أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: في العودة الى الله.. مقترح لحل مشكلة الشر؟
احيانا يجد الانسان نفسه عالقا في تفكير ثنائي. هل نؤمن بالارواح ام نؤمن ان الروح هي نفس الدماغ؟ هل نؤمن باننا لدينا ارادة حرة ام ان كل شيء مقرر سلفا؟ هل انت شيوعي ام رأسمالي؟. هذه واحدة من أكبر النقاشات الفلسفية الثنائية المعاصرة بين التوحيديين التقليديين والملحدين التقليديين: هل انت تؤمن بالإله الخالق القدير ام انك تؤمن اننا نعيش في كون عبثي بلا إله؟ في أي جانب ستقف، هل مع الملحد ريتشارد دكنز ام مع البابا؟ هذه الخيارات امام كل فرد والقرار يعود له.
غير انه في كل من هذه الحالات هناك مواقف صائبة تقع بين الحدّين المتطرفين. الفيلسوف فيليب جوف Philip Goff (1) استطلع المنطقة الوسطية في فلسفة الذهن، وبالذات الدفاع عن الروحانية الشاملة panpsychism، وهي الرؤية بان الوعي هو خاصية أساسية وشاملة في كل مكان من الكون. وفي كتاب جوف الأخير (لماذا؟ الغرض من الكون،2023) استطلع فيه المنطقة الوسطية المثيرة بين الشكلين التقليديين للايمان والالحاد.
في النهاية، يرى جوف ان كل جانب من طرفي النقاش حول الله لديه شيء من الصواب. الملحد يشير وهو على صواب الى صعوبة التسوية بين إله محب وقدير وما نراه من معاناة مرعبة في العالم. الجواب الأكثر شهرة من جانب الموحدين يستخدم الارادة الحرة، وهذا يوضح ان المعاناة ناتجة عن فعل الانسان – لكن ماذا عن المعاناة التي نجدها في العالم الطبيعي؟ ولماذا اختار الله خلق حياة ذكية من خلال عملية دموية للتطور تعتمد على الاختيار الطبيعي؟ غير ان هناك ايضا أشياء يصارع الملحد لتوضيحها. وهي التي نوقشت كثيرا – والتي تتحدى الإلحاد وهي الضبط الفيزيائي الدقيق للحياة – الإكتشاف المثير في العقود الأخيرة بان الثوابت الأساسية للفيزياء ملائمة تماما لدرجة تسمح بإمكانية الحياة. البعض يحاول توضيح هذا من حيث علاقته بالأكوان المتعددة: اذا كانت هناك أكوان كافية، عندئذ فان أحد هذه الاكوان سيقع عليه الحظ ويكون ملائما للحياة.
اعتقد جوف ان هذا هو الجواب الصحيح بالنسبة له. لكنه، اُقنع من جانب فلاسفة الاحتمالات بان المنطق الكامن وراء تفسير الأكوان المتعددة والضبط الدقيق للكون هو منطق ملتبس ومشوش بشكل خطير.
توضيح محدود
لاحظنا ان كلا الجانبين من نقاش مسألة الله لديه شيء ما يستطيع توضيحه وشيء لا يستطيع . لحسن الحظ، هناك فرضية يمكن ان تسد الفجوة لدى كلا الجانبين: إله خيّر بقوة محدودة.
التحدّي للتوحيدي التقليدي هو ان يوضح لماذا اختار الله خلق حياة ذكية من خلال عملية مروعة عبر الاختيار طبيعي بدلا من مجرد جلب الناس الى الوجود بشكل كامل في عالم يتمتع بالارادة الحرة ودون معاناة. لكن اذا كان الله ليس لديه القدرة الكلية، فهو سيكون غير قادر على خلق حياة معقدة بهذا الشكل. ربما، على سبيل المثال، الله يستطيع فقط ان يبني من البساطة – وعليه فان الخيار الوحيد لخلق حياة ذكية كان خلق كون بواسطة نوع ملائم من الفيزياء تؤدي بالنهاية الى تطوره مع كل المعاناة التي ينطوي عليها. الله عرف ان الكون سيكون فوضويا وغير سار، ورغب بطريقة اخرى، لكنها كانت اما كذلك (فوضوية) او اللاخلق (العدم). ان افتراض "فرضية الله المحدود" يمكن ان يوضح كل من نواقص الكون وعدم احتمالية الاشياء الجيدة، مثل كون مضبوط بدقة fine-tuning. لذا بينما التوحيديون التقليديون والملحدون التقليديون يحاولون التعامل مع كل من المعاناة والضبط الدقيق، فان هذه الفرضية يمكن ان تقنع الاثنين معا بسهولة. لكن يبدو ان الميول والتحيزات في كلا الجانبين تحول دون الاعتراف بذلك.
الجواب الذي يمكن الحصول عليه لهذه الحجة هو "لماذا لا يكون إله سيء بقدرة لا محدودة بدلا من إله جيد محدود القدرة؟"
درس جوف هذه الإمكانية بعمق في كتابه. لكن، بالنهاية، افتراض إله شر كلي القدرة مشابه لإفتراض إله خير كلي القدرة. وبدلا من السؤال، لماذا إله خير كلي يسمح بهذه المعاناة؟ ربما يسأل احد لماذا إله شر كلي القدرة يسمح بكل هذا الجمال، والسحر والخيرية التي نجدها في كوننا؟ (فكرة الإله الشرير عُرضت بشكل ملفت في كتاب الفيلسوف الانجليزي ستيفن لو "تحدّي الإله الشرير"، الذي يمكن الاطلاع عليه في اليوتيوب).
أمل معقول
هل يمكن للاعتقاد بإله محدود القدرة ان يعطي أملا بما بعد الحياة او بغرض نهائي للكون؟
يبدو من المعقول ذلك، لأن الإله المحب المحدود القدرة سيرغب بالحفاظ على أذهاننا الواعية بعد الموت، وسيرغب بنقلنا نحو عالم أفضل. عدم اليقين يكمن في ما اذا كان الإله المحدود القدرة قادرا على القيام بهذه الأشياء . المؤيدون لفرضية الإله المحدود القدرة يعتقدون انه من المؤسف هناك عدة شرور في العالم لايستطيع الله منعها، وهذا يفسر لماذا توجد تلك الشرور. هذا يضع الحياة بعد الموت والغرض الكوني في خانة الأمل المعقول. انها اشياء قد يستطيع الله وقد لا يستطيع فعلها، ونحن لا نعرف أي خانة تقع ضمنها الحياة الأبدية والمعنى الكوني، لأننا لا نعرف مدى وطبيعة محدوديات الله.
لكن الأمل المعقول ليس عدما. لنأخذ مثالا، من المهم ان هناك حظا معقولا باننا سوف نتغلب على مشكلة تقلبات المناخ حتى عندما نكون غير متأكدين من ذلك. الحظ المعقول يمكن ان يخلق فرقا بين الأمل واليأس.
الإله المحدود القدرة قد يبدو غير منسجم مع الأديان التقليدية. لكن، في كتاب (أشياء سيئة تحدث للناس الجيدين،1981) عالج الحاخام هارولد كشر Harold Kushner مشكلة الشر عبر افتراض إله محدود، وكذلك المسيحيين اتخذوا خطوة مماثلة في طريقتهم الثيولوجية حين تحفزوا بفلسفة (اللامسيحيين) للفريد نورث وايتهد.
في الحقيقة، يعتقد جوف ان المسيحية تستفيد كثيرا لو كان الله له قدرة محدودة. دائما كان يرى من الصعب فهم لماذا كان على الله ان يصبح كائنا بشريا لكي يعطينا حياة خالدة. لكن اذا كان الله ليس عظيم القدرة، فان طرقا جديدة من الفهم ستفتح امامنا. فمثلا، ربما تكون المشكلة هي ان الإله الخالد وغير المادي يختلف تماما عنا نحن المخلوقات الزمنية المتجسدة، بحيث ان الطريقة الوحيدة التي يمكن ان يسمح بها الله لنا بالمشاركة في وجوده الخالد هي عن طريق دخول الله الكامل في وجودنا المؤقت – يصبح اكثر شبها بنا لكي نتمكن ان نصبح اكثر شبها به. في الحقيقة، توجد هناك سلفا تفسيرات للمسيحية كهذه، تُعرف بـ "النظرية التشاركية"، لكنها ستكون اكثر سهولة في الفهم عندما تُقترن بفكرة الإله المحدود.
***
حاتم حميد محسن
.......................
الهوامش
(1) فيليب جوف فيلسوف مثالي بريطاني واستاذ في جامعة دورهام البريطانية. ركز في بحوثه على فلسفة الذهن والوعي.