليوناني بلوتارخس plutarch عرض مشكلة كهذه في حكايته عن سفينة ثيسوس. طبقا له، بعد ان رجع ثيسوس بعد ذبح الوحش،احتفظ الاثنيون بسفينته لتنير الأجيال القادمة. هم بانتظام اخذوا منها الالواح القديمة والمسامير الصدئة واستبدلوها باخرى جديدة وقوية حتى لم يتبق أي شيء من السفينة . فهل لازالت السفينة أصلية؟ ان لم تكن كذلك، متى تتوقف عن ان تكون سفينة اصلية؟ بلوراش يصف هذا المثال الذي أورده الفلاسفة ، بعضهم اعتقد ان السفينة بقيت كما هي، آخرون عارضوا ذلك. (يجب الاشارة الى ان جميع المواد الخلوية في أجسامنا هي ايضا تُستبدل كليا في كل سبع سنوات).

الاعتمادية المتبادلة تفتح امكانية التغيير الراديكالي في الأنظمة المترابطة ديناميكيا بطريقة مشابهة، لأن تلك التي نرتبط بها بشكل متبادل هي ذاتها تتغير. التحولات الراديكالية في علاقاتنا – الاجتماعية والبيئية وحتى الميكروبية – تغيّرنا جذريا. لكن هذا يعني ان الذات المستقرة المعزولة ربما ليست اكثر من خيال نافع. هناك حالة ظلام . العلاقات التي نأخذها ابتداءً كأساس لبنائنا،لكي تساعد في خياراتنا الحرة وذات القيمة الاخلاقية، هي بدلا من ذلك تجعلنا مشروطين كليا، معتمدين تماما في هويتنا على العالم المتحول حولنا. لو نقبل اننا معتمدين في علاقاتنا، هذا يُضعف مفاهيم الذات والفرد والهوية التي تأسسنا عليها. واخيرا ماذا تبقى؟ ماذا لو لم يكن هناك أي شيء ابدا كشيء يجب ان يكون فردا مستقلا وحرا ؟ الوجودية قامت على هذا النوع من الرعب: سارتر نظر اليها اولاً في جذور شجرة الكستناء، وشعر بالغثيان في كونه غير مرحب به.

ما نقوله ان التحول المفاهيمي من الارتباط الى الاعتمادية يحوّل الطرق التي نتصور بها ما يجب ان يكون عليه الفرد، و الذات، ونتيجة هذا التحول هو تتابع في التأثيرات العملية التي لا نستطيع نتوقعها جيدا لكن نستطيع فقط نتصورها كرعب.عالم تتآكل فيه فكرة الفرد التي ترسخ احترام الاستقلالية. أي شخص سيرغب بهذا العالم الجديد الشجاع؟

الجانب المظلم للاعتمادية المتبادلة يستلهم كثيرا من البايولوجيا الناشئة. اذا كان البعض يرى العلاقات المتبادلة  والتفاعلية، هناك آخرون يرون انحلال الذات و علم الطفيليات. لو ترافق هذا مع مخاوف الفردية الناجمة من التكنلوجيا الرقمية فان الصورة تبدو اكثر ظلاما. لم تعد الذات بطريقة ما معزولة وداخلية ومستقرة، وانما بدلا من ذلك هي ديناميكية و ومعلنة وخارجية – اُبلغت واصطبغت بتكنلوجيات هائلة تسيطر علينا بشكل متزايد بطرق صريحة وضمنية، ابستمية وأخلاقية. نحن نمدد ذاتنا بطرق لانفهمها تماما، من خلال شبكات التواصل الاجتماعي التي تخبرنا اننا نحتاج الكثير من الأصدقاء ، ومن خلال البنوك البايولوجية التي تجعلنا نعتقد اننا نحتاج معرفة تاريخنا الوراثي، ومن خلال أسواق الاستهلاك التي تخبرنا عن ماذا نريد ومتى نريد.

هذه التمددات توعد (وفق الرؤية الايجابية) وتهدد (وفق الرؤية السلبية) باعادة صياغتنا وإعادة تكويننا وتأسيسنا. لو نظرنا الى هذه التحديات للذات كتحديات للترابط،عندئذ نحن نحافظ على اساس في الفرد، مركز في شبكة الارتباطات. عندما يُرى الفرد كمعتمد حقا على علاقاته، فان تحوّلا سريعا في طبيعة تلك العلاقات يمكن ان يحوّل راديكاليا ليس فقط الكيفية التي يتم بها تصوّر الفرد، وانما ما هية الفرد. هذه التحولات يمكن ان تكون مرعبة.

***

حاتم حميد محسن

.....................

The Horror of Relations, philosophy Now, Oct/Nov 2022

 

لتكن البداية من منطلق التساؤل هل يمكننا اسقاط رغائب النفس على السيرورة الحركية للزمن في الزاميه التنفيذ الاستجابي في تحقيق تلك الرغائب النفسية حتى لو حاولنا تطويع الزمن رضوخا في قبوله قطوعات النفس الساقطة عليه؟

لا نعتقد متاحا أن تكون هيمنة رغائب النفس على الزمن ممكنة التحقق. فالاسقاط الشيئي سواء كان ماديا أو موضوعا خياليا مستمدا من الذاكرة والمخيلة على الزمن يبقى يدور في حلقة هيولية مفرغة خارج مركزية الزمن المحتفظ بماهية نوعية مطلقة لا تجانس أي إسقاط مادي أو خيالي عليه.

وفي محاولة معالجة الفلسفة تطويعها الزمن لرغائب النفس هي نوع من التحليق الرومانسي (حلم يقظة) يجد في ركوب وامتطاء رغائب النفس ظهر الزمان ممكنا واردا. هذا الاسقاط الالزامي التطويعي يتوسط دائرتين دائرة النفس المنفتحة على الزمن إستذكاريا يقابلها دائرة الزمن المقفلة على نفسها ماهويا مطلقا المنفصلتين كلتاهما عن بعضهما ماهويا.فالفكر الاستذكاري ماهيته الادراك الخيالي، ودائرة الزمن المقفلة على نفسها ماهيتها المطلق غير المدرك عقليا.

من الممكن تصور أن تكون النفس زمانية ماضيا بدلالة تحقيب نفسي لازماني لكن من المحال أن يكون الزمان مطيّة النفس في تداخل جوهري معها على صعيد المجانسة الماهوية النوعية لكليهما، ليبقى الزمن محتفظا في جوهره الماهوي المطلق في الانفصال التام عن النفس. وتعليل هذا الالتواء القصدي إحتمال نجد تبريره في سبب لا يتوفر للانسان صيغة اسلوبية بديلة عنه أن تعيش النفس الزمان الاستذكاري الماضي بما يحقق رغائبها من غير إسقاطها المباشر على الزمن. بمعنى توضيحي زمن حوادث التاريخ الماضي هي ليست زمن التاريخ الاستذكاري له ونحن نعيش الحاضر.

في تعبير مقتصد جدا النفس هي إسقاط خيالي لحوادث تاريخية على زمان مطلق تعرف وتدرك تلك الاسقاطات بدلالته ولا يكون هو متداخلا بها منقادا لها. الزمان وعي حيادي لا يدرك ذاته ولا يدرك موضوعه بدلالة رجوعه الى ذاته. الزمان والطبيعة جوهران متلازمان ماهويا إنفصاليا لا يدركان علاقتهما بكل شيء يدركه عقل الانسان ولا يدركانه.ما يدركه العقل ليس بالضرورة يكون مدركا زمانيا، ولا يكون ايضا مدركا طبيعيا أي تدركه الطبيعة.

هنا نجد مهما الإبانة التوضيحية أن مايدركه الانسان زمانيا هو ادراك متزامن مع مكان، لكن لا العقل يدرك المكان تجريدا من غير ملازمة زمانية له ولا الزمان يدرك ملازمة إدراك المكان مجردا مستقلا عن فاعلية العقل التي تحتوي الزمان والمكان معا.

حين عبّرت في اسطر سابقة الزمان وعي حيادي لا يدرك ذاته ولا يدرك موضوعه إنما أردت تاكيد حقيقة أنه لا يوجد هناك إدراك زمكاني بدون ادراك العقل. ملازمة إدراك العقل زمكانيا هي خاصيّة عقلية لا يمتلكها الزمان منفردا كما لا يمتلكها المكان منفردا والأهم أنهما لا يمكن إدراكهما المتزامن زمكانيا بينهما إلا تحت سطوة العقل الادراكي فقط في تالقهما المشترك.

أهم خاصية يمتلكها العقل ليس ماهية التفكير المجرد المنعزل ذاتيا كما ذهب له ديكارت، وإنما العقل يمتلك خاصّية الإدراك السابقة على خاصيّة توليد الافكار. لا ألادراك العقلي يتم بلا إدراك أولي شيئي أو موضوعي واقعي أو خيالي، ولا التفكير العقلي بمدركه كموضوع يتم من غير وجود مادة أو موضوع يكون هدفا قصديا للادراك العقلي والتفكير فيه.

النفس والزمن

لكن تبقى المحصلة الزمن هو الزمن بخصائصه والنفس هي النفس بخصائصها النوعية المتضادة كليّا مع الخاصية المطلقة للزمن. لا يمكن تحقيق محدودية الإدراك الشيئي بدلالة مطلق الزمان كخاصية نوعية. بل يمكن ذلك في إدراك ماهو محدود مكانا بدلالة ماهو ملازم له محدود زمانا ايضا. محدودية الزمان بدلالة محدودية مكانية ممكنة في تبادل الادوار من غير ما تداخل ماهوي جوهري بينهما، ولا علاقة جدلية تربطهما بل ارتباطهما هو من نوع التكامل الادراكي للعقل فقط.

متى يكون الزمان استشعارا متحركا كما هي طبيعته في إسقاط حوادثه على النفس بالعكس مما سبق لنا ذكره، وأقرب مثال حين نجد حوادث الزمن الماضي تمر في ذاكرتنا التخييلية  كفيلم سينمائي نشاهده حين نستشعر الزمن تحقيبا وقائعيا وليس تجريدا خياليا لا زمانيا.

المفارقة هنا تكمن في ممانعة فرق إختلاف ثبات الزمن الإستجابة لمتغيرات المزاجات النفسية المتقلبة على الدوام. نحن نعيش الزمن وندركه سلسلة من التعاقبات الحادثة واقعيا ولا ندرك الزمن ثابتا محايدا حين تمر من خلاله الحوادث التي نستقبلها عن طريق الاستذكارات النفسية الخيالية. فحوادث الماضي تمر في الزمن الماضي وتصلنا استذكارا ذاكراتيا لها ومن خلال الزمن كتحقيب وقائعي وليس كزمن تجريدي تعرف تلك الحوادث التاريخية بدلالته. الحقيقة التي لا نتوقف معها طويلا أن الماضي زمن وتاريخ معا يعرف أحدهما بدلالة الاخر.بمعنى اوضح التاريخ يبقى زمانيا في كل الاحوال بينما يمكن للزمان ان يكون تجريدا مطلقا كليّا خارج محدودية التاريخ.

التاريخ لا يحتاج الزمن لإدراكه ومعرفته على مر العصور فهو وجود داخل وخارج الزمن في وقت واحد، في حين يكون حضور ملازمة الزمان لوقائع التاريخ حضورا ملازما ومحايدا لكل حقبة أو مرحلة أو عصر من عصور التاريخ. مطلق الزمان لا يحدّه التاريخ ولا يحدّه الوجود كاملا كما لا يحده زمانا آخر محال إختراعه وجوديا. كي تستطيع أن تحد الزمان عليك استحضار زمانا آخر يمتلك نفس ماهية الزمن الذي ترغب حدّه به. وقد عبّر ارسطو عن هذه الحقيقة مقولته "لايحد الزمان زمان". فمطلق أزلية الزمان لا يمكن تكرارها لأي سبب كان فالزمن واحد مطلق لا يكرر نفسه زمانيا، ولا يمكن الإتيان بزمن غيره نحدّه به.

نحن حين نرغب إستقدام حوادث التاريخ من الماضي لا نحتاج الزمن في ادراكها لكنا نحتاج الزمن في إنتسابه (المحدود) لها كقطوعات ندركها تاريخيا وليس زمنيا. على خلاف من زمن الحاضر الذي لا يمكننا إعتبار الاحداث التي تجري فيه هي تاريخ ندركه في ملازمة الزمن الحاضر له كون ما يحدث في الحاضر من أحداث ووقائع لا تعتبر وقائعا تاريخية ثابتة كون الحاضر زمن متحرك ولا يحتفظ بوقائع أمّا أن تكون من حصة الماضي او تكون من حصة المستقبل غير المحسوس إدراكيا.. هنا تكون أحداث الحاضر زمانية متغيرة وزائلة أكثر منها تاريخية ثابتة كما في الزمن الماضي. كل حدث في الزمن الحاضر لا يصبح تاريخا ماضيا من غير مغادرته التحقيبية الحضورية له.

الزمان في حقيقته بالنسبة لنا هو إدراك متعالق الدلالة بغيره من الموجودات والاشياء. ما يجعل الزمن في حقيقته الثابتة تجريد غير لغوي وغير مدرك حدسيا، فهو مطلق بخصائص ماهوية لا يمكن لمحدودية الإدراك العقلي فك شفراتها لا بالادراك المباشر ولا بالادراك بدلالة تعالق الزمن بالاشياء....ما ندركه مكانا بدلالة ملازمة الزمن له، لا يمنحنا العكس من ذلك أن ندرك تجريد الزمن منفصلا مجردا بدلالة المكان. المكان كما هو الزمان لا يدرك أحدهما منفصلا عن الاخرفي نفس اللحظة.

حين تمر بنا الاحداث المتعاقبة عبر زمانية حاضرة ثابتة نكون في حالة فرز زماني كتحقيب هو أن حوادث ما سبق لها ووقعت في زمن مضى هي غيرها حوادث الحاضر النفسي الذي نرغب إستحضاره زمانيا حاضرا ترغبه النفس ولا يرفضه الزمان. طالما إدراكنا الزمان بدلالة شيئية أو موضوعية خياليا عندها يكون الزمان طوع الإستجابة الراغبة في جعل إستحضار ذكريات الماضي زمانا آنيا حاضرا ممكنا متاحا. الحقيقة الخادعة ان الزمان لا يتغير بتحقيب زماني منقسم الى ماض وحاضر ومستقبل، الزمن جوهر خارج التحقيب الذي يدركه العقل مباشرة بدلالة غيره.

الزمان في حقيقته الجوهرية في تعالقه الادراكي بالاشياء هو خاصية ثابتة لا يتأثر بما تدركه الذات، فالزمان يبقى حضورا محايدا أمام سعي العقل الإدراكي معرفة الاشياء مجردة عن زمانيتها.

أما حينما نريد إدراك مقدار الزمن بدلالة حركة الاجسام داخله عندها ايضا لا يغادر الزمن خاصيته الانفرادية المطلقة المنفصلة عن عدم إمكانية موضعته التجانسية النوعية بما ندركه من اشياء لها خصائص صفاتية وماهوية لا تنسجم مع خصائص الزمن.

أن نفكر في حاوية الزمن لتلك الحوادث التي نستذكرها زمانيا ماضيا فهنا نقع في ازدواجية الزمن الماضي في ضرورة تفريقه الى نوعين من التحقيب الوقائعي الثابت المختلف وليس الزمان المطلق المتغيرحركيا.  فزمن الحوادث الثابتة التي نستذكرها من الماضي هي غيرها استذكاراتنا الزمن الماضي الذي يجعلنا نعيش الماضي زمنا حاضرا نستحضره بغبطة وإنتشاء نفسي بالاستذكار الخيالي، كل ذلك يتم أمام حقيقة الزمن لا يتداخل مع إدراكاتنا بما نرغبه أن يكون ولكن حضوره أمام حقيقة أن الزمن بالنسبة لإدراكاتنا ورغائبنا النفسية هو حضور محايد في إسقاطنا كل ما نفكر فيه عليه..في كل الاحوال نحن لا ندرك الزمن زمانا تجريديا مطلق الماهية بل ندركه محدودا بدلالة إدراكنا المكان.

لماذا لا يمكننا ادراك قطوعات الزمن الا بدلالة غيره من الاشياء؟ كل مدركات العقل هي محددات انطولوجية كاشياء أو خياليا كمواضيع، بمعنى الادراك هو تعيّن موجودي لشيء او لموضوع، وهذا لا ينطبق على الزمن أنه غير محدود وجودا إلا بدلالة غيره من مكان، نحن نعبر عن تقسيمنا الزمن مرحليا الى ماض وحاضر ومستقبل إنما نكون بذلك نقوم في عملية تحقيب واقعي لمدركاتنا من الاشياء والطبيعة والظواهر مجردة عن زمانيتها. لا نمتلك استدلالا واقعيا برهانيا يجعلنا نسلم ان الزمن يقبل التقسيم التحقيبي التجريدي الى ثلاث انواع من الزمان من دون تعالقه بدلالة مادية او خيالية يدركها العقل. كيف ندرك تغيرات الفصول الاربعة زمنيا؟ ندرك ذلك بدلالة التغيرات التي تطرأ في المناخ والبيئة والطبيعة. الماضي والحاضر والمستقبل حينما نقصدها تحقيبات زمانية إنما نحن نستعمل مجازا تحقيب الحوادث والوقائع فيها كتحقيب تاريخي يحكمه الزمان لكنه لا يكون جزءا من تلك الحوادث التاريخية تحقيبا ثابتا. التاريخ ثابت والزمن مطلق متغير. ونعرف واقعية التاريخ بدلالة مطلقية الزمن كماهية غير محدودة.

خاصية الزمن في مطلقيته يجعل منه على الدوام حضورا إستدلاليا وليس حضورا إدراكيا تجريديا له. حتى عندما نقيس مقدار حركة جسم ما داخل الزمن فإننا بذلك نقيس مقدار حركة الجسم فقط وليس مقدار حركة الزمن. لذا لم يكن تعبير ارسطو خاطئا قوله الزمان هو مقدار حركة الاجسام بدلالته لكنه ليس الزمن حركة بذاتها ندركها مجردة عن حركة الاجسام التي تحتويها.

النفس لا زمانية

لماذا يكون الاستذكار الزماني بهيجا منعشا للنفس بعيدا عن ضغوطات الحياة في حاضرها المؤلم.؟ هل الحنين للماضي يجعله يوتوبيا منقذة للنفس من وهدة السقوط المحتوم في الحاضرالمؤلم الزائل المنقاد وراء زمن مستقبلي نهايته الاندثار والفناء. رغم أنه ربما كان الماضي أكثر إيلاما من حاضرنا الذي نعيشه؟

لماذا يتراجع إحساسنا الزماني في حالات البهجة النفسية والانشراح، ويتكثف الزمن ويطول حينما يجثم فوق صدورنا معطلا فينا منطق التعبيرعن مباهج الحياة، وتوق النفس الخلاص من كابوس الزمن الحاضرالمؤلم، علما أن الزمن واحدا في ملازمته حالتي البهجة والكآبة. والمتغير هو الاحساسات النفسية والعواطف والانفعالات فقط.

من المفارقات التي ربما لا نفرزها هي أن الشعور النفسي هو الذي يحدد نوع الزمن الذي تعيشه النفس. ويقل الاحساس بالزمن في علاقة عكسية حينما تكون النفس في حال من السعادة، ويكبر الاحساس بوطأة الزمن الثقيل حينما تكون النفس في حالة من الحزن والاكتئاب. فعلاقة حالة النفس الحزينة يتناسب زمانها الملازم لها طرديا معها.

لذا تكون النفس الانسانية لا زمانية، كون الذي يحدد حال ما تكون عليه رغما عنها ليس هو الزمن بل حوادث الحياة. وكل القطوعات التي نتصور نحدثها في الزمن هي قطوعات زائفة غير حقيقية لأن مصدرها قطوعات النفس المزاجية التي لا علاقة تحكم الزمن  بها.

الزمان مطلق بلا حدود

في تعبير باشلار نجد مقاربة ضمنية من المعنى الذي ذهبنا له قوله " لا يمكن إدراك الزمان إلا في تعقده وتركيبه، فهو مهما كان فقيرا، فهو يطرح نفسه من خلال تعارضه مع الحدود والتخوم "1 ص 54

نفهم فقر الزمان يكون في خاصيته الاطلاقية المتجردة عن مدركاتنا. بمعنى ما لا يمتلكه الزمان بتعالقه بالاشياء القابلة لإدراكنا يبقى خاصّية مطلقة انفرادية للزمان، ويبدو تعبيرنا هنا أن ملازمة الزمان لكل شيء بالوجود أزلية ولا تنفصل عن أي مدرك في الطبيعة والوجود لحظة واحدة، الزمان الذي نتعامل معه هو الزمان الذي يحتوي الوجود كاملا وليس بمقدور الوجود إحتوائه.

الزمان إمتلاء تام بالوجود في قبليتهما المعطاة من دون وقوفنا الكافي على الكيفية التي نشأت عنها مثل هذه العلاقة بين الزمان والوجود. علاقة إمتلاء الزمان بالوجود. موجودات الوجود من طبيعة وانسان ومخلوقات ونبات وجماد هي التي تمنح الزمان غنى وثراء إمتلائي يجعله معقدا في تركيبيته كما يعبر باشلار. غنى الزمان يكون بما يحتويه من وجود إمتلائي لا بما يكون خارجه في عدم إدراكنا له. الحقيقة التي أوقعتنا في مثل هذا الخطا تقوم على حقائق فلسفية هي :

- لا يوجد ما ندركه موجودا متعيّنا وما لا ندركه هو خارج محدودية ومطلق الزمان.

- كل ما لا يدركه العقل لا يقع خارج الادراك الزماني له وهو محال زمانيا ومحال ادراكه عقليا. فملازمة الزمن للوجود ملازمة ازلية مطلقة لانهائية ولا يمكن حدّها.

- ما يدركه العقل هو الموجودات المكانية التي يحتويها الزمن الادراكي شرطا مسبقا، كما أن ما لا يدركه العقل لا وجود له لا داخل ولا خارج الزمن ليست صحيحة.

- الاشياء والموجودات في الطبيعة وعالمنا الذي نعيشه سواء كانت مدركة لنا بدلالة زمنها أو غير مدركة بدلالة (غياب) زمنها، فهي في كل الاحوال لا تخلص من سطوة الزمن وهيمنته عليها.

ماذا يقصد باشلار أن فقر الزمان لا يسلم من تعارضه مع الحدود والتخوم.  فهمنا تعبيره الزمان لا يحد بتخوم هي مدركات شيئية مادية وغير مادية لا تمتلك المجانسة النوعية مع ماهية الزمن المطلقة. والزمان حسب باشلار يتعارض مع كل الحدود، فهي صحيحة من حيث أن التفكيرالوجودي بوضع حدود غير زمانية لا تتفق مع المجانسة الخصائصية للزمن هي مضيعة وقت بلا نتيجة. لا يحد الزمان حدودا تحد الوحدة الكلية الشاملة اللانهائية المطلقة له التي تحتوي الوجود ولا يستطيع الوجود حد الزمان بها لا قطوعات ولا مطلق زماني مغاير..

الزمن النفس الروح

من أكثر المفردات المفاهيمية الفلسفية ارتباطا وثيقا بالزمن هي النفس والروح رغم التفاوت الكبير جدا بينهما الذي لا يؤخذ به أغلب الاحيان في عشوائية تعبير الدلالة اللفظية للمفردتين عن معنى دال واحد. ولا نأتي بجديد قدر أهمية التذكير أن النفس هي وعي ذاتي إدراكي يعيش الحياة في إفصاحه السلوكي عنها إنفراديا أو ضمن مجتمع. النفس وعي وسلوك متكامل مدرك في تجليّاته الإفصاحية التعبير عن دواخله.

بخلاف الروح التي هو مفهوم ميتافيزيقي غامض، وليس مصطلحا متفقا عليه أكثر من تكرارمقولة الروح تلازم حياة الانسان وتفترق عنه بالممات. ما يهمنا هو التنبيه بهذا التفريق السريع أن النفس هي ليست الروح ومن الخطورة إستعمال المفردتين في التعبير المتكافيء عن دلالة معنى واحد فلسفيا على الاقل.

في معرض إقتباس إستعاره باشلار عن بيار جانيه قوله " لا يوجد عند الاقوام البدائية حركات مايسمى البدء – بمعنى حركات التعبير الجسدي الراقص المصحوب بصيحات هستيرية نفسية في التمهيد لممارسة طقس معين لا فرق أن يكون تعبيرا عن عبادة دينية أو عن ممارسة أسطورية خرافية قد تكون سحرية أو غيرها.- ولا حركات ختامية والكلام لباشلار تنهي ذلك الطقس "2، "فالاقوام البدائية كانوا يكتفون بالاعمال الانفجارية حسب تعبير بيار جانيه، أي الاعمال التي لا تتواصل حقا بالمعنى النفساني للكلمة لأن عواقبها في أفضل الاحيان هي من النوع الفيزيائي" 3 ص 58

بضوء الإقتباس المار ذكره نضع التوضيحات التالية:

- الطقس الوثني البدائي على مر العصور الطويلة والاجيال هو فعالية حركية متفق عليها بوعي جمعي تفهمه تلك التجمعات البدائية تواصلا بينيا يجمعها في تعبير حركات الجسم بعيدا عن إفصاح اللغة تعبيرا عنها.. والطقس الوثني بما يصاحبه من رقصات وحركات هستيرية تعبيرية لم تكن تلك الاقوام ترغب التواصل من خلالها بغيرها من التجمعات التي ربما لا تعرف وجودها من عدمه، بل كانت تلك الطقوس علاقة تنشد الخلاص النفسي مما تعانيه بالحياة،. وهي تعبيرات نفسية عميقة في العجز عن التعبير عنها بوسائل أخرى غير الطقس الوثني الراقص .

- النفس تكوين خبراتي تراكمي مستمد من الحياة، يغلب عليه الطابع الديني أكثر مما يتوخى قصدا آخر يرغبون تحققه. فما تمارسه تلك الاقوام البدائية من  طقس راقص صاخب إنفجاري ترافقه صيحات هستيرية إنما هي في حقيقتها بناء نفسي تراكمي دونما الشعور القصدي الماثل لبلوغ مراتب من البناءات النفسية المتوالية صعودا. ولا تفهم تلك الاقوام حاجتها الطقسية التواصلية بغيرها غير التواصل مع ما كانوا يتصورونه إلها أو معبودا بإمكانه درء الأخطار عنهم وحمايتهم.

- اتصور من غير المعقول مطالبة اقوام بدائية لا يتعدى تفكيرها صنع تمثال بحجم اصبع اليد أن تفهم أهمية الطقس الراقص في التعبير الواضح عن قصدية دينية ولا عن قصدية تواصلية مع الاخرين. الطقس الراقص خاصية بعيدة عن التعميم غير المتحقق اصلا.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

..................

الهوامش:

1. جاستون باشلار /جدلية الزمن/ ترجمة خليل احمد خليل/ ص 54

2. نفسه ص 58/ 3. نفسه ص 58

هناك كتابات فلسفية مصدرية لا يمكن لباحث في مجال الفلسفة أن يتخطاها مثل: كتاب الحروف للفارابي، وكتاب تفسير ما بعد الطبيعة لابن رشد، وكتاب الأورجانون الجديد لفرنسيس بيكون، وكتاب المقال في المنهج لديكارت، وكتاب مبادئ الفلسفة لديكارت أيضاً، ناهيك عن مصادر آراء ابن رشد الفلسفية، ومحاولة في الفهم الإنساني لجون لوك، وكتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال لابن رشد، وبرجسون وكتابه التطور الخالق، ومقالات الإسلاميين للأشعري، وغيرها الكثير والكثير.

تتضمّن موضوعات ومباحث في المصادر الفلسفية، وتحتوي على فصول تجمع بين طياتها أهم الأصول الفلسفية التي لا يمكن لباحث في مجال الفلسفة أن يستغنى عنها بوجه من الوجوه؛ فهى تعرّفنا أولاً مصادر تفكير الفيلسوف في الإسلام بوجه عام، ثم مصادر تفكيره إذا كان من غير المسلمين .. من أين أخذ أفكاره الفلسفية ومن أين استقاها؟ ثم كيف وظفها؟ وكيف تعامل مع الأفكار الغريبة عن الثقافة الإسلامية فيما لو كان الفيلسوف يدين بالإسلام؟ وكيف نشأت لديه الفكرة التي إذا ما قرأناها عنده قلنا على الفور إنها فكرة فلسفية من شأنها أن تؤثر في غيره من الفلاسفة والمفكرين جيلاً وراء جيل؟ وهل بمستطاع الفيلسوف أن ينشئ الفكرة إنشاءً من تلقاء ذاته دون أن يعتمد على أفكار من سبقوه أم أنه يأخذها ويتأمل فيها، ثم ينقدها، ويضيف عليها، من ثمّ، جديداً لم يكن موجوداً من قبل؟ كيف تمثل العالم بالنسبة للفيلسوف؟ وما هي المعرفة بالنسبة له؟ ما جذورها وجذوعها وفروعها وأغصانها إذا ما كانت الفلسفة شجرة كما شبهها ديكارت، وما مكانة العالم الطبيعي والعلوي منها، وما مكانة الأخلاق؟

أي النهجين أقرب إلى عمل الفيلسوف؟ وإلى أي مدى بإمكانه التعامل مع الأنساق الفلسفية القديمة؟ وما هى درجة تأثره بها، وتأثيرها عليه، وتأثيرها فيمن بعده؟ وكيف يبدع الفيلسوف جديداً وهو مأخوذ ـ بادئ ذي بدء ـ بما سبقه إليه غيره من تفكير فلسفي، ومن إنتاج علمي، ومن تراث حضاري على وجه العموم؟

البحث في المصادر بحث فلسفي بامتياز؛ لا يتقرّر إلا وتتقرر معه خصائص التفكير الفلسفي من حيث النقد، ومن جهة العلم، ومن واقع التنوير والتفكير، ومن امتثال الأخلاق، ومن استخلاص النتائج من مقدمات مفروضةٍ يستنها العقل وفق قواعد وشروط مقبولة بادئ ذي بدء. والبحث في المصادر ضرورة منهجية لمعرفة قضية التأثير والتأثر بين الأفكار المتنوعة، والآراء الفلسفية المتشابكة؛ وللفصل بين النظائر والأشباه عبر تاريخ الذهن البشري ومحاولات العقل تجاه النظر في المعقول.

ما من باحث في مجال الفلسفة على وجه الخصوص إلا ويذكر كتاب "الحروف" للفارابي، فيلسوف المشرق العربي، فهو مصدر فلسفي بامتياز، ، بل هو أكبر مصنفات أبي نصر الفارابي وأعظمها غناء للمهتمين بدراسة الفكر العربي عامة، والفلسفة الإسلامية خاصة، كتبه إمام المنطقيين في عصر بلغ فيه الفكر العربي أوجه في تفهم أمور العلم واللغة وضرورة التعبير الصحيح عن ما ينظر الإنسان فيه ويعقله، فلا يستغني عن قراءته من يشتغل في تأريخ الفلسفة واللغة، وهو يجمع إلى جانب النظرات الفلسفية الثاقبة جوانب من اللغة، وخصائصها ومقرراتها، وأثرها على التفكير، وأثر التفكير الفلسفي عليها.

ومن جانب آخر؛ يجب أن يمعن النظر فيه، كما يقول ناشره لأول مره الدكتور محسن مهدي، "من يقصد فهم الصلة بين نموِّ العلوم واللغة التي بها يعبر عن العلوم، والمجتمع الذي تنمو فيه". 

من أجل ذلك؛ يلزم للدارس عناية الاطلاع على هذا الكتاب تفصيلاً؛ ليتعرّف باحث الفلسفة على أثر هذا الكتاب في عقول فلاسفة المشرق العربي وفلاسفة المغرب العربي بوجه خاص كيما يدرك أثره البالغ الممتد في الفكر الفلسفي على وجه العموم.

ولا يزال يبقى أثره خالداً على مرّ الأزمان، وبخاصة فيما اشتمل البحث فيه على الجوانب المنطقية واللغوية بالإضافة إلى المشكلات الفلسفية والقضايا الفكريّة.

غير أننا في هذا المقال نركز على نموذج فعال مؤثر من فلاسفة المغرب العربي وهو ابن رشد؛ خلال معالجته كتاب تفسير ما بعد الطبيعة، وهو كتاب الميتافيزيقا لأرسطو، ذلك الكتاب الذي قام ابن رشد بشرحه وتفسير مشكلاته. وقد تمكن ابن رشد الفيلسوف العربي المسلم من إضافة آراء خلال شروحه وتفاسيره لم يكن أرسطو يتحدث فيها بالكيفية التي استطاع ابن رشد الحديث عنها خلال الشرح الضافي الدقيق والتحليل المنطقي الصائب المقنع، وخلال تفسيره الذي ضمنه رأيه الخاص.

أضاف ابن رشد من خلال الشروح بعداً ذاتياً على تفسير ما بعد الطبيعة، أي الميتافيزيقا لأرسطو، فهو لم يقتصر على الشرح وكفى؛ بل تصرف في النص ليستخرج منه رأياً جديداً يعبر به عن رؤيته الفلسفية. فكانت هذه اللفتة سمة منهجية في شروح وتفاسير وتلاخيص ابن رشد على آثار العقلية اليونانية، وأرسطو خاصّة.

إذا تصفح القارئ بالتحليل كتاب تفسير ما بعد الطبيعة، والمقالات الإحدى عشر التي تضمّنها هذا الكتاب، وألمّ بمنتخبات من هذا التفسير الذي قدّمه ابن رشد؛ بقصد بيان طريقته في التفسير، تبين له تلك الطريقة التي تجمع بين تفسير اللفظ، وتفسير المعنى، وتفسير الفكرة الفلسفية التي ينطوي عليها المعنى.

وظهر له القصد المباشر من وراء ذلك؛ وهو محاولة المقارنة بين طريقته في التفسير وطريقته في التأليف، أو بين نهجه في الشرح والتفسير ونهجه في التصنيف والتأليف؛ لأن المقارنة توضح للقارئ آراءً جديدة يقولها ابن رشد في الشروح والتفسيرات، ولم يقل بها في المصنفات التي قام بتأليفها، حتى إذا تمت المقارنة على الوجه الأكمل، أستطاع الباحث استخلاص مذهبه الفلسفي مكتملاً من خلال البحث في هذين الجانبين : جانب الشروح وجانب التآليف.

ولم يكتمل مذهب ابن رشد وافياً على الحقيقة إلا بالإطلاع على هذين الجانبين اطلاعاً يتيح المقارنة، ويستوجب المُفاضلة، ويقر في النهاية بالإنصاف.

إنّه قد تبيّن لنا خلال الاطلاع على عمل ابن رشد أننا بإزاء فلسفة عقلية وضعت جذور الاستنارة في الحضارة العربية والإسلامية ممثلة في عقل ابن رشد، فيلسوف المغرب العربي، وأحد حملة مشاعل الحضارة الإسلامية. وقد أظهرنا خلال قيام ابن رشد بتفسير كتاب ما بعد الطبيعة أو الميتافيزيقا لأرسطو، أظهر صدارة هذا الفيلسوف ومصدريته في مجال الفكر العربي الإسلامي، وأن تفسيره لكتاب ما بعد الطبيعة، إنما هو في الأصل يعد مصدراً فلسفياً عظيماً لا من حيث اعتباره أثراً من آثار فلسفة أرسطو فقط، ولكن من حيث إنه درّة فلسفية من درر ابن رشد، إذْ ذَاَكَ نقرأ أرسطو بعقل ابن رشد، ونرى فلسفة أرسطو بارزة من بين سطور فيلسوفنا العربي.

وخلال شروح ابن رشد على فلسفة أرسطو وتفاسيره لكتبه الفلسفية المعتبرة، تبيّنت معالم فلسفته كونها علامة فكرية ظاهرة برزت في كل مقالة من المقالات التي اشتمل عليها كتاب تفسير ما بعد الطبيعة، فظهر الرأي الذي يوضح باليقين موقف ابن رشد في المسائل التي طرحها؛ فلم يكن إذْ ذَاَكَ بالشارح الذي يكتفي بمجرد الشرح التقليدي، ولكنه كان مضيفاً خلال الشرح آراءً جديدة ربما كان أرسطو لم يتطرق لها، ولم يكن يلتفت إليها. ومن أجل ذلك كان من الأهمية بمكان للتعرف على فلسفة ابن رشد، ضم الشروح والتفاسير إلى المؤلفات والتصانيف في وحدة واحدة ليس فيها انفصال ولا تجزء، بغية استخلاص هذا المذهب الفلسفي الأصيل.

فليس لباحث أن يقف محيطاً على وجه الدقة بتراث ابن رشد الفلسفي وهو لا يجمع وجاهة الرأي لديه بين الشرح والتفسير من جهة والتصنيف والتأليف من جهة أخرى؛ ليحيط بمذهب الفيلسوف العربي المسلم على وجه الدقة والأصالة.

ثم إننا إذا نحن رحنا نقتبس من ابن رشد منتخبات من نصوصه وأقواله سواء من تفسيره لكتاب ما بعد الطبيعة أو من كتاباته ومؤلفاته المصنفة؛ تبين لنا أيضاً أن الأولى؛ فلإظهار طريقته في الشرح والتفسير. وأمّا الثانية؛ فللتعرُّف على آرائه بالقياس إلى الشروح والتفاسير. ثم رأينا أن ما اقتبسناه من مقتطفات أقواله يُضاف إلى المباحث الميتافيزيقية التي نوّه إليها في تفسيره لكتاب ما بعد الطبيعة، ولا يمكن أن تعزل عنها بحال :

فكلامه عن الحركة، والأسباب، وحدود التأويل، والأدلة على وجود الله من طريق البرهان العقلي، وحديثه عن التصوف، وحديثه عن المعجزات، إنما هى كلها موضوعات ميتافيزيقية يحكمها التناول المنهجي الذي ارتضاه الفيلسوف. وتتصل شديد الصلة بالمسائل التي سبق طرحها بطريق أو بآخر في تفسير ما بعد الطبيعة.

ولم يكن من المتاح لدارس الفلسفة أن يغض النظر عن رأي ابن رشد من خلال أقواله نصّاً وحرفاً، في مباحثه لهذه المسألة أو تلك؛ لأن التأمل في النصوص القديمة مُلهم للعقل الحديث والمعاصر أن يستفيض ويتأسس على ركائز المعرفة ثم يجود بالإبداع والابتكار. ولولا ما كان استنّه ابن رشد من عكوف على مؤلفات أرسطو وشروحه لتراث اليونان، ما وُجدت لديه هذ النزعة العقلية قوية مبدعة صادقة ملهمة، وما كان تسنى له أن يكون جامعاً لوجاهة الرأي والرؤية، وهو سليل العلم ربيب الفقه، معطاء.

ولم يكن ميسوراً للباحث على وجه العموم أن يدرس آراء الفيلسوف القرطبي وهو لم يطلع على نصوصه الأصلية التي تشكل رؤيته الفلسفية ويُستخلص منها مذهبه؛ فتجيء أقواله نصوصاً لازمة لا بدّ منها في سياق التعرّف على رأيه ورؤيته في آن.

سيبقى معنا ابن رشد خالداً في رحلة البحث عن المصادر الفلسفية، ذلك الفيلسوف العبقري الذي شغل الدنيا وملأ عقول الناس علماً وفلسفة واستنارة، وهو مع ذلك نُكِبَ من جرّاء عمله العقلي نكبة سجلها تاريخ الجهاد الفكري والحضاري للحافظ على قيمة المعرفة العقليّة في مقابل ظلمات القهر والتسلط على العقول والضمائر في دنيا الجهالة والتخلف، لكن ابن رشد دام موصولاً بجهاد العقل والرأي، ومات ناكبوه في ظلمات التخبط والجهالة والضلال.

***

د. مجدي إبراهيم                            

  

فلسفةُ الظواهرِ الثقافية تُمثِّل مشروعًا اجتماعيًّا لتحريرِ الفِكْر مِن أوهام الواقع، وتخليصِ الواقع مِن أدْلَجَة الفِكْر. وإذا كانَ الفِكْرُ يُؤَسِّس أنساقَه الحياتيَّة لإعادة ترتيب فَوضى الواقع، فإنَّ الواقع يُؤَسِّس مرجعياته الفِكرية لتوليد التَّصَوُّر النَّقْدِي في فلسفة التُّرَاث وتُراثِ الفلسفة. وتمركزُ الفلسفةِ في الظواهر الثقافية والسِّيَاقات التُّراثيَّة، يُحدِّد أبعادَ صُورة المُجتمع عن ذاته، ويَكشف كَيْفِيَّةَ تَوظيفِ التاريخ في عمليَّة الاندماج الاجتماعي، وإنشاءِ الروابط الوجودية بين الفرد والمُجتمع، وترسيخِ الوَعْي في مصادر المعرفة، بِوَصْفِها جُزْءًا أساسيًّا مِن البناء الاجتماعي، ولَيْسَتْ نظريات هُلاميَّة عاجزة عن بناء التواصل بين الفِعل الاجتماعي والفِعل اللغوي. وكُلُّ فِعْلٍ سواءٌ كانَ اجتماعيًّا أَمْ لُغَوِيًّا يُعْتَبَر تَحَوُّلًا جذريًّا في العلاقة التي تربط الفِكْرَ والواقعَ، وهذا التَّحَوُّلُ يُعَزِّز تَصَوُّرَ الفردِ لفلسفة الظواهر الثقافية، باعتبارها الحاضنةَ الشرعية للأفعال الاجتماعية، التي تَعْمَل على تَوحيدِ الاتجاهات في البُنية الوظيفية للمجتمع، وإزالةِ التناقضات الجَوهرية في منهج التأويل الرمزي الذي يُحدِّد معالمَ الصراع على اللغة، ويُوضِّح ملامحَ الصِّدَام في اللغة، ويُبيِّن دورَ الفردِ والمُجتمع في التعامل معَ اللغة، لَيس بِوَصْفِهَا أداةً للاتِّصال والتَّوصيل والتواصل فَحَسْب، بَلْ أيضًا بِوَصْفِهَا آلِيَّةً معرفيةً وجوديةً لإعادة فَهْمِ الفرد لأعماق النَّفْس الإنسانية، وفَهْمِ المُجتمع لأبعادِ العقل الجَمْعِي.

2

تَستمد الظواهرُ الثقافية مَعْنَاها وشرعيتها مِن الأحداث اليومية ذهنيًّا وواقعيًّا، ومِن الوقائع التاريخية معنويًّا وماديًّا، لكنَّ فلسفة الظواهر الثقافية تَنبع مِن الطاقة الرمزية في اللغة، التي تستطيع توليدَ الفِعل الاجتماعي، وتأسيسه على قاعدة الوَعْي الحقيقي لا الزائف، مِن أجل تحويل المُجتمع إلى كِيَانٍ إنساني مَفتوح أمام الأفكار الإبداعية، وماهيَّةٍ أخلاقية مُنفتحة على مُكَوِّنَات الثقافة، مِمَّا يَضمن تحقيقَ التواصل العقلاني بين العلاقات الاجتماعية ضِمن سِيَاق المعرفة الفرديَّة والجماعيَّة، وعيًا تاريخيًّا، ومُمَارَسَةً ذهنيةً، وتجريدًا فلسفيًّا، وتطبيقًا عمليًّا، والتزامًا أخلاقيًّا. وهذا الأُفُقُ المعرفي الخالي من الأنظمة الاستهلاكية الضاغطة على وجود الإنسان وهُوية المُجتمع، هو الحاملُ لإنسانيَّةِ الثقافة، ورمزيةِ اللغة، ونِسْبِيَّةِ الزمن. وهذه المنظومةُ الثلاثية تَرْمِي إلى نقل مصادر المعرفة مِن الموضوع (المعنى في تاريخ الإنسان) إلى الذات (معنى الإنسان شخصيًّا). وهذا مِن شأنه نقل مناهج التحليل الاجتماعي مِن تفسيرِ المأزق الوجودي للإنسان إلى تغييره، ومِن وَصْفِ الأنساق الحياتيَّة إلى تَشكيلها. مِمَّا يَدفع فلسفةَ الظواهر الثقافية باتِّجاه إعادة بناء المفاهيم المركزية في التَّصَوُّر النَّقْدِي المُرتبط بالتفاعل الرمزي بين هُوية المُجتمع ومَاهِيَّته. وبما أنَّ الأفكار الإبداعية لا تُوجَد بِمَعْزِل عَن النَّقْد والنَّقْض، كانَ لِزَامًا تكوين نظام اجتماعي خاص بالوَعْي الإنساني يَعمل على تفكيك تاريخ الإنسان وتركيبه بشكل مُستمر، مِن أجل كشف نقاط القُوَّة والضَّعْف في المسارات الحياتيَّة المُتذبذبة بين القطيعة المعرفية والتواصل العقلاني، والتعامل مع هذه المسارات كرموزٍ لُغوية تُشير إلى مُستوى الوَعْي في الوقائع التاريخية، وكأفعالٍ اجتماعية تُشير إلى التسلسل المنطقي للأحداث اليوميَّة. والمُشكلةُ الأساسيةُ في تاريخ الإنسان تَكْمُن في عدم قُدرة الإنسان على تكوين صُورة واضحة عن ذاته خارج أنساق المجتمع وإفرازاته الفكرية، كما أنَّ هُوِيَّة الإنسان ظَلَّتْ سجينةَ الفِعل الاجتماعي المُنعكس عن سُلطة المُجتمع،والمُتماهي معَ العلاقات الاجتماعية المَفروضة وَفْق سِيَاسة الأمر الواقع. والإنسانُ لا يَختار نَفْسَه، ولا جِنْسَه، ولا نَسَبَه، ولا مُجْتَمَعَه. ولا يَمْلِك الإنسانُ إلا أن يُطَوِّر رمزيةَ اللغة مِن أجل التأقلمِ معَ العناصرِ الماديَّة المَفروضة على حياته، والتفاعلِ مع التراكيب المعنوية المُتَغَيِّرَة في أفكاره وَمَشَاعره. واللغةُ عابرةٌ للحُدودِ الزمنيَّة والحواجزِ المكانيَّة، وهذا يَعْني أنَّ تطويرَ رمزيةِ اللغةِ هو استعادةٌ لأحلام الماضي وطُموحات الحاضر مِن أجل بناء المُستقبل كَجَوهرٍ للوُجود، وحقيقةٍ للبناء الاجتماعي، ولَيس كَمَرحلةٍ زمنيَّة عابرة، أوْ خُطَّةِ هُروب مِن صِراعات الماضي وأزمات الحاضر.

3

وُجودُ الإنسانِ مُؤقَّتٌ في الزمان والمكان، لكنَّ هُوِيَّة الإنسان دائمة في رمزية اللغة ومصادرِ المعرفة. والثقافةُ لا تُوجَد بلا لُغَة، والمعرفةُ لا تُوجَد بلا تاريخ. وهاتان الحقيقتان تَفرضان على الإنسان أن يَعيش كَيْنُونَتَهُ حتى أقْصَى مَدَاها، وأن يُعيد تشكيلَ الثقافةَ اللغوية والمعرفةَ التاريخية في سِيَاق الأفكار الإبداعية، لنقل شخصيته وسُلطته مِن مفهوم الكائن الزائل جسديًّا إلى مَفهوم الكِيَان الباقي فكريًّا. وهذه المُهِمَّةُ الشَّاقَّة تتطلَّب غَوْصَ الإنسان في أعماقه السحيقة لاكتشاف حياته الحقيقية (السِّرِّية)، وتحليلَ التاريخ مِن الداخل (التنقيب في العُمْق لا الضَّرْب على السَّطْح)، وتفسيرَ الثقافة اعتمادًا على نُقطة التوازن (نُقطة الارتكاز) بين بُنية اللغة وبُنية المُجتمع. والإنسانُ لا يُمكن إخراجُه مِن جِلْدِه، والتاريخُ لا يُمكن إخراجُه مِن جَسَده، والثقافةُ لا يُمكِن إخراجُها مِن كِيَانها، وهذه المُسَلَّمَاتُ مُجْتَمِعَةً تَدفع الإنسانَ (الذات الفاعلة داخل الوَعْي والمُجتمعِ والتاريخِ) إلى اكتشاف هُوِيَّته الوُجودية في واقعه المُعَاش، ولَيس استيرادها، أوْ نَسْخها، أوْ تقليدها، أو التَّنَكُّر لها، أو ارتداء الأقنعة خَجَلًا مِنها، أوْ هُروبًا مِن حقيقتها.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

يُعَرّفٌ المفكر الراحل ” محمد أركون” السلطة الأرثوذوكسيّة، بأنها: (السلطة المعتمدة على السلطة الحاكمة في فرض مفاهيمها وآرائها وقوانينها المعرفيّة على الآخر.). أو بتعبير آخر برأيي بأنها مجموعة الرؤى والأفكار التي تشكل في سياقها العام (أيديولوجيا) تتبناها قوى سياسيّة داخل السلطة أو خارجها، يعتقد الحامل الاجتماعيّ لها بأنها وحدها من يمتلك الحقيقة الصائبة، وما عداها من نظريات أو أيديولوجيات تحيط بها، هي خطأ يجب أن يقصى أو يهمش بأي شكل من الأشكال.

إن العقليّة الأرثوذوكسيّة بسلطتها الاقصائية، هي تعمل بالضرورة بهذا الشكل أو ذاك، على الغاء حريّة البحث والتفكير والتقصي من أجل حل قضايا الفرد والمجتمع والدولة حلاً منطقيّاً، والحل المنطقي هو الذي يقوم بالضرورة على تقبل الرأي الآخر والحوار معه، وبالتالي المشاركة في البحث عن حلول للقضايا المشتركة.

إن العقل الأرثوذكسيّ، هو الذي يؤدي أيضاً إلى حجب الحقيقة، وعدم  الاقتراب من المسكوت عنه أو اللامفكر فيه، لأن السلطة الأرثوذوكسيّة تمنعه وتقمعه وتحول دون الاقتراب منه، وذلك من خلال حجرها على العقل وحريّةّ الإرادة للمختلف، بحيث يصبح هذا العقل عاجزاً عن التساؤل. وفي مثل هذه الحجز على العقل المختلف، أو قمعه، سيسود نمط آخر من التفكير الذي ترضى عنه السلطة الأرثوذوكسيّة وتشجعه وتفتح له في المجال واسعا، وهو التفكر الخياليّ والأسطوريّ والغيبيّ ولامتثاليّ والاستسلاميّ والماضويّ وحتى العبثيّ، الذي يبتعد عن التأمل  المنطقيّ في الظواهر، وعدم استخدام الاستقراء والاستنتاج والقياس والبرهان، أو العقل النقديّ في النظر إلى الأشياء التي تهم مصالح الفرد والمجتمع.

إن السلطة المعرفيّة الأرثوذوكسيّة إذا ما مُورِستْ من قبل قوى سياسيّة ذات مصالح انانيّة ضيقة داخل السلطة، ستدفع بالضرورة أفراد المجتمع ليفكروا بقضايا خارج نطاق قضايا واقهم التاريخيّ المعيوش ، وسيدخلون في صراعات ثانويّة ربما تعود جذورها إلى مئات من السنين الماضية، كأن يدخلوا في عوالم معرفيّة وسلوكيّة تتعلق بعقليّة العشيرة والقبيلة والحزب  والطائفة والمذهب والفرقة الناجية، وبالتالي الوطني ومنه هو الخائن، أو من هو الكافر أو المؤمن، وغالباً ما يدفع الناس للتفكير والبحت عن فقه الحيض والنغاس، أو هل عمل المرأة حلال أم حرام، أو هل أن صوتها عورة أم غير عورة، وهل يحق للمرأة أن تخلط البندورة مع الخيار.. وغير ذلك. إضافة لدخولهم في دهاليز المجتمع الاستهلاكيّ والبحث عن اللذة وشهوة الموديل والقضايا القشريّة التافهة في حياتهم، بدل القضايا الجوهريّة المتعلقة بتعليمهم وتربيتهم التربية العلميّة التي تنمي عقولهم ومهاراتهم الإدراكيّة وامتلاكهم روح البحث عن الحقيقة في الظواهر التي يتعاملون معها، من أجل تطوير شخصياتهم من النواحي اَلجسديّة والروحيّة. ففي مثل هذه الوضعيّة الاجتماعيّة والفكريّة المتهافته التي تساهم السلطة الأرثوذوكسيّة في تسويقها وتجذيرها داخل بنية المجتمع وعقول افراده. لا بد أن تكوّن أفرداً هم أقرب للبهائم منهم للبشر، وعلى هذا الأساس ستجد هذه البهائم السيف مسلطاً على رقابها دائماً عندما تشعر بذاتها الإنسانيّة وتريد العودة لإنسانيتها، كونها لا تجيد استخدام عقلها في التعامل مع مَنْ حَيْوَنَهَا، والحيوانات البشريّة غالباً ما تثور ضد من يسوسها، فتكون النتيجة العقاب، وفي أقصى حالاته القتل.

ملاحظة: غالباً ما تظهر السلطة الأرثدوكسيّة في العرف والعادة والتقليد، وهي تمارس قمعها الفكريّ والعمليّ للفرد والمجتمع وحتى الدولة. وهذا ما يساهم أيضاً في تعميق حالات التخلف بكل مستوياته داخل المجتمع والدولة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

 

العقلُ الفلسفيُّ عقلٌ كونيُّ، عابرٌ للجغرافية الإثنيّة والأيديولوجيَّة والدينية. قراءةُ الفلسفة بعيون أيديولوجية تنتجُ أيديولوجيا، قراءةُ الفلسفة بعيون لاهوتية تنتجُ لاهوتًا، قراءةُ الفلسفة بعيون كلاميّة تنتجُ علمَ كلام. لا ينتج الفلسفةَ إلّا التفكيرُ الفلسفي، والقراءةُ الفلسفيّةُ للفلسفة.

إيقاعُ التقدم المتسارع للذكاء الصناعي والروبوتات، والهندسة الجينية، وتكنولوجيا النانو، وتكنولوجيات متعدّدة تتحدث لغةَ الذكاء الصناعي وبرمجياته، يخلقُ طورًا وجوديًا بديلًا تعيد تكوينَه الأنماطُ المختلفة لصلاتِ الإنسان بالأشياء، وصلاتِ الإنسان بالكائنات الحيّة المتنوعة في الطبيعة، وصلاتِ الإنسان بالإنسان. ينتجُ التقدمُ المتسارع حالةَ لايقين شاملة، تطول: القيمَ، والمعتقدات، والثقافات، والاقتصادات، والنظم السياسية، والسياسات المحلية والإقليمية، والعلاقات الدولية، والعلاقات الاجتماعية، وكلَّ شيء في حاضر الإنسان ومستقبله.كلّما تضخم اللايقينُ واتسعت مدياتُه اتسعَت الحاجةُ لحضورٍ فاعلٍ للعقل الفلسفي. الأسئلةُ الوجودية الكبرى وأزماتُ العقل والروح ليست من اختصاص العلم، ولا تقع في فضاء المادة والتجربة.

‏‏لم يولد العلمُ إلا ‏في أحضان الفلسفة، تظلّ الفلسفةُ تواكبُ العلم، تتغذّى بأسئلته الحائرة ومشكلاتِه وأزماته خارجَ حدود المادة والتجربة، وترفده وتغذّيه بالأجوبة والحلول والرؤية لما تنتجه تطوراتُه من تساؤلاتٍ ومشاكلَ وأزماتٍ روحية وأخلاقية ونفسية وعقلية، سواء أكانت هذه المشاكلُ والأزمات فرديةً أو مجتمعية. لن يكتفي العلمُ بذاته ويستغنى عن الفلسفة، مهما بلغ تقدّمُه وتنوعت وتراكمت نتائجُه.كانت الفلسفةُ وستبقى تستجيبُ لما يستجدُّ من اكتشافات في الفلك والفيزياء وغيرهما من العلوم، فقد كان لعلم الفلك الحديث الذي بدأ مع كوبرنيكوس (1473 – 1543) ونظريتِه في مركزية الشمس ودوران الأرض والأجرام الأخرى في المجموعة الشمسية حولها، أثرٌ مباشرٌ على التفكير الفلسفي والميتافيزيقي في أوروبا من بعده. وهكذا تأثّر هذا التفكير بقوانين الحركة والجاذبية العامة في فيزياء نيوتن (1642 – 1727)، كما تأثَّر لاحقًا بفيزياء الكوانتم لماكس بلانك (1858 – 1947)، ونظرية النسبية لأينشتاين (1879 – 1955).

 علاقةُ الفلسفة باللاهوت عضوية، فمثلما يتغذّى ويتجدّدُ اللاهوت بالفلسفة تتغذّى الفلسفةُ وتتسعُ آفاقُها وتتنوّعُ حججُها بالسؤال اللاهوتي. السؤالُ اللاهوتي يبحثُ عن يقينيات لا يظفر بها مهما توالدت الأجوبةُ وتواصلت الاستدلالات. إنه سؤالٌ مفتوح،كلُّ سؤال مفتوح منجمٌ ثمين للتفلسف.كلّما ابتعدَ اللاهوتُ عن الفلسفة وقعَ فريسةً للامعقول. لا يضعُ اللاهوت في حدوده ويمنع تغوّله إلا الفلسفة، ولا يتجدّدُ اللاهوت إلا عندما يعيدُ النظرَ في الحقيقة الدينية ويتأملُها بعين فلسفية.

إصداراتُ الكتب والدوريات التي تحملُ عناوينَ فلسفية لا أقرأ فيها غالبًا رؤيةً فلسفية، ولا أرى أكثرَها تتحدثُ لغةَ الفلسفة. صارت الفلسفةُ لافتةً يختفي وراءها جماعةٌ من المولعين بالشهرة، يراكمون عنواناتٍ بلا مضمون فلسفي، ويكتبون موضوعاتٍ عويصةً وهم عاجزون عن التفلسف وخلق الأسئلة الفلسفية، تتكدّسُ في كتاباتهم كلماتٌ تتخبّطُ في دلالتها ولا تفصحُ عن وجهتها، لا تقرأ فيها ما يشي بشيءٍ يصنَّفُ على الفلسفة. في أقسام الفلسفة بجامعاتنا قلّما نجدُ أستاذًا يتفلسف خارج النصِّ الذي يقرّرُه لتلامذته، مَنْ يعجز عن التفلسف يعجز عن تعليم الفلسفة، التفلسفُ غايةُ تعليم كلّ فلسفةٍ تنشدُ لنفسها إيقاظَ العقل.

***

د. عبدالجبار الرفاعي

............................

* بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة،17.11.2022

 

ما برحت أناملي ومداد قلمي وسطور الأرواق، تستوقفني عن المضيّ في السرد والحكي عن تلك الأطوار التي مرت بها المعارف الفلسفية، لتسألني عن تلك الرحلة، ومن أين نبدأها للوصول إلى المقصد هل ما نرجوه في الذهاب أم الإياب؟ ويشكو صرير قلمي من ذلك التيه الذي مشينا إليه مُرغمين رغم وضوح السبيل وهو على النقيض ممّا نحن فيه. 

فأجبتهم جميعاً أن طالب الوصال لا يُعييه طول السير ولا يضنيه كثرة الترحال؛ فالعشق وحده يُهديه، ودفء اللقاء يُرضيه.

ونعود للسرد للوقوف على ما كنا فيه.

لم تكن فترة الستينات من القرن العشرين تمثل مرحلة بؤس الفلسفة في البرامج الدراسية للمرحلة الثانوية؛ لهشاشة بنيتها المعرفية التي كانت تقدّم في الكتاب المقرر فحسب؛ بل كان هناك عوامل أخرى أعتقد أنه من الواجب الإشارة إليها، والتحري عن مدى تأثيرها في العقل الجمعي الناشئ، أي في شبيبة المستقبل.

فتحدثنا الوقائع التاريخية أن المعارف الفلسفية قد أُدرجت في المقررات الدراسية للمرحلة الثانوية منذ عام 1925م، وكانت مقتصرة على تدريس مادة الأخلاق والمنطق، وانضم إليهما علم النفس وذلك بصورة هامشية، ولم تُخصص لهذه المعارف سوى حصّة واحدة أسبوعياً. وكانت فلسفة الأخلاق تلقى للطلاب في صورة نصائح وحكم وعظات، وهي أقرب في بنيتها السردية إلى التربية الدينية. أمّا مادة المنطق فقد صيغ مضمونها هى الأخرى بأسلوب يتوائم مع مادة علم النفس.

وفي عام 1933م أجتهد المعنيون المستنيرون بدراسة الفلسفة النظريّة في المرحلة الثانوية؛ فخصصّوا لها كتاباً دراسياً؛ لتوضيح أهمية الفلسفة لتبرأة معارفها من تهمة الإلحاد التي صدت الرأي العام التابع عن دراستها، كما عُنيا مؤلفا الكتاب بتوضيح أن الدين الإسلامي ليس ضد دراسة الفلسفة، وأن المنتسبين للدين هم الذين أشاعوا ذلك بين العوام في مقدمة الكتاب المقرر المعنون بـ (تاريخ الفلسفة) لـ محمد على مصطفى، وأحمد عبده خيرالدين. وذلك بقولهما (مضى على المناهج الدراسة العالية في مصر زمن، كانت فيه ناقصة، لخلوها من الفلسفة، ويخيل إلينا أن هذا النقص يرجع إلى عدة أسباب:

- منها أن التعليم كان في يد نفر من رجال الدين، الذين يمقتون الفلسفة، ويحرمون على الناس دراستها، لما بينها وبين العقائد الدينية من ظاهر الخلاف ... على أن الدين الإسلامي لا يعادي الفلسفة في شيء؛ فقد خاطب العقل وحض على النظر في ملكوت السموات والأرض، وأنتهج القرآن منهجاً لم تألفه الكُتب قبله ولا بعده، فاستنهض الأفكار، وطالب أولى البصر من بني الإنسان بالإمعان في البحث والجري وراء الحقيقة حتى ينكشف لهم بعض الأسرار التي أودعها الخالق في خلقه. وتآخى العقل والدين لأول مرة في كتاب مقدّس على لسان نبي مُرسل بتصريح لا يقبل التأويل، واستقر بين المسلمين كافة إلا من لا ثقة بعقله ولا بدينه ... نعم أعتمد الإسلام على العقل ورفع بذلك من شأن الإنسان، وعلمه أن يهتدى بنور العلم ويسترشد بدلائل الكون، ويعتبر بما فيه من أحداث، وطالب الناس بأن يتدبروا في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار... ومنها: أن العقول كانت لم تصل إلى مستوى تشعر فيه بضرورة الفلسفة، وبأنها من وسائل الثقافة العامة، ورقي المدارك وشحذ المواهب، وتوسيع الأفق العقلي، وأساس النهوض، يضاف إلى هذا، أن كلمة الفلسفة من الكلمات التي أُسيء استعمالها في الوقت الحاضر؛ فإنّ نفراً من الناس لا يستعملها إلا في المناقشات الخالية، التي لا تجدي نفعاً، ويزعمون أن الفيلسوف هو الرجل المُغرم بضروب من الخيال، الذي أعمته الأوهام والأحلام عن إدراك الحقائق ... والحق أن الفلسفة والحياة أمران متلازمان ... فالفلسفة هي الشمس تنبعث منها الحرارة والنور والحياة إلى سائر العلوم ... وتاريخ الفلسفة جديرٌ بالدراسة إذْ يرينا صورة واضحة عن نشوء العقل، ونضوج الفكر، ويعرض علينا النظريات المختلفة التي أجهد الفلاسفة عقولهم في الوصول إليها، ويبيّن مبلغ تأثير هذه النظريات في حياة الأفراد والجماعات، ويكشف لنا الحُجب عن كثير من أسرار الكون وما فيه من إبداع في الصنعة، وانسجام في التأليف، ويرشدنا إلى طريق السعادة، ويبعث في نفوسنا رغبة صادقة في إتّباع سنن أولئك العلماء، الذين وقفوا حياتهم للعلم، ونصبوا أنفسهم لنشر المبادئ وتعليم الناس، مهما لقوا في ذلك من محنة وأذى، وهو الذي يهذب من نفوسنا، ويوسّع نطاق عقولنا، وينمي فينا كثيراً من العواطف الطيبة، ومنها محبة الخير للناس عامة، ويقدرنا على إدراك الخدمات الجليلة، التي يؤديها إلينا العلماء في البلاد المختلفة، وإنْ تباينت مذاهبهم وتعددت نحلهم).

ويصرح إبراهيم مدكور ويوسف كرم في مقدّمة كتابهما (دورس في تاريخ الفلسفة) عام 1940م، بأن معارفنا الفلسفية لا تتوائم مع واقعنا والأحداث التي طرأت على مجتمعنا؛ الأمر الذي يستجوب معه تطوير دروسنا الفلسفية التي يدرسها شبيبتنا صناع المستقبل (فإنّا لا نستطيع أن نشيد بناء استقلالنا الفكري إلا إن دعمناه على أساس متين في مرحلتي التعليم الابتدائي والثانوي. وبديهي أن هاتين المرحلتين هما وسيلة التكوين الشعبي والثقافة العامة ... ولقد كان حظ الفلسفة في هذا التغيير الأخير أن بُعثت من مرقدها، ورد إليها بعض من حقها، ومُنحت قسطاً من الأهمية، فعُدّل منهج ما كان يُدرس من موادها، وأضيفت إليه مادة جديدة هي تاريخ الفلسفة. وفي رأينا أن هذه المادة أسهل على البادئين وإلى عقولهم أقرب؛ وكثيراً ما يُستعان بالتاريخ والقصة على توضيح ما غمض من الأفكار، وتذليل ما صعب من الآراء والنظريات. هذا إلى أن تاريخ الفلسفة عرضٌ لمشكلاتها وبيانٌ للأدوار التي مرّت بها، ففي دراسته ما يسمح لنا بالإلمام بالمسائل الفلسفية المختلفة - منطقية كانت أو أخلاقية، سيكولوجية كانت أو ميتافيزيقية - ومتابعتها في لحظات نهوضها وتقدّمها أو ضعفها أو انحطاطها. وكم تكسبنا هذه الدراسة دقة في الحكم، ومهارة في النقد، وسعة في النظر، تمكننا من الإحاطة بأطراف الأشياء المختلفة والموازنة بين الآراء المتعارضة، وكل تلك أسلحة ضرورية للسير في حياتنا الملآى بمتنوع الميول والنزعات، ومتباين الأفكار والاتجاهات).

وجاء في مقدمة كتاب (مشكلات فلسفية) المقرّر على السنة النهائية في التعليم الثانوي عام 1954م لـ إبراهيم عبدالمجيد اللبان، وتوفيق الطويل، ومحمد حسن ظاظا، وعبده فراج: (أن غاية هذا الكتاب إزالة الغموض الذي يلابس مفهوم الفلسفة في أذهان من يجهلونها. ألقينا في مدخله بعض الضوء الذي ينير الطريق إلى فروع الفلسفة ومجالاتها وتخيرنا في أبوابه نماذج لمشكلات فلسفية تتصل بحياة الإنسان في كل زمان ومكان، وتوخينا الأمانة في عرضها وبيان الحلول التي قُدِمت لها، راجين أن تثير في الذهن معاني تساعد على تكوين المواطن الصالح، وبهذا نساهم - ولو بقدر ضئيل- في تحقيق الهدف الذي تتوخّاه السياسية التعليمية المصرية في عهدنا الجديد).

وحسبي أن أوضح علة إيراد هذه النقول بنصّها من مصادرها الأولى التي كُتبت فيها للوقوف على عدّة مسائل تبرر دعوتي إلى ضرورة الرجوع إليها إذا ما أردنا تطوير مقرراتنا الدراسية في المرحلة الثانويّة.

تلك هي إجابتي عن الأسئلة المطروحة. ثم جاء دوري لأتساءل: ألم تبرر هذه النقول الغاية الحقيقة للفلسفة ووظيفتها؟ ألم تكشف الواقعات عن مواطن بؤس الفلسفة المتمثلة في طورها التلقيني في نهاية العشرينات من القرن الماضي؟ وهل هناك شك في أن فترة الستينيات تمثل طور جنوح الفلسفة عن مقصدها وعزوفها عن رسالتها؟ وكيف لا وقد استحالت المعارف الفلسفية إلى معارف هشّة إذا ما قُرنت بزخم التوجيه السياسي، وتراجع العديد من الأقلام عن البوح بخطورة هجر المعارف الفلسفية وتربية الطلاب على النقد والمراجعة والتحرر من قيد التلقين الذي أصاب المُقررات الفلسفية الدراسية في مقتل؟ ونتسأل من جديد: ألسنا في حاجة للرجوع إلى الفترة الممتدة من (1935م إلى 1955م) لإحياء الدراسات الفلسفية في مقرراتنا الدراسية؛ لتتواصل مع الدراسات الجامعية المرجوة؟ ألسنا في حاجة لإعادة دراسة مبحث فلسفة القيم لنقوّم أخلاقنا التي هوت إلى دَرك العُريّ وانعدام الحياء والكذب والحقد والعنف والتطرف بأوسع معانيه، وانحطت أذواقنا بداية من لغة الحوار، ومروراً بأغانينا وما نشاهده من أفلام ومهرجانات، وانتهاءً بما نُبيحه على شبكات التواصل؟ ألسنا في حاجة لإيقاظ وعينا القومي والتمسك بهويتنا المصريّة وانتمائنا وولائنا بالأصيل من ثقافتنا؟ ألسنا في عوز لرأي عام قائد يستأنس الربط بين ما أنقطع بين خطاباتنا ومشروعنا الحضاري الذي أُتهم بالعجز والقصور عن بلوغ مقصدنا من التقدم والرقي؟ ألسنا في حاجة إلى إحياء رسالة الفلسفة في منابرنا الثقافية وكل معاهدنا التعليمية؛ فالتفسير والتبرير هو ضالتنا التي افتقدناها لمخاطبة الجمهور وتوعيته وتبصيره وتوجيهه؟ ألسنا في حاجة أيضاً للثورات الفكرية الهادئة التي تنشد التغيير لإصلاح ما فسد، وشحذ الهمم والبناء وهدم كل أوكار التخلف والتطرف والفساد والإرهاب؟

وللحديث بقيّة لإكمال ما بدأناه عن سرد واقعات رحلتنا النقدية لأطوار معارفنا الفلسفية في الثمانينات من القرن الماضي.

***

بقلم: د. عصمت نصّار

تُعتبر الاخلاق Ethics وبشكل متزايد جزءاً من المناهج الدراسية، وكذلك بالنسبة للاخلاق التطبيقية في الصفوف التمهيدية هي جزء من التدريب الذي يمارسه الممرضون والممرضات والعلماء والجنود. التعليم الأخلاقي يسود في كل مكان، ومع انه لايتطلب دائما نقاشات نظرية معقدة، لكنه يجب ان يتضمن مقدارا من الفلسفة. هناك أسباب قوية للنظر الى الفلسفة الاخلاقية لكي نتعلم فيما يخص الافعال الاخلاقية الواقعية الحاصلة في العالم – وهناك بالطبع مخاطر ايضا.

لماذا لا نستطيع العمل بدون فلسفة أخلاقية؟

يعتمد التعليم الاخلاقي على طريقة فلسفية. هذه الطريقة تتطلب ادراك المفاهيم والاختلافات، ومعرفة ما يجعل الجدال صالحا عند التعامل مع الحجج المضادة. تلك المهارات هي حيوية في عمل الحجج الاخلاقية  التي تستلزم النظر في المبادئ الاخلاقية واللجوء للمنطق والمقارنة بين الحالات. ولأن العقائد الاخلاقية ليست محسوسة او مختبرة علميا، سنحتاج الى وضوح مفاهيمي لتجنب سوء فهم الطرف الآخر. ايضا،كوننا منسجمين فلسفيا،يمكن ان يمنعنا من وضع استثناءات لأنفسنا (الشكل الشائع للنفاق).

ولكن لماذا تُعتبرالحجة الاخلاقية ذاتها شيء جيد؟ الحجة الاخلاقية تسمح لنا بالاستمرار في الانخراط مع الآخرين حتى عندما لانتفق معهم حول القيم. القيم ليست شيئا ثابتا او معطى، بل يمكن ان تكون قابلة للنقاش العقلي.

الفلسفة الاخلاقية ايضا تساعدنا في مسائلة الافتراضات غير النافعة وتبلغنا حول الطرق التي ترتبط بها قيمنا بمعتقداتنا الوصفية، مثل الفرضيات العلمية حول سايكولوجية الانسان. مع ذلك جميع النقاشات اللامتناهية  والتي بعضها كانت تجري منذ ألف سنة – قد حدث فيها تقدم بالفعل. نظريات الحقوق الطبيعية كانت عبارة عن أنظمة فلسفية سادت قبل وقت طويل من حماية قوانين حقوق الانسان . العديد يقبل بان حقوق الانسان تشكل تقدما أخلاقيا حقيقيا. الفلسفة الاخلاقية تمثل سجلا مستمرا لما تعلمناه حتى الان. الفلسفة الاخلاقية تشجعنا من خلال طريقتها ومضمونها الفكري وحديثها عن التحديات الاخلاقية. دراسة الاخلاق يمكنها ان تحفزنا للقيام بسفرة شخصية نتعلم فيها حول انفسنا والطريقة التي نفكر بها، نتعلم ان الآخرين يفكرون بطرق مختلفة.

المخاطر

تميل الفلسفة الاخلاقية للتركيز على مجالات عدم الاتفاق. غرف تدريس الاخلاق التطبيقية تستكشف قضايا خلافية مثل الاجهاض والقتل الرحيم، بدلا من مناقشة العديد من القضايا التي نتفق عليها. كذلك، الفلسفة الاخلاقية تستكشف ما لدينا من أسباب في كوننا أخلاقيين. ولكن عادة نحن نستطيع الاتفاق على الفعل الصحيح حتى عندما لا نتفق على المبادئ الاساسية. الفيلسوف الفرنسي جاكوس مارتن Jacques Maritain التقط هذه الفكرة اثناء كتابة الاعلان العالمي لحقوق الانسان، عندما لخص افكار فلسفة اليونسكو بالقول : "نعم، نحن نتفق حول الحقوق، ولكن بشرط ان لا أحد يسألنا لماذا". حالما ننطلق من الحجة الاخلاقية الاساسية الى نظرية أعلى، تصبح الفلسفة صعبة – مجال النخبة من ذوي الموهبة والاستعداد الذهني والوقت للتمكن من المعرفة المكثفة المطلوبة. عندما يصبح الانشغال الفلسفي مرهقا ،فان اولئك الذين يفتقرون لهذه الخبرة المكتسبة سيشعرون انهم في موقف يصعب التعامل معه . بالنسبة لهم، ربما تبدو الحجة الفلسفية سلاح ردع يُستعمل كوسيلة للاستكشاف المتبادل. الكثير من الفلسفة الاخلاقية يستلزم دراسة نظريات أخلاقية عامة، مثل تلك التي وضعها ارسطو (نظرية الفضيلة)، وكانط (علم الاخلاق) ومل (مذهب المنفعة). الفلاسفة لديهم اسباب جيدة لتطوير هذه الأنظمة المعقدة. نظريات توفر طرقا منهجية للتوضيح، والوصف وتبرير الفعل الأخلاقي.

لا يمكن عمل فلسفة أخلاقية بدون نظريات أخلاقية

غير ان التنظير الفلسفي التام قد ينطوي على سلبيات. قبول نظرية معينة يعني رفض كل النظريات الاخرى وما تقدمه من رؤى متفردة. كذلك، بما ان الداعين للنظرية يتطلب ان يكون لديهم سبب للاعتقاد بنظريتهم، هم يمكن ان يصبحوا غير متسامحين. ربما يرون ان حججهم يجب ان يُجاب عليها (واذا لم يتضح زيفها) ستُقبل. هم يميلون للاستنتاج ان غير المؤمنين جميعهم دوغمائيين غير مقبولين. وما هو اسوأ ان الكورسات التعليمية احيانا تعرض للطلاب فقط نوعا واحدا من النظرية الاخلاقية بدون التطرق للبدائل الاخرى. وبدلا من توسيع الآفاق الاخلاقية لاولئك الطلاب،فان التعرض لنظرية عليا يضيّق للطلاب آفاقهم.

أي اتجاه

اذا كان التعليم الاخلاقي يحتاج فلسفة اخلاقية، والفلسفة الاخلاقية تحتاج نظرية عالية،كيف سنعمل؟ هناك اقتراح،وهو ان معظم النظريات الاخلاقية تركز على رؤى مركزية. المذهب النفعي يخبرنا ان ما يهم هو النتائج المتمثلة برفاهية الآخرين. فلسفة الاخلاق Deontology تؤكد ان الاخلاق تتطلب من كل الافراد قبول انهم ملزمون بواجب التصرف بطرق معينة تجاه الناس الآخرين. نظرية الفضيلة تذكّرنا ان الشخصية تقود الفعل وان الحياة الاخلاقية تحمل مكافئتها الخاصة. هذه الرؤى جميعها تعطي منظورات قيّمة عن الموزائيك الاكبر لحياة الانسان الاخلاقية. التعليم الاخلاقي يكون في أفضل حالاته عندما يعرّف الطلاب على مختلف المنظورات ورؤاها المتفردة.

بالنسبة للناس العاديين الذين يحاولون التفكير من خلال اسئلة أخلاقية عملية،فان الرؤى هي التي تهمّهم وليس النظريات.

***

حاتم حميد محسن

 

 

(الانسان هو المكان الوحيد الذي يتجمّع فيه الأله) ماكس شيلر

تعريف

ماكس شيلر (1874 – 1928) أحد فلاسفة الحياة (1900- 1950) في بداية نشأته، وفي مرحلة لاحقة أشتغل على فلسفة فينومينالوجيا هوسرل محاولا تطويرها بمفهومه الفلسفي الخاص به.وفي سنوات شبابه وقع شيلر تحت تأثير أستاذه (أيكن) أحد فلاسفة الحياة الذي كان أهتمامه منصّبا حول حياة العقل، بأختلاف عن فلاسفة الحياة مؤكدا على مركزية العقل ومحوريته في الفهم المعرفي والوجود الذي ينكرونه عليه فلاسفة الحياة. من المهم التنبيه الى ان ماكس شيلر لا يؤمن بوحدة الوجود التي هي نزعة صوفية كما هي عند اسبينوزا. كما ان ماكس شيلر لا يلتقي مادية فيورباخ في صوفيته التاملية. والسبب ان شيلر احد فلاسفة الحياة في القرن الثامن عشر حيث يفسرون علاقة العقل بالطبيعة بمنظار اهمية العقل في ادراكه تعالق الطبيعة بالانسان.

كما تأثر شيلر لاحقا بكل من نيتشة ودلتاي وبرجسون، ما جعل (ترولتش) ينعته ب (نيتشة الكاثوليكي) حيث كان شيلر أحد المتأثرين بالقديس أوغسطين أيضا. وبحسب المعنيين بتاريخ الفلسفة الاوربية الحديثة في القرن العشرين، فهم يرونه يستحق الاهتمام الخاص به لأنه أهتم بقوة وحماسة على كينونة الشخص والعودة الى الانسان والاهتمام بقضاياه.(1)

وما يهمنا في هذه المداخلة السريعة هو التعريف بمفهوم شيلر عن العقل والمعرفة بمسح أجتزائي مقتضب غير مخّل، من حيث أن شيلر لديه أهتمامات فلسفية عديدة ،يحتاج كل مبحث منها الى دراسات مستفيضة معمّقة، فمثلا هو أهتم بعلم الرياضيات وله كتاب فيه، وأهتم بالمنطق ايضا، وبمثالية كانط وكتب فيها ، وكتب في الاخلاق، والفينامينالوجيا، وكذا في موضوعة الحب ، وفي المعرفة ، والبنية الماهوية لكل ماهو موجود منتقدا كانط فهمه الادراك العقلي للوجود، في وجوب معرفة (ما) الاشياء قبل تساؤلنا كيف نعرف الاشياء كما ذهب له كانط وفلاسفة الحياة.

شيلر والعقل

قبل دخولنا معترك بعض أفكار شيلر لا بد لنا من عرض تحقير بعض فلاسفة الحياة للعقل فقد ورد على لسان كلاوجز: (أن العقل خصم للنفس وخصم للطبيعة وخصم للاخلاص ولكل ماله قيمة، لذا علينا رفض العقل وأن نعود الى تصور العالم على ما كان عليه عند البلاجيين، أي الى الحياة المتحررة من العقل تماما التي تتمتع بالروح البدائية بغير وعي منها)(2)

ينتقد ماكس شيلر كانط في منهجه الاستقرائي في المعرفة قوله :(أن ميدان القبليات- البديهية لا علاقة لها على أي نحو مع ما هو صوري،كما كان يرى كانط. فهناك – والقول لشيلر- ما هو مادي، وهي مضمونات مستقلة عن الخبرة وعن الاستقراء، ويرفض شيلر بشدة مكافئة كلا من الاتجاهين التصوري، والاتجاه الاسمي الوصفي)(3)، هذا التوصيف لايمّثل سوى أتجاه مثالي واحد هو قابلية العقل التجريدية في التعبير عن الوجود بالفكر واللغة، ولا يمثل أية آلية جديدة غيرها في تعبير العقل عن مدركاته وعن المعرفة أيضا.

وأن مثالية شيلر هنا هي نسخة متقدمة عن مثالية كانط، والاثنتان تدوران في حلقة مثالية دائرية واحدة في فهم الوجود والمعرفة. كونهما يفترضان وجود مدركات قبلية فطرية بديهية معطاة للعقل.

وهذا مايرفضه جون لوك صاحب الوضعية المنطقية التجريبية الجديدة وفلاسفة آخرين تماما معتبرا أن الخبرات القبلية العقلية أن وجدت فهي تكون مكتسبة بالتجربة العملية والخبرة المتراكمة، وليس بالمعطى الفطري الجيني الوراثي لها، والخبرات العقلية لا يكون مصدرها سوى التجارب الحياتية و العملية، وبغير ذلك فلا وجود حقيقي لها. بوجيز العبارة فأن كل معرفة نعتبرها فطرية انما تكون بدايتها الفطرية مكتسبة من  الواقع وهي حقيقية صحيحة من وجهة نظري.

فهي أي الخبرات القبلية الفطرية المخزّنة بالذاكرة انما هي مكتسبة وليست خبرات جينية بيولوجية موروثة تولد مع الانسان مزوّدا بها. وفي عبارة جون لوك الشهيرة أن الانسان يولد طفلا وعقله صفحة بيضاء ، هو رد مباشر شبه يقيني في دحض الخبرات القبلية عند الانسان ان تكون فطرية غير مكتسبة في البدء.

ومن الجدير ذكره أن من بين المنادين بالخبرات القبلية ديكارت وهيوم وجون ديوي وغيرهم من فلاسفة الخبرات القبلية الموجودة في عقل الانسان بالفطرة كمعطى تتشارك به بيولوجيا الجينات الوراثية مع هبة الخالق لها للانسان عند ديكارت فقط بأعتباره المتدين الوحيد من بين كلا من ديفيد هيوم وجون ديوي وجون لوك..

كما أن التفريق بين ما هو مدرك تصوري مثالي وما هو أسمي وضعي وعلاقة العقل بهما مسألة محسومة تماما في صالح العقل وليس في صالح التجزيء لادراكات لا تحصى فهي تكون جميعا مصدرها الادراك العقلي الواحد، وليس معنى هذا أن العقل يدرك المعطيات المادية والمعرفية والانطباعلت النفسية، والحب، والعواطف والاخلاق والجمال والقيم وغيرها بآلية أدراكية واحدة يقوم بها العقل حسيا... وأنما تقوم بهذا التنوع الكثير جدا من المدركات الواردة بشكل حزم لا نهائية ترد العقل وتستقبلها وتعالجها مليارات الخلايا العصبية الموزعة في القشرة الدماغية، وفي تخصصات غاية في التعقيد والتنظيم والاعجاز التنفيذي لمخرجات العقل في جدلها التخليقي مع العالم الخارجي ومع موضوعات الذاكرة أيضا.أي الموضوعات التي تستحدثها الذاكرة التخييلية وتضعها أمام العقل للنظر بها وأعطائه ردود الافعال عنها.

ثم أن حصيلة أدراك الواقع المادي، هي ذاتها حصيلة العقل الذي يخلق التصورات العملية المادية لها ، والتصورات المثالية التجريدية الصورية عنها. فكلتا الفعاليتين هما أدراك عقلي واحد في تخليقه وتعبيره عن المدركات والوجود كوحدة واحدة يقوم العقل بالبت في أمر أصدار الايعازات الانعكاسية الجوابية الارادية عنها وغير الارادية المتنوعة العديدة بشأنها...ولا مجال في الفرز والتفريق لوظائف العقل الادراكية من خلال تجزئتها الى مادية أو مثالية تجريدية أو غيرهما في أكتساب المعرفة.

لأن مثل هذا التجزيء في وظائف العقل يقودنا الى ما لا يمكن حصره من أنواع الادراكات التي يستلمها دماغ الانسان من الطبيعة والمحيط والاجابة عنها خلال لحظات في بعضها ودقائق فكيف يكون الحال مع ردود الفعال العقل الانعكاسية في الايام والاسابيع والشهور والسنين الخ.؟؟

ويرى شيلر: (أن الذي يمّيز العقل الانساني تمييزا قاطعا هو نشاط الافكار التصورية، أي ملكة فصل الماهية عن الوجود، وبالتالي فأن العقل موضوعي، وأمكانية يحددها شكل أو هيئة الاشياء ذاتها) (4)

أن عبارة شيلر هذه التي مررنا عليها،هي أن العقل يتميز تمييزا قاطعا في نشاط الافكار التصورية صحيحة لكنها لا تقوم على فصل الماهية عن الوجود بل لأن قدرة العقل تقف عند حدود معرفته ظواهر الوجود الذي يمكن التعبير عنها تصوريا باللغة،أي في تعبير العقل عن مدركات الظواهر بالفكر التجريدي واللغة، وما لا يمكن التعبير عنه بالفكر واللغة الصورية غير موجود، بمعنى غير مدرك عقليا لأن العقل عاجز عن أدراك ماهيات الاشياء ولا متاح للعقل التعبير عنها بنشاط صوري كما في التعبير عن الاشياء في ظواهرها وصفاتها الخارجية. لذا يكون العقل في حّل من أمر فصل الماهية عن الوجود للاشياء.وليس كل الاشياء في العالم الخارجي تمتلك ماهيات هي غيرها المدركة في صفاتها وظواهرها الخارجية المدركة.

أذ ربما تكون معرفة ظواهر وصفات الاشياء كاف لادراكها المادي وليس من حاجة بعدها البحث فيما وراء الصفات البائنة عن ماهيات لا تكون موجودة خارج او بمعزل عن الصفات المدركة وهو ما تذهب له المادية الماركسية.

وهي مسألة غاية في الدقة وصواب التعبيرفي توصيف ظواهر الاشياء التي يتعذر على العقل التعبير عن ماهياتها، من حيث أن وسيلة العقل في أدراك الاشياء في الطبيعة وعالم الموضوعات الخارجية المستقلة منها في وجودها الطبيعي، أو الموضوعات التي تبتدعها الذاكرة المخيلة العقلية في الذهن والتفكير العقلي الصامت ومعالجتها، أنما تكون غاية العقل من ذلك ليس الاقتصار على فهم الظواهر وتفسيرها أو تحليلها فقط، بل أن فاعلية ونشاط الافكار الصورية أي التعبير بالفكر واللغة عن مواضيع الادراك العقلي، أنما هي في حقيقتها تخليق العقل للاشياء المدركة ومحاولة تغييرها نحو الافضل، وبما يخدم حياة الانسان وليس الاكتفاء بمعرفتها تجريدا سلبيا.

ولو نحن أقتصرنا على أدراك العقل للاشياء من أجل معرفتها وتفسيرها فقط وليس من أجل تغييرها ووضعها في خدمة حياة الانسان نحو الافضل لكنا الى يومنا هذا نعيش في عصور الكهوف البدائية.

أن أدراك الاشياء في الطبيعة هو قوة مادية يمتلكها الانسان من أجل سد حاجاته وليس من أجل التعبير المجرد عنها كمدركات لا أهمية لها في حياته. كما أن الافكار التصورية للعقل، أنما هي أنعكاس جدلي حيوي غير ميكانيكي في تعالق المادة والفكر على مستوى الادراك العقلي للاشياء وأدامة حيوية تطورها.

والافكار التصورية في التعبير عن الوجود، أنما هي تمثل مرحلة ثانية تلي مرحلة الادراك العقلي للاشياء من حيث أهمية أجراء عملية تحليلها وتخليقها في الذهن أولا.. فالعقل يدرك مواضيع الوجود المادي والخيالي معا في كل تنوعاتهما واختلافاتهما كحزم لا تحصى من الادراكات التي ترد العقل عن طريق الحواس والذاكرة، بعدها يقوم العقل  بتخليق دينامي حيوي لها قبل التعبير عن مواضيع الادراك بالفكر واللغة التجريدية الصورية داخل وخارج العقل في مجمل موضوعات الادراك وتنوعاتها وتوقيتاتها الزمنية في وصولها كمعطيات ادراكية للعقل... وبهذا يكون العقل (موضوعيا) كما يصفه شيلر وليس ذاتيا فقط، بمعنى أنه مادي فاعل ومؤثر بالوجود وليس مدركا هامشيا محايدا ذاتيا في تدبيره حياة الانسان...كما أن من المهم معرفة ادراك الاشياء عقليا لا يعني معرفتها.

والعقل في الوقت الذي يعي نفسه أو ذاته، هو عقل موضوعي في مهمته أدراك عالم الاشياء الخارجي أيضا. والعقل يدرك وجود الاشياء ومحاولة أعطائه الفهم التحليلي والتفسيري لها بالفكرالجدلي ،قبل أهتمام العقل التعبير عنها صوريا تجريديا باللغة. أما الشيء الذي نجده يستحق فعلا الاهتمام الجاد والكبير به ومناقشته هو أعتبار شيلر أن العقل يمتلك (ملكة) فطرية يستطيع تمييزه بها نوعية الشيء المدرك من حيث امكانية العقل فصل ماهيته عن مظاهره وظواهره الخارجية.وبذلك يسبغ شيلر على العقل أمكانية لا يمارسها العقل وعاجز عنها ولا هي من اختصاصه القيام بها ونعني بها قيام العقل فصل الماهية عن الوجود كما يرغب شيلر.

كما نجد أن تخطئة شيلر لكانط في أصرار هذا الاخير عدم امكانية العقل فصل ماهيات الاشياء عن ظواهرها الخارجية المدركة،أن تكون مصادرة رأيه بهذا المعنى والتعبير الفلسفي الاجتهادي المقبول، هو في مصادرته دونما أعطائنا شيلر بديلا فلسفيا مقنعا في كيفية أمكانية العقل فصل الماهية عن الوجود وكيف؟

بالحقيقة أن وجود الاشياء والمواضيع المستقلة في الطبيعة، وتمايز ماهياتها عن ظواهرها أو ظاهرياتها ، هو في تعبير الوجود عن ذاتيته المستقلة بالطبيعة (ذاتها) كماهية غير مدركة وظواهر متعالقة بها قابلة هي وحدها لادراك العقل لها... والعقل في أدراكه الشيء يدركه كوحدة واحدة من المكونات الظاهرية والماهيات المغلقة غير البائنة ادراكيا، ولا يستطيع العقل فصل معرفة ماهية الشيء عن ظواهره الخارجية لا في أدراكه ولا في أعادة تخليقه له. ،فماهية الاشياء وعدم أدراكها حدسا عقليا أو تجريبيا أنما هي من خصائص الطبيعة غير العاقلة وليس من مهامها البيولوجية وظائفيا، التي هي الاخرى كما العقل لا تستطيع فرز ظواهر الاشياء عن ماهياتها بالادراك المباشرلها.

فالطبيعة هي موضوعات أدراكية للعقل لكنها لا تمتلك أدراكا ذاتيا ولا موضوعيا جدليا متخارجا كما هو عند الانسان.. وليس من مهمة العقل المدرك للطبيعة والاشياء في ظواهرها البادية للمعطيات الادراكية الحسّية فقط التعبير عما يعجز عن أدراكه وهو ماهيات الاشياء وكيفياتها.. الماهيات ألعصيّة على ألادراك العقلي وليست ظواهر الاشياء...

فالعقل يعجز فصل الماهية عن الوجود مثلما تعجز الطبيعة فعل ذلك أيضا، لكن بفارق جوهري كبير هو أن العقل يدرك عجزه كونه يعي ذاته والموضوع، بينما الطبيعة لا تدرك هذا العجز لعدم توافر الادراكين الذاتي والموضوعي عندها ناهيك عن أنعدام امتلاك الطبيعة خاصيتي الفكر واللغة اللتين يتمايز بهما الانسان عن الطبيعة في التعبير عن ادراك الاشياء ذاتيا وموضوعيا معا..

والحقيقة أن الادراك العقلي المادي للاشياء لا يدرك ماهياتها منعزلة كما لا يدرك ظواهراها ألبادية منعزلة عن أرتباطها الوثيق بجواهرها الكامنة فيها، ولا ينفصل العقل عن أدراكه الاشياء في ظواهرها من حيث أن المدرك الظاهري للشيء هوغير مدرك في ماهيته، ليس بالمعنى النوعي للادراك،بل بالقياس الكمّي الذي لا تنفصل فيه ملازمة ظواهر الاشياء المدركة عقليا بكيفياتها غير المنكشفة لادراك العقل، كما هو الحال مع الظواهرالمتعالقة مع كيفياتها الماهوية في غالبية الموجودات.بتعبير آخر فان الماهيات تتعالق في تبعيتها أدراك العقل لظواهرها، أي أن ظواهر الشيء المدرك تبقى في ملازمتها ماهيتها غير المدركة وترافقها معها، العقل وأن كان يدرك ظواهر الاشياء فهذا لا يعني مكنة وقدرة العقل التمييز الادراكي بين الظواهر والماهية في أدراك الوجود.

لكن تبقى محدودية ألادراك العقلي في عدم معرفة ألماهيات، وفي قدرته تفسير ظواهر الاشياء فقط ليست حيادية عقلية بل في تداخل وتفاعل تخليقي متجانس ومنظّم للظواهر وليس الماهيات، العقل لا يعرف ماهية الشيء المدرك في ظواهره، كي يتمكن فصل الماهية عن ظواهرها كما يرغب شيلر.

وليس في قدرة العقل الادراكي القيام بمهمة الفصل تلك، لذا عمدت الفلسفتان المادية والمثالية في أعتبارهما أدراك الاشياء في ظواهرها المادية الوجودية المستقلة ، هو أدراك كاف للعقل في معرفة الاشياء من حيث هي موجودات الطبيعة... وأن مجموع الصفات والظواهر للشيء هي ماهيته غير المنظورة للحواس ولا المدركة للعقل، وكل تغيير في الظواهر والصفات الخارجية المدركة للاشياء، أنما يستتبعها تغيرات جوهرية في حقيقة الاشياء كيفيا ماهويا رغم ألزعم القائل أن الماهيات جواهر ثابتة لا يمكن تغييرها.فالتغيير في صفات الشيء يقود حتما الى تغيير بعض ماهياته الثابتة التي في حقيقتها غير ثابتة وانما تعيش حركة تضاد حركي بداخلها ،وتعيش جدل متخارج مع صفاتها.أضافة الى أن ماهية الشيء هي في مجموع صفاته وظواهره المدركة حسيا وعقليا ومعرفتها في خواصه هذه يعني معرفة ماهيته.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

.......................

هوامش:

1- 4 ا. م. بوشنكي، الفلسفة المعاصرة في اوربا، ترجمة عزت قرني صفحات 281 - 287

ما الطبيعة السيكولوجية للعلاقة بين السلطة والمثقف؟. وما الصورة التي يحملها المثقف عن السلطة، والصورة التي تحملها السلطة عن المثقف؟. وعلى افتراض انهما خصمان او مختلفان في الفكر والمزاج والضمير والقيم، فهل سيأتي حين من الدهر يكونان فيه منسجمين، ام انهما يبقيان الى الازل.. جبلان لن يلتقيا؟.

السلطة والمثقف.. ما يجمع وما يفرّق

المقصود بالسلطة هنا.. نظام الحكم السياسي الممثل بحكومة مسؤولة عن ادارة شؤون الناس، ونقصد بالمثقف، الذي يكتب وينشر في قضايا تخص الفكر بكل انواعه والحياة بكل مجالاتها، ويكون مخلصا للحقيقة وصادقا مع نفسه.

هذا يعني ان السلطة والمثقف يجمعهما ميدان مشترك من القضايا التي تخص الناس والحياة، ولكنهما يختلفان في امرين:المنظور الفكري (المعرفي) الذي يحملانه بخصوص هذه القضايا، واساليب التعامل معها. فالسلطة تحمل منظورا فكريا واقعيا، فيما هو عند المثقف مثالي.. بمعنى انها تنظر للامور وتزنها على اساس ابعادها الواقعية فيما ينظر لها المثقف على اساس ابعادها الانسانية.

والقضية عند السلطة تقاس على ما يمكن ان تكون عليه، فيما يقيسها المثقف على ما ينبغي ان تكون عليه، (والفرق كبير بين تكون وينبغي). والاختلاف في المنظور الفكري يؤدي الى الاختلاف في التعامل حتى مع القضية الواحدة، تماما مثل المصاب بالبرانويا الذي يفسّر همس اثنين بأنه تآمر عليه فيما يفسّره آخر بأنه مسألة خاصة بينهما.

صورة السلطة عند المثقف

ان الصورة التي يحملها المثقف العراقي (والعربي ايضا) عن السلطة انها (عدوة) له. فمفهوم السلطة في لغتنا وواقعنا ظل، كما اشرنا سابقا، مشحونا لقرون بطابع العنف والقوة ودلالات التسلط التي تتجلى في غائيات الطاعة والخضوع والامتثال، فيما هي (السلطة) في اللغة الفرنسية مثلا تعني الحق في توجية الاخرين والقدرة على اتخاذ القرارات وشرعية استخدام القوة. وبما ان الحرية للمثقف كالهواء.. لا يمكن ان يمارس دوره من دونها، وان السلطة تخشى الحرية، فأن المثقف عاش حالة اغتراب نفسي عنها أفضت بحتمية سيكولوجية الى علاقة خصومة او عداوة.

صورة المثقف عند السلطة

تشكلت لدى السلطة صورة نمطية عن المثقف بأنه خيالي.. يتعامل مع الامور بحس انفعالي، ويريد ان يكون التعامل مع الناس بشاعرية.. بانسانية، فيما السلطة تتعامل مع القضايا من منطلق مصلحتها الشخصية اولا ومصلحة الناس ثانيا، ولا مكان للمشاعر والعواطف.. فقلبها غليظ وطبعها خشن وليس رومانسيا كقلب المثقف ورقيقا كطبعه.

قناعات السلطة وقناعات المثقف

تشكلت عبر تاريخنا السياسي طباع سيكولوجية متناقضة بين السلطة والمثقف. فالسلطة اعتادت دائما ان تقوم بدور المتحدث، وعودت الناس ان يقوموا بدور المنصت لها، فيما المثقف يعدّ نفسه الاكفأ بالتحدث والاصدق.. فتخشاه لأنه اقرب منها نفسيا للناس.

والسلطة تعدّ قناعاتها هي الصحيحة لأنها ناجمة، في رأيها، عن (طبخة)ناضجة وعملية جمعت كل مكونات القضية، فيما (طبخة) المثقف ناقصة في رأيها، ولهذا فانها لن تستمع لرأيه حتى لو كان يمنح (طبختها) طعما طيبا.. الا اذا كان حلوا في فمها.

والسلطة تميل الى التعميم وتعمل على ان تشيع ثقافة تنتج افرادا بالمواصفات التي تريدها هي، فيما المثقف يميل الى التفريد ولا يضع للثقافة مواصفات او حدودا. والمثقف ناقد بطبيعته لا سيما للجوانب السلبية، فيما السلطة بطبيعتها لا تحب من ينقدها. والسلطة تشعر بالنقص الثقافي امام المثقف، فتتولد لدى كليهما عقدتان سيكولوجيتان متناقضتان: الشعور بالنقص والاستعلاء.. فضلا عن أن المثقف العراقي مصاب بعقدة (تضخم الأنا) لاسيما الكبار منهم أو الذين يعدون انفسهم كبارا!.

مفارقات فكرية

اغرب مفارقة حدثت في عراق ما بعد التغيير.. هي تراجع مكانة المبدعين مع ان النظام صار ديمقراطيا!، بعكس ما كان متوقعا حيث كان النظام الدكتاتوري يرغم العقل المبدع على خدمته، فيستجيب دفعا للشر، أو يعيش حالة اغتراب عن نفسه والوطن قد تدفع به الى الانتحار، أو يهاجر الى بلد يحترم شخصه ويقدّر ابداعه. ومن يتأمل واقع العقول العراقية المهاجرة يجد انها أنشأت جامعات وكليات في دول عربية (الخليج، اليمن، ليبيا، الجزائر..)، وأسهمت في تطوير دول أوربية، وقدمت لمجتمعاتها خدمات تتطلب ابداعا.. بل أن الأطباء العراقيين الموجودين في بريطانيا لو عادوا الى العراق لاختلت او تعطلت الخدمات في المستشفيات البريطانية!

ومفارقة أخرى، هي فشل النظام الديمقراطي في اعادتهم كما فشل النظام الدكتاتوري من قبله، مع أن الدكتاتورية شرّعت لهم قانونا بأسم (الكفاءات)كان مجزيا ماديا.. فعادوا للعراق فعلا لكنهم اختنقوا.. فتركوا ما منح لهم من مكافئات (قطع أراض، سيارات..) ورجعوا لبلدان الغربة التي رحبت بهم ثانية!

والمؤسف ان ديمقراطيتنا فشلت ليس فقط في تهيئة الأجواء لعودة المبدعين، بل أن الموجودين منهم داخل الوطن صاروا بين من أخمد صوته كاتم صوت، او من اختار ان يجاهر بالحقيقة حاملا كفنه على يديه، او من سار على خطى المهاجرين من قبله.

والمؤلم أن الباقين منهم تراجعت مكانتهم الوظيفية. فمعظم المراكز الوظيفية الرئيسة بمؤسسات الدولة تسند لا على أساس الكفاءة العقلية بل الانتماء الحزبي، فعلّة الاسلام السياسي انه يفضل حامل بكلوريوس من اهل الثقة على خبير دولي حامل دكتوراه في الاقتصاد، وجعل المبدعين المستقلين لا دور فاعل لهم على صعيد السلطة التنفيذية.. ولا يدرك ان الابداع صار اليوم هو المعيار لتقدم المجتمعات وتفوق الدول.. فالدولة الأكثر احتراما لمبدعيها وتوفيرا لفرص توظيف ابداعهم بخدمة المجتمع، هي الأكثر تطورا وتحقيقا لحياة كريمة لمواطنيها، ولهذا تخلف العراق بعد 2003 عشرين سنة.. قد تمتد نصف قرن!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

إنَّ الانطلاقة المعرفية في هذا المضمون تأتي من أهمية المصطلحات التي شكلت عملية من البحث المستمر بين طرفي المعادلة في الفكر الانساني، إذ أثر تطور الحركة المعرفية في العلوم والفنون والآداب، وقبلها في الفكر الفلسفي، الذي أثار هذه الجدلية المعرفية والصراع الدراماتيكي بين (الوجود والماهية)، أو (المادة والفكرة)، أو بين المرجعين الرئيسيين في هذا الموضوع وهما الحركة (الافلاطونية الاشراقية) والحركة (الارسطوطالية المشائية) في الفلسفة . إذ نتج عن هذا الحراك الفكري جدلية مستمرة حاول بعض الفلاسفة والمفكرين أن يجد لها:

1. مساحة التقاء في نقطة وسط بين مفهومين لحل هذه المعضلة.

2. أو العمل على كليهما لأن كل اتجاه يتميز بقيمة معنوية ومعرفية في تكوين الفكر الإنساني من دون أن يكون له السبق على الآخر في هذا المجال.

3. أو أن الأصالة تقاسم بين الطرفيين في ايجاد الحلول المعرفية التي كاد بعضهم أن يجعلها حكراً وإلزاماً على نفسه، وعلى من يجادل في هذا المجال.

لذا عملت بعض التيارات المعرفية في عصور مختلفة على رأب هذا الصدع، ومن دون التحزب إلى جهة ما من المعادلة، فقد عملت فلسفة (الحكمة المتعالية) في الشرق الإسلامي وقبلها محاولات للفيلسوف الإسلامي (الفارابي) الذي حــاول الجمع بين آراء الطرفين، وفي العصر الحديث أنبرى لهذه المهمة الصعبة والعسيرة علـى الجمـع بيـن التيــارين الفيلسوف الالمــاني (أدموند هوسرل) في فلسفته (الفينومينولوجيا)، مستنداً بذلك إلى أفكار اسلافه (ديكارت، وكانط) للوصول إلى حلقة جديدة في الفكر الجامع بين الاتجاهين، المتباعدين تارة والمتقاربين تارة أخرى، حسب آليات الفهم لعمل كل منهما، وحتى في هذا المجال بقيت الاولوية في الانطلاق وتأسيس الفكر الفلسفي في هذا الاتجاه التقريبي أو ذاك، لأحدهما على الآخر، أي أن يكون التأثير أولًا للفكرة وآلياتها، أو للوجود ومرجعياته الواقعية وآثاره، فمثلاً أن يكون التأكيد على الوعي في إيجاد المعاني والماهيات وذلك من خلال الاعتماد الكلي عما يتحقق من صور ذهنية في داخله، والذي عدّ الجانب المتعالي في الفهم المعرفي على الرغم من اعتماد الوعي بصورة مباشرة ومتقصدة للأشياء، أو يكون للوجود والموجود الواقعي الأثر المهم في تأكيد الأسبقية والأصالة في الرفد المعرفي، ومن دونه لا يكون للماهيات والصور الذهنية أي وجود في تأسيس الفكر والمعرفة الإنسانية، بوصف المسألة أنطولوجية، حتى أن اشترك الوعي في تأكيدها. وعلى الرغم من عمل عدد من الاطراف لإيجاد صيغ مشتركة، أو جانب من التودد للآخر في أن يجعل له نصيب في تأكيد الاصالة ومرحلة من مراحلها، فقد بقيت العملية خارج التأصيل المشترك للطرفين معاً في آن واحد .

إنَّ هذه الجدلية المستمرة يراها بعضهم بأنها عبارة عن افتراضات لا تتحقق في عالم متسارع الخطوات نحو تأسيس افتراض كلي للأشياء وذواتها، وما ينتج عنها من ماهويات قد ينتهي تأثيرها بزوال من يوجدها في ظل التسارع الذي يشهده العصر الحالي، الذي أصبح من أولوياته الاعتماد على جعل العالم شديد الاتصال بعضه ببعض، وأصبحت المعلومات المتناقلة ترفض كل الحواجز والعوارض التي تبعد المتلقي عن دائرة التطور، فهذا العصر عصر الجنون في كل شيء، ابتداءً من العلوم التي أصبحت في أغلب الاحيان تبحث في اللامألوف لدى الانسان البسيط، وإنتاج مفاهيم جديدة تأخذنا يميناً وشمالاً؛ بل أصبحت هذه العلوم ومن يقف خلفها تبحث في إيجادنا وإعادة انتاجنا مرات عدة؛ بل إلى ما لانهاية وخصوصاً في استنساخ اشكالنا، وعقولنا، ومفاهيمنا، التي أعتقدها بعضهم بأنها ثابتة ولا تتغير؛ لكنها تغيرت لكون هذه المعتقدات لا تستطيع المنافسة بشكل جدي مع الاطروحات الفكرية والثقافية الجديدة المستمرة، والتي تستمد اسسها من الافتراضات الجديدة التي حولت حياة الانسان من كائن له وجوده الفاعل في الاوساط كافة، إلى كائن معزول ومنفرد، وإن الأدوات الجديدة والآلات حلت مكانه في العديد من المواقع التي كان يشغلها، واختفت العديد من القيم الاخلاقية، وأخلاقيات العمل التي كانت مرتبطة بوجوده .

إنَّ هذا العالم الجديد الذي أبعد الانسان بوصفه قيمة اخلاقية وإنسانية، وأبدله بآلات يتحكم به بعضهم بحسب النوايا؛ أخرج الانسان من أبعاده المهمة في هذا الوسط الحسي والعقلي، وأصبح الاستنساخ حتى في إعادة إنتاج السلع التي تقوم بمجمل العمليات المعرفية للكائن البشري في تطور مذهل، مما يجعل العقل البشري يعيش في حالة تراجع فكري، والحواس في حالة تراجع أداتي وعملياتي في عملها، بالنتيجة فأن الجانب الوجداني له نصيب أيضاً في هذا التراجع في الوضعيات الانسانية.

ويتبادر إلى الذهن تساؤلات مهمة حول أهمية الموضوع وطرحه في الوقت الحالي ومنها:

1. ما أهمية طرح الأصالة للوجود أو الماهية ؟، وهذه الجدليات المطروحة في هذا النص والتي عفا عنها الزمن ونحن نعيش في ظل انطلاقات جديدة غيرت من ملامح وجودنا وأصبحنا نبحث في عوالم أخرى وكواكب بعيدة.

2. وكذلك يتبادر سؤال آخر مكملا لما سبق: أين الموجود (الإنسان) ووجوده بين ما يطرح بعد أن أخذ المفهوم الإنساني شكلاً جديداً؟ .

3. وما هي الفرضيات التي بإمكانها أن تعيد لهذه الجدلية وجودها الفعلي في ظل الاشكاليات التي تعدت هذه المفاهيم بشكلها التقليدي؟ .

نعم وأنا وانتم نتساءل أيضاً في مقابل هذه التساؤلات المهمة والمبررة في ظل الحركة المادية والاقتصاديات التي بدأت تتحكم في كل شيء في حياتنا بما فيها تشكيل الاوطان وأنظمتها السياسية وأجهزتها وقوانينها وحتى اخلاقياتها الاجتماعية والتأثيرات التي تمارس عليها في ظل التطور التقني الهائل، بل أصبحت الصياغات الجديدة لا تشمل شعب بعينه، أو قارة بعينها، بل أصبحت تشمل البشرية كافة على وجه الارض إلا ما ندر من الاستثناءات البسيطة وبدأت تصبغ الواقع المعاش في شمال الأرض وجنوبها وشرقها وغربها؛ وعوالمها المتقدمة والمتأخرة؛ والأولى والثانية والثالثة؛ ونحن نتساءل في ضوء هذه المتغيرات:

1. ماذا حلَّ في الحضارة الانسانية؟ .

2. وكيف سيعود الانسان الى انسانيته؟ .

3. وهل سنتحول الى كائنات جديدة في ظل هذه التغيرات المختلفة التي اصبحت واقع حال في حياتنا؟.

إنَّ هذا التساؤلات وغيرها تنطلق من النظرة المتفحصة لطريقة إنتاج العالم الجديد في ضوء تسارع الأحداث وما يسايرها من أنتاج موازي لهذه الحركة الكونية من حروب وويلات وقتل وتشريد أخذت هذه الحروب عدة مسميات وعدة مبررات، والعديد من الطرائق الجديدة بالقتل بأسم الإرهاب تارّة، والتطرف الديني تارّة اخرى، وبأسم فرض الديمقراطية والربيعيات التي لا تنتج ورداً، بل دماً تحول اللون الاحمر في أزهار الربيع الى دماء مستمرة عبرت حتى على الفصول الاخرى. وهذه الديمقراطيات التي أصبحت سلعة تساق الى الآخر تصاحبها هجرات وقتل وتشريد للإنسان الذي أصبح لا يؤمن بهذه المسميات بعد أن ذهبت بكرامته واستبيحت فيها الأوطان، وكل هذه الاجندات الجديدة التي تم صياغتها مرة اخرى وإعادتها واستنساخها ولكن بشكل مشوه في قوالب منمقة ومزوقة وكل هذه المسميات جاءت بالويلات للآخر بأسم الأفكار التي عملت على صياغة العالم من جديد، أي أن العملية أصبحت وتكونت من خلال الماهيات المتشكلة في العقول المهيمنة والمتسلطة على حياة الشعوب، وهي من عملت على إنتاج عالم جديد غير هذا العالم الموجود الذي أصبح في سياقات الماضي، أو من ضمن الإرث الانساني والحضارات الغابرة.

إنَّ المعادلة الجديدة التي يركز عليها البعض المتعالي والمتمادي في أفكاره وماهياته ونظرياته الجديدة أصبح يبحث على وفق نظرياته في تغيير المعادلة القائمة على إن لهذا العالم صورة بالية قديمة ونمطية لا تؤدي الغرض المطلوب منها، لذا يجب أن تبدل بأفكار وشعارات أخرى تسير اليها أفكارنا وعقولنا حتى يتحقق السلام والطمأنينة للإنسان في الأرض حسب زعمهم وأصبحت هذه النظريات المؤسسة على وفق ماهيات كونية متشائمة تقوم على الفكرة الخطيرة أن تبقى لهم زمام المبادرة والانتاج، وللآخر (موت ثم موت ثم موت) وبعدها نبدأ من جديد . فعندما يموت الصانع لهذا الكون في فكر (نيتشه) ويتكرر الصدى بموت المؤلف عند (رولان بارت)، وأخيراً موت الناقد عند (رونان ماكدونالد) ومهما كانت مسمياته، اي بالموت الثلاثي اصبحت الاشياء سائبة دون ان يقومّها أحد، أو أن يعدل من مسيرتها بحجة أن الحرية التي يمتلكها الانسان قادرة على أن تجعل من هذا الإنسان يبحث عن مصير جديد في هذا العالم العبثي كما هو في (ذباب ـ سارتر)، وأصبح هذا الموت علامة دالة على بعث العالم من جديد والتخلي عن كل القيم التي أوجدها الإنسان بعد بحث مضن في المعارف المختلفة، بل أصبحنا اليوم أمام (كوجيتو) جديد قائم على تغيير السابق من الافكار الإنسانية التي ترتكز على الوجود الإنساني في ضوء ما هو صالح من الافكار، أصبحنا اليوم امام (كوجيتو) يقول: (أنا أُبعثر ما هو موجود، إذن أنا موجود) تحت غطاء متشرعن جديد قائم على غاية (مكيافيللي) في تبرير وسيلته، وعلى البقاء للأقوى في (دارونيته) وأصبحت (هذه الافكار هي من تشكل العالم)، وأنا لا اقصد كل الافكار والنتاجات المعرفية والفكرية، بل اقصد واتقصد وأسجل الإعتراض على ماهية الأفكار التي اوصلت العالم الجديد الى حروب وحروب مستمرة لا تنقطع، وأصبحت العزلة لا تشمل الفرد الذي كان يأتلف مع الجماعة في إيجاد مجتمع صالح يتغنى سابقاً مع (حمورابي) في مسلته و(كلكامش) في نهاية ملحمته واحتفالات الحب والنماء في الحضارات القديمة بطقوسها، و(افلاطون) في جمهوريته وغيرها من الإنجازات التي شكلت ذهنية ووعي الإنسان الأول صاحب الإنجازات التي خدمت الإنسانية في الطب والفلك والهندسة والعلوم الاخرى، أصبحت اليوم هذه الجماعات تبحث عن العزلة الافتراضية في داخل المجتمعات التي كانت في السابق مندمجة في حياة مشتركة يربطها ويحصنها القول (إما اخوٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، أصبح الإنسان اليوم من خلال الأفكار وماهيتها المشوهة ذات النوايا المتشككة بالآخر يبحث في عزلته الجديدة من خلال تجزأت المجزأ وتقسيم المقسم.

إذن فما الصورة الجديدة في للكوجيتو الجديد الذي يتكون من مقولة (أنا أقوى أذن أنا موجود)، أصبحت أسبقية للأفكار فيها والماهيات التي بنيت عليها هي من تؤسس العالم الجديد دون الرجوع الى (الواقع المعاش) الذي كان نداً للماهيات المشوهة ويمدنا بالأفكار والذي يجعل من الانسان متعقلن في تصرفاته ونتاجاته الجديدة على أساس العامل المشترك مع الآخر، وتقديم حياة طبيعية ليس فيها تجاوز على الآخرين في هذا المجال، أو ذاك على حساب المصالح، بل يجعل من الإنسانية والعيش المشترك في هذا العالم الواقعي هي الأساس كون أن الجدلية تنطلق من إقناع الآخر وليس تدميره، أو فرض شروط عليه تحت مبدأ القوة والبقاء للأقوى من خلال غايات ووسائل مشوهة أصلاً لكنها مغلفة بأغلفة تبدو صالحة للوهلة الأولى وهي لا تدوم طويلاً حسب المسار التاريخي والحتمية التاريخية التي لم تسجل الاستمرارية لأحد مها كانت قوته، لأن المعادلة في هذا القول تأخذ قولاً مجيداً (وتلك الأيام نداولها بين الناس) وهذا القول الإلهي هو من يطبق دائماً فلا أحد لديه الغلبة على الآخر في مسارات التاريخ، ولو نظرنا جيداً الى التاريخ لوجدنا أن أمريكا كانت قارة مجهولة وكانت قبلها أوربا تعيش في صراعات همجية وكان العالم الأول آنذاك هو العالم الشرقي وحضاراته القديمة وأوج قوته في العصور الإسلامية، وأصبحت أغلب دول العالم الشرقي اليوم تمثل العالم الثالث، وأمريكا وأوربا هما العالم الأول وقد تتغير المعادلات قياساً بالسنن التاريخية في قابل الأيام وتشير الحياة على وفق البقاء للأصلح وليس للأقوى.

إنَّ الماهيات المتشكلة من الأفكار التي لا ترجع الى الواقع المعاش والوجود الواقعي للإنسان، وهي ليست حكراً في تطبيقها على أحد دون آخر، والتي تخلت عن أن تضع نصب أعين منتجيها قاعدة العيش المشترك والوجود الواقعي الذي تستمد منه الأثر والأعراض . وإذا اعطينا بعض الامثلة في استثمار الماهيات التي تعمل على الواقع المشترك وتأخذ في توظيف هذه الافكار في المجالات الأتية:

1. في السياسة: فهذه الماهيات لو افترضناها في العمل السياسي مثلاً وحاولنا أن نبعد هذا العمل عن الماهيات التي لا ترجع الى الواقع المشترك والمبنية على الأفكار في اطارها السابق من التشويه لكان الوئام اليوم موجود في الحياة الانسانية جمعاء، كون أن العامل المشترك بين الشعوب والدول يأخذ في الحسبان الموجودات القائمة على أن الإنسان هو الذي من أجله تبنى الأوطان وتبنى الحضارات، فالإنسان بواقعه الكلي هو المخلوق الاسمى الذي من خلاله تتطور الحياة، وليس البحث في سياسة تفضل فرد على فرد، أو جماعة على جماعة، أو شعب على شعب وتشرعن الدمار والقتل بحجة البقاء للأقوى، فهذه السياسة سياسة رعناء لا تجعل للعيش المشترك على وفق الواقع المشترك وجود حقيقي، بل للأفكار المزعومة التي من خلالها استبيحت افريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية وغيرها، وحتى شعب الهنود الحمر في أمريكا .

2. في البناء النفسي: لو افترضنا أن الأفكار التي يحملها البعض ضد الآخر في قضية بث الخوف والفوبيا والدفاع عن النفس وما صاحب هذه الافكار من إنتاج الاسلحة الفتاكة والدمار الشامل بحجة الحماية المصاحبة لتأمين الحياة، لو كان بدل ذلك التركيز على الوجود الواقعي والعيش المشترك الحقيقي لما احتاج الإنسان الى مثل هكذا اسلحة مدمرة، بل العمل على المقومات التي يشترك بها الإنسان مع أخيه الإنسان في بناء عالم آمن.

3. في التعايش الديني: لو حاولنا إبعاد الفرضيات القائمة على ماهيات وأفكار متشنجة ومتشددة في كون أن للبعض من الناس حسب اعتقاده في الدين هو الوحيد الممثل للخالق في الأرض، وبدلناها بقاعدة (الاكراه في الدين) و(جادلهم بالتي هي أحسن) من خلال التركيز على المشتركات بين الأديان والمذاهب لما وصلنا الى ما هو عليه اليوم من تكفير للشعوب والقوميات والمذاهب والأديان، وظهور حركات وتيارات تكفيرية في كل الديانات السماوية والوضعية.

فمن خلال هذه الامثلة وغيرها في المجالات الأجتماعية والاخلاقية والعلمية والاقتصادية نقول أن المسألة مرتبطة بالعودة الى الواقع المعاش والوجود الواقعي وقرأته بشكل جيد من خلال البحث في هذا الوجود الإنساني وما يخص هذا الوجود في ذاته وليس على وفق أفكار تشكلت في صور ذهنية وماهيات ولدت في العقل البشري آليات البحث في المصالح الذاتية الضيقة .

إنَّ هذه التطلعات الأنطولوجية لا تنفي الأفكار ولكن الأفكار يجب أن تبنى على وجود واقعي ومعاش وعلى اساسه تبنى الأفكار السليمة وليس على اساس صور ذهنية مفترضة، فالفرضية في هذا الكتاب تنطلق من تغير النظرة وأبعادها عن المقولة التي تحرك الأفكار لعالم مجهول (أنا الاقوى اذن انا موجود)، أي الموجود الاقوى موجود متسلط وموجود طاغي جعل هذا العالم عبارة عن قنبلة موقوتة نتيجة سباق التسلح والخزين الهائل للقنابل النووية وغيرها، ونحول المقولة السابقة الى مقولة أخرى: (أنا افكر فيما هو موجود) وهي مقولة تسبق من حيث الايجاد والأسبقية (للكوجيتو الديكارتي) اي يجب أن تصبح هاتين المقولتين في سياق واحد وهو (أنا أفكر فيما هو موجود أذن أنا موجود) حتى يصبح سياق التفكير اساسه الواقع المعاش والوجود الواقعي الذي غُيب قسراً عن الحياة .

***

أ.د محمد كريم الساعدي

يتناول الناس عادة الأدوية والجرعات المهدئة لكل شيء بدءاً من آلام الظهر وحتى الكآبة. فهل يمكن استعمال الادوية ايضا في علاج الحب وما يسببه من مآسي؟ الاخلاقي في جامعة اكسفورد بريان ارب Brian Earp يقترح اننا يجب علينا القيام بذلك. هل الادمان على الادوية هو الطريقة الامثل للحفاظ على علاقة الحب مع المحبوب لفترة طويلة؟ هل من الصحيح ان نحافظ بشكل مفتعل على عواطف الموجة الاولى للحب؟هل يجب علينا ايضا استخدام الدواء في محاولة إنهاء الحب لكي ننهي علاقة سيئة؟

بالاضافة لهذه الأجوبة الحديثة للاسئلة القديمة، هناك ايضا بعض الاجوبة القديمة المفيدة. الميثولوجيا اليونانية تزخر بقصص عن عواطف قوية تسببت بمشاكل للألهة وللبشر على حد سواء.

فلاسفة اليونان القدماء لديهم الكثير من القول عن الطريقة الملائمة للحب. هم عموما يتفقون على اننا يجب ان نحاول السيطرة على العواطف، تلك العواطف العنيفة التي تعكر هدوء الروح. القدماء يتحدثون عن عواطف الحب كنوع من الظروف التعيسة، حالة من المعاناة لا يرغب بها اصحاب العقل السليم. هذه العواطف الجياشة هي خطيرة لأنها تصرف الناس عن الهدف الحقيقي للحياة الذي هو البحث عن الحكمة طبقا لإفلاطون . ونفس الشيء بالنسبة للرواقيين الذين يشيرون الى الحكيم الهادئ الذي لايشعر بالأذى والذي يجد بين ثناياه السعادة. وكما هو شائع في العديد من التقاليد الشرقية مثل البوذية، يرى الرواقيون ان الحب الرومانسي يستلزم حكما زائفا حول قيمة الحبيب، حكم زائف يقود فقط الى خيبة الأمل والاحباط.

قد يبدو هذا وصفة لعالم كئيب بلا حب. انه يذكّرنا فقط بخطورة الاعتقاد ان الناس الآخرين هم المكمل العاطفي لنا. نحن لانزال نحب، لكن دون افراط.

هذه الافكار قد تكون غريبة لثقافة تمجد فضائل الحب الرومانسي المخدر(كما يبدو في مسرحيات الرومكوم الكوميدية). لكن هذه الثقافة فيها حوالي اربع من بين عشر حالات زواج، معظمها تبدأ بحب رومانسي مفرط، لكنها تنتهي بالطلاق. هنا نجد ان القليل من الرواقية سيكون ملائما .

نصيحة لمرضى الحب

الشاعر الروماني اوفد Ovid (43 ق.م-17م) يقدم اتجاها علاجيا لعلاج الحب. قصيدته (علاجات للحب) تقول ان علاج الحب يقود مرة اخرى الى السعادة لكن عليك ان تسعى حقا للتغيير، او كما يقول:

ابتعد عن المشاعر المأساوية الشريرة.

برنامج اوفد العلاجي يتضح في قوله:

هدفي هو عملي: لكي اطفئ النيران الملتهبة وأغلال الحب يجب ان أحرر القلب الأسير.

يميّز اوفد بين الحب الصحي وغير الصحي. الاول هو طبيعي ومعقول، الآخر هو هوس مرضي مثالي غير واقعي ومدمر في لاعقلانيته. النوع الثاني هو الأكثر اثارة للانتباه، لذا، الشعراء عموما لديهم الكثير ما يقولونه حوله. الحب المفرط هو نهم لا يشبع . انه لا يقود ابدا للقناعة والرضا. الإرضاء الجنسي هو مؤقت ولايشبع رغبة الحب ذاتها.

من هنا نصل الى فكرة ان الحب هو أعمى. انه ليس الخير الذي نبحث عنه حقا. نحن فقط نعتقد انه جيد، لكنه نسخة ناقصة من شكل الحكمة الجيدة ذاتها. نصيحة اوفد لمرضى الحب تتضمن وقف العلاقة في مرحلة مبكرة، لأنه لو ان شخصا ما يصبح مدمنا جدا بجنون الحب الدايونيسي، هو سوف لن يستمع لصوت العقل. في هذه الحالة يجب ان تنتظر حتى يتم استنزافه بالكامل.

العلاج الآخر ايضا يبدو حديث جدا. اوفد يقترح ان تشغل ذهنك بافكار اخرى، تعمل وتجد شيئا آخر للعمل. لاتفكر في الحبيب او تنغمس فيه. اذا كان هذا غير مفيد، اذهب بعيدا، سافر، رغم القيود التي تشد ظهرك، هو يقول:

اذهب في سفرة طويلة ... اجبر قدميك المرتجفين للعدو.

لاتجلس فقط وتبكي في عزلة. أوجد صحبة جيدة و تجنب دائما النميمة والتشهير. اخيرا، ابق بعيدا عن الناس المرضى بالحب او القصص الرومانسية التي تثير فقط المشاعر المؤذية .

كيف تساعد الفلسفة؟

الفلسفة الجيدة هي وصفة علاجية. فلاسفة اليونان القدماء مثل افلاطون والرواقيون يدّعون ان السعي لسد النقص بمواد كيميائية هو مجرد وهم. اولا، لأننا سوف نحتاج دائما الى المزيد منها، ثانيا، هذا النوع من النقص لايمكن اشباعه ابدا بوسائل مادية وكيميائية.

هم يقترحون ان الذهن هو الذي يتمكن من التغلب على هذا السعي اليائس من خلال العثورعلى انجاز بطريقة عقلانية وبرجماتية للعلاقات، او من خلال شكل اكثر عالمية للحب.

***

حاتم حميد محسن

حريُّ بنا ما دمنا في عصر أضحى فيه (التفكير الناقد) فرض عين، وبات فيه التحليل والمراجعة ضربين من الثوابت التي لا غنى عنها لمن ينشر الحقيقة وليس الأوهام، أن نتسهل حديثنا بذكر إحدى نفحات (فلسفة نقد النقد) فنحاور قلمنا ونبادره بالاستفهام، هل هناك حقاً فلسفة للسؤال؟ ثم كيف الرجوع إلى الأمام؟ وهل العودة محمودة أم جمود وشرود عن سبيل التطوير والتحديث والارتقاء؟

فيجيب القلم أنني قد أسهبت في الحديث عن تلك الفلسفة، تلك التي فُطرت على طرح الأسئلة؛ بل إن شئت قُل إنّ الفلسفة قد ولدت من رحم الحكمة العقلية المستفهمة دوماً ساعية تلتمس المعرفة والعلم والعلل والنهوج وغير ذلك من المشارب والطعون التي تنميها وهي تُعين مُحبيها على السعي في دروب الوجود بكل ما فيه من واقعات وتصورات يلفظها العقل، فتقودني الذاكرة إلى ذلك المقال الذي نشرته على صفحات روز اليوسف فناقشت في المقال الأول المعنون بـ (من السؤال الفلسفي إلى فلسفة السؤال) ونُشر عام 2013م عن علة وغاية فلسفة السؤال وعبقرية أدوات الاستفهام، وانتهيت منه إلى طرح هذه التساؤلات:

- لماذا اتحد الأغيار وتآلفوا، وتفككنا؟

- لماذا تقدّموا وتطوروا، ونُكبنا وأخفقنا وتخلفنا؟

- لمَ نتجرع مرارة التآمر رغم معرفتنا بأن السم لا يأتي لنا إلا في العسل؟

- ثم من المسؤول عما كان وما هو كائن وما سوف يكون؟

- وماذا لو مات البطل أو اكتشفنا أنه مثل من سقطت أقنعتهم وانكشفت عوراتهم ؟

- وإلى متى سوف نتبادل التهم ؟

- وإلى أين تنزع مقاصدنا ؟

- وهل نحن أيقاظ في طرح هاتيك التساؤلات أم مازلنا في طور العبث؟

أما في المقال الثاني المعنون بـ (عودة إلى فلسفة السؤال) الذي نُشر في عام 2017م، فقد انصب حول السؤال باعتباره حواراً نقدياً مع الأنا، وخطاباً استنكارياً مع القلم المتمرد على واقع الأغيار، وانتهيت فيه إلى التساؤل من جديد : "هل في مقدورنا تفعيل وتطبيق فلسفة السؤال في حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية؛ لننتقل من طور الإجابات المحفوظة، والمعارف المغلوطة، والمعلومات المزيفة، والحقائق المبتورة، إلى آفاق فلسفة الإبداع؟ علماً بأن السؤال الفلسفي يراوغ ولا يكذب، لذا سوف يظل أهم من مئات الإجابات التي لا تخلو من الغش والكذب".

واليوم أُمسك بجرس التنبيه محذراً إلى الخطأ المتربص بنا لإهمالنا التدريب على فن صياغة السؤال وإدراك الحكمة من طرحه للوصول إلى الإبداع في انتقاء أدواته، وانصرفت جهودنا في معاهدنا الدراسية ومنابرنا التنويرية إلى حفظ إجابات المتلاعبين بالعقول، وعصبة من المشككين، وجماعة من المتعالمين، وحفنة من المتقعرين. حتى أنتهى الأمر بنا إلى بنية السؤال في الكُتب الدراسية في المرحلة الثانوية والجامعية؛ بل في أبحاث المتقدمين للترقية من المتخصصين في الفلسفة الذي راق لهم عنونة أبحاثهم (بإشكالية إحدى القضايا الفلسفية!).

ويُزَيّل قلمي ذو السن المشيب بأن هذا الحال يدفعه إلى الحديث عن رحلة الرجوع إلى الأمام؛ مُبيناً أن وقائع تاريخ الدرس الفلسفي في مصر يحثنا على فحص متنه لاستلهام العبر، والوقوف على إصلاح ما فسد وأنحدر. ومن المثير للتنكيت والتبكيت أن نجد جُل محافلنا الفلسفية في مطلع هذا العام تتأهب للاحتفال بذكرى اليوم العالمي للفلسفة الذي حدّدته اليونسكو بيوم الخميس الثالث من شهر نوفمبر من كل عام، وقد تمّ الاحتفال به لأول مرة في يوم 21 نوفمبر 2002م. أمّا عيدنا القومي ليوم الفلسفة في مصر- الذي نجهله - فهو ذلك اليوم الذي دعى فيه سعد زغلول أثناء توليه وزارة المعارف بضرورة إدراج مقرر الفلسفة في برامجنا التعليمية ولا سيما في مدارسنا الثانوية. وذلك في 24 سبتمبر 1907م حيث جاء في القرار الوزاري (تمت المواقفة على تدريس مادة الفلسفة في القسم الأدبي الثانوي، غير أن التنفيذ قد أرجئ لأول مرة عام 1909م حتى يتوفر من يقوم بالتدريس والمقرر المناسب لذلك). بيد أن ذلك لم يتحقق بصورته النهائية أي تدريس المعارف الفلسفية بمباحثها الرئيسة إلا في نظارة محمد حلمي عيسى الذي تولى نظارة المعارف في الفترة الممتدة من (1931- 1934م) وجاء في القرار (تمّت المواقفة على إدراج تاريخ الفلسفة النظريّة لطلبة القسم الأدبي للمرحلة الثانوية) وجاء في مقدّمة الكتاب الدراسي المقرّر أنذاك (أن الهدف من أدرجها في مقرر السنة النهائية هو إثارة تفكير الطالب، وفتح باب التفلسف أمامه، وتنمية قدراته العقليّة).

وقد تبارى أعلام قادة الرأي في الإشراف ومراجعة المحتوى المعرفي لبنية الكتاب المقرّر والأسئلة التي تذيل المذكرات التربوية للتدريب على الامتحانات، تلك التي تعبر بحق عن غاية السؤال الفلسفي، وتسعى في الوقت نفسه إلى تحقيق الغاية المرجوّة من دراسة المعارف الفلسفية التي تعمل بدورها على تثقيف الرأي العام، وشحذ العقول، وتنمية الملكات، وتهذيب القيم الأخلاقية، وترقية الأذواق.

وسوف نتحدّث بشيء من التفصيل عن تلك المحاولة الرائدة لصياغة السؤال الفلسفي لطلاب المرحلة الثانوية تلك التي ظهرت على صفحات مجلة الرسالة في الفترة الممتدة من (1948- 1950م) وذلك في الأعداد (760 -870) بعنوان (مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية) بقلم كمال دسوقي.

وحسبنا أن نشير في عجالة إلى تطور المعارف الفلسفيّة في البرامج الدراسية للمرحلة الثانوية، تلك الفترة التي شهدت مرحلة تواصل الأجيال المعاصرة بين الجيل الأول الذي يمثله أحمد لطفي السيد ومصطفى عبدالرازق، ثم الجيل الثاني الذي يمثله عثمان أمين وأحمد فؤاد الأهواني، ذلك الجيل الذي حمل الخطاب الفلسفي في الثقافة العربية باعتباره الآلية الرئيسة للتجديد والتواصل مع الأغيار، والنهج التربوي الذي يدفع الشبيبة للقيام بدورهم لمواصلة المشروع الحضاري.

وقد أنصب السؤال الفلسفي في الفترة الممتدة (1955-1965م) حول المفاهيم المصاحبة للتغيّر الاجتماعي والسياسي والثقافي (الوعي، الهُويّة، الوطنية القومية، الاشتراكية، الليبرالية، الشيوعية، موقف الفلسفة من القوة الرجعية، والاستبداد والعدالة، والاستعمار والحرية، وعبادة البطل، والثورة على الاستبداد والفاشية) وغير ذلك من عشرات المصطلحات التي أجتهد حملة الخطاب الفلسفي من التنويرين الذين قاموا بتدريس المعارف الفلسفية في الجامعة أو في المدارس النظاميّة، أو انصرفت جهودهم للكتابة في المجلات والجرائد والأحاديث الإذاعية. وأستمر الحال على هذا النحو وأمسى الخطاب الفلسفي أقوى الأليات للتفسير والتبرير وإعداد الرأي العام لمواكبة حركة التغيير. ولم تتوقف هذه الرسالة إلا عقب نكسة 67 : الفاجعة التي زلزلة بنية الجيل الثالث من قادة الرأي وتوقف على أثرها المشروع الفلسفي والمدارس التي كان يقودها رواد الاتجاه المحافظ المستنير، وإصابة المعارف الفلسفية بالوهن والضعف ليس في التعليم الثانوي فحسب؛ بل في شتى منابر التثقيف والاستنارة ولا سيما بعد كفر الأبناء بما كان يؤمن به الآباء، فظهرت خطابات التبعية وجماعات التغريب وعصابات التطرف. وراح أصحاب الأقلام يزعمون بأنهم أحرار الفكر الجُدد وحملة لواء التحديث والعلم والثورة على القيم الموروثة التي هوت بهم إلى آتون التيه والتشرذم وأوهام الفهم التي عجزت عن بلوغ اليقين، ويبدو ذلك بوضوح في كتابات دعاة الوضعية والفلسفة المادية والنزعات الوجوديّة، والفلسفات الإلحادية المناهضة للفكر السائد في العالم العربي، وعلى الجانب الآخر العصبات الظلامية المروجة للفكر الوهابي المعادي للنظر العقلي والدرس الفلسفي.

وإذا نظرنا في الكُتب الدراسية عقب ثورة يوليو 1952م فسوف نجد تحولاً في المحتوى المعرفي للكُتب الفلسفية في المرحلة الثانوية، وذلك لظهور كتاب "مشكلات فلسفية" (1954-1955م). وذلك للمقابلة بين نهج الفلاسفة وأسلوب علماء النفس في معالجة المشكلات الإنسانية (الأخلاق، التفكير، النفس)، ثم أستبدل عنوان الكتاب بـ "مسائل فلسفية" (1955-1956م)، ولم يضف هذا التغيير شيئاً يذكر عن وجهة متن الكتاب السابق إلا بعض المعلومات عن تاريخ القضايا الفلسفية ومشكلاتها، ومبحث المعرفة ومبادئ المنطق. وفي الفترة (من 1958إلى 1964م) أضحت مادة الفلسفة مقرراً أساسياً في المنهج الدراسي للتعليم الثانوي بشعبتيه العلمي والأدبي، وقد وضع كتاب "الثقافة الاجتماعية" للصف الثاني الثانوي الشعبة العلميّة، وأنصب متنها حول معالجة ثلاثة موضوعات (التفكير العلمي، قواعد الأخلاق، وقضية الحرية والنضال ضد الاستعمار والاستبداد). ويؤخذ على هذا المحتوى أنه أقرب لأسلوب التلقين والفكر الموجه منه إلى الوعي الحر وبناء العقل المستنير.

وفي عام (1959-1960م) حدثت الانتكاسة الأولى للفلسفة، وذلك عندما جُعلت المعارف الفلسفية مقرّراً اختيارياً تنافسياً مع مادة الاقتصاد. وقد غضب معظم أساتذة الجامعة لهذا التغيير، وعبروا عن ذلك في كتاباتهم الصحافيّة وخطاباتهم للحكومة حتى تراجعت عن ذلك الإجراء. وأضحت الفلسفة تدرّس في القسم الأدبي للصف الثالث الثانوي فقط. وأنصب المنهج على دراسة التفكير المنطقي وقضايا علم النفس والقيم الأخلاقية والمبادئ الروحية، وذلك في كتاب مبادئ الفلسفة.

وفي الفترة الممتدة (من1965إلى 1970م) أنصبت قضايا الفلسفة في الكتاب المقرّر على قضايا الاشتراكية، ومحاربة الفساد، والإيمان بمبادئ الثورة، والولاء والانتماء القومي. ويبدو ذلك في كتاب (الأصول الفلسفية للتربية) للتربوي المخضرم سعيد إسماعيل علي. وفي هذا الطور لم تتحرّر الفلسفة من قيد التوجيه في الكتب الدراسية في المرحلة الثانويّة. وذلك في كتاب "الفلسفة" الذي صدر عام 1965م. الذي أضحى مُقرراً على الصف الثالث الثانوي من القسم الأدبي. وأشتمل الكتاب على معالجة ثلاث موضوعات هي (التفكير الفلسفي والعلمي، خصائص التفكير الفلسفي، بعض المشكلات الفلسفية الكبرى) وذلك كله بمنهج تلقيني مُوجّه. وقد أعترض أكابر المعنيين بالدراسات الفلسفية في مصر والعالم العربي على المحتوى المعرفي والأسلوب التلقيني التي اصطبغت به فصول الكتاب. ذلك فضلاً عن تعرض بعضها لفلسفات واتجاهات مناهضة للفكر السائد الذي سعى الكاتب لترسيخه في أذهان الدارسين؛ الأمر الذي تسبّب في بلبلة أفكار الطلاب وتشتت آرائهم. وأضحى هذا الكتاب مسار تساجُل الكُتاب المحافظين والتغريبين الحداثيين على صفحات الجرائد عام 1970م.

وأنتهى المتناظرون إلى أن هذا الكتاب سوف يحث الطلاب على كراهية الفلسفة والابتعاد عن مسائلها المعقدة. ورغم ذلك ظل هذا الكتاب يُدرس حتى عام 1976م؛ الأمر الذي أسهم في ذيوع الادعاء الكاذب والاتهام الجاهل في أذهان العوام والعديد من المثقفين بأن الفلسفة ولدت في برج عاجي، وأن الفلاسفة أصحاب تصورات خيالية وقضايا معقدة اصطنعوها للفت الأنظار إليهم من جهة، وتبرير استعلائهم على الجمهور من جهة أخرى.

ومن المؤسف أن نجد هذا الزعم قد لاقى رواجاً في الرأي العام، فأستحسنه الراديكاليون والرجعيون والجامدون في المعاهد الدينية، وبات كذلك مسار سخرية من المتفكهين الساخرين والمتحذلقين. وأصبحت الفلسفة مرادفة للسفسطة في عيون الراغبين للالتحاق بكلية الآداب ودار العلوم والتربية، أمّا أرباب الخطاب الفلسفي الجدد؛ فكانوا مشغولين بترميم مشروعاتهم المزعومة وأفكارهم المشوهة وآرائهم المستوردة من محافل الحداثيين، والماسونيين، والمنظمات الإلحادية، والكتابات الوجودية الغربية المعاصرة. وقليل منهم ألتزم الصمت ليتمكن من الانسحاب الهادئ من تلك المهزلة التي دفعته أحياناً للسير خلف نعش المشروع الفلسفي المصري.

وفي وزارة مصطفى كمال حلمي للتربية والتعليم في الفترة الممتدة (من 1974إلى 1977م) صدر قرار وزاري في 2/2/1975م بتشكيل لجنة لمراجعة مناهج الفلسفة. وفي عام 1976م، تم تعديل برنامج تدريس المعارف الفلسفية على هذا النحو (منهج مسائل فلسفية للصف الثالث الثانوي أدبى مستوى عام، ومنهج فلسفة القيم للصف الثالث الثانوي أدبى مستوى خاص، ومنهج المنطق ومناهج البحث (مبادئ التفكير العلمي) للصف الثالث الثانوي أدبى مستوى عام. وقد أشتمل المنهج الفلسفي المُعدل على تاريخ المذاهب والاتجاهات، والمدارس الفلسفية الكبرى على مر العصور.

ويمكننا أن نلاحظ أن الفترة من 1965م إلى 1976م تُعد أكثر السنين إظلاماً وأفولاً للمعارف الفلسفية وهي نفس الفترة التي غاب فيها الرواد الإوُّل الممثلين للمشروع الفلسفي في النصف الثاني من القرن العشرين؛ الأمر الذي ساهم في عودة الفكر الرجعي الراديكالي الإظلامي المتطرف لمغازلة الرأي العام وإقناعه بأنه يمتلك الحل والنجاة ممّا أصاب مصر عقب عام 1967م.

(وللحديث بقيّة)

***

بقلم : د. عصمت نصّار

 

ما يتعلمه الإنسان كل يوم في حياته قليل جدًا إن لم يرغب هو في إدراك ما يريد تعلمه، وتفسير ما يمر به من خبرات لكي تضيف لمعرفته معرفة جديدة في ما يصدر عن داخله، لكي يواجه ما هو موجود في الخارج من مثيرات وأشكال متعددة مما يحمله الخارج له، هو الإنسان في بحثه عن الإتزان والإستقرار لينعم ولو بشيء من الهناء والراحة النفسية. ونحن نتناول هذه العبارات ليس أعتباطًا أو رفاهية، إنما نبحث لنحاول أن نجد ما يريحنا في عالم صاخب، لا يهدأ ولا يستكين، عالم الداخل "ما في أنفسنا" ومتطلباته التي لا تنتهي من تلبية الرغبات المعلنة، وغير المعلنة، ومن الخارج الذي هو يفرض علينا لكي يجعلنا أن نتكيف مع الواقع لكي لا نرتد إلى أعماقنا فنعيش عالم الجنون إن صح التعبير، مسرح دواخلنا الذي لا نهاية له ولا حدود، له لغة خاصة، وطريقة تفكير مختلفة، ويقول "جاك لاكان" أن ما هو لاشعوري ليس كله مكبوتًا، بمعنى أنه قد تم تجاهله من طرف الذات بعد أن حصل النطق به، لذا يجب التسليم بوجود عملية قبول أولية، قبول بالمعنى الرمزي، كامن خلف صيرورة الكلام والذي من الممكن أن ينعدم وقوعه"لاكان، ص 20"

أن الإنسان تحكمه رغبات، تقوده إلى أفعال ترغمه على تنفيذها وتحقيقها حتى وإن تعارضت مع ما يعيشه من قيم وتقاليد وأعراف، لا يمكن أن يَسكن أو يهدأ حتى وإن أستطاع قمعها وهو واعٍ بها، أو يتركها تنغرس في لاشعوره"لا وعيه" في الوقت الحاضر، على الأقل لكي يعيد توازنه أمام العالم الخارجي" أمام الواقع المعاش" ولكنها لا تهدأ ولا تموت ولو مضى على طمرها بفعله هو، أو بفعل القوة الداخلية التي استطاعت ان تعينه على الهدوء ولو لحين!! أقصد آليات الدفاع.. الكبت أنموذجًا.

أن حتمية السلوك تدفعه دينامية عجيبة غريبة، تجدد له الرغبات حتى وإن كانت متوحشه، وإن كانت غير مقبولة للعالم الخارجي، هذه الرغبة تفرض نفسها عليه وفي أوقات ولحظات ربما تدفعه لأن يتحول من السوية المتشبثه بأطراف الواقع عنوة، إلى اللاسوية الصارخة بهدوء، الرغبات التي قمعها أو خزنت تظل في حالة دينامية تدفعه لأن يلجأ إلى هذا الذي يريده، ولو استعنا بموسوعة علم النفس والتحليل النفسي لمعرفة الدينامية وما هو كنهها لوجدنا أنها مفهوم يعني الطاقة الفاعلة والتدافع والحركة والتغير المستمر، التفاعل المستمر بين الفرد والدوافع، سواء أكان داخليًا أم خارجيًا، كما أورده مصطفى كامل، وتضيف الموسوعة بأن الديناميات النفسية هي تدافع وتنازع وتصارع القوى والنزعات النفسية المختلفة داخل نفس الشخص، فالشخص توجد لديه نزعات ودوافع مختلفة متباينة، وغالبًا متصارعة كل منها يريد أن يقهر الآخر وينتصر عليه" والكلام للدكتور فرج طه " ونقول أن دينامية السلوك الإنساني لا تنتهي في عمر محدد، أو زمن محدد، تحكمها قواعد محددة، أو قانون محدد، أو ضوابط محددة، إنها عائمة وهائمة ونجدها في مختلف الأوقات والازمان والأمكنة، تنبثق من عقالها لتفرض نفسها وربما تقود صاحبها إلى مآسي وخروج عن القانون أو السواء، وأزاء ذلك يقول المحلل النفسي المصري "محمد درويش" توجد دينامية مختلفة متغيرة، لا يوجد شيء ثابت " في محاضرة له في رابطة الفضاء الفرويدي الدولي في باريس بعنوان "التحليل النفسي والتوحد.. منظور تاريخي" بتاريخ 10.11.2022، وهي محاضرة غير منشورة خاصة بأعضاء الرابطة والدارسين للتحليل النفسي. لذا بناء على طرح محمد درويش طفل التوحد كما هو السوي منا تقوده دينامية متجددة وإن أختلف بها عن الأخرين، ونحن نقول ترغمه على فعل السلوك الذي يرغب، السلوك الذي يصر على تنفيذه، بوعيه الحالي، أو يرغمه على الأصرار والتمسك لحد العناد، هو نفسه الإنسان ما يقوده في طفولته يتجسم في مراهقته وبلوغه، أعني فترة الرشد.

يرى "جاك لاكان" المحلل النفسي الفرنسي في كتابه الذهانات ص 16 قوله: أما الرمزي فلقد أبصر تموه عندما أشرت وبطريقتين مختلفتين إلى ما هو أبعد من كل فهم، فبداخل الرمزي يتم إدراج وتأطير كل فهم، وهو يقوم بتأثير يترك أختلالًا ملحوظًا في علاقة الإنسان بنفسه وعلاقته بالآخرين، ويضيف "لاكان" فقيمة كل عنصر تحصل بكونه مضادًا لآخر. وما زلنا بصدد معرفة الكثير عن ما يجري في دواخلنا وما نريد معرفته عن ظاهرتي الدينامية والحتمية التي تحرك سلوك كل البشر، وهي التي تحدد مستوى إتزانه "أعني بلغة الكم عال أو منخفض، معتدل أو متطرف، في وقت وزمن معين من أوقات يومه، ليله ونهاره، في وعيه، أو حلمه، لا سيما أن الاحلام لها نفس الدرجة في الحياة اليومية، والسبب أن الإنسان هو نفسه الذي يصدر عنه فعل السلوك، والحلم كسلوك غير مسيطر عليه، فهو محتوم أيضًا، ودينامي متجدد، ومختلف كما يرى "محمد درويش" فما يراه الإنسان في حلمه ربما يكون هو واقع في حالته وهو غير نائم، أقصد في حياته اليومية وتعامله، حقًا أن الإنسان جدلٌ غير منتهِ، جدل تحركه الرغبات، وإن منعت "هذه الرغبات" ظهر في الأحلام. أن أنساننا المعاصر أزاء متطلبات الحياة يعيش في صراع متجدد تحكمه رغبات دينامية متسارعة مع متطلبات الواقع، وننقل من فرويد كما ذكره جاك لاكان في كتابه الذهانات ص 21 أن كل ما يختفي تحت قبضة الكبت يتم إنجلاؤه، ذلك لأن الكبت ورجوع المكبوت هما وجهان لشيء واحد، إن المكبوت حاضر دائمًا ويعبر عن نفسه بطريقة جدً مركبة في الأعراض وفي ظواهر عدة. ويعزز كلام "جاك لاكان" الذي رأه فرويد برؤيته هو "أعني لاكان" قوله: في مرحلة جدً متأخره فقد يحدث لشخص أن يرفض إدماج شيء ما في عالمه الرمزي رغم أنه قد تم اختياره، وما هذا الشيء بهذه المناسبة إن هو إلا خطر الإخصاء. وكل التطور المتلاحق يبين أن الذات لا تريد أن تعرف عنه شيئًا بصفته مكبوتًا كما يقول فرويد بالحرف.

تؤكد لنا أدبيات علم النفس بشكل قاطع أن أعمال الإنسان وأفعاله ليست دائمًا ذات قيمة واحدة، فأنت تستطيع أن تتكيف بسهولة مع الظروف التي تتوافق مع نفسك، وما اعتدت عليه من خبرات سابقة، وإن بعضنا من الأسوياء لا يشعر بأي صعوبة في التكيف مع حياة أقل ما نقول عنها سوية إلى حد ما، وقولنا كل شيء يتبدل إذا كانت المتطلبات غير متناسبة مع قدراتنا على تقبلها، أو بالأحرى على تحملها، كأن يكون العمل مرهق، والادارة سيئة، والمواصلات متعبة، وسلوك الناس المحيطين بنا في العمل مثير لكل حركة، إيماءة، فكرة لا تفسر بحسن النية، أو شارع مشوش بالمثيرات، فيزداد تشتت الجهود، ويبدو عندئذ سيطرة الإنفعال على السلوك بشكل واضح، فيكون الفاقد من الطاقة أكثر من المنجز في الحياة العملية اليومية، فتظهر علامات التردد وربما الشك، والاجترار النفسي، والسخط من داخل النفس على النفس، وترى الدراسات النفسية أيضًا أن كل شيء منوط بالاستعدادات المسبقة لكل فرد، وتهيأه لما سيحدث سلبًا أو إيجابًا، وليس ببعيد أن يكون الضغط العالي مولدًا لنوع من العصاب"الاضطراب النفسي" ويظهر ذلك بالأخص في الأشخاص المنهكين، أو ممن تعايشوا مع ضغوط الحياة لفترات طويلة، ويساعد ذلك عودة المبكوت، أو بزوغه بطرق أخرى مُحوره تناسب الموقف في زيادة تدهوره، أنها دينامية المخزون وعودته. وحتمية السلوك وما صدر عن الإنسان.

***

د. أسعد شريف الامارة - استاذ جامعي في علم النفس

باحث في التحليل النفسي 

 

التَّنَوُّعُ الثقافي في بُنية العلاقات الاجتماعية يُعْتَبَر امتدادًا للوَعْي بالدَّور المركزي للإنسان في المُجتمع والتاريخ، وهذا الوَعْيُ يُمثِّل الشرعيةَ الوجودية للفِعل الاجتماعي الذي يُحدِّد خصائصَ سُلطةِ المعرفة، وملامحَ هُوِيَّةِ التاريخ، وشُروطَ التأويلِ اللغوي، ومعاييرَ البناءِ الأخلاقي. والفِعْلُ الاجتماعي لَيس نظريةً مُجرَّدةً، أوْ تَيَّارًا فلسفيًّا مَعزولًا عن الأحداث اليومية والوقائع التاريخية، وإنَّما هو نظامٌ مُتكامل قادر على بعث الحيوية في التَّنَوُّع الثقافي، وتحويلِ ماهيَّة الواقع المُعاش إلى هُوِيَّة فكرية مُتَجَذِّرَة، ونَقْلِ فلسفة التُّراث مِن الحَيِّز الذهني الزمني إلى المُمَارَسَة السُّلوكيَّة الحَيَّة، وتكريسِ كَينونة الحضارة كَتُرَاث مُشْتَرَك للإنسانية، بِوَصْفِهَا مَعْنًى رُوحيًّا للحياة، وقِيمةً ماديَّة للوُجود، ولَيس بِوَصْفِهَا نظامًا لتجذير سِيَادة الغالب على المغلوب، أوْ سِياسةً لتأطير العلاقة بين السالب والمسلوب. وهذا مِن شأنه إعادة إنتاج المعرفة كَمنظومة مُتفاعلة مع البيئة والطبيعة، لإعادة تشكيل التاريخ وَعْيًا حضاريًّا، ومُمَارَسَةً حياتيَّةً، وإدراكًا لُغويًّا، ورُؤيةً كَوْنِيَّةً، ودَمْجِ الماهيَّة الواقعيَّة معَ الهُوِيَّة الفكرية في صَيرورة التاريخ، الذي يُعاد تفكيكُه وتركيبُه باستمرار، مِن أجل تحقيق التواصل بين العلاقات الاجتماعية وسُلطةِ المعرفة مِن جِهَة، وبين كَينونة الحضارة وفلسفة التاريخ مِن جِهة أُخْرَى.

2

الأُسُسُ العمليَّةُ لِمُمَارَسَة الوَعْي في المُجتمع والتاريخ والحضارة، تَرتبط بالتَّنَوُّع الثقافي في سِيَاقه الإنساني القادر على تجسيدِ أبعاد اللغة في العلاقات الاجتماعية، وتخليصِ المُجتمع مِن تناقضاته العميقة التي تَمنع التواصلَ بين هُوِيَّة الإبداع وماهيَّة السُّلوك، وتفعيلِ المُشَارَكَة الفرديَّة والجماعيَّة في صِيَاغة الأنساق المعرفية التي لا تَتَقَوْقَع في المصلحة الشخصية الضَّيقة، ولا تتمركز حَول الذات، لأنَّ المعرفة عابرة للحُدود والتجنيس، وهي مشروع كَوني لِخَلاص الإنسان مِن مأزقه الوجودي، ولَيْسَتْ نَزْوَةً عابرةً في حياة الإنسان المَحصورة في عَالَمِه الخاص الداخلي، وهذا مِن شأنه حِمايةُ بُنية الواقع الاجتماعي مِن الانهيار، وتطهيرُ رُوح المُجتمع مِن التَّشَظِّي والفَوضى، وإنقاذُ أحلام الإنسان مِن النظام الاستهلاكي المَحصور بين اللذة والألم.

3

مُهِمَّةُ التَّنَوُّع الثقافي في المجتمع الإنساني تتَّضح في إخضاع الفِعل الاجتماعي للأفكار الإبداعية، ضِمن المنظومة العقلانية القادرة على تجاوز مبدأ التمركز حَول الذات، والغرقِ في اللحظة الآنِيَّة. والفِكْرُ يَسْبِق الفِعْلَ، ويُسيطر عليه، ويُوجِّهه نَحْوَ تخليص العقل الجَمْعي مِن الانغلاق بِحُجَّة الخَوف على الهُوِيَّة. والإشكاليةُ في هذا السِّيَاق هي أنَّ العَقْل الجَمْعِي في المُجتمعات الضائعةِ على الخريطة، والتائهةِ بلا بُوصلة، يَختبئ في ذاته، ويَنكمش في المَاهِيَّة للحفاظ على الهُوِيَّة، وهذا يُؤَدِّي إلى تمزيقِ سُلطة المعرفة، وتشتيتِ زوايا الرؤية للتاريخ، وتفتيتِ عناصر الذاكرة الوجودية التي تَنظر إلى طبيعة المُجتمع كزمن مُتَّصَل بلا فواصل معنويَّة ولا قطيعة ماديَّة. وإذا عَجَزَ المُجتمعُ عَن بَلْوَرَة علاقات اجتماعية حُرَّة وعقلانية، فإنَّ الإنسان سَيَفقد ثِقَتَه بِنَفْسِه، ويَسقط في الاغتراب الرُّوحي، ويَنسحب مِن الواقع القاسي، لاعتقاده بعدم وجود مكان له، أوْ أنَّ غَيْرَه اسْتَولى على المكان اللائق به، أوْ أنَّ المكان لا يتَّسع لذكرياته وأحلامه وطُموحاته. وغيابُ المكانِ يُؤَدِّي إلى الهُروبِ مِن الزمن، والخَوْفِ مِن التاريخ. لذلك يَتَّخِذ البعضُ موقفًا سلبيًّا مِن تاريخه الخاص والعام، ويَعتبره نهرًا مِن دَم يَجْرِي خَلْفَه، أوْ كَوْمَ رمادٍ يَكاد يقع على رأسه، أوْ كابوسًا لا يَعرِف متى سَيَفِيق مِنه. وإذا قضى الإنسانُ حياته هاربًا مِن نَفْسِه، فَلَن يُؤَسِّس سُلطةً معرفية لغياب الزمن والمكان، ولَن يَصنع أفكارًا إبداعيَّةً لغياب المَاهِيَّة والهُوِيَّة.

4

بُنيةُ العلاقاتِ الاجتماعية تقوم على القواعد الأخلاقيَّة، وهذه القواعدُ مُرتبطة بِقُدرة اللغة على تَكوين الآلِيَّات الفكرية التي تستطيع تحليلَ انعكاسات التَّنَوُّع الثقافي عَلى مَسَار الإنسان ومصيره. وكما أنَّ الإنسان ابن بيئته، فهو أيضًا ابنُ ثقافته. والثقافةُ المُتَجَذِّرَة في أعماق الإنسان لَيْسَتْ تعليمات تلقينيَّة أوْ مُحاضرات في الوَعْظ والإرشاد، وإنَّما هي نظام مِن الرُّمُوز المُعقَّدة له خصائصه المُتَفَرِّدَة، ودَلالاته النابعة مِن الذكريات، وسيطرة الإنسان عليها، والوَعْي بها. وحياةُ الإنسان الحقيقية هي قُدرته على تحويل اللاوَعْي والأحلامِ المكبوتة والذكرياتِ الغامضة إلى واقع يُمكن التَّحَكُّمُ به، والاستفادةُ مِنه كَقُوَّة توليديَّة للفِعل الاجتماعي، بِوَصْفِه مَجموع الأفكار العميقة لا الأحداث السطحية. والمُجتمعُ الحقيقي عبارة عن أحلام إنسانيَّة لا وقائع تاريخيَّة. وإذا أدركَ الإنسانُ أبعادَ ذَاتِه، واستعادَ أحلامَه لتحقيقها، ولَيس للبُكاء على أطلالها، فإنَّه سَيُصبح كِيَانًا واعيًا يَختار مسارَه، ويُقَرِّر مصيرَه، ويَستوعب تحوُّلات المعرفة في تاريخ الأفكار وفلسفة التَّنَوُّع الثقافي. والكِيَانُ الواعي قادر على إنتاجِ كَينونة حضارية تُوازن بَين الوَعْي والمُمَارَسَة ضِمن شبكة العلاقات الاجتماعية، وتحليلِ الأفكار الإبداعيَّة في لَحْظِة عَوْدتها إلى أنويتها الداخليَّة وجُذورها الأساسيَّة. واكتشافُ الداخلِ هو الخُطوة الأُولَى للانطلاق إلى الخارج، وتحديدُ طبيعةِ الجُذور المعرفية هو الخُطوة الأُولَى للانطلاق إلى مَعنى الوجود.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

تسود المجتمعاتِ العالقة في تاريخها، ومنها مجتمعنا، حالةٌ من الشغف بالكلام، تصل لدى البعض حد الهذيان. يتكلمُ الكلُّ في كلِّ شيء، بعض الزعماء السياسيين يتحدث في: الفلسفة واللاهوت والفقه والتفسير والأدب والفن والتاريخ والسياسة والاقتصاد... وغيرها. يولع بتكرار أسماء فلاسفة ومفكرين وأدباء وفنانين، لا يعرف عنهم في الغالب شيئًا يتجاوز الاسم، وربما يتلفظ الاسم خطأ. وحين يشير إلى معلومة تتصل بهم، غالبًا ما يخطئ فيها،كما سمعت ذلك عدة مرات.كأن السلطة السياسية تفوّض صاحبها التحدث بكلِّ شيء عن كل شيء، وكأن ما تراكم من معارف بشرية في تاريخ العلم المتواصل آلاف السنين، يمنح فجأة سلةَ العلوم والمعارف والفنون والآداب لمن أضحى متسيّدًا على كرسي السلطة، بوصفه "الرجل الضرورة"، حسبما كان يُصطلَح على صدام حسين، الذي يحلم بعض رجالنا بمحاكاته.

لم ينتفع سياسيونا، الذين عاش معظمهم في الغرب، ويفترض أنهم تشبعوا بمناخات الديمقراطيات الحديثة في تلك البلدان، واكتشفوا شيئًا من قيمة التخصص وأهميته في تطور البشرية، وامتدادها عموديًا، واتساعها أفقيًا. لم ينتفعوا من خبرة العصر في ضرورة احترام التخصص، والحذر من التعالُم والحذلقة الفارغة بمقام أهل العلم، ومن المعلوم أن المتحدثين في الفضائيات اليوم تتجه أحاديثهم لمختلف الناس، بمعنى أنهم يتحدثون دائمًا في مقام أهل العلم والخبراء.

لم يتعلم هؤلاء أن المجتمعات المتقدمة تفكّر أكثر مما تتكلم، وتعمل أكثر مما تتحدث، وتصمت أكثر مما تهذر، وعادة ما يقتصر المتحدث السياسي في تلك المجتمعات على اختصاصه، وعادة ما يعود الى الخبراء فيما لا خبرة له فيه، ويقتصد بما هو مطلوب من كلام، بلا ضوضاء وضجيج.

نحن ننهمك بتعويض الفعل بالثرثرة، واستبدال التفكير بالهذيان، حتى لو شئنا أن نفكّر فإنا نغرق في بحر الألفاظ، ولا نذهب للتفكير بـعمق في المفاهيم. مؤسساتنا التربوية والتعليمية والدينية والثقافية والإعلامية والاجتماعية، تنهمك في بناء كياناتها بالشعارات والألفاظ، وتقيِّم مكاسبها وتختبر نجاحاتها في سياق ما تحقّقه من مهرجانات واحتفالات ومارثونات وشعارات، وما تراكمه من عبارات وكلمات، من دون أن تنظر فيما تقدّمه من منجزات حقيقية على الأرض.كثرة الكلام في السياسة، بلا مواقف وطنية صادقة، يزيّف الحياة السياسية، ويهدم الدول، ويضيّع الأوطان.كثرة الكلام في الدين، بلا حياة روحية وضمير أخلاقي يقظ، يستفز الناس ويقودهم إلى النفور من الدين.

 إننا مدعوون جميعا الى حماية الأجيال الجديدة من داء الثرثرة المتفشية في مجتمعنا، وإعادة الاعتبار للصمت والتأمل والتفكير، وكلّ ما تتوغل معه الذات في عالمها الجواني، وتسبر أغوارَها العميقة، وتستكشف آفاقها البالغة الخصوبة والثراء. هناك حاجة ملحة لتنمية ثقافة ما يمكن تسميته بـ "اقتصاديات الكلام"، التي تعالج ما يتصل بكمية الكلام وكيفيته، وشكله ومضمونه، وكل ما له علاقة بذلك، مثل: أنماط إنتاجه، ورأسماله، وادخاره، وقيمته، وريعه، وتداوله، وسوقه، وتسويقه، وغير ذلك من اقتصادياته. وكل ما يُمكّننا من إتقان ما ينبغي وما لا ينبغي قوله وتداوله من ألفاظ، وما يمنحنا القدرةَ على الكفِّ عن الشقشقات اللغوية والرطانات اللفظية والكلمات المفرَغة من أي مضمون، فيما هو شفاهي، أو ما هو مكتوب.

من الضروري أن تستوعب خططُ وبرامج التربية والتعليم في مجتمعاتنا تدريس "اقتصاديات الكلام"،  و "فن الإصغاء"، وأن تهتم بالتدريب عليهما في برامجها التربوية والتعليمية، وفي مراحل التعليم الأساسي خاصة، منذ مرحلة رياض الأطفال الى نهاية التعليم الثانوي، ذلك أن "اقتصاديات الكلام"،  و"فن الإصغاء" ضرورة تربوية تعليمية وذوقية وروحية وأخلاقية وعقلية، تفرضها حالة انهيار القلب والروح والذوق والعقل، في فضاء ضجيج هذيان وهذر: معظم السياسيين، وبعض رجال الدين، والكثير من الإعلاميين، وجماعة ممن يسمون أنفسهم بالشعراء والأدباء والمثقفين.

إن فنَ الإصغاء يعني إرادةَ التعلّم، وعدمَ الاستخفاف بعقل وشخصية المتحدّث، وإرادة التنوع الديني والثقافي، وإرادة الصواب، والخلاص من تكرار الأخطاء. فن الإصغاء يعني تذوق لذة الصمت، الصمت معلم من لا معلم له، الصمت نافذة الضوء لاستكشاف مديات الأنا الباطنية العميقة وإثرائها بالمعنى.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

 

 

هايدجر الذي هو من أبرز الفلاسفة المؤثرين في القرن العشرين، كانت التكنلوجيا عنصرا هاما في عمله، فهو يرى التكنلوجيا عاملا مهما في فهم زماننا الحالي. كتابه بالذات (السؤال المتعلق في التكنلوجيا،1954"الطبعة الانجليزية 1977" كان هاما جدا في فلسفة التكنلوجيا.

ثلاثة ادّعاءات

تحليل هايدجر للتكنلوجيا يتألف من ثلاثة ادّعاءات:

1- التكنلوجيا ليست أداة، انها طريقة لفهم العالم

2- التكنلوجيا ليست نشاط انساني، وانما هي تتطور الى ماوراء سيطرة الانسان

3- التكنلوجيا هي ذروة الخطر، خطورتها هي اننا يجب ان نرى العالم فقط من خلال التفكير التكنلوجي.

لماذا التكنلوجيا غير محايدة؟

يعارض هايدجر بقوة الرؤية بان التكنلوجيا "وسيلة لغاية" او هي "نشاط انساني". هذان الاتجاهان، اللذان يسميهما هايدجر على التوالي بالتعريف "الأداتي" و "الانثروبولوجي" هما في الحقيقة صائبان، لكنهما لايذهبان عميقا بما يكفي،حين يقول، هما لايزالان لم تتأكد حقيقتهما بعد.

يشير هايدجر جازما الى ان الاشياء التكنلوجية هي وسائل لغايات، وهي بُنيت واديرت بواسطة الكائن البشري، لكن جوهر التكنلوجيا هو شيء آخر مختلف تماما. مثلما ان جوهر الشجرة هو ذاته ليس الشجرة،  كذلك جوهر التكنلوجيا ليس أي شيء تكنلوجي. ماذا لو كانت التكنلوجيا لا وسيلة لغاية ولا نشاط انساني؟ التكنلوجيا طبقا لهايدجر يجب ان تُفهم كـ "طريقة للكشف" a way of revealing(هايدجر 1977،12). "الكشف" هو احد المصطلحات التي طورها هايدجر لكي يجعل بالامكان الاعتقاد بما لم يُعتقد به بعد. انه ترجمة للكلمة اليونانية aletheuein التي تعني "يكتشف"- تكشف ما كان مستتراً. هايدجر يرى الترجمة الأكثر دقة للمصطلح هي "عدم الإخفاء".

كيف يمكن ان تكون التكنلوجيا "طريقة للكشف"؟

ما علاقة هذا بالتكنلوجيا؟ وماذا يعني هايدجر عندما يقول ان التكنلوجيا"طريقة للكشف"؟ الجواب على هذه الاسئلة يتطلب التفاتة قصيرة لكنها هامة. مانسميه "حقيقة" reality طبقا لهايدجر هو ليس معطى بنفس الطريقة في كل الاوقات وفي كل الثقافات (seubold 1986,35-6).

"الحقيقة" ليست شيئا مطلقا يمكن للانسان معرفته تماما وابدا، انها نسبية بالمعنى الحرفي للكلمة، أي، انها توجد فقط في علاقات. لهذا،الحقيقة "في ذاتها"، لايمكن الوصول اليها من جانب الانسان.

هذا يعني حسب تعبير هايدجر  ان كل شيء نتصوره او نعتقد به او نتفاعل معه "يخرج" من الكتمان الى الكشف ".عبر الدخول بعلاقة معينة مع الحقيقة، "تُكشف" الحقيقة بطريقة محددة. ومن هنا تأتي التكنلوجيا، طالما هي طريقة تصف زماننا بالكشف . التكنلوجيا تجسد طريقة محددة لكشف العالم،كشف يمارس فيه الانسان السيطرة على الواقع. وبينما اليونانيون القدماء لاحظوا "صنع" الشيء كـ "إعانة للشيء للمجيء للوجود" – كما يوضح هايدجر عبر تحليل النصوص الكلاسيكية والكلمات – لكن التكنلوجيا الحديثة هي بدلا من ذلك "تُجبر على الوجود". التكنلوجيا تكشف العالم كمادة خام، متوفرة للانتاج والاستغلال.

لماذا التكنلوجيا ليست فعالية انسانية؟

طبقا لهايدجر، هناك شيء خاطئ في الثقافة التكنلوجية الحديثة التي نعيش في ظلها اليوم. في "عصرنا التكنلوجي" يمكن ان يُعرض الواقع فقط كمادة خام (كـ"احتياط دائم")(1). هذا الوضع لم يأت بفعل الانسان،حيث ان الطريقة التكنلوجية للكشف لم يتم اختيارها من جانب الانسان، وانما،فهمنا للعالم – وفهمنا لـ "الوجود"، يتطور عبر العصور. في زماننا الحالي يتخذ "الوجود" سمة "اطار " تكنلوجي،  فيه يقترب الانسان للعالم بطريقة مهيمنة.

هذا الفهم التكنلوجي لـ "الوجود"، حسب هايدجر، يُرى كأقصى درجات الخطورة لأن الانسان سيفسر نفسه ايضا كمادة خام. وان الرغبة التكنلوجية بالسيطرة لا تترك لنا مهربا. عندما نتحرك قدما نحو تفسير جديد للوجود، هذا بذاته سوف يكون تدخّلا تكنلوجيا، أي، نحن نستغل استخدامنا،ونمارس سلطة على طريقتنا في ممارسة السيطرة. وهذا سوف يعيد التأكيد على التفسير التكنلوجي للوجود. كل محاولة للهروب من التكنلوجيا ستعيدنا مجددا اليها . الطريقة الوحيدة بالنسبة لهايدجر هي "الرغبة بان لا نرغب". نحن نحتاج ان نفتح امكانيات الوثوق بالتكنلوجيا دون ان نصبح عبيدا لها وان نراها كتجسيد لفهم الوجود.

***

حاتم حميد محسن

....................

الهوامش

(1) عندما يقول هايدجر ان التكنلوجيا تكشف لنا الاشياء كـ "احتياطي دائم"، هو يعني ان كل ما يُفرض علينا او يتحدانا سيكون مصدر منتظم للتطبيقات التكنلوجية، التي بدورها نأخذها كمصدر لإستعمال آخر، وهكذا الى ما لا نهاية.

 

في المثقف اليوم