أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: المعاني المخفية في رمزية كهف افلاطون

يمكن اعتبار رمزية الكهف الافلاطوني بمثابة رحلة أبدية من الظلام الى النور، تشحذ السعي نحو الحقيقة في عالم غارق في الظلال. قصة الكهف تجسّد فكرة شهيرة ومؤثرة وردت في كتاب افلاطون (الجمهورية). انها تنطوي على مسألة هامة حول الكيفية التي تبدو بها الأشياء مقارنه بما هي عليه حقا. طبقا لهذه القصة، الناس هم أشبه بالسجناء في كهف. انها تتحدث عن الانتقال من الجهل الى المعرفة وعن تصوّر الفرد لنفسه حين يتنور بالفلسفة ويجد ما هي الحقيقة. ولكن ماذا تقول القصة حقا؟

العناصر الرمزية في قصة الكهف

قصة كهف افلاطون هي استعارة لإختبار الادراك البشري والمعرفة والتنوير. انها تصف سجناء في كهف مظلم لبثوا فيه منذ الولادة. هم رُبطوا بالسلاسل يواجهون حائطا و لايمكنهم النظر الى الخلف.

هناك نار تشتعل خلف السجناء، و ممر بين النار والأسرى (من الخلف).على هذه المنصة المرتفعة، هناك ظلال لأجسام مختبئة تسقط على الحائط المقابل للسجناء. بالنسبة لهؤلاء السجناء، الظلال تبدو واقعية – هم لا يدركون ان وجودها ليس اكثر من صور متراقصة – ولهذا هم يركزون عليها كل انتباههم.

هذه الرمزية توضح عالم الجهل (الكهف) والكيفية التي يقيّدنا بها ادراكنا (كوننا مقيدين في الداخل منذ الولادة لذا نستطيع فقط النظر الى حائط واحد). بدون الفلسفة والتفكير النقدي نحن أشبه بالسجناء المقيدين بالسلاسل هنا. نحن لا نسأل حول ما نعرفه دائما لأننا لا نعرف ان هناك شيء آخر في الخارج – شيء ربما أكثر صدقا وعدلا.

ان قصة تحرر السجناء من الكهف والانطلاق الى الخارج ترمز الى الكيفية التي يبحث بها الفلاسفة عن المعرفة والحكمة. من الصعب واحيانا من المؤذي ترك الجهل في الخلف (الذي يمثله الكهف). ذلك يفسر لماذا يجب على الشخص المتحرر اولاً ان يكافح في رحلته نحو الضوء لأنه سيشعر بالتشويش والاضطراب.

في ضوء النهار، كل شيء يُكشف على حقيقته لأنه مجرد نسخة نراها نتيجة انعكاس الضوء. هذه التجربة الطاغية ترمز الى فهم نظرية افلاطون في الأشكال: النظر وراء الاشياء المادية الى أشكال لا يشوبها أي نقص. عندما يعود هذا الشخص لتنوير الآخرين، هم يسخرون منه ويرفضونه : الناس لا يحبون إعادة تعلّم الواقع. هذا الجزء يبيّن حجم الصعوبة التي يواجهها الشخص الحكيم في تنوير الاخرين عندما هم يفضلون فقط مشاهدة الظلال على الشاشة.

الأفكار الفلسفية

رمزية كهف افلاطون تستطلع مفاهيم فلسفية أساسية في فلسفته. هذه تتضمن الفرق بين الواقع والتصور، نظرية الأشكال ودور الفلاسفة في المجتمع. القصة في جوهرها تقارن الواقع المتصور للسجناء  - كما مبين بالظلال على جدار الكهف – مع ما يكمن وراء الكهف. انها تعرض اسئلة عميقة حول ما يشكّل الواقع الحقيقي وفيما اذا كان هذا مرتكز بثقة على الكيفية التي تبدو بها الاشياء لحواسنا وحدها.

ان نظرية الأشكال، احدى افكار افلاطون الاساسية، تؤمن بان هناك عالم لا متغير من أشكال تامة او افكار وراء عالمنا المتدفق الملموس. هذه الأشكال تجسد الطبيعة الحقيقية لكل الاشياء التي نتعامل معها – حيث الاشياء المادية تشكل نسخا غير تامة (مشاركة) لهذه الاشكال المثالية.

قصة مغادرة الكهف تمثل الكيفية التي تصبح بها الارواح أقرب لفهم هذه الاشكال – انها تشبه صورة اكتشاف اشياء والنظر اليها في ضوء جديد. افلاطون ايضا يدرس ما تعنيه هذه الرمزية للفلاسفة في المجتمع. انت حين تفهم الاشكال، هل ذلك يعني عليك ان تخبر كل شخص آخر بما وجدت؟ هو يستعمل فكرة الرجوع الى الكهف لبيان ان الناس ربما لا يصدقون ما تقول – وربما يغضبون عليك.

في نسخة افلاطون، الفلاسفة أشبه بالمرشدين الذين يقودون الناس الى خارج الجهل نحو المعرفة. هذه الطريقة من التفكير حول التعليم والقيادة ترتكز على الحكمة والبحث عن الحقيقة. انها تشير الى مدى أهمية الفلاسفة في رفع مستوى الوعي لكامل المجتمع.

الرمزية كنقد للمجتمع والسياسة

هناك مضامين سياسية واجتماعية في رمزية القصة، بما في ذلك كيفية التفكير في السلطة والحكم ودور القائد كفيلسوف - ملك. انها تستعمل الإستعارة لتقترح ان بعض المجتمعات عمياء لما هو حقا ثمين وجيّد. هم ربما يُقادون بواسطة اناس يسيئون فهم ظلال الاشياء الواقعية، مثلما يفعل السجناء. يقترح افلاطون ان هذا الوضع شائع في الانظمة السياسية حيث السلطة والثروة تُمجّد فوق كل شيء آخر – أنظمة لا تقيّم عاليا قيمة الحكمة والعدالة. القصة تقترح بدلا من ذلك اننا يجب ان نبني مجتمعا يتولى فيه من لديه تجربة مباشرة بالضوء إرشاد الآخرين وان الافراد يمكنهم فقط الحكم بشكل جيد لو فهموا هذه الحقائق الاساسية بشكل أفضل. حاكم افلاطون المثالي يُعرف بـ الفيلسوف - الملك الذي هرب من الكهف وحصل على التنوير من الأشكال. مثل هذا الشخص، ونظرا لكونه فهم جيدا ماهية الواقع، فهو يناسب جيدا للقيادة لأن قراراته ترتكز على معرفة ما هو الجيد.

مثال على هذا يمكن ان نعثر عليه في جمهورية افلاطون حينما يقترح برنامجا تعليميا مكثفا للفلاسفة لكي يمكنهم يوما ما القيادة بحكمة وفضيلة. الرمزية لا تعني فقط نقد المجتمعات القائمة في النظرية. انها ايضا لها تطبيق عملي من خلال توجيه سؤال للافراد حول سبب تفضيلهم اناس معينين كقادة على آخرين. ألا يجب اختيار الحكام لأنهم لديهم نظرة ثاقبة حول أحسن طريقة للحكم وليس فقط بسبب خلفيتهم العائلية او مقدار ما لديهم من ثروة؟

افلاطون انتقد ديمقراطية اثينا لأنه اعتقد ان السياسة كانت تتقرر من جانب اناس سيئي الاطّلاع  كانوا جيدين في الاقناع ولكن ليس في التفكير الجيد. في اقتراحه اننا يجب النظر الى الفيلسوف الملك كحاكم، يريدنا افلاطون النظر بما نقيّمه في القادة وننظر في ما اذا كان من الأفضل لمنْ هم في المسؤولية ان لا يسعوا لمصالحهم الشخصية. بدلا من ذلك، هم يجب ان يبحثوا عن العدالة والحقيقة حتى عندما يعني ذلك احيانا الذهاب عكس ما يريده أغلب الناس.

التعليم والتنوير في القصة

رمزية كهف افلاطون تصف بالضبط كيف يتعلم الناس ويرتقون على الصعيد الشخصي، مبينا ان تصبح متنورا يعني اكثر من مجرد تعلّم الحقائق. انه تحوّل تام من اللامعرفة الى المعرفة. يصف افلاطون ببراعة عملية التعليم والنمو الشخصي، وهو في هذه القصة التي يشبّه فيها الصراع في الخروج من عتمة الكهف والدخول الى ضوء الشمس انما يعطي صورة قوية جدا تقترح ان التغيير ذاته يتعدى مجرد معرفة الأشياء.

الافراد قبل الانطلاق في رحلتهم نحو التعليم، هم كأنهم سجناء داخل كهف – مقيدين بما عرفوه سلفا وفهموه (هم ايضا لا يعرفون الى أي مدى هم لا يعرفون). الظلال على الجدار تبدو واقعية لهم يمكن الاعتقاد كانها تمثل جهلا مقبولا او نصف معرفة. كطلاب يبدأون السؤال ويستكشفون افكارا جديدة (يمكن ان تكون غير مريحة)، هم كما لو يدخلون نفقا طويلا يقود الى مكان مفتوح. هم يتركون خلفهم الطرق القديمة في التفكير ويسيرون نحو المنطقة غير المعروفة. انها تشبه المشي خروجا من كهف مظلم الى ضوء الشمس لأول مرة. لمعان الشمس قد يؤذي عيونهم وقد لا يرون جيدا، ولكن عندما يتكيفون هم يعترفون كم هو مدهش امتلاكهم هذا الفهم الجديد.

رؤى افلاطون حول المعرفة والوجود

في جوهر طريقة افلاطون في التفكير يكمن الفرق بين عالم الظهور الذي نستطيع فقط الوصول اليه عبر الحواس، وعالم الأشكال المثالية الذي يتم الوصول اليه عبر التفكير العقلاني. الكهف يمثل العالم المادي كما نراه: وهمي ومتغير باستمرار (الظلال المتراقصة على الحائط). وفي خارج الكهف هناك ضوء الشمس الذي يكشف عالما آخرا. انه يرمز لأشكال افلاطون حيث الحقيقة لن تتغير ولا يضيع شيء ابدا. يستطيع المرء فهمها فقط عبر استعمال العقل.

القصة توضح رؤية افلاطون بان المعرفة المكتسبة من خلال حواسنا هي لا تستحق وغير تامة – انها تلمّح فقط لما يجب ان تكون عليه المعرفة الحقيقية. بالنسبة لافلاطون المعرفة الحقيقية تأتي من الفهم الجيد للأشكال الأبدية. هذه المُثل المجردة توجد بشكل مثالي في مكان ما، كأن تكون مثلا في الجمال ذاته وليس في الأشياء الجميلة او في افعال عادلة صادف ان تكون عادلة وجيدة.

وعليه، فان المعرفة هي أكثر من مجرد تعلّم الحقائق. هي تجربة تحويلية تأخذنا من الجهل الى التنوير ومن العقائد غير المختبرة الى الأحكام المدروسة. كذلك، تعبّر رمزية افلاطون في الكهف عن رؤيته الميتافيزيقية بان هناك عالمين متميزين: العالم المحسوس الذي هو متغير دائما ومؤقت الوجود وعالم الوجود المثالي العقلاني الذي هو لا زمني ودائم. خروج السجناء من الكهف يمكن رؤيته كرمز للروح المتحركة من الوهم (خداع الحواس يقيّدنا الى عالم المحسوسات) الى الحقيقة (الأشكال توجد فقط في عالم المُثل). هذه الطريقة، يستعملها افلاطون ليبيّن كيف نصل لمعرفة الاشياء وماذا يعني الوجود حقا.

اذن، ما هو المعنى المخفي في رمزية كهف افلاطون؟

رمزية الكهف ليست قصة فقط – انها رحلة من الوهم الى الحقيقة. تصوّر انك قُيّدت في كهف مظلم حيث الصور الظلية المتراقصة هي واقعك الوحيد، لكن هل هناك ما هو اكثر للحياة من هذه الظلال؟ افلاطون يشجعنا على التحرر وكشف الحقيقة لأنفسنا.

من حيث الجوهر، تغوص هذه الرمزية في لب المعرفة: ماذا يعني ان نعرف شيئا ما؟ ما هو الواقعي مقابل ما يبدو واقعيا؟ انها تتحدانا للذهاب الى ما وراء ما تراه حواسنا من اول نظرة والانتباه الى ان هناك حقائق لا متغيرة خارج كهف ادراكنا.

بكلمة اخرى، الرمزية تشجع الباحثين عن التنوير بعدم القبول بمعلومات محدودة عندما يكون بالإمكان اكتشاف حقائق عظيمة. انها دعوة لليقظة ونصيحة خالدة عبر طرح الأسئلة والبحث عما هو تحت السطح.

***

حاتم حميد محسن

................

المصدر:

The hidden meaning of plato’s cave Allegory, The collector Dec11,2024 

في المثقف اليوم