أقلام فكرية

أقلام فكرية

في المفهوم: النهضة، أو كما تُعرف باسم اليقظة، أو حركة التنوير. هي جملة التحولات الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، التي فرضتها أو تفرضها القوانين الموضوعيّة للتطور في مجتمع من المجتمعات أو دولة من الدول أو أمّة من الأمم. والمقصود بالقوانين الموضوعيّة هنا هي حالات الحركة المستمرة بالضرورة في بنية المجتمع من خلال تفاعل مكونات هذا المجتمع مع بعضهم من جهة، أو مع غيرهم من المجتمعات أو الأمم من جهة أخرى. فأثناء عمليّة الانتاج تتولد عمليات وعلاقات إنتاجيّة وفكريّة بين أفراد المجتمع الواحد، وبين هذا المجتمع والمجتمعات الأخرى باستمرار.

إن تطور قوى الانتاج (الآلة، أي وسائل الإنتاج عموماً، والإنسان ذاته وعمليات الإنتاج من حيث زياد الإنتاج وتبادله واستهلاكه). فسيرافق هذا التطور بعموم مفرداته، أو يسمى "البناء التحتي"، تطور آخر مرافق له في الوعي والفكر بشكل عام، أي ما يسمى "البناء الفوقي" بالضرورة وذلك عبر العلاقة الجدليّة التأثيريّة بين البنائين. ومن أبرز مظاهر النهضة في البناء الفوقي، هي تطور مفهوم الدولة ومؤسساتها، وانتشار مفاهيم دولة القانون، والحريّة، والعدالة، والمساواة، والمواطنة، والتعدديّة السياسيّة، وانتشار الطباعة، وظهور الصحافة ودُور النشر، والتوسع في إنشاء المدارس والجامعات، وإحياء التراث وتحقيقُهُ، والنهوض باللغة، وتفاعلُ الأدب مع الآداب العالميّة بفعل الاحتكاك القسري أو الإرادي  تفاعلاً عميقاً سيؤدى إلى ظهور فنون أدبية جديدة لم يكن لها وجودٌ من قبل، كالأقصوصة والرواية والمسرحيّة وغير ذلك من قضايا تهم حياة الإنسان وتطور وجوديّه المادي والفكري..

وقبل أن نبين قضيّة مشروع النهضة في عالمنا العربي المفوّت حضاريّاً، من الضرورة بمكان أن نشير ولو بشيء من العجالة إلى مشروع النهضة في أوربا لنتبين ذلك الفرق الواضح بين المشروع النهضوي الغربي، والمشروع النهضوي العربي.

مشروع النهضة في أوربا:

إن مشروع النهضة الذي مرّت به أوربا تاريخيّاً منذ سقوط القسطنطينيّة عام 1453 واكتشاف رأس الرجاء الصالح 1488. وانتقال طرق التجارة من يد تجار الشرق إلى يد تجار الغرب، وبخاصة في إيطاليا، قد ساهم بتشكيل ما عرف بالمرحلة الأنسيّة في إيطاليا منذ النصف الثاني للقرن الخامس عشر على يد الطبقة الجديدة من التجار ورجال الفن والأدب الذين آمنوا بالإنسان كسيد لقدره ومصيره. إن الارهاصات الأوليّة للمرحلة الأنسيّة راحت تمتد إلى معظم مناطق أوربا شيئاً فشيئاً، ومع ظهور عصر النهضة في إيطاليا ذاتها كامتداد للمرحلة الأنسيّة في أفكارها حتى القرن السابع عشر، قد جذرت في الحقيقة الصورةً الإيجابيّةً للإنسان وعقله وحريّة إرادته، باعتباره أرقى الكائنات الحيّة. ومن أهم توجهات الحركة الأنسيّة وعصر النهضة هي:

1- الاهتمام بمختلف العلوم والآداب والفنون.

2- الأخذ بالأساليب الحديثة في التربية والتعليم.

3- إحياء التراث القديم وخاصة التراث اليوناني والروماني والعقلاني منه بشكل خاص.(1).

4- وفي الوقت نفسه الذي قطع فيه العلماء والمخترعون في تلك الفترة خطوات كبيرة في فهم العالم الطبيعي، مع شخصيات مثل "نيكولاس كوبرنيكوس: وغيره من الذين قدموا مخترعاتهم التكنولوجيّة وعلومهم الطبيعيّة في الفلك وغيره التي أخذت تعيد النظر في المعتقدات الدينيّة السائدة آنذاك حول الكون وتشكله، ومهدت الطريق لاكتشاف القوانين الموضوعيّة المستقلة في الطبيعة والمجتمع، والتسلح بها وتوظيفها لمصلحة الإنسان. وبالتالي هذا ما يؤكد بأن ما قدمته الحركة الأنسيّة وعصر النهضة في أوربا، قد أسس  ليس لنهضة ثقافيّة فحسب، بل كان أيضًا حافزًا للابتكار والاكتشاف الذي أرسى الأساس لعصر التنوير والعالم الحديث ومكانة العقل.

ثم تلا عصر النهضة الثورة الصناعيّة التي قامت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، والتي فتحت أبواب المعرفة على مصراعيها، وظهر عصر الفيزياء والكيمياء والرياضات والاختراعات التكنولوجية المختلفة في أهميتها ووظيفتها الإنتاجية، مثلما رافقها ظهور فلاسفة عصر التنوير في القرن ذاته الذين راحوا يبشرون بعالم جديد على كافة المستويات الاقتصاديّة منها والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة.

فعلى المستوى الاقتصادي: راح التوجه للعمل على الفسح في المجال واسعاً لاقتصاد السوق ووحدته في المجال الوطني والمجال الأوربي عبر طرح الشعار "المريكانتيلي" (دعه يعمل دعه يمر)، وبالتالي  القضاء على النمط الاقتصادي في صيغته الاقطاعيّة التفتيتيّة القائمة على مشاريع "دول المدن"، وتثبيت دعائم النظام الرأسمالي.

وعلى المستوى السياسي: فقد توجهت الطبقة الرأسماليّة بعد انتصارها على الملك والنبلاء والكنيسة، إلى تطبيق المشروع الليبرالي، والقضاء على السلطة الاستبداديّة الممثلة بسلطة الاقطاع والملك والكنيسة آنذاك، وإعادة تشكيل برلمانات جديدة لا تقوم على التقسيم والتراتب الطبقي السابق، وإنما برلمانات خصصت فيها مقاعد تشارك فيها القوى العماليّة. كما راحت تجسّد على الواقع ما سمي بدولة القانون والمؤسسات واعتبار الشعوب هي الحاضنة للدولة ومؤسساتها وتحديد نظام الحكم فيها، واعتبار العلمانيّة والديمقراطيّة ودولة القانون أهم وسائل ضبط حركة الدولة والمجتمع.

وعلى المستوى الاجتماعي: فقد تم تجاوز للعلاقات الاجتماعيّة التقليديّة التي يتحكم بها الاقطاع والكنيسة والملك وصراعاتها الدينيّة المذهبيّة وحروبها الطاحنة، وتسسييد علاقات اجتماعيّة تتوافق وطبيعة العلاقات الانتاجيّة الجديدة، وهي العلاقات الرأسماليّة القائمة على اقتصاد السوق الحر، وعلى مفاهيم الحريّة الفرديّة والعدالة والمساوة والأهم المواطنة. واعتبار العقل والتجربة هما المرجعان الأساسيان في تقويم الواقع بكل مستوياته.

وعلى المستوى الثقافي أو الفكري: كانت الدعوة إلى تسييد العقل واعتباره سيد الأحكام في تحديد صحة المعارف أو عدم صحتها من جهة، مثلما تم التوجه نحو تحطيم سلطة الثقافة الغيبيّة الاستسلاميّة الامتثاليّة، والسماح لحرية الإرادة الإنسانيّة والعقل الإنساني أن يجوبا عوالم هذا الكون بحثاً عن الحقيقة. فتحطمت هنا أسس المدرسة "السكولائيّة / المدرسية" التي كانت تقدم المعارف جاهزةً للإنسان كما قدمتها الكتب الدينيّة المقدسة وشروحاتها من قبل رجال الدين من جهة ثانية. وعلى هذه التوجهات تحطمت أسس الفلسفة الميتافيزيقيّة واللاهوتيّة، والمثاليّة الذاتيّة، لتبدأ الفلسفة العقلانيّة تفرض نفسها شيئاً فشيئاً    على مستوى الحياة الثقافيّة بشكل عام والفكريّة الفلسفيّة بشكل خاص.. فكانت صرخة ديكارت (أنا أفكر إذاً أنا موجود). بداية تأليه العقل والإنسان معا. ومع ثورة العقل وحريّة الإرادة، تم تجاوز وتحطيم العديد من المدارس والنظريات السابقة على المستوى السياسي والأدبي والفني، وخلق مدارس جديدة تتناسب مع روح العصر العقلاني الجديد.

أمام هذه التحولات البنيويّة التي حققها عصر النهضة في أوربا ممثلاً بحوامله السياسيّة والفكريّة الفلسفيّة والأدبيّة والفنيّة، وحتى الدينيّة ممثلة بالإصلاح الديني  لـ" مارتن لوثر 1483 - 1546" في ألمانيّة، وفي سويسرا بزعامة (أولريخ زونجلي 1484م ـ 1531م )  وفي فرنسا وجنيف بزعامة (جون كالفن 1509م ـ 1564م). يظل السؤال المشروع يطرح نفسه علينا حتى اليوم وهو: أين نحن العرب من مشروعنا النهضوي؟.

المشروع النهضوي المفوّت في عالمنا العربي:

لقد عوّلت الشعوب العربيّة بعد التحرر من الاستعمار منذ  منتصف القرن العشرين، على القوى السياسيّة الهجينة طبقيّاً في بنيتها من جهة، و(النخبويّة) من شرائح الانتلجنيسيا (المعسكر) أكثرها في طبيعتها من جهة ثانية، هذه القوى هي التي قادت حركة التحرر العربيّة ممثلة في أحزابها ومشاريعها الوطنيّة والقوميّة، بيد أن هذه القوى ظل معظمها مرتبطاً بالاستعمار بشكل أو بآخر، فإذا كان التحرر السياسي قد تحقق للبلاد بخروج القوت الأجنبيّة، فإن الاستعمار الاقتصادي والتخلف الثقافي ظلا قائمين ويمارسان نشاطاهما بحيويّة فاعلة في محيط الدولة والمجتمع اللذين راحت تسيطر عليهما بعد الاستقلال برجوازيّة "كومبرادوريّة" مرتبطة بالمستعمر، هشة غير واعية لذاتها، وبالتالي لم تستطع أن تعمل لا لمصلحتها ولا لمصلحة شعوبها، تساندها قوى شبه اقطاعيّة من شيوخ العشائر والقبائل، وهذا ما ساهم في فشل هذه القوى التي قادت البلاد بعد خروج المستعمر من تحقيق مهام النهضة التي عوّل عليهم قيامها. الأمر الذي أدى إلى ظهور قوى اجتماعيّة جديدة من داخل صفوف الشعب ولكن معظمها ينتمي للجيش رغم انتماء العديد منها لأحزاب سياسيّة لها طابع مدني، نعتت نفسها بالتقدميّة، وطرحت على نفسها وعلى شعوبها ضرورة تصفية بقايا الاستعمار ومن يتعاون معه من القوى السياسيّة التقليديّة الحاكمة، ووضعت في أجنداتها إقامة مشروع الدولة المدنيّة التي تهدف إلى إقامة دولة القانون والتعدديّة السياسيّة ودولة المؤسسات والديمقراطيّة والعلمانيّة والمواطنة وغير ذلك من مفردات الدولة المدنيّة. غير أن شهوة السلطة التي تحكمت بهذه القيادات التي ادعت التقدميّة، وأحزابها التي أكثر حواملها لاجتماعيّة من ضباط الجيش والطلاب والانتلجنسيا من دكاترة ومعلمين ومحامين وغيرهم من هذه الشرائح المتعلمة التي لا يظهر تلاحمها الطبقي واضحاً في تنظيمتها التي أطلقت على منتسبي هذه الأحزاب بـ (تحالف قوى الشعب العاملة)، كما هو الحال في مصر قيادة ثورة 23/ تموز/ 1952. وفي اليمن وليبيا وسورية والعراق. فمع وصول هذه القوى العسكريّة إلى السلطة، أغرتها شهوة السلطة فراحت تتحول إلى قوى مضادة لثوراتها وأهدافها المعلنة التي طرحتها قبل استلامها السلطة، حيث تحول معظمها إلى قوى برجوازيّة طفيليّة وبيروقراطيّة جعلت من مراكز تواجدها في السلطة مصادر ثروة غير مشروعة، كما أخذت تمارس نشاطات سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة وحتى اجتماعيّة بعيدة كل البعد عن مفهوم التقدميّة والمواطنة، إذ رحنا نجد معظمها عاد إلى مرجعياته التقليديّة من عشيرة وقبيلة وطائفة للبقاء في السلطة وتحويل الدولة إلى دولة (غنيمة) لهم ولأسرهم وأبناء عشائرهم وطوائفهم، بل أستطيع القول إنها قضت حتى على البذور الليبراليّة التي راحت تنتشي مع القوى الحاكمة السابقة لها من البرجوازيّة الكومبرادوريّة وأشباه الاقطاع.

إن من يتابع سياسات هذه القوى في الدول التي حكمتها، يجدها قد مارست تكريس الجهل السياسي والفكري، ومحاربة الفكر العقلاني التنويري النقدي الذي بشرت به الجماهير عند تشكل أحزابها ووصولها إلى السلطة، وذلك بغية إبعاد هذه الجماهير عن السلطة وعدم السماح لها بمشاركتها في قيادة الدولة والمجتمع، الأمر الذي أدى بسبب هذه السياسة الاقصائيّة إلى عرقلة تكوين فكر نهضوي وممارسة نهضويّة يساعدان على تجاوز الواقع المتخلف. بل رحنا نلمس أن الكثير من أبناء الجماهير الخاضعة لسلطتها التي وجدت نفسها مغيبة ومفقرة ومجهلة وعاطلة عن العمل وتُمارس عليها الوصيّة بالقوة، تندفع أكثر نحو الفكر الظلامي والسلفي التكفيري، وبخاصة الفكر السياسي الجهادي منه، كما وجدنا الانتماء الواسع للفكر الصوفي الطرقي المشبع بالوهم والكرامات والطبل والمزمار واللامعقول، وبالتالي فإن المنتمين لهذه التيارات الدينيّة ومنها الأصوليّة التكفيريّة والاقصائيّة، وجدوا أن خلاصهم من الفقر والجوع والبطالة، وتحقيق العدالة والمساواة تكمن في الدين وحاكميّة الله. ومن الطرافة بمكان، نجد أن القوى الحاكمة (التقدميّة) وغيرها من الحكام العرب بكل توجهاتهم وأشكال حكمهم راحوا يلعبون على وتر الدين وتوجيه الناس للسير في عالمه، مُسَخِرَةً مؤسساتها الدينيّة وتياراتها المدخليّة ممثلة بمشايخ السلطان لنشر قيم الفضيلة بين المواطنين الذين يعيشون في عالم نخر الفساد معظم أركانه،  بيد أن الطريف أيضاً في هذا الأمر، أن هذا التوجيه السلطوي للشعوب نحو الدين، خلق قوى اجتماعيّة متدينة لم تعد الفضيلة التي أرادت السلطات الحاكمة دفع الناس لتبنيها، كافية لهم، وإنما راحت الدعوة إلى الحاكميّة هدفاً أساسيّاً لتوجهاتهم من أجل إسقاط الأنظمة الحاكمة التي نعتوها بالكافرة وراحوا يؤكدون فسادها هنا وهناك على مستوى مفاصل عمل الدولة وطبيعة العلاقات الاجتماعيّة والاقتصادية والسياسيّة السائدة. وهذا ما كان وراء ثورات الربيع العربي، التي كانت ثورات ذات توجهات دينيّة، راح يبشر بها ويعمل معها الكثير من القوى المعارضة لهذه الأنظمة ممن تدعي التقدميّة أيضاً.

ملاك القول: مع  تغييب الثقافة التنويريّة في الفن والأدب والمسرح والاعلام والمؤسسات الثقافية والمنظمات التابعة لهذه الأحزاب الحاكمة، راح يسود بالضرورة الفكر الظلامي المشبع بالجبر والاستسلام وتغيب العقول، والتمسك بكل ما يمت بصلة للدين، فالدين لم يعد صلاة وصوماً ورموزاً وقيماً أخلاقيّةً وعقيدةً سمحاء، بل أصبح عقيدةً وشريعةً ولغةً وأدباً وطموحاً ووسيلة تجاريّة بيد السلطة والمعارضة معاً. فالسلطات الحاكمة المستبدة الشموليّة راحت تتاجر به عبر مؤسساتها الدينيّة لتخدير شعوبها وإبعادهم عن السلطة بغية الحفاظ على مصالح الحوامل الاجتماعيّة لهذه السلطة، كما راحت المعارضة ذاتها تستغل  الدين تحت ذريعة الحاكميّة لله من أجل تكفير السلطة وإدانتها وبالتالي إسقاطها عن طريق العنف.. نعم لقد أصبح الدين ثقافة ساهمت هذه الأنظمة ذاتها التي تدعي العلمانيّة في موضعتها داخل عقول ونفوس وعواطف ومشاعر وذاكرة وتطلعات شعوبها. وعلى أساس ذلك كانت داعش والنصرة ونهوض الإخوان من جديد وكل القوى السياسيّة الجهاديّة التي ثارت اليوم ضد هذه الأنظمة تحت ما سمي بالصحوة الإسلاميّة، وثورات الربيع العربي.

***

د. عدنان عويد - كاتب وباحث من سورية

.........................

1- الويكيبيديا – بتصرف.

 

1. تناولت سابقا باكثر من مقال متناقضات هيدجر المستترة خلف تعابير غامضة غير مفهومة لا قيمة فلسفية لها بخلاف الذين يرون الغراب صقرا.

عثرت مؤخرا على عبارة لهيدجر فاتني التعقيب عليها بمقالاتي الثمانية السابقة المنشورة لي عنه في مناقشة بعض مما ورد بكتابه الشهير(الكينونة والزمان) حيث يقول متفلسفا (الموجود هناك الديزاين الانسان هو ركض الموت الى العدم) .

الموت في الفلسفة او بالعلم هو مرادف لفظي للعدم ولا فرق ان تقول موت او ان تقول عدما فانك بكلا المفردتين انما تقصد فناء الكائنات الحيّة بيولوجيا بما لا تدركه عقولنا من سبب ولا من كيفية. في مقدمة هذه الكائنات التي يطالها الفناء الارضي هو الانسان.

والموت والعدم هما دلالة متطابقة بالجوهر والصفات غير المدركة عقليا. فالشخص يعرف دلالة الموت انها دلالة العدم لكنه يعجز عن تفسير ماهية كل من المفردتين ماهو الموت وما هو العدم؟. اذن كيف يركض الموت نحو العدم وكلاهما دلالة فناء الكائنات الحية واحدة.؟ الموت والعدم تعبرّان عن مدلول واحد هو الفناء.

 لو نحن اعتبرنا الموت او العدم لافرق في التسمية ولا في الدلالة انه (ذات) وهو ليس بذات لسببين الاول الذات تدرك ذاتيتها وتعيها لانها تمتلك الحياة ، وتعرف خاصية ذاتيتها بالتامل العقلي لوجودها بحسب تعليل ديكارت الذات او العقل خاصية تفكيره هو اثبات لوجوده. وهذا لا ينطبق على الموت او العدم فالموت لا يدرك ذاتيته كما ولا تدرك عقولنا ان الموت يمتلك ذاتا يدركها تهرول نحو الفناء العدمي.

والسبب الثاني ان الموت لا يمتلك ذاتا هو ان الذات تدرك ذاتيتها ليس بالتفكير المجرد وانما بالمغايرة الموجودية مع غيرها من موجودات الوجود الطبيعة والعالم من حولنا..

 لذا الموت او العدم هو اللاشيء الذي لا يدركه العقل بغير دلالة ناتج افنائه الكائنات الحية. اللاشيئية العدمية للعدم او الموت هو اللفظ الدلالي الذي يعجز العقل معرفته الماهوية بغير نتائجه الافنائية للاحياء. العدم او الموت لا يطال ما ليس له روح تعيش الحياة اي الموت لا يميت حجرا مثلا.

اذكر مقولة هيدجر الثانية الخاطئة قوله العدم لا يعدم نفسه اذ من البديهي اننا نعجز ان نقول الموت لا يميت نفسه كي لا نصبح اضحوكة كما فعل هيدجر. فاللاشيء(الموت – العدم) الذي لا يدركه العقل غير موجود إدراكا  ليموت ونحن ندرك نتائجه في اعراض مفارقة الروح للجسم او بقائها فيه ميتا نعرفه بدلالة اعراض الموت الاخرى المعروفة في توقف جميع اجهزة بقاء الحياة بالجسم تعمل من توقف القلب فقدان الاحاسيس كافة توقف التنفس عدم الحركة فقدان الوعي الدماغي والحسي الجسمي الخ. وذلك لان العلم لم يتوصل لحد الان كيف يموت الكائن الحي وكيف تفارق الروح المزعومة الجسد اكثر من معرفة نتائجه التي يدركها العقل على انها لم تعد طبيعية تعيش الحياة كما نعيشها نحن؟

2. اذا قلنا الحاضر وهم  افتراضي لا زمني فهو لحظة لا زمنية لانه غير محدد بدلالة غيره من مدركات. والزمن هو الاخر وهم دلالة لا وجود ادراك عقلي لتحديد وجوده غير الدلالي في ملازمته لكل شيء لا نهائي ازلي سرمدي لا يقبل القسمة على نفسه ولا يتجزا ولا يوجد بالكون وعلى الارض زمانان اثنان مختلفان بالماهية والصفات احدهما نسبي على الارض والاخر مطلق كوني في الفضاء بعد اختراع انشتاين النسبية العامة فانعدم المطلق الزمني الذي قال به ارسطو واحتذاه اسحق نيوتن   واصبح نسبيا. افكارنا التي نطلقها شفاهيا في لحظة من الحاضر لا تلبث ان تصبح بعد ثوان  ماض بالدلالة الزمنية وليس التاريخية. الزمن الحاضر يختلف عن تاريخية وجود الاشياء في الافكار المعبّرة عنها.

صناعة البنية الفكرية والاجتماعية للحاضر الوهمي غير المتحقق ادراكيا يتوزعها ماض استذكاري تكون فيه الوقائع التاريخية في الماضي قد اكتسبت ثباتها. بتوثيق زمني لا يكتسب دلالته الحقيقية الا بملازمته التعريف بوقائع التاريخ الماضي.

الحاضر الزمني في حقيقته هو الماضي الزمني وليس التاريخي في لحظة سيرورته الانتقالية من انحلال الحاضر كلحظة زمنية وهمية الى ماض زمني.

 كما ان الحاضر لا يصنع المستقبل لانه وجود زمني افتراضي غير موجود. لذا يكون المستقبل سيرورة تتشكل من ماض يعبر لحظة الحاضر الوهمية وتكون الوقائع التاريخية بالماضي سابقة على وجود الزمن.

ارسطو ومن قبله افلاطون اكدا ان لحظة الحاضر وهم لا زمني حقيقي اي انه لا يدرك بدلالة شيئية ثابتة زمنيا مثل زمانية الماضي الثابتة تاريخيا وليس الثابتة زمانيا.

3. مذهب وحدة الوجود يكون مطلقا ميتافيزيقيا صوفيا يجمع بين الدين والطبيعة والفلسفة. مذهب وحدة الوجود يفقد حقيقة معناه في الصوفية التي يعتبرونها المتصوفة هي وسيلة تلاقي الذات بالحلول الالهي النوراني وهو ما لا يتحقق بسبب عدم توفر مجانسة نوعية واحدة تجمع خصيصة الذات الصوفية الروحانية مع خصيصة الذات الالهية غير المدركة لا بالعقل ولا في ما وراء العقل اي في التجربة الروحية . بهذا المعنى تكون التجربة الصوفية روحانية تدور في فلك ذاتيتها الانسانوية التي تفترض حلولها التواصلي مع الذات الالهية وهي لم تغادر مادية وجودها الارضي.. فالذات الالهية لا تمتلك الروحانية البشرية المدركة صوفيا في مجانستها الروحانية الصوفية التي هي في كل حالات التجربة الصوفية لا تغادر مواقع اقدامها.

الذات الالهية لا تجانس الذات الروحية البشرية لا  بالماهية ولا بالصفات لذا تبقى الذات الصوفية روحانية مرتبط بالارض على خلاف الذات الالهية المرتبطة بنفسها بما لا يستطيع العقل ادراكها.

4. الموضعة اللغوية في تعبيرها التجريدي عن الاشياء هي ادخار معرفي بها وليس اضافة تكوينية لها. الموضعة هي تلك القراءات التاويلية التداولية للادرك المتطور  تعيد وتضيف وتعدل التي هي في حقيقتها تجريد تعبيري لغوي عن تلك الاشياء المدركة.تساؤلنا هل الموضعة اللغوية المتعالقة بالفهم تكون معطيات مكتسبة قبلية عن ذالك الشيء ام هي معطيات فطرية عنها؟

لا يوجد افكار فطرية معرفية قبلية غير مكتسبة بالخبرة عن الاشياء. اما بالنسبة للزمكان فهو وعي العقل لفراغ احتوائي للاشياء يوجد باستقلالية. فهو اي الزمكان لا يدخل مع الاشياء التي يحتويها بعلاقة موضعة تعريفية بها. ولا يدخل بعلاقة جدلية ديالكتيكية او تكاملية معرفية معها بل يبقى احتواء الزمكان للاشياء حياديا كما هي علاقة الزمن في ملازمته وجود الاشياء. وتكون افصاحات العقل عن مدركاته الاشياء التي يحتويها الزمكان هو الافصاح عن  علاقات تلك الاشياء المادية البينية مع بعضها. وبهذا تكون الموضعة اللغوية تحت وصاية العقل مادية في علاقة تكامل معرفي. الشيء الاهم هو الاقرار بحقيقة ان المادة لا تتموضع مع غيرها من الاشياء بغير علاقة تجريدية لا تعي ذاتها ولا تدرك موضوعها.

5. نسب احدهم لافلاطون قوله: تكلم كي اراك. ونسب لدوستوفسكي قوله: تكلم كي اعرفك. وتساءل أيّا من التعبيرين صحيحا وترك الامر غير مكترث بالعثور على جواب فلسفي صحيح من متصفحي موقع التواصل الاجتماعي.

طبعا الاصح قول افلاطون اذا اعتبرنا الرؤية بمعنى المعرفة وليس بمعنى الابصار الحسي بالعينين وهو ما كان يقصده افلاطون. فالابصارهو ادراك الموجود وليس معرفته. اراد دوستوفسكي بعبارته معرفة المتكلم بكلامه قوله (تكلم كي اعرفك) كون كلام المتحدث اليه لا ينقل له صورته الشخصية وانما ينقل له افكاره التي تعرّف به. رؤية الشيء بابصاره النظري هو ادراكه الحسي فقط اي استلام الانطباعات الحسية المنقولة عن الحواس وليس معرفته كماهية وجوهر وصفات وعلاقات بغيره. والادراك انطباع اولي مؤقت محكوم بالزوال في طريقة داخل المنظومة العقلية وصولا للدماغ. ادراك الشيء بالحواس مرحلة اولى في سلسلة تراتيبية منظومة العقل الادراكية، رؤية الشيء معناه ان تدركه بصفاته الخارجية الحسية ولا تشمل هذه الرؤية الادراكية الاولية معرفة الشيء بالماهية او الجوهر. المعرفة اشمل من الادراك الحسي.

6. في البدء الادراك هو ليس الوعي بالشيء. ان تدرك الشيء بالحواس هو معرفة موجوديته كموضوع وتسمى هذه العملية بالانطباعات الاولية. اما وعي الشيء او الموضوع فهو معرفة حقيقته عقليا وليس حسيّا فقط. دأب فلاسفة عديدون الى تقسيم الموجود المدرك كموضوع الى مظهر هو الصفات الخارجية له والى محتوى دفين يدعى الجوهر. وهي تشبيه مرادف لقولنا شكل الشيء ومحتواه.

وخلاصة القول ان مقولة لماذا لا يكون مضمون الشيء منفصلا عن قابلية ادراكه التي يمتلكها الموجود المادي الشيئي كينونة مستقلة؟ مقولة خاطئة وفرضية تعسفية تحاول وضع العربة امام الحصان لاسباب اوضحتها سابقا واوجزها بكلمات:

اولا قابلية الادراك هي كيفية وسيرورة تجمع بين المادة وادراكها كما هي وسيلة معرفية لا تمتلكها المدركات لاتموضعا ماديا فيها ولا تجريدا تعبيريا يصدر عنها. بل يمتلكها الحس والوعي العقلي لها فقط.

ثانيا مضمون الشيء لا يكون موضوعا لادراك قائم لوحده منفصلا عن موجوديته المادية الموحدة شكلا ومحتوى. المضمون يحتاج دائما لشكل يحتويه وبغير هذه الملازمة لا يمكننا تصور مضمون بلا شكل يحتويه. كما ولا يمكننا تصور شكلا خاليا من مضمون او محتوى دلالي عليه كما في مثال الرسوم الهندسية المجردة فالخطوط التي يتشكل منها الشكل الهندسي تحدد مضمونه الهندسي الذي ندركه للوهلة الاولى فارغا ما عدا محدداته المستقيمة. في أن يكون دلالة على مثلث او مستطيل او دائرة وهكذا. اي ان ابعاد اشكال الخطوط الهندسية المجردة اعطت للحيّز المكاني الذي احتوته مضمونا متفردا هندسيا. المثلث نقصده ادراكيا بالتسمية على اساس خطوطه الثلاث ونحن لا ندرك من الوهلة الاولى الادراكية ان للمثلث ثلاثة زوايا مقدارها 180 درجة احدها زاوية قائمة الا بمعرفة مضمون المثلث واستعمالاته وليس في ادركنا شكله التخطيطي كخطوط مجردة.

ثالثا الادراك لا يجزيء موضوع ادراكه الى شكل هو الصفات الخارجية والى مضمون او محتوى هو جوهره وماهيته. فالادراك هو وعي كينونة الشيء الموحد في كليته الكينونية الموجودية البائنة للادراك. ويكون معنا اعجاز عقلي ادراكي ان نتصور مضمونا لا يحتويه شكل يدركه العقل. وبالعكس ايضا استحالة ادراكية ان تجد شكلا مجردا بلا مضمون يحتويه يمكن للعقل ادراكه كموضوع.

رابعا الصفات الخارجية هي كينونة موجودية موحدة وليس من خاصية الادراك الحسي احتوائها على جوهر او مضمون يستقر خلفها. وعندما نقول امكانية ان يكون المضمون (موضوعا) لادراك فهي فرضية خاطئة فالمضمون لا يكون موضوعا لادراك لا يحتويه (شكل) الذي هو الصفات الخارجية للشيء.

7. من مقولات بيركلي المثالية (وجود الشيء هو قابليته ان يكون موضوعا لادراك) وهي مقولة خاطئة كما نوضحه لاحقا..

وجود الشيء لا تحدده صفة ان يكون موضوعا لادراك. بل وجود الشيء موضوعا ندركه تاتي من خاصية موجوديته الانطولوجية التي يدركها الحس والعقل. وليس كما ذهب له بيركلي وجود الشيء هو قابليته ان يكون موضوعا لادراك.

كما ان خاصية ان يمتلك وجود الشيء قابلية ادراكه ليست صحيحة .فقابلية الادراك يحددها الحس والوعي ولا تمتلكه الاشياء المدركة. ولا يفرض الشيء قابلية ادراكه الزائفة على الحواس والعقل لتكون صفة به كموجود.

النقطة الاخيرة من يحدد ان يكون الموجود موضوعا لادراك؟ هل يحدد ذلك مضمونه (جوهره)؟ ام يحدده الشكل الخارجي الصفات المدركة له؟. الحقيقة ان الشكل الخارجي او الصفات الخارجية للموجودات تجعل منها موضوعا ماديا تدركه الحواس والعقل. اما جوهر او ماهية اي شيء لا يكون موضوعا كونه لا يدرك بينما صفاته الخارجية تكون موضوعا.

الادراك الحسي لا يدرك مواضيعه لمعرفة مضامينها الجوهرية. فادراك الحواس ينحصر بالصفات الخارجية للشيء فقط. وادراك الشيء حسب بيركلي هو ادراك كينونة موجودية موحدة شكلا اي صفات وماهية اي جوهر. وهما كينونة غير قابلة للانفصال لانها بالانفصال تفقد وجودها الانطولوجي. خلاصة ماذكرناه بالضد من بيركلي يمكننا تلخيصه بنقطتين:

الاولى وجود الشيء تحدد قابلية ادراكه ليس هو كموجود بل تحدده الحواس والعقل التي تدركه.

الثانية وجود الشيء الحقيقي هو عندما يكون موضوعا يحتوي شكلا ومضمونا. فالحواس والعقل لا يدركان موضوعا لا وجود حقيقي له لا على صعيد المادة ولا على صعيد الخيال.

8. يذهب فلاسفة الوضعية المنطقية التحليلية حلقة فينا بزعامة انشليك التي انحلت لتبعث نفسها في حلقة اكسفورد بلندن بزعامة بيرترانرسل. هؤلاء الفلاسفة يرون وظيفة الفلسفة الحقيقية هي (تحليل العلم) وعماد هذا التحليل انما يكون في توضيح منطق اللغة في التعبير عن التراكيب العلمية التي تحوي الالفاظ والتعريفات لكي يتمكن الفيلسوف من تحليل الكلام ويفرغه ويجرده.) نقلا عن زكريا ابراهيم.

سنجد لدى كارناب تعارضا مع ما مر ذكره بالعبارة وهو احدهم نجده يقول: لا علاقة بين لغة الفلسفة والعلم ولا يقع على عاتق اللغة توضيح وتحليل قضايا العلم. فالعلم له اختصاصاته التي يقوم عليها العلماء وليس الفلاسفة.

بهذا المعنى التحليلي الذي يجد حقيقة الفلسفة في تحليل وتوضيح قضايا العلم تكون الفلسفة ملحقا منطقيا تحليليا لقضايا العلم. نعتقد ان لغة العلم لا تحتاج دوما اللغة المعرفية الفلسفية او الفكرية عموما. لتوضيح قضاياه. وحقيقة الفلسفة اللغوية انها نسق نمطي يفسر كل ما يصادفه من قضايا تهم حياتنا وعالمنا الخارجي والداخلي.

النسق اللغوي المنطقي للفلسفة يوازي قضايا العلم ولا يقاطعها. بل تعمد الفلسفة ملازمة قضايا العلم بمنهج معرفي هو التخارج المعرفي لكليهما.

اول ملاحظة يجب ابعادها عن تفكيرنا ان منطق الفلسفة لا يدخل بعلاقة ديالكتيك جدلي مع قضايا العلم حتى في نقد الفلسفة لتلك القضايا العلمية. واذا ما حاولنا افتراض تطابق لغتي الفلسفة والعلم من حيث تجمعهما تركيبة نحوية وقواعد وصرف وغير ذلك من ثوابت اللغة ونظامها الخاص بها في حين تكون غالبية لغة العلم هي معادلات رمزية تشمل الرياضيات والفيزياء والكيمياء وباقي العلوم الاخرى. ولا تتعامل مع السردية اللغوية الناقدة او الموضّحة.. علاقة لغة الفلسفة مع قضايا العلم هي لغة متابعة نقدية وتخارج معرفي متبادل للافكار بينهما.

النسق اللغوي الخاص بلغة معينة لا يتداخل ولا يتخارج معرفيا بحيادية متوازية لا تغني العلم ولا تغتني هي نفسها منه. مهمة توضيح اللغة لقضايا العلم التي اشار لها فلاسفة التحليلية المنطقية جعل من لغة الفلسفة تابعا يحمل حقيقة انه يقوم بتوضيح قضايا العلم وتحليلها وتبسيطها ولا اكثر من ذلك.

على رحابة وشساعة رقعة تاريخ المنجزات العلمية الجبارة الهائلة فهي الى جانبها نشا تاريخ الفلسفة البشرية الموغل بالقدم وتنوع قضاياه ومواضيعه ربما قبل البدايات العلمية. فالفلسفة ظهرت في الميتافيزيقا والانثروبولوجيا مثلا قبل التخصصات العلمية في بداياتها.. وحين تكون حقيقة الفلسفة التي اشار لها التحليلين المنطقيين تتلخص مهمتها في توضيح قضايا العلم فهذا التقزيم التبعي للغة الفلسفة امام قضايا العلم غير كاف. الحقيقة التي يجب ان لا تقاس بالحجوم مابين العلم واللغة تكون اللغة عامة ولغة الفلسفة خاصة اشمل من الاهتمام بقضايا العلم كي تؤكد حقيقتها الملتبسة امام العلم.

تحليل اللغة بعيدا عن التطرق الى مضامينها وحواملها يجعل من اللغة نسقا شكليا مستقلا عن الحياة وهذا ما اكده جورج مور وفينجشتين المتاخر. كلاهما اكدا اهمية مضمون ما تهدف له اللغة تعبيرا قبل شكل الصياغة اللغوية.

ماوراء اللغة الذي اشار له (آير) حسب ماتقوله الفلسفة ولا اعرف مصطلح (مافوق اللغة) الذي نحته سكينر صاحب نظرية السلوك اللفظي هما نفس المصطلح ام مختلفان؟ (كتبت مقالتين منشورتين عن مصطلح مافوق اللغة واجريت اسقاطا للمصطلح على لغتنا العربية فلقي اقبالا على كوكل ونافذة نبأ والعديد من المواقع المرموقة منها المثقف والحوار المتمدن). ماوراء اللغة التي اشار لها آير هي النسق اللغوي الذي يلاحق حمولات ومضامين قضايا معبرا عنها لغويا بعيدا عن التجنيس الادبي او الفلسفي في صياغاتها اللغوية.

الفلسفة ليست توضيحا لمنطق استقصاءات بعض قضايا العلم وتحليلها توضيحيا.الفلسفة ليست شارحة سردية توضيحية بل هي فعالية فكرية ناقدة تحكمها منظومة منطقية مهمتها اثارة سلسلة من التساؤلات المعقدة امام العلم وامام غالبية الوسائل المعرفية الاخرى..ليس مهما ان وظيفة الفلسفة تفسير الاستقصاءات العلمية بلغة الفلسفة. بل وظيفتها الحقيقيةاثارة ما يجهله العلم او يحاول اهماله والعبور من فوقه.

الشيء الذي نراه مهما ان العلم يتطور بقضاياه حتى في عدم ملازمة لغوية ناقدة لما يقوله وفي معزل عنها. فالعلم يشتغل بلغة المعادلات وليس بلغة الفلسفة. كذلك الفلسفة وان كانت مركزيتها التعبيرية اللغة. لذا تستطيع المطاولة الزمنية  ان تطرح قضايا فلسفية بعيدا عن اهتمامات العلم الاثيرة عنده.

اذا كانت اللغة مركزية في جميع اجناس التعبير عن الحياة والطبيعة وقضايا العلم والانسان. لكن مع هذا تحتفظ هذه المركزيات الاجناسية المعرفية ليس في اهمية استحالة محو ملازمة اللغة لما تريده. لكن من حيث ان اللغة ليست مهمتها مقتصرة في واحدية (نقد وتوضيح وتحليل قضايا العلم) والا كانت الفلسفة انمجت في هيكلية قضايا العلم منذ امد بعيد.

9.  الحقيقة الانثروبولوجية خارج او داخل حقيقة الفلسفة او الابستمولوجيا والعلم مصطلح طوباوي وليس نسبيا فقط. كلما بحثت عنه وجدته سرابا خادعا لعقولنا. لذا حقيقة وجودنا الانثروبولوجي الذي نعيشه على كوكب الارض انما هي صيرورة دائبة الحركة لحقيقة وهمية لا نهائية غير مدركة كما لا يمكن الوصول لها.

كل حقائقنا العلمية والفلسفية وفي مختلف شؤون الانسانيات هي جميعها وهم الصيرورة الخادعة ولا تتوفر لدينا حقائق منطقية ماثلة ندركها في تزامنها الابدي معنا.

اذا تمكنت نظرية الكوانتم الفيزيائية اثبات اننا نعيش موزعين روحيا على اكوان عديدة احدها هذا الكون المتخلق عن الانفجار العظيم حينها يصبح موت الانسان على كوكب الارض ليس فناءا. ويصبح موت الانسان العوبة اذا مات الانسان هنا فانه سيذهب الى العيش في كون اخر بمعنى الموت على الارض حياة ثانية تنبعث حيّة في كون اخر لا يضم الارض ولا المجرات ولا الحلزونيات الدودية المظلمة التي لا يعرف الانسان ماهي ومن اين امتلكت قابلية الجاذبية التي لا تتصورها عقولنا. هذا الراي لا يعارض مفهوم خلود الانسان في الجنة والنار من الناحية الدينية. جاذبية الثقوب السوداء الفضائية لا يتصورها العقل البشري من حيث لا يمكن لاي شيء الافلات منها ولا حتى الجسيمات او الموجات الكرومغناطيسية المشعة. قضية مستقبلية اخرى يواجهها الانسان بيولوجيا هو لماذا يموت الانسان وماهو سبب الموت سواء اكان مرضيا ام نتيجة حادث.؟

10. السؤال طالما كانت الفلسفة تجريديا يماثل الالتقاء مع تجريدية اللغة والتي أيّد هذا التكامل كلا من هيدجر ومن بعده فوكو فماذا اضاف هذا التلاقي على صعيد البنية المضمونية بالنسبة لثيمة الالتزام بالفلسفة؟ ولماذا فشل هذا المسعى الذي عبّر عنه هيدجر وفوكو ان عوالم الشعر التجريدية وضعت بصمتها الجوهرية في تداعيات لغة اللاشعور في كل من لغة الشعر وتكاملها الوجودي الفلسفي مع لغة الجنون واعتبرا هذا التعبير الخارج على نظامية تحقيق المعنى اللغوي في التواصل هو اصدق تعبير عن عالمنا الزائف بكل شيء منها تعبير لغة الفلسفة في تضليلها العقل. واعتبرا حقيقة الوجود هو ما يمثله الجنون والشعر في تعبيرهما عن لغة تداعيات اللاشعور في تبشيرهما بعالم حقيقي جديد هو غير عالمنا الذي نعيشه..

وهذه الثنائية بين لغة الشعر السائبة بلا معنى تحت راية تقليد الحداثة الغربية، وهذاءات وغطرفة لغة المجانين في اصوات ايضا لامعنى لها في التزام نيتشة وهيدجر وفوكو الشاعر الالماني هولدرين. ان هذه النماذج من القول الفارغ بلا معنى في تفسيره المعلن والخفي هو الذي يمثل الوجود الحقيقي بما نطمح تحقيقه في ازاحة وجودنا الزائف الذي نعيشه بنفاق كاذب. ....

تعقيب حول اعجاب نيتشة وهيدجر وفوكو بتجربته الشعرية هو ان هولدرين الشاعر الالماني تحت وطأة هذا الانحراف الهستيري جاءت تجربته الشعرية في تقمص هولدرين حالة الجنون كي يصل اعماق الحفريات الدفينة في عالم الجنون وخرج بنتيجة انه تلبسه الجنون تماما. ما اثار تمجيدات نيتشة وهيدجر لتجربة هولدرين في اثباته من خلال تجربته تقمص الجنون لا حقيقة العالم الذي نعيشه وعالم الجنون الذي لا نستطيع فهمه ربما يكون اصدق من عالمنا الذي نعيشه.

11. مفارقة لم اجد حلا لها حين تجد بعض المثقفين من الادباء والكتاب والمفكرين ملائكة في طروحاتهم على الورق وفي وسائل التواصل الاجتماعي. وهم في حقيقتهم الاجتماعية والثقافية منافقون لا يردعهم رادع اخلاقي ولا ضمير في تضليل المجتمع بكل الطرق والوسائل تؤرقهم الانانية والغيرة من المبدع المثقف الحقيقي.

12. لا تعظ الناس بما لا تتعظ انت به.

13. ليس جميلا ان تجد نفسك راهبا في مجالس العرس .

14.حقوق الشعوب العربية في الحرية والامان والاستقرار والعيش بكرامة لا تقع المطالبة بها والتضحية في سبيلها على عاتق شريحة مجتمعية من المضحين حتى بدمائهم ومستقبلهم السياسي. وبالضد منهم شرائح من المتفرجين على مآسي شعوبهم.

15. صناعة الطغاة في كل مجالات الحياة انما يكون ليس في قمع الحاكم وانما في تدجين الناس في افشاء الجهل والتضليل في تخريب وعي المجتمع بوسائل برمجة ايديولوجيا التخلف.

16. نقطة الصفر بحياة الانسان هي منعطف تجربة حينما يتساوى الفشل والنجاح في تفكيره وليس في سلوكه. ونقطة الصفر بداية معرفة.

17. ان يكون محاربة الفلسفة جهلا بها فهذا عيب الجاهل وليس عيب الفلسفة.

18. المثقف الذي يدور في طاحونة ايديولوجيا العداء لمن يخالفه الراي هو شخص يسبح عكس التيار ليس سعيا الحصول على ما يفيده بل لتوكيد حماقته بالتفكير.

19. من خلال تجربتي الثقافية وجدت العداء الاعمى لي يسبق معرفتي من انا.

20 من العبث ان يحزن الانسان على مجموع اخفاقاته بالحياة ولا ينهض بعد ان وجد جوانب القصور في أخطائه هو بحق نفسه وليس مناكدة الحياة له.

21. مذهب الحلول الصوفي بالذات الالهية باطل في وحدة الوجود اذ تنعدم المجانسة النوعية بين الخالق والمخلوق.

22. كتبت بالسياسة الوطنية الصادقة فانكرتني وانكرتها وكتبت عشر سنوات بالفلسفة فاحتضنتني واكرمتني حين وجدت نفسي بها.

23. لم اجد من خلال تجربتي والاطلاع على حياة بعض المبدعين العرب الذين يسبقون ازمنتهم فلم اجد مفكرا منهم ليس له من كثرة الاعداء ما لا يقاس بمناصريه داخل بلده.

24. ثمة عبارتين للقديس المفكر دي لاسوكا الاولى " الوعي هو نوع من التحرر من الواقع" والثانية " الزمن هو بعد سببي للزمكان " تعقيبي ان الوعي هو نوع من انواع التحرر من الواقع فقط. اما ان يكون الزمن سببا في الزمكان فهو تعبير فلسفي خاطيء بدليل ملازمة الزمن للمكان علاقة محايدة وليست علاقة سببية. اما الزمن يسبق الطبيعة والمكان فهي اطروحة تحتاج البرهنة عليها. وحسب افلاطون اننا بدلالة المكان نستطيع تنظيم عشوائية الزمن.

25. ارى الوعي ليس نتاج الواقع بل هو تخليق عقلي بعدي على اسبقية وجود الواقع. والواقع الذي لا يدركه العقل لايدركه الوعي . وفي غياب موضوع تفكير العقل المادي او الخيالي لا يبقى معنى للوعي في تعطيل فاعلية العقل التفكيرية. الواقع لا يسجن الوعي كي يعمل على التحرر والخلاص منه. والوعي هو الوسيلة الادراكية العقلية لفهم الواقع ومعرفته.

26. لا علاقة تكاملية بين الوعي والواقع وليس هناك موضعة احدهما بالاخر. الوعي نتاج عقلي يختلف في علاقته بالواقع عن علاقة الحواس بالواقع فعلاقة الحواس بالواقع علاقة انطباعية وعلاقة الوعي بالواقع علاقة معرفية نتاج تفكير عقلي. كما برايي لا توجد علاقة جدلية بين الواقع والوعي بمعنى وحدة وصراع الاضداد بالمادة. الوعي توسيط نقل مقولات العقل الادراكية تجاه موضوعاته وموجودات عالمنا الخارجي.

27. الفلسفة تفكير لغوي منطقي تجريدي يحاول معرفة حقيقة الانسان والوجود.

28. كل معرفة خارج الموّرثات الجينية ال   DAN هي مكتسبة وليست فطرية. وهناك استعداد فطري عند الطفل لتعلم اللغة وليس ملكة فطرية لغوية.

29. الشعر هو اللاشعور اللغوي الذي ينظم منطق العقل وليس منطق ادراكات الحواس. والشعر الذي يمثّل الواقع بادراكات عقلية منطقية يخرج الشعر من خاصيته الشعرية في اعدامه فاعلية مخيّلة اللاشعور.

30. ماقيمة صمتك حين تكون محتاجا الصراخ. آلام الحياة لا تحتاج حكمة الصمت الذي لا معنى له. وليس كل انسان صالحا ترويضه في سيرك الاكاذيب. واحيانا يكون الصمت ابلغ في تمثيله الحقيقة الوحيدة في مواجهة زيف الحياة.

31. لعل هنري برجسون الفيلسوف الفرنسي الحاصل على جائزة نوبل بالادب هو من اشار الى اننا ندرك المكان بوظيفة الادراك العقلية البيولوجية مجردة عن الزمان. بهذا المعنى يكون برجسون الغى زمكانية ادراكنا الوجود في منحيين الزمكان ليس مادة يدركها العقل. كما ولا هو فراغا احتوائيا خارج ادراك العقل.

32. الزمن هو وعي الدلالة الادراكية والمعرفية للاشياء والموجودات والموضوعات.

***

علي محمد اليوسف

كثيرة هي اللحظات التي يشعر فيها المرء أنه قادرٌ على الفعلِ، أو قادرٌ على القيام بفعل معين، لكنه غالباً ما يواجه الكثير من العوائق والحواجز والعقبات التي تحرمه من القيام بذلك الفعل، فتكون هذه العوائق بمثابة إكراهات تمارس على المرء وتحد من أفعاله وتصرفاته واختياراته في أن يفعل ما يريده هو، لا ما تريده الإكراهات منه، فيبدو الفعل والسلوك من هذه الناحية فعلاً لا حول له ولا قوة أمام هذه الشروط التي تشرطه وتتحكم فيه، بل تحد من آفاقه الواعدة ورغباته التي يريد تحقيقها.

يوجد الإنسان وككل كائن عاقل يريد أن يخرج من الصندوق أو القفص الذي يشكل سجنا كبيراً يحد من ملكته في الفعل، حتى أنه يخال نفسه بأداء أفعال وتصرفات وسلوكات وممارسات معينة على حساب قدرته على الفعل التي هو المسؤول عن اختيارها.

غير أن كل شعور أو إحساس يدفعنا للقيام بفعل معين، هو إحساس حين يصطدم بتلك الحواجز والعوائق والعقبات الخارجية التي يكون المجتمع أولها يصبح فعلاً مدركاً وواعياً بصعوبة التحقق بسبب وجود قواعد وقوانين خارجة عن المرء تحول دون تحقيق أي فعل، ومن هنا نفهم تضاؤل مشاركة المرء في أنشطة الممارسات السياسية، لأن هذه الأخيرة في النهاية تُسَيِّسُ الفعل والسلوك الإنساني (سياسة الفعل) وتجعله في خدمة أجندتها السياسية.

لكن البحث في العوائق والحواجز والعقبات الخارجية التي تحد من القدرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة لصالح الجماعة، لا يعني أن القدرة على الفعل لا علاقة لها بالضرورات الداخلية من غرائز وشهوات ونزوات ورغبات ...إلخ، بل هناك في الحقيقة صراع ما بين الضرورات الداخلية بجميع تفصيلاتها والضرورات الخارجية سواء تلك المتعلقة بقوانين وقواعد الطبيعة أو حتى المجتمع كلاهما يتنافسان فيما بينهما من أجل الظفر بقدرة على الفعل ذي مرجعية وخلفية داخلية أو خارجية.

ورغم كل هذا، نعترف أن القدرة على الفعل تعني التخلص من كل الإكراهات الداخلية المتمثلة في الرغبات والنزوات والميولات والدوافع والشهوات والنزعات والغرائز والعيش وفق نظام أو قانون الطبيعة والمجتمع من خلال الانسجام والتلاحم مع مبدأ الطبيعة والعقل، لهذا يمكن القول أن قدرة الفرد على الفعل تعني قدرة الفرد على التحرر الذهني من كل العوائق والحواجز والعقبات سواء الداخلية أو حتى الخارجية.

كما على قدرة الفرد على الفعل أن تحاكي وتقلد وتماثل قدرة الإله على الفعل بإعتبارها قدرة كاملة وتامة، رغم كون قدرة المرء على أفعاله وتصرفاته واختياراته هي قدرة مجبورة أو مجبولة على الفعل لكنها تمتلك إرادة يمكن من خلالها التمييز بين كل فعل بغض النظر عن مصدره أو مرجعه، لأن كل فرد في نهاية المطاف محكوم بالضرورات الطبيعية كما لمحنا سابقاً، لدرجة القول أن القدرة على أي فعل كيفما كان نوعه مجبولة بالقدرات الجسدية والفكرية والعقلية والذهنية لكل فرد.

لكن هذا لا يعني الانسياق مع فكرة الحتميات الطبيعية والسيكولوجية والاجتماعية والثقافية والدينية والفكرية والإيديولوجية والقانونية والسياسية والتربوية التي تُحَتِّمُ على الفرد القيام بفعل معين دون الآخر، فالفعل في سياق الوجود أو الشرط الإنساني هو فعل بالمَعِيَّةِ أي فعل مع الآخرين، محكوم بعامل وشرط الآخر-الغير، لكن رغم كل هذا وذاك، يستطيع الفرد في بعض الأحيان القيام بفعل معين يتيح له تغيير مصير-اتجاه حياته المشتركة مع الآخرين نحو مصير ذي معنى وينعكس عليه بالفائدة والإيجاب كل هذا يأتي بواسطة الإرادة التي يمكن التعبير عنها ب: "إما أن تريد أو ألا تريد"، وبهذا المعنى تصبح كل تلك الشروط التي تشرط الأفراد شروط عَرَضِيَّةً، أي قابلة للتجاوز والزوال والصيرورة والتحول والتغير...

إن فكرة حتمية الإشراطات السَّيْكُولُوجِيَّةِ والاجتماعية والقانونية والدينية والفكرية والإيديولوجية والقانونية والسياسية والتربوية والتاريخية فكرة لا يمكن نفيها، وما قصدنا أعلاه هو محاولة الإنزلاق والتهرب منها مع كثير من التأفف والتحفظ من قولنا هذا، ودليلنا على ذلك فرضية وجود إرادة حرة ومسؤولة تختار الفعل وتصدر أحكاماً نقدية فاحصة وتمحيصية على الفعل.

يشكل مجال الفعل والسلوك الإنساني مجال ممارسة الفعل والإرادة الحرة للفعل من خلال تأصيل أفعالنا وسلوكاتنا والعودة بها إلى  العقل بوصفه ملكة الحكم والاختيار الذي يوجد، أي العقل، خارج صندوق الانفعالات والنزوات والميولات والدوافع والرغبات والنزعات والغرائز والشهوات.

لكن ألا يعني هذا إقصاءً وتهميشاً لملكة أخرى تنافس العقل هي ملكة الإنفعالات، فالإنسان عقل لكنه أيضاً وفقاً لسبينوزا كائن رغبات وإنفعالات ونزوات وغرائز وشهوات ولذات ودوافع ونزعات وخيالات وأحاسيس ومشاعر ...إلخ، فلا يمكن إقصاء البعد المادي الحسي-الغريزي في الإنسان، فنحن لسنا بروبوتات يتم تعديلها على مستوى العقل وفقط، بل لابد من الشهوات والرغبات والنزعات والغرائز التي تظل لصيقة بتفصيلات الحياة لإشباع وتحقيق اللذات والسعادة، ولابد للقدرة على الفعل أن تكون لصيقة بالحياة وإلاَّ سيتحول كل الأفراد إلى آلات وروبوتات معدلة قبلياً.

لا يمكن الشعور بالقدرة على الفعل، إلا في سياق التعرف من الناحية القانونية والتشريعية على ما أستطيع أن أقوم به، هناك قانون يتحكم في جميع القدرات المتاحة لي على الفعل، كما أن هناك قوانين وقواعد اجتماعية وأخلاقية وقيمية ودينية تشرط أيضاً قدرتي على الفعل، ولا ننسى أن هناك قرارات سياسية تطبق على الأفراد من أجل تنظيم مجالهم الإجتماعي والسياسي، وهناك تربية وتعليم هما عبارة عن سلطة قاهرة مورست علي منذ نعومة أظافري هي من تحدد كل القدرات المتاحة لي على الفعل، وهذه النُّظُم والبُنَى والاشراطات السيكولوجية والاجتماعية والقانونية والدينية والفكرية والإيديولوجية والثقافية والبيولوجية والسياسية والتربوية والتاريخية ...إلخ، هي وحدها التي يمكن أن تضمن قدرات الأفراد على الفعل.

لكن هل يتيح لنا كل هذا القول بأن القدرة على الفعل أصبحت شيئاً مستحيلاً وغير ممكن التحقيق؟ لا. رغم قولنا بأن هناك اشراطات تحد بواسطة نظمها التنظيمية القدرة على الفعل والسلوك، وذلك على اعتبار أن القوانين لا تروم إلا غاية واحدة هي تقييد واستعباد الأفراد داخل منظومة معينة، مما يتيح تقويض وتقييد التجربة الذاتية للأفراد علماً أن تجارب الأفراد متنوعة ومتعددة فهناك تجربة داخلية يعيشها مع ذاته، وهناك تجارب غيرية خارجية يعيشها مع الآخرين، ولهذا يجب علينا أن نحافظ أو نوافق بين القدرة على الفعل والسلوك والمحافظة على النظام.

إن الانطلاق من مسلمة أن القدرة على الفعل والسلوك حق لكل الأفراد داخل نظام الدولة والمجتمع بكل تفصيلاته القانونية والتشريعية والسياسية والإدارية ينظمان مجال القدرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة، وبالتالي يحددان -أي القوانين- مجال تعايش القدرات فيما بينها البَين.

هذا الحديث عن مجال لتعايش القدرات هو الذي يثير إشكالية تعالق وترابط الذوات فيما بينها البَين، وأن أي محاولة للعزل هي محاولة غير قابلة للتحقيق.

إن الأفراد لا يمكن فهم وإدراك قدراتهم على الفعل إلا في سياق الفعل كفعل تطبيقي بمعناه المُمَارَسُ، ومعنى أن تكون قادراً على الفعل هو أن تكون ممارساً لفعلك بكل حرية واختيار بشكل ملموس ومحسوس بمعناه المادي، ولا يمكن أن نستثني هنا حتى إقامة العلاقات مع الآخرين، ذلك أن تلك العلاقات هي تعبير قوي عن القدرة على الفعل والممارسات الملموسة بين الأفراد، في المجالات العامة أو حتى الخاصة، والانتقال السلس للفعل بين الأفراد من الحرية إلى تحقيق الحب والصداقة والسلم والأمن والأمان والاستقرار والطمأنينة والحماية، فيجب في إطار العلاقات بين الأفراد أن تكون علاقات تشعر فيها كفرد بالأمان هذا هو الشرط الأول والأساسي لتحقيق القدرة على الفعل.

يطرح التفكير في إشكالية القدرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة رهانات فكرية ودينية وسياسية وإديولوجية وابستيمولوجية وتكنولوجية-تقنية واجتماعية وثقافية واقتصادية وأخلاقية عديدة ومختلفة، خاصة وأنه كما لمحنا تشكل هذه الرهانات شروطاً في بعض الأحيان، في حين تتخذ شكل أعراض زائلة ومتغيرة ومتحولة وسائرة ومتدفقة وسيالة في أحيان أخرى، فَيُثَارُ الإشكال من وجهة نظر قيمية، بمعنى هل تشكل القدرة على الفعل قيمة وغاية يسعى ويطمح إليها كل فرد وكل جماعة، أم أن غياب القدرة على الفعل تعني غياب وجود الأفراد الفاعلين نظراً لإنتفاء وغياب الحرية، بل نصرح أن قدرة المرء على الفعل دليل على قيمة وأهمية هويته الأساسية والجوهرية التي هي دليل على نواة وجوده الفعلي.

ولهذا حاولنا مجاوزة القدرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة، بالإنتقال والدعوة إلى مفهوم آخر أكثر دقة وفعالية وإجرائية منه هو الفاعلية البشرية وواجهنا في الحقيقة  صعوبة نقله إلى اللغة العربية، ذلك أنها تحيل إلى الفعل الإنساني ولهذا لا فرق بين القدرة على الفعل والفعل الإنساني، لكن نحن نعني بالفاعلية الإنسانية القدرة على الفعل والسلوك العملي معاً، كما تحيل أيضاً إلى الإبداعية الفردية الذي يحيل إلى قدرة الفرد على التصرف بفاعلية وفعالية والتأثير الإيجابي الفاعل في العالم والآخرين، لكن كان قصدنا بالفاعلية الإنسانية كل ما له علاقة بالإبداع البشري

La créativité humaine, L'inventivité humaine, La production créative, La création active, L'acte de création,

L'Innovation créative, La créativité innovante,

L'industrie créative,

La création ex nihilo

La volonté active,

L'acte créateur,

L'action créative, L'énergie créatrice et l'activité créative,  La force créatrice et le dynamisme créatif.

كل هذه المصطلحات باللغة الفرنسية أعلاه تفيد معنى واحداً ووحيداً وتعبر تعبيراً قوياً عن غرضنا من إستعمال مصطلح الفاعلية البشرية وهي تفيد:

الإبداع البشري، الإنتاج المبدع، الخلق الفاعل، الإبتكار الخلاق، الصناعة المبدعة ،الخلق من عدم ،الإرادة الفاعلة ،الفعل الفاعل ،الطاقة الخلاقة والنشاط المبدع ...إلخ.

ورغم كل هذه المرادفات التي لها نفس معاني مفهوم الفاعلية البشرية، إلا أننا نعترف بلبس وغموض هذا المصطلح الذي يحيل إلى القدرة على الفاعلية والإبداع والممارسة أكثر، فيقوم هو أيضاً على قدرة الإرادة على فعل وخلق ما تريد أو ما يجب عليها القيام به في حدود الإمكانات والوسائل المتاحة إليها، ذلك أن كل إختياراتنا وسلوكاتنا في الحياة هي اختيارات تتأسس على ما هو متاح وممكن لنا في سياق وضعية معينة، ومن خلال الفاعلية والإبداع يمكن تغيير اتجاه ومسار بل ومصير الحياة، من اتجاهها القدري أو المشروط عليَّ إلى اتجاه ثان أنا المسؤول عن اختياره، أي أنا الذي قمت به بواسطة قدرتي على الفعل والسلوك التي تتيح لي أيضاً تحديد المسارات التي سأسلكها في حياتي لكن من اتجاهات مختلفة.

تجذر الإشارة هنا إلى أن الفاعلية والإبداع البشريين يتيحان فرصة تعرف الفرد أو طرح سؤال المعنى والدلالة ودوره في هذه الحياة، وتعود بنا فكرة الفاعلية والإبداع إلى الدلالة الوجودية للإنسان وطبيعتها الخلاقة في العالم من خلال القدرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف بتوجيه من العقل وفقط، هذه الملكة الأخيرة تتيح شرط اختيار ما هو حسن بناء على مقتضيات القانون الذي يشكل في الحقيقة الزاماً يشمل كل الأفراد داخل المجتمع، ورغم كل هذا فالفاعلية والإبداع والممارسة البشرية تتيح إمكانية تجاوز الفهم والإدراك الخاطئ للامشروط الذي يوجد خارج كل تجربة حسية.

وهذا ما يفسر دفاعنا المستميت ودعوتنا إلى إرادة الإبداع في الحياة الخلاقة، لأن الإشراطات السالفة الذكر، تحاول فقط إنكار قدرة الفرد على الفعل، وفي بعض الأحيان إنكار أفعاله وتصرفاته واختياراته في الحياة وانتقاد قدرة العقل على بلوغ اليقين والحقيقة، ويمكن رد كل هذا إلى الشرط الأخلاقي والقيمي والديني أيضاً الذي يغلق الباب أمام كل شكل من أشكال الفاعلية والإبداع الخلاقين.

لا يمكن للقدرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة أن تتحقق إلا داخل مجال الفاعلية البشرية من خلال فعل ما يجب أن نفعله أو ما نريده، ونتحمل مسؤولية ذلك، فمبدأ تحمل المسؤولية يعني ألا نُجْبرَ على فعل ما لا يجب فعله أو ما لا نريد فعله، ويجب أن نظل نعتقد أن مجال الفاعلية البشرية مجال مشروط، لكنه أيضاً مجال، كما سبق وأن أشرنا، يتجاوز شروطه، من خلال القدرة في القيام بكل ما تسمح به تلك الإشراطات، وتنتفي أو تنتهي الفاعلية البشرية في حالة انتفاء هذه الإشراطات مادام حَدَثَ وأن ثم رفع هذه الإشراطات خاصة الشرط القانوني الذي يشرط المجال العام.

وعلاوة على كل هذا، وتأكيداً منا على إلزامية الشرط القانوني، نضيف أيضاً أن الإشراطات الأخرى هي ما تتيح التحقق الفعلي للفاعلية البشرية داخل هذا العالم، الذي يتيح لنا رغم كل هذا إمكانية الفعل وفق ما هو متاح وممكن لنا دائماً.

وكل قدرة على الفعل هي قدرة على المبادرة والاختيار والإستقلال الذاتي والحر والمبدع والمستقل للفرد، لهذا نؤكد على أهمية وقيمة الفاعلية والإبداع والممارسة الإنسانية كونها ممارسة تخرجنا من الصندوق ومن أسطورة الإطار أو حتى من ذلك القالب الذي يفرغ فيه جميع الأفراد اللذين يتم تحويلهم إلى نمط واحد، فالفاعلية ضد الجمود والجاهزية والقوالب المسكوكة والفارغة والجاهزة التي تقتل الإرادة الفاعلة للفرد وتطلعاته الخاصة.

لابد في الختام، أن نحدد، ضد الحس المشترك، أن العبارة "القدرة على الفعل" لا تعني البتة "أن يكون الفرد حراً حرية مطلقة ويفعل ما يريد وما يرغب بدون قيود"، بل تعني في الحقيقة، "أن يضع الفرد خطة أو إستراتيجية أو حتى سياسة للفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة من خلال اختيار عقلاني مسؤول"، وبعبارة أخرى، لا أريد من قارئ المقال، أن يفهم أنني أقصد بالقدرة على الفعل أو بالفاعلية الإنسانية أن يفعل الفرد ما يشاء، وإن كان فهمه هكذا، فينصح بإعادة قراءة المقال، مرات ومرات، لأنني كتبت ما أعنيه ما بين السطور، كما لا أريد تحديد الفرد من خلال الإشراطات الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية والقانونية والدينية والفكرية والإيديولوجية والثقافية والبيولوجية والأخلاقية والعلمية والقيمية ...إلخ، وإلا سيصبح الفرد سجين منظومة من الإشراطات، بينما أدعو في الحقيقة إلى "قدرة الفرد على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الخلاقة لتحصيل الغايات الذاتية المختارة بتوجيه من العقل وفقط"، هذا ما كنت أريده منذ بداية المقال، وهو تحديد الاستقلال الذاتي والحر للفعل من حيث هو فعل يتحول بإستمرار إلى فاعلية إنتاجية خلاقة وواعية ومبدعة تتيح له إمكانية التحقق بغض النظر عن كل الإشراطات.

***

بقلم: محمد فرَّاح

 

الذي يتمّعن بادبيات وتنظيرات فلسفة الظواهر (الفينامينولوجيا) يعثر على العديد من المتناقضات الفلسفية التي تدور في حلقة دائرية مفرغة من المعنى المنطقي الفلسفي الذي نعرض بعضها بهذه المقالة.

اعترف احد فلاسفة الظواهر التي جاء بها هوسرل قائلا " ان الوعي الذي تحلله لنا فلسفة الظواهر ليس بأي حال من الاحوال وعيا منخرطا في الواقع او وعيا متضمنا في التاريخ" نقلا عن دكتور زكريا ابراهيم.

وطبيعي جدا ان يتهم الماركسيون بان الوعي الظاهراتي خرافة لا معنى ولا وجود حقيقي له في الفلسفة الظاهراتية. وفلسفة الظواهر ليس لها قيمة حسب الماركسيون لانها خارج الزمن والواقع والتاريخ.

رغم ان هوسرل اراد الاقتراب فلسفيا جدا من العلم كما فعل من قبله ديكارت واسبينوزا وبيرتراند راسل وجماعة حلقة اكسفورد المنطقية الوضعية التحليلية التجريبية. الا انه سرعان ما يسقط في براثن المثالية الفجّة حين يجد في الوعي الذهني هو الذي تحمل قصديته المعنى التي يسقطها على الواقع والتاريخ والطبيعة.

اي ان الواقع بموجوداته وعالمنا الخارجي بمحتوياته ومواضيعه لا معنى لها مالم يتناولها الوعي القصدي الظاهراتي بمعرفتها هو وليس باستقلالية موجودية تلك الموضوعات ان يكون لها معنى خارج تناول الوعي القصدي لها. ومن بديهيات التفكير العلمي ان المدركات المادية هي التي تمنح الفكر معنى مايقوله ويعرفه. ولا يوجد فكر بلا موضوع له معنى.

يذهب هوسرل في فلسفة الظواهر ان مواضيعها هي التي يحددها الوعي القصدي وليس هناك من موجودات لا في الطبيعة ولا في الانسان ولا في عالمنا الخارجي فهي غائبة وجودا بغياب الوعي القصدي لها.. وهذا خطأ انك لاتعترف بوجود الاشياء قبل التفكير القصدي المراد تحقيقها بموضوعات الادراك.

هذا معنى تعبير احد فلاسفة الظواهر قوله الوعي القصدي غير منخرط لا في الواقع ولا في الطبيعة ولا في التاريخ. سبق للثلاثي ديفيد هيوم وجون لوك وبيركلي اقطاب المثالية المنطقية التجريبية انكارهم وجود عالم خارجي خارج التفكير الذهني. الغريب ان هؤلاء الفلاسفة تجريبيين اي يؤمنون بالعلم ومخرجاته.

تعترف فلسفة الظواهر ان مواضيعها هي التي يحدد موجوديتها ومعرفتها الوعي القصدي. ولا قدرة لتلك الموضوعات الموجودة مستقلة عن التفكير الذهني الافصاح عن ذاتيتها الموجودية. ويوجد فرق كبير ان تقول مع سيلارز الوجود لغة. وبين ان تقول لا وجود خارج منطق اللغة.

وتنكر فلسفة الظواهر المواضيع الصدف وما يصفها هوسرل بالمواضيع الغفل التي تقاطع الادراك بها من دون وعي قصدي سابق عليها يمنحها معنى وجودها. كما تعتبر الوعي القصدي هو الذي يحدد المعنى في الموضوعات وفي الموجودات.

وتعقيبنا على هذا الخطأ اذا ما كانت  الموضوعات بلا معنى وجودي بذاتها فما الداعي للوعي القصدي الذي مصدره العقل الاهتمام بها ومحاولة إضفاء المعنى عليها. خاصية العقل انه يدرك الاشياء والموضوعات التي لها معنى وأهمية في وجوب معرفتها. فالوعي القصدي لا يدرك ولا يهتم بموضوعات لا معنى لها. وحين نقول موضوعات لا معنى لها فهذا يعني ابطال فاعلية العقل من جهة وانعدام وجود موضوعات يدركها العقل او الوعي القصدي من جهة اخرى.

كما لا تفرّق فلسفة الظواهر بين الحقيقة والمعرفة وقد تناولت ذلك بتفصيل في مقالة سبقت. يوجد فرق كبير بين الحقيقة كمفهوم مطلق وبين المعرفة كمصطلح متفق عليه. تحدده ابعاده العلمية والادراكية العقلية والتجربة المختبرية او التطبيقية. اما المفهوم المطلق الذي تنطبق عليه الحقيقة فهي موضوعات نسبية من السيرورة المتغيّرة باستمرار ومنهج محاولة التحقق منها هو الميتافيزيقا. نستطع القول ان المصطلح يقبل تراكم الخبرة الكميّة. والحقيقة تقبل التراكمات النوعية التي ينفي لاحقها سابقها.

هوسرل اعتبر الانا محورا مركزيا خالقا للتراكم المعرفي عبر التاريخ. حين جعل من كل ما وصلنا كموروث من الماضي هو خبرة مصنوعة قبل علمية . وكانت للانا الفردية بصمة في تركيبتها ودفعها في مسار التقدم بالمتراكم. واشار هوسرل الى اهمية توحيد العقل والجهد الجماعي في تطور العلاقات البشرية فالتاريخ البشري وتطور الموروث الانساني حينما يصلنا ونتاوله بعيون الحاضر الذي نعيشه. ولم يذكر هوسرل هل يعني بهذا الموروث الحضارة ام المعرفة الانثروبولوجية مجردة. بل اكتفى الاهابة بعالم ماقبل العلم وهو ما اهتم به الفيلسوف البنيوي ليفي شتراوس في دراسته اثنولوجيا الاقوام البدائية التي ليس لها تاريخ. اي دراسته حياة الاقوام البدائية قبل اختراع الانسان التدوين الرمزي واللغوي.

وقد كان أحيا هذه الفكرة التي ترجع اصولها للفسفة اليونانية كلا من ليفي شتراوس وفوكو وفلاسفة البنيوية تحديدا في مقولتهم الانسان هو الانسان منذ الاف السنين والى يومنا هذا من حيث الحاجات الاساسية التي شغلت تفكيره التي لم تتبدل وتتغير. وكان سبق  ان قال هذه الحقيقة انضج مما جاءت به البنيوية برتوروغوراس 540 ق.م " الانسان مقياس كل شيء".

طبعا نسبية صحة مصداقية مقولة الانسان هو الانسان من حيث الطبيعة البايولوجية فقط. سواء اكان ذلك في الاشباعات الغريزية او الاشباعات التي التي يمليها ويفرضها التطور الانثروبولوجي وقضاياه ومشاكله بالنسبة للانسان بما هو كائن مؤنسن بالطبيعة والتجمعات الاقوامية البشرية على ضفاف الانهر واكتشافه الزراعة.

طبعا من المعروف جيدا ان الفلسفة البنيوية وليدة فلسفة مابعد الحداثة وادبياتها التي اول فلسفة فرنسية تمسكت بادبياتها وطروحاتها التي على راس وقمة الهرم شنها الهجوم القاسي ومحاربتها لما اصطلح عليه السرديات الكبرى بخاصة السردية الماركسية ممثلة بعمودها الفقري كتاب راس المال الذي شن عليه هجوما بنيويا كلا من شتراوس والتوسير مع آخرين. والسردية الاخرى التي اصابتها البنيوية باكثر من مقتل واحد هو السردية الدينية التي كانت الارهاصات الاولى لهذا المنحى بدأه سبينوزا وكانط في القرن الثامن عشر ثم تلاهما اقطاب الوجودية بزعامة سارتر الى ان وصلت البنيوية في التركيز على مهمتين الاولى تمثلت في انكار المعجزات الدينية والمهمة الثانية الهجوم على رجال الدين وإبعاد هيمنة الكنيسة على الحياة. المفارقة ان البنيوية حاربت العقل واللغة والانسان وكل معطيات ما جاءت به الحداثة. وانشغلت فترة نصف قرن بفلسفة اللغة ونظرية التحول اللغوي وفائض المعنى. قبل انتقالها بهوس محموم مهاجمة كل شيء قامت عليه الحداثة والانوار.

وتعتبر فلسفة الظواهر العالم الذي نعيشه عالم هجين شاركت بصنعه اجيال متعاقبة وان حركة التاريخ هي نتاج عمل جماعي. لكن التناقض الذي يمر به دكتور زكريا ابراهيم قوله :( الفلسفة الفينومينولوجية تجريد ينأى بنفسه عن الابعاد الخصبة للوجود البشري. ويجعل منها نظرا عقليا خالصا بعيدا كل البعد عن الواقع الانساني).

لكي نكون منصفين لا يوجد فلسفة التزمت قضايا الانسان خارج تجريد الفلسفة اللغوي ساسثناءات  ثلاث فقط هي:

1. الفلسفة الماركسية حين انتقلت من التجريد الى تطبيقات الاقتصاد السياسي. كي تخلص من تجريد الفلسفة غير القابل للتطبيق حيث اطلق ماركس عبارته الشهيرة وجدت الفلاسفة يفسرون التاريخ في وقت كان مطلوبا منهم تغييره.

2. الفلسفة البراجماتية الاميريكية حين انتقلت الى تبني المنهج الديمقراطي الليبرالي الراسمالي الذي تتوّج بالامبريالية واخيرا بالعولمة في مقولة نهاية التاريخ.

3. الفلسفة الوجودية حين انتقلت بريادة سارتر الى تطويع التنظيرات الفلسفية في الاجناس الادبية بدءا بالشعر ثم بالقصة والرواية واخيرا بالنصوص المسرحية ونال سارتر عليها جائزة نوبل بالادب وليس بالفلسفة. رغم عدم استجابته لاستلامها كما فعل برجسون تحويله بعض التصورات الفلسفية الى اعمال ادبية ونال جائزة نوبل بالادب واستلمها.

لا يمكننا ادانة فلسفة الفينامينالوجيا فلسفة تجريد بعيدة عن الاهتمام بقضايا الانسان المصيرية. فمثل ما فعله هوسرل فعلت غالبية التيارات الفلسفية التي تفرعت عن التحول اللغوي وفلسفة اللغة مثل الفلسفة البنيوية وفلسفة الهورمنوطيقا لدى بول ريكور وكذلك إستراتيجية التقويض والهدم لدى جاك دريدا. ونجملها بالفلسفة الوضعية المنطقية التحليلية حلقة اكسفورد بزعامة بيرتراندرسل قوله لا يوجد التزام بالفلسفة واعتبر ثيمة المنفعة التطبيقية بالحياة في فلسفة الاميركان الذرائعية بانها فلسفة نذلة وخسيسة.

وفي فهم هوسرل ان (الانسان ذات وموضوع في وقت واحد) التي أخذها عن شوبنهاور , هو فهم صحيح بالنسبة للانسان وحده كوجود مستقل عن الاخروعالم الاشياء الخارجية المحيطة به تماما,  في ادراك الانسان ذاته ووعيه بها عندما يتأمل وجوده كموضوع , الموضوع المتداخل مع ذاته في كينونة مستقلة واحدة تجمعهما, اما في حال ادراك الانسان للمواضيع والاشياء الخارجية عنه, فهنا تكون الذات والموضوع كلا منهما وجودا مستقلا عن الاخر, وفي استقلالية وجودية احدهما عن الاخر, ولا تبقى الذات والموضوع واحدا في وحدة اندماجية لا يتم التفريق بينهما.او يتعذر ذلك الفصل المطلوب بينهما.

ان في تأكيد هوسرل ان الذات المفكّرة لا تنفصل عن موضوعها,وان كل مالا ندركه ليس له وجودا, خطأ جوهري كبيروسنوضحه لاحقا. عدم انفصال الذات عن الموضوع كما يريده هوسرل يعني استحالة الوعي العقلي والاحساس بالاشياء, وبالتالي استحالة تفكيرية ايضا في محاولة ادراك الشيء حسيا او تخييليا. الموضوع او الشيء المراد ادراكه والتفكير به يحتاج الى مسافة رصد ومعاينة من قبل الذات لتحقيق الوعي به ومن ثم التفكير به. وفي حال اندماج الذات بالموضوع وتلاحمهما من غير مسافة رصد بينهما يكون فقط في استحالة معرفة الشيء ووجوده والتفكير به.

فكيف للذات ان تفكر في وعي ذاتها والتفكير في وعي الاشياء من حولها وهما كليهما في حالة اندماج وتناوب وظيفي في احلال احدهما محل الآخر او في اندماجهما معا في التفكيرالواحد او المتباين باختلاف الموضوع . ان الذات تكون مرة ذاتا تعي وتدرك ذاتها,واخرى تعي وتدرك موضوعاتها في وقت واحد ليس تراتيبيا, بمعنى وعي الذات تتداخل في وعي موضوعاتها معا في وقت ولحظة واحدة, وتختلف الذات عن موضوعها في كيفية الادراك المتبادل بينهما, وهذا يوجب علينا تفريق الذات عن الموضوع وليس كما يرغب هوسرل.  (انه لا معنى في تفريق الذات وفصلها عن الموضوع.) هذا الافتراض يعدم حقيقة ان العقل والتفكيروالحس والخيال والذهن واللغة كينونة ادراكية واحدة في انسان واحد.

عزلة الفيلسوف هوسرل

في كتابي (فلسفة الاغتراب) طبع ثلاث طبعات كنت ذكرت فيه ان عزلة الفيلسوف المجتمعية بمعنى الاغتراب Alienation هي ظاهرة ايجابية. تختلف عن الاغتراب المجتمعي السلبي الناقم الكظيم عند بعض الافراد العصابيين او لدى شريحة اجتماعية معينة كما تناولها ماركس في فلسفته  اغتراب العمل واغتراب راس المال والطبقة العاملة وهكذا.

ونقل لي احد طلاب الدراسات العليا في جامعة الموصل انهم لاقوا تعنتا وتزمتا في مصادرة الاساتذة المشرفين والمناقشين لاطاريحهم ان يكون الاغتراب ظاهرة ايجابية تخص فقط الفلاسفة والمفكرين وبعض الادباء والفنانين على اختلاف تخصصاتهم في الفنون التشكيلية. (احيل القاريء الى الفصلين الخامس بعنوان الاغتراب والصوفية والفصل السادس الاغتراب في الوجودية الحديثة من كتابي المشار له فلسفة الاغتراب يجد فيه تفصيلا مجزيا مستوفيا لمصطلحي الذي نحته بعنوان الاغتراب الايجابي). المهم الطلبة الذين اخذوا ما اسميته الاغتراب الايجابي في تمسكهم الحرفي عما كتب عن الاغتراب بالفلسفة الغربية المعاصرة وقرأوه مترجما.

وكان احد المتابعين لفلسفة هوسرل الفينومينولوجية قال له يبدو انه لم يكن لقضايا العالم الخارجي نصيبا مؤثرا في فلسفته المغرقة في التجريد وهو يحاول ايجاد توليفة فلسفية تضم الفلسفة والعلم.

ليس دفاعا عن هوسرل في تماديه بالتجريد الفلسفي وانما انسجاما مع ماذهبنا له حول حقيقة الفلسفة تجريد منطقي غير ملتزم قضايا الانسان. عليه لا يمكننا ادانة هوسرل على القطيعة الاغترابية عن المجتمع وتاريخ الفلسفة باكمله هو تاريخ تجريد منطق اللغة الاغترابي عن الحياة اذا جاز لنا التعبير.

العزلة المجتمعية هي عند الفيلسوف اغتراب ايجابي مارسه الفارابي وابن سينا والمتصوف السهروردي وابن طفيل والمعرّي وعديدين غيرهم وما لا حصر لهم من فلاسفة ومتصوفين ومفكرين وفنانين عالميين.

هذا العزلة المجتمعية الاغترابية هي مبدعة ومنتجة بنفس الوقت. العزلة الاغترابية تشبه الى حد بعيد مقولة شبنجلر (التحدي والاستجابة) في نظريته حول نشوء الحضارات ومروها بمرحلة الشيخوخة والاضمحلال تاركة المجال امام الجديد المستحدث حضاريا من اخذ دوره التاريخي.

فالظروف القاسية التي تمر بمجتمع ما حتما تنعكس صورتها بابعاد اكثر مما تستوعبه الشرائح الاجتماعية المستلبة الحرية والحقوق التي ينوب بتمثيلها الفيلسوف او المفكر او السياسي او الفنان كلا باسلوبه الخاص به في التعبير عن هذه العزلة والاغترابية التي يعيشها ليس من اجل تحقيق ذاتيته بل من اجل الدفاع عن قضايا مجتمعه.

وحتى اغتراب بعض الناس العاديين من غير المنفصمين نفسيا بشزروفينيا مرضية هم ايضا يمارسون الاغترابية الايجابية في ادانتهم للحاكم او صاحب وسائل الانتاج الراسمالي الذي يسلبهم حقوقهم المشروعة كبشر يسعون لحياة كريمة هم وعوائلهم.

الماركسية وهوسرل ثانية

في مقالة لي سبقت تناولت الادانات العديدة لفلسفة الظواهر لهوسرل من قبل الماركسية التي اعتبرت الفينامينالوجيا تقليعة فلسفية طارئة مصيرها الزوال والاندثار. منها اتهام هوسرل انه عمد الى فصل الذات عن الوقع الاجتماعي وعن الفاعلية التكنيكية والصراع الطبقي والوضع التاريخي والوجود المادي الشامل في الطبيعة. وهنا اقتبس عبارات دكتور زكريا ابراهيم قوله : يبدو ان تلامذة هوسرل انفسهم قد فطنوا الى هذا الضعف. فقد كتب اوجين فنك يقول "هل باستطاعة الانسان المتفلسف ان يتهرب من السبيل التاريخي الذي انتهجته الفلسفة عامة. حينما لجأ هوسرل الى نهج الابتعاد عن الابعاد الخصبة للوجود البشري . ويجعل من الفينامينالوجيا سذاجة لا تاريخية ولازمنية تمثل الركيزة النهائية لفلسفة هوسرل ".

الحقيقة اننا يمكننا التعميم ليس بتبعية عمياء لفلسفة هوسرل كما اشرت له سابقا ان الفلسفة في مجمل تاريخها عدا الماركسية والذرائيعة الامريكية وتطويع سارتر الادب لفلسفته ماعدا هذه التحولات الانعطافية الفلسفية الثلاث التي اشرت لها في سطور سابقة من هذا المقال. فلا نعثر على تجرد فلسفي ينتصر لالتزام حياة الانسان بما يعيشها. اللاتاريخية واللازمنية التي دمغت بها فلسفة هوسرل الفينومينولوجية لا نعثر على فلسفة هي ليست لاتاريخية ولا زمنية طوال العصور . والسؤال لماذا؟

والاجابة كون خاصية الفلسفة انها فضاء لغوي تجريدي مفتوح يقبل الاضافات التراكمية (النوعية) ولا يلغي حاضرها ماضيها. اننا لو نظرنا بدقة لتاريخ الفلسفة لوجدناه جزرا متناثرة وليست مترابطة.

لقد حاول ميرلوبونتي وهو تلميذ هوسرل تلافي النقص اللاتاريخي واللازمني في فلسفة الظواهر وفشل بهذا المسعى فشلا ذريعا. ولم يكن العيب في القدرات الفلسفية لميرلي بونتي بل يعود الفشل الى طبيعة الفلسفة وليس قصور تفلسف الفلاسفة. الشيء الاهم ان جميع المشتغلين والمهتمين بالفلسفة انما يكتبون عن تفسيرات تاريخ الفلسفة برؤى جديدة ربما تكون نقدية كما افعل انا بكتاباتي وازوغ عن المنهج الاكاديمي الجامد وعن المنهج الاستعراضي المنذهل بعصمة الفلسفة الغربية المعاصرة ولا يذهله تساؤل لماذا لا امارس النقد والتحليل والاضافة الفلسفية؟

***

علي محمد اليوسف

مُنذ القدم تعلم الإنسان على استخدام الوسيلة لتحقيق هدفه، أو تصنيع حاجته، كما أن كل صنعه أو علم يتصف بوجود وسيلة أو أداة للتحقق، فأداة الصياد آلة مصنوعة لهذا الغرض، وأداة الفلاح آلة مصنوعة لغرض الحرث أو الزرع وهكذا هي المهن أخرى. فأداة العالم هو التحقق من خلال التجربة. أما الفيلسوف فهل هو العقل؟

الاغلب يظن أن العقل هو الأداة الأولى للفيلسوف، لكن مع ديكارت صاحب مذهب العقلانية يرى أن العقل هو افضل قسمة بين الناس ويجب أن نعود للعقل لفهم حقيقة حياتنا والعالم. ويؤكد ديكارت أن المشكلة في اختلاف المعرفة ليست في العقل، بل في كيفية استخدام العقل، إذن الفيلسوف يتميز عن الناس بأسلوب التفكير وليس بالعقل .

كما أن اسلوب التفكير عند الفيلسوف يحتاج إلى منهج، والمنهج يحتاج أسس، والأسس مستمدة من المعارف، والمعارف كثيرة منها فيزيقية (طبيعية) وبعضها ميتافيزيقية (ما بعد الطبيعة)، فالأسس شاملة وعمومية، أما المنهج فهو خاص بكل فيلسوف، فالمثالية منهج أفلاطون والواقعية منهج أرسطو، والتوفيقية بين الدين ومنهاج الفلسفة قديمًا كان منهجا لفلاسفة العصور الوسطى، والعقلي منهج ديكارت، والحدسية منهج برجسون، والتجربية منهج هيوم، والنقدي منهج كانت، والمادية التاريخية منهج ماركس، والتحليل النفسي منهج فرويد... إلخ.

لذلك لا يمكن عد العقل أداة الفيلسوف، بل آلية استخدامه هي التي تحدد الفيلسوف عن عامة الناس والخوض في العلوم الأخرى، بل يمكن عد العقل أداة التفكير بشكل عام، فهناك من يستخدم عقله من أجل أيديولوجية معينة وهم أصحاب الفلسفات الزائفة، وهناك من يستخدم عقله في علم معين سواء كان علم طبيعي أو ديني وفق محددت ونظريات، وهناك من لا يستخدم عقله إلا لغرض معين مثلاً في التجارة أو الصناعة، لأنها يرها مبتغاه من هذا العالم. أما مبتغى الفلسفة والفيلسوف فهو مختلف عن كل مما ينطوي تحت مبتغى معين. فهو الباحث عن ما ينبغي أن يكون عليه العالم.

وتختلف رؤى الفلاسفة باختلاف العصر، واختلاف المواقف العالمية، وتطور الوعي والعلوم وانعكاساتها على المجتمع كفرد ودولة، والتغيرات التي تطرأ كضرورة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو وثقافية أو دينية، أو أزمات عالمية من أمراض وبائية أو حروب سياسية.

فالفيلسوف لا يكتفي بالوعي في ميدان تفكيره وعمله، بل يدخل في اللاوعي وآليات استحواذه على الإنسان، ولا يتحدد بالطبيعي ليربطه بما بعد الطبيعي وان الثاني يؤثر في الأول، وتطور معرفتنا بالثاني يحدد فهمنا لهذا العالم والكون. ولا يرتبط بعلم معين، بل يدخل في جميع العلوم من أجل الوصول لحقيقة. ولا نقصد بالحقيقة في الفلسفة الحقيقة المطلقة فقط، بل لكل بحث في الفلسفة حقيقة يبحث عنها الفيلسوف، لذلك الحقائق نسبية في الفلسفة والكل خاضع للشك والتغير.

فأداة الفيلسوف ليس العقل، بل منهجه الذي يختطه لنفسه، لكن هناك بديهيات فلسفية يشترك بها كل فيلسوف منها الشك، والنقد، والجدل، والفحص، والتفكيك، والبناء والعمومية، وعلى ذلك اعتمدت فلسفات ما بعد الحداثة لضرورة زمانية عندما امتزجت الفلسفة بالعلوم.وتفردت عنها علوم أخرى.

فأصبحت أداة الفيلسوف معقدة وممتدة وواسعة، فبعد ما كانت تبحث في العموميات البسيطة، أصبحت تبحث في الجزئيات المعقدة بلغة ادغار موران، فنحن أمام عصر الفلسفات الممتدة المرنة أو السائلة بلغة باومان، وقد يظن البعض أن هذا موت الفلسفة وتشتتها، لكن هذه هي طبيعة التفكير الفلسفي مع المنهج وضده، متغيرة غير ثابتة، محركة ومتحركة. ولا نعلم طبيعتها غداً. فالفلسفة إبداع، قائم على تجديد العقل بأدوات العصر.

وخير مثال يوضح فكرتنا هي الفلسفة البرجماتية ذات النزعة الاداتية التي تبنها الفيلسوف الأمريكي جون ديوي وملخصها المعرفة أداة للعمل ووسيلة للتجربة، كما إن المفاهيم والنظريات مجرد أدوات مفيدة، وقيمتها لا تقاس بكون المفاهيم والنظريات صحيحة أو خاطئة. أو ما إذا كانت تصور الواقع بشكل صحيح، ولكن من خلال مدى فعاليتها في شرح الظواهر والتنبؤ بها. والحقيقة ليست ثابتة ولكنها تتغير مع تغير المشكلات، ونجاح الفكرة يتم من خلال قدرتها على إيجاد حلول للمشكلات التي تواجه البشر، وقيمتها بالتالي تتحدد بوظيفتها في التجربة الإنسانية.

***

كاظم لفتة جبر 

 

(فرانسيس بيكون (1561 - 1626) فيلسوف ورجل دولة وكاتب إنجليزي معروف بقيادته للثورة العلميّة عن طريق فلسفته الجديدة القائمة على «الملاحظة والتجريب». وهو من الرواد الذين انتبهوا إلى عدم جدوى المنطق الأرسطي الذي يعتمد على القياس. (1).

لُقِّب "بيكون" بأب التجريبية. جادل بإمكانيّة المعرفة العلميّة المبنيّة على الاستقراء والاستنتاج والمراقبة الدقيقة للأحداث في الطبيعة. كما جادل أيضًا بأن العلم يمكن تحقيقه من خلال استخدام أسلوب متشكك ومنهجي يهدف من خلاله العلماء إلى تجنب تضليل أنفسهم ومتلقي علمهم. فالفكرة العامة لأهميّة وإمكانيّة بيكون هي وجود منهجيّة متشككة تجعله أب المنهج العلمي.

يعتبر "بيكون" هو حلقة الاتصال بين الماضي والحاضر الذي وجد فيه، وذلك لأنه يرى بأن الفلسفة قد ركدت ريحها، واعتراها الخمود، في حين أن الفنون الآليّة (التكنولوجيا) كانت تنمو وتتكامل وتزداد قوة ونشاطا على مر الزمن. وعلى هذا الأساس المعرفي أدرك "بيكون" أن انحطاط الفلسفة يرجع إلى عدّة عوامل منها:

1- إن النهضة الأوروبية قد خلفت روحاً أدبيّةً جعلت الناس يهتمون بالأساليب والكلمات ويهملون المعاني.

2- اختلاط الدين بالفلسفة، أو بثقافة المجتمع بشكل عام، واعتماد الناس في أحكامهم على الأدلة النقليّة، وأخذهم بأقوال السلف  دون النظر القائم على الاستقراء والاستنتاج والتحليل وبالتالي البرهان والنظر في صحتها من عدمه.

3- إن لرجال الفلسفة برأيه أثر في انحطاط الفلسفة عندما اعتمدوا فيها على الثرثرة الكاذبة المشبعة بالرؤى الميتافيزيقيّة والمثاليّة الذاتيّة والحدسيّة. أي أخرجوها عن موضوعها الأساس بكونها مشروعاً فكرياً قادر على تفسير حركة الكون بشكل عام والمجتمع بشكل خاص، ومن ثم القدرة على إعادة بناء هذا المجتمع بما يخدم حياة الإنسان وتطلعاته،.

4- تعصب الناس وتمسكهم بالعادات القديمة والعقائد الموروثة. وعدم الايمان بالتغير وما يحققه هذا التغير في بنية الفرد والمجتمع من نتائج ومفردات جديدة للحياة توصل الإنسان إلى الأمن والاستقرار والسعادة والعدالة. لذلك حمّلَ الفلسفة التقليديّة وزر الجمود العلمي، والقحط العقلي، والإسهام الفاعل في رفاهية الإنسان وتقدمه وسعادته. وقد اعتقد "بيكون" أنه قد وجد الطريقة الصحيحة في الصيغة الجديدة التي وضعها للاستقراء، ويقصد به منهج استخراج القاعدة العامة (النظريّة العلميّة) أو القانون العلمي من مفردات الوقائع استنادا إلى الملاحظة والتجربة.(2).

أهمية العلم عند بيكون"

عندما وضع فرانسيس بيكون أسئلته المعرفيّة، للوصول إلى الحقيقة، وهي لماذا؟. وكيف؟. وأين؟. ومتى؟. كان في الحقيقة قد حطم كل التصورات المثاليّة/ الميتافيزيقيّة، واللاهوتيّة الجبريّة والحدسيّة والمثاليّة الذاتية واللاأدريّة والتخيل والأحاسيس والتكهن في تحقيق أو تحصيل المعرفة، وذلك على اعتبار أن تحصيل المعرفة عنده أصبح يقوم على (الملاحظة والتجريب). وهذا ما جعل المعرفة عنده ثورة جبارة، وهي لن تكون  ثورة فعليّة، إلا إذا كانت يقينيّة ملموسة، تستند إلى معرفة الأسباب الحقيقيّة الكامنة وراء الظواهر. والمعرفة اليقينيّة هي في المحصلة (علم)، وبالعلم سيطر الإنسان على الكثير من معطيات الطبيعة، وجعل الحياة الإنسانيّة أكثر رونقاً وجمالاً. وهذا يعني أيضاً عنده أن المعرفة العلميّة، لا تقتصر على تحقيق وجني المنفعة العمليّة المباشرة للإنسان فحسب، بل هي معرفة مضيئة، أي معرفة تهدف إلى اكتشاف القوانين التي تتحكم بآليّة عمل كل من الطبيعة والمجتمع وبالتالي امتلاك القدرة على التسلح بها وتسخيرها خدمة للإنسان.(3).

أما أول أسس المعرفة المضيئة والمثمرة عند "بيكون"، فهي نقد الأيديولوجيا السكونيّة / المدرسيّة/ السكولائيّة/، والشك في كل ما هو مطلق، أو يُعتقد أنه مطلق وعلى حق. والشك هنا ليس ريبياً ذا طابع عدمي سلبي، بل هو شك إيجابي يأتي لاستكشاف آفاق الطريق المؤدية إلى الحقيقة والوصول إليها.

إن من أخطر نتائج المعرفة عند "بيكون"، هي المعرفة القائمة أو المستمدة من الاستنتاجات المنطقيّة الصوريّة في تقديم البراهين. هذه الاستنتاجات التي اشتغل عليه سقراط والقائمة على القياس المنطقي الصوري مثل قوله: (كل إنسان فان، سقراط إنسان، سقراط فان.) فهذه من البداهات المعرفيّة . فهذا الاستنتاج المنطقي الصوري لا يصح تطبيقه عند "بيكون" على كل الظواهر. فللظواهر عالمها الجوهري والشكلاني، وبالتالي فإن التقويم المتسرع للمعرفة التي تقوم على أحكام ومفاهيم القياس الأرسطي الصوري، لا يمكن الاطمئنان إليها، لذلك فإن الشرط الأول لاكتساب المعرفة الحقيقيّة العقلانيّة النقديّة كما بينا قبل قليل، هو استخدام التجريب والتحليل والتركيب والاستقراء والاستنتاج وأخيراً البرهان. ومن هذا المنطلق تأتي الدعوة مشروعةً من أجل تنظيف المعرفة/ العلم، من الأوهام التي عرفها "بيكون بأوهام العقل، إضافة لأوهام الحدس والأحاسيس والتخيل وحددها بالتالي: (4).

1- أوهام القبيلة:

وهي أوهام تنبع من الإنسان ذاته، لذلك كانت مشتركة بين جميع الناس. أي هي معزولة في تكونها عن الواقع المعيش، كونها تقوم على علل غائيّة (منفعيّة) بسبب عدم اكتمال مكونات المعرفة الحقيقيّة عند الإنسان، ووقوعه تحت سيطرة النزعات والأهواء والمصالح الذاتيّة. فنحن في طبيعتنا ميالون إلى تعميم بعض الحالات دون الالتفات إلى الحالات المعارضة لها، وتحويل المماثلة إلى تشابه، وأن نفرض على الطبيعة من النظام والاضطراد أكثر مما هو محقق فيها، وأن نتصور أفعال الطبيعة على غرار الفعل الإنساني، فنتوهم بأن لها غايات وعلل غائية.(5).

2- أوهام الكهف:

وهي أوهام ليست عامة، بل تقتصر على بعض الناس الذين يشتغلون على اكتساب المعرفة ونشرها، وهي أوهام معرفيّة تقوم على أهواء وأمزجة ذاتيّة في الغالب، وليس على أسس المعرفة الحقيقية التي تربط الفكر بالواقع، والبحث في آليّة عمل المجتمع وتناقضاته وصراعاته عن هذه المعرفة. بتعبير آخر هي أوهام فرديّة كأوهام الكهف الأفلاطوني،  حيث ننظر إلى المشاهد التي أمامنا كما ينظر إليها سجين مقيد بالسلاسل، وضع في كهف، وخلفه نار ملتهبة تضيء الأشياء وتطرح ظلالها على جدار أقيم أمامه، فهو لا يرى الأشياء الحقيقيّة بل يرى ظلالها المتحركة، ويظن بها حقائق، وهي بالتالي عند بيكون أوهام ناتجة عن ميول وأمزجة تكوينيّة وتربويّة مسبقة كونتها علاقات الاجتماعيّة سطحية مباشرة ومطالعة. وهي أخطر الأوهام وأشدها تأثيراً على البشر. (6).

3- أوهام القطيع:

أي أوهام النظرة غير الواقعيّة النقديّة للظواهر. وقد سماها بيكون بالأوهام (العنكبوتيّة). أي الأفكار التي ينسجها الباحث من ذاته وليس من واقعه المعيش. (7).

إن العلم الحقيقي أمام كل هذه الوهم، هو العلم الذي يسعى إلى جمع أكبر عدد ممكن من الوقائع والأدلة، وقد شبه عمليّة الجمع هذه بالنملة التي تحمل في طريقها كل ما تستطيع حمله عند مصادفته في طريقها. ثم تختار منه ما يناسبها.

إذن إن المعرفة العلميّة هي المعرفة التي تقوم على المنهج الصحيح الذي يعالج المادة نظريّاً بعد أن قدمتها التجربة. وهنا شبه عمليّة الحصول على المعرفة كعمل النحلة التي تمتص رحيق كل انواع الورود ثم تشكل منه عسلاً.

أهمية التكنولوجيا في اكتساب المعرفة:

تأتي أهمية التكنولوجيا في اكتساب المعرفة، من كونها الوسائل التي تزيد من قدرتنا على الإدراك، واكتمال الفكر الإنساني ذاته.

أما التجربة فهي الدراسة الفعالة لظواهر الطبيعة والمجتمع، وهي التي تدفع بالعلم إلى الأمام والاجابة عن الأسئلة المطروحة أمام الإنسان. (8).

ماديّة المعرفة:

إن أول أسس هذه المعرفة، هو وجود الحركة، كونها أول سمات وخصائص المادة على الإطلاق. وهي لا تقتصر على الحركة الميكانيكيّة أو الرياضيّة أو الفيزيائيّة، بل هي طموح المادة ونورها وتوترها وسر خلقها وتجليها وروحها الحياتيّة. فللحركة أشكال وبالتالي هي تقوم في جوهر الظاهرة ذاتها، وما الصورة الباديّة للظاهرة إلا ضرب من حركة الجسيمات الأوليّة التي منها تتركب الظاهرة. فالظاهرة هنا تحتوي جميع الكيفيات الحسيّة بغناها وتنوعها اللامحدودين.

إن المهمة المباشرة للمعرفة تقوم بالبحث عن علل الظواهر، وتجدها علل فاعلة وعلل غائيّة.

أما العلل الفاعلة عند بيكون: فهي المحركة للظواهر والباحثة عن جواهرها، وآليّة عملها وتشكلها وتمظهرها. كعلوم الفيزياء أو الكيمياء أو البيولوجيا.

أما العلل الغائيّة: فتتعلق بالأهداف المرجوة من معرفة الظواهر وإمكانيّة تسخيرها لمصلحة الإنسان.(9).

ملاك القول:

هكذا نرى كيف بدأت آثار الثورة الصناعيّة في بدايتها تؤثر على الحركة الفكريّة بشكل عام ومنها الفلسفيّة بشكل خاص، فالتطور التكنولوجي الذي حقق الكثير من الاكتشافات العلميّة في الطبيعة والمجتمع، انعكس بالضرورة على بنية التفكير التي كانت سائدة قبل قيام هذه الثورة الصناعيّة، وخاصة الفكر المدرسي اللاهوتي الذي قدم حقائق مطلقة عن الطبيعة والمجتمع أقرتها الكتب المقدسة، وعلى الناس الالتزام بها في حياتهم الفكريّة والعمليّة، وبالتالي كل من خرج عن هذه الحقائق محاولاً إثبات عدم صحتها حورب، وهذا ما جرى لـ"كوبرنيك" على سبيل المثال لا الحصر عندما قال بقضيّة دوران الأرض، في الوقت الذي لم يقل فيها الكتاب المقدس.

نقول: على الرغم من علميّة وماديّة الرؤى الفكريّة لبيكون في عصره، إلى أن هذه الرؤى ظلت بعيدة إلى حد ما عن قضية جوهريّة وهي قضية الوجود الاجتماعي والتناقضات الطبقيّة فيه والتي تشكل القاعدة الأساس للتحولات والتغيرات التي تصيب بنية المجتمع، وما تعكسه هذه التحولات والتغيرات على البنية الفكريّة والفلسفيّة في مقدمتها.

لقد كان للطبقة السياسيّة المهيمنة على السلطة إن كانت سلطة الملك والكنيسة والنبلاء مع قيام الثورة الصناعيّة، أو سلطة الطبقة البرجوازيّة لاحقاً بعد الثورة الفرنسيّة ووصولها إلى السلطة، الدور الكبير في تحطيم الإرهاصات الأوليّة للبنى الفكريّة التنويريّة العقلانيّة هذه، عند بيكون، أو ديكارت، أو سبينوزا، وجان لوك، وهوبس، أو فيما بعد عند فلاسفة عصر التنوير كروسو وريكاردو وفولتير وهلفسيوس، وحتى أفكار اليسار الهيجلي كأفكار شتنر، وفيورباخ وفورباخ، منذ بداية القرن التاسع عشر حتى اليوم.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

............................

المراجع:

1- (1). الويكيبيديا.

2- (الشرق الأوسط - فرانسيس بيكون.. الأكثر جدارة بين فلاسفة المنهج في «الأرغانون الجديد»). بتصرف.

3- (- جورج كرم-  تاريخ الفلسفة الحديثة- دار القلم – بيروت – دون تاريخ النشر. ص47.) بتصرف.

4- .(موقع الحوار المتمدن - غازي الصوراني - فرنسيس بيكون ( 1561 م _ 1626 م ).

5- د. عدنان عويّد – الأيديولوجيا والوعي المطابق – دار التكوين – دمشق – 2006- ص. 23و24.

6- المرجع نفسه، الأيديولوجيا والوعي المطابق . ص.23و24.

7- الأيديولوجيا والوعي المطابق: المرجع نفسه. ص. 23 و24.

8- (فلسفة التكنولوجيا بين المنظورين الغربي والإسلامي – د. صبري محمد خليل - https://sudanile.com/). بتصرف.

9- (- للاستزادة في التعرف على أفكار فرانسيس بيكون العودة إلى كتاب موجز تاريخ الفلسفة – تألف مجموعة من الكتاب السوفييت – إصدار دار الجماهير – دمشق- 1971. ص239 وما بعد.).

مدارات فلسفية

كيف تنشأ الدولة، وما الأسس التي يبني عليها افلاطون نشأتها وتطورها اللاحق؟

وهل للأسطورة أثر في تحديد الطبقات الاجتماعية وطبيعة الإعمال المناطة بها؟.

وفق ما جاء في محاورة " المدينة الفاضلة - السياسة " فإن الدولة تنشأ بسبب حاجات الأفراد واستعداداتهم الطبيعية، وتقسيم العمل على وفق هذه الاستعدادات، ولما كان الفرد غير قادر على سد جميع حاجاته بنفسه فانه بحاجة الى معونة الآخرين، وهكذا ينشأ الاجتماع البشري بسبب تعدد الحاجات وتنوعها، وبسبب حاجة الإنسان الى معونة غيره لسد حاجاته. وكما يقرر أفلاطون فإنه : " لما كان لكل منا احتياجات كثيرة، لزم أن يتألب عدد عديد منا، من صحب ومساعدين، في مستقر واحد، فنطلق على ذلك المجتمع اسم مدينة أو دولة. إن حاجات الأفراد متعددة، لكن أهمها الحاجة التي يتوقف عليها حفظ حياتنا واستمرار وجودنا، وهي حاجة الغذاء، ثم تليها حاجة السكن، وبعدها حاجة الكساء. ولما كان لا يمكن لفرد واحد ان يؤمن هذه الحاجات وغيرها لزم ان يكون واحد فلاحاً، وآخر بناءً، وآخر نساجاً، وآخر سكافاً، لأنه لا يمكن لفرد واحد ان يبني مسكنه بنفسه، وينسج ثيابه، ويصنع حذاءه، ذلك لان الطبيعة جعلت في الواحد من الناس استعداداً خاصاً لنوع من الأعمال، وفي غيره استعداداً لعمل آخر. ولكي يكون الإنتاج أفضل وأغزر فانه من الأفضل أن يؤدي كل واحد من الأفراد المهنة الخاصة به، التي تؤهله استعداداته للقيام بها من دون الانشغال بالمهن الأخرى لان ذلك من اختصاص غيره من الأفراد. ولأن الفَّلاح لا يستطيع ان يصنع بنفسه محراثاً متقناً ولا غيره من آلات الحراثة، وكذلك البَّناء والحائك والاسكافي، كل هؤلاء غير قادرين على صناعة أدوات مهنهم بمهارة وإتقان، لزم وجود مهن أخرى مثل النجارة والحدادة وغيرهما من الصناعات ليصير النجارون والحدادون وغيرهم من الصناع أعضاء في الدولة ويؤلفون وإخوانهم شعباً. وبالطبع فإن المدينة ستكون بحاجة الى رعاة المواشي لإمداد الفلاحين بالثيران وغيرها من الحيوانات لجر المحراث، وكذلك ستكون بحاجة الى مواد البناء للبَّنائين، ونقل الجلود والأصواف للأساكفة والحاكة.  وهكذا تكتمل المدينة – الدولة، وتدور فيها عجلة الحياة، تزرع وتأكل وتسكن وتلبس بأداء كل فرد من الأفراد لمهنته الخاصة به. غير أن المدينة ستكون بحاجة الى واردات وأشخاص يجلبون لها ما تحتاج اليه من المدن الأخرى، وأنها لا تستطيع ان تفعل ذلك من دون ان تحقق زيادة في منتوجها يفوق استهلاكها، ليكون لها ما تدفعه بدل ما تستورده من الخارج، وبذلك تحتاج المدينة الى زراع وصناع أكثر، والى وكلاء كثيرين لتصدير البضائع وتوريدها، واذا كانت التجارة بحرية لزمنا الكثير غيرهم من حُذّاق الملاحين، وهكذا ينتعش التبادل التجاري الداخلي والخارجي وتتم عمليات البيع والشراء وتداول النقود لتسهيل المعاملات في الأسواق، وينشأ كذلك الوسطاء بين المنتج والمستهلك " باعة المفرق" الذين يجولون من مدينة الى أخرى، وتظهر أيضا حاجة الأسواق الى العمال الذين يمتلكون قوة بدنية تمكنهم من العمل الشاق، فيبيع هؤلاء قدرتهم البدنية ويقبضون ثمنها اجوراً ".  تلك هي المدينة التي تقتصر على الضروريات، أما اذا أردنا مدينة مرفهة تشتمل على الضروريات والكماليات فإننا يجب ان نؤَّمن لها وسائل الرفاهية، ذلك ان بعض الناس لا يكتفون بالضروريات، بل يرمون ان يقتنوا أسرة وموائد، وكل أنواع الرياش، مع اللحوم والطيوب والعطور والحظايا والحلويات مع الإكثار من هذه الطيبات، وبذلك فان المدينة لم تعد تكتفي بالحاجات الضروريـة " القوت والمسكن والكسوة والحذاء" بل يلزمها النقش والرسم والذهب والعاج وكل متاع ثمين، وهكذا تتوسع المدينة وتمد أطرافها وتمتلئ بالمهن المنوعة التي لا توجد في المدن المكتفية بسد حاجاتها الطبيعية، مثل الموسيقيين والشعراء والفنانين والمربين والمربيات والمراضع والممرضات والوصائف والخادمات، والصيادين والحلاقين والطهاة والحلوانيين وصانعي البهارج وحلي النساء، كما يلزم المدينة الكثير من المواشي لأجل من يرغبون في أكل لحومها. وعندما ننتقل من مدينة الضروريات الى مدينة الكماليات، تصبح رقعة أرض المدينة صغيرة على سكانها، فيلزمها إضافة أراضٍ واسعة بالحرب التي هي شر الويلات التي تحل بالدولة جماعة وأفراداً. وهكذا تعتدي المدينة على جيرانها، ويلزمها لذلك تجهيز جيش كامل يستطيع ان يدافع عن أملاكها ويستولي على أملاك الأعداء، ويتصدى للغزاة، فتصبح أعمال الحرب مهنة جديدة للمدينة، وهذه المهنة يجب ان تعطى اهتماماً اكبر من المهن الأخرى  ويختار لها من يحملون في طبائعهم استعدادات معينة، مثل الفطنة التي تمكنهم من اكتشاف الأعداء، والثبات في الميدان، والشجاعة التي تمكنهم من كسب الحرب، وتتطلب هذه المهنة أيضا مزاجاً خاصاً، وصفات متناقضة، لأن حماة المدينة يجب ان يكونوا أشداء على الأعداء لطفاء مع مواطنيهم، وهكذا ينبغي اختيار جيش الدولة من الناس الذين يتمتعون بمزاج غضبي وبغريزة فلسفية، ونخضعهم لتربيـة خاصـة تؤهلهم لأهم المهن في الدولـة.  وتبقى المهمة الأساسية التي يتوقف عليها خلاص الدولة واستقامة أمورها.

لقد لجأ افلاطون الى لغة الأسطورة، اللغة الميثولوجية لتسويغ واجبات كل طبقة من الطبقات الاجتماعية، والغريب انه يفعل ذلك مع إدراكه صعوبة إقناع الناس في زمانه بهذا الأسلوب، وهذه اللغة بحسب أفلاطون " سنخبر شعبنا بلغة ميثولوجية: كلكم اخوان في الوطنية، ولكن الإله الذي جبلكم، وضع في طينة بعضكم ذهباً ليمكنهم من إن يكونوا حكاماً، فهؤلاء هم الأكثر احتراماً، ووضع في جبلة المساعدين فضة، وفي العتيدين أن يكونوا زراعاً وعمالاً، وضع نحاساً وحديداً. ولما كنتم متسلسلين، بعضكم من بعض فالأولاد يمثلون والديهم. على انه قد يلد الذهب فضة، والفضة ذهباً، هكذا يلد كل ما يلد ".

وقبل ان ينتهي افلاطون على لسان سقراط من ذلك يلتفت الى غلوكون قائلاً :

- فهل عندك من حيلة لإقناعهم " الناس في ذلك الزمان " بهذه الخزعبلة ؟

فيجيب غلوكون: لا حيلة في اقناع أبناء هذا الزمان. على أنني سأبتدع حيلة تقنع أبناءهم وأحفادهم وكل الأجيال التالية بصحة هذه الأسطورة .  إنها حقاً من المواقف الغريبة التي يلجأ اليها فيلسوف مثل افلاطون مبتدع نظرية المُثل العقلية المجردة لتسويغ الوضع الطبقي في مدينته الفاضلة، وتلك واحدة من التناقضات الافلاطونية التي نعثر عليها بين الحين والآخر في ثنايا محاوراته المختلفة، وهو اذ يستخدم هذه الأسطورة الفينيقية الجذور فانه يقرر أن الطبيعة هي المسؤولة عن تقسيم الناس الى طبقات. ووفق رأيه فإن خلاص المجتمع والأجيال البشرية لا يكون الا بتنظيم الدولة على وفق معادن المواطنين، فالحكم للطبقة الذهبية، وتنفيذ القرارات وإطاعة أوامر الحكام من واجبات الطبقة الفضية، أما الإنتاج فتتولاه طبقة الحديد والنحاس.  ألا يبدو مجتمع افلاطون بناء على هذه الطبقية القدرية الصارمة، مجتمعاً آلياً مغلقاً مكوناً من عناصر فاقدة الإحساس والقدرة على التغيير، وليس مجتمعاً بشرياً ؟ . إن هذا التساؤل لا يهم افلاطون، فالذي يهمه بالدرجة الأساس هو أن الدولة وحدة متماسكة يعمل فيها الأفراد كأجزاء في آلة ضخمة تعمل بدقة وتماسك ونظام وانسجام .  لقد عاش أفلاطون في عصر تسوده الفوضى السياسية، وشاهد أمام عينيه مساوئ الأنظمة التي توالت على الحكم في أثينا في سنوات متعاقبة قصيرة، وتأسى على تدهور القوانين والأخلاق التي بلغت حداً من الفساد جعلته كمصاب بدوار– كما يصف حالته بنفسه في الرسالة السابعة – حتى انتهى به المطاف الى ان يتبين بوضوح ان جميع أنظمة الحكم الموجودة في زمانه ومن دون استثناء، أنظمة فاسدة. لكن ما أسباب هذا التدهور والخراب والفوضى، وكيف السبيل للخروج من هذا الوضع  ووضع حد للتدهور السياسي والأخلاقي ؟ . لقد حدث كل هذا لأن الشعب فقد هدى الفلاسفة وحكمتهم وعدلهم، وأصبح الحكم بيد التجار الذين يملأ قلوبهم حب الثروة، أو بيد القادة العسكريين الذين استخدموا الجيش لإقامة حكومة عسكرية دكتاتورية، فلا التاجر ولا العسكري يصلح لإدارة الدولة، لأن ذلك علمٌ وفنٌ لا يجيده إلَّا من خصص عمره، وأعد نفسه إعداداً طويلاً لهذه المهمة. أما طريق الخلاص فلا يكون إلَّا بإعادة ارستقراطي العقل الذين اجتازوا مراحل التربية الخاصة الى الحكم، ولا يكون إلَّا بتسليم مقاليد السلطة الى الفلاسفة، أو يتفلسف الحكام. فقد وهبت الطبيعة لبعض الأفراد صفات تؤهلهم  لأن يحكموا غيرهم ويجب اكتشاف هذه الصفات منذ الصغر، لكي يجري تربية الحكام تربية خاصة، ذهنية وجسدية، فيتم تعليمهم الفلسفة، وفنون الحرب، والرياضة البدنية، والفنون والموسيقى والعلوم الرياضية كالحساب والهندسة والفلك، ليسيروا نحو الكمال، ويكونوا نموذجاً للحاكم الفيلسوف الكفء" فلسفي النزعة، عظيم الحماسة، سريع التنفيذ، شديد المراس". إن الصفات التي تجعل الفلاسفة جديرين بالحكم، هي " تعلقهم الشديد بأي معرفة تكشف لهم عن شيء من تلك الماهية التي تظل باقية أبداً، والتي لا تنال منها تقلبات الكون والفساد، والصدق ومحبة الحق، وكراهية الزيف، وعدم قبول الكذب في أي صورة من صوره  وسعيهم الى اللذة التي تستمتع بها الروح وحدها، وتركهم جانباً لذات البدن، وابتعاد أنفسهم عن الوضاعة، ما دام صغر النفس هو أبعد الأمور عن الروح التي تتجه دوماً الى إدراك مجموع الأشياء الإنسانية والإلهية معاً، فضلاً عن ذلك فإن من كان بطبيعته جباناً وضيعاً لا يستطيع ان يسهم في الفلسفة الحقة بنصيب، أما اذا كان المرء معتدلاً، مترفعاً عن الجشع وعن الوضاعة والغرور والجبن، فلن يكون من الصعب التعامل معه، ولن يكون ظالماً، ومن الصفات الأخرى المميزة للروح الفلسفية اتصاف المرء منذ حداثته بصفات النزاهة والرقـة وحسن المعاملـة، وسرعـة التعلم، وقوة الذاكرة، ومحبة الاتسـاق والجمال ".  " هذه الصفات الروحية والعقلية التي منحتها الطبيعة لأولئك الذين جُبلوا من معدن الذهب تؤهلهم لتولي الحكم بعد ان يكتمل علمهم وتكتمل خبرتهم، فهم وحدهم القادرون على ان يفعلوا بالمدينة ما يفعله الرسام بالجدار الذي يزخرفه، فهو ينظفه بادئ الأمر بعناية، ثم يرسم عليه صورة المدينة، مقارناً رسمه في كل لحظة بنموذج العادل الذي في مقدوره ان يتأمله "، ذلك لأن الفلاسفة هم الذين يرون نور العقل والحق، وهم القادرون على معرفة الحقيقة  وهم المؤهلون لإنقاذ المجتمع من السقوط والتدهور والانحلال. لقد أصبحت هذه الدعوة المحور الذي دارت عليه فلسفة أفلاطون السياسية، والعمود الفقري لمدينته الفاضلة، والهدف الذي ابتغاه من الفلسفة، وما زاده يقيناً في ان الجنس البشري لن يخلص من متاعبه، إلَّا ان يستولي الفلاسفة على السلطة السياسية، أو يصبح الحكام فلاسفة، مما زاده يقيناً بذلك اشمئزازه من الأحوال السياسية ومفاسدها في أثينا وغيرها من المدن الإغريقية، التي وصلت الى الحد الذي جعلته يخاطب الأثينيين على لسان سقراط : أرجو ان لا يؤلمكم الحق ان أنبأتكم به، فالحق انه يستحيل على من يرافقكم الى الحرب، أو أي اجتماع آخر ويقاوم فساد الأخلاق، وأخطاء الدولة ان ينجو بحياتــه.

كان افلاطون يدرك ان هذا " الفساد " وهذه " الأخطاء " هي التي قادت الى انهيار أثينا العسكري أمام اسبرطة في الحرب البلوبونيزية، وكانت هذه من أهم الأحداث التي أثرت تأثيراً عميقاً في تكوين عقلية افلاطون، ومن الكوارث الكبرى التي شهدها في مطلع رجولته، وعانى ايام طفولته وشبابه من ويلاتها. وبناءً على ذلك كله تأتي دعوته الصريحة لتسليم مقاليد الحكم الى الفلاسفة أصحاب المواهب الحقيقية، والعقول العلمية، والروح الفلسفية، وتأكيده على الأثر السياسي والاجتماعي للفيلسوف " فما لم يصبح الفلاسفة ملوكاً في بلادهم، أو يصبح اولئك الذين نسميهم الآن ملوكاً وحكاماً فلاسفة جادين متعمقين، ومالم تجتمع السلطة السياسية والفلسفة في فرد واحد، فلن تهدأ حدة الشرور التي تصيب الدولة، بل ولا تلك التي تصيب المجتمع البشري بأكمله".

***

د. طه جزاع

..........................

* ملاحظة: ما ورد من نصوص مقتبسة في هذا المقال فإنها تعتمد كلياً على ترجمة حنا خباز لـ "جهورية أفلاطون" الطبعة الأولى لسنة 1929، مطبعة المقتطف. المقطم. القاهرة.

* المقال منشور في موقع مراصد أيضاً

 

بقلم: جان لومبار

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

الليتي Léthè النسيان، بيوس bios الحياة وكرونوس chronos الزمن: جدلية الحفظ والفقد.

نحن نعلم أيضا بأنّ الزمن المستعاد le temps retrouvé، حتى نستخدم معجمية بروست، لا يمكن تحديدا أن يُستعاد إلاّ إذا فقدناه. تثبت تجربة الذاكرة اللارادية (تجربة نكهة المادلين الشهيرة مثلا) استمرارية الهوية الفردية عبر الزمن، لكنها تثبت أن إيجادها لا قيمة له إلاّ بعد النسيان. إنها تبيّن كيف أن عمق النسيان هو الأصل الجيولوجي للذاكرة: هو ما يذكّرنا بشكل أفضل بالماضي، هو بالضبط ما نسيناه، يقول بروست.

إنّ هذا الشكل من التذكّر موجود في كل موضع من "البحث عن الزمن الضائع" ونحن نفكّر في صوناتا فانتوي sonate de Vinteuil الشهيرة،هذه الموسيقى التي يبدو انه قد نُسيت دون أن تكون قد استُمع إليها بما أنّ شارل سيوان قد تعرّف عليها لحظة التقى بها : مثال جيد عن الحميميّة العفوية والمُرْبِكة  مع شيء من العالم يبدو انه آت من عالم آخر. يمكننا ملاحظة هذه الظاهرة بالقيام بتجربة إعادة قراءة كتاب ما سبق أن قرأناه ثمّ نسيناه. فسنكتشف إذن أن " إعادة القراءة" هو أن نحيا من جديد دون توقّع، وهي تحصيل الانطباع بما سبقت رؤيته دون التوقّف عن رؤيته قادما"، وانطلاقا من هذه التجربة الخاصّة للغياب، نشعر في الآن نفسه " بلطف العودة ولذّة الانتظار" (44). كان لدى أفلاطون بعدُ تحليلا أوليا للنسيان الأصليّ مع أسطورة " آير البافيلي التي ينتهي بها الكتاب العاشر للجمهورية. مات آير على ساحة المعركة، وقد وضع على حطبٍ كي يحرق، فيقدر على رؤية ما سيحدث للأرواح بعد الحياة وقبلها. وفي إجراء معقّد يفضي إلى التناسخ، تتوقّع مرحلة تختارها كل نفس بدورها، من بين مصائر مقترحة، حياتها الجديدة. بقدر ما تسلك الطريق نحو سَهْل الليتي Léthè النسيان) للشرب من ماء النهر(45). ويجعلها هذا الماء تنسى ذكرى الحياة الماضية، قبل أن تُنقل نحو مكان ولادتها الموالية، أي في الأجساد حيث تُنْسَخ. لقد اختارت النفس بحرية مصيرها الجديد قبل نسيان حياتها الماضية، ويقول النص بأنّ نَفْسَâme اوليس (46) قد اختارت اختيار صائبا، مستلهمٍ من التجربة الثرية المكتسبة من مغامرات الأوديسا. غير أن النسيان وحده يسمح بإيجاد مكان للجديد والفعل من جديد، وفي هذا المعنى، فإن شرب ماء نهر أميليس، الليتي Léthè، وبتعبير آخر القدرة على النسيان، هي الشرط الحقيقيّ للحريّة:  أن أكون حرّا، هو أن لا نخضع لما سبق. وفي ذات الوقت، تظلّ آثار حياة قديمة ربّما، تظهر من جديد بوصفها علامات إلغازية في الوجود الجديد. وبالفعل فإنّ  البدء أو البدء من جديد "يمثّل تجربة لا تقبل طعن" كما يقول بول ريكور: فمن دونها لن نفهم ما يعنيه الاستمرار والدوام والبقاء والانتهاء". (47) كل عود على بدء محكوم بماض منسيّ. كل بداية جديدة مشروطة  بماض منسيّ، للماضي الذي، بعبارة سارتر، "ينتظر التصديق"(48)، النسيان بوصفه فعل ماض. وفي هذا المعنى، يبني النسيان الماضي ويسمح، من وراء الماضي وحده، باحتلال المسافة الزمنية وبالتالي هيكلة كليّة الزمن. يعرف المؤرخون بالخصوص، بأنّ الذاكرة، سواء أكانت "جماعية أو فردية  هي أيضا نسق تنظيم للنسيان. لكن، كان برجسون في شأن بناء الماضي، أوّل من تساءل في حال تكوّن الذكرى، عن اللحظة التي يختفي فيها الإدراك ويترك المكان للذكرى. لقد طرح هذا السؤال  غير المألوفوالجوهري سنة 1908 في تذكر الحاضر والاعتراف الكاذب(49)، حيث بيّن بأنّ نسيان الإدراك ضروري كي تظهر الذكرى." إن تشكلّ الذكرى ليس مابعديا بالنسبة إلى ذكرى الإدراك، يقول برجسون، إنه متزامن معها".(50)، لكن مع نسيان هذه الذكرى، التي هي بالضرورة بعدية،  فإنّ الزمن هو الذي يمرّ".

وفي هذا المعنى، فإنّ للّليتي Léthè  رابط جدّ قوّي مع الكرونوس Chronos  والبيوس bios، مثلما يبّن ذلك المشهد ذي المحتوى الميتافيزيقي الرفيع والذي حضره آر البامفيلي Er le Pamphylien، الذي اختاره أفلاطون لملاحظة كيفية اشتغال العالم من خلال الكواليس. يجري هذا المشهد في آخر محاورة الجمهورية أيضا وفق منطق هو منطق النسيان الذي يبني الزمن: هو منطق الانتقال المتبادل على نحو ما بين الحيوات viesالماضية والوجود المستقبلي، التي اختارتها الأنفس التي وقعت محاسبتها والمصنفة، مع تدخّل توسّطي للنسيان في وظيفته التطهيريّة، والإبداعية والتجديدية. وبفضل الليتي(النسيان) يحتل البيوس (الحياة) مكانه ضمن الكرونوس (الزمن). لا يستخدم الإغريق مفردة موحدة للتعبير عن الحياة. لقد انشئوا تمييزا سنجد صعوبة  في تجاوزه الآن، بين كلمتين: زو وي zôê، مجرد أن نحيا وهو المشترك بين جميع الأحياء والحيوانات والبشر بل والآلهة، والكلمة التي نجدها مختصرة ومخصصة في زوولوجيا zoologie وبين كلمة بيوس طريقة الحياة، نجده في البيوغرافيا، السيرة الذاتية biographie (51). لقد ابتكر الإغريق القديم إذن ووضع الوجود من وراء الحياة، هذا الوجود الذي نرويه في السير الذاتية.  ليست السيرة الذاتية ممكنة مع ذلك، إلاّ انطلاقا من خط تقاسم بين الذاكرة والنسيان، ونحن نعرف فعلا أنه يجب   أن يقرأ ما بَيْنَ السيرة الذاتية  بعمق بقدر ما يقرأ سطحيا. بينما الكرونوس (الزمن) فهو ما يحدث في مقابل اللحظة، kairos، الحد الذي تعذّر الإمساك به، والأبدية aiôn، الزمن الذي لا يحدث.  فليس من الغريب إذن بأن يكون انصراف الاهتمام إلى الذكرى والنسيان في أعلى مستواه لدى فلاسفة الزمن.فقد كتب القديس أغسطينوس الذي نعرف مقامه الرفيع مفكرّا في الزمنية (52)، في الكتاب العاشر من " الاعترافات "ترنيمة نابضة بالحياة للذاكرة، مجاز " قصر الذاكرة الواسع" مع "كنوزها التي لا تحصى"، مجازا معروفا جدا. وعلينا قراءة الفصول 8 و13 من هذا الكتاب العاشر، عن وطن الذاكرة، ذاكرة العالم  واستمرارية الذات  وعالم المعارف (53). فنحن نجد فيها ذكر الكنوز العظيمة للذاكرة السعيدة. لكن ها انه منذ الفصل 14، توضع هذه الذاكرة موضع السؤال، ذلك أن اغسطينوس قد قابل النسيان باندهاش ثم بأَسَى :" كيف يكون النسيان حاضرا،بينما يمنعني حضوره من التذكّر؟". و بعبارة أخرى، كيف يمكن أن يكون لما هو غياب مثل هذا الحضور؟ كيف يمكن لسلبية أن تكون ذات ضرر كبير؟ " عل أيّ حال، إلهي، أنا  أعاني من هذا الموضوع ومن ذاتي ؟" (54)، كما يقول أغسطينوس في نهاية هذا التحليل الدرامي. ويقدّرأغسطينوس أنه من الفضيحة أن يجتاح ذكرياتنا وفي ذات الوقت يساهم في الإيجاد و التقدير، وان يكون أيضا مدمّرا.  ويقول بأنّ هذا المفترس، ويقصد النسيان، الذي يعمّق وضعه المأساوي باعتباره يستخدم على نحو ما الذاكرة بما هي شريك بجعلها تشهد بالموضوع المنسيّ وبالتالي بواقعها الخاص. ويعود أغسطينوس إلى ذلك عديد المرّات قائلا: " مهما كان غير قابل للتفسير، فإنّني أتذكر بالذات النسيان، أنا على يقين، النسيان الذي  يدفن ذكرياتنا"، وفي موضع آخر يقول: "لا يمكننا البحث عن ذكرى ضائعة إذا كان النسيان مطلقا"(55). لقد أصبحت هذه الصفحات ذاتها، حيث الإعجاب بالذاكرة ملغوم بالتهديد المخيف للنسيان، خالدة.

إلا أنّ النسيان لا يهدّد الذاكرة فحسب، بل الوجود أيضا. ثمّ إنّ الخشية التي عبّر عنها اغسطينوس هي في قلب كلّ لاهوت الغرب. فالعهد القديم يقدّم علاقة الإله بشعبه المختار بوصفها ميثاقا على عدم النسيان: الله لا ينسى شعب إسرائيل  إذا لم تنس إسرائيل الله. لأجل ذلك، تقرّ الكتابة صراعا لا ينتهي مع خطر النسيان (56). وبدورها ستقدّم المسيحية نفسها بعد اليهودية بوصفها دين الذاكرة:" افعل هذا تخليدا لذكراي" هي لعنة للنسيان من حيث هو الوجه المظلم للذاكرة. وقد أقيمت، حفاظا على استمرارية إسهام الإغريق المتعدد الآلهة مع ذلك، محاور كبرى لجدلية الحفظ والتلف.

إنّ الحفظ عبارة قديمة (المكان الآمن  كلمة من القرون الوسطى) لكن لها راهنية ومستقبل في مجال الإعلامية. الحفظ هو تأمين، وبالتالي احتياط جذريّ بالنسبة إلى النسيان . وبالفعل، فإنّ تراكم المعطيات في النظام الحديث المفرط يطرح مشاكل خاصّة مقلوبة تماما لأولئك الذين هم من زمن تحمل فيه الرغبة على شمولية المعرفة، ويكون فيه الهدف هو الجمع وحفظ المعطيات، الزمن المجيد لورق البردي و فيما بعد بالمكتبات. يتعلق الأمر اليوم بالحماية من النموّ غير المعقول للمخزون من كلّ نوع. لقد أبرز هنريش بول مؤلف "صورة لمجموعة مع سيدة"، هذه الظاهرة لتشبّع مجتمعات المعرفة في قصّة تسمّى " الرامي" (57) حيث يتحدّث عن ولادة مهنة جديدة. رجل متحفّظ، يلبس بلوزة رمادية، ويشتغل يوما بعد يوم على تحطيم بريد غير ضروري لشركة تأمين كبيرة لعطر الكولونيا. فهو يرمز بداهة إلى وظيفة الإتلاف التي تَنْتهي الذاكرة في حالتها قصوى دائما إلى استدعاءها، نقيضا تماما لخطر لانهائي للفقد. نلتقي في هذا المحور بعدد كبير من الأعمال الأدبية المعروفة والشعبية أحيانا، لأن الحفظ والفَقْد يؤطران بالتأكيد  أكثر من أيّ وقت مضى وجود الإنسان المعاصر.

تطابق الذاكرة القصوى أوّلا على وجه العموم لهاجس حقيقيّي بالماضي.إنّ إعادة قراءة مثيرة للمؤلف المشهور "حكايات مونت كريستو" للإسكندر ديما، كانت انطلاقا من هذه الفرضية. (58) نعرف أن إيدمون دونتاس، وقد أصبح غنيا وقويّا، بدأ بشكل منهجي، وخلف هوية مونت - كريستو، بالانتقام من أولئك الذي اتهموه ظلما وسجنوه. فهو لم يغفر لأحد، بينما كان بإمكان "حظه الوقح وثروته غير المتوقعه، آن يجعلاه أكثر تسامحا. لكنه كان مهووسا بالماضي "الذي" بالبحث في الذاكرة لا يجد سوى النسيان". إذ لا احد سيتعرّف عليه باستثناء مارسيديس. ومن الحقيقيّ بأنه مثل إيليس في عودته إلى إيثاكيا، لم يرد أن يقع التعرف عليه، مفضلا القيام "بقطيعة زمنية" في حياة أولئك الذين يريد الانتقام منهم. نرى جيّدا هنا، بأنّ فكرة الانتقام ترتكز على العجز عن النسيان أكثر من الانشغال بتحقيق العدالة . فدانتيس لا يريد لا إرساء توازن مختلّ ولا العودة إلى الوضع الراهن. لم يتوّصل بكل بساطة إلى تجنّب الإساءة والضرر الذي لحقه- وانّ الخراب قد وقع إصلاحه كفاية بعدُ. إنّ هاجسه هو كشف قناع رفاقه القدامى، وإظهار حقيقتهم بالتأكيد على الفارق بين ما صاروا عليه وما كانوا عليه من قبل. يستخدم في هذه الاستراتيجيا التي يصرّ عليها، عدّة أقنعة (مونت كريستو، الب بيسوني واللورد ويلمور). وما هو ملفت الانتباه، هو أنّه يذهب إلى لقاء ماضيه لكنه لا يعثر عليه أبدا. فكلّ شيء يمّحي بقدر ما يقترب، أصدقاءه من قبل، ذكرياته وشغفه بمارسيديس وحتى، في النهاية، قوة رغبته في الانتقام. فهذا الماضي الذي لم يستطع نسيانه لم يترك مكانه فحسب لحياة أخرى ممكنة أو شغف جديد، بل يفقد شيئا فشيئا، حتى بالنسبة إلى نفسه، كلّ معنى. كان دانتيس مهووسا بالزمن و ليس لهذا الهوس دون نسيان ممكن، من معنى أكثر من نسيان دون هوس. " ماتت مارسيديس ولا أعرف إنسانا بهذا الاسم"، يقول مونت دريستو لحبّ شبابه. إنه لا يتخيّل حتى الإيدمون الذي كانه في حياة أخرى. تشعر مارسيديس بأنّ تقبيل يدها الذي كان يقوم به هو بلا لهفة، مثل التي يكون ليد رخامية لتمثال قديسة"، كما ورد في النص. رحل إيدمون ولكن وحيدا، إذ في الواقع لا يستطيع الذهاب إلى أيّ مكان : وفي الجملة انتصر الزمان على المكان. يصبح غياب النسيان في هذا الاحتفاظ المتوتّر والدغمائي بالماضي، حدّا قدَرَيٍا.

نجد في الطرف الآخر حدّا مخالفا، كان موضوع أعمال أدبية كبرى لإعادة بناء الزمن. نذكر بدرجة أولى بروست. وعلى خلاف مونت كريستو، الذي يبحث عن الذاكرة لكنه لا يعثر إلاّ على النسيان، فإنّ الراوي في " البحث عن الزمن المفقود" يبحث عن النسيان ويعثر على الذاكرة. (59). " يقول يروست في " بالقرب من سوان" : " لا يتكوّن الواقع إلاّ في الذاكرة"، مضيفا هذه الصياغة المدهشة: " إنّ الأزهار التي تقدّم إليّ اليوم لأول مرّة ليست أزهارا حقيقيّة". (60) يتعلق الأمر هنا بالذاكرة اللاإرادية، الوحيدة التي لها قيمة شعرية حسب بروست، وليست الذاكرة الإرادية، العقلية - الفكرية إن أمكن أن نقول - تلك التي لا تتوصّل رغم جهودنا، إلى ردّ الماضي حقّا. تنمو الإرادة الحقيقيّة، التي هي إرادة الحواسّ، بطريقة تحتية، عبر النسيان. النسيان طويلا وبعمق شديد قدر الإمكان، الوقوع في هاوية النسيان، هو الوسيلة الوحيدة للشفاء من خوف الزمن و قلق الموت- نحن نعرف المكانة التي يحتلها القلق من الشيخوخة ومن الاختفاء في البحث عن الزمن المفقود، العنوان الذي ألفناه كثيرا والذي لا نفكّر حتى في أنه يعالج الفقدان، هو النقيض الأمثل للحفظ.

يمكن للنسيان المنتظم أن يكون بالمناسبة بابا للخروج، ووسيلة مضمونة في أن نكون على نحو ما دون ماض. ففجوة الذاكرة trou de mémoire مثلا، يمكن أن تكون، من وجهة نظر علم النفس التحليلي، حذف سحريّ لكلّ ما سبقها. هذا ما حدث لكازانوفا، المُغوي الشهير، بينما كان في الخامسة عشرة من عمره. يحدث المشهد في 19 مارس 1741. كان على كازانوفا وقد دخل بعدُ في الحياة الدينية، أن يلقي خطبة، أول خطبة دون شكّ عن القديس جوزيف  الزوج العفيف للعذراء. لم يكن على ما يرام بعد غداء أفرط فيه قليلا في شرب الخمر، حينما بدأ كازانوفا الشاب في إلقاء الخطبة، التي حفظها عن ظهر قلب، وسرعان ما التبس عليه الأمر ولم يستطع المتابعة. شعر بضيق وسرعان ما وجد نفسه على حافة الإغماء وأحس "بفجوة في ذاكرته" زادت الطين بلّة. (61). وكان لابد من إخراجه. استخلص كازانوفا من هذا الذي حدث العبرة بالتخلّي عن البابوية.إنّ هذا النسيان المطلق الذي قرّره سيترك المكان كلّه، وفق ميكانيزم أثرناه من قبل، لحياة جديدة: الطريق مفتوحة لقدرته على الإغواء. لقد ولد كازانوفا. لا يجب أن نرى هنا حلقة معزولة : كلّ حياة كازانوفا هي التي ستكون استراتيجيا متواصلة من الفقد، وتعاقب لنسيان مقيّد. لقد وقع سريعا في حبّ حفيدة الراهب توسيللو، ذاك الذي جعل كنيسته مكانا لأول خطبة ولفجوة الذاكرة الحاسمة. وَعَدَتْ أنجيلا الشابة بالإخلاص في حبها لكازانوفا لكنها دافعت عن فضيلتها " مثل تنّين" كما يقول. وسيكون لكازانوفا عديد المغامرات العاطفية غايتها نسيان هذا الحب الأوّل المتوتّر والمحفوف بالمزالق. نسيان أنجيلا، ضمنيا إلى الأبد، سيصبح هاجسا. و ستهتم فتاتان نانات ومارتون بذلك . و قد عنون كازانوفا الفصل 5 من الكتاب الأول للمذكّرات :"أنسى أنجيلا" . والباقي في مجمله سيكون سلسلة متواصلة من النسيان لترك المكان بوضوح لغوايات جديدة، وصولا إلى التي لا تنسى هنريات Henriette.

هكذا كانت حكايات الحب لكازانوفا حكايات نسيان، بخلاف حكايات دون جوان، هاوي جمع المغامرات العاطفية الذي يرتكز إذن على الذاكرة. يتدخّل "نسي" هنا كفعل حدث دون مفعول به، مستعمل إطلاقا، ومعبّرا عن اكتمال الفقد perte .يوجد هذا المعنى أيضا حينما يحمل المفعول اسمه لكن على أصل، مثلما في عنوان كتاب إيدومون دي شارل- رو" نسيان بالارموPalerme، الذي يعبّر طبعا عن إصرار الهويّة. نعثر على هذا المعنى الجذريّ لفعل نسيَ في الفعل verbe الذي يشير إلى الفعل l'action بالضبط نقيضا لشعار كيبيك السامي أتذكّر Je me souviens، حيث يقول غياب المفعول بقدر من القوّة ما لا يقول." (يتبع)

***

............................

- هوامش:

44- مارك أوغي  المصدر السابق ص 65.

45- عن فعل "النسيان" لنهر الليتي، انظر فرجيل "الانيادة" الكتاب 4.

46- الجمهورية أفلاطون الكتاب العاشر 619ب621

47- بول ريكور، الذاكرة والزمن والنسيان" باريس سوي2000 ص40.

48- سارتر " الوجود والعدم" ص 559." إنّ ماضيّ قضية ملموسة ومحدّدة، ينتظر  بما هي كذلك تصويبا".

49- نص أعاد برجسون النظر فيه (1919) وادمجه في كتاب الطاقة الروحية

50- برجسون، الأعمال الكاملة  باريس بيف 1959 نسخة المائوية ص 913.

51- انظر الأسطر الأولى من  جيورجيو أغامبان/ الإنسان الكاهن الجزء 1 " السلطة السيادية والحياة لعارية" باريس سوي 1997ص9.

52- الزمن موضوع الكتاب 11 للاعترافات، والنسيان والذاكرة موضوعا الكتاب العاشر.

53- القديس أغسطينوس " إعترافات" باريس غاليمار 1998ص989-995.

54- المصدر السابق ص997.

55- الاعترافات الكتاب 10 و14و 19

56- انظر مثلا دوترينوم 4، 5، 6، .

57- " دير فاغفارفار"، مينيخ 1982.

58- مارك اوغي المصدر المشار إليه سابقا ص 86 والصفحات الموالية.

59- انظر في " سادوم و غومور" عن الملاحظة القائلة بان الذاكرة تعني التناقض الغريب جدا للبقاء والعدم  ".

60- بروست،" البحث عن الزمن المفقود" الكتاب 1 ص 2

61- عن هذا الحديث انظر نسخة " تاريخ حياتي " في سلسلة بوكان باريس لافون 1993 وكذلك تحليل ه. وانريش في المصدر السابق ص 115-123.

 

"يُحرم الفرد باستمرار من اتخاذ القرارات الأخلاقية فيما يتعلق بطريقته في الحياة، وبدلا من ذلك، فهو يُحكم و يُطعم ويُكسى ويُعلّم كوحدة اجتماعية ويتم منحه سكنا ملائما، ويستمتع وفقا للمعايير التي تعطي المتعة والقناعة للناس". (كارل جنك، الحضارة في تحوّل،جزء 10،1964)

كلمة حرية "freedom" يُعلن عنها اليوم بثقة، وحتى بلا مبالاة، كشيء لا يتطلب تعريفا او توصيفا. لقد نُسي الزمن الذي كان فيه الفلاسفة يحققون في معنى الحرية محاولين الإمساك بطبيعتها الوهمية . الانسان في الغرب الحديث لديه القليل من اليقينيات في حياته، احداها معرفته بانه يعرف ما تعنيه كلمة الانسان الحر. ولكن عندما يتحدث الانسان الحديث عن الحرية freedom، هو في الحقيقة يتحدث عادة عن التحرر liberty.(1)

اول فيلسوف بارز أشار الى أهمية التمييز المفاهيمي بين الحرية والتحرر كانت حنا أرندت (1906-1975). هي اعتبرت هذا التمييز هاما جدا من أجل فهم الحياة السياسية في عصرنا الحديث. ومؤخرا، تحدّثت المنظّرة السياسية الامريكية هانا بيكتين Hannah F. Piktin (1931-2023)عن الفرصة الفريدة التي امتلكها متحدثو الانجليزية ليقرروا بين الكلمتين الحرية والتحرر، حيث امتلكوا القدرة على وصف مفهومين مختلفين جدا.(السياسة، العدالة، الفعل، 2016).

وكما لاحظت بيكتن، ينطوي مفهوم التحرر على نظام من القواعد يمتلك فيه الافراد القدرة على عمل الخيارات. اما مفهوم الحرية، فهو ظرف أوسع بكثير وأعمق وأكثر خطورة، يفترض مسبقا الإعفاء التام  من أنظمة القواعد . لكن الحرية ربما تُفهم بشكل أفضل كإمكانية لتحويل ما موجود سلفا لخلق شيء ما جديد او كما تقول ارندت غير متوقع.

لذا، بينما الحديث عن "التحرر" يتخذ معناه في الاطار السياسي - الدولة، حيث تزود الافراد بمشروع لتوجيه افعالهم، فان الحديث حول الحرية غالبا ما يكون مضللا ان لم يكن هراءً في مثل هذا السياق. الحرية تُفهم كإمكانية لخلق شيء جديد وغير متوقع – شيء يعكس حقا الضمير المتفرد للفرد – وهي تُستهجن في معظم الانظمة السياسية عندما يُحتمل ان تنحرف عن البناء، ولذا هي محدودة جدا ان لم تُكبح.

يمكن القول، ان أي نوع من التنظيم الاجتماعي يتطلب منا التضحية بدرجة معينة من حريتنا الفردية لتسهيل التدفق السلس للحياة الاجتماعية. لكن اذا كان هذا المطلب لـ"التقييد الطوعي الذاتي" يحتاج شرعية ضمن المجتمع الذي يقيّم الحرية الفردية والاستقلالية، عندئذ فانه يجب الاعتراف ان نتائج التسوية تستحق التضحية، طالما ان هدف القواعد  بالنهاية هو تسهيل حياة الافراد وليس لفرض إيقاعات وأهداف الحياة. لكن التمييز بين التحرر والحرية يصبح حاسما في مجتمعات السلطة المركزية. في مثل هذه المجتمعات يكون من الخطير جدا التفكير فقط في اطار تلك الاشكال من التحرر الذي نستطيع الاستفادة منه ضمن الاطار المسموح به. نحن يجب ان لا ننسى ابدا ان شرعية الاطار السياسي هي فقط بمقدار ما يعطي منافع  تكفي لتبرير تقليص حريات الافراد التي تأتي  بدرجات مختلفة مع السلطة المركزية. بالنهاية، النظر الى الحرية كواحدة من أعلى القيم لحياة الانسان يجب ان يحفزنا لبناء أنظمة اجتماعية واقتصادية تسمح للناس للعب دور فاعل ومركزي في تقرير حياتهم، بدلا من اختزالها الى موارد تُدار او وحدات تُمنح.

حدود التحرر في الديموقراطيات الليبرالية

مهما كان الكتاب الذي نطالعه سواء كان في السوسيولوجي او في القانون سنجد دائما ان الحكومة وتنظيمها وأفعالها تشغل حيزا كبيرا فيه لدرجة تدفع للاعتقاد ان لا شيء هناك عدى الحكومة ورجال الدولة، ولكن حالما ننتقل من المواد المكتوبة الى الحياة ذاتها، وحالما نلقي نظرة على المجتمع، سنصطدم بالدور الضئيل للغاية الذي تلعبه الحكومة فيه" (بيتر كروبوتكن، إخضاع الخبز،1892).

ما يجعلنا نشعر بعدم الحرية حتى في الديمقراطية الليبرالية هو حقيقة اننا نفتقر للمقدرة على التعبير عن ضميرنا بطريقة مقنعة. نحن ليست لدينا القدرة لرؤية انعكاس مادي لقيمنا في العالم الذي حولنا. نحن نستطيع التعبير عنها بأكثر الطرق سطحية. انا استطيع الكتابة حول رؤاي واشاركها مع الناس الاخرين، وحتى انشر افكاري في الصحافة .. مع ذلك، انا اُمنع من اخذ زمام المبادرة في جعل قيمي واقعا سياسيا.

نعم، نستطيع دائما التصويت للمرشحين السياسيين لكن ذلك كيف يضمن ان رؤانا سوف تُمثل (دعك عن ان تُنفذ) بشكل صحيح؟ حتى في حالة وجود مرشح اؤمن به حقا وسيتمكن من الوصول الى الحكومة، وهو امر غير مرجح، ليس هناك ما يضمن انه سيفعل في النهاية ما صوتت له للقيام به. كل شخص يعرف هذا، وهذا يفسر لماذا الكثير من الناس متعبين من السياسة. كذلك، التصويت للسياسيين له تأثير قليل على حياة الناس المنهمكين بشكل رئيسي في العثور على عمل وتحقيق غاياتهم والعيش في بيئة صحية. السياسة في الحقيقة بعيدة عن التجارب الملموسة لمعظم الناس لدرجة انها تفشل في تحفيز أي ثقة او أمل للتغيير في معظم الناس. حتى لو حقا نفترض سلفا توفر النية الحسنة في مرشحينا، كيف يمكن لبضعة سياسيين امتلاك المعرفة والخبرة لعمل قرارات بشأن مسائل لا يعرفون الا القليل عنها ان لم يجهلوها تماما؟ كيف يمكن لوزير زراعة لم يسبق له فلاحة هكتار واحد من الارض في حياته ان يتخذ قرارات  صحيحة لمزارعين على نطاق واسع يشمل كافة البلاد وبمختلف التضاريس والمناخات؟ لماذا لا يكون الناس ذوي التجربة المباشرة بالتحديات التي يواجهونها هم منْ يتخذ  القرارات السياسية بالاضافة الى القرارات الفورية المباشرة؟

هذا الحرمان للناس هو احيانا يُبرر بادّعاء انه مالم يكن هناك توجيه مباشر من سلطة عليا، فان الناس سوف يهتمون فقط بانفسهم. لكن، طالما الحكومة تُصنع من اناس، فكيف لنا ان نثق بان مصالح الجالية التي عادة لا يعرف عنها السياسيون واحيانا لم يسمعوا ابدا بها سيؤخذ بها جديا؟ ربما شخص ما لديه اشتراك في قضية معينة وهو جزء من الجالية لديه حافز قوي لاتخاذ قرار يسمح له للحفاظ على رأسماله الاجتماعي، لأنه لو اتخذ قرارا يؤدي الى تفكك الجالية التي هو جزء منها، سيُجبر على المغادرة. لكن عندما يتخذ ممثل الناس  قرارا خاطئا ، فمنْ الذي يُلقى عليه اللوم؟ منْ يعتبر مسؤولا؟ سيتضح ذلك فقط عندما يكون للاعلام أجندة معينة.

هل يستطيع الناس بشكل أفضل التنفيذ المباشر للتغيرات لمصلحة جالياتهم؟ ان العالم الذي نعيش فيه منظّم بشكل كبير لدرجة ان تبرير "الحفاظ على النظام" يقتل أي فعل جماعي تلقائي يبرز طبيعيا بين الناس الذين يشتركون بنفس البيئة والتحديات. منْ سيسمح لبعض متعددي الجنسية للمجيء لمناطقهم وتلويث مياههم – كما حدث في فرموزا وتكساس والعديد من المدن الاخرى؟ الجواب بالتأكيد هو لا أحد يقوم بذلك وهو في كامل قواه العقلية. حتى الان، يجادل البعض بان الناس غير السياسيين لن يكونوا قادرين للتوصل الى اتفاقية عندما تكون مصالحهم في خطر.

في الحقيقة، نحن فعلا نرى الناس يأتون بشكل طبيعي مع بعضهم لحل قضايا يهتمون بها. هذا نراه في الناس الذين ينظمون انفسهم ضد العنف، او شعب كابور(في البرازيل) الذين يتعاملون مع القضايا بانفسهم لمنع تحطيم الغابات. هذه ليست حالات استثنائية، التنظيم الذاتي يحدث طبيعيا عندما يهتم الناس بشيء ما ويُسمح لهم بالتصرف في الدفاع عن مصالحهم. نزعة الناس الطبيعية للتعاون والارتباط الحر جرى توثيقها بشكل جيد من جانب كل من بيتر كروبوتكين  و ديفد غرابير وديفد وينغرو مؤخرا (فجر كل شيء: تاريخ جديد للانسانية، 2021).

الناس يميلون طبيعيا نحو الارتباط الحر بدلا من السلوك الفردي الصرف. لكن في مجتمع مثل مجتمعنا، وحيث آلاف القوانين تنظم كل مظاهر حياتنا، وهيئات الحكومة تهتم بكل شيء، كيف لحريتنا في الضمير يُعبّر عنها عمليا؟ ماذا يعني بشكل ملموس ان نكون احرارا في عالم تكون فيه الطريقة التي يتم بها تنظيم المجتمع سياسيا للمجالات الاساسية التي تشكل حياتنا هي جوهريا خارجة عن سيطرتنا ؟. هناك من يرى اننا لا نحتاج الى منظمات ضخمة، واننا ربما نثق في جارنا أكثر من ثقتنا بأي رئيس.

***

حاتم حميد محسن

....................

الهوامش

(1) التحرر والحرية هما مفهومان مترابطان لكن هناك اختلافات هامة بينهما. التحرر يؤكد على اهمية حقوق الفرد وتقييد سلطة الحكومة، بينما مفهوم الحرية يركز كثيرا على قدرة الافراد على متابعة اهتماماتهم. عمليا، هذا يقود الى مختلف الايديولوجيات السياسية. التحرريون مثلا، يفضلون الحرية الفردية وتقييد تدخل الدولة، بينما التقدميون يركزون على الحريات الاجتماعية والاقتصادية التي تسمح للافراد بتحقيق طموحاتهم. 

 

في مثالية ساذجة يذهب هوسرل الى "ان الموضوع ليس معطى غفلا بل هو حقيقة تستمد معناها من القصد". في العبارة نجد بسهولة اول خطأ مثالي سطحي هو تغليب هوسرل اولوية وقبلية الوعي القصدي على بعدية الموضوع. وثانيا لايمتلك الموضوع المستقل انطولوجيا خاصيّة ان يكون (حقيقة) بل ان يكون الوعي الادراكي له (معرفة). وهذا التفريق بين الحقيقة والمعرفة ليس على صعيد اختلاف المصطلح بين الاثنين فقط بل على صعيد المعنى المحتوى.

الثابت في الادبيات الفلسفية ومثله في التفكير العلمي الذي لا يمكن تجاهله هي أن مصطلح (الحقيقة) يلتقي مع مصطلح (المعرفة) في أن كليهما مصطلحان نسبيان بمعنى هما سيرورتان تقبلان الاضافة التراكمية الكميّة والنوعية لكن ايضا باختلاف. فالتراكم الذي تتقبله الحقيقة هو قفزة نوعية ناسخة لما قبلها اما التراكم المعرفي فهو خبرة كميّة مضافة تعتمد ماقبلها ولا تلغيه.

كما أن الفرق بين الحقيقة انها مفهوم مطلق مثلما نقول الوجود هو مفهوم مطلق غير متعيّن بابعاد معرفية تجعل منه مصطلحا متفقا عليه. فالوجود يكون مصطلحا بمحتوياته الموجودية فيه فقط في حالات موجوديتها المستقلة انطولولوجيا داخل كليّة الوجود الذي هو مفهوم تبحث فيه الميتافيزيقا منهجا ماجعل نيتشة يسخر سخرية شديدة قوله ليس هناك شيء لاندركه لا بصفاته ولا بماهيته وندعوه الوجود.. وكذا فعل بعده هيدجر أنه لا شيء يدعى وجودا.

ليس غريبا ان نجد بالفلسفة مثل هذه المفهومات التي نعتبرها متناقضة لا يقبلها العقل لكنها ليست بعيدة المصداقية التسليم بها. مثال آخر حينما الغى الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (العقل المعرفي) التجريدي وليس العقل البيولوجي. سرعان ما تلقف هذه المقولة الفيلسوف الانجليزي جلبرت رايل 2900- 1976 قائلا من السخرية الفلسفية ان نقر بوجود عقل انساني ابدا. علما أن ديكارت في القرن السابع عشر سبق وقال العقل جوهر خالد خلود النفس وهو يقصد العقل المجرد وليس العقل البيولوجي عجينة الدماغ بتركيبة ما تحتويه الجمجمة. نفس الشيء تكرر مع التشكيك بوجود الزمن المفهوم عدا الدلالة المعرفية لملازمة الزمن للمكان.  وابرز من أنكر حتى عدم حاجتنا ملازمة الدلالة الزمانية للمكان هو برجسون. ودبّت الحياة بالتشكيك بوجود الزمن على يد ثلاثة فلاسفة اميركان معاصرين ذهبوا نفس المنحى انكارهم وجود الزمن حتى كدلالة ادراكية للمكان.(لي مقال منشور اؤيد فيه هذه النظرية الفلسفية غير الفيزيائية علميا ان الزمن مفهوم مطلق لا يمكننا البرهنة اليقينية عليه خارج ملازمته الحيادية للمكان).

طبيعي ومهم أن نشير الى أن نظرية نكران الزمكان أي ملازمة الزمن للمكان ادراكيا في توليفة واحدة سوف تصطدم بعقبة كأداء لا يمكن تجاوزها بسهولة هي تاكيد النسبية العامة لانشتاين 1915 حين اكد توليفة الزمكان علميا فيزيائيا باكثر مما سبق لكانط وفلاسفة عديدين القول به.

واكثر من ذلك اضاف انشتاين في النسبية العامة الزمن بعدا رابعا لأبعاد المادة الثلاث الطول، العرض، الارتفاع. بمعنى المادة اصبحت باربعة أبعاد ادراكبة. اذن من الممكن القول اننا بدلالة الابعاد الثلاث للمادة ندرك الزمن ليس مثل ادراكنا المادة بابعاد ثلاثة خالية من الزمن... البعد الرابع الذي اضافه انشتاين ليس تعسفيا بل فيزيائيا علميا على المادة في النسبية العامة التي لا يتوفر الى اليوم بديل تخطئتها او إدحاضها. لكن مشكلة ارتباط الزمن بابعاد المادة التي ندركها يفتح امامنا احتمال ادركنا الزمن موضوعا مستقلا وهو محال.

 اما حين تقول الوجود وتعني به الكليّة غير المتحققة وجودا فهو يكون مفهوما وليس مصطلحا متفقا عليه في حين تكون المعرفة (الابستمولوجيا) مصطلحا بحثيا متفقا عليه. والسبب يعود لامكانية حصرنا المعرفة بابعاد فيزيائية او كيميائية او مادية وغيرها من تجربة علمية ومعادلات رياضية. وهذا لا ينطبق على الوجود الذي نعي تعيّنه الفيزيائي من خلال معرفتنا لمحتوياته الموجودية فقط.

ثم الوعي القصدي للاشياء والمواضيع حسب هوسرل واشياعه هو الوصول لهدف يتوخاه التفكيرالمسبّق قبل ادراك الموضوع او الوعي به حسب فهمنا تعبير هوسرل. أي أن المعنى برأينا ليس خاصّية معرفية موجودة بالوعي القصدي بل المعنى خاصية الشيء في وجوده المستقل بعالمنا الخارجي.

القصد أو القصدية في الوعي لايحمل معنى قبليا يخلعه هو على موضوعه بل القصد يحمل خاصيّة البحث عن المعنى في مدركه الوجودي (الموضوع). هنا تتبيّن حقيقة الموضوع أنه ليس وسيلة ادراكية هادفة معرفية بل هو هدف بذاته بخلاف الوعي القصدي الذي هو وسيلة البحث عن المعنى في الموجود اي عن المعنى في موضوع تفكيره.. وليس في خلعه المعنى على مدركاته.

طبعا هوسرل في منهجه الظاهراتي (الفينامينالوجيا) ومعه تلميذيه هيدجر وميرلوبونتي ذهبوا الى تبنّي الوعي القصدي الذي قال به برينتانو في معرض رده على الكوجيتو الديكارتي انا افكر.. وما يخص موضوعنا يعنى الموضوع في التفكير القصدي به قبل أن يكون (غفل) اصطدام الوعي به كموجود مستقل طاريء صدفة سابق على التفكير القصدي به فهو بالتأكيد يكون غفلا كموضوع يحتويه عالمنا الخارجي..

اذا نحن سلمنا مع هوسرل بان الموضوع ليس معطى غفلا عندها نسقط انفسنا في سذاجة فلسفية مثالية مغلوطة جدا هي أن كل مدركات العقل انما هي موجودات غير مادية ولا وجود لعالم خارجي يحتويها. فالموجودات المادية هي مواضيع (غفل) ليس بمحكومية ادراكنا لها بل بمحكومية وجودها المادي المستقل. والعقل لا يبحث عن مواضيعه الادراكية بنزعة وعيه القصدي. بل يبحث عن المعنى المعرفي بالمواضيع والاشياء المستقلة عنه. كذلك حين نقول مواضيع الخيال هي الاخرى ليست غفلا وبذلك نلغي انتفاء مادية مواضيع الخيال اولا وهو اجتهاد يمكننا تمريره في تبرير ان اللاشعور الذي هو مصدر مواضيع المخيّلة ليس هو الاخر غفلا. فالخيال وإن كان تداعيات انثيالاته الصورية بالذهن تسقطها المخيلة على التفكير العقلي الا ان الخيال لا وجود له بدون تفكير بموضوع حتى لو كان موضوع الخيال لا تنتظمه اللغة المحكومة بضابطي محدودية المعنى ومحدودية انتظام الكلمات في التعبير عن الصوت والمعنى الدال. حتى الصمت هو تفكير لغوي صورة ودلالة صوتية او غير صوتية لا يهم حين نريد الوصول الى حقيقة أن الخيال بلا موضوع هو هذيان من التفكير والاصوات غير المنضبطة بمعنى غير العاقلة في معرفتها اهمية واسلوب تعبير اللغة عن معنى قصدي تبتغيه اللغة توصيله للمتلقي..

الوعي القصدي هو الشعور بالاتجاه المعرفي نحو هدف معيّن سبق التفكير به ذهنيا كموضوع. لذا يكون الشعور قرين الموضوع المحدد ماديا وليس قرين الموضوع (الغفل) الذي هو قرين اللاشعور الذي تفصح عنه تداعيات اللغة الحلمية في يقظة الخيال الشعوري.

هنا علينا التمييز بين اللاشعور غير المسّيطر عليه في انتظام تداعيات الافصاح اللغوي عنه أي هو حالة من العصاب النفسي وليس اللاشعور المتمثّل في ابداعات لغة الاجناس الادبية التي تكون فيها مساحة المخيال اللاشعوري اكبر من مساحة تداعيات اللاشعور في لغة الكلام التداولي العادية. وهنا يكون المخيال في الاجناس الادبية مسيطرا عليه من قبل المبدع وسائبا عند تداعيات الجنون الصوتية العشوائية التي لا معنى لها يؤطرها لا شكلا ولا محتوى.

متى يصح معنا القول الموضوع (غفلا) يحمل القصد معناه؟ حين يكون ادراكنا المواضيع بمحكومية محض الصدف لوجودها المستقل ولمباغتة الوعي التفكير القصدي بها اي معرفتها. وهذه الصدف التي تلازم بعض المواضيع تنفي ان يكون الوعي القصدي التفكيري بالهدف يتم بالذهن قبل وجوده المادي المستقل بالعالم الخارجي كما تذهب له فينامينالوجيا هوسرل. والصدف الملازمة لبعض الموضوعات التي يستهدفها الوعي القصدي بالمعرفة عنها تؤكد (الغفل) الذي يجعل من الصدفة اصدق تعبير عن الموضوع من الوعي القصدي الذي يتراجع دوره.

ثم هنالك زاوية نظر حول ان الصدف في تناول الادراك للموضوعات الغفل تخرج فاعلية العقل باختياره الموضوعات التي لها معنى. واذا افترضنا ان الوعي القصدي ينوب عن العقل الادراكي في الاختيار فهو يبطل التوجه نحو المواضيع الغفل التي تصبح كل ما يدركه العقل ليس صدفة ولا غفلا وهذه النظرة قاصرة بسبب ان العقل يدرك المواضيع التي تحكمها الصدف اكثر اهمية بكثير من الموضوعات التي تبدأ بالفكر وتنتهي بالموضوع في حكم الوعي القصدي باختياره مواضيع ليست غفلا ولا تحكمها صدفة وهذا غير منطقي.

فيورباخ وموضوعات الطبيعة

كان ولع فيورباخ الفيلسوف المادي اليساري المنشق بالطبيعة وصل مرحلة العبادة حد الهوس بعد وفاة هيجل ومعه ماركس وانجلز وشيلر وباور وشتراوس وفي رسالة كتبها لابيه مخاطبا إياه اني تركت دراسة اللاهوت ليس ازدراءا به ولكن لأن الفلسفة والطبيعة وفرتا لي ما كنت اجد نفسي به. واصدر اهم كتابين له الاول (اصل الدين) والثني (جوهر المسيحية) ما سبب له تهمة الالحاد. حيث تملكته فكرة وحدة الوجود المادية الصوفية التأملية في تخليق الانسان لمعبوده انما يتم بعلاقة ميتافيزيقية تجمع بين الطبيعة والانسان.

طبعا رغم إعتراف ماركس بجميل فويرباخ الفلسفي انه اي ماركس اخذ من فويرباخ (ماديته) واخذ عن هيجل (ديالكتيكه) الواقف على راسه بالمقلوب بدلا من قدميه واعاده ماركس الى وضعه الطبيعي في صياغته نظرية المادية التاريخية والديالكتيك في المادة.الا ان ماركس هاجم فيورباخ بثلاثة اطروحات مجلدات طبعت ونشرت بعد وفاته.

لماذا هاجم ماركس في اطروحاته الثلاث كلا من هيجل وفيورباخ؟

الاسباب التي دعت ماركس الهجوم على ديالكتيك هيجل هي:

1. هيجل اعتبر الديالكتيك يتم يالذهن قبل الواقع. واسبقية الفكر على الواقع ماجعل ماركس يرد عليه ان الوجود سابق على الفكر. والديالكتيك الحاصل في المادة (صراع الاضداد) وفي التاريخ (الصراع الطبقي) هو الذي يقود الديالكتيك في الفكر.

2. الادهى من ذلك قول هيجل أن طبيعة العقل أي تركيبته البايولوجية هي جوهر طبيعي مزروع في الدماغ بالفطرة هو الديالكتيك. وهذه الطبيعة الديالكتيكية الفطرية للعقل تنعكس على الواقع المادي وعلى التاريخ فيضفي عليهما حتمية حصول الديالكتيك. (تناولت هذا الخطأ لدى هيجل باكثر من مقال منشور لي على مواقع التواصل الاجتماعي كما هو موزع بمؤلفاتي).

ننتقل الان الى الاسباب التي دعت ماركس يكتب ثلاث اطروحات ضد فيورباخ:

1. ابتداع فيورباخ مادية تاريخية صوفية تاملية بنشأة الدين في تطويعه نزعته المادية في ايجاد نوع من وحدة الوجود التصوفي.

2. اهتمام فيورباخ باهمية الدين في حياة الانسان في بحثه الدائب عن اله يجده بالطبيعة او الانسان رغم الحاد فيويرباخ الذي انكره بعض الفلاسفة واعتبروه بريء من وصمه به.

3. تطيّر ماركس من تاليف فويرباخ كتابين احدهما (اصل الدين) وكتاب (جوهر المسيحية) مركزا اهتمامه اي فيورباخ على ان علاقة الانسان بالطبيعة هما اللذان اخترعا الاله الذي هو الانسان بذاته.

ويرى فيورباخ بهذا المعنى الانسان هو الاله الذي يصنعه من خامة الطبيعة ويؤمن به معبودا متعاليا يحمل كل الصفات الجيدة التي يتمناها الانسان لنفسه ولا يستطيع ذلك كونها صفات متعالية مطلقة بالقياس لمحدودية الانسان كجوهر مادي كلي. لذا فهو يخلعها على معبوده ليجده اعلى مرتبة في امتلاكه الخصائص التي يرتاح بعبادة الانسان لها . بمعنى مقولة شيلر كل شيء تجده مجتمعا بالانسان ولا تبحث عن شيء خارجه بمعنى تجد العلاقة وليس الاحتواء فقط.

***

علي محمد اليوسف

كانت نظرية "الحداثة السائلة" لـعالم الاجتماع والفيلسوف البولندي البريطاني "زيجمونت بومان" Zygmunt Bauman أحد أهم المنظرين الاجتماعيين في القرنين العشرين والحادي والعشرين، موضوعاً للعديد من المجالات. شدد باومان على أن بيئة اليوم التي تتسم بعدم اليقين وانعدام الأمن، إلى جانب المخاوف التي يعيشها الأفراد، ولدت الحداثة السائلة. بومان الذي وجه نقداً لاذعاً للحداثة قبل تنظيره للحداثة السائلة، ذكر في أعماله أنه مع الحداثة. تدير الحكومات العنف فعلياً وأن العنف يمارس على الأفراد الذين يُنظر إليهم على أنهم الآخر في كل مجال. على الرغم من أن فترة ما بعد الحداثة تبدو بمثابة تحرر من الشمولية التي شهدتها الحداثة، إلا أن باومان يعتقد أن فترة ما بعد الحداثة لم تكن مختلفة تماماً عن الحداثة، بل إنها جعلت حياة الأفراد أكثر غموضاً. قام زيجمونت بومان بدراسة العديد من المجتمعات من منظور نقدي في دراساته. قبل دراسة نظرية باومان حول الحداثة السائلة، من المهم للغاية التعرف عليه وفهم أعماله النظرية.

بومان الذي ولد كيهودي في بولندا، واجه صعوبات أن يكون الآخر طوال معظم حياته، فحص هذه الصعوبات في عيون المجتمع في أعماله. أتيحت لباومان، الذي تحولت حياته إلى منفى بعد الاحتلال النازي، فرصة دراسة مجتمعات مختلفة بسبب تواجده في أماكن عديدة. في المرحلة الأولى من الدراسة تم إدراج حياة باومان وأعماله والأسماء التي أثرت فيه وشرح دراساته النظرية. يرى بومان، الذي يطلق على نفسه اسم مؤرخ الحداثة وما بعد الحداثة، أن الحداثة ليست من بقايا البربرية، بل هي نفسها. على الرغم من أن باومان رأى في البداية فترة ما بعد الحداثة بمثابة خلاص للحداثة، إلا أنه أكد لاحقاً في العديد من أعماله أن ما بعد الحداثة لا تختلف عن الحداثة. من الممكن النظر إلى تنظير الحداثة السائلة، كنقد لما بعد الحداثة. يرى باومان أن البيئة المتغيرة التي تتسم بعدم اليقين وانعدام الأمن اليوم، إلى جانب المخاوف التي يعيشها الأفراد، وأكد أنها ولدت الحداثة. وقبل تنظيره للحداثة السائلة، كان من أشد منتقدي الحداثة.

من هو زيجمونت بومان

زيجمونت باومان (19 نوفمبر 1925 - 9 يناير 2017) كان عالم اجتماع وفيلسوف بولندي بريطاني. وُلِد باومان لعائلة يهودية بولندية غير ملتزمة دينياً في "بوزنان" boznan الجمهورية البولندية الثانية، عام 1925. وفي عام 1939، عندما غزت ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي بولندا، هربت عائلته شرقًا إلى الاتحاد السوفييتي. أُجبر على التخلي عن جنسيته البولندية. هاجر إلى إسرائيل؛ وبعد ثلاث سنوات انتقل إلى المملكة المتحدة. أقام في إنجلترا منذ عام 1971، حيث درس في كلية لندن للاقتصاد وأصبح أستاذاً لعلم الاجتماع في "جامعة ليدز" University of Leeds ثم أصبح أستاذاً فخريًا. كان باومان منظّراً اجتماعياً، وكتب عن قضايا متنوعة مثل الحداثة والمحرقة، والاستهلاك ما بعد الحداثي والحداثة السائلة. خلال الحرب العالمية الثانية، التحق باومان بالجيش البولندي الأول الذي كان خاضعًا لسيطرة السوفييت، وعمل كمدرس سياسي. وشارك في معركة "كولبرج" Kohlberg (1945). في مقابلة مع صحيفة "الغارديان" The Guardian أكد بومان أنه كان شيوعياً ملتزماً أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية ولم يخف ذلك أبداً.

باومان لم يشارك والده في الميول الصهيونية وكان مناهضاً للصهيونية بشدة. أكمل درجة الماجستير وفي عام 1954 أصبح محاضراً في "جامعة وارسو" University of Warsaw حيث بقي حتى عام 1968. أثناء وجوده في "كلية لندن للاقتصاد" London School of Economics حيث كان مشرفه "روبرت ماكنزي" Robert Mackenzie أعد دراسة شاملة عن الحركة الاشتراكية البريطانية، وهي أول كتاب رئيسي له. في مواجهة الضغوط السياسية المتزايدة المرتبطة بالتطهير السياسي تخلى بومان عن عضويته في حزب العمال البولندي الموحد الحاكم في يناير 1968. بلغت الأزمة السياسية البولندية عام 1968 ذروتها في التطهير الذي دفع العديد من البولنديين الشيوعيين المتبقين من أصل يهودي إلى مغادرة البلاد. كان عليه التخلي عن الجنسية البولندية للسماح له بمغادرة البلاد. في عام 1968، ذهب إلى إسرائيل للتدريس في جامعة تل أبيب. في عام 1970، انتقل إلى بريطانيا، حيث قبل منصب رئيس قسم علم الاجتماع في جامعة ليدز. هناك عمل أيضاً بشكل متقطع كرئيس للقسم. بعد تعيينه، نشر حصريًا تقريبًا باللغة الإنجليزية، لغته الثالثة، ونمت شهرته. ومنذ أواخر التسعينيات، مارس باومان تأثيراً كبيراً على الحركة المناهضة للعولمة أو المغايرة لها.

في مقابلة عام 2011 في الأسبوعية البولندية "بوليتيكا" Politics انتقد باومان الصهيونية وإسرائيل، قائلاً إن إسرائيل غير مهتمة بالسلام وأنها "تستغل الهولوكوست لإضفاء الشرعية على الأفعال غير العادلة". وقارن الجدار الإسرائيلي في الضفة الغربية بجدران غيتو وارسو، حيث مات الآلاف من اليهود في الهولوكوست.

تزوج باومان من الكاتبة "جانينا باومان" Janina Baumann توفي زيجمونت بومان في ليدز في 9 يناير/كانون ثاني 2017. قام بتأليف ونشر 57 كتاباً وأكثر من مئة مقال. تتناول معظم هذه الأعمال عددًا من الموضوعات المشتركة، من بينها العولمة والحداثة وما بعد الحداثة والاستهلاك والأخلاق. أقدم منشورات باومان باللغة الإنجليزية هي دراسة لحركة العمال البريطانية وعلاقتها بالطبقة والطبقية الاجتماعية. استمر في النشر حول موضوع الطبقة والصراع الاجتماعي حتى أوائل الثمانينيات. كان آخر كتاب له حول موضوع ذكريات الطبقة. في حين أن كتبه اللاحقة لا تتناول قضايا الطبقة بشكل مباشر، فقد استمر في وصف نفسه بأنه اشتراكي، ولم يرفض الماركسية تماماً. ظل المنظر الماركسي الجديد والفيلسوف الإيطالي "أنطونيو جرامشي" Antonio Gramsci على وجه الخصوص أحد أعمق مؤثراته، إلى جانب عالم الاجتماع والفيلسوف الكانطي الجديد الألماني "جورج سيميل".

الحداثة والعقلانية

في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات نشر باومان عدداً من الكتب التي تناولت العلاقة بين الحداثة والبيروقراطية والعقلانية والاستبعاد الاجتماعي. وتبعاً لعالم النفس النمساوي "سيجموند فرويد" Sigmund Freud توصل باومان إلى اعتبار الحداثة الأوروبية بمثابة مقايضة: فقد زعم أن المجتمع الأوروبي وافق على التنازل عن مستوى من الحرية لتلقي فوائد زيادة الأمن الفردي. وزعم باومان أن الحداثة، فيما أطلق عليه لاحقاً شكلها "الصلبة"، تنطوي على إزالة المجهول وعدم اليقين. كما تنطوي على السيطرة على الطبيعة، والبيروقراطية الهرمية، والقواعد واللوائح، والسيطرة والتصنيف - وكلها حاولت إزالة انعدام الأمن الشخصي تدريجياً، مما يجعل الجوانب الفوضوية للحياة البشرية تبدو منظمة ومألوفة. وفي وقت لاحق في عدد من الكتب بدأ باومان في تطوير موقف مفاده أن مثل هذا التنظيم لا ينجح أبداً في تحقيق النتائج المرجوة.

لقد زعم باومان أن الحياة حين تنظم إلى فئات مألوفة وقابلة للإدارة، فإنها تُنشأ دوماً مجموعات اجتماعية لا يمكن إدارتها، ولا يمكن فصلها أو السيطرة عليها. وفي كتابه "الحداثة والتناقض" بدأ باومان في صياغة نظريات حول مثل هؤلاء الأشخاص غير المحددين من خلال شخصية رمزية أطلق عليها "الغريب". واستعان باومان بعلم اجتماع الألماني "جورج سيميل" Georg Simmel وفلسفة الفرنسي "جاك دريدا" Jacques Derrida فوصف الغريب بأنه الشخص الحاضر غير المألوف، الذي لا يمكن للمجتمع أن يقرره. وفي كتابه "الحداثة والتناقض" حاول باومان أن يقدم وصفاً للمناهج المختلفة التي يتبناها المجتمع الحديث في التعامل مع الغريب. فقد زعم من ناحية أن الغريب وغير المألوف في الاقتصاد الموجه نحو الاستهلاك يكون دائماً مغرياً؛ ومن ناحية أخرى، في أنماط الطعام المختلفة، والأزياء المختلفة، وفي السياحة، من الممكن أن نختبر جاذبية ما هو غير مألوف. ولكن هذه الغرابة لها أيضاً جانب أكثر سلبية. فالغريب، لأنه لا يمكن السيطرة عليه أو إصدار الأوامر له، يكون دائماً موضعاً للخوف؛ إنه اللص المحتمل، الشخص خارج حدود المجتمع الذي يشكل تهديدًا دائمًا.

كتاب باومان الأكثر شهرة، "الحداثة والهولوكوست" Modernity and the Holocaust هو محاولة لإعطاء حساب كامل لمخاطر هذا النوع من المخاوف. بالاستعانة بكتب الفيلسوفة الألمانية الأمريكية "هانا أرندت" Hannah Arendt، وعالم الاجتماع الألماني "ثيودور دبليو أدورنو" عن الشمولية والتنوير، طور باومان الحجة القائلة بأن الهولوكوست لا ينبغي اعتباره مجرد حدث في التاريخ اليهودي، ولا تراجعاً إلى البربرية ما قبل الحديثة. بدلاً من ذلك، جادل بأنه يجب النظر إلى الهولوكوست على أنه مرتبط ارتباطاً عميقاً بالحداثة وجهودها في صنع النظام. العقلانية الإجرائية، وتقسيم العمل إلى مهام أصغر وأصغر، والفرز التصنيفي للأنواع المختلفة، والميل إلى النظر إلى الطاعة للقواعد على أنها جيدة أخلاقياً، قد لعبت جميعها دورها في حدوث الهولوكوست. لقد جادل بأن المجتمعات الحديثة لهذا السبب لم تستوعب تماماً دروس الهولوكوست؛ يميل الأمر إلى أن يُنظر إليه - لاستخدام استعارة باومان - مثل صورة معلقة على الحائط، لا تقدم سوى القليل من الدروس. في تحليل باومان، أصبح اليهود "غرباء" بامتياز في أوروبا. وقد صور الحل النهائي من قبله كمثال متطرف لمحاولة المجتمع لاستئصال العناصر غير المريحة وغير المحددة الموجودة داخله. زعم باومان، مثل الفيلسوف الإيطالي "جورجيو أجامبين" Giorgio Agamben أن نفس عمليات الإقصاء التي كانت تعمل في الهولوكوست يمكن أن تلعب دوراً اليوم، وإلى حد ما تفعل ذلك.

ما بعد الحداثة والاستهلاك

في منتصف إلى أواخر التسعينيات، بدأ باومان في استكشاف ما بعد الحداثة والاستهلاك. افترض أن تحولاً حدث في المجتمع الحديث في النصف الأخير من القرن العشرين. لقد تغير من مجتمع المنتجين إلى مجتمع المستهلكين. وبحسب باومان، فإن هذا التغيير عكس المقايضة "الحديثة" التي طرحها فرويد ـ أي التخلي عن الأمن في مقابل المزيد من الحرية، حرية الشراء والاستهلاك والاستمتاع بالحياة. وفي كتبه التي صدرت في تسعينيات القرن العشرين، وصف باومان هذا التحول بأنه تحول من "الحداثة" إلى "ما بعد الحداثة". ومنذ مطلع الألفية الثالثة، كان الناس في عصر ما بعد الحداثة يتطلعون إلى الحرية، ولكنهم لم يعودوا قادرين على تحمل المسؤولية.

منذ عام 1990، حاول باومان في كتبه تجنب الارتباك المحيط بمصطلح "ما بعد الحداثة" باستخدام استعارات الحداثة "السائلة" و"الصلبة". في كتبه عن الاستهلاك الحديث، لا يزال باومان يكتب عن نفس الشكوك التي صورها في كتاباته عن الحداثة "الصلبة"؛ لكنه في هذه الكتب يكتب عن المخاوف التي أصبحت أكثر انتشاراً وأصعب تحديداً. في الواقع إنها باستخدام عنوان أحد كتبه، "مخاوف سائلة" - مخاوف بشأن الاعتداء الجنسي على الأطفال، على سبيل المثال، والتي هي غير متبلورة ولا يوجد لها مرجع يمكن التعرف عليه بسهولة.

يُنسب إلى باومان صياغة مصطلح "الألوسامية" Alosamia ليشمل كل من المواقف المحبة للسامية والمعادية للسامية تجاه اليهود باعتبارهم الآخرين. يُقال إن باومان تنبأ بالتأثير السياسي السلبي الذي تخلفه وسائل التواصل الاجتماعي على اختيار الناخبين من خلال إدانتها باعتبارها "فخاً" حيث "يرى الناس فقط انعكاسات وجوههم".

الفرد والمجتمع في الحداثة السائلة

انطلاقًا مما بعد الحداثة، والتأمل الفلسفي والاجتماعي لزيجمونت باومان، يفتح - من خلال تحليل ظاهرة العولمة - على المستوى الفوقي للحياة، ثم يحدد أحدث الأفكار حول الحياة السياسية، حتى يصل إلى الحداثة السائلة: التغلب على ما بعد الحداثة نفسها. ونتيجة لذلك، يصبح الفرد والمجتمع والأخلاق والسلطة والدين تلك الكلمات المشبعة بسيولة قادرة على تكثيف الجوانب الأكثر أهمية في الواقع الحالي: البعد الذي يفسح فيه الدائم المجال للعابر، والحاجة للرغبة، والضرورة للمنفعة.

يرى زيجمونت باومان وهو أحد أعظم مفسري عصرنا، أن العصر الذي يتحول إلى كتلة بلا شكل يميل إلى التغيير المستمر الذي لا هوادة فيه. إن هذه ليس العصر الحديث، ولا العصر ما بعد الحداثي، إن كان هناك أي شيء، فإن هذه الفترة يمكن تحديدها جيداً على أنها فترة الحداثة السائلة: وهو مفهوم قادر على التركيز على التحولات التي تؤثر على حياة الإنسان فيما يتعلق بتحديدات السياسة العامة للحياة. وعلاوة على ذلك، فإن الحداثة السائلة لبومان هو مصطلح يمكنه التغلب على مفهوم ما بعد الحداثة، لأنه يميل بشكل أساسي نحو العالم المعاصر: الواقع الذي تنظر فيه الحياة إلى ما هو عابر وليس دائماً، والمباشر وليس طويل الأمد؛ وتعتبر المنفعة سابقة لأي قيمة أخرى. وبالتالي فمن الأساسي أن نفهم مسبقاً وبعمق مفهوم السيولة الذي ينسج باومان حوله أحدث تأملاته الفلسفية والاجتماعية. إن الصلابة والسيولة هما السمتان المميزتان لعصرين: الحداثة وما بعد الحداثة، التي أصبحت حداثة سائلة فيما يتصل بالوجود المعاصر. إنها وجود حيث تفسح الحاجة المجال للرغبة التي تفتت الرجال في ظل التغيرات والتحولات المستمرة التي تؤثر على حياتهم، والتي تحول الهوية من حقيقة إلى مهمة: كل واحد منا يركض إلى بناء الذات، الذي يحل محل المشروع نفسه. والواقع أن العلاقة بين الفرد والمجتمع تتغير في عصرنا المعاصر لأن مفاهيم الهوية والفرد والفردية أصبحت بلا معنى.

يطالب العالم الفرد بالبحث المستمر والمثير للجدل على نحو متزايد عن الهوية وتتبع المعايير لتوحيد المعايير من أجل الحصول على "دور" الأفراد، لأن الهوية اليوم أصبحت مهمة. إن كون الفرد فرداً في المجتمع السائل لا يعني ببساطة أن يكون مستهلكاً جيداً، بل يعني أيضاً أن يكون سلعاً قادرة على المنافسة في السوق العالمية. ولا تتطلب هذه الحالة شراء "سلع الموضة" فحسب، بل وأيضاً شراء "جسد عصري" يساعد في الانتقال الكامل من التلاعب الذاتي بجسدنا، إلى الاختيار المباشر والمستقل الحقيقي للجسد الذي نريده لأطفالنا. وبناءً على هذا النمط، تؤكد رؤية باومان المستقبلية أن "كون المرء ملائماً للعالم" لن يكتفي لفترة طويلة بالجراحة التجميلية وإعادة التشكيل على أساس الطوبولوجيا التي تولدها باستمرار سياسات السوق العالمية.

ومن المهم ليس فقط شراء ما يجعلنا "ملائمين" للعالم المعاصر، بل وقبل كل شيء تغيير أنفسنا، الجزء الأقرب إلى إمكانية التلاعب والتدخل: الجسد. يصبح ذلك مساحة حرة لتشكيل الذات المرئية، لأنه إذا لم نكن قادرين على تزيين أجسادنا، فهذا يعني أننا نفتقر إلى شيء ما. إن الإدارة المستقلة لجسدنا، والمسؤولية الشخصية، التي تحمل "مسؤولية كوننا أفراداً"، تنبع من مفهوم التملك وعدم الوجود. أن يكون لديك يعني أن تمتلك لأن بعض أشكال التحكم قادرة على توليد الأمن في عالم يفتقر إلى نقاط مرجعيته الصلبة. ولهذا السبب فإن شروط التملك تقع أيضاً على جسد الإنسان المعاصر، الذي يجد فيه شكلاً من أشكال اليقين: التلاعب والسيطرة.

إن الوسائل المادية التي تعمل على ما أنت متأكد من أنه إن الاستهلاك هو وسيلة مادية تعمل على ما أنت متأكد من امتلاكه. إن الدمج والامتلاك يشكلان جزءًا من الامتلاك، والذي يتم في عصرنا من خلال الاستهلاك كما يقول "إن فعل الاستهلاك هو شكل من أشكال الامتلاك، وربما يكون الأكثر أهمية بالنسبة للمجتمع الصناعي المترف اليوم. إن الاستهلاك له سمات متناقضة: فهو يخفف من القلق، لأن ما يملكه المرء لا يمكن استعادته، ولكنه يتطلب أيضاً أن يستهلك المستهلكون بشكل متزايد، لأن الاستهلاك السابق يفقد قريباً ميزته المجزية"".

الاستهلاك الجامح

هذه الدوامة الخبيثة، التي تجري بين الامتلاك والاستهلاك، هي التأثير الأكثر وضوحاً لما يسميه باومان بالحداثة السائلة، والتي - على عكس ما بعد الحداثة - لها علاقة مستمرة بعملية التحديث، التي لها أصولها في العصر الحديث - لكنها تطول وتتكثف حتى تصل إلى سيولة عصرنا، التي تتميز بالاستهلاك الجامح. وفي التقارب بين الهوية والاستهلاك تكمن إحدى السمات الرئيسية لعصرنا، لأن المجتمع المعاصر يتعامل مع أعضائه في المقام الأول كمستهلكين، وفي المرتبة الثانية فقط، وجزئياً يشركهم أيضاً كمنتجين. وللوفاء بمعايير الحياة الطبيعية والاعتراف بنا كأعضاء ناضجين ومحترمين في المجتمع، يجب أن نستجيب بسرعة وفعالية لإغراءات سوق السلع الاستهلاكية. إننا في حاجة إلى تقديم مساهمة منتظمة للطلب تصلح لاستيعاب العرض، وفي مراحل انعكاس أو ركود الاقتصاد، يتعين علينا أن نشارك في التعافي الذي يقوده المستهلكون. إن الفقراء والعاطلين عن العمل، أولئك الذين لا يملكون دخلاً لائقاً، أو بطاقات ائتمان، أو أملاً في أيام أفضل، ليسوا على قدر هذه المتطلبات. وبالتالي فإن القاعدة التي يكسرها الفقراء اليوم، وانتهاك هذه القاعدة يميزهم ويضعهم في خانة غير الطبيعيين، هي معيار الكفاءة أو اللياقة كمستهلكين، وليس معيار التوظيف. إن الفقراء اليوم (أي أولئك الذين يشكلون مشكلة للآخرين) هم في المقام الأول مستهلكون وليسوا عاطلين عن العمل. إنهم يتحددون في المقام الأول بحقيقة كونهم مستهلكين سيئين: والواقع أن أبسط الالتزامات الاجتماعية، التي لا يلتزمون بها، هي واجب كونهم مشترين نشطين وفعالين للسلع والخدمات التي تقدمها السوق".

وهذا يعني أنه إذا كان الاستهلاك في العصر الحديث يؤدي وظيفة نشاط ثانوي مقارنة بالإنتاج، فإن قدرة الشخص على الاستهلاك في العالم المعاصر تحدد اندماجه الاجتماعي في مجتمع لم يعد يقتصر على السياق المحلي أو على حجم الوجود اليومي، بل في مجتمع كلي يتطلب متطلبات دخول دقيقة ومحددة. ويقع الوصول مباشرة على عاتق الفرد، الذي يفضل، من أجل بناء فرديته، استثمار موارده الاقتصادية المتاحة لشراء تلك الوسائل المناسبة لتصنيف وتحديث وإدخال من يهمه الأمر في قائمة من يهمه الأمر.

 وعلاوة على ذلك، في فترة الأزمة الاقتصادية الحادة تظهر إحصاءات أخرى بأن الاستهلاك الأولي، الذي يشير إلى الضروريات الأساسية، يتم وضعه جانباً لشراء منتجات التكنولوجيا المتقدمة والملابس ومستحضرات التجميل. إن هذه المنتجات تهدف إلى تحديث الجسد وفقاً للمعايير الدنيا المطلوبة ليكون "داخلياً"، أي اكتساب وضع اجتماعي لا يميز، إن وجد، بين كل أولئك الذين يبدو أنهم قادرون على تحديث أنفسهم، بغض النظر عن القدرة الإنتاجية الاجتماعية والدور الذي يمكن أن يلعبه كل فرد.

يبدو أن الاستهلاك اليوم نشاط متجانس، ووفقاً لبومان، فهو وسيلة لقياس مدى قدرة الشخص - في المجتمع السائل - على أن يكون فرداً. وعلى هذا المفهوم، يبني بومان فكره حول الفرد والمجتمع، والذي يسير على خطين رئيسيين. يتجسد الأول في فكرة مفادها أن غزو الهوية في العالم السائل يسير جنباً إلى جنب مع الالتزام بقواعد مجتمع المستهلكين الذي توجهه سياسات السوق العالمية: فكون المرء فرداً يعادل كونه مستهلكاً. ولكن الخط الثاني، الذي يذهب إلى أبعد من ذلك الاعتبار، يتوسع ليشمل الفرد في المنتجات.

إن العلاقة بين الفرد والذات، وكذلك بين الفرد والآخرين، تكتسب من خلال فكر باومان معنى جديداً، يقوم على تحول أنثروبولوجي حقيقي. إن كون المرء فرداً وكونه مستهلكاً يصبحان في الواقع أكثر التحديدات عمومية للفرد الذي يتأثر بالآثار الأكثر إشكالية لعملية إزالة الطابع الاجتماعي، التي بدأت بالعولمة، والتي وصلت الآن إلى واحدة من أكثر مراحلها حدة وتطرفاً. إن التجميع والتنظيم الاجتماعيين محرومان من مهامهما التقليدية: فهما يتوقفان عن أن يكونا أبعاداً هوية للذات قادرة على توفير مجموعة من المعايير والنقاط المرجعية. ويصبح الفرد وحدة معزولة تبحث دائماً عن أشكال جديدة من الحياة.

إن التنشئة الاجتماعية، التي تعمل بدلاً من توفير الأمان والرفاهية، على توسيع الفجوة بين الإنسان والذات وبين الإنسان والآخر. إنها نظام اجتماعي ـ على الرغم من امتلاكه لوسائل مبتكرة بشكل متزايد للتواصل والتفاعل ـ مع زملائه ـ يولد عدم الراحة والوحدة، ـ ويرجع هذا في الأساس إلى أن نجل الفردية الشبكية ـ "نموذج اجتماعي، وليس مجموعة من الأفراد المنعزلين"، وذلك لأن "الدور الأكثر أهمية للإنترنت في هيكلة العلاقات الاجتماعية هو المساهمة في النموذج الجديد للتواصل الاجتماعي القائم على الفردية. ويتزايد عدد الأشخاص المنظمين في شبكات اجتماعية، يتواصلون عبر الحاسوب. وبالتالي، فليس الإنترنت هو الذي يخلق ـ نموذجاً للفردية الشبكية، بل إن تطوير الإنترنت هو الذي يوفر الدعم المادي الكافي ـ لنشر الفردية في الشبكة باعتبارها الشكل السائد ـ من أشكال التنشئة الاجتماعية عبر الإنترنت".

وينشأ هذا الشكل الجديد كمصفوفة لتحديث الهوية المطلوب من قبل العالم العالمي من أجل "الشمول"، حيث إن الحاجة إلى الشمول ليست أكثر من إرث التخلي عن الشعور الأصيل بالانتماء. والواقع أن الانتماء يتسم بأنه شعور إنساني طبيعي، والذي، بعد قمعه في الوقت الحاضر - يتجلى في أشكال بديلة من التجمع الاجتماعي الافتراضي التي تمثل محاولة لإشباع القدرة الطبيعية على الاختلاط البشري. والواقع أن مجتمع المستهلكين لا يتجمع، على أي حال، بل يتفكك ويتحول الجماعات إلى وحدات منعزلة، ذات روابط ضعيفة ومجزأة، حيث يتبلور الفرد بين البحث عن الذات والفوضى في اللا-ذات. إن فكرة المجتمع لا تزال باقية من حيث الاتجاهات المشتركة التي يجب اتباعها، حيث يتم توجيه المجموعات بشكل مجهول تقريباً في السعي وراء تلك "السعادة"، والتي تم تصميم آثارها من قبل جهات خارجية. وفقاً لبومان، فإن هذا هو مراجعة وتنقيح "التضامن الميكانيكي" عند دوركهايم، والذي تميزه خصائصه عن التضامن "العضوي". يتم استبدال تفرد الفرد وتميزه بتدفق احتياجات المجموعة، والتي - في عالمنا المعاصر - تبدو وكأنها تتخذ مظهر سرب.

أسراب استهلاكية

 في التمييز بين السرب والمجموعة، يحدد بومان التغييرات الجذرية التي تؤثر على الفرد والمجتمع في الواقع الاستهلاكي السائل، حيث "يميل السرب إلى استبدال المجموعة وقادتها وتسلسلها الهرمي و"ترتيبها الهرمي". "إن السرب يستطيع الاستغناء عن كل الطقوس والحيل التي لولاها لما تمكن من التشكل أو البقاء. فهو يتجمع ويتفرق ويتجمع من جديد من مناسبة إلى أخرى، وفي كل مرة لا محالة لسبب مختلف، وينجذب إلى أهداف متغيرة. إن القوة المغرية للأهداف المتحركة تشكل قاعدة كافية لتنسيق الحركات، وهذا يكفي لجعل أي أمر آخر أو فرض من أعلى غير ضروري. والواقع أن الأسراب لا تملك حتى أعلى وأسفل: بل لديها فقط اتجاه لحظي للطيران لوضع وحدات السرب (التي تعمل بالدفع الذاتي) في موضع القائد أو التابع، وعادة ما يكون ذلك لمدة طيران معينة، أو حتى جزء منها. وحتى التسلسلات الهرمية التقليدية التي تولد النظام تذوب وتصبح نواة قوية لا تنتهك يستطيع الفرد أن يجد نفسه فيها، ويوجه رغباته ويحد منها. وهذا يعني أن كل فرصة لمخاطبة الإنسان تنهار. وبالتالي يُنظَر إلى الفرد باعتباره وحدة لحظية من السرب العابر ويحركه التيار العابر. وهذا بُعد مشبع بأمن وهمي يتمثل في الاختيار الحر الأمثل لأنه اختيار عدد كبير من الناس. والاختيار هو ما يتجمع في عالم سائل، لأن هذه المساحات لابد أن تُعاد النظر فيها وإعادة تصميمها وفقاً لقواعد معينة قادرة على تشكيل المجتمعات التي يستطيع الفرد ـ المستهلك ـ أن يجد فيها ويحقق شعوره بالانتماء. وتبدو مراكز التسوق وكأنها خلايا أسراب من بومان، باعتبارها تقدم المجتمع المتخيل المثالي: مكاناً حيث تتجمع أغراض الشراء. "وبالتالي فإن ""أماكن التسوق/الاستهلاك تقدم ما لا يمكن لأي "واقع حقيقي" خارجي أن يقدمه: توازن شبه مثالي بين الحرية والأمن. وداخل معابدها قد يجد المشترون/المستهلكون أيضاً ما كانوا يبحثون عنه في الخارج، بلا جدوى وبلا ينضب: الشعور المريح بالانتماء، والانطباع المطمئن بأنهم جزء من مجتمع.

إن المشاركة هي إحدى الطرق التي يصبح بها الاستهلاك نشاطاً أساسياً للإنسان المعاصر، وخاصة مبدأ إدماج واستبعاد الذات. وعلاوة على ذلك، بهذا المعنى، يتتبع باومان استراتيجية أكل الإنسان التي نظّر لها عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي " كلود ليفي شتراوس" Claude Levi-Strauss إذ كانت ممارسة القضاء على الاختلافات بين الأفراد، والتي يتم إعادة إنتاجها في السوبر ماركت: الأماكن المميزة للمستهلكين، إن الأماكن التي تتغذى على الإنسان تتناقض في الواقع مع الأماكن "الأنثروبولوجية"، والتي تتألف من تقيؤ وبصق الآخرين، واعتبارهم غرباء لا علاج لهم، ومنع الاتصال الجسدي، والحوار، والعلاقات الاجتماعية، وأي نوع من أنواع التجارة، أو التشارك، أو الزواج. إن المتغيرات المتطرفة لهذه الاستراتيجية الأنثروبولوجية هي، اليوم كما كانت دائماً، السجن، والترحيل، والقمع الجسدي. وهناك شكلان محدثان، ومُحسَّنان هما الفصل المكاني، والأحياء الفقيرة الحضرية، والوصول الانتقائي إلى الفضاءات. وتتألف الاستراتيجية الثانية مما يسمى "نزع الاغتراب" عن المواد الغريبة: "عن طريق البلع" و"أكل" الأجسام والأرواح الغريبة لجعلها، من خلال التمثيل الغذائي، متطابقة ولا يمكن تمييزها عن الجسم الذي يبتلعها". وبالتالي يصبح الاستهلاك وسيلة بديلة للتجمع الاجتماعي، والتي تحل محل الشعور بالانتماء بالحاجة إلى الإدماج. وتستبعد هذه العملية حتماً أولئك الذين لا يمتلكون الوسائل المناسبة لأداء هذا النشاط، والذي يظل في الواقع منعزلاً في الأساس.

هنا في هذه اللعبة من المظاهر والاستنساخ، تفسح المجموعة الطريق للسرب، الذي يفقد في الدوامة الجماعية ذلك الشعور الأصيل بالانتماء الذي يجعل كل إنسان عضواً في المجتمع، حيث يؤدي - على حد قول دوركهايم - الثنائية الطبيعية للموضوع: حيوان بشخصية اجتماعية، واتحاد الغريزة والعقل، والذات والعالم.

بدءاً بالشيوعية ومن ثم الانتقال إلى الغرب، ورؤية الجوانب المختلفة للحداثة عن كثب لم يشعر بومان بأنه في بيته في أي من هذه المراحل. الحداثة هي مكان القتل الجماعي. وبينما كان يقدم مبرراً مشروعاً لتدمير الأمة، كان لديه انطباع بأنه وجد الحل فيما بعد الحداثة. على الرغم من أن بومان رأى في البداية أن ما بعد الحداثة هي الحل، إلا أنه استخدمها لاحقاً في أعماله لينتقد ما بعد الحداثة بقسوة. ما بعد الحداثة، التي يراها نسخة لامعة من الحداثة التي كثيراً ما يذكرها في أعماله مرتبطة بعدم اليقين وانعدام الأمن، وخلق الخوف لدى الأفراد.

***

د. حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

 

بقلم: انيا ستانبوير

ترجمة أ. م. د ليث أثير يوسف

***

What You Need to Read Before You Read Kant

22nd April 2024 is the 300th birthday of Immanuel Kant. Anja Steinbauer introduces the man and gets you ready for his three Critiques.

مقالة بمناسبة الذكرة السنوية (300 سنة) لوفاة الفيلسوف ايمانويل كانط، بقلم الاستاذة انيا ستانبوير استاذة الفلسفة واحد منقحي موقع الفلسفة الان  Philosohy Now الشهير

***

تمر علينا الذكرى السنوية لوفاة الفيلسوف ايمانويل كانط وقد تعودنا في مرحلة الدراسات الأولية، وعندما يطلب أحد الطلبة المبتدئين نصيحة منك حول احد الكتب الممهدة لفهم الفلسفة سيجيبه أستاذي القديم كتاب (نقد العقل الخالص) وللوهلة الأولى يبدو للبعض إن هذا الأمر سخيفاً فنصوص كانط ولاسيما أعماله المتأخرة عسيرة الفهم، وربما الكثير من القراء يتحاشاها بل حتى صديق كانط موسى مندلسون وهو أحد أعظم مفكري القرن الثامن عشر أعلن صراحة ان نقد العقل الخالص نفسه ب" كتاب يرهق الأعصاب" ومع ذلك أعتقد إن أستاذي القديم كان على حق فبمجرد ان تستهل تلك النصوص بقراءتها تجدها نصوصا مفيدة لتعلم المنهجية الصحيحة للتفلسف، وتحفزك على التصارع معها والاختلاف معها فهي نصوص منهجية ونقدية على نحو مرض، إذاً كيف تبدأ ؟ أرى من المفيد قبل القراءة إن تعرف القليل عن خلفية ذلك الفيلسوف واهتماماته وطريقة تفكيره بالإضافة إلى المفاهيم التي كان يستخدمها في نصوصه .

من الشائع إن أغلب مفكري وفلاسفة عصر التنوير كانوا أثرياء على عكس ايمانويل كانط الذي نشأ بين تسعة أطفال لاب فقير كان يصنع اللجام وكان اقتصاديا وزاهدا بل كانت عائلته تمتاز بالتقوى، وهي جزء من حركة دينية إصلاحية ظهرت في القرن السابع عشر، وكانت تهدف إلى إحياء الشعائر البروتستانتية وإحداث إصلاح في الكنيسة، لم يكن كانط متدينا حين بلغ أشده، وهذا ماأثار السخط تجاه سلوكه هذا، وكانت أصابع الاتهام دائما موجهة إليه، ولكنه كان يقابلها بسلوكه الهادئ والعقلاني الإيجابي يرافقه سلوك مليء بالتقوى والزهد، وهو يذكرنا ب" الحكيم الرواقي" وقد اعترف نفسه بأن هذا السلوك اقتبسه، وتعلمه من والدته التي اتسمت بفضائلها الأخلاقية العالية، وبدعم من الأصدقاء والمقربون الذين اكتشفوا موهبة كانط تم دفع الرسوم الدراسية من قبلهم وارسلوه الى مدارس جديدة نموذجية كانت تتميز بالصرامة ومناهجها وطريقة تدريسها كان جافاً بل لاتلبي حاجات المبتدئين في طرح الاسئلة الفلسفية ولاتكترث لمثل هذه التساؤلات ولكن مع ذلك بقي كانط فضويا ومفكراً وتم تسجيله كطالب في الجامعة وأستطاع الانفاق على نفسه من خلال العمل كمحاضر وايضا الكسب من خلال المراهنات في لعبة البليارد فقد كان بارعا فيها وهذه مكنته وأعانته في فترة حياته المبكرة وفي سن السادسة والاربعين حصل أخيرا على درجة الاستاذية في تخصص المنطق والميتافيزيقا التي كان يتوق اليها وهي ماأنعشت حياته الاقتصادية .

عاش كانط طوال حياته في كونجسبرغ .التي كانت في ذلك الوقت مركزا تجاريا صاخبا في منطقة بروسيا وكان لديه اصدقاء متنوعين وأفضلهم كان تاجرا انجليزيا مهاجرا يُدعى جرين، أما بالنسبة لطلابه فهم متنوعون ايضا كانوا يقدمون من بروسيا والولايات الالمانية داخلها وخارجها وحتى من روسيا ودول البلطيق وبولندا، وعلى الرغم من كانط قد كرس جل وقته للعمل الاكاديمي لكنه لم يغفل حياته وتواصله الاجتماعي فقد كان يتناول غدائه من اصدقاءه ويمارس لعبة البليارد ولعبة الورق ويتابع المسرحيات وهذا الجو الممتع بالطبع حدث نتيجة لتغير الحياة الثقافية اثناء الاحتلال الروسي لكونجسبرغ (1758-1762) وجعلها اكثر ليبرالية واقل صرامة للحياة الاجتماعية وأكثر رفاهية وانفتاحا على الحياة العصرية.

نشر كانط في وقت مبكر من عام 1755 كتاباً اسماه (The General Natural History and Theory of the Heavens) (التاريخ الطبيعي العام ونظرية السموات)، طرح فيه تفسيرا ميكانيكياً لبداية الكون وكان في وقته مثيرا للنقاشات العلمية الفلكية، أما كتبه حول الدين فقد واجه فيها مشكلة مع السلطة كون النظام السياسي القديم الذي كان يشجع على نقد الدين بزعامة الحكام التنويريين مثل فريدريش فيلهلم الأول وفريدريك الكبير قد انتهى وبدأ عصر جديد مع عهد فريدريش فيلهلم الثاني الذي كان متشدداً ولفترة طويلة من الزمن كانت هناك شائعات بأن فيلسوفنا قد تم نفيه أو تكميم فاه وفقدان حقه في النشر ولكن هذا الامر لم يحدث حقيقة ولكن الذي حدث فعلا هو في تلقي كانط تحذيراً شديد اللهجة من الملك شخصيا والذي اتهمه بإساءه استخدام منصبه كمربي للعقول الشابة وتحريضهم على الاساءة لتعاليم الكنيسة وقد أنكر كانط جميع هذه الاتهامات ولكنه في الوقت نفسه وعد بعدم نشر اي كتابات اخرى حول الدين طوال فترة حكم الملك وبعد وفاة الملك نشر كانط افكاراً اكثر انتقادا للدين وفي عام 1796 وعن عمر ناهز ال 73 عاما القى كانط محاضرته الاخيرة .

كتب كانط النقدية الثلاثة

بعد عقود من الانغماس في العلوم والفلسفة والموضوعات الاخرى بدأ كانط مشروعه النقدي (Critical) فبمجرد ان بدأ بمشروعه الاول (نقد العقل الخالص) تغير اسلوب حياته وتحول من مثقف شجاع اجتماعي الى استاذ منعزل يتبع حياة صارمة يسودها الدقة والانضباط الذاتي المتصاعد، ويًشار الى فلسفة كانط بـ (المتعالية) (transcendental) وهذا المصطلح بحد ذاته لا يعني (ما وراء) أو بطريقة ما عالم اخر بل الكلمة هنا لها معنى تقني، فهي تشير الى البحث في (الشروط اللازمة لإمكانية حدوث ذلك) وبمعنى اخر في كتاب نقد العقل الخالص يتساءل كانط قائلا :مالذي نحتاجه في بحثنا لكي نصل الى معرفة ممكنة ؟"، هنالك فلاسفة اخرون طرحوا تساؤلات حول :ما هو محتوى معارفنا ؟وماذا يمكننا أن نعرف ؟لكن على النقيض من ذلك يتساءل كانط هنا حول الشروط المسبقة للمعرفة الانسانية وبنفس الوقت كرر الامر ذاته في كتابه نقد العقل العملي فيسال كانط عن شروط الاخلاق وفي نقد الحكم في شروط الجمال وغيرها في تطبيقات الحكم (judgment) .

السؤال هنا لماذا تحمل الكتب الكانطية الثلاثة اسم (نقد) فماذا كانت تلك الكتب الثلاثة تنتقد ولماذا ؟ .انها انعكاس نقدي لحدود امكانية العقل وهذا بالطبع المذهب العقلي الذي استقاه كانط من المدرسة العقلية التي ترأسها لايبنز ونقحها كريستيان وولف .فالفلاسفة العقليون يعتقدون بأن المعرفة تنبع من العقل وقد بدأت عند كانط الشكوك حول دقة هذا الاعتقاد قبل سنوات من فترة الانقلاب النقدي لديه وبالتحديد عندما قرأ كتب ديفيد هيوم التي أيقظته تماما من سباته الدوغمائي . وأصبحت العقلانية أو المذهب العقلاني ضربا من ضروب الدوغمائية بينما كان يشير الى هيوم وتعاليمه بأنها (تجريبية شكية) فالفلاسفة التجريبيون على النقيض من الفلاسفة العقلانيون يعتقدون المعرفة تنبع من التجربة وحدها ومن المفيد هنا التمييز بين العقل والفهم فالعقل هو قابلية البشر على التفكير المنطقي وهذا الامر لايرتبط بالذكاء كون الفرد متعلما أو غير ذلك وهناك طرق تتيح تحسين مهاراتك في التفكير ويعتقد كانط ان هذه القدرة يمتلكها كل البشر لذلك لايوجد استثناء فالكل قادر على التفكير بعقلانية ويعني بالقدرة هنا استنتاج النتائج من الاسباب وتجنب الوقوع في المغالطات مثل قلب ونقض النتائج لذا فالعقل هو ما نستخدمه بالتفكير بشكل جيد بمعزل عن التجربة على عكس الفهم الذي يرتبط بالواقع وفهمه وتفسيره الذي يرتبط بالتجربة فالأول يرتبط بالطور الفطري أو القبلي (apriori) والاخر اي الفهم يرتبط بالطور البعدي (aposteriori) اي بعد التجربة والغريب هنا ان كانط يقول بأن العقل ليس شرطاً كافيا للمعرفة فهي يعتقد بأننا بحاجة الى مدخلات من العالم لامتلاك المعرفة لذا فأن الفهم والطرق المعقدة التي يعمل بها العقل ويتفاعل مع الحواس والعالم الخارجي هي التي تمنحنا المعرفة فالمعرفة امر لاحق وأي محاولة للحصول على المعرفة عن طريق العقل وحده ستودي بنا الى الغرق بالظلام والتناقضات وفي مجال الاخلاق في كتابه نقد العقل العملي يعتقد كانط اننا نستخدم العقل لنكون احراراً في تفكيرنا حول المباديء الاخلاقية (القبلية) .

السؤال هنا لماذا عمد كانط الى وضع ثلاث كتب نقدية بدلا من اثنين؟ من السهل هنا ملاحظة الفرق بين نقد العقل النظري والعقل العملي ففي الكتاب الاول استكشف كانط كل مانحتاجه لاكتساب المعرفة وبنفس الطريقة طبق ذلك على الاخلاق في كتابه نقد العقل العملي الذي يعمل بطريقة مختلفة فمالذي سيفعله بالكتاب الثالث نقد ملكة الحكم؟ انه موجود للتوسط بين عوالم النقدين الاخرين فعند قراءتها يبدو عالم الخبرة الحسية والعالم الاخلاقي، الطبيعة والحرية منفصلين فالحكم هنا قدرة انسانية تجمع بين الاثنين والحكم هنا قدرة انسانية تدمجهما معا فالحكم الجمالي يختلف عن الحكم المعرفي مثل قولنا ان الوردة حمراء وقولنا ان الوردة جميلة وبنفس الوقت يختلف الحكم في وضع البيان الاخلاقي فالأحكام الجمالية تتطلب منا الاهتمام بالطبيعة والخبرة الحسية واستخدام الحرية الانسانية والخيال الذاتي .

السؤال هنا لماذا الكتب النقدية الثلاثة مهمة وستظل كذلك ؟ ولماذا اعتقد شوبنهاور ان نقد العقل الخالص هو اهم كتاب في اوربا على الاطلاق ؟ ولماذا شعر كوليريدج، عند قراءته، بأنه "مكتوب بإحكام " ؟هل لأن كانط كان على حق في كل ما ذكره في كتبه الثلاثة ؟ بالطبع لا.  فالبحث الفلسفي لا يقر بأن هناك فلسفة مانعة جامعة فالكثير من الفلاسفة اعترضوا على النتائج التي توصل اليها كانط في حقل الاخلاق وقوله انها مبنية على قواعد يجب على كل شخص ان يختارها بنفسه وبحرية وأنه يجب ان يطيعها بشكل قاطع، إن ما يسمى بالضرورات أو الاوامر القاطعة (categorical imperatives) هي ملزمة سلفاً بغض النظر عن احوالها ومع ذلك يحق للبعض الاعتراض حول طبيعة الاخلاق والتفكير الاخلاقي عند كان فمن خلال المناقشات الفلسفية حول هذ الامر تبين لنا ان هذا النظام الاخلاقي الكانطي من الصعب إتباعه في حياتنا اليومية وبنفس الوقت لا نستطيع تجاهله في موضوع الاخلاق الفلسفية وينطبق نفس الشيء على نقد العقل الخالص والاطروحات التي ذُكرت في هذا الكتاب وغيرت افكارنا تجاه الميتافيزيقا ونظرية المعرفة، وأخيرا يُعد كتاب نقد ملكة الحكم عملا رائداً ومتميزاً في وضع الاسس الجمالية الفلسفية والتي لاتزال صحيحة حتى اليوم وربما نحن لا نتوقع ان يقدم لنا اي كتاب فلسفي اجابات نهائية حول تساؤلاتنا ولكن من المفيد قراءته كونه يفتح وجهات نظر جديدة تجعل الكثير من تلك التساؤلات ممكنة .

الان هل أنت جاهز !

الان لديك فكرة اساسية حول فلسفة كانت ومشاريعه لذا فأنت في مكان جيد للبدء في قراءته، وحتى انتقاداته الصعبة فكل شيء ستحتاجه سيتعين عليك احضاره الى الحفلة بنفسك .إن قراءه الفلسفة هي عملية بطيئة ويجب ان تكون كذلك لذا فالصبر هو احد الاشياء التي لا تستطيع الاستغناء عنها، يدعونا كانط مثل العديد من الفلاسفة العظماء الى الانخراط بشكل نقدي في افكاره لذا كن مستعداً للتفكير وبكامل نشاطك وأخيرا اتخذ قرارك بشأن قيمة مساهمة كانط الفلسفية في زماننا .أفعل ذلك بطريقة مستنيرة ومعقولة وقم بعملك مثلما فعل كانط.

***

الجامعة المستنصرية - قسم الفلسفة

22-4-2024

مقدمة: لقد أصبح العلم جانبًا أساسيًا من جوانب المجتمع الحديث، مما يسمح لنا باكتساب معرفة أكبر بالعالم من حولنا وتطوير تقنيات جديدة لحل المشكلات المعقدة. ومع ذلك، فإن ممارسة العلوم ليست بهذه البساطة كما يبدو. يعتمد العلم على فرضيات وأفكار وإجراءات محددة تتأثر بإطار فلسفي أوسع يعرف بالفلسفة العلمية. تهتم فلسفة العلم بأسس العلم وأساليبه ونتائجه. انها نظام فلسفي يدرس موضوعات مثل ماهية العلم، وكيف يعمل، وما الذي يميز المعرفة العلمية عن أنواع المعرفة الأخرى، وما هي حدود البحث العلمي؟. فلسفة العلم هي أحد الفروع التقليدية للفلسفة. يمكننا تعريف فلسفة العلم، أو نظرية المعرفة، بأنها هذا النظام الذي يسعى للإجابة على السؤال: ماذا يمكنني أن أعرف؟ وكيف؟ فمن يسعى إلى تحديد حدود المعرفة؟. إنها مسألة استخلاص قوانين من دراسة تاريخ العلم، أو العقل البشري، تسمح لنا بالإجابة على هذا السؤال. ان فلسفة العلم هي دراسة فرضيات وأسس ونتائج البحث العلمي. وتدرس فروع العلوم المختلفة وبنيتها الأساسية. الأسئلة المركزية هي "ما هو العلم؟" و"ما الذي ليس علمًا؟" وكذلك "ما الذي يميز العلم؟" و"كيف نحقق التقدم العلمي؟". فماهي التحولات التاريخية والمعرفية التي حدث في فلسفة العلوم؟

تاريخ فلسفة العلوم

تاريخ فلسفة العلوم له جذوره في الفلسفة وظهر كنظام مستقل خلال القرن التاسع عشر. يعتبر أوغست كونت وجون ستيوارت ميل من الأفراد المهمينين في ظهور هذا التخصص، على الرغم من أن فلاسفة مثل كوبرنيك وبيكون وجاليلي وكبلر طوروا أفكارًا مهمة وحاسمة في موضوعات ذات صلة.

الحقيقة والواقع

يمكن اعتبار فلسفة العلم وسيلة لوصف ممارسة البحث وطريقة لتحديد كيفية تنفيذها. كيف يرتبط العالم الحقيقي والبيانات التجريبية والنماذج والنظريات ببعضها البعض، وما الذي يمكن فعله لتحسين علاقتها؟

ان العلاقة بين الحقيقة والنظرية هي جوهر العلم، فهي تحدد ما إذا كانت النظرية مقبولة كواقع. إن الجدل بين الواقعية واللاواقعية هو جدل فلسفي علمي، فهو يستكشف أسس الحقائق العلمية المقبولة بشكل عام.  الاختزال العلمي فكرة مثيرة للجدل في فلسفة العلم. في هذا النموذج، يختزل العلم التفاعلات والكيانات المعقدة إلى مجموع الأجزاء المكونة لها. فما هي فلسفة العلم؟

فلسفة العلم هي نظام فلسفي يهدف إلى فهم طبيعة العلم وأساليبه وعواقبه. يدرس العلاقة بين الأفكار والنماذج والبيانات العلمية، والافتراضات والمفاهيم الأساسية التي يقوم عليها النشاط العلمي. في جوهرها، تدرس فلسفة العلم الاهتمامات الأساسية حول طبيعة المعرفة العلمية من خلال طرح أسئلة مثل هذه:

* ما هو العلم وكيف يختلف عن أنواع المعرفة الأخرى؟

* ما هي المتطلبات الأساسية للمعرفة العلمية وكيف يتم تبرير الادعاءات العلمية؟

* لماذا يستمر العلماء في الاعتماد على النماذج والمفاهيم التي يعرفون أنها خاطئة جزئياً على الأقل؟ فيزياء نيوتن مثلا.

* ما هي حدود البحث العلمي؟ وكيف نستخدم البيانات التجريبية لاختبار الفرضيات العلمية؟

* كيف تؤثر الجوانب الاجتماعية والسياسية والتاريخية على البحث العلمي؟ وكيف تحدد هذه العناصر تطور المعرفة العلمية؟

* ما هو القانون الطبيعي؟ هل هناك تخصصات غير مادية مثل علم الأحياء وعلم النفس؟

تعتمد فلسفة العلم على تقاليد فلسفية مختلفة لمعالجة هذه القضايا، بما في ذلك نظرية المعرفة والتجريبية والأخلاق وغيرها. كما أنها تشارك أيضًا في الممارسة العلمية، وتتعاون بشكل متكرر مع العلماء لإنشاء وتحسين الأفكار والمنهجيات. لذلك تعد العلاقة بين النظرية والبرهان موضوعًا مهمًا للدراسة في فلسفة العلوم. تسعى النظريات والنماذج العلمية إلى تفسير الأحداث التي يمكن ملاحظتها، ولكن قيمتها النهائية تتحدد من خلال قدرتها على تقديم تنبؤات دقيقة وتحمل الاختبارات التجريبية. كما تدرس فلسفة العلوم كيفية تطوير الفرضيات واختبارها وتقييمها لتحديد ما إذا كانت صحيحة أم خاطئة بناءً على الأدلة التجريبية. تعد أهمية الجوانب الاجتماعية والتاريخية والنفسية في الدراسة العلمية موضوعًا بحثيًا مهمًا آخر في فلسفة العلوم. وبعيدًا عن الحقائق العلمية البحتة، يتأثر العلماء بالتحيزات الثقافية، والأعراف الاجتماعية، والظروف التاريخية والعوامل النفسية. وتحلل فلسفة العلم تأثير هذه العناصر على البحث العلمي وكيف يمكن أن تؤثر على إنتاج المعرفة العلمية وقبولها في المجتمع.

فروع فلسفة العلوم

فلسفة العلوم هي مجال واسع يتضمن مجموعة من التخصصات الفرعية والأساليب الجزئية. والآن بعد أن أجاب المقال على السؤال الأساسي "ما هي فلسفة العلم؟"، حان وقت التطرق إلى فروعها:

نظرية المعرفة او الابستيمولوجيا

نظرية المعرفة هي مجال فلسفي يدرس طبيعة المعرفة وكيفية الحصول عليها. تهتم نظرية المعرفة بالمسائل المتعلقة بطبيعة المعرفة العلمية، والتقنيات المستخدمة للحصول عليها، والمعايير المستخدمة لتقييم الادعاءات العلمية.

التجريبية

وهو منهج فلسفي يؤكد على أهمية الأدلة التجريبية في تطوير المعرفة. تهتم التجريبية بأهمية الملاحظة والتجريب في البحث العلمي، فضلا عن مدى إمكانية تبرير الفرضيات العلمية على أساس الأدلة التجريبية.

المعيارية

يتناول هذا النوع من الفلسفة القضايا المتعلقة بالصواب والخطأ، والمثل الأخلاقية التي توجه العمل البشري، وبشكل أساسي الآثار الأخلاقية للبحث العلمي والواجبات المجتمعية للعلماء.

الاستقراء

تُعرف عملية الاستدلال من ملاحظات محددة إلى استنتاجات أوسع باسم الاستقراء، وهو مشكلة تبرير الاستدلال من ملاحظات محددة إلى قواعد أو فرضيات كونية. يعد الاستدلال الاستقرائي جانبًا حاسمًا من جوانب البحث العلمي، ولكنه يخضع أيضًا للنقد والنقاش.

الاستنتاج

الاستنتاج يشبه إلى حد كبير الاستدلال الاستقرائي، على الرغم من أنه غالبًا ما يعتبر أكثر صرامة من الأخير. يستخدم الاستنباط لاختبار الأفكار العلمية عن طريق وضع تنبؤات أو فرضيات محددة بناءً على تلك الأفكار.

التحولات النموذجية والثورات العلمية

اقترح توماس كون مفاهيم التحول النموذجي والثورة العلمية في كتابه "بنية الثورات العلمية".

اقترح كون أن التطور العلمي يحدث على مرحلتين: العلم العادي، حيث يعمل العلماء ضمن إطار نظري أو نموذج معين، والثورة العلمية، حيث ينشأ نموذج جديد ليحل محل النموذج السابق.

تؤدي التحولات النموذجية والثورات العلمية إلى تغييرات في الافتراضات والمفاهيم والمنهجيات الأساسية للتخصص العلمي.

النماذج العلمية

النموذج العلمي هو إطار يحتوي على جميع الأفكار المقبولة بشكل عام حول موضوع ما. اقترح الفيلسوف توماس كون أن البحث العلمي لا يتقدم نحو الحقيقة ولكنه يخضع للعقيدة والسعي العقيم للنظريات القديمة.

الثورة العلمية

إن الثورة العلمية، وهي التغيير الذي يغير تماما الطريقة التي ينظر بها العلم إلى العالم، غالبا ما يشار إليها على أنها نقلة نوعية. ومن الأمثلة على التحول النموذجي اكتشاف النظرية النسبية مع اينشتاين التي أحدثت ثورة في فهم الفيزياء المعاصرة بين البشر.

التنظير

غالبًا ما توصف شفرة أوكام بأنها "أبسط إجابة هي الصحيحة في أغلب الأحيان". يتعلق الأمر بتجريد المعلومات لتسهيل اكتشاف الحقيقة. يتيح استخدام شفرة أوكام للباحث دراسة أبسط النظريات أولاً. من الطبيعي جمع البيانات التي تدعم النظرية عند إجراء البحوث. في بعض الأحيان يكون الباحثون مشغولين باختبار نظريتهم لدرجة أنهم ينسون أخذ الملاحظات التي تتعارض مع النظرية بعين الاعتبار. يُشار إلى هذا غالبًا على أنه خطأ في التحقق. يمكن أن يحدث هذا عندما يكون أحد العلماء مرتبطًا بشكل مفرط بنظرية ما، غالبًا لأنه "اخترعها". غالبًا ما يُفضل تزييف النظرية. يحاول العالم التوسع في النظرية بتنبؤات جريئة وقابلة للاختبار. العلماء أكثر عرضة لتزييف نظريتهم ويميلون إلى تكييف النظرية مع الواقع، بدلا من تكييف الواقع مع نظرياتهم. يؤدي القيام بذلك غالبًا إلى صياغة نظريات بطريقة تؤكد "كل شيء". غالبًا ما يستخدم الباحثون فرضية بحثية لجعل علومهم قابلة للاختبار. ومع ذلك، فإن التحليل المخصص هو نوع من الفرضيات الإضافية التي تتم إضافتها إلى نتائج التجربة في محاولة لشرح الأدلة المخالفة. أثناء إجراء بحث، قد يكون من المفيد تذكر أن دقة النظرية لا تعتمد على معتقدات الباحث - فهي ليست أكثر أو أقل صحة، بغض النظر عن مدى الاعتقاد بها.

تعريف العلم وغير العلم

مشكلة ترسيم الحدود، التي تشير إلى صعوبة التمييز بين المعتقدات والتقنيات والممارسات العلمية وبين تلك التي ليست كذلك، هي معضلة طويلة الأمد في فلسفة العلم. تنشأ هذه المشكلة لأنه لا توجد مجموعة معايير مقبولة بشكل عام لتصنيف النظرية أو الممارسة على أنها علمية أو غير علمية. لقد أشار كارل بوبر، فيلسوف العلم الشهير، إلى أن مشكلة ترسيم الحدود كانت من الأسئلة الكبرى في فلسفة العلم. قابلية التكذيب هي معيار استنتاجي لتقييم النظريات والفرضيات العلمية؛ تكون النظرية أو الفرضية قابلة للدحض (أو قابلة للتفنيد) إذا كان من الممكن دحضها منطقيًا عن طريق اختبار تجريبي. يعد هذا المعيار مهمًا لأنه يسمح باختبار الفرضيات العلمية وتقييمها بدقة، فضلاً عن السماح للعلماء بتطوير نظرياتهم وتحسينها بمرور الوقت. ومع ذلك، لا تستوفي جميع النظريات معايير قابلية الدحض. بعض النظريات، على سبيل المثال، قد تعتمد على افتراضات غير قابلة للاختبار أو أحداث غير قابلة للملاحظة، مما يجعل الاختبار التجريبي صعبا أو مستحيلا. وتصنف هذه المعتقدات على أنها علمية زائفة لأنها تدعي أنها علمية ولكنها تفتقر إلى الأساس الدقيق والتجريبي للنظريات العلمية الحقيقية.

التحليل النفسي، وعلم الخلق، والمادية التاريخية هي مجرد أمثلة قليلة من النظريات التي كانت موضوع الجدل العلمي:

* تعرض التحليل النفسي، وهو عمل سيجموند فرويد، للتحدي بسبب تركيزه على التفسيرات الذاتية والادعاءات التي لا يمكن التحقق منها حول العقل البشري.

* رفض المجتمع العلمي علم الخلق الذي يرى أن الكون خلقه كائن إلهي، وذلك لعدم وجود أدلة واقعية عليه وارتباطه بالعقيدة الدينية.

* تعرضت المادية التاريخية، وهي نظرية ماركسية للتاريخ، للانتقاد بسبب منهجها الحتمي والاختزالي في التعامل مع عمليات المجتمع والاقتصاد.

بشكل عام، تظل مشكلة ترسيم الحدود في فلسفة العلم موضوعًا محل خلاف، حيث يستشهد العديد من العلماء بمعايير وتقنيات مختلفة للتمييز بين العلم وغير العلم. ومع ذلك، لا يمكن المبالغة في أهمية هذه القضية، لما لها من عواقب مهمة على صحة وموثوقية المعرفة العلمية، فضلا عن دور العلم في المجتمع.

فلسفة العلوم الخاصة

وفيما يلي نظرة عامة على الفلسفة المتعلقة بعلوم معينة:

فلسفة علم الأحياء

يدرس هذا المجال من فلسفة العلوم طبيعة الحياة والأنظمة الحية، بالإضافة إلى المنهجيات والمفاهيم البيولوجية. كما يغطي الاهتمامات الأخلاقية والاجتماعية المرتبطة بالبحوث البيولوجية، فضلا عن العلاقات بين علم الأحياء والتخصصات الأخرى مثل الكيمياء والفيزياء.

فلسفة الطب

فلسفة الطب هي مجال فرعي من فلسفة العلوم التي تدرس الأسس النظرية والمفاهيمية للمعرفة والممارسة الطبية. تدرس طبيعة فلسفة الطب الصحة والمرض، والأهداف الطبية، والعواقب الأخلاقية والاجتماعية للممارسة الطبية، ومنهجيات ومفاهيم البحث الطبي.

فلسفة علم النفس

يهتم هذا المجال من فلسفة العلوم بالأسس الفلسفية لعلم النفس، مثل طبيعة العقل، والوعي، والإدراك. كما يدرس أيضًا الروابط بين علم النفس والتخصصات الأخرى مثل علم الأعصاب والعلوم المعرفية، فضلاً عن الاهتمامات الأخلاقية والاجتماعية المتعلقة بالأبحاث النفسية.

فلسفة الفيزياء

يهتم هذا المجال من الفلسفة العلمية بأسس الفيزياء، مثل طبيعة المكان، والزمان، والمادة، والطاقة. وهو مهتم أيضًا بكيفية تأثير النظريات الفيزيائية مثل النسبية وفيزياء الكم على معرفتنا بالكون.

فلسفة العلوم الاجتماعية

يهتم هذا المجال من فلسفة العلوم بطبيعة الظواهر الاجتماعية وكذلك طرق التحقيق الاجتماعي. ويستكشف الروابط بين العلوم الاجتماعية والعلوم الأخرى مثل علم النفس والاقتصاد، فضلا عن الاهتمامات الأخلاقية والسياسية المتعلقة بالبحث الاجتماعي.

فما هو العلم على وجه الدقة؟

تسعى فلسفة العلم إلى التمييز بين العلم والدين والعلوم الزائفة. الأساليب المذكورة أعلاه (مثل شفرة أوكام، وقابلية التزييف، وقابلية الاختبار) كلها طرق لفصل العلم عن "اللاعلم". هيمنت مناقشة العلم مقابل الدين على الأخبار أكثر من أي وقت مضى في السنوات الأخيرة. بدأ الانقسام بين العلم والدين في القرن السابع عشر وكان خطوة ضرورية في تقدم المعرفة الإنسانية. العلم الهامشي هو فرع من العلوم ينحرف عن النظريات العلمية الراسخة. وعلى عكس العلوم الزائفة، فإنه لا يزال يستخدم المنهج العلمي ولكنه يعتمد على التأمل إلى حد كبير، على الأقل وفقًا لوجهات النظر الشائعة في ذلك الوقت. إن العلوم غير المرغوب فيها هي نقيض العلوم الهامشية، والتي غالبًا ما تمارس عندما تؤثر السياسة والتجارة بشكل مفرط على الأبحاث. ان المفاهيم الخاطئة هي اعتقاد شائع وهو في الواقع نصف حقيقة أو كذبة يتم ترسيخها كحقيقة علمية. بالنسبة لعالم المعرفة كارل بوبر، لا يمكن للنظرية أن تدعي أنها علمية إلا إذا كان من الممكن، بموجب القانون، إبطالها: "لا يمكن أبدًا تبرير النظريات العلمية أو التحقق منها بشكل كامل، ولكن مع ذلك يمكن إخضاعها للاختبارات". وبالتالي فإن درجة صحة النظرية العلمية تعتمد على قدرتها على الصمود أمام الاختبارات التي تحاول إبطالها. النظرية التي لا تقبل اختبار التزوير ستسمى بعد ذلك نظرية علمية زائفة.

قيمة الفلسفة العلمية

اكتشف نظرة عامة واضحة ويمكن الوصول إليها عن المبادئ والخلافات الرئيسية التي تشكل هذا المجال.

إن فلسفة العلم لها هدفها العلم، أو بشكل أكثر دقة، مختلف التخصصات والممارسات العلمية. بالنسبة لفيلسوف العلم، فإن الأمر يتعلق بتحليل التكوين، وأنماط التطور، والأساليب، والمنطق الداخلي، وعمليات الاختراع وتبرير المعرفة العلمية في جميع مجالات تطبيقاتها المتنوعة. وتنطوي مهمتها على اهتمام خاص بالعلاقة المتبادلة بين التخصصات العلمية، وكذلك بالقيم الفكرية والاجتماعية التي تنقلها والتي غالبا ما تحفزها بطريقة غير تأملية، بل ومتناقضة: هذه القيم هي البحث عن الحقيقة، تقدم المعرفة والتطور التكنولوجي وتحول الظروف المعيشية والتنظيم في المجتمع . بعد أخذ كل الأمور بعين الاعتبار، يتركز اهتمام فيلسوف العلم في المقام الأول على النشاط المتعدد الأشكال، النظري والعملي، للعقل البشري، وهو النشاط الذي يتم إنجازه بطريقة متجددة باستمرار في عمل العلم. لقد كانت علاقة الفلسفة بالعلم في كثير من الأحيان، عبر التاريخ، علاقة السلف بنسله. تشكلت العلوم عمومًا ضمن الفلسفة . كانت أغراض كل منهما غير واضحة نسبيًا: كان من الضروري بلا شك تصور طبيعة الكيانات التي تشكل أثاث الكون قبل الانخراط في التحقيق التفصيلي له، وكان من الضروري تحديد الخطوات التي يجب اتخاذها لتحقيق هذه الغاية بعقلانية. وهكذا كان أرسطو فيلسوفًا وعالم أحياء. لقد تصور جاليلي فلسفة ميكانيكية للطبيعة سمحت له بقراءة كتاب العالم العظيم المكتوب باللغة الرياضية. وقد طور ديكارت ميتافيزيقاه ليصل إلى مبادئ فلسفة الطبيعة التي تشكل جذور شجرة تشكل الفيزياء جذعها وتنبثق منها فروع مختلف مجالات تطبيق العلم. لا شك أننا وجدنا الفلسفة حاضرة في مصادر علم اللغة عند دومارسيه وكونديلاك أو علم الاجتماع عند كونت أو دوركهايم أو ماكس فيبر، لإعطاء هذه الأمثلة فقط من بين العديد من الأمثلة الأخرى المحتملة. أما بالنسبة للمسائل الكونية ذات الجوهر الفلسفي، مثل تلك المتعلقة بواقع أو مثالية المكان والزمان، والتي كانت حاضرة بوضوح في الجدل بين لايبنتز والنيوتنيين في بداية القرن الثامن عشر، أفلم تغذي التحليلات التي أدت إلى النظرية النسبية في قلب الفيزياء المعاصرة؟

لا تزال مثل هذه الأساليب التأسيسية على حدود الأنطولوجيا الفلسفية والعلوم موضحة حتى اليوم في عدد من الأبحاث النظرية المتطورة. ومن المؤكد أن الفيلسوف قد تعامل أحيانًا مع العلم بشكل عام، خاصة من منظور فحص الأساليب العقلانية التي يجب أن تجسدها أي ممارسة علمية. دعونا نفكر في خطاب ديكارت حول المنهج (1637) الذي طور فكرة الرياضيات، أي تطور العقل وترتيب الأشياء التي يجب معرفتها، والتي تنطبق على جميع مجالات المعرفة. يبدو أن طموح الفيلسوف هو تأسيس صرح العلم من خلال تزويده بالمبادئ وطرق التفسير وتحديد موضوع بحثه. دعونا ننظر أيضًا في التحليلات الفلسفية العديدة التي ميزت اختراع وانتقاد الأساليب التجريبية في العلوم، من خلال تعزيز منطق الخبرة والتحقق من صحة المنطق التجريبي المطبق على الظواهر. وهكذا يمكن تتبع المسار المعرفي من فرانسيس بيكون و"الفلاسفة التجريبيين" للجمعية الملكية - بويل ولوك ونيوتن - في القرن السابع عشر، إلى مروجي الحتمية التجريبية في القرن التاسع عشر، مثل كلود برنارد، أو النظرية المنطقية التجريبية في القرن العشرين، مثل كارناب، ورايشنباخ، وهمبل وغيرهم من خلفاء دائرة فيينا. حتى لو استمرت وجهات النظر التأسيسية والمنهجية في البحث الفلسفي المعاصر، فإن الصورة الرئيسية لفلسفة العلم تظهر بشكل مختلف إلى حد ما في البانوراما الحالية. استهل لوك مقالته المتعلقة بالذه، الإنساني (1690) بطرح فكرة أن العلم له مهندسيه الخاصين وأن الفيلسوف يجب أن يُخضع نفسه من الآن فصاعدًا لمشروع التنوير هذا: في الأساس، يجب أن تتكون مهمته من التفكير في وسائل المعرفة المتاحة لنا لتحقيق التمثيل الموضوعي للظواهر وتجنب العقبات الكامنة في التصور العلمي. وبطريقة مختلفة قليلًا، يؤكد مؤلفو ملخص فلسفة العلوم الذي نشر مؤخرًا في عام 2011: "إن مهمة فلسفة العلم هي فهم وتقييم المشروع الهائل الذي هو العلم" . ولذلك سيتم تفصيل هذه الولاية في البحث عن الأهداف والأساليب والمبادئ والعلاقات المتبادلة بين التخصصات العلمية. لكن الأمر الأكثر جوهرية بلا شك هو أن فلسفة العلم ستهدف إلى إقامة علاقة بالواقع للمفاهيم والفرضيات والقوانين والنظريات التي تطورها العلوم المختلفة في منهجها التفسيري لنظام الأشياء، وتحديد كيفية المراجعة والتصحيح والتخريب واستبدال التمثيلات الموجودة في هذا الحوار بين الوكلاء وأشياء المعرفة العلمية. ومن هنا سيتركز اهتمام الفيلسوف، بطريقة تأملية ونقدية، على الخطاب العلمي نفسه وعلى الممارسات التي يدمجها. يهدف هذا الخطاب إلى أن يكون عقلانيًا ومفصلًا منطقيًا وموضوعيًا وتفسيريًا ومحايدًا أيديولوجيًا . ولكن إلى أي مدى وتحت أي ظروف يمكن لفيلسوف العلوم دعم هذا الادعاء؟ كيف وبأي وسيلة داخلية وخارجية تتطور المعرفة النقدية للعلم فعلياً؟

خاتمة

على النقيض من الرأي، أو حتى الإحساس، فإن العلم يشير إلى أي معرفة عقلانية يتم الحصول عليها عن طريق البرهان أو عن طريق الملاحظة والتحقق. اعتمادًا على ما إذا كانت تسبق التجربة أو ما إذا كانت تبدأ منها، يقال إن منهجها إما استنتاجي افتراضي أو استقرائي. يسمى النظام الذي يدرس العلوم نظرية المعرفة. والغرض منه هو التشكيك في مبادئه وتطوره التاريخي؛ وبشكل أكثر دقة، فهي تريد أن تفهم ما الذي يفسر الثورات العلمية (مثل ثورة جاليلي)، والتغيرات في الأساليب (على سبيل المثال استخدام التجريب في الطب) أو حتى ظهور علوم جديدة (مثل العلوم الإنسانية في القرن التاسع عشر). ومن بين المشاكل الكلاسيكية التي تناولتها فلسفة العلوم، يمكننا أن نتذكر ما إذا كان لكل نوع علمه الخاص (كما يقول أرسطو) أو ما إذا كان يمكن استخدام نفس الطريقة لجميع العلوم (كما يعتقد ديكارت). الإيمان بالعلم (أو العلموية)، المنتشر اليوم على نطاق واسع بسبب التقدم في المعرفة، يُدان أحيانًا باعتباره مفرطًا وأيديولوجيًا. ولهذا السبب تحب الفلسفة أن تذكرنا، مع رابليه، بأن "العلم بدون ضمير لا يؤدي إلا إلى تدمير الروح".  ما هي فلسفة العلم من وجهة نظر تاريخية نقدية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

مع نهاية سنة 2023م، وضعت برنامجا خاصا لمطالعة الفلسـفة الألمانية الحديثة والمعاصرة وسير روادها وإكتشاف جذورها في الفلسفة الكلاسيكية، وكان أول كتاب تاريخ الفلسفة الألمانية (L’Histoire de la Philosophie Allemande) للفيلسوف الفرنسي إيميل بريهي (Emile Bréhier)، وكان كتابا شيقاً وممتعاً، وطالمـا أجلتـه مـن سـنة إلى أخرى حتى حان ميعاده. وقبل هـذه السـنة، كنـت مـن وقـت لآخـر، أرجـع إلـى كتـب الفلسفة الألمانية المعاصرة خاصة كتب يورغن هابرماس وبومان وهوسرل وهايدغر وأحيانا دراسات وبحوث عن الفلسفة الألمانية بأقسامها وأصنافها وأزمنتهـا الحديثـة والمعاصرة وأغلبها باللغة الفرنسية والبعض منها بالانجليزية ذات ترجمات رصينة من لغتها الأصلية الألمانية، طبعا مطالعاتي للفكر الفلسفي الألماني تعود لأيام الجامعة باللغتين العربية والفرنسية بصورة متفرقـة ومتقطعـة خصوصا مع ترجمات المرحوم المفكر الدكتور حسن حنفي وكذلك المرحوم الدكتور عبد الفتاح إمام وكذلك كتب الأكاديمي التونسي الدكتور فتحي المسكيني والأكاديمي الجزائري الدكتور محمد جديدي، كوني كنـت لا أريـد الانقطاع أو التوقف عن التواصل مع الفلسـفة عموما والألمانية منها على وجه الخصوص، وكنـت حريصـاً فـي كل سنة على مطالعة شيء منها كترجمات الدكتور المسكيني لنيتشه وهايدغر وكانط وهابرماس وكذلك ترجمات ودراسات الدكتور جديدي لأعمال ماكس فيبر وما هنالك من كتب باللغة الفرنسية حول رواد الفلسفة الألمانية وأفكارهم الفلسفية والنقدية، كان آخرها كتاب ميشال كانمب بعنوان: سبعة أيام في رحاب حياة ليبنز الفيلسوف الألماني:

sept jours dans la vie de Leibniz : Michael Kempe

الصادر عن Flammarion  أيلول 2023، وذلك لقناعتي الراسخة أن الاشتغال بالإستكشاف الثقافي والمعرفي للآخر، يتطلـب تواصلاً مستمراً وفعالاً مع الفلسفة التي أنتجت هذه التحديات الثقافية والعولمية في كل المجالات، لتعميق المعرفة  من جهة، واستنهاض ملكة النقد من جهة ثانية، مع تحصيل كفاءة  فـي الكشـف عـن كليـات القضايا الفلسفية والفكرية وما ورائياتها وآفاقها ومقاصدها وغاياتها مـن جهـة ثالثـة، ومن جهة أخيرة لامتلاك إتقان منهجي في الربط بين المخزون الفلسفي الغربي - خاصة منه الألماني والأمريكي- والعلـوم والمعـارف والتكنولوجيات والإستراتيجيات في قيادة العالم والهيمنة على الأفراد والمجتمعات والمؤسسات الدولية وأهمية ذلك في تنمية الوعي النقدي لدى المثقف العربي،  كل ذلك رسمته بناء على قاعدة أن إلـى جانـب كـل منتج (مادي، رمزي، فني وما هنالك من منتجات تسوق عبر وسائل الإعلام والاتصال) هنـاك فلسـفة، وأن لـيس هناك قيادة وهيمنة وسلطة بلا فلسفة. وبرنامج المطالعة عنـدي دائمـاً مـا يكـو ن مقترنـاً بالكتابـة، ولا أفصل بين المطالعة والكتابة، ولا أحبذ هذا الفصل أساساً، وكما يعبر صديقي المفكر السعودي الدكتور زكي الميلاد عن ذلك بالقول: أليس إننا نقرأ من أجل أن نكتب، ونكتب مـن أجـل أن نقـرأ، والذين يقرؤون ولا يكتبون هم أشبه بأولئـك الـذين يجمعـون مـالاً ولا ينفقون منه شيئاً، أو كمن يزرعون زرعاً ولا يحصدون منه شيئاً.

عند قراءتي لكتاب إيميل بريهي (Emile Bréhier) لفت إنتباهي إشارات مهمة في آخر الكتاب ترتبط برائد الظاهراتية المؤرخ والفيلسوف الألماني الشهير وذو حضور لافت في مسارات الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة: ادموند هوسرل (Edmund Husserl)، الذي يمثل بعد آخر للفلسفة المعاصرة الألمانية كونه ضد علم النفس والذي توحي فلسفته حضور ليبنز في مقابل كانط، حيث يشير الاستخدام المكرس لمصطلح "phénoménologie" الظاهراتية إلى تلك الحركة الفكرية المستوحاة من فلسفة هوسرل. لكن يكفي العودة إلى منبع "الحركة الظاهراتية" والفلسفة الهوسرلية، حتى نكتشف أن هذا المفهوم ليس حكرا على هذه المدرسة الواحدة، وأنه ليس حكرا على هذه الشبكة من المراجع التي يشكلها أولئك الذين يدعون انتماء معين إلى هذه الحركة. على المرء فقط أن يفكر في كلمات كانط في رسالته إلى تلميذه وصديقه المقرب ماركوس هيرز1، الذي أعلن بالفعل عن الظاهراتية، وبالتالي حدد ما أصبح -بعد بضع سنوات- نقد العقل الخالص. كما قدم كارل رينهولد الأول أيضا دراسة الوعي كمصطلح "دراسة الوعي" وهيجل، في عمله عام 1807م، فينومينولوجيا العقل، باسم "علم تجربة الوعي". وقد يتساءل المرء بالتأكيد عما إذا كنا نتعامل هنا مع نفس المفهوم، إلى جانب استخدام المفهوم ذاته. ومن المفارقات أنه على الرغم من أن علم الظواهر أصبح عنوانا عاما، بل وشعارا، حشد جزءا كبيرا من الفلسفة في القرن العشرين، إلا أن هوسرل لم يعرفها بوضوح أبدا، أكثر من مفهوم الفلسفة المرتبط بها. لذلك هذه صعوبة حاسمة لتفسير فكره، ومشكلة لا يمكن التغلب عليها تقريبا عندما يتعلق الأمر بمقارنتها بفكر فيخت وهو من تأخر بفلسفة هذا الأخير بعد صدور كتاب الأبحاث المنطقية وتناول فلسفته منذ 1907 إلى 1918 في ثلاث محاضرات له. علاوة على ذلك، فإن العلاقة بين الظواهر والفلسفة كما تصورها هوسرل هي من جانب واحد، كما يتضح من تطور ظاهراتيته.

الفلسفة، في تطورها التاريخي، ستميل بالفعل نحو الظواهر، لكن هذا سيبقى مستقلا نسبيا في مواجهة الفلسفة الكلاسيكية والميتافيزيقا، كما يشهد بوضوح البحث المنطقي والحركة الجديدة المستوحاة منه. ويجب أن نضيف إلى هذه المشكلة الطابع الفريد لهوسرل كمؤرخ، حيث تسترشد قراءته لفيخت والكانطية أحيانا بمفهوم لتاريخ الفلسفة يمكن وصفه بأنه خاص بقدر ما يميل إلى استلهام "رواد الظاهراتية التراستندنتالية" (المتعالية) من ديكارت أو كانط أو فيخت.  وهذا ما يفسر الميل إلى تفضيل "الفكرة المتعالية" التي يتم الإعلان عنها من خلال هذه الشخصيات العظيمة للحداثة وفق الطابع المحدد لفلسفاتهم. وترجع الصعوبة الثالثة إلى حقيقة أن الإشارات إلى فلسفة فيخت غالبا ما تكون مسيئة وأنها تحدث في كثير من الأحيان في سياق مناقشة فلسفة كانط. علاوة على ذلك، تستند معرفة هوسرل بعمل فيخت بشكل أساسي إلى كتاباته الشعبية، على الرغم من أنه يجب النظر في المعرفة غير المباشرة بعقيدة العلوم عبر جوناس كوهن وخاصة إيميل لاسك، طالب هنريش جون ريكرت2.  هذا لا يقلل بأي شكل من الأشكال، اهتمام هوسرل بفلسفة فيخت، كما يتضح من الدروس والمحاضرات التي ألقيت بين عامي 1903 و1918، وكذلك من خلال المراجع اللاحقة، ولا سيما في"أزمة العلوم الأوروبيّة والظاهريّات التراستندنتالية " Krisis، وترتبط العديد من الموضوعات باسم فيخت في عمل هوسرل، وقد تم بالفعل التعليق على العديد منها.3

أحد الموضوعات الأساسية المرتبطة بإسم فيخت، الموضوع الذي، على حد قراءتي الأولية، لم يتم تناوله بإستفاضة وعمق في الكتابات الفلسفية هو العلاقة بين الفلسفة المتعالية التراستندنتالية وعلم النفس، وهو موضوع يرتبط ارتباطا وثيقا بالمفارقة الشهيرة للذاتية البشرية في "أزمة العلوم الأوروبيّة والظاهريّات التراستندنتالية ".

ما بين الظاهراتية وعلم النفس:

على أساس هذا الموضوع، نود أن نسلط الضوء على مسألة أسس الفلسفة التراستندنتالية عند هوسرل وفيخت. قد يكون الموضوع النفسي صادما في السياق الحالي. لكن ألم نتعود قراءة الظاهراتية الهوسرلية وخاصة الفلسفة الألمانية الكلاسيكية من خلال إنكار علم النفس، سواء كان يفهم على أنه روح أو علم، ليس له أية صلة بالأسئلة الأساسية للفلسفة؟ هذا ليس موقف هوسرل تجاه علم النفس، الذي يتمثل هنا بأكثر من عنوان. في الواقع، فإن نسختي الظاهراتية الموجودة في عمل هوسرل، وهي نسخة الأبحاث المنطقية، والتي تفهم على أنها علم النفس الوصفي، والنسخة المتعالية التراستندنتالية التي فرضت نفسها بعد نشر الأبحاث المنطقية، حيث تتوافق بدقة مع اتجاهين مستوحى كل منهما عن كانط، المثالية وما أسماه يوهان إدوارد إردمان  J.E Erdmann"علم النفس Psychologisme" لتعيين التفسير النفسي للنقد.

تتوافق هاتان النسختان من الظاهراتية مع مسارين يؤديان إلى الكانطية:

الأول يمر على وجه التحديد من خلال علم النفس وينتقل من راينهولد (Karl Leonhard Reinhold) إلى ظواهر البحث المنطقي، ويمر بالطبع عبر فرايز (Jakob Friedrich Fries) وبينيكي (Friedrich Eduard Beneke  ) وهيربارت (  Johann Friedrich Herbart).

والثاني، الطريق الملكي، إذا أردنا أن نصدق المفسرين الذين درسوا موضوعنا هذا، يمر عبر المثالية وينتقل مباشرة من فيخت إلى الفلسفة التراستندنتالية التي هيمنت على فكر هوسرل بعد الأبحاث المنطقية.

الآن، وبالحكم من خلال ملاحظات هوسرل في جميع أنحاء عمله حول كانط وفيخت، فإن الموضوع النفسي لا يقل أهمية بالنسبة للظاهراتية عن أهمية المثالية بالنسبة للفلسفة التراستندنتالية. هذا لأنه في أعماله الأخيرة، يحتفظ هوسرل بمكانة خاصة لما يسميه علم النفس المتعمد في كل الظواهر، والعديد من الاعتراضات الموجهة ضد فيخت وكانط تعتمد عليه بشكل مباشر. هذا هو السبب في أننا سوف نسير بسرعة في المسار النفسي، ونكتفي هنا بمؤشرات عامة، ثم نسلك الطريق الذي يؤدي إلى المثالية في مقالات لاحقة. إن طرح السؤال النفسي هو فتح صندوق باندورا [1]، سواء بالنسبة لغالبية أنصار الكانطية أو للقراء المعتمدون لظاهراتية هوسرل. هناك العديد من الخلافات في التفسير المعاصر لفلسفة كانط، ولا سيما تلك التي تعارض أولئك الذين يجعلون نقد العقل الخالص مساهمة في علم النفس المعاصر وأولئك الذين يقاومون من خلال التشكيك في أهمية الموضوع النفسي لدى كانط. وليس هذا هو الوقت المناسب للدخول في هذا النقاش 4. ومع ذلك، لا ينبغي لنا أن نقلل من اهتمام كانط المستمر بعلم النفس، على الرغم من أحكامه القاسية حول علم النفس العقلاني، وخاصة علم النفس التجريبي، الذي خفضه إلى مرتبة العلم الزائف5. ولا يمكننا تجاهل حقيقة أن كانط، على الرغم من انتقاده المتكرر لعلم النفس، وضع المعايير العامة التي جعلت من الممكن ولادة علم النفس العلمي، علم النفس التجريبي لفيخنر (Gustav Fechner) وخاصة فونت (Wilhelm Wundt ) وتشكل علم النفس كما نعرفه اليوم.

هذه ليست مساهمة بسيطة عندما نعرف الأهمية التي اكتسبتها الظاهراتية التراستندنتالية في القرن العشرين!  لكن هذا الفصل من التاريخ يبدأ مع كارل راينهولد الأول، على ما يبدو، الذي جعل الموضوع النفسي عند كانط مشكلة، هو الذي شجب استخدام كانط غير النقدي لمفاهيمه النفسية الأساسية.، ولا سيما مفهوم التمثيل6(Représentation).

شجع هذا الاعتراض راينهولد على جعل طبيعة العقل، ما يسميه أيضا الوعي، الموضوع المركزي للفلسفة. في هذا المنظور، يقدم مفهوم الظواهر، بمعنى قريب من هوسرل، لتعيين هذا المنهج الأساسي الذي تتمثل مهمته بدقة في وصف ما يعطى أو يظهر للوعي. ولكن لم يكن حتى تلميذه يعقوب ف. فرايز ومجموعة من الفلاسفة، المستلهمين أيضا من الفلسفة الكانطية، ولكن دافعوا عن موقف أقرب إلى التجريبية من مثالية فيخت، للحديث عن مساهمة في علم النفس العلمي. اسمان مهمان هنا، ليس فقط لمساهمتهما في علم النفس ولكن قبل كل شيء لأنهما محاوران متميزان لهوسرل في الأبحاث المنطقية، هما يوهان فريدريش هيربارت وفريدريش إدوارد بينيكي7. المفارقة في هذه القصة هي أن حجج كانط المختلفة ضد إمكانية تطور علم النفس كعلم حقيقي كانت بمثابة دليل لهذا الفريق، بما في ذلك فكرة هيربارت عن علم النفس الرياضي، أو فكرة بينيكي عن علم النفس التجريبي، وكلاهما اعتبره كانط غير ممكن.

على أي حال، كان أعضاء هذه المجموعة على وجه التحديد هم الذين أثروا في تطور علم النفس العلمي، سواء لدى فانت أو هلمهولتز (Hermann von Helmholtz) أو حتى برنتانو(Franz Clemens  Brentano) هذه أيضا نقطة انطلاق هوسرل في الأبحاث المنطقية المجلد 1.        " مقدمات في المنطق الخالص"، يعترف هوسرل بالقيمة العلمية لعلم النفس التجريبي، لكنه يطعن في الادعاءات التأسيسية التي منحها لها هيربارت وبينيكي، أو فانت وجون ستيوارت ميل، للمنطق والفلسفة بشكل عام.

يوصف هذا الموقف في هذا الكتاب بأنه علم النفس، ويشير إلى "اختزال جميع الأبحاث الفلسفية بشكل عام، وجميع الأبحاث المعرفية بشكل خاص، في علم النفس"8.  هذا هو الهدف الرئيسي لهوسرل في مقدماته، وتنسب واحدة من أهم الحجج المضادة لعلم النفس إلى كانط وتستند إلى الطابع المعياري للمنطق9.

تم تفسير هذه الحجة، التي دافع عنها أيضا جوتلوب فريج (Gottlob Frege )، لاحقا على أنها رفض خالص وصريح لعلم النفس خارج الفلسفة، مما  خلف فجوة بين مجال التحقيق في الفلسفة وأيضا في علم النفس. لدرجة أن علماء النفس أغلقوا الباب خلفهم، وتجنبوا الفلسفة، وأنشأوا مدارسهم الخاصة. لكن معاداة علم النفس في مجلد "مقدمات في المنطق الخالص"، إذا كانت موجهة ضد الادعاءات التأسيسية لعلم النفس، لا ينبغي فهمها على أنها رفض خالص وصريح وشامل لعلم النفس. لأن ظاهراتية الأبحاث المنطقية تعرف بأنها "علم نفس وصفي"، بمعنى سيدها برنتانو، والدافع النفسي موجود في كل مكان في الأبحاث الستة التي يتكون منها الكتاب. هذا لا يعني أن هوسرل يتفق مع علماء النفس، لكنه يعترف، وسيعترف حتى نهاية عمله، بدور مركزي لعلم النفس في ظاهراتيته.

يخلص هوسرل في الفقرة السادسة من مقدمة المجلد الثاني من الأبحاث المنطقية، ولا سيما في "التذييل رقم3"11، عبر الشرح بطريقة أوضح، العلاقة بين الظاهراتية وعلم النفس الوصفي، أي خصوصية نهجه في استخراج - من تحليلاته لــ "تجارب الفكر"- المنطق الخالص كمكان للوصول إلى معرفة ما هو. ليس هناك شك في أنه إذا قُرأ هذا النص بعناية، لكان قد جنب أتباع الظاهراتية وعلماء النفس الكثير من سوء الفهم والتفسيرات الخاطئة في تفسير ظاهراتية هوسرل.

وهذا الأخير عبر بأن الظاهراتية تتعلق بعلم النفس تماما كما تتعلق الرياضيات بالفيزياء. ومع ذلك، يجب ألا يؤدي القياس إلى نوع من التحديد الذي من شأنه أن يجعل الظاهراتية نوعا من رياضيات الفكر. لكن، هذا التوازي سيقود هوسرل إلى صعوبات حقيقية للغاية عندما يتعلق الأمر بالانتقال إلى جغرافية التراستندنتالية في أواخر حياته. دعونا نكتفي بالتأكيد، في الوقت الحالي، على ما هو متناقض حول وضع هوسرل وستكون لنا مقالات أخرى نكتشف من خلالها تضاريس الفلسفة الظاهراتية لهوسرل...

***

أ. مراد غريبي

................

الهوامش:

Kant, Lettre à Marcus Herz du 21 février 1772, in Pléiade, tome 1,p 691

طبعة كاملة في 12 مجلدا أعدت من قبل الأكاديمية البافارية للعلوم تحت إشراف ر. لاوث وهـ. جاكوب، شتوتغارت. في Krisis، يذكر هوسرل مشاريع تدريس العلوم في سياق التفكير في إرادة الفلسفة الحديثة في جعل الفلسفة " علم تأسيسي في نهاية المطاف" (ص 227).

R. Boehm « Husserl et' I' idéalisme classique », Revue philosophique de Louvain, tome 57, (1959) p. 351-396

" Critique de la déduction transcendantale de Kant Chez Fichte et Husserl ", Études Husserliennes 2 (1985) 53 à 74.

Kant et le kantisme Jean-Cassien Billier ; Armand collin Editions ; 1998

Karl Leonhard Reinhold : Philosophie élémentaire. Présentation et traduction par François-Xavier Chenet. Coll. « Bibliothèque des textes philosophiques ». 1989, P487

De la psychologie cognitive et de la didactique des mathématiques à la didactique professionnelle

Recherches logiques. II – Recherches pour la phénoménologie et la théorie de la connaissance. Première partie : Recherches I et II, Paris, PUF, 1961, p. 57-64

Voir Les Recherches logiques P.U.F., collection “épiméthée”, Paris, 1959 - 1963. Tome II

Les Recherches logiques P.U.F., collection “épiméthée”, Paris, 1959 - 1963. Tome II p 18.

La psychologie comme phénoménologie transcendantale : Husserl et au-delà de Husserl, Marc Richir, La voix des phénomènes, Presses universitaires Saint-Louis Bruxelles 1995, p 361

[1]  في الميثولوجيا الإغريقية، هو صندوق حُمل بواسطة باندورا( "المرأة التي منحت كل شيء") يتضمن كل شرور البشرية من جشع، وغرور، وافتراء، وكذب وحسد، ووهن، ووقاحة ورجاء. ويكيبيديا.

 

استكمالاً لما طرحناه في مدار "الورقاء التي حيَّرت الشيخ الرئيس" حول موضوع النفس في المقال السابق، نعرض هنا لأهم البراهين التي قدمها ابن سينا لإثبات وجود النفس وطبيعتها، لكونه أحد أهم فلاسفة الإسلام الذين أبدوا عناية فائقة بها من حيث وجودها وطبيعتها وقواها ومصيرها، ومن الواضح كما رأينا في القصيدة العينية، أن ابن سينا قد أخذ بمبدأ إن النفس مخالفة في طبيعتها للبدن، وانها لا تهلك بهلاكه، لذلك فانه مضطر لأن يوجد لها مكاناً وحالاً بعد هلاك البدن. ويبدو انه قد تسلى في أول الامر بنظم هذه القصيدة التي جمع فيها رأي أفلاطون الى رأي أفلوطين في هبوط النفس من عالمها العلوي الالهي الى العالم الأرضي، ثم اتصالها بالجسد، وبعد ذلك نفورها من هذا الجسد – السجن، وصولاً الى اطمئنانها اليه مع مرور الايام واعتيادها عليه، ثم يصف ابن سينا فرح النفس اذا هي فارقت البدن، وعادت الى عالمها الذي أُهبطت منه عنوةً ومن دون رغبة منها لـ " تعود عالمةً بكل خفيةٍ في العاَلَمين". و يُعَّد الفيلسوف اليوناني أفلوطين 203- 270 م من ابرز ممثلي الافلاطونية المحدثة التي تبلورت على يديه في مدينة الاسكندرية المصرية، وقد تحدث عن ثنائية في النفس: نفس عليا اقرب ما تكون الى العقل وابعد ما تكون عن إحداث المحسوسات، ونفس دنيا اقرب ما تكون الى المحسوس، وبالتالي هي القادرة وحدها على إحداث كل الحوادث او الموجودات المحسوسة. ومن أهم البراهين التي قدمها ابن سينا لإثبات وجود النفس ومخالفتها للبدن - والتي استخلصناها من كتبه الشفاء والإشارات والتنبيهات ورسالته في معرفة النفس الناطقة وأحوالها، فضلاً عما تم شرحه بصددها في كتب إبراهيم مدكور، وعبد الرحمن مرحبا، وعمر فروخ، ومحمد قاسم -، البراهين الخمسة الآتية:

1- البرهان الطبيعي:

يُقسم ابن سينا الحركة الى قسمين: الحركة القسرية، والحركة الارادية، والحركتان لا تصدران عن الجسم، فالأولى تصدر عن محرك خارجي يحركهُ، والثانية نوعان : منها ما يحدث على مقتضى الطبيعة، كسقوط حجر من أعلى الى أسفل، ومنها ما يحدث ضد مقتضى الطبيعة، كالإنسان الذي يمشي على وجه الارض مع ان ثقل جسمه كان يدعوه الى السكون، أو كالطائر الذي يحلق في الجو بدل ان يسقط الى مقره فوق سطح الأرض، وهذه الحركة المضادة للطبيعة تستلزم محركاً خاصاً زائداً على عناصر الجسم المتحرك, وهو النفس، وفي الواقع أننا " نشاهد أجساماً تحس وتتحرك بالإرادة، بل نشاهد أجساماً تتغذى وتنمو وتوَلِد المِثْل وليس ذلك لها بجسميتها، فبقي ان تكون في ذواتها مبادئ لذلك غير جسميتها، والشيء الذي تصدر عنه هذه الافعال، فإنما نسميه نفساً ". وهذا البرهان أخذه ابن سينا عن أفلاطون وأرسطو.

2- البرهان السيكولوجي:

وهذا البرهان يستند الى الادراك " ومن خواص الانسان انه يتبع ادراكاته للأشياء النادرة، انفعال يسمى التعجب ويتبعه الضحك، ويتبع ادراكه للأشياء المؤذية انفعال يسمى الضجر، ويتبعه البكاء، وقد يتبع شعوره بشعور غيره أنه فعل شيئاً من الاشياء التي قد أجمع على انه لا ينبغي ان يفعلها، انفعال انساني يُسمى الخجل". ويمتاز الانسان ايضاً بالنطق واستخدام الإشارة "  وأخص الخواص بالإنسان تصور المعاني الكلية العقلية المجردة عن المادة كل التجريد،  والتوصل الى معرفة المجهولات تصديقاً وتصوراً من المعلومات الحقيقية ". فهذه الأحوال أو الأفعال المتكررة هي مما يوجد للإنسان، وجلُّها يختص به الإنسان، وإن كان بعضها بدنياً ولكنه موجود للإنسان بسبب النفس التي هي للإنسان وليست لسائر الحيوان".. ألا يعني هذا ان للإنسان المدرك قوة يتميز بها عن الكائنات غير المدركة ؟ .

3- برهان الاستمرار:

يقارن ابن سينا بين النفس والجسد، ويلاحظ ان الجسد عرضة للتغير والتبدل والزيادة والنقصان و ومركب من أجزاء عرضة للعوامل نفسها، أما النفس فأنها ثابتة باقية على حالها : " تأمل أيها العاقل في إنك اليوم في نفسك هو الذي كان موجوداً في جميع عمرك حتى انك تتذكر كثيراً مما جرى من أحوالك، فأنت اذن ثابت مستمر لاشك في ذلك، وبدنك وذاته ليس ثابتاً مستمراً،  بل هو دائماً في التحلل والانتقاص، ولهذا يحتاج الانسان الى الغذاء بدل ما تحلل من بدنه، فتعلم نفسك ان في مدة عشرين سنة لم يبقَ شيء من أجزاء بدنك، وانت تعلم بقاء ذاتك في هذه المدة، بل جميع عمرك، فذاتك مغايرة لهذا البدن واجزائه الظاهرة والباطنة. فهذا برهان عظيم يفتح لنا باب الغيب، فانَّ جوهر النفس غائب عن الحس والاوهام" .

4 – وحدة النفس وبرهان "الأنا":

ان النفس محل المعقولات، " وهذا الجوهر الذي هو محل المعقولات ليس بجسم ولا هو قائم بجسم على انه قوة فيه او صورة له بوجه "، ويفرض ابن سينا صورة معقولة في نقطة من الجسم غير منقسمة ويبين ان ذلك مُحال.  ثم يفرض هذه الصورة المعقولة في شيء منقسم، فاذا انقسم هذا الشيء انقسمت الصورة أيضاً الى جزئين متشابهين، أو غير متشابهين " فان كانا متشابهين، فكيف يجتمع منها ما ليس بهما، وان كانا غير متشابهين فكيف يمكن ان تكون للصورة المعقولة اجزاء غير متشابهة ؟ " فيجب ان يكون محل الصور المعقولة جوهراً ليس بجسم وغير قابل للقسمة، ولو كان غير ذلك للحق الصورة ما يلحق الجسم من الانقسام . ولهذه النفس وظائف مختلفة، لكنها تظل واحدة على الرغم من تعدد هذه الوظائف انه يجب لهذه القوى – الشهوانية والغضبية والمدركة – رباط يجمع بينها كلها، وتكون نسبته الى هذه القوى نسبة الحس المشترك الى الحواس، فأنا نعلم ان هذه القوى يشغل بعضها بعضاً ويستعمل بعضها بعضاً، وهذا الشيء لا يجوز ان يكون جسماً، ولا اعتراض على ان النفس غير جسم.

يقول ابن سينا في رسالته المسماة " رسالة في معرفة النفس الناطقة واحوالها" : ان الانسان يقول أدركتُ الشيء الفلاني ببصري واشتهيته أو غضبتُ منه، وكذا يقول، أخذتُ بيدي، ومشيتُ برجلي، وتكلمتُ بلساني، وسمعتُ بأذني، وتفكرتُ في كذا وتوهمته، وتخيلته. فنحن نعلم بالضرورة ان في الانسان شيئاً جامعاً يجمع هذه الادراكات، ويجمع هذه الأفعال، ونعلم أيضاً بالضرورة أنه ليس شيء من اجزاء هذا البدن مجمعاً لهذه الادراكات والافعال: فأنه لا يبصر بالأذن، ولا يسمع بالبصر، ولا يمشي باليد، ولا يأخذ بالرجل، ففيه شيء مجمع لجميع الادراكات والافاعيل. فأذن الانسان يشير الى نفسه بـ " أنا " مغاير لجملة أجزاء البدن، فهو شيء وراء البدن .

5 - برهان الانسان المعلق في الهواء "الانسان الطائر":

وهو من البراهين الطريفة التي قدمها ابن سينا لأثبات وجود النفس، وهو شديد الشبه ببرهان ديكارت الشهير الذي قدمه بعد ابن سينا بما يزيد عن ستة قرون، وعبَّر عنه بقوله " أنا افكر اذن أنا موجود ". يقول ابن سينا " ولو توهمتَ ان ذاتك قد خُلقت أول خلقها صحيحة العقل والهيئة، وفُرض انها على جملة من الوضع والهيئة لا تبصر اجزاءها ولا تتلامس أعضاؤها، بل هي منفرجة ومعلقة لحظة ما في هواءٍ طلقٍ، وجدتها قد غفلت عن كل شيء إلا عن ثبوت إنَّيتَّها ". ويقول في كتاب "الشفاء " : يجب ان يتوهم الواحد منا - اي يتخيل - كأنه خُلق دفعةً، وخُلق كاملاً، ولكنه حُجب بصره عن مشاهدة الخارجات، وخُلق يهوي في هواءٍ أو خلاءٍ هوياً لا يصدمه ُفيه قوام الهواء صدماً ما يحوج الى ان يُحس، وفُرَّق بين اعضائه فلم تتلاق، ولم تتماس. ثم يتأمل أنه هل يثبت وجود ذاته، ولا يشك في اثباته لذاته موجوداً، ولا يثبت مع ذلك طرفاً من أعضائه، ولا باطناً من أحشائه ولا قلباً، ولا دماغاً ولا شيئاً من الاشياء من خارج، بل كان يُثبت ذاته ولا يثبت لها طولاً ولا عرضاً ولا عمقاً، ولو انه أمكنه في تلك الحالة ان يتخيل يداً أو عضواً اَخر لم يتخيله جزءاً من ذاته ولا شرطاً في ذاته. وانتَ تعلم ان المثَبت غير الذي لم يُثَبت، والُمقَّر به غير الذي لم يُقَّر به. فاذن، للذات التي أُثبت وجودها خاصية على انها هو بعينه - اي الانسان بعينه - غير جسمه وأعضائه التي لم تثبَت. فأذن المثبِت له سبيل الى ان يثبته على وجود النفس شيئاً غير الجسم، بل غير جسم، ولأنه عارف به، مستشعر له .

عوضاً عن هذه البراهين فأن لابن سينا براهين اخرى في اثبات ان النفس جوهر روحاني، قائم بنفسه، غير محتاج في قوامه الى مادة، وهو موجود فعلاً مستقل عن البدن، ومن ذلك :

* ان ادراكنا للمعقولات - الصور المجردة - التي لا تُدرك بالحواس أصلاً " اسماء المعاني مثل الشرف، الخير، جمع الاعداد وتفريقها، الخ" يدل على اننا ادركناها بشيء من جنسها وليس بحواسنا- لأن حواسنا لا تدرك الا المحسوسات المادية والماثلة أمامنا-  فيجب ان يكون قد ادركناها بأنفسنا، ولذلك كانت أنفسنا روحانية مثل تلك المعقولات التي ادركناها.

* ان الحواس تدرك اشياء قليلة - معدودات محدودة وموجودة في نطاق معين - بينما نحن ندرك بالنفس معقولات لا حصَر لها ولا حدود لها : اننا نبصر جبلاً صغيراً أو جزءاً من جبل، أو عدداً معيناً من النجوم، ولكننا ندرك بالنفس مدى البحر، وعِظَم الجبل، وعدد النجوم الذي لا يُحصى .

* ان الحواس لا تُدرك إلا صور الموجودات الحاضرة، بينما النفس تحفظ صور الاشياء بعد ان تغيب الاشياء عن حواسنا، فمحل هذه الصور المعقولة اذن، بعد غيابها عن الحواس، ليس في عضو معين .

* ان حواسنا الخمس تضعف عادةً اذا ضَعُفَت أعضاؤها بالهرم أو المرض - فالسمع يخف اذا تعرضت الاذن لعاهة، والبصر يكل عادةً بالتعب، أو المرض، أو مع تقدم السن - أما الادراك بالنفس الناطقة - أي بالعقل - فلا يضعف ضرورةً مع المرض أو الهرم، بل ربما زاد قوة.

لقد جمع ابن سينا في نظرية النفس اَراء الفلاسفة الى اصول الدين، فأقتبس من أرسطو حدوث النفس، ومن أفلاطون خلودها، وضم الى ذلك شيئاً من تصوف الشرق ومذاهب الهنود، وان النفس عنده هي مبدأ الافعال والحركات، وان هذه الافعال، اما ان تكون نباتية، واما ان تكون حيوانية، واما ان تكون انسانية، لذلك انقسمت النفس الى ثلاث نفوس هي:  النباتية والحيوانية والانسانية. فالنباتية هي كما أول لجسم طبيعي اَلي من جهة ما يتولد ويربو ويتغذى، فالقوة النباتية اذن ثلاث: المولدة والمنمية والغاذية. وهي موجودة في النبات والحيوان والانسان. أما النفس الحيوانية فهي كمال أول لجسم طبيعي اَلي من جهة ما يدرك الجزئيات، ويتحرك بالإرادة، وهي موجودة في الحيوان والانسان، أما النفس الانسانية فهي النفس الناطقة وهي تنقسم الى قوتين : القوة العاملة، والقوة العالمة، وكل قوة من هاتين القوتين تسمى عقلاً، فالعاملة هي العقل العملي، والعالمة هي العقل النظري .

وقف ابن سينا من قضية النفس وخلودها، مواقف قد تبدو متناقضة مثلما بدا ذلك واضحاً في القصيدة العينية، تناقض ما بين فلسفته الأرسطية لكونه من أكبر الفلاسفة المَّشائين المسلمين، وهي فلسفة طبيعية مادية، وما بين فلسفة أفلاطون المثالية التي أُغرم بها هؤلاء الفلاسفة حتى اطلقوا على أفلاطون اسم الإلهي لانهم وجدوا أن فلسفته أقرب الى روح دينهم من فلسفة أرسطو، وهكذا نجد ان ابن سينا قد أخذ من أرسطو ما يعينه في تقسيم قوى النفس المادية. لكنه مال لأفلاطون في قضية خلودها وعدم فنائها بفناء الجسد، وذلك ضمن السياق العام لفلاسفة الاسلام في التوفيق والتوائم ما بين الفلسفة والدين الاسلامي .

***

د. طه جزاع – كاتب أكاديمي

..........................

* المقال منشور في مجلة مراصد البغدادية أيضا

مدخل إلى فلسفة النَّحْنُ والآخرين

على ماذا يتوقف كياننا؟ أو على ماذا يتوقف وجودنا أو كيف نكون نحن هم نحن لا الآخرين؟ مثل هذا السؤال الساذج والبسيط الماهوي الذي يتساءل عن ماهية النَّحْنُ، أي على أي أساس يتأسس أساسنا الذي نحن نكون به كائنات أو لا نكون؟ يقودنا في الحقيقة إلى التفكير في شعورنا أو في ذاتنا كنَحْنُ ونَحْنُ في هذا العالم الغريب الأطوار عنا فعلاً !

ففكرة النحن، أو وجودنا في براثن هذا العالم، والخضوع لشروط لا حيلة لنا نحن معها، تسم وجودنا نحن بالتعقيد والتركيب والتشابك والتداخل والتشعب ليستحيل مع ذلك إدراك كنه النحن ومن نكون وكيف نكون أو متى لا نكون نحن؟ ما يعني إستحالة التحكم في كوننا نحن، أو كوننا لا نحن.

يتميز التساؤل عن كوننا نحن نكون أو لا نكون بالإزدواجية والتعقد والتشابك كشبكة خيوط العنكبوت، فنحن لا أحد منا ينكر أنه يوجد في هذا العالم، لكن لا يعني وجودنا في هذا العالم أننا نكون أو كائنات، رغم كوننا نعيش مع الآخرين أو الأغيار، لا يعني هذا أيضاً أننا نكون، رغم كون وجود علاقات معقدة ومركبة ومتشابكة ومزدوجة مع الآخرين، إنها علاقات تفاعل وإنتماء، علاقات ذات بمعية ذات أخرى، أو علاقات كائن بمعية كائن آخر، علاقات نكون فيها نحن ذواتنا في علاقات مع ذوات أخرى، وهنا مكمن السجال الحادم والجدال الذي قد ينشأ بين الكائنات، فكل علاقات بين الذوات لا تخلوا من الصراع.

هذا الخضوع المبتوت في العلاقات، هو خضوع يشرط وجودنا نحن أو كوننا نكون أو لا نكون، لأن كل كائن كيفما كان نوعه هو في حقيقته كائن هش ضعيف هزيل، لكنه كائن مفكر حسب باسكال، لكن هذا الكائن المفكر مهدد في جميع اللحظات بأن يفقد كينونته أو كونه كائنا ليتحول إلى اللا كائن، يفقد معها، أي كينونته، حتى إرادته وعزيمته وأناه، رغماً عنه وبدون تفكير في إرادته، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

لكن هذا الكائن الذي كان ويريد أن يكون لا يستطيع البتة أن يتخلص من كينونته المشروطة بسلسلة من الكائنات الخارجة عنه، هذه الكائنات بمثابة شروط تشرط وجوده أو تهدده، إن من هو كائن ويريد أن يكون هو في الحقيقة الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يكون بغض النظر عن شروطه التي تشرطه، بمعنى يستطيع هذا الكائن أن يكون، أي أن يريد، وأن يختار، وأن يفعل، ويتفاعل مع أنماط وجوده في هذا العالم، وذلك لأنه كما علمنا باسكال كائن مفكر وعاقل ومُرِيدٌ وواعي ...إلخ.

إن محاولات الكائن في أن يَتَكَائَنْ، أي يتعالى عن كينونته الكائنة في ذاته، أو في وجوده الإنساني، هي محاولات تعبر في الحقيقة عن خيبات الأمل المتواصلة التي تخلقها له شروطه الاجتماعية والثقافية والسياسية والتربوية والقانونية والدينية والفكرية والإيديولوجية والأخلاقية والقيمية عموماً.

فأن تكون، أو أن توجد، تعني أن تحاول ولو مرة واحدة في حياتك أن تفكر ذاتك بذاتك ولذاتك، أن تحاول كما علمنا سقراط معرفة نفسك بنفسك ولنفسك، بغض النظر عن الآخرين، لكن لا يعني هذا أن تنعزل عن الآخرين، بل أن تعيش بمعيتهم، أي أن تعيش أو أن توجد بالمعية وبالمشاركة والانفتاح على الآخرين والمجتمع والعالم.

يتحدد الكائن الذي يريد أن يكون إذن كينونة موضوعية أي خارجية عن كينونته من خلال المجتمع والأفراد الخارجيين، أي الأغيار والآخرين، يتحدد هنا بكل ما يوجد خارج ذاته ووعيه وعقله وإرادته، كما يتحدد تحديداً ذاتياً عندما يتحدد من ذاته وعقله ووعيه وإرادته، أي عندما يحدد كونه كائنا عاقلا مفكراً من كونه هو كذلك، أو من كوننا نحن كذلك، بغض النظر عن الآخرين، أو بإستقلال نسبي عنهم، أي من خلال الطبيعة الكائنة للكينونة، وهكذا إذن نفهم أن هناك شروط ذاتية من داخل الكائن يكون من خلالها، وشروطاً موضوعية من خارج الكائن يكون أيضاً من خلالها كائناً.

إن معرفة أن نكون أو ألا نكون هي معرفة تصاحب على نحو دائم إحساساتنا وإدراكاتنا الراهنة، وبها نكون نحن بالفعل كائنات موجودة بالضرورة لأنها وبكل بساطة تفكر أولاً وتحس ثانياً، لتُحَصِّلَ الإدراك والفهم والاستيعاب أو الوعي بما هو إحاطة ثالثاً.

نعود عودا أبديا إلى سؤالنا على ماذا يتوقف كوننا نكون أو لا نكون؟ لا يتأسس على كل ما هو مادي قابل للتغير والزوال والصيرورة والتحول، لأن المادة سيالة ومتغيرة ومتحولة وسائرة ومتدفقة في أجزائها المختلفة، هناك إذن ما هو ثابت متأصل وقار بشكل مطلق فينا لا يتغير ولا يتحول هو بعينه نواة وجودنا، وهذا الشيء في الحقيقة هو ما يجعلنا كائنين، أي نكون أو لا نكون، هذا الشيء هو روح التفكير، أو روح العقل، أو روح الفهم والإدراك والوعي النقدي بما هو إحاطة نقدية بكل شيء، قد تكون إجابتنا هذه ذات نفحات فلسفية مختلفة (ديكارتية، باسكالية، اسبينوزية، …إلخ)، لكنها في نظرنا تختلف عنهم بمفهوم الروح L'esprit  التي تحيل إلى روح الشيء أي جوهره وماهيته وحقيقته الثابتة التي لا تتغير البتة.

يتحدد الإنسان بوجوده بوصفه كائناً يكون أو لا يكون، هذا الكائن الذي يكون يحاول ما أمكن مجاوزة كينونته أو وضعه وحالته التي هو كائن فيها، إنه كائن يصير ويسير ويتحول ويتغير، إنه كائن السيلان والتدفق والتعالي، أو إنه كائن الفعل والتفاعل والحركة والمقاومة الحيوية أو كائن الطاقة الخلاقة والكيان المجرد، وإن كان وجود الكائن الذي يكون وجوداً يتخذ أشكالا متعددة ومتميزة و"مستقلة نسبيا" وقادرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة لصالح الجماعة، فإنه في بعض الأحيان يتخذ صورة إرادة مقاومة ومزعجة تقاوم كل هذه الشروط أسميتها الإرادة في القدرة على الفعل، ما يعني أن كائناً يريد أن يكون هو كائن كيفما كان قادر على الفعل، لا منفعل سلبي دائماً.

إن العلاقات الثاوية الموجودة بين النحن والآخرين هي علاقات متغيرة بإستمرار لأنها بكل بساطة علاقات متنقلة بين الأطراف على شكل دوائر، وكأنها علاقات تندرج في فضاء متحرك تبقى مباغتة بالأحرى لبنيتنا الداخلية الخاصة.

وأكثر أفكارنا ومشاعرنا لفهم أنفسنا وذواتنا أو كوننا نحن نكون أو لا نكون ترجع إلى هذه البنى المتحركة والخارجة عن الذات، من خلال إنفتاحها على الآخرين وعلى العالم، لكن رغم كل هذا نظل نفتقد وجودنا في ذاتنا، أو نظل في بعض الأحيان نحاول أن نعيش تجربة الإنغلاق والتقوقع في الذات، إن مثل هذه الحالة هي ما نصفها بحالة إنغلاق كينونتنا الكائنة فينا، والتي تجعلنا كائنين بالضرورة.

ونُحَذِّرُ هنا من هذا الاستكفاء الوهمي الذي قد نعتقده النحن أو من يريد أن يكون حينما يدعي أنه بمكنته بشكل ذاتي داخلي قطعي أن يعيش حالة الإنعزال والإنغلاق والتخندق من خلال الإنطواء الذاتي والحر بمعزل عن الآخرين، ونلح على أنه لا يوجد في الحقيقة سوى أن نكون بالمشاركة والانفتاح على الآخرين.

"Nous mettons en garde contre cette autosuffisance illusoire que nous pouvons croire posséder, ou que l'on voudrait posséder, lorsque l'on prétend pouvoir vivre, de manière autonome et définitive, un état d'isolement, de fermeture et de repli sur soi, en se coupant du monde extérieur. Nous insistons sur le fait qu'il n'est possible de vivre qu'en partageant et en s'ouvrant aux autres."

وبما أن هذه الوثبة نحو التواجد والتساوق نحو أن يوجد المرء، أو أن يكون كائناً أو حتى ألا يكون، قد تتخذ أشكالاً ومظاهر متنوعة ومتغيرة ومتحولة وسائرة ومتدفقة وسيالة، فالمرء يفقد كينونته في حالة الإنعزال والإنغلاق والتخندق بمعزل عن الأغيار والآخرين، ما يجعل العزلة تلقي به، أي المرء الذي يريد أن يكون، داخل مجال من الاستيهامات لا تحقق شرط التعرف على الآخر، لهذا يحدث أن نسقط نحن جميعُنا في الاختزال والاجتزاء في علاقتنا بالآخرين.

أن تكون كائناً هو أن تقبل، فكرة أن لا شيء مستحيل التحقق، في حالة إنفتاحي على الآخرين-الأغيار، كما يجب هدم الحواجز والعوائق والعقبات التي توجد بيننا النحن والآخرين، لأن وجودنا متعلق بوَعْيِنَا ومبادرتنا الخلاقة للتحرر والفعل بإستمرار، أن نكون هو أن نسعى بإستمرار إلى أن نشارك في عالمنا الغير، ونراعي وجوده في عالمنا، أن نفترض الآخر في أعماق ذواتنا، ليست ذواتنا تدفقا خارجياً وفقط، إنها تدفق نحو الآخر، إنها توليفة مركبة ومعقدة ومنظمة بإتساق كغاية وليس مجرد وسيلة البتة.

***

محمد فرَّاح – استاذ فلسفة

 

الدهشة بصيرة الفلاسفة[1]، يندهش الفيلسوفُ بالأشياء التي تحسّها هامشيةً وبسيطة وعابرة، ليغوص فيها ولا يخرج منها إلا بأسئلةٍ مجهولة وإجابات ذكية. تنبعث الفلسفةُ لحظةَ إيقاظ العقل وانبعاثِ الأسئلةِ العميقة في الوعي. ‏الإنسان الذي يندهش، وينقد، ويتأمل، ويتساءل أسئلةً كبرى، لديه استعداد لأن يكون فيلسوفًا. لا معنى للفلسفة من دون الأسئلة الكبرى والنقد العميق، الفيلسوف يمارس النقد العقلي بلا قيود وحدود، تتوالد أسئلتُه في سياق النقد،كما يتوالد نقدُه في سياق أسئلته. يلبث الفيلسوفُ يفكّر في جواب لا ينتهي إليه إلا بعد تأمل، وتمحيص، ونقض الإجابات المتهافتة المختلفة. النقد بوابةُ الدخول للتفكير الفلسفي، نشر فيلسوفُ الأنوار كانط أعمالَه الأساسية، وهو يصدّرها بكلمة نقد: "نقد العقل الخالص" 1781، و"نقد العقل العملي" 1788، و"نقد ملكة الحكم" 1790 ، على التوالي، وخلص من هذه الأسفار العقلية الصبورة إلى نشر كتابه الثمين: "الدين في حدود العقل" 1793.

الفلسفةُ إيقاظٌ متواصل للعقل، وتحريرٌ له من تسلط المعتقدات، والأيديولوجيات، والهويات، والخرافات، والأوهام، والسلطات بأنماطها المتنوعة. التفكير الفلسفي يبدأ لحظة يتحرّر العقلُ من أنماط الوصايات المتنوعة، والبداهات غير البديهية. تتجلى قوةُ العقل في معرفته لحدوده، وقدرته على التفكير داخلَ فضائه، والخلاص من أوهامه، ومما هو زائف من أحكامه. التفكيرُ الفلسفي على الضدّ من الاعتقاد النهائي المغلق، التفكيرُ الفلسفي متحرّر من الحدود والقيود والشروط والأسوار المغلقة.

كلُّ شيء يخضع لمُساءَلة العقل ونقده وتمحيصه، العقل نفسه يخضع لمساءلةِ العقل، وتمحيصِ مفاهيمه، وغربلةِ أحكامه، وطريقة تعريفه لنفسه، وتفسيره لحقيقة معرفته، ومصادرها، وقيمتها. لا يضع الحدودَ للعقل إلا العقلُ، العقل يرسم حدودَه وما هو داخلٌ في فضائه، ويتدخل ببيان حقيقةِ ما هو خارج حدوده. لا يصدق التفكيرُ فلسفيًّا إلا لحظةَ يكتفي العقلُ في تصديقاتِه وحججِه وأحكامِه بذاته، فيكون هو مرجعية تمحيصِ تفكيره، ومرجعية ما سواه، والحكم عليه إثباتًا أو نفيًا. عندما يصمت العقلُ ويكفُّ عن وظيفته، تدخلُ الروحُ والعاطفةُ في متاهات. العقل يريد ألا نستمع منه إلا إلى صوته الخاص، من دون أن تشوّش عليه وتربكه وتنهكه أصواتٌ خارجَ حدوده. العقل يحكم بعدم إمكان أن يتخلصَ الإنسانُ من تأثيرٍ خفيّ لذاته وعواطفه ومشاعره والمحيط الذي يعيش فيه بشكلٍ تام. العقل يحكم بوجود الدين في الحياة ويحدّد مجالاته، ووجود المتخيّل ويحدّد مجالاته، والمثيولوجيات والأساطير ويحدّد مجالاتها، ويعلن بأنها من الثوابت الأبديَّة في الثقافات البشرية. العقل هو الذي يتولى تصنيفَ وتوصيفَ هذه الموضوعات ويحكم عليها إثباتًا أو نفيًا، ويرسم خرائطَها ويضع حدودَها.

عمليةُ التفكير وظيفةُ العقل، العقلُ لا غير هو الحاكمُ على صوابِ أو خطأ نتائجِ أيِّ تفكير. لا العلم ولا اللاهوت ولا الأدب ولا الفن يضع حدودًا للعقل، لا يضع الحدودَ للعقل إلا العقل، إن كانت للعقل حدود. أيةُ محاولةِ نفي للفلسفة تتضمن التدليلَ على حضورِ الفلسفة في النفي مثلما تحضر في الإثبات. نفيُ الفلسفة ضربٌ من التفلسف، حتى الغزالي الذي حاول في "تهافت الفلاسفة" نفيَ الفلسفة أخفق،كما اعترف تلميذه أبو بكر ابن العربي بقوله: "شيخنا أبو حامد بلع الفلسفة، وأراد أن يتقيأها فما استطاع". الفلسفةُ لا تموت ولن تموت مادام هناك إنسانٌ يتساءل الأسئلةَ الكبرى حول المبدأ والغاية والمصير، ولا يجد جوابًا نهائيًا لها.

الإنسانُ واحدٌ بالرغم من أنه متعدّد، متعدّدٌ بالرغم من أنه واحد. طبيعة الإنسان تتَّسع للوحدة والتفاعل الحيوي للعاطفة والروح والعقل. ‏هذه الوحدة أحيانًا يتغلب فيها أحدُ العناصر ويتراجع دورُ العناصر الأخرى. في الفلسفة يتغلب العقلُ ليصير هو المرجعية في الحكم والقرار، وبتغلُّبه يتحقق التفاعلُ الخلّاق بين العقل والروح والعاطفة. يضع العقلُ الروحَ والعاطفةَ في حدودهما، وهو الذي يصحّح المسارَ لهما على الدوام. تنحسر مرجعيةُ العقل في مجتمعاتٍ غير متعلمة تتفشى فيها العبوديةُ الطوعية، واستعبادُ الوعي، والانقيادُ الأعمى، وتخديرُ الضمير الأخلاقي. العاطفة والروح تعملان بخفاءٍ للتأثير في العقل، والتحكّم بتفسيراته وصناعة أحكامه وقراراته. يعود سوءُ الفهم بين الفلاسفة وطرائق فهمهم إلى تأثير الذات والعاطفة والروح في تفسيرات العقل وأحكامه، على الرغم من أن الفلاسفة هم الأكثر صرامةً في اعتمادِ العقل والعملِ على توظيفه في كلِّ شيء. لا خلاف في الفلسفة حول كون العقل هو الذي يرسم حدودَه، ويحدّد وظيفتَه، ويكتشف مصادرَ معرفته. الخلاف بين الفلاسفة أنفسهم حول حدود العقل، وماهية هذا العقل وتعريفه، ومجالاته، وكيفية إدراكه، ونوع مدركاته.

العقلُ الفلسفي هو الذي أولدَ العقلَ الحديث، تَوالدَ هذا العقلُ وتشكّل في فلسفة فرنسيس بيكون وديكارت وكانط وغيرهم من الفلاسفة، فكان العقلُ الفلسفي الحديث باعثًا أساسيًّا على وضع التاريخ البشري في مسارٍ جديد، غادر فيه حالتَه الرتيبة التكرارية الطويلة، بعد أن لبثت البشريةُ آلاف السنين لم تحقّق المكاسبَ العلمية من الاكتشافات والاختراعات والتكنولوجيات المنجزَة في القرون الثلاثة الأخيرة، وتحول عبرها الإنسانُ من الآلات اليدوية إلى المحرِّكات الحديثة، ومن وسائل النقل البدائية إلى القطار والسيارة والطائرة ووسائل النقل المتطورة. وهكذا تواصلت هذه المكاسبُ بقفزات على شكل منعطفات، إلى أن وصلنا إلى هندسة الجينات، وتكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي والروبوتات.

كانت الفلسفةُ وستبقى تتفاعل مع النظريات العلمية والاكتشافات، تؤثر وتتأثر بها، تستجيبُ لما يستجدّ من اكتشافات في الفلك والفيزياء والأحياء وغيرهما من العلوم. لعلم الفلك الحديث، الذي بدأ مع كوبرنيكوس (1473 – 1543) ونظريتِه في مركزية الشمس ودوران الأرض والأجرام الأخرى في المجموعة الشمسية حولها، أثرٌ مباشرٌ على التفكير الفلسفي والميتافيزيقي في أوروبا من بعده، وهكذا تأثر هذا التفكيرُ بقوانين الحركة والجاذبية العامة في فيزياء نيوتن (1642 – 1727)، كما تأثر لاحقًا بفيزياء الكوانتم لماكس بلانك (1858 – 1947)، والنظرية النسبية لأينشتاين (1879 – 1955)، وقبل ذلك تأثر بنظرية التطور لتشارلز داروين (1809 – 1882).

الفلسفة لا تنتهي ولن تتوقفَ مادام الإنسانُ يندهش، ويفكّر، ويتساءل، ويشكّك، ‏ ويناقش، ويتحاور، ويختلف. لا تمثل الفلسفةُ مرحلةً من مراحل تطور الوعي، الفلسفةُ تواكبُ الوعيَ ولا تتخلّف عنه، حتى لو سادَ العلمُ الحياةَ. العلمُ يطرح على الفلسفة أسئلتَه ومشكلاتِه العويصة، وما يعجزُ عن اكتشافِ طرق الخلاص منه في فضاء المادة والمحسوس والتجربة، الفلسفةُ لا سواها مَنْ يجيب عن ذلك. لم يولد العلمُ إلا ‏في أحضان الفلسفة، تظلّ الفلسفةُ تواكبُ العلم، تتغذّى بأسئلته الحائرة، ومشكلاتِه وأزماته خارجَ حدود المادة والتجربة، وترفده وتغذّيه بالأجوبة والحلول والرؤية لما تنتجه تطوراتُه من تساؤلات، ومشاكلَ معقدة، وأزماتٍ روحية وأخلاقية ونفسية ومعرفية، سواء أكانت هذه المشكلات والأزمات فرديةً أم مجتمعية. لن يكتفي العلمُ بذاته ويستغني عن الفلسفة، مهما بلغ تقدُّمُه وتنوعت وتراكمت نتائجُه. حين يفكر الفيلسوفُ يقدّم تفسيرًا يتجاوز سطحَ الأشياء والظواهر، يحاول أن يفسّر حقيقةَ العلم وماهيته، ويقدم إجابات لمشكلات العلم وأسئلته العميقة خارجَ حدوده. الفيزياء والكيمياء والعلوم المختلفة تنشغل باكتشافِ قوانين الطبيعة ومعادلاتِها، ولا تعرف حقيقةَ ذاتها، ولا تعرف حقيقةَ العلم وماهيته. الفيلسوف يحاول أن يفسّر حقيقةَ الوجود والظواهر والأشياء والعلوم وماهيتَها، مما هو خارج حدود العلم.

إيقاعُ التقدّم المتسارع للذكاء الاصطناعي والروبوتات، والتكنولوجيات المتعدّدة التي تتحدث لغةَ الذكاء الاصطناعي وبرمجياته، والهندسة الجينية، وتكنولوجيا النانو، يخلقُ طورًا وجوديًّا بديلًا تعيد تكوينَه الأنماطُ المختلفة لصلاتِ الإنسان بالأشياء في المحيط الذي يعيش فيه، وصلاتِ الإنسان بالكائنات الحيّة المتنوعة في الطبيعة، وصلاتِ الإنسان بالإنسان. ينتجُ التقدّمُ المتسارِع حالةَ لايقين شاملة، تطول: القيمَ، والمعتقداتِ، والثقافاتِ، والاقتصاداتِ، والنظمَ السياسية، والسياساتِ المحلية والإقليمية، والعلاقاتِ الدولية، والعلاقاتِ الاجتماعية، وكلَّ شيء في حاضر الإنسان ومستقبله.كلّما تضخّم اللايقينُ واتسعت مدياتُه اتسعَت الحاجةُ لحضورٍ فاعلٍ للعقل الفلسفي. الأسئلةُ الوجودية الكبرى، وأزماتُ العقل والروح والعاطفة ليست من اختصاص العلم، ولا تقع في فضاء المادة والتجربة.

التشديدُ على العلم، واختزالُ العقل والمعقولات والتفكير بحدوده، يشاكس العقلَ الفلسفي، وينتهي إلى افتقار العلم إلى إجاباتٍ لأسئلته الحائرة ومشكلاته العويصة، وكلِّ ما لا يجد له حلًّا في فضائه وسياقاته وحدوده. تختنق المعرفةُ حين توضع في الفضاء الذي يخضع لحدود العلم الطبيعي ومجاله الحسّي خاصة، وحين تعتمد مقاييسَه وأدواته التجريبية ووسائله ومنطقه ولغته وأحكامه. تلك هي أدلجة العلم عندما يتحول العلمُ إلى "أيديولوجيا علموية" تعطّل العقلَ الفلسفي. حدود العلم الطبيعي وحقله يتمثلان في كلّ شيء في الطبيعة والكون المادي، الفلسفة لا حدودَ لها، بوصفها فعلَ تفكير عقلي يتجاوز الظواهر للبحث في حقيقة العلم وماهية المعارف والموجودات.

الفيلسوف يجيب عن سؤالِ المبدأ والمصير، والحياة والموت، وغيرها من الأسئلة الوجودية الكبرى، ويجيب عن كلِّ سؤال خارج العلم بالمعنى التجريبي. لا نهاية للفلسفة، يظلّ الإنسانُ يتفلسف مادامت الحياةُ والموت، وما دامت الأسئلةُ الوجودية التي لا تجيب عنها العلوم. ‏‏العلم غير الميتافيزيقا، كلُّ سؤال وجواب ميتافيزيقي بالإثبات أو النفي هو تفلسف خارج حقل العلم. عندما يقدّم أحدُ علماء الطبيعية أجوبةً عقلية للأسئلة الوجودية الكبرى، ينتقل تفكيرُه من حقل العلم إلى حقل الفلسفة بهذه الأجوبة. علاقةُ الفلسفة باللاهوت ديناميكية، فمثلما يتغذّى ويتجدّدُ اللاهوتُ بالفلسفة تتغذّى الفلسفةُ وتتسعُ آفاقُها وتتنوّعُ حججُها بالسؤال اللاهوتي. السؤالُ اللاهوتي يبحثُ عن يقينيات لا يظفر بها مهما توالدت الأجوبةُ وتواصلت الاستدلالات، إنه سؤالٌ مفتوح، وكلُّ سؤال مفتوح مَنجمٌ ثمين للتفلسف.كلّما ابتعد اللاهوتُ عن الفلسفة وقع فريسةَ تفشِّي اللامعقول وتغوّل الأوهام. لا يضع اللاهوتَ في حدوده ويمنع تغوّلَ الأوهام إلا الفلسفة، ولا يتجدّد اللاهوتُ إلا عندما يعيد النظرَ في الحقيقة الدينية ويتأملها بعيون فلسفية. لا تداوي الفلسفةُ جروحَ الروح والقلب، العقل الفلسفي مشاغب لمن يمتلك قدرةً ذهنية على إيقاظه بالتساؤل العميق حتى في البداهات. التاريخ والواقع يشهدان بأن الأذكياء جدًّا والعباقرة تعذِّب وعيَهم الأسئلةُ الوجودية الكبرى التي لا جواب نهائي لها، حياة كثير من الفلاسفة كانت تقلقها الأسئلة وتوالدها المتواصل من الإجابات.

من مظاهر افتقار الفلسفة لمعناها البدايةُ بمقدماتٍ فلسفية ومنطقية، بغيةَ ترسيخ اليقين بمسلمات لاهوتية. الفلسفة ضربٌ من التفكير العقلي خارج اللاهوت، لغةُ الفلسفة ومصطلحاتها تكشف عن خارطة العقل، وهي مرآةُ حدوده. لا تلتهم لغةُ الفلسفة ومفاهيمُها لغةَ ومفاهيمَ اللاهوت والمتخيَّل والمثيولوجيا واللامعقول. العقلُ معيارٌ وسلطةٌ على كلِّ ضربٍ من أنشطةِ الذهن مهما كان. واحدةٌ من مشكلاتِ التفكير الديني التفكيرُ بالفلسفة ضدّ الفلسفة، والتحدث والكتابة بلغة تحاكي لغةَ الفلسفة إلا أنها ضدّ الفلسفة. يجري توظيفُ التصوف واللاهوت في الفلسفة، والتفكيرُ في فلسفة الدين بعقلٍ كلاميّ من شأنه أن ينقض كونها فلسفة،كما نقرأ لدى مَن يفكرون في التعدّدية الدينية بعقل متكلم، أو فقيه. يتسيّد تفكيرٌ لاهوتي بالعربية يكتب الفلسفةَ برؤية علم الكلام للعالم ومقولاته، وذوقٌ صوفي يكتب الفلسفةَ بمرآة التصوف ومكاشفاته. صارت هذه صنعة جماعة من المفكرين الذين نحتوا لهم أسماء كبيرة، أُغرم بهم شبابٌ عرب نفروا من تبسيط أدبيات الجماعات الدينية، فاحتلت كتاباتُ هؤلاء المفكرين مواقعَ متقدّمة في الجامعات والدراسات العليا، على الرغم من أنهم يفكرون في الفلسفة بعقلٍ كلامي وفقهي، وأحيانًا صوفي، ويصدرون مقولات كلامية وفتاوى فقهية لا صلة لها ‏بالتفكير الفلسفي، وإن تدثرت بلغة الفلاسفة. هذه المحاولات المتنوعة تسعى لخلع غطاء ديني على الفلسفة وتعمل على أسلمتها. أسلمة الفلسفة ضربٌ من التفلسف ضد الفلسفة، وإن كان مَن يدعو لذلك عبقريًّا. وهذا ليس غريبًا، فأحيانًا نرى إنسانًا عبقريًّا فذًّا في مجالٍ يقظٍ من عقله، وعلى الضدِّ من ذلك في مجالٍ نائمٍ من عقله. يتراجعُ العقل وينزاح بالتدريج أحيانًا، بعد أن تتسعَ المساحة النائمة للعقل فتعطّل ما هو يقظ. تدهشك قدرتُه على توظيف المغالطاتِ المنطقية لعقله اليقظ للاستدلال على أوهام عقله النائم. المراوغاتُ الذهنية والثغراتُ المنطقية في تفكير العباقرة تفسيرُها يتطلب الانتباهَ لوجود هذه الحالة الذهنية في الطبيعة البشرية. هذا هو السرّ الذي يجعل هؤلاء يبدؤون بمقدماتٍ عقلية وينتهون بنتائجَ غير معقولة[2].

على الرغم من أن الفلسفةَ تستعمل العقل خارجَ الوصايات، إلا أن العقلَ وقع تحت وصاية علم الكلام، حين أجهضت المقولاتُ المغلقة لبعض المتكلمين العقلَ الفلسفي في الإسلام. وتسيّد عمليةَ التفكير بكلِّ شيء هاجسُ الحرام، فصار سؤال المسلم عن كلّ صغيرة وكبيرة في كلِّ شؤون حياته، حتى في نوع العلوم والمعارف والثقافة، وفي أيّ شأن كان، عن كونه حرامًا أو ليس بحرام، وانتهى هذا المسار إلى تحريم الفلسفة. صدرت فتاوى من مختلف فقهاء المذاهب بتحريم تعاطي الفلسفة، أشهرها فتوى ابن الصلاح الشهرزوري (577 - 643 هـ/ 1181م - 1245م) التي جاء فيها: "الفلسفة رأس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرتُه عن محاسن الشريعة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبس بها تعليمًا وتعلمًا قارنه الخذلانُ والحرمانُ، واستحوذ عليه الشيطان... وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة ومدخلُ الشرِّ شرٌّ، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين، وسائر مَن يقتدى به من أعلام الأئمة وسادتها، وأركان الأمة وقادتها، قد برأ الله الجميع من معرة ذلك وأدناسه وأما استعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية فمن المنكرات المستبشعة والرقاعات المستحدثة وليس بالأحكام الشرعية"[3]. عندما وقع العقلُ تحت وصاية فتاوى الشهرزوري وأمثاله، انغلق على نفسه، واستنزف التفكيرَ الديني في الإسلام التكرارُ والاجترار المملُّ، ونامت الأسئلةُ الكبرى، واضمحل حضورُ العقل النقدي الخلّاق.

يصعب جدًّا فهمُ الفلسفة الغربية الحديثة بعقلية أرسطية،كلُّ محاولةٍ للفهم تفكر في إطارٍ معرفي لا ينتمي لعالم مفاهيم الفلسفة الحديثة تفضي إلى نتائجَ تفرضها مقدماتٌ تصورية وبراهين وأشكال قياسات المنطق الأرسطي. وهو ما سقطتْ فيه محاولاتُ جماعة من المهتمين بهذه الفلسفة في معاهد التعليم الديني وغيرها من مؤسّسات التعليم التقليدي والحديث، ممن أتقنوا المنطقَ الأرسطي وتشبّع ذهنُهم بمقدّماته التصورية وبراهينِه وأشكالِ قياساته، وتمرّسوا في استعمالِ أدواتِه في محاججاتهم الفلسفية والكلامية والفقهية والأصولية. هناك خبراءُ ممن يمتلكون تكوينًا أكاديميًّا جادًّا في الفلسفة والمنطق الحديث، لديهم معرفةٌ جيدة باللغات الفرنسية والألمانية والإنجليزية، يتسيّدون المشهدَ الفلسفي في بعض البلدان العربية، ويحتفي بكتاباتهم الغزيرة جامعيون متديِّنون، غير أنهم يتفلسفون على طريقة الغزالي وابن تيمية، فيقدّمون قراءاتٍ موهِمةً ومضلّلة للفلسفة الحديثة، تُلوّنها بألوان مشوّهة، وتُقَوِّلها ما لا تقول، القارئُ الخبير يدرك أنهم يتفلسفون ضدَّ الفلسفة.

الفلسفةُ تتطلب مَن يمتلكُ موهبةَ التفلسف، التفلسفُ وعيٌ عقلي تأملي عميق، لا يجيده كلُّ عقل، يحتاج التفلسفُ عقلًا ذكيًّا فطنًا مندهشًا متسائلًا. الموهبةُ لا تكفي وحدَها، يتطلب التفلسفُ إنفاقَ سنوات طويلة في التعلُّمِ، وترويضِ الذهن وتدريبه على التفكير الصبور، والشكِّ، ومساءلةِ المسلّمات وغربلتها، وتمحيصِ ما تَسَالم الناسُ على أنه من البداهات،كما يحتاج كلُّ علم ومعرفة وفنّ إلى التعلّم، والتفكير، والمران المتواصل. مَنْ يريد تعلّمَ التفلسف عليه أن يصغي لأحد المعلّمين الماهرين للفلسفة.

تعليم الفلسفة تعليم التفكير الفلسفي، لا يتفلسفُ الإنسانُ بتعلم تاريخ الفلسفة. التفلسف يتطلب التعرفَ إلى مفاهيم وآراء الفلاسفة الكبار في العصور المتوالية، بغضّ النظر عن اتجاهاتهم، ومواطنهم، ومسائلتها، والحوار معها. تراكم المعلومات وتكديس الإجابات لا يوقظ بالضرورة العقل، غير أن سؤالًا عميقًا واحدًا يمكن أن يوقظه، إن كان العقلُ نابهًا. تدريب التلميذ على النقد والتساؤل ضروري لبناء مَلَكة النقد والتفكير الإبداعي. تَعلُّمُ التلميذِ التفلسفَ هو تعلُّمُ التساؤل والتفكير النقدي، وليس استِظهار النصوص، والمزيد من حفظ آراء الفلاسفة وتكرار أسمائهم. طريقة تعليم التفلسف تعني تدريبَ الذهن على التأمل العميق والتريث في التفكير، والتوقفَ عن إصدار الأحكام المتعجّلة قبل الفهم والتفسير والتحليل والتمحيص، والنظرَ للفلسفة بوصفها إيقاظًا للعقل بالتساؤل والنقد، وغربلةً للوثوقيات والجزميات.

العقلُ الفلسفي ينبغي أن تكون آفاقُه رحبة، يفكّر خارجَ المعتقدات والهويات والأيديولوجيات المغلقة. الأُطر المقيِّدة للتفكير العقلي الحرّ تمارس تَمْويهًا بعنوانات مراوغة عبر الأدب والفن والدين، وأخطر أشكال التمويه عندما تتخفى المعتقداتُ والأيديولوجيات والهويات وتفرض أحكامَها وراء قناع الفلسفة والعلم والمعرفة. العقلُ الفلسفي قلَّما يتوطن في بيئة الثقافة الشعرية، الفلسفة تعكس أعمقَ تجليات العقل البرهاني، الشعر يتوالد ويزدهر في فضاء المخيّلة، ويعاند العقلَ البرهاني. إن كانت البيئةُ فلسفيةً بالأصل، كما في ألمانيا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، تصبح بيئةً خصبة لظهور شعراء يبدعون شعرًا مشبعًا برؤيا فلسفية، على غرار هولدرلين (1770 - 1843) في ألمانيا. وإن كانت بيئةُ الثقافة شعريةً بالأصل فنادرًا ما نرى فيها ولادةَ فيلسوف، كما في تمركز الثقافة العربية على الشعر قبل الإسلام. الإنتاج الثقافي للبيئة يشبهها، في البيئة الفقيرة عقليًّا تسود ثقافةٌ تخيّلية، في البيئة الخصبة عقليًّا، تزدهر المعرفةُ المركبة العميقة. بعد عصر البعثة توالد التساؤل والنقد والتفلسف في التفكير الديني لدى المسلمين في سياق تأويلهم لآيات القرآن الكريم الاعتقادية، وما ولد في آفاقها من أسئلةٍ حول القضاء والقدر، وغير ذلك من المعتقدات. إثر ذلك ظهرت المدارس الكلامية المعروفة في القرون الأولى، وظهرت الفلسفة، فكان الكندي (185 هـ/805 - 256 هـ/873)، والفارابي (260 هـ/874 - 339 هـ/950)، وابن سينا (370 هـ /980 - 427 هـ /1037)، وغيرهم من الفلاسفة في الإسلام.

‏‏ ما ينقل الذهنَ للتفكير الحرّ خارجَ الأسوار المغلقة هي الكتابةُ الفلسفية التي تدعو للتفكير ضدّ المألوف والسائد بلا دليل. لا تظهر قيمةُ الكتابةِ الفلسفية بمقدار ما تنتجُه من إجاباتٍ مكرّرة، قيمة هذه الكتابة بقدرتها على تحريض العقل على توليد أسئلةٍ عميقة، يتطلب الخوضُ فيها الكثيرَ من التأمل والتفكير غير المتعجِّل. لم تشهد المكتبةُ الفلسفية العربية غزارةً في الإصدارات كما يحدثُ في السنوات الأخيرة نتيجةَ تعدّدِ المؤسسات الراعية للترجمة، والمبادراتِ الفردية والجماعية في التأليف، واتساعِ التعليم العالي وكثافةِ وتنوع رسائل الماجستير والدكتوراه في الدراسات العليا للفلسفة، والنشرِ الورقي والإلكتروني.

غزارةُ المطبوعات الفلسفية وتنوّعُها بقدر ما يثري المكتبةَ الفلسفية كميًّا، إلا أنه قلّما يكشف عن عمق التفكير الفلسفي والخروجِ من تكرار الشروح، وشروح الشروح، والتعليقات الانطباعية، وأحيانًا العبثية، على أقوال الفلاسفة. لا يدلّنا رواجُ سوق كتابٍ على فرادته وقوة مضمونه، ولا تعني غزارةُ الكتابة وكثافةُ الإصدارات القدرةَ على التأملِ والتفكيرِ المتمهل، وامتلاكِ البصيرة الثاقبة. أعرفُ مَنْ يتحدث ويكتب بغزارة في الفلسفة من دون أن يدرسَ أو يقرأ أيَّ نصٍّ فلسفي، وكأن الكتابةَ والحديثَ في الفلسفة أمست مهنةَ مَنْ لا مهنةَ له. يتفلسف بعضُ هواة الفلسفة بحفظ النصوص، وهو لا يدري أن الحفظَ شيءٌ والتساؤلَ والتفكير النقدي والإبداع شيءُ آخر. الكتابةُ والحديث في الفلسفة يمارسها مثل هؤلاء من دون أيّ تأهيل أكاديمي، ولا قراءات معمّقة لتراثنا الفلسفي والفلسفة الحديثة. لستُ ضدّ تبسيط الفلسفة وتيسيرها للقراء، غير أن لغةَ الكتابة يفرضها نوعُ مفاهيمها، وغايةُ تفهيمها. تبسيطُ المعارف والعلوم الذي يتولاه خبراء في كلِّ حقل ضرورةٌ لفهمها وتنمية الوعي المجتمعي. ‏التدريس مثلًا ضربٌ من التبسيط، إشاعةُ المعرفة تتطلب تبسيطًا يتولاه المتخصِّصُ في كلِّ حقل معرفي، تبسيطُ غير المتخصِّص لأيّ علم ومعرفة يزيّفها.

إصداراتُ الكتب والدوريات التي تحملُ عنوانات فلسفية لا أقرأ فيها غالبًا رؤيةً فلسفية، ولا أرى أكثرَها يتحدث لغةَ الفلسفة. عندما يصادفني كتابٌ أو مقال فلسفي يتحدث لغةَ الفلسفة وينقد ويتساءل أشعر كأني عثرتُ على كنز مفقود. يبهرني العقلُ اليقظ البارع بمحاكمته لآراء فلاسفة كبار وتقويضه لها، مثلما تبهرني براعتُه ببناء رؤىً فلسفية ينفرد بها، وإن كنتُ لا أتفق مع كلِّ نقاشاته وأدلته ورؤاه وآرائه ونتائجه. ليس المهمّ أن نتفق أو نختلف مع طريقة تفكير مَنْ يتفلسف ومحاججاته وتقويضاته ونتائجه، المهم أن نقرأ عقلًا يفكِّر فلسفيًّا بطريقته الخاصة، ويكتب الفلسفةَ بلغة الفلسفة. الفيلسوف يفرض على قارئ الفلسفة المتمرّس الاعترافَ بعبقريته الفلسفية. عبقريته يعكسها خروجُه على طريقة التفكير المتداولة، ولأكثر مَنْ نقرأ لهم من كتّاب اليوم.

بعض مَن يكتبون تحت عنوانات فلسفية يراكمون عنواناتٍ بلا مضمون فلسفي، يكتبون موضوعاتٍ عويصة، وهم عاجزون عن التفلسف وخلق الأسئلة الفلسفية. تتكدّسُ في كتاباتهم كلماتٌ تتخبّط في دلالتها ولا تفصح عن وجهتها، لا تقرأ فيها ما يشي بشيءٍ يصنَّف على الفلسفة. في أقسام الفلسفة بجامعاتنا قلّما نجد أستاذًا يتفلسف خارج النصِّ الذي يقرّره لتلامذته، مَنْ يعجز عن التفلسف يعجز عن تعلّم الفلسفة وتعليمها، التفلسفُ غايةُ تعليم كلّ فلسفةٍ تنشد لنفسها إيقاظَ العقل.

كتابُ: "الدرس الفلسفي في المدارس الدينية" وُلد في سياق مخاضٍ طويل لكاتبه في دراسة الفلسفة وتدريسها لمدة طويلة تجاوزت الأربعة عقود من حياته. تمخَّضت هذه الممارسةُ بتعليم الفلسفة عن رؤيةٍ تقدم للقارئ تقويمًا لواقع الدرس الفلسفي في الحوزة وآفاق انتظاره، وقراءةً تواكب الدورَ الذي اضطلع به العلامة محمد حسين الطباطبائي ببعث الفلسفة في معاهد التعليم الديني، وتنمية نطاق تدريسها والكتابة فيها، وحضورها اللافت عبر مؤلفاته، وما نسجه تلامذتُه من تعليقات وشروح لتلك المؤلفات، وأثرهم في تعليم الفلسفة داخل معاهد التعليم الديني والجامعات.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

.................................

[1]  مقدمة كتابي: "الدرس الفلسفي في المدارس الدينية"، صدر الكتاب حديثا عن منشورات تكوين الكويتية، ودار الرافدين بيروت – بغداد.

[2] الرفاعي، عبد الجبار، مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث، ص 301، منشورات تكوين بالكويت، دار الرافدين ببيروت.

[3] فتاوى ابن الصلاح (١/ ٢٠٩ - ٢١٢) .

"الإنسان كائن إنفعالات"

 يعيش الإنسان في هذا العالم وهو عُرْضَةٌ للانفعالات، لهذا يمكن عَدُّ الانفعالات جزءاً لا يتجزأ من الإنسان، ويمكن تقسيمه [أي الإنسان] إلى قسمين، قسم خاص بالعقل وقسم خاص بالانفعالات.

لهذا نقول أن الإنسان يعي إنفعالاته التي تظل في حركة ومُقَاوَمَةٍ وجريانٍ وسيولة لا يمكن إشباعها البتة، إنه يشعر في أعماقه بجاذبية الانفعالات وما تخلق لديه من سعادة أو قلق وتوتر وهذيان.

الانفعالات بهذا المعنى مجرد رغبات وشهوات ونزوات وأفعال وأفكار ولذات نعي بها، لكنها تخرج عن سيطرتنا وذواتنا وتظل مع ذلك جزء منا، كما تشكل هويتنا أو حقيقتنا الثابتة، رغم كل حالات الاضطرابات التي يعيشها الإنسان بسببها، لدرجة أنها تكبح جماح فكره، الانفعالات إقصاء لكل تفكير ولكل عقل.

لا وجود في حقيقة الأمر لأي فرق بين الرغبة أو الشهوة أو اللذة أو مختلف النزوات والمثيرات والانفعالات خاصة لدى الإنسان، وما يميز الانفعالات أنها متغيرة بإستمرار لأنها تكون موجهة نحو القيام بفعل لحظي عرضي ما.

ورغم كل ذلك تظل الانفعالات على صلة وثيقة بالحياة الإنسانية ومحدداتها، كما تتأطر ضمن الوعي بالذات الذي بدوره له علاقة وطيدة بالإدراك الحسي والشعور، أي ما نشعر به، وما نحس به كأشخاص.

إن لفظة الانفعالات إذا ما أخذت على ما في ظاهرها، نعتقد أنها عبارة عن ردود فعل حسية شعورية نابعة من داخل ذات الفرد، في حين أن هناك علاقات وثيقة بين كل من انفعالات الذات وتجليات الغير.

وهذه العلاقة المزدوجة بين الذات والآخر والانفعالات والنزوات والميولات والدوافع هي التي تتحكم في هذه العلاقات دون أن نكون على علم بهذه الصلة الجدلية.

توجد في دواخل كل واحد منا انفعالات وأهواء تنفلت من كل عقل وتعقيل، إنها بمثابة توترات يشعر بها المرء أو عقد نفسية ووجدانية وذهنية من صميم اللاشعور ناتجة عن الشعور بالافتقار والفقدان واللا معنى أو غياب الغاية ... هذا هو ما نسميه الانفعالات.

سأقف قليلا عند الشعور بالذنب أو الشعور المستمر بالحرمان والنقص والضعف والبساطة وافتقاد الكمال، أو حتى السعي الوهمي وراء الكمال وتحقيق اللذات والسعادة، كل هذه وتلك، تعبيرات قوية عن الانفعالات، كما قد تكون هذه الأخيرة ناتجة عن الشعور بالتملك أو إرادة العالم إليَّ ورَدُّه إلى الذات وفي بعض الأحيان نشارك انفعالاتنا مع الغير.

تبدو الانفعالات إذن كما لو أنها غير مرتبطة بالسعادة، أي وكما لو أننا نضيع وقتنا في السعي وراء السعادة وطلب تحقيقها بواسطة الانفعالات؛ في حين أن الانفعالات ناتجة عن الشعور بالذنب، وهو الذنب الذي نعمل على إخفائه.

كل انفعال إذن هو إنتاج وإعادة إنتاج للوهم عن طريق ملكة التخيل التي يمتلكها كل إنسان، كما أن هذه التخيلات تجد الواقع كمرآة تنعكس عليه، ومعنى هذا أن الانفعالات أوهام توجد في مجال الواقع وتثبت فيه، فالانفعالات والاستيهامات لا تشكلان سوى شيئاً واحداً.

يؤدي كل حرمان من تلبية هذه الانفعالات في الحقيقة إلى سلب واستلاب وتشييء واغتراب أو فقدان للانفعال الذي ينعكس بشكل سلبي على كل فرد، لهذا تشكل هذه الانفعالات كيمياء الواقع الإجتماعي.

إن الفرد مخترق من طرف الانفعالات بشكل مباشر، ولهذا تشكل هذه الانفعالات استيهامات التي بدورها عبارة عن سيناريوهات ومتخيلات تشرط الأفراد، وتنبع من أعماقهم ودواخلهم، ثم تنعكس على واقعهم الإجتماعي، برغم كونها تتجلى بشكل فعلي في الأحلام وفق نظريات التحليل النفسي، لكننا هنا، نؤكد على كون هذه الاستيهامات تجد مختلف أبعادها وتجلياتها وتمظهراتها في الواقع، لهذا تركن إليه أو تستند إليه، أو نقول باختصار أن الواقع الإجتماعي هو الأساس الأول لهذه الاستيهامات وبالتالي الانفعالات.

"المنبع الديني للانفعالات"

هناك في الحقيقة صعوبة في تحديد منبع أو مصدر الانفعالات، رغم قولنا أعلاه أن أساسها الأول إجتماعي إنطلاقا من تحديدنا للاستيهامات، إلا أن هذه الأخيرة بدورها قد يكون لها أساس سيكولوجي في الحقيقة، كما لا يمكن إنكار الأساس الأنثروبولوجي الثقافي للانفعالات، بل لا يمكننا أن ننفي أيضاً أي أساس محتمل أو مفترض لها، مثلاً: التاريخي، أو الأخلاقي-قيمي، أو حتى القانوني-السياسي، ... إلى آخره، أو حتى الديني، قد يكون للانفعالات أساس ديني، لماذا؟ لأن الدين وبكل بساطة كابح قوي لكل الانفعالات!

يشكل الدين إذن، أو كل معتقد ديني إيماني الشكل الأكثر قمعاً وقتلاً للإنتاج الانفعالي، لهذا يتم قمعها بواسطة الانفعال-المضاد نفسه، وفي الحقيقة فإن الإنتاج الانفعالي هو وحده الإنتاج المقموع من طرف الدين، ويتم تحريره وفق شروط محددة، مثل شرط عقد-ميثاق الزواج لممارسة الجنس بكل حرية مع المرأة التي تصبح زوجة.

لا توجد أية حدود للانفعالات، كما لا يمكن تحقيق الإشباع التام أو حالة الإرضاء المطلقة، تبدو الانفعالات إذن غير قابلة للكبح والمقاومة إلا بواسطة الدين.

كما أن الانفعالات مدفوعة من طرف مشاريع مخيبة للظن وتتجلى بشكل ظاهر في الثقافة والمجتمع والقانون والسياسة والجنس والرياضة والدين والفن والحياة ... إلخ، إن الانفعالات لا يمكنها من الآن فصاعداً إلا أن تتجاوز ذاتها، من خلال التقليص منها أو الحد عنها.

إن إخضاع الانفعالات لسلطة الدين أو لشبكة القوانين لكي تصبح مقموعة، لا يعبر إلا على نزعة مكبوتة ساذجة، لأن الانفعالات وبكل بساطة لا تقاس على الإيمان، بل العكس إن درجات الإيمان هو الذي تشتق منه الانفعالات.

"إستحالة تحقيق الانفعالات"

وأخيراً الانفعالات غير قابلة للكبح والمقاومة، لأنها تنبني في الأساس على خيبة الأمل، فإذا كنت تطمح لتحقيق كل الانفعالات دائماً، فأنت مجنون، لأنك تريد أن تحقق أهواء ورغبات وغرائز ونزوات وأفعال وتخيلات يصعب تحقيقها، لأن الانفعالات محدودة بحدود ما هو موجود، وهناك انفعالات وأهواء تنفلت من كل وجود!!

كل إنفعالات هي في الحقيقة متضادات أو توليفة من التناقضات (حاجة، انفعال، رغبة، إرادة، عزيمة، حرمان، تعاسة، معاناة، فعل، اختيارات، ميولات، دوافع جنسية، قمع، أهواء، غرائز، نزوات، مقاومة، تخيلات، مكبوتات، ...إلخ.) هذه المتناقضات تظل دائماً بلا إشباع، أو في كل محاولة إشباع تتعرض للقمع، ولا يحدث لها الإرضاء التام، وتقترن دائماً بخيبات الأمل المتواصلة التي تخلقها.

كل الانفعالات إذن، "هي في الواقع شيء واحد: عدم ارتياح على مستوى الإرادة المتميزة. عدم تحقيق السكينة، فالسعادة الحقيقية تصبح مستحيلة."[1].

تَنْتُجُ الانفعالات إذن، عن التوترات التي يشعر بها المرء في حالة الافتقار إلى الكمال، أو الشعور بحالة إنقباض تام أو ألم خفيف، وفي بعض الأحيان قد يكون الألم عميقاً يبقى لصيقاً في ذهن المرء إلى المستقبل.

***

محمد فراح – استاذ فلسفة

.........................

مصدر الإحالة:

[1]- Arthur Schopenhauer, Le Monde comme volonté et représentation, traduit de l'allemand vers le français : Bordeaux, M.J.F., troisième édition 3, année de publication : 1966, p. 101. (Adapté).

الإستشراق وعوائقه المعرفية

في ذكرى وفاة محمد أركون: هذا النص إهداء بروحه

 ***

توطئة: اعتمد محمد أركون (1938 – 2010) في تحليل المنهجية الاستشراقية ونقدها على مادة " قرآن " الموجودة بدائرة المعارف الإسلامية – الطبعة الثانية – والتي كتبها أحد المستشرقين: أ.ت.ويلش A.T.Welch و نظرا إلى أن تعليقه على ما كتبه هذا المستشرق كان مقتضبا إلى حد ما، فإننا سنلجأ إلى ما كتبه أركون في مواضع أخرى حول الاستشراق ومنهجيته في تعامله مع التراث الإسلامي. ومسألة الاستشراق خاض فيها العديد من الدارسين وقيلت بشأنها أقوال وآراء متضاربة أحيانا ومتفقة في أحيان كثيرة ومن أهم القضايا التي أثيرت نجد خلفيات الاستشراق، مدى موضوعية المستشرقين في تناولهم لمسائل تاريخية ووحضارية من تراثنا، ثم مدى ملائمة مناهج المستشرقين لموضوع بحثهم وما ترتب عن استعمال هذه المناهج من نتائج سلبا وإيجابا. هذا بصفة عامة، أما محمد أركون فإنه يتساءل منذ البداية عن مدى صحة ما يروجه الكلاسيكيون العرب في خصوص الاستشراق والمستشرقين: هل هناك معاداة مبالغ فيها التقاليد من قبل الاستشراق أم بالعكس هناك تجن لا مبرر له من قبل الكلاسيكيين تجاه المستشرقين؟ وهنا يحاول أركون أن ينحو منحى موضوعيا في تقييم كتابات المستشرقين ومن هنا تأتي مشروعية التساؤل الموالي: هل كسر الاستشراق بعض القيود القيود والاقفال نعني بذلك أدواته المنهجية أم أنه اكتفى بتطبيق المباىء والمناهج والتساؤلات المشتركة التي استخدمها البحث الجامعي في الغرب ما بين عامي 1850-1960 تقريبا على القرآن؟ (1). وأعتقد أن تميز أركون في تناوله لمسألة الاستشراق يكمن في مضمون هذا التساؤل الذي ينأى بالإشكالية عن الحساسية المفرطة وعن التشنج المبالغ فيه ليتناولها بهدوء الباحث ورصانة المفكر، فتغيب تبعا لذلك ملامح الطرح الإيديولوجي للمسألة وتظهر أبعادها المعرفية جلية.

1 – عرض المنهجية الاستشراقية وخصائصها:

المنهجية الاستشراقية أو كما يسميها أركون بالإسلاميات الكلاسيكية (2) هي خطاب غربي حول الإسلام ومصطلح الإسلاميات – بمعنى الخطاب الذي يهدف إلى العقلانية في دراسة الإسلام – هي اختراع غربي. ففي الواقع لا يمكن أن ننكر أن " الإستشراق " كان قد ساهم بشكل واسع في إعادة تنشيط الفكر العربي الإسلامي، لكن ينبغي مع ذلك القول أنه إذا كان هناك معلمين كبارا من أمثال دوسلان، سنوكا، غرونج، نولدكه، ما سينيون، مارسيه قد سحبوا نصوصا ذات أهمية كبرى من نسيان طويل وشقوا طرقا جديدة وأساسية للبحث مثل اللهجات المهملة وغيرها، فإن إسهاماتهم بقيت لوقت طويل إما متجاهلة وإما منظورا إليها سلبيا من قبل الجمهور العربي والإسلامي.

لقد اعتمد المستشرقون في تعاملهم مع التراث العربي الإسلامي مناهج فقه اللغة الكلاسيكية التي ظهرت منذ القرن الرابع عشر وتواصل العمل بها إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث عدت المناهج اللغوية الأداة العلمية الوحيدة القادرة على إخراج نصوص قديمة ونشرها محققة بدقة عالية. ربما تعود بدايات الإستشراق إلى العصر الوسيط حيث اهتم الغربيون بترجمة مؤلفات علمية عربية إلى اللاتينية. وابتداء من القرن السادس عشر بدأ الفكر الغربي يزدهر ويتسع ويصبح أكثر إشعاعا، وعلى النقيض من ذلك كان الفكر العربي والإسلامي قد بدأ بالتراجع والانحسار ليصبح فكرا تابعا وهنا ينبغي علينا أن ننظر إلى مسألة العلاقة بين المشرق العربي الإسلامي والغرب ضمن هذا الأفق التاريخي لموازين القوى التي انقلبت لصالح الغرب وأصبح المشارقة سواحا مسافرين يأتون لمشاهدة هذه المجتمعات (3) بعين عجائبية.

منذ القرن التاسع عشر، الذي تميز بظاهرة الاستعمار على المستوى الإقتصادي والسياسي وبنشوء علم التاريخ وتطوره على مستوى العلوم الإنسانية تضاعف إحساس الغرب بتفوقه إزاء بقية شعوب العالم ولاسيما إزاء المجتعات العربية الإسلامية، فكان الالتقاء الموضوعي بين الإستشراق والاستعمار وأصبح نتاج المستشرقين الفكري والحضاري مشحونا بالبعد الإيديولوجي وأصبح المستشرقون السند المعرفي والتبريري للاستعمار وهذا ما ولد نفورا لدى الجمهور العربي والإسلامي من كتابات المستشرقين. إن التداخل بين البعد المعرفي في المنهجية الاستشراقية والبعد السياسي الاستعماري يعود بالأساس إلى التزامن بين بروز منهجية فقه اللغة وعلومها أو ما عرف بالمنهجية الفللوجية ونشوء علم التاريخ وتطوره في القرن التاسع عشر من ناحية وبين انقضاض الغرب الرأسمالي على البلدان العربية والإسلامية وسيطرته عليها. ولعل في ما قلناه دفاع عن الاستشراق ولكن ينبغي أن لا ننسى أن السياسي الاستعماري قد وظف المنتوج المعرفي لعصره لتبرير ممارساته وخططه وأهدافه وما يعاب على بعض المستشرقين هو انسياقهم في مخططات لا تليق بمكانتهم المعرفية ولا بدورهم العلمي. وقد يكون هذا من الأسباب التي جعلت المفكرين العرب يهملون الإنتاج المعرفي للمستشرقين أو يتعاملون معه باحتراز شديد، وذالك رغم ما أتاحته منهجيتهم من تحقيق لنصوص كبرى من التراث العربي الإسلامي وانتشالها من غياهب النسيان، مع العلم أن هذه المنهجية مازالت مستمرة إلى الآن في دوائر الاستشراق ومعاهده وجامعاته (4).إن حاجتنا اليوم إلى فقه اللغة لا تزال أكيدة لأن تراثنا لايزال في قسمه الأعظم مخطوطات لم تحقق بعد علميا. إن المنهجية الفللوجية لا تزال تفرض نفسها على الباحثين بصفتها المرحلة الأولى من مراحل البحث وخاصة المدرسة الألمانية لعراقتها في البحث ودقتها العلمية.

2 – الاستشراق والنص القرآني:

مما يلاحظ في مقالة أ . ت. ويلش A.T.Welch  في دائرة المعارف الإسلامية أنها تلتقي مع ما كتبه السيوطي (849 هج./ 912 هج.) في كتابه " الإتقان في علوم القرآن " فنجد عند كليهما اهتماما كبيرا بجرد المعارف ووصف المشاكل المتعلقة بالصيغ التي اتخذها الوحي في المصحف أو في النص النهائي، فنبقى بذلك خارج النص نفسه، على السطح عندما نكتفي بتقص يخص فقط المفردات والشكل والبنية النحوية والأسلوب. وتبدو المقاربة الشكلية أكثر وضوحا عندما يطرح المؤلف تساؤلات بخصوص الحروف الغامضة المجهولة مثل:آلم ، كهيعص،...و تقطيع الآيات ونظام السور وطولها وأسمائها وكذلك بخصوص وجود البسملة من عدمها. ومما يلاحظ أيضا أن المؤلف قد تعرض للصيغ الأدبية والموضوعات الأساسية في الفقرة ذاتها ومما يؤسف له أنه تطرق لهذا الموضوع ضمن تصور للنقد الأدبي التقليدي (5) وهو التصور الذي يفصل اللغة عن الأسلوب ويفصل الأشكال الأدبية عن الموضوعات، في المقابل ينبغي الإعتراف بأهمية معطيات المنهج الفللوجي ومكتسباته الإيجابية التي لا ريب فيها. هناك أمر لا بد من الإشارة إليه ،قبل أن تتطرق إلى علاقة الاستشراق بالنص القرأني ،هذا الأمر يتصل بفارق أساسي بين المنهجية الإسلامبة التقليدية والمنهجية الاستشراقية فبقدر ما ينزع التفسير الإسلامي الصفة التاريخية عن كيفية تشكل المصحف (6)، ويطمس المشاكل المتعلقة بذلك ويسبغ علي مضامين النص القرآني نوعا من التعالي، يهتم البحث الإستشراقي كليا بالمعطيات الإيجاببة والواقعية لتاريخ القرأن فيما بعد سنة 11هج / 632 م وينشغل بمسألة السياق اللغوي والتاريخي للآيات، فالتعارض بين هاتين النظرتين جذري وحاد ولا يمكن إقامة أي جسر أو صلة وصل بينهما.

لنولدكه Noldeke فضل كبير في أنه أدخل للمرة الأولى منذ القرن 4هج / 10 م السؤال الذي لا مفر منه والخاص بالتاريخ النقدي للنص القرأني، وذلك في مؤلفه الضخم " تأريخ القرأن " Geschishte des Qorans  الذي طبع ونقح من قبل ف.شوالي F.Schawaly سنة 1919 تحت عنوان (........) ثم نشره مرة أخرى كل من ج. بواجستراسير J. Bregstasser وس.بريتزل S.Bretzel سنة 1938. لم يلق هذا الكتاب زمن إنجاز هذه الدراسة مترجما ينقله إلى العربية على أهميته مما يعطي فكرة عن وجود مجال من المستحيل التفكير فيه والمفروض من قبل العقل الأرثوذكسي . هناك من المستشرقين من تندرج أعماله ضمن الخط الفللوجي- التاريخاني الذي رسمته المدرسة الألمانية نذكر منهم: أ. جيفري A.Gifrey ور.باريه  R.Paret وريجيس بلاشير R. Blachere  وكذلك ج.بيرتون J.Burton  في كتابه "جمع القرأن " collection of the Coran ( Cambridge, 1919 ) وج.وانزيروف  J.Wansbrowgh في كتابه " دراسات قرآنية: مصادر ومناهج تفسير الكتابات المقدسة "( أوكسفورد، 1977). (7) وهناك من زاوج بين التحليلات الفللوجية والتحليل الخاص بالنقد الإجتماعي socio-critique مثل ه. بيركلاند H. Birkland الذي نجد عنده أن مشاكل صحة النصوص تصبح وقائع إجتماعية – ثقافية ذات دلالة ومغزى، تعرفنا على كيفية اشتغال الذات على نفسها فتحول الظرفي والنسبي إلى حقيقة لا تاريخية ومتعالية.

إن المشكلتين الأكثر أهمية واللتين تناولتهما القراءة الفللوجية، هما التسلسل الزمني للسور والآيات ثم ترتيب مجموع الوحي ونصوصه وتنظيمها. كان الفقهاء قد اشتغلوا كثيرا بالمشكلة الأولى وذلك بسبب احتياجهم لآستنباط الأحكام الشرعية، إلى التحديد الدقيق للترتيب الزمني للآيات التي تعالج الموضوع ذاته مثل موضوع الخمر مثلا. إن الأمر هنا لا يتعلق بوجهة نظر تاريخية محضة أو اعترافا بالتاريخ .كان ج.بيرتون J.Burton قد حاول تبيان كيف أن الفقهاء يستطيعون أن يشوشوا الحقيقة التاريخية وذالك بتلاعبهم بالأحاديث وتوجيهها الاتجاه الذي يريدونه أو يبحثون فيه. هذا يبين إلى أي حد يبدو ضروريا استعادة أدبيات أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والأحاديث التي استشهدوا بها دعما للتفاسير المختلفة من أجل أن ندرسها من جديد ونعيد كتابة التاريخ الحقيقي للنص القرأني.

إن التحري الإستشراقي الفللولوجي، وبعيدا عن المجادلات العقيمة وغير اللائقة التي يوجهها المسلمون للمستشرقين الفللولوجيين، قادر على فتح الرهانات المعرفية وإثارتها دون أن يتعدى ذالك، فهو يتوقف في منتصف الطريق ولا يستطيع التقدم إلى الأمام وتحليل مختلف المشاكل المرتبطة بآية قرآنية مثلا (8)، أو بمجموع التراث الإسلامي عموما. إلا أن ما يفعله التحري الإستشراقي هام ولا يمكن تجاهله، لأن الرهانات التي يمكن أن تثار عديدة ومتنوعة:لغوية وتاريخية وأنتروبولوجية وتيولوجية وفلسفية، وهذا ما يمكن البرهنة عليه عن طريق الآية رقم 12 من سورة النساء والآية 176 من السورة نفسها (9). ويؤكد أركون في تحليله للآيتين على الأهمية الإستكشافية لكل دراسة تحليلية توازن بين القصص والحكايات التي أوردها الطبري (.224 هج/ 310 هج) في تفسيره:" جامع البيان عن تأويل آي القرآن " خصوصا، وتقارع بعضها بالبعض الآخر لآستخراج الحقيقة عن طريق المقارنة.

الآية رقم 12 من سورة النساء: يقول تعالى: " ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصي بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو إمرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حكيم "

الآية رقم 176 من سورة النساء، يقول تعالى: " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم "

تعالج هاتان الآيتان المذكورتان مسألة الفرائض أو الميراث. إن الجزء من الآية12 الذي يبتدىء بقوله " وإن كان رجل " وينتهي في آخر الآية، كان قد أحدث انقساما بين المفسرين إلى حد أن الطبري قد كرس له سبع صفحات في تفسيره، كما كان قد استحضر سبعا وعشرين شاهدا من أجل أن يضيء معنى كلمة " كلالة "المستخدمة مرتين فقط في القرآن (الآيتان 12 و176 من سورة النساء).( 10). هاتان الآيتان تطرحان العديد من الرهانات التي تتجاوز المنهجية الاستشراقية وتفتح آفاقا جديدة في قراءة النصوص الدينية:

أ – الرهان اللغوي:

إن المسألة المطروحة منذ البداية مسألة لغوية ومعنوية- سيمانتية تخص كلمة " كلالة " ،ثم هي مسألة نحوية – تركيبية تخص الجملة التالية:" وإن كان رجل يورث كلالة أو إمرأة.." هنا نصطدم بمشكلة عويصة جدا (11) ، لم يستطع التفسير الإسلامي الكلاسيكي أن يحلها والصعوبة متأتية من الكلمة الغريبة " كلالة " التي لم يتوصل أحد إلى معرفة معناها. أما عن التركيب النحوي فما ورد في الآية الكريمة: " وإن كان رجل يورث كلالة..." الفعل ورد بصيغة المجهول، وهذا ما يزعج المفسرين لأننا لا نعرف العلة في أستخدام صيغة المبني للمجهول هنا .ثم يردف قائلا: " وله أخ أو أخت " هنا أيضا نواجه مشكلة نحوية ذالك أننا كنا ننتظر أن يقول: "و لهما أخ أو أخت " بصيغة المثنى، لأن هناك فاعلين لا فاعلا واحدا ولكنه استخدم صيغة المفرد وهكذا نجد أنفسنا في مأزق صعب.

أما الطبري، من جهته فيقول بأن هناك قراءة أخرى للآية ولكنه ينقلها خفية للتقليل من أهميتها، وهذه القراءة ظظمختلفة كليا عن الأولى تقول: "و إن كان رجل يورث كلالة أو إمرأة وله أخ أو أخت.." نجد أن الأمر مختلف جدا، فإذا " يورث " بصيغة المبني للمجهول كما في القراءة الأولى فإننا لا نعلم ما إذا كان قد ترك إرثا بواسطة وصية أم أنه لم يترك وصية. وإذا كان لم يترك وصية فإنه ينبغي تطبيق قواعد الإرث المنصوص عليها في مكان آخر من القرآن، أما إذا استخدمنا القراءة الثانية التي يكون فيها الفعل " يورث " بصيغة المبني للمعلوم، فإن الأمر يختلف تماما وهذا يعني أن المحتضر قد ترك وصية وحدد وارثه أو ورثته، إذن التركيبان اللغويان يورث، امرأة، يوصي/ يورث، امرأة يوصى متعارضان وهنا يبين د.س. باورز )D.S.Powers  12) أن الطبري يقوي القراءة الأرثوذكسية ويدعمها وذلك حين يتناسى أن يورد أثناء شرحه للآية 12 من سورة النساء حكايات مهمة ذكرها فقط في معرض شرحه للآية 176 من نفس السورة ثم يعمد إلى إحالة القارىء إلى الحلول التي أعطاها سابقا أثناء تفسيره للآية 12.

ب – الرهان التاريخي:

ينبغي طرح السؤال التالي:كيف وضمن أي وسط اجتماعي راحت القراءة المتبناة تتغلب على " يورث ويوصي "اللتين هما من ضمن فرضيات وحلول أخرى ممكنة ؟ تتخذ هذه المسألة أهمية قصوى بسبب أنها تخص قضية الميراث وانتقاله إلى خارج النسل الذكوري. لقد كانت القراءة المرفوضة تتيح للميراث أن ينتقل إلى نسل النساء وخصوصا إذآ ما أعطينا لكلمة " كلالة " معنى الكنة كما ذهب إلى ذالك أحد المستشرقين المعاصرين (....) (13) الذي أمضى وقتا طويلا في البحث عن أصول كلمة " كلالة " التي وجدها في اللغة الأكادية وبالتحديد في اللغة القانونية الأكادية وتعني الكنة، لذا نجد من الضروري أن نرجع إلى نظام الإرث السائد في الجزيرة العربية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لكي نقارنه بالأنظمة الموجودة في الأوساط العراقية والسورية في القرن الأول للهجرة.، لأنه إذا كان القرآن يروم توريث الكنة، فإن ذلك يعني أن كل نظام القرابة والضبط الخاص بآنتقال الأملاك والثروات في المجتمع القبلي قد انهد وانهار. هذا يعني أن الآية التي وردت فيها كلمة " الكلالة " آية ثورية بالقياس إلى كل النظام الإجتماعي السائد والى نظام القرابة المتعارف عليه في شبه الجزيرة العربية آنذاك. إن ما ذهب إليه الفقهاء أنهم فسروا الآيات ونظروا إليها بشكل تستطيع معه المحافظة على النظام السائد قبل الإسلام وبطريقة تحافظ على الموجود خشية حصول انقلاب كامل في المجتمع يهدد تماسكه، لذلك قرئت الآية ضمن المعنى الذي ينسجم مع نظام النسب الأبوي الصارم .(14)

ج – الرهان التيولوجي:

إن الرهان التاريخي يثير بدوره تلك المناقشة الخطيرة المتعلقة بخلق القرآن والتي كانت قد طمست أبعادها من قبل الأرثوذكسية الكلاسيكية ، فالتلاعب بمعاني الألفاظ وحذفها أو إخفاؤها وانتقاء ما يلائم الخلفية الإيديولوجية التي تتحكم بالمفسرين والفقهاء والتي قد تكون مناقضة للقصد الأولي، كل ذلك يظل دائما ممكن الحصول لأن لغة القرآن الكريم - العربية - يستخدمها الناس العاديون في المجتمع وعملية الإستخدام هذه تخضع لاعتبارات عدة وتوظيفات مختلفة.

د – الرهان الفلسفي:

إن ضغط الحاجيات الملحة للوجود الإجتماعي – التاريخي قادرة على تشويه هدف التعالي المكرر بآستمرار في الوحي. تنقلب تبعا لذلك وظيفة الدين من كونه الدينامو الروحي المغذي للطموح إلى المطلق والبحث عن الكمال، إلى وظيفة الضبط والتنظيم والتسويغ. وهنا ينبغي أن لا يغيب عن بالنا أن كل التصورات وعمليات التحريف للواقع وتنكيره تحدد ملامح المخيال الإجتماعي إلى درجة أنها تلعب دورا في إنتاج المعنى والتلاعب به واستهلاكه، هي أكثر خطرا وأهمية من اليقينيات المزعومة التي ينجزها العقل بواسطة فعالياته التحليلية المنطقية. (15)

هكذا نجد أنفسنا بفضل هذه الرهانات قد ابتعدنا عن المناقشات الشكلية والأكاديمية الباردة التي يقدمها أ.ت.ويلش A.T.Welch  في مقالته التي تهمل إبراز المنهج الفللوجي كمرحلة أولى لازمة وضرورية، لا التوقف عندها، من أجل التوصل إلى أفق أكثر انفتاحا (16) ، وغنى بآستمرار وليس كمرحلة أولى وأخيرة.

3 - الإستشراق وعوائقه المعرفية:

إن الإسلاميات الكلاسيكية – أي الإستشراق – الممارسة في الفترة الكولونيالية خضعت قليلا أو كثيرا للنموذج الديكارتي الذي يقوم على المعادلة التالية: " أن تفهم أو أن تعرف يعني أن تتأهب للشيء من أجل السيطرة عليه " لكن " من أجل أن تسيطر فإنه ينبغي البدء بالمعرفة أولا، لكنك لن تستطيع أن تعرف أو تفهم الشيء إلا بشرط أساسي هو أن تتحرر ولو للحظة واحدة من هاجس السيطرة "(17). لقد راح الهدف العملي للمعرفة الإستشراقية يضمحل شيئا فشيئا بنهاية الأستعمار وأصبح معظم المختصين في الشرق يميلون إلى تكديس المعارف والمعلومات الدقيقة دون أن يهتموا بالتنظير أو بالتأمل الإبستيمولوجي والمنهجي أو بالإستخدامات التي يمكن للمسلمين وغيرهم استغلالها من خلال المعرفة المتجمعة هذه، وهنا تكمن حدود المنهجية الاستشراقية ولاسيما المدرسة الفرنسية التي تفضل دراسة الماضي أكثر من دراسة الحاضر بعكس المدرسة الأمريكية المشهورة بذرائعيتها وبالتركيز على الحاضر.

سئل أركون مرة عن مآخذه على الإستشراق، فأجاب بأن من بين مآخذه عليه هو أنه لم يطرح التساؤلات اللازمة حول المناهج كإشكالية علمية مطروحة ولم يهتم بمسألة النقد الإبستيمولوجي، إضافة إلى أن المستشرقين خاضعون بدورهم للثقافة التي تكونوا داخلها فكريا وإيديولوجيا، هذا إلى جانب تأثرهم بالمناهج السائدة والتي لها روافدها اليونانية واللاتينية وعلاقتها بالمنطق والبلاغة الأرسطيين، مع ما يستتبع ذلك من أحكام مسبقة على ثقافة الآخرين. (18). لقد بقي الإستشراق أسير مناهجه وعجز عن التأقلم مع المستجدات الحديثة في مجال العلوم الإنسانية والمناهج المستحدثة، لقد تجاهل الإستشراق كل تلك المكتسبات ولم يثق بها بحجة أنها موضة عابرة. إن رفض المستشرقين فتح مناقشة ابستيمولوجية بخصوص مناهجهم وممارستهم العلمية أمر غير مفهوم، رغم أن نقل المناهج والمفاهيم المتبلورة انطلاقا من الثقافة الغربية وتطبيقها على ثقافة أخرى من شأنه أن يستفزهم بشكل مزدوج لفتح مثل هذا النقاش، لأن من يمارس هذا العمل أي نقل المناهج، يعرف أنه مضطر في كل مرة إلى التحقق حمن إمكانية هذا النقل ومن مدى صلاحيته ثم يعرج أركون إلى مسألة خطيرة فيرى أن المستشرق إذ يكتفي بالسرد الأمين للغات الشائعة والظواهر وبالنقل البارد لمعتقدات المسلمين وممارساتهم، إنما هو في الحقيقة يرفض أن ينظر إلى الواقع الحقيقي أو المقنع أو المستبعد من قبل الناس الذين يدعي التحدث بآسمهم ، فيؤبد بالتالي الوهم الخادع بأنه يقدم معرفة مطابقة وصحيحة من وجهة نظر المسلمين أنفسهم ومن وجهة نظر المؤرخ الحديث الذي يتحدث عنهم في آن واحد. إننا لا نلمس أي تضامن un engagement تجاه الثقافات المدروسة بل سعي لتكريس نظرة جوهرانية لا تتغير إزاء شعوب وثقافات.

إن الشيء الخطير الناجم عن هذه العملية التمويهية هو أننا نحرم أنفسنا من القبض على الآليات الإجتماعية والنفسية والثقافية واللغوية التي أتاحت تقنيع الواقع وإخفاء وجهه الحقيقي. هكذا يساهم المستشرقون في حرمان الفكر العربي الإسلامي المعاصر من الوسائل المنهجية الحديثة التي تمكنه من تفكيك التصورات القديمة التي خلفها الماضي ومن تحليل المناخ السيميائي الذي نشأت فيه هذه التصورات، كما تهمل الطريقة الإستشراقية دور المخيال الإجتماعي وتفقر بالتالي كل المضامين الحقيقية لكل وجود اجتماعي وتاريخي، متأثرة في ذالك بالعقل الوضعي وبطريقته في التعامل مع الأحداث التاريخية بالخصوص (19).

جانب آخر يتصل بالمستشرقين، قد لا تكون له علاقة بمناهجهم، ولكنه يمس أخلاقيات الباحث والروح العلمية لديه وهو غياب الإحساس بالتضامن عندهم مع الثقافة التي يتعاملون معها يقول أركون: " إني أندد وبقوة بنوع من الأدبيات التي تواصل أخذ صيغ الإسلاميات الكلاسيكية بالقول مثلا بما يقوله المسلمون، أو لأنهم يقولون ذلك:" الإسلام دين ودولة " إنها عملية نسخية وكتبرير يقولون لك إن المسلمين يقولون هذا وبما أنني علمي، موضوعي فأنا أقول ما يقولونه " ،إنه توقف ابستيمولوجي من قبل من يكتب هذا الكلام، إنه رفض للتضامن التاريخي ومادام المستشرقون غائبين عن هذا الإحساس بالتضامن ، إني لا أطالبهم بتضامن معنوي، انتحابي أو ترضوي، أرفض هذا النوع من التضامن وبالمقابل أطلب منهم تضامنا في المشاكل "،و يبلغ بأركون الغضب والتشنج مبلغه وهو يتحدث عن هذه النقطة فيقول: " في هذا المشكل الذي أعني به " الإسلام دين ودولة " توجد العديد من المشاكل الأخرى، إننا الآن بصدد نزاع حاد في بلداننا حول هيكل الدين ووظيفته في تنظيم الحكم في المجتمع الإسلامي. هذا هو الرهان وهؤلاء السادة المستشرقون يرفضون النظر إلى هذا الوضع الذي يسيل فيه دمنا يوميا وإذن فأنا أدين كلية من يكتب هذا الكلام، ليس لأنه مستشرق وحسب ولكن لأنه لا يعرف كيف ينجز تحليلا انتروبولوجيا وسوسيولوجيا، أقول له إنك لا تمت إلى العلم بصلة إنك جاهل " (20) . هكذا يصل الأمر بمحمد أركون وهو يدافع عن قضايا الفكر الإسلامي ، إدراكا منه لخطورة عمل المستشرقين الذين قد يتعللون بكل شيء في سبيل عدم التخلي عن مناهجهم وتصوراتهم وهو لا يتوانى في نعتهم بالجهل عندما يلاحظ جمودهم وعدم جرأتهم في تجديد آليات الفهم والتحليل لديهم، إضافة إلى اجترارهم لأخطاء المجتمع بدعوى الموضوعية الموهومة التي تترك الأوضاع على ما هي عليه، بل تزيدها تعفنا وتنأى بنا عن طرح الأسئلة المناسبة وتصدنا في الآن نفسه عن أفضل سبل البحث والتحليل.

إن المستشرقين بحكم منهجيتهم البالية يحتلون في الفكر الغربي مكانة هامشية بالقياس إلى المفكرين الآخرين، فلا نسمع لهم أي صوت في مجتمعاتهم فهم ليسوا مشهورين إلا في بلادنا حيث نعتقد أنهم قادرون على حل مشاكلنا.

***

رمضان بن رمضان - باحث من تونس

........................

الهوامش والمراجع:

1 – Mohamed Arkoun ,Lectures du Coran , ed, maisonneuve, Paris, 1982, l,introduction, p xxi.

2 – محمد أركون ، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1986، الطبعة الأولى، ص 51.

3 – محمد أركون، " التأمل الإبستيمولوجي غائب عند العرب "، مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت ، العدد 20/ 21/22، صيف ،1982،صص 80 – 81.

4 – محمد أركون، " الإسلام، التاريخ، الحداثة " مجلة الوحدة، باريس، عدد 52 ،جانفي، 1989، ص18 .

5 – Mohamed arkoun, Lectures du Coran,…op.cit, p xxi.

6 – Ibid, p xxi.

7 – Ibid, p xxiii .

8 – محمد أركون، " الإسلام، التاريخ، الحداثة " مجلة الوحدة، باريس، عدد 52، جانفي 1989، ص 24.

9 – اعتمد أركون في تحليل هاتين الآيتين على مقال د.س.باورز D.S.Powers ,: " the Islamic Law of inheritance reconsidered: a new reading of Couran,s in Studie islamic iv,pop 61-94.

10 - Mohamed arkoun Lectures du Coran, op cit , p xxiv.

11 – محمد أركون، مجلة الوحدة، عدد 52، 1989، صص 21-22.

12 -  Mohamed arkoun, Lectures du Coran, op cit, p xxiv .

13 – محمد أركون، مجلة الوحدة، باريس، عدد 52، جانفي 1989، ص 23.

14 – Mohamed arkoun, Lectures du Coran, op cit, p xxiv.

15 - Ibid, p xxv

16 – Ibid, p xxv

17 – Roger Bastide, Anthropologie appliquée, ed Payot, Paris, 1971, p35

18 – حوار مع محمد أركون ، مجلة الفكر العربي ، بيروت، عدد 32، أفريل – جوان ، 1983،صص 220 – 221.

19 – محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ص 259.

20- حوار مع محمد أركون، مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت، الأعداد 20/21/22 ،صيف، 1982، ص84.

"إِنَّ ما يشكل نَوَاةَ وُجُودِنا، (...)، والتي لا تعرف في قَرارَتِها غير شَيْئَيْنِ: أَنْ تُرِيدَ أَوْ أَلاَّ تُرِيدَ."[1]

يوجد الإنسان، إذن، وبصفة عامة ككل كائن عاقل، بوصفه إرادة في ذاته، وليس مجرد شيئاً نعبث به أو نلعب بواسطته، فالإنسان ليس شيئاً، إنه إرادة قوية تفكر ذاتها بذاتها لذاتها.

ولهذا وقع اختيارنا هذه المرة على الإرادة الإنسانية التي تخص الإنسان ذاته دون غيره.

لهذا وجب علينا أن نضع الإنسان كإرادة أولاً، ثم تأتي ماهيته ثانياً، فالإرادة تسبق الماهية، وهذه الإرادة تمنحنا الحق لأن نعتبرها قيمة في ذاتها، وبمجرد النطق بها نكون قد نطقنا بقدرة الإنسان على الفعل والتصرف وفق ما يريده هو دون تدخل الآخرين فيه أو في اختياراته.

وتشكل الإرادة بهذا المعنى تحقيقاً لما يرغب فيه الإنسان، أو لما يريده هو ويتوجه إليه بجهده الخاص، أي من خلال جهده المبذول من أجل تحقيق الذات أو تحقيق الاستقلالية، فالكل يرغب في الاستقلال، لا أحد يرغب في سجن نفسه داخل قوقعة معزولة عن العالم والآخرين، والإرادة تحقيق لكمال الإنسان في انفتاحه على الآخرين واستقلاله عنهم في نفس الوقت!

إن فكرة إرادة الإنسان تسبق ماهيته، فكرة منافحة لأطروحة سارتر بخصوص وجود الإنسان يسبق ماهيته، لكنها تختلف عنها في أسبقية الإرادة حتى على الوجود!

ومعنى ذلك أن ماهية وحقيقة الإنسان لا تتحدد من خلال وجوده كما عبر عن ذلك سارتر، بل تتحقق من خلال قوة إرادته، واختياراته، وقدرته على الفعل، ونمط علاقاته بالآخرين من خلال الانفتاح عليهم والاستقلال عنهم في نفس الوقت.

لهذا فالإرادة هي ما تشكل حقيقة الإنسان الثابتة في ضوء ما يختاره من أفعال وتصرفات وسلوكات وممارسات وأفعال وتخيلات وآراء ذاتية وموضوعية، أي نابعة عن ذاته ومستقلة عن الأغيار.

يوجد الإنسان في هذا العالم كما أريد له أو كما أراد هو لنفسه أن يكون، بوصفه إرادة، وإذا لم يكن الإنسان إرادة فهو لن ولم يكون هوى أو رغبة عمياء وجوفاء في يد الآخرين.

ويمكن التعبير عن الإرادة بالقدرة على الفعل، أو القدرة على الاختيار أو القدرة على فعل وتفعل الحرية، أو القدرة على تموضع الذات داخل العالم، ويصبح الإنسان فاعلاً وفعالية وليس منفعلاً وسالباً، أي متلقياً لأفعاله من عالم خارجي.

وكل إنسان هو وعي حر يملك في طياته مبادرة خلاقة وواعية وفاعلة أو فعالية، إن كل إرادة هي إرادة لشيء ما، وتنبثق الإرادة أو تتدفق من داخل أي سكون وثبات، لقد وجدناها الآن، الإرادة حَرَكَةٌ مُقَاوِمَةٌ ومَسْؤولَةٌ.

لا ننفي هنا الشروط الإنسانية ومحدداتها التي تشرط الإنسان، أقصد الشروط الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية والقانونية والدينية والفكرية والإيديولوجية والثقافية والبيولوجية، ... إلى آخره من الشروط، لكن رغم كل ذلك هناك حركة مقاومة ومزعجة تقاوم كل هذه الشروط أسميتها الإرادة.

إذن ثمة مسافة من الإرادة المنبثقة من الذات الإنسانية إلى الحرية والحركة والمقاومة الحيوية، أي إرادة سائرة وصائرة باستمرار، ما يعني أنها سيالة ومتغيرة ومتحولة وسائرة ومتدفقة، بل هي منظمة، لا يمكن تقييدها أو تقويضها، إنها تنفلت من كل سكون وثبات.

تشكل التجربة الذاتية للأفراد أيضاً إرادة ذاتية وحرة ومبدعة تخصهم لوحدهم، فمن خلالها يتعلم الفرد معنى القدرة على الفعل أو السلوك الإيجابي الحسن، ويعي القصد منها.

إن محاولتنا التفكير في سؤال معنى الإرادة، لا يجعل منا نحصر الإرادة في القدرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة بل يجعلنا نفكر في الإرادة في ضوء الوجود الإنساني الحالي بجميع تفصيلاته وأشكال تجلياته، فننتهي إلى كون الإرادة ضرورية في فهم وتحليل العالم وعلاقتنا بالآخرين.

ذلك أن الإرادة الخاصة بنا توجد بمعية الإرادات الأخرى، ما يدل على أن الإرادة تنتمي إلى مجال الغير، وتختلف عنه في نفس الآن، يمكن القول إذن: هذا ما أريده، أو هذا ما لا أريده أثناء مخاطبة الغير، أو هذا ما أرغب في أن يحدث أو أصبح عليه فيما بعد، أو العكس هذا ما لا أريد أن يحدث البتة، وتظل الحرية شرط الإرادة الإنسانية ومحدداتها.

يتملك الإنسان إرادته في صميم قدرته على الفعل، والمقاومة الحيوية أو حتى القدرة على الحركة، التي تشكل الشرط الأساسي في وجودي، ومن هنا تأتي دعوتنا إلى الخروج من العزلة، والانفتاح الخلاق على العالم، بوصفه شرطا ضروريا لبناء إرادة مجاوزة للواقع والبحث عن أفق أو آفاق كونية.

لهذا فالمشكلة تعرض في البداية كمشكلة خاصة، إنها تُطرَحُ بصدد حضور الإرادة في الذات وعلاقتنا بالآخرين التي قد تكون علاقة استلاب واغتراب وتشييء، إنها خاصية تسلب إرادة الإنسان وتختزله عبر سجنه في عالم يشعر بالاغتراب والعزلة عنه.

إن غياب الإرادة، بمثابة عائق نهائي أمام كل تواصل مع الآخرين ومناقشة القضايا المختلفة بكل حرية، فالإرادة الذاتية وحدها الإرادة الحقيقية، وهي إرادة تظل غير قابلة، اعتبارا لخصوصيتها، أن تكون موضوع فعل تشاركي مع الآخرين، لكن رغم كل هذا يجب على الإنسان أن يحيا من أجل الآخر، بمعنى، أن يعيش حياة أو إرادة تراعي الغير وتنظر إليه نظرة غاية لا نظرة اختزال وتهميش.

إن إرادتنا إما أن تكون إرادة كاملة، وإما أنها لا تكون على الإطلاق. ذلك أن مصادر الإرادة مختلفة قد ينبغي أن تأتي بالضرورة من الخارج. كما قد نقر بأن إرادتنا إنما تنبع من الداخل. لكن ما يجب وضعه في عين الاعتبار هو أننا مندمجون مع العالم الخارجي اندماجا وثيقاً لا ينفصل. وبناء عليه، فإن كل أفعالنا وتصرفاتنا وسلوكاتنا وممارساتنا يمكنها أن تغير توجهات حياتنا.

تشكل الإرادة من هذا المنحى ملكة إحكام الذات عن طريق القدرة على الفعل والاختيار، لكن الإرادة على صلة وثيقة بالتفكير، والاستقلالية تجاه ضرورات الطبيعة، كما تتعارض مع كل النوازع والميولات والدوافع.

لكن لا يعني كل هذا، أن إرادتنا نفي للحياة المعيشة ذاتها، بل بالعكس إنها تنبثق من رحم الحياة والإنسان، إلا أن إرادتنا لا تقوم على فعل كل ما نريد، بل هي إرادة بشروط، لا يمكن للإرادة أن تقوم إلا على القدرة على فعل ما يجب أن نفعله، وأن لا نُجْبَرَ على فعل ما لا يجب فعله.

ويجب أن نحتفظ في ذهننا، أن الإرادة هي الحق في القيام بكل ما تسمح به القوانين، وألا نفعل بإرادتنا ما تمنعه القوانين، لأن إرادتنا ستتحول إلى فوضى تمس الشأن العام، مما قد يؤدي إلى إلغاء الإرادات وتضاربها، لهذا لا توجد أبداً إرادة بدون قوانين ولا يمكن أن توجد.

وعلاوة على ذلك، لا يكون للإرادة تحقيق فعلي في العالم إلا في حالة تحقيق ممارسة الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الفاعلة الخاصة بالمرء، لا يمكن للإرادة أن تتجلى، إذن، إلا في إطار تجليها في السياق العام والحياة اليومية، أي خارج الذات، وفي العلاقات بين الأفراد، لأن ذات  ودواخل المرء لا يمكن معرفته والاحاطة به، وهو ممتنع عن كل معرفة.

إن الإرادة، بوصفها واقعاً قابلاً للتحقيق، ترتبط ارتباطا وثيقاً بالحرية، وتشكلان معاً وجهان لعملة واحدة.

الإرادة قوة مبادرة واختيار، عبر الاستقلال الذاتي والحرية والقدرة على الفعل والسلوك، فكون المرء مريداً لا يعني أن يفعل ما يريد، بل تعني أن يصمم على ما يريد، بالمعنى الواسع للإرادة، بواسطة ذاته وفقط، مع الانفتاح على الآخرين، والإرادة هنا تدل على قدرة المرء على تحصيل غايات وأهداف مختارة بدقة، لهذا فالإرادة هي الاستقلال الذاتي والحر للاختيار-الفعل، من هنا تكون بداية تحقق الإرادة.

***

محمد فراح – أستاذ فلسفة

..........................

مصدر الإحالة:

[1]- Arthur Schopenhauer, Le Monde comme volonté et représentation, traduit de l'allemand vers le français : Bordeaux, M.J.F., troisième édition 3, année de parution : 1966, p.943, (Adapté).

* ملاحظة هامة: مقالنا هذا هو مجرد تعليق هامشي على هذه القولة التي تعبر عن نواة الوجود الإنساني حسب فيلسوفنا الألماني أرثور شوبنهاور الذي أُشتهر بالتشاؤم، لكن قولته هذه كانت مُفْعَمَةٌ بالحَياةِ والإرادة الإنْسَانِيَتَيْنِ.

شَغلت النفس وقضاياها المتعلقة بطبيعتها وجوهرها وبراهين وجودها ومصيرها بعد مفارقتها البدن، الفلاسفة منذ أقدم العصور، واحتلت حيزاً مهماً من مؤلفاتهم ورسائلهم ومصنفاتهم المتنوعة في الفلسفة والادب، وكانت لهم فيها اَراء ونظريات مختلفة، فمنهم كما يصنفهم إبراهيم مدكور الماديون الذين اعتبروا النفس مجرد جسم لا ميزة له ولا اختصاص، والروحيون الذين الهّوها وابعدوها عن عالم المادة، ورأوا فيها قوة الهية روحية تهبط الى البدن من العالم العلوي، ومنهم من وقف موقفاً وسطاً، فجعلها مزاجاً بين الجسم والروح، أو بخاراً حاراً كما قال الرواقيون، أو صورة للجسم كما ارتأى ذلك أرسطو واتباعه.

ووقف فلاسفة المسلمين على هذه الآراء وتباينت مواقفهم منها، ففرقة منهم تتكلم عن هبوط النفس، واخرى عن روحانيتها، وثالثة تفضل العقل عليها، ورابعة تعتنق التناسخ مبينة كيفيته وغايته. علماً ان القراَن الكريم وردت فيه كلمة "روح " بمعنى الهي وكلمة "نفس" بمعنى انساني خالص. فقد استعملت كلمة روح بمعناها الإلهي كما في الآيات  بسم الله الرحمن الرحيم:

"وأيّدناهُ برُوحِ القُدُسِ"  البقرة : 87، 253 . " وكلمتُهُ القاها الى مريمَ ورُوحٌ منهُ " النساء: 171. "يُنَزِّلُ الملائكةَ بالرُّوحِ مِن أَمرِهِ " النحل : 2 . "وَيَسئلُونَكَ عنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِن أَمرِ رَبّي "الاسراء : 85 . " يُلقي الرُّوحَ من أَمرِهِ على من يشاءُ من عبادِهِ ليُنذِرَ يومَ التَلَاقِ " غافر: 15. " تَعْرُجُ الملائكةُ والرُّوحُ إِليهِ " المعارج : 4. "يومَ يقُومُ الرُّوحُ والملائكَةُ صَفًا" النبأ : 38. ففي كل هذه الآيات فأن الروح لا تدل على الروح أو النفس الإنسانية، بل على كيان إلهي يتنزل من الله. وفي مقابل ذلك نجد كلمة " نفس" تدل على معنى انساني خالص، وغالباً بمعنى ذات الانسان، ومبدأ الحياة فيه كما في الآيات بسم الله الرحمن الرحيم: " ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ " البقرة :281. " لا تُكَلَّفُ نَفسٌ إلَّا وُسْعَهَا " البقرة : 233. " وَكَتَبنَا عَلَيهِم فيها أَنَّ النَّفسَ بِالنَّفسِ " المائدة : 45. "ولا تَكسِبُ كُلُّ نَفسٍ إلَّا عَلَيهَا " الانعام : 164. " يومَ تَأتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَن نَّفْسِها" النحل : 111 . ولهذا فأن كل نفس مائتة كما في الآيات: " وما تَدْرِي نَفْسٌ بأيّ أرْضٍ تَمُوتُ "  لقمان: 34 . و "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقةُ المَوتِ ثُم إلينَا تُرجَعُونَ "العنكبوت: 57. والواقع ان الفلاسفة والمتكلمين المسلمين قد اختلفوا في قضية النفس، مثلما اختلف فيها فلاسفة اليونان، فمنهم من قال بروحانية النفس، ومنهم من يقدم الأدلة والبراهين على ماديتها وهناك من يقف موقفاً وسطاً بين هاتين النزعتين المتناقضتين. ومثل بقية الموضوعات الفلسفية  فأن ابن سينا في قضية النفس يغلب على أرائه طابع التوفيق بين الحكمة والشريعة، وبين تعاليم وفلسفة ارسطو الممتزجة بتعاليم افلاطون والافلاطونية المحدثة، وتعاليم الدين الاسلامي مع توسع في فهم النصوص القرآنية والابتعاد عن التزمت وعن التزام الحرفية شأنه في ذلك شأن أستاذه الفارابي واغلب الفلاسفة المسلمين، وإن مال ابن سينا في فلسفته، وقضية النفس، أحياناً الى ارسطو الذي يرى ان الوحدة بين النفس والجسم شبيهة بالعلاقة بين " الشمع والطابع المطبوع فيه " وفي هذه الحالة، لا توجد نفس منفصلة عن جسم، مادامت هي صورته، وبالتالي فأنها تفنى بفنائه، فأننا نجده يميل في مواقف اخرى الى رأي افلاطون في أن النفس جوهر لامادي، قادر على الوجود بنفسه مستقلاً عن البدن، وفي هذه الحالة توجد النفس قبل الجسم الذي تحل فيه، وبعد انفكاك صلتها به، وهي خالدة لا تفنى بفنائه، وسنجد هذا الموقف من الوهية النفس، واختلاف طبيعتها عن طبيعة الجسد، وخلودها، واضحاً في ابيات قصيدته العينية التي يقول فيها:

هَبَطَتْ إِليكَ منَ المَحَلِّ الأَرفَعِ

وَرْقاءُ ذاتُ تَعَزُّزٍ وتَمنُّعِ

*

محجوبةٌ عَن مُقلةِ كُلِّ ناظـــرٍ

وهي التي سَفَرَتْ ولم تتبرقعِ

*

وَصَلَتْ على كُرهٍ إليكَ، ورُبَّما

كَرِهَتْ فِراقَكَ وهي ذاتُ تَفَجُّعِ

*

أَنِفتْ وما أنِسَتْ، فلما واصلت

ألفِت مُجاورةَ الخراب البَلقَعِ

*

وأظُنُّها نَسِيَتْ عُهُوداً بِالحِمَى

ومَنازِلاً بفراقِها لم تَقْنَعِ

*

حَتَّى إذا اتَّصَلَتْ بِهاءِ هُبُوطِهَا

عَنْ مِيمِ مركزها بِذاتِ الأَجْرَعِ

*

عَلِقَتْ بِها ثّاءُ الثَّقِيل فَأصْبَحَتْ

بَيْنَ المَعالِمِ والطُّلُولِ الخُضَّعِ

*

تَبْكِي، وقد نَسِيتْ عُهوداً بالحِمى

بمدامعٍ تَهمي وَلَما تُقْطعِ

*

وتَظَلُّ ساجعةً على الدِّمْنِ الَّتِي

دَرَسَتْ بِتِكرارِ الرِّياحِ الأَرْبعِ

*

إذ عاقَهَا الشِّرْكُ الكَثِيفُ وَصَدَّهَا

قَفَصٌ عَن الأَوْجِ الفَسيحِ المُرْبِعِ

*

حتى إذا قَرُبَ المسير الى الحِمى

ودَنا الرحيلُ الى الفضاءِ الأوسعِ

*

سَجَعَتْ، وقَد كُشِفَ الغِطاءُ، فأبْصَرَتْ

ما لَيس يُدرَكُ بالعُيونِ الهُجَّعِ

*

وغَدَتْ مُفارقَةً لِكُلَّ مُخْلِفٍ

عَنهَا حَلِيفِ التُّرْبِ غَيْرِ مُشَيِّعِ

*

وبَدَت تغرَّدُ فوق ذَروة شاهقٍ

والعلمُ يرفَعُ كلَّ من لم يُرفَعِ

*

فَلأيِّ شَيْءٍ أُهْبِطَتْ من شامِخٍ

سامٍ الى قَعْرِ الحَضِيضَ الأوضَعِ؟

*

إنْ كانَ أهبَطَها الإِلهُ لحِكْمَةٍ

طُوِيَتْ عن الفَطِنِ اللَّبِيبِ الأرْوَعِ

*

فهبوطُها إِنْ كان ضَربةَ لا

لتكونَ سامعةً بما لم تسمعِ

*

وتعود عالمةً بكل خف

في العالَمَيْنِ، فخِرْقُها لم يُرقعِ

*

وهيَ الَّتِي قَطَعَ الزَّمَانُ طَرِيقَهَا

حَتَّى لَقَدْ غَربتْ بِعَيْنِ المَطْلَعِ

*

فَكأَنَّهَا بَرْقٌ تألَّقَ بالحِمَى

ثُمَّ انْطوى فكأنَّهُ لَمْ يَلْمَعِ

في هذه القصيدة يُشَّبه ابن سينا المعروف في تاريخ الفلسفة الإسلامية بالشيخ الرئيس، أو المعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، النفس بالورقاء" الحمامة البيضاء" التي هَبَطت أو " أُهبطت" دون ارادتها من المحل الأرفعِ ِ اي العالم الإلهي، أو عالم المعقولات، عالم المُثُل " الصورة العقلية المُجرَدة" – وفق التسمية الافلاطونية – وهي في حالة تعزز وتمنع بسبب شوقها للبقاء في عالمها العلوي، وكرهها للهبوط الى العالم الارضي المادي المحسوس، الذي هو بمثابة الشَرك أو القفص، وفي النفس جزء إلهي، وسر محجوب عن المعرفة والعارفين على الرغم من وضوح وجودها، ودلالاته، واشاراته " وهي التي سفرت ولم تتبرقع "، واذا كانت النفس قد حلَّت في الجسد على كره منها، ألا ان اعتيادها عليه والفتها معه يجعلها تكره فراقه، وتحزن وتتفجع لهذا الفراق، مثل اعتياد الحمامة على القفص، ومثل اعتياد السجين على زنزانته وسجنه، ولطول المدة التي تقضيها النفس في الجسد، فأنها تألف شيئاً فشيئاً مجاورة المادة الفانية مع انها في البدء كانت تأنف من ذلك، ولم تستأنس اليه إلا بعد ان نسيت منازلها وعهودها في عالمها العُلوي، وما تلبث ان تُثقل وتعلق بأدران المادة واطلالها وخرابها لكنها تبكي، وتسجع – سجع الحمام – طول الفصول والأيام، وهي تشتاق لمنزلها الأول، الذي يصده عنه "الشَرَكُ الكثيف" والقفص الذي وجدت نفسها بداخله، حتى إذا " كُشفَ الغطاءُ " أبصرت ما ليس يُدرك أو يُبصر بالعيون, فارتفعت الى" ذروةِ شاهقٍ" مغردةً سعيدة بعودتها وخلاصها من الجسد الذي بقي على الارض غير مُشَيع " غير مودع " وهي تغادرهُ الى العالم الإلهي، عالم العقول والانفس الصافية من علائق المادة الفانية. وبعد هذه الرحلة المضنية للنفس، وهبوطها الى الأرض، ودخولها الجسد، ثم اعتيادها عليه واشتياقها لاحقاً لعالمها الأول، وتوقها للخلاص من الجسد – القفص - يتساءل ابن سينا عن السبب والحكمة التي تقف وراء ذلك كله : فلأي شيء أُهبطت من شامخٍ   سامٍ الى قعر الحضيض الأوضع ؟ . فأن كان هبوطها من أجل ان تكون سامعة بما لا تسمع، أو تعلم بما لا تعلم، وتطلع على كل خفية أو سر في العالمين العلوي والارضي، فأن ذلك كله لم يرقع خرقها، وها هي قد غابت وغربت وغادرت بعد انقضاء تجربتها المريرة مع الجسد وعالم الخراب والفناء و: كأنها برقٌ تألق بالحمى  ثم أنطوى، فكأنه لم يلمع !!، وكأن وجودها في الجسد كان وجوداً عابراً وطارئاً، وسريعاً في بريقه وإنطفائه، سرعان ما انطوى وكأنه لم يلمع. وهنا يقف الشيخ الرئيس موقفاً صريحاً من الذين انكروا وجود النفس، أو الذين عدَّوها عَرَضاً من أعراض الجسد، لذلك نجده يعيد ويكرر البراهين لأثبات حقيقة كون النفس جوهراً روحانياً لا يفنى بفناء الجسد في الكثير من مؤلفاته، وكان لابد له من هذا الموقف تجاه روحانية النفس مخالفاً بذلك فلسفته الأرسطية المادية لكونه أحد الأثنين الكبار إلى جانب الفارابي الذين يُحسبون على المشّائيين اتباع أرسطو في الفلسفة الإسلامية، لكنه خرج من هيمنة أرسطو في موضوع النفس لكي لا يخرج عن مفهومها في القرآن الكريم والشريعة الإسلامية .

***

د. طه جزاع – كاتب أكاديمي

المقال منشور في موقع مراصد أيضا

 

 

(ثمة صوت لا يستخدم الكلمات .. أنصت إليه)... جلال الدين الرومي

هو ما نحمله في دواخلنا من تكوينات فرضية، ربما تتحول إلى سلوك وربما تذهب إلى عوالم القارة الواسعه الخفية وهي اللاشعور – اللاوعي، تستدرجنا هذه الأفكار، وهذا الصوت إلى مختلف التأويلات، جميلة كانت أم غير جميلة، ترجع تلك إلى تأويلنا لها، أو لنقل تفسيراتنا وربما نؤسس لها بناءًا جديدًا كلما فكرنا بها فتكون متباينة ومتنوعة تأخذ سياقات الفكرة التي كونها الفرد، وبالتأكيد تأخذ التبدل الوضعي وهي في عالم اللاشعور – اللاوعي، تفكيرنا يترك ترسبات حتى وإن بدا أنه ذهب ورحل عنا، وهربنا منه، ولنقل عالجناه . بقايا التفكير لها فعل التفكير وقوته، أتحدث لكم عن بقايا التفكير، الفضلات التي يتركها التفكير فينا ونحن لا ندرك ماذا ترك فينا، أنه مدخل للاضطراب النفسي والعقلي وحتى الانحرافات مثل النرجسية والسيكوباثية وإنحرافات الشخصية والإنحرافات الجنسية، إذا ما أشتد وأصبح حينئذ التفكير هويتنا المعلنة، سمات شخصيتنا. ومن السمات التي تلازم وجودنا ونحن أسوياء مثل البخل والكرم، الأنانية والتسامح، العصاب الوسواسي، المخاوف وتوهم المرض، هو المدرك الذي لا يتغير، وإن لبس ثوب آخر مثل اكتساب العلم، أو التدين المفرط، ويمكننا القول هو يقودنا في كل سلوكنا في حالة الوعي. ومثل ما يحدث في حالة الأعصبة ومنها الإفراط في التذكر، فعودة التفكير النتن المؤثر في النفس هو مثل حالة الصدمة حينما تترك أثارها في البعض ويرى " عدنان حب الله" إن كلمة فرط تذكري تحيل على واقعة مؤقته هي تثبيث الحدث في الذاكرة التي تظل الذات متعلقة بها، والتي يتبين أن دورها يكون حاسمًا في متتالية الإضطرابات النفسية المرضية، وميزة هذا العصاب هي تثبيت الذاكرة وتعلقها، فالأفكار التي نتحث عنها وتركت ترسباتها ستؤدي حتمًا للعصاب، وهذا العصاب منشأه يعود إلى الطفولة الأولى من حياة الإنسان . فترسبات التفكير وما يتركه من بقايا تؤثر وقول "سيجموند فرويد : تحل الخيالات محله في كل مرة، يكتسب فيها القوة اللازمة لتحطيم مقاومة الأنا، كل أعراض ومظاهر الحصر - القلق – الفوبيا – الرهاب، تنبثق عن التخييلات .

يقول " فرويد" عن التخييل في خطاب فليس أنه بناء دفاعي هو أعلاء وتجميل الواقع، وهو يقوم أيضًا بدور تبرير الذات كما دونته " نيفين زيور " في كتابها المهم التخييل دراسة في التحليل النفسي" وتضيف " نيفين زيور" وظيفة التخييل إنما هي خلق موقف يشبع الرغبة، وبما أننا نتحدث في هذه السطور عن الترسبات التي يتركها التفكير في دواخلنا، فإن التأكيد يدلنا على أن التنازل عن اللذات كان على الدوام أمرًا شاقًا، تألمت له نفس الإنسان، فهو لا يقدر على الحقيقة دون أن يعوضه على وجه من الوجوه، لذا أخرج الإنسان لنفسه لونًا من النشاط النفسي يتيح لمصادر اللذة المهجورة ولوسائل طلبها أن تبقى، وأن تحتفظ بوجودها في صورة تجعلها بمنجاة من مطالب الواقع، وتعفيها من اختيار الواقع " نيفين زيور، التخييل، ص17"، ولكن هذه الأفكار التي دفنت في عالم اللاشعور – اللاوعي لا تلبث كل رغبة أن تلبس اللبوس التي تبدو فيه راضية مشبعة، وهذا هو عودة إلى الترسبات من الأفكار غير المرغوب فيها، أو حتى المرغوب فيها تعود عن طريق الإعلاء– التسامي . هذه الترسبات لا تنتهي لأنها فضلات التفكير ورواسبه، ويعلم الجميع أن رواسب الأكل التي تطرحها المعدة إلى القولون وتخرج كبراز لكي يتخلص منها الإنسان فهي تحمل مختلف الروائح، ومختلف الأشكال الصلبة أحيانًا، والسلسة اللينة أحيانًا أخرى، ومرات تكون عسيرة ومزعجة، كذلك هو الحال في ترسبات التفكير وما تحمله من أشكال ربما تكون قوية على قدرتنا في التحمل فتذهب بنا إلى شيءٍ من اللاسوية.

يقول " سيجموند فرويد" مؤسس التحليل النفسي في كتابه ما فوق مبدأ اللذة في الفصل الرابع أن الشعور لا يمكن أن يكون أعم خصائص العمليات النفسية، بل أنه لا يعدو أن يكون وظيفة خاصة لهذه العمليات، ويضيف " فرويد" بأن كل عمليات الاستثارة التي تقع في المنظمات الأخرى تخلَّف وراءها آثارًا باقية تكون أساسًا تقوم عليه الذاكرة، وليس لمثل هذه البقايا في الذاكرة أية صلة بالشعور، أما إذا كانت هذه الآثار لاشعورية فلسوف تواجهنا، من الناحية الأخرى. وبناء على ذلك فإن مرض التفكير ليس لَهُ علاج حتى لو أستطعت أن تنام، ستحلم بما تُفكر به كما دون ذلك " آل باتشينو" وهو كلام صحيح تمامًا، ليس فيما نفكر به، بقدر ما يترك هذا التفكير فينا نزعات لا ندري مدى تأثيرها، رغم أن التفكير هرب إلى الحلم ليعبر عن ما يريد، طالما أن الحلم تحقيق مُقنع عن رغبة مكبوتة كما قال سيجموند فرويد، وهو أيضًا رغبة عند جاك لاكان، ونقول إنها رغبة غير متحققة في الواقع، فظهرت لاشعوريًا في مسارات أخرى ومنها الحلم، أو ربما الهفوات، أو زلة لسان، أو خاطرة " عَنتْ – مخيلتنا " عند البعض منا، هذا الخاطرة لن ولم تكون بلا معنى، أو صدرت عشوائيًا، إنها من بقايا التفكير وترسباته في لاشعورنا – لاوعينا، ويقول جاك لاكان نحن مسؤولون عن لاوعينا – لاشعورنا، ويضيف أيضًا قوله : الذات مسؤولة عن لاوعيها – لاشعورها، فهذه الترسبات في التفكير هي التي تنطلق من اللاشعور – اللاوعي فينا دون إستئذان، أو تَحكم منا، هي دواخلنا التي تحرك سلوكنا، هي مدركاتنا في الشعور – الوعي وتركت الأثر فينا، وحاولنا محو بعضها بوعينا، وإن نجحنا عادت مرة أخرى في ترسبات تفكيرنا حتى وإن استخدمنا محو المحو معها، لابد أن تعود وتشغل بالنا ووجودنا وحياتنا اليومية المعاشة . سؤالنا هي لغة غير معبر عنها بالكلمات ؟ أم هي أفكار لا يمكن السيطرة عليها؟ وربما نتفق مع جلال الدين الرومي بقوله: ثمة صوت لا يستخدم الكلمات .. أنصت إليه" .  

ونعيد تساؤلنا كيف يستطيع الإنسان أن يتخلص من رواسب التفكير التي علقت في لاشعورنا – لاوعينا ؟ هذا السؤال يقودنا إلى إجابة واحدة وهي نحن بحاجة إلى تداخل نفسي ليس جراحي بقدر ما هو علاج مرهون بما يبذله الفرد من جهد وبما يبديه من استبصار ومثابرة وقدرة على التكيف كما يقول "فرويد " في كتابه محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي، ص 1" ويضيف " فرويد" ففي وسع المرء أن يتعلمه أولا بتطبيقه على نفسه إذ يقوم بدراسة شخصيته، إذن نتفق مع "فرويد" بأننا يمكن معرفة تلك الترسبات إذا استطعنا أن ندخل في جهاد مع أنفسنا لمعرفة ما لايمكن معرفته، وهي طريقة فرويد في التخلص من هذا الذي نعاني منه في بعض الأحيان حيث يقول : نريد من الشخص أن يكلمنا عما لا يعرف " فرويد، معالم التحليل النفسي، ص 110- 111". وتبقى هذه الكلمات والأصوات والأفكار، وما عنَّ لنا من خاطرة، في دواخلنا مخزونة، محفوظة في هذا الأرشيف غير المنته بالسعة، وهو اللاشعور – اللاوعي، يداهمنا في أية لحظة ولو كانت في أفكار مترسبة في أعماقنا.

***

د. اسعد شريف الامارة

الادراك والوعي

في البدء الادراك هو ليس الوعي بالشيء. ان تدرك الشيء بالحواس هو احساسك الانطباعي لموجوديته كموضوع مستقل له خواص خارجية وتسمى هذه العملية بالانطباعات الاولية.

اما وعي الشيء او الموضوع فهو معرفة حقيقته عقليا وليس حسيّا فقط. دأب فلاسفة عديدون الى تقسيم الموجود المدرك كموضوع الى مظهر هو الصفات الخارجية له والى محتوى دفين يدعى الجوهر او الماهيّة لا تدركه الحواس. وهي تشبيه مرادف لقولنا شكل الشيء ومضمونه.

وخلاصة القول ان مقولة لماذا لا يكون مضمون الشيء منفصلا عن قابلية ادراكه التي يمتلكها الموجود المادي الشيئي كينونة موحدة شكلا ومحتوى مستقلة؟ هذه مقولة خاطئة وفرضية تعسفية تحاول وضع العربة امام الحصان لاسباب اوجزها بكلمات:

اولا: قابلية الادراك هي كيفية وسيرورة تجمع بين المادة وادراكها كما هي وسيلة معرفية لا تمتلكها المدركات لاتموضعا ماديا فيها ولا تجريدا تعبيريا يصدر عنها. بل يمتلكها الحس والوعي العقلي لها فقط. ويرتبط الادراك والوعي برابطة تكاملية كونهما حلقتين في منظومة العقل الادراكية .

ثانيا: مضمون الشيء لا يكون موضوعا لادراك قائم لوحده منفصلا عن موجوديته المادية الموحدة شكلا ومحتوى. المضمون يحتاج دائما لشكل يحتويه وبغير هذه الملازمة لا يمكننا تصور مضمون بلا شكل يحتويه. كما ولا يمكننا تصور شكلا خاليا من مضمون او محتوى دلالي عليه له معنى كما في مثال الرسوم الهندسية المجردة فالخطوط التي يتشكل منها الشكل الهندسي تحدد مضمونه الهندسي الاستيعابي الذي ندركه للوهلة الاولى فارغا ما عدا محدداته المستقيمة في الخطوط. في أن يكون دلالة على مثلث او مستطيل او دائرة او مربّع وهكذا. أي أن أبعاد اشكال الخطوط الهندسية المرسومة غير المنفذّة واقعيا المجردة أعطت للحيّز المكاني الذي احتوته مضمونا تصوّريا فقط متفردا هندسيا غير موجود بالواقع بل هو مرسوم على ورق او سلايد او لوحة وسيلة ايضاح وهكذا...

ثالثا: الادراك لا يجزيء موضوع ادراكه الى شكل هو الصفات الخارجية والى مضمون او محتوى هو جوهره وماهيته. فالادراك هو وعي كينونة الشيء الموحد في كليته الموجودية البائنة للادراك الخارجي. اما الوعي المعرفي للشيء المدرك انطباعيا حسيّا فهو يستطيع ادراك ماوراء الصفات الخارجية اذا ما اتيحت له وجودا كموضوع مستقل.

ويكون معنا اعجاز عقلي ادراكي ان نتصور مضمونا لا يحتويه شكل يدركه العقل. وبالعكس ايضا تكون استحالة ادراكية ان تجد شكلا مجردا بلا مضمون يحتويه يمكن للعقل ادراكه كموضوع. بمعنى الادراك الحسّي للشيء هو ادراك لموجود في كليّته البائنة المتاحة لادراكها. الادراك كما مرّ بنا هو ادراك انطباعي يختلف عن الوعي انه ادراك معرفي.

رب معترض يقول أن بامكاننا رسم شكل مربع هندسي او مثلث على ورقة خال من المضمون. الاشكال الهندسية ورموز المعادلات في الرياضيات والجبر والهندسة والفيزياء والكيمياء انما هي تجريدات للدلالة على (إمكانية) معرفية ان تقودنا تلك الاشكال والمعادلات الرمزية الى تطبيقات واقعية بالحياة ذات مضامين سواء في العلوم او في المعمار.. ان من المهم ان ندرك التجريدات المرموزية بإختلاف غير ادراكك الاشياء في موجوديتها.

رابعا: الصفات الخارجية هي كينونة موجودية موحدة وليس من خاصية الادراك الحسي البحث عن احتوائها على جوهر او مضمون يستقر خلفها. وعندما نقول امكانية ان يكون المضمون (موضوعا) لادراك فهي فرضية خاطئة فالمضمون لا يكون موضوعا لادراك لا يحتويه اي يؤطره (شكل) الذي هو الصفات الخارجية للشيء.

بيركلي والادراك

من مقولات بيركلي المثالية (وجود الشيء هو قابليته ان يكون موضوعا لادراك) وهي مقولة خاطئة كما نوضحه لاحقا..وجود الشيء لا تحدده صفة ذاتية ان يكون موضوعا لادراك. بل وجود الشيء موضوعا ندركه من خاصية موجوديته الانطولوجية التي يدركها الحس والعقل. وليس كما ذهب له بيركلي وجود الشيء هو قابليته ان يكون موضوعا لادراك. كل موجود شيئي مادي هو قابل للادراك بارادة عقلية من خارجه عليه وليست فيه.

كما ان خاصية ان يمتلك وجود الشيء قابلية ادراكه ذاتيا ليست صحيحة .فقابلية الادراك يحددها الحس والوعي الخارجي عنه ولا تمتلكه الاشياء المدركة بذاتها. ولا يفرض الشيء قابلية ادراكه الزائفة على الحواس والعقل لتكون صفة به كموجود.

النقطة الاخيرة من يحدد ان يكون الموجود موضوعا للادراك؟ هل يحدد ذلك مضمونه (جوهره)؟ ام يحدده الشكل الخارجي الصفات المدركة له؟. الحقيقة ان الشكل الخارجي او الصفات الخارجية للموجودات تجعل منها موضوعا ماديا تدركه الحواس ويدركه العقل. اما جوهر او ماهية اي شيء لا يكون موضوعا لا للحواس ولا للعقل الا في ظروف استثنائية كونه لا يدرك معرفيا بينما صفات الشيء الخارجية تكون موضوعا لادراكات حسيّة انطباعية.

الادراك الحسي لا يدرك مواضيعه لمعرفة مضامينها الجوهرية. بل إدراك الحواس ينحصر بالصفات الخارجية للشيء فقط. وادراك الشيء حسب بيركلي هو ادراك كينونة موجودية موحدة شكلا اي صفات خارجية وماهية أي جوهر. وهما كينونة موحدة غير قابلة للانفصال لانها بالانفصال تفقد وجودها الانطولوجي. خلاصة ماذكرناه بالضد من بيركلي يمكننا تلخيصه بنقطتين:

الاولى وجود الشيء تحدد قابلية ادراكه ليس كونه موجودا لا تحدد ادراكه الحواس والعقل.الثانية وجود الشيء الحقيقي هو عندما يكون موضوعا يحتوي شكل ومضمون له معنى. فالحواس والعقل لا يدركان موضوعا لا وجود حقيقي له لا على صعيد المادة ولا على صعيد الخيال... انعدام التفكير مصدره القبلي انك لا تمتلك موضوعا تفّكر به.

كيف نفهم الادراك؟

يصادفنا احيانا ما لا حصر له من موجودات واشياء مادية وهي ليست من صنع الخيال يكون ادراكنا لصفاتها الخارجية كاف ويغني او يبطل اهمية البحث  عن الجوهر بما وراء الصفات الخارجية لذلك الشيء. اي هل يحمل الشيء مضمونا لا تدركه الحواس مدّخرا هو غير صفاتها الخارجية؟

الادراك الحسي لا يدرك مواضيعه في معرفة مضامينها بل يكتفي بادركها كلية موجودية مستقلة موحدة الصفات والمضمون. ورغم مثالية بيركلي الساذجة فهو قال بالواحدية الادراكية الصحيحة. اي ان ادراك الشيء حسب نظرية بيركلي هو ادراك لكينونة موجودية تدرك بصفاتها الخارجية تغني البحث عما وراء تلك الصفات من ماهية او جوهر.. اي ان الادراك الواحدي لا يهتم بوجود جوهر خلف الصفات الخارجية ام لا.

وسبق لديكارت ان قال بخلاف بيركلي بما اطلق عليه الثنائية الادراكية قوله انه لا وجود لادراك يدرك الكينونة الموجودية بصفاتها مع ادراكه لجوهرها. هذه النظرية اخذت بها الوجودية والماركسية على السواء. بمعنى ادراك صفات الشيء الخارجية يغنيك عن البحث فيما وراء تلك الصفات.

جورج مور والادراك

جورج مور طرح اشكالية بحثية حول الادراك قوله ان الاشياء في وجودها الانطولوجي المستقل تحمل معها قابلية الادراك لها. وهي عبارة ليست صحيحة ولا دقيقة للاسباب:

- وجود الشيء تحدد قابليته الادراكية الحواس والعقل. ولا تمتلك الموجودات قابلية ادراكها ذاتيا معها في حمولة موجوديتها.

- وجود الشيء حين يكون موضوعا للادراك الحسي والعقلي اي الانطباعي والمعرفي لا يكون مخلوقا ناتج التفكير به وادراكه. بمعنى ادراك الشيء ليست صفة ذاتية يمتلكها وانما هو اي الادراك او سمها ما شئت قابلية الادراك هي انطباع حسي ومعرفي تخلعه الحواس والعقل على مدركاتهما.

- لا اعرف كيف يطرح جورج مور سؤاله المعقد الجدالي هو لماذا لا يكون في امكانية المضامين الحسية ان توجد دون ان تكون هي الاخرى موضوعا لادراك؟

انه لمن المهم الاقرار بعدم امكانية الادراك ذاتيا اي يقوم بنفسه فصل مدركاته الى صفات خارجية تكون موضوعا منفصلا مستقلا لوحده ومضامين وصفها مور (حسية) ولو كانت حسية لاصبحت موضوعا لادراك ولا مشكلة بذلك حينها. اي ان ادراك الشيء والوعي به لا فرق بينهما وهو خطأ جسيم جرى توضيحنا له.

المضامين هي جواهر مدّخرة في الكليّة الكينونية للموجود في استقلاليته الانطولوجية غير قابلة الاندماج مع الصفات الخارجية له ولا يقبل مضمون الشيء التجزئة الى شكل ومحتوى حينها يكون كلاهما موضوعين لادراك. المضمون بلا شكل يؤطره ويحتويه لا يمكن ان يكتسب صفة الموضوع المستقل الوجود.

كما وليس من الثابت ان لكل شيء او موجود ماديا في عالمنا الخارجي يحتوي مضامين حسيّة هي الماهية او الجوهر الذي لا يكون موضوعا لادراك. المضامين الحسية اي المحتويات هي جزء جوهري تكويني من موضوع مدرك في كليته وليس منقسما على نفسه كصفات خارجية وجوهر محجوب خلفها. لذا من المحال ادراك الجواهر او الماهيّات بالاشياء بنفس آلية ادرك الصفات.

***

علي محمد اليوسف

 

حين أصدر عالم الاجتماع الإيطالي سابينو أكوافيفا كتاب "أفول المقدّس في الحضارة الصناعية" (1961)، بدا حينها بمثابة النعي للدّين في مجتمعات أوروبية تحثّ الخطى نحو "اللاتدين" و"العلمنة". ولكن تداعيات العولمة على أوروبا في الزمن الراهن أملت إعادة نظر في صيغة العلاقة ومضامينها بين دائرة الإيمان الخصوصية ودائرة السياسة العمومية. لتلوح بوادر رهان على وظائف مغايرة للدين في مجتمعات تشرّبت العلمانية، وتعيش في أجواء مناخات ما بعد العلمانية. وهو جوهر ما تطرّق إليه كلّ من شارل تايلور ويورغن هابرماس في حقبتنا الحالية، عن شيوع نمط جديدٍ من التعايش بين الدين والعلمنة يتغاير مع ما ساد سلفًا. بما يحثّ على تجاوز النظر "العلمانوي" للحداثة، جرّاء حضور الدين في الفضاء العمومي الذي أضحى واضحا وجليّا.

ولربما لإحاطة أشمل بالموضوع، ينبغي تناول العلاقة المستجدّة بين الديني والسياسي ضمن إطار التحول الجاري داخل مرحلة تاريخية. فقد قيل إن الإنسان هو "كائن متديّن"، وقيل أيضا هو "كائن سياسي" أو "مدني"، والواقع أن الإنسان هو تلك العناصر وغيرها مجتمعة، بما يجعل المحدّدات القابعة خلف السلوك البشري لا تعرف الانحباس تحت لون واحد. وضمن السياق المسيحي، الغربي تحديدا، عاد في العقود الأخير مصطلح اللاهوت السياسي للتداول، وإن كان المفهوم يرمي بجذوره بعيدا في طروحات القديس أوغسطين الإفريقي. اُستعيدت الأطروحة في نطاق البحث عن إضفاء شرعية على الممارسة السياسية مع كارل شميت، وكذلك في نطاق التوظيف اليساري للدين مع لاهوت التحرر، وبالمثل في نطاق التوظيف اليميني المكثّف مع السياسات الأمريكية المتعاقبة منذ عهد الرئيس كارتر. لكن الملاحظ أن اللاهوت السياسي العائد يتّسم بطابعين: لاهوت سياسي عمودي على غرار ما يدعو إليه شميت، بحثا عن بثّ حيوية في النظام الليبرالي؛ ولاهوت سياسي أفقي، يمكن إدراج هابرماس وتايلور وتوكفيل ضمن أنصاره، يسعى إلى بناء توازنات مستجدّة داخل الفضاء العمومي.

والسؤال الذي يعنينا بالأساس هو ما معنى أن يطلّ الدين على السياسة في أوروبا اليوم؟ ليست المسألة أَنْجَلة للسياسة أو تسييسا للمسيحية بطريقة اقتحامية فجّة، وإنما تأتي العملية سياقية، يتعايش فيها أحد المكوّنَين مع الآخر بطريقة متداخلة وبطيئة، ويغدو الدين مخزونا أنثروبولوجيا معبّرا عن خصوصيات هوية وليس تعاليم عقدية أو منظورات لاهوتية صارمة.

إذ منذ محاوَرة البابا المستقيل راتسينغر الفيلسوف هابرماس في موناكو (2004)، تحت شعار "حوار العقل والإيمان"، طفت على سطح الفكر الأوروبي إرهاصات لافتة في علاقة الدين بالسياسة. وغدا الخطاب السياسي مستعيرا جملة من المفاهيم والمقولات الدينية، بعد أن كان حضورها ضئيلا أو منعدما. وفي الجوهر بدا سؤال إلى أين تجرّ العلمانية أوروبا حاضرا بقوة؟ لا سيما وأن مصائر العلمانية المتشدّدة، خصوصا في شكلها اللائكي اليعقوبي، جرّت فئات واسعة إلى العدمية وحكمت على مسارات ديمقراطية بالتميّع أو الخواء. فالغرب "البراغماتي" بدا متشكّكا من مؤدى خياراته طيلة العقود الفائتة. لا سيما وأن الجسم السياسي الأوروبي يتحرك داخل خارطة سياسية ذات مشارب إيديولوجية متنوعة، ويعبّر عن روافد شتى وتوجهات عدة تبلغ حدّ التنافر. كما أنه يشتغل داخل ضوابط سياسية يُطلَق عليها تجوزا العلمانية أو اللائكية، وهي في واقع الأمر نظام اشتغال ارتضاه الجميع، وبات متقاسَما بين سائر المكوَّنات بمختلف خلفياتها اليمينية واليسارية والدينية واللادينية.

وليس المقصودُ بإدخال تحويرات في علاقة الدين بالسياسة، في زمن وَهَن الديمقراطية، ثأرَ الدين أو اندحارَ العَلْمَنة، كما قد يُصوَّر الأمر أحيانا، وإنما تجري الأمور ضمن ما تقتضيه مصلحةُ الدولة المعاصرة من دمج الفاعلين الاجتماعيّين الناطقين باسم الخيارات الدينية في المجال العموميّ -وإن واصلت الدولة تكريسَ التمايزِ بين مجالي السياسة والدين-. مقدّرةً ما يمكن أن تسهم به الأطراف الدينية في إرساء وفاقٍ أخلاقيٍّ قوامه المبادئ الديمقراطية. وبشكل لا يعبّر عن تنصّل الدولة من الدين، أو تكريس الخصومة معه، وإنما ضمن إقرارٍ بدوره وفاعليته وإسهامه. وليَقبل العلمانيُّ التحاورَ مع حمَلة الرؤى الدينيّة، والعكس أيضا، شَرْط ألاّ يدّعي أيّ من الطرفين أنّه الأوحد، أو يُمْلي على الجميع رؤيتَه بوساطة الغَلبة. ويأتي تعزّز دور الدين في أوروبا المعاصرة بعد فتور في النسيج المجتمعي، في المجمل، جراء أزمة الديمقراطيات الغربية والبحث عن نوع من الصلابة الغائبة في القيم التي يتطلّع المجتمع إلى ترسيخها.

غدا هذا المفتقَد متداوَلا ومتكرّرا في خطابات رأس الكنيسة الكبرى في الغرب. فمع قداسة البابا فرنسيس تحضر السياسة جلية في مفردات قاموسه، حتى باتت جملة من المفاهيم متواترة في رسائله وعظاته بشأن معالجة قضايا السياسة، على غرار مقولات الاهتداء الإيكولوجي، واقتصاد العزل، وتعولم اللامبالاة، ووثنية الدينار، والتطبيع مع البؤس، وهامش العالم، والحرب العالمية المجزَّأة، وهي تمظهرات وعي يصنع البابا من خلالها نظرته إلى السياسة في العالم.

إذ تبدو أوروبا في الزمن الحالي مدعوة إلى مراجعات عميقة، فالصيغة الدينية السياسية التي سادت في "الزمن العلماني" أمام مراجعات منشودة للحيلولة دون تفاقم ترهّل السياسة من جانب، وتقليص العبء على الدولة من جانب آخر، لا سيما وأن حضور الدين في أوروبا أضحى جليا في تحسين أوضاع الناس المعيشية بعد الاستهانة بذلك الدور على مدى عقود. فعلى أساس إسهام الأديان في المشروع الأوروبي الاجتماعي والتربوي والتعليمي والخدماتي، يمكن الحديث عن دور ملحوظ، فرّطت فيه الدولة تحت مبرر لائكية الدولة وحيادها. وأن عودة الدين ليست نفيا للحداثة، من خلال إبراز مخاطر التشدد، إذ الملاحظ أنّ هذا المظهر هو مجرد انحراف داخل إطار عام يمكن إصلاحه وتفاديه.

وفي ظلّ التبدّل الذي يشوب علاقة الديني بالسياسي في أوروبا المعاصرة، يتبادر إلى الذهن التساؤل عن الأرضية التي تقف عليها القارة في الراهن، حتى وإن ظلّت الأزمات الاجتماعية المتراكمة والمعالجات السياسية المرتبكة سرعان ما تُحوّل الإجابة إلى ملفّ أمني يدفع ضريبتها الدخيل الوافد. هل ما زالت أرضية التراث اليهودي المسيحي المهيمنة والطاغية أمْ جرت في النهر مياه مغايرة؟ المسلمون بمفردهم في أوروبا سيناهزون بحلول العام 2030 أربعين مليون مواطن، بحسب تقديرات مركز “The Pew Forum on Religion and Public Life” الأمريكي، ناهيك عن انحشار تقاليد دينية أخرى في أوروبا، وظهور أشكال جديدة من التديّن، ومن هذا الباب هل يجوز تواصل التنكر أو النفي للهويات المتحولة؟

في كتاب أصدره عالم الاجتماع الأمريكي رودناي ستارك بعنوان "انتصار الإيمان" (2017)، وهو للذكر من أبرز دعاة "تحرير السوق الدينية"، أبرز فيه أن حالة "اللاتدين" في أوروبا، أي الوجه الرائج والمروَّج، لا تعبّر عن الواقع الحقيقي، أوّلًا في ظلّ اعتماد معايير لا تتلاءم بدقة مع توصيف الظواهر ورصدها، وثانيًا في ظلّ مونوبول الدين واحتكاره من قِبل مؤسسات دينية متحالفة ضمنيا مع السياسات الدينية التقليدية في تلك المجتمعات، تضيّق على التقاليد الحاضرة في أحضان القارة، سواء المتأتية منها جراء الهجرة أو بموجب التولدات الحاصلة من داخل البنية الدينية المسيحية.

وعلى هذا الأساس، فالدين في المجتمعات الأوروبية المعاصرة ما عاد حديثا عن موروث مسيحي مطعَّم بنكهة يهودية، ومدجَّن وفق ضوابط العلمنة؛ بل أضحى الإسلام مع تحولات الهجرة عنصرا إضافيا، ناهيك عن تقاليد دينية أخرى وافدة من العالم الصيني الهندي. هذه العناصر الأصيلة والدخيلة التي بات جميعها مستوطنا في أوروبا المعاصرة، ما فتئت تطرح نقاشات وجدالات وتساؤلات متنوعة بشأن مفهوم السياسة، ومدلول الفعل السياسي، وتكريس التعددية في القارة، بما يذكي الحديث عن مقتضيات مراجعة العلاقة بين الديني والدنيوي التي سادت في عقود سالفة، وإعادة تعريف الحداثة بدلالات مغايرة.

ولإحاطة رصينة بما يجري من تبدّل في أوروبا، والغرب عامة، حريّ أن يكون المنظور مواكبا لا ثابتا ومنفتحا لا منغلقا. لأن علاقة الدين بالسياسة في أوروبا متفاوتة وليست متماثلة، فالعلمانية علمانيات، ومستويات الفصل والمزج بين الدين والسياسة متغايرة من مجتمع إلى آخر. ويمكن إلقاء نظرة خاطفة على الدساتير الأوروبية، في مسألة الدين، لتبيّن الفوارق الجمة بين المجتمعات في حضور الدين ودوره، ومن ثَمّ ليست هناك معيارية واحدة في العلاقة تنسحب على الجميع. فعلى سبيل الذكر تتجذر في السياسة الفرنسية علاقة عصابية مع الدين/ الأديان، في حين تسود في إيطاليا علاقة وفاقية، وأما في بريطانيا وألمانيا وسائر الدول الأسكندنافية فتعرف العلاقة صبغة تعايشية. والإشكال أن الدولة الخصامية مع الدين، تتطلّع إلى تصدير نموذجها، وتعرض سياساتها على أساس أنها المثال والترجمة للمجتمع الحداثي المنشود. وقد يعرف الناس في فرنسا -بالكاد- اسم رئيس الأساقفة في منطقة معينة، ولكن الأساقفة والكرادلة في إيطاليا أو إسبانيا لا يزالون شخصيات عمومية حاضرة بتأثيرها الجلي في الساحة الاجتماعية. ناهيك عن دولة كفرنسا تحضر فيها صورة الدين في الزمن الحالي في "قضية الإسلام" التي ما إن تسوّى من جانب حتى تطلّ من جانب آخر، ولم ينفع فيها مستشارو الإسلام الوظيفيون وخبراؤه في التهدئة أو التسوية.

وفي ظل تسرّب الوهن الجلي للديمقراطيات الأوروبية في العقود الأخيرة، وجد الدين حضورا في حضن الساحة السياسية، وربما توظيفا من أطراف بهدف البحث عن سند ودعم. وتبدو مصالحات العلمانية الأوروبية مع الدين براغماتية أحيانا، نظرًا لزخم حضور المؤسسات الدينية في المجتمع مثل مؤسسات "الكاريتاس" و"فوكولاري" و"سانت إيجيديو" و"كومونيون وليبيراسيون". فأمام إسهام الكنائس القوي في الفضاءات الاجتماعية والتربوية والتعليمية، أضحى التوجه الديني بالغ الأثر وجليا. وهو ما جعل الأحزاب المأزومة والهشّة تبحث عن دعامات خارج قواعدها المألوفة، الشعبية والعمالية، في أرضية كنسية أكثر صلابة. فأوروبا المعاصرة المرتبكة، كأنها تجد في تقريب الدين الحائل دون تميّع أكثر واهتراء داهم. إذ تبدو الروابط المتأسّسة على السياسي والاقتصادي عرضة للاهتزاز والخلاف، وهو ما يدفع إلى العودة نحو بنية أكثر إيغالا للخروج من المأزق.

فما من شك أن الدين يمثّل دعامة كبرى، وإن طمَس النزوع العلماني ذلك الدور وأخفاه، وهو الأمر الذي جعل الدولة تفتّش عن مصادر قوة في المؤسسات الدينية وفي ممثّليها وناشطيها وقياداتها. في إيطاليا في الفترة الأخيرة جرى تكليف رجل الدين "العلماني" أندريا ريكاردي، الزعيم التاريخي لمؤسسة "سانت إيجيديو"، بمهام مؤسسة "دانتي أليغييري" المعنية بترويج اللغة والثقافة الإيطالية في العالم، وكأن الدولة تستنجد بالسّند الديني في نشر مخزونها الحضاري بعد تقاعس المثقف العلماني عن المهمة المنوطة بعهدته.

مع هذا التحول في أوروبا، تبرز مقارنة بسيطة بين أمريكا وأوروبا أنّ حضور الدين في السياسة في أوروبا لا يزال محتشما قياسا بالمستويات المتقدّمة التي يعيشها واقع "الدين المدني" في أمريكا. وقد كان الأستاذ مختار بن بركة، المدرّس في جامعة فالنسيان في فرنسا، قد تناول الأمر بالتفصيل في العديد من المؤلفات مبيّنا المستويات المتفاوتة، لكن الأمر في أوروبا يبدو وكأنّه يسير بخطى متسارعة مقلدا النموذج الأمريكي.

***

د. عزالدّين عناية

أستاذ تونسي بجامعة روما، إيطاليا

 

مقدمة: إن دخولنا في المنهج الفلسفي الحقيقي يعود تاريخه إلى اليوم الذي رفضنا فيه الحلول اللفظية، بعد أن وجدنا في الحياة الداخلية مجالًا أولًا للتجربة. هكذا تحدث هنري برجسن في الفكر والمتحرك. وإذا أردنا تعريف الاختصاص الفلسفي بطرح الأسئلة الجدية المحيرة وترك الأجوبة العادية الفارغة فإننا نذكر الحادثة التالية: " أحد المارة يسير في الشارع ويسأل أحدهم عن الوقت. فيجيب الآخر، الفيلسوف: “ولكن ما هو الزمن؟ ". ولتحديد طبيعة كل شيء نحتاج الى معرفة خصائص الفلسفة والبحث عماهي؟

أولا: طبيعة الفلسفة

1- لكل إنسان فلسفة عفوية:

الفلسفة هي نظام جديد بالنسبة لك. ربما لاحظت أنه يثير فيك أو في من حولك الفضول والخوف معًا، ولكنه أيضًا يثير سخرية متنوعة (راجع الشخصية الكاريكاتورية لبانغلوس في "كانديد" لفولتير الذي يدعي أنه يعلم "علم الميتافيزيقيا واللاهوت وعلم الكونيات"). الفضول لأن الكثير من الناس يشعرون أنه يتطرق إلى أسئلة أساسية دون معرفة أي منها بالضبط. السخرية، لأن الفيلسوف معروف بكونه شخصًا، يغذي نفسه بالتجريد، وغالبًا ما يكون غير مناسب للحياة العادية، ويطرح أسئلة بعيدة كل البعد عن هموم الحياة اليومية ويقترح إجابات معقدة وغير مفهومة للبشر العاديين. لتوضيح أي سوء فهم، لنبدأ بملاحظة بسيطة: أنت وكل شخص تعرفه لديك آراء في مجموعة واسعة من المجالات. يشير كل واحد منا إلى القيم الأخلاقية، على سبيل المثال عندما نعجب بهذا السلوك أو ذاك أو نشعر بالفزع منه، أو عندما نتحدث علنًا عن قضايا حساسة مثل عقوبة الإعدام، والقتل الرحيم، وحماية البيئة، والأخلاق، وما إلى ذلك. كل هذه الآراء تسترشد بفكرة معينة عن الخير والشر، بقناعات حميمة، ورثناها بالتأكيد من تعليمنا، من بيئتنا، لكننا صنعناها بأنفسنا. إن مجموعة هذه الآراء، التي نعتبرها مبررة بصدق، والتي توجه حياتنا وتنظمها، تشكل فلسفة. على هذا النحو، كل إنسان هو فيلسوف ويمارس الفلسفة كما نثر السيد جوردان، أي دون أن يعرف ذلك، بل والأكثر من ذلك: الجميع يسألون أنفسهم أسئلة فلسفية، سواء حول الموت أو السعادة أو الوقت أو حتى أصل الأشياء.

2- الفلسفة العفوية والفلسفة النقدية:

كل هذه الآراء تشكل فلسفة عفوية. هذا لا يعني أن الأشخاص المعنيين لا يفكرون، لكن آرائهم تعتمد في معظم الأحيان على التقاليد والتعليم الذي تلقوه والخبرة الحياتية والتأثيرات التي مروا بها وليس على تفكير منهجي وشخصي من شأنه أن يربط بين هذه الآراء المختلفة ويربطها. وربطها بمبادئ مشتركة ومدروسة بعناية والتي اعتدنا أن نسميها بأسماء الأسس. ليست هذه الآراء مجزأة ومستقلة عن بعضها البعض فحسب، بل إنها لا تجد مبررها وتماسكها ووحدتها بالنسبة إلى المبادئ الأولى التي ندركها، والتي تنتج عن تفكيرنا الشخصي والتي نلتزم بها بشكل عام. مدروس ومعقول. ومن ناحية أخرى، إذا اتخذنا هذه الخطوة لإعادة اكتشاف الجذور المشتركة لجميع آرائنا من خلال طرح السؤال النقدي على أنفسنا: "من أين يأتي ما أفكر فيه وما أؤمن به؟ "، ثم انتقلنا إلى فلسفة صريحة واعية بذاتها (ولم تعد عفوية)، باختصار إلى موقف فكري ونقدي نحتفظ له عادة باسم الفلسفة. لقد صاغ الفيلسوف الإيطالي غرامشي هذا السؤال بشكل مشهور: هل من الأفضل أن "نفكر" دون أن يكون لدينا وعي نقدي به، بطريقة مفصلة وعرضية، أي "المشاركة" في تصور للعالم "المفروض" ميكانيكيا من قبل العالم الخارجي، في بعبارة أخرى من قبل إحدى المجموعات الاجتماعية العديدة التي يرى كل فرد نفسه منخرطًا فيها تلقائيًا منذ دخوله إلى العالم الواعي ... أم أنه من الأفضل تطوير تصوره الخاص عن العالم بطريقة واعية ونقدية وبالتالي فيما يتعلق بـ هذا العمل الذي يدين به المرء لعقله... للمشاركة بنشاط في إنتاج تاريخ العالم، ليكون مرشدًا لنفسه بدلاً من القبول السلبي والجبان بوضع الختم خارج شخصيتنا؟ ".  مقتطف من غرامشي من “الكتاب 11” في دفاتر السجون، المجلد الثالث.

3- ولادة الفلسفة ودور العقل:

أ. الفلسفة كمقاربة ومطلب عقلاني:

نحن نفهم بشكل أفضل قليلاً ما هي الفلسفة. إن أصل الكلمة من ناحية وأصولها التاريخية من ناحية أخرى سوف يوضح معناها. الفلسفة تعني اشتقاقيًا "الحب أو البحث (فيلو) عن الحكمة (صوفيا)". تقليديا، الحكمة هي مجموعة من المعرفة، غالبا ما تعتبر مملوكة لكبار السن أو للأجيال السابقة، أولئك الذين لديهم خبرة في الحياة والتي تهدف إلى إرشادنا في وجودنا، لمعرفة كيفية التصرف من أجل افتراض ذلك في العالم. أفضل طريقة وتجلب لنا أكبر قدر ممكن من الرضا. لقد طورت جميع الحضارات حكمة مفهومة، وغالبًا ما تكون مستوحاة بشكل أساسي من المعتقدات الدينية السائدة، ومع ذلك، تعتبر الفلسفة تقليديًا من اختراع اليونانيين في القرن الخامس قبل الميلاد. ومن أين يأتي هذا التكريم المخصص لليونانيين في هذا العصر؟ لقد اخترعوا الرياضيات إلى حد أن القضية تعتبر كذلك إذا كان من الممكن إثباتها. لقد اخترع اليونانيون المظاهرة. حتى ذلك الحين، كانت المعرفة الرياضية تعتمد على الخبرة والملاحظة؛ وباختصار، كانت ذات طبيعة تجريبية. الشيء نفسه ينطبق على الفلسفة. لم تعد الحكمة المدروسة مبنية على التقاليد، أو على المعتقدات الدينية، أو على تجربة الحياة، بل على التفكير العقلاني حصريًا. هل هذا يعني أن العقل يمنحنا معرفة بالموضوع أم مجرد معتقدات عقلانية؟ وقد اختلفت الاستنتاجات حول هذه النقطة. لكن ما يبقى مشتركًا بين جميع الفلاسفة، سواء كانوا يثقون بالعقل من أجل تطوير الحكمة أو سواء كانوا ينتقدون إمكانياته أو يشككون فيه بشكل جذري، فإنهم جميعًا يستخدمونه للوصول إلى استنتاجاتهم. ومن هنا نفهم أصالة الخطاب الفلسفي. وظيفة الأخير هي شرح وتبرير هذه المبادئ الأولى الشهيرة، هذه الجذور، هذه الأسس التي تؤدي إلى ترتيب جميع استنتاجاتنا في أي مجال، ومنحها التماسك والدقة، وربطها معًا، وبالتالي إعطائها طابعًا منظمًا. وهكذا تتميز الفلسفة عن الأدب البسيط، ومنها ما هو ملتزم، والذي يعبر عن قناعات دينية وسياسية وأخلاقية بمناسبة رواية أو مسرحية أو سيرة ذاتية أو حتى قصة تاريخية. لأن جميع الأفكار المعبر عنها عبر الصفحات لا تتمتع بهذا الطابع المنهجي والمنظم والحصري لأي اعتبار آخر، وخاصة الجمالي أو الرومانسي. يجب شرح الفلسفة الواردة فيه وتوليفها ووضعها في منظورها الصحيح. ومن باب أولى، تتميز الفلسفة المعرفة على هذا النحو عن الآراء البسيطة الموروثة من تعليمنا أو تجربتنا الشخصية، لأنه لا توجد فلسفة حقيقية دون تفكير يتم على أسس آرائنا ويسترشد بالعقل. عندها لم تعد آراؤنا تعتبر كذلك، بل كشكل من أشكال المعرفة، وهي بالتأكيد قابلة للنقاش ولكنها بداية للمعرفة.

ب. الأسئلة الأساسية للفلسفة:

 في القرن الثامن عشر، اقترح كانط في كتابه المنطق تجميع الأسئلة الفلسفية حول ثلاثة أقطاب:

 1. “ماذا يمكنني أن أعرف؟" سؤال يتعلق بقدرات الفكر الإنساني للإجابة على الأسئلة التي يطرحها حول أسرار الطبيعة وخاصة حول إمكانيات العلم وحدوده، حول معنى مصير الإنسان، وخاصة الموت، حول وجود أو عدم وجود إله أو أكثر، عن أصل الكون، عن الكائنات الحية، عن طبيعة العقل، الخ.)

2. "ماذا عليّ أن أفعل؟" سؤال يتعلق بالسعادة الفردية، والقيم الأخلاقية، والأهداف السياسية، والمشاكل الاجتماعية مثل الاستنساخ، والقتل الرحيم، والأبوة المشابهة، وعقوبة الإعدام، واستخدام التقنيات الجديدة، وما إلى ذلك.)

3. "ما الذي يمكنني أن آمله؟ " سؤال يتعلق بمعنى الوجود، والقيم الأخلاقية العليا، والجمال، والمتع الحسية، وأفراح المعرفة، وسعادة المحبة والمحبة والاعتراف الخ، كل هذا يشير إلى هل له معنى يتجاوزنا، التعالي، والأمل، والمحدودية وما إلى ذلك.

وأضاف أن هذه الأسئلة الأساسية الثلاثة يمكن تلخيصها فيما يلي: “ما هو الإنسان؟ "

هذه الأسئلة هي الأكثر جذرية، ويمكن تصنيفها لأنها تلك التي تذهب إلى أبعد من التساؤل، والتي تثير مشكلة "لماذا"، وسبب وجود كل الأشياء، وطبيعتها الحميمة، وقيمتها، وسبب وجودها. معناها بالنسبة للمغامرة الإنسانية. وفي هذا الصدد، فإن أي سؤال فلسفي يصل إلى نهاية مشروعه، ولا يتوقف على طول الطريق، يؤدي بالضرورة إلى أسئلة ميتافيزيقية تتجاوز التجربة البسيطة والبساطة كيف لصالح لماذا. غوسدورف، فيلسوف فرنسي من القرن العشرين، يعرّف التساؤل الميتافيزيقي على النحو التالي:

"في كل مرة نفسر طبيعة الإنسان ومصيره، في كل مرة طرحنا فرضية حول حقيقة الكون، في كل مرة راهننا فيها على الله أو عليه، استقراءنا، نطقنا على الغايات النهائية للإنسان. إننا نعطي معنى للوجود من خلال طرح سؤال "لماذا" وليس سؤال "كيف". لا يبدو أنه يمكن التغلب على هذا السؤال حول السبب..."مقتطف من كتاب غوسدورف، الأسطورة والميتافيزيقا، مقدمة

ومن هنا يمكن أن ندرك أن العديد من المجالات (السياسة والجماليات والأخلاق وغيرها) تروى بالميتافيزيقا ولكن أيضًا العلوم دون معارفها وأديانها، وهو ما يشير إلى الطابع الشمولي لما سمي منذ أرسطو الأول بالفلسفة أو الميتافيزيقا.

ثانيا: فائدة الفلسفة

1- فائدة الفلسفة في البحث عن خيرنا

 "ما الفائدة؟" ". الجواب: من أجل العيش بأفضل ما يمكن. نحن نميل إلى الاعتقاد بأنه من المهم معرفة تجربة الأجيال السابقة، للاندماج الجيد في المجتمع الذي نعيش فيه، وبالتالي معرفة عاداته وقوانينه، بل ووسائل التحايل عليه عند ذلك يناسبنا، أن نضع أنفسنا في أعلى مكان ممكن في التسلسل الهرمي الاجتماعي، للحصول على أكبر عدد ممكن من الملذات دون الانزعاج من المبادئ المقيدة، والاستعداد لكل هذا لتلقي تعليم جيد حيث يمكن للفلسفة أن تأخذ مكانها إذا روجت. خفة العقل لدينا. وهذا أيضًا هو وجهة النظر التي يدعمها كاليكلاس، وهو شخصية في حوار غورجياس الأفلاطوني، سطر 484ب-485ج، والذي يعبر عن أطروحة الرأي العام حول فائدة الفلسفة من خلال معارضة سقراط، الذي يجسد الفلسفة، وهو هيرالد: "من الجيد معرفة الفلسفة بقدر ما تخدم التعليم، وليس هناك عيب في التفلسف عندما تكون شابًا. لكن الشخص الناضج الذي يستمر في الفلسفة يفعل شيئًا سخيفًا، يا سقراط، ومن جهتي، لدي نفس الشعور تجاه هؤلاء الناس مثل الشخص الناضج الذي يتلعثم ويلعب مثل الطفل. الشخص الراشد الذي يتلعثم ويلعب هو أمر مثير للسخرية؛ إنه ليس انساناً، نريد أن نجلده." يحتوي هذا التحليل، الذي يبدو منطقيًا وبسيطًا، على العديد من أوجه القصور الرئيسية عند التفكير فيه. وهي في الواقع تركز على أفضل الوسائل لتحقيق أهدافها. والآن، ما هي الغاية النهائية التي يسعى كل إنسان إلى تحقيقها، إن لم تكن السعادة، أو خيره، أو على الأقل أعلى أنواع الرضا التي يمكن أن يحققها له الوجود؟

2. ليس عالمة ولا جاهلة: الفلسفة رغبة

دعونا نتذكر أن كل الرغبة تولد من النقص. والآن، الرغبة الأولى، الرغبة الأسمى: هي أن تكون سعيدًا.

"جميعنا، ما دامنا كذلك، نريد أن نكون سعداء" هذا ما أعلنه أفلاطون في محاورة الجمهورية، الكتاب الثاني، 365 د. وللقيام بذلك، علينا أن نفكر في الأهداف التي يجب أن نضعها لأنفسنا وكذلك أفضل الوسائل لتحقيقها. الغايات والوسائل ليست واضحة. وعلى هذا النحو، فإن هذا التأمل لا يقتصر على فترة الشباب. من منا لا يرى أن كل فترة من الحياة تثير مشاكل معينة؟ أولئك الذين يعيشون في مرحلة المراهقة (فترة حياتكم ذات طبيعة برية وبالتالي خصبة فلسفيًا)، أولئك الذين يتمتعون بالأصالة، أولئك الذين يهربون من العمل والتفكير العاديين، الذين تحتكرهم الاهتمامات العملية والحدود التي يقدمها الإدراك والحس السليم. كما تؤكد التحليلات السابقة أن التفكير الفلسفي غير قادر على تقديم إجابات (على الأقل نهائية)، ولكن من ناحية أخرى، فإن مهمته هي الوعي، وبالتالي طرح الأسئلة ذات الصلة التي يطرحها مصير الإنسان والكون في داخله حيث يتم إدراج هذا المصير (مسألة انعكاسية الوعي). وقد حدد أفلاطون في محاورة المادبة من سطر204 أ المشكلة بوضوح من خلال شخصية ديوتيما في تحديد طبيعة الفلسفة وأهدافها: “لا أحد من الآلهة يتفلسف ولا يرغب في أن يصبح متعلمًا، لأنه كذلك: وبشكل عام، إذا كان الإنسان متعلمًا، فهو لا يتفلسف؛ والجاهل أيضًا لا يتفلسف ولا يرغب في أن يصبح متعلمًا؛ لأن الجهل على وجه التحديد لديه الشيء المؤسف، وهو أننا، ليس لدينا الجمال ولا الخير ولا المعرفة، نعتقد أننا قد وهبنا ذلك بما فيه الكفاية. والآن، عندما لا نعتقد أننا نفتقر إلى شيء ما، فإننا لا نرغب فيه. سألت (سقراط): “فمن هم إذن يا ديوتيما المتفلسفون، إذا لم يكونوا عالمين ولا جاهلين؟ » فأجابت: "حتى الطفل سيفهم على الفور أن هؤلاء الذين هم بين الاثنين ...". مقتطف من  أفلاطون، محاورة المأدبة، ترجمة إي. شامبري، طبعة غارنييه، 1988، 204أ.

خاتمة

"لا يمكن للفلسفة إلا أن تكون محاولة للاندماج مرة أخرى في الكل" هنري برجسن، التطور المبدع.

كان بإمكان معلم الفلسفة الخاص بك أن يقنعك بأن الفلسفة ضرورية لتكون سعيدًا، أو أنها تسمح بتنمية المعرفة والمهارات، أو أنها توفر مصدرًا أقوى وأدوم للمتعة من المتعة الجسدية البسيطة. ومع ذلك، فإن التأمل الجدلي لشوبنهاور الذي أعلن أنه "كلما كان الإنسان أقل ذكاءً، قل غموض الوجود بالنسبة له" يبدو مناسبًا لأنه يحتوي على شكل من أشكال الحتمية النبيلة للفلسفة. لذلك يمكننا أن نضيف بطريقة أكثر مباشرة أن هدف الفلسفة يتمثل في محاربة الغباء، وهذا الغياب للتفكير الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى شكل مزعج وغير مبرر من الأهمية الذاتية. فهنا برنامج واسع هو منبع التميز والرفعة والكرم في كلمة واحدة: السعادة. ولكن ما هي السعادة؟ وماذا عن جوهرها؟ ماهي معاييره؟

إذن بالنسبة لمفاهيمك: هكذا يذهب الطفل ذو القلب النبيل إلى النجوم! لاستخدام كلمات الشاعر فرجيل. فكن لطيفًا معها جميعًا!

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

أو كيف يمكن تحرير "الذات العالمة" من سلطة العقل السياسي؟

بينما كنت أطوف شوارع الجلفة، المدينة التي أقيم بها الواقعة جنوب الجزائر العاصمة بنحو ثلاث مائة كلم ومتاجرها المختصة في بيع الأحذية بحثا عن حذاء يليق بمقاسي تحسبا لفصل الشتاء حيث برد الجلفة القاسي.

تذكرت العنوان الصادم لإحدى نصوص القاص والأكاديمي الجزائري السعيد بوطاجين القصصية (حذائي وجواربي وأنتم)، مثلما تذكرت عنوان رواية مهمة للروائي الجزائري الأعرج واسيني وهي (وقع الأحذية الخشنة).

وأتصور بأنه لم يكن قرار عنونة المجموعة القصصية للسعيد بوطاجين بذلك العنوان الصادم للذائقة الثقافية العربية (حذائي وجواربي وأنتم) قرارا عفويا، أو هو غيرمدروس بعناية من طرف سارد وعقل سيميائي هو على علاقة كبيرة بخطاب العتبات النصية مثلما هو مكرس في المتن النقدي لأحد أعلام النقد الحديث وهو جيرار جينيت.

وهو أقل ما يمكن أن يصدر من قاص وناقد من نقد سياسي صاغه في فن إبداعي هو القصة القصيرة، مرر من خلاله بعض رسائله الضمنية المعبأة بالكثير من الغضب والشكوى لمن يهمهم الأمر.

والأمر نفسه ينطبق على الروائي الجزائري الأعرج واسيني، فلا أعتقد بأن وضعه لهذا العنوان (وقع الأحذية الخشنة) كان من قبيل الصدفة أو العفوية الإبداعية.

 طالما أن الأعرج واسيني وهو ناقد وأستاذ جامعي قبل أن يكون روائيا، لا يمكن أن يكون على غير علم أو إطلاع على خطاب العتبات النصية، مثلما هو مكرس في المتن النقدي لأحد أعلام النقد الحديث وهو جيرار جينيت.

مثلما تذكرت أيضا اللوحة الفنية الشهيرة التي تحمل عنوان (أحذية فان غوغ)

اللوحة التي خصها الفيلسوف الفرنسي الجزائري المولد جاك ديريدا بمقاربة فلسفية تفكيكية ضمن كتابه (الحقيقة في الرسم).

ثم تساؤل الروائية والباحثة التونسية المتخصصة في فلسفة الجمال أم الزين بن شيخة المسكيني.

التساؤل الذي تصدر دراسة قيمة خصت بها أم الزين بن شيخة المسكيني فصلا من كتاب ديريدا (الحقيقة في الرسم)، الفصل المتعلق بأحذية فان غوغ.

الدراسة الموسومة (ديريدا تفكيك اللوحة..هل ثمت أشباح في أحذية فان غوغ.. ؟).

يقول مضمون هذا السؤال الصادر عن أم الزين بن شيخة المسكيني.

 " لمن تصلح الأحذية ؟.

لحماية أقدامنا من صلف أحجار الطريق أم لدعس أحلام الحفاة العراة حيث لا بنيان لهم ولاهم يتطاولون.. ؟

أم لرجم الطغاة والحكام حيثما طغوا وتجبروا ؟ " (01).

لكن لماذا استدعاء تيمة الحذاء في سياق التفكير المعاصر لإنسان ما بعد الحداثة الذي أدركه الوعي بحسب تحليل أم الزين بن شيخة المسكيني بأن الحذاء هو هامش الجسد أو تحته ولذلك افترضت أم الزين بن شيخة المسكيني أن " أحذيتنا هي واجهة كل المهمشين عن الواجهة وكل الذين لا يشاركون في اقتسام خيرات العالم " (02).

وعلى هذا الأساس ترى أم الزبن بن شيخة المسكيني بأن هذا الاستدعاء لتيمة الحذاء وللوحة فان غوغ، هو" الذي أصبح يؤجج التفكير الفلسفي وأن يكون موضع خصومة شديدة اللهجة مع أقطاب الفكر الإنساني " (03).

كما حدث لفيلسوف الهوامش جاك ديريدا مع لوحة أحذية فان غوغ، الذي لم يكن اختياره لها محض صدفة، وهو الذي عني في قراءته الفلسفية للوحة أحذية فان غوغ " بخلخلة إطار مركزية اللوغوس الحديث منذ أول نص مؤسس لبراديغم الإستيطيقا الذي نصب نفسه منذ كانط إلى أدورنو وصيا على ميدان الجمال والفن والإبداع " (04).

الأمر الذي حتم على أم الزين بن شيخة المسكيني الدخول إلى مناخات علبة التحليل التفكيكي الدريدي للوحة فان غوغ عبر فلسفة التفكيك، كما تشكلت في المخيال الفلسفي لديريدا

بما يعني " إزاحة اللوحة من من غطرسة براديغم الإستيطيقا القائم على غطرسة ميتافيزيقا الذات " (05).

حيث يهدف دريدا والكلام لأم الزين بن شيخة المسكيني " للدخول في مهمة جديدة للفلسفة مدعوة إلى تفكيك العالم الحديث عبر خلخلة النصوص التي تدعمه وتضمن له كل صلاحيات غطرسة الإطار والأجهزة من إطار لوحة الرسم إلى جهاز الدولة ومن غطرسة العقول إلى استبداد الطغاة " (06).

الغطرسة التي قادت صحفيا عربيا هو منتظر الزيدي للخروج عن غطرسة الاطار في بعده السياسي الإمبريالي خروجا علنيا، عندما تجرأ على رجم الرئيس الأمريكي جورج بوش بفردة حذائه أمام رئيس الحكومة العراقي نور المالكي، وهو فعل حي من أفعال الحياة التي لا تنسى رغم إدراكنا بأن فعل الرجم وحده لا يكفي.

ولابد من القيام بفعل آخر هو فعل (عقل الشهوة) بمفهوم فتحي المسكيني أو لجمها للحد منها، ونعني بذلك شهوة ممارسة السلطة كنوع من المقاومة الثقافية لفعل الوطء

 والاستبداد السياسي الذي يمارسه العقل السياسي العربي على الرعية، التي يمارس عليها فعل الهيمنة أو الوطء السياسي بوصفها من (المهيمن عليهم من طرف الهيمنة نفسها) بحسب العبارة الشهيرة لفيلسوف العدالة الاجتماعية كارل ماركس.

والعقل السياسي المعنى بهذا النوع من النقد وهو نقد ثقافي هو العقل السياسي الذي خصص له المفكر المعروف محمد عابد الجابري الكتاب الثالث من ثلاثيته الشهيرة المتكونة من الكتب التالية :

تكوين العقل العربي

بنية العقل العربي

 العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته.

عندما يقدمه بوصفه العقل الذي " يمارس سلطة الحكم ومحددات الفعل السياسي بوصفه سلطة تشكل في مجموعها العقل السياسي " (07).

على أننا سوف لن نتقيد بما يخص العقل السياسي من دور، ولن نجعل هذا النقد حكرا عليه وفي الأفق أن كل ممارسة من ممارسات "العنف الرمزي" أو الاحتواء الثقافي مصدرها العقل السياسي، حتى ولو كان الفاعل هو العقل الثقافي عندما يتخلى عن ممارسة حقه في النقد العقلاني أو حتى "النقد الذاتي " الذي بشرت به التجرية الماركسية، وهي تعيد النظر في كل ممارساتها الحزبية والإيديولوجية ناقدة ذاتها.

لأن العقل السياسي ذاته ليس حكرا على من يمارس السياسة فقط.

بل هو على ما ينبه لذلك محمد عابد الجابري، عندما أراد الرد على أولئك الذين ناقشوا بعض أعماله النقدية السابقة وأخذوا عليه مثلما يعترف بذلك علنا، أنه أهمل في تحليل (الخطاب العربي) و(نقد العقل العربي) ربط الفكر بالواقع الاجتماعي والتاريخي أن العقل السياسي " يقع بين من يمارس السلطة السياسية أو يشرع لكيفية ممارستها وبين من تمارس عليهم هذه السلطة " (08).

وسنشدد على أهمية " سياسة الأدب " أو السياسات الأدبية بالمعنى الذي يقترحه جاك رانسيير في كتابه (سياسة الأدب) وينبغي عدم الخلط بين سياسة الأدب.

وهي ممارسة فكرية من صميم عمل الكتاب والمفكرين وبين الممارسة السياسية المنجزة من طرف السياسي ضمن عمل العقل السياسي، أو حتى تلك التي تمارس من طرف الكائن الثقافي عندما يتحول إلى أداة من أدوات العقل السياسي.

من دون أن يغيب عن أذهاننا " أن السياسة مجال خاص من الخبرة يفترض وجود أغراض عامة وينظر فيه إلى البعض على أنهم قادرون على تحديد هذه الأغراض " (09)

ولعل هذا ما جعل الناقد والفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير يحرص على القول بأن السياسة بوصفها تأسيسا لهذا المجال الخاص " ليست معطى محددا يرتكز على ثابت أنتروبولوجي فالمعطى الذي تستند إليه السياسة متنازع عليه دوما " (10).

يتجلى ذلك في المنظور النقدي للفيلسوف جاك رانسيير، عندما يحاول الاستئناس بعبارة شهيرة لأرسطو متخذا منها متكأ يقول مضمون هذه العبارة " أن البشر مخلوقات سياسية لأنهم يتمتعون بميزة الكلام الذي يسمح بالحديث عن العدل وعن الظلم بينما لا تملك الحيوانات سوى الصوت الذي بعبر عن اللذة وعن الألم " (11).

وقد يمارس الأديب السياسة بوصفها أدبا بالمعنى الذي يخصص له جاك رانسيير فصلا من كتابه (سياسة الأدب) الفصل الذي يحمل العنوان ذاته (سياسة الأدب)، من حيث أنه يفترض " وجود صلة جوهرية بين السياسة بوصفها شكلا خاصا من أشكال الفعل الاجتماعي والأدب بوصفه ممارسة محددة للكتابة " (12).

ولم يخطئ تماما المفكر التونسي فتحي المسكيني عندما اعتبر بأن أعلى " مراتب القوة والتسلط على البشر هو نكاح العقل " (13).

ولهذا النوع من التسلط على البشر تجليات تجد لها ردود فعل فلسفية، كالذي أبداه المفكر والفيلسوف اللبناني علي حرب، الذي لم يتردد في اعتبار الإنسان مهما كان وضعه " ذاتا راغبة ولكل رغبة آلياتها السلطوية الملموسة او المجردة " (14).

وهذه الآليات يحصرها فتحي المسكيني في الخطاب سواء كان هذا الخطاب دعويا أو سياسيا كمقدمة أولى لممارسة حقه في المقاومة الثقافية يتجلى ذلك من خلال اعتبار المسكيني أن " كل خطاب دعوي أو عدمي أو استلابي هو نكاح للعقل " (15).

وهو في منظور المسكيني " خبث إبستمولوجي موجود في كل الخطابات الماضوية منها أو المستقبلية (16).

وليس حكرا على الخطاب العربي، هكذا يؤدي فعل عقل شهوة السلطة دوره المقاوم للاستبداد العقلي بالتساوق مع النتيجة التي ينتهي إليها فتحي المسكيني لدور العقل المستقل، حتى ولوكان عقل الأنثى المفكرة في قدرته على " عقل الشهوة التي لا تفكر أي على حقن دماء الناس من أي إرادة تريد تحويلهم إلى موضوع شهوة أي إلى جسد للنكاح " (17).

ودع عنك أن يكون هذا النكاح سياسيا أو نكاحا ثقافيا كالذي حذر منه ومن نتائجه الوخيمة ناقدا ثقافيا هو محمد عبد الله الغذامي في أطروحته عن النقد الثقافي، ونعني بذلك الزواج النسقي " بتعبير الغذامي، وفي كل زواج كما هو معروف عقد وهذا العقد هو " العقد الثقافي القائم على المصلحة المتبادلة بين الطرفين مع تسليم المؤسسة الثقافية الرسمية بذلك (18).

مما يعني الاقتراب من المعنى الذي يتواتر في شعار الأنوار كما ورد في نص شهير للفيلسوف إيمانويل كانط عن ماهي الأنوار ؟

إذ ما أردنا حقا أن ننتصر لذواتنا، وأن نمارس حقنا المشروع في النقد وفي استعمال عقولنا.

لفد لفت انتباهي قول كانط " تجرأ على استعمال عقلك أنت ذلك هو شعار الأنوار " (19).

ومن الأهمية بمكان العمل بضرورة استخدام عقولنا لا عقول الآخرين مع عدم التنكر لإنجازات الآخر أو التطلع لها ومن دون الذوبان في لغة الآخر للتخلص مما يسميه كانط " أدوات استعمال العقل الميكانيكية وأدوات سوء استعمال المواهب الطبيعية " (20).

وعنما تنجز ذلك ستكون أنت بخصائصك العقلية والذهنية، ولا يهم أبدا إن كنت تغرد خارج السرب.

فالذين غردوا خارج السرب وخارج إجماع القطيع هم الذين انتصروا لذواتهم ولقيم العقل المستقل.

وهنا أيضا يستوجب على الذات المفكرة أو (الذات العالمة) بمفهوم الجابري الحذر من الوقوع حتى داخل سجن سلطة العقل نفسه على النحو الذي يتصدى لسلطة العقل سوسيولوجيا من حجم بيار بورديو، الذي كان يرى أن الدفاع عن العقل يعني محاربة أولئك الذين لا يترددون في التصدي لمن يسيئون استخدام سلطة العقل.

بل ويخفون على مايرى بورديو تحت مظهر العقل تجاوزات السلطة، أو يتخذون من أسلحة العقل مبررا لإرساء أو تبرير إمبراطورية تعسفية.

مع الحرص على عدم الانحياز إلى منطق ربط الحقيقة بالسلطة باعتماد فلسفة النسيان متكأ لذلك الربط الميكانيكي.

بما في ذلك سلطة المثقف الشمولي الابن البار للنظام السياسي الشمولي المولع باحتكار الحقيقة و التاريخ وجعلهما في متناول جهازه الثقافي المهيمن عليه هيمنة كلية

ولأن الحقيقة أنثى فالكل يحاول احتكارها وادعاء ملكيته له بل وإخفائها عن الأنظار.

وحتى عبارة الكشف عن الحقيقة المتداولة كثيرا في الخطابات الإعلامية والسياسية والقضائية،.

فهي ليست سوى الوجه الآخر للكشف عن الأنثى، وليس غريبا أبدا أن يدعي المفكر السوري هاشم صالح أن الحقيقة كالجوهرة مخبوءة في الأعماق، بعد أن تراكمت عليها الشوائب والرواسب سائلا عمن يكون عاشقها الأول ومن سيضحي بعمرها من أجلها.. ؟

خاصة عندما يتعلق الأمر بالحقيقة الدينية.

طالما أن مرجعياتنا الدينية والتراثية في الفقه والتفسير والبلاغة وعلوم اللغة تهيمن عليها سلطة النص بوصفنا أمة النص كما يقال.

وقد أضفنا إليها سلطا أخرى، هي تاويل الطائفة والقبيلة والمذهب والحزب والمؤسسة في أشكالها الأكثرتقليدية، لدرجة أن هناك تيارات حزبية وفكرية حتى التقدمية منها على وجه الخصوص لازالت تحتفظ بقراءتها الخاصة للتراث العربي الإسلامي، كما هو الشأن مثلا في القراءة الماركسية لهذه المرجعية مثلما تتجلى في أعمال حسين مروة والطيب تيزيني ومحمود أمين العالم وغيرهم.

حدث هذا قبل أن يشرع المفكر العربي محمد عابد الجابري عبر كتابه (نحن والتراث قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي) في نقد ثلاثة أشكال من القراءة المعاصرة للتراث وهذه القراءات هي على التوالي :

القراءة السلفية للتراث

 القراءة الاستشراقية للتراث

القراءة الإيديولوجية للتراث

ويطلق الجابري على هذه القراءة الأخيرة القراءة الإيديولوجية للتراث تعبير السلفية أيضا فهي في نظره سلفية ماركسية لا تختلف في نتائجها عن السلفية الدينية.

 ولتجاوز عقم هذه القراءات الثلاث التي يرى أنها عجزت عن تفكيك التراث وإعادة بنائه بناء عقلانيا يقترح في النهاية قراءة بديلة هي القراءة الإبستمولوجية للتراث.

وليس يخفى على أحد أن الجابري يستثمر هنا بعض إنتاجية النقد الإبستمولوجي، الذي يعود بأصوله ومحدداته المفاهيمية إلى النصوص الفلسفية للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو

وهذه الإشكالية لم يتناولها بعد بالجدية المنتجة النقد الثقافي المعني بها أكثر من غيره من مناهج القراءة والتحليل بالنسبية الممكنة بالطبع.

حتى ولوكان عبر مذهب المثولية كما مارسه الفيلسوف الفرنسي آلان باديو عندما قدم قراءة فلسفية مارس فيها نوعا من النقد الثقاقي المقارن بين شاعر عربي هو لبيد بن ربيعة وشاعر من الفضاء الثقافي الإمبراطوري هو مالارميه، المثولية التي تمثلها على ما يذكر ذلك ناقد فرنسي هو جاك رانسيير قصيدة (رمية النرد).

رغم أن جاك رانسيير لا يكلف نفسه عناء ذكر القصيدة أو القصائد التي يمثلها مذهب المثولية عند الشاعر العربي لبيد بن ربيعة أو العودة إليها في الوقت الذي لا يتردد فيه في التمثيل لمذهب التعالي عند مالارميه بقصيدة " رمية النرد ".

 ولست أدري إن كان هذا النسيان يتحمله ألان باديو كاتب القراءة التي خص بها مالارميه أم أنه يخص جاك رانسيير الذي ذكر هذه الواقعة المقارناتية في سياق نقدي هو سياق (سياسة الآدب) لمؤلفه الناقد الفرنسي جاك رانسيير

وهو عنوان الكتاب الذي ضم فصلا خاصا أعطاه جاك رانسيير عنوانا لافتا هو (الشاعر عند الفيلسوف مالارميه وباديو).

ومن هذا المنطلق قد يكون هذا النسيان، إن كان متعمدا ملحقا ببعض مثالب المركزية. الأوربية الغربية أمر وارد وغير مستبعد لكنه ليس مؤكدا.

وهو حق من حقوق القاريء العربي عندما يتوكأ على منهج الشك الديكارتي، الذي كان أول من مارسه هو عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في كتابه الشهير (في الأدب الجاهلي) الذي اثار جدلا نقديا واسعا أثناء صدوره سنة 1926 بالقاهرة.

ويواجه بعض متعاليات النقد الغربي المعياري في سياق قراءته لنصوص الآخر العربية ضمن أفق هو أفق النقد الثقافي المقارن بين نموذجين هما نص الهامش ونص المركز.

أقول هذا وفي ذهني مابقي عالقا بذاكرتي القرائية من معطيات نقدية صاغها مترجم كتاب (سياسة الآدب) للفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير الدكتور رضوان طاطا عن جاك رانسيير الرافض للتمييز بين العالم والجاهل وبين من يشرحون النصوص والحشود الذين تستمع لهم وهو يدعم بشدة مشاركة جميع الناس في ممارسة الفكر و لا يكف عن تكرار عبارة " أن غير القادرين هم القادرون " (21).

وهذا بحد ذاته سببا كافيا لتبرئة جاك رانسيير من عقدة التمركز الغربي أو اللوغوس الهيمني. أو من (إقصاء اللاحق) بمفهوم إدوارد سعيد.

ولا غرابة في ذلك فنحن لا نصدر حكما نقديا، و لا أعتقد أن هناك علاقة بين النقد الأدبي وبين الأحكام المجانية الجاهزة، الناقد لا يصدر أحكاما لأنها ليست من اختصاصه.

الأحكام مجالها المحاكم ولا علاقة للنقد الأدبي بها، النقد يثير أسئلة فقط في أبعاد النص المختلفة الجمالية والبنائية والموضوعاتية والشكلية والنسقية.

 فيما هو يحاول إضاءة الجوانب الداجية في النص الإبداعي ويتجنب الإجابات القطعية والوثوقية العمياء والأحكام المجانية الأخلاقية إلى حد الخروج عن الإملاءات المرجعية.

فاللجوء إلى الأحكام القيمية المسبقة في المفاضلة بين النصوص الإبداعية، أو الآراء النقدية مفاضلة معيارية، تستقي أهميتها من المتعاليات التربوية ومن ثقافة الرقيب السياسية والبوليسية والأخلاقية والأكاديمية ذات الوقع الردعي، لم تشكل أبدا في يوم ما قيمة إبداعية أو منطلقا نظريا أو مفهوميا.

طالما أنها لا تتجاوز ثنائيتي الاستحسان أو الاستهجان والذم أو المدح التي لا ترضي سوى غرور قارئ نمطي، لا يريد أن يذهب بعيدا في الكشف عن الأسئلة العميقة التي يختزنها النص في باطنه وفي بنياته المتعددة، وليس العامل القيمي سوى بعد واحد أو مكون واحد من مكونات النص الكثيرة.

ولا علاقة لذلك بما يسمى الاصطفاء الثقافي بين كاتب من الشرق أو من العالم الثالث وآخر من الفضاء الغربي الإمبراطوري.

فلسنا من المؤمنين بالاصطفاء أو التمييز بين البشر على أساس اللون أو البشرة أو الجنس أو الانتماء الجيلي والفئوي والأثني والقبلي أو المهني والشعري والديني والهووي أو الغيري، الذي هو في نظرنا انزلاقا خطيرا في التفكير شبيها بذلك الانزلاق الذي عرفته الكولونيالية الغربية في تعاليها على الشعوب الضعيفة والأثنيات المختلفة عنها مثلما أدانها مفكر بارز بحجم فرانز فانون وكشف عن جذورها وعن ميتافيزيقا الهيمنة التي تحاول الإختباء وراء وهم العقلانية الغربية ومركزية الجنس الأوربي الأبيض في استعلائيته المريضة بوهم التفوق والاصطفاء النرجسي في كتابه الشهير (بشرة سوداء... أقنعة بيضاء).

 لكننا نؤمن بضرورة التمييز بين الصوت والصدى وبين التابع والمتبوع وبين الأصل والفرع، وفي ذلك إلغاء لوظائف العقل أو هو نوع من الاستهانة بالقدرات العقلية للبشر وإهدار للكرامة الإنسانية وما أدراك..

فهل في وسع الذات المفكرة ان تتحرر من سلطة العقل السياسي قبل أن يقع الفأس على الرأس إن لم يكن قد وقع فعلا.

 وعندئذ لا نملك سوى أن نردد مع تيودورأدورنو بأنه " على المشتغلين بالفلسفة التنازل عن مطلب نيل الحقيقة في صورتها الكلية فقد تبين أن ذلك مجرد وهم وأنه لا يمكن لأي تفكير تبريري أن يجد نفسه في حقيقة يقوم فيها كل من النظام والصورة على خنق كل مقتضيات العقل الحر (22).

وما ادراك...

***

قلولي بن ساعد / ناقد وكاتب من الجزائر

.......................

إحالات

01) دبريدا تفكيك اللوحة..هل ثمت أشباح في أحذية فان غوغ.. ؟ أم الزين بن شيخة المسكيني ضمن كتاب جماعي بعنوان مؤانسات في الجماليات نظريات تجارب رهانات ص 199 إعداد أم الزين بن شيخة المسكيني منشورات الإختلاف وضفاف الطبعة الأولى 2015 والمقال نفسه نشرته كاتبته ضمن فصول كتابها تحرير المحسوس لمسات في الجمتاليات المعاصرة

02) نفس المصدر ص 199

03 نفس المصدر ص 200

04) نفس المصدر ص 204

05) نفس المصدر ص 201

06) نفس المصدر ص 201

07) العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته – محمد عابد الجابري ص 07 مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة بيروت الطبعة الرابعة 2000

08) العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته ص 09

09) سياسة الأدب جاك رانسيير ترجمة رضوان طاطا ص 15 / منشورات المنظمة العربية للترجمة بيروت الطبعة الاولى 2010

10) سياسة الأدب جاك رانسيير ترجمة رضوان طاطا ص 16

11) نفس المصدر ص 16

12) نفس المصدر ص 15

13) أنظر مقال نكاح العقل للمفكر التونسي فتحي المسكيني ضمن كتابه الهجرة إلى الإنسانية ص 51 منشورات الإختلاف وضفاف الجزائر / بيروت الطبعة الأولى 2016

 14) أصنام النظرية وأطياف الحرية نقد بورديو وتشومسكي علي حرب ص 66 المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى 2001

15) أنظر مقال نكاح العقل للمفكر التونسي فتحي المسكيني ضمن كتابه الهجرة إلى الإنسانية مرجع مذكور ص 51

16) نفس المرجع ص 51

17) نفس المرجع ص 52

18) النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية – عبد الله محمد الغذامي – ص 194 – المركز الثقافي العربي الدر البيضاء – الطبعة الثالثة 2005

19) إمانويل كانت ثلاثة نصوص تأملات في التربية / ماهي الأنوار / ما التوجه في التفكير/ تعريب محمود بن جماعة ص 85 دار محمد علي للنشر صفاقس / تونس الطبعة الأولى

20) إمانويل كانت ثلاثة نصوص تأملات في التربية / ماهي الأنوار / ما التوجه في التفكير/ تعريب محمود بن جماعة ص 86/ 87 مرجع مذكور

21) أنظر المقدمة التي كتبها مترجم كتاب سياسة الأدب للفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير الدكتور رضوان طاطا ص 08 منشورات المنظمة العربية للترجمة 2010

22) راهنية الفلسفة - تيودور أدورنو ترجمة خيرة عماري ضمن كتاب جماعي بعنوان تيودور أدورنو من النقد إلى الإستيطيقا ص 161 إشراف وتقديم كمال بومنير منشورات الإختلاف ودار الأمان - الجزائر الرباط الطبعة الأولى 2011

- تفكير العقل في اشياء العالم الخارجي ومواضيع العالم الداخلي هو ابجدية لغوية صورية وليست فكرا مجردا متحررا من الابجدية اللغوية في تعبيرها الخارجي الصوتي او في صمتها التعبيري الخيالي فكرا بلا صوت.

هناك تعريف مصطلحي متفق عليه ان اللغة في ابسط تعريف لها هي ابجدية حروفية يمتلك كل حرف فيها صوتا ومعنى. واجد هذا التعريف ناقصا لانه يقتصر على تعبير اللغة عن اشياء وموجودات العالم الخارجي فقط. فأين يكون تفكير الصمت الداخلي المستمدة موضوعاته من عالم الخيال وأحاسيس إشباع الغرائز الجسدية الداخلية؟ الجواب هو تفكير الصمت ايضا تعبير لغوي في ابجدية حروفية لها معنى صوري وتفتقد الافصاح الصوتي خارجيا.

خطأ آخر أجده في تعبير اللغة ابجدية حروفية (صوت ومعنى) يعني في حال انعدام الصوت لا يبقى معنى, وفي انعدام المعنى لا يبقى لغة وهذا ما ينكره تفكير الصمت الداخلي بانه لغة تفكيرية صورية تمتلك المعنى والصوت المدّخر في الصمت اللغوي وفي الحركات الايحائية لاعضاء جسم الانسان كما في ممارسة الطقوس الدينية واليوغا ورقص الباليه والمسرح الصامت. وفي حاجة الجسم الغريزية التي تطلقها الاحاسيس داخل اجهزته.

-  تذهب غالبية الفلسفات المثالية الى أن ما لا يدركه العقل لا وجود مستقل له. والحقيقة ان ملايين الموجودات التي نعايشها بعالمنا الخارجي والطبيعة لها وجود مستقل قد يدركه بعضنا او لا يدركه. الوجود الانطولوجي للاشياء المادية لا يتوقف على ادراكنا له ولا على عدم ادراكنا له. انطولوجيا الموجودات في استقلاليتها كينونة لا تاثير للانسان عليها قبل ادراكها العقلي لها.

- الوعي مرحلة ادراكية عقلية متقدمة على ما تنقله الحواس من احساسات. كما ان الوعي تجريد معرفي يتكامل مع مدركات العقل الانطولوجية ولا تربطه علاقة جدلية بها.التكامل المعرفي في وعي الاشياء هو من اجل تغييرها والاستفادة منها على خلاف الجدل فهو تضاد سلبي طارد لكلا النقيضين في تشكيل الظاهرة المستحدثة الجديدة. معرفة الاشياء في عالمنا الخارجي ليست وعيا جدليا معها بل تعريفا عقليا بها من اجل تغييرها. وكل ارادة انسانية يحكمها الوعي القصدي تكون المرتكز الاساس في احراز تقدم افضل في فهم الوجود وتقدم الحياة. ليس هناك وعيا ادراكيا لا يحمل موضوعه معه ولا يحمل هدفه القصدي الذي يسير نحو تحقيقه.

- ما فوق اللغة مصطلح فلسفي له ثلاثة تشعبات:

الاول يطلق عليه الميتالغة بمعنى الفهم السبراناتيكي للغة الذي يعتمد الذكاء الصناعي في الريبوت وغير ذلك من تكنولوجيا متطورة. ويطلقون على هذه الميتالغة اللغة المافوق المتقدمة المتعالية ترانسدتاليا التي تتحدث عن لغة اخرى ادنى منها. مشتركات اللغات في غير صفات النحو والقواعد الذي يشكل هوية لغوية خاصة بكل لغة لا تمكننا من دمج تلك اللغات مع بعضها في وضع قواعد نحوية مشتركة تجمعها. هذا ما حاوله هيرمان سكينر في نظريته السلوك اللفظي ونعوم جومسكي في التوليدية اللغوية.

الثاني ان مافوق اللغة هو اللغة التواصلية التي لا تحكمها ضوابط النحو والقواعد والصرف وغيرها. فهي لهجة فطرية خاصة بجماعة او قوم اكتسبت صفة هوية يتكلمها ويتواصل بها قوم من الاقوام., ولم تكتسب اللهجة ضوابط المصطلح المتفق عليه على انها لغة خاصة تمتلك كل ضوابط وقواعد اللغة الخاصة بقوم من الاقوام او امة من الامم. شرط اللغة هو المصطلح المتفق عليه في تثبيت نحوها وقواعدها الخاصة بها كي تمتلك هوية لغوية لقوم من الاقوام او مجتمع من المجتمعات. اما اللهجة او الكلام الشفاهي فهو وسيلة تواصل مجتمعية لا تمتلك قواعد ونحو لغة مدوّنة كما نجده عند الاقوام البدائية التي لم تكن تعرف التدوين والكتابة الصورية او الحروفية المتقدمة.

الثالث ان ما فوق اللغة هي اللهجات التواصلية لدى اقوام بدائية لم تكن تعرف التدوين. هذه اللهجات من الممكن ان تكون ما فوق لغة لكنها لا تمتلك الابجدية الحروفية المصطلحية المتفق عليها لتكون بعدها لغة تمتلك هوية خاصة بها.(تراجع مقالتنا ما فوق اللغة في العربية).

- الانسان يتكيف مع الطبيعة عندما يجد تفكيره لا يتعدى عالم ما يدركه حسيا. هل يعي الانسان تكيفه مع الطبيعة بارادة ووعي منها ام ان تكيّف الانسان مع تقلبات بعض ظواهر الطبيعة هي استجابة فطرية غريزية لديه.

الاحتمال الذي اميل اليه ان تطور ذكاء الانسان هو الذي اعطاه معنى التكيّف مع تقلبات ظواهر الطبيعة الذي رافقه انقراض انواع عديدة من الكائنات الحية من حيوان ونبات وبعض من سلالات بشرية تعود الى مراحل عصور تطور الانسان انثروبولوجيا. من حيث ان منهج دارون في اصل الانواع والبقاء للاصلح يعتمد تطور انثربولوجيا تاريخ الانسان وليس تطور الغرائز والفطرة البايولوجية للانواع فقط. نظرية داروين تقاطع في بعض حلقاتها حقائق العلم كما تقاطع ميتافيزيقا السرديات الدينية الكبرى. كما تقاطع الماركسية الحاضنة الاولى لافكار داروين. القوى الذاتية لتطور الانواع وبقاء الاصلح هو ناتج املاءات الطبيعة على الكائنات الحية. الطبيعة وبيولوجيا الانواع المرتكز الاساس في الداروينية.

- افضل الكتابات الفلسفية هي غير الزوبعة التي تثيرها بل هي النبيذ المعتق الذي خمّرته الاعوام الطويلة ليصبح بعدها تذوقا نخبويا فريدا.

- اعجاز العقل يكمن في تفكيره اللغوي الصوري. بمعنى آخر العقل لا يفكر بالفكر المجرد الانفصالي عن الابجدية اللغوية فهذا محال. تفكير العقل ابجدية لغوية صورية صامتة وليس فكرا تجريديا متحررا من ابجدية اللغة. الفكر داخليا في (الجسم) وخارجيا في ادراكه العالم وموجودات الطبيعة والحياة هو لغة لها معنى محدد لموضوع. وهنا اعيد عبارة منسوبة للفيلسوف الاميركي سيلارزهي قمة ما توصلته فلسفة اللغة قوله ( الوجود لغة). وهي تاكيد اننا لا ندرك اي شيء بالفكر وحده مجردا عن ملازمة الابجدية اللغوية له. وجود المادة ادراك لغوي للانسان وحضور مستقل في الطبيعة لا يمتلك التفكير ولا ملكة التعبير عن نفسه.

- تفكير العقل صمتا لا يلغي ابجدية اللغة الصورية صوتا ومعنى كما هي في تعبير اللغة الصائتة عن مدركات العقل من الاشياء والمواضيع في العالم الخارجي. والفكر الذي يعمل على تطوير واقع الاشياء إنما هو الآخر يتطور في مجاراته تطورات الواقع ومجاوزته لتلك التطورات في تعاليه عليها بإستمرار... وفي الفرضية الخاطئة التي تقود الى نتيجة خطأ أيضا هي في إعتبار عملية إدراك الانسان للاشياء هو في سعيه مطابقة قوانينه المستحدثة لديه مع قوانين الاشياء في وجودها المادي المستقل قبل إدراكها وهو إفتراض وهمي غير حقيقي ولا يمكن الانسان فهم وتنظيم عوالمه الحياتية بهذا التنميط من التفكيرالسلبي مع إدراكاته لعوالم الاشياء في وجودها الطبيعي.. بل الادراك الحقيقي أن تدخل الاشياء المدركة مع الفكر في تكامل معرفي ثنائي متبادل يكسبهما كلاهما التغيير والتطور وبغير هذا الفهم معناه نفي أن يكون هناك فائدة من وعي الانسان لموجودات الطبيعة وإستحداث رؤيته وقوانينه لها..ألنتيجة التي يحرزها الفكر بالنهاية من هذه العملية هو أن تكون قوانين الفكر هي قوانين الاشياء في الواقع... بمعنى أصبح ما نمتلكه عن الاشياء من أفكار نتيجة مدركاتنا لها هو وحده الذي يعطي وجودها الحضوري الواقعي في حياتنا. مطابقة تفكيرنا للواقع لا يلغي حيازة الفكر خاصية تغيير ذلك الواقع.

تفكير العقل في وعيه القصدي لا يسعى مطابقة صحة افكاره مع مدركاته الواقعية بل في محاولته وضع تنظيرات تغييرها. العقل الانساني يبحث عن الاجابة لماذا ندرك الاشياء؟ وليس كيف ندركها.؟

- إن العقل وحده له الأسبقية في تحديد الوجود والفكرالمتعالق معه أن يكون ماديا أم مثاليا. واللغة تكون في هذه الحالة وعاء الفكر في تحديد نوع الوجود المادي أو المثالي المفصح عنه بتعبير اللغة. في عالم صنع الانسان لحياته في كل مناحيها بعلاقته بظواهرالطبيعة ومواضيعها, بمعنى أن وجود عالم الاشياء سابق على أدراك الانسان لها انطولوجيا, وتنظيم الانسان لوجود عالم الاشياء هو الحافز الاساس لأدراكه تلك الموجودات, والعامل الأهم أنه ينّظم مدركاته للاشياء التي هي بالنتيجة تنظيم حياته ووجوده, والفكر الانساني لا يعمل في فراغ وجودي مادي أوفي فراغ غير موضوعي متخيّل من الذاكرة ولا في تجريد ذهني يلغي مؤثرات علمية ومعرفية عديدة في فهم وبناء الحياة الانسانية...

-  اللغة والفكر لا يحضران سوّية الا في محاولة تنفيذ ايعازات مصنع الحيوية العقلية بالاخبار الادراكي العقلي عن موضوع جرى التفكيربه ذهنيا واكتملت مهمة اعادة الوعي من العقل الى عالم الاشياء كفكرجديد بلغة جديدة وليس كوجود سابق مستقل في عالم الاشياء قبل ادراك العقل له.العقل لا يخلق موجودات الحياة القبلية بالفكر بل يخلق وسائل فهم وتفسير وعي تلك الحياة في إعطائها قيمة منظمة تخدم الانسان وتقدمه .

- ايعازات العقل الارتدادية الانعكاسية الصادرة عنه والواردة اليه بواسطة منظومة الجهاز العصبي المرتبطة بالدماغ في تخليقه لمواضيع جرى تفكيره بها انما تتم  في تنفيذ اللغة او غير اللغة ايعازات العقل في اعادة الموضوع المفكّر به من العقل الى امكانية ادراكه في العالم الخارجي بفهم جديد عما كان عليه قبل ادراك العقل له, في توّسله اللغة التي هي الفكر ولا فرق بينهما في التعريف المادي او التجريدي بالموضوع في وجوده المستقل في عالم الموجودات الخارجي بعد تخليقه عقليا.الوجود الادراكي الحسي او العقلي المستقل هو وجود فكري لغوي كما هو وجود مادي مستقل في عالم الاشياء ايضا.

- كل خارق لقوانين الطبيعة معجزة لا يستطيعها كل البشر ولا يتم ادراكها عقليا لتصبح وجودا بذاته. يمكن التسليم بها ايمانا قلبيا فقط.

- المنفعة او مبدا اللذة الابيقورية وفي الفلسفة البراجماتية الاميريكية هي جوهر انساني فطري غريزي .اي انها لا تحتاج اشتراط فلترتها التجريبية العملانية في تاكيد نفعها من عدمه كما تذهب له الذرائعية الامريكية.

المنفعة غريزة انفرادية يعزز انتشارها انها تعيش ضمن مجتمع. والمنفعة معرفة وسلوك تلازم الانسان كمثل تقاسيم وجهه. اعمال الانسان طيلة حياته هي سعي محموم مرتكزه برمجة الانسان لعقله من اجل تحقيق منفعة انفرادية من حيث طبيعة الانسان كائن نفعي. والتضحية من اجل الاخرين ضرورة ملزمة وليس ارادة ذاتية متحررة. وحين يحب رجلا امراة على سبيل المثال انما يحبها بدافع اشباع لذته ومنفعته الغريزية وليس تلبية رغائب المرأة في العملية الجنسية..

-  عالمنا المعاصر اصبح مفهوما متفقا عليه يقوم على ثلاثة ركائز هي :اولا الشعور الواقعي هو عالمنا الحقيقي الذي نحياه ولا يشترط ان يكون افضل العوالم كما ذهب له لايبنتيز في القرن الثامن عشر. كا لا يوجد عالما مثاليا لا ندركه هو الاسمى من عالمنا الذي نعيشه كما ذهب له افلاطون ونيتشة وبعض فلاسفة الوجودية. الركيزة الثانية لم يعد امام العالم التراجع عن منجزات العلم الواجبة التكيف معها لذا يكون العقل البوصلة الحقيقية الوحيدة في محاولة معرفتنا موضع اقدامنا. الركيزة الثالثة التفكير الصارم بعدم جنوح النزعات التدميرية والحربية بدل ترسيم مستقبل متعايش بسلام يحتضن الجميع.

- لم يعد امام عالمنا اليوم التعويض عن تازمات الحياة المتوالية في سلسلة متناسلة من الكوارث سوى دخول واقعنا الحقيقي بخطاب نافذ جريء. الخطابات الانانية الضيقة التي تلهث وراء الاستهلاك النخبوي لم تعد صالحة لعالمنا اليوم فقد انتهى زمن القضم من حافات تجسير العلاقات الانسانية وتراجع تاثيرها. اعتقد مقولة بروتاغوراس "الانسان مقياس كل شيء" صالحة الاستعمال.

- من جملة فلاسفة عديدين انكروا العقل الانساني يبرز في الفلسفة الغربية المعاصرة الاسكتلندي ديفيد هيوم ليتبعه زميله الانجليزي جلبرت رايل 1900- 1976 الذي قال باصرار عنيد ليس هناك عقلا ولن يكون مستقبلا ابدا.

- الوعي هو الوسيلة الادراكية العقلية لفهم الواقع وتغييره.

- لا علاقة جدلية بين الوعي والواقع, الوعي تجريد عقلي تصوري لا ينتجه الواقع. بل هو توسيط نقل مقولات العقل عن مدركاته الواقعية.

- من تعابير هيدجر التي لا معنى لها قوله الديزاين هو ركض الموت الى العدم.

- مذهب وحدة الوجود مطلق ميتافيزيقي صوفي يجمع بين الدين والفلسفة والطبيعة.

-  يقول ياسبرز في عبارة فلسفية رشيقة صحيحة " حقيقة الاخفاق هي التي تؤسس حقيقة الانسان.".

- استوقفني التساؤل التالي : هل اصوات الابجدية الحروفية في اللغة خاصية معنى ام خاصية نحو؟ برايي انها تجمع الخاصيتين معا فهي دلالة عن معنى كما هي خاصية نحوية للغة بعينها.

- ماذا اراد الفيلسوف الاندلسي ابن طفيل في روايته الخالدة حي بن يقظان التاكيد عليه من اهداف؟

1. الانسان بمفرده بالطبيعة قادر عن طريق اعمال العقل المجرد الوصول الى مستوى الانسان الكامل بمجرد ملاحظة الطبيعة والتفكير بها من غير تعليم.

2.  الدين والفلسفة والعلم اقانيم ثلاثة تتكامل معرفيا ولا تناقض بينها يلغي معايشة الضرورة للاخر. ولا يعني هذا ان هذه الاقانيم الثلاثة الدين والفلسفة والعلم تدخل في توليفة اندماجية تفقد كل واحدة خواصها الاستقلالية.

3. الوصول الى المعلومات الميتافيزيقية امر فردي بين الخالق والمخلوق.

- محاربة الفلسفة جهلا بها هو مشكلة الجهل وليس مشكلة الفلسفة.

- الوعي هو نوع من تحرر العقل من الواقع وردت على لسان احد الفلاسفة وكانت صحيحة. ويتعالق مع هذا المعنى الزمن يسبق الوعي الحقيقي والزمن ايضا بعد سببي للزمكان وليس المكان منفردا.

- القانون الفيزيائي المادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم سبق وصاغه بارمنيدس قبل اكثر من خمسة الاف سنة بقوله " لا شيء يمكن ان يتحول الى لا شيء ولا شيء يمكن ان ياتي من لا شيء".

***

علي محمد اليوسف

 

- تمهيد: ينظر علماء الاجتماع للعلاقات والروابط الإنسانية بين البشر بوصفها مورداً اجتماعياً هاماً قادراً على لعب أدوراً أكثر أهمية في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية لأي مجتمع معاصر، وأن المجتمعات التي تملك رأس مال اجتماعي قوي لديها القدرة على ترسيخ دعائم التعاون البنّاء بين أفرادها كما يكون لديها أيضاً القدرة على التطور والنمو بشكل أفضل في المستقبل.

كما يشكل رأس المال الاجتماعي حجم الحياة اليومية والمعايير الرابطة لها وجودتها، وهو مصدر ووسط ديناميكي منتج بسبب خليطه المتنوع من الثقة الاجتماعية المرنة، وقواعد السلوك التبادلية، وصور الالتزام المتعددة، وغالباً ما ينعكس رأس المال الاجتماعي في مقدار الثقة والتعاون والنيات الطيبة التي يعتمد عليها أعضاء الشبكة التي يسهمون في صنعها بشكل مباشر أو غير مباشر. وتتطور بناءً على هذا المفهوم عمليات الاتصال الناجح والتفاهم المتناغم بين جميع أفراد المجتمع، بهدف تحقيق الأمان والرفاهية وإقامة الروابط والعلاقات الاجتماعية الهادفة، والمتينة، والواعية بأهدافها ومصالحها.

بالمقابل سعت بعض الدراسات المعاصرة إلى التوسّع في توظيف مفهوم رأس المال الاجتماعي كأداة منهجية، بحيث بات يستخدم في تحليل مستويات مختلفة من الحياة الاجتماعية. بل إن نظرية رأس المال الاجتماعي تحولت إلى نظرية للبناء الاجتماعي والفعل الاجتماعي. حيث يعني ذلك أن رأس المال الاجتماعي هو رصيد لصيق بحركة الفاعل سواءً أكان فرداً أم جماعةً أم تنظيماً اجتماعياً. وهناك اتفاق بين من يستخدمون مفهوم رأس المال الاجتماعي على أنه يكمن في الاتصالات الشخصية والعلاقات والتفاعلات بين الأشخاص. فهو يتعلق بمن يعرف ويتعامل مع من؟ فأقارب الشخص، وأصدقائه ورفاق العمل، وجيرانه، يمثلون مصادر معلومات وعوناً ودعماً حين يحتاج الشخص إلى شيء منها.

بناءً على ما تقدم يمكننا تعريف رأس المال الاجتماعي بأنه: " هو انضمام الأفراد لشبكة العلاقات الاجتماعية الرسمية وغير الرسمية، التي يستطيعون من خلالها استثمار بعض الموارد الاجتماعية كالدعم الاجتماعي، المادي، المكانة الاجتماعية، لتحقيق منافع ومكاسب تؤدي بدورها إلى خلق قيم ومفاهيم مشتركة بين أعضاء المجتمع". أو هو " البناء المجتمعي القائم بمجتمع ما والمتمثل في جملة العلاقات الإنسانية ومستويات الثقة والتعاون بين الناس وبعضهم البعض، كما يعبر عن جملة الشبكات الاجتماعية القائمة بالمجتمع ".

- مصادر تكوين رأس المال الاجتماعي: إن نجاح أي بناء اجتماعي في تكوين رصيد من رأس المال الاجتماعي يتوقف على قدرة هذا البناء على الاستفادة من شبكات الروابط والعلاقات الاجتماعية والقيم المتوفرة بين أعضائه، وتوسيع وتنمية هذه الروابط والعلاقات بما يمكّن البناء الاجتماعي من تحقيق أهدافه. وبذلك ثمة مصادر عديدة تمتد من الجماعات الاجتماعية الأولية كالأسرة وجماعة الجيرة، لتشمل المؤسسات غير الرسمية بما فيها جمعيات تنمية المجتمع وجماعات المساعدة الذاتية، بل إن رأس المال الاجتماعي يتولد في المؤسسات الحكومية منها وغير الحكومية، بما في ذلك الجمعيات الأهلية والنقابات والأحزاب.

ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد أن فوكوياما قام بتصنيف المجتمعات وفقاً لشكل الروابط الاجتماعية السائدة فيها إلى مجتمعات أسرية تكون فيها العائلة وصلات القرابة بشكلها الأوسع كالقبيلة والعشيرة النواة الأساسية لأي تفاعلات اجتماعية. وحسب الدراسات التي قامت في هذا السياق تتخلص هذه المصادر في نوعين هما:

أ‌. علاقات وشبكات يقيمها الأفراد مثل النقابات والأحزاب وجمعيات النفع العام.

ب‌. منظومة قيم تأتي على رأسها قيم الثقة، والشفافية وتحمل الآخر والرغبة في التعاون والعقلانية.

وفي هذا السياق، قدم البنك الدولي مشروعاً لدراسة رأس المال الاجتماعي في البلدان النامية (والمعرف برأس المال الاجتماعي من أجل التنمية الاجتماعية Social Capital For Development) رصداً لمصادر رأس المال الاجتماعي، وتمثلت هذه المصادر، فيما يلي:

1- الأسرة: من المعروف أن الأسرة في الخلية الأولى في المجتمع والركيزة الأساسية لبنائه. تُعرف الأسرة بأنها جماعة اجتماعية أساسية ودائمة، ونظام اجتماعي رئيسي، وهي أساس وجود المجتمع، ومصدر الأخلاق والدعامة الأولى لضبط السلوك، والإطار الذي يتلقى فيه الإنسان أول دروس الحياة الاجتماعية. لذا تمثل الأسرة المصدر الأساسي والأولي لرأس المال الاجتماعي لأنها وحدة المجتمع الأساسية التي تشكل نسيجه الاجتماعي وتمثل حجر الزاوية فيه، وهي المصدر الأول للمعرفة وإعداد أعضائها وتكوين هويتهم الثقافية، وهي المؤسسة الاجتماعية الأولى لتفاعل الفرد مع محيطه الاجتماعي وإقامة الحوار وبناء الصلات المتميزة مع من هم من غير جيله أو نوعيه الاجتماعي. كما تلعب الأسرة دوراً في توفير الآليات اللازمة لتحقيق الرفاهية الاقتصادية وذلك عن طريق تنمية الروابط والعلاقات غير الرسمية - خصوصاً في إطار الأسرة الممتدة Extended Family – للمساعدة والتعاون داخلها بما يجعلها بمثابة شبكة للضمان الاجتماعي تقدم الخدمات والمساعدات لأعضائها في فترات الأزمات الاقتصادية أو الاجتماعية.

وهكذا نجد أن الأسرة تلعب الدور الأكبر في تنشئة رأس المال الاجتماعي وتطويره وذلك عن طريق تنمية الروابط والعلاقات ونقل الأولياء لأبنائهم وأفراد عائلتهم التصرفات العقلانية، التي تنتج عنها انطباع وشعور بالثقة القوية اتجاه أفراد العائلة، بالإضافة إلى تبادل المساعدات المادية بين أعضاء الأسرة. كما للعائلة الأثر الإيجابي باستخدام رأس المال الاجتماعي على مستوى التعليم عند أبناء العمل وبطريقة غير مباشرة هو مصدر تراكم رأس المال الاجتماعي.

وبالمقابل نجد أن المشاكل الأسرية على المدى الطويل والمدى القصير تؤثر على نشأة الأطفال فمثلاً زيادة المشاكل العائلية وحالات الانفصال داخل الأسرة لها أثر على الأبناء لتعرضهم لأزمات نفسية وبدنية وهذا على المدى القصير، أما في المدى الطويل هو إتباع هؤلاء الأبناء طريق الإجرام والسلوك السيئ. مما يؤثر سلباً على نمو رأس المال الاجتماعي.

2- المدرسة: تُعرف المدرسة بأنها مؤسسة اجتماعية أساسية هدفها ضمان عملية التواصل بين مؤسسة العائلة والدولة قصد إعداد الأجيال اللاحقة وتأهيلها للاندماج في إطار الحياة الاجتماعية. أي أن المدرسة شبكة من المراكز والأدوار يشغلها المعلمون والتلاميذ يتم من خلالها اكتساب المعايير التي تحدد أدوراهم في الحياة الاجتماعية مستقبلاً. بذلك تعتبر المدرسة مصدراً هاماً لنشأة رأس المال الاجتماعي وتراكمه وتطويره، فدور المدرسة هو تحقيق رفاهية الطفل بإدراج المشاركة والحضور الكبير لأولياء التلاميذ ذلك للاستفادة من الخدمات الاجتماعية والعناية بالجيل الجديد.

فالمنشآت العلمية لها دور في زرع مبادئ العمل الجماعي التعاوني وتنوع في المعلومات والثقافات المكتسبة وذلك عن طريق اللقاءات التي تجمع بين مختلف القطاعات سواء تكوينية أو تعليمية أو منظمات مهنية وبالتالي ينتج لنا رأس المال الاجتماعي الذي يربط بين كل هذه القطاعات ليس بالضرورة أن يجمع نفس العطاء في نفس الفوج. كما أن هدف الاستثمار في التعليم العام إثراء المجتمع ككل، عبر تعزيز مقومات النمو وأمنه وقيمه وقدرته على تجاوز المخاطر، ومواجهة التحديات.

خلاصة القول، إن الأفراد في المدرسة على سبيل المثال معلمين وطلاب وإدارة وعاملين يتفاعلون مع بعضهم البعض بعلاقات رسمية أو غير رسمية بغرض تحقيق الأهداف التعليمية. هذه العلاقات الاجتماعية هي لب ما يسمى برأس المال الاجتماعي. والذي يؤثر وجوده على تحقيق الأهداف التعليمية.

3- الروابط الدينية أو الأثنية: اعتبر الباحثون الرابطة الأثنية أحد مصادر رأس المال الاجتماعي، إذ تؤثر على طريقة تنشئة الأفراد وتساهم في تشكيل وعيهم وأفكارهم تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين، وهي بذلك تساهم في ربط مجموعة من الأفراد معاً، ومن ثم ربطهم أو عزلهم عن المجتمع المحيط، كما تستطيع أن تحشد للموارد وتعبئها لخدمة أهداف محددة، وتساهم الروابط الاثنية أيضاً في إتاحة المزيد من الفرص أمام أعضائها لتحقيق أهداف مشتركة. ومع ذلك فهذه الروابط ذاتها، قد تؤدي إلى التعصب ضد من يقعون خارج نطاق الجماعة الأثنية بما يقود- في كثير من الأحيان - إلى زيادة درجة التطرف في المجتمع، وتدهور قيم التسامح فيه.

ويرى بعض الباحثين بالنسبة لعلاقة الدين الإسلامي برأس المال الاجتماعي أن " الدين الإسلامي " يلعب دوراً كبيراً في تشكيل رأس المال الاجتماعي. والنظر إلى البعد الإيجابي للدين على رأس المال الاجتماعي ومساهمة المعتقد الديني في تأصيل قيم الجماعة والجماعية وترسيخ فضيلة فعل الخير والتكافل الاجتماعي.

4- المجتمع المدني: يُعرف المجتمع المدني بأنه مجموعة المؤسسات المدنية التي لا تمارس السلطة، ولا تستهدف أرباحاً اقتصادية، بل تساهم في صياغة القرارات من خارج المؤسسات السياسية، ولها غاية نقابية كالدفاع عن مصالحها الاقتصادية والارتفاع بمستوى المهنة والتعبير عن مصالح أعضائها، كما لها أغراض ثقافية كما في اتحادات الكتاب والمثقفين والجمعيات الثقافية والأندية الاجتماعية التي تهدف إلى نشر الوعي. كما يمكننا القول بأنه يتشكل من مجموعة من التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف. معنى ذلك أن المجتمع المدني هو مجتمع التعدد والاختلاف والتعارض والتناقض، ومؤسساته من أحزاب سياسية ونقابات، ومجالس نيابية، وصحافة، ووسائل إعلام قائمة على ركيزة التعدد والاختلاف والتعارض والتناقض. يشكل هذا المجتمع ركيزة من ركائز المجتمع الديموقراطي التعددي القائم على مفهوم الوحدة من خلال الاختلاف بين مكونات المجتمع المختلفة، ولذلك فمن أهم وظائف المجتمع المدني، إشاعة ثقافة مدنية ترسي في المجتمع احترام قيم النزوع للعمل التطوعي، والعمل الجماعي، وقبول الاختلاف والتنوع بين الذات والآخر وإدارة الخلاف بوسائل سلمية في ضوء قيم الاحترام والتسامح والتعاون والتنافس والصراع السلمي.

يتكون المجتمع المدني وفقاً للتعاريف السابقة من الجمعيات والتنظيمات الرسمية وغير الرسمية، التي تعمل بشكل مستقل عن الدولة وآليات السوق من أجل تحقيق مصالح المجتمع المستهدف، ولا يعني تمييزها عن الدولة والسوق أنها منفصلة عنهما وإنما يعني استقلالها عن أي منهما، فهي تتعاون معهما، ولكنها –في نفس الوقت-غير تابعة لأي منهما.

يلعب المجتمع المدني دوراً محورياً في مساعدة أفراد المجتمع على تكوين الثقة التي تربط الأفراد ببعضهم من أجل القيام بنشاط معين، وهو أمر ضروري لنجاح أي مؤسسة لأنها بذلك تمنح من لم تتح له الفرصة من قبل للمشاركة، فرصة الاندماج مع الآخرين في أنشطة هامة. بذلك يعتبر المجتمع المدني أحد المصادر الهامة والأساسية لتكوين رأس المال الاجتماعي، خاصةً في المجتمعات المتقدمة التي تتميز بارتفاع مستوى الوعي العام لدى مواطنيها، وارتفاع معدلات المشاركة في الحياة المدنية.

وفي النهاية، نجد أن المجتمع المدني يتألف من مجموعة من المنظمات والشبكات الرسمية وغير الرسمية المستقلة تسيير مستقلة عن الحكومة والسوق والتي تسعى لتحقيق أهدافها الخاصة، فإن تركيب هذه الشبكات ينتج عنه رأس المال الاجتماعي. وهذا ما ذهب إليه روبرت بوتنام، حيث وجد أن اجتماع الناس وقضاءهم وقت مع بعضهم البعض يقومون بتطوير مجموعة من العلاقات التي تخلق الثقة والتماسك فيما بينهم، وهذا ما يسمى برأس المال الاجتماعي، الذي يكون سبباً رئيسياً في دفع عملية التنمية الاقتصادية.  

5- القطاع العام: يشمل القطاع العام المؤسسات التابعة لإشراف الدولة وإداراتها، حيث تقوم هذه المؤسسات من خلال إدارتها للعلاقة بين موظفيها بتدعيم ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة وهيئاتها، الأمر الذي يمكن ملاحظته بوضوح في المجتمعات التي انضوت في السابق تحت راية المعسكر الشرقي.

6- المجموعات الاجتماعية الناشطة: إن العلاقات والتفاعل الموجود بين الجيران والأصدقاء والأعضاء في مجموعة واحدة يشكل شبكات كثيفة، فالعلاقات الاجتماعية بين هؤلاء، والتي هي في الأصل علاقات غير رسمية التشكيل تدعم العمل الجماعي، كما أن فعالية الثقة والأمان الموجود بين هؤلاء يقلل من مشاكل العنف والعدوانية، ويؤدي إلى تراكم رأس المال الاجتماعي، وهذا لا يكون بعزل كل وحدة عن الأخرى بل على العكس تكون المسؤولية موزعة بين كل الأطراف، لأن هدفها هو تحقيق الرفاهية الاجتماعية للمجتمع وهذا لا يكتمل ولا يتحقق إلا بشرط التبادل المادي والرمزي بين الأعضاء والمجموعات. ففي دراسة قام  j. colman حول فاعلية المجموعات الاجتماعية لتكوين رأس المال الاجتماعي ذكر أربعة أمثلة:

أ- سوق تجار بائعي الألماس: الثقة العالية بين التجار وعدم فرض تكاليف بين العمال من أجل الأمان والضمان.

ب- الطلبة: مجموعات دراسية إما تكون من نفس المدرسة أو المدينة أو القرية.

ج- الأم في العائلة: تسعى لأخذ التدابير اللازمة لعدم احتكاك أولادها أي احتكاك سلبي.

د- التبادل داخل الأسواق: ذات الخصائص المتميزة التي تساعد بنشر الثقة والتعاون والتبادل المشترك داخل المساق الاجتماعي.

وثمة مصادر أخرى لرأس المال الاجتماعي غير تلك التي تم ذكرها آنفا ومنها: جماعات الجيرة، وجماعات الأصدقاء، وغيرها، وتتساوى هذه المصادر في أهميتها، وما يميز إحداها عن الآخر هو السياق التي تعمل فيه، ففي بعض المجتمعات يكون لمؤسسات الدولة، والمجتمع المدني أهمية كبيرة في تكوين رأس المال الاجتماعي، وهذا ينطبق على نظم الحكم الديموقراطي التي يتمتع فيها المجتمع المدني بقوة حقيقية في التأثير على عملية صنع القرار، إذ تتمتع الجمعيات غير الرسمية بقوة ونفوذ كبيرين، لأنها الأكثر قدرة على استيعاب الأفراد، وهي بذلك تساهم في تكوين رأس المال الاجتماعي.

خلاصة القول: لقد أدرك الإنسان أن التنمية الحقيقية هي التي تبدأ بتنمية الإنسان لنفسه ولا تستديم هذه التنمية إلا إذا كانت تنمية شاملة وعادلة. وبعد عقود طويلة من الزمن اعتقد فيها الإنسان أن تطوره وارتقاء حياته مرهون فقط بالأمور المادية، وبما يستطيع تراكمه من أموال وثروات، جعله يغتر بما حققه، فأصبحت عقيدته أنه يمكن النمو بلا حدود، وأن فهمه المادي لرأس المال هو سر ما يحققه في وجوده.

فلا يمكن تصور حدوث تنمية حقيقة في مجتمـع يعـاني مـن ضـعف الاندماج الاجتماعي بين جماعاته المختلفة دينية كانت أو عرقية، أو حتـى قبليـة أو عـشائرية وعائلية. ويزخر العالم العربي والإسلامي بنماذج عدة لدول رغم مواردها الواعدة إلا أن ضعف التواصـل بين الجماعات المختلفة داخلها والتناحر بينها، والذي بلغ الحرب الأهلية في العديد مـن الحـالات ألقى بظلاله على مستوى التنمية في هذه الدول مما أدى إلى فشلها.

والعبرة ليست في التعدد بحد ذاته، فكل المجتمعات بلا استثناء تشهد تنوعـاً واختلافـاً بين جماعات عدة، ولكن المهم هو مدى شعور هذه الجماعـات أو إحـداها بـالاختلاف وعـدم الرضا، ومن ثم ضعف روابطها واندماجها مع الجماعات الأخرى. حينئذ تبرز ما يعرف بأزمـة التكامل القومي، وهي أقصى درجات التراجع لرأس المال الاجتماعي للمجتمع.

ويعتبر التماسك والترابط الاجتماعي الذي يعبّر عن مجمل العلاقات والإجراءات التي تسمح بوصل الأفراد والمجموعات بعضهم ببعض من أجل البقاء والعيش المشترك تحقيقاً للاندماج الاجتماعي عاملاً أساسياً لتحديد مدى قوة الدولـة وقـدرتها على تجاوز الأزمات المختلفة التي تواجهها، ورد العدوان الخارجي حال حدوثـه. فبقـدر وحـدة المجتمع ومتانة الروابط والعلاقات بين أفراده بقدر قوة الدولة وقدرتها على مقاومـة أي محاولـة خارجية للنيل منها. فالعامل الخارجي لا يمكن أن يحقق أهدافه ويؤتي أثره إلا في مجتمع تـسوده الفرقة والعداء بين أفراده.

وهكذا يشكل رأس المال الاجتماعي مصدراً من المصادر المجتمعية التي تربط المواطنين وتوحدهم، وتمكنهم من مسايرة أهدافهم بصورة أكثر فعالية، إذ تتحكم في إرادة المواطنين وتدعوهم للتعاون مع بعضهم البعض للاشتراك في مناحي الحياة بأسلوب جماعي. كما يساهم رأسمال الاجتماعي في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتعميق الاندماج الاجتماعي وتعزيز اللحمة الوطنية والاجتماعية التي يكون فيها كافة شرائح المجتمع والأمة متماسكين ومتلاحمين كالجسد الواحد فضلاً عن اصطفافهم والتفافهم خلف القيادة الوطنية والشرعية تحت مظلة المبادئ والأخلاق والقيم الدارجة إضافة إلى رفض أي شكل من أشكال العنصرية أو التفرقة أو التشرذم الانقسام الاجتماعي أو السياسي وتحمل المسؤوليات وإتمام الواجبات على أكمل وجه. وهذا هو الدور الجوهري الذي يرنو إلى تحقيقه رأسمال الاجتماعي في المجتمعات التي تطمح إلى بناء مستقبل واعد ومشرق لأفرادها.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

.........................

- المراجع المعتمدة:

- حسام الدين فياض: سوسيولوجيا العلاقات الاجتماعية، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب: الرابع، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2023.

- شادية أحمد مصطفى عمران: دور المرأة في صعيد مصر في تراكم وإهدار رأس المال الاجتماعي - دراسة ميدانية على عينة من السيدات العاملات بجامعة سوهاج، أعمال مؤتمر المرأة في مجتمعاتنا على ساحة أطر حضارية، بالتعاون مع جامعة عين شمس، كلية الآداب، قسم علم الاجتماع، مركز الدراسات المعرفية، القاهرة، 2006.

- خالد كاظم أبو دوح: عرض كتاب (رأس المال الاجتماعي لدي الشرائح المهنية من الطبقة الوسطى)، الحوار المتمدن، العدد:1755، 2006.12.05.  https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=82595

- سناء الخولي: الأسرة والحياة الأسرية، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ط1، 2002.

- بلحنافي أمينة ومختاري فيصل: إشكالية رأس المال الاجتماعي بين المفهوم والقياس، مجلة الحكمة للدراسات الاقتصادية، الجزائر، المجلد: 5، العدد: 9، الصفحة: 121-148، 2017.

- انجي محمد عبد الحميد: دور المجتمع المدني في تكوين رأس المال الاجتماعي (دراسة حالة للجمعيات الأهلية في مصر)، المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، القاهرة، سلسلة أبحاث ودراسات، الإصدار الأول، 2010.

- عبد المالك لخضر وسعيدي عامر برزوق: أثر رأس المال الاجتماعي على النمو الاقتصادي، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة الطاهر مولاي سعيدة، كلية العلوم الاقتصادية والتجارية وعلوم التسيير، قسم العلوم الاقتصادية، الجزائر، 2016-2017.

- عبد العزيز خواجة: مبادئ التنشئة الاجتماعية، دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران، ط1، 2005.

- جميل هلال وآخرون: المدرسة الأساسية ورأس المال الاجتماعي: دراسة حالات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، معهد أبحاث السياسيات الاقتصادية الفلسطيني (ماس)، 2010.

- سهير محمد حواله، هند سيد أحمد الشوربجي: رأس المال الاجتماعي بالتعليم: مقوماته ومعوقاته، مجلة العلوم التربوية، جامعة القاهرة، العدد: الثالث، ج2، يوليو 2014.

- نادية أبو زاهر: دور النخبة السياسية الفلسطينية في تكوين رأس المال الاجتماعي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، تموز 2013.

- علي ليلة: المجتمع المدني العربي – قضايا المواطنة وحقوق الإنسان، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، ط2، 2013.

- توفيق المديني: المدني والدولة السياسية في الوطن العربي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1997.

- محمد مفتي: مفهوم المجتمع المدني والدولة المدنية (دراسة تحليلية- نقدية)، مركز البحوث والدراسات، البيان 182، الرياض، 1435/ 2013.

- Francis Fukuyama: Social capital, civil society and Development, Third World Quarterly, Volume 22, No: 1, 2001.

 -Christiaan Grootaert: Social Capital: The Missing Link? , Washington, D.C, World Bank, Social Capital Initiative Working Paper No:3, April 1998, p.(3-6). https://silo.tips/download/social-capital-the-missing-link

هابرماس ناقدا لراولز

لقد أعاد جون راولز، في كتابه نظرية العدالة الذي نشر في عام 1971، تقديم مسألة المجتمع والمؤسسات العادلة في قلب الاهتمامات المعاصرة[1]. كما ميز المفهوم الليبرالي للحقوق الأساسية، الليبرالية، حريات المعاصرين، من خلال جعل هذه الحقوق أساس الدولة. ومن ناحية أخرى، تبنى الجمهوريون الحقوق السياسية للمشاركة، وحريات السابقين، من خلال الإصرار على ممارسة تقرير المصير للمواطنين.

راولز في الواقع، منذ أوائل ثمانينيات القرن العشرين، وخاصة من عام 1985 فصاعدا، تخلى تدريجيا عن نظريته الأخلاقية الأولية وكذلك نظريته في العقل العملي[2]. بحيث انفرد بنسبية إرث التنوير، ووصف الإجرائية في هذه الفترة بأنها "تمييزية"، كما فتح الباب أمام "التمييز"، وقلل من جدوائية أي مشروع للعالمية  حتى لو كان مرتكزا على الحجج الجيدة ولجأ راولز إلى المحافظة التي تهدف أولا وقبل كل شيء إلى الاستقرار.

المعلوم أنه على مدى العقود الأربعة الفائتة، كان لجون راولز منافسا شرسا، وكان لكلاهما تأثير بالغ وبعمق على الفلسفة المعاصرة أقصد الألماني يورغن هابرماس، حيث اشتغل هابرماس على مشكلة إرث الحداثة فيما يتعلق بالحكم الذاتي (الفردي والسياسي) كصراع بين المفهوم الليبرالي والمفهوم الجمهوري[3].

و من وجهة نظره، حاول الفلاسفة الأكثر إدراكا، مثل كانط وروسو، تجنب الإفراط في استثمار أحد جانبي الحداثة هذا أو الآخر لصالح تحكيم معقول بين الاثنين. ومن جانبه، أسس هابرماس، مع نظريته في العمل التواصلي، فلسفة أصلية تسعى، عند التقاء اهتمامات مختلفة، إلى إعادة التفكير في معنى الحداثة[4] .

ومع  الاستخدام العملي لراولز من قبل هابرماس، تغير كل شيء مع مشروع جون راولز J. Rawls، حول "الليبرالية السياسية" التي تكرس المسافة الحقيقية القائمة بين هذين المشروعين الفلسفيين[5] .

و لعل نقد هابرماس لراولز لا يقيس فقط المسافة التي تفصل بين فلسفة كل منهما، بل له أيضا قيمة رمزية، وهي كسر السحر الذي مارسه راولز منذ فترة طويلة على الفلسفة القانونية والسياسية المعاصرة في أمريكا وأوروبا أي الغرب ككل[*].

على هذا الأساس نهدف الى مقاربة التحليل والتفكير في نقد هابرماس لراولز[6].

حيث سنرى كيف يرفض هابرماس ليبرالية راولز السياسية، وكيف يوضح حرج النظرية.

لأنه وفق هابرماس، فإن مشروع راولز لليبرالية السياسية هو نظرية لا علاقة لها بالقضايا البدائية للحداثة. هذا النقد يهمنا بقدر ما يسمح لنا بإلقاء نظرة جديدة على الانتقال من فلسفة "العقد الاجتماعي" إلى فلسفة الاتصال الجماهيري.

في ظل هذا النهج، من نافلة القول أننا نختار نموذج فلسفة الاتصال على حساب فلسفة راولز[7] . نحن نعتقد، في الواقع، أن الفلسفة التواصلية من خلال اهتمامها بالعالم الملموس لممثليها ورهاناتها الثقافية والاجتماعية والسياسية الحقيقية، لها ميزة كبيرة على فلسفة راولز الافتراضية المنطقية. ولكن دعونا لا نتسرع في الخطوات التي لا يزال يتعين اتخاذها.

في مقالتنا التحليلية هذه، سنركز على بعض الموضوعات الرئيسية المتعلقة بفلسفة القانون. نريد أولا أن نفحص نقد هابرماس لنموذج الحكم الذاتي السياسي والفردي عند راولز،  ثم نفحص كيف ينتقد هابرماس خطاب راولز حول تشكيل المعايير. وضمن هذه التحليلات، فإن التباين التفسيري هو الذي يشكل إطار التفكير.

نقد الإستقلال الفردي والسياسي في فلسفة روالز:

عند نقد نموذج راولز للاستقلال السياسي والفردي من المناسب أولا أن نقول بضع كلمات عن الهدف الذي سعى إليه هابرماس في نقده لراولز حول هذا الموضوع:

في نظر هابرماس، واصل راولز العمل التحكيمي، ولكن بناءا على أساس فلسفي ناقص، أي فلسفة الوعي التي سيتفاقم عدم كفايتها بسبب مشروعه الجديد لليبرالية السياسية. وبالتالي فإن التحدي الذي يمثله نقد هابرماس لنموذج راولز ليس فقط تصحيح أي تحيز فلسفي، ولكن بشكل أعمق، لإدراج الذاتية التواصلية ضد نداءات الوعي الليبرالي.

الاستقلال الذاتي الفردي:

يعتبر راولز أن مصدر نظام الحقوق والحريات يشير إلى فكرة المجتمع الذي يُنظر إليه على أنه نظام عادل للتعاون. ويضطلع ممثلو المواطنين بمهمة الاتفاق على شروط التعاون رهنا بشروط معقولة. كمشاركين في مثل هذا التعاون، يمتلك المواطنون، كما يقول راولز، ملكتين أخلاقيتين تسمحان لهم بالمساهمة في هذا المشروع[8]:

أولا، القدرة على الإشارة إلى الشعور بالعدالة.

ثانيا، القدرة على اختيار مفهوم للممتلكات.

يشير أحدهما إلى "معقول"، والآخر إلى "عقلاني"[9]. معنى هذه الرؤية للاستقلالية الفردية هو، كما يؤكد راولز، أن الليبرالية السياسية تأمل في تلبية المطلب الليبرالي التقليدي لتبرير العالم الاجتماعي بطريقة مقبولة "وفقا لمحكمة الفهم المناسبة لكل فرد"[10]. هذه الطريقة في النظر إلى الاستقلالية الفردية هي في الأساس مونولوج، بحسب هابرماس. إذ يتم إضفاء الطابع الموضوعي على الاستقلالية الفردية من منظور "أنا" فقط. هذا التصور للاستقلالية الشخصية الذي ينظر إلى الوكيل فقط من زاوية نموذج افتراضي ينتقده هابرماس، لتجاهل نموذج راولز بشكل منهجي الفهم الذي يمكن للوكيل المعقول تحقيقه بشكل جماعي. يتجاهل هذا النموذج عمدا الفهم الانعكاسي الذي يمكن لكل فرد اكتسابه في الفضاء العام.  كون منطق نموذج راولز هو الذي يحول في النهاية العديد من "أنا" إلى "نحن" سياسي.

مثل هذا المفهوم، في نظر هابرماس، لا يزال يعتمد على أسس فلسفة الوعي، أي أنه ينصب على نموذج الذات الانفرادية. هذا النموذج لا يحتاج إلى الجدل بين المواطنين، ولكنه يحتاج فقط إلى نماذج منطقية سياسية تؤكد قانونيا وسياسيا أن الأفراد يتمتعون بالحكم الذاتي.

ثم إن اعتراض هابرماس على مفهوم راولز للاستقلالية الفردية ذو شقين. من ناحية، ينتقدها على أنها مونولوج، ومن ناحية أخرى، لا يوافق على المفهوم الضيق للفرد الذي قدمه راولز.

في الواقع، ينتقد هابرماس الحكم الذاتي السياسي أو السيادة، أو بعبارة أخرى فيما يتعلق بمفهوم راولز للسيادة، وأخيرا، بشكل اصطناعي، فيما يتعلق بالقضية الأساسية للمعنى الديمقراطي.

الاستقلال السياسي:

فيما يتعلق بالاستقلال السياسي، ما هو على المحك هو مسألة الحس الديمقراطي وكيف يصبح ناقصا في نظام راولز لصالح حزمة من "المبادئ" التي لا يمكن تصنيفها بحسب هابرماس. لكن حتى لو كان كلاهما يشتركان في فكرة سيادة الشعب كأساس للسياسة، فليس لها نفس المعنى لكل منهما. بالنسبة لراولز، يمكن تلخيص سيادة الشعب، في منطق الاختيار العقلاني المحدد مسبقا والمتحيز مؤسسيا. هذا المنطق يحمي المؤسسات إلى حد كبير من القضايا السياسية والديمقراطية. يمكننا التعامل مع موضوع الحكم الذاتي السياسي لراولز من خلال الاعتماد على نقد هابرماس لاستعارة الموقف الأصلي. حيث يستخدم راولز هذه الصورة لتقديم نموذج الاستقلال السياسي المرغوب فيه[11].

بينما واقعا، يعتقد روالز أن الموقف الأصلي يمكن أن يكون وسيلة ديمقراطية لضمان وقيادة اتفاق عادل. كما تفترض نظريته في التمثيل أن الشخص، الذي يدرك التنافس بين المذاهب الشاملة وفي اهتمام بالحياد فيما يتعلق بها، يحتاج إلى طريقة "محايدة" أو، كما يقول راولز، طريقة "قائمة بذاتها" للوساطة السياسية[12] لتأسيس المعايير والمؤسسات المناسبة.

بالطبع، يمكن لأي شخص في النهاية استخدام هذه الطريقة، لكن راولز يؤكد أنها طريقة يمكن استخدامها، بشكل مميز، من قبل الأشخاص الذين لديهم "تفويض" سياسي وقانوني عام من جانب المجتمع[13]. وبالتالي فهي طريقة يمكن أن تستخدمها الهيئات القانونية والسياسية لفهم السياسات المناسبة وتفسيرها وتنفيذها. لذلك يفترض راولز أن حقيقة أطروحته، بأن أي شخص عاقل يمكنه التحقق من استخدام هذه الطريقة، وأحيانا الطعن فيها، يوفر أساسا ديمقراطيا لهذه الهيئات القانونية والسياسية.

هابرماس انتقد القول: إن هذه النظرية تحمي المؤسسات من التفكير الديمقراطي الأوسع. متسائلا: لماذا يجب على الأفراد المستقلين تماما أن يحتاجوا إلى نظرية تمثيل (افتراضيا غير مستقلين تماما)؟

بالنسبة لهابرماس، لا يحتاج الأفراد إلى مثل هذا التمثيل طالما يتم تصور المواطنين كأشخاص أخلاقيين لديهم شعور بالعدالة والقدرة على الرجوع إلى مفهومهم الخاص للخير. إذا كان هذا هو الحال، كما يدعي هابرماس، فإن راولز يقوم فقط بتحويل خصائص الشخص الاعتباري، تحت قيود نموذج محدد ومجرد للعقلانية، إلى هذا النموذج نفسه. ببساطة، إنه يقدم تفكيرا دائريا للتبرير الذاتي الذي لا يعمل إلا على توفير "الأصول" للفقهاء الدستوريين، في التقاليد القانونية للبلدان الغربية، من خلال تأسيسهم على أنهم "الأصول" النهائية و"القضاة" النهائيون.

في مقابل هذه الطريقة في تصور الاستقلال السياسي، يقدم هابرماس المثل الأعلى الذي بموجبه "لا يتمتع المواطنون بالاستقلال السياسي إلا إذا استطاعوا أن يروا أنفسهم بشكل متبادل كمؤلفين للقوانين التي يخضعون لها كمخاطبين فرديين"[14]، مشيرا ضمن سياق نقده لمواقف راولز إلى أن هذه ليست رؤية راولز.  كما يجادل بأنه إذا كان المواطنون فقط هم الذين يمكن تعيينهم عقلانيا كأساس وقاعدة، فيجب أن يكون الاستقلال السياسي كاملا ولا يمكن دفعه إلى نموذج افتراضي منطقي يفترض مسبقا أن يتولى بعقلانية مسؤولية الاستقلال السياسي للمواطنين.

بالنسبة لهابرماس إن حس الحداثة القانونية والسياسية هو الذي على المحك. وهو يعتبر أنه في نظر راولز، الإنسان الحديث "غير مناسب" باعتباره مسؤولا عن بناء الحياة المشتركة.

في الواقع، يعرف هابرماس مشروع الحداثة بأنه "الحاجة إلى أن يستمد المرء من نفسه كل ما يتعلق بالمعايير"[15]. أي منذ تلك اللحظة، يحتاج الإنسان إلى كل موارده، وجميع قدراته، وجميع خبراته. وإدخال نموذج افتراضي مثل نموذج راولز والتسلسل الهرمي للقيم والمعايير التي ينطوي عليها يصبح غير متوافق مع هذا المشروع. الإنسان لا يستمد من نفسه عند راولز، إنه يستمد من النموذج الافتراضي للفيلسوف (راولز).

يكشف هذا النقد ما لا تمثله نظرية راولز: فالاستقلال السياسي لا يشير إلى التحدث في الفضاء العام. إنه لا يعني وجود مساحة عامة تسمح للمواطنين "برؤية أنفسهم، بالمثل"، كمؤسسين ومخاطبين للقوانين. يمكن تلخيص المعنى الديمقراطي لنقد هابرماس للاستقلال الفردي والسياسي عند راولز في مسألة دور الديمقراطية فيما يتعلق بالمؤسسات.  إذا كان الحكم الذاتي، الفردي والسياسي، لا يمكن أن يكون له معنى إلا في مجتمع سياسي، فإن مفهوم الديمقراطية الذي تنقله نظرية راولز، وفقا لهابرماس، ناقص. لأن هابرماس أصلا لديه القليل من التعاطف مع هذا المفهوم للديمقراطية[16].

الذي يعتبر غير مقبول سياسيا وغير ذي صلة تجريبيا. لا يمكن للنموذج الذي اقترحه راولز الحصول على موافقة فعلية من المواطنين ولا يمكن تجديده للحفاظ على ثقافة ديمقراطية. في نظر هابرماس، هذا النموذج البارد لا يدعو إلى الالتزام الديمقراطي. إنه نموذج لا يثير المشاركة. وفقا لهابرماس، كونه يقدم راولز مفهوما محدودا للديمقراطية. وهابرماس ينتقده باعتباره مفهوما يتمثل دوره الرئيسي في حماية المؤسسات الديمقراطية من المخاطر السياسية والديمقراطية الموجودة بالفعل.

في الأساس، فإن الموقف الأصلي ليس سوى بناء منطقي رسمي يقدم، وفقا لهابرماس، قيودا غير مبررة ديمقراطيا. إنه بناء يقدم تحفظات يقع تعريفها ضمن اختصاص الفيلسوف (راولز)، أو على الأرجح من اختصاص الفقيه الليبرالي الدستوري. ومن ثم فإن الأمر متروك لهم لوضع الحدود التي تمارس فيها المصالح الخاصة والسياسية. هذه القيود، مثل القضية الديمقراطية، بعيدة عن متناول المواطنين.

في النهاية، يواصل راولز فقط الاتجاه الذي افتتحه ج. ستيوارت ميل، الذي يحصر القيادة السياسية والقانونية في "طبقة سياسية" مختصة[17]، "طبقة سياسية" مستنيرة يتمثل دورها النهائي في الاستقرار "الاجتماعي" و"التسامح" الأيديولوجي.

هكذا في نقده لراولز، يقترح هابرماس مفهومه الخاص للديمقراطية. ووفقا له، فإن الديمقراطية تعرف بالمشاركة الكاملة والفعالة لجميع المواطنين[18]. الديمقراطية هي الفضاء العام الذي يضمن تبادلا واسعا بشكل متزايد للحجج والأسباب التي يمكن أن تنير الأفراد وتخدم عملية تشكيل إرادة مشتركة وتواصلية متبادلة. يجب أن تضمن الديمقراطية أن يعرف الأفراد أنفسهم من خلال خطاباتهم. إنهم يحشدون خبراتهم، ويستحضرون خزانهم الرمزي  واستخدام الأشكال المختلفة لعقلانية الحداثة. باختصار، وفقا لهابرماس، تقوم الديمقراطية على الحق الكامل وغير المتحيز في المشاركة.

بهذا المعنى، نلاحظ أنه إذا بنى هابرماس معارضته لراولز وفقا لمخطط حرية المعاصرين مقابل حرية السابقين، مؤكدا على الاختلاف كاختلاف الحقوق المعنوية وحقوق المشاركة، فإن راولز من جانبه يعرف هذا المخطط نفسه على أنه فرق بين الحقوق المعنوية والحق في المساواة،  أو "قيم الحرية والمساواة"[19]. حيث يقدم راولز تفسيرا تاريخيا وفلسفيا خاطئا، لأن السابقين لم يكونوا مهتمين بالمساواة، بل بحقوق المشاركة الديمقراطية. ومع ذلك، فإن هذا التفسير الخاطئ الفلسفي يضعنا على درب مسدود، المكون لمشروع روالز لليبرالية السياسية. لا يمكن لهذا الأخير إلا أن يجسد جوهر الحق الديمقراطي الكامل في المشاركة مع المخاطرة برؤية انهيار رافعات فلسفية مبنية بعناية.

نقد هابرماس خطاب راولز حول تأسيس المعايير:

يسمح لنا نقد هابرماس لراولز حول مسألة أساس المعايير بملاحظة التناقض بين هذين الخطابين المتنافسين حول أساس المعايير من خلال إشكالية تعاقدية راولز لصالح أساس تواصلي للمعايير.

حيث  يبني هابرماس نقده على ثلاثة محاور[20]:

1) هل يمكن للأطراف فهم المصالح العليا للآخرين فقط على أساس الأنانية العقلانية في مفهوم الموقف الأصلي؟

2) هل يمكن استيعاب الحقوق الأساسية في السلع الأولية؟

3) هل يمكن أن يضمن حجاب الجهل حياد الحكم؟

في العرض التالي، سنحترم هذا الترتيب ونضيف

4) توليفة وبعض الانعكاسات. حول الموقف الأصلي، ومما لا يثير الدهشة، أن هابرماس يوجه اللوم التالي إلى راولز: الموقف الأصلي ينفذ فقط الأنانية العقلانية[21].

دعونا نقترب من هذا البيان من خلال تعميق نقد يورغن هابرماس لعقلانية السعي نحو تحقيق الغايات، أو الاستراتيجية المتأصلة في نموذج راولز.

موقف راولز الأصلي هو في الواقع استعارة، صورة، يقصد بها أن تكون مماثلة لنظريات العقد الاجتماعي الحديث[22]. وهكذا، يفترض راولز أن العدالة يمكن تعريفها فكريا، ومرغوبة سياسيا، في نهاية حساب الفوائد / التكاليف، والتي، بالنظر إلى الذات، تهدف فقط إلى "الخير" أو "العدل" للأنا. يناشد الموقف الأصلي مفهوم راولز للاستقلالية الفردية الذي قمنا بتحليله سابقا: "أنا" هي التي تختار. الأفراد، تحت ستار الجهل، لا يسعون حتى، بالمعنى الدقيق للكلمة، إلى وضع أنفسهم في مكان الآخرين. بالطبع، يمكنهم تخيل جميع أنواع المواقف الاجتماعية والسياسية المحتملة، لكن هذه مناصب لا يشغلونها ولا يعرفونها أيضا. يؤسس الموقف الأصلي أنانية عقلانية في نظر هابرماس من خلال استبعاد لحظة "أخلاقية" حقيقية بمعنى الفلسفة العملية، أي "وجدت" المعايير على أنها مشتركة ومثبتة بين الذات. كما يلاحظ جان مارك فيري بحق، أن موقف راولز ينفذ بدلا من ذلك تركيزا "متناقضا" بطريقة يجعل "الاعتبار الأناني كافيا لتحفيز: يمكنني أن أكون الآخر"[23].

إنه يطبق منطقا حيث يجب أن تضع "أنا" نفسها في مكان الآخر. في نظر هابرماس، فإن حجاب الجهل يعمل على تقديم حساب أناني دون مراعاة المخاطر الملموسة. وفي الواقع، يستخدم هذا الحساب الأناني فرضية العواقب على الأنا، دون تحديد هذه العواقب تجريبيا. بالنسبة لهابرماس، فإن النتيجة هي حساب أناني لا يمكن أن يفسر ما هو صحيح للجميع على قدم المساواة. يجيب هابرماس كيف يمكن لأتباع موقف راولز الأصلي أن "يفهموا حقيقة أن المواطنين المستقلين يحترمون مصالح الآخرين على أساس مبادئ عادلة وليس فقط لأسباب تتعلق بمصالحهم الخاصة، وأنه قد يكون عليهم واجب الولاء، وأنهم يرغبون في الاقتناع بشرعية الترتيبات القائمة والسياسة المناسبة من خلال الاستخدام العام لعقلهم،  إلخ.»[24]

لا يمكنهم ذلك، وفقا لهابرماس. لا يمكنهم القيام بذلك إلا من خلال تطوير "وجهة النظر الأخلاقية" بطريقة يمكن أن ترضي مصالح الجميع ويمكن أن تلبي موافقة جميع المشاركين في مناقشة حقيقية. لكن مثل هذا الموقف بعيد كل البعد عن موقف راولز. الحقوق الأساسية انتقاد هابرماس الثاني لخطاب راولز حول أساس المعايير يتعلق بمفهومه للحقوق الأساسية[25]:

هل يمكن استيعاب الحقوق الأساسية في "السلع الأولية"، كما يؤكد راولز؟ هل القانون "جيد"؟ يحدد راولز "الحقوق الأساسية" بسلعة أولية بالمعنى الدقيق للكلمة بأنها سلعة يحتاجها المواطنون كأشخاص متساوين وأحرارا. في القائمة التي يضعها للسلع الأولية، يتم تسليط الضوء على الحقوق الأساسية[26].

يعبر أساس الفكر الراولزي عن أن السلع الأولية تستند إلى أساس عام من المقارنات الموضوعية التي تجعل من الممكن حساب الظروف الاجتماعية للمواطنين: حقيقة كونهم أحرارا. وهكذا، يشير مصطلح "جيد" إلى مفهوم ما، هو في رأينا، حياة بشرية تستحق العيش، والحقوق هي "خيرات" لأنها تؤكد لنا وتوفر لنا هذه الإمكانية للحياة البشرية[27]. إنه مفهوم لا يتم فيه تقاسم الحقوق بشكل ذاتي، ولكنها تنتمي إلى كل فرد في شكل امتلاك.

و عليه يتكون نقد هابرماس من القول إن الحقوق الأساسية يتم اختزالها في منظور فعال عند راولز. إنه شرط ضروري للناس ليكونوا قادرين على تنفيذ خطط الحياة التي يعتقدون، عن حق أو خطأ، أنها كافية. ويعتبر هابرماس أن هذا المفهوم للحقوق الأساسية هو البديل من التمثيل الذي يمكن أن يرتبط بكل من الأرسطية والنفعية[28] .

للأسف هابرماس لا يعمق هذا الارتباط الخفي لراولز بالنفعية. ومع ذلك، يشير إلى أن جذر المشكلة هو أن راولز يربط عملية تأسيس المعايير بعملية غائية، منظمة وفقا لمنطق الشخص وعمله. وبعبارة أخرى، فإن القيمة "النفعية" للحقوق هي التي تبرر وجودها. يقارن هابرماس بين المعنى الحديث للقانون وهذا المفهوم: حق مستمد من المعرفة الأخلاقية والعملية للأفراد الذين جعلوا القانون أفق حياتهم المشتركة. لماذا يريد راولز إزالة الحقوق الأساسية من هذه المعرفة الأخلاقية والعملية؟ لماذا يريد أن يؤسس الحقوق الأساسية بطريقة فردية، عندما يتعلق معناها بالعيش معا؟

والمسألة ليست مسألة أي تنازع بين القانون الذاتي والقانون الجماعي، بل بالأحرى دور الاستقلال السياسي في صياغة الحقوق. تؤدي العملية المقيدة التي استخدمها راولز في بناء الاستقلال الفردي والسياسي إلى تحيز الوساطة بين المفهوم الليبرالي للحقوق الأساسية والمفهوم الجمهوري. يتطلب نموذجه أن تكتب الحقوق الأساسية في شكل سلع فردية، حيث تكون المخاطر بين الذات. الفئة الأولى من الحقوق الأساسية التي سيتم استبعادها هي الحق في المشاركة السياسية، والتي لا يمكن كتابتها بهذه الطريقة. <في مفهوم راولز ل "حقوق الملكية" ..[29]

لا يرى هنا هابرماس سوى علامة على رفض الاعتراف بدور "الاستخدام العام للعقل" فيما يتعلق بالحقوق الأساسية.

في حين يبني راولز لنفسه مأوى آمنا ضد المناقشات والمنطق والحجج التي يمكن أن تحدث في الفضاء العام عندما يتعلق الأمر بمنح نفسه حقوقا أساسية.

حجاب الجهل يتحدى انتقاد هابرماس الثالث لراولز، وكذلك خطابه حول أساس المعايير الصحيحة، الأطروحة القائلة بأن حجاب الجهل يمكن أن يضمن حياد الحكم. عند راولز، يعطي حجاب الجهل مثل هذا الضمان من خلال إجبارنا على "نسيان>" من نحن، ومن أين أتينا وما اختبرناه. إن حجاب الجهل الذي نضعه أمام أعيننا لجعل عملية تأسيس المعايير عملية، يخدم، كما يقول راولز، التفكير المحايد[30]. يمثل الموقف الأصلي في نظام راولز  فكرة تنظيمية يتم من خلالها الاتفاق على جميع الاعتبارات المدروسة جيدا. يرتبط مفهوم الحياد، بالنسبة لهابرماس، بفكرة إعلام المشاركين30[31] . إذا لم يتمكن المشاركون من الوصول إلى جميع المعلومات الممكنة عن أنفسهم والمجتمع، فكيف يمكننا، كما يرد هابرماس، الادعاء بأن حكمهم "محايد"؟ هل يمكن القول إن حكما غير مستنير "محايد"؟ لا يرى هابرماس هنا سوى نوع من العمى المتعمد، وتقييد المعلومات المقبولة وإدخال الإفراط في التحديد الأيديولوجي المبرمج مسبقا.

في الواقع، قدم راولز أساسا معياريا، من الخارج، كما قال هابرماس[32]، يجب أن يتحكم في تدفق المعلومات التي تأتي من مجتمع الحداثة المنقسم بشدة.

ويعمل حجاب الجهل كمرشح يمنع النظر في التجارب ذات الأهمية الأخلاقية وأشكال التعلم المختلفة. في الواقع، وفقا لهابرماس، يخنق راولز تدفق المعلومات الاجتماعية والسياسية والثقافية، بحيث يجب أن يوائم حجاب الجهل فقط المعلومات المقبولة وفقا للمبادئ الأولية. البديل، بالنسبة لهابرماس، ليس الانغلاق على تجارب الحداثة ذات الأهمية الأخلاقية، بل الانفتاح على أخذها في الاعتبار. على المستوى التجريبي، ليس لدى هابرماس مشكلة في إظهار كيف تمكنت حداثتهم القانونية بشكل فعال ومخجل من الانغلاق على مثل هذه التجارب. لقد دفعت الحركة العمالية تاريخيا ثمن هذا الإغلاق. لم تعتبر التجربة الأخلاقية للعمال ببساطة ذات صلة بقانون القرن.

اليوم، النسوية هي التي تحاول إضفاء الطابع الموضوعي على التجربة الأخلاقية للمرأة. هل يجب أن نغلق أنفسنا، كما يقترح راولز، على هذه التجارب ونرفض المعلومات التي يمكن أن تجلبها لنا؟ إذا كان الأمر كذلك، فهل يمكننا أن نصدق أن هذه الحركات وغيرها سترغب في وضع ثقتها في حداثتنا القانونية؟ أليس الشخص الذي لم يتم الاستماع إليه يعامل بالفعل كعدو؟ لذلك فإن إصرار هابرماس على الدور الأساسي للمعلومات يشير إلى الاستخدام العام للعقل. ويتطلب الاستخدام العام للعقل المتأصل في منظور هابرماس تدفقا للمعلومات، على عكس مفهوم راولز.

ضد راولز، يقدم هابرماس طريقة مختلفة تماما للنظر في الحياد. ويعرفها على النحو التالي: "إن وجهة النظر التي يتم من خلالها تعميم القواعد ذاتها هي وحدها وجهة النظر المحايدة، لأنها تجسد بوضوح مصلحة مشتركة لجميع الأشخاص المعنيين، يمكن أن تتوقع التزاما عاما وتكتسب، إلى هذا الحد، اعترافا بين الذات"[33]. إنه مفهوم للحياد، على عكس راولز، يقبل ويتطلب أي معلومات أو خبرة ذات صلة أخلاقية.

و تثير بعض التأملات نقد هابرماس لخطاب راولز حول أساس الأعراف الاجتماعية مسألة معنى "وجهة النظر الأخلاقية".

يؤكد النقد الذي قمنا بتحليله للتو أن راولز فشل في تلبية المتطلبات من "وجهة نظر أخلاقية". وفقا لهابرماس، ويجد راولز نفسه في طريق مسدود، لأنه يحول هذا المطلب إلى وجهة نظر واحدة، وجهة نظر "أنا"، كما هو الحال مع حتمية كانط القاطعة. بالنسبة لهابرماس، لا يكفي أن يشرع كل فرد، بطريقة خاصة، في مداولات تسعى إلى تبرير المعايير الأساسية. والمطلوب هو أن يوافق الأفراد المعنيون على صحة القواعد المقترحة وأن يعترفوا بها فيما بينهم. وهكذا يريد هابرماس وضع "وجهة النظر الأخلاقية" على محور التداخل.

و عليه لم يعد كافيا أن نعرف أن الشخص مستعد للخضوع لمنطق راولز الافتراضي، يجب أن نسأل أنفسنا بشكل أكثر واقعية ما يريده الجميع معا.

يجسد هابرماس "وجهة نظر أخلاقية" تشير ذاتيتها إلى أفق "الإرادة المشتركة" المشتركة في التواصل. لذلك من المهم أن مسألة صحة المعايير الاجتماعية لم تعد نتيجة لإنتاج منطقي افتراضي داخلي كما هو الحال عند راولز. بالنسبة لهابرماس، فإن إنتاج المعايير هو مسؤولية القوى الديمقراطية وسيتم تقديم المصادقة عليها لتقدير الجميع.

نختتم مقالتنا بتقييم وتقديم بعض المسارات للتفكير:

معنى النقد الهابرماسي هو أن فلسفة راولز لها جذورها في القرن التاسع عشر. مشروع راولز ليس سوى نسخة حديثة من تقليد فلسفة الوعي. إنها فلسفة تستمر كما لو أن نقطة التحول اللغوية لم تحدث أبدا. ما يظهر باستمرار هو غياب الذاتية الحقيقية والديمقراطية عند راولز.

إن معنى مشروع راولز يخاطر باختزاله في إعلان إيمان بالمؤسسات السياسية والقانونية في البلدان الحرة والتعددية والديمقراطية. في الواقع، فإن مهنة الإيمان بالمعنى الدقيق لها أن خطابه عن تأسيس المعايير يؤدي إلى "محكمة المبادئ"، أي الدستور وتفسيره،، والذي لا يحق إلا للمحاكم العليا تفسيره عمليا. إن غياب حوار مفتوح وديمقراطي، سواء من حيث أساس المؤسسات أو من حيث التفسير ومخطط التفاهم، سيعرض مشروع راولز للخطر.

بحسب هابرماس، بنى راولز "روحا فلسفية" وحاول تحريك المشروع "الدستوري" الحديث. لكن هذه "الروح الفلسفية" لا يمكن إدارتها بشكل ملموس إلا من قبل مؤسسة من المفترض أن تتشكل من خلال الاختيار السياسي للرجال والنساء الفاضلين. ومرة أخرى، كما يشير هابرماس: إنها مسألة "روح" تهرب منا، وتحل محلنا، والتي، على طريقة تراث التنوير، تعمل كعقل منطقي. هل يمثل مشروع راولز نظرية نحتاجها؟

من الواضح أن كل ما يقوله هابرماس يثبت العكس، وأنه يشكل عقيدة التراجع الآمن، إن لم يكن التنازل عن السلطة في أيدي "طبقة سياسية" يفترض أنها مستنيرة ومختصة. أليس البديل هو تعميق فهمنا لما تتطلبه الديمقراطية؟ خلاف ذلك، المراهنة على مفهوم راديكالي للديمقراطية، كما يفعل هابرماس. والمرجح، أنه يجب التصدي لهذا الرهان..

***

ا. مراد غريبي – كاتب وباحث

...........................

* تم الإعتماد على دراسات وكتب بالفرنسية حول فلسفتي جون راولز ويورغن هابرماس خاصة لأنها جد غنية بالمراجع والمقاربات  وذات ترجمات دقيقة وقريبة للغات الأصلية للكتب.

المراجع:

1. جون رولز، نظرية العدالة، دار الكتاب الجديدة، 2019م/

2. ي. هابرماس، نظرية الفعل التواصلي، مركز  العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، ترجمة فتحي المسكيني، 2020

3. ج. راولز، الليبرالية السياسية  دار حكمة للنشر وجداول، ترجمة نوفل الحاج لطيف، سنة 2022.

4. J.RAWLS   Justice et démocratie، باريس، Seuil، 2000.

5. راولز. نظرية العدالة ونقادها. ستانفورد، مطبعة جامعة ستانفورد، 1990.

6. ي. هابرماس، «المصالحة من خلال الاستخدام العام للعقل: ملاحظات حول الليبرالية السياسية لجون راولز» مجلة الفلسفة، المجلد. 92، العدد 03، مارس 1995،

7. ج. راولز، "الرد على هابرماس"، في مجلة الفلسفة، المجلد. 92، العدد 3، مارس 1995 .

8. ي. هابرماس، الخطاب الفلسفي للحداثة، ترجمة حسن صقر، دار الحوار للنشر والتوزيع، 2019.

9. ج. ستيوارت ميل، النفعية، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، 2012،.

10.  ب. ملكيفيك، “هابرماس وسيادة القانون. النموذج التواصلي للقانون وإعادة البناء الانعكاسي لسيادة القانون المعاصرة، ورقة مقدمة لمؤتمر حب القوانين: أزمة القانون الحديث في المجتمعات الديمقراطية، بكيبك كندا

B. Melkevik, « Habermas et l'État de droit. Le modèle communicationnel du droit et la reconstruction réflexive de l'État de droit contemporaine »

11.  جان هامبتون، «العقود والاختيارات: هل لدى راولز نظرية العقد الاجتماعي؟»  مجلة الفلسفة، المجلد77، 1980.

12. Jean-Marc Ferry, Philosophie de la communication 2. Justice politique et démocratie procédurale, Paris, Cerf, 1994

13. Insight and Solidarity: The Discourse Ethics of Jürgen Habermas (Philosophy, Social Theory, and the Rule of Law Book 1) William Rehg.2023.

14. ي. هابرماس، الأخلاق والتواصل، ترجمة أبو النور حمدي أبو النور حسن. التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2012. وكتاب

J. Habermas, Morale et communication   Champs essais1999

15. De l'éthique de la discussion, Champs essais 2023 Traduction (Allemand) : Mark Hunyadi

16. Droit et Agir Communicationnel : Penser avec Habermas ; Bjarne Melkevik, bohenos books inter, 2013

هوامش

[1] جون رولز، نظرية العدالة، باريس، سويل، 1987.

[2]أنظر شاندرا كوكاءس وفيليب بيتيت، راولز. نظرية العدالة ونقادها. ستانفورد، مطبعة جامعة ستانفورد، 1990.

[3] ي. هابرماس «المصالحة من خلال الاستخدام العام للعقل: ملاحظات حول الليبرالية السياسية لجون راولز»، مجلة الفلسفة، المجلد. 92، العدد 03، مارس 1995، ص. 127.

[4] . Droit et Agir Communicationnel : Penser avec Habermas ; Bjarne Melkevik, bohenos books inter, 2013

[5]  أنظر ج. راولز، الليبرالية السياسية، دار حكمة للنشر وجداول، ترجمة نوفل الحاج لطيف، سنة 2022

[6]  ي. هابرماس، «المصالحة من خلال الاستخدام العام للعقل: ملاحظات حول الليبرالية السياسية لجون راولز» ص. 109-131.

[7] ج. راولز، "الرد على هابرماس"، مجلة الفلسفة، المجلد. 92، العدد 3، مارس 1995، ص. 132-180.

[8]  ج. راولز، الليبرالية السياسية، ص. 43, 114 وما يليها

[9]  المرجع نفسه، ص. 76 وما يليها.

[10]  ج. راولز، «الرد على هابرماس» في مجلة الفلسفة، المجلد. 92، عدد 3، مارس 1995، ص. 146، الحاشية 28. راولز يشير ويؤيد رأي جيريمي والدون، الحقوق الليبرالية، نيويورك، كامبريدج، 1993، ص. 61.

[11]  ج. راولز، الليبرالية السياسية، ص. 47 وما يليها.

[12]  المرجع نفسه، ص 35.

[13]  المرجع نفسه، ص 280 وما يليها وكتاب العدالة والديمقراطية، ص 189.

[14]  ي. هابرماس، «المصالحة من خلال الاستخدام العام للعقل: ملاحظات حول الليبرالية السياسية لجون راولز»، ص 130. ترجمتنا: «المواطنون مستقلون سياسيًا فقط إذا تمكنوا من رؤية أنفسهم بشكل مشترك كمؤلفين للقوانين التي يخضعون لها. الموضوع كمخاطبين فرديين.»

[15]  ي. هابرماس، الخطاب الفلسفي للحداثة، ص. 23.

[16]  ج. راولز، الليبرالية السياسية، ص. 47

[17]  ج. ستيوارت ميل، النفعية، ص. 51-53.

[18]  ب. ملكيفيك، “هابرماس وسيادة القانون. النموذج التواصلي للقانون وإعادة البناء الانعكاسي لسيادة القانون المعاصرة، ورقة مقدمة لمؤتمر حب القوانين: أزمة القانون الحديث في المجتمعات الديمقراطية،  بكندا سنة 1996.

[19]  ج. راولز، الليبرالية السياسية، ص. 29.

[20]  ي. هابرماس، المصالحة من خلال الاستخدام العام للعقل: ملاحظات على الليبرالية السياسية لجون راولز، ص. 112.

[21]  ي. هابرماس، المصالحة من خلال الاستخدام العام للعقل: ملاحظات على الليبرالية السياسية لجون راولز، ص. 111-113، أنظر أيضا كتاب الأخلاق والتواصل ص. 87-89، 100، وكتاب أخلاقيات المناقشة، 131 و137.

[22] ج. راولز، السياسة الليبرالية. للنقد، رأي: جان هامبتون، «العقود والاختيارات: هل لدى راولز نظرية العقد الاجتماعي؟»  مجلة الفلسفة، المجلد. 77، 1980، ص. 315-338.

[23] جان مارك فيري، فلسفة الاتصال عند يورغن هابرماس ج2. العدالة السياسية والديمقراطية الإجرائية، ص. 54.

[24] ي. هابرماس، «المصالحة من خلال الاستخدام العام للعقل: ملاحظات على الليبرالية السياسية لجون راولز». ص. 112.

[25]  المرجع نفسه، ص. 113-116.

[26]  ج. راولز، الليبرالية السياسية، ص. 224.

[27]  انظر ويليام ريهج، البصيرة والتضامن. أخلاقيات الخطاب عند يورغن هابرماس، بيركلي، مطبعة جامعة كاليفورنيا، 1994، ص. 124-125؛ انظر أيضًا ص. 125-134. (Insight and Solidarity. The Discourse Ethics of Jûrgen Habermas)

[28]  ي. هابرماس: المصالحة من خلال الاستخدام العام للعقل: ملاحظات حول الليبرالية السياسية لجون راولز، ص. 114.

[29]المرجع نفسه، ص. 116-119.

[30]ج. راولز، السياسة الليبرالية، ص. 8. 78 و82.

[31]  ي. هابرماس، المصالحة من خلال الاستخدام العام للعقل: ملاحظات حول الليبرالية السياسية لجون راولز، ص. 116.

[32]  المرجع نفسه، ص. 119.

[33]  ي. هابرماس، الأخلاق والتواصل، ص. 86

 

يشكل تاريخ الفكر والخطاب الإنسانيين تاريخاً أساسه الكذب والخطأ والخداع والمخاتلة، لهذا يمكن القول أن الكذب هو بمثابة حدودٍ لكل تفكير وكل خطاب.

ذلك أن الإنسان بطبيعته كائن كاذب وخاطئ ومتوهم، لهذا يفكر في تَقَوُّلِ الكذب وتبليغه مما يشترط وجود نماذج ومعايير للفكر الكاذب والقول المخاتل.

هناك أيضاً اختلاف وتنوع في الكذب، تبعاً لاختلاف وتنوع ميادين الفكر والوجدان والقول وحدودهما، فالكذب في حقل التفكير والخطاب الإنسانيين يختلف كثيراً في مجال الحس المشترك، بمعنى هناك اختلاف في الكذب بين الحس العام وبين الكذب في الحقول الفلسفية والفكرية والعلمية والسياسية والاجتماعية والقانونية والدينية ... إلى آخره.

يدل الكذب في بادئ الرأي على معاني مثل: الخيال والتهيؤ والافتراء والخداع والمخاتلة والغش وخيانة الأمانة.

كل كذب بهذا المعنى هو الشيء المتخيل، الغير كائن في عالم الواقع، وغير قابل للتحقق أو الإدراك والفهم والاستيعاب من طرف جميع الناس.

لكن لا يفهم من هذا أن الكذب غير موجود في الواقع، بل هو المؤسس للواقع، إنه كيمياء الواقع الذي يخترق جسم المجتمع.

إن الكذب هو ما ليس كذلك، هو الذي يثير الظنون والشكوك والتساؤلات ويخلق التوتر والحيرة في العقول، فالكذب تعبير عن اللا حقيقي واللا صادق، أي ما لا نلمحه في الواقع، أو يوجد على نحو آخر غير واقعي: يوجد وجودا وهميا، ومتخيلا، وكاذبا، وزائفاً... إلى آخره.

لكن هذا اللا حقيقي هو الذي يخترق الواقع في الحقيقة، إن الواقع مليءٌ بالتناقضات، والكذب والخطأ حدثان توأمان يحصلان في الواقع، ولهما آثار ملموسة في العلاقات البشرية، ما دام التوأمان الكذب والخطأ نقيضان، أي عدوان لذودان للصدق والحق.

كما أن هناك عديد المظاهر الخادعة والمخاتلة والمزيفة التي تخفي لِحاءَ الحق والجوهر.

ويمكن القول كذلك أن كل ما ليس حقيقياً يجثم في الواقع جثوم العادة، ما دام أن كل كذبة لا تستمد أساسها من الواقع أو من مطابقته.

هكذا إذن يتضح تلبس دلالة مفهوم الواقع الذي يتحدد من خلاله الكذب، في مستوى الحس المشترك، وهكذا يحاول الكاذب كتمان الجوهر والتضليل عنه تارة، وعلى المظهر تارة أخرى.

ينضاف إلى هذا أن اللا واقعي قابل بالضرورة في التواجد والتساوق ضمن الواقع ذاته.

ويصبح من الضروري بالنسبة لنا التفكير الفلسفي النقدي في الكذب، نحن في حاجة ماسة لفلسفة الكذب، تاريخ الكذب لجاك دريدا غير كافي، فنحن لا نريد التأريخ لمفهوم الكذب عبر التاريخ، نريد بناء مفهوم فلسفي دقيق جداً للكذب، من خلال تحديد حقيقته الثاوية خلفه، وكشف دلالته المتداولة واللغوية والفلسفية التي هي دلالات ومعاني تعكس مطاطيته وتعقيده.

فالكذب اسم منقول من صفة مذمومة، وهي من صفات المنافقين اللذين خصهم الكتاب المقدس "القرآن الكريم" سورة من سوره، أقصد "سورة المنافقين"، لما لهم من حس مخاتل وحركي ومتغير، فجاء حكم المنافقين حكم تحت التضاد للواقع.

ويقابل كل كذب الباطل، وهو الشائع في الأقوال، فمعنى كذب الحُكْمِ هو تضاده مع الواقع.

هنا يصبح الكذب صفة للحكم المضاد للواقع الثابت والمستقر، ويأخذ إسم الكاذب حين يكون الحكم متعارضا مع الواقع، واسم الخطأ حين يكون الواقع هو الذي يختلف مع الحُكْمِ.

الكذب هو خاصية ما هو خاطئٌ. فكل قضية كاذبة، هي قضية لا نستطيع البرهنة عليها أو حتى تبريرها والتعليل عليها، وبالتالي تكون عبارة عن شهادة كاذبة، أي شهادة الزور التي تكون عبارة عن حكاية من وحي الخيال، لا تعكس ما رآه فعلاً صاحبها. والكذب بمعنى أعم هو اللاواقع.

Le mensonge est intrinsèquement erroné. Toute proposition mensongère est, par définition, une proposition qu'il est impossible de justifier ou de prouver, et constitue ainsi un faux témoignage, c'est-à-dire un récit fictif qui ne reflète pas la réalité telle qu'elle a été perçue par celui qui l'énonce. Dans un sens plus large, le mensonge équivaut à l'irréel.

والكذب بهذا المعنى هو كل حكم نسبي لا نتفق عليه البتة، لأنه ليس واقعاً، وبالتالي ليس أصيلاً، إنه نسخة النسخة أو نسخة الحقيقة.

ومجال الكذب هو مجال الفكر، أي حكم كاذب، وبالتالي فهو لصيق باللغة والخطاب، فلا وجود لفكر لا يحكم على الواقع، كما لا وجود لِلُغَةٍ لا تعبر عن الفكر الذي هو قد يقول كذباً كما قد يتحفظ عن قول الحق.

ما دام الكذب موجوداً في الواقع، فإن هذا الأخير يظل مرجعاً ومصدراً قويا للكاذب، لأنه يحاول تزييف هذا الواقع الحاصل والثابت، الذي ينتمي إلى الشيء الماثل أمامنا، لكن هذا الواقع مضاد للوهمي، والخيالي، والممكن.

فالواقع موجود لدينا في التجربة، لكن الكذب يأخذ معاني التغير والتحرك والجريان والسيولة والظلالة، إنه في تضاد مع ذاته.

والكذب هنا سيرورة وصيرورة سيالة ومتغيرة ومتحولة نسبيا، لأن تجربتنا الحسية متغيرة، لهذا يظل يفارقها ويحملها خارجه.

ولا يمكن نفي الكذب عن الواقع أي وضعه خارج سياق الفكر وبمعزل عنه.

هناك أخطاءٌ مغلوطة مجردة ومتحركة يحملها الإنسان في ذاته، توجد داخله في عالمه الداخلي وبشكل محايث، ذلك لأن السكون ليس ساكنا إلا ضمن الحركة، وعلى قاعدتها.

لهذا وجب خوض تجربة الشك الديكارتية ولو مرة في حياتنا، أي أن نشك في كل شيء، الشك في معرفتنا التي اكتسبناها بواسطة الحواس، أو أن نشك في كل معارفنا التي ورثناها عن آبائنا وأمهاتنا وأساتذتنا، وعن طريق الشك في كل شيء يمكننا تمييز الكاذب على الأقل عن غير الكاذب.

ونعترف أن الواقع الحسي واقع مشكوك فيه، مليء بالتناقضات الذاتية، لهذا قلنا سابقاً أن الكذب معيار في ذاته، وقد يكون العقل محظوظاً في إدراك الأكاذيب التي يتعرض إليها، أو قد يحدث العكس، فيتيه في الأغاليط، ويبقى في حدود الجاهز، يبنيها ويشيدها الفكر انطلاقا من معطيات التجربة الحسية التي هي بمثابة مادة خام تضفي عليها الذات العارفة شكلاً أو صورة أو مثالاً.

يوجد تناقض في الواقع ينعكس على بنية الفكر ونظامه القبلي الترنسندنتالي، ويظل الكذب لصيقاً بين الفكر والواقع، ويجب الكشف عن هذا التناقض المتأصل في الطبيعة الإنسانية.

كل كلام كاذب هو كلام "فارغ من المعنى والفائدة"، رغم أنه مفيد في بعض الأحيان، لكن بمجرد ما تفكر فيه تفكيراً عقلياً تكتشف أنه غير مفيد البتة، إنه ليس سوى مظهر، ولهذا السبب فهو ليس واقعياً.

فاللاواقعي هو ضد الواقعي، ويكون منطوق ما كاذباً عندما يكون منطوقاً لا تدلة عليه، ولا يعبر عن الشيء تعبيراً فعلياً، ليتعارض مع كل حكم.

يوجد الكذب إذن في عالمنا، إنه تعبير عن هذا العالم، ويؤثر فيه بشكل منتظم، لكل مجتمع إذن نظام خاص به لإنتاج وإعادة إنتاج الكذب، كما أن هناك سياسة خاصة بالكذب، هذه السياسة على صلة بأنظمة الخطاب، هذا الخطاب الكاذب بمثابة مرآة تعكس واجهة ذلك المجتمع أو ذاك.

كما أن الكذب هو خاصية الخطاب العلمي، فكل نظرية علمية حسب كارل بوبر يجب أن تكون لها قابلية للتكذيب والتفنيد والدحض والاختبار.

وهذا لا ينسينا أن الخطابات السياسي والاقتصادي والاجتماعي عموماً خطابات كاذبة أو تضمر الحقيقة، هناك دائما نوعاً من التحريض السياسي على الكذب من أجل الحفاظ على السلطة السياسية للدولة وأجهزتها الإيديولوجية، ويذاع الكذب وينتشر عبر مؤسسات الإعلام والاتصال وعبر مواقع التواصل الاجتماعي التي هي مواقع الكذب والوهم الاجتماعي.

ويتم نشر الكذب من خلال الأجهزة الأيديولوجية للدولة سواء المدرسة أو المؤسسات التربوية أو حتى المؤسسات الثقافية ودور الشباب والتنشيط، ويمتد ذلك امتداداً واسعا نسبيا في الجسم الإجتماعي وينتشر كما تنتشر النار على الهشيم، وليس هناك أي محاولة من طرف السلطة السياسية للحد من الكذب، بل انتشاره واستهلاك الناس له على كونه حقيقة وغاية في ذاته يحافظ على السلطة السياسية.

والكذب ينتج ويعاد إنتاجه ونقله من خلال المراقبة المستمرة له على يد مؤسسات الدولة والأجهزة الكبرى سواء السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الدينية أو الإيديولوجية أو التربوية (البنوك، الإدارات، الجامعات، المدارس، مواقع التواصل الاجتماعي، ...إلى آخره.) ويصبح الكذب هو موضوع الساعة أي ما يجادل على حقيقته سياسيا واجتماعيا وتربويا.

هناك سجال ونقاش حادم حول الكذب داخل الدولة، إن هذا النقاش متأصل في الدولة ويعتقد أنه حقيقة، هناك إذن من يتحكم في الكذب ليؤثر على ما هو حقيقي، كل هذا من أجل تبرير سلطة سياسية ما وتبديد القائم والظفر بسلطة أبدية ومطلقة.

لا يمكن عزل الكذب عن السلطة السياسية للدولة وأجهزتها الإيديولوجية التي يشتغل ضمنها لحد الساعة.

ما أشد أن نتعسف في رسم حدود الصفات والكلمات والأسماء، فصانع الكذب يكتفي بتحديد علاقات الأشياء مع البشر، ويعبر عن الأشياء في شكل استعارات في منتهى الإبداع والشجاعة، ففي كل مرة يقفز الكاذب من موضوع إلى آخر جديد ...، فيعتقد أنه يعرف كل شيء عن كل شيء! لكن في الحقيقة لا يعرف شيئاً عن الكيانات الأصلية للأشياء.

ويبدو الكذب بمثابة حشو سيال من الكلمات والمفردات والمصطلحات والألفاظ والصفات والكنايات والاستعارات والتشبيهات الفضفاضة التي يتم إنتاجها حول الإنسان والغاية منها تظليل العلاقات الإنسانية، هذا الحشو يتم تزيينه وينقل به من مجال إلى آخر.

لازلنا لم نفهم بعد سبب تأكيدات المجتمع وإلزامهم الذي يفرض علينا عبثاً، وفقا لمواضعة صارمة، ويكون هذا التفكير الجماعي تفكيراً لا شعورياً محددا بدقة مسبقا، وفقاً للأعراف التقليدية القديمة، والإنسان يعيش حالات كذب أكثر من الشعور بالحقيقة.

لكن التجربة الذاتية للأفراد هي تجربة متدفقة من الظواهر التي نعيشها، إن تجربة الكذب إذن تجربة ممتدة، إنها تساعدنا على الانتقال من تجربة قديمة إلى تجارب جديدة، وهذا الواقع السيال والمتحرك والمتدفق، والكذب يتدفق معنا ويؤثر فينا.

وفي الواقع يمكن إعتبار الكذب أو يمكن معرفته من خلال معرفة علاقته بما لم يوجد بعد، ولن يوجد أبداً، فالكذب لا يستنسخ شيئاً كان أو هو كائن، إنه يعلن عن شيء لن يكون، ويؤثر سلبا فيما سوف يكون.

إن الحكم الذي يقرر نفسه على أنه كاذب، هو الذي يقرر نفسه أيضاً على أنه لا يستند على أي برهان، وبالتالي لا وجود لمؤكدات عليه ولا يمكن أن توجد، كما أن الظلالة والغواية تتأسس على البهتان ... والواقع أن ما لا يراه شخص معين غواية وظلالة، قد يراه شخص آخر حقيقيا تماما، والكذب يقودنا إلى الجدال في مسائل معينة، لا نخلص فيها إلى أية نتيجة. ومع ذلك تفرض نفسها، هنا والآن، تفرض نفسها بما هي غواية تغوينا عن كل حقيقة.

الكذب في علوم الطبيعة والإنسان مسألة طبيعية لأننا لا نستطيع البرهنة بشكل قطعي على النتائج المتوصل إليها.

إنه في الكذب، لا يستلزم شيئاً على الإطلاق، ما دام لا يبدأ من قبل، بوضع نفسه، بلا جذور صلبة يقوم عليها، لهذا يكتفي المرء بأن يكذب بدلا من أن يبرهن على كذبه، يريد أن يُرِي غيره ما لم يراه هو، والحال أن ما رآه هو مخالف تماما ومتعارض مع ما يرويه، لأنه وبكل بساطة لا يبرهن على ما يقوله.

فكل محاولة تفنيدية، هي محاولة غرضها درء النتائج الضرورية عن المقدمات التي سلم بها سابقاً، وبالتالي هناك تناقض دائماً بين مقدمات الكاذب ومؤخرات مقوله، لأنه يستند على حقائق مزيفة، لكن في سياق التفكير والتأمل والوعي النقدي يحق لنا وضع كل النتائج المتوصل إليها في علوم الطبيعة والإنسان بين قوسين، ولن نحسم في كل قضاياها. وهذا لسبب بسيط، هو أن الحكم الميتافيزيقي هو حكم يحتمل الكذب، بأي ثمن، لأن هناك نواقص ذاتية وموضوعية تكتنفه، لهذا لا وجود لتوكيد حقيقي وأصيل في هذه العلوم ولا يمكن أن يوجد.

كل الأفكار والتصورات والآراء والمنظورات والمعتقدات والقيم والمعايير والسنن والأعراف والممارسات والدوافع والمقترحات الكاذبة هي مقترحات لا تصلح للعمل لهذا فهي جوفاء وليس لها أهمية في الحياة، وكل اعتقاد خاطئ هو اعتقاد مضاد للواقع، لأننا قد نحمل وقائع وأفعال وأفكار مضرة بالنسبة إلينا، ونعيش ونحن نعتقد أنها مفيدة لنا !!!

وعليه يجب علينا النظر إلى القول الكاذب بكل بساطة إلى أنه قول لا فائدة ترجى منه لفكرنا وغير مفيد لسلوكنا العملي (خاصة الأخلاقي).

إن الكذب في التصريحات سواء الأخلاقية أو السياسية لا يمكن التملص منه، مهما تكن ضخامة الضرر الذي يمكن أن يترتب عنه بالنسبة إلى المُحاور، والإدلاء بتصريحات مزيفة يسمى كذباً، لأنه يفتقد إلى المصداقية وباطل وظالم في حق الإنسانية.

والكذب بهذا المعنى هو كل تصريح زائف يضر بالإنسانية، ومجاوز في نفس الوقت للقانون، لكن الكذب قد يحدث أن يتحول إلى مِلْكِيَّةً ومَلَكَةً شريرةً تسري في جميع الظروف والملابسات.

وبهذا يصبح لكل واحد كذبه الخاص به الذي هو عبارة عن آراء مشتتة وجزئية كافية لتبديد جميع الأخطاء والأوهام، وهنا تكمن خطورة الكذب لأنه يهدم التواصل والحوار بين الناس، وعن طريق الكذب نهدم الأساس المشترك الذي تبنى عليه قيم المجتمع.

***

محمد فرَّاح – أستاذ فلسفة / المغرب

خلق العالم المعاصر شعورا متزايدا بالعجز. العولمة التي وُصفت يوما ما كوعد بمستقبل زاهر هي الان سبب للاضطراب الاقتصادي وخضوع السياسة المتزايد للاقتصاد . الديمقراطية حول العالم هي في ازمة، وان عدد المواطنين الذين يشعرون بالحرمان يتزايد باستمرار، يحكمون على النظام السياسي الذي يعيشون في ظله اما فاسدا او هو غير قادر على معالجة الأشكال الجديدة للعنف والتفكك الاجتماعي والكساد الاقتصادي والتحديات الاخرى.

المعلقون عادة يلقون باللوم في هذا الموقف على مجموعة من الايديولوجيات والنزعات بما فيها الميديا الالكترونية وتكنلوجيات التحول العالمي والليبرالية الجديدة. هنا نرى ان ويلات الناس المعاصرة على الاقل جزئيا تعود الى السعي المشروع والمفهوم للحرية والذي لسوء الحظ وكما كان متوقعا جاء بنتائج عكسية تماما.

وجهان للحداثة

لعدة قرون اتسم التاريخ الاوربي بالحروب الطويلة والدموية حول الدين والسلطة، وهذه الحروب اصطبغت بالوحشية والكراهية. بعد ذلك، بدأ مشروع الحداثة بتأسيس ارتباط  بين تجربة الفرد والمؤسسات الحديثة. المؤسسون الفلسفيون للعالم الحديث بدأوا عملهم بنظريات عن المشاعر الانسانية. هذا اتضح تماما في لفياثان لتوماس هوبز (1651) ونظرية العواطف الاخلاقية لآدم سمث عام 1759. الهدف من الدولة بالنسبة لهوبز او الهدف من السوق بالنسبة لآدم سمث هو بناء نظام اجتماعي عقلاني يقوم على فهم علمي للطبيعة الداخلية للكائن البشري.

ونفس الشيء، بناء الدولة القومية الحديثة كان منذ البداية متشابكا مع مشروع التعليم. هذا يتضح عندما ينظر المرء لتاريخ التعليم بعد الثورة الفرنسية. الثورة أعقبتها مباشرة مشاريع لتحوّل التعليم اما من جانب الثوريين او من معارضيهم. في كلتا الحالتين، الهدف كان الفوز بعقول الشباب اما في الثورة او الارتداد المعاكس . هذا يتجسد خصيصا في الكتاب الهام جدا لـ جوهان جوتليب فيشتي Johann Gottlieb Fichte (مذهب الدولة،1813). فيشتي فيلسوفا مثاليا كان لميتافيزيقاه تأثيرا كبيرا على الفلسفة الالمانية اللاحقة، بينما نظريته في الدولة كان لها تأثيرا قويا على الحركة الاشتراكية. وكما اعتُبر مؤسسا للقومية الحديثة، هو كان ايضا صديقا ليوهان بيستالوزي Johan Pestalozzi  الاصلاحي التعليمي السويسري. يصر فيتشي في (مذهب الدولة) على ان بناء الدولة القومية يجب ان يبدأ بالتعليم. الأفراد يجب ان يتعلموا، ويُجبرون عند الضرورة لإعتناق الجديد من الحرية القومية. وكما تبيّن من الثورة الفرنسية، حسب قوله، الافراد يمكن استعبادهم بالتقاليد واللاعقلانية، وحتى يقاتلون من اجل الملك ضد حريتهم. لذلك، فان القمع المناسب والتعليم هما اول خطوة لبناء دولة قومية ليبرالية. هذا الإكراه يمكن ازالته فقط عندما يتعلم الناس كيف يصبحوا مواطنين يرغبون بحل صراعاتهم واختلافاتهم عقلانيا، فقط من خلال مؤسسات قانونية. بكلمة اخرى، مشروع الحداثة وتحوّلاتها يمكن فهمه فقط بالنظر بشكل متزامن الى التحولات الذاتية من خلال التعليم، والتغييرات المماثلة التي تحدث في رؤية الدولة.

صدمة الحرب العالمية الاولى

من توماس هوبز فصاعدا، حتى القرن التاسع عشر، زادت الحداثة تركيزها بشكل متصاعد على تعظيم حرية الفرد. سنترك انتقادات الاشتراكيين والفوضويين، بدلا من ذلك سنركز على التحولات العميقة التي أعقبت الحرب العالمية الاولى.

 فهمنا لتأثيرات ذلك الصراع، سيكون حاسما لفهم انهيار الحداثة من الداخل. الصدمة السايكولوجية التي تجسدت لاولئك الافراد تجسدت تماما في سلسلة من الروائع الادبية في السنوات اللاحقة، على سبيل المثال، رحلة لويس فرديناند سيلين ثم (نهاية الليل،1932) او مذكرات (عالم الامس) للكاتب النمساوي ستيفان زفايج Stefan Zweig، 1942. وما هو اكثر أهمية لنا،هو عام 1918 الذي شكّل بداية رحلة التحول في كل من الدولة ومُثل التعليم. التحولات في النظام التعليمي كانت مثيرة للاهتمام. منذ القرن التاسع عشر وحتى عام 1918، كان نقاد أنظمة المدارس التقليدية مثل اوغستين فرينيت او بيستالوزي يدعون الى تطبيق "طرق فعالة" يجب ان يوضع فيها الطالب في المركز ويصبح مشاركا فعالا في عملية التعليم. لكن الصراع العالمي تخلّى عن مثل هذا التأثير لدرجة ان الداعين الى اصلاح التعليم لم يعودوا مقتنعين بمثل هذه الأهداف المتواضعة. بدلا من ذلك، هم بدأوا بتنظيم أنفسهم في مختلف المنظمات الدولية للدعوة الى خلق فرد جديد من خلال طرق تعليمية جديدة.

أحد أهم هذه المؤسسات الشهيرة كانت جمعية التعليم الجديد The new education fellowship(1). معظم الاسماء البارزة في الاتجاهات التربوية كانت  منها، مثلا، ماريا مونتيسوري و اوغستين فرينيت. أحد الاصلاحيين في ذلك الوقت وهو هنري والون Henri wallon كتب حول اول مؤتمر للمنظمة قائلا:

"هذا المؤتمر كان نتيجة للحركة السلمية التي جاءت بعد الحرب العالمية الاولى. وبدا منذ ذلك الوقت انه من أجل ضمان مستقبل ينعم فيه العالم بسلام، لا شيء اكثر فعالية من تطوير معنى احترام الفرد بفضل التعليم المناسب، ثم اشاعة مُثل التكافل والاخوة الانسانية التي هي في تضاد مع الحرب والعنف". (هنري والون،جمعية التعليم الجديد ،1952). الرؤية الثورية المبكرة للتعليم كانت صدى لمُثل هوبز وفيتشي لخلق مواطنين جدد: الاطفال نُظر اليهم كهمج ذوي عواطف وهم بحاجة للتمدين . هذا كان يُفترض ان يخلق افراد بالغين "مستقلين" قادرين على التحكم بأسوأ الحوافز ويصبحوا مثقفين. لكن بسبب صدمة الحرب العالمية الاولى، اصبحت "إعادة البرمجة" هذه كما نُظر اليها من جانب العديد هي المشكلة: كمصدر للاحباط والاغتراب.

هدف التعليم يجب ان يكون تحرير الفرد لبناء نفسه صعودا ولتمكينه من الاستماع لذاته الداخلية. (بالطبع، هذا الوصف المختصر لا يمكن ان يحقق عدالة لنظريات ومبادئ التعليم الجديد. انه من الواضح ايضا انه حتى لو كان التعليم العام قد اُصلح باستمرار منذ بداية القرن العشرين، فان مثل هذا الاتجاه الجديد في التعليم لم يُنفذ بالكامل ابدا).

هذا التحول في مُثل التعليم لم يحدث في عزلة وانما على خلفية الاضطرابات السياسية.

المنظّر الالماني القانوني كارل شميت Carl Schmitt (1888-1985) اشار الى ان معاهدة فرساي في نهاية الحرب العالمية الاولى انفصلت عن قانون الامم الاوربي jusgentium الذي يشمل جميع الشعوب. كان هذا مفهوم القانون الدولي الذي ظهر اولا في القرن السابع عشر من اقلام الكتاب الكلاسيكيين مثل فاتيل و جروتيوس. وعلى نفس الخط مع اهداف الحداثة، أسس قانون الامم الاوربي قواعدا للحرب لتنظيم الصراعات بين القوى الاوربية. الحرب والعنف لا يمكن تجنبهما ولكن يجب على الاقل تنظيمهما  وتوجيههما نحو صراعات بين الدول – فقط عندئذ يمكن منع انحدار العنف الى بربرية تامة. لكن هذا الوهم قد تحطم نتيجة الحرب العالمية الاولى . هذا العنف بدلا من ان يكون منظّما بصرامة ، نراه جلب الفضائع وعلى نطاق لم يسبق له مثيل. لذا، فان فكرة امكانية ان تقوم الدولة  بادارة صراعات محدودة خاضعة للقواعد استُبدلت بملاحظة مفادها ان القومية تؤدي الى المذابح.  علاوة على ذلك، معاهدة فرساي للسلام ايضا خرقت مبدأ الحياد. بدلا من ذلك، الخاسرون جُرّموا وحُكم عليهم، واُجبروا على الاعتراف بالذنب في بدء الحرب واضطروا لدفع تعويضات هائلة. الاخلاق والأحكام الاخلاقية عادت كمبدأ حاكم في الصراعات الدولية.

لهذا فان مشروع الحداثة فقد مصداقيته تماما عندما تعرّض الفرد المتحضر المُعاد بناؤه للنار. رؤية التعليم الحضاري التي وُصفت ببراعة من جانب فيتشي منحها مؤيدو التعليم الجديد طابعا قمعيا خطيرا.   وبشكل متماثل، وتحت تأثير كل من الحركات الاشتراكية والسلمية، بدأت الحدود القومية يُنظر اليها كسبب للحروب.

نشوة ما بعد الحرب

كانت التحولات التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية معقدة. انتصار الاقتصاد الكنزي في الغرب والشيوعية في الشرق رافقهما صعود الاقتصاديات الموجهة بالدولة. وفي النهاية تحوّل المد، حيث انهار القطب الشيوعي ومع صعود الليبرالية الجديدة، بدأت الحكومات القومية تفكك بشكل تدريجي سيطرتها على اقتصادياتها.

يعرّف شميت فترة ما بعد الحرب بالزوال االتدريجي لإحتكار الدولة للسياسة. مع الحرب الباردة وتطور المنظمات الدولية، جرى إلغاء قانون كل الامم الكلاسيكي. بدلا من ذلك، تجسدت الحروب كشرطي سلوك ضد الدول المارقة (اما عبر احد العمالقة للتحكم بتحالفاته، او ضد الدول "السيئة"، او كواجب أخلاقي لأجل الانسانية (مثل التدخلات الانسانية التي قادتها الامم المتحدة).

باستمرار، دخلت المنظمات الدولية واللاعبين الجدد الاخرين الى المسرح واستحوذوا على دور الدولة في "تعريف الصديق والعدو". هذا هو التعريف للسياسات الذي ارتبط عادة بشميت. لكنه كاريكاتير. طبقا لشميت، ليس للسياسات طبيعة، انها لا يمكن اعطائها جوهرا. لذلك، يجب ان يُنظر الى هذا  كمبدأ ترسيم: أي شيء يمكن ان يصبح سياسة، لكن أحسن طريقة لمعرفة ما اذا كان الامر هو كذلك هو عبر التحقق مما اذا كان قد تم تنظيمه حول فئات معينة .

ولكن مع ذلك ، في تعريف السياسة، كانت خسارة الدولة للاحتكار في السياسة تطابقت مع ظهور لاعبين جدد بما فيهم منظمات قارية مثل الاتحاد الاوربي ونافتا و اسيان. وبشكل متماثل، برزت المنظمات الكنزية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي جرى تحويلها لتنفيذ البرامج الليبرالية الجديدة في تفكيك احتكار الدولة للقواعد الاقتصادية وتأسيس حرية الحركة للبضائع والنقود والافكار. وفي نفس الوقت، كان السعي لشكل جديد من الذاتية أخذ منعطفا آخرا.

في اوربا، شهدت الستينات حركة شهيرة سميت حركة الـ 68 ايار المتنوعة لإنعتاق الذات. وكما اشار ميشيل اورس Michel Oris ، الانثروبولوجي في جامعة جنيف، الى ان الهدف المركزي لهذه الحركات كان "لتفجير" الغطاء المتين للاخلاق البرجوازية التي ورثتها من القرن التاسع عشر. هذا المثال لُخص بشكل رائع  بعمل وليم ريتش Wilhelm Reich الذي اعجب بنظرياته العديد من حركات مايو، بدءا من جيل ديلوز وحتى التحرريين و الشيوعيين.

بهدف مصارعة الفاشية، جمع ريتش بين الماركسية والتحليلات النفسية ليربط القمع بهيكل قوة الدولة. هو انتقد عدم قدرة الماركسي توضيح  سبب اتّباع الجماهير لقائد يسير بالضد من غرائزها بشكل صارخ،كما على سبيل المثال، في الفاشية. طبقا لريتش، الافراد لا يؤيدون الفاشية بسبب افكارها او برنامجها وانما بسبب انها تمكنهم من اطلاق توتراتهم الداخلية عبر التعبير عنها خارجيا. الفاشية تستغل اللاعقلانية والجنسية المكبوتة لأتباعها عبر اللجوء الى غرائز غير واعية.

بكلمة اخرى: شعبية الفاشية تنمو مع الاحباط الجنسي. في كتابه (سايكولوجية الجماهير الفاشية،1933)، يدعو ريتش لما يسميه "عدم البراعة للحرية". الافراد المدربون بواسطة المجتمع ومؤسساته القديمة مثل العائلة التقليدية، اصبحوا غير قادرين على ادارة عواطفهم الشخصية، وبالذات،ميولهم الجنسية. هذا ادى الى توتر بين الطموح للحرية والخوف منها.

يقدم ريتش تعبيرا واضحا للنموذج على اساس جميع الحركات الاجتماعية التي انتشرت بدءا من الستينات فصاعدا. هذا يتضمن الرؤية الى الاقليات الجنسية التي كانت قريبة جدا من حركة الانعتاق. اما النسوية الراديكالية ربطت القمع الجنسي للمرأة بالفاشية والأشكال الاخرى للسلطوية مثل البطراركية. يكشف ريتش المنطق وراء كل هذه الحركات الراديكالية: فكرة انه، لكي نخلق عالما سلميا ومتحررا، فان جميع المؤسسات التقليدية مثل العائلة والدولة يجب تفكيكها لتحرير الفرد. هذه الذاتية الراديكالية الجديدة كمصدر شرعي وحيد للاخلاق والقانون اصبحت غاية بذاتها، وايضا الجواب الوحيد للحرب والبربرية والفاشية.

العولمة

الانثروبولوجي في جامعة شيكاغو ارجون ابادوراي Arjun Apadurai، يعطي تفسيرا هاما لنهاية الحرب الباردة وظهور العولمة. اثنان من كتبه (الحداثة بشكل عام،1996) و (الخوف من الأعداد القليلة: مقالة حول جغرافية الغضب،2006) لهما أهمية خاصة هنا، لأنهما يهدفان لإعطاء نظرية للنتائج الثقافية والفردية لعالم معولم. تميّز العالم المعولم الجديد، بعد الحرب الباردة بسلسلة من الانشقاقات: بين الدولة والمالية، بين الإقليم والهويات القومية، وهكذا. حتى "المحلي" فقد مكانته، والان اصبح متجسدا في سلسلة من التدفقات التي تتحدى بعمق قدرة المؤسسات التقليدية والمحلية على نقل الهوية والقيم، وصياغة السلوكيات.

في كتاب الحداثة بشكل عام، يربط ابادوراي بقوة بين ظهور الذات المعولمة وقضية الحدود الدولية.هو يرى ان الاعلام الالكتروني والهجرة هما المحرك الاساسي في تحويل العالم الى شبكة مترابطة داخليا، وكان تأثيرهما الثقافي الرئيسي هو في زيادة دور الخيال في بناء الهويات.هذا قاد الى زيادة الحرية للافراد ليعرّفوا انفسهم حتى لو خلق هذا توترات لدى المجاورين لهم مباشرة. دور وحدة العائلة اصبح اقل من مجرد مؤسسة تنقل تصورا للعالم، بقدر ما اصبحت ساحة يطور فيها الافراد هوياتهم الخاصة بناءً على مصادر إلهام متضاربة . وهكذا،الافراد هم الان يُحتمل جدا ان يكونوا في تضاد مع أقاربهم او جاليتهم. في هذه الاثناء، تأخذ الجاليات المحلية باستمرار شكل الأقليات مندغمة في شتات ضمن شبكة عالمية.

هذه الرؤية المتفائلة نوعا ما للعولمة، مع تأكيدها على الحرية الفردية، انتُقدت في كثير من الاحيان . ابادوراي كان يركز في (الخوف من الاعداد الصغيره) على الاجابة على اكبر اعتراف له بالضعف الذاتي: "تفسيري الخاص يصاب بالعجز عندما نأتي الى العنف الدموي للحروب الأثنية الحالية" (الحداثة بشكل عام، ص224).

يشير ابادوراي الى التسعينات كـ "عقد العنف" عندما تغيّر العنف الاثني في طبيعته. الاشكال الجديدة للعنف اصبحت أقل تركيزا على محو "الاخر" وتوجهت نحو إذلال الاخرين والحط منهم. طبقا للانثروبولوجي ابادوراي، العولمة هي المسؤولة عن هذا التغيير كونها زادت من اللاّيقين وهددت في ان تصبح الدولة أقلية. الخوف من الأغلبية، اللايقين وعدم السيطرة على الظاهرة العولمية، والتهديد الذي تمثله الأقليات "الحقيقية" للسيطرة القومية، هي سبب العنف في العالم المعولم. هذا لأنه في هذا العالم الجديد، لم يعد العدو عضوا في امة اخرى، وانما جار، مشكوك في خيانته.

ابادوراي كان عنيفا جدا في هجومه على الدولة القومية، التي يعتبرها السبب الرئيسي للعنف هنا: "الأقليات هي فقط كبش فداء، بكلمة واحدة هي استعارات وتذكير بخيانة الفترة الكلاسيكية القومية" (الخوف من الارقام الصغيرة،ص68). لكن ابادوراي يرتكب خطأ كلاسيكيا في إلقاء مسؤولية العنف على الدولة القومية. الدولة القومية في الحقيقة، منذ البدء ارتبطت بالعنف لأنه كما يشير ماكس ويبر في تعريفه للدولة انها تمتلك"احتكار العنف الشرعي" – ولكن الأكثر أهمية، وكما يرى شميت، بسبب ان الدولة القومية هي نظام اختُرع لتأطير العنف  بقواعد لتحجيم غضبه وليس لوقفه. بكلمة اخرى، ابادوراي ودون قصد يؤكد التحليل الذي تبنّاه شميت، لأنه في هذا النظام الجديد الذي يتحرك بعيدا عن سيطرة الدولة، يتخذ العنف شكل الاصولية، كراهة الاجانب، انفجارات شعبوية تسعى لإذلال الخصم.

وكما في تحليل ابادوراي، الحركة المزدوجة التي بدأت بها الحداثة – لخلق ذاتا جديدة متحضرة بحدود ثابتة، ونظام صارم لفصل الحدود القومية – قد اُلغيت. وبعيدا عن هدف مضاعفة الحرية، هذا خلق ظهور مجتمع اصبح فيه العنف "نظام دائم"،حسب تعبير ابادوراي. في النظام العالمي الجديد، "لم يعد ممكنا  معارضة الطبيعة والحرب من جانب، والحياة الاجتماعية والسلام من جانب آخر... يبرز مشهدا اكثر رعبا حيث النظام يُنظّم حول الحقيقة او في منظور العنف" (الخوف من الأعداد الصغيرة،ص53).

لعنة كارل شميت

كان شميت وحشا داعما للنظام النازي، هو فعل كل شيء ليصبح المحامي الرسمي للرايخ الثالث. لسوء الحظ، هو يبقى منظّرا قانونيا كلاسيكيا، ومفاهيمه الاساسية وتنبؤاته ضرورية في تحليل عالم ما بعد الحداثة. الفرد الجديد الذي رغبته ما بعد الحداثة ووُصف من جانب ابادوراي يُفترض ان يكون اكثر حرية، مع اعطاء اكبر حرية لخياله لتطوير ذاته. لكن، يمكن للمرء مسائلة هذا. اكبر فشل لمفكري ما بعد الحداثة وما بعد الكولنيالية هو انهم يفتقرون لفهم النظام القانوني – وهو خطأ بالتأكيد لم يرتكبه شميت ذاته. هذا النوع الجديد من الحرية الفردية لكي يُنفذ يتطلب دولة فضولية بشكل مفرط. ابادوراي يرفض رؤية ويبر في "القفص الحديدي" للعقلانية الذرائعية، حيث العلاقات المتبادلة استُبدلت بقواعد قانونية ومبادئ. بدلا من ذلك، يصر ابادوراي على اهمية جديدة للخيال في بناء هوية المرء. ما لم ينتبه اليه هو ان هذه الذات الجديدة تتطلب قواعد جديدة واشكال اخرى جديدة من تدخل الدولة لحماية حريتها. مثال نموذجي سيكون القواعد الجديدة الفضيعة التي نُفذت لادارة التنوع. هذه القواعد سميت "صحيحة سياسيا" وهي منذ بدايتها في الستينات زادت من الاستحواذ على المجتمع الغربي – كما حُللت وانتُقدت من جانب سوسيولوجيو جناح اليسار الفرنسي  مثل فردريك لوردن و فنسيت دي غولا و نيكولاي اوبرت.

ان انتشار هذه الأشكال الجديدة يعني ان العلاقات الداخلية المرتكزة على مبادئ تبرز من ميدان القوانين. يجب على المرء باستمرار ان يقيّم  وبعناية ما اذا كانت افعال المرء ومعتقداته تؤثر على حرية الآخرين بالانعتاق ، وان القواعد الجديدة والقوانين تُنفذ لضمان احترامنا لهذا المبدأ في "الحرية المفروضة". هذا قاد،مثلا، الى خلق وزراء في عدة دول لمساواة الجنسين. أنظمة التعليم والقوانين جرى اصلاحها لتعزيز وحماية هذا الانعتاق للذات الحديثة. لكي يتم تنظيم العلاقات الداخلية ،يجب ان تصبح اللغة والجنس والهويات الجنسية، والقوانين اكثر فضولية.

هندسة الدولة التي تأسست للسيطرة على العنف لم تختف. بل، طالما العنف لم يعد يُنظم خارج الحدود القومية، وانما ينفجر من الداخل، فان نظام السيطرة اعيد توجيهه ضمن الحدود القومية. فرنسا مثلا، غيّرت قوانينها لتدمج معظم مقاطعات "دولة الطوارئ" في تشريعاتها النظامية – نظام سيطرة تأسس سلفا في الولايات المتحدة بقانون باتريوت.

نظام تنظيم العنف وراء الحدود لم ينجح في الغاء الجريمة ولن ينجح ايضا نظام السيطرة الداخلي. وكما يكتب الفرنسي الخبير في الجرائم الن بير، السيطرة الواسعة والمراقبة يمكن ان يمنعا بعض الهجمات المخططة لكنها سوف لن توقف الإرهاب ذاته.

الحداثة السياسية كانت حركة مزدوجة: الدين والاخلاق ازيلتا من النظام الداخلي ليحل محلهما نظام من القوانين والمواطنة لادارة العلاقات الاجتماعية. وفي نفس الوقت، الدولة ستخلق حدودا مسيطر عليها بصرامة مع توجيه العنف الى صراعات الدولة – ليس لإلغاء العنف وانما لإشاعة السلام في المجتمع ضمن حدوده، وربما لمنع الافعال البربرية الأكثر سوءا في الحرب. لكن بعد الحرب العالمية الاولى، نحن عرّفنا الدولة القومية – كسبب للحروب الوحشية في الخارج  والقمع في الداخل . لكي نحرر الذات ونحقق السلام، جرى تفكيك الآلية المزدوجة التي اعتمدت عليها الدولة القومية والحداثة، وهما اعادة التعليم وسيطرة الدولة على الافراد. ومن غير المدهش، ان هذا قاد الى عودة فضيعة لهاتين الآليتين للهندسة الاجتماعية اللتان صُممتا للسيطرة. وهكذا نحن ألغينا الحداثة باسم الحرية والسلام العالمي، ولم نحصل لا على السلام ولا على الحرية.

الاستنتاج

تفكيك الحداثة السياسية حدث تحت عناوين واسباب جيدة. لكن النتائج التي نجمت عن هذه التغييرات هي في انسجام مع ما تنبأ به شميت : عودة اشكال العنف لما قبل الحداثة. هذا بسبب ان العديد من النقاد نسوا ان الدولة والحداثة السياسية كانا سلفا وسيلة لتهدئة المجتمعات والعلاقات الدولية. وهذا ما تعنيه لعنة شميت: العنف لا يمكن ازالته او ترويضه وانما فقط ادارته من خلال الهندسة الاجتماعية والسياسية.

ان تطور أنظمتنا السياسية أخذ شكل البندول او رقاص الساعة:  ذهبنا للأشكال المتطرفة لعنف الحروب الدينية، ثم دخلنا في أشكال اخرى متطرفة للعنف نتجت عن الحداثة خلال الحرب العالمية الاولى، ونحن الآن نعود رجوعا لأشكال العنف السائدة ماقبل الحداثة. ولا يهم لو قررنا ان نسميها أشكال عنف  "ما بعد الحداثة" كما فعل ابادوراي. انها نفس الشيء. تلك هي اللعنة: البندول يتأرجح ليعيدنا من حد متطرف الى آخر، مع عدم وجود حل للهروب او وقف هذه التراجيديا.

***

حاتم حميد محسن

..........................

الهوامش

للمراجعة:

The Politics of freedom: freedom &Intervention, philosophy Now,Aug/Sep 2024

(1) تأسست هذه المنظمة عام 1921 من مجموعة من التربويين الذين اعتقدوا ان اصلاح التعليم يساعد في خلق مجتمع اكثر تسامحا وسلمية. تكونت المنظمة من مجموعة متنوعة من الافراد ضمت بين صفوفها المعلمين والمفتشين وعلماء النفس والاطباء والآباء ومديري المدارس اعتقدوا ان العلم يمكن استخدامه لتجديد التعليم عالميا.  

 

ما يميز عبد الجبّار الرفاعي عن غيره من المثقفين والباحثين والمفكرين انه يؤمن  بتطور وتقدم العقل والوعي وارتقائه في السلّم المعرفي والاجتماعي والثقافي، هذا من جانب ومن جانب أخر انه يؤمن بنسبية المعرفة وانها قائمة على الممارسة والخطأ، فهو يؤمن بأن الحقيقة واحدة إلا أن الطرق إليها طالما أخطأتها، لذلك تكون المعرفة نسبية. وهو يقلب أفكاره ويمحصها ذات اليمين وذات الشمال، ويعترف دائماً في كتاباته ولقائاته بخطأه وتغيرات فكره، وما توصل اليه من أفكار ونتائج رهن ظروفه وأسبابه التاريخية والنفسية والاجتماعية والزمكانية، وهذه هي محركات التاريخ والمجتمع والانسان في كل مكان، ولا يمكن التجرد والانفصال عن تلك المحركات، وعن تلك الثلاثية التي تهيمن بعضها على البعض الآخر. لذلك نجد في فكر الرفاعي ثلاثيات وجدليات مستمرة لا تهدأ أبداً، فهو مفكر (نيتروسوفي) يقف على التخوم، ويقدّر قيمة الاشياء ويغوص في جوهرها، ويحمل من القلق الوجودي الشيء الكثير، بحثاً عن عوالم جديدة تدفعه لمعرفة قيمة الحياة والوجود والمعرفة، وهذا ما يذكرنا بالفلسفة الوجودية الدينية عند بول تيليش (1886 ـ 1965م)، الذي حاول بناء فلسفة تجمع ما بين الديني والدنيوي والوقوف من المشكلات النفسية والاجتماعية والحضارية موقفاً نقدياً معاصراً ينسجم ومتغيرات العصر، وفق نظرة تأويلية للدين وللكتاب المقدس، تنسجم وحاجة الانسان الى دين روحي أخلاقي إنساني وجودي يعالج مشكلاته بحلول واقعية معاصرة، وتهدف فلسفة تيليش الأنطولوجية الى هزّ وزعزعة أساسيات التراث المعرفي والديني الشائع والمتوارث من الآباء دون نقد أو تمحيص، وبناء لاهوت جديد يحرر الانسان ويكرمه في آن واحد، وهو ما عمل عليه الرفاعي في فكره أيضاً.

يذكرنا الرفاعي أيضاً بالتفكير والفلسفة النيتروسوفية، (Neutrosophic philosophy)، وهي نمط معرفي وعلمي وفلسفي جديد، له خصوصيته وفاعليته وخصائصه، وهي تعني الفكر المحايد، والنيوتروسوفيا (Neutrosophy) كلمة مؤلفة من مقطعين Neutro الأول بمعنى محايد، والثاني Sophia  بمعنى حكمة، ومن ثم اصبح معنى الكلمة معرفة الفكر المحايد، وهو فرع جديد للفلسفة التي تدرس أصل وطبيعة ومجال الحياد، بالإضافة إلى تفاعلاته بالأطياف التصورية المختلفة. وهي فلسفة جديدة تم طرحها من قبل فلورنتن سمايرنديكي (Florentin Smarandache)، العالم والمفكر والفيلسوف الروماني الامريكي (1954ـ )  وتتبنى هذه الفلسفة المواقف المحايدة دائماً، وترفض الثنائيات، وتؤمن بالابعاد المتعددة والمتنوعة للافكار والآراء والمواقف وقضايا العلم والفكر والفلسفة والحياة والمجتمع، والاختلاف في الاختلاف، ليعطي لنا رأياً جديداً، قد لا يكون موافقاً ولا رافضاً وانما رأياً ثالثاً ورابعاً وخامساً، وهي ايضاً كما يعبر عنها مؤسسها بأنها فلسفة في الفلسفة وفكر في الفكر، يحاكم جميع الآراء والأفكار المطروحة، أبيضها وأسودها، وكذلك رماديها، ليقدم رؤية جديدة، وأحتمالاً آخراً يضاف الى سلسلة الحقائق، ويوسّع من الحقيقة نفسها، ولا يقرنها ولا يحصرها بحدين فقط، بين حق وباطل، وخير وشر، وجمال وقبح، وصادق وكاذب، بل يوسّع كل الدوائر ويبحث حتى في المستحيلات، فلا شيء يقف أمامه، ولا يوجد مطلق في الفلسفة النيتروسوفية، حتى المطلق نفسه، فكل شيء يخضع لمنطق المعالجة والاحتمال والتعدد، فهي فلسفة ومنهج وطريقة جديدة في التفكير تضاف الى المناهج والفلسفات المتعددة.

الرفاعي لا يخلو من تنويعات في فكره وتغييرات مستمرة، وهذا خاضع لقراءته المستمرة وتجاربه الثرية، وسعة إطلاعه في مجالات العلوم المختلفة وتوظيف ذلك في رؤاه الفكرية، فهو يفلسف الأشياء ويصوّفها في آن واحد، تجده يخضع الاشياء لثقافته الخاصة، ذات الأبعاد المختلفة (قرآصوفي فلسفي). ولعل قائل يقول أن هذا ليس بغريب وعجيب في الثقافة الاسلامية، ولم نعدم من وجود باحثين ومفكرين وفلاسفة وفقهاء سبقوا الرفاعي في طروحاته ومنهجه وطريقته تلك، وهذا ما وجدناه مع أبي حامد الغزالي وفخر الدين الرازي وصدر الدين الشيرازي وآخرين.

كنت قد أعددت هذه الورقة قبل أن أقرأ شهادة المفكر العربي حسن حنفي بحق الرفاعي ومجلته (قضايا اسلامية معاصرة)، التي أعاد الرفاعي نشرها مجدداً في الصحف والمواقع الالكترونية في شهر تموز 2024، ووجدت في هذه الشهادة الشيء الكثير وأضافت لي الكثير، فهي تحمل عنوان (عبد الجبار الرفاعي، الطريق الثالث) وهو خير دليل على فكر وطريق الرفاعي الذي لخصه حنفي في تلك الشهادة المهمة وما تحمله من خط جديد ومفيد مختلف تماماً عن الطرق الفكرية الأخرى ذات البعد الواحد الذي يدعو له بعض المثقفين والمفكرين، ولكن الرفاعي ـ من وجهة نظر حنفي ـ أرتأى طريقاً ثالثاً، ليس طريقاً توفيقياً جامعاً بين الأثنين، وإنما طريق مختلف ينحو منحى ما يسمى بـ (اليسار الاسلامي)، وبعيداً عن هذا التوصيف الذي يراه حنفي والذي يدعو له في فكره ودراساته، والذي لا يحبذه الرفاعي مطلقاً، ولا يرغب أن يوصف به، لأنه يؤمن أنه مسلم وكفى، إلا أنني وجدت في الرفاعي إنه يسير بثلاثيات دائمة في فكره وديالكتيك مستمر، ومراحل ثقافية ومعرفية متنوعة مرت به، فهو في كل مرحلة عمرية يمر بها يتمثل نمطاً معرفياً ينجذب له، في الفقه وعلم الكلام والعرفان والفلسفة، وهناك شواهد ودلائل على تلك المراحل، ومؤلفاته وكتاباته ومحاضراته خير دليل على ذلك. ولا أحسب أن في ذلك تناقضاً أو أزدواجية، كما يحلو للبعض أن يسميه، وإنما هو النضج المعرفي والقراءة المستمرة والوعي النقدي الذي يضاف للرفاعي من كل تجربة يمر بها في حياته وفكره، وهذا ما نلمسه عند الكثير من الفلاسفة والفقهاء والمفكرين في مراحل حياتهم، ونشهد تحولاتهم الفكرية والمعرفية في سلوكهم وفكرهم وتجاربهم، وهو حالة صحية ودليل عافية فكرية لدى المثقف والمفكر والعالم، ما لم تفسده المصلحة الشخصية وضرورات السلطة ومنطقها المتغير.

أتذكر رأي لأحد الفلاسفة، وأظنه لأبن سينا، مفاده: إن الفلاسفة والمفكرين كلما تقدم بهم العمر إتسعت رؤاهم ونضجت ذاكرتهم وثقافتهم، على العكس من البشر العاديين، عامة الناس، الذين تضعف قواهم ورؤاهم وذاكرتهم بتقدم العمر. وهذا الرأي السينوي لعله يصيب مع جماعة ويخيب مع جماعة آخرين، وقد يضيع ويضل بعض الفقهاء والعلماء ويهدي البعض الآخر بحسب توجهات كل منهم، ولكن الذي يعنينا في هذا المجال، مع الرفاعي، إنه قد أرتقى سلماً معرفياً وسلوكاً عرفانياً ساهم مساهمة كبيرة في سعة أفقه وتنور رؤاه، بطريق جديد خطه بنفسه لنفسه يمثل قناعته، ولم يجبر الآخرين على السير عليه، ولكنه سجل تجاربه تلك ودونها في مؤلفاته وكتاباته، وهي تمثل بالنسبة له خطاً بيانياً صاعداً لا هابطاً، كما يحلو للبعض وصفه، وتلك أحسبها شجاعة من الرفاعي في خوض ذلك الغمار الفكري والمعرفي والسياحة الروحية الدائمة، ويخرج بعدها منتصراً قانعاً بما ربح وما خسر من تلك التجارب، المهم أنه جربها وادرك مضمونها وذاق طعمها ليرتقي بعد ذلك سلماً أو طريقاً جديداً عاينه وكُشف له من تلك التجارب والمسالك، وتلك هي سمات العالم الجاد الذي لم يقف عند حد معين وطريق ينتهي له يقول ها أنا وصلت الى تلك الحقيقة فأتبعوني يرحمكم الله، بل إن للرفاعي مسالك ومدارك، وصولات وجولات، ومقامات وأحوال لا تهدأ أبداً، ولا يغلق الباب بعده بل يبقيه مفتوحاً على مصراعيه على حقيقة عرضها السموات والأرض، ومن ألطف الأمور في الرفاعي الشيخ والمجتهد والمعلم والأستاذ، إنه يبقى مريداً الى نهاية العمر، وقد يتبع شخصاً أو تلميذاً أو عارفاً أو إنساناً أو صديقاً، مهما كان عمره ولونه ومعتقده، نحو المعرفة والحقيقة والانسانية، طالما كان الرفاعي يحمل أخلاقاً في يد وفانوساً في يد أخرى، فهو ديوجيني لا يمل ولا يكل عن البحث والقراءة والكتابة وحب المعرفة، ما دام فيه قلب ينبض، وعين تقرأ ويد تكتب.

قرأ الرفاعي تجارب وأفكار فلسفية وعرفانية كثيرة من مختلف الهويات والتوجهات الفكرية، وشخص مثله متفاعل أشد التفاعل مع الأفكار ذات البعد الروحي والوجداني والميتافيزيقي والديني، ولذلك كانت أفكاره تحمل هويته الفكرية، أنها هوية بـ (أربعين وجه) إستعارة من المفكر الأيراني داريوش شايغان (1935ـ 2018م)، لكنها هوية ليست متشظية ضائعة، وإنما هوية متقبلة للآخر بمختلف تنوعاتها، وقد يحلو للبعض وصف هذا النوع بـ (التلون) والتكيف مع الأفكار بإختلاف الأزمنة والأمكنة، لكن الرفاعي ناقد للأفكار والفلسفات، وأول ما ينتقد من الأفكار أفكاره الشخصية التي تبناها في حياته الفكرية والثقافية، والتي رأى تناقض بعضها وخطأها وأضطرابها بعد سنوات طويلة من القراءة والكتابة والتفكير والتراكم العلمي والمعرفي، وهي حالة صحية يمر بها كثير من المفكرين بعد تقدم وعيهم ونضجهم الفكري وكشفهم العلمي الذي يتعرضون له في مسيرتهم المعرفية. لا بأس بهذا التحول والنضوج المعرفي إن كان إيجابياً وكاشفاً لآفاق علمية جديدة، لكن الخشية كل الخشية على الفكر والمفكر من أن يكون متعدد المناهج والطرق والمسالك، وفي كل مرة يرى حقيقة غير التي رآها سابقاً وبالتالي تتعدد الحقائق بتعدد التجارب الذاتية فتضيع عنده حقائق الامور والعلوم هذا من جانب، ومن جانب آخر نخشى من عملية التلفيق الفكري والثقافي، فيكون المفكر فقيهاً ومتكلماً ومتصوفاً وعارفاً ولغوياً وفيلسوفاً ...ألخ من حقول العلم والمعرفة، وهذا ما حذر منه المفكر العربي محمد عابد الجابري (1935 ـ 2010م) في مشروعه الفكري (نقد العقل العربي)، من وجود مفكرين ومثقفين يعملون على تلفيق الطرق والمناهج والعلوم، وهو ما أسماه بـ (التداخل التلفيقي)، فالجابري لا يخشى من البياني لبيانه، ولا من العرفاني لعرفانه، ولا من البرهاني لبرهانه، فكل هذه طرق وقطاعات معرفية مستقلة التكوين والتأسيس، ولكنه يخشى من التداخل الذي يحدثه البعض في الطرق والمناهج والقطاعات المعرفية وتفكيك هذه الطرق في طريق واحدة، فيكون البياني عرفاني، والعرفاني بياني، والبياني والعرفاني برهاني، والبرهاني بياني وعرفاني، فنجد الفقيه متكلماً، والمتكلم متصوفاً، والمتصوف فيلسوفاً، والفيلسوف متكلماً ومتصوفاً، ...الخ من التوصيفات والتصنيفات، فتضيع عملية التخصص في حقل العلوم والمعارف، وهذا (التداخل التلفيقي) في رأي الجابري هو ما فكك الثقافة العربية الاسلامية وأضاع هيبتها وجعلها في مرحلة أزمة وأنحطاط لم نخرج منها أبداً، منذ لحظة الغزالي الى يومنا هذا، على العكس من لحظة التدوين في الثقافة العربية الاسلامية التي أسست لطرق ومناهج وحقول معرفية علمية مستقلة البناء والبنية والتكوين، أسست لهيأة وهيبة مستقلة عرفت بأسم الحضارة العربية الاسلامية، لها وجودها وحضورها بين الثقافات والحضارات العالمية العالمة.

كنت في سنوات سابقة أنتقد كل من يمر بسلسلة من التحولات الفكرية والثقافية في حياته، وأعده نوعاً من التناقض والأزدواجية الشخصية والتلون الفكري، لكنني بعد ذلك أدركت إنه قد يقع البعض في ذلك الفخ، وقد يلعب البعض من المثقفين على الحبال، ولكن الأمر لا يسري على الجميع، فهناك تحولات فكرية لها ظروفها وسياقها التاريخي والنفسي والاجتماعي والفكري، ومراجعة الأفكار وتمحيصها أمر لا بد منه لكل مثقف وباحث ومفكر واعٍ ولا ينغلق على إطار فكري محدد يموت في سبيله. الأفكار مثل الأزياء والملابس والموظة، تناسب البعض ولا تناسب البعض الآخر، كما أن لها بيئة وبنية ونسق وسياق خاص لكل مرحلة ولكل شخص، وهي شبيهة بما طرحه علي الوردي في الطبيعة البشرية وما يخص الأطر الفكرية التي تحيط بالإنسان (الإطار النفسي والإطار الإجتماعي والإطار الحضاري)، وتختلف طبيعة هذه الأطر من إنسان الى آخر، ومن مجتمع الى آخر، وتتعرض هذه الأطر الى سلسلة من الصعوط والهبوط والإنفتاح والانغلاق، حسب مستوى إدراك ووعي ونضوج الشخص وتطوره الثقافي والمعرفي، وأضيف الى ذلك إن الأمر لا يخلو من حالة الكشف والتجربة الصوفية، فلكل إنسان تجربته الفكرية والحياتية التي يمر بها، ولهذه التجارب مقامات وأحوال فكرية كما هي عند الصوفي والعارف. هذه ليست من سمات التناقض والازدواجية بل من سمات الوعي والثقافة والنضوج، وهذا ما مرّ به الرفاعي أيضاً في حياته الفكرية والروحية، ولم يغلق الباب عند حد ما وصل اليه، بل هو سالك وعارف ومثقف منفتح على أوجه الحقيقة ومصادرها المختلفة. لذلك نجد تنوع وتعدد منابع الرفاعي الثقافية والفكرية والفلسفية، من علوم الدين في الفقه وعلم كلام والتصوف والفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة، فضلاً عن إطلاعه على علم أديان ومناهج فكرية وفلسفية جديدة غربية وشرقية وعربية وإسلامية، شكلت وكونت شخصية الرفاعي الثقافية والعلمية وهويته الفكرية وتنوع طروحاته المعرفية، وهو الخبير والعارف والأستاذ والمجتهد في تلك المسالك والمعارف لسنين طوال. الرفاعي الآن في السبعين من عمره، وما يدرينا لعل سنوات عمره القادمة ستشرق لنا أفكاراً جديدة وفقاً لما يحمله من أفكار وتجارب وكشف معرفي جديد يظهر له، لكنه مهما أختلفت تلك التجارب والكشف المعرفي لدى الرفاعي وإختلافها وفقاً لمرحلته العمرية التي يمر بها، يبقى الرفاعي بهوية اخلاقية واحدة متفق عليها بين الجميع، فهو إنسان يؤمن بالآخر ومحب للتسامح والسلام ومتعايش مع الآخرين ومتصالح مع ذاته، ومن دعاة النزعة الإنسانية والتوجه الديني الرحب بمختلف تنوعاته، وهو ما نشهده في سلوكه وخلقه وفكره ومؤلفاته ومعايشته للناس والمجتمع. الرفاعي إنسانٌ ومفكرٌ نيتروسوفيٌ إنسانيٌ إنسانيٌ جداً.     

***

د. رائد جبار كاظم

استاذ الفلسفة في الجامعة المستنصرية / بغداد ـ العراق

20/7/ 2024

..........................

المشاركة رقم: (18) في ملف: آفاق التجديد في مشروع الرفاعي .. بمناسبة الذكرى السبعين لولادة عبد الجبار الرفاعي.

 

تصر "الانسايوانيه" من بين مظاهر قصوريتها المرضية على اطلاق صفة "الانسان" كبداهة مفروغ منها على "الانسايوان"، مغلبة بالمطلق الاحادوية الحيوانية الجسدية على العقلية، جاعلة من العقل  عضوا من اعضاء الجسد، مثله مثل العين او الانف، مع اختلاف الوظيفة والدور، فالعقل برأيها هو اكتمال الكائن البشري وبلوغه ذروة تصيّرة وارتقائه، مع اسقاط كلي لاحتمالية حصول ماهو حاصل من انبثاق العقل بعد مليارات السنين، من الاختفاء تحت الغلبة الجسدية الحيوانيه، فالعقل الانسايواني يعود ليعتبر العقل  المنبثق اليوم ظاهرة نازلة من مكان مجهول، لامن الجسد الحيواني، ذلك لان العقل القاصر المنوه عنه، يبدا بالاساس عاجزا كليا عن رؤية الازدواج الحاكم للوجود الحياتي العضوي، وللتصير الحيواني والانسايواني، وهو ما يظل يحكم النظرة الانسايوانيه بناء عليه للمجتمعية ونمطيتها.

لماذا لا تكون الوثبة العقلية وثبة اولى ابتدائية، بانتظار اخرى تكون متخلصة كليا من رواسب واثر الحيوانيه ومفاعيلها الطويلة،ومتبقياتها الحاجاتيه المستمرة والباقية فاعلة تحد من عمل العقل وفعاليته الصافية التي من طبيعته ونوعه،  بما يمكن ان ينبه الى احتمالية  فعل الحافز الرئيسي  الذي اسقط بداية الهيمنه الكلية شبه المطلقة الجسدية الحيوانيه، ليستكمل العملية العظمى التحولية التحررية من متبقيات الجسدية الحاجاتيه، اي الحافز التحولي الشامل للوجود الحي والكوني، غير المتروك على عواهنه بلا قانون ومستهدف اعلى،  وان يكن مايزال خارج الطاقة الادراكية المتاحة للكائن البشري بصيغته  العقلية الافتتاحية غير المكتمله، وحتى حين تتردد تعريفات من نوع "الحيوان العاقل"، فانها لاتطلق استدلالا على المؤقتيه، بقدر ماتثبت كصفة نهائية ترى لاعلى مايمكن للكائن الحي البشري ان يبلغه.

والحال فان عملية النشوء والترقي تتوقف مع ظهور الكائن "الانسايوان"، واذ يقرر دارون كمثال بان العضو البشري بلغ منتهى واعلى اشكال تطوره الذي لاتطور بعده، فانه يعجز عن ان يتبين مفرقا بين العضو الجسدي من متبقيات الحيوانيه والمكون الاخر العقلي  ضمن الازدواج العضوي الحي، مع ان كل القرائن التي بالامكان ملاحظتها تقول بان العقل البشري حين يثب وثبته الاولى، يصبح هو مادة وعنصر الترقي الرئيسي وان تطوره يغدو هو الناظم الفعلي للوجود البشري، اي اننا نكون امام عنصر من عناصر الازدواج قد انتهى وشارف على الانتهاء والجمود قبل الموت، واخر وثب وثبته الكبرى الاولى وهو ذاهب من دون توقف تصيرا  وترقيا نحو منتهى وثوبي اخر، في الوقت الذي يكون فيه العنصر الجسدي قد صار بوضوح عامل فعالية ترقوية تتعداه الى ماهو مختص ومتعلق بالعنصر الاخر المستمر تشكلا ونموا، بغض النظر، لابل  وبسبب جموديته  وعدم خضوعه خلال هذا الطور من الانتقالية التصيرية لاية دالات على استمرار النمو والتشكل.

يعيش الكائن البشري "الانسايوان" شروط الانتقالية الكبرى من الازدواج العقلي بالغلبة الجسدية/ الحيوان، الى "الانسان/ العقل" شكل الكينونه الوجودية المتطابقه مع اشتراطات الاستمرارية التحولية ضمن الكون الاعلى، خارج "الكون المرئي" الحالي وطبعا خارج الكوكب الارضي بعد انتهاء مهمته الكبرى التاسيسية، وهو يمر بطورين من الترقي العضوي، الاول مزدوج جوهره التحولي الترقوي عقلي، والثاني  الذي يبدا مع وثبة العقل والانتصاب على قائمتين، "عقلي" صرف، الجسدية  غير مشموله به الابصفتها عنصرا مساعدا على اكتمال عناصر الترقي العقلي الذاهب الى مابعد جسدية ارضوية ومتبقياتها.

ان ابرز واخطر مناحي الترقي العقلي المنفرد،  خضوعه ادراكا وتعرفا لمنطق القصورية الادراكية "الانسايوانيه"، وهو مايشمل اجمالي مقومات الوجود واليات الحركة التاريخيه ابان الطور المذكور بما يضع اجمالي الحركة المجتمعية والوجودية خارج الادراكية، بغض النظر عن حقيقتها او ماقد تنطوي عليه من احتماليات من نوعها، موافقه لطبيعتها بما في ذلك احتماليات التناقض الاقصى الخطر، الناجم عن التفارقية  القصوى بين "الواقع" و "الرؤية" المواكبه، ومن ذلك  موضوع المجتمعية المستجده مع الالة والعقل، ومساراتهما، ونوع فعلهما المستجد المضاف الانقلابي.

الامر المفضي الى اختلال بغاية الخطورة ناجم عن تراكمات التناقضية المستمرة، بين حركة الاليات المستجده وفعلها المتفق مع كينونتها، وحدود ومحدودية نطاق الوعي بها، علما بان مايشار اليه لايكون غائبا او خافيا عن مايعد ادراكية حداثية متطورة ومقاربة للمعتبر "علميا"، وبالذات بما خص جانب الظاهرة المجتمعية و "علم الاجتماع" الانسايواني "اخر العلوم" التوهمية الغربية الحداثية، مع اغفال الجانب الجوهر في النمطية الاجتماعية، "الازدواج" المناظر لازدواجية الكائن البشري بنية، مع العجز عن مقاربة ثنائية( المجتمعية اللاارضوية/ المجتمعية الارضوية)  اساس وقاعدة الوجود المجتمعي، ونوع نمطيته التفاعلية الموافقة لمسارات الترقوية العقلية، واغراضها ومقصدها النهائي.

ومع التفاصيل التي يمر بها العالم والمجتمعت تحت طائلة التناقص والغفله عن المسارات المستجدة،  يضيع في السياق اهم عنصر في الرؤية الواجبه اليوم للعملية المجتمعية وتفاعليتها بعد دخل العنصر الالي على البنية المجتمعية البيئية البشرية الاولى اليدوية، ودخول المجتمعات عصر العوامل الفاعلة الثلاث بدل الاثنين، ومايولدنه بتفاعليتهن من احتمالية حضور العنصر الرابع مع الصحوة العقلية الكبرى "اللاارضوية" التي تبقى طيله الطور اليدوي غائبة ومن غير الممكن الاقتراب من عالمها، فضلا عن ادراكها، والمهم هنا هو مايعود الى التسارعات الطارئة على عملية التفاعل المجتمعي الارضوي الانسايواني، مع تعدد عناصر التفاعلية  ضمن الكينونه المجتمعية، مايجعل من وتائر الديناميات المجتمعية الارتقائية التطورية،  فوق مامتاح ومامتوفر من اسباب المقاربة والتعرف.

ومع الايمان الراسخ الكلي الارضوي ومفاهيمه وتصوراته، لن يظهر مايمكن ان يلفت النظر الى انتهاء الامد الارضوي، والى تسارع آليات انتهاء الدولة والكيانيه والوطنيه الارضوية اوربيا ابتداء، ومع حضور الكيانيه الامبراطورية  المفقسه خارج الرحم التاريخي الامريكية الايله اليوم الى الانهيار، مع كل متبقيات المنظور المنتهي الصلاحية الارضوي الباقي معتمدا  باصرار، تمهيدا للدخول في الطور الاضطرابي المتسارع الاكبر الذي يخيم من هنا فصاعدا على المعمورة، ليدخلها في الفوضى والتناقضية العملية بين الوعي والواقع المستجد الذي صارمطلوبا حكما، والذي كان ويظل غائبا عن قدرة الانسايوان العقلية على المقاربة والادراك.

***

عبد الامير الركابي 

"يجب اعتبار الإنسان كائنًا حرًا، وجديرًا بالاحترام"... عمانويل كانط

تمهيد: إذا كان بوسعنا أن نتحدث عن البشر والأشياء، فذلك لأن لديهم واقعًا ملموسًا لا جدال فيه، على الرغم من أنه من المحتمل جدًا ألا يكونوا موجودين. ولكننا لا نفهم أن نساوي الإنسان بالشيء، أو أن ننسب إليه نفس القيمة. فحتى أقسى المجرمين لا يمكن تجريدهم من مكانتهم كإنسان. لذلك هناك فرق جوهري بين الأشياء والبشر. لكن على أي أساس هذا الاختلاف؟ لماذا يبدو من المشروع إعطاء قيمة أكبر للأشخاص من الأشياء؟ هل يوجد البشر بنفس طريقة وجود الأشياء؟

إن مجرد حقيقة الوجود، وحقيقة الموجود، لا يعطي الأشياء في الواقع بُعدًا استثنائيًا.

1. ما هو الشيء المشترك بين الأشياء والأشخاص؟

اولا.: هذه هي الحقائق القائمة

كلمة "شيء" لها معنى واسع جدًا، وفي اللغة اليومية، تُستخدم للإشارة إلى جميع أنواع الكائنات. ولكن مهما كانت طبيعة هذه الأشياء، فإن كلاً منها يتوافق مع واقع ملموس ومحدد. كلمة "شيء" تأتي من الدقة اللاتينية التي أدت إلى ظهور كلمة "واقع" باللغة الفرنسية. ومن ثم فإن الشيء ينتمي إلى الوجود: الشيء هو، في مقابل العدم الذي، بحكم التعريف، ليس موجودا. ولذلك فإننا نفهم هنا من مصطلح "الوجود" الحقيقة البسيطة المتمثلة في معارضة كل ما هو غير موجود. وبهذا المعنى الواسع للغاية، يمكننا أن نؤكد أن الأشياء والناس موجودون: إنهم موجودون، لأننا نستطيع أن ندرك حقيقتهم عن طريق حواسنا.

ب. وجود محدود ومؤقت

لا شيء في العالم يمكن الحكم عليه بأنه أبدي – إن لم يكن الله، فلا يزال يتعين علينا أن نؤمن بوجوده. كل شيء قابل للتغيير والمرور. ومع ذلك، يمكن لأشياء معينة أن يكون لها وجود طويل جدًا (الجبال موجودة منذ ملايين السنين) وهو ما يتجاوز بكثير عمر الإنسان. لكن الطبيعة تخضع لإيقاع الصيرورة والتغيير الدائم. وهكذا، يرى أفلاطون أن كل شيء في الطبيعة له نمط وجود متقلب وعابر. بالنسبة له، الأفكار وحدها هي التي لها كائن دائم يفلت من الحركة. والإنسان ليس استثناءً: فهو بطبيعته كائن سريع الزوال وعابر. تميزه المحدودية: وجوده محدود، محدود بالولادة والموت. فالإنسان، على الأرض، لا يمر إلا عبر الأشياء تمامًا. حتى لو أراد ذلك، فلن يتمكن أبدًا من الهروب من هشاشة الوجود والوصول إلى الأبدية. ولكن إذا كان الإنسان محدداً بالواقع والمحدود، فلا يمكن أن نقول إنه اختزل إلى هاتين الصفتين.

2. الناس يميزون أنفسهم عن الأشياء

اولا: طريقة وجود الشيء: الواقعية والفورية

الشيء موجود دون أن يعي وجوده: فهو موجود، لكنه لا يعرف أنه موجود. يولد النبات ويتغذى وينمو ويموت، لكنه لا يعلم أنه يمر بهذه العملية الحياتية. وينطبق الشيء نفسه على الأشياء المادية التي صنعها الإنسان. وهكذا يقول هيجل أن “أشياء الطبيعة لا توجد إلا على الفور وبطريقة واحدة، في حين أن الإنسان، لأنه روح، له وجود مزدوج؛ فمن ناحية يوجد بنفس الطريقة التي توجد بها الأشياء في الطبيعة، ولكن من ناحية أخرى فهي موجود لذاته، فهي يتأمل نفسها، وتمثل نفسه لذاتها، وتفكر ولا تكون إلا روحًا من خلال هذا النشاط الذي يشكل كائنًا من أجل ذاته بحد ذاتها." (دروس في علم الجمال ، 1832). سنتحدث بعد ذلك عن "الواقعية" للإشارة إلى حقيقة وجود الأشياء.

ب. طريقة وجود الإنسان: الوعي والعلاقات الذاتية

أما بالنسبة للإنسان، فالأمر مختلف تمامًا، كما عبر عن ذلك هيغل: فالإنسان لا يكتفي بوجوده في وضع معين، فهو واعي به وله علاقة به. يتيح له هذا الوعي تمثيل نفسه والتفكير فيما هو عليه وما يريد أن يكون. لتعيين هذا النمط من وجود الإنسان، يتحدث هيجل عن “الوجود لذاته”: فهو بذلك يعين حقيقة كائن يرتبط بذاته ويعود، في نوع من الدائرية، إلى نفسه. أن تكون واعيًا يعني أن تعرف أنه موجود. يغطي مفهوم "الوعي" عدة وجهات نظر. في الواقع، يمكن تعريف الوعي الإنساني وفق أربع طرق:

* هو الوعي الذاتي: أن يعرف الإنسان وجوده ويعتبر نفسه فرداً متميزاً عن الآخرين، سيداً لقراراته وأفعاله.

* إنه الوعي بالآخرين: لا يستطيع الإنسان أن يعيش منغلقاً على نفسه، والوجود الإنساني كله يتطلب إقامة علاقات مع الآخرين. وتشكل هذه العلاقات إمكانية وجود مجتمع تنتظم فيه الحياة وفق القوانين.

* إنه الوعي بالعالم الخارجي: الإنسان منفتح على العالم من حوله وهو، بحسب تعبير هيدجر، "ملقى في العالم". وهكذا فإن الإنسان يتميز عن الحقائق الأخرى لأنه يعي انتمائه إلى العالم من ناحية، ولأنه يعلم أنه فانٍ من ناحية أخرى.

* هو الوعي بالزمن: فالإنسان لا يعيش في الحاضر، بل يرتبط بالماضي (من خلال الذاكرة) وبالمستقبل (من خلال المشاريع التي يشكلها). إنه دائمًا يتجاوز الحاضر ويتجه باستمرار نحو ما لم يعد أو نحو ما لم يعد موجودًا بعد.

ولذلك فإن الإنسان موجود بطريقة أكثر تعقيدًا ومتعددة الأوجه من الأشياء. ألا يمكننا أن نضيف أنه الوحيد الموجود؟

3. الشيء هو ما دام الإنسان موجودا

اولا: الوجود هو فكرة إنسانية حقا

لقد اعتبرنا حتى الآن أن مصطلح "يوجد" يعادل "أن يكون". ومع ذلك، فإن فكرة الوجود يتجاوز بشكل جذري فكرة الماهية. الأخت السابقة، إذا أشرنا إلى أصل الكلمة، تعني "أن تكون بالخارج" (ex باللاتينية)، وليس أن تتزامن مع نفسك. لا يوجد الإنسان أبدًا في المكان الذي يُتوقع منه ولا يتطابق أبدًا مع نفسه تمامًا. هذا الكلام ذكره سارتر، في الوجودية مذهب إنساني، من خلال فحصه لمفهوم الطبيعة البشرية، يؤكد أن "الوجود يسبق الماهية" في الإنسان. الإنسان موجود أولا، ثم يحدد ما هو عليه. ولذلك لا يمكننا، بحسب سارتر، أن نعطي تعريفًا للطبيعة، أو الماهية الإنسانية: فالإنسان، في الأصل، ليس شيئًا. هو ما يفعله بحياته (وجوده) سيحدد من هو. ولأن الإنسان ليس شيئًا عند ولادته، فإنه "محكوم عليه بأن يكون حرًا": فخياراته وأفعاله ستجعله ما سيصبح عليه.

ب. الإنسان حر، أما الشيء فهو محدد

ليس للشيء القدرة على اختيار اتجاه أفعاله. ليس لديه إمكانية تغيير اتجاه الحركة التي فرضتها عليه قوة خارجية. الحجر الذي يتدحرج على منحدر يخضع للقوانين الفيزيائية؛ فلا يمكنه أن يختار الاستمرار في الحركة أو إيقاف الحركة. وعلى العكس من ذلك، فإن الإنسان لديه القدرة على أن يكون أصل أفعاله. إنه حر، أي أنه يستطيع أن يختار ويفعل وفقًا لما قرر القيام به. يُظهر سارتر أنه لا توجد حتمية للإنسان. لدى الإنسان القدرة على أن يقرر ما يريد أن يفعله بوجوده. ان الحرية هي أساس الأخلاق، كما يوضح كانط: فقط الكائن الحر في اختيار أفعاله هو الذي يمكن مدحه أو معاقبته لأنه تصرف بشكل جيد أو سيئ. ولذلك، فإننا ندين بالاحترام للأشخاص وليس للأشياء. وحده الإنسان، لأنه حر، هو في الوقت نفسه "مسؤول": فهو في الواقع يجب أن "يجيب" على أفعاله. الإنسان وحده هو الذي يفتح إمكانية وجود عالم يتسم بالقيم الأخلاقية. ألا تشكل الأشياء الطبيعية والمصنوعة النافع في الكون؟ ألا يكون البشر هم الأجدر بالكينونة؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

..........................

المصادر

Kant Emmanuel, Fondements de la métaphysique des mœurs (1785)

Sartre Jean Paul, L’existentialisme est un humanisme (1946)

 

تقف البشرية على حافة الانتقالية العظمى الاعظم  غير المدركة، من "الانسايوانيه" وقد غدت منتهية الصلاحية والضرورة، الى "الانسان"اتفاقا مع المسار التصيري الترقوي للكائن الحي من " الحيوان" الى "الانسايوان" كمحطة وسطى، ذهابا الى المحطة الاخيرة، والغاية الوجودية العظمى، "الانسان"، وبعد الازدواج الطويل الحيواني والانسايواني (عقل/ جسد)، مع مراحل الغلبة الحيوانيه شبه المطلقة الاولى، ثم الحضور العقلي في الثانيه، تسير آليات الارتقائية من هنا فصاعدا باتجاه الوحدانية العقلية المستقلة، حيث ياخذ العقل بالتحرر من الجسدية ومتبقياتها، والعالق الحيواني المترسب منها.

فلنتخيل هول وفداحة، ومافوق استثنائية مانحن مقبلون عليه، مما لاسابق ولا شبيه له من قريب او بعيد، الامر البديهي بحكم اشتراطات "الطور الزمني والوجودي"، حيث الغلبة المطلقة للمنظور والرؤية والمعتقد الساري على مدى القرون، مع مايوافقه من زوايا نظر لمفهوم "الحقيقة" و "الواقع" وال"عقلاني"، نتاج ومايوافق الكينونة الحاكمه للوجود البشري الحالي على مدى الزمن اليدوي، وماقد تعزز بقوة  مع التوهمية الاوربية مابعد اليدوية كافتتاح نكوصي لابد منه، مواكب لبداية الانقلابيه الالية.

وليس واردا ولاممكنا مقارنه مانحن بصدد لفت الانتباه له، مع اي من حالات التغيير او التحولات و ماعرف بالثورات المعاشة كتاريخ تصيري حاكم لمسار المجتمعيات البشرية ابان الطورذاته الموشك اليوم على الانقضاء، فما مقصود هنا نمط ونوع انقلابيه تحولية غير مدركة، متجاوزه للمتاح من حدود الادراكية العقلية حتى حينه،لايمكن ان تخطر على بال الكائن البشري الحالي الانتقالي، وهي تقتضي كمبدا ومنطلق لاغنى عنه مطلقا، النظر عند المقارنه بحالات ومحطات التحول والانقلابيه التصيرية الفاصلة والعظمى الاسبق،  وبالذات تلك التي من نوع على سبيل المثال الوثبة العقلية الاولى، مع انتصاب الكائن البشري على قائمتين واستعماله اليدين، وماترتب على ذلك من متغيرات كينونه وبنية، من الحيوانيه الى "الانسايوانيه" كعتبة لازمة قبل الانتقال الى "الانسانيه"، المعتبرة قصورا وجهلا متحققه في حينه عند ساعة انبلاج العقل بصيغته الاولى الانسايوانيه، الباقية محكومة لاشتراطات الحاجاتية والارضوية الجسدية، ولنتخيل بناء عليه عظم العملية المشار اليها وفرادتها النوعية، انما من دون ان نفترض ـ كما يذهب العقل الانسايواني التكراري عادة ـ الى افتراض المرور بطبعه اخرى مما سبق، حيث يكون اللازم حكما وضرورة، التفريق بين ماض من التصيرية المنتهية مع تشخيص العنصر الحاسم فيها، وحاضر تبدل وغدت عناصره الفاعله مختلفة بحكم السيرورة والتراكم ونوع المتغيرات في عناصر التفاعليه المجتمعية، مع حصيلة التبدل وتفاعليته التاريخيه، فالكائن البشري ظل يستند في وجوده وانتقالاته قبل الوثبه العقلية  الحالية المعاشة، وواصل التغير متصيّرا، مستندا لقوة  وشمولية مفعول الطبيعة / البيئة، كعنصر حيوي اساس وحي، هو الافعل حصرا في  التصير الارتقائي العضوي، الامر الذي لم يعد هو نفسه مع حضور العقل وممكناته، وماهو مهيأ لبلوغه كحصيلة.

هذا يعني ان التصير الترقوي الحيوي هو عملية لم يكن للعقل او الارادة فيها مكان، وكانت تحدث خارج وعي الكائن الحي وتدخليته، مع انه هو موضوعها، بينما تغير الامر لاحقا وبعد حضور الالة وقبلها العقل، ليصبح عملية واعية، الادراك حاضر اساس  وضرورة لامعدى عنها فيها، الامر الذي لايمكن اطلاقا مشابهته بما قد سبقه من تحولية تصيرية بمحطاتها الترقوية ماقبل العقلية، فالانقلاب الراهن التحولي  مرتكزه اداة ووسيلة مادية هي ماتتمخض عنه الالة تكنولوجيا اولا، لاتكتمل فعالية الا بالقفزة الادراكية على مستوى الرؤية والنظر للوجود  فيلتقيان .

ومع اننا نتحدث عن استكمال للوثبة العقلية الاولى القصورية الناقصة، الاان المقارنه بين المحطتين التحولتين غير واردة، لان الثانيه هي الاكتمال الضروري للاسباب، مع نتائجه ومترتباته التي ينطوي عليها، ومن نوعه ومستواه، بعد ان يوفرها الزمن والتفاعل، وحضور عنصر اساس نوعي فعال مستجد، هو الالة، والى وقته فان  المحدودية الاعقالية تظل هي السائدة، بانتظار توفر الاشتراطات المناسبة نوعا، والنهائية اللازمه للانتقال الاكبر،مالايمكن تحققه وقتها خلال الطور الانتقالي الحالي "الانسايواني"،  ليبقى السؤال: ترى مالذي يهيء لابل يكمل الاسباب او المستلزمات الضرورية للعقل البشري، كي يبلغ لحظة ومنعطف تجاوز قصوريته "الانسايوانيه" العقلية الى مابعدها.

تلعب الضرورة الشاملة  والديناميات التحولية العليا هنا دورا اساسيا كقانون، وهي تهيء الاسباب والموجبات الضرورية لضمان سير عملية التفاعل التصيري المجتمعي والبيئي  وصولا الى الالي، وقت تصبح المجتمعات على مستوى الديناميات ( كائن بشري/ بيئة/ الة / عقل) بعدما كانت عند الابتداء وحدة (الكائن الحي / البيئة) فقط ثم ( الكائن البشري / البيئة/ العقل بصيغته الاولى القاصرة الابتداء) طالمااستمر الطور اليدوي هو الغالب، الى ان حدث الانقلاب الالي بصيغته المصنعية كبداية، قبل ان ينتقل الى الطور التكنولوجي الاول الانتاجي الراهن، وقبل ان نصير على مشارف الطور التحولي النهائي، حيث ( الكائن البشري/ البيئة/ العقل/ والتكنولوجيا العليا العقلية)  والتي صار انبجاسها من هنا فصاعدا لازما ووشيكا، منهية وطاة الجسدية وحضورها وما متبق من وطاة حاجيتها.

ان منظورات الانسايوانية الاحادية التبسيطية التابيدية، لاترى في المجتمعات الا صيغة وحيدة واحدة مفردة، متغافلة عن التحورات وتبدل عناصر التفاعل داخلها، وبالاخص تلك التي تفرض عليها الذهاب من المجتمعية الارضوية الحاجاتية، الى اللامجتمعية المقترنه بحضور الوسيلة الانتاجية العليا، نتيجه التحول الالي الذي لايمكن للاحاديون ان يروا فيه الا شكلا وحيدا هو الاخر، يجدونه ثابتا مثلما يكون عند الابتداء،  تلك الفترة الافتتاحية المصنعية الاقرب الى اليدوية التي سبقتها.

من ناحية اخرى يعجز العقل الانسايواني عن ترسم مواطن وممكنات الانقلاب العقلي المتجاوز للقصورية الاولى الارضوية التابيديه، وهنا يقع العقل "الانسايوان" باخطر واكبر مناحي  غفلته الطويلة والتي تظل مستمرة لمابعد الانقلاب الالي، ولان العقل الارضوي ادنى طاقة من ان يتعرف على "الازدواج" المجتمعي الملازم ابتداء للتبلور المجتمعي، فان ظاهرة المجتمعية "اللاارضوية" الذاهبة بنية وكينونة الى مافوق ارضوية، لاتتبينها الارضوية، وتعجز عن رؤيتها على امتداد الزمن اليدوي، وتستمرعلى مثل هذه الحال الى مابعد التحول الالي الى التكنولوجيا الانتاجية الراهنه، مايعزز ميلها الحرج  شديد الخطورة، ويحول بينها وبين ان تعي احتمالية تتزايد الحاحا، متناسبة مع مقتضيات وشروط الضرورة الانقلابية المجتمعية المتعدية للارضوية وللانسايوانيه، ذلك علما بان اللاارضوية ليست بالظاهرة العرضية، ولا المستجده، وانها بالاحرى تنشا بالاصل كينونه مستقله ومباينه للارضوية، وتظل تخترق البنى الارضوية الاحادية من بدايات التبلور المجتمعي، مايكرس على مستوى المجتمعات البشرية ظاهرة الازدواج على مستوى المعمورة، الامر الذي تظل الارضوية تجهله  فتطرده الى عالم "الدين"، نازعة عنه خلفيته المجتمعية النوعيه، عجزا مكررا عن مقاربتها من ضمن عجزهاالقصوري عن ادراك الحقيقة المجتمعية  والانسانية الكونية، واليات تصيرها، ونوع منتهياتها واهدافها.

***

عبد الامير الركابي

رواسب الايكولوجيا الريفية في سيكولوجيا الشخصية العراقية

حين نتحدث عن أنثروبولوجيا المكان، فننا نقصد بذلك تلك الشبكة المعقدة والمتداخلة من الترسبات الأسطورية والخرافية، والانتماءات القبلية والعشائرية، والتضامنيات الأسرية والقرابية، والتواضعات العرفية والأخلاقية، والاعتقادات الدينية والمذهبية، والمرجعيات التاريخية والرمزية، والأرومات اللغوية واللهجية . وهو الأمر الذي قلما انتبه الى مراعاة أهميته وتقدير ضرورته في البحوث والدراسات من لدن الكتاب والباحثين في الشأن السوسيولوجي العراقي، لاسيما بعد تداعيات الأحداث الدراماتيكية الناجمة عن الغزو الأمريكي واحتلال العراق عام 2003، وما تمخض عنها من إشكاليات بنيوية وأزمات سياسية وصراعات سياسية وانقسامات ثقافية واستقطابات مناطقية .

ورغم كثرة التآليف – الثقافية والأكاديمية – التي تصاعدت كمياتها وتضاعفت نوعياتها في الآونة الأخيرة، والتي منحت للعوامل الايكولوجية والجغرافية والطوبوغرافية الأهمية التي تستحقها في إطار دراسة التأثيرات التي تمارسها على كينونة الشخصية الاجتماعية، لجهة تأطير وعيها وتنميط سلوكها وتأثيث مخيالها . إلاّ انه من النادر – رغم ذلك - العثور على بحث أو دراسة استطاع كاتبها التوغل بعيدا"في شعاب الذاكرة التاريخية ومتاهات اللاوعي الجمعي والجماعاتي، بغية الوصول الى الرواسب القارة والطمى المتراكمة التي خلفتها تلك العوامل، ليس فقط على تكوين التصورات وتشكيل العلاقات للأجيال التي عاصرتها واندرجت في سياقاتها فحسب، بل وكذلك للأجيال اللاحقة التي ورّثتها بدورها لمن يأتي بعدها وفقا"لأواليات وديناميات عمليات (المجايلة) بين السابقين واللاحقين .

وربما تجاسر البعض من الباحثين الجدد على الخوض في غمار مثل هذه المغامرات السوسيولوجية والانثروبولوجية والسيكولوجية، من باب إشباع الفضول المعرفي وتحدي الذات في القدرة على تحليل الظواهر وتأويل مآلاتها، بيد أنه مع ذلك لم يكن بوسع هؤلاء الوصول الى نتائج مرضية أو الحصول على إجابات شافية، تضيف للقارئ حصيلة ثقافية – معرفية الى ما يتوفر عليه من معلومات جزئية وتصورات مبتسرة حول سيرورات وديناميات الظواهر الاجتماعية المتناقضة والمتصارعة . ذلك لأن المديات المعرفية والمنهجية المتاحة أمام مساعيهم غالبا"ما اقتصرت على احتمالين لا ثالث لهما ؛ أما تناول الظاهرة قيد البحث والدراسة بمعزل عن بيئتها الحاضنة أو بعيدا"عن محيطها المؤثر، بحيث تبدو كما لو أنها خرجت من رحم العدم بلا تراكمات أو مقدمات من جهة، وأما لجوئهم الى تقطيع السيرورة التاريخية الى أجزاء متنافرة وأقسام متناثرة، ليصار من ثم حصر تركيزهم على (مرحلة) تاريخية ما أو صبّ اهتمامهم على (لحظة) زمنية ما، كان حضور / وجود الظاهرة المعنية ضمن سياقاتها المتحولة والمتبدلة طاغ أو بيّن .

وعلى إيقاع مثل هذه الضروب من البحوث والدراسات المبتسرة، فقد أضاع الكثير من الكتاب والباحثين العراقيين على أنفسهم العديد من الفرص الذهبية التي كان من المفترض اهتبالها للحصول على نتائج ابستمولوجية ومنهجية قيمة، لاسيما وان دراماتيكية الانقلابات والتحولات والانزياحات التي شهد وقائعها وتداعياتها المجتمع العراقي بعيد زمن السقوط، قدمت من وفرة المعطيات السوسيولوجية وغنى الانثيالات الانثروبولوجية، فيما لو تم الاعتماد على المنهجيات الجدلية والمقاربات التركيبية والمنظورات التفاعلية، التي من شأنها جعل الباحثين أقرب الى ماهية الظاهرة المقصودة، وأقدر على استيعاب سيرورتها وتتبع مساراتها وتوقع مآلاتها .

وفي هذا الإطار، فقد تحيّر الكثير من الكتاب والباحثين في الشأن العراقي إزاء تواتر وشيوع ظاهرة القيم والسلوكيات (القبيلة والعشائرية) في المجتمع العراقي، الذي اعتقد أن معظم جماعاته السوسيولوجية ومكوناته الانثروبولوجية قطعت شوطا"بعيدا"في مضمار التمدن العمراني والتحضر الإنساني، على خلفية التوهم أنها قد تجاوزت أصولها الريفية وتخطت مواريثها القروية منذ عدة أجيال . بحيث وقف أولئك (الكتاب والباحثين) عاجزين عن إيجاد تعليل منطقي وتفسير مقنع لاستمرار تلك القيم والسلوكيات فاعلة، ليس فقط على صعيد مظاهر (الأريفة) العمرانية التي باتت تجتاح المدن الرئيسية ومنها العاصمة بغداد، كما لو أنها تستعيد حوادث دمارها وخرابها على يد هولاكو وجنكيزخان فحسب، وإنما على صعيد استشراء مظاهر (البدونة) الحضارية التي استمرأ الانخراط في أتونها أفراد المجتمع وجماعته على حدّ سواء .

ومن هذا المنطلق، يتبين لنا ان رواسب الايكولوجيا (الريفية) في سيكولوجية الشخصية العراقية من الرسوخ والثبات، بحيث عجزت كل أنماط الميول (المدنية) والدوافع (الحضرية) اللاحقة – رغم محاولات المجاميع السكانية في المدن العراقية - عن محوها من الذاكرة التاريخية واجتثاثها من السيكولوجيا الجمعية . وبدلا"من أن يتراجع مدّ تلك الرواسب والمخلفات أمام عنفوان المدّ المديني والحضري الذي اجتاح المكونات الديموغرافية للمدن، فإذا بها تتحول الى ما يشبه الحواضن التي لم تبرح تتناسل في بيئتها كل ما له صلة بالقيم (البدوية) و(الريفية) و(القروية)، التي توهمنا – كما توهمنا في معظم توقعاتنا وتصوراتنا - في يوم ما أن مظاهر التوسع العمراني الكاسح تكفلت باندثارها وتلاشيها الى الأبد .

وهكذا، فما أن تحل نازلة – وما أكثرها - على أرض الواقع الاجتماعي، بحيث تحرك الرواكد وتثير السواكن القارة في قيعان السيكولوجيا وبين طيات المخيال، حتى تتصدر الأصول (البدوية) و(الريفية) التي كانت مضمرة شتى مجالات الفضاء العمومي للمكونات السوسيولوجية بمختلف مواقعها ومستوياتها، مقابل تراجع وانحسار الميول (المدينية) و(الحضرية) لهذه الأخيرة، والتي كانت على الدوام تعاني الهشاشة في بنيتها من جهة، والرثاثة في قيمها من جهة أخرى . ذلك لأن مواريث الايكولوجيا الريفية / القروية التي عاشت في كنفها وتغذت على قيمها أجيال متوالية من الجماعات العراقية، حفرت لها أخاديد غائرة داخل بطانة اللاوعي الجمعي وبين تلافيف الذاكرة التاريخية، بحيث ان الموقف الذي يتبناه والتصرف الذي يمارسه الإنسان العراقي المعاصر حيال الأحداث والوقائع التي تستفزّ حياته وتستثير تفكيره، لا ينبع فقط من مجرد إدراكه الآني والمباشر المبني على حيثيات المعطى المعيش فحسب، وإنما هو تمتح من معين لا ينضب من تصورات وتمثلات ورمزيات أنتجتها شبكة واسعة ومعقدة من الانتماءات الجغرافية - المكانية، التضمانيات القبلية – العشائرية، والتراكمات الاسطورية – التاريخية، والتفاعلات القيمية – العرفية، والولاءات المذهبية – الطائفية .

***

ثامر عباس

ترجمة وتعليق: عبد الوهاب البراهمي

(فالفلسفة؟ قال: كلام مترجم، وعلم مرجم، بعيد مداه، قليل جدواه، مخوف على صاحبه سطوة الملوك وعداوة العامة)... الجاحظ (أورده الثعالبي في اللطائف والظرائف)

"إن مثل من منع النظر في كتب الحكمة من هو أهل لها، من أجل أن قوماً من أراذل الناس قد يظن بهم أنهم ضلوا من قبل نظرهم فيها، مثل من منع العطشان شرب الماء البارد العذب حتى مات من العطش، لأن قوماً غرقوا به فماتوا" ابن رشد " فصل المقال .."

مدرسة أثينا - رافائييل

"لا ينحت الخطاب الفلسفي تماثيل جامدة، بل يريد أن يجعل ممّا يلامسه، شيئا نشطا فعّالا وحيّا ؛ إنّه يستثير زخما حركيا، وأحكاما لأفعال نافعة واختيارات لصالح الخير ".

بليتارخوس (Plutarque).

"جاء (ماندرات دي بريين) احد تلاميذ طاليس يوما إلى معلّمه وسأله:" أي مكافأة تريد، معلمّي، كي أعبّر لك بها عن امتناني لكل التعاليم الحسنة التي أدين لك بها؟" فأجابه:" حينما تتاح لك الفرصة لتعليم تلاميذ آخرين، عرّفهم بأنّي أنا صاحب هذا المذهب؛ فسيكون ذلك بالنسبة إليك تواضعا جديرا بالثناء، وبالنسبة إليّ، مكافأة ثمينة".

***

"ما هي المنزلة التي يحتلها الفيلسوف في المدينة؟ ستكون منزلة نحات، ينحت البشر، منزلة صانع يصنع مواطنين صالحين ومحترمين . لن يكون له إذن من مهنة، سوى تطهير نفسه وتطهير الآخرين كي يحيوا الحياة المتوافقة مع الطبيعة، تلك التي تلاؤم الإنسان. سيكون أبا مشتركا وبيداغوجيا لكل المواطنين، مُصلحهم ومرشدهم وحاميهم، يهب نفسه للجميع حتى يشارك في استكمال كل خير، فرحا مع أولئك الذين تغمرهم السعادة، متعاطفا مع أولئك الذين أصابهم الحزن ومواسيا لهم ".

" إيبكتات " الدليل المختصر" 32- سطر 154 نشر " هادو"، لايد، بريل 1996.

***

" ليس الفيلسوف وحيدا، فهو لا ينفصل عن تلاميذه وعن أتباعه وخصومه. وهو لا يتوصّل إلى الأشكال المكتوبة والقارّة لعمله إلاّ في نهاية السّباق. نحن في النهاية إزاء مسرح أكثر منه مقالة، وإزاء حوارات أكثر منه مناجاة وإلى درس أكثر منه كتابا. إنّ النموذج البدهي هو سقراط وأفلاطون، اللذان استطاعا أن يضمنا للفلسفة، بتأسيسها كحقل معرفيّ، وجوب أن تشيّد في أيّ مكان، في المتعدّد من العالم. نعم، تقريظ الفلسفة بوصفها إبداعا عموميّا لفكرٍ، بابتكاره نفسه وانتقاله إلى أيّ مكان، متحدّثا إلى أيّ كان عنّ أيّ شيء مشتغل عليه من جديد، يبتكر مَسْرَحَةَ الكائن، بما هو كائن." آلان باديو (تمهيد كتاب" تقريظ الفلسفة ") .

***

* لن يكون للفلسفة من شرعية ولا نفع ولا حتّى وجود خارج مجرّد المحافظة على شبه البقاء

الجامعي الأكاديمي، إن هي اكتفت بأن تكون محض تمرين لا طائل من وراءه للتفكير النرجسي

في ذاتها، تطرح استنادا إلى ذاتها المواضيع التابعة لتراثها الخاص، تلوكها وتجترّها بكيفيّة

غير محدودة". هابرماس "لم تصلح الفلسفة ؟" ملامح فلسفية وسياسية.

مقدّمة المترجم:

يقول برتراند رسّل بأنّ " الفلسفة لا تستطيع أن تبرّر مشروعية وجودها وقيمتها بالنسبة إلى الآخرين، وفق منطق النفع والمصلحة "، فليس لها من مشروعية سوى ما يخصّها كقول، كمعقولية مخصوصة، مشروعية داخلية بوصفها تفكيرا أو بالأحرى "استخداما شخصيا للعقل" أي حرّا يستخدم الشك والنقد والتساؤل ... في مواجهة ما يوجد. ولأنه كذلك، فمن العسير أن يقنع " الآخرين" بقيمته، بالرغم من انشغاله بوضع البشر أساسا، بالإنسان موضوعه المميّز والممتاز. من هنا فليس من الغريب أن يكون للفلسفة أعداءها وخصومها وهي التي لا تكفّ عن أن تكون " تفكيرا نقديا" في مواجهة واقع " اضطهاد البشر واستعبادهم "، تسعى إلى فضحه وكشف آلياته وصور إمكان التحرر منه . الأمر الذي يجعلها في خصومة دائمة مع " النظام القائم"، مع كلّ أشكال الهيمنة على البشر تدافع عنهم وتدافع عن وجودها من أجلها و أجلهم باعتبارها " أفقا " لخلاصهم بالرغم من علاقتهم الصعبة بينها وبينهم. ولعلّ ما تعيشه الفلسفة اليوم داخل " المؤسسة التعليمية" وخارجها وما تتعرّض له من تبخيس لبضاعتها، وسعي إلى إقصائها بدعوى " لاجدواها"... شاهد على ذلك. ولأنّ هذا" الوضع الصعب"كان دوما من قبل وإلى يوم الناس هذا من صنع " أعدائها" وهم كثير ومن كل صوب، ولأنه في جانب منه ناتج عن سوء فهم " للفلسفة لمعناها ودورها ومهمة تعليمها للناشئة ..."(والمرء عدوّ ما يجهل)، نسوق هذه النصوص إلى القارئ، نصوصا لفلاسفة يشهدوا على حقيقة قيمة الفلسفة، وهم منتحلوها وصناعها، وعلى ضرورة وجودها وضرورة تعليمها مقوما من مقومات التمدّن. ذلك وانه مثلما قال ديكارت " يقاس تمدن شعب بمقدار شيوع التفلسف فيه" .قاصدين بذلك المساهمة في تصويب آراء الناس عنها وإدراك منزلتها الحقيقية وحاجتهم الملحّة إليها.

" تقريظ الفلسفة"

شيشرون

" الفلسفة، هي وحدها القادرة على أن توجّهنا! أنتِ من يعلّمنا الفضيلة ويُخضع الشرّ ! ماذا سنفعل، وكيف سنَضْحَى من دون مساعدتك؟ أنت من يُنْشأ المدن، كي يعيش الناس في مجتمع، بعد أن كانوا شتاتا. أنت من يوحّدهم، أوّلا بقرب المُقَام، ثمّ بروابط الزواج، وأخيرا بالخضوع للغة والكتابة. اخترعتِ القوانين، وكوّنت الآداب وأسّست الشرطة. ستكونين ملاذنا؛ ولعونك سوف نلجأ؛ وإذا ما كنّا قد اكتفينا في أوقات أخرى بإتباع بعض دروسك، فنحن اليوم ننقاد لك كلك ودون تحفّظ..

إنّ يوما واحدا ننقاد فيه لتعاليمك هو أفضل من الخلود لأيّ شخص يبتعد عنها. أيّ قوّة أخرى نناشد غير قوّتك، تلك التي وهبتنا سكينة الحياة، وطمأنَتْنَا بشأن الخوف من الموت؟ ومع ذلك، فنحن أبعد عن أن نعطي للفلسفة التقدير الذي تستحقّ. لا يأبه لها كلّ الناس تقريبا: وكثير منهم يهاجمها حتّى. نُهاجم من نَدِين له بالحياة، من ذا الذي يتجرّأ على أن يلوّث يديه بجريمة قتل الآباء؟ هل بلغنا من النكران للجميل حدّا نُهِين فيه معلّمًا، وَجَبَ علينا على الأقلّ احترامه، حتى لو لم نكن قادرين على فهم دروسه؟ أعزو هذه العداوة إلى عدم استطاعة الجهلة، من خلال الظلمات التي تعمي أبصارهم، الرجوع إلى أقدم الأزمنة، كي يروا فيها أن أوّل من شيّد المجتمعات البشرية كانوا فلاسفة. أمّا عن الاسم، فهو حديث، لكن بالنسبة إلى الشيء نفسه، فنحن نرى أنّه قديم جدّا".   شيشرون "الأعمال الكاملة، الكتاب الخامس "عن الفضيلة".

- ابن رشد: ضرورة النظر العقلي

" إذا تقرّر أنّ الشّرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه، وهذا هو القياس أو بالقياس، فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي.

وبيّن أن هذا النحو من النظر الذي دعا إليه الشرع وحثّ عليه، هو أتمّ أنواع النظر بأتمّ أنواع القياس، وهو المسمّى برهانا...

وإذا كان هذا هكذا، فقد وجب علينا إن ألفينا لمن تقدّم من الأمم السالفة نظرا في الموجودات واعتبارا لها، بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك، وما أثبتوه في كتبهم. فما كان منها موافقا للحقّ قبلناه منهم، وسررنا به، وشكرناهم عليه . وما كان غير موافق للحقّ نبهنا عليه وحذّرنا منه وعذرناهم .

... فنقول إن كان فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أعني من جهة ما هي مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها. وأنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم، وكأن الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات، وحث على ذلك فبين أن ما يدل عليه هذا الاسم إما واجب بالشرع، وإما مندوب إليه....

....إن مثل من منع النظر في كتب الحكمة من هو أهل لها، من أجل أن قوماً من أراذل الناس قد يظن بهم أنهم ضلوا من قبل نظرهم فيها، مثل من منع العطشان شرب الماء البارد العذب حتى مات من العطش، لأن قوماً غرقوا به فماتوا. فإن الموت عن الماء بالغرق أمر عارض، وعن العطش أمر ذاتي وضروري." ابن رشد " فصل المقال فيما بين الحكمة و الشريعة من اتصال". ص23-24-25-26 دار المعارف مصر دراسة وتحقيق محمد عمارة - الطبعة الثالثة.

- كانط: وفق أيّ منهج يجب أن تدرّس الفلسفة؟

" بما أنها (أي الفلسفة) ليست في الحقيقة انشغالا للراشد، فليس من الغريب أن َتقوم صعوبات حينما نريد مواجهتها بالكفاءة الأقلّ ممارسة للشباب. فالطالب الذي قد فارق التعليم المدرسي كان معتادا على التعلّم . و يعتقد الآن بأنه سيتعلّم الفلسفة، وهو ما يستحيل مع ذلك إذ عليه من الآن فصاعدا أن يتعلّم التفلسف. وسأوضّح ما أقول أكثر: يمكن لكل العلوم التي بإمكاننا تعلّمها حرفيا أن تردّ إلى جنسين: العلوم التاريخية والرياضية . تنتمي إلى الأولى (التاريخية) بخلاف التاريخ تحديدا، وصف الطبيعة والفلسفة والحق الوضعي الخ. بيد ان التجربة الشخصية أو الشهادة الخارجية تمثّل، في كل ما تاريخي،، - وفي كل ما هو رياضي، شيئا معطى في الواقع والذي هو بالتالي كسب وليس له إذن إلاّ أن يقع استيعابه: فهو إذن ممكن حال تعلّم هذا أو تلك، أي أن يرسّخ إمّا في الذاكرة أو الفهم، ما يمكن أن يقدّم بوصفه تخصّصا مكتملا بعدُ. إذن ولكي يمكننا تعلّم الفلسفة، وجب أوّلا أن تكون موجودة فعلا بما هي كذلك. يمكننا تقديم كتاب، والقول:" انظروا، هذا من العلم و المعارف الموثوقة ؛ تعلمّوا فهمه وحفظه، وابنوا فيما بعد عليه وستكونوا فلاسفة": حتى يُقدّم لي كتاب ما لفيلسوف، أستطيع أن أعتمد عليه تقريبا مثل بوليب، لعرض حدث تاريخي، أو اوقليدس لتفسير قضية هندسية، وان يسمح لي بالقول بأننا نسيء لثقة الجمهور حينما، بدل توسيع كفاءة الذهنية للشباب الذين هم في أمانتنا، وتكوينها بغرض إكسابهم معرفة شخصية مستقبلية، في نضجها، فنحن نخدعهم بفلسفة يزعم أنها مكتملة، والتي قد وقع تخيلها لهم من آخرين، والتي يخلص منها علم وهمي، ليس له قيمة إلاّ في مواضع معينة ولدى بعض الناس، لكنها لا تتداول في مواضع أخرى لفقدانها أي قيمة.

إنّ المنهج المخصوص للتعليم في الفلسفة هوبحثي zététique، مثلما يسميه بعض القدماء (من zétein أي بحث)، بمعنى هو منهج البحث، وربما لا يكون دغمائيا في بعض المجالات إلا في استخدام عمومي، أي منهجا تقريريا . فلا يجب على المُؤلِّف الفلسفي الذي يُستند إليه في التعليم أن يعتبر بالمرة نموذجا للحكم، بل بوصفه فحسب مناسبة للحكم على الذات استنادا إليه، ويكون منهج التفكير والاستدلال الشخصي هو المنهج الذي يسعى الطالب بالأساس إلى اكتسابه".

(كانط، إعلان عن برنامج دروس منتصف الفصل الدراسي شتاء 1765-1766 ترجمة ميشيل فيشان، فران، 1973ن ص 69-70).

- هيجل: بيداغوجيا تعلّم الفلسفة

" إنّ التمشي المجسّد في الاستئناس بفلسفة غنيّة في محتواها ليس شيئا آخر سوى التعلّم. يجب على الفلسفة بالضرورة أن تدرّس وتُتعلّم، إضافة إلى كلّ علم آخر. إنّ البائس المتأكّل الذي يدعو إلى التربية بغرض التفكير بأنفسنا وبإنتاج الخاص، يكون قد قذف بهذه الحقيقة إلى الظلمة- كما لو، حينما أتعلم ما هو الجوهر، والعلّة أو أي شيء آخر، لا أفكّر بنفسي، كما لو لا أنتج بنفسي هذه التحديدات في فكري، كما لو قذف بها فيه مثل حجر!- كما لو، أيضا حينما أحدّد حقيقتها، لا اكتسب بنفسي هذا التحديد، ولا أقنع نفسي بنفسي بهذه الحقائق!- كما لو، إذا ما عرفت جيدا يوما ما نظرية فيثاغورس وبرهانها، فلن أعرف بنفسي هذه القضية ولا أبرهن بنفسي حتّى على حقيقتها!، وبالمثل فإن الدراسة الفلسفية هي في ذاتها نشاطا شخصيا، في نفس الوقت الذي هي فيه تعلّم- تعلّم علم موجود بعدُ، مُكوّن. إنّ هذا العلم هو كنز يتضمن محتوى مكتسب، مبنيّ تماما، مشكّل؛ يجب على هذه المادة الموروثة الموجودة بعدُ أن تكتسب من الفرد، أي أن تُتعلّم. المعلّم يملك هذا المحتوى، ويفكّر فيه أوّلا والتلاميذ بعد ذلك . تتضمن العلوم الفلسفية، في موضوعاتها، الأفكار الكونية الحقيقيّة ؛ وهي ثمرة إنتاج عمل العباقرة المفكّرين لكلّ الأزمنة. و تتخطّى هذه الأفكار الحقيقيّة ما يتوصّل إلى إنتاجه بفكره شاب غير مثقف، بقدر ما يتجاوز هذا الكم من الجهد العبقريّ جهد مثل هذا الشابّ . إنّ التمثّل الأصلي، والخاص الذي يملكه الشباب عن موضوعات جوهرية هو من جهة، ما يزال فقيرا وفارغا، ومن جهة أخرى ليس في جانب كبير منه، سوى رأيا ووهما، ونصف فكرة وفكر أعرج غير محدّد. وبفضل التعلّم تحلّ الحقيقة محلّ هذا الفكر الذي يتوهّم".

هيجل . رسالة إلى نيثامر بتاريخ 23 أكتوبر1812، ضمن نصوص بيداغوجية، فران 1990 ص142-143.

- نيتشه: منزلة مدرّس الفلسفة في المجال العمومي

(...) تختار الدولة بنفسها من يخدمها من الفلاسفة وتنتدب منهم قدر ما تحتاج لمؤسساتها: فتعطي الانطباع إذن بأنّها تعرف التفريق بين الحسن والسيئ من الفلاسفة، بل أكثر من ذلك إنها تفترض أنّه يجب أن يوجد ما يكفي من الفلاسفة الجيّدين كي تشغل كَراسي التدريس. (...) وتلزم أولئك الذين اختاروا الإقامة في مكان محدّد، وفي بيئة محدّدة، بأن يمارسوا فيه نشاطا محدّدا: أن يدرّسوا، كلّ يوم، في وقت محدّد، كل الطلبة الذين يرغبون في سماعهم . وإني لأسأل: هل يمكن لفيلسوف أن يلتزم عن طيبة خاطر بأن يكون له شيئا ما يدرّسه كلّ يوم ؟ وأن يدرّسه لكلّ من يريد سماعه ؟ ألا يكون مكرها على الكلام أمام حضور مجهول عن أشياء لا يمكن له الحديث عنها دون مخاطر إلاّ أمام أكثر أصدقاءه حميميّة ؟ ثمّ، ألا يتخلّى، في النهاية هكذا، عن حريّته مصدر فخره، حريّة الانقياد لعبقريته حينما تدعوه، وإتباعها إلى حيث ما تريد؟- وذلك بموجب أنّه مدعوّ إلى أن يفكّر عموميا، في ساعات محدّدة مسبقا في أشياء مقرّرة مسبقا ؟ وإذا ما شعر يوما ما بأنّه لا يمكن له يومها أن يفكّر في شيء، وأنّه لا يستحضر أيّ فكرة في ذهنه- و كان عليه مع ذلك، أن يسجّل حضوره ويتظاهر بالتفكير؟

ولكن، قد يعترض عليّ، بأنّ المدرّس ليس محمولا على التفكير، وبخاصة على التفكير في فكر إنسان آخر، أو إثراءه؛ عليه أن يكون قبل كل شيء راسخ المعرفة بكل المفكّرين السابقين، فسيحسن القول فيهم بشيء يجهله تلاميذه.(...) غير أنّ المعرفة الراسخة بماضي التاريخ لم يكن أبدا شأن الفيلسوف الحقيقيّ، لا في الهند ولا في اليونان؛ ولو اضطلع أستاذ فلسفة بهذا العمل، فهو ملزم بتحمّل ما يقال عنه بأنّه " فيلولوجي جيّد، وعالم آثار جيد وألسني جيّد ومؤرّخ جيد "، ولكنّه ليس " فيلسوفا جيّدا" بالمرّة. (...) وفي النهاية أيّ شيء في تاريخ الفلسفة قد يعني شبابنا؟ هل نريد أن نثنيهم عن أن يكون لهم رأي شخصي بأن نظهر لهم التكدّس الغامض لكلّ الآراء؟ هل نريد أن نعلّمهم أن ينضمّوا إلى جوقة المهللّين على شرف الأشياء الجميلة التي صنعناها؟ هل نريد أن يتعلمّوا كره الفلسفة وازدراءها ؟ (...) فنحن لم ندرس يوما نفس المنهج النقدي، و الشيء الوحيد الثابت، والذي يمكن أن نطبّقه على فلسفة، يتمثّل في التساؤل إذا ما كان بإمكاننا أن نعيش وفق مبادئها؛ نحن لا ندرس سوى نقد الكلمات بالكلمات. والآن ونحن نتمثّل روحا يافعة، دون خبرة كبيرة في الحياة، قد حُبس فيها خليط جنبا إلى جنب من خمسين نقد لنفس هذه الأنساق- أيّ فوضى، وأي ّ بربرية، وأيّ سخرية بالنسبة إلى أيّ تربية فلسفية! " (نيتشه، شوبنهاور مربّيا) .

- ميشيل فوكو: واقع تدريس الفلسفة ودور مدرّسيها*

"إنّ الفلسفة هي هنا في نهاية التعليم الثانوي من أجل أن تحقّق لمن استفادوا منها، الوعي بأنّ لهم الحقّ من هنا فصاعدا في رؤية الأشياء في مجموعها . نقول لهم:” لا، أنا (بوصفي مدرسا للفلسفة) لا أعلمك شيئا: ليست الفلسفة علما إنما هي تفكير، طريقة في التفكير، تسمح بوضع كل شيء موضع السؤال ومجابهته. لقد آمنتم طيلة خمس أو ستّ سنوات بجمال “إيفيجينيا” وبانقسام الخلايا الجنسية و” الإقلاع الاقتصادي économique take off ” لأنقلترا البورجوازية . كل هذه المعرفة ها أنتم أمام حقّ فحصها من جديد – لا في دقتها، بل في حدودها، وفي أسسها وأصولها. وما ستحصلونه من معرفة، حينما تصبحون أطباء ومديري تسويق أو كيميائيين، فلابدّ أن تخضعوه لنفس المَحْكمة . أنتم تتجهون إلى أن تكونوا مواطنين أحرار في جمهورية المعرفة ؛ لكم أن تمارسوا حقوقكم. ولكن بشرط: أن تستخدموا فكركم وفكركم فقط. أن تفكّروا أي أن يكون لكم حسّ سليم مؤيّد قليلا، وحكم نزيه يستمع إلى المع والضدّ، وفي النهاية حريّة. لأجل ذلك، يواصل الأستاذ، قائلا، وبغضّ النظر عن حَرْفِية برنامج لا يلزمنا تماما، سأحاول أن أعلّمكم الحكم بحريّة . الحرية والحكم- ذاك ما سيكون شكل خطابنا ؛ وهو إذن ما سيكون عليه بالطبع محتواه: فزميلي في القسم المحاذي، وهو الستيني، سيؤكّد على الحكم بالرجوع إلى آلان. بينما أريد أن أتكلّم عن الحرية خاصّة – وعن سارتر لأنّني أربعيني . لكن لا أنتم ولا رفاقكم خارجا سيخسرون في المشاركة . فسارتر و آلان، هما قسم الفلسفة وقد أصبح فكرا.”

* تعرفون أنه لا توجد الفلسفة. وما يوجد هم " فلاسفة"، أي صنف من البشر أنشطتهم وخطاباتهم تغيّرت كثيرا من مرحلة إلى أخرى. وما يميّزهم مثل جيرانهم الشعراء والمجانين هو أن التقاسم هو الذي يعزلهم وليست وحدة الجنس أو استمرارية المرض.

فهم لم يصيروا فلاسفة إلاّ منذ وقت وقصير، ربّما هي مرحلة، وربّما لن نظلّ طويلا. وعلى أيّ حال فإنّ اندماج الفيلسوف في الجامعة لم يحدث بنفس الطريقة في فرنسا و في ألمانيا. ففي ألمانيا كان الفيلسوف مرتبطا، منذ عصر فيخته وهيجل بمؤسّسة الدولة: من هنا كان معنى هذه المهمّة العميقة، ومن هنا، هذه " الجدية لـ" موظّفي التاريخ" fonctionnaires de l'histoire، ومن هنا، هذا الدور الذي لعبوه من هيجل إلى نيتشه، للناطق باسم، القادح للدولة invectiveur de l'état.

أما في فرنسا، فقد كان أستاذ الفلسفة مرتبطا بأكثر احتشام (بصورة مباشرة في المعاهد، وبصورة غير مباشرة في الكليات) بالتعليم العمومي، بالوعي الاجتماعي بشكل محسوب بدقّة من " حرية التفكير"، ولنقل، حتى نكون صرحاء: بالمؤسسة التقدمية للاقتراع المباشر. من هنا، كان هذا الأسلوب للمدير، أو الرقيب، ومن هنا دور المدافع عن الحريات الفردية وتقييد الأفكار، الذين يفضلون لعبه؛ ومن هنا كان ميلهم إلى الصحافة، وانشغالهم بالتعريف بأفكارهم وحرصهم الشديد على الإجابة في المحادثات.

....على أيّ حال، نفهم أنّه، مع الدور الذي أرادوه (أي أساتذة الفلسفة)، فإنّه يجب أن يكون ما يدرسونه فلسفة للوعي، و الحكم والحرية. ويجب أن تكون فلسفة تحافظ على حقوق الذات أمام كلّ معرفة ـ وتفوّق كل ّ وعي فردي على كلّ سياسة. بيد انّه، وتحت تأثير التطوّرات الأخيرة، ظهرت مشكلات جديدة: ليست بالمرّة ما هي حدود المعرفة (أو أسسها)، بل من هم العارفون؟ كيف يحدث تملك المعرفة وتوزيعها؟ كيف تحتلّ معرفة ما موقعها في المجتمع، وتتطوّر داخله، وتحشد مصادرها وتكون في خدمة اقتصاد؟ كيف تتكوّن المعرفة في مجتمع وكيف تتحوّل داخله؟ من هنا كانت سلسلتان من الأسئلة: بعضها نظري حول العلاقات بين المعرفة والسياسة، وبعضها الآخر، أكثر نقدية، حول ما هي الجامعة (الكليات والمعاهد)من حيث فضاء في الظاهر محايد حيث يفترض توزيع معرفة موضوعية بإنصاف .وإذا ما كانت هذه الأسئلة قد طرحت في قسم الفلسفة، فمن الواضح أن وظيفتها التقليدية لابد أن تتغيّر جذريّا. لقد تصنع السيد قيشار الدفاع عن الفلسفة ضدّ اندساس طلبة لم يكونوا قد كوّنوا للتعليم، وفي الواقع فهو يحمي شغل قسم الفلسفة القديم ضدّ طريقة في طرح الأسئلة تجعلها مستحيلة.

من محادثة مع ميشيل فوكو (حَاَدَثُه باتريك لوريو ” نوفال ابسارفاتور” فيفري 1970).

* نص من محادثة جاءت في سياق قرار وزاري (فيفري 1970) بحذف قسم الفلسفة من جامعة " فانسان" حيث يشغل فوكور ئيس خطة رئيس قسم الفلسفة فيها. (المترجم).

- فوكو: معنى الفلسفة اليوم

"ماذا تعني إذن الفلسفة اليوم- أعني النشاط الفلسفي - إذا لم يكن فعل نقد الذات لذاتها؟ وإذا لم يتمثّل، بدل تشريع ما نعرف بعدُ، في الانصراف إلى معرفة كيف وإلى أي حدّ يكون ممكنا التفكير على نحو آخر؟ يوجد دوما في الخطاب الفلسفي شيء ما سخيف، حينما يريد هذا الخطاب، من خارج، أن يملي القانون على الخطابات الأخرى، وأن يقول لها أين تكمن حقيقتها، وكيف تعثر عليها، أو حينما يظهر بمظهر الحازم في دراسة قضيتها في وضعية ساذجة ؛ غير أنّ هذا حقّه في استكشاف ما يمكن أن يتغيّر، في فكره بالذات، بالتمرين الذي يجريه على معرفة غريبة عنه. إنّ " المحاولة" التي يجب أن تُفهم بوصفها دليلَ تغيير الذات لذاتها في لعبة الحقيقة لا بوصفها تملّكا تبسيطيا للآخرين، لغايات تواصلية - هو الجسد الحيّ للفلسفة، لو ظلّت هذه على الأقلّ إلى الآن على ما كانت عليه من قبل، أي " تزهّدا" ascèse، تمرينا للذات في الفكر. "

فوكو" تاريخ الجنسانية ج 2 - استخدام المتع -غاليمار 1984 ص14-15

- جيل دولوز: صورة الفيلسوف

" إنّ صورة الفيلسوف هي أيضا أقدم الصور . إنّها صورة المفكّر الماقبل -سقراطي،" الفيزيولوجي" والفنان والمؤّول والمقيّم للعالم.. كيف نفهم التقارب بين المستقبل والماضي؟ إنّ فيلسوف المستقبل هو المستكشف للعوالم القديمة، للقمم والكهوف، والذي لا يَخْلُقُ إلاّ من حيث يتذكّر شيئا قد نُسي بالأساس.

ليكن هذا الشيء، حسب نيتشه، هو وحدة الحياة والفكر. هي وحدة مركّبة: خطوة من أجل الحياة، وخطوة من أجل التفكير . تُلْهِمُ أنماط الحياة طرائق التفكير. و تَخْلُقُ أنماطُ التفكير أنماطَ الحياة. وتُنَشِّط الحياةُ الفكرَ و يؤكّد الفكرُ بدوره الحياةَ. ليس لدينا أدنى فكرة عن هذه الوحدة الماقبل- سقراطية. فليس لنا الآن سوى حالات حيث يُلْجِمُ الفِكْرُ ويبْتُرُ الحياةَ، بجعلها بلا معنى، وحيث تنتقم الحياة لنفسها وتجعل الفكرَ مجنونا، يضلّ الطريق.

ليس لنا الآن سوى أن نختار ما بين حيوات تافهة وبين مفكّرين مجانين . حيوات منصاعة كثيرا للمفكّرين و أفكارٍ كثيرة الجنون للأحياء: إيمانيول كانط وفريديريك هولدرلين.

لكن تظلّ الوحدة الدقيقة التي يكف الجنون فيها عن أن يكون كذلك، شيئا علينا اكتشافه- وحدة تحوّل قصّة الحياة إلى قول مأثور للفكر، وتقييمَ الفكرِ إلى منظورٍ جديد للحياة".

" جيل دولوز "محض محايثة" 2002 " 66ف. Pure Immanence (2002) p. 66f)

- أندريه كونت سبونفيل: معنى التفلسف.

التفلسف هو التفكير أبعد ممّا نعرف؛ هو أن نطرح على أنفسنا أسئلة لا يمكن لأيّ علم أن يجيب عنها. مثلا:" لماذا يوجد شيء بدل لاشيء؟"، "هل يوجد الإله؟"، " ماذا يمكنني أن أعرف؟"، " ماذا يجب عليّ أن أفعل؟"، " ما العدالة؟"، " ما السعادة؟"، " كيف ندركها؟"...أو أن نطرح أيضا هذا السؤال الذي يلخّص كل الأسئلة الأخرى:" كيف نحيا؟" ولكن ما الفائدة من أن نطرح على أنفسنا أسئلة، إذا لم يكن إلا من أجل أن لا نجيب عنها؟ وعلى خلاف ما نعتقد أحيانا، يجيب الفلاسفة عن الأسئلة التي يطرحونها، و هذه الأجوبة هي التي تكوّن فلسفتهم. من هنا تظهر الحاجة إلى الثقافة بأكثر وضوح. يمكن لطفل مثلا أن يطرح أسئلة فلسفية، تقريبا مثلما يكتب السيد جوردان نثرا. لكن أجوبته، إذا ما وجدت، ستكون تقريبا لا محالة ساذجة، بالمعنى السلبي للكلمة، لا بل فعلا حمقاء، سطحيّة أو غير متناسقة. التفلسف، نتعلّمه! كيف؟ بالاحتكاك بالفلاسفة الكبار السابقين. يقول مالرو:" في المتاحف نتعلّم الرّسم" . وفي كتب الفلسفة نتعلّم التفلسف.

...والتفلسف هو البحث عن أجوبة عن الأسئلة الجوهرية التي نطرحها على أنفسنا. نحن في حاجة إذن إلى التفلسف بقدر ما يقلّ إيماننا بالأجوبة الجاهزة . وهذا ما يفسّر ما نسمّيه، منذ عدّة سنوات،" عودة الفلسفة" . أمام انهيار الأجوبة الجاهزة التي تحملها الأديان الكبرى (وبالخصوص المسيحية في بلدنا) و الايديولوجيات الكبرى (لنُفَكِّر في ثقل الماركسية، في فرنسا في السنوات 50أو 60)، يحسّ معاصرونا بشيء من الضياع. وبما أنهم قد انتهوا إلى فهم أنّ العلوم الإنسانية، مهما كانت جدارتها، لا تجيب عن السؤال:" كيف نحيا؟" (لا تقوم مقام الميتافيزيقا ولا الإيتيقا)، فهم يبحثون عن أجوبتهم الخاصّة عن الأسئلة التي يطرحونها على أنفسهم. وهذا ما يسمّى تفلسفا، وسرعان ما يكتشفون، على هذا الطريق، عددا معينا من الكتاب يمكن أن يرشدوهم وينيرون سبيلهم ويرافقوهم..   من حوار مع: أندري كونت سبونفيل- حاورته: كارولين راكابي

مجلة "لوبوان:LePointعدد2 جويلية-سبتمبر2010ص6--13

- ميشيل أونفري: نحو فلسفة خارج التقليد

" وجب على الفلسفة أن تعود إلى الشارع وتخرج إلى الناس حيث تنتمي، وحيث كانت تنتمي في العصور القديمة. لاحظ كيف تزدحم أعمال افلاطون بالناس، السمّاكين، الاسكافيين، المومسات المارات الخ. الفلسفة لا تخص مشرعين يقرأون الكتب المعينة ويتفلسفون خلال وقت دوامهم. أن تكون فيلسوفا يعني أن تتفلسف طوال الوقت: هذا هو التقليد الأنتيكي الذي أود العودة إليه والذي للأسف أخذ في التلاشي بعد صعود المسيحية. يجب القول إنني لا أعتبر أن المسيح كان شخصية تاريخية على الاطلاق- المسيح هو شخصية تبلورت في خيال الإنجيليين الذين لم يعرف كتّابها يوما المسيح، وبهذا خنق آباء الكنيسة الفلسفة التي دارت حول لحم هذا الشخص ودمه فصارت تمرينا وبحثا مجنونا في تفاصيل عجيبة، حيث تأتى عليهم إثبات تلك العجائب مثل الثالوث، القيامة والولادات العذرية. هكذا نحصل على ما يزيد عن عشرة قرون من الفلسفة رُسمت انطلاقا من الرغبة في إضفاء الشرعية على شيء لا يمكن إقراره. فلسفة الجامعات التي نعرفها هي تطوير لتقليد علم المسيحية لذا عندما تتحدث عن فيلسوف فرنسي- النظرية الفرنسية كما يقول الأمريكيون، وأعني فلاسفة مثل دولوز، غاتاري، ديريدا وليوتار الخ – فذلك له علاقة بأصحاب التنويم المغناطيسي تماما. مازلت أبحث عن زميل لي في الفلسفة او أي شخص آخر يمكنه أن يشرح لي مؤلف دولوز «آنتي أوديبوس/أوديب المضاد/الضد أوديب» . كتب فوكو عن الجنون انطلاقا من قراءاته في الأرشيف فهو لم يعرف حقيقة المجانين وواقعهم. وفي عودة أبعد إلى الوراء لدينا سارتر الذي أراد أن يحشد عمال السيارات في بيلانكور، لكن لا أحد منهم فهم ما قال هذا «المثقف الذكي صاحب النظارات» الذي لم يختلط يوما في حياته بعمال حقيقيين. إنه ليس التفكير، بل تمارين التكرار المستغلقة التي تعيد استخدام ذات الطروحات القديمة. أريد عوضا عن ذلك توفير هذه المدرسية، والتقليل من شأن النقاش بأجمله المليء بالمصطلحات الضمنية والثقيلة. لهذا أسعى في فلسفتي التاريخية القبض على التفكير الفلسفي الذي قام خارج هذا التقليد وعاداه."

ميشال أونفري ترجمة: دنى غالي (نظرات فلسفية).

***

 

مقدمة: ماكس فيبر (1864-1920) هو المؤسس الرئيسي لعلم الاجتماع الألماني، وهو مؤلف عمل كبير لا يزال يدرس في جميع أنحاء العالم اليوم (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، الاقتصاد والمجتمع، "العالم والسياسي"...). هذا الكتاب الأخير:"العالم والسياسي" عبارة عن مجموعة من محاضرتين ألقاهما عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، ألقيا على التوالي في عامي 1917 و1919. تتعلق الأولى بـ "مهنة الباحث ودعوته". والثاني، حول "مهنة السياسي ورسالته": يستخدم فيبر مصطلح بيروف، والذي يعني المهنة والحرفة معًا. تحدد "مهنة السياسي ودعوته" ماهية السياسي الجيد في ظروف السياسة الحديثة. يتم تعريفها على أنها النضال من أجل الحصول على سلطة الدولة أو الإطاحة بها أو تحويلها: وفي هذا السياق يقدم فيبر تعريفا للدولة التي أصبحت مشهورة الدولة هي سلطة احتكار العنف المشروع وتعيد توزيعه في شكل قوانين. وفي نهاية المداخلة، يركز على العلاقات المختلفة التي يمكن أن يقيمها السياسيون مع الأخلاق. وعلى هذا فإن الساسة والناشطين يواجهون معضلات أخلاقية، وهناك العديد من الإجابات المحتملة لها: هل ينبغي للسياسي الجيد أن يتبع قناعاته دون أن ينحني على الإطلاق؟ ماذا يفعل عندما تبدو العواقب أسوأ مما لو تنازل عن مبادئه؟  ألقى فيبر هذا المؤتمر في عام 1919، في سياق دولي بالغ الصعوبة: في فترة أزمة كهذه، ما هي الصفات التي يجب أن يتمتع بها السياسي لكي يرقى إلى مستوى الحدث؟

الصفات الحاسمة للسياسي الجيد

بالنسبة لماكس فيبر، يتميز السياسي الجيد بثلاث صفات "أساسية وحاسمة": وهي "العاطفة، والشعور بالمسؤولية، والبصيرة".

العاطفة والمسؤولية

من خلال العاطفة، يجب أن نفهم "الارتباط لسبب ما"، والذي يميزه فيبر عن "الإثارة العقيمة" البسيطة. إن الارتباط الحقيقي بقضية ما لا يعني أن تكون شغوفًا بها للحظة واحدة: بل بالأحرى أن تخدمها، وتشعر بمسؤوليتك تجاهها. لأن الشغف وحده، مهما كان أصيلاً، لا يكفي. إنها لا تجعل من الفرد سياسيا عندما لا تجعل من خدمة "القضية"، وبالتالي المسؤولية أيضا فيما يتعلق بهذه القضية على وجه التحديد، النجم الذي يوجه العمل بطريقة حاسمة. وبالتالي فإن العاطفة الحقيقية لا تنفصل عن الشعور بالمسؤولية. إنه ارتباط دائم بقضية ما، وهو ما لا يتضمن بالضرورة أفعالًا مذهلة، ولكنه يتضمن تحمل الفرد مسؤولياته فيما يتعلق به.

النظرة- البصيرة- الاستبصار

النظرة مرتبطة بالمسؤولية. إنه على وشك القدرة على ترك الحقائق تؤثر على النفس، في التأمل الداخلي والهدوء، وبالتالي: المسافة فيما يتعلق بالأشياء والأشخاص . المشكلة بالتحديد هي كيف يمكن أن تجتمع حرارة العاطفة وبرودة النظرة في نفس النفس. إن فكرة أن السياسة تفترض "البعد عن الأشياء والناس" تنطوي على مفارقة. على العكس من ذلك، قد يعتقد المرء أن السياسي في خضم الحدث، وأن هذا لا يسمح بمسافة حقيقية. ومع ذلك، بالنسبة لفيبر، يجب علينا أن نسعى لقطع هذه المسافة من أجل اتخاذ الخيارات الصحيحة. إن منظور السياسي الحقيقي يسمح له باتخاذ الخيارات الصحيحة وعدم الانجراف وراء الأحداث. ولذلك فإن هناك تناقضًا مع العاطفة، حيث يجب إجبارهما على التعايش: لكن هاتين الصفتين يجب أن تتواجدا معًا في السياسي. وهكذا ينتقد فيبر، من ناحية، السياسات الساخرة لأولئك الذين لا يكرسون أنفسهم لقضية ما، ومن ناحية أخرى، العاطفة العقيمة لأولئك الذين يكرسون أنفسهم لقضية دون الابتعاد عن الأحداث.

خياران ممكنان

بمجرد تحديد هذه الصفات، يحدد فيبر خيارين محتملين للسياسي فيما يتعلق بالأخلاق. بمعنى آخر، من بين طرق التفكير المختلفة حول العلاقة بين الأخلاق والسياسة، يبرز خياران رئيسيان: إن أي عمل ملهم أخلاقيا (...) يمكن توجيهه وفق "أخلاق الاقتناع" أو وفق "أخلاق المسؤولية". ليس أن أخلاق الاقتناع مطابقة لغياب المسؤولية، وأخلاق المسؤولية مطابقة لغياب الاقتناع. بالطبع ليس هناك شك في ذلك. ولكن هناك تعارضًا عميقًا بين العمل الذي تحكمه أخلاق القناعة (باللغة الدينية: "المسيحي يتصرف وفقًا للعدل، ويعتمد على الله في النتيجة")، وبين العمل الذي ينظم وفقًا لمبدأ "العدالة". أخلاقيات المسؤولية التي بموجبها يجب على المرء أن يتحمل العواقب (المتوقعة) لأفعاله. يوضح فيبر أن الخيارين لا يستبعد أحدهما الآخر: في حالات ملموسة، من الممكن أن الشخص لم يختار بوضوح بين أخلاقيات الإقتناع وأخلاقيات المسؤولية. لكن هذه المعارضة تحدد نوعين من العمل السياسي، ووفقا لفيبر، يجب على كل سياسي أن يختار بين الاثنين.

أخلاقيات القناعة

يعرّف فيبر أخلاقيات القناعة بناءً على عبارة لوثر، مؤسس البروتستانتية: "يجب على المسيحي أن يتصرف وفقًا للعدالة، ويعتمد على الله في النتيجة". بالنسبة لأخلاقيات القناعة، فإن الشيء المهم هو التصرف بطريقة تتفق مع المبادئ التي تم وضعها في البداية. ومهما كانت العواقب، يجب ألا نحيد عن مبادئنا. لذا، يشعر مؤيد أخلاقيات القناعة بأنه "مسؤول" عن شيء واحد فقط: منع شعلة القناعة الخالصة من الانطفاء، على سبيل المثال، شعلة الاحتجاج ضد ظلم النظام الاجتماعي. ولذلك فإن أخلاقيات القناعة تتطلب إبقاء المبادئ السياسية حية للتقدم نحو العدالة. ومن ناحية أخرى، يواصل أنصاره أفعالهم، حتى لو كانوا يخاطرون بحدوث عواقب كارثية: وبالتالي، فإنهم يتعارضون مع الأخلاق التي تأخذ في الاعتبار عواقب أفعالهم.

أخلاقيات المسؤولية

يتم تعريف أخلاقيات المسؤولية على أنها تتعارض مع أخلاقيات القناعة: حيث يتصرف أنصارها وفقًا للعواقب المتوقعة لأفعالهم. لا يتعلق الأمر بالتخلي عن كل قناعة - لأنه في هذه الحالة، لن تعد هذه أخلاقًا على الإطلاق - بل يتعلق الأمر بالدفاع عن مبادئ المرء مع الأخذ في الاعتبار العواقب المتوقعة للفعل: لا يمكن لأي أخلاقيات في العالم أن تتجنب حقيقة أنه من أجل تحقيق غايات "جيدة"، فإننا ملزمون، في كثير من الحالات، بقبول وسائل مشكوك فيها أو على الأقل خطيرة من وجهة نظر أخلاقية، وكذلك من وجهة نظر أخلاقية، وحتى احتمال حدوث عواقب عرضية سيئة. إن مؤيد أخلاقيات المسؤولية يدرك هذه المشكلة. ولذلك فهو يسعى إلى التأكد من أن أفعاله لها أفضل العواقب الممكنة، وأنها أقرب ما يمكن إلى ما يريد أن يراه يحدث. ومن ناحية أخرى، للقيام بذلك، يمكنه استخدام الوسائل التي تبتعد عن الغاية المطلوبة. ومع ذلك، فإنه على جانب أخلاقيات القناعة، وليس اخلاقيات المسؤولية، يشخص فيبر الفشل.

فشل أخلاقيات القناعة

إن أخلاقيات القناعة في الواقع تفشل، عند فيبر، في نقطتين، أولهما أنها تفترض أن البشر أفضل من بعضهم البعض. لذلك يدعو فيبر الى مواجهة عيوب البشر. عندما يفشل صاحب هذه الأخلاق فهو يعزو المسؤولية إلى العالم، أو إلى غباء الآخرين، أو إلى إرادة الله الذي جعلهم كما هم.  والحقيقة أن أخلاقيات القناعة توصي بالتصرف وفقاً للمبادئ: فبمجرد أن يتصرف على هذا النحو، فإن مؤيده لن يشعر بالمسؤولية عن العواقب الوخيمة المحتملة. لكن أخلاقيات المسؤولية، على العكس من ذلك، "تتناسب على وجه التحديد مع هذه العيوب المتوسطة لدى البشر"، ومؤيدها "لا يشعر بأنه في وضع يسمح له بلوم الآخرين على عواقب أفعاله، إلى الحد الذي يمكنه توقعها". ".لكن ليس هذا هو الخطر الأكبر لأخلاقيات القناعة، التي تكمن في الإشكالية الثانية التي تطرحها: "تقديس الوسيلة بالغاية".

"تقديس الوسيلة بالغاية"

هنا في الواقع يبدو أن أخلاقيات القناعة "تبدو فاشلة تمامًا": فالشخص الذي ينظم تصرفاته على هذه الأخلاقيات يجب عليه، منطقيًا، أن يمتنع عن كل الوسائل غير الأخلاقية. ومع ذلك، ليس هذا ما يحدث دائمًا: في عالم الواقع، نختبر باستمرار أن مؤيد أخلاقيات الإدانة يتحول فجأة إلى نبي ألفي وأن أولئك الذين بشروا للتو بـ "الحب ضد العنف" يدعون إلى العنف في اللحظة التالية - من أجل العنف النهائي، والذي من شأنه أن ينشئ دولة يتم فيها القضاء على كل أعمال العنف. بمعنى آخر، تفشل أخلاقيات القناعة في مواجهة لاعقلانية العالم، أي عدم تنظيمه وفق نموذج العدالة الذي يرغب فيه صاحبه. وفي مواجهة ذلك، غالبًا ما يتحول إلى مؤيد للعنف المفرط لتحقيق هذه العدالة. يشير فيبر هنا إلى دعاة السلام الثوريين، الذين يريدون إنهاء الحرب من خلال ثورة عنيفة. وهو معادٍ لهذا الخيار، إذ إن أخلاقيات قناعة من يريد رفض الحرب بأي ثمن تصبح، حسب رأيه، قبولاً لكل الوسائل العنيفة لتحقيق الهدف. ومع ذلك، يكن فيبر احترامًا أكبر لمؤيد أخلاقيات الإدانة التي تظل متماسكة تمامًا: وهكذا يمتدح تولستوي، معارض الحرب ومؤيد اللاعنف، لأنه طبق مبادئه بطريقة متماسكة تمامًا، دون أن يقبل أبدًا. أي وسيلة عنيفة. ولكن عندما لا تكون أخلاقيات الإدانة مبنية على مثل هذا المطلب الجذري للاتساق، فإن أخلاقيات الإدانة تظل خطيرة.

خاتمة

ومن خلال التمييز بين أخلاقيات القناعة وأخلاقيات المسؤولية، يساهم فيبر في مناقشة أخلاقية حول العلاقة بين الوسائل المستخدمة والغايات المطلوبة: هل من الممكن التصرف دائمًا بشكل عادل، مع الأخذ في الاعتبار أنه لا يمكن أن يأتي أي شيء سيئ من العمل الجيد؟ هل ينبغي لنا في بعض الأحيان أن نقوم بأفعال تستحق التوبيخ الأخلاقي عندما تكون العواقب المباشرة جيدة؟

من الواضح أن فيبر يقف إلى جانب أخلاقيات المسؤولية: فالسياسي الحقيقي، في نظره، يعرف كيف يواجه مسؤولياته، حتى وخاصة في عالم غير كامل، في حين أن مؤيد أخلاقيات القناعة، على العكس من ذلك، لا يستطيع أن يتحمل عدم تحمل المسؤولية تجاه اللاعقلانية في العالم. فكيف يمكن التأليف بين السياسة والأخلاق وبين القوة والحق من خلال ايجاد التوازن بين القناعات والمسؤوليات؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.........................

المصدر:

Max Weber, Le Savant et le Politique,1919

عندما نذكر لفظ الإختيار، تتبادر مباشرة إلى الذهن فكرة الحرية والتي تعبر عن إحساس المرء إزاء ما يقوم به من فعل، لكن في الغالب ما نطرح سؤال حدود هذا الفعل الحر أو الإختيار الحر الذي يملكه الفرد إزاء ذاته وإزاء المجتمع الذي ينتمي إليه، لهذا في كثير من الأحايين ما نفكر في ماضينا ونتأمل في حاضرنا من أجل محاولة استشفاف مستقبلنا، وهل فعلاً حينما كنا صغاراً كنا نختار ما نريده أو فُرِضَ علينا الطريق الذي نحن متوقفين عنده نتأمله؟

هل أنا المسؤول عن إختياري فعلاً أم هناك مجتمع إختار لي ما سأفعله مسبقاً ؟ هل كل الأوامر التي تلقيتها حينما كنت صغيراً هي أوامر شقت طريقي أم عرقلت مساري وقوضته؟

كل هذه الأسئلة الساذجة، هي أسئلة تستحق أن تطرح، لا بهدف سبر أغوار الماضي، بل لمساءلته وإعادة التفكير في الحاضر كما هو ماثل أمامنا، وبالتالي مساءلة المجتمع والأسرة والآباء والأمهات وأولياء الأمور وأساتذتنا ... إلى آخره،  بل يجب مساءلة حتى سبب توقفي لهذه اللحظة لأسأل عن اختياراتي هل هي من صنعي أم من فرائض المجتمع عليَّ؟ وهل دراستي للفلسفة هي من أتاحت لي ذلك؟ أم حتى من لا يدرس الفلسفة يطرح مثل هذا السؤال؟

وتبدأ هذه الأسئلة في الإنبثاق من خلال تحديد جملة من الإختيارات التي سبق وأن إخترتها، بدءا من إختياري الدراسي، وإختياري إحترام الوالدين، وإختياري إحترام كل من يكبر عني سنَّا، وتتطور إختياراتنا بتطور ومرور الزمن، كما تتطور بتطور حياة المرء وحسب مدارج الحياة، فتبرز في كل لحظة من لحظات الحياة المريرة إختيارات جديدة كل الجدة: إختيار الإستقلال عن الأسرة، إختيار العمل/ المهنة، إختيار الزواج وتكوين أسرة، إختياراتنا الوطنية والقيمية والإنسانية.

قد نشعر في حقيقة الأمر بضغط الإختيارات وإكراهاتها، كما نقوم بإختياراتنا ونخضع لها بدون مقاومة، إنها خصيصة تنبع من صميم الطبيعة البشرية.

لهذا يجب علينا أداء هذه الإختيارات بصدق، ونية خالصة، أو إرادة خيرة، بل وأحياناً من خلال التضحية من أجل إختياراتنا، مادامت كل إختياراتنا تتأسس، في نهاية المطاف، على ضمير أخلاقي يحركها، هذا الضمير يتعالى على كل الأهواء والغرائز والشهوات والأفعال والانفعالات والنزوات والميولات والممارسات والدوافع الذاتية.

شكلت فلسفة "شوبنهاور" لحظة حاسمة في تأسيس مفهوم الإختيار، حينما اعتبر أن "نَوَاةَ وُجُودِنَا، هِيَ تِلْكَ الَّتِي لاَ تَعْرِفُ فِي قَرَارَاتِهَا غَيْرَ شَيْئَيْنِ: أَنْ تُرِيدَ أَوْ أَلاَّ تُرِيدَ." [1].

في كتابه الشهير "العالم بوصفه إرادة وتمثلاً" الذي نشر لأول مرة سنة 1813م، ينظر فيلسوفنا الألماني أرثور شوبنهاور إلى الإنسان وككل كائن عاقل بوصفه إرادةً أي إختيار في الحياة، فهو المسؤول عن كل إختياراته، وهو الموقف الذي سيتطور مع الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر صاحب "الوجودية نزعة إنسانية" حينا سيرى أن الإنسان مشروط بالحرية، كما مشروط بالوجود، والحياة والإختيارات والعلاقات. ومعنى كل هذا في حقيقة الأمر، أن الإنسان هو من يشكل ذاته بذاته ولذاته ويحقق هويته في ضوء ما يختاره لنفسه، لكونه مشروعاً، إن الإنسان إرادة حرة، يختار ما يريد أو ما لا يريد.

إن هذه الفلسفات، تتفق في تصورها للفعل الإختياري الإرادي، وتدافع على أنه فعل له غاية هي التي تحدد قيمته انطلاقا من الآثار المترتبة عنه.

إن إرجاع الفعل الإختياري إلى المجتمع والمصلحة والفائدة، لهو أمر قد يؤدي إلى هدم الإختيار ما دمنا سنجعله قيمة نسبيةً، ذاتية أو غيرية، وننفي عنه كل طابع كوني ومطلق.

إن الإنسان وككل كائن عاقل، في غير حاجة إلى مصنف في الفلسفة والعلم ليتعلم ما يريد أو ما لا يريد، أو ما يختار أو ما لا يختار، لكونه يصارع بين ضميره والأهواء، وفي الأخير ينبثق المبدأ العقلي للإختيار الذي يتعارض مع كل ميولاته.

الإختيار مرجعه الوحيد والأوحد هو العقل بوصفه ملكة الحكم والإختيار، وغايته إحترام ما أختار، لأن ما أختاره يجب أن ينبع عن الإختيار الخير، أو الإرادة الخيرة، يجب على كل إختياراتنا أن تكون فاضلة.

لا قيمة لإختياراتنا بدون فضائل وبدون إرادة خيرة، وما الذي يجعلها خيرة ؟ تكون خيرة في حالة كان مصدر تشريعها هو العقل والعقل وحده.

لكن كل إختياراتنا تحاول الخروج من قبضة العقل، وتنبثق عن الأهواء وتتمسك بخصوبة الحياة، فكل إختياراتنا هي عبارة عن قدرات فطرية يملكها كل شخص، ولهذا يجب إعادة الاعتبار للميولات الفطرية التي تجثم في كل فرد جثوم العادة.

فالحدس الذي يحمله الفكر تجاه حالاته وانفعالاته، ومن خلاله يدرك ذاته والعالم الخارجي المحيط به، لا يمكن نفيه البتة، لأنه [أي الحدس] يقدر بقدرة قادر على إصدار أحكام معيارية على كل الأفعال الإنسانية.

إن الحدس يفتح أمامنا أبواب الإمكانات للإختيار بين مختلف الأفعال الممكنة، وحتى الغير ممكنة، لهذا يضع الحدس معايير للإختيار، فيصبح بمثابة ملكة المَيْزِ أو الحكم، يحكم بين الخير والشر، بين الفضيلة والرذيلة وبين الممنوع والمباح.

والحدس هنا بمثابة وعي محايث للذات ومعطى طبيعي، إنه إحساس يدفعنا بإتجاه الخير، لكونه غريزي وتلقائي.

والإختيار الخير هو كل إختيار قصدي يحمل في طياته نية صادقة، مصدرها العقل، لكن الكائن البشري، كائن يعيش داخل المجتمع، يتأثر به ويؤثر فيه، وتقوم التربية هنا بدور ترسيخ قيم المجتمع وتشكيل إختيارات الأفراد.

ومهما يبدو من اختلاف في مسألة الإختيار، إلا أن هذه الاختلافات تعبير عن إنسانية الإنسان، وبفضل الاختلافات نتميز عن كل حيوان، وتُدْخِلُنَا الاختلافات إلى عالم القيم والحرية والإرادة.

كما تدمج الاختلافات الأفراد داخل الجماعة وتتيح لهم الاستفادة من خيرها، لهذا من أجل فهم كيفية تشكل ملكة الإختيار لدى الأفراد، لا بد من العودة إلى الشروط التاريخية والسيكولوجية والاجتماعية والثقافية والدينية والفكرية والإيديولوجية والقانونية التي ساهمت في تشكيل اختيارات الأفراد في قمة حياتهم عبر التاريخ البشري، ونحيل هنا إلى هتلر ودعواه في الاعلان لحرب عالمية ثانية، أو حتى إختيار الطالب الصربي إغتيال ولي عهد النمسا والتمهيد لحرب عالمية أولى، أو إختيار أوروبا سياسة الإمبريالية واستعمار دول شمال إفريقيا ...إلى آخره.

هناك صراعات دموية عبر التاريخ البشري من أجل إختيار فرد أو جماعة خياراً على وتفضيله على إختيار آخر، ويجب فهم الأسباب الكامنة وراء كل تلك الاختيارات.

ولا ينسينا هذا كلا من ماركس وإنجلز واهتمامها بمفهوم الصراع الطبقي، في فهم كيفية تشكل الإختيار، وكيف اختارت الطبقة البورجوازية تملك وسائل الإنتاج، وكيف فرض على البروليتاري بيع قوة عمله.

ما يعني أن إختياراتنا هي مجرد نتاج لما يعيشه الإنسان من صراع طبقي قد يدركه الفرد، أو قد يسقط فريسة الإيديولوجيا التي تجعل القيم التي نختارها بمثابة قيم زائفة وآلية من آليات التزييف والتبرير والاندماج.

لهذا نؤكد على أهمية العوامل النفسية اللاشعورية والمرتبطة بالطابوهات التي رسختها الثقافة فينا، ودورها في تشكل إختياراتنا، فالعوامل الثقافية أيضاً تشكل تهديداً للإنسان والمجتمع.

لقد عملت الحضارة الإنسانية على تدجين وتهذيب الإنسان من خلال سيرورتي الجزاء والعقاب، مما أدى إلى ممارسة الرقابة الصارمة على كل إختياراتنا الجنسية، فالجنس لا نختاره كما نريد ومع من نريد بكل حرية !!!

ولهذا ذهبت التيارات الفلسفية المعاصرة، كالوجودية، إلى القول بأن المهم أو ما ينبغي النظر إليه، هو الإنسان كمشروع أو كتجربة شخصية وفردية سيالة، تعيش التوتر والتناقض والصراع والصدام بين ما يجب عليَّ أن أفعل وما يفترضه هذا التوتر من ما نريد أن نختاره نحن نفسنا بأنفسنا ولأنفسنا، وبكل حرية ومسؤولية تجاه الذات والأغيار والمجتمع بشكل عام.

يشكل الإختيار، بوصفه إكراها إجتماعياً، تجاوزاً لكل ما يريده الأفراد، وفي نفس الوقت شرطاً لوجودهم، ومن المفيد التفكير هنا بضرورة خضوع كل كائن حي للموت، فكل نفس ذائقة الموت، لكن الإختيار لا يستقيم إلا في إطار ذات تعي وجودها كما تعي حريتها وإرادتها.

إن المجتمع إذن هو المصدر الوحيد للإختيار، لأنه وبكل بساطة يمارس سلطة على الأفراد تُرَسِّخُ في وجدانهم ما يجب القيام به من إختيارات، ويقتضي هذا التصور التقليص من هامش حرية الأفراد أمام سلطة المجتمع، باعتبارها السلطة الوحيدة المُحَدِّدَةَ لكل إختياراتنا.

غير أنه، في الحقيقة، لابد من الانفتاح على الاختيارات والارادات الكونية التي تتجاوز انغلاق المجتمع لتتجه نحو إختيارات إنسانية شمولية، أي كونية، ذلك أن الاقتصار، على ما يمليه المجتمع المحلي من اختيارات قد يؤدي إلى ممارسة محلية مغلقة تتسم بالصراع والحرب والعنف، في حين أن تركيزنا على القيم الإنسانية والكونية من شأنه أن يساهم في توطيد الأمن والأمان والاستقرار والطمأنينة والسلم بين المجتمعات، ومن هنا ضرورة انفتاح إختياراتنا الاجتماعية النسبية المحلية والخصوصية على إختياراتنا الإنسانية المطلقة والكونية والعمومية.

إن رهاننا الأساسي هو رهان المواطنة العالمية، ورهان القيم الإنسانية الذي هو رهان الكونية، ذلك أن نسبية القيم المجتمعية تطرح تساؤلات حول كيفية تجاوز محدوديتها وجعل المجتمع يفتح آفاقه الواعدة على قيم كونية إنسانية.

والغرض من كل هذا هو تعزيز قيم السلم الكوني والتسامح العالمي والتعايش بين الدول، على الفرد ألا يبقى سجين إختيارات مجتمعه، بل هناك إختيارات أخلاقية تتجاوز المحلي.

إن الإختيار الأخلاقي يفترض الإرادة والاحترام والتقدير. ويحتاج القانون والأخلاق ذاتها إلى أساس قيمي يستمد منه مشروعيته بغرض تخليق الحياة العامة، وترسيخ قيم المواطنة العالمية، هذه الأخيرة التي لا تقوم لها قائمة بدون إختيار عقلاني مسؤول.

ونقول أخيراً، أن أصعب ما في الإختيار هو القيام به، ولهذا يجب عليك أن تَخْتَارَ وَتُنَفِّذْ.

***

محمد فرَّاح – أستاذ فلسفة / المغرب

..............................

Source du dicton :

[1] - Arthur Schopenhauer, Le Monde comme volonté et représentation, traduit en français : Bordeaux, M.  C.  F., Édition 3. Date de publication : 1966, p. 943. (Adapté).

"العصاب القهري إنموذجًا"

هل يستطيع الإنسان أن يتغلب على ماضيه؟ هل يستطيع أي منا أن يكف عن استدعاء أفكاره التي تعكر مزاجه؟ هل نحن أسوياء إلى الحد الأدنى من أن نطرد الفكرة المكروهة – غير المرغوب فيها لكي لا تكبلنا في محتواها الوسواسي؟ هو حديثنا من خلال هذه السطور عن حالة الوساوس – الطقوس الحوازية - الأفعال الحوازية لدى البعض منا. وسؤالنا هل نستطيع أن نناضل ضد أفكارنا إذا ما داهمتنا هذه الأفكار الحوازية وأفعالها المزعجة؟

الحواز Compulsion هو دافع لا يمكن مقاومته مستقل عن إرادة الشخص، أو مضاد له وعندما يكون في حالة عصاب الفعل الحوازي فهو يتسم بدافع لا يستطيع التحكم فيه، أو هو لا يستطيع ذلك تماما، ومعظمنا يعرف بأن هذا الفعل تافه أو غير مقبول وحتى الفكرة التي تسيطر عليه لا يستطيع ابعادها، بل تداهمه في كل لحظة وتقول " هيلين دويتش" أن التغيير في الشخصية يمثل طورًا نموذجيًا في حياة العصابي الحوازي، أنه يمثل تكوينًا للشخصية ينشأ نتيجة ردود الأفعال نحو الدفعات الشرجية – السادية المكبوتة. وتضيف قد يحدث احيانًا أن يتوقف العصاب عند هذا الحد دون الانتقال إلى تكوين الاعراض ويظل الشخص سليمًا. ويحق لنا القول أن تلك الشخصية هي شخصية وسواسية لكنها لم تنحدر بعد نحو الاضطراب العصابي الحوازي، إلا في حالات حينما تشتد الأعراض وتتحول إلى اضطراب عصابي، وفي ذلك يرى " مخيمر" أن الأعصبة تشكيلة تباينات لنمط كيفي واحد قوامه التجنب أو العزل، ويعرض " مخيمر" فكرة هندرسون وبانكيلور " حيث يعرض هندرسون لحالة مريض " بدأت الأعراض لديه في صورة عصاب قلق، ثم تطورت إلى أعراض عصاب قهري، ثم أنتهى به الأمر إلى أعراض البرانويا.

أما " سيجموند فرويد" مؤسس التحليل النفسي يؤكد على أهمية هاتين الوسيلتين الناشئتين عن الكبت وهما إلغاء الفعل الذي حدث والعزل، وتنشأ هاتين الوسيلتين في مرحلة مبكرة جدًا من طفولة الشخص وهي عبارة عن سحر سلبي يحاول باستخدام الرمزية الحركية، أن " يقضي" لا على نتيجة واقعة معينة فقط، أو على خبرة أو إدراك فحسب، وإنما يحاول القضاء على هذه الحوادث ذاتها. ونحن ما زلنا فيما يطرحه فرويد قوله : نحن نشاهد وسيلة إلغاء الفعل في أول الأمر في العصاب القهري في الأعراض التي تظهر على مرحلتين – الأعراض ذات الوجهين – التي يقوم فيها الفعل الثاني بإلغاء الفعل الأول بحيث تصبح النتيجة كأنهما لم يحدثا، بينما هما قد حدثا في الواقع، وهذا الإلغاء هو الدافع الأساس الثاني للطقوس القهرية. أما الدافع الأول فهو عمل الاحتياطات لمنع حدوث حادث معين أو منع تكراره. ثم يبين لنا فرويد قوله: يحاول الشخص العصابي أن يلغي الماضي ذاته، كما يحاول أن يكبته بوسائل حركية، ولعل هذا الغرض بالذات يفسر الإجبار على " التكرار" الذي يشاهد كثيرًا جدًا في العصاب القهري، والذي يقوم بخدمة عدة أغراض متناقضة في وقت واحد، فإذا لم يحدث أي شيء بالطريقة المرغوبة كان من الممكن إلغاءه بتكراره بطريقة مختلفة. ويضيف " صلاح مخيمر" نقلا عن "فرويد": أنه في كل عصاب قهري توجد نواة من هستيريا التبدين. ويرى " مخيمر" في حالة العصاب القهري " أفكار وأفعال قهرية" يتم التجنب بنوع جديد من العزل، فالفكرة الحصارية " المتسلطة القهرية يتم عزلها عن الجهاز الحركي، أي التنفيذ في نفس الوقت الذي يتم عزلها عن شحنتها الانفعالية الدافعة، هذا " قص لريش" الحفزة كما سماها " صلاح مخيمر" يجعلها مجرد فكرة عاجزة ولا سبيل أمامها إلى التنفيذ الفعلي. على هذه الصورة يتحقق العزل والتجنب، وعندما يستفحل الأمر، تظهر الأفعال القهرية، والتي تشكل أساسًا تحويل "عربة التلقائية" إلى قطار يستحيل أن يخرج عن خطه المرسوم سبقًا بالقضبان، مما يعد مزيدًا من ضمانات العزل، والتجنب، وليس العد والتكرار، غير تعبير من الشك، والتردد من ثم مما يعمل في خدمة العزل والتجنب لكل تلقائية، ولكل فعل، مما يحبس الفرد على وجه الجملة داخل نفسه، وبعيدًا عن كل فعل، ويصبح معزول " محبوس داخل نفسه وضمن اطار سابق التحدد" صلاح مخيمر، تناول جديد في تصنيف الأعصبة والعلاجات النفسية، ص 19".

يعلمنا التحليل النفسي بأن القلق هو المادة الخام لكل الإضطرابات العصابية، وإن القلق هو الذي يحدث الكبت – وترى " أنا فرويد" ان الكبت ليس فقط أكثر الميكانيزمات – الحيل الدفاعية فاعلية، بل أيضًا أكثرها خطورة ، ولما كان الكبت يلعب دورًا رئيسًا في تكوين الاضطرابات العصابية استنادًا لرؤية فرويد، فالقلق إشارة تنذر بتوقع حدوث خطر، ويقوم الإنسان أمام الخطر الحقيقي ببعض المحاولات لتجنبه ووقاية نفسه منه، فهو أما يهرب من موقف الخطر، وإما يقوم بالدفاع أو الهجوم، ويؤكد " برج Berg " قوله: القلق هو المادة الخام التي تصنع منها جميع الأعراض العصابية. وعليه فالأفعال والحركات القهرية التي تشاهد في العصاب القهري هي عبارة عن أعراض الغرض منها القيام بدور الوقاية والاحتياط ضد رغبة غريزية غير مرغوب فيها. وللمزيد يمكن الرجوع لكتاب سيجموند فرويد القلق "

يبين لنا فرويد أن العزل خاصية يتميز بها العصاب القهري وهي تحدث أيضًا في المجال الحركي – القيام بالفعل فنرى الشخص إذا ما فعل شيئًا كان له مغزى بالنسبة لعصابه، أو عقب حدوث شيء بغيض غير مرغوب فيه، يمر بفترة من الوقت لا يحب أن يحدث خلالها أي شيء آخر، فهو لا يحب أن يدرك خلالها أي شيء، أو أن يفعل أي شيء وسرعان ما يتضح أن لهذا السلوك الذي يبدو غريبًا جدًا لأول وهلة، علاقة بالكبت. وعلمنا التحليل النفسي بأن العصابي – الشخص الذي يعاني من أعراض نفسية فكثير منهم لايزالون قادرين على الاحتفاظ بمراكزهم في الحياة الواقعية بالرغم من متاعبهم وما ينشأ عنها من فقدان الكفاءة، ويبدو أن هؤلاء العصابيين مستعدون لقبول مساعدتنا، فهو " الشخص العصابي" يطلب العون والمساعدة في التخلص مما يعانيه من وساوس، وحواز لسيطرة أفكار وأفعال على ما يقوم به، وتعرض " أنا فرويد" فكرة مهمة وهي أن وجود الاعراض العصابية في حد ذاته يدل على أن الأنا قد أندحرت، وكل عودة للحفزات المكبوتة تكشف بما يترتب عليها من تكوين مصالح، عن خطة الدفاع قد أخفقت، وعن أن الأنا قد اندحرت، وقول فرويد أننا لا نريد من الشخص الذي يعاني يأتي إلينا أن يكلمنا فقط عما يعرفه وعما يخفي عن الناس الآخرين، بل إننا نريد منه أن يكلمنا أيضًا عما لا يعرف، وبهذا فإن طريقة مساعدته في التخلص من هذه المعاناة هي طريقة التحليل النفسي، فإذا أستطاع أن ينجح في الامتناع عن نقد نفسه لأمكنه أن يمد هذه الأفكار لمن يقوم بمساعدته، أي بكمية من الأفكار والآراء والذكريات الموجودة في اللاشعور – اللاوعي، أو التي تكون في الغالب من مشتقاته المباشرة، ونستطيع بهذه المادة أن نستنتج طبيعة المادة اللاشعورية – اللاواعية المكبوتة في اللاشعور – اللاوعي. وهي في الحقيقة مواجهة النفس بما تحمل مواجهة تصل إلى جهاد النفس ضد ما تخبأه نفس الإنسان، ليست عملية سهلة، أو روتين، عملية عابرة، بل أنها تتناول أعماق النفس ومواجهة من خلق هذه الحالة المزعجة لمعظم الناس الذين يعانون من الحواز – سيطرة أفعال وأفكار وسواسية، فالشخص حينما يريد التخلص من هذه المعاناة ولديه الرغبة الصادقة فلابد أن يتحمل فوق طاقته حتى تتلاشى هذه الاعراض ويبدو عليه الشفاء، وإن كانت سهلة بالحديث والكلام كما تبدو، إلا إنها تحمل صعوبة جدًا ولابد من وجود شخص متخصص في فنيات العلاج بالتحليل النفسي.

***

د. اسعد شريف الامارة

في المثقف اليوم