أقلام فكرية

أقلام فكرية

في عصر الفراغ الأكسيولوجي واللايقين المعرفي والنسبية المعيارية واللاوضوح السياسي، مقاربة تواصلية

"ليس الأنوار الذي ينقص رؤيتنا، بل رؤيتنا هي التي تنقصها الأنوار"

مقدمة: في عصر يتسم بالفراغ الأكسيولوجي (فقدان القيم المرجعية)، واللايقين المعرفي (التشكك في مصادر المعرفة)، والنسبية المعيارية (تعدد المعايير الأخلاقية)، واللاوضوح السياسي (غياب الإجماع حول الأطر الحاكمة)، يبرز السؤال حول إمكانية استعادة الفكر التنويري كإطار فلسفي وثقافي لمواجهة هذه التحديات. يهدف هذا البحث إلى استكشاف كيفية إعادة إحياء مبادئ التنوير - العقلانية، الحرية الفردية، التقدم، والعدالة - في سياق معاصر يعاني من تفكك الروايات الكبرى وتصاعد التعددية الثقافية والتشكك المعرفي، من خلال مقاربة تواصلية تركز على الحوار والتفاعل الاجتماعي. فكيف يمكن للفكر التنويري، بمبادئه العقلانية والإنسانية، أن يواجه تحديات الفراغ الأكسيولوجي، اللايقين المعرفي، النسبية المعيارية، واللاوضوح السياسي؟ وما دور المقاربة التواصلية في إعادة صياغة هذا الفكر ليكون أداة فعالة في بناء إجماع معرفي وقيمي في مجتمعات ما بعد الحداثة؟

الفكر التنويري: المبادئ والسياق

"الحقيقة والصباح يصبحان نورًا مع مرور الوقت."

التنوير، كحركة فكرية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، أكد على العقل كأداة لفهم العالم، وروّج للحرية الفردية، المساواة، والتقدم العلمي والاجتماعي. فلاسفة مثل كانط، فولتير، وروسو دعوا إلى تحرير الفرد من سلطة التقاليد والدين غير العقلاني، وإلى بناء مجتمعات تقوم على العقد الاجتماعي والعدالة.ومع ذلك، فقد واجه الفكر التنويري انتقادات في العصر الحديث، حيث اعتبره البعض (مثل أدورنو وهوركهايمر في "جدل التنوير") أداة للهيمنة والاستعمار، متهمين إياه بالتركيز المفرط على العقل الأداتي على حساب القيم الإنسانية. في المقابل، يرى آخرون (مثل يورغن هابرماس) أن التنوير يحمل في طياته إمكانيات للحوار العقلاني والتواصلي الذي يمكن أن يعالج تحديات العصر الحديث.

التحديات المعاصرة

"من المستحيل تقدير النور بشكل صحيح دون معرفة الظلام."

الفراغ الأكسيولوجي: يشير إلى فقدان القيم المشتركة التي تجمع المجتمعات، نتيجة العولمة، التعددية الثقافية، وتفكك الأطر الأخلاقية التقليدية.

اللايقين المعرفي: يتجلى في التشكك في المعرفة العلمية، انتشار نظريات المؤامرة، والتضارب في مصادر المعلومات في عصر الإنترنت.

النسبية المعيارية: تتمثل في غياب معايير أخلاقية عالمية، حيث تتصارع القيم المحلية والعالمية دون إجماع.

اللاوضوح السياسي: يعكس الاستقطاب السياسي، تراجع الثقة في المؤسسات، وصعود الشعبوية.

المقاربة التواصلية

تستند المقاربة التواصلية، كما صاغها هابرماس في "نظرية الفعل التواصلي"، إلى فكرة أن الحوار العقلاني بين الأفراد يمكن أن يؤدي إلى إجماع حول القيم والمعايير من خلال التواصل الخالي من الهيمنة. هذه المقاربة ترى أن العقل التواصلي، على عكس العقل الأداتي، يركز على التفاهم المتبادل بدلاً من تحقيق أهداف فردية.

من هذا المنطلق يعتمد البحث على المنهج التحليلي النقدي، مع التركيز على المقاربة التواصلية كإطار لتحليل إمكانيات استعادة الفكر التنويري. سيتم تقسيم الدراسة إلى ثلاثة محاور رئيسية:

تحليل التحديات المعاصرة وتأثيرها على المجتمعات.

استعراض مبادئ الفكر التنويري وإمكانيات تكييفها مع السياق الحديث.

تطبيق المقاربة التواصلية كأداة لإعادة صياغة الفكر التنويري.

تحليل التحديات المعاصرة

الفراغ الأكسيولوجي

في عصر العولمة، تواجه المجتمعات تحدي فقدان القيم المشتركة. التعددية الثقافية، بينما تثري المجتمعات، تؤدي أحيانًا إلى صراعات قيمية. على سبيل المثال، القيم الليبرالية الغربية قد تتعارض مع القيم التقليدية في مجتمعات أخرى، مما يخلق فراغًا أكسيولوجيًا يصعب ملؤه.

اللايقين المعرفي

انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وسهولة الوصول إلى المعلومات أديا إلى تضارب الروايات المعرفية. على سبيل المثال، تنتشر نظريات المؤامرة حول قضايا مثل التغير المناخي أو اللقاحات، مما يقوض الثقة في العلم. هذا اللايقين يعيق بناء إجماع معرفي يمكن أن يوجه السياسات العامة.

النسبية المعيارية

النسبية الأخلاقية تجعل من الصعب التوصل إلى معايير مشتركة للحكم على الأفعال. على سبيل المثال، قضايا مثل حقوق الإنسان قد تُفسر بشكل مختلف عبر الثقافات، مما يعقد الحوار العالمي حول هذه القضايا.

اللاوضوح السياسي

يظهر اللاوضوح السياسي في صعود الشعبوية، تراجع الثقة في المؤسسات الديمقراطية، والاستقطاب السياسي. هذا الوضع يجعل من الصعب بناء إجماع حول القضايا الجوهرية مثل العدالة الاجتماعية أو التغير المناخي.

إعادة صياغة الفكر التنويري

العقلانية التواصلية

بدلاً من العقل الأداتي، يمكن للعقلانية التواصلية، كما يقترحها هابرماس، أن تكون أداة لإعادة إحياء الفكر التنويري. هذه العقلانية تركز على الحوار العقلاني بين الأفراد للوصول إلى تفاهم مشترك. على سبيل المثال، يمكن استخدام هذه المقاربة في مناقشات حول التغير المناخي لتجاوز الاستقطاب وتحقيق إجماع حول الحلول.

الحرية الفردية والمسؤولية الجماعية

الفكر التنويري أكد على الحرية الفردية، لكنه في السياق المعاصر يحتاج إلى إعادة صياغة لتضمين المسؤولية الجماعية. على سبيل المثال، يمكن أن يُعاد تعريف الحرية لتشمل التزام الأفراد بالمساهمة في حلول للتحديات العالمية مثل الفقر أو التغير المناخي.

التقدم كمشروع مشترك

بدلاً من رؤية التقدم كمسار خطي يقوده العلم والتكنولوجيا، يمكن إعادة تعريفه كمشروع مشترك يعتمد على الحوار بين الثقافات والمجتمعات. هذا يتطلب إشراك أصوات متنوعة في صياغة أهداف التقدم.

المقاربة التواصلية كأداة للاستعادة

المقاربة التواصلية تقدم إطارًا عمليًا لإعادة إحياء الفكر التنويري. يمكن تطبيقها من خلال:

إنشاء فضاءات حوارية: إنشاء منصات للحوار العام تشجع على التواصل الخالي من الهيمنة، مثل المنتديات العامة أو منصات التواصل الاجتماعي الموجهة نحو الحوار البناء.

تعزيز التعليم التواصلي: تطوير مناهج تعليمية تركز على التفكير النقدي والحوار العقلاني لمواجهة اللايقين المعرفي.

إعادة بناء الثقة في المؤسسات: استخدام الحوار التواصلي لبناء الثقة بين المواطنين والمؤسسات من خلال الشفافية والمشاركة.

مواجهة النسبية المعيارية: تشجيع الحوار بين الثقافات للوصول إلى قيم مشتركة دون فرض نموذج ثقافي واحد.

النتائج والتوصيات

النتائج: يمكن للفكر التنويري، بمبادئه العقلانية والإنسانية، أن يقدم إطارًا لمواجهة تحديات العصر الحديث، ولكن يتطلب إعادة صياغة ليتوافق مع التعددية والتعقيدات المعاصرة. المقاربة التواصلية توفر أداة فعالة لتحقيق هذا الهدف من خلال تعزيز الحوار والتفاهم المتبادل.

التوصيات:

تعزيز الحوار العام من خلال منصات تشجع على التفاهم المتبادل.

تطوير سياسات تعليمية تركز على التفكير النقدي والتواصل العقلاني.

دعم المبادرات التي تعزز الشفافية والمشاركة في المؤسسات السياسية.

تشجيع الحوار بين الثقافات للوصول إلى قيم مشتركة تحترم التعددية.

خاتمة

"عندما ينطفئ اللهب، يتوقف أيضًا عن الإضاءة. الحياة شعلة".

في عصر الفراغ الأكسيولوجي واللايقين المعرفي، يمكن للفكر التنويري أن يقدم إطارًا لتجاوز هذه التحديات، بشرط إعادة صياغته بما يتناسب مع السياق المعاصر. المقاربة التواصلية، بتركيزها على الحوار العقلاني والتفاهم المتبادل، تمثل أداة فعالة لإعادة إحياء مبادئ التنوير وتوجيهها نحو بناء مجتمعات أكثر عدالة وتضامنًا. إن استعادة الفكر التنويري ليست مجرد عملية فكرية، بل مشروع اجتماعي وسياسي يتطلب إشراك جميع أطراف المجتمع في حوار مفتوح وبناء.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.....................

المصادر والمراجع

هابرماس، يورغن. (1981). نظرية الفعل التواصلي.

أدورنو، تيودور، وهوركهايمر، ماكس. (1944). جدلية التنوير.

كانط، إيمانويل. (1784). ما هو التنوير؟.

فولتير. (1764). المعجم الفلسفي.

نجزم بأن النفس البشرية لم ولن تكون محايدة مع رغباتها، بالتعامل مع نفسها، فهي إن عَرفَتْ، حَّرفت تلك المعرفة بقصد ربما يكون معلن، وإن خجلت من الجانب الرمزي الذي شكلها، أسسها.. وشيدها فسوف تلعب لعبة تأجيل الرغبة لحين تفجرها بلا سيطرة على ما ينبعث من داخلها في أفعال غير محددة، أو من هفوات وزلات لسان وربما نكتة عميقة الابعاد.. لاذعة ومؤلمة تستهدف الشخص الذي حرمها من قول الحقيقة.. هل هو تفريغ لتلك الشحنات التي أعيقت من الخروج، أم تحايل على الواقع وما لا تريد قوله؟ وهو ربما تضليل عن الرغبة الحقيقية. فما يفعله الإنسان هو تعبير مقنع ليس نقي وواضح تمامًا، بل يغلفه باللف والدوران، وسريعًا ما يدخل في حوار مع الذات نفسها، لكي يصبح ذاتيًا داخليًا، فالنفس لم تعرف الموضوعية والحيادية في داخلها لأنها تنهل من الرغبات المكبوتة في عملية أصدار الحكم، من مخزن الذكريات المكبوتة، هو اللاشعور – اللاوعي، وإذا كان الأمر يتعلق بالموضوعية المطلقة، وهي الحالة المثالية للنفس فكيف يكون الأمر؟

 إن الموضوعية المطلقة لا وجود لها في نطاق المعرفة العلمية، وإنما الأمر أمر موضعة لا موضوعية يسعى الباحث العلمي إلى تحقيق أكبر قدر متاح منها تدريجيًا بصقل أساليب بحثه النوعية، بحيث تزداد الموضعة بقدر نقصان العوامل الذاتية تدريجيًا كما ذكره كلود ليفي شتراوس، ونقله " مصطفى زيور". نقول لا توجد موضوعية!! حتى في اختيارنا لرغباتنا !! ولا يوجد وضوح فيما نريد ونرغب، وخير دليل على ذلك أننا نحتمي بالأعصبة النفسية مقابل أمتناعنا عن قول الحقيقة والوصول للرغبة. والأمر أعمق حينما يذهب البعض منا إلى عالم الذهان ويغرق في عالمه الخاص حيث مسرحه الذي أسسه في عقله، وشكل أبطاله، ويتحاور معهم ويكون له مجتمع خاص به لوحده. يرفض الواقع الخارجي ويتحصن بعالمه الخاص، بعد ان هرب من أن يكون محايدًا مع رغبته النابعة من ذات ربما هربت من الدال، لأنه يمثل الذات نحو دال آخر، لا يريد البوح عنه.. هي النفس في أعمق ما لا ترغب القول عنه فتبتعد عن الحيادية بأي شكل من أشكال السلوك.. وإن منعتها في القول ذهبت إلى متاهات الحلم كمهرب ناجي من الضغط الخارجي.

إن الموضوعية المطلقة هي خرافة، إنما الأمر أمر موضعة، وقول " مصطفى زيور " أن أي علاقة بين فردين من الناس إنما هي أولًا وأخيرًا علاقة بين – ذاتية ومن ثم فإن الموضوعية الحقة هي التي تأخذ الاعتبار متغير الذاتية لذا فإن الحرية الحقة هي الفطنة إلى الحتمية النفسية، فطنة تتيح لنا معالجتها، فإن الموضوعية الحقة هي الفطنة إلى حتمية الذاتية على نحو يمكننا من أن نُقدر تأثيرها بوصفها متغيرًا طبيعيًا. أما إذا كان الأمر في داخل الإنسان نفسه، يمكننا القول ليست بين - ذاتية، وإنما بين ذاتيتين داخل النفس تضيع فيها أي الأولية لها الرغبة؟ وأي الأفضلية هي الأولى في الرغبة؟؟

وبعد كل ما تقدم وهو الأسهل لو رأينا أن النفس في صراعها مع آخر خارج عنها لم تكن موضوعية بحتة، لوجدنا أنها لم.. ولن تكون محايدة مع نفسها أولًا، أو محايدة مع رغباتها ثانيًا، لأن الأمر ينحصر بين أولويات لا تجد لها منفذ للإنطلاق، فتكون الأولوية هو صراع بين رغبات لا يعرف الإنسان من هي الرغبة الأولى، ولا نجافي الحقيقة كثيرًا.. أنه يعرف ما يريد، ولكنه يرغب من أعماق نفسه ولا يستطيع أن يصل إليها ونتفق مع " جاك لاكان" بقوله أن الرغبة لا يمكن قولها بالكامل لأن سبب الرغبة ليس كلمة، بل موضوع غير قابل للتمثيل، فإن اجبار الاعتراف بالرغبة هي ما قد يثير الفعل، على عكس العرض الذي هو ليس دعوة للتأويل. يبدو الفعل الخارجي دعوة صامتة، لم تفهم شيئًا الآن أمر طوال الوقت أمام الأدمغة الطازجة، وهذا النص كان من محاضرة لـ " محمد درويش " في محاضرة في رابطة الفضاء الفرويدي الدولي في باريس بتاريخ 15 / 4 / 2025 وكانت المحاضرة بعنوان البنية العيادية عن لاكان.

هل ينجح التحليل النفسي في اعادة تصحيح مسارات الذات؟

ان التحليل النفسي هو في المقام الاولي ليس علم تفسير، ولكنه سبيل لخلق حالة أو طرف جديد يتم من خلالة إمكانية خبرة الحياة والتفكير فيها علي نحو عبر وساطة اللغة. كما يراه "السيد البدوي فتحي"، مستندًا في ذلك على مقولة توماس اوجدن، لأنه يعد العملية التحليلية هي عملية أنطولوجية (تتعلق بالوجود)، وليست مجرد عملية إبستمولوجية (تتعلق بالمعرفة).

إنها تهتم قليلا بكشف الحقائق الخفية، وكثيرًا تهتم بمساعدة الإنسان على أن يعيش حياته ويخبرها بطرق جديدة ومختلفة، وذلك بتمكينه من التفكير والحلم ومعايشة ما كان سابقًا مستحيلًا، أو غير قابل للوصف، وعلى ذلك فإن " اوجدن " نقل التحليل النفسي من فكرة إيجاد المعنى إلى جعل المعني ممكنًا.. هذه الرؤية التي وضع أسسها " سيجموند فرويد" وطورها من بعده ممن أكملوا مسيرة التحليل النفسي برؤاهم العميقة في دراسة النفس وقول " سيجموند فرويد" ومع أننا لا نبلغ دائمًا النصر، إلا أننا نستطيع عادة أن نعرف على الأقل السبب في هزيمتنا، ومن المحتمل أن أولئك الذين لم يتتبعوا أبحاثنا إلا بدافع من الاهتمام بالناحية العلاجية هنا مقصور على علاقاتها بالمناهج السيكولوجية، ولا تهمنا حاليًا من أي وجه آخر. وقد نتعلم في المستقبل كيف نؤثر تأثيرًا مباشرًا، وربما أكتشفنا إمكانيات علاجية أخرى لم نحلم بها حتى الآن" الموجز في التحليل النفسي، ص 55"، وإن أتفق أو أختلف المشتغلين في التحليل النفسي في مختلف اتجاهاته عن فكرة العلاج بالتحليل النفسي وما يتعلق بحيادية النفس، فإن "اوجدن" سعى متبعًا وينيكوت وبايون، ليعيد صياغة معنى التفسير في التحليل النفسي. وكان يري التفسير ليس هو جوهر التحليل النفسي. إنه مفيد فقط إذا ساعد في خلق خبرات جديدة. ويضيف " السيد البدوي فتحي " ان العمل التحليلي الحقيقي يحدث عندما تخلق العلاقة التحليلية ظروفًا للمريض للتفكير والشعور والخبرة بطرق جديدة. وإن العملية التحليلية تتم من خلال وساطة اللغة - ليس اللغة كأداة ثابتة، بل اللغة كشيء يُشكل الواقع. وينقل الباحث في التحليل النفسي " عبد العزيز الشريف" عن المحللة النفسية " ماري جو بيبلز " مهما ادَعى محتالو العافية، فلا توجد تقنية سحرية لتحرير الصدمة (مهما كان معنى ذلك).. لأن العلاج الحقيقي يسير على النحو الآتي: العلاج النفسي لا يستطيع أن يمحو الذكريات المؤلمة، لكن ما يستطيع فعلُه هو تنمية قدرة الشخص على الوعي باقتحامها، ومقاومة تأثيرها المضر، وتكوين ذكريات جيدة جديدة تُوازن أثرها. ونقول هل تستطيع النفس أن لا تتحايل على ما يؤلمها؟ وهل تقبل في إعادة صياغة معنى تفسير منبع الألم، ونؤكد قول " اوجدن" يري التفسير ليس هو جوهر التحليل النفسي. إنه مفيد فقط إذا ساعد في خلق خبرات جديدة، وإن تحقق ذلك فعلا، فهل يستطيع التحليل النفسي تنمية قدرة الفرد على الوعي باقتحام ما كان يؤلمه، ومقاومة تأثيرها المؤذي؟ هي رحلة النفس في حمل الشيء ونقيضه في الآن معًا، وجود النقيضين معًا، فمن أستطاع أن يوفق بين هذين النقيضين في نفسه ربما يحدث تسوية متناغمة ولو لفترة وجيزة، ولكن يعود القبول والرفض معًا مع التحايل من جديد، بعد كل موضوع جديد والتفكير في مواجهته، وهكذا تستمر دوامة النفس في مدورتها اللامنتهية في التحيز لما لا يعجبها، وهي التي صنعت هذا الشيء الذي لا يعجبها من داخلها!! عجيبة هي النفس تخلق الموجود وتناقضه، لا تراه بعين الحياد والموضوعية، وإن استطاعت لن تكون محايدة.. ربما أبدًا.

أما في النظريات الأخرى فلها تأثير لا يقل عن تأثيرها الخفي، وإن أعلنت على سطح تحيزاتها في مواقف الحياة، ومن هذه التحيزات انحياز التأكيدي، وتحيز الإدراك المتأخر، وتحيز الحداثة، وإنحياز التوافر، وتحيز عقلية القطيع، والتحيز للوضع الراهن، فضلا عن تحيز تجنب الخسارة، وهذه الأفكار ذات الأبعاد المعرفية فهي لا تخلو في جوانبها السلبية، ونقول إن كانت بجوانبها الإيجابية لا تقل في الأهمية عن ما يدور في النفس وما يعتمل فيها من السلب والإيجاب، فالنفس هي هي، في سلبياتها وفي إيجابياتها، تختزن وتطلق ما يناسبها في الوقت المناسب، وتنفي الشيء الآخر وهو موجود في أعماقها.

***

د. اسعد الامارة

 

باروخ سبينوزا (1632-1677) هو أحد أبرز المفكرين وأكثرهم إثارة للجدل في تاريخ الفلسفة الغربية. شكلت أفكاره تحدياً جذرياً للعقائد الدينية والسياسية السائدة في عصره، ما أسفر عن طرده من الجالية اليهودية في أمستردام عام 1656، حين كان في الثالثة والعشرين من عمره. لم يكن هذا الحرمان مجرد عقوبة دينية، بل كان تحرّرًا فكريًا سمح له بتطوير فلسفته بحرية كاملة، بعيداً عن قيود اللاهوت التقليدي. تشير التحليلات إلى أن الأسباب المحتملة لهذا الطرد متعددة، منها إنكاره لخلود الروح أو الأصل الإلهي للتوراة، أو آراؤه الوحدوية التي تماهي بين الله والطبيعة. (6)

يهدف هذا المقال إلى تفكيك مفهوم "إله سبينوزا" من خلال تحليل منهجي وعميق، متجاوزاً التفسيرات السطحية التي قد تخلط بينه وبين التصورات الدينية المألوفة. يوضح هذا التحليل كيف أعاد سبينوزا تعريف الإله بوصفه "جوهرًا" وليس "كائنًا"، الأمر الذي جعله مؤسسًا للنسق الفلسفي الحديث (2). ولتحقيق هذا الفهم، تبنى سبينوزا المنهج الهندسي في تحفته الفلسفية، كتاب "الأخلاق"، وهو منهج متأثر بالمنهج الرياضي لديكارت (5). يبدأ هذا المنهج بتعريفات دقيقة وبديهيات راسخة لينتقل إلى قضايا وبراهين، الأمر الذي يعكس الروح العقلانية والعلمية التي هيمنت على الخطاب الفلسفي في تلك الفترة. إن فهم إله سبينوزا ليس مجرد غوص في فكرة مجردة، وإنما هو مفتاح لفهم منظومته الفلسفية بأكملها، بما في ذلك نظرياته في الأخلاق والسياسة والفيزياء.

الأساس الميتافيزيقي: تعريف الجوهر ووحدته

يعرّف سبينوزا الجوهر بتعريف دقيق ومحكم: "الجوهر كما أفهمه هو ما كان موجوداً ومتصوراً من خلال ذاته، أي ما كان مفهومه لا يفتقر إلى أي مفهوم آخر ينبغي أن يتشكل من خلاله." هذا التعريف يعني أن الجوهر هو كيان كامل ومستقل لا يحتاج إلى أي شيء آخر لكي يُفهم أو يوجد. إنه ليس "شيئاً معيناً" يمكن ردّه إلى نوع من الأشياء الأخرى، بل هو "الوجود ذاته"، وهو مرادف للحقيقة الأزلية التي لا يمكن تصورها مقترنة بالزمان.

من هذا التعريف، يستنتج سبينوزا أن الجوهر لا يمكن أن يكون إلا واحداً. يبرر ذلك بأنه لو وُجد أكثر من جوهر واحد، فإن كل واحد منهما سيحد من الآخر، وهذا يتناقض مع طبيعة الجوهر اللانهائية. هذا المبدأ هو جوهر "الثورة الأنطولوجية" التي أحدثها سبينوزا، إذ تجاوز به المشكلات الميتافيزيقية التي خلفها سابقوه. على سبيل المثال، افترض ديكارت وجود جوهرين منفصلين: الفكر والامتداد. وقد أدى ذلك إلى معضلة فلسفية كبيرة هي "ثنائية النفس والجسد". في المقابل، يرفض سبينوزا هذه الثنائية رفضاً قاطعاً، ويقدم فكرة الجوهر الواحد كحل جذري لهذه المعضلة، مؤسساً بذلك نموذجاً وجودياً أكثر اتساقًا ومنطقية من خلال رؤيته للوجود ككل واحد متكامل.

الجوهر وصفاته وأحواله

يعرّف سبينوزا الصفة بأنها "طريقة يعبر بها الجوهر عن نفسه". نظرياً، يمتلك الجوهر عدداً لا نهائي من الصفات، لكن الإنسان، بسبب محدوديته، لا يدرك منها سوى صفتين: الامتداد (المادة) والفكر (الوعي). إن الفكر والامتداد ليسا جوهرين منفصلين، ولا يتفاعلان سببيًا أحدهما مع الآخر، بل هما مجرد تعبيرين متوازيين عن الجوهر الواحد. هذا يعني أن لكل ظاهرة في عالم الامتداد (الجسد) ما يقابلها تماماً في عالم الفكر (النفس)، دون أن يؤثر أحدهما في الآخر بشكل مباشر. (9)

أما الأحوال فهي "تعديلات" أو "أجزاء" من الجوهر الواحد. كل ما يوجد في الكون، بما في ذلك البشر، هو مجرد أحوال لهذا الجوهر الواحد اللانهائي. ووفقاً لهذه الفلسفة، فإن العالم ليس هو الله بالمعنى الدقيق، بل هو "موجود في الله".

إله سبينوزا: الجوهر المحايث ورفض الغائية

يرفض سبينوزا التصور الديني التقليدي الذي يرى الإله "خارج العالم" ومنفصلاً عنه (الإله المتعالي). هذا الإله، الذي غالبًا ما يُصوَّر على صورة إنسان يمتلك مشاعر بشرية كالغضب والغيرة، هو في نظر سبينوزا مجرد "تصور خيالي" ناتج عن جهل البشر بطبيعة الإله الحقيقية.

بدلاً من ذلك، يقدم سبينوزا مفهوماً جديداً للإله كـ "جوهر محايث" لا يتعالى عن الكون، بل هو الكون ذاته. يختصر سبينوزا هذا المفهوم في صيغته الشهيرة: "الله أو الطبيعة". وهذا لا يعني أن الله مجرد العالم المادي، بل يعني أن الله هو "الطبيعة الطابعة" التي تنتج ذاتها باستمرار. لذلك، عندما يقول سبينوزا إن "الله هو الطبيعة الطابعة"، فإنه يؤكد أن الله ليس مجرد مجموعة الأشياء التي نراها (الطبيعة المطبوعة)، بل هو المبدأ الخلاق والقوة الأساسية ومنتج الوجود كله. إنه لا يرى الله كإله شخصي يجلس على عرش في مكان ما، بل يرى قوة عقلانية وقانونية تسيطر على الوجود كله.

كما يرفض سبينوزا فكرة "الخلق من العدم" أو حتى "الفيض" الأفلوطيني، ويرى أن الله هو "العلة الباطنة" التي توجد فيها الأشياء جميعاً. وهذا يعني أن الكون ليس نتيجة لفعل خلق متعالٍ أو قرار إرادي من الإله، بل هو نتيجة ضرورية وحتمية لطبيعة الإله ذاته، تماماً كما أن مجموع زوايا المثلث هو محصلة ضرورية لطبيعته.

إن رفض سبينوزا للغائية (أو وجود هدف خارجي للكون) كان نقطة محورية في نظامه الفلسفي. يرى أن فكرة وجود غاية معينة للإله من خلق العالم "تؤدي إلى الإيمان بالخرافة". فبما أن الكون ناتج ضروري عن طبيعة الإله، فلا وجود لهدف خارجي أو غاية. وهذا يؤسس لنظام كوني حتمي وقانوني، حيث "قوانين الطبيعة وقواعدها هي نفسها دائماً وفي كل مكان".

تداعيات فلسفية: الأخلاق والحرية والسعادة

بناءً على نسقه الفلسفي، يرفض سبينوزا فكرة الإرادة الحرة بالمعنى التقليدي. يرى أن أفعالنا محتومة بقوانين الطبيعة تمامًا كغيرها من الأشياء. أما الاعتقاد بالإرادة الحرة فهو "وهم" ناتج عن جهلنا بالأسباب الحقيقية التي تحركنا. لكن سبينوزا يميز بين هذا المفهوم الخاطئ للحرية ومفهوم آخر حقيقي. فالحرية الحقيقية ليست غياب الحتمية، بل هي "الاستقلال الداخلي". الإنسان يصبح حراً عندما "يسترشد بالعقل" ويفهم قوانين الطبيعة التي هو جزء منها (7). هذا التحول من العبودية للانفعالات إلى الحرية العقلانية هو جوهر فلسفته الأخلاقية.

والهدف الأسمى لفلسفة سبينوزا هو تحقيق السعادة. لكن هذه السعادة ليست مجرد غاية خارجية أو جزاءً من إله شخصاني، إنها "حب عقلي للإله"، وهو فهم عميق للكون وقوانينه. الفضيلة عند سبينوزا تكمن في "السعي للحفاظ على الذات"، وهو ما يصفه بـ "الأنانية العقلانية" التي تهدف إلى زيادة الفرح وتقليل الحزن. إن الفهم الكامل للكون وقوانينه يؤدي إلى أعلى درجات الفرح، وهو "الحب العقلي للإله".

التأثير على الفلسفة والعلوم الحديثة

يُعتبر سبينوزا بحق مؤسساً حقيقياً للفلسفة الحديثة. لقد تجاوز الثنائية الديكارتية التي كانت مشكلة لا حل لها، وقدم الجوهر الواحد كحل جذري يوحّد الفكر والامتداد في كيان واحد، مما فتح الباب أمام مفكرين آخرين مثل لايبنتز الذي قدم تصوراً مختلفاً تماماً للوجود عبر "المونادات". هذا الاختلاف يوضح أن فلسفة ما بعد ديكارت لم تكن مجرد امتداد، بل كانت مساحة لإيجاد بدائل أنطولوجية مختلفة تماماً.

كما أن فلسفته الطبيعية ومفهومه عن الحتمية أثرا بشكل مباشر على المنهج العلمي الحديث، إذ قامت فلسفته على أن الكون محكوم بقوانين طبيعية ثابتة (8). حتى اليوم، يُعاد تفسير مفاهيم سبينوزا في علوم مثل الأعصاب (4)، مما يدل على أن رؤيته للذات ككائن طبيعي لا تزال لها أصداء علمية عميقة.

الخلاصة: إله سبينوزا والفلسفة الوجودية

في سياق الفلسفة الحديثة وما بعدها، تبرز العلاقة بين مفهوم إله سبينوزا ونظرة الفلسفة الوجودية إلى الوجود، حيث تتشارك المدرستان في رفض التصورات التقليدية لله والتركيز على الوجود بدلاً من الجوهر المسبق.

موضوع وجود الله في الفلسفة الوجودية موضوع معقد ومتنوع. الفلاسفة الوجوديون مثل جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار غالباً ما اعتبروا أن الوجود يسبق الماهية، مما يعني أن الإنسان هو من يخلق معناه الخاص في الحياة دون الاعتماد على وجود إله. في المقابل، بعض الفلاسفة الوجوديين مثل مارتن هايدجر وفريدريك نيتشه ناقشوا مسائل الوجود والعدم بطريقة تعكس تأملاتهم حول الغياب أو وجود الله. نيتشه، على سبيل المثال، أعلن أن "الله قد مات"، مما يشير إلى غياب المعنى المطلق الذي يمكن أن يوفره الإله. بشكل عام، تركز الفلسفة الوجودية على التجربة الفردية والحرية.

يمكن القول إن كلًا من فلسفة سبينوزا والفلسفة الوجودية تتشارك في فهم الوجود ورفض التصورات التقليدية لله، مع التركيز على الحرية الفردية والتفاعل مع العقل، رغم اختلاف الطرق التي تتعامل بها كل فلسفة مع هذه المفاهيم.

***

غالب المسعودي

..........................

المراجع (مرقمة حسب الإشارة في النص)

فلسفة سبينوزا السياسية (موسوعة ستانفورد للفلسفة)-

سبينوزا وتأسيس النسق في الفلسفة الحديثة-

سبينوزا واليهودية | سبينوزا | مؤسسة هنداوي-

نظرية سبينوزا النفسية - مدخل فلسفي-

الأسس الديكارتية للمنهج الهندسي عند باروخ سبينوزا

باروخ سبينوزا: الفيلسوف الجذري الذي أعاد تعريف الإله والحرية والوجود البشري

مفهوم الحرية في إتيقا سبينوزا - مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث

مفهومَا السببية والحتمية بين ابن رشد وسبينوزا - المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

الفيلسوف سبينوزا واليهود والتوراة والشريعة اليهودية / جعفر هادي حسن - صحيفة المثقف

تشكل برأيي علاقة الفلسفة بالدين في سياقها التاريخي قضية إشكالية وخلافية معاً، أدت إلى صراعات عاشها المشتغلون على الفلسفة في تاريخ الدولة العربية الإسلاميّة. ربما تجلى هذا الصراع فكريّاً في تاريخ الخلافة العربيّة الإسلاميّة في كتابي أبي حامد الغزالي وابن رشد وهما (التهافت، وتهافت التهافت)، حيث نالت نتائج الصراع عمليّاً من اشتغل على الفلسفة في تاريخ الخلافة كالفارابي وابن سينا والكندي وابن رشد وغيرهم الكثير.

وعلى الرغم من أن الفلاسفة العرب في العصور الوسطى كانوا أكثر جرأة منا اليوم في أطروحاتهم الفلسفيّة التي تعلقت بقضايا اللاهوت، وخاصة قضايا العقيدة، مثل القديم والمحدث، والتحسين والتقبيح العقلي أو الديني، وخلق القرآن وقدمه، والبحث في صفات الله، والجنة والنار وغيرها من القضايا التي تتعلق في الخالق نفسه وعقيدته وصفاته، إلا أن الأكثريّة المسلمة ظلت محكومة في نشاطها الفكري هذا بـ (الإيمان والتسليم) أكثر من إيمانها بالعقل النقدي الشكاك والتساؤل. وربما السبب في هذا الموقف من اعتماد (الجبر) هي محاكم التفتيش التي كانت تلاحق المختلف مع رأي السلطان ورجال الدين وخاصة السلفين الموالين للسلطان والقادرين على تحريض السلطة والناس على من اشتغل على العقل من الفلاسفة المسلمين، واتهامهم بالكفر والزندقة، وهذا ما كان يجري تاريخيّاً. أو بسبب غياب الشروط العلميّة للمعرفة ونقص وسائلها المنهجيّة، مقارنة مع ما عاشه مفكرو أوربا مع قيام الثورة العلميّة والصناعيّة التي ساعدتهم على طرح قضايا تجاوزت نطاق الايمان المطلق كما جرى لـ (كبورنيك وهارفي) وغيرهم ممن آمن بضرورة التساؤل (لماذا وأين وكيف.. )  وغيرهما.

دعونا نأخذ "الفارابي" أنموذجاُ فلسفيّا من هذه النماذج الفلسفيّة العربيّة العقلانيّة النقديّة، وهو الذي عرف الفلسفة بقوله:

(هي العلم بالموجودات بما هي موجودة، لاختصاصها بالنظر في ماهيات الموجودات، من خلال تتبع مساراتها وصولاً إلى الامساك بجذورها، أو ما اعتبرها ارسطو عقلها ومبادئها الأولى). (1).

فالفلسفة عنده تقوم على الاقرار بدور العقل النقدي القادر على كشف الظواهر في الطبيعة والمجتمع، من خلال تتبع سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين، بهدف معرفة سر وجودها. فالفارابي هنا إذاً تجاوز حدود الاستسلام للمطلق بالنسبة لوجود الظواهر، أي القول بأنها تخلق من خارج الوجود الأنطولوجي المحيط بنا، ومنحها الاستقلاليّة في هذا الوجود، بناءً على وجود سنن أو قوانين داخليّة أو محيطة بها منحتها هذا الوجود، مثلما مُنح الإنسان القدرة الذاتيّة على البحث في وجودها وآليّة عملها وبالتالي تسخيرها لمصلحته.

إن الفلسفة وفق هذا المنطق في تعبيرنا المعاصر، هي قسم من الثقافة الروحيّة للبشريّة، وشكل من أشكال الوعي البشري (الاجتماعي)، حيث تكمن وظيفتها المتميزة في وضع نظريّة قادرة على خلق فهم معلل نظريّاً ومنهجيّاً لأكثر القوانين عموميّة في الطبيعة والمجتمع والتفكير الإنساني. وهي تقدم أصول الفلسفة في الممارسة الاجتماعيّة الواقعيّة، وتعكس على نحو متميز قضايا وتناقضات الممارسة الاجتماعيّة وقضايا عمليّة معرفة الواقع وتحويله، وتؤثر بالإضافة إلى ذلك على تطور المجتمع والتاريخ وعلى تطور الإنسان ذاته ومعرفته، وذلك انطلاقاً من أن الوجود بشقيه الاجتماعي والطبيعي مشروطاً بقوانين موضوعيّة يسري مفعولها في التاريخ الطبيعي والبشري بغض النظر عن إرادة الناس ورغباتهم.

إن المهمة الأساس في الفلسفة إذن، تكمن في العمل على جعل الوعي العقلاني (النقدي) على علاقة موضوعيّة بالواقع الاجتماعي عن طريق توجيه هذا الوعي/الفكر لدراسة التناقضات والسنن والميول الموضوعيّة للتطور التاريخي البشري.

أما الدين فهو مجموعة العقائد والمبادئ والأفكار والرؤى والرموز والطقوس المتعالية عن الواقع،(أي التي يقال أنها جاءت من خارج الواقع المعيش)، والتي يؤمن بها الناس ويعملون على تطبيقها فكراً وممارسة في حياتهم اليوميّة المباشرة، على اعتبارها تتضمن المقدس والثابت والمطلق الذي تكمن فيه حلول مشاكل الناس وتحقيق سعادتهم إلى يوم الدين.

أما الأسس التي يقوم عليها الدين فهي: الحس والخيال والايمان والامتثال والاستسلام لما يقره أو جاء به النص المقدس لهذا الدين أو ذلك، وما دور العقل هنا إلا وسيلة من وسائل السعي لتأكيد ما تقره هذه الأديان كما قرر "أبو حسن الأشعري". وبالتالي، فالإيمان بما تقره الأديان يظل في الحقيقة خارج نطاق العقل النقدي القائم على الشك والتجربة، وما على العقل سوى إثبات ما يقره هذا الدين وليس الحكم عليه.

إن الدين من جهة أخرى، يقوم في سياقه العام على الوحي، والايمان بما ينزله هذا الوحي على الأنبياء والرسل الذين لم يكن دورهم أكثر من تبليغ حقائق للناس وضرورة التزام بها، رغبة في ثواب يتمثل برضا صاحب الدين الذي هيأ جنة لمن يطيعه ويطيع رسله وانبياءه، أو عقاباً يتمثل في نار حامية تكوى بها جباههم ووجوههم خالدين فيها.

هكذا نرى أن الدين يقوم على الايمان المطلق، وعلى اعتبار ما هو قائم في هذا الوجود من ظواهر ليس أكثر من أدلة يجب على الإنسان أن يفكر فيها ليجد عظمة خالقها من خارج عالم الإنسان ذاته، ودون مقدمات موضوعيّة لهذا الخلق، فأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكن.. فالزمن هنا ليس له سيرورته وصيرورته التاريخيتين، بل هو آنات متفرقة في الزمان والمكان المتقطعين.

ملاك القول: إن العقل النقدي يظل حجة، له منزلته العالية وقوته التي تمارس نفوذها على سائر القوى الأخرى. هذا العقل الذي يظهر عند الفرد مثلما يظهر عند الكتل الاجتماعيّة، وإذا كان العقل الفردي عقل ظني، يظل يحمل بين ثناياه الصح والخطأ كما يقول الفقهاء، إلا أن العقل الجمعي هو الأقرب لضمان  اليقين والاقتراب من الحقائق في نسبيتها، وعلى هذا الأساس تكون الحقيقة دينيّة أو غيره دينيّة أكثر قوة وحضوراً عندما يقرها العقل النقدي الجمعي. ومن تجليات هذا العقل النقدي الجمعي تأتي الشورى.

إن العقل النقدي عقل شكاك، يؤمن بالحركة والتطور والتبدل، ويؤمن بالضرورة ممثلة بالقوانين التي تتحكم بسير حركة الوجود برمته، يرفض الإطلاق ويؤمن بالنسبية، أما الزمان والمكان عنده فهما تاريخيان، أي لهما وجودهما وتسلسلهما التاريخي، والحقية الممثلة بهذه الظواهر تقوم على معرفة ناقصة. مثلما يؤمن بالحريّة  على اعتبار الإنسان سيد مصيره، حيث يستطيع بما يملك من قدرات عقليّة وجوارح ناشطة في هذا الكون، من أعادة بناء نفسه وما يحيط به وفقاً لإرادته.. فهو في المحصلة خليفة الله على هذه الأرض إذا ما نظرنا إليه من منطلق أن الدين ليس كله خطأ، ففيه الكثير من الجوانب العقلانيّة وخاصة في مقاصده على اعتباره جزءاً من التراث البشري الذي تعامل مع الإنسان وقضاياه، وعلى اعتبار أن العقل النقدي لا ينكر وجود عوالم في هذا الكون لم تُكتشف كينونتها بعد، فالمعرفة تسير دائماً نحو الأمام وفي كل يوم يكتشف الجديد الذي يقبله العقل، في الوقت الذي يتخلى فيه كل يوم هذا العقل عن الكثير من القضايا القائمة معرفتها على الذاتية والحدسية والتخيل والظن.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية

..............................

(1) موقع الأوان من أجل ثقافة علمية عقلانية – الفلسفة والنبوة عند الفارابي – غريد العليبي).

وصف الفيلسوف اليوناني سقراط نفسه بذبابة حصان مزعجة. هو كان الذبابة والأثنيين كانوا الحصان. مهمة سقراط كانت نقد المواطنين الأثنيين وتحريضهم على الفعل. هو قام بهذا من خلال توجيه الكثير من الأسئلة. هذا الاستجواب النقدي عُرف بالطريقة السقراطية واصبح الاساس في الفلسفة. في هذا المقال سوف ننظر في السياق الذي كان يعمل به سقراط، نتعرف على ماهية الطريقة السقراطية ثم ننتقل الى تطبيقاتها في الفلسفة والتعليم.

أثينا والثلاثون طاغية

في ثماني أشهر دموية بين عامي 403 و 404 ق.م كانت اثينا قد خضعت لحكم مجموعة من الرجال الطغاة عُرفوا بـ "الثلاثين طاغية". الاسبارطيون الذين انتصروا في الحرب البيلويونيسية نصّبوا هؤلاء الطغاة كحكام اوليغارشيين لأثينا. محاولات الطغاة لفرض السيطرة وسحق الديمقراطية الاثنية قادت الى تمرد وإعادة ارساء للديمقراطية. سقراط كان جنديا في تلك الحرب، وكانت له مواجهات غير سارة مع اولئك الطغاة، وكان نشطا في تحدّي الناس في اثينا في الفترة التي تلت. هذا التحدي من جانب سقراط وصل الى درجة دفعت حكام اثينا الديمقراطيين لإتهامه بعصيان الآلهه وافساد الشباب حيث حُكم عليه بالموت عام 399ق.م.

يروي افلاطون محاكمة سقراط في (الابولوجي). هنا يطرح سقراط رسالته في الحياة. هو اراد ان يبيّن لمواطني اثينا ان الحكمة والحقيقة وتحسين الروح هو اكبر قيمة من النقود او السمعة. سقراط رأى نفسه كمعلّم ولديه طريقة للتدريس:

"انا استجوبه واختبره واذا اعتقدت انه ليس لديه فضيلة، وليس لديه ما يدّعي، انا انتقده بتقليل أهمية الاكبر وتعظيم قيمة الأقل".

هذا يمكن تلخيصه بطرح اسئلة عن عقائد الناس وتوقّع وجود اسباب جيدة. سقراط سعى الى الحكمة، لذا هو اعتقد ان الناس يجب ان يكونوا قادرين على اعطاء اسباب جيدة حول صحة ما اعتقدوا به. الفيلسوف مارثا نسباوم Mrtha Nussbaum جادل بان سقراط في هذه الطريقة، كان يدافع عن الديمقراطية. اذا اراد المواطنون العمل في الديمقراطية يجب عليهم التفكير بانفسهم، ولديهم اسباب لعقيدتهم، ويكونون قادرين للتعبير عنها للناس الاخرين. الديمقراطية تتطلب منك ان لا تقبل ما قيل لك كحقيقة او حكمة او صحيح. انت تقرر لنفسك.

الحياة غير المُختبرة (غير المدروسة)

من أشهر عبارات سقراط كانت "الحياة غير المختبرة لا تستحق العيش"، والتي وردت ايضا في "ابولوجي" افلاطون. هذا يجسّد جوهر ما كان سقراط يفعله في فلسفته. في دفاعه، يوضح سقراط انه في بحثه عن الحكمة، هو تجوّل حول اثينا متحدثا الى مختلف الناس. هو قام بهذا في محاولة لإبطال الادّعاء الصادر من معبد الالهه بان لا وجود لشخص اكثر حكمة من سقراط. هو تحدث مع سياسيين ثم مع شعراء واخيرا مع حرفيين. في كل حالة، هو يفشل في العثور على شخص ما اختبر حياته وتمكّن بشكل كاف تبريرعقيدته. سقراط ادرك انه بينما يعتقد الناس انهم حكماء، لكنهم حقا ليسو كذلك، هو ذاته كان حكيما فقط لأنه عرف جهله.

سقراط لم يكن مهتما في التأمل حول العالم المادي كما فعل فلاسفة ما قبل سقراط. هو كان مهتما في كيف يجب ان يعيش الناس. حياته كانت سعيا مستمرا للحقيقة والحكمة. هذا التركيز على اختبار الحياة يعني ان سقراط اراد ان يتعلم حول الفضيلة او "arête". اريتا لها عدة معاني: اقرب الترجمات هي "التميّز". في مناقشته للفضيلة، اراد سقراط ان يعرف ما المقصود بالشخص الممتاز. هو اختبر فضيلة الشجاعة والعدالة والاعتدال والتقوى – وهي صفات الشخصية المهمة في الحياة اليومية. برر سقراط ذلك في انك اذا لم تعرف ماهي الفضيلة وماذا تعني، فمن غير الممكن ان تعيش حياة فاضلة.

الطريقة السقراطية

الطريقة التي استخدمها سقراط لفهم الفضيلة واختبار الحياة كانت عبارة عن طرح اسئلة. هو اراد تحدي الناس ليفكروا بأنفسهم ولا يقبلوا الدوغمائية. اختبار الحياة يتطلب الاستبطان او التأمل الذاتي، والتفكير وما نسميه اليوم بالتفكير الخلاق. استعمل سقراط الاسئلة ليوجّه الناس ليقوموا بذلك كما تحفز الذبابة الحصان. اسئلة سقراط اتبعت شكلا نموذجيا، والطريقة التي عرضها طلابه افلاطون وزينون رسمت المحادثات على شكل حوار يجعل من السهل انطلاق التفكير. الحركة الفكرية المتكررة باتجاهين متضادين بين سقراط ومحاوره في الحوار تفسر لماذا اصبحت هذه الطريقة تسمى بالديالكتيكية.

معظم الحوارات تركز على موضوع محدد، وسقراط يقترح الموضوع عبر طلب تعريف "ما هو x"؟ حيث x عادة هي الفضيلة. محاوره يقترح تعريفا. بعد ذلك يتقدم سقراط بطرح اسئلة، باحثا عن خاصية واحدة مشتركة بين جميع الامثلة لتلك الفضيلة. الطريقة السقراطية تعمل كثيرا في التفنيد. سقراط يبيّن ان تعريف المحاور له للفضيلة غير منسجم مع العقائد الاخرى. وعبر طرح سلسلة من الاسئلة، هو يُظهر تناقضات، يجد فجوات في المعرفة او الاستدلال، ويستبدل ثقة المعرفة بوعي الجهل.

تجنّب الدوغمائية

في حوارات سقراط الافلاطونية، لا يتم الوصول دائما لجواب محدد لسؤال سقراط الأصلي. هذا ربما يبدو محاولة لتجنب موقف صعب، لكنه كان منسجما مع الكيفية التي عمل بها سقراط. هو ادّعى انه لا يعرف، بدلا من ذلك هو لديه المهارة لمساعدة الناس الاخرين في استجواب عقائدهم والوصول الى رؤية صحيحة.

معرفة ان عقائدنا غير صحيحة او غير منسجمة هي اول خطوة في المسار نحو فهم أعمق. كما في حالة الوعي بمحدودية فهمنا. سقراط رفض تعليم الناس مباشرة كما فعل السوفسطائيون او اعطائهم اجوبة، لأنه عرف ان تفكير المرء هو اكثر أهمية. هذه نقطة هامة جدا،وسبب رئيسي للاهمية المستمرة لطريقة سقراط والتي لاتزال ملائمة في التعليم والفلسفة الى يومنا هذا.

الدوغمائية تتطلب قبول افكار مهيمنة وتلقّي معرفة من شخصيات سلطوية. انها سلبية وتتطلب فقط التذكّر. بالمقابل، طريقة سقراط تمكّن الشخص من اكتشاف المعرفة والحكمة من خلال تفكيره الخاص. انها نشطة،عملية خلاقة وهي الطريقة الوحيدة لتحرير الذهن من العقيدة الدوغمائية. الناس نادرا ما يغيرون آرائهم من خلال المواجهة المباشرة حين يقال لهم انهم مخطئون. لكن عندما تتحفز افكارهم بتحدي الاجابة على الاسئلة، هم يمكنهم تحرير انفسهم من افكارهم الخاطئة. هذا يجعل الطريقة السقراطية مؤثرة جدا.

حدود الطريقة السقراطية

أشار ارسطو الى ان طريقة سقراط هي شكل من الاستدلال الاستقرائي. سقراط حاول العمل من خلال حالات معينة للفضيلة ليصل الى استنتاج عام حول تلك الفضيلة. سقراط لم يعتقد ان الفضائل نسبية. هو اعتقد انها مطلقة، تنطبق على كل شخص، وعندما يعرف الناس الصحيح من الخطأ حينئذ يمكنهم تعلّم العيش في امتياز. ارسطو طور استدلالا استنتاجيا يتجاوز الميدان الاخلاقي، ولاحقا استخدمه فرنسيس باكون كأساس للطريقة العلمية. مقابل الاستدلال الاستنتاجي، الاستدلال الاستقرائي لا يمكن ابدا ان يعطي اجوبة محددة.هناك حدود اخرى للطريقة السقراطية. اذا كانت طريقة سقراط تقودنا فقط الى تعريفات لغوية، من الصعب رؤية كيف يمكنها ان تعطي نوعا من المعرفة الاخلاقية التي امل سقراط في الحصول عليها. بدلا من ذلك، نحن نريد ان تكون معرفتنا الاخلاقية اساسا للتصرف في كيفية العيش. الطريقة السقراطية جيدة للتقييم النقدي والتوضيح للعقائد القائمة والافتراضات. انها ليست جيدة لكشف تام لمعرفة جديدة خاصة من النوع التجريبي. هذا يجعلها افضل للتفكير الاخلاقي والتفكير النقدي بدلا من عمل العلم.

تنمية مواطنين صالحين

كما ذكرنا انفا، يمكن النظر الى سقراط كمدافع عن الديمقراطية. وبينما هو لم يصبح سياسيا بشكل رسمي، لكنه فعلا حاول التأثير على سياسة اثينا. في اثينا، تقريبا كل الوظائف الحكومية بما في ذلك القادة العسكريين كانت تتقرر من خلال التصويت. طبقا لـ زينوفون Xenophon ، في احد الحوارات يتحدث سقراط مع شاب يريد ان يُنتخب كقائد عسكري. في اسلوبه المعتاد، سقراط يعلن ان الرجل ليس لديه المعرفة المطلوبة للتنفيذ الفعال للمهنة التي يتقدم اليها. هذا الحوار يبيّن ان سقراط شخصية مختلفة واكثر عملية. بدلا من الاهتمام فقط بالفضيلة الاخلاقية، هو اعتقد ان الناس يجب ان تكون لديهم مهارات ملائمة ومعرفة وخبرة لآداء وظائف الحكومة. الديمقراطية كانت اكثر من مباراة شعبوية.

هناك ارتباط قوي بين الطريقة السقراطية والتعليم، وهو ما كان واضحا حتى في ايام سقراط. في محاكمته، اشتكى سقراط ان مسرحية (الغيوم) لارستيفان وصفت سقراط وطريقته بشكل غير منصف. في جوهر نقد اريستيفان كان التصادم بين التعليم "التقليدي" و "التقدمي". في التعليم التقليدي، الطالب يُتوقع منه تذكّر وتعلّم واتّباع الطريقة التقليدية في عمل الاشياء، وبهذا يضمن الاستقرار. لكن التعليم "التقدمي" تجسّد في طريقة سقراط في الاسئلة. كان يعني التفكير بنفسك وان لا تقبل عقيدة بسبب كونها "تقليدية". هذه الاسئلة للسلطات القائمة اعتُبرت تخريبية في اثينا القديمة. لكن سقراط اعتقد انها ضرورية لديمقراطية صحية.

أحسن طريقة لتعيش حياة جيدة

التعليم الليبرالي يسمى ليبراليا لأنه يركز على تحرير العقل. ميراث الطريقة السقراطية هو تطبيق التفكير النقدي ومسائلة قضايا الحياة اليومية. في هذه الطريقة، يمكن للتعليم ان يعطي الطلاب المهارات والمعرفة بما يكفي للمشاركة في المجتمع وانجاز دورهم كمواطنين احرار وديمقراطيين. نحن لا يمكننا ان نتوقع تحقيق تقدم ايجابي بدون مسائلة الافتراضات التي تُبنى عليها عقائدنا، والعثور على التناقضات، واكتشاف الفجوات في معرفتنا. هذا يتطلب كل من التواضع والرغبة في التعلم. يمكن القول ان طريقة سقراط تبقى احسن طريقة في السعي المستمر لعيش حياة جيدة.

***

حاتم حميد محسن

 

للدين أثر عظيم في حماية اللغة من الاضمحلال والانقراض وضمان استمرارية حياتها، لأنه يربط النصوص والطقوس بلسانها الأصلي، فيتحول الكتاب المؤسس للديانة إلى خزّان لغوي يحرس المفردات والتراكيب والأساليب، وتتحول الطقوس إلى طاقة متجددة تبعث اللغة في الذاكرة الجمعية وتبقيها حيّة. في المقابل تحمي اللغة الدين، إذ تغدو الوعاء الذي يحفظ نصوصه وطقوسه من التبدد ويمنحها القدرة على الاستمرار في التاريخ. في سياق التفاعل الخلاق بين اللغة والدين والثقافة تتكون الهوية وتترسخ، إذ لا تكون اللغة مجرد وسيلة للتخاطب، بل تتحول إلى نسق رمزي يؤمن استمرارية الذاكرة ويعيد إنتاج روابط الانتماء. ويؤدي الدين، بما يحمله من طقوس وأسماء وشعائر، دورًا شبيهًا بما رصده علم الأنثروبولوجيا في المجتمعات الأولى من أثر للأسطورة، بتحويل الوقائع إلى بنية من التضادات، يتميز فيها الداخل من الخارج، والمقدس من المدنس، ويصاغ التاريخ بوصفه سردية كونية تعطي معنى للوجود الفردي والجمعي معًا، فتتحقق الهوية في هذا الفضاء من التمايزات، التي تعمل على تغذيتها.

اللغة والديانة تتناوبان على حفظ بعضهما؛ فالعبرية ظلت حيّة بفضل نصوص التوراة والتلمود وصلوات اليهود وطقوسهم، إذ شكلت تلك النصوص جسرًا بين الماضي والحاضر، حتى استعادت العبرية حضورها الحديث بوصفها لغة يومية وهوية قومية بعد قرون من الانقطاع، حين تم اغتصاب فلسطين 1948. السريانية ما زالت حاضرة في طقوس الكنائس الشرقية كلغة للقداس، فحافظت الكنيسة على استمرارها وحافظت اللغة على هويتها الروحية. أما العربية فارتبطت بالقرآن الكريم ارتباطًا وثيقًا، جعل النص القرآني مرجعًا لغويًا أعلى، يحمي اللغة من التآكل ويمنحها قداسة وقدرة على الاستمرار، مادام القرآن حاضرًا في حياة المسلم. اللاتينية اقترنت بالقداس الكاثوليكي قرونًا طويلة، وظلت لغة الطقوس واللاهوت؛ حتى مع فقدان أكثر الكاثوليك القدرة على فهمها، إلى أن ولد الإصلاح المسيحي ففتح الباب أمام اللغات الحيّة لتتبوأ مكانها في الكنيسة. في المندائية حفظت الآرامية المندائية بفضل كتابهم المقدس "كنزا ربا" وطقوس التعميد والترانيم، فظلت اللغة والديانة تتبادلان حماية استمرار حياتهما، على الرغم من قلة الأتباع وتشتتهم. الزرادشتية صانت لغة "الأڤستا" القديمة، فجعلتها باقية في "الغاثات" (Gathas)1  الطقسية، على الرغم من انقراضها من الحياة اليومية. الهندوسية أبقت السنسكريتية حيّة في نصوص "الڤيدا" وممارسات الطقوس، فتحولت اللغة إلى وعاء دائم للفكر الديني والفلسفي. البوذية حفظت لغة البالي في "تيبيتاكا" (Tipiṭaka)2 ، وتراث جنوب شرق آسيا، في لغة الرهبان والتعاليم الحية. الكونفوشيوسية بدورها أبقت الصينية القديمة حاضرة عبر الكلاسيكيات الأخلاقية التي شكلت مرجعًا معرفيًا وذاكرة جمعية للأمة. والطاوية حفظت لغة الحكمة في "تاو تي تشينغ" (Tao Te Ching / Dao De Jing)3، فجعلت من النص الطقسي والفلسفي سبيلًا لاستمرارها. أما السيخية فحفظت اللغة الپنجابية عبر نصوص "الغورو غرانث صاحب" (Guru Granth Sahib)4، التي منحتها قداسةً ومكانةً في الهوية الدينية والثقافية لجماعتها. هكذا يتضح أن الأديان الكبرى لم تكن فقط أنظمة اعتقاد، بل قوى حافظة للغات، وأن اللغات بدورها لم تكن أدوات للتواصل فحسب، بل أوعية للقداسة والذاكرة، وبفضل هذا التضامن بين الدين واللغة استطاع كل منهما أن يضمن للآخر البقاء والتواصل عبر التاريخ والجغرافيا.

كتاب الديانة المؤسس والطقس لم يكونا يومًا حارسين للديانة فحسب، بل كانا أيضًا حارسين للسان، وذاكرة الأمة، وهويتها، وثقافتها. وأن اللغة لم تكن مجرد وسيلة للتعبير بل ركنًا وجوديًا في بقاء الديانات والذاكرات الجمعية والهويات والثقافات والحضارات، فحيثما كان الكتاب المقدس متداولًا بلسانه الأصلي ظل اللسان حيًا متجددًا، وحيثما استمرت الطقوس بلغتها الأصلية مكثت الهوية متماسكة، إذ تتغذى اللغة من الدين والثقافة كما يتغذى الدين من اللغة والثقافة. وتنهض الهوية من تآزر الكل معًا، فتغدو اللغة وعاءً للمعنى الروحي والعاطفي، يغذي الوعي والذاكرة، ويغدو الدين قوة تصون اللغة من الانقراض، وتمنحها طاقة تتجدد في النصوص والطقوس، وتصير الثقافة مرآة للدين واللغة، والدين واللغة مرآة للثقافة. من هذا التفاعل الثلاثي الخلاق تنبثق الهوية وتستمد حضورها، فتتجدد إمكاناتها في الواقع، وتستعيد قدرتها على الاستمرار في عالم متغير، إذ لا تبقى أسيرة الماضي وحده ولا منقطعة عن جذورها، بل تنفتح على الحاضر وتتطلع للمستقبل، وهي مشدودة إلى لسانها وكتابها المؤسس وطقوسها، التي تروي عطش الروح وتغذي وعي الجماعة بذاتها.

 كما تكون اللغة مرآة للدين والهوية والثقافة، فإن الدين والهوية والثقافة مرآة للغة. إذا تحجرت اللغة تعطلت قدرتها على التعبير عن أسئلة الإنسان، فيخبو المعنى الذي ينشده الإنسان في الدين خلف خطاب لا ينتمي لواقع الإنسان ومتطلباته الروحية والأخلاقية والجمالية الراهنة، وتنغلق الهوية على ماضٍ غريب عن حاضر الإنسان، وتفقد الثقافة طاقتها الخلاقة. أما حين تتحرر اللغة وتواكب متغيرات الحياة ومستجداتها، فإنها تبقي الدين حيًا قادرًا على الإلهام، وتمنح الهوية مرونة للانفتاح على المستقبل، وتنفتح الثقافة على فضاءات الابتكار والإبداع، لتغدو جميعها قوى متجددة تمنح للإنسان معنى وجوده في العالم.

العلاقة بين الدين واللغة لا تقف عند حدود حفظ النصوص والطقوس، بل تمتد لتشكل الأساس العميق للهويات الدينية والثقافية للأمم، إذ تتحول اللغة حين تتشرب دلالات النصوص الدينية إلى علامة فارقة يتميز بها أتباع الدين عن غيرهم، وتغدو خيطًا ناظمًا يوحدهم عبر الأزمنة والأمكنة، ويحمي ذاكرتهم، ويغذي شعورهم بالانتماء لهوية وثقافة واحدة. في سياق هذه الرؤية صارت العبرية وعاءً لهوية اليهود في الشتات، والسريانية ركنًا من أركان هوية الجماعات المسيحية المشرقية، والعربية هي اللسان الذي جمع شعوبًا شتى في فضاء واحد، ورسخ صلتهم بكتابهم المؤسس وعباداتهم وشعائرهم، وشعورهم بوحدة الرسالة والمصير. بهذا الفهم تتجاوز اللغة كونها أداة للتواصل، لتغدو منبعًا للذاكرة، ومسرحًا للخيال الديني، وأفقًا يتجلى فيه الانتماء الروحي والهوياتي والثقافي، الذي يحفظ ذاكرة الأمة ويربط حاضرها بماضيها، ويفتح أمامها سبل الاستمرار في عالم بالغ التنوع.

غير أن هذه الحماية ما فتئت تنقلب عبئًا على اللغة، إذ تتمدد قدسية كتاب الديانة إلى اللغة التي دُوّن بها، فتنحبس في قوالب القداسة، وتستعمل مؤسسات الأديان سلطة التحريم لحمايتها من أي محاولة لتيسير أساليب النطق بها أو تحديث معجمها، فتفقد قدرتها على التعبير عن أسئلة الحاضر ومتطلبات الواقع اللغوي الراهن للناطقين بها. هكذا تتسع الفجوة بين اللغة التي يقدسها التراث واللغة التي يحتاجها الإنسان في حياته اليومية. في ظل هذا التباعد، ينشأ صراع داخلي لدى الناطقين بها، بين ولاءٍ للموروث ورغبةٍ في الانخراط في الواقع الذي يعيشونه. وإذا لم تجد هذه اللغة طريقًا إلى المصالحة بين قدسيتها التاريخية ووظيفتها الحيّة، فإنها تظل محكومة بالانحسار التدريجي، تاركة فراغًا تملؤه لغات أخرى أكثر مرونة وقدرة على التكيّف مع التحولات العلمية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.

أما كيف تتقدس لغة الكتاب المؤسس؟ فإن كل شيء قابل للتقديس، وكل ما يتقدس يمكن أن يتفشى تقديسه وعبادته، فينتشر كالفيروس؛ إنسانًا كان أو حيوانًا أو جمادًا، حتى اللغة والأسماء والكتابة يمكن أن تتقدس. اللغة كائن حي، يتخلق من وعي الإنسان وتجربته التاريخية والمعيشية، ويعكس أنماط معيشته وصلاته السياسية والاجتماعية والثقافية، ويتجسد في آدابه وفنونه. حين ترحل اللغة إلى حقل المقدس تحتجب، فتعاند المراجعة والنقد والتجديد، وتتحول أي محاولة لتسير قواعدها والنطق بها وتجديث معجمها إلى مغامرة عقيمة. تقديس اللغة يزجها في حقل التحريم، فيغلق عليها منافذ الانفتاح، ويشل قدرتها على استيعاب تحولات الواقع، ويمنعها من التفاعل مع مكتشفات العلم وتكنولوجيات العصر.

عندما يصنع الإنسان مخترعاته، يبتكر معها أسماءها التي تتجسد فيها رؤيته العلمية الجديدة للعالم، وهي تختلف كليًا عن الرؤية غير العلمية التي أنجبت اللغة في فضائها التراثي. لذلك تتعذر محاكاة هذه الأسماء أو نقلها إلى لغة أخرى من دون خسارة في معناها، لأنها وليدة أفق معرفي جديد، وتجسيد لتحول عميق في الوعي، ورؤية للعالم لا تلتقي مع أفق اللغة المنقولة إليها التسميات. في هذا المأزق يفقد الإنسان لغته بوصفها أفقًا رحبًا لرؤيته للعالم، فتغدو عبئًا يقيده، بدلًا من أن تكون سبيله إلى بناء ثقافته وهويته. مع انغلاق اللغة في قوالب التحريم، تتحول من وعاء للمعنى إلى جدار يحجب عن الإنسان آفاق الإبداع، ويعطل قابليتها على مواكبة تحولات الواقع، ويمنعها من تجديد ذاتها في فضاء إنساني متنوع.

 اللغة خارج سطوة التقديس وسلطة التحريم هي وحدها التي تستجيب لتحولات الواقع، وتظل قادرة على أن تكون جسرًا بين النص الديني والإنسان، ورافدًا لتجديد الهوية الدينية والثقافية وإثرائهما. الهويات التي تتغذى من لغة حيّة تظل مرنة قادرة على التكيّف والتعايش، في حين تلبث الهويات التي تحاصرها القداسة ويستبد بها التحريم متصلبة، تنغلق على ماضيها، وتتحول إلى عائق أمام حركة تيسير قواعدها وأساليب النطق فيها وتوليد معجمها. الهوية ليست جوهرًا متحجرًا يكرر ذاته كما هو، بل صيرورة علائقية تتشكل في تفاعل حواري مع لغة الآخر المختلف وثقافته ورؤيته للعالم، ويعاد تكوينها في فضاء التعدد. إذا انفتحت اللغة على التأويل تشكلت في سياقها هوية وثقافة حيّة واثقة من ذاتها، قادرة على العيش مع المختلف من دون خوف من الذوبان، أما إذا انغلقت فتتحول إلى سجن يكبلها ويستهلك طاقتها في صراع لا ينتهي. لذلك تصبح اللغة الحيّة شرطًا لازمًا لدوام الهوية وانفتاحها واستمرارها، فيما اللغة الجامدة تسوقها إلى الانكماش والتآكل.

أنتج الفكر الغربي رؤى عميقة كشف فيها عن الصلة بين اللغة والهوية والثقافة؛ فقد رأى هردر "1744-1803" أن اللغة روح الأمة ولسانها الذي يمنحها خصوصيتها، في حين أكد هومبولت "1767-1835" أن اللغة لا تصف العالم بل تصنع رؤيتنا له، ثم ارتقى هايدغر "1889-1976" بالمسألة إلى مقام أنطولوجي، حين عد اللغة بيت الوجود الذي يحدد إمكان الوجود الإنساني، وجاء تايلور "1931-" ليبين أن الهوية لا تتشكل إلا في فضاء حواري تمنحه اللغة معناه، وكشف ريكور "1913-2005" عن أن الهوية سردية تتجدد بالقصص التي تروى بلغة تحتضن تعقيد التجربة الإنسانية، وأوضح أمارتيا سن "1933-" أن الهوية متعددة الأبعاد لا تفهم إلا بلغة حيّة تعترف بالاختلاف وتتيح التعايش.

يتضح أن اللغة شرط وجودي للهوية، فإذا تجمدت في قوالب مغلقة تحولت الهوية إلى سجن يستهلك طاقتها في مقاومة موهومة، وإذا انفتحت على التجديد غدت هوية رحبة واثقة من ذاتها، قادرة على العبور إلى المستقبل، في فضاء التنوع اللغوي والديني والهوياتي والثقافي. في ضوء هذه الرؤى يتضح أن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل إطار أنطولوجي يحدد إمكان الوجود الإنساني، ويمنح الهوية القدرة على الانفتاح والتجدد، أو يحاصرها بالجمود والانغلاق، إذا تحولت إلى قيد على الخيال والحوار. وهو ما يجعل واقعنا العربي اليوم في أمس الحاجة إلى وعي لغوي يستلهم هذه الرؤى، ليوازن بين حفظ أصالة اللغة والانفتاح على العصر. المستقبل لا يصان إلا بلغة حيّة قادرة على التفاعل والإبداع، تحمي الهوية من الذوبان كما تحميها من الانغلاق، وتبقيها أفقًا رحبًا يتسع للتعدد والتعايش، ويمنح الإنسان معنى حضوره في عالم متغير.

اللغة لا تحرس الهوية وحدها، بل تحفظ التجربة الروحية من أن تذوب في صخب العالم أو تنطفئ في قوالب الطقس الجامد. إذا انغلقت اللغة وغدت أسيرة الماضي تحولت إلى ظل باهت لا يوقظ ولا يلهم، أما إذا كانت منفتحة، لا تتنكر لتيسير أساليب التحدث والكتابة بها، فإنها تجعل الهوية في صيرورة دائمة، توقظ الوعي، وتعيد وصل الإنسان بالمعنى. هنا يغدو تجديد الهوية الثقافية والدينية رهينًا بتجديد اللغة، كي تظل قادرة على مخاطبة الروح والقلب والعقل معًا، وعلى تذوق صور الحضور الإلهي في الوجود، بنحو يخفض من مواجع الإنسان وآلامه، في غمرة حياة صاخبة قلقة اليوم. بذلك يتحول الدين من جدار يحرس الماضي إلى أفق ينفتح على المستقبل، وتتحول اللغة من كيان صامت إلى كائن حي يتدفق في مجرى التاريخ. هكذا يصبح التجديد اللغوي شرطًا لتجديد فهم الدين، ويغدو تجديد فهم الدين بدوره شرطًا لتجديد هوية الإنسان، إذ لا يمكن للدين أن يستعيد معناه الروحاني والأخلاقي العميق من دون لغة قادرة على إحياء التجربة الروحية وتجديد صلة الإنسان بالله، ولا يمكن للهوية أن تبقى منفتحة، في عالم يتغير فيه كل شيء، من دون دين يتكلم بلغة تشبع حاجات الأرواح والقلوب والعقول معًا للعيش سويًا في فضاء التنوع والاختلاف، ولا يمكن للثقافة أن تتفاعل مع الثقافات العالمية الحيّة في عالم متعدد، لا يتحقق فيه العيش المشترك إلا بقدر ما تتسع اللغة للحوار وتحتضن الاختلاف. اللغة التي تتحسس مواجع الإنسان العاطفية وحاجته لمعنى وجوده وحياته ضرورة قصوى، لأنها تفتح القلوب والعقول على التنوع، وتمنح الوجود البشري أفقًا يتسع للجميع، وتعيد للدين وظيفته الكبرى في إلهام المعنى، وللهوية دورها في بناء فضاء أخلاقي لإنسان أكثر رحمة وتسامحًا وإبداعًا، وتجعل الثقافة تتفاعل بلا خوف مع الثقافات العالمية.

العلاقة بين اللغة والدين والهوية لا تنحصر في بعدها الثقافي والاجتماعي والسياسي، بل تمتد إلى بعد روحي وجمالي يجعل اللغة وعاءً يحمي الهوية، ويعكس تجربة الإنسان مع الله في آن واحد. اللغة الحيّة تجعل الهوية في حالة مرنة، تمنحها القدرة على الإصغاء لأسئلة الواقع، والتفاعل مع تحولات العصر، في حين تحوّل اللغة المغلقة الهوية إلى كيان منغلق على ذاته يعجز عن مواكبة متغيرات الواقع. وبذلك يتضح أن تجديد الهوية الدينية مرهونًا بتجديد اللغة الدينية، كي تظل قادرة على مخاطبة القلب والعقل معًا، وحماية الحياة الروحية من الذبول، وفتح أفق رحب للتعدد والعيش المشترك في عالم متنوع الأديان والمذاهب. تكمن فاعلية اللغة التي يخاطب بها الدين الإنسان في قدرتها على تغذية المشاعر والعاطفة، وربط الإنسان بالمعنى الذي يمكن أن يمنحه الدين لحياته. أما إذا تحجرت اللغة وانغلقت، فإنها تسجن الهوية الدينية في ماض عقيم لا يلهم، وتفرغ الدين من طاقته الروحية والعاطفية والأخلاقية، ليغدو عبئًا على الحياة بدلًا من أن يكون أفقًا يلهم المعنى لوجود الإنسان وحياته.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

.....................

1- الغاثات (Gathas) في الزرادشتية هي ترانيم مقدسة تعتبر جزءًا من الكتاب المقدس للزرادشتية: "الأڤستا" (Avesta)، وتنسب لمؤسس الديانة زرادشت.

2- الكتاب المقدس الخاص بـمذهب "تيرافادا" في البوذية.

3- تاو تي تشينغ (Tao Te Ching / Dao De Jing) هو النص المؤسس للفلسفة الطاوية في الصين القديمة، وينسب إلى لاو تسي (Laozi) الذي يُعتقد أنه عاش في القرن السادس قبل الميلاد، وإن كان بعض الباحثين يرجعونه إلى القرن الرابع ق.م تقريبًا.

4- الغورو غرانث صاحب (Guru Granth Sahib) هو الكتاب المقدس في الديانة السيخية، ويُعرف أيضًا باسم آدي غرانث (Ādi Granth).

 

تحليل أفكار بروتاجوراس وجورجياس

الملخص: تتناول هذه الدراسة فكر الشك السوفسطائي من خلال تحليل أفكار اثنين من أبرز المفكرين السوفسطائيين، وهما بروتاجوراس وجورجياس. وتشير الدراسة إلى أن الشك السوفسطائي يشكك في قدرة الإنسان على الوصول إلى معرفة ثابتة أو حقيقة مطلقة. فبروتاجوراس الذي قدم مقولة "الإنسان مقياس كل شيء"، يعتقد أن الحقيقة نسبية وتعتمد على إدراك الفرد لها وفقًا لتجاربه الشخصية، مما يعني أن الحقائق تتغير باختلاف الأشخاص والظروف. أما جورجياس فقد ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث أنكر وجود الأشياء تمامًا، معتبرًا أن الإنسان لا يستطيع معرفة أو نقل أي شيء بشكل حقيقي، مؤكداً أن الحواس تخدعنا واللغة لا تستطيع نقل الحقيقة الفعلية.

الكلمات المفتاحيّة: السوفسطائية، بروتاجوراس، جورجياس، الشك، الحقيقة.Abstract:

This study deals with the thought of Sophist skepticism by analyzing the ideas of two of the most prominent Sophist thinkers, Protagoras and Gorgias. The study indicates that Sophist skepticism questions the ability of man to reach fixed knowledge or absolute truth. Protagoras, who presented the saying "man is the measure of all things", believes that truth is relative and depends on the individual's perception of it according to his personal experiences, which means that facts change according to people and circumstances. As for Gorgias, he went further, as he denied the existence of things completely, considering that man cannot know or convey anything in a real way, stressing that the senses deceive us and language cannot convey the actual truth.

Keywords: Sophistry, Protagoras, Gorgias, skepticism, truth.

تمهيد:

لم يُعرف "الشك" كمذهب فلسفي له روّاده وأتباعه إلا في العصر اليوناني. بالطبع قبل هذا العصر كانت هناك آراء وأفكار شكيّة، لكنها كانت آراء فردية تخص بعض الأشخاص فقط، ولم تكن تشكل مذهبًا أو تيارًا فكريًا. على الرغم من أن الحضارات القديمة، مثل الحضارة المصرية والصينية والأشورية والبابليّة والهندية، قد تناولت قضايا تتعلق بالوجود والمعرفة، لم تكن هذه الحضارات تركز بشكل خاص على الشك كظاهرة معرفية أو فلسفية. كانت اهتمامات تلك الحضارات منصبّة أكثر على موضوعات مثل ماهية الكون، والموت، والحياة بعد الموت، ولم تُولِ الاهتمام الكافي بالقضايا المعرفية والنقدية التي تتعلق بالشك.

من المعروف أن الفلسفة كفكر نقدي ومنهجي بدأت بشكل جاد في اليونان. صحيح أنه كانت هناك بعض الآراء المتناثرة والحكم الشعبية والأساطير في حضارات أخرى، إلا أن هذه الآراء لم تُجمع في منظومة فكرية واحدة، ولم تُنظم في مذهب أو مدرسة فلسفية تدافع عنها كما حدث مع الفلاسفة اليونانيين. كما أن التدوين والتأريخ لم يكونا محطّ اهتمام في تلك الحضارات، على عكس ما كان عليه الحال في اليونان حيث نقلت لنا العديد من مدوناتهم الفلسفية، بما في ذلك أعمال فلاسفتهم التي تناولت قضايا المعرفة ومشكلاتها، والتي كانت الشك جزءًا أساسيًا منها.

حتى بدايات العصر اليوناني، كان الشك لا يزال يُعتبر مجرد آراء فردية ولم يكن قد أصبح مذهبًا فلسفيًا. فقد ظهرت آراء لبعض الفلاسفة اليونانيين قبل السوفسطائيين تدعو للشك، مثل قول هيراقليطس: "إن كل الأشياء في تغير مستمر، فأنت لا تنزل في النهر الواحد مرتين لأن مياهًا متجددة تجري من حولك باستمرار"(1)، وهو ما يعني نفيه لمعرفة الأشياء على وجه اليقين، نظرًا لأنها في تغير مستمر ولا يمكن الإلمام بها بشكل كامل. إلا أن الشك كحركة فلسفية منظمة لم يظهر قبل السوفسطائيين.

الشك يعبر عن حالة من التردد بين نقيضين، حيث لا يمكن للعقل البشري ترجيح أحدهما على الآخر، لوجود أسباب وجيهة لقبول كل منهما وأسباب وجيهة لرفضه. ويتصل الشك بنظرية المعرفة، حيث يفترض عدم قدرة العقل البشري على تحصيل المعرفة المطلقة في كل شيء.

ويمكننا تحديد أهم المصطلحات المتعلقة بالشك في هذا البحث على النحو التالي(2):

الجهل: وهو عدم إدراك المعلوم أصلًا.

الشك: وهو التردد بين النقيضين بلا مرجح.

الظن: وهو التردد بين النقيضين مع وجود مرجح، لكن لا يصل إلى حد اليقين.

اليقين: وهو الاعتقاد الجازم في الحقيقة.

وما يهم في هذا البحث هو "الشك المطلق" أو "الشك المذهبي"، الذي يُعتبر موضوعًا لذاته، وهو ما نتناوله هنا. وأهم رواده في العصر اليوناني كانوا السوفسطائيين، بقيادة كل من بروتاجوراس وجورجياس.

ويسعى هذا البحث للإجابة عن ثلاثة أسئلة مهمة:

ما هو الفرق بين الشك المنهجي الهادف والشك المذهبي الهادم؟

هل كان شك السوفسطائيين شكًا هادفًا؟

هل يمكن اعتبار الشك السوفسطائي سبيلًا سليمًا للوصول إلى المعرفة؟

الشك قبل السوفسطائية:

ظهر الشك لأول مرة في الحضارة اليونانية على شكل مقولات وآراء منسوبة إلى بعض الفلاسفة الذين عاشوا قبل عصر السوفسطائيين. ورغم أن هذه الآراء كانت شكية في بعض جوانبها، إلا أنها لم تُؤسس بعد كمنهج فلسفي واضح أو كتيار فكري مستقل. كان من بين هؤلاء الفلاسفة الذين كانت آراؤهم تميل إلى الشك، "أكسينوفان"، الفيلسوف اليوناني الذي وُلد في آسيا الصغرى واستقر في مدينة "إيليا" في جنوب إيطاليا، ويُنسَب إليه البعض تأسيس الفلسفة الإيليائية. كذلك "بارميندس"، الذي وُلد في إيليا بجنوب إيطاليا، وكان قد قدم إلى أثينا في سن الخامسة والستين، ومن أبرز مؤلفاته كتاب "في طبيعة الأشياء". بالإضافة إلى "ميلسيوس" الذي لا تُعرف سنة ولادته أو وفاته بدقة، لكنه كان مشهورًا في الفترة بين 442 و441 ق.م.

ومع ذلك، يُعد هيراقليطس هو أشهر هؤلاء الفلاسفة الذين أظهروا آراء شكية تمهد لظهور مذهب الشك لاحقًا. فقد كان هيراقليطس يرى أن الحواس لا تكفي للوصول إلى الحقيقة، وأن الأشياء في جوهرها تخفي عنا حقيقتها. بالنسبة له، كانت الأشياء في حالة مستمرة من التغيير والصيرورة، وهو ما يتعارض مع الثبات أو اليقين في معرفتها. وقد قال هيراقليطس: "إن كل الأشياء في تغير مستمر، فأنت لا تنزل في النهر الواحد مرتين، لأن هناك مياهًا متجددة تجري من حولك باستمرار". وبالتالي يُعتبر هيراقليطس هو الجد الأول للفلسفة السوفسطائية "الشكية"، لأنه أنكر إمكانية المعرفة الثابتة، واعتبر أن كل شيء في حالة تغير دائم، مما يجعل من المستحيل معرفته على وجه اليقين(3).

وفيما يخص نقد أفكار هيراقليطس، نجد أنه كان يُقر بوجود قانون عام يُسمى "اللوغوس"، وهو ما يتناقض مع دعوته المستمرة للتغيير والعشوائية. فكيف يمكن أن يوجد قانون منظم في ظل العشوائية والتغير المستمر؟ إذن، رغم تأكيده على التغير الدائم، كانت أفكاره مليئة بالتناقضات التي مهدت الطريق للسوفسطائيين لتطوير مناهج شكية(4).

الشك عند بروتاجوراس:

يُعتبر بروتاجوراس (487 ق.م – 420 ق.م) من أبرز فلاسفة العصر السوفسطائي، وقد كان شخصية محورية في الفكر اليوناني في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد ظهرت في عصره موجة من الشك، وكان بروتاجوراس هو قائدها الأكبر. تأثيره كان واضحًا في المجتمع اليوناني، حيث كان له تأثير قوي على رجال الحكم وعلى عامة الناس أكثر من المثقفين، مما أثار الكثير من الجدل حوله، كما كان أحد الأسباب الرئيسية في صدور حكم بإعدام سقراط(5).

إن السوفسطائية -التي تعني في الأصل "الحكمة" وكان السوفسطائيون يُعتبرون حكماء أو معلمين- تميزت بدعوتها إلى الشك والنسبية. كان السوفسطائيون يكسبون رزقهم من تعليم الشباب المهارات العملية والثقافية التي كانوا يظنون أنها ستساعدهم في حياتهم اليومية. ومع ذلك، سرعان ما ارتبطت السوفسطائية بالسلبية والتحقير، وذلك بسبب ممارساتها في الجدل والخداع. لم تكن الدولة تخصص أموالًا لتعليم السوفسطائيين، بل كانوا يوجهون خدماتهم لمن كان لديه القدرة على دفع أجورهم من الطبقة الأرستقراطية، مما أدى إلى تعزيز الفوارق الطبقية في المجتمع الإغريقي. كما كان من بين أدوارهم البارزة التلاعب بالكلمات وإلباس الباطل ثوب الحق، خاصة في ساحات القضاء مقابل أجر مادي(6).

لقد نشأت السوفسطائية في فترة كانت الديمقراطية هي النظام السائد في أثينا، وقد استفاد السوفسطائيون من هذا المناخ السياسي لتعزيز مكانتهم، حيث سعوا إلى تدريس الفنون البلاغية وتقديم الدعم للأطروحات المتناقضة في آن واحد. وقد ساعد على ظهورهم أيضًا تنوع الآراء حول موضوعات مثل الكون وتعدد الآلهة، مما عزز الشك في معرفة الحقائق المطلقة. كما كان من بين مذاهبهم مذهب "العندية" الذي يُنسب إلى بروتاجوراس، والذي يفيد بأن "الإنسان مقياس كل شيء"، أي أن الحقيقة ليست موضوعية بل هي نسبية وتختلف حسب الفرد(7).

ويُعد بروتاجوراس من أبرز دعاة النسبية في الفلسفة، حيث أكد على أن الحقائق ليست ثابتة أو مطلقة. إذ قال: "إن الإنسان مقياس كل شيء، فهو مقياس أن الأشياء الموجودة موجودة، وأن الأشياء غير الموجودة غير موجودة"(8).

وهذا القول يشير إلى أن الحقيقة ليست ثابتة أو مطلقة، بل تتغير وفقًا لرؤية الفرد. وبالتالي فقد اعتبر أن الحقيقة نسبية وتعتمد على الحواس والتجربة الشخصية، مما جعله يُسهم في بناء مذهب شكي قائم على النسبية.

تعقيب ونقد لفكر بروتاجوراس:

لقد وقع بروتاجوراس في مفارقة فلسفية حينما أرجع مصدر المعرفة إلى "الإحساس"، نظرًا لاختلاف الأفراد في سنهم وشعورهم وملكاتهم العقلية، مما يعني أن الحقيقة تصبح اعتبارية ونسبية حسب كل فرد. فعلى سبيل المثال، قد يشعر شخص بالهواء باردًا بينما يشعر به آخر حارًا، وما يعتبره البعض خيرًا قد يراه الآخرون شرًا. ونتيجة لذلك، أنكر بروتاجوراس وجود حقيقة ثابتة، واعتبر أن كل شيء نسبى وقابل للتغيير.

وبذلك، فإن هذا الموقف يطرح إشكالًا كبيرًا حول فكرة "الحق والباطل"، بل يجعل من الصعب تحديد الصواب من الخطأ.

وقد عارض فلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو أفكار بروتاجوراس، معتبرين إياها وهمًا وخداعًا، وخصوصًا في مجال الخطابة، حيث كانت أقواله تعد متطرفة وبلا أساس منطقي راسخ(9).

الشك عند جورجياس:

الشك عند جورجياس يمثل قمة التطرف في الفلسفة السوفسطائية، حيث يطرح قضايا شديدة التشكيك في الوجود والمعرفة. في كتابه "اللاوجود"، قدم جورجياس ثلاث قضايا رئيسية:

لا يوجد شيء: يشير إلى أن الموجودات لا وجود لها، واللاوجود أيضًا ليس موجودًا.

إذا وجد شيء فلا يمكن معرفته: حتى لو كان هناك شيء موجود، لا يمكننا معرفته أو إدراكه.

إذا أمكن إدراكه، لا يمكن نقله: حتى إذا تمكنا من معرفة شيء ما، فإنه لا يمكن نقله إلى الآخرين(10).

يستند جورجياس في هذه القضايا إلى حجج تركز على الطبيعة الغامضة للوجود وحقيقة الإدراك؛ فأولًا، يُجادل بأن الوجود إذا كان أزليًا، فإنه لا يمكن أن يكون له بداية أو مكان، مما يجعله متناقضًا مع مفهوم اللامتناهي. وإذا كان حادثًا، فلا يمكن أن يكون قد حدث من شيء غير موجود، مما يعني استحالة وجوده. ثانيًا، يُشير إلى أن الحواس تخدعنا وتعطي انطباعات غير حقيقية عن الواقع. ثالثًا، يؤكد على أن اللغة مجرد رموز إشاراتية لا تعكس الحقيقة الواقعية، وبالتالي لا يمكنها نقل المعرفة الحقيقية(11).

تعقيب ونقد على فلسفة جورجياس:

الفلسفة التي تبناها جورجياس قوبلت برد فعل سلبي من الأثينيين، حيث اعتُبرت مرفوضة أخلاقيًا. في كتاب "الجمهورية" لأفلاطون، يُظهر تراسيماكوس أن مذهب جورجياس يخرج عن القيم الأخلاقية لأنه ينفي وجود معيار موضوعي للعدالة. كذلك، إنكار جورجياس للوجود والمعرفة والحقيقة يقوض الأسس التي يعتمد عليها العلم والتاريخ. فمعرفة الإنسان اليومية وقدرته على نقل التجارب والمعارف عبر الأجيال تتناقض مع فكرته حول استحالة نقل المعرفة أو حتى وجود الأشياء.

بالإضافة إلى ذلك، من الواضح أن السوفسطائيين، رغم دورهم في إشعال الفكر الفلسفي والتوجه نحو المنطق، كانوا يمثلون خطرًا على تطور الفلسفة الغربية، لولا وجود سقراط الذي استطاع إنقاذ الفلسفة من هذا الاتجاه المدمر كما يشير الدكتور يوسف كرم(12).

رأي الباحث:

يرى الباحث أن مضمون الفلسفة السوفسطائية قد شهد رواجًا كبيرًا في عصرنا الحالي مقارنة بالعصور القديمة، فلو نظرنا إلى العديد من القضايا الفكرية والاجتماعية التي نعيشها اليوم، سنلاحظ أن العديد من الأفكار التي طرحها السوفسطائيون حول نسبية الحقيقة وعدم وجود حقائق ثابتة، قد أصبحت جزءًا من التفكير السائد في المجتمعات المعاصرة. وفي الزمن القديم كانت هذه الآراء محلّ انتقاد شديد، خاصة من فلاسفة مثل سقراط وأفلاطون الذين اعتبروا أن الحقيقة مطلقة وثابتة، لا تتغير بتغير الأفراد أو الظروف. أما في العصر الحالي فقد نمت تلك الآراء على نحو لافت، إذ أصبحنا نشهد ظاهرة متزايدة من النقاشات التي تعتمد على إقناع الآخر بغض النظر عن صحة الحجة أو دقتها، بل فقط من خلال القدرة على التأثير والإقناع.

من جانب آخر، يرى الباحث أن السوفسطائيين قد ابتكروا مذهبًا لم يكن مرتبطًا بالدين أو الأخلاق، بل كان موجهًا بالأساس إلى فنون النقاش والجدال، وهذا يسلط الضوء على حقيقة هامة تتعلق بكيفية تفكيرهم في المعرفة والهدف منها. فالسوفسطائيون لم يكونوا مهتمين بإيجاد الحقيقة أو الوصول إلى مبادئ أخلاقية ثابتة، بل كانوا يؤمنون بأن الهدف هو القدرة على الإقناع والإفحام. وقد كان ما يهمهم أكثر من أي شيء آخر هو تعليم فنون الدفاع عن الآراء مهما كانت تلك الآراء صحيحة أو خاطئة. ومن هنا يمكننا أن نرى التشابه بين فلسفتهم وما يحدث اليوم في العديد من ميادين الحوار العام والسياسة والإعلام، حيث تكثر النقاشات التي تركز على الإقناع بدلًا من البحث عن الحقيقة الموضوعية أو تقديم أدلة دامغة تدعم المواقف.

إن السوفسطائيين كانوا يعلّمون تلاميذهم كيفية الدفاع عن آرائهم بغض النظر عن صحتها، فقط لأن الغاية كانت تكمن في إفحام الخصوم، وهو ما يعكس أيضًا المبدأ السوفسطائي الشهير بأن الحقيقة ليست مطلقة بل نسبية، ومصدرها هو الإنسان، وهذا يعكس واقعًا معاصرًا نعيشه في العديد من الحوارات الفكرية والاجتماعية اليوم. فكثيرًا ما نرى الأشخاص يتبنون آراءً معينة فقط لأنهم يرون في ذلك منفعة شخصية أو لتحقيق مصالح خاصة، دون أن يحرصوا على التحقق من صحة تلك الآراء أو فحصها بعناية. بل إن الغالبية باتت تعتمد على قدرتها على التأثير على الآخرين وتوجيههم بما يتناسب مع رغباتهم ومصالحهم، سواء كان ذلك في السياسة أو الاقتصاد أو حتى في الحياة اليومية.

كما يشير الباحث إلى أن السوفسطائيين قد عملوا على تعزيز فكرة أن الحقيقة تتغير تبعًا لمصالح الأفراد وأهوائهم، وهو ما يفتح الباب أمام تحليل أعمق لمفهوم الحقيقة في عالم اليوم، فالتغيير المستمر في الحقائق وفقًا للمصالح الشخصية يجعل كل شيء قابلًا للتفاوض والتعديل بما يتماشى مع رغبات الإنسان. وهنا نجد أنفسنا أمام واقع معقّد، حيث تزداد الأمور ضبابية ويفقد الناس الثقة في قدرة المعرفة على تقديم إجابات ثابتة وواضحة.

فالفلسفة السوفسطائية قد أثرت في سلوك الأفراد والمجتمعات المعاصرة، الذين أصبحوا يعطون الأولوية لمصالحهم الخاصة على حساب الحقائق الموضوعية، وهو ما يضعنا أمام تحديات كبيرة في كيفية الوصول إلى إجماع حقيقي في ظل هذه الظروف الفكرية المتغيرة.

الخاتمة

أولًا: النتائج:

من خلال ما سبق، يمكن استنتاج المبادئ العامة للشك السوفسطائي كالتالي:

أن الحواس وسيلة المعرفة وليس العقل: الحواس تختلف من شخص لآخر، مما يعني أن الحقائق تصبح نسبية وفردية، وبالتالي لا يمكن تحديد معيار ثابت للصواب والخطأ.

الاعتماد على مبدأ التناقض: من خلال إثبات صحة الرأي ونقيضه في نفس الوقت، مع التلاعب بالألفاظ والمغالطات، يسعى السوفسطائيون لإثارة الشكوك حول أي حقيقة ثابتة.

أهداف الشك السوفسطائي:

كسب المال: من خلال تعليم الشباب كيفية الدفاع عن المتهمين في المحاكم.

التسلية والسخرية: وإثبات عجز العقل البشري عن الوصول إلى الحقيقة.

بروتاجوراس: يعتبر أشهر الشخصيات السوفسطائية، وقد تميز شكه في جوانب عدة مثل الشك في الدين حيث رفض الدين الوثني والشك في المعرفة حيث قال عبارته الشهيرة "الإنسان مقياس كل شيء"، والتي تعني أن كل شخص هو من يحدد ما هو موجود أو غير موجود.

الفرق بين الشك المنهجي والشك المطلق:

الشك المطلق: هو مذهب يعتقد في أن كل شيء قابل للتشكيك، حتى الحقيقة نفسها. يعتبر الشك غاية في حد ذاته، ولا يسعى للوصول إلى اليقين، ويعتمد على الحواس والأدوات التي قد تكون غير موثوقة. يقول جورجياس إنه لا يمكن معرفة شيء، وحتى إذا أمكن معرفة شيء فلا يمكن نقله للآخرين. ويعتمد المشككون في هذا المذهب على حجج مثل "خداع الحواس" و"اختلاف آراء الناس" و"تعذر وجود براهين قاطعة".

الشك المنهجي: هو شك مؤقت يمر به الباحث عن الحقيقة في مسار البحث العلمي، يهدف للوصول إلى اليقين. استخدمه ديكارت في شكه المنهجي، حيث اعتبر أن الشك هو الوسيلة للوصول إلى الحقيقة المتينة، مشيرًا إلى ضرورة شك الباحث في كل شيء حتى الحواس نفسها التي قد تخدعنا. الشك هنا ليس غاية بحد ذاته، بل مرحلة ضرورية لفحص الأفكار والبحث عن أسس ثابتة لبناء المعرفة.

ثانيًا: التوصيات:

من المهم تعزيز القدرة على التفكير النقدي بين الأفراد، حيث يمكن للشك المنهجي أن يكون أداة فعّالة للوصول إلى اليقين.

يجب توعية الأفراد والطلاب بالفرق بين الشك المنهجي الذي يهدف إلى البحث عن الحقيقة وتطوير الفهم، والشك المطلق الذي يؤدي إلى الجمود الفكري والتشكيك في كل شيء بلا هدف.

رغم أن الشك السوفسطائي قد يؤدي إلى التشكيك في الحقائق الثابتة، إلا أن استخدامه لأساليب البلاغة والتلاعب بالألفاظ يمكن أن يكون مفيدًا في تطوير مهارات الخطابة والإقناع، فينبغي الاستفادة من هذه المهارات بشكل أخلاقي في المجال الإعلامي والتعليم.

بالنظر إلى أن الفلسفة السوفسطائية كان لها دور مهم في تطور الفكر الغربي، فإنه من المفيد مواصلة البحث في أفكار السوفسطائيين وكيفية تفاعلها مع الفلسفات المعاصرة، فقد تسهم هذه الدراسات في تقديم حلول لمشكلات العصر الحالي التي تتعلق بالمعرفة والمصداقية في المعلومات.

***

إعداد: محمد أحمد عبيد

كاتب وباحث دكتوراه في الفلسفة

.........................

قائمة المراجع

تاريخ الفلسفة القديمة، يوسف كرم، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1936م.

الشك – أسبابه وآثاره وعلاج الإسلام له، أحمد عسيري، موقع دراسات بحوث المعوقين.

الفلسفة اليونانية، أعلام وقضايا، الدكتور رضا الدقيقي، كلية أصول الدين بطنطا، 2018م.

التيارات الفكرية المعاصرة والحملة على الإسلام، محمد شيخاني، د.ت.ط.

تاريخ الفلسفة القديمة، يوسف كرم، مؤسسة هنداوي، 2014م.

(1) انظر: تاريخ الفلسفة القديمة، يوسف كرم، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1936م، ص 318.

(2) انظر: الشك – أسبابه وآثاره وعلاج الإسلام له، أحمد عسيري، موقع دراسات بحوث المعوقين، ص 18.

(3) انظر: الفلسفة اليونانية، أعلام وقضايا، الدكتور رضا الدقيقي، كلية أصول الدين بطنطا، 2018م، ص 137.

(4) انظر: الفلسفة اليونانية، أعلام وقضايا، الدكتور رضا الدقيقي، ص 137.

(5) انظر: التيارات الفكرية المعاصرة والحملة على الإسلام، محمد شيخاني، د.ت.ط، ص135 وما بعدها.

(6) انظر: الفلسفة اليونانية، أعلام وقضايا، الدكتور رضا الدقيقي، ص 138.

(7) انظر: الفلسفة اليونانية، أعلام وقضايا، الدكتور رضا الدقيقي، ص 138.

(8) انظر: الفلسفة اليونانية، أعلام وقضايا، الدكتور رضا الدقيقي، ص 138.

(9) انظر: الشك – أسبابه وآثاره وعلاج الإسلام له، أحمد عسيري، ص 22.

(10) انظر: تاريخ الفلسفة القديمة، يوسف كرم، مؤسسة هنداوي، 2014م، ص 61.

(11) انظر: تاريخ الفلسفة القديمة، يوسف كرم، ص 61.

(12) انظر: تاريخ الفلسفة القديمة، يوسف كرم، ص 62.

 

يفحص الفيزيائي والفيلسوف الاسترالي آلان تشالمرز Alan chalmers في كتابه المدرسي الصادرعام 1976 (ما هو هذا الشيء الذي يُسمى علما؟) كيف تُكتسب المعرفة العلمية ويتم التحقق من صحتها، عبر النظر الى الطرق التي تبرر وتدعم التحقيق العلمي. هو يعرض ويستطلع الفكرة بان العلم يتأسس على اكتساب المعرفة الموضوعية من خلال الملاحظة المباشرة، وان البيانات الحسية تعمل كحجر أساس يُبنى عليها الفهم العلمي. بعد ذلك هو يصف بعض الانتقادات لهذه الصورة، ومختلف المحاولات من جانب المفكرين المعاصرين لبناء نموذج اكثر دقة لتطوير العلم. الاطروحة المركزية لهذا المقال هو ان الملاحظات في العلم ليست موضوعية خالصة: انها تتأثر بشكل بارز بالاطر النظرية، والمعرفة القبلية، والتحيزات الذاتية التي تحدد كيفية ادراك وتفسير البيانات.

الرؤية التقليدية للعلم

الرؤية التقليدية هي ان العلم يتأسس على حقائق مُلاحظة يتم الحصول عليها من خلال التجربة الحسية المباشرة. هذه الملاحظات هي موضوعية: حقائق لا جدال فيها، يمكن التحقق منها، مستقلة عن نقاط ضعف المراقب ويمكن الوصول اليها مباشرة عن طريق الحواس.

هذا المستوى غير المسبوق من الموضوعية، يُعتقد على نطاق واسع انه يميز العلم عن الاشكال الاخرى للمعرفة بما يجعله منارة لليقين في عالم ممتليء بالتحيزات الشخصية والآراء التي لا أساس لها. انه يبيّن ان الطريقة العلمية هي طريق ثابت للحقيقة، خال من فوضى المنظورات الفردية.

وكما يلاحظ تشالمرز، ان هذا التصور جذّاب لأنه يعِد بفهم موثوق وغير غامض للعالم الطبيعي. لكنه يبدأ بإماطة اللثام عن هذا التصور المبسط من خلال الخوض عميقا في طبيعة الملاحظة. اذا كانت جميع التحقيقات العلمية مرتكزة على ما نستطيع ملاحظته، عندئذ من المهم جدا فحص موثوقية وموضوعية هذه الملاحظات. هو يستخدم مفهوم theory-laden الذي تكون فيه الملاحظة مثقلة بالنظريات، واذا كان الامر هكذا، فان هذا قد يُضعف وظيفة الملاحظة كأساس محايد للعلم. عندما نلاحظ ظاهرة معينة، كيف نتأكد ان ما ندركه هو واقع موضوعي وليس تفسيرا متأثرا بمعرفتنا القبلية والتزاماتنا النظرية؟

ان فكرة "العبء النظري" تشير الى ان ما يلاحظه العلماء يتحدد كثيرا بالاطر النظرية التي يؤمنون بها. في الحقيقة، فيلسوف العلم، نورود رسل هانسن Norwood Russell Hanson جادل بان "هناك في الاشياء ما هو اكثر مما تراه العين"(نماذج الاكتشاف، 1958، ص6)، بما يعني ان الملاحظة هي عملية نشطة، تستلزم تفسيرا. تشالمرز ذاته يؤكد على ان الملاحظات يتم غربلتها من خلال العدسات المعرفية التي تشكلها معتقداتنا ونظرياتنا الحالية. هذا يعني ان اثنين من العلماء يلاحظان نفس الظاهرة ربما يفسرانها بشكل مختلف طبقا لخلفيتهما النظرية.

في كتابه (بنية الثورات العلمية، 1962)، يتوسع توماس كون Thomas Kuhn في فكرة "ثقل النظرية" عبر ادخال مفهوم النموذج او البراديم paradigms وهو اطار من التفكير يرشد البحث العلمي، مثل نموذج التطور، او ميكانيكا الكم، او ميكانيكا نيوتن. هذه النماذج لا تتضمن فقط النظريات، وانما ايضا الطرق، المعايير، والقيم المشتركة لدى الجالية العلمية التي تستخدمها. طبقا لتوماس كون، العلم الطبيعي يعمل وفق هذه النماذج، والملاحظات يتم تفسيرها لتتلائم مع البنية النظرية للنموذج. بعد عقود وحتى قرون، يؤدي ثقل اللامألوف والتفسيرات المفرطة في التعقيد ضمن النموذج الى إحداث تحول الى نموذج جديد – وهو ما يسميه الثورة العلمية . بعد ذلك، يستمر العلم الطبيعي ضمن نموذج جديد وهكذا تتكرر العملية.

البعض ربما يجادل بان العلم يستخدم طرقا لتقليل التحيزات الذاتية، مثل القياسات الموحدة، والتجارب المتحكم بها، وعمليات مراجعة الأقران. هذه الممارسات تهدف الى ضمان ان تكون الملاحظات موثوقة وقابلة للتكرار وتعزز الموضوعية. لكن مع ان هذه الطرق تعزز صرامة التحقيق العلمي، لكنها يمكنها فقط ازالة جزء من تأثير النظريات القائمة على الملاحظة. وكما يزعم بول فايرابند Paul Feyerabend في (ضد الطريقة، 1975)، ان القواعد الميثدولوجية ذاتها تتأثر بالمنظورات النظرية، وان الخضوع القوي لميثدولوجيات صارمة ربما يعيق التقدم العلمي من خلال كبح وجهات النظر البديلة.

ادراك ان الملاحظات هي مثقلة بالنظرية له مضامين عميقة للعلم. انه يتحدى الرؤية التقليدية بان العلم هو موضوعي خالص، ويستدعي المزيد من الفهم الدقيق للطريقة التي تُبنى بها المعرفة. التحقيق العلمي يصبح ليس فقط مجموعة واضحة من الحقائق وانما عملية ديناميكية تستلزم تفسيرا وإعادة تفسير ضمن الاطر النظرية.

دراسة حالة: ملاحظات غاليلو

مثال يسلط الضوء على الملاحظات المثقلة بالنظرية هو استعمال غاليلو للتلسكوب لملاحظة أقمار كوكب المشتري. تفسير غاليلو تأثر بدعمه لمركزية الشمس لكوبرنيكوس – فكرة ان الشمس هي مركز النظام الشمسي (الرسول الفلكي، 1610). نقاد غاليلو الذين يتبعون النموذج التقليدي لمركزية الارض، اما أهملوا ملاحظاته او فسروها بشكل مختلف. هذا يبيّن كيف ان الالتزامات النظرية يمكن ان تؤثر ليس فقط على تفسير البيانات وانما ايضا على قبول الدليل التجريبي. قدرة غاليلو على تفسير ملاحظاته تأثرت بعمق بقبوله السابق لنموذج كوبرنيكوس، في ان الكواكب جميعها تدور حول الشمس. هو لم يسجل فقط بيانات بصرية من خلال تلسكوبه، هو فسر ما شاهد. تشالمرز يؤكد على ان ملاحظات غاليلو لم تكن حقائق محايدة تنتظر الاكتشاف وانما كانت مشبعة بالأهمية النظرية . بدون نظرية مركزية الشمس كإطار، لكانت حركة اقمار المشتري اُهملت او فسرت بشكل مختلف. بعض من معاصري غاليلو مثل كريستوف كلافيوس كان مشككا بملاحظاته وهو ما يوضح جيدا كيف تؤثر الالتزامات النظرية في تشكيل الادراك. رفضْ معاصرو غاليلو لقبول وجود اقمار في المشتري لم يكن ناتجا عن فشل في الملاحظة، وانما نتيجة لملاحظة تتعارض مع رؤيتهم العالمية المترسخة حول مركزية الارض.

هذا المثال يؤكد فكرة ان الملاحظات في العلم ليست خالية من التأثير النظري. من المهم جدا فهم ان ادراك الانسان هو نشط بطبيعته. اولاً، أدمغتنا لا تتلقى سلبيا بيانات حسية، وانما تنظمها بنشاط وتفسرها بالارتكازعلى معرفة قبلية وتوقعات. علم النفس المعرفي ايضا يشير الى ان التصور او الادراك هو عملية دمج معلومات جديدة مع بنيات معرفية موجودة. ربما يجادل احد ان استخدام غاليلو للدليل التجريبي بفاعلية يكون قد تحدّى النموذج المركزي السائد وفي النهاية اطاح به ، مبيّنا قوة الملاحظة. مع ذلك، هذا سيتجاهل المقاومة الاولية التي واجهتها استنتاجاته بسبب التحيزات النظرية السائدة. انها ليست مجرد الملاحظات ذاتها وانما التحول التدريجي في القبول النظري هو الذي قاد الى الهيمنة النهائية لنموذج مركزية الشمس.

عندما ينظر الباحثون الأقران من خلال المكروسكوب الى اي بيانات، فان ما يرونه يتأثر بعمق بتدريبهم، وبالخلفية النظرية والتوقعات. فمثلا، في بداية القرن العشرين، كان تفسير الاطياف الذرية atomic spectra مرتبطا بعمق بتطور نظرية ميكانيكا الكوانتم. بدون ذلك الاطار النظري، لكانت خطوط الاطياف المُلاحظة بقيت بلا توضيح. كل هذه الامثلة تتحدى فكرة ان الحقائق العلمية هي ببساطة تنتظر اكتشافها من خلال الملاحظة. بدلا من ذلك، هي تُظهر ان الفهم في العلم يبرز من تفاعل معقد بين البيانات التجريبية والتفسير النظري. الإعتراف بهذا التفاعل هو هام جدا لأنه يعترف بالعناصر الانسانية في التحقيق العلمي، والذي يتضمن الابداعية، الحدس، والذاتية. وكما جادل فايرابند، ان الخضوع لقواعد ميثدولوجية صارمة يمكن احيانا ان يعرقل التقدم العلمي عبر كبح الاتجاهات المبدعة والغير تقليدية.

نقد التجريبية والوضعية

التجريبية – الرؤية بان المعرفة اساسا تبرز من تجربة حسية – لها تاريخ عميق. التجريبيان البارزان المبكران جون لوك (1632-1704) وديفد هيوم (1711- 76) جادلا بان الذهن البشري كصفحة بيضاء وان كل المعرفة تُكتسب من خلال المدخلات الحسية. هذا المنظور يؤكد بان كل الفهم يبرز من تفاعل مباشر مع العالم. ما نرى ونلمس ونسمع ونقيس يكوّن الاساس لكل المعرفة الموثوقة. بساطة هذه الفكرة جذابة، لأنها تقترح مسار واضح للحقيقة عبر الوثوق بالدليل الملاحظ والملموس. في بداية القرن العشرين، الوضعيون المنطقيون مثل آير A.J.Ayer توسعوا على ضوء المبادئ التجريبية عبر الادّعاء انه فقط البيانات التي يتم التحقق منها تجريبيا او منطقيا هي ذات معنى. هم سعوا الى ازالة الميتافيزيقا والتركيز بصرامة على افتراضات يمكن اختبارها اما من خلال الملاحظة المباشرة او من خلال التحليل المنطقي. هذه الحركة عززت الايمان بان المعرفة العلمية بُنيت على حقائق موضوعية مشتقة من تجربة حسية.

مع ذلك، تأكيدات التجريبي والوضعي على البيانات الحسية كمصدر وحيد للمعرفة تعرضت للنقد لتبسيطها تعقيدية الادراك. احدى التحديات الهامة هنا هو الاعتراف بان أعضائنا الحسية ليست مجرد مستقبلات سلبية للمحفزات الخارجية، وانما استجاباتها للحوافز تُفسر بنشاط من جانب الدماغ. وكما رأينا، المعرفة القبلية، التوقعات والاطر النظرية تؤثر على ما ندرك كحقائق. هذا يعني ان البيانات الحسية ليست موضوعية وانما تتشكل بواسطة بنائنا المعرفي. هذا الدور النشط للتفسير المعرفي في اكتساب المعرفة يتحدى رؤى كل من التجريبية والوضعية. علاوة على ذلك، في (بنية الثورات العلمية) يجادل كون ان البرادايم التي يعمل ضمنها العلم تعرّف المشاكل العلمية "الشرعية" وحلولها: ملاحظات تُفسر لتعزيز البردايم السائد، وما هو شاذ ربما يُهمل او يتم تجاهله حتى يحدث تحوّل في البردايم والذي يستطيع دمج واستيعاب تلك الشواذ . هذه الفكرة من التقدم العلمي تتحدى رؤية الوضعيين المنطقيين بان العلم يتقدم عبر تراكم حقائق موضوعية.

 بحث سايكولوجي آخر ايضا يؤيد الادّعاء بان الادراك هو عملية نشطة. فمثلا، الدراسات في علم النفس المعرفي تُظهر ان ما يدركه الفرد يتأثر باطر ونماذج ذهنية تطورت من تجربة قبلية. هذا يشير الى انه حتى عند مستوى الادراك الاولي، أذهاننا تقوم بتنقية وتفسير البيانات الحسية.

مرة اخرى، مؤيدو التجريبية ربما يدّعون ان الميثدولوجيات العلمية تُصمم لتخفيف التحيزات الذاتية. تقنيات مثل التجارب المُتحكم فيها والقياس النمطي ومراجعة الأقران تعزز الموضوعية، وتكرار التجربة، والوسائل الدقيقة تُصمم لتعزيز موثوقية الملاحظات. مع ذلك، بينما هذه الممارسات بلاشك تقوي العملية العلمية، لكنها يمكنها جزئيا فقط ازالة تأثير الاطر النظرية على الملاحظة.

حجة اخرى من جانب التجريبيين الخلّص هي ان نجاح التنبؤ العلمي يعطي مصداقية الى فكرة موضوعية الطريقة التجريبية. النظريات العلمية المرتكزة على بيانات تجريبية قادت في الحقيقة الى تقدم تكنلوجي هائل وتنبؤات دقيقة ومذهلة حول الظاهرة الطبيعية. لكن وكما ناقش كواين W V O Quine في (اثنان من دوغما التجريبية، المراجعة الفلسفية، 60:1، 1951)، عدم تقريرية النظرية (الدليل المتوفر غير كاف لتثبيت نظرية علمية معينة) بواسطة البيانات يعني ان عدة نظريات يمكن ان تكون منسجمة مع نفس المجموعة من الملاحظات. هذا يعني ان نظرية الخيار تستلزم معايير تتجاوز الملاحظة التجريبية وحدها مثل معايير البساطة، التماسك، والقوة التوضيحية.

هذه الانتقادات تشير الى ان اكتساب المعرفة العلمية يستلزم تفاعلا معقدا بين البيانات الحسية والتفسير المعرفي. الاعتراف بهذه التعقيدية لا يقلل من قيمة الدليل التجريبي وانما يدعو الى تقدير أكثر دقة لكيفية بناء المعرفة العلمية.

نزعة ادّعاءات المُلاحظة لإرتكاب الخطأ

هناك سوء تصوّر سائد هو ان الملاحظات بسبب امكانية الوصول اليها مباشرة عبر الحواس، تعطي حقائق لا خلاف فيها حول العالم. لكن تشالمرز يرى ان الملاحظات ليست حقائق محصنة من الخطأ، انها مؤقتة وعرضة للمراجعة. هي كالصباغة المتقطعة والغير منسجمة في اللوحة الواسعة للمعرفة العلمية، تتأثر بتحيزات المراقب ومحدداته والوضع الحالي للفهم النظري. هو يستعمل استعارة محاولة قراءة علامة شارع بنظارات ضبابية لتوضيح الكيفية التي يتأثر بها ادراكنا بعدسات الادراك. كما ان النظارات الضبابية تحجب الرؤية، كذلك الافكار المتصورة مسبقا والالتزامات النظرية يمكنها ان تشوه تفسيرنا للبيانات الحسية. هذا ينسجم مع هانسن الذي جادل بان كل الملاحظات مثقلة بالنظرية وان ما نراه يتأثر بما نتوقع رؤيته. فهم هشاشة ادّعاءات الملاحظة هام جدا لأنه يتحدى فكرة ان الحقائق العلمية هي تنتظر فقط ليأتي احد لإكتشافها من خلال الملاحظة. بدلا من ذلك، انها تؤكد بان ما ندرك كـ "حقائق" هي في الغالب تفسيرات تشكلت بواسطة فهمنا في ذلك الوقت. وبشكل أعم، كما يلاحظ W.A.Sandoval(في فهم ابستيمولوجيات الطلاب التطبيقية وتأثيرها على التعلم من خلال التحقيق"، تعليم العلوم، 89:4 ، 2005)، عقائد المتعلمين التطبيقية حول المعرفة تؤثر في كيفية تفسيرهم وانخراطهم بالدليل العلمي. لذا من الضروري الاعتراف ان العلم ليس محاولة ثابتة لجمع حقائق خارجية غير قابلة للتغيير. بل انه عملية ديناميكية متطورة باستمرار تتميز بأسئلة مستمرة وتحقيق ومراجعة. تحقيق تقدم يتطلب كل من تراكم الملاحظة وتمحيص مستمر وإعادة تفسير لتلك الملاحظات في ضوء نظريات جديدة ودليل جديد.

توضيح تاريخي جيد لهذه العملية هو التحول من فيزياء نيوتن الى نسبية اينشتاين. في ميكانيكا نيوتن، مفاهيم مثل الزمان والمكان المطلقين اُعتبرا حقائق تجريبية مدعومة بملاحظات وتجارب العصر. لكن اينشتاين أدخل اطارا تفسيريا جديدا أعاد تعريف الزمان والمكان وأظهر ان قياس كل منهما هو نسبي للاطار المرجعي للمراقب. ملاحظة تجريبية جديدة لعبت فعلا دورا في تحول هذا البراديم: الاستنتاجات غير المتوقعة لتجارب Michelson-Morley عام 1887 في عدم وجود اختلاف هام بين سرعتي الضوء في اتجاهين متعامدين (يتقاطعان في زاوية قائمة) رغم حركة الارض في الفضاء. مع ذلك، هذا سيظل شذوذا محيرا بدون إعادة التصور النظري الجريء لاينشتاين لفكرتي الزمان والمكان. مرة اخرى، الملاحظات تُفسر ضمن اطر نظرية، وعندما تتغير تلك الاطر، يتغير فهمنا للملاحظة. هذا يسلط الضوء على الطبيعة التكرارية للعلم iterative nature، حيث حقائق اليوم المقبولة قد تصبح غدا مفاهيم منتهية الصلاحية.

حجة مضادة لفكرة الطبيعة المؤقتة للمعرفة العلمية هي ان تقارب الملاحظات المستقلة يقود بمرور الزمن الى معرفة موثوقة. لكن على الرغم من صحة القول ان الملاحظات المكررة يمكنها ان تقوّي الثقة في افكار معينة، فان تاريخ العلوم يبيّن ان التفسيرات المقبولة على نطاق واسع لاتزال من الممكن إبطالها. نظرية الفلوجستون في الاحتراق كانت يوما ما التوضيح المهيمن المدعوم بالملاحظات، جرى استبدالها في النهاية بنظرية الاوكسجين للاحتراق بعد تجارب لافوازيه. هذا التحول حدث ليس فقط بسبب ملاحظات جديدة وانما بسبب الاطار النظري الجديد الذي وفر أحسن توضيح للظاهرة والذي بدوره يقود الى أحسن التجارب.

استنتاج

هذا النقد يسلط الضوء على فكرة ان العلم يُشتق كليا من حقائق ملاحظة موضوعية، ويؤكد انها فكرة شديدة التبسيط. وبينما لا يمكن إنكار أهمية الملاحظات للتحقيق العلمي، لكن الملاحظات متشابكة بشكل معقد مع النظرية والتفسير والمنظور الشخصي للعالِم . الاعتراف بان الملاحظات مثقلة بالنظرية يؤكد ان العلم ليس فقط حول جمع بيانات تجريبية وانما يستلزم عملية ديناميكية من التفسير واعادة التفسير للاستنتاجات ضمن اطر نظرية.

هذا له مضامين عميقة لفلسفة العلوم. انه يتحدى الرؤية التقليدية للعلم كمحاولة موضوعية بالكامل مرتكزة فقط على بيانات حسية، وذلك من خلال التأكيد على الدور الاساسي للبنيات النظرية والادراك البشري في صياغة المعرفة العلمية. هذا يدعو الى المزيد من الفهم الدقيق للموضوعية العلمية التي تعترف بالتفاعل المعقد بين الدليل التجريبي والتفسير النظري. استكشاف كيف يؤثر هذا التفاعل على التقدم العلمي عبر مختلف الحقول العلمية سيكون شيئا ثمينا لتفكير المستقبل، وقد يوفر رؤى ثاقبة في تطور المعرفة العلمية. هذا الاستطلاع يمكن ان يعمّق تقديرنا للعملية المعقدة التي تقود الاكتشاف العلمي وتشجع الحوار المستمر حول طبيعة الموضوعية والذاتية في العلم.

***

حاتم حميد محسن

بين القطيعة الابستيمولوجية والعقلانية التطبيقية، مقاربة معرفية تاريخية

مقدمة: يُعتبر غاستون باشلار (1884 -1962)، الفيلسوف الفرنسي، أحد أبرز المفكرين في مجال فلسفة العلوم والإبستمولوجيا في القرن العشرين. من خلال أعماله مثل تكوين العقل العلمي (1938) والعقلانية التطبيقية (1949)، قدم باشلار رؤية مبتكرة لفهم تطور المعرفة العلمية عبر مفهومي "القطيعة الإبستمولوجية" و"التحليل النفسي للمعرفة العلمية". مقاربته المعرفية التاريخية تجمع بين تحليل التحولات التاريخية في العلم ونقد العوائق النفسية والثقافية التي تعيق تقدمه. يرى باشلار أن العقل العلمي يتطور عبر قطائع جذرية مع المعرفة السابقة، مدعومًا بعقلانية تطبيقية تركز على التجريب والإبداع. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل إسهامات باشلار في التحليل النفسي للمعرفة العلمية، القطيعة الإبستمولوجية، والعقلانية التطبيقية، مع التركيز على مقاربته المعرفية التاريخية ودورها في مقاومة العوائق المعرفية، وربطها بجدلية القوة والضعف في السياقات العلمية والاجتماعية. فكيف تصور غاستون باشلار تاريخ العلوم؟ وماهي الرؤية الثورية التي حملها الى مسار نقد المعرفة العلمية؟

القطيعة الإبستمولوجية

مفهوم القطيعة الإبستمولوجية هو جوهر فلسفة باشلار، حيث يرى أن التقدم العلمي لا يحدث بشكل تراكمي، بل عبر انقطاعات جذرية مع المعرفة السابقة. في تكوين العقل العلمي، يوضح أن العلم الحديث يتطلب التخلي عن المفاهيم القديمة التي تعتمد على الحدس أو التفسيرات التقليدية، مثل الانتقال من الفيزياء الأرسطية إلى الفيزياء النيوتنية. هذه القطيعة تمثل تحولًا في الهياكل العقلية التي تحكم التفكير العلمي. كيف يعمل باشلار على ضرورة احداث القطيعة الإبستمولوجية؟

مفهوم القطيعة الإبستمولوجية هو أحد أهم إسهامات باشلار، حيث يرى أن التقدم العلمي يحدث عبر انقطاعات جذرية مع المعرفة السابقة بدلاً من تراكم تدريجي. يوضح باشلار أن العلم الحديث يتطلب التخلي عن المفاهيم القديمة التي تعتمد على الحدس أو التفسيرات التقليدية. على سبيل المثال:

في الفيزياء: الانتقال من الفيزياء الأرسطية (التي ترى أن الأجسام تسقط بسرعات مختلفة بناءً على وزنها) إلى الفيزياء النيوتنية (التي أثبتت أن الأجسام تسقط بتسارع متساوٍ) يمثل قطيعة إبستمولوجية.

في الكيمياء: استبدال نظرية الفلوجستون (التي تفسر الاحتراق بوجود مادة خيالية) بنظرية الأكسجين للافوازييه يمثل قطيعة أخرى.

يؤكد باشلار أن هذه القطائع تتطلب تغييرًا في الهياكل العقلية للعلماء، مما يسمح ببناء معرفة أكثر دقة وموضوعية. يقول: "العقل العلمي يجب أن يُشفى من أوهامه من خلال القطيعة مع الماضي". هذا المفهوم يعكس مقاربة معرفية تاريخية تركز على التحولات الجذرية في تاريخ العلم.

العقلانية التطبيقية

في كتابه العقلانية التطبيقية، يقدم باشلار مفهومًا للعقلانية يجمع بين النظرية والتجريب. يرى أن العقل العلمي ليس مجرد تطبيق للمنطق النظري، بل عملية إبداعية تعتمد على التجربة والتكنولوجيا. يؤكد أن العلم الحديث يتطلب تعاونًا بين العقل النظري والتطبيق العملي، مما يسمح ببناء معرفة ديناميكية قادرة على التكيف مع التحديات الجديدة. لماذا اعتمد باشلار على نموذج العقلانية التطبيقية؟

في العقلانية التطبيقية، يقدم باشلار رؤية للعقلانية تجمع بين النظرية والتجريب. يرى أن العقل العلمي الحديث يعتمد على التفاعل بين العقل النظري والتطبيق العملي، حيث تلعب التكنولوجيا دورًا أساسيًا في بناء المعرفة. على سبيل المثال، يشير إلى أن تطور أدوات القياس الدقيقة، مثل المجهر أو المسرع الجزيئي، سمح باختبار النظريات العلمية وتطويرها. يقول: "العقلانية التطبيقية هي عقلانية تعمل، تنتج، وتبتكر".هذه العقلانية تختلف عن العقلانية التقليدية (مثل عقلانية ديكارت) التي تركز على المنطق النظري فقط. يؤكد باشلار أن العلم الحديث يتطلب إبداعًا مستمرًا وتكيفًا مع التحديات الجديدة، مما يجعل العقلانية التطبيقية أداة ديناميكية للتقدم العلمي.

المقاربة المعرفية التاريخية

مقاربة باشلار المعرفية التاريخية تجمع بين تحليل تطور العلم عبر التاريخ ونقد العوامل النفسية والثقافية التي تؤثر على هذا التطور. يرى أن فهم المعرفة العلمية يتطلب دراسة السياقات التاريخية التي تشكل العقل العلمي، مع التركيز على القطائع التي تميز التقدم العلمي عن المعرفة التقليدية.

التحليل النفسي للمعرفة العلمية

في تكوين العقل العلمي، يقترح باشلار مفهوم "التحليل النفسي للمعرفة العلمية" كأداة لفهم العوائق النفسية والثقافية التي تعيق تقدم العلم. يرى أن العقل البشري يتأثر بالصور الخيالية والمعتقدات البديهية التي تشكل "عوائق إبستمولوجية" ، مثل الاعتماد على الحدس أو التفسيرات الأنثروبومورفية (التشخيصية) للظواهر الطبيعية. يدعو باشلار إلى تحليل هذه العوائق لتطهير العقل العلمي وتعزيز الموضوعية.

في تكوين العقل العلمي، يقدم باشلار مفهوم التحليل النفسي للمعرفة العلمية كأداة لكشف العوائق الإبستمولوجية التي تعيق تقدم العلم. يرى أن العقل البشري يتأثر بالصور الخيالية والمعتقدات البديهية التي تشكل عقبات أمام الموضوعية العلمية.

تشمل هذه العوائق:

الحدس المباشر: الاعتماد على التجربة الحسية دون تحليل نقدي، مثل الاعتقاد بأن الشمس تدور حول الأرض بناءً على الملاحظة البسيطة.

التعميم المفرط: استنتاج قوانين عامة من ملاحظات محدودة، مثل تعميم خصائص مادة واحدة على جميع المواد الأخرى.

التفسيرات الأنثروبومورفية: إسقاط الخصائص البشرية على الظواهر الطبيعية، مثل وصف النار بأنها "حية" أو "غاضبة".

العائق اللفظي: الاعتماد على لغة غامضة أو شعرية تعيق الدقة العلمية، مثل استخدام مصطلحات غير محددة في وصف الظواهر.

يدعو باشلار إلى "التطهير النفسي" للعقل العلمي من خلال تحليل هذه العوائق والتخلي عنها. على سبيل المثال، يحلل كيف أعاقت فكرة "الجوهر" في الكيمياء القديمة تقدم العلم حتى تم استبدالها بمفاهيم أكثر دقة في الكيمياء الحديثة. هذا التحليل النفسي يعكس مقاربة معرفية تاريخية تركز على كيفية تشكل العقل العلمي عبر التاريخ.

تحديات ونتائج المقاربة المعرفية التاريخية

رغم إبداعها، واجهت مقاربة باشلار تحديات:

النقد الأكاديمي: أثار مفهوم القطيعة الإبستمولوجية نقاشات، حيث يرى بعض الفلاسفة، مثل توماس كون، أن التقدم العلمي يحدث عبر ثورات علمية وليس بالضرورة قطائع جذرية. كما انتقد البعض تركيز باشلار على العوائق النفسية على حساب العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر على العلم.

التحديات العملية: تطبيق التحليل النفسي للمعرفة العلمية يتطلب وعيًا عميقًا بالعوائق الإبستمولوجية، وهو أمر صعب في سياقات تعليمية تهيمن عليها الأساليب التقليدية.

الاتهام بالمثالية: يرى بعض النقاد أن تركيز باشلار على الخيال العلمي والتحليل النفسي قد يبدو مثاليًا، بعيدًا عن الواقع العملي للعلم الحديث.

رغم ذلك، حققت مقاربة باشلار نتائج ملموسة. أصبحت أعماله، خاصة تكوين العقل العلمي، مراجع أساسية في فلسفة العلوم والإبستمولوجيا. ساهمت أفكاره في إلهام فلاسفة مثل لوي ألتوسير وميشيل فوكو، الذين طوروا مفهوم القطيعة الإبستمولوجية في سياقات مختلفة. في إطار جدلية القوة والضعف، قدمت مقاربة باشلار أداة للعلماء والمجتمعات (الأضعف في مواجهة العوائق المعرفية) لتعزيز قوتهم المعرفية من خلال التطهير النفسي والقطائع الإبستمولوجية.

خاتمة

يُعد غاستون باشلار رائدًا في فلسفة العلوم من خلال مقاربته المعرفية التاريخية التي تجمع بين التحليل النفسي للمعرفة العلمية، القطيعة الإبستمولوجية، والعقلانية التطبيقية. هذه المقاربة تقدم رؤية متكاملة لفهم تطور العقل العلمي عبر التاريخ، مع التركيز على مقاومة العوائق النفسية والثقافية التي تعيق التقدم المعرفية. من خلال مقاومته الفكرية للحدس البديهي، العلمية للتراكم التقليدي، والاجتماعية للهيمنة الثقافية، ساهم باشلار في تعزيز القوة المعرفية للعلماء والمجتمعات في مواجهة الضعف الناتج عن الجمود الفكري. رؤيته تمثل دعوة ملهمة لإعادة تشكيل العلم كعملية إبداعية ديناميكية، مما يجعله نموذجًا للمفكر الملتزم بقضايا المعرفة في العصر الحديث. فكيف قامة الثورة العلمية في الحقبة المعاصرة على الدمج بين التحليل النفسي للعلم والقطيعة الابستيمولوجية والعقلانية التطبيقية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

..........................

المصادر والمراجع

باشلار، غاستون. (1938). تكوين العقل العلمي. باريس: نشر فران.

باشلار، غاستون. (1949). العقلانية التطبيقية. باريس: النشر الجامعي الفرنسي.

كون، توماس. (1962). هيكل الثورات العلمية. جامعة شيكاغو للنشر.

ألتوسير، لويس. (1974). فلسفة العلوم وتاريخها. باريس: : النشر الجامعي الفرنسي.

 

مقاربة فلسفية

النزعة البدائية كجوهر حيواني محض

من منظور فلسفي، يمكن النظر إلى النزعة البدائية على أنها تمثيل للجانب الحيواني أو الوجودي الأصيل في الإنسان. إنها ليست مجرد مجموعة من الغرائز، بل هي حالة الوجود غير المشروط؛ الوجود الذي يهدف فقط إلى البقاء وتحقيق اللذة، بمعزل عن أي قيم أو قواعد. هذه النزعة هي ما يربط الإنسان بالطبيعة، وتجعله جزءاً من تسلسلها الحيوي. إنها الجانب الذي يسبق الوعي، حيث يكون الفعل استجابة مباشرة للحاجة.

الأنا المثالية كوعي أخلاقي

على الجانب الآخر، تُمثّل الأنا المثالية الجانب الواعي والأخلاقي في الإنسان. يمكن اعتبارها تجسيداً للمثل الأفلاطونية؛ أي الأفكار المطلقة للخير، والعدل، والجمال. إنها ليست مجرد امتثال لقواعد المجتمع، بل هي وعي ذاتي يتجاوز الواقع المادي، ويسعى إلى تحقيق الكمال الأخلاقي. هذا الجانب هو ما يرفع الإنسان عن حالته الطبيعية، ويمنحه القدرة على تجاوز دوافعه البدائية والارتقاء إلى حالة من الوجود الموجه بالغايات.

صراع الوجود وتكوين الهوية

من هنا، يمكن فهم صراع النزعة البدائية والانا المثالية كصراع فلسفي عميق. إنه صراع بين ما هو كائن (الوجود الطبيعي الغريزي) وما يجب أن يكون (الوجود الأخلاقي المثالي). الهوية لا تُشكّل ببساطة من خلال الجمع بين هذين الجانبين، بل هي نتيجة هذا الصراع المستمر. إنها حالة من التوتر الدائم بين الرغبة في التحرر والانفلات، وبين الحاجة إلى الانضباط والارتقاء. هذا الصراع هو الذي يمنح الهوية معناها، ويجعل الإنسان كائناً يتجاوز ذاته باستمرار بحثاً عن التوازن بين ما هو عليه وما يطمح أن يكونه.

مقاربات فلسفية لتشكيل الهوية

المقاربة الجدلية الهيغلية: يمكن استخدام المنهج الفلسفي الجدلي الذي أسسه الفيلسوف الألماني هيغل لشرح عملية تشكيل الهوية. في هذا الإطار، لا يُنظر إلى النزعة البدائية والانا المثالية ككيانين منفصلين، بل كقوتين متناقضتين تتصارعان لتوليد حقيقة جديدة. الأطروحة تُمثّل النزعة البدائية، وهي القوة الوجودية البدائية للإنسان، بينما النقيض تُمثّل الأنا المثالية، وهي قوة الوعي التي تُقيّد الأطروحة وتُعارضها. التركيب يُشكّل الهوية، وهي ليست مجرد جمع للقوتين، بل هي حالة جديدة من الوعي ينتج عنها شيء أكثر تعقيداً وتطوراً. وفقاً لهذا النموذج، الهوية ليست ثابتة، بل هي في حالة تطور مستمر، يُحرّكها هذا الصراع الداخلي الدائم. كلما تطور وعي الفرد، يتغير تركيب الهوية، وتتجدد الأطروحات والنقائض، مما يؤدي إلى عملية لا نهائية من التطور.

المقاربة النيتشوية: يُمكن قراءة هذا الصراع من منظور الفيلسوف نيتشه، الذي يُؤمن بأن كل فعل إنساني تُحرّكه إرادة القوة. النزعة البدائية تُجسّد إرادة القوة في صورتها الخام؛ إنها القوة الحيوية التي تسعى إلى التعبير عن ذاتها، وإلى التوسع والسيطرة. في المقابل، تُجسّد الأنا المثالية التي تُقيّد إرادة القوة. وفقاً لنيتشه، تم اختراع هذه الأخلاق من قِبل الضعفاء لكبح جماح الأقوياء وتطويعهم. لذا، فإن صراع الهوية هو صراع بين الإنسان المتفوق الذي يتبنّى إرادة القوة ويُشكّل قيمه بنفسه، والإنسان الأخير الذي يُطيع القيم المفروضة من الخارج. الهوية، في هذا الإطار، هي نتاج هذا الصراع: إما أن تكون هوية قوية نابعة من "إرادة القوة"، أو هوية ضعيفة ناتجة عن الخضوع "لأخلاق العبيد".

المقاربة الوجودية: من منظور فلسفي وجودي، لا يمكن فهم النزعة البدائية ككيان نفسي، بل كـوجود أصيل يُمثّل حقيقة الإنسان العارية قبل أي تأثيرات خارجية. إنه الوجود الذي يرفض القوالب، ويتوق إلى التعبير عن ذاته بحرية. على النقيض، تُمثّل الأنا المثالية بناءً زائفاً. إنها ليست مجرد ضمير، بل هي تجسيد لمثاليات الآخر؛ المعايير التي يفرضها المجتمع والتقاليد والأنظمة الأخلاقية. في هذا السياق، يكون صراع الهوية صراعاً بين الوجود الأصيل والزيف.

المقاربة الظواهرية: من منظور الظواهرية، يمكن فهم النزعة البدائية والانا المثالية كظواهر معاشه، وليست مجرد مفاهيم مجردة. النزعة البدائية تُعاش كوعي جسدي؛ إنها الإحساس المباشر بالرغبة والاحتياج. الأنا المثالية تُعاش كوعي مُتخيَّل؛ إنها الصورة الذهنية للذات التي يطمح الإنسان أن يكونها. وفقاً لهذا المنظور، تُشكّل الهوية من خلال الوعي المباشر بهذا الصراع.

النزعات البدائية في المجتمعات المعاصرة

الشرق الأوسط:

في مجتمعات الشرق الأوسط، يمكن مقاربة ظاهرة "تغول النزعات البدائية" فلسفياً لا كظاهرة نفسية فردية، بل كفشل جماعي في الحداثة، حيث تتفكك البنى العقلانية للمجتمع، وتعود الولاءات الأولية (القبلية والطائفية) لتسيطر على المشهد. إنها عودة إلى "حالة الطبيعة" التي وصفها فلاسفة العقد الاجتماعي، ولكن في ثوب معاصر. يمكن النظر الى هذا الموضوع من عدة زوايا:

من منظور هوبز: يمكن فهم هذه الظاهرة من منظور الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، الذي رأى أن الإنسان في "حالة الطبيعة" يعيش في صراع دائم، "حرب الكل ضد الكل". للخروج من هذه الحالة الفوضوية، يتنازل الأفراد عن بعض حريتهم لسلطة مركزية تفرض النظام. في كثير من مجتمعات الشرق الأوسط، يمكن القول إن هذا النظام الاجتماعي قد فشل. فمع ضعف أو انهيار سلطة الدولة المركزية، تعود المجموعات إلى حالة الطبيعة.

من منظور الفيلسوف والمؤرخ العربي ابن خلدون: يمكن تفسير الظاهرة عبر مفهوم العصبية. تبدأ العصبية قوية في المجتمعات القبلية وتُستخدم لبناء الدولة والحضارة، لكن مع ازدهار الدولة وترفها، تبدأ في التآكل. إذا تعرضت الدولة لضعف أو هزة، فإن العصبية الكامنة تعاود الظهور بشكل عنيف، ولكن هذه المرة ليس لبناء دولة جديدة، بل للتصارع على بقايا الدولة المتهاوية.

من منظور نيتشه: يمكن أيضاً النظر إلى الظاهرة عبر عدسة نيتشه، الذي رأى أن انهيار الأيديولوجيات والمثل العليا سيؤدي إلى العدمية. في هذا الفراغ الأخلاقي، يرى نيتشه أن الإنسان يعود إلى إرادة القوة في شكلها الأكثر وحشية، حيث يصبح الهدف الأسمى هو الهيمنة والسيطرة، وتُصبح القوة هي الحقيقة الوحيدة. في الشرق الأوسط، يمكن فهم تجذر النزعات البدائية كنتيجة لانهيار "المشروع القومي" وتآكل الرموز الدينية التي لم تعد قادرة على توحيد المجتمعات.

العفة كبديل للفراغ الأخلاقي

تعتبر العفة ضرورية للحفاظ على القيم الإنسانية في مواجهة التحديات التي يطرحها الفراغ الأخلاقي.  التغيرات السريعة في المجتمع يمكن أن تؤدي إلى تآكل القيم التقليدية. التكنولوجيا ووسائل الإعلام يمكن أن تسهم في نشر أفكار وسلوكيات تتعارض مع القيم الأخلاقية الذي قد يرفع معدل الجرائم والسلوكيات المنحرفة في المجتمعات التي تعاني منه. إن التناقض بين المطلب العلني بـالعفة وتفشي الفراغ الأخلاقي في الممارسات هو ظاهرة فلسفية عميقة. إنها ليست مجرد مسألة أخلاقية، بل هي دليل على خلل في المنظومة الفلسفية التي تُبنى عليها هذه المجتمعات.

العفة كرمز أخلاقي والواقع كفشل وجودي:

يمكن مقاربة هذه الظاهرة من منظور يفرق بين الرمز والواقع. تُعد العفة في كثير من المجتمعات رمزاً أخلاقياً، أو محدداً رئيسياً للهوية، ولكن عندما يصبح التركيز على الرمز وحده، تُهمَل القيم الأخلاقية الأخرى التي تُعتبر أكثر تعقيداً وأقل وضوحاً، مثل الصدق والعدالة. يُصبح التركيز على المظاهر الخارجية التي تمنح القبول الاجتماعي، بينما تتآكل القيم الداخلية.

من منظور ميشيل فوكو:

لا يمكن فهم هذا المطلب الاجتماعي بمعزل عن آليات السلطة. يرى فوكو أن الأخلاق تُستخدم كأداة للسيطرة على الأفراد والمجتمع. في هذه الحالة، يصبح خطاب العفة أداة لتنظيم الجسد والرغبة، مما يمنح السلطة وسيلة للتحكم في الأفراد.

العفة كمحاولة يائسة ضد العدمية:

يمكن النظر إلى هذا التناقض كدليل على العدمية الخفية في هذه المجتمعات. عندما تتفكك المشاريع الكبرى وتفشل في إعطاء معنى للحياة، يلجأ الأفراد إلى قيم بسيطة ومباشرة. في ظل غياب المعنى، تُصبح العفة بمثابة طوق نجاة أخلاقي. لكن هذا الحل لا ينجح، لأن الوجود الإنساني لا يمكن اختزاله في رمز واحد.

***

غالب المسعودي

مقاربة تأويلية

مقدمة: تُعتبر الفلسفة العربية الإسلامية إحدى أبرز الإسهامات الفكرية في تاريخ الفكر الإنساني، حيث جمعت بين التراث الديني الإسلامي والإرث الفلسفي اليوناني والعقلانية. في هذا السياق، برز علم الكلام وعلم أصول الفقه كتيارين رئيسيين شكلا إطارًا للتفكير الفلسفي في العالم الإسلامي. يركز علم الكلام على الدفاع عن العقيدة الإسلامية باستخدام العقل والمنطق، بينما يسعى علم أصول الفقه إلى وضع قواعد لاستنباط الأحكام الشرعية من النصوص الدينية. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل العلاقة بين علم الكلام وعلم أصول الفقه في إطار الفلسفة العربية الإسلامية، مستخدمة مقاربة تأويلية تركز على تفسير النصوص وفهم السياقات التاريخية والفكرية لكلا العلمين.

1. إطار الدراسة والمنهجية

تعتمد الدراسة على مقاربة تأويلية مستمدة من مناهج التفسير الفلسفي، ولا سيما أفكار هانز-غادامر حول التأويلية (Hermeneutics)، التي تركز على فهم النصوص في سياقاتها التاريخية والثقافية. يتم تحليل النصوص الكلامية (مثل أعمال المعتزلة والأشاعرة) ونصوص أصول الفقه (مثل كتابات الشافعي والغزالي)، مع التركيز على كيفية تشكيل هذين العلمين للفلسفة العربية الإسلامية. تنقسم الدراسة إلى ثلاثة أقسام: علم الكلام، علم أصول الفقه، ومقارنة تأويلية بينهما

2. علم الكلام: الفلسفة العقلية في خدمة العقيدة

علم الكلام هو العلم الذي يهتم بمناقشة قضايا العقيدة الإسلامية باستخدام المنطق والعقل للدفاع عنها وتفسيرها. نشأ هذا العلم في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) كرد فعل على التحديات الفكرية التي واجهت الإسلام، مثل الجدل مع أتباع الأديان الأخرى والفرق الإسلامية المختلفة.

الأسس الفلسفية: استلهم علم الكلام من الفلسفة اليونانية، وخاصة أرسطو وأفلاطون، من خلال ترجمات النصوص الفلسفية إلى العربية. المعتزلة، على سبيل المثال، ركزوا على العقل كأداة لفهم العقيدة، مؤكدين على مبدأ العدل الإلهي وحرية الإرادة الإنسانية. في المقابل، تبنى الأشاعرة موقفًا وسطيًا يوازن بين العقل والنقل.

القضايا المركزية: تناول علم الكلام قضايا مثل وجود الله، صفاته، القدر والإرادة الحرة، وطبيعة القرآن (مخلوق أم غير مخلوق). على سبيل المثال، ناقش الإمام الغزالي في تهافت الفلاسفة حدود الفلسفة العقلية في تفسير العقيدة.

الأبعاد التأويلية: يعتمد علم الكلام على التأويل العقلي للنصوص الدينية، حيث يسعى إلى فهم المعاني الكامنة وراء النصوص باستخدام المنطق والجدل. على سبيل المثال، تأويل المعتزلة لصفات الله يعتمد على نفي التشبيه للحفاظ على تنزيه الله.

3. علم أصول الفقه: الفلسفة العملية لاستنباط الأحكام

علم أصول الفقه هو العلم الذي يضع القواعد المنهجية لاستنباط الأحكام الشرعية من القرآن والسنة والإجماع والقياس. نشأ هذا العلم لتلبية الحاجة إلى تنظيم الفقه الإسلامي في مواجهة التحديات الاجتماعية والقانونية في المجتمعات الإسلامية المتنوعة.

الأسس الفلسفية: يعتمد علم أصول الفقه على المنطق والتحليل اللغوي لفهم النصوص الدينية. الإمام الشافعي (ت. 204هـ/820م) وضع الأسس الأولى لهذا العلم في كتابه الرسالة، حيث حدد مصادر التشريع الأربعة (القرآن، السنة، الإجماع، القياس). كما طوّر الغزالي هذا العلم في المستصفى، مركزًا على المنهجية العقلية في التفسير.

القضايا المركزية: يركز علم أصول الفقه على قضايا مثل الدلالات اللغوية للنصوص (العام والخاص، المطلق والمقيد)، القياس، والمصالح المرسلة. يسعى هذا العلم إلى تحقيق المقاصد الشرعية (حفظ الدين، النفس، العقل، النسل، والمال).

الأبعاد التأويلية: يعتمد علم أصول الفقه على التأويل اللغوي والمقاصدي للنصوص. على سبيل المثال، يستخدم الأصوليون القياس لتطبيق الأحكام على مسائل جديدة، مما يتطلب تأويل النصوص في ضوء السياقات المعاصرة.

4. مقارنة تأويلية بين علم الكلام وعلم أصول الفقه

رغم اختلاف مجالاتهما، يشترك علم الكلام وعلم أصول الفقه في كونهما جزءًا من الفلسفة العربية الإسلامية، حيث يسعيان إلى فهم النصوص الدينية وتطبيقها باستخدام العقل والمنطق. يمكن إجراء المقارنة على النحو التالي:

الهدف: علم الكلام: يهدف إلى الدفاع عن العقيدة وتفسير القضايا الميتافيزيقية، مثل وجود الله وطبيعة الإرادة الإنسانية.

علم أصول الفقه: يهدف إلى تنظيم استنباط الأحكام العملية لتنظيم الحياة الاجتماعية والقانونية.

المنهج: علم الكلام: يعتمد على الجدل الفلسفي والمنطق الأرسطي لمناقشة القضايا النظرية. على سبيل المثال، استخدم المعتزلة المنطق لتأكيد حرية الإرادة.

علم أصول الفقه: يعتمد على التحليل اللغوي والمنهجي للنصوص، مع التركيز على التطبيق العملي. على سبيل المثال، يستخدم القياس لربط الأحكام بالواقع.

الإطار التأويلي: علم الكلام: يركز على التأويل العقلي للنصوص لفهم المعاني الميتافيزيقية، مثل تأويل صفات الله (اليد، العين) بمعانٍ مجازية.

علم أصول الفقه: يركز على التأويل اللغوي والمقاصدي للنصوص لاستنباط أحكام عملية، مثل تفسير الأوامر والنواهي في القرآن.

التقاطع الفلسفي: كلا العلمين يعتمد على العقل كأداة لفهم النصوص الدينية، مما يعكس طابع الفلسفة العربية الإسلامية في الجمع بين النقل والعقل.

كلاهما يسعى إلى تحقيق الانسجام بين الوحي والعقل، لكن علم الكلام يركز على الجوانب النظرية، بينما علم أصول الفقه يركز على الجوانب العملية.

يتقاطعان في استخدام التأويل كوسيلة لفهم النصوص في سياقاتها التاريخية والاجتماعية.

التحديات: علم الكلام: واجه انتقادات من التيارات التقليدية (مثل الحنابلة) التي رأت أن الاعتماد المفرط على العقل قد يؤدي إلى الانحراف عن النصوص.

علم أصول الفقه: واجه تحديات في مواكبة التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية، مما يتطلب تأويلات جديدة للنصوص.

خاتمة

تقدم الفلسفة العربية الإسلامية، من خلال علم الكلام وعلم أصول الفقه، نموذجًا فريدًا للجمع بين العقل والنقل في سعيها لفهم النصوص الدينية وتطبيقها. بينما يركز علم الكلام على تفسير القضايا الميتافيزيقية والدفاع عن العقيدة، يركز علم أصول الفقه على تنظيم الحياة العملية من خلال استنباط الأحكام. من خلال مقاربة تأويلية، يمكن رؤية هذين العلمين كجزء من مشروع فلسفي أوسع يهدف إلى تحقيق الانسجام بين الوحي والعقل، مع مراعاة السياقات التاريخية والاجتماعية. يبقى التحدي في كيفية تطوير هذه الأطر التأويلية لمواجهة التحديات المعاصرة، مثل العولمة المتوحشة والتعددية الثقافية.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

من هو المثقف الديني؟

اصبح مفهوم المثقف غامضا ومشوشا، ومفهوم المثقف الديني أشد غموضا، لأنه قلما يجري استعماله، والمثقف النقدي هو المثقف الذي ينبغي أن يكون رقيبا على ما يشاهد في الواقع ورقيبا، على ما يقرأ في صفحات الكتب وغيرها، وهذا النموذج من الضروري أن يكون حاضرا بكل أشكاله، وذلك بطبيعة الحال لا يمنع من ملاحظة بعض المشكلات، وهذا الوظيفة (الرقابة)، من شأنها أن تتكفل ببيان معنى (المثقف)، من حيث الغرض والوظيفة، لا من حيث الذات والهوية..

المثقف الديني النقدي هو شخصية فكرية تنشأ في المسافة بين المرجعية الدينية والخطاب الثقافي العام، إذ لا يكتفي بالاستيعاب أو الترديد لما هو موروث، بل يمارس دورًا تفكيكيًا وإعادة بناء للخطاب الديني في ضوء العقل والواقع.

نتحدث عن المثقف الديني العربي فحسب..، لأننا بين ظهرانيهم، وجزء منهم، وفيهم، وبينهم..

يذكر عبد الجبار الرفاعي أحد مشكلات المثقف الديني العربي في مقدمة كتابه: (مفارقات واضداد في توظيف الدين والتراث)، وهو يتحدث عن بعض المفارقات بين الفكر الايراني والفكر العربي في سياق تعامل كل منهما مع الفلسفات الشرقية، ومجال الفلسفة في جانبها الميتافيزيقي فيقول: (يتميزُ الفكرُ الإيراني الحديث غالبًا بغطاءٍ ميتافيزيقي، ‏خلافًا للفكر العربي الحديث الذي يكون متمردًا غالبًا على الميتافيزيقا، حتى الفكرُ الديني العربي لا يرتدي ذلك الغطاءَ الميتافيزيقي بهالته الرمزيةِ والعرفانيةِ وإيحاءاته الفلسفية)1، واستوقفني هذا القول من جهات متعددة:

أولا: ليس بالضرورة أن أتفق تماما مع هذه المفاصلة والفرق بين الفكرين الإيراني والعربي.

ثانيا: إلى درجة ما اتفق في أن المثقف العربي يبالغ في يساريته ونقده، بالنحو الذي يجعله في الغالب عازفا عن الدين أو التدين..

ثالثا: مما يؤيد ذلك أن المثقف الديني العربي ذو ذائقة أدبية متسلح بالفصاحة والبيان، وهذا ما يجعله بنحو ما مختلفا عن المثقف الديني الإيراني الذي يتاثر غالبا بالأدب الصوفي والعرفاني..

رابعا: المثقف الديني العربي اليساري، تُعرف يساريته من خلال تنكره أو نقده لكل ما هو غيبي، وهذا ليس شيئا ملازما للنقد لدى كل نماذج الثقافة في العالم..، بحيث تشكل هذه الخصيصة عقدة ما في نفسه، تجاه كل خطاب محفوف بذكر بعض عناصر الغيب..

ماهي مقومات تكون المثقف الديني النقدي؟

يمكن اجمالها في:

اولا: مقومات بنوية: ثمة مقومات تدخل في بنية وتكوين المثقف:

1- مستوعبا للتراث الديني، ومناهج فهمه.

2- متحررا من عقد القطيعة مع التراث، وإلا أصبح مثقفا غير ديني، لأن النقد الديني لا يمكن أن يكون دينيا وفي الوقت نفسه مقاطعا للتراث الديني، إذ يتطلب النقد الديني أن ينقد المعرفة الدينية بمعايير مشتركة، وإلا خرج عن كونه نقدا إلى كونه خطابا مقابلا.

3- مرجعيته العقل والبرهان، وهذا يجعل منه مؤثرا في السياق الاستدلالي الديني.

ثانيا: مقومات وظيفية: ثمة مقومات تتعلق بوظيفة المثقف:

1- أن يكون في مقام الملاحظة والتفسير والنقد لا في مقام التغيير والفعل، فليس من شأن المثقف الديني أن يتصدى محل رجل الدين أو المؤسسة الدينية، وإذا أراد أن يحفظ عنوانه كمثقف ديني يمكن أن يكون فاعلا في السياق المعرفي، الذي يتضمن الملاحظة وتشخيص الثغرات، ومراقبا بنحو موضوعي، أما إذا أراد أن يبادر إلى تصحيح أو تقديم معرفة بديلة، فيقوم بذلك لا بوصفه مثقفا، بل بوصفه باحثا مختصا، أو أي صفة أخرى تمتلك مقومات الفعل والتغيير..

2- أن يكون مراقبا ورقيبا على الواقع من جهة، وما ينتجه الخطاب الديني من جهة أخرى، لأن مخرجات الخطاب تحدث متغيرات في الواقع، وهو مما يندر أن تتم ملاحظته من قبل الباحث المختص، فيعمل المثقف الديني على ملاحظة مدى انسجام الخطاب والمعرفة الدينية مع مجريات الواقع.

3- متواصلا وحاضرا مع مختلف الفئات، لأن التواصل والحضور ضروري في تكوين شخصية المثقف، وهو ما يوفر له مكنة الملاحظة، وملامسة مجريات الواقع.

٤- النقد من الداخل: ينطلق من داخل البنية الدينية، ويملك القدرة على تمييز ما هو ثابت عقائدي أو روحي عميق، وما هو اجتهادي أو تاريخي قابل للنقد وإعادة القراءة.

٥-المنهجية الثرية: يوظّف أدوات معرفية متعددة وثرية، من التراث الديني (القرآن، الحديث، الفقه، علم الكلام) ومن العلوم الإنسانية الحديثة (التاريخ، الأنثروبولوجيا، علم الاجتماع، الفلسفة)، بنحو يتوخى الدقة في رؤية ثنائية للمجالين، وفرص التخادم بين كل من المجال الديني، والمجال الانساني.

٦-  ربط الدين والواقع: من خلال السعي إلى جعل الخطاب الديني أكثر قدرة على الاستجابة لتحديات العصر، بعيدًا عن الجمود أو الانفصال عن الحاجات الإنسانية والاجتماعية.

فالمثقف الديني النقدي فاعل ثقافي يسهم في تشكيل الوعي الجمعي، ليس بوصفه داعية تقليديًا، لأن ذلك من شأن المتخصص، بل ناقدًا ومحرّكًا للأسئلة ومثيرًا للنقاش، بضمير ديني معاصر، يسائل التراث والواقع معًا، في محاولة لتجديد فهم الدين من الداخل، دون أن يقع في فخ العلمنة المتطرفة أو في أسر التقليد الجامد.

***

د. أسعد عبد الرزاق

.......................

1 - ظ: عبد الجبار الرفاعي: مفارقات واضداد في توظيف الدين والتراث: 20 مؤسسة هنداوي

 

في عام 2014 جرت محادثة حول حدود العلم في جامعة غنت Ghent البلجيكية بين الفيلسوف الامريكي دان دينيت Dan Dennett والفيزيائي لورنس كراوس Lawrence Krauss والمراسل العلمي لمجلة الفلسفة الان ماسيمو بيجلوتشي Massimo Pigliucci . حيث برزت حينذاك قضية احتمال وجود  طرق اخرى للمعرفة بجانب الطريقة العلمية المعروفة. جميع المتحدثين الثلاثة رغم الاختلافات الهامة بينهم حول العلم وعلاقته بالفلسفة، رفضوا فورا هذه الفكرة واعتبروها سخيفة. لكن في لحظات من التفكير سيتبيّن انه بالطبع توجد هناك طرق اخرى للمعرفة اعتمادا على ما يعنيه المرء بـ "الطرق" و "المعرفة". فمثلا، الجميع متأكدون من معرفتهم بان الارض تدور حول الشمس وليس العكس. والكل ايضا يعرف ان الجذر التربيعي للرقم 9 هو 3. مع ذلك، ما نعنيه بـ "يعرف" في هذين المثالين هو بالتأكيد ليس ذات الشيء. النوع الاول هو اكتشاف تجريبي مشتق من ملاحظات حول العالم، اما الثاني هو خاصية معروفة استنتاجيا لطريقة معينة من ربط المفاهيم "3"، "9" و "جذر تربيعي". لذا فان المعرفة الرياضية ليست نفس المعرفة التجريبية، وبالتالي الرياضيات هي في الحقيقة طريقة مختلفة للمعرفة عن العلوم.

قضية مشابهة يمكن ملاحظتها لو ركزنا على المنطق بدلا من الرياضيات. (نعم، الاثنين مرتبطان بعمق لكن من غير الواضح ان كان احدهما شكلا للآخر او ما اذا كان الاثنين أعضاء في شكل واسع لمعرفة غير تجريبية. رهاننا هنا هو على الأخير). فمثلا، لو باشر احدنا الدراسة في كورس تمهيدي في المنطق فهو سوف يعرف – وربما يتبيّن له – ان طريقة تولينز modus tollens (1)هي شكل صالح للاستدلال. نحن ربما نعرف ايضا ان "تأكيد النتيجة" هي مغالطة منطقية. كل هذه المعرفة ليس لها جذور في التجريبية، وحتى هناك القليل من المعرفة التجريبية التي نستطيع تسميتها علم.

الأشياء تصبح أقل غموضا عندما نكون أكثر حزما في دخول عالم التجريبية. هل كل المعرفة التجريبية مساوية للعلم، وبالتالي تبرير إجماع التفسير المقيد لدينيت - كراوس – الذي ذكرناه أعلاه؟ ماذا عن الحدس، مثلا؟ نحن لا نعني هنا الحاسة السادسة التي يعتقد البعض انهم يمتلكونها، نحن نعني الحدس كنوع من المعالجة السريعة اللاواعية  للمعلومات التي درسها السايكولوجيون مثل دانيال كنهمان Daniel Kanheman لفترة طويلة. ذلك النوع من الحدس يرقى الى مخزن لمجال معرفي خاص جاهز للاستعمال والذي غالبا معظم الناس غير واعين بامتلاكهم له. عندما يعرف لاعب كرة القدم أحسن طريقة لخلق منحنى خطير للكرة لخداع حارس المرمى، او عندما يعرف خبير الشطرنج ان حركة معينة ستخرجه من الموقف الصعب، فهما يكونان قادرين على توضيح منطقي لسبب قيامهما بذلك العمل، لكن القيام بذلك العمل العفوي غير المخطط لم يكن نتيجة تجارب وملاحظات منهجية، او مؤطر بنوع من التفكير النظري الذي نتوقعه من العالِم. انه كان نتيجة لطريقة مختلفة من المعرفة تماما. هناك ايضا ما يسمى "معرفة تجريبية يومية"، مثل حقيقة ان احد يعرف كيف يتنقل في مترو انفاق نيويورك (وليس لندن)، ببساطة لأنه يعيش في نيويورك واكتسب المعلومات الضرورية عبر وسائل عادية جدا (خرائط، سؤال الناس). تلك المعرفة لا يجب ان توصف بالصفة الرفيعة "علمية" حتى عندما تكون بالطبع معرفة تجريبية، ومفيدة، لمن يعيش او يزور مدينة نيويورك.

وهناك المزيد من الحالات الاخرى. تجربة فينومينولوجية قد تُعد كمعرفة ايضا: نحن نعرف ما يشبه الشعور بالألم او ارواء العطش او عدد من الاحاسيس الاخرى، والذي قد يحصل لكل شخص . لكن هذه المعرفة، اذا كنا حقا نريد تسميتها كمعرفة، فهي ليست نتيجة للدراسات العلمية. انها نتيجة للماكنة البايولوجية الاساسية التي نمتلكها كلنا منذ الولادة (انتقال للطفرات او عجز تطوري). انها ليس لها معنى منطقي ولا علمي ايضا، ومع ذلك لاتزال تشكل نوعا من معلومات موثوقة نمتلكها حول العالم. وكما اتضح، ان القليل من التأمل يبيّن ان هناك عدة طرق اخرى للمعرفة بجانب الطريقة التي يوفرها العلم. لا توجد واحدة هي "الافضل" او "تتجاوز العلم"، وبالتالي لا تؤدي الى أي راحة لمن يعرضون حديثا غير نزيه او معلومات غير موثوقة. كل واحدة لها مجالها الملائم للتطبيق، وبالطبع هناك الكثير من مجالات التداخل والتفاعل. المتحدثون الثلاثة كانوا سريعين جدا في الحكم وتجاوز ما هو ملائم اثناء تلك المحادثة.

***

حاتم حميد محسن

.......................

الهوامش

(1) هي طريقة للاستدلال الاستنتاجي من اقتراح افتراضي طبقا له اذا تم انكار النتيجة فان المقدمة يتم انكارها ايضا (اذا كانت س صحيحة فان ص صحيحة، لكن ص هي كاذبة لذلك فان س هي كاذبة). مثال على ذلك: الملك يجب ان يكون لديه تاج، عدم وجود تاج يعني هو ليس ملكا. الطريقة تسمى طريقة الانكار لأنها تستلزم انكار النتيجة لغرض انكار المقدمة.

 

لا احد يستعمل مصطلح المالتيسية Malthusian بشيء من الإنصاف. منذ ان نشر الاقتصادي البريطاني ورجل الدين توماس مالتوس كتابه (رسالة حول مبادئ السكان، 1798)، جوبه الموقف المالتيسي (فكرة ان البشر عرضة لقيود طبيعية) بالتشهير والازدراء. اليوم، يُطلق هذا المصطلح على كل من يشك بالتفاؤل في التقدم اللامتناهي.

لسوء الحظ، كل ما عرفهُ معظم الناس عن المالتيسية هو خاطيء. القصة تبدأ كالتالي: في وقت ما، جاء القسيس الانجليزي مالتوس بفكرة ان السكان يتزايدون على شكل متوالية "هندسية" بينما انتاج الطعام يتزايد على شكل متوالية "حسابية". بمعنى ان السكان يزدادون ضعفا كل 25 سنة، بينما انتاج الغلات يزداد بنسبة بطيئة جدا. وبمرور الزمن، يجب ان يقود هذا الاختلاف الى كارثة. لكن مالتوس حدّد عاملين اثنين قللا من التكاثر وأوقفا الكارثة وهما: الكود الاخلاقي او ما أسماه "التحقق الوقائي"، و "التحقق الايجابي" مثل الفقر الشديد والتلوث والحروب والامراض وكراهية النساء. في الكاريكاتير الشائع جدا ان مالتس رجل الدين الضيق الافق كان سيئا في الرياضيات واعتقد ان الحل الوحيد للجوع هو ابقاء الفقير فقيرا كي ينجب القليل من الاطفال. ان فهم مالتس في السياق الاوسع يكشف عن شخصية مختلفة جدا. مالتس كان مبدعا ومفكرا ذو رؤية ثاقبة. هو لم يكن فقط واحدا من الشخصيات المؤسسة لإقتصاد البيئة وانما هو ايضا كان ناقدا تنبؤيا في ايمانه بان التاريخ يميل نحو تحسين الانسان وتحقيق ما يسمى التقدم.

الله والعلم

في موضوع التقدم، كان مالتوس مدركا عن ماذا يتحدث. هو تربّى وتعلّم بواسطة المنشقين: البروتستانت الانجليز التقدميين الذين دعوا الى فصل الكنيسة عن الدولة. هو تعلّم على يد الراديكالي المناهض للعبودية جيلبرت ويكفيلد Gilbert Wakefield، ووالده كان صديقا ومعجبا بفيلسوف التنوير جان جاك روسو الذي ساعدت افكاره في اطلاق شرارة الثورة الفرنسية. وبالرغم مما كان يعاني منه من تشوّه في الفك، ميّز مالتوس نفسه في كامبردج، حيث درس الرياضيات التطبيقية والتاريخ والجغرافية. كان الذهاب الى العمل الديني خيارا شائعا للشباب المتعلمين، ومالتوس كان قادرا على ادارة البيت الديني في منطقة ووتن بسيري. لكن ذلك لا يعني التخلي عن اهتمامه في العلوم الاجتماعية. كتاب "رسالة حول مبادئ السكان" تميّز برؤى مالتوس الثيولوجية، لكنه ايضا كان عملا تجريبيا بعمق واصبح اكثر ملائمة بعد مراجعته في الطبعات اللاحقة. جداله حول نسب النمو الهندسية والعددية، مثلا، كان مرتكزا على النمو السكاني المتزايد في المستعمرات الامريكية. وكان ايضا مرتكزا على ما كان يحدث حوله في بريطانيا. وفي العقود الاخيرة من القرن الثامن عشر، دُمرت بريطانيا بالاضطرابات و النقص المتكرر للغذاء. عدد السكان ارتفع من 5.9 مليون نسمة الى 8.7 مليون شخص بزيادة قدرها 50% تقريبا بينما الانتاج الزراعي بقي دون مستوى الزيادة السكانية. وفي عام 1795، هاجم سكان لندن الجياع حافلة الملك جورج الثالث مطالبين بالخبز.

تفاؤلية بلا حدود

لكن لماذا كان مالتوس يتحدث عن السكان في المقام الاول؟ كما يوضح مالتس ذاته، رسالته تأثرت بجدال مع صديق حول الصحفي والروائي وليم جودوين William Godwin – يُعرف اليوم بأب ماري شيلي مؤلفة فرانكشتاين. مالتس وجودوين كانت لهما خلفية متشابهة. كلاهما جاء من عائلة منشقة من الطبقة الوسطى، تعلّما في مدارس تقدمية ومارسا عملهما المهني كوزيرين. لكن الراديكالية المتطرفة لجودوين وضعته في تضاد حتى مع زملائه المنشقين، حيث ترك حالا المنبر ليمسك القلم.

الكتاب الذي اشتهر به جودوين والذي تأثر به مالتس هو كتاب "تحقيق يتعلق بالعدالة السياسية، 1793). اليوم، يُعتبر هذا الكتاب منهاجا تأسيسيا للفوضوية الفلسفية. في الأصل، نُظر الى كتاب "تحقيق .." لجادوين كصوت مدوّ للتقدم التنويري. جادل جودوين بان كل المشاكل الاجتماعية يمكن ازالتها عبر تطبيق ملائم للعقل. هو دعا الى الغاء الزواج واعادة توزيع الملكية وازالة الحكومة. وما هو اكثر، هو أعلن بان التقدم يقود حتما الى عالم طوباوي حيث لم يعد واجبا على الانسان التكاثر لأننا سنبقى الى الابد: " سوف لن تكون هناك حرب، لا جرائم، لا ادارة للعدالة كما كانت تسمى، لا حكومة ... لكن بجانب هذا، سوف لن تكون هناك امراض، ولا مصاعب، ولا حزن، ولا استياء. كل انسان سيسعى بحماسة لا توصف الى الخير للجميع". جودوين أكّد لقرائه ان هذه الاشياء ستأتي في الوقت المناسب فقط من خلال النقاش العقلاني. من بيته الفقير في ووتن، رأى مالتس الاشياء بشكل مختلف. المؤرخ روبرت مايهيو Robert Mayhew يصف ووتن في ذلك الوقت كأرض صناعية قاحلة تعاني من الفقر الزراعي .. ونسبة ولادات عالية وحياة قصيرة". دراسة التاريخ قادت مالتس الى الاستنتاج ان المجتمعات تتحرك ليس في خط تصاعدي مستمر من التقدم وانما في دورات من التوسع والانكماش. قصة يوتوبيا جودوين لا تبدو مطابقة للدليل.

اصلاح في حدود المعقول

سعى مالتوس الى خرق تقدمية جودون الفخمة. لكنه لم يقل باستحالة التغيير الايجابي، فقط قال ان التغيير محدود بقوانين الطبيعة. "رسالة في مبادئ السكان" كان محاولة منه لتحديد اين تكمن تلك القيود، بحيث يمكن للسياسة ان تستجيب بفاعلية للمشاكل الاجتماعية بدلا من جعلها أسوأ عبر محاولة تحقيق المستحيل. ككاتب وعضو نشط في حزب الويغ، كان مالتس مصلحا دعا الى تعليم وطني حر والى توسيع حق الاقتراع والغاء العبودية وتوفير رعاية صحية مجانية للفقراء الى جانب برامج اخرى. ومنذ ذلك الوقت، حققت العلوم والصناعة تقدما مذهلا قاد الى تغييرات لم يكن مالتس يحلم بها. عندما نُشرت رسالته، كان عدد سكان العالم حوالي 800 مليون شخص. اليوم اصبح العدد اكثر من 8 بليون نسمة اي زيادة بمقدار عشرة أضعاف في أقل من قرنين. ومع مرور الزمن، احتقر مؤيدو التقدم فكرة ان البشر عرضة لقيود الطبيعة واتهموا كل من يشكك في النمو اللامحدود بـ "المالتيسية". غير ان مالتس بقي هاما لأن تفسيره التشاؤمي للمجتمع كان واضحا في التعبير عن رؤية يصعب رفضها: قوانين الطبيعة تنطبق على المجتمع البشري.

في الحقيقة، ربما كان "التسارع الكبير" في التنمية البشرية وتأثيرها في الثمانين سنة الماضية قد دفع العالم الى حافة الانهيار. العلماء يحذرون من اننا تجاوزنا 6 من بين 9 قيود حدودية boundary conditions (1) لحياة بشرية مستديمة على الارض وحاليا قريبين من تجاوز القيد السابع. احدى تلك القيود هي مناخ مستقر. الاحتباس الحراري العالمي يهدد ليس فقط برفع مستوى البحر وانما زيادة الحرائق وانتشار العواصف المدمرة، وايضا زيادة الجفاف وتعطيل الزراعة العالمية. مالتس ربما لم يتنبأ بالتطورات التي غذت نمو السكان في القرنين الماضيين. لكن رؤيته الاساسية الى قيود النمو اصبحت اكثر ملائمة. وبما اننا نواجه أزمات بيئية عالمية متسارعة، فقد حان الوقت لمراجعة الفكرة التشاؤمية باننا نعيش في عالم محاط بقيود. إعادة النظر بمعنى "المالتيسية" ربما هو أفضل بداية.

***

حاتم حميد محسن

.........................

الهوامش

(1) الحدود او القيود التسعة تتمثل في: تغيرات المناخ، فقدان التنوع البايولوجي، تغيير انظمة الارض، تغيير المياه العذبة، التدفقات الجيوكيميائية (نيتروجين وفسفور)، تحميض المحيطات، استنفاد الاوزون، تلوث الغلاف الجوي، اطلاق مواد جديدة (كيمياويات وبلاستك). الانسان خرق سلفا العديد من هذه القيود الامر الذي يتطلب فورا العمل ضمنها لأجل كوكب آمن ومستقر.

 

من خلال دراسة العلاقة بين الفيزياء والفلسفة - مقاربة إبستيمولوجية

(نجد أنفسنا منذ البداية في حوار بين الطبيعة والإنسان، والعلم ليس إلا جزءًا منه)... فيرنر هايزنبرغ، الطبيعة في الفيزياء المعاصرة

مقدمة: يُمثل فيرنر هايزنبرج (1901-1976) أحد أعمدة الفيزياء الحديثة، حيث ساهم في تأسيس ميكانيكا الكم وصيغ مبدأ عدم اليقين عام 1927، الذي أحدث تحولًا جذريًا في فهمنا للواقع المادي. لم تقتصر إسهاماته على المجال العلمي، بل امتدت إلى الفلسفة والإبستيمولوجيا (علم المعرفة)، حيث طرح أسئلة عميقة حول طبيعة المعرفة العلمية، دور الملاحظ، والعلاقة بين الفيزياء والفلسفة. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الثورة العلمية التي قادها هايزنبرج من خلال دراسة التفاعل بين الفيزياء والفلسفة، مع التركيز على المقاربة الإبستيمولوجية. سيتم الاعتماد على أعمال هايزنبرج الرئيسية، مثل الفيزياء والفلسفة (1958) والجزء والكل (1970). فكيف يؤول هايزنبرج الطبيعة ؟ وماهي خصائص الثورة العلمية التي أحدثها في الحقبة المعاصرة؟ وماهي القيمة الابستيمولوجية لتأويل كوبنهانغن في تاريخ العلوم والفلسفة المعاصرة؟

الإطار الإبستيمولوجي لأفكار هايزنبرج

" يبدو العالم بمثابة نسيج معقد من الأحداث، حيث تتناوب العلاقات من مختلف الأنواع، أو تتداخل، أو تتحد، وبالتالي تحدد نسيج الكل." فيرنر هايزنبرغ، الفيزياء والفلسفة

الإبستيمولوجيا، كعلم يدرس طبيعة المعرفة وكيفية اكتسابها، تُعدّ أداة حيوية لفهم التحولات التي أحدثها هايزنبرج في العلم الحديث. في كتابه الفيزياء والفلسفة، يوضح هايزنبرج أن ميكانيكا الكم أعادت تشكيل التصورات التقليدية حول الواقع والحتمية. يقول: "اللغة التقليدية التي استخدمناها لوصف الظواهر الفيزيائية لم تعد كافية، مما يتطلب لغة جديدة تجمع بين المفاهيم العلمية والفلسفية". مبدأ عدم اليقين، الذي ينص على أنه لا يمكن قياس موقع وزخم الجسيم بدقة في الوقت ذاته، يُظهر حدودًا جوهرية للمعرفة العلمية. هذا المبدأ يتحدى الفكرة النيوتنية التي ترى العالم كآلة حتمية يمكن التنبؤ بها بدقة مطلقة. من منظور إبستيمولوجي، يثير هذا المبدأ تساؤلات حول طبيعة الواقع: ماهي طبيعة الواقع؟ وكيف يتم تفسير الكون المحيط بنا ؟ هل هو مجموع من الظواهر المادية المستقلة عنا في وجودها الموضوعي أم هي مجرد تمثلات ذهنية؟ وهل الواقع مستقل عن الملاحظ؟ أم أن المعرفة العلمية تتشكل من خلال تفاعل الملاحظ مع الظاهرة؟

العلاقة بين الفيزياء والفلسفة في أعمال هايزنبرج

"كل أداة تحمل في داخلها الروح التي تم إنشاؤها بها." هايزنبرج

تفسير كوبنهاغن ودور الملاحظ

ساهم هايزنبرج، بالتعاون مع نيلز بور، في تطوير تفسير كوبنهاغن ، الذي يقترح أن الظواهر الكمومية لا تتحدد إلا عند قياسها. هذا المفهوم يعني أن الواقع الكمومي ليس ثابتًا، بل يعتمد على فعل الملاحظة. في كتاب الجزء والكل، يصف هايزنبرج حواراته مع بور وأينشتاين، حيث ناقشوا كيف أن هذا التفسير يتطلب إعادة تقييم المفاهيم الفلسفية التقليدية مثل العلية والواقع الموضوعي. من الناحية الفلسفية، يشير تفسير كوبنهاغن إلى تأثير الملاحظ على الظاهرة، مما يتقاطع مع الفلسفة الكانطية التي ترى أن المعرفة تتشكل جزئيًا من خلال إدراكنا. يقول هايزنبرج: "ما نلاحظه ليس الطبيعة في حد ذاتها، بل الطبيعة كما تظهر لنا من خلال طريقة طرح الأسئلة". هذا المنظور يجعل الفيزياء الكمومية أقرب إلى الفلسفة من أي وقت مضى، حيث يصبح العالم الفيزيائي مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالوعي البشري

تحدي الحتمية النيوتنية

في العلم الكلاسيكي، كان يُفترض أن العالم يعمل وفق قوانين حتمية يمكن التنبؤ بها بدقة إذا توفرت المعلومات الكافية. لكن مبدأ عدم اليقين قلب هذا الافتراض، حيث أظهر أن هناك حدودًا جوهرية للتنبؤ. هذا التحول أثار نقاشات فلسفية حول العلية والاحتمالية. على سبيل المثال، رفض أينشتاين فكرة الاحتمالية، قائلاً: "أنا مقتنع بأن الله لا يلعب النرد". في المقابل، دافع هايزنبرج عن الطبيعة الاحتمالية للكون، مشيرًا إلى أنها ليست مجرد قصور في أدوات القياس، بل خاصية جوهرية للواقع.

الثورة العلمية في ضوء أفكار هايزنبرج

" يقول أفلاطون أن الحب هو رغبة الإنسان في الخلود وأن هذا الرعب المقدس أمام الجمال هو في نفس الوقت رعب أمام اللانهائي الذي يغزو وعينا فجأة." فيرنر هايزنبرغ، مخطوطة 1942

تحول النموذج العلمي

وفقًا لتوماس كون في كتابه بنية الثورات العلمية، فإن الثورات العلمية تحدث عندما يتم استبدال نموذج علمي قديم بنموذج جديد. يُعد تطوير ميكانيكا الكم بمثابة تحول نموذجي، حيث انتقل العلم من الرؤية الحتمية النيوتنية إلى رؤية احتمالية تعتمد على الإحصائيات. مبدأ عدم اليقين وتفسير كوبنهاغن لم يكونا مجرد تقدم تقني، بل أعادا تعريف طبيعة المعرفة العلمية والواقع ذاته. في هذا الصدد يذكر ما يلي:" مبدأ عدم اليقين، المراقب والملاحظ؛ لا عجب أن نُضطر نحن الفيزيائيين في هذه الحالة إلى إجراء إحصاءات، كما هو الحال مع شركة تأمين على الحياة التي تُجري حسابات إحصائية تتعلق بمتوسط العمر المتوقع للعديد من حاملي وثائقها. ولكن، في جوهره، كان هناك ميل في الفيزياء الكلاسيكية إلى افتراض إمكانية تتبع حركة كل جزيء على حدة، من حيث المبدأ على الأقل، وتحديدها وفقًا لقوانين ميكانيكا نيوتن. بمعنى آخر، من وجهة نظر الفيزياء الكلاسيكية، يبدو أن هناك في كل لحظة حالة طبيعية موضوعية يمكن من خلالها استنتاج الحالة التي ستظهر في اللحظة التالية. أما في ميكانيكا الكم، فالأمر مختلف تمامًا. لا يمكننا إجراء ملاحظة دون التأثير على الظاهرة المراد ملاحظتها؛ والتأثيرات الكمومية، التي تؤثر على وسائل الملاحظة المستخدمة، تؤدي في حد ذاتها إلى نوع من عدم اليقين فيما يتعلق بالظاهرة المراد ملاحظتها. لكن هذا ما لا يريد أينشتاين الاستسلام له، مع أنه يعلم الحقائق جيدًا. فهو يعتقد أن تفسيرنا لا يمكن أن يُشكل تحليلًا كاملاً للظواهر؛ وأنه في المستقبل، يجب أن يكون... من الممكن إيجاد معايير إضافية مختلفة تُميّز الظاهرة، والتي من شأنها أن تُمكّن من تحديدها بموضوعية وشمولية. لكن هذا غير صحيح بالتأكيد."

تأثير ميكانيكا الكم على الإبستيمولوجيا

"بدون مراقب، لن يكون هناك واقع يمكن مراقبته." فيرنر هايزنبرغ

من الناحية الإبستيمولوجية، أظهرت أفكار هايزنبرج أن المعرفة العلمية ليست مطلقة، بل نسبية ومحدودة بحدود جوهرية. هذا المنظور يتوافق مع أفكار كارل بوبر حول قابلية الدحض كمعيار للعلم، لكنه يذهب أبعد من ذلك، حيث يشير إلى أن العلم الحديث يتطلب إعادة النظر في المفاهيم الأساسية مثل الزمان والمكان. يقول هايزنبرج: "الفيزياء الحديثة لا تتعامل مع الأشياء كما هي في حد ذاتها، بل مع العلاقات بين الأشياء".

تأثير هايزنبرج على الفلسفة المعاصرة

" علينا أن نتذكر أن ما نلاحظه ليس الطبيعة في حد ذاتها، بل الطبيعة المعروضة لمنهجنا في التحقيق."

أثرت أفكار هايزنبرج على فلاسفة مثل هانز جوناس ومارتن هايدغر. رأى هايدغر أن ميكانيكا الكم تعكس أزمة في فهم الوجود، حيث أصبح الإنسان جزءًا من العملية العلمية وليس مجرد مراقب خارجي. كما أن فكرة عدم اليقين شجعت على تطوير فلسفات مثل الوجودية والفينومينولوجيا، التي ركزت على دور الفرد في تشكيل المعرفة. على سبيل المثال، يمكن ربط تأويل كوبنهاغن بأفكار إدموند هوسرل حول الوعي كعامل أساسي في إدراك الواقع. حول هذه النقطة يصرح بالآتي:" لا يمكن أن يكون هناك وصف بصري لبنية الذرة، لأن مثل هذا الوصف - تحديدًا لأنه بصري - سيحتاج إلى استخدام مفاهيم الفيزياء الكلاسيكية، وهي مفاهيم لم تعد تسمح لنا بفهم الظاهرة. أنت تدرك أننا، في محاولتنا لوضع نظرية من هذا النوع، نقوم بمهمة مستحيلة بديهيًا. إذ يجب أن نقول شيئًا عن البنية الذرية، لكننا لا نملك لغة تسمح لنا بتوضيح أنفسنا. بمعنى ما، نحن في وضع ملاح تقطعت به السبل في بلد بعيد حيث لا تختلف ظروف المعيشة تمامًا عن تلك التي عرفها في وطنه فحسب، بل يجهل تمامًا لغة سكانه. إنه بحاجة إلى التواصل مع هؤلاء الناس، لكنه لا يملك أي وسيلة لذلك."

تأويل كوبنهاغن في سياق تطور الفيزياء والفلسفة

" في الفيزياء النظرية، نحاول فهم مجموعات من الظواهر من خلال إدخال رموز رياضية يمكن ربطها بالحقائق، أي بنتائج القياسات."  فيرنر هايزنبرغ، الفيزياء والفلسفة

يُعد تأويل كوبنهاغن أحد أبرز التفسيرات الفلسفية والعلمية لميكانيكا الكم، وقد طُور بشكل رئيسي على يد نيلز بور وفيرنر هايزنبرج في عشرينيات القرن العشرين. يُعتبر هذا التأويل إطارًا أساسيًا لفهم الظواهر الكمومية، وهو يعالج قضايا أساسية مثل طبيعة الواقع، دور القياس، والعلاقة بين الملاحظ والظاهرة. تهدف هذه الدراسة إلى تقديم شرح تفصيلي لتفسير كوبنهاغن، مع التركيز على مكوناته الأساسية، السياق الفلسفي والإبستيمولوجي، الانتقادات الموجهة إليه، وأهميته في الثورة العلمية الحديثة. لقد نشأ تأويل كوبنهاغن في سياق تطور ميكانيكا الكم خلال عشرينيات القرن العشرين، وهي فترة شهدت تحولات جذرية في الفيزياء. قبل ميكانيكا الكم، كانت الفيزياء الكلاسيكية، التي تستند إلى قوانين نيوتن وماكسويل، تفترض أن الظواهر الطبيعية حتمية ويمكن التنبؤ بها بدقة إذا توفرت المعلومات الكافية. لكن التجارب مثل تجربة الشق المزدوج وتأثير الطيف الذري أظهرت أن الجسيمات دون الذرية، مثل الإلكترونات والفوتونات، تُظهر سلوكًا يجمع بين خصائص الجسيم والموجة، وهو ما عُرف بـ"الثنائية الموجية-الجسيمية". في هذا السياق، عمل نيلز بور وهايزنبرج في معهد كوبنهاغن للفيزياء النظرية على صياغة إطار نظري يفسر هذه الظواهر الغريبة. تفسير كوبنهاغن، الذي سُمي نسبة إلى المدينة التي طُور فيها، أصبح التفسير السائد لميكانيكا الكم، على الرغم من وجود تفسيرات منافسة مثل تفسير العوالم المتعددة. يتكون تأويل كوبنهاغن من مجموعة من المبادئ التي تحاول تفسير الطبيعة الغامضة للظواهر الكمومية. يمكن تلخيص هذه المبادئ على النحو التالي:

الثنائية التموجية-الجسيمية

وفقًا لتفسير كوبنهاغن، يمكن وصف الجسيمات الكمومية، مثل الإلكترونات، إما كجسيمات أو كموجات، حسب طريقة القياس. على سبيل المثال، في تجربة الشق المزدوج، إذا لم يتم قياس الإلكترون، فإنه يُظهر نمط تداخل موجي، لكن إذا تم قياسه، فإنه يتصرف كجسيم. هذه الثنائية لا تعني أن الجسيم "يتحول" بين الحالتين، بل أن وصفنا للجسيم يعتمد على السياق التجريبي.

مبدأ التكاملية

قدم نيلز بور مفهوم التكاملية، الذي ينص على أن الخصائص الكمومية المختلفة (مثل الموقع والزخم، أو الجسيم والموجة) هي جوانب متكاملة لنفس الواقع. لا يمكن ملاحظة هذه الخصائص في وقت واحد، لأنها تتطلب إعدادات تجريبية متعارضة. على سبيل المثال، قياس موقع الإلكترون بدقة يمنع قياس زخمه بدقة، كما ينص مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج.

دور القياس وانهيار دالة الموجة

يؤكد تفسير كوبنهاغن أن الواقع الكمومي لا يتحدد إلا عند إجراء القياس. قبل القياس، يُوصف النظام الكمومي بدالة موجية تمثل جميع الحالات المحتملة للجسيم. عند القياس، "تنهار" دالة الموجة إلى حالة واحدة محددة. على سبيل المثال، في تجربة الشق المزدوج، يبقى الإلكترون في حالة تراكب حتى يتم قياسه، فيتحدد كجسيم يمر عبر شق واحد.

مبدأ عدم اليقين

مبدأ عدم اليقين، الذي صيغه هايزنبرج عام 1927، ينص على أنه لا يمكن قياس بعض الخصائص المتكاملة (مثل الموقع والزخم) بدقة في الوقت ذاته. رياضيًا، يُعبر عن هذا المبدأ بالعلاقة: هي عدم اليقين في الموقع، وعدم اليقين في الزخم، وهي ثابت بلانك المختزل. هذا المبدأ يعني أن هناك حدودًا جوهرية للمعرفة العلمية، ليس بسبب قصور الأدوات، بل بسبب الطبيعة الجوهرية للكون.

الاحتمالية بدلاً من الحتمية

على عكس الفيزياء الكلاسيكية التي تفترض الحتمية، يرى تفسير كوبنهاغن أن الظواهر الكمومية ذات طبيعة احتمالية. دالة الموجة لا تحدد نتيجة محددة، بل تُعطي احتمالات للنتائج الممكنة. على سبيل المثال، لا يمكن التنبؤ بدقة بمكان سقوط الإلكترون في تجربة الشق المزدوج، لكن يمكن حساب احتمال وجوده في مكان معين.

الجوانب الفلسفية والإبستيمولوجية لتأويل كوبنهاغن

تأويل كوبنهاغن ليس مجرد إطار علمي، بل يحمل أبعادًا فلسفية عميقة تتعلق بطبيعة الواقع والمعرفة. يمكن مناقشة هذه الأبعاد من منظور إبستيمولوجي كما يلي:

دور الملاحظ

" إن الوسائل التقنية للفيزياء التجريبية الحالية تسمح لنا باختراق مناطق الطبيعة التي لم يعد من الممكن وصفها بشكل كافٍ بالمفاهيم المستخدمة في الحياة اليومية."

يؤكد تأويل كوبنهاغن أن الملاحظ يلعب دورًا مركزيًا في تحديد الواقع الكمومي. يقول بور: "لا يوجد واقع كمومي مستقل عن إعدادات القياس". هذا المفهوم يتحدى الفكرة الكلاسيكية عن الواقع الموضوعي المستقل عن الملاحظ، ويقترب من الفلسفة الكانطية التي ترى أن المعرفة مشروطة بإدراكنا. من الناحية الإبستيمولوجية، يثير هذا تساؤلات حول ما إذا كان الواقع الكمومي موجودًا بشكل مستقل أم أنه يتشكل من خلال فعل القياس.

إعادة تعريف المعرفة العلمية

" بما أن الدين يدعي الحقيقة الموضوعية، فإنه ينبغي أن يخضع لمعايير الحقيقة العلمية."

مبدأ عدم اليقين ومفهوم انهيار دالة الموجة يشيران إلى أن المعرفة العلمية في ميكانيكا الكم ليست مطلقة، بل نسبية ومحدودة بالسياق التجريبي. يقول هايزنبرج: "ما نلاحظه ليس الطبيعة في حد ذاتها، بل الطبيعة كما تظهر لنا من خلال طريقة طرح الأسئلة". هذا المنظور يعيد تعريف الإبستيمولوجيا العلمية، حيث يصبح العلم ليس مجرد وصف للواقع، بل تحليلًا للعلاقات بين الظواهر. في العلوم، لا يمكن أن يكون الأمر سوى تسليط الضوء على ما تفعله الطبيعة حقًا. في هذا الاطار نجده يشير الى ما يلي:" كلماتٌ شُكِّلت في عصور ما قبل التاريخ، ولم تكن كافيةً لوصف الواقع؛ هل تُسمِّي هذه الأشكال الرياضية "حقيقية" و"واقعية"؟ إذا كانت تعبيرًا عن قوانين طبيعية، وبالتالي تعبيرًا عن النظام المركزي للظواهر المادية، فيجب تسميتها "حقيقية"، نظرًا لتأثيراتٍ مُحدَّدةٍ تنبع منها؛ ولكن لا ينبغي تسميتها "حقيقية"، لأنها ليست "حقيقية"، أي شيء. في الحقيقة، لم نعد نعرف كيف نستخدم الكلمات هنا؛ وهذا ليس مُستغربًا، لأننا ابتعدنا كثيرًا عن نطاق تجربتنا المباشرة، النطاق الذي تشكّلت فيه لغتنا في عصور ما قبل التاريخ."

تحدي العلية

في الفيزياء الكلاسيكية، كانت العلية أساسية، حيث يُفترض أن كل حدث له سبب محدد. لكن تفسير كوبنهاغن يقدم رؤية احتمالية، حيث لا يمكن التنبؤ بالأحداث بدقة، بل بحساب الاحتمالات. هذا التحول أثار نقاشات فلسفية حول طبيعة العلية، حيث اعتبر بعض الفلاسفة أن ميكانيكا الكم تقوض المفهوم التقليدي للعلية. حول هذا المشكل يقر بما بما يلي:" إنني أعتبر الطموح إلى تجاوز الأضداد، بما في ذلك التوليف الذي يحتضن الفهم العقلاني والتجربة الصوفية للوحدة، بمثابة "الأسطورة"، والسعي، المعبر عنه أو غير المعبر عنه، في عصرنا."

الانتقادات الموجهة لتأويل كوبنهاغن

" في الفيزياء، يجب تأكيد النظرية بالتجربة وإلا يتم دحضها."

على الرغم من سيطرته على تفسير ميكانيكا الكم، واجه تفسير كوبنهاغن انتقادات من علماء وفلاسفة، منها: في عام 1935، نشر ألبرت أينشتاين وبوريس بودولسكي وناثان روزن ورقة بحثية تُعرف باسم "المفارقة"، حيث جادلوا بأن ميكانيكا الكم غير مكتملة لأنها لا توفر وصفًا كاملاً للواقع المادي. رفض أينشتاين فكرة أن الواقع يعتمد على القياس، معتبرًا أن هناك "عناصر واقعية" مستقلة يجب أن تُفسرها الفيزياء. رد بور على هذا الانتقاد بتأكيد أن تفسير كوبنهاغن لا ينفي الواقع، بل يعيد تعريفه بناءً على السياق التجريبي. كما واجهت أفكار هايزنبرج انتقادات قوية، خاصة من أينشتاين، الذي رفض تفسير كوبنهاغن ومبدأ عدم اليقين، معتبرًا أن الفيزياء يجب أن تسعى إلى وصف الواقع الموضوعي المستقل عن الملاحظ. كما أن تجربة الفكر الشهيرة "" (آينشتاين-بودولسكي-روزن) عام 1935 حاولت دحض فكرة عدم اليقين، لكن الاختبارات اللاحقة، مثل تجربة بيل ، أكدت صحة الرؤية الكمومية. في كتابه الفيزياء والفلسفة يرى فيرنر هايزنبرغ أنه "في تاريخ العلوم، والاكتشافات والأفكار الجديدة التي تثير دائمًا مناقشات علمية، ومنشورات سياسية تنتقد هذه الأفكار الجديدة وتساعد على تطويرها؛ لكن النقاد لا يدركون درجة العنف التي ترتكز على مجموعة اكتشاف النسبية وبعد نشوء الميكانيكا الكمية (أي إلى درجة أفضل). في هذين الحالتين، أصبحت المشكلات العلمية في نهاية المطاف أقرب إلى الأسئلة السياسية وبعض العلوم العلمية من خلال الرجوع إلى الأساليب السياسية لتبني رؤيتنا."

مشكلة القياس

" اللغة الرياضية التي تشرح ميكانيكا الكم موجودة ولكنها تفتقر إلى الرابط مع اللغة العادية، التي لا تستطيع تفسيرها."

تُعد مشكلة القياس إحدى أكبر التحديات التي تواجه تفسير كوبنهاغن. السؤال الأساسي هو: لماذا وكيف تنهار دالة الموجة عند القياس؟ تفسير كوبنهاغن لا يقدم آلية واضحة لهذا الانهيار، مما أدى إلى ظهور تفسيرات منافسة مثل تفسير العوالم المتعددة، الذي يقترح أن جميع الحالات المحتملة تتحقق في أكوان موازية. لقد أدت الفيزياء الذرية الحديثة إلى إعادة صياغة عدد كبير من المشكلات الجوهرية، ذات الطابع الفلسفي والأخلاقي والسياسي؛ ومن المستحسن أن يشارك أكبر عدد ممكن من الناس في المناقشات المتعلقة بهذه المشكلات بحيث أن إن أي شخص يحدد حياته من خلال مهمة البحث عن روابط معينة في الطبيعة يواجه باستمرار السؤال حول كيفية ملاءمة هذه الروابط الخاصة بشكل متناغم مع الكل الذي تقدم فيه الحياة أو العالم نفسها لنا.

الذاتية المزعومة

" إن مشاكل اللغة هنا خطيرة حقًا. نريد التحدث عن بنية الذرات... لكن لا يمكننا التحدث عنها باللغة العادية."

اعتبر بعض الفلاسفة، مثل كارل بوبر، أن تركيز تفسير كوبنهاغن على دور الملاحظ يقود إلى نوع من الذاتية في العلم، مما يتعارض مع الموضوعية العلمية التقليدية. ومع ذلك، دافع بور وهايزنبرج عن التفسير، مشيرين إلى أن الملاحظة في ميكانيكا الكم هي عملية موضوعية تتم من خلال أجهزة قياس محددة. حول هذا الموضوع نراه يقول في كتابه الجزء والكل ما يلي:" هل من السخافة بمكان أن نتخيل، خلف البنى التنظيمية للعالم ككل، "وعيًا" تُعبّر عن "غايته"؟ بالطبع، إن طرح السؤال بهذه الطريقة يُعيد المشكلة إلى المستوى الإنساني، لأن كلمة "وعي" مُشتقة من التجربة الإنسانية؛ لذا، بالمعنى الدقيق للكلمة، لا ينبغي استخدامها خارج النطاق الإنساني. ومع ذلك، إذا خضعنا لهذه القيود، فسيكون من غير المسموح، على سبيل المثال، التحدث عن وعي حيوان. ومع ذلك، يبقى لدى المرء انطباع بأن لهذه الطريقة في الكلام معنىً مُعينًا. ومع ذلك، يُلاحظ أن معنى كلمة "وعي" يصبح أوسع وأكثر غموضًا عندما نسعى إلى توسيع نطاقها خارج النطاق الإنساني."

تحديات الفلسفة التقليدية

" إن كل فلسفة أصيلة تقف أيضاً على العتبة بين العلم والشعر." فيرنر هايزنبرغ، مخطوطة 1942

من الناحية الفلسفية، اعتبر بعض الفلاسفة أن تركيز هايزنبرج على دور الملاحظ قد يؤدي إلى نوع من الذاتية في العلم، مما يثير تساؤلات حول إمكانية تحقيق معرفة موضوعية. ومع ذلك، يمكن القول إن هايزنبرج لم ينفِ الموضوعية تمامًا، بل دعا إلى إعادة تعريفها في ضوء الاكتشافات الكمومية. في هذا السياق يصرح هايزنبرج بما يلي:" مشكلة القيم هي مجموعة الأسئلة: ماذا نفعل؟ ما الذي نطمح إليه؟ كيف نتصرف؟ لذا، فالمشكلة يطرحها الإنسان وعلاقته بالإنسان؛ إنها مشكلة البوصلة التي يجب أن ترشدنا في "طريق الحياة". وقد أُطلقت على هذه البوصلة أسماء مختلفة في مختلف الديانات والأيديولوجيات: "السعادة"، الإرادة الإلهية"، "معنى الحياة"، على سبيل المثال لا الحصر. هذا التنوع في الأسماء يشير في الواقع إلى وجود اختلافات عميقة في البنية العقلية لمختلف فئات الناس."

من الواضح أن ما لا يزال يدهشنا في العلم هو الظاهرة (الظواهر) المتمثلة في أن بنية ما ترتبط تلقائيًا بهياكل جديدة، وأن شبكة الهياكل هذه تغطي في النهاية مساحة شاسعة لم يكن للبنية الأصلية أي صلة بها على الإطلاق. إن هذه القدرة على تشكيل الشكل التي تمتلكها بنية ما تم توضيحها ذات مرة تميز الجوهر الحقيقي للمعرفة العلمية، وتتجلى القرابة الوثيقة بين العلم والفن بوضوح مرة أخرى. هنا نجد أيضًا إجابة على سؤال طُرح كثيرًا: لماذا لا يمكن إنتاج إنجازات فنية عظيمة على غرار عصر سابق، ولا تحقيق معرفة علمية مهمة اليوم في مجالات، على سبيل المثال، الفيزياء الكلاسيكية أو نظرية هيجل للتاريخ. إن المجالات التي يمكن تنظيمها عن طريق مثل هذه الأفكار قد تلقت بالفعل ترتيبها في حقبة سابقة من العلم، وقد استولت قوة تشكيل الشكل لهذه الأفكار السابقة منذ فترة طويلة على جميع المواد التي كانت قادرة على إنتاج مثل هذا الترتيب. إن الإنجاز العلمي العظيم ممكن مرة أخرى فقط إذا تم تقديم مادة جديدة للفكر البشري مع تغير العصور؛ لا بد أن يُنتج فرن صهر العمليات التاريخية مادة جديدة نقية، تنتظر التبلور الذي سيُرسّخ شكلها المستقبلي إلى الأبد. إن كون الأفكار العلمية الحاسمة غالبًا ما تُعبّر عنها جهات مختلفة في آنٍ واحد تقريبًا وبشكلٍ مستقل، ليس أقلّ طبيعيةً من كون التبلورات غالبًا ما تتشكل في أماكن مختلفة وبشكلٍ مستقل، أثناء ذوبان التصلب، مما يُؤدي إلى ظهور البلورة في آنٍ واحد تقريبًا من جوانب مختلفة.

خاتمة

" إن موضوع البحث لم يعد الطبيعة في حد ذاتها، بل الطبيعة المقدمة للاستجواب البشري، وإلى هذا الحد لا يلتقي الإنسان هنا إلا بنفسه." فيرنر هايزنبرغ

أحدث فيرنر هايزنبرج ثورة في العلم الحديث من خلال ميكانيكا الكم، التي لم تؤثر فقط على الفيزياء، بل أعادت تشكيل العلاقة بين العلم والفلسفة. من خلال مقاربة إبستيمولوجية، يتضح أن مبدأ عدم اليقين وتفسير كوبنهاغن فتحا آفاقًا جديدة لفهم طبيعة المعرفة والواقع. تحدى هايزنبرج الفكرة التقليدية عن عالم حتمي، وأظهر أن المعرفة العلمية محدودة بحدود جوهرية تتطلب لغة ومفاهيم جديدة. إسهاماته لا تزال تُلهم النقاشات الفلسفية والعلمية، مما يجعله رائدًا في إعادة تعريف العلاقة بين الفيزياء والفلسفة. جملة القول أن تأويل كوبنهاغن يعتبر جزءًا أساسيًا من الثورة العلمية التي شهدتها الفيزياء في القرن العشرين. وفقًا لتوماس كون، فإن الثورات العلمية تحدث عندما يتم استبدال نموذج علمي قديم بنموذج جديد. إن تأويل كوبنهاغن، بمبادئه مثل التكاملية وعدم اليقين، شكّل تحولًا نموذجيًا من الرؤية الحتمية إلى الرؤية الاحتمالية. كما أثر التأويل على الفلسفة، حيث ألهم فلاسفة مثل مارتن هايدغر لمناقشة أزمة الوجود في العلم الحديث. على هذا النحو يُمثل تفسير كوبنهاغن إطارًا مركزيًا لفهم ميكانيكا الكم، حيث يجمع بين الفيزياء والفلسفة في محاولة لتفسير الظواهر الكمومية الغامضة. من خلال مبادئ مثل الثنائية الموجية-الجسيمية، التكاملية، ومبدأ عدم اليقين، أعاد التفسير تعريف طبيعة الواقع والمعرفة العلمية. على الرغم من الانتقادات، مثل مشكلة القياس وانتقادات أينشتاين، يبقى تفسير كوبنهاغن الأكثر تأثيرًا في ميكانيكا الكم. إسهاماته الإبستيمولوجية، خاصة في إبراز دور الملاحظ وتحدي الحتمية، جعلته حجر الزاوية في الثورة العلمية الحديثة. لكن لفيرنر هايزنبرغ جملة من الأفكار المستقبلية حول توتر وضعنا البشري من بينها هذا التوقع التشائمي:" إذا تأملنا العصر القادم، فإن أعظم خطر يهددنا يأتي بلا شك من الخلط بين قوى الخير وقوى الشر. في عصرٍ اندثرت فيه الصلة بالأديان القديمة، يزداد خطر استيلاء الشياطين على سلطة الآلهة؛ فالشياطين تتحالف دائمًا مع ذلك الشبح المشع الذي قاد البشر إلى الضلال عبر العصور، شبح السلطة السياسية. ولتوضيح الأمور هنا، يجب أن نتذكر قبل كل شيء أن السلطة السياسية لطالما استندت إلى الجريمة. وكون السلطة السياسية تُثمر في نهاية المطاف نتائج إيجابية عندما تتخذ شكل ترتيب داخل مجتمع بشري كبير لا يُحسّن الوضع. ففي نشر السلطة، يسعى البشر دائمًا إلى ضمّ من لا يخضعون تلقائيًا لترتيب المجتمع بالعنف الوحشي. ولا يزال الشعار المبتذل: "وإن لم تُرِد أن تكون أخي، فسأكسر جمجمتك" سائدًا حتى اليوم في جميع مجالات السلطة السياسية الرئيسية." لكن فيرنر هايزنبرغ يقدم لنا استدراكا متفائلا يتمثل فيما يلي:" ربما يكون صحيحًا، عمومًا، في تاريخ الفكر الإنساني، أن أكثر التطورات إثمارًا تنشأ عند تقاطع تيارين فكريين. قد ينشأ التياران في نطاقات ثقافية مختلفة تمامًا، وفي أزمنة وأماكن ثقافية مختلفة. ما دامت التقاءات بينهما قائمةً وفعّالة، وحافظتا على علاقة كافية لتفاعل حقيقي، يُمكننا أن نأمل في تطورات جديدة ومثيرة للاهتمام. فكيف ارتبطت التحولات المعرفية الحاسمة في تاريخ الفلسفة بوقوع الثورات المنهجية في تاريخ الفيزياء؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

العلم / الوعي والادراك

الى أي مدى يمكننا قبول مقولة كانط " إكتساب المعرفة ينحصر على نطاق حدسي حسّي وبدون الاحساسات تبقى مقولات العقل الصادرة عن الحواس فارغة " بضوء الأخذ بنظر الإعتبار أن الحواس تضليل للعقل، والحدس يقبل المراوغة التي تفرضها مخاتلة وقصور ملازمة الفكر واللغة في التعبير عن ما ندركه، هل هو صورة ذلك الشيء المدرك أم هي حقيقته كاملة؟.. ثمة تعريفات وردت على لسان كبار الفلاسفة الغربيين ربما تكون مشاعل إستدلال لنا منها:

ينكر ديفيد هيوم اية قيمة موضوعية للقوانين العامة والعالم الحقيقي لا يقوم إلا على الاعتقاد. ليس غريبا هذا على هيوم الذي ينكر ثلاثة ثوابت قارّة بالفلسفة لا يمكن القفز من فوقها بسهولة هي بتعبير هيوم :لا يوجد عالم مادي خارج مدركاتنا الحسيّة وما ندركه موجود وما لا ندركه غير موجود، ثانيا لا وجود لنظام سببي يحكم ظواهر ووقائع الحياة سبب ونتيجة، ثالثا لا يوجد ما يعرف بالعقل خارج ماهيته التفكيرية التجريدية فقط العقل هو تصوراتنا عن الاشياء وعالمنا الخارجي.

الحقيقة الفلسفية بحسب لايبنتيز هي ما يمكننا تحديده بالكامل، ويقصد لايبنتيز بالحقيقة الواقعية المدركة وليس مطلق الحقيقة. كيف نمرر مقولة لايبنتيز بضوء نسبية كل شيء بالعالم الطبيعي والكوني؟ تحديد كامل الحقيقة شيء متعذّر تحققه. أما أن يقصد لايبنتيز الحقيقة الكاملة هي تجربة علمية وليست إدراكا عقليا أخذ تعبير الفكر واللغة عنه فقط فهي وجهة نظر تفرض مقبوليتها قدرات التجربة العلمية وليس قدرات تفكير العقل المجرد.

المذهب الثنائي الديكارتي يقوم على وجود جوهرين فقط هما العقل وماهيته التفكير، والمادة وماهيتها الإمتداد والحركة. وهذا تعبير يدخل مجال فيزياء العلم وفيزياء المعرفة الفلسفية على السواء. وما يترتب على هذا المعنى أن إحساساتنا الإدراكية ليس بمقدورها الفصل بين حقيقة الشيء في وجوده المادي عن حقيقة الشيء في تصوره التجريدي الذهني.

كل وعي إدراكي بحسب سيلارز شأن بدايته اللغة. هنا يقصد سيلارز بالوعي العقلي للمادة تفكيرا إستبطانيا داخل منظومة العقل الإدراكية، واللغة تعبير صوتي عن موجودات المادة خارجيا، وتفكير اللغة وعيا إدراكيا لاصوتيا صامتا داخليا. صحيح جدا الوعي هو تفكير عقلي لكنه في مجال الفلسفة يكون الوعي قريبا من علم النفس السلوكي أكثر منه قربا من تجريد الفلسفة كمنطق لغوي.

ينكر وليم جيمس أنه يوجد شيء حقيقي يسمّى( الوعي) على صورة مادة أو جوهر، موضّحا الواقع الوحيد الذي نعتمده هو التجربة في سياقها يكون كل شيء، وكل الذوات العارفة صاحبة الوعي والموضوعات المعروفة. الحقيقة الصادقة عند وليم جيمس"أنها ما يمّثل لدينا الأفضل لإعتقادنا، وليس التمثيل الدقيق للواقع" وصاغ وليم جيمس عميد الفلسفة البراجماتية نظريته بالصدق مفادها أن صدق التصور ليس سكونيا، فالتصّور لا يمتلك صدقه في ذاته. بل صدقه تحدده التجربة التطبيقية في تحقيق المنفعة، ومعنى ذلك المعرفة ليست جاهزة صحيحة في مقبوليتها بل هي إبنة التجربة التي أنجبتها. كما والصدق عند وليم جيمس هو صدق التصور أو الفكرة التي حمولتها منفعة في التطبيق، فكل نافع حق وصادق وكل ما هو غير صادق وزائف هو الذي لاينفعنا بالحياة.

الفكر والحركة

يتفرّد هوبز فيلسوف عصر النهضة الاوربية بتعريفه الفكر هو حركة الجسم، بمعنى الفكر هو سلوك عقلي، وليس نتاج عقلي مجردا من واقعه المادي. والفكر هو توليد عقلي في معرفة موجود أو معرفة موضوع. الفكر ربما يكون إمتدادا لفكر سابق عليه، وربما يكون فكر ثالث يليهما وهكذا، لكن العبرة ليست في تناسلية الفكر اللاحق عن السابق بل الأهمية القصوى أن الفكر تكون مرجعيته المادة والوجود المادي حتى قبل إدراك العقل له وتعبير اللغة عنه. وهذا لا ينفي أن خاصّية العقل الجوهرية الاولى هي توليده الافكار التي ليست مجردة عن تفسير الواقع المادي لكنها ليست جزءا ماديا غير تجريدي في التعبير عنه. الفكر يمتاز بالخصائص التالية:

الفكر تعبير عن إدراك شيء مادي أوتعبير عن شيء خيالي، وسيلة تعبير الفكر عن نفسه خارجيا هو اللغة الصوتية المسموعة حوارا أو المكتوبة قراءة. وتعبير الفكر عن نفسه ذهنيا هو لغة تصوّرية مركوزة بالذاكرة التي تعي موضوع الفكر الذي تختزنه فيها.

الفكر توليد عقلي بمعنى الفكر يعبّر عن وعي قصدي يتمّثل هذا الوعي بسلوك الانسان ضمن مجتمع يحتويه. وميزة الفكر المستمدة من العقل أنه تعبير عن شيء مادي أو موضوع خيالي والفكر لا يخلق تعبيره اللغوي من فراغ ولا يعبّر عن لا معنى له. والفكر شأنه شأن اللغة تعبير عن تجريد لشيء مادي أو موضوع من الذاكرة..

الفكر حلقة مهمة في سلسلة حلقات المنظومة الإدراكية للعقل لكنه لا ينوب في تمثيله عن حلقات أخرى داخل هذه المنظومة الإدراكية العقلية. فالفكر ليس هو الذهن، كما أن الفكر ليس هو الوعي، كما أن الفكر ليس هو الذاكرة، وأخيرا الفكر هو لغة غير مفصحة عن نفسها.

الفكر يلازم اللغة الصوتية ولغة أبجدية القراءة إدراكا تصوريّا ولا سبيل للفكر التعبير عن نفسه إلا بواسطة اللغة. إختلاف الفكر عن اللغة رغم تلازمهما الذي لا إنفكاك له هو أن الفكر تفكير عقلي صامت واللغة تفكير عقلي ناطق يلازمه الصوت الذي يفتقده الفكر الذي هو تفكير لغوي بلا صوت حينما لا تعبّر اللغة عنه إفصاحا عن شيء.

تعبير الفكر التواصيلي وسيلته الوحيدة هي اللغة. فالفكر لغة عقلية. وتعبير الفكر عن شيء أو موضوع بلا معنى هو إستحالة إدراكية يرفضها العقل قبل رفض الفكر لها. فأللامعنى بالفكر يعنى اللامعنى في تفكير العقل.

الشيء الموجود المادي أو الموضوع الخيالي يكونان ملزمين بتعبير اللغة عنهما، والإدراك المادي للشيء وإن كان سابقا تعبير اللغة إلا أنه في جوهره تصوّر لغوي أخرس صامت، الإدراك إحساسات لغوية فاقدة لنظام تعبيراللغة التي يصدرها العقل وليس ألتي يستمّدها الإدراك عن الاحساسات. الإدراك من غير مرجعية العقل واللغة لا قيمة حقيقية له.

شرط الفكر الاول هو إمتلاكه معنى وتعبير لغة عن هذا المعنى، وإلا أصبح الفكر هلوسة لامعنى لها ولا تمتلك لغة تواصلية مفهومة. واللغة لا تمتلك حقيقتها المضمونية بدون فكر يلازمها يحمل معه حمولة معناه عن شيء أو موضوع.

الشيء والمعنى

بحسب امبرتو ايكو الشيء الصحيح هو الذي لا يمكننا شرحه، ومعنى العبارة تحمل تأويلين الاول أن الشيء الذي لا يحتاج شرحا هو الشيء البديهي في الادراك مثل أي شيء برتقالة قلم كتاب وهكذا. أو أن الشيء الذي لا يحتاج شرحه هو الشيء أو الموضوع الذي وصل حد الإشباع في عدم إمكانية إضافة فائض معنى لغوي عليه يمكن يستقبله. تطابق المفردة التعبيرية عن شيء مادي هو يديهة لا تحتاج برهان التحقق منها.. الموضوع الذي تقف اللغة عاجزة عن إكتمال المعنى في تعبيرها عنه هو ثابت نسبي ومطلق متغّير

السؤال الذي يتبادر للذهن لمن الأسبقية في الإنقياد وليس الأسبقية الموجودية الانطولوجية الموضوع أم لغة التعبير عنه؟ من ناحية الوجود فموضوع الفكر الإدراكي في وجوده المادي يكون أسبق على تعبير اللغة عنه، أما من ناحية الانقياد فاللغة تقود الفكر الإدراكي ولها الإسبقية.

الفكر الإدراكي للاشياء سيرورة من التغيرات والتطورات المتجددة على الدوام، ويكون متجددا في الوجود غير المتحقق المعّبر عنه لغويا، بمعنى الفكر المادي يتطوّر أسرع من لغة التعبير عنه التي تلاحقه على الدوام. لذا الفكر يختلف عن اللغة بأنه لا يمتلك خصائص هوياتية ثابتة بخلاف اللغة التي تكون هويتها في مجمل قواعدها ونظمها النحوية الخاصة بها كلغة تحكمها بها..

النص وفائض المعنى

نص التاويل في حفريات اللغة لا يمكن أن يكون له هوية لغوية بملامح ثابتة، ولا يمكن للنص أن يكون لغة محايدة لدى المتلقي. كما ولا ألفهم الإجتزائي يكون تعويضا عن مدّخرات اللغة في حمولة التاويل المتعددة غير المحدودة. التأويل اللغوي اللامحدود يعبّر عنه توردوف " مؤلف النص كاتبه يأتي بالكلمات ليأتي القراء بعده بالمعنى " بمعنى تاويل النص هو عملية تشظ متتالية تنعدم فيها المركزية في مرجعية النص، فالمركز التاويلي هو إمتداد الفهم التفكيكي عند دريدا في الغائه المركزية المرجعية التي يدور في فلكها الهدم والتقويض وعند بول ريكور في ملاحقة فائض المعنى في التأويل، عليه تكون بصرف النظر عن الأخذ الحرفي بإستراتيجية التفكيك ومدى إمكانيتها تحقيق نجاحها ولا تاويلية بول ريكو ومدى نجاحها ولا حتى التحليلية ومدى نجاحها، فهذه التيارات الفلسفية تشتغل على مركزية النص في فلسفة اللغة. وتقوم على ملاحقة حقيقة النص من جهة وعلى حقيقة ملاحقة فائض المعنى اللغوي الذي يحتويه من جهة أخرى. لذا تكون التعددية الدلالية المتعالية بالفهم التاويلي والتفكيكي والتحليلي لا تجمعها ما يطلق عليه امبرتو ايكو كليّة التاويل المركزية التي تستنفد طاقة التاويل في تقويض النص والبحث عن فائض معنى لغوي لم يعد يتقبله ولا يمتلكه النص في تعدد القراءات التذويتية له.. ويعبّر عن هذه الاستراتيجية التاويلية اللغوية ايكو قوله " خلاصة القول التاويل غير محدود في محاولة الوصول الى دلالة أو دلالات نهائية لا يترتب عليها إنزلاقات ومتاهات لغوية لا حصر لها".علاقة اللغة بالعقل في معنى الخطاب (اللوغوس) عند افلاطون هو الملكة الموّلدة للافكار، وهي عند ارسطو العقل الجوهر الذي به نستدل التعرف على جواهر الاشياء. وعلى النقيض من ذلك نجد ايكو قائلا " النوس بمعنى العقل خطابا في القرن الثاني الميلادي هو ملكة للحدس الصوفي والاشراق اللاعقلاني. ويصبح بعدئذ ملكة الرؤية المباشرة والعفوية ولا يعود الكلام والنقاش والحجاج من الامور الضرورية ".لم يكن افلاطون مجانبا الصواب إعتباره العقل موّلدا الافكار، وفي مقاربة لديكارت من رؤية افلاطون يصف ديكارت العقل جوهر ماهيته التفكير. ولم يكن ارسطو مخطئا في تعبيره العقل وسيلة معرفة جواهر الاشياء. هنا يتوجب توضيح اشكالية مفهومية عالقة: ارسطو في إسناده مهمة العقل تعريفنا الجواهر وليس الوجود بما هو موجود أخرج مثالية افلاطون المتعالية من مطلق توليد الافكار الى مجال توظيف العقل معرفيا ابستمولوجيا، أي أنه أخرج الماهية الجوهرية للعقل من الافكار المجردة الى معرفة الواقع كما هو موجود في مدركاتنا الحسية.

الاختلاف الثاني هل كان افلاطون يدرك أن معرفة جواهر الاشياء بدلالة العقل مبحث ميتافيزيقي لا يمكن التحقق منه من حيث أن جواهر الاشياء ليست محسومة لصالح البحث عنها حقائق تلازم الموجودات والاشياء في الطبيعة.

من المفارقة حقا أن نجد ارسطو المادي يسقط في المثالية في السعي وراء معرفة الجواهر المشكوك بأمرها كموجودات يدركها العقل بدلالة وجودها. علما أن سبينوزا في مذهب وحدة الوجود قال الوجود يمكن معرفته بدلالة الجوهر يعني هو عكس التعبير الفلسفي الدارج أننا ندرك الجوهر بدلالة وجوده في شيء مادي.، بل نعرف الوجود بدلالة الجوهر في وقت إستقتل فيه اسبينوزا إثبات أن الموجودات تمتلك جواهر مستمدة من جوهر واحد هو الله الذي لا يدرك. كما وأن هذه الجواهر لا يمكن ادراكها من حيث الجوهر خالق للوجود وليس مخلوقا منه.

الإشكال الاخير هو ليس كل معارفنا كما يرغب ارسطو نستمدها من معرفتنا جواهر الاشياء في حين ذهبت في وقت غير متأخر كلا من الوجودية والماركسية والبنيوية في خوض غمار حجاج فلسفي حاد بينهم يرتكز على أن ما يدركه العقل من صفات تغني البحث عما وراءها لمعرفة الجوهر غير الموثوق يقينا في وجوده في تكوينات الاشياء.

نخلص من هذه العروض الى أن مستويات التفكير العقلي تحدده الغايات القصدية التي من المتاح تحققها. ومن غير الصحيح أو الذي لا يمكن إثبات صحته تحميل العقل وظيفة ابستمولوجية واحدة، فالعقل طاقة الانسان المتمركزة به. وتعدد وجهات النظر المتباينة والمختلفة لا يلزم عنها بالضرورة تشتيت وإلغاء القصديات التي يرغب العقل تحقيقها. قصدية الهدف لا يلزم عنه قولبة المنهج في بعد قصدي معرفي واحد. ونختم عن موضوع التاويل المتشّظي لا يحمل مركزية ولا هوية ثابتة، فالتاويل سيرورة يلزمها على الدوام لغة مسايرة لها تستوعبها وتحتويها. وهذه السيرورة نصل ذو حدين فهو لا يمنع الضياع في متاهات وإنزلاقات غير محسوبة نتيجة إمتلاك إستراتيج التفلسف التاويلي فضاءات واسعة، فالتاويل اللغوي لا يحمل تلك اليقينية التي تعجز عنها اللغة وتتوقف عن إضافة معنى متجدد من القراءات التي لايمكن إيقافها عند حد.

العقل والوجود

دعونا نرجيء قليلا عرض بعض الفقرات الفلسفية لرائد فلسفة العقل الانجليزي جلبرت رايل 1900- 1976. حين كانت مقولة ديكارت راسخة منذ القرن السابع عشرمفادها العقل جوهر غير فيزيائي ماهيته الجوهرية التفكير. والعقل جوهر لا مادي ليس له معايير تحققه غير الفيزيائي كجوهر مستقل ميزته الخلود بعد فناء الجسم... اما تعريف العقل في الفلسفة الحديثة فهو متشّعب من حيث هو إستعداد للسلوك كما يعبر عنه فيلسوف العقل الانجليزي جلبرت رايل، والعقل ميزة خصائصية يمتلكها الانسان فقط على أنه سلوك ذكي غير بهيمي، يدرك ذاته ويدرك موضوعه ولا يكون موضوعا إدراكيا لغير حامله. والعقل جوهر موجود لا فيزيائي خالد بعد فناء الجسم.

لنا التوضيحات التعقيبية التالية:

العقل بالمصطلح العلمي في علم وظائف الاعضاء حين يكون ماديا فيزيائيا وعضوا يحتويه الجسم فهو بهذا المعنى لا يكون جوهرا خالدا بل موجودا فانيا بملازمته فناء الجسم عضويا.

العقل خصيصته الماهوية التفكير هو تجريد ذكي مستقل يسعى بلوغ الخلود، وبهذا المعنى يكون العقل أقرب الى النفس منه الى الجسم، لتلازمهما العقل والنفس صفتي الذكاء التوليدي للافكار، وصفة عدم فناء العقل كنفس تلازم فناء الجسم.

لا يمكن صناعة عقل آلي يزاحم إزاحة العقل البشري لعدة اسباب منها فقدان قابلية التوليد الابتكاري الذكي في الآلة، وكذلك عدم امتلاك العقل الآلي النفس العاطفية أو الروح. وقدرة العقل الصناعي على الحوار يكون محدودا بجملة من التعبيرات التي يكون في مجاوزتها لها يعني انعدام النظام في السلسلة التنظيمية بالتفكير العقلي.

العقل بالمفهوم الفلسفي إشكالية تختلط بها فيزيائية تكوين العقل كأحد أعضاء جسم الانسان وبين لافيزيائية العقل التجريدية كفكرولغة تعبيرية. ولما كانت ميزة العقل هي الوعي الذي هو جوهر غير فيزيائي، فكيف يدرك العقل اللافيزيائي عالم المادة والموجودات في الطبيعة وحوله ؟ وقد أطلق الفيلسوف الاميركي جوزيف ليفني على هذه الإشكالية مصطلح( الفجوة التفسيرية).

أنكر فيلسوف العقل المعاصر جلبرت رايل في كتابه الموسوم (مفهوم العقل) مقولتي ديكارت الراسختين لثلاثة قرون وهما: اولا العقل جوهر غير فيزيائي ماهيته توليد الافكار، والثانية أن العقل هو المصدر الوحيد في تزويدنا بالمعارف التي نحتاجها.

من المهم التنبيه الى أن الباحث الفلسفي الاكاديمي المصري صلاح اسماعيل أشار نقلا عن فيلسوف العقل الانجليزي جلبرت رايل أن هذا الاخير انكر وجود العقل – وهذه مقولة سبق لديفيد هيوم أن قالها في أنكاره العقل – سواء أكان العقل جوهرا فيزيائيا أو جوهرا لا فيزيائيا مجردا. كما أن رايل أدان بحجته أن وظيفة العقل مصدرنا الوحيد في إكتسابنا المعارف قائلا : في الوقت الذي يكون العقل مصدر توليد الافكار وتطوير اللغة وهما أسمى خاصيتين يمتاز بهما إلا أن العقل ليس جوهرا قائما بذاته منفصلا عن الجسم كما يقول ديكارت. بل هو إستعداد للسلوك الذي تديره فلسفة العقل في توجيهها تعبير اللغة الحفاظ على هذا السلوك الانساني المنتظم. وسخر رايل من إعتقاد الفلاسفة الراسخ المستمد من ديكارت أن العقل هو مصدر معارفنا الابستمولوجية التي أضاعت قرونا طويلة من تاريخ الفلسفة بالركض وراء سراب خادع لاقيمة له. وأعطى رايل البديل المنطقي الفلسفي أن العقل بضوء فلسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية المعنى، اصبحت معها وظيفة العقل الفلسفي هي تزويدنا بالمعنى اللغوي الذي هو سلوك بشري بالحياة.

ماهو العقل؟

ربما تكون مفاجئة مدهشة لنا تثبيت قول جلبرت رايل (لعقل لاشيء أبدا). هذه مقولة سبق لديفيد هيوم الاسكتلندي أن قال بها.منطلق مقولة رايل هذه هو نتيجة ازدهار فلسفة اللغة والتحول اللغوي ونظرية المعنى أنها أصبحت الفلسفة الاولى في النصف الثاني من القرن العشرين وتراجعت أمامها معظم مباحث الفلسفة التي دامت قرونا طويلة تكرر الدوران غير المجدي وراء مبحث الابستمولوجيا في إعتباره الفلسفة الاولى. وأصبح رايل الانجليزي في مقدمة الفلاسفة الاميركان الذين أخذوا عنه تطور اللغة والتنقيب فيها عن فائض المعنى هو نظام سلوكي بالحياة مصدره الوحيد اللغة وسيلة العقل الادراكية.

من هذا التوضيح السريع نستنتج :

- العقل جوهر لا فيزيائي يمّثل ملكة توليده الافكار واللغة.

- العقل سلوك معرفي وليس معرفة ابستمولوجية.

- العقل جوهر لا يرتبط بالنفس وليسا خالدين بعد فناء الجسم.

خاتمة توضيحية

النقطة الاولى العقل جوهر لا فيزيائي خاصيّته توليد الافكار هي مقولة ديكارت، متجاهلا حقيقة وخاصيّة العقل الثانية أنه عضو بيولوجي تحتويه الجمجمة ونعبّر عنه بالدماغ عضو مركب أحد أعضاء الجسم لا يمكن أن يكون جوهرا تجريدا يمتلك قابلية وخاصيّة التفكير فقط، . ماهية العقل في خاصيّة التفكير المجرد، لايعني إنعدام أن يكون العقل جوهرا ماديا ايضا يمتلك خصائص ابعد واكثر عددا من مجرد إصداره التفكير المجرد عن مدركاته الخارجية والداخلية. في تبسيط ارجو أن لا يكون مخلا العقل مادي كعضو من اعضاء الجسم الحيوية، والعقل تجريد ماهيته التعبير اللغوي عن مدركاته الخارجية والداخلية معا.

النقطة الثانية العقل سلوك معرفي وليس معرفة أبستمولوجية تعبير دقيق صحيح تماما. فالعقل لا يدرك الاشياء والموضوعات من أجل معرفتها بحيادية تامة بل من أجل أن يجعل مدركاته تحمل معها شروط تغيير يلازمها الادراك العقلي، معرفة الشيء إدراكيا لا يعني أن يكون هذا الادراك العقلي مجرد معرفة ذاك الشيء.، بل يتعدى ذلك في تحوّل كل إدراكات العقل الى ردود أفعال إنعكاسية عملية إحداها أن تكون بعض المعارف سلوكا بالحياة.

النقطة الثالثة العقل جوهر لا يرتبط بالنفس وليسا (العقل والنفس) جوهرين خالدين بعد فناء الجسم صحيحة ايضا، مع التحفظ انهما جوهرين منفصلين غير خالدين، فوجود النفس ملازمة العقل لا يلغي وصاية العقل على النفس والسلوك الناتج عنها بالحياة. ماهية النفس كسلوك تعبّر عنه العواطف، الانفعالات، الحب، غرائز الجسم الداخلية، الضمير، الاخلاق الخ لا يشبه خاصية العقل بالتفكير اللغوي المجرد..

ثلاثة تعابير يجري الخلط الفلسفي بها(العقل /النفس/الروح) اولا هل العقل فيزيائي مادي أم تجريد لغوي أم كلاهما معا؟ ثانيا النفس التي هي ليست جوهرا منفصلا عن العقل وليست هي الروح أيضا، ثالثا يجري التعبير على أن مفردتي النفس والروح دلالة لمعنى واحد وهو خطأ.

نرى إنتاجية العقل للمعنى في مركزية فلسفة اللغة، تجعل من جوهرالعقل مشروع حضور زائل حتميا غير خالد ولا مفارق لفناء وموت الجسم. والعقل جوهر لغوي لا يتسّم بالثبات ولا بالخلود... وفي تعبير كواين "السلوك اللغوي هو فهم المثير كسبب، والاستجابة اللغوية نتيجة ذلك السبب." وأن نظرية المعنى في فلسفة اللغة هي الفلسفة الاولى، المعاصرة منذ منتصف القرن العشرين ولم تعد فلسفة الابستمولوجيا مبحثا اساسيا من مباحث الفلسفة المعاصرة الغربية.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

تقديم: إن المعضلة التي يطرحها تشابك الذاكرة والخيال قديمة قدم الفلسفة الغربية، منذ ما يقرب من 470- 399 ق. م أورث سقراط الفلسفة اليونانية اشكالية علاقة الذاكرة بالخيال في تيارين فلسفيين أحدهما تزعمه افلاطون الذي كان يدافع عن إدخال إشكالية الذاكرة في إشكالية الخيال، والمسار الثاني تزعمه ارسطو الذي يرتكز على ثيمة تمثل شيئا سبق إدراكه أو إكتسابه وتعلمه فيدافع عن إدخال إشكالية الصورة في إشكالية الذكرى، وعلى هذا المنوال لم يتوقف النقاش الفلسفي حول هذه الازدواجية الاشكالية بالفلسفة الى يومنا هذا1.

وهنا أود التنبيه أن المناقشة الفلسفية حول تشابك الذاكرة بالخيال، تنطلق من أنهما مفهومان لهما علاقة ترابطية  في عملية الادراك العقلي بإعتبارهما وحدة زمانية تختلف في التعبير عن الزمان كتحقيب زماني - تاريخي في إتجاهين متعاكسين أن الذاكرة هي إستذكار خيالي لوقائع وأحداث الماضي، والخيال تصنيع لزمان مستقبلي آت كما تصوّره المخّيلة، ولا تشير المناقشات الفلسفية الى أهمية التاكيد أنهما جوهران متعالقان في التعبير التجريدي عن الاشياء مصدرهما تفكير العقل، الذي أجده يحل المشكلة من أساسها، لأننا من دون مرجعية العقل لا يمكننا الحديث عن عمل ذاكرة ولا عن عمل خيال لا في ترابطهما ولا في فصلهما عن بعضهما.

بين الذاكرة والخيال

على خلاف من ديكارت وبرجسون ومعهما فلاسفة آخرين من الذين أنكروا وجود علاقة ترابطية بين الذاكرة والخيال وأنكروا أيضا توليدية الذاكرة لأفكار الخيال وإرتباط المخيّلة بالذاكرة. في مقاربة هذه ألإشكالية الفلسفية يطرح بول ريكور تلازم الذاكرة والخيال بعلاقة ممكن الفصل بينهما بالقصدية التي تتلبس الوعي في الفهم الوجودي وفلسفة اللغة. فهو يؤكد حقيقة غير مشكوك بها فلسفيا على الاقل قوله" الذاكرة مقاطعة تابعة للخيال، الذي كان قد عومل ومنذ زمان بعيد بكثير من الشبهة كما هو الحال عند ميشال مونتين وباسكال وسبينوزا."2

قبل دخولنا تفسير تفاصيل هذا الحكم الفلسفي لريكور الذي نستشف منه تغليبه قيادة الذاكرة في مسكها مقود الخيال وقيادته والهيمنة عليه، لذا يصبح معنا التساؤل مشروعا أيهما يقود ألآخر الذاكرة تقود الخيال أم العكس الخيال يقود الذاكرة في حالتي إقرارنا الانفصال أو الاتصال بينهما؟ أم لا علاقة تعسفية من هذا النوع التساؤلي يكون واردا في إعتمادنا حقيقة إنفصالهما، وهذا يقودنا الى تساؤل أكثر أهمية ماهي مصادر أكتساب كلا من الذاكرة صفتها الادراكية، وكذا الحال كيف يكتسب الخيال أفكاره التخيلية وما هو مصدر تلك الافكار غير الذاكرة في حال جعلنا من إنفصال مفهومي الذاكرة والخيال عن بعضهما حقيقة قائمة لا بل موجبة كما سنرى في تعبير ريكور لاحقا.

والعقبة التي يتجاهلها الفلاسفة أن كلا المفهومين الذاكرة في ألاستذكارللماضي والمخيلة في تعبيرها عن الخيال كمستقبل كلاهما جوهران تجريديان لا يمكننا معرفة أين موقعهما من تكوين الجسم في التبعية البايولوجية لمنظومة ألإدراك العقلي التي بدايتها الحواس، حتى في حال العودة أنهما نتاج عمل منطقة محددة خلوية في قشرة الدماغ أو في الفص الدماغي المّخي المسؤول عن توليد مثل تلك الفعاليتين التجريديتين الذاكرة والخيال التي هي من إختصاص علمي صرف في دراسة علم وظائف الاعضاء والجملة العصبية وعلم النفس.. وهو ما تتحاشى الفلسفة الاقتراب منه.

والسؤال المربك فلسفيا إذا كانتا الذاكرة والخيال كلتاهما تعبيران مجردان يصدران عن ملكة العقل ألإدراكية التوليدية للفكر فكيف تم الربط بين إعتماد الذاكرة خزين توليدها أفكار الخيال؟ يطرح بول ريكور وجوب وأهمية فصل الذاكرة عن الخيال قائلا " علينا الوقوف ضد هذا التيار – يقصد تيار ديكارت بإعتباره الذاكرة هامشا متعالقا بالخيال – الذي يحطّ من شأن الذاكرة ويعاملها على هامش نقده الخيال، أن نقوم بعملية فصل الخيال عن الذاكرة الى أبعد ما نستطيعه في هذه العملية"3

ويضيف ريكور أبعد مما ذهب له حول أهمية الانفصال بين الذاكرة عن الخيال بدقة متناهية الوضوح تعبيره " الفكرة الرئيسية هنا هي وجود أختلاف نستطيع أن نقول عنه أنه جوهري بين إستهدافين، بين قصديتين أحداهما هي قصدية الخيال المتجهة نحو الوهمي، القصصي، غير الحقيقي وغير الواقعي، وغيرالممكن، واليوتوبي، والاخرى هي قصدية الذاكرة المتجهة نحو الحقيقة السابقة، الواقع السابق كأحداث تاريخية، وتشكل الاسبقية السمة الزمنية بإمتياز للشيء المتذكر بوصفه كذلك."4، بهذا التعبير أعطى ريكور الذاكرة خاصية التعبير في إستذكار حوادث الماضي، وأعطى أفكار الخيال قابلية فتح بناء آفاق المستقبل بإعتباره وهما إحتماليا في تحققه التنبؤي له. أي جعلهما الذاكرة والخيال يرتبطان بزمنين أحدهما خاصية الذاكرة إستذكار (الماضي)، والثاني الخيال خاصية تنبؤه (المستقبل)، فكيف جرى الربط التعسفي بينهما في إلغاء عدم المجانسة الزمانية التحقيبية بينهما في تحاشي ألإنزلاق بوجود أكثر من زمان واحد من ناحية الماهية وليس من ناحية تحقيب ألزمان كتاريخ أرضي.

تعقيب وتساؤلات:

يأخذ بول ريكور توجه ديكارت قوله " لاشيء يأتي لمساعدة الذاكرة بوصفها وظيفة نوعية لبلوغ الماضي " طبعا هنا ديكارت لا يعير أدنى أهتمام للخيال بأعتباره تصنيع أيهامي وهمي للميتافيزيقا، وعلى إعتبار الخيال رغم طابعه اليوتوبي الميتافيزيقي، إلا أنه توجه معاكس لما تضطلع به الذاكرة بإتجاهها قصديا نحو إستذكار وقائع الماضي، في حين الخيال إستشراف قصدي مستقبلي مناقض لتوجه الذاكرة يتجه قصديا لخلق عوالم مستقبلية.

كما لا يتطرق ديكارت حتى بألإشارة الى تعالق كلا من الذاكرة والخيال بالعقل البيولوجي كنواتج عن فعالية فسلجية تتم داخل دماغ الانسان عضويا وليس خارجه. جميع حلقات ألإدراك العقلي هي تجريدات متصلة مع بعضها ولا قيمة حقيقية لوجود إحداها منفصلة. وحلقات العقل الادراكية من التجريدات وغير التجريدات التي تبدأ بإحساسات الحواس، فالجهاز العصبي الناقل لها، الذهن، الوعي، ألإدراك، الفكر، اللغة، الذاكرة، المخيلة أو الخيال،النفس وغيرها من متصلات مفاهيمية معها جميعها تخضع لتصنيع عقلي في الدماغ والمخ تحديدا. وهي حلقات تجريدات معرفية لغوية مسؤول عنها وتطلقها مناطق عصبية ترتبط بأجزاء محددة موجودة في قشرة الدماغ أو في تركيبة تكوين المخ من ملايين الخلايا العصبية التي يكون مهامها الاختصاصية هي مسؤولة عن وحدة أو أكثر من هذه التعبيرات الادراكية..

كيف تم جمع النقيضين الذاكرة والخيال من خلال قصدية زمنية متعاكسة،؟ الذاكرة تنشد الماضي والخيال ينشد تحقق المستقبلي، بضوء هذا التضاد المتعاكس غير المتجانس يصبح ما طرحه بول ريكور حول ضرورة الفصل بين الذاكرة والخيال أكثر من ضرورية في حال إمكانية برهنة ثبوت تحقق هذا التوجه على صعيد البيولوجيا العضوية عند الانسان وليس على وفق منطق الفلسفة التجريدي.. فكما أن ألإعتراف بربط الذاكرة بالخيال عمل إعتباطي بمنهج الفلسفة وليس بحقائق العلم، كذلك طرح الانفصال بينهما هو ألآخر عمل إعتباطي بالفلسفة وليس بالعلم. كون الذاكرة والخيال أصبحا مفهومين مجردين يعبران عن أشياء يدركها العقل ولا يعرف الانسان كيف نشأت ومن هو المسؤول عنها؟، وعندما نقول ذاكرة فهي دلالة لفظية في التعبير عن نتاج عمل خلايا عصبية موجودة ومرتبطة بالدماغ مسؤولة عنها، وتصبح تجريدا للعقل وليس موضوعا مستقلا يدركه العقل، كذلك الخيال فهو أيضا دلالة لمفهوم مجرد ترجع مسؤولية إصداره منطقة في قشرة الدماغ أو في جزء من الفص المخي الموّلد له. ويبقى الخيال تجريدا إستبطانيا ما لم يتحول الى أفكار تعبيرية تصدرها اللغة.

الذاكرة في حال إقرارنا أنها مستودع تخزين التجارب الادراكية الواقعية المستمدة من العالم الخارجي، وإذا ما علمنا أن الذاكرة لا تستطيع إستذكار الماضي تماما بسبب النسيان الذي تمتاز به ويلازمها. لذا يكون التساؤل من أين تستمد الذاكرة أفكار الخيال وكيف تكون هي مصدر الخيالات في وقت هي تتوجه نحو ماض قائم بوقائعه التاريخية، في تعارضها المتعاكس مع توجه الخيال في صناعته لمستقبل قيد الصيرورة الزمانية التي يسودها التنبؤ والوهم في التعبير عن وجود غير موجود أنطولوجيا بعد، وليس إجترار ماض منقوص يعتريه ويشوبه النسيان. الماضي تحقيب تاريخي وليس زماني. وكيف نفهم تعبير ريكور الذاكرة منطقة هيمنة الخيال؟. لا يوجد قدرة يمتلكها الخيال في السيطرة على ذاكرة لا تجانسه الوظيفة التعبيرية عن المدركات والاشياء. فألخيال ممكنه التداخل مع عمل ألذاكرة ألإستذكاري.

إذا ما ذهبنا مع إمكانية إنفصال الخيال عن الذاكرة فمن هو الذي يضطلع بتزويد الانسان بخيالات مستقبلية لا حصر لها. الخيال الذي لا يمكن معاملته على أنه تخزين تجارب خبرة متراكمة بالذاكرة، فمن يكون المسؤول عن منبع تزويد الانسان بالمخيلة وإبتداع موضوعاته الخيالية.؟

جان بول سارتر 1905 -  1980" طرح في كتابيه الخيال، والمتخيل أهمية الاهتمام في تمايز الذاكرة عن الخيال يجب أن يقترن بمراجعة موازية لموضوعات المتخيل" ص 39، هنا سارتر لا يريد تأكيد إنفصال الذاكرة عن الخيال لأنهما في حقيقتهما البيولوجية الوهمية والتجريدية جوهران منفصلان، ويمكن دراسة كل منهما منفصلا عن الآخر.

ربما يكون أقصر الطرق في الاجابة التي على أهمية تحييد التفكير العقلي العلمي في تداخله بالاشكالية الفلسفية بين الذاكرة والخيال، أن الدماغ هو مصدرتوليد أفكار الخيال، ولكن بأية وسيلة إرتبطت الذاكرة بأنها مصدر الخيالات والمخيّلة وهي تجريد تفكيري وليست موضوعا مدركا بذاته كموجود بايولوجي؟.

هل يمكننا العيش بدون أفكار خيالية في حال يتعذر علينا معرفة مصدر توليد المخيلة لموضوعات الخيال عند الانسان وأين يكون موضعها في المسؤولية الإبتداعية التخليقية لها وإصدارها أفكارها الخيالية نحو الواقع الخارجي في حال جرى تمرير توجه ريكور ومن قبله برجسون لا توجد علاقة حقيقية تربط الذاكرة بالخيال ويتوجب الفصل بينهما.

المسألة الطريفة أن الفصل الذي يبتغيه الفلاسفة بين الذاكرة والخيال هو فصل لجوهرين منفصلين أساسا ولا علاقة ترابطية بينهما سوى في تعبيرات الفلاسفة التي يدحضها التفكير العلمي التخصصي بعلم فسلجة الاعضاء. فالذاكرة والخيال والوعي والذهن هي حلقات تجريدية في منظومة العقل ألإدراكية التي مركزها الدماغ. ولا تعني شيئا خارج هذا ألإطار المعرفي العلمي في الفهم السببي الترابطي بين تعالق الدماغ بألإدراك العقلي للأشياء..

إذا نحن سلمّنا بأن مصدر تخليق الخيالات هو الدماغ فعن أي حلقة في منظومة الادراك نستطيع إلقاء مسؤولية الحفاظ على ألخيالات بعد إنفصال ألذاكرة عنها وتمت تبرئتها ألإنفصالية عن الخيال؟ إن المأزق الحقيقي في إنفصال الذاكرة عن الخيال ينتج عنهما أنهما كليهما تجريدان تابعان لمنظومة الادراك العقلية. فكيف يكون تشكيل الذاكرة كمنطقة تجريد إدراكي ترتبط بالدماغ،؟ وكيف يكون مصير مخّيلة توليد أفكار الخيال التي هي تجريد أيضا يرتبط بكل من ألذاكرة وألدماغ في تفكير العقل ؟.

لمصادرة إشكالية تعالق الذاكرة بالخيال في وجوب الفصل بينهما يطرح اسبينوزا تعريفا فحواه تضييع ألإشكالية التناقضية بين ألذاكرة والخيال بإعادتهما الى مرجعية وحدتهما الزمانية وإعتباره الزمان هو ديمومة إستمرارية الوجود، وليس للذاكرة تداخل وصلة مع إدراك هذا الزمان.5

مقولة أسبينوزا هذه مأخوذة عن ارسطو قوله " الذاكرة هي من الزمان "، واذا أردنا تمرير هذه المقولة ألارسطية الصحيحة يتوجب علينا التوضيح، فزمانية الذاكرة تنحصر في مهمة قصدية تنشدها الذاكرة نحو تذكّر حقائق واقعية تاريخية سابقة يحتويها الزمن الماضي كزمن تحقيبي لا يدركه العقل كموضوع غائب الحضور بل يدركه بدلالة محتواه في تاريخية أحداثه ووقائعه. والخاصية الزمانية في الذاكرة هي زمانية مكتسبة بألإدراك وليست خاصية ذاتية تمتاز بها الذاكرة. ولا توجد في هذه الميزة أدنى إرتباط بين الذاكرة والمخيلة رغم أن كليهما تجريد زماني.

كيف يتوافق هذا التعبير مع ما ذهب له ريكورفي إعتباره الذاكرة هي خاصية إستيعابية لتذكر تجارب الماضي وعدم طيّها في غياهب النسيان. علما أن ريكور لم يبد تحفظا من أي نوع تجاه طرح سبينوزا أن الزمن سيرورة وجودية بل أعجب واشاد بها. إذا سمحنا لأنفسنا نقد هذه العبارة لسبينوزا، فأن ديمومة وإستمرارية الوجود هو علة إدراكنا الزمن غير صحيحة، بإعتبار الزمن لا يتخلق عنه سيرورة الوجود، بل الزمن هو سيرورة إدراكنا الوجود زمنيا بحركة موجودات الوجود داخله ليس في علّة إرتباط حركة الموجودات الذاتية بالزمن، بل ندرك الزمن بحركة الاجسام داخل الوجود. الزمن يساعدنا إدراك الوجود المادي في حالتي السيرورة والثبات الحركي النسبي. لكنه أي الزمن عاجز أن يكون علة وجود موجود مادي متحرك. الزمن لا يمتلك قابلية تحريك موجودات الوجود إذا صح التعبير. فالموجودات سيرورة أنطولوجية لا تستطيع الخلاص من قبضة الزمن  بألإدراك العقلي لها . لذا تكون علاقة الزمن بسيرورة الوجود علاقة إدراكية فقط وليس علاقة سببية لا في حركتها ولا في وجودها الفيزيائي مطلقا.

بضوء عبارتي ارسطو ومن بعده سبينوزا بأن ألذاكرة خاصية زمنية تحتويها القصدية التاريخية للماضي، والخيال قصدية زمنية يحتويها المستقبل، فكلا التعبيرين كما وسبق ذكرناه هو توصيف لفعالية زمنية وليست تعبيرا عن حقيقة موضوعية منفصلة عن توليد العقل لها. فكما ترتبط الذاكرة بتفكير الدماغ كذلك ترتبط المخيلة بتفكير الدماغ أيضا، ولا وجود تعبيري لإدراكهما كتجريد خارج منظومة العقل الادراكية. كل حلقة تجريد إدراكي للعقل لا قيمة لها بإنفصالها لوحدها ولا تمتلك وجودا أنطولوجيا مدركا أكثر من حقيقتها أنها تجريد إدراكي مصدره العقل.

ما بعد الانفصال

في حال إقرارنا صحة إنفصال الذاكرة عن الخيال فلسفيا، وأن مصدر خيالاتنا الابداعية في تذكّر وقائع الماضي، وخيالاتنا في تصنيعها المستقبلي، يصبح كلاهما الذاكرة والخيال تجريدا إدراكيا ليس للزمن وحسب، بل كلاهما جوهران منفصلان بالتجريد متزامنان في تبعيتهما الادراكية للدماغ داخل ترابط منظومة العقل الادراكية. بهذا المعنى ألعلمي ألمفهومي الصحيح نصطدم بحقيقة واقعية هي لا وجود لذاكرة خاصيتها الماضي ولا لخيالات خاصيتها المستقبل بمعزل عن تفكير العقل المرتبط بهما، كون خاصية الذاكرة الماضوي ليس وجودا عضويا بيولوجيا لها. وكذا نفس الحال مع الخيال أو المخيلة التي لا نستطيع تحديد موجوديتها أكثر من أنها تجريد تفكيري يبتدعه ويخلقه الدماغ، الحقيقة التي نتجاهلها أحيانا أن جميع تكوينات أنشطة الانسان الموزعة بين ألاحساسات الخارجية وألأحاسيس الداخلية هي تجريدات تفكيرية صادرة عن دماغ الانسان ولا وجود حقيقي يمثلها كمواضيع إدراكية قائمة بذاتها سوى ردود ألافعال الناتجة عنها المنقولة عن تفكير الدماغ بوسيلة منظومة الجهاز العصبي. فكل إدراكات الانسان الواقعية والخيالية هي تجريد تعبيري صادر عن مناطق معينة بتركيبة الدماغ الانساني.

اللغة في إشكالية الذاكرة والخيال؟

إدراك الذاكرة ليس مصدر إنبعاثه الخيال بل مصدر توليده هو تفكير العقل، وميزة إدراك الذاكرة هو إستذكار صوري مرهون في تمثيله لوقائع الماضي بوسيلة تعبير (اللغة). فإستذكار الذاكرة لوقائع الماضي لا يختلف عن إدراك الحواس لموجودات الحاضر الحسّية في وجودها المادي الانطولوجي. فكلا التعبيرين هو تمثيل صوري يتوسل اللغة في التعبير عن تمثله الموجودات في العالم الخارجي. الذاكرة تستذكر وقائعها باللغة التجريدية التصورية التي ترافقها خاصية النسيان الملازمة للذاكرة في تصوراتها اللغوية وتعبيراتها عن أحداث ووقائع الماضي.عبارة ديكارت : الذاكرة مقاطعة تابعة للخيال الذي كان عومل عصورا طويلة بالشبهة، عبارة تناقض نفسها في :

الخيال لايقوم ولا ينوب عن الذاكرة ولا يمثلها من حيث التعبير، لا من حيث ألإختلاف الزماني ولا من حيث محتواه التعبيري عن نفسه، فالخيال تصورات ذهنية تتجه نحو المعالجة الحاضرة والمستقبلية في وهم خيالي من التصورات، ولا يهتم الخيال بوقائع الماضي كتحقيب تاريخي إلا في إغناء تعبيرات الذاكرة الفكرية. واذا ما إضطلع الخيال بمهمة أستيعاب بعض الدلالة الواقعية الماضية التي تغني أفكار المخيلة، ومع الخيال لا تشكل وقائع الماضي التي حدثت إهتماما له في التعبير عنها كوقائع تاريخية ماضوية، لا يمكن ولا المستطاع التلاعب بها من حيث هي تاريخ إنتهى حدوثه وإكتسب زمنه الماضي في اركولوجيته وتدوينه الوثائقي الثابت.

الخيال في حال تحرره من الذاكرة يعجز التعبير عن الماضي بكيفية تطابق تعبير الذاكرة عن الماضي، من حيث الخيال سيرورة حركية في فضاء غير محدود بخلاف الذاكرة التي تكون محبوسة في وقائع حدثت تحاول نقلها كما جرت. الخيال في حال هضمه ألإستيعابي لإجتزاءات من وقائع وأحداث الزمن الماضي أنما يكون بذلك يقوم بوظيفة الذاكرة الواقعي وليس بوظيفة الخيال الوهمي. حين يصبح الخيال إستذكارا لوقائع ماضية وليس إستشرافا لسيرورة مستقبل لا يحتويه الماضي ولا يتوفر عليه الحاضر بل  يبقى نزوع مستقبلي يعبر عنه الخيال بتصورات لا واقعية أغلب ألأحيان ولا علاقة للذاكرة به.

إستذكار ألماضي هو وظيفة الذاكرة

هنالك رأي يحمّل اسبينوزا مسؤولية التعبيرعنه " أن الذاكرة في حالة إختزالها الى إستذكار فهي بالتالي تعمل في سياق الخيال " 6 هذا التعبير ألإعتسافي لا يقوم على منطق فلسفي يمرر مقبوليته، فألذاكرة في حقيقتها ألوظيفية هي تعبير صوري لإستذكارات ماضية جرت. ولا توجد هناك خصيصة دلالية تشير الى تحميل الذاكرة ما لا تقدر عليه مثل تخليقها الافكار الخيالية بدلا من وظيفة ملكة الخيال عند الانسان التي هي ملكة توليد تفكيري هي أحدى خصائص وظيفة الدماغ.

الذاكرة بمقارنة خاصيتها ألإستذكارية المحدودة في التعبير التصوري عن الماضي فقط ليس من إمكانيتها الوظيفية أن تكون جزءا من أفكار الخيال. فالخيال يتسم بفضاء متحرر غير مقيد وله قابلية التلاعب بمدركاته الشعورية التي يستمدها من المحيط وحتى من وقائع الماضي، ومن أللاشعور الذي يقوم الخيال بتوسيله للتداعيات الفكرية والصورية في توليد إستبطاني لا يكون تعبيرا دقيقا كما تفعل الذاكرة في التعبير عن وقائع حقيقية تاريخية لا تستطيع الخروج عنها. ألخيال إضافة نقدية فكرية متجاوزة لزمانيتها في إغناء الحاضر تمهيدا لمستقبل أفضل، الذاكرة عكس الخيال حلقة تعبيرية من الادراك المنغلق الذي لا تخرج محدوديته الزمانية عن الماضي فقط..

***

علي محمد اليوسف /الموصل

...........................

الهوامش:

1.بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان، ترجمة وتعليق جورج زيناتي ص 41

2. نفسه ص 37

3. نفسه ص 38

4. نفسه نفس الصفحة

5. نفسه نفس الصفحة

6. نفسه نفس الصفحة

يُعْتَبَر عَالِمُ الاجتماعِ الألمانيُّ ماكس فيبر (1864 - 1920) أحَدَ الآباءِ المُؤسِّسين لِعِلْمِ الاجتماعِ الحَديثِ. وَقَدْ سَاهَمَ بشكلٍ فَعَّالٍ في دِرَاسَةِ الفِعْلِ الاجتماعيِّ، وتأويلِه بشكلٍ مَنْطقيٍّ وَعَقْلانيٍّ، وتَفسيرِه بطريقةٍ قائمة عَلى رَبْطِ الأسبابِ بالمُسَبِّبَاتِ.

عَرَّفَ فيبر الفِعْلَ الاجتماعيَّ بأنَّهُ صُورةُ السُّلوكِ الإنسانيِّ الذي يَشْتمل على الاتِّجاهِ الداخليِّ أو الخارجيِّ، الذي يَكُون مُعَبَّرًا عَنْهُ بواسطة الفِعْلِ أو الامتناعِ عَن الفِعْل. وَيُمْكِن فَهْمُه عَلى أنَّه طريقة تَصَرُّف الفَرْدِ بِنَاءً عَلى مُعْتقداتِه وَقَنَاعَاتِه، واستنادًا إلى مَصَالِحِه، واعتمادًا عَلى بيئته.

وَفَهْمُ الفِعْلِ الاجتماعيِّ يَتَطَلَّبُ فَهْمَ الدَّوافعِ الذاتيَّةِ للأفرادِ وتَفسيراتِهم للمَواقفِ الاجتماعية، وكَيْفَ تُؤَثِّر القِيَمُ الثَّقَافِيَّةُ والمَعاييرُ الاجتماعيَّةُ عَلى سُلوكِهم. وَقَدْ حَدَّدَ فيبر أربعة أنواع رئيسية للفِعْلِ الاجتماعيِّ لِتَفسيرِ الدَّوَافعِ البَشَرِيَّة: الفِعْل العَقْلاني الهادف، والفِعْل القِيَمِي، والفِعْل العاطفي، والفِعْل التَّقليدي. وَهَذه الأنواعُ تُسَاعِد في فَهْمِ دَوافعِ السُّلوكِ البَشَرِيِّ، وتفاعلاتِ الأفرادِ في المُجتمع.

وَوَفْقًا لِمَنظورِ فيبر وَتَعريفِه للفِعْلِ الاجتماعيِّ، لا بُدَّ مِنْ فَهْمِ السُّلوكِ الاجتماعيِّ أو الظواهرِ الاجتماعيةِ عَلى مُسْتَوَيَيْن، المُستوى الأوَّل أنْ نَفْهَمَ الفِعْلَ الاجتماعيَّ عَلى مُستوى الأفرادِ أنفُسِهِم، أمَّا المُستوى الثاني فهو أنْ نَفْهَمَ هذا الفِعْلَ الاجتماعيَّ عَلى المُستوى الجَمْعِيِّ بَين الجَمَاعَات.

رَكَّزَ فيبر على الفِعْلِ الاجتماعيِّ بَدَلًا مِنَ البُنيةِ الاجتماعية، وَرَأى أنَّ الدَّوافع والأفكار البَشَرِيَّة هِيَ التي تَقِفُ وَراء التَّغَيُّرِ الاجتماعيِّ. وَبِوُسْعِ الفَرْدِ أيضًا أنْ يَتَصَرَّفَ بِحُرِّية، وَيَرْسُمَ مَصِيرَه في المُستقبَل. وَاعْتَبَرَ أنَّ البُنى في المُجتمعِ إنَّما تَتَشَكَّلُ بِفِعْلٍ تبادليٍّ مُعَقَّد بَيْنَ الأفعالِ، وَيَنْبغي كَشْف المَعَاني الكامنةِ وَرَاءَ هَذه الأفعال.

وَالفِعْلُ الاجتماعيُّ - عِند فيبر - يَتَحَقَّقُ بالتفاعلِ بَيْنَ الذَّوَاتِ والآخَرِين، وَيَتَّخِذُ هَذا الفِعْلُ مَعْنى ذاتيًّا وَغَرَضِيًّا. وهَكَذا، يَكُون فيبر قَد انتقلَ بِعِلْمِ الاجتماعِ مِنْ عَالَمِ الأشياءِ المَوضوعية إلى الأفعالِ الإنسانية، أي: انتقلَ مِنَ المَوضوعِ إلى الذاتِ، أوْ مِنَ الشَّيْءِ إلى الإنسان.

وَقَد اهْتَمَّ فيبر بِفَهْمِ المَعنى الذاتيِّ الذي يُضْفيه الأفرادُ عَلى أفعالِهم، وكَيْفَ يُوَجِّهُ هَذا المَعْنى سُلوكَهم، وَطَوَّرَ مَفهوم " الفَهْم التأويلي" كَمَنهجية أساسيَّة لِعِلْمِ الاجتماعِ، والتي تَعْني مُحاولة فَهْم الفِعْل الاجتماعيِّ، مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِ الفاعلِ نَفْسِه، أي: وَضْع نَفْسِك مَكَان الآخَر لِفَهْمِ دَوافعِه ومَعَانيه.

أصْبَحَ فيبر بالغَ الأهميةِ لِعَالِمِ الاجتماعِ الأمريكيِّ تالكوت بارسونز (1902 - 1979)، باعتبارِ ثقافته الناشئة في بيئة دِينية ومُتحررة في آنٍ واحد. السُّؤالُ عَنْ دَوْرِ الثَّقَافةِ والدِّينِ في العَمَلِيَّات الأسَاسِيَّة مِنْ تاريخِ العَالَمِ كانَ لُغْزًا مُحَيِّرًا لبارسونز، وثابتًا في ذِهْنِه. وكان فيبر الباحثَ الأول الذي قَدَّمَ لبارسونز جَوَابًا نَظَرِيًّا مُقْنِعًا عَنْ هَذا السُّؤال.

يُؤَلِّفُ الفِعْلُ الاجتماعيُّ بالنِّسبةِ إلى بارسونز الوَحْدَةَ الأساسيَّة للحَياةِ الاجتماعية، ولأشكالِ التفاعلِ الاجتماعيِّ بَيْنَ الناس، فَمَا مِنْ صِلَة تَقُوم بَين الأفرادِ والجَمَاعَات، إلا وَهِيَ مَبْنِيَّة عَلى الفِعْلِ الاجتماعيِّ، وَمَا أوْجُهُ التفاعلِ الاجتماعيِّ إلا أشكالٌ للفِعْلِ، تَتَبَايَن في اتِّجاهاتِها وأنواعِها وَمَسَاراتِها، ولهذا يُعَدُّ الفِعْلُ عِنْدَه الوَحْدَةَ التي يستطيع الباحثُ مِنْ خِلالها رَصْدَ الظواهرِ الاجتماعية، وتفسيرَ المُشكلاتِ التي يُعَاني مِنها الأفراد، وَتُعَاني مِنها المُؤسَّسات على اختلاف مُستوياتِ تَطَوُّرِها.

وَالفِعْلُ الاجتماعيُّ - عِنْدَ بارسونز - هُوَ سُلوكٌ إراديٌّ لَدى الإنسان لِتَحقيقِ هَدَفٍ مُحَدَّد، وَغَايَةٍ بِعَيْنِها، وَهُوَ يَتَكَوَّنُ مِنْ بُنيةٍ تَضُمُّ الفاعلَ بِمَا يَحْمِلُه مِنْ خَصائص وَسِمَات تُمَيِّزُه عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الأشخاص، وَمَوْقِفٍ يُحِيطُ بالفاعلِ، ويَتبادل مَعَه التأثيرَ، وَمُوَجِّهَاتٍ قِيَمِيَّةٍ وأخلاقيةٍ تَجْعَل الفاعلَ يَمِيل إلى مُمَارَسَةِ هَذا الفِعْلِ أوْ ذَاك، والإقدامِ على مُمَارَسَةِ هَذا السُّلوكِ أوْ غَيْرِه.

إنَّ بارسونز يَدْرُسُ الفِعْلَ الإنسانيَّ بِوَصْفِهِ مَنظومةً اجتماعية مُتكاملة، يُسْهِمُ كُلُّ عُنْصُرٍ مِنْ عَناصرِها في تَكوينِ الفِعْلِ عَلى نَحْوٍ مِنَ الأنحاء، وَهِيَ مُؤلَّفَةٌ مِنْ أربع منظومات فَرْعِيَّة، تَتَدَرَّج مِنَ المَنظومةِ العُضْوِيَّة، إلى الشَّخْصِيَّة، فالاجتماعيَّة، فالثَّقَافية والحَضَارية.

وَتُسْهِمُ نَظريةُ الفِعْلِ الاجتماعيِّ التي عَمِلَ بارسونز على تطويرها في تَوضيحِ الكثير مِنَ القضايا الاجتماعية، مِمَّا جَعَلَ هَذه النظريةَ تأخذُ مَوْقِعًا مُتَقَدِّمًا في دِراسات عِلْمِ الاجتماعِ في الوِلاياتِ المُتَّحِدَة الأمريكية، وفي مُعْظَمِ دُوَلِ العَالَمِ، ولا سِيَّما الدُّوَل الأوروبيَّة، بالنظر إلى مَا تَحْتويه مِنْ قُدرات تَحْلِيلِيَّة تُمَكِّن الباحثَ مِنْ مُعالجةِ الكثير مِنَ القضايا الاجتماعيةِ وقضايا عِلْمِ الاجتماع.

حَدَّدَ بارسونز أركانَ الفِعْلِ الاجتماعي: 1- الفاعل: الفرد الذي يَقُوم بالفِعْل. 2- الغاية أو الهدف: الحالة المُستقبلية التي يَسعى الفاعلُ لتحقيقِها. 3 - المَوْقِف: البيئة التي يَحْدُثُ فِيها الفِعْلُ. وتَتَكَوَّن مِنْ: أ - الشُّروط: جوانب المَوْقِف التي لا يَستطيع الفاعلُ التَّحَكُّمَ بِهَا، مِثْل: الظروف الطبيعية، والقُدرات البُيُولوجية. ب - الوسائل: جَوَانِب المَوْقِف التي يَستطيع الفاعلُ التَّحَكُّمَ بِهَا، واستخدامَها لتحقيق الغاية. ج - التَّوَجُّهُ المِعْيَاري: مَجموعة القواعد والمَعَايير والقِيَم التي تُوجِّه اختيارَ الفاعلِ للوَسَائلِ والغَايَات.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

الهوية، بما تنطوي عليه من ثابت ومتغير، تلازم الإنسان منذ ميلاده إلى وفاته. فهي في بدايتها بيولوجية - ـجينية تمنح الذات كينونتها المدنية المغايرة لغيرها. ومن ثمّ يصبح الشخص ذاتًا عاقلة، تنطلق من استعدادات مبرمجة مسبقًا، لتنمو مقوماتها تدريجيًا حتى تصير قادرة على تحمّل مسؤولياتها المعرفية والأخلاقية والقانونية.

فالمولود، منذ اللحظة الأولى، يندفع غريزيًا نحو ثدي أمه لامتصاص الحليب وفق تعليمات دماغية سابقة على أي تجربة. ثم تستقبله الأسرة، وتتكفل به مؤسسات المجتمع، ساعية إلى تشكيله كفرد فاعل، منتج، وإرادي، يختلف بطبيعته عن الآخرين، لأن إرادته ـ متى نضجت ـ لا تحدها الغرائز وحدها. وهكذا ينمو كل مولود في مسار تشكل هويته الخاصة وفق محددات زمكانية، وحسب طبيعة أداء المؤسسات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني في بلاده. كل ذلك يجعله في تماس مستمر مع منظومة القيم التي تُغذّيه، والتي تستمد بدورها قوتها من النظام التربوي ومنطق التنشئة المعتمد، واللذين يُفترض أن يصنعا عقلانية راسخة، ذات جودة، للفرد والجماعة معًا.

لقد كان ولا يزال رينيه ديكارت، الفيلسوف الفرنسي، الأب الروحي للعقلانية الحديثة، حيث ربط هوية الذات بالفعل التفكيري. وصاغ ذلك في كوجيطوه الشهير: "أنا أشك، أنا أفكر، إذن أنا موجود."  فقد تميز مساره برحلة شك لا تهدأ، طعن فيها في كل المعارف التي تلقاها، لكونها مكتسبة من الخارج وليست يقينية.

تأمل ديكارت في الحواس كمصدر للهوية، لكنه رفضها عقلانيًا بعدما تأكد أنها خداعة. فالعين، مثلًا، لا ترى القمر إلا دائرة بيضاء متبدلة بين هلال وتمام، مع أن حقيقته ثابتة بوصفه جرمًا عظيمًا. وما يبدو سرابًا على الإسفلت في أيام القيظ ليس ماءً، بل خداع بصري ناجم عن انعكاس أشعة الشمس. حتى حين شك في نفسه، لم يستطع أن يشك في كونه يشك؛ فالشك نفسه تفكير. ومن هنا خلص إلى أن انقطاع التفكير هو انقطاع عن الوجود ذاته.

أما جون لوك فقد حاول دحض الكوجيطو، بالاعتماد على الذاكرة والتجربة كأصل للمعرفة، ورأى العقل صفحة بيضاء تُخطّ عليها التجارب. غير أن طرحه لم يصمد أمام قوة النسق الديكارتي؛ إذ التجربة المخزنة في الذاكرة لا تكون إلا ثمرة عملية تفكير سابقة، والعقل ليس مجرد وعاء فارغ، بل هو محرك للتجربة وشرط إمكانها.

يضرب لوك مثال النار: فالإنسان لا يعرف أنها محرقة إلا عبر التجربة أو بتلقي المعرفة من الغير. لكن ديكارت يرى أن النظر إلى النار، وإدراك خطرها قبل لمسها، ينبع من تعليمات الدماغ التي تقود التفكير. وحتى إذا لمسها المرء بالسهو، فالاحتراق لا يكون إلا نتيجة خلل في التركيز العقلي لا غيابًا للعقل ذاته. وهكذا تتحول التجربة إلى محفز للتفكير المتجدد، ويتأكد أن مصدر الأفعال والأقوال لا يخرج عن نطاق العقل.

أما آرثر شوبنهاور، رائد الفلسفة التشاؤمية، فقد جعل أساس الهوية هو الإرادة والتشبث بالحياة، ورأى أن التفكير مجرد وظيفة دماغية، وأن الذاكرة قد تُفقد مع إصابة الدماغ. ومع ذلك، حتى عند ضياع الذاكرة تبقى القدرة على التفكير صامدة، إذ تتولد الإرادة باستمرار. غير أن شوبنهاور أغفل أن الإرادة في جوهرها غريزة مشدودة بتاريخ التفكير الذاتي، وأن قوتها تتفاوت من شخص إلى آخر تبعًا لمسار التنشئة والتراكمات المعرفية والخبرات الميدانية.

أما الفيلسوف لاشوني، فقد اعتبر الطبع والذاكرة أساس الهوية، لكنهما بدورهما نتيجة لمسار التفكير لا منطلقًا أصيلًا له. أما فرويد فقدم مقاربة جديدة: الهوية عنده تتشكل من تفاعل "الأنا الأعلى" كمنظومة للضوابط المجتمعية، و"الأنا" كسعي لتحقيق الذات، و"الهو" بما يضجّ به من رغبات. فكلما ترسّخ التفكير العقلاني في المجتمع بفضل الدولة ومؤسساتها، كلما تحول "الأنا الأعلى" إلى محفز للإنتاج والإبداع، وزُوّد "الهو" بمشاعر الرضا والسعادة، وتحررت "الأنا" لتبدع وتبتكر.

خلاصة القول: هوية الشخص لا تنفصل عن ترسيخ ملكة التفكير العقلاني كما صاغها ديكارت. والدولة، بمؤسساتها الرسمية وغير الرسمية، مسؤولة عن بناء ذوات مجتمعية متقاربة في حدها الأدنى من العقلانية، وصناعة "أنا أعلى" محفز على العطاء، وترسيخ الحرية المسؤولة. فالإنسان، في النهاية، يجب أن يكون قادرًا على قول: "أنا أريد" مبررًا، و"أنا لا أريد" مؤسسًا على العقل.

***

الحسين بوخرطة

تُعد "مشكلة الشر" من أبرز المعضلات الفلسفية التي أثارت جدلاً واسعًا عبر العصور. يتناول هذا الموضوع السؤال المحوري حول كيفية وجود الشر في عالم يُفترض أنه خُلق بواسطة قوة عليا خيِّرة. قدمت المدارس الفلسفية تفسيرات متنوعة لهذه الظاهرة، بدءًا من الفلسفة اليونانية وصولاً إلى الفلسفة التوحيدية، كما أن ارتباطه بظاهرة الحرب يعكس تعقيدا وتجليا مريرا في الواقع الإنساني. يعتقد أوغسطينوس أن الشر ليس كيانًا مستقلًا، بل هو مجرد غياب للخير. بعبارة أخرى، يظهر الشر عندما يغيب الخير. الا ان بعض الفلاسفة يرى أن الشر ينشأ من حرية الإرادة البشرية، حيث يمتلك الإنسان خيارا، واختياره للشر هو ما يؤدي إلى وجوده في العالم. يُطرح هذا المفهوم في إطار "مشكلة الشر"، وهو جدل مستدام حول كيفية وجود الشر في عالم خلقه إله خيّر.

الشر في الفلسفة اليونانية

تناول الفلاسفة اليونانيون موضوع الشر بطرق متنوعة، مع التركيز على مفاهيم الخير والعدالة والمعرفة. اعتبر هيراقليطس أن الصراع بين الأضداد جزء من الطبيعة، وأن الشر يكون نتيجة لتوازن القوى المتضادة. على النقيض من ذلك، عارض بارمنيدس فكرة التغيير ورأى أن الشر ناتج عن الوهم والجهل.

في "الجمهورية"، ناقش أفلاطون الخير والشر، واعتبر أن الخير هو المثل الأعلى، وأن الشر ينشأ من الجهل. قدّم أفلاطون فكرة "الكهف" التي يمثل فيها السجناء الذين لا يرون سوى الظلال، مما يرمز للجهل الذي يولد الشر. أما أرسطو، فقد نظر للشر من منظور أخلاقي، واعتبره انحرافًا عن الفضيلة، التي رأى أنها تقع في الوسط بين رذيلتين. كما ميّز بين الشر الطوعي، الذي نختاره، وغير الطوعي، الناتج عن الجهل. كما اعتبرت الرواقية أن الشر نتيجة للانفعالات السلبية، كما رأت أن الشر ليس شيئًا حقيقيًا، بل هو نقص في الفضيلة. أما الأبيقورية، اعتقدت أن الشر ينشأ من الخوف، (خاصة من الموت)، وأن السعي وراء اللذة وتجنب الألم هو ما يقود الإنسان نحو الخير.

الشر في سياق الفلسفة التوحيدية

يُعتبر وجود الشر في الفلسفة اليونانية متوافقًا مع مفاهيم التوحيد، مثل فكرة أفلاطون بأن الشر هو غياب للخير، مما ينسجم مع فكرة الإله كمصدر للخير المطلق. "مشكلة الشر" في سياق التوحيد تأتي على شكل سؤال، كيف يمكن أن يوجد الشر في عالم خلقه إله كلي القدرة والخير؟ يجادل البعض بأن الشر نتيجة لحرية الإرادة التي منحها الإله للبشر، بينما يرى آخرون أن الشر قد يكون جزءًا من خطة أكبر لتحقيق الخير. بالمقابل، ترى بعض التقاليد الدينية، مثل الزرادشتية والمانوية، أن الشر كيان مستقل يتعارض مع الخير.

دور الإرادة في خلق الشر

إذا اعتبرنا أن الشر هو نقص في الخير، فإن الإرادة الحرة تلعب دورًا أساسيًا في ظهوره. فالأفراد قد يختارون أفعالًا غير أخلاقية، مما يؤدي إلى وجود الشر. أحيانًا، يرتكب الأفراد أفعالًا شريرة بسبب الجهل أو نقص المعرفة. لذا، يمكن القول إن الإرادة التكوينية مرتبطة بنقص المعرفة، مما يجعل الأفراد يميلون إلى الاختيار الخاطئ. حيث يعتمد الاختيار على الظن، التجربة، الحدس، والإرادة الحرة. هذا يشير إلى أن الإنسان يمتلك القدرة على الاختيار حتى في غياب المعرفة الكاملة، ولكنه يترتب على ذلك أخطارا ونتائج غير متوقعة، والاختيار يتعلق بالأفعال والقرارات التي يتخذها الأفراد، وليس باختيار الشر كوجود مستقل. كما ان الشر يُفهم في سياق الخيارات المتاحة والنتائج المترتبة عليها، مما يجعل الاختيار عملية معقدة. لذا فان الشر ليس شيئًا مخلوقًا بذاته، بل هو حالة تنشأ نتيجة للاختيارات الخاطئة.

القصور الإنساني والتطور

القصور في الفهم يُعتبر جزءًا من طبيعة الإنسان، ويفتح الباب امام التعلم والنمو. رغم أن النقص يمكن أن يكون عائقًا، إلا أنه أيضًا يمكن ان يكون دافعًا للتعلم من الأخطاء والتكيف مع الظروف. في المقابل، إذا كان الفرد يفتقر إلى العناصر الأساسية للتطور، أو إذا كانت الظروف غير مواتية، يكون من الصعب عليه تحقيق تقدم. إن فهم الشر كحالة تنشأ من غياب الخير هو تحليل معقد يتطلب تفكيرًا عميقًا في طبيعة الوجود والإرادة. في بعض الأحيان، الظروف الخارجية يمكن أن تساهم في خلق بيئات تؤدي إلى الشر. على سبيل المثال، الفقر، الظلم، أو النزاعات يمكن أن تخلق سياقات تجعل من السهل اختيار الشر وهنا يمكن أن يكون الشر موجودًا في الخارج حيث إنه يظهر في الظروف والأفعال السيئة، ولكن لا يزال يعتمد على حرية الاختيار لدى الأفراد. في هذا السياق، يمكن فهم الشر على أنه نتيجة لتفاعلات معقدة بين الإرادة الحرة، الظروف الخارجية، ونقص المعرفة.

الحرب كمظهر من مظاهر الشر

الحرب تُعتبر من أبرز مظاهر الشر في العالم، حيث تخلق الفوضى والمعاناة. تُظهر الحرب كيف يمكن للشر أن يتجسد في الأفعال البشرية .من ناحية وجودية تلعب  غريزة البقاء دورا مهما(الخوف من الموت والسعي الى الخلود) ، هذه الغريزة تدفع الأفراد إلى اتخاذ قرارات تهدف إلى الحفاظ على الحياة، مما يؤدي إلى أفعال ضارة أو شريرة في سياقات معينة، مثلا الشعور بالتهديد يؤدي إلى سلوكيات عدوانية كوسيلة للدفاع عن النفس .كما ان غريزة البقاء تؤدي إلى تنافس البشر على الموارد المحدودة، مما يولد  صراعات ونزعات ، الذي يسهم في استمرار الشر في سياقات اجتماعية متعددة، مثل تشكيل تحالفات أو جماعات، تتضمن أحيانًا تصرفات غير أخلاقية تجاه الخارجين عن المجموعة .هذا الشعور بالانتماء إلى مجموعة معينة يبرر أفعال الشر تجاه المجموعات الأخرى ، تتفاعل هذه الاليات مع العوامل الثقافية والاجتماعية، مما يؤدي إلى جعل الأفعال الشريرة كجزء من ديناميات البقاء. تاريخ الإنسانية مليء بالصراعات والحروب، اغلبها كانت مدفوعة بغريزة البقاء والنجاة، لا تزال هذه النزعة العدوانية البدائية موجودة في الإنسان المعاصر، حيث يمكن أن تظهر في سلوكيات العنف المستمرة حاليا. إن استمرار الشر والحروب رغم التجارب التاريخية التي ساعدت في تشكيل قيم جديدة، يشير الى ان الغريزة البدائية تبقى عاملاً مسيطرًا في معظم السياقات.

غريزة البقاء وسلوك الانسان

تؤثر الغرائز البدائية بشكل عميق على سلوك الإنسان، لكنها تبقى حبيسة تكوينها البدئي وان تأثيرها كان عميقا في التاريخ الانطولوجي للإنسان. مما أدى الى التنافس على الموارد الطبيعية مثل الماء، الغذاء، والأراضي ونشوب اشكال متعددة من الحروب والصراعات، التي دفعت المجتمعات إلى الحفاظ على مكتسباتها أو الاستيلاء على موارد الآخرين، عندما كانت المجتمعات تواجه تهديدات من جماعات أو قبائل أخرى تؤدي بالمجتمعات الى تشكيل تحالفات داخلية وخارجية، في بعض الأحيان، هذه التحالفات تتداخل مع الإيديولوجيات، مما يجعل الجماعات تقاتل تحت شعار حماية معتقداتها، الذي أدى إلى نشوء الحروب المقدسة. العديد من الحروب الاستعمارية كانت مدفوعة برغبة الدول الصناعية في السيطرة على أراض جديدة وموارد، هذه الصراعات غالبًا ما تكون عنيفة ومدمرة. مما دفع الجيوش إلى تطوير أساليب وأدوات جديدة للحرب، زاد من كفاءتها وزاد من حدة الصراعات، وكان الشر عاملاً محوريًا في تشكيل مسارها عبر التاريخ. فهم الشر والحرب فلسفياً يتطلب تحليل العوامل الجينية والاجتماعية والسياسية التي تؤدي إلى الصراع. بالتالي هناك ديناميكيات متناقضة الى اليوم في فهم الشر فلسفيا.

***

غالب المسعودي

 

تقديم: لعل تنسيب المنهج بمفهومه الفلسفي على وجه التحديد لديكارت هو ما إعتبره مؤرخو الفلسفة بداية وضع عدد من التجديدات ألإضافية النوعية الإنعطافية غير المسبوقة فلسفيا منها على سبيل المثال، إدخال النزعة العلمية في مباحث الفلسفة كمنهج يعلي مكانة العقل، الشك بأعتباره مهماز إستثارة الإهتمام بوجوب الوصول الى يقينية المعارف التي ندركها، الدعوة الى المنهج الذي يقوم على محددات وقواعد وأحكام تجعل من هدف البحث يقوم على ثيمات قصدية يروم تحقيقها إعتماد الشك في المنهج، الإبتعاد عن كل تشتيت ذهني بالتفكير لا يقود الى أهداف محددة سلفا، الحقيقة الفلسفية العقلية التي لا تقاطع المهيمن اللاهوتي الديني وليس المنهج التجريبي العلمي، ألإهتمام باليقينيات البديهية القائمة على الوضوح التام الخالي من الأرتياب والشّك قبل التسليم بتلك البديهيات التي إعتبرها ديكارت تحمل برهانها اليقيني معها في وجودها الحدسّي الظاهرالوضوح لا من خارجها البرهاني وجودا الذي لا تحتاجه. وغير ذلك من تفاصيل فلسفية ظهرت دعوة الإهتمام الفلسفي بها مع إنبثاق المنهج الفلسفي التفكيري الذي ضمّنه ديكارت كتابه المعروف (مقال في المنهج). وهذه الورقة تتعرض بإقتضاب الى مناقشة بعضا من هذه التفاصيل التي ذكرناها متعالقة بالمنهج الديكارتي...

ماذا أراد ديكارت في المنهج؟

يعتبر كتاب ديكارت (مقال في المنهج) إنعطافة مفصلية على صعيد تخليص الفلسفة من هيمنة اللاهوت الديني الذي ساد القرون الوسطى في وصايته على كل من الفلسفة والعلم والعقل على حد سواء. وقد إعتمد ديكارت أسلوب الممانعة الناعمة على صعيد إتبّاع أسلوب ألمهادنة غير ألتصادمية بين دعوته وجوب خلق توليفة فلسفية تتقبل المنهج العام القائم على ألشك الموصل لحقيقة اليقين، كما تتقبّل المنهج التجريبي العقلي القائم على ألتجربة والتطبيق العملاني بالحياة، كما تتقّبل اللاهوت في مرتكزه القائم على الإعتراف بوجود الله خالق كل شيء ومنبع كل وجود الضامن لكل حقيقة. دليل ذلك تعبير ديكارت " الفكر هو المدرك – بكسر الراء – لذاته والذي هو في ذاته مدرك الموجود الكامل الله. منبع كل وجود والضامن لكل حقيقة."1 . طبيعي لايكون هذا التعبير الفلسفي لم يسبق به ديكارت أحدا من الفلاسفة، لكن جديد ديكارت في طرحه دعوة التوافق المنهجي الذي تتعايش فيه المتناقضات الاربع (الفلسفة، العقل، العلم، والدين) دونما إختلافات تصل الى حد ممارسة ألعداء المسّتحكم والدموي في أغلب الأحيان بينهم بكل السبل المتاحة المشروعة وغير المشروعة التي سادت العصور الوسطى وفي القرن السابع عشر الذي عاشه ديكارت بكل مهيمناته القروسطية. مثال ذلك تصادم اللاهوت الديني الكنسي الكاثوليكي بالضد من العلم الفلكي والفيزياء وتصفية رموزه العلمية وتحجيم دورهم. برونو، غاليلو، كوبرنيكوس، نيوتن.كبلر وغيرهم.

مطالبة ديكارت أن يكون كل شيء ضمن حدود الوضوح التام كفيل بوضع كل شيء على محك الشّك الذي يعقبه اليقين العقلي في الصدق أو زيفه. الذي يعتبره ديكارت إدراكا لا يقاطع وعي الذات لحقيقتها الوجودية على صعيدي الأنطولوجيا والميتافيزيقا معا. ورغم تأكيد هذه الخصيصة الإنفرادية للذات، التي من خلالها جرى تمجيد وإعلاء نزعة العقل فقد رسم ديكارت هذه الميزة في تعاليها الذي يضمن للانسان إعتلائه الطبيعة، وفي ملازمة هذا التعالي الإقرار اليقيني الإيماني القاطع بوجود الله الذي هو منبع كل وجود والضامن لكل حقيقة.

من جنبة أخرى نجد منهج ديكارت بمقدار تأكيده النزعة العلمية التجريبية وهيمنة العقل وتعالي الذات كجوهر مركزي أكدّه في الكوجيتو أنا أفكر إذن أنا موجود. بمقدار ما جعل هذا التناقض في المنهج القائم على أولوية الشك بكل شيء يسبق اليقين. فهو متناقض تماما من حيث أهمية التطبيق العملي الذي دعا له، تاركا الإهتمام المفروض في عدم إنسجام ومجانسة جمعه هذه الأقانيم ألمتناطحة الثلاثة (الله، العقل، والفلسفة) في نسق منهجي معرفي نظري محال تطبيقه الواقعي. بل وألأكثر إستحالة إعتماد دلالة أحد هذه الأقانيم في معرفة أحدهما الآخروعدم التقاطع والإصطدام معه. وهي أقانيم لكل منها خصوصية لا تلتقي ولا تتجانس مع غيرها.

دعوة ديكارت أهمية الوضوح اللغوي في كل شيء يجري التعبير عنه كمدرك عقلي رغم إعتمادها بدأب فلسفي مثابر ثيمة فلسفية اولى بعد ثلاثة قرون من عصر ديكارت، في الإهتمام الإستثنائي من قبل عمالقة فلسفة اللغة التحليلية الانجليزية وعلى وجه التحديد فينجشتين وجورج مور، نجد ديكارت يلجأ تحت رغبة تحقيقه التبسيط الواضح هاجسه الفلسفي البحثي الى مثل هذا التعبير الإفتعالي السطحي قوله " لفظ الفلسفة هذا معناه دراسة الحكمة، وليس معنى الحكمة قاصرا على الحيطة والتبصّر بالأمور، بل تفيد أيضا في معرفة جميع الأشياء التي يستطيع الانسان معرفتها إمّا لتحقيق الهداية في حياته أو المحافظة على صحته أو لإختراع جميع الفنون"2 هذه العبارات الانشائية لا حاجة الإشارة الى تفككها الإفتعالي غير المترابط بما تحتويه من قفزات كنغرية من معنى لمعنى آخر لا علاقة ترابطية بينهما في جمع دلالة الحكمة الفلسفية في الحيطة والتبصّر، مع أهمية المحافظة على الصحة، وأخيرا أختراع جميع انواع الفنون.!! لم يضع ديكارت في عبارته مقوّمات وإشتغالات وإختلافات هذه القضايا الجوهرية الإستثنائية التي يقوم عليها جوهر الوجود الانساني التي جمعها في توليفة توفيقية تلفيقية تعسّفية لا يمكنها إلغاء التفاوت الكبير بينها في توزيع مهام الفلسفة على أمور جانبية لا يجمعها جامع بمباحث الفلسفة المهّمة الكبرى.

ديكارت والرياضيات

رغم محاولة ديكارت ربط الرياضيات بالفلسفة التي تعود أصولها الى عصرافلاطون، إلا أن منهج ديكارت دعوته إحياء مبحث الرياضيات في إعتباره مفتاح معرفة كل العلوم، وأنه لا فائدة ترجى من المنطق وحده فهو لا يضيف شيئا للعلم. معتبرا أسس المنهج تقوم على دعامتين إثنتين "جميع الأفعال الذهنية التي لا نستطيع بها أن نصل الى معرفة الأشياء دون أن نخشى الزلل عبارة عن فعلين إثنين هما الحدس والإستنباط."3 ويرى ديكارت" الحدس ليس شهادة الحواس الكاذبة، ولا الحكم الخادع حكم الخيال، وإنما الحدس هو الفكرة التي تقوم في ذهن خالص يصدر عن نور العقل وحده."4.

تجريد الحدس عن شهادة الحواس المضللة المرفوضة، وإبعاده الحدس عن حكم الخيال الخادع، يتطلب ذهنا خالصا يصدر عن نور العقل كما يدعو ديكارت له. كلام أيضا غير مترابط فلسفيا لا يهدف تحقيق نسق تعبيري منّظم يقودنا الى يقينيات لا شك يعتورها ويتداخلها، وكيف نحصل على ذهن صاف يستمد حيويته التوليدية للأفكار من نور العقل في تعبير صوفي ميتافيزيقي ظاهره علمي عندما نعتبر نور العقل هو التجربة العلمية التطبيقية بالحياة.. وليس نور العقل وفق المنطق الصوفي الميتافيزيقي المنفتح على الذات الالهية روحيا.

لا نجد في مثل هذه التعابير تعالقا معرفيا يقوم على حقائق العلم والإستنباط الفلسفي المبني على تحليل العقل الذي يجب تتويج يقينياته العلمية الواضحة بالتطبيق العملاني لها بالحياة كما أراد ديكارت تحقيقه نظريا فقط... الوضوح بالتعبير لايعني تمرير المجازات اللغوية في حمولاتها المتعددة الوجوه في القراءة التأويلية التي تبحث عن تطابق تام بين اللغة ومدلولاتها الوجودية. ثم الوضوح المطلوب لوصول قناعات يقينية لا يتم إلا في إعطاء كل مفهوم دلالته الحقيقية ومجال إشتغاله من غير دعوة الى ربط تعسّفي محال تطبيقه خارج التنظير الفلسفي. فلا تستطيع الفلسفة التوفيق التلفيقي بين نزعة العقل العلمية التجريبية مع ميتافيزيقا وجود الله الذي إعتبره ديكارت ضمانة معرفة كل حقيقة فلسفية وعلمية وأفرد لذلك كتابه (التاملات).

ديكارت ومناوئيه من الفلاسفة

ثم أن ديكارت ذهب ألى التسليم ب(الأفكار الفطرية) التي أورثها لكانط من بعده، الذي هو الآخرقال بوجود أفكار (قبلية) فطرية مركوزة بالذهن والعقل، وهي مباديء سابقة على كل تجربة علمية. وبالخصوص حين ذهب كانط في كتابه نقد العقل الخالص، أن خاصّية الإدراك الجوهرية للانسان تقوم على ركيزتي ما أسماه قالبي الزمان والمكان بإعتبارهما جوهري الإدراك وهما قالبان مركوزان كمعطى فطري عقلي في ملازمتهما الوعي الإدراكي وبغيرهما لا يمكن العقل ألقيام بمهمته الإدراكية . وأنكر كلا من جون لوك وديفيد هيوم مقولة الأفكار الفطرية القبلية، مؤكدين على أن كل إدراك عقلي يقوم على التجربة الحسّية المستمّدة من الواقع وفاعلية العقل التوليدية للأفكار، وما لا تعبّر عنه الافكارالحسيّة يتعّذّر إدراكه العقلي وغير موجود في عالم الاشياء..

لم يكن ديكارت على مقدرة إستشرافية واضحة أن طروحاته الفلسفية ستجد لها معارضة ومداخلات لم يعمل لها حسابا، فقد طالب السايكولوجيين من بعده تطابق العقل مع النفس ليس بالمعنى الذي عبّر عنه ديكارت إعتباره العقل والنفس جوهرين منفصلين غير متطابقين، لكنهما جوهران متلازمان في وحدتهما التي تجمعهما صفة الخلود لكليهما، في حين إعتبر السايكولوجيون " العقل هو الجوهر المتعالي فوق المشاعر والارادة "5 وهو تعبير علمي دقيق.

من جنبة ثانية قام فلاسفة الأخلاق نفي الطابع العقلي عنها، وأنكروا أن يكون للاخلاق ومعاييرها أصل تجريبي علمي، ونفوا أن يكون للأخلاق قاعدة سيسيولوجية مجتمعية تسري بين الناس، وهذا الطرح على غرابته كان كانط من أقوى الداعمين له....

ومع كل الثغرات التي شابت طروحات ديكارت الفلسفية المنهجية العقلية فقد أعتبره مؤرخي الفلسفة، أنه فيلسوف إستطاع تحقيق ما عجز عنه غيره فهو "قوّض هيمنة فلسفة ارسطو – التي دام تأثيرها على أوربا الفي عام من العصور الوسطى الاوربية – وقضى ديكارت حسب مناصريه على خرافات العلوم الفلكية التي سبقت علوم كوبرنيكوس وبرونو وغاليلو في نسفهم إصرار الكنيسة القول أن الارض مركز الكون وهي ثابتة لا تتحرك وهو ما قال به ارسطو.

وأخيرا حسب مناصري ديكارت أنه أرسى سلطان تحكيم العقل بكل شيء قبل التسليم بصحته. ومنهم من إعتبر ديكارت فيلسوف التمهيد للثورة الفرنسية ومفتاح دخول أوربا عصر الأنوار، وبعضا من أفكاره بقيت في مطاولتها الزمنية التاريخية الى مرحلة ما بعد الحداثة الأوربية. وسنوّضح لاحقا بعض هذا التداخل الفلسفي.

معركة الذات مع ديكارت

من المعلوم أن الكوجيتو الديكارتي ألشهير أنا أفكر إذن أنا موجود فتح بابا واسعا أمام الفلاسفة من بعده، وجرت تحليلات لمقولة ديكارت لها أول ولم يكن لها آخر. أبرز الإنتقادات كانت في تأكيد وعي الذات في ربطه بالتفكير المجرد عن موضوعه الذي هو في جوهره تعبير إنفرادي سلبي في إثبات الوجود. وعندما يقول ديكارت "أن مهمة الفلسفة يدخل فيها علم الله، وعلم الطبيعة، وعلم الانسان، لكن دعامة الفلسفة هي في الفكر الذي يعي ذاته، والذي هو ذاته مدرك من غيره "6.

وإذا ما عدنا الى هذه الإرهاصات المؤثرة التي تركها ديكارت في الفلسفات الاوربية التي رافقت الحداثة وإنتهت في ما بعد الحداثة، نجد أن تلك الطروحات كانت مناسبة لعصرها القرن السابع عشر، وليس من مهام هذه الورقة إستعراض كل التفاصيل التي طرأت طيلة مدة ثلاثة قرون على أفكار ديكارت من قبل فلسفات متعددة مارست النقد الهادف تماما لأفكار ديكارت وكانت صائبة تماما. فعلى صعيد وعي الذات فقط نجد ردود الأفعال على تقديس ديكارت للذات كتحصيل وعي إنفرادي يقوم على أهمية الفكر السابق على وعي الذات لوجودها، نجد فلاسفة الوجودية كلا من كيركارد، وبرينتانو، وهوسرل، وسارتر، وهيدجر، وجبرييل جميعهم وقفوا بألضد من فهم كوجيتو ديكارت لكن بفروقات فلسفية ليست جامعة لهم.

معلوم جيدا أن الوجودية الحديثة إعتبرت مركزية الذات جوهرا فلسفيا راكزا في محورية مباحثها، ولم تنكر على ديكارت إهتمامه الإستثنائي بالوعي الذاتي، لكنها أنكرت عليه مسألتين الاولى ليس وعي الذات ناتجا عن الفكر بمعزل عن الوجود في - عالم على حد تعبير هيدجر. والثانية أن الذات المدركة لوجودها الفعلي ضمن عالم هي ليس لغاية إعتلاء الذات الانسانية ظهر الطبيعة والسيطرة التامة عليها كما أراد وعبّر عنه ديكارت، بل وعي الذات الحقيقي المتسم بالقصدية سلفا ليس معزولا عن مجتمع بشري كما طرحه فلاسفة الوجودية لفهم الحياة. رغم أن ديكارت افصح بوضوح أن مهمة العقل الفلسفي تزويدنا بالمعرفة. ما جعل مبحث الابستمولوجيا في عصره ومن بعده هي الفلسفة الاولى. ما ترتب عليه إدانة فلاسفة اللغة أفكار ديكارت في تضليله الفلسفة البحث عن المعرفة لا غيرها.

كما شنّت البنيوية هجوما لاذعا شديدا في إنكارها تمجيد العقل وأعلاء ذاتية الانسان المحورية في مباحث الفلسفة الى ماقبل عصر ظهور الفلسفة الوجودية، وحاربت الميتافيزيقا التي أوصلت الكنيسة مكرهة رفع يدها عن هيمنة اللاهوت الديني على الحياة بمجمل مناحيها وفي المقدمة رفع وصايتها أمام نهضة وفتوحات العلوم بمختلف المجالات. البنيوية المبكرة كانت إنقلابا جذريا على نسف افكار ارسطو وكذلك افكار ديكارت من بعده.

وفي مرحلة متقدمة لاحقة لطروحات البنيوية في تمجيدها عصر الأنوار والحداثة، قامت البنيوية بردّة فعل إنقلابية تماهي ما بعد الحداثة في الخروج على ثوابت العقل ومركزية الانسان والذات وحتى التشكيك بالعلم ومنجزاته التكنولوجية الباهرة، وأعتبرتها مرتكزات ميتافيزيقية لا قيمة حقيقية إيجابية لها. وأن تمجيد العقل العلمي والتكنولوجي في تخليصه اوربا من نفق القرون الوسطى، لم يلبث أن أدخل اوربا في حرب عالمتين حصدت ارواح ملايين البشر، لذا نجد الوجودية ومن بعدها البنيوية كفرتا بالذات وتمجيد العقل ومركزية الانسان.

ماجعل جاك دريدا متمّسكا متطرفا في مقولته بإستراتيجية التفكيك تحت عنوان لا شيء خارج النص. وأتبعت البنيوية بكافة تياراتها منهجا جديدا قيامه ومرتكزه فلسفة اللغة والعقل والقراءة الجديدة والتحول اللغوي ونظرية فائض المعنى وبذلك أخرجت البنيوية الفلسفة من نفق التيه الضائع في معالجة قضايا فلسفية زائفة طيلة قرون تاريخية من عمر تاريخ الفلسفة كانت مثار إهتمام الفلاسفة بهوس كبير. تاركة الباب في مجال فلسفة اللغة مفتوحا على مصراعيه أمام الفلاسفة الفرنسيين والاميركان والانكليز والالمان إختراعهم فلسفات عديدة تقوم على فلسفة العقل ألنقدي والتحوّل اللغوي بعد مغادرة فلاسفة البنيوية لهذا المبحث وإتجاههم نحو معالجات فلسفية جديدة مثل نقد السرديات الكبرى قاطبة في مقدمتها نقد ألماركسية قبل إنهيار الإتحاد ألسوفييتي القديم، وانتقاد سردية الدين الراسخة الجذور، وكذلك فعلت مع التاريخ في الإهتمام باثنولوجيا الاقوام البدائية كما فعل شتراوس، ونقد علم النفس الفرويدي كما قام به لاكان وفوكو ونقد الماركسية بضراوة من جانب شتراوس والتوسير وغير ذلك من مباحث فلسفية عديدة خارج مركزية فلسفة اللغة التي فتحت البنوية ابوابها ولم تستطع السيطرة على اقفالها.

ديكارت والشّك

ما نذكره مقاربة لتفسير أبرز ما أراده ديكارت في عرضه موضوعة الشّك في تعالقها مع المنهج، علما أن العديد من فلاسفة اليونان كانوا يتعاطون مذهب الشك بالفلسفة وأنكروا على العقل مصداقيته اليقينية المطلقة، ومعنى الحقيقة في معارف عصرهم، وفي الفلسفة الغربية الحديثة برز كلا من مونتاني وجاك شارون وديفيد هيوم، لكن تطرف هؤلاء في مذهب الشّك لم يصل حدود الشك في قدرة العقل وقيمته المعرفية. وهذا إختلاف جوهري كبير بين الشك الديكارتي وهؤلاء الفلاسفة الشّكاك. نفهم من طروحات ديكارت الشّكية التي تستوقفنا كوسيلة منهجية في إكتساب المعرفة "الابستمولوجيا" أبرزها :

- "ألبحث عن الحقيقة يحتاج الإنسان مرة في حياته أن يضع جميع الاشياء موضع الشك قدر الامكان"7.

- "ألهجوم الشاك على كل المباديء التي كان يعتمدها الباحث الفلسفي، سواء أكتسب تلك المباديء عن طريق التعلم، أو عن طريق إدراكها بالحواس"8.

إذا رجعنا قليلا الى أفكار ديكارت حول أهمية المنهج في معرفة الحقيقة وفهم الوجود فهما سليما، نجده ينطلق من مسلمة كل ما هو بديهي حدسي يمكن أن يكون يقينا قطعيا يمكننا الإستدلال به على غيره من معارف لم تكتسب مصداقيتها. وربط ديكارت الحدسي والبديهي على أنهما ليسا بحاجة الى برهان يؤكد معرفتهما اليقينية الإستنباطية في إعتمادها دلالة معيارية واحدة في معرفة غيرها من معارف صادقة.

كما نجد في الشك الديكارتي لا قيمة صادقة يمكن الوثوق بها حول ألخبرات ألمكتسبة عن طريق العقل والحواس فكلاهما ليسا وسائل إستنباط معرفي، فلا الحواس غير خادعة ولا مدركات الذهن العقلية لها قيمة قبل تصفير مدارك الذهن من كل ترسبّات الخبرة السابقة والمعارف القبلية، وأعتبار الشّك ملازما لها قبل التأكد من يقينيته كما أن الدعوة الديكارتية في تصفير الذهن والعقل من مدركاته القبلية كافة يعدم قيمة العقل أن يكون مرجعية معيارية لفهم ما هو بديهي صادق لا يحتاج البرهنة عليه عن ما هو زائف لا يمتلك الثقة به.. شك الانسان بمدركاته ألمكتسبة هي أولى مراتب الشك اللاحق الذي يطال كل المدركات البعدية في موجودات وظواهر العالم الخارجي. كون الشك جزءا هاما من منهج التحقق عن ألاشياء في صدقيتها وفي زيفها معا.

ديكارت وخداع الحواس

في هجوم ديكارت على المعارف القبلية المكتسبة على أنها زائفة إكتسبناها تلقينا ببغاويا عن طريق تعليمنا في مقاعد الدراسة أو عن طريق الحواس الخادعة ولم تكن تتوفر لدينا القدرة على تمحيصها جيدا قبل تسليمنا بصحتها أو إكتشافنا زيفها.

إن عدم التفريق بين خداع الحواس الواضح في العديد من المجالات التي ندرك زيفها، وبين إدراكات الحواس في نقلها عبر الجهاز العصبي الى الذهن بعد فلترة العقل لها ومنحها جواز مرورها الى ألذهن التي لا تكون زائفة تماما بل تكون مدركات حسّية إنطباعية تحتاج كلمة العقل الفصل بشأنها. فمثلا في تأكيده زيف الحواس بتشكيل مدركاتنا، يعتمد تفسيرا خاصا به يقوم على علاقة الشعور باليقظة والوعي الإدراكي الحسّي بعالم الموجودات من حولنا، ويعتبر هذا النوع من الإدراك لا يختلف عن علاقة اللاشعور في تداعياته الصورية التي لا يحدّها زمان ولا مكان كما في إدراكنا الأشياء في حالة اليقظة.

إدراك الشعور لموجودات العالم الخارجي لا تكون زائفة وعشوائية بإقترانها حسب تعبير ديكارت بالحواس الكاذبة دائما والمفاهيم القبلية المكتسبة من المحيط عبر التجربة المتراكمة في مخزون الذهن الواجب التحرر الكامل منها.. ويصل ديكارت قوله نصا " إننا نعتقد في النوم أمورا ونتخّيل أحوالا ونحسب لها ثباتا وإستقرارا ثم نستيقظ فنعلم أن ما رأيناه أثناء النوم كانت خيالات لا حاصل لها، كما ليس هناك إمارات يقينية يمكن أن نمّيز بها اليقظة من النوم بوضوح"8.

طبعا يتوجب علينا التفريق بين تداعيات اللاشعور أثناء النوم على أنها خيالات لا يمكننا السيطرة عليها إدراكيا كما نحن نتعامل مع مدركاتنا في حال اليقظة والشعور، وهذه التداعيات الخيالية في اللاشعور أثناء النوم لا سلطان للعقل عليها. ولا يترتّب على هذا إرباكنا في عدم إمكانية فرز زيف الإدراكين في اللاشعور أثناء النوم عن إختلافه في الشعور أثناء اليقظة. ولا يمكننا التسليم أننا لا نستطيع تمييز حقيقة الواقع الحسّي المدرك عقليا شعوريا، عن واقع تداعيات الخيال والذاكرة المتقافزة بلا نظام في ذهن النائم. ولا بأس أن نصف كلا الإدراكين زائفين من حيث الإحتكام لمرجعية العقل لكن لا نعجز قطعا عن عدم إمكانيتنا من التحقق اليقيني أن ما نعيشه في عالم اليقظة هو العالم الحقيقي الذي نتعامل معه بمدركات العقل ألمنظمّة زمكانيا، بإختلافه عن عالم اللاشعور الذي ندرك لا واقعيته وليس زيفه فقط حال إستيقاظنا من النوم.

الشعور كوعي قصدي عقلي هو وسيلتنا الوحيدة في إدراكنا عالم الموجودات الخارجية من حولنا. بخلاف مدركات اللاشعور التي ندركها أثناء النوم في عدم إنتظامها لا يمكن مشابهتها بنفس الإدراك في حال اليقظة، والتي يعتبرهما ديكارت كلا الإدراكين في الحالتين تعبّران عن الزيف المربك لنا عندما نعجز التفريق بين صدقية مدركاتنا الشعورية باليقظة عن صدقية مدركاتنا اللاشعورية بالمنام. ولا يمكن تمرير الخلط بين إدراك الشعور هو نفسه إدراك اللاشعور في إشتراكهما بخاصية الزيف. بل يكون التفريق بينهما بخاصية (الواقعية) الأنطولوجية التي يدركها العقل الشعوري الواعي بين عالم نعيشه ضمن مجتمع تحكمه علاقات منوعة ومختلفة، وبين عالم حلمي لاشعوري تتقافز فيه صور ألأشياء التي يدركها العقل بعشوائية لا نظامية لا يمكن السيطرة الشعورية عليها.

ديكارت والحدس

يعتبر ديكارت الحدس العقلي هو المصدر الاول للمعرفة لذا لم يكن فيلسوفا تجريبيا، وبحسب تعبيره " لما كانت الافكار الواضحة والمتميزة تقوم عليها كل معرفة يقينية لا يتم التوصل اليها عن طريق الملاحظة الحسّية، فإن مصدرها لا بد أن يكون موجودا في الأفكار الفطرية"9

نستنتج من هذا أن ديكارت يعطي الحدس ميزتين:

- الحدس عقلي وليس تجريبيا كونه يحمل برهانه في بديهيته المدركة.

- الحدس فطري وليس مكتسبا من التجربة الحسيّة في المعرفة.

برأينا أن كل ماهو عقلي حدسي يستمد يقينيته في إدراكه ومعرفة الاشياء بالفطرة حسب تعبير ديكارت هو دوغمائية تحاول تطويع العقل في الإدراك لما هو ليس تجريبيا يقبله العقل مصدره الإحساسات المباشرة التي ينكرها ديكارت. والحدس الفطري لا يكون عقليا بمعنى أنه لا يكون مصدره العقل كيقين لا يقبل النقد المشكك به، فكل ما لا يخضع لتجربة العقل لا يكون يقينيا صادقا يصدر فطريا عن العقل، وكل معرفة حسيّة تصدر عن العقل هي معرفة تجريبية، العقل لا يحدس الاشياء بيقينية قاطعة واضحة ومتميزة لا تحتاج البرهنة عليها كما يرغب ديكارت أن تكون مستمدة من العقل صادرة عنه بالفطرة في إلغاء سلسلة منظومة الإدراك العقلية. الافكار الفطرية إذا ما كانت مقبولة فاعليتها فهي عاجزة تماما عن مجاراة متغيّرات الواقع الإدراكي للعقل، بمعنى ليست الفطرة تقود العقل بل العقل يقود الفطرة ليس كقوالب سابقة قبلية تصب بها وتستوعبها. كل معرفة لا تأخذ بمبدأ تجريبية ما هو مدرك للعقل، كل ماهو فطري يرجع الى تراكم خبرة معرفية مكتسبة، والعقل يدير إدراكاته لموجودات العالم الخارجية ليس بالإحساسات الخادعة وحدها بل يدركها بما لا يمكن تعارضها مع تجريبية العقل وليس في تطويعها لحدس العقل كوثبة مقفلة على يقين يحتمل مفقوده التجربة البرهانية ليكتسب صحة التسليم بصدقه اليقيني. يمكننا ألقول أن ألحدس لا عقلي ولا فطري بل هو إحساس يوجهه الإنفعال النفسي الميتافيزيقي الذي يركن تجريبية العقل الحسيّة جانبا.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

........................

الهوامش

1. د. امل مبروك /الفلسفة الحديثة/ ص69

2. نفسه ص 70

3. نفسه ص 77

4. نفسه ص 77

5. نفسه ص70

6. نفسه ص 82

7. نفسه ص 83

8. نفسه ص 83

9. نفسه ص 90

10. نفسه ص 84

الخبرة الدينية: يعرف الجرجاني الخبرة بشكل عام فيقول: "الخبرة هي المعرفة ببواطن الأمور". (تعريفات الجرجاني).

ولغةً: الخِبْرَة هي العلم بالشيء ومعرفة حقيقته وفهمه وتفاصيله.

يأتي مصدر الفعل "خَبَرَ" من قولك: "خَبَرْتُ الشيء"، أي علمت حقيقته.(معجم المعاني).

واصطلاحاً هي: المعرفة الخاصة ببواطن الأمور أو المعرفة المكتسبة من طول الممارسة والتجربة مع الدقة في الملاحظة وغالبا ما ترتبط بمفهوم المهارة أو القدرة الفطرية العميقة.

والخبير هو العالم والعارف بالشيء وأصحاب الخبرة هم أهل العلم والمعرفة بدقائق الأمور.

وتعني أيضاً المهارة أو قدرة الملاحظة العميقة التي تكتسب من خلال المشاركة في عمل أو حدث معين ويكتسبها الإنسان بالممارسة وتكرار التجربة مما يمنحها عمقا أكبر.

غالبا ما تترافق كلمة "خبرة" مع كلمة "تجربة".

ويكتسب الإنسان الخبرة من خلال المشاركة في عمل معين أو حدث معين وغالبا ما يؤدي تكرار هذا العمل أو الحدث إلى تعميق هذه الخبرة وإكسابها عمقا أكبر. لذلك تترافق كلمة خبرة غالبا مع كلمة تجربة. فنقول أصبح خبيرا من كثرة التجارب.

تترافق كلمة خبرة أيضا بشكل خاص مع المعرفة الإجرائية (تطبيقية) أي معرفة كيفية عمل شيء ما وليس مجرد معرفة خبرية (قولية).

كالمهندس الخبير والفني الخبير- في أي أختصاص- بشرط أن يكون عملي تطبيقي.

مفهوم الخبرة الدينية فلسفيا:

غالبا ما يصف الفلاسفة الخبرة الدينية فلسفياً بأنها تجربة ذاتية عميقة يشعر فيها الفرد بأنه يتواصل مع حقيقة متجاوزة أو مقدسة تتخطى حدود الواقع المادي المعتاد. هذه التجربة غالبا ما تؤدي إلى تحول في فهم الشخص لنفسه وللعالم وقد تكون مصحوبة بمعرفة أو بصيرة جديدة.

خصائص الخبرة الدينية فلسفياً:

1.الذاتية والفردية:

يؤكد الفلاسفة على أن الخبرة الدينية هي في جوهرها تجربة شخصية وفردية. لأنها تتعلق بمشاعر الفرد وعواطفه وإرادته في الإيمان بعيدا عن البراهين العقلية والمنطقية الصرفة.

2.الاتصال بالمقدس: يصف اللاهوتي الألماني (رودولف أوتو) جوهر التجربة الدينية بأنها الشعور بـ "النومينوس" (Numinous)، وهو مزيج من الرهبة والجذب تجاه ما هو مقدس وغامض.

ويرى (أوتو) أن هذا الشعور هو أساس كل دين حقيقي.

(أوتو، فكرة المقدس).

3. مصدر للمعرفة: يعتبر البعض أن الخبرات الدينية خاصة الصوفية منها هي حالات من المعرفة والكشف. يشعر الشخص الذي يمر بها أنه يصل إلى أعماق الحقيقة بطريقة تتجاوز التفكير العادي وتترك لديه شعورا باليقين والمعرفة.

4. التأثير العملي (البراجماتية): من منظور الفلسفة البراجماتية كما عند وليم جيمس تقاس أهمية الخبرة الدينية بآثارها العملية في حياة الفرد. فإذا كانت هذه التجربة تمنح المؤمن السعادة والطمأنينة والسلام وتدفعه نحو حياة أفضل فهي بذلك تبرر نفسها بغض النظر عن إمكانية إثباتها علميا.

باختصار الخبرة الدينية فلسفيا هي لحظة لقاء شخصي وعميق بين الإنسان وما يعتبره مقدسا أو مطلقا وهي تجربة تتجاوز اللغة والمنطق التقليدي وتُقيّم غالبا بمدى تأثيرها التحويلي على حياة الفرد.

ومن أبرز الفلاسفة الذين تناولوا الخبرة الدينية في القرن العشرين هو (ولتر ستيس) خاصة في كتابه الهام "الزمان والأزل" يقدم ستيس في هذا الكتاب رؤية فلسفية عميقة تهدف إلى التوفيق بين النظرة العلمية الحديثة للعالم والتجربة الدينية الصوفية.

وحاول حل الصراع بين الرؤية العلمية للعالم (التي يسميها النزعة الطبيعية) والتجربة الدينية. وهو يرى أن المشكلة ليست في تعارض اكتشاف علمي معين مع عقيدة دينية محددة بل في الصدام بين عقليتين: العقلية العلمية التي ترى الوجود بلا غاية والعقلية الدينية التي تبحث عن المعنى والغاية في الوجود.

والحل الذي يقدمه ستيس يرتكز على فكرة جوهرية: هي وجود نظامين أو مستويين للحقيقة لا يتعارضان بل يتقاطعان.

النظام الأول: هو نظام الزمان الذي هو عالمنا المادي عالم الطبيعة الذي تحكمه قوانين السببية والمنطق والتعددية والتغير وهو المجال الذي يدرسه العلم والعقل التحليلي. في هذا النظام كل شيء نسبي ومحدود.

ثانيا: نظام الأزل: وهذا هو عالم الإله أو الحقيقة المطلقة. إنه عالم الوحدة واللامتناهي وهو ثابت لا يتغير. ولا يمكن إدراكه بالحواس أو بالعقل المنطقي بل فقط من خلال الحدس الصوفي أو التجربة الدينية المباشرة.

يرى ستيس أن هذين النظامين منفصلان تماما فقوانين أحدهما لا تنطبق على الآخر. فلا يمكن استخدام العلم لإثبات أو نفي وجود الإله كما لا يمكن للتجربة الدينية أن تخبرنا بحقائق عن العالم المادي (مثل قوانين الفيزياء).

الخبرة الدينية كـ "نقطة تقاطع":

يعتقد ستيس إن اللحظة الوحيدة التي يلتقي فيها هذان النظامان هي لحظة التجربة الصوفية في هذه اللحظة يخترق الإنسان حدود عالم الزمان ليعاين مباشرة عالم الأزل.

و يصف ستيس هذه التجربة بأنها اتحاد كامل تزول فيه الثنائية بين الذات والموضوع. فالصوفي لا "يرى" الإله كشيء منفصل عنه بل "يصبح" هو الإله أو يتحد معه في تجربة لا يمكن وصفها. هذه المعرفة التي تتحقق في التجربة الدينية هي معرفة حدسية وليست عقلية. لأن العقل بطبيعته يفصل بين الذات العارفة والموضوع المعروف أما الحدس الصوفي فيتجاوز هذا الفصل إلى مرحلة الاتحاد مع المطلق.

و بما إن نظام الأزل لا يمكن التعبير عنه بمفاهيم العقل واللغة التي تنتمي إلى نظام الزمان فإن كل لغة دينية هي بالضرورة لغة رمزية.

مثلا عندما يصف المتصوفة الإله بأنه "النور" أو "البهجة" فهم لا يعنون أنه غير موجود بل أن كل المفاهيم والصفات التي نعرفها في عالمنا المادي لا يمكن أن تنطبق عليه فهو أعظم من أن يوصف. وعندما يصفونه بصفات إيجابية (مثل المحبة أو القدرة) فهذه مجرد رموز تقريبية تساعد العقل البشري على فهم ما لا يمكن فهمه.

إذن كيف يتجاوز العقل الإنساني هذا التناقض الظاهري؟

يرى ستيس أن التناقضات في النصوص الدينية هي سمة ضرورية للغة الرمزية التي تحاول التعبير عن حقيقة تتجاوز المنطق الثنائي.

وتأسيساً على هذا الفهم يرى ستيس أن الخبرة الدينية هي (تجربة حدسية) مباشرة لعالم الأزل. وهي المصدر الوحيد للمعرفة الدينية الحقيقية. هذه التجربة تتجاوز العقل واللغة وتحدث في نقطة تقاطع بين عالمنا المادي وعالم الحقيقة المطلقة. ومن خلال التمييز بين هذين النظامين يحل ستيس التعارض بين العلم والدين مؤكداً أن لكل منهما مجاله الخاص الذي لا يتعدى على الآخر. هذه هي باختصار وجهة نظر (ستيس) في الخبرة الدينية. وهي وجهة نظر جديرة بالمناقشة فسواء اتفقنا أو اختلفنا معه فلابد لنا في النهاية من الاتفاق على أمرين هامين-إذا أردنا أن نفهم الدين فهما فلسفيا.

الأمر الأول: "هو أننا يجب أن نفرق بين مصدر الظاهرة من ناحية وبين تقييمها من ناحية أخرى فهما أمران مختلفان أتم الاختلاف.

الأمر الثاني: هو أن هناك حقيقة سيكولوجية لا يمكن إنكارها إلا عن جهل وهي:

إن الإنسان يعرض له في حياته خبرات غير عادية يمكن أن نصفها بأنها (خبرات دينية) وهي خبرات نلتقي بها في آداب الأمم جميعا حتى أكثرها تحضرا وهي الخبرات التي تجعلنا نتسائل باستمرار عما إذا كان فى هذا الكون وجود روحي أعظم من الإنسان هو الذى تتطلع إليه الديانات المختلفة للجنس البشري"1.

وإن صح ذلك فما العلاقة بينه وبين الإنسان من ناحية وبينه وبين الكون بصفة عامة؟

والواقع أنه حتى التفسيرات المختلفة السابقة لنشأة الدين تفترض سلفا وجود هذه الخبرة الدينية - أعنى ذلك الموقف الذي يجد فيه الإنسان نفسه مدفوعا إلى التساؤل عما إذا كان هناك كائن روحي متعال وأنها -أي الخبرة الدينية- قد وجدت خلال مراحل التطور جميعها وأنها لهذا السبب أو ذاك قد تأصلت في أعماق الإنسان بحيث أصبحت محاولة انتزاعها منه محاولة يائسة بقدر ما هي عقيمة. وفي ذلك يقول ولتر ستيس: "الخبرة الدينية أو ذلك الحس الديني بصفة عامة يكمن في أعماق كل قلب بشري بل هو يدخل في صميم ماهية الإنسان مثله في ذلك مثل العقل سواء بسواء"2.

وإذا سلمنا مع ستيس بأن الخبرة الدينية متأصلة في أعماق الإنسان وأنها لازمته خلال مراحل تطوره المختلفة فلابد أن نسلم بالتالي بأن تفسير هذه الخبرة أو التعبير عنها قد خضع لنفس التطور الذي خضع له الإنسان وإن هذا التفسير أختلف في كل مرحلة من مراحل هذا التطور. وبعبارة أخرى إن تفسير الخبرة الدينية قد أرتبط أرتباطا وثيقا بالإطار الثقافي الذي وجد فيه فطالما أننا نتحدث عن تفسير للخبرة الدينية فهو شأنه شأن كل التفسيرات الأخرى لا بد أن يكون وثيق الصلة بالأسس الثقافية للإنسان والمرحلة التي تم فيها. ولا بد هنا من أن نبرز حقيقة هامة قد تغيب عن الكثيرين وقد تسبب مشكلات لا حصر لها وهي أنه من الخطأ تماما أن نوحد بين هذه الخبرة الدينية وبين لون معين من ألوان التفسيرات- أي الأديان- التي قدمت لها أو أن نقول:

إن الدين هو هذا الشكل المعين من الفهم الذي عبر عن الخبرة الدينية في مرحلة معينة من المراحل التاريخية لتطور الوعي الإنساني ولا شيء غير ذلك وإلا فسوف نقع في مشكلات لا حصر لها ولعل من أوضحها - مثلا - أن ينتج عن ذلك أن أتباع دين معين لا بد أن يكونوا ملاحدة في نظر أتباع دين آخر لأختلاف الفهم والتعبير عن هذه الخبرة.

وهو خلط لا يقبله عاقل لأن الاختلاف لا يعني اختلاف هذه الخبرة وإنما يعني اختلاف تفسيرها والتعبير عنها فالخبرة الدينية كغيرها من الخبرات البشرية ذات طابع واحد عند الناس جميعا. فهي لا تختلف بين الأفراد إلا بمقدار ما تختلف الخبرات البشرية الأخرى كالخبرة الجمالية أو الحسية أو غيرهما. ومع ذلك فلابد أن نلاحظ أنه إذا كانت الخبرة الدينية ذات طابع واحد عند الناس جميعا في كل زمان ومكان فإنها قد تكون بدائية ومطمورة في الأعماق عند بعض الأمم المتخلفة ومتقدمة متطورة عند الأمم المتحضرة.

ومعنى ذلك كله أن الديانات المختلفة ابتداء من الديانات البدائية إلى الديانات البشرية إلى الديانات السماوية ليست إلا تعبيرات وتفسيرات مختلفة ومتباينة لهذه الخبرة الدينية فالديانة الهندوسية والبوذية والزرادشتية مثلها في ذلك مثل اليهودية والمسيحية والإسلام إنما هي تأويل للخبرة الدينية.

والخبرة الدينية ذات طابع واحد مثلها في ذلك مثل الخبرة الجمالية التي هي في كل مكان ذات طابع واحد. معنى ذلك أن هناك خيطا مشتركا يمتد من ذلك الإنسان البدائي الذي عبر عن خبرته الدينية في عبادة الحجر والشجر حتى عبارة أبن عطاء السكندري (الكائن في الكون ولم تفتح له ميادين الغيوب مسجون بمحيطاته ومحصور في هيكل ذاته).

(كتاب غيث المواهب العلية فى شرح الحكم العطائية العارف بالله الشيخ محمد إبراهيم ابن عباد النفزي الرندي).

وإذا أسقطنا اختلاف القدرات الفردية استطعنا أن نقول:

إن الفرق بين الموقفين يرجع بالدرجة الأولى إلى الفرق بين ثقافة المجتمع البشري وحضارته في هاتين المرحلتين المتباعدتين.

معنى ذلك كله أن الفهم الفلسفي للدين ينظر إلى الخبرة الدينية على أنها ظاهرة روحية داخلية مثلها مثل ظواهر الكون الخارجية كانت واحدة على مر العصور وإن اختلف تفسيرها من عصر إلى عصر وهو التفسير الذي يخضع أساسا للتراث الثقافي للمجتمع ويكون محصلة الحضارة التي يتم فيها.

من يفهم الدين فهما فلسفيا يدرك إن (الإيمان بالله) يمثل الحد الأدنى الذي لا بد منه لقيام نسق ديني وهو بذلك  يفهم إن ماهية الدين إنما تنحصر في الخبرة الدينية لا في أي معتقد كائنا ما كان وأن كل ما اصطلحنا على تسميته بالعقائد أو المذاهب الدينية لا يخرج عن كونه نظريات تدور حول الخبرة الدينية. وإذا أردنا أن نضرب مثلا على ذلك كان في استطاعتنا أن نقول أنه على الرغم من أن ثمة أشكالا عديدة من الفن ومذاهب مختلفة من الفلسفة الجمالية وهي مذاهب قد لا تقل في تناقضها بعضها عن بعض عن العقائد الدينية المختلفة إلا إن الفن في النهاية هو الفن والاحساس بالجمال هو الاحساس بالجمال وكذلك الحال أيضا بالنسبة للديانات.

فالخبرة الدينية هي إذن موقف قديم معقد نشأ منذ أستطاع الإنسان أن يرفع رأسه إلى السماء واندهش ثم تسائل ما هذا؟

الخبرة الدينية هي تسائل قلق تكمن في أعماق الإنسان وهي تحتاج باستمرار إلى تفسيرها والتعبير عنها ولقد قدمت في الواقع ألوان لا حصر لها من التفسير لهذه الخبرة وقد يكون في استطاعتنا أن نحصر جميع هذه الأنواع في نمطين أساسيين هما:

التفسير الإيجابي وهو ما يسمى عادة (الإيمان بالله). والتفسير السلبي أو ما يسمى بالإلحاد أو عدم الإيمان بالله.

أما النمط الأول من التفسير فهو ينتهي بالأقرار بوجود كائن روحي متعال أسمى من الوجود الإنساني والوجود المادي معا هو الله مع تنوع واختلاف الصفات التي تنسب لله في الأديان.

أما التفسير السلبي فهو الذي ينكر وجود هذا الإله ولا يعترف بأي وجود من هذا النوع ويعتبر إله الأديان خرافة.

وهذان التفسيران في الواقع قد لازما الخبرة الدينية منذ مراحلها الأولى. فإذا كان التفسير الإيجابي لهذه الخبرة قد وجد مع الإنسان البدائي كما تمثل في عبادة الأرواح  وظواهر الطبيعة المختلفة فإن التفسير السلبي أي ظاهرة الإلحاد تكاد تساويها في القدم.

فلقد كتب (ديورانت) في موسوعته الفخمة قصة الحضارة عن هذا اللون من التفسير السلبي تحت عنوان: (الملاحدة البدائيون) وهو يروى أن بعض القبائل ليست لها آلهة وحين سأل رجل من قبيلة الزولو عن خالق الشمس والشجر أجاب في بساطة:

(لا نستطيع أن نعلم من أين جاءت، ويظهر أنها جاءت تلقاء أنفسها، وحين يضيف (ديورانت) بعد ذلك إن: (هذه حالات نادرة الوقوع، ولا يزال الاعتقاد القديم بأن الدين ظاهرة تعم البشر جميعاً اعتقادا سليما)3.

فإنه لا يعنى بذلك سوى أن التفسير الايجابي للخبرة الدينية هو أكثر النمطين شيوعا وهذا حق لكنه لا يطعن في القول بأن الإيمان والإلحاد متلازمان منذ عصور موغلة في القدم وذلك لأنهما معا وجهان لخبرة واحدة.

مع ملاحظة أن مفهوم الله في الفلسفة ليس حقيقة موضوعية بل هو مجرد اعتبار ذهني يمكن إثباته وإنكاره معاً أي إن الأدلة العقلية كما تستطيع إثباته كذلك تستطيع نفيه أيضاً وحتى الأدلة المثبتة لوجوده لا تؤدي إلى يقين كما يقول الفلاسفة أنفسهم. ومن هذا المنطلق أي تكافؤ الأدلة ظهر موقف (اللاأدرية) المعرفي.

والفرق الجوهري بين الإلحاد واللاأدرية هو أن الإلحاد يتعلق بالاعتقاد بينما اللاأدرية تتعلق بالمعرفة. الملحد لا يؤمن بوجود إله كأصلاً أعتقاديا بينما اللاأدري يعتقد أنه من المستحيل معرفة ما إذا كان الإله موجوداً أم لا.

الملحد يقطع بيقين بعدم وجود إله. أما اللاأدري فيقطع بأستحالة معرفة ذلك.

أما في الوجدان الصوفي فالله يمثل تجربة فردية يعيشها الفرد لذاته ولكنه لا يستطيع إثباتها إلى الآخرين لأنها ببساطة نزوع نحو قطع العلائق مع الكينونة والوجود معاً نحو ذلك النور الأعظم كما يعبرون. ولكنها رحلة لراكب واحدٍ فقط يذهب ويعود لوحده وإذا ما سألناه عن رحلته وما رأى فيها لا يستطيع الإجابة!؟

وهذا ما يجعلها تجربة ذاتية فردية بامتياز حيث يستحيل نقلها عبر أي تصور أو تعبير للآخر.

ولتكتمل الصورة يجب أن نجيب عن سؤال فلسفي جوهري هو: لماذا يكون الدين ممكناً إدراكيا في العقل البشري؟

الفهم الفلسفي للدين يرشدنا إلى إن الدين ليس مجرد فكرة عشوائية ظهرت بالصدفة بل هو نتيجة طبيعية وحتمية تقريبا لكيفية عمل عقولنا. فالعقل البشري لديه مجموعة من "الإعدادات الافتراضية" أو الميول المعرفية التي تجعل من ظهور الأفكار الدينية أمرا ممكنا.

ونستطيع أن نجمل هذه الاعدادات والميول كالتالي:

أولاً: وجود الفاعل والقصد:

هذه هي الفكرة المحورية في الفهم الفلسفي للدين.

مع كل مرحلة تطور للعقل تقلصت العشوائية وزاد افترض وجود فاعل أو قصد خلف الأحداث غير المفهومة وهذا الميل العقلي كان محفزا كبيرا للبقاء.

مثلاً: إذا كنت في غابة وسمعت حركة في الأدغال فلديك خياران:

أما خيار التفسير الطبيعي: "إنها مجرد ريح".

وأما تفسير قصدي: "إنه حيوان مفترس يتربص بي".

النتيجة: إذا افترضت أنه حيوان مفترس وهربت وكانت مجرد ريح فإنك لم تخسر شيئاً سوى بعض الطاقة. أما إذا افترضت أنها ريح وكان حيوان مفترس فإنك تخسر حياتك. هنا الانتقاء الطبيعي فضل العقول التي ترتكب الخطأ الأول (افتراض وجود فاعل غير موجود) على العقول التي ترتكب الخطأ الثاني (الفشل في رصد فاعل موجود). طبق الإنسان البدائي هذا الميل المعرفي على نطاق أوسع. عندما كان يرى ظواهر طبيعية هائلة لا يفهمها كالبرق والرعد والزلازل والموت فإن العقل البشري يميل تلقائياً إلى افتراض وجود فاعل أو قصد خفي وراءها. هذا الفاعل غير المرئي والقوي هو الخطوة الأولى نحو فكرة الإله أو الأرواح.

ثانياً: القدرة على التفكير في أمور غير موجودة:

العقل البشري لديه قدرة فريدة على تخيل وتصديق تصورات تخالف النمط اليومي عن الحياة. والأفكار الدينية غالبا ما تكون مخالفة للواقع بشكل مفارق مما يجعلها غريبة وفريدة فترسخ في العقل وتنتشر لاحقا بين الأفراد لغرابتها فهي مثيرة للأهتمام وبنفس الوقت بسيطة بما يكفي لتذكرها ونقلها. وهذه بداية ولادة الأساطير والخرافات.

ثالثاً. الفهم الفطري للثنائية:

يميل العقل البشري إلى الفصل بشكل فطري بين العقل والجسد. نحن نشعر بأن أفكارنا ووعينا و"ذواتنا" هي شيء مختلف عن لحمنا ودمنا.

هذه الثنائية الفطرية تجعل من السهل جداً تصور إمكانية استمرار العقل أو الروح في الوجود بعد موت الجسد المادي. فكرة الحياة بعد الموت والأرواح والخلود كلها تصبح ممكنة ومقبولة بسهولة بسبب هذا الميل الثنائي. ومما عزز هذا الميل هو الحلم فقد كان الإنسان البدائي يرى أقربائه الذين ماتوا في الحلم ولا يعرف تفسيرا له في ذلك الوقت الموغل في الجهل إلا أنهم لا زالوا أحياء في مكان آخر من هنا نشأت فكرة (الآخرة).

رابعاً: البحث عن الغاية والمعنى:

يميل العقل البشري إلى الاعتقاد بأن الأشياء موجودة لغاية وهدف معين.

عندما نطبق هذا التفكير الغائي على الكون بأسره نصل إلى أسئلة مثل: "لماذا نحن هنا؟" و"ما هو الغرض من وجود الكون؟". الدين يقدم إجابات مباشرة ومنظمة لهذه الأسئلة الغائية العميقة مما يلبي حاجة معرفية أساسية لدى الإنسان.

خامساً: الحاجات النفسية والاجتماعية:

إلى جانب هذه الميول المعرفية يلبي الدين حاجات نفسية أساسية تجعله ممكنًا ومرغوبا فيه مثل: الراحة الوجودية حيث يقدم الدين عزاءً أمام حتمية الموت ومعنى في وجه المعاناة ونظاما في عالم قد يبدو فوضويا.

ويوفر أيضا حاجات اجتماعية للأفراد فيدخلون في مجموعة مشتركة من الطقوس والمعتقدات والقيم الأخلاقية التي تربط الأفراد معا في مجتمع واحد مما يعزز التعاون والبقاء.

أخيرا نفهم أن الدين ليس مجرد بناء ثقافي اعتباطي بل هو منتج طبيعي لتطور العقل البشري. إن ميولنا المعرفية لاكتشاف الفاعلين وتصور كائنات غير مرئية وفصل العقل عن الجسد والبحث عن الغاية تجعل من ظهور الأفكار الدينية وانتشارها أمرا شبه حتمي في تاريخ البشرية. لهذا السبب  يكون الدين دائمًا "ممكنًا من ممكنات العقل الإنساني".

***

سليم جواد الفهد

......................

1. إمام عبد الفتاح إمام، الخبرة الدينية والإيمان، الفكر المعاصر، العدد11، 1970.

2. ولتر ستيس، الزمان والأزل: مقال في فلسفة الدين، ترجمة الدكتور زكريا إبراهيم ومراجعة الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، ص40.

3. وول ديورانت - قصة الحضارة - ترجمة الدكتور زكي نجيب محمود، الجزء الاول ص98 - 99.

في عصر اصبح فيه العلم والعلم الزائف pseudo-science اكثر بروزاً من أي وقت مضى، لابد من ايجاد طريقة مفيدة للتمييز بينهما. الفيلسوف النمساوي البريطاني كارل بوبر (1902-94) قام بالضبط بذلك في كتابه الصادر عام 1934 بعنوان منطق الاكتشاف العلمي. هو اطلق على تلك الطريقة التكذيب falsification. هو يقول، ان النظرية العلمية الحقيقية تتألف من ادّعاءات يمكن اختبارها بدقة امام الدليل لأن هناك احتمال ان تكون زائفة. بوبر ادّعى ان التكذيب سمة اساسية للتمييز بين العلم وجميع طرق التفكير الاخرى.

منذ ارسطو في العصور القديمة وفرنسيس باكون قبل اربعمائة سنة، كان يُعتقد ان المنطق الاستقرائي هو الطريقة التي اكتشف بها العلماء قوانين الطبيعة. منظر بجعة بيضاء واحدة بعد اخرى يقودنا الى نظرية بان "كل البجع ابيض" – وهو في الحقيقة تعميم. لكن ديفد هيوم (1711-76) لاحظ ان المشكلة هي ان التعميم لن يتبع منطقيا. كلما زاد عدد البجع الابيض الذي نراه، كلما اعتقدنا اكثر ان قانون "كل البجع ابيض" صحيح، لكن هذه فقط مسألة سايكولوجية حول الطريقة التي نفكر بها، ليست مسألة حول العالم الطبيعي او البجع. في الحقيقة، الاشتقاق الشرعي الوحيد سيكون "كل البجع الذي لوحظ حتى الان هو ابيض". والجدال بان المستقبل سيكون دائما مثل الماضي لأنه دائما كان كذلك، سيكون حجة دائرية – تفترض ما تحاول انت اثباته. كذلك، ملاحظة البجع الاسود في استراليا أبطل حالا قانون "كل البجع ابيض"، مبينا ان التعميم الاستقرائي يمكن دحضه بمثال مضاد واحد. بوبر يطور هذه الفكرة في اتجاه تكذيبي في الكتابة "كما اشار هيوم، نحن بالتأكيد لا مبرر لنا في الاستدلال من مثال واحد على حقيقة القانون المقابل. لكن لهذه النتيجة السلبية نتيجة ثانية .. يمكن اضافة : نحن لدينا التبرير في الاستدلال من مثال مضاد على تكذيب قانون عالمي مقابل .. استقراء هو غير صالح منطقيا، لكن التكذيب هو طريقة صالحة منطقيا في الجدال من مثال واحد مضاد للقانون المقابل". (منطق الاكتشاف العلمي،1934).

نظرية بوبر في العلوم

نموذج بوبر في كيفية تطور العلم هو ان العلماء يفترضون نظرية تمكّنهم من عمل تنبؤات حول ما سيُلاحظ تحت ظروف معينة. هم بعد ذلك يختبرونها من خلال النظر لمعرفة ما اذا كان ما تتنبأ به النظرية يحدث حقا. اذا كانت الملاحظات لا تطابق التنبؤات عندذ يتم نبذ النظرية او تُعدل بواحدة اخرى سوف توضح كل من البيانات السابقة والبيانات الجديدة التي خالفت التنبؤات الاولى. ليس المهم من أين تأتي النظرية العلمية. الشيء المهم هو ان يتم اختبار النظرية ليس لمعرفة ما اذا كانت صحيحة ام لا، بل لمعرفة ما اذا كان من الممكن اثبات خطئها.

خذ على سبيل المثال نظرية الفلوجستون في النار. هذه كانت في وقت ما نظرية شائعة في ان الاشياء عندما تحترق تعطي عنصرا يسمى "فلوجستون". هذا وُجد خاطئا من خلال وزن المواد قبل وبعد الاحتراق، حيث ان الاستمرارية الشاملة للوزن اثبتت ان النظرية خاطئة. ونفس الشيء في علم الفلك، لوحظ ان موقع المريخ ليس كما تنبأت به نظرية كوبرنيكوس، كبلر استعمل هذا ليبيّن ان الكواكب لا تدور في دورات مثالية كما ظن كوبرنيكوس. كبلر استخدم خياله والكثير من الحسابات ليبيّن ان الكوكب يتحرك بطريقة مختلفة (بيضاوي الشكل) اي ان بُعد الكوكب عن الشمس يتغير باستمرار عندما يسير الكوكب حول مداره. هناك عدة امثلة اخرى عن الافكار العلمية تم إبطالها بواسطة الملاحظة. لكن احدى النتائج الهامة لكل هذا هو ان النظريات العلمية هي صحيحة فقط بشكل مؤقت والشيء المهم هو اننا نختبرها بصرامة لنحاول إبطالها. فقط حينذاك تتطور نظرية أفضل تأخذ بالحسبان الملاحظات – بما فيها الملاحظات التي أبطلت النظرية السابقة.

بهذه الطريقة، يتطور العلم بنوع من "الاختيار الطبيعي": عبر إبطال مستمر للنظريات، تبرز نظريات جديدة ونحن باستمرار نصبح أقرب وأقرب للحقيقة. ذلك يعني ان النظريات يجب تكذيبها او تفنيدها لتكون علمية – يعني انه يجب ان يكون بالإمكان ان بعض الملاحظات تبطل النظرية. اذا لم يكن كذلك، معنى ذلك ان النظرية هي فقط نتاج للتصور الذي يتناسب مع أي ظروف ممكنة – وهو بالضبط مايدّعيه بوبر حول التحليلات النفسية لفرويد وعلم التنجيم و امثلة اخرى. ونظراً لوضوح وقوة هذا التمييز يستمر بوبر ليكون فيلسوفا مؤثرا جدا بين علماء اليوم. عندما انت تستمع احيانا لبعض العلماء يقولون "هذه النظرية سيئة جدا، انها ليست فقط غير صحيحة" هذا عادة ما يحاولون التعبير عنه. استنتاجات ما هو"ليس علمي لأنه لا يمكن تكذيبه" ايضا تنطبق على مظاهر رؤى عالمية اخرى مثل الحتمية وبعض الرؤى الدينية. هذه الافكار غير قابلة للاختبار، لأن كل النتائج التي يمكن تصوّرها يمكن صنعها لتتناسب مع تلك الافكار. بكلمة اخرى، لاشيء محدد يمكن التنبؤ به منها لأن كل ما يحدث يتم توضيحه وفقا لمفاهيم ولغة تلك الافكار. كذلك، بما انه من غير الممكن تكذيبها، فهي لا تقود الى نظريات أفضل. وبهذا فهي طريق مسدود فكريا.

التطور Evolution

بوبر يرى ان هذه العملية في العلوم تفسر تدريجيا اكثر فاكثر كنوع من نظرية البقاء للاصلح.الحياة تستلزم حل للمشاكل حسب قول بوبر، وعندما لا تحل أشكال الحياة مشاكل بقائها فانها تموت وتنشأ بدلا عنها اشكال حياة تتكيف بشكل أفضل. التشابه بين التطور البايولوجي وتطور العلوم يمكن رؤيته بالنسبة للمعرفة. لكن بوبر يعني اكثر من مجرد معرفة مُصاغة في افتراضات. هو يعني توقعات العالم والتي تكون في العديد من اشكال الحياة غير واعية وفي اغلب الحالات تكون موروثة جينيا على شكل ميول للتصرف واستجابة للبيئة بطرق محددة – مثل قدرة العنكبوت على خلق شبكة، او قدرة الاميبيا على الالتفاف وابتلاع الغذاء او قدرة اطفال الثدييات على ايجاد مصدر للحليب او قدرة دوار الشمس للدوران حول الشمس. هذا شكل من "معرفة" فطرية، كغريزة او مجرد رد فعل كيمياوي، لكنه معرفة لأنه يخبر الكائن الحي ما يجب ان يقوم به لأجل البقاء . وبشكل مشابه، في شكل بدائي للغاية، النظريات هي توقعات او ميول للاعتقاد والتصرف. اذا كانت توقعات الكائن الحي مضللة، فان الكائن لا يزدهر ونفس الشيء ينطبق على النظريات – اذا ثبت انها خاطئة فهي تُهمل.

وكما ذكرنا ان أصل النظرية العلمية ليس مهما لبوبر – المهم هو امكانية اختبارها واثبات بطلانها. مع ذلك، طبقا لبوبر، أقدم اصول لنظرياتنا العلمية تأتي مما يسميه كانط مبادئ قبلية"categories" – اي معرفة فطرية تتيح لنا ان نفهم معنى العالم. بوبر يستنتج في هذه الانواع من الافكار (غير اللغوية) : فكرة ان هناك عالم ثلاثي الابعاد، وان الاحداث لها اسباب، وان الكائن على حافة أعلى بناء هو خطير، وان هناك اذهان اخرى غيرنا وهكذا. هذه الميول للتفكير والشعور يتم نقلها نزولا وراثيا طالما امتلكت مزايا البقاء. نحن تطورنا كالحيوانات ولدينا هذا النوع الكامل من المعرفة الفطرية لما يحيط بنا، في انظمة بايولوجية موروثة مثل اسلاكنا العصبية، جميعها مشتقة من كائنات تجد طرقا للبقاء لفترات طويلة تكفي للتكاثر.

اللغة، المعرفة، المجتمع

 بالنسبة لبوبر يرى تطور الحياة وتطور المعرفة الانسانية هو عملية مستمرة. هذا يعني ان الفرق الرئيسي بين التطور الطبيعي وتطور العلوم هو ان الاخير عملية واعية جُعلت ممكنة عبر تطوير اللغة. نقاش موجز عن اللغة والفكر سيكون مفيدا هنا.

"التفكير" كلمة شديدة الغموض. حلم يقظة، استمتاع، رؤية جميلة، استذكار لحظة من الماضي، رغبة بمستقبل أفضل، شعور بالحزن، بسعادة، او بندم، كلها مظاهر للتفكير لأنها تستلزم وعيا. هذه المظاهر تبدو لا تتطلب استخدام اللغة. لكن هناك تفكير بطريقة محسوبة ومقصودة، كما في حالة محاولة التوصل الى أفضل طريقة لتجميع ماكنة او تخليص نفسك من موقف سيء في لعبة شطرنج. خلافا للمظاهر السابقة التي هي "مجرد وعي" للتفكير، هذه المواقف الاخيرة تتطلب بعض الدقة والتفاصيل لنجاح عملياتها – لكن ذلك لا يعني انها تحتاج كلمات. اخيرا، هناك الكثير من النوع المجرد من التفكير مثل عندما انت تنظر في المزايا النسبية للديمقراطية الليبرالية مقابل نظام سياسي سلطوي في زمن الكوارث، او ما اذا كان برهان فيثاغوروس يعمل بنجاح في فضاء منحني. هذه الامثلة الثلاثة الاخيرة تستلزم استعمال الكلمات او الأعداد للتفكير الناجح. في هذه الأمثلة، التفكير يشبه كثيرا التحدث لنفسك في ذهنك.

لكن ذلك امر غريب: عندما انت تتحدث الى شخص آخر، فان الوظيفة هي نقل افكارك الى شخص آخر لكن عندما تتحدث لنفسك انت يُفترض تعرف سلفا افكارك (او ستكون غير قادر على صياغتها في المقام الاول)، اذن لماذا تحتاج ان تضعها في كلمات؟ ربما وظيفة الكلمات هي ليس فقط ايصال الافكار وانما ايضا اعطائك شكل من الافكار محدد بوضوح . هذا ايضا يمكّنك ان تضع خطا معقدا من التفكير في مفهوم واحد يُشار له بكلمة واحدة مثل "حب"، "عدالة"،" لامتناهي" وغيرها.

عالِم النفس الروسي في القرن العشرين ليف فيجوتسكي Lev Vygotsky، يرى استعمال اللغة والفكر هما في الاساس نظامان منفصلان عن الولادة، يندمجان في عمر الثالثة لينتجا فكرا لفظيا (كلام داخلي). هو يرى ان الكلام اجتماعي في الأصل. انه يتم تعلّمه من الآخرين، وفي البدء يُستعمل في المشاعر الشخصية ووظائف اجتماعية. هو يرى ان استعمال الكلمات يتطور عندما ينمو الطفل. هذا التطور يُربط باستمرار بقدرة الطفل على التفكير بطرق عامة – في مفاهيم واستعمال اصناف تمتلك بواسطتها الكلمات معنى يتجاوز مجرد الاشارة لأشياء ملموسة. في هذا الوقت، يمتلك الطفل مظهر التوجيه الذاتي لأفكاره، الذي بالنهاية يؤدي الى تفكير لفظي باطني. وهكذا فان اكتساب اللغة بواسطة الاطفال يشكّل جميع مظاهر وظائفهم الذهنية العالية، ويمكّن من ظهور المعنى والخيال والتخطيط العملي والتفكير النقدي.

وكما يقول ليف فيجوتسكي "الكلمة الخالية من الفكر هي شيء ميت، وبنفس الطريقة الفكر الغير مصحوب بكلمات يبقى في الظلال" و "الفكر لا يُعبّر عنه فقط بكلمات، انه يأتي للوجود من خلالها" (الفكرة واللغة، 1934). لذا فان الكلمات تمكّننا من التحكم بتفكيرنا بطريقة مقصودة: بدلا من رحلات المشاعر والتدفق غير المقيد للصور، نحن لدينا افكار محددة مصاغة بكلمات. يتم تمكين ذلك من خلال التفكير المتكرر – القدرة على ان يضم مجموعة من الافكار تُصنف بواسطة كلمة ضمن فكرة اخرى تأخذ شكل افتراض، عندئذ المزيد من الافكار المعقدة تُصنع من عدة افتراضات. وحالما يتم فهم الافكار بواسطة الكلمات، فان الشخص يمكنه تطوير تفكير نقدي والذي هو ربما اكبر تطور في تاريخ الانسان. وهكذا اللغة تمكّن من النقد و التفكير العقلاني. او للنظر بطريقة اخرى لهذا هي ان ننظر الى وظيفة اللغة التي كما يقول المحلل النفساني الالماني كارل بوهلر Karl Buhler، تعطي الانسان القدرة على صياغة اقتراحات تزعم وصف العالم ويمكنها ان تكون صحيحة او خاطئة، لذا فان فكرة الحقيقة هي نتيجة لإستعمال اللغة لتجسيد العالم. هذه القدرة اللغوية تمكّن الانسان من النظر في ادّعاءاته بطريقة اكثر دقة وانفصالا.

العملية التطورية تنتقل من الكائن الحي – الانسان العاقل homo sapiens – الى تطور التفكير والمعتقدات، التي تُصاغ في اللغة ويتم تقاسمها لكي يستطيع الآخرون النظر الى حقائقهم من حيث علاقتها بملاحظاتهم الخاصة ومعتقداتهم، واذا كانت لا تتماشى يتم رفضها او تعديلها. ان تطور النقد يبرز مع فكرة ان العقائد المعبّر عنها يمكن ان تكون صحيحة او زائفة. ونقد العقائد يمكن ان يقود الى رفضها واستبدالها باخرى أكثر دقة. التقدم في المعرفة يبدو هو النتيجة. في هذا المعنى، العلم هو ببساطة مثال اكثر دقة وحاجة لمفهوم الحس السليم الذي يجعلنا نرفض تلك الافكار التي لا نجد انها تتوافق مع العالم. 

بوبر يجيز فكرة ان هناك عالم موضوعي ولذلك ان هناك ادّعاءات يمكن ان تكون صحيحة موضوعيا، وعلى الأقل هي أقرب الى الحقيقة من الادّعاءات الاخرى. مع ذلك، اللغة ايضا تمكّن الانسان ان يقول قصصا تخلق صدى عاطفي، تمكّن الناس من الشعور انهم يشاركون في قيم مشتركة وبهذا ينتمون الى جماعة. لذا هناك بُعد جديد آخر هو ان الناس يصبحون مرتبطين عاطفيا بافكار ولا يرغبون رفضها – كما يُرى في مختلف الأديان والافكار السياسية بما فيها الالحاد.

لكن الاشياء لا تعمل دائما اجتماعيا: احيانا المعتقدات التي وراء المؤسسات الاجتماعية او السياسية والتفاعلات تجعل الاشياء اكثر سوءاً . عندئذ، تماما كالنظرية العلمية، المنهجيات السابقة للسياسة والمجتمع تحتاج الى النبذ او تُكيّف لضمان نجاح المستقبل. للقيام بهذا، المجتمع يحتاج للقدرة ليكون نقديا في كيفية تنفيذ أعماله، ونقديا للنظرية التي خلفها – تماما كالعلماء حين يحتاجون ليكونوا نقديين لنظرياتهم.

اذا كانت المؤسسات الاجتماعية السياسية والقيم ، تماما مثل القوانين العلمية، صالحة فقط الى ان يتم ابطالها، عندئذ نحن لا يجب علينا الايمان بها بلا نقاش. العالِم الجيد يجب ان يكون سعيدا اذا ثبت ان نظريته زائفة، سيحصل على فرصة ليأتي بنظرية افضل، ولهذا يتقدم العلم. وبالمثل، الناس يجب ان لا يتمسكوا بايديولوجيات اجتماعية وسياسية او مؤسسات او افتراضات مسبقة ان كانت تمنع التقدم او تكبح السعادة. دعوة بوبر هي لذهن متواضع ومنفتح في ادعاءاتنا المعرفية سواء كانت حول المجتمع او العلم – جميعنا سنكون خاطئين في مكان ما. لذا نحن يجب ان نسائل قيمنا وعقائدنا الاساسية – والمجتمع يجب ان تكون له مؤسسات تمكّننا من القيام بهذا اجتماعيا. بكلمة اخرى، حرية الكلام هي ضرورية لتطور المجتمع.

الديمقراطية والمجتمع المفتوح

في المجتمع المفتوح واعداؤه (1945)، يوسّع بوبر افكاره حول التكذيب لتمتد الى عالم السياسة. في هذه الفترة كان بوبر يعيش في المنفى في نيوزيلاندا، ومن غير المدهش انه بعد صدمة العقد السابق كان مهتما جدا بالكيفية التي يجب ان تُحكم بها المجتمعات. الانظمة تُقبل طالما هي تعمل باتجاه سعادة الانسان. لكنها لا تقوم بذلك دائما. وكما لاحظنا ان اللغة تمكّن كل من النقد والرواية: المجتمعات نالت تماسكها بفعل الايديولوجيات بما في ذلك الدين او الولاء للملوك والامم. لكي يتحفز الولاء، جرى دعم هذه الطرق من التفكير بالبروبوغندا. هذا الدعم يمكنه منع النقد ويبقي المجتمعات المتحجرة عادة بهدف الحفاظ على الطبقة الحاكمة. وعندما يسبب هذا ضررا شديدا للعديد من الناس ستحدث الثورات. لكن بالنسبة لبوبر، الثورات لن تعمل. هو يعزو هذا الى مسألة نظرية حول المجتمعات المثالية، اسماها "التاريخية" historicism وايضا الى مسألة تجريبية حول الثورات.

بوبر يرفض مفهوم المجتمعات المثالية لأننا لا نستطيع معرفة ماذا سيحصل في المستقبل،عدى حقيقة ان التغيير حتمي، لكن هذا يعني اننا نحتاج الى شكل ما من الدكتاتورية لضمان انسجام الناس مع قيم اليوتوبيا. كذلك، ثقافة المجتمعات المثالية مثل الدولة الماركسية سوف تعزز ما هو مفيد للنظام على حساب الحقيقة. ان ميل الدكتاتوريات الطوباوية لثني الحقيقة للامتثال لمصالح الحزب او الدولة يضعف الحقيقة. ومقابل ما اسماه بوبر"المجتمع المنفتح"، الذي يطور قدرة مؤسسية متأصلة للتعامل مع النقد او التكيف معه ، فان المجتمعات الطوباوية تؤمن في البروبوغندا وسحق المعارضة. اليوتوبيا تصبح متحجرة وغير قادرة على التغيير وقاسية في فرض السيطرة.

بوبر يرفض ايضا ما يسميه التاريخية وهي الفكرة بان هناك قانون واتجاه او هدف للتاريخ بواسطته ننتهي بنوع من مكان افضل (كما يتجسد في الماركسية). طبقا لبوبر قوانين التطور التاريخي لا يمكن ان توجد لأن المجتمعات تتغير بطرق لا يمكن التنبؤ بها. هذا جزئيا نتيجة للارتباط بين المجتمع ومعرفتنا التي تتغير بمرور الزمن بطرق لا نستطيع التنبؤ بها. لنأخذ العلم كمثال، نحن لا نستطيع معرفة ما ستكون عليه المعرفة العلمية في المستقبل، والاّ نحن نعرفها سلفا. بوبر يعترف فعلا اننا نستطيع امتلاك نزعات او أشكال في التاريخ مثل النموذج الدائري للهبوط في اقتصاد السوق الحر – لكن ذلك لا يمكن ان يكون قانونا عالميا للتاريخ لأنه يعتمد على نظام اقتصادي معين وهو رأسمالية السوق الحر، ونحن لا نستطيع معرفة المدى الذي يستمر فيه النظام. نحن ايضا لا نستطيع معرفة ان العلم والتكنلوجيا سيستمران في النمو، هما ربما يتم نسيانهما في بعض سيناريوهات المستقبل. لذا يؤكد بوبر من غير الممكن وجود قوانين تحكم عملية التاريخ .

مسألة بوبر التجريبية حول الثورة ترتكز على ملاحظة ان الثورات تاريخيا تستلزم العنف والبروبوغندا والكذب وأخلاق نفعية تبرر ارتكاب أي ظلم مهما كان لغرض تحقيق النجاح النهائي للثورة. هذا بدوره يقود الى القمع وتشويه الحقيقة لأجل "غايات". لذا، بينما بعض الثوريين اكثر تعليما وانسانية من العديد من المحافظين (بوبر كان يكتب هذه الافكار قل 80 عاما ومن الواضح كان له تعاطفا مع اهداف العديد من الماركسين)، هم عادة لا يأخذون بالحسبان ارادة الاكثرية التي يُعتبر الأمن والولاء والقيم الاخرى غير الثورية اكثر اهمية لها من المساواة والعدالة الاجتماعية.

في الحقيقة، الثوريون يتجاهلون مخاوف اكثر الناس المحافظين باعتبارها ليست اكثر من محاولة لمنع تحقيق أهدافهم، وبهذا يبررون العنف ضدهم كشيء شرعي.

يرد بوبر على يوتوبيات مثل جمهورية افلاطون والدولة الماركسية هي انها تسأل السؤال الخطأ. هم يسألون "منْ يجب ان يحكم؟"ويصيغون قيم المجتمع حسب واجبات الناس ومسؤولياتهم نحو الدولة. لكن بالنسبة لبوبر، السؤال يجب ان يكون "كيف نستطيع تقليل سوء الحكم؟" و "كيف نتخلص من الحكام السيئين بدون عنف؟". هو يقترح ان الانفتاح على التغيير والنقد مطلب اساسي – بكلمة اخرى، حرية الكلام المتجسدة في مؤسسات مثل البرلمانات لضمان كل من حكم جيد للمجتمع وعدم وجود ثورات. جوابه هو الديمقراطية، لضمان تقليل المعاناة من خلال اصلاحات عملية تدريجية. كل هذا هو استمرار لأفكار بوبر بشان ثورة المعرفة وعملية العلم. كوننا قادرين على النقد العلني للنظريات والمؤسسات والناس والسياسات، نستطيع ضمان لدينا فرصة لحماية مصالح الجماهير وازدهار المجتمع .

هو ايضا يبدو يشبه دارون كثيرا، لأن وصفه للتطور المجتمعي يرتكز على بقاء ما ينجح في العمل. من الواضح لا وجود هناك لطريقة للتنبؤ بمحصلة المستقبل مثلما لا وجود لطريقة للتنبؤ بالأحياء المُنتجة بالتطور الداروني.

***

حاتم حميد محسن

.........................

المصادر:

Philosophy Now, Aug/Sep2025

من النادر نجد عناية منصفة لدراسة الفيلسوف الفرنسي من اصل الماني ديتريش هولباخ (1723 – 1789) باعتباره فيلسوفا ماديا ملحدا متطرفا، دافع عن مذهبه المادي في كتابه (نظام الطبيعة) الذي نشره عام 1770 باسم مستعار، والذي أعتبر انجيلا جديدا لتنوير البشرية العقلي والاخلاقي. وأطلق النقاد على كتاب هولباخ أنه يمثل ذروة الفلسفة المادية والالحادية الفرنسية، ومن المفارقة أن يعجب ماركس بافكار هولباخ رغم المعيشة الارستقراطية الباذخة التي عاشها هذا الاخير ولم يترجمها كمعتقد يؤشر تفاوت طبقي مجحف بين الطبقات الغنية والطبقات المحرومة الفقيرة.. وتنسب لهولباخ المقولة الماركسية (الدين افيون الشعوب). وكان له صالونا ادبيا يضم نخبة مختارة من ملحدي عصره فلاسفة وكتاب الذين كانوا يشاطرونه الميل الشديد في معاداتهم الكنيسة الكاثوليكية.وكان هولباخ لا يؤمن بمبدأ وحدة الوجود ولا يؤمن ايضا بالمعجزات الدينية معاديا بشدة رجال الدين الذين إعتبرهم يعيشون حياة الترف على حساب بؤس الفقراء ومعاناتهم المؤلمة.

وإعتبرهولباخ الانسان موجودا ماديا لأن عملياته الذهنية ليست سوى حركات تجري في المخ1. رغم أن هذا السبب الاجمالي الاختزالي يبدو ضعيفا في التدليل على أن الانسان وجود مادي باسباب عديدة أخرى لا حصر لها أختصرها هولباخ بعلاقة الفكر بمادية الانسان ككائن بما سمّاه تعالق الفكر مع حركة المخ فقط، أذ ربما كان يقصد هولباخ الوجود المادي للانسان يكون مؤكدا وناتجا حصوليا ممثلا في بيولوجيا التكوين الفكري الوظائفي له ايضا. وضرب لذلك مثلا هو تعالق عمليات الذهن التفكيرية الناتجة عن حركات تجري بالمخ. صحيح أن يكون الانسان موجودا ماديا بالفكر كمنهج، ومادية الانسان كموجود في الطبيعة هو تحصيل حاصل المنهج المادي بالتفكير الذي مصدره الانسان كينونة مادية مفروغ التسليم المطلق بوجودها المادي.

لكن مادية الانسان كوجود مادي متمايز عن الطبيعة وجميع كائناتها لا يمكن أختزال البرهنة على بديهيته المادية بهذه التعالقية العضوية ممثلة في منهج علاقة تفكير الذهن بحركات المخ كما في تعبير هولباخ. لكن لو نحن تعمقنا تاويليا في تعبيرهولباخ نجده يقع في تناقض جدلي معتبرا مادية الانسان مستمدة قبليا من مادية الفكر تماما كما فعل ديكارت قبله. بينما ترى المادية الجدلية التي تبلورت من بعده بتعاقب مجيء هيجل وفويرباخ وماركس عكس ما ذهب له هولباخ، في أهماله حقيقة الواقع المادي هو الذي يفرض المادية على الفكر كما ذهب له فيورباخ الاب الروحي للمادية أن فكر الانسان لا يمنح الواقع حقيقته المادية بل مادية الواقع والطبيعة والانسان تجعل من الفكر منهجا ماديا في تفسير موجودات وظواهر العالم الخارجي والطبيعة..

لكن ما يمكن إعتباره نقلة متقدمة نحو منهج المادية الذي جاء لاحقا بعد عشرات العقود من عصر تنوير هولباخ هو في فتحه الابواب التي كانت موصدة تماما بوجه التوجه المادي الذي كان يحاربه بضراوة اللاهوت وتبعاته الفكرية المثالية الابتذالية التي كان حتى فولتير المتنور واقعا تحت تاثيرها في تماشيه مع اللاهوت الديني الموروث عن ديكارت ولايبنتيز.

كما هاجم هولباخ الحجج الفلسفية التي كان تبناها لايبنتيز ولوك وديكارت على أن في مقدور الانسان الوصول الى حقيقة وجود الله بمنهج الاستقراء الذهني العقلي كما هو الحال في المنهج التجريبي المعتمد في العلوم تماما.، وما يدركه العقل من اشياء العالم الخارجي وموجوداته يمكنه إدراك وجود الله بنفس المنهج الادراكي العقلي.

كما أنكر هولباخ البرهنة على خلود النفس التي ربطها ديكارت بخلود العقل بأعتبارهما جوهرين لا فيزيائيين منفصلين عن الجسم. مثلما صادر ديكارت خلود النفس ولم يفرق بينها وبين الروح أذ ربما أعتبرهما دلالة تعبير عن معنى واحد. فالنفس على العكس من الروح ترتبط فسلجيا بتكوين جسم الانسان المتكوّن من مجموعة الاجهزة البيولوجية التي تحكم الانسان في وجوده كائنا حيّا، مثل جهاز الدورة الدموية وجهاز التنفس وجهاز الهضم والجهاز العصبي والضمير والعواطف والانفعالات وغير ذلك.

على العكس من الروح التي هي نوع من مفهومات وموضوعات الميتافيزيقا وإفصاحاتها التي لا يدركها العقل لا بالماهية ولا بالصفات تعايش الانسان وتلازمه الحياة وتفارقه بالممات. وهو ما يذهب له اللاهوت الديني بخلود الروح بعد مغادرتها فناء الجسد بالموت. وإعتبارهم الروح جوهرا منفصلا عن الجسم وأن ارتبطا سوية أحدهما بدلالة الاخر في الحياة.

وإعتبرديكارت خلود النفس وليس الروح حقيقة فلسفية من دون تبيان كيف تكتسب النفس وليس الروح الخلود، كما لم يكن ديكارت موّفقا أعتباره العقل جوهرا ماهيته التفكير بالذهاب الى أن العقل جوهر خالد يلازم خلود النفس ولم يفرق بين ماهية العقل التجريدية وماهيته البيولوجية كدماغ تحتويه الجمجمة وملحقاته المخ الذي يحتويه مع الجهاز العصبي.

فخلود العقل الذي يلازمه خلود النفس لدى ديكارت لا يمكن التسليم بها بوجود الفارق بين العقل الفيزيائي المادي كعضو من أعضاء وظائف الجسم الانساني وبين العقل غير الفيزيائي الذي هو جوهر تجريدي ماهيته التفكير فقط وأعتبر ديكارت العقل بهذه الخاصية خالدا لكونه موجودا غير فيزيائي.. خاصيته تتبع الدماغ بالتفكير فقط وليست بخاصية بيولوجية يمتلكها تتبع عضويا تكوين جسم الانسان الطبيعي الفاني بالممات كما هو الحال مع الروح في إمكانية خلودها عند أصحاب الايمان الديني.. لانها تجريد ميتافيزيقي لا رابط علائقي لها مع مكونات العقل العضوي الدماغ الذي يفنى بفناء الجسم بالموت.

هولباخ والمعجزات الدينية

كما لم يكن هولباخ يؤمن بالمعجزات ويعتبر هذه الاقانيم الثلاثة /البرهنة العقلية على وجود الله/ وخلود النفس/ والايمان الديني بالمعجزات/ التي قامت عليها المسيحية هي خرافات توّسلها رجال الدين مستغلين سذاجة الناس في سرعة التصديق للخرافات، ليسهل عليهم استغلالهم2. وذهب أبعد من ذلك حين إعتبر هولباخ سلوك الانسان الطبيعي كان من الممكن أن يكون أفضل في مساره الطبيعي المستقل عن اللاهوت لو ترك حرّا طليقا تحركه نوازع الخير الموجودة أصلا بالانسان كغريزة فطرية. ولم يكن الانسان بحاجة ضرورية ألزاميه تلزمه تلبية نواهي وتحريمات رجالات الدين الذين يبنون رفاهيتهم الارضية على حساب بؤس وحرمان الاغلبية من الناس.

ولولا التقدم الحضاري – أعتقد يقصد هولباخ بالتقدم الحضاري هو التقدم العلمي التمديني ومنجزات العلم التكنولوجية عالية التقنية التي قللت من تعب ومشقات الانسان ولم يكن يقصد الحضارة كمفهوم شمولي كما هو متفق عليه اليوم اصطلاحا يشتمل نمطا متقدما شموليا لجميع مناحي الحياة في السلوك والاجتماع والاقتصاد والثقافة والمعرفة والتقدم العلمي وغيرها واحتمال أن لفظة الحضارة نسبها المترجم لهولباخ وهو لم يقصدها -  في تقاطع السلوك الاخلاقي الطبيعي الذي لو ترك على طبيعته الغريزية الانسانية لكانت النتائج أكثر جدوى عملانية بحياة الانسان في خدمة تحقيق تقدم البشرية على ركائز قيم بعيدة عن خرافات اللاهوت الديني في ارساء الصدق والمحبة والالتزام الذي يحقق تماسك المجتمع أكثر مما قام به اللاهوت من تدمير تلك النزعات الفطرية السلوكية الخيّرة التي تكون مغروزة في طبيعة الانسان الذي لم يكن بحاجة اليها كقيم أخلاقية يضعها رجال الدين له في مصادرتهم حق الانسان في طموحه نحو تحقيق رفاهيته وسعادته بأمتلاكه حرية الارادة والاختيار بالحياة بلا وصاية خارجية تفرض عليه قسرا من رجالات الدين.

ومن النوادر التي حصلت في أحدى صالونات هولباخ الارستقراطية الادبية والفلسفية الراقية على مستوى حضور روسو وديدرو وديفيد هيوم أن تساءل هيوم هل يوجد ملحدون حقيقيون معنا اليوم؟ فكان رد هولباخ أن الطاولة التي تجلس حولها تضم الآن 17 ملحدا جالسين قريبين منك. ومن أهم عبارات هولباخ المعبّرة عن الحاده الذي لم يكن يخفيه قوله (الكون لا شيء أكثر من مادة في حالة حركة دائمية مقيّدة بقوانين طبيعية، وانه لا ضرورة اللجوء الى قوى خارقة للطبيعة لتفسير وجود الاشياء). ويكيبيديا الموسوعة. واضح هنا هولباخ يعتبر قوانين الطبيعة الثابتة التي تقيّدها بحركتها المنتظمة هي بكليتها معطى ازلي لوجود غير مخلوق نطلق عليه الطبيعة.

فرقة المؤلهة والايمان الديني

جاء من بعد هولباخ تيار فلسفي يعتمد مذهب ما يسمى فرقة المؤلهة الدينية ما يطلق عليهم عندنا الربوبيون وهم ايضا يؤمنون بالاخلاق الطبيعية قبل وضعية أخلاق الدين التي يدعو لها رجال الدين، لعل أبرزهم روسو ومن قبله لا يبنتيز وجون لوك وباركلي لكن بشكل يكرس الايمان الديني بوجود الله ضرورة لا غنى عنها يمكننا تحقيقها بمنهج الادراك العقلي، فالله عندهم ذو عقل وقدرة وارادة لكننا لا نستطيع كشف ماهو الله ولا ماهيته بل يمكننا الاستدلال العقلي على وجوده... وأن جميع الشرورالتي تصيب الانسان مصدرها الانسان الذي يصنعها بيده أو تقع مسؤوليتها عليهم بقدرة قوى خارجية طبيعية تدميرية هم مسؤولين عنها وليس مسؤولية الله عنها لأنه يمتلك قدرات محدودة لا يكون فيها مسؤولا عن وقوع الشرور على الناس في تبرير رجال الدين حدوث زلزال لشبونة 1755 الذي حصد مئات الارواح وهم موزعون يصلون بالكنائس يوم الاحد. معللين تحميلهم الضحايا مسؤولية تدمير الزلزال الذي طالهم هم وعوائلهم ومنازلهم سببه يقع على عاتق الناس الذين بنوا بيوتهم المتهالكة من غير تحسباتهم الحذرة حصول وقوع مثل هذه الزلازل ويبدو هذا التعليل التبريري بمنتهى السخافة والابتذال.، تلك البيوت التي لم يكن الرب بناها لهم كي يتحمّل خراب الزلزال الذي ضربها وهدمها على رؤوس أصحابها متدينين وغير متدينين. والاهم من ذلك وصفهم الله بقدرة محدودة لا يستطيع دفع كل الشرور عن الانسان. كما ويحافظ الله بمعتقد جاك روسو ومذهب المؤلهة على الكون بقوانين طبيعية ولا يخرقها الله بمعجزات تخالف هذه القوانين وهو غير مسؤول عنها. (يرجى العودة الى مقالتنا المنشورة على اكثر من موقع الكتروني منها المثقف، الحوار المتمدن، كوة، والمجلة الثقافية الجزائرية وفيلوبريس بعنوان : المعجزة الدينية وقوانين الطبيعة.).

لا مجال هنا الدخول أن تعريف ديفيد هيوم وعدد كبير من الفلاسفة المعجزة هي خرق لقوانين الطبيعة يحمل معه خطأه في معناه التعبيري السطحي أكثر من أمكانية التسليم بصدقيته التي تبدو واقعية متفق إصطلاحا عليها ويتوضح هذا معنا لاحقا بأسطر قادمة. نظرا لكون قوانين الطبيعة ثابتة لا يطالها الزمان بالتغيير ولا تعبث بنظامها المعجزات الخارقة لها ايضا، مقارنة بالمعجزات التي يستطيع بعض الانبياء بها كسر تلك القوانين في زمانية محدودة وفي عصر واحد لا يتجاوز زمانه الدقائق من الوقت التي تزول فيه المعجزة ويعود القانون الطبيعي المخترق لخاصيته الثابتة ثانية.  المعجزة الإلهية هي افتراض وهمي لامكانية البشر خرق القوانين الطبيعية الثابتة.

فثبات قوانين الطبيعة الزماني هو ليس حصولا تغييريا ولا زوالا زمانيا دائميا كما في المعجزات الآنية المؤقتة. بمعنى في حال حدوث خرق القانون الطبيعي بمعجزة زمانية مؤقتة لا يجعل ذلك الحدث الخارق لأحد قوانين الطبيعة متغيرات دائمية يطالها الخرق. وأنما يجعل من المعجزة الدينية طارئا لا معنى له خارج انخداع الناس به في ترسيخ ايمانهم الديني بالانبياء قبل الايمان الديني بالرب الذي لا يحتاج معجزات تخرق قوانين الطبيعة الثابتة لاثبات وجوده..

لا نريد هنا تكرار كم يحمل هذا التعبير المتداخل بين قوانين الطبيعة وخوارق المعجزات من خلط عالجناه في مقالتنا التي اشرنا لها في سطور سابقة، منها من المسؤول عن وقوع المعجزات الدينية رغبة الانبياء أم مشيئة الله؟ وما يترتب على هذا التساؤل من اشكاليات عديدة لا تخدم التسليم بحصول المعجزات. مثلا لدى مذهب فرقة المؤلهة الذين ينفون المعجزات أن تكون وتحصل بارادة الله وبوحي منه كونها هي خرق لقوانين ثابتة وضعها الله في الطبيعة كنظام ازلي ولا رغبة عنده بتخريبها وخرقها بمعجزات غير منطقية ولا عادية يتقبّلها العقل.

وبذا تكون خرافة المعجزة الدينية اسطورة تلقى على عاتق الانبياء في البرهان على الايمان الديني بهم وليس الايمان غير المباشر بالله الذي لم يوعز لهم القيام بالمعجزات، وفي هذه الحالة يكون الشد والجذب بين قطبين هما أعلى من  قدرات فهم البشرالايماني الديني في التفريق بين اولوية الايمان الديني بمعجزات الانبياء أم اولوية الايمان الديني بالرب بمعجزات لم يأمر الله انبياءه القيام بها؟، وكيف ترتبط المعجزة وبمن؟ هل بالايمان الديني بالنبي الذي يقوم بها أم بالخالق الذي لم يوعز لاحد القيام بها؟ وتبقى المعجزات تحمل إشكاليات خلافية عديدة غير التي ذكرناها.

إلا أن الاختلاف يبقى قائما من المسؤول عن حدوث المعجزات الدينية وما هي الغاية منها هل هو هدف تحقيق الايمان الديني بما يقوله الانبياء بوحي الهي أم الايمان الديني بالله الذي هو في غنى عن الاستدلال الايماني العقلي به عن طريق واسلوب المعجزات التي يقوم بها الانبياء ولم يأمرهم الرب القيام بها لوجود وسائل استدلالية يمكنها تحقيق الايمان الديني ليس بوسيلة المعجزات التي يطعنها عدم التصديق اليقيني بها في عصرنا الحاضر؟ منها على سبيل الاستشهاد وسيلة الاستقراء العقلي البرهاني التي قال بها أكثر من فيلسوف وهم انفسهم لا يستطيعون البرهنة على حقيقة ما يدعون أثباته بمنهج العقل.

طالما الايمان الديني هو التسليم بأعجاز قدرات الخالق غيبيا ميتافيزيقيا وليس بدلالة العقل البرهانية الاستقرائية الذي تحكمه قوانين مادية سببية وغير سببية، عليه تبقى المعجزات كخروقات لقوانين الطبيعة المؤقت لا يمكن غير التسليم بها سواء حصلت في عصرها أم لم تحصل ووصلتنا اليوم اسطورة أم حقيقة لأن كل شيء يراد البرهنة عليه ميتافيزيقيا يكون تحصيل حاصل النجاح المسبق بتصديق تحققه دوغمائيا لأنه اساسا موضوعا في كلتا الحالتين لا يحكمه الصواب أو الزيف الا في العودة نحو مرجعية تحكيم العقل له. فالميتافيزيقا كمواضيع لا تحتكم العقل في البرهنة المستحيلة على موضوعاتها، لذا لا يبقى غير التسليم بصدقيتها في تغييب حكم العقل على حساب تفعيل العاطفة الايمانية الدينية الدوغمائية في التصديق. لذا فالميتافيزيقا كموضوعات لا تحتاج برهنة صحة تحقق المعجزات لأن تحققها يقوم على الايمان التسليمي الغيبي الدوغمائي الذي لا يخضع لقوانين إدراكات عقلية تقوم على تفكير طبيعي لا يتوسل الميتافيزيقا..

من الواضح أن قوانين الطبيعة الثابتة يتم اكتشاف بعضها وإدراك بعضها بدلالة موضوع المغايرة المتعالق بها وحتى غير المتعالق بها ماديا بمنطق العقل لذا يكون كل ما هو غير مدرك عقليا دينيا ميتافيزيقيا لا يمكننا التشكيك به بمنطق العقل بل الايمان الديني المسبق به بمنطق الاسطورة والميتافيزيقا. وبذا يكون الايمان الديني بالمعجزات لا يمكننا محاكمة التصديق به ولا أمكانية تكذيبه من قبل مرجعية العقل الذي يختلف ماهويا بعدم المجانسة حتى الادراكية مع جميع الخوارق التي لا تقع ضمن رقابة العقل الادراكية عليها والتي منها المعجزات التي هي عمليات تدرك فيزيائيا في زمن حدوثها ولا يمكن إدراك حصول تكرارها كنظام خارق لقوانين الطبيعة الثابتة على الدوام عبر الازمان والعصور وألا ترتب على ذلك أن قوانين الطبيعة هي توليد ذاتي خصائصي بالطبيعة تعيها وتدركها وهي تنتجها وتستحدثها عند الحاجة لها، وهي قابلة للتغيير والتبديل على مر العصور والازمان بأرادة منها أو بمعجزة خارجة عنها. في حين يقول العلم قوانين الطبيعة ثابتة ازلية في ملازمتها الطبيعة.

ولو كان هذا الفرض صحيحا مقبولا لما كانت قوانين الطبيعة وصلتنا كما هي الآن نعيشها تداوليا في ادبيات لاهوت الاديان والكتب المقدسة في ثباتها الكوني الازلي الذي يحاكم الطبيعة والانسان بتفسيرها خارج ما يقوله العلم الذي يركن تفسير اللاهوت الديني جانبا بمنطق ما يقبله العقل... وبذا تكون المعجزات أجزاءا من تاريخ لا يمكن دحض وقائعه بمنطق العقل المقترن بزمان غير مؤكد في تلازمه مع واقعة المعجزة. وثبات قوانين الطبيعة لا تزحزحه عن حقيقته لا اساطير اللاهوت الديني ولا حتى فروضات حقائق العلم التي تعمل على إكتشاف عمل تلك القوانين بالتوازي المعرفي معها وليس بالتقاطع غير العلمي معها.

زمن المعجزة وزمان القوانين الطبيعية

ثمة فرق جوهري تم ويتم إغفاله هو أن الزمان الادراكي لقوانين الطبيعة على الارض هو زمن سرمدي يستمد خاصيته الازلية من ازلية الزمان الذي يحكم تلك القوانين وثباتها والا ما كانت وصلتنا الى عصرنا اليوم كما هي في ثباتها طيلة مسيرة هذه الازمان والعصور التاريخية الطويلة جدا، بخلاف ذلك المعجزة الدينية ليست خرقا زمانيا دائميا لثبات قوانين الطبيعية في ملازمة ظاهرة الخرق الطبيعي المؤقت زمانيا لها بوقائع المعجزات التي لا يمكن البرهنة على تصويبها عقليا كما ذكرنا سابقا ..زمانية المعجزة المحدودة بزوالها كزمان مؤقت تجعل من زمان قوانين الطبيعة الثابتة قوانين لا تغيرها المعجزات التي هي خرق مؤقت لها، لذا يكون الخرق الاعجازي في حقيقته يقع على هامش قوانين الطبيعة الطارئة عليها وليست معجزات تطالها بالتغيير الدائم الذي يلازمها زمانيا. فقوانين الطبيعة أكثر رسوخا بثباتها الزماني من زمان المعجزة الزائل ما يرتب التشكيك بالمعجزة التي هي خرق ميتافيزيقي طاريء بدلالة قوانين الطبيعة الثابتة التي لا تتغير زمانيا. وما ذهبنا له يعطينا المؤشرات الثابتة التالية:

- زمان قوانين الطبيعة زمان ثابت لا يطاله التغيير لا بالمعجزات ولا بغيرها. بخلاف المعجزات التي زمانها زائل مؤقت.

- المعجزة تتأرج بين رغبة ذاتية راودت الانبياء بالحصول على الايمان الديني الجمعي بهم أولا المقترن بوحي الخالق لهم ثانيا. وهذا التارجح غير محسوم لا بمنطق اللاهوت الايماني ولا بمنطق الاستدلال بقوانين الطبيعة الثابتة التي جرى خرق أحدها بالمعجزة في عصر ما وزمان مضى منذ الاف السنين...

- يتداول بعض دارسي علم الاديان مؤخرا أن المعجزات ترتبط بالاساطير ولم تكن تكليفا من الرب في تدعيم استحصال الايمان الديني به كخالق يتوجب عبادته، كما تذهب له بعض الفرق والمذاهب الدينية التي بدأت التشكيك بحصول وأهمية المعجزات في أستحصال الايمان الديني الجمعي المشكك برسالات الانبياء.

- خطأ ربط تحقق صدقية المعجزات بتصديق الميتافيزيقا التي لا علاقة برهانية عقلية تؤكد صواب ما تعتبره الميتافيزيقا صحيحا مطلوبا تصديقه عقليا بالتبعية. تبعية العقل للميتافيزيقا وليس العكس.

- خطأ تعريف الفلسفة أن المعجزات خرق لقوانين الطبيعة الثابتة التي لا يكون خرقها المؤقت زمانا أعجازيا يخدم الانسان أبعد من تحقق الايمان الديني، بل المعجزة الدينية هي أعجاز مؤقت زائل طاريء على قوانين ثبات زمانية الطبيعة السرمدية الباقية الملازمة لسرمدية زمان الوجود الملازم لها.

- المعجزة تخدم أستحصال الايمان الجمعي الديني في تثبيت سلطة لاهوت الايمان الديني لا علاقة تربطه بسلطة رفاهية وحرية الحياة الانسانية في اشباع ضرورات العيش بكرامة انسانية. واستحصال حياة ارضية تقوم على العدل والمساواة والقضاء على الفقر والجوع والتفاوت الطبقي المجحف بين الغني والفقير. بمعنى المعجزة خاصية أعجازية تخدم الايمان الديني فقط ولا تخدم حياة الانسان على الارض.

- المعجزات تتجاذبها ثنائيات مثل هل هي رغبة الانبياء أم رغبة الخالق، كذلك ثنائية زمان قوانين الطبيعة الثابتة التي لا تتغير مع زمانية خرق تلك القوانين المؤقتة الزائلة، ثنائية المعجزة خرق يقبله العقل أم تصدقه الميتافيزيقا بعيدا عن سلطة تحكيم العقل. وقائمة الثنائيات المتناقضة حول المعجزة لا حصر لها بما يبقي على معادلة هل المعجزات اساطير لا سند تاريخي لها أم هي حقائق ساحقة في القدم يتوارثها لاهوت الاديان بلا سند عقلي مقبول؟

***

علي محمد اليوسف

....................

الهوامش:

1، 2، وليم رايت، تاريخ الفلسفة الحديثة، تقديم ومراجعة امام عبد الفتاح امام، ص 218 – ص 239

 

تمهيد: هذه الدراسة طويلة نسبيا لذلك قسمناها إلى قسمين.

القسم الأول يُعنى بالفرق بين فلسفة الدين وبين الفهم الفلسفي للدين والقسم الثاني يُعنى بتحليل مفهوم "الخبرة الدينية" لفهم علاقة الطبيعي بالإلهي خاصة في فلسفة (ولتر ستيس) من خلال كتابه: (الزمان و الأزل). وأصل الكتاب مقال في فلسفة الدين.

هذا الموضوع غاية في الأهمية لكل باحث في هذا المجال ولكل مثقف واعي يدفعه فضوله المعرفي وقلقه الوجودي لمعرفة حقيقة "النهايات". وهو موضوع غاية في الدقة فهماً وادراكاً ويقع فيه الخلط كثيراً والسبب هو أن الكل يعرف من الصعب قراءة نص لفيلسوف معين مباشرة بلا تمهيد أو مدخل لفلسفته ومن يفعل ذلك - وهو غير مختص- معتمدا على جهده الفردي فقط يخرج بنتائج مشوشة وفهم مرتبك لا يسمن ولا يغني من جوع.

هذا لأن الفلسفة حالها حال كل العلوم الإنسانية لها مفاتيحها الخاصة وهي مصطلحاتها التي تواضع الفلاسفة عليها والعلاقة المعقدة بين هذه المصطلحات عندما توضع في سياق بحثي معين. هذا أضافة إلى التفرد والذاتية فغالبا ما توصف الفلسفة بصفة النسبة الفردية فنقول: فلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو وفلسفة كانط وفلسفة هيجل وهذا معناه تعدد مناحي النظر في الأدراك لكل فيلسوف.

نعم لكل فيلسوف منهج وفهم في التعامل مع القضايا الفلسفية وغالبا ما يخرجون بنتائج متباينة.

خذ مثال مفهوم (المقولة) فهي عند كانط تعني مفهوم قَبلّي (A priori) للفهم أي هي ليست مفاهيم مستمدة من التجربة الحسية بل هي أشكال أو أطر فارغة موجودة مسبقاً في عقلنا البشري أي إننا نولد مزودين بها جينيا. ووظيفتها الأساسية هي تنظيم وتوحيد المعطيات الحسية التي تأتينا من خلال الحواس وتحويلها إلى تجربة مفهومة ومدركة. بينما هي عند هيجل ليست مجرد أطر عقلية ثابتة ينظم فيها الفهم أسس الواقع بل هي المكونات الجوهرية للواقع والعقل على السواء. بل هي عند هيجل اللبنات الأساسية للوجود والفكر معاً.

نعم هي شكل من أشكال الفكر المحض لكنها في الوقت نفسه شكل من أشكال الوجود. هذا يعني أن المقولة عند هيجل ليست مجرد مفاهيم في الذهن وليست أدوات يستخدمها العقل البشري فحسب بل هي أطر موضوعية للواقع نفسه. لأن هيجل يعتقد أن الفكر والوجود متطابقان والمقولات هي التجسيد الملموس لهذا التطابق.

فهي عند كانط مقولات إبستمولوجية معرفية بينما عند هيجل مقولات أنطولوجية وجودية.

هذا مثال يوضح الفارق الكبير في المنهج عند الفلاسفة وعلى أساس المنهج تتكثر الأفهام وتتعد الرؤى والنتائج. وقس على ذلك تعدد وتكثر الفهم الفلسفي للدين عند كل فيلسوف.

ولنبدأ بالفرق بين فلسفة الدين والفهم الفلسفي للدين:

أولا: فلسفة الدين:

نقول في تعريفها: هي دراسة الأسس والمفاهيم والمبادئ التي يقوم عليها الدين كظاهرة إنسانية من زاوية فلسفية نقدية ومحايدة.

وهي اليوم أختصاص فلسفي مستقل يصنف غالبا تحت أسم "الفلسفة النظرية". أي دراسة فكرية نقدية للمفاهيم والادعاءات الدينية باستخدام أدوات العقل والمنطق الفلسفي. وموضوعها لا يهتم بدين معين سواء كان سماوي أو غير سماوي بقدر ما يهتم بماهية وجوهر الدين مجردا من كل هوية. حيث تطرح فلسفة الدين أسئلة عامة ومجردة بمنهج تحليلي نقدي عقلاني بحت. وفيها يحاول الفيلسوف أن يبتعد قدر الإمكان عن انتمائه الشخصي وموروثه العقائدي ليدرس الدين كموضوع مجرد للبحث.

وأسئلتها المركزية هي:

1. هل الله وجود أم موجود: ما هي أدلة وجود الله الغائية والوجودية؟

باعتباره علة العلل.

وما هي حجج الإلحاد؟

2. طبيعة الله: هل لله ماهية؟ إذا كان الجواب نعم فما هي ماهية الله؟

وهل يستطيع العقل إدراكها أم يستحيل ذلك؟

هل له قدرة مطلقة؟

هل علمه مطلق؟

هل هو خير مطلق؟

3. المعرفة الدينية: كيف نعرف الحقائق الدينية بأي وسيلة؟

بالعقل أم بالحدس؟

ما هي طبيعة الإيمان؟

ما العلاقة بين الإيمان والعقل؟

4.اللغة الدينية: كيف تتحدث النصوص الدينية عن الله؟

هل هي لغة حرفية أم رمزية أم استعارية؟

5.الشر والمعاناة: كيف يمكن التوفيق بين وجود إله خير وقادر قدرة مطلقة مع وجود الشر في العالم؟

هذه تسمى  "مشكلة الشر".

6.الدين والأخلاق: ما هو مصدر الأخلاق؟

هل الأخلاق مستقلة عن الدين أم مستمدة منه؟

7.ماهية الدين:

هل هو مجرد مجموعة من المعتقدات والأساطير والطقوس أم خبرة روحية عميقة وحقيقية؟

8.طبيعة الروح: هل للروح وجود مستقل عن الجسد أم لا وما هي طبيعتها؟

9.البحث عن المعنى: هل نجد في الدين جواب عن معنى الحياة وهدف الوجود؟

أم أن الأمر أعتباطي فوضوي لا غاية له؟

نستطيع القول أخيرا أن فلسفة الدين هي المحكمة التي تحاكم فيها المفاهيم الدينية بالعقل أما مهمتها فهي أن تأخذ على عاتقها التأمل في معنى الجواب الذي يقدمه الدين والمكانة التي يمكن أن يحتلها في الوجود الإنساني الفردي والجماعي. وهكذا فإن فلسفة الدين تقدم نفسها باعتبارها تفكيراً في الدين وفي ماهيته وأسبابه ومبرراته وجوانبه اللاعقلانية أيضاً.

هذه هي باختصار فلسفة الدين وأسئلتها و موضوعاتها.

ثانياً: الفهم الفلسفي للدين:

هو استخدام أدوات ومناهج فلسفية لتحليل وتفسير نصوص دينية أو عقائد محددة. هو العدسة التي ننظر من خلالها إلى النصوص الدينية لنرى معانيها بشكل أوضح.

مهم أن ننبه أن الفهم الفلسفي للدين ليس حقلا مستقلا بل هو منهج أو أسلوب في القراءة والتأويل والتفسير. هو في الأصل تطبيق لنظريات ومناهج فلسفية معينة على نصوص وعقائد دينية محددة لفهمها بشكل أعمق وأدق.

ومن حيث الموضوع يركز على دين معين أو نص معين أو عقيدة محددة مثل: التثليث في المسيحية أو مفهوم النبوة في الإسلام أو مفهوم التناسخ في الهندوسية.

أما منهجيا فهو يستعير أدوات من مدارس فلسفية متعددة كالمنهج الهرمونطيقي أو المنهج الظاهراتي أو المنهج البنيوي أو التفكيكي أو المنهج الجدلي التاريخي لتقديم قراءة جديدة للنص الديني.

يحاول الفهم الفلسفي للدين الأجابة عن أسئلة كيفية وصولا إلى تحديد هويتها الماهوية مثل:

كيف يمكننا فهم مفهوم "النبوة" في الإسلام؟

كيف يمكن تطبيق منهج الهرمنيوطيقا (علم التأويل) على قراءة الإنجيل؟

كيف نحدد المضمون الفلسفي لفكرة "وحدة الوجود" في كتابات متصوفة الإسلام؟

كيف يمكن قراءة قصة الخلق في سفر التكوين من منظور فلسفي؟

من خلال الفهم الفلسفي للدين نتعلم أن الإنسان يتشرب فلسفة مجتمعه -عن طريق التربية والتنشئة الاجتماعية- وهي مجموعة من المعتقدات الدينية وغير الدينية. وعندما يصبح في سن النضج العقلي يبدأ بالتفكر في ما ورثه من آبائه وأجداده وبيئته ويقارن موروثه بما تعلمه في المدرسة والجامعة ثم يفهم علاقة السلطة بالمجتمع ويدرك أن السلطة لها مصلحة في الإبقاء على معتقدات الناس كما هي حتى لو كانت في غالبيتها مجرد خرافات. فالسلطة تنتج دائما المعرفة التي تناسبها لإدامة وجودها وتعزيزه. يبدو ذلك جلياً من خلال تحالف السلطة مع المؤسسة الدينية. من هنا تأتي ضرورة الفهم الفلسفي للدين أي ضرورة الاهتداء بنور العقل لفهم قضايا الدين حتى لا يصبح الدين مجرد خرافة تُستغل لأستعباد البشر.

يجب علينا ممارسة النشاط الفلسفي بما هو فحص للأسس والركائز التي يقوم عليها الدين والمعتقد والأيديولوجيا و السياسة والأخلاق عندها يتبين في غالبية الأحيان هشاشة وضعف كثير من العقائد والمعتقدات التي تنسب إلى الدين ويطلب من العامة أن يؤمنوا بها من دون تفكر ولا تفكير بوصفها فوق قدرة العقل البشري.

دائما ما يكون شعار رجال الدين: "لا تفكر من دون وصايتنا". وهذا الشعار يتنافى مع العقل النقدي الحر.

هذه الوصاية هي الكارثة التي تعاني منها المجتمعات المتدينة حيث يتقبل المؤمن ما يقال له أو يقدم إليه بوصفه الدين الأصيل حتى لو كان مجرد أساطير وخرافات. وما يقدم له في أحسن الأحوال هو مجرد قراءة للدين محكومة بثقافة القارئ ومستواه العلمي والادراكي.

نؤكد أخيراً إن الفهم الفلسفي للدين ليس نظرية فلسفية في الدين وليس فلسفة دين. هو مجرد تسليط نور الفلسفة أو مطرقة الفلسفة على ما نؤمن به من معتقدات دينية لنرى إن كانت ذات أُسس هشة ضعيفة أم ذات أسس متينة قوية متماسكة.

***

سليم جواد الفهد

 

مقدمة: تُعدّ الفلسفة من أبرز المجالات الفكرية التي تهدف إلى تطوير القدرة على التفكير النقدي والتحليلي، وفهم المبادئ الأساسية للحياة والإنسان والمجتمع. فهي لا تقتصر على كونها مادة أكاديمية مجردة، بل تمثل أداة أساسية لتنمية مهارات الاستدلال، وحل المشكلات، واتخاذ القرارات المبنية على فهم منطقي وعميق. في سياق التعليم المدرسي والجامعي، تمنح الفلسفة الطلاب القدرة على استكشاف القيم والأخلاقيات، والتفاعل مع القضايا المعقدة بطريقة منهجية، ما يعزز وعيهم الفكري والاجتماعي. كما تساعد المعلمين على تقديم المعرفة بأسلوب يربط النظرية بالتطبيق، ويحفّز الطلاب على الحوار والتفكير النقدي المستقل. لذلك، يهدف هذا البحث إلى استكشاف أهمية إدراج الفلسفة في المناهج الدراسية في المدارس والجامعات، بدءًا من تعليم الأطفال ووصولًا إلى البرامج الأكاديمية المتقدمة، واستعراض الاستراتيجيات التي تمكّن الطلاب من التعامل بفاعلية مع النصوص الفلسفية، وتنمية مهارات التفكير والتحليل، لتكوين جيل قادر على التفكير النقدي والمشاركة الواعية في المجتمع.

وترتبط مشكلة هذا البحث بسؤال رئيسى هو: لماذا الفلسفة الأن فى المدارس والجامعات؟، ويناقش ذلك من خلال الاجابة عن التساؤلات التالية:

1- ماهو دور الفلسفة فى التعليم؟

2- ما أهمية ادراج الفلسفة فى المناهج الدراسية؟

3- ما هى استراتيجيات فهم النصوص الفلسفية؟

4- ما هى الارشادات التى نقدمها لدارسى الفلسفة؟

5- ما أهمية الفلسفة للطلاب والمدرسين فى المدارس والجامعات؟

يعتمد البحث فى تناوله لهذه القضايا على عدة مناهج هى: المنهج التاريخى، المنهج التحليلى، المنهج النقدى والمنهج المقارن.

أما عن محاو البحث فهى:

مقدمة

المحور الأول: تعلم الفلسفة

المحور الثانى: دور الفلسفة فى التعليم

المحور الثالث: تعليم الفلسفة للأطفال

المحور الرابع: ادراج الفلسفة فى المناهج الدراسية

المحور الخامس: استراتيجيات استيعاب النص الفلسفى

المحور السادس: ارشادات لدارسى الفلسفة

الخاتمة

المحور الأول: تعلم الفلسفة

إن السعي إلى تنمية قدرة الطلاب على التفكير الفعّال ليس توجهًا جديدًا، بل هو امتداد لتقليد تربوي عريق يعود إلى أكثر من ألفين وخمسمائة عام. فقد شكّل تعليم المهارات العقلية والمعرفية ركيزة أساسية في النظم التعليمية منذ أقدم الحضارات. ففي الصين القديمة، على سبيل المثال، ارتبط هذا الاهتمام بالبحث عن الحكمة والفهم العميق بفكر كونفوشيوس (كونغ فو تسي)، الذي دعا إلى التعلم المستمر، والتفكير النقدي، والربط بين المعرفة والعمل الأخلاقي.(1)

وانطلاقًا من هذا الإرث التاريخي، يثور التساؤل: هل الفلسفة حكرٌ على الفلاسفة أم أنها ملكٌ للجميع؟ وهل يمكن تعلّمها؟ يرى مارتن هيدجر أن من المستحيل فهم طبيعة الفلسفة دون الانخراط فيها فعلًا، أي من خلال التفلسف نفسه. فحين نسأل: "ما هي الفلسفة؟" نكون قد دخلنا عالمها بالفعل، نعيشها ونتحرك داخل فضائها، لا نقف على أطرافه. ومع أن البعض يعتقد أنه لا يمكن إعادة إنتاج عقول كأفلاطون وأرسطو وكانط، وأنه لا توجد طريقة "لتعلّم" أن تكون فيلسوفًا، فإن آخرين ينظرون إليها كمهارة أو أداة غائبة عند كثيرين. فـصموئيل تايلور يرى أن الفلسفة أداة مفقودة لدى أغلب الناس، بينما يذهب فريدريك نيتشه إلى أن "الفلاسفة يولدون، ولا يُصنعون"، ويوافقه جون هارولد هايك حين يقول: "الفلاسفة الذين صُنعوا ليسوا فلاسفة حقيقيين". هكذا، تظهر الفلسفة كدعوة مفتوحة أمام الجميع، لكنها تتطلّب استعدادًا داخليًا وقدرة فطرية على التفكير العميق والبحث عن الحقيقة.(2)

وبالرغم من هذا الجدل، يمكن استخلاص خلاصة أساسية تؤكد أن تعليم الفلسفة أمر ممكن، من خلال التفسير والتحليل والتقييم النقدي للحجج والقضايا، إلى جانب المتابعة الإبداعية والتواصل الفعّال. فمثل هذه المهارات لا تتطلب خلفية خاصة، وهي في متناول كل من يرغب في تعلمها. ومع ذلك، ليس جميع الأفراد قادرين على ممارسة هذه الأنشطة الفلسفية أو إتقانها. إذ يتطلب بلوغ مستويات عميقة ومؤثرة في الفلسفة خلفية خاصة تتألف من ثلاثة عناصر أساسية:

1- قدرة عالية على التفكير المجرّد: تمكّن الفرد من التعامل مع الأفكار والمفاهيم المجرّدة وتحليلها بعمق.

2- دافع قوي نحو الاستقلال الفكري: رغبة حقيقية في التفكير باستقلالية، بعيدًا عن القوالب الجاهزة والتبعية الفكرية.

3- القدرة على الإحساس بالدهشة الفلسفية: امتلاك فضول أصيل ورغبة في التأمل والتساؤل حول الوجود والحياة والعالم.(3)

ومن هذا المنطلق، يتبيّن أن حتى من يمتلكون مهارات فلسفية أساسية، فإنهم بحاجة إلى دراسة الفلسفة لتعزيز هذه القدرات وتنميتها عبر عملية التعلم والتأمل الفلسفي. وبعبارة أخرى: الأشخاص ذوو القدرات الفلسفية المحدودة يمكنهم اكتساب المهارات الضرورية، مثل التفسير والتحليل والتقييم النقدي، مما يمكّنهم من الانخراط في التفلسف بدرجة ما، حتى إن لم يبلغوا مستويات الاحتراف العليا. أما الأشخاص ذوو القدرات الفلسفية العالية فيستطيعون الاستفادة من دراسة الفلسفة لصقل مهاراتهم، واكتساب تقنيات احترافية في التفلسف، مثل تطوير منهجيات التحليل النقدي، وبناء منظومات فكرية متماسكة، وتحقيق تواصل فلسفي فعّال.(4)

وعليه، تظل دراسة الفلسفة مسارًا جوهريًا لتعزيز القدرات الفكرية وصقل المهارات، سواء لدى من يملكون استعدادًا فلسفيًا محدودًا أو لدى أصحاب الملكات الراسخة والعميقة. فالأولى تستطيع، عبر التعلم الممنهج، تطوير قدراتها في التفسير والتحليل والنقد، لتشارك في عملية التفلسف بدرجة معقولة وإن لم تبلغ ذرى التخصص. أما الثانية، فتجد في الفلسفة مجالًا رحبًا لترسيخ منهجيات التحليل النقدي، وبناء منظومات فكرية متماسكة، وصقل أدواتها، وتحقيق تواصل فلسفي أكثر نضجًا وفاعلية. وهكذا، يتبين أن الفلسفة ليست حكرًا على نخبة متميزة، بل فضاء مفتوح يتسع للجميع على اختلاف مستوياتهم وعمق ممارستهم. إن تعليم الفلسفة، في جوهره، يخدم جميع الأفراد، إذ يزوّدهم بفهم أعمق، وأدوات فكرية أكثر فاعلية، وقدرة منهجية وإبداعية على مواجهة التحديات الفكرية المعقدة.

المحور الثانى: دور الفلسفة فى التعليم

ليس من المستغرب أن تكون كلمة "الفلسفة" بالنسبة لكثير من الناس مجرّد لفظ غامض يستحضر صورًا للحى البيضاء والغموض الصوفي. فالمجتمع المعاصر يبدو وكأنه لا يجد سببًا وجيهًا لتقدير مجال ينشغل بالأفكار أكثر من الإنتاج الملموس. وببساطة، تُعَدّ الفلسفة في نظر البعض غير عملية، وإلهاءً عن عالم الاقتصاد المتنامي ومتطلبات الحياة الواقعية. لكن ما قد يكون أكثر إثارة للدهشة هو أنّ الفلسفة باتت، في عصرنا، مجالًا يحتضر حتى داخل الأوساط الأكاديمية نفسها. فمع ازدياد التخصّص في البحث والاستقصاء، تراجع الدافع إلى الانخراط في التأملات المتشعّبة التي قد تبدو متكلّفة لأولئك الذين يفضلون "القيام بشيء عملي". وبوجه خاص، نادرًا ما يرى العاملون في مجال التربية والتعليم ما يدعو إلى الانشغال بالفلسفة، في ظلّ انشغالهم المستمر بمساعدة الطلاب في الجوانب المباشرة لتعلّمهم. ومع ذلك، لا يحتاج الأمر إلا إلى لحظة تأمل في فكر بعض كبار الفلاسفة حتى ندرك أن التربية والتعليم لم تنفصلا يومًا عن الفلسفة، وأنهما مهدَّدان بفقدان قدرتهما على خدمة الطلاب بأفضل وجه إذا اقتصر إلمام الممارسين فيهما بالفلسفة على معرفة سطحية أو عابرة.(5)

ومن هنا، تتجلّى أمامنا إشكالية جوهرية تتعلق باتساع الفجوة بين الفلسفة والمجتمع المعاصر، بل وبين الفلسفة والوسط الأكاديمي نفسه. ويمكن تلخيص هذه الإشكالية في ثلاثة مستويات مترابطة:

1- تصوّر العامة للفلسفة بوصفها حقلًا غامضًا وبعيدًا عن التطبيق العملي.

2- الوضع الأكاديمي الراهن الذي أدّى فيه التخصّص المفرط إلى إهمال التفكير الفلسفي العميق والشامل.

3- الانعكاس على مجال التربية والتعليم، بما ينذر بفقدان البعد الفلسفي في الممارسة التربوية، وما يستتبعه من تراجع القدرة على تربية العقول وتوسيع آفاق التفكير.

وإذا حاولنا استقصاء جذور هذه الإشكالية في سياق التعليم الحديث، وجدنا أن الفلسفة، على الأقل بوصفها تخصّصًا أكاديميًا رسميًا، تشهد اليوم انحسارًا ملحوظًا. فقد أدّى التركيز المفرط على مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات إلى جانب النظر إلى التعليم أساسًا بوصفه تدريبًا مهنيًا موجّهًا نحو التوظيف، إلى دفع العلوم الإنسانية إلى موقع هشّ ومهمَّش. وتبدو الفلسفة، على وجه الخصوص، بعيدة الصلة عن أولويات التعليم المعاصر. ويزداد الأمر صعوبة عندما يُطلَب تبرير أهميتها للمعلّمين، في ظلّ عجز كثير من الفلاسفة أنفسهم عن الدفاع بفاعلية عن جدواها بالنسبة إلى الطلاب. غير أنّ المفارقة اللافتة هي أنّ جميع السياسات التعليمية، في جوهرها، تقوم على تصوّر فلسفي ما، سواء تعلّق الأمر بتحديد أهداف التعليم، أو صياغة الالتزامات تجاه الطلاب، أو تعريف ما يُعدّ في مصلحة الأمة. ومن ثمّ، تظلّ الفلسفة عنصرًا أساسيًا لا غنى عنه في الإدارة التربوية والقيادة التعليمية الرشيدة.(6)

وإذا أردنا أن نبرهن على هذه القيمة عمليًا، فليس أنسب من العودة إلى أمثلة ملموسة تُظهر أثر الفلسفة المباشر في صياغة التعليم. ففي هذا السياق، يمكن الاستشهاد بفكر كلٍّ من أفلاطون وجون لوك. إذ يبيّن استكشاف آرائهما أنّ فهم الفلسفة أمر جوهري عند اتخاذ القرارات المتعلّقة بصياغة السياسات، ولا سيّما في مجال التعليم. ورغم أنّ معظم الناس يمتلكون قدرًا من المعرفة العامة بأفلاطون، ومستعدّون للاعتراف بأنّ أعماله تمثّل ركيزة أساسية في تشكيل حقول المعرفة الحديثة، فإنهم يجدون غالبًا صعوبة في تبرير أهميته على المستوى العملي. ومع ذلك، لا تزال كتاباته تسهم في توجيه الممارسات التربوية وصقلها؛ وإن لم يكن لعمله من أثر سوى تنبيهنا المستمر إلى مخاطر التعليم الخاطئ وسوء التوجيه التربوي، فهو يظلّ ذا قيمة كبرى. وبالمثل، تظلّ أعمال جون لوك مرجعية محورية في الفكر التربوي، ولا سيّما في الولايات المتحدة الأميركية، إلى درجة يصعب معها فصل المبادئ التي يقوم عليها تصوّرنا للتعليم عن أطروحاته الواردة في رسالته الثانية في الحكومة.(7)

وعند النظر في تاريخ التعليم، يتضح أنّ الجدل حول غاياته وأهدافه ظل قائمًا عبر العصور، وهو حوار يفرض على كل جيل المشاركة فيه. وفي عصرنا الحاضر، تميل سياسات التعليم لدى كثير من صانعي القرار إلى التركيز على أهداف محدودة النطاق، إذ يفترضون أنّ مسألة الأهداف قد حُسمت منذ زمن بعيد، فيجعلون من نتائج الاختبارات المعيارية المؤشر الأوحد لأداء الطلاب والمعلمين. غير أنّ المربين الواعين لطبيعة الرسالة التعليمية طالما نبّهوا إلى أنّ حصر الأهداف في هذا الإطار الضيق يخل بجوهر العملية التربوية. وقد شهد عام 1918 مثالًا بارزًا على ذلك، حين أصدر المربون "تقرير المبادئ الأساسية" الذي أوصى بسبعة أهداف كبرى للتعليم، هي:

1- الصحة.

2- الإلمام المتقن بالعمليات الأساسية.

3- العضوية الفاعلة والمسؤولة داخل الأسرة.

4- الإعداد المهني.

5- ترسيخ المواطنة.

6- الاستخدام الرشيد والبنّاء لأوقات الفراغ.

7- التكوين الأخلاقي القويم.(8)

وعليه، فإن وضع سياسة تعليمية رشيدة، أو قيادة مؤسسة تربوية، أو اتخاذ قرارات حاسمة في المجال التعليمي، يتطلّب وعيًا فلسفيًا عميقًا يجيب عن أسئلة جوهرية، من قبيل: ما الهدف من التعليم؟ وما قيمته؟ وهل يعود بالنفع على الفرد والمجتمع معًا؟ هذه الأسئلة بطبيعتها فلسفية، إذ تنشغل بالبحث في المعنى والغايات. فإذا اعتقدنا أنّ التعليم يمكن أن يُستخدم أداةً للسيطرة على العقول، فإننا نتبنّى رؤية تقترب من أفكار أفلاطون. أما إذا رأيناه وسيلة لتمكين الأفراد اقتصاديًا، فنكون بذلك أقرب إلى منظور جون لوك. غير أنّ الأهم ليس مجرد الاطلاع على نظريات هؤلاء الفلاسفة، بل فهم التحذيرات التي قدّموها لنا؛ إذ حذّر كلٌّ من أفلاطون ولوك من مخاطر بعينها تترتب على اختياراتنا التعليمية. ومن خلال دراسة الفلسفة، يمكننا استيعاب هذه التحذيرات، والتفكير بعمق أكبر في صياغة مستقبل التعليم.(9)

أ- الجمهورية والتعليم

يعَدّ أفلاطون من أبرز من وضعوا أسس التدريب المعرفي كمنهج عقلي منظَّم، حيث تبرز محاوراته التي يظهر فيها سقراط باعتباره أول من أدرك قيمة الحوار في تنظيم العمليات التعليمية. فقد رأى أنّ تنمية التفكير الماهر تتم على نحو أفضل عبر عملية اجتماعية قوامها التساؤل والنقاش. ومن خلال ما يُعرف بـ "الحوار السقراطي"، شجّع المعلّمون الطلاب على تبنّي نهج نقدي تجاه المعرفة، بحيث يعبّرون عن أفكارهم ويعملون على تصحيحها ذاتيًا. ولعلّ استمرار حضور هذا النهج إلى يومنا هذا يتجلى في الاهتمام المتزايد بتوظيف الأساليب الفلسفية الاستقصائية داخل التعليم المعاصر.(10)

ومن هنا يمكن القول إنّ المبدأ الأفلاطوني في التعليم، القائم على الحوار السقراطي، يوفّر أرضية خصبة لدمج التفكير الفلسفي في السياسات التعليمية الحديثة. فاعتماد النقاش المفتوح والاستقصاء المنهجي داخل الصفوف الدراسية يسهم في تعزيز التفكير النقدي وتوسيع آفاق الطلاب، كما ينمّي قدرتهم على التقييم المستقل للمعلومات. وعلى صعيد السياسات التعليمية، يتيح هذا النهج بناء مناهج أكثر مرونة وتفاعلية، تعترف بدور الطالب كشريك فعّال في إنتاج المعرفة، لا مجرد متلقٍّ سلبي لها. وهكذا تتحقق رؤية أفلاطون التي تجعل من التعليم عملية حوارية حيّة تمكّن الأفراد من المشاركة الواعية في صياغة القرارات داخل المجتمع.

غير أنّ تناول أفلاطون لمسألة التعليم لا ينفصل عن رؤيته العامة للحكم والمجتمع، كما يظهر في كتابه "الجمهورية". فهذا العمل، المعروف بكونه من أشد الانتقادات الموجَّهة إلى الديمقراطية في الفكر القديم، لا يقتصر على معالجة قضايا الحكم، بل يولي مساحة واسعة للتربية والتعليم، حتى يكاد يطغى هذا الجانب على غيره. ورغم أنّ أفلاطون يتناول عيوب أشكال الحكم المختلفة، فإنّ اهتمامه الأكبر انصبّ على إبراز دور التعليم في تنمية النفس وازدهارها، معتبرًا أنّ هذا الازدهار لا يتحقق إلا عبر التوجيه الفكري الموجّه منذ سن مبكرة. ومن هنا يتضح أنّ الطابع السلطوي للجمهورية مرتبط أساسًا بتركيزها الشديد على التعليم بوصفه أداةً للضبط والسيطرة.(11)

وقد ذهب أفلاطون إلى أنّ التعليم ينبغي أن يشمل مجالات متنوّعة مثل الموسيقى، والتربية البدنية، والرياضيات، والجدل (الديالكتيك)، غير أنّ هذا التعليم كان موجَّهًا بصفة خاصة لأولئك الذين يُعدّون لتولّي الحكم. ولم يكن ذلك إغفالًا لتعليم بقية المواطنين، بل إنّ طبيعة تعليمهم ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بأدوارهم المستقبلية داخل المدينة. فالمدينة في تصوّره تتكوّن من ثلاث فئات: الحكّام، والمحاربون، والمنتجون، ولكل فئة مهام والتزامات محددة. لكن رغم هذا التوزيع الوظيفي، لم ينظر أفلاطون إلى التعليم بوصفه وسيلة لإعداد الأفراد لأدوارهم فحسب، بل رأى فيه كذلك أداة للحد من إساءة استخدام السلطة. وقد أكّد أنّ التربية الحقيقية يجب أن تغرس في النفوس حبّ الجمال، باعتباره الطريق إلى حب العدالة، في حين أنّ غياب التعليم يفتح المجال أمام الميل البشري إلى العنف والطمع ليهيمن على السلوك..(12)

وانطلاقًا من هذا المنظور، انتقد أفلاطون النظام الديمقراطي الذي رأى أنّه يتعارض جوهريًا مع تحقيق تعليم فعّال يضمن ازدهار المجتمع. فقد اعتبر الديمقراطية حكمًا للغوغاء، وغالبًا ما يكون هؤلاء من غير المتعلمين بالقدر الكافي. وفي نظره، يقود الميل البشري الطبيعي نحو العنف والطمع إلى فساد النظام الديمقراطي، بحيث يُستغلّ من قبل الأثرياء والطامحين إلى السلطة، ليتحوّل إلى نظام هشّ ممهّد دائمًا للانهيار، ومعبّد الطريق لظهور الطغاة. ولعلّ ما يزيد موقف أفلاطون حدّة أنّه عبّر عن أفكاره هذه على لسان أستاذه سقراط، الذي كان هو نفسه ضحيةً للديمقراطية الأثينية، إذ حكمت عليه بالإعدام تحت ضغط الشعبوية وعجزها عن التمييز. وهكذا بدا لأفلاطون أنّ التربية والتعليم لا يمثلان مجرد شأن تربوي، بل يشكّلان شرطًا أساسيًا لحسن الحكم، ووسيلة لكبح الميول الجامحة التي تهدد استقرار المجتمع.(13)

كلّ ما تقدّم يجعل حجّة أفلاطون ما تزال تحتفظ بوجاهتها وقوتها، خصوصًا بالنسبة إلى القادة التربويين في عصرنا الحاضر. ففي وقت يتجه فيه التعليم بشكل متسارع إلى إعداد الطلاب لشغل وظائف محددة، يصبح من المشروع أن نطرح السؤال الجوهري: هل يخدم التعليم المجتمع حقًا أم يضرّه؟.

وإذا تأملنا واقعنا المعاصر، نجد أنّه لا يختلف كثيرًا عن أثينا في زمن سقراط وأفلاطون. فقد كان أفلاطون شديد الوعي بخطر الديمقراطية، لاسيما حين تُدار من قبل جمهور يفتقر إلى التعليم الكافي. ومع ذلك، ينبغي أن ندرك أنّ التعليم، في نظره، لم يكن يقوم على التلقين أو الغرس القسري للأفكار، بل على التوجيه الرشيد للفكر. وقد عبّر عن ذلك بقوله: «هكذا يجب أن يكون التعليم... فنّ التوجيه. على المربّين أن يبتكروا أكثر الطرائق بساطة وفعالية في تحويل العقول نحو الاتجاه الصحيح». فالتعليم عنده لا يمنح الرؤية، بل يعيد توجيهها، وهو بذلك السبيل الأمثل لإعداد مواطنين قادرين على الحكم السليم والتمييز الواعي، ومن ثم بناء مجتمع مزدهر لا تتهدّده الفوضى ولا يطغى عليه الاستبداد.(14)

وعليه، فإنّ أعمال أفلاطون تمثل تحذيرًا دائمًا موجهًا إلى القادة التربويين. فبينما قد نقرأ الجمهورية بوصفها نقدًا قديمًا لنظام ديمقراطي أصبحنا نثمّنه اليوم، ينبّهنا أفلاطون إلى أنّ الاستبداد قد ينشأ من صلب الديمقراطية ذاتها، بفعل الحرية غير المقيدة التي تسمح بالسعي وراء الرغبات الفردية بلا ضابط. ومن هنا يبرز التساؤل: ما الذي يمنع الحكام في مدينة أفلاطون المثالية من الانقياد وراء نوازعهم الأنانية؟ كان جوابه واضحًا: التعليم. فبالنسبة له، تتحدد أهلية الحكم بقدرة الفرد على التعلم؛ فإذا امتلك القابلية للتعلم الفعّال، صار صالحًا لممارسة الحكم.

وهذا المعنى يتخذ اليوم بُعدًا أشمل، إذ لم يعد الحكم محصورًا في نخبة صغيرة، بل باتت الديمقراطية الحديثة تجعل من الشعوب نفسها حكامًا على مصائرها. ومن ثم، يصبح من الضروري أن يسعى القادة التربويون إلى ترسيخ تعليم متين وعميق، لا يقتصر على إعداد المواطنين لسوق العمل، بل يُعدّهم أيضًا لممارسة الحكم المسؤول. فالتعليم، وفق هذا التصور، ليس مجرد وسيلة لاكتساب المهارات، وإنما أداة أساسية لإعداد كل مواطن للمشاركة الواعية والفاعلة في صون استقرار المجتمع وتوجيه مساره.(15)

وإذا كان أفلاطون قد ركّز على إعداد نخبة قادرة على الحكم الرشيد وضبط المجتمع، فإنّ فكر جون لوك يمثّل نقطة تحوّل جوهرية نحو منظور مختلف أكثر فردية وبراجماتية. فبينما رأى أفلاطون أنّ التعليم وسيلة لتوجيه الجماعة نحو الصالح العام، أكّد لوك أنّ وظيفته الأعمق تكمن في تنمية استقلالية الفرد وتمكينه من التحكم في مصيره الاقتصادي والسياسي. وهكذا، ينتقل النقاش من حماية المجتمع عبر تربية نخبة حاكمة، إلى تمكين كل فرد من امتلاك المهارات والمعارف التي تؤهله ليكون مواطنًا حرًّا ومسؤولًا في مجتمع ديمقراطي.

ب- الحكومة والتعليم

بعد أن بيّن أفلاطون أنّ التعليم هو الأداة الجوهرية لإعداد نخبة قادرة على الحكم الرشيد وضبط المجتمع، انتقل الفكر الفلسفي في مرحلة لاحقة إلى مقاربة مغايرة مع الفيلسوف جون لوك. فبينما ركّز أفلاطون على البنية الجماعية للمجتمع وعلى ضرورة حماية النظام من الانحراف، جاء لوك ليُعيد مركز الثقل نحو الفرد، مؤكدًا أن الحرية والمساواة هما حجر الأساس لأي نظام سياسي عادل، وأن التربية هي السبيل لترسيخ هذه المبادئ.

ولم يكن لوك يطرح رؤيته في فراغ تاريخي، بل في سياق سياسي يتّسم بالتحوّل نحو الديمقراطية الليبرالية. ففي رسالته الثانية في الحكومة، شدّد على أنّ شرعية أي سلطة قائمة إنما تستمدّ من تحقيقها لمصلحة الشعب، وأن فشلها في ذلك يمنح المواطنين الحق في إسقاطها. وهكذا، تبلورت فلسفته السياسية حول حقوق الإنسان الأساسية: الحياة والحرية والملكية، وهي الحقوق التي وجدت صداها العميق في إعلان الاستقلال والدستور الأمريكي. ومن ثمّ، بدا أن فلسفة لوك جاءت استجابة لحاجة مجتمعات حديثة إلى تعزيز المساواة، لا إلى التحذير من مخاطرها كما فعل أفلاطون.(16)

ومن هنا تبرز أهمية التعليم في فكر لوك؛ فوظيفته، في نظره، لا تقتصر على إعداد الأفراد لسوق العمل، بل تتجاوز ذلك إلى تمكينهم من وعي حقوقهم الطبيعية والدفاع عنها. وإذا كان أفلاطون يرى التعليم توجيهًا نحو الفضيلة من أجل إعداد الحكّام، فإن لوك ينظر إليه كأداة لتمكين كل مواطن من المشاركة الحرة والمسؤولة في المجتمع الديمقراطي. وهكذا يلتقي كلا الفيلسوفين عند نقطة محورية: التعليم هو الوسيلة الأساسية لتوجيه العقل نحو ما يجعل الإنسان مزدهرًا بحق، وإن اختلفت وجهة كل منهما بين الصالح العام عند أفلاطون، والحقوق الفردية عند لوك.(17)

على الرغم من اختلاف السياقات التاريخية والسياسية التي كتب فيها كلّ من أفلاطون ولوك، فإنّ تصوّرهما لدور التعليم يلتقي عند نقطة جوهرية، وهي اعتباره أداة لتوجيه العقل نحو إدراك ما يجعل الإنسان مزدهرًا بحق. فأفلاطون يرى أن هذا الازدهار يتحقق عبر تنمية الفضائل وكبح الميول المدمّرة، بما يهيّئ الفرد لتحمّل مسؤولية الحكم. أما لوك، فيربط الازدهار بفهم الحقوق الطبيعية وصونها، ويرى في التعليم وسيلة لتمكين الأفراد من الدفاع عن حريتهم ومساواتهم. غير أنّ الاختلاف الجوهري بينهما يتمثل في أن أفلاطون ينطلق من رؤية هرمية تُخصّص التعليم الأعلى للحكّام المحتملين، بينما يتبنى لوك تصورًا أكثر شمولًا، يجعل من التعليم حقًّا وأداة لجميع المواطنين لضمان ممارستهم الفاعلة لحقوقهم.

وانطلاقًا من هذا التصور، يبرز دور التربية في فكر جون لوك بوصفها عملية أساسية لتشكيل الإنسان وتطويره، تبدأ من الطفل الصغير، الذي لا يزال يقارب العالم بشيء من الشك، وتنتهي بالإنسان العارف الموهوب، ذي الفهم العميق للحياة. وقد كان لوك يؤمن إيمانًا راسخًا بقوة التربية في صناعة الإنسان، قائلاً: «إن تسعين في المائة من الناس الذين نلقاهم، سواء أكانوا صالحين أم طالحين، نافعين أم عديمي الجدوى، إنما هم نتاج التربية». ولهذا أكّد أنّ «حسن تربية الأطفال يصبح واجبًا وحقًّا للوالدين، كما أن سلام الأمة يعتمد بدرجة كبيرة على التربية، الأمر الذي يستوجب على كلٍّ منّا أن يأخذه مأخذ الجد من أعماق قلبه».(18)

ومن هذا المنطلق، شبّه لوك روح الطفل باللوحة البيضاء التي لم يُكتب عليها شيء بعد، أو بالشمع الذي يمكن للمربي تشكيله وفق إرادته. لذلك اعتبر أنّ «فن ومهارة المعلم تكمن في إزالة كل الأفكار من ذهن الطفل قبل تعليمه أي شيء، فلا بد أن يكون ذهنه صافياً ليستوعب المعرفة الجديدة؛ وبدون هذا الشرط، لن تُطبع المعرفة في ذهن الطفل». وفي هذا الإطار، يرى لوك أنّ الحرية المفرطة لا تناسب الأطفال، إذ إنهم يفتقرون بعدُ إلى القدرة الكافية على الحكم، ما يستدعي حاجتهم إلى التوجيه والانضباط، على أن يُترك لهم التفكير تدريجيًا مع نضجهم، لنقاربهم عندها برفق أكبر.(19)

وبهذا المعنى، يصبح التعليم سلاحًا ذا حدين؛ فهو يحمل في طيّاته نعمةً وخطرًا في آن واحد. إذ يمكنه أن يوجّه الإنسان نحو مصلحته الحقيقية، كما يمكنه – إذا أسيء استخدامه – أن يبعده عنها. وإذا أسقطنا هذا الرأي على واقع التعليم في الولايات المتحدة، تبيّن أنّ هناك مواضع للقلق، إذ لا يُعِدّ الأفراد إعدادًا كافيًا للمشاركة الواعية في تحقيق مصالحهم الاقتصادية ضمن نظامٍ ليبرالي قائم على السوق الحر. فهذا النظام يفترض أن كل فرد سيتصرّف بما يحقّق مصلحته، غير أنّ هذا الافتراض ينهار عندما تُستغل ثغرات التفكير البشري أو يبقى المستهلكون أسرى الجهل. وحينها، تفشل "اليد الخفية" في أداء وظيفتها، لأن القرارات لا تُبنى على إدراك حقيقي للمصلحة. والأسوأ من ذلك أنّ بعض الشركات قد تلجأ إلى القوانين لإخفاء المخاطر، أو تستعين بأساليب نفسية للتأثير على الأفراد، فتدفعهم – من غير إكراه مباشر – إلى التصرف على نحوٍ يناقض مصالحهم. عند هذه النقطة، يغدو إصلاح التعليم، ومواجهة الجهل الممنهج، أولوية قصوى أمام المربّين وصنّاع السياسات التعليمية.(20)

في مفهوم جون لوك، يجب أن تتجلى التربية الرامية إلى كمال العقل البشري في أربعة عوامل رئيسية: الفضيلة، والحكمة، والأدب أو اللياقة، والتعليم. فالفضيلة هي الصفة الأساسية التي ينبغي أن يتحلى بها كل إنسان، إذ تساعد الفرد على كسب احترام ومحبة الآخرين، وعلى الرضا عن نفسه. كما تمثل الفضيلة ضبط الذات وكبح الرغبات التي لا يقرها العقل. أما الحكمة، فتقوم على الانفتاح والعدل وحسن التمييز، ويقول لوك: «تساعد هذه الصفة الإنسان على إدارة الأمور بمهارة وبصيرة مستقبلية، وهي نتيجة خليط من الطبيعة الصالحة، إلى جانب توجيه العقل بالخبرة». ويأتي العامل الثالث، وهو الأدب أو اللياقة، فيتجلّى عبر التوازن بين السلوك الاجتماعي المقبول وتجنّب الإفراط في الخجل أو الحرج أو الإهمال، أي كل ما يعكس قلة احترام الآخرين.(21)

غير أنّ هذه المبادئ التربوية لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا إذا أُدرجت ضمن رؤية فلسفية واعية للتعليم والمجتمع. فنحن اليوم بحاجة إلى أداة نواجه بها المعتقدات الاجتماعية السائدة – أو الفلسفات – التي قد تكون ترسّخت أو انحرفت أو أسيء فهمها؛ ومن ثمّ، فنحن بحاجة من جديد إلى الفلسفة. فإذا أردنا سنّ سياسات تعليمية تُفيد الطلاب وتوقف تلك التي تضرّ بهم، فلا يكفي أن نتجادل حول هذه السياسات في ذاتها، بل يجب أن نغيّر طريقة تفكير الطلاب، وأولياء الأمور، وصانعي القرار، والمجتمع بأسره حيالها. أي أننا، باختصار، يجب أن نمارس الفلسفة. فمن دون هذا الوعي الفلسفي، سنظل ننتقل كمجتمع من مبادرة إلى أخرى، ومن سياسة إلى أخرى، دون بوصلة فكرية واضحة، مكتفين بحساب المنافع الظاهرة، من غير أن نتأمل في المبادئ التي تولد منها تلك السياسات. وعليه، تقع على الإداريين وقادة التعليم مسؤولية الغوص في فلسفات الماضي والحاضر، حتى يتمكّنوا من قيادة المجتمع نحو مستقبل يقوم على حكم رشيد يتولاه أناس مخلصون ومتفكّرون. (22) وكما يُقال بحق: «فحيثما يتوقف التفكير، يبدأ الانحدار؛ وحيثما تُستعاد الفلسفة، تُستعاد إنسانيتنا».

وفي هذا السياق، لا عجب أن يُعَدّ جون لوك، في نظر المؤرخين والمنظّرين البريطانيين في التربية، من «المربّين العظام» إلى جانب أعلام كأفلاطون وروسو وبيستالوتسي وديوي، إذ جمع بين الفلسفة والتجديد التربوي والتأثير العملي المستدام. وقد حظيت أعماله بانتشار واسع وتحليل متعمّق في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، بينما لم تشهد بولندا الاستقبال نفسه. ويرى روبرت رَسك أنّ ما يوحّد كبار المفكرين التربويين هو إدراجهم نظرياتهم في وصف العملية التعليمية، وربطهم بين الفكر الفلسفي والابتكار النقدي أو الثوري، فضلًا عن تجلي أفكارهم بفاعلية في الممارسة واستمرار أثرها عبر الزمن. ومن هنا تبرز أهمية دراسة لوك، ليس فقط لذاته، بل لما بشّرت به أفكاره من تحولات تنويرية في مجال التعليم.(23)

وتتضح هذه الرؤية أكثر إذا أخذنا بتفسير ب. شولز، الذي يرى أنّ فلسفة لوك التربوية تتضمن أربعة مبادئ مترابطة: (1) الطاعة بوصفها ضبطًا للرغبات تحت إشراف مربّين عقلانيين، (2) إخضاع الرغبات لحكم العقل باعتباره جوهر الفضيلة، (3) تعويد الطفل على أن يكون إشباع الرغبة مرهونًا بتحقيق السعادة الحقيقية، و(4) بلوغ غاية هذه العملية عبر تنمية الاستقلالية. ويشير شولز إلى أنّ الإكراه الخارجي في التعليم عند لوك ليس غاية في ذاته، بل وسيلة مؤقتة لتدريب الطفل على الانقياد للعقل، بما يحقق مفهوم الحرية كقدرة على الفعل أو الامتناع وفق توجيه العقل. وبهذا، يصبح التعليم عند لوك مزيجًا من الانضباط المفروض ودور الوالدين كأوصياء مسؤولين، في سبيل إعداد الطفل لمرحلة النضج وتحمل المسؤولية الذاتية. (24)

المحور الثالث: تعليم الفلسفة للأطفال

يُعَدّ برنامج «الفلسفة للأطفال»، الذي أسّسه البروفيسور ماثيو ليبمان عام 1974 عبر «معهد النهوض بالفلسفة للأطفال» (IAPC) في كلية مونتكلير بولاية نيوجيرسي، من أبرز النماذج التربوية التي جمعت بين النظرية والتطبيق في ميدان تعليم التفكير. فقد قام البرنامج على سلسلة من الروايات الفلسفية المصمَّمة خصيصًا للأطفال من سن الثالثة وحتى البلوغ، مدعومة بأدلة إرشادية للمعلمين، بما يتيح لهم تيسير الحوار الفلسفي داخل الفصول الدراسية. ووفقًا لتقدير ستيرنبرغ (1984)، يُعدّ هذا المشروع من أنجح المبادرات في تنمية مهارات التفكير النقدي القابلة للنقل، نظرًا لما خضع له من تطوير وتقييم منهجي مستمر على مدى خمسةٍ وعشرين عامًا. ومن ثمّ، أسهم البرنامج في ترسيخ مكانة الفلسفة في التعليم المدرسي، بوصفها أداةً لتعزيز التفكير التأملي والحوار الفلسفي لدى الأطفال، وإغناء النقاشات التربوية حول مفاهيم التفكير والتعليم.(25)

غير أنّ هذه المبادرة تطرح في الوقت ذاته سؤالًا جوهريًا حول وظيفة التعليم: إذا كان الهدف الأسمى للعملية التعليمية هو تنمية مهارات التفكير لدى الأجيال الناشئة، فلماذا ما يزال النظام التعليمي يُخرِج أعدادًا كبيرة من الأفراد الذين يفتقرون إلى القدرة على التفكير النقدي؟ إنّ بناء هذه المهارات لا يمكن أن يُترك إلى مرحلة متأخرة، بل يجب أن يبدأ مبكرًا قبل أن تترسخ أنماط التفكير السلبية أو غير الواعية. ومن هنا تبرز أهمية أن يصبح التفكير المستقل والفعّال عادةً أصيلة لدى المتعلم منذ سنواته الأولى، بما يضمن أن التعليم قد حقق إحدى أهم غاياته.(26)

وانطلاقًا من هذا التصور، يُعرّف ماثيو ليبمان "الفلسفة للأطفال" بأنها منهج تعليمي يهدف إلى ترسيخ مهارات التفكير النقدي والحُكم الرشيد لدى الطلاب، مع التركيز على الطبيعة الجدلية للتفكير والعقلانية. وهنا يتجاوز التفكير مجرد أداة معرفية إلى أن يصبح موضوعًا بحد ذاته للتحليل والنقد ضمن إطار استقصائي يتسم بالمرونة وتعدد وجهات النظر. ولصياغة رؤيته، استعان ليبمان بمفهوم "مجتمع الاستقصاء" الذي صاغه تشارلز ساندرز بيرس، ليقدّم نموذجًا مثاليًا للبحث الجماعي عن المعرفة يقوم على التفاعل البنّاء وتبادل الأفكار والخبرات. وبذلك، يغدو هذا المجتمع إطارًا معرفيًا وأخلاقيًا في آن واحد: معرفيًا عبر ترسيخ التفكير العقلاني الجماعي، وأخلاقيًا عبر إرساء قيم الديمقراطية والاحترام المتبادل.(27)

ويتقاطع هذا التصور مع فكرة التعلم الاجتماعي الذي يُعدّ من الركائز الأساسية في بناء بيئات تعليمية نشطة وفعّالة. فالتعلم الاجتماعي لا يقتصر على نقل المعرفة، بل يعزّز مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات، ويقوي القدرة على التواصل والتعاون في سياقات متنوعة. وتتجلى أنماطه في ثلاث صور رئيسية: التعلم الجماعي التعاوني الذي يقوم على تحقيق أهداف مشتركة، والتعاون الصفي التعاوني الذي يفعّل النقاشات الجماعية ومجتمعات الاستقصاء، والتعاون بين الأقران الذي يركز على التفاعل المباشر بين الطلاب في مجموعات صغيرة أو أزواج.(28)

وإذا ما نظرنا إلى هذه الأنماط من زاوية معرفية أوسع، أمكن ربطها بمفهوم "الذكاء الموزع" أو "الإدراك الموزع"، الذي يفترض أن الذكاء البشري يبلغ ذروته عندما يتوزع عبر ثلاثة أبعاد: التفاعل الاجتماعي، الأدوات المادية، والأنظمة الرمزية المشتركة. وبذلك لا يُختزل التفكير في العمليات الذهنية الفردية، بل يتحقق من خلال التفاعل الديناميكي بين الذات والآخرين، وبين الفرد والوسائط الثقافية والمادية. وهنا يتضح أنّ الذكاء ليس خاصية داخلية فحسب، بل هو أيضًا قدرة على تعبئة الموارد الاجتماعية والثقافية من أجل إنتاج المعرفة وتوظيفها.(29)

ومن هذه الزاوية، يلتقي برنامج «الفلسفة للأطفال» مع نظرية "الذكاء الموزع" التقاءً مباشرًا؛ فهو يوفّر بيئة صفية تعمل كمجتمع استقصاء حيّ، يدمج التفاعل الاجتماعي مع الوسائط المادية والرمزية، ويعزز التفكير النقدي والتعاون المعرفي لدى المتعلمين. وتتجلّى هذه العملية في ثلاثة محاور أساسية للتفكير الفلسفي: التفكير في التفكير، الذي يركّز على فحص طبيعة المعرفة وحدودها، والتفكير النقدي، الذي يختبر سلامة الاستدلالات وقوة المبررات، والتفكير الإبداعي، الذي يسعى إلى ابتكار رؤى جديدة لفهم العالم.(30)

يمكن تلخيص التفكير الفلسفي في ثلاثة محاور رئيسية تبرز أدواره المتنوعة:

أولًا، التفكير في التفكير (البُعد المعرفي والتقييمي وتنظيم الذات)، ويتمثل في التأمل في طبيعة المعرفة ذاتها، وطرح أسئلة جوهرية مثل: ما الذي نعرفه حقًا؟ وما معنى أن نعرف شيئًا؟ ما الذي نسعى لمعرفته؟ وكيف نتحقق من صحة ما تعلمناه؟.

ثانيًا، التفكير النقدي، وهو الذي يركّز على فحص جودة التفكير وتقييم مدى منطقيته، من خلال أسئلة مثل: هل قدّمنا مبررات واضحة ومقنعة لأفكارنا؟ وهل ترتكز هذه المبررات على أسس منطقية متماسكة؟.

ثالثًا، التفكير الإبداعي أو البنّاء، الذي يعنى بابتكار تصورات ورؤى جديدة تساعد على فهم العالم والتجربة الإنسانية بعمق أكبر، بحيث لا تقتصر الفلسفة على تحليل ما هو قائم، بل تتجاوزه إلى اقتراح مسارات أصيلة للتفكير فيه.(31)

وانطلاقًا من هذه المحاور، تمثل "الفلسفة للأطفال" إطارًا عمليًا لتفعيلها جميعًا، إذ تتيح للطلاب التأمل في أفكارهم، وتدربهم على النقد المنطقي، وتشجعهم على ابتكار رؤى جديدة تُثري فهمهم للعالم من حولهم. غير أن هذه البرامج لا تكتفي بتعزيز التفكير فحسب، بل تسعى أيضًا إلى ربطه بالوعي الأخلاقي، بحيث يصبح العقل أداة للبناء الإنساني القائم على الخير والمسؤولية، لا للجدل المجرد وحده.(32)

ومن هنا، فإن فلسفة الأطفال تتجاوز البعد المعرفي لتغرس قيمًا أخلاقية راسخة، مثل الاهتمام بالآخرين وتنمية روح التعاطف، فضلًا عن ترسيخ الفضائل الديمقراطية، كالتناوب في الأدوار والمراجعة الذاتية والنظر إلى القضايا من زوايا متعددة. ويقوم جوهر هذه الفلسفة على مبدأ "مجتمع الاستقصاء"، الذي يوفّر بيئة عملية حية تُمارَس فيها هذه القيم يوميًا، فيكتسبها الأطفال بصورة طبيعية ومتجذّرة.(33)

على النقيض من ذلك، يركّز التعليم التقليدي في المدارس غالبًا على المهارات الأساسية — كالقراءة والكتابة والتهجئة — بأسلوب نمطي وآلي، دون تحفيز حقيقي على التفكير العميق أو التأمل. هذا النهج يخلق فجوة غير صحية بين فعل القراءة وبين تفاعل الأطفال مع ما يقرؤونه. وحتى هذه المهارات الأولية يمكن الارتقاء بها إذا مورست ضمن إطار تأملي للتعلم؛ فالطفل الذي يكتفي باستخدام الكلمات أو حفظ الحقائق دون التفكير فيها، يبقى ذكاؤه محدود الأفق وتفكيره أسير أنماط جامدة تقلل من قدرته على الابتكار.(34)

وفي لحظة ما من حياتنا، نقف أمام أسئلة كبرى مفتوحة بلا إجابات نهائية، وهنا تبرز الفلسفة كأداة تعليمية لا نظير لها، تمنح الطلبة تجارب معرفية عميقة وذات مغزى. فبينما قد تتضمن المواد الدراسية الأخرى بعض التحليل النقدي أو التفكير المنطقي، فإن الفلسفة وحدها تُسخّر هذه القدرات لتغذية التساؤل والنقاش حول القضايا الجوهرية للحياة الإنسانية. ومن خلال ممارستها، يتحول التعلم الأكاديمي إلى رحلة شخصية تنمّي العقول وتصقل الذوات.(35)

وهكذا، تصبح الفلسفة للأطفال أكثر من مجرد درس في التفكير؛ إنها مساحة حية يتعلم فيها الصغار كيف يعيشون بأسئلة مفتوحة وقلوب يقظة وعقول حرة. لذلك، فهي ليست مجرد مجموعة مهارات يمكن تعويضها بدروس في تحليل النصوص أو التفكير النقدي؛ بل تجربة تعليمية شاملة تُقدَّم عبر الحوار، وتجمع بين مهارات الاستدلال وفهم المقروء والنقاش، وتُحوّل المبادئ التربوية من شعارات إلى ممارسات حية، تنمّي عقلًا ناقدًا، وخيالًا مبدعًا، وضميرًا أخلاقيًا يقظًا.(36)

ومن خلال التأمل الفردي والجماعي، تُتاح للطلبة فرصة مراجعة افتراضاتهم وتحيزاتهم الضمنية، والنظر في آرائهم وآراء الآخرين، واستكشاف وجهات نظر متعددة حول القضايا المطروحة. وبهذا ينفتح أمامهم فضاء فكري رحب يمنحهم الجرأة على التعبير عن مواقف نقدية واعية، وهي مهارة جوهرية لكل مواطن فاعل في مجتمع ديمقراطي. (37)

ولذلك، فإن الفلسفة لا تكتفي بتعليم الطلبة كيفية الإجابة عن الأسئلة، بل تُدرّبهم على أن "يسائلوا الإجابات" نفسها. ففي حين تركّز أغلب المواد الدراسية على تقديم أجوبة محددة ومغلقة، يتيح التعليم الفلسفي للطلبة حرية طرح الأسئلة بأنفسهم، والتشكيك في الافتراضات، والانخراط في تساؤلات لا تنتهي بحلول نهائية، بل تفتح أمامهم آفاقًا أوسع للنقد والحوار والإبداع الفكري.(38)

ومن هذا المنطلق، تهدف دروس الفلسفة للأطفال إلى تطوير قدراتهم على ثلاثة محاور رئيسية مترابطة:

1- المحور المنهجي: تعزيز المهارات اللغوية، بما في ذلك القدرة على التحدث والاستماع بفاعلية، وتحسين التعبير عن الأفكار بوضوح وتنظيم.

2- المحور المعرفي: تنمية مهارات التفكير النقدي والتحليلي، مع التركيز على التفكير المنطقي واللفظي، وتشجيع الطلاب على طرح الأسئلة بوعي وذكاء.

3- المحور الأخلاقي والاجتماعي: مكافحة التحيز وتنمية التفكير المنفتح، وتعزيز التسامح وتقبل وجهات النظر المختلفة، إلى جانب رفع الثقة بالنفس في التفكير المستقل، وتحفيز الشعور بالمسؤولية تجاه الأفكار والسلوك..(39)

ومن خلال التكامل بين هذه المحاور الثلاثة — المنهجية والمعرفية والأخلاقية — يُهيّأ الأطفال لاكتساب مهارات معرفية ولغوية، وفي الوقت نفسه لتشكيل شخصية متوازنة، قادرة على التفكير الفلسفي النقدي، واستكشاف القيم، والمشاركة الواعية والمسؤولة في المجتمع. وهكذا يتضح أن الفلسفة للأطفال لا تقتصر على كونها تدريبًا ذهنيًا مجردًا، بل تمثل منظومة تربوية شاملة تُسهم في تنمية العقل، وتعزيز الأخلاق، وتشجيع المشاركة الاجتماعية الفاعلة.

المحور الرابع: ادراج الفلسفة فى المناهج الدراسية

من هنا، يصبح إدراج الفلسفة في المناهج الدراسية ضرورة تعليمية ملحّة، إذ لا يقتصر دورها على تنمية مهارات التحليل والتفكير النقدي فحسب، بل يمتد أيضًا إلى بناء وعي متكامل لدى الطلاب يؤهلهم لمواجهة تحديات الحياة المعاصرة بحكمة ومسؤولية. كما يتيح لهم المشاركة الفاعلة واتخاذ القرارات الواعية، ليغدو دمج الفلسفة في التعليم أداة استراتيجية لتنشئة جيل قادر على التفكير النقدي والإبداعي في آن واحد.(40)

ورغم أن بعض الناس ما زالوا ينظرون إلى الفلسفة بوصفها شأنًا نظريًا بعيدًا عن الواقع، إلا أنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقضايا الإنسان اليومية. فكل فرد، في لحظة ما، يطرح أسئلة حول المعنى والعدالة والحقيقة والحرية. ومن هذا المنطلق، فإن إدماج الفلسفة في التعليم لا يقتصر على صقل مهارات التحليل والاستدلال، بل يضفي على التجربة التعليمية عمقًا وجوديًا، ويحوّل المعرفة إلى قيمة حيّة ذات مغزى، بدل أن تبقى مجرد مهمة مدرسية روتينية.

وفي ظل الضغوط التعليمية المعاصرة، مثل الاختبارات الموحّدة والمناهج المزدحمة، تزداد الحاجة إلى الفلسفة. فهي لا تُوازن بين الأهداف الآنية فقط — كتحسين النتائج الأكاديمية وصقل المهارات التحليلية — بل تسعى كذلك إلى بلوغ الأهداف الدائمة للتعليم: تنمية التفكير النقدي، وتحفيز الفضول، وتكوين مواطنين واعين قادرين على التعامل مع الشأن العام بوعي ومسؤولية. وقد بيّنت الدراسات الحديثة أن إدراج الفلسفة في العملية التعليمية يسهم بفعالية في تحسين الأداء الأكاديمي، وتطوير مهارات معرفية وشخصية متكاملة لدى الطلاب.(41)

وعليه، فإن إدراج الفلسفة في المناهج الدراسية ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة تربوية تلبي حاجات الطلاب في عالم متغير وسريع الإيقاع. فهي تُعدّهم ليصبحوا مفكرين مستقلين، قادرين على تحليل المعلومات بوعي نقدي، والانفتاح على وجهات نظر متعددة، والمشاركة النشطة والواعية في النقاش العام والحياة الاجتماعية.(42)

ويمكن إدخال الفلسفة إلى المدارس بعدة طرق عملية: فقد تُقدَّم كمادة مستقلة — إلزامية— تمنح الطلاب فرصة الانغماس في التفكير الفلسفي، أو تُدمَج عبر المناهج الدراسية الأخرى من خلال وحدات ومقاطع فلسفية تكشف البعد العميق للمعرفة، وتعمّق الفهم النقدي للمتعلمين. وتدعم منظمة «أفلاطون» (PLATO) في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب عدد من المراكز الإقليمية، جهود ترسيخ الفلسفة في التعليم قبل الجامعي، وتوفير الأطر الأكاديمية والمهنية اللازمة لذلك.(43)

وهكذا، لا تصبح الفلسفة مجرد مادة أكاديمية أخرى، بل أداة فاعلة لصقل مهارات التفكير النقدي، وتمكين الطلاب من مواجهة تحديات عصرهم بعقل منفتح وقدرة على التساؤل الواعي. وبذلك تتحول المنهجية الفلسفية إلى أكثر من مجرد تدريب على التفكير، إذ تمهّد الطريق لتكوين جيل واعٍ، قادر على المشاركة الفاعلة. وتتطلب الدراسة الفلسفية مستوىً معينًا من التأهيل الشخصي والذهني لدى الطالب، وقد حُددت المؤهلات الجوهرية لذلك في تسعة عناصر رئيسية:

1- فيفيكا (Viveka): القدرة على التمييز بين الحقيقة والمظهر.

2- فايراجيا (Vairagya): الزهد في المظاهر الخالية من الحقيقة.

3- ساما (Sama): سكون النفس وطمأنينة الذهن.

4- داما (Dama): كبح النفس والتحكم في رغبات الحواس.

5- أوباراتي (Uparati): التحرر من الملهيات التي تصرف عن النشاط الأناني.

6- تيتيكشا (Titiksha): الصبر وقوة الاحتمال في مواجهة تقلبات الحياة.

7- شرادها (Sraddha): الإيمان واليقين بقيمة السعي الفلسفي ومعناه العميق.

8- سامادانا (Samadhana): القدرة على تركيز الذهن والانغماس في موضوع الدراسة.

9- موموكشوتفا (Mumukshutva): التوق الصادق إلى إدراك الحقيقة المطلقة.

ان غياب هذه المؤهلات يجعل الطالب أقرب إلى الضياع على طريق الفلسفة، عاجزًا عن بلوغ منهجها أو إدراك غاياتها السامية. ورغم صعوبة تحقيق هذا التهيؤ والانضباط، وعدم توقع الكمال فيهما، يبقى السعي الجزئي نحو اكتساب هذه المؤهلات شرطًا أساسيًا لنجاح المسعى الفلسفي. وإلا، فإن الفلسفة ستظل بالنسبة له نورًا باهتًا، يشبه الشمس التي لا تبصرها عينا الأعمى..(44)

المحور الخامس: استراتيجيات استيعاب النص الفلسفى

تعد القدرة على قراءة النصوص الفلسفية وفهمها بعمق حجر الأساس لأي طالب يسعى إلى النجاح في دراسة الفلسفة، إذ تمثل المفتاح الذي يفتح أبواب التأمل النقدي والحوار الفلسفي الحقيقي. يعاني العديد من الطلاب في أولى دروسهم الفلسفية من صعوبة في استيعاب المواد المقررة، فقد يجد القارئ نفسه مضطرًا لإعادة قراءة فقرة ما عدة مرات دون تكوّن فكرة واضحة عمّا يحاول الكاتب قوله، أو قد يضل الطريق بين الحجج والردود، وينسى أيها يمثل رأي الكاتب ذاته. ويمكن التغلب على هذه الصعوبات من خلال تتبّع الادعاءات والحجج الرئيسية في النصوص، ومع الممارسة المستمرة، يصل الطالب إلى مرحلة يمكنه فيها التأمل والتقييم والدخول في حوار نقدي مع المفاهيم الفلسفية المطروحة، وذلك باستخدام الاستراتيجيات الموضحة التالية:

1- تهيئة مكان للقراءة:

تهيئة بيئة مناسبة للقراءة تمثل عاملاً أساسيًا في تعزيز التركيز وزيادة قدرة الاستيعاب. فالجلوس على طاولة مناسبة مع كرسي مريح، بدلًا من القراءة على الأريكة أو السرير، يرفع مستوى الانتباه. ويُستحب الاحتفاظ بمشروب بجانب القارئ وتجنب مصادر التشتت مثل التلفاز أو الموسيقى المرافقة بكلمات. يختلف الأمر بين الأفراد، فقد يجد بعضهم أن الضوضاء الخفيفة مثل صوت مقهى أو مكتبة تُحفّزهم على التركيز، بينما يشكلها آخرون مصدر تشويش. كما قد يفضل البعض الاستماع إلى موسيقى هادئة، بينما يحتاج آخرون إلى صمت كامل. الهدف هو اكتشاف البيئة المثلى التي تدعم الانغماس الفعال في القراءة.(45)

- أدوات التعليق والتدوين

لتسهيل دراسة النصوص الفلسفية، من الضروري ضبط البيئة أولًا واختيار أدوات مناسبة للتعليق التوضيحي. يُنصح بتسجيل الملاحظات، وتسليط الضوء على الفقرات المهمة، ووضع إشارات على مواضع محددة في النص. من الأفضل العمل على نسخة قابلة للتعديل، أو استخدام قلم رصاص للنصوص المطبوعة. كما يمكن استخدام تعليقات هامشية مختصرة أو رموز مميزة لتصنيف عناصر النص (الفكرة الرئيسة، الأمثلة، الحجج، الإحالات، الأسئلة، الاقتباسات). وعند العمل رقميًا، توجد أدوات تتيح تدوين الملاحظات مباشرة، بما ينشئ خارطة بصرية للنص تساعد على الرجوع السريع إلى الحجج والمقاطع الأساسية دون الحاجة لإعادة القراءة الكاملة، ما يسهل التنقل داخل النص ويبرز جوهر العمل الفلسفي.(46)

- القراءة بوصفها تأويلاً للفهم

يُستَخدم لفظ "القراءة" للإشارة إلى جميع أشكال النشاط التي نسعى فيها إلى فهم الظروف، وكان معناه الأصلي "التأويل". فالقارئ يقرأ الطقس، وحالة المد والجزر، ومشاعر الناس ونواياهم، واتجاهات سوق الأسهم، وآثار الحيوانات، والخرائط، والرموز، والقوانين، والموسيقى، والرياضيات، ولغة الجسد، وما بين السطور، وقبل كل شيء يقرأ الوجوه. واستخدام مصطلح "القراءة" للإشارة إلى تفسير النص المكتوب يعد تطبيقًا خاصًا لمفهوم التأويل الذي نمارسه منذ الولادة، وما زلنا نمارسه باستمرار.(47)

من الضروري التمييز بين القراءة بوصفها عملية والقراءة بوصفها مهارة للفهم، إذ يمنح هذا التمييز القراءة خصوصيتها وفرادتها مقارنة ببقية المهارات اللغوية الأخرى، كالاستماع، والتحدث، والكتابة. فالقراءة تُعد مهارة مركبة تتضمن مجموعة من المهارات الجزئية؛ أبرزها القدرة على التعرف على الأشكال المكتوبة وتمييزها. غير أن القراءة لا تقتصر على إدراك الشكل وحده، بل تتجاوز ذلك إلى القدرة على التمييز بين المتشابه والمختلف. وبناءً على ذلك، تصبح القراءة نشاطًا ذهنيًا متكاملًا، يعيد فيه القارئ تنظيم معارفه السابقة لاستدعائها في فهم النص، ثم يسعى إلى صقل هذه المعارف وتوسيعها بالمعلومات الجديدة التي يقدّمها النص، مما يجعل عملية الفهم ديناميكية وتفاعلية، وليست مجرد استخراج للمعلومات.(48)

2- التفاعل مع النصوص الفلسفية

تهدف القراءة الفلسفية إلى إشراك القارئ في سلسلة من الأفكار والحجج، بحيث يمكنه تطوير فهمه الخاص للقضايا المطروحة. قد يؤدي هذا التفاعل إلى نقد موقف الكاتب أو تعديل منظور القارئ، مع الحفاظ على الهدف الرئيس: بلوغ فهم متجدد ومتعمق. على عكس النصوص الأخرى التي تركز على نقل المعلومات أو السرد، تسعى الفلسفة لتحفيز الفكر والتأمل.ينبغي قراءة النص بوتيرة تسمح بالتأمل المتأنٍ، مع تتبع تسلسل الحجج وربط الأفكار المتناثرة، دون التقيد بالترتيب السردي التقليدي. وقد يستلزم ذلك الانتقال بين مقاطع مختلفة لمقارنة المقولات وبناء فهم متماسك للنص.(49)

3- المناهج الفلسفية للفهم

يعتمد الفلاسفة مناهج متنوعة للوصول إلى الحقيقة، تشمل التحليل المفهومي، والمنطق، ودراسة المقايضات، مع الاستعانة بمصادر متعددة للأدلة مثل التاريخ، والحدس، والفهم المشترك، أو النتائج التجريبية المستمدة من تخصصات أخرى أو من الفلسفة التجريبية نفسها. وتركّز معظم الأعمال الفلسفية على تطوير موقف محدد عبر الحجاج؛ إذ تُستخدم الأدلة لدعم المقدمات وصولًا إلى النتيجة المنشودة، كما يلجأ المؤلف أحيانًا إلى أساليب متنوعة لبناء حجته وضمان تأثيرها الإقناعي(50).

4- مبدأ الإحسان في التأويل

مبدأ الحُسن أو الإحسان التفسيري هو مبدأ توجيهي يدعو القارئ إلى تفسير أقوال الكاتب بأكثر الطرق عقلانية وأفضلها ممكنًا، خصوصًا حين يكون الحجاج غامضًا أو غير واضح بسبب اختلاف السياق الزمني أو اللغوي. لا يعني هذا تجاهل الصعوبات أو الامتناع عن النقد، بل على العكس، يجب البحث عن تأويل يجعل أقوال المؤلف مفهومة منطقيًا ومتماسكة. وينبغي للقارئ افتراض أن جميع الكتاب، سواء من المصادر الأصلية أو الثانوية، مفكرون أذكياء لديهم ردود على الاعتراضات البسيطة أو الظاهرة، والعمل على اكتشاف هذه الردود ضمن شروط النص وسياقه، ومن ثم التفاعل معه نقديًا بأفضل صورة ممكنة من حججه(51).

5- العمل مع الديالكتيك

المنهج الجدلي أو الديالكتيك هو أسلوب للكشف عن الحقيقة عبر الحوار، يقوم على تبادل الأفكار للوصول إلى موقف يعكس الحقيقة بأدق صورة. كثيرًا ما يعرض الفلاسفة الآراء البديلة التي قد لا يتبنّونها، سواء لتمثيل المواقف المنافسة أو تقديم انتقادات لحججهم الخاصة، وهو ما يمنح الطالب فرصة استكشاف وجهات نظر متعددة وفهم أعمق للمسائل الفلسفية. عند قراءة نص جدلي، من الضروري تتبّع مسارات الحجج المختلفة بعناية، إذ لا تعكس كل حجة بالضرورة رأي المؤلف النهائي. بعض الآراء تُطرح للرفض لاحقًا أو لإظهار قصورها، وتتبع التبادل الجدلي بين وجهات النظر المتعارضة يصبح أساسيًا لفهم خط الحجة الذي يعتمد عليه الكاتب في نهاية المطاف(52).

6- القراءة المسبقة

قبل الانغماس في التفاصيل، يُنصح بالبدء بالقراءة الاستطلاعية أو المسبقة، وهي خطوة تمهيدية تتيح تكوين صورة شاملة عن النص، وفهم عناصر المقال أو الكتاب أو الفصل، ومعرفة السياق العام. تساعد هذه المرحلة على تنظيم القراءة لاحقًا، وتيسّر استيعاب الأفكار والحجج المعقدة دون فقدان التركيز أو التشوش بين التفاصيل الدقيقة.

7- العنوان والمؤلف والنشر

يُعدّ العنوان واسم المؤلف من العناصر الأولية لفهم طبيعة العمل الفلسفي. من المفيد معرفة تاريخ كتابة النص، والجهة الناشرة—سواء كانت دار نشر أكاديمية متخصصة أو جماهيرية—بالإضافة إلى مكان العمل ضمن مجمل إنتاج المؤلف، وخلفيته الفكرية، وأبرز إسهاماته في الفلسفة(53).

يشكّل العنوان العنصر الأهم في أي مقال علمي، فهو المؤشر الرئيس لموضوعه، ويُستخدم من قبل الباحثين لتحديد مدى صلته بموضوع البحث. كما يسهل العنوان تصفح المصادر في المكتبات، وقوائم الدوريات، والفهارس، وقواعد البيانات، والمراجع المختلفة. إضافة إلى ذلك، يلعب العنوان دورًا تسويقيًا، إذ تتنافس المقالات المنشورة سنويًا في كل تخصص على جذب القراء. لذلك، ينبغي أن يكون العنوان واضحًا، محددًا، ويثير اهتمام القارئ منذ البداية(54).

8- جدول المحتويات والمراجع

ابدأ بتكوين مخطط ذهني للعمل من خلال التمعّن في فهرس المحتويات، الموجود عادةً في مقدمة الكتاب. إذا كان العمل قصيرًا، تصفّح المقالة سريعًا مع التركيز على العناوين الفرعية والفواصل بين الأقسام. عندما تكون العناوين واضحة وموسومة، قد تُتيح لك وحدها تتبّع مجرى المقال من خلال قراءتها فقط. أما إذا كانت العناوين غير مفيدة أو غائبة، فاقرأ الفقرة الأولى والأخيرة بسرعة وحدد الجمل أو الكلمات المفتاحية التي تعكس موضوع كل فقرة، للحصول على تصوّر عام لمسار الحُجّة الكلية في النص.

يُعدّ الاطلاع على جدول المحتويات والفهرس خطوة أولى مهمة لتكوين تصور شامل عن العمل الفلسفي. في الكتب الطويلة، يتيح الفهرس متابعة مجرى الحُجّة من خلال العناوين الفرعية، بينما في الأعمال القصيرة أو المقالات، يمكن قراءة الفقرة الأولى والأخيرة بسرعة لتحديد الكلمات أو الجمل المفتاحية التي تلخّص موضوع كل قسم.(55)

9- القراءة الأولية

تُعدّ القراءة الأولى خطوة تمهيدية أساسية لفهم مجرى الحُجّة العامة في النص الفلسفي، مع ضرورة الاستعداد لعدة قراءات لاحقة للتفاعل النقدي العميق. ينبغي الاستمرار بخطى منظمة، مستفيدًا من المعلومات المستخلصة خلال مرحلة الاطلاع التمهيدي لسدّ الثغرات المعرفية، مع تحديد المواضع التي تتطلب مراجعة أعمق أو تحليلًا إضافيًا.

10- تحديد المطالبات الأولية

أثناء القراءة الأولية، يجب التركيز على تحديد الادعاءات الجوهرية للنص. ففي المقالات الأكاديمية التقليدية، تتضح هذه الادعاءات غالبًا في المقدمة أو الملخّص، بينما في الأعمال الفلسفية التاريخية قد يستلزم الأمر تدقيقًا أكبر. يساهم الانتباه إلى العبارات التمهيدية مثل: "أهدف إلى أن أُبيّن"، أو "ما سيعرضه هذا الفصل هو"، في تسهيل الرجوع إليها لاحقًا وفهم الهدف الرئيس من النص(56).

11- تحديد مصادر الأدلة ومناهج الحجج

ينبغي على القارئ التركيز على الأدلة التي يستند إليها المؤلف لدعم الادعاءات الرئيسة، مع تحديد الأساليب المستخدمة، سواء كانت حججًا منطقية، تجارب فكرية، تحليلًا مفاهيميًا، أو أدلة تجريبية. كما يجدر تتبع الطابع الجدلي للحجج: هل يعرض المؤلف رأيه الشخصي، أم يعرض وجهات نظر منافسة وينتقدها أو يدافع عنها؟ تساعد هذه الملاحظة على فهم بنية الحجة ومسارها.

12- استخدام علامات التعليق

تُعدّ إشارات التعليق أداة فعّالة لتتبع مسار الحُجّة والادعاءات في النص. يوصى بتطوير نظام تدوين بسيط يشمل عناصر مثل: الأطروحة، التعريف، الادعاء، الدليل، الحجة، الحجة المضادة، الاعتراض، الرد، والأسئلة. تساعد هذه العلامات أيضًا على تحديد الكلمات أو الأفكار غير المفهومة، مع مراعاة تعديلها أو مراجعتها خلال القراءات اللاحقة، بما يضمن تعميق الفهم التدريجي للنص(57).

13- القراءة التفاعلية

تُركز القراءة التفاعلية على الانغماس العميق في الأفكار والحجج الفلسفية، مع ممارسة التفكير النقدي والتقييم الواعي للنص، بدل الاكتفاء بالقراءة السطحية أو التلخيص. ينبغي للقارئ أن يسير خطوة بخطوة مع مسار الحُجّة، مع الرجوع إلى الأسئلة والملاحظات التي وُضعت خلال القراءة التمهيدية أو الأولى، ومراجعة المصطلحات والمفاهيم غير الواضحة.

تتيح القراءة البطيئة والواعية الانتقال من القارئ السلبي إلى المحاور النشط للنص، من خلال طرح أسئلة حقيقية مثل: هل الأدلة كافية؟ هل الحجة منطقية؟ هل هناك تعارض مع مفاهيم أخرى؟ وإذا وُجد اعتراض، فيُسجَّل في الهامش لتوضيح موقفك الشخصي. لا يشترط اليقين الكامل بالاعتراض، بل المهم محاولة صياغته بدقة، لما لذلك من أثر على:

1- فهم النص بعمق أكبر.

2- تمييز موقفك الفكري الخاص عن محتوى المؤلف.

3- تطوير القدرة على التحليل والنقد الفلسفي.(58)

بهذه الطريقة، تتحوّل القراءة إلى نشاط فكري نشط يُعدّ القارئ لمناقشة النص وكتابة أفكار فلسفية مُحكمة. القراءة الدقيقة (Close Reading) ليست هدفًا بحد ذاتها، بل وسيلة لدخول حوار فلسفي متكافئ مع المؤلف، بحيث تصبح شريكًا في الفلسفة لا مجرد متلقٍ للمعلومات، مع تعزيز مهارات التفكير المنطقي والنقدي والكتابة الأكاديمية المحكمة.(59)

المحور السادس: ارشادات لدارسى الفلسفة

1- التعامل مع النصوص الفلسفية

تقوم الفلسفة على الأفكار والحجج، والهدف من القراءة هو التفاعل معها للوصول إلى فهم شخصي للقضايا المطروحة. ليست القراءة بالضرورة متسلسلة كسرد الروايات، بل الأهم هو تتبع تسلسل الأفكار والحجج المنطقية. يُستحسن أن يتمكن القارئ من تمييز أساليب بناء الحُجج ومصادر الأدلة، لتقييم النص بفاعلية. وتشمل المراحل الرئيسة للتعامل مع النصوص: القراءة التمهيدية، القراءة الأولى، والقراءة المتعمقة، ما يساعد الطلاب على فهم المحتوى المعقد بطريقة منظمة وفعّالة.

2- الكلمات المفتاحية والمصطلحات الأساسية

تعد المصطلحات الفلسفية والمفاهيم الأساسية أداة أساسية لفهم النصوص وتحليلها، ومن أبرزها:

1- التوازن التكيّفي (Allostasis): العملية البيولوجية التي يُعدّ فيها الجسم نفسه لتلبية الاحتياجات المتوقعة، بما يتجاوز مجرد الحفاظ على حالة استقرار، لتشمل الاستجابة الاستباقية للتغيّرات المحتملة.

2- انحياز التثبيت (Anchoring Bias): ميل الأفراد إلى الاعتماد على قيمة أولية عند تقدير الأمور، بحيث تؤثر هذه القيمة بشكل غير متناسب على الأحكام اللاحقة.

3- اختصار الإتاحة (Availability Heuristic): النزعة إلى تقييم المعلومات الجديدة استنادًا إلى الأمثلة الأحدث أو الأسهل في التذكّر، مما يؤدي إلى تحيّز في الحكم.

4- مغالطة التقليد أو الانقياد للجمهور (Bandwagon Fallacy): الاعتقاد بأن علينا القيام بشيء أو تبنّي معتقد معين لأن عددًا كبيرًا من الناس يفعله أو يؤمن به.

5- التحيز المعرفي (Cognitive Bias): نمط منهجي في التفكير ينحرف عن الحكم العقلاني أو المنطقي استنادًا إلى الحقائق والاحتمالات المتاحة.

6- علم الإدراك (Cognitive Science): الدراسة العلمية للدماغ والآليات الكامنة وراء التفكير والإدراك والذاكرة والعاطفة ووظائف عقلية أخرى.

7- انحياز التأكيد (Confirmation Bias): ميل الأفراد إلى البحث عن المعلومات التي تؤيد معتقداتهم القائمة، وتفسيرها وتذكّرها وتفضيلها على غيرها.

8- الديالكتيك (Dialectic): طريقة لاكتشاف الحقيقة من خلال الحوار وتبادل وجهات النظر المختلفة، بهدف التوصل إلى موقف أقرب إلى الصواب.

9- تأثير دانينج- كروجر (Dunning- Kruger Effect): انحياز إدراكي يجعل الأشخاص قليلي الخبرة يقيّمون معرفتهم أو كفاءتهم بمستوى أعلى من الواقع مقارنة بمن هم أكثر خبرة.

10- التواضع المعرفي (Epistemic Humility): موقف فلسفي أو علمي يعترف بحدود قدرة الإنسان على معرفة الحقيقة أو الواقع بصورة مباشرة أو كاملة.

11- مغالطة المقامر (Gambler’s Fallacy): الاعتقاد الخاطئ بأن الأحداث العشوائية تتأثر ببعضها البعض، كأن يُظنّ أن نتيجة لم تحدث مؤخرًا أصبحت أكثر احتمالًا الآن.

12- الاختصارات الذهنية (Heuristics): قواعد بسيطة أو اختصارات ذهنية تُستخدم لحل المشكلات بكفاءة، وإن لم تكن دائمًا مثالية أو دقيقة.

13- الاتزان الداخلي (Homeostasis): عملية بيولوجية تنظم بها الأجسام حالتها الداخلية للحفاظ على التوازن والاستقرار.

14- الاستدلال (Inference): العملية الذهنية التي يتم فيها الانتقال من مجموعة من المعلومات أو المقدمات إلى استنتاج أو توقع منطقي.

15- ما وراء المعرفة (Metacognition): عملية التفكير في التفكير ذاته، وتشمل الوعي بالعمليات العقلية ومراقبتها وتنظيمها وتحليلها نقديًا.

16- مبدأ حسن الظن (Principle of Charity): مبدأ تأويلي يدعو القارئ إلى فهم أقوال الكاتب بأفضل طريقة ممكنة وأكثرها عقلانية.

17- التمثل العقلي (Representation): وحدة تحمل معلومات تُستخدم في التفكير؛ وهي الموضوعات التي تتناولها العقول حين تمارس التفكير.

18- تقوية الحجة المعارضة (Steelmanning): استراتيجية تقوم على عرض وجهة النظر المعارضة بأقوى صورة ممكنة لجعل الرد عليها أكثر إنصافًا وعمقًا.

19- مغالطة التكاليف الغارقة (Sunk- Cost Fallacy): الخطأ في تقدير قيمة شيء ما على نحو مبالغ فيه لمجرد أن الفرد قد استثمر فيه وقتًا أو جهدًا أو عاطفة مسبقًا.

20- القبلية (Tribalism): ميل الإنسان إلى محاذاة معتقداته ومواقفه مع جماعات تشاركه ممارسات أو أفكارًا أو قِيَمًا معينة.(60)

تساعد هذه المصطلحات الطلاب على تطوير فهم دقيق للنصوص وتحليل منهجي للأفكار المطروحة، مع ربطها بالسياق الفلسفي العام.

3- الممارسات المنهجية لدارسي الفلسفة

يمكن للطلاب تعزيز قدراتهم من خلال ثلاث ممارسات أساسية:

1- فكّر كفيلسوف: تنمية مهارات التفكير النقدي والتفاعل مع المفاهيم المركزية في الجدل الفلسفي، باستخدام تمارين تفاعلية أو إرشادات مكتوبة.

2- اكتب كفيلسوف: صياغة ردود مكتوبة وحجج مستندة إلى التفكير الشخصي، مع الالتزام بالهيكل المنطقي والوضوح في العرض.

3- اقرأ كفيلسوف: التفاعل العميق مع نصوص فلسفية أصلية، مع التركيز على العناصر الجوهرية وطرح الأسئلة النقدية لدعم الفهم التحليلي والتأمل الفلسفي.(61)

بهذه المنهجية، يصبح الطالب قادرًا على تطوير نفسه قارئًا وكاتبًا وباحثًا ومفكرًا متعمقًا، قادرًا على تقييم الأفكار الفلسفية وتحليلها بوعي نقدي ومنهجي.

الخاتمة

إن إدراج الفلسفة في العملية التعليمية ليس مجرد خيار أكاديمي، بل ضرورة تربوية تهدف إلى إعداد جيل قادر على التفكير النقدي واتخاذ القرارات الواعية والمشاركة الفاعلة في المجتمع. سواء من خلال تعليم الفلسفة للأطفال، أو دمجها في المناهج الدراسية، أو تطوير استراتيجيات فعّالة لفهم النصوص الفلسفية، فإن الفلسفة تمنح الطلاب أدوات معرفية وعقلية أساسية لمواجهة تحديات العصر. ومن خلال اتباع الإرشادات الممنهجة لدارسي الفلسفة، يمكن تحويل القراءة والتفاعل مع النصوص الفلسفية إلى ممارسة تنمي قدرات التحليل، والفهم، والتأمل، بما يسهم في بناء مفكرين مستقلين، ومواطنين واعين، وقادرين على المساهمة بشكل إيجابي في حياتهم التعليمية والاجتماعية.

وهكذا يتضح أن دراسة الفلسفة تمثل ركيزة أساسية في العملية التعليمية، لما توفره من أدوات فكرية وأخلاقية تنمي قدرات الطلاب على التفكير النقدي والتحليلي، وتمكنهم من مواجهة التحديات واتخاذ قرارات مدروسة. كما تسهم الفلسفة في توسيع آفاق المعرفة والوعي الاجتماعي، وتعزيز مهارات الإبداع والتأمل الشخصي، بالإضافة إلى تعليم الطلاب فن الحوار والتواصل الفعّال. ومن خلال ممارسة القراءة النقدية، والبحث المستقل، والتفاعل المنهجي مع الأفكار، يكتسب الطلاب القدرة على التعلم الذاتي المستمر، بينما يغرسون قيمًا أخلاقية وفكرية تؤهلهم للانخراط المسؤول والفعّال في المجتمع. وللمدرسين دور محوري في توجيه هذه الخبرات، إذ يمكنهم تحويل الفلسفة من مادة نظرية إلى أداة عملية لتشكيل جيل واعٍ، قادر على التفكير المستقل، والتحليل العميق، والمساهمة الفاعلة في بناء مجتمع معرفي متوازن وعقلاني.

وعليه تكمن أهمية الفلسفة للطلاب فى النقاط التالية:

1- تنمية التفكير النقدي والتحليلي: تساعد الفلسفة الطلاب على تقييم الأفكار والمعلومات بموضوعية، وتمكينهم من التمييز بين الحجج الصحيحة والناقصة.

2- تعزيز مهارات حل المشكلات واتخاذ القرار: من خلال دراسة المفاهيم الفلسفية، يصبح الطالب أكثر قدرة على مواجهة التحديات اليومية واتخاذ قرارات مدروسة.

3- توسيع آفاق المعرفة والوعي الاجتماعي: تربط الفلسفة بين المعرفة النظرية والقضايا الحياتية، فتسهم في بناء وعي متكامل لدى الطلاب تجاه المجتمع والعالم.

4- تحفيز الإبداع والتأمل الشخصي: تشجع الفلسفة الطلاب على استكشاف أفكار جديدة، والتفكير في المعنى والغاية من حياتهم وتجاربهم.

***

دكتور ابراهيم طلبه سلكها – أستاذ فلسفة

2025

....................

الهوامش

1- ROBERT FISHER: Philosophy for Children, fostering communities of philosophical enquiry and reflection in primary and secondary schools, A thesis submitted to Brunel University for the degree of Doctor of Philosophy (Published Work) in the School of Education, Brunel University, January 1996, p.39.

2- Oleksandr Kulyk: On the Possibility to Teach Doing Philosophy, ASIANetwork Exchange: A Journal for Asian Studies in the Liberal Arts, December 2018, p.4.

3- Ibid, pp.8- 9.

4- Loc- Cit.

5- Nicola Michaud: Why Philosophy is Important for Administrators in Education, Journal of Inquiry & Action in Education, 6(3), 2015, p.74.

6- Loc- Cit.

7- Ibid, p.75.

8- Nel Noddings: Philosophy of Education, Routledge, New York & London, 2018, p.99.

9- Nicolas Michaud, Op- Cit, p.75.

10- ROBERT FISHER, Op- Cit, p.39.

11- Nicolas Michaud, Op- Cit, p.75.

12- Ibid, p.76.

13- Ibid, pp.76- 77.

14- Ibid, p.77.

15- Ibid, p.78.

16- Ibid, p.79.

17- Ibid, p.81.

18- Huynh Thi Phuong Thuy: John Locke's Educational Ideology with Educational Innovation in Vietnam Today, Van Lang University, 2020, p.381.

19- Ibid, p.382.

20- Nicolas Michaud, Op- Cit, p.81.

21- Huynh Thi Phuong Thuy, Op- Cit, p.383.

22- Nicolas Michaud, Op- Cit, p.81.

23- Katarzyna Wrońska: John Locke and His Educational Thought Between Tradition and Modernity of Enlightenment, Pedagogika Filozoficzna on- line, 2018, p.73.

24- Ibid, p.77.

25- ROBERT FISHER, Op- Cit, pp.39- 40.

26- Ibid, p.40.

27- ROBERT FISHER, Op- Cit, pp.40- 41.

28- Ibid, p.41.

29- Ibid, p.42.

30- Loc- Cit.

31- Ibid, p.43.

32- Loc- Cit.

33- Ibid, pp.43- 44.

34- Ibid, pp.50- 51.

35- Why philosophy? Why now?, Philosophy Learning and Teaching Organization, http://plato.philosophy.org.

36- Loc- Cit.

37- Loc- Cit.

38- Loc- Cit.

39- ROBERT FISHER, Op- Cit, p.79.

40- Why philosophy? Why now?, Philosophy Learning and Teaching Organization, http://plato.philosophy.org.

41- Loc- Cit.

42- Loc- Cit.

43- Loc- Cit.

44- SWAMI KRISHNANANDA: The Philosophy of Life, The Divine Life Society, P.O. Shivanandanagar, India, pp.513- 514.

45- NATHAN SMITH: Introduction to Philosophy, OpenStax, Rice University, 2022, p.60.

46- Ibid, p.61.

47- FRANK SMITH: Understanding Reading, A Psycholinguistic Analysis of Reading and Learning to Read, Lawrence Erlbaum Associates, Publishers, Mahwah, New Jersey & London, 2004, p.1.

48- Ibid, pp.2- 5.

49- NATHAN SMITH, Op- Cit, p.61.

50- Ibid, pp.61- 62.

51- Ibid, p.62.

52- Ibid, pp.62- 63.

53- Ibid, p.63.

54- Jamali, H. R., and M. Nikzad: “Article Title Type and Its Relation with the Number of Downloads and Citations.” Scientometrics, vol.88, no.2, 2011, Springer, https://doi.org/10.1007/s11192- 011- 0412- z, p.653.

55- NATHAN SMITH, Op- Cit, p.63.

56- Ibid, pp.63- 64.

57- Ibid, p.64.

58- Loc- Cit.

59- Loc- Cit.

60- NATHAN SMITH, Op- Cit, pp.71- 72.

61- Ibid, p.2.

الفكر والحركة: الفكر هو حركة الجسم حسب تعبير هوبز بمعنى أن الفكر هو حركة تغيير مستمر من ألصيرورة والانتقالات المتطورة ضمن مدرك قانون قالبي الزمان والمكان العقليين التي لا تستنفد فيها حركة الفكر طاقتها المتغيرة التوليدية الذكية بسهولة ما دام الفكر ملازما الانسان في كل لحظة من حياته.

والفكر هو بشكل وآخر وعي قصدي ناتج عن توليد العقل له في تعبيره اللغوي عن موجود معيّن كموضوع حسي او خيالي. وخاصية العقل هي اللغة ذات المعنى في أدراك الموجودات والاشياء في العالم الخارجي، وخاصية تفكير العقل الجوّاني الصامت المستمد من مخيلة الذاكرة هوايضا لغة صورية هي ذاتها اللغة الصورية في تعبير العقل الحسّي عن الموجودات في الطبيعة وعالم الاشياء والمحيط، والصمت لغة تأمل العقل لمواضيعه الداخلية المستمدة من الخيال تفكيرا صوريا. عليه تكون جميع ادراكات العقل الحسية والخيالية لا تتم عقليا بغير تمّثلات العقل لها صوريا لغويا. ادراك الوجود لغة جسب مقولة سيلارز.

واللغة بلا موضوع لا معنى لها وأستحالة عقلية تلغي ذكاء الانسان في الوعي القصدي المنظّم لادراك الاشياء، ولا يمكن للعقل التعبير تجريدا لغويا بمعزل عن موضوع يدركه. اللغة بمفهومها المتداول في التعبير عن المدركات العقلية هي لغة صورية واحدة تقوم على أبجدية الحروف والمقاطع وأصواتها ومن ثم تليها الكلمة وتليها الجملة كألفاظ عن مدلولات بغية توصيل المعنى المطلوب عن مواضيع الادراك الخارجية ومواضيع الادراك المستحدثة من خيال الذاكرة على السواء.الادراك العقلي لأي شيء في الطبيعة أوفي الخيال لا يمكن التفكير والوعي العقلي به من غيرتمّثّلات اللغة له تجريدا صوريا.

وما لا يدركه العقل لا يمتلك لغة الافصاح عنه كموجود أو كموضوع. ولا يعني هذا مجاراة الخطأ المثالي المعروف لدى بعض الفلاسفة ما لا يدرك عقليا غير موجود.. فوجود الشيء في العالم الخارجي مستقل عن أدراكه الحسي والتعبير اللغوي عنه. وجود الشيء لا يتلازم مع ضرورة أدراكه في التعبير عنه لغويا. كما أن ادراك الشيء لا يعني معرفته فالادراك هو الوعي بالشيء الذي يمّثل اولى درجات معرفة ذلك الشيء.. ومعرفة الشيء تماما هو سلسلة مترابطة من الادراكات المتتالية.

وحين يكون الفكر ملازما لحركة الجسم حسب هوبز فهو يعنى بالانسان في حركته الدائبة المستمرة غير الثابتة ولا المستقرة بمكان وزمان معينين لذا يكون الفكر المعبّر عن هذه الحركة والانتقالات لا يستنفد طاقته بثبات زائف كخطاب ينهي تأويل ملاحقة المعنى اللغوي بالاضافة المستمرة له ومعرفة الشيء.. الفكر حيويته الحركية في مواكبته التغيرات الحاصلة في حركة الانسان التي هي السلوك الطبيعي تجاه ما يصادفه بالحياة من مواقف وأمور تتطلب أعمال العقل بها ومعالجتها واتخاذ الموقف اللازم بشأنها. والفكر حركة لغوية متغيرة ملازمة للسلوك الفردي والسيسيولوجي .

فتعبير اللغة الخالي من المعنى لا يكون ناتجا عن مدرك عقلي لموجود في عالم الاشياء ولا عن موضوع مدرك في عالم الخيال، فالموضوع يلزم عنه لغة التعبير عن تعيينه الانطولوجي والافصاح التام عنه وعن معناه والا كان لا موضوعا مدركا عقليا. وتكون اللغة أيضا في غياب موضوعها لا معنى ولا قيمة لها لا بل غير موجودة أصلا في عطالة وعي العقل للاشياء.. واللغة التي هي توليد عقلي مقصود لا يمكنها التعبير عن لا شيء غير محدد فيزيائيا أو غيرمحدد خياليا كموضوع. فاللغة التمّثلية التعبيرية هي وعي ادراكي قصدي عقلي بموضوع سواء أكان موضوعه خارجيا في عالم الاشياء أم داخليا بخصوص الاحساسات التي مصدرها عمل أجهزة الجسم ويسمى هذا النوع من الادراك الوعي الاستبطاني الجوّاني.

واللغة لاتعّبر عن الفكر تجريديا من فراغ بلا موضوع يدركه الوعي القصدي للعقل.. وهنا تنتفي حاجة اللغة أن تكون وسيلة عقلية في الاستدلال المعرفي في غياب موضوع العقل المدرك لتصبح اللغة الفاظا صوتية لا معنى فكري أفصاحي ينتظمها ولا تكون لها قيمة تواصلية من أي نوع من وسائط التواصل.اللغة فعالية متفردة نوعيا يمارسها الانسان بذكاء قصدي بالحياة..

أن شرط أمتلاك العقل تفكيره السليم الذكي التوليدي هو في أمتلاكه ملكة اللغة وخاصية أستعمالها في التعبير القصدي عن شيء وألا كان تفكير العقل لامعنى له أو معدوما أصلا، واللغة لا تمتلك تعبيرها كاملا في التعبير عن الشيء كون الفكر واللغة المرتبطان بالحركة والوعي القصدي يكونان محكومين بالتغيير والسيرورة المستمرة ويكون الفكر تابعا للحركة وليس خالقا لها.. وفي هذه الخاصية الديناميكية في تحولات وانتقالات الفكر واللغة تصبح أهمية التأويل المعّبر عنه لغويا مطلوبا على الدوام من أجل معرفته الموضوع المعّبر عنه جيدا والوقوف على معناه اللغوي تماما.كما تكون الحركة سابقة على الفكر المعّبر عنها ووجود الشيء سابق لكليهما معا الحركة والفكر..

بحسب امبرتو ايكو الشيء الصحيح هو ما لا يمكننا شرحه. ويقصد به الشيء الصحيح الذي لا يمكننا شرحه هو الشيء الذي يكتسب مشروع تأويله المستمر ويتقبّل القراءات المتعددة ولا يتوقف معناه في تعبير لغوي مقفل مستنفد طاقة الفضاء المفتوح الفائض عن محتوى لغة التعبير عن الشيء دوما، ولا يقصد بالصحيح الذي لا أمكانية لشرحه وتوضيحه أنه الذي قد أمتلك ناصية الصحيح المطلق الناجز في أستنفاده فائض المعنى القيمية التي يدّخرها الشيء الصحيح في لغة التعبيراللغوي عنه دوما.

نستثني من هذا التعميم في حال أن يكون الشيء الصحيح الذي لا يقبل التفسير حسب عبارة ايكو هو البديهي الثابت في معرفته الادراكية عن الاشياء والمواضيع التي لا يحتاج معها تأويلا فائضا عليها.. كما هو الحال في القوانين الطبيعية العلمية التي تحكم الحياة والانسان كالجاذبية مثلا.أو فيما يعرف بالكلمات والتعابير الشيئية التي تكون اللفظة اللغوية فيها مغلقة بالاشارة لشيء اكتسب الصفة التامة في ادراكه التي لا يحتاج بعدها لتوضيح في تطابق اللفظة معه كشيء وموجود حسي ماثل. والصحيح الذي لا يقبل الشرح هي البديهيات المعرفية العقلية فقط.

فالصحيح بداهة يكون قد أكتسب صفة التسليم المطلق به في تعبير اللغة عنه أو تعبير علامات المعادلات الرياضية العلمية والمسلمات المختبرية العلمية ومطابقتها الموجودية للادراك العقلي والابستمولوجي للشيء الصحيح الذي يكون نسبيا حتى في مجال العلم وأكثر منه في مجال المعرفة عامة ..

ولا يكون الشيء مكتسبا حقيقته الصادقة في تعبير اللغة عنه لمرة اولى واحدة في خطاب أو نص لغوي لا يحتاج بعدها تفسيرا ، فاللغة تبقى دائما تأويل مؤجل لقراءات لاحقة متتالية متعاقبة.. اللغة هي الادراك المتطور بأستمرار في التعبير عن الحياة بمجملها صغيرها وكبيرها معا. بمعنى اللغة هي ظاهرة جوهرية في فهمنا الوجود والحياة ولا حدود نهائية تقف عندها تحكمها.فتوليد اللغة للافكار يكون في انفتاحها على فضاءات واسعة من الانتقالات والتحولات والتاويلات التي لا حصر لها ولا يمكن الالمام التام بها فهي سيرورة متغيرة من جهة ومعقدة على التحليل من جهة أخرى.

وفي هذا المعنى تبقى اللغة مشروع تأويل تعددي مفتوح النهايات ولا يكتسب الشيء صوابه في عجز اللغة تفسيره وتوضيحه من المرة الاولى في تعبيرها القاصر عنه. اللغة قدرة وملكة تأويلية لا تسنفد طاقتها في أقفالها المعنى على موضوع أكتسب صدقيته القطعية اليقينية الثابتة التي لم تعد بحاجة لتوضيح وتفسير لاحق يتعذّر القيام به بل اللغة في سعيها القرائي تحقيق المعنى دوما أنما تكون فضاءا تأويليا لا يتوقف بحدود معينة من التعددية والاختلاف.

هذا المعنى نجده في الفكر الهرمسي (أن اللغة بقدر ما تكون غامضة متعددة بقدر ما تكون غنية بالرموز والاستعارات وهو ما يجعلها قادرة على تعيين الله الذي يحتضن بداخله كل المتناقضات ومع ذلك فما يشكل أحتفاءا بتطابق المتناقضات هو ما يؤدي الى أنهيار مبدأ الهوية حين يكون كل شيء مرتبط بغيره)1.

هنا في التعبير الهرمسي الثيولوجي الاسطوري الديني المزدوج عن مفهوم التناقض أن الله يحتضن التضادات بداخله ولا يفتقد هويته الكلية في ضمّه تلك المتناقضات وجعلها من خصائصه الهوياتية ولا يحتاج محاولة معرفة هذه التناقضات بالاحالة على لاحق يليها ولا على سابق يتقدمها فليس غير (الله) من أحالة مرجعية تليه هي وجوده اللامتناهي وهذا فهم ديني ميتافيزيقي يصطدم باستحالة تعميمه ماديا على شؤون الحياة والوجود الانساني فالحياة لا تقوم على مفردة اللاهوت الديني فقط..

عندما تكون المتناقضات التي نعيشها بالحياة هي تهديد مباشر في أنهيار هوية كل شيء بالأحالة اللغوية التأويلية المستمرة على لاحق غيرها يليها.هوية الخالق أو الله هي جملة مواصفات وقدرات ذاتية ليست مكتسبة ولا هي متغيرة غير ثابتة، أما مفهوم الهوية في الحياة والتاريخ فهي بنية تكوينية مستمرة دائمة التغيير البنائي تقبل الاضافة المتجددة لها..

اللغة والهوية

ونعود الى مركزية موضوعنا في تعالق فضاء اللغة اللامحدود بفضاء التاويل اللاحق عليه غير المحدود هوايضا. فالموضوع الذي يعجز التعبير اللغوي عنه ومعرفته هو الموضوع الذي يحمل معه فائض المعنى الذي لا تحيط به لغة التعبير تماما كاملا لا في المعنى ولا في المعرفة به. وفائض المعنى المدّخر هو تأويل لغوي أضافي مصدره قادم في تعدد القراءات له.. وصدقية وصواب الشيء المعبر عنه لا يقعده الثبات في تعطيل معطياته المختزنة داخل معانيه المتعددة التي لم يطالها التأويل التعاقبي بعد.. فالتاويل أضافة نوعية متجددة في ملاحقة المعنى غير المعلن غير المفصح عنه لغويا.. والفكر لا تحده الهوية لأن الهوية تشكيل بنائي متطورمتغير على الدوام يواكبه الفكر عبر الانتقالات والحركة والتغيير والسيرورة الدائمة له كما لا يحد الفكر منتهى المعنى الذي تدّخره اللغة.

ويبقى الصحيح العصّي على التفسير كونه سيرورة مطردة من التغيير التكويني له.. القراءات المتعددة في لغة التعبير عن النص أو الاشياء هي تأويل لقصدية ملاحقة فائض المعنى.. ونجد تعبير امبرتو ايكو يقارب هذا قوله (البحث عن عمق تاويلي يشكل وحدة كليّة تنتهي اليها كل الدلالات سيظل حلما جميلا من أجله ستستمر مغامرة التاويل حتى وأن كان الوصول الى هذه الوحدة مستحيلا)2.

التأويل في حفريات النص يؤكد ما ذهب له امبرتو ايكو من منطلق أستحالة أن يحمل النص أو الخطاب هوية دلالية ثابتة مغلقة لا تتقبل قراءات الرؤى الجديدة، بل يحمل أنحلالات تفكيكية تاويلية أضافية متشظية لا يبقى معها لهوية النص معنى ولا وجود .. الهوية بالمنظور التاويلي لها هي لغة محايدة لا تنهي تعدد القراءات، ولا يمكن أن يكون الفهم الاجتزائي تعويضا عن مدّخرات النص لفائض المعنى اللامحدود. وعدم قدرة الوصول الى الحلم الجميل في تحقيق عمق التاويل في وحدة كلية تنتهي بها ومعها كل الدلالات..

النص والتاويل

النص اللغوي أو الخطاب هو مشترك أستقبالي متعدد في لغة مفتوحة يعبّرعنها التاويل اللغوي الذي يكون فعالية تراكمية في المعنى لا محدودة النهايات فهو يمنح المعنى للنص ولا يأخذه منه بل يكتسبه منه ويعيده ثانية اليه وحسب تعبير تودوروف (المؤلف يضع الكلمات ليأتي القراء بعده بالمعنى) وبعبارة كارل بوبر (التاويل لا يستند الى أي معيار من معايير العامة). فالتاويل فعالية لغوية ذاتية لا تضع امامها محددات العالم المعيش بل تضع سعيها الوصول الى الحلم الجميل في صنع عالم خاص يقوم على تاويل التفكيك كنظام لغوي بلا نهاية حتى وأن كان الحلم مستحيلا تحققه حسب امبرتو ايكو وتكفي عندها لذة المغامرة. التاويل اللغوي فعالية انفرادية وما هو ذاتي لا يصح تعميمه على حساب تغييب التعدد والاختلاف في التلقي وفهم المعنى الذي يقوم أساسا في البحث المفتوح على التجديد والاضافة اللغوية للمعنى المطلوب.. .وبضوء عبارتي بوبر وامبرتو نفهم تاويل النص هو عملية تشّظي متتالي للفكرواللغة في ملاحقة المعنى والتحرر من الشد المرجعي الذي يعيق التفكيك المتتالي ولا تدورتشظية التفكيك بفلك مركزية مرجعية ميتافيزيقية ثابتة مثل العقل المصنّع المنتج التوليدي للغة لذا يصبح النص متحررا من الهوية المائزة في تأكيده حضور التعددية والتناقضات والدلالات المتعالية التي يختزنها دوما فيه. التعددية والاختلاف والتشظي وفقدان الهوية كلها دلالات لا تستجمعها كليّة التاويل المركزية التي توقف طاقة التاويل اللامحدودة في دينامية تعدد قراءات ملاحقة فائض المعنى بالنص.. وخلاصة ذلك حسب تعبير امبرتو ايكو (التاويل غير محدود في محاولة الوصول الى دلالة نهائية ومنيعة مما يؤدي به فتح متاهات وانزلاقات دلالية لا حصر لها)3.

معنى الخطاب على الصعيد التاريخي وليس على صعيد التاويل الفلسفي للنص هي سيرورة من التشكيل البنائي المفتوح على المستقبل وليست ميزة تكتسب صفاتها من قراءتها في ماضيها وحاضرها ولا يطالها المستقبل بالتغييرالبنائي المتجدد، بل أن الهوية الفاعلة هي تشكيل لا يخرج عن أهمية المستقبل له وحاجته الماسّة في أن يكون هوية في المستقبل وليس هوية متحفية في الماضي تعيش ماضيها خارج أفق مستقبلها..

ما ينبغي التركيز في معرفته هو أن الهوية تراكم معرفي ثقافي حضاري بنائي متجدد على الدوام وعلى صعيد النص والخطاب المؤول فلسفيا ايضا، فالهوية ليست بطاقة شخصية يحملها النص كما هي البطاقة الشخصية التي يعرّف الفرد نفسه بها ويحملها على الدوام معه كوثيقة لا تتقبل التبديل ولا التغييرولا الاضافة.

هوية النص تأويل دائم متغير ومتشظي على الدوام لذا يكون تاويل كل نص او خطاب لا يقي من الانزلاقات التحذيرية والمتاهات التي لا حصر لها التي هي تحصيل حاصل النواتج العرضية التي يتمخض عنها التاويل القصدي الهادف في البحث عن المعنى من دون السعي نحو تلك النواتج العرضية غير المقبولة.

اذا ما فهمنا عملية التاويل اللغوي طاقة لا محدودة من التعدد والاختلاف والحركة والتجديد الفكري البعيد عن التوقف والثبات في مرحلة معينة. فالتاويل لا يحمل أي نوع من الدوغمائية أو اليقينية التي تعجز لغة التاويل عن الاضافة التجديدية لها.والتاويل على صعيد التفكيك لا يصنع ولا يقيم هويات خاصة ثابتة بل يعمد تفكيكها وهدمها على الدوام في محاولة بنائها..

اللغة والعقل

العقل نوس nous عند افلاطون هو الملكة الموّلدة للافكار، وعند ارسطو العقل هو الذي يمكننا من التعرف على جواهر الاشياء. (وعلى النقيض من ذلك سيكون النوس – العقل في القرن الثاني الميلادي ملكة للحدس الصوفي والاشراق اللاعقلاني، وسيصبح ملكة للرؤية المباشرة ولا يعود الكلام والنقاش والحجاج من الامور الضرورية )4.

لم يكن افلاطون مجانبا الصواب في أعتباره العقل جوهرا منفصلا عن الجسد موّلدا ذكيّا للافكار فهذه النظرة العلمية الفلسفية الثاقبة لا تزال صحتها قائمة الى اليوم. باختلاف أن العقل اللافيزيائي هو الذي يحتوي الجسم الفيزيائي ويقيم وصايته عليه. فالعقل هو ملكة اللغة في التعبير عن مدركاته للاشياء في العالم الخارجي. كذلك لم يكن ارسطو مخطئا ايضا في تعبيره أن العقل وسيلة معرفتنا جواهر الاشياء، على اعتبار العقل عند ارسطو لا يكتفي بمعرفة الصفات دونما الجوهر في عملية استبطانية كانت مثار جدل في ذهاب بعض الفلاسفة بدءا من كانط عدم امكانية العقل المجرد معرفة الجوهر.. والفرق بين الاثنين افلاطون وارسطو معروف أن ارسطو حاول انتشال أفكار افلاطون من النزعة المثالية المتعالية في عالم المثل في السماء، وسحبه الفكر الفلسفي الى واقع حياة الانسان والوجود الارضي. وواقعية ارسطو في انزال الفلسفة من تجريد ميتافيزيقا السماء الى وجودها الارضي في مركزية الوجود والانسان المتعالق مع الطبيعة..

ونقيض هذين المنهجين الفلسفيين نجده في عبارة امبرتو ايكو السابقة في تعبيره عن الصوفية أعتمادهم العقل وسيلة أكتشاف وأستبطان كل ما هو غير مدرك ماديا لذا يكون تعبير العقل ليس وسيلة اللغة بل وسيلة تصميت اللغة وتخريسها في تعطيلها عن الكلام والحجاج الذي لا مجال أن يكون موضوعا ملحقا في تعبير اللغة عن التجربة الصوفية بدلا من صمت التعبير اللغوي في تعطيل العقل الحسّي خارج الزمان والمكان الذي يحدّهما الادراك الطبيعي ولا يعملان في مجال التجربة الصوفية.. فالزمان والمكان قانون الطبيعة الذي يحكم الاشياء التي يدركها العقل حسيا أما في التجربة الصوفية فالزمان والمكان في الادراك العقلي التصوفي معّطلان وتغييبهما خرق فاضح وتقويض للقوانين التي تحكم الطبيعة علميا.

أن مستويات التفكير العقلي في عبارة امبرتو ايكو التي اشرنا لها لا يتحدد بوظيفة تعبير اللغة في بعد ومجال واحد في معرفة العالم والاشياء ودواخل النفس فوعي العقل قصدي وغير محدود مفتوح في تعدد مناهج البحث عن حقائق الاشياء ومعرفة الموجودات واللغة أحدى تلك الوسائل المنهجية التي يكون تعطيلها متعمدا مقصودا في أستبعادها كما في مثال تعطيلها العمد نقل التجربة الصوفية..

ماهية العقل

يعرّف ديكارت العقل بأنه (جوهر) منفصل عن الجسم ماهيته التفكير وهو تعريف يتماهى مع افلاطون تعريفه العقل جوهر ماهيته ملكة فطرية ذكيّة في توليده الافكار وجوهر منفصل عن الجسم كجوهر فيزيائي مادي ايضا. والعقل لدى أغلب الفلاسفة هو جوهر لامادي وغير فيزيائي لا يمتلك معايير تحديده الانطولوجية في تبيان خصائصه المادية الفيزيائية، ويكون العقل جوهرا ماديا بالفكرالمنتج عنه وليس ماديا بالمفهوم الفلسفي المنفصل عن الجسم. وربط بعض الفلاسفة العقل بالنفس لأسباغ صفة خلود العقل كما خلود النفس بخلاف ربطهم العقل بفناء الجسم ومماته، كون العقل جوهرا غير فيزيائي لا يطاله العدم بما يناقض فيزيائية الجسم الفانية التي يحكمها العدم.وهو تفكير ميتافيزيقي يحتاج ادلة وبراهين صحة صوابه والاخذ به..

أما فلاسفة العقل المحدثين لعل أبرزهم جلبرت رايل (1900 – 1976) الفيلسوف الانكليزي فهو يعتبر العقل لاشيء على الاطلاق يتعدى وظيفته أن يكون العقل أستعدادا أوليا للسلوك القصدي.. ويحاول بعض الفلاسفة الاخرين المعاصرين ربط الذكاء الاصطناعي بالعقل من منطلق السعي لمنح الكومبيوتر ذكاءا اصطناعيا ذاتيا توليديا يجاري خاصية العقل الانساني في الذكاء التوليدي الذاتي للافكار.. ولكن تبقى العقبة الكبيرة أمامهم أن العقل جوهر توليدي ذكي ذاتيا لا تستطيع الآلة أمتلاكه، وأبرز خاصّية يمتلكها العقل في الذكاء التوليدي هو اللغة التي يعجز عنها الذكاء الاصطناعي توليدها بالذكاء الذي لا تمتلكه ويمتلكه الانسان فقط..

ويبقى الاختلاف أن العقل الانساني جوهر لا مادي ولا فيزيائي تصعب السيطرة عليه أصطناعيا من قبل العقل نفسه في تصنيعه العقل الاصطناعي للآلة، والعقل جوهرذكي مستقل ميزته الاولى توليده أفكار اللغة على خلاف كل من الجسم والآلة اللذين يفتقدان هذه الميزة ويكونان بالنتيجة لا جوهرين ذكيين يجاريان العقل الطبيعي غير الفيزيائي، بمختصر العبارة العقل هو مجموع توزّعات الذكاء القصدي في السلوك الانساني والحياة.

أسبقية الفكر على اللغة؟

أذا أخذنا في نفس السياق ارتباط العقل بالفكر واللغة مقولة فينجشتين ودي سوسير وغالبية علماء وفلاسفة اللغة أجماعهم (اللغة هي الفكر) فيكون معنا أدراك العقل للوجود والاشياء هي أسبق على أدراك العقل للفكرمن حيث أن الفكر نتاج العقل وتوليده، العقل المجرد عن ملكة التفكير بوسيلة اللغة وحده عاجز عن تحقيق وجود الاشياء ماديا بغير وسيلة تعبير أشاري رمزي أو لغوي مفهوم تداوليا، فمثلا عقل المجنون يفتقد وعي وجود الاشياء التي أمامه لأنه عاجز عن التعبير لغويا عنها بعد عجزه عن أدراكها أدراكا عقليا منظمّا أولا. من حيث أن الفكرالسليم هو أنعكاس تجريدي وصوري لغوي منظّم في فهم الواقع والوجود.

والعقل يسبق الفكر واللغة في أدراكه للشيء بهما. العقل هو الذاكرة الفاعلة ومستودع الافكار ومكمن أنطلاقها، لذا فأن أدراك العقل للوجود والاشياء يسبق أدراك العقل للافكار أو اللغة المتعالقة بالتبعية التراتبية بالتعبير عن وجود الاشياء.

والادراك اللغوي مستمد من علائقية أدراك وفهم العقل للاشياء.وهذا الادراك يكون قاصرا وظيفيا ما لم تسعفه اللغة كنسق منظّم في تبيان خواص وتمظهرات الاشياء والموجودات المدركة عقليا وكذلك وجود الانسان في الطبيعة ومحددات كينونته وجوهره.

أنه لمن المهم التذكير أن الوجود المادي للاشياء نوعان، الاول موضوعات العالم الحسي الخارجية، والثاني موضوعات الفهم الوجداني الخيالي الاستبطانية التي لا تدرك حسيّا مثل الاحساسات الداخلية الناتجة عن تكوينات اجهزة الجسم الحيوية التي ينتج عنها غرائز الشعور بالالم، الجوع ، العطش، الحاجة للجنس الخ من غرائز بايولوجية فطرية مصدرها اجهزة الحياة في جسم الانسان داخليا وهذه غيرها المحسوسات التي يكون مصدر ادراكها العقلي خارجيا عن الاشياء والموجودات في الطبيعة المنقولة عبر الحواس..

العقل والاشياء:

أدراك العقل للوجود والاشياء أدراك ناقص ولا فاعلية له من دون مدركات اللغة التعبيرية الافصاحية عنه كموضوع. الوجود يتم أدراكه عقليا عن طريق الحواس كموضوعات مستقلة فقط قبل أدراك اللغة لها، الموجودات من غير أدراكها لغويا وجود مكتف بذاته يفتقد الحيوية والفاعلية والتأثير،والوجود لا يدرك مباشرة كونه مفهوم مجرد بخلاف محتوياته وتكويناته من الموجودات المادية. اللغة كشف أدراكي عقلي للاشياء والموجودات،والوجود الواقعي لا ندركه أدراكا واعيا حقيقيا في تجريدنا أدراك اللغة له، ومن غير الادراك العقلي وتزامن الادراك اللغوي معه تصبح معرفتنا للوجود قاصرة غير منتجة ولا صحيحة ايضا. وتعجز أية فكرة مدركة عقليا،أن يكون أدراكها مثمرا تواصليا منتجا من غير أدراك اللغة لها تداوليا تواصليا، والفكرة التي لا تستوعبها اللغة بأرقى درجات التعبير التواصلي تبقى ناقصة ومشوّهة كفكرة أدركها العقل ولا يستطيع البوح بها ومقيّدة لا تستطيع التعبير عن نفسها وسط وجود الاشياء.العقل بلا لغة تفكير جوّاني أعزل، واللغة من غير وصاية تفكير العقل عليها لا يمكنها التعبير عن نفسها، فاللغة بلا موضوع لا قيمة لها.. والعقل من دون تعبير اللغة يبقى تفكيرا صامتا لا نستطيع فهمه فهو غير مدرك الا من صاحبه فقط..

أن أهمية أدراك الشيء والتواصل به ومن خلاله ومعرفته لغويا، هو أكبر من أهميته كمدرك عقلاني (موضوع) مكتف بذاته خارج فاعلية وأهمية اللغة له، اللغة بعد العقل هي المتعيّن الوجودي لجميع الافكار في أن تكون تداولية تواصلية ذات حيوية وأثراء نافع للحياة،والوجود من غير وسيط اللغة كتعبير دلالي لا روح ولا حيوية فيه.

***

علي محمد اليوسف

.........................

الهوامش

1.امبرتو ايكو / التاويل بين السيميائيات والتفكيكية /ت:سعيد بنكراد ص 18

2. المصدر نفسه ص 15

3.المصدر نفسه ص 18

4. المصدر نفسه ص 19

 

صولون (حوالي 638-558 ق.م) هو فيلسوف، وسياسي، وشاعر يوناني قديم، يُعدّ من أبرز الشخصيات في تاريخ أثينا. يُعرف بأنه أول مشرّع (واضع قوانين) يوناني ساهم بشكل كبير في تطوير نظام الحكم الديمقراطي. وُلِد صولون في أثينا لعائلة نبيلة، في فترة كانت المدينة تعاني من توترات اجتماعية واقتصادية.

قبل أن يصبح سياسيًا، سافر إلى العديد من البلدان، بما في ذلك مصر، حيث اكتسب معرفة واسعة في الفلسفة والعلوم. في عام 594 ق.م، انتُخِب حاكمًا (أرشيونًا)، فأطلق سلسلة من الإصلاحات التي هدفت إلى معالجة اللامساواة الاجتماعية. يُعد صولون أحد أبرز الشخصيات التاريخية في اليونان القديمة، ويُعرف بكونه رجل دولة، ومُشرّعًا، وفيلسوفًا، وشاعرًا. اكتسب شهرته بفضل إصلاحاته الجذرية التي أطلقها في أثينا. وتُعرف فترة حكمه باسم "إصلاحات صولون"، والتي كانت نقطة تحوّل في تاريخ المدينة، إذ وضع صولون أسسًا للديمقراطية الأثينية التي تطوّرت لاحقًا على يد شخصيات مثل كليستينس وبريكليس.

تُعتبر طروحات صولون عملية أكثر منها نظرية. لم يتبنَّ فلسفة مُمنهجة مثل أفلاطون أو أرسطو، بل كانت أفكاره مُركّزة على العدالة الاجتماعية والاستقرار السياسي. اعتقد أن العدالة هي أساس أي مجتمع مُستقر، فسعى إلى تحقيق التوازن بين الأغنياء والفقراء من خلال إصلاحاته الاقتصادية والسياسية. ورأى أن الفساد هو أحد أسباب تدهور المجتمعات، لذلك اتّخذ إجراءات صارمة للقضاء على الاستغلال والظلم، مثل إلغاء الديون التي أدّت إلى استعباد المواطنين. كما دعا إلى التقيّد بالاعتدال في كل شيء، سواء كان ذلك في الثروة أو السلطة. وضع أول مجموعة من القوانين المُدوّنة في أثينا، مما شكّل بداية سيادة القانون على الأحكام الفردية.

تُعتبر أفكاره جزءًا لا يتجزأ من تراث الفلسفة السياسية الغربية، ويُحتفى به كواحد من "الحكماء السبعة"* لليونان القديمة. امتد تأثيره إلى القرون اللاحقة، حيث اعتُبر رائدًا في الفكر الديمقراطي وأحد مؤسسي الفلسفة السياسية.

رحلات صولون وتأثيرها الفكري

كان لرحلات صولون تأثير عميق على أفكاره السياسية والفلسفية. فخلالها، زار مصر وفينيقيا وثقافات أخرى متقدمة، مما أتاح له فرصة التعرف على أنظمة الحكم المختلفة والتقاليد الاجتماعية. التجارب التي خاضها في بلدان مختلفة ساهمت في تطوير قدرته على التفكير النقدي، مما جعله يتساءل عن الأنظمة السائدة في أثينا ويبحث عن بدائل. تأثر صولون بمفاهيم العدالة التي رآها في ثقافات أخرى، مما ساعده في صياغة أفكاره حول الحقوق الفردية وأهمية المساواة. كما استلهم من تجربته في التجارة والاقتصاد في البلدان الأخرى، مما ساعده على فهم أهمية النظام الاقتصادي العادل الذي يدعم جميع فئات المجتمع. دراسته للأنظمة السياسية المختلفة، مثل الملكية والديمقراطية، ساهمت في تشكيل رؤيته حول كيفية إنشاء نظام حكومي عادل يضمن مشاركة المواطنين.

إصلاحاته الاقتصادية

نفّذ صولون مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية التي كان لها تأثير كبير على المجتمع الأثيني. فقد ألغى الديون المتراكمة على الفلاحين، مما ساعد في تخفيف أعبائهم المالية ومنع استعبادهم بسبب الديون. كما أطلق سراح الأثينيين الذين تم استعبادهم بسبب الديون، مما أعاد لهم حقوقهم المدنية وأعادهم إلى المجتمع. ووضع قوانين تحدد الملكية، مما منع الأثرياء من احتكار الأراضي وأتاح الفرصة للفقراء للحصول عليها. وشجّع على تطوير التجارة من خلال تحسين القوانين المتعلقة بها، مما ساعد في زيادة النشاط التجاري والثروة في المدينة. ووضع نظامًا ضريبيًا يعتمد على دخل الأفراد، مما ساعد على تحقيق توازن اقتصادي أكبر بين الطبقات الاجتماعية، كما دعم الزراعة من خلال تقديم مساعدات للفلاحين، مما أدى إلى زيادة الإنتاج وتحسين الأمن الغذائي. ساهمت هذه الإصلاحات في تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية للأثينيين، وأدت إلى تعزيز الاستقرار والعدالة في المجتمع.

صولون: المصلح والفيلسوف

يُعتبر صولون مصلحًا اجتماعيًا أكثر منه فيلسوفًا بالمعنى التقليدي، بالرغم من أن الفلسفة لها دور اجتماعي كبير. فلم يطوّر نظرية فلسفية مُمنهجة أو مدرسة فكرية، بل كانت أفكاره موجهة بشكل أساسي لحل المشاكل العملية في المجتمع الأثيني. تُظهر إصلاحاته أن لديه فكرًا فلسفيًا عمليًا، فهو لم يكتفِ بإصلاح القوانين، بل سعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتوازن في المجتمع. هذه المفاهيم هي جوهر الفلسفة السياسية، إلا أنه لم يكتب عنها نظريات مُجرّدة، بل طبّقها بشكل عملي من خلال إصلاحاته، وعالج مشاكل مُحدّدة ومُلحّة، مثل الديون التي أدت إلى الاستعباد والنزاعات بين الطبقات. لم يُخلّف أعمالًا فلسفية تُناقش مفاهيم الخير أو الحقيقة أو الجمال، كما فعل فلاسفة لاحقون مثل أفلاطون وأرسطو.

أدت إصلاحاته إلى تحولات ملموسة في البنية الاجتماعية والسياسية لأثينا، مما مهّد الطريق نحو الديمقراطية. لذلك، من الأنسب أن يُعتبر صولون مصلحًا اجتماعيًا وفيلسوفًا عمليًا في آن واحد، ففلسفته لم تكن مُجرّدة، بل كانت متجذرة في حل المشكلات الحقيقية لأثينا في عصره. سعيه إلى إقامة نظام اجتماعي عادل يُعالج التفاوت الطبقي ويمنع الاستعباد بسبب الديون يُمثّل جوهر الفلسفة الأخلاقية والسياسية. آمن بأن المجتمع المستقر لا يمكن أن يقوم إلا على مبدأ الاعتدال، حيث لا يطغى الأغنياء على الفقراء ولا يتمرد الفقراء على الأغنياء. وضع مجموعة من القوانين المكتوبة التي تحكم الجميع، مما يُعد تطورًا فلسفيًا وسياسيًا مهمًا، حيث أصبحت القوانين أساسًا ثابتًا للمجتمع.

كان صولون ينتمي إلى ما يُعرف بـ “الحكماء السبعة"، الذين اشتهروا بكونهم مفكرين يعتمدون على الخبرة والمنطق لحل المشكلات. لم تكن فلسفتهم قائمة على وحي إلهي، بل كانت ثمرة تأمل عميق في الطبيعة البشرية والمجتمع، وسعى إلى إيجاد حلول عقلانية للنزاعات الطبقية. في عصره لم تكن الفلسفة اليونانية قد نضجت بعد، حيث كان هو أحد روادها الأوائل. تأثر بالبيئة الفكرية العامة، وكانت الحكمة تُنقل في ذلك الوقت عبر الشعر. كما أن أسفاره وتجربته كتاجر وشاعر ومشرّع كانت مصادره الرئيسية، حيث اطلع على أنظمة حكم مختلفة. لم يكن متأثرًا بفلاسفة سبقوه، بل كان أحد أوائل الفلاسفة الذين أسسوا الفكر السياسي في اليونان القديمة.

***

غالب المسعودي

.........................

*الـ “الحكماء السبعة": طاليس الملطي، بياس البرييني، كليوبولوس الليندي، صولون الأثيني، خيلون الإسبرطي، بيتاكوس المتيليني، وميسون الخيوني أو بريانتي الكورنثي.

تقديم: يجمع العديد من مؤرخي تاريخ الفلسفة على أن الفيلسوف الالماني جوتفريد لايبنتيز 1646- 1716، كان معتدلا في أفكاره الفلسفية يتحاشى الإصطدام المباشر بالفكر المغاير، ويطرح أفكاره الفلسفية واضعا نصب إهتماماته الفكرية مصلحة المانيا سياسيا قبل كل شيء، وعلى صعيد الفلسفة ينسب له أنه أحرز تقدما فلسفيا تجاوز فيه كل من ديكارت في تطويره النزعة العلمية وإعلاء قيمة العقل وتمجيد الذات التي مهدت لمرحلتي النهضة والانوار وصولا الى ما بعد الحداثة التي بلغت أوجها في القرن العشرين.(إذ إعتبر مؤرخو الفلسفة لايبنتيز أكبر فلاسفة عصر النهضة التي مهدت أفكاره لمرحلة التنوير ايضا)(1) وقد عارض لايبنتيز طروحات جون لوك حول ألافكار الفطرية في كتابه (مقالات جديدة).

كما لا أجد شخصيا أن لايبنتيز تجاوز سبينوزا في مفهوم ميتافيزيقا الايمان وقدرة الخالق اللامحدودة كما يذهب له بعض مؤرخي تاريخ الفلسفة. وسنعرض سريعا هذا الاختلاف بينهما على صعيد التفلسف اللاهوتي المتباين في تصورهما الله والايمان. كما نشير لمداخلات فيورباخ حول تعالق الانسان والطبيعة في نشأة الاديان لما لإفكار فيورباخ في فلسفة الدين من أهمية بالغة.

وسيرة حياة لايبنتيز جعلته عبقريا بالفطرة الطبيعية قبل تمّكنه من فرادة قدراته الفلسفية المبكرة في أكثر من مجال التي تحصّل عليها أكاديميا حيث حجبت عنه جامعة لايبزج شهادة الدكتوراه لصغر سنه عشرين عاما، في حين منحتها له جامعة (التدروف) وزادت في تكريمها له عرضها عليه أن يشغل كرسي أستاذ محاضر في الجامعة لكنه رفض ذلك تحسبا من نيل الوظيفة الجامعية إستقلاليته الفكرية وتشتيت تكريس وقته للفلسفة. إذ كان متعدد الإهتمامات العلمية والرياضية مثل توصله الى نظرية التكامل والتفاضل في إستقلالية عن نيوتن ونال شهرة واسعة عليها كما صنع حاسبة رياضية لعمليات الحساب الاربعة وغير ذلك من أنشطة.(2)

كما أستطاع لايبنتيز على الصعيد السياسي بمنطقه الفلسفي الرصين دعم وجهة النظر الالمانية في ورقة كتبها حول مشروعية ضم عرش بولندا لها، وأخفق في هذا المسعى كون المنطق الفلسفي لا يغيّر حقائق الارض في أحترام سيادة وكرامة شعوب تلك الدول ذاك الوقت والى اليوم، وحين توّجس لايبنتيز أخطار أطماع لويس الرابع عشر في ضم المانيا وتجنيبها حرب الثلاثين عاما الاوربية نصح الملك الفرنسي تغيير وجهة نظره صوب المشرق وأحتلال تركيا ومصر بدلا من التوغل وراء الاطماع الفرنسية في اوربا وهو ما جرى فعلا... حيث لاقت دعوة لايبنتيز التقدير الكبير والاهتمام الفرنسي ما جعل بلاط باريس يوجه له الدعوة لزيارة باريس التي مكث فيها فترة قبل سفره الى بريطانيا تراوده نفس الإحساسات السياسية على صعيدي الإصلاح الداخلي وصعيد الطموحات الخارجية التي زرع بعضها في كل دولة زارها تراودها نزعة التوسع الاستعماري....

ولم يحقق مقترح لايبنتيز الملك الفرنسي لويس الرابع عشر بل حققه له نابليون بونابرت في غزوه لمصر وبلاد الشام في (1798- 1801). وكانت تلك حملة السيطرة الاستعمارية الاولى التي فتحت الباب على مصراعيه في قضم وإستقطاع مستعمرات الامبراطورية العثمانية الشائخة بما عرف عنه تاريخيا الاستعمار القديم الذي تقاسمته فرنسا مع بريطانيا وإيطاليا والبرتغال في الهيمنة على كامل الوطن العربي وإنتزاعها من براثن سلطة الخلافة العثمانية التي إنهارت تماما عام 1924 على يد علمانية كمال اتاتورك.

إيمان لايبنتيز الديني

إيمان لايبنتيز الديني الذي تضمنه كتابه (الثيوديسيا) هو إيمان فلسفي لاهوتي يقوم على ميتافيزيقا القدرة الالهية والإمكان اللامحدودتين للخالق، وفي مرجعيته الفلسفية المهادنة التي تعتبر حسب قوله إننا نعيش أفضل العوالم الممكنة، يربط لايبنتيز القدرة الالهية اللامحدودة بألفهم الدوغمائي الديني محاولا تقريب فهم الايمان الانساني لاهوتيا بمطلق المشيئة الالهية حين يقول (الله قادر على كل شيء بمعنى أنه يستطيع خلق كل شيء ممكن، لكن عندما يفعل ذلك فلا بد أن يختار بين بدائل يطرد بعضها بعضا بالتبادل التي ليست ممكنة التحقق معا.) (3)، ولنا التعقيب التوضيحي التالي:

في عبارات لايبنتيز السابقة يربط القدرة الإلهية بالإمكان الممكن تحققه وفق قوانين الطبيعة التي تدركها عقولنا المحدودة بضمنها المعجزات الدينية على أيدي الرسل والانبياء.... وليس تحقق الإمكان التخليقي للاشياء من عدم بالمعنى الإعجازي الإلهي غير المحدود بالقدرة والإمكان في ما يريد الخالق إيجاده وخلقه والتسليم به وإذعان المؤمن له.

القدرة الالهية بالفهم اللاهوتي الميتافيزيقي غير المحدودة لا يمنع فعل الامكان (المستحيل) عائقا أمام الخالق الذي من الممكن أن يكون هذا المستحيل بتصوراتنا العقلية الدينية متمثلا في معجزات الانبياء وليس في قدرات الخالق العابرة لتلك المعجزات التي هي بالحتم كانت تخترق قوانين الطبيعة في تعاليها عند الانبياء إلا أن إمكانية إستيعابها البشري كشيء معجز إلهي ممكن تصديقه ميتافيزيقيا.. وليس من المستحيلات خلق كل شيء في قدرة الخالق غير المشروطة كما يفترضها لايبنتيز (لابد للخالق أن يختار بين بدائل يطرد بعضها بعضا بالتبادل التي ليست ممكنة التحقق معا)..هذا التعبير يحاول مواءمة ما يخلقه الخالق مع مدركاتنا المحدودة في الاستيعاب والتصديق بما هو وارد إلينا من المعجزات الخارقة للمعقول.

وليس معجزات الله الصادرة مباشرة عنه بما لا قدرة على مداركنا العقلية إستيعابها وفهمها سببيا. كما أن الاشياء والموجودات التي يرغبها الخالق لا تقف أمامها إستحالة إمكانية تحقيقها دفعة واحدة كما أشار له لايبنتيز في تعّذر الخالق تحقيقه إلا وفق أسبقية الجديد على القديم.

أعتقد من السذاجة تصورنا أن ممكنات قدرة الله في خلقه الاشياء والعالم والموجودات والطبيعة والانسان نفسه جاء أو يجيء برغبة الانسان المسبقة أن يخلق الله له ما يرغبه ويحتاجه الانسان بالحياة. (الله قادر على خلق كل شيء ممكن) كما في تعبير لايبنتيز ليس تلبية رغائب الانسان.. وهل يوجد شيء عصّي على الله خلقه وإيجاده من عدم؟ كي يكون هناك أشياء غير ممكن خلقها إلهيا؟..

الإيمان بالقدرات الإلهية الإعجازية هو الايمان القلبي الميتافيزيقي الحدسي وليس الايمان العقلي بالتصديق البرهاني الحسي بقدرات كلية وخاصيّات مدركة غير مصدّقة عقليا لكن واجب التسليم الايماني بها، وهي قدرات إعجازية لا يمكننا الإحاطة العقلية الإدراكية لها في خرقها قوانين الطبيعة وخرمها جزئيا أو كليا تلك المعجزات فوق الطبيعة مخالفة إيجادها بقوانين الطبيعة ما يحتم أن يكون التسليم على أنها قدرة وإمكانية ربانية غير منظورة ولا محدودة ولا نهائية.

والمعجزات ليست خاصية الانبياء على الدوام وإمتداد العصور التي لا تخضع لقوانين العقل والطبيعة بل هي معجزات الايمان القلبي الروحاني في التسليم برغبة الخالق أن تكون فتكون، حيث دائما ما نجد اللاهوت الديني يؤكد أن القدرة الالهية هي إمكانية خارقة لقوانين الطبيعة في إمكانية الخلق من العدم، والخلق خارج قدرات العقل البشري الادراكية في إنعدام التعالق السببي بين الاشياء في فهم آلية حدوثها وتطورها خارج قوانين فيزياء الموجودات أيضا بما يعجز العقل تفسيرها..

بمعنى حسب المصطلح اللاهوتي الحديث المتفق عليه الايمان الديني ميتافيزيقيا هو أيمان قلبي وجداني ضميري أخلاقيا لا يمكن مقايسته المقارنة بالقبول والرفض عقليا منطقيا بالنسبة للفرد ولا الجماعة وهو رأي ساري المفعول الى يومنا أن الايمان الديني لا يحاكم بمنطق العقل العلمي ولا بالمنطق الطبيعي سببيا في إدراكنا الموجودات.

نظام الاشياء من حولنا هو نظام محكوم بقوانين طبيعية ثابتة أوجدها الله حسب إجماع اللاهوت الديني، وليس في وارد الإرادة الالهية القدرة الخالقة للاشياء لما هو جديد في إستيعابنا المعرفي المحدود إحلالها بدل القديم أن يكون حاضرا بالتبادل في إزاحة المبدل عنه وتنحيته إلا وفق أحكام تلك القوانين الطبيعية التي ندركها نحن والتي لايعمل بموجبها الخالق بتحقيق رغائبنا، وهذا ما لا ينطبق جملة وتفصيلا على معيارية المقايسة المقارنة بين حصول تبادل الاشياء بقدرة الإمكان الإلهي اللامتناهي الإعجازي وبين تلك التحولات المدركة فيزيائيا عقليا في نظام العالم الطبيعي من حولنا.

ما يدركه العبد المخلوق من قدرات يستطيع إدراكها إيمانيا على شكل معجزات وأفعال خوارق للطبيعة هي لاشيء يذكر بمقياس لا محدودية القدرة الالهية الإمكانية للخالق في خلقه لما يشاء التي تعتبر معجزات الانبياء نقطة في بحر المقارنة مع القدرة الامكانية الالهية بخلقه لما يريد هو لا ما يريده الانسان بخلق الله له .

أختيار الخالق للبدائل تحت حكم وجوب أن يطرد بعضها البعض الآخر في انتهاء صلاحية ألاقدم البقاء وإشغالها حيّز الوجود على وفق مشيئة إلهية مستقلة تماما عن أحكام قوانين الطبيعة الفيزيائية منها على وجه الخصوص في محدودية القدرة الإدراكية لدينا، إنما يقوم على مبدأ إيماني ميتافيزيقي لا يحتاج براهين عقلية له، ولا يمكن لعقولنا معاملة الأخذ بها قناعة متجردة في عدم إمتلاك الحرية وقدرة الإختيار، فما يخلقه الله لا يحتاج تبريره بقوانين عقلية محدودة تفهمها عقولنا سببيا كما نفهم نظام بعض قوانين الطبيعة . فالله يخلق ما يشاء بلا حساب ولا مساءلة ويصبح ما يخلقه من مسلمات الايمان البدهي الميتافيزيقي بالتصديق الذي لا يطاله النقاش القاصر من لدن مخلوقاته التي لا تدرك الغاية الموجبة المتوخاة بخلق كل شيء أو هذا الشيء دون غيره. هذا مجمل ماتتفق عليه الاديان الربوبية والتوحيدية على السواء.

الايمان الديني بين سبينوزا ولايبتنيز

نجد من المهم المقارنة بين فهم الايمان الديني عند سبينوزا السابق عصره لايبنتيز وإختلافه عنه بماذا ؟، سبينوزا كما هو مفهوم عنه لا يرى إمكانية التحقق من الخالق في المعجزات المنسوبة للانبياء الخارقة لقوانين الطبيعة وتنسب لمشيئة الخالق تنفيذ الانبياء لها، الذي هو كيان غير متعيّن ولا مدرك على صعيد مفهوم ميتافيزيقا الوجود، ويمكن القول أن سبينوزا لايفهم الخالق فهما لاهوتيا ميتافيزيقيا مشخصنا ذلك الوجود بصفات وقدرات إلهية لامحدودة ولا نهائية متعالية الوجود على الطبيعة والانسان، كما تنص عليه مقدسات الكتب الدينية دليل قول سبينوزا (لا أحد في العالم كله يستطيع أن يسن قوانين الدولة الدينية المقدسة، وغاية الدولة الحقيقية للحكومة هي الحرية)(4)، حرية الإختيار لنمط التديّن الذي يرتضيه الفرد وليس الذي يفرض قدسيته الايمانية رجال الدين التسليم به قسرا على الناس.

وهذا إستقراء ذكي وتنبؤي غير مسبوق أشار له سبينوزا منذ القرن السابع عشر في إجتناب مخاطر تسييس الدين وجعله مطيّة تحقيق منافع وإمتيازات رجالات السلطة والحكم في إشباع ملذاتهم الدنيوية وإمتيازاتهم الارضية وليس تحقيق عدالة الارض وحقوق العباد التي يوصي بها الخالق ونجد تنفيذها الظالم المجحف الخرافي المسخ من قبل سلطة الحاكم الإستبدادية في الارض بوساطة رجال الدين المؤدلجين سياسيا بما يرضي رغائب الحاكم وتركيع كل شيء أمام قدميه في تنفيذ ما يريده.

كان من المفروض أن يستفيد لايبنتيز من مفهوم سبينوزا التديني المتقدم كثيرا على أفكار لايبنتيز الغارقة في فلسفة دينية ميتافيزيقية قام بها في قفزة مناوئة رجعية لم يستطع فيها لايبنتيز فهم ما حققه سبينوزا في الايمان الديني المتقدم والبناء عليه، وشخصنة لايبنتيز للذات الالهية وقدراتها أرجعت الحس النقدي الديني الذي أرساه سبينوزا للوراء الى مرحلة العصور الوسطى في تحاشي وإهمال جديد ما حققه سبينوزا في عدم أخذ الايمان الديني من مصدر إلهي مشخصن ذاتيا غيبيا ميتافيزيقيا ولا من كتب لاهوتية مشكوك بصدقيتها المليئة بمعجزات الانبياء وسيرهم الذاتية المكتوبة الملفقة التي تصادر حرية التفكيرالعقلي في التديّن، الذي أشار لرفضه ومارسه فلسفيا سبينوزا بشجاعة تحسب له وفي ظروف صعبة كادت تودي بحياته.

بوجيز العبارة كان سبينوزا راديكاليا عنيدا في تفسيره اللاهوت والمعجزات بالمقارنة بميوعة ومهادنة وترضية ممارسات لايبنتيز التلفيقية التوفيقية في محاولته إرضاء جميع النخب الدينية على حساب إعادة ضلالة الشعوب وحصدها المآسي التي أثخنتها العصور الاوربية الوسيطة بجروح لم تندمل إلا وقتما وضع العلم سطوته المهيمنة على اللاهوت الديني ونحّاه جانبا من طريقه.

سبينوزا يتقدم ويختلف مع لايبنتيز بأنه لا يؤمن بخالق مشخصن ميتافيزيقيا بل يؤمن بصفات إلهية موزعة بقدرات عجيبة مذهلة للعقل موجودة في الطبيعة والانسان، وهو مذهب ديني لم يعتمده متصوفي وحدة الوجود كما فهمه سبينوزا فهما قائما على إنتزاع الايمان بقدرات فردية تدرك عجائب الخالق بمخلوقاته. وليس في محاولة المتصوفة التماهي التذويتي الإتحادي بالخالق ميتافيزيقيا مع كيان من الممكن الإفتراضي للمتصوف الوصول حافات ذلك الكيان النوراني والإتحاد به كما يدعون.!!

الصوفية مارسوا مذهب وحدة الوجود في غير طبيعته الانسانوية القائمة على أنسنة موجودات الطبيعة في علاقة قائمة على فهم الانسان الفطري في تفسيره ظواهر الطبيعة على أنها دلالات توضيحية تحيطنا بالحياة لا نستمدها من اللاهوت الديني الوضعي ولا في المعجزات كما حذّر منه سبينوزا، حيث تعاملت المذاهب الصوفية العديدة مع الخالق كنور مشخصن من المتاح الممكن الاتصال الروحاني به والحلول بذاته في إستقلالية ماهوية لا يمكن عبور جدارها المانع أو تخطي صفات كينونة الإله النورانية بمصطلحهم الصوفي في محاولة تلفيق إمكانية تحقق الاتحاد بين ماهيتين متباعدتين بالمجانسة النوعية لا يلتقيان لا بالجوهر ولا بالصفات ويجعلوا من التجربة الصوفية إعجازا خارج محكومية قوانين الطبيعة كما يمارسه الانبياء في معجزاتهم...

لايبنتيز يفهم القدرة الالهية كما تفهمه الصوفية العرفانية الحلولية بإختلاف شكلي بسيط عنهم هو شخصنة الله كينونة مدركة من خلال صفاتها ومعجزاتها بما يقوم به الانبياء والوحي الالهي عوضا عنه، وهو ما تدركه عقولنا كخرق إعجازي لا يستطيعه إلا البشر من الانبياء خارقي القدرة وبتكليف من الخالق والتوصية به.، وهذه القدرة الالهية تقوم على مرتكز أساس هو التدخل المباشر في نظام الاشياء وقوانين الطبيعة عندما يختل توازنها الطبيعي أو حين يصل عدم الايمان بالخالق طريقا مسدودا أمام النبي المرسل ما يضطره القيام بخوارق معجزة بغية إعادة الإيمان المفقود لدى العامة من الناس، بينما سبينوزا على العكس من لايبنتيز يرى الخالق موزعا كقدرات خارقة في كليّات موجودات الاشياء المدركة في الطبيعة كجواهر وأعراض وفي دواخل الانسان ذاته كما أخذ به فيورباخ من بعد سبينوزا الذي دعا الى معرفة الخالق في إدراك الانسان الطبيعة وتخليقه لمعبوده ذاتيا وليس في شخصنته إنفصاليا متعاليا على الطبيعة والانسان والوجود كما يدعو له اللاهوت الديني في الاذعان والتسليم بلا تساؤل وبلا تشكيك يناقش.

ذهب فيورباخ بقفزة دينية أبعد مما دعا له سبينوزا، بأعتباره الانسان والطبيعة والإله هما دلالة واحدة في التعبير المتجسد في شيء واحد هو إختراع الدين الذي إبتدعه الانسان لا غيره على مراحل انثروبولوجية من خلال علاقته بالطبيعة... ولم يتطرق فيورباخ الى فلسفة لايبنتيز في الشخصنة الالهية الميتافيزيقية متمثلة بالقدرات الإعجازية للخالق، بل أعتمد أفكار سبينوزا في فلسفة مادية صوفية على طريقته الخاصة في خلعه الألوهية على الطبيعة والذات المؤنسنة بها، فيورباخ ركزأهتمامه على معرفة كيف نشأت الاديان عند الانسان انثروبولوجيا وليس معرفة ما ينسب للانبياء من معجزات وما يخلقه الله من موجودات خارقة لقوانين الطبيعة وهل هي صادقة أم لا؟. فيورباخ لا يؤمن بشيء ديني لا يخلقه الانسان بنفسه ذاتيا سواء أكان ماديا أم روحانيا، واذا أراد الانسان التفتيش عن ذاته فليعرفها في إلهه الذي إخترعه وأسبغ عليه جميع الصفات الإعجازية التي لا يقدر الانسان على تحقيق الجزء اليسير منها كموجود في الطبيعة متمايز عنها بالصفات والماهية. بل يكون في تصديقها المطلق وتقديسها والعمل بطاعتها والإبتعاد عن نواهيها.

عشق فيورباخ الطبيعة ومجدّها إلهيا مؤنسنا بشكل لا يصدق معتبرا الدين هومنتج الطبيعة الذي إستولده الانسان من إحشائها إذ كتب لأبيه إني أكاد أضم الطبيعة بقلبي. وهو المنحى الذي إعتمده في نشأة الدين بإستخلاصه من مكمنه الانثروبولوجي، وقد إستفادت الفلسفة البنيوية لدى شتراوس في إقتباسها هذه العبارة (الفكرة) وإسقاطها تعديليا مفاده أن معرفة نشأة اللغة لا تكون من غير مرجعية الإستناد على تطور الانثروبولوجيا منذ عصور لاتاريخ ألأقوام البدائية....ومن المعلوم أن اللغة تتقدم الدين في النشأة وكليهما ناتجان عن الانثروبولوجيا التاريخية للمسيرة التطورية للانسان.حتى النظرة الموضوعية الطبيعية ماديا التي أعتمدها سبينوزا في عدم شخصنته الله ميتافيزيقيا وتصديق معجزات الانبياء بل الأهم كان عنده النظر في صفات الخالق الإعجازية الموزعة بنظام الطبيعة وموجوداتها الانسان من ضمنها فقط ولا يوجد هناك ذات إلهية مشخصنة ميتافيزيقيا بصفات يمليها الانسان عليه في شخصنة الله..

والتفت فيورباخ لهذه الموضوعية الطبيعية الإسبينوزية في تقديسه الطبيعة إلهيا كونها المصدر الوحيد في معرفة وإستقصاءات نشأة الدين.. مؤكدا لا وجود لدين لا يستولده الانسان من الطبيعة ذاتها ومن تفكيره العقلي الجدلي التجريدي معها. متغاضيا عن إدانة ماركس لهذا التمجيد للطبيعة كمصدرتخليقي للدين، بدلا من مركزية العامل الاقتصادي والتفاوت الطبقي في تقدم التاريخ وفهم جدل المادية التاريخية، كما أدان ماركس أيضا إهتمام فيورباخ تقديسه الطبيعة لإبتعادها عن المنهج المادي الذي يتعامل هو به، داعيا أهمية الابتعاد عن شخصنة الذات الالهية في قدراتها خلق كل شيء في إستقلالية منفردة متعالية على الطبيعة والانسان...

طبعا كان هذا في تلبية توكيد نزعة الإلحاد لدى ماركس وفيورباخ معا.. وليس في التماهي مع منطلقات سبينوزا الايمانية أن الله الخالق موجود في كل شيء يدركه الانسان في محيطه وعالمه الخارجي. ورغم إستماتة سبينوزا نبذه ميتافيزيقا التدين خارج علاقة فهم معجزات الطبيعة مع الانسان الذي رسخّه لاهوت القرون الوسطى، وعدم شخصنة الخالق ميتافيزيقيا خارج قوانين وموجودات الطبيعة، وما أعقب ما حققه سبينوزا في دعوته نبذ اللاهوت الوضعي والمعجزات، قام لايبنتيز بردة دينية رجعية في تاكيده أصل الدين هو ميتافيزيقا خلق الله كل شيء والانسان مخلوق ميتافيزيقي تلازمه نزعة التدين أولا واخيرا، فالإثنين كليهما سبينوزا ولايبنتيز لم يقتربا من المنهج المادي الذي أنبثق التعامل الفلسفي به المضاد للدين مع بدايات هيجل ونهايات ماركس وانجلز في إنجازهما البيان الشيوعي وبعده كتاب راس المال في تطويرهما المادية التاريخية والمادية الديالكتيكية على صعيد المادة وظواهر الطبيعة والحياة..لذا حين ظهرت أفكار فيورباخ المادية الراديكالية التي شكلت خروجا مارقا على تعاليم مثالية هيجل في القرن الثامن عشر وإنشقاق الشبان اليساريين عن هيجل كما فعل فيورباخ وماركس، ظهرت بوادر ماركسية جديدة في كيفية الجمع بين ديالكتيك هيجل المثالي الذي يرى مجال الجدل هوالتفكير العقلي المتعالي والمجرد على/ عن الواقع، مع مادية فيورباخ الإنثروبولوجية الصوفية التي لاتعترف بالجدل المثالي الهيجلي في إنحرافها القول بأن العامل الديني هو المحرك المتقدم للتاريخ. ما أثار حفيظة ماركس في إعتماده مركزية العامل الاقتصادي هو المحرك الاول للتقدم التاريخي في حتمية ملزمة تطورية ما جعله يشن هجوما لاذعا بالضد من فيورباخ. ضمنه كتابه (أطروحات حول فيورباخ 3 اجزاء). ولم ينكر ماركس وصفه لكل من هيجل وفيورباخ أنهما فيلسوفان عظيمان ولولاهما لما أنجز العديد من أعماله بتعاونه مع انجلز وبخاصة إسهامهما في تطويرمفهوم المادية التاريخية.

وصمت صوفية افكار فيورباخ في فلسفة التدين عنده في كتابيه أصل الدين وكتاب جوهر المسيحية رغم إلحاده الصريح الذي وصفه ماكس شتيرنر وهو أحد الشبان اليساريين الذين إنشقوا عن هيجل ايضا وصف إلحاد فيورباخ إلحادا غير متسق مع فلسفته..، وإعتمد ماركس مادية فيورباخ بعد تخليصه لها من صوفيتها الدينية رغم راديكالية فيورباخ في التماهي مع سبينوزا حول أهمية العودة الى عبادة الطبيعة وليس مركزية الدوران حول تشييء الذات الإلهية ميتافيزيقيا.. كي يجد الانسان إلهه في الطبيعة وفي تماهيه الذاتي معها، كما دعا فيورباخ أهمية فصل الدين عن الفلسفة كي ياخذ الفيلسوف حريته الكاملة في التعبير عن أفكاره وما يؤمن به حقا..

وسبب تلك الوصمة الصوفية الدينية المدانة التي لحقت فيورباخ الملحد أنه لم يسترشد بمنهج الديالكتيك المثالي الذي جاء به هيغل وأنكره عليه العديد من الشبان اليساريين المنشقين عن هيجل في مقدمتهم وماركس وانجلزوشتيرنر، وتم على يد ماركس تخليص ذلك الديالكتيك الهيجلي من المثالية الجدلية التي ترى في تطور المادة والظاهرات والتقدم التطوري التاريخي إنما يتم على صعيد الفكر وليس على صعيد ما يعتمل في الواقع من تناقض وجدل طبقي مرتكزه الاساس العامل الاقتصادي في وجوب التخلص من واقع التعامل المجحف في اللامساواة والعدل بين الفقراء والاغنياء المالكين لكل شيء والمحروم منها الفقراء حتى قوة عملهم الذي يبيعونه للمالك كفائض قيمة....

سبينوزا والمرجعية المسيحية

ألايمان الديني عند سبينوزا يكون في كل الامور جوهره الذي يجد الانسان في معبوده رقيبا يلازمه ماثلا لمساعدته ورحمته وليس الانتقام منه والوعيد له بالعذاب والنار في آخرته، ومرجعيته بهذه النظرة الانسانية مستمدة من المسيحية في تداولها أن الانسان لم يخلق للتعذيب المهول يوم القيامة فقد حمل المسيح خطايا الانسان على الارض وضحّى من أجل تخليص الانسان من الحساب يوم القيامة، بما أطلق على مذهب سبينوزا (أله) وحدة الوجود والله موجود في كل شيء مخلوق ومدرك.

والتحريف المتكرر الذي وصم سبينوزا بالهرطقة والتجديف قبل فيورباخ أنه لم يكن متصوفا دينيا بمعنى مفهوم الحلول والاتحاد خارج صفات الخالق في الطبيعة وموجوداتها من ضمنها الانسان،بمعنى سبينوزا لم يشخصن الخالق كموجود متعين بابعاد فيزيائية أو متعين بدلالات إيمانية غيبية ميتافيزقية نورانية روحانية يعجز العقل الانساني إدراكها. بل هو دعى الى الإهتمام بالطبيعة في إدراك الخالق في تذويته الطبيعي في الاشياء والعالم الخارجي.في حين يؤمن لايبنتيز بوجود خالق مشخصن ميتافيزيقيا بالقدرة الممكنة اللانهائية له رغم أنه غير مدرك عقليا لكنه يتدّخل في نظام الاشياء الطبيعية بما يكسر حاجز القوانين الفيزيائية المتحكمة بها والتي يدركها الانسان بمنطقه الايماني وليس بفهمه العقلي..

وعلى عكس من سبينوزا لم يقترب لايبنتيز من أدانة اللاهوت الوضعي الذي يستمد قدسيته الالهية من وجود خالق يكلم بعض الانبياء وينزل على بعضهم الاخر الوحي في الإنابة عنه وصنع المعجزات كما هو في مدونات كتب اللاهوت وادبيات الاديان التوحيدية وغير التوحيدية التي تستمد قدسية تعاليمها من تعاليم الارض الإنتفاعية المكتوبة بأيديهم وليس من تعاليم السماء المثالية الزاهدة بمباهج الحياة الفانية التي أضطروا تدوينها ولم يعملوا بها.. هذه الدعوة التي تغض النظر عن حقيقة ليس كل الناس أنبياء في تصديقهم معجزات الارض، وليسوا كلهم أنبياء ايضا في تصديقهم معجزات السماء المفقودة بلا وساطة أنبياء ورسل مختارين من الله يقومون بتلك المعجزات مؤقتا.

من المفروغ منه أن سبينوزا الذي سبق لايبنتيز وضع الانسان وإيمانه تحت منطق تحرير الفهم الايماني الميتافيزيقي من وجود الخالق المدّبر لكل شيء في الحياة الارضية الى الايمان بالطبيعة ونظام الاشياء وذات الانسان ونزوعه الروحاني الفردي ولم يشخصن سبينوزا الخالق لاهوتيا ميتافيزيقيا كما فعل لايبنتيز بإنفصال الخالق المتعالي على الانسان والطبيعة، ونادى سبينوزا أهمية أن يكون الايمان الديني هو مجرد عقد روحاني غير معلن بين الله وعباده كأفراد وهذا العقد لا تحتويه الكتب المقدسة في فرض رجال الدين عقدا أجتماعيا وضعيا بديلا مقدسا عوضا عنه بما يحقق تطلعاتهم الدنيوية بأسم الايمان بالخالق في وصايتهم على تدين وايمان الناس على الارض.

لايبنتيز وتوحيد لاهوت المسيحية

كان سبينوزا معاديا لا يلين في محاربته رجال الدين في اليهودية وفي المسيحية على السواء، المنتدبين من تلقاء أنفسهم تمثيلهم الوصاية على الدين من الألف الى الياء، وشكك كثيرا في اللاهوت الديني الوضعي الذي كان يمركز الوعي الإيماني الجمعي بالمعجزات التي إعتبرها خروقات فاضحة خرافية لايقبلها العقل السوي، وعلى العكس من سبينوزا وضع لايبنتيز ثقته المطلقة في إمكانية تحقيق الاصلاح الديني من خلال إصلاح رجال الدين، فقد حاول التوفيق بين الكاثوليك والبروتستانت، وبين تعاليم لوثر وتعاليم كالفن Calvin، في محاولته الوصول الى حل توفيقي بينهم، معتبرا الحل يكمن في تغليب نزعة (التسامح) في تذويب إختلافات المذاهب المسيحية الدينية بغية تحقيق الهدف السامي في وحدة اللاهوت الديني وإنقاذه من التشّظي والمحاور المتعددة في التاويلات والإجتهادات الطارئة عليه في تعميقها الإختلافات المذهبية. ومن الجدير ذكره أن سبينوزا كان ذهب أبعد من ذلك في دعوته إزالة الإختلاف التاريخي الديني المفتعل ما بين اليهودية والمسيحية كدين واحد وطالب في وجوب عودتهما دينا موحدا واحدا كون إختلافات الديانتين ليست حقيقية ومن الممكن تسويتها بقليل من التوافقات.

هذه الدعوة رغم سمو نواياها الاصلاحية العاطفية الدينية الصادقة أوقعت فيلسوفنا لايبنتيز في مطب سعيه الذي ذهب أدراج الرياح في مهمته تحقيق إصلاح رجالات الدين وخلافاتهم التي رأى في حلها تضع الدين المسسيحي على سكة الاصلاح الحقيقي، مغضيا الطرف أن شرعنة اللاهوت الارضي لم يكن أساسا حول الإختلاف في تفسير والتزام تعاليم المسيح ولا تعاليم غيره من الانبياء والرسل. أنما الإختلاف الذي لاينفع معه التسامح الاصلاحي هو مدونات كتب الاديان وأدبيات المذاهب المنشقة في تعميق خلافات إنشقاقات تلك المذاهب الدينية على أموردنيوية ليست من صميم تعاليم المسيحية الانسانية الحقة..لذا كان إصلاح رجال الدين دعوة عقيمة لم يفلح بها الفلاسفة لكنهم طبقوها بصمت في حياتهم.

***

علي محمد اليوسف

...........................

الهوامش

1.  وليم رايت /تاريخ الفلسفة الحديثة/ ترجمة محمود سيد احمد/ تقديم ومراجعة امام عبد الفتاح امام ص 130

2.  نفسه ص 132/3. نفس الصفحة/4. نفس الصفحة

 

عند عمانويل كانط، مارتن هيدجر، وجاك دريدا

(إن كلمة "الوجود" تقال بمعانٍ متعددة) أرسطو، الكتاب الرابع، الميتافيزيقيا،

تُمثل الأنطولوجيا، أو علم الوجود، أحد أهم فروع الفلسفة الميتافيزيقية، حيث تسعى إلى فهم طبيعة الوجود، الكينونة، والعلاقة بين الوجود والموجودات. في هذه الدراسة، سنستعرض كيف تناول ثلاثة من أبرز الفلاسفة في التاريخ الفلسفي الحديث والمعاصر، وهم عمانويل كانط (1724-1804)، مارتن هيدجر (1889-1976)، وجاك دريدا (1930-2004)، مفهوم الأنطولوجيا، مع التركيز على كيفية كشفهم عن هذا المفهوم وتفكيكهم للميتافيزيقا التقليدية. يهدف هذا البحث إلى تحليل مقارناتي لهذه الرؤى، مع الإشارة إلى السياقات الفلسفية والتاريخية التي شكّلتها، وصولاً إلى استكشاف التحولات في فهم الأنطولوجيا من منظور نقدي وتفكيكي. تتبنى الدراسة منهجًا تحليليًا مقارنًا، مع الاعتماد على النصوص الأصلية للفلاسفة الثلاثة، إلى جانب مراجع ثانوية لتوضيح السياقات وتفسير الأفكار. سيتم تقسيم الدراسة إلى ثلاثة أقسام رئيسية، كل قسم يتناول فيلسوفًا وإسهاماته في الأنطولوجيا، مع خاتمة تربط بين الرؤى المختلفة وتسلط الضوء على نقاط التقاطع والاختلاف. فماهي الأنطولوجيا؟ وماهو تاريخها؟ وكيف تناولها كانط؟ وما الفرق بين المقاربة الهيدجرية الأنطولوجية والمقاربة التفكيكية لجاك دريدا؟ وأي مستقبل لها ؟

عمانويل كانط ونقد الأنطولوجيا الميتافيزيقية

عاش كانط في عصر التنوير، حيث كانت الفلسفة الميتافيزيقية التقليدية، التي سيطرت عليها أفكار ديكارت وليبنتز وولف، تهدف إلى تقديم تفسيرات عقلية شاملة للوجود والكون. لكن هذه الميتافيزيقا واجهت تحديات من التجريبية (مثل هيوم) التي شككت في قدرة العقل على معرفة الحقائق المطلقة. في هذا السياق، قدم كانط في كتابه نقد العقل الخالص (1781) ثورة فلسفية تهدف إلى إعادة تعريف حدود المعرفة والميتافيزيقا.

كانط والأنطولوجيا: نقد الوجود كمحمول

ركز كانط على نقد الأنطولوجيا التقليدية، خاصة فكرة الوجود كمحمول. في حجة "الوجود ليس محمولًا"، يرفض كانط الفكرة التي قدمها أنسيلم وديكارت بأن الوجود يُضاف إلى جوهر الشيء كصفة. يقول كانط: "الوجود ليس محمولًا حقيقيًا، أي أنه ليس مفهومًا لشيء يمكن إضافته إلى مفهوم شيء آخر". بمعنى آخر، الوجود هو شرط تحقق المفهوم في الواقع، وليس صفة تزيد من كماله.  على سبيل المثال، يوضح كانط أن مفهوم "كائن حقيقي" لا يختلف في محتواه عن "كائن متخيل"، لأن الوجود لا يُضيف شيئًا إلى المفهوم نفسه، بل يتعلق بتحقق هذا المفهوم في الواقع. هذا النقد يهدم الحجة الأنطولوجية لإثبات وجود الله، التي تعتمد على اعتبار الوجود جزءًا من كمال المفهوم.

الأنطولوجيا في إطار النقد الكانطي

أعاد كانط تعريف الأنطولوجيا ضمن إطار "الفلسفة النقدية". بدلاً من دراسة الوجود بمعزل عن الذات العارفة، رأى كانط أن الأنطولوجيا يجب أن تُفهم كدراسة للشروط الترانسندنتالية (أي الشروط المسبقة) التي تجعل المعرفة ممكنة. في كتاب نقد العقل الخالص، يقسم كانط المعرفة إلى مستويين:

المعرفة الحسية: التي تعتمد على الحدس في الزمان والمكان.

المعرفة العقلية: التي تعتمد على المقولات مثل السببية والجوهر.

هذه المقولات ليست موجودة في العالم الخارجي، بل هي هياكل يفرضها العقل على التجربة. وهكذا، تحولت الأنطولوجيا عند كانط من دراسة الوجود المطلق إلى دراسة شروط إمكانية التجربة.

تأثير كانط على الأنطولوجيا

أحدث كانط ثورة في الأنطولوجيا بتحويلها من ميتافيزيقا تأملية إلى تحليل نقدي للمعرفة. لقد وضع حدودًا للعقل النظري، مؤكدًا أننا لا يمكننا معرفة "الشيء في ذاته" بل فقط "الشيء كما يظهر لنا". هذا التمييز أعاد صياغة الأنطولوجيا كدراسة للوجود كما يتمثل في التجربة البشرية، مما مهد الطريق لتطورات لاحقة في الفلسفة، خاصة عند هيدجر ودريدا.

مارتن هيدجر وإعادة طرح سؤال الوجود

السياق الفلسفي لهيدجر

عاش هيدغر في فترة ما بعد الحداثة، متأثرًا بالفينومينولوجيا (خاصة هوسرل) وبنقد كانط للميتافيزيقا. في كتابه الرئيسي الوجود والزمان (1927)، سعى هيدجر إلى إعادة طرح سؤال الوجود الذي رأى أن الفلسفة الغربية قد أهملته لصالح دراسة الموجودات.

الأنطولوجيا الأساسية عند هيدجر

يفرق هيدجر بين الوجود والموجودات. ان الموجودات هي الأشياء التي توجد فعليًا (مثل الإنسان، الحجر، الشجرة)، بينما الوجود هو ما يجعل هذه الموجودات ممكنة. يرى هيدجر أن الفلسفة التقليدية ركزت على الموجودات وأهملت سؤال الوجود نفسه. في الوجود والزمان، يقول: "إن سؤال الوجود هو السؤال الأساسي للفلسفة".  لتحليل الوجود، يركز هيدجر على الإنسان (الدازاين - الذي يتميز بقدرته على طرح سؤال الوجود. الدازاين ليس مجرد كائن بيولوجي، بل هو الكائن الذي يفهم وجوده ويواجهه في سياق الزمانية والموت. يقدم هيدغر مفهوم "الكينونة-في-العالم" ، حيث يُظهر أن الوجود ليس مجردًا، بل هو متجذر في التجربة اليومية والعلاقة مع العالم.

نقد هيدجر للميتافيزيقا التقليدية

يتهم هيدجر الميتافيزيقا الغربية بـ"نسيان الوجود. فمن أرسطو إلى هيجل، ركزت الفلسفة على تصنيف الموجودات وتحليل خصائصها بدلاً من استكشاف معنى الوجود. حتى كانط، رغم ثورته النقدية، ظل ضمن إطار الميتافيزيقا التقليدية لأنه ركز على شروط المعرفة بدلاً من الوجود نفسه[6].

الأنطولوجيا والزمانية

يرى هيدجر أن الوجود مرتبط بالزمانية. فالدازاين يوجد في سياق زمني، حيث الماضي (الوضعية)، الحاضر (الانشغال -، والمستقبل (الإسقاط - تشكل تجربته. هذا الارتباط يجعل الأنطولوجيا عند هيدجر ديناميكية، بعيدة عن التصورات الثابتة للوجود في الفلسفة التقليدية.

تأثير هيدجر

أعاد هيدجر صياغة الأنطولوجيا كمشروع فينومينولوجي يركز على التجربة الأنطولوجية للإنسان. هذا التحول مهد الطريق للفلسفات الوجودية والتفكيكية، حيث ألهم فلاسفة مثل دريدا وسارتر بتركيزه على الوجود كتجربة حية وليست كمفهوم مجرد.

جاك دريدا والتفكيك الأنطولوجي

السياق الفلسفي لدريدا

عاش دريدا في عصر ما بعد الحداثة، متأثرًا بهيدجر، هيجل، ونيتشه، بالإضافة إلى اللسانيات البنيوية (سوسير). في كتابه عن الغراماتولوجيا (1967) وغيره من الأعمال، قدم دريدا منهج "التفكيك" لتحليل النصوص الفلسفية وكشف تناقضاتها الداخلية.

التفكيك ونقد الأنطولوجيا

يرى دريدا أن الأنطولوجيا التقليدية، سواء عند أرسطو أو كانط أو هيدجر، تقوم على "ميتافيزيقا الحضور"، أي افتراض وجود معنى أو جوهر ثابت يمكن الوصول إليه. ينتقد دريدا هذا الافتراض من خلال مفهوم "الفرق " (différance)، الذي يشير إلى تأجيل المعنى وعدم استقراره في النصوص والمفاهيم.  على سبيل المثال، يرى دريدا أن مفهوم "الوجود" عند هيدغر لا يزال محكومًا بميتافيزيقا الحضور، لأن هيدجر يسعى إلى كشف معنى الوجود كشيء أساسي. يقول دريدا: "لا يوجد حضور خالص، بل دائمًا آثار وتأجيلات". التفكيك، إذن، لا يسعى إلى تقديم أنطولوجيا جديدة، بل إلى تفكيك الأطر الميتافيزيقية التي تحاول تثبيت الوجود.

الأنطولوجيا واللغة

يركز دريدا على اللغة كموقع للوجود. فالوجود، في نظره، لا يمكن فصله عن اللغة التي نعبّر بها عنه. لكنه يرفض فكرة أن اللغة يمكن أن تُحيل إلى معنى نهائي أو ثابت. في هذا السياق، يصبح التفكيك أداة لكشف كيف تحاول الأنطولوجيا التقليدية فرض معانٍ مطلقة على الوجود.

تأثير دريدا

أحدث دريدا ثورة في فهم الأنطولوجيا بجعلها مسألة نصية ولغوية. بدلاً من البحث عن جوهر الوجود، دعا إلى فهم الوجود كسلسلة من الآثار والاختلافات التي لا تستقر أبدًا. هذا المنهج أثر على الفلسفة ما بعد الحداثية، الدراسات الأدبية، والنظرية النقدية.

خاتمة:

نقاط التقاطع: كانط، هيدجر، ودريدا ينتقدون الميتافيزيقا التقليدية. كانط يحد من طموحاتها العقلية، هيدغر يتهمها بنسيان الوجود، ودريدا يفكك افتراضاتها حول الحضور.

الثلاثة يركزون على الذات البشرية كمفتاح لفهم الوجود، سواء عبر العقل (كانط)، الدازاين (هيدجر)، أو اللغة (دريدا).

نقاط الاختلاف: كانط يبقى ضمن إطار العقلانية، بينما هيدجر يتحول إلى الفينومينولوجيا الأنطولوجية، ودريدا يتبنى التفكيك ما بعد البنيوي.

كانط يرى الأنطولوجيا كدراسة لشروط المعرفة، هيدجر يربطها بالزمانية والتجربة الوجودية، بينما دريدا يرفض فكرة الأنطولوجيا كمشروع متماسك.

في النهاية، يُظهر هذا التحليل أن الأنطولوجيا ليست مفهومًا ثابتًا، بل تطورت من نقد عقلي عند كانط، إلى استكشاف وجودي عند هيدغر، وصولاً إلى تفكيك لغوي عند دريدا. هذه التحولات تعكس تغيرات في السياقات الفلسفية والثقافية، وتدعو إلى إعادة التفكير في طبيعة الوجود والمعرفة في عالم متغير. فكيف أعاد بول ريكور النظر في القول الأنطولوجي بعد أن كاد عمانويل ليفيناس أن يستبدلها بالايتيقا؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

يقترح ديفد بيناتار استاذ الفلسفة في جامعة كيب تاون بانه في جميع الحالات، من الخطأ خلق حياة جديدة. هذه المقالة تناقش موقفه المناهض للانجاب بالاضافة للحجج المعارضة له. هل من الجائز أخلاقيا انجاب اطفال؟ وهل هناك حالات يكون فيها جلب حياة جديدة الى العالم ضرر لا يمكن اصلاحه؟ اذا كنا متأكدين، مثلا، بان الطفل سيولد لحياة قصيرة ومعذبة، فسيبدو من المعقول الاستنتاج انه من الخطأ جلب مثل هذه الحياة. في الحقيقة، نحن ربما نقول من واجبنا منع مجيء مثل هذه الحياة التعيسة الى الوجود والتي هي لا يمكن تحمّلها. لكن ماذا عن حياة اكثر شيوعا؟ وجود يحتوي على مزيج من السعادة والمعاناة؟ بالتأكيد من الافضل خلق الكثير من هذه الحياة؟ مناهضة الانجاب Antinatalism هو موقف فلسفي يقول كلا، بالنظر لكمية المعاناة التي يواجهها متوسط الناس في الحياة – ألم، خوف، قلق، مرض، كدح، ضجر، استنزاف، وحدة، اضطهاد، حزن، عدم أمان، عنف، موت – فان جلب حياة جديدة للوجود هي عمل خاطئ اخلاقيا.

بالطبع، الحياة فيها لحظات من السعادة، لكن المناهضين للانجاب يعتقدون بشكل عام ان مثل هذه اللحظات لا تبرر المخاوف المستمرة وعدم الارتياح والعذابات التي نتعرض لها بسبب الوجود . سيكون من الافضل لجميع الناس لو لم يولدوا ابدا. هذه قد تبدو رؤية متشائمة، لكن المناهضين للانجاب يدّعون انهم واقعيون. لو ننظر الى الوجود عقلانيا وبعيدا عن الضرورة البايولوجية للبقاء على الحياة – والتي تدفعنا للاعتقاد ان الحياة اكثر اشراقا من الموت – عندئذ سوف نعرف بان الوجود ذاته هو لعبة خاسرة. احد اسباب الإلهام للمناهضين للانجاب هو اكبر فلاسفة الغرب المتشائمين ارثر شوبنهاور. مع انه لم يقترح مناهضة الانجاب، لكنه يصف الوجود الانساني كبندول يتأرجح بشكل كئيب بين الضجر والألم.

يقول شوبنهاور"نحن نمضي حياتنا نتوق (بألم) الى أشياء نفتقر لها : الطعام، التسلية، المعنى، الارتباط، الدفء، العزلة، الثروة. التوق لهذه الحاجات لا يتم اشباعه الاّ بشكل عابر – ان حصل اشباع – لنواجه توقا جديدا يستنزف انتباهنا، وبهذا نحن نشرع في سعي مؤذ مرة اخرى. " مقاييس المعاناة في حياة الانسان لا تتناسب مع متعته"، يصرح شوبنهاور في مقال له حول معاناة العالم: "اذا كان الاطفال قد جُلبوا للعالم بفعل العقل الخالص وحده، هل سيستمر العرق الانساني في الوجود؟ أليس من الافضل للانسان ان يتعاطف مع الجيل القادم بالقدر الذي يجنبه عبء الوجود؟"

المناهضون للانجاب يجيبون على سؤال شوبنهاور الاول بالنفي القاطع. بالنظر لبؤس الوجود في ظل المكان السيء للعالم وسيره نحو الأسوأ – فان احسن محصلة للانسانية ستكون التوقف عن الانجاب، وفي العقود القادمة نرشد أنفسنا الى انقراض غير مؤلم. حتى الان: من السهل ان نرفض هذا الاستنتاج المتطرف نوعا ما. لكن ميلنا للحيرة والاستياء او الغضب حول موضوع مناهضة الانجاب يجب ان يتوقف وفقا للفيلسوف الافريقي ديفد بيناتار احد اكبر المعارضين للانجاب.

الفكرة ليست مفاجئة: التناسل هو كيف تديم الحياة ذاتها. بيناتار يسألنا ان نتوقف ونفكر مليا . بالطبع الحياة تريد المزيد من الحياة لكن دعونا ننظر للموقف بلا عاطفة. دعونا نفكر في السبب الحقيقي وراء خلق حياة جديدة. بهذا العمل سنكتشف ان التكاثر ليس المهمة النبيلة التي يتصورها الآخرون. المناهضون للانجاب يقدمون عددا من الحجج الداعمة لموقفهم تتجاوز التأكيد على فضاعة الحياة. احدى اهم الحجج هي ما سمي حجة عدم التماثل لبيناتار Benatar’s Asymmetry Argument، نُشرت في كتابه عام 2006 بعنوان (الافضل ان لا يكون هناك ابدا).

حجة بيناتار: لماذا يُفضل اللاوجود على الوجود؟

تقوم حجة بيناتار على فكرة ان هناك عدم تكافؤ اساسي بين الالم والمتعة: بينما الالم سيء وغيابه جيد، فان المتعة جيدة لكن غيابها ليس سيئا. عدم التكافؤ يمكن التعبير عنه كالتالي:

1- وجود الألم شيء سيء

2- وجود المتعة شيء جيد

3- غياب الألم شيء جيد (حتى عندما لا يتمتع كل واحد بذلك الشيء الجيد)

4- غياب المتعة ليس شيئا سيئا (مالم يكن هناك شخص ما موجود سلفا يُحرم منها).

القضية الحاسمة هنا هي انه بينما غياب الألم جيد، فان غياب المتعة ليس سيئا مالم يوجد هناك شخص ما يشعر بغيابه. يعتقد بيناتار ان دعمه لعدم التكافؤ يأتي من حقيقة انه يعطي أفضل توضيح لحدسنا العام حول السعادة والمعاناة.

افرض مثلا، اكتشفنا هناك ملايين من الكائنات على المريخ يعانون بشدة. نحن يجب ان نهتم بذلك: من الفضيع اذا كانت هذه المعاناة موجودة، ومن الجيد ان لم تكن موجودة. نحن لا نُصاب بالذعر من نقص المتعة المقابل على المريخ. يقول بيناتار : "نحن نحزن حقا على الناس الذين يعانون، لكن بالمقابل نحن لا نحتاج نذرف الدموع لغياب الناس السعداء على كوكب غير مأهول او على أجزاء اخرى من كوكبنا".

نفس النوع من اللاتماثل ينطبق على طريقة تفكيرنا حول الواجبات الاخلاقية، يدّعي بيناتار: منع الاذى يبدو اكثر أهمية من انتاج المتعة. علينا واجب ان لا نؤذي زملائنا المواطنين لكننا غير مطلوب منا اخلاقيا ان نجعلهم سعداء. لكن اذا قبلنا بهذا اللاتماثل واقتنعنا ان كراهية الاذى اكثر اهمية من استحقاق المنافع، عندئذ يجب ان نقبل شيئا مذهلا جدا: اللاوجود يبدو مفضلا على الوجود. الوجود يفتح الباب لكل من المتعة التي هي جيدة والألم الذي هو سيء. اللاوجود لايحتوي ألم وهو جيد بينما غياب المتعة لايؤذي احدا. وبالنظر لجميع العوامل، مقارنة بالسيناريو الذي لا وجود للناس فيه، يصبح الوجود ليس في مصلحة الناس ابدا لأنه يؤذيهم. انه يقدم المتعة ايضا لكن هذه المتعة ما كان لها ان تضيع في حالة عدم الوجود لأنه لا وجود لأحد كي يفتقدها. اللاوجود غير مؤذي لكن الوجود مليء بالألم: اللاوجود اذن مفضل على الوجود.

الآن، حالما نكون موجودين فعلا، ربما لدينا اسباب للاستمرار بالوجود: بيناتيار لا يقترح علينا ارتكاب الانتحار. المسألة ليست ان الحياة لا تستحق العيش، وانما لا تستحق البدء. وبسبب القيمة اللاتماثلية لهيكل المتعة والالم، وبسبب ان اللاوجود غير مؤذي فان المجيء للوجود دائما يسبب لنا الاذى. نحن لا نستطيع الرجوع في الزمن ونوقف أنفسنا عن الوجود، لكن شيئا واحدا نستطيع السيطرة عليه هو تقرير عدم إحداث ضرر لا يمكن اصلاحه لوجود جيل جديد. عندما نستمر بانجاب الاطفال سنخلق كائنات تواجه الكثير من المعاناة لأجل متعة ما كان ممكن ان نخسرها في غيابهم. افضل رهان هو ان نتجنب جلب اناس الى الوجود.

ردود على حجة بيناتار في عدم التماثل

رد الفلاسفة على حجة بيناتار بمختلف الطرق. لنتذكر، ان بيناتار يعتقد ان حجته مدعومة بحقيقة انها توضح الحدس الواسع حول السعادة والمعاناة كما في ان كراهية الالم اكثر اهمية من الفوائد المستحقة. بعض الفلاسفة يقترح انه اذا كانت حجة بيناتار تعتمد على الحدس، فهي مع ذلك تقود الى استنتاج غير حدسي، عندئذ يبدو من غير الواضح لماذا يجب الوثوق بحدسنا في حالة معينة ولا نثق به في حالة اخرى. فلاسفة آخرون يرفضون عدم التماثل ذاته: بدلا من "ليس سيئا"، غياب المتعة – عدم حب العلاقات، لا مرح حسي، لا صفاء روحي – هي في الحقيقة ألم سيء. عالم يفتقد لمثل هذه الاشياء سيكون أسوأ من عالم يمتلكها، ونحن فعلا نرثي غياب المتعة. في ورقة عام 2021، الفيلسوف فيومتيك جوشازا fumitake yoshizawa يقترح انه حتى لو اعترفنا لبنيتار بكل مقدماته وحدسه، فان استنتاج المناهضين للانجاب لايزال لايعمل. عدم تماثل بيناتراد يقيّم أجزاءً من الحياة مثل الالم والمتعة بينما يطرح استنتاجا للحياة ككل. لو نكيّف حجة بنيتراد ونقيّم الحياة ككل ستصبح:

1- الحياة التعيسة سيئة

2- الحياة السعيدة جيدة

3- غياب الحياة التعيسة جيد

4- غياب الحياة السعيدة ليس سيئا.

هذا يتبع نفس المنطق العدم التماثلي ويفسر المعتقدات الاخرى غير المتماثلة، لكن هنا سوف لن يحصل استنتاج مناهض للانجاب العالمي . بدلا من ذلك، ستحصل مناهضة محلية للانجاب: في بعض الحالات – عندما نتأكد ان شخصا ما سيعيش حياة تعيسة – فان خلق مثل هذه الحياة يشكّل اذى. لكن خلق حياة سعيدة مسموح به.

مناهضو الانجاب ربما يستجيبون بان خلق "حياة سعيدة" هو مستحيل . بالنظر للكمية الهائلة من الالم والمعاناة، فان قيمة الحياة هي دائما سلب صافي (السلبي اكثر من الايجابي)، لذا فان التكاثر يبقى خطئا. لكن هنا نحن نتحرك بعيدا عن عدم التماثل نحو حجج مناهضة للانجاب اكثر عمومية. دعونا ننظر في اجابات اكثر عمومية:

هل قيمة الحياة تتشكل فقط بالتوازن بين المتعة والالم؟

الاقتراح المناهض للانجاب بان الحياة دائما تحتوي على معاناة اكثر من السعادة يواجه عدد من الاجابات المحتملة. احداها هو ببساطة ان نتحداها: المناهضون للانجاب سريعون في الاشارة الى نواقصنا ورغباتنا والالم المزمن، هم لايميلون للانتباه للمتع اليومية الموجودة في المشاهد البسيطة، التنفس الاكل، المشي، الضحك، الاستماع، النظر." تذكر الشاعرة الامريكية ايميلي ديكنسون ان "مجرد الاحساس بالحياة هو متعة كافية".

جواب آخر هو ان ننظر وراء الالم والمتعة بالكامل: نتسائل ما اذا كان التركيز كثيرا على الحساب الدقيق للمرح والمعاناة يضيع فيه معنى الحياة ... اخلاقيو الفضيلة مثل ارسطو يقول ان الحياة الجيدة ليست حول التوازن بين المتعة والالم وانما حول التعبير عن التميّز. في الحقيقة، الرواقيون صرحوا ان كل ما يحدث لنا هو "لا بأس به او غير مختلف"، الذي يهم هو كيف نستجيب . بدلا من اللوم اننا ليس لدينا وجود تام وخالي من الالم بلا أمل فان طاقتنا ستكون افضل عندما تُوجّه الى تكريس نكهة فريدة من التميز المتاح لنا في هذه الحياة. المناهضون للانجاب ربما يقولون حسنا، كل ذلك جيد ومدهش لتبرير استمرار حياتك لكنك لا تزال لا يجوز لك خلق حياة جديدة – التسبب في تعريض وجود الانسان المحدود لمعاناة شديدة .

لكن اذا لم نقيّم الحياة باعتبارها فقط كمحاولة لتأمين المزيد من المتعة على الالم، فان هذا النوع من الحجة ضد التكاثر لا يعنينا حقا. عندما نرى الحياة كمسعى للتميز او الارتباط او المعنى، عندئذ فان خلق وتربية الجيل القادم يمكن ان يلعب جزءا اساسيا في ذلك. هذا لا يعني بالضرورة وجوب التكاثر – الناس يمكنهم متابعة مختلف اشكال التميز وينجزون امكاناتهم بطرق مختلفة – لكن من الصعب رؤية إثمها الاخلاقي الذي لا يُغتفر خاصة عندما نبذل جهدنا لتعزيز تجارب اطفالنا ونعدّهم للتميز في حياتهم. في الحقيقة، عندما نتبنّى انجاب شخص شاكر لوجوده، عندئذ أين الاذى في ذلك؟

جواب آخر لمناهضة الانجاب يرى بان استمرار الحياة هو شرط مسبق لاستمرار القيمة ككل. اذا كان نظامك القيمي يخبرك ان ادامة الحياة ذاتها هو غير اخلاقي عندئذ ربما المشكلة ليست في الحياة وانما في نظامك القيمي.

بالطبع، المناهضون ربما يدّعون ان هذه الردود هي بالضبط ما يقوله المخدوعون بالحياة: هم متفائلون وقحون في انكار حقيقة المعاناة. لكن بينما هناك آليات سايكولوجية تعمل تدفعنا نحو التركيز على الجيد، تقترح ان الايحاء بان كل شخص مسرور بحياته هو في احسن الاحوال مخدوع وفي الاسوأ هو منفصل عن الواقع. عندما يقول الناس هم سعداء بحياتهم وانهم مسرورين بمجيئهم للوجود نحن يجب ان نأخذهم بنفس مستوى الجدية الذي يقول به الناس بالنفي.

ان المطلوب هو ليس ما اذا كانت الحياة تستلزم المعاناة، بل كيف نستجيب لمعاناتها . المناهضون للانجاب اساسا ينصحون بان الانسانية تسلّم نفسها للفراغ لكن الاستسلام ليس خيارنا الوحيد. هناك طرق للاستجابة للمعاناة التي لا تستلزم انقراضا بالمعنى الحرفي، بوذا ينصح بدلا من ذلك بانقراض الايغو. لكن نوعا آخر من الردود هو الكفاح لجعل العالم افضل لاطفالنا. نحن يمكننا الاعتراف، مع نيتشه بان هناك قيمة يمكن العثور عليها في التغلب على المعاناة. مهمتنا ان نكتشف معنى في الكفاح، نؤكد وجودنا بفرح، ننتج ونغرس طرق جميلة في قول نعم للحياة بدلا من لا.

***

حاتم حميد محسن

(المعجزة هي انتهاك لقوانين الطبيعة) ديفيد هيوم

من الفهم البدئي المعجزات الدينية هي انتهاك لقوانين الطبيعة الفيزيائية. نقول المعجزات ليست خواصا الهية يحتاجها الرب لاثبات الايمان به بل هي خواص انبياء في تبنبهم خوارق فيزيائية مؤقتة لكسب تأييد الناس الايمان بهم وبما يحملونه من رسالات مكنّهم الخالق إمتلاكها وحدهم دون غيرهم من البشر وأنهم مرسلون من الرب بمعجزات خصّهم بها لتأكيد صدقية الايمان الديني بهم في نقلهم رسالة الخالق الى عامة الناس.

التساؤل الذي يفترض أن يكون تابعا ما بعد تعريف المعجزة التي عبر عنها ديفيد هيوم والعديدين من الفلاسفة على أنها خرق لقوانين الطبيعة، لكنهم لم يحسموا مصدرهذه القوانين الثابتة في الطبيعة ومن يمتلكها حقيقة ؟ ومن اين جاءت القوانين الطبيعية الثابتة التي تحكم الطبيعة نفسها بها بغير ادراك منها. ولا تحكم الانسان وكل المخلوقات والكائنات التابعة للطبيعة في ادامة بقائها؟ وما علاقة المعجزة الدينية أن يكون تعريفها الدقيق هو خرق قصدي للقوانين الفيزيائية العامة التي تحكم الطبيعة والانسان.؟ فالمعجزة خرق قصدي لقوانين الطبيعة التي لا تدرك هي قصديتها ولا تعي أهميتها في تنظيم حياة الانسان.

أجابة هذا التساؤل هو التفريق بين الايمان الديني وبين عدم الايمان الديني الذي مرتكز قوامه الايمان أوالرفض للمعجزات. ولكل من الفريقين حججه التي تناقض حجج الاخر لكنهما يبقيان الاثنين المتضادين المتناحرين في سجال ساحته المركزية تخطئة البعض للآخر وليس الاجابة الشافية عن موضوع الاختلاف حول المعجزة الدينية وترابطها الوثيق يقوانين الطبيعة الثابتة وكيفية البرهان العقلي على ذلك.

هذا الاشكال طرحه بيرتراندرسل قوله أن قوانين الطبيعة هي أصطلاحات انسانية متواضع عليها عبر العصور الطويلة وأصبحت بمرور الزمان قوانين ثابتة طبيعية. لكن الاعتراض الوجيه على هذا الطرح هو لو كانت قوانين الطبيعة هي من صنع انساني لتوجب بالضرورة السببية أن تكون قوانين غير ثابتة متطورة يترتب عليه أن تكون الطبيعة في قوانينها بحالة من السيرورة الدائمية التي لا تحدها حدود قوانين ثابتة لا يمكن للانسان تجاوزها بالتبديل ولا بالتغيير، وعدم ثبات قوانين الطبيعة التي هي أبتداع عمل انساني يلحق به بالضرورة المتعالقة معه أن المعجزات ليست خوارق لقوانين طبيعية هي من صنع الخالق وليس من أبتداع الانسان.

فخرق الانسان لقوانين طبيعية ثابتة كان هو مصدر إبتداعها هي بالحتمية التاريخية تكون مطواعة مستجيبة لرغبة الانسان التي وضعها أن يقوم بعملية تغييرها عبر العصور. لكن عجز الانسان أن يخرق قوانين الطبيعة الثابتة جعل خرقها مقتصرا على مقدرة الصفوة المختارة من الانبياء الذين قاموا بها إستثنائيا في خرقهم تلك القوانين بما أطلق عليه المعجزات متمثلة في عجز غيرهم مجاراتهم بصنيعهم. وبذلك خرجت المعجزات أن تكون من أختراع الانسان في محاولته السيطرة عليها، وكذلك لم تكن المعجزات تراكما من الفعاليات الفريدة التي ينتج عنها بالضرورة تطورا متغيرا لا يتسم بالثبات كقوانين تحكم الطبيعة والانسان وليس بمقدور الانسان قابلية أكثر من التكيّف مع تلك القوانين الثابتة لادامة حياته من الانقراض.

وبذا إنحسر موضوع القوانين الطبيعية بين قطبين مختلفين عائديتها الذاتية المستقلة عن صانع اودعها بها من جهة، ومن جهة مضادة لها أن قوانين الطبيعة هي جزء لا يمكن انفكاكه عن الطبيعة بما هي معطى موجود هكذا منذ الاف العصور وبدء الخليقة والى يومنا هذا وليس بمستطاع الانسان التلاعب بقوانين الطبيعة الثابتة خارج سلطة اكثر من البناء عليها والاستفادة منها وبقيت تلك القوانين ثابتة في ملازمة الطبيعة كماهية جوهرية وصفات لها أخذت سمة الثبات الذي لا يتغير ومحاولة التفكير بخرق واحدة من تلك القوانين مرهون بعمل نبي مختار مزودا بقدرة الهية هي فوق قدرات البشر القيام بها أو فهمها تفسيرا عقليا.

المعجزة بين قدرة الخالق والمخلوق

المعجزات الدينية أمر مشكوك أن يقوم بها انسان نبي بخرق قوانين طبيعية هي من صنع انسان سابق عليه في زمانه التاريخي، والمعجزات لا تمت الى الالهي الخالق بصفة خلقها لأنها أصطلاحات انسانية متواضع عليها دينيا ومختلفة في تفسيرها علمياعقليا.

والخروج على قوانين مصنوعة انسانيا لا يعتبر معجزة فالقانون الوضعي من صنع انسان من السهولة خرقه الذي لا يعتبر معجزة. ومما يزيد الاشكالية تعقيدا هو هل كان العقل الانساني الذي وضع قوانين الطبيعة بهذا الاتقان الاعجازي المذهل الذي نعيشه في اكثر من مجال بالحياة وعلاقة الانسان بالطبيعة كان اكثر تقدما وتطورا من عقل الانسان (الانبياء) الذين تعاقبوا على خرق تلك القوانين عبر العصور وما يزال العديد من تلك القوانين يستعصي على الادراك العقلي الديني والعلمي تفسيره كما يستعصي خرق المعجزات لتلك القوانين بسبب محدودية العقل الادراكي للانسان التصديق بها طبيعيا في اكتشافه عمل بعض قوانين الطبيعة التي تحكمنا انها عصّية على المقبولية العقلية المحدودة للانسان وعصّية على التفكير التجريبي العلمي الذي يقوم على البرهان علميا.

ولو كانت قوانين الطبيعة مثل قانون الجاذبية ومثل قانون الادراك في تعالق المكان ادراكيا بالزمان وقوانين حركات الكواكب وغير ذلك عديد هي من صنع الانسان لكانت معظم تلك القوانين استهلكت نفسها وفقدت تاثيرها على التحكم بالطبيعة ذاتها والانسان معا تبعا لتطور التفكير العلمي عند الانسان في تغيير الكثير مما تمتلكه الطبيعة باستقلالية منفردة عن الانسان.قانون الطبيعة ثابت لا يتغير وجد هكذا منذ بدء الخليقة والى يومنا هذا وفي المستقبل ايضا.

نرى من المفيد تثبيت رأي هيجل بهذا المجال المطروح قوله : أن حركة النظام الشمسي تجري طبقا لقوانين ثابتة، هذه القوانين هي عقله،- يقصد عقل النظام الشمسي الذي هو عقل الانسان ولا فرق بينهما- لكن لا الشمس ولا الكواكب الاخرى التي تدور حولها لديها أي وعي ذاتي بتلك القوانين التي تحكمها. " نقلا عن حاتم حميد محسن، عن هيجل العقل في التاريخ".

وهو ما كنا سبق لنا ذكره أن الطبيعة محكومة بقوانين ثابتة لا تعيها الطبيعة ولا هي تعي نفسها. فالطبيعة بهذا تكون مخلوقة غير خالقة لنفسها ولا لقوانينها، فالذي لا يعي ذاته لا يكون خالقا لذاته، بل يكون موضوعا لادراك غيره من ذوات مدركة له ومدركة لذاتها هي معا هو الانسان فقط. كما أن تعبير امتلاك قوانين النظام الشمسي لعقل خاص بها أمر وتعبير مجازي فقوانين النظام الشمسي تمتلك نظاما حركيا ثابتا، ولا تمتلك عقلا مفكرا يعي ذاته وينظم موجوداته التابعة له بمعزل عن عقل الانسان.

أما أحتمال نظرية أن تكون الطبيعة وجدت هكذا بقوانين تحكمها ولا تدركها الطبيعة نفسها فذلك يثير علامة إستفهام تقود لفرضية أن الطبيعة بمجملها من قوانين وموجودات محكومة بقدرة خالق أعجازية لا يدركها العقل الانساني وهذا باب يدخلنا الى مناقشة الموضوع بأكثر من الاكتفاء بطرحه على شكل تساؤلات بلا حلول ناجعة يقبل التسليم بها العقل الانساني في عصرنا اليوم. ولا يتساوى فيه عقل تقبّل المعجزات في الازمنة التاريخية الماضية كما هي اليوم التعامل معها الذي أصبحنا ملك عقل يشكك بكل شيء يقوم على التصديق اليقيني بمعزل عن إمتلاكه براهين إثبات معقوليته التجريبية علميا.

هيوم وقوانين الطبيعة

يشرح هيوم عدم إيمانه بالمعجزات الالهية، بقوله ليس هناك عناية خاصة الهية تعطل قوانين الطبيعة من أجل أرضاء اشخاص معينين، ويحاول التفريق بين الارادة الالهية الخارقة لقوانين الطبيعة على أنها ترجمة انعكاسية ثانية لما ترغبه الارادة البشرية تحقيقه بواسطة قوانين سايكولوجية يمكننا ملاحظتها ووصفها، كما يربط هيوم بين حتمية ارادة الانسان المقترنة بالمسؤولية الاخلاقية.1

هنا هيوم يقوم يسحب بساط الانفراد الاعجازي من الانبياء في نسبته المعجزات لطائفة مختارة مقربة من الرب هم الانبياء المختارين يستودعهم الخالق قدرات خارقة لا يتقبلها العقل الطبيعي الانساني العادي، وتعجز البشر من فهمها وفق التناسق الطبيعي العام لقوانين طبيعية تحكم الحياة، وفي نفس وقت إجبار الانسان العادي التسليم بالايمان الديني أن وراء هذه المعجزات الله لا غيره والقائمون بها انبياء مختارين منه.

قوانين الطبيعة الثابتة لم توجد ولا تكون موجودة تلبية لرغائب الانسان وكذلك خرقها وانتهاكها ليست من صلاحية ومقدرة الانسان اللعب بها، كما لا تكون تلك القوانين هي مخلوقة لتنظيم حياة الانسان قبل مهمة تنظيمها قوانين الطبيعة الثابتة فيها كما هي موجودة كمعطى في الطبيعة ذاتها، الطبيعة لم توجد بهذه الكيفية تلبية لتامين حياة الانسان والكائنات الحية الاخرى.فالذي لا يعقل ذاته وجودا لا يمكنه أن يعقل غيره في علاقة سببية معه.

واذا نحن أجزنا منح قدرتنا الايمانية بالمعجزات خاصية الانبياء الوقتية الزائلة التي لا يحتاجها الخالق في تثبيت الايمان الديني عند البشر الايمان بألوهيته، تكون المعجزة هي خرق لقوانين الطبيعة التي وضعها الخالق في الطبيعة من قبل إنبيائه برغبة ذاتية تتملكهم تحقيق الايمان الديني الجمعي الذي لا تجدي معه الوصايا الاخلاقية ولا العضات التي يقوم بها الانبياء نفعا وهذا محال، فمعنى ذلك الاقرار بوحدة قوانين خرق المعجزات لقوانين الطبيعة الثابتة تكون في محصلتها أن كلاهما قوانين الطبيعة والمعجزات مقولتان ناتجتان عن مصدر الهي واحد في قدرة الهية واحدة وهي وسيلة الخالق تكليفه الانبياء القيام بها برغبة منه وليس برغبة انبياء يرغبون زرع الايمان الديني القائم على قيم الخير والاخلاق في الحياة لتثبيت الايمان الديني بهم وليس الايمان بالخالق الغني عن استحصال الايمان الديني به بالمعجزات. توجد بديهة تذهب ان المعجزة هي خرق لقوانين الطبيعة بالتفسير العلمي الفيزيائي بينما الايمان عابر للمعجزات بطابعها الفيزيائي انه قلبي قبل ان يكون عقليا.

والمقولة الثانية المناقضة التي يتبناها الملاحدة أن قوانين الطبيعة المخترقة بالمعجزات كلتاهما تلتقيان في مصدر واحد هو الانسان ألذي أبتدعها ويروم خرقها لاسباب تتعلق بتثبيت القناعة الدينية على الارض في تبرير محصلة ذلك سيكون خلود الانسان في الانبعاث الميتافيزيقي السماوي ثوابا لإيمانه الديني الأرضي بالمعجزات..

ثم أن ارادة الانسان العادي المقترنة بالمسؤولية الاخلاقية تجاه ايمانه الديني بالمعجزات ليست هي ذاتها المسؤولية الاخلاقية لدى الانبياء في أتيانهم المعجزات على اساس من تداخل إعجازي إلهي تتقاطع مع نقيضها هو عدم قدرة الانسان العادي بأي شكل من الاشكال خارج ما تقوم به المعجزات أن يصنع هو معجزاته بارادته ومسؤوليته الاخلاقية لنخرج بمحصلة لا قيمة لمعجزة يستطيع تكرارها العديد من الناس وليس الصفوة المختارة من الانبياء بارادة ومشيئة الرب.

بوجيز التعبير هل المعجزة خاصية الهية يحتاجها الخالق لتدعيم ايمان الناس به، أم هي خاصية الهية وضعها في اناس إختارهم صفوة التبشير بما يرغبه الخالق من ايمان ديني بوجوده المطلق الذي يرى في البشر خلقوا من أجل تلبية ايمانهم به معبرا عنها بوصايا أخلاقية وأشكال من صلوات وطقوس عبادية يتقدمهم الانبياء في الايمان بها وممارستها ايمانا وممارسة في تلبية طقوس عبادية ترضي الرب وترضي عابديه على صعيد الممارسة الايمانية في تفعيل الضمير الاخلاقي على أنه ايمان بكل ما هو خيّر من صفات وترك كل ما هو شر يقود لمعصية الخالق بما أمر النهي عنه على لسان انبيائه وكتبهم المقدسة.

الشيء الواجب مناقشته اذا كانت رغبة الخالق كسره قوانين الطبيعة الثابتة التي على وفقها منح الخالق الطبيعة أعجازها المنّظم كمصدر بقاء حياة الانسان والخلل المصنوع من قبل الانسان لنظام تلك القوانين الطبيعي يترتب عليه أن الانسان يعدم ضرورات بقائه على الارض التي تؤمنها له قوانين الطبيعة الثابتة الاعجازية بما تحتويه من علاقات تجمع الانسان مع الحيوان مع النبات مع الجماد ضمن قوانين صادرة عن مصدرالهي واحد استودعها في نظام الطبيعة.. فلا نجد هنا مبررا كافيا أن يكسرالانبياء بإعجاز يمتلكونه بسلطة الرب أو غيرها وليس بامكانية الانسان القاصرة المحدودة تلك القوانين الطبيعية التي تناسب مدارك الانسان فهي موضوعة من خالق يريد جعل الطبيعة بقوانينها في خدمة حياة الانسان وليس تدميرها، فكيف يجوز للانبياء الصفوة الايمانية المختارة من الخالق إمتلاكهم قدرة كسر قوانين طبيعية تعتبر مقدسة بخالقها الذي استودعها الطبيعة، وكسر الخالق تلك القوانين الثابتة من أجل تاييده لانبيائه بما يقدرون عليه من قدرة لا يستطيعها باقي البشر لا يستقيم مع ما عبّر عنه هيوم أنه لا توجد ضرورة ملزمة لارضاء نخبة من الصفوة المختارة من البشر يقربهم الرب له بتزويدهم بمعجزات هي خوارق لقوانين طبيعية وضعها الخالق بها وليست من إبتكار واختراع الانسان.

هنا يجب التفريق لا اولوية ضمان صالح الانبياء في توسيلهم القيام بمعجزات نشر الايمان الديني تنسب لهم لكن تبقى المعجزات ليست خاصية بهم فالانبياء خارج ملكة إحتكارهم المعجزات بعد الرب هم بشر متساوون بكل شيء مع البشر الاخرين. وهم يعبّرون عن هذه الحقيقة بانفسهم على الملأ الذي يدعونه الى الايمان الديني بوسيلة المعجزات الخارقة لقوانين الطبيعة وليس بالوصايا الاخلاقية الوعظية المجردة عن دعاماتها التصديقية.

الخروج الوحيد من مأزق أن معجزات تكسير الانبياء لنظام قوانين الطبيعة هو أن المعجزات خروقات وقتية زائلة زمانيا لقوانين الطبيعة الثابتة دائميا وهي وليدة عصرها التاريخي وهذا لا يلزم عنه تبديلا لثوابت الطبيعة التي لا تتغير قوانينها بمرور العصور والازمان وتبدلات تاريخ وجود الانسان على الارض.. بمعنى ثبات قوانين الطبيعة يلغي ويزيل بقاء المعجزات عبر كل الازمان والعصور كوسيلة تدعيم الايمان الديني المتأرجح عند البشر اليوم. لذا كان اقصر الطرق لهروب اللاهوت الديني من مواجهة إضمحلال المعجزات على أنها وسيلة إقناعية خارقة في ترسيخ الايمان الديني انتهت صلاحية الايمان بها، نجدهم لجأوا الى القول أن عصر المعجزات وظهور الانبياء توقف من حياة الناس الى اشعار آخر في ظهور أنبياء جدد موعودين بهم يملأون الارض عدلا وسعادة..

المعجزة الدينية بين ارادة الخالق ورغبة الانبياء

وهنا يبرز تساؤل مشروع هل المعجزة عمل انبياء بشر تنسب لهم أم المعجزة هي تحقيق رغبة الخالق بتوسيل الانبياء القيام بها وتنسب لقدرتهم العابرة للمعجزات التي يقوم بها الانبياء حصرا من الصفوة المختارة المقربين؟ وهنا نرجّح كفة أن المعجزات هي من وحي الهي يقوم بها انبياء لتثبيت نبوتهم في كسب قناعة الناس بالايمان الديني لكنهم لا يمتلكون خاصية المعجزات كصفة دائمية التي هي خاصية الخالق وحده. فالمعجزة الدينية التي يقوم بها نبي لا تتكرر مرتين بنفس الوتيرة الايمانية. المعجزات في كل الاحوال لا يحتاجها الخالق بمقدار حاجة الانبياء لها لتثبيت دعاواهم الايمانية ببراهين معجزة وقتية يصدقها الناس من خلالها نبوّتهم المقترنة بالايمان الديني للخالق.، وبذلك لا يكون الانبياء يمتلكون خاصية أعجازية تنسب لهم لا يمكن أن يمتلكها غيرهم بدليل ان تقديرات عدد الانبياء المرسلين لهداية الناس على الارض تجاوز الالفين. فقط الذين وردت اسماؤهم في لاهوت الاديان وربما توجد الاف غيرهم. وبهذا الدليل يصبح مقولة هيوم الانسان خلع على الطبيعة قوانينها الثابتة المكتشفة منه باطلا يفتقد برهانه، والسبب الآخر الاهم أن وجود الطبيعة بقوانينها سابق على وجود الانسان في ادراكه قوانين الطبيعة وعلاقته بها هو الآخر يدحض مقولة هيوم وراسل أن المعجزات أبتداع عقلي أنساني لا دخل لخالق به..

وفي كلا الاحتمالين خاصية المعجزة ومصدرها الالهي أو هي خاصية يمتلكها الانبياء في وقت تاريخي معين زائل، فالمعجزة عند الانبياء لا تتكرر دائما بما يفقدها مع مرور الزمان أعجازيتها الاستثنائية المندثرة حتما في عالم يتحدى فيه اليوم أي انسان يدعي النبوة القيام بمعجزة يصدقها الناس.. عليه نجد لا يكون هناك موجبا أن تتساوى أعجازات الانبياء الخارقة لقوانين ثابتة وضعها الله بالطبيعة أعجازيا، مع تلبية ارادة انسانية في كسر تلك القوانين الطبيعية الثابتة التي وضعها الخالق في تحقيق صحة نبوّة الانبياء أنهم صفوته المرسلون لهداية الناس.

ثم هل المعجزات هي لتلبية سد نقص موجود في قوانين الطبيعة تحتاج التأييد الالهي في الخروج عليها بالمعجزة الوقتية والتراجع عنها بعد كسب يقين الناس بنبوّة من يقوم بها دونما توفر إمكانية التدخل الإعجازي من تغيير ثبات قوانين الطبيعة. ؟

أم هل المعجزات اضافة لقوانين الطبيعة الثابتة توازيها بالتداخل معها أو بالاستقلالية عنها؟ لا شيء تحققه المعجزة من تلك الاسئلة في علاقة التوازي الاعجازي مع قوانين الطبيعة التي لا تدرك نفسها بل يدركها العقل الانساني بمعزل تام عنها وتداخله بها هو لتحقيق بقائه الارضي بمساعدة الطبيعة تزويده بمقومات الحياة والبقاء الذي لا يقتصر على ثوابت القوانين الطبيعية فقط.. ولم يتخذ الانسان يوما قوانين الطبيعة كمعجزات تعزز رغبة الايمان الديني لديه كما لم يسلم في حال نقضها بالمعجزات أن يترتب عليه التسليم بالايمان الديني..

المعجزة وقوانين الطبيعة

هل المعجزة في كسرها قوانين الطبيعة هي لصالح حياة الانسان على الارض في تعديلها أو في سد النقص والانحراف غير الموجود بها؟ أم هي وسيلة يمتلكها الانبياء مؤقتا لاثبات البرهنة أنهم انبياء مرسلون يستطيعون القيام بمعجزات مؤيدة من الرب لا يستطيعها غيرهم من البشر؟ وهنا تكون المعجزة لخدمة الانبياء من البشر وليست لخدمة الرب المستغني عن المعجزات سواء تحققت أم لم تتحقق على أيدي الانبياء.

المعجزة ليست خاصية الهية بمعنى الخالق لا يحتاج معجزات تصدر عنه نيابة في الحصول على قناعة التسليم الايماني به. المعجزة في حال توفر صدورها اليقيني عن الخالق يودعها في قلوب الانبياء لكسب برهان الايمان بهم كانبياء مرسلين من الرب... لكن فهم المعجزة المقترنة بالنبي تكون خاصية بشرية يدركها العقل العادي على أنها قدرة متعالية يمارسها الانبياء على القوانين الطبيعية التي تحكم الانسان وحياته على الارض.

وميزة الشك بالمعجزة سواء كانت من صنع انساني أو الهي ايماني هو أن المعجزات (زمانية) يحكمها تاريخ الانسان توالت عليها عصور طويلة من تقدم مسيرة الانسان الارضية. والاقوام التي قامت بتصديقها في عصور غابرة هي غيرها الاقوام التي تتعامل بالعقل العلمي بما يجعل من المعجزات حاجة لا يحتاجها الانسان اليوم حتى لو كانت من أجل استعادة الايمان الديني المتارجح في صالات ومختبرات العلوم بلا استثناء وفي اغلب المجتمعات رقيّا حضاريا.. الايمان الديني اليوم لا يحتاج معجزات انبياء كي يتأكدوا من تحقق ايمانهم الديني الذي يقوم على تنظيم حياة الارض بقيم الاخلاق والسلوك الذي يعطي الانسان كامل حقوقه الارضية، ولا يضع الايمان الديني اليوم أمامه غاية خلوده الموعود بها في السماء.

المعجزات والزمن

اذا نحن ناقشنا أن المعجزات النبوية هي كسر مؤقت وليس دائميا لقوانين الطبيعة الثابتة أو لبعض ظواهرها الارضية، فتكون حقيقة المعجزات لا تاثير لها على ثبات وكمال قوانين الطبيعة، بعبارة أخرى خرق المعجزات لقوانين الطبيعة الثابتة لا يغيرها ولا يبدلها ولا يستطيع أضافة شيء عليها أو حذف شيء منها، وهنا يكون معنا أن المعجزات الخارقة في حال تصديقنا لها توازي قوانين الطبيعة ولا تستطيع التاثير بها. وهذا التوازي يجعل من المعجزات أحداثا تاريخية ماضية زمانيا عابرة بالمقايسة لها مع ثبات قوانين الطبيعة التي لا تتغير بثباتها الزماني بمعزل عن قوانين المعجزات التي تكسر القوانين الطبيعية بقدرة وقتية زائلة ليس لها تاثير دائمي في خرقها لبعض ظواهر الطبيعة وليس قوانينها. مثال ذلك معجزة المشي على سطح الماء أو الكلام المباشر مع الله أو شفاء الاعمى واحياء الميت والولادة بلا زواج من رجل، والرضيع يتكلم في المهد وغيرها اليوم أنما كانت في حال حصولها عصر ذاك هي كسر مؤقت لقانون طبيعي ينتهي بنهاية زمن المعجزة المؤقتة. بمعنى كل من يحاول تقليد المشي على سطح الماء اليوم سيغرق حتى لو أدعى النبوة أذا كان شخصا لا يجيد السباحة وينجو بنفسه. وكل من يحاول تقليد الكلام مع الله سيكون بالنهاية مجنونا لا يصلح عاهته الطب النفسي ولا مستشفيات الامراض العقلية.

عليه تكون قوانين الطبيعة في ثباتها الدائم مع معجزات الانبياء في توقيتها المؤقت الزائل، أنما تكون تكريسا لحقيقة قوانين الطبيعة الثابتة وجدت لخدمة الانسان في حياته، وتبقى المعجزات براهين أعجازية مؤقتة لا تعمل شيئا لصالح الانسان بمقدار تثبيتها نبوة الانبياء وايمان الناس بهم انهم مرسلون من الرب لهداية الناس بالايمان بوسيلة المعجزات على وجود الخالق والايمان الديني بذلك بما يتبعه من وصايا وارشادات ونواهي وغيرها تنسب للخالق والنبي...

بيرتراند رسل وقوانين الطبيعة

قبل البدء بعرض محتوى عنوان الموضوع الفرعي نذكر أن بيرتراندراسل يفهم وجود الله فهما مغايرا عن غيره من فلاسفة ملحدين، في قوله أن ليس من واجبي البرهنة على وجود الله قبل برهنة الرب على وجوده هو بما يقنعني به عقليا. فهو يضع اللوم على المشككين بالحاده أن يبرهنوا هم له الايمان الديني بما يقبله عقله الانساني خارج اساطير وخرافات المعجزات.

راسل في معالجته خرافة المعجزات كما وسبق أن ذهب له اسبينوزا وهيوم يذهب الى العودة لما جاء به نيوتن وتم دحضه من انشتاين أن الكواكب تدور حول الشمس بارادة الهية بفعل قانون الجاذبية الذي وضعه الرب خاصية تعالقية بين تلك الكواكب، اكتشف الانسان الجاذبية قانونا موجودا في الطبيعة وليس أختراعا من الانسان مضافا على قوانينها. ولم يتم الى اليوم التعامل مع قانون الجاذبية على أنه اكتشاف من قوانين الطبيعة فقط لم يترتب عليه اختراعات وفتوحات علمية لا حصر لها. ولم يكن قانون الجاذبية المكتشف دليل أنه قانون اوجده الله في الطبيعة الارضية والكون اللانهائي من أجل تدعيم الايمان الديني لدى الانسان، قانون الجاذبية خاصية الطبيعة في عدم معرفة الانسان من اين جاءت قوانينها العامة التي تحكمها بلا وعي ولا ارادة منها، ورغبة الله أن يخترع قانونا للجاذبية تسير بموجبه الكواكب من ضمنها الارض والقمر حول نفسها وحول الشمس لا علاقة تربط بينهما. بين قانون الجاذبية الطبيعي كمعطى متعالق بوجود الطبيعة، مع قانون الجاذبية الالهي الوضعي الذي زرعه الله في قلب الطبيعة من أجل أن يتمكن الانسان فك شفرات ورموز تلك الجاذبية.

قوانين الطبيعة حسب راسل هي اصطلاحات انسانية اخذت بحكم تكرار العادة - مستعيرا تعبير هيوم - من خلق تصورات العقل الانساني ولا تمتلك الطبيعة قوانينها المستقلة في وجودها الطبيعي. ولنا التعقيب التالي:

- أن تعبير لايبنتيز أننا نعيش أفضل العوالم الانسانية الممكنة كان بفضل توازي منجزات العلم مع القوانين التي تحكم الطبيعة وليس في وارد هذا التوازي من جانب واحد هو التزام العلم العمل به ولا تعقل الطبيعة ولا تدرك معنى هذا التوازي وأهميته بالنسبة لها بما لا يقل عن أهميته في خلق حياة اكثر جدوى للانسان. العقل الانساني ممثلا بالعلم لا يتقبل معجزات خرق وابطال فاعلية قوانين الطبيعة وأهمية ذلك في تنظيم حياة الانسان وهذه مسألة جديرة بالاحترام تكون مقبولة على صعيد مناطحة الفلسفة مع العلم، فالعلم لا يمتلك معجزات دينية بل يمتلك معجزات عقلية تقوم بتطوير الوجود الانساني بعيدا عن ميتافيزيقا الايمان الديني القائم على معجزات لا تقبل برهان العقل العلمي لها.. ومقولة لايبنتيز أننا نعيش افضل العوالم الممكنة غير صحيحة عندما نحاكمها بما يعيشه العالم اليوم من تهديد أمن غذائي وامن صحي، وتفاوت بين الغنى والفقر، وتفاوت بين الصحة والمرض على صعيد الشعوب الارضية وليس على صعيد مجتمع بعينه، تلوث البيئة وانتشار الاوبئة واختلال التوازن الطبيعي الموروث في ارتفاع درجة حرارة الارض المستمر وهكذا بما لا يتوقف عنه التعداد والحصر.

بمعنى أن هذا التوازي بين العلم وقوانين الطبيعة وتعالقهما المشترك في محاولة تنظيم حياة الانسان بافضل ما يكون هو ممكن متاح دليل يدعم النظرية التي تذهب الى أن الطبيعة خلقت قوانينها المنتظمة ذاتيا، بمعنى الطبيعة لا تكون موجودة ادراكيا بالنسبة للانسان من غير طبيعة تحكمها قوانين ثابتة اكتشف الانسان بعضها بما يديم حياته لا بما يخرب قوانين الطبيعة. وينتفي وجود الطبيعة الحي في تجريدها من قوانينها العامة التي تحكمها من غير درايتها لا بفهمها ولا بأهمية امتلاكها بالنسبة لها والانسان.

كما ينفي هذا جدلية نقاشية أن القوانين التي تحكم الطبيعة قوانين ازلية في ثباتها ملازمة الطبيعة وجدت كمعطى الهي لا يمكن تغييره لا بمعجزات الدين ولا بمعجزات العلم. بما يجعل من ألحاد العلم حول موضوع. المعجزات في توكيده عدم الايمان بها مهمة البرهنة على أهمية من أين أمتلكت الطبيعة قوانينها الثابتة،؟ وكذا نفس الحال مع المؤمن الذي يؤمن بقدسية ما خلقه الرب من طبيعة ووضع لها قوانين ثابتة مما يرتب البرهنة على صحة هذا الادعاء بعيدا عن التسليم ببراهين المعجزات الخارقة..

- اذا تماشينا مع كل من ديفيد هيوم وبيرتراندرسل أن قوانين الطبيعة هي تصورات انسانية لمدركات (قوانين ) غير ثابتة لا تمتلكها الطبيعة من غير تخيّلات الانسان التصورية لها – وهذا مرفوض قطعا – فقوانين الطبيعة التي يصنعها الانسان أو يخترعها لا علاقة ترابطية في الغاء احدهما الاخر بمعنى ما يخترعه العلم لا يلغي قوانين طبيعية لا يعرف يقينا مصدرها مثل قانون الجاذبية ومفهوم الزمان على سبيل المثال. التي لا قدرة للطبيعة في امتلاكها لها بوعي منها لا تمتلكه كما لا يستطيع الانسان خلعها على الطبيعة من أجل ادراكها وأهميتها في بقاء الحياة على الارض.لا يستطيع الانسان مجاراة قوانين تحكم الطبيعة كما تمتلكها الطبيعة وجودا.

- التصور الثالث اذا نحن صادرنا مقولة راسل أن المعجزة ليست من خلق الله فهنا نصطدم بحقيقة أن المعجزة الدينية لا تمتلك قيمة لها كما وردتنا عن الانبياء هي ما فوق انسانية ليس على المستوى الديني فقط بل على المستوى العقلي ايضا. اي أن خرق قوانين الطبيعة بالمعجزات لا أهمية لها، كون المعجزة تلتقي القانون الطبيعي في مصدر واحد هو الانسان ولا علاقة ولا دخل للخالق بها ولم يكلف الرب أحدا من البشر القيام بها.

- ويبقى السؤال المحيّر كيف نشأت المعجزات في تداخلها بصلب الايمان الديني وهل هي واقع محكوم به الانسان ويدركه العقل، أم هو وهم اسطوري رافق نشأته وملازمته الايمان الديني عصورا طويلة من الشد والجذب دونما الخروج بنتيجة. وهل الطبيعة أخترعت قوانينها الطبيعية من غير ادراك منها؟ وهل المعجزة تكليف من رب العالمين القيام بها في تدعيم الايمان به أم لتدعيم الايمان بمعجزات الانبياء؟ وهل المعجزات اساطير خرافية تطورت عبر العصور ام هي وقائع دينية حقيقية حدثت مصدرها الخالق وليس اجتهادا ذاتيا يختص به الانبياء في تمكينهم القيام بالمعجزات الخارقة لقوانين الطبيعة الانسانية التي باتت اشكالية مشكوك بها بحد ذاتها بمعزل عن تعالقها الشديد بالمعجزات بمن أوجد تلك القوانين الثابتة بالطبيعة التي تمكن العلم من اكتشاف بعضها واهميتها الكبيرة في حياة الانسان في عدم القدرة الانسانية خرقها الدائم، واشكالية من أوجد قوانين الطبيعة فيها وزرعها لتنظيم وضبط الطبيعة من جهة وأهمية هذا الربط في تاثيره على حياة الانسان ليس على صعيد تدعيم الايمان الديني وانما على صعيد كافة مناحي حياة الانسان المتعالقة بالطبيعة بما لا قدرة على انفكاكهما حيث يترتب على مثل هذه الفرضية بالانفكاك أن لا يبقى شيء موجود اسمه طبيعة وكذلك لا يوجد بعدها شيء مخلوق يسكن الارض يسمى انسانا.

***

علي محمد اليوسف

..........................

هامش:

1. وليم رايت،تاريخ الفلسفة الحديثة، ترجمة محمود سيد احمد مراجعة وتقديم امام عبد الفتاح امام ص 21

فَلسفةُ الجَمَالِ هِيَ فَرْعٌ مِنَ الفَلسفةِ يَدْرُسُ طَبيعةَ الجَمَالِ والذَّوْقِ والفَنِّ، في الطبيعةِ والأعمالِ البشريةِ والأنساقِ الاجتماعية، وَيُكَرِّسُ التفكيرَ النَّقْدِيَّ في البُنى الثَّقَافيةِ بِكُلِّ صُوَرِهَا في الفَنِّ، وَتَجَلِّيَاتِها في الطبيعة، وانعكاساتِها في المُجتمع، وَيُحَلِّلُ التَّجَارِبَ الحِسِّيةَ، والبُنى العاطفية، والتفاصيلَ الوِجْدَانِيَّة، وَالقِيَمَ العقلانيةَ، التي تُوضِّح سَبَبَ شُعورِ الإنسانِ بالرَّاحَةِ والمُتعةِ عِندَ رُؤيةِ الأشياءِ الجميلة.

والسُّؤالُ الأساسيُّ في فَلسفةِ الجَمَالِ: هَل الجَمَالُ ذَاتيٌّ يَكْمُنُ في عَيْنِ الناظرِ أَمْ أنَّه مِيزَة مَوضوعية مَوجودة في الأشياءِ الجميلة؟. وَبِعِبَارةٍ أُخْرَى، هَلْ مَصْدَرُ الجَمَالِ هُوَ خَاصِيَّة مَوضوعية في الأشياء أَم استجابة ذاتية في الإنسان، أمْ نتيجة للتفاعل بينهما؟.

إنَّ الجَمَالَ مَوجودٌ في العَقْلِ الذي يَتَأمَّلُه، وكُلُّ عَقْلٍ يُدْرِكُ جَمَالًا مُخْتَلِفًا، والذَّوْقُ يَلْعَبُ دَوْرًا مُهِمًّا في هَذا المَجَالِ، وَيُقَدِّمُ حُكْمًا جَمَالِيًّا خَالِصًا، وَلَيْسَ حُكْمًا مَعْرِفِيًّا ولا مَنْطِقِيًّا. والجَمَالُ مَفهومٌ مُتناقضٌ وَمُتَشَعِّب، حَيْثُ تَختلف وِجْهَاتُ النظرِ حَوْلَه بَيْنَ فَيلسوفٍ وآخَر. وَقَدْ رَبَطَ الكثيرون مَفهومَ الجَمَالِ بالقِيَمِ الإيجابيةِ المُطْلَقَةِ، مِثْل: الخَيْر والحقيقة والعَدْل. ويَرى البعضُ أنَّ مَفهوم الجَمَالِ مُرتبط بالاستمتاعِ والمَشاعرِ، في حِين يُركِّز آخَرُون على الجانبِ العَقلانيِّ والمَنْطِقِيِّ.

تَتَوَزَّعُ فَلسفةُ الجَمَالِ عِندَ الفَلاسفةِ بَيْنَ رُؤى مُختلفة، مِنها: اعتبارُ الجَمَالِ خَاصِيَّة في الشَّيْءِ نَفْسِه مِثْل التوازنِ والتناسبِ (أفلاطون وأَرِسْطُو)، أوْ كَمَفهوم مُرتبط بالخَيْرِ والكَمَالِ (توما الأكويني)، أوْ هُوَ حُكْمٌ ذاتيٌّ يَعْتمد على تَجْرِبَة الشَّخْصِ وَذَوْقِه الخاص، وَهَذا الذَّوْقُ يُمْكِن تَنْميته وتَثقيفه مِنْ خِلال الخِبرة (فَلاسفة التَّنْوير مِثْل ديفيد هيوم)، أوْ أنَّ الجَمَالَ يَكْمُنُ في عَلاقةٍ ذاتيَّة بَيْنَ الإنسانِ والعَالَمِ، والإنسانُ هُوَ مَنْ يُضْفِي عَلى العَالَمِ جَمَالَه، وأنَّ الجَمَالَ مَا هُوَ إلا انعكاسٌ لِصُورةِ الإنسانِ في الأشياءِ (نيتشه)، أوْ أنَّ الجَمَالَ مُرتبطٌ بالإرادةِ والفِكْرِ الإنسانيِّ، وَهُوَ صِفَةٌ نِسْبِيَّة عَلى عَلاقة وَثيقة بالإنسانِ، نَوْعًا وإدراكًا، وَلَيْسَ صِفَةً مُطْلَقَة (شوبنهاور)، أوْ هُوَ مُصالحة بَيْنَ الأجزاءِ الحِسِّيةِ والعَقْلانيةِ مِنْ طَبيعةِ الإنسانِ (فريدريش شيلر)، أوْ أنَّ الجَمَالَ لَيْسَ صِفَةً في الشَّيْءِ نَفْسِه، بَلْ هُوَ استجابة ذاتيَّة، ولكنْ بِطَابَعٍ عالميٍّ، ولا يَتَعَلَّق الأمْرُ بِمَنفعةِ الشَّيْء (كانط).

إنَّ أفكارَ الإنسان الفلسفية تُشكِّل نَظْرَتَه للجَمَالِ، وتُؤَثِّر عَلَيْه، كَمَا أنَّ مَشاعرَ الإنسانِ تتأثَّر بِتَصَوُّرَاتِه ومَفَاهيمِه عَن الجَمَالِ، فإذا نَظَرَ إلى البيئةِ التي مِنْ حَوْلِه عَلى أنَّها جَميلة وَمُمْتِعة مِنَ النَّاحِيَةِ الجَمَالِيَّة، فإنَّ هَذه النَّظْرَة الإيجابية تَنعكِس عَلى مَشَاعِرِه، فَتُؤَثِّر عَلَيْهِ بِطَريقةٍ إيجابية.

وَيُعْتَبَرُ الفَيلسوفُ الإيطاليُّ بينيديتو كروتشه (1866 _ 1952) مِنْ أبرزِ الذينَ قَدَّمُوا دِرَاسَاتٍ عميقة في فَلسفةِ الجَمَالِ، وَكَتَبُوا في هَذا المَجَالِ بشكلٍ تفصيلي. وَهُوَ يَعْتنق فَلسفةَ المِثاليَّة المُطْلَقَة، ومَذهَبُه الفَلسفيُّ يَضَعُ أربع دَرَجَات في " هُبوط عَالَمِ الرُّوح "، وهي الدَّرَجَة الجَمَاليَّة (تَجَسُّد الرُّوح الفَرْد)، والدَّرَجَة المَنْطِقِيَّة (مَجَال العام)، والدَّرَجَة الاقتصادية (مَجَال المَصلحة الخَاصَّة)، والدَّرَجَة الأخلاقية (مَجَال المَصلحة العَامَّة).

تَتَمَحْوَرُ فَلسفةُ الجَمَالِ عِندَ كروتشه حَوْلَ فِكرة أنَّ الجَمَالَ هُوَ الحَدْسُ والتَّعبيرُ عَن الشُّعُورِ في صُورة ذِهنية، حَيْثُ يَمْزُجُ العملُ الفَنِّي بَيْنَ الرُّؤيةِ والتَّعبيرِ دُون انفصالٍ بَيْنَهما، وكانَ يَرى أنَّ الفَنَّ لا يُمثِّل مَعرفةً بالواقعِ بِقَدْرِ مَا هُوَ مَعرفة حَدْسِيَّة وَرُؤية داخليَّة، وأنَّ الوظيفة الجَمَالِيَّة الأساسيَّة هِيَ التَّعبيرُ عَن الذات، بَدَلًا مِنَ التَّمثيلِ الخارجيِّ للعَالَمِ.

يُعْتَبَر كروتشه مِنْ أكثر فلاسفة إيطاليا تَمَيُّزًا في القَرْنِ العِشرين. وكان يؤمن بوجود نَوْعَيْن مِنَ المَعرفة: المعرفة التي تأتي عن طريق الفَهْم، والمعرفة التي تأتي عن طريق الخَيَال. وَهُوَ يَعْتبر أنَّ الخَيَالَ يُوجِّه الفَنَّ، والفَنُّ لا يُحاوِل تَصنيفَ الأشياءِ، كما يَفْعل العِلْمُ، لكنَّه يَحُسُّ بِها ويُمثِّلها فَقَط، والفَنُّ رُؤيةٌ وَحَدْسٌ كَمَوضوعٍ خارجيٍّ (شَيْء أوْ شَخْص) أوْ كَمَوضوعٍ داخليٍّ (عاطفة أوْ مِزَاج)، يُعبِّر عَنْهُ الفَنَّانُ باللغةِ أو اللَّوْنِ أو النَّغَمِ أو الحَجَرِ، والعَمَلُ الفَنِّي هُوَ صُورةٌ ذِهنية يُؤَلِّفُها الفَنَّانُ، ويُعيد مُتَذَوِّقُو الفَنِّ تأليفَها، وَلَيْسَ الفَنُّ سِوى عَرْضِ الشُّعورِ مُجَسَّمًا في صُورة ذِهنية.

عَرَضَ كروتشه نَظَرِيَّتَه الجَمَالِيَّة في كِتَابَيْن لَه: عِلْم الجَمَال(1902)،والمُجْمَل في عِلْمِ الجَمَال(1913)، وَتَتَمَحْوَرُ حَوْلَ فِكرة مَركزية أساسيَّة، وَهِيَ وَحْدَة الإبداعِ الفَنِّي، حَيْثُ يَسْعَى إلى التَّوفيقِ بَيْنَ النَّشَاطِ الباطنيِّ (الحَدْسِيِّ / الرُّوحِيِّ) للإبداعِ الفَنِّي، وَالنَّشَاطِ الخارجيِّ الحِسِّي التَّعْبيريِّ. وَقَدْ حَلَّلَ طَبيعةَ الجَمَالِ، وَتَجَلِّيَاتِه في الوُجود، وَرَبَطَه بالأحاسيسِ والمَشاعرِ الإنسانية، وَبَيَّنَ أنَّ عِلْمَ الجَمَالِ لا يُعْنَى بإصدار الأحكام عَلى مَا هُوَ جَميلٌ أوْ قَبيحٌ، بَلْ يَفْحَص تَجَارِبَ الجَمَالِ كظاهرةٍ شاملة.

كانَ لفلسفةِ كروتشه الغنية تأثيرٌ قوي في الفلسفة الإيطالية والأوروبية بِرُمَّتها، وَاحْتَلَّتْ أعمالُه مَكانةً بارزةً في كلاسيكيَّات مِثالية القَرْنِ العِشرين، وأثَّرَ في مُعْظَمِ مَنْ أتى بَعْدَه مِنَ المُفَكِّرين والفلاسفة، وكان له أثرٌ في إعادة تقويم أفكار الفَيلسوفِ الألمانيِّ هِيغل.

***

إبراهيم أبو عواد - كاتب من الأردن

تمهيد: صوت اللغة تعبير خارجي عن مدركات العقل. وصمت الفكر رؤية لغوية داخلية لا صوت لها. وصمت الفكر وصوت اللغة نسختان تحملان نفس الابجدية المنطوقة خارجيا والصامتة داخليا في ادراك الاشياء من حيث حقيقة التفكير هو لغة. اللغة والصمت التفكيري هما نسختان لابجدية تصويرية واحدة في التعبير عن المدركات المادية خارجيا والخيالية داخليا، فهما يمثلان تطابقا بالدلالة واختلافا بالمفهوم ماجعل فلسفة اللغة المعاصرة ونظرية العقل والمعنى تدور في حلقة دائرية مغلقة مرتكزها اللغة بما هي ضوابط نحوية تراوغ في التعبير عن المعنى. يكتنفها عدم وضوح التفريق في التعبير عن حقيقة واحدة هي ان اللغة ابجدية صوتية تجريدية تطابقها لغة تجريدية تحمل نفس الرؤية الخيالية هي الفكر الصامت في تعبيرهما عن تجريد اللغة للمادة او الموضوع المستمد من مصنع الخيال الذاكراتي حيث يصبح الفكر واللغة دلالة لمعنى محدد لفهم الواقع او موضوعات الخيال.

ميزات لغة الانسان

اكتسب اختراع اللغة تعريفه الفلسفي المعاصر عند الانسان من حقيقة اللغة انها(صوت) يحمل معنى ودلالة مصدره ما تطلقه حنجرة الانسان المتطورة فسلجيا عبر الاف السنين في ملازمتها اللسان التدريب على اطلاق صوت ذي معنى لا صوت حيواني لا معنى له***، وباختلاف تدني قدرة وعي الحيوان تطوير اصواته الى نوع من لغة تواصلية لعدم ادراكه ان الصوت يمكن تطوره الى ابعد من اشباع حاجتي رغبة الجماع وحاجة تحذير نوعه من الخطر الذي يتهدد بقائه من استهداف الكائنات الحيوانية الاخرى للاضعف في الطبيعة... ميزة تطور لغة الانسان وتحولها من اصوات حيوانية بلا معنى يقلد الانسان بها غيره من الحيوانات مقارنة باختلافها عن اصوات بقية الكائنات الحية نجمله بالتالي :

لغة الانسان عقلية صوتية تشير لمعنى اي تصدر عن شبكة اعصاب ترتبط بقشرة الدماغ. لها رموز وقواعد واحكام تضبطها منها الابجدية او المقاطع الرمزية المكتوبة في تعبيرات الدلالة التواصلية فهم مشتركات الطبيعة مع الانسان ومدركاته لموجودات عالمه المادي والخيالي. لغة الانسان الصوتية والمكتوبة تحمل دلالة ومعنى لشيء محدد معين. لا توجد لغة صوتية ولا لغة مكتوبة رمزية لا تحمل التعبير عن معنى قصدي. لغة الانسان نشأت وبقيت لغة تجريد لفظي يحددها ويضبطها (التجريد) اللغوي الذي يمكنه التعبير عن كل شيء لكن ليس بمقدوره ان يكون متموضعا ماديا او موضوعا يدركه العقل بمعزل عن ارتباطه بالمعنى كتجريد.

الصوت الصادر مجردا عن معناه اي بلا حمولة فكرية قصدية هادفة لا يكون ولا يصبح لغة. الصوت ليس هو اللغة فقط بل هو المعنى الدال عن متعين مادي او متعين خيالي ايضا. وبلغ التضاد الاختلافي بين انصار السلوك اللفظي بزعامة سكينر الذين يعتبرون دراسة الصوت باللغة له اسبقية الاهتمام على دراسة المعنى باللغة التي يقول بها انصار فلسفة اللغة وبعض علماء اللسانيات ونظرية فائض المعنى.

لغة الانسان تتسم بخلق جماليات لغوية صائتة وصامتة معا هي خارج الاستعمال الدارج على ان وظيفة اللغة تواصلية فقط داخل مجموعة بشرية يجمعها تعايش مشترك دائم. مثال تلك الجماليات نتاجات الادب والفنون ومختلف الفعاليات من رسومات وتشكيل ونحت التي يجري توظيف اللغة بها خارج وظيفة التواصل اللغوي الحواري المباشر. صورة اللوحة التشكيلية تكون اللغة فيها هي (المفهوم).

في تقريب نوضحه لاحقا تفصيلا ان الفكر لغة ابجدية تصورية تحمل معنى قصدي. ولا يمكننا تصور لغة لا يحتويها فكر قصدي هادف. بفارق من عدة فوارق ان اللغة صوت نشأ استجابة لاشباع رغبات يحتاجها جسم الانسان داخلي وخارجيا ولا يختلف شكل الصوت اللغوي من حيث هو ابجدية بلا صوت عن الفكر الملازم لها من حيث كونه محتوى لغوي صامت لا قيمة له بدون لغة تعبير صوتي كلام او ابجدي مكتوب عنه. ملازمة اللغة للفكر هو خزين تحتفظ به الذاكرة والذهن كحلقات في منظومة العقل الادراكية. وفرق اللغة عن الفكر انهما كلاهما ابجدية لغوية واحدة تختلفان بالصوت فقط. اللغة تعبير تفكيري عن صوت والفكر لغة تعبير عن صمت.

اللغة والفكر وحدة تعبيرية واحدة متكاملة يتوزعها السلوك والعمل والتعايش المشترك لمجموعة بشرية تجمعها خواص مشتركة ومصالح واحدة. لا اختلف مع احد ابرز الفلاسفة الاميركان المعاصرين وليفريد سيلارز قوله الحياة او الوجود هي لغة فقط فهو مصيب تماما ان الادراك الشيئي هو لغة مجردة . كل الاشياء وموجوداتها وعلاقاتها لا يمكننا فهمها والتعبير المشترك والمنفرد عنها من غير اللغة كتجريد. بخلاصة العبارة اللغة هي وسيلة فهم العالم وادراك الوجود . ولا وجود لعالم سليم له معنى يدركه الانسان بلا لغة او لغات تنظم ادراكاتنا لذلك الوجود. كلية المنظومة الفكرية الادراكية العقلية بدءا من الحواس وانتهاءا بالدماغ هي (لغة) فقط. بهذا نجزم بارتياح لا يحتاج برهنة عليه هو ان العقل جوهر تجريدي ماهيته التفكير حسب تعريف ديكارت. هنا نحن نسقط خاصية التفكير على الدماغ ومن غيره لا يوجد تفكير معرفي. اي علينا الانتباه التفريق بين فيزيائية العقل كعضو فسلجي بايولوجي من مكونات الجسم وبين العقل كناتج تعبيره التجريدي عن الوعي بمدركاته بوسيلة اللغة. على حد تعبير ديكارت العقل جوهر ازلي خالد ماهيته التفكير. الخالد هو انتاجية افكار العقل وليس خلود العقل البيولوجي المقصود به الدماغ. وحينما نقول فهم العالم يبدأ باللغة وينتهي بها هذا لا يعني ان العالمين المادي والخيالي للانسان غير موجودين بدون لغة. لغة التعبير عن الاشياء هو توكيد لوجود موجودات سابق وجودها على اللغة. وبغير تلازم اللغة مع الوجود لا يبقى لكليهما معنى انفصاليا عن بعضهما. الوجود بمفهومه الواقعي سابق على كل تفكير لغوي به.

الفرق والاختلاف بين الفكر واللغة

هذا العنوان الفرعي يستلزم منا تبيان مالفرق بين تفكير العقل صمتا داخليا، وبين تفكيره تعبيرا لغويا صوتيا خارجيا وما المقصود به وما دور الفكر واللغة في تحديد معنى الشيء المفكّر به كموجود.؟ كيف يفكّر العقل داخليا مع ذاته وموضوعه الخيالي، وكيف يفكّر خارجيا في استقلالية وجود مدركاته من الاشياء ماديا عنه؟ بالحقيقة ان العقل في كلا التفكيرين الداخلي والخارجي يتمّان في توافقهما والتقائهما في مصدر التفكير الواحد الذي هو الوجود المادي او الموضوع الخيالي، فلا يوجد عمل فكري في العقل لا يرتبط بموضوع مدرك حسيّا او خياليا والا كان تفكيرا عقيما وهميا وعدما لا علاقة للعقل به ولا للموضوع علاقة بالعقل المدرك له.

التفكير لا يتم بغير موجود متعيّن موضوع سواء اكان ماديا ام خياليا يسبق وجوده ادراك المحسوسات ومنظومة العقل الادراكية له. من المهم تاكيد ان العقل تفكير لغوي لفهم وتفسير الحياة. لذا ادراك العقل لموجودات العالم الخارجي يسبق الوعي بها. تفكير العقل خارجيا يتم بوجود شيء مدرك مادي محدد او (موضوع) يكون مادة للتفكير تنقله الحواس ادراكيا للذهن ومن ثم للعقل على شكل انطباعات وقتية بالذهن، وقد تتعّطل مهمة الحواس هذه عندما نجد العقل يفكّر تخييلا وتخليقا عقليا بموضوع ذهني تستحضره الذاكرة من الخيال وليس من الواقع.

لا علاقة له بالمادة والمحيط الخارجي للاشياء كأن يفكر الانسان خياليا في اشياء من الطبيعة او يتخيّل اي شيء او اية فكرة مجردة غير متعينّة ادراكا ماديا وجوديا امامه في الطبيعة او في الانسان كغيرها بما لا يحصى من الاشياء بالعالم الخارجي من موضوعات خيالية تنعش الذاكرة العقلية التفكير بها كمواضيع سواء في مواضيع الخيال العلمي او في مواضيع الخيال الفني والادبي والجمالي الابداعية وهي مواضيع لا وجود واقعي مادي لها يحدها واقعيا خارج تفكير العقل الحسّي بها. الخيال جوهر لغوي يوازي اللغة جوهرا عقليا.

كما لا تقوم الحواس المادية ولا من مهامها نقل موضوع التأمل الخيالي الى الدماغ وانما مخيّلة الانسان وذاكرته تستذكره في الذهن خيالا مجردا وتجعل منه موضوعا لتفكيرالعقل الذهني في تداعيات مخيالية منها مستمد من الذاكرة وبعضها الاخر تخليق خيالي لظواهر وكائنات وتصورات لا وجود واقعي لها.

يلي ذلك ان العقل قد يعبّر لغويا عن موضوعه الخيالي بعد تخليقه الجديد له في لغة الكتابة او اي نوع من انواع لغة التواصل، او لا يعبر عنه باللغة وانما بوسيلة توصيل جمالية تكون اللغة فيها في حالة كمون يقوم المتلقي استكشافها من خلال لوحة او فن تشكيلي او موسيقا او يوغا او باليه او نص مسرحي صامت. جميع هذه الفعاليات هي لغة غير صوتية يغلب الوعي العقلي بها الادراك الحسي.

اذن في البدء علينا الاقرار الآلي الثابت انه لا يمكن للعقل الانساني ممارسة التفكير ما لم يكن هناك موضوعا واقعيا ماديا او خياليا يصبح مادة او موضوعا لتفكير العقل. وميزة العقل السوي انه لا يفكر في فراغ اوفي لا معنى أو لاشيء. وقلنا ايضا ان الحواس ليس من مهامها ولا من قدراتها نقلها موضوعا خياليا هو من ابتداع المخيّلة والذاكرة الذهنية للعقل ولا دور للحواس به، بل الدور كل الدور يكون للعواطف والوجدانات واللاشعور النفسي في التعبير عن الفنون والجماليات خياليا في لغة كامنة صامتة تتواصل مع المتلقي ايحاءا تأويليا تتعدد قراءاته اللغوية الجمالية. وان العقل من قدراته الذاتية المعجزة انه يفكر خياليا بموضوع او اكثر لم تقم الحواس او احداها بنقله له. وان العقل يفكر خياليا بنفس اهمية وربما باكثراهمية من تفكيره بالاشياء كموضوعات في وجودها المادي في الطبيعة والعالم الخارجي.

هنا يأتي تساؤل أهم ان وسيلة التفكير العقلي للشيء المدرك داخل العقل تتم بماذا أو بأي كيفية يعقل العقل او الدماغ ذاته وموضوعه؟ وما هي آلية التفكير العقلي بالموضوع؟ لحد الان تمّكن العلم من معرفة كيف تعمل حاسة البصر العين في رؤيتها الاشياء، وكذا مع حاسة السمع او الذوق او اللمس، اما كيف يعقل الدماغ نفسه ذاتيا بالتفكير الصامت، كما يعقل موضوعاته ايضا ،وفق أية الية يتم الادراك العقلي في تخليقه الاشياء المادية وتفسيرها فهو غير معلوم علميا اكثر مما تزودنا به الفلسفة وليس تخصص علم طب وظائف الدماغ والاعصاب العاجزة ايضا على حد علمي من تفسير الاجابة كيف يفكر العقل.. لكن من البديهي ان عقل الانسان في كل لحظة من لحظات تفكيره يخلق لغة يفهمها هو ويفهمها غيره. ان يعقل الانسان ذاته معناه يصنع لغة تفكيره في ابجدية صورية تمثليّة. فالعلم يوّضح كيف ان آلية التفكير العقلي تنحصر في موضوع مدرك حسيّا وعقليا عن طريق الجهاز العصبي المرتبط بملايين الخلايا الدماغية التي تتناوب الادراك في عملية معقدة من اختصاص طب علم الدماغ والجملة العصبية وهو مجال لا تعلمه وتعمل به الفلسفة ولا باستطاعتها الخروج منه بنتيجة يرضاها العقل والطب العلمي. على حد تعبير عالم الفيزياء ستيفن هوكنج قوله لامستقبل ينتظر الفلسفة يوازي او يتقدم منجزات العلم. طبعا خطأ عالم فيزياء كبير مثل هوكنج في حكمه على نهاية مستقبل الفلسفة الحتمي كان بمنطوق علمي هو علم الفيزياء الفلكي وليس بمنطوق الفلسفة.

اما في توضيح الفلسفة فهو حين يعقل الانسان ذاته تفكيرا ماديا ام خياليا فهو يحتاج حتما لمادة او موضوع يدركه واقعيا او خياليا كما ذكرنا سابقا لا يخرج عن وصاية العقل في حال انعدام واسطة التعبير الفكري – اللغوي عنه وبه. التفكير بشيء هو الاقرار البديهي المسبق بموجود سابق عليه هو الموجود. اي بمعنى التفكير العقلي لفرد لا يدركه الانسان الآخر في ماهيته خارج العقل الا في حالة التعبير الفكري – اللغوي عنه حين يكون موضوع التفكير العقلي متموضعا فكريا في الواقع المادي لوجود الاشياء.

اما ادراك شخص لما يفكر به شخص آخر عقليا جوّانيا في صمت دونما افصاحه عما يفكر به بالكلام او اللغة او الاشارة فهو محال. فالعقل لا يدرك ما يدورفي اذهان الاخرين، ولا ما يعتمل في دواخلهم من وجدانات وعواطف الا بعد إفصاحهم والتعبير عنها بواسطة ادراك تواصلي لغوي او غيره مع الاخرين..

فاذا اراد العقل وجوب التعبير عن موضوعه المفكّر به للعالم الخارجي المستقبل له، توّسل لذلك الفكر – اللغة. واذا لم يشأ ذلك فانه اي العقل يجعل من موضوعه تفكيرا داخليا صامتا غير متاح ادراكه من غيره الذي هو (أنا) الفرد العاقل المفكّرمن نوعه (الانسان الاخر) بمعنى ان الفكرة واللغة المعبّر بها صمتا عقليا تنعدم في التاثير وفي الحضور في كيفية نقل تفكير مصنع الحيوية العقلية التخليقية للاشياء التي يقوم بها العقل ادراكا وتفكيرا داخليا. فاللغة والفكر لا يحضران سوّية الا في محاولة تنفيذ ايعازات مصنع الحيوية العقلية بالاخبار الادراكي العقلي عن موضوع جرى التفكيربه ذهنيا واكتملت مهمة اعادته من العقل الى عالم الاشياء كفكرجديد بلغة جديدة وليس كموجود سابق مستقل في عالم الاشياء قبل ادراك العقل له.العقل لا يخلق موجودات الحياة القبلية بالفكر بل يخلق وسائل فهم وتفسير وعي تلك الحياة في إعطائها قيمة منظمة تخدم الانسان وتقدمه .

ايعازات العقل الارتدادية الصادرة منه والواردة اليه بواسطة منظومة الجهاز العصبي المرتبطة بالدماغ في تخليقه لمواضيع جرى تفكيره بها انما تتم في تنفيذ اللغة او غير اللغة ( سيميائية الحركات) ايعاز العقل في اعادة الموضوع المفكّر به من العقل الى امكانية ادراكه في العالم الخارجي بفهم جديد عما كان عليه قبل ادراك العقل له، في توّسله اللغة التي هي الفكر ولا فرق بينهما في التعريف المادي او التجريدي بالموضوع في وجوده المستقل في عالم الموجودات الخارجي بعد تخليقه عقليا.الوجود الادراكي الحسي او العقلي المستقل هو وجود فكري لغوي كما هو وجود مادي مستقل في عالم الاشياء ايضا.

كيف تكون اللغة هي الفكر؟

التساؤل الآن كيف تكون اللغة هي الفكر حسب ما تذهب له جميع نظريات علم اللغة واللسانيات المعاصرة، ولماذا يعجز ادراك العقل للاشياء التفريق بينهما اي بين الفكر واللغة.اذا كانا يحملان مدلولين متباينين مختلفين في تعبيرهما عن الموضوع الواحد باكثر من ادراك وتأويل واحد صادر عن العقل؟. سؤال يسبقه جوابه.

هنا اللغة والفكر المتلازمان في تعبيرهما عن الاشياء ليس بمقدورهما تفسير وجود الشيء بمعزل احدهما عن الاخر اي بمعزل اللغة عن الفكر، او الفكر عن اللغة لانه يكون ذلك استحالة ادراكية تعجيزية للعقل....في امتناع الفكر واللغة التعبير عما يرغبه العقل التعبير عنه وجودا واعيا مدركا. ان في عجز الفلسفة الخروج عن نظرياتها المفترضة شبه الثابتة ان الفكر هو اللغة المعبّرة عنه، او ان اللغة هي وعاء الفكر، او ان اللغة هي بيت الوجود.وأن اللغة مبتدأ ومنتهى ادراك وجود الانسان والطبيعة والاشياء في العالم الخارجي. جميع هذه التعبيرات الفلسفية تفهم اللغة على انها فعالية ادراكية عقلية في تحديد الفكرة او الموضوع في تموضعهما خارجيا كي يتم ادراك الشيء ومعرفته من قبل الآخرين من الذوات العقلية المدركة وهو صحيح الى حد كبيرولا يتوفر مجال أدحاضه في الاحتكام للعقل في ادراكه الوجود على وفق هذه الآلية التي ترى ان الفكر واللغة وجهان لعملة واحدة.ومن المحال ادراك الاشياء بالفكر دونما اللغة، ولا باللغة دونما الفكر.

في هذه الحالة حين تكون اللغة هي تعبير عن فكرة متموضعة داخل او خارج العقل، يستحيل الفصل بين اللغة والفكرة او الموضوع المعّبرعنه بهما. فبهما (الفكر واللغة) يصبح التفكير الذهني العقلي موضوعا ومتعيّنا وجودا في العالم الخارجي بعد تخليقه عقليا، وفي هذا الاسلوب يكون تفكير العقل خارجيا او بالاحرى من اجل فهم الوجود الخارجي للاشياء المستقلة. حين نقول تفكير العقل الداخلي المقصود به هو التفكيرالذاتي الصامت، أما تفكير العقل خارجيا فهو عندما يجري تعبير اللغة عن موضوع تفكيرالعقل واقعيا ماديا كوجود مستقل في عالم الاشياء.وبالواقع ان هذا التفريق في تفكير العقل داخليا صمتا وخارجيا بوسيلة اللغة، انما هما في الاصل تفكيرلغوي واحد للعقل في موضوع محدد مشترك يتميّز به بمعزل عن كل موجود مادي او متخيل آخر.أي أن العقل واللغة والفكر يجمعهم (وحدة وجود أسبقية الموضوع على تفكيرهم ) المدرك في وقت واحد معيّن.وهكذا هي الحال في تناول اي موضوع او شيء من العالم الخارجي كي يتم تخليقه داخل العقل قبل افصاح الفكر واللغة عنه كوجود او شيء في العالم الخارجي.

ان ادراك العقل للاشياء الواردة له عن طريق الحواس بما لا يحصى في تنوعاتها وتوقيتاتها الزمنية،لايعقلها العقل دفعة واحدة،اويعطي الدماغ ردود الافعال الانعكاسية الارادية وغير الارادية عليها بعشوائية من دون تراتيبية يعتمدها العقل..

ذهبنا الى استحالة فصل اللغة عن الفكر في حالة افصاح العقل عن فهمه وتعّينه لموجود او شيء مادي ما في العالم الخارجي.وليس في التفكير الصامت داخل العقل اذ يكون الفكر واللغة غير مدركين في التعبير عن شيء هو لا يزال موضوع العقل بالتفكير به صمتا داخليا.انه من المهم تاكيد ان العقل في تخليقه اشياء الوجود الخارجي والوجود الخيالي الداخلي انما يتم في تفكير العقل باللغة المتكاملة مع الفكر.اي ان تفكير العقل بالشيء لا يكون بالفكر المجرد عن ابجدية اللغة فهذا هراء، وكذا الحال بالعكس ان العقل لا يعقل الوجود باللغة دون الفكر ايضا. تلازم وحدة الفكر واللغة في التفكير يعجز العقل عن اعطاء اسبقية احدهما على الاخر لكنه يستطيع بيسر وسهولة تحديد اسبقية الموضوع على كليهما، فلا تفكير ولا لغة ولا عقل يعمل بدون موجود او موضوع يسبقهما وجودا مستقلا. نذّكر ان علماء وفلاسفة اللغة واللسانيات جميعا يعتبرون اللغة والفكر هما وجهين لعملة واحدة ولا تفريق بينهما كما ذكرنا سابقا، فاللغة هي الفكر المعبّر عنه حسب ريكور وفنجشتين ودي سوسيروجومسكي وجميع فلاسفة وعلماء اللغة في اعتبارهم اللغة هي فعالية العقل في تعيين ادركاته للموجودات والاشياء الخارجية.

لكننا نجازف براينا بالمباشرونقول انه يمكننا فصل الفكر عن اللغة عندما يكون تفكير العقل صمتا داخليا في التفكيربموجود شيء مادي او خيالي لا يحتاج لغة التعبير عنه افصاحا خارجيا بل يحتاج الفكر وحده لانه وسيلة تفكير العقل المعقدة الوحيدة في تخليقه لموضوعه بوسيلة الفكر لوحدها دونما الحاجة الى اللغة وسيلة تعبير لمواضيع العقل ، وتكون اللغة تعبيرا صامتا داخليا متخيّلا ايضا في تفكير العقل لموضوعه الخيالي كوجود غير مادي، اي وجود خيالي لا يرتبط وغير ملزم التعبير اللغوي عنه بعد تخليق العقل له. الصمت تفكير صوري وابجدية لغوية.

وانما تكون حاجة العقل في حواراته الداخلية للفكراهم واكثر فاعلية في عدم اعتماد اللغة التي تكون لغة استيعاب صوري لما يفكر العقل به. (الفكر) هنا وسيلة العقل في معالجة موضوعاته صمتا داخليا، وتكون (اللغة) وسيلة العقل في التعبير عن الموجودات والاشياء في العالم الخارجي. هذه العبارة التي ادرجتها خاطئة لسبب اننا اعتبرنا اللغة صوتا تعبيريا خارجيا وليس تفكيرا صامتا داخل العقل والجسم. والخطأ الثاني في العبارة السابقة هو تجريد اللغة الداخلية الاستبطانية انفصالها من المعنى غير المفصح عنه بلغة الصوت. اللغة فكر له معنى يلازمه صوت يمتلك لغة منتظمة. وبغير ملازمة صوت اللغة لمعنى التعبير لا تكون لغة يعقلها العقل.

الصمت تعبير لغوي

للتوضيح اكثر فالتفكيرالمادي الصامت هو في معالجته موضوع واقعي او شيء ما بالتفكير المجرد كمتعيّن موجود في العالم الخارجي، اما في تفكير الصمت العقلي (الخيالي) غير المعبّر عنه باللغة فهو الهام تخييلي في انتاج الذاكرة العقلية موضوعا يدرك خارجيا بلغة جمالية خاصة هي في حالة من الكمون الموحي خلف فهم الوجود الجمالي للشيء، لم يكن ادراكه متيّسرا قبل افصاح العقل له وتخليقه جماليا، كما في خيال انتاج لوحة فنية او قطعة نحتية، او قصيدة شعرية او اي ضرب من ضروب التشكيل الفني ومعالجات علم الجمال الذي من المتاح الممكن التعبير عنها بغير لغة الكلام او لغة الكتابة او الموسيقى او الاشارة.

نأتي الآن الى معالجة اصل امكانية فصل الفكر عن اللغة، على انها استحالة ادراكية في فهم الاشياء والمواضيع في حال وجودها بالعالم الخارجي في استقلالية عن الانسان سواء كانت مواضيع تناولها العقل بالادراك واعادها باللغة والفكر ثانية الى عالم الواقع من جديد بعد تخليقها بوعي عقلي جديد، او لم يدركها في وجودها المستقل التي ايضا تستطيع الحواس و اللغة التعبير عنها كموجودات واشياء.

 التفكير العقلي الصامت ماديا او خياليا فأن آلية العقل في التفكير تستطيع فصل اللغة عن الفكر طالما هما حاضران ذهنيا في لحظات زمنية واثناء التفكيربموضوع ما داخليا،اي حينما يفكر العقل صمتا فهو يفكّر بالفكر ذاته كوسيط لموضوع مدرك في علاقته بالفكروالعقل الذي نقلته الحواس المدركة للاشياء او في موضوع ابتدعه الخيال ايضا ويحتاج العقل الفكر كوسيط في تخليقه واعادته الى عالم الاشياء باللغة المعّبرة عنه. وليس باللغة خارج موضوعه في التفكير الصامت. اللغة في تفكير العقل الصامت لا اهمية ولا وجود لها يتاح ادراكه من غير الشخص الذي يفكربموضوعه عقليا منفردا مع نفسه وموضوعه ويبقى الفكر وحده وسيلة العقل في التفكير وتخليقه مواضيع الخيال العقلية والمادية ايضا.

وطالما كانت اللغة والتفكير معطّلان كوظيفة نقل ما يقترحه العقل عليهما نقله الى العالم الخارجي، اي بقاء العقل يفكر ذاتيا صمتا بمعزل عن نقل ما يفكر به لغويا، فان العقل وسيلة تفكيره الفكر ذاته فقط ولا يحتاج اللغة الا على انها جزء من الفكر وملازمة له خارج ادراك الدماغ او العقل في وجود الاشياء، وتفكير العقل وتخليقه لموضوعه، فلا يدرك موضوع التفكير العقلي خارجيا من غيره الا بواسطة اللغة فقط الناقلة للفكر من داخل العقل(الدماغ) الى واقع الوجود في عالم الاشياء.

وعندما يتجسد ويتعيّن الموضوع في عالم الاشياء الخارجي بالتعبير عنه لغويا او بأية وسيلة تعبير غير اللغة الصوتية او المكتوبة، فهنا لا يصبح فصل الفكرعن اللغة ذات اهمية كبيرة، ولكن تبقى اللغة في اثناء عملية تفكير العقل (صمتا) في مرتبة ثانوية بعد الفكر في مقارنتها باولويتها في التعبير عن الموجودات والاشياء الخارجية في العالم الخارجي والطبيعة خارج هيمنة ادراك الحس والعقل لها بعد تخليقه لها، عندما تكون اللغة جزءا لا ينفصل عن موضوعها الذي عبّرت عنه في عالم الاشياء والموجودات.

أي تكون اللغة وسيلة ادراك فهم الاشياء في وجودها المتعين المستقل عن تاثير العقل به بعد ان يصبح واقعا ماديا في عالم الاشياء. وباللغة وحدها لا بالفكر نفهم تفسير الموجودات المدركة في وجودها قبل تعبير الفكر عنها، لذا يذهب الجميع الى ان فصل اللغة عن الفكر محال وهو صحيح بالنسبة للشخص الذي يفهم الموضوع في وجوده المادي المستقل هو تعبير لغوي يداخله المعنى الذي هو الفكر.بمعنى ان افصاح اللغة عن الشيء يسبق الفكر عنه.

بمعنى توضيحي اكثر ان اللغة لا تستمد فعاليتها داخل تفكيرالعقل الصامت جوّانيا بموضوعه مع ذاته وانفصال العقل والفكر كليهما عن العالم الخارجي، وانما تستمد اللغة اقصى فاعليتها في التعبير عن الاشياء في وجودها الخارجي المستقل خارج وعي العقل لها في زمنية محددة تلزم عقلا مفكرا واحدا في موضوع واحد، هو غير مدرك وجودا لغويا لدى غيره من عقول تختلف في ادراكها وتفكيرها والتعبير ربما في نفس الموضوع.

وحتى في هذه الحالة فالفكر وتعبير اللغة يبقيان قاصرين عن التعبير عن الموجودات المستقلة من دون ادراك العقل لها وتحديده نوعية الفكر ونوعية اللغة المعبّرةعنها.ويكون وعي الذات هي كينونة متشّكلة من الوجود المدرك، بالمحسوسات، ومن والعقل، وايضا من الفكر واللغة. لذا عندما يكون تفكير العقل صمتا جوّانيا، يصبح التفكير بالشيء سابق على لغة التعبير عنه خارجيا. فالموضوع المفكّر به صمتا غيرلغوي يبقى حبيس ووصاية العقل في التفكير به قبل اهمية انشغال العقل في التعبير اللغوي عنه.

ان اللغة اثناء زمنية تفكير العقل بموضوعه صمتا داخليا، تكون ملازمة لعملية تفكير العقل ذاتيا، لكنها لا تتقدم تفكير العقل. فليس كل تفكير داخل العقل صمتا يلزم حضور اللغة المنطوقة معه لكنه يلزم حضور التفكير العقلي وحده في حواره الداخلي مع موضوعه. فالعقل بلا تفكير لا قيمة له، والفكر بلا عقل يدركه ويتعامل معه يكون غير موجود،وكذا تتبعه اللغة ايضا. فالفكرواللغة لا ينتجان العقل الذي يفكر بهما، لكن العقل ينتج الفكر واللغة اللذين يتوسلهما في فهم الاشياء، والعقل بتفكيره الصامت بمقدوره تفعيل حضوره بلا لغة تعبير غير ملزمة لنقل تفكير العقل كما هو الحال في ابداعات الفنون وعلم الجمال.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

....................

*** أصوات الحيوانات هي فقط تنبيه عن خطر محدق بجنسه، وكذلك تطلق الحيوانات أصواتا خاصة في موسم التكاثر. واصوات الحيوان ليست لغة ابجدية كما اخترعها الانسان.

 

على الرغم من التشابهات الأساسية بين فلسفة أفلاطون في الجمهورية وفلسفة الفارابي في المدينة الفاضلة، خاصة في تصورهما للدولة المثالية التي يحكمها حاكم فيلسوف، إلا أن هناك اختلافات جوهرية تنبع من اختلاف الإطار الفكري والديني لكل منهما. كلاهما يطرح فكرة مدينة مثالية غير موجودة على أرض الواقع، تمثل نموذجًا للكمال الاجتماعي والسياسي. يرى كل من أفلاطون والفارابي أن الهدف الأسمى للدولة هو تحقيق العدالة والسعادة لمواطنيها. فالعدالة ليست مجرد قانون، بل هي حالة من الانسجام بين أفراد المجتمع، حيث يؤدي كل فرد وظيفته على أكمل وجه. كما يتفقان على أن أفضل من يحكم المدينة هو الفيلسوف الحاكم عند أفلاطون، والرئيس الأول عند الفارابي. هذا الحاكم يجب أن يمتلك الحكمة والمعرفة المطلقة، وأن يكون بعيدًا عن شهوات الدنيا ومصالحها الشخصية.

الأسس الميتافيزيقية ومصدر المعرفة

اعتمد أفلاطون في تصوره على نظرية المثل، حيث يرى أن عالمنا المادي هو مجرد نسخة من عالم المثل الأبدي. يصل الفيلسوف الحاكم إلى الحقيقة عن طريق العقل والتفلسف المجرد، ليتمكن من إدراك "مثال الخير" والعدالة وتطبيقه على إدارة المدينة. اما الفارابي يربط تصوره بأسس ميتافيزيقية إسلامية. يستمد فكرة "الرئيس الأول" من مفهوم "المبدأ الأول" (الله) الذي هو مصدر النظام والكمال في الكون. المدينة الفاضلة عنده هي انعكاس لهذا النظام الإلهي. يضيف الفارابي إلى المعرفة العقلية عنصرًا دينيًا، فالرئيس الأول قد يكون نبيًا يوحى إليه، مما يمنحه كمالًا في المعرفة لا يستطيع العقل وحده تحقيقه.

دور الدين والعقل في نظرية الفارابي

اعطي الفارابي للدين دورًا محوريًا وأساسيًا في تأسيس المدينة الفاضلة. فالقوانين والأنظمة تُشرع لتعمل على تحقيق السعادة، التي هي هدف ديني وأخلاقي في آن واحد، يمكن القول إن الفارابي أخذ الهيكل العام لمدينة أفلاطون الفاضلة، لكنه ألبسها ثوبًا جديدًا يتماشى مع الفكر الإسلامي، مضيفًا بُعدًا دينيًا ونبويًا لم يكن موجودًا في الطرح الأصلي لأفلاطون.

مفهوم العقل عند الفارابي

الفارابي يرى أن العقل هو الأداة الأساسية لتحصيل الفضيلة والسعادة، لكنه يميز بين مستويات مختلفة للعقل، ويربط بينها وبين الفيض الإلهي والنبوة. يمر العقل البشري بمراحل تطور مختلفة، من "العقل بالقوة" (الاستعداد للمعرفة) إلى "العقل بالفعل" (المعرفة الفعلية) وصولًا إلى "العقل المستفاد". هذا العقل المستفاد هو الذي يصبح جاهزًا لتلقي الفيض من "العقل الفعال"، وهو عقل مفارق للمادة في نظر الفارابي، ويعادله في نظريته مع جبريل عليه السلام. يستطيع الفيلسوف، من خلال التأمل العقلي والمنطق، أن يتصل بالعقل الفعال ويستمد منه المعرفة الكاملة. تتشابه حالة النبي مع الفيلسوف، لكن النبي يتميز بـ “القوة المتخيلة" التي تمكنه من استقبال الفيض في صورة محسوسة ومتخيلة (مثل الوحي)، ثم يعبر عنها بلغة تناسب عامة الناس.

التكامل بين العقل والوحي

لا يرى الفارابي أي تعارض بين العقل والوحي. فكلاهما يهدف إلى تحقيق نفس الغاية، وهي معرفة الحقيقة والفضيلة، ولكن من خلال مسارين مختلفين. العقل يدرك الحقائق بطريقة فلسفية برهانية، بينما النبوة تعرضها بطريقة دينية رمزية. يمثل كل من النبي والفيلسوف أعلى مراتب الكمال الإنساني، لأن كلاهما يتصل بالعقل الفعال. لكن الفيلسوف يدرك الحقائق في صورتها المجردة، بينما يدركها النبي في صورة متخيلة، ويتمكن من نقلها للناس بلغة يفهمونها.

مفهوم العقل في الفلسفة اليونانية

أناكسغوراس: كان أول من قدم مفهوم "النووس" (العقل الكوني)، لكنه اعتبره مجرد محرك أو منظم للعالم، دون أن يكون له دور أخلاقي أو غائي في توجيه الإنسان.

أفلاطون: ربط العقل بـ "عالم المُثُل"، واعتبره الأداة الوحيدة التي يمكن للإنسان أن يدرك بها الحقيقة المطلقة "مثال الخير". العقل هنا ليس مجرد أداة للمعرفة، بل هو أساس للفضيلة والحكمة. الفيلسوف الحاكم هو من وصل إلى أعلى درجات العقل.

أرسطو: طور مفهوم "العقل الفعال"، واعتبره جزءًا إلهيًا مفارقًا للمادة. العقل الفعال هو الذي يمنح العقل البشري (العقل بالقوة) القدرة على التفكير الفعلي، وهو غاية الوجود الإنساني في تحقيق الكمال.

العقل والميتافيزيقا

الميتافيزيقا الفلسفية تهدف إلى فهم ما هو أبعد من العالم المادي، مثل طبيعة الوجود، الحقيقة المطلقة، والغاية من الحياة. هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها بالمختبر أو التجربة، كانت الفلسفة اليونانية التي اعتمد عليها الفارابي تهتم بالميتافيزيقا بشكل كبير. كان هدف أفلاطون وأرسطو ليس بناء إلاه، بل بناء فهم كامل للكون والإنسان، وهذا الفهم كان أساسًا للمنطق والأخلاق. كذلك الفارابي لم يكن يهدف إلى بناء نظرية فيزيائية، بل إلى تأسيس فلسفة سياسية وأخلاقية على أساس عقلي متين. ربط الفارابي الميتافيزيقا اليونانية بالميتافيزيقا الإسلامية. واعتبر ان مصدر المعرفة ليس هو العقل فقط، بل هو العقل الفعّال الذي هو مصدر الوجود والمعرفة معًا، لم تكن الفلسفة عند الفارابي مجرد تأمل نظري، بل كانت لها غاية عملية وهي توجيه الإنسان والمجتمع نحو السعادة القصوى، وهذه السعادة لا تتحقق إلا بالفضيلة.

استمرارية المدينة الفاضلة

هناك معضلة منطقية حقيقية في نظرية الفارابي، إذا كان الرئيس الأول يمثل قمة العقل، فهل يجب أن يكون الرئيس الثاني على نفس المستوى؟

الاحتمال الأول: الرئيس الثاني لا يمكن أن يكون مساويًا للأول. هذا يتناقض مع فكرة استمرارية المدينة الفاضلة، لأن تراجع مستوى العقل سيؤدي حتمًا إلى تدهورها.

الاحتمال الثاني: الرئيس الثاني يمكن أن يكون مساويًا أو أفضل من الأول. هذا يفتح الباب أمام التنافس والصراع على السلطة، مما يعيدنا إلى نفس المشاكل التي تحاول المدينة الفاضلة حلها.

هذه المعضلة لم يتطرق لها الفارابي بشكل مباشر، وتبقى نقطة ضعف في نظريته السياسية. ربما يمكن تفسير هذا القصور من خلال التأكيد على أن وظيفة الرئيس الثاني ليست إبداعية بقدر ما هي حفظ وتطبيق للقوانين. فالرئيس الأول هو المشرّع والمؤسس، أما الرئيس الثاني فهو القائم على تنفيذ هذه الشرائع.

لفلسفة كمقاومة

الفلسفة في جوهرها هي نقد وتساؤل مستمر. أدواتها (المنطق، البرهان، التفكير النقدي) ليست مجرد أدوات أكاديمية، بل هي وسائل للكشف عن الأخطاء والظلم والزيف في المجتمع. الفيلسوف الحقيقي، من منظور أخلاقي، لا يمكنه أن يرى الظلم ويسكت عنه. وعندما يتنازل عن دوره النقدي، فإنه يتخلى عن جوهر الفلسفة. عندما يتنازل عن دوره النقدي، فإنه يتخلى عن جوهر الفلسفة.  في هذه الحالة، يصبح صمت الفيلسوف خيارًا للبقاء، وليس بالضرورة موافقة على الظلم، قد يشعر الفيلسوف بأن أدواته الفلسفية غير كافية لمواجهة قوة السلطة، وأن الكلام لن يغير شيئًا، مما يؤدي به إلى اليأس والإحباط بدلًا من المواجهة المباشرة التي تؤدي إلى إقصائه تمامًا. إن دور الفيلسوف في المجتمع هو مرآة للعقل، وعندما تصبح هذه المرآة ضبابية أو مكسورة، يكون ذلك مؤشرًا على أزمة ليس فقط في الفيلسوف نفسه، بل في المجتمع الذي أضعف دوره. الفارابي، لم يُعرف عنه بشكل مباشر استخدام الفلسفة كمقاومة بالطريقة التي يمكن أن نفهمها من خلال فلاسفة آخرين مثل سقراط أو فوكو. ومع ذلك، يمكن تحليل بعض جوانب فلسفته في سياق المقاومة الثقافية والفكرية. الفارابي عمل على دمج الفلسفة اليونانية مع الفكر الإسلامي، مما ساعد في الحفاظ على التراث الفلسفي وتطويره في سياق إسلامي. هذا الإبداع الفكري يمكن اعتباره نوعًا من المقاومة ضد التقاليد الفكرية الجامدة. في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة"، قدم الفارابي تصورًا لمجتمع مثالي يقوم على مبادئ العدالة والمعرفة. هذا يمكن أن يُعتبر دعوة للمقاومة ضد الفساد الاجتماعي والسياسي ،الفارابي انتقد بعض المفاهيم السائدة في مجتمعه، مثل فكرة السلطة المطلقة، مشددًا على أهمية الحكمة والمعرفة كوسيلة للحكم الرشيد من خلال تأكيده على أهمية العقل والتفكير المنطقي، قدم الفارابي أداة لمواجهة الجهل والتقليد، مما يعزز من قدرة الأفراد على التفكير النقدي ومقاومة الأفكار المسبقة ،بينما لا يمكن وصف الفارابي بأنه استخدم الفلسفة كمقاومة بشكل صريح، فإن عمله الفكري ساهم في تعزيز الاتجاه التوفيقي من المعرفة والتفكير النقدي، مما لا يمكن أن يُعتبر نوعًا من المقاومة الثقافية والفكرية في عصره. الفلسفة كمقاومة تتعلق بفهم كيفية استخدام الفكر الفلسفي كوسيلة لمواجهة التحديات والظلم. يمكن النظر إلى الفلسفة على أنها أداة لتعزيز النقد والتفكير المستقل، مما يسمح للأفراد بمواجهة الأنظمة الاجتماعية والسياسية التي تقيد حرياتهم أو تفرض عليهم قيودًا.

***

غالب المسعودي

مفتتح إشكالي: في ظل التطور السريع الذي يشهده العالم اليوم في مجال التكنولوجيا يُبرز الذكاء الاصطناعي كقوة جديدة تعيد تشكيل ملامح حياتنا اليومية، باعتباره أحد أبرز إنجازات العصر الحديث. فلم يعد مجرد ابتكار تقني محدود، بل أضحى قوة مؤثرة في مختلف الميادين: من التعليم والصحة إلى السياسة والاقتصاد، بل وحتى في العلاقات الاجتماعية والثقافية. لقد بات شريكًا يُعول عليه في التفكير، والإنتاج، واتخاذ القرار، مُمكنًّا الإنسان من إنجاز أعمال معقدة بسرعة ودقة تفوق قدراته الطبيعية. غير أنّ هذا التطور المذهل يطرح سؤالاً فلسفيًا عميقًا: هل ما يزال الإنسان سيّد هذه التقنية ومالك زمانها، أم انه ماضٍ نحو شكل جديد من العبودية أمام ما أبدعته يداه؟

1.الإنسان في قلب العاصفة التكنولوجية:

مع التطور الرقمي السريع الذي نعيشه اليوم، أصبح الذكاء الاصطناعي واحدًا من أهم إنجازات الإنسان. فهو يمثل نقطة تحول كبيرة في تاريخ البشرية، تشبه في تأثيرها اختراع الطباعة أو الهاتف أو الحاسوب. ولم يعد مجرد أداة نستعملها فقط، بل تحول إلى قوة تؤثر في حياتنا كلها، من التعليم والصحة والثقافة، إلى الاقتصاد وحتى في علاقاتنا اليومية غير أن هذا الحضور الهائل يطرح أسئلة جوهرية من بينها: هل يبقى الإنسان سيّد هذه القوة الجديدة أم يتحول إلى عبد لها في شكل جديد من أشكال التبعية؟ خصوصًا وأن إنسان اليوم يستعين بهذا الاكتشاف المُبهر والمبتدع ولا يستطيع العيش بعيدًا بمعزل عن هذه المنظومة، فالذكاء الاصطناعي بذلك لم يعد مجرد برامج حسابية معقدة إنما أصبح جزءًا من حياتنا اليومية نراه في الهواتف الذكية ووسائل النقل، والمستشفيات، والمدارس بل وحتى في النقاشات التي تُصنع في الفضاء العام وتؤثر في الرأي العام وصناعة القرار

لكن من جهة أخرى نرى بأن ليس كل تأثير للتكنولوجيا دليلاً على فقدان الإنسان لسيادته فقد عرف التاريخ قفزات نوعية متشابهة مع اختراعات كالكهرباء مثلاً أو الانترنيت، ومع ذلك استطاع الإنسان التكيف معها دون أن يفقد حريته تمامًا.

2.الذكاء الاصطناعي: قوة محرّرة أم قيود جديدة؟

 نجد بأن لذكاء الاصطناعي أحيانًا يُنظر إليه كقوة محرِّرة ، السؤال هنا لماذا ؟ : ذلك لأنه يفتح أمام الإنسان آفاقًا جديدة للمعرفة والإبداع والإنتاج إذ أصبح بإمكانه معالجة كميات هائلة من المعلومات ،واستخراج أنماط ودلالات لم يكن العقل البشري ليستطيع الوصول إليها  بالسرعة نفسها، حيث يتيح للطلبة والباحثين إمكانية الوصول إلى مصادر علمية ضخمة بضغطة زر ويسهل على الأطباء تشخيص مرضاهم بدقة أكبر وكذا يمكن المؤسسات من تحسين آداها وتنظيم مواردها بشكل أكثر فعالية و استساغة بهذا المعنى يبدو وكأنه يمنح الإنسان "أجنحة معرفية" تجعله ينجز في ساعات ما كان يستغرق منه سنوات طويلة .

لكن في المقابل هذا الوجه المشرق يخفي إشكالية عميقة وهي أن هذه المعرفة التي يتيحها الذكاء الاصطناعي قد لا تكون متاحة للجميع بالقدر نفسه فالشركات الكبرى مثلاً التي تحتكر التقنيات والخوارزميات العملاقة، تتحكم بشكل غير مباشر في تدفق المعرفة والمعلومة وتفرض على المستخدمين شروطًا وأنظمة تجعلهم لا يستطيعون الاستغناء عنها( مثلا عند استعمالك تطبيقًا أو منصة انت توافق غالبًا من غير وعي على شروط طويلة ومعقدة هذه الشروط  تمنح الشركة الحق في جمع بياناتك صورك ،إجاباتك… بعد ذلك يتم استخدام هذه البيانات ليوجه لك اعلانات ومحتويات تناسب اهتمامك ومع الوقت تصبح مدمنًا على المنصة ويصعب عليك تركها لأن فيها أصدقائك اخبارك وحتى عملك، وهنا نلاحظ أن الشركة وضعت شروطًا لجعلك أكثر ارتباطًا واعتمادًا عليها حتى وإن لم تكن تريد ذلك في البداية).وهنا يتحول الذكاء الاصطناعي من أداة تحرير إلى نوع من القيود الجديدة حيث يجد الإنسان نفسه مستفيدًا من التقدم لكنه في الوقت نفسه خاضعًا لسلطة الشركات التي تملك هذه التكنولوجيا.

غير أن هذا التصور التشاؤمي يغفل جانبًا مهما: الذكاء الاصطناعي ليس قوة مستقلة بل هو اداة يصنعها الإنسان. بمعنى أن الخطر لا يكمن في التقنية ذاتها، بل في غياب سياسات عادلة لتوزيعها وتنظيم استخدامها. فكما أن الكهرباء لم تكن شرًا مطلقا بل استخدمت للإنارة والطب والصناعة يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح عامل تحرر لا عبودية شرط أن يُدار بشكل ديمقراطي وشفاف.

3.السيادة المزعومة: حين يتراجع القرار البشري:

 الإنسان اليوم يعيش وهم السيادة. فعندما يفتح هاتفه الذكي ويجد أمامه مقترحات تناسب اهتماماته وميولاته، يظن أنه اختار بحرية. لكن الحقيقة أن الخوارزميات هي التي سبقت إلى دراسة سلوكه وتحليل بياناته، ثم وجهته إلى محتوى محدد مسبقًا. وهذا يظهر بشكل أوضح في التسوق الإلكتروني، حيث تعرض عليه منتجات لم يكن يفكر فيها أصلًا، لكنه يقتنيها لأنه تأثر بإعلانات مخفية أو باقتراحات صممت خصيصًا لتوجيهه. في هذه الحالة يبدو القرار البشري وكأنه نتيجة طبيعية لاختياره، بينما في العمق هو مجرد استجابة لتأثيرات غير مرئية تديرها شركات كبرى تمتلك السيطرة على تدفق المعلومات.

 وهنا تكمن المفارقة: فالإنسان يعتقد أنه صاحب القرار وأنه يمارس حريته، لكنه في الواقع يعيش حرية شكلية فقط، أما الحرية الحقيقية تتراجع مع كل خطوة تعتمد فيها إرادته على خوارزميات مبرمجة مسبقًا. وهذا ما يفتح نقاشًا فلسفيًا عميقًا: إذا كان القرار البشري يتشكل تحت ضغط هذه المنظومات الذكية، فهل يمكن أن نتحدث حقًا عن الحرية؟ أم أن الحرية أصبحت مجرد وهم يتغذى على شعور زائف بالسيادة؟

على خلاف ذلك الذكاء الاصطناعي وإن بدا أداة مساعدة، إلا أنه يرسّخ نوعًا من "القيود الناعمة"، حيث لا يُجبر الإنسان بالقوة، بل يُدفع بهدوء نحو اختيارات معينة حتى يظن أنه هو من أرادها. وهذا أخطر من القيود المباشرة، لأنه يقيد العقل والإرادة من الداخل، لا من الخارج.

مع ذلك فمن الظلم القول أن الإنسان مجرد "دمية" في يد الخوارزميات. فالإنسان يمتلك قدرة على الوعي والنقد والمراجعة. صحيح أن هذه القدرة تتراجع مع الإدمان الرقمي لكنها لا تلغى تمامًا. والتاريخ ملئ بحركات مقاومة للتقنيات المهيمنة: من رفض بعض المجتمعات للإعلانات المضللة إلى ظهور مبادرات "الانعتاق الرقمي" التي تدعو للحد من استخدام الهواتف الذكية. إذن، لست السيادة المزعومة قدرًا محتوما بل تحديًا يتطلب وعيًا جماعيًا.

4.العبودية الجديدة: تسليم الإرادة طوعًا

في الماضي كانت العبودية قسرية وواضحة: الشخص يُجبر على العمل أو الطاعة بالقوة. أما اليوم فالأمر أصبح أكثر دقة وذكاء لأنه يعتمد على الإغراء والراحة بدل الإكراه. الإنسان المعاصر يسلم جزءًا من إرادته للآلة من تلقاء نفسه دون أن يشعر بأنه يفقد شيئًا من حريته.

فالهواتف الذكية على سبيل المثال تقدم لنا كل شيء بسرعة وسهولة: التنقل عبر الخرائط الذكية طلب الطعام، التسوق، الترجمة حتى كتابة الرسائل والأبحاث. كل هذه التسهيلات تجعل الإنسان يعتمد على التقنية في كل خطوة تقريبًا. ومع مرور الوقت يفقد جزءًا من مهاراته العقلية التقليدية: التفكير النقدي القدرة على التخطيط للمستقبل وحتى الإبداع الشخصي…وغيرها لأن الذكاء الاصطناعي يقوم بالجزء الأكبر من العمل بدلاً عنه.

 ومن هنا يظهر مفهوم "العبودية الطوعية": إذ لا يُجبر الإنسان على الخضوع لكنه يختار الاستسلام، مستمتعًا بما تقدمه له التكنولوجيا من راحة وسرعة. وبكرور الوقت يتحول هذا الاختيار الطوعي إلى عادة وعندها تصبح إرادة الإنسان مقيدة جزئيا رغم ظنه بأنه حر.

 من ناحية أخرى صحيح أن التكنولوجيا تمنح الإنسان وقتًا وراحة أكبر، لكنها في الوقت نفسه تغير طريقة تفكيره وسلوكه وربما تجعل من العقل البشري أقل نشاطًا في اتخاذ القرارات. إذ أن المشكلة ليست في التقنية نفسها بل في اعتماد الإنسان الكامل عليها دون وعي أو توازن. وهذا النوع من العبودية أخطر من العبودية القديمة لأنه يبدأ من الداخل حيث يقبل الإنسان القيود دون أن يشعر بأنها قيود على حريته.

5.نقد وهم التقدم: هل كان كل ما هو جديد أفضل؟

في خطاب الكثير من السياسيين ورجال الأعمال يُقدَّم الذكاء الاصطناعي باعتباره تقدمًا لا يمكن إيقافه ، ويظهر ذلك في تصريحات فلاديمير بوتين (رئيس روسيا) الذي يرى أن من يسيطر على هذه التكنولوجيا قد يحكم العالم، وفي مواقف إيلون ماسك (الرئيس التنفيذي لشركتي Tesla وSpaceX ومؤسس XAI) الذي يعتبرها أعظم قوة يمكن أن تكون إما نعمة أو نقمة على البشرية، كما يؤكد ساتيا ناديلّا (الرئيس التنفيذي لشركة Microsoft) أنها التكنولوجيا التي تُعرّف جيلنا، ويرى مايكل ديل (الرئيس التنفيذي لشركة Dell) أنها ستجعل الإنسان أكثر فعالية دون أن تستبدله. أما جنسن هوانغ (الرئيس التنفيذي لشركة NVIDIA) فيصفها ببداية ثورة صناعية جديدة، في حين يحذّر إريك شميدت (الرئيس التنفيذي السابق لشركة Google) من أن تجاهلها يعني السقوط في عالم النسيان، بينما يشبّهها أندرو نج (مؤسس Coursera وGoogle Brain) بالكهرباء الجديدة التي ستنتشر في كل المجالات وتغير العالم.... وغيرهم

لكن التاريخ يعلمنا أن ليس كل تقدم تقني هو تقدم إنساني. فاختراع الطاقة النووية مثلًا أتاح إنتاج الكهرباء لكنه قاد أيضًا إلى قنابل هيروشيما وناغازاكي. بالمثل، قد يصبح الذكاء الاصطناعي أداة تعميق للفوارق الاجتماعية: من يملك التقنية يصبح أكثر غنى ونفوذًا، ومن يفتقدها يغرق في التبعية.

وهذا ما نراه اليوم بين الشمال والجنوب: دول متقدمة تستثمر مليارات في الذكاء الاصطناعي، بينما دول نامية بالكاد تمتلك البنية الرقمية الأساسية. هكذا نجد نوعًا من التجدد الاستعماري لكن بوجه رقمي.

 مع ذلك، لا ينبغي الوقوع في نزعة "رفض كل جديد". فالتقدم التكنولوجي في ذاته ليس شرًا، بل هو محايد أخلاقيًا (كما يمكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي في التعليم والطب مثلا يمكن أن يستغل في التجسس والتلاعب بالمعلومات فهو سلاح ذو حدين وقيمته تعتمد على كيفية استخدام الإنسان له) الأخطر في توجيهه الخاطئ. لذلك، بدل أن نسأل: هل الذكاء الاصطناعي تقدم أم لا؟ علينا أن نسأل: كيف نجعله تقدمًا حقيقيًا يخدم العدالة الاجتماعية؟ هنا يظهر دور السياسات العامة والتعاون الدولي في تضييق الفجوة الرقمية.

6.الإنسان مرآة التكنولوجيا: انعكاس الذات أم تشويهها؟

يرى بعض الفلاسفة مثل مارشال ماكلوهان (فيلسوف كندي "نبي العصر الإلكتروني" درس تأثير وسائل الإعلام والتكنولوجيا على المجتمع) و جيل دولوز(فيلسوف فرنسي تناول العلاقة بين التقنية و المجتمع وكيف تشكل أدوات التكنولوجيا تفكير الإنسان وسلوكه) أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد آلة، بل مرآة تعكس الإنسان وقيمه. إذا كانت قيم المجتمع مثل العدالة والمساواة والحرية، فإن التطبيقات والخوارزميات تعكس هذه القيم بشكل إيجابي. مثال: تطبيقات التعليم الذكية تقدم دعمًا لكل طالب حسب مستواه، فتساعده على التعلم بشكل متوازن وعادل.

أما إذا كانت القيم مادية أو منحرفة فإن الذكاء الاصطناعي سيعكسها بدوره كما أشار لذلك هيغل (وهو فيلسوف ألماني يرى أن التاريخ والحياة الاجتماعية تعكس الصراعات بين القوى والمبادئ وأن السلطة تؤثر مباشرة في الواقع المادي (. ويتجلى ذلك على سبيل المثال: في برامج التوظيف التي قد تمنح فرصًا أقل لبعض الفئات بسبب بيانات سابقة، ومنصات التواصل الاجتماعي التي توجه المستخدمين نحو محتوى محدد يخدم بدوره مصالح الشركات، وهكذا تبدو التكنولوجيا وكأنها مرآة للإنسان، غير أنها في الوقت نفسه تفرض منطقًا خفيًا على الأفراد.

لكن رغم اعتبار الذكاء الاصطناعي مرآة للإنسان، إلا أن قدراته على التعلم الذاتي قد تجعله يتجاوز ما وضعه الإنسان فيه، فيخلق سلوكيات جديدة أو تأثيرات لم يكن متوقعًا، ما يجعل مسؤولية الفرد والمجتمع أكبر في مراقبة توجيه هذه الأدوات.

7.الأخلاقيات كشرط للسيادة الحقيقية

لكي تظل التكنولوجيا أداة تفيد الإنسان، يجب أن تُصمَّم وفق قيم أخلاقية واضحة. فكرة "الأخلاقيات حسب التصميم" )والتي تعني أن تُدمج المبادئ الأخلاقية منذ البداية في البرمجيات والأنظمة الذكية(، مثل حماية خصوصية المستخدمين، وضمان الشفافية في كيفية عمل الأنظمة، وتوفير فرص متساوية للوصول إلى المعلومات والخدمات. بهذه الطريقة، لا تصبح التكنولوجيا مجرد أدوات معقدة، بل أداة تخدم البشر بشكل عادل ومسؤول.

على سبيل المثال: مثلاً نجد شركة غوغل تحاول تحسين نتائج البحث لتكون أكثر عدلاً وتقليل التمييز بين المستخدمين، لكن ترتيب النتائج غالبًا ما يخدم مصالحها الاقتصادية. في مجال الصحة، تستخدم خوارزميات لتشخيص الأمراض، وقد يحصل من يملك المال على أفضل الخدمات، بينما تُهمل الفئات الأخرى. أما في منصات التواصل الاجتماعي، فالخوارزميات تحدد المحتوى الذي يراه المستخدم، فيظن أنه يختار بحرية، لكنه في الواقع يتبع ما اختارته الآلة.

كذلك بعض الفلاسفة الذين يمكن ربطهم بهذا المفهوم نجد إيمانويل كانط (فيلسوف ألماني يرى أن الأخلاق يجب أن تكون مبدأ عالمي يوجّه أفعال الإنسان)، وجون رولز (فيلسوف أمريكي درس العدالة الاجتماعية والمساواة)، حيث يمكن تطبيق مبادئهم على تصميم خوارزميات عادلة وأخلاقية.

لكن مع هذا حتى مع المبادرات الأخلاقية، تبقى الشركات مهتمة بالربح أكثر من الالتزام بالقيم، ما يجعل الأخلاقيات شعارات أحيانًا. لكن الوعي العالمي يتزايد، والضغط الأكاديمي والسياسي يفرض على الشركات الشفافية، ما يمنح الأمل في تحقيق توازن بين التقنية والقيم الإنسانية.

8.المفارقة الفلسفية: سيادة أم عبودية؟

الذكاء الاصطناعي يمنح الإنسان قوة هائلة لمعالجة معلومات ضخمة واتخاذ قرارات دقيقة بسرعة كبيرة، لكنه قد يصبح قيدًا إذا اعتمد عليه الإنسان في كل شيء، من التخطيط والتنقل والشراء والتواصل إلى اتخاذ القرارات الفكرية.

مثال: استخدام خرائط غوغل يقلل مهارات التخطيط الذهني، وبرامج مثل ChatGPT تقلل التفكير النقدي والإبداعي، ومنصات التواصل توجه ما نراه من محتوى، رغم شعورنا بالحرية.

 بعض الفلاسفة المرتبطين بهذه الفكرة:

جان بول سارتر (فيلسوف فرنسي يرى أن الحرية الحقيقية تأتي مع وعي الإنسان بمسؤولية اختياراته)، وميشيل فوكو (فيلسوف فرنسي درس العلاقة بين السلطة والمعرفة وكيف تؤثر المؤسسات على وعي الأفراد)، إذ يساعدنا التفكير في آرائهم على فهم كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح أداة تحكم أو تعزيز للحرية.

من جانب آخر الخيار ليس دائمًا بين سيادة مطلقة أو عبودية مطلقة؛ غالبًا يعيش الإنسان حالة وسطية، يستفيد من التكنولوجيا ويخسر استقلاليته أو خصوصيته. السؤال الفلسفي: كيف نوازن بين الاستفادة وحماية حرية الإنسان ووعيه؟ المسؤولية تقع على الفرد والمجتمع لضمان أن القوة التي تمنحها التكنولوجيا لا تتحول إلى قيد خفي.

9. مسؤولية الإنسان في زمن الذكاء الاصطناعي: بين الحرية والسيطرة

الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل مرآة تعكس الإنسان وقيمه ومبادئه. كل خوارزمية وكل نظام ذكي يعكس في النهاية طريقة تفكير المجتمع وما يقدّره من قيم، سواء كانت الحرية، العدالة، المساواة، أو الربح والمصلحة الفردية. لذلك يبقى القرار النهائي للإنسان: هل سيستغل هذه التكنولوجيا لتعزيز الحرية والإبداع، أم سيستسلم لها تدريجيًا ويصبح تابعًا لها دون وعي كامل؟ هذا السؤال يشكل جوهر مسؤولية الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي، لأنه يتعلق بكيفية التعامل مع قوة تكنولوجية هائلة قد تكون محررة إذا استخدمت بحكمة، أو قيودًا خفية إذا تركت دون مراقبة.

السيادة الحقيقية لا تتحقق بمجرد امتلاك أدوات ذكية، بل تأتي من التحكم فيها أخلاقيًا وفكريًا، أي أن الإنسان يحدد المبادئ والقيم التي توجه عملها، ويتأكد من أنها لا تُستغل لأهداف ضيقة أو غير عادلة. يشمل ذلك الشفافية في كيفية اتخاذ القرارات، حماية الخصوصية، وضمان المساواة وعدم التمييز في جميع تطبيقات الذكاء الاصطناعي، سواء في التعليم أو الصحة أو العمل أو الإعلام. كما يجب أن يكون هناك مساءلة مستمرة: أي خطأ أو تأثير سلبي ناتج عن الأنظمة الذكية يجب أن يكون هناك جهة مسؤولة يمكن محاسبتها، وهو ما يربط المسؤولية الفردية بالمجتمع والمؤسسات.

المستقبل سيكون انعكاسًا لقدرة البشر على ضبط أنفسهم والتحكم في أدواتهم التكنولوجية، لا انعكاسًا لقدرة الآلة نفسها. إذا أحسن الإنسان استخدام الذكاء الاصطناعي، يمكن أن يصبح وسيلة لتعزيز الحرية والإبداع، وتوسيع نطاق التفكير والخيال البشري، كما يحدث في مجالات البحث العلمي والطب والفن، حيث يساهم الذكاء الاصطناعي في تحقيق نتائج لم يكن العقل البشري يصل إليها بمفرده. أما إذا ترك الإنسان التكنولوجيا لتتحكم فيه، كما يحذر يوفال نوح هراري (مؤرخ وفيلسوف معاصر يكتب عن تأثير التكنولوجيا على مستقبل الإنسان)، فقد تتحول هذه الأنظمة إلى أدوات مراقبة وتحكم، توجّه سلوكيات الأفراد وتفرض منطقًا خفيًا على المجتمعات دون وعيها.

باختصار أن مسؤولية الإنسان في زمن الذكاء الاصطناعي ليست مجرد إدارة التكنولوجيا، بل وعي مستمر بالقيم الأخلاقية، نقد مستمر لما تفعله هذه الأدوات، ومساءلة لكل تأثير قد يمس الحرية أو العدالة. إنها دعوة للحفاظ على استقلالية الإنسان وفكره، وتحويل الذكاء الاصطناعي من مرآة تعكس واقعنا فقط، إلى أداة تساعدنا على بناء مستقبل أفضل وأكثر حرية وعدالة.

10. مسؤولية الإنسان تجاه تبعات الذكاء الاصطناعي

الذكاء الاصطناعي يتيح قدرات هائلة للإنسان، لكنه في الوقت نفسه يخلق نتائج وتأثيرات قد تكون غير مقصودة أو سلبية. السؤال الفلسفي المهم هنا: هل الإنسان يتحمل مسؤولية هذه النتائج؟ الجواب يكاد يكون بالإيجاب، لأن كل نظام ذكي تم تصميمه واستخدامه بواسطة البشر، وما يقوم به من قرارات أو تأثيرات هو انعكاس مباشر للاختيارات البشرية التي صممت هذا النظام أو أشرفت عليه. بمعنى آخر، الذكاء الاصطناعي لا يعمل بمعزل عن الإنسان؛ إنه أداة، وإن كانت معقدة ومستقلة جزئيًا، إلا أن الإنسان هو المسؤول الأول عن أهدافه وكيفية استخدامه.

على سبيل المثال، إذا استخدمت خوارزميات التوظيف الذكية بيانات منحازة تاريخيًا، ونتيجة لذلك لم يحصل بعض المرشحين على فرص عادلة، فالخطأ ليس للآلة نفسها، بل للبشر الذين صمموها ولم يضبطوا المعايير الأخلاقية. نفس الأمر يحدث في وسائل الإعلام الرقمية؛ إذا أُنتج محتوى موجه أو أخبارًا مزيفة بواسطة الذكاء الاصطناعي، فإن المسؤولية تقع على من يتحكم في البرمجة والمحتوى، وليس على النظام وحده.

ومع ذلك، هناك تعقيد إضافي: بعض الأنظمة الذكية قادرة على التعلم الذاتي واتخاذ قرارات لم يتوقعها مصمموها، ما يثير تساؤلًا: هل يمكن تحميل الإنسان المسؤولية الكاملة عن نتائج لم يكن قد خطط لها؟ الفلاسفة مثل هيلاري بوتنام (فيلسوف أمريكي تناول العلاقة بين العقل والآلة) يشيرون إلى أن المسؤولية تبقى بشرية طالما الإنسان هو من أتاح للآلة المجال للعمل واتخذ القرار النهائي حول استخدامها، حتى لو ظهرت نتائج غير متوقعة.

بمعنى أن الإنسان يتحمل المسؤولية أخلاقيًا وقانونيًا تبعات الذكاء الاصطناعي، لأنه هو من صممه، ووجهه، واختار استخدامه. وهذا يجعل وعي الإنسان بالقيم الأخلاقية، والرقابة المستمرة، والمساءلة الدائمة، أمرًا حاسمًا لضمان أن التكنولوجيا لا تتحول إلى أداة ضرر، بل تبقى وسيلة لتعزيز الحرية والإبداع والخير العام.

خاتمة

بعد ما سبق ذكره، يُتضح لنا أن علاقة الإنسان بالذكاء الاصطناعي ليست علاقة أحادية، بل هي جدلية تجمع بين الفرص والمخاطر.

فالذكاء الاصطناعي قد يكون أداةً فعالة لتحسين حياتنا، وتطوير قدراتنا، وحل مشكلات عجزنا عنها لقرون.

كما يفتح أمامنا آفاقًا جديدة في ميادين العلم والطب والتعليم والفن، مما يوسّع حدود الخيال والإبداع الإنساني.

لكن في المقابل، قد يتحول إلى أداة للرقابة والتحكم، تهدد الحرية الفردية وتعمّق الفوارق الاجتماعية.

ولهذا، فالتحدي الحقيقي لا يكمن في الآلة ذاتها، بل في طريقة إدارتنا لها وتوجيهها.

إن الحوكمة الرشيدة والأطر الأخلاقية الصارمة تبقى السبيل الوحيد لتجنب الانزلاق نحو "عبودية جديدة".

فالمسؤولية إذن تقع على عاتق الإنسان، أفرادًا ومؤسسات، لضمان بقاء الذكاء الاصطناعي في خدمة القيم الإنسانية.

والمستقبل سيُبنى على قراراتنا اليوم، لا على قدرات الخوارزميات وحدها.

فإما أن نستخدم الذكاء الاصطناعي لتعزيز الحرية والسيادة،

وإما أن نتركه يسلبنا استقلاليتنا، فنصبح أسرى أدوات صنعناها بأيدينا.

فهل سيكون المستقبل شاهدًا على سيادة الإنسان على التقنية، أم على خضوعه لها؟

***

بهلولي جيهان

قسم الفلسفة/جامعة باجي مختارـ عنابة ـ

(تحليل نقدي للعلاقة التأسيسية بين الوعي والتحرر في المجتمعات العربية المعاصرة)

(‏إن المعرفة هي الشرارة الأولى التي توقظ الوعي من سباته، والوعي هو البصيرة التي تهدي الإنسان إلى نفسه والعالم، أما الحرية فلا تهبط من السماء، بل تنمو كنبتة من هذه الأرض المعرفية الواعية، فكل إنسان بلا معرفة عبد وهو لا يدري، وكل وعي بلا حرية نداء لا يُسمَع)... (الكاتب)

- الملخص: يحاول هذا المقال الكشف عن العلاقة المتشابكة بين المعرفة والوعي والحرية باعتبارها سلسلة مترابطة تشكل أساس التحرر الإنساني والاجتماعي. تنطلق الدراسة من مقولة علي شريعتي: ” لا حرية دون وعي، ولا وعي دون معرفة “، لتسبر أغوار كيفية تحول المعرفة إلى وعي نقدي، وكيف يمكن للوعي أن يمكّن الإنسان من ممارسة حرية حقيقية ومسؤولة. كما يعرض المقال أدوات وآليات تمكين الأفراد من فهم هذه العلاقة، مع تحليل نقدي لمأزق العالم العربي في استثمار هذه السلسلة التأسيسية. وأخيراً يعتمد المقال على المنهج التحليل والنقدي في مناقشة هذه العلاقة.

- المقدمة: تعد مفاهيم المعرفة والوعي والحرية من أعمدة الفكر الفلسفي والاجتماعي والسياسي، فهي ليست مجرد مصطلحات نظرية بل أدوات فاعلة لفهم الواقع وتحقيق التحول الفردي والاجتماعي. الفلاسفة الاجتماعيون المعاصرون شددوا على أن الحرية الحقيقية لا تتحقق إلا عبر وعي متأصل بالذات وبالواقع المحيط، وأن هذا الوعي لا ينشأ إلا من معرفة نقدية دقيقة.

وفي هذا السياق، يبرز علي شريعتي (1933-1977) بمقولته الشهيرة التي تربط بين المعرفة والوعي والحرية، موضحاً أن تحرر الإنسان من القيود الخارجية لا يمكن أن يتحقق إلا إذا سبقته رحلة معرفية وعقلية نقدية. هذا المقال يسعى إلى تقديم قراءة نقدية لهذه السلسلة المعرفية، مع إبراز الآليات التي تجعل المعرفة أساساً للوعي، والوعي شرطاً للحرية، وتوضيح سبل التمكن من فهم هذه العلاقة في السياق العربي الراهن. بناءً على ما تقدم سنسعى إلى مناقشة العناصر التالية:

1- المعرفة كأصل لبناء الوعي: إن المعرفة ليست مجرد تراكم للمعلومات، بل هي أداة تحليلية تمكن الفرد من فهم الواقع وتفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية وفق معايير دقيقة. وقد قسم الفلاسفة المعاصرون المعرفة إلى مستويات متدرجة، تشمل المعرفة الحسية والمعرفة العقلية وصولاً إلى المعرفة النقدية التي تتيح التقييم الموضوعي للأحداث والأفكار.

وفي السياق العربي، يشير محمد عبد الجابري (1935-2010) إلى أن المعرفة ليست هدفاً في حد ذاتها، بل وسيلة لبناء وعي نقدي يمكّن الفرد من التعامل مع تحديات الواقع بشكل عقلاني ومنهجي، فالمعرفة تمنح الإنسان القدرة على التمييز بين الحقيقة والدعاية، وتمييز التحليل الصحيح عن التكرار الأعمى، والمعلومة عن الافتراض.

ويرى الجابري إن العلم لا يؤمن بمصدر آخر للعقل وقواعده غير الواقع. ومن دون شك فإن قواعد العقل إنما تجد مصدرها الأول في الحياة الاجتماعية التي تشكل أول أنواع الواقع الحي الذي يحتك به الانسان، بل ويعيش في كنفه. والحياة الاجتماعية لا تستقيم إلا بقواعد للتعامل، والإنسان لا يحيا حياة اجتماعية إلا بخضوعه لتلك القواعد.

بذلك تتجلى أهمية المعرفة أيضاً في كونها تمثل أرضية خصبة لنشوء التفكير النقدي المستمر، فهي لا تقتصر على جمع الحقائق، بل تمتد إلى فهم العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية بعمق، وهو ما يمهد الطريق لبناء وعي متكامل. كما يشير حسين مؤنس (1911-1996) في كتابه "تاريخ موجز للفكر العربي" إلى أن المعرفة في السياق العربي يجب أن تتجاوز التلقين التقليدي لتصبح قوة محركة للتحول الاجتماعي والثقافي.

وهذا يعني أن تجاوز المعرفة لحدود التلقين التقليدي يعتبر أحد الشروط الأساسية لنهضة الفكر العربي وإمكاناته التجديدية على اعتباره السبب الرئيسي في ركود الفكر العربي وتوقفه بعد حقبه من الزمان طويلة. بذلك يرتكز تجديد الفكر العربي بشكل أساسي على تجديد العلم أو توسيع قاعدة المعرفة والاطلاع، وهو ما يعبر عن إدراك عميق بأن الاقتصار على التلقين الجامد يبقي المعرفة حبيسة الإطار المدرسي الضيق، ويحول دون تحولها إلى قوة حقيقية في صياغة الوعي الجمعي. إن استدعاء هذه الفكرة يكشف عن بُعد سوسيولوجي وفلسفي في آن معاً، إذ يربط بين المعرفة كعملية ديناميكية مستمرة، وبين قدرتها على إحداث التحول الاجتماعي والثقافي. فالمعرفة، بحسب هذا التصور، ليست تراكماً معلوماتياً ينقل من جيل إلى جيل، بل هي ممارسة نقدية تعيد تشكيل الوعي، وتمنح الفرد والجماعة أفقاً للحرية، ووسيلةً لمواجهة تحديات الواقع المعاصر. ومن هنا، يغدو التجديد الفكري، عبر الانتقال من المعرفة الموروثة إلى المعرفة الفاعلة، التي تتجاوز النقل السلبي لتصبح شرطاً للتحرر الاجتماعي والثقافي. وهذه محاولة لإعادة النظر في التراث العربي الفكري كله.

وفي النهاية يذهب الجابري في كتابه " تكوين العقل العربي " أن الفكر بوصفه أداة للإنتاج النظري صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها، هي الثقافة العربية بالذات، الثقافة التي تحمل معها تاريخ العرب الحضاري العام وتعكس واقعهم أو تعبر عنه وعن طموحاتهم المستقبلية كما تحمل وتعكس وتعبر، في ذات الوقت، عن عوائق تقدمهم وأسباب تخلفهم الراهن.

2- الوعي كوسيط بين المعرفة والحرية: يتشكل الوعي عندما يتحول الإنسان من مجرد ناقل للمعلومات إلى مفكر ناقد قادر على تحليل الواقع بعمق. فالوعي هو الإدراك العميق للبنى الخفية التي تشكل الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، بما في ذلك القوى المؤثرة على الفرد والمجتمع، مثل: الأعراف والعادات، القيم الثقافية، والدعاية السياسية.

ولا يمكن للوعي أن يظهر دون معرفة نقدية، إذ إن المعلومات وحدها لا تكفي لتشكيل فهم حقيقي للواقع. الإنسان الذي يفتقر إلى وعي نقدي قد يظن نفسه حراً، لكنه في الواقع يسير وفق التوجيهات الخارجية أو العادات الاجتماعية الجامدة. يؤكد شريعتي في كتابه " النباهة والاستحمار " أن القدرة على التساؤل والبحث والتفكير المستقل هي شرط أساسي للنجاة من العبودية الفكرية والاجتماعية.

وبذلك، يصبح الوعي الجسر الحيوي الذي يحول المعرفة النظرية إلى إدراك عملي يمكّن الفرد من اتخاذ قرارات حرة ومسؤولة، بعيداً عن التأثيرات الخارجية الخفية أو التقليد الأعمى.

3- الحرية كثمرة للوعي والمعرفة: باختصار شديد إن الحرية الحقيقية ليست مجرد غياب القيود، بل هي القدرة على اتخاذ قرارات واعية ومدروسة وفق مبادئ أخلاقية وعقلانية. والحرية تتحقق عندما يمتلك الإنسان وعياً نقدياً قائماً على معرفة دقيقة تمكنه من إدراك خياراته وفهم الآثار المترتبة على أفعاله. بذلك تصبح " الحرية المسؤولية ".

ففي المجتمعات التي تفتقر إلى وعي نقدي، يبدو الأفراد أحراراً، بينما في الواقع يخضعون لعوامل غير مرئية مثل التقاليد الاجتماعية أو الخوف أو الدعاية السياسية. وعليه، لا يمكن أن تتحقق الحرية إلا على أرض معرفية صلبة، حيث تتكامل المعرفة والوعي لتنتج تحرراً حقيقياً على الصعيدين الفردي والاجتماعي.

خلاصة القول إن الحرية عملية مركبة، تتداخل في توليدها معطيات كثيرة، وتستوجب " ... ثلاثة شروط في حالة يصح أن تنطبق عليها كلمة حرية، أولاً: المعرفة الواعية، ثانياً: إمكانية الاختيار، ثالثاً: القدرة على تنفيذ هذا الاختيار ".

4- آليات الترابط بين المعرفة والوعي والحرية: إن العلاقة بين المعرفة والوعي والحرية ليست عشوائية، بل هي سلسلة مترابطة متكاملة. تبدأ بالمعرفة التي تمد الفرد بالمعلومات الضرورية، ثم يتحول هذا الأساس إلى وعي نقدي قادر على التحليل والتقييم، لينتج في النهاية حرية حقيقية ومسؤولة. أي خلل في أحد هذه العناصر يضعف الآخر، ويحوّل مفهوم الحرية إلى وهم.

ويخبرنا التاريخ السياسي أن المجتمعات التي تمكنت من نشر المعرفة النقدية وتعزيز الوعي استطاعت تحقيق تغييرات اجتماعية وسياسية ملموسة، بينما المجتمعات التي غابت عنها هذه العناصر بقيت رهينة للجمود الفكري والسياسي.

كما يمكن ملاحظة ذلك من التاريخ العربي الحديث، حيث أثمرت بعض الثورات الكبرى في العالم نتيجة امتلاك وعي جماعي نابع من المعرفة، في حين فشلت محاولات التحرر في مجتمعات أخرى بسبب غياب هذا التأسيس المعرفي والنقدي ومن بينها المجتمعات العربية.

ويعتقد شريعتي أن هذا الوضع ناتج بشكل أساس عن مفهوم الاستحمار الذي يعني تزييف ذهن الإنسان ووعيه وشعوره وحرف الإنسان عن ذاته ووعيه للوجود وغاياته، ولفلسفة الحياة بما تنطوي عليه من شبكة من العلاقات بين الإنسان والمجتمع، والإنسان والطبيعة والإنسان والله. ويرى أن هذا المفهوم ينقسم إلى قسمين أساسيين: الاستحمار المباشر يقوم بنظر شريعتي على تجميد الأذهان، والجهل والضلال والانحراف. أما الاستحمار غير المباشر فهو عبارة عن إلهاء الأذهان بالحقوق الجزئية لتنشغل عن المطالبة أو التفكير بالحقوق الأساسية الكبرى. وأول خطوة من خطوات الاستحمار هي الاستنزاف وتعني استنزاف الوعي، أو سلب الوعي، وحين يُسلب الوعي يسلب الإنسان كإنسان، ولا يبقى بعدها ذو خطر، سواء كان إنساناً عادياً، أم عالماً أم مثقفاً أم فيلسوفاً.

ويذهب شريعتي أن الاستحمار، هو الاستعمار الجديد، القائم على السيطرة النفسية والروحية غير المباشرة على الشعوب والجماعات والأفراد في العالم. ففي كتابه " النباهة والاستحمار " يعتقد شعريتي جازماً أن الاستحمار هو بمثابة الاستعمار الجديد الذي يسلب الإنسان وعيه، إذ لا يمكن لإنسان أن يكون حراً وهو لا يمتلك وعياً بناه على أساس معرفي، فحرية الإنسان تبدأ من معرفته بذاته ومجتمعه، فإذا جَهِلَ فقد وُضِع في قيد وإن ظن أنه طليق، وهذا يعني أن الوعي ليس شعاراً بل ثمرة معرفة، وبدون وعي لن تتحرر الشعوب.

5- سبل التمكن من فهم العلاقة: تمكين الأفراد من إدراك العلاقة بين المعرفة والوعي والحرية يتطلب تبني نهج شامل يشمل على التعليم النقدي الذي يعزز التحليل والمناقشة بدل الحفظ والتلقين، الانخراط الفعلي في النقاشات الفكرية والسياسية، واستخدام المصادر العلمية الموثوقة للتفريق بين الحقيقة والدعاية.

كما يعد تشجيع القراءة المستمرة والبحث الشخصي عاملاً محورياً في بناء وعي نقدي يمكنه تمكين الفرد من ممارسة الحرية على أسس متينة. ويشير الطهطاوي (1801-1873) في كتابه " تخليص الإبريز في تلخيص باريز " أن التمدن لا يتحقق إلا بالعلوم والعقل، معتبراً أن التعليم أساس الرقي معنى ذلك أن الثقافة العربية تحتاج إلى إعادة بناء شاملة للوعي المعرفي عبر التعليم والممارسة النقدية لتجاوز الجمود التقليدي.

6- مأزق العالم العربي في إدراك العلاقة: رغم غنى التراث العربي الفكري، تشير الدراسات النقدية إلى وجود ضعف في استثمار المعرفة لبناء وعي يؤدي إلى حرية فعلية. ويعود ذلك إلى عدة عوامل، منها الجمود التعليمي الذي يركز على الحفظ دون النقد، الضغوط السياسية والاجتماعية التي تحد من النقاش الحر، والهجوم على المثقف المستقل.

ويُعرَّف التراث بأنه ما خلفه الأجداد لكي يكون عبرةً من الماضي ونهجاً يستقي منه الأبناء الدروس ليعبروا بها من الحاضر إلى المستقبل. والتراث في الحضارة بمثابة الجذور في الشجرة، فكلما غاصت وتفرعت الجذور كانت الشجرة أقوى وأثبت وأقدر على مواجهة تقلبات الزمان. ... كذلك فكل الناتج الثقافي للأمة يمكن أن نقول عنه ” تراث الأمة “.

وفي حقيقة الأمر يخضع الفكر العربي لوصاية التراث والمجتمع، ولم يتجرأ حتى الآن على خوض الصراع مع المرجعية التراثية (العادات والتقاليد والخرافة والمعرفة اللا علمية)، التي تأخذ في كثير من الأحيان طابع المقدس في المخيلة العربية. حيث إن كل ماضٍ مقدس، وكل مقدس يتم توارثه دون مراجعة. فالمجتمعات التي تقدس التراث يكون العقل أول ضحاياها. وهذا يصدق على الواقع الاجتماعي الذي تحكمه العادات والذي لكثرة ما سمعه الناس، وَقَر في نفوسهم كشيء مقدس. والإنسان العربي عموماً هو ضحية هذه النظرة اللا عقلانية، التي تضع التاريخ والثقافة خارج النقد والتقويم، مما يعيق دور علم الاجتماع بمعالجة المشاكل الجوهرية التي يعاني منها الواقع العربي.

نتيجة لذلك، يبقى الإنسان العربي في مأزق بين المعرفة النظرية والوعي العملي، مما يحد من قدرته على ممارسة الحرية الفعلية. فالمجتمعات التي تفتقر إلى هذه السلسلة التأسيسية تبقى غير قادرة على مواجهة التحديات الفكرية والاجتماعية المعاصرة، ويصبح التحول الحقيقي في مستوى الأفراد والمجتمع مستحيلاً بدون إصلاحات شاملة.

- خلاصة القول: يؤكد المقال أن المعرفة والوعي والحرية تشكل سلسلة مترابطة لا يمكن فصل عناصرها دون الإضرار بالكل. أي محاولة للتحرر دون أساس معرفي أو وعي نقدي ستظل سطحية وغير فعالة. ويبرز دور التعليم النقدي والانخراط المجتمعي واستخدام المصادر الموثوقة كأدوات حقيقية لتأسيس وعي متكامل يؤدي إلى حرية حقيقية ومستدامة.

وبذلك، يمكن للعالم العربي تجاوز مأزقه الحالي في مواجهة القيود الفكرية والاجتماعية، وتحقيق تحرر فردي ومجتمعي مبني على أسس معرفية وعقلية صلبة، تتيح للفرد ممارسة اختياراته بحرية ومسؤولية، وتعزز قدرته على مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل بثقة ومعرفة.

أما على الصعيد الأكاديمي لدور علم الاجتماع في بناء الوعي العربي وتحريره نجد أن دور علماء الاجتماع العرب ومسؤوليتهم الأخلاقية والعلمية تلعب درواً هاماً في هذا السياق، فمن المعلوم أن النظريات والمناهج الاجتماعية طورها علماء وهبوا أنفسهم للعلم، وقد فهم هؤلاء العلم رسالة ومسؤولية، رسالة لفهم الكون وتفسيره والحفاظ عليه، ومن ثم فإن للمناهج بعد قيمي وأخلاقي وإنساني، وهذا تأخذه عن الثقافة. وقيم المفكرون تجسدها مناهجهم، وهذا ما تعبر عنه علاقة المنهج بالإيديولوجيا، وبإنتاج المعرفة والفكر مرتبطتين بطريقة رؤيتنا للكون. فعلى سبيل المثال، فإن المنهج الفيبري، أو المنهج التاريخي الاجتماعي المطبق على دراسته (الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية)، يرى أن حركة الإصلاح البروتستانتية، هي التي أسست الحضارة الغربية، فهو يقرأ تقدم المجتمعات وتخلفها من خلال حركة الإصلاح البروتستانتي. كما نجد إيديولوجيا ماركس قائمة في منهجه، وكذلك إيديولوجيا فيبر وبارسونز.... إلخ، والإيديولوجيا فكر وقيم سياسية وثقافية ومعرفية. ولا نجد عالماً ذا مدرسة دون هذا البعد الإيديولوجي، والعلوم الاجتماعية كلها ليست بعيدة عن الإيديولوجيا، والإيديولوجيات هي الرؤى المتعددة للكون، وإن هذه الرؤى المختلفة هي التي تكون النظريات والمدارس، فتبرز المدراس الفكرية بقدر ما يوجد من اتجاهات نظرية.

نستنتج مما سبق أن مدراس علم الاجتماع طورها مفكرون وعلماء أصحاب رؤى اجتماعية. وهذه الرؤية تسعى إلى تطوير الواقع الاجتماعي لأنها قائمة على المنهج والنظرية. فالبعد الإيديولوجي، أو الحكم القيمي هو أساس التنظير ولما غاب التنظير عن علم الاجتماع العربي، فقد غابت عنه المدارس والاتجاهات الفكرية المفسرة للمجتمع، ذلك أن التنظر ليس عملية خارج المجتمع والتاريخ، وإنما يتم في سياق ثقافي ومجتمعي وتاريخي معين. وما سردناه عن النظريات السوسيولوجية ينطبق على المناهج وطرائق البحث الاجتماعي، فهذه تمثل جانب الضعف في علم الاجتماع وهي مرتبطة بالنظريات فلا يقوم التنظير دون منهج، ولذلك نلاحظ أن غياب الاتجاهات والمدارس عندنا، إنما يعود إلى ضعف الانتماء النظري والمنهجي.

يؤكد العرض والتحليل السابق أن أزمة العلوم الاجتماعية في العالم العربي ناتجة عن ظروف مجتمعية وشروط موضوعية أفرزها موقف الدولة السلبي تجاه تلك العلوم، ونظرة المجتمع الدونية إليها، وعدم رغبة معظم الطلبة النابهين في التخصص في مجالاتها المتعددة، لكن هذا الرصيد السلبي المتراكم لا ينفي وجود بعض المحاولات الهادفة لتوطين تلك العلوم الاجتماعية في بيئاتها العربية، ونذكر على سبيل المثال محاولات توطين علم الاجتماع في البيئة العربية، وتجربة أسلمة علم التاريخ باعتبارهما من المحاولات الجديرة بالمراجعة والتقييم في إطار عرضنا للتحديات التي تواجه العلوم الاجتماعية في العالم العربي عموماً.

وفي ذات السياق، بدأت المحاولات لتوطين علم اجتماع عربي بكتابات عالم الاجتماع العراقي علي الوردي (1913-1995) التي استند فيها إلى خصوصية البيئة العربية والتراث النظري لابن خلدون، ويذكر الوردي في هذا الاتجاه أننا لو ألقينا نظرة على خارطة الكرة الأرضية، لوجدنا المنطقة العربية، هي المنطقة الوحيدة التي تمتد من الخليج العربي شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، إنها تتميز عن غيرها من مناطق العالم بكونها أكبر امتداد صحراوي على وجه الكرة الأرضية، ومعنى هذا أنها أكبر منبع للبداوة في العالم كله، لكن النظريات الاجتماعية التي ظهرت في الغرب لا تولي أي اهتمام للبداوة، ولا غرابة في ذلك، لأن علماء الغرب لا يجدون أي أثر للبداوة في مجتمعهم، وهذا هو الذي يدعونا إلى دراسة مجتمعنا في ضوء منهج خاص بنا، يختلف في بعض الوجوه عن علم الاجتماع الغربي. ولتأسيس إطار (نظري للمنهج) الذي ينشده يقول الوردي آن الأوان لكي نرجع إلى الأساس الذي وضعه ابن خلدون لعلم الاجتماع، والذي أهملناه طويلاً، فنزيل عنه تراب الزمن، نلقحه بما ظهر مؤخراً من نظريات ومفاهيم اجتماعية جديدة وبهذا نتمكن من بناء علم اجتماع خاص بنا يلائم المجتمع الذي نعيش فيه.

وبهذه الكيفية فتح الوردي الباب واسعاً للعديد من الندوات والدراسات التي انتقدت مخرجات البحث الاجتماعي في البلدان العربية، وأرجعت إخفاقات الباحثين الاجتماعيين في تأسيس علم اجتماع عربي يعالج مشكلة التخلف إلى أزمة ثلاثية مركبة، قوامها أزمة الإطار النظري الاجتماعي، وأزمة المنهج العلمي وأدواته البحثية، وأزمة العلاقة التبادلية مع المجتمع.

إن مستقبل علم الاجتماع في العالم العربي، إن كان له مستقبل، سيكون في الثورة على السلطة، أي سلطة، وفي الحد الأدنى إزعاجها بالنقد وكشف آليات الهيمنة التي غالباً ما تلجأ إليها لدوام تسلطها. ومن أنواع السلطة التي يفترض أن نثور عليها تلك المعارف المحافظة التي تأبى التغيير لما صاحبها من أرثوذكسية حولها في رؤوسنا، وقد يصعب الانقلاب عليها دونما سوسيولوجيا ثائرة ومناضلة ضد السائد والمألوف، وما هو متفق عليه، ومن دون ذلك سيطول مكوث هذا السائد فينا وبيننا، الأمر الذي يجعل من الرؤية النقدية لأدواتنا المعرفية أمراً ملحاً، شرط أن نكف عن اعتبار الناقد عدواً، ما دام يمتلك عناصر البرهنة على ما يعتبره نقداً. ولعل أفضل طريقة لتقدير باحث وما أنتجه من بحث هي محاولة البرهنة على ما فيه من تقصير علمي بوضع أسئلة جديدة غير الأسئلة الموضوعة. والأسئلة الجيدة أفضل من الإجابات الجيدة.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

.....................

- المراجع المعتمدة:

- أبو شوك، أحمد. وآخرون. 2021. أزمة العلوم الاجتماعية (المظاهر والآفاق). ط1. مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية. قطر.

- الجابري، محمد. 2009. تكوين العقل العربي. ط10. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت.

- آلدمير، تورغاي. بدون تاريخ. الوعي والمعرفة. ط1. ترجمة: علاء الدين حسو. دار تيرا. إسطنبول.

- الطهطاوي، رفاعة رافع. 2010. تخليص الإبريز في تلخيص باريز. ط2. مؤسسة هنداوي. المملكة المتحدة.

- العظم، صادق. 1970. نقد الفكر الديني. ط2. دار الطليعة. بيروت.

- باقادر، أبو بكر أحمد. عرابي، عبد القادر. 2006. آفاق علم اجتماع عربي معاصر. ط1. دار الفكر. دمشق.

- بوبر، كارل. 2006. منطق البحث العلمي. ط1. ترجمة: محمد البغدادي. المنظمة العربية للترجمة. بيروت.

- جميل قاسم. 2010. علي شريعتي الهجرة إلى الذات. ط1. مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي. بيروت.

- دواق، الحاج أوحمنه. 2021. جدلية الوعي والحرية في فكر علي شريعتي. بحث محكم. مؤسسة مؤمنون بلا حدود. الدار البيضاء (المغرب).

- سعيد، إدوارد. 2024. الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق. ط3. مؤسسة هنداوي. المملكة المتحدة.

- سعيد، جودت. 2016. حتى يغيروا ما بأنفسهم. ط50. تقديم: مالك بن نبي. دار تيرا. إسطنبول.

- شريعتي، علي. 1984. النباهة والاستحمار. ط1. الدار العالمية. بيروت.

- شريعتي، علي. 2022. في علم الاجتماع الإسلامي. ط1. ترجمة: دعاء إبراهيم. مراجعة وتدقيق: محمد حسين بزي. دار الأمير للثقافة والعلوم. بيروت.

- عمارة، محمد. 2007. رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث. ط3. دار الشروق. القاهرة.

- فياض، حسام الدين. 2023. إشكاليات تمكين علم الاجتماع في البلدان العربية. موقع أنطولوجيا. مصر.

https://alantologia.com/blogs/64466/

- فياض، حسام الدين. 2024. الاستقلال السوسيولوجي مهمة لم تنجز بعد في الجامعات العربية. موقع الحوار المتمدن.

https://ahewar.net/m/s.asp?aid=830753&r=50&cid=0&u=&i=13780&q=

- مؤنس، حسين. 1996. تاريخ موجز للفكر العربي. ط1. دار الرشاد. القاهرة.

- مؤلفين، مجموعة. 2014. مستقبل العلوم الاجتماعية في الوطن العربي. ط1. تحرير وتقديم: ساري حنفي ومصطفى مجاهدي. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت.

- Giddens, Anthony.1991. The Consequences of Modernity. Stanford University Press. Stanford

- Habermas, Jürgen. 1996. The Theory of Communicative Action, Vol. 2: Lifeworld and System: A Critique of Functionalist Reason. Translated by Thomas McCarthy. Beacon Press. Boston.

 

منذ عصور، اشتبكت الانسانية مع لغز الوجود. الاديان نسبته الى خلق إلهي، بينما الفلاسفة استطلعوا جواهر أبدية مثل الروح. اما العلم فهو يقترح تطورا مرتكزا على الحظ من أشكال حية بسيطة. وبالرغم من هذه الرؤى المتنوعة، لايزال الجواب المحدد ملتبسا. منذ زمن سحيق، تسائل الناس عن الوجود الانساني. لسان حال الانسان يقول "انا محكوم علي بالفناء بسبب وجودي، ماذا سيحدث لو لم اكن موجودا؟".

الوجود الفردي ربما يحمل الكثير من القلق الشخصي والعاطفي، لكن الذي شغل الدين والفلسفة والعلم هو الوجود الجمعي. الاديان ترى الوجود الانساني كخلق لله. الفلاسفة حاولوا اثبات وجود الله من خلال الوجود ذاته. الحجة الكلاسيكية لوليم بالي William Paley تحاول اثبات وجود الله بالارتكاز على التصميم الظاهر في الكون والتعقيدية والغرض من أعضاء جسم الانسان مثل العين. الحجج الحديثة تؤيد وجود الله من خلال مبدأ كوني anthropic principle يشير الى ان الكون مضبوط بدقة لغرض الوجود الانساني. الجواب النهائي في الاديان الايمانية والفلسفات هو ذاته: وجود الانسان هو خلق الهي (1).

وفي السياق الهندي، أديان مثل الجاينية Jainism والفلسفات بما فيها سانخيا Sankhy و ميمانسا Mimansa تسعى للاجابة على لغز الوجود الانساني طبقا لجوهر أبدي – مثل atman و بوروشا purusha و جيفا Jiva و روح soul. جيفا تتخذ شكل انساني في دورة من الحياة والموت نتيجة للكارما و avida. المخطط الاساسي هو كالتالي: الروح تنتقل بين الولادات نتيجة للجهل او بسبب تأثير كارمي. الاديان الالحادية(بعض طوائف البوذية) والفلسفات فشلوا في الاجابة عن سبب بدء هذه الدورة من الحياة والموت؟ كيف جاءت الروح أول مرة لتدخل في عبودية تأخذ شكل ولادة؟ الفكر الالحادي الهندي يحاول تجنب هذا السؤال عبر استخدام مفهوم anadi(2)، وهو الجواب المألوف للاسئلة التي هو غير قادر على الاجابة عليها.

اذا كانت الاديان الملحدة والفلسفات تعاني من عدم انسجام منطقي، فان المؤمنين ليسوا أفضل حالا. في النظر الى الله كمحض او مكتف ذاتيا، هم يفشلون في إعطاء أي سبب لماذا خلق الله الانسان؟ على سبيل المثال، الاديان السامية تعتقد ان الله خلق الانسان من الرغبة. وبما ان الرغبة تنبع من النقص، فان قبول الرغبة في هذا السياق من شأنه ان يتعارض مع مفهوم الله الخالص.

الهندوسية، كونها يقظة لهذه المشكلة، تصف خلق الله للانسان كـ لعبة في الخلق Lila. هذه اللعبة لا تعني مزاح، انها انيرفاشتيا – لايمكن توضيحها من خلال الكلام. ومهما كان التوضيح ذكيا، انه لا يكفي.

العلم – وهو آخر الداخلين للنقاش – يحاول توضيح الوجود الانساني كمحصلة قائمة على الصدفة لتفاعل أعمى بين المادة والقوى مؤديا الى تطور بايولوجي وكيميائي. الكيمياء أنتجت جزيئات معقدة ذاتية التكاثر قادت الى ظهور الحياة في كائنات وحيدة الخلية. أشكال حياة أبسط تطورت تدريجيا الى أشكال حياتية اكثر تعقيدا، بما فيها الانسان. طبقا لتيار العلم السائد، وجود الانسان هو فقط خاصية طارئة للكون. لا ضمان في ظل حظ آخر، ان ينتج الكون مرة اخرى حياة او انسان.

حتى بعد آلاف السنين من تأمل أحسن العقول في وجود الانسان، يبقى السؤال بلا جواب حتى هذا اليوم. العديد من العلماء البارزين بمن فيهم اينشتاين، لم يكونوا مرتاحين لفكرة ان الكون محصلة لتفاعل أعمى قائم على الصدفة بين المادة والقوى. من جهة اخرى، توضيح وجود الانسان كخلق لله او كدورة أبدية ناتجة عن عبودية الروح للمادة فيه عدم انسجام منطقي سمح به العديد من المفكرين.

في عالم يواجه تحديات وجودية متزايدة، سيكون توضيح وجود الانسان والاعتراف بقيمة الحياة دائما ذو أهمية كبيرة. المستقبل ربما لديه جواب أفضل لسبب وجودنا.

***

حاتم حميد محسن

.......................

الهوامش

(1) The times of india, July14,2025

(2) مفهوم لوجود أبدي بلا بداية، شيء بلا زمن ولم يُخلق.

 

مقدمة: تُعَدُّ الهندسة من أقدم وأعمق الأنشطة الإنسانية التي أسهمت في تشكيل ملامح الحضارة، إذ جمعت منذ نشأتها بين الإبداع العقلي والدقة العملية، وبين التصور النظري والإنجاز الملموس. فهي علمٌ وفنٌّ في آنٍ واحد، يستند إلى مبادئ رياضية وعلمية صارمة، ولكنه لا ينفصل عن المخيلة الإنسانية التي تمنح الأفكار شكلًا ومعنى. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى بحثٍ يتناول معنى الهندسة وطبيعتها، بدءًا بتحديد مفهومها الدقيق وخصائصها العامة التي تميزها عن سائر مجالات المعرفة.

غير أنّ النظر في الهندسة لا يكتمل إلا عبر المنظور الفلسفي؛ فالفلسفة والهندسة تمثلان معًا شراكة فكرية في بناء العوالم الممكنة، حيث يضع الفيلسوف الأسس المفهومية والنظرية، بينما يحوّل المهندس هذه الرؤى إلى واقع ملموس. وفي هذا السياق، يصبح الفيلسوف والمهندس شريكين في مشروع واحد: إبداعي، نقدي، وواقعي في الوقت ذاته.

كما أن فلسفة التعليم الهندسي تضطلع بدور محوري في تشكيل عقلية المهندس، إذ تدمج بين المعارف التقنية والقيم الإنسانية، وتؤسس لوعي نقدي يجعل من الممارسة الهندسية نشاطًا مسؤولًا وأخلاقيًّا. وهذا ما يقود إلى بحث فلسفة الهندسة ذاتها، من خلال إبراز أهمية الفلسفة للهندسة، واستعراض الاتجاهات النقدية في فلسفة العلم التي مهّدت لتطورها، فضلًا عن تحليل الأسس الفلسفية والأخلاقية للهندسة التي تضمن أن يكون الإنجاز التقني في خدمة الإنسان لا على حسابه.

وعليه، فإن هذا البحث ينطلق أولًا من تحديد معنى الهندسة وطبيعتها عبر الوقوف على تعريفها وخصائصها العامة، قبل الانتقال إلى استكشاف العلاقة الجدلية بين الفلسفة والهندسة بوصفهما شريكين في ابتكار العوالم الممكنة، ثم تحليل دور كلٍّ من الفيلسوف والمهندس في صياغة الرؤية وتحقيقها. كما يتناول البحث دور فلسفة التعليم الهندسي في تشكيل العقلية الإبداعية والمسؤولة، وصولًا إلى التعمق في فلسفة الهندسة ذاتها من حيث أهميتها، والأسس النقدية التي تمهّد لها، وقواعدها الفلسفية والأخلاقية. وبهذه الخطوات، تتضح معالم الإطار النظري الذي يوجّه بقية محاور الدراسة.

إشكالية البحث وأسئلته

ينطلق البحث من سؤال محوري يعبر عن مشكلته، وهو: ما هي فلسفة الهندسة؟ ويناقش هذا السؤال من خلال التساؤلات الفرعية التالية:

1- ما معنى "الهندسة"؟

2- ما الأسس الفلسفية للهندسة؟

3- ما طبيعة العلاقة بين الفيلسوف والمهندس؟

4- هل فلسفة التعليم الهندسي مهمة للمهندس؟

5- لماذا الفلسفة مهمة للهندسة؟

6- ما هي فلسفة الهندسة؟

منهجية البحث

يعتمد البحث في عرضه للإجابة عن تلك الأسئلة على عدة مناهج، هي:المنهج التاريخي، المنهج التحليلي، المنهج النقدي، المنهج المقارن.

محاور البحث

المقدمة.

المحور الأول: معنى الهندسة وطبيعتها

المحور الثاني: الفلسفة والهندسة (شراكة في بناء العوالم الممكنة).

المحور الثالث: الفيلسوف والمهندس.

المحور الرابع: فلسفة التعليم الهندسي.

المحور الخامس: فلسفة الهندسة

الخاتمة.

الهوامش

المحور الأول: معنى الهندسة وطبيعتها

1- تعريف الهندسة

نستطيع أن نعرض بانوراما متنوعة ومتميزة لتعريفات الهندسة تجمع بين الأبعاد الكلاسيكية والفلسفية والعلمية والتاريخية، بالإضافة إلى الجانب المؤسسي كما يلى:

أ- التعريفات الكلاسيكية والفلسفية

1- التعريف الكلاسيكي: "فن توجيه القوى العظمى في الطبيعة لخدمة الإنسان وراحته".(1)

2- تعريف الهندسة كفن وقدرة: تسخير الموارد الطبيعية بعد الاستنتاج العلمي، مع تأكيد على البعدين "القدرة" و"الفن" اللذين لا يفسَّران إلا فلسفيًا، وربط فلسفة العلم بفلسفة الهندسة لتوسيع أفق التعاون بين العلماء والمهندسين.(2)

ب- التعريفات العلمية/المنطقية

1- يعرّف لوجنبيهِل (Luegenbieh 2010) الهندسة بأنها: "تحويل العالم الطبيعي باستخدام المبادئ العلمية والرياضيات لتحقيق غاية عملية، مع إحالة ضمنية إلى فلسفة العلم والمنطق.(3)

2- تعريف لاتوماس تردجولد: "تطبيق المبادئ العلمية للتحويل الأمثل للموارد إلى منتجات وأنظمة نافعة للبشرية".(4)

3- تعريف مجلس المهندسين الأمريكي (1941): "التطبيق الإبداعي للمبادئ العلمية لتصميم وتطوير وتشغيل أنظمة وهياكل وأجهزة، مع مراعاة الكفاءة، والسلامة، ووظائفها المقصودة".(5)

ج-  التعريفات العملية/الوظيفية

الهندسة كحلّ للمشكلات: "التطبيق العملي للمبادئ العلمية بطريقة إبداعية لتصميم وتطوير وتنفيذ حلول تقنية في ظروف محددة، بطريقة اقتصادية وآمنة، مع السمات الرئيسية: العلم، الرياضيات، التصميم".(6)

د-  التعريف التاريخي

رفض ديفيس (Davis 2005) فكرة التعريفات الفلسفية للهندسة والمنهج اللغوي في تناولها. ويقترح أن جميع المحاولات لتعريف الهندسة فلسفيًا سوف: (أ) تكون دائرية (أي تستخدم كلمة "الهندسة" أو مرادفًا لها أو مصطلحًا إشكاليًا بنفس القدر)؛ (ب) تكون عرضة لأمثلة مضادّة جادة (إما لأنها تستبعد أنشطة تندرج بوضوح ضمن الممارسة الهندسية، أو لأنها تدرج أنشطة لا تنتمي إليها بوضوح)؛ (ج) تكون مجردة إلى حدّ يجعلها غير مُفيدة؛ أو (د) تعاني مزيجًا من هذه العيوب... واقتراح تعريف تاريخي قائم على جوهر ثابت تحدده الممارسة والمجتمع المهني في فترة زمنية معينة، حيث المهنة تعرّف ذاتها عبر ممارسيها الأحياء.(7)

2- الخصائص العامة للهندسة

يقدم ميتشام Mitcham (1994) الخصائص العامة للهندسة فيتبنى مقاربة فلسفية لغوية لتعريف الهندسة، تقوم على تحليل اللغة والمصطلحات بدل الانطلاق من التجارب العملية مباشرة.بدلًا من محاولة صياغة تعريف جامد للهندسة، يمكن فهمها عبر دراسة استخدام كلمة "الهندسة" والمصطلحات القريبة منها: الابتكار، الإبداع، التصميم، التقنية، العلم…الأهم هو النظر إلى العلاقات المتبادلة بين هذه الكلمات، لأن معانيها تتداخل وتشكل سياق فهمنا للهندسة.من المنظور الفلسفي اللغوي، البداية تكون من الكلمات التي نصف بها التجربة الهندسية، لا من التجربة نفسها، لفهم كيف نبني تصوراتنا عنها.(8)

يصنف فينشينتيVincenti) 1990) أنواع المعرفة الهندسية إلى ست فئات، وكل فئة تمثل جانبًا أساسيًا من أدوات وعقلية المهندس:

1- مفاهيم التصميم الأساسية

- الشكل أو البنية الأكثر شيوعًا وكفاءةً لتطبيق هذا المبدأ.

- الفكرة الجوهرية لعمل الجهاز (المبدأ التشغيلي).

2- المعايير والمواصفات

- تحويل الأهداف العامة للجهاز إلى أرقام وحدود كمية دقيقة.

- تحديد مقاييس الأداء المطلوبة.

3- الأدوات النظرية

- المعادلات الرياضية والأساليب الحسابية.

- قد تستند إما إلى قوانين علمية أو إلى خبرة سابقة موثوقة.

4- البيانات الكمية

- معلومات دقيقة مثل الثوابت الكونية، خواص المواد، ظروف التشغيل، عوامل الأمان… إلخ.

5- الاعتبارات العملية

- المعرفة المستمدة من الممارسة الميدانية والتجارب الفعلية.

- غالبًا تكون معرفة ضمنية يصعب توثيقها بالكامل.

6- وسائل وأدوات التصميم

الطرق الإجرائية، أساليب التفكير، والمهارات الحدسية التي تساعد على تنفيذ التصميم.(9)

المحور الثانى: الفلسفة والهندسة (شراكة في بناء العوالم الممكنة)

منذ البدايات الأولى للتاريخ، شكّل التفكير الفلسفي والهندسة ركيزتين أساسيتين في مسيرة التطور الإنساني. فبينما تضع الفلسفة الأسس الفكرية والقيمية التي ترشد مسارات البشر، توفر الهندسة الأدوات العملية لترجمة تلك الأفكار إلى واقع ملموس. ورغم أن المجالين يبدوان متوازيين ظاهريًا، إلا أن التجارب التاريخية تكشف عن تداخل عميق بينهما، إذ كان تفاعلهما مصدرًا دائمًا للإلهام والإبداع. فالهندسة ليست مجرد معادلات أو تقنيات جامدة، بل عملية قائمة على الإبداع والرؤية والتصور للمستقبل، وهي مجالات تغذيها الفلسفة وتمنحها إطارًا لفهم العالم وإعادة صياغته وفق حاجات الإنسان. ومن هنا يبرز السؤال: ما طبيعة الرابط الجوهري الذي يجمع بين الفلسفة والهندسة؟

قد يبدو للوهلة الأولى أن الفلسفة والهندسة مجالان متباعدان، لكن التأمل يكشف عن روابط عميقة بينهما. فالمهندسون في ممارساتهم اليومية يتحركون بين الملموس والمجرد، والجزئي والكلي، عبر التصميم والتنظير والاختبار والنمذجة. وهم يتعاملون مع "العوالم الممكنة" لا باعتبارها خيالات نظرية، بل بوصفها جوهر عملهم، كما قال ثيودور فون كارمان Theodore Von Karman : "العلماء يكتشفون العالم الموجود، أما المهندسون فيبتكرون العالم الذي لم يكن موجودًا قط."(10)

ورغم أن المشكلات الفلسفية العميقة حول طبيعة الوجود قد لا تكون في صلب اهتمامات المهندس، فإن الفلسفة تظل قادرة على إغناء الممارسة الهندسية، سواء بتحسين جودة التصميم أو بإعداد الطلاب إعدادًا أعمق للحياة المهنية.

منذ أقدم الحضارات، ارتبطت النهضة العمرانية والحضارية بإنجازات هندسية كبرى: الجسور، الطرق السريعة، السدود، المطارات، شبكات المياه، ومواد البناء المقاومة للكوارث. في تلك العصور، كان تدريب المهندسين يتم عبر علاقة مباشرة بين المعلّم والتلميذ، حيث تُنقل المعرفة شفهيًا ممزوجة بالأبعاد المنطقية والفلسفية والفنية، بما في ذلك القدرة على التعامل مع عدم اليقين. آنذاك، لم يكن هناك فصل واضح بين المهندس والمعماري، وكانت المهنة أقرب إلى الفن منها إلى العلم.(11)

أما في العصر الحديث، فقد انفصلت مسارات المعماريين والمهندسين، إذ اتجه المعماري نحو المجالات اللغوية والجمالية، بينما اعتمد المهندس على الأساليب العددية والخوارزميات والحلول الجاهزة. غير أن الإفراط في هذا الاعتماد أضعف الإبداع، وأفقد التعليم الهندسي روح الابتكار التي كانت تُبنى على تفاعل المعلّم والتلميذ. هنا يثور سؤال مهم: أي فلسفة يجب أن يتضمنها التعليم الهندسي المعاصر؟ هل هي الفلسفة الخالصة، أم فلسفة العلم؟ نظرًا لأن المهندس يسعى إلى خدمة المجتمع عبر حلول عملية، فإن فلسفة العلم تبرز كخيار أمثل. فهي تمنحه القدرة على صياغة الأفكار بأسلوب منهجي ولغوي قبل الانتقال إلى الأرقام، وتتيح له التفكير في بدائل متعددة بدل الاكتفاء بحل واحد، ثم اختيار الأنسب وفق معايير السرعة والتكلفة والأمان.(12)

تؤكد الاتجاهات الحديثة في فلسفة الهندسة أن المهنة تمر بأزمة عالمية تدفعها، ولو مؤقتًا، إلى العودة إلى الأسس الفلسفية والمنطقية قبل الشروع في القياس الكمي. فالمنهجيات الهندسية، رغم دقتها، تقوم غالبًا على افتراضات تقريبية تحتاج إلى نقد وتحليل فلسفي لتعزيز فعاليتها.(13)

وفي عصر الإنترنت، يتضاعف هذا الاحتياج؛ فالمعرفة الرقمية متاحة بكثرة، لكن من دون تفكير نقدي تصبح مجرد تراكم معلومات بلا روح. الفلسفة، وبخاصة فلسفة العلوم، تمنح المهندس أدوات للتحقق والتحليل وإعادة صياغة المعلومات في شكل يمكن تحويله إلى حلول نافعة للمجتمع. كما تساعده على الاحتفاظ بالمعلومات واستدعائها حية وفعّالة، بدل أن تتحول إلى أوراق مهملة أو محفوظات جامدة.(14)

في نهاية المطاف، ليست الهندسة مجرد ممارسة تقنية ولا الفلسفة مجرد تأمل نظري، بل كلاهما وجهان لعملة واحدة في مسيرة الإبداع الإنساني. الفلسفة تمنح المهندس القدرة على التفكير النقدي، والنظر إلى المشكلات من زوايا متعددة، وتخيل حلول لم تُجرَّب بعد. والهندسة بدورها تمنح الفلسفة جسدًا ماديًا تتجسد فيه الأفكار وتتحول إلى واقع. وعندما يتصالح العقل الفلسفي مع اليد الهندسية، يصبح الإنسان قادرًا على بناء عوالم جديدة، لا يحدها سوى أفق الخيال، ولا يحكمها إلا منطق الإبداع.

فليس من المدهش أن توجد علاقة وثيقة بين الفلسفة والهندسة، إذ إن هذا الترابط ينسجم تمامًا مع طبيعة الفلسفة الشمولية، التي تشمل في مجال اهتمامها وتأملها كل ما يمكن أن يثير التفكير البشري. ومع ذلك، ما قد يغيب عن ذهن البعض، خاصة في ظل الزخم الذي تحظى به فلسفة العلوم، هو أن الهندسة ربما تكون أكثر احتياجًا للتأمل والتحليل الفلسفي مقارنة بمجالات إنسانية أخرى. السبب وراء ذلك يكمن في التأثير الكبير - وغالبًا غير الملموس في بدايته - الذي أحدثته الهندسة وما تزال تحدثه في تشكيل عالمنا. لقد أسهمت الهندسة في بناء واقع جديد لم يكن ليخطر على بال أجدادنا، وهو تأثير يستحق منا التقدير والفهم العميق لفهم ماهية هذا التحول وآثاره المتعددة.(15)

الهندسة تُعتبر بطبيعتها ذات طابع فلسفي عميق، حيث يتداخل نشاطها بشكل وثيق مع جوانب معرفية (إبستمولوجية) وميتافيزيقية وأخلاقية ومنطقية وجمالية. ومن خلال تعاملها مع المشكلات المعقدة، تصبح الهندسة بمثابة ممارسة للفلسفة التطبيقية. وعلى الرغم من أنها قد لا تصل إلى المستويات الفكرية العليا التي بلغها أمثال هيغل أو هايدغر أو هابرماس، إلا أنها بلا شك تسعى جاهدة لتقديم حلول لبعض القضايا والتحديات التي يواجهها العالم.(16)

المحور الثالث: الفيلسوف والمهندس

المهندس هو الشخص الذي يمارس مهنة الهندسة، ويختصّ بتصميم وإنتاج الأدوات والآليات، ساعيًا إلى تطوير منتجات أسرع وأكثر كفاءة وأقل تكلفة. يتّسم المهندسون بالإبداع والقدرة على حل المشكلات، ويعملون في ثلاثة عوالم متداخلة:العالم الافتراضي، الذي يضم المبادئ والنظريات العلمية.العالم غير المادي، حيث تتحوّل الأفكار إلى مشاريع محددة وملكية فكرية.العالم المادي، حيث تُجسَّد المشاريع في منتجات ملموسة.(17)

وهكذا يؤدى المهندس دوره، حيث يظهر ليس فقط كمنفذ للتقنيات، بل كفاعل في ثلاثة مستويات متكاملة (العلمي، الفكري، المادي). هذا التقسيم يهيئ الأرضية لفهم كيف يمكن للفلسفة أن تتداخل مع الهندسة في كل مستوى.

يبدأ المهندس بتحويل الأفكار إلى تصاميم مستندة إلى المبادئ العلمية والرياضيات، ثم يصوغها في شكل مشاريع قابلة للتنفيذ، وأخيرًا يُنتجها باستخدام التكنولوجيا، ناقلًا إياها من عالم الفكرة إلى عالم الواقع.وتثور هنا تساؤلات أساسية: ما المفاهيم الجوهرية في الهندسة التي يجب تحديدها لتأسيس فلسفة للهندسة؟ وما المفاهيم الفلسفية التي يمكن توظيفها في صياغة هذه الفلسفة؟ إن المهندس الملمّ بفلسفة الهندسة والمبادئ المنطقية قادر على ابتكار حلول بديلة للواقع القائم، إذ لا تقتصر قيمة المهندس على المعرفة الثابتة، بل تكمن في ديناميكية التفكير الفلسفي التي تمنحه الحيوية والفاعلية والنجاح في مساره المهني.(18)

تتسم مهام المهندسين بتنوّع كبير، يشمل: التصميم، والتشخيص، والبحث لتطوير المنتجات، والتصنيع، وإدارة المشروعات، والهندسة الموجهة للمبيعات، إضافة إلى التعليم. كما يعملون في صناعات متعددة، وفي مشروعات تختلف من حيث الميزانية، والوقت، والمواد، والسوق.(19)

لذلك ينص الميثاق الملكي الخاص بمؤسسة المهندسين المدنيين، والذي يعود تاريخه إلى عام 1829، على أن مهنة الهندسة المدنية تُعرَّف بأنها "فن استخدام القوى الطبيعية العظيمة في خدمة الإنسان وراحته". كما جاء في إحدى الفقرات اللاحقة أن "الأعمال والخدمات" التي يقوم المهندسون بإنشائها أو تقديمها "تسهم في تعزيز رفاهية البشرية، مما يتطلب مستوى عاليًا من المعرفة والخبرة المهنية لتحقيق أفضل استخدام للموارد المحدودة، مع الأخذ بعين الاعتبار الحفاظ على البيئة ودعم الصحة والسلامة العامة".(20)

تؤكد المهام الهندسية أن الهندسة ليست مجالًا أحادي الوظيفة، بل تشمل أدوارًا بحثية، إنتاجية، تعليمية، وإدارية، مما يزيد من أهمية النظرة الفلسفية التي تمنح المهندس مرونة فكرية للتعامل مع هذا التنوع.

ومن خصائص المهندس التفكير العملي وإيجاد حلول قابلة للتطبيق، وهي قدرات تدعمها المقاربات الفلسفية. وعندما تُرفع المعرفة الفلسفية الهندسية إلى مستوى التطبيق العملي، يمكن للمهندس توظيفها في السياقات المناسبة، كما يمكنه نقلها إلى الأجيال الجديدة بصورة مبسّطة وفق مبادئ فلسفة الهندسة، ما يعزز قدرته على إنتاج المعرفة وتوظيفها في الأوقات والمواضع الملائمة لمعالجة المشكلات.(21)

منذ بداياتها، أولت الهندسة اهتمامًا كبيرًا بقضايا التعليم، لا سيما في الولايات المتحدة، بدرجة تفوق المهن العلمية الأخرى. فبالمقارنة مع الأطباء أو المحامين وأساتذتهم، نجد أن المهندسين وأساتذة الهندسة خاضوا نقاشات معمّقة حول محتوى المنهج الهندسي وبنيته المثلى. وقد انشغلوا بطبيعة التعليم الهندسي ربما أكثر مما انشغل الفلاسفة بتعليم الفلسفة. وأي فحص نقدي لمسألة التعليم ينطوي بالضرورة على قضايا فلسفية، تمتد من العلاقة بين المعرفة والفعل، إلى الأبعاد الأنثروبولوجية والسياسية للتعلّم، وإن لم يُصرَّح بها دائمًا. وبقدر ما تسعى فلسفة الهندسة إلى إظهار ما هو ضمني، فإنها تُعمّق النقاش حول التعليم الهندسي.(22)

كل هذا يكشف عن تقليد طويل من الانشغال بجودة التعليم الهندسي، بل تفوقه على مثيله في مجالات علمية أخرى، ما يعكس إدراكًا مبكرًا لأهمية البنية التعليمية في تشكيل الممارسة الهندسية.

ينطلق المهندس في تصميمه من مشكلة، أي من حالة جهل تُعَدّ نقصًا في المعرفة، وهو ما يعادل طرح سؤال يوجّه نحو غاية محددة. ويتطلب ذلك معرفة بالوسائل التي تحقق الغاية، وبكيفية الحصول عليها وتوظيفها، ومعرفة بالقيم الكامنة خلف الهدف، وبكيفية تعديل هذا الهدف في ضوء تلك القيم عند الحاجة. وترتبط هذه العملية بفرضيات إبستمولوجية تتجاوز العقلانية النظرية والعملية، لتشمل التفكير الغائي القائم على القدرة الانعكاسية في إصدار الأحكام.(23)

يثير هذا السؤال إشكالية لافتة: إذا كانت الهندسة بطبيعتها متصلة بالفكر الفلسفي، فما الفائدة التي يجنيها المهندس من دراسة الفلسفة؟ يمكن تناول هذا السؤال من زوايا متعددة، غير أن أحد أبرز الجوانب يتمثل في تنمية التفكير النقدي، الذي يُعد من المهارات المطلوبة بشدة في مختلف التخصصات. فهذا التفكير يقوم على تجاوز الأطر التقليدية والنظر إلى القضايا من زوايا غير مألوفة. وفي هذا السياق، أشار مايكل بروكس في مجلة New Scientist إلى الحاجة إلى "مفكرين مرنين" بدلاً من الاقتصار على تخريج المزيد من المتخصصين في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. وعلى المستوى التعليمي، لفت ديفيد غولدبرغ الانتباه إلى ما سماه "المناهج المكسورة" في التعليم الهندسي الجامعي، مؤكداً ضرورة إدماج مهارات التفكير النوعي ذات الجذور الفلسفية. ومن هنا تبرز الفلسفة كأداة مثالية لصقل شخصية "المهندس المفكر"، باعتبارها علماً متشعباً أثبت حضوره في مختلف الحقول.(24)

لا شك أن المهندس المتأمل ذو النزعة الفلسفية سيكون أفضل أداءً. فقد جادل شون (Schön, 1983) بأن الممارسين في مجالات متعددة يستطيعون تحسين أدائهم عبر إدماج التأمل في حياتهم المهنية، ليس بصورة مستمرة، بل في اللحظات المناسبة أثناء العمل أو بعد إنجازه. فبعد كل مشروع، ينبغي للمهندس مراجعة ما قام به، وكيف قام به، وما كان يمكن تحسينه. ورغم أن معظم الناس يمارسون ذلك بدرجة ما، فإن تحويله إلى ممارسة منهجية يُسهم في تحسين الأداء المهني، ويفتح المجال للتفكير العميق في أسس الممارسة الهندسية، وفحص الفلسفة الضمنية التي توجهها، بما يتيح فرصة لجعلها أوضح وأدق صياغة.(25)

وهكذا يجب دمج التأمل كأداة تطوير ذاتي ومهني، بما يجعل الفلسفة ممارسة حية داخل العمل الهندسي، وليست مجرد إطار نظري.

الخلاصة: ان العلاقة بين الفيلسوف والمهندس هي علاقة تكامل لا تناقض، فالفيلسوف يمنح المهندس الإطار المفاهيمي الذي يضبط منهجه ويكشف أبعاده الأخلاقية، والمهندس بدوره يمنح الفيلسوف برهانًا عمليًا على صلاحية الفكر وقدرته على تغيير الواقع. وحين يدرك المهندس أهمية التفكير الفلسفي، يصبح أكثر قدرة على ابتكار حلول مستدامة ومسؤولة، وحين يستلهم الفيلسوف من إبداعات الهندسة، تتجدد أسئلته وتُختبر أفكاره أمام تحديات العصر. وبذلك، فإن الفيلسوف والمهندس يشتركان في مهمة واحدة: فهم العالم والعمل على تحسينه، أحدهما بالعقل المجرد، والآخر بالفعل الملموس، في تآزر يثري كليهما ويخدم الإنسان والمجتمع.

المحور الرابع: فلسفة التعليم الهندسى

يُعَدّ التعليم الهندسي ركيزة أساسية في تطوّر المجتمعات الحديثة، إذ يجمع بين المعرفة العلمية الدقيقة والمهارات التطبيقية المتقدمة، في إطار تحكمه القيم الأخلاقية للممارسة المهنية. ومع تسارع التحولات التكنولوجية وتزايد التحديات البيئية والاقتصادية والاجتماعية، أصبح التعليم الهندسي مطالبًا بتجاوز نقل المعارف التقنية نحو بناء عقلية نقدية قادرة على التفكير المنهجي، وحل المشكلات بطرق مبتكرة، واتخاذ قرارات مسؤولة أخلاقيًا. ومن ثمّ تبرز الحاجة إلى رؤية فلسفية شاملة للتعليم الهندسي تجمع بين الأسس العلمية والبعد الإنساني ودور المهندس في خدمة المجتمع، بما يضمن مخرجات تعليمية قادرة على الإسهام في التنمية المستدامة وتعزيز الازدهار الوطني، وهذا ماسوف نشرحه فى الصفحات التالية.

إن تحقيق نتائج مثلى في ميدان التدريب الهندسي يتطلب أن يركّز النظام التعليمي على ترسيخ النقاش النقدي وتنمية التفكير العقلاني، بدلًا من الاقتصار على الحفظ الآلي. فغياب البعد الفلسفي في التعليم يحصر عملية التعلم في التلقين الجامد، بينما تعمل الفلسفة والمنطق على تحرير الذهن من القيود، وتفتح المجال أمام النقد المستمر وتطوير المعرفة بشكل متجدد. إن فلسفة الهندسة، بوصفها إطارًا فكريًا، توجّه المهندسين نحو الابتكار واستكشاف تقنيات غير مألوفة. فالاختراع يرتبط بتراكم معرفي نقدي يربط بين المعلوم والمجهول، ويحفّز العقل على الخوض في مناطق معرفية جديدة لإطلاق الإبداع. أما الانغلاق في حدود المعرفة الراهنة فيؤدي إلى إنتاج أنماط متكررة، ويفتقر إلى روح التجديد الفلسفي. ومن ثم فإن الحماس للبحث، المستند إلى فلسفة العلم والهندسة، يُعدّ شرطًا أساسيًا لتنمية المهارات الهندسية.(26)

وبذلك يجب دمج الفلسفة في التعليم الهندسي، حيث توجد علاقة الجوهرية بين الإبداع والقدرة النقدية. فلسفة الهندسة هنا ليست ترفًا فكريًا، بل أداة عملية لإطلاق التفكير غير النمطي. على المستوى المهني، يُترجم ذلك إلى قدرة المهندس على ابتكار حلول غير مسبوقة، وعلى المستوى الفلسفي، يرسّخ قناعة بأن المعرفة الحقيقية تتطلب الانفتاح على المجهول لا الاكتفاء بالمعلوم.

تطرح النظم التعليمية، وخصوصًا في مجال الهندسة، تساؤلات أساسية: هل يمكن للتراكم المعرفي الساكن أن ينتج مهندسين مبدعين ومستقلين؟ وهل يكفي التركيز على الجانب التقني البحت، أم أن دمج العلوم الاجتماعية والفلسفة الإنسانية ضروري لضمان معرفة ديناميكية ومستدامة؟ إن المعرفة اللغوية المؤسسة على مبادئ فلسفية يمكن أن تفضي إلى قواعد منطقية تولّد نتائج مرنة وقابلة للتطوير. وإذا أراد المهندس تبني هذا المسار، فعليه أن يدرّب نفسه على المبادئ الفلسفية والمنطقية من خلال بناء رصيد لغوي ومعرفي قبل الانخراط في الحلول التقنية. وقد أظهر تاريخ العلوم أن الإنسان بدأ مسيرته الفكرية ضمن إطار فلسفي، وجمع معارفه تدريجيًا قبل أن تتبلور الرياضيات والعلوم والهندسة كمجالات مستقلة، ومع ذلك حقق تطبيقات عملية ناجحة بفضل العقل والذاكرة والمنطق، في مسار ديناميكي تقدمي.(27)

وعليه فان فلسفة اللغة والمنطق ليست بعيدة عن الهندسة، بل تشكّل بنيتها التحتية الذهنية. المهندس الذي يمتلك خلفية فلسفية يتمكن من فهم القيم والأخلاقيات والسياقات الاجتماعية لمشاريعه، ما يمنحه رؤية أوسع تتجاوز حدود الكفاءة .

ينبغي أن يتضمن المنهج التدريبي الكلاسيكي لأي مهندس مجموعة من المحاور الأساسية الداعمة لمسيرته المهنية، يمكن إجمالها في ما يلي:

1- إتقان أساسيات الفيزياء والرياضيات الضرورية لفهم المبادئ العلمية التي يقوم عليها العمل الهندسي.

2- الاطلاع على الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، إضافةً إلى دراسة تاريخ تطور الهندسة لفهم السياق الأوسع للممارسة المهنية.

3- امتلاك القدرة على تصميم المشاريع الهندسية وتقييمها من حيث الجدوى والتطبيق العملي، مع توظيف المعارف والمهارات المتنوعة في هذا التقييم.

4- الاستفادة من خبرات ومعارف وتساؤلات المهندسين ذوي الكفاءة العالية والخبرة الواسعة.(28)

يمثل إخضاع ممارسات التعليم في الهندسة والتكنولوجيا لفحص نقدي خطوة أساسية لضمان ملاءمتها لمتطلبات العصر. ويقتضي ذلك إعادة النظر في الأساس المعرفي، والمناهج الدراسية، وأساليب التدريس، مع تعميق الوعي بالمسؤوليات العلمية والأخلاقية والمجتمعية والتكنولوجية للمهندسين. كما يستلزم الأمر الاستمرار في إلهام المبتكرين وتشجيعهم على مواجهة تحديات العقود المقبلة. ومن ثم تبرز الحاجة إلى بحث الأساس الفلسفي للهندسة، في أبعاده المعرفية (الإبستمولوجية)، والوجودية (الأنطولوجية)، والأخلاقية، بما يتيح الإجابة عن أسئلة محورية: ما الذي يميز الهندسة عن العلم من جهة والتكنولوجيا من جهة أخرى؟ ما ماهية الهندسة في جوهرها العميق؟ ما المعايير التي تحدد الفرق بين المهندس والتقني؟ وأخيرًا، ما طبيعة المسؤوليات المجتمعية والتكنولوجية الملقاة على عاتق المهندسين في أدوارهم المختلفة؟(29)

ومن الضروري أن يخضع التعليم الهندسي لمعايير دقيقة تستند إلى أسئلة فلسفية وعملية معًا، إذ يمكن للمهندس أن يقدم خدماته لمجتمعه عبر أنشطة متنوعة وتصميمات إنشائية وإجراءات إدارية، إلا أن هذه الخدمات قد تحمل مخاطر على المدى المتوسط أو البعيد. فعلى سبيل المثال، قد يؤدي سحب المياه الجوفية باستخدام مضخات عالية القدرة إلى آثار بيئية وأخلاقية سلبية، ما يجعله مخالفًا لجماليات وأخلاقيات الممارسة الهندسية، خاصة على مستوى الشركات أو الإدارات المحلية.

لذلك، يجب أن تتضمن مراحل التعليم الهندسي التفصيلية الخطوات التالية:

1- تدريس أساسيات الهندسة والرياضيات والمنهجيات العلمية، مع التمكن من التوصل إلى استنتاجات منطقية.

2- استخدام المعلومات العددية واللفظية بشكل رئيس في إعداد التجارب وتصميم الأجهزة عند الحاجة.

3- امتلاك القدرة والمنهجية والبرمجيات اللازمة لمعالجة المعلومات العددية واللفظية بكفاءة.

4- السعي لتحقيق الأهداف المطلوبة من خلال تصميمات مفيدة ومنهجية.

5- تحديد المشكلات الهندسية، وحلولها، وصياغتها، بالإضافة إلى تقييم إمكانية تطبيقها.

6- الالتزام بالمبادئ المهنية والأخلاقية، وتحمل المسؤولية تجاه الأهداف المرجوة.

7- تقديم حلول للمشكلات الهندسية على المستويات المحلية، الإقليمية، والعالمية، مع دمجها لتحقيق التكامل.

8- إدراك أن حل المشكلات الهندسية لا يقتصر على التعليم الجامعي والتدريب، بل يشمل أيضًا الخبرة المكتسبة بعد التخرج من خلال النقد والتفسير المستمر.

9- استكمال المعرفة الأساسية بمراعاة المناهج والمنهجيات الحديثة والمتطورة.

10- بهدف التوصل إلى حلول متكاملة.

11- إتقان استخدام التقنيات العملية والأساليب الحديثة في الأجهزة والتطبيقات الهندسية.

12- إتقان لغة أجنبية واحدة على الأقل، شائعة الاستخدام، لمواكبة التطورات التكنولوجية والعلمية العالمية.(30)

ويمكن تلخيص المتطلبات الرئيسة للتعليم الهندسي في النقاط التالية:

1- تحديد المشكلات الهندسية وزيادة القدرة على إيجاد الحلول.

2- تطوير التصميمات وفق التخطيط والتحقق الميداني.

3- تعزيز مهارات العمل المشترك مع مختلف التخصصات الهندسية.

4- دعم العمل الجماعي داخل التخصص الواحد مع تنوع الأفكار.

5- تشجيع الطلاب على المشاركة في الأنشطة الأكاديمية والاجتماعية.

6- نشر القيم الأخلاقية المهنية خلال فترة التعليم.

7- تنمية مهارات النقاش النقدي لدى الطلاب.

8- تحسين قدرات العروض التقديمية وكتابة التقارير والبرمجيات.

9- تمكين الطلاب من تطبيق منهجيات الحل العملي للمشكلات.

10- تزويدهم بمهارات التعلم مدى الحياة.

11- تنمية القدرة على مشاركة المعلومات وتطبيق التقنيات الحديثة.

12- الحفاظ على مستوى عالٍ من الطموح المهني.(31)

وفي ضوء التحولات الحديثة، يشهد التعليم الهندسي إعادة صياغة جذرية، استجابةً للإمكانات التي توفرها التكنولوجيا التعليمية، وللاحتياجات المجتمعية المستجدة. وقد ظهرت برامج تعليمية متعددة التخصصات ومشتركة التخصصات، وأصبح إلى جانب التعليم الهندسي الأساسي تركيز متزايد على التعليم العام، والابتكار، وريادة الأعمال. كما اندمجت عوالم السوق والجامعة في تفاعل مباشر، مما جعل قضايا المنافسة في التعليم العالي، والقيم الأخلاقية، والنظرة إلى الطالب بوصفه "عميلًا"، موضوعات للنقاش الدولي. وفي هذا الإطار، يظل التعليم الهندسي عنصرًا محوريًا في تحقيق الازدهار الوطني.(32)

الخلاصة: إن فلسفة التعليم الهندسي المعاصر تقوم على مبدأ التكامل بين المعرفة النظرية، والمهارات العملية، والمسؤولية الأخلاقية والاجتماعية. فالهندسة لم تعد مجرد ممارسة تقنية تهدف إلى إنتاج حلول وظيفية، بل أصبحت فعلًا إنسانيًا له تأثير مباشر على حياة الأفراد والمجتمعات، وعلى التوازن البيئي والاقتصادي. وبقدر ما ينجح التعليم الهندسي في ترسيخ قيم الإبداع، والانفتاح على التخصصات الأخرى، والالتزام بالمبادئ المهنية، بقدر ما يصبح المهندس عنصرًا فاعلًا في صياغة المستقبل. ومن هنا، فإن تطوير المناهج، وربطها بالبحث العلمي والابتكار، وتعزيز الوعي الأخلاقي، هو السبيل لضمان أن يظل التعليم الهندسي قوة دافعة للتقدم، وجسرًا بين المعرفة والمجتمع.

ان إدخال الفلسفة في المنهج الدراسي لمرحلة البكالوريوس في الهندسة سيكون أمرًا مفيدًا. إذ يمكن لدراسة تاريخ العلوم والهندسة أن توفر قاعدة صلبة من السياق لطلاب الهندسة، غير أن تدريس مقرر في الفلسفة يمتلك القدرة على تمكين طلاب الهندسة، بل وطلاب الدراسات العليا أيضًا، من النظر إلى أنشطة مهنتهم من منظور جديد. فالهندسة تنطوي على استخدام المعرفة والمساهمة في تطويرها ضمن مجالات واسعة ومتنوعة، كما أن المنطق المستخدم فيها متباين في طبيعته، وتحتوي أغلب الممارسات الهندسية على اعتبارات أخلاقية جوهرية، فضلًا عن أن الجوانب الجمالية قد تكون أساسية في مخرجات العملية الهندسية.وباستخدام الأدوات التي توفرها الفلسفة، سيكون من المفيد لمعلّمي الهندسة أن يعيدوا فحص كيفية صياغة برامجهم التعليمية، مع السعي لتحقيق توازن بين الجوانب العلمية وغير العلمية. وأخيرًا، ينبغي للمهندسين أن يكونوا مسؤولين أمام المجتمع، محليًّا ودوليًّا.(33)

عدسة الفلسفة تُمكِّن المهندسين من النظر إلى الأمور بمنظور أكثر شمولية، لكنها ليست الجانب الوحيد الذي يستحق التركيز الإيجابي داخل إطار الفلسفة. إذ يرتبط تشكيل المهندس بمسارين أساسيين: التعليم والخبرة العملية. لذلك، تصبح الفلسفات العامة للتعليم وفلسفات تدريس الهندسة على درجة عالية من الأهمية والارتباط. علاوة على ذلك، يُبرز هذا الموضوع بشكل خاص في الوقت الراهن بسبب ما يُعرف بمشكلة المناهج الدراسية، حيث تواجه البرامج التعليمية ضغطًا متزايدًا لتضمين مجموعة واسعة من المكوّنات استجابةً لمتطلبات الاعتماد الأكاديمي.(34)

المحور الخامس : فلسفة الهندسة

1- أهمية الفلسفة للهندسة

تُعامَل الهندسة والفلسفة، في التصور الشائع، على أنهما مجالان منفصلان تمامًا، كما لو كان كل منهما جزيرة كبرى تفصلها عن الأخرى مسافة شاسعة من المياه. فكثير من الناس يرون أن الهندسة لا شأن لها بالفلسفة، بل إن بعض المشتغلين بالهندسة – فضلًا عن فلاسفة – يذهبون أبعد من ذلك، معتبرين العلاقة بينهما علاقة توتر أو حتى خصومة. فالهندسة، تقليديًا، تتوزع إلى فروع عدة مثل الهندسة المدنية، والميكانيكية، والكهربائية، والكيميائية، والنووية، وهندسة الحاسوب، في حين تنقسم الفلسفة بدورها إلى مجالات مثل المنطق، ونظرية المعرفة، والميتافيزيقا، والأخلاق، والجماليات، والفلسفة السياسية. وقد درج بعض الفلاسفة، خصوصًا في حقلَي الأخلاق والجماليات، على توجيه النقد إلى مجالات محددة من عالم الهندسة.(35)

تاريخيًا، نشأت الفلسفة في اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد كطريقة حياة متميزة، حيث، وفقًا لأرسطو، حلت دراسة الطبيعة (الفيزيس) محل المرويات الأسطورية عن الآلهة. إلا أن الفلسفة المعاصرة نادرًا ما تتناول الطبيعة مباشرة، بل تميل إلى دراسة الظواهر واللغة. أما الهندسة، فقد بدأت في القرنين السابع عشر والثامن عشر كفنّ عسكري مكرس لتصميم آلات الحرب كالمدافع والمنجنيقات، وبناء التحصينات، ثم انتقل مصطلحها إلى "الهندسة المدنية" ليشير إلى نقل تلك المعارف إلى مجالات غير عسكرية.(36)

منذ ستينيات القرن العشرين، وُجّهت انتقادات حادّة للمجتمع الهندسي، متهمةً المهندسين بالمساهمة في تهديد الحضارة عبر تصميم الأسلحة النووية، وتشويه الثقافة الحضرية بأنظمة النقل، وتعزيز النزعات السلطوية بتقنيات الاتصالات، وتجريد الحياة الإنسانية من بعدها الشخصي بوساطة الحواسيب. كما طالتهم اتهامات بتلويث البيئة، وتشويه الفضاء الإنساني بهياكل قبيحة ومنتجات استهلاكية عديمة الجدوى. ورأى مارتن هيدجر أن هذه الإخفاقات الأخلاقية والجمالية تنبع من الموقف الهندسي ذاته، القائم على اختزال الطبيعة إلى "موارد" في إطار من السيطرة يسميه "الجشتل" (Gestell). وقد فُسِّرت أفكاره أحيانًا بوصفها هجومًا على "علوم الاصطناع" عند هربرت سيمون (1969)، بما تحمله من نزعة أنطولوجية اختزالية ورؤية معرفية افتراضية. كما ربطت بعض المفكرات النسويات بين الممارسة الهندسية وهيمنة الذكور، وما يترتب عليها من موت الطبيعة وتلاشي الرعاية بالعالم.(37)

تطرح هذه الانتقادات تحديًا مباشرًا للتعريف الكلاسيكي للهندسة الذي صاغه توماس تردجولد في القرن الثامن عشر، وما زال يتكرر في مصادر مرجعية مرموقة مثل الموسوعة البريطانية وموسوعة ماكجرو- هيل: "الهندسة هي تطبيق المبادئ العلمية للتحويل الأمثل للموارد الطبيعية إلى هياكل وآلات ومنتجات وأنظمة وعمليات تعود بالنفع على البشرية." غير أن النسخة التي قد يخرج بها الخطاب النقدي المعاصر تبدو مغايرة تمامًا، إذ تصوّر الهندسة على أنها "الفنّ العلمي الذي يستخدمه بعض البشر لتدمير الطبيعة وتلويث العالم بطرق عبثية أو ضارة بالحياة الإنسانية."(38)

وتأسيس فلسفة للهندسة يتطلب:

أولا تحديد المفاهيم الأساسية التي تشكّل بنيتها المعرفية والعملية. ومن هذه المفاهيم: طبيعة الهندسة بوصفها نشاطًا علميًا–إبداعيًا، دورها في تحويل الموارد إلى منتجات وأنظمة، علاقتها بالابتكار والتقنية، وأثرها على المجتمع والبيئة. كما يستلزم الأمر تعريف الحدود الفاصلة والروابط المشتركة بين الهندسة وغيرها من التخصصات العلمية والإنسانية.

ثانيًا: إدماج مفاهيم فلسفية مركزية في صياغة هذه الفلسفة، من أبرزها: التحليل المفهومي لفهم الاستخدامات النظرية والعملية للمصطلحات والمفاهيم الهندسية، التأمل النقدي في الممارسة والفكر بهدف تعميق الفهم وتوسيع الرؤية أو نقد الأسس النظرية، والانفتاح على القضايا الشاملة التي تتجاوز حدود التخصص، مثل أسئلة الخير (الأخلاق)، والمعرفة (الإبستمولوجيا)، والوجود (الميتافيزيقا). وتكمن أهمية هذه المقاربة في جعل الفلسفة أداة لفهم الهندسة كجزء من مشروع إنساني متكامل، لا مجرد ممارسة تقنية.(39)

وفى الفلسفة المعاصرة نجد تصورات مختلفة تتعلق بالهندسة، فرغم تنوّع اتجاهاتها، يمكن تمييز سماتها الجامعة في أربعة محاور:

1- التحليل المفهومي: لفهم دقيق للأفكار واستخداماتها النظرية والعملية، بما يشمل المنطق كأداة تنظيم للفكر.

2- التأمل النقدي: لمراجعة الممارسات والرؤى، وتعزيز الفهم أو نقد الأسس المعرفية والقيمية.

3- الانفتاح على القضايا الشاملة: عبر تجاوز التخصص الواحد نحو أسئلة كبرى حول الخير، والمعرفة، والوجود، ما يمنحها طابعًا بين–تخصصي.

4- الفلسفة كأسلوب حياة: حيث تتجاوز الفلسفة كونها نظرية مجردة لتصبح ممارسة عملية توجه فهم الإنسان لواقعه وتضبط سلوكه وفقه.(40)

وتاريخيًا، انبثقت معظم التخصصات الأكاديمية الحديثة من الفلسفة: فقد خرجت العلوم الطبيعية من الفلسفة الطبيعية بفضل أعلام مثل بيكون وديكارت ونيوتن، وتطورت العلوم الاجتماعية انطلاقًا من الفلسفة الاجتماعية لدى ماركس ودوركايم وفيبر، كما نشأت علوم الاقتصاد وعلم النفس والأنثروبولوجيا من رحم التفكير الفلسفي. وبذلك، تحتفظ الفلسفة بموقع مرجعي نقدي يتيح لها التأثير في مسارات المعرفة الأخرى.(41)

الخلاصة: بفضل هذه الخصائص، تملك الفلسفة - أكثر من غيرها من العلوم الإنسانية - قدرة فريدة على إثراء الهندسة، ليس فقط على المستوى المعرفي، بل أيضًا على مستوى توجيه الممارسة المهنية ضمن أطر أخلاقية وإنسانية مستدامة.(42)

وهكذا يمكننا ان نتساءل:

أولًا: لماذا الفلسفة مهمّة للهندسة؟

ويمكن تشبيه الهندسة بالفلسفة، أو على الأقل بفهمٍ معاصرٍ لما تُكوّنه الفلسفة. وقد صرّح آدم مورتون Adam Mortonبأن «الفلسفة أشبه بالهندسة... فهي معنية قبل كل شيء بالموضوعات التي لا يتطابق فيها النظرية مع الدليل توافقًا كاملًا، وحيث تدفعنا الحاجات العملية إلى النظر في نظريات نعلم أنها ليست صحيحة تمامًا. نحن نقبل هذه النظريات غير الكاملة لأننا بحاجة إلى بعض المعتقدات التي ترشدنا في الأمور العملية. لذلك، إلى جانب النظريات، نحتاج إلى قواعد إبهام (rules of thumb) وأنواع مختلفة من النماذج».(43)

تتجلى أهمية الفلسفة للهندسة في ثلاثة أبعاد رئيسية:

1- الدفاع عن الذات: تمكين المهندسين من مواجهة الانتقادات الفلسفية الموجّهة لممارساتهم وتقنياتهم.

2- المصلحة الذاتية: توفير فهم أعمق للسياقات الأخلاقية والاجتماعية المرتبطة بالمهنة، بما يعزّز الوعي بالمسؤولية.

3- المعرفة الذاتية: إدراك أن الهندسة تمثل نموذجًا جديدًا للفلسفة في الحياة اليومية، حيث تتحول الأفكار إلى بنى وأنظمة ملموسة.

يمثّل هذا التداخل الثالث بين الهندسة والفلسفة ما يشبه حركة الصفائح التكتونية في علم الجيولوجيا؛ فهو لا يقتصر على إقامة جسور بين المجالين، بل يشهد تراكبًا حقيقيًا بين “قارات” فكرية، ينتج عنه تغييرات عميقة وإن بدت بطيئة أو غير ملحوظة للوهلة الأولى. وتتطلب هذه العلاقة وعيًا ذاتيًا متزايدًا من الطرفين: الفلاسفة والمهندسين.(44)

ثانيًا: هل يمكن للهندسة أن تُضيف شيئًا للفلسفة؟

عند طرح السؤال: ما الذي يمكن أن تقدّمه الفلسفة - عبر التحليل المفهومي والتأمل النقدي والتفكير البين–تخصصي - للهندسة؟ نجد أن الإجابة تكمن في السؤال ذاته: أليست هذه الصفات كامنة أيضًا في الممارسة الهندسية؟ فالتحليل المفهومي يظهر في صياغة النماذج والتصاميم، والتأمل النقدي يتجلى في مراجعة الحلول والتقنيات، والتفكير البين–تخصصي هو شرط جوهري في مشاريع تجمع بين الفيزياء، والاقتصاد، والبيئة، وعلم الاجتماع.كلما اتسعت قدرتنا على صناعة العالم، اتسع وعينا بأنه عالم مصنوع. لقد انتقل الإنسان من العيش في عالم طبيعي، إلى عالم "مصنوع يدويًا"، ثم إلى عالم مُهندَس بالكامل. في هذا الانتقال، برزت تحولات فلسفية جذرية: أُعيد النظر في مفاهيم مثل "الطبيعة" و"الجوهر"، وحلّت "العملية" محل "المادة"، وأصبحت المعرفة مؤطرة بالاقتصاد والسياسة بقدر ما هي نتاج منهج علمي، كما احتلت القضايا الأخلاقية صدارة النقاشات العامة والمهنية.(45)

ثالثًا: ما هو البعد الأخلاقي والمعرفي والجمالي للهندسة

مجالات مثل: أخلاقيات الطب، وأخلاقيات البيئة، وأخلاقيات الحوسبة، وأخلاقيات الهندسة تمثل مجرد قمة جبل جليد فلسفي في عالم يشهد:

1- طفرات ميتافيزيقية: من الكوزمولوجيات العلمية إلى وجوديات المخاطرة والواقع الافتراضي.

2- انفجارات معرفية: من الإحساس عن بُعد إلى الذكاء الاصطناعي والمعلومات كسلعة.

3- تركيبات جمالية جديدة: من المواقع التفاعلية إلى التمثيلات البصرية والرسومية.

اليوم، كل شيء - من الطعام والسكن والنقل والاتصالات إلى الفن والأدب - يخضع لإعادة تشكيل هندسية. التكنولوجيا تتخلّل العالم، والفلسفة تتخلّل التكنولوجيا. نحن نعيش في عالم مشبع بالتكنولوجيا، لكن هذه التكنولوجيا نفسها مشبعة بالفكر الفلسفي. بل إن التحولات في "عالم الحياة" التي تناولتها فلسفات ما بعد الحداثة هي ذاتها التي يصنعها المهندسون - لكنهم غالبًا يلتزمون الصمت، الأمر الذي يؤدي، على نحو مفارِق، إلى تهميش دورهم رغم أنهم من يشكّلون البنية التحتية الثقافية للعصر.(46)

لتناول الصلة الخاصة بين الأخلاق والجماليات في الهندسة يكفي الإشارة كمثال إلى مركز الأخلاقيات للهندسة والعلوم في جامعة كيس ويسترن ريزيرف، حيث يذكر على موقعه أن مهمته هي "تزويد المهندسين والعلماء وطلاب العلوم والهندسة بالموارد اللازمة لفهم المشكلات ذات الأبعاد الأخلاقية المهمة التي تنشأ في عملهم، ومعالجتها، وخدمة أولئك الذين يعززون التعلم ويدعمون فهم البحث والممارسة المسؤولة في العلوم والهندسة".(47)

يمكن توضيح العلاقة بين الفلسفة والهندسة من خلال المثال التالي:

يُعد مركز زيروكس للأبحاث (Xerox PARC) أحد أبرز مؤسسات الابتكار في القرن العشرين. ففي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، طوّر المركز تقنيات رائدة مثل: واجهات المستخدم الرسومية (GUI)، وفأرة الحاسوب، والمفاهيم الأساسية للحوسبة الشخصية. ومع ذلك، أخفقت الشركة الأم في استثمار هذه الابتكارات تجاريًا.جزء من نجاح المركز كان نتيجة تفاعله العميق مع الثقافة والفكر الفلسفي، لكن هذا التفاعل لم يُترجم إلى رؤية استراتيجية فعّالة. على سبيل المثال، كان رئيس التكنولوجيا بالمركز، مارك وايزر (Mark Weiser)، متأثرًا بأعمال فلاسفة ومفكرين كبار مثل هربرت سيمون، ومايكل بولاني، وهانز–جورج جادامر، ومارتن هايدجر. وقد صاغ وايزر مفهوم الحوسبة المنتشرة (Ubiquitous Computing – UbiComp)، الذي يقوم على دمج الحواسيب بسلاسة في تفاصيل الحياة اليومية، بحيث تختفي الأجهزة عن الأنظار وتبقى التجربة في المقدمة.(48)

من منظور فلسفي، يمكن القول إن المهندسين يعيشون "ما بعد الحداثة" من خلال ممارساتهم التصميمية، حتى وإن لم يُسمّوا ذلك صراحة. فعملية التصميم الهندسي تجسّد مبادئ ما بعد الحداثة مثل: اللاتمركز، وتعدّد الحدود، والنظام الناشئ؛ وهي سمات يتناولها الفلاسفة بالنقاش، لكن المهندسين يطبّقونها عمليًا دون أن يعلنوا عنها كإطار فكري.(49)

الخلاصة: المهندسون، في هذا السياق، هم "الفلاسفة غير المعترَف بهم" في عالم ما بعد الحداثة. فالهندسة المعاصرة لم تعد مجرّد تطبيق تقني للعلوم، بل أصبحت طريقة فلسفية لعيش الحياة وصياغة العالم. ومن هنا تأتي الدعوة:"أيها المهندسون في العالم، تفلسفوا! ليس لديكم ما تخسرونه… سوى صمتكم."(50)

رابعا: هل يوجد مبرر للمهندسين لتجاهل الفلسفة؟

رغم أن الفلسفة لم تولِ الهندسة الاهتمام الكافي، فإن ذلك لا ينبغي أن يكون مبررًا للمهندسين لتجاهل الفلسفة. ذلك أن للفلسفة أهمية بالغة للهندسة لثلاثة أسباب رئيسة:

أولًا، تزوّد الفلسفة المهندسين بالأدوات الفكرية لفهم النقد الفلسفي الموجَّه إلى مهنتهم والدفاع عنها. وهناك بالفعل تقليد فلسفي مرتبط بالهندسة، غير أن هذا التقليد أُهمل حتى من قِبَل المهندسين أنفسهم.

ثانيًا، تُعد الفلسفة - ولا سيما الأخلاق التطبيقية - أداة أساسية لمساعدة المهندسين على التعامل مع المسائل الأخلاقية والمهنية المعقدة، وهو ما تؤكده الدراسات التحليلية لمقررات "أخلاقيات المهنة" ضمن برامج تعليم الهندسة في الولايات المتحدة.

ثالثًا، نظرًا للطبيعة المفهومية والثقافية الجوهرية للهندسة، فإن الانشغال الفلسفي بماهيتها ومعانيها يمثل ضرورة معرفية ومهنية في آن واحد.(51)

وعلى عكس التصور السائد، تمثل الفلسفة عنصرًا محوريًا في بنية التفكير الهندسي. فإهمال المهندسين وطلبة الهندسة - فضلًا عن مستخدمي منتجاتها وخدماتها - للتحليل والتأمل الفلسفي، ينطوي على خطأ مزدوج: خطأ تاريخي يتمثل في تجاهل الإرث الفلسفي للهندسة، وخطأ مهني يتمثل في فقدان أدوات التفكير النقدي الضرورية لمواجهة التحديات المعاصرة. وفي المقابل، تظل الهندسة أيضًا ذات أهمية للفلسفة، إذ لم يبذل الفلاسفة جهدًا كافيًا لفهم الواقع التقني الذي يبادرون في كثير من الأحيان إلى نقده. ولو صحّح الفلاسفة هذا الموقف، لأصبحت الفلسفة أكثر إسهامًا في تطور الهندسة مما هي عليه الآن.(52)

الفلسفة تحتاج الهندسة بقدر ما تحتاج الهندسة الفلسفة. هذا التوازن في الطرح يضيف بعدًا نقديًا للموقف، فهو لا يضع المهندسين في موقع المتلقي السلبي، بل في موقع الشريك الفكري.

خامسا: لماذا إذًا يحتاج المهندسون إلى الفلسفة؟

1-  تنبع حاجة المهندسين إلى الفلسفة من سببين رئيسين: الدفاع أمام النقد الفلسفي ومعالجة التحديات الأخلاقية والمهنية الداخلية.

أولًا، يواجه المهندسون منذ قرون نقدًا فلسفيًا واسع النطاق، ما دفع بعضهم إلى دراسة الفلسفة بوصفها أداة دفاعية لبناء حصون فكرية تُمكّنهم من مقاومة هذا النقد. ومن هنا نشأت مدرسة متميزة من "الفلاسفة المهندسين" - وهي مدرسة لم تحظَ حتى اليوم بالاعتراف الكافي، سواء في المعاهد والكليات الهندسية أو في كليات الآداب التي تُدرّس الفلسفة. من أبرز رموز هذه المدرسة:

1- إرنست كاب (1808–1896): فيلسوف ألماني معاصر لماركس، هاجر إلى تكساس وأصبح رائدًا في مجاله هناك. رأى في التكنولوجيا امتدادًا معقدًا للقدرات البشرية، وكان أول من صاغ مصطلح "فلسفة التكنولوجيا" أو "فلسفة الهندسة".

2- بيتر إنجلمان (1855–حوالي 1941): من مؤسسي الهندسة الاحترافية في روسيا، دعا إلى تعليم غير تقني للمهندسين يشمل إدراك التأثيرات الاجتماعية للتقنية.

3- فريدريش ديساور: مخترع العلاج بالأشعة السينية العميقة، ومعارض للنازية، تحاور مع فلاسفة كبار مثل كارل ياسبرز، أورتيغا إي غاسيت، ومارتن هايدغر. قدّم تفسيرًا فلسفيًا للهندسة باعتبارها تجربة تتجاوز الظواهر لتلامس "الشيء في ذاته".

4- صامويل فلورمان: مهندس مدني في نيويورك، دافع عن الهندسة بوصفها نشاطًا إنسانيًا ذا قيمة وجودية، لا مجرد وسيلة لتحقيق أهداف خارجية.(53)

الخلاصة : أن الفلسفة تمثل درعًا فكرية للمهندس أمام النقد، وأن بعض المهندسين تبنّوها فعلًا كجزء من تكوينهم المهني.. فالفلسفة، بفروعها ولغتها وأدواتها، تقدّم للمهندس الكثير من الإمكانات لفهم ذاته، ومن ثم ربط هذا الفهم بالمجتمع الأوسع.(54)

ومن المؤكد أن الاعتبارات الفلسفية أصبحت في الوقت الراهن ذات صلة وثيقة بمهنة الهندسة، وهو ما يتضح من مبادرة الأكاديمية الملكية للهندسة في المملكة المتحدة، التي نشرت مؤخرًا مقالًا يمهّد لمشروع بعنوان "فلسفة الهندسة". ويهدف هذا المشروع عمومًا إلى تحقيق فهم أعمق لطبيعة مهنة الهندسة والانضباط الأكاديمي المرتبط بها.(55)

2- تُعدّ الفلسفة، ولا سيما الأخلاق، ضرورة داخلية للممارسة الهندسية، إذ يواجه المهندسون قضايا مهنية لا تكفي الحلول التقنية وحدها لمعالجتها، مثل التساؤل: ما الذي ينبغي فعله؟ وكيف ينبغي إنجازه؟ وهذه أسئلة قيمية تتجاوز حدود الحسابات والمعادلات. ويرى كلايف دايم أن البعد الجمالي – وبالتالي الأخلاقي – يُستبعد أحيانًا من تحليل التصميم لأغراض التبسيط، غير أنه يؤكد أن الاعتبارات الأخلاقية تظل حاسمة في صياغة القرارات الهندسية، ولا سيما فيما يتصل بالسلامة والمخاطر وحماية البيئة، وهي قضايا تستلزم إصدار أحكام معيارية دقيقة لتقدير آثارها في التصميم.(56)

بهذا المعنى، تمثل الأخلاق - بوصفها فرعًا من الفلسفة - ضرورة عملية داخلية في المهنة الهندسية، وهو ما تعترف به الأوساط المهنية ذاتها. ولتوضيح هذه النقطة على نحو أعمق، يمكن مقارنة دور العلوم من جهة، والفنون الليبرالية (العلوم الإنسانية والاجتماعية) من جهة أخرى، في تعليم المهندسين.وتبرز هنا دراسة حالة تتعلق بنظام اعتماد مناهج التعليم الهندسي في الولايات المتحدة، من خلال مجلس الاعتماد للهندسة والتكنولوجيا (ABET) الذي تأسس في صورته الأولى عام 1932 بوصفه مجلس تطوير المهندسين المحترفين. هذا المجلس يضع المعايير التي تحدد متطلبات التعليم الهندسي، بما في ذلك إدماج البعد الفلسفي والأخلاقي في تكوين المهندس.(57)

المعايير الحالية لـ ABET

تشترط البرامج الهندسية المعتمدة من مجلس الاعتماد للهندسة والتكنولوجيا (ABET) حدًّا أدنى من المحتوى الأكاديمي موزعًا على النحو الآتي:

1- سنة دراسية كاملة على الأقل في الرياضيات والعلوم الأساسية.

2- نصف سنة دراسية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

3- سنة ونصف في الموضوعات الهندسية التخصصية.

إلى جانب ذلك، تتضمن البرامج مقررات إلزامية لتطوير المهارات اللغوية، مثل الكتابة والتواصل الشفهي. وإذا ما ضُمّت هذه المقررات إلى متطلبات العلوم الإنسانية والاجتماعية، فإن مجموعها يعادل سنة كاملة من الدراسات الإنسانية (studia humanitatis).(58)

2- الاتجاهات النقدية في فلسفة العلم وتمهيدها لفلسفة الهندسة

مهّد نقد توماس كون Thomas Kuhn وكارل بوبر Karl Popper لفلسفة العلم الطريق نحو فلسفة الهندسة، عبر مراجعة التصور الوضعي المنطقي الذي رأى البحث العلمي عملية منطقية- رياضية مستندة إلى الفيثاغورية وجاليليو، ومُعززة بنجاحات نيوتن. اعتبر الوضعيون أن فهم الطبيعة الأمثل يتم بالمنهج المنطقي- الرياضي، حتى أن بعض العلماء، مثل ستيفن هوكينج Stephen Hawking، توقعوا أن تتمكن الحواسيب المبرمجة منطقيًا من القيام بالبحث العلمي مستقبلًا.(59)

لكن انتقادات كون وبوبر كشفت عن محدودية هذا النموذج:أظهر كون أن تقدم المعرفة لا يحدث عبر تراكم خطّي ومستمر، بل من خلال ثورات مفهومية تقطع مع النماذج السابقة، بحيث يفتح كل تحول نوعي مجالًا لأسئلة جديدة لم يكن ممكنًا طرحها ضمن الإطار القديم.أما بوبر، فركّز على فكرة أن العلم يتطور من خلال التفنيد لا من خلال التراكم، وأن قابلية النظرية للدحض هي معيارها العلمي.(60)

هذه الرؤية الثورية لطبيعة المعرفة تقترب كثيرًا من عملية التصميم الهندسي، التي لا تسير بدورها على خط واحد، بل تنبثق من القفزات الإبداعية التي يفرضها البحث عن حلول جديدة. تمامًا كما أن كل نموذج علمي جديد يولّد مشكلات لم تكن مطروحة سابقًا، فإن كل حل هندسي ناجح يفتح الباب أمام تحديات جديدة ومسارات مبتكرة. من هنا، يتضح أن فلسفة الهندسة يمكن أن تستفيد من النقد الإبستمولوجي لكون وبوبر، ليس فقط لفهم العلم، بل لتطوير تصور أعمق لدينامية الإبداع الهندسي نفسه.

استنادًا إلى ما سبق طرحه، يمكن توضيح التحوّل من نظرة "المتفرج العلمي" إلى نظرة "المشارك الهندسي" من خلال أمثلة إضافية: أحدها من الفلسفة البراجماتية، والثاني من علم الأحياء وعلم الاجتماع والاقتصاد، والثالث من صميم الممارسة الهندسية نفسها.

1- معيار رويـس للاتساق الذاتي المرجعي

قدّم جوزايا رويـس دعمًا لتحوّل جون ديوي من موقف المتفرج إلى المشارك، عبر معيار الاتساق الذاتي الذي يشترط أن يفسّر أي نموذج للكون نفسه، بما في ذلك العالِم وطريقته في إنتاج المعرفة. فالمعرفة، عند رويـس، لا تكتمل إلا بمشاركة فعلية وتجريبية، ما يجعل التعلم عنصرًا بنيويًا في كل فهم للعالم، وهو ما ينسحب على الممارسة الهندسية حيث يتضمن أي تصميم تصورًا لدور المهندس وسياق عمله.(61)

2- مكانة الهندسة في التطور البيولوجي والاجتماعي- الاقتصادي

يكشف التباين بين النموذج النيو- دارويني والنموذج الهندسي عن اختلاف جذري في فهم الحياة: فالأول يراها نتاجًا عشوائيًا للطفرات والانتقاء الطبيعي بلا غاية مسبقة، كما أكّد ستيفن جاي جولد، بينما الثاني يبرز الكائنات ـ وخاصة الإنسان ـ كفاعلين يعيدون تشكيل بيئتهم ويبتكرون حلولًا للتحديات. وهكذا تتحول الهندسة من مجرد نشاط تقني إلى فلسفة مشاركة واعية في صنع شروط الوجود، مقابل فلسفة المشاهدة.(62)

يبدو تطوّر الحياة، في منظور العلم الكلاسيكي، سلسلة أحداث عشوائية محكومة بالصدفة، بينما يكشف المنظور الهندسي عنها كقفزات تصميمية وابتكارات إبداعية. وهذا يتضح خصوصًا عند استحضار داروين الذي استلهم "الانتقاء الطبيعي" من "الانتقاء الاصطناعي" في تربية الكائنات؛ إذ إنّ الأخير يمثّل ممارسة تصميمية واعية، لا مجرد حالة فرعية ضمن آليات طبيعية غير موجَّهة.(63)

يمثل الانتقال من النموذج النيو- دارويني إلى النموذج الهندسي تحولًا في فهم آلية التطور؛ إذ لم يعد الاصطفاء يُنظر إليه بوصفه عملية عشوائية، بل باعتباره اختيارًا متعمّدًا. ويعزز هذا التصور ما تطرحه الفيزياء الكمومية من فكرة شمولية الاختيار. ووفق المنظور الهندسي، لا يقتصر هذا الاختيار على التكيف مع بيئات ثابتة، بل يهدف إلى التعلم وتوسيع فرص البقاء عبر خلق بيئات جديدة غير متوازنة. وفي هذا السياق، يرى جيمس شابيرو (James A. Shapiro) أن الطفرات البيولوجية موجّهة وليست مجرد أخطاء عشوائية، بينما يعتبر روبرت ريد (Robert Reid) أن هذه التغيرات تمثل استراتيجية تجريبية لتعزيز القدرة على التكيّف واستكشاف مجالات جديدة للتطور.(64)

3- نموذج "بيوسوما" الهندسي لجورج بوجلياريللو

يطرح نموذج "بيوسوما" الهندسي الذي قدّمه جورج بوجلياريللو رؤية مغايرة للمنظور النيو- دارويني، إذ يرى أن التقدّم الهندسي الحديث يحدّ من فاعلية الانتقاء الطبيعي، لأنه يسمح ببقاء أفراد كانوا سيُستبعدون في الظروف الطبيعية. فعلى سبيل المثال، مكّن اكتشاف الأنسولين مرضى السكري من النوع الأول من النجاة، كما أدّت العلاجات الطبية الحديثة لمرض التليف الكيسي إلى رفع متوسط أعمار المصابين من نحو 12 عامًا في عشرينيات القرن العشرين إلى حوالي 46 عامًا اليوم. ويؤكد توماس ماكيون (Thomas McKeown) أن جانبًا كبيرًا من التحسّن الصحي في الدول الصناعية يعود إلى إنجازات هندسية وقائية، مثل تنقية المياه، التي أتاحت لأشخاص ذوي مناعة ضعيفة البقاء والتكاثر. وبذلك، يشكّل التقدّم الهندسي تحديًا جوهريًا للإطار النيو- دارويني التقليدي الذي يجد صعوبة في تفسير هذه الظواهر.(65)

على عكس التصورات التي تنظر إلى الهندسة باعتبارها نشاطًا مصطنعًا أو مناقضًا لمسار التطور الطبيعي، يرى المهندس البارز جورج بوجلياريلو (2003) أن الهندسة الحديثة تمثل امتدادًا منسجمًا وعضويًا لمسار التطور البيولوجي. فوفق رؤيته، يمكن قراءة تاريخ الحياة على الأرض بوصفه مشروعًا هندسيًا متناميًا، تتجلى فيه عمليات الابتكار والتكيف على نحو مستمر. ويؤكد بوجلياريلو وزملاؤه أن الهندسة ليست نشاطًا فرديًا فحسب، بل هي أيضًا ممارسة اجتماعية تشكّل جزءًا من البنية الثقافية والحضارية للمجتمعات. وفي إطار نظريته "البيوسوما" (Biology–Society–Machine)، يُعاد تفسير التطور البيولوجي باعتباره عملية تعليمية تطورية ذاتية التمكين، تقوم على التجريب المستمر والتطوير الذاتي، وتؤدي إلى ابتكار أساليب جديدة أكثر قوة وتنوعًا لأداء المهام، وحل المشكلات، وصياغة بيئات مستقبلية أكثر ملاءمة.(66)

الكوزمولوجيا الهندسية تصور فلسفي يرى الكون نتاج عمل "مهندس أعظم" كما في حوار طيماوس لأفلاطون، حيث كل عناصره تجليات لعقل هندسي كوني.تستلهم هذه الرؤية "إشراقة كارنو" التي تدرك أن العمليات غير مثالية، خلافًا للتصور الميكانيكي الكلاسيكي، مما يجعل الديناميكا الحرارية الهندسية أوسع وأكثر واقعية.وتنسجم مع الفلسفة البراجماتية لجون ديوي وتعريف هربرت سايمون للهندسة كسعي لبناء مستقبل أفضل، غايتها النهائية "بناء الخير".(67)

لماذا يُطلب من المهندسين دراسة العلوم الإنسانية؟يؤكد معيار ABET أن دراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية للمهندسين ليست مجرد إضافة ثقافية تهدف إلى توسيع أفق المعرفة، بل هي عنصر جوهري يخدم أهداف المهنة الهندسية ذاتها. فهذه الدراسات تُسهم في تنمية وعي المهندسين بمسؤولياتهم الاجتماعية، وتمكّنهم من إدراك أثر قراراتهم على الأفراد والمجتمعات، وأخذ العوامل الاجتماعية والإنسانية في الحسبان عند صياغة الحلول الهندسية. ويشدد المعيار على أن إدماج مقررات العلوم الإنسانية والاجتماعية في البرامج الهندسية أمر لا غنى عنه، إذ لا يمكن المبالغة في التأكيد على أهمية هذه الفلسفة التربوية في إعداد مهندس متكامل قادر على العمل بمسؤولية ورؤية شاملة.(68)

تنبع أهمية هذا التوجه من أن الهندسة ليست نشاطًا تقنيًا بحتًا، بل عملية إنسانية–اجتماعية معقدة. فالمهندس الذي يفتقر إلى الخلفية الإنسانية قد يقدّم حلولًا مثالية من الناحية التقنية لكنها غير ملائمة ثقافيًا أو أخلاقيًا، أو قد تغفل الأبعاد البيئية والاجتماعية للمشكلة. إدراج العلوم الإنسانية في تعليم المهندسين يضمن أن المخرجات الهندسية تراعي القيم الإنسانية، وأن المهندس يصبح عنصرًا فاعلًا في خدمة المجتمع لا مجرد منفّذ للتقنيات.

يلاحظ أن تعريف ABET للتصميم الهندسي يتجنب، بمهارة، الإشارة إلى الغاية الجوهرية التي يتضمنها التعريف الكلاسيكي للهندسة. فبينما يرى "تردغولد" أن الهندسة هي "تطبيق المبادئ العلمية من أجل المنفعة البشرية"، تكتفي ABET بوصفها كعملية تهدف إلى تلبية "احتياجات مطلوبة" أو تحقيق "أهداف محددة". وكما تمثل الرياضيات والعلوم الأساس النظري للعلوم الهندسية، فإن الفنون الليبرالية تُشكّل القاعدة الفكرية للتصميم الهندسي. بل يمكن القول إن التصميم الهندسي هو في جوهره تطبيق إبداعي لأنماط التفكير والمثل العليا المستمدة من العلوم الإنسانية والاجتماعية، بما يربط التقنية بالإنسان ويجعل الابتكار أكثر وعيًا بسياقه الاجتماعي والثقافي.

يمكن توضيح أهمية دمج البعد الإنساني في التعليم والممارسة الهندسية من خلال مثالين:

1- فاوست – المثال الأدبي: في الجزء الثاني من مسرحية فاوست لغوته، يتحول البطل إلى مهندس مدني يشق القنوات ويصرف المستنقعات، محققًا إنجازات تقنية بارزة، لكنه يتسبب - من غير قصد - في مقتل أبرياء. يكشف هذا المثال عن خطورة الانفصال بين الكفاءة التقنية والوعي الأخلاقي.

2- بيتر بالتشينسكي – المثال الواقعي الرمزي: مهندس روسي رفض فصل المعرفة التقنية عن المبادئ الإنسانية، فدفع حياته ثمنًا لذلك، حيث أعدمه ستالين. لاحقًا، عاد اسمه في فترة البيريسترويكا رمزًا للضمير المهني والاستقامة الأخلاقية في الهندسة.

من هذا المنطلق، تؤكد معايير ABET أن "القدرة على التواصل ضرورية لخريج الهندسة"، وأن "فهم الاعتبارات الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسلامة أمر أساسي لمسيرة هندسية ناجحة". وابتداءً من عام 2000، أُعيدت صياغة المعايير لتشمل 11 مخرجًا للتعلم، من أبرزها:

1- الفهم العميق للمسؤولية المهنية والأخلاقية.

2- القدرة على التواصل الفعّال.

3- تعليم واسع يتيح إدراك الأثر المجتمعي للهندسة.

4- معرفة بالقضايا المعاصرة.(69)

وباختصار، تنظر معايير الاعتماد إلى عناصر تشمل:

1- المعرفة والفهم (الرياضيات، والعلوم، والتقنيات)،

2- تحليل هندسي (بما في ذلك القدرة على تحديد المشكلات وصياغتها)،

التصميم الهندسي،

3- إجراء البحوث (بما في ذلك القدرة على تصميم التجارب)،

4- إدراك الحاجة إلى معايير أخلاقية رفيعة في ممارسة الهندسة مع تحمل مسؤوليات المهنة تجاه البشر والبيئة،

5- العمل في بيئات متعددة التخصصات،

6- والتفاعل مع المجتمع على نطاق واسع.(70)

إن المعايير المهنية للهندسة، كما تصوغها جهات الاعتماد، وما تفرضه من دمجٍ للعلوم الإنسانية والاجتماعية في تعليم المهندس، لا تأتي من فراغ، بل تعكس إدراكًا عميقًا بأن الممارسة الهندسية لا تنفصل عن الأبعاد الأخلاقية والاجتماعية والثقافية. والأمثلة التي عرضناها، من "فاوست" الخيالي إلى بالتشينسكي الواقعي، تُظهر بجلاء أن القرارات التقنية يمكن أن تحمل آثارًا بعيدة المدى على حياة البشر والمجتمع. من هنا يصبح الانتقال إلى طرح أسئلة أعمق أمرًا طبيعيًا؛ أسئلة تمسّ جوهر العلاقة بين الهندسة والفلسفة، ومنها:

1- ما المقصود بـ "التعريفات المقبولة عمومًا" للعلوم الإنسانية والاجتماعية؟ هل هذه التعريفات تاريخية واجتماعية النشأة؟ وهل الفلسفة، بما هي فرع منها، تخضع هي الأخرى للتكوين الثقافي والاجتماعي؟

2- ما الفلسفة أصلًا؟ وما علاقتها بالفنون الليبرالية؟ وهل يمكن أن تكون الفلسفة، لكونها ذُكرت أولًا، أكثر أهمية من غيرها من فروع العلوم الإنسانية؟

3- إذا كانت الفلسفة، وخصوصًا الأخلاق، ذات أهمية للمهنة، فما الذي يمكن أن تقدّمه بشكل ملموس للهندسة؟(71)

3- الأسس الفلسفية والأخلاقية للهندسة

ليس صحيحًا أن الفلسفة أسهمت في تطوّر الهندسة كما فعلت مع العلوم الأخرى، إذ سعت الهندسة دائمًا إلى التمايز عنها، بل والنظر إليها كضدّ. فقد لاحظ "لويس بوتشياريللي" في دراساته أن المهندسين يرون الانشغال بالتأملات الفلسفية أمرًا غير ذي جدوى، بل يُستخدم لفظ "الفلسفة" بينهم بمعنى سلبي. غير أنّه يخلص إلى أن التصميم الهندسي عملية اجتماعية، وحين يواجه المهندسون بدائل متعددة يثور سؤال جوهري: "أيّها أفضل؟" وهو سؤال فلسفي يستدعي التحليل المفهومي والتأمل العقلاني. وهكذا، من غير وعي صريح، أخذ المهندسون يشيدون جسورًا نحو الفلسفة، خاصة في مجال الأخلاق، وأدركوا أن عملهم ينطوي على بُعد أخلاقي عميق.(72)

في هذا السياق، قام عدد من المهندسين البارزين - مثل ستيفن أونجر، رولاند شينزينجر، تشارلز هاريس، مايكل رابنز، آرن فيسيليد، وأليستير جن - بثلاثة إسهامات أساسية:

1- إجراء تحليلات مفهومية لما يُعدّ "صحيحًا" و"خاطئًا" في الممارسة الهندسية.

2- تعميق التأمل في الأبعاد الأخلاقية للتجربة الهندسية.

3- تطوير بحوث بين–تخصصية تتناول مواثيق السلوك المهني، والإجراءات التأديبية، واستراتيجيات التعليم الأخلاقي، وغيرها.(73)

وراء كل هذا، يكمن دافع أخلاقي عميق في جوهر التفكير الهندسي: ضرورة البقاء على اتصال - مع الواقع البشري، ومع حدود الفهم والتنفيذ، لتفادي كثير من الكوارث. فهل نحن جميعًا مهندسون؟ وهل نحن جميعًا فلاسفة؟ في حياتنا اليومية، نقوم بأفعال هندسية (تصميم، ترتيب، تنفيذ...) مثل حزم صندوق بشكل فعّال، أو حل مشكلة في ترتيب المنزل. كما أننا نقوم بأفعال فلسفية، حين نحلل مفاهيم، أو نتأمل في قراراتنا، أو نراجع قيمنا. ولأن المهندسين يمارسون الفلسفة بدرجة ما، والفلاسفة بدورهم يمارسون نوعًا من الهندسة الفكرية، فمن الطبيعي أن يتقاطع المجالان، بل أن يتداخلا تداخلًا حقيقيًا.(74)

قد تكون الهندسة، عبر تاريخها، قد تشكّلت في سياقات اجتماعية وثقافية دفعتها إلى النأي بنفسها عن الفلسفة، كما قد تكون الفلسفة، بدورها، قد نظرت إلى الهندسة بعين التجاهل أو الريبة. غير أن تحوّلات العصر - من الثورة التكنولوجية إلى تعقّد المشكلات البيئية والاجتماعية - جعلت الفصل بينهما أقل قابلية للاستمرار. فقد باتت الهندسة المعاصرة غنية بالأسئلة المفاهيمية والقيمية، حتى غدت ممارسة فلسفية بامتياز، فيما أخذت الفلسفة تكتشف في عالم الهندسة ميدانًا جديدًا لتطبيق أدواتها النقدية والتحليلية. وهكذا، لم يعد اللقاء بين المجالين خيارًا فكريًا طوعيًا، بل ضرورة يفرضها واقع معاصر يحتاج إلى تفكير متكامل يجمع بين دقة التصميم ورحابة التأمل.(75)

يمكن تطوير فلسفة للهندسة بالاستناد إلى التيارات الكبرى في الفلسفة المعاصرة، كما أوضح كارل ميتشام وروبرت ماكاي (2007). ويقترحان النظر إلى هذه الفلسفة في ضوء ستة اتجاهات رئيسية: الظاهراتية، ما بعد الحداثة، التحليلية، اللغوية، البراجماتية، والتوماوية. وتفتح هذه التيارات آفاقًا متباينة لفهم الهندسة، إذ يمنح كل منها مقاربة مميزة تقوم على خلفيات معرفية ومنهجية مختلفة. ولا يُتعامل مع هذه الاتجاهات كحدود مغلقة، بل كآفاق فكرية تتطلب استكشافًا تأمليًا متعدد المناهج يعكس خصوصية كل تيار.(76)

ترتبط الهندسة بمسائل ميتافيزيقية وأنطولوجية كالتخيل ووصف المشكلات، مما يستلزم تفسيرات فلسفية ومنطقية لاختيار الحلول المثلى. ورغم ندرة المكوّنات الفلسفية في الهندسة مقارنة بمجالات البحث الأخرى، توجد أرضية مشتركة مع الفلسفة في الأخلاق والجماليات ونظرية المعرفة وغيرها، وإن كان الاهتمام المشترك برز مؤخرًا خاصة في الأخلاق. ولتعميق الفهم قبل الحلول التطبيقية، يحتاج المهندسون إلى توظيف المنهج الفلسفي واللغوي، مما يجعل العمل الهندسي نشاطًا ذهنيًا ديناميكيًا.(77)

من هذا المنطلق، وبالاستناد إلى أفكار كارل ميتشام وروبرت ماكاي، يمكن تناول فلسفة الهندسة عبر ستة موضوعات رئيسية تمثل التيارات الكبرى في الفلسفة المعاصرة، كل منها يقدم رؤية مميزة لفهم الممارسة الهندسية:

1- النهج الظاهراتي: ينطلق من اعتبار الهندسة تجربة معاشة حية، لا مجرد منظومة نظرية مجردة. يركز هذا النهج على وصف المعنى الذي تحمله الممارسة الهندسية بالنسبة للمهندس نفسه، حيث تُعاش العملية الهندسية في الواقع العملي كظاهرة حية ومتجددة.

2- النهج ما بعد الحداثي: يطرح تساؤلات فلسفية جذرية حول وجود الهندسة ككيان موحد ومستقر. يشكك في المفاهيم الجوهرانية ويعتبر الهندسة خطابًا اجتماعيًا وثقافيًا متغيرًا، مما يدعو إلى تفكيك التصورات المسبقة عنها وإعادة النظر في ماهيتها.

3- الفلسفة التحليلية للهندسة: تركز على التمييز المفهومي بين الهندسة والعلوم الطبيعية، وتسلط الضوء على الأنماط المنطقية والمعرفية الخاصة التي تميز العمل الهندسي. كما تدعو إلى تطوير أخلاقيات مهنية للهندسة تدمج التفكير الفلسفي مع الممارسة التقنية.

4- الفلسفة اللغوية: تنظر إلى الهندسة بوصفها "لعبة لغوية" تحكمها قواعد ومصطلحات خاصة تكتسب معناها في سياق الممارسة الهندسية اليومية، مستلهمة من فلسفة فيتغنشتاين التي ترى أن المعنى ينبثق من الاستخدام العملي للغة.

5- الفلسفة البراجماتية للهندسة: تعطي الأولوية للوظيفة الاجتماعية والمعرفية للهندسة، معتبرة أن قيمتها تنبع من أثرها العملي والجدوى التي تحققها في حياة الإنسان والمجتمع. كما تحلل العلاقة بين الهندسة وسياقاتها الاقتصادية والسياسية باعتبارها نشاطًا حيويًا ذو تبعات ملموسة.

6- الفلسفة التوماوية للهندسة: تسعى إلى إدماج الهندسة ضمن النسق الفلسفي الكلاسيكي، حيث تُربط بالمجالات الأساسية الثلاثة: الميتافيزيقا، ونظرية المعرفة، والأخلاق. تقدم هذه الرؤية فهمًا شموليًا للهندسة من منظور يدمج الغاية، والغاية الأخلاقية، والسببية في إطار متكامل.(78)

لا شك أن الفلسفة والهندسة نشاطان إنسانيان ينبثقان من جذور مشتركة في صميم الممارسة البشرية. فالفلسفة يمكن النظر إليها على أنها هندسة للمفاهيم، حيث تُنظّم الفكر وتحلّل الأفكار بصورة منهجية وعميقة. في المقابل، تمثل الهندسة بحثًا عمليًا عن الحكمة، تتجسد في عملية الصنع والبناء التي تهدف إلى تحويل الأفكار إلى واقع ملموس يخدم الإنسان والمجتمع.(79)

الخلاصة: يجب على المهندسين أن يمتلكوا القدرة على التعامل مع الشرح الفلسفي واللغوي لعمليات التصميم، والنمذجة، وصياغة المشكلات، وحلّها في مراحلها الأولى، من خلال قواعد منطقية تقود إلى نتائج عقلانية قبل الانتقال إلى المعالجة العددية. وعلى الرغم من إدراك الفلاسفة لدور الحلول الهندسية وعمليات اتخاذ القرار، فإن المهندسين أنفسهم ينبغي أن يؤسّسوا خلفية فلسفية واضحة قبل الخوض في الرموز والمعادلات المعقدة. فعندما تكون مشكلة هندسية محدّدة بوضوح لغويًا وفلسفيًا، يصبح تحويلها إلى صيغة رياضية مجرد ترجمة من لغة بشرية إلى رموز، والعكس صحيح، إذ يمكن لأي صيغة رياضية واضحة أن تتحول إلى شرح لغوي مبني على فلسفة العلم والمنطق..(80)

كسر الحواجز الصارمة بين الجوانب الهندسية والفلسفية يستلزم تبنّي فلسفة خاصة للهندسة، فهي ليست مجرد ترف فكري، بل ضرورة ملحّة في عصرنا هذا. لقد ترسّخت المبادئ الفلسفية عبر أكثر من 2300 عام منذ عهد اليونان القدماء، وحافظت على حضورها كمنهج منهجي وتأملي يُثري كل مجالات المعرفة الإنسانية. اليوم، بات من الممكن للهندسة أن تستثمر هذه الإرث الفلسفي لتطوير ممارساتها، وتوسيع أُفقها نحو فهم أعمق وأكثر شمولية.(81)

تُسهم فلسفة الهندسة في تنمية التفكير النقدي والتأملي لدى المهندسين، فتجعلهم قادرين على تجاوز الحسابات التقنية نحو إدراك الأبعاد الأخلاقية والاجتماعية لتصاميمهم. كما تدعم الابتكار بفتح آفاق معرفية تتخطى الحلول التقليدية، وتبني جسورًا بين العلوم والتخصصات الإنسانية، بما يحقق توازنًا بين التقنية والقيم. ومن ثم، فهي ليست ترفًا معرفيًا، بل جوهرًا للحياة الهندسية الحديثة يمكّن المهندس من صياغة مستقبل واعٍ وأخلاقي ينسجم فيه العلم مع المسؤولية.

تركّز فلسفة الهندسة على فهم أفعالنا كفاعلين في العالم، وتحليل طبيعة البحث والاستكشاف في الممارسة الهندسية. تتجاوز هذه الفلسفة النظرة العلمية المنطقية والرياضية التي سيطرت على القرن العشرين، لتقدم رؤية أشمل تُدرك المهندس كحلّال للمشكلات، ويُعتبر "التصميم" جوهر هذه المشكلات. تشمل مجالات التصميم أسئلة متنوعة مثل: كيفية إنشاء أنظمة الري، وتخطيط المدن، وتصميم الأدوات، وبناء الاقتصاد، واختيار السياسات الجمركية، وتنظيم نظم الحكم بما يحفظ الأمن والنمو. وتمتد هذه الرؤية أيضًا إلى تصميم عمليات البحث والتطوير داخل المجتمع، مما يبرز دور الهندسة كعامل فعّال في تشكيل مستقبل الحياة البشرية.(82)

من هذا المنظور، لا يُختزل المهندس في كونه مجرد صانع أدوات أو مبتكرًا لتحف صناعية، بل يُنظر إليه أيضًا كمصمم ومطوّر للأنظمة الشاملة. يُعدّ أحد الأركان الأساسية في فهم هوية المهندس هو قدرته على تغيير مجريات الأحداث المتوقعة علميًا، بل وتعديل بنية الواقع ووظائفه، رغم محدودية هذه القدرة حسب الإمكانات والمعارف المتاحة. ويُشكّل "منظور الهندسة" امتدادًا طبيعيًا لفلسفتها، إذ يركز على فهم طبيعة العالم من زاوية الفعل الهندسي الفعلي. هذا المنظور يعيد تحديد مكانة الهندسة ودورها في الكون، ويختلف جذريًا عن النظرة العلمية التقليدية التي تصوّر العالم كآلة حتمية خاضعة لقوانين صارمة، وتُدرس عبر فلسفة علمية منطقية- رياضية هيمنت على القرن العشرين.(83)

يعاني معظم طلاب الهندسة عالميًا من ضعف في مهارات كتابة التقارير والمقالات، ويرجع ذلك غالبًا إلى نقص خلفياتهم الفلسفية. إذ تُعتبر مبادئ فلسفة الهندسة أساسًا أكثر ديناميكية وعمقًا لفهم المقررات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المرتبطة بالممارسة الهندسية، مما يعزز قدرة المهندس على التعبير والتحليل بشكل فعّال ومتسق.(84)

يمكن جمع الفروع المختلفة للفلسفة معًا عبر النظر في النقاط التالية، التي أشار إليها كارل ميتشام (1994) فيما يتعلق بأهمية فلسفة الهندسة، مع مزجها بدرجات متفاوتة لتشكيل رؤية متكاملة:

1- التحليل المفهومي: وهو ضروري لتوضيح وتصحيح المصطلحات المستخدمة في السياقات النظرية والعملية، ويرتكز أساسًا على المنطق كأداة لفهم أدق وأوضح.

2- الفحص التأملي: يوفر مجالًا للممارسة الفكرية العميقة، ويعمل على توسيع البصيرة لفهم أبعاد التجربة الهندسية بشكل أوسع، مع التركيز على مجالات جوهرية في الفلسفة مثل الأخلاق، ونظرية المعرفة، والميتافيزيقا، غالبًا ضمن مناهج عقلانية منظمة.

3- التفكير في جوانب التجربة الشمولية: يشمل أبعادًا تتجاوز التخصصات الفردية، وقد ينطوي على مقاربات بين تخصصية، متعددة التخصصات، عابرة للتخصصات، أو حتى مناهضة للتخصصات، ويركز على القضايا الكبرى المتعلقة بما هو صواب وخير (الأخلاق)، والمعرفة (الإبستمولوجيا)، وبنية الواقع (الميتافيزيقا).

4- ممارسة أسلوب مميّز في الحياة والتفكير: يُنظر إليها كخير في ذاته، كونها تمثل معرفة فريدة بالواقع ومبادئ إرشادية للفرد أو الجماعة. ويتجلى هذا المعنى في ما يُعرف بـ"الفلسفة الشخصية" للأفراد أو "فلسفة" المؤسسات.

بهذا الإطار، تصبح فلسفة الهندسة أكثر من مجرد دراسة نظرية، بل ممارسة حياتية متعمقة تمزج بين التحليل الدقيق والتأمل الفلسفي الواسع، لتشكيل رؤية شمولية ومتكاملة تعزز من دور المهندس وتعمق فهمه للعالم الذي يعمل فيه.(85)

الخاتمة

1- الهندسة مجال معرفي وأخلاقي وفلسفي، يجمع بين الإبداع العقلي والدقة العلمية.

2- الفلسفة والهندسة شراكة في بناء العوالم الممكنة، حيث يضع الفيلسوف الإطار النظري ويحوّله المهندس إلى واقع.

3- فلسفة التعليم الهندسي ضرورة لإعداد مهندس يجمع بين الكفاءة التقنية والوعي الأخلاقي.

4- فلسفة الهندسة توجه الممارسة التقنية نحو خدمة الإنسان والمجتمع.

5- الاتجاهات النقدية في فلسفة العلم أسهمت في تمهيد الطريق لنشوء فلسفة الهندسة.

6- الأسس الأخلاقية للهندسة تضمن مسؤولية المهندس تجاه المجتمع والبيئة.

7- تطوير الهندسة المعاصرة يتطلب إحياء بعدها الفلسفي وربطه بالقيم الإنسانية.

8- أهمية الفلسفة للمهندسين:

- تعميق الفهم النظري للممارسة الهندسية: تمنح الفلسفة المهندس قدرة على استيعاب الأسس المفاهيمية والأنطولوجية التي يقوم عليها عمله، بدل الاكتفاء بالجانب التطبيقي فقط.

- تعزيز التفكير النقدي والإبداعي: تساعد الفلسفة المهندسين على طرح الأسئلة الصحيحة، وتقييم الفرضيات والحلول بعمق، ما يفتح المجال أمام الابتكار.

- تأسيس إطار أخلاقي للمهنة: توفر الفلسفة أدوات لتحديد ما هو مقبول أو مرفوض من الناحية الأخلاقية في القرارات الهندسية، خصوصًا في القضايا التي تمس حياة الإنسان والبيئة.

- ربط الهندسة بالسياق الإنساني والاجتماعي: تُظهر الفلسفة كيف أن المشاريع الهندسية لا تنفصل عن احتياجات المجتمعات وقيمها وثقافتها.

- مواجهة التحديات المعقدة: تساعد الفلسفة المهندسين على التعامل مع المشكلات متعددة الأبعاد، التي تتطلب توازناً بين الجدوى التقنية، والاعتبارات البيئية، والآثار الاجتماعية.

- إكساب رؤية شمولية للمستقبل: من خلال الفلسفة، يتبنى المهندس منظورًا بعيد المدى، يضع الاستدامة والمسؤولية تجاه الأجيال القادمة في صلب قراراته.

- تطوير الهوية المهنية: تعزز الفلسفة شعور المهندس بذاته كمفكر وصانع قرار، وليس مجرد منفذ للحلول التقنية.

***

دكتور ابراهيم طلبه سلكها

2025

..........................

الهوامش

1-  Diane P. Michelfelder And others: Philosophy and Engineering Reflections on Practice, Principles and Process, Springer Dordrecht Heidelberg New York London, VOLUME 15, 2013, p- vi

2-  Zekâi Sen: Engineering science and philosoph, International Research Journal of Engineering Science, Technology and Innovation Vol. 1(1) pp. 14- 25, April, 2012, pp- 16- 17

3-  Loc- Cit

4-  Carl Mitchman: The Importance of Philosophy to Engineering, Teorema, Vol. XVI I/3, 1998, p- 29

5-  Viorel Guliciuc and Emilia Guliciuc: Philosophy of Engineering and Artifact in the Digital Age, Cambridge Scholars Publishing, first published 2010, p- 7

6-  Durmuş Günay: The Philosophy of Technology and Engineering, Journal of University Research, April 2018, Volume 1, Issue 1, Page: 7- 13, p- 8

7-  Zekâi Sen: Op- Cit, p- 17

8-  Loc- Cit

9-  William Bulleit: Philosophy of Engineering: What It Is and Why It Matters, New York, NY: Oxford University Press, p- 7

10-  Louis L. Bucciarelli: Engineering Philosophy, Kroes, P. & Mejiers, A., (eds). Elsiver Science, 2003, p- 1

11-  Zekâi Sen: Op- Cit, p- 17

12-  Ibid, p- 15

13-  Loc- Cit

14-  Ibid, p- 16

15-  Gregory Bassett and others: Philosophical Perspectives On Engineering And Technological Literacy, I, Iowa State University: http://lib.dr.iastate.edu/ece_books/1, p- 15

16-  Ibid, p- 34

17-  Durmuş Günay: Op- Cit, p- 8

18-  Zekâi Sen Op- Cit, p- 21

19-  Gregory Bassett and others: Op- Cit, p- 15

20-  Louis L. Bucciarelli: Engineering Philosophy, Kroes, P. & Mejiers, A., (eds). Elsiver Science, 2003, p- 43

21-  Zekâi Sen: Op- Cit, pp- 15- 16

22-  Diane P. Michelfelder And others: Op- Cit, p- vii

23-  Gregory Bassett and others: Op- Cit, p- 34

24-  Diane P. Michelfelder And others: Op- Cit, p- 3

25-  William Bulleit: Op- Cit, p- 7

26-  Zekâi Sen Op- Cit, p- 22

27-  Loc- Cit

28-  Gregory Bassett and others: Op- Cit, p- 1

29-  Zekâi Sen Op- Cit, p- 22

30-  Ibid, pp- 23- 24

31-  Ibid, p- 23

32-  William Grimson: The Philosophical Nature of Engineering a characterization of Engineering using the language and activities of Philosophy, American Society for Engineering Education, 2007, p- 13

33-  Ibid, p- 35

34-  Durmuş Günay: Op- Cit, p- 8

35-  Carl Mitchman Op- Cit, pp- 28- 29

36-  Ibid, p- 36

37-  Ibid, p- 29

38-  Loc- Cit

39-  Viorel Guliciuc and Emilia Guliciuc: Philosophy of Engineering and Artifact in the Digital Age, Cambridge Scholars Publishing, first published 2010, p- 6

40-  Carl Mitchman: Op- Cit, p- 37

41-  Loc- Cit

42-  William Grimson: Op- Cit, p- 12

43-  Carl Mitchman: Op- Cit, pp- 37- 38

44-  Ibid, p- 41

45-  Ibid, p- 42

46-  William Grimson: Op- Cit, p- 13

47-  Carl Mitchman: Op- Cit, p- 42

48-  Ibid, p- 43

49-  Loc- Cit

50-  Loc- Cit

51-  Ibid, p- 27

52-  Ibid, p- 28

53-  William Grimson: Op- Cit, p- 13

54-  Loc- Cit

55-  Carl Mitchman: Op- Cit, p- 30

56-  Ibid, p- 31

57-  Loc- Cit

58-  Loc- Cit

59-  Terry Bristol: The Philosophy of Engineering and the Engineering Worldview, Oxford, Clarendon Press, p- 4

60-  Ibid, pp- 7- 8

61-  Ibid, p- 10

62-  Ibid, pp- 11- 12

63-  Ibid, p- 12

64-  Ibid, p- 13

65-  Ibid, pp- 13- 14

66-  Ibid, p- 14

67-  Ibid, p- 17

68-  Carl Mitchman: Op- Cit, pp- 33- 34

69-  Gregory Bassett and others Op- Cit, p- 35

70-  Carl Mitchman: Op- Cit, p- 32

71-  Ibid, pp- 34- 35

72-  Ibid, pp- 38- 39

73-  Ibid, p- 39

74-  Ibid, p- 40

75-  Loc- Cit

76-  Durmuş Günay: Op- Cit, pp- 15- 16

77-  Zekâi Sen: Op- Cit, p- 16

78-  Durmuş Günay: Op- Cit, p- 16

79-  Ibid, p- 18

80-  Zekâi Sen: Op- Cit, 2012, p- 24

81-  Loc- Cit

82-  Terry Bristol: Op- Cit, p- 1

83-  Loc- Cit

84-  Zekâi Sen: Op- Cit, pp- 17- 18

85-  Zekâi Sen: Ibid, p- 19

وغياب الوفاق العملي حول مفهومها وتطبيقها

 "إذا اختفت العدالة، فلن يكون هناك قيمة لحياة البشر على الأرض"... عمانويل كانط

تُمثل العدالة الفضيلة السياسية العليا التي تشكل أساس تنظيم العلاقات بين الأفراد، المجتمعات، والدولة. منذ الفلاسفة القدماء مثل أفلاطون وأرسطو، ارتبطت العدالة بمثل الإنصاف، المساواة، وتحقيق الخير العام. ومع ذلك، رغم مركزيتها في الحياة السياسية، يظل مفهوم العدالة مثار جدل بسبب غياب وفاق عملي حول تعريفها وتطبيقها. تتأثر هذه التحديات بالاختلافات الفلسفية، الثقافية، والسياسية التي تجعل من الصعب تحقيق توافق عالمي أو حتى محلي حول كيفية تجسيد العدالة. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل العدالة كفضيلة سياسية عليا، استكشاف أسباب غياب الوفاق العملي حول مفهومها، ومناقشة التداعيات المعاصرة لهذا الجدل، فماهي العدالة؟ وكيف السبيل الى تحقيقها على أرض الواقع؟

العدالة كفضيلة سياسية عليا

"عدالة العقل هي الحكمة. الحكيم ليس من يعرف الأمور الكثيرة، بل من يرى حقيقتها" أفلاطون.

في الفلسفة القديمة، عرف أفلاطون العدالة في الجمهورية بأنها الانسجام بين أجزاء المجتمع، حيث يؤدي كل فرد دوره وفقاً لقدراته. أما أرسطو فقد رأى أن العدالة هي إعطاء كل شخص حقه بناءً على الجدارة. في العصر الحديث، قدم جون راولز (1971) نظرية "العدالة كإنصاف"، التي تؤكد على توزيع الموارد بما يحقق أكبر فائدة للأقل حظاً، بينما اقترح أمارتيا سن (2009) منهج القدرات الذي يركز على تمكين الأفراد من تحقيق إمكاناتهم.

العدالة تُعتبر الفضيلة الأساسية في الحياة السياسية لأنها تهدف إلى تحقيق التوازن بين حقوق الأفراد ومصالح المجتمع. تشمل المفاهيم الأساسية للعدالة:

العدالة التوزيعية حسب رولز: تتعلق بتوزيع الموارد والفرص بشكل عادل، مع التركيز على معايير مثل الجدارة، الحاجة، أو المساواة.

العدالة التصحيحية حسب أرسطو: تركز على تصحيح الظلم من خلال العقوبات أو التعويضات.

العدالة الإجرائية حسب تيبو ووالكر: تهتم بالعمليات العادلة لاتخاذ القرارات، مثل الشفافية والحياد.

العدالة الاجتماعية حسب ميلر: تسعى إلى معالجة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، مع التركيز على الفئات المهمشة.

أهمية العدالة في الحياة السياسية

"العدالة بدون قوة لا حول لها ولا قوة، والقوة بدون عدالة استبدادية" بليز باسكال.

تُعتبر العدالة أرقى فضائل الحياة السياسية للأسباب التالية:

تنظيم العلاقات الاجتماعية: العدالة توفر إطاراً لتوزيع الحقوق والواجبات، مما يعزز الاستقرار الاجتماعي والسياسي.

تعزيز الشرعية السياسية: الأنظمة السياسية التي تُظهر التزاماً بالعدالة تكتسب شرعية أكبر في نظر المواطنين.

تحقيق الإنصاف: العدالة تضمن المساواة في الفرص ومعالجة التفاوتات، مما يعزز الرفاه الجماعي.

الأساس الأخلاقي للسياسة: العدالة تربط بين الأخلاق والسياسة، حيث توفر معياراً لتقييم القوانين والسياسات.

أسباب غياب الوفاق العملي

" "العدالة هي الشك في القانون الذي ينقذ القانون." آلان.

رغم مركزية العدالة، يصعب التوصل إلى وفاق عملي حول مفهومها بسبب:

الاختلافات الفلسفية: تختلف النظريات حول معايير العدالة، مثل الجدارة (أرسطو)، المساواة (راولز)، أو الحرية الفردية عند روبرت نوزيك.

السياقات الثقافية: تختلف مفاهيم العدالة باختلاف الثقافات، حيث تركز بعض المجتمعات على الحقوق الفردية بينما تركز أخرى على الرفاه الجماعي شويدر.

التحديات العملية: تطبيق العدالة يواجه عقبات مثل الفساد، التفاوتات الاقتصادية، والصراعات السياسية .

التعقيدات العالمية: قضايا مثل تغير المناخ والفقر العالمي تتطلب تعريفات عالمية للعدالة، لكن الاختلافات بين الدول تجعل التوافق صعباً.

 النظريات الفلسفية للعدالة المقاربات المعاصرة

"العدالة هي المساواة" آلان.

تشمل المقاربات المعاصرة للعدالة عدة نظريات:

العدالة كإنصاف: يقترح راولز مبدأين رئيسيين:

المساواة في الحقوق والحريات الأساسية.

توزيع الموارد بحيث يفيد الأقل حظاً، مع ضمان المساواة في الفرص.

 يعتمد راولز على تجربة فكرية تُسمى "حجاب الجهل"، حيث يتم اتخاذ القرارات دون معرفة الموقع الاجتماعي للأفراد.

منهج القدرات: يركز على تمكين الأفراد من تحقيق قدراتهم الأساسية، مثل التعليم والصحة، بدلاً من توزيع الموارد فقط.

الليبرتارية: يدافع روبرت نوزيك عن العدالة القائمة على الحقوق الفردية والملكية الخاصة، رافضاً التوزيع الإجباري للموارد.

العدالة الجماعية: يرى فلاسفة مثل مايكل ساندل (1982) أن العدالة يجب أن تعكس القيم الجماعية والسياقات الثقافية للمجتمع.

العدالة البيئية: تركز على توزيع عادل للأضرار والفوائد البيئية، مع التركيز على المجتمعات المهمشة.

أسباب غياب الوفاق العملي

"إذا فشل الإنسان في التوفيق بين العدالة والحرية، فإنه يفشل في كل شيء" ألبير كامو.

التنوع الإيديولوجي: تتعارض النظريات الليبرالية (راولز) مع الليبرتارية (نوزيك) والجماعية (ساندل)، مما يؤدي إلى تعريفات متباينة للعدالة. على سبيل المثال، بينما يدعو راولز إلى توزيع الموارد لصالح الأقل حظاً، يرى نوزيك أن أي تدخل في الملكية الخاصة غير عادل.

السياقات الثقافية: في المجتمعات الغربية، تُعطى الأولوية للحقوق الفردية، بينما تركز المجتمعات الشرقية أحياناً على الواجبات الجماعية، مما يؤدي إلى اختلافات في تطبيق العدالة.

التحديات السياسية والاقتصادية: الفساد، التفاوتات الاقتصادية، ونقص الموارد تعيق تطبيق العدالة. على سبيل المثال، تقرير الشفافية الدولية (2020) يشير إلى أن الفساد يقوض العدالة الإجرائية في العديد من الدول.

القضايا العالمية: قضايا مثل تغير المناخ تتطلب عدالة عالمية، لكن الدول المتقدمة والنامية تختلف حول المسؤوليات. على سبيل المثال، الدول المتقدمة تتحمل مسؤولية تاريخية أكبر عن انبعاثات الكربون، بينما تطالب الدول النامية بحقها في التنمية.

التداعيات المعاصرة لغياب الوفاق

"إن تحقيق العدالة أمر جيد، ولكن تقديم العدالة أمر أفضل". فيكتور هوغو

الصراعات السياسية: غياب التوافق حول العدالة يؤد ي إلى صراعات سياسية، مثل الجدل حول السياسات الاجتماعية أو إعادة توزيع الثروة.

العدالة البيئية: في سياق تغير المناخ، يصعب التوافق على توزيع عادل للمسؤوليات بين الدول، مما يعيق الجهود العالمية.

العدالة الاجتماعية: التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية، مثل الفجوة بين الأغنياء والفقراء، تتفاقم بسبب اختلاف وجهات النظر حول العدالة.

التكنولوجيا والعدالة: التقدم التكنولوجي، مثل الذكاء الاصطناعي، يثير قضايا جديدة تتعلق بالعدالة، مثل التوزيع العادل لفوائد التكنولوجيا.

التكامل مع الوعي الإيكولوجي والأخلاق البيئية

العدالة كفضيلة سياسية ترتبط بالوعي الإيكولوجي والأخلاق البيئية، خاصة في سياق الأنثروبوسين:

العدالة البيئية: تركز على توزيع عادل للأضرار البيئية، مثل تأثيرات تغير المناخ على المجتمعات المهمشة.

الوعي الإيكولوجي: يعزز الفهم العميق للترابط بين البشر والبيئة، مما يدعم اتخاذ قرارات عادلة.

الأخلاق البيئية: تدعو إلى احترام القيمة الجوهرية للطبيعة، مما يوسع مفهوم العدالة ليشمل الكائنات غير البشرية .

خاتمة

"العدالة هي أن يفعل كل شخص ما يجيده." · أرسطو

العدالة تظل أرقى فضائل الحياة السياسية، إذ توفر الأساس الأخلاقي لتنظيم العلاقات الاجتماعية وتعزيز الإنصاف. ومع ذلك، فإن غياب الوفاق العملي حول مفهومها، الناتج عن الاختلافات الفلسفية، الثقافية، والسياسية، يشكل تحدياً كبيراً أمام تطبيقها. في عصر الأنثروبوسين، يصبح التكامل بين العدالة، الوعي الإيكولوجي، والأخلاق البيئية ضرورياً لمواجهة التحديات العالمية مثل تغير المناخ والتفاوتات الاجتماعية. المستقبل يتطلب جهوداً مشتركة بين الفلاسفة، السياسيين، والمجتمعات لتطوير مفاهيم وممارسات عادلة تعكس التنوع الثقافي وتعزز الاستدامة. فمتى نرى العدالة بين الدول تتحقق على أرض فلسطين ويكف الاستهداف لسكان غزة بالتطهير والتهجير؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

في المثقف اليوم