أقلام فكرية

أقلام فكرية

في العلوم الطبيعية، يمكن استخدام التجربة المختبرية لعزل المتغيرات، ومختلف الجسيمات وحركاتها. ونفس الشيء، استخدام النماذج الاقتصادية القياسية econometric model هي محاولة لإنتاج مختبر اقتصادي يتم فيه إجراء تجارب تحت السيطرة. فكرة استخدام مختبر كهذا هي مغرية جدا للاقتصاديين والسياسيين. حالما يتم بناء النموذج والقبول به كنسخة جيدة للاقتصاد، فان السياسيين يمكنهم تقييم مخرجات مختلف السياسات عبر هذا النموذج.

يُقال انه عبر استخدام النماذج القياسية الاقتصادية، يمكن للنخب عمل قرارات "علمية" قائمة على البحث ومرتكزة على الخبرة الاقتصادية. هذه النماذج، كما يقال، تعزز فاعلية سياسات الحكومة وتقود الى اقتصاد أفضل وأكثر ازدهارا. يُقترح ايضا ان النماذج القياسية يمكن ان تخدم كمرشد في تقييم صلاحية مختلف الافكار الاقتصادية. الهدف الآخر للنموذج القياسي هو إعطاء اشارة بشأن مستقبل حالة الاقتصاد. من خلال وسائل الطرق الرياضية والاحصائية، يؤسس مهندس النموذج علاقات بين مختلف المتغيرات الاقتصادية. فمثلا، الإنفاق الاستهلاكي الشخصي يتم ربطه بالدخل الشخصي المُتاح(الصافي) وأسعار الفائدة، بينما الإنفاق الرأسمالي يتم توضيحه عبر المخزون السابق لرأس المال وأسعار الفائدة والفعالية الاقتصادية. المعادلات او مجموعة هذه العلاقات المقيّمة تشكّل نموذجا قياسيا.

لكي نحكم على موثوقية النموذج، يُقارن ببيانات واقعية وبقوته التنبؤية. الاختبار النهائي للنموذج هو استجابته لتغيير متغير السياسة، مثل زيادة في الضرائب او زيادة في الانفاق الحكومي. عبر تقييم نوعي، يقرر مهندس النموذج ما اذا كانت الاستجابة معقولة ام لا. حالما يتم بناء النموذج بشكل ناجح، سيكون جاهزا للاستعمال. طبقا لهذا النموذج القياسي، نكوّن رؤية بشأن العالم الواقعي مرتكزة على مدى نجاح مختلف اجزاء المعلومات في الارتباط ببعضها البعض.

يجب ملاحظة ان تأسيس ارتباط بين انفاق المستهلك ومختلف اجزاء المعلومات الاخرى لا يوضح في الحقيقة طبيعة انفاق المستهلك، انه فقط يصف الاشياء. المراقب لايقول أي شيء حول طبيعة الاشياء عبر ملاحظة هذا الترابط في البيانات التاريخية. هذا النوع من المعلومات لايخبرنا كثيرا عن الاسباب الكامنة والتأثيرات. فمثلا، حقيقة ان ارتباطا قويا تأسس بين انفاق المستهلك والدخل المتاح لايعني ان انفاق المستهلك نتج بسبب الدخل المتاح. من الممكن جدا ان شخصا قد يجد ارتباطا قويا ببعض المتغيرات الاخرى. هل هذا يعني ان المتغير الآخر هو سبب انفاق المستهلك؟

لكي نفهم البيانات، يجب ان نفترض مسبقا نظرية تقف على قدميها ولا تبرز من البيانات. جوهر مثل هذه النظرية هو انها يجب ان تنبثق من مسلمات منسجمة وغير عشوائية ولا تقبل التفنيد و توضح ارتباطات سببية في الواقع التجريبي. نظرية اقتصادية تقوم على اساس ان الكائن البشري يتصرف بوعي وبهدفية، تتوافق مع هذا المطلب. هذه المسلمة لايمكن تفنيدها بدون تناقض آدائي.

لودفيج فون ميزس Ludwig Von Mises (1) هو صاحب هذا الاتجاه و اطلق عليه paraxeology البراكسولوجي (2). طبقا لإدراكه بان الكائن البشري يتصرف بوعي وبهدفية، كان ميزس قادرا على اشتقاق الهيكل الكامل للاقتصاد. وبالنتيجة، استنتج انه ، على عكس العلوم الطبيعية، حيث الاسباب الحقيقية غير معروفة لنا، في الاقتصاد، المعرفة بان الكائن البشري يتصرف بوعي وبهدفية يسمح لنا بتمحيص ماهية الاسباب الحقيقية. الاسباب تنبعث من البشر انفسهم.

هل الطريقة الرياضية صالحة في الاقتصاد؟

عبر تطبيق الرياضيات، الاقتصادات السائدة تحاول اتّباع خطى العلوم الطبيعية. في العلوم الطبيعية، استخدام الرياضيات يمكّن العلماء من صياغة الطبيعة الاساسية للاشياء. عن طريق الصيغة الرياضية، استجابة الشيء لمحفز معين في ظرف معين يتم التقاطها لاحقا ضمن هذه الظروف المعطاة، وان نفس الاستجابة يتم الحصول عليها مرة بعد اخرى.

نفس الاتجاه غير صالح في الاقتصاد. الاقتصاد يُفترض ان يتعامل مع فعل، اختيار كائن بشري وليس شيئا. طبقا لميزس التجربة التي يجب ان تتعامل فيها علوم الفعل البشري هي دائما تجربة لظاهرة معقدة. لا تجربة مختبرية يمكن ادائها بشأن الفعل البشري. الخاصية الرئيسية او طبيعة الكائن البشري هي انه كائن عقلاني. هو يستعمل عقله لتقييم واختيار وسائل لإنجاز الاهداف. مع ذلك، العقل غير مستعد لإتباع نوع من الإجراء الاوتوماتيكي وانما كل فرد يوظف عقله طبقا لظروفه الخاصة. هذا يجعل من المستحيل التقاط طبيعة الانسان عبر وسائل الصيغ الرياضية كما يحصل في العلوم الطبيعية.

السعي لتحليل كمي يعني امكانية تعيين أرقام يمكن ان تكون عرضة لكل عمليات الحساب. لإنجاز هذا، من الضروري تعريف وحدة ثابتة موضوعية. هذه الوحدة الموضوعية لا توجد في عالم التقييمات البشرية. حول هذا كتب مايزس: "لا وجود هناك في حقل الاقتصاد لعلاقات ثابتة، وبالنتيجة لا قياس ممكن". لا وجود هناك لمستوى ثابت لقياس الأذهان، القيم، وافكار الناس. الناس وكلاء يتصرفون، يختارون في ظروف تاريخية فريدة لا تتكرر. الافراد لديهم حرية اختيار تغيير عقولهم والسعي لأفعال تتناقض مع ما لوحظ في الماضي، خلافا للاجرام السماوية المُلاحظة في الفيزياء. التحليلات في الاقتصاد يمكن ان تكون فقط نوعية بسبب الطبيعة الفريدة للكائن البشري.

ان استعمال الرياضيات في الاقتصاد يثير مشكلة اخرى خطيرة. استخدام الدالات الرياضية يتضمن ان الافعال البشرية تتحرك بعوامل مختلفة. فمثلا، على عكس الطريقة الرياضية في التفكير، انفاق المستهلك على السلع لم "ينتج" عن الدخل. كل فرد في سياقه الخاص يقرر كم من الدخل سوف يستعمل للاستهلاك وكم للادخار. بينما صحيح ان الافراد يستجيبون للتغيير في دخولهم، لكن الاستجابة ليست اوتوماتيكية، ولايمكن التقاطها بصيغة رياضية. الزيادة في دخل الفرد لاتتضمن اوتوماتيكيا ان انفاقه الاستهلاكي سيتبع. كل فرد يقيّم الزيادة في الدخل مقابل الاهداف التي يريد تحقيقها. وهكذا، هو ربما يقرر بانه من المفيد كثيرا له زيادة التوفير بدلا من زيادة استهلاكه.

نظرا الى ان الكائن البشري محكوم بحرية الاختيار وظروفه المتفرده، فان مختلف تحليلات السياسة عبر وسائل النماذج، تُعرف "ماذا لو" او تحليلات المضاعف (3)، يُحتمل ان تخلق نتائج عرضة للتساؤل. في النهاية، افتراض ان التغيير في سياسة الحكومة سوف يترك هيكل المعادلات سليما يعني ان الافراد في الاقتصاد ليسوا أحياءً وانما هم في الحقيقة مجمدين.

مشكلة اخرى كبيرة في معظم نماذج الاقتصاد القياسي هي انها مصممة على طول خطوط التفكير الاقتصادي الكنزي. المتغير الرئيسي في هذه النماذج هو الناتج المحلي الاجمالي GDP، والذي يتم توضيحه ضمن اطار نموذج بواسطة التفاعلات بين مختلف البيانات التراكمية التي تُعرف كتراكمات. التفاعل بين مختلف التراكمات في اطار النموذج يعطي انطباعا بان الاقتصاد هو حول الناتج المحلي الاجمالي او حول ميزان المدفوعات، لكن ليس حول الكائن البشري او حياة الانسان. من الواضح، ان هذا يعمل بالضد من حقيقة ان كل شيء في عالم الانسان يُنتج بواسطة سلوك الانسان الهادف.

مختلف الإضافات التي اُدخلت على النموذج مثل نموذج ARMA (وهو نموذج احصائي يُستخدم في تحليلات السلسلة الزمنية للتنبؤ بقيم المستقبل) تعاني من نفس المشاكل المنهجية. يكتب مازس:

"الطريقة الرياضية يجب ان تُرفض ليس فقط بسبب عقمها. انها طريقة شريرة بالكامل، تبدأ من افتراضات زائفة وتقود الى استنتاجات مغلوطة. قياساتها ليست فقط عقيمة بل انها تحرف العقل عن دراسة المشاكل الواقعية وتشوّه العلاقات بين مختلف الظواهر.

استنتاج

الإعتماد على نماذج الاقتصاد القياسي كأساس لتكوين رؤية حول حالة الاقتصاد يولّد محصلات مشكوك فيها. انه نموذج خاطيء كليا لدراسة الاقتصاد الذي يرتكز على فعل الانسان واختياره وتقييمه الذاتي. النماذج الاقتصادية القياسية لا يمكن ان تنتج الكثير من المعلومات حول الأسباب. ما مطلوب لتمحيص الأسباب هو نظرية متطورة ومنسجمة منطقيا لا يتم اشتقاقها من البيانات. النظرية التي تلبّي هذا المطلب هي تلك التي طورها لودفيج فون ميزس .

***

حاتم حميد محسن

....................

الهوامش

(1) لودفيج فون ميزس (1881-1973) فيلسوف واقتصادي نمساوي/امريكي، كان من أبرز مفكري المدرسة الاقتصادية النمساوية. عُرف بعمله الباراكسولوجي وبنقده للاشتراكية ودعوته لحرية السوق والليبرالية الكلاسيكية.

(2) مصطلح باراكسولوجي يشير الى دراسة الفعل الانساني ويركز على أسباب وهدف الافعال بدلا من ملاحظتها فقط. هو اتجاه فلسفي يرى سلوك الانسان مندفع بعمل قرارات هادفة ومقصودة بدلا من مجرد كونه ردود أفعال. المصطلح صاغه لودفيج ميزس لتحليل السلوك الاقتصادي.

(3) مفهوم تأثير المضاعف multiplier effect هام جدا في الاقتصاد ويُستخدم لقياس نسبة التغيير في الدخل عندما يتم تغيير الانفاق. عندما تقوم شركة بانفاق مائة مليون دولار لتوسيع مصانعها، وبعد سنة من الانتاج في التسهيلات الجديدة يبلغ دخل الشركة مئتي مليون دولار هذا يعني ان تأثير المتعدد = 2 اي ان كل دولار اضافي مستثمر خلق دولارين اضافيين من الدخل. الزيادة في الدخل القومي (مائة مليون) سوف تخلق زيادة في دخل الفرد الصافي والذي بدوره يخلق زيادة محفزة في الانفاق الاستهلاكي. العمال الذين يحصلون على دخل جديد من بناء المصانع سوف ينفقون جزءا منه في شراء سلع استهلاكية وهذا يعني زيادة المخرجات وزيادة العمالة لمواجهة الطلب المتزايد، مما يعني دخول جديدة تظهر للعمال والشركات وسينفقون منها مرة اخرى وهكذا.

 

النهضة الحضارية هي صنو النهضة الثقافية، والكلام ليس من باب التحفيز المجاني الذي نسوقه؛ بل هو مما تثبته وقائع سوسيولوجيا الثقافة ومقرّرات تاريخ الحضارات. فممّا هو متعذّر، تحقيق نهضة في غياب رؤية ثقافية لا تولي الشأن المعرفي والعلمي والفني الدور والحضور اللازمين. وقد تعثّرت العديد من الإصلاحات الاجتماعية والمطامح النهضوية، وفشلت جملة من الثورات والانتفاضات، لافتقارها إلى منظور ثقافي معمّق. ففي غياب الثقافة يتحرّك فعل التغيير الاجتماعي أو نشدان الإصلاح، في إطار من العتمة، أي بدون خارطة طريق تسوسه، أو لنقل بدون روح تُحفّز إرادة الناس وتشحذ العزائم.

وفي ظلّ طلب الخروج من الركود المجتمعي والجمود الحضاري، قد لا يعير القائمون على عمليات النهوض الثقافةَ المكانة اللازمة والدورَ المقدَّر، ظنًّا أنها عنصر تكميلي وليست عنصرا حاسما في العملية النهضوية. مع أنّ الثقافة تنتمي إلى عناصر الرساميل الرمزية والمعنوية التي تملكها الشعوب على غرار الثروات المادية والطبيعية. وهي تنطوي على شحنة من التحفيز والتحريض المعنويين مما لا تملكه عناصر القوة المادية، مثل الاستثمار في الإنتاج والتصنيع والخدمات والتجارة، التي باتت تعدّ العماد الأبرز لأيّ نهوض حضاري بالمعنى المادي.

ذلك أنّ مطلب التعويل على الثقافة هو عنصرٌ لا غنى عنه في بناء الوعي، المتلخّص في بلورة التناغم الجمعي القادر على إدراك حضور الذات في عالم يطفح بالمتغيّرات. صحيح تتنوّع عناصر المنتوج الثقافي، وبالمثل تتعدّد المؤسّسات العاملة في المجال، ولكن المقصد المنشود يظلّ في السير صوب إعداد الكائن الواعي وتحقيق المواطن المسؤول، الذي يمثّل المبتغى الأسمى من وراء العملية الثقافية. ولذلك ما لم تنبن سياسة ثقافية هادفة من وراء العملية الثقافية، فإنّ الفعل الثقافي يظلّ خارج الاستثمار المراد. وعلى مستوى فردي، وبالمثل على مستوى جماعي، يلوح امتلاك ناصية الثقافة عنصرا حاسما في الخروج من حالة العدم إلى حالة الوجود، ومن طور سلبي إلى طور إيجابي.

إذ بمراجعة التجارب النهضوية الناجحة في كثير من المجتمعات، يتبين أنّ التعويل الحازم على الفعل الثقافي في إنجاح العملية النهضوية، هو عنصر فعّال في اختزال الزمن وطيّ المسافات الحضارية. وكلّما غاب العنصر الثقافي أو استهين بدوره، إلا واضطربت الرؤية وارتبك المسير. فالفعل الثقافي هو فعل الاستنارة المرافِق لمسعى التغيير الناجع. والاستثمار في المردود الثقافي على نطاق مجتمعي، يعني العمل على خلق حالة من التحفّز الجمعي نحو الرقيّ، الذي يغدو التطلع إلى النهوض الحضاري بموجبه هاجسا مشتركا بين فئات شعبية واسعة.

قد يستهين البعض بالدّور الثقافي، أو تجري إزاحته إلى مواضع ثانوية، ولكن التقييم الصادق للعملية النهضوية برمتها يأتي من إطار المنظور الثقافي، وإن لزم التقويم العملي للمسارات أيضا، إن بدت عقبات أو انحرافات أو منزلقات. فللثقافي قدرة في إدراك المحاسن والمساوئ وتقييم النتائج والآثار. ومنذ أن أرست المجتمعات الحديثة تقليد التمدرس الإجباري، وفصَّلت في ضوابطه وشروطه ومضامينه، تبيّن ما للتكوين التعليمي والثقافي من أثر حاسم، في عملية تنشئة الأفراد وبناء المجتمعات. لكن ينبغي أن نشير إلى شيء مهمّ، أن العنصر التعليمي والعنصر الثقافي هما مكوّنان متقارِبان، ولكن ليسا مترادفين فلكل مجاله ودوره ورسالته.

ولسائل أن يسأل ما الذي تخلّفه الأبعاد الثقافية في الفرد علاوة على رقيّ الإحساس، وغور النباهة، ورسوخ الحسّ المدني؟ ثمة عنصر آخر في غاية الأهمية ألا وهو القدرة العالية على الفرز النقدي والتمييز الذهني، أي أن يغدو الواعي ثقافيا محصَّنا من سيل الخطابات الغوغائية التي تلوح متربّصة بمن يملكون هشاشة ثقافية، ممّن تراهم عرضة لترديد الأقاويل واستهلاك الأراجيف، وما أكثرهم في عالم افتراضي يعجّ بشتى الغوغائيين. ومن ثَمّ فإنّ المزيّة المقدَّرة التي يخلّفها الوعي الثقافي تتلخّص في الاقتدار على التمييز بين الغثّ والسمين في مجالات عدّة، وفرز المصلحة من المفسدة. وبفضل اكتساب تلك المقدرة يخرج المرء من مستوى الأمّية في فهم الأشياء إلى مستوى الأهلية في ترجيح الأشياء. ومن مستوى التعامل الساذج إلى مستوى التعامل المدرك لغور المقاصد وأبعادها وآثارها. ولما يخلّفه الوعي الثقافي من تحرّر ذهني ورقيّ معرفي واستقلال نظر، فهو بالمؤكد حصيلة صيرورة ثقافية واعية ومستدامة وليس نتاج بناء مستعجل.

فالوعي الثقافي هو تلك الحصانة الذهنية التي يكتسبها المرء والتي تقيه مساوئ الاغتراب، أي أن يسلك وفق مقتضيات عقلية بديهية، ولا ينساق بموجب الاتباع أو التقليد أو مجاراة الحشد. وهو ذلك الرصيدُ الذهني الذي يمنح الفردَ قدرةً على تثمين المغايَرة والاختلاف ومراعاة التنوع، فضلا عمّا يخلّفه من أثر في حُسن التواصل مع الآخرين، والإحساس بالانتماء إلى كلّ جمعي وتحمّل المسؤولية ضمن مكوّناته. "فليست الثقافة امتلاك مخزن معبّأ بالمعلومات، ولكنّها تلك القدرة التي يمتلكها العقل لفهم الحياة والمكان الذي نموضع أنفسنا فيه، وعلاقاتنا التي ننسجها مع الآخرين. ومن ثَمّ يحوز الثقافة من يملك الوعي بذاته وبالآخرين، ومن يحسّ أنّ علاقة تربطه بالكائنات الأخرى كافة"، ذلك بالفعل ما يقرّه المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي في قولته الآنفة الواردة في "دفاتر السجن".

يعيد الرهان الثقافي طرح سؤال الإنتاج الثقافي، ففي ظلّ الأوضاع التي تميّز الثقافة العالمية بات لزاما الحديث عن حظوظ الثقافة العربية في هذا المعترك الحاشد، بكلّ تجرّد ومسؤولية. فهل هي قادرة على طرح منجز مقدَّر كونيا بعيدا عن الادّعاءات الإبداعية؟ أيّ إنتاج عمل، يتخطى المنجز السردي الذي بات مستحوذا على المخيال الإبداعي العربي، ويشمل الدراسة والبحث وكتب الأطفال واليافعين والخطاب المعرفي بأنواعه، أي تقديم منجز جدير بأن يحظى بالتقدير والعرفان. والواقع أنّ ثمة حقولا ومجالات، وهي كثيرة، لا يستطيع القارئ العربي أن يراجع فيها مؤلَّفا بالعربية سوى ما هو مترجم، لضعف مبناها وترهّل محتواها وخواء طروحاتها. فكيف لثقافة بهذا العوز أن تعرض ذاتها على الساحة العالمية وأن ينصت إليها في الخارج؟ وكيف لثقافة لا تصغي للعالم ولا تتحاور مع الخارج، أقصد عبر الترجمة والنقل والمثاقفة، وتودّ الحضور على المنصات العالمية؟ ولولا منجزات بعض المؤسسات التي تشكّلت في العقود الأخيرة في البلاد العربية، لتحولت خارطة واسعة لحضارة عريقة إلى بيداء قاحلة.

لكنّ الرهان على الثقافة هو رهان مركّب، فهو كما يولي الإنتاج الداخلي الرعاية اللازمة، مبدعا وإبداعا، فهو يولي الإنتاج العالمي المتابَعة الحريصة والجلب الدؤوب عبر الترجمة. ولعل ما زاد من تعكّر أوضاع الثقافة العربية تحول فئات جامعية واسعة إلى شرائح وظيفية تؤدّي مهام إدارية وليست شرائح إنتاجية إبداعية للمعارف، مع أن الآمال معقودة عليها. فهناك مهمتان باتتا متروكتين للمبادرة الخاصة ألا وهما البحث والترجمة، بعد أن تقلّص دور مؤسسات الدولة المعهود. ولكن ولحسن الحظ حافظت ثلّة من الدول على حضور مؤسسات الدولة في هذين القطاعين ولم تفرّط في مهامها. ترفدها جوائز للتحفيز على المستوى الوطني والعربي والعالمي، في البحث والإبداع والإنجاز والترجمة في ما يخص الثقافة العربية. وبالمثل ثمة مثابرة في الترجمة من اللغات العالمية، تتابع منجز الإبداع والفكر العالميين، وكذلك حرص على بثّ الوعي الثقافي، عبر سلاسل المنشورات والمجلات مشرقا ومغربا، وهي منجزات تحسب في رصيد هذه الدول.

***

د. عزالدّين عناية

أستاذ تونسي بجامعة روما- إيطاليا

مدخل: ما الذي يكسب الفعل الأخلاقي قيمته؟

هنا فروض متعددة:

1- الانسجام مع المبدأ الأخلاقي وتجسيده الكامل، وهنا الفعل الأخلاقي يستمد قيمته العليا من مدى تطابقه مع المبدأ الأخلاقي المجرّد، بحيث يكون تجسيدًا حيًّا وكاملاً لذلك المبدأ، وهذا قريب من الاتجاه الكانطي في الأخلاق، إذ تُقاس القيمة الأخلاقية بالفعل من خلال التزامه بالواجب والمبدأ الكلي، لا بنتائجه.

2- تحقيق أكبر قدر من النفع للآخرين، وهنا الفعل الأخلاقي يكتسب قيمته القصوى عندما يحقق منفعة واسعة أو عميقة للآخرين، ويؤدي إلى نتائج ملموسة في تحسين حياتهم، وهذا قريب من الاتجاه النفعي الذي يرى أن معيار القيمة الأخلاقية هو حجم المنفعة أو السعادة الناتجة.

3- تجاوز صراع النفس والانتصار على الرغبات، وهنا الفعل الأخلاقي يبلغ ذروة قيمته عندما يكون ثمرة انتصار الإنسان على ميول أو رغبات تخالف المبدأ، خصوصًا إذا كان الصراع الداخلي شديدًا، وهذا قريب من الاتجاه الديني أو العرفاني الذي يربط الأخلاق بصفاء النفس والمجاهدة الروحية، إذ القيمة مرتبطة بعمق التجربة الداخلية.

4- الاعتراف الاجتماعي وتعزيز الثقة والقيم المشتركة، وهنا الفعل الأخلاقي يكتسب قدرًا عاليًا من قيمته عندما يلقى اعترافًا وتقديرًا من المجتمع أو الجماعة التي ينتمي إليها الفاعل، وهذا قريب من الاتجاه الاجتماعي في الأخلاق الذي يرى أن المعايير الأخلاقية تتشكل من خلال التوافق الجمعي، وأن القيمة تنشأ من الدور الذي يلعبه الفعل الجمعي العقلائي في تشكيل المنظومة الأخلاقية.

ولا أريد هنا أن أشرع في التحليل لهذه المداخل الأربعة، أو أن أرجح أحدا منها، لكن الذي يهم أن نفهم هذه المداخل، ونجعلها في مساحة الاعتبار، ومنطلقات تتشكل من خلالها تصوراتنا حول الفعل الأخلاقي، ليتم بعد ذلك الشروع في تصور الأخلاق الممكنة، التي تبحث في حيز متأخر، عن حيز المداخل الاربعة سالفة الذكر.

ما الأخلاق الممكنة؟

وعند الحديث عن (الأخلاق)، فإن الدلالة قد تنصرف إلى معانٍ متعدّدة: (القيم ومبادئها)، و(ما يندرج تحت تلك القيم من معايير)، ثم (الأفعال والتطبيقات العملية التي تجسّدها)، وفي هذا السياق، فإن ما نعنيه بالأخلاق الممكنة هو الأخلاق بوصفها أفعالاً تعبّر عن قيمها العليا ومبادئها المؤسِّسة، ويبدو أننا نستخدم مصطلح (الممكن) هنا في مقابل (الممتنع) و(المثالي) معًا، في نحوٍ من التوسّع أو التجوّز المعرفي.

الأخلاق الممكنة قد تُفهم، في إطار تصوري واسع، بوصفها نقيضًا للأخلاق المستحيلة أو الممتنعة، أو بوصفها بديلاً عن الأخلاق المثالية التي تتجاوز القدرة الواقعية للفرد والمجتمع، وبعيدًا عن التحديدات الفلسفية الصارمة، فإننا نتناول هنا مفهوم الأخلاق الممكنة ضمن أفق معرفي–ثقافي عام، لا في مستوى التخصص الفلسفي الدقيق.

وتنشأ الإشكالية عند طرح سؤال حول مدى إمكان تمثّل القيم الأخلاقية في الأفعال تمثّلاً تامًّا يُجلّي المبدأ والقيمة معًا:

هل يمكن للفعل الأخلاقي أن يُطابق المبدأ الأخلاقي أو القيمة العليا بصورة ثابتة ومطلقة؟

أم أن ثمة تباينًا في مستوى اتصاف الفعل بالمبدأ والقيمة تبعًا لظروف الفعل وفاعله؟

المشكلة الأخرى تكمن في أن الفكر الأخلاقي، عبر تاريخه، انشغل أساسًا بتحديد أسباب ودوافع اتصاف الفعل بصفة أخلاقية أو نفيها عنه، وتباينت المدارس الأخلاقية في بيان مناشئ تلك الصفة وشروطها ومقوماتها، وهذا التباين يُلقي بظلاله على وعي الفرد بسقف القيم والمبادئ التي يسعى إلى تمثلها في أفعاله، ويجعل الاستجابة الأخلاقية محكومة بمدى اتساع أو تضييق ذلك السقف، كما أن المجتمعات، في الغالب، تتأثر بهذه المحددات النظرية فتنعكس على سلوكها الجمعي ومعاييرها العملية.

(الأخلاق الممكنة) تعبير أقصد به للإشارة إلى النطاق الواقعي والمتحقق من المبادئ الأخلاقية التي يمكن للإنسان أو المجتمع الالتزام بها في ظل ظروفه وإمكاناته الفعلية، مقابل (الأخلاق في سقفها الأعلى) التي تمثل سقف القيم المطلوب، حتى لو كان تطبيقها كاملاً غير ممكن في الواقع.

وهنا يمكن تقرير أن تطبيق الأخلاق ليست منفصلا عن الظروف الاجتماعية، والقدرات البشرية، والموارد المتاحة، بل يُبنى على ما يمكن إنجازه فعلاً، مع الاحتفاظ بمثُل أعلى كمرجع وقدوة.

ويمكن افتراض بعض العناصر التي تحدد مستوى (إمكان الأخلاق) أو (الأخلاق الممكنة)، من خلال:

1. الواقعية الأخلاقية: الأخذ بعين الاعتبار حدود الإنسان الفردية والجماعية.

2. التدرج: الانتقال من الممكن إلى الممكن الأعلى بدل القفز مباشرة إلى المثال الكامل.

3. التوازن بين المبدأ والمصلحة: من خلال محاولة الجمع بين القيم العليا ومقتضيات الحياة الواقعية.

4. البعد الإنساني: من خلال جعل الخطاب الأخلاقي قابلا للتطبيق وليست مجرد تنظير.

جدلية العلاقة بين مرونة الفقه والاخلاق الممكنة

حاجة الفقه إلى الأخلاق، حاجة تفرضها طبيعة الفقه الذي يمس الحياة، والواقع العملي للإنسان، والفقه من دون الأخلاق، سوف يكون فقها جامدا جافا، لذلك، تمثل المنظومة الأخلاقية أحد أهم منطلقات وروافد التفكير الفقهي، فإذا كنا نتحدث بعيدا، عن مصادر التشريع، وأصول الفقه، فإن الأخلاق تمثل أرضية في (لا وعي) الفقيه، تبث في تفكيره عمق القيم الأخلاقية العليا التي نادى بها التشريع، وتجعلها أحد موجهّات تفكيره، ومن جهة أخرى تستفيد منظومة الأخلاق، من الفقه، من خلال أدوات الإجتهاد، ومرونة التفكير، وتيسر الوسائل التي تنظم أفعال الإنسان من خلال قواعد محددة وواضحة الملامح.

إذن في الخطاب الديني تتداخل المنظومات الفكرية، العقدية والاخلاقية والفقهية، ويمكن للفقه الاسلامي من خلال أدواته الاجتهادية أن يؤثر ويتفاعل جدليا مع الخطاب الأخلاقي، فتأثير التفكير الفقهي في فكرة (الأخلاق الممكنة) ممكن جدا، لأن الفقه بطبيعته يشتغل على الممكن والمقدور لا على المثال المجرد، فهو يربط التكليف بحدود الاستطاعة، ويراعي الظروف الواقعية للإنسان والمجتمع، ويمكن تصور ذلك من خلال الفروض الآتية:

1. تحديد سقف الواجب الأخلاقي بقدرة المكلف، والفقه أيضا لا يفرض تكليفًا فوق الطاقة، وهذا يجلعنا نتصور أن الفعل الأخلاقي يتحقق في إطار الإمكان الواقعي، فللو كان الوفاء بوعد أو التزام مالي يؤدي إلى ضرر بالغ أو عجز، يجيز الفقه تخفيف الحكم أو إسقاطه، وهذا يسوّغ فهم تطبيق الأخلاق ضمن الممكن.

2. مبدأ التدرج والتيسير، على فرض اقراره فقهيا، فكثير من الفقهاء يقرون التدرج في الأحكام؛ وهو مبدأ يجعل الأخلاق قابلة للتطبيق في سياق اجتماعي زمني متغير، فتشريع تحريم الخمر في الإسلام تم على مراحل، وهو ما يسوّغ أن الأخلاق الممكنة تتضمن عنصر التدرج في استيعاب الفعل الاجتماعي للقيمة الأخلاقية.

3. فقه الأولويات، الفقه يوجّه المكلف لاختيار الأهم عند تعارض المصالح أو القيم، ويحدد أولويات كثيرة في ميدان فقه النظم والتدبير، وهذا النمط من التفكير يتيح إنتاج أخلاق عملية مرنة وليست مثالية جامدة، فلو تعارض الصدق في موقف ما مع إنقاذ حياة إنسان بريء، يقدم الفقه حفظ النفس على التصريح بالحقيقة، وهذا يترجم (الممكن الأخلاقي) في الواقع.

4. الضرورات تبيح المحظورات، والقاعدة الفقهية في أدنى مستويات مشروعيتها والعمل بها، تقارب ضرورة تعديل الخطاب الأخلاقي وفق الضرورة، فتتحول الأخلاق من نموذج صارم إلى نموذج مرن يتكيف مع الظروف الاستثنائية.

يمثل الإنسان في كلا المنظومتين الفقهية والأخلاقية، محورا رئيسا وهاما، تدور حوله النظريات والفرضيات بما يحقق نفعه وصلاحه، وبالنظر إلى محدودية قدرة الإنسان وفعله وطاقته، فإن كلا المنظومتين تراعيان حدود قدرة الإنسان على تحقيق مقاصد القيم الأخلاقية والقيم الدينية على حد سواء.

إن التمايز بين الحكم الفقهي والحكم الأخلاقي يكشف عن طبقات متعددة في تقييم الأفعال الإنسانية؛ فينطلق الفقه من معايير الضبط الشرعي لتحديد دائرة المباح والممنوع، ونجد أن بعض الأفعال وإن كانت جائزة فقهيًا، تظل أدنى من المستوى الأخلاقي الأمثل الذي تسعى القيم الإنسانية والدينية إلى تحقيقه، ومن هنا يمكن تصور مساحة (الأخلاق الممكنة)، بوصفها حيزًا سلوكيًا وسطًا؛ لا يخرق أحكام الشرع، ولا يبلغ المثل الأخلاقية العليا في الوقت نفسه، مما يتيح للمجتمع التعامل الواقعي مع تعقيدات الحياة دون الانفصال عن مرجعيته القيمية.

 إن الأهمية اليوم لهذا الموضوع تكمن في ضرورة أن يعي الخطاب الديني هذا الجانب من الأخلاق الذي يتسم بمحاكاة واقعية لمحدودية الفعل البشري على تطبيق الأخلاق بنحو تام وكامل، وهذا ما يستدعي أيضا، أن نبدي بعض التقارب بين الأخلاق وآليات تطبيقها، من جهة، والفقه الإسلامي وأدواته المرنة، التي تستجيب لنسبية قدرة الإنسان على أداء التكاليف، فضلا عن مرونة الاستجابة لظروف الزمان والمكان.

***

د. أسعد عبد الرزاق الاسدي 

 

عند جيل جولوز وغراماتولوجيا جاك دريدا، مقاربة فلسفية معاصرة

(يجب أن يكون هناك فوضى بداخلك حتى تتمكن من جلب نجم راقص إلى العالم)... فريدريك نيتشه

تشكل أعمال ميشيل فوكو، جيل دولوز، وجاك دريدا أعمدة أساسية في الفلسفة المعاصرة، خصوصًا في سياق ما يُعرف بالفكر ما بعد الحداثي وما بعد البنيوية. على الرغم من اختلاف مناهجهم، فإن هؤلاء الفلاسفة يتقاطعون في نقدهم للميتافيزيقيا التقليدية وتفكيكهم للمفاهيم التقليدية حول المعرفة، الهوية، واللغة. تهدف هذه الدراسة إلى تقديم مقارنة تحليلية بين أركيولوجيا المعرفة عند فوكو، فكر الاختلاف عند دولوز، وغراماتولوجيا دريدا، مع التركيز على مقاربة فلسفية معاصرة تبرز نقاط التقاطع والاختلاف بين هذه المناهج. تتمحور المشكلة البحثية حول السؤال التالي: كيف تتشابه وتختلف هذه المناهج في تفكيكها للمفاهيم التقليدية للمعرفة واللغة، وما هي دلالاتها في سياق الفلسفة المعاصرة؟ تستند الدراسة إلى منهج تحليلي مقارن يعتمد على قراءة نقدية لنصوص الفلاسفة الثلاثة، مع الإشارة إلى سياقاتهم التاريخية والفكرية. تسعى الدراسة الى تحقيق الأهداف التالية:

تحليل المفاهيم الأساسية لكل منهج (أركيولوجيا المعرفة، الاختلاف، الغراماتولوجيا).

مقارنة هذه المناهج من حيث نظرتها إلى المعرفة، اللغة، والسلطة.

استكشاف أثر هذه المناهج على الفلسفة المعاصرة وما بعد الكولونيالية.

1. أركيولوجيا المعرفة عند ميشيل فوكو

"لا ممارسة للسلطة دون اقتصادٍ مُعينٍ لخطابات الحقيقة، يعمل في هذه السلطة، ومن خلالها "ميشيل فوكو.

أركيولوجيا المعرفة، كما طُورّت في أعمال فوكو مثل أركيولوجيا المعرفة (1969) ونظام الأشياء (1966)، هي منهج لتحليل الخطابات التاريخية التي تشكل المعرفة في فترات زمنية محددة. يرى فوكو أن المعرفة لا تتطور بشكل خطي أو تقدمي، بل تتشكل ضمن "إبستيمات" (Epistémès)، أي أطر معرفية تحدد ما يمكن قوله أو التفكير فيه في سياق زمني معين[1]. يركز فوكو على العلاقة بين المعرفة والسلطة، حيث يعتبر الخطابات أدوات للسيطرة الاجتماعية، كما يظهر في تحليله للمؤسسات مثل المستشفيات والسجون في تاريخ الجنون والمراقبة والعقاب

2. فكر الاختلاف عند جيل دولوز

"الغرض من الكتابة هو جلب الحياة إلى حالة من القوة غير الشخصية."  جيل دولوز

يقدم دولوز، في أعماله مثل الاختلاف والتكرار (1968)، مفهومًا للاختلاف يتحدى الميتافيزيقيا التقليدية القائمة على الهوية والتشابه. يرى دولوز أن الفلسفة التقليدية، من أفلاطون إلى هيجل، قامت على تقديس الهوية وإخضاع الاختلاف لها. في المقابل، يقترح دولوز فلسفة تعطي الأولوية للاختلاف الخالص، الذي لا يُختزل إلى هوية أو تشابه. يرتبط هذا المفهوم بفكرة "الصيرورة"، حيث يرى أن الواقع ديناميكي ومتعدد، ويتشكل عبر علاقات قوى متباينة. يتقاطع هذا المنظور مع نقد السلطة، لكنه يركز على إمكانيات الإبداع والمقاومة[2].

3. غراماتولوجيا جاك دريدا

"الفرق هو ما يجعل الحضور ممكنًا، ولكن من خلال افتراقنا وتفارقنا دائمًا."

والميتافيزيقيا الغربية التي تعطي الأولوية للكلام على الكتابة. يقترح دريدا مفهوم "الفرق" (Différance)، الذي يجمع بين الاختلاف والتأجيل، مشيرًا إلى أن المعنى في النصوص ليس ثابتًا بل يتولد من خلال سلسلة من التأجيلات والعلاقات التفاضلية. الغراماتولوجيا هي دراسة الكتابة كممارسة لا مركزية تكشف عن عدم استقرار المعاني وتحدي السلطة اللغوية التقليدية[3].

التحليل المقارن

1. المعرفة والخطاب

فوكو: يرى المعرفة كمنتج تاريخي مشروط بالإبستيمات والخطابات. يركز على كيفية تشكل المعرفة عبر العلاقات السلطوية، كما في تحليله للطب الحديث أو النظام القضائي. المعرفة عند فوكو ليست محايدة بل أداة للسيطرة.

دولوز: يهتم أقل بالمعرفة كخطاب وأكثر بالواقع كصيرورة. يرى أن المعرفة التقليدية تعتمد على الهوية، ويقترح بدلاً من ذلك فلسفة تعطي الأولوية للاختلاف والتعددية، مما يسمح بإبداع معرفي جديد.

دريدا: يركز على اللغة كمصدر للمعرفة، مشيرًا إلى أن المعاني غير ثابتة بسبب الاختلافية. يتحدى فكرة المعرفة كشيء نهائي، معتبرًا أن النصوص مفتوحة لتفسيرات لا نهائية.

نقاط التقاطع: الثلاثة ينتقدون المعرفة التقليدية كأداة للهيمنة. فوكو يركز على الخطابات التاريخية، دولوز على الصيرورة والاختلاف، ودريدا على عدم استقرار النصوص.

نقاط الاختلاف: فوكو يركز على التاريخ والسلطة، دولوز على الأنطولوجيا والإبداع، ودريدا على اللغة والتفكيك

2. اللغة والتمثيل

فوكو: يرى اللغة كجزء من الخطابات التي تشكل الواقع الاجتماعي. في نظام الأشياء، يحلل كيف تتحكم اللغة في تصنيف العالم ضمن إبستيمات محددة.

دولوز: لا يركز على اللغة كثيرًا، بل على المفاهيم الفلسفية التي تتجاوز التمثيل اللغوي. يرى أن الفلسفة يجب أن تخلق مفاهيم جديدة بدلاً من تحليل اللغة.

دريدا: يجعل اللغة محور تحليله، مشيرًا إلى أن الكتابة تسبق الكلام وأن المعاني غير مستقرة. يتحدى فكرة التمثيل الثابت للواقع.

نقاط التقاطع: الثلاثة يرفضون فكرة اللغة كتمثيل محايد للواقع. فوكو ودريدا يركزان على اللغة كأداة للسلطة، بينما يسعى دولوز إلى تجاوز اللغة نحو الصيرورة.

نقاط الاختلاف: دريدا يركز على التفكيك داخل النصوص، بينما يهتم فوكو بالخطابات التاريخية، ودولوز بالمفاهيم الأنطولوجية

3. السلطة والمقاومة

فوكو: يرى السلطة كمنتشرة في كل مكان، تعمل عبر الخطابات والمؤسسات. لكنه يؤكد أن حيثما توجد سلطة توجد مقاومة، كما في تحليله للحركات الاجتماعية.

دولوز: يركز على القوى المتباينة التي تشكل الواقع. يقترح مقاومة السلطة عبر إبداع مفاهيم جديدة وأنماط حياة تتحدى الهيمنة.

دريدا: يرى السلطة في المركزية اللوغوسية التي تتحكم في اللغة. مقاومته تأتي عبر التفكيك، الذي يكشف عن عدم استقرار النصوص المهيمنة.

نقاط التقاطع: الثلاثة يرون السلطة كقوة تشكل المعرفة واللغة، ويقترحون أشكالًا من المقاومة (خطابية عند فوكو، إبداعية عند دولوز، تفكيكية عند دريدا).

نقاط الاختلاف: فوكو يركز على السلطة المؤسساتية، دولوز على القوى الأنطولوجية، ودريدا على السلطة اللغوية.

دراسات حالة تطبيقية

1. تحليل الخطاب الطبي

فوكو: في تاريخ الجنون، يحلل كيف شكلت الخطابات الطبية مفهوم "الجنون" كوسيلة للسيطرة الاجتماعية.

دولوز: قد يرى الخطاب الطبي كمجال للاختلاف، حيث يمكن إبداع مفاهيم جديدة لفهم الصحة النفسية بعيدًا عن الهيمنة.

دريدا: يفكك النصوص الطبية ليكشف عن عدم استقرار مصطلحات مثل "الجنون"، مشيرًا إلى أنها نتاج علاقات تفاضلية.

2. العولمة الثقافية

فوكو: يحلل العولمة كخطاب يشكل الهويات عبر مؤسسات مثل وسائل الإعلام.

دولوز: يرى العولمة كمجال للصيرورة، حيث يمكن للهويات المحلية أن تقاوم عبر إبداع أشكال جديدة.

دريدا: يفكك خطاب العولمة ليكشف عن تناقضاته، مثل التوتر بين العالمي والمحلي.

دلالات في الفلسفة المعاصرة

ما بعد الكولونيالية: تتقاطع هذه المناهج في نقدها للهيمنة الغربية. فوكو يكشف عن الخطابات الاستعمارية، دولوز يقترح إبداع هويات مقاومة، ودريدا يفكك النصوص الاستعمارية.

ما بعد الحداثة: تساهم المناهج الثلاثة في رفض السرديات الكبرى، سواء كانت ميتافيزيقية (دولوز، دريدا) أو تاريخية (فوكو).

التأثير على العلوم الإنسانية: أثرت هذه المناهج على دراسات الأدب، الاجتماع، والتاريخ، حيث أصبح التفكيك والتحليل الخطابي أدوات أساسية.

خاتمة

""الحرية هي أن تعرف كيف ترقص مع أغلالك." فريدريك نيتشه

تكشف المقارنة بين أركيولوجيا المعرفة عند فوكو، فكر الاختلاف عند دولوز، والغراماتولوجيا عند دريدا عن تقاطعات واختلافات جوهرية. يشترك الثلاثة في نقدهم للميتافيزيقيا التقليدية وتركيزهم على السلطة، لكنهم يتباينون في مناهجهم: فوكو التاريخي، دولوز الأنطولوجي، ودريدا اللغوي. هذه المناهج، رغم اختلافها، تقدم أدوات قوية لفهم الواقع المعاصر، خصوصًا في سياق مقاومة الهيمنة وإعادة صياغة المعرفة. تظل دلالاتها حية في الفلسفة المعاصرة، حيث توفر إطارًا لتفكيك الهياكل السلطوية واستكشاف إمكانيات جديدة للمعرفة والوجود. فماذا بقي من الفلسفة الفرنسية في مستوى قدرتها على صناعة الكونية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.............................

الاحالات والهوامش:

[1] Foucault, Michel. The Archaeology of Knowledge. Translated by A.M. Sheridan Smith. New York: Pantheon Books, 1972, 191.

[2] Deleuze, Gilles. Difference and Repetition. Translated by Paul Patton. New York: Columbia University Press, 1994, 36.

[3] Derrida, Jacques. Of Grammatology. Translated by Gayatri Chakravorty Spivak. Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1997, 158.

المصادر والمراجع:

Deleuze, Gilles. Difference and Repetition. Translated by Paul Patton. New York: Columbia University Press, 1994.

Derrida, Jacques. Of Grammatology. Translated by Gayatri Chakravorty Spivak. Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1997.

Foucault, Michel. The Archaeology of Knowledge. Translated by A.M. Sheridan Smith. New York: Pantheon Books, 1972.

Foucault, Michel. The Order of Things: An Archaeology of the Human Sciences. New York: Vintage Books, 1970.

Deleuze, Gilles, and Félix Guattari. A Thousand Plateaus: Capitalism and Schizophrenia. Translated by Brian Massumi. Minneapolis: University of Minnesota Press, 1987.

Derrida, Jacques. Writing and Difference. Translated by Alan Bass. Chicago: University of Chicago Press, 1978.

يُعدّ مصطلح الحداثة من أكثر المفاهيم إثارة للجدل والتأويل في الفكر العربي المعاصر، لما ينطوي عليه من أبعاد معرفية وثقافية وحضارية متشابكة، فهو ليس مجرد توصيف لمرحلة زمنية أو شكل من أشكال الإبداع الأدبي والفني، بل هو بنية فكرية شاملة ترتبط بجملة من التحولات في أنماط التفكير، ومناهج المعرفة، ومفاهيم الإنسان والمجتمع. وعلى النقيض منها تقف اللاحداثة، بوصفها موقفًا مقاومًا للتغيير أو محافظًا على تراث سابق، لكنها في كثير من الأحيان لا تُمثّل موقفًا سكونيًّا فحسب، بل تحمل رؤيتها الخاصة للعالم، وقيمها النابعة من سياقات مختلفة عن سياقات الحداثة الغربية التي وُلدت في بيئات اجتماعية واقتصادية وسياسية مخصوصة[1].

وإذا كان الفكر الغربي قد أنتج حداثته عبر تراكمٍ تاريخي وصراعٍ طويل مع أنماط السلطة والمعرفة التقليدية، فإن الفكر العربي غالبًا ما تلقى الحداثة بوصفها نموذجًا جاهزًا وافدًا، تراوحت مواقفه منه بين الرفض المطلق والتبني غير النقدي، وبين محاولات تلفيقية للمزاوجة بين "الحداثة" و"التراث". من هنا، تبرز إشكالية الحداثة واللاحداثة في الفكر العربي لا بوصفها مجرد جدل فكري، بل بوصفها مرآة لصراعات أعمق تتصل بالهوية، والسلطة، والمعرفة، والموقع الحضاري في عالم تسوده ثقافة الغالب وتُهمّش فيه الثقافات الأخرى.

وفي هذا السياق، يصبح من الضروري فحص طبيعة الحداثة العربية وموقع اللاحداثة، من خلال تأمل السياقات التاريخية والاجتماعية التي نشأت فيها هذه المفاهيم، وتفكيك الخطابات التي بُنيت حولها، سواء في بعدها السياسي أو الفني أو المعرفي. [2]

تثير الحداثة معضلات ماهيتها وتاريخيتها على السواء، فهي ليست مصطلحًا خاصًّا بالنقد والأدب، ولكنها تشير إلى صيغ عديدة دالة على الحضارة والتقدم، فهي ابتداء تدل على التغاير مع الأنماط السابقة، وتتمرد على خصائصها وسماتها ،وبتعبير آخر إنَّ الحداثة كما يرى " جون بودريان " ليست " مفهومًا سوسيولوجيًّا أو مفهومًا سياسيًّا، أو مفهومًا تاريخيًّا يحصر المعنى، وإنما هي صيغة مميزة للحضارة تعارض صيغة التقليد، أي أنها تعارض جميع الثقافات الأخرى السابقة أو التقليدية"[3]، وإذا كانت الحداثة اليوم تدل في أول ما تدل عليه هو ارتباطها بالحضارة الغربية أو انحدارها عنها، وبما تشتمل عليه من خصائص وسمات هي نتاج سياقات تاريخية واجتماعية معينة، فإن الحديث عن حداثة عربية هي قرين صورة مطابقة لحداثة غربية للتواصل لكائن بين الحداثتين، والحق أنه ليس تواصلًا بمعنى فاعلية الأخذ والعطاء ،وإنما بمعنى آخر فاعلية طرف ــ الغرب ـــ وتلقي أو بتعبير أدق سلبية طرف آخر ـــ الحداثة العربية.

إنَّ الحداثة المعاصرة مادية وذهنية نشأت في سياقات تاريخية واجتماعية غربية، ثم انتقلت إلى مجتمعات أخرى بطرائق مختلفة، ومنها الوطن العربي، وكانت دهشة الانبهار إزاء مظاهر الحداثة المادية كبيرة، وتجاور ذلك مع إيمان آخر بحداثة الآخر الذهنية، وتشبث بعض الحداثيين بشمولية الحداثة " ماديا وذهنيا " وطفق يبشر بمفاهيمها وتصوراتها، ويدافع عن إبداعاتها وإنجازاتها، دون أن يشعر بالفوارق الكبيرة بين طبيعة السياقات الاجتماعية والتاريخية المختلفة للحداثة في موطنها وفي واقعنا وتاريخنا، ويعارض هؤلاء نمطا آخر يأخذ من المظاهر المادية للحداثة، لسبب وغيره، ولا يرى في ذلك من تعارض إطلاقًا مع مقولاته السلفية التراثية، ولكنه يرفض مقولات الحداثة وتصوراتها ومفاهيمها، ويلتقي الدارس بنمط تلفيقي يحاول المجاورة بين ما يطلق عليه الأصالة والمعاصرة، أو التراث والحداثة، ومن ثم يجاور بين المتعارضات والمتناقضات، تمامًا كما يفعل بعض الدارسين حين ينظر إلى التراث بوصفه كتلة مصمتة، فيأخذ من العقلي والنقلي على السواء.

إنَّ الحداثة في التراث لم تنشأ معلقة في فراغ، وإنما كانت جزءاً من تطور حاصل في الواقع، فهي تتأسس" على الصراع بين النظام القائم على السلفية والرغبة العاملة للتغيير في هذا النظام "[4]. ويحدد "أدونيس" للحداثة تيارين سياسي/ فكري، وفني، ويتمثل الأول: في الحركات المناهضة للسلطة ـــ الخوارج وثورة الزنج والقرامطة ـــ وبالتصورات الاعتزالية والعقلانية الإلحادية والتصوف، وتهدف هذه جميعًا إلى " الوحدة بين الحاكم والمحكوم في نظام يساوي بين الناس اقتصاديًّا وسياسيًّا، ولا يفرق بين الواحد والآخر على أساس من جنس ولون[5]، أمَّا التيار الفني: فلقد أبطل القديم وتحول فيه الإبداع على خاصية إنسانية؛ بحيث أصبح الإنسان " يمارس هو نفسه عملية خلق العالم"[6].

ومن الجدير بالملاحظة أنَّ هذين التيارين لهما وجود حقيقي في الواقع الاجتماعي؛ إذ يمثل ملامح حقيقية لمعارضة قوية في زمن سلطة قمعية، لها ثقافتها المضادة المعززة بقوة السيف، ولا يخفى وجود الخوارج والشيعة والقرامطة وغيرهم، أي أنَّ هناك شرائح اجتماعية واسعة في المجتمع العربي تؤدي دورها الفاعل في الحياة وفي الخروج على السلطة وثقافتها، وقد استخدمت القوة: ثورة أو عصيانًا، أو الرفض السلبي، بمعنى أنَّ الفكر الحداثي له قاعدة اجتماعية شعبية واسعة تؤمن به وتدافع عنه لحد استخدام القوة والعنف.

وحين نتأمل الحداثة العربية المعاصرة فإنَّ هناك تساؤلات ملحة تفرض نفسها: هل الحداثة المعاصرة حركة تطورت تطورًا طبيعيًّا في سياقات تاريخية واجتماعية معينة؟ أم انها حركة صفوة من المثقفين؟ أي هل تعبر الحداثة عن واقع اجتماعي فعلاً، وإنْ لم تعبر فهل هي تؤثر فيه؟ وإذا كانت الحداثة في التراث تعبر عن طموحات تيارات اجتماعية كبيرة، فإن الحداثة المعاصرة لا تتجاوز الآلاف، ويرتبط قسم كبير من أنصارها ودعاتها بأكثر الأنظمة القمعية، يخدمون تطلعاتها السياسية ويدافعون عن رموز أشخاصها، ومما يؤيد أنَّ الحداثة حداثة مثقفين مقولة محمد عابد الجابري " هناك في واقعنا المريض قطاع كبير من الذين يملكون السلطة العلمية أو الفكرية على الجماهير، أو سمها سلطة الجاه أو المشيخة إذا شئت، ومن ثم فهناك قطاعات واسعة من الجماهير العربية تابعة لهؤلاء، وليس نحن المثقفين أو الإنتلجنسيا بالمفهوم الغربي فلا سلطان لنا عليهم، وينبغي علينا نحن المثقفين أنْ نعترف بأننا فئة قليلة جدًا، وغير مؤثرة التأثير الكافي في واقعنا الثقافي، إنَّ الكتاب الذي يصدر بيننا ويؤلفه واحد منا نتداوله فيما بيننا نحن فقط، ولا يوزع منه إلا حوالي ستة آلاف نسخة فقط، فما القيمة التي تمثلها ستة آلاف نسخة في شعب يزيد على مائة وخمسين مليونًا "[7]

ومما يؤكد ذلك أنَّ "أدونيس" هو الآخر يؤكد قضية بالغة الأهمية في وجود حداثة في الشعر، ولا وجود لحداثة في العلم وتغيير المجتمع، أنَّ الحداثة العربية المعاصرة حداثة تكاد تكون غريبة تمامًا، وهي جزء مما نتلقاه ونتداوله، إنَّ أدونيس وهو من أبرز الشخصيات الحداثية شعًرًا وفكرًا يؤكد أنَّ الغرب اليوم يقيم بعمق أعماقنا في جميع ما نتداوله اليوم فكريًّا وحياتيًّا، يجيئنا من هذا الغرب، أما فيما يتصل بالناحية الحياتية فليس عندنا ما تحسم به حياتنا إلا ما نأخذه من الغرب، وكما أننا نعيش بوسائل ابتكرها الغرب، فإننا نفكر بلغة الغرب نظريات ومفهومات، ومناهج تفكيري، ومذاهب أدبية وغيرها من المذاهب التي ابتكرها أيضًا الغرب، وكذلك الرأسمالية، الاشتراكية، الديمقراطية، الجمهورية، الليبرالية، الحرية، الماركسية، الشيوعية، القومية، ـــ والمنطق، الديالكتيك، العقلانية – الواقعية، الرومانطيقية، الرمزية، السريالية... إلخ. هذا من دون أن ندخل في ميدان العلوم، وخصوصا في العلوم البحتة[8].

وقبل الشروع في التعرض للحداثة أود الإشارة إلى تمييز دقيق بين التجديد والحداثة، أشارت إليه خالدة سعيد، إذ ترى انَّ " الحداثة أكثر من التجديد، وإذا كان التجديد مظهرًا من مظاهر الحداثة؛ لأنَّ التجديد هو إنتاج المختلف المتغير الذي لا يخضع للمعايير السابقة، أولا يخضع لها تماما، بل يسهم في توليد معايير جديدة، الجديد نجده في عصور مختلفة، لكنه لا يشير إلى الحداثة دائمًا، ولا يكون الجديد حديثًا بالمعنى الذي استقر للحداثة؛ إلا إذا كان يطرح القضايا الأساسية للحداثة، ويتمحور حول المفصل الصراع الفكري للحداثة[9].

ومن أجل فهم أفضل لطبيعة الحداثة العربية تحدد خالدة سعيد أمورًا منها ما يتصل بارتباط الحداثة، بالانزياح المتسارع في المعارف وأنماط الإنتاج والعلاقات على نحو يستتبع صراعًا مع المعتقدات.. ومع القيم التي تفرزها أنماط الإنتاج والعلاقات السائدة[10]، وبقدر ما يشير هذا الى العلاقة الحميمة بين الحداثة والتغيير والتطور، يشير على هذا التغيير بأنماط إنتاجها وعلاقاتها؛ بحيث يؤكد العلاقة الجدلية بين المعرفة والبنية التحتية في ضوء تجلياتها الماركسية المعروفة، ومن ثم تحدد الناقدة الحداثة بوصفها ثورة فكرية، وليست مجرد مسألة تتصل بالوزن والقافية، أو بقصيدة النثر، أو نظام السرد، أو البطل[11]... لتؤكد أخيرا أنَّ الحداثة وضعية فكرية لا تنفصل عن ظهور الأفكار والنزوعات التاريخية التطويرية، وتقدم المناهج التحليلية التجريبية، وهي تتبلور في اتجاه تعريف جديد للإنسان عبر تحديد جديد لعلاقته بالكون، إنها إعادة نظر شاملة في منظومة المعلومات والنظام المعرفي، أو ما يكون صورة العالم في وعي الإنسان، ومن ثم يمكن أن يقال أنها إعادة نظر في المراجع والأدوات والقيم والمعايير[12].

إنَّ الحداثة لا توجد فجأة، بل هي نتيجة تراكم معرفي، تنطلق من مرحلة لأخرى؛ إذ ترى خالدة سعيد أنَّ الحداثة بوصفها حركة فكرية شاملة انطلقت مع الرواد، مثل جبران خليل جبران وطه حسين، فقد مثّل فكر الرواد الأوائل قطيعة مع المرجعية الدينية والتراثية، كمعيار ومصدر وحيد للحقيقة، واقام مرجعين بديلين: العقل والواقع التاريخي، وكلاهما إنساني، ومن ثم تطوري، فالحقيقة عند رائد كجبران وطه حسين لا تلتمس بالنقل، بل تلتمس بالتأمل والاستبصار عند جبران، وبالبحث المنهجي العقلاني عند طه حسين.[13]

ومن المفارقات التي ينبغي تأكيدها أنَّ محمد مصطفى بدوي يؤكد أمرين رأيت ضرورة التوقف عندهما، أولهما: أنه " ليس هناك اجماع مطلق على تحديد قاطع للحداثة، ومع ذلك هناك شبه إجماع على ما يمكن وصفه بالفن الحديث"[14] وثانيهما: أنَّ الكلام عن الحداثة في الأدب الأوربي إنما هو لاحق أو مصاحب لهذه الظاهرة، وليس سابقًا لها على الإطلاق، كما هي الحال لدى كتّابنا وشعرائنا[15].

إنَّ ما فعله نقادنا هو نقل الدلالات والمفاهيم التي تحدد مصطلح الحداثة، على الرغم من عدم تحددها لدى الغربيين، ومن ثم عمدوا إلى تحديد معايير الحداثة، ومحاولة السير في ركابها، وهذا يعني أنَّ هناك تفاوتا بين من يصف ويحلل ويحدد طبيعة الحداثة، كما فعل الأوربيون. وبين من يحدد المعايير ثم يدعو أو يبدع نصًّا حداثيا، لا ريب أنَّ هناك فرقاً.

إن الحداثة في الغرب ـــ كما يحدد "براديبري" و"مكفارلين" ـــ كانت تعبيرًا عن انهيار العقل والحضارة الغربية، ولما أصاب المدينة أثناء الحرب العالمية الأولى، وهي فن الرأسمالية والتصنيع المتزايد في السرعة وفن اللامعقول وأدب التكنولوجيا، ويتساءل "محمد مصطفى بدوي" بقوله: "فأين نحن العرب من هذه الأشياء؟ متى كانت الواقعية والعقلانية والتصنيع الشامل والتكنولوجيا الحديثة هي السمات الغالبة في مجتمعاتنا في يوم من الأيام"[16].

ترى هل بدأت الحداثة في الأربعينيات وتطورت في الخمسينيات، وما تلاها، سواء لدى رواد الشعر الحر في العراق، أم حركة شعر في لبنان، وإن كانت هذه هي الحداثة تاريخيًّا، فلا ريب أنَّ هناك فجوة بين الواقع العربي والحداثة العربية، بمعنى أنَّ الحداثة ليست تعبيرًا عن واقع معاش، فهي سابقة للواقع ومتقدمة عليه عند من يحسنون الظن، أو إنها صورة للحداثة الغربية ونسخ لها عند من يسيئون الظن، ويعم التصور الأخير ما يذهب إليه محمد عابد الجابري في أثناء تعرضه للخطاب العربي الحديث، من أنَّ المفاهيم الموظفة فيه مستقاة كلها إمّا من الماضي العربي الإسلامي، وإما من الحاضر الأوربي؛ إذ تدل تلك المفاهيم في كلتا الحالتين على واقع هو ليس الواقع العربي الراهن، بل هو واقع معتم غير محدد، ومستنسخ، إما من صورة الماضي وإما من صورة الغرب ـــ المستقبل، المأمول[17].

إذن هناك طريقان للتحدث عن الحداثة، أولهما: معياري يحدد للحداثة طبيعتها ووظيفتها وملامحها، من منظور نظري بحت، ويستقى مكوناتها من التراث نادرًا، ومن الآخر غالبًا، بمعنى أن أصحاب النظرية المعيارية لا يأخذون المصطلح " الحداثة " من الآخر، بأن يتبنون دلالاته، على الرغم من أننا لم ننتج المصطلح ولم نحدد ماهيته، وكأن الحداثة هنا مفهوم مطلق تصدق معياريته على كل حداثة عربية أو غيرها، آنية أو قديمة أو آتية، وهي على كل حال ترجع إلى مركزية أوربية، أي مركزية مفهوم الحداثة وهو مفهوم نتاج واقع اجتماعي وفكري وسياسي وإيديولوجي محدد، ومن الجدير بالذكر إنَّ مفهوم الحداثة عند الآخر ليس وليد تصورات معيارية مسبقة، كما نفعل نحن، وإنما هو وليد عملية جدلية بين الواقع والحداثة، ومن ثم فإن مفهوم الحداثة يتجدد على الرغم من تعددية دلالاته في ضوء استقراء منتجات مادية وذهنية على السواء.

وثانيهما: وصفي، وهو أقل ظهورًا، أي أنه يحدد للحداثة مفهومًا في ضوء استقراء النصوص الحداثية، ومحاولة الكشف عن خصائصها وسماتها، غير أنَّ معضلًا يعترض هذه المحاولة يكمن في تحديد النصوص الحداثية، وكأن التحديد الوصفي لا بدَّ له من أسس معيارية، وإذا كانت المشكلة محسومة لدى أصحاب التيار الأول؛ لأنهم يستقون المفاهيم والتصورات بوصفها موجودات ثابتة أو متغيرة من حضارة أخرى، فإن أصحاب التيار الثاني يعانون من مشكلتين، أولاهما: لها طابع معياري يسهم في تحديد طبيعة النصوص الأدبية الحداثية، ومن ثم وصفها والكشف عن خصائصها، فهم يقومون بعملية مزدوجة تتردد بين المعيارية والوصفية.

وكلا التيارين يصدر في تحديده لمفهوم الحداثة في ضوء موقفه من اللاحداثة وبمقدار تحدد الأخيرة ـــ اللاحداثة ــــ يمكن فهم الحداثة والولوج إلى عوالمهما المختلفة وإن دراستهما غير مستقلة عن سياقات عديدة تراثية من ناحية، واجتماعية وتاريخية من ناحية أخري، إنَّ تأكيدي على التراث له ما يبرره؛ لأننا نعيش تراثنا بكيفيات متعددة تتفاوت في طبيعتها ووظيفتها، أي من التلقي السلبي للتراث إلى رفضه المطلق، أو نظرة تلفيقية بين النظرتين السلبية والرافضة، إنَّ وعي التراث يسهم في تحديد الجانب الأكبر من هويتنا المعاصرة، ويحدد أيضا موقفنا من الآخر.

ويبدو أنَّ مصطلحي الحداثة واللاحداثة يختلطان بمصطلحات ومفاهيم أخرى؛ إذ يعلي دارس من اللاحداثة ويعدها أصالة، ولا بد من التشبث بها، لأنَّ وجودنا الحضاري الآني مقترن بها، وأن هويتنا الثقافية لا وجود لها إلا بها، في حين تبدو اللاحداثة عند آخرين أمرًا مرفوضًا وممجوجًا على صعد مختلفة، أيديولوجية وفكرية واجتماعية وإبداعية، إنَّ اللاحداثة عند النمط الأول تتميز بثباتها واستقرارها وديمومتها وإطلاقها في كل زمان ومكان، بينما هي لدى النمط الآخر متخلفة ورجعية، إنها تعبر عن واقع اجتماعي مندثر، وإن إعادتها إلى الحياة أو محاولة فرضها كمن يحاول إيقاظ ميت، وحين يخفق في ذلك يحاول حمل هيكله العظمي معبّرًا عن حضوره أو تجدده.

***

د. كريم الوائلي

......................

[1]  يُنظر: كتابنا: تناقضات الحداثة العربية، دار قناديل، بغداد، 2024، ص 95، وما بعدها.

[2]  نشر اصل هذا البحث في مجلة الفصول الأربعة الليبية، العدد 93، 200 م.

[3] محمد برادة، اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة، مجلة فصول العدد 3، 1984 ،ص 12.

[4] أدونيس، صدمة الحداثة، ص ،10.

[5] نفسه.

[6] أدونيس، صدمة الحداثة، ص 10.

[7] محمد عابد الجابري، ندوة مجلة فصول العدد 3 ،1984، ص 213.

[8] ادونيس، صدمة الحداثة، ص 258.

[9] خالدة سعيد، الملامح الفكرية للحداثة، مجلة فضول العدد 3، 1984 ص 25.

[10] نفسه.

[11] نفسه.

[12] خالدة سعيد، الملامح الفكرية للحداثة، ص 26.

[13] نفسه، ص 27.

[14] محمد مصطفى بدوي، مشكلة الحداثة والتغيير الحضاري في الأدب العربي الحديث، مجلة فصول العدد  3، 1984 ص، 104.

[15]محمد مصطفى بدوي، مشكلة الحداثة والتغيير الحضاري في الأدب العربي الحديث، ص 104.

[16] نفسه، ص 105.

[17] محمد عابد الجابري، أزمة الإبداع في الفكر العربي المعاصر، مجلة فصول العدد 3 ،1984م، ص 109.

 

"قد تكون النزعة الإنسانية مخبأة لنزعة انسانية أخرى".

يعتبر دومينيك ليكور فيلسوفًا فرنسيًا بارزًا في مجال فلسفة العلوم، اشتهر بتحليلاته النقدية لتطور الفكر العلمي وعلاقته بالمجتمع. تأثر ليكور بشدة بفلسفة غاستون باشلار، خاصة مفهوم "المادية العقلانية"، لكنه طوّر مقاربة خاصة تمزج بين تحليل الخطاب العلمي والسياقات الاجتماعية والسياسية. تتناول هذه الدراسة أفكار ليكور في سياق المادية الباشلارية، مع التركيز على إسهاماته في فلسفة العلوم والمجتمع، من خلال مقاربة معرفية نقدية تستعرض نقاط التقاطع والاختلاف مع باشلار، وتفحص دوره في نقد الايديولوجيات العلمية، فماهي الخلفية الفلسفية التي ينطلق منها دومينيك ليكور في بناء المعرفة العلمية؟

1. المادية الباشلارية كإطار نظري

مفهوم المادية العقلانية عند باشلار:

قدم غاستون باشلار (1884-1962) مفهوم "المادية العقلانية" كإطار يجمع بين العقلانية العلمية والتجريبية. رأى أن العلم يتقدم عبر "قطائع معرفية" تفصل المعرفة العلمية عن المعرفة العامية أو الخيالية. لقد أكد باشلار على أهمية التاريخية في العلم، حيث يتطور المفهوم العلمي عبر التغلب على "العوائق المعرفية" الناتجة عن الأفكار المسبقة أو التصورات غير العلمية. كما دعا في كتابه التكوين العقلي للعلم (1938) إلى تحليل نفسية العلماء ودور الخيال في دفع الإبداع العلمي.

تأثير باشلار على ليكور:

تبنى ليكور فكرة القطيعة المعرفية، لكنه وسّعها لتشمل السياقات الاجتماعية والسياسية. في كتابه الليسينكوية (1976)، حلل كيف يمكن للايديولوجيا أن تعيق التقدم العلمي، مستلهمًا منهج باشلار النقدي.

على عكس باشلار الذي ركز على البعد المعرفي، اهتم ليكور بتأثير العوامل الخارجية (مثل السلطة السياسية) على تطور العلم.

2. دومينيك ليكور وفلسفة العلوم

إسهامات ليكور:

في كتابه من أجل نقد الايبستمولوجيا ( 1974)، نقد ليكور النزعات الوضعية في فلسفة العلوم، التي ترى العلم كتطور خطي ومحايد. رأى أن العلم ليس معزولًا عن السياقات الاجتماعية والتاريخية.

قدم ليكور تحليلًا لتاريخ العلم يركز على "المشكلات" بدلًا من النظريات المعزولة، معتبرًا أن العلم يتطور عبر إعادة صياغة الأسئلة في سياقات جديدة. في كتاب الليسينكوية، فحص حالة تروفيم ليسينكو، العالم السوفييتي الذي فرض نظريات بيولوجية مدفوعة بالايديولوجيا الستالينية، كمثال على كيفية تشويه العلم بتأثير السلطة السياسية.

المنهج النقدي:

استخدم ليكور منهجًا ماركسيًا معدلًا، مستلهمًا من لوي ألتوسير، لتحليل العلاقة بين العلم والايديولوجيا. رأى أن العلم ليس مجرد إنتاج معرفي، بل هو ممارسة اجتماعية تخضع لتأثيرات السلطة والطبقية.

نقد التصورات المثالية للعلم، مثل تلك التي قدمها كارل بوبر، معتبرًا أنها تتجاهل السياقات المادية والاجتماعية التي تشكل المعرفة العلمية.

3. العلوم والمجتمع عند ليكور

العلاقة بين العلم والايديولوجيا:

رأى ليكور أن العلم، رغم طابعه العقلاني، يمكن أن يُستخدم كأداة ايديولوجية. في حالة ليسينكو، أظهر كيف فرضت الايديولوجيا السياسية نظريات بيولوجية غير علمية، مما أدى إلى كارثة زراعية في الاتحاد السوفييتي.

دعا إلى فصل الممارسة العلمية عن التأثيرات الايديولوجية، مع الإقرار بأن العلم لا يمكن أن يكون محايدًا تمامًا بسبب ارتباطه بالمجتمع.

دور العلم في المجتمع:

في كتابه الطبقة العاملة والمعرفة (1979)، ربط ليكور بين تطور العلم والصراعات الاجتماعية، معتبرًا أن العلم يمكن أن يخدم مصالح طبقية معينة إذا لم يخضع لنقد دائم.

دعا إلى "ايبستمولوجيا نقدية" تراقب العلاقة بين العلم، السلطة، والمجتمع، مع الحفاظ على استقلالية الممارسة العلمية.

4. مقاربة معرفية نقدية: ليكور مقابل باشلار

نقاط التقاطع: كلاهما أكد على القطيعة المعرفية كآلية للتقدم العلمي. باشلار ركز على القطيعة بين المعرفة العلمية والخيالية، بينما وسّع ليكور المفهوم ليشمل القطيعة مع الايديولوجيا.

كلاهما دافع عن العقلانية العلمية، لكن مع الاعتراف بدور الخيال (باشلار) أو السياق الاجتماعي (ليكور) في تشكيل المعرفة.

نقاط الاختلاف: التركيز المعرفي مقابل الاجتماعي: ركز باشلار على البنية الداخلية للمعرفة العلمية (مثل العوائق المعرفية)، بينما اهتم ليكور بالعوامل الخارجية (السياسة، الايديولوجيا، السلطة).

المنهج التاريخي: باشلار حلل تاريخ العلم كتطور داخلي للمفاهيم، بينما رأى ليكور أن التاريخ العلمي متشابك مع التاريخ الاجتماعي والسياسي.

العلاقة بالماركسية: تبنى ليكور منظورًا ماركسيًا معدلًا (تأثرًا بألتوسير)، بينما كان باشلار أقل اهتمامًا بالتحليل الاجتماعي-السياسي.

نقد ليكور لباشلار: رأى ليكور أن نهج باشلار، رغم أهميته، يفتقر إلى تحليل العوامل الاجتماعية التي تشكل العلم. على سبيل المثال، لم يتناول باشلار كيف يمكن للسلطة السياسية أن تعرقل التقدم العلمي، كما في حالة ليسينكو.

5. تحليل نقدي: إسهامات ليكور وحدوده

االإسهامات: أسهم ليكور في إعادة تعريف فلسفة العلوم كمجال يتجاوز التحليل المنطقي إلى فحص السياقات الاجتماعية والسياسية.

قدم مفهوم "الايبستمولوجيا النقدية"، الذي يدعو إلى مراقبة العلم كممارسة اجتماعية دون التقليل من طابعه العقلاني.

نقده للايديولوجيا في العلم (مثل الليسينكوية) قدم درسًا تاريخيًا حول مخاطر تدخل السياسة في الممارسة العلمية.

الحدود: تركيزه المفرط على الايديولوجيا قد أدى إلى إغفال بعض الجوانب الداخلية لتطور العلم، مثل ديناميكيات المفاهيم العلمية التي أكد عليها باشلار.

تأثره بالماركسية جعل بعض تحليلاته منحازة إلى تفسيرات طبقية، مما قد يقلل من شمولية مقاربته.

لم يقدم ليكور نموذجًا منهجيًا واضحًا لتطبيق "الايبستمولوجيا النقدية" في دراسة العلوم المعاصرة، مما جعل أفكاره نظرية أكثر منها عملية.

خاتمة

يمثل دومينيك ليكور امتدادًا نقديًا لفلسفة غاستون باشلار، حيث وسّع مفهوم المادية العقلانية ليشمل البعد الاجتماعي والسياسي للعلم. من خلال تحليله لعلاقة العلم بالايديولوجيا والمجتمع، قدم ليكور إطارًا لفهم العلم كممارسة تاريخية واجتماعية، وليس مجرد نشاط عقلي محايد. ومع ذلك، فإن تركيزه على الايديولوجيا قد قلل من أهمية الجوانب الداخلية لتطور العلم. مقاربته النقدية تظل ذات قيمة في تحليل العلوم الحديثة، خاصة في سياقات تتداخل فيها السلطة والمعرفة. تطبيق منهجه على العلوم العربية الإسلامية يمكن أن يكشف عن ديناميكيات مماثلة بين العلم والمجتمع في تلك الحقبة، مؤكدًا على أهمية السياق الحضاري في تشكيل المعرفة. فكيف يمكن الاستفادة من مقاربة ليكور المعرفية النقدية من اجل اعادة قراءة التراث العلمي عند العرب والمسلمين؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

...................

المراجعدومينيك ليكور، من أجل نقد الايبستمولوجيا (1974).

دومينيك ليكور، الليسينكوية (1976).

غاستون باشلار، التكوين العقلي للعلم (1938).

لوي ألتوسير، من أجل ماركس (1965).

ماري تيليز، فلسفة العلوم في القرن العشرين (ترجمة عربية، 2000).

أن عدم الكمال الفلسفي* يشير إلى استحالة تحقيق الكمال في الوجود البشري.  المعنى الفلسفي العميق لفكرة (عدم الكمال) التي تتجاوز مجرد العيوب الظاهرة يشير إلى فكرة أن أنظمة الفكر البشريّ (الفلسفة، الأخلاق، المنطق، المعرفة) لا يمكن أن تصل إلى الكمال أو الاكتمال المطلق. الانسان غير قادر على الإحاطة بجميع الحقائق أو إدراك الحقيقة الكاملة لأي موضوع (ميتافيزيقي، أخلاقي، علمي) كل نظام فكريّ يحمل داخله تناقضات أو فجوات لا يمكن سدّها، المعرفة البشرية قائمة على السياق الثقافي والتاريخي والخبرات الذاتية، وبالتالي فهي غير مطلقة كما قال نيتشه لا وجود لحقائق، بل تأويلات فقط. قانون عدم الكمال يعتمد على عدة مبادئ فلسفية تساعد على فهم وتقبل عدم الكمال في الحياة والفشل هو جزء طبيعي من الحياة علينا أن نتقبل أن الأخطاء والتجارب السلبية تعد فرصًا للتعلم والنمو، العقلانية مهمة، لكن أيضا يجب أن نسمح للعواطف بالتعبير عن نفسها بجانب التفكير المنطقي، كل شخص يسير في طريق مختلف والتركيز هو على التقدم الشخصي كون الحياة مليئة بالتغيرات. الطبيعية الموضوعية لن تسير دائمًا كما نريد، وأن التكيف مع التغييرات جزء من النمو، تطبيق هذه المبادئ يمكن أن يساعد في تقبل عدم الكمال، مما يؤدي إلى حياة أكثر توازنًا وسعادة.

التراث السردي في الشرق الأوسط عدم الكمال الفلسفي

في التراث السردي الشرق الأوسط، يمكن أن نجد عدة أسباب لعدم وجود مكان واضح عدم الكمال الفلسفي، الكثير من القصص والأساطير تتسم بالتأكيد على الكمال كقيمة مثالية. الأبطال غالبًا ما يُصوّرون على أنهم مثاليون، مما يُعزز فكرة الكمال كهدف يجب السعي إليه، رغم ان في العديد من الديانات، تعتبر الكمال صفة إلهية. وبالتالي، يُنظر إلى البشر ككائنات غير كاملة، لكن فكرة السعي نحو الكمال هو واجب ديني، القصص تميل إلى التركيز على الأحداث البطولية والتجارب الفريدة، مما يغفل الجوانب الإنسانية العادية، مثل الفشل أو الضعف، المجتمعات التقليدية غالبًا ما تضع توقعات عالية على الأفراد، مما يؤدي إلى ضغط اجتماعي لتحقيق الكمال في الأداء والسلوك، الرموز والأساطير في التراث الشرق اوسطي غالبًا ما تتسم بالتمجيد والكمال، مما يجعل من الصعب قبول عدم الكمال كجزء من التجربة الإنسانية .بعض الفلاسفة في التراث الشرقي يرون أن السعي نحو الكمال هو جزء من تحقيق الذات، مما يجعل من الصعب قبول عدم الكمال كفكرة ،هذه العوامل تجعل من الصعب قبول مفهوم عدم الكمال في التراث السردي الشرقي ، حيث يتم تفضيل الكمال كمثل اعلى وقيمة مرجعية.  التركيز على الكمال في السرديات يؤثر بشكل كبير على عدة جوانب منها تقديم شخصيات مثالية يخلق توقعات غير صحيحة لدى الجمهور، مما يجعلهم يشعرون بالضغط لتحقيق مستوى مشابه من الكمال في حياتهم، التركيز على الكمال يمكن أن يؤدي إلى تجاهل الجوانب الإنسانية والعيوب التي تجعل الشخصيات أكثر واقعية وعمقًا. السرد الذي يركز على الكمال يقلل من تنوع الشخصيات والقصص، حيث يتم تفضيل النماذج المثالية على التجارب الإنسانية المتنوعة ،كما يعزز فكرة ان السرد القائم الفشل غير مقبول، مما يؤدي إلى الشعور بالقلق وعدم الأمان لدى الأفراد الشخصيات التي لا تتعرض الى الصراعات ، مما يجعل القصة أقل تأثيرًا ،التركيز على الكمال يمكن أن يؤدي إلى عقلانية مفرطة، حيث يُعتقد أن النجاح يتطلب تخطيطًا دقيقًا وتحليلًا صارمًا، مما يغفل أهمية العواطف والحدس، ان تحقيق توازن بين تقديم النماذج المثالية والاعتراف بالعيوب الإنسانية يجعل القصص أكثر واقعية وتأثيرًا.

وجهات نظر ثقافية

تتباين وجهات النظر الثقافية حول عدم الكمال بشكل كبير، وتظهر في عدة مجالات في الفلسفة الشرقية. منها التي تركز على قبول الطبيعة غير الكاملة للأشياء ،اما في الفلسفة الغربية تركز أكثر على السعي للكمال، مع وجود بعض التوجهات التي تعترف بضرورة الفشل كجزء من التجربة الإنسانية الفنون اليابانية مثل (الكينتسوجي) تعود أصول الكينتسوجي إلى القرن الخامس عشر في اليابان، وقد تطورت لتصبح رمزًا ثقافيًا يعبر عن تقدير الجمال في ما هو غير كامل، تعزز الجمال في الأشياء المكسورة، وتعتبر العيوب علامات على التاريخ والقيمة، ولكن هناك أيضًا توجهات حديثة تعترف بجماليات العيوب مثل البوذية، التي  تشجع على قبول الحياة كما هي، بما في ذلك عيوبها رغم انها تركز على الخلاص والكمال، مما يمكن أن يجعل قبول العيوب أمرًا أكثر تعقيدًا، التركيز على النجاح الشخصي، يمكن أن يؤدي إلى ضغط كبير لتحقيق الكمال، بعض المجتمعات التقليدية تعزز من قيمة العيوب كجزء من الهوية الثقافية، مما يعكس تجارب الحياة اليومية، لكنها تكون أكثر قلقًا حول الصورة العامة والنجاح، مما يجعل قبول العيوب أكثر صعوبة. تظهر وجهات النظر الثقافية حول عدم الكمال تنوعًا كبيرًا، مما يعكس كيفية تأثير القيم والمعتقدات الاجتماعية والدينية على فهم الإنسان لنفسه ولتجاربه. فهم هذه الاختلافات يمكن أن يسهم في تعزيز التعاطف والقبول عبر الثقافات. تتشابك الفلسفات لتشكل نظرة شاملة حول عدم الكمال في الثقافات التي تجمع بين التأثيرات الشرقية والغربية. تسهم هذه الفلسفات في تعزيز تقبل العيوب وفهمها كجزء من التجربة الإنسانية.

قانون عدم الكمال والتشتت الايديولوجي

قانون عدم الكمال والتشتت الأيديولوجي يشير إلى فكرة أن المجتمعات التي تتسم بالتنوع الطائفي أو الإيديولوجي غالبًا ما تواجه تحديات في تحقيق الوحدة والانسجام.  عدم الكمال يشير إلى أن أي نظام أو مجتمع لا يمكن أن يكون مثاليًا أو كاملًا بسبب الاختلافات والتنوعات الموجودة فيه، التشتت الأيديولوجي يعني وجود مجموعة من الأفكار والمعتقدات المختلفة التي تؤدي إلى صراعات أو تباينات بين الفئات المختلفة داخل المجتمع، يمكن أن يؤدي هذا التشتت إلى عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، حيث تتباين المصالح والأهداف بين الجماعات المختلفة، التنوع القبلي له تأثير كبير على قانون عدم الكمال والتشتت الطائفي.  يؤدي التنوع القبائلي إلى تعزيز الهوية الفردية والجماعية، مما يساهم في تعزيز الفروقات بين الجماعات وقد تنشأ صراعات بين القبائل المختلفة، خاصة إذا كانت هناك موارد محدودة أو تباينات في المصالح مع وجود ولاءات متعددة (للقبيلة، للطائفة، للوطن)، ويصبح من الصعب تحقيق توافق في الآراء، مما يزيد من حالة عدم الكمال والتشتت في التنوع الثقافي الناتج عن القبائل المختلفة الذي يؤدي إلى سوء الفهم أو التوترات إذا لم يتم احترام هذه الفروقات.

الدوافع وراء التشتت الايديولوجي

قانون عدم الكمال يشير إلى أن الدوافع وراء التشتت الأيديولوجي والطائفي منها البحث عن السلطة، وبشكل خاص سلطة القبيلة. في المجتمعات المتنوعة، يمكن أن تكون هناك تنافسات بين القبائل على الموارد والسلطة، مما يؤدي إلى عدم الاستقرار والصراعات هذا التنافس يزيد من حالة عدم الكمال، حيث تعمل كل قبيلة على تعزيز مصالحها الخاصة، مما يؤثر سلبًا على الوحدة والتماسك الاجتماعي. لذلك، تتداخل الدوافع القبلية مع قانون عدم الكمال، حيث تسهم في تعزيز الانقسامات والتباينات الأيديولوجية.

التشتت الأيديولوجي في الشرق الاوسط

الشرق الأوسط يتسم بتنوع هائل في الهويات الثقافية والدينية والعرقية، مما يؤدي إلى تناقضات وصراعات أيديولوجية، تختلف الأنظمة السياسية في المنطقة بين الملكيات، الجمهوريات، والأنظمة العسكرية، مما يساهم في عدم الاستقرار، تلعب القوى الكبرى دورًا في تعزيز الفوضى من خلال التدخلات العسكرية أو السياسية، مما يزيد من تعقيد الأوضاع ،تعتمد العديد من دول الشرق الأوسط على النفط كدخل رئيسي، مما يؤدي إلى ضعف تنمية القطاعات الأخرى ويخلق فجوات اجتماعية ،الصراعات الإقليمية والدولية، تؤدي إلى عدم الاستقرار وتشتت الجهود التنموية ،في غياب الحوار الفعّال بين مختلف الفصائل السياسية والدينية تتعمق الفجوة هذه العناصر مجتمعة تساهم في خلق حالة من التشتت الأيديولوجي وعدم الكمال في مختلف جوانب الحياة في الشرق الأوسط.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

.........................

* إنَّ الربط بين مفهوم فلسفي عميق مثل "عدم الكمال" والأزمات الجيوسياسية المعقدة التي يعاني منها الشرق الأوسط، يفتح بابًا لتشخيص يتجاوز التحليلات السياسية والاقتصادية المعتادة، ليغوص في البنى الفكرية والنفسية التي تشكل الواقع.

* نقد العقل المحض" لكانط (أساس لفهم حدود المعرفة)

* هكذا تكلّم زرادشت" لنيتشه (نقد لفكرة الحقائق المطلقة)

بتاريخ 24 فبراير 2025 نشرت مجلة ايون Aeon وهي مجلة رقمية تهتم بقضايا الفكر والفلسفة والثقافة، بحثا هاما للبروفيسور اندرو مارش(1) حول حق الدولة في الوجود، سنتطرق بالتفصيل لهذا المقال.

ان الحاجة للاعتراف بحق الدولة في الوجود يتردد صداها في صفحات الرأي وفي غرف لجان الكونغرس الامريكية. هذه الطلبات برزت باستمرار في سياق اسرائيل وتأطير حربها مع الفلسطينيين والقوى الاقليمية الاخرى. القوة البلاغية للسؤال واضحة. اذا كانت اسرائيل تواجه تحديا لـ "حقها في الوجود" عندئذ فان انتقاد الاعمال العسكرية لإسرائيل يجب ان يبقى صامتا ومقيدا. هذا التأطير يتضمن ايضا فرضية ان الدول الموجودة لديها حق مفترض في الوجود، او ان انكار حق الدولة (س) او (ص) بالوجود هو منبوذ أخلاقيا لأنه لا يتضمن حلا قانونيا للدولة وانما تدمير للشعب الذي يعيش فيها. هذا التأطير قد يبدو وكأنه محض خطاب سياسي لا يهدف الى اثارة استجابة او نقاش جاد. انه قُصد به ان يسبق أي نقاش عام حقيقي حول اسرائيل/فلسطين الماضية والحالية. مع ذلك، الحاجة للاعتراف بحق الدولة في الوجود يثير سؤالا فلسفيا واقعيا لكنه مُتجاهلا: ماذا نعني بالضبط عندما نقول حق الدولة في الوجود؟

يجب ملاحظة ان القول "الدولة (س) لها الحق في الوجود" لا يشبه القول "ان مواطني الدولة (س) لهم الحقوق التالية" – حق الحياة، حقوق مدنية وانسانية، ازدهار ثقافي. الإدّعاء يؤكد على ان حيازة الحق تقع في الدولة ذاتها، علاوة على ذلك، انه لا يؤكد على حق السلطة المشتقة (الضرائب وفرض القوانين والسيطرة على الحدود) وانما على الحق السابق في الوجود ذاته. هل هذا ادّعاء متماسك يمكن التمسك به لمصلحة أي دولة؟

الدول تأتي الى الوجود وتخرج منه في كل الاوقات. هذه قائمة ليست كاملة للدول التي وُجدت منذ الحرب العالمية الثانية ولم تعد موجودة: تشيكوسلوفاكيا، يوغسلافيا، الاتحاد السوفيتي، اليمن الجنوبي، فيتنام الجنوبية، غرب وشرق المانيا، الجمهورية العربية المتحدة. كلما عدنا اكثر الى الوراء، سنجد الكثير من الدول المنحلّة: الرايخ الثالث، الامبراطورية العثمانية، بروسيا، الامبراطورية النمساوية المجرية، الامبراطورية الروسية، الكومنولث البولندي الليتواني، الامبراطورية الرومانية المجيدة وهكذا. دول اخرى لاتزال موجودة تحت نفس الاسم لكنها تقلصت ولم تعد تحكم نفس الاقليم (كما في باكستان والسودان).

وهكذا اذا كانت عبارة "الدولة (س) لها الحق في الوجود" تعني "اذا الدولة (س) كانت قد وُجدت ولم تعد موجودة، فهناك ظلم وقع تجاه الدولة (س)، ومن ثم فان ذلك يعني ان هناك ظلم او لاعدالة وقع على تلك الدول المعنية، لأنها لم تعد موجودة. يرى الكاتب ان هناك اليوم القليل يؤمن بان حل تشيكوسلوفاكيا، والاتحاد السوفيتي، ويوغسلافيا او الجمهورية العربية المتحدة تضمّن انتهاكا لحق تلك الدول ذاتها في الوجود. الفكرة بان الدول هي كيانات او اشخاص لهم حقوق في الوجود منفصلة عن حقوق الاشخاص الذين يعيشون ضمن تلك الدول تبدو فكرة لا يمكن تبريرها او الدفاع عنها. الدول عادة تأتي وتخرج من الوجود دون أي ظلم يحدث للناس أصحاب الشأن. يتبع ذلك ان حق الدولة (س) في الوجود ليس بالضرورة بغيض أخلاقيا.

ان المطالبة بالاعتراف بحق الدولة في الوجود هو ليس نفس المطالبة "كل الاشخاص لهم الحق في العيش تحت حكم الدولة". المطالبة هي ان دولة معينة، ذات هوية محددة، لها الحق في الوجود. متى توجد مثل هذه الدولة؟ وكيف نستطيع التمييز بين الادّعائين: (س) "اشخاص لهم الحق ليعيشوا في ظل الدولة" و(ص) "دولة معينة ذات هوية محددة لها حق الوجود"؟

الدولة هي جهاز اداري سيادي يحكم أراضي معينة، يسيطر على الدخول والخروج من الاقليم، ويحوز على سلطة عليا ضمن ذلك الاقليم. ولكن ما المقصود بالدولة التي لها هوية محددة بحيث يمكن ان يُحكم نفس الشعب والاقليم من جانب دول مختلفة في اوقات مختلفة؟ الدول لها علامات لهوية متميزة، مثل أسماء وأعلام. لكن الدول هي ايضا تُعرّف من خلال مؤسساتها – ليس فقط المسائل التقنية للتنظيم وتقسيم السلطات وانما الطريقة التي تمثّل بها الدول سكان معينين وتعبّر عن هويات معينة، قيم وأهداف وتوزيع عضوية وحقوق وتمثيل.

من السخف الادّعاء ان ملكية بوربون الفرنسية وجمهورية فرنسا كانتا نفس الدولة

تتوقف الدول عن الوجود من خلال تغييرات هامة كافية في أي من هذه المظاهر الاساسية لهويتها المحددة: الأراضي والسكان الذين تحكمهم، وايضا نظامهم المؤسساتي الاساسي او نوع النظام. المثال الذي نطرحه واضح جدا. أجهزة دولة سيادية معينة ذات أسماء محددة ومؤسسات لم تعد تحكم اراضي معينة، وان اسماء تلك الدول السابقة اُزيحت من الخارطة. في بعض الحالات، كامل الجهاز الاداري السابق جرى تفكيكه واستبداله.

هذا يصعب رؤيته في حالات تغيير النظام عندما لم تتغير جوهريا الارض المحكومة من جانب الدولة. لكن يمكن القول انه، في عدة حالات من الثورات العميقة بما يكفي، من غير المعقول القول ان نفس الدولة تحكم الاقليم والسكان قبل وبعد التحول. انظر في معظم الحالات الواضحة: انجلترا عام 1649، فرنسا عام 1789، الصين عام 1911 ومرة اخرى في عام 1949، روسيا عام 1917 وايران عام 1979. في كل هذه الثورات، بقيت الارض والشعب بدرجة أقل او أكثر هم ذاتهم، بالاضافة الى الاسم الشائع للبلد، على الاقل في زمن الثورة ذاته. لكن تغيير النظام في هذه الحالات النموذجية كان معظمه كليا في مستوى الايديولوجية، الشرعية، الادارة وتنظيم السلطة. يبدو من السخف الاعلان ان ملكية بوربون وجمهورية فرنسا كانتا نفس الدولة. بالتأكيد، لو كان الملكيون طالبوا الاصلاحيين او الثوريين بين 1789-92 الاعتراف بحق الدولة في الوجود، فان ما يقصدونه ليس دولة فوق اراضي فرنسا وانما الملكية بالذات.

الان لننظر في حالتين اخريين: زيمبابوي حوالي 1980 وجنوب افريقيا بين 1993-97. من عام 1965-79، وُجدت روديسيا (مع عدم اعتراف دولي) في نفس الاراضي وبنفس السكان كما زمبابوي منذ 1980. ومع نهاية الكولنيالية وظهور نظام ما بعد الكولنيالية، كانت هناك استمرارية في الاقليم والسكان. لكن هناك تغييرا في الاسم بالاضافة الى مؤسساتها الاساسية والاساس الاخلاقي. ونظرا لعمق هذا التحول، لذا يمكن اعتباره اكبر ادّعاء معقول بان روديسيا لم تعد كدولة، وان روديسيا وزمبابوي ليستا نفس الدولة.

اسم جديد يجعل من السهل رؤية التحول لكن تغيير الاسم هو عرض وليس عامل مقرر حقيقي. بين 1916-93، وُجدت جمهورية جنوب افريقيا (تحت مؤسستين متميزتين) كدولة ذات مواطنين واقليم محدد. بالطبع، هذه كانت عقود من الفصل العنصري. في عام 1993، كجزء من التحول من الفصل العنصري، تبنّت جمهورية جنوب افريقيا دستورا انتقاليا غيّر جوهريا الاساس العرقي للنظام السياسي، متبنيا دستور دائم في عام 1996 على اساس مساواة عرقية.

هل الدولة التي وُجدت في جنوب افريقيا بين 1961-93 لم تعد موجودة مع تبنّي دستور جديد ومساواة عرقية؟ من جهة، كانت هناك استمرارية في الاقليم والسكان والاسم بين 1961-93 وبين 1993 حتى الحاضر. كيان سمي، جمهورية جنوب افريقيا لم يتوقف عن الوجود ابدا. هناك بالتأكيد بعض الاستمرارية في الجهاز الاداري والنظام الاجتماعي. مع ذلك، نعتقد من الخطأ القول ان الدول التي وُجدت بين 1961-93 وبين 1993- حتى الان هي نفس الدولة. بالتأكيد، اذا كان نظام الفصل العنصري عرض اطلاق سراح نيلسون ماندلا من السجن بشرط ان يعترف هو والمؤتمر الوطني الافريقي ANC"بحق جنوب افريقيا بالوجود"، فان المقصود ليس دولة على اقليم جنوب افريقيا وانما النظام القائم.

بكلمة اخرى، هوية دولة معينة تتشكل الى مدى كبير بواسطة نظامها. الدولة تغير وجودها من خلال تغيير عميق وكافي في جوهرها (نظامها). مختلف موجات التحولات الديمقراطية من الفاشية او الانظمة الشيوعية وفق هذه الرؤية انهت الدول السابقة وخلقت دولا جديدة. حتى عندما سميت دول مثل رومانيا، بلغاريا، هنغاريا، او البرتغال هي استمرت بالوجود، وان الدولة المحددة التي تحكم تلك الاقاليم والناس قد تغيرت. اذا كان ما تقدم من امثلة معقولا، فان الدعوة الى عدم وجود دولة ما غالبا ما تكون دعوة الى تغيير النظام وليس الى الإضرار بمجموعة سكانية محددة. في الحقيقة، في الغالب تكون دعوة لتحرير اولئك السكان.

وهكذا فان الدول يمكن ان تختفي في عملية إعادة بناء بدون عمل ضار او إيذاء. دعونا نسمي هذا "تدمير غير ضار لدولة". لكن من الواضح ليس كل تحوّل، تحطيم، حل او اعادة تركيب للدولة هو بلا أذى. ربما، مع الاخذ بالاعتبار كل شيء، استمرار وجود دولة معينة هو أفضل حالة اخلاقية. اذا كان الامر هكذا، هل نستطيع تحديد الظروف التي يصبح بها للدولة الحق في الوجود؟ لكي نجيب على هذا السؤال، علينا اولاً توضيح ماذا نعني بـ "الحق".

احدى النظريات السائدة حول معنى الحق هي، نظرية مصلحة الحقوق the interest theory of rights، جرى عرضها بالتفصيل من جانب الفيلسوف راز Raz. يعرض راز التعريف التالي للحق: "(س) لها حق" فقط عندما يمكنها امتلاك حقوق، وبثبات الاشياء الاخرى، مظهر رفاهية (س) (مصلحتها) هي سبب كافي لإعتبار بعض الاشخاص الاخرين تحت الواجب". هذا يعطينا العناصر المفاهيمية لحديث الحقوق: للتحدث عن الحق، نحن نحتاج لتوضيح: (1) اي طرف نحن على ارتباط به، (2) اي مصلحة لذلك الطرف هي هامة ولماذا هي هامة جدا وذات وزن كبير، (3) اي اطراف اخرى هي في موقع التأثيرعلى تلك المصلحة ايجابا او سلبا، و(4) اي انواع الواجبات التي تخضع لها الاطراف الاخرى. لكن هذه كلها تخلق اسئلة ومشاكل بدلا من التأسيس ببساطة لماهية الحقوق.

ان فكرة امتلاك الدولة لحق الوجود يثير مأزقين اثنين: اولا، هل الدولة شيء يمكن ان تمتلك حقوقا وهل مصلحة الدولة او رفاهيتها هي العامل الملائم أخلاقيا في وجودها؟ ثانيا، والاكثر اهمية، اي الاطراف الاخرى تحديدا يُعتقد انها تحت الواجب للاعتراف بوجودها وماذا يتطلب ذلك الواجب منهم؟

يرى أي شخص عدى الفوضويين، بانه يمكن للدول بوضوح امتلاك حقوق مشتقة من مصالح مواطنيها. اذا كان بامكان الدول امتلاك حقوق مشتقة (فرض الامن، الضرائب، فرض القوانين، الدخول في معاهدات)، فمن المعقول ان تلك الدول بامكانها امتلاك حقوق في الوجود مشتقة من مصالح مواطنيها في هذا الجهاز الاداري الموجود.

من هو المُلزم للاعتراف بحق الوجود لدولة معينة، وفي أي ظروف؟

انظر في الحجة التالية. افراد لهم الحق بخدمات مثل الأمن، الاستقرار الاقتصادي، حكم القانون، حقوق سياسية وانسانية. هذه الحقوق يمكن ضمانها فقط من خلال وكالة سيادية لها سلطة تأمين تلك الخدمات. لذلك، الاشخاص لهم حق العيش في ظل دولة وبالتالي الدولة لها الحق في وجود مشتق من مصالح الاشخاص الخاضعين لها.

انظر في حجة اخرى. أشخاص لهم الحق في العيش في ظل دولة وبالتالي الدولة لها حق في الوجود مشتق من مصالح الاشخاص الخاضعين لها. وكلاء آخرون يتعاملون بشكل غير عادل في حق الاشخاص الذين يعيشون في ظل الدولة عبر محاولة تحطيم الوكالة السيادية التي تضمن لهم خدمات أخلاقية هامة. ولذلك، فان الواجب الاخلاقي للوكلاء الاخرين هو ان لا يحطموا هذه الدولة.

يمكن اعتبار هاتين الحجتين معقولتين تماما. لكن، ما لم تثبته هذه الحجج بعد هو أي الوكلاء الاخرين تقع عليهم واجبات الاعتراف بحق الدولة المبرر على هذه الاسس في الوجود؟ على منْ يقع الالتزام وفي أي ظروف، للاعتراف بحق دولة معينة في الوجود؟

هناك اثنان من الوكلاء من الواضح هما تحت هذا الواجب. اولاً هو الدولة ذاتها، خاصة حكامها او مسؤوليها. اذا كانت الدولة شرعية فقط عندما تضمن الحقوق والخدمات المذكورة اعلاه للشعب الذي تحت حكمها، عندئذ يقع حكام ومسؤولو الدولة تحت التزام عدم انتهاك الحقوق والخدمات لذلك الشعب. ثانيا، هناك دول وقوى اخرى ملزمة بعدم تقويض او الإضرار بالمصالح الاساسية للشعب الذي تحكمه الدولة.

البساطة المخادعة لسؤال حق الدولة في الوجود تتجسد في حقيقة ان الدول باستمرار مهددة من دول اخرى بسبب مصالح تلك الدول. لو تركنا جانبا، على سبيل المثال، اسئلة عميقة حول العلاقات الاوكرانية مع كل مواطنيها، يبدو واضحا ان اوكرانيا لها الحق في الوجود تجاه روسيا، حتى لو كان كيانا مجردا يسمى "دولة اوكرانيا" ليس صاحب الحق النهائي على شعب واراضي حُكمت من جانب تلك الدولة حتى 2014 (عندما جرى ضم جزيرة القرم)، من باب اولى ان الدولة الروسية ليست صاحبة الحق على شعب واراضي اوكرانيا.

مع ذلك، دول اخرى لم تكن فقط وكلاء آخرين تطالبهم الدول بحق الوجود. هي تطالب بهذه الحقوق ضد الاشخاص والسكان. في بعض هذه الحالات، من غير الواضح ان هؤلاء الوكلاء (الاشخاص الاخرون) يفتقدون للمصالح او المواقف للبحث عن حل او تحول راديكالي للدولة، او انهم تحت واجب اخلاقي لإعتراف بحق تلك الدولة في الوجود.

الحجتان أعلاه توضحان المصالح التي يمكن ان تبرر وجود دولة وهما تفترضان دون جدال وجود سكان على اقليم معين لديهم مجموعة مشتركة من المصالح وادارة مشتركة للرغبة في الوكالة السيادية. كلتا الحجتين تجاهلت ثلاثة عناصر هامة.

اولا هما تؤسسان حق للسكان في الدولة، ولكن ليس لدولة معينة ذات ثقافة معينة وهوية اثنية محددة.

ثانيا هما لا تعالجان الكيفية التي يعيش بها سكان معينين في اقاليم محددة في المقام الاول.

اخيرا هما لا تعالجان كيف اصبحت اقاليم محددة منفصلة قانونا عن الاقاليم الاخرى.

يتكون السكان باستمرار كنتيجة لعنف عميق ومتطرف احيانا، ونتيجة لتغيرات ديموغرافية ضمن الاقليم. الدول تتكون تقريبا بواسطة فصل اقليمي عشوائي وعنيف بدون موافقة ديمقراطية من كل السكان الذين ربما لديهم مصالح مشروعة في هذا القرار. المنظرون السياسيون عادة يشيرون الى هذا بـ "مشكلة حدود" او "مشكلة المواطنين demos problem".

الديموقراطيون يريدون ان تُشتق شرعية النظام الدستوري من موافقة الناس الحقيقية او الضمنية او الافتراضية ليُحكموا بطريقة معينة. لكن ترسيم الناس ذاتهم ليس شيئا يمكن ان يتقرر ديمقراطيا.

الامثلة هنا لا تعد ولا تحصى. كيف ان "الناس الديمقراطيون" في الدول الاستعمارية الاستيطانية في امريكا واستراليا لم يبرزوا الاّ من خلال مختلف اشكال العنف وسرقة الاراضي والتطهير العرقي والطرد والاستبعاد او الحجز؟ كيف ان الاكثريات الاثنية في الدول التي أعقبت امبراطوريات متعددة الاعراق لم تتأسس الاّ من خلال تطهير اثني مستمر، استبدال للسكان او استيعاب قسري؟ حتى في السياقات التي لم يكن فيها العنف شديدا او التطهير العرقي سببا مباشرا او نتيجة لتكوين الدولة، كان رسم الحدود وتقسيم الاراضي او تحديدها ينطوي دائما على قرارات تعسفية بالتضمين او الاستبعاد والتي لا يمكن ان تكون ديمقراطية على الاطلاق.

ربما يجيب احد بانه اذا لم تتأسس اي دولة تقريبا في لحظات من الموافقة الكاملة غير العنيفة من قبل سكان لا يتضمنون اي اقصاءات عميقة او ضم قسري على ارض واضحة لا تتنازع عليها اي جماعة اخرى(لنسمي هذا معيار ايسلندا)، فان اي دولة تقريبا لا تكون شرعية تماما وبالتالي لا توجد دولة غير شرعية بشكل متميز. لكن ذلك سيكون غير معقول ورافض للحقوق المتأصلة للافراد في العدالة. انه اكثر معقولية القول بان كل الدول هي مشاريع دائمة لتأسيس شرعية تتجه بها نحو شيء ما مثل العدالة وقبول صالح وملائم.

قانون التقادم في العدالة التاريخية من غير المحتمل ان يكون غامضا وغير محدد

اذا كانت كل الدول تقريبا تشكلت من خلال لاعدالة تاريخية، فان حق الدولة في الوجود هو نسبي قياسا بمطالبات العدالة ضدها. لا وجود لجواب واحد لكيف يجب اصلاح اللاعدالة التاريخية. احيانا التقسيم، الانفصال او تكوين حدود جديدة هو الجواب المعقول ديمقراطيا والاقل ضررا. احيانا، الاستعادة او نقل السيادة على الارض ومواردها. احيانا، حق الناس النازحين للعودة لأماكنهم الاصلية. او، في ارساء الديمقراطية او تغيير النظام ضمن دولة معينة. بعض هذه الاجوبة ستتطلب انهاء الدول الموجودة او إعادة تشكيلها، والبعض سوف يتطلب اصلاحات قائمة على العدالة ضمن الحدود الاقليمية والدستورية للدولة القائمة.

يجب ملاحظة ان هناك اسئلة فلسفية معقدة مطروحة لايمكن حلها كليا هنا. احد هذه الاسئلة خصيصا: مشكلة الغموض المنتشرة في كل مكان. الغموض عادة يشير الى مشكلة تحديد شيء ما كما في شيء (ليس كومة من الرمل) يتحول الى شيء آخر (كومة من الرمل) عندما لا يحدد تغيير منفرد (اضافة حبة منفردة) بوضوح هذا التحول. الغموض يلف مشكلتين ضمن النقاش الحالي.

اولا، نحن ربما نقول ان بعض اللاعدالات التاريخية هي حية وبارزة لكن البعض منها بعيد جدا في الماضي بحيث أي محاولة لعكسها يستدعي فقط لاعدالة جديدة اكبر. لكن التقادم في العدالة التاريخية يبدو غامض وغير محدد. ميراث عبودية شمال امريكا هي بالتأكيد لاتزال بارزة، لكن ماذا عن فتح القسطنطينية او طرد المسلمين واليهود من الاندلس؟

ثانيا، هناك ايضا غموض معين في تحديد متى التغيير الداخلي في نظام الدولة يشكل نهاية محددة لدولة وظهور اخرى. بعض التغيرات الدستورية عميقة جدا تكفي للقيام بهذا، لكن ليس دائما، وربما غير ممكن القول بالضبط أي التغيرات تؤدي الى هذا التحول الانطولوجي من دولة الى اخرى. لكن هذا لن يؤثر على الادّعاء بان الدول لم تتمتع ابدا بحقوق كاملة ودائمة في الوجود في شكلها الحالي بحيث يخلق واجبات القبول او الاعتراف لدى جميع الشعوب المتأثرة بها.

طالما معظم الدول تأسست بشكل من العنف، الاستبعاد، الطرد او اللاعدالة، فمن الاخلاقي عدم تماسك القول ان الافراد او السكان هم بالتالي خاضعين لواجب الاعتراف في شرعية حدث تاريخي. في الحد الادنى، المدافعون عن الدولة سيتعين عليهم اثبات حدوث تعويض لتلك اللاعدالة التاريخية او ان الحفاظ على الوضع الراهن هو من غير المحتمل ان ينتج فضائعا او لاعدالة اخرى.

القوة البلاغية لطلب الاعتراف بحق الدولة في الوجود هو ان هذه الدول تتوقف عن الوجود فقط عندما يتحطم الجزء الاكبر من سكانها او كلهم. لكن هذا زائف. الدول يمكن ان تتوقف عن الوجود عبر اندماجها بدولة اخرى، او تقسيمها الى دول اصغر، او بتغيير هائل وهام في النظام بحيث يحوّل جوهر الدولة. كل هذه العمليات يمكن ان تحدث بدرجة اكبر او اقل من العنف.

ذلك لا يعني عدم حدوث ظلم اذا توقفت الدولة عن الوجود بدون خسارة هامة في حياة السكان. الدولة يمكن التغلب عليها بسرعة من دول اجنبية بخسارة قليلة نسبيا في الحياة ولكن مع ضرر كبير في الحقوق الانسانية والسياسية والمدنية للشعب المنتصر. الانظمة التي تفتقر الى الشرعية يمكن الاطاحة بها عبر الثورات التي تستمر لاحقا في ايذاء وظلم الشعب الذي تحكمه بحجم اكبر من النظام السابق اللاشرعي. الناس يمكن ان يتعرضوا للظلم والايذاء بخسارة دولتهم ذاتها وبأذى مصالح الاخرين.

لكن الناس يمكن ان يتعرضوا للاذى بدون ظلم. يمكن ان يصيبهم الاذى والظلم مع تبرير تلك الاضرار والاخطاء، كل الاشياء تؤخذ بنظر الاعتبار. مالكو العبيد والنخب الاخرى في الكونفدرالية اصيبوا بالاذى بواسطة اعادة البناء لكنهم لم يُظلموا. الالمان الذين طُردوا من تشيكوسلفاكيا بعد الحرب العالمية الثانية تعرضوا للاذى والظلم لكن هذا ظلم جرى تبريره، بالنظر لميراث الاحتلال النازي.

ليس كل حالات تحطيم الدولة هي غير مؤذية وغير ظالمة او تحسين أخلاقي

المسألة الاساسية هي الاستمرار في التأكيد على حقيقة ان تغيرات عميقة كافية في نظام الدولة الحاكم والايديولوجية يمكن ان يشكل نهاية دولة وبداية دولة اخرى. في حالة الدول التي تحكم شعب ذو اهمية بدون منحه حقوق سياسية ومدنية متساوية، او شعب يتمتع باكثرية ديموغرافية بسبب التطهير العرقي او التقسيم، فان تصحيح تلك اللاعدالة التاريخية قد يؤدي الى خلق دول جديدة. مع ذلك، هذا لا ينبغي ان يتضمن أي فضائع ضد السكان المحليين. مرة اخرى، الحالة النموذجية في جنوب افريقيا شهدت تغييراً عميقا في النظام بدون فضائع واسعة. لهذا من الصحيح أخلاقيا إنكار امكانية ان يكون للدولة حق الوجود دون تحطيم الشعب الذي يعيش ضمن تلك الدولة.

بالطبع، ليس كل حالات تحطيم الدولة هي بلا أذى وبلا ظلم او تحسين أخلاقي. تحطيم الدولة يمكن ان يقود الى العديد من الفظائع الكبيرة او كوارث انسانية اخرى. في الوقت الحالي، العالم يستيقظ على انهيار نظام الاسد في سوريا، بينما اسئلة كبيرة عديدة تبقى حول ما ينتظر هذا البلد المعذب وذو المعاناة الطويلة من حكامه الجدد.

ان تصحيح الأخطاء التاريخية او اللاعدالة السياسية يجب موازنتها مع كلفتها الانسانية والمسؤولية عن خلق المستقبل. هذه كما يرى البعض أفضل طريقة في الحديث عن حق الدولة في الوجود. بمعنى "ان المخاطر الانسانية المترتبة على تصحيح الظلم التاريخي واستعادة حقوق منْ انتُزعت منهم اراضيهم بشكل غير شرعي هي كبيرة جدا. العدالة لايمكن تحقيقها الاّ بتكلفة انسانية عالية، ربما لكلا النوعين من السكان".

***

حاتم حميد محسن

....................

الهوامش

(1) Andrew F March بروفيسور العلوم السياسية في جامعة ماساتشوستس في الولايات المتحدة. هو مؤلف الاسلام والمواطنة الليبرالية (2009)، خلافة الانسان (2019) وحول الديمقراطية المسلمة (2023) بالاشتراك مع رشيد الغنوشي.

 

(الخيال يُقلد، والروح النقدية تُبدع).. أوسكار وايلد

يُمثل الفكر النقدي ركيزة أساسية في الفلسفة، حيث يركز على تحليل الأفكار، المعتقدات، والحجج بشكل منهجي وعقلاني للوصول إلى استنتاجات مدروسة. يتجاوز الفكر النقدي مجرد التفكير التحليلي، إذ يهدف إلى تقييم الحجج، كشف التحيزات، وتعزيز التساؤل المستمر عن الحقيقة والمعرفة. في الحقبة المعاصرة، مع تزايد التضليل الإعلامي، تعقيدات التكنولوجيا، والتحديات الأخلاقية والاجتماعية، أصبح الفكر النقدي أداة حيوية في طموحات الفلسفة لتشكيل وعي جماعي عادل ومستنير. يهدف هذا المبحث إلى استكشاف الفكر النقدي كمنهج فلسفي طامح، من خلال مناقشة أسسه النظرية، تطوره التاريخي، ودوره في مواجهة التحديات المعاصرة، مع التركيز على كيفية إسهامه في تعزيز الفهم والمسؤولية الفكرية.

الأسس الفلسفية للفكر النقدي

يستند الفكر النقدي إلى مبادئ العقلانية، المنطق، والتساؤل المنهجي. أحد المفاهيم الأساسية هو "التحليل المنطقي"، الذي يركز على تقييم الحجج بناءً على قوتها المنطقية وصحة مقدماتها. قدم أرسطو (384-322 ق.م) أسس المنطق الصوري من خلال كتابه الأورجانون، الذي وضع قواعد الاستدلال السليم. في العصر الحديث، طوّر فلاسفة مثل جون ديوي (1859-1952) مفهوم "التفكير التأملي"، الذي يركز على التساؤل المستمر وحل المشكلات بناءً على التحليل والتجربة.

مفهوم آخر مهم هو "النقد الذاتي"، الذي يدعو إلى التشكيك في المعتقدات الشخصية والافتراضات. يرى عمانويل كانط (1724-1804) أن الفكر النقدي يتطلب "الجرأة على المعرفة"، أي استخدام العقل بشكل مستقل لتحدي الأفكار المسبقة. كذلك، يركز الفكر النقدي على كشف التحيزات المعرفية، مثل التحيز التأكيدي، الذي يدفع الأفراد إلى قبول المعلومات التي تتماشى مع معتقداتهم السابقة فقط.

التطور التاريخي للفكر النقدي

تجذر الفكر النقدي في التقاليد الفلسفية القديمة. في اليونان القديمة، استخدم سقراط (470-399 ق.م) منهج التساؤل النقدي، حيث كان يحث المتحاورين على فحص معتقداتهم من خلال أسئلة متسلسلة تهدف إلى كشف التناقضات. في العصور الوسطى، ركز فلاسفة مثل توما الأكويني (1225-1274) على التوفيق بين العقل والإيمان، مما أسهم في تطوير التفكير النقدي في سياقات دينية. مع عصر التنوير، أصبح الفكر النقدي أداة مركزية لتحدي السلطات التقليدية. قدم كانط في كتابه نقد العقل الخالص إطارًا لفحص حدود المعرفة البشرية، مؤكدًا على أهمية التفكير النقدي في بناء المعرفة. في القرن العشرين، طورت مدرسة فرانكفورت، بقيادة ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو، النظرية النقدية التي ركزت على نقد الأيديولوجيا والسلطة، مما وسّع نطاق الفكر النقدي ليشمل الهياكل الاجتماعية. في العقود الأخيرة، أسهمت التطورات في التعليم وعلم النفس في تعميق الفكر النقدي. فلاسفة مثل ريتشار بول وجون ديوي ركزوا على تطبيق الفكر النقدي في التعليم، مشيرين إلى أهميته في تعزيز التفكير المستقل والديمقراطية.

الفكر النقدي والتحديات المعاصرة

في الحقبة المعاصرة، يواجه الفكر النقدي تحديات ناتجة عن التضليل الإعلامي، التكنولوجيا الرقمية، والتعقيدات الاجتماعية. أحد التحديات الرئيسية هو التضليل الإعلامي في الفضاء الرقمي. مع انتشار الأخبار المزيفة على منصات التواصل الاجتماعي، يصبح الفكر النقدي أداة ضرورية لتقييم مصداقية المعلومات. يقترح فلاسفة مثل لوسيانو فلوريدي استخدام أخلاقيات المعلومات لتعزيز التفكير النقدي في الفضاء الرقمي. في سياق الذكاء الاصطناعي، يواجه الفكر النقدي تحديات تتعلق بتقييم القرارات التي تتخذها الآلات. على سبيل المثال، كيف يمكن للأفراد تقييم مخرجات الذكاء الاصطناعي إذا كانت تعتمد على خوارزميات غير شفافة؟ يرى فلاسفة مثل نيك بوستروم أن الفكر النقدي ضروري لفهم المخاطر الوجودية الناتجة عن الذكاء الاصطناعي المتقدم. في السياق الاجتماعي، يساهم الفكر النقدي في مواجهة التحيزات الاجتماعية والثقافية. على سبيل المثال، تستخدم النظرية النقدية للعرق أدوات الفكر النقدي لتحليل التمييز العرقي والهياكل الاجتماعية، كما في أعمال كيمبرلي كرينشو حول التقاطعية.

الفكر النقدي وطموحات الفكر الفلسفي

يسهم الفكر النقدي في تحقيق طموحات الفلسفة من خلال تقديم أدوات لتحليل الأفكار وتعزيز المسؤولية الفكرية. بتفاعله مع الإبستمولوجيا (في تقييم المعرفة)، الإيتيقا (في تحليل القرارات الأخلاقية)، والفكر الاجتماعي النقدي (في نقد البنى الاجتماعية)، يقدم هذا الفكر إطارًا مرنًا لمعالجة التحديات المعاصرة. على سبيل المثال، يساعد في تطوير أخلاقيات المعلومات من خلال تقييم مصداقية البيانات، وفي التعليم من خلال تعزيز التفكير المستقل. علاوة على ذلك، يتحدى الفكر النقدي الفلسفة لتكون أكثر ارتباطًا بالواقع المعيش، سواء من خلال مواجهة التضليل الإعلامي أو تعزيز الحوار الديمقراطي. إنه دعوة للتفكير في الفلسفة كممارسة حية تهدف إلى تمكين الأفراد من اتخاذ قرارات مستنيرة في عالم معقد.

خاتمة

يظل الفكر النقدي ركيزة أساسية في الفلسفة المعاصرة، حيث يقدم أدوات لتحليل الأفكار ومواجهة التحديات الفكرية والاجتماعية. من سقراط إلى كانط وهوركهايمر، تطور هذا الفكر ليواجه تحديات العصر، من التضليل الإعلامي إلى الذكاء الاصطناعي والعدالة الاجتماعية. من خلال هذا المبحث، نرى أن الفكر النقدي ليس مجرد أداة تحليلية، بل هو منهج إبداعي يسهم في طموحات الفلسفة، موجهًا إياها نحو بناء وعي جماعي مستنير وعادل. فكيف يمكن ممارسة التفكير النقدي في الفلسفة بطريقة مفيدة للإنسانية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

ما من شكّ أنّ قضية "التراث والمعاصَرة" أو "التراث والحداثة"، أو ما يرد بمسمّيات رديفة أو شبيهة، هي من القضايا الدورية، المطروحة في الفكر العربي. والتطرّق إليها بالحديث قد يغري بموالاة هذا الطرف أو ذاك، والأمر كذلك مدعاة إلى حنين مفرط أو إلى توتّر مزعج. ولذلك لا نتعاطى غالبا مع هذه الثنائية باعتدال ورويّة، ولا نتمالك أنفسنا جراء حاضر ضاغط وآتٍ داهم. ومن ثَمّ تُعَدّ تلك الثنائية -التراث والمعاصرة- من أكثر الثنائيات إحراجًا بين العرب، محافظين وحداثيين، على مدى القرن الفائت وإلى الحاضر الحالي، دون حسم واضح بشأنها.

ولو شئنا تعريفا جامعا مانعا لتلك البؤرة الإشكالية لتعدّدت بنا السّبل، مع أن التراث يظلّ "من المعلوم من المعارف والصنائع والمنجزات". ومع ذلك فالإشكال ليس في التعريفات، لأنها قد تتحول إلى نقيض ما نصبو إليه، وليس في رسم الحدود لهذا التراث، وليس في تعداد مجالاته وبيان حقوله، بل في المنهج السويّ الذي نعي به هذا التراث، ونقصد به تحديدا "التراث والوعي التاريخي". حتى لا نتحول بِدورِنا إلى كائنات تراثية، غير واعية بما تستهلك وغير مدركة لما تريد.

ذلك أنّ الوعي التاريخي بالتراث هو عملية جدلية مركّبة، تتروّى في الماضي، وتتملّى في الراهن، وتتشوّف نحو المستقبل. وأن اختلال التوازن بين هذه العناصر الثلاثة، أو تغليب عنصر على غيره، من شأنه أن يُدخل ارتباكا على عملية الانتفاع بهذا الموروث. فالوعي التاريخي المفترض أن يرافق التراث، هو تلك العملية الذهنية التي تستلهم الماضي، وتتفهّم الحاضر، وتقود السير نحو المستقبل. وهو تلك القدرة على الوعي بالأصول التي يتجذّر فيها واقعنا من أجل خلقِ فعل حضاري، لتضعنا العملية برمّتها أمام تعامل سويّ. وبالتالي فإنّ التراث هو ذاكرة الكيان الجمعي الواعي بحضوره في التاريخ، وأنّ هذا الرصيد كلّما انفصل عن الجماعة وغدا منجزا مستقلا بذاته، أو بات استهلاكا عرضيا يخضع للمناسبات والمواعيد، كلّما غرق في عملية التشييء والمتْحَفَة، وهو أخطر ما يتهدّد التراث.

فلا غرو أنّ قضية التراث والوعي التاريخي تضعنا مباشرة أمام سؤال المنهج. والإشكال لدينا أننا كلّما تمعنّا ماضينا إلا وأُصبنا بالدهشة وغفلنا عن حاضرنا، ولربما تملّكنا ذلك الإحساس المرير أن "مستقبلنا قد بات وراءنا في ماضينا" لما يعوزنا من تعامل رصين ونظر سديد. فنحن مقدِّسون للماضي بإطناب أو مدنِّسون له بإجحاف. والتراث على ثرائه، مثقَل بالمعقول واللامعقول على حد سواء، وقلّة من تستطيع فرز السلبي عن الإيجابي منه، إذ نحن لا نتعلّم منهج التعامل مع التراث وإنما تقليد إجلال التراث أو ازدراء التراث.

ومن صائب القول أن نجلّ تراثنا، وأن نعليَ من شأنه، وأن نفاخر به، ولكن ليس من الصواب أن يتحوّل المرء إلى كائن فاقد لقدراته العقلية والذهنية أمام التراث. ويذكرني تعامل كثيرين مع التراث بتعامل المأسور النفسي مع الماضي، فهو يستحضر مآسيه فيغضب ويستدعي مسرّاته فيطرب، دون وعي باللحظة التي هو فيها، فالزمن متجمّد لديه ومفتقد لأبعاده.

ففي الجوهر يعبّر التراث عن خبرة ومعرفة وثقافة، تراكمت عبر أجيال وعلى مدى عهود لدى جماعات بشرية، جمعت بينها عوامل تاريخية وربطتها أواصر اجتماعية، وشملتها أطر سياسية وحضارية جامعة. وهو خلاصة مراحل وتجارب مغرقة في القدم، وليس منجَزا أو تواضُعا على نواميس أو أعراف أو قواعد صيغت على عجل. ولو تروّينا في الأمر نلحظ أنّ التراث بأشكاله وأنواعه هو مادة محايدة، لا يتحرّك من ذاته وإنما يحرّكه الناس، ولا ينطق من ذاته وإنما ينطق به الناس، ولذلك، الإشكال المطروح أمامنا وهو كيف نتعاطى مع هذه المادة؟ وكيف نعي استثمارها مجدّدا؟ وضمن أي شرط تاريخي، هل وفق المأسور نفسيا، أم المقهور حضاريا، أم الواعي بها تاريخيا؟

وأولى شروط التعامل الصائب مع التراث وهو أن نعي أنّنا نحن وتراثنا لسنا مركز العالم، فقد تزعزعت المركزيات واهتزّت، منذ اكتشاف قانون النسبية. وأقوى الحضارات وأعتاها، في الراهن، مدرِكة كيف تتعامل مع هذه المعادلة، لأنها تعرف كيف تتعامل مع ماضيها ومع ماضي العالم برويّة، ومن ثَمّ كيف ترتّب حاضرها وتؤمّن مستقبلها. ترى الحضارة الغربية السائدة اليوم -في أبعادها المعرفية والعلمية- لم تَسُدْ لأنها أهملت الحضارات الأخرى أو حقّرت من شأنها، وإنما لأنها أدركت ما فيها من نفع وما فيها من إسهام. وأقسام الدراسات الشرقية والجنوبية، واللغات الميتة والحية، هي الأوفر حضورا في جامعاتها ومراكز أبحاثها.

والملاحظ أنّ بلِيّتين أصيب بهما التراث لدينا، التسييس المفرط والتقديس المجحف. والإشكال الذي أَلمّ بالعرب أثناء تعامل مفكّريهم وكتّابهم وباحثيهم مع التراث وهو الأدلجة والتوظيف. وما تعدّدُ مناهج التعامل مع التراث: اليسارية، واليمينية، والليبرالية، والماركسية، والعلمانية، والإسلاموية، والسلفية، واليسارية الإسلامية، واليمينية الإسلامية، سوى دليل على حمّى التسييس، وقلّ منها من اعتمد المناهج العلمية والرؤى العقلية الصرفة في قراءة التراث. بإيجاز بات التراث ساحة تصفية حسابات محمومة لتيارات سياسية، نقلت صراعاتها من الساحة السياسية إلى الساحة التراثية.

وكذلك من شروط التعامل الصائب مع التراث، وبحسب مختلف تفرّعاته، وهو الإلمام المعرفي والتاريخي والبنيوي بذلك القسم من التراث الذي يشتغل عليه الباحث والدارس. وهو العنصر الذي لم يُراعَ مع كثير من المشتغلين بالتراث من أكاديميين وهواة ومتطفّلين، وهو ما أوقعنا في فوضى التعامل مع التراث وفي الأحكام المغرضة والتعميم. فكيف لمن ليست له دراية بالفلسفة، أن يتطرّق إلى التراث الفلسفي ويفصّل القول فيه؟ وكيف لمن ليست له دراية بالملل والنحل والفرق والأديان أن يتحدث عن تراث الأديان؟ وقسْ على ذلك مختلف المعارف والتفرعات التي يطفح بها تراثنا. انظر إلى الأعلام والشخصيات المعرفية في تراثنا: ابن هشام، الطبري، الغزالي، ابن رشد، ابن حزم، ابن تيمية، ابن منظور، ابن بطوطة وغيرهم كثير، كيف حولناهم إلى تابوهات، حتى تشكلت لدينا حقول معرفية مسيّجة بالرهبة.

وبالإضافة إلى ذلك، نتعامل مع ما أنجزه الغربيون بشأن تحقيق التراث وقراءته وإحيائه بحساسية مفرطة، وأحيانا بأحكام مغرضة. فتارة نهوّن من أعمال هؤلاء وأخرى نجلّ أعمالهم، والصواب أن نقيّم، ونراجع، ونتثبّت، وأن نصحّح الأمور إن لزم الأمر. سمعت مرة جامعيا عربيا يصدح بالقول بانتهاء الاستشراق مع أنه لا يقرأ بألسنة الغرب، ولم يتابع ما أنجزه مفكروه وباحثوه بخصوص حضارتنا حتى في ما تُرجم منه، وإن كان نزرًا قليلا مما بلغنا عن الغرب. كنت أستحي من هذه المكابَرة التي لا تليق بالباحث الجامعي.

فحين يهرع المرء إلى التراث كلّما داهمته مشكلة معرفية، ويعلّق آماله على الفوز بمبتغاه فيه، فهو إنسان واهم، لأن التراث ليس خزّان حلول، بل هو مخبر تجارب، ينبغي قراءتها بعين فاحصة وإلا فقَدَ الإنسان حسّه بالزمن وارتباطه بالواقع. فما معنى أن يتحوّل المرء إلى كائن تراثي ويغفل عن متطلبات واقعه؟ وما معنى أن يعطّل مداركه ويستنجد بماضيه؟ ينبغي أن نسأل دائما: إلى أي مدى يوفّق الاستنجاد بالماضي في رفع تحديات الحاضر وتأمين حاجات المستقبل؟ ومن ثَمّ يهدف الوعي التاريخي بالتراث إلى عقلنة الوعي بالتراث والخروج به من حالات التعامل السقيم.

***

د. عزالدّين عناية

أستاذ تونسي بجامعة روما، إيطاليا

 

تأملات فلسفية في إشكالية استغلال النفوذ

منذ ظهور الفلسفة السياسية في الفكر الإنساني، شكّلت مسألة السلطة وشرعيتها وأخلاقياتها حجر الزاوية في تنظير العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والفرد والدولة، والإنسان والمؤسسة. وبينما تُعدّ السلطة ضرورية لتنظيم الحياة الجماعية، فإنها سرعان ما تتحول إلى أداة للإكراه والهيمنة عندما تتحرر من قيودها العقلانية والأخلاقية. إنها، في جوهرها تجربة مزدوجة: فهي تحمل في طياتها وعدًا بالنظام، لكنها تُخفي خطر الاستبداد.

وقد تبادر في أذهاننا عدة تساؤلات فلسفية وهي: ما الذي يُسبب انحراف السلطة عن مسارها الطبيعي؟ لماذا يميل البشر، بمجرد توليهم السلطة، إلى استغلالها؟ كيف فسّر الفلاسفة هذه المعضلة؟ ما الآليات التي اقترحوها للسيطرة على السلطة ومنع انحرافها؟

اقترح أفلاطون، في "الجمهورية"، نموذج "الملك الفيلسوف"، مُجادلًا بأن من يمتلك الحكمة وحدهم مؤهلون لتولي السلطة. ومع ذلك، لم يُغفل أفلاطون إدراك خطورة السلطة عندما تُمنح لمن لا يستحقها. كان يعتقد أن الانحراف السياسي يبدأ عندما تترسخ "ديمقراطية منحطّة"، أي عندما تثور الجماهير بلا حكمة وتسلم السلطة لطغاة متخفّين في زيّ الشعبويين. يقول: "الديمقراطية تُولّد الاستبداد كما تلد الأم أبناءها" (الجمهورية، الكتاب الثامن).

يعتقد أن الجهل والشهوة هما أساس كل انحراف استبدادي. فالسلطة ليست قيمة بحد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق العدالة. فإذا أصبحت غاية، سقطت في هاوية الاستغلال.

واصل أرسطو هذا النهج الفكري، ولكن بتصنيف واقعي ودقيق لأنظمة الحكم، بين ما هو شرعي (الملكية، الأرستقراطية، الجمهورية) وما هو فاسد (الطغيان، الأوليغارشية، الغوغائية). يقول: "الحاكم العادل لا يحكم لمصلحته الخاصة، بل لمصلحة المدينة" (السياسة، الكتاب الثالث). وهكذا، فإن السلطة التي تتحول إلى سلطة فردية بلا فضيلة تُصبح استغلالًا منظمًا للشعب، أي تركيزًا للمصلحة وتحويلًا للعامة إلى أدوات.

في لحظة انهيار أخلاقي سياسي، يُقدم لنا نيكولو مكيافيلي رؤية صادمة للواقعية السياسية. في كتابه "الأمير"، لم يعد السؤال: كيف نحكم بعدل؟ بل: كيف نحكم بنجاح؟ بالنسبة له، السلطة ليست أداة أخلاقية، بل غريزة للبقاء والاكتساب. وقد فسّر ذلك بقوله: "من الأفضل أن نخاف الحاكم من أن نحبه، إذا لم يستطع الجمع بينهما". مهّد هذا القول التأسيسي لمنطق "الغاية تبرر الوسيلة" الطريق لفكرة أن استغلال النفوذ، طالما أنه يضمن استقرار الحكومة، ليس أمرًا مستهجنًا بطبيعته. وقد أصبح هذا النمط من التفكير السياسي مرجعًا غير معلن للعديد من الأنظمة الاستبدادية الحديثة.

من ناحية أخرى، قدّم توماس هوبز رؤيةً متشائمة للطبيعة البشرية، حيث تُحرّك الغريزة والتملك والصراع البشر. برر هذا وجود السلطة المطلقة، مُخوّلاً الدولة ("الليفياثان") السيطرة على الفوضى، حتى لو لزم الأمر بالقوة. لكنه يقول: "إذا مُنحت السلطة دون نقاش، فإنها تتحول من حماية إلى عبودية" (ليفياثان).

مع ذلك، يختلف جون لوك عنه اختلافًا جوهريًا، إذ يعتقد أن السلطة تنبع من إرادة الشعب، وتُمنح بشرط استخدامها لخدمة الحياة والحرية والملكية. وإذا استُغلت ضد هذه الأهداف، يحق للمواطنين عزل الحاكم. "ليس المحكومون من يخرق العقد، بل الطاغية" (مقالان في الحكومة المدنية).

هنا نجد جان جاك روسو أكثر تطرفًا في نقده للسلطة المنحرفة. فوفقًا له، لا تقبل السيادة التمثيل. فكل من يحكم باسم الشعب دون مشاركته المباشرة يُزيّف الإرادة العامة. وهكذا، فإن إساءة استخدام النفوذ لا تكمن في الأفعال فحسب، بل في بنية السلطة ذاتها التي تجرد المواطن من الشرعية.

وهكذا نرى حل مونتسكيو الهيكلي للمشكلة: فصل السلطات. فعندما تتركز السلطة في يد واحدة، فإنها تُغري بالاستغلال. أما عندما تُقسم، فإن أحد أجزاء الدولة يراقب الآخر. يقول: "لكي لا تُساء استخدام السلطة، فإن السلطة مُلزمة بسلطة أخرى" (روح القوانين، الكتاب الحادي عشر). وبذلك، يُوفر الإطار المؤسسي لتجنب الاستغلال، وليس مجرد دعوة أخلاقية.

أما ميشيل فوكو، فنراه يرفض النظرة إلى السلطة على أنها شيء يُمتلك أو يُغتصب. فهو بالنسبة له "شبكة خفية" موزعة داخل المجتمع، في المؤسسات والتعليم واللغة وحتى الطب. لذلك، يعتقد أن استغلال النفوذ لا يحدث فقط من الأعلى إلى الأسفل، بل أيضًا من خلال تطبيع السلوك وتشكيل الأجساد والعقول وفقًا لنماذج التحكم. يقول: "نحمل السلطة في أجسادنا، كما يحمل السجين سجنه في داخله" (الانضباط والعقاب). ووفقًا لرأيه، لا تُمارس السلطة بالقمع فحسب، بل أيضًا من خلال المعرفة والمراقبة والتصنيف.

وقد حذّر غوستاف لوبون من قابلية الجماهير النفسية للاستغلال من قِبل القادة المتلاعبين، حيث تذوب الإرادة الفردية في اللاوعي الجماعي. تُمهّد هذه الفكرة الطريق لفهم كيفية صعود الطغاة من خلال أدوات التأثير العاطفي. "الجماهير لا تفكر، بل تشعر" (سيكولوجية الجماهير)

أما حنة أرندت، فقد حللّت تجربة السلطة الشمولية، حيث يتحول الاستغلال إلى بنية شاملة تقمع حرية الفكر. وجادلت بأن الشر، في ظل الأنظمة الاستبدادية، لا يأتي من الساديين، بل من الناس "العاديين" الذين أفرغهم النظام من إنسانيتهم. وجادلت قائلةً: "الشر ليس دائمًا شيطانيًا؛ أحيانًا يكون مجرد ابتذال بيروقراطي" (ابتذال الشر).

 في الختام، نجد أن إساءة استخدام السلطة، من منظور فلسفي، لا تنشأ فقط من خلل في الفرد، بل أيضًا من خلل في البنية والثقافة، ومن نقص الوعي والمساءلة. وقد حاول الفلاسفة، كلٌّ من منظوره الخاص، الحد من السلطة إما من خلال الأخلاق (أفلاطون، أرسطو)، أو العقد الاجتماعي (لوك، روسو)، أو المؤسسات (مونتسكيو)، أو من خلال كشف خطابها الخفي (فوكو). تكشف كل هذه التأملات أن السلطة ليست مجرد أداة، بل هي تجربة وجودية وأخلاقية تتطلب سيطرة ذاتية ومؤسسية وجماعية مستمرة. إذا لم تُروَّض هذه الطاقة، فإنها تبتلع كل شيء، حتى الفرد نفسه.

***

الدكتور إبراهيم أحمد شعير الجميلي/ كركوك - العراق

في كتابه (دماغ البوذي المتنور: البوذية الطبيعية) يستطلع المؤلف أوين فلاناغان Owen Flanagan(1) ما اذا كان بالإمكان التوفيق بين التقاليد الروحية الكبرى و رؤية عالمية علمية شاملة. في رفضها لما فوق الطبيعة، يعرض الكاتب نسخة للبوذية تبقى هامة أخلاقيا وثرية وجوديا في حفاظها على التوافق الكامل مع العلم والفلسفة المعاصرين. في ما يأتي من مقتطفات، يفحص الكاتب كيف تختلف البوذية بشكل حاد عن التقاليد الايمانية عبر إنكارها وجود إله خالق وروح خالدة. اعتماداً على مفاهيم ميتافيزيقية مثل نشأة معتمدة و anatman (لا روح) هو يجادل بان هذه المعتقدات ليست فقط أوجدت معنى داخلي ضمن البوذية بل اصبح لها صدى يتردد في الفهم العلمي الحديث للوعي والكون.

نشأت البوذية عام 500 ق.م عندما أعلن سيدهارتا او بوذا خطابه الافتتاحي في احدى الحدائق العامة قرب ضواحي بنارس في الهند (حاليا تسمى فاراناس). اعتمادا على الكيفية التي يفهم بها المرء vedic او التقليد الروحي الهندي في ذلك الوقت، كانت البوذية اما قطيعة كاملة مع تلك التقاليد او تطوير لها (2). البوذية ترفض نظاما طبقيا على اسس أخلاقية.

الشيء الأكثر اثارة للاهتمام لاولئك الذين يعتقدون ان الدين يتطلب الايمان بالالوهية، هو ان البوذية ترفض كل من فكرة الاله الخالق والروح الثابتة غير القابلة للتدمير،على اسس منطقية وتجريبية.

البوذية التقليدية مليئة بالأشباح والارواح والشياطين والالهة وعوالم للجنة والجحيم واعادة ميلاد طبقا لقوانين الكارما التي تحكم الكون. وحتى لو كان العلمانيون المعاصرون في الغرب يرون البوذية منسجمة مع فلسفة التنوير، فان العديد من البوذيين الاسيويين خاصة التيبيت، لايرون ذلك.

البوذية ترفض التصور الهندي المقدس القديم السائد للبراهمان كمحرك اساسي،وهي ترفض ايضا فكرة ان كل فرد ينطوي في داخله على روح غير متغيرة. وفي ما عدى هذا، جرى الاحتفاظ بالعديد من الافكار الهندية المألوفة وتطويرها في البوذية – رغم ان ذلك تم فقط مؤخرا وفي أماكن معينة. هذا الميراث يتضمن الأهمية العميقة للتمييز بين المظهر والواقع، فكرة مكافأة السلوك الفاضل (كارما)، وفكرة المعاناة (دوكها) تحدّد مأزق الانسان (سامسارا) وان التحرير ممكن (نيرفانا) من خلال التنوير (panna) والفضيلة بالاضافة الى أفكار التناسخ او إعادة المولد.

نركز الان على اثنتين من العقائد الميتافيزيقية التي ترفضها البوذية: الله الخالق وفكرة الروح. اولاً، البوذية تفهم بعمق المشاكل المألوفة في حجة التصميم الكونية المتعلقة بوجود الله. هذه الحجج تطرح سؤالا عن أصل الخالق او المصمم. لكي نقول كان هناك محركا اساسيا دائما او خالق ذاتي ومستمر ذاتيا ذلك يعني القبول بتراجع لا نهائي للسبب infinite regress. اذا كان الله دائما هناك ويجب ان يكون هناك، عندئذ فان الله نفسه يتراجع الى ما لانهاية.

عندما يستمع الدالاي لاما لقصة الانفجار العظيم بغ بانغ قبل 14 مليار سنة، هو يقول حسنا"لكنه بالطبع ليس بغ بانغ الاول". هذا الجواب ليس رفضا لنظرية الانفجار العظيم. يرى الدايلاما ان نظرية الانفجار العظيم ذاتها غير كافية لأنها ليست سببا عميقا كافيا. بعض العلماء ذاتهم الان يتساءلون عما اذا كانت هناك قصة أفضل لا تتطلب انفجارا أصليا منفردا بل هو اقل من أصل هذا الكون بحيث يتضمن ثقبا مفتوحا من كون مواز آخر، مع هذه الأكوان الاخرى او أسلافها – ربما رفاق في اكوان متعددة شاسعة ولا متناهية – كونها بلا بداية.

الكونيون أحيانا يقولون لا يستطيع المرء ان يسأل ماذا كان هناك قبل حدوث الانفجار العظيم او كيف وصل الانفجار الى هناك. هم يقصدون ان "الزمن" كما تفهم الفيزياء يبدأ (او يصبح مفهوما مفيدا) مع البغ بانغ. لكن المعنى الكامن خلف هذا السؤال يظل قائما.

وهكذا فان علماء كون آخرون سيعترفون بشرعية السؤال ويقولون انهم ليس لديهم أدنى فكرة حول كيفية الاجابة عليه. البوذية تشعر بالارتياح من التراجع اللامتناهي في الأسباب الطبيعية. في الحقيقة، الفكرة تنسجم جيدا مع الفكرة الميتافيزيقية للنشأة المعتمدة، والتي بموجبها كل ما يحدث يعتمد على حدوث أشياء اخرى(4).

ان رفض عقيدة atman، الفكرة بان الناس حائزون على روح ثابتة لا تتحطم، تأتي من خطين من التفكير:

1-هناك فكرة النشأة المعتمدة التي ذكرناها توا. كل شيء تدفّق وكل تغيير يتوضح بتغيير سابق. المبدأ كوني ولهذا ينطبق على الذهن.

2- جلب التجربة او الظاهرة: سيرى المرء ان ما يسمى "الذات" او الروح يشبه العديد من الاشياء الطبيعية الاخرى، تشترك بعلاقة معينة من الاستمرارية والترابط – وعيي أشبه بالتيار منه الى جبل ايفرست (والذي هو ايضا جزء من التدفق، لكنه مرئي بدرجة اقل). الكلام التقليدي يسمح لنا بإعادة تحديد هوية كل شخص بواسطة اسمه كما لو انه بالضبط ذاته بمرور الزمن. لكن الهوية ليست من قبيل اما كل شيء او لا شيء. الشخصية هي نوع من التطور. جبال الهملايا بطيئة جدا في التطور (أحد الاجوبة على سؤال المدة التي يستغرقها الوصول الى التنوير النهائي هي المدة التي يستغرقها تآكل سلسلة جبال اكبر من جبال الهملايا بـ 84000 مرة اذا تم لمسها مرة واحدة يوميا بقطعة قماش ناعمة).

الناس أسرع تطورا من جبال الهملايا العادية بينما ذبابة الفاكهة تتطور بسرعة أكبر. كل نوع من الاشياء يتطور في الكون، الذي هو الأم الأبدية لكل نضج، له فترة زمنية يمكن خلالها القول انه ما هو عليه – سلسلة جبال، شخص، ذبابة – وبعد ذلك يتوقف عن امتلاك ما يكفي من الكمال ليُقال انه نفس الشيء. وفي نقطة التحول هذه، نحن نقول عن الشيء، الحدث، او العملية ذهبت، او ماتت.

هذه هي عقيدة اناتما، او اللاروح. لا شيء دائم، حتى الاشياء التي تبدو هكذا هي ليست كذلك. اذا جرى فهم الرؤية بشكل صحيح فهي ليست عدمية. في الحقيقة، في الغرب هناك رؤية مشابهة جدا جرى الايمان بها على نطاق واسع بدءا من لوك وحتى الوقت الحاضر. وانها تنسجم جدا مع العقل العلمي المعاصر. كذلك،عقيدة اناتمان تناسب الافكار البوذية بان الافراد يمكنهم في الحقيقة تحويل أنفسهم، ويصبحون متنورين، وهكذا. اذا كانت طبيعة المرء،كما هي،ثابتة لا تتغير، من الصعب رؤية كيف يكون التحول الذاتي ممكنا.

***

حاتم حميد محسن

.....................

الهوامش

(1) اوين فلاناغان Owen Flanagan استاذ فخري في الفلسفة وعلم الأعصاب في جامعة ديوك.  مؤلف عدة كتب من بينها كتاب دماغ البوذي المتنور (The Boddhisattva’s Brain) نُشرعام 2011 والذي اقتُبست منه هذه المقالة.

(2) أقدم حكمة او فلسفة هندوسية vedas يعود تاريخها الى عام 1500 ق.م ولا تتضمن الاوبانيشاد او البهاجافاد جيتا. الاوبانشاد تعود تاريخيا الى القرن السادس قبل الميلاد. اما البهاجافاد جيتا فقد جاءت ضمن ملحمة ماهابهارتا التي كُتبت من القرن الرابع قبل الميلاد الى القرن الرابع الميلادي لكن البهاجافاد جيتا يُعتقد انها نص متأخر ربما تم تأليفه بالكامل في العصر الحديث. وعلى أية حال، القسم الاخير هو نصوص رئيسية لما يُعرف بالهندوسية. الهندوس لايسمون دينهم بالهندوسية (رغم انهم ربما يسمون انفسهم هندوس كنوع من الصفة الاثنية). الاسم نشأ من رغبة المستوطنين البريطانيين لتسمية الهنود بممارسات روحية او دينية. لذا فان البوذية لم تأت من الهندوسية لأنه مهما كان اسم الهندوسية فهي جاءت بعد البوذية. ومما جعل الامور اسوأ، ان الكلمة الانجليزية (هندو) هي بالتأكيد ترتكز على سوء تلفظ يرتبط بأهمية نهر السند (اندوس). ولكي يصفوا ممارساتهم الروحية، الهندوس احيانا يستعملون الكلمة دارشانا والتي تُترجم الى "فلسفة". عادة هم يشيرون لطريقتهم بسنتانا دراهما، الطريقة الأبدية للحقيقة. لا وجود لبابا هندوسي. انها ليست ايمان عقائدي بمذهب ارثودكسي معين. لا وجود ايضا لبابا بوذي. البوذية هي ايضا ليست ايمان عقائدي بمذهب ارثودكسي منفرد. قيل ان كل تقليد روحي فيه بعض الالتزامات التي تشكل الشروط الدنيا لتكون عضوا او داعيا، وهكذا. المنهج التقليدي للتبت (cutting through appearances) يقول، "ان تعريف المناصر للمبادئ البوذية هو: شخص يزعم ان الأختام(المبادئ) الاربعة تشهد بان العقيدة بوذية. الاختام الاربعة هي:1- كل الظواهر المركبة هي غير دائمية 2- كل الاشياء الملوثة بائسة 3- كل الظواهر هي بلا روح 4- النيرفانا هي السلام.

(3) براهمان هو اسم المصدر النهائي المستمر ذاتيا لكل الخلق. لكنه ليس شخصا. كذلك، العديد من الهندوس يتصورون معبدهم المعقد للالهة، حتى أعلى الالهة مثل براهما (خالق الارض وليس كل شيء)،فيشنو vishnu (حامي المحبة) و شيفاShiva (حامي شرس) كمظاهر لإله واحد فقط وهو براهما.  تلميحات سبينوزا.

(4) الدايلاما (2005،92-93) يكتب: "حتى مع كل هذه النظريات العلمية المعقدة عن أصل الكون، انا تُركت مع اسئلة مصيرية: ماذا وُجد قبل البغ بانغ؟ من أين جاء البغ بانغ؟ ما سببه؟ لماذا تطور كوكبنا لدعم الحياة؟ ماهي العلاقة بين الكون والكائنات التي تطورت فيه؟

العلماء قد يتجاهلون هذه الاسئلة باعتبارها بلامعنى او هم ربما يعترفون بأهميتها لكن ينكرون انها تعود لميدان التحقيق العلمي. مع ذلك، كلا الاتجاهين سوف يكون لهما عواقب على الاعتراف بحدود محددة لمعرفتنا العلمية بأصل الكون. في البوذية نُظر الى الكون باعتباره لامتناهيا وبلابداية،والمؤلف يعرب عن سعادته بالمغامرة في التأمل بما وراء البغ بانغ والحالات المحتملة قبل ذلك.

 

(الدرس الفلسفي وأثره في التنمية المستدامة)

في زمنٍ يعجّ بالاختلالات البيئية والتفاوتات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية المتتالية، لا تُقدّم التنمية المستدامة نفسها كمشروعٍ تقني أو اقتصادي فحسب، بل كتحدٍّ وجودي وأخلاقي لاستمرارية الحياة البشرية في ظلّ ظروفٍ إنسانية. في هذا السياق، يُصبح السؤال الفلسفي أكثر إلحاحًا: ما موقع الدراسة الفلسفية ضمن هذا المشروع العالمي؟ وهل يمتلك التفكير التأملي، الذي لطالما اتُهم بالانفصال عن الواقع، القدرة الفعلية على إرساء أسس التنمية المستدامة؟ الفلسفة، في أصولها اليونانية، ليست مجرد حبٍّ للحكمة، بل هي بالأحرى تموضعٌ جذريٌّ أمام العالم: فهي تتأمل الوجود، وتتساءل عن المعنى، وتستجوب الجوهر. وبهذا المعنى، تضع الإنسان في قلب مشروعها الوجودي، ككائنٍ مسؤولٍ ليس عن نفسه فحسب، بل عن الوجود كلّه.

 من هنا، تنشأ علاقة عضوية بين الدراسة الفلسفية ومفهوم التنمية المستدامة، الذي لا يقتصر على الحفاظ على الموارد الطبيعية، بل يجسد أيضًا رؤية أخلاقية ومعرفية وسياسية للإنسانية والعالم. في مناقشته لـ"الفعل والتأمل"، يُجادل هانز جوناس بأن المسؤولية الأخلاقية تجاه المستقبل ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية. يقول: "إن قدراتنا التقنية المتزايدة باستمرار تُحمّلنا مسؤولية غير مسبوقة تجاه الأجيال القادمة" (جوناس، مبدأ المسؤولية، 1979).

وهنا، يتضح أن التنمية المستدامة غير ممكنة دون أساس فلسفي يُعيد إرساء العلاقة بين الإنسان والطبيعة على أساس المسؤولية، لا الهيمنة، والاعتراف، لا الاستغلال.

ومن ناحية أخرى، يُبيّن مارتن هايدغر، في كتابه "سؤال التكنولوجيا"، أن جوهر الأزمة البيئية يكمن في نمط الوجود الذي فرضه العصر التكنولوجي، حيث تُعتبر الطبيعة موردًا قابلًا للاستهلاك، بدلًا من كونها وجودًا أصيلًا في كيان العالم. ويقول: "إن جوهر التكنولوجيا ليس تقنيًا" (هايدغر، السؤال حول التكنولوجيا، 1954)،

 بمعنى آخر، لا تكمن المشكلة في الأدوات، بل في تمثلات الوجود التي تُؤطر علاقتنا بها. وهذا يكشف عن ضرورة الدراسة الفلسفية كتفكيك للمسلمات التي تُشكل علاقتنا بالعالم، ووضعها في قلب مشروع التنمية المستدامة.

 من جانبه يعتقد جون راولز أن العدالة بين الأجيال ليست مجرد اعتبار سياسي، بل هي مبدأ أخلاقي يُرسي عقدًا اجتماعيًا يتجاوز الواقع المباشر. في كتابه "نظرية العدالة"، لذلك يدعو إلى "العدالة البيئية"، التي تجعل من واجبنا تأمين الظروف اللازمة لحياة كريمة للأجيال القادمة (راولز، 1971).

وهنا تلتقي الفلسفة السياسية بالفلسفة البيئية في إرساء أسس المسؤولية عبر الزمنية، وهي ركيزة من ركائز التنمية المستدامة.، فهي لا تُشخص الدراسة الفلسفية للأزمات فحسب؛ إنما أنها تُزود الناس بوعي نقدي يُمكّنهم من تجاوز الحلول التقنية الاختزالية نحو رؤية شاملة تشمل الأبعاد الوجودية (علاقة البشرية بالطبيعة)، والأبعاد الأخلاقية (العدالة بين الأجيال)، والأبعاد المعرفية (نقد الأداتية)، وحتى الأبعاد الجمالية (الانبهار المتجدد بالعالم).

 من هذا المنظور، تُصبح الفلسفة أداةً للتنوير، ليس بمعناها العقلاني التبشيري، بل هي ممارسة تُحرر البشرية من "عيوبها البيئية" واستسلامها الأخلاقي. وإنها تُعيد للبشرية القدرة على مساءلة أساليب حياتها، ومراجعة أهدافها، وإعادة توجيه مسارها التاريخي.

فهي كما قصد ميشيل فوكو، "روح المقاومة ضد جميع أشكال الهيمنة". فالتنمية المستدامة، كما تُفهم في الدراسات الفلسفية، ليست مجرد برنامج أو خطة أو جدول مؤشرات؛ بل هي تحول جذري في نظرتنا لأنفسنا وللعالم. لا يمكن تحقيق ذلك دون إعادة تأهيل الفلسفة، لا كمادة تعليمية معزولة، بل باعتبارها ممارسة حياتية تُرسخ المواطنة العالمية المسؤولة، متجاوزةً منطق الاستهلاك إلى منطق الرعاية والتواصل الاجتماعي،

وهذا ما دعا إليه إدغار موران في مشروعه "الفكر المُركّب". إن مستقبل العالم، بكل هشاشته، ليس في أيدي الخبراء والفنيين فحسب؛ بل يعتمد أيضًا على قدرتنا على تنمية فكر فلسفي يربط المعرفة بالفعل، والذات والآخرين، والحاضر بالمستقبل. فكما يتطلب التقدم التكنولوجي مختبرات، فإن الاستدامة تتطلب التفكير. وكما تحتاج الأرض إلى دعاة حماية البيئة، فإنها تحتاج أيضًا إلى فلاسفة.

***

الدكتور: ابراهيم احمد شعير الجميلي/ كركوك_ العراق

فعل مقاومة والتزام وجودي ومقاربة كفاحية

مقدمة: تُعتبر الكتابة الفلسفية في سياق الثقافة السياسية فعلًا معقدًا يتجاوز مجرد التعبير عن الأفكار إلى فضاء يجمع بين المقاومة، الالتزام الوجودي، والكفاح من أجل المعنى. في عالم مشبع بالصراعات السياسية والاجتماعية، تصبح الكتابة الفلسفية أداة لتحدي الهيمنة، تفكيك الأنساق السلطوية، وإعادة صياغة الوجود الإنساني في مواجهة الاغتراب والقمع. هذه الدراسة تستكشف الكتابة الفلسفية كفعل مقاومة وكفاحي، مع التركيز على بعديها الوجودي والسياسي، وذلك من خلال مقاربة تحليلية تستند إلى أعمال فلاسفة مثل مارتن هيدجر، جان بول سارتر، ميشيل فوكو، وإدوارد سعيد. ستنقسم الدراسة إلى ثلاثة أقسام رئيسية: أولاً، الكتابة الفلسفية كفعل مقاومة ضد الهيمنة السياسية والثقافية؛ ثانيًا، الالتزام الوجودي كجوهر للكتابة الفلسفية؛ ثالثًا، المقاربة الكفاحية كاستراتيجية لإعادة تعريف الذات والمجتمع. سنختم الدراسة بتقييم أهمية الكتابة الفلسفية في مواجهة التحديات السياسية المعاصرة.

القسم الأول: الكتابة الفلسفية كفعل مقاومة ضد الهيمنة السياسية والثقافية

المقاومة الفلسفية في سياق الثقافة السياسية

الكتابة الفلسفية، بطبيعتها، هي فعل تأملي يسعى إلى فهم الحقيقة، لكنها في السياق السياسي تصبح أداة مقاومة ضد الأنساق المهيمنة التي تسعى لفرض رواية واحدة على الواقع. يرى ميشيل فوكو أن السلطة ليست مجرد قوة سياسية أو اقتصادية، بل هي أيضًا خطاب يشكل المعرفة ويحدد ما يُعتبر "حقيقيًا" أو "مقبولًا"[1]. في هذا السياق، تتحول الكتابة الفلسفية إلى فعل مقاومة عندما تتحدى هذه الخطابات المهيمنة، سواء كانت أيديولوجيات قومية، استعمارية، أو رأسمالية. على سبيل المثال، قدم إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق (1978) نقدًا فلسفيًا للخطاب الاستعماري الغربي، مُظهرًا كيف شكّل الاستشراق صورة نمطية عن "الشرق" لخدمة المصالح الاستعمارية[2]. من خلال كتابته الفلسفية، لم يكن سعيد يقاوم فقط التمثيلات المغلوطة، بل كان يسعى إلى استعادة الذاتية الثقافية للشعوب المستعمَرة. هذا النوع من الكتابة يُظهر أن الفلسفة ليست مجرد تأمل نظري، بل هي فعل سياسي يتحدى بنى السلطة.

الكتابة الفلسفية وتفكيك السلطة

تستمد الكتابة الفلسفية قوتها المقاومة من قدرتها على تفكيك الأنساق السلطوية. يرى فوكو أن المعرفة والسلطة متشابكتان، وأن الفيلسوف، من خلال الكتابة، يمكنه أن يكون "مثقفًا نوعيًا" يتحدى السلطة في سياقاتها المحلية[3]. على سبيل المثال، كتابات سارتر خلال الحرب العالمية الثانية، مثل الوجود والعدم (1943)، لم تكن مجرد تأملات وجودية، بل كانت أيضًا تعبيرًا عن المقاومة ضد الاحتلال النازي، حيث دعا إلى حرية الفرد في مواجهة القمع السياسي[4].

القسم الثاني: الالتزام الوجودي كجوهر للكتابة الفلسفية

الوجودية والالتزام

في الفلسفة الوجودية، خاصة عند جان بول سارتر، يُعتبر الالتزام (engagement) جوهر الوجود الإنساني. يرى سارتر أن الإنسان "محكوم عليه بالحرية"، وأن الكتابة الفلسفية هي تعبير عن هذه الحرية والمسؤولية تجاه العالم[5]. في مقالته ما الأدب؟ (1947)، يدافع سارتر عن فكرة أن الكاتب يجب أن يكون ملتزمًا سياسيًا واجتماعيًا، حيث تُصبح الكتابة وسيلة لتحقيق الحرية ليس فقط للكاتب، بل للقارئ أيضًا[6].في هذا السياق، تُعدّ الكتابة الفلسفية فعلًا وجوديًا لأنها تنبع من اختيار الفيلسوف مواجهة العالم بعقل نقدي وإرادة للتغيير. هذا الالتزام يتجاوز الحدود الأكاديمية ليصبح فعلًا سياسيًا وثقافيًا يسعى إلى تحرير الإنسان من الاغتراب.

هيدجر والكتابة كتفكير في الوجود

من منظور مارتن هيدجر، الكتابة الفلسفية ليست مجرد تعبير عن أفكار، بل هي تفكير في الوجود نفسه (Sein). في كتابه رسالة في الإنسانية (1947)، يؤكد هيدجر أن الفلسفة هي سؤال عن معنى الوجود، وأن الكتابة الفلسفية هي محاولة لاستعادة هذا السؤال في مواجهة العصر الحديث الذي يهيمن عليه التفكير التقني[7]. في سياق الثقافة السياسية، يمكن قراءة كتابات هيدجر كمقاومة ضد النزعة التقنية التي تُحوّل الإنسان إلى مجرد مورد ضمن نظام الإنتاج الرأسمالي.

القسم الثالث: المقاربة الكفاحية في الكتابة الفلسفية

الكفاح من أجل المعنى

الكتابة الفلسفية، كفعل كفاحي، تتجلى في محاولتها إعادة تعريف المعنى في سياقات القمع والتهميش. على سبيل المثال، قدمت الفيلسوفة حنة آرنت في كتابها الوضع الإنساني (1958) تحليلًا فلسفيًا لمفهوم العمل والعملية السياسية، معتبرة أن الكتابة الفلسفية هي وسيلة لاستعادة الفضاء العام كمكان للحرية والتفاعل الإنساني[8]. هذه المقاربة الكفاحية تتضح أيضًا في كتابات المفكرين المناهضين للاستعمار، مثل فرانز فانون، الذي استخدم الكتابة الفلسفية في معذبو الأرض (1961) للدفاع عن الكفاح المسلح ضد الاستعمار كوسيلة لاستعادة الكرامة الإنسانية[9].

الكتابة كاستراتيجية لإعادة تعريف الذات والمجتمع

في الثقافة السياسية، تُصبح الكتابة الفلسفية أداة لإعادة تعريف الذات الفردية والجماعية. على سبيل المثال، كتابات المفكرة الفلسطينية ليلى خالد لم تكن مجرد سرد لتجاربها الشخصية، بل كانت محاولة لصياغة هوية مقاومة في مواجهة الاحتلال[10]. هذه الكتابة الكفاحية تعمل على بناء وعي جماعي يتحدى الروايات المهيمنة ويؤكد على الذاتية كأساس للمقاومة.

خاتمة

الكتابة الفلسفية في الثقافة السياسية ليست مجرد نشاط أكاديمي، بل هي فعل مقاومة والتزام وجودي يسعى إلى تحرير الإنسان من القيود السياسية والثقافية. من خلال تحدي الخطابات المهيمنة، تأسيس التزام وجودي، وتبني مقاربة كفاحية، تُصبح الكتابة الفلسفية أداة لإعادة صياغة الواقع واستعادة الكرامة الإنسانية. في عالم يشهد تصاعد الاستبداد واللاّمساواة، تظل الكتابة الفلسفية سلاحًا فكريًا يحمل إمكانيات التغيير والتحرر. فكيف تتحول الثقافة الفلسفية الى سلاح سياسي ثوري ومحرك تغيير اجتماعي؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

...................

الاحالات والهوامش:

[1] Foucault, M. (1980). Power/Knowledge: Selected Interviews and Other Writings, 1972-1977. Edited by Colin Gordon. Pantheon Books, p. 109.

[2] Said, E. W. (1978). Orientalism. Pantheon Books, p. 12.

[3] Foucault, M. (1984). The Foucault Reader. Edited by Paul Rabinow. Pantheon Books, p. 68.

[4] Sartre, J.-P. (1943). Being and Nothingness. Translated by Hazel E. Barnes. Washington Square Press, 1992.

[5] Sartre, J.-P. (1946). Existentialism is a Humanism. Translated by Carol Macomber. Yale University Press, 2007.

[6] Sartre, J.-P. (1947). What is Literature?. Translated by Bernard Frechtman. Methuen, 1967.

[7] Heidegger, M. (1947). Letter on Humanism. In Basic Writings, edited by David Farrell Krell. HarperCollins, 1993.

[8] Arendt, H. (1958). The Human Condition. University of Chicago Press, p. 198.

[9] Fanon, F. (1961). The Wretched of the Earth. Translated by Constance Farrington. Grove Press, 1963.

[10] Khaled, L. (1973). My People Shall Live: The Autobiography of a Revolutionary. Hodder & Stoughton.

مفتتح إجباري: بعض الرجال المحسوبين على ديننا الحنيف يقولون ويسردون من قصص لا أصل لها في تراثنا الحضاري ونزعوا إلى العنف وإلى التكفير وإلى إهدار الدم، واستباحة العرض للمخالف فكيف سيدعون يوماً إلى ثقافة التسامح والمواطنة والتعايش؟.

يزيد الشاعر والمفكر العربي أدونيس مشهدنا الثقافي غموضا حينما ينأى بسطوره بعيدا عن المتاح في راهننا المعرفي مشيرا إلى أن إدراك الحقيقة لا يتم استنادًا إلى العقل أو إلى النقل، لأن الحقيقة ليست في ظاهر النص وهو يشير في ذلك إلى كنه عمل العقل وأعماله في النص من حيث تفسيره وتأويل مضامينه، وإنما يتم عن طريق تأويل النص بإرجاعه إلى أصله والكشف عن معناه الحقيقي.

والتأويل بهذه الصورة هو طرحُ الظاهر جانبا كونه صورة من صور الباطن فحسب، أما الباطن لا نهاية له، بمعنى ـ حسب توصيف أدونيس للفرق بين الحقيقة والشريعة ـ أنه لا يمكن أن تحده صورة واحدة، بل لا يمكن أن تحده الصور. وهذه الإشكالية التي لم يفطنها فقهاء العصر الحديث بل على وجه الاختصاص أمراء الجماعات والتيارات الدينية المعاصرة الذين لم يروا في العقل أية فائدة واكتفوا بالنقل المباشر من السلف في تفسيرهم وفهمهم للنصوص الدينية التي جاءت لتبيين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.

والإشكالية بين العقل والنقل وما بينهما من حقيقة عرفانية يمتلكها أهل التصوف فقط، تتضح في محاولة فهم الاتصال والانفصال بين الزمني والمكاني، هذا الفهم الذي بدا عصيا على أمراء التيارات الدينية الراديكالية التي لم تفرق بين حكم فقهي أو نص ديني لرجل ينتمي لعصر بائد وعصرنا الراهن، وهو مجمل ما قامت عليه الدراسة المعرفية الموسوعية  للمفكر السوري أدونيس في كتابه "الثابت والمتحول بحث في الإبداع والاتباع عند العرب" بأجزائه الأربعة.  

ولعل المؤسسات التعليمية العربية القائمة نجحت بامتهار متمايز في تكريس الاتصال بالتراث العربي الثقافي في صورته السطحية البسيطة، في الوقت نفسه التي داومت فشلها المستدام في تحقيق اتصال بالحداثة المعرفية، وكأنها بذلك أعلت ثقافة الولاية المعرفية كبديل وحيد عن الجنوح لتأسيس العقلية العربية، هذا كله أشار إليه محمد أركون وأدونيس وعابد الجابري وفؤاد زكريا، وظل نصر أبو زيد يشحذ طاقاته لمواجهة الولاية المعرفية لاسيما في دراسته المتميزة عن الإمام الشافعي صاحب المذهب الفقهي.

وتتمثل إشكالية النقل والعقل وما بينهما من ذوق وحدس لا يمتلك زمامهما إلا المتصوفة بالقطعية التاريخية ـ في قضية الاجتهاد، الذي يعني كما وصفه ابن رشد بأنه بذل الجهد في استخراج الأحكام من شواهدها الدالة عليها بالنظر المؤدي إليها. والسلفيون يرفضون فكرة الاجتهاد مقتصرين على نصوص السلف الأوائل، في حين أن قصور الفهم والبحث لدى معظم أنصار ومريدي التيارات الراديكالية لم يلتفتوا بالقدر المناسب إلى ما وضحه الفاروق الرشيد عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه) حينما أجاز وأباح وأقر بالاجتهاد والتجديد في رسالته الأشهر إلى أبي موسى الأشعري حينما سطر فيها قوله بشرط المجتهد: "أن يلتمس نور القرآن وهدي السنة".

وثمة خلاف ظاهر وواضح في التجربة الحداثوية للثقافة العربية بين أهل النقل الحرفي وأهل العقل دون الذوق يدور حول جدلية السنة النبوية، لاسيما فيما يتعلق بالتجديد والاجتهاد؛ هذه الجدلية ظلت ولا تزال محل هوس لدى الكثيرين من المعاصرين بل والأوائل أيضا من دعاة التنوير حيث اعتماد الأخذ بالحديث عند التجديد الفقهي شريطة أن يكون موافقا للكتاب، رغم أن هذا الشأن مردود عليه كون السنة النبوية مصدرا أصيلا ومقياسا واضحا لصحة العقل والاجتهاد.

ولا أكاد أجزم أن معظم مشكلاتنا العربية الراهنة بدءا من ثورات الربيع العربي التي أطاحت بأنظمة وحكومات وهي في الأصل ثورات لا تجمعها أسباب واحدة ولا غايات واحدة بل ولا فكر في تنظيم إحداثياتها، وظاهرة الإرهاب وظهور التيارات المتطرفة الراديكالية مرورا بمشكلات نوعية مثل سد النهضة وحكومات العراق الممزق وفتنة سوريا العصية على الحل والتفسير انتهاء بتحليل انفجار لبنان الأخير، مجملها المركزية المهيمنة على ثقافتنا العربية التي لا تخلو من مهاجم رجعي أو معاصر يبغي الاستشراف بغير خطة، وأن حرص الأغلبية على البقاء دفعها إلى اعتماد النهج السابق وإن كان لا يتصل بالعصر الراهن على حساب مغامرات فكرية لا يعلم نتائجها.

في حين أن أولئك المنادين بالحداثة والتعامل مع الحدث الحالي والحدث الماضي بمفاهيم تبدو غربية مستهجنة تم تصديرها للواقع العربي تحت رعاية صهيونية في بطئ وخبث، حتى صار هؤلاء يتكلمون بلغة الغرب في قضايا عربية أكثر من اهتمامهم بالتفكير اللغوي الذي استحال في مكانة تهديد وتقويض لأركانها الثابتة.

هذا التناوب بين الزمني والمكاني يعيدنا اضطرارا إلى قصة العالم جاليليو الذي يعد من أبرز مؤسسي العلم في العصر الحديث، ولقد نظر إلى الديناميكا نظرة جديدة، فقد افترض أن السكون ليس حالة مميزة للأجسام، بل إن الحركة طبيعية شأنها شأن السكون تماماً، وهي حركة في خط مستقيم.

وقد طور جاليليو نظرته هذه في مجال الفلك، فنادى بمركزية الشمس، وكانت كشوفه تلك قد قلبت كل الأفكار الراسخة القديمة منذ أرسطو، بل لقد عكر منظاره الذي اخترعه صفو سبات القدماء الغارقين في الظنون والأفكار الواهية. وقبل أن تفكر أيها القارئ في مصير جاليليو، لابد وأن تستقرئ نتيجة أفكاره دون تحليل أو استنتاج، فلقد صدم جاليليو رجال الدين في عصره، وأدين بالفعل في جلسة مغلقة، غير أن جاليليو لم يرضخ أو يستسلم، فسيق مرة أخرى للمحاكمة العلنية، فتراجع خوفاً على حياته، ووعد بأن يتخلى عن كل أفكاره المتعلقة بحركة الأرض حول الشمس، وفعل حقاً ما أمر به من رجال الدين، لكنه هو في قفص الاتهام تمتم لنفسه قائلاً: "ومع ذلك فإنها تتحرك" . القصة انتهت.

إن ما فعله العالم جاليليو في فكر عصره نسعى أن نحققه نحن، نفكر، ونستدل، ونبحث، ونجرب، ونتهم، ثم نتراجع عما فكرنا فيه، الأدهش هو أننا حينما نشرع في التفكير نجد عشرات المتربصين بنا وبأفكارنا التي نقسم بالله أنها ليست علمانية، وأن ديننا الإسلامي حض على التفكير، وأن القرآن الكريم الذي ندعي بأننا نفهمه فهماً كاملاً، حث على استعمال العقل والمنطق والتحليل، ففي القرآن الكريم آيات تحض على النظر والتحليل والاستقراء والاستنباط مثل قوله تعالى: ]إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب[، أي العقول التامة الزكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وفي آية أخرى ]ويتفكرون في خلق السماوات والأرض[، وكثير من الآيات القرآنية التي تحض الإنسان على التفكير وإعمال العقل.

وما أكثر الخطب المنبرية والمقالات والكتب التي تتحدث عن وجوب التفكير وأنه فريضة إسلامية كما ذكر عباس محمود العقاد في أحد عناوين كتبه الماتعة الرائعة وهو يواجه صلابة وتعنت الأفكار الرائجة في عصره والتي استدامت حتى عصورنا الراهنة ، ولكن عند أول اختبار لأصحابها يسقطون في فخ الزيغ والهوس وبطلان الحجة. وإذا سألت بعض رجال الدين عن دوره كرجل تنويري لسوف يحدثك عن فعالية التفكير والاستنباط، وعن عظمة التسامح كمحور للتنوير، وأن التسامح ينبغي أن يمتد بلا تمييز. وفي أول محك لتطبيق أفكاره سيلعن التنوير والتنويريين، وسيربط التنوير بالعلمانية، بل وربما بالمسيحية، وبالفلاسفة الملاحدة، ولهم أقول إن التنوير حركة لم تكن مرتبطة بأي مدرسة فلسفية معينة بل إن التنوير يعني العودة إلى تقدير النشاط العقلي المستقل، وبصورة أبسط  نشر النور حيث كان الظلام يسود من قبل.

إن ما فعله جاليليو منذ قرون مضت وجعلنا مضطرين لسرد قصته لأمر واضح وجلي للأفهام، إنه حاول أن يبرهن على دوران وحركة الأرض، وواجه بسبب آرائه تلك تهمة الزندقة والخروج على التعاليم الدينية، وهو ما يريد أن يفعله اليوم بعض الرجال المحسوبين على ديننا الحنيف إذا فكرنا قليلاً  فيما يقولون ويسردون من قصص لا أصل لها في تراثنا الحضاري نزعوا إلى العنف وإلى التكفير وإلى إهدار الدم، واستباحة العرض للمخالف، ولعل هذا في رأيي هو الذي أوجد فقهاً تعسفياً مغالياً، فكيف سيدعون يوماً إلى ثقافة التسمح والمواطنة والتعايش؟

ولست ممن يحاربون الماضي برمته، بل إننا لم نفطن حاضرنا إلا باستيعاب ما تركه لنا السابقون في مجالات التوحيد، والفقه، والحديث، والتاريخ الإسلامي، لكنني أصبحت أمقت مصطلح إعادة قراءة الماضي، وتحليل الموروث الثقافي، بل إنني أحلم بالانطلاق إلى واقعنا الحالي وما يحمله من تحديات ومعوقات تثقل كاهلنا، ولقد عجبت من قول أحد رجال الدين المعاصرين حينما قال إن ثقافتنا الإسلامية لهي جديرة بأن تصارع ثقافة الآخرين، وأن تصرعها وتخلصها من شوائب المدنية الزائفة وأن تحولها إلى دماء صالحة.

ولربما هذا الارتداد المطلق لنصوص السلف الأوائل هو أيضا المتسبب في الكارثة المعرفية لقصور العلماء العرب الموجودين في تفسير واضح ومحدد وأكثر علمية لجائحة كورونا، لكن هم فقط يتحدثون بمنطق الأوائل الراديكالي وفق تصورات وطروحات ثابتة لا تقبل التجديد والتمايز وقد لا تتوافق مع أنماط العقل، فنجدهم يتحدثون عن عملية تحور الفيروس وبداية استنساخه في صور جديدة شتى، ورغم أن مجمل المنتسبين لكليات العلوم بالضرورة يقتبسون شعارات الحداثة والتطور وإعمال العقل في أقصى طاقاته إلا أنهم في المواجهة الأولى الحقيقية لاكتشاف مدى كفاءتهم العلمية في التصدي ولو ثقافيا لكوفيد ـ 19 وليس بالصفة العلمية التطبيقية التي ظلوا يتفاخرون بامتلاك أدواتها لسنوات مضت، وجدناهم يقرون حقائق علمية أشبه بالطرح السلفي للنصوص الدينية بغير تجديد أو اجتهاد.

ولعلي لا أجد مللا في استطراد الحديث عن قصور العلماء العرب لاسيما وأننا بالفعل بانتظار معجزات علمية تأتينا من الغرب، وتكفي إطلالة سريعة لبعض المواقع العلمية الرصينة مثل موقع مجلة Nature لنكتشف حجم وفداحة الجهالة العلمية عند ما يطلق عليهم العلماء الأكاديميين العرب وهذه الغفلة الراديكالية عن التجديد أو الابتكار وبالقطعية هؤلاء لا يمكن أن نطالبهم بالمزيد في مواجهة الجائحة التي تتطور وسط تطور علمي متزامن في الغرب، لأنهم بحاجة ماسة إلى تطوير أدواتهم المعرفية بصورة أقوى وأكبر من تطوير أدواتهم العلمية وإمكاناتهم المعملية، المشكلة بحق في افتقار هؤلاء إلى امتلاك أدوات معرفية مثل الراديكاليين الذين توقفوا في التفكير عند حدود زمانية لا يمكن تخطيها.

***

د. بليغ حمدي إسماعيل

كلية التربية جامعة المنيا – مصر

 

هل هناك وجود للحقيقة الموضوعية؟ واذا كنا بشرا مقيّدين باديولوجيا، هل بمقدرونا معرفة أي شيء حول الحقيقة؟ الفلاسفة ناقشوا هذه الأسئلة منذ الاف السنين لكن الرؤية المهيمنة كانت عموما ان عالم الحقيقة الموضوعية – حقيقة كونية منفردة – هي موجودة فعلا.

ما اذا كنا نستطيع الوصول لهذا العالم تلك قضية اخرى، ولكن وفق هذا الرأي المنطقي الى حد ما، فان الحقيقة الموضوعية موجودة بشكل مستقل عن أي تفكير انساني يتعلق بها. فمن جهة، هناك حقيقة، مهما كانت الحالة في الواقع، ومن جهة اخرى، هناك نحن، نحاول فهم ونشكّل معرفة حولها.

في كتابه (العقل،الحقيقة والتاريخ)، الفيلسوف هيلاري بوتنام Hilary Putnam يقدم تعبيرا جيدا لهذا الموقف:

"وفق هذا المنظور، العالم يتألف من مجموع ثابت من الاشياء المستقلة عن العقل. هناك بالضبط وصف حقيقي وتام "للطريقة التي عليها العالم". الحقيقة تستلزم نوعا من علاقة مطابقة بين كلمات الفكر – اشارات واشياء خارجية ومجموعات من الاشياء".

وبينما يسود هذا النوع من "الواقعية الميتافيزيقية" في الفلسفة والعلوم والأعراف، لكن في القرن التاسع عشر جاء فردريك نيتشة لإفساد الحفلة. "لا وجود هناك للحقائق"، أعلن نيتشه في قول شهير هناك "فقط تفسيرات".

وفي مكان آخر لاحظ نيتشه ان "الحقائق هي أوهام نسينا انها أوهام"، وان "الحقائق هي نوع من الخطأ بدونه لايمكن ان يعيش نوع معين من الكائنات".

اذن، ماذا يقول نيتشه هنا؟ هل هو ينكر وجود الحقيقة الموضوعية – واقع حقيقي؟ هل هو يعني ان الحقيقة نسبية؟ هل هو يوافق مع الفيلسوف اليوناني بروتوغاروس القائل "الانسان هو مقياس كل شيء"؟ هذا في الحقيقة ما تطرحه العديد من تفسيرات ما بعد الحداثة لنيتشه.

اقتباسات مثل تلك التي أعلاه، والتي اُزيلت من السياق الفكري الأوسع لنيتشه ربطت اسم نيتشه بفكرة عدم وجود حقيقة موضوعية: وان "جيد" و "رديء"، "صحيح" و "زائف"  كلها نسبية تعتمد على عوامل خارجية مثل الثقافة وعلم الاحياء النفسي والبيئة.

لهذا تحفز ما بعد الحداثويون باسم نيتشه لدعم حججهم: ذلك ان اللجوء الى "الموضوعية" هو دائما معيب، وان كل المعرفة والعالم ذاته هي مجرد بناء مفاهيمي لا ضمان او دقة له او ملائمة خارج تجربة الانسان الضيقة، وان العقل والمنطق ذاتهما صالحان فقط ضمن التقاليد الفكرية التي يُستعملان ضمنها. يرد النقاد، ان هذه النسبية الخارجية خطيرة لأنها تتجاهل كل مصادر المعرفة. اذا كانت الحقيقة غير موجودة، كيف نستطيع الحكم على رؤية مقابل رؤية اخرى، اذا لم يكن هناك معيار موضوعي حول الصح والخطأ لماذا نثق برأي طبيب مختص دون آخر لا يعرف شيئا حول البايولوجي او الكيمياء او الطب؟ لماذا نضع ايماننا في "الخبراء"اذا كان ما يتعلمه هؤلاء الخبراء ويتدربون عليه ليس له نصيب من الحقيقة؟

كيف يستطيع نيتشه الإجابة على هذه الاسئلة؟ حسنا، بينما هناك سبب جيد لتأثير أعماله على رؤى ما بعد الحداثويون والنسبيون كتلك التي أشرنا اليها أعلاه، لكن العلماء بشكل عام يتفقون على ان نيتشه لديه الكثير من القول حول الحقيقة بدلا من إنكارها كليا. في الحقيقة، ان أفكار نيتشه الصريحة والواضحة حول الحقيقة تبدو صريحة جدا لدى هكذا مفكر حاد. على مر السنين، فسر العلماء نيتشه باعتباره يقدم تفسيرا أكثر دقة وتنوعا للحقيقة قياسا بما تشير اليه أقواله المأثورة. هذا التفسير يُعرف بمنظورية نيتشه Nietzsche’s perspectivism، وبينما لايزال هناك الكثير من الخلاف حول ما ينطوي عليه المنظور حقا، لكن هناك أرضية مشتركة يمكننا من خلالها تحديد المشهد ...

منظوراتنا لا مفر منها

في عمله عام 1886 (ما وراء الخير والشر) يلاحظ نيتشه كيف فشل الفلاسفة تاريخيا في ان يأخذوا بالاعتبار محفزاتهم ومنظوراتهم عندما يعبّرون عن رؤاهم حول العالم. هؤلاء المفكرون يدّعون بمعرفة "موضوعية" أو تكهنات غير متحيزة لكنهم في الحقيقة يجلبون أمتعتهم الخاصة لنظرياتهم المقترحة. نيتشه يصرّح ان "كل فلسفة عظيمة حتى الان" – مثلا، فلسفة افلاطون وكانط – كانت بمثابة "الإعتراف الشخصي لمؤلفيها وهي نوع من مذكرات لا ارادية وغير واعية".

وفي مقطع آخر عام 1887 في (جينولوجيا الاخلاق) يكتب نيتشه: "دعونا نحمي أنفسنا بشكل أفضل من الان فصاعدا ... ضد أخطار التلفيقات المفاهيمية القديمة التي طرحت "موضوعا خالصا للمعرفة ، بلا ألم وبلا زمن ويفتقر للارادة ": دعونا نحرس أنفسنا من مخالب هذه المفاهيم المتناقضة كـ "عقل محض"، "روحية مطلقة"، "معرفة بذاتها"".

المعرفة، لايمكن أبدا ان تكون "خالصة"، حسب نيتشه، لأنه لا وجود لمخلوق قادر على الهروب من منظوره: لا وجود لكائن ابداً يمكنه الوقوف خارج اهتماماته وقدراته المعرفية.

وكما يبيّن نيتشه في مقال مبكر. (حول الصدق والكذب في معنى لا أخلاقي)، "الحشرة او الطير يتصور عالما مختلفا كليا عن العالم الذي يتصوره الانسان، والسؤال حول أي من هذه المنظورات للعالم هو الاكثر صحة هو بلا معنى تماما، لأن هذا يجب تحديده بمعيار التصور الصحيح والذي هو معيار غير متوفر".

مع ذلك، مع ان نيتشه يعتقد ان فلاسفة الماضي فشلوا في محاولاتهم للهروب من منظوراتهم، لكنه لا يرى عملهم بلا فائدة. في مقطع رئيسي عام 1887 في جينولوجيا الاخلاق، هو يكشف كيف ان "الموضوعية"ربما تتحقق في النهاية: " لا ينبغي لنا كعلماء خصيصا ان نكون جاحدين تجاه هذه الانعكاسات الحاسمة للمنظورات والتقييمات المألوفة التي ثارت بها الروح ضد نفسها لفترة طويلة ... بهذه الطريقة ...لكي نرى بشكل مختلف ، ليس بالامر السهل الانضباط وإعداد العقل لموضوعيته المستقبلية"- الاخيرة فُهمت ليس كـ"تكهنات غير متحيزة"(والتي هي سخافة وليست مفاهيم) وانما كقدرة على امتلاك المرء للتأييد والمعارضة في ارادته، وتحويلها داخل وخارج، لكي يعرف المرء كيف يجعل الفرق بين المنظورات والتفسيرات الفعالة مفيدا للمعرفة".

هذا المقطع الشهير يسلط الضوء على رفض نيتشه الواضح للمعرفة الموضوعية كما يجري تصوّرها كـ"نظرة من لا مكان" – أي، كشكل للموضوعية يتجاوز كل المظاهر الذاتية ليكشف كيف هي الاشياء حقا.

وكما يوضح لانير اندرسون R.Lanier Anderson ، يقترح نيتشه ان "المعرفة من دون وجهة نظر هي فكرة غير متماسكة كما هي الرؤية من دون زاوية نظر".

فمثلا، عندما تنظر الى بناية، انت تنظر لها من زاوية معينة. في الحقيقة، انت لا تستطيع ان ترى البناية أبدا مالم تنظر لها من منظور معين (تصوّر الان: أي رؤية لديك مثلا عن برج ايفل، تحدث من زاوية معينة، لا"وجود لرؤية عامة او محايدة او نظرة الله".وهكذا فان منظورك يجعل نظرتك للبناية ممكنة. ونفس الشيء مع الحقيقة، نيتشه يقترح اننا لا نستطيع تأمل الحقيقة بدون القيام بهذا من منظور معين. المفكرون القدماء الذين يدّعون انهم أسسوا حقيقة "موضوعية" هم ببساطة يتبنّون ما يبدو صحيحا من وجهة نظرهم.

هذا لايجعل بالضرورة ان وجهة النظر هذه خاطئة، وفي الحقيقة نيتشه يقترح انه عبر الجمع بين او الفهم الدقيق لمختلف المنظورات نحن نستطيع تحقيق تقدم في المعرفة (كلما زادت الزوايا التي ننظر منها الى برج ايفل، مثلا، كلما كانت معرفتنا بشكله اكثر اكتمالا). بكلمة اخرى، المعرفة المنظورية هي حتمية – كلنا نمتلك مختلف الاهتمامات ووجهات النظر، وتجاربنا في العالم هي في الحقيقة اصبحت ممكنة بواسطة هذه القدرات المعرفية والاهتمامات – لكن عبر الاعتراف بهذا واللعب بوجهات النظر ضد بعضها البعض، نستطيع تحقيق تقدم. ويستمر نيتشه في نفس المقطع:

"هناك فقط رؤية منظورية، فقط "معرفة" منظورية، وكلما سمحنا للمؤثرات بالحديث عن امر ما، كلما زادت العيون، مختلف العيون، نحن نعرف كيف نتعامل مع نفس الموضوع وبالتالي فان مفهومنا لهذا الموضوع سيكون اكثر اكتمالا وموضوعية".

الآن، بينما يمكن تفسير هذا المقطع كمجرد اقتراح بانه كلما زادت التفسيرات كلما كان أفضل، من المهم ملاحظة ان هذا لا يعني ان مختلف التفسيرات بالضرورة تحمل نفس الوزن. بعض التفسيرات ربما خاطئة. فمثلا، اذا كانت لديك عدة خرائط لمنطقة معينة – البعض منها يحتوي على معلومات جغرافية، اخرى ديموغرافية، غيرها ايكولوجية – عندئذ الجمع بين هذه الخرائط سوف يوفر معلومات اكثر "كمالا" حول المنطقة. لكن هذا لا يعني بالضرورة ان كل خارطة هي دقيقة.

وكما يعلق الفيلسوف بريان ليتر Brian Leiter في كتابه (نيتشه حول الاخلاق): "المنظورية تُفسر هكذا، التأكيد على ان المعرفة هي دائما قيد الاهتمام (وبالتالي جزئية) وان مختلف الاهتمامات سوف تزيد من اتساع المعرفة، لكنها لا تعني ان المعرفة تفتقر للموضوعية او ان لا وجود هناك لحقيقة حول القضايا المعروفة".

ربما نتسائل اذن بأي معيار نستطيع الحكم على منظور معين باعتباره أفضل من غيره. العلماء يختلفون حول كيفية التأمل مع هذا التوتر في فكر نيتشه، لكن أحد الاتجاهات هو الأخذ بنصيحة نيتشه: وهي مهما كان الذي يجلب "الكثير من العيون، ومختلف العيون" فيما يتصل بمسألة معينة سيمتلك صورة اكثر "اكتمالا" عنها. بكلمة اخرى، شخص ما مطلع على محدودياته المنظورية، وهو قادر على النظر للشيء من مختلف وجهات النظر، سيكون لديه منظور اكثر غنى من شخص آخر ينظر فقط للاشياء بطريقة واحدة.

طريقة اخرى لنزع فتيل التوتر في فكر نيتشه هي ببساطة إنكار وجود مشكلة كبيرة. المعايير موجودة ضمن مختلف الحقول – علم جيد مقابل علم سيء، فن جيد مقابل فن سيء – لذا نسبيا من غير المثير للجدل التفكير في ذلك، حتى بدون توجيه نيتشه الصريح نحن قادرون على فصل المنظورات الواعية عن تلك الجاهلة.

هل تتقرر المعرفة بعلم النفس الحيوي psychobiology؟

نقطة خلاف اخرى بين العلماء هي المدى الذي يقترح فيه نيتشه ان وصولنا للحقيقة يتشكل ليس فقط بقدراتنا الادراكية الفردية واهتماماتنا وانما بمحفزاتنا الحيوية النفسية، بما يسميه نيتشه "دوافعنا".

في كتابها (نيتشه حول الحقيقة والفلسفة) مثلا، تقترح الفيلسوفة ماديمرا كلارك Maudemarie Clark ان منظورية نيتشه هي في الاساس تعليق على الابيستيمولوجي، طبيعة المعرفة – ترى كلارك ان منظورية نيتشه ترقى الى ادّعاء بان الكون ليس له سمة "موضوعية" خالصة. لا وجود لرؤية عامة للكون يمكن اتخاذها، لأن المخلوقات من الصقور حتى الانسان كلها لديها اهتمامات وقدرات ادراكية مختلفة. الطبيعة المنظورية الذاتية للمعرفة لايمكن ان تحرمنا من أي شيء نريده بشكل معقول.

هناك حقائق بين الناس، ربما حتى حقائق مشتركة مع كل الكائنات في الكون، لكن مثل هذه الحقائق ليست محايدة او غير متحيزة ابدا او موضوعية خالصة، لأنها تعتمد سياقيا على مختلف الادراكات المنسجمة. فمثلا، من وجهة نظر العلم انها الحقيقة الاحسن و الاكثر موضوعية بان الارض تدور حول الشمس. لكن العلم يبحث في العالم الذي يمكن للبشر فهمه.  العالم الذي يمكن للبشر فهمه لا يتطلب بالضرورة معرفة كل التفاصيل او المظاهر.

افرض هناك كائنات لا تتعامل مع الكون بثلاثة أبعاد – ربما هم يرونه ببعدين او تسعة أبعاد. افرض هناك كائنات لا تمارس الزمن بشكل خطي كما نفعل نحن. مثل هذه الكائنات يُحتمل لديها علم مختلف كليا عنا. ربما بالنسبة لهم لا معنى للقول ان الارض تدور حول الشمس. ان المنظورية يمكن تفسيرها على هذا النحو وهو ان كل الحقيقة الموضوعية لدينا يجب ان تكون مؤهلة من المنظور الانساني حتى لو بدت متشددة بشكل غير ضروري. نحن نتعامل مع الكون بطريقة معينة، لذا حقائقنا هي صحيحة فقط في تلك الطريقة من ممارسة الكون.

2+2=4 هي صحيحة لكائنات لديهم فكرة عن العدد والاضافة،وهي غير ملائمة لأي شيء ليس كذلك. وكما يكتب كلارك:

"المنظورية ترقى الى الادّعاء باننا لا نستطيع ولا نحتاج لتبرير عقيدتنا عبر اختزالها الى مجموعة من عقائد لايمكن مسائلتها والتي يجب على  جميع الكائنات البشرية ان تتقاسمها.  هذا يعني ان كل التبريرات سياقية تعتمد على عقائد اخرى لايمكن الطعن فيها في الوقت الراهن لكنها ذاتها قادرة فقط على تبريرات سياقية مشابهة".

وفق هذه الرؤية، نيتشه يرفض امكانية الميتافيزيقا بمعنى، هناك نظرية اساسية غير متحيزة ومستقلة عن المنظور الانساني.

كن جيمس Ken Gemes في مقاله عام 2013 (منظورات الحياة) والذي ظهر في دليل اكسفورد لنيتشه، يجادل ان نيتشه غير مهتم في عمل تعليق على الحقيقة او الابستيمولوجي ابدا. منظوريته ربما لها انعكاسات على الحقيقة او الابستيمولوجي لكنها يجب النظر اليها اساسا كادّعاء علم نفس حيوي. في الحقيقة، جيمس يربط المنظورية بعقيدة نيتشه في ارادة القوة،حيث كل "دافع" او "حافز" فينا له منظوره للعالم، ويسعى للتعبير عن ذلك التفسير على حساب حوافز اخرى. وهكذا يرى جيمس ان المنظورية نتيجة طبيعية لعقيدة نيتشه في الارادة الحرة.

وفق هذه الرؤية الاخيرة وفي تباين صارخ مع قراءة كلارك – نيتشه لا يرفض امكانية الميتافيزيقا في منظوريته وانما هو في الحقيقة يقدم واحدة خاصة به: ان العالم هو عدة منظورات، تتنافس لأجل الهيمنة.

أين يتركنا منظور نيتشه؟

ان عدم الاتفاق والالتباس الذي يحيط برؤية نيتشه حول الحقيقة تأكّد بحقيقة ان نيتشه ذاته يبدو يغيّر آرائه طوال اعماله. في هذه المقالة المبكرة (حول الحقيقة والكذب بمعنى غير أخلاقي)، إنكار نيتشه للحقيقة يظهر بوضوح، وهذه المقالة هي المسؤولة عن اثارة المزيد من التفسيرات المابعد حداثوية لرؤى نيتشه.

لكن، في أعماله اللاحقة، وبالذات بدءاً من (في جنيالوجيا الاخلاق) فصاعدا، نيتشه كان متحمسا كثيرا حول امكانية الحقيقة، وكذلك العلم كونه الطريقة الاكثر فعالية للحصول عليها. بالطبع، في هذه الاعمال هو يستمر بنقد العلم من حيث قدرته على تزويدنا بقيمة تعليمية حول الطريقة التي نقترب بها من الحياة – وان متابعة العلم على حساب كل ماهو آخر هو ضار سايكولوجيا – لكنه لم يعد لديه مشكلة كبيرة معه كقاطرة لإعطاء معرفة ثمينة وموثوقة حول طبيعة الوجود (حتى عندما تكون معرفة المزيد عن طبيعة الوجود لاتفيدنا تماما للتوافق معه).

هناك سبب آخر للشك في التفسير المابعد حداثوي الشائع لنيتشه،في انه يرفض الحقيقة الموضوعية. في الحقيقة، اذا كان نيتشه يرفض إمكانية الحقيقة، هذا يعني افتراضا ان جداله يقع ضمن صنف "غير صحيح".

هذا ليس فقط يثير مشكلة الاحالة الذاتية (مبدأ لا وجود لشيء كحقيقة موضوعية" كاستثناء لقاعدته الخاصة به؟)، وانما ايضا يلقي شكا في كل فلسفة نيتشه. لماذا يهتم نيتشه بوصف تجربتنا في العالم باعتبارها تفاعلا بين الأبولونية والديونيسيوسية في مولد التراجيديا، اذا كان لا يعتقد ان هذه الملاحظة حقا تتوافق مع الطريقة التي تسير بها الامور؟

لماذا هو يهتم في صياغة أفكار وإطلاعنا بها مثل فكرة العود الابدي او السوبرمان لو كان لايرى حقيقة عامة فيها؟

مختلف المستويات من الحقيقة

ربما احدى الطرق لحل هذا التوتر الظاهر في فكر نيتشه هو تأسيس درجات مختلفة لكلمة صحيح "true". كلمة صحيح بحرف كبير "True" تشير الى حقيقة ميتافيزيقية عميقة محايدة، بينما صحيح بحرف صغير true”" تشير الى حقيقة عامة مشتركة بين وجهات نظر متوافقة لكنها لا تدّعي اي هدف يتجاوز هذا).

لا وجود هناك لعالم عائم حر محايد للحقيقة الموضوعية، نيتشه يرى هناك فقط العالم الذي نتعامل معه ذاتيا – ونحن نستطيع ممارسة وزيادة معرفتنا به فقط بسبب منظوراتنا، وقدراتنا الادراكية واهتماماتنا. عالم بدون منظور هو تماما مثل الشيء بلا موضوع - غير منطقي. التأمل غير المتحيز في الحقيقة الميتافيزيقية،كما يرى نيتشه، هو استحالة سخيفة، وان النقاشات المؤثرة في ما هو صحيح بالنسبة لنا،وفق المعايير المعمول بها بين مختلف المنظورات المنسجمة، هي كل ما يمكننا ان نسعى اليه او نأمل فيه بشكل واقعي.

لذا، ربما نقول، نيتشه لا يعتبر فلسفته او معرفته العلمية صحيحة بالمعنى الميتافيزيقي (لأن مثل هذه الحقيقة مستحيلة)، وانما صحيحة بمعنى انها افضل نظرية حاليا لدينا من بين منظوراتنا الانسانية المحدودة.

وبصرف النظر عن مكاننا في هذه القراءات المختلفة، منظورية نيتشه غالبا ما يتم الاشادة بها كواحدة من أهم مساهماته الفلسفية الثمينة كونها فتحت النقاش حول المدى الذي تؤثر فيه العوامل الخارجية على "نقاء" المعرفة. انها تضيف دقة وتعقيدا وعمقا سايكولوجيا كان مفقودا عندما يتعلق الامر بتحليل نظريات المعرفة: نحن لا نستطيع الهروب من منظوراتنا، وبالتالي فان الوعي بما يشكل ويحد من وجهات النظر تلك هو هام لتقدم المعرفة.

بكلمة اخرى، ادّعاءات الفلاسفة والمفكرين القدماء لا تحتاج فقط تحليل من وجهة نظر الحقيقة، وانما يمكن تشخيصها ايضا على انها أعراض لأنماط معينة من الوجود، ويمكن ارجاعها الى التكوينات المعقدة لعلم النفس، والدافع والتأثير من وجهة النظر التي تجعلها منطقية. يلخص R.Lanier Anderson:

"منظورية نيتشه ترتبط ببرنامجه "الجينولوجي" في نقد النظريات الفلسفية عبر كشف الحاجات السايكولوجية التي تلبّيها، تساعد المنظورية في تحفيز البرنامج وتزويده بإرشاد ميثدولوجي".

***

حاتم حميد محسن

....................

Philosophy Break, January 2025

  

إذا كان نيتشه قد عدَّ الغالق الحقيقي لبوابة الحداثة، فإن فوكو الفاتح الحقيقي لبوابة ما بعد الحداثة

كشف التطور التكنلوجي في مجال العلم، بؤس المناهج الفلسفية والأنساق المعرفية التي كانت متاحة عند فلاسفة العصر الحديث، وهذه المفارقة قد أوجدها فلاسفة ما بعد الحداثة، حيث أدركوا أن المناهج الفلسفية لم تعد تواكب ديناميكية العلوم وصيرورة الفكر العلمي، فضلاً عن النتائج اليقينية والقطعية التي ينتهي إليها العلم. والجانب الرئيسي والحاسم في مجال تبديل المنهج يكمن في عملية الانتقال من العلوم الميتافيزيقية إلى العلوم الفيزيقية. ومن أجل ذلك سعى فلاسفة ما بعد الحداثة إلى إعادة صياغة للمناهج المستعملة في مجال الفلسفة، فمنذ النقد النيتشوي لمسلمات العقل والدين والأخلاق، وهي المرحلة التأسيسية لفتح المجال لتيار ما بعد الحداثة، مروراً بفينومينولوجيا هوسرل، وحتى البنيوية وغيرها، بدأ المنهج يأخذ مجالاً آخراً عما سبق، ونتيجة لهذه الحاجة الماسة في المنهج، خرج صاحبنا فوكو بأهم افرازات الفكر الغربي في المنهج، وهو المنهج الأركيولوجي.

​وهو من الناحية اللغوية يتكون المصطلح من شقين، (arche)، وهي مفردة يونانية تعني القديم، و(logy)، وتعني علم، ليصبح معناه اللغوي (علم الآثار)، وهو فرع علمي يعنى بدراسة آثار الحضارات القديمة، أو هي علم النقوش والآثار المندثرة، ظهر المصطلح لأول مرة في كتابات فوكو في (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي)، وكتاب (مولد العيادة)، الذي ظهر بطبعته الأولى تحت عنوان (اركيولوجيا النظرة الطبية)، وكذلك جاء كتاب (الكلمات والأشياء) كان في طبعته الأولى بعنوان (اركيولوجيا العلوم الإنسانية). ومما تجدر الإشارة إلى عدم وجود أي علاقة بين الاركيولوجيا بوصفها علم يبحث في الآثار، وبين استخدام فوكو وتوظيفه لهذا المصطلح، ففوكو لا يبحث في الآثار في مجال المعرفة ليعيد بناء ماضي المعرفة الإنسانية، وإنما يبحث في جملة القواعد بعدّها شروطاً لإمكان ظهور المعارف في فترة تاريخية معينة. ​

​وعن طريق الأركيولوجيا بحث فوكو في تاريخ الفلسفة، ففي إحدى محاولاته الحفرية، يؤكد فوكو على إن عصرنا كله، سواء من خلال المنطق أو من خلال الأبستمولوجيا، وسواء من خلال ماركس أو من خلال نيتشه، عصر يحاول أن يفلت من هيغل، وما حاولت أن أقوله من قبل بصدد الخطاب ليس وفيّاً للوغوس الهيغلي. ولكن أن يفلت المرء فعلاً من هيغل، فهذا أمر يتطلب تقديراً مضبوطاً لما يكلفه الانفصال عن هيغل، وهذا يقتضي أن نعرف ما الذي ما يزال هيغلياً، ضمن ما يمكننا من التفكير ضد هيغل، وأن نقيس القدر الذي يحتمل فيه أن يكون سعينا إلى مناهضة خدعة ينصبها في وجهنا وهو ينتظرنا في نهاية المطاف هناك هادئاً. وليس فوكو فقط من اتخذ هذا الموقف ضد الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل، فأول من أسس لهذه الثورة هو الفيلسوف الدنماركي سورن كيركيغارد، وبعده جاء صاحب المطرقة، أقصد الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، ليحطم المرحلة الحديثة لتاريخ الفلسفة، وبدون شك أن هذه المرحلة تشكلت وبإسهامٍ كبير مع هيغل، وحتى برتراند رسل، لديه موقف جدُّ متطرف من فلسفة هيغل، حيث يسمي منهجه الذي بنى عليه فلسفته، أي الدياكتيك بــ جرثومة هيغل.

وتمثل الأريكيولوجيا محوراً هاماً في تاريخ الفكر الفلسفي المعاصر، فقد كانت الانطلاقة من الفتوحات البنيوية في مجال الأنثروبولوجيا والتحليل النفسي واللسانيات، إلا ان فوكو لم يبق رهين المنهج البنيوي، بل قام بتجاوز البنيوية وحتى انتقادها والتنكر لها، ليقدم مشروعاً أسماه بالمشروع الحفري النقدي. وهنا تثار مشكلة التصنيف لفوكو، فمن جهة هناك العديد من الدراسات تنسب فوكو صفة البنيوية، وينفي فوكو من جهة أخرى إلحاق هذه الصفة به. فيقول فوكو: لا أرى من يمكن أن يكون مضاداً للبنيوية أكثر مني، لكن ما هو مهم ألا نفعل بالحدث ما فعلناه بالبنية، إذ لا ينبغي أن نضع كل شيء في مستوى واحد هو مستوى الحدث، بل ينبغي أن نعتبر أن هناك سلماً من أنماط الأحداث المختلفة التي ليست لها نفس الأهمية، ولا نفس الامتداد الزمني ولا نفس القدرة على إحداث تأثيرات.

​وقد حاول فوكو من خلال اركيولوجيته أن يؤسس مشروعاً فلسفياً متكاملاً، ليست غايته البحث عن الحقيقة وتتبعها، بل إن الغاية الأساسية من الأركيولوجيا تتمحور في تقويض فكرة الحقيقة في مختلف مجالاتها، خصوصاً وإن التغيرات التي شهدها العالم في القرن الماضي، كانت ضرورة ملحة لتغيير النهج الفكري في مستوياته المختلفة. وبالتالي، كانت اركيولوجيا فوكو منهج يهدف إلى الكشف عن القواعد التي تسهم في تشكيل الخطاب في حقبة تاريخية معينة وأشكال ظهوره وانبجاسه والكيفية التي يمارس بها دون الاهتمام بمضمون الخطاب، وإنما بما يشكله، فهو يسعى لرسم حركة التعاقب وانماطه وصيغه المختلفة التي يتخذها، والمستويات المختلفة للتحولات إنها تبحث عن القطائع والانشقاقات والتصدعات وتقوض منطلقات التاريخ بحلته التقليدية، فهي منهج يكرس للاختلاف، وممارسة تكشف وتميط اللثام عن أنماط تكون الخطابات وتعاقبها وتشابكها.

​وتوجه الحفر الأركيولوجي نحو مجموع الممارسات الخطابية وغير الخطابية، معتمداً على تفكيك الشفرة اللغوية التي توارت خلف الخطابات بتعدد مستوياتها؛ بمعنى أن اللغة كانت ذات أهمية بالغة في النقد الفوكوي للحضارة الغربية.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

اعتقد وجود عشرات التساؤلات تلوح في مخيلة أذهان قرائنا وجميعها يدور حول غرابة عتبة الخطاب (عنوان المقال) دلالته ومعناه وحيثياته وبنيته والقضايا ذات الصلة التي يثيرها في سماء ثقافتنا الملبدة بالغيوم والدخان والضباب المتوهم من فرط غياب صفاء المصارحة المعرفية، ووضوح المعاني، وصدق الصور، والأصوات والمشاعر التي تنقلها الحواس للأذهان لتقوم بدورها النقدي لغربلة الوافد من المدركات والأوهام للوصول إلى المعقولات والقناعات المنطقية حيث درجات الحقائق ودركات الأوهام الخادعة والمعارف الزائفة فتفصل بين اليقين والإفك؛ الأمر الذي لا سبيل إليه سوى ما نطلق عليه فلسفة الكذب.

أجل نتسائل هل يمكننا الجمع بين محبة الحكمة وكراهة الكذب في سياق واحد؟ وما ذلك الذي يربط بين أيقونة الفضائل العقلية وأحط الرذائل النفسية وأقبح النقائص الأخلاقية أو واحدة من المفاسد التربوية؟ وماذا نجني من تلك الرابطة في ذلك النسق العقلي؟ وهل تحدث الحكماء عن الكذب بوصفه جنوحاً أو سلوكاً أو وسوسة شيطانية وإحدى النقائض الكامنة في النفس البشرية (الفجور والتقوى، الشر والكذب، الحب والكراهية، التسامح والتجبر)؟ وماذا قدم الحكماء من أراء أخلاقية وآليات معرفية ونهوجًا منطقية لمكافحة ذلك الكذب في ميدانيّ القيم والمعرفة؟ وما تلك الطرائق والآليات لمكافحة تلك الوساوس وفضح ألاعيب صناع الأوهام والأكاذيب.

لذا سوف أحاول في السطور التالية الإجابة عن هاتيك التساؤلات حتى يزال اللبس وتنكشف مواطن الغموض.

***

فيبدو أن معظم المثقفين غير متخصصين في المعارف الفلسفية قد خفي عليهم أن للفلسفة مباحث رئيسة (الوجود، المعرفة، القيم) ومباحث أخرى فرعية تنطلق من العلوم والموضوعات التي تطرح على مائدة النظر العقلي وهي متباينة ومتعددة ومتجددة ومتطورة وفق الثقافة السائدة وحركة التاريخ وجميعها يحتكم إلى منهجيات تتواءم مع طبيعة بنية الأفكار المطروحة من جهة وتستعين بآليات توافق ثقافة العصر الذي تطرح فيه تلك الأمور الفلسفية وهي من ناحية أخرى تنقسم تلك المعارف الفلسفية إلى جانبين (نظري وتطبيقي) الأول يختص بالمعارف التجريدية التي تحتكم إلى المعقولات والمنطق أو للتجربة العلمية الحسية

 أما الجانب الثاني فمجاله التطبيق والممارسة ويكتسب قيمه من التجربة العملية الأداتية والوظيفية وتحتكم إلى كفاءتها وقدرتها على القيام بوظيفتها بالوجه المناسب للواقع أيضًا أي أن المعيار هو التطبيق العملي . وقد اختلف الباحثون في بنية الفلسفة حول معنى العقل وميادينه ومجالاته ومن ثم تباينت تصنيفاتهم للعلوم النظرية والتجريدية والتجريبية والوجدانية والروحية وعلى سبيل المثال أدرجت فلسفة اللغة ضمن العلوم اللسانية التطبيقية وانقسم علم الأخلاق إلى قيم عامة وأخلاقيات تطبيقية وآداب مهنية وميزت بعض التصنيفات فلسفة الدين عن فلسفة اللاهوت وجعلت ضربين للمنطق نسقي عقلاني وعلمي تجريبي كما نزعت بعض الفلسفات المعاصرة إلى نقد هذه التصنيفات ونقض تلك المناهج والأسس والضوابط الحاكمة للتفكير في هذا أو ذاك وتمردت على بنية المحتوى المعرفي للتفكير فشرعت في الحديث عن (المابعديات) مثل ما بعد المنطق، ما بعد العلم ، ما بعد الدين. كما استشرفت نهايات لمبحث الوجود مثل نهاية التاريخ ونهاية الحضارة ونهاية الإنسان. واستحدثت فلسفات نوعية مثل فلسفة النقد، وفلسفة القراءة، والفلسفة النسوية، وفلسفة المستقبل، وفلسفة الروح.

أما الموضوع الذي نحن بصدده (فلسفة الكذب) فهو ينتمي إلى الفلسفة الأخلاقية التطبيقية في جانبه القيمي وينضوي تحت فلسفة المنطق والعلوم المعاصرة في جانبه المعرفي. شأنه في ذلك شأن فلسفة اللعب وفلسفة الحب وفلسفة البيئة وفلسفة الجنس وفلسفة الحرب وفلسفة الفن وفلسفة الضحك فجميعها تطبيقية تتشكل بنياتها تبعًا لطابعها العملي وموضوعاتها الأداتية.

***

وعليه أن فلسفة الكذب معنية بأمرين أولهما نظري يتمثل في تحليل بنية الكذب وعلة وجوده وتحديد شكله وأثره في المجتمع وأغراضه ومراميه وكيفية صناعته.  أما الجانب التطبيقي فيتعين في آليات كشفه والتحكم في آثاره وإيجاد أيسر السبل لمقاومته وأقوى النهوج للتصدي إليه وإحباط مؤامراته عن طريق معالجة منافذ ظهوره ومقومات انتشاره.

لذا نجد معظم فلاسفة التربية والأخلاق قدماء ومحدثين يرغّبون النشأ في فضيلة الصدق ويرهبونهم ويحذرونهم من تبيعات الكذب وذهبوا في الوقت نفسه لتتبع مراحل نمو هذا الداء فاجتهدوا في نزع الخوف من الأذهان والخجل والجبن من المشاعر وأعلوا من شأن فضيلة الشجاعة والحياء والمصارحة في برامجهم التربوية واتخذوا من عملية إحلال الفضائل عوضًا عن مكامن الرذائل والنقائص التي تسللت للعادات باعتبار هذا النهج أولى خطوات معالجة الكذب وقد كشفوا أيضًا أن الثقافة السائدة في المجتمع تعد من العلل الرئيسة لظهور الإفك والغدر والخيانة والنكوث بالوعود ونقد العهود وجميعها شكل من أشكال الكذب وعلل ذلك ترد في المقام الأول إلى ضعف الوازع القيمي المستمد في أغلب تلك الثقافات من الفكر الديني وغيبة القدوة والمصلحين أضف إلى ذلك تفشي الفساد وانتشار المحرضين عليه وغيبة العدالة والإنصاف في الأمور الاجتماعية والسياسية وجحد الناس للقوانين والضوابط واستخفافهم بها حتى أضحى الرأي العام يأن من العوز والفقر والشعور بالإحباط والعجر عن بلوغ المقاصد والمطامح والآمال فانقسمت المجتمعات إلى طبقات واتجاهات وملل ومذاهب وطوائف وأحزاب الأمر الذي ولد الخلط بين العديد من المفاهيم مثل (التسامح والطيبة والجبن والحياء والعفة والتحرر والإباحية والعري). وراق لفريق آخر من المتفلسفة البحث عن علة الكذب في الطبائع البشرية؛ فالشخص المصاب بالأنانية أو بالنرجسية أو المغالي في حكمه على قدراته والمتطلع إلى ما لا يتفق مع مؤهلاته فجميع تلك الشخصيات تلجأ للكذب رفضًا لواقعها وتمردًا على ظروفها وهناك بعض الشخصيات التي تؤثر التملق والمداهنة والنفاق على بذل الجهد والكد والاجتهاد لتصل إلى ما تطمح إليه وذلك بالمداراة والغش والبوح بنقيض الحقيقة. وهناك فريق ثالث من العلماء والفلاسفة والمفكرين قد عني جد عنايته بتحليل كتابات الأغيار الطاعنة في الثقافة العربية الإسلامية بداية من جحد عراقة تراثها القديم وطبيعة دور هذه الأمة العريقة في الحضارة الإنسانية والمشككة في قداسة عقيدتها الإسلامية والمسيحية وعقلانية مصنفات المفكرين في الحضارة الإسلامية سواء في ميادين العلم، الفلسفة، الفن؛ أو في المباحث الفقهية والكلامية والصوفية.

ولعل أشهر هذه المحاولات النقدية التي عمدت إلى فضح أكاذيب غلاة المستشرقين هي ترجمة دائرة المعارف الإسلامية إلى العربية والتعقيب على موادها المعرفية وذلك في مطلع العقد الثالث من القرن العشرين ناهيك عن المحاولات النقدية الفردية لصد هذه الهجمة الغادرة التي اضطلع بها أوائل رواد النهضة العربية الإسلامية في الربع الأول من القرن التاسع عشر؛ وذلك للكشف عن زيف ادعاءات كُتابها وفضح دوافعهم العدائية وعصبتيهم الشيفونية وذلك للحط من شأن ثقافتنا التليدة.

كما عكف طريق رابع على تحليل الشائعات والادعاءات والاخبار والاعلانات وغير ذلك من آليات التواصل الجماهيري وذلك لكشف المغالطات المنطقية في تلك الدعاوى والأهداف الحقيقية من وراء ذيوع الخبر وانتشاره كما استخدمها المحققون لاستجلاء الحقائق من فرط الخداع الذي اتخذته الحروب المعاصرة سلاحًا لها إذ طمست الحقائق وروجت لوجود الأوهام وحجبت النتائج العلمية الحديثة عن الشعوب المتطلعة للتقدم والتطور وبررت ذلك بأن الخداع والمراوغة من آليات الحروب وفاتهم أن هذا الصراع جزئي وليس دائم أو كلي فالأصل في التعايش الإنساني هو السلم والتعاون وليس الإضلال والتضليل والخداع والخيانة والتآمر والكيد.

 ومثل كل تلك الأمور تنضوي بالقطع تحت قناع الكذب.

أما الجانب التنويري والتوجيهي فيمثل الشق الإيجابي من وظائف الفلسفة حيال هذه الآفة التي كفرت بالصدق وشوهت الحق وشوشت على المعارف وشككت في الثوابت فغلت العقول وأضلتها؛ الأمر الذي دفع الفلاسفة قديمًا وحديثًا إلى إحياء هذا الجانب النقدي للفلسفة علمًا بأن أقدم الدراسات التي حملت عنوان (فلسفة الكذب) في مصر والعالم العربي ترجع إلى العقد الرابع من القرن العشرين وبالتحديد على يد محمد مهدي علام (1992-1900) عام 1932 بعنوان (فلسفة الكذب) أما أحدثها فهي للدكتورة سهام محمد عام 2024 م بعنوان (صناعة الكذب)؛ الأمر الذي يكشف عن أصالة هذا المبحث في الدراسات العربية ومن ثم فأنني أناشد شبيبة الباحثين الاضطلاع بهذه المهمة أي عقد دراسات تطبيقية عن فلسفة الكذب وذلك لنتمكن من صد الهجمة الشرسة التي وجهت أسلحتها لاقتلاع وجودنا بداية من التشكيك في أصالة ثوابتنا وصدق رموزنا وقادتنا وأهل الرأي فينا ومرورًا بالعمل على الحط من عزائمنا في شتى الميادين وانتهاءً بإفساد حياتنا الاجتماعية والأخلاقية والتربوية والتعليمية والسياسية وتضليل القائمين عليها. وليعلم المعنيون بالدراسات الفلسفية أن الخطب جلل ويحتاج إلى جهود بحثية وتطبيقية لدفع الضرر عن أمتنا.

وللحديث بقية عن جوانب فلسفة الكذب التطبيقية.

***

بقلم: د. عصمت نصّار

 

من التمايز المصطلحي إلى التكامل المعرفي

مقدمة: يُمثل الإدراك البشري (Perception) أحد الموضوعات الأساسية في الفلسفة، حيث يتناول العملية التي يترجم بها العقل البشري المعطيات الحسية إلى معرفة. يتمحور النقاش الفلسفي حول الإدراك حول سؤال أساسي: هل الإدراك عملية موضوعية تعكس الواقع كما هو، أم أنه ذاتي يتشكل وفقًا لتجارب الفرد وتصوراته؟ هذا المقال يهدف إلى استعراض التمايز المصطلحي بين الذاتية والموضوعية في سياق الإدراك، ثم استكشاف إمكانية التكامل المعرفي بينهما، مع الاستناد إلى التراث الفلسفي وآراء فلاسفة مثل ديكارت، كانط، وهوسرل، إلى جانب الإسهامات الحديثة في فلسفة العقل وعلم الإدراك.

التمايز المصطلحي: الذاتية والموضوعية

يُعرف الإدراك في الفلسفة بأنه العملية التي يتم من خلالها تفسير البيانات الحسية لفهم العالم الخارجي. يتمحور التمايز بين الذاتية والموضوعية حول مصدر المعرفة وطبيعتها:

  الذاتية (Subjectivité): تشير إلى الإدراك كتجربة فردية تتأثر بالعوامل الشخصية مثل الخلفية الثقافية، العواطف، التجارب السابقة، والتحيزات المعرفية. في هذا السياق، يُنظر إلى الإدراك كعملية داخلية تعكس حالة الذات أكثر من الواقع الخارجي. على سبيل المثال، يرى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت في كتابه التأملات في الفلسفة الأولى (1641) أن المعرفة الحسية قد تكون خادعة، وأن اليقين الحقيقي يكمن في الذات الواعية ("أنا أفكر، إذًا أنا موجود").

الموضوعية (Objectivité): تفترض أن الإدراك يمكن أن يعكس الواقع كما هو، مستقلًا عن الذات الفردية. هذا الموقف تجسد في الفلسفة الواقعية، التي تؤكد أن هناك عالمًا خارجيًا موجودًا بغض النظر عن إدراكنا له. على سبيل المثال، يرى جون لوك في مقال في الفهم البشري (1689) أن الأفكار تنقسم إلى صفات أولية (موضوعية مثل الحجم والشكل) وصفات ثانوية (ذاتية مثل اللون والطعم).

التمايز بين الذاتية والموضوعية يطرح إشكالية فلسفية عميقة:

هل يمكن للإدراك أن يكون موضوعيًا بالكامل، أم أن الذاتية جزء لا يتجزأ منه؟ هذا السؤال قاد إلى انقسامات فلسفية بين التيارات المثالية (Idéalisme)، التي ترى أن الواقع يعتمد على الذهن (كما عند بيركلي)، والتيارات الواقعية (Réalisme)، التي تؤكد وجود عالم مستقل.

الإدراك عند الفلاسفة: من ديكارت إلى كانط

 رينيه ديكارت (1596-1650): أسس ديكارت للشك المنهجي، معتبرًا أن الحواس قد تكون خادعة، كما في مثال الشمع الذي يتغير شكله عند الذوبان، لكنه يظل شمعًا في جوهره. اقترح ديكارت أن العقل هو مصدر المعرفة الحقيقية، مما يعزز الطابع الذاتي للإدراك.

إيمانويل كانط (1724-1804): قدم كانط في كتابه نقد العقل الخالص (1781) رؤية ثورية تربط بين الذاتية والموضوعية. يرى كانط أن الإدراك يتشكل من خلال هياكل معرفية مسبقة في العقل (مثل الزمان والمكان)، والتي تُنظم المعطيات الحسية. وفقًا لكانط، لا ندرك "الشيء في ذاته" (Noumène)، بل الظاهرة (Phénomène) كما يتشكل في وعينا. هذا النهج يُظهر تفاعلًا بين الذاتية (هياكل العقل) والموضوعية (المعطيات الخارجية).

إدموند هوسرل (1859-1938): في الفينومينولوجيا، دعا هوسرل إلى "تعليق الحكم" (Epoché) لدراسة الإدراك كما يظهر للوعي، متجاوزًا الافتراضات حول الواقع الخارجي. يرى هوسرل أن الإدراك عملية ذاتية في جوهرها، لكنها تتيح فهمًا مشتركًا للواقع عبر التجربة الواعية.

التكامل المعرفي: جسر بين الذاتية والموضوعية

في الفلسفة الحديثة وعلم الإدراك، ظهرت محاولات لتجاوز الثنائية بين الذاتية والموضوعية من خلال التكامل المعرفي. يمكن تلخيص هذا النهج في النقاط التالية:

  الفينومينولوجيا والتجربة المشتركة: يقترح هوسرل ومن تبعه (مثل موريس ميرلو-بونتي) أن الإدراك، رغم ذاتيته، يعتمد على تجربة مشتركة بين البشر. على سبيل المثال، إدراك اللون الأحمر قد يختلف في تفاصيله بين الأفراد، لكنه يتيح التواصل بفضل السياقات الثقافية واللغوية المشتركة.

علم الإدراك (Science cognitive ): تُظهر الدراسات الحديثة أن الإدراك يتأثر بتفاعل معقد بين العمليات العصبية والمعطيات الخارجية. على سبيل المثال، نظرية "الإدراك التوقعي" تقترح أن العقل يبني نماذج تنبؤية بناءً على المعطيات الحسية والتجارب السابقة، مما يجمع بين الذاتية (النماذج الداخلية) والموضوعية (المدخلات الحسية).

التشابكية: هذا النهج، الذي طوره فرانسيسكو فاريلا وآخرون، يرى أن الإدراك ليس مجرد استقبال للمعطيات، بل عملية ديناميكية تنشأ من التفاعل بين الكائن الحي وبيئته. هذا التفاعل يتيح التكامل بين الذاتية (تجربة الفرد) والموضوعية (البيئة الخارجية).

التحديات والنقاشات المعاصرة

رغم محاولات التكامل، لا تزال هناك تحديات:

  الوهم الإدراكي: تُظهر الظواهر مثل الأوهام البصرية أن الإدراك قد يكون خادعًا، مما يعزز الطابع الذاتي. على سبيل المثال، تجربة "فستان الألوان" (2015) أثارت نقاشًا عالميًا حول اختلاف إدراك الألوان بين الأفراد.

التحيزات المعرفية: تؤثر التحيزات مثل تأثير التأكيد على الإدراك، مما يجعل الموضوعية الكاملة أمرًا صعب المنال.

الذكاء الاصطناعي: مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، أصبحت فلسفة الإدراك تواجه أسئلة جديدة: هل يمكن للآلات أن تدرك بطريقة موضوعية، أم أن إدراكها يعتمد على برمجة ذاتية؟

خاتمة

فلسفة الإدراك البشري تكشف عن توتر دائم بين الذاتية والموضوعية، لكنها تُظهر أيضًا إمكانية التكامل المعرفي. من ديكارت الذي ركز على الذات الواعية، إلى كانط الذي جمع بين هياكل العقل والواقع الخارجي، إلى الإسهامات الحديثة في الفينومينولوجيا وعلم الإدراك، يتضح أن الإدراك عملية مركبة تجمع بين التجربة الفردية والبيئة الخارجية. التكامل المعرفي، كما يظهر في التشابكية ونظريات الإدراك التوقعي، يقدم أملًا في فهم أعمق لهذه العملية. ومع ذلك، تبقى التحديات قائمة، مما يجعل الإدراك موضوعًا حيويًا للنقاش الفلسفي والعلمي في القرن الحادي والعشرين. فكيف جعلت فلسفة الذهن من الادراك تجربة أساسية للكائن الحي؟.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

يتحوّل النص الأدبي، حين يُثقل بكوابيس المستقبل، إلى ما يشبه نداءً داخلياً يتجاوز حدود اللعب الجمالي، ويتلمّس في الخيال وسيلة لمواجهة شعور دفين بالخسارة، وقلقٍ يتنامى إزاء ما هو آت، فالدافع إلى الكتابة في هذا السياق لا يبع من الرغبة في إنتاج عالم متخيل مستقل، بل من رغبة ملحّة في مساءلة الواقع وكشف اختلالاته، لا بوصفه ما هو كائن فحسب، بل ما يمكن أن يكون، إذا ما استمرّ مسار العالم في منحدره الراهن.

لذلك يغدو الأدب الديستوبي (The Dystopian Literature) شكلًا من أشكال المقاومة السردية، حيث تتقاطع المخيلة مع النقد الاجتماعي لتنتج رؤية مغايرة للواقع، وكما يوضح إم كيث بوكر(M. Keith Booker)،  في كتابه (الدافع الديستوبي في الأدب الحديث: القصة كنقد اجتماعي)، أن (تناول المجتمعات المتخيلة في أبرز روايات الديستوبيا لا ينفصل، في جوهره، عن قضايا ومجتمعات واقعية بعينها، إذ تبقى هذه الأعمال وثيقة الصلة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بوقائع "العالم الحقيقي") وعليه، فإن تخييل المستقبل في هذا الأدب لا يُعدّ انفصالاً عن الحاضر، بل هو تكثيف لأزماته، وإعادة قولبته في صورة كابوسية تُظهر بشاعة ما يُنظر إليه عادة كمألوف أو حتمي.

يستند الأدب الديستوبي إلى تقنية أساسية هي (نزع الألفة؛ فمن خلال تركيزه النقدي على بيئات متباعدة زمانياً أو مكانياً، يتيح إمكانية النظر إلى ممارسات اجتماعية وسياسية إشكالية، من زوايا جديدة، والتي قد تبدو، في سياقاتها المألوفة، طبيعية أو حتمية أو غير قابلة للمساءلة)، وبهذا، لا يعود "الخيال" انفصالاً عن الواقع، بل يصبح الأداة التي يمكن من خلالها تفكيك هذا الواقع، وفضح ما يختبئ فيه من آليات إخضاع وتسليم.

هذا التوتر بين الحلم واليقظة، بين الكمال المرغوب والكارثة الممكنة، هو ما يجعل من الديستوبيا شكلًا مضاداً لليوتوبيا من حيث البنية، لكنه غير مفصل عنها من حيث الوظيفة. فكما يشير بوكر، فإن المفارقة الكبرى في أدب الديستوبيا تكمن في أنه (قد يُشكّل تصحيحاً ضرورياً) للميل اليوتيوبي، بما هو تنبيه دائم إلى ما يمكن أن يحدث حين تُفرض الرؤى المثالية كوقائع نهائية مغلقة، فتتحول إلى أدوات قمع واستبداد، وهذا ما يدفع العديد من المفكرين إلى التحذير لا من استحالة اليوتوبيا، بل من قابليتها للتحقق، إذ يرى إليوت أن (اليوتوبيا كلمة سيئة اليوم، ليس لأننا يائسون من إمكانية تحقيقها، بل لأننا نخشاها. لقد أصبحت اليوتوبيا نفسها (وفقاً لمعنى خاص للمصطلح) هي العدو).

بهذا المعنى، لا تتعامل الديستوبيا مع المستقبل بوصفه زمناً مفترضاً، بل بوصفه صورة مضخّمة لما يحدث في الحاضر، وقد بلغ مداه الأقصى، إنها تُعرّي حاضراً ملوثاً تحت الأقنعة، وتُظهر كيف يمكن لأحلام العدالة والمساواة والقيم الإنسانية السامية أن تنقلب، إذا أُديرت من داخل منظومات مغلقة، إلى أدوات لتكريس الطاعة وتدمير الفرد، وسقوط القييم، وهذا ما تؤكده أبرز الأعمال الديستوبية، واللافت أن كثيراً من هذه النصوص تنبّهنا إلى أن أخطر أشكال الاستبداد ليست تلك التي تُمارس بالقوة الصريحة، بل التي تُمارس من خلال الإقناع، أو حتى عبر الاستبطان الطوعي، لذلك يكتسب مفهوم "الرضا الشعبي" بعداً مقلقاً، إذ كما يقول بوكر(إذا كان لأدب الديستوبيا أن يُعلّمنا شيئاً، فهو أن التواطؤ الشعبي مع الأوضاع القائمة، أو الشعور بالرضا الجماعي، يُعدّ من أكثر الطرق المضمونة نحو الاستبداد)، فالخطر الأكبر لا يكمن في القمع الظاهر، بل في تواطؤ الجماعة مع منطق السيطرة، حين يصبح الاستعباد ذاته مقنّعاً على هيئة أمن أو رخاء أو انسجام.

ولأن هذا النوع الأدبي مشغول، في عمقه، بنقد النظام الرمزي الذي يؤسس للسلطة، فإن اللغة نفسها تتحوّل إلى ساحة صراع، فهي إما أن تُستخدم كأداة للهيمنة وإعادة إنتاج التبعية أو تُغدو وسيلة مقاومة واستعادة للذات. وهنا يُفهم لماذا تصبح الكتابة، في هذا السياق، أكثر من مجرد فعل فني،إنها فعل سياسي بامتياز، يُعيد ترتيب العلاقة بين الذات والعالم، ويستعيد للإنسان صوته في وجه آلة التماثل والرقابة.

وفي هذا الإطار، يلتقي الأدب الديستوبي مع الفكر النقدي المعاصر، الذي أظهر، منذ نيتشه وفرويد، أن النظام لا يُقوَّض فقط من خلال المواجهة المباشرة، بل من خلال التشويش على منطقه الداخلي، وكشف تناقضاته، وفضح لغته، ولذلك لا يمكن فصل هذا الأدب عن الأسلة التي طرحها مفكرون كأدورنو، وفوكو، وهابرماس، الذين رأوا أن أي طموح يوتيوبي، إذا لم يُراجع باستمرار، فإنه مُعرّض لأن يتحوّل إلى شكل من أشكال الهيمنة، وفي المقابل، فإن الفكر الديستوبي، بما يطرحه من تحذيرات، يظل ضرورياً من أجل (الحفاظ على أي إمكانية قائمة لحلم بمستقبل أفضل).

هكذا، لا تُعدّ الديستوبيا مجرد تصوّر أدبي سوداوي، بل استجابة ثقافية نقدية لانسداد الأفق، إنها لا تهدف إلى بثّ اليأس، بل إلى استعادة القدرة على التفكير في البدائل، لا عبر الحلم الساذج، بل عبر المواجهة المباشرة مع ما هو كائن، فالسؤال الذي تطرحه الديستوبيا ليس ما المجتمع المثالي؟ بل ما الذي يجعل المجتمع الراهن مُرعباً إلى هذا الحد؟ وكيف يمكن منع هذا الرعب من التحوّل إلى قاعدة؟ ومن هنا، فإنها تفتح باباً لا للهرب، بل للمساءلة، وللتفكير في ما يتطلبه الأمل من يقظة دائمة ووعي نقدي لا ينام.

***

أمجد نجم الزيدي

الزمن جزء من كينونة الإنسان ومن صميمه، فنحن لا نتحرّك في الزمن، بل نصنع ذاكرتنا منه، ونشتقّ منه معنى لما كنّا وما نريد أن نكون، نعم إنه الزمن، لطالما شعرت أنه ليس ما نراه في عقارب الساعة أو حركة تعاقب الليل والنهار، بل ما نعيشه في عمقنا عندما ننتظر شيئًا بشغف، أو حين نفقد شيئًا فنشعر أن الوقت كان هشًّا، متفلّتًا.

حينما نبحث في أعمال كل من ديان بونومانو وألبرت تساو وويليام فرايدمان من بين آخرين، كيف أن الدماغ يُشفّر الزمن، وكيف أن خلايا دقيقة تترتب بداخلنا لتسجّل اللحظات وتضع لها علامة...إلخ، أو حين نقرأ أن الزمن الحقيقي لا يُقاس بالساعات، بل يُعاش داخليًا كتيار شعوري متدفّق لا يمكن تقسيمه أو تثبيته رياضيًّا كما صاغه هنري برجسون، وأن الإنسان لا "يوجد" إلا من خلال الزمن، لأن الماضي يُشكّل ذاكرته، والمستقبل يُحرّك مقاصده، والحاضر هو لحظة اختيار تؤسّس فعل الوجود، مما يجعله يحمل بداخله توترًا دائمًا بين ما كان وما سيكون، مما يمنحه القدرة على التفكير، الإبداع، والتأويل، كما أوضح مارتن هايدغر... يخطر ببالي سؤال مزعج: لماذا رغم كل هذا الإدراك الداخلي، نستهين بالزمن في حياتنا؟

أنا لا أتحدّث هنا كعالمة أعصاب أو كفيلسوفة، بل كإنسانة تمرّ بي الأيام وكأنني أطاردها وهي تفرّ، أنا أعلم أن الزمن مكوّن منّا كما هو مكوّن لنا، لكنه يتسرّب من بين أفعالنا، من بين تأجيلاتنا، من بين ساعات نضيعها في عبارات "فيما بعد أو لاحقا..". إننا نعرف الزمن علميًا، لكن لا نعامله كما نعرفه.

إن كل لحظة تمرّ هي فرصة لا تتكرّر لبناء معنى، لكننا نختار في معظم الوقت أن نعيش في الماضي أو الهروب إلى مستقبل مجهول، وفي المقابل تذوب في روتيننا اليومي "الآن" تلك اللحظة التي يدعونا هايدغر إليها لنفهمها كمساحة للاختيار، فلا نسمع صوتها فتنفلت منا أو بالأحرى نحن من نغفل عنها.

هذه الملزمة ليست بحثًا، بل تذكيرٌ لنفسي قبل أن أدرك كل لحظة كنبض في الوعي، أنا أعرف الزمن جيدًا، أعرف كيف يمرّ، وكيف يُخلّد، وكيف يُنسى، قرأت عنه كثيرا، كيف ترصده أدمغتنا، وحاولت أن أكتشف كيف تُشفّره الخلايا لتكوّن ذاكرتنا، لكنني وسط كل هذا الإدراك أمارسه كما لو أنه لا يعنيني، أحيانا أهدره وكأنه ليس مني ولا أُصنَع منه، أمارسه وكأنه خارج الذات، فقط يُقاس، يُؤجَّل، يُهدر، لماذا؟

هذه المفارقة ليست معرفية فحسب… بل وجودية. إنها تلك الفجوة بين من يعرف قيمة الشيء، ثم لا يستثمره، وكأن المعرفة ليست كافية لصون ما نعرفه.

نحن نعلم أن اللحظة فريدة، ومع ذلك نطردها من انتباهنا بحركة أصبع على شاشة، أو بتأجيلٍ متكرّر لأشياء نُحبّها. وكأن الزمن ملكنا حينًا، وعبءٌ علينا في كثير من الأحيان.

ربما حين نُدرك أن الزمن ليس في الساعة بل في الذات… وأن اللحظة التي نحسن الإنصات لها تغدو أوسع من عمرٍ يُعاش بالتشتّت، نستطيع تقليص الهوة بين المعرفة التي تُقيم الزمن في جوف الذات، والسلوك الذي يُبدّده في ضجيج اليوم، حيث ينشأ سؤال: لماذا هذا العبث؟

الزمن ليس ما نقيسه بل ما نحسّه، هذه الفكرة ظلّت تراودني كلما وجدتُ نفسي في لحظة انتظار طويلة أو في لحظة فرح قصيرة تُمرّ كطيف. إدراكي للزمن لا يرتبط بعدد الدقائق بل بمدى غِنى اللحظة وسكونها أو توترها.

يخبرنا علم الأعصاب أن الدماغ يُعيد ترتيب الأحداث لا وفق ساعات العالم الخارجي بل وفق شعوره بها، فهناك خلايا تُشفّر لحظة بلحظة، ترتّب لنا الذكريات كما لو كانت فصولًا في كتاب نكتبه دون أن نعي ذلك. وهذا يجعلني أتساءل: إن كان جسدي يعرف الزمن بهذه الدقة، فلماذا لا أعرفه أنا؟ ولماذا أحيانًا يبدو لي الوقت بلا طعم ولا شكل؟

أشعر أن الزمن يتكثّف حين أكون منصتة، ويتفكك حين أكون مشوشة، وكل لحظة أعيها بصدق تصبح أعمق من عشرات الساعات التي أمضيتها في فعلٍ لا أذكر منه شيئًا، وأنني أُدرك الزمن أكثر مما أعيشه، كأن في داخلي صوتًا يعرف تمامًا أن اللحظة ثمينة، لكنني أُطفئه كلما انشغلت بما لا يستحق. فنحن لا نهدر الوقت عن جهل بل عن غفلةٍ مقصودة، تلك التي نمارسها حين نؤجل حلمًا، أو نغلق نافذةً كان يمكن أن تُطلّ بنا على شيء أجمل.

أعلم جيدًا، كما يعلم منكم كثير، أن الزمن لا يعود، وربما المستقبل لن يأتي، لكننا نستسهل التكرار، نُعيد اليوم كما لو أنه نسخة من أمس، ونسمح للساعات أن تتدفّق دون مقاومة، ما الذي يجعلنا نمارس هذا الانفلات رغم أننا نحمل في داخلنا قدرة عجيبة على التنظيم والتأمل؟

ربما لأننا اعتدنا على أن اللحظة صارت صندوقًا نملأه بالمهام، لا فسحةً نفهم فيها أنفسنا، فصرنا نركض خلف الزمن في الخارج، ونترك زمننا الداخلي فارغًا، وكأننا نستكثر على أنفسنا حق الإنصات لنبضها، فكيف نعيد علاقتنا بالزمن؟

أظن أن الأمر لا يحتاج إلى نظريات معقّدة، بل إلى لحظة صدق... تلك اللحظة التي نقف فيها وقول: "نحن هنا، الآن"، أن نُقرّ بأن الزمن ليس خارجنا، بل هو نحن حين ننتبه، حين نختار، حين نقرر..،

 حين أتأمل علاقتنا بالزمن، أشعر وكأننا نعيش على هامشه لا فيه، نتعامل معه كعامل خارجي يُلزمنا بالمواعيد والمهام، ليس كجزء حميم من تكويننا الداخلي يُنبتُ فينا الإدراك، وما يُشكّلُ ذاكرتنا وهويتنا.

لكي نعيد علاقتنا به، لا يكفي أن نُنظّم وقتنا، لكن يجب أن نُغيّر كيفية التفكير في الوقت، لذلك أُحاول بين فينة والأخرى أن أصنع لنفسي طقسًا صغيرًا، لربما يعيد لي هذه العلاقة: كوب قهوة في صمت، دفتر أكتب فيه أفكاري، لحظة تأمل لا تُقاس بالهدف بل بالحضور، حيث أُراقب الكون وهو يتحرّك من حولي لأشعر أنني فيه، فأُفكّر في مسألة أننا لا نحتاج لفهم الزمن بل نحتاج لأن نُعيد إليه مكانته كرفيق يُشكّل الحياة لحظة بلحظة، فبين الإدراك والانفلات نعيش ونُدرك تفاصيلًا لا نُحسن صيانتها، ونفقد لحظاتٍ كنّا نستطيع أن نُقيم فيها ذكرى أو فكرة أو بصمة صدق.

الزمن ليس عدوّنا ولا لغزًا، إنه مرآة تختبر مدى حضورنا في أنفسنا، وكلما حاولنا الإمساك به أدركنا أنه لا يُحسَن القبض عليه باليد، بل يُعاش بالوعي والإدراك، وربما حين نكفّ عن اللهاث خلف الوقت، ونبدأ الإنصات له، سنكتشف أن الزمن لا يتفلّت بل نحن من كُنّا نغيّبُه.

***

بقلم الطالبة الباحثة: غزلان زينون

"الدين أفيون الشعوب".. هي واحدة من أشهر مقولات كارل ماركس وأكثرها إثارة للجدل وسوء الفهم. لفهمها بعمق يجب وضعها في سياقها الفلسفي والنظر إلى الظروف التاريخية والفكرية التي قيلت فيها.

السياق الكامل للمقولة:

وردت هذه المقولة في مقدمة كتاب ماركس "مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل" الذي كتبه عام 1843 ونُشر عام 1844 والنص الكامل الذي وردت فيه المقولة هو:

(إن الشقاء الديني هو من جهة تعبير عن الشقاء الواقعي وهو من جهة أخرى احتجاج على هذا الشقاء. الدين هو زفرة المخلوق المضطهد، هو قلب عالم لا قلب له، وروح أوضاع لا روح فيها إنه أفيون الشعوب).

رؤية هيجل ونقدها:

كان هيجل يرى أن التاريخ هو تطور للروح المطلق-الله- وإن الدولة هي أعلى تجليات هذا الروح على الأرض.

أما ماركس فقد قلب هذه المعادلة مؤكداً أن الواقع المادي والظروف الاقتصادية والاجتماعية هي التي تشكل الوعي البشري والمؤسسات الاجتماعية بما في ذلك الدولة.

يُعتبر عمل ماركس "مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل" بمثابة أول عمل رئيسي لماركس يوضح فيه انفصاله عن هيجل. في هذا العمل يقوم ماركس بتحليل دقيق ومفصل لأفكار هيجل حول الدولة والقانون مقدماً رؤية مغايرة تماماً تركز على الواقع المادي والصراعات الطبقية منطلقا من نفس منهج الجدل الهيجلي لكن هذه المرة بشكل عكسي حيث أقام الجدل على قدميه بعد أن كان يمشي على رأسه.

الأفكار الأساسية في النقد الماركسي لهيجل:

تعتمد مساهمة ماركس في نقد فلسفة الحق عند هيجل على عدة مفاهيم أساسية يمكن تفصيلها على النحو التالي:

1.الجدلية والتجريد:

ينتقد ماركس هيجل لكونه يبدأ العديد من حججه الجدلية معتمدا على التجريد.

ومنهج هيجل هكذا (المقولة تثير نقيض يتصارعان فيؤدي الصراع إلى تركيب جديد يتحول بدوره إلى مقولة تثير نقيض وهكذا من مقولة الوجود إلى الفكرة المطلقة). مما يؤدي إلى انفصال الفلسفة عن الواقع المادي الملموس فهيجل يقلب العلاقة بين الفكر والواقع حيث يجعل الفكر أو الوعي هو الذي يحدد الواقع بينما يرى ماركس أن الواقع المادي (الظروف الاقتصادية والاجتماعية) هو الذي يحدد الفكر والوعي. فبدلاً من تحليل الظواهر الاجتماعية والسياسية كما هي في الواقع يقوم هيجل ببناء نظام فلسفي مجرد ومعقد لا يعكس الواقع الفعلي بل يبرره ويضفي عليه طابعاً عقلانياً وضرورياً.

هذا التجريد في نظر ماركس يؤدي إلى إخفاء التناقضات والصراعات الحقيقية الموجودة في المجتمع ويقدم صورة مثالية للدولة لا تتوافق مع واقعها. فهيجل يبدأ من الفكرة المجردة للدولة ثم يحاول إيجاد تجسيد لها في الواقع بينما يجب أن يكون العكس هو الصحيح.

أي البدء من الواقع المادي الملموس ثم تحليل كيف تتشكل الأفكار والمؤسسات من هذا الواقع.

2. الاغتراب:

يتأثر ماركس في تحليله لمفهوم الاغتراب بأعمال لودفيج فيورباخ الذي يرى أن الدين هو شكل من أشكال الاغتراب حيث يقوم الإنسان بإسقاط صفاته الإنسانية على كائن إلهي.

فالإنسان فعليا يركع أمام ماهيته الناقصة لكنه يغطي هذا النقص بتصور ماهية كاملة مطلقة على كائن متخيل يراه قمة الرحمة وقمة الشفقة وكامل القدرة وتام العلم ثم يعتقد أن هذا الكائن يهتم لأمره ويحيطه بعنايته.

ويوسع ماركس هذا المفهوم ليشمل الاغتراب الاقتصادي والسياسي ففلسفة هيجل لا تعالج الاغتراب الحقيقي الذي يعيشه الإنسان في المجتمع الرأسمالي بل تبرره أو تتجاهله فالدولة الهيجلية بدلاً من أن تكون حلاً للاغتراب هي في حد ذاتها شكل من أشكاله. فالفرد في المجتمع الرأسمالي مغترب عن عمله عن نتاج عمله عن طبيعته الإنسانية وعن الآخرين.

والدولة كما يرى ماركس تساهم في إدامة هذا الاغتراب من خلال حماية مصالح الطبقة الحاكمة التي تستغل العمال وتعزلهم عن نتاج عملهم فيصير الاغتراب ليس مجرد حالة نفسية أو روحية بل هو ظاهرة مادية واجتماعية ناتجة عن العلاقات الاقتصادية والاجتماعية القائمة على الملكية الخاصة وتقسيم العمل.

3. العلاقة بين المجتمع المدني والدولة:

يركز ماركس بشكل كبير على تحليل العلاقة بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي (الدولة). يرى هيجل أن الدولة هي الكلية الأخلاقية التي تتجاوز وتحل التناقضات الموجودة في المجتمع المدني وأنها هي المحرك الأساسي والمحقق للحرية. أما ماركس فيرى أن هيجل يقلب العلاقة بينهما لأن الدولة في نظر ماركس هي نتاج للصراعات الطبقية في المجتمع المدني وأنها تخدم مصالح الطبقة الحاكمة. فالدولة ليست تجسيداً للعقل المطلق كما يرى هيجل بل هي أداة للقمع الطبقي. إنها ليست حلاً للتناقضات بل هي تعبير عنها. فالمجتمع المدني (الذي يشمل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية) هو الأساس الحقيقي الذي تنشأ منه الدولة والدولة ليست سوى انعكاس للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية السائدة.

فالدولة بهذا المعنى هي بنية فوقية تعكس البنية التحتية الاقتصادية للمجتمع.

صار واضحا أن هيجل يضفي طابعاً مثالياً على الدولة ويجعلها كياناً مستقلاً عن المجتمع بينما هي في الواقع مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالظروف المادية للمجتمع.

4. الدين:

يقدم ماركس في مقدمة عمله نقداً للدين ويرى أن نقد الدين هو شرط مسبق لكل نقد. فالدين، بالنسبة لماركس، هو "أفيون الشعوب"، وهو تعبير عن المعاناة الحقيقية وفي الوقت نفسه واحتجاج على هذه المعاناة. ففلسفة هيجل بتبريرها الدولة كتحقيق للعقل المطلق تساهم في إدامة الأوهام الدينية والسياسية. وهنا يتحول الدين إلى وهم يوفر عزاءً زائفاً للناس في عالم مليء بالظلم والمعاناة ويمنعهم من إدراك واقعهم الحقيقي وبالتالي السعي لتغييره.

الدين في الفهم الدقيق هو نتاج لظروف اجتماعية معينة وهو يعكس الاغتراب الذي يعيشه الإنسان في هذه الظروف و نقد توظيف الدين لتزييف وعي الجماهير هو الخطوة الأولى نحو تحرير الإنسان من الأوهام وبالتالي تمكينه من تغيير واقعه المادي.

5. الدولة كتحقيق للعقل المطلق:

ينتقد ماركس بشدة فكرة هيجل بأن الدولة هي تحقيق للعقل المطلق على الأرض. فهذه الفكرة سخيفة بقدر ما هي خاطئة فهي تبرر الوضع الراهن وتحافظ عليه وتضفي عليه طابعاً مقدساً مما يمنع أي تغيير ثوري.

فالدولة الهيجلية في نظر ماركس هي دولة مثالية لا وجود لها في الواقع وهي مجرد أداة للحفاظ على النظام القائم ومصالح الطبقة المستَغِلة الحاكمة.

نعم فهيجل بهذا الفهم يضفي طابعاً ميتافيزيقياً على الدولة ويجعلها كياناً مستقلاً عن الأفراد والمجتمع بينما هي في الواقع نتاج للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية ببن حاكم مُستَغِل ومحكوم مُستَغَل.

حقيقة الدولة النهائية في جوهرها هي أداة في يد الطبقة الحاكمة للحفاظ على سيطرتها وقمع الطبقات الأخرى.

أخيراً أقول: هيجل باعتبار فهمه المثالي للدولة يخلط بين الدولة المثالية كتحقيق للمطلق وبين الدولة الواقعية وأسسها الاجتماعية والاقتصادية وعلى ضوء فهمه المقلوب يقدم تبريراً فلسفياً للدولة البرجوازية القائمة ويدافع عنها مكرساً بذلك الاستبداد السياسي ومقرا بالتفاوت الاقتصادي وصولا إلى الظلم الاجتماعي.

شكل هذا النقد الماركسي الأساس العميق للمادية التاريخية التي ترى أن التطور التاريخي مدفوع بالصراعات الطبقية والتغيرات في الأنماط الاقتصادية. كما أثر نقد ماركس على فهم العلاقة بين الدولة والمجتمع حيث أصبح يُنظر إلى الدولة على أنها ليست كياناً محايداً أو تجسيداً للعقل المطلق بل هي أداة في يد الطبقة المهيمنة. وقد ألهم هذا النقد العديد من الحركات الثورية التي سعت إلى تغيير الأنظمة السياسية والاقتصادية القائمة.

تُعد مساهمة كارل ماركس في نقد فلسفة الحق عند هيجل نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي. فقد قدم ماركس نقداً جذرياً للمثالية الهيجلية مؤكداً على أهمية الواقع المادي والصراعات الطبقية في تشكيل الوعي والمؤسسات الاجتماعية. من خلال تحليله لمفاهيم الجدلية والاغتراب والعلاقة بين المجتمع المدني والدولة والدين. وكشف ماركس عن التناقضات الكامنة في فلسفة هيجل وقدم رؤية بديلة للدولة والمجتمع. على الرغم من أن نقد ماركس كان موجهاً بشكل خاص إلى هيجل إلا أن تأثيره امتد ليشمل مجالات أوسع في الفلسفة والاقتصاد والسياسة وما زال يشكل مرجعاً أساسياً في دراسة الفكر النقدي.

ألقينا الضوء على مساهمة ماركس في نقد فلسفة الحق عند هيجل باختصار والآن نعود إلى مقصود ماركس من مقولتة "الدين أفيون الشعوب".

قلنا هي واحدة من أشهر اقتباساته وأكثرها إثارة للجدل.

والنص الكامل الذي وردت فيه المقولة هو: "إن الشقاء الديني هو من جهة تعبير عن الشقاء الواقعي، وهو من جهة أخرى احتجاج على هذا الشقاء. الدين هو زفرة المخلوق المضطهد، هو قلب عالم لا قلب له، وروح أوضاع لا روح فيها. إنه أفيون الشعوب".

تحليل المعنى:

عندما وصف ماركس الدين بأنه "أفيون" لم يكن يقصد بالضرورة إدانة الدين في حد ذاته بل كان يحلل وظيفته الاجتماعية في ظل الظروف القاسية التي عاشتها الطبقة العاملة (البروليتاريا) في القرن التاسع عشر عصر ماركس كان الأفيون يُستخدم كدواء ومسكن لتخفيف الآلام الجسدية فاستخدم ماركس هذا التشبيه ليقول إن الدين يقوم بوظيفة مماثلة على المستوى النفسي والاجتماعي. فهو يقدم العزاء والراحة للناس في مواجهة بؤسهم ومعاناتهم في عالم رأسمالي قاس. فالدين عبر وعده بمكافأة في الحياة الآخرة يمنح الطبقات العاملة أملاً كاذباً ويصرف انتباههم عن ضرورة تغيير ظروفهم الواقعية البائسة. بدلاً من الثورة على الظلم والاستغلال في الدنيا يجعلهم الدين يركزون على الخلاص في الآخرة. فالطبقات الحاكمة تستخدم الدين كأداة أيديولوجية للحفاظ على سيطرتها فهي ترى الدين أكثر من مجرد معتقد شخصي هو في نظرها بنية سلطوية تعمل على تنظيم وتوجيه سلوك الأفراد والجماعات.

من منظور فلسفي لا يمكن التعامل مع مقولة ماركس كشتيمة أيديولوجية للدين بل كنقطة بداية لتحليل آليات الهيمنة الرمزية التي يمارسها الخطاب الديني على الوعي الفردي والجمعي.

يجب أن نفرق في العلاقة بين الدين كأداة خطابية وبين المؤسسات الدينية التي تنتجه وتتكفل به حفظا وأدامة.

الدين كخطاب مصدره المقدس يشجع على قيم مثل الصبر وتحمل المصير والقبول بالقدر خيره وشره. وهذا الخطاب يخلق نسقا ذهنيا مضمرا من الخضوع يمنع العمال من التمرد على مُستَغلِيهم ويجعل الظلم الاجتماعي يبدو وكأنه جزء من نظام إلهي طبيعي. هنا يبدأ عمل المؤسسات الدينية وهو تكريس هذا الخضوع لخلق الوعي المُزيف بالواقع فالدين الكهنوتي غالباً ما كان يُستخدم لضبط الجماعات عبر تشكيل ضمير جمعي موحد قائم على الطاعة والتسليم والقبول لا على النقد والتساؤل.

في الوقت نفسه لم يغفل ماركس الجانب الإيجابي للدين كشكل من أشكال الاحتجاج. فالدين بالنسبة للمضطهدين هو "تنهيدة" و"احتجاج" ضد معاناتهم الحقيقية وهو محاولة لإيجاد "قلب في عالم لا قلب له" حسب تعبيره الدقيق.

إذن لم يكن نقد ماركس موجهاً للدين كمعتقد روحي فردي- أي علاقة بين الإنسان وخالقه- بقدر ما كان موجهاً لدور "المؤسسة الدينية" كجزء من البنية الفوقية للمجتمع التي تخدم مصالح الطبقة السائدة. كان يعتقد أنه في مجتمع عادل خالٍ من الطبقات والاستغلال لن يحتاج الناس إلى "وهم" يخلقه رجال الدين لتزييف وعي الناس لأنهم سيحققون سعادتهم الحقيقية على الأرض إذا فهموا حقيقة أستغلالهم.

فالقصد الدقيق لعبارة ماركس أن المؤسسة الدينية ورجال الدين بتحالفهم مع الطبقة الحاكمة المتسلطة تجعل الدين يعمل كمخدر يخفف من آلام الواقع المزري للطبقة العاملة عبر تزييف الوعي بخلق قناعة في أذهان الناس بأن هذا قدر من الله ومن يصبر عليه فله جنة الخلد خالدا فيها أبدا. وهكذا يُمنع الناس من مواجهة الأسباب الحقيقية لمعاناتهم وبؤسهم حتى لا يثوروا عليه.

نعم الدين أفيون الشعوب لكنه ليس الألم.

***

سليم جواد الفهد

حسب ريتشارد رورتي.. مقاربة برغماتية جديدة

مقدمة: يُعتبر ريتشارد رورتي (1931-2007) أحد أبرز الفلاسفة البرغماتيين في القرن العشرين، وقد أثار جدلاً واسعًا بسبب مقاربته الجريئة لإعادة تعريف منزلة الفلسفة في عالم الثقافة المعاصر. من خلال كتاباته، مثل الفلسفة ومرآة الطبيعة ( 1979) والطوارئ والتضامن والعرضية (1989)، يقترح رورتي إعادة صياغة الفلسفة كأداة ثقافية تخدم الحوار الاجتماعي والسياسي بدلاً من البحث عن "حقائق مطلقة" أو تقديم أسس ميتافيزيقية للمعرفة. تتناول هذه الدراسة منزلة الفلسفة في عالم الثقافة اليوم من منظور رورتي البرغماتي، مع التركيز على مقاربته الجديدة التي تؤكد على دور الفلسفة كممارسة سردية وتفسيرية، تهدف إلى تعزيز التضامن الإنساني وإعادة تشكيل الخيال الثقافي. يعتمد المقال على تحليل أكاديمي معمق، مع الإشارة إلى المراجع والتعليقات النقدية، لاستكشاف كيفية تطبيق هذه المقاربة في سياق العالم المعاصر.

البرغماتية الجديدة عند رورتي: إعادة تعريف الفلسفة

نقد الفلسفة التقليدية

يبدأ رورتي نقده للفلسفة التقليدية بالهجوم على فكرة الفلسفة كنسق معرفي يسعى لتقديم تمثيلات دقيقة للواقع، كما تجسد ذلك في الفكر الديكارتي والكانطي. في الفلسفة ومرآة الطبيعة، يجادل رورتي بأن الفلسفة التقليدية، التي ترى نفسها "مرآة" تعكس الحقيقة الموضوعية، قد فشلت في تحقيق أهدافها بسبب اعتمادها على افتراضات ميتافيزيقية غير قابلة للإثبات[1]. يرى رورتي أن الفلسفة يجب أن تتخلى عن طموحها لتكون "حارسة العقل" أو مصدرًا للحقائق المطلقة، وأن تتحول إلى ممارسة ثقافية تهدف إلى تعزيز الحوار والتفاهم المتبادل

البرغماتية كبديل

تستلهم البرغماتية الجديدة عند رورتي من أعمال فلاسفة مثل ويليام جيمس وجون ديوي، ولكنها تذهب إلى أبعد من ذلك بتبني منظور "ما بعد ميتافيزيقي". يقترح رورتي أن الفلسفة يجب أن تكون "تأويلية" بدلاً من "ابستيمولوجية"، أي أنها يجب أن تركز على إعادة صياغة السرديات الثقافية والاجتماعية بدلاً من البحث عن أسس معرفية ثابتة[2]. في هذا السياق، تصبح الفلسفة أداة لتوسيع "المفردات" الثقافية، مما يسمح للمجتمعات بإعادة تصور ذاتها وخلق معانٍ جديدة تتناسب مع تحديات العصر.

منزلة الفلسفة في عالم الثقافة اليوم

الفلسفة كحوار ثقافي

في عالم الثقافة المعاصر، يرى رورتي أن الفلسفة يجب أن تلعب دورًا في تعزيز الحوار بين الثقافات المختلفة، لا سيما في ظل العولمة وتعددية الهويات. يجادل رورتي بأن الفلسفة يمكن أن تساهم في بناء "التضامن" الإنساني من خلال إنتاج سرديات مشتركة تعزز التفاهم المتبادل، بدلاً من فرض أطر ميتافيزيقية صلبة. على سبيل المثال، في الطوارئ والتضامن والعرضية، يقترح رورتي مفهوم "الليبرالية الريبية"، حيث يدرك الفرد عَرَضية معتقداته ومع ذلك يلتزم بقيم مثل الحرية والعدالة كوسيلة لتعزيز التضامن الاجتماعي[3]. في عالم اليوم، حيث تتصاعد التوترات الثقافية والسياسية، يمكن لهذه المقاربة أن تساعد في بناء جسور بين الثقافات المتنوعة، مثل الغربية والإسلامية أو الشرقية، من خلال الحوار بدلاً من المواجهة

الفلسفة والخيال الثقافي

يرى رورتي أن الفلسفة يجب أن تكون أداة لتوسيع الخيال الثقافي، أي القدرة على تخيل طرق جديدة للعيش والتفكير. في هذا السياق، يقترح أن الفلاسفة يجب أن يكونوا "رواة قصص" يساعدون في إعادة صياغة السرديات الثقافية التي تشكل هوية المجتمعات. على سبيل المثال، يشير رورتي إلى الأدب والفن كمصادر للإلهام الفلسفي، حيث يمكن لروايات مثل تلك التي كتبها جورج أورويل أو مارسيل بروست أن تساهم في تعزيز التعاطف والتضامن أكثر من النظريات الفلسفية التقليدية[4]. في عالم الثقافة اليوم، حيث تتزايد تأثيرات وسائل الإعلام الرقمية، يمكن للفلسفة أن تلعب دورًا في نقد هذه السرديات وإعادة تشكيلها لتعكس قيم التنوع والعدالة.

الفلسفة والسياسة

يؤكد رورتي على أهمية الفلسفة في المجال السياسي، ليس كمصدر للحقائق المطلقة، بل كأداة لتعزيز الديمقراطية الليبرالية. في كتابه تحقيق بلدنا ( 1998)، يدعو رورتي إلى إحياء الخيال السياسي التقدمي من خلال الفلسفة، مؤكدًا أن الفلاسفة يمكنهم المساهمة في إعادة صياغة الأمل الاجتماعي والسياسي من خلال سرديات تلهم التغيير الاجتماعي[5]. في سياق عالم اليوم، حيث تواجه الديمقراطيات تحديات مثل الشعبوية وتراجع الثقة في المؤسسات، يمكن للفلسفة أن تساعد في إعادة بناء الثقة من خلال الحوار والتفكير النقدي.

تحديات المقاربة البرغماتية الجديدة

نقد الرفض الميتافيزيقي

واجهت مقاربة رورتي انتقادات من فلاسفة مثل هيلاري بوتنام ويورغن هابرماس، اللذين رأيا أن رفضه الكامل للميتافيزيقا قد يؤدي إلى نسبية فكرية تهدد بتقويض أسس النقاش العقلاني[6]. يجادل النقاد بأن الفلسفة لا يمكن أن تتخلى تمامًا عن دورها في تقديم معايير معرفية، لأن ذلك قد يؤدي إلى فقدان القدرة على الحكم على السرديات المتنافسة. على سبيل المثال، يرى بوتنام أن البرغماتية الجديدة قد تكون عرضة لخطر التحول إلى شكل من أشكال النسبية الثقافية، حيث تصبح جميع السرديات متساوية القيمة[7].

محدودية التضامن

كما أن مفهوم التضامن عند رورتي واجه انتقادات لكونه يعتمد بشكل كبير على القيم الليبرالية الغربية، مما قد يحد من قدرته على التواصل مع ثقافات أخرى ذات قيم مختلفة. على سبيل المثال، أشار بعض النقاد إلى أن مقاربة رورتي قد لا تكون كافية لمعالجة التوترات الثقافية في سياقات غير غربية، مثل الصراعات الدينية أو القومية في الشرق الأوسط[8]. ومع ذلك، يمكن الدفاع عن رورتي بالقول إن مقاربته لا تهدف إلى فرض قيم موحدة، بل إلى تشجيع الحوار المفتوح بين الثقافات.

التحديات في العصر الرقمي

في عالم الثقافة اليوم، حيث تسيطر وسائل الإعلام الرقمية على تشكيل الخطاب العام، تواجه مقاربة رورتي تحديات جديدة. فالانتشار السريع للمعلومات المغلوطة والاستقطاب السياسي يعقدان مهمة الفلسفة في تعزيز التضامن. ومع ذلك، يمكن أن تكون مقاربة رورتي مفيدة في هذا السياق، حيث تدعو إلى نقد السرديات المهيمنة وإعادة صياغتها بطريقة تعزز التفاهم المتبادل بدلاً من الصراع.

تطبيقات المقاربة البرغماتية في عالم الثقافة المعاصر

الفلسفة والتعددية الثقافية

في عالم متزايد التعددية، يمكن لمقاربة رورتي أن تساهم في تعزيز الحوار بين الثقافات المختلفة. على سبيل المثال، يمكن للفلسفة أن تلعب دورًا في نقد السرديات القومية أو الدينية المتطرفة، وتشجيع سرديات بديلة تعزز التعايش. في سياق التوترات بين الغرب والعالم الإسلامي، يمكن للفلسفة أن تساعد في إعادة صياغة الحوار حول القيم المشتركة، مثل العدالة والحرية، كما اقترح رورتي في كتاباته حول التضامن[9].

الفلسفة والتكنولوجيا

في عصر التكنولوجيا الرقمية، يمكن للفلسفة، وفقًا لمقاربة رورتي، أن تساهم في نقد تأثير التكنولوجيا على الثقافة والمجتمع. على سبيل المثال، يمكن للفلاسفة تحليل كيف تشكل وسائل التواصل الاجتماعي السرديات الثقافية، واقتراح طرق لاستخدام هذه المنصات لتعزيز التضامن بدلاً من الاستقطاب. يرى رورتي أن الفلسفة يمكن أن تساعد في إعادة صياغة الخيال الثقافي لمواجهة تحديات مثل الذكاء الاصطناعي وتأثيره على العمل والخصوصية[10].

الفلسفة والتعليم

يمكن لمقاربة رورتي أن تؤثر على التعليم من خلال تشجيع مناهج تركز على التفكير النقدي والحوار بدلاً من حفظ الحقائق. في عالم الثقافة اليوم، حيث يواجه التعليم تحديات مثل التجارة والتكنولوجيا، يمكن للفلسفة أن تساعد في تطوير مناهج تعليمية تعزز الخيال الثقافي والتضامن، كما دعا رورتي في تحقيق بلدنا[11].

خاتمة

من خلال مقاربته البرغماتية الجديدة، يقدم ريتشارد رورتي رؤية متجددة لمنزلة الفلسفة في عالم الثقافة اليوم. بدلاً من السعي إلى حقائق مطلقة، يرى رورتي أن الفلسفة يجب أن تكون أداة سردية وتأويلية، تساهم في تعزيز التضامن الإنساني وإعادة تشكيل الخيال الثقافي. في عالم يتسم بالتعددية والاستقطاب، تقدم هذه المقاربة إطارًا لفهم دور الفلسفة في مواجهة التحديات المعاصرة، سواء في الحوار بين الثقافات، نقد التكنولوجيا، أو إصلاح التعليم. ومع ذلك، تواجه هذه المقاربة تحديات تتعلق بالنسبية والمحدودية الثقافية، مما يتطلب تكييفها لتكون أكثر شمولية في سياق عالمي. يظل إرث رورتي دعوة لإعادة التفكير في الفلسفة كممارسة ثقافية حية، قادرة على إلهام التغيير الاجتماعي والسياسي في عالم متغير.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

...................................

الاحالات والهوامش:

[1] Rorty, Richard. Philosophy and the Mirror of Nature. Princeton University Press, 1979, pp. 3-12.

[2] Rorty, Richard. Consequences of Pragmatism. University of Minnesota Press, 1982, pp. 139-160.

[3] Rorty, Richard. Contingency, Irony, and Solidarity. Cambridge University Press, 1989, pp. 73-95.

[4] Ibid., pp. 44-69.

[5] Rorty, Richard. Achieving Our Country: Leftist Thought in Twentieth-Century America. Harvard University Press, 1998, pp. 89-104.

[6] Putnam, Hilary. Realism with a Human Face. Harvard University Press, 1990, pp. 19-40.

[7] Ibid., pp. 41-60.

[8] Safranski, Rüdiger. How Much Globalization Can We Bear?. Polity Press, 2005, pp. 56-78.

[9] Rorty, Richard. Contingency, Irony, and Solidarity. Cambridge University Press, 1989, pp. 189-198.

[10] Rorty, Richard. Philosophy as Cultural Politics. Cambridge University Press, 2007, pp. 45-67.

[11] Rorty, Richard. Achieving Our Country. Harvard University Press, 1998, pp. 120-135.

يختلف مفهوم النشوة فلسفيا حسب السياق الثقافي والفكري، تشير النشوة أحيانًا الى حالة من الوعي المرتفع أو التجربة المتجسدة، حيث يشعر الانسان بالتحرر من القيود اليومية، يمكن أن تكون نتيجة للتأمل، الفن، أو التجارب الروحية .في الفلسفة اليونانية تعتبر النشوة تجربة قريبة من الكمال أو الجمال المثالي، حيث يُشعر الفرد بالارتباط بالعالم المثالي، الرواقيون يرون النشوة كحالة من الهدوء الداخلي، حيث يحقق الفرد توازنًا بين العقل والعاطفة، مما يؤدي إلى شعور بالسعادة والسلام الداخلي، فلاسفة اخرون يعتبرون النشوة تجربة مرتبطة بالفضيلة، حيث تأتي من الالتزام بالمبادئ الأخلاقية، في الفلسفات الحديثة، تُعتبر النشوة جزءًا من التجربة الإنسانية المعقدة، حيث تناولوا العلاقة بين النشوة واللذة، والمعنى، والغرض، لذا النشوة تحمل معانٍ متعددة، ترتبط بتجارب شخصية، روحية، وفلسفية كما تعكس هذه المفاهيم التفاعلات المعقدة بين العقل، العاطفة، والتجربة الإنسانية.

الفلسفة الوجودية ومفهوم النشوة

الفلسفة الوجودية تقدم تفسيرًا فريدًا لمفهوم النشوة، حيث تركز على التجربة الفردية والمعنى الشخصي. تعتبر النشوة تجربة شخصية تعكس حالة من الوعي الذاتي للوجود. يرتبط الشعور بالنشوة بتحقيق الذات والتواصل مع العالم، تعزز الفلسفة الوجودية فكرة أن النشوة تأتي من قبول الفرد لحرية اختياراته. هذا الوعي بالحرية يمكن أن يؤدي إلى شعور عميق بالفرح أو النشوة، فلاسفة وجوديون مثل جان بول سارتر وألبير كامو يرون أن مواجهة العبث وعدم المعنى يمكن أن تخلق لحظات من النشوة، حيث يجد الأفراد معنى في حياتهم رغم الفوضى، يركز الوجوديون على أهمية التجارب الحقيقية، مثل الحب، الفن، أو الطبيعة، كوسائل لتحقيق النشوة. هذه التجارب تعزز الارتباط بالعالم وتمنح الحياة معنى، النشوة تُعتبر حالة من الوعي الكامل باللحظة الحالية، حيث يتجاوز الشخص القلق حول المستقبل أو الندم على الماضي، في الفلسفة الوجودية، تُفهم النشوة كحالة تتعلق بالحرية، التجربة الفردية، والبحث عن المعنى في عالم معقد. هي لحظة من الارتباط العميق بالوجود، تتجاوز القيود التقليدية وتحتفل بالحياة.

القلق الوجودي والوصول إلى النشوة

القلق الوجودي يلعب دورًا مهمًا في مفهوم النشوة في الفلسفة الوجودية. القلق الوجودي ينشأ من الوعي بالحرية والمسؤولية. هذا الوعي يمكن أن يؤدي إلى شعور بالضياع، ولكنه أيضًا يفتح الأبواب أمام تجارب جديدة ونشوة حقيقية، من خلال مواجهة العبث، يمكن للأفراد أن يجدوا معنى شخصيًا، مما يؤدي إلى لحظات من النشوة، القلق الوجودي يمكن أن يعمل كدافع للتحول والنمو عندما يشعر الأنسان بالقلق حيال وجوده، يسعى الى استكشاف تجارب جديدة، مما يؤدي إلى النشوة، من خلال التعامل مع القلق يمكن للإنسان أن يكتشف جمال اللحظات الحقيقية في الحياة. هذه التجارب، مثل الحب والفن تؤدي إلى شعور عميق بالنشوة وتدفع الأنسان الى تحرير نفسه من القيود الاجتماعية أو النفسية. هذا التحرر يمكن أن يؤدي إلى شعور قوي بالنشوة، حيث يشعر الانسان بأنه يعيش حياته بشكل كامل لذا يُعتبر القلق الوجودي جزءًا أساسيًا من التجربة الإنسانية، ويمكن أن يكون دافعًا للوصول إلى النشوة من خلال مواجهة العبث، استكشاف الذات، وإيجاد المعنى.

مفهوم النشوة في الفلسفة اليونانية

الفلسفة اليونانية (أفلاطون وأرسطو)

النشوة كمعرفة عند أفلاطون، تُعتبر النشوة تجربة مرتبطة بالتواصل مع المثل العليا، حيث يشعر الانسان بالارتباط بالعالم المثالي. بينما أرسطو يراها جزءًا من تحقيق الفضيلة والسعادة من خلال العيش وفقًا للفضائل، تركز هذه الفلسفات على العقل والمعرفة كوسائل للوصول إلى النشوة، الرواقيون يرون النشوة كحالة من الهدوء الداخلي والسكينة، تأتي من التحكم بالعواطف والتوازن بين العقل والعاطفة. أبيقور يعتبر النشوة تجربة مرتبطة باللذة، حيث يمكن تحقيقها من خلال تجنب الألم والبحث عن المتعة الفكرية.

النشوة بديلا عن مفهوم اللذة والسعادة

يمكن لمفهوم النشوة أن يكون بديلاً عن مفهوم اللذة والسعادة، وكل منها يحمل دلالات مختلفة. النشوة تُعتبر تجربة عميقة تتضمن الوعي الذاتي والارتباط بالعالم، وغالبًا ما تأتي من تجارب ذات معنى، مثل الفن، الحب، أو التأمل، اللذة تركز عادةً على المتعة الحسية أو العاطفية، وقد تكون سطحية أو قصيرة الأمد، في الفلسفة الوجودية، يمكن أن تأتي من مواجهة القلق والعبث، مما يؤدي إلى إحساس بالتحرر والمعنى، عادة ما تُعتبر حالة دائمة أو هدفًا يسعى الأنسان لتحقيقه، وقد تكون مرتبطة بتحقيق رغبات أو متطلبات معينة بذلك يمكن أن تكون لحظات مستدامة ولكن مكثفة، تعكس تجربة إنسانية ثرية، اللذة والسعادة غالبًا ما تُعتبر حالات ذات طابع أكثر استمرارية ظاهريا، ولكنها تكون أيضًا عرضة للتقلبات، النشوة ترتبط بالبحث عن المعنى والحرية، مما يجعلها تجربة شخصية فريدة، اللذة والسعادة تُعتبر أكثر ارتباطًا بالتجارب المادية أو الاجتماعية، و تكون أقل ارتباطًا بالمسؤولية الذاتية بينما يمكن لمفهوم النشوة أن يكون بديلاً عن اللذة والسعادة، حيث يقدم تجربة أكثر عمقًا ومعنى، تتجاوز المتع السطحية. النشوة تعكس الارتباط الذاتي بالعالم وتجربة الوجود، مما يجعلها تجربة متميزة في السياق الفلسفي.

النشوة والسعادة من منظور علم النفس

النشوة والسعادة هما مفهومين نفسيين لهما دلالات مختلفة. النشوة تُعتبر حالة من الارتفاع العاطفي المكثف، وغالبًا ما تحدث نتيجة تجارب استثنائية أو عميقة، مثل الإبداع، الحب، أو التأمل السعادة تُعرف عادةً بأنها حالة مستمرة من الرضا والراحة النفسية، وهي نتيجة لتوازن العوامل النفسية والاجتماعية، النشوة تنشأ غالبًا من تجارب فريدة أو محفزات قوية، مثل الفنون، الطبيعة، أو اللحظات الروحية، السعادة يمكن أن تأتي من عوامل متعددة، مثل الإنجازات، أو السلام الداخلي، النشوة يمكن أن تؤدي إلى استجابة جسدية قوية، مما يؤدي إلى شعور بالتحرر والفرح، السعادة ترتبط عادةً بتوازن كيمياء الدماغ، النشوة تُعتبر تجربة ذات مغزى وعميق، يسعى الأفراد لتحقيقها، ترتبط النشوة بتجارب عاطفية مكثفة، ترتبط بحالة مستمرة من الرضا.

النشوة واللذة والسعادة في الفكر المتطرف

يشعر الأفراد في الجماعات المتطرفة بنشوة نتيجة الانتماء إلى فكرة أو عقيدة يعتقدون أنها تمثل الحق المطلق. هذا الانتماء يعطيهم شعورًا بالتميز والخصوصية، البعض يجدون لذة في ممارسة القوة والسيطرة على الآخرين، الفكر المتطرف يمكن أن يوفر للناس إحساسًا بالقوة من خلال التهديد أو العنف ويشعر الأفراد في هذه الأيديولوجيات بسعادة مؤقتة نتيجة تحقيق أهدافهم، لكن هذه السعادة غالبًا ما تكون سطحية وغير مستدامة، لأنها ترتبط بالعنف والعداء. توفر الجماعات المتطرفة هوية قوية، مما يجعل الأفراد يشعرون بالسعادة نتيجة الانتماء إلى مجتمع يشاركهم نفس القيم والأفكار، بعض الأفراد يعتقدون أن أفعالهم المتطرفة هي وسيلة لتحقيق العدالة أو التغيير الاجتماعي، مما يمنحهم شعورًا بالرضا عن النفس، يمكن أن ترسم هذه الجوانب صورة معقدة حول كيف يمكن للفكر المتطرف أن يثير مشاعر النشوة واللذة والسعادة، رغم الأضرار والآثار السلبية التي تنجم عنه، لكنها يمكن أن تؤدي مشاعر النشوة واللذة والسعادة المرتبطة بالفكر المتطرف إلى إدمان هذا الفكر، يؤدي الانغماس في الفكر المتطرف إلى عزل الأفراد عن المجتمع، مما يجعلهم يعتمدون بشكل أكبر على الجماعة المتطرفة لتلبية احتياجاتهم العاطفية والاجتماعية، عندما يشعر الأفراد بالسعادة أو النشوة نتيجة أفعالهم المتطرفة، يصبح هذا السلوك معززًا إيجابيًا، مما يدفعهم للمزيد من الانخراط في تلك الأفكار وذلك بتشكيل نمط من الاعتماد العاطفي والسلوكي، مما يجعل من الصعب على الأفراد الخروج منه.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

 

هل المعاناة شيء يعيقنا ام انها تساعد على المضي قدما؟ شوبنهاور يبحث عن حل للمأزق، بينما نيتشه يصر باننا نستطيع استخدامها بطريقة فعالة. هل الحياة تثقلنا، ام انها مغامرة يجب القبول بها؟ نيتشه وشوبنهاور يختلفان بعمق حول معنى الوجود وطبيعة المعاناة الانسانية. شوبنهاور، المتشائم أصلا، اعتقد ان الحياة وبشكل حتمي جلبت لنا الألم والعذاب وان أحسن طريقة للتعامل معها هو ان نتجنب الارتباط بهذا العالم وبؤسه. نيتشه اقتنع بنصف الكأس المملوء. هو اعتقد ان المعاناة ضرورية لتحفيز الذات على التطور: "ما لا يقتلك يجعلك أقوى". لنستطلع الان أفكار كلا الفيلسوفين.

تشاؤمية شوبنهاور: الحياة كمعاناة

لو تتخيّل الوجود كدائرة لامتناهية من الرغبات. انت دائما تسعى نحو شيء ما، لكن بمجرد حصولك عليه ستحل رغبة اخرى محل الاولى. هذه رؤية شوبنهاور حول العالم. جوهر فلسفته هي الرغبة: دافع أعمى غير عقلاني يحفز كل الاشياء الحية. نحن نعتقد اننا نتصرف لأسباب جيدة، لكن في الحقيقة نحن فقط نطيع أوامر هذه القوة الخارجة عن السيطرة، التي لا يمكن إشباعها ابدا، وبهذا نحن دائما نريد الكثير.

بالنسبة لشوبنهاور، المعاناة تعرّف واقع الانسان. صحيح، نحن نستطيع احيانا ان نكون سعداء – لكن هذا الشعور سوف لن يستمر، في أفضل الاحوال، سيكون انقطاعا مؤقتا في نوع معين من الألم بانتظار وصول ألم جديد.

لننظر في الجوع: انت تتناول طعام وتشعر بالرضا، لكن بعد وقت قصير ستعود الآلام. الان تخيّل هذا النموذج يحدث في جميع رغبات الانسان نحو (الحب، النجاح، الأمن): الحياة تصبح تمرينا في الشعور بالاحباط. كيف يمكننا الخروج من هذا المأزق؟ شوبنهاور اقترح ثلاثة مسارات:

1- الزهد – التخلي عن الرغبات (كما يفعل الرهبان).

2- الفن والموسيقى – الانغماس لحد الضياع في شيء جميل ينسى فيه المرء ذاته ولو مؤقتا.

3- التعاطف compassion – ادراك ان كل فرد مبتلى بالرغبات ومن الافضل المساعدة ليعم الخير ويصبح الجميع في أفضل حال.

في البوذية، هناك النيرفانا وهي بلوغ حالة تزول فيها الرغبة. هذه تشبه الحالة عند الرواقيين عندما ذكر ماركوس ارليوس ان المرء يجب ان لا يكون مختلفا في أي شيء عدى الفضيلة.

لكن على خلاف اولئك الفلاسفة في العصور القديمة، شوبنهاور لا يقدم رسالة مبهجة حول الطريقة التي نكون بها سعداء، يقدم فقط افكار حول كيفية الفهم الأفضل للمعاناة والغاية منها.

تأكيد نيتشه: الحياة كإرادة للقوة

اعتقد شوبنهاور ان المعاناة يجب تجنبها مهما كانت الكلفة طالما هي توقعنا في الفخ. نيتشه رفض ذلك: هو اعتقد ان الألم احيانا يكون مفيدا بل وضروريا.

الرياضي يشعر بعدم ارتياح شديد اثناء اللعب لكنه يستمر لأنه يريد الفوز، الفنان يشعر بحزن كبير لكنه يستعمله لخلق شيء جميل. بالنسبة لنيتشه، ايضا، المعاناة شيء ثمين: لأنه من خلال العمل في تجارب شاقة، يصبح المرء شخصا أفضل.

نيتشة لا يعتقد ان الناس يجب ان يرفضوا الحياة ويفضلوا التعاسة على نيل هدف معين (موقف الزهد). لكنه ايضا لم يكن مهتما في التظاهر ان كل شيء على ما يرام. هو اعتقد ان الفن العظيم يمكنه ان يبيّن وحشية الواقع، ولايزال يجعل الحياة تستحق العيش.

هو اعتقد ان شوبنهاور كان سلبيا جدا. الحياة ليست ان تكون منفصلا وانما في البقاء مشاركا، تقبل الصراع ولديك رأي في التعامل مع الاشياء. نيتشه طرح سؤالا: هل تريد ان تتجنب المعاناة، ام تريد ان تكون جيدا في التعامل معها؟ رؤيته الخاصة قوية وواضحة: الناس الذين يعيشون حياة مقنعة لا يترددون في مواجهة التحديات. هم يأخذونها على محمل الجد.

الأخلاق ومشكلة التعاطف

عندما نأتي الى الاخلاق، يقول شوبنهاور ان هناك فقط شيئا واحدا جيدا: العاطفة (هو اسماها Mitleid). اذا انت تريد ان تعيش حياة جيدة، هو اعتقد، يجب ان تكون رقيقا عندما يعاني الاخرون من ألم.

لأنه اذا كان كل الناس يهتمون بانفسهم، عندئذ لا احد يساعد الاخر، وسينتهي بنا الامر نعيش في تعاسة اكبر. لكن التصرف بدافع الاهتمام بالاخرين يمكن ان يربطنا معهم، وان تقاسم المعاناة هو أقل سوءا من الذهاب معها وحيدا. هذه الطريقة في النظر الى الاشياء لها بعض الارتباطات مع الاخلاق البوذية . نيتشه ربط هذا النقد بالمسيحية، زاعما ان الاخلاق المسيحية صُممت لتمجيد الضعف: انها "اخلاق العبيد".

هو ما كان يرغب ان يرى الناس يشعرون بالاسف تجاه بعضهم – الشعور الذي ربطه بالايمان برحمة الله. هو اراد الافراد ان يتخلوا عن فكرة الشفقة وبدلا من ذلك يحفزوا انفسهم والاخرين "ليصبحوا هم كما في ذاتهم".

اليوم، نرى نفس الشكل لكن بتعبيرات أكثر أهمية: هل يجب على الناس جعل الاشياء افضل لاولئك الذين في الأسفل (رؤية شوبنهاور حول الرفاهية) ام تشجيع الناجين على التفوق؟ (انه يبقى سؤالا مفتوحا في السياسة، والمساعدة الذاتية، وحقول اخرى).

الفن ودور الجماليات

نظر شوبنهاور للفن باعتباره اكبر من مجرد وسيلة للتعبير عن الجمال. هو يراه ايضا طريقة للهروب. بما ان التجربة ذاتها مليئة بالألم، كما اوضح، فان المرء يستطيع فقط العثور على الراحة عبر تحرير نفسه مؤقتا من الاضطراب الدائم للرغبة الكونية. متى مانستمع للموسيقى، ندرس اللوحة، او نقرأ القصيدة، نحن نلمح شيئا أعمق: الحقيقة التي تكمن وراء رغباتنا واحباطاتنا اليومية.

هو اُعجب خصيصا ببيتهوفن لخلقه أعمالا ذات قوة مذهلة تحمل الذهن الانساني خارج الاهتمامات اليومية – ولو لفترة قصيرة. نيتشه كانت له رؤية مختلفة. الفن، كما يرى، يجب ان لا يكون حول الهروب من صعوبات الحياة. بدلا من ذلك، يجب التعامل مع الصعوبات وجه لوجه واعطائها معنى. في النهاية الفن العظيم حقا لا يحمينا من قسوة العالم، بل يمكّننا من مواجهة ما هو مروّع بطريقة نستطيع ان نتماشى معه.

هو كان من محبي التراجيديا اليونانية، التي لم تُنكر فيها المعاناة وانما جرى استطلاعها كمظهر اساسي للحياة. التراجيديا لا تبيّن لنا طريقا للخروج، انها تبيّن لنا كيف نواجه الحياة بشجاعة. كان ريتشارد واغنر Richard Wagner هو عازف نيتشه المفضل، خاصة في الاوبرا المبكرة، حيث القوة، الصراع، والبطولة التي جرى التعبير عنها عبر الموسيقى. أعمال واغنر، طبقا لنيتشه، هي توضيحات غير مشوهة لإرادة القوة: انها تحتفل بالحياة بكل شغفها.

لذا، هل يجب ان يقدم الفن ملاذا من المعاناة (كما يعتقد شوبنهاور) – ام انه يساعدنا لتحويل المعاناة الى شيء ما نحتفل به (كما يرى نيتشه)؟ جدالهما لازال يؤثر في ما اذا كنا نعتقد اليوم ان الموسيقى والادب والابداع يجب ان تريحنا ام تتحدانا.

السؤال النهائي: احتضان الحياة ام الهروب منها؟

في جوهر النقاش حول نيتشه مقابل شوبنهاور يبقى سؤالا واحدا شموليا: هل يجب ان نؤكد ونقبل الحياة، ام يجب ان نتغلب عليها ونتركها خلفنا؟ شوبنهاور يرى ان الكائن المتنور يجب ان ينسحب من العالم. طالما ان العالم مليء بالمعاناة فان أفضل شيء يمكن عمله هو فك الارتباط بالرغبة، وعدم الكفاح، وعدم المنافسة. الرهبان الزاهدون والصوفيون الذين تخلوا عن الملذات الدنيوية كانوا المثال الرائع له . بالنسبة له، الوجود ليس شيئا يجب التغلب عليه، انه اكثر من شيء يمكن فك التشابك معه. نيتشه عارض تماما اتجاهه السلبي. بدلا من تجاهل الوجود، حسب قوله، الشخص الأقوى يحتضن محنه وانتصاراته. الكفاح هو الذي يحصّن، والألم ليس لعنة وانما مصدر للنمو. ولكي يختبر هذا، اخترع نيتشه فكرة العود الابدي: اذا كانت كل حياتك يجب ان تُعاش مرة بعد مرة، وبالضبط  في نفس الشكل، والى الابد هل ستكون مسرورا بذلك؟ اذا كان الجواب كلاّ، عندئذ فان شيئا ما يحتاج تغيير – نحن يجب علينا اعادة تشكيل حياتنا بحيث نحبها الى الابد.

هذا التباين بين الفيلسوفين يعرّف رؤيتيهما:

1- زهد شوبنهاور = التخلي عن الرغبة، السلام، وعدم المشاركة

2- بطولة نيتشه  = الكفاح، السيطرة، والتجاوز

اذن، ما هي طريقة الاختيار؟ التخلي ام الاحتضان. هذا هو أعظم مأزق تركاه لنا.

الإرث والتأثير: اي رؤية هي الفائزة؟

شوبنهاور ونيتشه كلاهما تركا تأثيرا دائما على الفلسفة، لكن العالم الاوسع تأثر بميراثهما بطرق مختلفة. فرويد كان قد تأثر بعمق بشوبنهاور. هو طور علم النفس انطلاقا من فكرة ان الكائن البشري مندفع برغبات لاواعية، مشابهة للرغبة العمياء لشوبنهاور. واغنر وجد فكرة شوبنهاور في ان الموسيقى يمكن ان تسمح للناس بإلقاء لمحات وراء المعاناة فكرة ساحرة – ألهمت أعظم أعمال الاوبرا. تولستوي والمفكرون الغربيون الذين تأثروا بالبوذية ايضا احتضنوا تشاؤمية شوبنهاور: الايمان باننا نعيش في أسوأ عالم ممكن . البعض يرى ان الانفصال عن الرغبات كطريق للحكمة. في الفن، يمكن النظر الى تأثيره في الاعمال البسيطة minimalist works التي تركز على الجمال ولا تهتم كثيرا في العالم التي حولها.

تشاؤميته الفلسفية التي يتردد صداها اليوم، قادت العديد للبحث عن سلام داخلي (عادة من خلال التأمل)، الابتعاد عن الاستهلاكية، او احتضان العزلة.

لكن نيتشه كان له تأثيرا أكبر على العالم الذي نعيش به اليوم. افكاره حول التغلب على الذات، كونك فرد، وخلق قيم جديدة كان لها التأثير الكبير على الوجودية (سارتر وكامو) وما بعد الحداثة (فوكو ودولوز) – حتى اشخاص مثل خبراء المساعدة الذاتية او مدراء القيادة مدينون له.

 ربما هما صائبان كلاهما. هذه الايام، هل لانزال نؤمن ان المعاناة شيء يمكن التخلص منه بكل ثمن، ام انها اصبحت مجرد تحدّ آخر قد يكون مفيدا لنا؟

بالنهاية، انت فقط منْ يقرر كيف تعيش مع الحقائق غير المريحة التي نواجهها اليوم. هل تريد ان تكون مثل شوبنهاور وتحاول العثور على الهدوء (بينما تتجنب معظم الاشياء)؟ ام تتبنّى رؤية نيتشه: تحتضن الحياة بكل ما فيها من فوضى وتحاول خلق شيء هاما؟

***

حاتم حميد محسن

.......................

The collector: July21, 2025

حين تستيقظ الذات على تكرارها

ليست العادة مجرد تكرار ميكانيكي لأفعال يومية، بل هي خيط دقيق ينسج الكينونة داخل الزمن ويمنح الحياة شكلًا يمكن احتمالُه. العادات التي نظنّها بسيطة، كشرب القهوة أو الكتابة أو المشي، تختزن في عمقها دلالة وجودية، لأنها محاولات دؤوبة لترميم الذات أو تأجيل تفككها. من هنا تصبح العادة شكلًا من أشكال المقاومة الصامتة للعدم، واستراتيجية للتموضع في العالم، يلتقي فيها الفلسفي بالأنثروبولوجي، والوجودي بالاجتماعي.

العادة.. حضور متجسد للزمن في الجسد

يرى مارتن هايدغر أن الكينونة لا تُفهم إلا من خلال “الوجود في العالم”، حيث يتحقق الزمن كخبرة معاشة، كما أشار في كتابه الوجود والزمان. في هذا السياق تغدو العادة طقسًا زمنيًا يكرّس الجسد كذاكرة تتكرر، وكأن الإنسان يعيد كل صباح بناء وجوده من خلال ما اعتاده. فشرب القهوة مثلًا ليس ترفًا، بل عودة إلى الذات، إلى تموضعها داخل إيقاع مألوف تعيد به تعريف كينونتها. ولهذا قال هايدغر إن “الوجود الإنساني هو وجود منفتح على الزمن، والطقوس اليومية ليست إلا تجليًا لهذا الانفتاح”

سوسيولوجيا التفاصيل الصغيرة.. العادة كحامل للمعنى

كما يرى ميشيل دي سيرتو، فإن الممارسات اليومية تشكل نوعًا من “التكتيك” الذي يمارسه الأفراد داخل النسق الاجتماعي من أجل خلق حيز من الحرية. فالعادات ليست مجرد طاعة بل مقاومة صامتة، تُمارَس داخل حدود المألوف لتوليد ذاتية مبدعة. حين نكتب أو نعدّ الشاي بطريقة خاصة، نحن لا نكرر فقط، بل نستعيد السيطرة على تفاصيل الحياة. ولذلك ذكر دي سيرتو في اختراع الحياة اليومية أن “العادة اليومية هي شكل من أشكال التعبير عن الذات داخل فضاء اجتماعي تُرسم حدوده خارجيًا”

الكتابة عادة.. حين تُصبح الحروف بيتًا للوجود

الكتابة بالنسبة لمن يمارسها ليست مجرد تقنية بل فعل وجودي، طقس متجدد تنبع فيه الذات من ذاتها. حين تجلس الذات أمام الورقة كل صباح، فهي تعيد سرد كينونتها بلغة جديدة، تواجه بها العدم، وتضمد بها هشاشتها. وقد رأى رولان بارت في الكتابة “حالة من التطهير”، كما ذكر في كتابه متعة النص، مؤكدًا أن اللغة لا تُستخدم فقط للتعبير، بل للمقاومة لذلك قال: “الكتابة ليست مجرد أداة، بل طقس من طقوس العبور نحو الذات”

العادة بين الانغلاق والخلق.. مفارقة الطقس اليومي

غير أن العادة، كما أشار إليها نيتشه، تحمل في ذاتها تناقضًا بنيويًا: فهي من جهة تعيد ترتيب الفوضى، لكنها من جهة أخرى قد تُغلق الأفق على الذات. فالاعتياد اليومي قد يُغرق الإنسان في تكرار يفقده ذاته، كما كتب في هذا هو الإنسان. لكنه أيضًا يرى أن تجاوز هذا التكرار لا يتم إلا من داخله، كما لو أن الإنسان يحتاج إلى العادة كي يخلق من داخلها فعلًا حرًّا. ولهذا حذر قائلًا: “احذروا العادة، فهي قد تُصبح سجنًا إن لم تحولوها إلى رقص”

حين تُصبح العادة تجسيدًا للحرية

تقدّم العادة نفسها كوسيلة لترسيخ وجود الإنسان في العالم، فهي لا تعارض الحرية بل تُنظّمها. في عالم متسارع ومفكك، تسمح الطقوس الصغيرة بتأسيس بنية نفسية ـ اجتماعية تحفظ الذات من التفكك. إنّ العادة ليست فعلًا هامشيًا بل شرط للكينونة اليومية، حيث تتجلى الحياة بأبسط صورها وأكثرها عمقًا. فالطقوس التي نظنها تكرارًا، كالمشي أو تحضير القهوة أو الكتابة، ما هي إلا إعلانٌ متجدد للوجود. إنها تقول للكون: نحن هنا، نعيد كل صباح ترميم ذواتنا بفعل نحفظه ونحبّه، ونقاوم به العدم.

***

د. آمال بوحرب 

(القوة الناعمة تضمن إجبارا وإلزاما غير مباشرين على التغيير، قد تعجز القوة الصلبة على القيام به. والقوة الناعمة ليست دعاية سياسية، ولكنها سجال عقلي يهدف إلى التأثير على الرأي العام وتحديثه. فخطورة الإعلام تكمن في القدرة على التأثير وبلورة الفكر، الذي يتحكم في تصرفاتنا ويعدل أفكارنا ويجعلنا نقتبس أحيانا مالا يلائمنا ولا يتوافق مع عاداتنا وتقاليدنا، استجابة لطبيعة المرحلة)... ميشيل فوكو

يخوض تأويل الظاهرة العصبية الاضطرابية، أو ما يسمى لدى علماء العلاج السلوكي والمعرفي ب(الميسوفونيا)  لدى الشعوب المسحوقة بتصادمات الحروب وانفعالاتها الداخلية، في حيز زمني، يقصر أو يطول، حسب الآفات والتوابع والإفرازات المستتبعة لها، (يخوض) نقاشا محموما حول التقائيته بالمآلات الحربية وجنون البشرية، أو ما يسميها كلاوزفيتز تحديدا ب"غوغائية الحرب"، وما ينتج عنها من ارتدادات تتعلق أساسا بالأخلاقيات والعدالة التناسبية، وتحرير السلطة من وازع الانتقام والحقد وتشويه الحقيقة.

وتثير (الميسوفونيا) كمعيار نفسي اجتماعي وثقافي، في ارتباطه بالواجهة المقيدة للحروب، انشغالات ثاوية في صلب تعاطي الإعلام مع الأزمات المكرسة للفوارق الاجتماعية، واستهدافاته لنظم المعرفة والأخلاق وقيم الإخلاص للهوية والانتماء.

إن الحروب الجديدة الآن، وكل النزاعات المسلحة التي تشكل بؤرا حامية على طول وعرض الكرة الأرضية، هي بالأساس حروب اقتصادية وتجارية وتكنولوجية، خارج الأنظمة البشرية والقانون الدولي والقضاء. تقوم على فلسفة الهجوم وإعلام "القطيعة الثقافية" والاجتماعية والنفسية المشبعة بامتدادات السياسة، حيث يغيب منطق الأخيرة ويستوعب اقتيادا مغايرا لنشر الأخبار الزائفة،"The Fake News" ، باعتبارها سلاحا فتاكا منذورا لتحطيم الوعي الإنساني واستقرار وأمن المجتمعات.

يكرس هذا المنحى، بروز دراسات تخصصية في "ميسوفونيا الحرب الإعلامية" الجديدة، تقودها أجهزة اختراقية دقيقة، وجيوش إلكترونية جرارة، يكون منتهى أعمالها، هو تأبيد الاستراتيجيات المحاصرة للأمن والسلم الاجتماعيين، مع استمرار توتير الخلفيات الأساسية لوقوع الأزمات وانتشارها على نحو يقطع مع التفكير الجماعي واليقظة المجتمعية، والتركيز المستقبلي.

وتتحوز "الميسوفونيا" تلك، على أنماط إبدالية مخالفة للسياقات المرصودة، تستأثر على مواقع ودراسات ترصد أسئلة الإعلام، ليس فقط في الذهنيات التي تخوض رهاناتها من داخل الثكنات الحربية، فهذه تعمل على إنشاء وحدات استراتيجية لدراسة شروط إنتاج المعلومات قبل وأثناء وبعد النصر، لا سيما وأن استخدام الرقابة الشاملة في مجتمعاتنا الديمقراطية أصبح غير مقبول وأكثر تكلفة على المستوى السياسي من نفعه العسكري ولكن، أيضا من خارج السياق الحربي، في إدارة وسائل الإعلام للنزاعات، بتحديد عناصر الاستمرارية وعوامل التغيير، ومراعاة بُعدي العلاقة التي تجمع حاليًا بين الحروب ووسائل الإعلام، أي الجيش والصحفيين.

ويرى علماء الاجتماع، أن استخدام القوة يعني شنّ حرب على وسائل الإعلام، لا يمنع من شنّ الحرب من خلالها، أو من خلال الدعاية المباشرة، أو من خلال التحكم في التمثلات التي تنقلها. في أوقات الحرب، حيث يصبح مفهوم الصحافة الحرة، الذي يُكلّف الصحفيين المستقلين بمهمة البحث عن المعلومات أو الصور التي قد تكون مخفية، أمرًا لا يُطاق بالنسبة للسلطات المدنية والعسكرية.

ومجال حظر معلومات عن الحرب، هو بالأساس انسياق خلف أيديولوجية معينة، وإخلال بمنظومة نشر "المعلومات" دون فرض رقابة صارمة على المحتوى. وفي ذلك تصريح مباشر بإبعاد الصحفيين على الأرض عن العمليات، وبالتالي استخدام مبرم للصحافة في لنقلها خطابات الدعاية، بعد إخضاع رموزها وعلاماتها للرقابة وتعرض الصحفيين للترهيب. ولا يزال هذا هو الحال اليوم في العديد من الوضعيات، وليس آخرها الحرب الإبادية على غزة، حيث تمارس وسائل الإعلام التابعة أو المدجنة، وبخليفات سياسية وتجارية ولا أخلاقية، أعمالا مخلة بالأخلاقيات ومشوهة للمعلومات والمعطيات على الأرض. ومن خلالها يتم التغطية على الجرائم الحربية المرفوضة أمميا والمعاكسة لأدنى حقوق الضحايا والأبرياء المدنيين والجوعى والمعطوبين والمقبورين تحت الأنقاض ؟.

إن الحرب الإعلامية، أو "ميسوفونيا" الدعاية، كما يحلو للباحث الفرنسي أرنو مرسييه (أستاذ الاتصالات بجامعة باريس بانتيون)، أن يسميها، هي جزء من العمل الاتصالي المرتبط بنظم الإعلام واقعًا من وقائع الحرب، مندمجة بالعقائد العسكرية كأهداف قائمة بذاتها. ينتج عنها تفكيك لقيم الإعلام النبيلة، كما تحددها الأكاديما أو الثقافة التي توظفها في الأدوات الفكرية المشروعة والإنسانية. وهي على هذا المنوال، تشكل بحضورها الإكراهي الجديد حالة ناشزة في أفق التعتيم والتحول الذي أضحى حقل المعلومات يشهده، تحت نظر تسارع تسلط التكنولوجيات العالية، وتغول جغرافية الذكاء الاصطناعي، وتنامي مخاطره على الأسرة والمدرسة والثقافة المجتمعية.

من أجمل ما قرأت في هذا المجال كتاب متفرد للفيلسوف والمفكر الأمريكي نعوم تشومسكي "السيطرة على الإعلام"، يستحضر فيه الوجه الآخر للإعلام المتواري خلف واقع يعري الصورة الحقيقية والمتوحشة للإعلام الأمريكي، في انتفاء لوصل الصور التي يزينها للناظرين، ولكنها تعكس الفارق والجوهر الحقيقان بالمعرفة والكشف، وكيف أن الدعاية أو البروبجندا هي السلطة المستحوذة على الشارع أو الرأي العام.

يستعرض تشومسكي في كتابه أيضا، في واحدة من أبلغ الاستعارات السوسيولوجية، قصة الإعلامي القادم من المريخ، والذي أراد به أن يوجد فاعلا محايدا يتخذه حكما على تناقضات الولايات المتحدة الأمريكية في حربها على ما تزعمه " إرهابا"، بيد أنها تغظ الطرف عن جرائم ومذابح ضد الإنسانية كانت طرفا رئيسيا فيها، لتظهر نواياها المبيتة تحت غطاءِ هذا المبرر "السخيف" لشن حربها المُخطّطِ لها مسبقا مثلما فعلت مع ألمانيا والشيوعية. ومعها الآليات الدعائية التي تجمل لها أفعالها وتوطن بإزاء ذلك، لا محدودية المؤامرة، وانفضاح السياسات الأمبريالية تجاه أنظمة تم تبييؤها وشحنها لتكون وعاء للسيطرة والقوة فقط ؟.

***

د. مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

 

مقدمة: يُشكل محمد أركون (1928-2010) واحدًا من أبرز المفكرين العرب والمسلمين في القرن العشرين، حيث قدم إسهامات فكرية عميقة في دراسة التراث الإسلامي والفكر الديني من منظور نقدي ومعاصر. يتمحور مشروعه الفكري حول إعادة قراءة التراث الإسلامي بمنهجية نقدية تاريخية، تسعى إلى تحرير الفكر الإسلامي من التقليدية والجمود، وإعادة بنائه في ضوء التحديات المعاصرة. يهدف هذا البحث إلى تحليل منهجية محمد أركون ومشروعه الفكري، مع التركيز على أسسه النظرية، أهدافه، أدواته، وتأثيراته.

العنصر الأول: الإطار النظري لمنهجية محمد أركون

السيرة الفكرية لمحمد أركون

وُلد محمد أركون في الجزائر عام 1928، ونشأ في بيئة ثقافية متنوعة تجمع بين التراث الأمازيغي والإسلامي والاستعماري الفرنسي. درس الفلسفة في جامعة الجزائر ثم انتقل إلى فرنسا حيث حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون. تأثر أركون بمفكرين مثل ميشيل فوكو، جاك دريدا، ولويس ماسينيون، مما ساعده على صياغة منهجية نقدية تجمع بين التاريخانية والسيميائية والأنثروبولوجيا[1]

 أسس منهجية أركون

تعتمد منهجية أركون على ثلاث ركائز أساسية:

النقد التاريخي: يدعو أركون إلى دراسة النصوص الدينية والتراث الإسلامي في سياقها التاريخي والاجتماعي، لفهم الظروف التي أنتجتها. يرى أن النصوص الدينية ليست ثابتة، بل هي نتاج تفاعل مع الواقع التاريخي[2].

التحليل السيميائي: يركز أركون على تحليل اللغة والرموز في النصوص الدينية، معتبرًا أن المعاني ليست مطلقة، بل متغيرة حسب السياقات الثقافية والاجتماعية.

الأنثروبولوجيا التاريخية: يستخدم أركون الأنثروبولوجيا لفهم العلاقة بين الدين والمجتمع، مع التركيز على كيفية تشكل الوعي الديني في سياقات ثقافية محددة.

مفهوم "الإسلاميات التطبيقية"

ابتكر أركون مفهوم "الإسلاميات التطبيقية" كبديل للإسلاميات التقليدية التي يراها أسيرة المنظور الاستشراقي أو التقليدي. يهدف هذا المفهوم إلى دراسة الإسلام بمنهجية علمية متعددة التخصصات، تجمع بين التاريخ، اللسانيات، الأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، لفهم الظاهرة الإسلامية بطريقة ديناميكية وشاملة[3].

العنصر الثاني: مشروع محمد أركون الفكري

الأهداف الأساسية للمشروع

يسعى مشروع أركون إلى تحقيق الأهداف التالية:

تحرير الفكر الإسلامي: يدعو أركون إلى تحرير الفكر الإسلامي من الجمود العقائدي والتقليد الأعمى، من خلال إعادة قراءة النصوص الدينية بمنظور نقدي.

إعادة بناء الهوية الإسلامية: يرى أركون أن الهوية الإسلامية يجب أن تُعاد صياغتها في ضوء التحديات المعاصرة، مثل العولمة والحداثة.

مواجهة الهيمنة الثقافية: يسعى أركون إلى مقاومة الهيمنة الثقافية الغربية من خلال إحياء التراث الإسلامي بطريقة نقدية ومعاصرة[4].

تعزيز الحوار بين الثقافات: يدعو إلى حوار بين الحضارات يعتمد على التفاهم المتبادل واحترام التنوع.

المحاور الرئيسية للمشروع

نقد العقل الإسلامي: يركز أركون على نقد العقل الإسلامي التقليدي الذي يعتمد على التفسيرات الحرفية للنصوص. يقترح إعادة قراءة القرآن والسنة بمنهجية تاريخية وسيميائية[5].

إعادة قراءة التراث: يدعو أركون إلى دراسة التراث الإسلامي، بما في ذلك الفقه، الكلام، والفلسفة، بطريقة تكشف عن التنوع والديناميكية في التفكير الإسلامي.

التعامل مع الحداثة: يسعى أركون إلى التوفيق بين الإسلام والحداثة، من خلال تبني قيم الحرية، العقلانية، والديمقراطية، دون التخلي عن الهوية الإسلامية.

نقد الاستشراق: يرى أركون أن الاستشراق الغربي شوه صورة الإسلام، ويدعو إلى دراسة الإسلام من منظور داخلي يحترم خصوصيته الثقافية.

أدوات المشروع

التحليل التاريخي: دراسة النصوص والأحداث في سياقاتها التاريخية.

السيميائيات: تحليل اللغة والرموز في النصوص الدينية.

التعددية التخصصية: استخدام مناهج من الفلسفة، الأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع.

الحوار النقدي: فتح حوار بين المفكرين المسلمين وغير المسلمين لتعزيز التفاهم المتبادل.

العنصر الثالث: تطبيقات منهجية أركون في السياق العربي والإسلامي

إعادة قراءة القرآن

يرى أركون أن القرآن ليس مجرد نص ديني، بل هو ظاهرة لغوية وثقافية يجب دراستها في سياقها التاريخي. يدعو إلى تحليل القرآن باستخدام السيميائيات والأنثروبولوجيا لفهم كيفية تشكل معانيه في المجتمع العربي في القرن السابع الميلادي[6]. على سبيل المثال، يقترح دراسة مفهوم "الجهاد" لفهم تطوره التاريخي بدلاً من التفسيرات الحرفية.

نقد الفقه الإسلامي

يعتبر أركون أن الفقه الإسلامي أصبح أسير التقليد، مما أدى إلى جمود الفكر الديني. يدعو إلى إعادة النظر في الأحكام الفقهية في ضوء القيم الإنسانية المعاصرة، مثل المساواة بين الجنسين وحقوق الإنسان

التعامل مع التنوع الثقافي

يدعو أركون إلى احترام التنوع الثقافي داخل العالم الإسلامي، ويرى أن الإسلام ليس كتلة واحدة، بل هو ظاهرة متنوعة تتشكل حسب السياقات الثقافية والتاريخية

مواجهة التحديات المعاصرة

يطبق أركون منهجيته على قضايا معاصرة مثل الديمقراطية، حقوق الإنسان، والبيئة. يرى أن الفكر الإسلامي يمكن أن يساهم في هذه القضايا إذا تم تحريره من الجمود.

العنصر الرابع: تأثير مشروع أركون وانتقاداته

التأثير الفكري

إلهام المفكرين: ألهم أركون جيلًا من المفكرين العرب والمسلمين، مثل نصر حامد أبو زيد ومحمد شحرور، لتبني مناهج نقدية في دراسة التراث.

تطوير الإسلاميات: ساهم مفهوم "الإسلاميات التطبيقية" في إعادة تعريف دراسة الإسلام في الأوساط الأكاديمية.

تعزيز الحوار بين الحضارات: شجع أركون على الحوار بين الثقافات الإسلامية والغربية، مما ساهم في تقليل سوء الفهم.

الانتقادات

الاتهام بالعلمانية: يرى البعض أن نهج أركون يميل إلى العلمانية، مما يناقض التصورات التقليدية للإسلام. يرد أركون بأن منهجيته لا تهدف إلى إلغاء الدين، بل إلى تجديده[7].

التعقيد الأكاديمي: ينتقد البعض أركون لأن منهجيته معقدة وغير عملية للجمهور العام.

الابتعاد عن التراث: يرى بعض التقليديين أن أركون يبتعد عن التراث الإسلامي الأصيل، بينما يؤكد هو على ضرورة إحياء التراث بطريقة نقدية.

العنصر الخامس: التحديات والآفاق المستقبلية

التحديات

مقاومة التقليديين: يواجه مشروع أركون مقاومة من التيارات التقليدية التي ترفض النقد التاريخي للنصوص الدينية.

الهيمنة الثقافية الغربية: يواجه الفكر الإسلامي تحديات العولمة التي تفرض قيمًا غربية.

نقص المؤسسات الأكاديمية: غياب مؤسسات تدعم الإسلاميات التطبيقية يحد من انتشار مشروع أركون.

الآفاق المستقبلية

تطوير الإسلاميات التطبيقية: يمكن تطوير هذا المفهوم من خلال إنشاء مراكز بحثية متخصصة.

تعليم النقد التاريخي: إدخال منهجية أركون في التعليم العالي لتشجيع التفكير النقدي.

تعزيز الحوار بين الأديان: يمكن أن يلعب مشروع أركون دورًا في تعزيز التفاهم بين الأديان والثقافات.

الخاتمة

يمثل مشروع محمد أركون الفكري محاولة جريئة لإعادة قراءة التراث الإسلامي بمنهجية نقدية تاريخية، تهدف إلى تحرير الفكر الإسلامي من الجمود وإعادة بنائه في ضوء التحديات المعاصرة. من خلال مفهوم "الإسلاميات التطبيقية"، قدم أركون إطارًا متعدد التخصصات لفهم الإسلام كظاهرة ديناميكية. على الرغم من الانتقادات، فإن إسهاماته فتحت آفاقًا جديدة للتفكير الإسلامي، مما يجعله نموذجًا للمفكرين الذين يسعون إلى التوفيق بين الأصالة والمعاصرة. إن تطبيق منهجيته يتطلب دعمًا مؤسسيًا وتعليميًا لضمان استمرار تأثيره في المستقبل. فهل يبقى فكر محمد اركون راهنا؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.......................

الاحالات والهوامش:

[1]: أركون، محمد. (1990). الفكر الإسلامي: قراءة نقدية. بيروت: دار الساقي.

[2]: أركون، محمد. (1984). نقد العقل الإسلامي. بيروت: دار الطليعة.

[3]: أركون، محمد. (2001). الإسلاميات التطبيقية. ترجمة هاشم صالح. بيروت: دار الساقي.

[4]: أركون، محمد. (1992). تاريخية الفكر العربي الإسلامي. بيروت: مركز الإنماء القومي.

[5]: أركون، محمد. (1986). القرآن: من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني. ترجمة هاشم صالح. بيروت: دار الطليعة.

[6]: أركون، محمد. (2005). الإسلام: الأخلاق والسياسة. ترجمة هاشم صالح. بيروت: دار الساقي.

[7]: أركون، محمد. (1993). العلمنة والدين. ترجمة هاشم صالح. بيروت: دار الساقي.

المصادر والمراجع:

أركون، محمد. (1990). الفكر الإسلامي: قراءة نقدية. بيروت: دار الساقي.

أركون، محمد. (1984). نقد العقل الإسلامي. بيروت: دار الطليعة.

أركون، محمد. (2001). الإسلاميات التطبيقية. ترجمة هاشم صالح. بيروت: دار الساقي.

أركون، محمد. (1992). تاريخية الفكر العربي الإسلامي. بيروت: مركز الإنماء القومي.

أركون، محمد. (1986). القرآن: من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني. ترجمة هاشم صالح. بيروت: دار الطليعة.

أركون، محمد. (2005). الإسلام: الأخلاق والسياسة. ترجمة هاشم صالح. بيروت: دار الساقي.

أركون، محمد. (1993). العلمنة والدين. ترجمة هاشم صالح. بيروت: دار الساقي.

صالح، هاشم. (2010). محمد أركون: سيرة فكرية. بيروت: دار الطليعة.

 

منذ فجر الحضارة، شغل ثلاثيّة الدّين والفلسفة والعلم حيّزا مركزيّا في سعي الإنسان لفهم العالم والوجود، حيث تتقاطع هذه المجالات الثّلاثة في محاولتها للإجابة عن الأسئلة الكبرى المتعلّقة بالكون والحياة والمصير الإنساني، ومع ذلك، فقد شهدت هذه المجالات على مر العصور صراعات وتوتّرات، بالإضافة إلى فترات من التّكامل.

الدّين والفلسفة: البحث عن الحقيقة

إنّ نقطة التقاء الدّين والفلسفة هي السّعي نحو الحقيقة، وإن اختلفا في المنهج والأدوات، فالدّين يقدّم رؤية شاملة للكون والحياة، ويستند إلى الوحي والإيمان كأساس للمعرفة، بينما تعتمد الفلسفة على العقل والمنطق في استكشاف الوجود، وتسعى إلى فهم العالم من خلال التّفكير النّقدي والتّحليل.

يقول ابن رشد في كتابه فصل المقال "فعل الفلسفة ليس شيئا أكثر من النّظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصّانع"1، وهذا يعكس وجهة نظر ترى أنّ الفلسفة يمكن أن تكون وسيلة لفهم الدّين وتعزيزه، وليس بالضرورة معارضته.

غير أنّ التّاريخ قد شهد صراعات بين الفلاسفة ورجال الدّين، والتّي غالبا ما كانت تنشأ بسبب اختلاف وجهات النّظر حول طبيعة الحقيقة ومصادر المعرفة، فقد اتّهم الفلاسفة بالإلحاد والزّندقة، بينما اتّهم رجال الدين بالجمود والتّعصب، لكن في المقابل كان هناك البعض من رجالات الفلسفة الذّين حاولوا التّوفيق بين الدّين والفلسفة، مثل ابن سينا وابن رشد، الذّين سعوا إلى إظهار أن العقل والإيمان يمكن أن يتعايشا ويتكاملا.

الدّين والعلم: من الصّراع إلى الحوار

العلاقة بين الدّين والعلم شهدت تحوّلات كبيرة في فترات كثيرة، من الصّراع إلى الحوار والتّكامل في العصور الوسطى، حيث كان العلم في كثير من الأحيان خاضعا لسلطة الكنيسة التّي اعتبرت أنّ المعرفة الدّينيّة هي المصدر الأساسي للحقيقة، وهو ما أدّى إلى قمع بعض الاكتشافات العلميّة التّي تعارضت مع العقيدة الدّينية، نذكر في السّياق الكنيسة الكاثوليكيّة في أوروبا وما كانت تتمتع به من سلطة كبيرة، وحيث أنّها كانت تعتبر الكتاب المقدّس المصدر النّهائي للمعرفة فإنّ أي اكتشافات علميّة تتعارض مع تفسير الكنيسة للكتاب المقدس هو هرطقة تُواجه بالقمع ومنه قضية غاليليو غاليلي الذّي أُجبر على التّراجع عن آرائه، وتمّ وضعه تحت الإقامة الجبريّة لأنّه دافع عن نظريّة مركزيّة الشّمس (أنّ الشّمس هي مركز الكون)، والتّي تعارضت مع وجهة نظر الكنيسة القائلة بأنّ الأرض هي مركز الكون2.

لقد كانت العديد من الاختصاصات تحت سلطة الكنيسة حتّى الطّب الذّي كان يُمارس غالبا من قبل رجال الدّين الذّين كانوا يعتقدون أنّ المرض هو عقاب من الله، وأنّ الشّفاء يمكن أن يتحقق من خلال الصّلاة والتّوبة، ومع تطوّر العلم، بدأ الأطبّاء في استخدام الملاحظة والتّجربة لفهم الأمراض وعلاجها.

في وقت ما أدّت نظريّة التّطور لداروين مثلا إلى جدل كبير بين العلم والدّين، وقد اعتقد البعض أنّ هذه النّظريّة تتعارض مع قصّة الخلق في الكتاب المقدّس، ومع ذلك، قبل بها العديد من العلماء ورجال الدّين، معتبرين أنّها طريقة لفهم كيفيّة خلق الكون.

ومع ظهور عصر النّهضة وعصر التّنوير، بدأ العلم في التّحرر من قيود الدّين، واكتسب استقلاليّته، بعد صراع عميق بين من يمثّل العلم ومن يمثّل الدّين، حيث اتّهم الطّرف الأوّل الدّين بالخرافة والجهل، واتهم الطّرف الثّاني العلم بالتّهديد للإيمان والأخلاق. لكن في العصر الحديث، بدأ الحوار بين العلم والدّين، حيث أدرك كل منهما أهميّة الآخر، فالعلم يوفر لنا فهما أفضل للعالم من حولنا، بينما يوفر الدّين لنا القيم والأخلاق التّي توجّه السّلوك، يقول أينشتاين "العلم بدون دين أعرج، والدّين بدون علم أعمى"3، وهذا يعكس وجهة نظر ترى أنّ العلم والدين يمكن أن يكمّلا بعضهما البعض، وأن كُلاّ منهما ضروري لفهم العالم والإنسان.

نقاط الالتقاء والاختلاف:

تتلاقى الفلسفة والدّين والعلم في السّعي نحو فهم العالم والإنسان، ولكنّها تختلفان في المنهج والأدوات، فالفلسفة تعتمد على العقل والمنطق، والدّين يعتمد على الوحي والإيمان، والعلم يعتمد على الملاحظة والتّجربة.

وعليه، تكمن نقاط الالتقاء في السّعي نحو الحقيقة، وطرح الأسئلة الكبرى حول الوجود والحياة والمصير الإنساني.

أمّا نقاط الاختلاف فتكمن في المنهج والأدوات، وفي طبيعة الحقيقة التّي يسعون إليها، فالفلسفة تسعى إلى الحقيقة من خلال التّفكير النّقدي والتّحليل، والدّين يسعى إلى الحقيقة من خلال الإيمان والوحي، والعلم يسعى إلى الحقيقة من خلال الملاحظة والتّجربة.

وبناء على ما سبق، العلاقة بين الدّين والفلسفة والعلم معقّدة ومتشابكة، وتشهد على الدّوام تحوّلات وتطوّرات، فالدّين والفلسفة والعلم ثلاثة مسارات مختلفة في سعي الإنسان لفهم العالم والوجود، وعلى الرغم من التّوترات والصّراعات التّي شهدتها هذه المجالات عبر التّاريخ، إلاّ أنّها يمكن أن تتعاون وتتكامل، وأن تساهم في إثراء المعرفة الإنسانيّة وتعزيز الوعي بالذّات والعالم.

***

د. سلوى بنأحمد - باحثة في علم الكلام وقضايا الإرهاب والتّطرّف / جامعة الزّيتونة - تونس

........................

1- القرطبي، ابن رشد، فصل المقال، تح محمّد عمارة، دار المعارف، ط2/ دت، ص22.

2- مينوا، جورج، الكنيسة والعلم، دار الأهالي، دمشق، ط1/ 2005، ص 547.

3- صديقي، عبد اللطيف، المسألة الدينية عند آينتشاين، منشورات الاختلاف منشورات ضفاف، ص 19.

 

بين تفكيك المعرفة الاستشراقية واسترداد الهوية الفلسطينية المغتربة

مقدمة: يُعتبر إدوارد سعيد (1935-2003) واحدًا من أبرز المفكرين في القرن العشرين، حيث ترك بصمة عميقة في مجالات النقد الأدبي، الدراسات ما بعد الاستعمارية، والفكر السياسي. من خلال عمله الرائد الاستشراق (1978)، قدم سعيد نقدًا جذريًا للطريقة التي شكلت بها الثقافة الغربية صورة الشرق، معتبرًا أن هذه الصورة تخدم الهيمنة الاستعمارية. في الوقت ذاته، كانت رحلته الشخصية كفلسطيني مغترب في المنفى تجربة محورية شكلت كتاباته حول الهوية، المنفى، والمقاومة الثقافية. يهدف هذا البحث إلى تحليل رحلة إدوارد سعيد الفكرية والشخصية، مع التركيز على كيفية تفكيكه للمعرفة الاستشراقية وجهوده لاسترداد الهوية الفلسطينية المغتربة، من خلال مقاربة تحليلية تستند إلى أعماله وتجربته الشخصية.

.1. إدوارد سعيد: سياق الحياة والمنفى

وُلد إدوارد سعيد في القدس عام 1935 لعائلة فلسطينية مسيحية، ونشأ في بيئة متعددة الثقافات بين القدس، القاهرة، والولايات المتحدة. بعد النكبة عام 1948، عاش سعيد تجربة المنفى التي شكلت وعيه بهويته الفلسطينية. كما أثر تعليمه الغربي في جامعة هارفارد وبرينستون على تشكيل رؤيته النقدية للثقافة والسلطة (1999). هذه التجربة المزدوجة جعلته يتحرك بين عالمين: الشرق كموطن أصلي، والغرب كفضاء فكري وسياسي. يصف سعيد هذه الحالة في كتابه خارج المكان بأنها تجربة "اللاانتماء"، التي أثرت على رؤيته للهوية كمفهوم ديناميكي ومتنازع عليه.

.2. تفكيك المعرفة الاستشراقية

في كتابه الاستشراق (1978)، قدم سعيد تحليلًا نقديًا للاستشراق كممارسة معرفية وسياسية تُنتج صورًا نمطية عن الشرق لخدمة المصالح الاستعمارية الغربية. استند سعيد إلى أفكار ميشيل فوكو حول العلاقة بين المعرفة والسلطة، مؤكدًا أن الاستشراق ليس مجرد دراسة أكاديمية للشرق، بل خطاب هيمنة يصور الشرقي كـ"آخر" متخلف وغريب (1977; 1978). يرى سعيد أن هذا الخطاب ساهم في تبرير الاستعمار من خلال تقديم الشرق كفضاء يحتاج إلى "تدجين" و"تحضير".من الناحية الميتودولوجية، استخدم سعيد نهجًا تأويليًا لتحليل النصوص الأدبية، الفنية، والعلمية التي أنتجها المستشرقون، مثل إدوارد لين وغوستاف فلوبير، ليكشف كيف شكلت هذه النصوص صورة الشرق في الخيال الغربي. كما أشار إلى أن الاستشراق ليس ظاهرة منفصلة عن السياق السياسي، بل هو جزء من مشروع السيطرة الاستعمارية (1978).

3 - استرداد الهوية الفلسطينية المغتربة

إلى جانب نقده للاستشراق، كرس سعيد جزءًا كبيرًا من حياته الفكرية والسياسية للدفاع عن القضية الفلسطينية واسترداد الهوية الفلسطينية المغتربة. في كتابه مسألة فلسطين (1979)، قدم سعيد تحليلًا للتاريخ الفلسطيني من منظور ما بعد استعماري، مؤكدًا أن النكبة لم تكن مجرد حدث سياسي، بل عملية مستمرة لتشتيت الهوية الفلسطينية ومحوها. كما ركز على مفهوم "المنفى" كحالة وجودية وثقافية، حيث يعيش الفلسطينيون حالة من الاغتراب الدائم بسبب التهجير والاحتلال.في أعمال مثل بعد السماء الأخيرة (1986)، بالتعاون مع المصور جان موهر، استخدم سعيد النصوص والصور لتوثيق الحياة الفلسطينية، مؤكدًا على أهمية السرد الذاتي في مقاومة الروايات المهيمنة التي تحاول طمس الهوية الفلسطينية. كما دعا إلى "المقاومة الثقافية" كوسيلة لاستعادة الصوت الفلسطيني، معتبرًا أن الثقافة والأدب يمكن أن يكونا أدوات لمواجهة الهيمنة السياسية والثقافية.

4. الربط بين تفكيك الاستشراق واسترداد الهوية

تتجلى رحلة سعيد الفكرية في الربط بين نقده للاستشراق وجهوده لاسترداد الهوية الفلسطينية. ففي حين كشف في الاستشراق عن الآليات التي استخدمها الغرب لتشويه صورة الشرق، عمل في كتاباته عن فلسطين على تقديم رواية مضادة تعيد بناء الهوية الفلسطينية كجزء من مقاومة الخطاب الاستعماري. يرى سعيد أن الهوية ليست ثابتة، بل هي عملية ديناميكية تتشكل من خلال التفاعل مع التاريخ، الثقافة، والسياسة (1999). من الناحية النظرية، يمكن اعتبار هذا الربط امتدادًا لمفهوم "الثقافة والهيمنة" الذي طوره سعيد في كتابه الثقافة والإمبريالية (1993). هنا، يربط سعيد بين الأدب، الثقافة، والسياسة، مشيرًا إلى أن الروايات الثقافية يمكن أن تكون أدوات للمقاومة أو الهيمنة. بالنسبة للفلسطينيين، كان استرداد الهوية يعني استعادة السرد التاريخي والثقافي الذي حاول الخطاب الصهيوني والاستعماري طمسه.

5. التحديات والإسهامات

التحديات: الاستقطاب السياسي:

واجه سعيد انتقادات حادة من قبل مؤيدي الصهيونية الذين اعتبروا كتاباته عن فلسطين متحيزة، كما انتقده بعض المستشرقين التقليديين لتفكيكه للاستشراق.

التعقيد الهوياتي: كمثقف فلسطيني في المنفى، واجه سعيد تحديات في التوفيق بين هويته المزدوجة كفلسطيني وأكاديمي غربي.

الإسهامات:

إعادة تعريف الاستشراق: قدم سعيد إطارًا نظريًا جديدًا لفهم العلاقة بين المعرفة والسلطة، مما أثر على الدراسات ما بعد الاستعمارية والنقد الثقافي.

تمكين الصوت الفلسطيني: ساهم في إعادة صياغة الرواية الفلسطينية عالميًا، مؤكدًا على أهمية الثقافة في المقاومة.

التأثير الأكاديمي: ألهم جيلًا من الباحثين في مجالات النقد الأدبي، الدراسات الثقافية، والعلوم السياسية.

6. التوصيات

للاستفادة من إرث سعيد في السياق المعاصر، يُوصى بما يلي:

تعزيز الدراسات ما بعد الاستعمارية في الأوساط الأكاديمية العربية لفهم تأثير الخطابات الاستعمارية على الهوية العربية.

دعم المشاريع الثقافية التي توثق التجربة الفلسطينية، مثل الأدب، الفن، والسينما.

تشجيع الحوار بين الثقافات لتفكيك الصور النمطية المتبادلة بين الشرق والغرب.

تطوير مناهج تعليمية تستند إلى أفكار سعيد لتعليم الطلاب أهمية النقد الثقافي والسياسي.

خاتمة

تُعد رحلة إدوارد سعيد الفكرية والشخصية نموذجًا فريدًا للمثقف الملتزم الذي جمع بين النقد الأكاديمي والنضال السياسي. من خلال تفكيكه للمعرفة الاستشراقية، كشف سعيد عن الآليات التي تستخدمها الثقافة للهيمنة، بينما ساهم في استرداد الهوية الفلسطينية المغتربة من خلال إعادة صياغة السرد الفلسطيني. يظل إرثه حيًا في قدرته على إلهام الباحثين والناشطين لمواجهة التحديات الثقافية والسياسية المعاصرة بأدوات النقد والمقاومة. فكيف يمكن الاستئناس بمسار سعيد النضال الفكري والسياسي في تجذير الفعل المقاوم؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.........................

الاحالات والهوامش:

[1] يُعد مفهوم "المعرفة والسلطة" عند ميشال فوكو أساسًا مركزيًا في تحليل سعيد للاستشراق كخطاب هيمنة.

[2] يشير ادوارد سعيد في خارج المكان إلى تجربته الشخصية كفلسطيني مغترب، مما أثر على رؤيته للهوية والمنفى.

[3] تُظهر أعمال سعيد عن فلسطين، مثل مسألة فلسطين، التزامه بالدفاع عن الحقوق الفلسطينية من خلال الثقافة والسياسة.

المصادر والمراجع:

Foucault, M. (1977). Discipline and Punish: The Birth of the Prison. New York: Pantheon Books.

Said, E. W. (1978). Orientalism. New York: Pantheon Books.

Said, E. W. (1979). The Question of Palestine. New York: Times Books.

Said, E. W. (1986). After the Last Sky: Palestinian Lives. New York: Pantheon Books.

Said, E. W. (1993). Culture and Imperialism. New York: Knopf.

Said, E. W. (1999). Out of Place: A Memoir. New York: Knopf

محاولة لمعرقة شيء من اعماق النفس

هل حقًا ما نقوله هو ما نعبر عنه؟>> هل هناك علاقة بين الكلام الذي نقوله واللغة المنطوقة؟

 لا اعتقد لأن اللغة تحمل أكثر من معنى مرئي ومسموع وبالآن نفسه إيماءات الوجه أيضًا تحمل دلالات لا يستطيع المتكلم اخفائها، ولا ننسى أيضًا التأويل بالتحدث، والتأويل باستلام الرسالة كمستمع، والتأويل بما اريد اسمعه، وهناك الكثير الذي لا يحصى.

 حينما نتكلم نجمع الحروف لنتكلم بكلمة تشكل مجموعة الكلمات جملة كما نريدها، وأحيانًا نزيح الكلمات في بنية الجملة المجازية حيث يوجد انتقال، أو تحويل مشاعر، أو ربما حتى السلوك من موضع الكلمة المنطوقة من ذات الشخص، إلى شخص آخر ربما غير موجود، أو شيء آخر ليس هو الشخص الذي فعلهُ سابقًا، فاستدعاه المتكلم من عالم اللاشعور – اللاوعي في لحظة لاسيطرة فيها، وآخر غير ذلك، فبين خبايا اللغة تنطوي معاني لا تخرج بكلمات، وإن خرجت بلسان فهي تؤدي وظيفة واحدة هي إيصال رسالة لم تفسر بُعد وعمق المحكي – المنقول للمستمع، للمتلقي.

هي بعض من أعماق النفس وما يدور بين ثنايا الكلمة، أو الفكرة المبعثرة بفعل الكبت العميق، وقول " سيجموند فرويد " ان النشاط النفسي يخضع لحتمة سيكولوجية، فليس في العالم النفسي مجال للمصادفة الطارئة، ومن ثم فكل ما يصدر عن الإنسان من سلوك إنما هو محتم " حتمي " بما سبق أن خبره في أطوار حياته " محاضرات تمهيدية، ص 37" وأزاء ذلك فإن ما نقوله، أو ما نريد قوله أو فعله، أو حتى حينما نفكر به ولم يخرج من بين ثنايا اللسان، أو النفس هو تكوين فرضي، له دلالة التكوين من أعماق النفس، وإذا ما خرج بكلمة مفهومة، أو مدغمة بمعاني عدة فإنها تحمل دواخل الفرد وما رشح منه من عالم اللاشعور.. إذن هو سلوكنا، الكلمة المحكية – المنطوقة، الفكرة الهاربة المتشتتة، الكلمة المقلوبة بالحروف وأعطت معنى آخر، إلا أن حروفها نفسها ولكن تغيرت مكان تواجدها بالكلمة مثلا تنادي لشخص أسمه (صالح) وتناديه (صاحل) أو تنطق أسم شخص آخر ليس هو اسم الشخص الواقف أمامك، وهو صاحبك وتعرفه حق المعرفة ويمشي معك !! هي النفس في تداعياتها تبدأ ليس بالكلمة فقط، ولا بالحروف المنطوقة عن اسم الشخص الذي تعرفه وتتعايش معه، بل بأبعاد ما تم خزنه في عالم القارة الخفية، أعني اللاشعور – اللاوعي، ربما تنطق الزوجة بأسم شخص – امرأة أو رجل، فتنطق بأسم شخص آخر، أو الأم التي تنادي على بنتها وبدلا من أن تقول يا فلانه بأسمها تقول بأسم آخر؟؟ اسم بنتها لكنها تقول أسم أختها وتعيد ذلك الفعل عدة مرات في ايام معينه.

 أتسائل وأقول هل هذا الحدث عفوي؟ لا معنى له أو دلالة؟

أبدًا.. ومستحيل، ما تعلمناه من التحليل النفسي بأن كل ما يصدر عن الإنسان من قلب الحروف، أو قول اسم شخص، أو تداخل في الكلمة له معنى وله دلالة، حتى وإن غاب عن التفسير لدى معظم الناس، إلا ان المشتغلين بالتحليل النفسي وممن استطاعوا أن يسبروا أحوال النفس لهم معرفة حقه في ذلك السلوك، من تكوينه الفرضي، إلى النطق به، إلى تشتت الكلمات.

 نعترف وكاتب هذه السطور أيضًا يعترف بأننا نحن أسوياء ولكن كل منا بطريقته الخاصة، وإن حاول التقرب لهذا المثل الأعلى " اقصد هنا السوية " الذي نحاول الاقتراب منها كما عبر عنه " صلاح مخيمر" 

هل الشعر والرمزية فيه تنقل الفكرة بسطحيتها، أو اللوحة الجميلة التي الوانها تغمر الناظر بعمق تشكلاتها المتقاطعة، هل قال الشاعر حقيقة ما دار في وجدانه من اعماق نفسه، هل أن الرسام التشكيلي في رمزيته للوحة هو ما قاله فعلا وكان يعتقد به حقًا؟    

هي محاورة النفس في ما تحمل من عمق اللغة والمعاني والكلمات ولو كانت بفرشة فنان. هل هي اعترافات، أم توكيد لشيء لا يستطيع البوح به، وما أكثره في دواخلنا، نلف وندور به بكلمات مفهومة بالعلن، وأحيانًا برمزية عالية الدقة والعمق.. وخير ما نجده في ما يطرحه الاعلام والسياسة والساسة والتاجر، ومن يتدبر الأمر في ليل، يظهر شيء ما في العلن، ويخفي اشياء لا حصر لها، وعند رجال الدين الأمر أعمق بكثير مما نسمعه ونراه.

 هي النفس في ما يصدر عنها من خطاب للآخر، أيًا كان، الاب لإبنه أو بنته أو لزوجته، أو الاخ لإخيه، أو المعلم في تدريسه، أو أي خطاب، وادعوا القارئ الكريم لقراءة الخطابات الأربعة للمحلل النفسي الفرنسي " جاك لاكان " الذي سبر أغوار النفس بهذا العمق بعد " سيجموند فرويد " وبأسلوبه المعمق والذي استهدف كشف اسرار الإنسان وما يجول بداخله، وهذه الخطابات الاربعة والثابت في الخطابات الأربعة هو المتكلم / المتحدث / المُخاطب وهذه الخطابات الأربعة هي : خطاب السيد، خطاب الجامعي، خطاب الهستيري، خطاب المحلل.

تعد الاغنية وأداءها وشعرها، النكتة وبناءها اللغوي وتأثيرها، وحركة الجسد عند راقص البالية، هل هي حقًا تمثل كل قدرته على الأداء، هل هي توكيد لما يعتمل في داخله أم رفض له، هل فلتات لسان عند البعض هي توكيد لشيء لا يمكن قوله؟ هي بعض من دينامية النفس في تبدلها وتغيرها نحو (!) أو نحو (!) ولكن لا تتوقف في الحالة الاولى ولا في الحالة الثانية، ولا ينتهي فالأول بالفشل، والثاني بالنجاح، لأننا نحن لسنا كما نعتقد نحن، فدواخلنا تمتلك أكثر مما نعرف، فكما هي تعبر عن الفعل ليس كما هو، بل في كل الأحوال لا يظهر أعلى شيء، وما يظهره الأن سيكون غدًا من الماضي وربما يشكل رفض له، أو استهجان لأن فكرته كانت ترمز لشيء عميق وخفي.

معظمنا يحمل في طيات نفسه ما لا نهاية له من المخزونات في اللاشعور – اللاوعي، حينما تداعب بعض الوقائع الخارجية تشتعل من الداخل فينا ونحن لا نعلم أنها اثارت فينا بعض المواجع. فما نقوله هل حقًا كل ما نعتقد به؟ أو ما نفعله هو فعلا ما هو بدواخلنا؟ هي أسئلة لا إجابات لها، وإذا عرفناها اعتقد أننا نخشى قولها، هي التي هربنا منها فذهبنا بوعينا، أو لاوعينا لقول نقيضها، بقلب المعنى، بقلب المنطوق، إدغام الكلمة، وإذا تحايل البعض منا فهرب، أو استطاع الهرب، فسيعود بشكل آخر غير متوقع في الحلم، واساس الحلم هو الإزاحة والتكثيف كما دونه " فرويد" أو عند المحلل النفسي " جاك لاكان " الكناية والاستعارة ".

***

د. اسعد الامارة

مقدمة: قامت الليبرالية الأوربية على أنقاض الكنيسة فرفعت شعار الحرية وعتقت الفرد من صكوك الغفران ومنحته الأولية ليقتحم الفكر الليبرالي الساحة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فكيف نشأت الليبرالية وماهي مبادئها؟ وهل تؤسس لأرضية أخلاقية؟.

مفهوم الليبرالية:

قبل أن نخوض غمار البحث في الفكر الليبرالي وجب علينا ضبط مفهوم الليبرالية الذي يعتبر زئبقيًا ينفلت من دائرة التعريف، حيث اختلفت في تحديده المعاجم والموسوعات ذلك نظرا لتطور والالتباس حول نشأته إلا أن أكثر التعريفات شيوعا أن الليبرالية ترجع في الأصل إلى لفظ اللاتيني "ليبرالس" ويُقصد به الشخص الحر. وقد مثل هذا اللفظ الأكثر تداولاً منذ نهاية القرن 17 أما مع نهاية القرن التاسع عشر ظهر لفظ الليبرالية محملاً بخلفية فكرية اقتصادية وسياسية وقد عرف الطيب بوعزة الليبرالية في قوله "الليبرالية هي فلسفات اقتصادية وسياسية ترتكز على أولوية الفرد بوصفه كائنًا حر" ويعرفها المؤرخ مورس فلامون بأنها "مذهب الحرية" وبهذا المعنى نخلص إلى أن الليبرالية مـذهب فكري ينـادي بالحريـة الكاملـة في مختلف ميـادين الحيـاة.

وجدير بالذكر أن الليبرالية كلفظ اصطلاحي ظهرت بعد ظهورها التاريخي حيث تبلورت أفكارها في أول حزب ليبرالي وهو حزب الكورتيس الاسباني.

وإذا ما نظرنا في شهادة ميلاد الليبرالية سنجد أنها برزت في عصر التنوير خلال القرن السابع عشر كحركة سياسية رافضة لسائد من امتياز وراثي والحكم بحق الاهي وقد جاءت حصيلة جهود عدد من المفكرين والفلاسفة أمثال ستواريت ميل وموتسكيو وجون لوك الذي أكد على الحق الطبيعي لإنسان في الحياة والحرية والتملك.

مبادئها:

من أهم المبادئ التي قامت عليها الليبرالية والتي تعتبر القاسم المشترك بين مختلف تياراتها هي الحرية و من معانيها؛ حرية الفرد الذي تعتبره النواة الأولى المكونة للمجتمعات حيث أن لكل فرد الحق في فعل ما يريد شريطة أن لا يضر هذا غيره وفق القولة الشائعة "تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية غيرك"

وقد أكد جون لوك على الحق الطبيعي للفرد في الحياة والحرية ويذهب جون لوك في تعريفه للحرية "الحرية هي ألا يتعرض المرء للتقييد والعنف من الآخرين"

أي أن حرية الفرد لا تتحقق في إطار تقيدي أو عنف يهدد وجودها وقد تجسدت الحقوق الطبيعية والحريات في وثيقة اعلان حقوق الإنسان والمواطن إبان الثورة الفرنسية في 1789وقد تأثر الاعلان بفكر التنوير والحقوق الطبيعية التي قال بها مفكرون أمثال جون لوك، فولتير، مونتيسكيو ويقوم الأساس الفكري للحرية على مفهوم الفردية، إذ يبنى لوك النظرية الذرية التي استعارها من حقل الفيزياء لتؤكد على فكرة مفادها بما أن الذرة هي أساس الكون فالفرد هو أساس المجتمع و يجب المحافظة على حقوقه والسعي خلف حريته واستقلاليته وما إن يمتلك الفرد هذه الحرية بإمكانها حينها تحقيق مصلحته واذا ما حقق كل فرد مصلحته تتحقق المصلحة العامة.

فالليبرالية بهذا المعنى تعيد للانسان الفرد حقوقه المنهوبة من قبل الكنسية و الأباطرة والاقطاعين وتجعل منه القيمة الأساسية والمركزية في الوجود المجتمعي وتنادي الحرية في وجهها الاقتصادي بحق الفرد في تملك وسائل الإنتاج والتعاملات الاقتصادية إذ تؤيد الليبرالية اقتصاد عدم التدخل أو الاقتصاد الحر بمعنى عدم تـدخل الدولـة في النشـاط الاقتصادي وترك السوق ينظم نفسه بنفسه وسعي كـل فـرد لتحقيـق مصـلحته الشخصية من خلال امتلاكه لوسائل الإنتاج وقد لخص شـعار "دعـه يعمـل، دعـه يمر" الرسمالية الليبرالية الذي نظر لها آدم سميث وقد جاء في كتابه ثروة الأمم " لكل فرد الحرية الكاملة في السعي إلى تحقيق مصلحته بطريقته الخاصة"

أما في المجال السياسي تتجلى الحرية في التعددية والمشاركة في الحياة السياسة من خلال حق التصويت وحرية اختيار الرئيس وممثلي الشعب والمعارضة السياسية فبتالي يصبح للمواطنين بغض النظر عن عقائدهم واختلافتهم فرصا سياسية متساوية كما أكد ستوارات ميل على حرية الفكر والاعتقاد وأن ليس من حق الحكومات إخراس صوت الفرد ويقول في هذا

 "إنْ كانت البشرية كلها ما عدا فرد واحد مجمعة على رأي ما، فلا يسوغ لها ذلك إسكات ذلك الفرد"

كما لا يمكننا المرور دون ذكر أهمية العقل لدى الليبرالين ونقصد به الاتجاه العقلاني أو العقلانية والتي يحكم فيها الأفراد على الأمور استناد إلى العقل فتقصي بذلك الشعور أو العاطفة وترفض التسليم بما جاءت به الأديان فهي لا تعترف إلا بالمحسوسات وتنأى عن الماورئيات التي تختص بها الأديان فيمكن القول إذا أن العقلانية طريقة تفكير علمية تجريبية لا تعترف بلاهوت وتؤمن فقط بالحقيقة والعلم فهي بذلك تحرير العقل بما تسميه "أفيون" الماورئيات والخرافات اللاهوتية

وبكل ما أسلفنا القول نلحظ أن الحرية ليس مبدأ بل ركيزة أساسية يقوم عليها صرح الليبرالية في مختلف المجالات وبالتي يمكننا الجزم بأن الليبرالية لم تعد مجرد نظام مجتمعي من بين الأنظمة الأخرى بل أصبحت النظام الوحيد والأنجع والأفضل فالنظام الليبرالي هو إشارة لنهاية التاريخ كما يعبر عنها فوكياما إذ ليس في الإمكان أبدع مما كان وهذا الانبهار باللبرالية لم تتأثر به أوروبا وحدها بل كذلك المشرق العربي لحظة الاحتكاك بين الاسلام وأوربا المعاصرة في ظل الاصطدام العسكري في القرن 19مع حملة نابليون وهزيمة ايسلي في المغرب والحمالات الاستكشافية التي قام بها طلاب الجامعات في أوروبا ليطرح المثقف العربي السؤال الأهم "كيف تأخرنا وتقدموا؟".

وفي بحثه للإجابة عن هذا السؤال وجد أن الأيديولوجية الليبرالية هي الطاغية على المناخ الفكري الأوروبي يقول عبد الله العروي في هذا:

"يجب أن لا ننسى أن الليبرالية كانت الهواء الذي يستنشقه كل من كان واعيا بحقوقه الأوروبية"

ليشكل رواد الفكر النهضوي العربي أمثال الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وخير الدين التونسي بداية دخول الليبرالية إلى الواقع العربي الا أننا لا نجد في أدبياتهم إعلانًا صريحًا باعتناق مذهب الليبرالية، لكنهم انتقوا منها بعض الأفكار وأبرزها الحرية. ولم يكتفي رواد النهضة باستعارة مبادئ الفكر الليبرالي مثل الحرية والمساواة من أوروبا بل حاولوا تأصيلها في التربة العربية الإسلامية من خلال تأويل النص القرآني.

الليبرالية وسؤال الأخلاق:

من المعلوم أن لكل أيديولوجية أوجه قصور فإذا ما نظرنا للوجه الثاني من العملة سنجد أن الليبرالية ليست أبدع مما كان أو ما سيكون فهي ليست الأيديولوجية الوحيدة التي أكدت على الحرية فكثير من الدينات والفلسفات والأنظمة دعت إلى الحرية وبالتالي لا يمكن اختزال الحرية في مذهب واحد أو فلسفة واحدة كما أن الحرية لطالما مثلت أفقا تترقبه الإنسانية وتأمله كما أن القول بنهاية التاريخ لا يعني شيء سوى تعطل الفكر وموت الابداع ، إضافة إلى المساوة التي دعت إليها الليبرالية والتي أعدمت منذ أن تم إعلان الملكية فخلقت الطبقية ونمت العبودية من جديد في مجتمع الملكية والأرستقراطية، وهي عبودية الطبقة الغير مالكة لوسائل الإنتاج لطبقة المالكة ويقول روسو في هذا المعنى: "دائماً ما تكون القوانين مفيدةً؛ لأولئك المالكين، وتضرُ بأولئك الذين لا يملكون شيئاً"

وقد ظهرت النظرية الماركسية نسبة إلى ماركس الذي يمثل الفرد عنده في المنظومة الرأسمالية القائمة على الأسس الليبرالية مجرد شيء فمنطق الربح أصبح يحكم العلاقات الاجتماعية وقيمة السلع هي التي تحدد مركز الأفراد في المجتمع كما وجه ماركس النقد للملكية الخاصة التي تدعو إليها الليبرالية فهي تساهم في تشضي المجتمع الواحد إلى طبقات مختلفة بعضها يملك وسائل انتاج والآخر لا يملك غير ساعده وعندئذ تصبح الطبقة المالكة مستغلة ويحدث الصراع بين المُستغِلين والُستغٓلين حيث يسيطرُ الرأسماليون على الفائضِ، الذي أنتجتهُ الأيدي العاملة، وهكذا تحّول الرأسمالية، العُمالَ إلى سلع، وتطمس إنسانيتهم

وبالتالي تجعل الرأسمالية الأغنياء أكثر غنًا والفقراء أكثر فقرًا ولا يمكن حينها الحديث عن عدالة لاجتماعية وتوزيع العادل لثروات نتيجة غياب الدور الفعال لدولة وهو ما يؤدي إلى تفاقم الطبقية وسخط الفقراء على الأوضاع الاجتماعية وبروز طبقة البروليتاريا وقد حذرت الاشتراكية الماركسية من تغول الرأسمالية حيث انتقد ماركس استغلال الرأسمالين لطبقة العاملة وتراكم الثروة في يد الأقلية وهو ما يعبر عنه في قوله "إن تراكم الثروة في قطب واحد من المجتمع هو في نفس الوقت تراكم الفقر والبؤس في القطب الآخر. "

 فدعا إلى النظام الاشتراكي كنظام بديل للرأسمالية الليبرالية ويهدف النظام الاشتراكي لتملك الاجتماعي لوسائل الإنتاج و توزيع الأرباح بتساوي بين الأفراد مما ينتج عنه إلغاء الطبقية إذ تمثل المصلحة العامة لدى الاشتراكية هي مصلحة الفرد المنصهر داخل بوتقة المجتمع. كما أن التيار الليبرالي لم يول المسائل الأخلاقية ما تستحقه من عناية، ويمكن القـول بأنـه كـان يعـاني مـن اللامبـالاة الأخلاقيـة، لأن نسب الأخلاق إلى الليبرالية أمر فيه نظر فمن المعلوم أن الخلق مجموع من القيم والقواعد الواجب الالتزام بها من قبل الفرد على مستوى سلوكه و علاقته بالآخرين وبما أننا نتحدث عن قواعد فإننا نقف بلا شك أمام حلم التحرر

ومن هنا يجوز لنا القول أن الليبرالية بكونها فلسفة اقتصادية نفعية تفتقر إلى أرضية أخلاقية على المستوى النظري وكذلك التطبيقي إذ لا شيء يعلو على المنفعة الفردية فكيف إذا يمكن لمنظري الليبرالية أن يتفادوا هذا النقص

قدم موريس فلامون في كتابه تاريخ الليبرالية ما أسماه بالاخلاق العملية ويرى أنها ثلاث تتمثل أساسًا في المعاملات الاقتصادية بين الأفراد كاحترام العقود والمسؤولية وسياسة التقشف وكانت هذه محاولة فلامون البحث عن ما يمكن قوله في الجانب الأخلاقي لليبرالية و امتدت هذه المحاولة على صفحة ونصف

وهو ما يظهر جليًا أن حضور الأخلاق في التيار الليبرالي محتشم و يعد يكون هامشيًا أما بالنسبة لجيريمي بنتام فقد حاول تأسيس نظرية أخلاقية كاملة لليبرالية إلا أنه وقق في فخ النفعية مجددا حيث قام بقياس الأخلاق التي من المفترض أن تكون قيمًا مثلى بالكم فأصبحت أخلاق تجارية تقاس بالمال. ثم إنه لو كان لليبرالية وجه أخلاقي لماذا يحاول الليبراليون التاكيد على وجوده إلى هذه الدرجة قد يعترضنا قائلا فيقول إن عدم اضرار الفرد بحرية غيره والمساوة بين القانون هي في حد ذاته تجليات أخلاقية وربما في هذا شيء من الوجاهة لكن على مستوى نظري أما على المستوى الواقعي التطبيقي فالأفراد الذي يملكون وسائل الإنتاج ورؤوس الأموال يستغلون الأفراد الذين يعملون تحت امرتهم زد على ذلك أنهم لا يحترمون حرياتهم و يعاملونهم معاملة الآلة التي تنتج لهم مزيد من الأرباح كما يمكن لنا في نفينا للبعد الأخلاقي لليبرالية ذكر حادثة فرنسية بشعة قامت على أساس العقلانية والحرية والعلمانية وتعتبر جميعها مبادئ الليبرالية ونقصد هنا مذبحة فيندي عام 1793بفرنسا عقب الثورة الفرنسية فقد قابلت الحكومة العلمانية الجديدة تمرد الفلاحين من الأوضاع الاقتصادية والكاثوليك بالقمع الشديد إذ طبقت عليهم حكومة التنوير سياسات وحشية تم على إثرها اعدام آلاف الأسرى من بينهم الاطفال والنساء والشيوخ وحرق بيوتهم وارضيهم

وانطلاقًا من هذه الحادثة التاريخية التي وقعت بمقربة زمنية لإعلان حقوق الإنسان و الاعتراف بمبادئ الليبرالية قد نصاحب الصواب إذا ما قلنا أن الليبرالية لا تعترف بالاخلاق و أنها قد تقاتل باسم الحرية والعقلانية معارضيها بأبشع الطرق كل ذلك في سبيل تحقيق المنفعة والربح حتى لو كان الطريق إليهما يقتضي الدوس على الأخلاق.

أما بالنسبة للخطاب النهوضي فتحدر الإشارة إلى أن المثقف العربي رغم أنه سعى إلى الانتقاء من الليبرالية إلا أنه تعامل مع ما انتقه تعامل المسلمات فقد غابات الأدبيات التي تحلل الأطروحة الليبرالية وتفسرها وان ضعف التحليل والفهم الدقيق لليبرالية نشأ نتيجة معاينة الاطروحة الليبرالية في لحظة انبهار واندهاش أو بما يسمى بصدمة الحداثة إذ أن الفكر النهضوي العربي اقتبس منها بعض من مبادئها وحاول تأصيلها في الحضارة العربية الإسلامية ولا يمكن في كل حال اقتباس نموذج جاهر نشأ وفق معطيات تارخية وثقافية معينة لحضارة ما و تطبيقه على حضارة اخر. مختلفة تمامًا فنهضة المجتمع العربي لا تكون باستنساخ قوالب جاهزة بل بابتكار نموذج خاص مع مراعاة طبيعة وخصوصية هذا المجتمع.

خاتمة:

على الرغم من أن الليبرالية قد أثبتت نجاحاها على المستوى الإقتصادي وأعادت للفرد الأوروبي بعض من حريته التي فقدها في عصور أوروبا المظلمة إلا أنها تظل تعاني من مشكلة الأخلاق في تعاملها مع هذا الفرد معاملة الألة وبقواعد الرأسمالية المتوحشة ولا يمكن بأي شكل من الأشكال تصور نظام عالمي دون أرضية أخلاقية لأن غياب هذه الأرضية سيسبب في تكون أموال طائلة لكن ملطخة بالدماء التي تسببها الحروب.

***

آية مصدق - باحثة

 

الباراديغم هو نموذج أو إطار مفهومي يُستخدم لفهم وتفسير ظواهر معينة. في العلوم، يشير إلى مجموعة من القيم والمفاهيم والأساليب التي يتبناها مجتمع علمي معين. يتمثل دور الباراديغم في توجيه البحث وتحديد الأسئلة التي تُعتبر ذات أهمية، الدوغماتية تشير إلى التفكير أو الاعتقاد الثابت الذي لا يقبل الشك أو النقد. في سياق الفلسفة والعلم، تُعتبر الدوغماتية عائقًا أمام التفكير النقدي، لأنها تعزز القبول الأعمى للمعتقدات دون تدقيق أو تحليل. يُمكن أن تؤدي الدوغماتية إلى مقاومة التغيير والابتكار، اما الأبستمولوجيا هي فرع من الفلسفة يهتم بدراسة طبيعة المعرفة، مصادرها، وحدودها. تطرح أسئلة مثل: ما هي المعرفة*؟ كيف نحصل عليها؟ وما هو الأساس الذي يجعل اعتقادًا ما صحيحًا؟ تستكشف الأبستمولوجيا الفروق بين المعرفة الموثوقة والاعتقاد العشوائي، وتُعتبر ضرورية لفهم كيفية تطور العلوم والمفاهيم المجتمعية، تتفاعل هذه المفاهيم مع السرديات التاريخية بشكل معقد، حيث تؤثر الباراديغم على كيفية سرد الأحداث، بينما قد تحد الدوغماتية من الابتكار الفكري. في المقابل، توفر الأبستمولوجيا الأدوات اللازمة لتحليل وفهم هذه الروايات بشكل نقدي، مما يعزز من دقة وموضوعية السرد التاريخي.

ويمكننا القول إن علاقة الباراديغم بالأبستمولوجيا والدوغماتية هي علاقة تفاعلية وتأثيرية. فالباراديغم يحدد كيفية اكتساب المعرفة وتقديرها في مجال علمي، وبالتالي ينطوي على افتراضات ابستمولوجية. كما أن الباراديغم قد يصبح دوغماتيًا إذا لم يكن قابلاً للتغير أو التطور والتحدي. بالمقابل، فإن المنظور الابستميولوجي يؤثر في اختيار أو تقبل أو رفض براديغم معين. وكذلك هو الموقف الدوغماتي قد يعرقل التقدم العلمي أو يحد من الابتكار أو يسبب الصراعات.

هناك أسئلة تثار في الذهن المتوقد هل المعرفة تخضع لمبادئ، وقواعد، ومعايير ثابتة، ومطلقة ؟، أم هي تخضع لمصالح، وقيم، وأهداف نسبية، ومتغيرة؟، في الحقيقة لا توجد إجابة واحدة أو نهائية على هذا السؤال، اختلف الفلاسفة والعلماء على مر العصور حول طبيعة المعرفة وأصولها وحدودها. بعضهم رأى أن المعرفة ثابتة ومطلقة، وأنها تستند إلى العقل، التجربة، الوحي، أو الحدس. بعضهم الآخر رأى أن المعرفة نسبية ومتغيرة، وأنها تستند إلى اللغة، الثقافة، الإيديولوجية، والسياق. كما اختلف الفلاسفة والعلماء والمفكرون على مر العصور حول دور وقيمة الأديان في أبستمولوجيا المعرفة. بعضهم رأى أن الأديان هي ضرورة لتوجيه الإنسان نحو الخير والسلام والتضامن، وأنها تحمل رسائل إلهية أو حكمية تحتوي على حقائق عن الوجود والغائية، بعضهم الآخر رأى أن الأديان هي عائق أمام التقدم والحرية والتنوير، وأنها تستند إلى أساطير وخرافات تحتوي على أخطاء وتناقضات، لا يمكن لأي شخص أو تيار فكري أن يدعي الحصول على الحقيقة المطلقة فيما يتعلق بالأديان أو المعرفة، الأديان وفلسفة المعرفة تتعاملان مع مجموعة واسعة من المسائل والاعتقادات التي تختلف بين الأفراد والثقافات، تتميز الأديان بمجموعة من المعتقدات والتعاليم الروحية التي يؤمن بها أتباعها، بينما تستكشف الفلسفة الأفكار والمفاهيم الأساسية التي تتعلق بالحياة والوجود.

الوصول إلى الحقيقة عن طريق العقل هو مسألة معقدة تعتمد على كثير من العوامل. العقل هو وسيلة لاكتشاف وفهم العالم من حوله، والتوصل إلى الحقائق عن طريق العقل هو أساس العلم والفلسفة، من خلال استخدام العقل، يمكن للإنسان أن يقوم بتجميع المعلومات والأدلة، وتحليلها، والتفكير فيها بشكل منطقي. "يستخدم العقل أدوات مثل الملاحظة والتجريب والاستدلال المنطقي والتحليل العقلي لاستكشاف العالم واكتشاف الحقائق. (“غالب المسعودي - الباراديغم الدوغماتية والإبستمولوجيا”)** وتجب أن الملاحظة أن العقل البشري ليس مثاليًا تماما وقد يكون معرضًا للخطأ والتحيز. وهذا يؤثر على قدرة العقل على الوصول إلى الحقيقة بشكل مطلق، علاوة على ذلك، يواجه العقل البشري قيودًا في بعض المجالات، مثل المفهومات الفلسفية العميقة أو المسائل التي تتعلق بالأخلاق والقيم، و قد يصعب على العقل الفردي الوصول إلى إجابات نهائية في هذه المسائل المعقدة، على الرغم من أن العقل هو أداة قوية للاكتشاف العلمي والتوصل إلى الحقائق، إلا أنه ليس الطريقة الوحيدة للوصول إلى الحقيقة في العالم الخارجي، قد يتطلب الأمر أيضًا التعاون مع الآخرين ومشاركة المعرفة والتجارب للوصول إلى فهم أعمق وأكثر شمولًا للحقيقة.

رغم ان العقل البشري لديه القدرة على التحليل النقدي والتفكير النقدي، هذا يمكنه من تجاوز التحيزات الشخصية والوصول إلى مستوى أعلى من الحقيقة، هذا  عندما يكون الشخص على استعداد لتحدي المعتقدات السابقة وفحص الأدلة والمعلومات بشكل منصف، يمكنه من أن يقترب أكثر من الحقيقة، وذلك بتجاوزالباراديغم والدوغماتية لأنها أما أن تكون نظارة ذات لون محدد أمام العقل أو أنها لا تتيح الرؤية الجانبية الممتدة أفقيا وعموديا للأبستمولوجيا، عندها سيكون هناك تعارض في الأدلة الواقعية الوجودية ونظرية المعرفة، إن الأشخاص من ثقافات المختلفة قد يتبعون مسارات مختلفة لفهم الحقيقة المطلقة، و يتمثل هذا التعارض في التفسيرات المختلفة، أو بين المفاهيم الفلسفية المتنافرة، و بين النصوص المقدسة المختلفة، هذا التعارض لا يعني بالضرورة أن إحدى الأدلة أو الأمثلة تكون صحيحة على حساب الأخرى، لكنه يعكس ببساطة وجهات نظر ومعتقدات متنوعة تعتمد على الثقافة والتجربة والتراث الفكري لكل فرد ومجتمع، في مثل هذه الحالات، يكون من المهم أن يتمتع الأفراد بالاحترام والتسامح تجاه وجهات نظر الآخرين ومعتقداتهم، كما يمكن أن يكون الحوار والتفاهم المتبادل دون لف عنق الحقيقة باتجاه وجهة نظر ثابتة لان الحقيقة نفسها لا تتقبل أو ترفض وجهات النظر، وإنما تكمن في الواقعية الوجودية وان حقائق المعرفة موجودة بغض النظر عن الآراء أو الاعتقادات الشخصية.

التناقضات بين النظريات الفلسفية والوحي الخارجي

يمكن ان يكون هناك تناقض بين بعض النظريات الفلسفية والوحي الخارجي فيما يخص الحقيقة، ذلك يعتمد على كيفية تسجيل الوحي والتثبت منه أبستمولوجيا وفهمه وتفسيره وكيفية تطبيقه في سياق ثقافي وديني محدد. في المفاهيم الدينية، يعتقد الأتباع أن الوحي يمثل الحقيقة المطلقة ولا يقبل التنازل أو النقض، في هذه الحالة، يتعارض مع النسبية التي تعتبر الحقيقة نسبية ومتغيرة مع وجهة نظر معظم الفلاسفة، وهذه هي الدوغماتية بحقيقتها رغم ذلك يحاول المفسرون ان يجدوا طرقًا لتوفيق بين النظريات الفلسفية والوحي، عن طريق تفسير الوحي بما يتوافق مع النظريات الحديثة وذلك عن طريق التأمل والتفكير العميق في العلاقة بينهما.

تعتبر الأدلة الأثرية والأركيولوجية جزءًا من المصادر التي يمكن استخدامها لفهم الأحداث التاريخية والثقافية القديمة. ومن الممكن أن تتوافق بعض منقولات الوحي مع الأدلة الاركيولوجية الموجودة، وتؤكد بعض الأدلة المادية على حدوث أحداث تاريخية محددة، رغم ذلك يجب أن نفهم أن الأدلة الاركيولوجية غالبًا ما تكون مفسرة وفقًا لتحليلات واستنتاجات الباحثين، وقد تكون هناك تفسيرات متناقضة للأدلة نفسها إن قبول وتصديق منقولات الوحي يعتمد على الاعتقادات الشخصية والقناعات الدينية والثقافية للفرد وقد يكون هناك تناقض بين الاعتقادات الدينية والعلمية أو الأدلة الاركيولوجية، وهذا يشكل جزءًا من التنوع والتعدد ،لكن وجود التفسيرات المختلفة في العالم والنظريات المختلفة لا يجب أن يسفه المفكرين المختلفين بدواعي دوغماتية ووضع براديغم محدد اتجاه المختلف واعتبار أن البحث الابستميولوجي حق لكل انسان مهما كانت الطريقة التي تكون معتقده للوصول إلى الحقيقة النسبية. لان الحقيقة المطلقة غائبة معرفيا.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

...............................

 *https://www.elmajale.com/2023/02/blog-

post_18.html

**https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=809480

"المطلب الحصري هو الفلسفة الملتزمة المقاومة كأداة للوحدة والتقدم والتحرر"

إن المطلب الحضاري الذي يدعو إلى تبني فلسفة ملتزمة مقاومة يمثل رؤية شاملة تهدف إلى مواجهة التحديات المتعددة الأبعاد التي تواجه الأمة العربية والإسلامية. هذه الفلسفة ليست مجرد إطار فكري، بل هي منهج عملي يسعى لتحقيق الوحدة بعد التفرقة، التقدم بعد التأخر، التحرر بعد الاستعباد، النمو بعد الفقر، المعرفة بعد الجهل، السيادة بعد الاستعمار، والسعادة بعد الشقاء. يهدف هذا التوسيع إلى تحليل دور الفلسفة الملتزمة المقاومة في المجالات الاجتهادية الدينية، الاقتصادية، القانونية، والبيئية، مع تقديم تحليل أكاديمي مدعوم بالهوامش والمراجع، لتعزيز فهم هذا المطلب الحضاري وتطبيقاته العملية. في الواقع نحن في حاجة إلى هذه الفلسفة الملتزمة لكي نتوحد بعد أن تفرقنا ولكي نتقدم بعد تأخرنا ولكي نتحرر بعد أن استعبدنا ولكي ننمو بعد أن فقرنا ولكي نعرف بعد أن جهلنا ولكي نسود بعد استعمرنا ولكي نسعد بعد أن شقونا. فكيف نحقق الاقلاع التام والنهائي من هذه الآفات ونزرع الفضائل ونربي الكفاءات ونطور القدرات؟

العنصر الأول: مفهوم الفلسفة الملتزمة المقاومة

تعريف الفلسفة الملتزمة

الفلسفة الملتزمة، كما عرفها جان بول سارتر، هي فلسفة تتحمل مسؤولية التغيير الاجتماعي والسياسي من خلال التزام الفرد بقضايا مجتمعه[1]. في السياق العربي والإسلامي، تتجاوز هذه الفلسفة الإطار الوجودي لتشمل التزاما بقيم العدالة والحرية المستمدة من التراث الديني والثقافي. إنها فلسفة تجمع بين النقد الفكري والعمل العملي لتحقيق التحرر الشا

المقاومة كبُعد أساسي

المقاومة في هذا السياق تشمل مقاومة الهيمنة الثقافية، السياسية، الاقتصادية، والبيئية. يرى محمد عابد الجابري أن الفلسفة المقاومة يجب أن تستند إلى إعادة قراءة التراث بطريقة نقدية، مع التركيز على القضايا المعاصرة مثل العدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية[2]

أمية الفلسفة الملتزمة المقاومة

تكمن أهمية هذه الفلسفة في قدرتها على تقديم حلول شاملة للتحديات الحضارية، مع الأخذ في الاعتبار الأبعاد الدينية، الاقتصادية، القانونية، والبيئية. إنها فلسفة تحررية تهدف إلى بناء مجتمع عادل ومتوازن يحترم التنوع ويعزز الوحدة.

العنصر الثاني: تحليل المطلب الحضاري

الوحدة بعد التفرقة

التفرقة السياسية والطائفية تعيق تقدم الأمة. الفلسفة الملتزمة المقاومة تدعو إلى حوار فكري يجمع بين التيارات المختلفة، مع التركيز على القيم الإنسانية المشتركة. يشير حسن حنفي إلى أن الوحدة تتطلب إعادة بناء الهوية الجماعية من خلال اجتهاد ديني يركز على العدالة والمساواة[3]

التقدم بعد التأخر

التأخر الحضاري يتطلب إحياء روح الإبداع العلمي والفكري. الفلسفة الملتزمة تدعو إلى إصلاح التعليم وتعزيز البحث العلمي، مع الاستفادة من التجارب العالمية دون الخضوع للهيمنة الثقافية[4]

التحرر بعد الاستعباد

الاستعباد، سواء كان سياسيًا أو اقتصاديًا أو ثقافيًا، يتطلب مقاومة فكرية وعملية. يرى فرانز فانون أن التحرر يبدأ بتحرير العقل من الهيمنة الاستعمارية، وهو ما يتطلب فلسفة ملتزمة تعزز الكرامة الإنسانية[5].

النمو بعد الفقر

الفقر هو نتيجة لسياسات الاستغلال وسوء توزيع الثروات. الفلسفة الملتزمة تدعو إلى نموذج اقتصادي عادل يعتمد على التنمية المستدامة والتوزيع العادل للموارد

المعرفة بعد الجهل

الجهل يُعدّ عقبة رئيسية أمام التقدم. الفلسفة الملتزمة تركز على التعليم كأداة للتحرر، مع تشجيع التفكير النقدي والبحث العلمي[6]

السيادة بعد الاستعمار

الاستعمار الحديث يتخذ أشكالاً اقتصادية وثقافية. الفلسفة المقاومة تدعو إلى بناء مؤسسات وطنية قوية تحافظ على السيادة الوطنية.

السعادة بعد الشقاء

السعادة تتحقق من خلال تحقيق العدالة الاجتماعية، الحرية، والرفاهية. الفلسفة الملتزمة تسعى إلى خلق بيئة اجتماعية تدعم الكرامة الإنسانية.

العنصر الثالث: الفلسفة الملتزمة المقاومة في المجالات الاجتهادية

المجال الاجتهادي الديني

الاجتهاد الديني هو أداة أساسية لتجديد الفكر الديني ومواجهة التحديات المعاصرة. الفلسفة الملتزمة المقاومة تدعو إلى اجتهاد ديني يركز على:

إعادة قراءة النصوص الدينية: يجب قراءة النصوص الدينية في ضوء الواقع المعاصر لتعزيز قيم العدالة والمساواة. يرى محمد أركون أن الاجتهاد الديني يتطلب تحرير التفكير الديني من التقليد الأعمى[7].

مواجهة التطرف: الفلسفة الملتزمة تقاوم التفسيرات المتشددة للدين التي تؤدي إلى التفرقة، وتعزز فهمًا إنسانيًا للدين يدعم الوحدة.

تعزيز الحوار بين الأديان: تدعو الفلسفة إلى حوار بين الأديان والمذاهب لتعزيز الوحدة الوطنية والإنسانية.

المجال الاقتصادي

الاقتصاد هو أحد أهم ركائز النهوض الحضاري. الفلسفة الملتزمة المقاومة في المجال الاقتصادي تركز على:

العدالة الاقتصادية: تدعو إلى توزيع عادل للثروات ومكافحة الفساد الاقتصادي. يشير سمير أمين إلى أن الاقتصاد العادل يتطلب مقاومة الهيمنة الرأسمالية العالمية[8].

التنمية المستدامة: تركز الفلسفة على استغلال الموارد الطبيعية بطريقة مستدامة تحافظ على حقوق الأجيال القادمة.

الاقتصاد الإنتاجي: يمكن أن يلعب الاقتصاد الإننتاجي، بمبادئه مثل الزكاة والمشاركة، دورًا في تحقيق العدالة الاقتصادية.

المجال القانوني

الفلسفة الملتزمة المقاومة في المجال القانوني تهدف إلى:

إصلاح النظم القانونية: تدعو إلى بناء أنظمة قانونية عادلة تحترم حقوق الإنسان وتعزز المساواة. يرى عبد الله العروي أن القانون يجب أن يكون أداة للتحرر وليس للقمع[9].

سيادة القانون: تعزيز سيادة القانون كأساس للمجتمع العادل، مع مقاومة الفساد القضائي.

التشريعات المستلهمة من التراث: يمكن استلهام مبادئ الشريعة الإسلامية، مثل العدل والشورى، لتطوير قوانين حديثة تتماشى مع الواقع.

المجال البيئي

البيئة أصبحت قضية مركزية في العصر الحديث. الفلسفة الملتزمة المقاومة في المجال البيئي تركز على:

الاستدامة البيئية: تدعو إلى حماية البيئة من خلال سياسات مستدامة تحافظ على الموارد الطبيعية. ان التنمية البيئية هي جزء لا يتجزأ من العدالة الاجتماعية[10].

مقاومة الاستغلال البيئي: تقاوم الفلسفة استغلال الموارد الطبيعية من قبل الشركات متعددة الجنسيات، وتدعو إلى سياسات وطنية لحماية البيئة.

التوعية البيئية: تعزيز الوعي البيئي من خلال التعليم والإعلام لخلق مجتمع يحترم التوازن البيئي.

العنصر الرابع: آليات تطبيق الفلسفة الملتزمة المقاومة

إصلاح التعليم

يجب أن يركز التعليم على تعزيز التفكير النقدي والوعي بالقضايا الدينية، الاقتصادية، القانونية، والبيئية. يتضمن ذلك إدخال مناهج دراسية تشجع الاجتهاد الديني والتفكير الاقتصادي المستدام.

تعزيز الحوار الفكري

الحوار الفكري بين العلماء، الاقتصاديين، القانونيين، والناشطين البيئيين ضروري لتطوير رؤية مشتركة. يمكن تنظيم مؤتمرات وورش عمل لتعزيز هذا الحوار.

بناء مؤسسات قوية

المؤسسات الدينية، الاقتصادية، القانونية، والبيئية يجب أن تعمل معًا لتحقيق أهداف الفلسفة الملتزمة. على سبيل المثال، يمكن للمؤسسات الدينية دعم الاجتهاد الديني، بينما تعمل المؤسسات الاقتصادية على تعزيز التنمية المستدامة.

مقاومة الهيمنة الثقافية والاقتصادية

يجب مقاومة الهيمنة الثقافية والاقتصادية من خلال تعزيز الهوية الوطنية والاستقلال الاقتصادي. يمكن تحقيق ذلك من خلال دعم الصناعات المحلية وإحياء التراث الثقافي.

التوعية البيئية والاجتماعية

يجب إطلاق حملات توعية لتعزيز الوعي بالقضايا البيئية والاجتماعية، مع التركيز على دور الأفراد والمجتمعات في تحقيق التغيير.

الفصل الخامس: التحديات والحلول

التحديات

التفرقة الدينية والطائفية: الانقسامات الدينية تعيق الوحدة.

الفساد الاقتصادي: يؤدي إلى تفاقم الفقر وسوء توزيع الثروات.

الفجوة القانونية: غياب سيادة القانون يعيق تحقيق العدالة.

التدهور البيئي: استغلال الموارد الطبيعية يهدد الاستدامة.

الحلول

الاجتهاد الديني: تعزيز الاجتهاد لمواجهة التطرف وتعزيز الوحدة.

إصلاح اقتصادي: تطبيق سياسات اقتصادية عادلة ومستدامة.

تعزيز سيادة القانون: بناء أنظمة قانونية تحترم حقوق الإنسان.

حماية البيئة: إطلاق سياسات لحماية الموارد الطبيعية وتعزيز الاستدامة.

الخاتمة

نحن في حاجة ماسة لهذه الفلسفة الملتزمة لكي نقلع نهائيا من التشرذم والانقسام والتبعية والفقر والغلو والتصحر والتخلف والتأخر والاستعباد والفساد والجدب والهدر والهزيمة والتعثر والشقاء والمعاناة.

إن الفلسفة الملتزمة المقاومة تمثل إطارًا شاملًا لمواجهة التحديات الحضارية في المجالات الدينية، الاقتصادية، القانونية، والبيئية. من خلال الاجتهاد الديني، يمكن تجديد الفكر الديني ليعزز الوحدة والعدالة. في المجال الاقتصادي، يمكن تحقيق نمو مستدام من خلال توزيع عادل للثروات. قانونيًا، يجب تعزيز سيادة القانون لضمان العدالة. بيئيًا، يجب حماية الموارد الطبيعية لضمان استدامة الأجيال القادمة. إن تطبيق هذه الفلسفة يتطلب تعاونًا بين المؤسسات والأفراد لتحقيق نهوض حضاري شامل.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

............................

الهوامش

[1]: سارتر، جان بول. (1946). الوجودية مذهب إنساني. ترجمة عبد المنعم الحفني. القاهرة: دار الكاتب العربي.

[2]: الجابري، محمد عابد. (1984). نحن والتراث. بيروت: دار التنوير.

[3]: حنفي، حسن. (1998). من النقل إلى الإبداع. القاهرة: دار المعارف.

[4]: سعيد، إدوارد. (1978). الاستشراق. ترجمة كمال جاد. بيروت: دار الآداب.

[5]: فانون، فرانز. (1961). معذبو الأرض. ترجمة سامي الدروبي. دمشق: دار الحقيقة.

[6]: حسين، طه. (1938). مستقبل الثقافة في مصر. القاهرة: دار المعارف.

[7]: أركون، محمد. (1990). الفكر الإسلامي: قراءة نقدية. بيروت: دار الساقي.

[8]: أمين، سمير. (1997). الرأسمالية في عصر العولمة. ترجمة محمد نايل. القاهرة: دار الفكر.

[9]: العروي، عبد الله. (1981). مفهوم الحرية. بيروت: المركز الثقافي العربي.

المراجع

سارتر، جان بول. (1946). الوجودية مذهب إنساني. ترجمة عبد المنعم الحفني. القاهرة: دار الكاتب العربي.

الجابري، محمد عابد. (1984). نحن والتراث. بيروت: دار التنوير.

حنفي، حسن. (1998). من النقل إلى الإبداع. القاهرة: دار المعارف.

سعيد، إدوارد. (1978). الاستشراق. ترجمة كمال جاد. بيروت: دار الآداب.

فانون، فرانز. (1961). معذبو الأرض. ترجمة سامي الدروبي. دمشق: دار الحقيقة.

حسين، طه. (1938). مستقبل الثقافة في مصر. القاهرة: دار المعارف.

أركون، محمد. (1990). الفكر الإسلامي: قراءة نقدية. بيروت: دار الساقي.

أمين، سمير. (1997). الرأسمالية في عصر العولمة. ترجمة محمد نايل. القاهرة: دار الفكر.

العروي، عبد الله. (1981). مفهوم الحرية. بيروت: المركز الثقافي العربي.

 

تلاميذ المستوى الثانوي الإعدادي نموذجا

تمهيد: وُجدت اللغة مع وجود الإنسان، ثم بدأ هذا الأخير يتكون في شكل جماعات بشرية مختلفة تنتقل باستمرار بحثا عن مقومات العيش على سطح الأرض، فصار لكل جماعة بشرية لغة تميزها عن باقي الجماعات، وترتب عن عدم الاستقرار والتنقل الدائم ظهور تنوع لغوي استمر في النمو والتوسع بحكم التطور المستمر للمجتمعات نتيجة عدة عوامل اجتماعية سياسية واقتصادية وثقافية... وهو تطور نتج عنه أيضا احتكاك الأنظمة اللغوية مع بعضها البعض داخل حيز جغرافي واحد، الشيء الذي سيسفر عن تطور ظواهر لغوية متعددة من قبيل: التعدد اللغوي، والثنائية اللغوية، والازدواجية اللغوية، والتداخل اللغوي، والتحول اللغوي الذي سيكون موضوع عرضنا هذا، والذي حاولنا من خلاله الإجابة عن الإشكاليات التالية:

ما مفهوم التحول اللغوي وما هي أنواعه وما أسباب وقوعه في التواصل؟

كيف نشأ هذا المصطلح في الأدبيات اللسانية وكيف تم تناوله من منظور علم اللغة الاجتماعي؟

كيف يتمظهر هذا الوضع اللغوي عند الناشئة- تلاميذ المستوى الثانوي الإعدادي نموذجا- وكيف يتعاملون مع هذه الظاهرة؟

بناء على هذه الإشكاليات تناولنا العرض من جانبين: جانب سنجيب فيه عن السؤالين الأول والثاني، والجانب الثاني شق تطبيقي سنقف من خلاله على ظاهرة التحول اللغوي عند عينة من تلاميذ المستوى الثانوي الإعدادي.

وقبل الخوض في تعريف هذا المفهوم سنتعرض لبعض المفاهيم المرتبطة به، خاصة مفهومي  الثنائية اللغوية والازدواجية اللغوية باعتبار التحول اللغوي النقطة التي تجمع بينهما.

الثنائية اللغوية

الثنائية اللغوية هي مقابل للمصطلح الإنجليزي Bilingualism[1] وتتكون من السابقة اللاتينية Bi وتعني المثنى أو المضاعف، وLingual أي لغوي، واللاحقة ism بمعنى الحالة أو الصفة، وحاصل الترجمة؛ سلوك لغوي ثنائي أو مضاعف/ الثنائية اللغوية[2].

وقد تعددت تعاريف مفهوم الثنائية اللغوية بتعدد أراء الدارسين ووجهات نظرهم، فنجد مثلا:

أن فرانسوا جروجون Francois Grosjean يرى أن "ثنائيي اللغة هم أناس يستخدمون لغتين، أو لهجتين أو أكثر في حياتهم اليومية، فالإيطاليون الذين يستخدمون واحدة من لهجات إيطاليا- مثل البوليزية- مع الإيطالية الرسمية، يمكن وصفهم بأنهم ثنائيو اللغة"[3]. أما جورج مونان Georges Mounin فيرى أن ثنائي اللغة هو الفرد الذي يتحدث لغتين دون تمييز. وينظر إليها بلومفيلد Bloomfild على أنها إجادة الفرد للغتين مختلفتين. ويعرفها ماكي Mackeyبأنها الاستخدام المتناوب للغتين أو أكثر من قبل نفس الفرد[4].

من خلال هذه التعاريف يتبين لنا أن الباحثين يتفقون على أن الثنائية اللغوية مرتبطة بالفرد الواحد ومدى قدرته على استخدام لغتين أو أكثر في محادثاته، لكن شرط الإجادة الذي وضعه بلومفيلد يضعنا أمام التساؤل عن وضع الفرد الذي يعرف لغتين أو أكثر بدرجات متفاوتة.

فالشخص قد يستعمل اللغتين الأولى والثانية بصورة متكافئة فتسمى هذه الثنائية بالثنائية اللغوية المتوازنة، وقد يتقن اللغة الأم أكثر من اللغة الأخرى فتسمى ثنائية اللغة السائدة، وهذا ما يطلق عليه الدارسون المظهر الفردي للثنائية اللغوية، أما المظهر الاجتماعي فهو استعمال الأفراد داخل المجتمع لغتين أو أكثر، فيختارون استعمال لغة في مواقف معينة، ولغة أخرى في مواقف أخرى، أو قد يزاوجون بينهما في موقف واحد[5].

ويمكننا وصف الشخص بأنه ثنائي اللغة إذا ما توفرت أربع خصائص؛ درجة المعرفة باللغتين اللتين يستخدمهما الشخص، والدور الذي تلعبه هذه اللغات في البنية العامة لسلوك الفرد والهدف الذي يسعى إليه من خلال استخدام هذه اللغات، وكيفية الانتقال من لغة إلى أخرى، ثم الحالة التي يتمكن فيها الفرد من الإبقاء على اللغتين منفصلتين[6].

لقد كانت مسألة التمييز بين الثنائية اللغوية والازدواجية اللغوية محط نقاش طويل بين الدارسين، ترتب عن الخلط الذي اعترى المصطلحين منذ ظهورهما عند الأوروبيين بسبب تقارب البنية المصطلحية للمفهومين في اللاتينية، لكن تم لاحقا الفصل بينهما عندما تم نقل المصطلحين إلى اللغة الإنجليزية ليدل كل منهما على شكلين مختلفين من الاستخدام اللغوي.

ويكون فرجسون بذلك أول من وضع الحدود العامة لمفهوم الازدواجية، ثم جاء فيشمن فأقر بأن الثنائية اللغوية هي صفة مميزة للتصرف اللغوي على المستوى الفردي، أما الازدواجية فهي خاصية من خصائص التنظيم اللغوي على مستوى مجتمع ما[7].

الازدواجية اللغوية

الازدواجية اللغوية هي ترجمة للمصطلح الإنجليزي [8]Diglossia، ويتكون المصطلح من Di وتعني في اللاتينية مثنى أو مضاعف، و glossمعناه لغة، واللاحقة ia وتعني الحالة، وحاصل الترجمة هو حالة لغة مضاعفة أو مثناه/ الثنائية اللغوية[9]، وهنا يظهر جليا تطابق مصطلح الازدواجية مع مصطلح الثنائية أعلاه، وهو واقع أربك علماء السوسيولسانيات في أوروبا بداية القرن العشرين.

ويجمع الدارسون على أن كرومباشر (1856 – 1909) Karl Krumbacher أول من تعرض لمصطلح الازدواجية اللغوية بالدراسة، إلا أن بعضهم يؤكدون على أن الفرنسي وليام مارسي Willam Marssais أول من استخدم المصطلح، لكن أن أغلب الدراسات لم تشر إلى دراسة مارسي، بل تبنت عمل شارل فرجسونFerguson Albert Charles [10].

ميز فرجسون في رأيه حول الازدواجية اللغوية بين شكل لغوي أعلى/ فصيح يكون عادة لغة الأدب المكتوب، وهو نوع يتم تعلمه عن طريق التعليم الرسمي ويٌستخدم في الكتابة والتحدث الرسميين، وشكل لغوي أدنى/ العامية وهو لغة التداول اليومي. أما فيشمن فكانت له نظرة مغايرة، فهو يرى أن الازدواجية اللغوية لا تقتصر على وجود لهجتين فصيحة وعامية في المجتمع الواحد، كما لا يهم إن كانتا لهجتين أو أسلوبين أو لغتين... بل الازدواجية تتحدد بوجود اللغات المختلفة في هذا المجتمع، وهو هنا أدخل الثنائية مع الازدواجية، أي أن الازدواجية يدخل فيها تعدد اللهجات وحتى تعدد اللغات في مجتمع لغوي ما، عكس الثنائية التي يُستخدم فيها أكثر من لغتين على المستوى الفردي. أما فاسولد فالازدواجية عنده تضم اللغات واللهجات والأساليب، ما دام هناك توزيع وظيفي لها، حيث حدد أربع نقاط يمكن من خلالها الوصول إلى نظرية متكاملة للازدواجية، أولا؛ وجود "الشكل المعياري واللهجات"، ذلك أن الجمع بينهما لا يتعارض مع معنى الازدواجية، ثم "العلاقة الثنائية" بين اللغة العليا واللغة الدنيا (الفصحى والعامية)، وأيضا "الترابط"، حيث وصف الازدواجية من خلال الحالات التي يكون فيها الشكلان اللغويان الأعلى والأدنى لغتين مختلفتين، كما هو بين اللغة الإنجليزية واللغة السواحلية بتانزانيا، وأخيرا "الوظيفة"؛ فاللغة واللهجة والأسلوب الأعلى تستخدم في الوظائف الرسمية في المجتمع، أما اللغة واللهجة والأسلوب الأدنى فهي للاستعمالات غير الرسمية أو الحديث اليومي[11].

هذه التعاريف توضح لنا أن الازدواجية يندرج ضمن نطاقها أشكال لغوية مختلفة للغة واحدة، عكس الثنائية التي تتعامل من لغتين مختلفتين تماما، لا تنتميان إلى نفس النسق التركيبي والصرفي. فالازدواجية إذن مرتبطة بالمجتمع بينما الثنائية فترتبط بالفرد.

أما التعدد اللغوي Multilingualism[12] فيدخل ضمنه الثنائية اللغوية والازدواجية اللغوية، فهو يحيل على "استعمال الفرد أو على قدرة الفرد أو على الوضعية اللغوية في أمة كاملة/ مجتمع ما"[13].

التحول اللغوي

ظهرت العديد من الكتب والمقالات اهتمت بمفهوم التحول اللغوي، وكان الموضوع الأكثر جدلا خاصة في الدراسات المهتمة بالثنائية اللغوية والاتصال اللغوي، وحسب ميوسكن Muysken فإن السبب ربما يرجع إلى حقيقة أن الناس قادرون على استخدام أكثر من لغة في نفس الوقت ونفس المحادثة وحتى في نفس الجملة، وليس العكس[14].

1-3- تعريف التحول اللغوي

يعرف الباحثون التحول اللغوي [15]code-switching على أنه ظاهرة يتحول خلالها المتكلم بلغتين أو أكثر- فجأة- إلى استعمال لغة أو جملة أو عبارة بلغة أخرى في سياق محادثاته، ومن التعريفات التي وضعت له نجد:

كريستال (1987)، ويعرف التحول اللغوي بأنه "تحول الفرد أثناء حديثه مع شخص آخر من لغة إلى لغة ثانية أو من لغة فصيحة إلى لغة عامية أو العكس، ويرى أن هذا التناوب في استخدام اللغات يحدث عند شخص ثنائي اللغة القادر على التواصل بدرجات متفاوتة بلغة ثانية أو القادر على استخدام لغة ثانية لكنه لم يفعل (ثنائي اللغة الخاملة Dormant Bilingulism) أو لديه مهارة كبيرة في لغة ثانية"[16].

أما حسب ميوسكن Muysken (2000) "فيشير التحول اللغوي إلى التناوب السريع بين عدة لغات في حدث كلامي واحد، وهو بذلك يميزه عن التداخل اللغوي الذي يشر إلى الحالات التي تظهر فيها العناصر المعجمية والسمات النحوية من لغتين في جملة واحدة، عكس الرأي الذي يقول أن التحول اللغوي هو نتيجة التداخل بين لغتين مما ينتج عنه لغة ثالثة"[17] )وهو رأي كل من ديفز وبنتاهيلا Davies and Bentahila ، ينظر إلى: Gerald Stell and Kofi Yakpo(2014))

يعرفه بولوك وتورْبيو (2009) Bullok and Torbio بأنه "القدرة على التبديل بين اللغات في وضعية غير متغيرة، وعرفته بوبلاك Poplack(2001) بأنه المزج بين لغتين أو أكثر في الخطاب دون تغيير موضوعه"[18].

كل هذه التعاريف تتفق على أن التحول اللغوي هو انتقال من لغة إلى أخرى في سياق تواصلي ما، وهو ما يؤكد ارتباط التحول بالثنائية اللغوية من جهة وبالتداخل اللغوي من جهة أخرى بحيث تتطلب الظاهرة وجود أكثر من لغة عند الفرد الواحد وانشار أكثر من واحدة في مجتمع واحد، بحيث يتم استخدام مفردات أو عبارات خاصة بلغة ثانية في الخطاب التواصلي، غير أننا لا يمكن النظر إلى مفهوم التحول اللغوي ومفهوم التداخل اللغوي على أنهما مصطلح واحد.

فالتحول اللغوي حسب سكيبا يتم بطريقة شعورية أو لا شعورية ويبقي اللغتين منفصلتين ومتميزتين، وهو ما يخلق حاجزا يحول دون حدوث تداخل بينهما[19].

فالتحول اللغوي هو امتداد للغة بالنسبة لثنائيي اللغة، ويتم على مستوى المفردات والجمل وليس تداخلا، بينما التداخل هو تأثير اللغة الأولى على اللغة الثانية التي تعلمها الشخص في مستويات عدة: صوتية، نحوية، ومعجمية ودلالية، فالتحول اللغوي هو شكل من أشكال التداخل اللغوي[20].

مثال: (حوار دار بين تلميذتين من المستوى الثاني من التعليم الثانوي الإعدادي في مجموعة تربوية عبر تطبيق واتساب)

التلميذة1: واش نكتبو القاعدة لي عطات لينا الأستاذة ونأونكادريوها؟

التلميذة2: je pense  لا، ماقالتهاش لينا.

في السؤال الذي طرحته التلميذة 1 نجد تداخلا لغويا على مستوى الفعل encadrer فقد تمت معاملته معاملة الفعل غير التام في العامية المغربية، تمت إضافة (السابقة) صرفة الزمن (ن) والتي حققت سمة الزمن+ الشخص، وأيضا اللاحقة( واو الجماعة) الدالة على العدد والجنس، فحاولت بناء الفعل في الفرنسية على غرار الفعل( نكتبوا) وجعلته يوافقه في الزمن والتطابق، كما تم إلحاقه بعائد يعود على "القاعدة"، ليصبح الحاصل في النهاية جملة "نأونكادريوها": فعل –فاعل- عائد، وبالتالي خرق في الرتبة المعروفة في الفرنسية ب فاعل- فعل- مفعول به، هذه التلميذة قامت بتداخل لغوي بين اللغتين العامية المغربية والفرنسية، حاولت من خلاله جمعهما في بنية واحدة رغم اختلاف قواعد النسقين وهذا التداخل يسمى بالتداخل السلبي[21]، حيث نقلت التلميذة 1 مقولات وظيفية من العامية المغربية وأسقطتها على مقولة معجمية من اللغة الفرنسية دون مراعاة خصائص البنيوية لهذه الأخيرة، بالإضافة إلى خرق فونيمي باستبدال فونيمات اللغة الفرنسية بأخرى عربية، أما في جواب التلميذة 2 فهناك تحول لغوي حدث داخل الجملة لكن لم يتم خرق قاعدة أي من اللغتين الفرنسية والعامية المغربية، فالجملة الفرنسية   pense je" هنا حافظت على رتبة فاعل – فعل، وبالتالي أبقت على اللغتين منفصلتين من حيث قواعدهما الخاصة.

2-3- نشأة المصطلح

إن مصطلح التحول اللغوي قديم قدم مفهوم الثنائية اللغوية نفسها، وهو مصطلح صاغه فوجيت(1954)voget في مراجعته لكتاب فاينرايشWrinreich’s "اللغة في تماس" (1953)[22]، وقد استحوذ المصطلح حينئذ على اهتمام الباحثين وتطورت المواقف تجاهه بشكل كبير وكان التصور المبكر للتحول اللغوي سلبيا، حيث كان يُعتقد أنه يحدث بسبب ضعف القدرة اللغوية لدى ثنائيي اللغة، ومع تطور الدراسات اللسانية الحديثة تغيرت النظرة للمصطلح، وأصبح التحول اللغوي منذ السبعينيات من القرن الماضي موضوعا مستقلا للدراسة له مفاهيمه الخاصة ومنهجيته الخاصة في الدراسة، لذلك لا عجب إن كثرت التعريفات حوله أو تناقضت، وجاء بعد ذلك كل من كويك (1987) و ماكسوان(2000) ليؤكدا أن التحول اللغوي يمكن النظر إليه على أنه مؤشر مرموق للقدرة اللغوية واعتبراه استراتيجية للتواصل ولزيادة إثراء الخطاب[23] ، عكس الادعاءات السابقة.

3-3- وجهات نظر

لقد تم إجراء عدة دراسات تناولت التحول اللغوي من ثلاث وجهات نظر مترابطة مع بعضها البعض.

المنظور اللغوي The linguistic perspective: اهتم بما يتعلق بالنظرية اللغوية و القيود اللغوية على التحول اللغوي، كما حددتها بوبلاك(1980) وسلسلة القيود التي جاءت بعدها، والتصنيف البنيوي الذي جاء به ميوكسن(2000) [24].

المنظور اللغوي الاجتماعيThe sociolinguistic perspective: اهتم بالدوافع الاجتماعية وراء عملية التحول اللغوي، وبالتفسيرات الاجتماعية المرتبطة به كالتعبير عن الهوية وعن القيم الأيدولوجية أو الثقافية...

فقد تناولت الدراسات الأولى للتحول اللغوي مع غامبرز(1971) الوظائف الاجتماعية للتحول اللغوي وكان سؤال البحث، لماذا ينخرط المتحدثون في التحول اللغوي؟ وتم التوصل إلى إجابة مفادها أن التحول اللغوي هو استراتيجية للتأثير على العلاقات الشخصية، واستمر البحث خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي لتنقيح هذه الإجابة، واعتبر كل من غامبيرز(1982)و أوير(1984) أن التحول اللغوي إشارة سياقية وهي واحدة من مجموع الأدوات التي تستعمل في الإشارة إلى نوايا المتكلم في الخطاب، كما درس أغلب الباحثين الوظائف الاجتماعية للتحول اللغوي وأشكال استخدامه بين الأشخاص، التي تعكس قيم المجموعة والمعايير المرتبط بالتنوعات اللغوية داخل المجتمع[25].

المنظور اللغوي النفسيThe psycholinguistic perspective: وقد ركز على كيفية تخزين الأنظمة اللغوية عند الأشخاص ثنائيي اللغة والوصول إليها في النظام المعرفي؟ وحاول البحث عن إجابة لسؤال: كيف تكتسب اللغة الثانية؟ سؤال أثار جدلا واسعا بين الباحثين، نتج عنه وجهتا نظر مختلفتين هما: أن الأشخاص ثنائيي اللغة يتشكل لديهم "نظام لغوي واحد" منذ بداية الطفولة وينفصل فيما بعد، ودليل ذلك أن الأطفال في السنوات الأولى من عمرهم يخلطون لغتيهم معا أو يستخدمون قاعدة واحدة قد يستمدونها من إحدى اللغتين، ومَثَّل لذلك فرانسوا جروجون بطفلة ثنائية اللغة في الفرنسية والإنجليزية، وُضعت تحت تجربة لدراسة اكتساب المفردات، فلوحظ أنها كانت تمزج بين chaud (الفرنسية) وhot ( الإنجليزية) في كلمة واحدةshot أو تمزج بين pickle و cornichonفي كلمة pinichon، وطفل آخر كان يقول: papa-daddy وchaud-hot. أما وجهة النظر الثانية فترى أن الأشخاص ثنائيي اللغة يتشكل لديهم "نظام لغوي مزدوج" مميز منذ البداية، حيث تستطيع كل لغة من اللغتين أثناء اكتسابهما أن تتطور على نحو مستقل وبنمط اكتساب مماثل للذي عند أحاديي اللغة، وحجة ذلك ما قدمته الباحثة بيرجمان كورال، كون أن ابنتها كانت تميز بين اللغتين قبل السن الثانية تقريبا وتستخدم كل لغة على انفراد وهو الطرح الذي تبناه الباحثون بعد ذلك حيث فسروا الطرح الأول على أنه مجرد تحول لغوي لا غير[26] .

4-3- التصنيف البنيوي للتحول اللغوي:

يقسم ميوسكنMuysken (2000) التحول اللغوي حسب المنهج البنيوي إلى ثلاثة أقسام[27]:

الإدماجInsertional[28] : حيث يتم دمج مكونات من A في إطار صَرفي نحوي يهيمن عليهB.

التناوب Alternational[29] : حيث يتناوب A وB دون التعدي على الحدود الصَّرف نحوية الخاصة بكل منهما.

التطابق المعجميCongruent Lexicalization[30]: حيث يتقارب A وB في الإطار الصَّرفي النحوي.

يتضمن الإدماج دمج عناصر معجمية لوحدات من اللغة الأولى في بنية اللغة الثانية أو العكس، ويتراوح هذا النوع من التحول بين تبديل كلمة أو عبارة كاملة، أما في التناوب فتحافظ عناصر اللغة على بنيتها النحوية مستقلة، أي يتم استخدام بنيات مختلفة وفقا لقواعد لغتها الخاصة، رغم استخدامها في بنية مختلفة، ويرى مويرMoyer أن التناوب يتوافق مع التحول بين الجمل ويشير إلى الحالة التي يقول فيها متحدث ثنائي اللغة جملة بلغة أولى ثم جملة أخرى بلغة ثانية لنفس الحوار، أما في النوع الثالث والأخير فيتم دمج المفردات من لغات مختلفة داخل بنية نحوية مشتركة (نفس الجملة) حيث لا يتم ملاحظة المفردات المتطابقة إلا إذا كانت اللغتان لهما بنيات نحوية ومعجمية متشابهة، مما يعطي انطباعا بأن التطابق بين المفردات يتطلب تطابقا  أو تشابها بين اللغتين، كالإنجليزية والفرنسية مثلا، وهذا النوع يستعمله ثانئيو اللغة الذين لهم مهارة لغوية عالية بنفس الدرجة في كلتا اللغتين[31].

5-3- القيود

بنت بوبلاك(1980) poblack أول نموذج نظري للقيود البنيوية على التحول اللغوي من خلال وضع قيدين أساسين هما[32]:

قيد الصَّرف الحر [33] The free morpheme constraint؛ يشير هذا القيد إلى أنه لا يجوز التحول داخل نفس الكلمة، مثل إلحاق علامة الجمع باسم voiture فنقول فواتيرات أو  singer(مغني) سينجرون.

قيد التكافؤ The equivalence constraint[34] : تبعا لهذا القيد، التحول اللغوي ينبغي أن يقع في نقطة ما في الجملة بحيث لا تُخترق قواعد كل من اللغتين كأن نقول مثلاmilk je bois، هذا المثال يخرق قاعدة الرتبة في اللغتين الفرنسية الإنجليزية فعل- فاعل- مفعول به.

وهذه القيود توفر الآلية المناسبة تحول دون حصول تداخل لغوي في المحادثات بين ثنائيي اللغة.

6-3- أنواع التحول اللغوي:

"أنواع التحول اللغوي بالنظر إلى المتكلم والمستمع.

التحول الإنتاجي: يقوم به المتكلم شفهيا أو كتابيا.

التحول الاستقبالي: يقوم به المستمع، فكلما تحول المتكلم من لغة إلى أخرى يتحول معه المستمع، فيصبح المتكلم هو الموجه والمتحكم في الخطاب والمقام والوقت، ويبقى المستمع هو المتفاجئ بهذا التحول، الشيء الذي يضعه أمام احتمال عدم قدرته على فهم الكلام"[35].

أنواع التحول بالنظر إلى المستوى اللغوي:

تحول داخلي/ثابت: يتم داخل نفس اللغة، كالتحول من العربية الفصحى إلى العربية المغربية/ العامية.

تحول خارجي/ متغير: يكون بين لغتين مختلفتين في مجتمع لغوي واحد، كالعربية والفرنسية في المغرب، أو من لهجة إلى أخرى[36].

ج- أنواع التحول بالنظر إلى السياق والمتكلم حسب بلوم وغامبيرز:

تحول سياقي/ ظرفي: يحدث هذا التحول حسب الموقف وذلك عندما تتغير اللغة المستعملة وفق الموقف الذي يجد المتكلم نفسه فيه، وباختلاف الموقف تتغير اللغة، فالموقف يملي- داخل جماعة ثنائية اللغة- اختيار التنوع، وهذا التنوع يتحدد من خلال العلاقة بين المتخاطبَين، ويرى كل من جانيت ودونالد (2015) أن الازدواجية اللغوية تعزز الاختلافات بين المتكلمين في حين أن التحول اللغوي يميل إلى تقليصها.

التحول اللغوي العاطفي/ الرمزي: حيث يحمل اختيار لغة بدل أخرى في خطاب ما بُعدا رمزيا، وذلك لتتناسب لغة التبليغ مع الخطاب، ويتضح ذلك من خلال المثال الذي ضرباه جانيت ورولاند بشارلز حاكم روما، حينما قال: أنا أتحدث الإسبانية مع الله، والإيطالية مع النساء، والفرنسية مع الرجال، والألمانية مع حصاني، فالانتقال من لغة إلى أخرى يحدث لإرادة داخلية لها بعد عاطفي بالدرجة الأولى[37].

يتم تحديد التحول اللغوي إذن، إما من خلال عوامل خارجية للمتحدث كإدخال موضوع جديد في المحادثة، أو أن المتحدث نفسه هو الذي يخلق تغييرا في المحادثة من خلال تغيير اللغات، فيصبح التحول بذلك أداة للكشف عن نوايا المتحدث وتفسيرها.

7-3- أسباب التحول اللغوي.

هناك عدة أسباب تدفع المتكلم إلى التحول من لغة إلى أخرى، من هذه الأسباب نجد[38]:

رغبة المتكلم في التأثير في السامع.

رغبته في التعبير عن التضامن مع جماعة لغوية.

رغبته في الحفاظ على سرية المعلومة، إقصاء شخص ما من دائرة الحديث، أو إخراجه من سياقه، فيتعرض المرء أحيانا إلى الإقصاء لأنه لا يجيد لغة الآخرين.

توضيح المعنى باللغة الثانية، أو تأكيد مفردة أو جملة.

الاقتباس، قد يحدث التحول بالاقتباس من لغة ثانية؛ شعرا، أو قولا مأثورا.

تحديد المخاطب وتوجيه الكلام له في جماعة لغوية، حيث يتم إنشاء علاقة ودية بين المتحدث والمستمع عندما يستجيب المستمع لهذا التحول. وهذا النوع من التحول يمكن استعماله لإقصائه من دائرة الحديث وإخراجه من سياقه لإظهار رفعة المكانة، باستخدام لغة أخرى قد يعطيها المجتمع منزلة أعلى من غيرها.

إعطاء إشارة بإدراك اللغة الثانية، أو نقل انفعال ما، يميل هذا النوع من الأشخاص إلى التحول اللغوي عندما يكون منزعجا أو متعبا أو...

واقع التحول اللغوي عند تلاميذ المستوى الإعدادي.

تعد المرحلة العمرية ما بين 12- 18 سنة تقريبا- مرحلة المراهقة- من المراحل التي يمكن أن نلمس فيها الكثير من التحول اللغوي، فهي المرحلة التي يستكشف فيها المتحدثون مدى قدرتهم على التلاعب باللغة أو اختراع ألفاظ جديدة وما إلى ذلك، وهي أيضا الفترة التي يحاولون فيها إثبات أنفسهم بين أقرانهم وأيضا تأثرهم بسلوكيات غيرهم ولعل التحول اللغوي من أبرزها.

سنحاول في هذا المحور من العرض الوقوف على ظاهرة التحول اللغوي عند هذه الفئة العمرية، وعينة الاشتغال هم تلاميذ من المستوى الثانوي الإعدادي بالتعليم الخصوصي (عددهم59 تلميذا) تم اكتشاف هذه الظاهرة في تواصلهم عبر الرسائل القصيرة داخل مجموعة تربوية لتبادل الدروس والمعلومات على تطبيق واتساب.

وقد استندنا في هذا العمل على بعض الأسئلة والاستبيانات، ونماذج من المحادثات لتقصي هذا الوضع اللغوي لدى هذه الفئة، فكانت الأسئلة المطروحة عليهم كالآتي:

- هل يحدث التحول اللغوي في تواصلك؟

- لماذا تلجأ إلى توظيف لغة ثانية في محادثتك، هل الأمر مقصود؟

- ما هي اللغة التي تتحول إليها عادة في حديثك؟

- هل يحدث التحول في البيت أم المدرسة أم في الشارع؟

- ما هو محيطك الذي تنتشر فيه ظاهرة التحول اللغوي بكثرة، هل البيت أم المدرسة أم الشارع أم الوسائل التكنولوجية الحديثة؟

بعد فحصنا لأجوبة هذه الأسئلة توصلنا إلى ما يلي:

يظهر المبيان أن جل التلاميذ موضوع الاشتغال يحصل عندهم تحول لغوي، لكنهم يتفاوتون في اللغات التي يتحولون إليها ماعدا العربية والفرنسية فهم متساوون فيهما، ويرجع ذلك إلى أن العربية والفرنسية هما اللغتان اللتان يتعلمانها منذ السنوات الأولى من عمرهم في المدرسة بعد اللغة الأم، بالإضافة إلى تشابه العربية الفصحى مع اللهجة المغربية في الكثير من الخصائص( النحوية، الصرفية، الدلالية...)، والعكس بالنسبة للذين يتحولون بين اللهجة المغربية والأمازيغية لأن هذه الأخيرة هي اللغة الأم التي تم اكتسابها وأصبحوا يتحولون منها إلى لغات أخرى لكن فقط مع من يتحدثون الأمازيغية، فرغم أن عددهم قليل كما يوضح المبيان، إلا أنهم الأكثر قدرة على التحول بين اللغات من غيرهم أو بالأحرى القدرة على التحول إلى أكثر من لغة في سياق واحد. أما اللغة الإنجليزية فقليلا ما يتحولون إليها ربما لأنها جاءت في المرتبة الثالثة بعد الفرنسية والعربية في التعلم والتلقين داخل المؤسسة التعليمية، لكنهم يقبلون عليها عبر الوسائل التكنولوجية الحديثة.

وللإشارة فالتلاميذ الجدد الملتحقون بالمؤسسة لهذا الموسم الدراسي (2024/2025) منخرطون أيضا في هذه العينة وينتقلون بنفس الكثافة بين اللغات رغم أن بعضهم كان متمدرسا بالقطاع العمومي، لنعدم حقيقة أن المدرسة هي المسؤول الوحيد عن التحول اللغوي لدى هذه الفئة من التلاميذ.

يوضح لنا هذا المبيان أن التحول اللغوي يحدث في كل الأوساط التي يتواجد فيها التلاميذ- موضوع البحث- أغلب وقتهم، وقد تم وضع استبانة على مجموعات الواتساب، طرح فيها السؤال الآتي، ما هو محيطك الذي تنتشر فيه بكثرة ظاهر التحول من لغة إلى أخرى في المحادثات؟ بحيث ينتقل المتخاطبون من لغة إلى أخرى أو يخلطون بينها. وكانت المعلومات التي توصلنا إليها هي ما يقدمه المبيان أعلاه.

بحيث أقر حوالي 49 من التلاميذ من المجموعة أنهم يلاحظون هذه الظاهرة بشكل كبير على شبكة الأنترنيت وتم الاستفسار عن المواقع والتطبيقات التي يحدث فيها بكثرة، فكانت أغلب أجوبتهم: الواتساب والفضاء الأزرق واليوتيوب وموقع spotify. وأغلب ما يشاهدونه أو يسمعونه عبر التطبيقين الأخيرين هو البودكاست، وهو من الوسائط الإعلامية الرقمية المشهورة في الآونة الأخيرة والتي يمكن أن نلاحظ فيها ظاهرة التحول بين اللغات بشكل كبير، وتأتي المدرسة في المرتبة الثانية بعد الأنترنيت ويقر التلاميذ أن المدرسة ثاني وسط يحصل فيه الانتقال بين اللغات لكن يقل ذلك أثناء الحصص الدراسية خاصة في المواد الأدبية، ويأتي الشارع في المرتبة الثالثة، بحكم أن الاحتكاك مع المتخاطبين في هذا المحيط يختلف من شخص إلى أخرى بحسب الفئة العمرية وبحسب إمكانية حصول التحول اللغوي أم لا؛ هناك أشخاص لا يحصل لديهم تحول لغوي وهناك أشخاص يحصل لديهم تحول لغوي لكن بدرجات. أما البيت فيحصل فيه التحول اللغوي بشكل قليل، ويتحكم فيه الوضع الثقافي والاجتماعي وحتى المادي لأسر التلاميذ، فبعد الاستفسارات التي قمنا بها وجدنا أن التلاميذ الأكثر تحولا بين اللغات منحدرون من أسر ميسورة وأفرادها إما مثقفون أو موظفون، وكلما كان أحد أفراد الأسرة غير مثقف خاصة الأم وثم الأخوة، تحول التلميذ إلى لغة واحدة فقط. وهذا إن دل فهو يدل على دور الأسرة في تثبيت وترسيخ قيم المعرفية التي يكتسبها التلميذ في باقي الأوساط.

إذا فكيف لتلميذ من هذه الفئة العمرية ألا تحصل معه هذه الظاهرة وكل من يحيطون به متعددوا اللغات و يحصل لديهم تحول لغوي في محادثاتهم؟ لذك فمحيط التلميذ له دور فعال في توجيه لغويا كيفما كان نوع هذا المحيط.

نماذج من التحول بين اللغات عند العينة:

عندما بحثنا في المجموعات التربوية- على التطبيق المذكور أعلاه- عن نماذج من التحول اللغوي، استوقفنا حوار قصير دار بين تلميذتين من المستوى الثاني إعدادي، موضوعه الاستفسار عن تتمة درس علوم الحياة والأرض على شبكة الأنترنيت.

التلميذة 1: واش ساليتي الفيديو دعاء؟

التلميذة 2:   آه

التلميذة 1:  أنا Non، عاودت leçonكاملة  (2)

التلميذة 1: ولكن مشارحاش الأستاذة Last document (3)

التلميذة 2:  واه مشرحاتوش ولكن دبا يشرح لنا الأستاذ

التلميذة 1:  داكشي لي بالي ماشارحاش first one ، راها دايرة تكميلته فشي فيديو آخر Maybe (4)

التلميذة 2:  I think (5)

التلميذة 2:  ولكن تكون تكون دايرة cours كامل في another vidio (6)

التلميذة 1:  Maybe

...

سنحلل هذه الأمثلة وفق التقسيم البنيوي الذي وضعه ميوسكين(2000) والقيود الصَّرف النحوية التي وضعتها بوبلاك(1980).

الملاحظ في الأمثلة أن التحول اللغوي عند التلميذتين كان من العربية المغربية( اللهجة المغربية) إلى الفرنسية تارة أو إلى الإنجليزية تارة أخرى أو إليهما معا (تحول خارجي) وهو تحول استقبالي كانت التلميذة 1 المثال (4) المتحكمة فيه والموجهة للغة التي انتقلت إليها التلميذة 2 المثال (5) ، والملاحظ أيضا غياب النوع الثاني الذي ذكره ميوسكن في تقسيمه( التناوب بين الجمل في سياق واحد).

في المثال (2) تحولت التلميذة من الدارجة المغربية إلى اللغة الفرنسية وتم إدراج العنصرين non و Leçon في بنية اللهجة المغربية دون أن تخرق القيد الأول كأن تلحق(ال) التعريف مثلا ب الاسم Leçon ، ولم تخرق القيد الثاني وأبقت المفعول به leçon بعد الفعل والفاعل في الرتبة المخصصة له فلم تكتب مثلا: *Leçon عاودت. وبالتالي فالمثال(1) هو نموذج عن التحول اللغوي.

في المثال (3) أدرجت التلميذة عناصر من اللغة الإنجليزية في بنية اللهجة المغربية فحافظت أيضا على رتبة: نفي+ فعل + فاعل+ مفعول به( document) كما هي في العربية، ورغم معرفتها برتبة موصوف+ صفة في العربية الفصحى وفي العربية المغربية( الدارجة) حافظت على رتبة الصفة + موصوف  last documentفي الإنجليزية وبالتالي أبقت قواعد اللغتين منفصلتين وهذا في حد ذاته يتطلب وجود قدرة لغوية في كلتا اللغتين وكثرة الممارسة، كما لا نجد خرقا للقيد الصرفي فالاسم document بقي مستقلا بمكوناته دون أن تدخل عليه مكونات صَرفية عربية.

في المثال(6) تم الانتقال من الدارجة المغربية إلى الفرنسية ثم إلى الإنجليزية في نفس المحادثة، العنصر اللغويcours من اللغة الفرنسية، والعنصران another vidio من اللغة الإنجليزية وتم إدراج العنصرين داخل بنية الدارجة المغربية دون خرق القيدين الصرفي أو النحوي.

ما نستنتجه من هذه المحادثات-وحتى باقي المحادثات المكتوبة والشفهية لدى هذه الفئة من الأشخاص هو غياب المستوى الثاني من تقسيم ميوسكن(التناوب) وهذا يدل على أن هذه الفئة تميل إلى التحول اللغوي الذي يشمل المفردات وليس الجمل، فكمية المادة اللغوية المستعملة التي يقع التحول اللغوي فيها، تقل عند هذه الفئة، بينما عند الأشخاص الأكبر سنا سنجد أن التحول اللغوي يشمل الانتقال بين الجمل. وهو ما يفسر أن الانتقال من لغة إلى أخرى في التواصل لا يحدده فقط السياق ونوع المخاطَب ومقصدية المتكلم بل أيضا يتحكم فيه عامل السن.

وبعد استجواب قمنا به مع هذه العينة تبين أنهم ينتقلون أحيانا بين الجمل، لكن بشكل قليل جدا، وأنهم يقومون بذلك بشكل متعمد لأن عليهم التريث والتفكير جيدا في جملة اللغة المراد الانتقال إليها لتوظيفها في محادثتهم، أما الكلمات فينتجونها بشكل لا شعوري ويوظفونها تلقائيا فهم لا يستوعبون أنهم يوظفونها، وحتى وإن كان توظيفها مقصودا فإن ذلك من أجل الشرح والإبانة، إذا فهم يميلون بحكم سنهم إلى السهولة والسرعة في أداء المحادثة.

خاتمة:

إن التحول اللغوي ظاهرة منتشرة في كل مجتمع لغوي وكسلوك بشري هي مسألة حتمية في عصر أصبح الناس فيه يختلفون في العادات والثقافات واللغة، لذلك فالتحول اللغوي قد لا يعني صعود لغة على حساب أخرى وإنما هو وسيلة فعالة لتعلم اللغات الأجنبية في وقت أصبحت الحاجة إلى هذه الأخيرة ملحة، وقد ساعدنا هذا البحث على الوقوف على هذه الظاهرة واستنتجنا ما يلي:

اللغة كائن يستجيب للاختلاط اللغوي وهذا الاختلاط يسمح بوجود عدة لغات في مجتمع واحد.

التحول اللغوي مفهوم قديم قدم الثنائية اللغوية نفسها وحقل أسال حبر العديد من الباحثين.

التحول اللغوي مرتبط بالازدواجية والثنائية اللغوية والتداخل اللغوي.

التحول اللغوي هو وضع يعكس ديناميكية المنافسة بين عدة لغات في سياق تواصلي واحد.

التحول اللغوي هو استراتيجية يستخدمها ثنائيو اللغة لإثراء الخطاب.

التحول اللغوي ظاهرة تتحكم فيها عوامل عدة: كالموقف والعلاقة بين المتخاطبين ونوايا المتكلم والسن...

التحول اللغوي له أنماط وقيود تضبطه، حددها علماء علم اللغة الاجتماعي.

***

غزلان زينون - باحثة

..................

قائمة المراجع:

بلرهمي نسرين(2003) التداخل اللغوي بين العربية والأمازيغية وتأثيره على تلقي الطفل لقواعد اللغة العربية في المرحلة الابتدائية، مذكرة ماستر، جامعة محمد خيضر بسكرة.

الفاسي الفهري عبد القادر، العمري نادية(2007) معجم المصطلحات اللسانية، دار الكتاب الجديدة المتحدة.

فرونسوا جروجون (2017) ثنائيو اللغة، ترجمة زينب عاطف، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، الطبعة الأولى.

القطيطي بدر بن سالم، الثنائية اللغوية وظاهرة التحول اللغوي، قراءة فيما وراء اللغة في ضوء علم اللغة الاجتماعي، المجلس الدولي للغة العربية، المؤتمر الدولي السابع للغة العربية.

كزار حسن(2018) اللسانيات الاجتماعية في الدراسات العربية الحديثة، التلقي و التمثلات، الطبعة الأولى، دار الرافدين، لبنان

كايد محمود إبراهيم(2002) العربية الفصحى بين الازدواية اللغوية والثنائية اللغوي،المجلة العلمية لجامعة الملك فيصل )العلوم الإنسانية والإدارية( المجلد الثالث - العدد الأول-

المرزوقي منال(2015) التعدد اللساني في المجتمع الإماراتي، دراسة اجتماعية تربوية، مركز حمدان بن محمد لإحياء التراث، الطبعة الأولى.

محمد اسماعيلي علوي ، التداخل اللغوي الإيجابي وتأثيره في تعليم اللغة العربية وتعلمها، المدرسة المغربية أنموذجا، العدد الأول، مجلة الميادين للدراسات في العلوم الإنسانيـة المجلد الثاني ـ madjalate-almayadine.com

Benazouz Nadjiba, sociolinguistique, Université M. Kheider. Biskra. Faculté des Lettres et des Langues, 2eme lmd

Florian Coulmas (1998) The Handbook of Sociolinguistics, Blackwell reference online, ,

Gerald Stell , Kofi Yakpo (2015) Code-switching Between Structural and Sociolinguistic Perspectives, walter de Gruyter Gmbh. Berlin/Munich/ Boston .

Mehmet TUNAZ ( 2016) Development of Code-Switching, A Case Study on a Turkish/ English/Arabic Multilingual Child , Erciyes University

Rajend Mesthrie (2011)The Combridge Hanbook of Sociolinguistics, Cambridge University Press

Richard Skiba ( 1997) Code Switching as a Countenance of Language Interference http://iteslj.org/Articles/Skiba/CodeSwitching.html

Ronald Wardhaugh and Janet M. fuller (2015) An Introduction to Sociolinguistics, seventh edition, Wiley Blackwell,.

هوامش

[1]  الفاسي الفهري عبد القادر، العمري نادية (2007) معجم المصطلحات اللسانية، ص 30.

[2] كايد محمد إبراهيم) 2002( العربية الفصحى بين الازدواجية اللغوية والثنائية اللغوية، العدد الأول، المجلد الثالث، المجلة العلمية لجامعة الملك فيصل (العلوم الإنسانية والإدارية)، ص 55.

[3]  فرانسوا جروجون(2017) ثنائيو اللغة، ترجمة زينب عاطف، مؤسسة هنداوي للنشر، ص .19

[4]  Benazouz Nadjiba, sociolinguistique, Université M. Kheider. Biskra. Faculté des Lettres et des Langues, 2eme lmd p 12.

[5] Benazouz Nadjiba , p 12 – 13.

[6]  , p 12. Benazouz Nadjiba

[7]  كايد محمود إبراهيم، ص 55- 56 – 57.

[8] الفاسي الفهري عبد القادر(2007) معجم المصطلحات اللسانية ، ص 80

[9]  كايد محمود إبراهيم، ص 55.

[10]  المرزوقي منال (2015) التعدد اللساني في المجتمع الإماراتي، دراسة اجتماعية تربوية، الطبعة الأولى، مركز حمدان بن محمد لإحياء التراث، ص 19 – 20.

[11]  المرزوقي منال(2015)، ص 20- 21- 22- 23.

[12] الفاسي الفهري عبد القادر(2007)، ص 207.

[13]  كزار حسن(2018) اللسانيات الاجتماعية في الدراسات العربية الحديثة، التلقي و التمثلات، الطبعة الأولى، دار الرافدين، لبنان. ص 46.

[14]  Rajend Mesthrie (2011)The Hanbook of Sociolinguistics, Combridge University Press p 301

[15] الفاسي الفهري عبد القادر(2007)، ص 325.

[16]   p 1 ، Code Switching as a Countenance of Language Interference، Richard Skiba http://iteslj.org/Articles/Skiba-CodeSwitching.html

[17]     Gerald Stell , Kofi Yakpo (2015) Code-switching Between Structural and Sociolinguistic Perspectives, walter de Gruyter Gmbh. Berlin/Munich/ Boston .p 2.

[18]   Mehmet TUNAZ( 2016) Development of Code-Switching, A Case Study on a Turkish/ English/Arabic Multilingual Child , , Erciyes University , p 4

[19]  P 5 ، Code Switching as a Countenance of Language Interference، Richard Skiba http://iteslj.org/Articles/Skiba-CodeSwitching.html

[20]  بلرهمي نسرين(2003) التداخل اللغوي بين العربية والأمازيغية وتأثيره على تلقي الطفل لقواعد اللغة العربية في المرحلة الابتدائية، مذكرة ماستر، جامعة محمد خيضر بسكرة، ، ص 37.

[21]  محمد اسماعيلي علوي ، التداخل اللغوي الإيجابي وتأثيره في تعليم اللغة العربية وتعلمها، المدرسة المغربية أنموذجا، ـ العدد الأول، مجلة الميادين للدراسات في العلوم الإنسانيـة المجلد الثاني ، ص 122. (يحدث التداخل السلبي عندما ينقل الشخص بنيات من لغته ويسقطها على اللغة الثانية)  www.madjalate-almayadine.com

[22]  Gerald Stell , Kofi Yakpo (2015) Code-switching Between Strucrural and Sociolinguistic Perspectives, p 2

[23]  Mehmet TUNAZ (2016), p 5.

[24]  Gerald Stell , Kofi Yakpo (2015), p 3- 4- 5.

[25] Florian Coulmas(1998) The Handbook of Sociolinguistics, Blackwell reference online p 149

[26]  فرونسوا جروجون (2017) ثنائيو اللغة، ترجمة زينب عاطف، الطبعة الأولى، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ص 175 – 176.

[27] Gerald Stell , Kofi Yakpo(2015), p 4.

[28]  الفاسي الفهري عبد القادر(2007)، ص 149

[29]  الفاسي الفهري عبد القادر (2007)، ص 19

[30] الفاسي الفهري عبد القادر(2007)، ص 55.

[31] Mehmet TUNAZ (2016) , p3-4.

[32]    . p 2، Code Switching as a Countenance of Language Interference، Richard Skiba http://iteslj.org/Articles/Skiba-CodeSwitching.htm l

[33]  الفاسي الفهري عبد القادر(2007) ص 111.

[34]  الفاسي الفهري عبد القادر(2007)، ص 95.

[35] القطيطي بدر بن سالم، الثنائية اللغوية وظاهرة التحول اللغوي، قراءة فيما وراء اللغة في ضوء علم اللغة الاجتماعي، المجلس الدولي للغة العربية، المؤتمر الدولي السابع للغة العربية، ص 167.

[36]  القطيطي بدر بن سالم ، ص 167 .

[37]  Ronald Wardhaugh and Janet M. fuller, An Introduction to Sociolinguistics, seventh edition, Wiley Blackwell, p 98.

[38] القطيطي بدر بن سالم، ص 166- 167.

 

إن أهم سمة ميّزت القرن العشرين عن سواه من العصور الفلسفية المنصرمة، هو أنه عصر تحليل بامتياز، اهتمّ دعاته بالمنهج الدقيق، وعرض القضايا الكبرى تحت مجهر التحليل. ومن بين هذه القضايا، قضية اللغة التي انشغل بها النمساوي لودفيغ فتجنشتاين في أول حياته وآخرها.

1- رسالة منطقية فلسفية ثتائية اللغة والعالم:

شغل فتجنشتاين كرسي الفلسفة أمدًا طويلًا في جامعة كمبردج. ولو ألقينا نظرة على المجهود الفلسفي الذي اضطلع به فيلسوفنا في كتابه الأول «رسالة منطقية فلسفية» أو تراكتاتوس، سنجد أن الفكرة الأهم تتمثل في الصلة التي تربط اللغة بالعالم. ولا يمكن سبر أغوار هذه العلاقة إلا بتحليل العالم واللغة. فأما العالم، بحسب لودفيغ فتجنشتاين، فيتكوّن من مجموعة من الوقائع، هي حالات واقعية متحققة. وهذه الوقائع ذرّية، لا تقبل التفتت إلى وقائع أخرى، فهي تمثل الجوهر.

وتتكوّن الوقائع من أشياء بسيطة وروابط. وبهذا المعنى، فإن العالم حسب فتجنشتاين ذو بنية منطقية. أما بالنسبة للغة، فهي أيضًا ذات بنية منطقية، وهي - إن صحّ القول - مرآة تعكس العالم ومجموع الوقائع داخله. وبالتالي فإن اللغة عملية تصوير وتمثيل للواقع، وهي مجموع من القضايا التي تقابل الوقائع في العالم.

فعندما يقول أحدهم: «الكتاب فوق الطاولة»، فهذه واقعة لا يمكن فهمها إلا من خلال اللغة. فعند سماعنا لهذه الجملة يتشكّل في ذهننا صورة الطاولة والكتاب اللذين لهما تمثُّل واقعي سلفًا. وإذا ما عبّرت اللغة عن واقعة خارجية كما هي في الواقع، تكون القضية صادقة. فالكتاب فوق الطاولة هو حقًّا يوجد كتاب فوق الطاولة. كما يمكن أن تكون القضية كاذبة في حال عدم وجودها واقعيًّا. إلا أننا لا يمكن أن نحكم عليها بالخطأ؛ فجملة «الكتاب فوق الطاولة» سليمة تركيبًا إلى جانب واقعيتها وإمكان حدوثها أو حدوثها فعليًّا

وبالتالي فإن كل قضية لا تعبّر عن الواقع هي مفرغة من المعنى ومجرّد هراء، مثل القضايا الميتافيزيقية التي ليس لها تمثُّل في الواقع، فهي بالتالي خارج حدود العالم، أي خارج حدود الفكر واللغة، إذ هي مجرد قضايا بلا معنى. لذلك يجب البحث عن كل ما يستوعبه العالم واللغة، وما لا نعرفه يجب أن نصمت إزاءه.

وبما أن اللغة والفكر والعالم، كلها متماثلة، فأي محاولة لأن نقول بالمنطق (أي باللغة) «إن العالم فيه هذا وهذا، ولكن ليس فيه ذاك» محكوم عليها بالفشل، لأن هذا سيعني أن المنطق قد خرج عن حدود العالم، أي عن ذاته. ومن هنا يمكن أن نستنتج مع فتجنشتاين أن المعضلات الفلسفية هي معضلات لغوية بالأساس، ناتجة عن سوء استخدام اللغة.

كما ينبغي الإشارة إلى أن فتجنشتاين حاول في كتاب «الرسالة» إرساء قواعد اللغة المثالية الصارمة والمضبوطة وفق قواعد منطقية، من أجل أن تصوّر وتصف العالم الذي يتكوّن هو الآخر من بنية منطقية. ومن هنا تنشأ النظرية التصويرية لدى فتجنشتاين، التي وقع مناقضتها والثورة عليها، ليس من الفلاسفة المخالفين لفتجنشتاين، بل من فتجنشتاين نفسه.

2- تحقيقات فلسفية ثورة فتنجنشتاين على نفسه:

ففي كتابه «تحقيقات فلسفية»، والذي نُشر بعد وفاته، انقلب الفيلسوف النمساوي على أفكاره في «الرسالة» انقلابًا جذريًّا، بعد أن كان يظن أنه حلّ جميع مشكلات الفلسفة. لكن فتجنشتاين اللاحق أو المتأخر، قدّم لنا في «تحقيقات فلسفية» نظرية جديدة عن المعنى، هي نقيض النظرية المنطقية الذرية في «الرسالة»، وهي نظرية تبحث عن المعنى في استعماله.

صحيح أن فتجنشتاين قد ظلّ على رأيه في الاهتمام بدراسة اللغة في صلتها بالعالم، إلا أنه عدل عن رأيه السابق في أن مهمة اللغة هي وصف الوقائع، كما تخلّى عن رغبته في إرساء لغة مثالية. وصبّ جلّ اهتمامه في اللغة العادية التي تحقق التواصل بين مستخدميها.

«فليس لأي لفظ معنى إلا في مجرى الحياة.» بهذا القول نفهم من فتجنشتاين أن أي لفظ لا يمكن استخدامه في الحياة الواقعية، أي في سياقه، فهو لفظ بلا معنى. فمعنى أي كلمة هو طريقة استعمالها. ويمكن أن نستدل بمثال أورده فتجنشتاين في كتابه، وهو صورة البط والأرنب، وتتمثل في خدعة بصرية إذ تحتوي الصورة على رأس لأرنب أو بط. ولا يمكن أن نفهم ما إذا كان بطًّا أو أرنبًا إلا بوضع الصورة بين صور البط، وهو الحال نفسه بالنسبة للأرنب. فلا يمكن أن ترى أعيننا الحيوان بوضوح إلا عند وضعه بين بني جنسه. وهو الحال نفسه بالنسبة للفظ؛ فإن وقع اجتثاثه من سياقه يصبح فارغًا من المعنى.

ومن هنا تجاوز الفيلسوف علاقة اللغة بالعالم إلى علاقة اللغة بمستخدميها. فاللغة مجموعة من الأنشطة الاجتماعية غير محددة، وهي أيضًا مجموعة من الألعاب اللغوية. ونعني بمصطلح «ألعاب اللغة» أي اللغة في سياقها، أي الاستخدام الفعلي للغة. وبالتالي، فإن اللغة هي مجرد لعبة بيننا نتبادل فيها أحاسيسنا ومشاعرنا، إلا أنها تظلّ عاجزة عن إيصال هذه المشاعر والتجارب الخاصة إلى الآخر كما هي، بل تكتفي بالتعبير عنها لا وصفها.

ولبيان ذلك قدّم فتجنشتاين تجربة الخنفساء، فيقول:

«لنفترض أن كل شخص لديه صندوق به شيء فيه: نسميه “خنفساء”. لا يمكن لأحد أن ينظر إلى صندوق أي شخص آخر، والجميع يقول إنه يعرف ما هي الخنفساء فقط من خلال النظر إلى خنفسائه. هنا سيكون من الممكن جدًّا أن يكون لدى الجميع شيء مختلف في صندوقه. الشيء الموجود في العلبة ليس له مكان في لعبة اللغة على الإطلاق.»

الصندوق هو عقلنا، والخنفساء هي تجاربنا الشخصية كالإحساس بالسعادة والألم. كل شخص يعرف ما يوجد في صندوقه، لكن لا يعلم شيئًا عن صندوق الآخر. فلو طلبنا من أحد أن يصف لنا شعور الألم، سيصف كل شخص حسب تجربته الخاصة. وهكذا سنجد أكثر من تعريف للألم. ولكن مهما حاول شخص أن يصف هذا الألم، لن يستطيع أن ينقله كما هو. ولا حاجة لنقله كما هو، حسب فتجنشتاين، لأن هذا لا يدخل في لعبة اللغة على الإطلاق. فمهمة اللغة هي التعبير لا النقل.

اللغة ليست ماهية واحدة، بل هي ممارسة لغوية وأنشطة لغوية، وكل نشاط له منطق خاص به. ودعا فتجنشتاين الفلاسفة إلى الاهتمام باللغة العادية وترك إقامة اللغة المثالية، فالمشكلات الفلسفية ناتجة عن مشكلات استخدام اللغة العادية.

حسبنا في النهاية أن نشير إلى أن الفيلسوف النمساوي قد انتهى إلى تحطيم الإطار الضيّق للفلسفة التحليلية الذي وضع مور وراسل دعائمها.

في النهاية، يمكننا القول إن فتجنشتاين أغفل مهمة الفلسفة الأصلية، وهي الاهتمام بالمسائل الكبرى التي تشغل الإنسان، ووقف عند بعض التحليلات اللغوية وألعاب اللغة، مما ضيّق النظرة الفلسفية. ويمكن القول إن فتجنشتاين قد ساهم، بوعي أو من دون وعي، في انتشار اللافلسفة في الفكر الغربي المعاصر.

***

آية مصدق - تونس

ما الاستعمالات السلبية للغة من وجهة نظر توماس هوبز[2]؟

يجيبنا هوبز عن هذا التساؤل بكون اللغة في استعمالنا الخاص لها، يمكن أن تستخدم بكيفية سلبية. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يمكن بسط تلك الاستعمالات اللغوية السلبية في العناصر الآتية:[3]

أولا؛ تستخدم اللغة بكيفية سلبية، حينما يستعمل المرء مجموعة من الكلمات والأسماء التي لا يدرك معناها. معنى ذلك، أن الكثير من البشر يستعملون الكلمات والأسماء دون إدراك لمعانيها ودلالتها، بل أكثر من ذلك، فأحيانا تستعمل بعض الكلمات والأسماء فقط لكونها متداولة بين الناس، لكن أن تدرك كل الذوات حقيقة الكلمات المستعملة، فهو أمر محال في الكثير من السياقات البشرية. وخير مثال على ذلك، ما كان يقوم به سقراط في محاورته لبعض السفسطائيين، بحيث كان يسألهم عن بعض المفاهيم مثل العدل والأخلاق...، لكن إجابتهم كانت ذات طابع عمومي للكلمات، مما يفيد أن استعمال الناس للكلمات والأسماء، لا يفيد بالضرورة أنهم على علم ودراية بها. إن استخدام كلمات وأسماء بكيفية غير مدركة لمعانيها الأصيلة، له تبعاته السلبية التي قد تؤدي إلى النزاع والشجار، وأحيانا إلى الحروب.

ثانيا؛ تستخدم اللغة بكيفية سلبية، حينما يقدم المرء على استعمال الكلمات المجازية، بما هي كلمات لا تقوم على حقيقة الشيء، وإنما على معان استعارية متخيلة، تتطلب التأويل والتفسير بغية إخراج المعنى المجهول، من الكلام المعلوم. وإذا كان الأمر كذلك، فإن استعمال الكلام بكيفية مجازية، قد يؤدي إلى خلق نوع من سوء الفهم في أفهام الناس، بحيث لا يقدرون على التوافق بشأن كلمة من الكلمات التي تحتاج إلى تفسير، لإخراج ومعرفة دلالات أصحابها.

ثالثا؛ ما دام الإنسان محبا لما يملك في ذاته أو لذاته، فإنه في عملية إبداعه لجملة من الكلمات والأسماء، قد يعتبرها شأنا خاصا به. غير أن هذا الأمر لا يطرح مشكلة، من حيث إن حب التملك هوى إنساني، بينما المشكلة تقع حينما يبدع الإنسان كلمات قد تكون فارغة من المعنى، مثل تلك الكلمات التي كانت متداولة في التقليدين الفلسفي واللاهوتي الوسيطين، والتي لا تفيد في شيء، كالأقنوم، وتحول خبز القربان إلى جسد المسيح ودمه، الآن الأزلي...إلخ.

رابعا؛ لئن كانت اللغة من حيث الاستخدام الإيجابي تستعمل للهو والتنكيت لبعث الفرح لدى البشر، فإن اللغة في استخدامها السلبي يمكن أن تكون وسيلة لإداية الناس. فاللغة بما هي قوة تحملها الذات البشرية، فإنه يمكن أن تستعمل بكيفية سلبية تؤدي إلى خلق فضاء للصراع بين الناس، لاسيما، في استعمال بعض الكلمات التي تقلل من شأن الإنسان كإنسان. يقول هوبز: «والرابعة هي عندما يستخدمونها ليؤذي بعضهم بعضا: وبما أن الطبيعة قد سلحت المخلوقات الحية بعضها بالأسنان، وبعضها بالقرون، وأخرى بالأيدي لتؤذي عدوها، فإنه لمن إساءة استخدام النطق أن نؤذيه باللسان، ما لم يكن إنسانا نحن مجبرون على أن نحكمه، فعندئذ لا يكون الغرض أن نؤديه وإنما أن نؤدبه ونصلحه.»[4].

وبناء على ما سبق، نستنتج أن اللغة حتى وإن كانت من الأدوات الأساسية التي لا غنى عنها في حياة الإنسان، فإن اللغة باعتبارها صناعة بشرية، لها القابلية لكي تستعمل بطرق تكاد تكون أحيانا عامة تبتغي تحويل الخطاب الذهني إلى كلمات وأسماء شفوية هدفها تذكر ما مضى-الربط بينه، أو خاصة تبتغي معرفة أسباب الأشياء، وتعليمها، والتعبير عن إرادة صاحبها ورغباته، والترويح عن النفس. لكن، إن كان الاستخدام الخاص إيجابيا أحيانا، فإنه يمكن أن تستعمل بكيفية سيئة حينما تقوم على مجموعة من الأسماء والكلمات الفارغة من المعنى.

***

د. لوكيلي عبد الحليم - باحث في الفلسفة-المغرب

......................

[2]  توماس هوبز (Thomas Hobbes) فيلسوف وعالم رياضيات وفيزياء إنجليزي ولد يوم 5 أبريل من سنة 1588م في مدينة مالميسبري (Malmesbury)، وتوفي يوم 4 دجنبر من سنة 1679م. اشتهر بنظريته في مجال الفلسفة السياسية أو المدنية، غير أن له اهتمامات فلسفية في مجالات أخرى كالتاريخ والفيزياء والأخلاق واللاهوت...إلخ. ولعل من أهم أعماله التي تعد مصدرا أساسيا في تاريخ الفلسفة هو كتابه التنين أو اللفياثان (Léviathan).

[3] توماس هوبز. اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة. ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب؛ مراجعة وتقديم رضوان السيد. ط. 1. (أبوظبي: معهد أبو ظبي للثقافة والثرات، 2011). ص.41.

[4] توماس هوبز، اللفياثان، مصدر سابق، ص.41.

الفلسفة تعني دراسة الأسئلة الأساسية المتعلقة بالحقيقة، والوجود، والقيم، والمعرفة، تهدف إلى فهم العالم والإنسان والعلاقات بينهما. من ناحية اخرى تعني العلوم بدراسة الظواهر الطبيعية والاجتماعية وتطوير نظريات ومفاهيم قائمة على الأدلة والتجربة هناك تفاعل وتأثير متبادل بين الفلسفة والعلوم، فالفلسفة توفر الأسس النظرية والمنهجية للعلوم، بينما العلوم تقدم المعرفة الأمبريقية التطبيقية التي تساهم في تطور الفلسفة الخلل البنيوي في العقلية الفلسفية يشير إلى مجموعة من التحديات والمشكلات التي تواجه الفلاسفة في بناء أفكارهم ونظرياتهم.  كثير من الفلاسفة يواجهون صعوبات في تجنب التناقضات في أفكارهم، هذه التناقضات قد تؤدي إلى ضعف الحجة أو عدم التماسك في النظريات اذ غالبًا ما تعتمد الفلسفات على افتراضات قد تكون غير مبررة أو غير مدروسة بشكل كافٍ، هذه الافتراضات يمكن أن تشكل أساسًا هشًا للنظريات ،الفلسفة تعتمد بشكل كبير على اللغة، لكن اللغة يمكن أن تكون غامضة أو متعددة المعاني، مما يؤدي إلى صعوبات في التعبير عن الأفكار بوضوح ،كما ان الفلسفات تتأثر بالثقافات والخلفيات الاجتماعية، ما يمكن أن يؤدي إلى انحيازات أو تفضيلات معينة تؤثر على الفكر الفلسفي . التطور في الحضارة والتكنولوجيا والاقتصاد عندما تكون هناك نظرية فلسفية خاطئة أو معتقدات غير صحيحة، يؤدي إلى تأثير سلبي على تطور المعرفة العلمية والابتكار التقني. على سبيل المثال، إذا كانت هناك فلسفة تعتقد أن العالم قائم على القدرة الإلهية وأن العلوم الطبيعية لا تكشف عن الحقيقة، يتم تقييد التطور العلمي والتكنولوجي، وبالتالي، يمكن أن يحدث تباطؤ في التقدم التكنولوجي والابتكار وتطور المجتمع ، الفلسفة تسهم أيضًا في توجيه القرارات الاقتصادية وتشكيل النظم الاقتصادية، إذا كانت هناك عقلية فلسفية متخلفة في المنطقة، يكون هناك تأثير سلبي على التطور الاقتصادي، مثل القيود على الحرية الاقتصادية وعدم تشجيع الاستثمار ،لذا يمكن القول إن وجود خلل بنيوي في العقلية الفلسفية يمكن أن ينعكس سلبًا على التطور في الحضارة والتكنولوجيا والاقتصاد،

أمثلة على الخلل البنيوي في العقلية الفلسفية

كان للأساطير والأفكار الخرافية تأثير كبير على الفلسفة والعلوم، على سبيل المثال، في العصور الوسطى، كانت العقلية الفلسفية تعتقد أن الأمراض تحدث بسبب الأرواح الشريرة أو الأسباب الخارقة للطبيعة، هذه العقلية أدت إلى تأخر في تطور فهمنا للأمراض وعلاجها، ومن ثم تأثير سلبي على التقدم الطبي والصحي، الفلسفة الدينية المتشددة تؤدي الى الالتصاق الشديد بمعتقدات دينية التي تشكل قيودا على التطور العلمي والتكنولوجي. تعتبر بعض السرديات الدينية المتشددة العلم والتكنولوجيا تهديدًا للقيم والمعتقدات الدينية، وبالتالي يتم رفضها أو تجاهلها مما يعوق التقدم التكنولوجي والعلمي في المجتمعات التي تتأثر بهذه العقلية، الفلسفة المحافظة والمحافظة تؤدي إلى المقاومة أو الرفض للتغيير والابتكار، على سبيل المثال، في بعض المجتمعات التقليدية، قد يتم رفض الأفكار والتقنيات الجديدة لأنها تعتبر انحرافًا عن التقاليد والقيم التقليدية مما يقيد التطور التكنولوجي والاقتصادي ويمنع استفادة المجتمع من التقدم، الفلسفة السلبية والقائمة على الشك، يمكن أن تؤدي إلى تقييد التطور والابتكار، عندما ينظر الأفراد إلى العالم بشكل سلبي ويشككون في إمكانية تحقيق التقدم فإنهم قد يتجنبون المخاطر ويمتنعون عن تجربة أفكار ومشاريع جديدة ،هذه الأمثلة توضح كيف يمكن أن يؤثر الخلل البنيوي في العقلية الفلسفية على التطور في مختلف المجالات.

الخلل البنيوي العام

من الصعب تحديد الخلل البنيوي العام في العقلية الفلسفية الشرق اوسطية، حيث تتنوع المدارس الفلسفية والتوجهات الفكرية في هذه المنطقة." (“الخلل البنيوي في العقلية الفلسفية الشرق اوسطية”)* ومع ذلك، يمكن التطرق إلى بعض التحديات ونقاط الضعف المحتملة في هذه العقلية:

القدرة على التطبيق العملي، تكون الفلسفة الشرقية اوسطية متمحورة بشكل كبير حول النظريات والتأملات الفلسفية، ويكون من الصعب تحويل هذه الافكار العميقة إلى تطبيقات عملية في الحياة اليومية.

الانغماس الديني، تكون العقلية الفلسفية الشرقية اوسطية مرتبطة بشكل وثيق بالدين والروحانية، ويكون هذا الانغماس الديني عائقًا أمام التفكير النقدي المستقل والتحليل العلمي.

الشمولية الثقافية، تكون الفلسفة الشرق اوسطية مرتبطة بثقافات محددة وسرديات تاريخية مؤدلجة، مما يؤدي إلى انحسارها في سياق ثقافي معين وعدم القدرة على التعامل مع التحديات العالمية بشكل شامل.

العولمة والهوية، تواجه الفلسفة الشرقية اوسطية تحديات في مواجهة العولمة وتأثيرها على الهوية الثقافية والفلسفية. يمكن أن تنشأ أسئلة حول الهوية الثقافية المشتركة والتفاعل بين الثقافات في ظل التحولات العالمية. هذه مجرد بعض القضايا الفلسفية الحالية التي يمكن أن تواجه العقلية الفلسفية الشرقية اوسطية.

مقارنة بين الفلسفة الشرق اوسطية والفلسفة الغربية

المصدر الأساسي للمعرفة:

 في الفلسفة الغربية، تعتمد المعرفة على المنطق والتحليل والاستدلال العقلي. بينما في الفلسفة الشرقية اوسطية، تعتمد المعرفة على السرديات الدينية والتجربة الروحية والتأمل.

التركيز الفلسفي:

 ترتكز الفلسفة الغربية على الفلسفة التأملية والأخلاق والاقتصاد، بينما تركز الفلسفة الشرقية اوسطية على الروحانية والتوازن والحكمة الروحية والتحقيق الذاتي.

النظرة للواقعية:

 الفلسفة الغربية تميل إلى تأكيد وجود الواقع الخارجي المستقل عن الوعي الإنساني، بينما الفلسفة الشرقية الوسطى تعزز فكرة أن الواقع هو نتاج للوعي الذاتي والتفاعل بين الداخل والخارج.

 (“الخلل البنيوي في العقلية الفلسفية الشرق اوسطية”)*

العلاقة بين الإنسان والطبيعة:

 في الفلسفة الغربية، يتم تعامل الإنسان والطبيعة على أنهما كيانان منفصلان، بينما تؤمن الفلسفة الشرقية الوسطى بالتوازن والتناغم والتقديس بين الإنسان والطبيعة ككيان واحد.

الأخلاق والقيم:

 الفلسفة الغربية تركز على الأخلاق الواجبة ومبادئ العدالة والحقوق، بينما الفلسفة الشرقية الوسطى تؤمن بالتوازن والتحقيق الروحي والتطهير الذاتي كأساس للأخلاق.

هذه مجرد بعض الاختلافات العامة بين الفلسفة الشرقية اوسطية والفلسفة الغربية. يجب ملاحظة أن هذه التصنيفات تعتبر عامة ويمكن أن يكون هناك تنوع وتداخل في الفلسفات داخل كل تقاليد، بعض الفلسفات الشرقية اوسطية تعتبر تطور التكنولوجيا والحضارة بشكل سلبي أو تنظر إليه على أنه يؤدي إلى انحراف عن القيم والمبادئ الروحية. ""ومع ذلك، يجب ملاحظة أن هذا الاعتراض ليس صحيحًا لجميع الفلسفات الشرقية اوسطية، وأن هناك تنوعًا واختلافًا بين هذه الفلسفات في مواقفها تجاه التقدم التكنولوجي والحضاري. " (“الخلل البنيوي في العقلية الفلسفية الشرق اوسطية”)* فبعض الفلسفات الشرقية اوسطية تروج لفهم متكامل يجمع بين الجوانب الروحية والمادية للحياة، وتؤمن بإمكانية استخدام التكنولوجيا والتقدم الحضاري لخدمة الإنسانية وتحقيق السعادة والتنمية الشاملة. علاوة على ذلك، يجب أن نفهم أن الفلسفة الشرقية اوسطية ليست كتلة موحدة وأن هناك تنوعًا في تياراتها ومدارسها الفكرية. وبالتالي، يمكن أن يكون لديها تفسيرات ومفاهيم مختلفة بشأن التكنولوجيا والتطور الحضاري. على مر التاريخ، يمكن أن تظهر بعض الدول في الشرق الأوسط بواجهتين، الجانب الثقافي والديني الذي يعكس الفلسفة الشرقية اوسطية، والجانب الاقتصادي والسياسي الذي ينطوي على التحديات التي تواجهها الدول في التطور التقني والحضاري، هناك عوامل عديدة تؤثر على التطور التقني والحضاري في المنطقة، مثل الاستقرار السياسي، التعليم، الابتكار، الاستثمار، والتكنولوجيا مع ذلك، تواجه الدول في الشرق الأوسط تحديات حضارية واقتصادية معاصرة، مثل توزيع الثروة، التعليم، البطالة، الفقر، الحروب والصراعات السياسية. هذه التحديات تؤثر على التطور التقني والحضاري في المنطقة.

الصراعات السياسية وأثرها

 تعاني بعض الدول في الشرق الأوسط من صراعات ونزاعات سياسية واضطرابات أمنية، مما يعرقل التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي. تواجه العديد من الدول في المنطقة تحديات كبيرة في مجال الفقر والبطالة، ويكون النمو السكاني السريع الذي يؤدي الى سوء توزيع الثروة ونقص فرص العمل يعد من الأسباب الرئيسية لهذه المشكلة. كذلك يعاني نظام التعليم في هذه الدول من ضعف التمويل ونقص البنية التحتية وجودة التعليم، مما يؤثر على تطور المهارات والمعرفة اللازمة لتعزيز الابتكار والتقدم الاقتصادي. كما ان هناك نقص في التمويل والاستثمار في البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، مما يؤثر على القدرة على الابتكار وتطوير صناعات جديدة وتحسين البنية التحتية التقنية كذلك تعاني العديد من الدول في الشرق الأوسط من تدفق اللاجئين والمهاجرين، مما يضع ضغوطًا على الموارد والبنية التحتية والخدمات الاجتماعية. من خلال تنمية التفكير النقدي في هذه المجتمعات وتعزيز الوعي الفلسفي والعلمي يمكن تجاوز الخلل البنيوي في الفلسفة الشرق أوسطية وتوفير بيئة داعمة ومحفزة للتفكير العلمي والفلسفي كما ان تشجيع الحوار والنقاش والبحث العلمي في المجتمعات يؤدي الى تحقيق التقدم والتطور. الا ان معظم كيانات المنطقة تسوسها دول هجينة يسودها الفساد بكل اشكاله والتبعية المقيتة.

***

غالب المسعودي

..............................

* الاقتباسات من مقالة لي منشورة في موقع الحوار المتمدن

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=820658

 

يكشف سلافوي جيجيك(1) المفارقة السياسية للكذب. ما تسمى مفارقة الكاذب Liar paradox statement مثل القول "كل ما أقول هو كذب" جرى نقاشها دائما من جانب الفلاسفة بدءاً من فلاسفة اليونان والهند حتى فلاسفة القرن العشرين. المفارقة هي اذا كان هذا القول صادق عندئذ فهو كاذب (كل ما أقول ليس كذبا)، والعكس صحيح. وبدلا من الضياع اللامتناهي في حجج وحجج مضادة، سوف نستفيد من جاك لاكان 1901-81)، الذي يقدم حلا فريدا من خلال التمييز بين محتوى التعبير enunciation والموقف الذاتي المتضمن في هذا التعبير enunciated: بين محتوى ما تقول والموقف المتضمن بما تقول. في اللحظة التي نستخدم فيها هذا التمييز، نرى فورا ان القول "كل ما أقول هو كذب" يمكن ان يكون ذاته صادقا او كاذبا. القول"انا دائما أكذب" يمكنه ان يجعل بشكل صحيح او غير صحيح التجربة الذاتية لكامل وجودي غير أصيلة وزائفة. لكن العكس ايضا صحيح.

لماذا نبذل وقتا في النقاش اللامتناهي بمثل هذه المفارقات؟ لأن في عصرنا عصر"ما بعد الحقيقة" للشعبوية اليمينية، بلغ تطبيق هذه المفارقة حدوده القصوى. لذا فان خطاب السياسيين اليوم لا يمكن فهمه بدون التمييز بين التعبير من جهة وما ينطوي عليه من جهة اخرى.

بعد إعادة انتخاب ترامب عام 2024، ناشدت الكسندريا اوكاسيو علنا (التي احتفظت بمقعدها في الكونغرس) اولئك المصوتين لها والذين ايضا صوتوا لترامب ان يوضحوا لماذا قاموا بهذا التصويت الغريب وغير المنسجم. قيل لها ان السبب هو انه بالمقارنة مع التلاعب الانتخابي لكاميلا هاري والديمقراطيين الاخرين، هي وترمب كلاهما بديا أكثر ثقة. هذا ايضا يفسر لماذا، عندما يقع ترامب في فخ اللاانسجام او الكذب الصريح، فان مثل هذا الافصاح يساعده: أنصاره يأخذون من كذبه كبرهان على انه يتصرف ككائن بشري عادي لايثق فقط بخبرائه المختصين وانما يقول رأيه بصراحة. ان اللاانسجام والكذب في المحتوى المنطوق لأقوال ترامب يعمل كإشارة بانه في مستوى موقف النطق، يتحدث ترامب كانسان أصيل وصادق. هذا يثبت ان الموقف المتضمن في النطق يمكن ان يكون أيضا مزيفا.

ستراتيجية الكذب

الحقيقة الذاتية هي في تضاد مع الحقيقة الواقعية factual truth بطريقة مشابهة للتضاد بين الهيستيريا والعصاب الوسواسي: الاول هو حقيقة في شكل كذبة، والثاني هو كذبة في شكل حقيقة. الهيستيري يقول الحقيقة في شكل كذبة بحيث ما يقال ليس صحيح تماما وانما الكذب يعبر بشكل زائف عن شكوى حقيقية، امّا ما يدّعيه العصابي الوسواسي هو في الواقع صحيح لكنه حقيقة تخدم الكذب.

اليوم، كلا اليمين الشعبوي واليسار الليبرالي اللذان يدعوان للتصحيح السياسي يمارسان هذين الشكلين التكميليين للكذب. اولاً كلا المجموعتين تستخدمان الكذب الواقعي عندما يخدم هذا الكذب ما يتصورونه كحقيقة عليا لقضيتهم. فمثلا، بعض الاصوليين الدينيين يدعون الى "الكذب من أجل يسوع": لكي تُمنع الجرائم المرعبة للاجهاض، يُسمح للمرء بنشر "حقائق" علمية كاذبة حول الأجنة والمخاطر الطبية للاجهاض، او لكي يساعدوا في اشاعة الرضاعة الطبيعية، يُسمح للمرء بعرض ادّعاء كـ حقيقة علمية بان الإمتناع عن الرضاعة الطبيعية يسبب سرطان الثدي. الشعبويون المناوئون للهجرة يتداولون بلا خجل قصصا غير واقعية حول الاغتصاب والجرائم الاخرى للاجئين لكي يعطوا مصداقية لرؤاهم بان اللاجئين يشكلون تهديدا "لإسلوبنا في الحياة". في كثير من الاحيان، ليبراليو التصحيح السياسي يعملون بنفس الطريقة لهدف مضاد، هم يعملون بصمت حول الاختلافات الفعلية بين طرق حياة اللاجئين والاوربيين، طالما يُنظر الى ذكرها كتعزيز للمركزية الاوربية. ونتذكر حالة روثرهام في المملكة المتحدة، حيث قبل عقد تقريبا، اكتشف شرطي ان عصابة من الشباب الباكستانيين كانوا يحضرون منهجيا لإغتصاب الاف الشابات الاوربيات الفقيرات، البيانات جرى تجاهلها في البدء او قُلل من شأنها لكي لاتثير الاسلامفوبيا.

الاستراتيجية المضادة ايضا مورست على نطاق واسع في كلا القطبين. الشعبويون المناوئون للهجرة لا ينشرون فقط اكاذيب واقعية وانما ايضا يستخدمون بمهارة اجزاءً من الحقيقة الواقعية ليضيفوا هالة من الصدق على أكاذيبهم العنصرية، كما ان انصار الحزب الشيوعي ايضا مارسوا هذا النوع من الكذب في صراعهم ضد العنصرية والتمييز الجنسي، هم كثيرا ما أعلنوا عن حقائق يمكن التحقق منها لكنهم يقدمونها بطريقة مشوهة. اليمين الشعبوي ينقل إحباطه الحقيقي وإحساسه بالخسارة الى عدو خارجي، بينما اليسار الشعبوي يستعمل قضاياه الصحيحة (اكتشاف التمييز الجنسي والعنصرية في اللغة) ليعيد الزعم بتفوقه الاخلاقي (وهكذا يمنع التغير الاجتماعي الاقتصادي الحقيقي). المفارقة الكبرى هي ان اليمين الشعبوي يمارس النسبية التاريخية بوحشية اكثر من اليسار، حتى عندما يدينونها في نظريتهم. مع ذلك، الموقف الصحيح هو ليس فقط التمسك بالحقيقة الواقعية، بمعنى ان، هناك "حقائق بديلة" – رغم انها ليست بالمعنى الذي حدث فيها الهولوكوست او لم يحدث. (بالمناسبة، جميع المحققين في الهولوكوست من ديفد ايرفينغ فصاعدا، الذين يدّ عون التحقق من البيانات بطريقة تجريبية صارمة – لا أحد منهم يستحضر نسبية ما بعد الحداثة).

البيانات تقدم ميدانا شاسعا وغير قابل للاختراق، ونحن دائما نقترب من زاوية ما تسميه التأويلات "افق الفهم"، مفضلين بعض البيانات ومتجاهلين اخرى. كل تاريخنا هو بالضبط – قصص يمكن القول عبارة عن مجموعات من بيانات منتقاة في قصص منسجمة بدلا من نسخ فوتوغرافية للواقع. فمثلا، مؤرخو اللاسامية يمكنهم بسهولة كتابة رؤية لدور اليهود في الحياة الاجتماعية للألمان في العشرينات من القرن الماضي، مشيرين الى الكيفية التي سيطر بها اليهود على مهن مثل المحاماة والصحافة والفن، وبغض النظر عن مدى صحتها، فهي من الواضح تعمل في خدمة الكذب. اكثر الكذب كفاءة هو الكذب الذي يعيد انتاج فقط البيانات الواقعية.

لو أخذنا تاريخ بلد ما، يمكن لأحد ما شرح ذلك التاريخ من وجهة نظر سياسية، مركزا على تقلبات السلطة السياسية، او ربما شخص آخر يمكنه التركيز على التنمية الاقتصادية، على الصراعات الايديولوجية، على البؤس الشعبي والاحتجاجات .. أي واحد من هذه الاتجاهات يمكه ان يكون دقيقا واقعيا لكنه ليس "صحيحا" بالمعنى الصارم البعيد عن الشك. لا يوجد هناك شيء "نسبي" حول حقيقة ان تاريخ الانسان دائما قيل من وجهة نظر معينة، جرى الحفاظ عليها بواسطة مصالح ايديولوجية. الشيء الصعب هو ان تبيّن كيف ان وجهات النظر النفعية هذه ليست صحيحة ايضا. بعضها اكثر صدقا من غيرها. فمثلا، عندما يعرض أحد قصة المانيا النازية من وجهة نظر معاناة اولئك الذي اضطُهدوا منها – أي، اذا تأثرنا في سردنا بمصلحة الانعتاق الانساني العالمي – هذه ليست فقط مسألة وجهة نظر ذاتية مختلفة، هذا السرد للتاريخ هو دائما "اكثر صحة" طالما هو يصف بكفاءة ديناميكية الكلية الاجتماعية التي أفرزت النازية. جميع "المصالح الذاتية" ليست نفس الشيء، ليس فقط بسبب ان بعضها مفضلة اخلاقيا على الاخرى، وانما ايضا بسبب ان "المصالح الذاتية" لاتقف خارج التكامل الاجتماعي، بل هي ذاتها أهداف للتكامل الاجتماعي، تكونت بواسطة مشاركين نشطين "او سلبيين" في العمليات الاجتماعية. ذلك يفسر لماذا لا يوجد هناك "ابلاغ "محايد" او "موضوعي" في حرب الشرق الاوسط، ولا حول القمع الروسي ضد اوكرانيا. يستطيع المرء قول الحقيقة حولها فقط من وجهة نظر الضحية . كتاب يورغن هابرماس (المعرفة والمصالح الانسانية، 1968)، هو اليوم الاكثر ملائمة من أي وقت مضى.

الكذب السلبي والكذب النشط

لكي نوضح هذا البُعد، يجب ان نوظف فكرة اخرى تلعب دورا حاسما في تحليل ايديولوجية اليوم: فكرة التداخل السلبي interpassivity التي طورها روبرت فولر. التداخل السلبي هو المضاد لفكرة هيجل في (دهاء العقل)، التي نكون بها نشطين من خلال الاخرين.

فكرة هيجل هي اني هل استطيع البقاء سلبيا، أجلس بارتياح في الخلف، بينما يقوم الاخرون بالعمل لي. بدلا من ضرب المعدن بمطرقة، تستطيع الماكنة القيام بذلك لي، بدلا من ان أقوم بتشغيل الطاحونة بنفسي، يستطيع الماء القيام بذلك. هنا انا احقق هدفي بطريقة التداخل بيني وبين الشيء الذي فيه أعمل شيء طبيعي آخر. لكن نفس الشيء يمكن ان يحدث على المستوى الشخصي. بدلا من ان أهاجم العدو مباشرة، انا استطيع اثارة قتال بينه وبين شخص آخر، بذلك انا استطيع ان اشاهد بارتياح الاثنين يحطمان بعضهما البعض. في حالة التداخل السلبي، على العكس، انا سلبي من خلال الآخر. انا أعترف للاخر بالمظهر السلبي – التمتع – بتجربتي، بينما انا ذاتي أبقى منخرطا بنشاط. انا استطيع الاستمرار بالعمل مساءً، بينما مسجل الفيديو يستمتع سلبيا بالتلفزيون لي، انا استطيع عمل ترتيب مالي لثروة المتوفي بينما الباكون يحزنون.

هذا يقودنا الى فكرة الفعالية الزائفة: الناس لا يتصرفون فقط لكي يغيروا شيئا ما، هم يستطيعون ايضا التصرف لمنع شيء ما من الحدوث او لكي لايتغير اي شيء. هنا تكمن الاستراتيجية الاساسية للعصاب الوسواسي. هو نشط بشكل محموم لكي يمنع الشيء الحقيقي من الحدوث. لنتصور، في موقف جماعي يحصل توتر يهدد بالانفجار، المهوسون يتحدثون كل الوقت لكي يمنعوا اللحظة المحرجة للعلم التي سوف تقنع المشاركين ليواجهوا علنا التوتر الاساسي.

ونفس الشيء، يحصل في علاجات التحليل النفسي، المصاب بالوسواس العصبي يتحدث باستمرار، يغرق المحلل بالحكايات والأحلام والرؤى. هذا النشاط المتواصل مدعوم بالخوف الاساسي بانهم لو أوقفوا الحديث للحظة، فان المحلل سوف يسألهم السؤال الخطير الذي يهم حقا. بكلمة اخرى، هم يتحدثون لكي يجعلوا المحلل ساكنا. حتى في الكثير من السياسات التقدمية اليوم، الخطر ليس السلبية وانما في النشاط الزائف المتحفز ليكون نشطا ومشاركا حتى لو بدون انتاجية. الناس يتدخلون كل الوقت، محاولين القيام بشيء ما، الاكاديميون يشاركون في نقاشات بلا معنى، الصعوبة الحقيقية هي التراجع خطوة الى الوراء والانسحاب. اولئك الذين في السلطة عادة يفضلون المشاركة النقدية على الصمت – لإشغالنا في حوار فقط للتأكد من كسر السلبية المشؤومة. التأكيد اللامتناهي على ضرورة الفعل، القيام بشيء ما، عادة يخون الموقف الذاتي في عدم القيام بأي شيء. كلما تحدثنا كثيرا حول كوارث بيئية وشيكة، كلما كنا أقل استعدادا للعمل. بالضد من نموذج التدخل السلبي الذي نكون به نشطين كل الوقت لضمان ان لا يتغير شيء، اول خطوة حاسمة في معارضته هي الانسحاب الى السلبية ورفض المشاركة. هذه الخطوة الاولى تمهد الطريق لنشاط حقيقي. الاشياء تصبح اكثر تعقيدا في عملية الإعتذار.عندما أتسبب بأذى لشخص ما، الشيء المناسب الذي أقوم به هو ان اقدم له اعتذارا رقيقا، والشيء الملائم له للرد هو قول شيء مثل "شكرا، انا اقدر شعورك لكني لم أكن منزعجا، لذا انت حقا لا تدين لي بأي اعتذار". المسألة بالطبع، انه رغم ان النتيجة النهائية هي ان لا اعتذار مطلوب، لكن المرء يجب ان يمر من خلال كامل عملية تقديم الاعتذار: "انت لا تدين لي باعتذار" يمكن قولها فقط بعد ان اقدم الاعتذار. لذا بالرغم من عدم حدوث شيء رسمي – لأن تقديم الاعتذار اعلن انه غير ضروري – هناك في نهاية العملية ربما يتم الاحتفاظ بالصداقة. الاعتذار نجح بالضبط من خلال اعلانه زائد عن الحاجة.

الحزب الشيوعي الصيني وفر نموذجا مشابها لإستغلال الفجوة بين المنطق والمنطوق. هو تعلّم درسا من فشل غورباشوف في ان الاعتراف التام علنا بـ "الجرائم التأسيسية" للنظام لن تؤدي الاّ الى سقوط النظام بأكمله. لذا فان تلك الجرائم يجب ان تبقى غير معروفة. حقا، بعض أخطاء وتجاوزات الماويين تم التنديد بها (القفزة الكبرى للامام والمجاعة المدمرة التي تبعتها، والثورة الثقافية)، وتقييم دينغ لدور ماو كـ 70% ايجابي و 30% سلبي، هو تكريس للصيغة الرسمية. لكن هذا التقييم يعمل قصداً كإستنتاج رسمي يجعل أي توضيح مفصل آخر غير ضروري. حتى عندما كان ماو سيئا بنسبة 30%، فان التأثير الرمزي لهذا الإعتراف هو محايد، لكي يستمر الاحتفال به كأب مؤسس للامة، لايزال جسده في ضريح وصورته على كل ورقة نقدية.

نحن نتعامل هنا مع حالة واضحة لإنكار يشبه انكار الشذوذ الجنسي. رغم اننا نعرف جيدا ان ماو ارتكب اخطاءً كبيرة وسبّب معاناة هائلة، لكن شخصيته تم الحفاظ عليها بطريقة اسطورية غير ملوثة بهذه الحقائق. بهذه الطريقة، يمكن للشيوعيين الصينيين امتلاك حصتهم من الكعكة، وان التغيرات الراديكالية التي أدت الى تحرير اقتصادي يمكن دمجها في استمرارية نفس الحزب الحاكم كما في السابق.

العملية هنا هي عملية تحييد (او كما يسميها فرويد "عزل"): انت تعترف باشياء فضيعة، لكنك تمنع جميع ردود الافعال الذاتية عليها (رعب مما حدث). ملايين الوفيات اصبحت حقيقة محايدة. اليوم، عندما يعلن إعلام اسرائيل وبعض الغرب عن تدمير غزة، هل انهم لا يمارسون نفس الحيادية؟ ارهابيو حماس يعذبون ويقتلون، بينما ضحايا جيش الدفاع الاسرائيلي تتم تصفيتهم وابادتهم ..

الشائعات والكذب

هناك شائعات تعمل بطريقة غريبة فيما يتعلق بالحقيقة: الحقيقة الواقعية للشائعة يتم تعليقها او تُعامل كشيء غير مادي (انا لا أعرف ان كانت حقيقية لكن هذ ما سمعته)، بينما محتوى الشائعة يحتفظ بكامل فاعليته الرمزية – نحن نستمتع بها، إعادة سردها بشغف (يمكن الوثوق هنا بكتاب الشائعات، للكاتب ملادن دولار، 2024).

لذا انه ليس نفس الشيء كإنكار الشذوذ الجنسي، التي تشبه كثيرا "انا أعرف جيدا انها ليست صحيحة لكن مع ذلك انا اعتقد بها"، بل هو عكسها – شيء مثل "انا لا استطيع القول باني اؤمن بان هذا صحيح، هذا حدث حقا لكن مع ذلك هذا ما أعرفه".

وفيما يتعلق بممارسة السلطة، يبدو حيز الشائعات غامضا. الشائعات القذرة يمكن ان تحافظ على السلطة (من أتاتورك الى تيتو) لكن الشائعات ايضا تلعب دورا حاسما في الاضطرابات بما في ذلك الاضطرابات المناوئة للمهاجرين (كما ذكرنا ان اوربا الآن مليئة بالشائعات ضد المهاجرين الذين يغتصبون النساء، وكيفية مراقبة السلطات للاخبار حول تلك الاغتصابات). هناك ايضا ما يرغب المرء تسميته "شائعات جيدة" – تلك التي تكون مطلوبة لإثارة انفجار ثوري. مثال تاريخي هو الخوف الكبير، الرعب العام الذي حدث بين السابع عشر من جولاي والثالث من اغسطس عام 1789 في بداية الثورة الفرنسية .

الشائعات يُنظر اليها باعتبارها تنسجم تماما مع مأزق اليوم والذي يصفه العديد من الناس بـ "موت الحقيقة" – توصيف هو بالتأكيد خاطئ. ما يقصده اولئك الذين يستعملون هذه العبارة هو انه في السابق (لنقل حتى الثمانينات من القرن الماضي)، رغم كل الاستغلال والتشويهات، ظلت الحقيقة سائدة بطريقة او باخرى، بحيث ان عبارة "موت الحقيقة"هي نسبيا ظاهرة حديثة. لكن نظرة عامة سريعة تخبرنا ان هذه ليست هي الحالة: كم من الانتهاكات لحقوق الانسان والكوارث الانسانية بقيت غير مرئية، من حرب فيتنام الى غزو العراق؟ فقط لنتذكر فترات حكم ريغن ونكسون وبوش ... الفرق لم يكن ان الماضي كان اكثر صدقا وانما ان سيادة الايديولوجية كانت اكثر قوة، بحيث، بدلا مما نراه اليوم من صراع كبير ملتبس في الحقائق المحلية، فان حقيقة واحدة (او كذبة كبيرة) بقيت اساسا هي السائدة.

في الغرب، كانت هذه هي حقيقة الديمقراطية الليبرالية (مع اليسار او اليمين).ما يحدث اليوم هو انه مع موجة الشعبوية التي زعزعت استقرار المؤسسة السياسية، نجد ان الحقيقة/الكذب التي خدمت كأساس ايديولوجي لهذه المؤسسة هي ايضا تنهار. والسبب الحتمي لهذا التفكك هو ليس ظهور نسبية ما بعد الحداثة وانما فشل المؤسسة الحاكمة في كونها لم تعد قادرة على الحفاظ على سيادتها الايديولوجية.

نستطيع ان نرى الآن ماذا يعارض حقا اولئك الذين يحزنون على "موت الحقيقة". تفكك قصة واحدة كبيرة مقبولة بدرجة ما من جانب الاغلبية جلبت استقرار ايديولوجي للمجتمع. ان سر اولئك الذين يلعنون "النسبية التاريخية" هو انهم يفتقدون الموقف الآمن الذي به توفر حقيقة كبرى واحدة (حتى لو كانت كذبة كبرى) الخرائط المعرفية الاساسية للجميع. باختصار، ان الذين ينددون بـ "موت الحقيقة" هم اكثر الاشخاص الراديكاليين لهذا الموت: شعارهم الضمني المنسوب الى غوتة" اللاعدالة افضل من الاضطراب" يعني كذبة كبيرة أفضل من واقع مزيج من صدق وكذب.

لذا عندما نستمع الى ادّعاءات بان المجتمع ينهار مع الإنهيار المستمر للنظام البيئي، يجب ان نكون واضحين جدا حول ما تعنيه تلك الادّعاءات: ليس فقط ان الاكاذيب تنتشر بكثرة وانما ان الكذبة الكبرى التي هي حتى الان تحافظ على التماسك الاجتماعي هي تتفكك. ان "موت الحقيقة" يفتح إمكانية لحقيقة أصيلة جديدة او لكذب كبير أكثر سوءاً. ألمْ يحدث هذا اليوم مع تراجع الديمقراطية الليبرالية والتي تدريجيا طغت عليها شخصيات متعددة من الفاشية الجديدة، بدءاً من الشعبوية الإقطاعية حتى الإستبداد الديني؟

***

حاتم حميد محسن

..........................

Philosophy Now June/July2025, issue 168

(1) سلافوي جيجيك Slavoj Zizek مدير معهد بيركيك للانسانيات في جامعة لندن، استاذ زائر في جامعة نيويورك، باحث أقدم في قسم الفلسفة بجامعة Ljubljana في سلوفانيا.

تمهيد: من خلال ما اشار له فلاسفة عديدين في تلازم الذاكرة والخيال بوجهات نظر متباينة خلصنا أنهما إفصاحان يدركان بدلالة تعبيرهما عن (الزمان) بصورة متضادة متعاكسة، فالذاكرة تعبير إستذكاري متجه نحو الماضي دوما، يعاكسه تعبير الخيال متجها نحو سيرورة مستقبلية غائبة ليست موجودة في زمان مدرك الحضور. الحاضر آنية منحلة مندثرة متلاشية بين شد الماضي وتوظيف المستقبل. حضور الموضوع في الذاكرة والخيال على السواء ضرورة ادراكية.

بالحقيقة هذا التفريق المتعاكس بين إختلاف زمانية الذاكرة نحو الماضي، وزمانية الخيال نحو سيرورة مستقبلية هي إجتهاد لنا سبق لريكور ذكره بعبارة سريعة سرعان ما غادرها من حيث تكريسها الانفصال بين الذاكرة والخيال غير المتفق عليه . وحيث معظم الفلاسفة رغم هذا التعارض الشديد بين تحقيب وقتين مختلفين، يذهبون – الفلاسفة - الى تبعية الذاكرة للمخيلة أو تبعية المخيلة للذاكرة من ناحية أن الذاكرة هي زمان ماض يحتوي زمانية الخيال في إرتباطهما المشترك بتقلبات النفس.

وذهب بعض الفلاسفة تأكيدهم أهمية ربط الذاكرة بالزمن الماضي في معرفة دلالتها حين تكون الذاكرة مرافقة لزمن مرّ، زمن مضى، عليه يمكننا إستخلاص ثلاث نتائج من هذا المعنى ربما لا يأخذ بها بعض الذين يعاملون تجريد الذاكرة والخيال جوهرين لا علاقة تربطهما بالعقل بل هما ولا حتى تجريدين إدراكيين منفصلين يحتويهما العقل بالوصاية الفكرية عليهما:

1. الذاكرة موضوع تجريدي مدرك بدلالة وظيفته في إرتباطه المتلازم بإستذكار وقائع وحوادث الزمان الماضي. والذاكرة في تجريدها من الخيال لا يبقى معنى لها كما يتضح معنا لاحقا.

2. الذاكرة إنشاء تعبيري تجريدي صوري صادر عن العقل في إستذكار وقائع الزمن الماضي. ولا يقلل من هذا تنسيب الذاكرة الى تابعية النفس، الذاكرة لا تمتلك إستقلالية المدرك المجرد ولا بأس من ربط النفس بها كما جرى ربط الخيال بها، ولا معنى لشيء يدعى ذاكرة مجردا عن دلالة ارتباطه بوقائع حدثت وجرت كحوادث واقعية في زمن ماض هو تحقيب تاريخي وليس زمنا.. فالذاكرة هي تخزين تصوري لوقائع قبل كل شيء وهي تحقيب تاريخي لزمن ماض جرى وقائعيا وحصل وغادر حضوره الآني الحالي.

3. الذاكرة فعالية إستذكارية منبثقة عن تفكير عقلي منتج لها ولا تمتلك هي خاصية إستذكار وقائع الماضي من دون مرجعية الخيال العقلي . بمعنى الذاكرة التي تعتمد العقل في إنتاجه لها لا تكون الذاكرة موضوعا مستقلا مجردا للعقل . كما عندما تكون الذاكرة مبعثها إستثارة نفسية لمدّخرات إستذكارية مخزّنة ايضا لا يمنحها هذا غير صفة التجريد المرتبطة بتفكير العقل.

الذاكرة والزمن

علاقة الذاكرة بالزمن علاقة اشكالية في عدة أمور نحاول الاشارة لبعضها حيث يشير بعض الفلاسفة عن إشكالية الذاكرة بالادراك قولهم " البشر يشاركون بعض الحيوانات في الذاكرة المحضة، غير أن الجميع – البشر وبعض الحيوانات - لا يملكون الحس الادراكي على أن الاسبيقية تتضمن بين القبل والبعد – يعني السابق واللاحق هما في الزمان "1

هذا التعبير الملتبس المعنى بعض الشيء نجد في مناقشته أنه من الصحيح الذاكرة قسمة مشتركة بين البشر وبعض الحيوانات وليس جميع الحيوانات إشتراكهم في مرجعية العقل والذاكرة لذا لا يمكن للحيوان إمتلاك فاعلية الاستذكار بمعزل عن فاعلية العقل بتزويد الذاكرة بهذه الخاصية الاستذكارية للماضي. الاستذكار خاصية انسانية فقط دون بقية الكائنات والموجودات في الطبيعة.

والحقيقة التي لا نقاش عليها أن البشر والحيوانات لا يمتلكون الحس الادراكي للزمن في تجريده الاستشعاري غير المتحق عقليا، بمعنى إدراك الزمن كتجريد ماهوي قائم لوحده لا يدركه الانسان ولا الحيوان.. علما إن الحس الادراكي للزمن عند الحيوان معدوم تقريبا حسيا وتجريديا. بخلاف الانسان الذي يدرك الزمن بدلالة غيره ممثلا بمقدار حركة الاجسام التي يحتويها.

الزمن لا يدرك بزمن يجانسه كون ماهية الزمن لا تقبل التجزئة ولا التقسيم تماهيا مع تعبير ارسطو لا يحد الزمان بالزمان. (لايضاح المزيد عن هذه الجزئية أدعو مراجعة أكثر من مقال لي منشور على مواقع عربية عن الزمان بالمنظور الفلسفي آخرها كان بعنوان (الزمان المطلق وهم الاتصال والانفصال).

ذاكرة الانسان تدرك الزمان الارضي الطبيعي كتقطيع إفتراضي كتحقيب يقوم على إدراك مقدار ونوعية حركة الاجسام داخله. والزمان ماهية وصفات تعجز حتى بعض الحيوانات القريبة عقليا من ذكاء الانسان ادراك الزمان بمقدار حركة الاجسام لا هي بذاتها ولا بدلالة غيرها من أجسام تدرك حركتها لكنها تجهل زمانية تلك الحركة، الزمان تجريد يعرف ويدرك بدلالة قياس حركة غيره من الاجسام داخله، والمساواة بين الادراكين الحركة وزمانها بإنفصال الحركة عن زمانها هو محال لا يدركه العقل. فهما غير متساويين بل ومختلفين. فحركة الجسم هو مقدار زماني، وليس زمانا مجردا يدرك وحده منفصلا - اي موضوعا - عن حركة الاجسام داخله (الزمن). كما أن إدراك الزمان كتحقيب يتوزعه الماضي والحاضر والمستقبل يكون في إرتباط حركة الارض حول نفسها وحول الشمس ايضا وعلاقة الارض مع باقي أجرام المجموعة الشمسية تحديدا القمر وقانون الجاذبية.

المقصود التوضيحي انت لا تستطيع ادراك حركة الشيء بمعزل عن ادراكك مقدار تلك الحركة زمانيا. لذا يكون ادراك حركة الشيء زمنيا لا يعني ادراك زمن تلك الحركة تجريدا زمنيا منفصلا عن حركة الشيء او الجسم داخل الزمن. بمعنى الزمان محال إدراكه ماهويا إلا بدلالة مقدار حركة جسم تلازمه في داخله يحتويها الزمن بحيادية تامة.

الزمن ماهية لا تدرك وغير قابلة لادراك العقل كموضوع قائم بذاته مجردا. ومحال ادراك الحيوان (للماقبل والمابعد) اي لحظتي الزمان الافتراضية غير المتحققتين ادراكا. لا يدرك الحيوان للماقبل ولا للمابعد مطلقا بهدف إدراكه مقدار الزمن بل ولا إدراكه زمن موجودات الاشياء التي تشاركه وجوده الانطولوجي ايضا، والزمان حتى بالنسبة للانسان يدرك كتحقيب وقائعي في تعاقب الزمان بالقياس لحركة الاجسام ولا يستطيع الانسان إدراك الزمان كماهية مجردة أو صفات نتيجة إدراكه مقدار حركة الاجسام في زمان لا يدرك لوحده كينونة مستقلة وجودا يمكن إدراكها من غير الحركة المادية الحاصلة داخل الزمن وليس خارجه فلا يوجد للزمن (خارج) يحدّه.

ذاكرة الحيوان في حال أفتراضنا أنها تمتلك استذكار الاشياء والوقائع من الماضي كما يفعل الانسان . فهي – الحيوانات - لا تعي تحقيب الزمان الارضي كوقائع كما يدركه الانسان كماض وحاضر ومستقبل. أي ذاكرة الحيوان لا تعي الزمن كتحقيب تسلسلي نظامي كما يعيه الانسان ويتكيّف بموجبه. ذاكرة الحيوان تجد في الحاضر الذي تعيشه ولا تدركه عادة من السلوك المعتاد الذي لا يحتاج معه ذاكرة. والحيوان مثلا يشعر بتبدلات المناخ والبيئة من حوله واحيانا يتنبأ قبل الانسان بحدوث ظواهر طبيعية لكنه يجهل أسباب حدوث هذه التغيرات المناخية وهذه الظواهر ولماذا تحدث؟

وحين يطرح ارسطو في كتابه " الانطباعات" قوله " أننا حين ندرك الحركة فأننا ندرك الزمن. غير أن الزمان لا يدرك كمختلف عن الحركة، إلا اذا حددناه. أي أذا إستطعنا تمييز حركتين الاولى كسابقة والثانية كلاحقة، وفي هذه النقطة يتقاطع تحليل الزمان عن تحليل الذاكرة "2

من الصائب الصحيح الظاهر من العبارة تعبير ارسطو قوله " حين ندرك الحركة ندرك الزمن " لكن إلتباس العبارة يكمن أننا ندرك الزمن بدلالة حركة جسم ولا يعني هذا امكانية إدراكنا الزمن مجردا عن حركة الشيء المتحرك داخله. بمعنى إدركنا الزمان مجازيا مجردا في إدراكنا حركة جسم داخله، أننا نقيس مقدار الحركة لمعرفة زمن حركة تلك الاجسام وليس مقدار حركة الزمان بدلالة حركة الجسم. الزمان ماهية وصفات تجريدية ثابتة محال ادراك الماقبل كلحظة تسبق المابعد بغير دلالة حركة شيء زمانا...عبارة ارسطو التي مررنا بها في منتهى الدقة والصواب قوله (الزمان لا يدرك كمختلف عن الحركة) بمعنى لا إدراك زمن من دون إرتباطه بدلالة حركة جسم أو شيء فيه. وإدراك الزمان لا يدرك بإختلافه عن الحركة ايضا. الزمان قياس مقدار حركة جسم داخله لكنه اي الزمن ليس بحركة.

الزمان حتى في قياسنا مقدار اللحظة فيه يكون متعذرا من غير تعالقة مع حركة الاجسام كزمان مطلق ميتافيزيقي لا يمكننا ادراكه مجردا يمّثل نفسه كوجود ندركه وحده. وعندما نحاول وصول – تحقيق المستحيل الفيزيائي – حسب رغبة ارسطو تحديد زمانية الماقبل عن لحظة زمانية المابعد مجردتين عن حركة جسم ما نكون دخلنا تقاطع تحليل الزمان عن تحليل الذاكرة حسب تعبير ارسطو، والسبب واضح لماذا؟

أولا لا يمكن تحديد لحظتين زمانيتين مجردتين عن حركة جسم يلازمهما. الزمان لا يدرك موضوعيا لا في كينونته المطلقة الكلية ولا في إفتراضنا الخاطيء أننا نستطيع تجزئة وتقسيم الزمان الى لحظات أو غير لحظات من غير دلالة حركة شيء جسم يداخله زمانيا. من حيث اللحظة هي مقدار زمني لحركة شيء وليست اللحظة تجريدا زمانيا يمكننا حدّه وإدراكه بزمن. الزمان تجريد لا يدركه العقل لأنه ليس من صنع وأبتداع إدراك العقل له كوجود ولا هو معطى أنطولوجي متعالق وجودا بالطبيعة يدرك منفصلا بغير موجوداتها. بخلاف جميع التجريدات الادراكية الاخرى التي يصدرها العقل وهو يدركها ويعيها لأنه صانعها وهي التي ندركها زمانيا كونها أصبحت تجريدا عقليا. الزمان في كل الاحوال لا يكون موضوعا مستقلا لادراك العقل. وعندما نقر بصحة إختلاف تحليل الذاكرة عن تحليل الزمان المشروطة بتحديد اللحظتين الزمانيتين (الماقبل والمابعد) اللتين من المحال تحققهما كما أوضحناه قبل أسطر قليلة، نجد حقيقة الذاكرة هي أستذكار تصوري تجريدي لوقائع وحوادث وقعت في الماضي محفوظة بالذاكرة تستطيع الذاكرة إسترجاعها الاستذكاري الناقص بتأثير عامل النسيان. وهذا التجريد يختلف تماما عن إمكانية إدراك عقل الانسان للزمان مجردا عن الحركة التي يحتويها لجسم، في معرفته لحظتي الماقبل والمابعد. الانسان ليس بمقدوره ادراك الزمان مجردا عن حركة الاجسام داخله. الزمان محال إدراكه تجريدا مفهوما أو موجودا لوحده فيزيائيا. الزمان ليس بموضوع يدركه العقل، كما الزمان دلالة حركة لكنه ليس بحركة يمكن رصدها. الحركة صفة للمادة لكنها اي الحركة ليست صفة للزمن بل صفة لحركة جسم يحتويه زمن. فيزيائية الزمن على انه حركة ملازمة لادراكنا الاشياء خطأ. بدلالة الحركة ندرك حركة الاشياء والاجسام داخل الزمن.

النفس والذاكرة

جرت محاولة فلسفية ربط الذاكرة والخيال بالنفس في تاكيد مقولة افلاطون بهذا المعنى، تلا ذلك تعبيرات فلسفية حول تعالق الذاكرة بالزمن مثل قول مونييه " كل ذكرى تصاحبها فكرة الزمن" وقول سوراجي " كل ذكرى تتضمن الزمان" وقول منسوب لارسطو " أن نكون في الزمان يعني أن يقيسنا الزمان في ذاتنا وفي وجودنا وبالنسبة للحركة، فأننا واقع كوننا في الزمان يعنى واقع أن نقاس في وجودنا" " وتعلن النفس أن هناك لحظتين السابقة من جهة واللاحقة من جهة أخرى، عندها نقول هذا هو الزمان". العبارات المقتبسة عن المصدر هامش رقم3

تعقيب: ربط الذاكرة بالخيال والنفس لا يغير من حقيقة أن مرجعية العقل تحدد كل شيء بالنسبة لهم ثلاثتهم كتعبيرات صادرة عن العقل. وربط الذاكرة بالماضي كتحقيب لازماني لا يجعل من الخيال تابعا للتعبير عن الماضي فزمان الذاكرة هو غير زمان الخيال والمخيلة. وتوضيحات اكثر نجدها في:

- الذاكرة ليست مصدر توليد تداعيات المخيّلة، والذاكرة استذكار صوري لافكار تجريدية في تعبيرها عن وقائع زمانية الماضي. وربط الذاكرة بالخيال قضية جدالية غير محسومة بين مؤيد داعيا لانفصالهما مثل بول ريكور ومن قبله برجسون، وبين داع لربطهما مثل العديد من الفلاسفة الذين يرون في أحدهما تعبيرا ضمنيا عن الاخر.فعندما نلفظ مفردة ذاكرة فالمفهوم الدارج أننا نقصد ملازمة الخيال لها وتوليدها ماهو ماض إستذكاري مخزون لديها.

- أن نكون في الزمان لا يكفي التسليم أننا أصبحنا يقيسنا الزمان في ذاتنا وفي وجودنا حسب ارسطو، هذا الافتراض يحتاج أدلة برهانية تصادقه لأننا ببساطة، لا نستطيع إدراك الزمن لوجودنا وذواتنا بدلالة طرف ثالث غير موجود يحكم ويراقب وجودنا في أحتواء الزمان لنا، الزمان يقيس الحركة بوجود جسم متحرك وطرف ثالث غير الزمان وحركة الجسم به يقيس مقدار الزمن بالحركة وليس مقدار الزمان فينا الذي لا ندركه؟ الشيء الذي لا يمكننا تصوره اننا داخل الزمن في كل لحظات وعينا لذواتنا. معنى تعبير ارسطو (ندخل الزمن) بقياس مقدار حركتنا به خطأ.

صحيح جدا من الناحية الفلسفية نردد مع ارسطو أننا نقع في قياس الزمن لنا، لكن الاهم من ذلك هذا الافتراض ندركه بدلالة ماذا ودلالة من؟ المفروض الواجب هنا كي ندرك قياس الزمن لنا ولذواتنا يتحتم وجود طرف ثالث لا هو الزمن ولا هو نحن الذي يتلبسنا الزمن داخله. حضور الطرف الثالث محال تحققه ليؤكد قياس الزمن لنا كوجود انطولوجي تسبح أجسامنا داخل الزمان الذي يحتوينا ويدركنا ولا ندركه...باستثناء إفتراض تصنيع آلة كطرف ثالث لهذا الغرض.

- من البساطة الافتراض أننا بمقدار ما نفتقد القدرة على هيمنة الزمان فهو أيضا يفتقد القدرة على التلاعب الحركي زمانيا بنا، الزمان دلالة ادراكية يتبع حركة الاشياء داخله ولا يتبع وجود الاشياء داخله. فالانسان وكافة الاشياء والموجودات لا تدرك الزمان يحيط بها إلا بدلالة (حركة) ليس للزمان علاقة باستحضارها بمقدار ما تكون الحركة خاصية الاجسام المراد قياس زمانها. بمعنى حركة الاجسام داخل الزمن لا يولدها ويخلقها الزمن خاصية داخل الاجسام المتحركة كي يدركها الزمن. فالادراك يتحدد بحركة الاجسام خاصية لها داخل الزمان وليس بحركة الزمان الملازمة للاجسام وهي لا تمثل جزءا من تلك الاجسام. فحركة الجسم هي خاصية في تكوينه، لكن قياس مقدار حركة ذلك الجسم الذي هو الزمن يكون طارئا لا يجانس الجسم ولا حركته لا بالصفات ولا بالماهية، بمباشر العبارة الزمان ليس وجودا ندركه كما ندرك وجود بقية الاجسام فيزيائيا. .

- ربط الذاكرة بالنفس يبرره بعض الفلاسفة الى أن التذكر مبعثه إنفعال نفسي، والذاكرة لا تستستطيع تذكر وقائع الماضي من غير إستثارة نفسية تحفز الذاكرة على انبعاث انطباعاتها التذكرية االمخزونة فيها. التساؤل هنا هل الذاكرة هي الخيال نفسه ولا فرق بينهما؟ بدليل الذهاب الى أن استذكار الماضي هو خاصية الذاكرة، وأفكار الخيال رغم أنها تحوي إستذكارات واقعية ماضية، الا أن الخيال يمثل تفكيرا مستحدثا أيضا لاعلاقة تربطه بالذاكرة في توجهه نحو المستقبل.

هذا يجنبنا الوقوع في محذورين الاول أن الذاكرة ليست توليدا لافكار الخيال، والثاني أن الخيال يمتلك إستقلالية تفكيرية عن خاصية الذاكرة أنها لاتستطيع التعبير عن أفكار خيالية لم تكن مطبوعة بالذاكرة مكتسبة فيها كخبرة متراكمة.

الذاكرة واللغة

من المسائل المهمة العالقة بموضوعة الذاكرة هو صورة التذكر الاسترجاعية لغويا. فالذاكرة بمقدار ما تكون إفصاحاتها التذكرية أسترجاعا مبعثه الانفعال النفسي، لما سبق وأن إنطبع عليها صوريا كخزين، إلا أن زمن الاسترجاع لاحداث الماضي ليست هي لغة التخزين الذاكراتي. غالبا ما يكون الاسترجاع التذكري هو الزمن الحاضر الذي يجعل من الاسترجاع التذكري للماضي منقوصا غير متطابق فيه لغة التصور الاستذكاري مع لغة الواقع الذي تكون عليه قراءتها كاحداث جرت في الماضي. لسببين الاول آفة النسيان التي ترافق الذاكرة، والثاني إختلاف لغة التعبير الزماني في محاولة الربط الاستذكاري بين ماض وحاضر. بمعنى الوقائع الماضية رغم تقادم الزمن عليها تبدو أكثر أصالة حقيقية منها في حالة لغة الاسترجاع التذكري الناقص لها.

بهذا نكون وصلنا الى نقطة مفصلية في توكيد حقيقة هيمنة الخيال على الذاكرة وليس العكس، حين نجد أن كل تصورات الذاكرة الاسترجاعية التذكرية أنما هي تصورات لغوية من صنع الخيال، وبغير هذه الملكة التي يمتلكها الخيال ولا تمتلكها الذاكرة، أنما يكون فيها الخيال يعيد نفسه إسترجاعيا بتوسيله الذاكرة القيام بما يحمله الخيال من دلالات تعبيرية، وعليه لا يبقى هناك ما تلعبه الذاكرة بمعزل عن وصاية الخيال عليها. لكن هذا الاستنباط في مصادرة الذاكرة لصالح الخيال تصطدم بخاصية تمتلكها الذاكرة ولا يمتلكها الخيال، فالذاكرة تتجه الى إستذكار كل ماهو واقعي تاريخي حدث في زمن ماض، في حين الخيال يمتلك ايضا ما لا تمتلكه الذاكرة من حيث هو يتجه نحو تحقيق حضور ما هو وهمي مطلوب استحضاره.، غير واقعي، يوتوبي، وأحيانا غير موجود.. وأمام هذه المعضلة التي لا يمكن حلها إلا بالتسليم في إستحالة فصل الذاكرة عن الخيال في القصدية التي تبدو لنا متناقضة لكن هي في حقيقتها متكاملة.

حقيقة الذاكرة وصدق التعبير

من خلاصة ما مر بنا وغيره كثير نجد أن عدم الثقة بكل من الذاكرة والخيال يرتبط بتقصيرهما المشترك في عدم صدقية كل منهما في التعبير عن موضوعه. فالذاكرة يشوبها النقص الملازم الاول لها في آفة (النسيان) الذي تعجز الذاكرة التعبير عنه بصدقية موثوقة يمكن الاخذ بها. الناحية الثانية من تقصير الذاكرة هو أن افكارها الاستذكارية ليست تنميطا نوعيا يشمل جميع الذين يحاولون استذكار نفس الوقائع من الماضي.

فالذاكرة هي والخيال خاصيتان انفراديتان من ناحية الفاعلية الادراكية، وهما بنفس الوقت خاصيتين متلازمتين من ناحية كونهما تجريدان إدراكيان في منظومة العقل الادراكية. يتفاوتان من شخص لآخر نتيجة عوامل ذاتية وموضوعية ترتبط بذاكرة كل شخص منفردا. فالذاكرة قد تمرض ويصيبها الوهن والضعف، وفي أوقات وشروط موضوعية تنشط، وهناك مقولة تذهب أن المسنين يملكون ذكريات أكثر من الشباب لكن عندهم ذاكرة غير نشطة تتذكرأقل ما تتذكره ذاكرة الشاب..

ما يتفق عليه الفلاسفة هو أننا لا نملك شيئا كوسيلة أفضل من الذاكرة متاحة لنا في إستذكار الماضي كوقائع، الذي يجعلنا ندرك مسبقا وجود ماض بحاجة الى إفصاح وتذكر له. ولا توجد وسيلة لكشف هذا الافصاح غير الذاكرة. لكن هل معنى هذا إكتساب الذاكرة الصفة الانفرادية الموثوقية المطلقة بها؟ وهل ما تنقله لنا الذاكرة كاف للتدليل على مصداقية مطلقة لعملية الاستذكار؟ ينقل بول ريكور عن كتاب ارسطو "مابعد الطبيعة" مقولة شهيرة لارسطو مفادها "الذاكرة من الماضي، والوجود الماضي يقال بطرق متعددة، فالوجود يقال على أوجه عدة".4

يعبّر بول ريكور عن هذا إلاحراج المتسائل قوله لا يمكننا أماطة اللثام عن حقيقة ومصداقية الاستذكارات، الا من خلال توسيط طرف ثالث يكون هيئة نقدية تعارض وتدرس وتقارن بين شهادات الذاكرة لاتاحة ما أسماه المرور الموثوق بين الذاكرة وبين التاريخ.5 .أما مسألة الطعن بمصداقية الخيال من ناحية المقارنة بينه وبين الذاكرة فنجد أن مساحة التشكيك بمصداقيته غير الموثوق بها نابعة أصلا من موضوع المعالجة التي هي من حصة الخيال في تصورات وهمية وأماني معلقة وسياحة فكرية في انتقالات اللاشعور غير المحدود لا يلتزم كما في الذاكرة شروط التفريق بين الشعور واللاشعور وبين الحقيقي والوهمي وبين الصادق والكاذب وغيرها من أمور يكون فيها خداع الخيال أصدق من التعبير عن الواقع الحقيقي للذاكرة في الكثير من الاحيان.

الذاكرة والتاريخ

يذكر بول ريكور كنت أعالج القطب القصصي للخيال في كتابي (الزمان والسرد)، حين عارضت السرد الروائي الخيالي بالسرد التاريخي، أما الآن فعلينا أن نضع أنفسنا بالنسبة للقطب الاخر قطب الهلوسة، وكما أعطى برجسون طابعا دراميا الى قضية الذاكرة عن طريق منهجه بالتقسيم والانتقال الى الطرف الاقصى، علينا أن نعطي طابعا دراميا الى موضوعاتية الخيال بأن ننظمها بالنسبة الى قطبي القصصية الخيالي والهلوسة)6

أن تواشج خاصية (الهلوسة) الوهمية رغم عقلانية الذاكرة التي تتسم بها،هي قسمة مشتركة بين الذاكرة والخيال معا. فالماضي بالنسبة للذاكرة هي نوع من الدراما المكتوبة على وفق نسق تاريخي يخترمه إنتظام الزمن. وهو ملك مشاع لاستذكار الذاكرة بنفس الوقت الذي يكون فيه ساحة ملعب لهلوسات الخيال يصول ويجول فيه....الشيء أو الفارق الذي يتوجب الاشارة له في هذا التداخل الذاكراتي مع الخيال بالنسبة للماضي كدراما تاريخية هو (الزمن)، ليس بالافتراق التقليدي أن الذاكرة هي توثيق زمن الماضي، والخيال يحسب على مداخلة تعبيره عنهما (زمني الحاضر والمستقبل) الذي يحاول تصنيعهما وتنبؤه في مستقبلهما.

الخيال حين يزاحم الذاكرة في منطقة وساحة نفوذها دراما تاريخية الماضي الذي من حقها الارجح التعبير عنه، نجد الخيال بطبيعته اللاشعورية المهلوسة الفوضوية يتناول حقائق التاريخ بعيدا عن الانتظام الزماني في ضبط تسلسل الاحداث التي يكتنفها الزمن بانضباط عالي يحكمه التاريخ كتحقيب زماني يتوزعه الماضي والحاضر والمستقبل من الناحية التاريخية المتداخلة مع انتقالات الزمن من الماضي الى الحاضر والى المستقبل. الحقيقة الزمن لا ينتقل حسب رغائبنا، بل انتقالات النفس والاستذكار لدينا تنتقل من حالة لاخرى والزمن ثابت.

ميزة الذاكرة في تعبيرها عن السرد التاريخي التوثيقي تكون أكثر صدقية من محاولة الخيال التعبير عنه، فبالخيال يتم الاسقاط الوهمي، وغير المتوقع، غير الحاصل على هذا السرد المحكوم بسلطة تنظيم الزمان لوقائعه تاريخيا بما لا تستطيع تلك الحوادث الخلاص والانفكاك من سطوة الماضي عليها.

نحن لو تحرينا الصدق والامانة في تعبير الذاكرة عن تاريخية الماضي كسردية، وتعبير الخيال عن تلك السردية رغم أن الخيال بطبيعته هو تعبير جمالي فني، لوجدنا التداخل بينهما على أشده في تعبيرهما الانتقالي عن الماضي كتاريخ سردي نوعي متمّيز روائيا في حال جرى التوظيف النقلي على وفق أطر وأنساق ومواصفات فنية جمالية نجدها تدفن ما ليس قابلا للانسجام الفني الادبي من وقائع هي من إختصاص تاريخي سردي توثيقي صرف.

الخيال يتمثل التاريخ الماضي دراما حقيقية في تعبيره الخيالي عنها إسقاطا فنيا، وهذا لا يمنح الذاكرة تفويضا مفتوحا في أنحيازها للصدق النقلي التمثلي ذاكراتيا لوقائع وأحداث يحكمها الزمن الماضي. تمنع الخيال دخوله المزارع الخاصة بالذاكرة.

كيف نميّز بين صدقية الذاكرة من صدقية الخيال في نقلهما دراما الماضي ليس كسردية تاريخية بل كدراما ممكن التلاعب بها لمقتضيات فنية مستلهمة من الماضي كتاريخ؟ كلاهما الذاكرة والخيال لا يمتلكان الصدقية التامة في التعبير النقلي لوقائع التاريخ منفردين ولا حتى متكاملين لاسباب تتعلق بأن السرد التاريخي يمتاز بصفات من الواقعية الاركيولوجية التي تجعل من الذاكرة والخيال التعبير الخالص التام عن تلك الوقائع مشكوكا به ناقصا أو مشوّها.

المخيلة تحتاج الذاكرة، والذاكرة تحتاج الخيال، لذا أذا أردنا توّخي الجمالية الفنية في نقل وقائع التاريخ دراميا، نكون بحاجة الى تمرير الاندماج المتكامل بينهما، فالذاكرة لا تنقل دراما التاريخ الماضي بإسلوب السرد الذي تحكمه الوقائع ولا تستطيع هي التحكم فيه، ويوجد فرق كبير بين السرد الروائي الخيالي عن السرد التاريخي الواقعي.

لذا نصبح أمام قبول حقيقة تفرض نفسها أن الذاكرة ليس بمقدورها نقل دراما التاريخ الماضي بنوع من السرد التوثيقي أكثر من حفريات الاركيولوجيا الذي هو من مهام عالم التاريخ والاثار والانثروبولوجيا التي تقف معها الذاكرة عاجزة عن مجاراة تمثيل منطق الحفر الاركيولوجي التاريخي. فالواقع على الارض يكون والحالة هذه يدمغ كلا من الذاكرة والخيال بالابتعاد التام عن مشغل حفريات التاريخ بما هو تدوين توثيقي صادق مصدره الاساس التنقيبات الحفرية وليس التنظير الفلسفي. كل ما يتم التعبير عنه كادراك لغوي لا ينجو من إستهداف القصدية السيئة له. التي تحاول صهر حوادث التاريخ بسبيكة تجمع الحاكم كسلطة تعلو التاريخ ورغبته تدخل على تجيير مصداقية الوقائع التاريخية له.

قصدية إدراك وقائع الماضي إستذكارا صادقا محايدا لا ينجو من السطو السلطوي الحاكم الذي يرغب جعل نقل أصالة التاريخ مطواعا لتمرير كل سوءات ومظالم حاكمية سلطة الحاضر الجائرة. يعبر بول ريكور عن هذه الازدواجية قوله "الذاكرة مهددة بشكل كلي في أستهدافها الصادق للحقيقة عن طريق سوء الاستعمال"7.

***

علي محمد اليوسف/الموصل

......................

الهوامش

1. بول ريكور/الذاكرة، التاريخ، النسيان/ ترجمة وتقديم د. جورج زيناتي/ ص52

2. نفسه نفس الصفحة

3. نفسه نفس الصفحة

4. نفسه ص 65

5. نفسه ص 74

6. نفسه ص 103

7. نفسه ص 109

 

في المثقف اليوم