أقلام فكرية

علي محمد اليوسف: الفكر واللغة تواصل معرفي ليس جدليا في التعبير عن الاشياء

عندما نجد ان وسيلتي العقل في الادراك ومعاملته الاشياء لا تتم من غير اعتماد العقل للحواس والفكر واللغة في ادراكه الشيء والتفكير به سواء كان التفكير داخليا (صامتا) على شكل حوار فكري ذاتي داخل العقل(الدماغ)، او افصاحا عنه في التعبير اللغوي عن وجود الاشياء المادية في الواقع او الموضوعات المتخيّلة كناتج علاقة الذاكرة بالعقل قبل كل شيء.

والوجود المادي والوجود الافتراضي التخيّلي لا يختلفان في الماهية او الجوهر وحسب، وانما هما يختلفان بلغة التعبير عن كليهما، فالوجود المادي الواقعي في عالم الاشياء والمحسوسات الخارجي تعّبر عنه اللغة المنطوقة او المكتوبة، في حين ان الوجود الخيالي الذي ابتدعته الذاكرة كموضوع او مادة تفكير العقل وتخليقه الجديد له، لا تعبّر عنه اللغة التداولية نطقا او كتابة كما في التعبير عن الوجود المادي للاشياء في العالم الخارجي، بل يبتدع العقل وسائل توصيل خيالية جمالية هي غير وسائل التواصل اللغوي التداولية المسموعة او المكتوبة، مثل لغة رسم لوحة او نحت تشكيلي في الفنون والجمال التي هي لغة الابداع الخيالي الذي تكون فيه اللغة والفكر وجود مضمر في مضمون اللوحة او التشكيل الجمالي. فالتعبير الفني الجمالي لا يحتاج اللغة التعبيرية الفكرية التواصلية المجتمعية في التعبير عن وجوده المادي. ولغة الجمال والفنون التشكيلية هي ما يطلق عليه اصطلاحا ما فوق اللغة. كونها تعطي المتلقي ايحاءات ادراكية ومرموزات تلغي معها خاصية الصوت التي تلازم اللغة الابجدية في امتلاكها التعبيري خاصيتي الصوت والمعنى المعبّر عنه. عليه يمكننا ايجاز تعريف اللغة على انها صوت له معنى.

يصبح تساؤلنا كيف يفكّر العقل وما وسيلة التفكير التي يعتمدها، تقودنا الى طريق مسدود عند عدم الاقرار ان وسيلة العقل في التفكير وادراك الاشياء لا يمكن ان تتم خارج فعالية الدماغ بتخليق موضوعاته وفي توظيفه الفكر – اللغة وسيلة التعبير عن مدركات العقل من وجود الاشياء في العالم الخارجي المستقل التي هي نفسها في داخل الدماغ تكون تفكيرا تجريديا يقوم بصنع الوعي المفهومي للمدركات الواصلة اليه ايضا.

لا يمكننا تمييز الفكر عن اللغة داخل فعالية العقل تخليق الافكار بالصمت التفكيري داخل العقل، وانما يتاح لنا ذلك في الوجود المستقل لادراك الاشياء خارج العقل التي يصدر العقل والجهاز العصبي التعبير عن وجودها الفكري – اللغوي بعد تخليق العقل لها من جديد كناتج اجابته عما وصله عن طريق الحواس من مدركات.

ان فعالية العقل تنعدم نهائيا عند افتراضنا ان العقل يقوم بفعاليته الادراكية ومعالجتة الموضوع المدرك عقليا بغير وسيلة تداخل الفكر مع اللغة (داخل) و(خارج) العقل في تباين واختلاف اشرنا لهما سابقا.

لم يثبت العلم لحد الآن ان تفكير العقل او الدماغ الصامت يتم بغير تداعيات الفكر الذي تستوعبه اللغة او الخيال في الذاكرة للتعبير عنه لا حقا بعد انتهاء العقل من تخليقه. وهي عملية معقدة لا يمكن معرفتها بسهولة حتى على مستوى التخصص العلمي في دراسة وظائف الدماغ والجهاز العصبي.

بمعنى داخل العقل يكون التفكير حوارا لغويا صامتا في تعطيل صوت اللغة المنطوقة او المكتوبة، وليس على صعيد استيعاب اللغة لتفكير العقل الصامت. وفي خارج العقل تبطل رقابة العقل الصارمة في انتاج الافكار واللغة حول المواضيع والاشياء بعد تعبير اللغة والفكر عن وجود الاشياء المستقل في العالم الخارجي دونما وصاية العقل عليها التي في حقيقتها ليست بقدر اهمية امكانية اللغة التعبير عنها، وتكون الموجودات والاشياء في وجودها المادي خارج العقل هي من حصة ووصاية اللغة والفكر المعبّر عن تلك الاشياء في تخليق العقل لها الذي اخذ مداه في تعبير الفكر واللغة عن الاشياء الخارجية بعد انتهاء تفكير العقل بها.

تفكير العقل الصامت والناطق

وهذا يستلزم منا تبيان ما الفرق بين تفكير العقل صمتا داخليا، وتفكيره تعبيرا لغويا صوتيا او كتابة خارجيا؟ وما المقصود به وما دور الفكر واللغة في تحديد معنى المفكّر به كموجود.؟

كيف يفكّر العقل داخليا مع ذاته وموضوعه، وكيف يفكّر خارجيا في استقلالية وجود الاشياء عنه؟ بالحقيقة ان العقل في كلا التفكيرين الداخلي والخارجي يتمّان في توافقهما والتقائهما في مصدر التفكير الواحد الذي هو الوجود المادي او الموضوع الخيالي، فلا يوجد عمل فكري في العقل لا يرتبط بموضوع مدرك حسيا او خياليا والا كان تفكيرا عقيما وهميا وعدما لا علاقة للعقل به ولا للموضوع علاقة بالعقل المدرك له. التفكير لا يتم بغير موضوع يسبق وجوده ادراك المحسوسات والعقل.

تفكير العقل داخليا تتم بوجود شيء مدرك محدد (موضوع) يكون مادة للتفكير تنقله الحواس بما ترسله من استثارات هي احساسات ادراكية للعقل يستلمها الذهن كحلقة توصيل عن طريق شبكة الاعصاب، وقد تتعّطل مهمة الحواس هذه عندما نجد العقل يفكّر تخييلا وتخليقا عقليا بموضوع ذهني تستحضره الذاكرة خياليا، لا علاقة له بوجود المادة والمحيط الخارجي للاشياء كأن يفكر الانسان خياليا في اشياء من الطبيعة او يتخيّل اي شيء او اية فكرة مجردة غير متعينّة ادراكا ماديا وجوديا امامه في الطبيعة او في الانسان كذات تعي نفسها انفراديا كغيرها بما لا يحصى من الاشياء بالعالم الخارجي من اشياء تنعش الذاكرة العقلية التفكير بها كمواضيع في الخيال العلمي او في مواضيع الخيال الفني الابداعية وهي لا وجود واقعي مادي لها خارج تفكير العقل بها.

كما لا تقوم الحواس المادية ولا من مهامها نقل موضوع التأمل الخيالي الى الدماغ وانما مخيّلة الانسان وذاكرته تستذكر موضوعها من ماضي الذهن خيالا مجردا عن متراكم خبرة مستقلة مخزّنة بالذاكرة على شكل تجارب. وتجعل منه موضوعا لتفكير العقل والذهن. يلي ذلك ان العقل قد يعبّر لغويا عن موضوعه الخيالي بعد تخليقه الجديد له في لغة الكتابة او اي نوع من انواع لغة التوصيل، او لا يعبر عنه باللغة وانما بوسيلة توصيل جمالية قائمة باستقلالية تكوينية تكون اللغة فيها في حالة كمون إيحائي يقوم المتلقي منفردا استكشافها من خلال لوحة او فن تشكيلي او موسيقا او يوغا او باليه او نص مسرحي صامت.

اذن في البدء علينا الاقرار الآلي الثابت انه لا يمكن للعقل الانساني ممارسة التفكير ما لم يكن هناك موضوعا واقعيا او خياليا يصبح مادة او موضوعا لتفكير العقل. وميزة العقل السوي انه لا يفكر في فراغ اوفي لا معنى ولاشيء متعيّن ادراكا.

وقلنا ايضا ان الحواس ليس من مهامها ولا من قدراتها نقلها موضوعا خياليا هو من ابتداع المخيّلة والذاكرة الذهنية للعقل ولا دور للحواس به، بل الدور كل الدور يكون للعواطف والوجدانات واللاشعور في التعبير عن الفنون والجماليات خياليا في لغة كامنة صامتة تتواصل مع المتلقي ايحاءا تأويليا.

وان العقل من قدراته الذاتية المعجزة انه يفكر خياليا بموضوع او اكثر لم تقم الحواس او احداها بنقله له. وان العقل يفكر خياليا بنفس اهمية وربما بأكثر اهمية من تفكيره بالاشياء كموضوعات موزعة في وجودها المادي في الطبيعة والعالم الخارجي.

هنا يأتي تساؤل أهم ان وسيلة التفكير العقلي للشيء المدرك داخل العقل تتم بماذا أو بأي كيفية يعقل العقل او الدماغ ذاته وموضوعه؟ وما هي آلية التفكير العقلي بالموضوع؟ لحد الان تمّكن العلم من معرفة كيف تعمل حاسة البصر العين في رؤيتها الاشياء، وكذا مع حاسة السمع او الذوق او اللمس، اما كيف يعقل الدماغ نفسه ذاتيا بالتفكير الصامت، كما ويعقل موضوعاته ايضا، وفق أية الية يتم الادراك العقلي في تخليقه الاشياء المادية وتفسيرها فهو غير معلوم علميا اكثر مما تزودنا به الفلسفة من شذرات وليس تخصص علم طب الدماغ والاعصاب على حد علمي.

فالعلم يوّضح كيف ان آلية التفكير العقلي تنحصر في موضوع مدرك حسيّا وعقليا عن طريق الجهاز العصبي المرتبط بملايين الخلايا الدماغية التي تتناوب الادراك في عملية معقدة من اختصاص طب علم الدماغ والجملة العصبية وهو مجال لا تعلمه وتعمل به الفلسفة ولا باستطاعتها الخروج منه بنتيجة يرضاها العقل والطب العلمي.

اما في توضيح الفلسفة فهو حين يعقل الانسان ذاته تفكيرا ماديا او خياليا فهو يحتاج حتما لمادة او موضوع يدركه واقعيا او خياليا كما ذكرنا سابقا لا يخرج عن وصاية العقل في حال انعدام واسطة التعبير الفكري – اللغوي عنه وبه.

اي بمعنى ان التفكير العقلي لفرد لا يدركه الانسان الآخر في ماهيته خارج العقل الا في حالة التعبير الفكري – اللغوي عنه خارج وصاية العقل عليه حين يكون موضوع التفكير العقلي متموضعا فكريا في الواقع المادي لوجود الاشياء.

اما ادراك شخص لما يفكر به شخص آخر عقليا جوّانيا في صمت دونما افصاحه عما يفكر به بالكلام او اللغة او الاشارة فهو محال. فالعقل لا يدرك ما يدور في اذهان الاخرين، ولا يحدس ما يعتمل في دواخلهم من وجدانات وعواطف الا بعد الافصاح والتعبير عنها بواسطة ادراك تواصلي لغوي مع الاخرين.

فاذا اراد العقل وجوب التعبير عن موضوعه المفكّر به للعالم الخارجي المستقبل له، توّسل لذلك الفكر – اللغة. واذا لم يشأ ذلك فانه اي العقل يجعل من موضوعه تفكيرا داخليا صامتا غير متاح ادراكه من غيره الذي هو (أنا) الفرد العاقل المفكّر من نوعه (الانسان الاخر) بمعنى ان الفكرة واللغة المعبّر بها صمتا عقليا تنعدم في التاثير وفي الحضور في كيفية نقل تفكير مصنع الحيوية العقلية التخليقية للاشياء التي يقوم بها العقل.

فاللغة والفكر لا يحضران سوّية الا في محاولة تنفيذ ايعازات مصنع الحيوية العقلية بالاخبار الادراكي العقلي عن موضوع جرى التفكير به ذهنيا واكتملت مهمة اعادته من العقل الى عالم الاشياء كفكر جديد بلغة جديدة وليس كوجود سابق مستقل في عالم الاشياء قبل ادراك العقل له. وهذه العملية اطلق عليها كانط مقولات العقل الارتدادية الانعكاسية الصادرة عنه في توضيحه موضوعات الادراك.

ايعازات العقل الارتدادية الصادرة منه والواردة اليه بواسطة منظومة الجهاز العصبي المرتبطة بالدماغ في تخليقه لمواضيع جرى تفكيره بها انما تتم في تنفيذ وسيلة تعبير اللغة او غير اللغة ايعاز العقل في اعادة الموضوع المفكّر به من العقل الى امكانية ادراكه في العالم الخارجي بفهم جديد عما كان عليه قبل ادراك العقل له، في توّسله اللغة التي هي الفكر ولا فرق بينهما في التعريف المادي او التجريدي بالموضوع في وجوده المستقل في عالم الموجودات الخارجي بعد تخليقه عقليا. الموجود الادراكي الحسي او العقلي المستقل هو وجود فكري لغوي كما هو وجود مادي مستقل في عالم الاشياء ايضا.

كيف تكون اللغة هي الفكر؟

التساؤل الآن كيف تكون اللغة هي الفكر حسب ما تذهب له جميع نظريات علم اللغة واللسانيات المعاصرة، ولماذا يعجز ادراك العقل للاشياء التفريق بينهما اي بين الفكر واللغة.اذا كانا يحملان مدلولين متباينين مختلفين في تعبيرهما عن الموضوع الواحد باكثر من ادراك وتأويل واحد صادر عن العقل؟.

هنا اللغة والفكر المتلازمان في تعبيرهما عن الاشياء ليس بمقدورهما تفسير وجود الشيء بمعزل احدهما عن الاخر اي بمعزل اللغة عن الفكر، او الفكر عن اللغة لانه يكون ذلك استحالة ادراكية تعجيزية للعقل. في امتناع الفكر واللغة التعبير عما يرغبه العقل التعبير عنه وجودا مدركا. هذه الفكرة التداخلية هي دائرة يتناوب بها اللغة على انها فكر وان الفكر هو لغة ولا فرق بين الاثنين الا من حيث الفكر محتوى لغوي بلا صوت، واللغة اصوات تحمل معاني الفكر الملازم لها.

ان في عجز الفلسفة الخروج عن نظرياتها المفترضة شبه الثابتة ان الفكر هو اللغة المعبّرة عنه، او ان اللغة هي وعاء الفكر، او ان اللغة هي بيت الوجود. وأن اللغة مبتدأ ومنتهى ادراك وجود الانسان والطبيعة والاشياء في العالم الخارجي.

جميع هذه التعبيرات الفلسفية صحيحة تفهم اللغة على انها فعالية ادراكية عقلية في تحديد الفكرة او الموضوع في تموضعهما خارجيا كي يتم ادراك الشيء ومعرفته من قبل الآخرين من الذوات العقلية المدركة وهو صحيح الى حد كبير ولا يتوفر مجال أدحاضه في الاحتكام للعقل في ادراكه الوجود على وفق هذه الآلية التي ترى ان الفكر واللغة وجهان لعملة واحدة. ومن المحال ادراك الاشياء بالفكر دونما اللغة، ولا باللغة دونما الفكر. صحيح جدا قول فلسفة اللغة الاميركية ان الوجود هو لغة.

في هذه الحالة حين تكون اللغة هي تعبير عن فكرة متموضعة داخل او خارج العقل، يستحيل الفصل بين اللغة والفكرة محتواها او الموضوع المعّبر عنه بهما. فبهما ثنائية (الفكر واللغة) يصبح التفكير الذهني العقلي موضوعا ومتعيّنا وجودا في العالم الخارجي بعد تخليقه عقليا، وفي هذا يكون تفكير العقل خارجيا او بالاحرى من اجل فهم الوجود الخارجي للاشياء المستقلة.

حين نقول تفكير العقل الداخلي المقصود به هو التفكير الذاتي الصامت، أما تفكير العقل خارجيا فهو عندما يجري تعبير اللغة عن موضوع تفكير العقل واقعيا ماديا كوجود مستقل في عالم الاشياء.

وبالواقع ان هذا التفريق في تفكير العقل داخليا صمتا وخارجيا بوسيلة اللغة، انما هما في الاصل تفكير واحد للعقل في موضوع محدد مشترك يتميّز به بمعزل عن كل موجود مادي او متخيل آخر وتنعدم بين الفكر واللغة فواصل التباين او الاختلاف الانفصالي بينهما..

أي أن العقل واللغة والفكر يجمعهم (وحدة وجود أسبقية الموضوع) المدرك في زمن واحد معيّن. وهكذا هي الحال في تناول اي موضوع او شيء من العالم الخارجي كي يتم تخليقه داخل العقل قبل افصاح الفكر واللغة عنه كوجود او شيء في العالم الخارجي.

ان ادراك العقل للاشياء الواردة له عن طريق الحواس بما لا يحصى في تنوعاتها وتوقيتاتها الزمنية، لا يعقلها العقل دفعة واحدة، او يعطي الدماغ ردود الافعال الانعكاسية الارادية وغير الارادية عليها بعشوائية من دون تراتيبية يعتمدها العقل.

ذهبنا الى استحالة فصل اللغة عن الفكر في حالة افصاح العقل عن فهمه وتعّينه لموجود او شيء ما في العالم الخارجي. وليس في التفكير الصامت داخل للعقل اذ يكون الفكر واللغة غير مدركين في التعبير عن شيء هو لا يزال موضوع العقل بالتفكير.

انه من المهم تاكيد ان العقل في تخليقه اشياء الوجود الخارجي والوجود الخيالي الداخلي بتعبير الفكر واللغة المتلازمين. انما يتم في تفكير العقل باللغة المتكاملة مع الفكر. اي ان تفكير العقل بالشيء لا يكون بالفكر المجرد عن اللغة، وكذا الحال بالعكس ان العقل لا يعقل الوجود باللغة دون الفكر ايضا.

نذّكر ان علماء وفلاسفة اللغة واللسانيات جميعا يعتبرون اللغة والفكر هما وجهين لعملة واحدة ولا تفريق بينهما كما ذكرنا سابقا، فاللغة هي الفكر المعبّر عنه حسب ريكور وفنجشتين ودي سوسير وجومسكي وجميع فلاسفة وعلماء اللغة في اعتبار ان اللغة هي فعالية العقل في تعيين ادركاته للموجودات والاشياء الخارجية.

لكننا نجازف براينا بالمباشر ونقول انه يمكننا فصل الفكر عن اللغة عندما يكون تفكير العقل صمتا داخليا في التفكير بوجود شيء مادي او خيالي لا يحتاج لغة التعبير عنه بل يحتاج الفكر وحده لانه وسيلة تفكير العقل المعقدة الوحيدة في تخليقه لموضوعه بوسيلة الفكر لوحدها دونما الحاجة الى اللغة وسيلة تعبير لمواضيع العقل، وتكون اللغة تعبيرا صامتا داخليا متخيّلا ايضا في تفكير العقل لموضوعه الخيالي كوجود غير مادي، اي وجود خيالي لا يرتبط وغير ملزم التعبير اللغوي عنه بعد تخليق العقل له. وانما تكون حاجة العقل في حواراته الداخلية للفكراهم واكثر فاعلية في عدم اعتماد اللغة التي تكون لغة استيعاب صوري لما يفكر العقل به. (الفكر) هنا وسيلة العقل في معالجة موضوعاته صمتا داخليا، وتكون (اللغة) وسيلة العقل في التعبير عن الوجودات والاشياء في العالم الخارجي.

هذا التفريق الاعتسافي الذي ذهبنا توضيحه في السطور السابقة كان خاطئا بمجمله رغم ألية الاقناع التنفيذي لعمل اللغة كشكل والفكر كمضمون له يمتلكان نفس دلالة المعنى الواحد في التعبير. هما نفس معنى الدلالة عن شيء او موضوع معيّن.. وتعبير ذلك رغم ان الفكر مضمون لشكل لغوي الا ان تفكيرهما المشترك عن موضوع يكون بلغة هي (تلازم تفكير الفكر بوسيلة اللغة الملازمة له) لا يوجد تفكير عقلي له معنى لا تلازمه لغة صورية تحمل نفس المعنى.

للتوضيح اكثر فالتفكير المادي الصامت هو في معالجته موضوع واقعي او شيء ما بالتفكير المجرد كمتعيّن موجود في العالم الخارجي، اما في تفكير الصمت العقلي او(الخيالي) الاستبطاني غير المعبّر عنه باللغة فهو الهام تخييلي في انتاج الذاكرة موضوعا يدرك خارجيا بلغة جمالية خاصة هي في حالة من الكمون خلف فهم الوجود الجمالي للشيء، لم يكن ادراكه متيّسرا قبل افصاح العقل له وتخليقه جماليا، كما في خيال انتاج لوحة فنية او قطعة نحتية او اي ضرب من ضروب التشكيل الفني ومعالجات علم الجمال الذي من المتاح الممكن التعبير عنها بغير لغة الكلام او لغة الكتابة او الموسيقى او الاشارة.

نأتي الآن الى معالجة اصل امكانية فصل الفكر عن اللغة، على انها استحالة ادراكية في فهم الاشياء والمواضيع في حال وجودها في العالم الخارجي في استقلالية عن الانسان سواء كانت مواضيع تناولها العقل بالادراك واعادها باللغة والفكر ثانية الى عالم الواقع من جديد بعد تخليقها، او لم يدركها في وجودها المستقل التي ايضا تستطيع الحواس واللغة التعبير عنها كوجودات واشياء.

يبقى عندنا ان التفكير العقلي الصامت ماديا او خياليا فأن آلية العقل في التفكير تستطيع فصل اللغة عن الفكر طالما هما حاضران ذهنيا في لحظات زمنية واثناء التفكير بموضوع ما، اي حينما يفكر العقل صمتا فهو يفكّر بالفكر ذاته كوسيط لموضوع في علاقته بالفكر والعقل الذي نقلته الحواس المدركة للاشياء او في موضوع ابتدعه الخيال ايضا ويحتاج العقل الفكر كوسيط في تخليقه واعادته الى عالم الاشياء باللغة المعّبرة عنه. وليس باللغة خارج موضوعه في التفكير الصامت. اللغة في تفكير العقل الصامت لا اهمية ولا وجود لها يتاح ادراكه من غير الشخص الذي يفكر بموضوعه عقليا ويبقى الفكر وحده وسيلة العقل في التفكير وتخليقه مواضيع الخيال العقلية والمادية ايضا.

وطالما كانت اللغة والتفكير معطّلان كوظيفة نقل ما يقترحه العقل عليهما نقله الى العالم الخارجي، اي بقاء العقل يفكر ذاتيا صمتا بمعزل عن نقل ما يفكر به لغويا، فان العقل وسيلة تفكيره الفكر ذاته فقط ولا يحتاج اللغة الا على انها جزء من الفكر وملازمة له خارج ادراك الدماغ او العقل في وجود الاشياء، وتفكير العقل وتخليقه لموضوعه، فلا يدرك موضوع التفكير العقلي خارجيا من غيره الا بواسطة اللغة فقط الناقلة للفكر من داخل العقل(الدماغ) الى واقع الوجود في عالم الاشياء. لكن الحقيقة الصادمة هي ان الفكر تفكير بواسطة اللغة ولا يستطيعان كليهما الافلات من حقيقة ان كل حلقات منظومة العقل الادراكية منفصلة افتراضيا عن بعضها هي تعبير (لغة) فقط.

النزعة المثالية بالاستناد الى هذه الحقيقة الصائبة تعتبر كل ما يدركه العقل حسيا ويعبر عنه لغويا هو موجود فقط. وما لا يدركه العقل غير موجود ماديا. والرد البسيط هو اعتبار المثالية العالم وجود لغوي في الذهن والذاكرة والخيال قبل وجوده المادي في الطبيعة وعالم الاشياء وهو خطأ فالوجود المادي لا يحدده تفكير العقل به، بل أسبقية الوجود المادي هو الذي يبعث العقل على التفكير.

وعندما يتجسد ويتعيّن الموضوع في عالم الاشياء الخارجي بالتعبير عنه لغويا او بأية وسيلة تعبير غير اللغة الصوتية او المكتوبة، فهنا لا يصبح فصل الفكر عن اللغة ذات اهمية كبيرة، ولكن تبقى اللغة في اثناء عملية تفكير العقل (صمتا) في مرتبة ثانوية بعد الفكر في مقارنتها باولويتها في التعبير عن الوجودات والاشياء الخارجية في العالم الخارجي والطبيعة خارج هيمنة ادراك الحس والعقل لها بعد تخليقه لها، عندما تكون اللغة جزءا لا ينفصل عن موضوعها الذي عبّرت عنه في عالم الاشياء والموجودات.

أي تكون اللغة وسيلة ادراك فهم الاشياء في وجودها المتعين المستقل عن تاثير العقل به بعد ان يصبح واقعا ماديا في عالم الاشياء. وباللغة وحدها لا بالفكر نفهم تفسير الموجودات المدركة في وجودها قبل تعبير الفكر عنها، لذا يذهب الجميع الى ان فصل اللغة عن الفكرة محال وهو صحيح بالنسبة للشخص الذي يفهم الموضوع في وجوده المادي المستقل هو تعبير لغوي يداخله المعنى الذي هو الفكر. بمعنى ان افصاح اللغة عن الشيء يسبق الفكر عنه.

بمعنى توضيحي اكثر ان اللغة لا تستمد فعاليتها داخل تفكير العقل الصامت جوّانيا بموضوعه مع ذاته وانفصال العقل والفكر كليهما عن العالم الخارجي، وانما تستمد اللغة اقصى فاعليتها في التعبير عن الاشياء في وجودها الخارجي المستقل خارج وعي العقل لها في زمنية محددة تلزم عقلا مفكرا واحدا في موضوع واحد، هو غير مدرك وجودا لغويا لدى غيره من عقول تختلف في ادراكها وتفكيرها والتعبير ربما في نفس الموضوع.

وحتى في هذه الحالة فالفكر وتعبير اللغة يبقيان قاصرين عن التعبير عن الموجودات المستقلة من دون ادراك العقل لها وتحديده نوعية الفكر ونوعية اللغة المعبّرة شعنها. ويكون وعي الذات هي كينونة متشّكلة من الوجود المدرك، بالمحسوسات، ومن والعقل، وايضا من الفكر واللغة.

لذا عندما يكون تفكير العقل صمتا جوّانيا، يصبح التفكير بالشيء سابق على لغة التعبير عنه خارجيا. فالموضوع المفكّر به صمتا غير لغوي يبقى حبيس ووصاية العقل في التفكير به قبل اهمية انشغال العقل في التعبير اللغوي عنه.

ان اللغة اثناء وزمنية تفكير العقل بموضوعه صمتا داخليا، تكون ملازمة لعملية تفكير العقل ذاتيا، لكنها لا تتقدم تفكير العقل. فليس كل تفكير داخل العقل صمتا يلزم حضور اللغة معه لكنه يلزم حضور التفكير وحده في حواره الداخلي مع العقل. فالعقل بلا تفكير لا قيمة له، والفكر بلا عقل يدركه ويتعامل معه يكون غير موجود، وكذا تتبعه اللغة ايضا. فالفكر واللغة لا ينتجان العقل الذي يفكر بهما، لكن العقل ينتج الفكر واللغة اللذين يتوسلهما في فهم الاشياء، والعقل بتفكيره الصامت بمقدوره تفعيل حضوره بلا لغة تعبير غير ملزمة لنقل تفكير العقل كما هو الحال في ابداعات الفنون وعلم الجمال.

***

علي محمد اليوسف / الموصل

...........................

1. نقلا عن كتاب الفلسفة المعاصرة في اوربا، ترجمة عزت قرني ص 64

2. نفس المصدر السابق ص132

في المثقف اليوم