"الطريقة العلمية" هي مجموعة من الطرق والإجراءات. لكن التمييز بين النظرية العلمية والنظرية غير العلمية لم يعد ممكناً بعد ان أعلن توماس كن Thomas Kuhn في الستينات من القرن الماضي بان مفهوم "التكذيب" لكارل بوبر غير كاف بحد ذاته لتقرير علمية الفكرة. كن ذاته خلق تشويشا برفضه القواعد القائمة لتقرير القواعد العلمية، في مسعى لخلق تصوّر أوسع للعلوم كي تشمل الاقتصاد والتحليل النفسي. المشكلة هنا، هي كما اعترف كن، انه من الصعب جدا التمييز بين العلم والعلم الزائف pseudo-science. امثلة على ذلك هو ان الخلقيين الامريكيين (المؤيدون لنظرية الخلق من الله) يجادلون بان علم الخلق والتطور الداروني يجب اعطائهما وقتا متساويا في دروس البايولوجي المدرسية. كذلك، الفيزيائيون النظريون انتجوا مفاهيما مثل نظرية الأوتار، بُرّرت تماما بسبب أناقتها الرياضية، بدون أي دليل تجريبي. وهو ما يمكن ان يُعد ايضا علما زائفا.
وما هو أكثر من هذا، ان الافكار العلمية مثل نظرية مارشال القائلة - ان قرحة المعدة او سرطان المعدة تنتج عن بكتريا - اُهملت لعدة سنوات بسبب الجهود المزدوجة لذوي المصالح (شركات الادوية)، والعقائد الراسخة لكبار الاطباء والعلماء حول امكانية الميكروبات للعيش في أحماض قوية، رغم الدليل المتوفر لتلك النظرية. في تلك الأثناء، جرى تمويل الطب البديل homeopathy الأقل جدارة علمية مثل العلاج بالمواد الطبيعية، او العلاج بالروائح من قبل الصحة الوطنية. اذاً ماذا كان يعمل فلاسفة العلم كل هذا الوقت؟
وفق الرؤية النفعية، وجود طريقة للقياس الكمي للعلمية ستكون ذات قيمة اذا كانت تقود الى تمييز أوضح بين العلم والعلم الزائف، يتم بموجبها رفض الطب غير العلمي والغير فعال ويتوفر فهم أفضل للطريقة العلمية في أوساط الجمهور العام. ذلك سيعني الحكم على نظريات جديدة طبقا لجدارتها العلمية وليس لكونها مُبالغ فيها او مكبّلة بالاهتمامات والمصالح والتحيزات الذاتية. لا نرى وجود سبب نظري مقنع لقلة الثقة بقياس كمي للعلمية مقابل المخاطرة التي تحدث حاليا في الصحة والسلامة وسلامة الغذاء.
المشكلة الاخرى هي ما هي أحسن طريقة لقياس نوعية العلمية. هنا اخترنا طريقة وصفية بسيطة لكي يمكن للعديد من الناس تقييم التقييم. وفي تمرين اكثر اكاديمية، اخترنا اتجاها عدديا يوفر مستويات هامة عند مقارنة النظريات من حيث النوعية العلمية. لكننا، لكي نحصل على أفضل وسيلة لآداء المهمة، علينا البدء بأداة أساسية. العجلة يجب ان تُخترع قبل الاطارات الهوائية، ولذلك، فان الخمسة عشر معيارا التالية تُستعمل لتقييم علمية النظريات، والنظرية يمكن منحها درجة مقابل كل معيار. وعندما تُعرف الدرجة التراكمية، فان النظرية ستكون لها "حصيلة علمية" Scientific Quotient.
المعايير الخمسة عشر للعلمية
1- هل النظرية تستعمل توضيحات طبيعية؟
طاليس، اول فيلسوف طبيعي سجّله التاريخ، اعتقد ان الأحداث الطبيعية لها توضيحات طبيعية وليست دينية. هذا الرفض للتوضيحات الالهية والروحية قاد للحاجة الى توضيحات طبيعية والى تطوير الطريقة العلمية. التوضيحات الخارقة للطبيعة الغير مختبرة تعمل ككوابح تمنع او تؤخر أي بحث او تحقيق لاحق.
2- هل النظرية تستعمل حجة استقرائية عقلانية؟
حجج الاستقراء العقلاني ترتكز على الاستدلال المنطقي بدلا من اللجوء الى السلطة. الحجج الاستقرائية العقلانية هي غير مؤكدة لكنها توضيحات معقولة مرتكزة على الدليل المهتم بادّعاءات السبب والنتيجة. النظرية يجب ان تستعمل حجة استقرائية لكي تكون علمية (9). أقدم مثال هو ادّعاء اناكسمندر Anaximander بان الانسان كان قد وُلد من حيوانات من نوع آخر، لأن الانسان وحده يتطلب فترة طويلة من الرعاية والحضانة.
3- هل النظرية مرتكزة على اتجاه اختزالي تحليلي بدلا من اتجاه اصطناعي غير طبيعي؟
الاختزالية reductionism هي محاولة لفهم أشياء معقدة عبر تحليلها طبقا لأجزائها او الى أبسط المظاهر. استُعملت الاختزالية أول مرة من جانب طاليس، عندما ادّعى ان الماء هو أصل كل شيء . الاتجاه التركيبي هو المضاد للاختزالية، كونه يحاول بناء نظام للتوضيح من نظرية وعادة يؤدي الى طبقات اضافية من التعقيد ترتكز عادة على الحجة وحدها بدلا من دليل هام. أمثلة على ذلك أشكال افلاطون، والتحليلات النفسية لفرويد والمادية التاريخية لماركس ونظرية الأوتار ذات الأبعاد الاضافية.
4- هل النظرية منسجمة ذاتيا؟
طبقا لارسطو، فان مبدأ عدم التناقض هو المبدأ الأكثر اساسية في المنطق والفكر. الحاجة الى التماسك هي تجسيد لهذا المبدأ. معظم النظريات هي منسجمة ذاتيا، ولكن احيانا يمكن ان تكون النظرية غير منسجمة داخليا . مثل هذه النظريات تكون احيانا مفيدة كأفكار انتقالية. لنأخذ نموذج روثفورد Rutherford في النظام الشمسي للذرة الذي به يتم تصوّر الالكترونات تدور حول النواة بنفس الطريقة التي تدور بها الكواكب حول الشمس. هذا النموذج غير متماسك لأن الالكترونات التي تدور حول النواة تطلق اشعاعا كهرومغناطيسيا يؤدي الى فقدان طاقة حركية تجعل الالكترون يبطئ في حركته حول النواة فيصطدم بها بسرعة. لكن نموذج النظام الشمسي كان مفيدا كونه حفّز لتفكير آخر حول بناء الذرة.
5- هل النظرية تستلزم اتجاها ميكانيكيا؟
الاتجاه الميكانيكي يوضح كيف تعمل الفكرة المقترحة. هذا الاتجاه في تضاد مع الاتجاه الذي يعلن ببساطة ان الموقف هو هكذا. المثال الجيد على الاتجاه الميكانيكي هو النظرية الحركية للغازات. هذه تعلن بانه عندما ترتفع درجة حرارة الغاز فان الجزيئات تتحرك بشكل أسرع مما يجعل من المحتمل جدا اصطدامها وبالتالي ستصبح ردود فعلها للحدث كبيرة. هذا ايضا يوضح لماذا يزداد الضغط مع الحرارة اذا بقي حجم الغاز ثابتا، لأن الجزيئات تصطدم دائما بجدران الوعاء عندما ترتفع الحرارة. بالمقابل، هناك اتجاه غير ميكانيكي يُتخذ عادة من جانب اختزالية متطرفة، مثل ادّعاء طاليس بان كل شيء ماء. احيانا تُصاغ نظرية بدون توضيح لكيفية عملها، مثل قانون نيوتن في الجاذبية ونظرية دارون في التطور، لكن النظريات العلمية الجيدة ستصبح ميكانيكية عندما يتم الحصول على ملاحظات جديدة او تُعرض افكار جديدة.
6-هل النوعيات تُعطى لها كميات؟
كان فيثاغوروس أول من خصص كمية للنوعية عندما اكتشف ان درجة النغمة تعتمد على طول الوتر الذي ينتجها: وبالتالي تُنتج فواصل متطابقة في السلّم الموسيقي بنسب عددية بسيطة. طبقا لآرثر كوستير، هذا الاختزال الاول والناجح للنوعية الى كمية كان اول خطوة نحو رياضية التجربة الانسانية، ولذلك كانت بداية العلوم.
7- هل النظرية تعكس أبسط طريقة لتوضيح البيانات؟
اول منْ صاغ هذا المبدأ هو وليم اوكام، ولهذا اشير له بشفرة اوكام. (صياغة اوكام كانت "الوجودات يجب ان لا تتضاعف اكثر مما هو ضروري"). المبدأ كان قد جرى تمديده الى فكرة ان أحسن تفسير للظاهرة يجب ان يضع أقل ما يمكن من الافتراضات. هذا المبدأ ايضا يُشار اليه بقانون الايجاز او التقتير. استعمل اوكام القانون للجدال بان الأشكال المثالية في ذهن الله لم تكن ضرورية لوجود الكينونات في هذا العالم. الفلكي البريطاني مارتن ريز ناقش ستة ثوابت فيزيائية أساسية لهيكل الكون منها مثلا سرعة الضوء. عندما تختلف أي من هذه القيم قليلا فان الكون لن يكون قادرا على ادامة الحياة. مع ذلك، فان احتمالية ان تعمل جميع الثوابت الستة عشوائيا وفي وقت واحد لخلق كون داعم للحياة هي قليلة جدا، اذاً كيف حدث ذلك؟
التفسيرات المحتملة تندرج كالتالي:
1- الله أعطى الثوابت قيمها
2- الثوابت وُضعت من جانب مصمم ذكي آخر
3- الكون هو محاكاة كومبيوتر
4- هذا الكون هو واحد من عدة أكوان، كل واحد له قيمة مختلفة لهذه الثوابت الستة.
5- هذا هو الكون الوحيد، وان الثوابت لها قيمتها بمحض الصدفة.
6- هذا هو الكون فقط، وان قيم الثوابت الستة ليست مستقلة وانما مرتبطة مع بعضها جوهريا بطرق لا نفهمها، بسبب ان نظريات الفيزياء لم تُصغ بعد.
السؤال الحالي هو أي من هذه النظريات الست هي الأبسط مع ثبات الاشياء الاخرى؟ انها لن تكون متساوية لو بدأنا بالتقاط معلومات من كون آخر، او كان هناك دليل قوي لنظرية في الفيزياء لم تُعرف بعد توضح كيف ترتبط هذه الثوابت مع بعضها.
النظريات من 1 الى 4 جميعها تستلزم كينونات اضافية غير مطلوبة في النظريتين 5 او 6 (النظرية الابسط). يمكننا القول بان ترابط الثوابت الستة ينتج حقا نموذجا أبسط عن الكون، لذا طبقا لهذا التفسير فان النظرية 6 هي التي يجب ان تُحقّق اولا.
8- هل تتطابق النظرية مع الفهم العلمي الموجود؟
النظريات العلمية لا تقف لوحدها, وانما ترتبط بنظريات علمية اخرى، وبالتالي لا يكفي للنظرية العلمية ان تكون فقط منسجمة ذاتيا: النظرية يجب ايضا ان تكون منسجمة مع المقدار الموجود من المعرفة العلمية. مع ذلك، احيانا الدليل على عدم انسجام نظرية جديدة هو كاسح لدرجة ان النظرية القائمة يجب تعديلها او مراجعتها او حتى إسقاطها، لذا فان الموقف ليس بسيطا. عندما اقترح الفريد وغنر حركة القارات عام 1912 ليوضح سبب تلاؤم ساحل افريقيا مع ساحل جنوب امريكا، لم يقبل غالبية الجيولوجيين ان كتل بحجم القارات يمكن ان تتحرك حول سطح الارض. مع ذلك، بعد الحرب العالمية الثانية، اكتُشف الدليل الذي أثبت الصفائح التكتونية. دراسات المغناطيسية القديمة وجدت نمطا من الانقلابات المغناطيسية في قشرة الارض بيّنت ان القشرة كانت تتحرك دائريا.ايضا، معظم النشاط الزلزالي وُجد انه يحدث على طول خطوط تتصادم فيها الصفائح. الفهم المضاد للحركة يجب مراجعته امام الدليل الجديد.
القاعدة العامة المألوفة هي كلما كانت التغييرات المطلوبة في التفكير العلمي القائم كبيرة واساسية، كلما وجب ان يكون الدليل لدى النظرية المتحدية اكثر قوة كي تحصل على ارثودكسية علمية، لأن هذا سيكون ممكنا فقط بعد مراجعة الكثير من النظريات القائمة. انه من غير المحتمل ان تُراجع النظريات القائمة لو عُرضت النظرية المخالفة الجديدة بدون أي دليل هام.
9- هل النظرية ترتكز على بيانات مُلاحَظة؟
يُعتبرتجميع البيانات أول خطوة في العملية الإستقرائية التي طُورت من جانب فرنسيس باكون وتوماس هوبز. انها اصبحت الأساس في العلم النيوتني والتجريبية بشكل عام. هنا يبتعد العلم عن الفلسفة. في الفلسفة، يمكن ان ترتكز النظريات بشكل خالص على التأمل بدون عبء جمع البيانات. تقسيم افلاطون للبدن والروح ونظريته في الأشكال كانت نتاجا للتأمل بدلا من الملاحظة او تجميع لبيانات. مع ذلك، العلم يهتم بما يُلاحظ.
10ـ هل خضعت النظرية للإختبار؟
في بداية القرن الثامن عشر اقترح جورج ستاهل Georg Stahl وجود مادة اللاهوب الكيميائية phlogiston ليوضح لماذا تحترق بعض المواد بينما لا تحترق غيرها. طبقا للنظرية، المواد التي تحترق احتوت على اللاهوب الذي ينبعث من النار. المشكلة كانت ان اللاهوب لم يتم عزله ابدا. القياس الكمي للصفات(انظر6) لم يدخل الكيمياء الاّ بالكاد. لكن لافشير Lavoisier اختبر نظرية اللاهوب بإجراء قياسات دقيقة، ووجد انها تفتقر لأشياء هامة. بيّن لافشير بانه عندما يحترق المعدن فهو يزداد في الوزن، والهواء في الوعاء المغلق يعاني من خسارة مماثلة في الوزن. لذا فان المعدن لا يفقد اللاهوب عبر احتراقه وانما يحصل على شيء آخر. وبعد المزيد من التجارب، أثبت لافشير بانه فقط خُمس الهواء يمكن ان يساعد في الإحتراق، واستنتج بان "الاوكسجين" هذا هو المتحد مع المعدن اثناء الاحتراق. نظرية الغازات جاءت الى الوجود بينما ماتت نظرية اللاهوب.
كان هناك حدثا مشابه في عام 1948 عندما اقترح كل من هولي بوندي Hoyle Bondi و Gold نظرية الحالة الثابتة steady state Theory لتوضيح الملاحظات عن المجرات المتحركة بعيدا عن بعضها. هما ادّعيا ان الكون كان موجودا دائما في الحالة التي هو عليها الآن، وان المادة تكونت من لا شيء في فضاءات بين المجرات، والتي اندمجت في نجوم ومجرات جديدة، دافعة الاخرى بعيدا ومكونة الفضاء لتكوين المزيد من المادة . المشكلة كانت ان هذه النظرية لم تعمل أي تنبؤات يمكن اختبارها (انظر 14) باستثناء خلق المادة بين المجرات التي لم تُلاحظ ابدا ومن الصعب جدا ملاحظتها في اي حال. مع ذلك النظرية البديلة وهي نظرية الانفجار العظيم Big Bang طرحت تنبؤات قابلة للاختبار، الشيء الاكثر أهمية ان هناك خلفية اشعاعية من الانفجار العظيم. الخلفية الاشعاعية اكتُشفت من جانب بنزياس و ولسون Penzias and Wilson صدفة عام 1964 في نطاق الميكروويف عند 3.5 درجة مئوية فوق الصفر المطلق. ايضا في بداية الستينات، اكتشف عالم الفلك الاشعاعي مارتن رايل انه كلما نظر أبعد (وايضا رجوعا في الزمن)، كلما كانت هناك اكبر نسبة من المجرات الراديوية. هذا بيّن ان الكون تغير بمرور الزمن. وبهذا فان نظرية الحالة الثابتة عانت من نفس مصير نظرية اللاهوب.
11- هل نتائج الاختبارات تدعم النظرية بشكل مقبول؟
العلاج بالمواد الطبيعية Homeopathy اختُرع في بداية القرن التاسع عشر من جانب صاموئيل هانيمان، الذي افترض ان الناس المرضى يمكن معالجتهم بأدوية ستكون مؤذية للناس الأصحاء. وما هو اكثر إشكالية هي عقيدته بان الدواء كلما كان قليل التركيز كلما كان اكثر فعالية. في العلاج الطبيعي المعاصر، خُفف المحلول الى نصف قوته 30 مرة، مما جعل من غير المحتمل وجود حتى جزيء واحد من المحتوى "النشط" في الدواء النهائي. العلاج بالمواد الطبيعية يتغلب على مشكلة نقص الدواء في العلاج بالادّعاء ان للماء ذاكرة. هذا يصطدم مع الفهم العلمي القائم (انظر 8)، مع ان الاختبار يبيّن ان العلاج بالمواد الطبيعية فيه بعض الفوائد، لكن هذه الفوائد لها قوة مساوية لتأثير الدواء الوهمي. وبالتالي لايوجد هناك دليل كاف للادّعاء بان الماء له ذاكرة.(عندما بدأ العلاج بالمواد الطبيعية، كان الطب التقليدي أقل علمية وانطوى على عدة علاجات غير مختبرة والتي عادة عملت ضرراً اكثر من النفع، لذا اكتسب العلاج بالمواد الطبيعية الاكثر حيادية شعبية. مع ذلك، الطب التقليدي تقدّم علميا لكن العلاج بالمواد الطبيعية لم يتقدم كونه بقي محاصرا في طريق مغلق).
12- هل يمكن تكرار التجارب بواسطة مختلف التجريبيين؟
في عام 1989 ادّعى عالمان امريكيان وهما فليشمان وبونز انهما انجزا اندماجا نوويا بدرجة حرارة منخفضة نسبيا – بمستوى المختبر، بدلا من درجات حرارة عالية كتلك التي تحدث في النجوم او معجّل الجسيم. اذا كان الانصهار البارد ممكنا، فان تزويد طاقة العالم سيكون لا حدود له تقريبا. لكن بالرغم من المحاولات المتعددة من جانب علماء آخرين، لم ينجح أي منها في تكرار "النتائج".
13- هل يمكن تكذيب النظرية؟
يمكن عمل التجارب لإبطال بعض النظريات، لكن نظريات اخرى لايمكن تكذيبها. النظريات التي لا يمكن تكذيبها بواسطة التجارب تقع في صنفين: تلك التي هي محصنة جوهريا ضد التجريب، وتلك التي لا يمكن تكذيبها بالتجريب بسبب نقص التكنلوجيا.
ان مفهوم التكذيب صاغه كارل بوبر عندما حقق في الاختلاف بين التفكير الدوغمائي والتفكير النقدي. المفكرون الدوغمائيون بمن فيهم ماركس وفرويد يحاولون تفسير جميع الاحداث بقدر ما يتعلق الامر بنظريتهم او عقيدتهم المفضلة، بينما المفكر النقدي يحاول العثور على عيوب في النظريات خاصة تلك المفضلة لديهم. بوبر يعتبر اينشتاين مثالا على المفكر النقدي، عندما قال اينشتاين (اذا كان الانزياح الاحمر للخطوط الطيفية غير موجود، عندئذ ستكون نظرية النسبية العامة لا يمكن الدفاع عنها).
14-هل تمتلك النظرية عناصر تنبؤية؟
بدون عناصر تنبؤية، سيكون العلم موضوعا سرّيا او تخمينيا "كالقصص". العنصر التنبؤي هو الذي يعطي العلم قيمته التطبيقية، ويسمح لنا بالقول كيف تتصرف المواد او ماذا ينتج من أي ردود أفعال مختلفة. هذا مهّد الطريق للتكنلوجيا التي غيرت العالم اثناء الثورتين الصناعية والمعلوماتية. الفيزياء تدعم تكنلوجيا القاطرات والطائرات. عندما أصبح الطب أكثر علمية، اصبح اكثر نجاحا. الكسندر فليمنك تنبأ بان البنسلين يمكن استعماله لعلاج الامراض البكتيرية. ايضا، نظرية مارشال بأن قرحة المعدة نتجت عن بكتريا ولهذا يمكن علاجها بمضاد للبكتريا ثبت صحتها.
15- ما مدى دقة التنبؤات المرتكزة على النظرية؟
النظريات العلمية ليست هي وحدها أنظمة توضيح تنتج تنبؤات. قبل وقت طويل من العلم كان هناك وسطاء الوحي، والأبرز شهرة آلهة معبد ابولو. لكن نبؤاتهم لم تخضع للتحليلات الاحصائية التي تُستعمل لإختبار التنبؤات العلمية الحديثة. ايضا، كما رباعيات نوستراداموس، كانت تنبؤات ابولو غامضة وتأسست على السرّية والمراوغة. عندما سأل الملك كروسوس الإله اوراسل عما سيحدث لو ذهب لمحاربة الفرس، كانت نبوئة الإلهة ان امبراطورية عظيمة ستسقط. هي لم تقل من هي الامبراطورية. التنبؤات المرتكزة على قوانين الحركة في فيزياء نيوتن مختلفة جدا. هذه القوانين استُعملت لتتنبأ بدقة عن الموعد الذي سيكون فيه مذنب هالي مرئيا.
لسوء الحظ، ليس كل النظريات التي تدّعي العلمية دقيقة في تنبؤاتها كما في نيوتن. نظرية ماركس (التي يدّعي الماركسيون انها علمية) تدّعي انها تستطيع التنبؤ بالفترات التاريخية للمستقبل: في نظرية ماركس الفترة الاقطاعية تعقبها فترة رأسمالية، والتي تعقبها فترة اشتراكية، التي بدورها تعقبها فترة شيوعية. لكن طبقا للنظرية الماركسية الدول التي ستكون الاولى في مباشرة الثورة الاشتراكية ستكون دول متقدمة رأسماليا، مثل بريطانيا وآلمانيا والولايات المتحدة، وليست اقتصاديات مرتكزة على الزراعة كروسيا والصين. هذا التنبؤ فشل حتى وان كان ضمن نظرية واسعة جدا.
المؤهلات الهامة للمعايير
يمكن المقارنة بين النظريات لمعرفة مدى جدارتها وأهليتها العلمية من خلال تحديد عدد من المعايير الضرورية لتقييم النظرية (15 معيارا) ثم تخصيص قيمة لكل نظرية في ضوء تلك المعايير، وبعد سلسلة من الخطوات الرياضية يتم الوصول الى ناتج القسمة scientific Quotient لكل واحدة من تلك النظريات، وهو المعيار لعلمية او عدم علمية النظرية.(1)
عيوب هذا الاتجاه هو الذاتية في وزن المعايير وعملية منح الدرجات. لكن هذه المشكلة يمكن تعويضها عبر اختيار فريق خبراء يقيّم النظرية مقابل المعيار.(هذا لا يعني استبعاد غير المحترفين من حساب القسمة العلمية).
هناك تعقيدات اخرى. التاريخ يبيّن لنا ان علمية او عدم علمية النظرية يمكن ان يتغير في ضوء دليل جديد او تكنلوجيا جديدة. ما هو غير مختبر حاليا يمكن ان يصبح مختبرا. المعايير الستة الاولى المعطاة هي خصائص داخلية للنظريات، لا تتغير بالبيانات الجديدة او التقنيات. اما معيار البساطة، الامتثال، التكذيب وعناصر التنبؤ هي انتقالية بمقدار عدم احتمالية ان تؤدي بيانات وتقنيات جديدة الى تغيير في طبيعة النظرية بمرور الزمن. المعايير الخمسة المتبقية هي خصائص خارجية يُحتمل ان تتغير عندما تُجمع بيانات جديدة او تتوفر تقنيات جديدة.
ان مظاهر علمية النظرية ليست مستقلة. فمثلا، مجرد ارتكاز النظرية على بيانات مُلاحظة ومجّمعة لا يعني بالضرورة ان النظرية دقيقة او أبسط (انظر7). كذلك، المعايير ليست بوزن واحد. بعض المعايير ضرورية لعلمية النظرية، بينما اخرى ليس لها تأثير متبلور كبير. نحن نستطيع دمج نظام الدرجات العلمي مع نظام النجمة (علامة نجمة تُخصص للمعيار) حيث جميع المعايير الضرورية للنظرية تُعطى نجمة، وهكذا النظريات تكون غير علمية اذا لم تتخطى كل المعايير النجمية. هذه المعايير تتضمن: هل النظرية منسجمة ذاتيا؟ هل النظرية ترتكز على البيانات؟ هل جرى اختبار النظرية. مع ذلك، نظام النجمة وحده لا يميّز درجة تحقق المعيار في نظريتين متنافستين، على خلاف نظام القسمة العلمي. قبل اكتشاف الخلفية الإشعاعية من الانفجار الكبير لم يكن واضحا بشكل حاسم أي نظرية هي الأقوى. لكن بعد استعمال نظام الحاصل العلمي، فان نظرية الانفجار الكبير ستبقى محتفظة بدرجات أعلى. ايضا في ذلك الوقت كانت نظرية الانفجار العظيم اكثر انسجاما مع بقية الفيزياء قياسا بتكوّن المادة في فضاء بين النجوم (تخالف القانون الاول للديناميكا الحرارية) وبهذا حازت النظرية على تحقّق أقوى للمعيار8.
النظريات التي تقع على حدود العلم سوف لا تُعد علمية كونها فشلت في الحصول على النجمة. حاليا نظرية الأوتار ونظرية تعدد الأكوان تقع في ذلك الصنف. وفي معيار الميكانيكية، يمكن ان يقال عن نظرية دارون في التطور انها غير علمية الى ان اكتشف واتسون وكرك الـ DNA. نعتقد ان من الإنصاف القول ان هذه النظرية غير مختبرة او غير كاملة بدلا من الادّعاء انها غير علمية. اذا اعترفنا ان بعض المعايير الضرورية للعلمية هي خارجية (تعتمد على عوامل غير النظرية ذاتها)، فان الادّعاء بان النظرية علمية او غير علمية قد يتغير مع الزمن. او ربما نستطيع زيادة مفرداتنا بالقول ان هناك نظريات علمية غير ناضجة. وكما قلنا، هذه النظرية في التطور هي ذاتها في مراحلها التمهيدية.
***
حاتم حميد محسن
.........................
الهوامش
(1) مثلا تجري المقارنة بين ثلاث نظريات: نظرية المصمم الذكي وهي ان الانسان تطور منذ ملايين السنين من أشكال للحياة أقل تطورا لكن بارشاد من الله، النظرية الثانية وهي نظرية التطور لدارون وتفيد بان الانسان تطور منذ ملايين السنين من أشكال للحياة اقل تطورا ودون أي تدخّل او توجيه من الإله، والنظرية الثالثة هي نظرية الخلق التي تقول ان الله خلق الانسان بشكله الحالي في العشرة الاف سنة الاخيرة. لمعرفة مدى علمية هذه النظريات الثلاث يتم اعطاء درجة (بين 1 الى 10) لكل نظرية مقابل كل معيار من المعايير الخمسة عشر المذكورة، وبعد تجميع القيم لكل نظرية والقسمة نحصل على المقياس النهائي (SQ) او ناتج القسمة الذي يشير الى مدى علمية كل واحدة من النظريات الثلاث.